You are on page 1of 387

‫محاورات‬

‫السعادة َّ‬
‫والشقاء‬ ‫َّ‬
‫لوكيوس أنايوس سينيكا‬
‫‪1‬‬
‫ الم�ؤلف‪ :‬لوكيو�س �أنايو�س �سينيكا‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ال�سعادة َّ‬
‫وال�شقاء‬ ‫ العنوان‪ :‬محاورات َّ‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ ترجمة‪ :‬د‪ .‬حمادة �أحمد علي‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫ الطبعة‪ :‬الأولى ‪2019‬‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ ت�صميم الغالف‪ :‬عمرو الكفراوي‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫ م�ست�شار الن�شر‪� :‬سو�سن ب�شير‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ المدير العام‪ :‬م�صطفى ال�شيخ‬
‫ ‬
‫‪‬‬

‫رقم اإليداع‪:‬‬
‫‪2018 / 20105‬‬
‫الرتقيم الدولي‪ISBN :‬‬
‫‪978 - 977 - 765 - 184 - 4‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‪ .‬ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أى جزء منه‪ .‬أو تخزينه فى نطاق استعادة‬
‫المعلومات‪ ،‬أو نقله بأى شكل من األشكال دون إذن مسبق من الناشر‪.‬‬
‫‪All rights are reserved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval‬‬
‫‪system, or transmitted in any form, or by any means without prior permission in writing‬‬
‫‪from the publisher.‬‬

‫‪Afaq Bookshop & Publishing House‬‬

‫‪1 Kareem El Dawla st. - From Mahmoud Basiuny st. Talaat Harb‬‬
‫‪CAIRO – EGYPT - Tel: 00202 25778743 - 00202 25779803 Mobile: +202-01111602787‬‬
‫‪E-mail:afaqbooks@yahoo.com – www.afaqbooks.com‬‬
‫‪ 1‬شارع كريم الدولة‪ -‬من شارع حممود بسيوين ‪ -‬ميدان طلعت حرب‪ -‬القاهرة ‪ -‬مجهورية مرص العربية‬
‫ت‪ - 00202 25779803 - 00202 25778743 :‬موبايل‪01111602787 :‬‬

‫‪2‬‬
‫محاورات‬
‫السعـادة َّ‬
‫والشقــاء‬ ‫َّ‬
‫تأليف‬
‫لوكيوس أنايوس سينيكا‬

‫ترجمها �إلى العربية‬


‫د‪ .‬حمادة أحمد علي‬
‫رئي�س ق�سم الفل�سفة‬
‫جامعة جنوب الوادي‬

‫آفاق للنشر والتوزيع‬

‫‪3‬‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشؤون الفنية‬

‫سينيكا‪ ،‬لوكيوس أنايوس‬


‫السعادة َّ‬
‫والشقاء‪ -‬ترجمها إلى العربية ‪:‬د‪ .‬حمادة أحمد علي‬ ‫محاورات َّ‬
‫ط‪1‬القاهرة ‪-‬آفاق للنشر والتوزيع ‪2019 -‬‬
‫‪ 384‬ص‪ 24 ،‬سم‪.‬‬

‫رقم اإليداع ‪2018 / 20105‬‬


‫الترقيم الدولي ‪978 - 977 - 765 - 184 - 4‬‬
‫‪-1‬‬
‫أ ‪ -‬العنوان‬

‫‪4‬‬
‫�إهداء‬
‫إلى من تكابد الشقاء وتحاول أن تصنع للسعادة طري ًقا‪.‬‬
‫زوجتى‪.....‬‬

‫‪5‬‬
6
‫مقدمة المترجم إلى العربية‬
‫لم يكتب سينيكا كتا ًبا بهذا العنوان‪ ،‬بل هو من صنيع المترجم من اللغة الالتينية‪،‬‬
‫وكان له دوافعه‪ ،‬وهي أن الكتاب يتضمن على شقين‪ :‬األول وهو مجموعة الرسائل‬
‫األخالقية التى تتحدث عن الحزن والمواساة‪ ،‬ومجموعة الرسائل التى توازيها‬
‫وتتعرض لمفهوم السعادة‪.‬‬
‫يتمتع سينيكا بأسلوب أدبي رصين‪ ،‬وعبارة تبدو سلسة بسيطة‪ ،‬ولكنها ُتخفي فى‬
‫طياتها مهارة الكاتب الماهر الذى أفنى ذاته فى ضبط أقواله‪ ،‬ويميل سينيكا إلى الحس‬
‫الفكاهي الساخر فى توضيحاته وهو يتردد بين األمثلة المختلفة‪ ،‬ويختم حديثه دو ًما‬
‫بحكمة مأثورة تتماشى مع الموضوع الذى يطرحه‪ .‬ونهض سينيكا بثورة أسلوبية على‬
‫التراث الروماني فى أوضاع مترهلة كالتي نعايشها اآلن‪ ،‬ولم يسع سينيكا إلى تقليد‬
‫القدامى‪ ،‬بل أهمل أساليبهم‪ ،‬وابتدع لنفسه أسلو ًبا جديدً ا‪ ،‬واشتهر سينيكا بأسلوبه‬
‫بالح َكم والمواعظ‪ ،‬فكلماته وعباراته معتدلة تدل على اختيار مبدع‪،‬‬
‫التحليلي الحافل ِ‬
‫كما أن استخدامه للمؤثرات السمعية المتعددة فى إشاراته أو فى توكيداته لما يقصده‬
‫يميز أسلوبه عن غيره‪.‬‬
‫والهدف من ترجمة هذا الكتاب ونشره أسباب عدة أولها‪ :‬إثراء وعي القارئ العربي‬
‫المعاصر بالنظر إلى التراث‪ ،‬حيث إن معالجات سينيكا لواقعه اتسمت بالشمولية فى‬
‫فترة زمنية تتشابه مع حياتنا المعاصرة‪ ،‬فقراءته الكلية نهلت من األصولية الغربية‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫وأصلحت من المجتمع الروماني‪ ،‬وهي كذلك صالحة لمجتمعنا المعاصر‪ ،‬حيث تشعر‬
‫حين تقرأ إبداعه األدبي الحكيم وكأنه يعيش بيننا‪ ،‬ثانيها‪ :‬لم يترجم من أعمال سينيكا‬
‫سوى كتاب اإلحسان الذى نشرته دار آفاق بالقاهرة‪ ،‬فى حين تكالب المترجمون على‬
‫أعمال سهلة بسيطة ال تغذي إصالح الواقع المرير‪ ،‬وتتجاهل األعمال العالمية التي‬
‫خالصا من واقعه‪.‬‬
‫ً‬ ‫يمكن أن تثري الفكر العربي المعاصر‪ ،‬التى يمكن أن يجد فيها‬
‫يتضمن الكتاب تسعة رسائل‪ ،‬وتنقسم إلى جزئين‪ ،‬أما الجزء األول يدور حول‬
‫الشقاء‪ ،‬ويتجسد فى ثالثة رسائل من العزاء‪ ،‬وهي عزاء إلى ماركيا وعزاء إلى هلفيا‬
‫وعزاء إلى بوليبوس‪ ،‬وهذه العزاءات الثالثة هي الوحيدة التى عرفها الغرب والشرق‬
‫من هذا النوع‪ ،‬حيث يتخلل التاريخ والحكمة والفلسفة واألدب مفهوم العزاء‪ ،‬وهذا‬
‫القالب األدبي لم ُيعرف قبل سينيكا‪ ،‬ولم يستطع أحد بعده خوض غماره‪ .‬وأما الجزء‬
‫الثاني عن السعادة‪ ،‬وهو ستة رسائل‪ :‬وهي سكينة العقل‪ ،‬وقصر الحياة اإلنسانية‪،‬‬
‫ووقت الفراغ‪ ،‬والحياة السعيدة‪ ،‬والعناية الربانية‪ ،‬وصمود الحكيم‪.‬‬
‫وأما الجزء األول يتناول مفهوم الشقاء ويتناول ثالثة رسائل على النحو اآلتي‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬عزاء إلى ماركيا يقدم فيه العزاء إلى ماركيا لموت ابنها‪ ،‬ومضمون هذا العزاء‬
‫يقدم الراحة لمن أصابه الحزن‪ ،‬ويستند إلى تقاليد فلسفية وخطابية شتى‪ .‬وهو يستند‬
‫على مبدأ أن الحزن مثل االنفعاالت األخرى‪ ،‬وهو نتاج المعتقد الخاطئ عن طبيعة‬
‫الموت وتأثيره على المتوفى والثكلى‪ .‬والحقيقة إن عزاء إلى ماركيا أقدم تعزية بقيت‬
‫على قيد الحياة‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬عزاء إلى هلفيا‪ ،‬يجاهد سينيكا فى هذه الرسالة لتخفيف حزن أمه على معاقبته‬
‫بالنفي إلى كورسيكا عام ‪41‬م على ما يبدو بتهمة الزنا مع جوليا ليفيال أخت اإلمبراطور‬
‫طابعا‬
‫جايوس‪ ،‬والجدة المتناقضة التى يقدمها الرثاء تبعث األسى وتريح من يعزيه‪ ،‬وتعطي ً‬
‫بعينه لهذا التنوع السينيكي من التراث العزائي القديم‪ ،‬وعزاء المنفى هو النموذج الوحيد‬
‫الذى بقي فى اليونانية‪ ،‬باستثناء عزاء موسونيوس روفوس الذي لم يتجاوز ثالث صفحات‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ثالثا‪ :‬عزاء إلى بوليبوس‪ ،‬حيث دفع موت شقيق بوليبوس سينيكا لكتابة هذا‬
‫العزاء‪ ،‬وبدأ العمل بالفقد وال نعلم ما المفقود‪ ،‬ولكن المفقود هو ما لدينا‪ ،‬ويغطي‬
‫سينيكا عد ًدا من الموضوعات القياسية ألدب العزاء القديم‪ ،‬وهو يتوارى فى تسمية‬
‫نظرائه ووجهة النظر الرواقية الدقيقة التى ترى أن الحكيم ال يشعر بحزن على اإلطالق‪.‬‬
‫وأما الجزء الثاني يتناول مفهوم السعادة‪ ،‬ويتناول ستة رسائل وهي على النحو‬
‫اآلتي‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬قصر الحياة‪ ،‬وهى رسالة يوضح فيها شجبه للزمن الضائع باالنشغاالت‬
‫المضللة بكل وسائل الراحة والمداهنة‪ ،‬وتلك االنشغاالت التى تداهننا لتفض عنا‬
‫عصب حياتنا‪ ،‬و ُنخضع أنفسنا لتدقيق معذب للزمن المهدر‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬صمود الحكيم‪ ،‬وهى رسالة يبين فيها أن الحكيم ال يتلقى إهانة وال ضرر‪،‬‬
‫وكما يخبر سينيكا سيرينوس صديقه الذى يخاطبه في العمل‪ ،‬يتناول سينيكا مباشرة‬
‫كيف يمكن للمرء أن يقوم بالضرر‪ ،‬ومن ثم ال يتلقاه الحكيم‪ ،‬واستعمل حجج القياس‬
‫المنطقي التي تسعى جميعها إلى فصل قصد األداة عن نتيجة الفعل‪ ،‬والقصدية التي‬
‫يمكن أن يتجاهلها الحكيم الذي يتجاوز أفعال المخطئين‪ ،‬كما لو كانت أحداث‬
‫مصادفة ال أهمية لها‪.‬‬
‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫ثال ًثا‪ :‬رسالة سكينة العقل‪ ،‬وهي رسالة فريدة بين محاوراته؛ ألنها تقدم تبادلاً‬
‫بين المخاطب أنايوس سيرينوس وسينيكا‪ ،‬ولكن هذا الحوار يمنحه صيغة الفعل التي‬
‫يوصف بها أزمة هوية الشباب‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬عن أوقات الفراغ‪ ،‬وهي رسالة تبين أنه لم تتح الحالة المناسبة للحكيم فى‬
‫ً‬
‫الخدمة العامة‪ ،‬فقد يحق له االنسحاب إلى الحياة التأملية فى أي من مراحل العمر‪،‬‬
‫ومع ذلك تبقى األولوية للعمل حتى في التقاعد‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬الحياة السعيدة‪ ،‬وهي رسالة رسمت لوحة مقتضبة للحياة الرواقية السعيدة‬
‫ً‬
‫التي تبنيها الفضيلة‪ ،‬وهي تعتد بعالقة الحياة باللذة وأحوال أخرى‪ ،‬ثم يشرع في تقديم‬
‫‪9‬‬
‫ستة تعريفات للحياة السعيدة بامتداد مختلف‪ ،‬وهو يبرر نهجه للتعريف بمماثلته‬
‫بالجيش الذى بمقدوره أن يتمدد وينكمش فى لحظة واحدة وف ًقا للخطة‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬العناية الربانية‪ ،‬وهي رسالة ال يحتفي فيها بشكوى لوكيليوس التي تنظر‬
‫ً‬
‫إلى األشياء الرديئة التى تحدث لألخيار‪ ،‬ولكنه يناقش على نحو مفارق أن األشياء‬
‫الرديئة ليست سيئة‪ ،‬بل هي من أعظم ذخائر العناية اإللهية‪.‬‬
‫والله من وراء القصد‬
‫د‪ .‬حمادة أحمد على‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫قنا – ‪2018‬‬ ‫ ‬

‫‪10‬‬
‫سينيكا وعالمه‬
‫الحظ سينيكا في رسالته (‪ )Letter 13.14‬أن ما صنع عظمة سقراط‬
‫بسم الشوكران‪ ،‬حيث أكد موته صمود مبادئه الفلسفية‪ ،‬واعتقاده‬
‫هو موته ُ‬
‫بأن الموت ليس مخي ًفا‪ ،‬وقد القى سينيكا مصير سقراط حين حكم عليه‬
‫نيرون باالنتحار عام ‪65‬م‪ ،‬ونعتقد أن ما ذهب إليه تاكيتوس ‪Tacitus‬‬
‫في حوليته (‪ )15.63‬صوا ًبا‪ ،‬حيث إن الرواقية الرومانية وازنت بين موته‬
‫وموت سقراط وهو يتحدث عن الفلسفة بسكينة بين أصدقائه كما يتقطر‬
‫الدم من عروقه‪ .‬ولم ينصب وصف تاكيتوس هنا على وعظ سينيكا‬
‫فحسب‪ ،‬بل كذلك على منهج حياته‪.‬‬
‫وقد منيت حياة سينيكا بخيبة أمل من الناحية السياسية نتيجة تأثرها‬
‫بالنفي والعودة وتسوية عالقته باإلمبراطور نيرون تلميذه ومعلمه أولاً‬
‫أخيرا‪ ،‬وتخبرنا كتاباته باليسير عن وظيفته السياسية وعالقته‬
‫ً‬ ‫ومقتوله‬
‫بنيرون باستثناء ما يمكن أن نستشفه من مقاله عن العفو ‪.On Clemency‬‬
‫وتخبرنا المصادر المتأخرة مثل تاكيتوس وسويتونيوس وكاسيوس‬
‫ديو(‪150‬ق‪.‬م‪235-‬م) ‪Dio Tacitus, Suetonius, and Cassius‬‬

‫‪11‬‬
‫أن سينيكا ُولد لعائلة عريقة في الفروسية بمدينة قرطبة ‪ Corduba‬في‬
‫بين عامي ‪ 4-1‬قبل الميالد‪ ،‬وهو االبن الثاني من ثالثة أبناء‬ ‫هسبانيا(•)‬

‫لهيلفيا ولوكيوس أنايوس سينيكا‪ ،‬واألخ األصغر هو أنايوس ميال وهو‬


‫والد الشاعر لوكان‪ .‬وقد قضى األب فترة كبيرة من حياته في روما وظهر‬
‫صغيرا‪ ،‬وهناك تلقى تعليمه في البالغة‪ ،‬وأصبح‬
‫ً‬ ‫صبيا‬
‫ًّ‬ ‫حينها سينيكا‬
‫ً‬
‫تلميذا للفيلسوف سكيتوس‪ ،‬وتأخر دخوله في الحياة السياسية‪ ،‬وحين‬
‫امتنع ترشحه للمنصب في عهد تيبريوس اعتلت صحته وأصابه الربو‬
‫وربما السل‪ ،‬وكانت عالقته بالسياسة قصيرة‪ ،‬ونجا من عداء كاليجوال‬
‫بفضل موهبته في الخطابة كما تخبرنا المصادر‪ ،‬ونفاه كالوديوس‬
‫إلى كورسيكا بعد وفاة كاليجوال بفترة وجيزة عام ‪ 41‬م بتهمة الزنا‬
‫في جوليا ليفيال الشقيقة الصغرى لكاليجوال‪ ،‬وهذا االدعاء كاذب‬
‫بالتأكيد‪ .‬وقد قضى سينيكا وقته في المنفى في دراسة الفلسفة‪ ،‬وكتب‬
‫«عزاء إلى هيلفيا» والدته‪ ،‬و»عزاء إلى بوليبيوس» السكرتير الخاص‬
‫لكالوديوس‪ ،‬ويكشف في هذا الكتاب عن رغبته في العودة إلى روما‪.‬‬
‫وحين عاد سينيكا إلى روما بضمانات عدة‪ ،‬كان كالوديوس قد تزوج‬
‫بفتاة جرمانية هي أجريبينا الصغرى‪ ،‬والتي حثته على استقدام سينيكا‬
‫ابن آخر‬
‫لتعليم ابنها نيرون ذي االثني عشر عا ًما‪ ،‬وقد كان لكالوديوس ٌ‬
‫أصغر منه هو بريتانيكوس‪ ،‬ومن الواضح أن أجريبينا المراوغة طمحت‬
‫أن ترى ابنها من لحمها ودمها على العرش‪ .‬وبعد أن توفي كالوديوس‬
‫بخمس سنوات ناورت أجريبينا حتى تمكن ابنها من تولي عرش‬
‫اإلمبراطور‪ ،‬وبعد فترة وجيزة دست السم لبريتانيكوس عام ‪55‬م‪ .‬وقد‬
‫مستشارا لنيرون مع قائد برايتوري هو سكتوس أفرانيوس‬
‫ً‬ ‫عمل سينيكا‬

‫(•) االسم الذي أطلقة الرومان على كل شبه الجزيرة األيبرية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫بوروس ‪ Sextus Afranius Burrus‬من عام ‪ 54‬وحتى تضاءل نفوذه‬
‫في نهاية العقد‪ .‬ونحن نعلم أنه كتب مقالاً عن العفو لنيرون؛ ليلقيه على‬
‫مجلس الشيوخ عقب انضمامه إليه بفترة وجيزة‪ ،‬وقد احتوى مقاله عن‬
‫العفو على بعض الشكوك من خطة نيرون للحفاظ على اإلمبراطور‬
‫مشيرا‬
‫ً‬ ‫الشاب من العدو المسعور‪ ،‬واستخدم سينيكا كلمة ملك ‪rex‬‬
‫بها إلى نيرون السيناتور الروماني من باب المماثلة واالندهاش‪ ،‬ويبدو‬
‫أنه امتدح نيرون‪ ،‬وأشار إلى سلطته التي ال حدود لها وإلى قيمة العفو‬
‫التي قد تحفظه من تقلبات السلطة‪ ،‬وأيدت اإلدارة القضائية والمدنية‬
‫اإلمبراطورية سينيكا وبوروس‪.‬‬
‫وشعر كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين أن الفترة األولى من‬
‫حكم نيرون التى أدارها سينيكا وبوروس‪ ،‬وهي فترة سادها االنسجام‬
‫والعدل وأطلق عليها خمسية نيرون ‪،quinquennium Neronis‬‬
‫وبدأ االنحطاط بقتل نيرون ألجريبينا عام ‪59‬م‪ ،‬وكتب بعدها خطا ًبا‬
‫لإلمبراطور يبرئ نفسه‪ ،‬وربما كان هذا مثالاً لفيلسوف عظيم وجد نفسه‬
‫ً‬
‫متورطا بسبب منصبه ككبير مستشاري نيرون‪ ،‬وحتى يزيل الغموض‬
‫حول َمن جعلوا معارضتهم لنيرون واضحة مثل ثراسي بياتوس ‪Thrasea‬‬
‫‪ Paetus‬وهيلفيديوس بريسكوس ‪ .Helvidius Priscus‬ويحتمل أن‬
‫خيرا‬
‫مشاركته في األحداث السياسية قادته العتقاده أن بإمكانه أن يفعل ً‬
‫بوقوفه بجانب نيرون الذي‪ ،‬تخلى عن نصح سينيكا‪.‬‬
‫وقد تضاءل تأثير سينيكا على نيرون بعد موت بوروس عام ‪62‬م‪،‬‬
‫وحاول التنحي عن منصبه مرتين عام ‪62‬م و‪64‬م‪ ،‬ورفض نيرون‬
‫المحاولتين‪ ،‬وغيب سينيكا نفسه عن األحداث بعد عام ‪64‬م‪ ،‬وفي عام‬
‫‪65‬م جاءت مؤامرة بيزونية ‪ Pisonian‬لقتل نيرون ليتولى محله الزعيم‬
‫‪13‬‬
‫كالبورنيوس بيزو ‪ ،C. Calpurnius Piso‬ورغم أن لوكان ابن أخ سينيكا‬
‫ً‬
‫متورطا في المحاولة فقد برأ سينيكا نفسه‪ ،‬ولكن نيرون انتهز الفرصة‬ ‫كان‬
‫ليأمر معلمه القديم بقتل نفسه‪ ،‬فقطع سينيكا شرايينه‪ .‬ويخبرنا تاكيتوس‬
‫أن نحافة سينيكا وتقدمه في العمر قد أعاقا تدفق الدم منه‪ ،‬وحين فشل‬
‫االنتحار في قتله‪ ،‬أجلسوه في حمام ساخن حتى يتدفق الدم منه بسرعة‪،‬‬
‫وحاولت زوجته االنتحار بعده‪ ،‬ولكنهم أنقذوها بأمر نيرون‪.‬‬
‫رواجا عند المسيحيين ُ‬
‫األ َول‪ ،‬وأثرت كتاباته األخالقية‬ ‫ً‬ ‫ولقي سينيكا‬
‫على القديس بولس‪ ،‬ونال حقه من النقد‪ ،‬ونشب عليه هجوم للتناقض‬
‫الظاهر بين تعاليمه الرواقية في عدم االهتمام بالمظاهر الخارجية ورأيه‬
‫في تكديس الثروة‪ ،‬وربما لم ينل لهذا السبب نفس احترام الرواقي‬
‫موسونيوس روفوس الذي ُل ِّقب بـ«سقراط الروماني»‪ .‬والشخص‬
‫الوحيد الذي هاجم سينيكا في حياته هو سيلليوس‪ ،‬بسبب تراكم ما‬
‫يقرب ‪ 300‬مليون سسترس منذ صعود نيرون للسلطة نتيجة الرسوم‬
‫الباهظة على إيطاليا والواليات األخرى‪ ،‬و ُنفي سيلليوس إلى جزيرة‬
‫بليار الختالسه وتلصصه‪ .‬ويبدو أن سينيكا كان متقش ًفا رغم ثروته‪ ،‬وفي‬
‫مقاله عن الحياة السعيدة ‪ De vita beata‬اتخذ موقف الفيلسوف الغني‬
‫صاحب الثروة التي تُربح وتُخسر وموقفه منها منفصل تمامًا‪ .‬ويحتمل‬
‫سينيكا في تقديرنا تناقضات عدة فرضتها حياته السياسية‪.‬‬

‫مقدمة موجزة عن الرواقية‪:‬‬


‫تأثيرا في العالم‪ ،‬وبدأت بأعمال‬
‫ً‬ ‫والرواقية من أكثر الفلسفات‬
‫رواد أساسيين للمدرسة الرواقية اليونانية‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫وتعاليم ثالثة َّ‬
‫زينون الكتيومي (‪335-263‬ق‪ .‬م)‪ ،‬وكليانتس (‪331-232‬ق‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫م)‪ ،‬وخريسبوس (‪280-207‬ق‪.‬م)‪ .‬وأصبحت حركة فلسفية رائدة‬
‫في العالم اليوناني الروماني القديم‪ ،‬وشكلت تطور الفكر في العصر‬
‫المسيحي‪ .‬وقد تال الرواقي َة اليونانية رواقي ُة بانيتوس (‪185-109‬ق‪.‬‬
‫جسدا بعض مالمح‬
‫م)‪ ،‬وبوزدنيوس (‪135-51‬ق‪ .‬م)‪ ،‬اللذين َّ‬
‫المذهب الرواقي‪ .‬وواصل المفكرون الرومانيون المسيرة‪ ،‬وأصبحت‬
‫الرواقية معتقدً ا شبه رسمي للعالم الروماني في األدب والسياسة‪ .‬وإن‬
‫لم يتفق شيشرون مع الرواقية في المسائل الميتافيزيقية والجمالية‬
‫إلاَّ أن مواقفه األخالقية والسياسة خضعت لفكرهم‪ ،‬وحتى لو لم‬
‫يتفق مع الرواقية فقد كان يبذل جهده ليقر باالتفاق معها‪ ،‬كما شكل‬
‫سينيكا وأبكتيتوس رواقية النصف األول من القرن الثاني‪ ،‬وقد كتب‬
‫موسونيوس روفوس واإلمبراطور ماركوس أوريليوس كتابات رواقية‬
‫تمثل آخر كتابات اليونان‪.‬‬
‫إن إسهامات الرواقية الرومانية كانت هائلة عند خريسبوس‪ ،‬فقد‬
‫ابتدع منطق القضايا وفلسفة اللغة ناهيك عن اإلنجازات غير المسبوقة‬
‫في علم النفس األخالقي‪ ،‬وكذلك التمييز بين عالقة الميتافيزيقا والجمال‬
‫بالفلسفة األخالقية والسياسية‪ .‬ومن المؤسف أن كل أعمال الرواقية‬
‫اليونانية قد ُفقدت‪ ،‬وعلينا أن نتناول فكرهم من خالل فقرات تركها لنا‬
‫ديوجين اليرتوس في كتابه «حياة الفالسفة»‪ ،‬وشيشرون‪ ،‬وسكتوس‬
‫أمبريكوس في كتاباته الشكية‪ ،‬والتي كان الرواقيون هدفها المحوري‪.‬‬
‫وأما أعمال المفكرين الرومان فقد ُعدلت لتناسب الواقع الروماني‪ ،‬وقد‬
‫ساهمت في نظرتهم اإلبداعية‪ ،‬وهذا يعني أن معرفتنا بالمنطق والفيزياء‬
‫في الرواقية أقل بكثير من معرفتنا باألخالق عندهم‪ ،‬حيث كان جل‬
‫اهتمام الرومان بالجانب العملي‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫وتتشابه غاية الفلسفة الرواقية مع المدارس الفلسفية األخرى في‬
‫العصر الهيللينستي‪ ،‬حيث حررت المزيد من أشكال العوز الدنيوي‬
‫والفشل األخالقي‪ ،‬لذا كانت الرواقية كلية الوجود في مجتمعاتها على‬
‫خالف المدارس األخرى المنافسة لها‪ ،‬ومن ثم شددت على دراسة‬
‫منظومة ثالثية من المنطق والطبيعة واألخالق لفهم العالم وترابطاته‪،‬‬
‫لدرجة أن شيشرون الروماني اعتقد أنه باإلمكان التمسك بالحقائق‬
‫األخالقية الرواقية دون اعتقاد يقيني في عقالنية العالم‪ .‬وهذا الموقف‬
‫مبتدع من شيشرون‪ ،‬على حد تعبير إيمانويل كانط‪.‬‬
‫عقليا‪ ،‬وكل ما‬
‫ًّ‬ ‫وتنصب الطبيعة الرواقية على أن العالم ُك ٌّل ُ‬
‫منظ ٌم‬
‫يحدث فيه على خير وجه‪ ،‬وإن كان موقف اليبنتز من التجسد قد ظهر‬
‫في كانديد لفولتير وهو يرفض الدين التقليدي التجسيدي‪ ،‬فإن الرواقية‬
‫وهبت اسم زيوس لمبدأ عقالني ُيحيي العالم ككل‪ ،‬واعتبروه دالل ًة على‬
‫حسن النظام العام للكون حتى في األحداث البسيطة أو المؤلمة مثل‬
‫الزالزل والصواعق‪ ،‬وهذا النظام أخالقي مبني على جالل الباطني وقيمة‬
‫القدرات األخالقية للكل‪ ،‬وآمنت الرواقية أن هذا النظام حتمي؛ ألن كل‬
‫شيء يحدث وف ًقا للضرورة‪ ،‬ولكونهم توافقيين ً‬
‫أيضا آمنوا بأن حرية‬
‫إرادة اإلنسان متوافقة مع صحة الحتمية‪ ،‬وقد أدخلهم هذا في نقاشات‬
‫ملتهبة مع األرسطيين الال توافقيين‪ ،‬وهذا ما جعل إسهامهم في مسألة‬
‫مفتوحا للمناظرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫حرية اإلرادة‬
‫ونبعت األخالق الرواقية من فكرة القدرة العقلية الال محدودة في‬
‫كل إنسان‪ ،‬وفهمت الرواقية الرومانية هذه القدرة على أنها محور عملي‬
‫وأخالقي خال ًفا ألفالطون الذي لم يفكر في أن َمن لديهم موهبة طبيعية‬
‫ً‬
‫تشككا‬ ‫ممن ليس عندهم‪ ،‬ويصبحون أكثر‬
‫في تعلم الرياضيات أفضل َّ‬
‫‪16‬‬
‫ٌ‬
‫عملية‪ .‬ورأى الرواقيون أن كل البشر‬ ‫ٌ‬
‫قيمة‬ ‫حتى لو درسوا منط ًقا له‬
‫متساوون من حيث القدرة التي يحتكمون بها على قدرة االختيار وتوجيه‬
‫حياتهم التي قد تصل عند البعض إلى غاية لها قيمة‪ ،‬لذا يقولون إن ما يميز‬
‫اإلنسان عن الحيوان قدرة االختيار والرفض‪ ،‬وقد كرسوا جان ًبا لمعالجة‬
‫سلوك الحيوان خال ًفا لمعظم المدارس القديمة األخرى‪ ،‬ومن َثم رأوا‬
‫أن المعاملة الحسنة والالئقة هي غاية األخالق الوحيدة‪ ،‬فاألطفال على‬
‫حد قولهم ُتقبل على العالم مثل حيوانات صغيرة بتوجه طبيعي نحو‬
‫الحفاظ على الذات‪ ،‬ولكن دون فهم للقيمة الحقة‪ ،‬ومع ذلك يحدث‬
‫نظرا لطبيعتهم الفطرية ويصبح بإمكانهم تقدير‬
‫تغير ملحوظ ينشأ عندهم ً‬
‫أهمية القدرة على االختيار والمنهج األخالقي الذي َّ‬
‫شكل العالم برمته‪،‬‬
‫وجه هذا االعتراف الناس إلى احترام الذات واآلخرين بطريقة‬
‫وقد َّ‬
‫جديدة‪ .‬وكان الرواقيون جادين في مسألة المساواة؛ فقد حثوا على تعليم‬
‫العبد والمرأة‪ ،‬وقد كان أبكتيتوس ذاته عبدً ا‪.‬‬
‫وقد ربطت الرواقية نظرتها األخالقية بالعواقب السياسية الفعلية‪،‬‬
‫وهي تؤكد على المساواة في الحقوق السياسية وإتاحة الفرص‬
‫االقتصادية المتكافئة‪ ،‬ورغم أن األصولية الرواقية أبقت على األهمية‬
‫القصوى للسياسة‪ ،‬إال أن القيمة األخالقية هي الجوهرية فحسب‪،‬‬
‫فالسعي نحو المال والشرف والسلطة والصحة البدنية وحتى حب‬
‫األصدقاء واألطفال والزوجة يمكن أن يكون معقولاً إن لم ُي ِع ْق ُه شيء‪،‬‬
‫وهو ليس قيمة جوهرية حقة‪ ،‬وقد أطلقوا عليه «تفضيل المحايدات»‪،‬‬
‫وال يتناسب مع القيمة األخالقية‪ .‬لذا حين ال يصل المرء إلى ما يتمناه‪،‬‬
‫فمن الخطأ أن يأسى‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫وهذا هو السياق الذي قدم فيه الرواقيون لمذهب األباثيا ‪apatheia‬‬
‫أي التحرر من االنفعاالت‪ ،‬وهم يدافعون عن العواطف واالنفعاالت‬
‫األسمى حيث تنطوي على تقدير حسن للخير الظاهر‪ ،‬وهم يرون أن‬
‫الرواقي الحق ال تحمل جنباته هذه االضطرابات الشخصية‪ ،‬وقد أدركوا‬
‫أن أحداث الصدفة تكمن في سيطرتنا‪ ،‬حيث وجدت الرواقية أنه ال‬
‫ضرورة للحزن والغضب والخوف أو حتى الفرح؛ ألن هذه المشاعر‬
‫تجشؤات عقل يترقب في قلق ورعب أشياء محايدة‪ ،‬ويمكننا أن نعيش‬
‫حياة الفرح الحقة إذا قدرنا كل شيء قدره‪ ،‬والتقدير الحق للشيء يكمن‬
‫في سيطرتنا المطلقة على زمننا‪.‬‬
‫ولم يدرك الرواقيون أن من الصعب التخلي عن الضالالت الثقافية التي‬
‫تأسست على االنفعاالت المرفوضة‪ ،‬وهكذا كانت الحياة الرواقية عملية‬
‫عالجية مستمرة أبدعتها التدريبات العقلية لفطام العقل من مصادراته‬
‫الفجة‪ .‬وتصف أعمالهم عملية العالج‪ ،‬والتي يمكن للقارئ أن يحقق‬
‫من خاللها الفضيلة الرواقية‪ ،‬وغال ًبا ما يشركون القارئ في هذه العملية‪،‬‬
‫فقد وصف أبكتيتوس وماركوس أوريليوس عملية التأمل المتكررة‪،‬‬
‫كما وصف سينيكا في مقاله “عن الغضب” محاسبة ذاته ليلاً ‪ ،‬ويعرض‬
‫سينيكا في خطاباته ً‬
‫أيضا دور المعلم الحكيم الذي ُيمكن أن يقوم بها‬
‫فيم إذا كان هو ذاته خال ًيا من‬
‫في مثل هذه العملية‪ ،‬ولم يفكر سينيكا َ‬
‫المصادرات الخاطئة‪ .‬إن الرجل الحكيم بهذا المعنى مثال بعيد‪ ،‬وليس‬
‫واقعا دنيو ًّيا‪ ،‬خاص ًة عند الرواقيين الرومان‪ .‬والعون األكبر في العملية‬
‫ً‬
‫العالجية هو دراسة التشوهات المرعبة التي تعانيها هذه المجتمعات‬
‫برغبتها في الخير الظاهر‪ ،‬ولو عاين المرء الوجه القبيح للسلطة والشرف‬
‫أو حتى الحب بما فيه الكفاية‪ ،‬فربما قد يتوقف المرء عن التقدم نحو‬
‫‪18‬‬
‫الفضيلة الحقة‪ ،‬وهكذا كان سينيكا في مقاله “عن الغضب” مثالاً لنوع‬
‫شائع في الرواقية‪.‬‬
‫ولم يطرح الرواقيون أي تغيير فعلي في توزيع الخيرات الدنيوية‬
‫كما يفترض المرء اعتبار متكافئ لتصنيف البشر بسبب اعتقادهم‪ ،‬وهم‬
‫يعتقدون أن االعتبار المتكافئ ال يستلزم معالجة كل شخص‪ ،‬ولذا حث‬
‫سينيكا السادة على عدم قهر العبيد وال استخدامهم كأدوات جنسية؛ فإن‬
‫عادة العبودية الصمت‪ ،‬وال يوجد ما هو أسوأ من الصمت‪ ،‬ورأى سينيكا‬
‫أن الحرية الحقة هي الحرية الباطنية‪ ،‬وأما الشكل الخارجي ليس جوهرًا‪.‬‬
‫وقد يتشابه سينيكا مع موسونيوس روفوس‪ ،‬حيث دعا إلى معاملة المرأة‬
‫معاملة حسنة‪ ،‬ناهيك عن حصولها على التعليم الرواقي‪ .‬وتقييد المرأة‬
‫في النظام القانوني بدور منزلي حيث يتولى الرجل السلطة المصيرية‪،‬‬
‫ولم يتحدث سينيكا عما سيتحقق من فضيلة عن رواقية المرأة في‬
‫حالة مكوثها في المنزل‪ .‬ويعتقد بعض الرواقيين الرومانيين أن الحرية‬
‫جزء من الكرامة‪ ،‬ولذلك غاب الدعم للمؤسسات الجمهورية‪،‬‬
‫السياسية ٌ‬
‫إال أن االهتمام بالظروف الخارجية الذي تتفق عليه الرواقية ال يزال‬
‫ً‬
‫غامضا‪ ،‬ومن المؤكد أن عمق الحزن عند شيشرون على فقدان الحرية‬
‫وقعا من حزنه على موت ابنته‪.‬‬
‫السياسية كان أشد ً‬
‫وقد ثار جدل هائل حول ما إذا كانت األباثيا الرواقية قد فصلت‬
‫الناس عن السياسة الرديئة أم أنهم أعانوها‪ ،‬ومن المؤكد أن الرواقيين‬
‫كما هو معلوم قد نصحوا باعتزال السياسة‪ ،‬واعتقدوا أن الثورة أسوأ من‬
‫انعدام القانون‪ .‬ويروي بلوتارخ أن بروتوس األفالطوني سأل المتآمرين‬
‫على اغتيال يوليوس قيصر عن إذا كانوا يقبلون المبدأ الرواقي أو يؤمنون‬
‫بأن انعدام القانون أسوأ من الحرب األهلية؟ إال أن غير الرواقيين انحازوا‬
‫‪19‬‬
‫لمجموعة القتلة‪ .‬وانضم في عهد نيرون كثير من الرواقيين البارزين ‪-‬بما‬
‫فيهم لوكان ابن أخ سينيكا‪ -‬إلى الحركات السياسية الجمهورية التي‬
‫سياسيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫تهدف إلى اإلطاحة بنيرون‪ ،‬وفقدوا حياتهم نظير هذا‪ ،‬وانتحروا‬
‫واعتقد الرواقيون ‪-‬من منظور أخالقي‪ -‬أن الحدود القومية ال عالقة‬
‫لها بالشرف والثروة والجنس والميالد‪ ،‬ورأوا أنهم مواطنون كونيون‪،‬‬
‫وقد ظهر اصطالح “مواطن العالم” عند ديوجين الكلبي‪ ،‬وتمسك به‬
‫جذرا للمواطنة الكونية الحديثة‪ ،‬ولكن ما يطلق عليه‬
‫ً‬ ‫الرواقيون‪ ،‬وصار‬
‫عمليا‪ .‬واعتقد شيشرون في كتابه “الواجبات”‬
‫ًّ‬ ‫مواطنة كونية غير واضح‬
‫أن فضائلنا اإلنسانية المشتركة مقيدة ببعض الحدود الصارمة لدواعي‬
‫الحرب ونوع السلوك المباح فيها‪ ،‬وهكذا صك شيشرون أساس القانون‬
‫الحديث في الحرب‪ ،‬وأنكر أن تلتزم إنسانيتنا بأي واجب في توزيع‬
‫الخيرات المادية لما وراء حدودنا‪ .‬وقد أثر كتاب الواجبات لشيشرون‬
‫في األجيال التالية في هذا الصدد‪ ،‬وقد بالغ شيشرون في إلقاء اللوم على‬
‫الرواقيين؛ ألننا نعمل بعيدً ا عن معتقداتنا في القانون الدولي خاصة في‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫مجال الحرب والسالم‪ ،‬وال نفهم بيننا واجباتنا المادية ً‬
‫وقد امتد تأثير الرواقية ليطول التراث الفكري الغربي برمته‪ ،‬ويدين لها‬
‫بد ٍ‬
‫ين ثقيل‪ ،‬ويكفي مثال واحد لمفكر مسيحي استغرق‬ ‫الفكر المسيحي َ‬
‫في الرواقية‪ ،‬وهو كليمنت السكندري‪ .‬وحتى أوغسطين الذي طعن‬
‫فيما تطرحه الرواقية حيث وجد أنه من الطبيعي أن ينطلق من مواقفها‪.‬‬
‫كثيرا من الفالسفة في طليعة العصر الحديث تحولوا‬
‫ومن الملفت أن ً‬
‫نحو الرواقية‪ ،‬ولم يتجهوا نحو أفالطون وأرسطو‪ ،‬وقد ُبنيت األفكار‬
‫األخالقية الديكارتية على القوالب الرواقية‪ ،‬واستغرق اسبينيوزا في‬
‫الرواقية في كل واردة عنده‪ ،‬وتأسست الغائية عند ليبنتز على الرواقية‪،‬‬
‫‪20‬‬
‫ووضع هوجو جروتيوس أفكاره عن القانون واألخالقية الدولية على‬
‫قوالب رواقية‪ ،‬ولجأ آدم سميث إلى الفكر الرواقي فحسب‪ ،‬ولم يتجه‬
‫للمدارس الفكرية القديمة األخرى‪ ،‬و ُبنيت أفكار روسو عن التربية في‬
‫جوهرها على نماذج رواقية‪ ،‬ووجد كانط إلها ًما في الفكر الرواقي عن‬
‫إجالل اإلنسان والمجتمع العالمي السلمي‪.‬‬
‫جلي‪ ،‬فالشعراء والتربويون الرومان‬
‫وتأثير الرواقية في تاريخ األدب ٌّ‬
‫كانوا على بينة من األفكار الرواقية‪ ،‬وأشاروا إليها في غالبية أعمالهم‪،‬‬
‫كما هو واضح عند فيرجيل ولوكان‪ .‬ويكشف التراث األدبي األوربي‬
‫المتأخر عن نفوذ الرواقيين في األدب الروماني‪ ،‬ناهيك عن تأثر عصرهم‬
‫ذاته بأعمال شيشرون وسينيكا وماركوس أوريليوس‪.‬‬

‫رواقية سينيكا‪:‬‬
‫والء ُه للرواقيين في كتاباته‬
‫َ‬ ‫يصف سينيكا نفسه بالرواقي‪ ،‬ويعلن‬
‫بوصفهم «أهلنا»‪ ،‬ويستقل بذاته في عالقته ببعض الرواقيين‪ ،‬في حين أنه‬
‫يلتزم بأسس المذهب الرواقي‪ ،‬ويعيد صياغته بناء على تجربته وقراءته‬
‫المتبحرة للفالسفة اآلخرين‪ ،‬واتبع في هذا منهج التراث الفلسفي‬
‫الرواقي الذي يجسده بانيتوس وبوزدونيوس‪ ،‬اللذان قدما بعض العناصر‬
‫األفالطونية واألرسطية لتتكيف مع رواقية المجتمع الروماني‪ .‬ويختلف‬
‫سينيكا عن سابقيه من الرواقيين؛ ألنه رحب بالفلسفة األبيقورية‬
‫باختالفاتها‪.‬‬
‫وركز سينيكا في تطبيق المبادئ األخالقية الرواقية على حياته وحياة‬
‫اآلخرين بالمثل‪ ،‬والتساؤل الذي هيمن على كتاباته الفلسفية هو‪ :‬كيف‬
‫يعيش المرء حياة خيرة؟ وكان سينيكا يرى أن السعي للفضيلة والسعادة‬
‫‪21‬‬
‫مسعى بطولي يضعه اإلنسان الناجح فوق بطش االنتهازية وفي مستوى‬
‫حول سينيكا الحكيم إلى شخصية ملهمة‪،‬‬
‫الرب‪ ،‬ولتحقيق هذه الغاية َّ‬
‫بإمكانه تحفز اآلخرين ليتبعوا مثاله بلطف اإلنسانية وبهجة الهدوء‪،‬‬
‫ومفتاح فلسفته هو كيف يوفق المحنة اإلنسانية بالعناية اإللهية‪ ،‬وكيف‬
‫يحرر ذاته من انفعاالت الغضب والحزن‪ ،‬وكيف يواجه الموت‪ ،‬وكيف‬
‫يحرر ذاته من المشاركة السياسية‪ ،‬وكيف يعيش الفقر ويستخدم الثروة‪،‬‬
‫وكيف يفيد اآلخرين‪ ،‬وقد نظر إلى هذه المساعي في سياق أسمى وهو‬
‫منظور األلوهية العاقلة والفاضلة ليحقق نفس الفضيلة في محاوالت‬
‫البشر‪ .‬وقد ناقش سينيكا في مجال السياسة العفو عند الحاكم األسمى‪،‬‬
‫خاصا بالصداقة وموقف العبيد والعالقات اإلنسانية‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫وقد أولى اهتما ًما‬
‫وهدف إلى استبدال البنية االجتماعية باعتمادها على الثروة ببنية أخالقية‬
‫مقاربة وف ًقا لغاية الحكيم‪.‬‬
‫لقد تخلل كتابات سينيكا قلق ومخاوف شخصية‪ ،‬ورغم أن القارئ‬
‫المعاصر يقرأ عن حياة سينيكا األرستقراطية في عهد كالوديوس ونيرو‪،‬‬
‫وعن ضعف وقوة شخصيته‪ ،‬إال أنه يتجاوز في الوقت نفسه اهتمامات‬
‫سينيكا وعصره‪ .‬وقد يتردد بين جمهور المعاصرين أن دعوته للبشر‬
‫ليتوحدوا؛ هي مطلب لعبيده واهتمامه باالنفعال اإلنسانى وإصراره على‬
‫التقوقع في ذاته لتحقيق السعادة‪ ،‬وأن شخصية سينيكا أوقعت عديدً ا من‬
‫القراء في إشكالية‪ ،‬وقد صوره بعض من معاصريه أنه منافق وال يمارس ما‬
‫يعظ به‪ ،‬وأن أعمال سينيكا ‪-‬خاصة تعازيه لبوليببوس وألمه هلفيا ومقاله‬
‫عن الحياة السعيدة‪ -‬كانت لخدمة مصالح شخصية‪ ،‬ورأى سينيكا في‬
‫خطابه ‪ 84‬أنه بدل تعاليمه التي جمعها كالرحيق في ٍّ‬
‫كل يعكس التركيب‬
‫المعقد‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫لقد قسم الرواقيون المنطق إلى الجدل وهو حجة قصيرة‪ ،‬والخطاب‬
‫وهو عرض مستمر‪ ،‬وقد تجنبت كتابات سينيكا الجدل والمنطق‬
‫الصوري عمو ًما‪ ،‬ومع ذلك يعرض بين حين وآخر رقائق من المنطق‬
‫حسن ما‬
‫الرواقي بسخرية؛ ألن ما تحمله الدقة المنطقية تزيد عقيم وال ُي ِّ‬
‫عليه المرء‪ ،‬وينبغي تجنب كل أنواع المراوغات سواء أكانت تنطوى‬
‫على خيط رفيع يى الجدل وتقيم فرو ًقا لفظية خفية للغاية‪ ،‬أم التي تتضمن‬
‫تفسيرات فلسفية عويصة‪ ،‬وحين يعمل سينيكا هكذا‪ ،‬فإنه يجعل القارئ‬
‫متيقنًا من معرفة أن بإمكانه هزيمة منافسه إن أراد‪.‬‬
‫وعلمنا ضئيل عن وجهة نظر الرواقيين في الخطاب‪ ،‬ويتضح هذا عند‬
‫سينيكا حيث استخدم طائفة من الطرق البالغية الرومانية إلقناع القراء‬
‫برسالته الفلسفية‪ ،‬واكتظت كتاباته بأمثلة حية واستعارات جمة وأقوال‬
‫دالة لها وقع مؤثر‪ ،‬فهو يعرف كيف يغير لهجته من الحديث العرضي إلى‬
‫شعبيا‪ ،‬يلقيه على لسان‬
‫ًّ‬ ‫الموعظة الرصينة واالستنكار الساخر‪ .‬وكان نصه‬
‫شخصيات متنوعة‪ ،‬واشتملت عناوين موضوعاته الجمهور والمعارضين‬
‫االفتراضيين واألصدقاء والرموز التاريخية‪ ،‬وجال في الطريق كصديق‬
‫حميم وأحيا ًنا كعدو رجيم‪ ،‬واتبع سينيكا كليانتس وحول ِشعره ً‬
‫نثرا‪،‬‬
‫حتى يحث القارئ على تحسين ذاته‪.‬‬
‫وبالنظر إلى الغايات األخالقية عند سينيكا ربما يكون من الغرابة أن‬
‫يكرس عملاً مطولاً للتساؤالت الطبيعة في الفيزياء‪ ،‬ويصف العمل برمته‬
‫مرارا على أن العقل قد يرتقي إذا تجاوز‬
‫غايات أخالقية‪ .‬وأصر سينيكا ً‬
‫االهتمامات اإلنسانية الضيقة وعاين العالم بأسره‪ ،‬وأن تأمل العالم الطبيعي‬
‫تتمة للفعل األخالقي برؤية السياق الكامل للفعل اإلنساني‪ ،‬فنحن نرى‬
‫الرب في مجده الكامل يهب الحياة لإلنسان؛ ألنه يدبر العالم برمته‪ .‬ونثر‬
‫‪23‬‬
‫سينيكا رسائله األخالقية بعيدً ا عن محاوراته الطبيعية المحضة‪ ،‬وأكد‬
‫على ضرورة أن يواجه اإلنسان األحداث الطبيعية كالموت والكوارث‬
‫الطبيعية بامتنان للرب‪ ،‬وهو يحذر من إساءة استخدام اإلنسان للمصادر‬
‫الطبيعية‪ ،‬واالنحطاط الذي يصاحب التقدم‪ .‬ويصوب سينيكا في جل‬
‫نقاشه عن الطبيعة المذهب الرواقي‪ ،‬سواء أكان باإلضافة أم التعديل‪،‬‬
‫وهو يفند تاريخ الجدل حول الطبيعة بداية من فلسفة ما قبل سقراط حتى‬
‫عصره بغية تحسين المذهب الرواقي‪.‬‬
‫وكتب سينيكا في الرسالة (‪ )Letters 45.4‬أن الفالسفة السابقين قد‬
‫اكتشفوا األشياء لذاتها‪ ،‬وتركوا لنا بعضها لندرسها؛ ألنهم لم يدركوا‬
‫ُكنهها‪ .‬وعرض سينيكا في نقاشاته عن الكون تعاليمه األخالقية ليوضح‬
‫رؤيته عن العدالة والتجديد‪ ،‬وكان إسهامه وجهة نظر جديدة‪ ،‬واستخدم‬
‫أساسا للتجديد‪ ،‬ورسم صورة للتحديات التي‬
‫ً‬ ‫االختالفات الرواقية‬
‫تواجه اإلنسان‪ ،‬وإلى السعادة التي ينتظرها َمن يمارسون الفلسفة الحقة‪.‬‬
‫واتفق سينيكا مع األصولية الرواقية‪ ،‬حيث تمسك بالتفرقة بين المنفعة‬
‫والخير‪ ،‬والحاجة إلى استئصال االنفعاالت‪ ،‬وتفضيل عقالنية المرء‬
‫الحكيم‪ ،‬وتماثل الرب والقدر‪ ،‬وربط ما أضافه لألخالق بحس ِشعري‬
‫مرهف حول هذه االختالفات إلى منطلقات للفعل‪.‬‬
‫ونظر النقاد إلى الحكيم الرواقي على أنه أسمى من إمكانات البشر‪،‬‬
‫وأنه متحجر العواطف‪ .‬واعترف سينيكا أن الحكيم أمر نادر الحدوث‬
‫بل هو كالعنقاء‪ ،‬وقد يظهر كل خمس مائة عام (‪ ،)Letters 42.1‬وليس‬
‫الحكيم كما يرى سينيكا عائ ًقا للتقدم‪ ،‬بل هو الملهم به‪ ،‬ومنح سينيكا‬
‫الحرية للحكيم من واقع الحياة‪ ،‬مستشهدً ا بكاتو األصغر ‪the younger‬‬
‫حكيما على الحقيقة‪ ،‬ويقول‬
‫ً‬ ‫‪ Cato‬عدو يوليوس قيصر‪ ،‬ولم يكن كاتو‬
‫‪24‬‬
‫سينيكا في مقاله “عن الثبات”‪ :‬لست على يقين إن كان كاتو تجاوزني أو‬
‫ال‪ .‬وهو ال يطمس بهذا االختالفات الرواقية‪ ،‬بل يسلط الضوء على القوة‬
‫الباطنة للحكيم بمثال كاتو وأمثلة أخرى من الماضى الروماني‪ .‬ودمج‬
‫سينيكا الحكيم الرواقي بالصورة التراثية للبطل الروماني‪ ،‬وهكذا ح َّفز‬
‫قراءه الرومانيين لتأدية واجبهم بمحاكاتهم للحكيم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ويحدد سينيكا مراحل ثالث للتقدم األخالقي دون مستوى الحكيم‪،‬‬
‫ويعاينها وف ًقا الفتقادنا لالنفعاالت العقلية (‪ .)Letters 75‬واألولى هي‬
‫حالة تقترب من وجود الحكيم‪ ،‬وهو الشخص الذي لم يتيقن بعد أن‬
‫الوجود بإمكانه مجابهة االنفعاالت العقلية وتسمى العواطف أباثيا‪.‬‬
‫والثانية وهي المرحلة األدنى من المرحلة السابقة‪ ،‬وهو الشخص الذي‬
‫ينزلق إلى مستوى أدنى في التقدم يتجنب ً‬
‫بعضا من االنفعاالت العقلية‪.‬‬
‫واألخيرة وهي أدنى المراحل‪ ،‬وهم أناس ال يحصون وال يحققون أي‬
‫تقدم‪ ،‬ولم يقل سينيكا في حقهم شيئًا سوى أنه تجنبهم ألنهم ملوثون‪،‬‬
‫وهم مختلفون عن الذين يناضلون‪ ،‬ويذوقون المر في البداية ليصبحوا‬
‫في حالة أفضل؛ إال أنها فترة وجيزة وستنقضي‪ ،‬ويقول سينيكا عنهم‪:‬‬
‫“حين يحرمون األنين واآلهات س ُيختار منهم ألطف النبرات” (‪Letters‬‬
‫‪ ،)23.4‬وال يزال سينيكا يصر على أن هذه الكلمات حقة وغايتها الوصول‬
‫ٌ‬
‫عرضة للصدمات‪ ،‬وتبدو ردود األفعال‬ ‫للحق بقدر الممكن‪ .‬والحكيم‬
‫آنية مثل االنفعاالت العقلية‪ ،‬ولكن هذه االستجابات االضطرارية قد‬
‫تنجح مباشرة برسوخ الحكم‪ .‬والحكيم عند سينيكا ودود مع اآلخرين‬
‫ومغمور بالبهجة‪ ،‬وال عالقة له بالمتعة الزائلة التي يتعاطها اآلخرون من‬
‫المظاهر‪ .‬ويصور سينيكا التطور األخالقي على أنه نضال شاق أو حملة‬
‫عسكرية أو مداهمة متصاعدة لمواقع العدو‪ ،‬حيث يتكهن العدو هجو ًما‬
‫‪25‬‬
‫شرسا من ضحيته‪ ،‬وربما يستسلم منافسه‪ ،‬وسيظفر إذا قاوم حتى نهاية‬
‫ً‬
‫المعركة‪ ،‬وقد تأتي الكوارث على المناضل من أشخاص آخرين‪ ،‬أو من‬
‫الظروف المحيطة به‪ ،‬ومنها الموت والنفي واالضطهاد والمرض‪ ،‬وقد‬
‫حفلت حياة سينيكا بأمثلة شتى‪ ،‬وذهب سينيكا إلى أن الشدائد وسائل‬
‫للتقدم األخالقي‪ ،‬وأن الظروف تعين َمن يناضلون للوصول إلى التقدم‬
‫األخالقي‪.‬‬
‫يتغيا التقدم األخالقي ال يجابه الظواهر الخارجية فحسب‪ ،‬بل‬
‫و َمن َّ‬
‫ونفسا‬
‫ً‬ ‫ينظر في ذاته‪ .‬ويخبرنا سينيكا من وحي أفالطون أن بداخلنا ر ًّبا‪،‬‬
‫تسعى إلى تحرير ذاتها من براثن الجسد‪ .‬ويدعو سينيكا القارئ إلى أن‬
‫يرتد إلى ذاته الباطنة ليتأمل حالة بعينها‪ ،‬ومن ثم يتجه نحو تأمل اإلله‪،‬‬
‫أيضا‪ .‬ومن األفضل ألاَّ يطول‬
‫ويجري هذا االنسحاب على الحياة الفاعلة ً‬
‫عمل المرء في االشتغال بالسياسة‪ .‬وهكذا ربط سينيكا االنسحاب‬
‫األخالقي بمحاولة انسحابه من السياسة في األيام األخيرة من عمره‪،‬‬
‫وهو يصر على االستمرار في عون اآلخرين بتعاليمه الفلسفية كأي رواقي‬
‫آخر‪.‬‬

‫تراجيديا سينيكا‪:‬‬
‫كتب سينيكا ثمانية أعمال تراجيدية‪ ،‬وهي‪ :‬أجاممنون‪ ،‬وثيستيس‪،‬‬
‫وأوديبوس‪ ،‬وميديا‪ ،‬وفايدرا‪ ،‬وفوينيساي أي النساء الفينيقيات‪،‬‬
‫وترواديس ‪ Troades‬أي النساء الطرواديات‪ ،‬وهيركوليس فورينس‬
‫‪ Hercules furens‬أي جنون هرقل‪ .‬وال تشتمل على أوكتافيا الكبرى‪،‬‬
‫وهيروكليس أوتيوس‪ ،‬ولم يتبقَّ من فوينيساي سوى شذرات‪ ،‬وقد ُنظر‬
‫لهذه الدراما بأوجه شتى عبر القرون‪ ،‬وال يزيد َمن ينقدها على أنها مجرد‬
‫‪26‬‬
‫نصوص معيبة للدراما اليونانية القديمة لمسائل قد عالجها سينيكا‪ ،‬ولم‬
‫يكن دوره فيها سوى أنه استخرجها من مخبأ الفلسفة الرواقية الرومانية‪،‬‬
‫وسلط عليها الضوء‪ ،‬وأسرف في التمثيل البالغي عليها‪ ،‬أو أعاد بناء‬
‫المسرحيات المفقودة لسوفوكليس و َمن تبعه من شعراء أتيكا‪ ،‬وفرضت‬
‫علينا السمات التي ميزت الدراما صوابها وال تستحق االهتمام النقدي‬
‫اآلن‪ .‬والحقيقة أنَّ دراما سينيكا نصوص ممتدة للتراجيديا الرومانية‬
‫عند ماركوس باكيوفيوس ولوكيوس أكسيوس التي افتقدتها األجيال‪.‬‬
‫وقد ترجمت نصوص سينيكا الدرامية إلى اللغة اإلنجليزية عام ‪1581‬م‬
‫كتراجيديات تيني ‪ ،Tenne‬وأثرت على التراجيديين في العصر اإلليزابيثي‪،‬‬
‫ربما قد تحول سينيكا إلى كتابة الدراما قبل فترة حكم كاليجوال ‪41-37‬‬
‫ق‪ .‬م‪ ،‬رغم أنه ال يمكن تحديد متى بدأ بالضبط‪ ،‬وقد حفظ أجاممنون‬
‫‪ Agamemnon‬أول إشارة للمسرحيات على حائط في بومبي‪ ،‬ونستنتج‬
‫منها أنها ُكتبت قبل ثورة بركان فيزوف عام ‪ 71‬ق‪ .‬م‪ .‬وال يؤكد التحليل‬
‫األسلوبي والبنيوى لمسرحيات سينيكا‪ ،‬ويبدو أن الباحثين متفقون على‬
‫أن ثيستس وفونيسيا من األعمال المتأخرة‪ ،‬ونحن نعجز عن تحديد تاريخ‬
‫الدراما عند سينيكا وعالقته بمقاالته وخطاباته‪ ،‬رغم أن هناك انطباعات‬
‫في نثره ِ‬
‫وشعره قد أرشدت بعض القراء في القرن الخامس العتبار‬
‫سينيكا في أعمالهم‪ ،‬ومنهم الكاهن والخطيب سيدونيوس أبولليناريس‬
‫‪ ،Sidonius Apollinaris‬ومن بعده أيراسموس وديدرو‪.‬‬
‫إن التشكيك في كتابات سينيكا أمر طبيعي‪ ،‬نتج عن فشل الرواقية‬
‫رد هذا الفشل إلى ضعف أتباعها‬
‫كطريقة للحياة في األعمال الدرامية‪ ،‬و ُي ُّ‬
‫في التحكم في الرغبة واالنفعال‪ ،‬أو صعوبة ممارسة الرواقية ذاتها‪ ،‬أو أن‬
‫موضوعا للعناية الربانية‪ .‬وأن دراما سينيكا مفتوحة للنقاش‬
‫ً‬ ‫العالم ليس‬
‫‪27‬‬
‫وتفترض قراءتها إتاحة الفرصة لألسطورة التي تدين موت كاسندرا أو‬
‫بوليكسينا على يد كليتيمنسترا ‪ Clytemnestra‬أو أوليسوس‪ ،‬واستفاد‬
‫سينيكا من هذه الحقيقة التراجيدية ليطرح مفهوم القدر الذي ال يرحم‬
‫دراميا في الجمهورية‬
‫ًّ‬ ‫وعدم جدوى ُمالحظاته‪ُ .‬وعتبر ثيستس عملاً‬
‫المتأخرة؛ لذا فهي العمل الوحيد الكامل لدينا‪ ،‬حيث نجده فيما ُيسمى‬
‫المنفى‪ ،‬والذي يمتدح حياة العوز ألبنائه‪ ،‬ويذكرهم بأن الشخص الوحيد‬
‫السعيد الذي يعيش بال خوف‪ ،‬هو َمن يشرب في ٍ‬
‫أوان فخارية‪ ،‬ولكن‬
‫حين ُدعي إلى العودة إلى قصر أرجوس لتآمر أخيه أتريوس الذي تسبب‬
‫في نفيه‪ ،‬استجاب إلغرائه بالعودة بعد شيء من تردد‪ ،‬وقال البنه‪“ :‬إني‬
‫أتبعك”‪ ،‬ولكن لم يستسلم في اتباعه للحياة المترفة على عكس رفاهية‬
‫الخير الرواقي‪.‬‬
‫إن ما تبقى بشكل جيد ليس إلاَّ ركام أسطورة‪ ،‬حيث يجلس ثيستس‬
‫ٍ‬
‫وبعض من الخمر‬ ‫ملكيا‪ ،‬ويستمتع بشراب ُيط ِّيب القلب‬
‫ًّ‬ ‫مرتد ًيا ز ًّيا‬
‫المعتق‪ ،‬وتجشأ من شبعه وهب ف ِز ًعا حين أبلغه أتريوس أن عشاءه‬
‫ُصنع من أوصال أبنائه‪ ،‬ولكن هل هنا تفسير أخالقي أو رسالة فلسفية؟!‬
‫وإذا تابعنا وجهة نظر رواقي آخر هو أبكتيتوس الذي وصف التراجيديا‬
‫كما تحدث وهو القائل‪“ :‬حين تحدث الصدفة ُي َغشى على الحمقى”‬
‫‪ ،Discourses 2.26.31‬ونخلص إلى أن قصة ثيستس توضح بالضبط‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫درسا‬
‫استسالم الحمقى لرغبة السلطة‪ ،‬وتبدو معالجة سينيكا ً‬
‫قوض به عوامل عدة‪ ،‬وهي أولاً نشوة النصر التي سيطرت على آتريوس‬
‫ُي ِّ‬
‫في نهاية الدراما التي هي أصداء ال يمكن إنكارها من الوعظ الرواقي‪،‬‬
‫وثان ًيا هشاشة المدنية والقيم الدينية في المشهد الجحيمي الذي ُيضحي‬
‫فيه أتريوس باألطفال‪ ،‬وهذا المشهد صورة زائفة للتضحية ذاتها‪ ،‬ويظهر‬
‫‪28‬‬
‫الملقنون لالبتذال الرواقي في مسرحيات عدة مثل فايدرا وكليتيمنسترا‬
‫وميديا‪ ،‬وهم يلقنون العبارة على عكس تساوقها مع الفعل‪ ،‬ولعب كريون‬
‫‪ Creon‬الدور نفسه في مسرحية أجاممنون‪.‬‬
‫ولدى أنصار سينيكا شكوك أكبر حول قيمة النجاح الدنيوي في‬
‫السلطة؟ وقال‬
‫دراما ثيستس‪ ،‬حين يسأل أوديب هل متعة اإلنسان في ُّ‬
‫إنه غير واثق بأنه يشعر أن اإلجابة ال‪ ،‬ويقدم أوديب من بداية المسرحية‬
‫متناقضات ب ِّينة ألسالفه اليونانيين الذين أكدوا على اكتشاف ميالد الهوية‬
‫هنا‪ ،‬حيث يغمر أوديب اإلحساس بالدنس‪ ،‬وفزع الملك حتى من‬
‫الدراما المفتوحة؛ ألنه لن يستطيع الهروب من نبوءة قتل أبيه ظ ًّنا منه أنه‬
‫مسؤول عن اجتياح الطاعون لمدينة طيبة‪ ،‬حتى أنه تمنى الموت السريع‬
‫جزعا‪ ،‬واختلفت حالته االنفعالية عن شخصيته المحورية في مسرحية‬
‫ً‬
‫سوفكليس‪ .‬إن نص سينيكا هو تقرير مطول لكريون في استحضار شبح‬
‫آيوس في حديقة مظلمة‪ ،‬وهو أمر غاب في عمل سوفكليس‪ ،‬وقد ُأسقط‬
‫إحساس الشخصية التي تتفاعل على خشبة المسرح‪ ،‬ليجعل الشعور في‬
‫دراما سينيكا محر ًما‪ ،‬ويصبح حديث الشخصيات ر ًّدا على العنف‪ ،‬أكثر‬
‫دافعا له‪.‬‬
‫من كونه ً‬
‫إن تدنيس السماء من منظور اإلنسان يتعارض مع الطبيعة الرواقية‪،‬‬
‫َو ُو ِج َد له صدى في مسرح سينيكا‪ ،‬حيث وضع مذهب الرواقية نصب‬
‫عينيه العالقة بين الكون وأجزائه‪ .‬وتواف ًقا مع هذا الرأي‪ ،‬فإن النوما أو‬
‫الروح الحيوية ُيقابل كل نتائج المادة بانسجام كوني لألجزاء مع الكل‪.‬‬
‫وكما يقول أبكتيتوس في ‪“ :Discourses 1.4.1‬كل األشياء مترابطة‬
‫ببعضها البعض‪ ،‬وتتأثر أشياء األرض بما هو سماوي”‪ ،‬ولكن ما نراه‬
‫في الدراما مشهد مريب لهذا االنسجام‪ ،‬وفكرة ضعف المرء أو التهوين‬
‫‪29‬‬
‫من شأنه بإمكانها أن تعطل اللوجوس العقالني المنسجم الذي يعكس‬
‫وجهة نظر المذهب عن العالم الذي قد نصل إلى إدراكه بالفهم والعقل‪،‬‬
‫وهكذا نرى العالم يرتجف وقانون السماء يضطرب في عبارات مسرحية‬
‫ميديا‪ ،‬والشمس تحجب وجهها خجلاً من جريمة أتريوسفي مسرحية‬
‫ثيستس‪ ،‬وتختفي أصوات الجوقة بعد افتضاح نوايا فيدرا الخفية‪ ،‬وبشارة‬
‫ّ‬
‫يحل في طروادة في مسرحية فيدرا‪ .‬وتختلف‬ ‫هوريفك التي تنذر بما‬
‫مسرحيات سينيكا عن التراجيديا اليونانية‪ ،‬حيث ال دور فيها للمؤسسات‬
‫المدنية أو حتى تتدخل في هذه العالقة‪ ،‬ومعالجة مفهوم األرباب غير‬
‫المغلوطة فيها‪ ،‬ويدعو جيسون القراء لمطالعة مسرحية ميديا التي ترى‬
‫أنه ال يوجد رب في السماوات‪ ،‬والعربة التي كانت تجنح هي دليل على‬
‫العون الرباني‪ ،‬فاألرباب معضلة ال يمكن معالجتها هنا‪.‬‬
‫إن الشخصيات الرئيسة في ميديا وثيستس مثيرة للقلق ال ألنها تنتصر‬
‫دائما‪ ،‬ولكن ألن طريقة نصرها تتوافق مع غاية الطموح الرواقي‪ ،‬حيث‬
‫ً‬
‫تتبنى وصاياهم موق ًفا بعينه تجاه العالم‪ ،‬وهو التخلي عن الروابط العائلية‬
‫واالجتماعية ورفضهم للنظام األخالقى للعالم من حولهم‪ ،‬ومحاولتهم‬
‫العيش في أنويتهم باعتبارها أفضل صورة للحياة‪ .‬وطغاة سينيكا‬
‫خاصا ومستقلاًّ حول ذواتهم ال يمكن‬
‫ًّ‬ ‫عالما‬
‫ً‬ ‫مثل حكمائه‪ ،‬فهم يبنون‬
‫اختراقه‪ ،‬وهم ال يستنكرون ذواتهم‪ .‬وهناك انقسام في الحوار مع النفس‬
‫بين الضرورة األولى وهو رغبة النفس‪ ،‬والضرورة الثانية وهو الحكم‬
‫اعتبارا الئ ًقا كمبدأ حاكم لهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫عليها‪ ،‬فهم يختارون‬
‫وهذا يؤدي بدوره إلى طابع بعد مسرحي ‪ metatheatrical‬في عديد‬
‫من المسرحيات‪ ،‬ففي مسرحية ميديا على سبيل المثال تظهر ميديا وهي‬
‫تنظر إلى فصول سابقة في قصتها لتكتشف ما هو مناسب لشخصيتها‪،‬‬
‫‪30‬‬
‫وأوديب عندما يغلق عينيه يالحظ أن “هذا الوجه يليق به هو” أو كما‬
‫يقول أتريوس‪“ :‬هذه جريمة‪ ،‬هذا الوجه يناسب ثيستس ويناسب‬
‫أيضا” ‪ ،Thyestes 271‬ويبدو أن طابع ما بعد المسرحية يعلو‬ ‫أتريوس ً‬
‫على اهتمام النخب الرومانية التقليدية‪ ،‬حيث إنها تعرض أفعالاً مثالية قد‬
‫ُيجمع عليها الجمهور وهي تتبنى مثالية أخالقية بعينها‪.‬‬
‫وقد ناقش الباحثون باستفاضة مسألة أداء مسرحيات سينيكا على‬
‫قديما‪ ،‬ويرى الباحث األلماني فريدرك ليو في القرن التاسع‬
‫ً‬ ‫المسرح‬
‫عشر أن هذه التراجيديات ُكتبت لإلنشاد فحسب‪ ،‬فمن غير المعتاد أو‬
‫من المحال تجسيد التضحية الحيوانية والقتل على المسرح‪ ،‬ويبقى‬
‫السؤال بال جواب‪ ،‬ولكن سواء أكان الجمهور العادي في المسرح أم‬
‫في مقصورة اإلنشاد‪ ،‬فإنهم يشاركوننا معرفة كاملة بكيفية تحول القصة‪،‬‬
‫وتشابه ذواتهم مع الشخصية الرئيسة في الواقع‪ ،‬وإن سعادتنا في مشاهدة‬
‫دراما سينيكا قد توسع مداركنا حين نالحظ سعادة هذه الشخصيات التي‬
‫تئن من األلم‪ ،‬ويقول سينيكا في مسرحية طروادة في سطر شهير للرسول‬
‫الذي يأتي بأخبار عن قاتل أستياناكس ويقص مشهد موت أستياناكس‬
‫ويجسده للمسرح‪“ :‬الجزء األكبر من الحشد المكتظ يمقت الجريمة‬
‫ويشاهدها”‪ ،‬وهذا التوتر بين هاجس السادية والفزع الذي تعرضه دراما‬
‫سينيكا يمكننا من التعرف على عدم رضى المشاهدين من مسرحيات‬
‫سينيكا البائسة‪.‬‬

‫دراما سينيكا بعد المرحلة الكالسيكية‪:‬‬


‫ُت ِّوجت دراما سينيكا مرتين‪ ،‬إحداهما في الفترة اإلليزابثية‪ ،‬واألخرى‬
‫قديما‬
‫ً‬ ‫في يومنا هذا‪ ،‬ولم يشر سينيكا إلى تراجيدياته‪ ،‬وكانت معروفة‬
‫‪31‬‬
‫حتى عند بؤثيوس ‪ 524-480‬م الذي وضع عزاءه للفلسفة على غرار‬
‫قصائد سينيكا الغنائية‪ ،‬وقد غابت دراما سينيكا عن األنظار‪ ،‬إلى أن نشر‬
‫باحث دومنيكي ‪-‬هو نيقوال تريفيت‪ -‬طبعة شعبية لها وعلق عليها عام‬
‫‪1300‬م‪ ،‬وعقب عمل نيقوال بقرنين ظهرت ترجمات عامية في اللغة‬
‫اإليطالية والفرنسية واإلسبانية‪ ،‬فقد قلدها ألبرتينو موساتو‪-1261‬‬
‫‪1329‬م في إيطاليا‪ ،‬وكتب على غرارها مأساته إكيرينيس ‪Ecerinis‬‬
‫لتحذير صديقه باديونس من خطر طاغية فيرونا‪ ،‬وترجم جاسبر هيوود‬
‫‪ Jasper Heywood‬الكاهن اليسوعي والشاعر عام ‪1598 -1535‬م‬
‫ثالث مسرحيات لسينيكا‪ ،‬وتال هذه الترجمات عام ‪1581‬م ترجمة‬
‫توماس نيوتن لدراما تين ‪ Tenne‬إلى اللغة اإلنجليزية‪ .‬وال ُتعتبر هذه‬
‫الدراما مجرد ظل شاحب لسابقتها اليونانية‪ ،‬وقد تمسك باتريك‬
‫وسليوتاتي وسكليجر بأن دراما سينيكا ليست أقل شأ ًنا من الدراما‬
‫اليونانية‪ ،‬وقد وضع سكليجر سينيكا في بحث له عن ِّ‬
‫الشعر على قدم‬
‫المساواة مع الدراميين اليونان‪ ،‬بل إنه قد يفوق يوربيديس في األناقة‬
‫واأللمعية‪.‬‬
‫نموذجا للترجمة‬
‫ً‬ ‫وأخذ الك َّتاب المسرحيون في عصر إليزابيث سينيكا‬
‫والمحاكاة‪ ،‬وزعم ت‪ .‬س‪ .‬إليوت أنه “ما من مؤلف أ َّثر بعمق على العقل‬
‫اإلليزابيثي أو صورة التراجيديا في عصر إليزابيث بقدر ما فعل سينيكا”‪،‬‬
‫وهناك إجماع على أن إليوت كان مح ًّقا فيما قال‪ ،‬ولعل من العجب أن‬
‫ُيحكم على سينيكا في العصر الذي كان ينظر إلى التراجيديا على أنها‬
‫تمثيل صائب لألنفة والتكبر والطموح والفخر والظلم والغضب والحسد‬
‫والكراهية والخصومة والنهب والخيانة والغدر وجميع أنواع الشرور‪.‬‬
‫وقد قرأ كيد ومارلو ومارستون وشكسبير سينيكا في المدرسة‪،‬‬
‫‪32‬‬
‫وتبين أعمالهم الدرامية تأثير سينيكا فيهم بشكل أو بآخر‪ ،‬فالمتجولون‬
‫في إلسينور في رواية هملت لشكسبير يعبرون عن رأيهم قائلين‪:‬‬
‫“ليس سينيكا ثقيلاً وال بلوتوس خفي ًفا”‪ ،‬ويبين تيتوس أندرونيكوس‬
‫في شكسبير التأثير األكبر لسينيكا بتوقه لالنتقام واالغتصاب وضرب‬
‫األعناق والسحل والجنون‪ ،‬وفي ريتشارد الثالث وماكبث لشكسبير أمثلة‬
‫للمتهور والمكتئب والطموح بين أبطال الرواية المتعطشين للسلطة‪،‬‬
‫وكما نرى مثل هذا التأثير في دراما توماس كيد التراجيدي اإلسباني‬
‫حيث تتحدث عن هاجس االنتقام عند األشباح من وراء القبور‪.‬‬
‫ويرتبط محتوى األعمال الدرامية عند سينيكا بالدرس األخالقي‬
‫دائما‪ ،‬ورأى تريفيت في تقديمه لمسرحية ثيستس أنها تعلم الصحيح من‬
‫ً‬
‫األخالق‪ ،‬كما أنها عرض بسيط إلمتاع الجمهور‪ ،‬وقد دافع اليسوعي‬
‫مارتن أنطونيو ديلريو ‪1608 -1551‬م‪ ،‬وكذلك موساتو من قبله عن‬
‫توجيها‬
‫ً‬ ‫استخدام الدراما الرومانية في التعليم المسيحي حيث إنها تفترض‬
‫يتزيا بالحكمة‪ ،‬وتراجعت دراما سينيكا بعد منتصف القرن السابع لسوء‬
‫السمعة‪ ،‬وانتهز الشاعر جون درايدن فرصة تقديمه لمسرحية أوديب‬
‫لينتقد سينيكا ونصوص كورنيي قائلاً ‪« :‬إن سينيكا يلهث خلف التعبيرات‬
‫الطنانة والجمل الرمزية والمفاهيم الفلسفية التي تصلح للدرس أكثر من‬
‫المسرح»‪ ،‬واستخدم التراجيدي الفرنسي جان راسين ‪1699 -1639‬م‬
‫نموذجا في مسرحيته فيدرا‪ ،‬وا َّدعى في الوقت نفسه أن والءه‬
‫ً‬ ‫سينيكا‬
‫األساسي ليوربيديس‪ .‬وليس هذا مستغر ًبا؛ ألن الرومانسيين ال يجدون‬
‫وقتًا ليحبوا سينيكا‪ ،‬وقد طفح االهتمام في اآلونة األخيرة بجوانب األداء‬
‫واألدب في دراما سينيكا بعد ظهور الطبعات الجديدة والدراسات‬
‫األكاديمية وبعض من العروض المسرحية لها‪ ،‬وتجدر اإلشارة هنا إلى‬
‫‪33‬‬
‫طبعة سارة كين المعدلة لمسرحية فايدرا التي ظهرت في نيويورك في‬
‫مايو ‪1996‬م‪ ،‬وكتاب مايكل إليوت «دراما أوديب بعد الهولوكست»‬
‫بجامعة حيفا في إسرائيل في ‪2005‬م‪ ،‬وإخراج جوان أكاالتيس لمسرحية‬
‫ثيستس على مسرح محكمة شيكاغو ‪2007‬م‪.‬‬
‫وهناك مالحظة على هذه الترجمة‪ ،‬وهي أنها صيغت بشكل يوافق‬
‫االصطالح اإلنجليزي نظيره الالتيني بدقة متناهية ووضوح‪ ،‬وتوازي‬
‫أسلوب النثر مع ِّ‬
‫الشعر‪ ،‬والقصد من هذه الترجمة هو وضع بنية‬
‫لعمل تفسيري‪ ،‬أكثر من كونها نقلاً لتفسيرات شخصية‪ ،‬وهي تتجنب‬
‫االصطالحات التي تنطوي على مضامين أخالقية مسيحية ويهودية‪ ،‬وإذ‬
‫توضيحا ألسماء األعالم‬
‫ً‬ ‫اقتضت الحاجة إلى تفسي ٍر وضعنا في الهامش‬
‫في األساطير والجغرافيا‪.‬‬

‫‪34‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
On Seneca’s life: Miriam T. Griffin, Seneca: A Philosopher in Politics
(Oxford: 1976),

Paul Veyne, Seneca: The Life of a Stoic, translated from the French
by David Sullivan (New York: 2003).

Brad Inwood, Seneca: Stoic Philosophy at Rome (Oxford: 2005),

Shadi Bartsch and David Wray, Seneca and the Self (Cambridge:
2009).

A. J. Boyle, Tragic Seneca: An Essay in the Theatrical Tradition (New


York and London: 1997);

C. A. J. Littlewood, Self-Representation and Illusion in Senecan


Tragedy (Oxford: 2004);

Thomas G. Rosenmeyer, Senecan Drama and Stoic Cosmology


(Berkeley: 1989).

Robert S. Miola, Shakespeare and Classical Tragedy: The Influence


of Seneca (Oxford: 1992),

Henry B. Charlton, The Senecan Tradition in Renaissance Tragedy


(Manchester: 1946).

35
36
‫عزاء �إلى ماركيا‬

‫‪37‬‬
38
‫مقدمة‬
‫ولكن والدها‬
‫َّ‬ ‫لوال "عزاء إلى ماركيا" ما سمعنا عن المرأة التي ُت ِّوج بها العنوان‪،‬‬
‫المؤرخ أوليوس كريموتيوس كوردوس ‪ Aulus Cremutius Cordus‬ذكر في مصادر‬
‫قديمة أخرى‪ ،‬وكتب في فتر َتي حكم أوغسطس وتيبيريوس تاريخ الحروب األهلية‪،‬‬
‫وحكم عليه بتهمة الخيانة عام ‪ 25‬م‪ ،‬وانتحر ُ‬
‫وأحرقت أعماله‪ ،‬وبعد وفاة تيبيريوس‬ ‫ُ‬
‫استُعيدت سمعة كوردوس‪ ،‬وشاعت أعماله التاريخية (ولم َ‬
‫تبق حتى يومنا هذا)‪،‬‬
‫وأشار سينيكا إلى رد اعتبار سمعة كوردوس‪ ،‬ولذلك ُكتب هذا العزاء بعد موت‬
‫تيبيريوس‪ ،‬وعلى األرجح فى فترة حكم جايوس (‪ ،)37 -41‬ويبدو أن سينيكا كان فى‬
‫روما أثناء كتابته (فصل ‪ ،)2 -16‬والذي يستبعد سنوات منفاه (‪ ،)41 -49‬والتوفيق‬
‫بين التاريخ بعد عام ‪ ،49‬والمعلومات التي يقدمها سينيكا عن عمر ماركيا صعب‪،‬‬
‫وتاريخ التأليف في عهد جايوس ضمن بقاء أعمال سينيكا النثرية‪.‬‬
‫أدبيا متقد ًما‬
‫نوعا ًّ‬
‫لمن أصابه الحزن‪ ،‬وأصبح العزاء ً‬‫وإن العزاء يقدم الراحة َ‬
‫تأثيرا‬
‫يبق من العزاءات األشد ً‬‫للغاية‪ ،‬يستند على تقاليد فلسفية وخطابية شتى‪ ،‬ولم َ‬
‫في العصور القديم سوى اثنين‪ :‬الحزن على الفيلسوف األكاديمي كرانتور ‪Crantor‬‬
‫)‪ ، (ca. 335–275 bce‬وعزاء شيشرون الذي كتبه لنفسه بعد موت ابنته توليا ‪Tullia‬‬
‫عام ‪ 45‬م‪ ،‬والحقيقة أن “عزاء إلى ماركيا” أقدم تعزية بقيت على قيد الحياة‪ ،‬ويمكن‬
‫مقارنته بعزائه إلى بوليبوس وخطابي المعزى رقم (‪ ،)99-63‬وتعتمد تعازيه على‬
‫‪39‬‬
‫موضوعات تقليدية مثل الثناء على المتوفي‪ ،‬والحض على عدم االنغماس في الحزن‬
‫المفرط‪ ،‬والحجة القائلة بأن الموت هو النهاية والبقاء للنفوس؛ ألن موت المتوفي‬
‫أفضل من حياته‪ .‬ويعترف سينيكا بأنه يكتب في ظل تقاليد راسخة‪ ،‬ويلفت االنتباه‬
‫إلى إبداعه في الفصل األول والثاني‪ ،‬وهو يبتعد عن الممارسة المعتادة‪ ،‬ويبدأ بأمثلة‬
‫بدلاً من النصيحة‪ ،‬فالرواقية غير معهود عنها العزاء‪ ،‬وهو يرفض المذهب الرواقي‬
‫الصارم الذي ال يحزن فيه الحكيم الرواقي على اإلطالق‪ ،‬وهو يستند على مبدأ أن‬
‫الحزن مثل االنفعاالت األخرى‪ ،‬وهو نتاج المعتقد الخاطئ‪ ،‬وفي حالة الحزن هذه‬
‫معتقدات خاطئة عن طبيعة الموت وتأثيره على المتوفي والثكلى‪.‬‬
‫وال نعلم بالضبط ما دفع سينيكا لكتابة هذا العمل إلى ماركيا‪ ،‬حيث لم تجمعه بها‬
‫أي عالقة خاصة أو صداقة بها أو بعائلتها‪ ،‬وقد قيل من مخاطبته لماركيا أنها ابنة أحد‬
‫ضحايا سيجانوس‪ ،‬وكان يحاول أن ينأى بنفسه عن سيجانوس الذي ُفضح وأعدمه‬
‫تيبريوس‪ ،‬وكان لعائلة سينيكا صالت بسيجانوس‪ ،‬ولكن ال يمكن إثبات الفضيحة‪ .‬إن‬
‫السبب الظاهري لهذا العمل هو أن ماركيا كانت ال تزال حزينة على ميتليوس‪ ،‬وهو ابنها‬
‫الذي ُتوفي منذ ثالث سنوات‪ ،‬وأراد سينيكا أن يقنعها بأن ترمي حزنها وراءها‪ ،‬ولكن‬
‫تباعدت الفترة التي ُتوفي فيها ابنها‪ ،‬وهناك أجزاء كبيرة من العمل (كما هو واضح في‬
‫جمهورا‬
‫ً‬ ‫المالحظات على الترجمة) تتالشى ماركيا من الخلفية‪ ،‬بينما ُيخاطب سينيكا‬
‫عا ًّما من الذكور‪ ،‬وهذا يبين أن العمل ليس مجرد عزاء شخصي فحسب‪.‬‬

‫شكر وتقدير‪:‬‬
‫إنني مدين بالفضل إلى إليزابيث أسميس ‪ ،Elizabeth Asmis‬والقارئ المحرر‬
‫ُ‬
‫مسؤول بمفردي عن العيوب المتبقية‪.‬‬ ‫القتراحاته في تحسين الترجمة‪ ،‬وأنا‬

‫‪40‬‬
‫بنية العزاء‬
.‫مقدمة‬
.‫ ردود الفعل المتناقضة من أوكتافيا وليفيا لفقدان االبن‬:‫ أمثلة‬5-2 ‫الفصل من‬
.‫ نصيحة عامة عن الموت والفجيعة‬:11 -6 ‫الفصل من‬
.‫ نصيحة خاصة تتعلق بموقف ماركيا‬:19.3-12 ‫الفصل من‬
.‫ حالة ميتيليوس الراهنة لتبرر الحداد المستمر‬:25- 19.3 ‫الفصل من‬
.‫ تخيل ماركيا أباها الميت يناديها‬:‫ الخالصة‬26 ‫الفصل‬

:‫لمزيد من القراءة‬

1- Manning, C. E. 1981. On Seneca’s “Ad Marciam.” Mnemosyne


Supplement 69. Leiden: E. J. Brill.

2- Olberding, A. 2005. “The ‘Stout Heart’: Seneca’s Strategy for


Dispelling Grief.” Ancient Philosophy 25:141–54.

3- Shelton, J.-A. 1995. “Persuasion and Paradigm in Seneca’s


Consolatio ad Marciam 1–6.” Classica et Mediaevalia 46:157–88.

4- Wilcox, A. 2006. “Exemplary Grief: Gender and Virtue in Seneca’s


Consolations to Women.” Helios 33, no. 1: 73–100.

41
42
‫إن لم أعلم يا ماركيا ِ‬
‫أنك قد تتملصين من الضعف الذي ُجبلت عليه النساء‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫كما تنسلين من كل أنواع الخطايا‪ ،‬وأن الناس يتطلعون لشخصك كما لو‬
‫قديما‪ ،‬فلن أجرؤ على مداهمة أحزانك؛ ألن البشر يتشبثون بالكآبة‬
‫ً‬ ‫كان مثالاً‬
‫ويحتضنونها بال هوادة‪ ،‬ولن أبني أملاً غير ُم َو ٍ‬
‫ات للظرف أمام هذا القاضي‬
‫الخصم على التهمة المكروهة‪ ،‬فأكس َبك سوء الحظ الذي تعانينه‪ ،‬ولكن قوة‬
‫شكيمتك وشجاعتك التي بنيتها ‪-‬والتي تعطيني الثقة‪ -‬قد تثبت قيمتها تحت‬
‫اختبار ٍ‬
‫قاس‪.‬‬
‫أطفالك‪ ،‬سوى ِ‬
‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫ولم ألحظ مدى تصرفك تجاه ِ‬
‫أبيك الذي أحببتيه مثل‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫لم تتمني أن يصمد أمام الموت أو ربما لم ترغبي حتى في هذا؛ ألن الحب‬
‫العظيم قد يسمح لذاته أحيا ًنا أن ينافي قواعد األخالق الطبيعية‪ .‬وبقدر‬
‫أبيك أوليوس كريموتيوس كوردوس ‪Aulus‬‬ ‫حاولت أن تمنعي موت ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫همتك‬
‫تبين ِ‬
‫لك أن هذا هو المهرب الوحيد المتاح له‬ ‫(((‬
‫‪ ، Cremutius Cordus‬وقد َّ‬
‫ِ‬
‫وأنت لم تدعمي‬ ‫حين حاصره أتباع سيجانوس ‪،((( Sejanus’s henchmen‬‬
‫ِ‬
‫تنهداتك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتجرعت‬ ‫ِ‬
‫دموعك (((‪،‬‬ ‫ولوحتي بقبول الهزيمة وانهمرت‬
‫مأربه‪ ،‬بل َّ‬
‫((( أوليوس كريموتيوس كوردوس ‪ :Aulus Cremutius Cordus‬مؤرخ كتب في عهد أوغسطس وتيبيريوس‪ ،‬تاريخه عن‬
‫الحروب األهلية الذي لم ُيكتب له البقاء حفل بالجانب الجمهوري‪ ،‬وكان هذا جذر التهمة الموجهة إليه كما يشير‬
‫سينيكا‪.‬‬
‫حاكما للحرس البرايتوري في عهد تيبيريوس‪ ،‬وأصبح أقوى رجل في روما من عام ‪ 26‬م‬‫ً‬ ‫((( لوكيوس إيليوس سيانوس‪ :‬كان‬
‫حين تقاعد في كابرا ‪ ،Capri‬حتى سقوطه من السلطة وإعدامه عام ‪ 31‬م‪.‬‬
‫ِ‬
‫دموعك”‪ ،‬ولكن هذه ترجمة متكلفة‪ ،‬ومع ذلك تتابع‬ ‫زمت بشكل واضح‪ ،‬وانهمرت‬ ‫“أنت هُ ِ‬
‫ِ‬ ‫((( يترجم البعض هذا بأنها‬
‫األفكار محير‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ومن َثم لم ُتخفيها بتعبير البهجة‪ -‬كل هذا في الفترة التي لم تفعلي شيئًا‬
‫مكروها يعادل إظهار الحب العظيم‪.‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫فإنك تمكنين الجمهور‬ ‫وحالما يقدم المناخ السياسي المتقلب الفرصة (((‪،‬‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫أبيك األدبية والتي كانت هد ًفا للعقاب‪ِ ،‬‬
‫إنك‬ ‫من أن يقترب أكثر من موهبة ِ‬
‫ِ‬
‫وأعدت مخطوطات كتبنا العامة التي كتبها هذا‬ ‫ٍ‬
‫محقق(((‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫موت‬ ‫أنقذتيه من‬
‫ِ‬
‫قدمت خدم ًة جليل ًة لألدب‬ ‫استثنائي‪ ،‬لقد‬
‫ٍّ‬ ‫الرجل الشجاع بدمه على نح ٍو‬
‫ٌ‬
‫جليلة لألجيال‬ ‫ٌ‬
‫خدمة‬ ‫مهم منه في النار‪ ،‬وهي‬ ‫ٌ‬
‫طرف ٌّ‬ ‫الروماني الذي احترق‬
‫مشو ٍه والذي ك َّلف‬
‫َّ‬ ‫تاريخا موثو ًقا فيه وغير‬
‫ً‬ ‫الالحقة‪ ،‬الذين سوف يرثون‬
‫مؤلفه ما ندر‪ ،‬وهذه الخدمة الجليلة تقوي ذكراه‪ ،‬وستبقى قوي ًة طالما كانت‬
‫معرف ًة قيم ًة لتاريخ الرومانـ وطالما هناك ٌ‬
‫امرؤ يريد أن ينظر للخلف إلنجازات‬
‫رومانيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫أسالفه‪ ،‬وطالما هناك َمن يرغب في أن يعرف ما يجب عليه ليكون‬
‫وما يبقيه غير مطأطئًا حين يضطر إلى أن يحني رأسه ويخضع لنير سيجانوس‪،‬‬
‫وما يجعله إنسا ًنا بذكاء غير ٍ‬
‫مقيد وعقلٍ ويدين كذلك‪.‬‬

‫وإن لم تنقذي فصاحته وبالغته ‪-‬وهما اثنتان من خصائصه ُألقيا في غياهب‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫النسيان‪ ،-‬فإن الدولة كانت ستتكبد خسائر فادح ًة من قبل هرقل‪ ،‬إنه كان‬
‫يخش مرور الزمن‪ ،‬رحبت به أيدي الناس‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بشعبية‪ ،‬ولم‬ ‫مطلعا‪ ،‬ويحظى‬
‫ً‬
‫الجزارين هو جرائمهم‬
‫َّ‬ ‫وقلوبهم‪ ،‬والشيء الوحيد الذي سوف نتذكره لهؤالء‬
‫التي سوف نودعها للصمت‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجهك الذي خيم عليه‬ ‫ِ‬
‫جنسك أو‬ ‫ِ‬
‫نبالتك هذه من أن ألحظ‬ ‫وقد منعني جنون‬ ‫‪ 5-1‬‬
‫مشو ًها من البداية‪ ،‬وألحظ‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫طوال‪ ،‬كما لو كان‬ ‫الحزن المتواصل من سنين‬
‫ِ‬
‫معاناتك الطويلة في‬ ‫تذكرت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫مشاعرك‪ ،‬لقد‬ ‫ِ‬
‫أخدعك أو أفكر في غش‬ ‫أنني لم‬

‫((( بعد انضمام كاليجوال في ‪31‬م‪.‬‬


‫((( يعتقد الرومان أن كتابات المرء تمنحه خلوده‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ِ‬
‫أدركت أن جرح الحاضر في حاجة إلى أن يندمل‪ ،‬وأظهرت‬ ‫الماضي‪ ،‬وربما‬
‫ِ‬
‫يعاملك بعض الناس‬ ‫ِ‬
‫لك الندبة التي تساوي َّ‬
‫الضرر الشديد‪ ،‬ولذلك ربما‬
‫ِ‬
‫خوفك‬ ‫ِ‬
‫حزنك‪ ،‬وسوف أضع‬ ‫قررت أن أقاتل من أجل‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وهدوء‪ ،‬ولكني‬ ‫ٍ‬
‫بلطف‬
‫ِ‬
‫رغبت أن تعرفي‬ ‫ٍ‬
‫مراقبة‪ ،‬تلك العينان اللتان إذا‬ ‫ِ‬
‫وعينيك المرهقتين تحت‬
‫الحقيقة‪ ،‬تدفقت من الطبع أكثر من التوق‪ ،‬وسوف أفعل ذلك إن أمكن‪ ،‬مع‬
‫ِ‬
‫تعلقت‬ ‫ِ‬
‫إرادتك‪ ،‬وح َّتى لو‬ ‫ِ‬
‫دعمك ألجل المداواة‪ ،‬وإن لم أفعله حتى ضد‬
‫حيا في موضع ابنك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بحزنك الذي قد أبقيتيه ًّ‬
‫ِ‬
‫قلصت كلمات‬ ‫وإلى أين ستنتهين؟ فكل ما تحاولين فيه من دون جدوى‪ ،‬وقد‬ ‫‪ 6-1‬‬
‫األصدقاء المريحة ونفوذ الرجال العظام الذين يرتبطون ِ‬
‫بك في حب األدب‬
‫ٍ‬
‫ساكنة تصنع بالكاد متع ًة‬ ‫ٍ‬
‫راحة‬ ‫ِ‬
‫وركنت إلى‬ ‫تلك النعمة التي ورثتيها من ِ‬
‫أبيك‪،‬‬
‫ِ‬
‫طبيعتك الزمن الذي يشفي‬ ‫انطباعا في آذانك الصم‪ ،‬وعالج‬
‫ً‬ ‫وجيز ًة‪ ،‬وتترك‬
‫ِ‬
‫حالتك ظهر الضعف‪.‬‬ ‫حتى أعظم األلم‪ ،‬ولكن في‬

‫لقد مضت ثالث سنوات اآلن‪ ،‬ولم تخف حدة الصدمة األولى‪ ،‬ويتجدد‬ ‫‪ 7-1‬‬
‫ِ‬
‫حدادك ويقوي ذاته كل نهار‪ ،‬ويستوطن بمرور الزمن‪ ،‬وقد وصل إلى حدٍّ‬
‫ٍ‬
‫بعمق إن لم ُتختم‬ ‫تخجلين من الكف عنه‪ ،‬كما تندمغ كل صنوف الخطأ‬
‫خارجا حين نموها‪ ،‬وكذلك يتغذى الحزن والبؤس في النهاية على مرارتها‪،‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫تحفظا للسعادة في الحزن‪.‬‬ ‫فتجد العقول التعسة‬

‫ولذا أتمنى أن أبدأ هذه المداواة فى المراحل المبكرة‪ ،‬وقد يستعمل العالج‬ ‫‪ 8-1‬‬
‫المعتدل ليختبر المرض وهو ينبني‪ ،‬واألمراض المزمنة في حاجة إلى أن‬
‫ٍ‬
‫بضراوة‪ ،‬وكذلك الجروح من اليسير شفاؤها وهي حديثة وال تزال‬ ‫ُتقاوم‬
‫لقرح‪ ،‬فيجب أن ُتكوى و ُتفتح مر ًة أخرى‬
‫ٍ‬ ‫تنزف‪ ،‬ولكن حين تتقيح وتتحول‬
‫وتجسها األصابع لتفرغ القيح منها‪ ،‬وكذلك الحال؛ فال يمكنني مداهمة مثل‬
‫هذا الحزن الشديد بوسائل لطيفة ولينة إن توجب دحره‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫ٍ‬
‫نصيحة يبدأ بتوجيهات وينتهي بضرب‬ ‫ٍ‬
‫امرئ يرغب في تقديم‬ ‫أعلم أن كل‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫أمثلة‪ ،‬وأحيا ًنا تكون مفيد ًة في تغيير هذا النمط‪ ،‬واختالف الناس يحتاج‬
‫معالجات مختلفة‪ ،‬فبعضهم ُيرشد بالعقل‪ ،‬وبعضهم حين يأسر بالمظهر‬
‫يحتاج إلى أن تجابههم بهيبة أسماء مشهورة حتى يتقيد تفكيرهم بهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجيلك؛ األولى امرأة‬ ‫ِ‬
‫جنسك‬ ‫ِ‬
‫أمامك مثالين بارزين من بني‬ ‫سوف أعرض‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫تركت الحزن يجتاح طريقها‪ .‬والثانية متأثرة بسوء الحظ ذاته‪ ،‬ولكن بخسارة‬
‫أعظم‪ ،‬وهي ال تسمح لمعاناتها أن تتحكم فيها لفترة أطول‪ ،‬بل سرعان ما‬
‫يتعافى مزاج عقلها المعتاد‪.‬‬

‫أوكتافيا ‪ ،Octavia‬وليفيا ‪ .Livia‬األولى أخت أوغسطس‪ ،‬واألخرى زوجته‪،‬‬ ‫‪ 3-2‬‬


‫وهما فقدتا أبناء شبا ًبا ِ‬
‫أملتا أن يكونا اإلمبراطور القادم(((‪ ،‬فأوكتافيا فقدت‬
‫مارسيلوس ‪ ،Marcellus‬والذي بدأ خاله وحماه ً‬
‫أيضا يعتمد عليه في تحمل‬
‫عبء اإلمبراطورية الثقيل(((‪ ،‬وهذا الشاب كان ذا عقل نافذ ونشط‪ ،‬وبالرغم‬
‫من اقتصاده وسيطرته على ذاته ‪-‬اللذين لم يقل استحسانهما من شخص‬
‫عاصره أو في مثل ثروته‪ -‬عمل بجد وهجر الملذات وتحمل ما أوكله إليه‬
‫أسسا ال‬
‫خاله مهما كان‪ ،‬وإن جاز التعبير اعتمد عليه‪ ،‬وقد اصطفى بعناية ً‬
‫تنثني تحت أي ثقل‪.‬‬
‫َّ‬
‫تكف طوال عمرها كله عن البكاء والرثاء(((‪ ،‬ولم تسمع لكلمات‬ ‫ولم‬ ‫‪ 4-2‬‬

‫((( تزوجت أوكتافيا أخت أوغسطس من كالوديوس مارسيلوس في المرة األولى‪ ،‬وعقب وفاته في عام ‪ 40‬ق‪ .‬م سرعان ما‬
‫تزوجت من ماركو أنطونيو‪ ،‬وكان حديث سينيكا عن طفلها من الزواج األول من مارسيلوس‪ .‬وأما ليفيا فقد ولدت ‪58‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬وتزوجت في المرة األولى من تي كالوديوس نيرونن ‪ ،Ti. Claudius Nero‬وأنجبت منه ولدين هما اإلمبراطور‬
‫وطلقت عام ‪ 39‬ق‪.‬م وتزوجت أوكتافيان وأغسطس في المستقبل‪،‬‬ ‫المستقبلي تيبيريوس ودروسوس الذي توفي ‪ 9‬ق‪.‬م ‪ُ ،‬‬
‫وتوفت بعد وفاته عام ‪ 29‬م‪.‬‬
‫((( ولد كالوديوس مارسيلوس عام ‪ 42‬ق‪.‬م‪ ،‬وتزوج جوليا ابنة أوغسطس عام ‪ 25‬ق‪.‬م ‪ ،‬لذلك كان أوغسطس عمه ووالد‬
‫زوجته‪ ،‬وتوفي عام ‪ 23‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫((( توفت أوكتافيا عام ‪ 11‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫النصيحة‪ ،‬ولم تدع نفسها تتقلب إال على قصد واحد ثبتت ذهنها عليه‪،‬‬
‫وعاشت حياتها كما لو كانت في جنازة‪ ،‬وال أقول إنها لم تغامر لترتقي بذاتها‪،‬‬
‫بل رفضت أي عون في هذا؛ معتبرة ذلك تخل ًيا عن دموعها‪ ،‬وهو حرمان ٍ‬
‫ثان‪.‬‬

‫لم تحتفظ بأي صورة البنها المحبوب أو تسمح بأي ذكرى منسوجة له‪،‬‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫وعدت بها‬
‫ْ‬ ‫وكرهت كل األمهات‪ ،‬وليفيا على نحو خاص؛ ألن السعادة التي‬
‫نفسها يبدو أنها انتقلت إلى ابن تلك المرأة‪ ،‬لقد قضت وقتها في المنزل بين‬
‫الظالم والعزلة‪ ،‬ولم تفكر حتى في شقيقها‪ ،‬ورفضت القصائد التي ُكتبت‬
‫وصمت ُأذنينها‬
‫َّ‬ ‫لالحتفاء بذكرى مارسيليوس وغيرها من تحيات األدب(((‪،‬‬
‫عن أي نوع من الراحة‪ ،‬وانسحبت من واجباتها الرسمية‪ ،‬ومقتت التألق‬
‫المفرط لعظمة شقيقها وحسن حظه‪ ،‬ودفنت نفسها وخبأتها بعيدً ا‪ .‬وحين‬
‫تجمع أطفالها(‪ ((1‬وأحفادها حولها‪ ،‬لم تخلع مالبس الحداد‪ ،‬ووبخت كل‬
‫عائلتها‪ ،‬واعتقدت أنها بال أطفال رغم أنهم كانوا على قيد الحياة‪.‬‬

‫إمبراطورا‬
‫ً‬ ‫وفقدت ليفيا ابنها دروسوس ‪ ،Drusus‬والذي كان من شأنه أن يكون‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫عظيما بالفعل‪ ،‬إنه تعمق في جرمانيا ووضع ضوابط الرومانية حيث‬
‫ً‬ ‫وقائدً ا‬
‫كان لديهم بالكاد معرفة لوجود الرومان(‪ ،((1‬لقد مات في المعركة حين كان‬
‫ممرا آمنًا آملين في الهدنة‪،‬‬ ‫ً‬
‫مريضا‪ ،‬واحترمه األعداء ذواتهم بشدة‪ ،‬وأعطوه ًّ‬
‫ولم يتضرع ألجل المخرج الذي يناسبهم‪ ،‬وقد ساد شعور الخسارة بين‬
‫مواطنيه في موته الذي كان في خدمة الدولة والمقاطعات وإيطاليا برمتها‪،‬‬

‫((( أثنى فيرجيل على مارسيلوس في ‪ Aeneid 6.861–83‬ملحمة ِشعرية كتبها الشاعر فرجيل في نهاية القرن األول قبل‬
‫الميالد (‪19-29‬ق‪.‬م) باللغة الالتينية‪ .‬وهي تصف الحياة األسطورية ألينياس الطروادي‪ ،‬الذي سافر غر ًبا إلى أراضي‬
‫إيطاليا‪ ،‬وأصبح أ ًبا لكل الرومان‪ .‬ونظمت أبيات الملحمة على أسس التفعيل السداسي‪ .‬كما أثنى عليه سكستوس‬
‫بروبرتيوس في ‪ ،Propertius 3.18‬وهو شاعر التيني روماني عاش في عصر أوغسطس قيصر‪ُ ،‬ولد ما بين سنة ‪45-50‬‬
‫ق م في أسيزي‪ ،‬وتوفي في سنة ‪ 15‬ق م‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫(‪ ((1‬كان لدى أوكتافيا أربع بنات‪.‬‬
‫(‪ ((1‬قاد دروسوس الحمالت الرومانية في جرمانيا من ‪ 12‬ق‪.‬م حتى وفاته عام ‪ 9‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫وقد تدافع جميع َّ‬
‫سكان أرجاء الوطن والبلدات والمستعمرات لموكب‬
‫جنازته الحزينة‪ ،‬الذي سار نحو المدينة بكل مظاهر النصر‪.‬‬

‫ولم ُيسمح ألمه أن تشرب فى قبلة وداع ابنها أو أن تلحن بكلمات موته‪،‬‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫واصطحبت بقايا محبوبها دريسيوس على طول الرحلة‪ ،‬وشعرت بالضيق‬
‫لكثرة الجثث المحترقة بطول وعرض إيطاليا كما لو كانت تفقده مر ًة أخرى‬
‫مع كل جثة منهم‪ ،‬ورغم ذلك بمجرد أن ألحدته في المقبرة(‪ ،((1‬طرحت‬
‫حزنها للسكون‪ ،‬ولم تتزيد في الحزن طالما أن القيصر على قيد الحياة‪ .‬وفي‬
‫النهاية لم تتوقف عن الثناء باسم عزيزها دروسوس‪ ،‬وهي تذكره أينما حلت‬
‫في العلن والخصوص‪ ،‬تتحدث عنه وتسمع عنه بكل سرور‪ ،‬حيث عاشت مع‬
‫ذاكرته‪ ،‬وهو شيء ليس بإمكان أحد أن يحافظ عليه أو يعيد النظر فيه إذا سمح‬
‫مصدرا للحزن‪.‬‬
‫ً‬ ‫له أن يصبح‬
‫ِ‬
‫رغبت‬ ‫ولذا اختاري أ ًّيا من هذين المثالين تعتقدين أنه يستحق الثناء‪ .‬فإذا‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫األول‪ ،‬فسوف ُتغيبين نفسك عن رفقة العيش‪ ،‬وستتجنبين‬ ‫أن تتبعي المثال َّ‬
‫ِ‬
‫وستعتبرك‬ ‫أطفال اآلخرين وأطفالك وحتى الطفل الحقيقي الذي افتقدتيه‪،‬‬
‫ِ‬
‫يقابلونك‪ ،‬وستصدين الملذات الجليلة والمباحة كما‬ ‫األمهات فأل شؤم حين‬
‫حظك‪ ،‬وستكرهين النور الذي ُي ِ‬
‫ظلك‪ ،‬وستُبغضين‬ ‫ِ‬ ‫لو كانت غير مسايرة لسوء‬
‫ِ‬
‫يطرحك إلى أسفل في الحال ويأتي بحياتك‬ ‫ِ‬
‫عمرك‪ ،‬وهذا المثال ال‬ ‫بمرارة‬
‫إلى نهايتها فحسب‪ ،‬بل الشيء األكثر خز ًيا والخارج تما ًما عن الحفاظ على‬
‫ٍ‬
‫راغبة في العيش وغير‬ ‫أنك ستؤكدين ِ‬
‫أنك غير‬ ‫سمتك‪ ،‬والذي ُيلحظ بشدة هو ِ‬
‫ِ‬
‫قادرة على الموت‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عظيمة‬ ‫ِ‬
‫كرست نفسك لما يحكم الذات أكثر ولمثال إنساني وضعته امرأ ٌة‬ ‫ولو‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫ح ًّقا‪ ،‬فلن تأسي ولن تتحملي ضنك العذاب‪ ،‬وأي حماقة في السماء أن تعاقب‬

‫(‪ُ ((1‬دفن في مقبرة أوغسطس الفخمة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫المرء على سوء حظه وتضفي عليه المآسي(‪ ،((1‬والفضيلة نفسها واالحتياط‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ظروفك الحالية ً‬ ‫ِ‬
‫حياتك‪ ،‬سيكون مظهر‬ ‫ذاته كما تحافظين عليهما خالل‬
‫حتى الحزن له طابع في االحتشام‪ ،‬أما بالنسبة للشاب الصغير فإنه يستحق‬
‫عظيما إذا كان‬
‫ً‬ ‫أن تجعليه سعيدً ا بكل ذك ٍر أو التفكير فيه‪ ،‬وستصنعين شر ًفا‬
‫وفرحا بوجود أمه كما اعتاد طوال حياته‪.‬‬
‫ً‬ ‫مبتهجا‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫صارمة تأمرك بتحمل تجربة البشر بطريقة ال آدمية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫إرشادات‬ ‫لن أوجهك نحو‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫ِ‬
‫معك للحكم‬ ‫أو تجفف عينَي األم في نفس يوم الجنازة(‪ ،((1‬وسوف أمضي‬
‫ٍ‬
‫نهاية‪.‬‬ ‫عظيما أم أنه بال‬
‫ً‬ ‫عم إذا كان الحزن‬
‫حيث النزاع بيننا سيكون َّ‬
‫‪((1( Julia‬‬ ‫ِ‬
‫يسعدك مثال جوليا أوجوستا ‪Augusta‬‬ ‫لدي ٌّ‬
‫شك أنه قد‬ ‫وليس َّ‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫ِ‬
‫تغريك لتنضمي في حوا ٍر معها اآلن‪ ،‬فهي في‬ ‫ِ‬
‫معك ودود ًة‪ ،‬وهي‬ ‫التي كانت‬
‫صدمتها األولى حين يكون بؤس المرء في أقصى حاالته سمحت ألريوس‬
‫الفيلسوف(‪((1‬‬
‫كثيرا من هذا‬
‫ً‬ ‫أن يواسيها‪ ،‬وسلمت بأنها استفادت‬ ‫زوجها‬
‫العمل أكثر من الشعب الروماني الذي لم يرغب أن يزيدها حز ًنا على حزنها‪،‬‬
‫وأكثر من أوغسطس الذي كان ُيعاني من فقد أحد دعامتيه(‪ ،((1‬وعدم اختالل‬
‫توازنه لحزن عائلته‪ ،‬وأكثر من ابنها تبيريوس ‪ Tiberius‬الذي وثق حبه قبل أن‬
‫تحل الجنازة والذي أبكى األمم‪ ،‬إن الخسارة الوحيدة التي عانتها هي عدد‬
‫أطفالها‪.‬‬

‫وأتصور كيف كان قري ًبا منها تبيريوس‪ ،‬وكيف بدأ يخاطب امرأة تحمي‬ ‫‪ 3-4‬‬

‫شرا ‪. mala sua augere‬‬


‫(‪ ((1‬قراءة تأبط ًّ‬
‫(‪ ((1‬يلمح سينيكا إلى وجهة نظر الرواقية الصارمة‪ :‬إن أي نوع من الحزن أمر خاطئ‪.‬‬
‫(‪ ((1‬وبعد وفاة أوغسطس عام ‪14‬م وتحت إرادته‪ ،‬انتمت ليفيا إلى عائلته بأسماء جوليا أوغسطس ‪.Julia Augusta‬‬
‫(‪ ((1‬الفيلسوف أريوس ديدايموس‪ ،‬أصله سكندري‪ ،‬ويرتبط بقرابة ألغسطس‪.‬‬
‫(‪ ((1‬كان دعمه اآلخر هو تيبيريوس‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫سمعتها‪ .‬وجوليا(‪ ((1‬حتى يومنا هذا على حد علمي وقد كنت رفي ًقا ً‬
‫دائما‬
‫ِ‬
‫قبعت‬ ‫لزوجك‪ .‬ولم أعلم ما قيل في العلن فحسب بل ما سرته قلوبكما‪ ،‬لقد‬
‫يلومك أحدٌ على أمور أعظم فى الضرورة‪ ،‬بل على أمور‬‫ِ‬ ‫في الحزن حتى ال‬
‫ِ‬
‫وحرصت على ألاَّ تفعلي شيئًا تريدين أن يغفر فيه الرأي العام أغلب‬ ‫تفاهة‪،‬‬
‫النقد الصريح لألباطرة‪.‬‬

‫وأعتقد أن ال شيء أعظم مجدً ا حين يصفح الذين هم في قمة عطاء المجتمع‬ ‫‪ 4-4‬‬
‫عن كثير من التصرفات‪ ،‬بل يسعون للعفو من أجل ال شيء‪ ،‬ولذلك تحتاجين‬
‫فى الظروف الحالية أن تنتصبي لسلوكك المعتاد‪ ،‬وألاَّ تفعلي شيئًا ربما ال‬
‫تتمنين فعله على اإلطالق أو قد تفعلينه على نحو مفارق‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجهك‬ ‫صعب وألاَّ تقطبي‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وأناشدك ألاَّ ُتقدمي على‬ ‫ومن َثم‪ ،‬أتوسل ِ‬
‫إليك‬ ‫[‪ 1-5‬‬
‫علم بأن كلاًّ منهما تفتقد إلى كيفية‬ ‫ِ‬
‫ألصدقائك‪ ،‬وينبغي أن تكوني على ٍ‬
‫ِ‬
‫حضرتك قد يضر ذكر‬ ‫التصرف‪ ،‬سواء أكان الحديث عن دروسيوس في‬
‫ِ‬
‫يؤذيك‪.‬‬ ‫الشاب الرفيع أم ذكره قد‬
‫ِ‬
‫حضورك ونخلو بعضنا إلى بعض‪ ،‬نحتفي بأعماله وكلماته‬ ‫وحين نفارق‬ ‫[‪ 2-5‬‬
‫ِ‬
‫حضورك‪ ،‬ولذلك عزفت عن‬ ‫باحترام يستحقه‪ ،‬ونحفظ الصمت تما ًما عنه في‬
‫المتعة الرفيعة والثناء عن ابنك‪ ،‬وال أشك ِ‬
‫أنك تضمنين البقاء األبدي له إن‬
‫ِ‬
‫حياتك‪.‬‬ ‫الحت الفرصة حتى لو ك َّل ِ‬
‫فك هذا‬

‫تصمي‬
‫اسمحي ‪-‬أو باألحرى‪ -‬شجعي الحوار حيث يكون هو موضوعه‪ ،‬وال ِّ‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫ِ‬
‫أذنيك عن اسم ابنك وذكره‪ ،‬وال تعتقدي أن هذا كآبة كما يصنع اآلخرون في‬
‫ٌ‬
‫طرف من‬ ‫سوء حظهم المماثل حين يسمعون لكلمات المواساة على أنها‬
‫معاناتهم‪.‬‬

‫(‪ ((1‬اكتسبت ليفيا اسم جوليا بعد وفاة أوغسطس‪ ،‬ولذلك حديث أريوس فيه مفارقة تاريخية‪ ،‬وبعض المخطوطات تقرأ‬
‫‘ليفيا’ من الضرورة أن نتبعها؛ ألن هذه المفارقة التاريخية غير معروفة في مؤلف سينيكا‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وكما هي األمور‪ ،‬سوف تمضين إلى أقصى طرف‪ ،‬حيث تنسين أفضل‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫ِ‬
‫انتباهك عن الحياة‬ ‫تحولي‬ ‫ِ‬
‫حظك‪ ،‬وال ِّ‬ ‫األوقات‪ ،‬وتركزين على أسوأ مظاهر‬
‫ِ‬
‫ولدك األوقات المبهجة وصبانيته التي قضيتيها معه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫شاركت فيها‬ ‫التي‬
‫ومفاتنه البديعة‪ ،‬أو تقدم تربيته‪ .‬وسوف تسكنين على هذا المشهد األخير‪،‬‬
‫واستجمعي بقدر ما تستطيعين رهبة المشهد‪ ،‬كما لو كانت بغيض ًة بالفعل‪،‬‬
‫وأتوسل ِ‬
‫إليك ألاَّ تطيلي في مجد فاسد‪ ،‬هو من أعظم سوء حظ النساء‪.‬‬

‫وتذكري في الوقت نفسه أنه ليس مأثر ًة عظيم ًة أن تتصرفي بشجاعة حين‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫تكون الظروف مواتي ًة‪ ،‬وحين تمضي الحياة بيسر‪ ،‬فال يظهر هدوء البحر‬
‫والريح المرافق له مهارة القبطان أيضا‪ ،‬وعليه يجب أن تنشأ بعض التحديات‬
‫لتختبر شجاعته‪.‬‬
‫ِ‬
‫عليك مهما يكن‬ ‫ولذلك ال تتزعزعي‪ ،‬وقفي ثابت ًة‪ ،‬وتحملي األعباء التي تقع‬ ‫‪ 6-5‬‬
‫ٍ‬
‫مهابة‪ ،‬فبمجرد حدوث الصدمة األولى‪ ،‬تصبح ماض ًيا(‪ ،((1‬وال شيء‬ ‫دون‬
‫احتقارا للحظ أكثر من العقل الهادئ‪ .‬وبعد هذا القول‪ ،‬لفت‬
‫ً‬ ‫يظهر أعظم‬
‫انتباهها لالبن الحي الباقي وأحفادها من االبن الذي فقدته(‪.((2‬‬
‫ِ‬
‫بجانبك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ظروفك على هذا الظرف‪ ،‬وأريوس يجلس‬ ‫يا ماركيا‪ ،‬قد ُج ِّمعت‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫ِ‬
‫عليك الراحة‪ ،‬وال تزالين يا ماركيا‬ ‫وتبدلت قائمة الجمع‪ ،‬وعرض أريوس‬
‫تعتقدين ِ‬
‫أنك ُسلبتي أكثر من أي أم أخرى قد فقدت ابنها‪ ،‬وأنا ال أحاول أن‬
‫حظ ِ‬
‫ك‪.‬‬ ‫أضيء ظالم َّ‬
‫َ‬ ‫أهد َئ ِ‬
‫ك وال أن‬

‫وإذا كان يمكن التغلب على القدر بالعويل‪ ،‬فدعونا نستدعيه‪ ،‬ونقضي كل‬ ‫‪ 2-6‬‬

‫(‪ ((1‬يلمح سينيكا إلى المذهب الرواقي في تحمل األلم ‪ ،propatheiai‬حيث حتى الحكيم يصد من المصيبة المفاجئة‪ ،‬ولكن‬
‫في مثل حاله سوف يتحكم بلطف‪ ،‬ويمنع انفعاالت الخوف والحزن من أن تتنامى‪ .‬انظر ‪.1-7‬‬
‫(‪ ((2‬تبيريوس هو ابن هيلفيا الذي بقي على قيد الحياة‪ ،‬وكان لدى دروسوس ابنان هما جرمانيكوس وكالوديوس (الذي‬
‫أصبح إمبراطورا ‪41‬م ‪ ،) 54-‬واالبنة وليفيا‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫يو ٍم في الحزن‪ ،‬ونصرف الليل في صحوة البؤس‪ ،‬ونلطم بأيدينا صدورنا‬
‫ُطور السلوى أسبابها‪ ،‬و ُت ِّ‬
‫سخر كل‬ ‫المكدومة‪ ،‬ونصعر وجوهنا للهم‪ ،‬فت ِّ‬
‫الميت‪ ،‬وإذا لم يتحول القدر‪،‬‬
‫َ‬ ‫لطم الصد ِر‬
‫صنوف القسوة‪ ،‬ولكن إن لم ُيعدْ ُ‬
‫ويثبت لألبدية‪ ،‬فإن المحنة ال تتحول‪ ،‬و ُيبقي الموت على كل ما أخذ‪ ،‬فدعي‬
‫حدَّ للحزن الذي يهلكنا‪.‬‬

‫دعونا نسيطر على أنفسنا‪ ،‬وال نسمح لهذه القوة أن تدفعنا بعيدً ا عن المسار‪،‬‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫فمن المخجل أن تسيطر الموجة على الربان و ُتلقيه فى الثغرة حين يتخلى عن‬
‫األشرعة عندما ترفرف على مدى واسع ويترك السفينة لرحمة العاصفة‪ ،‬ولكن‬
‫حتى في غرق السفينة على الربان أن يتشبث بالدفة‪.‬‬

‫«ولكن الحزن على أحد األقارب أمر طبيعي»‪ ،‬و َمن الذي يختلف على هذا‬
‫َّ‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫طالما يجري في إطار معتدل؟ ألننا حين يفارقنا عزيز ال ننسى على الفور‪،‬‬
‫فهناك طعنة لأللم ال مفر منها‪ ،‬وانقباض حتى في أعظم العقول قسوة(‪،((2‬‬
‫ولكن ما يضفيه الخيال يتجاوز ما تأمر به الطبيعة‪.‬‬

‫وفي حالة البهائم البكماء‪ ،‬انظر كيف تثير حزنها لفترة قصيرة‪ ،‬فتسمع للبقر‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫خوارا لمدة يوم أو يومين‪ ،‬ولألفراس شرو ًدا وحركات غير منتظمة ال تطول‪،‬‬
‫ً‬
‫وحين تتبع الحيوانات البرية مسارات أشبالها وتتجول في الغابات‪ ،‬فحين‬
‫تكرارا إلى عرينها المسلوب‪ ،‬فإنها تطفئ غيظها خالل فترة وجيزة‪،‬‬
‫ً‬ ‫تؤوب‬
‫والطيور الصارخة حول أعشاشها الفارغة بأصوات عالية تصمت في اللحظة‬
‫وتستأنف طيرانها‪ ،‬وبصرف النظر عن البشر فإن الحيوانات ال تحزن طويلاً‬
‫على ذريتها‪ ،‬وتقابل حزنها‪ ،‬وال تعتمد في مدة مصيبتها على ما تشعر به‪ ،‬بل‬
‫على ما تقرره‪.‬‬

‫(‪ ((2‬رأت الرواقية أن الفجيعة نتاج تناقض طبيعي في العقل أو النفس‪ ،‬وتحمل األلم (انظر ‪.)6-5‬‬

‫‪52‬‬
‫ِ‬
‫بمقدورك أن تقولي ليس من الطبيعي أن يكسرنى الحزن أولاً ‪ :‬ألن الفاجعة‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫أثرا على النساء من الرجال‪ ،‬وعلى البرابرة أكثر من األجناس‬
‫نفسها أنجع ً‬
‫المثقفة‪ ،‬وعلى غير المتعلمين أكثر من المتعلمين‪ ،‬ومن ثم فإن األشياء التي‬
‫تستمد قوتها من الطبيعة تحتفظ بالقوة نفسها في كل شاهد‪ ،‬وإن بدا شيء‬
‫مختلف‪ ،‬فمن البين أنه ال ُيبنى على الطبيعة‪.‬‬

‫الناس من كل عمر‪ ،‬والمواطنين من كل مدينة‪ ،‬والرجال‬


‫َ‬ ‫النار‬
‫سوف تحرق ُ‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫كالنساء‪ ،‬وسوف ُيظهر الحديد قدرته على القطع في األجسام من كل نوع‪،‬‬
‫لماذا؟ ألنهم أخذوا قوتهم من الطبيعة التي ال تميز بين األشخاص‪ ،‬والبشر‬
‫المختلفون لهم ردود فعل مختلفة للفقر والحزن والتوق‪ ،‬تعتمد على العادات‬
‫التي أصبحت متجذرة فيهم‪ ،‬وقد يصبحون ضعفاء وعاجزين على التحمل‬
‫باعتقاد مسبق في األشياء المخيفة التي ينبغي أن يخشوها‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬ما هو طبيعي ال ينقص مع الزمن‪ ،‬بل إن مرور األيام يكد الحزن‪ ،‬وبغض‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫النظر عن المكابرة التي تنشط كل يوم والمجاسرة التي تقاوم أي عالج‪ ،‬إلاَّ أن‬
‫روض لالنفعاالت العنيفة ومسيطر على امتدادها‪.‬‬
‫الزمن هو أعظم ُم ِّ‬

‫جماـ يبدو أنه تطور اآلن وصار ندب ًة ‪callus‬‬


‫يا ماركيا‪ ،‬ال تزالين تعانين حز ًنا ًّ‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫ِ‬
‫جسمك‪ ،‬فلم يكن الحزن الشديد في البدء‪ ،‬بل الجموح والتمرد‪ ،‬ولكن‬ ‫في‬
‫أي ما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫انتباهك إلى ٍّ‬ ‫تدريجيا يحرر حتى من هذا‪ ،‬وكلما راح‬
‫ًّ‬ ‫مضي الزمن‬
‫ِ‬
‫عقلك‪.‬‬ ‫فسيسترخي‬
‫ِ‬
‫نفسك تحت المراقبة‪ ،‬ولكن هناك فارق كبير بين أن‬ ‫ِ‬
‫وضعت‬ ‫وفى هذه اللحظة‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫ِ‬
‫شخصك المتميز أن تفرضي‬ ‫تسمحي لنفسك بالحزن وأن تطلبيه‪ ،‬وما يناسب‬
‫ِ‬
‫لحدادك أحرى من انتظار نهايته‪ ،‬وأن ترفضي التع ُّلق حتى باليوم الذي‬ ‫حدًّ ا‬
‫ِ‬
‫نفسك!‬ ‫ِ‬
‫أمانيك التي سيخفيها والحزن الذي ينبغي أن تزهد فيه‬ ‫يعارض‬
‫‪53‬‬
‫ولم يحدث هذا في أمر‬
‫“فما أصل الجموح العظيم الذي نرثي فيه حبي ًبا لنا‪َ ،‬‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫الطبيعة؟”؛ ألننا ال نتوقع المعاناة حتى حدوثها‪ ،‬كما لو كنا معفيين منها‪،‬‬
‫وانطلقنا في سفر أكثر سكو ًنا من اآلخرين‪ ،‬إننا نفشل في أن نتعلم من مصائب‬
‫اآلخرين أنها شيوع على اإلطالق‪.‬‬

‫كثير من مواكب الجنازات تمر بديارنا وال نفكر في الموت‪ ،‬ويموت كثير‬
‫ٌ‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫‪((2( toga‬‬ ‫من الناس فجأة ونحن نخطط ألطفالنا للحصول على تاجهم‬
‫كثيرا من األثرياء‬
‫ً‬ ‫وسلطانهم العسكري‪ ،‬ووراثة ممتلكات آبائهم‪ ،‬ونقابل‬
‫الذين ُفقروا فجأ ًة ولم يتغير فينا أن ثروتنا عابرة‪ ،‬وهذا يجعل سقوطنا أعظم‪،‬‬
‫كما لو كنا بعيدً ا عن الكآبة‪ .‬ولكن حين يطول توقع األشياء‪ ،‬فإن هجوم قوتها‬
‫يقل‪.‬‬

‫وأنت (‪ ((2‬تدرك أنك تقف عرض ًة لكل صنوف اللكمات‪ ،‬وأن األسلحة التي‬ ‫‪ 3-9‬‬
‫ِ‬
‫ماضيك‪ ،‬كما لو كنت تتسلق بسالح الفقر بعض‬ ‫ضربت اآلخرين قد أرقت‬
‫موقعا عال ًيا تحتله سرية كبيرة من العدو‪ ،‬فتوقع أن هناك‬
‫ً‬ ‫جدران المدينة أو‬
‫جرحى وأن جسدك مرمي للصخور والرماح والسهام التي تسقط إلى األسفل‪،‬‬
‫وتصرخ حين يسقط بجانبك ٌ‬
‫امرؤ ما‪« ،‬إنك لن تخدعني ولن تخدع الحظ‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫طائشا حين تهدمني‪ ،‬وإنني أعلم ما تهدف إليه حيث ضربت‬ ‫تجدني عاب ًثا أو‬
‫شخصا آخر ولم تقصدني أنا»‪.‬‬
‫ً‬

‫فأي منكم غامر في‬


‫وهل َمن يقضي حياته في التقدير‪ ،‬يسير قد ًما نحو الموت؟ ٌّ‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫التفكير في المنفى والفقر والحزن؟ و َمن الذي لم يبصق النصيحة مثل كلمات‬
‫الفأل العليلة ويدفع اللعنة عن أعدائه أو عن ناصحه غير المرغوب إذا نصحه‬
‫أن يفكر في المنفى والفقر والحزن؟‬

‫(‪ ((2‬يرتدي األوالد الرومانيون توجا المراهقين في سن السادسة عشرة تقري ًبا‪.‬‬
‫خاصا لماركيا‪.‬‬
‫(‪ ((2‬الضمير (أنت) في باقي الفصل للمذكر عمو ًما‪ ،‬وليس ًّ‬

‫‪54‬‬
‫«لم أكن أفكر أن هذه األمور سوف تحدث»‪ ،‬فكيف تفكر أنه لن يحدث‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫شيء في حين أنك تعلم أنه يمكن أن يحدث‪ ،‬وأنت ترى أنه يحدث لكثير‬
‫من الناس‪ ،‬إن بيت ِّ‬
‫الشعر الذي يستحق أن يظهر على خشبة المسرح هنا هو‬
‫ٍ‬
‫المرئ بعينه يمكن أن يحدث ألي شخص»(‪ ،((2‬فهذا‬ ‫«ما يمكن أن يحدث‬
‫فقد طفله وأنت كذلك يمكن أن تفقد أطفالك‪ ،‬وهذا ُم ٍ‬
‫دان وبراءتك ً‬
‫أيضا‬
‫مما ال نتوقع‪،‬‬
‫خالل هذا النطاق‪ ،‬وهذا الوهم يغمرنا ويخدعنا عندما نعاني َّ‬
‫ويمكننا أن نعانيه‪ ،‬وأما الذين يتوقعون حدوث المعاناة‪ ،‬فيسلبونها قوتها فور‬
‫وصولها‪.‬‬

‫‪ 1-10‬يا ماركيا‪ ،‬كل األشياء البراقة العارضة التي ُتحيط بنا مثل األطفال والشرف‬
‫والثروة والبهو الواسع ‪ large atria‬والفناء المكتظ بحشود الجمهور الذين‬
‫قد حصروا في الوعوعة واالسم المشهور والزوجة الجميلة أو النبيلة وكل‬
‫األشياء التي تستند على عدم اليقين والفرصة المتقلبة‪ ،‬فهذه أدوات ال تتبعنا‪،‬‬
‫بل هي لنا على سبيل اإلعارة‪ ،‬وليس أي منها هبة‪ ،‬وقد ُيبنى المنصب بدعائم‬
‫مستعارة تعود إلى أصحابها‪ ،‬فبعض األشياء يعود في يوم‪ ،‬واآلخر في يوم‬
‫آخر‪ ،‬وقليل الذي يبقى ح ًّقا حتى النهاية‪.‬‬
‫‪ 2-10‬ولذلك ال ينبغي أن نفخر كما لو كانت األشياء التي تحيط بنا ً‬
‫ملكا لنا‪ ،‬لقد‬
‫تلقيناها على سبيل اإلعارة‪ ،‬وربما نتمتع باستعمالها‪ ،‬ولكن المعطي هو َمن‬
‫يدير هديته ويحدد زمنها المحدد(‪ ،((2‬ويجب أن نصون ما منحناه لفترة غير‬
‫معلومة وميسورة دو ًما‪ ،‬وحين ُيطلب منا يجب أن نرده دون شكوى؛ فالمدين‬
‫السيئ هو الذي يبدأ بجلد دائنه‪.‬‬

‫(‪ ((2‬طريقة الكاتب المهرج بوبليليوس سوروس ‪( Publilius Syrus‬المهرج الروماني صورة شائعة للكوميديا‪ ،‬وال يشبه‬
‫المهرج الحديث في استخدام الحوار)‪.‬‬
‫(‪ ((2‬يفترض سينيكا أن المذكر هنا يفكر فى الله بأنه المانح‪ ،‬ولكنه في كل مكان آخر فى هذا القسم فإن الحظ مؤنث‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ 3-10‬ولذلك يجب أن نحب كل أقاربنا‪ ،‬سواء الذين يتفقون معنا بمحل الميالد‬
‫لمن مات لنا سل ًفا‪،‬‬
‫ونتمنى أن يبقوا أحياء‪ ،‬والذين يختلفون معنا فنصلي َ‬
‫نتلق وعدً ا بأن حياتهم ستدوم إلى ما ال نهاية‪،‬‬
‫علما أننا لم َّ‬
‫ويجب أن نحبهم‪ً ،‬‬
‫والحقيقة ليس هناك وعد بأنهم سيدومون‪ ،‬إن عقولنا في حاجة إلى أن ُتدفع‬
‫لحب األشياء على أساس أننا سوف نفقدها‪ ،‬وباألحرى نحن نفقدها بالفعل‪،‬‬
‫وعليك أن تعامل كل هبات الحظ على أنها أشياء تأتي وليست مضمونة‪.‬‬

‫‪ 4-10‬ولذا اغتنم المتع التي يقدمها عيالك(‪ ،((2‬ودع عيالك يتمتعون بدورهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫قادمة وقد‬ ‫ٍ‬
‫بليلة‬ ‫ٍ‬
‫توان‪ ،‬فليس هناك وعد‬ ‫واقطف من الفرح ما يمكن دون‬
‫منحت مد ًدا طويلاً من الزمن‪ ،‬وليس هناك وعد بساعة آتية كنت تقضيها‬
‫برعونة‪ ،‬فعليك أن ُتعجل‪ ،‬وقري ًبا تتناثر وحدتك‪ ،‬وقري ًبا يتصاعد صراخ‬
‫شيء من النهب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الوغى وسوف تدمر كل الصداقات الحميمة‪ ،‬ولن يهرب‬
‫وال يعرف البائسون كيف يحيون على المسار!‬
‫كنت تحزنين لموت ِ‬
‫ابنك(‪ ((2‬وهو منذ لحظة ميالده في المرفأ ينتبه لموت‬ ‫‪ 5-10‬إن ِ‬
‫قد يسعفه كما أوجد ميالده‪ ،‬فإنه أتى للوجود بموجب هذا النظام‪ ،‬وبدأ هذا‬
‫القدر يرافقه حالما فارق الرحم‪.‬‬

‫‪ 6-10‬لقد وصلنا إلى مملكة الحظ‪ ،‬وهي مكان مكين وقاس‪ ،‬وسنعاني بجدارة وغير‬
‫جدارة في إرادته‪ ،‬وسوف تخضع أجسادنا لسوء التصرف القاسي والهوان‬
‫والمخاطرة‪ ،‬وسوف تحرق البعض نار تنتشر إما عقوب ًة أو مداوا ًة‪ ،‬وسوف‬
‫تقيد البعض بقيود‪ ،‬وهي تسمح لألعداء أن يصنعوا هذا أحيا ًنا ورفقاء الوطن‬
‫وإدبارا‪ ،‬وهي ُتعريهم على البحار‬
‫ً‬ ‫أحيا ًنا أخرى‪ ،‬وسوف تقرع آخرين إقب ًاال‬
‫الغادرة حيث لن تلقيهم على الرمل أو الشاطئ بعد أن تصرعهم باألمواج‪ ،‬بل‬

‫(‪ ((2‬يتحول سينيكا هنا إلى شخص آخر جمعي‪.‬‬


‫(‪ ((2‬سينيكا يعود للشخص المفرد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ستدفنهم في أمعاء بعض مخلوقات البحر الضخمة‪ ،‬والبعض بعد أن توهنهم‬
‫كليا أنواع المرض المختلفة تبقيهم بين الحياة والموت مثل المزاجية المتقلبة‬
‫ًّ‬
‫التي تهمل عبيدها تنحرف بين العقاب والثواب‪.‬‬

‫‪ 1-11‬وما الحاجة إلى أن تذرف الدموع على مراحل الحياة؟ فالحياة برمتها تتطلب‬
‫الدموع‪ ،‬وسوف تهاجمك المصائب الجديدة قبل أن تعالج القديمة‪ ،‬ولذا‬
‫ِ‬
‫وعليك‬ ‫ِ‬
‫فأنت امرأ ٌة ال ُتظهرين ً‬
‫كبحا في المعاناة التي يقيدك على نحو خاص‪،‬‬
‫ِ‬
‫أحزانك العدة‪ ،‬ولماذا هذا التناسي‬ ‫أن تتشاطري مصادر الروح اإلنسانى بين‬
‫ِ‬
‫وأنجبت للبشر(‪ ((2‬رغم أن‬ ‫بشرا‬ ‫لحالك وحال اإلنسان الكلي؟ لقد ُو ِ‬
‫لدت ً‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫أملت أن تكون هذه‬ ‫مرارا‪ ،‬فهل‬ ‫ً‬ ‫جسدك ضعيف وهزيل وداهمته األمراض‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫رحمك شيئًا قو ًّيا وأبد ًّيا؟‬ ‫المادة الضعيفة التي حملتيها في‬
‫ِ‬
‫ولدك‪ ،‬وها هو قد أكمل المسار‪ ،‬ووصل إلى نهاية الطريق الذي‬ ‫‪ 2-11‬قد مات‬
‫ِ‬
‫نسلك المقدم على عجلٍ ‪ ،‬فكل الماضين نحو‬ ‫تعتقدين أنه أكثر ًّ‬
‫حظا من‬
‫القانون في المحكمة والتصفيق في المسرح والصالة في المعابد مدفعون‬
‫ٍ‬
‫متباينة نحو هذه النقطة‪ ،‬فمن ُتحبين وتقدرين وتحتقرين سوف‬ ‫ٍ‬
‫بسرعات‬
‫ُيوارى تحت نفس التراب‪.‬‬

‫‪ 3-11‬وبين أن هذا القول منسوب إلى خطاب بيثيان ‪“ Pythian oracle‬اعرف‬


‫ٍ‬
‫خفيف‬ ‫نفسك”(‪ ((2‬وهو وثيق الصلة هنا‪ ،‬بما اإلنسان؟ فالجرة قد ُتكسر َ‬
‫بط ْر ٍق‬
‫ٍ‬
‫شديدة لحدوث دمار‪ ،‬والمرء ُيكسر إلى‬ ‫ٍ‬
‫عاصفة‬ ‫ٍ‬
‫حاجة إلى‬ ‫وهزة ٍ‬
‫هينة‪ ،‬وما من‬ ‫ٍ‬
‫أجزاء في أي تصادم‪ ،‬فما اإلنسان؟ إنه هيئة هشة واهنة وعارية‪ ،‬وغير محمي‪،‬‬
‫خارجيا‪ ،‬ومتعرض لكل إذالالت الحظ‪ ،‬وحتى‬
‫ًّ‬ ‫في حالته الطبيعية يطلب عو ًنا‬
‫ألي كان‪ُ ،‬ش ِّكل‬
‫حين بنيت عضالته فهو وجبة ألي وحش بري وضحية ذبيحة ٍّ‬

‫(‪ ((2‬يعالج سينيكا مرة أخرى موضوع ماركيا بشكل فردي‪.‬‬


‫‪(29) Reading uidelicet <pertinet>..‬‬

‫‪57‬‬
‫كون ٍ‬
‫فان‪ ،‬وسيم في مظهره فحسب‪ ،‬وعاجز عن تحمل البرودة‬ ‫وم ّ‬ ‫ٍ‬
‫ضعف ُ‬ ‫من‬
‫والحرارة أو العمل الشاق‪ ،‬ومن ثم هو عرضة لالنحالل بالخمول وعدم‬
‫النشاط‪ ،‬وهو يخشى األشياء التي تأكل لحظة جوعها‪ ،‬فتدمر من تحميهم‪،‬‬
‫وهو ب َن ْفس سريع الزوال وغير آمن يهرع بخوف مفاجئ أو بصوت ضجيج‬
‫غير متوقع يقرع آذانهم‪ ،‬فيغذيهم بالقلق والمرض وعدم النفع‪.‬‬

‫‪ 4-11‬وفي مثل هذا الجسد‪ ،‬هل نندهش أن نجد الموت الذي ُيمكن أن ينجم عن‬
‫سبب فوقي واحد؟ وهل يحتاج الجسم إلى جهد جهيد ليسقط في الموت؟‬
‫فالرائحة والنكهة والضجر والنصب والشراب والطعام وكل أساسيات الحياة‬
‫يمكن أن تكون قاتل ًة‪ ،‬ومهما طاف الجسد‪ ،‬فإنه يعي ضعفه حال عدم قدرته‬
‫على تحمل بعض المناخات‪ ،‬وأنواع غير مألوفة من الماء‪ ،‬ونفخة نسيم غير‬
‫معتادة‪ ،‬وأهون األسباب واالضطرابات تمرض وتعل وتفسد وتغمر حياته‬
‫بالدموع‪ ،‬ومن ثم ما يخلق الهياج على الدوام هذا المخلوق المهين‪ ،‬وما الذي‬
‫يمنح األفكار مالذها حين تنسى حالها الذي يخصها؟!‬

‫‪ 5-11‬يستمتع الناس بأفكار الخلود واألبدية‪ ،‬ويكتنزون لألحفاد وأبناء األحفاد‪،‬‬


‫وبينما يخططون على المدى البعيد ُيرديهم الموت‪ ،‬وما يطلقون عليه‬
‫شيخوخة ما هي إال سنوات قليلة وتأتي‪.‬‬
‫ِ‬
‫معاناتك أو على‬ ‫‪ 1-12‬وهل لحزنك أساس منطقي على اإلطالق تتمركز فيه‬
‫ابنك إلى أن تفكري ِ‬
‫أنك لم تستمدي أي لذة منه‪ ،‬أو‬ ‫ساقك ف ْقد ِ‬
‫ِ‬ ‫الميتين؟ هل‬
‫ِ‬
‫أنك ِ‬
‫كنت ستتمتعين بأعظم قدر من اللذة إن طال عمره؟‬

‫فقدانك أكثر قبولاً للتحمل؛ ألن‬


‫ِ‬ ‫قلت ِ‬
‫إنك لم تتمتعي بلذة‪ ،‬فستجعلين‬ ‫‪ 2-12‬لو ِ‬
‫البشر ال يخطئون األشياء التي ال يستمدون منها الفرحة أو السعادة‪ .‬وإن‬
‫ِ‬
‫فعليك ألاَّ تشتكي مما حجبتيه‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬
‫متعة‪،‬‬ ‫أي‬ ‫اعترفت ِ‬
‫أنك لم تستمدي منه َّ‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫كافية لجهدك عن‬ ‫ٍ‬
‫مكافأة‬ ‫ِ‬
‫حصلت على‬ ‫ِ‬
‫ألنك‬ ‫ِ‬
‫عليك أن تشكري ما ُمنحتي؛‬
‫‪58‬‬
‫مشاركة تنشئته‪ ،‬وإذا كان َمن يغذون بإخالص الجراء والطيور وكل األنواع‬
‫الداجنة يحصلون على ٍ‬
‫لذة من النظر أو اللمس أو الولع بحب الحيوانات‬
‫البكماء‪ ،‬إلاَّ أن َمن يغذون األطفال ال يجدون طريقة للمكافأة في ذاتها‪ ،‬حتى‬
‫لو لم تستمدي أي إحسان من عمله الشاق‪ ،‬فال رعاية من يقظته وال هداية‬
‫ِ‬
‫وحبك له مكافأة كافية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫امتالكك‬ ‫لحكمته‪ ،‬والحقيقة الفعلية أن‬

‫‪« 3-12‬ولكن ستكون المكافأة أكبر وأطول دوا ًما»‪ .‬وهل تكونين أفضل حالاً إن‬
‫خيارا بين أن تكوني سعيد ًة لزمن محدد أو‬
‫ً‬ ‫لم يكن لديك ولد‪ ،‬وإن واجهتي‬
‫ألاَّ تكوني سعيد ًة على اإلطالق‪ .‬ومن األفضل لنا أن نتلقى النعم التي سوف‬
‫تتبخر بدلاً من ألاَّ نتلقى شيئًا على اإلطالق‪ ،‬فهل تفضلين أن يكون ِ‬
‫لك ولد‬
‫بال قيمة ويعتبر ابنًا باالسم فقط‪ ،‬أو ولد بمواهب عظيمة حصل على الحكمة‬
‫زوجا ثم أ ًبا‪ ،‬ثم تحمل واجباته على‬
‫في وقت وجيز وصار محبو ًبا وأصبح ً‬
‫انطباعا على الجدية؟ والحقيقة أن ال‬
‫ً‬ ‫محمل الجد‪ ،‬فأصبح كاهنًا– أي ُيعطي‬
‫أحد يجمع بين تلقي النعم الكبيرة والدائمة‪ ،‬بل يحصل على سعادة تنمو بطيئًا‬
‫ويصل بها إلى نهاية المطاف‪ ،‬وال تعطيك اآللهة الخالدة ابنًا على الدوام‪ ،‬ولذا‬
‫تمنحك واحدً ا تظهر صفاته ألناس يتطورون حتى على مدى طويل من‬ ‫ِ‬ ‫هي‬
‫الزمن‪.‬‬
‫ِ‬
‫بابنك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عليك فرصة التمتع‬ ‫ِ‬
‫اختارتك لتض ِّيع‬ ‫‪ 4-12‬وال يمكن أن تقولي إن اآللهة قد‬
‫بصرك على أناس كثر ممن تعرفين وال تعرفين‪ ،‬وعلى كل أين ستجدين‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫فمدي‬
‫أنهم في معاناة أكبر‪ ،‬وقد شهدت حتى في األساطير القادة العظام وكذلك‬
‫األباطرة حتى اآللهة لم ُتترك بال معاناة‪ ،‬إال أننا ينبغي أن نخفف من أدراكنا بأن‬
‫لك‪ :‬انظري في كل امرئ‪ ،‬فلن تقدري‬ ‫اآللهة قد تعاني من الفساد(‪ ،((3‬وأقول ِ‬
‫أن ُتسمي عائل ًة بعينها «بائسة»‪ ،‬ولن تستنتجي راحة من أعظمها ً‬
‫بؤسا‪.‬‬

‫بشرا‪.‬‬
‫(‪ ((3‬هيرقل وأخيليوس نموذجان مشهوران لذرية اآللهة الذين كانوا ً‬

‫‪59‬‬
‫ِ‬
‫نظرك البائسة للغاية في‬ ‫‪ 5-12‬ولكن من قبل هيروكليس ‪ Hercules‬لن آخذ بوجهة‬
‫أن تعتقدي أن بمقدورك أن تتحملي بيس ٍر سوء حظك‪ ،‬وكنت ضمن األعداد‬
‫الغفيرة المتشيعين ِ‬
‫لك من قبل‪ ،‬وجموع الناس البائسة شكل ٍ‬
‫قاس من العزاء‪،‬‬
‫ِ‬
‫عليك بعض األمثلة ال لتوضيح أن اإلنسان في حالة ف ْقد غال ًبا‪ -‬وليس‬ ‫وسأتلو‬
‫كثيرا من الناس‬
‫من التفاهة أن تتراكم األمثلة عن فنائنا؛ ولكن حتى أوضح أن ً‬
‫خففوا من قسوة المصيبة بتحملها باتزان عقلي‪.‬‬
‫‪ 6-12‬وسوف أبدأ بأوفر الرجال ًّ‬
‫حظا(‪ ((3‬وهو لوكيوس سولال ‪ Lucius Sulla‬الذي‬
‫َ‬
‫فقد ابنه‪ ،‬ولكن هذا لم يخفف حدة الضغينة والشجاعة المفرطة التي أظهرها‬
‫للجماهير والمواطنين‪ ،‬ولم يجعله موته ينظر كما لو كان أخطأ أن يفترض‬
‫كنيته‪ ،‬وتبناها بعد فقدانه‪ ،‬وليس خو ًفا من كره البشر الذين يعني حظهم‬
‫الحسن المفرط المعاناة‪ ،‬وليس اإلرادة العليلة لألرباب الذين اتُّهموا بأنهم‬
‫مسؤولون عن حظ سولال الحسن‪ ،‬ولكن دعونا نتعامل مع شخصية سولال‬
‫نهائي– حتى أعداؤه سوف يعترفون بأنه كان‬
‫ٌّ‬ ‫تقييم‬
‫ٌ‬ ‫وكأن لم يصدر تجاهها‬
‫مح ًّقا في حمل السالح وفي خفضه مرة أخرى(‪ ،((3‬وهناك اتفاق على هذه‬
‫ً‬
‫مبالغا فيه‪.‬‬ ‫النقطة هنا وهي أن المعاناة تؤثر حتى أن األكثر ًّ‬
‫حظا ليس ضر ًبا‬

‫‪ 1-13‬وأيقن بولفيلوس ‪ Pulvillus‬الكاهن أنه ال ينبغي لليونانيين أن يتغطرسوا‬


‫تجاه األب الذي سمع خبر موت ابنه وهو وسط القربان‪ ،‬فقال بلين للعازف‬
‫أن يتوقف‪ ،‬وخلع اإلكليل الذي على رأسه‪ ،‬ثم أكمل بقية الطقس(‪((3‬؛ ألن‬
‫بولفيلوس حين تلقى نبأ موت ابنه كان يقبض على عضادة الباب أثناء تقديس‬

‫(‪ ((3‬كورنيليوس سولال فيليكس (‪ :)ca. 138–78 bce‬من أبرز الشخصيات العسكرية والسياسية في القرن األول قبل‬
‫الميالد‪ ،‬ويذكر بقساوته وضراوته في الحروب األهلية في الثمانينيات‬
‫ُ‬
‫(‪ ((3‬عُ ين سولال عام ‪ 88‬قائدً ا في الحرب ضد ميثراداتس ‪ ، Mithradates‬ثم فصل من القيادة عندما سار إلى روما بجيشه‬
‫الستعادتها‪ ،‬وفي عام ‪ُ 79‬نقل سلطته طواعية وعادة للحياة الخاصة‪.‬‬
‫(‪ ((3‬يشير إلى سلوك أكزينفون الجندي والكاتب اليوناني (‪ )ca. 430–354 bce‬عقب سماعه لوفاة ابنه جريلوس في‪362 .‬‬

‫‪60‬‬
‫الكابتول‪ ،‬وتظاهر بأنه لم يسمع‪ ،‬وبمجرد أن سمع اسم ولده طلب نعمة‬
‫جوبتر‪.‬‬

‫‪ 2-13‬هل تعتقدين أنَّ مثل هذا الحزن يجب أن يكون له نهاية؛ ألنَّ األب لم يدمع منذ‬
‫الصدمة األولى في اليوم األول خالل المذبح العام واألداء السليم للحفل؟‬
‫إخالصا قل عمله في التاريخ‪ ،‬إنه يستحق‬
‫ً‬ ‫فبطريقة هيروكليس يستحق أن يقوم‬
‫أعظم مجد للكهنوت؛ ألنه لم يتوقف عن عبادة األرباب حتى حين أغضبوه‪،‬‬
‫ولكن حين ذهب للمنزل غرغرت عيناه بالدموع‪ ،‬وناح ببعض كلمات‬
‫الحزن‪ ،‬وحين أدى ما يتطلبه العرف تجاه الموتى استأنف التالوة التي ُتذكر‬
‫في الكابتول(‪.((3‬‬

‫‪ 3-13‬ومن وقت قريب كان باولوس يحتفل بالنصر‪ ،‬وجعل التيتان يمشون أمام‬
‫عربته في سلسلة‪ ،‬وكان معه ولدان على العربة‪ ،‬ودفن ولديه اللذين فقدهما‬
‫في معركة مع سكيبيو ‪ ،((3( Scipio‬وفاضت مشاعر الرومان بالبؤس حينما‬
‫شاهدوا عربة باولوس فارغة(‪ ،((3‬وهو ال يزال يلقي خطا ًبا يمنح فيه صالته‬
‫لألرباب‪ ،‬وقد طلب إذا كان انتصاره العظيم يثير الحسد‪ ،‬فإنه مستعد لدفع أي‬
‫ثمن وتسديد الدين على نفقته‪ ،‬وليس على نفقة الدولة‪.‬‬
‫ِ‬
‫شاهدت الشجاعة التي أظهرها؟ إنه اعتبر فاجعته نعم ًة‪ ،‬وهل كان يمكن‬ ‫‪ 4-13‬فهل‬
‫ٍ‬
‫واحدة مصدر راحته ودعمه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بضربة‬ ‫ٍ‬
‫بعمق بانعكاس الحظ؟ إنه فقد‬ ‫أن يتأثر‬
‫ومن ثم لم يسمح للتيتان بأن يروا الحزن‪.‬‬

‫(‪ ((3‬قد كرس معبد جوبتر على الكابتول في أواخر القرن السادس قبل الميالد‪ ،‬وتقول مصادرأخرى إن بولفيليوس ‪Pulvillus‬‬
‫كان هو القنصل في هذه الفترة‪ ،‬ولم يقم بونتيفكس بعقد الباب وهو الجزء األساسي من طقوس التكريس‪.‬‬
‫(‪ ((3‬هزم إيميليوس بولوس ‪ L. Aemilius Paulus‬ملك مقدونيا بيرسيس ‪ Perses‬في معركة بيدنا ‪ Pydna‬عام ‪،168‬‬
‫واحتفل بالنصر في العام التالي‪ ،‬واألبناء الذين تم تبنيهم كانوا من زواج سابق‪ ،‬وربما حدث موضوع التبني قبل ذلك‬
‫بسنوات‪ ،‬وسينيكا يشير إلى الشخص الذي أصبح كورنيليوس سكيبيو أيميلينوس اإلفريقي ‪P. Cornelius Scipio‬‬
‫‪ Aemilianus Africanus‬الفاتح لمدينة قرطاجة‪.‬‬
‫(‪ ((3‬إن أبناء القائد المنتصر عادة ما يركبون معه عربته‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ِ‬
‫عليك أمثل ًة ال ُتحصى للرجال العظام وأبحث عن رجل بائس‪،‬‬ ‫‪ 1-14‬لماذا أطرح‬
‫ً‬
‫محظوظا؟! فكيف لعائالت قليلة قد‬ ‫كما لو كان من الصعوبة أن أجد رجلاً‬
‫ِ‬
‫شئت من السنين‬ ‫بقيت بال أذى إلى النهاية دون أن تلم بهم ال َّم ٌة! واختاري ما‬
‫أحببت فاستدعي لوكيوس بيبولوس‬ ‫ِ‬ ‫واستدعي أسياد هذه العائالت‪ ،‬وإن‬
‫‪ Lucius Bibulus‬وجايوس قيصر‪ ،‬وسترين هؤالء الرفقاء رغم عدائهم‬
‫المتبادل‪ ،‬قد كانوا سواء في مصائبهم(‪.((3‬‬

‫شجاعا‪ ،‬وكان له ولدان ُقتال‬


‫ً‬ ‫‪ 2-14‬لوكيوس بيبولوس رجل طيب‪ ،‬ولكنه ليس‬
‫ٍ‬
‫مذلة من الجنود المصريين‪ ،‬ولذا‬ ‫في نفس الوقت‪ ،‬بعد تعرضهما لمعاملة‬
‫استدعت ظروف الفقد الدموع بمدرج الفقد ذاته‪ ،‬وقد احتقر بيبولوس رفيقه‬
‫ولد ِ‬
‫يه استأنف‬ ‫طوال عام منصبه بمكوثه في البيت‪ ،‬وبعد يوم من تلقيه خبر وفاة َ‬
‫فمن الذي فقد في ما يقل عن يوم واحد َ‬
‫ولديه؟‬ ‫واجباته العادية كحاكم(‪َ ،((3‬‬
‫سريعا توقفه عن حداد أبنائه‪ ،‬رغم أنه حزن على منصب القنصل‬
‫ُ‬ ‫وكم كان‬
‫لعام‪.‬‬

‫‪ 3-14‬وعندما كان جايوس قيصر الذي عجزت المحيطات في الحد من حسن‬


‫حظه(‪ ،((3‬في حملة عبر بريطانيا‪ ، ،‬سمع نبأ وفاة ابنته(‪ ((4‬آخذة قدر األمة‬
‫تكريما من أي شخص آخر في‬
‫ً‬ ‫معها‪ ،‬وهو يرى أن جنايوس بومبيوس لم ينل‬
‫عظيما(‪ ،((4‬وأرادوا أن يحدوا من تقدمه الذي شعر أنه مهدد رغم‬
‫ً‬ ‫دولة جعلته‬

‫(‪ ((3‬أخطأ سينيكا؛ فكالبيرنيوس بابلوس وجايوس قيصر كان هما القناصل عام ‪59‬م‪ ،‬وفي محاولة لعرقلة تشريع قيصر رفض‬
‫بابلوس أن يغادر بيته معلنًا أنه كان يراقب النذير‪.‬‬
‫حاكما ‪ proconsul‬لسوريا‪ ،‬وتقول مصادر أخرى إنهم قتلوا على يد جنود‬ ‫ً‬ ‫(‪ُ ((3‬قتل األبناء عام ‪ 50‬عندما كان بابلوس‬
‫رومانيين مقيمين في مصر‪.‬‬
‫(‪ ((3‬اعتُبرت بريطانيا كائنة عبر المحيط‪ ،‬وكانت أي محاولة لعبور المحيط داللة على المجازفة المتهورة (واعتقد الرومان‬
‫واليونانيون أن محيط أوربا وآسيا وإفريقيا يطوقه المحيط)‪.‬‬
‫(‪ ((4‬توفت جوليا ابنة قيصر عام ‪ 54‬ق‪.‬م‪ ،‬وعزز زواجها من بومبي عام ‪ 59‬التحالف بين قيصر وبومبي‪ ،‬و ُيعتقد أنه ضعف‬
‫بموتها‪.‬‬
‫(‪ ((4‬كانت كنية بومبي “ماجنوس ‪ ”Magnus‬أي العظيم‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫أنه كان للنفع العام‪ ،‬واستأنف جايوس خالل ثالثة أيام واجباته كحاكم‪ ،‬وغزا‬
‫حزنه بأسرع مما يغزو أي شيء آخر‪.‬‬

‫ألمت بقيصر؟ وأعتقد أن الحظ‬ ‫ِ‬


‫تذكيرك بفواجع أخرى َّ‬ ‫‪ 1-15‬هل أحتاج إلى‬
‫يهاجمهم أحيا ًنا حتى يتمكنوا من منح جنس البشر إحسا ًنا آخر لتوكيد أن َمن‬
‫ولدتهم األرباب بسمعة طيبة وصاروا إلى أب األرباب(‪ ((4‬ال يملكون سلطة‬
‫على حظهم‪ ،‬كالتي حازها اآلخرون‪.‬‬

‫‪ 2-15‬وبعد أن فقد أوغسطس المقدس أبناءه وأحفاده ونفد مدده‪ ،‬اتجه للتبني ليمأل‬
‫بيته الخالي(‪ ،((4‬لقد تحمل كل هذا بشجاعة رجل مهموم ح ًّقا‪ ،‬ومراهنًا على‬
‫ألاَّ يشكو أحدً ا من األرباب(‪.((4‬‬

‫‪ 3-15‬لقد فقد تيبريوس قيصر كلاًّ من ابنه من صلبه وابنه بالتبني(‪ ،((4‬ومن ثم مدح‬
‫ابنه أمام المنصة ‪ ،Rostra‬ووقف بجوار الجثة ُي ِّ‬
‫ملي نظره ويمسك الحجاب‬
‫ليحجب أعين بونتيفكس ‪ pontifex‬عن الجسد الميت(‪ ،((4‬وكان الشعب‬
‫الروماني يبكي وال ُيظهر وجهه أي شعور‪ ،‬لقد أثبت لسيجانوس أنه يقف‬
‫بجواره‪ ،‬فكيف تحمل بجلد ف ْقد(‪ ((4‬أقرب الناس إليه‪.‬‬

‫كم الرجال العظماء الذين لم ُيعفهم سوء الحظ الذي يضرب بكل‬ ‫ِ‬
‫رأيت َّ‬ ‫‪ 4-15‬هل‬

‫اتبعت جوليا ‪ Julii‬سلفها فينوس‪ ،‬وقد تأله يوليوس قيصر وأوغسطس بعد الموت‪ ،‬ويضم سينيكا أعضاء الحقين قد‬ ‫(‪((4‬‬
‫ُيألهون في المستقبل‪.‬‬
‫ُ‬
‫جمل سينيكا المقتضبة تتعالى على التفاصيل‪ ،‬فقد كان ألوغسطس طفل واحد وهو ابنته جوليا والتي نفيت وأبعدت عنه‪،‬‬ ‫(‪((4‬‬
‫ولكن األحفاد‬
‫َّ‬ ‫ومع ذلك قد يشمل صهره مارسيلوس (انظر ‪ )3.2‬وحفيدين هما جايوس ولوكيوس وكالهما مات قبله‪،‬‬
‫اآلخرين بقوا على قيد الحياة (رغم أن أوغسطوس لم يفكر أنهم يستحقون خالفته)‪ ،‬والتبني المشار إليه تيبريوس (رغم‬
‫أن أوغسطس تبنى جايوس ولوكيوس كأبناء)‪.‬‬
‫إله أوغسطس بعد موته‪ ،‬وكان ُيسمى في حياته ر ًّبا من قبل الشعراء‪.‬‬ ‫(‪((4‬‬
‫توفي دروسوس ابن تيبريوس عام ‪ 23‬م‪ ،‬وابنه بالتبني جيرمانيكوس عام ‪.19‬‬ ‫(‪((4‬‬
‫كان تيبريوس هو بونتييكس مكسيموس‪ ،‬ولذلك تجنب أن يرى تدنيس الجثة‪.‬‬ ‫(‪((4‬‬
‫قد يعني فعل ‪ perdere‬تدمير‪ ،‬وكذلك خسارة‪ ،‬على سيجانوس (انظر‪.)2.1‬‬ ‫(‪((4‬‬

‫‪63‬‬
‫شيء إلى األدنى‪ ،‬هؤالء الرجال الذين حفلوا بصفات عقل جمة وباحترام‬
‫العامة والخاصة؟ ولكن دوائر هذه العاصفة تدور وتدور‪ ،‬وتدمر كل شيء‬
‫بعشوائية أو تحمله كما لو تتملكه‪ ،‬تمضي نحو كل امرئ تتفحص أموره‪ ،‬وال‬
‫ينجو أحد من أن ُيولد دون تكبد تكلفة‪.‬‬

‫‪ 1-16‬أعرف ما تقولينه‪« :‬أنك نسيت أنك تمنح السكينة للمرأة وتعطي أمثلة‬
‫فمن الذى يقول إن الطبيعة شحيحة في تعاملها مع صفات المرأة‪،‬‬
‫للرجال»‪َ ،‬‬
‫وتفرض قيو ًدا ضيقة على فضائلها؟ صدقيني إنهن لديهن نفس القدر من القوة‬
‫ونفس القدر من اإلمكانية للخير األخالقي طالما نوين فيه‪ ،‬إنهن سيتحملن‬
‫الحزن والشقاء بنفس الفاعلية إذا طورن هذه الطباع‪.‬‬

‫‪ 2-16‬في أي مدينة نتحدث عن مثل هذه األرباب الخيرة؟ في المدينة التي أطاح فيها‬
‫لوكريتيا وبروتوس بالملك الذي كان يقهر مواطني روما‪ ،‬فنحن مدينون إلى‬
‫بروتوس بالحرية وإلى لوكريتيا ببروتوس(‪ ،((4‬وفي المدينة التي تجاهلت‬
‫كويليا ‪ Cloelia‬فيها العدو والنهر‪ ،‬وإننا نتعامل معها مثل رجل لشجاعتها‬
‫ٍّ‬
‫مكتظ على‬ ‫المفرطة‪ ،‬حيث جلست في تمثالها على ظهر الحصان في موضع‬
‫الطريق المقدس‪ ،‬والشباب يتدافعون نحو الجسر‪ ،‬وكلويليا توبخهم لرحيلهم‬
‫بهذه الطريقة عن المدينة التي ُمنحت الخيول حتى للنساء(‪.((4‬‬
‫ِ‬
‫أردت أمثل ًة على النساء اللواتي تحلين بالشجاعة حينما فقدوا أقاربهم‪ ،‬لن‬ ‫وإن‬ ‫‪ 3-16‬‬
‫أمضي من باب إلى باب ألبحث عنهم‪ ،‬بل سوف أقدم لك اثنتين من كورنيلياس‬
‫‪ Cornelias‬من أسرة واحدة‪ ،‬األولى هي ابنة سكيبيو ‪ Scipio‬وأم جراشي‬

‫(‪ ((4‬األسطورة تقول إن لوكريتا ‪ُ Lucretia‬أجبرت على أقتراف الزنا مع ابن تاركوين ‪ Tarquin‬آخر ملوك روما‪ ،‬وبعد أن‬
‫كشف زوجها وأبوها ما فعلته قتلت نفسها‪ ،‬وحث موتها بروتوس لقيادة الثورة التي طردت الملك‪ ،‬وأسست الجمهورية‬
‫عام ‪ 509‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((4‬وكانت األسطورة في السنوات األولى للجمهورية أن سلوليا ‪ Cloelia‬أعطت ملك كليسيوم ‪ Clusium‬كرهينة لالرس‬
‫بورسيننا ‪ ،Lars Porsenna‬ولكنها دبرت لتعبر نهر التيبر‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫‪ ،((5( Gracchi‬وهي التي أنجبت اثنتي عشرة مرة وتعددت جنائزها‪ ،‬ومن أبنائها‬
‫َمن لم يكن له أي تأثير في المدينة سواء في والدته أو في زواله‪ ،‬أي لم يكن له ثقل‪،‬‬
‫ولكن يعترف الجميع بأن تيبيريوس وجايوس كانا عظيمين‪ ،‬حتى َمن ينكرون‬
‫أشرارا‪ ،‬لقد رأتهم ُيقتلون ولم يدفنوا‪ ،‬وأما الذين جلبوا لها العار والبؤس‬
‫ً‬ ‫أنهما كانا‬
‫قالت فيهم‪« :‬لن أتوقف عن قول إنني محظوظة وإنني أنجبت جراشي»(‪.((5‬‬

‫‪ 4-16‬وكورنيليا ‪ Cornelia‬زوجة ليفيوس دروسوس ‪Livius Drusus‬؛ قد فقدت‬


‫شا ًّبا ذا قدرة استثنائية‪ ،‬كان يسير على خطى جراشي‪ ،‬وحين ُقتل في بيته‬
‫ترك مشاريع قوانين ال تزال حيز التحقيق‪ ،‬ولم ُيعرف َمن كان المسؤول عن‬
‫قتله(‪ ،((5‬وتحملت موت ابنها الذي لم ُي َّتهم فيه أحد‪ ،‬وكان قبل أوانه بنفس‬
‫الشجاعة التي ذكرها هو في تشريعاته‪.‬‬

‫‪ 5-16‬واآلن هل تتصافين مع الحظ يا ماركيا إذ بعد أن رشقوا أسلحتهم واألمهات‬


‫والبنات في سكيبيوس ‪ Scipios‬وبعد أن صوبوها نحو القيصر‪ ،‬فإنها لم‬
‫تصرف بعيدً ا ِ‬
‫عنك ً‬
‫أيضا؟ إن الحياة ُحبلى بمصائب عدة‪ ،‬ال تمنح أحدً ا سال ًما‬
‫ِ‬
‫أنجبت أربعة أطفال للعالم‪ ،‬ويقولون إن‬ ‫دائما بل بالكاد هدنة‪ ،‬يا ماركيا‬
‫ً‬
‫القذيفة التي ُتلقى على صفوف جيش مكتظ ال تسقط دون أثر‪ ،‬فهل ُتفاجئ‬
‫مثل هذه الفئة العريضة ألاَّ تمر على دربها اآلمن بالنكاية والضرر؟‬

‫ظلما؛ ألنه لم يأخذ أبنائي فحسب‪ ،‬بل تخطفهم”‪،‬‬


‫‪“ 6-16‬ولكن الحظ كان أشد ً‬
‫ولكن ال تتحدثي عن الظلم حين تحصلي على النصيب ذاته كشخص أشد‬
‫بأسا‪ ،‬حيث ترك لك الحظ ابنتين وحفيدين منهما‪ ،‬وإنه لن يزيل كل مكرمة‬
‫ً‬
‫(‪ ((5‬كانت كورنيليا ‪ Cornelia‬هذه ابنة سكيبيو اإلفريقي (انظر ‪.)3.13‬‬
‫(‪ ((5‬تيبريوس وجايوس جراكوس‪ ،‬اللذان كانا برنامجهما اإلصالحي متقاربا في حياتهما ماتا بقتلة شنيعة‪ ،‬حيث رميت‬
‫أجسادهم في نهر التيبر عام ‪ 133‬و‪ 121‬على التوالي‪.‬‬
‫(‪ ((5‬كان زوج كورنيليا هو م‪ .‬ليفيوس دروسوس ‪ M. Livius Drusus‬والمحامي عام ‪122‬ق‪.‬م‪ ،‬وكان البنها االسم نفسه‬
‫والذي ُقتل عام ‪( 91‬أو حسب رواية أخرى أقل موثوقية انتحر)‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ِ‬
‫فلديك ابنتان له‪ ،‬فالحمل عظيم إن‬ ‫لالبن الذي تحزنين عليه‪ ،‬فانسي ما فقدتيه‪،‬‬
‫ِ‬
‫نحيت صوا ًبا‪ ،‬واجعلي هذا غايتك‪ ،‬وحين ترينهم تذكري‬ ‫وهين إن‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫أخطات‪،‬‬
‫ِ‬
‫ابنك وال تحزني‪.‬‬

‫‪ 7-16‬وحين تسقط األشجار بسبب تمزيق الريح لجذورها أو بسبب اندالع مفاجئ‬
‫إلعصار يلوي جذوعها‪ ،‬فإن الفالح يرعى براعم أوراقها‪ ،‬ويزرع ويقلع في‬
‫سريعا في اللحظة التي‬
‫ً‬ ‫المكان نفسه الذي انمحت فيه‪ ،‬ويمضي الزمن عاجلاً‬
‫يكون فيها الفقد والنمو‪ ،‬فالنمو الجديد أكثر وفر ًة مما ُفقد‪.‬‬
‫ِ‬
‫حزنك عليه‬ ‫‪ 8-16‬ودعي بنات ميتيليوس يعوضونه‪ ،‬ويمألن فراغه‪ ،‬وخففي‬
‫باالنفراج الذي حصلتي عليه من البنتين‪ ،‬وهذه هي طبيعة البشر؛ ال شيء أعز‬
‫علينا مما فقدناه‪ ،‬ولسنا منصفين لما تبقى من خثارهم؛ ألن توقنا دو ًما لما‬
‫معك حتى في حالة الغضب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مت كم كان الحظ متساهلاً‬‫ُأخذ منا‪ ،‬ولكن لو َّقي ِ‬
‫ِ‬
‫أحفادك الكثر ومنهم‬ ‫ستدركين أنَّ لديك شيئًا أكبر من العزاء‪ ،‬انظري إلى‬
‫ِ‬
‫لنفسك هذا يا ماركيا‪“ :‬سأكون مستاء ًة إذا ُقدر‬ ‫ِ‬
‫وعليك أن تقولي‬ ‫البنتان‪،‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ بسجيته‪ ،‬وإن األمور السيئة ال تحدث للطيبين‪ ،‬كما أني أرى‬ ‫حظ كل‬
‫الطيبين واألشرار يصابون بنفس الطريقة دون تمييز”‪.‬‬

‫‪ 1-17‬من الصعوبة أن تفقد شا ًّبا في مقتبل عمره شرع في تقديم العون والمشورة‬
‫فمن الذي ينكر أن هذا صعب؟ ولكن هذا هو اإلنسان‪ ،‬أنت ُولدت‬
‫ألمه وأبيه‪َ ،‬‬
‫ألجل هذا(‪ ((5‬للمعاناة والفناء واألمل والخوف‪ ،‬وتنزعج باآلخرين وبنفسك‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬واألسوأ من هذا كله ألاَّ تفهم حالتك الحقة‪.‬‬
‫ولتخاف الموت وترغبه ً‬

‫ْ‬
‫«اعرف مسب ًقا كل المحاسن‬ ‫متوجها إلى سيراقسة‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ 2-17‬إذا قال امرؤ ما لرجل كان‬
‫أبحر‪ ،‬وهذه هي األشياء التي‬
‫ْ‬ ‫والعيوب من رحلتك التي تقصدها‪ ،‬وبعد ذلك‬

‫(‪ ((5‬يعود سينيكا مرة أخرى إلى تعميم الذكورية (أنت)‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫ربما تتعجب منها؛ ألنك أولاً سوف ترى الجزيرة ذاتها منفصلة عن إيطاليا‬
‫ٍ‬
‫ضيقة‪ ،‬ولكن حالما تعتقد أنها مرتبطة باليابسة‪ ،‬وفجأ ًة ينفلق البحر‬ ‫ٍ‬
‫بقناة‬
‫ويتصدع جانب هيسبيريا(‪ ((5‬من صقلية‪ ،‬وسوف ترى أسطورة شاريبديس‬
‫(ألنه بمقدورك أن ترى حافة الدوامة العاتية)‪ ،‬وتبقى هادئا ال تتأثر بالرياح‬
‫الجنوبية‪ ،‬ولكن إذا كانت ضربات العاصفة قوية من هذا االتجاه‪ ،‬فإنه يبتلع‬
‫السفن بفمه العميق الواسع(‪.((5‬‬
‫‪ 3-17‬سوف ترى ربيع أريثوزا المشهور في ِّ‬
‫الشعر بأناقته الجميلة ينتقل صوب‬
‫األسفل وهو يدفق المياه الثلجية الباردة‪ ،‬سواء أكانت ُوجدت فيها ألول‬
‫مرة‪ ،‬أو تستعيد النهر الذي قد تدفق بال نقصان تحت األرض وتحت كل هذه‬
‫البحار ويحفظها من االختالط بالمياه الملوثة(‪.((5‬‬

‫‪ 4-17‬وسوف ترى مال ًذا أهدأ مما شكلته الطبيعة أو َّ‬


‫حسنته يد البشر ألجل حماية‬
‫األساطيل‪ ،‬وكذلك تأمن بألاَّ يحدث تجاوز حتى في ثوران العواصف الهائلة‪،‬‬
‫وسوف ترى حيثما ُحطمت سلطة أثينا وحيثما األسر الطبيعي الذي نحتت‬
‫ٍ‬
‫لعمق ال ُيقاس‪ ،‬وأسر كل هذه اآلالف من األسرى(‪ ،((5‬وسترى‬ ‫فيه الصخور‬
‫المدينة الهائلة ذاتها‪ ،‬التي ُيغطي تصميمها المساحة األكبر من األرض كلها‬
‫ونهارا به‬
‫ً‬ ‫التي ُتسيطر عليه المدن األخرى العديدة‪ ،‬وسوف ترى شتاء معتدلاً ‪،‬‬
‫بصيص من شمس‪.‬‬

‫‪ 5-17‬ولكن عندما تمر بهذه االكتشافات‪ ،‬فقد يفسد الصيف الجائر والمعتل منافع‬
‫مناخ الشتاء‪ ،‬وسوف ترى هناك ديونيسيوس الطاغية ‪ tyrant Dionysius‬مدمر‬

‫وفقا ‪ 3.418 Virgil Aeneid‬فإن هيسبيريا ‪ Hesperia‬اسم لشاعر إيطالي‪.‬‬ ‫(‪((5‬‬


‫البحر الهوميري الموحش كاريبدس ‪ ،Charybdis‬قد ُحدد بالدوامة بين إيطاليا وصقلية‪.‬‬ ‫(‪((5‬‬
‫نبعا لماء‬
‫قيل إن نهر ألفيوس ‪ Alpheus‬يختفي تحت األرض في بر اليونان‪ ،‬ويتدفق تحت البحر‪ ،‬ويظهر مرة أخرى ً‬ ‫(‪((5‬‬
‫أرذوسا ‪ Arethusa‬العذب في سيراقوسة ‪ ،Syracuse‬والمياه الملوثة هنا المياه المالحة‪.‬‬
‫انتهت الحملة األثينية ضد صقلية عام ‪ 413-415‬ق‪.‬م بكارثة‪ ،‬حيث أصبح العديد من األثينيين سجناء‪.‬‬ ‫(‪((5‬‬

‫‪67‬‬
‫الحرية والعدالة والقانون‪ ،‬الرجل الجشع للسلطة المطلقة حتى بعد أفالطون‪،‬‬
‫وألجل الحياة حتى بعد المنفى(‪ ((5‬سوف يحرق بعض الناس ويقهر اآلخرين‬
‫ويأمر بقطع رؤوس اآلخرين بسبب إساءة تافهة‪ ،‬وينزل الذكور واإلناث‬
‫لخدمة شهوته‪ ،‬وألجل الداعي الشائن لسلطة القصر ال يكفيه أن يزاوج بين‬
‫اثنين في نفس الوقت‪ ،‬لقد سمعت ما يمكن أن يجذبك‪ ،‬وما يمكن أن يعيقك‪،‬‬
‫فإما اإلبحار‪ ،‬أو التوقف هنا»‪.‬‬

‫‪ 6-17‬وبعد هذه النصيحة إذا كان هناك ٌ‬


‫امرؤ يود أن يدخل سيراكوز‪ ،‬فإنه هو الوحيد‬
‫نظرا ألنه لم يعثر على الموقف فحسب‪ ،‬بل وصل‬
‫َمن يشكو ما سيكون لنفسه‪ً ،‬‬
‫بأعين مفتوحة وعلم تام‪ .‬إن الطبيعة تقول لنا جميعا(‪« :((5‬أنا ال أخدع أحدً ا‪،‬‬
‫فلو أنك تربي أطفالاً ‪ ،‬فربما تنجذب ألحدهما وتستقبح اآلخر‪ ،‬والكثرة تولد‬
‫لك‪ ،‬فأحدهما يمكن أن يكون ً‬
‫منقذا لوطنه أو خائنًا على قدم المساواة‪.‬‬ ‫ِ‬

‫َّ‬
‫تتخل عن األمل الذي سوف ُيكسبهم السمعة الطيبة التي ال يجرؤ أحد أن‬ ‫‪ 7-17‬ال‬
‫يلومك عليه‪ ،‬وتخيل تكبدهم الخزي فيصبحون أمثلة للشر‪ ،‬وال يمنعهم شيء‬
‫بأن يؤدوا طقوس جنائزكم‪ ،‬ويتولى أبناؤكم تأبينكم‪ ،‬وأعد إلمكانية وضع‬
‫الولد أو الشاب أو الشيخ على المحرقة‪ ،‬فالعمر ال عالقة له بالموت‪ ،‬فأي‬
‫موكب للجنازة قد يكون لموت مبكر لوالد»‪ .‬وبعد هذه الحدود التي ُوضعت‬
‫إن كنت ُتربي طفلاً ‪ِّ ،‬‬
‫حرر األرباب من كل عيب ألنهم لم يمنحونك كفالة‪.‬‬

‫‪ 1-18‬وأقبلِ اآلن وتخيل دخولك إلى حياتك بالحدود ذاتها‪ ،‬وقد أفسر لك ما‬
‫يغريك‪ ،‬وما يقف أمامك إن تعجبت من زيارة سيراقسة‪ ،‬فتخيلني قاد ًما‬
‫ألعطيك نصيحة كما لو كنت مولو ًدا حديثا‪.‬‬

‫(‪ ((5‬ديونيسيوس الثاني طاغية سيراقوسة عام‪ 357-367‬ق‪.‬م‪ ،‬ثم أطيح به‪ ،‬وكان هناك محاولة فاشلة لعودته ‪344-346‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬تقاعد في كورنثة‪ ،‬وزارأفالطون محكمته مرتين‪.‬‬
‫(‪ ((5‬هذا الكالم وكالم سينيكا في الفصل ‪ 18‬موجه عمو ًما لجمهور الرجال‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫‪ 2-18‬أنت على وشك أن تدخل مدينة يتقاسمها األرباب والبشر(‪ ،((6‬وهي تشتمل‬
‫على كل شيء مرتبط بالثبات والقوانين األبدية‪ ،‬وتحوي كل األجرام‬
‫السماوية الدوارة التي تؤدي واجباتها بال كلل‪ ،‬سوف ترى هناك وميض نجوم‬
‫ال حصر لها‪ ،‬وسوف ترى العالم يضيئه نجم واحد‪ ،‬وترسم الشمس بمسارها‬
‫اليومي فترات الليل والنهار‪ ،‬وتفصل بمسارها السنوي الصيف والشتاء‬
‫بالتساوي(‪ ،((6‬وسترى القمر ُينتزع في الليل ويقتبس اللطف‪ ،‬وتعكس النور‬
‫من مالقاتها قريناتها‪ ،‬فأحيا ًنا تخبو وأحيا ًنا أخرى ترتسم فوق األرض بوجهها‬
‫الكامل(‪ ،((6‬تتحول مثل الشمع وتنمحي‪ ،‬وهي تختلف عن ليلتها المنصرمة‬
‫دو ًما‪.‬‬

‫‪ 3-18‬وسوف ترى األجرام الخمسة تتبع مسارات متباينة‪ ،‬وتندفع نحو حركة العالم‬
‫السريعة(‪ ،((6‬فقد تعتمد ثروات األمم على غيض حركاتها‪ ،‬وتتشكل أصغر‬
‫األشياء وأكبرها بنجم مواكب وغير مواكب‪ ،‬وسوف يخلبك تجمع السحب‬
‫وهطول المطر والبرق المنعرج والسماء المتخمة بالرعد‪.‬‬

‫وتحول نظرك لألسفل نحو‬


‫ِّ‬ ‫‪ 4-18‬وحين ُت ِّ‬
‫ملي عينيك بمشهد العالم العلوي‪،‬‬
‫األرض‪ ،‬سوف ترحب بأنماط متفاوتة للعالم بأعاجيب متنوعة‪ ،‬حيث هنا‬
‫تمدد السهول المترامية التي تمتد بال نهاية‪ ،‬وهنا تحلق قمم الجبال التي ترتفع‬
‫بشموخ بنتوءاتها الثلجية التي تخر مجاريها لألسفل‪ ،‬وتتدفق أنهار الشرق‬
‫والغرب الفسيحة من نبع واحد‪ ،‬وتتمايل الغابات بأشجارها واألحراش‬

‫(‪ ((6‬اعتبرت الرواقية أن العالم كله دولة مدنية فيها كل البشر مواطنون‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(‪ ((6‬يشير سينيكا إلى أن طول اليوم يتفاوت دو ًما حسب فصول السنة‪ ،‬فأحيانا يطول النهار على الليل‪ ،‬وأحيانا العكس‪ ،‬ولكن‬
‫طول الصيف يساوي طول الشتاء‪.‬‬
‫(‪“ ((6‬يلوح فى األفق ‪ ”looming‬ظالل قمر أوديسا هوراس ‪.Horace Odes 1.4.5‬‬
‫(‪ ((6‬الكواكب الخمسة المعروفة آنذاك “ميركوري= عطارد”‪ ،‬و«وفينوس= الزهرة»‪ ،‬و«ومارس= المريخ»‪ ،‬و«وجوبتر=‬
‫المشترى»‪ ،‬و«ساتورن= زحل»‪ ،‬وجملة “يندفع نحو حركة العالم السريعة” تشير إلى حركتهم التدريجية الظاهرة تجاه‬
‫الشرق من خالل دائرة البروج كما هي‪ ،‬وتتحرك النجوم الثابتة األخرى تجاه الغرب‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫المتسعة بحياتها البرية‪ ،‬وتراتيل الطيور في اختالف تنافرها‪.‬‬

‫‪ 5-18‬ومدن في مواقع متنوعة‪ ،‬وأمم تقطعها تضاريس وعرة بعضها تمتطي الجبال‬
‫وأخرى تأوي إلى ضفاف البحيرات والمستنقعات(‪ ،((6‬فيعززون المحاصيل‬
‫بالفالحة‪ ،‬و ُتفلح األشجار من تلقاء ذاتها‪ ،‬وتتدفق النسائم اللطيفة خالل‬
‫الرياض والخلجان الماتعة‪ ،‬فتنسحب الضفاف لتشكل الموانئ‪ ،‬وكل هذه‬
‫الجزر المنتشرة عبر المياه الخالية تزين البحار حيث انبثاقها‪.‬‬

‫‪ 6-18‬وماذا عن بهاء األحجار الكريمة‪ ،‬والذهب الذي يختلط مع رمال السيول‬


‫السريعة‪ ،‬وانفجارات النار الملتهبة ‪ blazing‬في باطن األرض والبحر(‪،((6‬‬
‫طوق األرض ويعيق تواصل األمم بخلجانه الثالثية(‪ ((6‬مع‬ ‫والمحيط الذي ُي ِّ‬
‫ارتفاع المد والجز يمحوها كاملاً ؟‬

‫وتالطما حتى في عدم وجود‬


‫ً‬ ‫‪ 7-18‬هنا سوف ترى سباحة في الماء ال تسكن‪،‬‬
‫رياح‪ ،‬ومخلوقات تتجاوز حجم حيوانات البرية‪ ،‬بعضها ثقيل الوزن‪ ،‬يتحرك‬
‫تحت سيطرة اآلخر(‪ ،((6‬وبعضها خفيف أسرع من المجدفين بقوتهم كاملة‪،‬‬
‫كبيرا في مرور‬
‫ً‬ ‫خطرا‬
‫ً‬ ‫وبعضها يرشف في الماء ويتنفس بالخارج ويسبب‬
‫الرحالة‪ ،‬هنا سوف ترى سفنًا تبحث عن أرض مجهولة‪ ،‬ولن ترى شيئًا ال‬
‫ً‬
‫شريكا فيه فهو مسعى عظيم‪،‬‬ ‫متفرجا أم‬
‫ً‬ ‫يجذب غرور البشر سواء أكنت‬
‫وسوف تتعلم وتفهم مهاراتها‪ ،‬بعضها يحافظ على الحياة‪ ،‬وبعضها يعززها‪،‬‬
‫وبعضها يوجهها‪.‬‬

‫(‪aliae ripis lacuum paludibusque pauidae‬‬ ‫محتـــم في الجملة اآلتيـــة‪:‬‬


‫ٍ‬ ‫(‪ ((6‬النــص الالتينــــي‬
‫‪ )circumfunduntur.‬وترجمته على افتراض مادفيج المبدئي (‪others fearfully encircling‬‬
‫‪ )themselves with the shores of lakes and with marshes‬وترجمته إلى العربية (وأخرى تأوي إلى ضفاف‬
‫البحيرات والمستنقعات)‪.‬‬
‫(‪ ((6‬كلمة ‪ blazing‬منمحية في األصل الالتيني‪ ،‬ولكن اإلشارة إلى ثوران البراكين واضح‪.‬‬
‫(‪ ((6‬وهنا إشارة إلى البحر األبيض المتوسط وبحر قزوين والبحر األحمر‪ ،‬حيث اعتبر مفككا للكتلة الواحدة‪.‬‬
‫(‪ ((6‬حيث اعتقد أن بعض الحيتان لديها ضعف في الرؤية وتسترشد باألسماك األصغر‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ 8-18‬ولكن في المكان ذاته سوف يكون هناك آالف المحن للجسد والعقل والحروب‬
‫والسلب وحطام السفن والسموم واالضطرابات المناخية والجسدية‪ ،‬والحزن‬
‫لمن تعزيهم‪ ،‬والموت قد يكون هينًا أو حصيلة عقاب وعذاب‪ ،‬وفكر‬
‫المرير َ‬
‫مليا‪ ،‬وزنْ ما تريد‪ ،‬وكي تصل إلى مجموعة خبرات عليك أن تمتد لباليا‬‫ًّ‬
‫اآلخرين»‪ ،‬ستردين ِ‬
‫بأنك تريدين أن تعيشي بالطبع‪( ،‬أو أفترض اعتقا ًدا آخر‪،‬‬
‫نفسك في موقف فيه تقصير يسبب ِ‬
‫لك حز ًنا!)‪ ،‬وهكذا عيشي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أنك لن تضعي‬
‫ولكن والدينا‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ولكنك تقولين‪« :‬ال أحد استشارنا»‪،‬‬ ‫على الحدود المتفقة‪،‬‬
‫كانوا يستشيروننا حينما عرفونا حدود الحياة‪ ،‬ونشؤونا لنعيش معهم‪.‬‬

‫‪ 1-19‬ولكن اسمحي لي أن أنتقل إلى أسباب العزاء‪ ،‬ودعونا نرى أولاً حيث الحاجة‬
‫إلى العالج ثم نوع العالج‪ ،‬فالشخص المحزون مصاب بالتوق لمحبوب‪،‬‬
‫وهذا في حد ذاته يبدو قابلاً للتحمل؛ ألنهم وهم على قيد الحياة لم ِ‬
‫نبك على‬
‫الناس الذين غابوا أو الماضين في الغياب رغم أننا فقدنا كل اتصال بهم حين‬
‫غفلنا عنهم‪ ،‬وهكذا اعتقادنا أن هذا ُيعذبنا‪ ،‬والشرور قد تعظم بتقديرنا لها‪،‬‬
‫والمداوة بأيدينا‪ ،‬فدعونا نفكر في المتوفي كغائب‪ ،‬ودعونا نخدع أنفسنا‪،‬‬
‫فقد أرسلناهم إلى مآلهم‪ ،‬أو بالحري قد أرسلناهم قد ًما ونحن ماضون في‬
‫اتباعهم‪.‬‬
‫‪ 2-19‬والشخص المحزون يتأثر بهذا التفكير ً‬
‫أيضا‪« ،‬لن يحميني أحدٌ ولن تنجدني‬
‫من معاملة مزدرية»‪ ،‬أنا أقدم عزاء بعيدً ا عن ما هو جدير بالثناء بل هو حق‪،‬‬
‫ويخلق العزاء في مدينتنا الرغبة الحسنة أحرى من أن يدمرها‪ ،‬والشعور‬
‫بالوحدة الذي اعتيد استخدامه ليكون لعنة للشيخوخة يمنحها قوة ادعاء‬
‫بعض الناس كرهوا أبناءهم وأنكروا ذريتهم ويجعلون أنفسهم بال أبناء‬
‫عمدً ا(‪.((6‬‬

‫(‪ ((6‬يلمح سينيكا إلى الطريقة التى يجذب بها األثرياء الذين ليس لهم أطفال انتباه صيائدي التركة‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫لست مضطربة لما ضاع مني‪ ،‬وال يستحق الناس‬
‫ُ‬ ‫‪ 3-19‬أعرف ما ستقولينه‪« :‬إنني‬
‫عزاء إذا استاؤوا لموت ابن وكأنه ُمستخدم عندهم‪ ،‬وإذا وجدوا في حال‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫يزعجك يا ماركيا؟‬ ‫ابنهم زمنًا للتفكير في أي شيء إال ابنهم ذاته»‪ ،‬فما الذي‬
‫هل موت ِ‬
‫ابنك أم ألنه لم يعش طويلاً ؟ فإن كان قد مات فاحزني عليه طوال‬
‫ِ‬
‫وأنت تعرفين على الدوام أنه ماض نحو الموت‪.‬‬ ‫الدهر‪،‬‬
‫ِ‬
‫وعليك أن تدركي أن الميت ال يشقى بمعاناة‪ ،‬وأن األشياء التي ُتصنع من‬ ‫‪ 4-19‬‬
‫العالم السفلي المرعب هي مجرد خرافات‪ ،‬فليس من ظالم يخيم على‬
‫الموتى‪ ،‬وال سجن‪ ،‬وال أنهار تشتعل بالنار‪ ،‬وال نهر للنسيان ‪،((6( Oblivion‬‬
‫ومدَّ عى عليهم‪ ،‬وال تقويض للحرية من قبل الطغاة(‪،((7‬‬
‫وال محاكم للقانون ُ‬
‫لقد انغمس الشعراء في هذه األوهام وطاردونا برعب أحمق‪.‬‬

‫‪ 5-19‬الموت انعتاق من كل ألم‪ ،‬وحد ال يمكن تجاوزه‪ ،‬وهو يعيدنا لحالة السالم‬
‫التي كنا نرقد فيها قبل ميالدنا‪ ،‬فكل َمن يشعر بالشفقة على الميت ينبغي أن‬
‫شرا‪ ،‬فالشيء يمكن‬
‫خيرا وليس ًّ‬
‫يشعر بالشفقة على َمن ال يولد‪ ،‬فالموت ليس ً‬
‫شرا‪ ،‬ولكن هو في حد ذاته ليس شيئًا‪ ،‬ويختزل كل شيء‬
‫خيرا أو ًّ‬
‫أن يكون ً‬
‫إلى ال شيء‪ ،‬وال يتركنا في رحمة الحظ؛ ألن الخير والشر يبقيان في بعض‬
‫الموجودات المادية‪ ،‬وال يمكن للحظ أن يقبض على ما أعتقته الطبيعة‪ ،‬وال‬
‫بائسا‪.‬‬
‫يمكن لغير الموجود أن يكون ً‬
‫‪ 6-19‬لقد عبر ابنك الحدود‪ ،‬وخ َّلف وراءه مكان العبودية‪ ،‬ورحب به السالم األبدي‬
‫الفسيح‪ ،‬ال يهاجمه الخوف من الفقر أو القلق على الثروة‪ ،‬أو طعنات الشهوة‬
‫التي ُتفسد العقل باللذة‪ ،‬وال يطوله حسد الناس المرفهين أو يرهقه‪ ،‬وال َي َغ ْي ُر‬
‫على مسامعه الحساسة أي نوع من الشتيمة‪ ،‬وال يتوقع كوارث سواء أكانت‬

‫(‪ ((6‬تعني في اليونانية ‪ Lēthē‬أي النسيان‪.‬‬


‫(‪ ((7‬قارن إدانة لوكريتوس للعالم السفلي التراثي في ‪ ،1023–3.978‬وسينكا في خطاب ‪.24.18‬‬

‫‪72‬‬
‫عامة أم خاصة‪ ،‬وال يقلق على مستقبل متعلق بنتائج تؤدي دو ًما إلى مزيد‬
‫أخيرا حيث ال شيء يمكن أن يجبره على الخروج‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫شك(‪ ،((7‬إنه أتى‬
‫يمكن أن يرعبه شيء‪.‬‬

‫‪ 1-20‬آه‪ ،‬كم ينقص الوعي بمعاناة َمن ال يثنون على الموت وال ينظرون إليه على أنه‬
‫ختما على سعادتنا‪ ،‬أم يحفظ الكارثة في‬
‫اكتشاف أرقى للطبيعة‪ ،‬سواء أكان ً‬
‫غار‪ ،‬أم ينهي تعب إنسان مسن وورعه‪ ،‬أم يقطع حياة قصيرة لشاب في مقتبلها‬
‫وهو يتوقع أشياء أفضل‪ ،‬أم يوقف طفولة قبل أن تصل لمراحل متقدمة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ هو نهايته‪ ،‬وهو للكثرة عالج‪ ،‬وللبعض جواب للصالة‪ ،‬وال‬ ‫فموت كل‬
‫ممن يأتيهم دون انتظار دون أن يطلبوه‪.‬‬
‫أحد أفضل َّ‬
‫‪ 2-20‬إنه يجلب الحرية من العبودية ضد صاحب األماني‪ ،‬إنه يمحي السالسل من‬
‫األسرى‪ ،‬إنه ُيخرجنا من سجن الذين رفضت سلطتهم المطلقة أن تفرج عنا‪،‬‬
‫إنه إبانة المنفيين الذين يجهدون عقولهم وأعينهم دوما نحو وطنهم‪ ،‬فال يبالي‬
‫بمن ُيدفن تحت التربة‪ ،‬وحين ُيقاسم الحظ الممتلكات العامة بال‬
‫الموت َ‬
‫عدل‪ ،‬و ُيعطي ممتلكات المرء آلخر رغم أنهم ولدوا بحقوق متساوية‪ ،‬فإن‬
‫الموت هو المسوي األعظم‪ ،‬وال أحد بعد الموت يعمل في هوى آخر‪ ،‬وال‬
‫ألبيك‪ ،‬إني أقول ِ‬
‫لك‪ :‬ما‬ ‫ِ‬ ‫يشعر أحد بالدونية‪ ،‬إنه يساوي الكل‪ ،‬لما تتوقينى‬
‫الذي يضمن أن هذا الميالد ليس عقا ًبا؟ وما الذي يضمن أنني لن أسقط حين‬
‫أواجه تهديدات الحظ؟ وبإمكاني أن ُأبقي على صوت عقلي وأسيطر عليه‪،‬‬
‫شيء لما يمكن أن أصنعه في النداء األخير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لدى‬
‫حيث َّ‬
‫‪ 3-20‬هنا أرى الرموز‪ ،‬ليست كلها من نفس النوع فحسب‪ ،‬بل ُبنيت على نحو‬
‫ٍ‬
‫بأناس متفاوتين‪ ،‬فالبعض يعلقون ضحاياهم من رؤوسهم‪ ،‬وآخرون‬ ‫مختلف‬
‫يقودونهم بعصي نحو موطنهم‪ ،‬وآخرون يمدون أسلحتهم على المشنقة‪،‬‬

‫(‪ ((7‬اقرأ ‪.incertiora reponenti‬‬

‫‪73‬‬
‫أرى مخادع األسلحة وأرى السوط وأدوات التعذيب قد صممت لكل‬
‫متضامن(‪ – ((7‬ولكن أرى الموت‪ ،‬وهنا أعداء قساة ومواطنون متعجرفون‪،‬‬
‫ولكن أرى الموت ً‬
‫أيضا هنا‪ ،‬وليس من مشكلة لكونك عبدً ا حين تسأم من‬
‫ملكية شخص آخر‪ ،‬فيمكنك أن تعبر نحو الحرية بخطوة واحدة‪ ،‬وقد تعز‬
‫علي بفضل الموت!‬
‫حياتك َّ‬
‫‪ 4-20‬فكر في النعمة المناسبة للموت‪ ،‬وكم هم الناس الذين قد حرموا من العيش‬
‫طويلاً ‪ ،‬وإن كان جنايوس بومبيوس مجدًّ ا وسندً ا لإلمبراطورية‪ ،‬فقد ُحمل‬
‫العتالل صحته حين كان في نابلس‪ ،‬ورحل وهو زعيم بال منازع للشعب‬
‫الروماني‪ ،‬ولكن الموت ذهب به إلى منقلبه‪ ،‬إنه رأى جحافل ُذبحت أمام‬
‫عينيه‪ ،‬ومن هذه المعركة التي شكلت الخطط األمامي للسوناتو رأى الحاكم‬
‫الجزار المصري‪ ،‬واستسلم لجسد‬
‫َّ‬ ‫يظهر للعيان على قيد الحياة(‪ ،((7‬ورأى‬
‫خاضع وقبض المنتصرون على القدسية‪ ،‬وحتى لو ُترك دون أن يصاب‪ ،‬فإنه‬
‫عارا من أن تعتمد حياة بومبي على كرم‬
‫مدخرا‪ ،‬فما هو األشد ً‬
‫ً‬ ‫يأسف لكونه‬
‫ملك(‪((7‬؟‬

‫‪ 5-20‬إذا كان ماركوس شيشرون قد سقط حين كان يتجنب خنجر كاتيلين الذي‬
‫ُو ِّجه فيه وفي وطنه على حد سواء‪ ،‬وحين كان المنقذ للدولة التي حررها‪،‬‬
‫أو حتى لو مات بعد ابنته بفترة وجيزة‪ ،‬إلاَّ أن ميتته كانت سعيدة‪ ،‬فإنه لم َ‬
‫ير‬
‫السيف يرسم حياة مواطنيه أو ينبش القتلة ممتلكات القتلى حتى يتكفلوا بنفقة‬
‫علنيا لغنائم القنصلية‪ ،‬أو منع الذابح عطاء العامة‪ ،‬أو السرقة‬
‫موتهم‪ ،‬أو مزا ًدا ًّ‬
‫والحرب والنهب‪ ،‬وكثير مما زاد فيه كاتيلين(‪.((7‬‬

‫الجملة في اللغة الالتينية ممحية‪ ،‬ولكن المعنى واضح‪.‬‬ ‫(‪((7‬‬


‫هو كقائد يفضل أن ُيقتل في المعركة‪.‬‬ ‫(‪((7‬‬
‫ُ‬
‫بعد هزيمة جيشه في فارسالوس ‪ ،Pharsalus‬هرب بومبي إلى مصر‪ ،‬وقتل على يد قائد محلي بمجرد أن نزل فيها‪.‬‬ ‫(‪((7‬‬
‫توفي شيشرون عام ‪43‬ق‪.‬م ‪ ،‬وكانت مؤامرة كاتلين عام ‪ ، 63‬وموت ابنته عام ‪.45‬‬ ‫(‪((7‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ 6-20‬وإذا كان البحر قد ابتلع ماركوس كاتو وهو في طريق عودته من قبرص‪ ،‬حيث‬
‫كان يدير ميراث الملك هناك‪ ،‬وحتى لو كان ابتلع المال الذي كان يجلبه لدفع‬
‫الحروب األهلية‪ ،‬أليس هذا نعمة؟ ويقينا قد توفي وهو يعتقد أنه ال أحد يجرؤ‬
‫على فعل خطأ في وجود كاتو‪ ،‬ولكن اضطر الرجل الذي ُولد ألجل حرية‬
‫وطنه وليس حريته فحسب لتحاشي القيصر وأتباع بومبي(‪ .((7‬ولذا لم ُيسبب‬
‫له موته المبكر أي معاناة‪ ،‬وأنجاه حقيق ًة من كل صنوف المعاناة(‪.((7‬‬

‫‪« 1-21‬ولكنه مات في عجلة وهو شاب يافع»‪ ،‬وأفترض أنه كان يتطلع إلى أن يعيش‬
‫إلى أقصى مدى يعيشه اإلنسان‪ ،‬فكم من الزمن سوف يعيش؟ إنه ُولد لفترة‬
‫وجيزة ليفسح الطريق لآلخرين‪ ،‬ونحن نرى أن كل وافد جديد ينتقل لهذه‬
‫المساكن المؤقتة‪ ،‬وأنا أتحدث عن حيواتنا فحسب‪ ،‬فهل نعلم أنها تدحرجنا‬
‫وع ِّدي قرون المدن التي خلت وسترين كيف‬
‫لألمام بسرعة ال تصدق؟(‪ُ .((7‬‬
‫تباهت بعراقتها التي لم تصمد طويلاً ‪ ،‬فكل أعمال البشر مقتضبة وعابرة‬
‫تافها لزمن ال نهائي‪.‬‬
‫جزءا ً‬
‫وتشغل ً‬

‫‪ 2-21‬وهذه األرض بمدنها وشعوبها وأنهارها وبحارها المتاخمة نعدها كثقب إبرة‬
‫جزءا أصغر من هذا الثقب إذا ُقورنت‬
‫بمقارنتها بالكون‪ ،‬وتشغل فترة حياتنا ً‬
‫وتكرارا‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫بالزمن كله الذي يتجاوز أمده العالم حيث يعيد العالم ذاته‬
‫داخل مسار الزمن(‪ ،((7‬ولذا ما الغاية من إطالة شيء مهما عظمت زيادته وهو‬
‫ٍ‬
‫ماض إلى ال شيء؟ إن الطريق الوحيد الذي ُيمكن أن نطيل به حياتنا هو ما‬
‫وجدنا أنه ٍ‬
‫كاف‪.‬‬

‫(‪ ((7‬انتحر كاتو األصغر في ‪ 46‬ق‪.‬م بدلاً من طلب العفو من القيصر بعد هزيمة قوات بومبي‪ ،‬وكان قد أشرف على ضم‬
‫قبرص عام ‪.58‬‬
‫(‪ ((7‬فجأة يتحدث سينيكا مرة أخرى عن ابن ماركيا‪.‬‬
‫(‪ ((7‬في الالتينية ‪ quas <scimus> incredibili celeritate conuolui.‬ونعرف أنها تدفعنا بسرعة ال تصدق‪.‬‬
‫(‪ ((7‬إشارة للمذهب الرواقي في دورات العالم المتكررة والمتطابقة‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫سنوات طوالاً قد انصرمت في التاريخ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫عمروا‬ ‫ٍ‬
‫ألناس َّ‬ ‫‪ 3-21‬ربما تعطينني أسماء‬
‫ِ‬
‫ذهنك على الزمن‬ ‫وربما تعد لكل منهم مائة وعشر سنوات‪ ،‬ولكن ركزي‬
‫ِ‬
‫فحصت عمر المرء‬ ‫برمته‪ ،‬فالفارق بين أقصر حياة وأطولها كأنه ال شيء‪ ،‬وإن‬
‫الذي عاشه وقارنتِه بطول َّ‬
‫الزمن فستعرفين أنه لم يعش‪.‬‬

‫‪ 4-21‬وعالوة على ذلك‪ ،‬ومن وجهة نظره كان زمن وفاته حسنًا؛ ألنه عاش ما ُق ِّدر له‬
‫عيشه‪ ،‬ولم يترك شيئًا أزيد مما فعله‪ ،‬وال يوجد مقياس واحد لكبر العمر عند‬
‫البشر ويختلف عن الحيوانات؛ ألنها تنفق في غضون أربعة عشر عا ًما‪ ،‬وأقصى‬
‫عمر يمكن أن تعيشه هو المرحلة األولى لإلنسان‪ ،‬فكل مخلوق قد ُوهب قوة‬
‫باكرا؛ ألنه لن يمضي للعيش أطول مما عاش‪.‬‬
‫مختلفة للعيش‪ ،‬وال أحد يموت ً‬
‫وقد ثبت حجر الحد القوي في مكان لكل منا‪ ،‬وسوف يبقى دو ًما حيثما يتم‬ ‫‪ 5-21‬‬
‫ِ‬
‫فقدك له كان معدًّ ا سل ًفا‪،‬‬ ‫إعداده‪ ،‬وال يستبعده أي عمل أو تأثير بعيدً ا‪ ،‬وأدركي أن‬
‫وأنه وصل للفترة المقدر له عيشها‪« ،‬ووصل إلى غاية الحياة المحددة له»(‪.((8‬‬

‫‪ 6-21‬ال تكتئبي بالتفكير «بأنه كان يمكن أن يعيش أطول»‪ ،‬إن حياته لم تكن قصيرة‪،‬‬
‫وال تتدخل الصدفة في سنين المرء أبدً ا‪ ،‬وكل امرئ مدفوع لما ُوعد به‪ ،‬وتمضي‬
‫األقدار في طريقها ال ُتضيف وال تطرح ما وعدت به‪ ،‬والسعي والتضرع بال‬
‫ٍ‬
‫ماض لما كتب له من يومه األول‪ ،‬وفي اللحظة األولى‬ ‫ٍ‬
‫امرئ‬ ‫جدوى‪ ،‬فكل‬
‫التي رأى فيها النور‪ ،‬بدأ الرحلة نحو الموت‪ ،‬ويقترب من مصيره‪ ،‬وما يضاف‬
‫له من سنين مراهقته ُيطرح من حياته‪.‬‬

‫‪ 7-21‬كلنا عرضة لخطأ التفكير في أن كبار السن فحسب هم الماضون نحو الموت‪،‬‬
‫ولكن الحقيقة أن الطفولة والشباب وكل مراحل العمر تأخذنا لهذا االتجاه‪،‬‬
‫واألقدار تقوم بعملها‪ ،‬وهي تتيقن بأننا لسنا على وعي بأدائها‪ ،‬ولذا تزحف‬

‫‪(80) Virgil Aeneid 10.472.‬‬

‫‪76‬‬
‫نحونا بيسر‪ ،‬ويستتر الموت تحت كلمة الحياة‪ ،‬فالمهد انتقال للطفولة‪،‬‬
‫ِ‬
‫أحصيت مراحل‬ ‫الشاب‪ ،‬وإن‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫العجوز‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫والطفولة انتقال للبلوغ‪ ،‬ويمحو‬
‫نموها ح ًّقا فهي في الواقع مفقودة‪.‬‬
‫‪ 1-22‬هل تشتكين يا ماركيا من أن ِ‬
‫ابنك لم يعش وكان يمكن أن يطول عمره؟ فكيف‬
‫تعرفين ما سوف يحصده من طول عمره؟ هل تجدين اليوم أحدً ا قد رسخت‬
‫ظروفه وتوطدت وال يخشى انصرام الزمن؟ إن األمور اإلنسانية زلقة ومائعة‪،‬‬
‫وليس هناك مرحلة في حياتنا عرضة للخطر وغير حصينة كالتي يمنحها المرء‬
‫للمرحلة التي ُتعطي أعظم لذة‪ ،‬ولذا علينا أن نتمنى الموت ونحن في أوج‬
‫سعادتنا؛ ألنه ال يقين وسط اللغط والفوضى إال ما كان في الماضي‪.‬‬
‫‪ 2-22‬لقد جذبت هيئة ِ‬
‫ابنك الوسيمة نظرة المدينة المنكوبة‪ ،‬وقد حافظ على طهارتها‬
‫الحتراسه وشرفه‪ ،‬ومع ذلك َمن الذى يضمن ِ‬
‫لك أن هيئته ستبقى على ما هي‬
‫عليه؟ فقد ُيذهبها المرض‪ ،‬والحفاظ على المظهر قد يشينه كبر السن! فكري‬
‫في ألف خطأ ُيؤثر على العقل‪ ،‬فاستقامة وموهبة األفراد التي تظهر في شبابهم‬
‫ال تبقى دو ًما حتى الشيخوخة‪ ،‬وغال ًبا ما تنساق لمسار انحطاط يهاجم الحياة‬
‫الالحقة‪ ،‬ومن ثم تصير مخزي ًة‪ ،‬وتجلب التشويه على البدايات المشرفة أو‬
‫تغرق في مستوى الشهوة والتسول‪ ،‬وينحصر همهم فيما يأكلون ويشربون‪.‬‬

‫‪ 3-22‬فكري في الحرائق وانهيار اإلنشاءات وحطام السفن والمجزرة التي يحدثها‬


‫األطباء الذين يزيلون العظام‪ ،‬وينفذون أيديهم بكاملها في أمعائهم‪ ،‬ويسببون‬
‫األلم بصنوفه أثناء تعاملهم مع أعضائهم‪ ،‬ومن ثم فكري في النفي؛ فإن ِ‬
‫ابنك‬
‫لم ْ‬
‫ينأ عن اللوم الذي لم ينج منه روتيليوس(‪ ،((8‬وفكري في السجن؛ فإن‬

‫(‪ ((8‬روتيليوس روفس ‪ P. Rutilius Rufus‬قنصل عام ‪ 105‬ق‪.‬م‪ُ ،‬حوكم بتهمة االغتصاب‪ ،‬و ُنفي عام ‪ ، 92‬رغم اعتراف‬
‫العموم ببراءته‪ُ ،‬‬
‫وأدين سقراط في محكمة أثينا عام ‪ 399‬ق‪.‬م ‪ ،‬ورفض أن يذهب إلى المنفى تجن ًبا لإلعدام‪ .‬وعن كاتو‬
‫انظر ‪.20.3‬‬

‫‪77‬‬
‫قديسا أكثر من كاتو‬
‫ً‬ ‫ابنك لم يكن أحكم من سقراط‪ ،‬وفكري أن ِ‬
‫ابنك لم يكن‬ ‫ِ‬
‫الذي ثقب صدره بنفسه‪ ،‬وحين تهضمين كل هذا‪ ،‬ستدركين أن الذين تم‬
‫عالجهم هم الذين سحبتهم الطبيعة على عجل نحو السالمة؛ ألن هذا كان‬
‫نوعا من الحملة نتوقع أن تخدم حياتهم‪ ،‬وال شيء خادع مثل حياة اإلنسان‪،‬‬
‫ً‬
‫وال شىء مثل هذه الغادرة‪ ،‬فهيروكليس يقول‪ :‬ال أحد يقبلها دون وعي بما‬
‫تقدمه‪ ،‬وإن لم يولد األكثر ًّ‬
‫حظا أعتقد أن التمتع بحياة قصيرة وسريعة يعيدنا‬
‫إلى حالتنا األصلية‪.‬‬

‫لك هذا األلم‪ ،‬حين وهب سيجانوس‬ ‫لنفسك الفترة التي سببت ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ 4-22‬صوري‬
‫ِ‬
‫والدك تابعه ساتريوس سيكوندوس ‪ ((8( Satrius Secundus‬قد غضب معه‬
‫إلفصاحه في مناسبة أو مناسبتين أن ليس بمقدوره تحمل الصمت حين ال‬
‫يرق سيجانوس علينا فحسب بل يتسلقنا‪ ،‬وكان هناك اقتراح بإنشاء تمثال له‬
‫في مسرح بومبي الذي أعاد قيصر بناءه بعد الحريق(‪ ،((8‬واعترض كوردوس‬
‫‪Cordus‬؛ ألن هذا يدمر المسرح ح ًّقا‪.‬‬
‫ْ‬
‫يشتط غض ًبا من شأن سيجانوس لموقفه من جنايوس‬ ‫‪ 5-22‬حسنًا‪ ،‬ولماذا لم‬
‫بومبيوس ‪ Gnaeus Pompeius‬لتمجيد الجندي الخائن للنصب التذكاري‬
‫للقائد العظيم؟ إن االتهام قد ُس ِّو َي تما ًما(‪ ،((8‬والكالب الشرسة التي كانت‬
‫تتغذى على دم اإلنسان ليجعلها مطيعة له فقط ومفترسة ألي أحد آخر بدأت‬
‫في العواء حول الرجل(‪.((8‬‬

‫‪ 6-22‬وماذا كان يفعل؟ إذا رغب في العيش‪ ،‬كان عليه أن ينشد سيجانوس‪ ،‬وإن‬
‫رغب في الموت فعليه أن ينشد ابنته‪ ،‬وكالهما يرفض االستماع‪ ،‬فقرر خداع‬

‫ساتريوس سيكوندوس ‪ Satrius Secundus‬وهو أحد أتباع جراميتيوس كوردوس ‪.Cremutius Cordus‬‬ ‫(‪((8‬‬
‫المقصود بقيصر هنا تيبريوس‪.‬‬ ‫(‪((8‬‬
‫تقرأ في الالتينية تكون تما ًما ‪.consarcinatur‬‬ ‫(‪((8‬‬
‫تركت بعض الكلمات الممحية التي من الصعب ترجمتها‪ ،‬ولم تغير في المعنى شيئًا‪ ،‬والكالب هم أتباع سيجانوس‪.‬‬ ‫(‪((8‬‬

‫‪78‬‬
‫استحم ليستعيد قوته‪ ،‬انزوى إلى سرير نومه كما لو أنه يتناول‬
‫َّ‬ ‫ابنته‪ ،‬وبعد أن‬
‫انطباعا بأنه أكله‪،‬‬
‫ً‬ ‫وجبة‪ ،‬وطرد عبيده‪ ،‬وألقى ببعض الطعام من النافذة ليخلق‬
‫وغاب عن العشاء‪ ،‬وتظاهر بأن لديه ما يكفي من الطعام في غرفة نومه‪ ،‬وقد‬
‫فعل الشيء نفسه في اليومين الثاني والثالث‪ ،‬وفي اليوم الرابع خارت قواه‬
‫ِ‬
‫فعانقك وقال‪« :‬ابنتي العزيزة‪ ،‬هذا هو الشيء الوحيد‬ ‫البدنية واستسلم‪،‬‬
‫الذي أبقيتُه ِ‬
‫لك من حياتى كلها‪ ،‬لقد بدأت الرحلة نحو الموت‪ ،‬وأنا اآلن‬
‫في منتصف الطريق‪ ،‬وال تطلبي مني العودة»‪ ،‬ومن ثم مكث النهار بطوله في‬
‫غرغة الموت‪ ،‬ودفن نفسه في الظالم‪.‬‬
‫‪ 7-22‬وعندما ُعرفت نواياه‪ ،‬عمت الفرحة؛ ألن الفريسة انتُزعت من َّ‬
‫فكي ذئب‬
‫جشع‪ ،‬وذهب المهمشون في دعوة سيجانوس إلى محكمة القناصل‪،‬‬
‫واشتكوا بأن كوردوس قد مات‪ ،‬ولذا قد ُيدخلون فيما أجبروه على عمله‪،‬‬
‫وح ًّقا كانوا يشعرون أن كوردوس يهرب منهم‪ ،‬وكانت القضية المحورية في‬
‫عم إذا كان قد فقد المدعي الحق في الموت‪ ،‬وحين جرى‬
‫جلسة االستماع‪َّ ،‬‬
‫هذا النقاش‪ ،‬جاء المهمشون للمحكمة للمرة الثانية‪ ،‬وحصل على براءته‪.‬‬

‫‪ 8-22‬هل ترين يا ماركيا التقلبات التي تهددنا بشكل غير متوقع في أزمنة بائسة؟ هل‬
‫ِ‬
‫أسرتك ُتوفي؟ إنه فقد الحق في عمل هذا تقري ًبا‪.‬‬ ‫تنوحين؛ ألن أحد أفراد‬

‫‪ 1-23‬وبصرف النظر عن حقيقة أن المستقبل برمته غير يقيني‪ ،‬إال أنه يقينا يزداد‬
‫توا من المجتمع البشري لديها أيسر رحلة‬
‫سوءا‪ ،‬والعقول التي تحررت ًّ‬
‫ً‬
‫للعالم العلوي؛ أن يسحبوا معهم قليل دنس ومتاع‪ ،‬وأن يتحرروا قبل أن‬
‫يصابوا بفرط العواطف ويتأثروا باألمور الدنيوية‪ ،‬إنهم يطيرون بخفة عودة‬
‫إلى مكانهم األصلي‪ ،‬ويغسلون بيسر أثر الرجس والسخام‪.‬‬

‫‪ 2-23‬وال تفرح العقول العظيمة دو ًما في الجسد‪ ،‬إنها تتطلع للرحيل عنه وتحطيمه‪،‬‬
‫وبدنو‬
‫ٍّ‬ ‫ويمتعضون من هذه القيود؛ ألنهم يستعملونها بسمو للتجوال في العالم‬
‫‪79‬‬
‫في األمور البشرية‪ ،‬وهذا هو األساس لما يقوله أفالطون(‪ :((8‬إن عقل الحكيم‬
‫موجه بكليته نحو الموت‪ ،‬وهذا ما يرغب فيه وما يفكر فيه‪ ،‬إنه مدفوع دو ًما‬
‫بالرغبة الساعية نحو المتعالي‪.‬‬

‫‪ 3-23‬أخبرينى يا ماركيا‪ ،‬حين رأيت في هذا الشاب حكمة الشيخ‪ ،‬والعقل الذي‬
‫طامحا‬
‫ً‬ ‫ومتحررا من الخلل‪،‬‬
‫ً‬ ‫يتغلب على صنوف المتع الشتى‪ ،‬وال يعيبه عيب‪،‬‬
‫ِ‬
‫فكرت أنه‬ ‫للثروة دون جشع‪ ،‬وللشرف دون أنانية‪ ،‬وللمتعة دون إفراط‪ ،‬هل‬
‫سوف يتمتع بكل هذا دون أن يصيبه اللمم على الدوام؟ إن ما يصل إلى َأ ْو ِج ِه‬
‫تقترب نهايته‪ ،‬وتهرب فضيلة كماله من نظرنا وتنمحي؛ فاألشياء التي تنضج‬
‫باكرا ال تبقى حتى نهاية الموسم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 4-23‬وإشراق النار المضيء يخرجه السرعة‪ ،‬فقد يحيا طويلاً حين يناضل احترا ًقا‬
‫ووامض في الظلمة‪ ،‬والمصدر الذي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ومغلف بالدخان‬ ‫بطيئًا بوقود صلب‬
‫ُيغذيه على مضض يأتي بنهايته‪ ،‬وبالطريقة نفسها كلما زاد سطوع عقل البشر‬
‫قصرت حياته؛ ألنه ال مجال للنمو ودنو الضعف‪.‬‬
‫‪ 5-23‬يقول فابينوس ‪- ((8( Fabianus‬وهذا ما رآه والداه ً‬
‫أيضا‪ ،‬إنه كان في روما‬
‫صبيا بلياقة رجل كامل‪ ،‬ولكن سرعان ما توفي‪ ،‬وقد توقع ذوو العقل أن موته‬
‫ًّ‬
‫مبكرا‪ ،‬وكيف‬
‫ً‬ ‫قد يكون عاجلاً ؛ ألنه ال يمكن أن يعيش ألجل وقد توقع موته‬
‫كان هذا؟ فاالنتكاس داللة على زوال محدق‪ ،‬وتبلد كل قوى النمو اقتراب‬
‫للنهاية‪.‬‬
‫ِ‬
‫شرعت في تقييمه في حدود فضائله ال سنينه‪ ،‬فإنه عاش بما يكفي‪ ،‬لقد‬ ‫‪ 1-24‬وإن‬
‫جناحا لرعاية اليتامى حتى سن الرابعة عشرة وكان تحت وصاية والدته‪،‬‬‫ً‬ ‫ترك‬
‫ِ‬
‫يغادرك‪ ،‬وكان ال يزال يعيش مع والدته في‬ ‫ورغم أنه كان له منزل‪ ،‬إال أنه لم‬

‫‪(86) Phaedo 64a, 67d.‬‬


‫(‪ ((8‬كان فابينوس ‪ Papirius Fabianus‬خطيبا وفيلسوفا في الفترة االستعمارية المبكرة‪ ،‬وأثر في سينيكا بعمق‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫سن يعيش فيه األطفال مع آبائهم‪ ،‬فقوامه وظهوره الحسن وقواه البدنية القوية‬
‫ٍّ‬
‫جعلت منه شا ًّبا مولو ًّد للخدمة العسكرية‪ ،‬ولكنه رفض دخول الجيش حتى‬
‫ِ‬
‫يتركك‪.‬‬ ‫ال‬

‫نادرا األمهات الالئي يعشن في بيوت منفصلة بال‬


‫‪ 2-24‬وتدبري يا ماركيا كيف ترين ً‬
‫أطفالهن‪ ،‬وتأملي كيف تفقد األمهات أبناءهن في الجيش لسنين طوال وهي‬
‫ِ‬
‫بصرك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ممتدة‪ ،‬ولم يغب عن‬ ‫ٍ‬
‫لفترة‬ ‫قلقة عليهم‪ ،‬وستدركين ِ‬
‫أنك لم تفقديه‬
‫ِ‬
‫رعايتك تطورت ممارساته العقلية لموهبته البارزة التي تتشابه مع‬ ‫وتحت‬
‫جده‪ ،‬ولم يثبطه التواضع الذي يجعل إنجازات كثير من الناس غامضة‪.‬‬
‫‪ 3-24‬وهو كشاب بمظهر وسيم على نحو استثنائي طوقته النساء بالمغازلة لم ِ‬
‫يعط‬
‫إحداهن ما تصبو إليه‪ ،‬وحين تضيق عليه إحداهن في المغازلة كان يحمر‬
‫َّ‬
‫وجهه حمرة الخطأ‪ ،‬إنه كان يجذبهن‪ ،‬وطهارة هذه الشخصية كانت تستحق‬
‫دعما ألمه‪ ،‬ولكن لم يكن‬
‫صغيرا‪ ،‬ومما ال ريب فيه كان ً‬
‫ً‬ ‫الكهنوت منذ كان‬
‫ألمه أثر كبير إال في دعمه لمنصب حسن‪.‬‬
‫ِ‬
‫لديك مزيد‬ ‫‪ 4-24‬وحين تتأملين هذه الفضائل‪ ،‬تشبثي في عناق ِ‬
‫ابنك كما ِ‬
‫كنت‪ ،‬اآلن‬
‫من الوقت له‪ ،‬وال شيء يستدعيه بعيدً ا‪ ،‬ولن يسبب ِ‬
‫لك قل ًقا وال حز ًنا مطل ًقا‪،‬‬
‫لديك نوع واحد من الحزن قد سببه ِ‬
‫لك هذا االبن الحسن‪ ،‬فإن‬ ‫ِ‬ ‫وإن كان‬
‫المستقبل خال من قبضات الفرص ومليء بالسرور‪ ،‬بشرط أن تعرفي كيف‬
‫نفعا له‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بولدك‪ ،‬وبشرط أن تفهمي ما األعظم ً‬ ‫تتمتعين‬
‫ِ‬
‫البنك الذي مات‪ ،‬والشبه لم يكن قري ًبا‪ ،‬فهو ذاته أبدي‪،‬‬ ‫‪ 5-24‬إنها مجرد صورة‬
‫وهو اآلن في حالة ُفضلى مجردة من متاع الظاهر‪ ،‬وهو يخلو بنفسه فحسب‪،‬‬
‫فما ترينه يغلفنا من عظام وعضالت وغطاء الجلد والوجه وأيدينا واألشياء‬
‫التي نعرج عليها‪ ،‬هي لعقولنا قيود وظالم‪ ،‬ويختنق العقل بها و ُيسمم‪ ،‬وهو‬
‫تبتره عن ما هو حق‪ ،‬وعن ما يتبعه ح ًّقا‪ ،‬فينغمس فيما هو باطل‪ ،‬إنه في صراع‬
‫‪81‬‬
‫أبدي مع هذا اللحم المرهق‪ ،‬لينقذ نفسه من أن ينسحب إلى الوراء والغرق‪،‬‬
‫إنه يناضل صوب المكان الذي ُنفي منه‪ ،‬وينتظره البقاء األبدي‪ ،‬وسوف يرى‬
‫هناك الطهارة واإلشراق بدلاً من الفوضى والكآبة‪.‬‬
‫‪ 1-25‬وليس هناك سبب يدفعك إلى قبر ِ‬
‫ابنك‪ ،‬الذي يرقد فيه فتاته التالف الذي سبب‬
‫له متاعب جمة‪ ،‬لم يبق من عظامه إال رماد‪ ،‬وال األشياء األخرى التي كانت تمأل‬
‫مالبسه‪ ،‬لقد غادره كل شيء‪ ،‬ولم يترك له شيء على األرض‪ ،‬الكل رحل عنه‬
‫بعد أن بقي معه لفترة وجيزة وهو يتطهر منه ويتخلص من آثامه المتبقية وكل‬
‫قشور الحياة الفانية‪ ،‬ومن ثم صعد لألعالي‪ ،‬وعجل ليلحق بالنفوس المباركة‪.‬‬

‫‪ 2-25‬يا ماركيا‪ ،‬لقد رحب به الملكوت المقدس من قبل سكيبوس وكاتو‪ ،‬ومن‬
‫ِ‬
‫والدك فيهم‪،‬‬ ‫بينهم الذين احتقروا الدنيا وتحرروا بفضل الموت الذي حققه‬
‫الذي يأخذ حفيده اآلن تحت جناحه‪ ،‬وهو ف ِر ٌح بنور غير مألوف‪ ،‬وهو يعلمه‬
‫مسارات النجوم المجاورة‪ ،‬تسعده بدايات أسرار الطبيعة هناك‪ ،‬وال يعتمد‬
‫على فرضيات‪ ،‬بل على تجربته ٍّ‬
‫لكل ما هو ح ًّقا‪ ،‬وهو كزائر يمتن ليحصل‬
‫على دليل لهذه المدينة غير المألوفة‪ ،‬ولذا كل حرصه فهم أسباب األحداث‬
‫السماوية‪ ،‬وقد يمتن أن يكون له أحد من عائلته يفسر له األشياء‪ ،‬وهو ال يوجه‬
‫نظره لألرض إال قليلاً ‪ ،‬فمن األفضل أن ينظر إلى األسفل من أعلى لما تركه‪.‬‬
‫ِ‬
‫وولدك تما ًما‪ ،‬وليس كما‬ ‫كنت ترين ِ‬
‫أباك‬ ‫ِ‬ ‫‪ 3-25‬ولذا يا ماركيا تصرفي كما لو‬
‫العلى‪ ،‬واشعري‬ ‫ِ‬
‫اعتدت أن تعرفيهم‪ ،‬بل كنبالء يعيشون في السماوات ُ‬
‫ِ‬
‫أقاربك الذين انتقلوا إلى مكان أفضل‪ ،‬إنهم ربحوا‬ ‫بالخجل من البكاء على‬
‫األبدية‪ ،‬وهاموا في ساحات أرحب‪ ،‬إنهم يصلون إلى كل شيء بيسر‪ ،‬فال‬
‫بحار متداخلة أو جبال شاهقة أو وديان غير مطروقة أو حواجز رملية ‪Syrtes‬‬
‫ضحلة تعيق سيرهم(‪ ،((8‬إنهم يتنقلون بسهولة ودون تقيد‪ ،‬إنهم في متناول‬

‫(‪ ((8‬الحواجز الرملية مناطق خطرة في البحر الضحل قبالة سواحل شمال إفريقيا‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫بعضهم البعض ويتخالطون بالنجوم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ولدك‬ ‫عليك‪ ،‬كما كان ِ‬
‫لك تأثير على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لوالدك تأثير‬ ‫‪ 1-26‬وتخيلي يا ماركيا أنه كان‬
‫وهو يتحدث من القلعة السماوية‪ ،‬وليس من البالغة أن يرثي الحروب األهلية‬
‫ويحرم المسؤولين عن هذه االنتهاكات لألبد‪ ،‬ولكن البيان يعلو على ذلك‬
‫كما أنه ذاته قد عال شأنه اآلن‪.‬‬

‫‪ 2-26‬ولماذا يا بنيتي تقبعين في هذا الحزن األبدي المديد؟ ولماذا تواصلين في‬
‫ِ‬
‫بابنك بظلم؛ ألنه مضى ليلتحق بأسالفه‬ ‫ِ‬
‫اعتقادك‬ ‫جهالة الحقيقة التي عاملت‬
‫ومكن له؟ هل ال تدركين بأي نصيب تهز‬
‫في آن رسخت فيه ظروف عائلته‪ُ ،‬‬
‫العواصف كل شيء؟‪ ،‬وكيف ال تتعامل مع أحد بود وتسامح باستثناء َمن‬
‫ِ‬
‫أعطيك أسماء الملوك الذين قد غمرتهم‬ ‫لديهم قدرة للتعامل معها؟ هل‬
‫السعادة حيث انتشلهم الموت عاجلاً من األمراض التي داهمتهم؟ أو أسماء‬
‫ِ‬
‫طرحت قليلاً من حياتهم؟ أو‬ ‫القادة الرومان الذين لم ُتنتقص عظمتهم‪ ،‬إذا‬
‫أسماء أعظم وأنبل الرجال الذين انتظروا بثبات ضربة سيف الجندي على‬
‫رقابهم الصامدة؟‬
‫ِ‬
‫وجدك‪ ،‬إنه وقع في براثن قاتل أجنبي(‪ ،((8‬لم أدع ألحد‬ ‫ِ‬
‫والدك‬ ‫‪ 3-26‬انظري إلى‬
‫علي سلط ًة‪ ،‬وحرمت نفسي من الطعام‪ ،‬وأظهرت أن شجاعة كتابتي تعكس‬
‫َّ‬
‫جرأة معيشتي‪ ،‬ولماذا َمن يموت في عائلتنا ينال ًّ‬
‫حظا أوفر من النحيب عليه؟‬
‫كلنا واحد‪ ،‬وال يطول ما يحيطنا ليل عميق مديد‪ ،‬وال شيء في عالمك كما‬
‫تفرضين وترغبىن‪ ،‬وال شيء مهيب وال مجيد‪ ،‬وكل شيء رديء وجائر‬
‫ومقلق‪ ،‬وهو وعي ضئيل بالنور الذي نتمتع به!‬
‫‪ 4-26‬هل تحتاجين أن أقول ِ‬
‫لك‪ :‬هنا الجيوش ال تحنق على الجيوش وال تحطم‬

‫(‪ ((8‬ال نعلم شيئًا عن جد ماركيا‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫األساطيل األساطيل‪ ،‬وال يخطط قتلة العائلة أو حتى يتدبرون‪ ،‬وال تطن‬
‫األسواق بالقضايا في المحاكم يو ًما بعد يوم؟ وهل تحتاجين أن أقول ِ‬
‫لك‪:‬‬
‫سرا‪ ،‬وترقد العقول عارية‪ ،‬والقلوب شفافة‪ ،‬وتمضي الحياة في‬
‫ال شيء يبقى ًّ‬
‫مرئيا يسير جن ًبا مع األحداث القادمة؟‬
‫العلن والعراء‪ ،‬وكل التاريخ ًّ‬
‫منفتحا في الجزء البعيد‬
‫ً‬ ‫اكتسبت المتعة من الكتابة عن أعمال جيل واحد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪ 5-26‬‬
‫للكون وبين قلة من الناس‪ ،‬ولكن اآلن من الممكن أن تري عديدً ا من األجيال‬
‫وتبادل وتعاقب سنين عدة خالل الزمن برمته‪ ،‬ومن الممكن أن ننظر إلى‬
‫نهوض وانحدار الممالك وانهيار المدن العظمى‪ ،‬واالنتهاك الجديد الذي‬
‫يحدثه البحر‪.‬‬
‫ِ‬
‫فجيعتك‪ ،‬فاعلمي أنه ال شيء يبقى واق ًفا حيث‬ ‫‪ 6-26‬إن كانت كلية القدر عو ًنا ِ‬
‫لك في‬
‫يقف اآلن‪ ،‬فالشيخوخة سوف تسقط كل شيء وتكسحه بعيدً ا‪ ،‬وهي ال تتالعب‬
‫بالبشر فحسب‪ ،‬بل باألماكن وبالبلدان وبأقسام العالم كلها‪ ،‬إنها ُتسطح الجبال‬
‫كلها‪ ،‬وتزج في أماكن أخرى جرو ًفا جديدة‪ ،‬وتبتلع البحار‪ ،‬وتحول األنهار‪،‬‬
‫وتعطل االتصال بين األمم‪ ،‬وتمحو الترابط والتماسك بين جنس البشر‪ ،‬و ُتخفي‬
‫المدن في هوات عميقة‪ ،‬وتهزها بالزالزل‪ ،‬وترسل الهواء محملاً بالطاعون من‬
‫نفخ عميق‪ ،‬وتغمر السكان بالفيضانات‪ ،‬وتقتل كل مخلوق حي‪ ،‬كما تغرقه‬
‫بالماء‪ ،‬وتحرق و ُتشيط كل ما هو بشري في نيران ضخمة‪ ،‬وعندما يحين الزمن‬
‫للعالم ليطفئَها تجدد نفسها‪ ،‬كل شيء سوف يحطم ذاته بقوتها‪ ،‬فالنجوم سوف‬
‫تصطدم بالنجوم‪ ،‬وسوف تستعر المواد كلها‪ ،‬واألجسام تسطع اآلن في احتراق‬
‫منظم سوف يحرقها كلها في نار واحدة‪.‬‬

‫‪ 7-26‬ونحن نفوس مباركة موجهة نحو األبدية حين يقرر الرب إعادة خلق العالم‪،‬‬
‫كما ينهار أي شيء آخر‪ ،‬وسوف نكون الحق ًة ضئيل ًة للتدمير بجملته‪ ،‬وسوف‬
‫نعود إلى عناصرنا األصلية‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫عزاء �إلى هلفيا‬

‫‪85‬‬
86
‫مقدمة‬
‫يجاهد سينيكا في هذه الرسالة لتخفيف حزن أمه على معاقبته بالنفي إلى كورسيكا‬
‫عام ‪41‬م على ما يبدو بتهمة الزنا مع جوليا ليفيال أخت اإلمبراطور جايوس (‪cf. Dio‬‬
‫‪ ،)60.8.5‬وقد يرجع تاريخ الرسالة إلى عام ‪ 43-42‬م‪ ،‬والجدة المتناقضة التي يقدمها‬
‫طابعا بعينه لهذا التنوع السينكي من التراث‬
‫الرثاء تبعث األسى وتريح َمن يعزيه‪ ،‬وتعطي ً‬
‫العزائي القديم‪ ،‬وعزاء المنفى لسينيكا من النماذج التي بقيت في اليونانية سواء بقيت‬
‫جزئيا ومنها الرواقي موسونيوس روفوس (‪100 -30‬م)‪ ،‬وديو كريسوستوم‬
‫ًّ‬ ‫بكليتها أو‬
‫‪ Dio Chrysostom‬تلميذ موسونيوس‪ ،‬وبلوتـارخ وفافورينوس ‪Favorinus (ca.‬‬
‫)‪ ، 85–155 ce‬والمعروف في التراث الرواقي أن االستبعاد من الوطن ال يمثل عندهم‬
‫مشقة؛ ألنهم مواطنو العالم‪ ،‬فالمنفيون ال يحرمون الحق من وطنهم‪ ،‬بل من المدينة‬
‫التي ُمنحت لهم كما يقول موسونيوس روفوس في الفصل الذي عنونه (المنفى ليس‬
‫شرا) ‪ ،p. 42.1–6 Hense‬ويحث سينيكا نفسه في موضع آخر (‪ )Letters 28.4‬قائلاً ‪:‬‬ ‫ًّ‬
‫ٍ‬
‫لركن بعينه في العالم‪ ،‬فالعالم بأسره وطني”‪.‬‬ ‫“إنني أعيش في اعتقاد هو أنني لم ُأولد‬
‫ويستحضر سينيكا هذا الموروث في عزائه إلى هلفيا‪“ :‬وأينما نمضي ستتبعنا‬
‫خصلتي الطبيعة العالمية والفضيلة الفردية”(‪ ،)2.8‬وهو يبني على هذا المحور‬
‫‪87‬‬
‫وضوحا في التراث اليوناني‪ ،‬وإن كان‬
‫ً‬ ‫الجوهري تحليل حالة النفي من منظور أقل‬
‫محلي بل في العالم بأسره‪ ،‬وإذا كان العقل يوجه بعيدً ا عن‬
‫ٍّ‬ ‫وجودنا ال يرتكز في مكان‬
‫األمور الدنيوية الضيقة ليرتبط بدلاً منها بشساعة العالم‪ ،‬فإن فكرة النفي تحمل نوعا‬
‫في من الدولة المحلية أم من ُغرب عنها أم‬
‫من التناقض‪ ،‬فمن المنفي ح ًّقا؟ أهو َمن ُن َ‬
‫عمي عن الدعاوى األسمى للمواطنة الكونية؟ وعلى هذه المقاربة الرمزية يجسد نفي‬
‫نوعا من العودة إلى الوطن‪ ،‬وفي مختتم الرسالة يرتفع برؤية‬
‫سينيكا في هذا العزاء ً‬
‫جاذبة من المستوى األرضي بال قيود متصاعدة إلى السموات العلى‪ ،‬حيث ُيحلق‬
‫مؤخرا “في مشهد بهيج لألشياء اإللهية” (‪ ،)2-20‬إن سينيكا يصل بعيدا عن مجرد‬
‫ً‬
‫المالحظة المثيرة إلبهاج هلفيا في العزاء‪ ،‬فإن التحليق بعقلة تجاوز الرحلة عن منفاه‬
‫وعن األوحال اليومية واالضطرابات التي يربطها باغترابنا عن النظرة الكونية‪ ،‬فالحكيم‬
‫َمن ُيبقي على مسافته من الحشد وعوامل الجذب والمغريات الظاهرية (‪ ،)1-5‬وهذا‬
‫نفي رمزي من القيم اليومية‪ ،‬في حين تنفصل الجماهير عما يتصوره سينيكا كظروف‬
‫مناسبة لميالدنا (فنحن ولدنا في ظروف مناسبة إذا لم ُنعزل عنها ‪ ،)1.5‬والشراهة التي‬
‫تعبيرا متطر ًفا‬
‫ً‬ ‫تتوق لمزيد من الغذاء الغريب من مناطق العالم النائية ‪ 11-2-10‬تعطي‬
‫لهذه القطيعة‪ ،‬وتغترب بيأس من الحياة البسيطة في وفاقها مع الطبيعة‪ ،‬ويؤكد سينيكا‬
‫من ماضي روما أن الفساد الحاضر المتجذر فيها يجعلها مغتربة ‪ ،7-5-12‬ويقارن ما‬
‫يتصوره بالرذائل باألنثوية التي يقترفها الروماني بشكل معتاد في يومه ‪ ،5-3-16‬إن‬
‫هلفيا هي نفي حق ألنواع االنحطاط المعاصر‪ ،‬وزيادة عن رفقتها في المنزل ألصحاب‬
‫المناصب الجمهورية مثل كورنيليا أم جراشي ‪.6-16‬‬
‫واسعا من فلسفة األدب‬
‫ً‬ ‫وبهذه الطرق المتنوعة يقدم سينيكا في عزائه لهلفيا مجالاً‬
‫بأساليب ودالالت وروايات مختلفة الغتراب المنفى‪ ،‬ولم يكن موضوعه عن منفاه‬
‫بقدر ما هو عن حال المنفي ذاته سواء في أدبه أو رمزيته‪ ،‬وربما قد تجد هلفيا راحة‬
‫وافرة من دعم عائلتها لها لفقدها سينيكا في المنفى ‪ ،19.7-18.2‬ولكن تظهر‬
‫‪88‬‬
‫مصدرا للعزاء األعظم ‪ ،17.3-5‬ومن ثم االعتماد على الذات الذي غرسه‬
‫ً‬ ‫الفلسفة‬
‫إيحاء ُيوسع القضية بشكل مثير في‬
‫ً‬ ‫في ذهنها بفصلها عن الضعف للظرف الخارجي‬
‫اتجاه آخر راسخ‪ ،‬برز فيه انسحاب النفس كمنفى باطني‪ ،‬وقد تمتد الرعاية التي ُقدمت‬
‫إلى هلفيا لالعتماد على الذات بدورها إلى صلة رسالة سينيكا بحزن أمه إلى وصفه‬
‫لطريقة حياة وطريقة منسوخة ألي قارئ في ضائقة مماثلة‪ ،‬وال يمثل عزاؤه إلى هلفيا‬
‫ٍ‬
‫جانب من برنامج‬ ‫حالة خاصة بها في أعماله الفلسفية‪ ،‬بل يرقى إلى مرحلة أخرى‪ ،‬أو‬
‫عالجي يستعرض جسده النثري بشكل تراكمي‪.‬‬
‫وإضافة لنقده لطبيعة النفي ذاته‪ ،‬فإن روما ذاتها تتصف بأنها مدينة مكتظة بالمنفيين‪،‬‬
‫ومكان قامت هويته على النزوح‪ ،‬حيث كانت روما متورطة بوضوح في االستعراض‬
‫المتنقل في الفصل السابع للمشردين عبر العصور والمدن الموجودة باالستعمار‬
‫والهجرة والسلطة الرومانية‪ ،‬ومع الرومان كانوا ال مثيل لهم وكلي الوجود ونفوذهم في‬
‫اتجاه واحد‪“ ،‬فأينما غزا الرومان‪ ،‬استقروا” ‪ ،7-7‬وهم تطبعوا بدمج خصالهم بأنماط‬
‫التجربة المترامية للتجربة اإلنسانية– وجانب العزاء الذي يستنطق دعائم تأكيد الذات‬
‫الرومانية بافتراض “كونها رومانية” ليس بضاعة ثابتة بل عملية تنا ٍم أو حالة تفاوض‬
‫في عالم متقلب‪ .‬وال تعمل وجه النظر الكونية على تخفيف الصدمة على المستوى‬
‫الشخصي فحسب بتحديد السلطة الرومانية ضمن رؤية شاملة لتطور اإلنسان واالنتقال‬
‫عبر الزمن‪ ،‬فإن سينيكا يؤكد على شكل من أشكال االنفصال عن السلطة ذاتها التي نفته‬
‫في المقام األول‪ ،‬فيمكن التحكم في المرء والسيطرة عليه بمرسوم إمبراطوري‪ ،‬إلاَّ أن‬
‫سينيكا ارتفع عن هذا القيد والضعف في روما في عهد كالوديوس في األربعينيات‬
‫بممارسة المواطنة األولية في الكل الكوني‪ .‬والنتيجة النهائية المتناقضة هي أن المنفى‬
‫مكنه بعقابه‪ ،‬وحرره كما لو كان اإلطالق الكوني في العزاء إلى هليفيا يرى فيه مكان‬
‫روما في العالم من جديد‪.‬‬

‫‪89‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Fantham, E. 2007. “Dialogues of Displacement: Seneca’s

Consolations to Helvia and Polybius.” In Writing Exile: The Discourse

of Displacement in Greco-Roman Antiquity and Beyond, ed. J. F.

Gaertner (Leiden: Brill), 173–92.

Williams, G. D. 2006. “States of Exile, States of Mind: Paradox and

Reversal in Seneca’s Consolatio ad Heluiam.” In Seeing Seneca

Whole: Perspectives on Philosophy, Poetry and Politics, ed. K. Volk

and G. D. Williams, Columbia Studies in the Classical Tradition

(Leiden: Brill), 147–73.

90
‫كبحت‬
‫ُ‬ ‫وكثيرا ما‬
‫ً‬ ‫استشعرت الرغبة في أن أرسل ِ‬
‫إليك عزاء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا ما‬
‫يا أعز أم‪ً ،‬‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫هذا‪ ،‬واالعتبارات التي دفعتني ألجرؤ على المحاولة كانت عدة‪ ،‬أولها أني‬
‫ٍ‬
‫وجيزة حتى‬ ‫ٍ‬
‫لفينة‬ ‫ِ‬
‫دموعك‬ ‫تخيلت أنني سوف أطرح متاعبي جان ًبا حين أمسح‬
‫قوتك فسوف‬ ‫ِ‬ ‫استنهضت‬
‫ُ‬ ‫لو لم أتمكن من ك ِّفها تما ًما‪ :‬وثانيها تيقنت أنني إذا‬
‫ِ‬
‫يقهرك الحظ من جانبي وهو يخضع عزيزً ا لي‪،‬‬ ‫وخشيت أن‬
‫ُ‬ ‫تنتشى قدرتي‪،‬‬
‫وضعت يدي على جرحي الغائر‪ ،‬محاولاً بقدر ما أستطيع أن أزحف‬
‫ُ‬ ‫وكذلك‬
‫قد ًما نحو ضمادة جروحك‪.‬‬
‫ِ‬
‫حزنك‬ ‫ومن جانب آخر هناك أسباب قد أجلت ما أصبو إليه‪ ،‬وأدركت أن‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫متوهج في مهده‪ ،‬والعزاء ذاته يلهبه ويفاقمه‪ ،‬واألمراض على‬
‫ٌ‬ ‫ال ُيجابه وهو‬
‫انتظرت‬
‫ُ‬ ‫الشاكلة نفسها ال يزيد التهابها إال بالمداواة على عجل(‪ ،((9‬وكذلك‬
‫ِ‬
‫حزنك من ذاته‪ ،‬ويلطفه الزمن ليداويه ويخضعه‪ ،‬ويسمح من‬ ‫حتى يهدأ وهج‬
‫ذاته بلمسه ومسه‪ ،‬ورغم أنني قرأت كل األعمال التي أ َّلفها كتاب مرموقون‬
‫ٍ‬
‫المرئ قد رثى أقاربه‪،‬‬ ‫بهدف السيطرة والحد من الحزن‪ ،‬إلاَّ أنني لم أجد مثالاً‬
‫وخشيت أن يكون جهدي‬
‫ُ‬ ‫ترددت‬
‫ُ‬ ‫في حين كان هو موضوع رثائهم‪ ،‬ولهذا‬
‫عزاء بل ُم َفا َق َمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ليس‬

‫ناضرا” (‪cf. Cicero Tusculan‬‬


‫ً‬ ‫(‪ ((9‬تمشيا مع تفضيل خريسبوس في عدم تطبيق المعالجة في حين “ال يزال تورم العقل‬
‫‪.)Disputations 4.63‬‬

‫‪91‬‬
‫وإلى جانب ذلك‪ ،‬فإن الشخص الذي رفع رأسه من ركام الدفن ليواسي قري ًبا‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫له يحتاج إلى كلمات مختلفة ال تستمد من عزاء يومي مألوف‪ ،‬ولكن كل‬
‫حزن متجاوز في الحجم يمحو بالضرورة قدرتنا الختيار الكلمات‪ ،‬وغال ًبا ما‬
‫يخنق الصوت ذاته‪.‬‬

‫في أي حال سأكون حسنًا بقدر ما أستطيع‪ ،‬وليس ثقة في قدراتي‪ ،‬بل‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫عزاء ناجزً ا لكوني ُم َعز ًيا‪ ،‬وال ترفضي مني شيئًا‪ ،‬وكذلك‬
‫ً‬ ‫بمقدوري أن أقدم‬
‫أتمنى ألاَّ ترفضي مني هذا الغيض‪ ،‬فالحزن ال ينضب دو ًما‪ ،‬فاقبلي مني وضع‬
‫حد لشعورك بالفقد‪.‬‬
‫ِ‬
‫بحبك لي‪ ،‬وأنا ال أشك بأنني سوف أؤثر على‬ ‫واعدت نفسي‬
‫ُ‬ ‫وانظري كيف‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫ِ‬
‫حزنك رغم أنه ال يوجد شيء له قدرة على البؤس‪ ،‬وحتى ال أنخرط‬ ‫إرادة‬
‫في معركة معها على الفور‪ ،‬فسوف آخذ جانبها وأقوم على تشجيع نموها‪،‬‬
‫وأسوف ُأعري وأفتح كل الجروح التي اندملت بالفعل‪.‬‬

‫واالعتراض الذي سيكون‪« ،‬أي نوع للعزاء وهو أن تستدعي البلية المنسية‪،‬‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫وأن تضع العقل في مرأى من كل شقاوته وهو بالكاد يتحمل واحدة منها؟»‪،‬‬
‫ودعه يعكس االعتراض‪ ،‬فمهما كانت األمراض المهلكة تستجمع القوة ضد‬
‫مداواتها يمكن أن ُتعامل بطرائق معاكسة‪ ،‬وكذلك سوف أقف أمام العقل‬
‫للكى‬
‫ِّ‬ ‫بكل أحزانه ومآسيه‪ ،‬ولن يكون هذا لتطبيق نهج لين للشفاء‪ ،‬ولكن‬
‫واالستئصال‪ ،‬فما الذي بمقدوري تحقيقه؟ وإن العقل الذي تغلب على مآسي‬
‫شتى يخجل من أن ُيكرب من جرح على البدن يشبه الندبة‪.‬‬

‫ودع أولئك الذين يضعف طول الرخاء عقولهم المدللة يواصلون النحيب والرثاء‪،‬‬ ‫‪ 3-2‬‬
‫ودعهم يخرون باهتين في اضطراب ينجم عن أبسط ضرر‪ ،‬ولكن دع الذين قضوا‬
‫سنينهم في سلسلة من الكوارث يتحملون حتى الضربات الثقيلة بعزم وصمود‪،‬‬
‫فمنفعة المرء من المصيبة المتواصلة هي أنها ُتقوي َمن تصيبهم دو ًما‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫ِ‬
‫يمنحك الحظ راح ًة من الضربات الثقيلة‪ ،‬ولم يستثن حتى يوم ميالدك‪،‬‬ ‫لم‬ ‫‪ 4-2‬‬
‫ِ‬
‫ودخلت الحياة‬ ‫ِ‬
‫والدتك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والدتك‪ ،‬وبالحري أثناء‬ ‫فقدت ِ‬
‫أمك بمجرد‬ ‫ِ‬ ‫حيث‬
‫وربتك زوجة ِ‬
‫أبيك التي أظهرت االمتثال والتفاني كله الذي يمكن‬ ‫ِ‬ ‫بال أم‪،‬‬
‫أن ُيلحظ حتى في االبنة‪ ،‬وجعلتِها أ ًّما فعلي ًة رغم أن زوجة األب حتى لو‬
‫ِ‬
‫وأنت تترقبين‬ ‫ِ‬
‫عمك‬ ‫ِ‬
‫وفقدت‬ ‫كانت صالح ًة تأتي بتكلفة وخيمة على أي طفل‪،‬‬
‫وصوله وهو من أرق وألطف وأعظم الرجال شجاع ًة‪ ،‬ولم يخفف الحظ من‬
‫ِ‬
‫وأنت أم لثالثة أبناء‬ ‫زوج في نفس الشهر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫دفنت أعز‬ ‫قساوة ضرباته حيث‬
‫منه(‪.((9‬‬
‫ِ‬
‫أطفالك في مكان آخر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأنت حزينة بالفعل‪ ،‬وكان‬ ‫ِ‬
‫ووصلك خبر هذه الضربة‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫ِ‬
‫حزنك مكا ًنا‬ ‫ِ‬
‫تتعمدك في هذه الفترة‪ ،‬ولذلك لم يجد‬ ‫كما لو كانت المصائب‬
‫ِ‬
‫هاجمتك بال‬ ‫ِ‬
‫مررت بمهالك عدة ومخاوف شتى كتلك التي‬ ‫للسلوى‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬
‫أرسلت فيه‬ ‫ِ‬
‫واستعدت عظام ثالثة أحفاد(‪ ((9‬في الحضن نفسه الذي‬ ‫توقف‪،‬‬
‫ِ‬
‫ذراعيك أنت‬ ‫ِ‬
‫لولدك‪ ،‬الذي ُتوفي بين‬ ‫الثالثة في أقل من عشرين يو ًما من دفنك‬
‫ِ‬
‫وسمعت أنني انتزعته بعيدً ا(‪ ،((9‬وهذا فحسب ما كنت تحتاجين له‬ ‫تقبلينه‪،‬‬
‫من قبل‪.‬‬
‫ِ‬
‫جسدك هذا األخير‪ ،‬وأعترف أشدها ضراوة؛‬ ‫ومن بين الجروح التي اخترقت‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫ِ‬
‫صدرك واألعضاء الداخلية‬ ‫ألنه لم يشق الجلد فحسب‪ ،‬بل فصل طر ًفا من‬
‫العميقة‪ ،‬وكما أن المجندين الجدد يصرخون من جرح سطحي وترتعش‬
‫أيديهم أكثر من مسكها للسيف‪ ،‬في حين أن قدامى المحاربين لو جرحهم‬
‫مثقاب ال يتأوهون‪ ،‬ويتركون األمر ألجسادهم تطهره كما لو كان الجرح ليس‬

‫(‪ ((9‬أنجبت هلفيا لسينيكا األكبر بجانب سينيكا أخوين هما نوفاتوس ‪ Novatus‬وميال ‪ .Mela‬انظر هامش ‪.59‬‬
‫(‪ ((9‬هويتهم غير معروفة‪ ،‬ومن غير الواضح إن كان بينهم ابن سينيكا‪.‬‬
‫(‪ ((9‬وفي الالتينية ‪ Raptum‬خطفوني‪ ،‬كما لو كانت المعيشة في المنفى موتًا‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ِ‬
‫وعليك إذنْ أن ُتقبلي على المداوة بشجاعة‪.‬‬ ‫فيهم‪،‬‬

‫وبعيدً ا عن العويل والتفجع وبقية االضطرابات التي ترافق حزن المرأة عادة‪،‬‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫كثيرا من الحزن إذا لم تتعلمي كيف تكونين بائسة‪ ،‬ومدواتي ِ‬
‫لك‬ ‫ستهدرين ً‬
‫تبدو مترددة‪ ،‬أليس كذلك؟ وأنا ال أحجب ِ‬
‫عنك مصيبة واحدة‪ ،‬ولكني أكومها‬
‫كلها وأضعها أمامك‪.‬‬
‫ِ‬
‫حزنك‪ ،‬وليس‬ ‫لقد اتخذت هذا النهج الجريء؛ ألنني عازم على التغلب على‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫الحد منه‪ ،‬وسوف أهزمه‪ ،‬وأعتقد إذا تبين لي أولاً أنني ال أواجه شيئًا يسبب‬
‫بؤسا‪ ،‬أو أن يجعل أقاربي بائسين‪ ،‬ثان ًيا إذا تحولت ِ‬
‫إليك وبرهنت‬ ‫لي ما ُيسمى ً‬
‫علي وليس من الصعب تحمله‪.‬‬
‫أن الكثير الذي تحملينه برمته يعتمد َّ‬
‫وسوف أتعامل أولاً إرادتك وما تريدين بشغف أن تسمعيه‪ ،‬فإنني ال أشعر‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫استطعت فسأوضح ِ‬
‫لك تلك الظروف التي تعتقدين أنها ترديني‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بضائقة‪ ،‬وإذا‬
‫ٍ‬
‫معقول سأكون سعيدً ا مع‬ ‫ِ‬
‫وجدت أن هذا غير‬ ‫لألسفل يمكن تحملها‪ ،‬وإن‬
‫لممت بالظروف التي تجعل الناس بائسين عادة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نفسي على األقل؛ ألننى قد‬
‫ِ‬
‫ألحميك من المصيبة ال‬ ‫وما من حجة ِ‬
‫لك في أن تأخذي عني كالم اآلخرين‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫ِ‬
‫عينك ال يمكن أن أكون‬ ‫مستاء‪ ،‬وكي تقر‬
‫ً‬ ‫لست‬ ‫ِ‬
‫وأخبرتك أنني ُ‬ ‫ُيدرك ما تدبره‪،‬‬
‫مستاء‪.‬‬
‫ً‬
‫إننا نولد في ظروف قد تكون مناسبة إذا لم نتخل عنها‪ ،‬وال يحتاج نظام الطبيعة‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ بمقدوره أن يجعل نفسه‬ ‫إلى عدة ناجزة للعيش على وجه حسن‪ ،‬فكل‬
‫أثرا ضئيلاً في اتجاه‬
‫سعيدً ا‪ ،‬والخيرات الظاهرة أهميتها زهيدة‪ ،‬وتمارس ً‬
‫أو في آخر‪ ،‬فالحكيم ال يعبأ بالرفاهية وال ُيلقي بالاً للملمات؛ ألنه يسعى‬
‫لالعتماد على ذاته دو ًما‪ ،‬ويستمد سعادته من ذاته‪.‬‬

‫كنت أ َّدعي بقدر ما‪ ،‬فال أنكر‬


‫وهل أقول إنني حكيم؟ ال على اإلطالق! وإذا ُ‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫‪94‬‬
‫جلبت القرب‬
‫ُ‬ ‫أنني مستاء‪ ،‬بل أعلن أنني أوفر ًّ‬
‫حظا من كل جنس البشر‪ ،‬وأنني‬
‫من الرب‪ ،‬ولكن األمور على ما هي عليه‪ ،‬وضعت نفسي بين يدي حكيم‪،‬‬
‫وهذا كاف ليخفف عني كل ضائقة‪ ،‬فلست قو ًّيا بما يكفي لعون نفسي‪ ،‬وقد‬
‫يكون مالذي كوخ اآلخرين(‪ ،((9‬الذين يحمون أنفسهم وتابعيهم بسكون‪.‬‬

‫لقد أمروني أن أراقب باستمرار كجندي على الحراسة‪ ،‬وأن أستبق كل‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫محاولة لضربة الحظ وهجومها قبل أن تعصف‪ ،‬فالحظ يسقط بثقله على َمن‬
‫يباغتهم على نحو مفاجئ‪ ،‬وأما َمن يتحرص لهجومها فيقاومها بسهولة؛ ألن‬
‫نهج العدو يربك فحسب الذين ُيؤخذون على غرة‪ ،‬وأما الذين يعدون أنفسهم‬
‫لحرب وشيكة قبل اندالعها‪ ،‬فإنهم ينظمون ويجهزون لها‪ ،‬ويستوعبون‬
‫الضربة األولى بيسر وهي األشد عن ًفا‪.‬‬

‫علي بسخاء‬
‫لم أضع ثقتي في الحظ حتى حين يبدو سال ًما‪ ،‬وكل هذا يدر َّ‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫المال والمنصب المرموق والنفوذ‪ ،‬لقد تموضعت في مكان يمكنني أن‬
‫أستدعيهم دون أن يحدث لي اضطراب‪ ،‬واحتفظت بمسافة بيني وبينهم‪،‬‬
‫وكذلك أخذهم الحظ بعيدً ا عني‪ ،‬ولم يقشرهم بعيدً ا‪ ،‬وال أحد ُيكسر بمعاداة‬
‫الحظ إذا لم ُيخدع أولاً بفضله‪.‬‬

‫وأولئك الذين أحبوا عطاياها كما لو كانت أبدي ًة‪ ،‬والذين رغبوا في احترامها‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫ٍ‬
‫بحزن حين تتخلى مباهجها المتقلبة والزائفة عن عقولهم‬ ‫فيسجدون رياء‬
‫الصبيانية الفارغة‪ ،‬وهي متعجرفة كما لو كانت متعة أبدية‪ ،‬ولكن المرء الذي‬
‫ال ينتفخ بالرخاء ال يضعف حين تتغير األحوال‪ ،‬فقوة غايته مختبرة بالفعل‪،‬‬
‫مسالم في مواجهة الحال؛ ألنه في خضم الرخاء يختبر قوته‬
‫ٌ‬ ‫وعقله المعصوم‬
‫ليتغلب على السوء‪.‬‬

‫(‪ ((9‬المدرسة الرواقية‪ ،‬ولكن تهمة االنشقاق عنها واالنضمام للمعسكر المنافس وها األبيقورية‪ .‬انظر رسالة عن التفرغ ‪On‬‬
‫‪.Leisure 1.4‬‬

‫‪95‬‬
‫ولذلك ال أعتقد أن األشياء التي ُيصلي من أجلها الجميع فيها خير حق‪،‬‬ ‫‪ 6-5‬‬
‫ً‬
‫عرضا مزينًا بألوان جاذبة ولكن خادعة‪ ،‬وال شيء‬ ‫ناهيك عن أني وجدتها‬
‫فيها يشبه مظهرها الخارجي‪ ،‬وأسميها في أحوالي الحالية شقاء‪ ،‬وال أجد‬
‫شيئًا قد أخاف وأجار كما هددت هي باالعتقاد المتفشي‪ ،‬حيث يقع المعنى‬
‫الحقيقي للحرمان على األذن بقوة اآلن بسبب قناعة بعينها وشعور شائع‪ ،‬وإنه‬
‫يضرب السامعين مثل شيء بغيض قاتم‪ ،‬وهكذا قد تقضي الجماهير بأمر‪،‬‬
‫ولكن الحكماء يتجاهلون حكم الناس‪.‬‬

‫ولذلك تجاهل حكم األغلبية الذين يعبؤون بمظاهر األشياء مهما كان دافع‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫الثقة بها يتخلى عن اعتبار الحرمان أ ًّيا كان‪ ،‬وبالطبع تغير النطاق‪ ،‬حتى‬
‫أتجنب أي انطباع ُأضعف قوته وانمحت صفته األسوأ‪ ،‬وترافق عوائق بعينها‬
‫هذا التغير في المكان مثل الفقر والعار واالحتقار‪ ،‬وسوف أتناول هذه القضايا‬
‫في وقت الحق(‪ ،((9‬وفي الوقت نفسه فإن السؤال الذي أضعه في االعتبار‬
‫هو ما يتبع الضائقة في التغير الفعلي للنطاق‪.‬‬

‫«الحرمان من وطنك ال ُيطاق»‪ ،‬أسرع! وانظر على هذا الحشد الفسيح الذي‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫بالكاد تستوعبه مباني المدينة الضخمة مهما اتسعت‪ ،‬فمعظم هذه الحشد قد‬
‫معا من مدنهم ومستعمراتهم ومن العالم كله‪،‬‬
‫ينفصل عن وطنه‪ ،‬لقد تجمعوا ً‬
‫بعضهم مندفع بالطموح‪ ،‬وبعضهم بمتطلبات الواجب العام‪ ،‬وبعضهم مكلفون‬
‫باألعمال الدبلوماسية‪ ،‬وبعضهم بانغماس الذات في طلب المكان الغني بالرذيلة‪،‬‬
‫وبعضهم بالتوق للمعرفة األسمى‪ ،‬وبعضهم بالعروض العامة‪ ،‬وبعضهم تجذبه‬
‫أرحب(‪((9‬‬
‫ليظهر للعيان‬ ‫متطلعا لمجال‬
‫ً‬ ‫الصداقة‪ ،‬وبعضهم بشهيته للعمل‬
‫طبائعه‪ ،‬وبعضهم يجلب بضاعته ويراقب البيع وبالغة اآلخرين فيه‪.‬‬

‫(‪ ((9‬الفصول من ‪ 13- 10‬في األسفل‪.‬‬


‫(‪ ((9‬كما لو أن سينيكا ال يزال في روما ليتصور المشهد‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫لقد احتشدوا من كل صنف يمكن تصوره صوب المدينة التي ُت ِّ‬
‫ثمن فضائلهم‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫ورذائلهم‪ ،‬وتستدعي كلاًّ باسمه وتسأل كلاًّ منهم «من أين أنت؟»‪ ،‬وسوف‬
‫تجد غالبهم قد تركوا منازلهم ليأتوا لهذه المدينة العظيمة واألعظم جمالاً بال‬
‫ريب ولكن ليس لهم‪.‬‬

‫ومن ثم انتقلي من هذه المدينة التي ُيمكن أن يقال إنها تتبع الجميع‪ ،‬وزوري‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫ومري على‬
‫كل مدينة‪ ،‬حيث ال تخلو إحداها من نسب األجانب الكبيرة‪ِّ ،‬‬
‫هذه المدن التي يستقطب محيطها المبهج وموقعها المريح أعدا ًدا غفير ًة‪،‬‬
‫ِ‬
‫عقلك عن األماكن المقفرة والجزر الوعرة مثل سكياتوس ‪Sciathus‬‬ ‫وحولي‬
‫ِّ‬
‫وسيريفوس ‪ Seriphus‬وجيارا ‪ Gyara‬وكوسورا ‪ ،((9( Cossura‬ولن تجدي‬
‫مكا ًنا للمنفى حيث ال يمكث المرء فى المنفى لمتعته‪.‬‬

‫فما الذي تجدينه عار ًيا مثل هذه الصخرة(‪((9‬؟ وما الوعر على كل جوانبه؟‬ ‫‪ 5-6‬‬
‫ِ‬
‫نظرت شعبه‪ ،‬فما‬ ‫ِ‬
‫تأملت موارده‪ ،‬فما الذي يمكن أن يكون متعر ًيا؟ وإذا‬ ‫وإذا‬
‫الذي يبدو أكثر وحشي ًة؟ وإذا كانت تضاريس المكان فما األكثر وعورة؟ وإذا‬
‫كان الطقس متطر ًفا‪ ،‬فقد عاش هنا األجانب أكثر من أصحاب البلد‪ ،‬فتغيير‬
‫المكان في حد ذاته مشقة‪ ،‬حتى إنه يطرد بعض الناس من وطنهم‪.‬‬

‫وأجد بعض(‪ ((9‬الذين يقولون إن الفطرية لعقولنا دافع بعينه لتغيير السكن‬ ‫‪ 6-6‬‬
‫جوالاً وال يهدأ‪ ،‬وال‬
‫َّ‬ ‫واالنتقال من مكان آلخر؛ ألن جنس البشر ُمنح عقلاً‬
‫تحط رحاله ويمضي في كل اتجاه‪ ،‬ويبث أفكاره في كل ٍ‬
‫أين معروف أو‬

‫(‪ ((9‬أماكن النفي ثالثة‪ :‬األول إيجي‪ ،‬والثاني بارين” ‪ ”Barren‬في كوسورا ‪ Cossura‬انظر(‪،)cf. Ovid Fasti 3.567‬‬
‫والثالث ما نحن بصدده اآلن وهو بانتيلالريا ‪ Pantellaria‬وهي بين صقلية وشمال إفريقيا‪.‬‬
‫(‪ُ ((9‬صورت كورسيكا ‪ Corsica‬هنا بكآبة مبالغ فيها‪.‬‬
‫جزءا من البنيوما‪ .‬وانظر ‪ .7.6‬وانظر بحثنا عن البنيوما عند أرسطو ‪ ،‬مجلة كلية‬
‫(‪ ((9‬يتصور الرواقيون في هذا الحدس النفس ً‬
‫اآلداب بقنا ‪ ،‬عدد ‪( 2013 ،43‬المترجم)‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫مجهول‪ ،‬وال يمكن للهائم أن يتسامح مع السكون ويأخذ بهجته العظمى في‬
‫مقابلة الجديد والمختلف‪.‬‬
‫ِ‬
‫تأملت أصوله األولى‪ ،‬إنه ليس مؤل ًفا من‬ ‫وهذا ال يسبب ِ‬
‫لك مفاجأة إذا‬ ‫‪ 7-6‬‬
‫جوهر أرضي ثقيل‪ ،‬بل ينحدر من اللطف والنفثة السماوية(‪ ،((10‬والكيانات‬
‫السماوية بطبيعتها جائلة وسريعة وتدفع بحركة رشيقة‪ ،‬وتأمل الكواكب التي‬
‫تضيء العالم‪ ،‬التي ال يبقى منها واحد ثابتًا‪ ،‬فالشمس تنزلج على الدوام‪،‬‬
‫وتتحول من مكان إلى آخر‪ ،‬ومع أنها تدور مع الكون وتتحرك في اتجاه‬
‫معاكس للسماوات ذاتها(‪ ،((10‬فإنها تمر بكل عالمات البروج‪ ،‬وال تتوقف‬
‫حركتها كما لو أنها تهاجر من مكان إلى آخر‪.‬‬

‫كل الكواكب تنتقل دو ًما في مداراتها ومساراتها وف ًقا لقانون الطبيعة الذي ال‬ ‫‪ 8-6‬‬
‫يقبل الجدل‪ ،‬و ُتنقل من مكان إلى آخر‪ ،‬وحين تثبت في المسار فترات للسنين‬
‫فإنها تكمل دورانها وستستمر بطول الدروب التي سلكتها من قبل‪ ،‬ويا للعبث‬
‫أن تتخيل أن العقل اإلنساني الذي يتألف من نفس العناصر مثل الموجودات‬
‫الربانية يسأم من الترحال وتغير المسكن‪ ،‬وفي حين يجد الرب المتعة على‬
‫نحو طبيعي‪ ،‬وحتى يصون ذاته بالتواصل والحركة السريعة للغاية!‬

‫وتحولي اآلن من السماوي إلى األمور البشرية‪ ،‬وانظري إلى الشعوب والقبائل‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫كلها قد غيرت مسكنها‪ ،‬فما معنى أن المدن اليونانية في قلب المناطق‬
‫البربرية؟ ولماذا ُسمع اللسان المقدوني بين الهنود والفارسيين؟((‪)((10‬‬
‫وسيثيا ‪ Scythia‬وكل المناطق البرية والقبائل التي لم تُغْ زَ ُتظهر المدن اآلخية‬

‫(‪ ((10‬انظر رسالة عن التفرغ ‪. 5.5‬‬


‫(‪ ((10‬النسبة إلى األرض والشمس والقمر والكواكب التي تدور من الشرق إلى الغرب تعمل مثل النجوم الثابتة‪ ،‬ولكن الشمس‬
‫والقمر والكواكب تدور أبطأ من النجوم الثابتة‪ ،‬والنسبة التي تحركهم من الغرب إلى الشرق في اتجاه معاكس‪ .‬انظر‬
‫صمود الحكيم ‪ 14-4‬وعزاء إلى ماركيا ‪.18-3‬‬
‫(‪ ((10‬نتيجة للحمالت الشرقية لإلسكندر األكبر‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫التي أقيمت على شواطئ البحر األسود‪ ،‬وليست قسوة الشتاء الدائم وال طبيعة‬
‫السكان وحشية مثل مناخهم‪ ،‬وال تردع المهاجرين عن اإلقامة هناك‪.‬‬

‫وهناك حشود لألثينيين في آسيا(‪ ،((10‬وقد أرسلت مالطية ‪ Miletus‬في‬ ‫‪ 2-7‬‬


‫ٍ‬
‫خمس وسبعين مدينة‪ ،‬وساحل‬ ‫اتجاهات مختلفة ما يكفي من الناس لملء‬
‫األدنى(‪((10‬‬
‫وأصبح اليونان الكبرى‪ ،‬وأطلق على‬ ‫إيطاليا كله غسله البحر‬
‫آسيا األتروسكان ‪ ،((10( Etruscans‬واستقر التيريان ‪ Tyrians‬في إفريقيا‪،‬‬
‫والقرطاجيون في إسبانيا‪ُ ،‬‬
‫وأجبر اليونانيون نحو بالد الغال(‪ ،((10‬والغال نحو‬
‫اليونان‪ ،‬ولم يمنع البرانس ‪ Pyrenees‬الجرمانيين من العبور(‪ ،((10‬وقد شق‬
‫ضجر البشر طريقه خالل المناطق التي ال طريق فيها واألطراف غير المعروفة‪.‬‬

‫فاألطفال والزوجات واآلباء الذين تقدم بهم السن ينخرطون في الفسحة‪،‬‬ ‫‪ 3 -7‬‬
‫وبعض الناس يندفعون ذها ًبا لتريضهم الطويل‪ ،‬ولم يختاروا وجهتهم عمدً ا‬
‫بل يستقرون بهدوء األرض التي تقربهم‪ ،‬وآخرون وطدوا حقهم في بلد‬
‫أجنبي بقوة السالح‪ ،‬واجتيحت بعض القبائل بالبحر حين سارت في مناطق‬
‫مجهولة‪ ،‬بينما استقر البعض في المكان‪ ،‬وقد تقطعت بهم السبل بسبب نفاد‬
‫مؤنتهم‪.‬‬

‫ولم يكن لديهم الدافع نفسه للترحال والسعي نحو أرض جديدة‪ .‬فبعضهم‬ ‫‪ 4-7‬‬

‫(‪ ((10‬على سبيل المثال أيونيا الجانب الغربي آلسيا الصغرى‪.‬‬


‫(‪ ((10‬بحر توسكان ‪ Tuscan‬أو التيراني ‪ Tyrrhenian‬مقابل البحر اإلدرياتيكي‪.‬‬
‫(‪ ((10‬وفقا للتراث كان التوساكانيون ليديون ‪ Lydian‬في األصل (‪.)cf. Herodotus 1.94‬‬
‫(‪ ((10‬اليونان‪ :‬من المفترض أن يكون الفوكاين مؤسسي مارسيلليس ‪ Marseilles‬عبر كورسيكا بعد أن اختار معظم‬
‫المواطنين الهجرة أثناء الحصار الفارسي عام ‪ 540‬ق‪.‬م (‪.)cf. Herodotus 1.163–7, and see n. 20 below‬‬
‫والغال‪ :‬الكلتيون وهي مجموعة واحدة وصلت إلى دلفي عام ‪ 229‬ق‪.‬م ‪ ،‬واألخرى عبرت هيللسبونت ‪Hellespont‬‬
‫واستقرت في آسيا الصغرى وأعطوا أسمهم الكلتي للغاليون‪.‬‬
‫(‪ ((10‬الخلط الممكن للجرمان مع الغال والغزاة األوائل إلسبانيا الذين اندمجوا باأليبريين ‪ Iberians‬لتشكيل غالتو أيبرين‬
‫‪.Celtiberians‬‬

‫‪99‬‬
‫أدى تدمير مدنهم بهجوم العدو إلى الهروب إلى أراض أجنبية حيث نهبت‬
‫ممتلكاتهم‪ .‬وبعضهم تقاعدوا في البيت بسبب الخالف السياسي‪ .‬وبعضهم‬
‫ُأرسل لتخفيف العبء الناجم عن الكثافة السكانية المفرطة‪ .‬وبعضهم كان‬
‫مدفوعا بالمرض وبسبب الكوارث المتكررة أو بعض النقص الذي ال يحتمل‬
‫ً‬
‫في التربة الجدباء‪ .‬وبعضهم قد ُغش باألخبار المتزيدة عن الشاطئ الخصيب‪.‬‬

‫أناس شتى أسباب عدة لترك بيوتهم‪ ،‬ولكن هذا األمر جلي على‬
‫وقد يقود ٌ‬ ‫‪ 5-7‬‬
‫األقل‪ ،‬حيث ال يمكث أحدٌ في المكان الذي جاء منه إلى الوجود‪ ،‬وجنس‬
‫البشر ينتقل باستمرار من هذا االتجاه وذاك‪ ،‬والعالم يتسع للتحوالت كل‬
‫يوم‪ ،‬حيث ُتبنى قواعد مدن جديدة‪ ،‬وتبزغ أسماء جديدة من األمم‪ ،‬في حين‬
‫قد تطمس القوى القديمة وتتحول تبعيتها إلى سلطة أقوى‪ ،‬ولكن هل كل‬
‫حاالت هجرات الناس ما هي إال نفي طائفي؟‬
‫ِ‬
‫أجرك في دائرة مطولة؟ ولماذا تنزعجين لذكر أنتينور ‪ Antenor‬مؤسس‬ ‫ولماذا‬ ‫‪ 6-7‬‬
‫بادوا ‪ Padua‬وإيفاندر ‪ Evander‬الذي أنشأ مملكة أركاديان على ضفاف نهر‬
‫التيبر؟‪ ،‬ولماذا تذكرين ديوميديس ‪ Diomedes‬وآخرين على أنهم مقهورون‬
‫مثل الغزاة الذين انتشروا في األراضي األجنبية بسبب حرب طروادة؟‬
‫المنفى(‪((10‬‬
‫مثل‬ ‫ومن المؤكد أن اإلمبراطورية الرومانية ذاتها تنظر إلى‬ ‫‪ 7-7‬‬
‫مؤسسها الالجئ من مدينة أسيرة والذي أخذ معه قليلاً من الناجين منها‪،‬‬
‫والذي أجبر بالخوف من الغزاة أن ُينفى ألطراف بعيدة‪ ،‬وقد انتقل إلى إيطاليا‪،‬‬
‫وكم من المستعمرات قد أرسلت إلى المقاطعات! فأينما غزا الرومان‬
‫استقروا‪ ،‬والناس وضعوا أنفسهم لهذا النوع من الهجرة‪ ،‬وحتى القدامى‬
‫تركوا مذابحهم واتبعوا مستعمري ما وراء البحار‪.‬‬

‫(‪ ((10‬أينياس ‪ Aeneas‬في التاريخ الواسع للهجرات واضح في الفصل السابع‪ ،‬وأسطورة تأسيس روما هي ذاتها ُمعاير‬
‫باالرتباط بمثل هذه الرحالت‪ :‬انظر تقديمي لهذا المقال‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وال يحتاج هذا الموضوع قائم ًة أخرى من الحاالت‪ ،‬ولكن مع ذلك سوف‬ ‫‪ 8-7‬‬
‫ُأضيف واحدة تفرض نفسها على انتباهي‪ ،‬وهي تلك الجزيرة التي كثيرا ما‬
‫ُتغير سكانها‪ ،‬وللمرور على تاريخها المبكر الذي عتمه مرور الزمن الطويل‪،‬‬
‫فاإلغريق الذين تركوا فوكيس ‪ Phocis‬ويقطنون اآلن ماسيليا استقروا على‬
‫هذه الجزيرة أول(‪ ،((10‬فما دفعهم لتركها غير واضح‪ ،‬فهل قسوة المناخ‬
‫أم وجهة نظرهم عن قربها من سلطة إيطاليا المتميزة‪ ،‬أم قلة موانئها‪ ،‬ولكن‬
‫نظرا ألنهم استقروا بين‬
‫السبب الواضح ليس في وحشية سكانها األصليين‪ً ،‬‬
‫أشد شعوب الغال تخل ًفا وعن ًفا في ذلك الوقت‪.‬‬

‫وعبر الليغوريين إلى هذه الجزيرة في وقت الحق‪ ،‬وكذلك اإلسبان كما هو‬ ‫‪ 9-7‬‬
‫واضح من عاداتهم المتشابهة‪ ،‬حيث يرتدي سكان الجزيرة مثل الكانتابريانيين‬
‫‪ Cantabrians‬نفس النوع من األحذية وغطاء الرأس‪ ،‬ناهيك عن تشابه‬
‫كلمات بعينها‪ ،‬وبعضها فقط؛ ألن لغتهم كلها فقدت طابعها األصيل بارتباطها‬
‫مؤخرا مستعمرتان لروما؛ األولى‬
‫ً‬ ‫باليونانيين والليغوريين(‪ ،((11‬وقد ُأسست‬
‫أنشأها ماريوس ‪ ،Marius‬والثانية أقامها سولال ‪ ،((11( Sulla‬وهكذا قد تغير‬
‫سكان هذه الصخرة القاحلة الوعرة!‬
‫أرضا ال تزال يعيش بها َّ‬
‫سكانها األصليون‪،‬‬ ‫‪ 10-7‬وخالصة القول‪ :‬من النادر أن تجد ً‬
‫وكل السكان مركب خليط وساللة غريبة‪ ،‬وقد قدمت الشعوب بعد أخرى‪،‬‬
‫وما يزدريه شعب يرغبه بشدة شعب آخر‪ ،‬وقد يلفظ شعب آخر ليدفعه خارج‬

‫(‪ ((10‬هجرة الفوشيد ‪ Phocide‬خطأ إلى الفوشيين في آسيا الصغرة خطأ (وأسس الفوشيين ‪( Phocaeans‬انظر هامش ‪17‬‬
‫في األعلى)‪ ،‬إذ سمح االستعمال في الواقع تطبيق كلمة الفوشيد ‪ Phocis‬بشكل خاطئ للفوشيين (‪cf. OLD Phocis‬‬
‫‪.)1b‬‬
‫(‪ ((11‬ويترتب على ذلك أن اللغة الكورسيكانية ‪ Corsican‬كانت كانتابريان‪ -‬إسبانية‪ ،‬وتضررت بمرور الزمن بتأثير الفوشيين‬
‫والليجوريين‪.‬‬
‫(‪ ((11‬كولونيا ماريانا ‪ colonia Mariana‬فى ‪ 100‬ق‪.‬م وسوالن أليريا ‪.Sullan Aleria‬‬

‫‪101‬‬
‫ذاته فحسب‪ ،‬وهكذا بأمر القدر ال شيء يبقى على حاله لألبد‪.‬‬

‫وموازنة التحول الفعلي للمكان‪ ،‬وحجب المساوئ األخرى التي تلحق‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫المنفى‪ .‬تمسك فارو ‪ ((11( Varro‬أكثر الرومانيين ً‬
‫تعلما بكفاية هذا العالج‬
‫حتما نفس النظام من الطبيعة‪ ،‬ويعتقد ماركوس‬
‫ً‬ ‫أينما قدمنا وتجربتنا‬
‫بروتوس(‪ ((11‬أن التعويض الكافي للمنفيين أن يأخذوا فضائلهم معهم‪.‬‬

‫ولو كان هناك رأي يحكم هذين االعتبارين‪ ،‬فهو ليس كاف ًيا للراحة في المنفى‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫بشكل فردي‪ ،‬بل يقبل أنها فعالة للغاية في حال الجمع‪ ،‬وكم من القليل ما‬
‫نفقده بالفعل! أينما نمضي‪ ،‬فمن أجمل ما ينسب إلينا أن يذهب معنا االثنان‬
‫الطبيعة الكلية والفضيلة الفردية‪.‬‬

‫صدقوني‪ ،‬هذا كان مقصو ًدا ممن صنع الكون‪ ،‬سواء أكان ر ًّبا كلي القدرة أم‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫قادرا على إنتاج أعمال واسعة‪ ،‬أم نفثة إلهية تنشر األشياء كلها‬
‫روحانيا ً‬
‫ًّ‬ ‫سب ًبا‬
‫قدرا وتسلسل علل مترابطة غير قابلة‬
‫من األكبر إلى األصغر بتوتر موحد‪ ،‬أم ً‬
‫للتغير(‪ ،((11‬لذا أقول كان المقصود ال شيء‪ ،‬إال أنه ال قيمة لممتلكاتنا وهي‬
‫تحت إمرة أحد آخر‪.‬‬

‫وكل ما هو خير يكمن خلف سيطرة البشر‪ ،‬وليس بمقدورنا أن نمنح وال نتخذ‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫طري ًقا‪ ،‬فهذا العالم الذي هو أعظم خلق وأجل هبة للطبيعة‪ ،‬والعقل الذي‬
‫يطالع العالم ويتعجب فيه واألعظم مجدً ا له‪ ،‬هذه هي ممتلكاتنا الدائمة ألجل‬
‫مسمى التي تبقى معنا طالما بقينا على قيد الحياة‪.‬‬
‫غير ًّ‬
‫وهكذا الواثق والمتحمس يدعنا نسرع بخطوة شجاعة إلى حيث تقودنا‬ ‫‪ 5-8‬‬

‫(‪ ((11‬تيرينتوس فارو ‪ 27-116 M. Terentius Varro‬ق‪.‬م من الباحثين البارزين في عصره‪ ،‬والعبارة المنسوبة له في عمل‬
‫مفقود‪.‬‬
‫(‪ ((11‬جونايوس بروتوس (‪ 42-85‬ق‪.‬م) متأمر ضد يوليوس قيصر‪ ،‬وعبارته هنا ربما تكون من كتابه المفقود عن الفضيلة‪.‬‬
‫(‪ ((11‬تسميات رواقية مختلفة للقدرة التي شكلت الكون‪ .‬انظر ‪.On Favors 4.7–8, Natural Questions 2.45‬‬

‫‪102‬‬
‫الظروف‪ ،‬ويدعنا نسافر إلى أي أرض مهما كانت‪ ،‬فليس هناك مكان موجود‬
‫في العالم يمكن أن يكون من ًفى‪ ،‬فال شيء غريب في العالم تغترب فيه‬
‫البشرية((‪ ،)((11‬فمن أي مكان على وجه األرض ترفع عينيك نحو السماوات‬
‫على مبدأ سواء‪ ،‬والمسافة بين كل األمور الربانية وكل األمور البشرية هي‬
‫دو ًما سواء‪.‬‬

‫وطالما عيني ليست بعيد ًة عن المشهد الذي ال يمكنهم أن يحملقوا فيه كفاية‪،‬‬ ‫‪ 6-8‬‬
‫وطالما بمقدوري مشاهدة الشمس والقمر‪ ،‬ونظري ثابت على الكواكب‬
‫األخرى‪ ،‬والمسافات بين الحادثات وأسباب حركتها البطيئة والسريعة‪،‬‬
‫ثابت واآلخر يدور في‬
‫وطالما أراقب النجوم المتأللئة طوال الليل‪ ،‬فبعضها ٌ‬
‫نطاقه وال يرحل عنه إلى مسافة بعيد ًة‪ ،‬وبعضها ينفجر فجأة‪ ،‬وبعضها ُيبهر‬
‫ٍ‬
‫بضياء‬ ‫أعيننا بالنار المنشورة كما لو كانت تتساقط‪ ،‬أو تحلق في درب طويل‬
‫زاه‪ ،‬وطالما ُأناجي هذه بقدر ما يمكن لإلنسان أن ُيخالط األشياء الربانية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وطالما ُأبقي عقلي ساع ًيا للتأمل في الموضوعات اللطيفة‪ -‬وماذا تحدث لي‬
‫األرض التي أدوسها؟‬

‫أشجارا مثمرة بالفاكهة أو الورق‪ ،‬وال ُتروى‬


‫ً‬ ‫«ولكن هذه األرض ال تنتج‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫بقنوات ألي أنهار كبيرة أو قابلة لإلبحار فيها‪ ،‬إنها ال تنتج شيئا مما تريده‬
‫أحجارا ثمينة هنا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األمم األخرى‪ ،‬وبالكاد تثمر ما يكفي َّ‬
‫سكانها‪ ،‬ال تستخرج‬
‫وليست ملغومة بعروق الذهب والفضة‪.‬‬

‫والعقل الضيق هو الذي يبتهج باألمور الدنيوية‪ ،‬وينبغي أن تتوجه إلى تلك‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫الموضوعات التي يتساوى فيها الظاهر من أي نقطة للنظر‪ ،‬ومن أي نقطة‬

‫(‪ ((11‬وقرأها روالند ‪fill the lacuna in nullum inueniri exilium intra mundum <potest; nihil enim quod‬‬
‫‪ .intra mundum> est alienum homini est‬ليس من مكان يكون مقا ًما للمنفى في العالم‪ ،‬وال غربة لإلنسان في‬
‫العالم‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫يتساوى فيها النظر‪ ،‬وشيء آخر يوضع في االعتبار‪ ،‬وهو أن الموضوعات‬
‫الدنيوية تحجب رؤيتنا عن الخير الحق العتقادنا المغلوط في الخير الكاذب‪،‬‬
‫حيث توسع الشعوب مستعمراتها كلما رفعت أبراجها‪ ،‬ووسعت رقعة‬
‫وطنها‪ ،‬وعمقت حفر كهوفها الصيفية(‪ ،((11‬وكلما زادت البنية الضخمة التي‬
‫مآد ُبهم‪ ،‬فإن المزيد من هذا سوف يحجب السماوات‬ ‫ترفع أسقف َر َدهات ِ‬
‫عن أبصارهم‪.‬‬

‫وقد ُيلقيك سوء الحظ نحو منطقة حيث أعظم ترف للمأوى هو مجرد كوخ‪،‬‬ ‫‪ 3-9‬‬
‫وح ًّقا يظهر لك ضيق األفق الذي ُيواسي ذاته ببخل إذا وضعت مع هذا اإلقدام‬
‫ِ‬
‫لنفسك‪:‬‬ ‫فحسب؛ ألنك تعرفين كوخ رومولوس(‪ ،((11‬واألحرى أن تقولي‬
‫«هل هذا الكوخ المنخفض فيه غرفة أتخذها للفضائل؟ قري ًبا تصبح أجمل‬
‫من كل المعابد حينما ُترى العدالة هناك والتسامح والحكمة والبر ونظام‬
‫لتقسم كل الواجبات كما ينبغي ومعرفة األمور اإلنسانية والربانية‪ ،‬وقد ال‬
‫ُيحدد مكان يأوي كثرة هذه الفضائل‪ ،‬وال يصعب منفى على التحمل حين‬
‫تدخله في هذه الرفقة»‪.‬‬

‫يقول بروتوس ‪ Brutus‬في الكتاب الذي كتبه عن الفضيلة(‪ ،((11‬إنه رأى‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫ماركيليوس ‪ Marcellus‬في منفى ميتيلين‪ ،‬يعيش سعيدً ا كما ُتجيز الطبيعة‬
‫كبيرا كما هو اآلن(‪ ،((11‬وهكذا‬
‫البشرية‪ ،‬ولم ُيكرس للدراسات الحرة وقتًا ً‬
‫يضيف أنه حين حددوا عودته من المنفى دون ماركيليوس‪ ،‬شعر بأنه ذاهب‬

‫(‪ ((11‬كهوف متكلفة للهروب من الشمس مثل كهف فاتيا ‪ .Vatia‬انظر ‪.Letters 55.6‬‬
‫(‪ ((11‬واحد من كوخين متواضعين سقفه من القش‪ ،‬وعرف بكوخ روميلو‪ ،‬وكان أحدهما على الباالتينو ‪ ،Palatine‬واآلخر‬
‫على الكابيتول‪ ،‬وحفظا كآثار قديمة ترمز لبدايات روما المتواضعة‪.‬‬
‫(‪ ((11‬انظر ‪ 1.8‬هامش ‪ 24‬أعلى‪.‬‬
‫منافسا قو ًّيا ليوليوس قيصر الذي تقاعد في ميتيليني ‪ Mytilene‬بعد‬
‫ً‬ ‫(‪ ((11‬كالوديوس مارسيلوس قنصل عام ‪ 51‬ق‪.‬م‪ ،‬كان‬
‫ُ‬
‫أن قاتل بومبي الخاسر من معركة فارسالوس ‪ Pharsalus‬عام ‪ ،48‬وقد وافق القيصر على عودته لروما‪ ،‬ولكنه قتل في‬
‫بيريوس ‪ Piraeus‬عام ‪.45‬‬

‫‪104‬‬
‫إلى المنفى أكثر من أنه ترك ماركيليوس في المنفى‪.‬‬
‫ً‬
‫محظوظا حين فاز باستحسان بروتوس في المنفى أكثر‬ ‫كم كان ماركيليوس‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫من كسبه استحسان الدولة لظفره بلقب القنصل! وكم هو عظيم ذلك الرجل‬
‫الذي جعل بروتوس يشعر كأنه في المنفى حين فارق المنفى! وما هذا الرجل‬
‫ممن أعجبوا حتى بكاتو نسيبه(‪.((12‬‬
‫الذي استقطب إعجاب أحدً ا َّ‬
‫أيضا إن جايوس قيصر(‪ ((12‬قد أبحر إلى ميتيلين؛ ألنه كان ال‬‫ويقول بروتوس ً‬ ‫‪ 6-9‬‬
‫عظيما بالعار‪ ،‬وأقر مجلس الشيوخ استدعاءه بتوسل‬‫ً‬ ‫يحتمل أن ُيلطخ رجلاً‬
‫عام‪ ،‬وبدت على الجميع حالة القلق والحزن‪ ،‬وهي نفس المشاعر التي انتابت‬
‫بروتوس في هذا اليوم‪ ،‬وكان توسلهم ليس ألجل ماركيليوس‪ ،‬بل لذاتهم‬
‫خو ًفا من شعورهم بالنفي أن رحل عنهم ماركيليوس‪ ،‬ولكنه حقق الكثير في‬
‫هذا اليوم حين لم يحتمل بروتوس رحيله أو أن يراه قيصر في المنفى؛ ألنه‬
‫تلقى شهادة من كليهما حيث حزن بروتوس لعودته دون ماركيليوس وتورد‬
‫خجل القيصر‪.‬‬

‫هل تشكين في أن هذا الرجل العظيم المبجل غال ًبا ما ُيشجع نفسه باتزان‬ ‫‪ 7-9‬‬
‫ِ‬
‫وأنت غارقة في‬ ‫وطنك ليس علة للضيق‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«ففقدانك‬ ‫كلمات مثل هذه؟‬
‫دراساتك كما ِ‬
‫كنت‪ ،‬وتعرفين أن كل مكان هو وطن للحكيم‪ ،‬إلى جانب هذا‬
‫أليس هو الرجل الذي أبعد نفسه عن وطنه عشر سنوات متتالية؟(‪ ((12‬وكان‬
‫السبب توسيع اإلمبراطورية بال شك دون وطنه‪.‬‬

‫وانظري اآلن ُيجر إلى إفريقيا التي تعج بتهديد تجدد الحرب‪ ،‬و ُيجر نحو‬ ‫‪ 8-9‬‬
‫إسبانيا التي ُتعيد إحياء قوة المعارضة المكسورة والممزقة‪ ،‬و ُيجر نحو مصر‬

‫(‪ ((12‬كان بروتوس صهر بوركيوس كاتو (‪ 46 -95‬ق‪.‬م) وهو معتنق للرواقية والمذهب الجمهوري‪.‬‬
‫(‪ ((12‬هنا يوليوس قيصر‪ ،‬ولكن كان الحديث عن كاليجوال في ‪ 4-10‬في األسفل‪.‬‬
‫(‪ ((12‬من عام ‪ 49-58‬ق‪.‬م كانت فترة حروب قيصر الغالية ‪.Gallic‬‬

‫‪105‬‬
‫الغادرة(‪ .((12‬وباختصار نحو العالم كله الذي يراقب عن كثب فرصة ضد‬
‫اإلمبراطورية الواهنة‪ ،‬وما المشكلة التي تواجهه أولاً ؟ وإلى أي طرف من‬
‫العالم سوف يركن أولاً ؟ سيدفعه انتصاره نحو كل أرض‪ ،‬ودع األمم ُتعجب‬
‫به وتعبده‪ ،‬ويعيش ما حيا إعجا ًبا في بروتوس!‪.‬‬

‫‪ 1-10‬تحمل ماركيليوس منفاه على نحو حسن‪ ،‬ومن ثم لم ُيحدث تغيير مكانه أي‬
‫تغيير في عقله مطل ًقا‪ ،‬رغم أن الفقر قد ذهب معه هناك‪ ،‬وال شيء كارثي في‬
‫الفقر كما يعلم الذين لم يدفعهم جنون الطمع واالنغماس المفرط الذي ُيفسد‬
‫كل شيء‪ ،‬فكم هي زهيدة القيمة المطلوبة لدعم اإلنسان! و َمن الذى يفتقر‬
‫إلى هذا إن يمتلك أي فضيلة أ ًّيا كانت؟‬

‫‪ 2-10‬أما فيما يتعلق بمسألتي التي أركز عليها‪ ،‬فإنني أعلم أنني لم أفقد ثروة‪ ،‬بل‬
‫انشغلت بالتفكير فحسب‪ ،‬وحاجات الجسد بسيطة‪ ،‬إنه يرغب في البارد‬
‫ليحفظه‪ ،‬ويسكن ألم الجوع والعطش بزاد أساسي‪ ،‬وإذا ُتقنا إلى شيء أكثر‬
‫فإننا ُنجهد أنفسنا ألجل رذائلنا وليس الحتياجاتنا‪ ،‬ولست في حاجة إلى أن‬
‫تطهر كل محيط وأن ُتحمل المعدة بمجزرة حيوانات أو تجلب طعام البحر‬
‫من الشاطئ المجهول ألبعد البحور‪ ،‬فاألرباب والربوبية تدمر الذين تتجاوز‬
‫أذواقهم المرفهة حدود اإلمبراطورية التي تثير الحسد بالفعل!‬

‫‪ 3-10‬إنهم يرغبون في طريقة من وراء فاسيس ‪((12( Phasis‬؛ ليزودا مطابخهم‬


‫الفاخرة‪ ،‬وال يشعرون بالخجل في محاولة الحصول على لحم الدجاج من‬
‫البارثييين ‪ ،Parthians‬أو حتى من عند الذين بيننا وبينهم ثأر(‪ ،((12‬ومن كل‬
‫المنعم‪ ،‬ومن طعام أعماق‬
‫األطراف التي يجمعون منها كل شيء يعرفه الحنك ُ‬
‫(‪ ((12‬كان قيصر في مصر عام ‪ 47-48‬ق‪.‬م وسميت مصر “الغادرة” لقدر بومبي بها‪ .‬انظر ‪On the Shortness of Life‬‬
‫‪.)13.7 and n. 28‬‬
‫(‪ ((12‬نهر في كولشيس ‪ Colchis‬يتدفق نحو الجانب الشرقي للبحر األسود‪.‬‬
‫(‪ ((12‬بعد هزيمة كراسوس المشينة في كارهاي ‪ Carrhae‬عام ‪ 53‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫المحيطات الذي ينقلونه إلى بطونهم‪ ،‬ووهنوا بحياتهم المرفهة وأصبحوا‬
‫بالكاد يستوعبوا‪ ،‬إنهم يتقيؤوا ليأكلوا ويأكلوا ليتقيئوا‪ ،‬ويستقصون الوالئم‬
‫من جميع العالم وال يتنازلون فيها عن النبش‪ ،‬ولو أنكر اإلنسان هذه األشياء‬
‫فكيف يمكن أن يضره الفقر؟ وإذا كان اإلنسان يتوق لهم فإنه يستفيد حتى من‬
‫الفقر‪ ،‬ويشفي رغم أنفه‪ ،‬وإذا لم يتجرع دواءه حتى تحت إكراه على األقل‬
‫لفترة لعدم مقدرته للحصول على مثل هذه األشياء يماثل ضعف الرغبة لها‪.‬‬

‫‪ 4-10‬جايوس قيصر(‪ ((12‬الذي ولدته الطبيعة‪ ،‬يبدو لي أنه اقترف ً‬


‫إثما حيث جمع‬
‫علية السلطة على العشاء‪ ،‬وقد تكلف عشرة ماليين سيستيركس والكل تفانى‬
‫في عونه لتحقيق هذه الغاية‪ ،‬لقد أنفق الضريبة التي جمعها بالكاد من ثالث‬
‫محافظات في عشاء واحد‪.‬‬

‫‪ 5-10‬ويا للبؤس َمن ال ُتح َّفز شهيتهم إال بالطعام المكلف؛ ألن ما يجعله مكل ًفا ليس‬
‫نكهته الطريفة أو اإلحساس المبهج في الحلق‪ ،‬بل ندرة وصعوبة الحصول‬
‫فلم الحاجة إلى المهارات الشتى‬
‫طوعا َ‬
‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬ولو عاد هؤالء إلى الحكمة‬
‫للمحترفين التي تخدم البطن؟ وما الحاجة إلى االستيراد أو تدمير الغابات أو‬
‫مخر البحر؟ وكل ما أعدته الطبيعة من طعام متاح في كل مكان‪ ،‬ولكن هؤالء‬
‫يمرون عليه كاألعمى‪ ،‬فيجوبون كل بلد ويعبرون البحار رغم أنهم يمكن أن‬
‫يسدوا جوعهم بتكلفة زهيدة بدلاً من النفقة الكبيرة‪.‬‬

‫‪ 6-10‬أشعر وكأنني أقول لهم‪« :‬لماذا تطلقون سفنكم؟ ولماذا تشهرون سيفكم‬
‫على البشر والبهائم؟ ولماذا تندفعون بفوضى عارمة؟ ولماذا تكدسون الثروة‬
‫ونهما‬
‫ً‬ ‫على الثروة؟ ألم تنظروا كيف أن أجسادكم هي ضئيلة؟ أليس جنو ًنا‬
‫ً‬
‫مفرطا أن ترغب في الكثير في حين يكفيك القليل؟ وهكذا ربما ُتزيد منفعتك‬
‫و ُتمدد أرضك‪ ،‬وال تستطيع أن ُتوسع قدرة جسدك‪ ،‬ورغم أن عملك قد‬

‫(‪ ((12‬كاليجوال‪ ،‬وراجع ‪.9.6‬‬

‫‪107‬‬
‫يزدهر‪ ،‬وتجلب خدمتك العسكرية لك طائل‪ ،‬وتتعقب الطعام وتجمعه من‬
‫كل حدب‪ ،‬وقد ال تجد مكا ًنا تخزن فيه مؤنك الفاخرة‪.‬‬
‫ِ‬
‫أسألك! إن أسالفنا الذين تسند فضائلهم‬ ‫‪ 7-10‬لماذا يطاردون أشياء عدة؟ أنا‬
‫رذائلنا كانوا تعساء بال ريب؛ ألنهم قدموا الطعام ألنفسهم بأيديهم‪ ،‬وكانت‬
‫األرض سريرهم؛ ألن بيوتهم لم تلمع بالذهب ولم تسطع معابدهم باألحجار‬
‫الكريمة‪ ،‬وفي هذه األيام يكون القسم جليلاً بالحلف بآلهة الطين(‪،((12‬‬
‫وهؤالء يتوسلون لآللهة أن يرجعوا للعدو حتى لو كانوا متحققين من الموت‬
‫أكثر من أن يكسروا كلمتهم(‪.((12‬‬

‫‪ 8-10‬ال شك أن ديكتاتورنا(‪ ((12‬الذي استمع إلى مبعوثي السامانيين ‪،Samnites‬‬


‫كما طبخ أبسط نوع من الطعام بيده‪ ،‬تلك اليد التي وجهت للعدو على الغالب‬
‫ووضعت إكليل النصر في حضن كابيتولين جوبتر ‪،Capitoline Jupiter‬‬
‫هذا الرجل عاش أقل سعاد ًة من أبيكيوس ‪ ((13( Apicius‬في ذاكرتنا‪ ،‬وهو‬
‫دروسا في الطبخ في المدينة التي ُطرد منها الفالسفة(‪ ((13‬من ُ‬
‫قبل‬ ‫ً‬ ‫الذي ألقى‬
‫على أساس إفساد الشباب‪ ،‬وهو الذي دنس عمره بتعاليمه‪ ،‬و»جدير أن تعرف‬
‫نهاية أبيكيوس»‪.‬‬

‫‪ 9-10‬وبعد أن سكب مئة مليون سيستركس في مطبخه‪ ،‬وبعد أن جرع كل واحد‬

‫(‪ ((12‬لهذا الرمز من البساطة‪ .‬راجع ‪.Letters 31.11‬‬


‫(‪ ((12‬إشارة إلى أتيليوس ريجولس ‪ M. Atilius Regulus‬بطل الحرب البونية األولى ‪ ، Punic War‬والذي قبض عليه‬
‫القرطاجيون ‪ُ ،Carthaginians‬‬
‫وأرسل إلى روما عام ‪ 250‬ق‪.‬م للتفاوض إما على السالم وإما على تبادل السجناء‪،‬‬
‫ولكنه حث مجلس الشيوخ على رفض كال االقتراحين‪ ،‬وبعد أن استوفى شروط إفراجه عاد إلى قرطاجة حيث عُ ذب‬
‫حتى الموت‪ ،‬انظر أيضا ‪. 5.12‬‬
‫(‪ ((12‬كوريوس دينتاتوس ‪M.’ Curius Dentatus‬راجع‪. On the Shortness of Life 13.3 and n. 22‬‬
‫(‪ ((13‬جافيوس أبيكوس ‪ M. Gavius Apicius‬عالم سيئ السمعة في عهد تريبتيوس (‪،)cf. On the Happy Life 11.4‬‬
‫والذي أصبح اسمه مراد ًفا لالنغماس الشره‪.‬‬
‫(‪ ((13‬عام ‪ 161‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫متعته بما يعادل عطايا اإلمبراطورية الكثيرة وإيرادات الدولة الجمة من‬
‫الكابيتول تغلبت عليه الديون وأجبرته أن يراجع بعناية حساباته للمرة األولى‪،‬‬
‫محكوما عليه أن‬
‫ُ‬ ‫وعد ما تبقى وهو عشرة مليون سيستريكس‪ ،‬كما لو كان‬
‫يعيش في مجاعة مفرطة إن لم يوجد سوى عشرة ماليين سيستريكس‪ ،‬ومن‬
‫ثم انتحر بالسم‪.‬‬

‫‪ 10-10‬يا للفخامة إذ تعد عشرة ماليين حدًّ ا للفقر بالنسبة له! ويا لها من حماقة أن تفكر‬
‫أن األمور تحسب بمقدار المال ال بغنى العقل! امرؤ ارتعد في عشرة ماليين‬
‫فبم يتوسل اآلخرون! والحقيقة أن رجلاً بمثل‬‫سيستريكس وهرب بالسم‪َ ،‬‬
‫هذه العقلية الفاسدة كان الشراب األخير معافاة له‪ ،‬حيث لم يكن تمتعه بمآدبه‬
‫ً‬
‫بسيطا‪ ،‬وكان يجاهر برذائله‪ ،‬و ُيلفت انتباه المدينة إلى مسالك‬ ‫التي ال حد لها‬
‫بهرجته‪ ،‬ويثير الشباب لتقليده وهم قابلون للتأثير دون أمثلة لإلفساد‪ ،‬ولذلك‬
‫كان ح ًّقا عليه أن يأكل السم ويشربه‪.‬‬

‫‪ 10-11‬و ُتصيب هذه النهاية الذين ال يقيسون ثروتهم بمعيار العقل الذي ثبتت حدوده‪،‬‬
‫ولكن الرغبة الفاسدة َم ّيعت حدوده وصارت غير مألوفة‪ ،‬فال شيء يكفي‬
‫الطمع‪ ،‬ولكن قليل الطبيعة يكفي‪ ،‬ولذا ال ينطوي فقر المنفى على شقاء‪،‬‬
‫حيث ال يفتقر أي مكان للنفي على حد كفاية للمرء‪.‬‬

‫‪« 1-11‬ولكن سيشعر في المنفى بفقدان مالبسه وبيته»‪ ،‬إذنْ سوف يفتقد هذه األشياء‬
‫بمدى احتياجه إليها‪ ،‬ولن يفتقر إلى المأوى والملبس األساسي؛ ألن القليل‬
‫يحمي الجسد وكذلك يطعمه‪ ،‬ولم تجعل الطبيعة ما هو ضرور ًّيا للبشر صع ًبا‬
‫في الحصول عليه‪.‬‬

‫‪ 2-11‬ولكنه يتوق للكسوة األرجوانية المرصعة بالذهب‪ ،‬والتي تتألأل بالرسوم‬


‫واأللوان المختلفة‪ ،‬إنه ليس خطأ الحظ‪ ،‬بل خطؤه‪ ،‬إن كان يشعر بالفقر‪،‬‬
‫وحتى لو رددت إليه ما فقده أ ًّيا كان‪ ،‬فإنك لن ُتنجز شيئًا؛ ألن رغباته سوف‬
‫‪109‬‬
‫تجعله أشد حرما ًنا‪ ،‬وما استعاده من ممتلكاته اآلن سوف يجعله يشعر‬
‫بالمنفى‪.‬‬

‫‪ 3-11‬ولكنه يتوق للمآدب التي تلمع آنيتها بالذهب وصحائف الفضة التي تتميز‬
‫بأسماء حرفييها القدامى‪ ،‬والبرونز الذي ُكلف بجمعه من قلة مهوسين‪،‬‬
‫قسرا‪ ،‬والرخام من‬
‫وحشود العبيد يكتظ بها المنزل‪ ،‬والحيوانات التي ُسمنت ً‬
‫كل قطر‪ ،‬ورغم أن هذه األشياء التي احتشدت‪ ،‬إال أنها ال ُترضي نفسه التي‬
‫ال تشبع‪ ،‬وكذلك لن تكون كمية أي سائل كافية لترضي الرجل الذي ُيشيط‬
‫عطشا بل ً‬
‫مرضا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اللهيب بواطنه وليس العوز للماء؛ ألن هذا ليس‬

‫‪ 4-11‬وال ينطق هذا على المال والطعام فحسب‪ ،‬فكل رغبة تنشأ ال عن حاجة‪،‬‬
‫بل عن رذيلة وصفتها كذلك‪ ،‬ورغم كثرة ما تكرسه لها فلن يكون هذا نهاية‬
‫للرغبة‪ ،‬ولكن مرحلة فيها فقط‪ ،‬ولذا َمن ُيبقي نفسه في الروابط التي تحددها‬
‫الطبيعة‪ ،‬لن يشعر بالفقر‪ ،‬وأما َمن يمضي وراء هذه الروابط‪ ،‬سوف يستشعر‬
‫الفقر‪ ،‬حتى لو كان بين أعظم ثروة‪ ،‬وأماكن المنفى كافية للضروريات وليست‬
‫ممالك للوفرة‪.‬‬

‫‪ 5-11‬ما يصنعه األثرياء هو العقل الذي يرافقنا في المنفى وفي البرية المتوحشة‪،‬‬
‫فحين يجدون ما يكفي ليسند الجسد‪ ،‬فإنهم يغتبطون بخيراته الوافرة‪ ،‬وال‬
‫يهمهم المال بل تشغلهم األرباب الخالدة‪.‬‬

‫‪ 6-11‬وكل هذه األشياء من رخام وذهب وفضة ومناضد مصقولة كبيرة مدورة تفوز‬
‫بها عقول تافهة وتعلق بأجسادهم‪ ،‬وكلها أعباء دنيوية‪ ،‬وليست محببة للعقل‬
‫وواع بطبيعته الحقة؛ ألنه منير وال يعبأ بشيء ويرتفع‬
‫ٍ‬ ‫الذي ال تشوبه شائبة‬
‫للسماوات العلى في الوقت الذي يتحرر فيه من الجسد‪ ،‬حيث ال تعيقه‬
‫أطرافنا وال عبء اللحم الثقيل الذي يحيط به‪ ،‬ويحلق فوق األشياء اإللهية‬
‫بومضات خفيفة للفكر‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫‪ 7-11‬وكذلك ال يمكن للعقل أن ُينفى أبدً ا‪ ،‬وهو محرر بما هو‪ ،‬وقريب لألرباب‪،‬‬
‫ومسا ٍو لكل العالم وكل األزمان؛ ألن فكره يتحرك حول السماوات كلها‪ ،‬وقد‬
‫ُمنح مدخلاً لكل األزمان سواء الماضي أو المستقبل(‪ ،((13‬أما هذا الجسد‬
‫فمجرد سجن للنفس وقيد لها‪ ،‬يقضي فيه العقل عقوب ًة ُوقعت عليه وأمراض‬
‫وضعة‪ ،‬ولكن العقل ذاته مقدس وأبدي‪ ،‬وال يمكن أن ُتوضع عليه يد قوية‪.‬‬

‫‪ 1-12‬وإن اعتقدت أنني أستعمل تعاليم الفالسفة للتقليل من مشقة الفقر التي ال‬
‫يفكر في أنها مرهقة سوى َمن يفكر فيها كذلك‪ ،‬وتاما أولاً أن نسبة الفقراء‬
‫كثيرا‪ ،‬وسوف ُتالحظ أقل تعاس ًة واضطرا ًبا من األغنياء‪ ،‬وأعتقد أنهم‬
‫تزداد ً‬
‫أقل في شكواهم التي ُتلهي عقولهم‪ ،‬وأسعد منهم‪.‬‬

‫‪ 2-12‬ودعونا نمر على األغنياء‪ ،‬فكم يظهرون في كثير من المناسبات مثل أصحاب‬
‫الفاقة! وحين يرتحلون تكون أمتعتهم محدودة‪ ،‬وحين تجبرهم قيود رحلتهم‬
‫على العجلة‪ ،‬وينبذون حشودهم التي ترافقهم‪ ،‬وحين يؤدون الخدمة‬
‫ً‬
‫بسيطا من متاعهم؛ ألن االنضباط في المعسكر‬ ‫جزءا‬
‫العسكرية الفعلية يبقون ً‬
‫يحظر جميع األدوات الفاخرة!‬

‫‪ 3-12‬وليست الظروف الخاصة بالعصر والمكان هي التي تضعهم على قدم المساواة‬
‫مع أصحاب الحاجة‪ ،‬فحين يقبض عليهم ملل ثروتهم يخصون أيام بعينها‬
‫ليتناولوا طعامهم على األرض ويطرحون صحائف الفضة والذهب جان ًبا‬
‫ليستعملوا أطباق الفخار‪ ،‬فيا لهم من مجانين! إنهم يرهبون حالة الفقر التي‬
‫يحنون إليها أحيا ًنا! ويا لظالم العقل‪ ،‬ويا للجهل بالحق الذي ُيعمي أولئك‬
‫الذين يضطربون خو ًفا من الفقر(‪ ،((13‬والذين ينهلون المتعة بالزيف!‬

‫‪ 4-12‬وكلما نظرت على أمثلة الماضي أخجل من ألاَّ أجد عزاء للفقر‪ ،‬فقد تفسخ‬

‫(‪ ((13‬راجع ‪.On the Shortness of Life 15.5‬‬


‫(‪ ((13‬وتكملة فاهلين ‪ Vahlen‬في الالتينية يضل الذين يخشون الفقر ‪.excaecat, quos timor paupertatis‬‬

‫‪111‬‬
‫بذخ العصور إلى الدرجة التي يسمح فيها االنتقال إلى المنفى بأكثر مما يخلفة‬
‫إرث القدماء‪ ،‬ونعلم جيدً ا أن هوميروس كان له عبد واحد‪ ،‬وألفالطون ثالثة‪،‬‬
‫ولم ِ‬
‫يقتن زينون المؤسس األساسي للرواقية عبدً ا‪ ،‬وهل أي أحد تفترض أنهم‬
‫عاشوا حياة بائسة من دونه‪ ،‬وبالتالي يبدون للجميع بائسين؟‬
‫ً‬
‫وسيطا بين الشريف‬ ‫‪ 5-12‬مينينيوس أجريبا ‪ ((13( Menenius Agrippa‬الذي كان‬
‫النبيل ‪ patricians‬والعامي الروماني لحفظ سالم الدولة ُدفن بهبة عامة‪،‬‬
‫وأتيليوس روجولوس (‪ ((13( )Atilius Regulus‬الذي كان يوجه القرطاجيين‬
‫في إفريقيا‪ ،‬كتب للسوناتو أن يده المستأجرة قد ذهبت‪ً ،‬‬
‫تاركا مزرعته مهجورة‪،‬‬
‫فقرر السوناتو في غياب روجولوس أن تؤول مزرعته لنفقة العامة‪ ،‬أليس من‬
‫لديه أجرة الدفع للعبد فالشعب أولى بأن يكون المزارع المستأجر؟‬

‫مهرا من الخزانة العامة؛ ألن أباهم لم يترك لهم‬ ‫‪ 6-12‬وتلقت بنات سكيبيو(‪((13‬‬
‫ً‬
‫شيئًا‪ ،‬وكان من المقبول للشعب الروماني أن يدفع سكيبيو الضريبة مرة واحدة‬
‫حيث كان يخرجها دو ًما من قرطاجة‪ ،‬وكان أزواج البنات محظوظين أن يكون‬
‫الشعب الروماني حماهم! وهل تعتقد أن البنات الذين تزوجوا بمهر مليون‬
‫سيستركيس أكثر سعادة من سكيبيو‪ ،‬فهؤالء البنات قد تلقوا من السوناتو‬
‫كفالتهم بوزن من النحاس كمهر؟‬

‫‪ 7-12‬هل يمكن أن يشعر أي أحد باالزدراء للفقر حين تعرض هذه النماذج المميزة؟‬
‫وهل للمنفى أن يحزن من أنه يفتقر لشيء ما في حين افتقر سكيبيو للمهر‬
‫ورجويليوس لليد المستأجرة ومينينيوس لثمن الجنازة؟ ومتى ُتلبى حاجة كل‬
‫هؤالء على نحو شريف ألنهم كانوا في حاجة؟ وهكذا بمثل هذه الدعوى‬

‫(‪ ((13‬قنصل عام ‪ 503‬ق‪.‬م‪ ،‬وعلى ما يبدو أنه أقنع عامة الرومان ‪ plebeians‬بعقم انفصالهم عن روما ‪.494‬‬
‫(‪ ((13‬انظر ‪ 7.10‬و هامش ‪ 39‬أعاله‪.‬‬
‫(‪ ((13‬انظر ‪ On the Shortness of Life 17.6‬وهامش ‪.44‬‬

‫‪112‬‬
‫التي نتوسل بها‪ ،‬فإن الفقر ليس ضمانة لإلعفاء بل هو محبب فحسب‪.‬‬

‫‪ 1-13‬ولهذا قد يكون الرد‪« :‬لماذا تفصل بشكل غير طبيعي العوامل التي ذكرتها التي‬
‫يمكن تحملها على نحو فردي وال تدمجها؟ فتغيير المكان يمكن تحمله إذا غيرته‬
‫فحسب‪ ،‬والفقر يمكن أن تطيقه إذا لم ينط ِو على عار كفيل بأن يسحق الروح»‪.‬‬

‫‪ 2-13‬وفي الرد على أي أحد يحاول تخويفي بكتلة من المتاعب‪ ،‬فهذا يحتاج مني‬
‫أن أقول‪« :‬إذا كنت محصنًا بما فيه الكفاية من جانب واحد للحظ‪ ،‬فإن الشيء‬
‫نفسه ينطبق على كل الجوانب‪ ،‬فقد ُتقوي العقل فضيلة واحدة‪ ،‬وتجعله‬
‫محصنًا من أي جهة‪ ،‬وإذا خفف الجشع واألوبئة التي تفترس جنس البشر‬
‫قبضتها عليك‪ ،‬فإن الطموح لن يعيقك‪ ،‬وإذا نظرت إلى يومك األخير على أنه‬
‫َ‬
‫تخش شيئًا يجرؤ أن يدخل صدرك‬ ‫ليس عقا ًبا بل على أنه قانون الطبيعة‪ ،‬فال‬
‫ويخيفك من الموت‪.‬‬

‫‪ 3-13‬وال تعتقد أن الرغبة الجنسية قد ُمنحت لإلنسان ألجل المتعة‪ ،‬بل من أجل‬
‫تواصل جنس البشر‪ ،‬فأحيا ًنا تهرب من هذا البالء الخفي الذي ُغرس في‬
‫حيواتنا‪ ،‬وقد ترحل عنك رغبات أخرى دون أن تمسها‪ ،‬وال يضرب العقل‬
‫الرذائل واحدة تلو األخرى‪ ،‬بل جميعها في آن‪ ،‬والنصر قطعي ونهائي»‪.‬‬

‫كليا ويحتفظ لنفسه بمسافة من رأي العامة‬


‫‪ 4-13‬هل تعتقد أن أي حكيم يركن إلى ذاته ًّ‬
‫الذي قد يصيبه بالعار؟ والموت المشين أسوأ حتى من العار‪ ،‬ولذا واجه سقراط‬
‫السم بنفس التعبير الذي تحلى به حين أخفض الطغاة الثالثين(‪ ،((13‬وثبت ليزيح‬
‫أي عار حتى من السجن(‪((13‬؛ ألنه ال محل حيث يبدو سقراط مسجو ًنا‪.‬‬

‫(‪“ ((13‬الطغاة الثالثون “ تشير إلى األوليجاركية التي استولت على السلطة في نهاية الحرب البلوبونيزية ‪Peloponnesian‬‬
‫‪ 403 -404( War‬ق‪.‬م)‪ .‬ولتحدي سقراط انظر محاورة الدفاع ‪ 32c-d‬ومسرحية السحب ألكسينوفان ‪Xenophon‬‬
‫‪.Memorabilia 1.2.32‬‬
‫(‪ ((13‬بعد إدانته عام ‪ 399‬ق‪.‬م‪ .‬انظر ‪.On Leisure 8.2‬‬

‫‪113‬‬
‫‪ 5-13‬و َمن الذى يعمى عن حقيقة أن ماركوس كاتو قد لقي هزيمة مزدوجة في سعيه‬
‫للحصول على لقب البرايتور والقنصل(‪ ((13‬وكان ً‬
‫عارا عليه؟ وقد حل العار‬
‫على البرايتور والقنصل الذي كسب الوجاهة بترشيح كاتو‪.‬‬

‫‪ 6-13‬وال أحد ُيحتقر من آخر إن لم يكن قد احتقر نفسه أولاً ‪ ،‬وربما يوجه العقل‬
‫الخنوع والذليل ذاته إلهانة اآلخرين‪ ،‬ولكن المرء الذي يقتلع ذاته ليواجه‬
‫المصائب الصعبة ويتغلب على الشرور التي تطغى على اآلخرين يرتدي‬
‫أحزانه كعالمة للوجاهة؛ ألن نزعتنا لهذا ال تقودنا لإلعجاب بشيء بقدر‬
‫إعجابنا بالرجل الشجاع وسط الشدائد‪.‬‬
‫‪((14( Aristides‬‬
‫إلى تنفيذ حكم اإلعدام على‬ ‫‪ 7-13‬وحين كان ُيقاد أريستيدس‬
‫ٍ‬
‫إنسان فحسب‪ ،‬بل‬ ‫كل َمن قابله‪ ،‬يلتفت إليه ويولي كما لو كان ليس مجرد‬
‫وكأن العدالة ذاتها قد جرت إلى الموت‪ ،‬وكان الوحيد الذي لم ّ‬
‫يول عنه هو‬
‫َمن جلس في مواجهته‪ ،‬وبدلاً من أن يرد أريستيدس بفعل الضيق وهذا فعل‬
‫يصنعه مخلوق سليط اللسان‪ ،‬ولكنه َب َّ‬
‫ش وجهه‪ ،‬وابتسم وقال للقاضي الذي‬
‫يرافقه‪« :‬أحذر هذا الرفيق الذي لم يفغر فاهه على نحو زميم في المستقبل»‪،‬‬
‫وهذا فرض إهانة على اإلهانة ذاتها‪.‬‬

‫‪ 8-13‬اعلم أن بعض الناس يقولون ال شيء أصعب من تحمل االزدراء ويجدون‬


‫الموت أفضل‪ .‬وردي عليهم أن المنفى محرر من أي ازدراء‪ ،‬وإذا سقط رجل‬
‫عظيم وبقي عظيم فإنه ُيهان بعد موته‪ ،‬فإنه ال يزيد ازدراؤه أكثر من أنقاض‬
‫بورع وهو ال يزال واق ًفا‬
‫ٍ‬ ‫المعبد التي ُتداس باألقدام‪ ،‬ذلك المعبد الذي ُيعامل‬
‫على أنه مبجل‪.‬‬

‫(‪ ((13‬في عام ‪ 51-55‬ق‪.‬م على التوالي‪ ،‬أما بالنسبة لكاتو انظر ‪ 5.9‬وهامش ‪ 31‬أعاله‪.‬‬
‫(‪ ((14‬سياسي أثيني من القرن الخامس ملقب بالعادل(‪ ،)d. ca.467‬ومن المحتمل أنه أعطى هنا خطأ لفوكيون ‪Phocion‬‬
‫)‪ (ca. 402–318‬رجل الدولة والجنرال األثيني الذي حكى عنه بلوتارخ القصة نفسها في كتابه حياة فوكيون (‪The Life‬‬
‫‪.)of Phocion 36.1–2‬‬

‫‪114‬‬
‫سبب يا أعز أم يدفعك لدموع ال نهاية لها كما أرى‪ ،‬فربما‬
‫‪ 1-14‬وبما أنه ليس لديك ٌ‬
‫ِ‬
‫فقدت‬ ‫ِ‬
‫ألنك‬ ‫تخصك‪ ،‬وهناك احتماالن‪ِ ،‬‬
‫أنك محزونة‬ ‫ِ‬ ‫قد تبكين ألسباب‬
‫ِ‬
‫توقك لي ال يطاق في ذاته‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وجدت‬ ‫بعض الحماية‪ ،‬أو ِ‬
‫أنك‬
‫ِ‬
‫لعزيزك ال‬ ‫لمسا خفي ًفا؛ ألنني أعلم أن في قلبك ًّ‬
‫حبا‬ ‫وعلي أن ألمس االحتمال ً‬
‫َّ‬ ‫‪ 2-14‬‬
‫يعلوه شيء‪ ،‬ودع هذه األمهات تلحظ الالئي يستغلون قوة أطفالهن بضعف‬
‫المرأة‪ ،‬والنساء الالئي ال ُيسمح لهن بتقلد المنصب‪ ،‬فيحرصن على إحراز‬
‫يكن هن‬
‫تقدم من خالل أطفالهن‪ ،‬والذين يبتلعن ميراث أبنائهن ويحاولن أن َّ‬
‫الورثة‪ ،‬والالئي يبلين فصاحة أبنائهن بإقراضها لآلخرين‪.‬‬
‫ِ‬
‫واستثمرت الحد األدنى فيها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أبنائك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أخذتك الفرحة الشديدة بقوة‬ ‫ِ‬
‫ولكنك‬ ‫‪ 3-14‬‬
‫ِ‬
‫ومنحت العطايا ألبنائك‬ ‫ِ‬
‫عليك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ووضعت دو ًما حدو ًدا على كرمنا وليس‬
‫ِ‬
‫وكنت تديرين ميراثنا كما لو‬ ‫حيا(‪،((14‬‬ ‫ِ‬
‫والدك كان ال يزال ًّ‬ ‫األثرياء رغم أن‬
‫ِ‬
‫واقتصدت في استعمال‬ ‫ِ‬
‫وتعاملت بحذر مع األغراب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ميراثك‬ ‫ِ‬
‫أنك ترعين‬
‫ِ‬
‫عليك زمن منصبنا شيئًا‬ ‫شخصا آخر‪ ،‬ولم يجلب‬
‫ً‬ ‫نفوذنا كما لو كان يتبع‬
‫ِ‬
‫يجعلك العطف تنظرين إلى مصلحة أنانية‪ ،‬واآلن‬ ‫سوى السعادة والنفقة‪ ،‬ولم‬
‫ابنك بعيدً ا‪ ،‬ال يمكن أن تشعري بغياب هذه األشياء التي اعتبرتِها ال‬
‫وقد انتُزع ِ‬
‫تهمك حين كان هو آمنًا في المنزل‪.‬‬

‫علي أن أوجه عزائي كلي ًة للمصدر الذي تنشأ منه‬


‫‪ 1-15‬وبالنسبة لالحتمال اآلخر َّ‬
‫القوة الحقيقية لحزن المرأة حين تقولين‪« :‬لقد فقدت حضن ابني األعز»‪،‬‬
‫كنت أراه كان‬ ‫ً‬
‫وأيضا «وال يمكنني أن أفرح بطلعته والحديث معه‪ ،‬وحين ُ‬
‫يخفف الحزن عني وأعهد إليه بما ينتابني من قلق‪ ،‬أين هو؟ وأين الحديث‬
‫الذي كنت أنتظره طويلاً ؟ وأين دراسته التي ُ‬
‫كنت أشاركه فيها بأكثر من رغبة‬

‫(‪ ((14‬على سبيل المثال قبل أن تعتمد على ميراثها‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫المرأة وبمودة وراءها عالقة أمومتنا؟ وأين هي مجالسنا؟ وأين شعور الصبي‬
‫بالفرحة حينما يراى أمه؟»‪.‬‬

‫معا‪،‬‬
‫معا‪ ،‬وقضينا فيها وقتًا ً‬
‫‪ 2-15‬وأضيفي إلى كل هذا األماكن التي احتفلنا فيها ً‬
‫مؤخرا– الذكريات التي ُتسبب الكرب العظيم‪،‬‬
‫ً‬ ‫والذكريات التي تشاركناها‬
‫وهذه ضربة وحظ يبدع تجاهك بقساوة‪ ،‬لقد أعطاني يومين قبل أن يهدمني‬
‫ٍ‬
‫هادئ وال تخشي أي مصيبة مثل هذه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وعليك أن ترحلي عني(‪ ((14‬بعقل‬
‫‪ 3-15‬إنه شيء حسن أننا نعيش بعيدً ا عن بعضنا البعض‪ ،‬وحسن أن غيابي ِ‬
‫عنك‬
‫ِ‬
‫كسبك متعة‬ ‫ِ‬
‫عودتك لروما لم ُي‬ ‫ِ‬
‫أعدك لهذه الضربة‪ ،‬وأثر‬ ‫لسنوات طوال قد‬
‫ِ‬
‫لتحملت‬ ‫ِ‬
‫رحلت قبل منفاي‬ ‫ِ‬
‫فقدت عادة التوق إليه‪ ،‬ولو ِ‬
‫كنت‬ ‫رؤية ِ‬
‫ابنك بل‬
‫كنت قد‬ ‫ِ‬
‫توقك‪ ،‬ولو لم تعودي ِ‬ ‫ٍ‬
‫بشجاعة أكبر؛ ألن المسافة قد هونت‬ ‫الفقد‬
‫كسبت فائد ًة أخير ًة‪ ،‬وهي أن تري ِ‬
‫ابنك ليومين أطول على األقل‪ ،‬وكما هو‬ ‫ِ‬
‫الحال قد رتب القدر القاسي األمور‪ ،‬ولن تكوني معي حين وقعت المصيبة‪،‬‬
‫رغم ِ‬
‫أنك لم تعتادي البعد عني‪.‬‬
‫ِ‬
‫شجاعتك‪ ،‬وقاتلي بضراوة‪ ،‬كما‬ ‫‪ 4-15‬ولكن إن اشتدت هذه الظروف‪ ،‬فزيدي من‬
‫كنت تعرفين العدو الذي هزمتِه في الماضي غال ًبا‪ ،‬والدم ال يتدفق من‬ ‫لو ِ‬
‫أنك ِ‬
‫ِ‬
‫ندوبك‪.‬‬ ‫الجسم الصحيح‪ِ ،‬‬
‫إنك ُض ِ‬
‫ربت في‬

‫نحت رخصة واقعية بالبكاء المفرط وليس‬ ‫ِ‬


‫بكونك امرأ ًة‪ ،‬حيث ُم ِ‬ ‫‪ 1-16‬وال تتعذري‬
‫أزواجهن‬
‫َّ‬ ‫بدموع ال تكفكف‪ ،‬ولهذا السبب سمح أسالفنا بأن ترثي األرامل‬
‫لمدة عشرة شهور‪ ،‬وبهذه الطريقة يصل االستقرار بقرار عام بمراعاة حزن‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫المرأة‪ ،‬فهم ال يحرمون حدادهن‪ ،‬بل يضعون حدًّ ا له‪ ،‬وحين تفقدين‬
‫ِ‬
‫عليك ألاَّ تنكبي في حزن يغمس النفس في حماقة ال نهاية لها‪ ،‬وألاَّ‬ ‫عزيزً ا‪،‬‬

‫(‪ ((14‬من المفترض أن تغادر من روما إلى إسبانيا‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫إنسانيا‪ ،‬وأفضل توازن بين‬
‫ًّ‬ ‫تشعري أن عدم الحزن تبلد لإلحساس وليس‬
‫عاطفة الواجب والعقل أن تشعري بإحساس الفقد ثم تقمعيه‪.‬‬

‫حزنهن إال بالموت‪،‬‬


‫َّ‬ ‫بعينهن لم ِ‬
‫ينته‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وعليك ألاَّ تدفعي انتباهك نحو نسوة‬ ‫‪ 2-16‬‬
‫ِ‬
‫فتحليك‬ ‫وتعلمي أن البعض لم يتخلوا عن ردائهم حين فقدوا أبناءهم((‪.)((14‬‬
‫ِ‬
‫بكونك امرأة ال يمكن أن‬ ‫بالشجاعة التي بدأتِها يطلب منك المزيد‪ ،‬والذريعة‬
‫ِ‬
‫مثلك لم ُتظهر أي أثر للضعف النسوي‪.‬‬ ‫تنطبق على واحدة‬

‫‪ 3-16‬وقد ُعفيت دون غالبية النساء من أعظم آفة لعصرنا وهي عدم الحياء‪ ،‬فال‬
‫خيرا‬
‫تحولك األحجار الكريمة الثمينة وال اللؤلؤ‪ ،‬وبريق الثروة ال يجعلها ً‬
‫ِ‬
‫وأنت في القديم والمألوف القاسي‪ ،‬فال‬ ‫أسمى لجنس البشر‪ ،‬وقد تسمو‬
‫تنقادي إلى الضالل بمحاكاة أسوأ النساء‪ ،‬فوبالها حتى الصفات المستقيمة‪،‬‬
‫وال تخجلي من خصوبتك أبدً ا كما لو أنها جلبت اللوم على العمر الذي‬
‫تعيشينه‪ ،‬وخالفي النساء اللواتي يعولن على جاذبيتهن لمجرد جمالهن‪ ،‬وال‬
‫ِ‬
‫أطفالك بعد تصورهم‬ ‫قبيحا‪ ،‬وال ُتحبطي آمال‬
‫ُتخفي حملك كما لو كان عبئًا ً‬
‫ِ‬
‫فيك‪.‬‬

‫وجهك بالزينة ومستحضرات التجميل‪ ،‬وال ترغبي في نوع‬ ‫ِ‬ ‫‪ 4-16‬ال تشوهي‬
‫رأيت ِ‬
‫فيك زين ًة فريد ًة وهي‬ ‫ُ‬ ‫المالبس التي ال تشف اللحم حين تخلعينها‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬
‫تواضعك‪.‬‬ ‫قبس من الجمال يدوم لكل عمر‪ ،‬وأعظم وجاهة هي‬
‫ِ‬
‫فضائلك ُتبقيك بصرف‬ ‫ِ‬
‫حزنك؛ ألن‬ ‫ِ‬
‫أمامك األنوثة ذريع ًة لتبررى‬ ‫‪ 5-16‬ال تضعي‬
‫ِ‬
‫ابتعدت عن‬ ‫النظر عن األنوثة‪ ،‬وينبغي أن تبتعدي عن دموع األنثى كما‬
‫ِ‬
‫يأمرونك‬ ‫لك النسوة أن تنزوي عن جرحك‪ ،‬بل سوف‬ ‫رذائلهن‪ ،‬ولن يسمح ِ‬
‫بضرورة تعجيل نصب الحداد ليظهر إجهاد القلب مر ًة أخرى‪ ،‬إذا ِ‬
‫كنت على‬

‫(‪ ((14‬أوكتافيا هي أخت أوغسطس التي برزت بعد وفاة ابنها مارسيلوس‪ .‬انظر عزاء إلى ماركيا (‪cf. Consolation to‬‬
‫‪.)Marcia 2.3–4‬‬

‫‪117‬‬
‫استعداد للنظر إلى هذه النسوة الالئي وضعتهم الشجاعة الملفتة للنظر في‬
‫مصاف الرجال العظماء‪.‬‬
‫ِ‬
‫أردت‬ ‫‪ 6-16‬كورنيليا(‪ ((14‬كان لها اثنا عشر طفلاً ‪ ،‬واختزلهم الحظ في طفلين‪ ،‬وإذا‬
‫أن تحسبي خسائرها في العدد‪ ،‬فإنها فقدت عشرة‪ ،‬وأما في القيمة فقد فقدت‬
‫جراشي ‪ ،Gracchi‬وعندما كان تبكي حولها رفيقاتها وينعين قدرها‪ ،‬منعتهم‬
‫من لوم الحظ؛ ألن الحظ منحها جراشي مثلما أعطاها أبناءها‪ ،‬ومن هذه المرأة‬
‫فحسب يمكن أن يولد نوع الرجل الذي يهتف في العلن‪“ :‬هل تتحدثين عن‬
‫سوء المرأة التي ولدتني؟”‪ ،‬ويبدو لي كالم األم أكثر حيوي ًة؛ فاالبن وضع‬
‫قيمة كبيرة على نسل جراشي‪ ،‬ولكن األم ركزت على موتهم‪.‬‬
‫روتيليا(‪((14‬‬
‫ابنها كوتا ‪ Cotta‬في المنفى‪ ،‬وكانت معروفة بتفانيها‪،‬‬ ‫‪ 7-16‬تبعت‬
‫حيث فضلت أن تحمل المنفى على توقها له‪ ،‬ولم تعد إلى البيت حتى رجع‪،‬‬
‫وبعد عودته برز في الحياة العامة‪ ،‬وحين مات تحملت فقده بشجاعة كما‬
‫دموعا بعد دفنه‪ ،‬وبانت شجاعتها‬
‫ً‬ ‫ير أحدٌ منها‬
‫تحملت مرافقته للمنفى‪ ،‬ولم َ‬
‫شيء عن‬
‫ٌ‬ ‫حين كان منف ًيا والحكمة حين فقدته‪ ،‬ففي الحالة األولى لم يثبطها‬
‫تصر على حزن ال طائل منه‪ ،‬وأنا أريد أن‬
‫واجب حبها‪ ،‬وفي الحالة الثانية لم َّ‬
‫ِ‬
‫أواجهك بمثل هذه النساء‪ ،‬حتى تتبعي هذه األمثلة من النسوة التي ستُحاكين‬
‫ِ‬
‫آالمك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دأبك للسيطرة على قمع‬ ‫حياتهم في‬

‫‪ 1-17‬وأنا أعلم أن هذه المسألة ليست في سيطرتنا‪ ،‬وال نقوى(‪ ((14‬على المشاعر‬
‫التي تولد مع الحزن؛ ألنها عنيفة وتقاوم أي مداوة بالعناد‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫نريد أن نتجاوز الحزن ونتجرع طعنات ألمنا‪ ،‬ولكن دموعنا تتدفق في قناع‬

‫(‪ ((14‬ابنة سكيبيو اإلفريقي الثانية‪ .‬انظر ‪ 6-12‬أعاله وأم تيبيريوس وجايوس جراكوس ‪. Gaius Gracchus‬‬
‫(‪ ((14‬والدة الخطيب المميز أوريليوس كوتا الذي ُنفي عام ‪ 90‬ق‪.‬م‪ ،‬بتهمة تحريض اإليطاليين على الثورة‪ ،‬ويذكر أنه كان‬
‫قنصلاً عا ًّما ‪ .75‬راجع ‪ Cf. On the Shortness of Life 14.2‬وهامش ‪.36‬‬
‫‪(146) On the Shortness of Life 14.2 and n. 36.‬‬

‫‪118‬‬
‫خاطئ التزان وجوهنا‪ ،‬وأحيا ًنا ُنلهي العقل باأللعاب العامة والمجالدة‪ ،‬ولكن‬
‫بين المشاهد الفعلية التي ُتلهي الحزن يتراجع بصيص من ذكرى فقدانه‪.‬‬

‫‪ 2-17‬ولذلك من األفضل أن نهزم أحزاننا وألاَّ نحتال عليها‪ ،‬فالحزن قد ُيخدع‬


‫و ُيشتت بالسعادة وبزوغ شواغل جديدة‪ ،‬ونستجمع من الراحة فيها قوة تعيننا‬
‫على الغضب مرة تلو األخرى‪ ،‬ولكن الحزن الذي يخضع للعقل ينمحي أبدً ا‪،‬‬
‫ِ‬
‫وعليك أن تشغلي‬ ‫وهكذا لن أصف ِ‬
‫لك تلك التدابير التي تداوى بها الكثيرون‪،‬‬
‫ِ‬
‫شؤونك‬ ‫ِ‬
‫ذاتك بالترحال إلى أماكن بعيدة أو خالبة‪ ،‬واستثمري وقتك في تأمل‬
‫ِ‬
‫نفسك ببعض النشاطات الجديدة على الدوام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حالك أو اربطي‬ ‫بجد‪ ،‬وأديري‬
‫وتعين كل هذه المبادرات لفترة وجيزة‪ ،‬وهي ليست شافية للحزن بل تعيقه‬
‫فحسب‪ ،‬وإنني أفضل أن ننهي الحزن أفضل من أن نحتال عليه‪.‬‬
‫ِ‬
‫أوجهك لمالذ يسعى إليه كل الذين يفرون من الحظ حيث الدراسات‬ ‫‪ 3-17‬وهكذا‬
‫الحرة‪ ،‬إنهم يشفون جراحهم‪ ،‬ويقتلعون حزنهم كله‪ ،‬وحتى لو لم تتعايشي‬
‫ِ‬
‫فأنت في حاجة لالستفادة منهم اآلن‪ ،‬لدرجة أن صرامة تقاليد أبي‬ ‫معهم‬
‫سمحت ِ‬
‫لك أن تلتمسي كل الفنون الحرة حتى لو كنت خبيرة فيها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫القديمة‬

‫‪ 4-17‬وكم تمنيت أن أبي ‪-‬وهو أعظم الرجال‪ -‬أن يقلل من االرتباط بعادة األجداد‪،‬‬
‫ِ‬
‫كنت‬ ‫ِ‬
‫ويعدك لتلقي المذاهب الفلسفية بدلاً من مجرد التوجيهات البدائية!‬
‫ستصبحين بال حاجة الكتساب وقاية تجاه الحظ‪ ،‬بل تطبيق لها فحسب‪ ،‬ولم‬
‫ِ‬
‫ليكرسك للدراسة الفلسفية؛ ألن النساء يستخدمون الكتب ال‬ ‫يكن ألبي رغبة‬
‫ِ‬
‫وعقلك‬ ‫ِ‬
‫عجلتك‬ ‫ليكسبوا الحكمة بل كأداة إلظهار الوجاهة‪ ،‬ومع ذلك بفضل‬
‫أسسا لكل‬ ‫ِ‬
‫ووضعت ً‬ ‫كبيرا في وقت وجيز من الزمن‪،‬‬‫قدرا ً‬
‫لت ً‬ ‫حص ِ‬
‫النهم َّ‬
‫ِ‬
‫تبقيك آمن ًة‪.‬‬ ‫فروع الدراسة الفلسفية‪،‬عودي اآلن إلى هذه الدراسات‪ ،‬فسوف‬
‫ِ‬
‫عقلك ح ًّقا لن‬ ‫ِ‬
‫وتمنحك السعادة‪ ،‬وإن دخلت‬ ‫‪ 5-17‬وسوف تجلب ِ‬
‫لك الراحة‬
‫مر ًة أخرى‪ ،‬ولن تحدث ِ‬
‫لك كر ًبا غير الزم بمعاناة ال‬ ‫ِ‬
‫يداهمك الحزن وال القلق َّ‬
‫‪119‬‬
‫معنى لها‪ ،‬وسوف ينفتح ِ‬
‫قلبك إلحداها؛ ألنها أغلقت منذ آمد كل اإلسقاطات‬
‫ِ‬
‫حمايتك الموثوق‪ ،‬وهي المصدر‬ ‫األخالقية األخرى‪ ،‬وهذه الدراسات قالب‬
‫ِ‬
‫لنجاتك من سطوة الحظ‪.‬‬ ‫الوحيد‬

‫لك‬ ‫ٍ‬
‫مالذ تضمنه ِ‬ ‫ِ‬
‫ألنك في حاجة لدعم لتتكئي عليه حتى تصلي إلى‬ ‫‪ 1-18‬ولكن‬
‫الفلسفة‪ ،‬أود أن أعرض ِ‬
‫لك عزاء هو لك بالفعل‪.‬‬

‫أخوي(‪ ((14‬حينما كانا حيين‪ ،‬لم يكن ح ًّقا أن تجدي خطأ مع‬‫َّ‬ ‫‪ 2-18‬فكري في‬
‫كل منهما سب ًبا للبهجة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وجدت في ٍّ‬ ‫الحظ‪ ،‬وباختالف تميز طبائعهما المختلفة‬
‫فأحدهما قد حقق منص ًبا بجهد دؤوب‪ ،‬في حين حقره اآلخرون في حكمته‬
‫الفلسفية‪ ،‬فاقتبسي الراحة من علو ابن واحد وتقاعد عن اآلخرين وأخلصي‬
‫للجميع‪ ،‬واعرفي المشاعر العميقة لكل إخوتي‪ ،‬فأحدهم ُيحسن مكانته‬
‫ل ُيكسبك بري ًقا‪ ،‬في حين ينجر اآلخر نحو حياة السكينة المريحة؛ ليمنحك‬
‫ترفيها‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا العون والبهجة‪،‬‬
‫ً‬ ‫لك‬ ‫ِ‬
‫أبناءك ليجلبوا ِ‬ ‫‪ 3-18‬وقد رتب ِ‬
‫لك الحظ بشكل إيجابي‬
‫ِ‬
‫فأنت في حمى مكانة أحدهما‪ ،‬وفي فرحة راحة اآلخر‪ ،‬إنهم يتنافسون في‬
‫أنك‬ ‫ِ‬
‫وأعدك بكل ثقة ِ‬ ‫ٍ‬
‫واحد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫توقك ٍ‬
‫البن‬ ‫خدمتهم ِ‬
‫لك‪ ،‬ويتفانى االبنان ليعوضا‬
‫ِ‬
‫ألبنائك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شيء سوى العدد الكامل‬ ‫لن تفتقري إلى‬
‫ِ‬
‫أحفادك‪ ،‬فماركوس صبي وسيم(‪ ،((14‬فال أحد ينظر إليه‬ ‫‪ 4-18‬وبعد هذا‪ ،‬فكري في‬
‫ِ‬
‫وأنت عاجز ٌة عن تهدئتها‬ ‫ويظل حزينًا‪ ،‬وال تهون المصيبة وتكون لبادة طرية‬
‫ِ‬
‫حضنك‪.‬‬ ‫في‬
‫‪ 5-18‬ومن دموعه له بهجه وليست ً‬
‫ضبطا؟ وما العقل الذي قد يضيق بالقلق ويفشل‬

‫(‪ ((14‬نوفاتوس (جاليو ‪ ،)Gallio‬ويال‪ ،‬انظر ‪ 4-2‬وهامش ‪ 2‬أعاله‪ ،‬ترقى األول ليكون قنصلاً ألخيا ‪ proconsul‬عام ‪،52‬‬
‫سياسيا (‪.)Controversiae 2 pref. 3–4‬‬
‫ًّ‬ ‫طموحا‬
‫ً‬ ‫والثاني كان أذكى أبناء سينيكا األكبر وأقلهم‬
‫(‪ ((14‬ربما كان الشاعر لوكان ابن ميال (‪.)39–65 ce‬‬

‫‪120‬‬
‫في االسترخاء بلغوه السريع؟ و َمن الذي ال ينجذب للسرور بمرحه؟ و َمن‬
‫الشخص الذي مع تركيزه على أفكاره ال يتحول أو ُيؤسر بالحديث لنفسه‬
‫الذي ال يمكن أن يرتديه أي أحد؟ وأتضرع إلى الرب أن يميتنا قبل أن يفعل!‬

‫خصصتِه‬ ‫ِ‬
‫حزنك لما قد َّ‬ ‫‪ 6-18‬وربما تنهك كل قساوة القدر وال تطولني‪ ،‬ومهما يكن‬
‫إلي‪ ،‬وربما تزهو بقية عائلتي دون ضرر‪ ،‬ولم‬
‫لتعاني كأم أو كجدة ربما ينتقل ّ‬
‫ُ‬
‫أشك من طفولتي وال من ظروفي الحالية‪ ،‬ودعيني أخدم ككبش فداء فحسب‬
‫سبب آخر للحزن‪.‬‬
‫للعائلة التي ليس لها ٌ‬
‫‪ 7-18‬احتضني نوفاتيال(‪ ((14‬بحماس‪ ،‬وهي التي ستمنحك األحفاد قري ًبا‪ ،‬لقد نقلتها‬
‫لرعايتي وتبنيتها(‪((15‬‬
‫حيا‪،‬‬
‫‪ ،‬وبفقدانها لي ستبدو يتيمة حتى لو كان والدها ًّ‬
‫ِ‬
‫بحبك‬ ‫مؤخرا‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬ ‫واعتزي بها مثلما صنعت! لقد انتزع الحظ منها أمها‬
‫الشديد ال تشعريها بالحزن على أمها‪.‬‬

‫‪ 8-18‬واآلن هو الوقت المناسب لتنظمي وتشكلي شخصيتها‪ ،‬حتى يترك اإلرشاد‬


‫أثرا أعمق حينما ُيطبع على العقول الحساسة‪ ،‬ودعيها تعتاد على الحديث‬ ‫ً‬
‫كثيرا حتى لو أعطيتِها مثالاً‬
‫ً‬ ‫معك‪ ،‬وتشكلي بما ترينه مناس ًبا‪ ،‬لقد منحتِها‬
‫ِ‬
‫فحسب‪ ،‬وهذا الواجب الجليل دواء ِ‬
‫لك؛ ألن الفلسفة الوحيدة أو الجدير‬
‫باالحترام من االنشغال يصرف عن العقل الذي يحزن على محبوب آالمه‪.‬‬
‫والدك كذلك لم يكن بعيدً ا ِ‬
‫منك(‪،((15‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عزاءاتك العظيمة أعتبر أن‬ ‫‪ 9-18‬ومن بين‬
‫لك لتحفظي نفسك‬ ‫حبك‪ ،‬وستفهمين األكثر مالئم ًة ِ‬
‫ِ‬ ‫وأتخيل حبه ِ‬
‫لك فامنحيه‬
‫أمرا‬ ‫ِ‬
‫يداهمك الحزن ويصدر ً‬ ‫ِ‬
‫نفسك لي‪ ،‬وحينما‬ ‫له بدلاً من أن تستهلكي‬
‫ِ‬
‫والدك‪ ،‬فامنحيه أحفا ًدا كثيرين وعظماء‪ ،‬وال تجعليه‬ ‫لتخضعي له‪ ،‬فكري في‬

‫(‪ ((14‬أخت نوفاتوس (جاليو)‪.‬‬


‫رسميا‪ ،‬ولكن بمعنى العاطفة لها‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((15‬ليس‬
‫(‪ ((15‬من المفترض أن هلفيا كانت في إسبانيا وقد عادت إلى روما‪ ،‬راجع (‪ )cf. 15.2–3‬بعد أن وصلتها أخبار نفي سينيكا‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ِ‬
‫عليك‪ ،‬وطالما‬ ‫بطفل وحيد‪ ،‬فالتتويج الكامل للحياة التي عاشها سعيدً ا يعتمد‬
‫ِ‬
‫حياتك‪.‬‬ ‫أنه يعيش‪ ،‬فمن الخطأ أن يشتكي من‬

‫‪ 1-19‬وحتى اآلن لم أقل شيئًا عن مصدر الراحة األكبر وهو شقيقتك(‪ ،((15‬وهي‬
‫لك‪ ،‬وتلقت كل المخاوف التي تنقلها ِ‬
‫لك دون تحفظ‪،‬‬ ‫القلب الذي ُك ِّرس ِ‬
‫ِ‬
‫دموعك بدموعها وارتمي في‬ ‫وهي إحساس األمومة لنا جميعا‪ ،‬فاخلطي‬
‫حضنها‪.‬‬
‫ِ‬
‫أجلك‪ ،‬لقد‬ ‫ِ‬
‫تشاطرك المشاعر دو ًما‪ ،‬ولم تحزن لحالي كما تحزن من‬ ‫‪ 2-19‬وهي‬
‫ُحملت إلى روما بين يديها(‪ ،((15‬وبفضل ما كرسته وتمريضها األمومي‬
‫ومارست نفوذها ألجلي حين وقفت‬
‫ْ‬ ‫تعافيت من مرضي الذي دام طويلاً ‪،‬‬
‫ُ‬
‫بجانبي في وظيفة الكويستور ‪ ،((15( quaestorship‬رغم أنها افتقرت إلى‬
‫الثقة في الصوت أو التحية بصوت ٍ‬
‫عال‪ ،‬فحبها لي عزاه الخجل‪ ،‬فليست‬
‫طريقة حياتها المنعزلة وال تواضعها المتوارث يقارن بفجاجة المرأة اليوم‪،‬‬
‫وال هدوؤها وال شخصيتها المتحفظة بميلها للعزلة‪ ،‬ولم يمنعها هذا من أن‬
‫تحقق طموحي‪.‬‬
‫ِ‬
‫تمدك به من قوة‪ ،‬فاقتربي منها‬ ‫‪ 3-19‬هي أعز أم‪ ،‬وهي مصدر الراحة بما يمكن أن‬
‫بقدر الممكن‪ ،‬وتعلقي بها باحتضانها بقوة‪ ،‬ويميل المشيعيون لتجنب األشياء‬
‫التي يحبونها جدًّ ا ويسعوا للحرية ليغمسوا حزنهم‪ ،‬وعليك أن تتشاطري كل‬
‫رغبت في مواصلة هذه الحالة من الشعور أم طرحتِها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فكرك معها‪ ،‬وسواء‬
‫ِ‬
‫لحزنك أو رفقة له‪.‬‬ ‫جان ًبا‪ ،‬ستجدين عندها نهاية‬

‫(‪ ((15‬أخت هلفيا غير الشقيقة نظر لإلشارة لهلفيا على أنها طفل وحيد في ‪ ، 9.18‬وهي زوجة جايوس جاليريوس ‪Gaius‬‬
‫مرضت سينيكا وأعادة له صحته في مصر (‪ )19 -2‬في الجزء‬ ‫‪ Galerius‬حاكم مصر ‪ ،31 -16‬ومن المفترض أنها َّ‬
‫األخير من هذه الفترة‪.‬‬
‫(‪ ((15‬وكطفل من قرطبة في إسبانيا من المفترض أن يكون والداه في روما‪.‬‬
‫(‪ ((15‬بعد فترة وجيزة عام ‪ 33‬م عادت عمته من مصر عام ‪.31‬‬

‫‪122‬‬
‫‪ 4-19‬ولو أعلم ح ًّقا الحكمة التي كملت لهذه المرأة‪ ،‬فإنها لن تسمح ِ‬
‫لك أن تتزيي‬
‫لك قصص تجاربها التي شهدتها أنا ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫بحزن ال طائل منه‪ ،‬وسوف تسرد ِ‬
‫فهي فقدت محبوبها عمي في وسط رحلة بحرية(‪ ((15‬وهو أول زوج لها‪،‬‬
‫معا‪ ،‬ورغم غرق السفينة تغلبت على العاصفة‬
‫وحملت ثقل حزنها وخوفها ً‬
‫وألقت بجسدها على الشاطئ‪.‬‬

‫‪ 5-19‬وكم عدد النساء اللواتي خبت أعمالهم المجيدة في ظالم! وما أكثرت من هذا‬
‫إلاَّ لتحيي في أزمنة غابرة‪ ،‬في حين جهر الناس إعجا ًبا بأعمالهم العظيمة‪،‬‬
‫وكم كان التنافس بين الفنانين الموهوبين ليتغنوا بمديح الزوجة التي تناست‬
‫الجسور‪ ،‬والتي وضعت‬
‫ضعف قواها البدنية وتناست البحر الذي يخشاه حتى َ‬
‫تخش جنازتها مطل ًقا في حين كانت‬
‫َ‬ ‫حياتها في خطر لتدفن زوجها‪ ،‬والتي لم‬
‫تفكر فيه! التي كانت على استعداد أن تمنح حياتها لزوجها(‪ ،((15‬وذاع صيتها‬
‫بين كل الشعراء‪ ،‬ولكن هذا إنجاز عظيم المرأة سعت أن تدفن زوجها وهي‬
‫تخاطر بحياتها‪ ،‬وأعظم حب الذي يربح عائدً ا أقل من خطر مسا ٍو‪.‬‬

‫‪ 6-19‬وال يندهش أحد وهي في عمر الستين حين كان زوجها حاكم مصر‪ ،‬ولم‬
‫تسع لمصالح‬
‫يشاهدها العامة‪ ،‬ولم تسمح ألي مواطن أن يدخل بيتها‪ ،‬ولم َ‬
‫سياسية من زوجها‪ ،‬ولم تسمح بأن يبحثوا عنها‪ ،‬وكانت المقاطعة مولعة‬
‫بالقيل والقال وموهوبة في شتم حكامها‪ ،‬وحتى الذين بعدوا عن الزلل لم‬
‫يسلموا من سوء السمعة‪ ،‬فانظري لها كمثال فريد للنزاهة –واألمر الصعب‬
‫للغاية أن يمنح الشعب ُطر ًفا حتى في الخطر‪ -‬إنه يحد من لغته المزاحية‬
‫المتحررة‪ ،‬وحتى هذا اليوم يبتهلون رغم أنهم ال يتوقعوا أن يروا مثيلتها‪،‬‬
‫جديرا باالعتبار لو فازت بموافقة المقاطعة لمدة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إنجازا‬ ‫وكانوا سوف يرون‬

‫(‪ ((15‬ربما في طريق العودة من مصر في ‪ 31‬م‪.‬‬


‫(‪ ((15‬في األسطورة اليونانية ألسيستيس ‪ Alcestis‬زوجة أدميتوس ‪.Admetus‬‬

‫‪123‬‬
‫ستة عشر عا ًما‪ ،‬ولكن الجدير بالمالحظة أنها بقيت غير معروفة هناك‪.‬‬

‫‪ 7-19‬وإني ألذكر هذه األمور ليس بغرض أن أعدد صفاتها الجديرة بالثناء‪ ،‬بل لذكر‬
‫ِ‬
‫ولكنك تدركين عقلية المرأة الواسعة التي لم تستسلم‬ ‫معاملتهم لها بظلم‪،‬‬
‫للطموح وال الجشع واآلفات التي ترافق السلطة دو ًما‪ ،‬التي لم يردعها الموت‬
‫من أن تتشبث بزوج ال حياة له‪ ،‬حين تعطل قاربها وهي تشاهد حطام سفينتها‪،‬‬
‫ِ‬
‫وعليك أن‬ ‫والتي لم تبحث عن طريق للهرب من السفينة بل لتأمين دفنه‪،‬‬
‫ِ‬
‫عقلك من الحزن‪ ،‬وبالتالي تأكدي أال‬ ‫ُتظهري شجاع ًة مساوي ًة لها‪ ،‬واسحبي‬
‫لديك أطفال‪.‬‬‫ِ‬ ‫أحد يأسف ألنه‬

‫إلي باستمرا ٍر ً‬
‫حتما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عليك أن تعودي َّ‬ ‫ِ‬
‫وأفكارك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تدابيرك‬ ‫‪ 1-20‬ولكن رغم كل‬
‫ِ‬
‫أطفالك؛ ليس ألنهم أقل‬ ‫ومهما كانت الظروف‪ ،‬ال تجعليها تتخلل عقل‬
‫ضرر‪ ،‬ولذا‬
‫ٌ‬ ‫في المعزة‪ ،‬بل ألن من الطبيعي أن تتمسكي بألاَّ يمس المكان‬
‫كنت في أفضل حاالتي؛‬
‫في على أنني سعيد وحيوي كما لو ُ‬ ‫ِ‬
‫عليك أن تفكري َّ‬
‫لدي أن يتحرر عقلي من كل االنشغاالت‪ ،‬وبمرور الزمن تبدأ‬
‫ألن أفضل ما َّ‬
‫اهتماماتي‪ ،‬فاآلن أبتهج بدراسات خفيفة تحرص على بغية الحق‪ ،‬ثم أرتفع‬
‫إلى تأمل طبيعتي‪ ،‬ثم الكون‪.‬‬

‫‪ 2-20‬وتسعى هذه الدراسات إلى معرفة األرض وموضعها(‪ ((15‬وطبيعة البحر الذي‬
‫يحيط بها‪ ،‬وتناوب طفوه وانحداره‪ ،‬ثم يتسع تمحصي إلى الظواهر الخفية‬
‫التي تكمن بين السماوات واألرض‪ ،‬ذلك الفضاء القريب المضطرب بالرعد‬
‫والبرق وهبوب الرياح وسقوط األمطار والبرد والثلج‪ ،‬وبعد العبور على‬
‫الروافد الدنيا نعرج لألعالي ونبتهج بأجمل مشهد لألشياء الربانية ونتعقل‬
‫أبديتها‪ ،‬حيث تتحرك بحرية على كل ما هو كائن وما سيأتي لتعبر الزمن في‬
‫كل دهر‪.‬‬

‫(‪ ((15‬للتمييز بين األرضي والسامي والسماوي (وإن كان في ترتيب عكسي)‪ .‬انظر ‪.Natural Questions 2.1.1–2‬‬

‫‪124‬‬
‫عزاء �إلى بوليبو�س‬

‫‪125‬‬
126
‫مقدمة‬
‫نحن نعرف أن هذه المحاورة ُكتبت في عهد اإلمبراطور كالوديوس حين كان‬
‫سينيكا في منفى كورسيكا‪ ،‬أي بين عامي ‪41‬م و‪49‬م‪ ،‬وهو يعبر عن الرغبة في أن‬
‫يفتح كالوديوس بريطانيا ويحتفل باالنتصارات‪ ،‬مما يعني أن هذه المحاورة قد‬
‫ُكتبت قبل غزو بريطانيا وانتصار كالوديوس الالحق عام ‪43‬م‪ ،‬أو ربما بعد ذلك‬
‫بقليل‪ ،‬على افتراض أن األخبار قد استغرقت بعض الوقت للوصول إلى سينيكا‪.‬‬
‫مهما في‬
‫دورا ًّ‬
‫إن المخاطب في المحاورة هو بوليبوس وهو أحد األحرار الذين أدوا ً‬
‫القصر اإلمبراطوري مع ماركوس أنطونيوس بالالس ‪Marcus Antonius Pallas‬‬
‫وناركيسوس ‪ Narcissus‬في عهد كالوديوس‪ ،‬كان بوليبوس مسؤولاً عن الوثائق‬
‫وال سيما االلتماسات‪ ،‬وقد يكون أستا ًذا مسؤوال عن المسائل األدبية‪ ،‬ودوره كرجل‬
‫إمبراطوري حر يشهد به كتاب أقدمون آخرون في تلك الفترة‪ ،‬ولكن نعرف من سينيكا‬
‫أنه كان أدي ًبا فقط‪ ،‬وترجم هوميروس إلى النثر الالتيني وفيرجيل إلى النثر اليوناني‪.‬‬
‫لقد دفع موت شقيق بوليبوس سينيكا لكتابة هذا العزاء‪ ،‬وبدأ العمل بالفقد‪ ،‬وال‬
‫نعلم ما المفقود‪ ،‬ولكن المفقود ما لدينا‪ ،‬ويغطي سينيكا عد ًدا من الموضوعات‬
‫القياسية ألدب العزاء القديم (راجع مقدمة المترجم لرسالة عزاء إلى ماركيا)‪ ،‬وقليل‬
‫من المحتوى رواقي تحديدً ا‪ ،‬والحقيقة أن سينيكا يتوارى في تسمية نظرائه ووجهة‬
‫النظر الرواقية الدقيقة التي ترى أن الحكيم ال يشعر بحزن على اإلطالق‪ ،‬وقد حيكت‬
‫الخطط لتناسب ظروف بوليبوس‪ ،‬حيث يفترض سينيكا أنه يستعمل مواهبه األدبية‬
‫‪127‬‬
‫ليكتب عن شقيقه ويحفظ ذاكرته لألجيال القادمة‪ ،‬وهو يستدعي العالقة الوثيقة التي‬
‫تربط بوليبوس بكالوديوس‪ ،‬متخيلاً أن اإلمبراطور يقول خطاب عزاء للرجل الحر‬
‫ويخبره أن مجرد حضور اإلمبراطور وطلب خدمته قد يصرف الحزن عنه‪.‬‬
‫وليست الرسالة مجرد مقالة عزاء لبوليبوس‪ ،‬بل نداء إلى كالوديوس ليستدعي‬
‫سينيكا من المنفى‪ ،‬ويبدو مديح سينيكا لإلمبراطور أجوف وزائ ًفا‪ ،‬ويعتقد البعض أنه‬
‫مثير للسخرية عمدً ا‪ ،‬ويبدو أن هناك تباينًا قو ًّيا بين ما يقوله سينيكا عن كالوديوس في‬
‫ٌ‬
‫هذه الرسالة وما يقوله عنه الح ًقا في ‪ ،Apocolocyntosis‬وقد ُكتب الهجاء الخبيث‬
‫والجزل على تأليه كالوديوس في فترة مبكرة من عهد نيرونن‪ ،‬حيث تثني الرسالة على‬
‫عدل كالوديوس وإنصافه وبالغته‪ ،‬في حين يفضح الهجاء ظلمه وتعسفه وقسوته وعدم‬
‫تماسكه‪ ،‬وتتطلع الرسالة إلى كسبه لمكانة مستحقة في السماء بعد موته‪ ،‬ولكن الهجاء قد‬
‫طرده من أوليمبوس وأرسله إلى قدر حافل ضيق في العالم السفلي‪ ،‬وال ينبغي أن ُنغالي‬
‫في الصراع رغم أنه كان حقيقة‪ ،‬وإن معظم الثناء لكالوديوس في المحاورة يتناسب‬
‫تما ًما مع ميثاق اإلطراء اإلمبراطوري الذي نشأ في عهد أوغسطس‪ ،‬وربما قد تضخم‬
‫النقد الموجود في المصادر التاريخية مثل ‪ Apocolocyntosis‬بعد وفاة كالوديوس‪.‬‬
‫وإن بنية الرسالة بما هي واضحة ومباشرة حيث تقدم الفصول من ‪11-1‬نصائح‬
‫تراثية متباينة‪ ،‬والفصول من ‪ 13-12‬تخبر بوليبوس أن يفكر في الراحة التي يمكن أن‬
‫يكسبها من أقاربه األحياء ومن اإلمبراطور‪ ،‬ويعرب سينيكا عن أمله في أن يستدعيه‬
‫كالوديوس من المنفى‪ ،‬ويعطي في الفصول من ‪ 17-14‬أمثلة ليحاكيها بوليبوس‪،‬‬
‫حيث يصيغ الفقرات ‪ 3.16-2.14‬بفم كالوديوس‪ ،‬وقدم في الفصل ‪ 17‬المثال‬
‫السلبي لكاليجوال‪ ،‬وفي الفصل ‪18‬عرض النتيجة‪.‬‬

‫شكر وتقدير‪:‬‬
‫إنني مدين باالمتنان إلى إليزابيث أسميس ‪ Elizabeth Asmis‬وقارئ دار النشر‬
‫القتراحاته في تحسين الترجمة‪ ،‬وأنا مسؤول عن أوجه القصور المتبقية‪.‬‬
‫‪128‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Atkinson, J. E. 1985. “Seneca’s Consolatio ad Polybium.” Aufstieg
und Niedergang der römischen Welt II.32.2:860–84.

Kurth, T. 1994. Senecas Trostschrift an Polybius: Dialog 11; Ein


Kommentar. Beiträge zur Altertumskunde 59. Stuttgart: B. G. Teubner.

Olberding, A. 2005. “The ‘Stout Heart’: Seneca’s Strategy for


Dispelling Grief.” Ancient Philosophy 25:141–54.

129
130
‫إذا قارنت المدن وجبال الصخر بحيوات البشر(‪ ،((15‬فهي أقوى‪ .‬وإذا طبقت‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫معايير الطبيعة التي تدمر كل شيء وتعيده إلى أصوله‪ ،‬فهي قابلة للفساد‪ .‬فهل‬
‫ما ُيصنع بأيدي الفانين ٍ‬
‫فان؟ وتلك العجائب السبع(‪ ((15‬وما يعلو عليها في‬
‫الروعة ُبنيت بطموح السنين المتعاقبة‪ ،‬وسوف يراها الزائرون يو ًما ما ُتسوى‬
‫باألرض‪ ،‬نعم‪ ،‬ال شيء أبدي‪ ،‬وقليل األشياء يدوم طويلاً ‪ ،‬فاألشياء هشة‬
‫بطرق مختلفة‪ ،‬ويأخذ فناؤها أشكالاً عد ًة‪ ،‬وكل ما له بداية له نهاية‪.‬‬

‫يهدد بعض الناس العالم كله بالدمار‪ ،‬وهذا الكون الذي يحتضن كل ما‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫يوم‬
‫هو رباني وإنساني إن كنت تعتقد أنه غير مجدف على تصديقه سيأتي ٌ‬
‫ويتفسخ وينهار في العماء(‪ ((16‬والفوضى األصليين‪ ،‬وما من سبيل في نحيب‬
‫األنفس الفرادى أو في رثاء رماد قرطاجة ونومانتانيا وكورنثة(‪ ،((16‬وسوف‬
‫يسقط أي مكان آخر من أقصى ارتفاع‪ ،‬وحين ال يجد مكا ًنا يسقط فيه سيؤول‬
‫للفناء(‪ ،((16‬وإن مضت األقدار بعيدً ا لترتكب مثل هذا الشر العظيم فما من‬
‫ينج منهم‪.‬‬
‫فائدة من شكوى الفرادى في أنه لم ُ‬

‫و َمن الذي ُيعفي نفسه وأهله على نحو متعجرف ومتغطرس من الضرورة التي‬ ‫‪ 3-1‬‬

‫معا‪.‬‬
‫ولكن سياقها يؤدي إلى هذا المعنى باللغة اإلنجليزية والعربية ً‬
‫َّ‬ ‫الجملة الالتينية غير واضحة‪،‬‬ ‫(‪((15‬‬
‫عجائب الدنيا السبع كانت قائمة في زمن سينيكا‪.‬‬ ‫(‪((15‬‬
‫يلمح سينيكا إلى مذهب االحتراق ‪ ecpyrosis‬الرواقي‪.‬‬ ‫(‪((16‬‬
‫ثالث مدن دمرها الرومان قرطاجة وكورنثة عام ‪ 146‬ق‪.‬م ونومانتانيا ‪ Numantia‬عام ‪ 133‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫(‪((16‬‬
‫ال يوجد شيء خارج العالم‪ ،‬ولذلك ال يوجد مكان تقع فيه‪.‬‬ ‫(‪((16‬‬

‫‪131‬‬
‫تفرضها الطبيعة التي تدعو كل شيء لنفس النهاية؟ أو يحاول أن ينقذ أهل‬
‫بيت بعينه من دمار يهدد العالم ذاته؟‬

‫إن ما يواسينا هو أن نفكر فيما قد يحدث في النفس على أن الجميع يعانيه‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫وسوف يعانيه‪ ،‬ويبدو لي أن الطبيعة قد اتخذت أفجع شيء فعلته وجعلته‬
‫كليا‪ ،‬وحتى تكون معاملة القدر مساوية للجميع‪ ،‬فإن بعض التعزية لقسوة‬
‫ًّ‬
‫القدر‪.‬‬

‫وسوف يعينك إلى حد كبير إن كنت تفكر أن أحزانك ال تفيدك أو تنفع من‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫تفقده بمرارة‪ ،‬فأنت ال ترغب في متاعب ال طائل منها‪ ،‬وإن كنا نعقد أي أمل‬
‫على اليأس فلن أعترض على أن أذرف الدموع المتبقية من مصيبتي لك(‪،((16‬‬
‫واآلن سأجد شيئًا يمكن أن يتدفق من هذه األعين التي جفت من النحيب إذا‬
‫خيرا‪.‬‬
‫كان قد يسبب هذا لك ً‬
‫معا أو باألحرى أن أكون أنا المدعي «والكل ينظر‬
‫وماذا تنتظر؟ دعونا نشكو ً‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫للحظ على أنه ظالم‪ ،‬وكشفتين أنك تحتضنين هذا اإلنسان‪ ،‬والذي بفضلك‬
‫قد فاز بهذه المهابة التي لم يجلب ظفرها أي حسد– وهذا أمر يندر أن يحدث‬
‫ألحد‪ ،‬وانظر لقد أصبته بالحزن األكبر الذي قاساه حين كان القيصر على قيد‬
‫الحياة‪ ،‬وبعد التحقق الدقيق من كل زاوية أدركت أن في هذه المرحلة كان‬
‫يعري لك مصائبك‪.‬‬

‫وأي شيء قد صنعت فيه؟ هل سرقت ماله؟ إنه لم يكن عبدً ا له‪ ،‬حتى ينأى‬ ‫‪ 3-2‬‬
‫عنه قدر اإلمكان‪ ،‬رغم أنه يسهل عليه كسب المال‪ ،‬وأكبر فائدة يسعى إليها‬
‫منه هي أنه يحتقره‪.‬‬

‫هل سلبته أصدقاءه؟ إنك تعلم أنه محبوب للغاية‪ ،‬ومن السهل عليه أن‬ ‫‪ 4-2‬‬

‫(‪ ((16‬يلمح سينيكا هنا إلى منفاه‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫يستبدل الذين فقدتهم بآخرين؛ ألني رأيت هؤالء يمارسون السلطة في القصر‬
‫اإلمبراطوري‪ ،‬وأعتقد أنني لم أجد أحدً ا منهم صوا ًبا يمكن يدفع نفوس الناس‬
‫للبحث عن صداقتهم‪ ،‬فالرغبة تقودهم بقوة‪.‬‬

‫وهل سلبت سمعته الطيبة؟ يقينًا لم تهتز من جانبك‪ ،‬فهل سلبت صحته‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫الحسنة؟ إنك عرفت أن أساسه قوي في الدراسات الحرة(‪ ،((16‬والتي لم‬
‫تطوقه في نشأته فحسب بل منذ ميالده‪ ،‬والتي يترفع بها عن كل ألم جسدي‪.‬‬

‫وهل سلبته أنفاسه؟ وكم ضئيل ما سببته له من ضرر! لقد وعدته الشهرة بحياة‬ ‫‪ 6-2‬‬
‫مديدة لموهبته األدبية‪ ،‬لقد بذل كل شيء ليضمن أنه صمد مع الجزء األول‬
‫لنفسه(‪ ،((16‬وأنه سيحمي نفسه من الفناء بأعمال األدب البارزة التي كتبها‪،‬‬
‫وما دام الشرف قد دفعه لألدب وما دام بقيت قوة اللغة الالتينية وأناقة اليونان‪،‬‬
‫فإنه سوف يزهو بجانب العمالقة الذين يباري موهبتهم بموهبته‪ ،‬أو إذا رفض‬
‫تواضعه هذا الوصف فسيكرس نفسه له‪.‬‬

‫ضررا شديدً ا‪ ،‬فكلما‬


‫ً‬ ‫ولذلك ابتدعت هذه الطريقة التي يمكن أن تسبب له‬ ‫‪ 7-2‬‬
‫كان المرء فاضلاً ‪ ،‬كلما درب ذاته على تحملك حين يستعر غضبك‪ ،‬ويستثير‬
‫الخوف حتى مع سخائك‪ ،‬كم كان سيكلفك أن تمنح حصانة من هذا الضرر‬
‫إلنسان أظهر أن كرمك قد ثبت بخطة مدروسة وال يتلعثم بعشوائية في نمطك‬
‫المعتاد‪.‬‬

‫دعونا نضيف لهذه الشكاوي ‪-‬إن أحببت‪ -‬أن مواهب الشاب قد ُتختزل‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫أخا‪ ،‬ويقينًا تستحق ألاَّ تعاني‬
‫بمجرد أن يبدأ تطورها‪ ،‬لقد استحق أن تتخذه ً‬
‫حز ًنا حتى ألخ ال يستحق‪ ،‬إنه تلقى الثناء نفسه من الجميع‪ ،‬فالناس يحزنون‬

‫(‪ ((16‬كانت اآلداب الحرة هي الموضوعات التي يكفلها التعليم العام‪ ،‬وقد وضعت معايير في وقت الحق ليشمل التعليم‬
‫(أساسا لدراسة األدب) والجدل والخطابة والهندسة والحساب والموسيقى والفلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫القواعد‬
‫(‪ ((16‬هذا مع عقله‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫إطراء لإلنسان ذاته‪.‬‬
‫ً‬ ‫عليه ثناء لك‪ ،‬وهم يثنون عليه‬

‫خيرا‪،‬‬
‫خيرا حتى لألخ األقل ً‬
‫وما من شيء فيه يشقيك لتسلم به‪ ،‬وقد تكون ً‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫ولكن حبك فيه أخذ النوع الصواب للمادي‪ ،‬وجرى بطيب نفس‪ ،‬ولم يختبر‬
‫أحد قدرته لضررهم‪ ،‬إنه لم يستعمل حقيقة أنه أخوه ليهدد أي أحد‪ ،‬وقولب‬
‫نفسه على مثال ضبط نفسك‪ ،‬واعتاد أن يفكر على الطريقة التي رباك بها أهلك‬
‫ليس لمجرد االختالف الكبير‪ ،‬بل الحمل الكبير للمسؤولية‪ ،‬فقد كان قو ًّيا بما‬
‫فيه الكفاية لتحمل الحمل‪.‬‬

‫ويا لقساوة أقدار الذين ال يتعاملون مع الفضيلة باعتدال! لقد اختُطف أخوك‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫شكواي ضعيفة؛ ألنه ال شيء‬
‫َ‬ ‫قبل أن يتعلم من حسن حظه‪ ،‬إنني أعلم أن‬
‫ٍ‬
‫كلمات تتناسب مع الحزن الكبير‪ ،‬ومع ذلك فإن‬ ‫أعظم صعوب ًة من أن تجد‬
‫كنت فاعلاً للخير دعنا نشتكي‪.‬‬

‫سريعا على لطفك؟‬


‫ً‬ ‫هل كنت ترقى للثروة والظلم والعنف؟ هل كنت تندم‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫وما هذه القسوة حتى تهاجم إخوتك وتقلل حجم هذه المجموعة المترابطة‬
‫مملوءا بأجمل الشباب‪،‬‬
‫ً‬ ‫بمثل هذا الهجوم المتوحش؟ هل تريد أن تدمر بيتًا‬
‫حيث لم يدع اإلخوة العائلة تسقط‪ ،‬هل تريد أن تقلل حجمها دون سبب على‬
‫اإلطالق؟!‬

‫هل البراءة ُيحكم عليها بقوانين ال فائدة منها؟ هل هو تقليد قديم لعدم‬ ‫‪ 5-3‬‬
‫الفائدة‪ ،‬أم اعتدال في الحظ الحسن‪ ،‬أم ضبط أقصى للذات ُيبقي عليه حين‬
‫امتالك السلطة القصوى‪ ،‬أم حب أصيل ومأمون لألدب(‪ ،((16‬أم عقل متحرر‬
‫من أي نوع للزلل؟ بوليبيوس حزين ومتحسر من حالة أخ واحد فيما يمكن أن‬
‫يخشاه على اآلخرين‪ ،‬إنه خائف على الناس الذين يوفرون الراحة لحزنه‪ ،‬يا له‬

‫(‪ ((16‬يعتبر األدب مسعى أكثر أمنًا من السياسة أو أي مجال من مجاالت الحياة العامة‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫مستبشرا!‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫مضن‪ ،‬حين يحزن بوليبيوس ويعانس وينظر إليه القيصر‬ ‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫من‬
‫كنت تتطلع إليه وهو الحظ المجازف– وهو برهان بأن ال‬
‫شك ما َ‬ ‫وهذا دون ٍّ‬
‫أحد يمكن أن يحميك وال حتى القيصر‪.‬‬

‫يمكننا أن نمضي في اتهام األقدار‪ ،‬ولكن يمكننا أن نغيرها‪ ،‬فهي ال تزال قاسي ًة‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫وال ترحم‪ ،‬وال أحد يمكن أن يؤثر عليها بالسباب وال النحيب وال مناقشة‬
‫حجتها‪ ،‬وهي ال تستثني أحدً ا‪ ،‬وال تدعهم يخرجون عن حوزتها‪ ،‬ولذلك‬
‫دعونا نتجنب الدموع التي ال تحقق شيئًا؛ ألن هذا الحزن سوف ُيضيفنا إلى‬
‫أعداد الموتى بدلاً من أن يعيدهم إلينا‪ ،‬وهو يعذبنا وال يعيننا‪ ،‬ولذا علينا أن‬
‫ننحيه جان ًبا في الحال‪ ،‬وعلينا أن ننقذ عقولنا من الحزن الفارغ ومن الرغبة‬
‫المؤلمة له‪ .‬وإن لم يضع العقل نهاية لدموعنا‪ ،‬فإن الحظ لن يكون موات ًيا‪.‬‬

‫تعال نستقصي البشرية جمعاء‪ ،‬وكل مكان قد تجده وار ًفا‪ ،‬وواصل األسباب‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫للدموع‪ ،‬حيث يستدعي الفقر المضني ً‬
‫امرأ ما للواجب اليومي‪ ،‬وآخر يعذبه‬
‫طموح ال يسكن أبدً ا‪ ،‬وآخر يخشى الثروات التي تضرع لها‪ ،‬وترهقه بما كان‬
‫يتوق إليها‪ ،‬وآخر ُيعذب بالقلق‪ ،‬وآخر بالعمل‪ ،‬وآخر بالجماهير التي ُتحاصر‬
‫فناءه باستمرار‪ ،‬وهذا يحزن ألن له أطفالاً ‪ ،‬وهذا ألنه فقد أطفاله‪ .‬إن دموعنا‬
‫سوف تستنزف أقرب من أسبابنا للحزن‪.‬‬

‫أال ترى نوع الحياة الذي وعدتنا الطبيعة به حين قررت أن أول ما يفعله البشر‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫عند والدتهم هو البكاء(‪((16‬؟ هذه بدايتنا حين قدمنا للعالم‪ ،‬ويتبع تسلسل‬
‫السنون كلها هذا النمط‪ ،‬ونحن نعيش حيواتنا على هذه الحدود‪ ،‬ولذا علينا‬
‫أن نمارس االعتدال‪ ،‬ونقوم بما يجب علينا القيام به في الغالب‪ ،‬ونرمي خلفنا‬
‫كل صور الحزن التي على كواهلنا وتهددنا‪ ،‬وينبغي لنا إن لم نضع حدًّ ا كاملاً‬
‫لدموعنا فعلى األقل نحتجزها‪ ،‬وألاَّ نستعمل شيئًا بأكثر مما نحتاجه غال ًبا‪.‬‬

‫(‪ ((16‬قارن ‪.Lucretius 5.222–27‬‬

‫‪135‬‬
‫إرضاء من الشخص‬
‫ً‬ ‫سوف ُتعان ً‬
‫كثيرا بالتفكير في أن ال أحد يجد حزنك أقل‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫الذى يبدو أنك تنغمس في مصلحته‪ ،‬وهو ال يريدك في عذاب أو ال يعي أنك‬
‫معذب‪ ،‬ولذلك ليس من سبب أن تقدم خدم ًة بقدر ما يهتم المنتفع إن كان ال‬
‫يعيها وال لزوم لها‪ ،‬وإن كان يعيها فهي مرغوبة‪.‬‬

‫إني أؤكد وبجرأة بأنه ال أحد في العالم كله يستمتع بدموعك‪ ،‬وهل تعتقد أن‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫أخاك يتبنى موق ًفا نحوك لم يقم به أحد ويضرك بتعذيبك‪ ،‬ويرغب في صرفك‬
‫عن عملك ودراساتك والقيصر؟ وهذا ليس محتملاً ؛ ألنه أظهر لك الحب‬
‫المناسب لألخ‪ ،‬واإلخالص المناسب لألب‪ ،‬واالحترام المناسب لما هو‬
‫أسمى‪ ،‬وهو يرغب أن تنساه‪ ،‬ولكن ال يرغب أن يسبب لك األلم‪ ،‬وما الفائدة‬
‫من وهن الحزن إذا كان لدى األموات أي وعي‪ ،‬ويرغب أخوك أن تكون له‬
‫نهاية؟‬

‫هل كنت أتعامل مع أخ آخر تبدو نواياه الحسنة موضع ريب‪ ،‬وسوف أعامل‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫كل هذا على أنه مشكوك فيه‪ ،‬وسوف أقول‪« :‬إذا كان أخوك يريد أن يعذبك‬
‫بدموع ال نهاية لها‪ ،‬فهو ال يستحق هذا العاطفة‪ ،‬وإذا كان ال يرغب هذا‪ ،‬فدع‬
‫معا‪ ،‬وال ينبغي التفجع على األخ غير المحبوب بهذه‬
‫الحزن الذي يطاردكما ً‬
‫الطريقة‪ ،‬وال يرغب المحبوب أن يكون هكذا»‪ ،‬ولكن في حالته حيث إن حبه‬
‫قد ثبت تما ًما‪ ،‬فعلينا أن نوقن أنه ال شيء يضايقه أكثر من رؤية سوء حظه‬
‫يضايقك‪ ،‬وأنه جعلك تعاني بأي شكل‪ ،‬وأدمع عينيك التي ال تستحق هذا‬
‫األلم والتشويه والجفاف دون نهاية لنحيبها‪.‬‬

‫وال شيء يحول حبك عن هذه الدموع غير المجدية على نحو فعال سوى‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫أن تعطي إلخوانك مثالاً على كيف يتحملون بشجاعة جرح الحظ الذي‬
‫أصابهم‪ ،‬فعندما صارت األمور على نحو سيئ مع قادة عظام‪ ،‬تعمدوا أن‬
‫ُيظهروا أنهم مبتهجون ويخفون األخبار السيئة بإظهار السعادة‪ ،‬خشية إذا رأى‬
‫‪136‬‬
‫الجنود معنويات قادتهم تنهار فسينهارون كذلك‪ ،‬وهذا ما يجب عليك فعله‬
‫اآلن‪.‬‬

‫تعبيرا ينطوي حالة عقلك‪ ،‬وإن استطعت أن تتخلص من أحزانك تما ًما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وضع‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫وإن لم تستطع خ ِّبئها داخلك حتى ال ُترى‪ ،‬واحذر أن يقلدك إخوانك؛ ألنهم‬
‫يعتقدون أن أي سلوك يالحظونه فيك صحيح‪ ،‬وسوف ينهلون الشجاعة من‬
‫والمعزِّ ي‪ ،‬وليس بمقدورك أن تمنع‬
‫تعبيرك‪ ،‬وينبغي أن تكون لهم التعزية ُ‬
‫نواحهم إذا ُأعطيت حرية المنع لك‪.‬‬

‫وشيء آخر يمنعك من الحداد المفرط‪ ،‬وهو تذكير نفسك أن ال شيء تفعله‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫مهما يجب عليك‬
‫دورا ًّ‬
‫يمكن تخفيه عن األنظار‪ ،‬لقد منحك الرأي العام ً‬
‫االلتزام به‪ ،‬وهناك مجموعة من الجماهير يقفون حولك يقدمون الخدمة‬
‫وعم إذا كنت‬
‫ويدققون عقلك ويالحظون مقدار قوته حين يواجه الحزن‪َّ ،‬‬
‫حسنًا في التعامل مع ظروفك المواتية‪ ،‬أو تواجه المعكوس منها كرجل‪ ،‬إنهم‬
‫يراقبون عينيك‪.‬‬

‫حرا لتتقصى‬
‫و َمن يخفون مشاعرهم يتمتعون بحرية أكبر‪ ،‬وأنت لست ًّ‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫األسرار‪ ،‬لقد وضعك الحظ في النور المشرق‪ ،‬فالجميع يعلم كيف كنت‬
‫تتصرف بعد هذه المصيبة‪ ،‬سواء إذا كنت وضعت أسلحتك بمجرد أن أصبت‬
‫أم وقفت على األرض‪ ،‬وقد أعالك حب القيصر‪ ،‬وقد أعزتك مواصلة األدب‬
‫شائعا‪ ،‬وما البذاءة‬
‫ً‬ ‫إلى مستوى أسمى‪ ،‬فما كان يناسبك ليس شيئًا عاد ًّيا وال‬
‫واألنوثة التي تستهلكك بالحزن؟‬

‫لن ُيسمح لك أن تتصرف مثل إخوتك‪ ،‬مع أن خسارتكم متساوية‪ ،‬ولن تسمح‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫لك السمعة التي اكتسبتها كتاباتك وشخصيتك من فعل أشياء كثيرة‪ ،‬فالناس‬
‫يطلبون منك ويتوقعون الكثير‪ ،‬وإن كنت ترغب أن تتصرف كما تحب فال‬
‫تلفت انتباه الجميع نحوك‪ ،‬وكما آلت األمور عليك أن تسلم ما وعدت به‪،‬‬
‫‪137‬‬
‫فكل الذين يثنون على ما أنتجته في األدب‪ ،‬والذين ينسخونه‪ ،‬والذين ال‬
‫يريدون حظك ويرغبون في قدرتك يضعون عقلك تحت المراقبة‪ ،‬وليس‬
‫بمقدورك أن تقوم بشيء ال يليق بهدوئك؛ ألنك تربيت بسمو‪ ،‬وألنك إنسان‬
‫متعلم‪ ،‬وع َّل َ‬
‫مت‪ ،‬دون أن يندم كثير من الناس على إعجابهم بك‪.‬‬

‫لن يحق لك أن تبكي إطال ًقا‪ ،‬وهذا ليس هو الشيء الوحيد الذي لم ُيسمح‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫لك عمله‪ :‬فلن يحق لك أن تنام في طرف الصباح أو تهرب من صخب العمل‬
‫إلى الراحة فتنسحب إلى مالذ ريفي هادئ‪ ،‬أو حين ينهك جسدك باستمرار‬
‫مراقبتك في موضع طلب منك لتستعيده بعطلة ممتعة بالخارج‪ ،‬أو تسعى‬
‫لتسلية عقلية بأنواعها المختلفة أو تنظم يومك كما يحلو لك‪ ،‬لن يسمحك‬
‫لك بعمل أشياء عدة‪ ،‬قد ُيسمح ألحقر الناس بعملها في أحلك الظروف‪،‬‬
‫فالحظ العظيم عبودية عظيمة‪.‬‬

‫وال يحق لك أن تفعل أي شيء كما يحلو لك‪ ،‬وعليك أن تسمع آالف الناس‪،‬‬ ‫‪ 5-6‬‬
‫وتنظم آالف الوثائق‪ ،‬وتفحص تراكمات األعمال التي جمعت من كل أنحاء‬
‫العالم‪ ،‬ويمكن لفت انتباه إمبراطورنا المرموق باألمر المناسب‪ ،‬وأخبرك ال‬
‫يحق لك البكاء‪ ،‬وأنت في حاجة إلى أن تسمع ألناس كثر بكائين‪ ،‬واستمع‬
‫لطلبات أناس كثر يقيمون محاكمة‪ ،‬ويتوقون للحصول على رحمة قيصرنا‬
‫المبجل‪ ،‬وتقوم على كل ما يجفف دموعك‪.‬‬

‫وقد تعاملت مع عالجات معتدلة رغم أنها معينة‪ ،‬ولكن حين ترغب أن تنسى‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫كل شيء فكر في القيصر‪ ،‬وانظر لما فيه والء عظيم ومثابرة قوية تدينك‬
‫بالعودة لما فيه صالحك‪ ،‬فسوف تدرك أنه ال يقع على كاهلك أكبر مما يقع‬
‫على أكتاف العالم– أو كذلك تقول األساطير(‪.((16‬‬

‫(‪ ((16‬في األساطير كان أطلس يحمل العالم على كتفيه‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫إن قيصر ذاته يحق له أن يفعل كل شيء‪ ،‬ومن ثم لهذا السبب هناك أشياء عدة‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫ال يحق له أن يفعلها‪ ،‬فيقظته تحمي نوم اآلخرين‪ ،‬وعمله الشاق راحة للكل‪،‬‬
‫كرس‬
‫ومثابرته ملذات لآلخرين‪ ،‬ونشاطه الدائم عهد حرية للجميع‪ ،‬ومنذ أن َّ‬
‫قيصر للعالم سلب نفسه من نفسه‪ ،‬مثل النجوم التي تتبع مساراتها دون راحة‪،‬‬
‫فال يحق له أن يتوقف أو يفعل شيئًا لنفسه‪.‬‬

‫وهكذا قد تفرض عليك الضرورة نفسها بمدى معين‪ ،‬فال يجوز لك أن‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫تلتفت لمصلحتك وتأمالتك فحسب‪ ،‬وفي حين يسيطر القيصر على العالم ال‬
‫تستطيع أن تكرس طر ًفا من نفسك للملذات أو األلم أو أي شيء آخر‪ ،‬إنك‬
‫مدين بوجودك كله للقيصر‪.‬‬

‫دمت تقول على الدوام إن القيصر أغلى عندك من‬


‫َ‬ ‫وأضف إلى ذلك‪ ،‬ما‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫نفسك‪ ،‬فليس من الصواب أن تشتكي الحظ في حياته‪ ،‬وطالما لم ُيصب‬
‫بضرر وأهلك آمنون معافون‪ ،‬ولم تفقد شيئًا‪ ،‬فال ينبغي أن تجف عيناك‪ ،‬بل‬
‫تبتهج‪ ،‬فأنت تأخذ كل شيء فيه وهو يحل في كل شيء‪ ،‬وأنت ال تمتن بما فيه‬
‫الكفاية لحظك الحسن‪ ،‬وهذا سلوك غريب عن مشاعرك الحكيمة المخلصة‬
‫إذا أحققت لنفسك أن تحزن على شيء وهو على قيد الحياة‪.‬‬

‫عالجا أقوى‪ ،‬بل أكثر خصوصي ًة لك‪ ،‬حين تذهب إلى البيت‬
‫ً‬ ‫لن أصف لك‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫نح الحزن جان ًبا‪ ،‬حتى ال يتمكن من الوصول إليك طالما تتطلع إلى ألوهيتك‪،‬‬
‫ِّ‬
‫سوف ُيشغل القيصر إخالصك‪ ،‬ولكن حين تتركه كما لو سلمت للحزن‬
‫مسترخ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تدريجيا إلى عقلك وهي‬
‫ًّ‬ ‫فرص ًة فيحاصر وحدتك ويزحف‬

‫وعليك ألاَّ تدع لحظة دون أن ُتشغلها بتأمالتك‪ ،‬وفي هذه الفترة دع األدب‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫الذي أحببته طويلاً وارجع إلى الفضل بوفاء‪ ،‬وفي هذه الفترة دع األدب‬
‫يحميك بكاهنه ومتعبده‪ ،‬وفي هذه الفترة دع هوميروس وفيرجيل فهم خدموا‬
‫جنس البشر كما خدمتهم واآلخرون‪ ،‬وإن أردت أن تجعلهم معروفين لقراء‬
‫‪139‬‬
‫أكثر من الذين كتبوا لهم(‪ ،((16‬دعهم يتريثون في رفقتك‪ :‬فكل الوقت الذي‬
‫واكتب في هذا الزمن ما‬
‫ْ‬ ‫عهدت به للحفاظ على سالمتهم سيكون آمنًا‪،‬‬
‫يمكنك فعله حول ما أنجزه قيصرك‪ ،‬حتى يمرروها عبر العصور بالرسول‬
‫في أسرته‪ ،‬وحين تصبح هناك صياغة لتاريخ وكتابة‪ ،‬فسوف يكون هو ذاته‬
‫ونموذجا(‪.((17‬‬
‫ً‬ ‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫الشخص األفضل الذي يقدم لك‬

‫لن أغامر لتحصل على مؤلف بأسلوبك المعتاد المقبول والخرافات‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫والقصص من أيسوب ‪ ،Aesop‬وهذا أسلوب أدبي لم تعهده الموهبة‬
‫الرومانية(‪ ،((17‬ويقينًا يصعب على عقلك أن يجد طري ًقا لتباشر هذه الصور‬
‫الخفيفة من األدب بعد أن تلقت صدمة شديدة‪ ،‬ولكن خذها دليلاً لعقلك‬
‫الذي قوي ُ‬
‫وط ِّور بالفعل إن كان يمكن أن ينتقل من أشكال الكتابة الجادة إلى‬
‫هذه الكتابة المبسطة‪.‬‬

‫كثيرا منها‬
‫وبالنسبة للنوع األول قد تشتت ذهنك ظالمية الموضوع‪ ،‬رغم أن ً‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫ال يزال منحر ًفا ويكدح مع ذاته‪ ،‬ولكن ال يحتمل عقلك األعمال التي يلطف‬
‫مريح حتى لو كانت مكتملة مع ذاتها في جانب واحد‪ ،‬ولذلك‬
‫ٌ‬ ‫تعبير‬
‫ٌ‬ ‫تأليفها‬
‫تحتاج أولاً أن تمارسها على موضوع صارم‪ ،‬وتتحول بعد ذلك إلى نظام‬
‫ألطف بشيء أخف‪.‬‬

‫مرارا‪« :‬هل أحزن على حالي‪ ،‬أم‬


‫وسوف تجد راحة كبيرة لو سألت نفسك ً‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫على حال المتوفي؟»‪ ،‬إن كان على حالي؛ فإظهار الوالء ال معنى له‪ ،‬وقد‬
‫يبرر الحزن حين يكون مبجلاُ ‪ ،‬وهو يبدأ بجانب الرفقة مع الحب حين تأخذ‬
‫المصلحة الذاتية بعين االعتبار‪ ،‬وحين يتعلق الحداد باألخ‪ ،‬وما هو جدير‬

‫(‪ ((16‬ترجم بوليبوس هوميروس إلى الالتينية وترجم فيرجيل إلى اليونانية‪.‬‬
‫(‪ ((17‬كان كالوديوس يكتب في التاريخ الروماني واألتروسكاني والقرطاجي‪.‬‬
‫(‪ ((17‬يتجاهل سينيكا عمدً ا أو جهلاً األساطير الخرافية لفايدروس‪ ،‬والتي ُكتبت في عهد تيبريوس‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫بالرجل الخ ِّير ال يكون معدو ًدا‪.‬‬

‫وإن كان الحزن على حاله‪ ،‬وبالضرورة أن أحكم بأحد البديلين التاليين لتكون‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫هي الحالة‪ ،‬إن لم يكن للميت أي إحساس‪ ،‬فإن أخي قد نجا من كل مساوئ‬
‫الحياة‪ ،‬وهو يستعيد الحالة التي كان عليها قبل أن يولد‪ ،‬وهي التحرر من كل‬
‫شر وال يخشى شيئًا وال يرغب في شيء وال يعاني شيئًا‪ ،‬فما هذا الجنون؟ أال‬
‫تتوقف عن الحزن على َمن ال يحزن؟‬

‫ولو كان للميت ٌ‬


‫بعض من إحساس‪ ،‬فإن عقل أخي اآلن قد يفرح كما لو أفرج‬ ‫‪ 3-9‬‬
‫عنه من عقوبة السجن الممتد وسيده وقاضيه‪ ،‬وهو يتمتع بتأمل العالم‪ ،‬وينظر‬
‫إلى عالم البشر كله من مكان أعلى‪ ،‬وأفضل من ذلك كله أنه ينظر بالقرب‬
‫كثيرا لفهمه وفشل(‪ ،((17‬ولماذا أضيع الطريق‬
‫من مقام الربوبية التي سعى ً‬
‫ٍ‬
‫المرئ إما أن يكون سعيدً ا أو غير موجود؟ فالبكاء على اإلنسان‬ ‫بالشوق‬
‫السعيد حسدٌ ‪ ،‬والبكاء على غير الموجود جنونٌ ‪.‬‬

‫هل يزن معك إنه يبدو قد خسر البركات العظيمة حينما كانت تتنزل عليه؟‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫حين تظن أن هناك أشياء عدة قد غابت عنه‪ ،‬وأن هناك أشياء كثيرة ال يخاف‬
‫منها‪ ،‬وال يعذبه الغضب وال يصيبه المرض وال تساوره الشكوك‪ ،‬ولن يالحقه‬
‫الحسد الذي ُيعادي نجاحات اآلخرين‪ ،‬ولن يزعجه الخوف‪ ،‬ولن يزعزعه‬
‫تقلب الحظ الذي ُيعيد توجيه هباته عاجلاً في مكان آخر‪ ،‬وإن أعتبت لما‬
‫سبق‪ ،‬فإنه صرف ما هو مكبوت أكثر من كونه ُحرم منه‪.‬‬

‫لن تتمتع بحظ وال نفوذ سواء أنت أو هو‪ ،‬ولن يتلقى فضلاً ولن يمنحه‪ ،‬وهل‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫تعتقد أنه تعيس؛ ألنه فقد كل هذا أو مبارك ألنه لم يفقده؟ وصدقني‪ ،‬إن المرء‬
‫الذي عنده حسن الحظ ليس بالضرورة أكثر نعم ًة ممن امتلكه في قبضته‪ ،‬وكل‬

‫(‪ ((17‬تشمل كلمة اإللهي هنا األجرام السماوية التي تعتبر من منظور واسع كائنات إلهية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫األشياء التي تبهجنا بجاذبية هي ملذات خادعة‪ ،‬فالمال والشرف والسلطة‬
‫وأشياء أخرى عدة من التي ُتغري جنس البشر تجلب المتاعب لمالكيها‪،‬‬
‫وهي مرأى للحسد‪ ،‬وتضطهد َمن تميزهم‪ ،‬ويزيد خطرها على نفعها‪ ،‬وهي‬
‫زلقة وال يعول عليها‪ ،‬والقبض عليها غير مأمون‪ ،‬وحتى لو افترضنا أنها ال‬
‫توجد في المستقبل‪ ،‬فالحفاظ على الرفاهية الممدودة في حد ذاته عمل مثير‬
‫للقلق‪.‬‬

‫وإن كنت تعتقد أن هؤالء لهم رؤية أكثر عم ًقا للحقيقة؛ فكل الحياة عقاب‪،‬‬ ‫‪ 6-9‬‬
‫وإدبارا‪ ،‬ويرفعنا في‬
‫ً‬ ‫فقد ُألقينا في عمق البحر المائج‪ ،‬والذي يتدفق مده إقبالاً‬
‫لحظة لمكاسب فجأ ًة‪ ،‬و ُيجرنا لألسفل لخسائر أعظم‪ ،‬ويتقاذفنا على الدوام‬
‫فال نستقر في موضع ثابت‪ ،‬بل نتأرجح ونموج جيئ ًة وذها ًبا‪ ،‬ونتصادم بعضنا‬
‫ببعض‪ ،‬ونعاني غرق السفينة من آن آلخر‪ ،‬ونخاف من البحر على الدوام‪،‬‬
‫وبينما نجوب البحر العاصف نتعرض لكل العواصف‪ ،‬وال مرسى سوى‬
‫الموت‪.‬‬

‫حر ومأمون‬
‫فال تحسد أخاك على حاله‪ ،‬إنه في حال الراحة‪ ،‬على األقل هو ٌّ‬ ‫‪ 7-9‬‬
‫وأبدي‪ ،‬إنه نجا من قيصر وذريته(‪ ،((17‬ونجا منك وإخوتك الذين تقاسمهم‪،‬‬
‫وقبل أن تسحب الثروة طر ًفا من فضله‪ ،‬فإنه تخلى عنها‪ ،‬بينما كانت ال تزال‬
‫بجانبه ويكوم العطايا بأيدي المن‪.‬‬

‫اآلن يستمتع بالسماء المطلق من هذا المنخفض‪ ،‬فقد صعد من البقعة الغويطة‬ ‫‪ 8-9‬‬
‫إلى فوق إلى ذلك المكان‪ ،‬ومهما كان يرحب باألنفس المحررة من قيودها‬
‫إلى أحضانها المباركة‪ ،‬اآلن يتجول هناك بحرية‪ ،‬إنك مخطئ‪ ،‬إن أخاك لم‬
‫نورا أنقى‪ ،‬كلنا نتشاطر الرحلة هناك‪ ،‬فلماذا نولول‬
‫ُيسلب ضياؤه بل اكتسب ً‬
‫(‪ ((17‬حين كان سينيكا يكتب هذه الرسالة‪ ،‬كان لكالوديوس ثالثة أطفال وهم‪ :‬أنطونيا ‪ Antonia‬من زواجه الثاني بإيليا باتينا‬
‫‪ ، Aelia Paetina‬وأوكتافيا وبريتاننيكوس ‪ Britannicus‬من زواجه الثالث بميساللينا ‪.Messallina‬‬

‫‪142‬‬
‫على الموت؟ إنه لم يفارقنا بل مضى قد ًما لألعالي‪ ،‬صدقني‪ ،‬إن في حتمية‬
‫الموت سعادة بالغة‪ ،‬وال نوقن في شيء حتى بقية يومنا‪ ،‬وحينما ُتكفر الحقيقة‬
‫فمن الذي بمقدوره أن يخمن إن كان أخوك قد استاء من الموت أم‬
‫وتغمض‪َ ،‬‬
‫رغبه في قلبه؟‬

‫‪ 1-10‬إن أفعالك تتجذر دو ًما من شعور قوي بالعدالة‪ ،‬ولذا أنت مرهون بأن ُتحصل‬
‫مزيدً ا من الراحة من هذا الفكر‪ ،‬فأنت ال ُتعاني ً‬
‫ظلما حين فقدت هذا األخ‪ ،‬بل‬
‫منحت فضلاً حين ُسمح لك بأن تتمتع بالثناء على حبه لفترة طويلة‪.‬‬

‫‪ 2-10‬وليس عدلاً ألاَّ تدع المعطي يحتكم العطية‪ ،‬ومن الجشع ألاَّ تعد ما تلقيته‬
‫مكس ًبا‪ ،‬بل تعد ما ُرد إليك خسارة‪ ،‬والجاحد َمن يطلب كف لذة الظلم‪،‬‬
‫واألحمق َمن يعتقد أن األشياء الحسنة ليس لها جدوى باستثناء ما كان منها‬
‫موجو ًدا‪ ،‬والذين ال يستمدون الرضى األقصى منها حين تمر عليهم يفشلون‬
‫في إدراك أن األشياء ال تطول ملكيتنا لها أعظم موثوقية‪ ،‬حيث ال حاجة‬
‫بالنسبة لهم من الخوف من أن ُتقبل على النهاية‪.‬‬

‫‪ 3-10‬وأ ًّيا ما يعتقد أن يستفيد فقط من شيء ملكه أو يراه‪ ،‬و َمن ينظر أن ما ملكه بال‬
‫قيمة‪ ،‬وهي نظرة مفرطة للفرح؛ ألن الملذات تهجرنا على عجل وتتالشى‬
‫تقري ًبا قبل وصولها‪ ،‬لذلك على عقلنا أن يركز على الماضي‪ ،‬وكل شيء قد‬
‫أبهجنا علينا أن نستدعيه ونكرره في أفكارنا‪ ،‬فذاكرة الملذات أطول دوا ًما‬
‫وأكثر وثو ًقا من وجودها‪.‬‬

‫‪ 4-10‬لذلك اعتبر أن لك مثل هذا األخ الجميل من أكبر نعمك‪ ،‬وعليك ألاَّ تفكر في‬
‫المدة التي لم تملكه فيها‪ ،‬بل في المدة التي ملكته فيها‪ ،‬وإخوتك مثل باقي‬
‫الناس‪ ،‬فالطبيعة لم تمنحك ملكيته‪ ،‬بل أعارته لك(‪ ،((17‬وتطلب منه العودة‬

‫(‪ ((17‬قارن ‪.Lucretius 3.971‬‬

‫‪143‬‬
‫إليها حين يناسبها‪ ،‬وال يرشدها فاعلية استمتاعك به بل قانونها‪.‬‬

‫‪ 5-10‬وهل َمن ينزعج من رد المال المقرض إليه وخاصة المال يستعمله دون فائدة‬
‫يعتبر منص ًفا؟ إن الطبيعة منحتك حياة أخيك‪ ،‬ومنحتك إياها وإن مارست‬
‫مبكرا وال تالم؛ ألن حدودها معروفة‪ ،‬ويكمن‬
‫ً‬ ‫حقوقها لطلبت الدين من المرء‬
‫مرارا ماهية الطبيعة‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫اللوم في آمال العقول البشرية الجشعة التي تنسى‬
‫تذكيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تتذكر حالها إلاَّ حين تتلقى‬
‫َ‬
‫وارض بتمتعك به‪ ،‬رغم أن المتعة كانت أقصر‬ ‫‪ 6-10‬وافرح بأن لك مثل هذا األخ‪،‬‬
‫مما تريد‪ ،‬واعتبر أن حقيقة أنك ملكته بهجة بالغة وأنك فقدته كإنسان‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫تناقضا من امرئ ينزعج من أنه قد ُمنح مثل هذا األخ لفترة‬ ‫من شيء أشد‬
‫قصيرة‪ ،‬وال يسعد على أي حال أنه قد منح إياه‪.‬‬

‫‪« 1-11‬ولكن قد ُخطف‪ ،‬ولم أتوقع هذا»‪ .‬إن الناس مخدعون لسذاجتهم‪ ،‬وبالنسبة‬
‫لهؤالء ينسيهم حبهم عمدً ا بشريتهم‪ ،‬وقد قررت الطبيعة ألاَّ تمنح أحدً ا ح ًّقا‬
‫يوميا جنازات ألناس نعرفهم وال نعرفهم‬
‫من متطلباتها‪ ،‬فقد تمر أمامنا أعيننا ًّ‬
‫وال نولي اهتما ًما‪ ،‬ونعتبر غير المتوقع الذي قد سمعناه في حياتنا سوف‬
‫ظلما من القدر‪ ،‬بل انحراف العقل البشرى برغبته‬
‫يحدث‪ ،‬ولذلك هذا ليس ً‬
‫النهمة لكل شيء‪ ،‬الذي يشتكي من مفارقة المكان الذي قد استحسنه‪.‬‬

‫‪ 2-11‬كم كان معتدلاً ذلك الذي سمع خبر موت ابنه‪ ،‬ونطق كلمات جديرة برجل‬
‫علمت أنه سيموت»‪ ،‬ولن يفاجئ هذا الرجل على‬
‫ُ‬ ‫عظيم‪« :‬عندما ُولِ َد لي‪،‬‬
‫اإلطالق‪ ،‬كان له ولد قادر على أن يموت بشجاعة‪ ،‬ولن يتعامل مع موت ابنه‬
‫على أنه خبر غير متوقع‪ ،‬فهل ما هو غير متوقع عن اإلنسان يموت في حين أن‬
‫الحياة كلها مجرد رحلة نحو الموت؟‬

‫علمت أنه سيموت»‪ ،‬ومن ثم أضاف شيئًا يبرز حكمة وشجاعة‬


‫ُ‬ ‫‪« 3-11‬حين ُولد لي‪،‬‬
‫‪144‬‬
‫جميعا‪ ،‬ومهما ُيجلب للحياة فإنه‬
‫ً‬ ‫أعظم‪« :‬ولهذا ُرفع»(‪ ،((17‬ولهذا نحن نرفع‬
‫محدود بالموت‪ ،‬فدعنا نفرح بما منحناه‪ ،‬ودعنا نرده حين ُيطلب منا‪ ،‬وسوف‬
‫تستولي األقدار على أناس مختلفين في أزمنة مختلفة‪ ،‬ولن يفقدوا أحدً ا‪ ،‬دع‬
‫العقول تقف على أهبة االستعداد‪ ،‬دعها ال تخشى مما ال يمكن تجنبه‪ ،‬ودعها‬
‫تتوقع باستمرا ٍر ما ال يمكن التنبؤ به‪.‬‬

‫‪ 4-11‬هل أنا في حاجة للحديث عن الجنراالت ونسل الجنراالت والناس البارزين‬


‫لقناصلهم وانتصاراتهم المتعددة الذين واجهوا فيها المصير؟ امتلكوا ممالك‬
‫وأمما مع أجناسهم‪ ،‬وقد تحملوا قدرهم وقدر الجميع أو كل‬
‫ً‬ ‫مع ممالكهم‪،‬‬
‫شيء آخر واجه يومه األخير‪ ،‬ولم تكن النهاية متماثلة في كل حالة‪ ،‬والحياة‬
‫تتخلى عن امرئ بعينه في منصف الطريق‪ ،‬ويهجر ح ًّقا آخر في البداية‪ ،‬ويطلق‬
‫سراح آخر في سن الشيخوخة‪ ،‬حين يسأم ويحن للرحيل‪ ،‬ورغم اختالف‬
‫جميعا إلى نفس المكان‪ ،‬وأنا لست على يقين أمن‬
‫ً‬ ‫مواعيد الزمن‪ ،‬فإننا نتجه‬
‫الغباء ألاَّ أكون على وعي بقانون الفناء‪ ،‬أم من اإلعالء أن أعترض عليه؟‬
‫َ‬
‫تعال اآلن واحضر قصائد أي من مؤلفيك(‪ ،((17‬تلك القصائد التي أصبحت‬ ‫‪ 5-11‬‬
‫معروفة على نطاق واسع بفضل كل جهود أدبك العبقري‪ ،‬تلك القصائد التي‬
‫حولتها إلى نثر بالكيفية نفسها‪ ،‬وظلت جاذبيتها رغم فقدان نسيجها ِّ‬
‫الشعري‬
‫(فقد ضمنت في ترجمتها من لغة إلى أخرى أن تتبع لك خصائصها المميزة‬
‫أمرا صع ًبا في تحققه)‪ :‬وفي هذه األعمال‬
‫في اللسان األجنبي‪ -‬وهذا كان ً‬
‫ال يمدك كتاب منها بأمثلة عدة بضعف اإلنسان والمصائب غير المتوقعة‪،‬‬
‫وتتدفق الدموع من أسباب مختلفة‪.‬‬

‫(‪ ((17‬يقتبس سينيكا شذرة من التراجيديا الرومانية لمؤلف غير معروف‪ ،‬كما اقتبسها أيضا شيشرون في ‪Tusculan‬‬
‫‪ Disputations 3.28, 58‬بتصرف‪ ،‬وهي تقول‪“ :‬عند الوالدة رفع األب الروماني المولود عن األرض‪ ،‬وهذا اعتراف‬
‫رسمي بأن المولود هو طفله”‪.‬‬
‫عرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫ش‬ ‫وليست‬ ‫ا‬ ‫نثر‬
‫ً‬ ‫وفيرجيل‬ ‫لهوميروس‬ ‫(‪ ((17‬كانت ترجمات بوليبوس‬

‫‪145‬‬
‫واطلع كيف كان الملهم رعدً ا لكلماتك القوية‪ ،‬وسوف تخجل من أن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اقرأ‬ ‫‪ 6-11‬‬
‫تمضي ُقد ًما في بعضها‪ ،‬وستتخلى عن عظمة كتابتك القوية‪ ،‬ولن تؤيد هؤالء‬
‫الذين أعجبوا بكتاباتك على اإلطالق‪ ،‬ويتساءلون كيف لهذا العقل الضعيف‬
‫أن يتصور شيئًا قو ًّيا وثابتًا‪.‬‬

‫‪ 1-12‬وبدلاً من ذلك تحول عن األشياء التي تعذبك إلى مصادر عدة عظيمة تمتلكها‬
‫للراحة‪ ،‬انظر إلى إخوتك الباهرين‪ ،‬وانظر إلى زوجتك‪ ،‬وانظر إلى ابنك‪ ،‬لقد‬
‫جميعا(‪ ،((17‬ولديك أناس‬
‫ً‬ ‫اتفق الحظ معك على أن تدفع مقابل سعادتهم‬
‫ٍ‬
‫امرئ يفكر أن المصدر‬ ‫عدة يمكن أن تجد فيهم الراحة‪ ،‬وتجنب عيب كل‬
‫الوحيد للحزن يعد عندك أعظم من كل مصادر هذه التعزية‪.‬‬

‫‪ 2-12‬وسوف تراهم قد صدموا مثلك وال يستطيعون عونك‪ ،‬والحقيقة أنك تدرك‬
‫تعليما وموهب ًة منك‪ ،‬فمن‬
‫ً‬ ‫أنهم يتطلعون إلى دعمك‪ ،‬وبما أنهم كانوا أقل‬
‫الضرورة أن تتحمل المعاناة التي تواجهكم جميعا‪ ،‬وهذا شكل للراحة‬
‫لمشاركة حزن المرء مع اآلخرين‪ ،‬حيث ُيوزع الحزن على كثير من الناس‪،‬‬
‫ويبقى طر ًفا ضئيلاً منه عندك فقط‪.‬‬

‫مرارا‪ ،‬وفي حين يحكم القيصر العالم‬


‫‪ 3-12‬لن أتوقف عن توجيه انتباهك للقيصر ً‬
‫يبرهن أن ما يحمي اإلمبراطورية بفعالية هو السخاء وليس القوة العسكرية‪،‬‬
‫في حين أنه مسؤول عن الشيء وعن اإلنسانية‪ ،‬وليس هناك خطر على شعورك‬
‫في أن ُتعاني أي ٍ‬
‫فقد‪ ،‬ويكفي المرء في هذا األمن والراحة‪ ،‬ولذلك استجمع‬
‫نفسك‪ ،‬وحين تترقق عيناك بالدموع حولها إلى القيصر‪ ،‬وسوف تجف عند‬
‫رؤية هذا المعبود األعظم في قوته والغالب في مجده‪ ،‬وسوف يبهرهم إشراقه‬
‫فال يرون شيئًا آخر غيره‪ ،‬فيثبتون على رؤيته‪.‬‬

‫(‪ ((17‬صورة مالية‪ :‬الحظ هو الدائن الذي يطلق سراح المدين المتعثر عن دفع جزء مستحق مما يدان به في مقابل أن يدفع ثمن‬
‫حياة أخيه‪ ،‬وبمقدور بوليبوس أن يحافظ على حياة أقاربه اآلخرين‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫‪ 4-12‬عليك أن تفكر فيه‪ ،‬وتنظر إليه ليل نهار وال تحول انتباهك عنه‪ ،‬وعليك أن‬
‫تنشد عونك ضد الحظ‪ ،‬وأنا ال أشك في عظم سخائه وخيره للقريبين منه‪،‬‬
‫لقد ضمد جروحك هذه بصنوف عدة من العزاء‪ ،‬وكدس أدوية شتى لتقاوم‬
‫ألمك‪ ،‬وبجانب ذلك حتى لو افترضت أنه لم يفعل هذه األمور‪ ،‬أليس مجرد‬
‫رؤية قيصر وفكره راحة كاملة لك؟‬

‫‪ 5-12‬ولألرباب والربات أن تمدد قرضها له ولألرض لفترة طويلة قادمة(‪ ،((17‬وقد‬


‫قياسا بسنينه(‪ ،((17‬وطالما ال يزال‬
‫تتساوى إنجازاته مع أوغسطس اإللهي ً‬
‫بين البشر لم يجرب فناء أي شيء في بيته‪ ،‬ويبني ثقة الناس في ابنه ليفوز‬
‫ً‬
‫شريكا ألبيه قبل‬ ‫حاكما لإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬ويراه‬
‫ً‬ ‫باستحسانهم ليكون‬
‫أن يراه خل ًفا له(‪ ،((18‬وقد يتأخر اليوم حين تدعوه عائلته للسماء‪ ،‬وقد يشهده‬
‫أحفادنا(‪.((18‬‬

‫‪ 1-13‬فض يدك عنه والحظ وال ُتظهر قوتك عليه إال في الجانب النافع‪ ،‬واسمح له‬
‫أن يعالج جنس البشر الذي طال عياه وسقمه‪ ،‬وأسمح له أن يسترجع ويحيي‬
‫ما دمره اإلمبراطور السابق(‪ ،((18‬وهذا النجم الذي هوى على العالم بزغ في‬
‫الهاوية وغرق في الظالم وأضاء لألبد(‪.((18‬‬

‫(‪ ((17‬وقد شاع هذا اإلطراء في اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬حيث منزلة اإلمبراطور الحقة بين األرباب‪ ،‬ولكن الكاتب يناشده أن‬
‫يبقى على األرض بقدر الممكن‪.‬‬
‫(‪ ((17‬توفي أوغسطس في عمر السادسة والسبعين‪ ،‬وكان كالوديوس في الخمسينيات من عمره عندما كتب سينيكا هذه‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫(‪ ((18‬االبن المقصود هو بريتاننيكوس‪ ،‬والذي كانت أمه ميسالينا الزوجة الثالثة لكالوديوس‪ ،‬ولد بريتاننيكوس عام ‪41‬م‬
‫بعد زواج كالوديوس بأجريببينا ‪ ،Agrippina‬وقد ر ُقى ابنها نيرونن فوق بريتاننيكوس والذي قتله نيرونن عام ‪55‬م‬
‫إمبراطورا بعد هذه الحادثة بعام‪ ،‬ورأى كالوديوس أن بريتاننيكوس خليفة له‬
‫ً‬ ‫وف ًقا للمصادر القديمة‪ ،‬وأصبح نيرونن‬
‫بعد موته وصعد للسماء‪.‬‬
‫ُ‬
‫(‪ ((18‬كانا يوليوس قيصر وأوغسطس من أسالف كالوديوس وألهوا‪ ،‬وتتبع أصولهم إلى فينوس‪ ،‬ولكن عائلته تشير إلى‬
‫األرباب عمو ًما‪.‬‬
‫(‪ ((18‬كان كاليجوال هو اإلمبراطور السابق حيث حكم من‪ 41-37‬م‪.‬‬
‫شائعا في اإلمبراطورية‪ ،‬حيث مقارنة الحاكم بالنجم‪.‬‬
‫(‪ ((18‬كان اإلطراء ً‬

‫‪147‬‬
‫‪ 2-13‬وأصلح جرمانيا(‪ ،((18‬وفتح بريطانيا(‪ ،((18‬وقاد لالنتصارات مثل والده(‪،((18‬‬
‫وانتصارات جديدة‪ ،‬والفضيلة التي احتلت مكا ًنا بين فضائله هي رحمته التي‬
‫متفرجا على هذه االنتصارات(‪ ،((18‬ألنه لم يوقعني دون‬
‫ً‬ ‫صبرت بأنني أكون‬
‫يكون على استعداد ليرفعني أو األحرى لم يوقعني ح ًّقا‪ ،‬بل حين هاجمني‬
‫الحظ وقد سقطت أمسك بي‪ ،‬وحين كنت أندفع بسرعة نحو الدمار منحني‬
‫ً‬
‫هبوطا لطي ًفا بلمسة من يده اإللهية‪ ،‬فتوسط لي في السوناتو‪ ،‬وهو لم‬ ‫ٍ‬
‫بلطف‬
‫يمنحني قط حياتي بل تشفع لها‪.‬‬

‫‪ 3-13‬أنا أترك األمر له‪ ،‬فدعه يفكر كيفما يشاء في حالتي‪ ،‬فإما تبين عدالته أنه‬
‫أفضل أو تجعله رحمته أفضل‪ ،‬والفضل يعني الشيء نفسه لي‪ ،‬سواء أكان‬
‫يعرف أنني بريء أم أتمنى أن أكون كذلك‪ ،‬وإنها لراحة بالغة لتعاستي أن ترى‬
‫رحمته تتخلل العالم كله‪ ،‬ومن هذه الزاوية التي دفنت فيها والتي دفنت بالفعل‬
‫أناسا عدة غمرتهم المصيبة منذ سنوات عدة وأعادهم للنور‪ ،‬فأنا لست خائ ًفا؛‬
‫ً‬
‫ألنني الوحيد الذي سيتجاهله‪ ،‬ولكنه هو فحسب َمن يعلم الوقت المناسب‬
‫الذي ينقذ فيه كل واحد‪ ،‬وسأبذل كل جهدي ألضمن أنه لن يخجل حين‬
‫يحين دوري‪.‬‬

‫‪ 4-13‬يا لرحمتك المباركة أيها القيصر‪ ،‬فبفضلك يعيش المستبعدون حياة هادئة‬
‫تحت إمرتك أكثر من قيادة المواطنين التي فعلها جايوس تحت قيادته! فهم‬

‫(‪ ((18‬هزم جابينيوس سيكوندس الكوشي ‪ ،the Chauci‬وهي قبيلة جرمانية في عهد كالوديوس‪ ،‬كما قام جنايوس دوميتوس‬
‫كوربيلو ‪ Gnaeus Domitius Corbulo‬بحملة ضد الكوشي في ‪ 47‬م‪ ،‬ومن المحتمل أنها بعد كتابة هذا العمل‪.‬‬
‫(‪ ((18‬قاد كالوديوس غزوة ناجحة إلى بريطانيا عام ‪43‬ق‪.‬م‪ ،‬وقد كتبت هذه الفقرة قبل هذه الغزوة أو على األقل قبل وصول‬
‫األخبار إلى سينيكا في كورسيكا‪.‬‬
‫(‪ ((18‬قام دروسوس ‪ Drusus‬والد كالوديوس بحملة في جرمانيا من عام ‪ 12‬حتى وفاته عام ‪ ،9‬وفاز بشارة النصر‪ ،‬واحتفل‬
‫كالوديوس بالنصر بعد غزوة بريطانيا‪.‬‬
‫(‪ ((18‬يقرر سيتونيوس ‪ Suetonius‬فى كتابه ‪ The Life of Claudius 34.3‬أن كالوديوس سمح لبعض المنفيين بالعودة إلى‬
‫روما لرؤية أنتصاره‪ ،‬ولكن لم يكن سينيكا بينهم‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ليسوا خائفين‪ ،‬وال ينتظرون السيف كل ساعة‪ ،‬وال يرتعدون في كل مرة‬
‫يشاهدون فيها السفينة‪ ،‬وبفضلك هم ال يستمتعون بوضع حدٍّ لوحشية الحظ‬
‫بل باألمل في تحسينه‪ ،‬وراحة البال حين يبقى الحظ كما هو‪ ،‬ويمكن للمرء‬
‫أن يخبر الصواعق برمتها عندما ُتعبد حتى من الذين ضربتهم(‪.((18‬‬

‫ٍ‬
‫امرئ‪ ،‬استعاد معنوياتك‬ ‫‪ 1-14‬ولذلك هذا اإلمبراطور هو مصدر الراحة الكلي لكل‬
‫بالفعل إن لم أكن مخطئًا‪ ،‬وجرب لجرحك أدوية أعظم‪ ،‬لقد استعمل بالفعل‬
‫كل الوسائل ليمنحك القوة‪ ،‬لقد ملك ح ًّقا ذاكرة قوية تستدعي كل السوابق‬
‫التي تحثك نحو االتزان‪ ،‬وشرح ح ًّقا تهاذيب كل الفالسفة ببالغته المعهودة‪.‬‬

‫‪ 2-14‬وال يمكن ألحد أن يؤدي دور المعزي بشكل أفضل‪ ،‬فحين يتكلم يكون‬
‫للكلمات وقع خاص‪ ،‬كما لو كان ينطق بالوحي‪ ،‬فإن سلطته اإللهية سوف‬
‫تسحق كل قوى حزنك‪ ،‬ولذلك تخيل أنه يقول لك‪« :‬إن الحظ لم يخترك‬
‫لوحدك ليخضعك لقسوة الحزن‪ ،‬ولم ُتعف أسرة في العالم بأسره من الحداد‬
‫على امرئ ما‪ ،‬وسوف أمر على أمثلة بسيطة‪ ،‬حتى لو كانت أقل داللة فهى ال‬
‫تزال وافرة‪ ،‬وسوف أنقلك إلى تقويمنا العام والسنوي(‪.((18‬‬

‫‪ 3-14‬هل ترى هذه الصور التي ُملئت بآهات ‪ atrium‬القياصرة؟ وكل واحد منهم‬
‫جدير بالذكر لبعض مصائب قومه‪ ،‬وكل واحد من هذه النجوم التي جلبت‬
‫التميز للقرون السابقة قد ابتُلي بالحزن لفقد أقاربه أو شعر أقاربه بالكرب‬
‫تجاهه‪.‬‬

‫(‪ ((18‬الصواعق التي يستعملها جوبتر في األساطير على نطاق واسع‪ ،‬وهي مجاز مألو للعقوبة التي يفرضها األباطرة‪ ،‬وتقام‬
‫الطقوس الدينية التراثية في روما في أى بقعة ضربها البرق‪.‬‬
‫(‪ ((18‬التقويم العام والفاستي ‪ the Fasti‬هو السجل الرسمي للقضاة الذين يتقلدون فيه المنصب كل عام‪ ،‬وتشير السجالت‬
‫العامة إلى الوقائع األعظم ‪ annales maximi‬التي يسجلها الكاهن األعظم ‪ pontifex maximus‬في الجمهوريات‬
‫ً‬
‫مؤرخا‪ .‬انظر‬ ‫المبكرة والمتوسطة‪ ،‬وعلى األرجح يشير إلى األعمال التاريخية الرومانية‪ ،‬حيث كان كالوديوس نفسه‬
‫‪ 2.8‬أعاله‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫هل تحتاج أن أذكرك بسكيبيو اإلفريقي الذي سمع عن وفاة أخيه في‬ ‫‪ 4-14‬‬
‫المنفى(‪((19‬؟ وهذا األخ الذي أنقذ أخاه من السجن لم يستطع أن ينقذه من‬
‫واضحا‪ ،‬ففي اليوم نفسه الذي خطف‬
‫ً‬ ‫القدر‪ ،‬وكان تعصب اإلفريقي لحب أخيه‬
‫فيه أخاه من يدي مسؤولي المحكمة‪ ،‬ورفض منبر الشعب رغم أنه كان مواطنًا‬
‫جند ًّيا(‪ ،((19‬ولكن ندب خسارته ألخيه بالشجاعة نفسها التي قد دافع بها عنه‪.‬‬

‫‪ 5-14‬هل تحتاج أن أذكرك بسكيبيو أيميلينوس ‪ Scipio Aemilianus‬الذي شهد‬


‫انتصار أبيه وجنازة أخويه في الوقت نفسه(‪((19‬؟ رغم أنه كان مجرد شاب‬
‫أو صبي تقريبا حين ُضربت عائلته أعقاب انتصار بولوس وتحمل الخراب‬
‫المفاجئ بكل شجاعة الرجل الذي ولد ليضمن ألاَّ تحتاج مدينة روما لسكيبيو‬
‫ولم تسبقها قرطاجة(‪.((19‬‬

‫‪ 1-15‬هل تحتاج أن أذكرك بأقرباء لوكالي ‪ Luculli‬االثنين اللذين مزقهما الموت‬


‫بومبي(‪((19‬‬
‫مؤخرا‬
‫ً‬ ‫اللذين لم يحالفهما الحظ العاثر‪ ،‬وماتا‬ ‫بعيدً ا(‪ ،((19‬أم‬

‫(‪ ((19‬هذا هو بوبليوس كورنيلوس سكيبيو اإلفريقي األكبر ‪ Publius Cornelius Scipio Africanus the Elder‬الذي‬
‫هزم حنبعل‪ ،‬وهو أخو لوكيوس كورنيلوس سكيبيو أسيجينيس ‪ ،Lucius Cornelius Scipio Asiagenes‬ومن‬
‫المحتمل أن يكون بعض الكتاب على صواب حين يقولون إن بوبليوس قد توفي قبل لوكيوس‪ ،‬ومن المحتمل أن‬
‫بوبليوس ذهب للمنفى الطوعي عام ‪180‬ق‪.‬م ليتجنب المحاكمة‪ ،‬وتوفي في العام الذي يليه‪.‬‬
‫(‪ ((19‬أنقذ بوبليوس أخاه قبل أن ُينفى بسنين قليلة‪ ،‬والتاريخ بالضبط غير مؤكد‪ ،‬ومن يحكم في المنصة يمكن أن يكون له‬
‫حق التصويت في منصة أخرى‪.‬‬
‫(‪ ((19‬هذا هو أفريكانو األصغر ‪ Publius Cornelius Scipio Aemilianus Africanus Numantinus‬ابن لوكيوس‬
‫إيميلوس باولوس ‪ Lucius Aemilius Paullus‬وتنبي بالتالي ابن أفريكانو األكبر‪ ،‬واحتفل أبوه الطبيعي بالنصر بعد‬
‫هزيمته لبوروس ‪ Perseus‬عام ‪167‬ق‪.‬م‪ ،‬وتُوفي االبن األول بعد خمسة أيام من االحتفال بالنصر‪ ،‬وتُوفي االبن اآلخر‬
‫بعد ثالثة أيام من االحتفال‪.‬‬
‫(‪ ((19‬دمر سكيبيو قرطاجة عام ‪146‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((19‬لوكيوس ليكينيوس لوكيلليوس ‪ Lucius Licinius Lucullus‬الذي قاد الجيش الروماني في الحرب الميترادكية الثالثة‬
‫‪ Third Mithradatic War‬وتوفي عام ‪ 55‬أو ‪ 56‬ق‪.‬م‪ ،‬وأخوه ماركوس ليكينيوس لوكيلليوس ‪Marcus Licinius‬‬
‫‪.Lucullus‬‬
‫ُ‬
‫(‪ ((19‬أبناء بومبيوس المعظم (بومبي العظيم) جنايوس بومبيوس المعظم األصغر (الذي أعدم بعد معركة موندا عام ‪ 45‬ق‪.‬م)‬
‫وسكتوس بومبيوس المعظم (الذي ُأعدم عام ‪ 35‬ق‪.‬م بعد هزيمته في معركة نايلوكوس ‪.)Naulochus‬‬

‫‪150‬‬
‫نجى أخته التي‬
‫بالكارثة نفسها؟ وسكتوس بومبيوس ‪َّ Sextus Pompeius‬‬
‫معا على نحو حسن في روما(‪،((19‬‬
‫بموتها ارتدت أواصر السالم التي شكالها ً‬
‫إنه نجى أخاه الفاضل الذي أقامه الحظ ليطيح به من مكان ال يقل ارتفاعا من‬
‫الذى أسقط منه والده‪ ،‬وال يزال سكتوس بومبيوس بعد هذه المحنة يؤكد أنه‬
‫كفأ للحزن فحسب بل للحرب ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ليس ً‬

‫‪ 2-15‬وهناك أمثلة ال حصر لها ألشقاء فرق الموت بينهم‪ ،‬أو وضعهم في اتجاه‬
‫معا‪ ،‬وسأكتفي بأمثلة من‬
‫معاكس‪ ،‬فبالكاد ترى إخوة قد تقدموا في السن ً‬
‫عائلتنا‪ ،‬لم يفتقر أحدهم لملكة الحكم والحس الحسن ليشتكي بأن الحزن‬
‫قد يلحق بشخص آخر عندما يعلم أن الحظ قد أصاب دموع القياصرة‪.‬‬

‫‪ 3-15‬فقد أوغسطس اإللهي أوكتافيا‪ ،‬وهي أخته المحبوبة‪ ،‬فالطبيعة ال تمنح‬


‫ً‬
‫تعويضا عن حتمية الحزن حتى لو كان قدر المرء من السماء‪ ،‬والحق أنه قد‬
‫هاجمته كل أنواع الفجيعة وفقد ابن أخته الذي كان يعده لخالفته(‪ ،((19‬وبعد‬
‫فترة وجيزة فقد صهره وابنه وحفيده‪ ،‬ولم يزد وعي الناس عن كونه موجو ًدا‬
‫بشر ًّيا يعيش بين البشر(‪ ،((19‬ولكن قلبه كان ً‬
‫قادرا على أن يتعامل مع كل‬
‫شيء‪ ،‬فقد تعامل مع كل هذه األشياء المتعددة والخسائر الفادحة‪ ،‬ولم ينتصر‬
‫أوغسطس اإللهي على األمم األجنبية فحسب‪ ،‬بل على أحزانه ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫(‪ ((19‬تمثل هذه الجملة إشكالية؛ ألن أخته كانت بومبيا ‪ Pompeia‬التي تزوجت سولال‪ ،‬لذا لم يكن لوفاتها تأثير يوصف هنا‪،‬‬
‫ويفترض أحيا ًنا أن سينيكا كان يفكر بارتباك في موت جوليا أخت يوليوس قيصر‪ ،‬إنها تزوجت بومبي العظيم عام ‪59‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬ودعمت التحالف بين بومبي وقيصر‪ ،‬وكانت وفاتها عام ‪ 54‬ق‪.‬م بمثابة حافز النهيار التحالف‪ ،‬وكانت الزوجة‬
‫الثانية لبومبي‪ ،‬ولذلك زوجة لألب وليس أختًا‪ ،‬وأخوا بومبي محل نقاش هنا‪ ،‬ومن المحتمل أن سينيكا يشير إلى الطفلة‬
‫ابنة بومبي وجوليا والتي لم تكن شقيقة لألخوين‪ ،‬لقد توفيت جوليا أثناء والدة هذه الطفلة التي ماتت بعدها بأيام قليلة‬
‫الحقة‪.‬‬
‫(‪ ((19‬توفيت أوكتافيا عام ‪ 11‬ق‪.‬م‪ ،‬وابنها ماررسيلوس توفي عام ‪ 23‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((19‬كانوا أصهار مارسيللوس وأجريبا‪ ،‬وكان أحفادهم جايوس ولوكيوس قيصر‪ ،‬وكان لديه طفل وحيد هو ابنته جوليا‪،‬‬
‫وماتت في المنفى‪ ،‬وربما يفكر سينيكا في جايوس ولوكيوس هنا ً‬
‫أيضا؛ ألنه تبناهما كأبناء (انظر الهامش اآلتي)‪..‬‬

‫‪151‬‬
‫‪ 4-15‬جايوس قيصر ابن وحفيد أوغسطس اإللهي(‪ ((19‬وخالي(‪ ((20‬ف َق َد في سنوات‬
‫رجولته المبكرة ‪-‬وهو قائد للشباب‪ -‬أخاه المحبوب لوكيوس ‪ ،Lucius‬وهو‬
‫عاطفيا أشد‬
‫ًّ‬ ‫جرحا‬
‫ً‬ ‫زعيم للشباب في االستعدادات لحرب بارثيا(‪ ،((20‬وعانى‬
‫مؤخرا‪ ،‬وتحمل الحب والشجاعة‬
‫ً‬ ‫ألما من الجرح الجسدي الذي ألم به‬
‫ً‬
‫العالقين في آن‪.‬‬

‫وفقد تبيريوس قيصر عمى أخوه دروسوس جرامايكوس ‪Drusus‬‬ ‫‪ 5-15‬‬


‫‪ Germanicus‬وهو أصغر منه س ًّنا‪ ،‬وهو ُيخضع القبائل الجرمانية المترامية‬
‫للحكم الروماني‪ ،‬واحتضنه وقبله وهو ميت‪ ،‬ومع ذلك لم يفرض حدًّ ا للحزن‬
‫لنفسه فحسب بل على اآلخرين‪ :‬فلم يحزن الجيش برمته بل ُصدم‪ ،‬وطالبوا‬
‫بجسد عزيزهم دروسوس ذاته‪ ،‬ولكن تيبريوس أعاده لشكل الحداد في التراث‬
‫الروماني‪ ،‬ورأى أنه ال ينبغي الحفاظ على هذا االنضباط في األمور العسكرية‬
‫فحسب‪ ،‬بل في الحزن ً‬
‫أيضا‪ ،‬وكان ليس بمقدوره كبح دموع اآلخرين ولم‬
‫يتمالك نفسه في الصدمة‪.‬‬

‫‪ 1-16‬وكان جدي ماركوس أنطونيو ‪ Marcus Antonius‬ال مثيل له‪ ،‬سوى الرجل‬
‫الذي هزمه حين أعاد تنظيم الدولة‪ ،‬وحين خولت له السلطة الثالثية ولم يسلم‬
‫بالسلطة األعلى‪ ،‬والحقيقة أنه كان ينظر في كل شيء في الحكم بعيدً ا عن‬
‫رفيقيه‪ ،‬لقد سمع أن أخيه قد ُقتل(‪.((20‬‬

‫‪ 2-16‬أيها الحظ العاثر كيف تروق لك معاناة اإلنسان! ففي الوقت الذي كان يحكم‬
‫فيه ماركوس أنطونيو على حياة مواطنيه وموتهم‪ُ ،‬نفذ حكم اإلعدام على‬

‫(‪ ((19‬كان حفيدً ا بالوالدة (ابن أجريبا وجوليا وابنة أوغسطس) ابن بالتبني‪.‬‬
‫(‪ ((20‬كان العم األكبر لكالوديوس (ابنته أنطونيا كانت ابنة أوكتافيا أخت أوغسطس)‬
‫رسميا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((20‬تلقى كليهما لقب قائد الشباب ‪ princeps iuuentutis‬عام ‪ 2‬م‪ ،‬وكان لق ًبا‬
‫ً‬
‫(‪ ((20‬ماركوس أنطونيوس والد أم كالوديوس‪ ،‬وشكلت أنطونيا حكومة الثالثة مع أوكتافيان وأوغسطس الحقا وماركوس‬
‫ليبيدوس ‪ ،Marcus Lepidus‬وقد هزمه أوغسطس عام ‪ 31‬ق‪.‬م‪ ،‬و ُقتل أخوه جايوس أنطونيوس عام ‪ 42‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫أخيه‪ ،‬وتحمل ماركوس أنطونيو الجرح القاسي بالشجاعة نفسها التي تحمل‬
‫بها المحن كلها‪ ،‬وقدم في حداد أخيه قربانا بدماء عشرين فيل ًقا(‪.((20‬‬

‫‪ 3-16‬وحتى أمر على كل األمثلة األخرى‪ ،‬وأتجاهل وفيات اآلخرين التي تأثرت‬
‫بها‪ ،‬فإن الحظ هاجمني مرتين لحزني على أخي‪ ،‬وعلمني في المرتين ال‬
‫يمكن أن أصاب أو أهزم(‪ .((20‬فقدت أخي جرامانيكوس‪ ،‬وأي امرئ يرى‬
‫ما كرست لكل اإلخوة المخلصين اآلخرين سوف ُيدرك بسهولة ما كرسته‬
‫له‪ ،‬ولكني سيطرت على مشاعري حتى ال أنسى شيئًا قد يطلبه أخ حسن‪ ،‬ولم‬
‫أفعل شيئًا يمكن أن ُينتقد في اإلمبراطور‪.‬‬

‫‪ 4-16‬وكذلك تخيل راعي قومه يقدم لك هذه األمثلة ويبين لك أنه ال شيء مقدس‬
‫وكل شيء ينتهكه الحظ‪ ،‬الذي ملك الجرأة ليؤدي مواكب الجنازات من‬
‫البيت الذي ُقصد فيه السعي عن األرباب‪ ،‬فال يفاجئ أحدً ا إن تصرف بقسوة‬
‫أو بظلم‪ ،‬فهل تعلم له أي حس لإلنصاف‪ ،‬أو أنه يتراجع في تعامله مع البيوت‬
‫الخاصة حين تؤرق وحشيته العنيدة مضاجع األرباب بالموت؟‬

‫‪ 5-16‬وربما ال تلعنه أصواتنا فحسب‪ ،‬بل أصوات الناس أجمعها‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫يتغير شيء‪ ،‬وسوف تقف علله أمام صلواتنا وشكوانا‪ ،‬وهذه هي الطريقة التي‬
‫تصرف بها تجاه البشر والتي سوف يتصرف بها‪ ،‬لم يترك شيئًا إال اخترقه‪ ،‬ولن‬
‫صحيحا‪ ،‬إنه سوف يهتاج في كل ٍ‬
‫أين كما يفعل دو ًما حتى يصيبه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يغادر شيئًا‬
‫موضعا أنه يدخل تلك المنازل التي تضاهي المعابد‪،‬‬
‫ً‬ ‫وحتى قد تبلغ الصفاقة به‬
‫وسوف يعلق على مداخل األبواب المفسطنة بالغار قماش أسود(‪.((20‬‬

‫(‪ ((20‬يشير إلى هزيمة جيوش بروتوس وكاسيوس في فيليببي ‪ Philippi‬عام ‪ 42‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((20‬من المحير أن يوصف الحظ كمهاجم مرتين‪ ،‬ولكن جيرمانيكوس هو األخ الوحيد المذكور‪ ،‬ولكن يصف تاكيتوس‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فى ‪ The Annals 2.82‬كيف وصال عام ‪ 19‬نبأ وفاة جيرمانيكوس إلى روما ‪ ،‬التقرير األول كان ً‬
‫خطأ والثاني‬
‫(‪ ((20‬كان مدخل القصر اإلمبراطوري يشبه المعبد‪ ،‬حيث نمت شجرة الغار أمامه‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪ 6-16‬دعونا نسعى للحصول هذا الطلب الوحيد منه بالنذور العامة والصلوات‬
‫إذا لم يقرر بعد أن يختزل جنس البشر إلى ال شيء‪ ،‬وإذا كان ال يزال ينظر‬
‫بإيجاب على اسم روما‪ :‬فهذا اإلمبراطور كان هبة لعالم اإلنسان المرهق‪،‬‬
‫ولذلك رغب في تبجليه وقدسه‪ ،‬كما يفعل البشر كلهم‪ ،‬فيتعلمون الرحمة‬
‫منه‪ ،‬وتحلى بلطف األباطرة كلهم‪.‬‬

‫‪ 1-17‬انظر إلى كل هؤالء الذين ذكرتهم للتو الذين صعدوا للسماء أو اقتربوا منها‪،‬‬
‫إن الحظ لم يكف يده عن الذين ُنقسم بأسمائهم(‪ ،((20‬وعليك أن تتفاعل‬
‫برباطة جأش حين تمتد يده إليك ً‬
‫أيضا‪ ،‬وعليك أن تتحلى بإصرار الذين‬
‫تحملوا أحزانهم وتغلبوا عليها‪ ،‬بالقدر الذي يحق لك فيه أن تسير على خطى‬
‫األلوهية‪.‬‬

‫شاسعا للوضع والتمايز في مجاالت أخرى؛ فالفضيلة‬


‫ً‬ ‫‪ 2-17‬ورغم أن هناك تفاو ًتا‬
‫متاحة للجميع‪ ،‬فهي ال تفكر بأن ال أحد يستحقها طالما أنه يفكر بأنه يستحق‪،‬‬
‫ويقينًا ستعمل على محاكاة الذين قد اشتكوا من إنهم لم يعفوا من المعاناة‪،‬‬
‫ولكن الذين قضوا أن يعاملوا بالطريقة نفسها مثل اآلخرين في هذا االعتبار‬
‫لم يظلموا‪ ،‬بل هو قانون الفناء‪ ،‬والذين عانوا مما يحدث بالوجع المفرط‪،‬‬
‫وال االمتعاض في ضعف وسلوك مخنث؛ ألن اإلخفاق في االعتراف بمعاناة‬
‫رجوليا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫المرء ال إنساني‪ ،‬واإلخفاق في تحملها ليس‬

‫ذكرت كل القياصرة الذين سلبهم الحظ إخوتهم وأخواتهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 3-17‬وحيث إنني‬
‫وليس بمقدوري أن ُأسقط أحدً ا من الذين شطبوا من كل قوائم القياصرة‪،‬‬
‫والذين خلقتهم الطبيعة لجلب الخراب والعار على جنس البشر‪ ،‬والذين‬
‫حرقوا اإلمبراطورية ودمروها جمل ًة‪ ،‬واستردتها اآلن رحمة إمبراطورنا‬
‫الكريم‪.‬‬

‫(‪ ((20‬في الفترة اإلمبراطورية حلف الناس اليمين لإلمبراطور الحالي‪ ،‬وألوغسطس بعد وفاته‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫‪ 4-17‬حين فقد جايوس قيصر أخته دروسيلال ‪ ،((20( Drusilla‬لم يزد رفيقه الحزن‬
‫أكثر من المرح مثلما فعل اإلمبراطور‪ ،‬وولى اإلمبراطور النظر ورفقة مواطنيه‪،‬‬
‫ولم يلحق بجنازة أخته‪ ،‬ولم تقم لها الشعائر الجنائزية الواجبة‪ ،‬وخفف صدمة‬
‫هذه الفجيعة المؤلمة بإقامته في ألبا ‪ Alba‬بالنرد ولعب القمار وغيرها من‬
‫األمور المثيرة لالشمئزاز(‪ ،((20‬يا له من عار على اإلمبراطورية! القمار هو‬
‫عزاء اإلمبراطور الروماني الذي حزن على أخته!‬

‫‪ 5-17‬وجايوس نفسه بتقلبه المجنون أطلق لحيته وشعره‪ ،‬وهام على وجهه بطول‬
‫شواطئ إيطاليا وصقلية‪ ،‬ولم يوقن إن كان يرغب الحزن على أخته أم يعبدها‪،‬‬
‫في حين كان يقيم لها المعابد والتكايا(‪ ،((20‬وكان يوقع أقسى العقوبة على‬
‫َمن ال يحزنون عليها بما فيه الكفاية؛ ألنه تحمل الشدائد باالفتقار إلى ضبط‬
‫النفس‪ ،‬فعندما صدمته األحداث تبجح بما هو خارج عن حدود اللياقة‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ 6-17‬وعلى الرجل الروماني أن يتجنب على سبيل المثال الحزن المثير لالشمئزاز‬
‫بفوارج مسلية غير مالئمة‪ ،‬أو يلهب أحزانه بمالبس حداد وقحة ومظهر فظ‪،‬‬
‫أو يستمتع بأحزانه بمعاناة اآلخرين‪ ،‬أو شكل ال إنساني من الراحة‪.‬‬

‫‪ 1-18‬وأنت لست في حاجة إلى أن تغير سلوكك المعتاد على اإلطالق‪ ،‬حيث‬
‫بدأت تكرس ذاتك للدراسات التي تزيد من سعادتك وتقلص بيسر مصائبك‬
‫التي تجلب السمو األعظم والراحة األسمى لإلنسان‪ ،‬لذا اغرس نفسك في‬
‫دراساتك بعمق اآلن‪َ ،‬‬
‫وأ ِح ْط نفسك بها اآلن‪ ،‬مثل التحصينات لعقلك‪ ،‬بحيث‬
‫ال يجد الحزن طري ًقا له في أي اتجاه‪.‬‬

‫(‪ ((20‬تُوفيت دورسيلال عام ‪38‬م‪.‬‬


‫(‪ ((20‬حذفت بعض الكلمات من النص حتى يمكن ترجمته‪.‬‬
‫(‪ ((20‬كانت صور األرباب تعرض بانتظام على المضاجع‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪ 2-18‬أدم ذكر أخيك في بعض متون أدبك‪ ،‬فهذا هو المنتج الوحيد الذي ال تضر به‬
‫عاصفة وال يتلفه طول الزمن في حياة اإلنسان‪ ،‬فأثار اآلخرين شيدت من ُبنى‬
‫الحجر وكتل الرخام‪ ،‬أو ُشيدت من ركام تراب قد اعتلى‪ ،‬وهذه اآلثار ال تكفل‬
‫البقاء الطويل؛ ألنها فانية ال محالة‪ ،‬والبناء التذكاري باألدب العبقري خالد‪،‬‬
‫فأغدق على أخيك واذكره ليسكن في هذا‪ ،‬فمن األفضل لك أن تحتفي به في‬
‫عبقريتك األدبية‪ ،‬التي ُيقدر لها أن تدوم لألبد بدلاً من أن ترثيه بحزن ال معنى له‪.‬‬

‫‪ 3-18‬أما بالنسبة للحظ ذاته؛ فإن حالته ال يمكن الدفاع عنها في هذه اللحظة أمامك‬
‫– كل ما قدم لنا يدفعنا لكراهيته ألنه يخطف الشيء بعينه بعيدً ا‪ -‬ومع ذلك‬
‫أنت في حاجة لتدافع عن الحظ بمجرد أن يمكنك الزمن لتحكم بطريقة أكثر‬
‫عدلاً ‪ ،‬ومن ثم سوف يكون بمقدورك المصالحة معه‪ ،‬فإنه وضع تدابير شتى‬
‫لعالج هذا الضرر‪ ،‬وسوف يمنحك في المستقبل عطايا عدة لتعوضك عنه‪،‬‬
‫وفي النهاية قد يعطيك هو ذاته ما أخذه منك‪.‬‬

‫‪ 4-18‬فال توظف موهبتك ضد نفسك‪ ،‬وال تدافع عن حزنك‪ ،‬فقد تصنع بالغتك‬
‫األشياء الصغيرة عظيمة‪ ،‬وقد تقلص ما هو عظيم فيبدو ضئيلاً ‪ ،‬وحافظ على‬
‫قوى موهبتك لمناسبة أخرى‪ ،‬وكرسها بكليتها لعزائك‪ ،‬ومن ثم احترس إن‬
‫كان هذا غير ضروري اآلن‪ ،‬فالطبيعة تطلب منا بعض الحزن‪ ،‬ولكن تتزيد فيه‬
‫أنفسنا بفخر فارغ‪.‬‬

‫‪ 5-18‬لن أطلب منك ألاَّ تحزن مطل ًقا‪ ،‬رغم أنني أعلم أنه بمقدور المرء أن يجد‬
‫رجالاً قسا ًة بدلاً من حكمة جسورة يقولون إن الحكيم ال يشعر بأي حزن(‪،((21‬‬
‫ويبدو أنهم لم يواجهوا مثل هذا النوع من الشدائد أبدً ا‪ ،‬وقد يطرح الحظ‬

‫(‪ ((21‬هذا هو الرأي الرواقي‪ ،‬ولكن سينيكا ينأى بنفسه عن وجهة النظر الصارمة التي ترى أن الحكيم ليس لديه مشاعر على‬
‫اإلطالق‪ ،‬ويعتنق مذهب أرسطو المعتدل الذي يرى على سبيل المثال على المرء أن ينأى بنفسه عن االنفعاالت المفرطة‬
‫كما يقول فى ‪.6.18‬‬

‫‪156‬‬
‫فلسفتهم المتجبرة خارجهم‪ ،‬ويجبرهم على االعتراف بالحق رغما عنهم‪.‬‬

‫‪ 6-18‬وسوف يحقق العقل ما يكفي إذا استأصل ببساطة أي حزن ال طائل منه وال‬
‫لزوم له‪ ،‬وال ينبغي لهذا العقل أن يسمح للحزن أن ُيحيي على اإلطالق شيئًا‬
‫ال يأمله أحدٌ أو يرغب فيه‪ ،‬ودع العقل بدلاً أن من يبقى في منتصف الطريق ال‬
‫ال يعاني فيه تشابه في افتقار الحب أو افتقار سالمة العقل‪ ،‬ودعه يبقينا في إطار‬
‫الفكر محبوبين وال نكره‪ :‬حيث يدع الدموع تتدفق وال يدعها تتوقف‪ ،‬ويدع‬
‫التأوهات تخرج من أعماق القلب‪ ،‬ويدعها تصل إلى نهاية‪ ،‬أبق عقلك تحت‬
‫السيطرة بطريقة تفوز فيها باستحسان كل من الحكيم وإخوتك‪.‬‬

‫مرارا‪ ،‬وأنت غالبا تذكره في‬


‫ً‬ ‫‪ 7-18‬تيقن من أنك ترغب في تذكيرك بأخيك‬
‫محادثتك‪ ،‬وبتذكرك المستمر سوف يبقيه في عين عقلك‪ ،‬سوف تنجح إن‬
‫تيقنت أن تذكرك له يسعدك وال يغمك‪ ،‬ألنه من الطبيعي أن يكره العقل أي‬
‫شيء يرجعه للحزن‪.‬‬

‫‪ 8-18‬فكر في تواضعه‪ ،‬وفي دهائه حين ُيقبل على العمل‪ ،‬وفي طاقته إلنجاز األمور‪،‬‬
‫واستدع لفائدتك كل‬
‫ِ‬ ‫وموثقيته حين يتعلق األمر بالوعود‪ ،‬ومر على اآلخرين‬
‫ما قاله وما فعله‪ ،‬وفكر فيما كان يحبه‪ ،‬والتمنيات التي يكنها له‪ ،‬فهل هناك‬
‫شيء ليس بمقدور المرء أن يعد به بثقة فيما يتعلق بهذا األخ؟‬
‫ٌ‬
‫‪ 9-18‬لقد كتبت هذا بأفضل ما استطعت بعقل ُمجهد ومخدر بعدم االستعمال‬
‫الطويل‪ ،‬وإذا كانت كلماتي تبدو ال تناسب عقلك‪ ،‬وال تالئم عالج حزنك‪،‬‬
‫ٌ‬
‫منشغل بمعاناته‪ ،‬وكيف ال‬ ‫ففكر كيف يتحرر المرء وهو ُيعزي ً‬
‫امرأ آخر وهو‬
‫تأتي الكلمات الالتينية بسهولة عند ثرثرة البرابرة غير المفهومة‪ ،‬وحتى حين‬
‫تحضرا وصعوب ًة(‪.((21‬‬
‫ً‬ ‫تجدها آذان البرابرة األكثر‬

‫(‪ ((21‬تستدعي الخاتمة نهاية كتاب أوفيد ‪ ،Ovid’s Tristia book 3 (3.14.47–52‬حيث يشتكي الشاعر من األصوات‬
‫الغريبة التي تحيط به في مكان في منفاه‪.‬‬

‫‪157‬‬
158
‫ِق َ�ص ُر الحياة‬

‫‪159‬‬
160
‫مقدمة‬
‫من المحتمل أن بولينيوس ‪ Paulinus‬الذي افتُتحت به الرسالة هو بومبيوس‬
‫بولينيوس ‪ ،Pompeius Paulinus‬وهو فارس من أريليت ‪ Arelate‬وهي آرلس‬
‫حدي ًثا‪ ،‬وكان خاز ًنا الذرة من ‪ 55- 48‬ق‪.‬م‪ ،‬ومسؤولاً عن إمداد الحبوب الرومانية‪،‬‬
‫ومن المقبول عمو ًما أنه كان والد بومبيا بولينا ‪ Pompeia Paulina‬زوجة سينيكا ‪(cf.‬‬
‫)‪ ، Tacitus Annals 15.60.4‬وبالنظر إلى نصائح سينيكا المباشرة إلى باولينيوس‬
‫للتقاعد عن وظيفته المهمة (‪ ،)19.2–18.1‬يبدو أن العمل قد ُأ ِّرخ في ‪55-48‬‬
‫ً‬
‫منهمكا فيها في الحياة العامة وسياسات البالط بعد عودته من‬ ‫تلك الفترة التي سينيكا‬
‫المنفى عام ‪ ،49‬وإذا قبل هذا التأريخ‪ ،‬فإن هنالك معضلتين يفرضان نفسهما على‬
‫الفور‪ ،‬األولى بالنسبة للذين ينجذبون لعقالنية نصائح سينيكا لباولينيوس في التقاعد‬
‫فلسفيا ليس لباولينيوس‬
‫ًّ‬ ‫عن وظيفته في الدولة‪ ،‬فكيف للخيار العملي أن يكون انسحا ًبا‬
‫فحسب (ناهيك عن الدولة التي يخدمها) بل لقراء سينيكا الكثر القدامى والمعاصرين‬
‫وسط كل مسؤوليات الحياة وتحدياتها؟ والثانية كيف يخرج سينيكا من تهمة المداجاة‬
‫لحث باولينيوس على التقاعد في السنوات التي انخرط هو نفسه فيها في البالط؟‬
‫ربما تكون اإلثارة المطلقة لكال السؤالين هو أفضل إجابة عليهما‪ ،‬حيث إن‬
‫نصائح سينيكا إلى باولينيوس ذات جدوى إذا أحدثت له ولنا ًّ‬
‫خطا للرجوع من مسيرة‬
‫الحياة التي تسير بال هوادة‪ ،‬لتقيم جذر ًّيا بديلاً لترتيب أولويات وجودنا‪ ،‬ونفكر في‬
‫استعماالتنا اليومية ونقسم زمننا‪ ،‬وقد صنف الرواقيون الزمن الواقعي ال الال مادي‬
‫‪161‬‬
‫كأحد الال ماديات األربعة‪ ،‬بجانب «ما يمكن القول عنه ‪ ”sayable‬الخالء والمكان‪،‬‬
‫إال أن سينيكا في هذه الرسالة يتصور الزمن كما لو كان سلعة مادية أو شكلاً للملكية‬
‫التي يمكن أخذها وردها أو اكتنازها أو إنفاقها أو حفظها أو إهدارها(‪-)cf. 3.1, 8.1‬‬
‫وهو منهج مادي يتصور فيه الزمن عملة بقيمة انتقالية ويحتاج إلى ميزانية دقيقة‪،‬‬
‫وهكذا يدخل الزمن المجال األخالقي؛ ألن الحرية الباطنة عند الرواقية تعتمد على‬
‫سيطرتنا على الزمن‪ ،‬وهنا فإن الفاعلية اإليجابية التي يغرسها سينيكا بالحث يمكن أن‬
‫ُتسترجع من نهب اآلخرين(‪ )cf. 2.4–5‬بغرس درب جديد مبني على العيش “الحق‬
‫اآلن”(‪ ،)9.1‬وبتعزيز عدم التهاون مع الزمن المفقود باإلذعان للرذيلة(‪،)cf. 2.1–2‬‬
‫أو المشاركة غير المجدية في السخافة (‪ .)13.9–12.2‬وأسلوبه الرشيق يجمع‬
‫أخالقيا‪ ،‬والتوجه اللطيف واإليجاز الحكيم وقص الطرفة‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫محاور السخط المبرر‬
‫ويؤكد هذا في حد ذاته إلحاحه على نقده الالذع لقيمة الزمن‪ ،‬وتعصب الصوت الذي‬
‫يشارك التفاؤل الجوهري للعمل الذي يصر بأن هناك طري ًقا آخر‪.‬‬
‫والتمييز الذي يصنعه في رسالة وقت الفراغ ‪ On Leisure‬بين جمهور العامة‬
‫المحليين وما يقابلهم في المدينة العالمية الكونية (‪ )2–4.1‬يتوازى بالتناقض مع ما‬
‫يصنعه في رسالة قصر الحياة ‪ On the Shortness of Life‬بين واجبات باولينيوس الشاقة‬
‫“استدع عقلك المفعم بالحيوية‪ ...‬من‬
‫ِ‬ ‫من عمله خازن وهو يقول في ‪ 1-19‬و‪:2-18‬‬
‫الوظيفة المرموقة ح ًّقا‪ ،‬ولكن من الصعب أن ُتبقي على الحياة السعيدة”‪ .‬وبين المساعي‬
‫المستنيرة التي تنتظره في التقاعد الفلسفي وهو يقول في ‪“ :2-19‬عليك أن تتخلى عن‬
‫المستوى الدنيوي‪ ،‬وتحول عين عقلك إلى هذه الدراسات”‪ ،‬والتحول الملحوظ في‬
‫المنظور الذي استحثه في ‪ 1.2-19‬في اتجاهين قد سبق له عرضهما في الرسالة‪،‬‬
‫واالتجاه األول في الفصل األول حتى التاسع حيث شجبه للزمن الضائع باالنشغاالت‬
‫المضللة لكل وسائل الراحة والمداهنة حيث يستريح باولينيوس باإلبعاد‪ ،‬وبالتالي‬
‫بقرائه من المخالفين الذين يحصيهم‪ ،‬وتلك االنشغاالت التي تداهننا لتفض عنا‬
‫‪162‬‬
‫عصب حياتنا‪ ،‬و ُنخضع أنفسنا لتدقيق معذب للزمن المهدر والذي يوجهنا سينيكا إليه‬
‫في حوار خيالي ‪ .3.2-3‬واالتجاه الثاني من الفصل العاشر ‪ 2-10‬حتى الفصل ‪-17‬‬
‫‪ ،6‬ورغم التحول المعلن فى فى ‪ 1-10‬من الشجب الصريح إلى المقاربة االستداللية‪،‬‬
‫درسا وهو أنهم لم يعفوا من الفقد”‪ ،‬وتتواصل نبرة‬
‫“على المنشغلين أن يتعلموا ً‬
‫الشجب عند سينيكا في استقصائه للزمن المهدر على المساعي التافهة في الفصل من‬
‫‪ ،12-11‬ولكن في هذه الفصول ذاتها تنعرج بتحول االتجاه للتركيز في ‪ 1.14‬على‬
‫هذه الجهود الفلسفية والتي تدلل على الحياة الحقة في وقت الفراغ‪ ،‬وعلى النقيض من‬
‫المنشغلين وأبرزهم من بين جمهور العامة الروماني الذي ينفع بلهفة من التزام بعينه‬
‫إلى آخر في دائرة التذلالت اليومية (‪ ،)3 -4-14‬تبنى سينيكا أسلو ًبا رمز ًّيا ليوفق بين‬
‫رعاة الفلسفة مثل سقراط وكارنيادس ‪ Carneades‬وبين أبيقور أو زينون ‪،14- 5-2‬‬
‫وخال ًفا للرعاية المعهودة فإن هذا األسلوب للرعاية متحرر على نحو متناقض‪ ،‬ويحرر‬
‫الفيلسوف من أن يعيش على نحو أستاذه في السيطرة على ماضيه وحاضره ومستقبله‬
‫‪ ،5-15‬وهذه اآلثار المتحررة تقرب المشاركة في المدينة الكونية الكبيرة‪.‬‬
‫ومن هذا المنظور األسمى لحالة باولينيوس كخازن للذرة‪ ،‬ومهما كان سام ًيا‬
‫من جانب واحد فإنه يتشابه في جانب آخر لهذا التابع الم ُثقل في الفصل ‪ ،14‬حيث‬
‫تنتظره الخدمة األسمى إن حقق االستغناء من كل القيود واالنشغاالت اليومية‪ ،‬وكل‬
‫التكهنات عما إذا كان أنصت بالفعل للتقاعد بإقناع سينيكا‪ ،‬والمسألة الجوهرية اإلثارة‬
‫التي يطرحها سينيكا لتسوية المواقف بمعالجة شخصية باولينيوس البارزة من وجهة‬
‫نظر راديكالية‪ ،‬وحتى لوكان سينيكا ذاته كان في المنصب في زمن كتابة هذه الرسالة‪،‬‬
‫فإن تهمة النفاق كما يزعم مسألة ثانوية مقارنة بقيمة هذا النداء إلى اليقظة والعودة‬
‫إلى الحياة‪ ،‬وربما ال ينظر إلى رسالة قصر الحياة على المداجاة بل المداجاة تجسيدً ا‬
‫لرسالته‪ ،‬ألن سينيكا حتى لو كان منشغلاً في خضم البالط فإنه يمارس بكتابته الوعي‬
‫الذاتي عن قيمة الزمن الذي تروج له أطروحته في اآلخرين‪.‬‬
‫‪163‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Griffin, M. T. 1962. “De Brevitate Vitae.” JRS 52:104–13.

———. 1976. Seneca: A Philosopher in Politics (Oxford: Oxford


University Press / Clarendon Press; repr. with postscript, 1992),
esp.317–21, 401–7.

Williams, G. D., ed. 2003. Seneca: “De Otio,” “De Brevitate Vitae”
(Cambridge: Cambridge University Press), esp. 18–25.

164
‫يا بولينيوس ‪ ،Paulinus‬يشكو معظم البشر دناءة الطبيعة؛ ألن مدى الحياة‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫المقسوم لنا قصير للغاية‪ ،‬وألن هذا المدى من الزمن الذي ُأعطي لنا يسير‬
‫سريعا‪ ،‬حتى مع االستثناءات القليلة تتخلى الحياة عن البقية منا‬
‫ً‬ ‫مجراه عاجلاً‬
‫حين نكون على استعداد للعيش‪ ،‬وليست الجماهير والحشود غير المتخيلة‬
‫كليا فحسب‪ ،‬بل تجد الشعور نفسه حتى عند‬
‫شرا ًّ‬
‫هي التي تشكو مما يعتبرونه ًّ‬
‫أناس متمايزين‪ ،‬ومن ثم جاء القول المأثور ألعظم الطبيعيين “الحياة قصيرة‬
‫وفن طويل”(‪.((21‬‬

‫تنفيرا(‪ ((21‬حين دعا الطبيعة أن تمنح‬


‫ً‬ ‫وهنا اشتكى أرسطو أعظم الفالسفة‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫مزيدً ا من الزمن للحيوانات؛ ألنها تعيش ُخمس أو ُعشر الفترة التي يحياها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهو أقصر مما ُمنح للبشر‪ ،‬مع أنها ولدت لعمل أشياء عظيمة شتى‪.‬‬

‫قصيرا للعيش‪ ،‬ولكننا ُنضيع كثيره‪ ،‬فالحياة طويلة بما‬


‫ً‬ ‫ليس ما نملكه زمنًا‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫أمورا أعظم إن استثمرناها كلها‬
‫ً‬ ‫وأعطيت لنا بمقدار أوفى؛ لنحقق‬‫يكفي‪ُ ،‬‬
‫على نحو حسن‪ ،‬ولكن حين تهدر الحياة بالعيش الناعم الال مبالي‪ ،‬وحين‬
‫نقضيها فيما هو غير جدير بالسعي‪ ،‬فإن الموت يزحم في النهاية فندرك أن‬
‫الحياة التي لم ننتبه إليها قد ولت‪.‬‬

‫(‪ ((21‬القول األول المأثور ألبيقراط الخيوسي ‪ Hippocrates of Cos‬وهو معاصر لسقراط في أواخر القرن الخامس قبل‬
‫الميالد‪.‬‬
‫(‪ ((21‬ينسب شيشرون هذا الرأي (‪ )Tusculan Disputations 3.69‬لثيوفراسطس رفيق أرسطو وتابعه‪ ،‬وربما أخطأ في‬
‫النسبة‪ ،‬إذ لم يذكر سينيكا عمدً ا أن حضور أرسطو هنا أثقل وز ًنا من أبقراط‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وليست الحياة التي ُمنحناها قصيرة‪ ،‬ولكننا جعلناها كذلك‪ ،‬ولسنا في معاش‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫والم ْع ِجبة ُتبدد في لحظة حين‬
‫السخية ُ‬
‫عليل بل ضيعنا الحياة‪ ،‬كما أن الثروة َّ‬
‫الو َك َالة‪ ،‬ولكنها تتنامى باعتدال بانتقال حريص إذا‬
‫ننفقها في أيدي الفقراء بِ َ‬
‫عهدنا بها لولي مسؤول‪ ،‬وكذلك زمن حياتنا يوفر مجالاً أرحب َ‬
‫لمن يخطط‬
‫له بشكل حسن‪.‬‬

‫لماذا نشكو الطبيعة؟ إنها خدمت بسخاء‪ ،‬فإن تعلمت كيف تستعمل الحياة‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫حبيس‪ ‬في قبضة نهم البخل‪ ،‬وآخر في نوع الكد‬
‫ٌ‬ ‫فهي طويلة‪ ،‬ولكن أحدهم‬
‫الذي يشغل ذاته بمغامرات ال طائل منها‪ ،‬فهذا ثمل بالخمر وآخر راكد‬
‫بالكسل‪ ،‬وهذا أنهكه طموحه السياسي الذي يتقيد بحكم اآلخرين دو ًما في‬
‫حين أن رغبة اآلخرين ُم ّتقدة لتجارة تقودهم بتهور فوق كل وطن وكل بحر‬
‫بأمل المنفعة‪ ،‬ويولعون بتعذيب بعض الناس المكافحين الذين ال يلحقون‬
‫ضررا أو يخشون الضرر على أنفسهم‪ ،‬ويتزيا البعض باالستعباد‬
‫ً‬ ‫باآلخرين‬
‫الطوعي للحاشية الجاحدة‪.‬‬

‫والكثير منهم مهموم بالسعي وراء ثروة اآلخرين أو يشكو ما لديه‪ ،‬والكثير‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫منهم ليس له غاية محددة في الحياة يتأرجح من عزم إلى آخر بتقلب جائل‬
‫غير مستقر وحتى غير راض مع ذاته‪ ،‬والبعض ليس له غاية على اإلطالق تجاه‬
‫يوجه مساره‪ ،‬ولكن الموت يأخذهم على حين غرة وهم يفغرون أفواههم‬
‫ما ِّ‬
‫ويتثاءبون‪ ،‬وال أشك في حقيقة الكالم الذي يبدو نبو ًّيا وهو ألعظم الشعراء‬
‫«البخل طرف الحياة الذي نعيش فيه»((‪ ،)((21‬وكل ما تبقى من الوجود ليس‬
‫ً‬
‫عيشا بل مجرد زمن‪.‬‬

‫تحيط بنا الرذائل وتهاجمنا من كل حدب‪ ،‬وال تسمح لنا أن نرتفع وتحجب‬ ‫‪ 3-2‬‬

‫(‪ ((21‬التقديم غير العمودي لشاعر تتنازع هويته‪ ،‬راجع ‪ 2-9‬حيث أطلق على فيرجيل أنه أعظم الشعراء‪ ،‬وفي ‪Letters 63.2‬‬
‫أطلق على هوميروس أعظم شعراء اليونان‪ ،‬وال يوجد أي أثر واضح للقول المأثور هنا‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫أعيننا عن البصيرة الجلية للحقيقة وتحشيها وتبقيها منكسة وتثبتها على مجرد‬
‫مكن ضحاياها من العودة إلى ذواتهم الحقة‪ ،‬ومن قبيل الصدفة‬‫الرغبة التي ال ُت ِّ‬
‫أن يجدوا بعض الراحة‪ ،‬فهي تكورهم بال هوادة مثل البحر العميق الذي يستمر‬
‫موج ُه حتى بعد سكون الريح‪ ،‬حيث ال يجدون راحة من رغباتهم‪.‬‬
‫َ‬
‫هل تعتقد أنني أتحدث عن الذين قد ُقبلت نقائصهم فحسب؟ انظر إلى هؤالء‬ ‫‪ 4-2‬‬
‫الذين تستقطب رفاهيتهم الحشد‪ ،‬وهم الذين اختنقوا من متعهم‪ ،‬فكم صارت‬
‫ثرواتهم عبئًا! فكم استُنزفت دماؤهم بفصاحتهم! وانشغالهم اليومي بعرض‬
‫قدراتهم! وكم شحبوا من ملذاتهم المتواصلة! وكم تخلوا عن العديد من‬
‫تابعيهم المحاصرين! باختصار انظر إلى كل منهم من أسفل إلى أعلى‪ ،‬فهذا‬
‫يستدعي المحامي ليدافع عن قضيته‪ ،‬وآخر يلبي الدعوة‪ ،‬وهذا يقف أمام‬
‫المحكمة‪ ،‬وآخر يدافع‪ ،‬وآخر يدير كالقاضي‪ ،‬والكل يسايره لمصلحة أخرى‬
‫وال نصير له بالفعل‪ ،‬واسأل عن المواطنين المؤثرين الذين ُحفرت أسماؤهم‬
‫بالمثابرة‪ ،‬وسوف ترى التمايزات التالية توضح بعضها بعض‪ ،‬فاألول يزرع‬
‫للثاني‪ ،‬والثاني للثالث‪ ،‬وال أحد يصدقه‪.‬‬

‫وأناس بعينهم ينفسون عن هيجان الغضب غير العاقل‪ ،‬حيث يشكون غطرسة‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫جمهورا‪ ،‬وهل يجرؤ أي أحد‬
‫ً‬ ‫رؤسائهم الذين احتفوا باستقبالهم حين أرادوا‬
‫وقت إلدانة نفسه؟ ولكن‬
‫على أن يشتكي غطرسة اآلخرين في حين ليس لديه ٌ‬
‫الرجل العظيم أحيا ًنا ينحني لينظر إليك مهما كان شخصك‪ ،‬فهم مهيكلون‬
‫لسماع كلماتك‪ ،‬ويسمح لك أن تسير جواره‪ ،‬ولكنك لم تفكر إطال ًقا أن تنظر‬
‫لنفسك وتسمع لها‪ ،‬وكذلك ال تملك سب ًبا لتتوقع ر ًّدا من أي أحد النتباهك‬
‫لنفسك‪ ،‬حيث قدمت لهم؛ ليس ألنك تريد رفقة اآلخرين‪ ،‬ولكن ألنه‬
‫بمقدورك مناجاة نفسك‪.‬‬

‫وتتفق كل العقول الالمعة التي أشرقت عبر العصور على غاية واحدة‪ ،‬وهي‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫‪167‬‬
‫أنها ال تستطيع التعبير عن دهشتها بشكل كاف في هذا الضباب القاتم في‬
‫العقل البشري‪ ،‬وال أحد يسمح ألحد أن يقدر ممتلكاته‪ ،‬وإذا نشأ نزاع تافه‬
‫حول الحدود فإنهم يتراشقون بالحجارة ويتدافعون باألذرع ولكن يسمح‬
‫الناس لآلخرين أن يتعدوا على وجودهم‪ ،‬أو باألحرى يصل بهم الحد لدعوة‬
‫من يريدون أن يأخذوا ممتلكات حياتهم‪ ،‬ولن تجد أحدً ا على استعداد أن‬
‫يوزع ماله ولكن كم من الناس منا قد وزَّ ع حياته! فالناس ُممسكون في حراسة‬
‫ممتلكاتهم التي بمجرد أن ُتقبل ُتضيع الزمن‪ ،‬وهم أكثر تطر ًفا بسلعة واحدة‬
‫التي ُتحترم بدافع الجشع‪.‬‬

‫وهكذا أود أن أتوج أحدً ا من الحشد القديم‪« :‬انظر إلى الحد الذي وصلت‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫إليه الحياة اإلنسانية التي قست عليك منذ مائة عام أو يزيد‪ ،‬تعال اآلن‪ ،‬وقدم‬
‫حياتك للتدقيق‪ ،‬واحسب كم من الوقت قضيته مع المرابين والعشيقات‬
‫والغرماء والجمهور‪ ،‬وكم من الوقت قد انصرم في الجدل مع زوجتك وفي‬
‫معاقبة أنفسكم وفي النقاش حول المدينة والواجبات االجتماعية‪ ،‬وأضف‬
‫إلى حساباتك األمراض التي جلبناها ألنفسنا‪ ،‬وكذلك الزمن الذي تبدد في‬
‫الخمول‪ ،‬وسوف ترى أن سنونك أقل مما حسبت‪.‬‬

‫انظر إلى الوراء‪ ،‬وتذكر حين كنت على يقين من غايتك‪ ،‬وكم حولت األيام‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫القليلة ما كنت تنويه‪ ،‬حين كان في إمرتك التدبير‪ ،‬وحين كشف وجهك عن‬
‫تعبيره‪ ،‬وحين كان عقلك خال ًيا من االضطراب‪ ،‬فما اإلنجاز الذي يمكن أن‬
‫تدعيه في مثل هذه الحياة الطويلة‪ ،‬وكم الذين نهبوا وجودك وأنت ال تعي ما‬
‫ضاع منك‪ ،‬وكم من وقت ضيعته في معاناة وسخافة ومتعة ورغبة وجشع‬
‫ومفاتن للمجتمع ال أساس لها‪ ،‬كم هو قليل ما تبقى لك من مخزون زمنك‪،‬‬
‫وعليك أن تدرك أنك قد تموت قبل أوانك!‬

‫وما السبب لهذا؟ إن نوعك يعيش كما لو كان يحيا لألبد‪ ،‬ولم يدخل ضعفك‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫‪168‬‬
‫نظرا لكيف ينصرم الزمن بالفعل‪ ،‬لقد ضيعت الزمن‬
‫لق ً‬‫البشري رأسك‪ ،‬ولم ُت ِ‬
‫مملوءا ليفيض‪ ،‬واللحظة التي ُتعطى المرئ ما ربما‬
‫ً‬ ‫منبعا‬
‫كما لو أنه يأتي ً‬
‫تكون آخر لحظة له‪ ،‬أنت مثل كل الفانيين في الخوف من كل األشياء‪ ،‬وأنت‬
‫الم ْبتَغين كل شيء‪.‬‬
‫مثل الخالدين ُ‬
‫لقد سمعت الكثيرين يقولون‪« :‬بعد عامي الخمسين سأنسحب لحياة الراحة‪،‬‬ ‫‪ 5-3‬‬
‫وبعد عامي الستين سأعتق نفسي من كل الواجبات»‪ ،‬وإنني أتساءل هل تضمن‬
‫أن تمتد حياتك ألمد طويل؟ و َمن الذي سوف يسمح لترتيباتك أن تمضي‬
‫ُقد ًما وف ًقا للخطة التي رسمتها؟ ألم تخجل من أن تمنح نفسك بقية وجودك‪،‬‬
‫و ُت ْ‬
‫عين للفكر الفلسفي هذه الفترة من الزمن التي ال تقدر فيها على أي عمل؟‬
‫كم تأخرت في أن تبدأ العيش والحياة توشك على النهاية! ويا لسخافة النسيان‬
‫من موتانا؛ حيث يضعون الخطط الحكيمة لخمسينيينا وستينيينا أو أن يرغبوا‬
‫أن يبدأوا الحياة من النقطة التي وصل منها قلة!‬

‫وسوف تجد أن معظم الناس األقوياء في المكانة العالية يقطرون الكلمات في‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫تضرعهم من أجل الراحة ويثنون عليها ويفضلونها على كل النعم‪ ،‬وأحيا ًنا‬
‫ينسحبون من رفاهيتهم إذا استطاعوا فعل ذلك بسالم دون اضطراب أو‬
‫صدام؛ فإن الحظ يحطم نفسه تحت ثقله‪.‬‬

‫إن أوغسطس اإللهي ‪ The divine Augustus‬الذي منحته أكثر من أي إنسان‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫لم يكف عن الصالة ليريح نفسه وليسعى لتحريرها من أعمال الدولة‪ ،‬وكل‬
‫كالمه يرتد إلى هذه القضية وهي األمل في الراحة‪ ،‬إنه يخفف كدَّ ه بهذه‬
‫وهما ومواسا ًة‪ ،‬وسوف يعيش الفكر يوم ما لنفسه‪.‬‬
‫العزوبة حتى لو كانت ً‬
‫ففي الخطاب الذي أرسله إلى مجلس الشيوخ أكد على أن تقاعده ليس رغبة‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫في الكرامة وال يتعارض مع مكانته السابقة‪ ،‬وقد عثرت على هذه الكلمات‬
‫منه‪“ :‬ولكن هذه األشياء أكثر إعجا ًبا في تحققها من تعهدها‪ ،‬ومن ثم رغبتي‬
‫‪169‬‬
‫العميقة لهذا الزمن الذي صليت من أجله طويلاً تدفعني إلى توقع شيء ما‬
‫أبتهج فيه بمتعة الكلمات‪ ،‬وال تزال متعة هذه الحقيقة بطيئة القدوم”(‪.((21‬‬

‫ويبدو الترفيه شيئًا مرغو ًبا فيه؛ ألنه لم يستمتع به في الواقع‪ ،‬واستمتع في‬ ‫‪ 4-4‬‬
‫التفكير به في البكور‪ ،‬وهو من رأي أن العالم يعتمد عليه وعليه فحسب‪ ،‬وهو‬
‫الذي حدد حظوظ األشخاص واألمم‪ ،‬إنه كان سعيدً ا بالتطلع إلى هذا اليوم‬
‫الذي سيطرح فيه عظمته جان ًبا‪.‬‬

‫عرف بالتجربة ما اغتصبه الكدح منه بهذه النعم التي أضاءت العالم بأسره‪،‬‬ ‫‪ 5-4‬‬
‫وعرف حجم القلق الخفي الذي تحجبه(‪ ،((21‬وأجبر على التمسك بالسالح‬
‫مع مواطنيه في البداية‪ ،‬ثم مع رفقائه ونهاية مع أقربائه‪ ،‬لقد سفك الدم على‬
‫األرض والبحر‪ ،‬ودفعته الحرب إلى مقدونيا وصقلية ومصر وسوريا وآسيا‬
‫وكل أرض معروفة على الغالب‪ ،‬وحول جيوشه إلى حروب غريبة حين‬
‫تعبوا من ذبح الرومان‪ ،‬وحين قهر جبال األلب واألعداء رسخ السالم في‬
‫قلب اإلمبراطورية‪ ،‬وحينما كان يوسع حدوده إلى ما وراء الراين والفرات‬
‫وجه مورينا ‪ Murena‬وكاييبو ‪ Caepio‬وليبيدوس ‪Lepidus‬‬
‫والدانوب َّ‬
‫وأجناتيوس ‪ Egnatius‬وغيرهم سيوفهم ضده في المدينة ذاتها‪.‬‬

‫وكثير من العشيقات النبالء‬


‫ٌ‬ ‫لم يهرب بعد مؤامراتهم حين ارتكبت ابنته‬ ‫‪ 6-4‬‬

‫(‪ ((21‬الخطاب مفقود وسينيكا هو الشاهد الوحيد على وجوده‪ ،‬وتاريخه غير واضح كعالقته الممكنة أو عالقته بالتقارير‬
‫التاريخية بتفكير أوغسطس للتقاعد في العقد األول من حكمه‪.‬‬
‫(‪ ((21‬يمضى سينيكا في تقديم ملخص لتوحيد أوغسطس للسلطة من موت قيصر في ‪ 44‬ق‪.‬م حتى هزيمة أنطوني في أكتيوم‬
‫في ‪ ،31‬وتهدئة اإلمبراطورية القريبة (قبائل ألبانيا ‪ 7-6‬ق‪.‬م) وتوسعه لحدود اإلمبراطورية‪ ،‬وهذا التوكيد على المكاسب‬
‫الظاهرية يتناقض بشكل كبير مع التهديد المتزايد الذي يقترب من المنزل في الفصل الرابع ‪ 6-5‬أولاً بالمشاكل الداخلية‬
‫في روما (بمؤامرات كل من أمييليوس ليبيدوس ‪ M. Aemilius Lepidus‬عام ‪29‬ق‪.‬م‪ ،‬وفارو مورينا ‪Varro Murena‬‬
‫وفاننيوس كايبو ‪ Fannius Caepio‬عام ‪ 23-22‬وإجناتيوس روفوس ‪ M. Egnatius Rufus‬عام ‪ ،)19‬ومن ثم الفتنة‬
‫في األسرة اإلمبراطورية نفسها بالعالقات الجنسية الخطيرة لجوليا ابنة أوغسطس التي ُنفيت عام ‪ 29‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫الزنا كما لو كان ميثا ًقا للوالء‪ ،‬وسببت له قل ًقا في سنوات ذبوله –كما فعل‬
‫إوللوس ‪ Iullus‬والمرأة التي شكلت تهديدً ا مع أنطوني ‪-((21( Antony‬‬
‫ولكن تنامى اآلخرون‬
‫ْ‬ ‫ولكنه استأصل هذه القروح وأطراف الحاشية الفاسدة‪،‬‬
‫في أماكنهم كما لو كانوا يتثاقلون بالدم‪ ،‬وكان الجسد السياسي ينزف د ًما‬
‫تقري ًبا‪ ،‬ولهذا السبب تضرع أوغسطوس من أجل الراحة‪ ،‬ولماذا عثر على‬
‫الراحة من أعماله‪ ،‬وقد أمل ذلك وفكر فيه‪ ،‬وهذه هي صالة الرجل الذي سلم‬
‫بصلوات اآلخرين‪.‬‬

‫وقد أثار ماركوس شيشرون ‪ Marcus Cicero‬عاصفة بين أمثال كاتيلين‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫‪ Catiline‬وكالوديوس ‪ Clodius‬من كراسوس وبومبي‪ ،‬حيث أعلنا له العداء‬
‫من جانب‪ ،‬وهم أصدقاء مشكوك فيهم من جانب آخر(‪ ،((21‬وكان مهمو ًما‬
‫بسفينة الدولة على الدوام‪ ،‬وقد حاول أن يحفظ ثباتها كلما تحطمت‪ ،‬ولكنه‬
‫ارتد في النهاية‪ ،‬فلم يكن يسكن في الرخاء ولم يقدر على التحمل في المحنة‪،‬‬
‫فكم مرة لعن فيها قناصلته(‪ ((21‬الذين مجدهم بال انقطاع ودون سبب!‬

‫وكم هي مثيرة للشفقة تلك الكلمات التي انتزعها من نفسه في رسالته إلى‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫أتيكوس ‪ Atticus‬عندما هزم بومبي األكبر‪ ،‬وال يزال ابنه يحاول إحياء القوات‬
‫المحطمة فى إسبانيا(‪ ،((22‬وهو يقول‪« :‬تسأل ماذا أفعل هنا؟»‪ ،‬سأبقى في‬

‫(‪ ((21‬أوللوس هو االبن الثاني ألنتوني‪ ،‬والذي عوقب بالموت عام ‪ 2‬بتهمة الزنا مع جوليا التي ُقذفت هنا مثل كليوباترا الثانية‪.‬‬
‫(‪ ((21‬أحبطت مؤامرة كاتلين لتحويل النظام الروماني بإسقاط سلطة مجلس الشيوخ األرستقراطية عن طريق شيشرون القنصل‬
‫في عام ‪ 63‬ق‪.‬م‪ ،‬وشهد شيشرون عام ‪ 61‬ضد كالوديوس بولشير في المحكمة النتهاك العبادة األسرارية إللهة الخير‪،‬‬
‫و ُب ِّرئ بالرشوة‪ ،‬وانتقم كالوديوس مدبر له المنفى عام ‪ ،58‬وكان بومبي وكراسوس حليفين وفي البداية كانا مع يوليوس‬
‫قيصر في الحكم الثالثي‪ ،‬ووجد شيشرون بومبي صدي ًقا محل شك حين واجهه في المنفى عام ‪.58‬‬
‫(‪ - ((21‬على ما يبدو أنه تشويه من سينيكا‪ ،‬فكتابات شيشرون الممتدة ال تعطي دليلاً لهذا االحتقار‪.‬‬
‫(‪ ((22‬بعد هزيمة بومبي من قيصر في فارسالوس ‪ Pharsalus‬في ‪ 48‬ق‪.‬م هزم ابنه األكبر جنايوس ‪ Gnaeus‬في موندا‬
‫‪( Munda‬إسبانيا) عام ‪ ،45‬ولكن التلميح قد يمتد إلى سيكتوس وأخي جنايوس الذي مدد النشاطات البومبية في‬
‫إسبانيا حتى بعد موت قيصر في ‪.44‬‬

‫‪171‬‬
‫مقاطعة توسكوالن ‪ Tusculan‬نصف حر(‪ ،((22‬وبعد ذلك ذهب إلى بومبيان‬
‫حيث حياته السابقة‪ ،‬وظل يشكو الحاضر ويأسى من المستقبل‪.‬‬

‫داعي لقول هذا‪،‬‬


‫َ‬ ‫قال شيشرون عن نفسه «نصف حر ‪ ،”Half-free‬وال‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫فالحكيم ال يلجأ لمثل هذا االصطالح البائس‪ ،‬فلم يكن نصف حر‪ ،‬بل تمتع‬
‫وصرحا‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫مشوبة وال تخضع ألي قيود‪ ،‬وكان سيد نفسه‪،‬‬ ‫بحرية كاملة وغير‬
‫فوق اآلخرين‪ ،‬فما الذي يعلو الرجل الذي على فوق الثروة؟‬
‫ً‬
‫نشطا بقوة‪ ،‬والذي‬ ‫رجلاً‬ ‫‪((22( Livius‬‬ ‫كان ليفيوس دروسوس ‪Drusus‬‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫احتشد ضده من كل إيطاليا حشود ضخمة‪ ،‬احتجوا على التشريعات المتطرفة‬
‫مخرجا‬
‫ً‬ ‫نوعا من المشاكل التي صنعها جراشي ‪ ،Gracchi‬ولم يجد له‬
‫وأثاروا ً‬
‫خيارا للتخلي‬
‫ً‬ ‫واضحا لسياساته التي لم يقدر على تحملها‪ ،‬التي لم تترك له‬
‫ً‬
‫عنها‪ ،‬ويقال إنه لعن الحياة مستمرة النشاط التي قادته منذ بداياته‪ ،‬قائلاً إنه‬
‫الشخص الوحيد الذي لم يحصل على إجازة حتى وهو صبي‪ ،‬وقد تزيا بلباس‬
‫البالغين وهو ال يزال في سن الوصاية‪ ،‬وتجرأ ورفع دعوة أمام هيئة المحلفين‬
‫لحق المدعي عليهم‪ ،‬ومارس تأثيره النوعي في المحاكم‪ ،‬ومثل هذا التأثير في‬
‫الواقع كان مقبولاً على العموم؛ ألنه حصل على أحكام عدة ضد المحاباة‪.‬‬

‫مخرجا؟ ربما قد عرفت أن مثل هذه‬


‫ً‬ ‫وأين مثل هذا الطموح المبكر ال يجد له‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫العجرفة السابقة ألوانها أدت إلى كارثة عليه وعلى الدولة‪ ،‬وهكذا بدأ يشتكي‬
‫مثيرا للمشاكل‪،‬‬
‫بعد فوات اآلوان بأنه لم يحصل على إجازة‪ ،‬حيث كان ً‬
‫(‪ ((22‬ال توجد الكلمات في مراسالت شيشرون الممتدة مع بومبونيوس أتيكوس ‪ T. Pomponius Atticus‬صديقه من الصبا‬
‫وعالقة الزواج‪.‬‬
‫(‪ ((22‬قدم دروسوس ‪ Drusus‬عام ‪ 91‬قانون اإلجراءات االجتماعية بما فيه توزيع األرض للفقراء وإعتاق كل اإليطاليين‪،‬‬
‫والذي أثار معارضة قوية‪ ،‬واغتيل دروسوس‪ ،‬ولكن هناك رأي آخر يرى أنه أنتحر‪ ،‬ويطور سينيكا هنا توضيحه‬
‫الدراماتيكي عن الحاجة للهروب من ضغوط المسؤولية الكبيرة بل الخطرة‪ ،‬والحظوظ الشخصية التي تنهار عليهم‬
‫‪.1-4‬‬

‫‪172‬‬
‫ً‬
‫غامضا فيقال إنه خنق نفسه أو أنه سقط‬ ‫وحمال على بني طفولته‪ ،‬وكان موته‬
‫فجأ ًة من جرح في فخده‪ ،‬والبعض قد شك أنه خنق نفسه ولم يسعفه أحد في‬
‫الوقت المناسب‪.‬‬

‫ومن التزيد أن نذكر مزيدً ا من الشخصيات التي تبدو لآلخرين أنهم أسعد‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫الخالئق‪ ،‬والذين شهدوا على أنفسهم ضد أنفسهم حين أعربوا عن كراهيتهم‬
‫المفرطة لكل عمل في حيواتهم‪ ،‬ومن ثم لم تغيرهم هذه الشكاوي ولم تغير‬
‫غيرهم؛ ألن مشاعرهم عادت إلى وضعها الطبيعي بعد الفوران‪.‬‬

‫في الحقيقة لو امتدت حياتك أل ًفا من السنين أو يزيد‪ ،‬ستُضغط إلى أقصر فترة‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫للزمن‪ ،‬وسوف تبتلع رذائلك أي عدد من الزمن‪ ،‬وتيقن أن هذه الفترة للزمن‬
‫يطيلها التدبير الحسن حتى وإن كانت طبيعتها العجل‪ ،‬ويجب أن تفلت من‬
‫مسرعا؛ ألنك تفشل في تقديرها واقبض عليها مجد ًدا‪ ،‬ولن تفعل شيئًا‬
‫ً‬ ‫حالتك‬
‫لتؤخر من سرعة األشياء‪ ،‬ولكن اسمح لها أن تمضي كما لو كانت شيئًا ً‬
‫فائضا‬
‫يمكننا أن نسترده مرة أخرى‪.‬‬

‫وفي الحقيقة إن من أسوأ الحاالت ‪-‬كما اعتقد أولئك‪ -‬الذين يمنحون وقتهم‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫إلى ال شيء سوى الشراب والشهوة‪ ،‬وهذه أعظم االنشغاالت خز ًيا على‬
‫ِ‬
‫يستول عليهم مظهر المجد فهو زائف مع‬ ‫وأناس آخرون حتى لو‬
‫ٌ‬ ‫اإلطالق‪،‬‬
‫أنه يمضي للضالل في نمط محترم‪ ،‬ويمكنني أن أستشهد من جانبي بالناس‬
‫الجشعين الذين يسارعون للغضب‪ ،‬أو الذين يشغلون ذواتهم بضغائن جائرة‬
‫أو حروب‪ ،‬ولكن خطايا هؤالء ٌ‬
‫نمط يميل للرجولة؛ ألنهم هجروا البطن‬
‫والشهوة التي تحمل وصمة العار‪.‬‬

‫دقق في كل لحظة من حياة هؤالء الناس‪ ،‬والحظ كم من الزمن يقضونه في‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫عناية العوارض‪ ،‬وكم وقتًا صرفوا في وضع الفخاخ أو في التخويف منها‪،‬‬
‫وكم قضوا في استنبات اآلخرين أو يستنبتهم اآلخرون‪ ،‬وكم قضوا في منح‬
‫‪173‬‬
‫الكفالة أو تلقيها‪ ،‬وكم قضوا في حفالت العشاء التي صارت ذاتها عملاً ‪،‬‬
‫وسوف ترى أن هذه هي أعمالهم سواء أكانت حسن ًة أم سيئ ًة‪ ،‬وامنحهم ال‬
‫زمن حتى يسحبوا أنفاسهم‪.‬‬

‫وخالصة القول‪ :‬يتفق الجميع أن َمن يسعى لنشاط ويشغل نفسه ال يفلح في‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫بالغة وال فنون حرة؛ ألن العقل المشتت يركن إلى ال شيء حقيقي بعمق بل‬
‫يرفض كل ما هو واقعي ويسحقه إن جاز التعبير‪ ،‬والال شيء يقلل من سمات‬
‫اإلنسان المنشغل أكثر بالعيش‪ ،‬إذ ليس هناك معرفة قد تشقيه في الحصول‬
‫عليها‪ ،‬فمعلمو اآلخرين االنضباط يأخذون درهمين‪ ،‬ويمكن للصبية أن‬
‫يعلموا مدربيهم ويصبحوا أستاذة في حجرة التعليم كذلك‪ ،‬فقد يعلمونهم‬
‫كيف يعيشون العمر‪ ،‬وربما تندهش من هذا‪ ،‬فإنك تقضي العمر كله لتتعلم‬
‫كيف تموت(‪.((22‬‬

‫ويطرح كثير من الناس في المناصب العالية كل أعبائهم جان ًبا‪ ،‬ويتخلون عن‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫ثروتهم وأعمالهم ومتعهم‪ ،‬ويعرجون للنهاية الحقيقية للحياة ويجعلونها‬
‫الغاية الوحيدة للعيش‪ ،‬والغالبية منهم يرحلون عن الحياة معترفين بأنهم لم‬
‫يحصلوا على مثل هذه المعرفة بعد‪.‬‬

‫صدقوني‪ ،‬إن داللة عظم اإلنسان في علوه على الضعف البشري وعدم‬ ‫‪ 5-7‬‬
‫سماحه ألي طرف من عمره أن ُينتزع‪ ،‬فحياة مثل هؤالء تمتد طويلاً ؛ ألنهم‬
‫أبقوا ألنفسهم من كل ما عاشوه ما هو نافع‪ ،‬فليس فيه أرض مزروعة وغير‬
‫مزروعة‪ ،‬وليس فيه شيء تحت إمرة اآلخرين‪ ،‬بل هو الموجود الوصي على‬
‫عمره‪ ،‬وال يجد شيئًا يستحق ليتحول من أجله‪ ،‬فهذا اإلنسان قد حاز من الزمن‬

‫(‪ ((22‬المفهوم الرواقي عن (تأمل الموت) أصوله أفالطونية على سبيل المثال (محاورة فيدون ‪ )Phaedo 67e‬وهو يقول‪“ :‬إن‬
‫مرارا‪ ،‬على سبيل المثال في ‪Letters 70.18,‬‬
‫الفالسفة الحق يمارسون الموت بمثابرة”‪ .‬ويحث سينيكا على هذا التأمل ً‬
‫‪ 114.27‬بسبب التحرر الذي يجلبه من الخوف من الموت‪ ،‬وعلى سبيل المثال ‪ ،Letters 30.18, 36.8‬وبتوقع إطالق‬
‫النفوس من األسر الجسدي‪ ،‬على سبيل المثال ‪. Consolation to Marcia 23.2‬‬

‫‪174‬‬
‫ما يكفي‪ ،‬ولكن هؤالء ُحرموا الكثير من حياتهم التي أخذ منها العامة القليل‬
‫بالضرورة‪.‬‬

‫وال ينبغي أن تتخيل أن هؤالء الناس ليسوا على وعي بما ضاع منهم أحيا ًنا‪،‬‬ ‫‪ 6-7‬‬
‫ومن المؤكد أنك ستسمع من هؤالء المثقلين بنشاطهم العظيم أحيا ًنا وهم‬
‫يصيحون وسط جحافل جمهورهم أو الشافعين لحالهم أو َمن يعتدون‬
‫لدي إمكانية للعيش»‪.‬‬
‫بمبدئهم في البؤس‪« :‬ليس َّ‬
‫وبالطبع أنت غيرهم! فكل الذين يجرونك في أعمالهم يسحبونك من‬ ‫‪ 7-7‬‬
‫نفسك‪ ،‬فكم من األيام قد أخذها المدعي عليك منك؟ وكم من زكيتهم له؟‬
‫وكم سئمت المرأة العجوز وكأن وريثتها سوف تدفنها؟ وكم الذين اختلقوا‬
‫المرض ليثيروا جشع صيادي التركة؟ وكم من صديق قوي حمل عليك ال من‬
‫أجل صداقة حقة‪ ،‬بل بغرض المشهد‪ ،‬تحقق مما أقول وراجع أيام حياتك‪،‬‬
‫وسوف ترى قليلاً منهم ح ًّقا بال قيمة‪ ،‬وهم يبقونك فيما تملك‪ ،‬أي ال يريدون‬
‫لك تقد ًما‪.‬‬

‫إن اإلنسان الذي حقق منص ًبا مرمو ًقا يتضرع ألجل أن يطرحه جان ًبا‪ ،‬ويكرر‬ ‫‪ 8-7‬‬
‫فكرا‪ ،‬فإن‬
‫القول‪« :‬متى ينتهي هذا العام؟»‪ ،‬واإلنسان الذي يعين لأللعاب ً‬
‫االمتياز العظيم الذي أواله لها يرتد عليه‪ ،‬فيقول‪« :‬متى أتحرر منها؟»‪،‬‬
‫والمؤيد الذي تنافس الناس على انتباهه في كل مكان في الميدان الذي‬
‫استهواه الحشد‪ ،‬ينادي في الكل إلى أبعد مكان و ُيسمعهم كلمة متى وهو‬
‫يقول‪« :‬هل من إجازة؟»‪ ،‬ويرسل الجميع حياته في سباق سريع يعاني فيه تو ًقا‬
‫للمستقبل وتحاش ًيا للحاضر‪.‬‬

‫ولكن َمن يكرس كل لحظة من عمره الحتياجاته و َمن يرتب كل يوم كما لو‬ ‫‪ 9-7‬‬
‫كان حياة كاملة ال يتوق فيها لليوم التالي وال يخاف منه‪ ،‬فما النوع الجديد من‬
‫اللذة هناك يمكن أن تجلبه أي ساعة؟ لقد شهدت كل شيء‪ ،‬واستمتعت به‬
‫‪175‬‬
‫إلى أقصى حد‪ ،‬وأما ما تبقى ربما يرتبه الحظ كما يشاء‪ ،‬وقد وصلت حياته‬
‫ح ًّقا بسالم‪ ،‬والحياة قد تثريها اإلضافة ولكن ال يفلت منها شيء‪ ،‬وتأتي‬
‫اإلضافة في مسلك َمن رضوا ح ًّقا‪ ،‬والمتخم الذي يأخذ نصي ًبا من الطعام‬
‫الذي ال يرغب فيه وشارك غيره فيه‪.‬‬

‫‪ 10-7‬وليس من سبب تصدق فيه أن المرء قد عاش طويلاً ؛ ألن شعره أشيب مجعد‪،‬‬
‫فإنه لم يعش طويلاً بل عانى أطول‪ ،‬وافترض أنك فكرت أن هناك ً‬
‫امرأ أبحر‬
‫بعيدً ا ولحقته عاصفة هائجة بمجرد مغادرته للميناء‪ ،‬ونقل في هذا االتجاه‪،‬‬
‫ودفع بحركة دائرية إلى المسار نفسه بتناوب الرياح التي تهب من مختلف‬
‫ُ‬
‫الجهات‪ ،‬فإنه لن يقطع رحلة طويلة بل ما عناه هو األطول‪.‬‬

‫وأندهش دو ًما حين أرى الناس يطلبون أعمار اآلخرين‪ ،‬ويجدون أعظم‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫االستجابة من المقربين لهم‪ ،‬ويركز كال الجانبين على موضوع الطلب‪،‬‬
‫وليس على جانب الزمن ذاته‪ ،‬وكأنهم يطلبون ال شيء ولم يمنحوا شيئًا‪ ،‬فإن‬
‫تفاهة الناس أثمن السلع على اإلطالق‪ ،‬وهي تمحو انتباههم؛ ألنها ال ُتظهر‬
‫ألعينهم شيئًا غير مادي‪ ،‬ولهذا السبب ُتقيم بأبخس ثمن أو باألحرى ليس لها‬
‫قيمة عملية على اإلطالق‪.‬‬

‫يضع الناس مؤ ًنا كبير ًة بالمعاش السنوي واإلكراميات َ‬


‫ولمن يستأجرون‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫خدماتهم وأعمالهم أو َمن يجاملونهم ولكن ال أحد يقدر الزمن‪ ،‬والكل‬
‫يستعمله بسخاء كما لو أنه ال يكلف شيئًا‪ ،‬وإذا هددهم خطر مميت سترى‬
‫مالي فسوف تراهم‬
‫أمر ٌّ‬
‫نفس الناس يعانقون ركب أطبائهم‪ ،‬وإذا أخافهم ٌ‬
‫مستعدين أن ينفقوا ما كرسوه طيلة حياتهم‪ ،‬إن صراع مشاعرهم عظيم للغاية‪.‬‬

‫وإذا عاين كل منا عدد السنين قبلنا مثل السنين التي قضيناها على وجه‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫حريصا‬
‫ً‬ ‫التحديد‪ ،‬فكيف يقلق َمن رأى فقط سنوات قليلة خلت‪ ،‬وكيف كان‬
‫مهما كان صغيرا وهو معروف‬
‫كما ًّ‬
‫في استعمالها! ومن ثم من اليسير أن ندير ًّ‬
‫‪176‬‬
‫حرصا في الحفاظ على الكم الذي قد نوزعه في‬
‫ً‬ ‫تما ًما‪ ،‬وعلينا أن نكون أكثر‬
‫أي وقت‪.‬‬

‫وليس هناك ما يدعو إلى أن تعتقد أن هؤالء الناس ليسوا على وعي بمدى‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫لمن يحبونهم إنهم على استعداد‬
‫عظم سلعة الزمن‪ ،‬واعتادوا أن يقولوا بحدة َ‬
‫أن يمنحوهم ً‬
‫بعضا من سنونهم‪ ،‬وهم يعطونهم دون أن يعلموا ما بقي من‬
‫أعمارهم‪ ،‬ولكنهم أعطوا بالطريقة نفسها دون أن ُيضيفوا سنين لمحبيهم‬
‫ويقتطعوها من أنفسهم‪ ،‬وهذه حقيقة‪ ،‬أعني‪ ،‬سواء أكانوا يحرمون أنفسهم‬
‫ويضيعونها أم يتحملون فقد ما ال يلحظونه في الخسارة‪.‬‬

‫ال أحد ُيعيد السنين‪ ،‬وال أحد ُيرجع لك نفسك السابقة‪ ،‬وستتوالى الحياة في‬ ‫‪ 5-8‬‬
‫داعي للهياج فلن‬
‫َ‬ ‫المسار الذي بدأت منه‪ ،‬ولن تعكس أو توقف مسارها‪ ،‬فال‬
‫تنتبه لسرعتها وسوف تنزلق في صمت‪ ،‬وسوف ُتطيل نفسها ال بأمر ملك وال‬
‫بعجيج شعبه‪ ،‬ستجري على النحو الذي بدأت منه يومها األول دون تحول‬
‫أو تأخير‪ ،‬وما النتيجة؟ وتجري الحياة وأنت منهمك ويلوح الموت في كل‬
‫حين‪ ،‬وعليك أن تستوعب هذا سواء أحببتها أو ال‪.‬‬

‫وهل هناك سذاجة أعظم من وجهة نظر هؤالء الناس الذين يفخرون ببعد‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫نظرهم؟ وهم منشغلون بأعمال للعيش األفضل‪ ،‬ويخططون حياتهم على‬
‫حساب الحياة ذاتها‪ ،‬ويشكلون غاياتهم بالمستقبل البعيد في العقل‪ ،‬ويكمن‬
‫الهدر األعظم للحياة في التسويف الذي يختلسنا كل يوم في انعطاف‪،‬‬
‫ويخطف الحاضر بوعد المستقبل‪ ،‬إن العائق األكبر للعيش هو األمل الذي‬
‫يتكئ على الغد و ُيضيع اليوم‪ ،‬فقد حددت ما في يد الحظ ولكن فلت ما في‬
‫ُ‬
‫يدك‪ ،‬فما الذي تهدف إليه؟ وما غايتك؟ كل ذلك يأتي من عدم اليقين‪ ،‬فعش‬
‫اآلن ح ًّقا‪.‬‬

‫واسمع صرخة أعظم الشعراء الذي يغني أغنيته كما لو كانت مستوحا ًة من‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫‪177‬‬
‫الكالم اإللهي‪« :‬أول ما ينفلت من حياة البشر البائسين هو اليوم األفضل»(‪،((22‬‬
‫وهو يقول‪« :‬لماذا ُتؤخر؟ ولما ُتبطئ في الفعل؟‪ ،‬إن لم تغتنم اليوم فسوف‬
‫ينزلق منك»‪ ،‬وحتى حين تغتنمه ال يزال ينزلق منك‪ ،‬ولذا عليك أن تنافس‬
‫عجلة الزمن في السرعة التي تستعملها‪ ،‬فعليك أن تشرب بسرعة كما لو كنت‬
‫فيضانً سريع الحركة وال يفيض دو ًما‪.‬‬

‫وهذا الشاعر يتحدث بجدارة في معاقبة التسويف الذي ال نهاية له لم يقل‬ ‫‪ 3-9‬‬
‫سريعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أفضل (عمر) بل أفضل (يوم)‪ ،‬وقد يبدد الزمن السكينة وخلو البال‬
‫فلماذا تخطط لنفسك الشهور والسنين بتعاقبها الطويل‪ ،‬وإلى أي مدى ترى‬
‫طمعك مناس ًبا؟ والشاعر يتحدث لك عن اليوم‪ ،‬ذلك اليوم الحقيقي الذي قد‬
‫تنزلق فيه‪.‬‬

‫وهل لديك أي شك أن أول ما ينفلت من حياة البشر البائسين هو اليوم‬ ‫‪ 4-9‬‬


‫األفضل‪ ،‬فهل هذا انشغال؟ فالشيخوخة تأخذ سكون عقولهم الصبيانية الال‬
‫وعية‪ ،‬وهم يواجهونها ُع َّزلاً وغير مستعدين‪ ،‬وال يعدون لها مؤ ًنا‪ ،‬وفجأ ًة وبال‬
‫مخامرة شك يتعثرون عليها غير مدركين أنها أقرب من كل يوم‪.‬‬

‫كما هو الحال في المحاورة أو القراءة بعض التفكير العميق الذي ُيلهي‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫المسافرين يجدونه قد يصلهم إلى جهتهم قبل أن يعوا االقتراب منها‪ ،‬ولذلك‬
‫بهذه الرحلة المتواصلة والسريعة بال نهاية للحياة التي نجعلها على نفس‬
‫الوتيرة سواء كنا متيقظين أو نائمين يصبح االنشغال وع ًيا بها فحسب في‬
‫نهايتها‪.‬‬

‫‪ 1-10‬وإذا أردت أن أقسم موضوعي إلى مقوالت لكل منها براهينها يمكن أن‬
‫أنتهي إلى حجج عدة؛ ألبرهن أن حياة االنشغال قصيرة جدًّ ا‪ ،‬ولكن فابيانوس‬

‫‪(224) Virgil Georgics 3.66–7; also quoted at Letters 108.24, 26.‬‬

‫‪178‬‬
‫‪ ((22( Fabianus‬الذي لم يكن واحدً ا من المحترفين الذين يشغلون منص ًبا‪،‬‬
‫بل كان فيلسو ًفا ح ًّقا من الطراز القديم الذي اعتاد أن يقول علينا أن نكافح‬
‫االنفعاالت بهجوم قوي وليس بدقة الحجة‪ ،‬فخط العدو قد يتحول بهجوم‬
‫أمامي كاملاً وليس بطعنة إبرة رقيقة‪ ،‬وليس لديه اعتبار لمجرد الجدل‪،‬‬
‫حيث ال تسحق الرذائل بمجرد القرص‪ ،‬ومع ذلك يسحق االنشغال لسقوطه‬
‫المتمايز‪ ،‬وتعلمهم الدرس ليس بالتخلي عن الخسارة‪.‬‬

‫‪ 2-10‬تنقسم الحياة إلى ثالثة أجزاء‪ ،‬وهي‪ :‬الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬فالحاضر‬
‫مقتضب والمستقبل مشكوك فيه والماضي يقين‪ ،‬وأما الماضي فليس للحظ‬
‫عليه سطوة‪ ،‬وليس بمقدور سلطة أحد أن تعيده‪ ،‬ويفقد المنشغلون هذا‬
‫الجزء‪ ،‬فليس لديهم فراغ ليتطلعوا للماضي‪ ،‬وحتى لو تمكنوا من النظر إليه‬
‫لن يجدوا لذة في استدعاء شيء مؤسف‪.‬‬

‫‪ 3-10‬وهكذا ال يرغبون في أن يحولوا عقولهم للخلف ألوقات قضوها على نحو‬


‫رديء‪ ،‬وال يجرؤون على إعادة النظر في المستقبل؛ ألن رذائلهم في استنكار‬
‫واضح‪ ،‬وقد تسلل إلى ذواتهم إغراء اللذة اللحظي‪ ،‬وال أحد ُيلقي فكره‬
‫سرورا بالرجوع للمستقبل سوى َمن أخضع كل أفعاله لتقييم ذاتي معصوم‪.‬‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫ومفرط في الهيمنة‬ ‫ٌ‬
‫متعجرف في سخافته‪،‬‬ ‫‪ 4-10‬واإلنسان الطموح في حجم رغباته‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وسخيف في تبذيره‪ ،‬ومثل‬ ‫وجشع في نهبه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫على اآلخرين‪ ،‬وغادر في خداعه‪،‬‬
‫حتما‪ ،‬وهذا الجزء لوجودنا قد ُيقدس‬
‫هذا الرجل عليك أن تخاف من ذاكرته ً‬
‫و ُيعزل ويسمو فوق كل تقلبات اإلنسان‪ ،‬ويخبو بعد تأرجح الحظ‪ ،‬ويتعافى‬
‫بعدم الفقر وعدم الخوف وعدم مهاجمة األمراض‪ ،‬وهذا الجزء ال يمكن‬

‫تابعا لسيكتوس‬
‫(‪ ((22‬بابيريوس فابيانوس ‪ ، Papirius Fabianus‬وكان قبل عام ‪ 35‬خطي ًبا موهو ًبا‪ ،‬وأصبح عام ‪ 10‬ق‪.‬م ً‬
‫ً‬
‫‪ Q. Sextius‬مؤسس المدرسة الفلسفية المحلية الوحيدة في روما‪ ،‬وقد تركت تعاليم فابيانوس انطباعً ا عميقا على‬
‫سينيكا األصغر ‪ Letters 40.12, 58.6‬وكذلك على والده ‪. Controuersiae 2 pref. 1–2‬‬

‫‪179‬‬
‫تعطيله وال سرقته‪ ،‬وامتالكنا له أبدي ال يزول‪ ،‬واأليام حاضرة في زمن واحد‬
‫فحسب‪ ،‬وهي اللحظة باللحظة فحسب‪ ،‬ولكن كل أيام الزمن الماضي سوف‬
‫تحضر لك ف عرض طلبك‪ ،‬وسوف تسمح لك أن تختبرها وتقبض عليها‬
‫بإرادتك‪ ،‬وهي الشيء الذى ال يملك المنشغلون وقتا لفعله‪.‬‬

‫‪ 5-10‬إنها تأخذ العقل المطمئن وغير المضطرب ليتجول بحرية فوق كل أجزاء‬
‫الحياة‪ ،‬ولكن العقول المنهمكة كما لو كانت تحت نير‪ ،‬وال يمكن أن تتحول‬
‫خيرا‬
‫وتنظر إلى الوراء‪ ،‬وتختفي حياتهم في جهنم‪ ،‬كما لو أنهم لم يفعلوا ً‬
‫في أي لحظة لسائل في وعاء‪ ،‬إن لم يكن هناك شيء في األسفل ليتلقوه‬
‫ويبقوه(‪ ،((22‬ولذلك ال تجعل فار ًقا في مقدار الذي تمنحه إن لم يكن هناك‬
‫مقر للسكن‪ ،‬وتسمح أن تمضي خالل الشقوق والثقوب في العقل‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫‪ 6-10‬والزمن الحاضر مقتضب جدًّ ا‪ ،‬وأكثر اقتضا ًبا عند بعض الناس(‪ ((22‬ويبدو‬
‫غير موجود‪ ،‬وهو في حركة دائمة ومنزلقة بالسرعة عليها‪ ،‬وينقطع قبل‬
‫وصوله‪ ،‬وال يعاني ُبطئًا كما في القبة السماوية واألجرام السماوية التي ال تكل‬
‫الحركة التي تسمح لها بالبقاء في نفس الموضع‪ ،‬ولذلك ركز المنهمكون‬
‫وسرقت منهم حتى اللحظة‬
‫على الحاضر فحسب‪ ،‬وهربوا مما ال يمكن فهمه‪ُ ،‬‬
‫البسيطة؛ ألنهم انجروا في اتجاهات عدة‪.‬‬

‫‪ 1-11‬وباختصار‪ ،‬هل تريد أن تعرف كيف يعيشون ح ًّقا االقتضاب‪ ،‬انظر كيف‬
‫يحرصون على العيش حياة طويلة‪ ،‬فالشيوخ المضعفون تسولوا في صلواتهم‬
‫عمرا مما هم عليه فعلاً ‪،‬‬
‫ليضاف لهم سنوات قليلة‪ ،‬وتظاهروا بأنهم أصغر ً‬
‫وهم يداهنون أنفسهم بهذا الباطل‪ ،‬ويخدعون أنفسهم بالسعادة كما لو‬

‫(‪ ((22‬إشارة مرجحة لمصير الدنايدز ‪ Danaids‬وهم يعاقبن في العالم السفلة لقتلهن أزواجهن الجدد بسحب الماء بأوعية‬
‫تسرب أو غرابيل‪.‬‬
‫ً‬
‫(‪ ((22‬بما فيهم الرواقيون حيث يشير (اآلن) في ذاته إلى العابر وليس (حقيقة) كاملة أو (اآلن) لكونه طرفا للسلسلة الزمنية التي‬
‫تتحرك باستمرار على طول الخط مع الكون الرواقي‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫أنهم يخدعون القدر في نفس الوقت‪ ،‬ولكن حين يجتاحهم مرض يفنون‪،‬‬
‫فكم كانوا مذعورين حين ماتوا كما لو كانوا ال يغادرون الحياة بل ُيسحبون‬
‫مرارا؛ ألنهم كانوا حمقى حيث لم يعيشوا ح ًّقا‪ ،‬وإنهم سوف‬
‫منها! ويتباكون ً‬
‫يهرعون للراحة إذا هربوا من المرض فحسب‪ ،‬و َمن ثم يعكسون مدى بطلهم‬
‫في تقييمهم لألشياء التي لم يتمتعوا بها في عيشهم ومدى غفلتهم في كدهم‪.‬‬

‫لمن يقضونها بالتخلي عن العمل؟ ليس ما‬


‫‪ 2-11‬ولكن لماذا ليست الحياة وافرة َ‬
‫فيها قد يعاد صنعه آلخر‪ ،‬وال يتناثر في هذا االتجاه أو ذاك‪ ،‬وال تعهد الحياة‬
‫خالصا وال ً‬
‫فائضا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بما فيها للحظ‪ ،‬وال ُتضيعه في اإلهمال‪ ،‬وال تفقد ما تهبه‬
‫فكل الحياة تلد العودة إن جاز التعبير‪ ،‬ومهما كانت قصيرة ففيها ما يكفي‪،‬‬
‫ولهذا السبب ال يتردد الحكيم في اإلقدام على موته بخطوة واثقة حينما ُيقبل‬
‫اليوم األخير‪.‬‬

‫‪ 1-12‬ربما تريد أن تعرف َمن الذين أطلق عليهم (المنهمكون)؟ ال تتخيل أنني أعني‬
‫هؤالء المحامين الذين ُيطردون من محكمة القانون حين تعوي كالب الحراسة‬
‫بالليل‪ ،‬أو الذين يفتتن بهم رعاياهم في العرض المعجب في حشد معجبيهم‬
‫أو المزدرين لهم في حشد آخر‪ ،‬أو العمالء الذين تستدعيهم واجباتهم من‬
‫بيوتهم لتسبقهم أمام أبواب اآلخرين‪ ،‬أو الحكام ‪ praetors‬الذين تبقيهم‬
‫رماحهم مشغولين بكسب سوء السمعة والتي ترتبط يو ًما بالقبح(‪.((22‬‬

‫‪ 2-12‬وحتى في وقت الراحة ينشغل بعض الناس بتردي وطنهم أو بمضاجعهم‪،‬‬


‫وفي وسط عزلتهم وحتى في انسحابهم من الجميع يهتمون بالرفقة‪،‬‬
‫مقصورا على الترويح بل الخمول أحد االنشغاالت‪ ،‬وهل‬
‫ً‬ ‫فوجودهم ليس‬

‫(‪ُ ((22‬يثبت الرمح في األرض في المزادات العلنية‪ ،‬وعلى ما يبدو أن هذا ممارسة قديمة لبيع غنائم الحرب رمزً ا لملكية‬
‫المنتصر‪ ،‬والداللون الذين يشرفون على بيع ملكية الدولة يتبعون سلك القضاء بما فيهم البرايتورات ‪ ، praetors‬ومن‬
‫ثم “رمح البرايتور”‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫تدعي أن الرجل في فراغه هو َمن يرتب بانتباه دقيق تفاصيل برونزه الكورنثي‬
‫كثيرا والذي ُجمع من القلة المهوسين‪ ،‬و َمن الذي يقضي‬
‫الذي تكلف صنعه ً‬
‫معظم اليوم على صدأ شرائط النحاس‪ ،‬أو َمن يجلس حول حلبة المصارعة‪،‬‬
‫العار لنا! إننا نعاني من الرذائل حتى غير الرومانية‪ ،‬و َمن يشاهد شجار الصبية‬
‫بحماس؟ و َمن الذى يفصل قواته المناضلين الثملين إلى زوجين من نفس‬
‫العمر ولون الجلد؟ و َمن الذي يحافظ على ثبات نضارة الرياضيين؟‬

‫‪ 3-12‬أخبرنى‪ ،‬هل تطلق على هؤالء الناس متروحين وهم يقضون ساعات عدة‬
‫عند حالقهم يتشاورون في فرق َّ‬
‫الشعر وتصفيه أو تمشيطه لألمام ليتدلى‬
‫على الجانبين ليغطي الجبهة؟ وكم سيحل الغضب إذا كان الحالق ضعي ًفا‬
‫ومهملاً ‪ ،‬كما لو أنه قص َشعر رجل حقيقي! وكم سينفجرون إذا ُقص شيء‬
‫ما خطأ من ُع ْر ُفهم الثمين‪ ،‬أو أرقد َّ‬
‫الشعر في غير موضعه‪ ،‬أو إذا لم يرجع كل‬
‫شيء إلى جديلته! أليس هؤالء يتحرون َشعرهم أكثر من وطنهم الذي ُيعاني‬
‫الفوضى؟ أليس هؤالء اهتموا بأن يبقى َشعرهم أني ًقا أكثر من أمان وطنهم؟‬
‫أليس هؤالء يفضلون الهيئة على االحترام؟ هل تطلق على هؤالء متروحين‬
‫وهم منشغلون بين المشط والمرآة؟‬

‫‪ 4-12‬وماذا عن الذين يستغرقون في تأليف واستماع وتعلم األغاني؟ فإن الصوت‬


‫طبيعيا‪ ،‬وهم يتذوقونه في‬
‫ًّ‬ ‫الذي يفضلونه والذي يفيض بسذاجة هو بسيط‬
‫نغمات نشاذ لدندنة ضعيفة‪ ،‬وإن أصابعهم تنهش دو ًما في الزمن لبعض‬
‫األغاني التي تحملها رؤوسهم‪ ،‬وحين ُيطلب منهم أن يعتنوا بمسائل جادة‬
‫أو حتى شجية فإنك تسمع منهم طنين لحن هادئ‪ ،‬فهذه ليست إراح ًة‪ ،‬بل‬
‫انشغال باطل‪.‬‬

‫‪ 5-12‬والسماء تعرف! إنني لم أوزع وليمتها بين تسلية مرحة؛ ألنني أرى كم يقلقها‬
‫ترتيب طبقها الفضة‪ ،‬وكم هي حريصة على أن تجمع ُستر أوالدها الجذابين‬
‫‪182‬‬
‫على المنضدة‪ ،‬وكم يزعجها أن ترى الخنزير ينعرج عن الطهي‪ ،‬وكم هي‬
‫حثيثة أن يهرع العبيد ذوو الجلد الناعم في أداء واجباتهم بإشارة بعينها‪،‬‬
‫وكيف تنحت الطيور بإتقان األجزاء المحبوكة بعناية‪ ،‬وكيف ُينشف الصبيان‬
‫العبيد البائسون أباريق الخمور‪ ،‬ويسعون بهذه الوسائل إلى السمعة من أجل‬
‫معيشة مترفة‪ ،‬وهؤالء تتبعهم شرورهم في أي ركن من حياتهم ويصل بهم‬
‫الحد إلى أن يأكلوا أو يشربوا دون مفاخرة‪.‬‬

‫‪ 6-12‬وال أعد من بين المتروحين الذين يتجولون في هودج أو حمالة‪ ،‬الذين يصلون‬
‫بأنعامهم في الوقت المحدد كما لو كانوا يحرمون عثرتها‪ ،‬والذين يذكرونهم‬
‫بوقت االستحمام ليستحموا أو ليتناولوا طعامهم‪ ،‬هؤالء قد أضناهم التراخي‬
‫المفرط للعقل المدلل الذي ال يستطيع أن يخبر ذواتهم إذا كانوا جائعين‪.‬‬

‫‪ 7-12‬وإنني أسمع أحد هذه الكائنات المدللة ‪ -pampered‬إذا المدللة هي الكلمة‬


‫الصواب لحياة الجهل وممارسة اإلنسان البسيط‪ ،‬وهم يرفعونه بأيديهم من‬
‫الحمام ويجلسونه على كرسيه ويسأل هل أنا جالس اآلن؟ وهل تعتقد أن‬
‫جالسا أم ال؟ هل يعرف هو أنه على قيد‬
‫ً‬ ‫شخصا مثل هذا ال يعرف إذا ما كان‬
‫ً‬
‫الحياة حتى يعرف أنه في الراحة؟ ومن الصعب بالنسبة لي أن أتحدث سواء‬
‫أكنت أشفق عليه إن لم يكن يعرف ح ًّقا أم يتظاهر أنه ال يعرف‪.‬‬

‫كثيرا‪ ،‬حيث يرون‬ ‫‪ 8-12‬إنهم غامضون حيال أشياء عدة‪ ،‬بل يؤثر عليهم النسيان ً‬
‫أن رذائل بعينها تسعدهم وهي دليل رفاهيتهم‪ ،‬وتعرف أن ما يفعله دالل ًة‬
‫لإلنسان المنحط والتافه‪ ،‬وأي حماقة أن تفكر أن تقليد الممثلين(‪ ((22‬يهاجم‬
‫الترف باختالق تفاصيل جمة! ثق في قولي‪ ،‬إنهم يمضون فوق ما يصطنعون‪،‬‬
‫ومثل هذه الثروة من الرذائل التي ال ُتعقل تنهض في العصر الذي ُتستعمل فيه‬
‫المواهب التافهة في اتجاه واحد بمشاركتنا للممثلين المقلدين في جهلهم‪،‬‬

‫(‪ ((22‬التقليد ‪ Mime‬وسيط مسرحي لواقعية غريبة وشاذة غال ًبا‪ ،‬والذي يقدمه سينيكا في مكان آخر كعنصر أخالقي شائع‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫وعليك أن تتخيل كل َمن يفسد بإشباع الرغبة سوف يطلق عليه كلمة أخرى‬
‫كالذي كان يسأل هل هو جالس!‬

‫‪ 9-12‬وال ينبغي أن نطبق على الشخص الذي يتريض اصطالحات متباينة‪ ،‬إنه‬
‫مريض وباألحرى ميت‪ ،‬والمتريض الحق هو َمن يعي تر ُّيضه‪ ،‬وأما الشخص‬
‫الذي يحتاج إلى َمن يرشده ليجعله واع ًيا بوظائفه الجسدية فهو نصف حي‬
‫فحسب‪ ،‬فهل يمكن أن يتحكم في وقته؟‬

‫‪ 1-13‬وسوف يكون عملاً طويلاً لتتقصى حاالت الذين يقضون كل حيواتهم في لعب‬
‫الداما ‪ checkers‬أو لعب الكرة أو يحمصون أجسادهم في الشمس‪ ،‬وضع هؤالء‬
‫الناس السعداء في عمل جدير باالعتبار ليس فيه ترويض‪ ،‬وعلى سبيل المثال‬
‫ال أحد يشك أن َمن يكرسون وقتهم لخالفات أدبية عديمة الفائدة متورطون‬
‫بنشاط هو عمل ال شيء‪ ،‬وقد اكتظت روما بهؤالء في أيامنا هذه(‪.((23‬‬

‫‪ 2-13‬وينصب جدلهم على فشل اليونانيين في معرفة عدد مجدفي أوليسوس‬


‫‪ ،Ulysses‬وأيهما ُكتب أولاً اإللياذة أم األوديسة‪ ،‬وهل هي لمؤلف واحد‪،‬‬
‫وغيرها من التساؤالت من الوتيرة نفسها‪ ،‬التي إذا ركنت إليها لن تغير شيئًا‬
‫في تحسين معرفتك‪ ،‬وإن ُبحت بها فلن تكشف عن علم أكثر بل سخط أكبر‪.‬‬

‫‪ 3-13‬واآلن قد أصاب الرومان هذا الحماس الفاضح للحصول على المعرفة‬


‫العقيمة‪ ،‬ومنذ أيام قليلة سمعت ً‬
‫امرأ ما(‪ ((23‬يذكر أول ما فعله الجنراالت‬
‫الرومان‪ ،‬وأول َمن انتصر في معركة في البحر هو دويليوس(‪ ،((23‬وأول َمن‬

‫(‪ ((23‬بالنسبة لسينيكا فإنه يعتبر هذا حذلقة تقعيد تنامت في روما في القرن األول الميالدي تجهل المغزى الحقيقي لألدب‬
‫وفقه اللغة وتنشأة الحكم الرشيد‪.‬‬
‫(‪ ((23‬غير معروف‪ ،‬قد يكون بليني األكبر ‪ the elder Pliny‬ولكن ال يوجد دليل قوي على هذا‪ ،‬وربما يبسط سينيكا باستخدام‬
‫أداة بالغية ليقدم جزئية ما بنمط عامي‪.‬‬
‫(‪ ((23‬جايوس دويليوس ‪ Gaius Duilius‬بعد أن قاد الرومان للنصر على القرطاجيين قبالة ميليا ‪( Mylae‬صقلية) عام ‪260‬‬
‫ق‪.‬م احتفل بأول انتصار بحري عام ‪.259‬‬

‫‪184‬‬
‫استعرض األفيال في النصر(‪ ،((23‬وحتى لو كانت هذه األشياء المذكورة‬
‫توجهنا نحو المجد الحق‪ ،‬فإنها تدلل على قالب بعينه في خدمة الدولة‪ ،‬فمثل‬
‫هذه المعرفة لن تنفعنا مع أنها من النوع الذي يستولي على انتباهنا؛ ألنها‬
‫مجرد مسألة فارغة جاذبة‪.‬‬
‫‪ 4-13‬ربما نعذر المحققين الذين يسألون عن َمن أول َمن أقنع الرومان في نشر قوات‬
‫بحرية– هو كالوديوس ‪ ((23( Claudius‬الذي ُسمي كوديكس ‪Caudex‬‬
‫لهذا السبب‪ ،‬وألن القدماء اصطلحوا على بناء المركب من األلواح الخشبية‬
‫بكوديكس‪ ،‬ومن ثم سميت السجالت العامة كوديكس أي المخطوطات‪،‬‬
‫وال تزال سفن الحموالت التي كانت تنقل التيبر ُتسمى كوديكاريا وف ًقا‬
‫لالستخدام القديم‪.‬‬

‫ومما ال شك فيه قد يكون لحقيقة أن فاليريوس كورفينوس ‪Valerius‬‬ ‫‪ 5-13‬‬


‫‪ Corvinus‬أول َمن قهر ميسانا ‪ ((23( Messana‬بعض األهمية‪ ،‬وقد ُأطلق‬
‫على أول عائلة لفاليرى ‪ Valerii‬ميسانا بعد أن استولى على اسم المدينة‬
‫المقهورة‪ ،‬وتغير االستعمال العام وأصبح ميساال ‪.Messalla‬‬
‫‪ 6-13‬ولكن هل يسمح لك أن تهتم بحقيقة أن سولال ‪ Sulla‬أو َمن عرض ُ‬
‫األسود‬
‫مقيدة في المدرج الروماني ‪ ،((23( circus‬وانحصر دوره في عرضهم في‬
‫‪((23( Bocchus‬‬ ‫سالسل‪ ،‬وقذف الرماح التي مده بها الملك بوتشوس‬

‫(‪ ((23‬وبعد أن هزم دينتاتوس ‪ Dentatus‬بوروس ملك مولوسيين ‪ Molossian king‬ألبيروس‪ ،‬وهو بطل لحرب السامنيتا‬
‫‪ Samnite‬وحروب أخرى‪ ،‬ورمز لتواضع العيش ‪.Consolation to Helvia 10.8‬‬
‫(‪ ((23‬أبيوس كالوديوس كايديكس ‪ Appius Claudius Caudex‬قنصل عام ‪ 264‬ق‪.‬م‪ ،‬عبر إلى صقلية في الحرب البونية‬
‫األولى ليواجه التحالف بين القرطاجيين وهيروان الثاني ‪ Hieron II‬من سيراقسطة‪.‬‬
‫(‪ ((23‬فاليريوس ماكسيموس ميسالال ‪ M.’ Valerius Maximus Messalla‬قنصل عام ‪ 263‬ق‪.‬م الذي أجبر هيروان الثاني‬
‫على التصالح مع روما في هذا العام‪ ،‬واحتفل بالنصر ألسره ميسانا الصقلي ‪.Sicilian Messana‬‬
‫(‪ ((23‬كما قيد البرايتور أورباوس ‪ 93 urbanus‬ق‪.‬م األسود على ما يبدو ألول مرة في األلعاب في روما عام ‪ 104‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((23‬ملك مورتانيا ‪ Mauretania‬الذي أقنعه سولال بخيانة جيويته ‪ Jugurtha‬صهره والرومانيين بقي على عالقة ودية مع‬
‫سولال بعد نهاية حرب جوجورثين ‪.Jugurthine‬‬

‫‪185‬‬
‫ليقتلهم؟ حسنًا‪ ،‬دعونا نسمح بذلك‪ ،‬ولكن أي غاية مفيدة حقة قد تخدم معرفة‬
‫أن بومبي أول َمن نظم معركة وهمية للقتال على ظهور ثمانية عشر فيلاً في‬
‫المدرج الروماني(‪((23‬؟ فالرجل الذي حظي بسمعة حسنة بين القواد األقدمين‬
‫بقيادة الدولة ورقة الفؤاد فكر في شكل بارز ليشاهد تدمير جنس البشر في نمط‬
‫ال ُينسى وهو المعركة الوهمية‪« ،‬فهل قاتلوا حتى الموت؟ فهذا ليس كاف ًيا‪،‬‬
‫هل قطعوا إر ًبا؟ فهذا ال يكفي‪ ،‬بل تركهم ُيسحقون تما ًما بأجساد الحيوانات‬
‫الثقيلة!»‪.‬‬

‫‪ 7-13‬ويقينًا من األفضل أن ُتنسى مثل هذه األشياء؛ خو ًفا من أن يعلمها رجل قوي‬
‫في المستقبل‪ ،‬فينقل هذه الواقعة الال إنسانية بالحرف‪ ،‬وآه يا لظالم الرفاهية‬
‫العظمى الذي يخيم على عقولنا! إنه اعتقد أنه فوق قوانين الطبيعة حين ألقى‬
‫بكثير من جحافل البشر البائسين لحيوانات تلد تحت سماء متباعدة‪ ،‬وحين‬
‫أدار حر ًبا بين مثل هذه المخلوقات المتفاوتة‪ ،‬وحين سفك الدماء أمام أعين‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ‪ ،‬ولكن هذا الرجل نفسه‬ ‫الرومان– والذين ُأكرهوا على إراقة دمائهم‬
‫مؤخرا‪ ،‬وقدَّ م نفسه ليجر من أحقر عبيده(‪،((23‬‬
‫ً‬ ‫تعرض لخيانة إسكندرانية‬
‫ومن ثم أدرك في النهاية أن التفاخر الفارع كان كنيته(‪.((24‬‬

‫‪ 8-13‬وعودة إلى النقطة التي استطردت منها حتى أبرهن على سخافة اآلالم التي‬
‫يعانيها بعض الناس من مثل هذه المسائل‪ ،‬فقد أفاد المصدر نفسه(‪ ((24‬أن‬
‫ميتيلليوس ‪ Metellus‬كان متفر ًدا بين الرومانيين‪ ،‬حيث اتخذ في نصره بعد‬

‫(‪ ((23‬حين احتفل بومبى بافتتاح مسرح الحجر الجديد في حرم مارتيوس ‪ Campus Martius‬احتج سينيكا على المذبحة‬
‫العامة (‪ )13.6–7; cf. Letters 7.3–5, 95.33‬وكما نقل شيشرون (‪Letters to His Friends 7.1.3; cf. Pliny‬‬
‫‪ )Natural History 8.21‬وأن الحشد قد تحرك لرحمة الفيلة المضطهدة‪.‬‬
‫(‪ ((23‬بعد هزيمة فارساليوس عام ‪ 48‬ق‪.‬م سعى بومبي للحماية من بطليموس الثالث عشر في مصربحرسه ورجاله‪ ،‬ولكن‬
‫حين ذهب إلى شاطئ اإلسكندرية قتله نائب بطليموس ‪.‬‬
‫(‪ Magnus ((24‬تعني العظيم‪.‬‬
‫(‪ ((24‬انظر ‪ 3.13‬أعاله‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫قهر القرطاجيين في صقلية مائة وعشرين فيلاً يقودون موكبه أمام عربته(‪،((24‬‬
‫وكان سولال آخر الرومانيين الذين وسعوا الحدود ‪ pomerium‬التي كانت‬
‫ُعر ًفا ً‬
‫قديما لالمتداد بعد االستحواذ اإليطالي وليس اإلقليم الريفي(‪ ،((24‬وهل‬
‫هناك أي فائدة في معرفة هذا أكثر من أن نعرف أن أفينتينا هيل ‪Aventine Hill‬‬
‫خارج الحدود‪ ،‬ووف ًقا له هناك سبب من اثنين؛ األول إما ألن ذلك كان نقطة‬
‫تجمع العامة الرومانيين ‪ plebeians‬في انعزال روما(‪ ،((24‬وإما ألن الطيور لم‬
‫تتواءم حين حصل راموس ‪ Remus‬على الرعاية هناك(‪ ،((24‬ومعرفة أسباب‬
‫أخرى بجانب هذا قد تكون مشحونة بأكاذيب وغير مرجحة‪.‬‬

‫‪ 9-13‬وحتى لو منحت هؤالء الناس الذين يقولون هذه األمور بحسن نية‪ ،‬وحتى لو‬
‫ضمنوا الصدق في كتاباتهم‪ ،‬فهل األخطاء سوف تقل في مثل هذه المعلومات؟‬
‫شجاعا‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫وأي االنفعاالت ستكون محلاًّ لالختبار؟ و َمن الذي سيصنع منك‬
‫سخاء في روحه؟ واعتاد صديقي فابيانوس أن يقول إنه‬
‫ً‬ ‫أكثر عدلاً ‪ ،‬أو أكثر‬
‫عم إذا هو األفضل حيث ال يطبق على نفسه أي بحث بدلاً من‬
‫يتساءل أحيا ًنا َّ‬
‫أن يتورط في هذا‪.‬‬

‫‪ 1-14‬وهؤالء فحسب من بين الناس َمن يمنحون وقتهم للفلسفة في وقت الفراغ‪،‬‬
‫وهم فحسب َمن يحيون ح ًّقا‪ ،‬وليس لهم عمرهم الذي ينتبهون إليه بحرص‪،‬‬
‫بل يضيفون كل عمر إلى أنفسهم‪ ،‬ويضيفون كل السنين التي انصرمت قبلهم‬

‫(‪ ((24‬كايكيليوس ميتيللوس ‪ L. Caecilius Metellus‬قنصل عام ‪251‬ق‪.‬م‪ ،‬انتصر بعد هزيمة صدر بعل في بانورموس‬
‫(باليرمو) عام ‪ ،250‬وعدد الفيلة غير متفق عليه‪ .‬صدربعل بن حملقار برقا‪ ،‬قائد قرطاجي‪ ،‬شارك في الحرب البونيقية‬
‫الثانية وهو ثاني أبناء حملقار برقا والشقيق األصغر لحنبعل‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫أومع َّلمة بأعمدة من حجر‪ ،‬وال يمكن‬‫ُ‬ ‫محروثة‬ ‫(‪ ((24‬كان لروما حدود ‪ ،pomerium‬وكانت هذه الحدود مقدسة وهي‬
‫لرعايا المدينة ‪ auspicia urbana‬أن يتجاوزوها‪ ،‬وتعزى هذه الحدود بعد سوالن إلى يوليوس قيصر وأوغسطس‬
‫وكالوديوس‪ ،‬ولكن سينيكا أو روايته تزعم أن سولال كان يمدد الحدود ألسباب مشروعة (األراضي اإليطالية المكتسبة)‪.‬‬
‫(‪ ((24‬مرتين وفقا إلى ليفي ‪ Livy‬عام ‪ 494‬ق‪.‬م وما بعدها في عام ‪.449‬‬
‫(‪ ((24‬في صراعهم األسطوري ليصبح مؤسس روما قد هُ زم راموس حين أخذ الرعايا على هضبة آفينتين ‪.Aventine‬‬

‫‪187‬‬
‫إلى ذواتهم‪ ،‬وإذا لم نثبت عدم امتنان الذين ميزوا مؤسسي األفكار المقدسة‬
‫التي جاءت إلى وجودنا ومهدت طريقنا للعيش لنا‪ ،‬فإن عمل اآلخرين يقودنا‬
‫إلى حضور أعظم الكنوز جمالاً ‪ ،‬والذي يسحبنا من الظالم وينقلنا إلى النور‪،‬‬
‫فال ُنحرم من زمن ونتجاوز الكل‪ ،‬وإن أردنا أن نتجاوز الحدود الضيقة‬
‫للضعف اإلنسانى بتوسيع العقل‪ ،‬فلدينا مدى زمني كبير لالمتداد فوقه‪.‬‬

‫‪ 2-14‬فيمكننا أن نتناقش مع سقراط ونترفه بشك كارنيادس(‪ ،((24‬ونكون في سالم‬


‫مع أبيقور‪ ،‬ونتغلب على الطبيعة مع الرواقيين‪ ،‬ونتجاوزها مع الكلبيين(‪،((24‬‬
‫حيث إن الطبيعة تسمح لنا أن نتشارك ملكية أي عصر‪ ،‬فلماذا ال نتحول من‬
‫لحظة الزمن القصيرة والعابرة ونمنح أنفسنا الماضي برمته والذي ال قياس له‬
‫وأبدي ونتشاركه مع الفضالء؟!‬

‫‪ 3-14‬وأما الذين يسيرون حول أداء واجباتهم االجتماعية ويثيرون أنفسهم‬


‫واآلخرين حين يتصرفون على نحو مثل المجانين‪ ،‬وحين يعبرون على كل‬
‫عتبة في جولتهم اليومية ولم يمروا على األبواب المفتوحة‪ ،‬وحين ُيسلمون‬
‫تحيتهم النقدية لمنازل متفرقة عن بعضها بعض‪ ،‬وقليل هم الرعاة القادرون‬
‫على التقاط نظرة في المدينة الواسعة المتشظية باالنفعاالت! وكثير منهم‬
‫الذين غطوا في النوم واالنغماس والجالفة ينكرون أن يقترب المتصلون‬
‫بهم!‪،‬وكثير الذين بعد أن عذبوهم باالنتظار الطويل ادعوا أنهم كانوا على‬
‫وكثير منهم تجنبوا الخروج من بهو االستقبال‬
‫ٌ‬ ‫عجلة وكأنهم مروا عليهم!‬
‫المكتظ بالجمهور وهرب من األبواب الخفية عن النظر كما لو أنهم ليسوا‬

‫أسس فعلاً األكاديمية الشكية (‪ )cf. Cicero Tusculan Disputations 5.11‬فإن أرخيسالوس‬ ‫(‪ ((24‬إذا كان سقراط ّ‬
‫)‪ Arcesilaus (316/15–242/1 bce‬قد أسس األكاديمية الثانية أو األكاديمية الوسطى‪ ،‬وكارنيادس الكيريني‬
‫)‪ Carneades of Cyrene (214–129 bce‬مؤسس األكاديمية الثالثة أو األكاديمية الجديدة‪.‬‬
‫(‪ ((24‬في حين تسعى الرواقية لتحرير االنفعاالت (األباثيا)‪ ،‬فإن األباثيا الرواقية ليست جمو ًدا بحتًا (‪،)cf. On Anger 1.16.7‬‬
‫ولكن الكلبية موقفها أكثر تطر ًفا حيث يفصل الحكيم تما ًما‪ ،‬حتى إنه بال عاطفة‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫قاسين في خداعهم أكثر من رفضهم القبول! وكثير منهم نصف نائم مثقل‬
‫بتأثير شراب األمس‪ ،‬ويفغر الفاه بكالم مز ٍر ليخاطب هذا الجمهور البائس‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بشفاه‬ ‫انتظارا لكالمه وهمس لهم ألف مرة‬
‫ً‬ ‫ويطلبون منهم الكف عن الكالم‬
‫تتحرك بالكاد!‬

‫‪ 4-14‬هل تفترض أن هؤالء الجمهرة يقضون وقتًا على الواجبات األخالقية‬


‫الجديرة بالثناء؟ ولكن نقول‪ :‬كثير منهم يريد أن يكون مثل زينون وفيثاغورث‬
‫وديمقريطوس‪ ،‬واآلخرون كهنة في دراسة الفلسفة فيرافقهم أرسطو‬
‫وثيوفراسطوس كل يوم‪ ،‬فليس هؤالء غير متاحين لك في زمانك‪ ،‬وال يفشل‬
‫أحدهم أن يرسل زائره في حالة سعيدة واأليسر أن يأتي بنفسه‪ ،‬ولن يتركوا‬
‫أحدً ا ُيغادر فارغ الوفاض‪ ،‬ويمكن أن يتقاربوا لكل البشر بالليل والنهار‪.‬‬

‫‪ 1-15‬ولن يجبرك أحد من هؤالء الفالسفة على الموت‪ ،‬بل سيتعلم الكل كيف‬
‫يواجهه(‪ ،((24‬ولن يأخذ أحدٌ منهم شيئًا من عمرك بل سيقاسمك عمره‪ ،‬ولن‬
‫خطرا يهدد حياة الصداقة أو يكلفك شيئًا‪ ،‬ومنهم سوف‬
‫ً‬ ‫يكون حديثه معك‬
‫يأخذك إلى حيث تتمنى‪ ،‬وال يخطئون إذا فشلت في أن تحصل على اللحظة‬
‫التي تتوق إليها‪.‬‬

‫‪ 2-15‬ويا لها من سعادة ويا لجمال ما تستلقي عليه الشيخوخة في ذاكرة للشخص‬
‫الذي وضع نفسه تحت رعاية هؤالء الناس! إنه سيحوز أصدقاء ينصحونه‬
‫يوميا‪ ،‬ويمكنه أن‬
‫في مسائلهم سواء أكبرت أم صغرت‪ ،‬ويراجعونه في نفسه ًّ‬
‫يسمع الحق بال إهانة ويتلقى ما يستحق بال تزلف‪ ،‬إنهم يقدمون له مثالاً ُيقيمه‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ‪.‬‬ ‫لنفسه‬

‫‪ 3-15‬وهناك قول شائع يقول إنه ليس في وسعنا أن نختار آباءنا الذين ُقسموا لنا‬

‫(‪ ((24‬راجع ‪ 3.7‬وهامش ‪.12‬‬

‫‪189‬‬
‫وإنهم منحوا لنا بالصدفة‪ ،‬ومن ثم يمكن أن نولد ألي أحد نتمناه‪ ،‬وهناك أسر‬
‫معظم عقولهم متمايزة‪ ،‬اختر واحدً ا ترغب أن تعتمد عليه وسوف ال ترث‬
‫االسم فحسب بل ما يملكه ح ًّقا‪ ،‬وهو ليس مشحو ًنا ببؤس أو روح منحطة‬
‫يتفق الناس عليها ويقبل عليها العظيم‪.‬‬

‫‪ 4-15‬هؤالء سيفتحون لك طري ًقا للخلود‪ ،‬ويرفعونك إلى سمو لم ينله أحدٌ ‪ ،‬وهذا‬
‫هو الوسيلة الفريدة لمد الفناء أو باألحرى لتحويله إلى الخلود‪ ،‬فاحترم‬
‫التراث الذي ُدمر اآلن‪ ،‬والذي ُشيد بمطمح الفخر بأمر أو بنقش على حجر‪،‬‬
‫وال شيء يطول زمنه ال ُيهدم ويتحول‪ ،‬ولكن األعمال التي ُكرست بالحكمة‬
‫ال يمكن أن تتلف‪ ،‬وال يطمسها عصر وال يختزلها على اإلطالق‪ ،‬فالعصر‬
‫التالي وكل ما يأتي بعده سيعزز احترا ًما قد اتفقوا عليه‪ ،‬فموضع الحسد فيما‬
‫اقترب من اليد وأما ما َب ُعد عنها فقد يطوله منا اإلعجاب‪.‬‬

‫‪ 5-15‬ولذلك حياة الحكيم فسيحة النطاق‪ ،‬وال يتقيد بنفس الحد الذي ُيكبل به‬
‫اآلخرون‪ ،‬وهو فحسب المعتوق من قيود جنس البشر‪ ،‬وهو سيد كل العصور‬
‫كما لوكان ر ًّبا‪ ،‬ألم تنصرم بعض األزمان؟ إنه يقبض عليها في الذاكرة‪ ،‬أليس‬
‫واقعا؟ إنه يتوقعه‪ ،‬إنه‬
‫الزمن يعلونا؟ إنه يستعمله أي يتحكم فيه‪ ،‬أليس الزمن ً‬
‫يجمع األزمان كلها في زمن واحد ُيطيل حياته‪.‬‬

‫‪ 1-16‬وأما َمن ينسون الماضي ويتجاهلون الحاضر ويخافون المستقبل‪ ،‬فالحياة‬


‫متأخرا‬
‫ً‬ ‫بالنسبة لهم مقتضبة ومضطربة للغاية‪ ،‬وحين يصلون لنهايتها يدركون‬
‫بؤس الفقر الذي شغلوا به طويلاً ‪ ،‬ولم يقوموا فيه بشيء‪.‬‬

‫‪ 2-16‬وأما حقيقة أنهم يطلبون الموت‪ ،‬فيمكن أن ُتؤخذ كدليل على أن حياتهم‬
‫طويلة‪ ،‬ويعانون في حماقتهم بالمشاعر المتقلبة التي تدفعهم لألشياء التي‬
‫ُتخيفهم‪ ،‬وغال ًبا ما يطلبون الموت؛ ألنهم يخشونه‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫‪ 3-16‬وليس هناك سبب لتجد دليلاً على أنهم عاشوا طويلاً في الواقع‪ ،‬فقد يبدو‬
‫انتظارا للساعة‬
‫ً‬ ‫اليوم لهم طويلاً ‪ ،‬أو أنهم يشكون مرور الساعات البطيء‬
‫المحددة للعشاء؛ ألنه حين يفشل المنشغلون عاد ًة وال يجدون شيئا يفعلونه‬
‫خارجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فإنهم يرتبكون دون معرفة كيف يشغلون فراغهم أو كيف يسحبونه‬
‫المتَخلل‬
‫ولذلك ينتقلون إلى بعض االنشغاالت األخرى ويجدون الزمن ُ‬
‫حملاً مره ًقا‪ ،‬ويصنعون كما ُيفعل في المجالدة حيث ُيعلن عن يوم بعينه لها‪،‬‬
‫أو حين يحدد زمنًا لبعض العروض األخرى أو تسلية ترتبط باالنتظار‪ ،‬فإنهم‬
‫يرغبون أن يقفزوا على األيام المتخللة‪ ،‬وينظرون ألي إرجاء على أنه طويل‬
‫عليهم‪.‬‬

‫قصرا؛ ألنهم‬
‫ً‬ ‫‪ 4-16‬ولكن زمن المتعة الفعلي قصير وعابر‪ ،‬وأخطاؤهم تجعله أشد‬
‫يرغبون في اللذة تلو األخرى‪ ،‬وال يستقرون بثبات على رغبة بعينها‪ ،‬فال تطول‬
‫أيامهم بل ُتكره‪ ،‬فكم تبدو الليالي التي قضوها في الظفر بالعاهرات أو السكر!‬

‫‪ 5-16‬ومن َثم فإن اإللهام المجنون للشعراء هو ما يغذي الضعف البشري بقصصهم‬
‫حين ُيغوى‬ ‫فعل(‪((24‬‬ ‫وتخيلهم بأن جوبتر ‪ُ Jupiter‬يضاعف امتداد الليل‬
‫باللذة الجنسية‪ ،‬وال تساوي هذه اإلثارة ألسوأ انفعاالتنا شيئًا سوى أنها تجنيد‬
‫األرباب على أنها تشكل مسب ًقا رذائلنا‪ ،‬وتمنح للفساد رخصة مبررة بالنموذج‬
‫الرباني‪ ،‬وكيف ال تبدو الليالي في كنف العشيقة قصيرة على هؤالء الناس؟‬
‫إنهم أضاعوا النهار في انتظار الليل‪ ،‬وفقدوا الليل في الخوف من طلوع‬
‫الفجر‪.‬‬

‫‪ 1-17‬إن الملذات الحقيقية لمثل هؤالء قلقة ومضطربة بأنواع التنبيه المتعددة‪،‬‬
‫واللحظة الحقيقية التي يفرحون فيها هي اللحظة التي يسرقهم فيها الفكر‬
‫الهائج‪ ،‬فإلى متى سوف يستمر هذا؟ هذه المشاعر تتسبب في تباكي الملوك‬

‫(‪ ((24‬خالل زيارته إلى ألكمينا ‪ Alcmena‬زوجة أمفيتريون ‪ Amphitryon‬وأم هيروكليس‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫على سلطتهم‪ ،‬حيث ال تمنحهم الرفاهية أي لذة‪ ،‬بل يرعبهم األمل في نهاية‬
‫مطافه‪.‬‬

‫‪ 2-17‬وعندما كان الملك الفارسي المتغطرس ينسق جيشه على السهول الفسيحة‬
‫جندي‬
‫ٌّ‬ ‫لمعرفة حجمه وليس عده‪ ،‬بكى وفكر في أنه في غضون قرن لن يبقى‬
‫من هذه الجحافل الضخمة على قيد الحياة(‪ ،((25‬والرجل الحقيقي الذي‬
‫بكى جلب عليهم قدرهم‪ ،‬ففقد القوات في بحر وآخرين في بر وبعضهم في‬
‫معركة(‪ ((25‬وآخرون في قتال‪ ،‬وهكذا دمر كل هؤالء في وقت قصير جدا قبل‬
‫المائة عام التي كان يخشاها‪.‬‬

‫‪ 3-17‬وماذا عن حقيقة أن مرح مثل هؤالء ينتابه القلق؟ ألنهم لم يرتكزوا على‬
‫أسباب ثابتة بل ممزقة عند صدورها‪ ،‬ولكن هل تعتقد أن أوقاتهم قد تتشابه‬
‫حين يشقيهم حتى قبولهم؛ ألن األفراح التي ترفعهم وتحولهم أعلى عن‬
‫رفقائهم بأي حال محضة؟‬

‫‪ 4-17‬وتسبب كل النعم العظمى القلق‪ ،‬وال يقل الحظ في معظم توافقاته عن ميثاق‬
‫حكيم‪ ،‬ولكي تحافظ على الرفاهية تحتاج إلى رفاهية جديدة‪ ،‬وتقدم توسالت‬
‫بدلاً من التي تحولت بالفعل‪ ،‬وكل شيء يأتي لنا عن طريق الصدفة متقلب‪،‬‬
‫ويرتفع حظنا األسمى كلما كنا عرضة للسقوط‪ ،‬ولكن ما يسقط ال يسر أحدً ا‬
‫حتما‪ ،‬ولذلك فإن حياة الذين يكتسبون بالعمل المضني والذين يعملون بجد‬
‫ً‬
‫لالمتالك ليست مقتضبة فحسب بل بالضرورة بائسة‪.‬‬

‫يحصلون بالجهد العظيم ما يرغبون فيه‪ ،‬ويقبضون على ما تحصلوا‬


‫ِّ‬ ‫‪ 5-17‬إنهم‬
‫اعتبارا إلمكانية إعادة الزمن‪ ،‬فتحل‬
‫ً‬ ‫عليه بقلق‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال يقيمون‬

‫(‪ ((25‬الملك زركسيس في حملته ضد اليونان عام ‪ 480‬ق‪.‬م راجع ‪.Herodotus 7.45–46‬‬
‫وضوحا في البحر في سالميس ‪ Salamis‬عام ‪ ،480‬وعلى األرض في ثيرموبيلي ‪ Thermopylae‬عام ‪480‬‬
‫ً‬ ‫(‪ ((25‬األكثر‬
‫وبليتيا ‪ Plataea‬عام ‪.479‬‬

‫‪192‬‬
‫االنشغاالت الجديدة محل القديمة‪ ،‬وسيثير األمل أملاً جديدً ا والطموح‬
‫طموحا جديدً ا‪ ،‬فهم ال يتطلعون إلى نهاية بؤسهم بل تغيير علته‪ ،‬هل عذبنا‬
‫ً‬
‫منصبنا العام؟ حيث أنفقنا جل الوقت على اآلخرين‪ ،‬فهل نتوقف عن كدح‬
‫الترشح للمناصب؟ حيث نتصيد أصوات الناخبين‪ ،‬وهل نكف عن مضايقة‬
‫المدعي العام؟ حيث وضعنا في االعتبار أنه قاض‪ ،‬وهل يتوقف عن كونه‬
‫قاض ًيا؟ حيث ينطلق لترؤس لجنة خاصة‪ ،‬و َمن الذي يقضي كل عمل حياته‬
‫إلدارة ملكية اآلخرين براتب؟ حيث يتحول عن رعاية ملكيته‪.‬‬

‫‪ 6-17‬وقد عمل ماريوس ‪ Marius‬بخدمات الجيش‪ ،‬وشغلته القنصلية‬


‫‪ ،((25( consulship‬وتعجل كوينتيوس ‪ Quintius‬في الحصول على‬
‫ديكاتوريته ولكن ناداه محراثه(‪ ،((25‬وقد سما سكيبيو ‪ Scipio‬أمام القرطاجيين‬
‫قبل أن يكون جاهزً ا تماما لهذه المهمة(‪ ،((25‬وسما فيكتوريوس ‪Victorious‬‬
‫على حنبعل ‪ ،Hannibal‬وسما فيكتوريوس على أنطاكوس ‪،Antiochus‬‬
‫وقد انتصر بالتمييز في قنصليته وعمل ضما ًنا لقنصلية أخيه(‪ ،((25‬ولكن‬
‫العتراضاته ُنقل تمثاله الذي كان يرافق فيه جوبيتر إلى معبد الكابيتولين‬

‫(‪ ((25‬ربح جايوس ماريوس انتخاب القنصلية عام ‪ 107‬ق‪.‬م بعد هزيمة يوجيرثا ‪ Jugurtha‬وانتُخب مرة ثانية عام ‪ 104‬ثم‬
‫أربع سنوات حتى عام ‪ ، 100‬ثم عام ‪ ،86‬واألكثر الكامل للتلميح هنا ال يكمن في االنتقال السريع لماريوس من كونه‬
‫جند ًّيا إلى رجل دولة‪ ،‬ولكن إلى العدد الكبير لسنين وظيفته في القنصلية‪ ،‬ويوضح كيف تحل االنشغاالت الجديدة محل‬
‫االنشغاالت القديمة‪.‬‬
‫(‪ ((25‬وفقا للتقليد قلد الدكتاتور كينتيوس كينكينناتوس ‪ L. Quintius Cincinnatus‬عام ‪ 458‬ق‪.‬م (بعد هزيمة إكيو‬
‫‪ Aequi‬في خمسة عشر يو ًما وترك منصبه) وتولى مرة أخرى عام ‪ ،439‬واألسطورة التي يستدعيها من الجرف ترتبط مع‬
‫فترته الديكتاتورية األولى وربطه بالمرحلة الثانية‪ ،‬والتغاضي عن الفترة بين ‪ ،439- 458‬ويؤكد سينيكا على ضغوط‬
‫منصب كينكينناتوس‪.‬‬
‫(‪ ((25‬كورنيليوس سكيبيو اإلفريقي )‪ P. Cornelius Scipio Africanus (235–183 bce‬عُ ين في عمر السادسة والعشرين‬
‫قائدً ا ضد القرطاجيين في الحرب البونية الثانية‪ ،‬وربما كان االمتعاض من نجاحاته سب ًبا في توجيه االتهام له بعدم األمانة‬
‫المالية وتسويتها فيما ُسمي بمحاكمات سكيبيو في ثمانينيات القرن الثاني ‪ ، 180‬ولسخطه انسحب إلى ليتيرنيوم‬
‫‪ Liternum‬حيث مات هناك عام ‪.183-184‬‬
‫(‪ ((25‬كمفوض يعمل في ظل حكم أخيه‪ ،‬تفاوض سكيبيو على شروط السالم بعد الهزيمة في ماجنسيا ‪ Magnesia‬عام ‪189‬‬
‫ق‪.‬م من أنتيخوس الثالث ‪ Antiochus III‬ملك سوريا‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫‪ ،Capitoline‬ولكن الخالف بين المواطنين جلب المتاعب لمنقذهم‪ ،‬وبعد‬
‫أن احتُقر في شبابه تنافس العامة الشرفاء على هؤالء األرباب‪ ،‬فقد ُسر في‬
‫شيخوخته في نهاية المطاف وهو يتفاخر في المنفى‪ ،‬وليست أسباب القلق‬
‫مرغوبة سواء أكان السبب هو الرفاهية أم البؤس‪ ،‬وسوف ُتدفع الحياة بانشغال‬
‫بعد آخر‪ ،‬وسوف نطلب الراحة ولن تتحقق أبدً ا‪.‬‬

‫أخرج نفسك من الحشد‪ ،‬واطرح ما يستحق أن يطيل‬


‫ْ‬ ‫‪ 1-18‬وهكذا عزيزي بولينيوس‬
‫سنين عمرك‪ ،‬وانسحب إلى مالذ أكثر أما ًنا في النهاية‪ ،‬وتأمل كم األمواج الذي‬
‫تحملته‪ ،‬والعواصف التي نجيت منها‪ ،‬وكم جلبت عليك وظيفتك العامة‪،‬‬
‫وقد يبرهن على كفاية فضيلتك بالبراهين المنهكة والمتواصلة‪ ،‬فضع على‬
‫المحك ما يمكن أن تحققه في وقت الفراغ‪ ،‬فإن الطرف األعظم من حياتك‬
‫ويقينا هو الطرف األفضل قد منحته للدولة‪ ،‬فخذ ً‬
‫بعضا من وقتك لنفسك‬
‫كذلك‪.‬‬

‫‪ 2-18‬ما أدعوك إليه في حالة التقاعد ليس هو الكسل والخمول أو أن تغط طاقتك‬
‫الحية في النوم وفي الملذات التي تغوي الحشد‪ ،‬وليس لتجد راحة البال ألنك‬
‫مهام تشغلك عن االعتزال الهادئ‪ ،‬ومن المهم أن تتعامل معها بحيوية‪.‬‬
‫ستجد َّ‬
‫‪ 3-18‬أليس ح ًّقا‪ ،‬أنت تدير عائدات العالم بموضوعية كما لو كنت غري ًبا‪ ،‬وبمثابرة‬
‫كما لو تدير ما تملك‪ ،‬وبضمير كما لو كنت أنت الدولة‪ ،‬لقد فزت بالمودة في‬
‫المنصب من الصعب أن تجتنب فيه الكراهية‪ ،‬ومن ثم صدقني من األفضل أن‬
‫تعرف معيار التوازن في حياة المرء أكثر من إمداد العامة بالحبوب‪.‬‬

‫أهلته بدرجة قصوى للتعامل مع التحديات‬


‫واستدع عقلك النشط الذي َّ‬
‫ِ‬ ‫‪ 4-18‬‬
‫العظمى للمنصب والذي يقينًا هو مرموق‪ ،‬ولكنه يتعامل بالكاد في الحفاظ‬
‫على الحياة السعيدة‪ ،‬وتأمل أنك لم تجعلها هد ًفا لك مع كل تدريبات الفنون‬
‫التقدمية من العصر المبكر‪ ،‬فآالف عدة لمقادير الحبوب قد تعهدت بأمانك‪،‬‬
‫‪194‬‬
‫ووعدت بشيء أعظم وأكبر وهو ألاَّ يكون هناك نقص للرجال سواء في حسن‬
‫األخالق والخدمة الدؤوبة‪ ،‬ولكن أسطول الحيوانات بطيئة الحركة أكثر من‬
‫فمن الذي ُيعرقل سرعة‬
‫الخيول األصيلة مالئمة في حمل الحمول الثقيلة‪َ ،‬‬
‫هذه المخلوقات التي ُجبلت على حمل الحمول الثقيلة؟‬

‫‪ 5-18‬وتأمل‪ ،‬رغم قسوة تحملك لهذه المسؤولية الثقيلة عليك أن تتعامل مع معدة‬
‫البشر‪ ،‬فالجوعى ال يخنعون لعقل وال ُتلطفهم معاملة وسط أو تأثر فيهم‬
‫مناشدة‪ ،‬ففي اآلونة األخيرة في غضون األيام القليلة بعد وفاة القيصر جايوس‪،‬‬
‫حيا وال تزال لديه‬
‫وكان ال يزال يعاني إلى أقصى حد؛ ألنه رأى الرومانيين أبقوه ًّ‬
‫مؤن تكفيه لسبعة أو ثمانية أيام في جميع األحوال ألنه بنى جسوره للقوارب‬
‫وتالعب بمصادر اإلمبراطورية(‪ ،((25‬لقد واجهنا أسوأ أنواع الكوارث‪ ،‬حتى‬
‫الذين كانوا تحت الحصار عانوا نقص الطعام‪ ،‬ومحاكاته للغطرسة المشؤومة‬
‫للملك األجنبي المجنون جاءت بتكلفة الدمار الشامل بسبب الجوع‪ ،‬وتال‬
‫ذلك الكارثة العامة المجاعة‪.‬‬

‫‪ 6-18‬وماذا كان تهمة عقل المسؤولين المكلفين بإمدادات الحبوب حين قرروا‬
‫مواجهة الحجارة واألسلحة والحرائق وجايوس؟ إنهم غطوا بتمويه متقن‬
‫هذا المرض العظيم الكامن وسط األجهزة المتوغلة للدولة‪ ،‬ولتتأكد بعقل‬
‫وجيه‪ ،‬أنهم تعاملوا مع شكاوى بعينها دون أن يعيها المرضى ويعرفوا أن‬
‫أمراضهم تسببت في الكثير حتى الموت‪.‬‬

‫وهدوءا وأزيد سلط ًة‪ ،‬فهل تعتقد‬


‫ً‬ ‫‪ 1-19‬واالنسحاب من هذه المالحقات أكثر أمنًا‬
‫متهما برؤية نقل الحبوب المستوردة إلى‬
‫أنه يساوي نفس الشيء‪ ،‬سواء أكنت ًّ‬
‫(‪ُ ((25‬قتل جايوس في يناير ‪ 22‬أو ‪ 24‬عام ‪ 41‬م‪ ،‬وهنا يخلط سينيكا األحداث بربط أزمة الغذاء ببناء جايوس المشهور‬
‫لجسرالقوارب من بايا ‪ Baiae‬إلى بوتيلو ‪ Puteoli‬عام ‪ ،39‬ويزعم أن جايوس سعى إلى محاكاة جسر زركسيس‬
‫‪ Xerxes‬الذي بناه ‪ 480‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫خزانات غير صالحة خيانة أم إهمال الناقلين‪ ،‬تلك الخزانات التي ال تمتص‬
‫الرطوبة وتتعفن بالحرارة‪ ،‬وأنها تساوي الوزن والمقدار المعروف لها‪ ،‬أو‬
‫سواء كنت تشغل نفسك بدراسات سامية ومقدسة تتعلم فيها جوهر الرب‬
‫وإرادته وصفاته الكلية وهيئته‪ ،‬وما المخرج الذي تنتظره روحك‪ ،‬وأين تضعنا‬
‫الطبيعة لتريح أجسادنا‪ ،‬وما الذي يحمل وزن كل المواد الثقيلة لهذا العالم‬
‫نحو المركز ويدلي مكونات الضوء من أعلى‪ ،‬ويحمل النار إلى أعلى جزء‪،‬‬
‫ويرفع النجوم إلى التغيرات التي أحدثتها الحركة‪ ،‬وتتعلم أشياء أخرى من‬
‫هذا القبيل تحدوها العجائب الكبرى؟‬

‫‪ 2-19‬وعليك ح ًّقا أن تتخلى عن المستوى الدنيوي وتحول عين عقلك لهذه‬


‫ً‬
‫نشطا‬ ‫الدراسات‪ ،‬وقد تتقدم ألفضل األشياء حينما ال يزال الحماس‬
‫واالهتمام بهذه األشياء فعالاً ‪ ،‬وهذا النمط من الحياة فيه الكثير من الدرس‬
‫الذي ينتظرك‪ ،‬حيث حب الفضيلة وممارستها‪ ،‬وإغفال االنفعاالت‪ ،‬ومعرفة‬
‫كيف تحيا وتموت‪ ،‬والسكون العميق‪.‬‬

‫‪ 3-19‬ووعثاء كل الناس المنشغلين هي البؤس‪ ،‬ولكن معظم البائسين هم حال‬


‫للذين يكدحون لشواغل ليست لهم‪ ،‬بل للذين ُينظم لهم اآلخر نومهم‪،‬‬
‫ويستيقظون على ركض شخص آخر‪ ،‬والذين أدنى تدريب لهم في مطلق‬
‫كل النشاطات أي الحب والكراهية(‪ ،((25‬وإن أراد هؤالء أن يعرفوا كم هي‬
‫الحياة قصيرة فدعهم يفكرون أن أبسط جزء فيها هو ما يخصهم‪.‬‬

‫اسما معرو ًفا ح ًّقا للعامة‬


‫مرارا‪ ،‬أو ً‬ ‫ً‬
‫مستعرضا رداء المنصب ً‬ ‫‪ 1-20‬وحين ترى الرجل‬
‫فال تحسده؛ ألنه اشترى هذه الزخارف بقيمة الحياة‪ ،‬وألجل أن ُيؤرخ عا ًما‬

‫مبكرا ويدفع رب العمل في الصباح (‪ ،)salutatio; cf. 14.4‬ويرافقه في‬


‫ً‬ ‫(‪ ((25‬على سبيل المثال العميل الذين يستيقظ‬
‫العامة‪ ،‬وكانت العالقة بين العميل ورب العمل ‪ the client-patron‬تُملي الوالء السياسي واالجتماعي‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫واحدً ا باسمهم فإنهم أضاعوا كل سنينهم(‪ ،((25‬لقد تخلت الحياة عن بعضهم‬
‫في وسط نضالهم األول وقبل تسلقهم الوعث لقمة طموحهم‪ ،‬وآخرون بعد أن‬
‫ارتقوا فوق ألف إذالل ليصلوا إلى جالل التتويج‪ ،‬و ُيغير عليهم الفكر الهزيل‬
‫الذي يختزل كل كفاحه ألجل النقش على القبر‪ ،‬وبعضهم يخطط لطموحات‬
‫جديدة لشيخوخته المتقدمة كما لو كان في شبابه‪ ،‬وهم يستسلمون للوهن‬
‫وسط مساعيهم العظيمة والجامحة‪.‬‬

‫‪ 2-20‬إنها نهاية مخزية حين يقاضي الرجل الشيخ في المحكمة خصو ًما ال يعرفون‬
‫أن هذا هو نفسه األخير‪ ،‬وحتى إن فاز في اللحظة التي صفق له فيها المتفرجون‬
‫المتأثرون به‪ ،‬وإنها لنهاية شائنة حين ال يرتد المرء عاجلاً عن العيش بالعمل‬
‫منكبا‬
‫ًّ‬ ‫المميت وهو في وسط واجباته‪ ،‬وإنها لنهاية مؤسفة حين يموت المرء‬
‫على أرصدته وهو يسحب االبتسامة من الوريث الذي انتظر موته طويلاً ‪.‬‬

‫‪ 3-20‬وال أستطيع أن أمر على مثال واحد قد حدث لي‪ ،‬كان جايوس تورانيوس‬
‫ظاهرا على الكل وكان حينها في التسعين من عمره‪ ،‬وقد دعاه‬
‫ً‬ ‫رجلاً كهلاً‬
‫اإلمبراطور جايوس قيصر للتقاعد من منصبه اإلداري‪ ،‬ووجه أوامره بأن يرقد‬
‫على سريره‪ ،‬وناح بمنزله الحاشد كما لو كان في حالة الموت‪ ،‬وندب أهل‬
‫منزله لبطالة سيدهم الكهل‪ ،‬ولن يكف عن نواحه حتى استعاد عمله‪ ،‬فهل من‬
‫منكبا على العمل؟‬
‫السعادة أن تموت ًّ‬
‫‪ 4-20‬والكثيرون عندهم االتجاه نفسه‪ ،‬ورغبتهم للعمل تزيد على قدرتهم عليه‪ ،‬وهم‬
‫يناضلون أمام عجزهم الجسدي‪ ،‬وتقضي عليهم الشيخوخة ذاتها بالشقاوة؛‬
‫ألنها تزيحهم عن المنصب وليس ألي سبب آخر‪ ،‬فال يسمح بالتجنيد بعد‬

‫(‪ ((25‬وف ًقا لتاكيتوس (‪ )Annals 1.7.2, 11.35.1‬كان جايوس تيراننيوس خاز ًنا للذرة ‪ praefectus annonae‬عام ‪ 14‬م‪.‬‬
‫(وبالتالي هذا مثال بطبيعة الحال للعالقة الخاصة بباولينيوس ‪ ،)Paulinus‬وهو ال يزال بالقرب من كالوديوس عام ‪،48‬‬
‫ومن الصعب أن يكون تجاوز التسعين كما يقول سينيكا قبل نهاية حكم جايوس عام ‪ .41‬ومكث في منصبه سبع سنوات‬
‫بعد رجوعه إليه‪ ،‬ولذا فإن سينيكا يبالغ في تحديد عمره‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫الخمسين‪ ،‬وال يتطلب حضور عضو مجلس الشيوخ إذا تجاوز الستين‪ ،‬ومن‬
‫الصعب على الناس أن يقبلوا على التقاعد من أنفسهم بدلاً من القانون‪.‬‬

‫‪ 5-20‬وطوال الزمن وهم ينهبون وقد نهبوا‪ ،‬وكسروا راحة كل منهما اآلخر‪ ،‬وأتعسوا‬
‫بعضهم البعض‪ ،‬وجعلوا الحياة بال نفع وال متعة وال تقدم في العقل‪ ،‬وال أحد‬
‫فيهم يضع الموت في المشهد‪ ،‬وال أحد ُيحجم عن اآلمال البعيدة‪ ،‬والحقيقة‬
‫أن بعض الناس يقيم ترتيبات ألشياء لما بعد الحياة ‪-‬مثل إنشاء مقبرة ضخمة‪،‬‬
‫وتدشين المباني العامة‪ ،‬والعروض المجالدية للجنائز‪ ،‬والمواكب الجنائزية‬
‫الفارهة‪ ،-‬والحق أن جنائز مثل هؤالء ينبغي أن ُتقاد بضوء المشاعل والشموع‬
‫الرفيعة(‪ ((25‬كما كانوا يعيشون الفترة المقتضبة‪.‬‬

‫* * *‬

‫(‪ ((25‬ولتفادي جذب االنتباه ُش ِّيعت جنازات األطفال ليلاً بالمشاعل والشموع‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫عن �صمود الحكيم‬

‫‪199‬‬
OCD Oxford Classical Dictionary, 3rd ed., ed. Simon Hornblower
and Anthony Spawforth. Oxford: Oxford University Press, 1996.

SVF Stoicorum Veterum Fragmenta, ed. Hans F. A. von Arnim. Leipzig,


1903–24.

Use. Usener, Hermann. Epicurea. Leipzig, 1887.

200
‫مقدمة‬
‫عن العنوان الموضوع والبنية‪:‬‬
‫من المستغرب إلى حد ما أن رسالة صمود الحكيم ‪De Constantia Sapientis‬‬
‫ال تحتوي على الكلمة الالتينية صمود ‪ ،Constantia‬والحقيقة أنه في مرحلة ما من‬
‫مالئما لإلشارة للعمل أكثر من الطويل‪ ،‬وهو العنوان‬
‫ً‬ ‫التراث أصبح هذا العنوان القصير‬
‫ضررا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األساسي الذي يؤكد المفارقة الرواقية‪ ،‬حيث إن الحكيم ال يتلقى إهان ًة وال‬
‫وكما يخبر سينيكا سيرينوس صديقه الذي يخاطبه في العمل‪ ،‬وبرز الرواقيون من بين‬
‫مدارس الفلسفة بمسعى منفرد (مسار اإلنسان) ‪ ،2-1.1‬وهذا التحدي من سيرينوس‬
‫أو المسار الحاد والمباشر يشجعه ويصبح المنحدر أسهل‪ ،‬ويصير الموضوع المركزي‬
‫للعمل هو المسار “الذي يرتفع أو أبعد من أي مقذوف”(‪.)1.1‬‬
‫وسرعان ما نكتشف أن سيرينوس يعبر عن غضب كاتو األصغر الذي تعرض‬
‫إلساءة لفظية والبصق(‪ ،)2.3-3.1‬ويرد سينيكا في الوقت نفسه و ُيطمئن سيرينوس‬
‫بأن “الحكيم سالم ومعافى”(‪ ،)3.2‬وتنطلق المحاورة الحاضرة من هذا النزاع حيث‬
‫ومتحمسا لسيرينوس(‪ ،)2-1.3‬ويستجيب سيرينوس‬
‫ً‬ ‫شكيا‬
‫يقدم سينيكا اآلن خطا ًبا ًّ‬
‫ضررا أو إهانة(‪.)3.4-3.3‬‬
‫ً‬ ‫بإصغاء لما يقصده بكلمة (ال يتلقى)‬
‫وقد ُيتبع االستهالل والحكي بتقسيم للموضوعات(‪ )2-1.5‬والذي يقسم فيه‬
‫موضوعه إلى قسمين الضرر ‪ iniuria‬واإلهانة ‪ ،contumelia‬ويفسر كيف يتعامل‬
‫‪201‬‬
‫معهما على نحو منفصل‪ ،‬وتمضي معالجته المنفصلة بعيدة بعض الشيء عن القانون‬
‫الجنائي الروماني‪ ،‬والذي لم يتضمن فعل الضرر ‪ actio iniuriarum‬الضرر الجسدي‬
‫فحسب منذ القرن الثاني قبل الميالد‪ -‬أي اإلحساس األولي بالضرر في القانون الروماني‬
‫المبكر مثل قانون األلواح االثني عشر(•)‪ ،‬بل كلمات وأفعال القذف(‪ ،((26‬وليست‬
‫غاية سينيكا التدقيق في القانون الروماني‪ ،‬بل توضيح كيف أن الدروب المتمايزة التي‬
‫قد يفهم بها القارئ أنها ضرت المرء عمدً ا ال تمس الحكيم‪ ،‬وهو التمييز بين الضرر‬
‫تدريجيا‪ :‬حيث يستعمل مقولة‬
‫ًّ‬ ‫واإلهانة في (‪ )1.5‬يسمح له باكتشاف الطيف كاملاً‬
‫الضرر ليركز أولاً على حاالت مماثلة لالعتداء الجسدي تكون موضوعية وواضحة‬
‫في انتهاك القوانين‪ ،‬في حين يستعمل مقولة اإلهانة على حاالت يتسبب فيها األذى‬
‫بالكلمات وتنطوي على تفسير‪ ،‬وقد تكمن وراء القوانين (على سبيل المثال حتى لو‬
‫علمنا أن حاالت القذف الواضحة تكمن بقوة داخل فعل الضرر)‪ ،‬وهذه هي طريقة‬
‫عم إذا كان الضرر قد أصاب الكل‪.‬‬
‫سينيكا في إقرار تفسير المتلقي كمحدد واقعي َّ‬
‫وفي مناقشة كلمة الضرر(‪ ((26‬التي تحتشد في النصف األول من العمل (‪3.5‬‬

‫لوحا مثبتة على منصة المتحدث في‬ ‫(•) وهو أول القوانين الرومانية المكتوبة‪ ،‬وقد ُكتبت هذه القوانين على اثني عشر ً‬
‫المحكمة الرومانية‪ ،‬حيث كانت تدور مناقشة األمور المهمة‪ .‬وقد كانت هذه القوانين األسس التي تقوم عليها الحقوق‬
‫الخاصة‪ ‬للمواطن الروماني‪ .‬ومع وجود خالف حول وجود وزمن هذا القانون إال أن معظم الباحثين يعتبرون تاريخ‬
‫صدوره في سنة ‪ 450-449‬ق‪.‬م‪ .‬واعتبر‪ ‬الرومان‪ ‬قانون األلواح االثني عشر‪ ‬قانونهم المدني‪ ،‬ويقصد بذلك قانون‬
‫المدينة في نطاق‪ ‬القانون العام‪ ‬والخاص‪ ،‬وقد جاء هذا القانون من أجل كسر احتكار رجال الدين للقانون‪ ،‬وكذلك‬
‫للسعي في مساواة الطبقة العامة باألشراف‪ .‬كانت الشكلية هي السمة الرئيسة في إجراءات الدعاوي في‪ ‬القانون‬
‫لفظيا قد يؤدي بالشخص لضياع حقه في تقديم الدعوى‪ .‬وألن‬ ‫الروماني‪ .‬مما يترتب عليه أن أي خطأ حتى ولو كان ًّ‬
‫هذه األلفاظ كانت غير معروفة للجميع باستثناء رجال الدين‪ ،‬فقد جاءت هذه األلواح لتعلن كافة األلفاظ على المأل‪.‬‬
‫(‪ ((26‬اإلهانة ‪ contumelia‬غال ًبا مظلمة في فعل الضرر‪ .‬انظر المناقشة العامة ‪Riggsby 2010, 191–94; also, OCD‬‬
‫‪ ،s.v. “iniuria and defamation‬حيث تُظهر مناقشة سينيكا بعض حدود التقعيد القانوني والحجج الفقهية (‪e.g.,‬‬
‫‪.)5.3, 7.3–6‬‬
‫(‪ ((26‬كان من الممكن ترجمة كلمة الضرر ‪ iniuria‬بكلمة الخطأ كما فعل روبرت كاستر ‪ Robert Kaster‬في ترجمته‬
‫لرسالة عن الغضب ‪ ،On Anger‬وفي السياق الحالي استعملت كلمة الضرر حتى أحافظ على تباينها مع كلمة اإلهانة‪،‬‬
‫فاألولى مادية والثانية شفوية‪ ،‬وهذا أمر أساسي لتقسيم لعمل‪ ،‬ولتوكيد حقيقة أن سينيكا غال ًبا ما يضع تمثالت باعتداءات‬
‫جسدية (‪ ،)e.g., 1.1, 3.5, 16.2‬ولكن علينا الحذر؛ حيث إن الضرر في اللغة اإلنجليزية يفترض السلوك غير القانوني‬
‫والمعاملة غير العادلة والظلم‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫‪ ،)5.9-‬يتناول سينيكا مباشرة كيف يمكن للمرء أن يقوم بالضرر‪ ،‬ومن ثم ال يتلقاه‬
‫الحكيم‪ -‬شيء ما كما يفترض رد فعل سيرنيوس الشكي‪ ،‬والذي يبدو بالقدر نفسه‬
‫بديهيا في الالتينية كما في اللغة اإلنجليزية‪ ،‬ويعيننا أحد االفتراضات األوسع نطا ًقا‬
‫ًّ‬
‫في فهم أن الضرر يتعلق بالجسد وأمور أخرى ال عالقة لها بأمان العقل‪ ،‬وعززت هذه‬
‫الفكرة بمجموعة من حجج القياس المنطقي(‪ )2-1.8 ،5-3.5‬وتسعى جميعها إلى‬
‫فصل قصد األداة عن نتيجة الفعل(‪ ،((26‬والقصدية يمكن أن يتجاهلها الحكيم الذي‬
‫يتجاوز أفعال المخطئين كما لو كانت أحداث مصادفة ال أهمية لها(‪،)1.9-2.8‬‬
‫و ُتنقل المناقشة للحياة بمثال تاريخي هو ستابليو الميجاري ‪Stilpo of Megara‬‬
‫‪ (ca. 360–280 bce; 5.6–6.7‬الذي يعرض ما يعنيه التمييز بين العقل الراسخ‬
‫‪ )4.6( wellfounded mind‬وأسس مدينته المحطمة التابعة للحظ‪.‬‬
‫والموضوع الثاني هو اإلهانة‪ ،‬وعرض بموسوعية أكثر من الموضوع األول وهو‬
‫واقعيا عن‬
‫ًّ‬ ‫الضرر (‪ ،)6.18-1.10‬وقد تصنف اإلهانة باعتبارها شكلاً أقل أو يقل‬
‫الضرر (‪ ،)3.16 ،2.10‬ومن ثم تلقى اإلهانة معالجة حساسة في حد ذاتها بتركيز‬
‫سينيكا على مسألة غامضة للغاية في تفسير كالم الناس(‪ ،((26‬وإن المظهر النفسي‬
‫الذي يحمل المرء على تقبل اإلهانة (‪ )3.10‬يعكس عظمة عقل الحكيم (‪،)1.11‬‬
‫وتحليل اإلهانة باعتبارها مستمدة من االحتقار ‪ contemptus‬يقدم اعتبارات للحالة‬
‫النسبية للطرفين‪ ،‬وهذا يسمح لسينيكا أن يرفض األسباب المختلفة لإلهانات التي‬
‫اجتماعيا (على سبيل المثال ‪ ،)2.10‬باستثناء‬
‫ًّ‬ ‫يتلقاها نخبة الرومان من األدنى منهم‬
‫هذا السمو الحقيقي وهو األخالقي وليس االجتماعي‪ ،‬حيث إن حالة المرء مثل أن‬
‫يكون ملكا لميداس (‪ )3.13‬ال تعني شيئًا في نظر الحكيم‪ ،‬والمثال الممتد الذي‬
‫ُيختتم به شرح كلمة اإلهانة يركز على اغتيال جايوس قيصر (كاليجوال)‪ ،‬وكالهما‬

‫(‪ ((26‬تختلف حجج القياس المنطقي هنا عن اللعبة المنطقية التي ينتقدها سينيكا في مكان آخر (‪ )e.g., Letter 49.5–6‬كما‬
‫الحظ ‪.Barnes 1997, 18 n. 19. See also Cooper 2006‬‬
‫(‪ ((26‬وضع روللر مناقشة سينيكا في سياق اجتماعي ‪.Roller 2001, 146–54, esp. 151 n. 32‬‬

‫‪203‬‬
‫مستعمل نهم لإلهانات ومفسر معاد لهم (‪.)5-1.18‬‬
‫ويعيد سينيكا في مختتم الرسالة الموضوع‪ ،‬حيث إن ما يتناوله بالفعل هو التحرر‬
‫العقلي‪ ،‬ويفترض استبدال الحرية السياسية باالستقاللية الباطنة المتجذرة في العقل‪،‬‬
‫والحقيقة أن سينيكا يشير اآلن إلى قرائه المعاصرين الذين يعيشون في ظروف المبدأ‬
‫“أولئك الذين ليسوا كاملين‪ ...‬ينبغء أن يضعوا في حالة تأهب‪ ،‬وتعيش نفوسهم بين‬
‫األضرار واإلهانات” (‪ ،)3.19‬وفي الجملة الختامية لهذا العمل ً‬
‫أيضا يشير سينيكا‬
‫باستبدال العمل العام بآخر حيث استبدال الحرية السياسية التقليدية بفكرة كونية‬
‫لمجتمع العقل الذي يشارك فيه البشر واآللهة على حد سواء‪.‬‬

‫الصمود والحكماء‪:‬‬
‫رغم ما قيل أعاله‪ ،‬فإن العنوان الذي ُأضيف الح ًقا «عن صمود الحكيم» ُيعيننا على‬
‫إدراك الخيط الرئيس للعمل‪ ،‬يستخدم سينيكا في كل مكان كلمة صمود ‪constantia‬‬
‫ليصف ثبات السلوك من يوم إلى آخر‪ ،‬أو المثابرة على ما يقره المرء أو يحكم عليه‬
‫مبررا (على سبيل المثال ‪ ،((26()Letters 55.5, 92.3, 120.19–22‬وفي‬
‫دون أن يعطي ً‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا بمفهوم الصمود‬ ‫هذا العمل توكيد بعينه على سمتين للحكيم يرتبطان‬
‫وتماثله مع االصطالح اليوناني كارتيريا ‪ ،karteria‬السمة األولى التحمل ‪patientia‬‬
‫)‪ (2.2‬التي ترتبط في حالة الحكيم بالسمة األخرى وهي رسوخ العقل ‪magnitudo‬‬
‫‪ animi‬أو ‪ magnanimita‬وباليونانية )‪ ،((26( megalopsuchia (1.11‬ووضحت‬
‫هذه المفاهيم من خالل نموذجين مجازيين رئيسين‪ ،‬أحدهما الصالبة وهو في الالتينية‬
‫‪ duritia‬أو ‪ robur‬وكالهما يصور حصانة الحكيم وأثره الديناميكي الهزيل على‬
‫أولئك الذين يهاجمونه‪ ،‬واآلخر هو التقييم الرأسي الذي يجمع االستعارات المكانية‬
‫المختلفة مثل صعود الفضيلة واالرتفاع فوق الحظ والخروج عن متناول المقذوف‬

‫(‪ ((26‬عن نثر سينيكا ودرامته في رسالة صمود الحكيم انظر ‪.Star 2006‬‬
‫(‪ ((26‬عن الصمود وارتباطه بالصبر والعقل الراسخ انظر ‪.Viansino 1988, 66‬‬

‫‪204‬‬
‫وتأمل اآلخرين من نقطة مراقبة هادئة والقرب من الرب‪ ،‬ويتجه الموضوع إلى التحول‬
‫األسلوب ‘الرفيع’ في نثر سينيكا (على سبيل المثال ‪.)4.9‬‬
‫وقد أعانت صورة الحصانة أكثر بتركيز سينيكا على الحكيم بما هو‪ ،‬حيث ال يتعلق‬
‫العمل بالثوابت المجردة بل “التأمل المعقد على طبيعة العقالنية الرواقية”(‪ ،((26‬وقد‬
‫تجسد كالهما في كاتو وستيلبو‪ ،‬وكما رأينا على خلفية النماذج الشعبية (‪Hercules,‬‬
‫ممنوحا‬
‫ً‬ ‫‪ )Ulysses, 2.1‬والتعريفات الفلسفية المجردة‪ ،‬ورغم أن سينيكا يقدم ح ًّقا‬
‫لقارئه وهو يركز على نقطة واحدة ليست هي الحكيم ‪ 3.16‬بل المستقيم ‪،consipiens‬‬
‫والجملة األخيرة في العمل بمثابة تذكير باإلمكانيات الجدلية التي تأتي من معرفة‬
‫وجود الحكيم في زمن ما(‪.((26‬‬
‫إن صورة سينيكا للحكيم الرواقي في هذا العمل ذكورية للغاية‪ ،‬وقد ظهر هذا‬
‫في الجملة األول حيث االختالف بين الرواقيين والفالسفة اآلخرين في مسألة‬
‫الجنس(‪ ،)1.1‬وتجدر اإلشارة إلى أن التوكيد على الرجل لكونه راشدً ا‪ ،‬ويصف‬
‫سينيكا األطفال الخائفين بالظالل واألشياء الوهمية األخرى باعتبار هذا مقارنة لكيف‬
‫يقاد الناس بمجرد (فكرة األلم)؛ ليدركوا أن اإلهانة مثل الضرر(‪ ،)2.5‬وهذا الوصف‬
‫به تلميح إلى لوكريتوس (‪ )On the Nature of Things 2.55–58‬أو كهف أفالطون‪،‬‬
‫ويعزز هذا فهمنا لمسار اإلنسان في الفلسفة الرواقية باعتبار أن تقدم البلوغ محدد‬
‫بكمال طبيعتنا العقلية‪.‬‬
‫إن سيرينوس ومفارقات الحياة الرومانية العامة في السعي لتقديم خطابه كمسار‬
‫نحو تحمل األضرار واإلهانات اليومية للمجتمع الراقي‪ ،‬فهذا العمل به قواسم مشتركة‬
‫برسالة سينيكا “عن الغضب” والمخاطب نوفاتوس ‪ ،Novatus‬ويناقش العمالن‬

‫(‪ Wright 1974, 59 ((26‬العنوان المختصر المناسب بل المضلل لرسالة عن الصمود ربما يدين بشيء لتبني جوستاس‬
‫ليبسوس لعنوان سينيكا لعمله الرواقي الجديد ‪ ،1584( De Constantia‬ويعتمد عمل ليبسوس على مجموعة متنوعة‬
‫من أعمال سينيكا وليس هذا العمل وحده‪.‬‬
‫(‪ ((26‬لمزيد عن مكانة الحكيم عند سينيكا انظر ‪.Inwood 2005, 295–96‬‬

‫‪205‬‬
‫رفض االنتقام والتوكيد على رسوخ العقل‪ ،‬وكالهما ً‬
‫أيضا يعتمد على حكم كاليجوال‬
‫ليبين أطراف الضرر المفترض والمزايا المتكافئة لضبط النفس‪.‬‬
‫كان أنايوس سيرينوس صدي ًقا لسينيكا‪ ،‬أو كما يفترض اسم عائلته أنه قريب لها‪،‬‬
‫وكان موقفة خالل حكم نيرون إن لم يكن في عهود األباطرة السابقين مضللاً لسينيكا‪،‬‬
‫ومعظم الباحثين أرادوا أن يؤرخوا رسالة صمود الحكيم بأنها في منتصف الخمسينيات‬
‫وسابقة على رسالة سكينة العقل‪ ،‬والمخاطب فيها سيرينوس ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهي سابقة على‬
‫رسالة عن التفرغ والمخاطب فيها هو ً‬
‫أيضا(‪ ،((26‬ومنطقهم في رسالة سكينة العقل‬
‫وعن التفرغ هي أن سيرينوس يتحدث عن موقف معظم الرواقيين‪ ،‬في حين يشير‬
‫سيرينوس في هذا العمل إلى دعاوى الرواقيين المشكوك فيها(‪ ،)2.3‬حتى لو كان من‬
‫المحتمل ألاَّ ُينظر إليه باعتباره واحدً ا من األبيقوريين الذين يشير إليهم سينيكا الح ًقا‬
‫في الرسالة (‪ ،)1.16-4.15‬ويقينًا فالصور المتباينة لسيرينوس تدعونا إلى أن نتأمل‬
‫أنه تحول إلى الرواقية‪ -‬وهو الشيء الفعلي الذي يمزح به هنا(‪.)2.3‬‬
‫وقد يدفع سخط سيرينوس إلى حد كبير باستعمال الرواقيين للمتناقضات التي‬
‫يصفها باألمثلة المضادة في ‪ ،1.3‬والحقيقة أن معظم المفارقات التي ذكرها سيرينوس‬
‫هنا قد وثقت في مكان آخر في التراث الرواقي(‪ ((26‬بما فيها التصور الرئيس لهذه‬
‫الرسالة‪ ،‬ويشير بلوتارخ على سبيل المثال إلى دعوى خريسبوس بأن «الحكيم ال ُيظلم‬
‫‪.((27(”adikeisthai‬‬

‫(‪ ((26‬إن معيار التاريخ الوحيد المؤكد الذي ذكره فاليريوس أسياتيكوس بعد وفاته في ‪ 1.18‬الذي يضع العمل لزمن الحق‬
‫على ‪ 47‬م‪ ،‬وهو العام الذي انتحر فيه فاليريوس في حكم كالديوس )‪ ،(Tacitus Annals 11.3.2‬وحول سيرينوس‬
‫والتسلسل الزمني للعمل المرتبط به انظر تذكر سينيكا لموته في ‪ Letter 63.14–15‬ومناقشة جريفين ‪discussion‬‬
‫‪see Griffin 1992, 316–17, 354, 396, 399, 447–48; Williams 2003, 12–15; also Grimal 1953,‬‬
‫‪.13–17, 19‬‬
‫(‪ ((26‬وعن التراث انظر ‪ ،Lee 1953‬وارتباط المتناقضات في عزاء إلى هلفيا لسينيكا التي أظهرها ‪.Williams 2006‬‬
‫(‪ ((27‬انظر بلوتارخ عن المتناقضات الرواقية في ‪ ،1044a‬ولهذه الشذرة والشذرات األخرى التي احتفظت بهذه المتناقضات‬
‫بما فيها ‪ ،(including Seneca On Benefits 2.35.2), see SVF 3:567–81‬وتشمل االصطالحات اليونانية‬
‫المختلفة الظلم ‪ adikia‬والضرر ‪ blabê‬والقذف ‪ diabolê‬والمعاملة القاسية أو القسوة ‪.hubris‬‬

‫‪206‬‬
‫تعرض‬
‫إن ما يزعج سيرينوس هو أن المفارقات الرواقية غال ًبا ما تشوه بالواقع‪ ،‬فكاتو َّ‬
‫حكيما‪ ،‬ويرد سينيكا بأن مناخ الجمهورية المتأخرة‬
‫ً‬ ‫لسوء المعاملة و ُبصق عليه رغم أنه‬
‫مسمما‪ ،‬ومثال ذلك كاليجوال في نهاية العمل حيث انتقلت أجواء‬
‫ً‬ ‫ال يزيد عن كونه‬
‫الجمعية الشعبية الكونتيو ‪ contio‬من المنتدى إلى غرفة الطعام اإلمبراطوري(‪)2.18‬‬
‫وهي تقدم أطبا ًقا جديدة من اإلذالل‪ ،‬واألحرى أن رده هو توضيح حيث إن حججه‬
‫التحليلية مثل غزواته في التهكم تهدف إلى إلقاء الضوء على القيم المضللة وترابطات‬
‫الحياة االجتماعية الرومانية‪ ،‬وليس هناك مفارقة على اإلطالق في عملية الكشف عن‬
‫المفارقة المركزية‪ ،‬ويسعى سينيكا بدوره إلى الكشف عن التناقضات األسوء واألصيلة‬
‫(إن لم تكن مفارقات فنية) في كيفية تقدير الناس لما ال قيمة له‪.‬‬
‫إن أمثلة ستيلبو وكاليجوال التاريخية التي يلجأ إليها سيرينوس يبرهن بها أن‬
‫المفارقات خاطئة‪ ،‬ورغم أن ستيلبو ذاته ينتمي إلى المدرسة الميغارية‪ ،‬وأعماله يمكن‬
‫أن تؤخذ بعموميتها باعتبارها دليلاً على الثقة بالنفس ‪ ،autarkeia‬فإن مثاله هنا(‪6.5‬‬
‫‪ )7.6-‬يجسد المفارقة الرواقية من خالل خروج المغزى على القمة مثل الفاتح‪.‬‬
‫خاصا من الدفاع‪ ،‬يستند إلى بنية تاريخ‬
‫ًّ‬ ‫نوعا‬
‫ومثال كاليجوال (‪ )5-1.18‬يقدم ً‬
‫جوليو كالوديان(‪ ،((27‬وسوف تقودنا حجة سينيكا في العمل إلى توقع أنه حين أهان‬
‫كاليجوال فاليريوس أسياتيكوس ‪ Valerius Asiaticus‬فإن عظم عقل فاليريوس سمح‬
‫له أن يرتفع على اإلهانة ويعيش في سكينة (‪ ،)2.18‬ومن المستغرب أن سينيكا لم‬
‫انطباعا بأن فاليريوس تخلى عن اإلهانة‪،‬‬
‫ً‬ ‫كثيرا في رد فاليريوس إال بقدر ما يعطي‬
‫يطنب ً‬
‫ْ‬
‫وهو يبالغ بإعادة سرد التاريخ ووضع إهانة فاليريوس بجانب اغتيال كاليجوال بقيادة‬
‫لألخرى(‪ ،((27‬وهذا‬‫عقاب ُ‬
‫ٌ‬ ‫جاسيوس شايريا ‪ ،)3.18( Chaerea‬ويبدو أن أحدهما‬
‫أيضا دعوى أن مرتكب الضرر سوف يقابل غريمه عاجلاً أو آجلاً ‪،‬‬
‫يحول القصة نحو ً‬

‫(‪ ((27‬وحول مثال كاليجوال انظر ‪.Wilcox 2008, 466–72; Wright 1974, 63‬‬
‫(‪ ((27‬كما الحظ ‪Matthew Roller has noted (2001, 161–62‬‬

‫‪207‬‬
‫حيث يخرج شخص ما ينتقم لك ً‬
‫أيضا (‪ ،4.17‬وراجع ‪ ،)5.18‬ولكن سينيكا ال يؤيد‬
‫االنتقام بشكل صريح‪ ،‬وسرعان ما يؤكد أن كاليجوال باغتياله قد أصاب نفسه حيث‬
‫ميله المرضي؛ ليرى اإلهانات أينما حل والرد بقسوة (‪ ،)5-4.18‬لذا رغم أن مثال‬
‫كاليجوال يبدأ بتوضيح كيف أن كبح الرجل –فاليريوس‪ -‬قد قيده إال أنه يوضح على‬
‫نحو مكافئ كيف أن الرجل غير المقيد –كاليجوال‪ -‬قد سمح لنفسه أن يهان بما يقوله‬
‫الناس الذين سيقابلهم بعقوبة إيذاء النفس– وهذا ما يعضد من الدرس الرئيس للعمل‪،‬‬
‫ومن الهين أن نشك أن سينيكا نفسه قد استحل اغتيال كاليجوال تبرئ ًة لنفسه‪ ،‬وأما‬
‫اآلخرون الذين تعرضوا لسوء معاملة كاليجوال في حين أنهم أظهروا ضبط النفس‪،‬‬
‫ارتياحا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معارضا لفعل االنتقام‪ ،‬بينما يجد‬ ‫وهو يفعل هذا هنا بطريقة تسمح له أن يبقى‬
‫في نتائجه (‪.((27‬‬

‫(‪ ((27‬يالحظ جريفين ‪“ Griffin 1992‬ربما كان مثال كالوديوس هنا إشارة معاملة سينيكا المهينة ودوره المجهول عام ‪،41‬‬
‫ولكن سينيكا ال يخرج عن طريقه لتنويرنا بذكر السير‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫ليس عدلاً من جانبي يا سيرينوس ‪ Serenus‬أن أقول إن هناك تباينًا ً‬
‫كبيرا بين‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫الرواقيين وبقية الذين يطلبون الحكمة ويفرقون بها بين اإلناث والذكور‪،‬‬
‫وكالهما يسهم في الحياة المجتمعية بمقدار متسا ٍو‪ ،‬ولكن ُولد أحدهما‬
‫عالجا لطي ًفا ومعتدلاً كاألطباء حين‬
‫ً‬ ‫ليمتثل واآلخر ليأمر‪ ،‬ويمنح الحكماء‬
‫يصاحبون المرضى الذين يعالجون أجسادهم أو حين يترددون على منزلهم‬
‫نفسه‪ ،‬وهم ال يعاملوهم بطريقة جدية فضلى إال بقدر ما يسمحون‪ ،‬وقد سار‬
‫الرواقيون على مسار اإلنسان‪ ،‬ولم تهتم الرواقية بأن تكون ماتع ًة َ‬
‫لمن يدخل‬
‫عليها‪ ،‬وباألحرى اهتمت بالطريق الذي قد يكشف لنا بقدر الممكن‪ ،‬وترشدنا‬
‫إلى ربوة عالية ترتفع بعيدً ا عن متناول مقذوف الحظ‪.‬‬

‫“ولكن الطريق الذي نطلبه وعر وشاق‪ ،‬هل هذا ح ًّقا؟ وهل يمكن الوصول‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫وعرا كما يعتقد بعض الناس‪ ،‬والجزء‬ ‫لألعالي بطريق ُمعبد؟ ليس الطريق ً‬
‫األول منه فيه صخور ومنحدرات ويبدو مستحيلاً ‪ ،‬فهو كما نطالع األشياء‬
‫من بعيد تبدو مكسورة‪ ،‬أو تتداخل حيث يخدعنا نظرنا بسبب المسافة‪ ،‬ولكن‬
‫تدريجيا‪ ،‬وخلف هذه النقطة تبدو‬
‫ًّ‬ ‫حين نقترب تتكوم أخطاء أعيننا وتتالشى‬
‫األشياء البعيدة وعرة وقد تنخفض إلى ميل هين‪.‬‬

‫أعربت‬
‫َ‬ ‫وحين ذكر حدث قد فعله ماركوس كاتو(‪ ((27‬في اآلونة األخيرة‪،‬‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫عن الغضب (كما أنك ال تتسامح مع الظلم)‪ ،‬وأن عصر كاتو لم تقدره تما ًما‬

‫(‪ ((27‬كاتو األصغر (‪46-95‬ق‪.‬م)‪ ،‬ولذكر كاتو عند سينيكا انظر هامش ‪.On Providence 2.9‬‬

‫‪209‬‬
‫رغم أنه تجاوز بومبي والقيصر‪ ،‬وصنفه عصره أدنى من أمثال فاتينيوس‬
‫ً‬
‫فاحشا حين كان يستعد لمعارضة القانون‪،‬‬ ‫‪ ((27( Vatinius‬ويبدو لك كاتو‬
‫مدفوعا بأيدي عصبة محرضين على‬
‫ً‬ ‫ومزق تاجه ‪ toga‬في المحكمة‪ ،‬وكان‬
‫طول الخط بداية من روسترا حتى قنطرة فابيان ‪ ،Fabian arch‬وقد تحمل‬
‫اإلساءات اللفظية والبصق وكل الشتائم األخرى من الحشد المسعور‪.‬‬

‫سبب لتنزعج نيابة عن الجمهورية التي‬


‫ٌ‬ ‫وفي الوقت نفسه أجبت أنه لديك‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫طرحها بوبليوس كلوديوس للبيع من ناحية ‪،((27( Publius Clodius‬‬
‫وفاتينيوس والشامتون من ناحية أخرى‪ ،‬وهؤالء الرجال نكصوا على عقبيهم‬
‫برغبة عمياء؛ ألنهم لم يدركوا أنهم حين كانوا يبيعون الجمهورية كانوا‬
‫أيضا‪ ،‬وأما بالنسبة لكاتو فقد أخبرتك لم يكن قل ًقا؛‬
‫يعرضون أنفسهم للبيع ً‬
‫ألنني قلت إن الحكيم ال يصيبه ُض ٌّر وال إهانة‪ ،‬ولقد وهبتنا األرباب الخالدة‬
‫كاتو مثالاً قو ًّيا للرجل الحكيم كما منحت العصور السالفة أوليسوس‬
‫‪ Ulysses‬وهيروكليس ‪ ،Hercules‬ورفقاؤنا الرواقيون كانوا حكماء لم‬
‫يهزمهم الكد‪ ،‬ولم تزعجهم اللذة‪ ،‬وانتصروا على كل صنوف الخوف(‪.((27‬‬

‫ولم يمض كاتو من جنب إلى آخر يصارع الوحوش التي يتتبعها الصيادون‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫وسكان البلدة‪ ،‬ولم يطارد المسوخ بالنار والحديد‪ ،‬ولم يحدث أن عاش في‬
‫زمن يعتقد فيه أن السماء ترتكز على كتفي رجل بعينه‪ ،‬وقد تخلخلت تما ًما‬
‫عفوية السالفين اآلن‪ ،‬وانتهى بنا الزمن إلى آفاق جديدة من الدهاء‪ ،‬وقاتل‬

‫(‪ ((27‬هزم فاتينيوس ‪ P. Vatinius‬كاتو في انتخاب البرايتور عام ‪ ،55‬وهذا ما يدور في عقل سيرينوس كما هو واضح فى‬
‫‪ 3.2‬أدناه وفي ‪.)On Providence 3.14; Letters 118.4‬‬
‫(‪ ((27‬كالوديوس بولشر ‪ P. Clodius Pulcher d. 52‬هو أحد خصوم شيشرون‪ ،‬وأصبح رمزً ا للفساد السياسي‪ ،‬وعنف‬
‫الرعاع في الخمسينيات‪.‬‬
‫أخالقيا بجانب ريجولوس وكاتو في رسالة سكينة العقل ‪On Tranquility of Mind‬‬‫ًّ‬ ‫لاً‬ ‫(‪ ((27‬يقدم سينيكا هيروكليس مثا‬
‫عرضيا في أوليسوس (أوديسيوس) وخاصة في )‪.Letters (e.g., 88.7‬‬
‫ًّ‬ ‫لاً‬ ‫مثا‬ ‫ويظهر‬ ‫التراجيديات‪،‬‬ ‫‪16.4‬وهو موجود في كل‬

‫‪210‬‬
‫كاتو ضد الطموح‪ ،‬والفحش الذي جاء بأشكال عدة‪ ،‬والشهوة غير المقيدة‬
‫للسلطة التي قسمت العالم كله إلى ثالثة‪ ،‬ولم تكن مرضية(‪ ،((27‬ووقف‬
‫وحيدً ا ضد رذائل مدينة ُمنحلة تهتز تحت ثقلها‪ ،‬وظل ً‬
‫قابضا على الجمهورية‬
‫الساقطة كما لو كان يمكن عودتها بيد واحدة فحسب‪ ،‬وفي نهاية المطاف فقد‬
‫قبضته وقدم نفسه كرفيق للفساد الذي ماطله طويلاً ‪ ،‬وقد أخمد اثنين منهم‬
‫معا‪( ،‬وكان بالمقدور أن تحدث إهانة ال يمكن تصورها لفصلهما)؛ ألن كاتو‬
‫ً‬
‫لم ينتهك الحرية ولم تنتهك الحرية كاتو‪.‬‬

‫ضر من قبل الناس‪ ،‬ألنهم أخذوا الحكم‬


‫هل تعتقد أنه قد يصيب هذا الرجل ٌّ‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫أو تاجه أو ألنهم شوهوا هذا الزعيم المقدس بوسخ أفواههم؟ إن الرجل‬
‫الحكيم سالم غانم‪ ،‬وال يتأثر بأذى أو بإهانة‪.‬‬

‫ويبدو لي أنني أرى عقلك يشتاط ويغلي‪ ،‬وأنت على وشك البكاء‪« ،‬وهذه‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫تأخذ النفوذ بعيدً ا عن تعاليم مدرستك‪ ،‬أنت َمن وعدت الناس فوق ما يتمنون‪،‬‬
‫فدعهم يعتقدون فحسب(‪ ،((27‬ومن ثم على بيانك بعد قول إن الحكيم ليس‬
‫فقيرا وال مجنو ًنا‪ ،‬وال تنكر أنه يفتقر عادة للعبد المأوى والطعام‪ ،‬وال تنكر‬
‫ً‬
‫أنه يرحل عن نفسه ويتلفظ بكلمات التعقل القليلة‪ ،‬ويجرؤ على الفعل مهما‬
‫كانت تجبره قوة مرضه على القيام به(‪ ،((28‬وبعد قول إن الحكيم ليس عبدً ا‪،‬‬
‫فال تنازع أنك سوف تطرحه للبيع‪ ،‬وأنك ستفعل ما ُتؤمر وستؤدي واجب‬
‫العبودية لسيدك‪ ،‬ولذا حين شنفت أنفك في الهواء نزلت لنفس مستوى‬
‫اآلخرين وهم يغيرون بسذاجة أسماء األشياء‪.‬‬

‫وعظيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫أظن أن هناك شيئًا مماثلاً في هذا‪ ،‬حيث يبدو للوهلة األولى جميلاً‬ ‫‪ 2-3‬‬

‫(‪ ((27‬على سبيل المثال الحكومة الثالثية األولى في الخمسينيات بالسلطة المشتركة بين قيصر وبومبي وكراسوس‪.‬‬
‫(‪ ((27‬حول مفارقات الرواقية انظر مقدمتي للرسالة‪.‬‬
‫(‪ ((28‬ربما يشير الموقف إلى مرور الحكيم بفقد مؤقت لالعتدال وسالمة العقل‪ ،‬كما هو الحال في سكر كاتو في رسالة‬
‫سكينة العقل ‪ ،On Tranquility of Mind 17.4‬وحول السكر انظر ‪.Letters 83.9–27‬‬

‫‪211‬‬
‫فالحكيم ال يتلقى إساءة وال إهانة‪ ،‬وما يصنع الفارق الكبير إذا ما كنت تضع‬
‫الحكيم وراء اإلساءة أو اإلهانة‪ ،‬وإن قلت إنه سيتحملها بعقل هادئ فليس‬
‫ً‬
‫مشتركا وال يمكن تعلمه إال بالتعرض‬ ‫خاصا‪ ،‬فإنه يمتلك شيئًا‬
‫ًّ‬ ‫وضعا‬
‫ً‬ ‫هذا‬
‫لإلساءة بشكل متكرر‪ ،‬أعني يتحمله‪ ،‬وإن قلت ال يتلقى إساءة فإنه يحاول أال‬
‫رواقيا!‬
‫ًّ‬ ‫تصيبه‪ ،‬وأنا أتخلى عن كل ما يشغلني وأصير‬

‫ح ًّقا‪ ،‬ليس قصدي أن ُأزين الحكيم بتأليف كلمات شرف وهمية‪ ،‬بل حتى‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫فمن الذي يحكم‬
‫موضعا ال ُيساء له فيه‪« ،‬ماذا؟ لن يوجد أحد يتحداه‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫أضعه‬
‫ً‬
‫انتهاكا لقدسيته‪ ،‬ولكن‬ ‫عليه؟»‪ ،‬وال شيء مقدس في طبيعة العالم ال يواجه‬
‫األمور الربانية ال يقل سموها ألنها موجودة في هؤالء‪ ،‬مع أنهم لن يلمسوا‬
‫العظمة التي تقبع خلفها رغم أنها تهاجمها‪ ،‬وليس الشيء المضروب هو‬
‫المحزن ولكن الذي لم يضر‪ ،‬وهذا ما يميز الحكيم الذي أقدمه لك‪.‬‬
‫ٌ‬
‫خالف على أن الثبات يزيد اليقين إن لم يكن مهزو ًما‬ ‫من المؤكد أنه ليس هناك‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫وبالحري ليس متحد ًيا‪ ،‬فالقوة التي ال ُتختبر تفتح باب الشك‪ ،‬في حين يحكم‬
‫على صمود اليقين بصد كل هجوم؟ وبنفس الطريقة ينبغي أن تعرف أن‬
‫الطبيعة الفضلى للحكيم إن لم يصبه إساءة أحرى من أن تصيبه على نحو‬
‫ٍ‬
‫رديء‪ ،‬وأقول إن الرجل الشجاع الذي ال تهزمه الحروب‪ ،‬والذي ال يشعر‬
‫ٍ‬
‫أناس‬ ‫مستسلما للقدر بين‬
‫ً‬ ‫بالخوف من اقتراب قوة العدو‪ ،‬وليس َمن يعيش‬
‫خاملين‪.‬‬

‫ومع هذا أقول إن الحكيم ليس عرضة لإلساءة‪ ،‬ولذا ال يهم كم القذائف التي‬ ‫‪ 5-3‬‬
‫ُيلقى بها؛ ألن ال شيء يمكن أن يخترقه‪ ،‬كما ال يمكن خرق الصخور الصلبة‬
‫بالحديد‪ ،‬وال يمكن قطعها أو سحقها أو طحنها‪ ،‬بل يتكسر حد األشياء التي‬
‫ترطمها‪ ،‬كما أن هناك أشياء بعينها ال يمكن استهالكها بالنار‪ ،‬حتى حين نوقد‬
‫النار عليها تحتفظ بمتانتها وشكلها‪ ،‬كما أن صخور بعينها تبرز وتخرق البحر‬
‫‪212‬‬
‫وال يظهر أي أثر لوعورتها رغم تعرضها لالنتهاك على مر العصور‪ ،‬وعقل‬
‫الحكيم مثل هذه الصالبة‪ ،‬وقد اكتسب مثل هذه القوة التي تأمن الخلل مثل‬
‫األشياء التي رويتها‪.‬‬

‫«وماذا؟ وهل هناك امرؤ يحاول أن يؤذي الحكيم؟ إنه يحاول‪ ،‬ولكن األذى‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫لن يصل إليه‪ ،‬والحكيم ينأى عن االتصال باألشياء الدنيئة حتى ال يحمل‬
‫قوتها المؤذية على طول الطريق‪ ،‬وحتى حين يسعى األقوياء ليلحقوا به ضررا‬
‫يرأفون بقوتهم ويحتفظون بها‪ ،‬وهجومهم سوف يسقط كل شيء إال الحكمة‬
‫كأشياء تطلق من قلوع وأقواس حتى لو طارت بعيدً ا َّ‬
‫عما تراه العين ترتد‬
‫ساقطة قبل أن تصل إلى السماء‪.‬‬

‫وماذا؟ هل تفكر في الحادثة حين أظلم الملك األحمق النهار بقذائف كثيرة‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫أي ما يشبه السهم يصيب به الشمس أو لمس اإلله نيبتون ‪ Neptune‬برمي‬
‫السالسل في قاع البحر(‪((28‬؟ وكما أن األجرام السماوية تملص أيادي‬
‫البشر‪ ،‬وكما أن الذين يهدمون المعابد ويحطمون التماثيل ال يضرون األلوهية‬
‫بشيء‪ ،‬فكذلك ال يهم الشيء المخزي واألرعن والمتغطرس الذي ُيفعل ضد‬
‫الحكيم‪ ،‬فالمحاولة عابثة‪.‬‬

‫ومن ثم كان من األفضل ألاَّ يرغب في فعل هذا"‪ ،‬أنت تتمنى شيئًا صع ًبا‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫لجنس البشر‪ ،‬وهو البراءة‪ ،‬وعالوة على هذا ال ينبغي أن ُيفعل هذا في إطار‬
‫مصلحة َمن يفعلونه وال في إطار َمن يمكن أن يتحمل حتى لو قام به‪ ،‬وأظن أن‬
‫السكينة وسط الضجيج تقدم ً‬
‫عرضا أفضل لقوة الحكمة‪ ،‬كما أن أعظم برهان‬
‫ومتحررا من القلق في أرض‬
‫ً‬ ‫لقوة الجنرال في العتاد والرجال أن يكون آمنًا‬
‫العدو‪.‬‬

‫(‪ ((28‬أعمال الملك زركسيس أثناء الحروب الفارسية‬

‫‪213‬‬
‫ودعنا نميز يا سيرينوس بين الضرر واإلهانة‪ ،‬فاألول خطره وخيم بطبيعته‪،‬‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫والثاني خطره أخف‪ ،‬وخطره الوحيد على المدللين‪ ،‬فهم ال يضرون به بل‬
‫يستاؤون منه‪ ،‬ولكن هذا ضعف وغرور عقول أناس تفكيرهم ليس مؤذ ًيا‪،‬‬
‫وهكذا سوف ترى العبد الذي ُي ِّ‬
‫فضل أن يكون مجلو ًدا على أن يكون مربوط‬
‫األذنين‪ ،‬الذي يعتقد أن الموت والضرب مقبول على تحمل اإلهانة بالكلمات‪.‬‬

‫لقد وصلنا إلى منتهى التفاهة‪ ،‬وهي ألاَّ يكدرنا األلم بل التفكير فيه مثل‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫األطفال الذين يخافون الظل وأقنعة األشباح‪ ،‬الذين ينهمرون في الدموع‬
‫لسماع أسماء بغيضة وإيماءات أصابع وأشياء أخرى يحاولون الفرار منها؛‬
‫لجهلهم بها فتدفعهم للتفكير الخاطئ‪.‬‬

‫إن القصد من األذى هو ما يلي‪ ،‬تأثر المرء بالسوء‪ ،‬ولكن الحكمة لم تدع‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫موضعا للسيئ‪ ،‬حيث إن الحكمة الوحيدة للسيئ هي الخجل‪ ،‬والذي ال‬
‫ً‬
‫يمكن أن يدخل حيث تكون الفضيلة والخير األخالقي‪ ،‬إذنْ ال يوجد أذى دون‬
‫سوء وال شيء سيئًا باستثناء ما يكون مخجلاً ‪ ،‬وال يصل الخجل المرئ يرتبط‬
‫بأمور الخير األخالقي‪ ،‬وال يصل األذى إلى الحكيم‪ ،‬وإذا كان األذى معاناة‬
‫ً‬
‫منشأ سيئًا‪ ،‬وال يتناسب األذى مع الحكيم‪.‬‬ ‫منشئ سيئ فإن الحكيم ال يعاني‬

‫وكل أذى نقص فيمن يهاجم‪ ،‬وال يتلقى أحدٌ أذى دون أن يضر بحاله أو بجسده‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫أو األشياء خارجه‪ ،‬ولكن الحكيم ال يخسر شيئًا؛ ألنه وضع كل األشياء في‬
‫خيرا على أرض صلبة قوامه‬
‫نفسه‪ ،‬ولم يضع شيئًا في إدارة الحظ‪ ،‬وقد حاز ً‬
‫الفضيلة‪ ،‬وليس في حاجة إلى أشياء الحظ فال يزيد وال ينقص؛ ألن األشياء‬
‫ٍ‬
‫حالة إلى أقصى مدى‪ ،‬وال مكان للزيادة فيه‪ ،‬وال ينتزع الحظ شيئًا‬ ‫وصلت في‬
‫إلاَّ ما أعطاه‪ ،‬وال يعطي الحظ فضيلة وبالتالي ال يأخذها‪ ،‬والفضيلة حرة ال‬
‫تنتهك وال تنمحي وال تتذبذب‪ ،‬وبالتالي فهي عصية أمام أحداث الصدفة التي‬
‫ال يمكن أن تلويها ناهيك عن هزيمتها‪ ،‬ويبقى نمطها ثابتًا وهي تتفرس مكائد‬
‫‪214‬‬
‫الزلل‪ ،‬سواء أجاءت من الشقاء أم من السعادة‪.‬‬

‫وهو ال يرغب؛ ألن ما يرغب فيه قد يفقده‪ ،‬إنه ملك الفضيلة فحسب وال‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫يستغني عنها‪ ،‬وأما األشياء األخرى التي يستعملها كما لو كانت على سبيل‬
‫فمن الذي يستاء مما ليس له؟ وال يطول األذى األشياء التي يمتلكها‬
‫اإلعارة؟ َ‬
‫الحكيم؛ ألن أشياءه آمنه بأمان الفضيلة‪ ،‬ومن ثم ال يصيب الحكيم أذى‪.‬‬

‫قبض ديمتريوس على ميجارا ‪ Megara‬الذي أطلق عليه بوليوركيتيس (مثال‬ ‫‪ 6-5‬‬
‫عم إذا كان قد فقد شيئًا؟ فقال‪:‬‬
‫المدن)‪ ،‬وسأل الفيلسوف ستيلبو ديمتريوس َّ‬
‫“ال شيء‪ ،‬كل أشيائي معي”(‪ .((28‬وقد ُنهب ُملكه ُ‬
‫وسبيت بناته‪ ،‬وهيمن‬
‫العدو على وطنه‪ ،‬وقد جره الملك المزعوم الستجوابه بالسالح‪.‬‬

‫ومع ذلك انتزع ستيلبو انتصار الرجل منه بشهادة أنه رغم غزو مدينته إلاَّ أنه لم‬ ‫‪ 7-5‬‬
‫خيرا ح ًّقا ال يدعيه‪ ،‬وأما األشياء التي انتُزعت والتي‬
‫ُيهزم ولم ُيهدم؛ ألنه ملك ً‬
‫تنتقل من يد إلى يد قد حكم بأنها ليست له‪ ،‬وباألحرى هي أشياء تغدو وتروح‬
‫في دعوة الحظ‪ ،‬ولذا كان يتمتع بها وكأنه ال يملكها؛ ألن تملك األشياء التي‬
‫ٌ‬
‫وانزالق‪.‬‬ ‫ريب‬
‫تتدفق من الخارج ٌ‬
‫واآلن تأمل ما إذا كان اللص وسيئ السمعة والجار الوقح أو بعض األثرياء‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫ً‬
‫ملوكا على فاقة ستيلبو ويمكن أن يصيبوه‪ ،‬فال يمكن‬ ‫الذين يصنعون أنفسهم‬
‫أن تنتزع منه الحرب والعدو والخبير في السطو على الفنون الجميلة للمدن‬
‫شيئًا!‬

‫ووسط وميض السيوف في كل مكان‪ ،‬وضجيج نهب الجنود‪ ،‬ووسط اللهيب‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫والدم والمذابح التي اجتاحت المدينة‪ ،‬ووسط تحطم المعابد التي تسقط‬

‫(‪ ((28‬ديمتريوس ‪ Demetrius (336–283 bce‬هو ابن أنتيجونس ‪ Antigonus‬ملك مقدونيا‪ ،‬وستيلبو –‪Stilpo (ca. 370‬‬
‫)‪ 290 bce‬وهو ينتسب للمدرسة الميجارية التي بدأت بإقليدس الميجاري ‪ Euclides of Megara‬تلميذ سقراط‪،‬‬
‫وتؤكد أخالقياتهم من بين األمور األخرى رضى النفس‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫على أربابها‪ ،‬رجل واحد هو الذي في سالم‪ .‬وليس من سبب لديك لتعتقد أن‬
‫في‪ ،‬فإني أضمن أن أعطيك‪ ،‬وألنك‬
‫وعدي مغامرة‪ ،‬ورغم أنك ال تثق تما ًما َّ‬
‫قد تشك في أن هذا حمل ثقيل أو هذه عظمة للعقل‪ ،‬إال أنه يمكن أن يكون‬
‫حاضرا في اإلنسان‪ ،‬ولكن يصعد من بيننا أحد يقول(‪:((28‬‬
‫ً‬
‫"ليس لديك سبب لترتاب من أن َمن يولد إنسا ًنا يمكن أن يرتقي بنفسه فوق‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫األمور اإلنسانية‪ ،‬ويمكن أن ينظر دون قلق على األحزان والفقدان والقروح‬
‫والجروح والكوارث العظمى التي تحوط به‪ ،‬ويمكن أن يتحمل الشقاء بتؤدة‬
‫ورضى‪ ،‬وال يحن لما مضى وال يستند على ما يأتى‪ ،‬واألحرى أن ُيبقي الذات‬
‫وسط األحداث الشتى‪ ،‬وال يفكر في شيء إال نفسه‪.‬‬

‫حضرت؛ ألبرهن لك أن تحت هذا األمر المدمر لكثير من المدن‬


‫ُ‬ ‫وانظر لقد‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫الحصينة التي تهتز بضربة ساحقة‪ ،‬وأن األبراج الشاهقة قد تقوضها األنفاق‬
‫والخنادق السرية فتسقط فجأة‪ ،‬وكذلك التل الذي يرتفع ويضاهي طوله‬
‫القالع‪ ،‬ال ُيعثر على آلة يمكن أن تزعزع العقل الراسخ‪.‬‬

‫وزحفت اآلن من أنقاض بيتي‪ ،‬والنيران المستعرة من حولي‪ ،‬وهربت من‬ ‫‪ 5-6‬‬
‫النيران خالل سيول من الدم‪ ،‬وال أعلم إن كان قدر بناتث أسوأ من القدر العام‬
‫أم ال‪ ،‬والعجوز وأنا وأرى العدو حولي فقط‪ ،‬ولم أعلن أن ممتلكاتي سليمة‬
‫ولم تضر‪ ،‬فما هو لي هو لي‪ ،‬فأنا أملك وأ ُبقي لنفسي‪.‬‬

‫ال تعتقد أنني َمغزى وأنت الفاتح‪ ،‬وأن حظك غزا حظي‪ ،‬وأما أماكن هذه‬ ‫‪ 6-6‬‬
‫األشياء العابرة التي يغيرها السادة ال أعلمه‪ ،‬وأما أشيائي التي تهمني فهي معي‬
‫وستظل معي‪.‬‬

‫وقد فقد أدعياء الثروة ممتلكاتهم‪ ،‬وفقد الشهوانيون عشيقاتهم وعاهراتهم‬ ‫‪ 7-6‬‬

‫(‪ ((28‬ال يزال ستيلبو‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫وح مقعده في‬ ‫المفضالت بعد أن أنفقوا في العار تكلفة كبيرة‪ ،‬وقد فقد َّ‬
‫الط َم َ‬
‫مجلس الشيوخ والمحكمة واألماكن المحددة لممارسة الرذيلة في األماكن‬
‫العامة‪ ،‬وقد فقد المقرضون دفاترهم في بخل يهلوس ببهجة في الثروة‪ ،‬أما‬
‫بالنسبة لي فقد ملكت كل شيء كامل وغير منقوص‪ ،‬فامض واسأل هؤالء‬
‫الذين يبكون ويرثون‪ ،‬والذين يلقون أجسادهم العارية أمام السيوف المسلولة‬
‫دفاعا عن أموالهم‪ ،‬والذين يفرون من العدو ويجرون جعابهم بوزنها الثقيل‪.‬‬
‫ً‬

‫هذا هو الطريق يا سيرينوس؛ عليك أن تفهم كيف أن اإلنسان الكامل وكمال‬ ‫‪ 8-6‬‬
‫الفضائل البشرىة واإللهية ال تعاني ف ْقد شيء‪ ،‬وأن بضاعتهم بحصون صلبة ال‬
‫يمكن اقتحامها‪ ،‬وال يمكن أن تقارن هذه الحصون بحصون بابل التي دخلها‬
‫اإلسكندر‪ ،‬وليست هي حصون قرطاجة أو نيمانتيا ‪ Numantia‬التي غزاها‬
‫بيد واحدة‪ ،‬وليست هي القلعة أو الكابتول الروماني‪ ،‬وتلك التي تحمل آثار‬
‫العدو‪ ،‬وهذه الحصون تحمي الحكيم وتأمنه من اللهب والتسلل‪ ،‬وال تتخلل‬
‫فيه سبيلاً ؛ ألنها شامحة وليست عرضة للعواصف‪ ،‬وتتساوى مع األرباب‪.‬‬

‫ال يمكن أن تقول ‪-‬كما تفعل غال ًبا‪ -‬إن حكيمنا هذا ال يوجد في ٍ‬
‫أين‪ ،‬نحن ال‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫ً‬
‫فارغا لطبيعة البشر أو نبتدع صورة ضخمة لشيء كاذب‪ ،‬واألحرى‬ ‫نصنع مثالاً‬
‫أننا أنتجنا وسوف ننتج واحدً ا كما صممنا‪ ،‬ربما يندر وجوده حتى بعد فترات‬
‫زمنية كبيرة‪ ،‬إال أن األشياء العظيمة تتجاوز التدبير الشائع والعادي وقد ال‬
‫ُتولد غال ًبا‪ ،‬وأشعر بالهلع من االعتقاد بأن ماركوس كاتو من الذين يضاهون‬
‫هذا الحكيم وربما يتجاوز نموذجنا‪.‬‬

‫وفي نهاية المطاف فإن األشياء الضارة أقوى من األشياء التي ُيلحق بها‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫الضرر‪ ،‬وليس األذى أقوى من الفضيلة‪ ،‬ولذا الحكيم ال ُيضر‪ ،‬وليس األذى‬
‫محاولة ضد الخير باستثناء ما يأتي من قبل األشرار‪ ،‬فاألخيار فيما بينهم في‬
‫سالم‪ ،‬في حين يحقد األشرار على األخيار كما يفعلون فيما بينهم‪ ،‬ولكن‬
‫‪217‬‬
‫إذا كان األضعف بمقدوره الضرر والمرء السيئ أضعف من الخير‪ ،‬والشيء‬
‫الخير ال يخشى الضرر إال من امرئ ال يكافئه‪ ،‬لذا فإن الحكيم ال يمسه أذى‪،‬‬
‫وأنت لست في حاجة ألذكرك بأن ال أحد خ ِّي ًرا سوى الحكيم‪.‬‬

‫وهو يقول‪“ :‬إذا كان سقراط قد ُأدين ً‬


‫ظلما وقد تلقى األذى”‪ ،‬نحن بحاجة‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫إلى أن نفهم أن هذه الحالة يمكن أن تكون لشخص قد أصابني بضرر ولم‬
‫أتل َّقه‪ ،‬كما هو الحال حين يضع امرؤ شيئًا في منزل بمدينتي وقد أخذ من‬
‫قصرا‪ ،‬لقد ارتكب السرقة ولكنني لم أفقد شيئًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وطني خلسة‬

‫مضرا حتى لو لم يضر‪ ،‬وإن نام مع زوجته يفكر‬


‫ًّ‬ ‫بعض الناس يمكن أن يكون‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫في أنها زوجة رجل آخر‪ ،‬وسيكون زان ًيا ومع ذلك ليست هي زانية‪ ،‬وبعض‬
‫سما‪ ،‬ولكن السم فقد قوته حين اختلط بالطعام‪ ،‬وقد صنع من‬
‫الناس أعطاني ًّ‬
‫لصا إذا‬
‫نفسه مجر ًما بتجرعي للسم حتى لو لم يضر‪ ،‬وال يقل اللص عن كونه ًّ‬
‫أعاق سالحه حزام مالبسه‪ ،‬وفيما يتعلق بالذنب فإن كل الجرائم قد تكتمل‬
‫حتى قبل نتيجة الفعل‪.‬‬

‫معا بنفس طريقة أن (أ) يمكن أن يكون من دون‬


‫وأشياء بعينها بطبيعتها ترتبط ً‬ ‫‪ 5-7‬‬
‫(ب)‪ ،‬ولكن (ب) ال يمكن أن يكون من دون (أ)‪ ،‬وسوف أحاول أن أوضح‬
‫لك ما أعني‪ ،‬فبإمكاني أن أحرك قدمي دون أن أجري‪ ،‬ولكن ال يمكن أن‬
‫أجري دون أن أحرك قدمي‪ ،‬وبإمكاني رغم وجودي في الماء ال أسبح‪ ،‬ولكن‬
‫إذا سبحت فال يمكن أن أكون إلاَّ في الماء‪.‬‬

‫ضررا‬
‫ً‬ ‫والشيء الذي نتعامل معه في إطار هذه المقولة أيضا‪ ،‬فإذا تلقيت‬ ‫‪ 6-7‬‬
‫فبالضرورة قد ُفعل‪ ،‬وإن ُفعل فليس بالضرورة تم تلقيه‪ ،‬وكثير من األشياء‬
‫تحدث ونتفادى فيها الضرر‪ ،‬وقد تقرع بعض األحداث الصدفة بعيدً ا عن‬
‫اليد الممدودة أو تحول القذائف التي ُتطلق‪ ،‬وهكذا يمكن للشيء أن يصد‬
‫األضرار بغض النظر عن نوعها‪ ،‬ويمكن اعتراضها في منتصف الطريق‪،‬‬
‫‪218‬‬
‫ولذلك قد ُتفعل األضرار ولكن ال يتم تلقيها‪.‬‬

‫وإضافة إلى هذا ال يمكن للعدالة أن تعاني ُظ ً‬


‫لما؛ ألن األضداد ال تجتمع‪،‬‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫والضرر ال يحدث إال بشكل ظلم‪ ،‬ولذلك ال يمكن أن يحدث ضرر للحكيم‬
‫وال تتفاجئ إن لم يستطع أحدٌ ضرره(‪ !،((28‬والحقيقة أن الحكيم ال يفتقر‬
‫إلى شيء حتى يتلقاه على أساس الهبة‪ ،‬وعلى حد سواء ال يقدم السيئ شيئًا‬
‫يستحق للحكيم؛ ألنه يحتاج لما يمكن أن ُيعطيه‪ ،‬وليس لديه شيء ُيفرح‬
‫الحكيم حين ُيمرره عليه‪.‬‬

‫وليس بمقدور أحد أن يضر الحكيم أو ينفعه‪ ،‬حيث إن األمور الربانية ال‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫تحتاج إلى عون وليس بالمقدور اإلضرار بها‪ ،‬ويوجد الحكيم كجار مجاور‬
‫لألرباب‪ ،‬وهو شبيه بالرب إال في أخالقياته‪ ،‬وهو يكافح ساع ًيا نحو األمور‬
‫السامية والمحكمة والجسورة التي تتدفق من مسار متسا ٍو ومنسجم متحر ٍر‬
‫ٍ‬
‫وصاف لنفسه ولآلخرين‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬
‫وموجود ألجل الخير العام‪،‬‬ ‫من القلق والنوع‪،‬‬
‫يرغب في الدنية‪ ،‬وال يدمع على شيء‪.‬‬

‫‪َ 3-8‬من يعتمد على عقله ليدعمه ويدخل في أحداث البشر بعقل رباني‪ ،‬ال يمكن‬
‫أن يتلقى أذى في أي ٍ‬
‫أين‪ ،‬هل تعتقد أنني أقصد الضرر من البشر فحسب؟‬
‫وال حتى من الحظ‪ ،‬فحين يقبل الحظ للقتال مع الفضيلة فإنه ال يسير بعيدً ا‬
‫وصاف أكبر األشياء على اإلطالق التي‬‫ٍ‬ ‫عن موازاتها‪ ،‬ولو تلقينا بعقل هادئ‬
‫تتجاوز األوامر الغاضبة وقسوة السادة‪ ،‬فال شيء يهددنا يستعمل الحظ نفوذه‬
‫ضرا‪ ،‬فسوف‬ ‫أمرا سيئًا‪ ،‬وهو هكذا ليس ًّ‬
‫فيه‪ ،‬وإذا علمنا أن الموت ليس ً‬
‫نتسامح مع األمور األخرى مثل الفقد والحزن وتلوث السمعة وتغير المناخ‬
‫ووفاة األقارب ُ‬
‫والفرقة‪ ،‬وهذه األشياء ال تغمر الحكيم وال تطوقه‪ ،‬وهو يقلل‬
‫حزنه على انقضاضاتهم الفردية‪ ،‬وإذا تحمل أذى الحظ باعتدال‪ ،‬فكم سيزيد‬

‫(‪ ((28‬مفارقة رواقية أخرى‪“ :‬ال يتحرك الحكيم باالمتنان مطل ًقا” )‪.(cf. Cicero On Behalf of Murena 61‬‬

‫‪219‬‬
‫ما يتحمله من البشر‪ ،‬وهو يعلم أنهم في أيادي الحظ!‬

‫وطقسا رديئًا في‬


‫ً‬ ‫مخدرا‬
‫ً‬ ‫وهكذا يتحمل كل األمور كما لو يتحمل شتاء‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫السماوات‪ ،‬وكما يتحمل الحمى واألمراض واألمور األخرى التي تحدث‬
‫بالصدفة‪ ،‬وال يضع في باله أحدً ا يعتقد أنه فعل شيئًا عمدً ا ضده‪ ،‬وهذا ما‬
‫ينسب للحكيم وحده‪ ،‬وكل الناس اآلخرين ال يتشاركون في الروية‪ ،‬بل‬
‫في الخداع والخيانة والتغوطات غير الموافقة للعقل‪ ،‬وهو يعد هذا مجرد‬
‫أعراض‪ ،‬بل كل أحداث الصدفة الغاضبة حولنا ساعية ألهداف ال قيمة لها‪.‬‬
‫وتأمل اآلتي ً‬
‫أيضا‪ ،‬إن عدة األضرار متوفرة بقدر كبير في األشياء التي يسعى‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫المرء بها لتعريضنا للخطر مثل المتهم الخفي والتهم الكاذبة أو أصحاب‬
‫النفوذ الذين يثيرون الكراهية نحونا وأعمال اللصوصية بين المواطنين‪،‬‬
‫والنوع اآلخر من الضرر مألوف ً‬
‫أيضا‪ ،‬وإذا أكره المرء على غنيمة صادها أو‬
‫منفعة في يديه أو إذا تحول اإلرث المكتسب بعمل شاق أو إذا ُسحبت النية‬
‫الحسنة لإلرادة لعمل أهل البيت‪ ،‬فإن الحكيم ينأى عن هذه األشياء‪ ،‬وهو ال‬
‫يعرف كيف يعيش بين أمل وخوف‪.‬‬

‫ضررا بفكر ساكن‪ ،‬ولكن قد يختل في‬


‫ً‬ ‫‪ 3-9‬واآلن أضف حقيقة أن ال أحد يتلقى‬
‫إدراك الضرر‪ ،‬وأما المرء الذي يتخلص من الزلل و َمن يسيطر على نفسه‬
‫واإلنسان العميق ويتمتع بالسالم هو غير مضطرب‪ ،‬فإذا لمسه الضرر فإنه‬
‫يمحيه ويدفعه‪ ،‬وأما الحكيم بال غضب يتجلى بمظهر الضرر‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫يكون بال غضب إذا لم يكن دون ضر ً‬
‫أيضا وهو يعلم أنه ال يمكن أن ُيجري‬
‫عليه‪ ،‬وبهذه الطريقة ينعم بالسعادة والبهجة‪ ،‬وهي فرحة غير منقطعة‪ ،‬ولكن‬
‫هو إلى حد بعيد متخلل في الجرائم التي تحدثها األشياء والناس‪ ،‬والضرر‬
‫ذاته فائدة له‪ ،‬يسمح به ليضع نفسه على المحك ويحاكم فضيلته‪.‬‬

‫جميعا دعونا نحضر‬


‫ً‬ ‫دعونا نعرض صالحنا في هذا المشروع‪ ،‬وأتوسل لكم‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫‪220‬‬
‫بآذان وعقول هادئة‪ ،‬بينما ينعزل الحكيم من الضرر‪ ،‬وال شيء ينسحب بهذه‬
‫الطريقة من رداءة طبعك ورغباتك النهمة أو تهورك األعمى وغطرستك‪،‬‬
‫فرذائلك قد تأمن بينما قد يتحصل الحكيم على هذه الحرية‪ ،‬وفعلنا ال يمنعك‬
‫من ارتكاب الضرر‪ ،‬بل باألحرى ُيلقي كل األضرار أسفل في األعماق‪ ،‬ويدفع‬
‫عن نفسه خالل التحمل وعظمة العقل‪.‬‬

‫وهكذا في األلعاب المقدسة معظم الناس يهزمون أعداءهم بتحملهم العنيد‪،‬‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫وتأمل أن يكون الحكيم من هذا النوع‪ ،‬أي الذين يتحصلون على تدريب حاد‬
‫خارجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ليتصدوا لكل قوة معادية ويطرحوه‬

‫‪ 1-10‬وحيث إننا قد وصلنا إلى نهاية الجزء األول‪ ،‬فدعونا ننتقل إلى الجزء الثاني‪،‬‬
‫والذي سوف نناقش فيه اإلهانة‪ ،‬وهو يعرض لحجج عامة بعينها(‪،((28‬‬
‫واإلهانة أقل من الضرر‪ ،‬ونحن نشتكي منها أكثر مما نسعى إليها‪ ،‬وال نوليها‬
‫القوانين ما تستحق من العقاب‪.‬‬

‫‪ 2-10‬وقد ُتستثار هذه العاطفة بوضاعة العقل الذي يفسد بسبب بعض كلمات أو‬
‫أفعال ُمحطة‪" ،‬هذا الرجل لم يقبلني اليوم‪ ،‬ولكنه تقبل اآلخرين"‪" ،‬وعندما‬
‫كنت أتحدث اعتزلني عن قصد أو سخر مني علنًا"‪" ،‬لم يجلسني وسط‬
‫األريكة ولكن عند قدمه"‪ ،‬وأشياء أخرى من هذا القبيل(‪ ،((28‬وماذا ُأسمي هذا‬
‫سوى أنها تماحيك عقل أصابه دوار؟ ومحظوظ ومفاخر َمن يجد نطقها عادة‪،‬‬
‫فال أحد يملك وقتًا لمالحظة هذه األمور إن كان لديه أمور أسوأ يتعامل معها‬

‫‪ 3-10‬والعقول بطبيعتها في وقت الفراغ خاملة ومؤنثة ومتسكعة هنا وهناك في‬
‫غياب الضرر الحقيقي‪ ،‬وبعضها يضطرب بهذه األمور‪ ،‬ويرتد أغلب هذه‬
‫األمور لخطأ المفسر‪.‬‬

‫(‪ ((28‬شائعة بين اإلهانة والضرر على حد سواء‪.‬‬


‫(‪ ((28‬إهانات فى تحية الصباح ‪ salutation‬وحفلة عشاء المساء ‪.conuiuium‬‬

‫‪221‬‬
‫‪ 3-10‬و َمن يتأثر باإلهانة‪ ،‬ال ُيبين في نفسه شعور طيب أو أي ثقة‪ ،‬ألنه يحكم دون‬
‫لمحة شك وال ُيولي اهتما ًما‪ ،‬وال يحدث هذا دون تصاغر بعينه في العقل‬
‫ُيضعف ذاته ويحط منها‪ ،‬والحكيم على النقيض ُيولي اهتما ًما بأي أحد‪ ،‬فهو‬
‫يعرف عظمته‪ ،‬ويعلم أن ليس ألحد سلطة عليه‪ ،‬وكل هذه األشياء ال ُأسميها‬
‫شقاوات العقل بل بالحري الكدر‪ ،‬والحكيم ال يهزمها واألحرى ال يشعر‬
‫حتى بها‪.‬‬

‫‪ 4-10‬وتضرب الحكيم أشياء أخرى‪ ،‬حتى إنها ال ُتطيح به مثل األلم الطبيعي وف ْقد‬
‫أحد األطراف وف ْقد األصدقاء واألطفال وفاجعة احتراق وطنه في الحرب‪،‬‬
‫وال أنكر أن الحكيم يشعر بهذه األشياء(‪ ،((28‬حيث إننا ال نصفه بصالبة‬
‫الحجر أو الحديد‪ ،‬حتى يصمد دون أن يشعر بما تحمله أنت من سوء فضيلة‬
‫تقري ًبا‪ ،‬وما وجه نظري إذنْ ؟ إنه يتلقى بعض الجروح فيتغلب عليها ويبرئها‬
‫ويوقف نزيفها‪ ،‬فهذه الضربات أقل من أن يشعر بها‪ ،‬وال يستعمل تجاهها‬
‫الفضيلة المألوفة التي نتحدث عنها التي يتسامح بها مع المصاعب‪ ،‬وهو ال‬
‫يسجلها أو يعتقد أنها مثيرة للضحك‪.‬‬

‫‪ 1-11‬وبجانب حقيقة أن غالب اإلهانات قد يصنعها أناس صلف ومتغطرسون‪،‬‬


‫ٍ‬
‫رديء أن الحكيم لديه شيء ما برفضه‬ ‫ويعني تحملهم للحظ الحسن على نحو‬
‫للرد الفعل المتورم‪ ،‬حيث إن الشهامة أجمل الفضائل‪ ،‬والفضيلة تحدث بأي‬
‫شيء من هذا النوع مثل صور فارغة من أحالم ورؤى ليلية دون أثر للجوهر‬
‫أو الحقيقة‪.‬‬

‫قصير جدًّ ا ليجرؤ بما فيه الكفاية لينظر‬


‫ٌ‬ ‫‪ 2-11‬وهو يعتبر في الوقت نفسه أن كل‬
‫إلى األسفل على األشياء التي قد ُرفعت لألعلى‪ ،‬وقد ُتشتق كلمة اإلهانة‬

‫(‪ ((28‬يبدو انها إشارة إلى ما يسبق االنفعال ‪ propatheiai‬والذي يشعر به الحكيم الرواقي دون موافقته‪ ،‬وللمزيد حول وجه‬
‫نظر سينيكا في هذا انظر ‪.Graver 2007, 93–101‬‬

‫‪222‬‬
‫‪ contumelia‬من كلمة االحتقار ‪contemptus‬؛ ألن ال أحد يصيب أحدً ا‬
‫بضرر إال إذا احتقره‪ ،‬ولكن ال أحد يحتقر ً‬
‫امرأ ما أعظم وأحسن حتى لو كان‬
‫محتقرا؛ ألن األطفال يضربون آباءهم على وجوههم‪،‬‬
‫ً‬ ‫يفعل باإلجمال شيئًا‬
‫والطفل الصغير يبعثر شعر أمه ويقصفه ويبصق عليها أو يعريها أمام أسرتها‪،‬‬
‫احتقارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وال نقول على هذه إهانات‪ ،‬لماذا؟ ألن فعلهم ليس‬

‫‪ 3-11‬وفي األمر نفسه لماذا نستمتع بدعابات العبيد المهينة مع أسيادهم‪ ،‬وجرأتهم‬
‫قد تتمادى تجاه ضيوف العشاء إذا سمح لهم أسيادهم؟! وأكثر ما يحقر المرء‬
‫فرط لسانه‪ ،‬ولهذا الغرض يشتري بعض الناس الفتيان الصفيقين ويحدون‬
‫غلظتهم ويدربونهم حتى يصبوا اللعن كخبراء‪ ،‬وال نطلق على هذه إهانات‬
‫بل ذرائع‪ ،‬ويا له من جنون كي تتسلى وتهين في اللحظة نفسها بنفس األشياء‪،‬‬
‫وكي ُتسمي ما قاله الصديق قذف وما قاله العبد مجرد دعابة!‬

‫‪ 1-12‬إن االتجاه الذي أخذناه في عقولنا تجاه األطفال هو ما يتبناه الحكيم تجاه‬
‫َّ‬
‫والشعر الرمادى أو أحرزوا‬ ‫من تستمر طفولتهم حتى يصلوا سن الرشد‬
‫تقد ًما بعقول َمن حشوا بالخطأ والتعقيد فنموا على نحو أعظم‪ ،‬الذين‬
‫يختلفوا عن األطفال في الحجم وشكل الجسد فقط وخالف ذلك ضالل‪،‬‬
‫ويسعون بعد المتعة بعشوائية وقلق‪ ،‬وسالمهم الوحيد في الذعر وليس فى‬
‫حسن الخلق؟‪.‬‬

‫‪ 2-12‬وال أحد يقول إن هناك اختال ًفا بين هؤالء الناس واألطفال؛ ألن األطفال‬
‫يتجهوا نحو حيازة الروافع والبندق والنقود المعدنية في حين ينحو هؤالء‬
‫الناس نحو حيازة الذهب والفضة والمدن! فاألطفال يلعبون فيما بينهم قضاة‪،‬‬
‫ويتخيلون وجود التاج األرجواني المهذب وحزمة الصولجانات ‪fasces‬‬
‫وعرش القاضي‪ ،‬في حين يلعب هؤالء الناس األشياء نفسها على محمل‬
‫الجد في حرم مارتيوس ‪ Campus Martius‬والمحكمة ومجلس الشيوخ‪،‬‬
‫‪223‬‬
‫واألطفال يبنون منازل وهمية بتكويم الرمال على الشاطئ‪ ،‬في حين يشغل‬
‫هؤالء أنفسهم بتكويم األحجار والجدران والسقوف‪ ،‬ويتخذون ما ابتدعوا‬
‫عظيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫إيواء لألجساد ويحولونه إلى شيء مهيب كما لو كانوا قد فعلوا شيئًا‬
‫إن الموقف بين األطفال وهؤالء الناس متشاب ُه إال أن خطأ الناس يتعلق بأمور‬
‫أخرى أكبر‪.‬‬

‫‪ 3-12‬وهكذا قد يبرر الحكيم تلقي إهانات هؤالء الناس على أنها مزحة‪ ،‬وقد‬
‫ضررا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يحذرهم من األذى والعقاب أحيا ًنا مثل األطفال ليس لكونه قد تلقى‬
‫بل ألنهم قد يضرون وحتى يتوقفون عن هذا الفعل‪ ،‬فالحيوانات قد تروض‬
‫بجلدة سوط‪ ،‬وال نغضب حين ترفض راكبها‪ ،‬ونحن نكبحها حتى يكسر‬
‫األلم‪ ‬عتُوها‪ ،‬وسوف ترى كيف أن تحييد هذا االعتراض قد يقام ضدنا»‪،‬‬‫ُ‬
‫ضررا أو إهان ًة‪ ،‬أيعاقب من يفعلونه؟ وإن‬
‫ً‬ ‫وماذا يفعل الحكيم إذا لم يتلق‬
‫أردت أن تعرف‪ ،‬فإنه ال ينتقم من نفسه وبالحرى يصوبها‪.‬‬

‫‪ 1-13‬ولكن كيف ال تصدق أن هذا الصمود العقلي للحكيم ليس بمقدوره الحضور‬
‫فيه في حين أنك تالحظ األمر نفسه ح ًّقا في اآلخرين لسبب مختلف؟ فلماذا‬
‫ٍ‬
‫امرئ قد جنب عقله جان ًبا؟ و َمن الذي يمتعض حين يتفوه‬ ‫يغضب الطبيب من‬
‫امرؤ ما باللعن وهو يتأوه من الحمى وحرمانه من الماء البارد؟‬

‫‪ 2-13‬وشعور الحكيم تجاه كل الناس هو نفس شعور الطبيب تجاه مرضاه‪،‬‬


‫ٍ‬
‫استعداد للتعامل مع أجزائهم إن احتاجوا للمداواة ويفحص‬ ‫فالطبيب على‬
‫إفرازات بولهم أو تطوله شتيمة من هذيان جنونهم‪ ،‬ويعرف الحكيم أن كل‬
‫الذين يطوفون حول التاج األرجواني مظهرهم حسن ولكنهم مرضى(‪،((28‬‬
‫وهو يعتبرهم ال يختلفون عن المرضى الذين يفتقرون إلى ضبط النفس‪،‬‬
‫وهكذا ال ينزعج منهم إن حاولوا صنعوا فعلاً مخجلاً تجاه مداويهم‪ ،‬فهو‬

‫(‪ ((28‬جزء من النص هنا مفقود‪ ،‬وقد تم توفيقه في اللغة اإلنجليزية ليتناسب مع المحتوى‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫يعتبر احترامهم بال قيمة‪ ،‬ويؤدي االتجاه نفسه تجاه أفعالهم التي تأتي بال‬
‫فضيلة‪.‬‬

‫‪ 3-13‬كما أنه ال يتعجرف حين يتسوله أحد‪ ،‬وال يهينه ألنه من طبقة دنيا وأنه ال يرد له‬
‫ترحيبه‪ ،‬وكذلك ال يعجب بذاته حين ُيعجب به األثرياء‪ ،‬ألنه يعلم أن هؤالء‬
‫األثرياء ال يختلفون عن المتسولين ويستحقون الشفقة؛ ألن األغنياء يفتقرون‬
‫إلى القليل‪ ،‬والمتسولون يفتقرون إلى الكثير‪ ،‬وهو ال يأبه إذا مر ملك ميديس‬
‫‪ Medes‬أو ملك أتالوس ‪ Attalus of Asia‬اآلسيوي على تحيته بصمت‬
‫وتعبير غرور(‪ ،((28‬وهو يعلم أنه الشيء قد يحسد عليه رجل في موقف عبد‬
‫في أسرة كبيرة وعلى عاتقه كبح المريض والمجنون‪.‬‬

‫ممن يبتاعوا ويبيعوا‬


‫‪ 4-13‬وهل يقينًا لست في حاجة ال نزعج إذا لم ُيرد لي اسمي َّ‬
‫أسوأ ما يملكه اإلنسان في معبد كاستور ‪ ،Castor‬وتكتظ ‘سطبالتهم بحشود‬
‫أخس العبيد؟ ال أعتقد ذلك‪ ،‬وما الخير على أي حال‪ ،‬وهل يملك المرء من‬
‫ملكهم تحته فحسب؟ وهكذا يطل على مالطفة المرء أو عدم مالطفته كما‬
‫يطل على الملك بنفس األمر‪“ :‬أنت أدنى من الفارسي ‪ Parthians‬والميداسي‬
‫‪ Medes‬والباكتيرينز ‪ Bactrians‬ولكنك تكبحهم بالخوف‪ ،‬ولن يسمحوا لك‬
‫أن ترخي قوسك‪ ،‬هم أعداؤك اللدودون‪ ،‬وهم يشتروا ألنفسهم ويتطلعوا إلى‬
‫سيد جديد‪.‬‬

‫‪ 7-13‬والحكيم ال يتحرك بإهانة أي أحد‪ ،‬ومع أن كل الناس مختلفون بعضهم عن‬


‫بعض‪ ،‬إلاَّ أنه ينظر إليهم على أنهم متساوون لتساويهم في الغباوة‪ ،‬وإن سمح‬
‫لنفسه أن ينزل مرة فحسب أن ينزل للضرر أو اإلهانة فيضطرب فلن يقدر‬
‫على التحرر من القلق‪ ،‬والتحرر من القلق هو السمة المميزة للحكيم‪ ،‬ولن‬

‫(‪ ((28‬ملك ميداس‪ :‬وربما إشارة فضفاضة إلى زركسيس الملك الفارسي‪ ،‬أتاليوس ‪ Attalus‬أحد ملوك برجامون الثالثة‬
‫الذين يطلق عليهم االسم نفسه فى القرنين الثالث والثانى قبل الميالد‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫يستطيع أن يحكم على اإلهانة التي ُفعلت تجاهه‪ ،‬وبالتالي يسمح َ‬
‫لمن أهانه‬
‫أن يحصل على شرف؛ ألن من ينجح في إزعاج أحد بتوبيخه وبتوريطه يمكن‬
‫أن يبتهج في إعجابه‪.‬‬

‫‪ 1-14‬وبعضهم مجنون للغاية حيث يعتقد بأن بمقدور المرأة أن تهينهم‪ ،‬وما المسألة‬
‫في كيف يتعاملون معها بوجاهة‪ ،‬وكم ما يحملونه مشينا عليها‪ ،‬وكم يكون‬
‫قرضها ثقيلاً ‪ ،‬وكم يكون كرسيها السيدان واسع؟ وهي تبقي متساوية مع حيوان‬
‫ْ‬
‫يضف إليها المعرفة‬ ‫ال يفكر ومتوحش ويفتقد السيطرة على شهواته ما لم‬
‫والتعلم‪ ،‬وبعضهم ينزعج إذا وخز بمقص الحالق‪ ،‬وحين يمنعهم الحاجب‬
‫وحين يتعجرف المذيع في إعالن اسمهم أو يتغطرس العبد في تجهيز غرفة‬
‫نومهم يعدون هذا إهانة‪ ،‬آه كم تكون هذه األشياء سخيفة! وكم من لذة للمرء‬
‫تمأل عقله بضجيج أخطاء البشر‪ ،‬بينما يتدبر المرء سأمه وهدوءه!‬

‫‪« 2-14‬وماذا؟ هل ال يقترب الحكيم من البواباب التي يحرسها حارس فظ؟»‪ ،‬إنه‬
‫سوف يحاول في هذا إذا تطلبت الضرورة ذلك‪ ،‬وإنه سوف يالطف الحارس‬
‫أين كان كما لو كان يرمي طعا ًما إلى كلب مسعور‪ ،‬ولن يعتقد أنه ال يستحق‬
‫معتبرا أن عبور جسور بعينها يتطلب الهدية‪ ،‬وإنه‬
‫ً‬ ‫أن ينفق شيئًا ليعبر العتبة‬
‫سوف ُيعط لهذا الرجل أ ًّيا كان الذي ُيدير الربح من استقبال حفالت الصباح‪،‬‬
‫وهو يعلم أن األشياء التي ُتباع قد ُتشترى بالمال‪ ،‬وإن المرء ضيق األفق من‬
‫يرد بعجرفة على الحارس‪ ،‬أو يكسر هيئته أو يذهب إلى السيد ويطلب جلد‬
‫خصما‪ ،‬وحتى لو ظفر فإنه في‬
‫ً‬ ‫الحارس‪ ،‬فالذي يقيم معركة يجعل نفسه‬
‫مستوى َمن هزمه‪.‬‬

‫‪ 3-14‬ولكن ماذا يفعل الحكيم حين يلكمه الحارس؟ وماذا فعل كاتو عندما ُضرب‬
‫وجهه‪ ،‬إنه لم يغضب‪ ،‬ولم ينتقم للضرر‪ ،‬وبالحري أنكر أنه قد ُضر‪ ،‬وقد‬
‫تطلب تجاهله عقلاً أعظم من الذي قد يتطلبه صفحه‪.‬‬
‫‪226‬‬
‫فمن الذي ال يعي‬
‫‪ 4-14‬لن نطيل في هذه المسألة أكثر من ذلك‪ ،‬وبعد كل هذا‪َ ،‬‬
‫أن األشياء التي يفكر فيها سيئة أم حسنة تبدو للحكيم كما تبدو ألي امرئ‬
‫آخر؟ إنه ال يحترم أحكام الناس حول ما هو مخجل أو خادع‪ ،‬إنه ال يمضي‬
‫مسارا عكس حركة السماوات‪،‬‬
‫ً‬ ‫على مسار العامة‪ ،‬ولكن مثل الكواكب تسلم‬
‫ولذلك يحرز الحكيم تقد ًما تجاه رأي العامة‪.‬‬

‫ضررا حينئذ إذا جرح وإذا ُفقئت‬


‫ً‬ ‫‪ 1-15‬وتوقف عن القول‪« :‬هل الحكيم ال يتلقى‬
‫عينه؟ هل ال يتلقى إهانة إذا سخرت من أفواه الناس البذيئة في الميدان‪،‬‬
‫وإذا حكم عليه في مأدبة الملك أن ينزل تحت طاولة الطعام ليأكل مع العبيد‬
‫المنوط بهم األعمال المهينة(‪ ،((29‬وإذا ُأجبر على تحمل أي مساومة أخرى‬
‫تضر بنخوة الرجل الحر؟"‪.‬‬

‫‪ 2-15‬ورغم عظم هذه األشياء في العدد والحجم‪ ،‬فإنها ستكون من نفس الطبيعة‪،‬‬
‫وإذا كان القليل منها ال يمسه وال حتى الكثير‪ ،‬فإذا كان القليل منها ال يمسه‬
‫فإن الكثير منها ال يمسه كذلك‪ ،‬ولكنك تأخذ ضعفك دليلاً يرشدك لتخمن‬
‫في عقله الجبار وتعتقد أن ما تفكر بمقدوره التحمل‪ ،‬ووضعت حدًّ ا لحمل‬
‫الحكيم وهو مجرد حد قاصر‪ ،‬ولكن فضيلته تضعه في طرف آخر للعالم‬
‫حيث ال يشترك في شيء معك‪.‬‬

‫ِ‬
‫امض وابحث عن بعض األشياء الثقيلة والقاسية لترفعها عن التي تتقهقر عند‬ ‫‪ 3-15‬‬
‫سماعها أو رؤيتها‪ ،‬فغالب هذه األشياء ال تغلبه‪ ،‬وسوف يقاومها كلها كما لو‬
‫كان يقاومهم فرادى‪ ،‬وإذا قال امرؤ ما‪ :‬إن الحكيم يطيق شيئًا وال يطيق آخر‪،‬‬
‫فإنه يحفظ عظمة العقل في حدود ثابتة‪ ،‬فإنه ُيخطئ‪ ،‬والحظ يهزمنا إن لم‬
‫نهزمه كلية‪.‬‬

‫(‪ ((29‬وشملت األعمال المهينة مسح البصق والقيء ‪.Letters 47.5‬‬

‫‪227‬‬
‫‪ 4-15‬وحتى ال تعتقد أن هذه القسوة مقصورة على الرواقيين وأبيقور الذي يتبناه‬
‫نموذجا للخمول معتقدين أنه يعلمهم األشياء اللينة والخاملة ومسارات‬
‫ً‬ ‫الناس‬
‫"نادرا ما يحدث في درب الحكيم حظ"‪ ،‬فكيف أقبل على نطق‬
‫ً‬ ‫اللذة‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫كلمات الرجل(‪ .((29‬هل تريد أن تتحدث بشجاعة أكبر وتفصل الحظ عن‬
‫البقية؟‬

‫‪ 5-15‬إن منزل الحكيم زهيد‪ ،‬حيث ال مكان فيه للزينة والصخب والتنمق‪ ،‬وال ترى‬
‫فيه الحارس الذي يقسم الحشد ويمكن أن يرتشي ليعطيهم إذ ًنا بالدخول‪،‬‬
‫والحري أن عتبته بال بواب‪ ،‬وال يمر الحظ عليها‪ ،‬والحظ يعلم أنه ال شيء‬
‫يتبعه وال مكان له في المنزل‪.‬‬

‫‪ 1-16‬وحتى لو أن أبيقور الذي غمس الجسد وهو ينأى عن الضرر‪ ،‬فأي جزء مما‬
‫نتحدث يبدو صع ًبا لتصدقه أو أبعد من مقياس الطبيعة البشرية؟ فهو يقول‪:‬‬
‫إن الحكيم يتساهل مع الضرر في حين أننا نقول إنه ال توجد أضرار(‪.((29‬‬

‫‪ 2-16‬وال يمكنك أن تقول إن هذا يتجه ضد الطبيعة‪ ،‬وال ننكر أن المطروق‬


‫والمضروب وفقد الطرف شيء من سوء الحظ‪ ،‬وننكر أن كل هذه األشياء‬
‫أضرارا‪ ،‬ونحن ال نمحو من هذه األشياء اإلحساس باأللم بل اسم‬
‫ً‬ ‫ليست‬
‫الضرر فحسب‪ ،‬والذي ال يمكن أن يستمر بفضيلة كاملة‪ ،‬وسوف نرى َمن‬
‫يتحدث ح ًّقا‪ ،‬ويقينًا يتفق كالنا على الضرر المرفوض‪ ،‬وهل تسعى لمعرفة‬
‫الفارق بيننا؟ إنه الخالف نفسه بين اثنين من المجالدين الشجعان‪ ،‬فأحدهما‬
‫يعصب جرحه ويقف على أرضه‪ ،‬في حين ينظر اآلخر تصفيق الجمهور‪،‬‬
‫شيء‪ ،‬وال يسمح لهم بالتدخل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ويشير أنه لم يحدث‬

‫‪ 3-16‬وال تعتقد أن بأسنا بيننا شديدٌ ‪ ،‬وأما الشيء المطروح الذي يقلقك هو أن كال‬

‫(‪ ((29‬حكم أبيقور‪.16‬‬


‫(‪ ((29‬اقتطف يوزنر ‪ Usener‬هذا كشذرة ‪.585‬‬

‫‪228‬‬
‫المثالين يحثان على ازدراء الضرر واإلهانة‪ ،‬التي أطلق عليهما ظالل وشكوك‬
‫حكيما‪ ،‬ولكن البسيط بعقله يقول لنفسه‪:‬‬
‫ً‬ ‫األضرار‪ ،‬وال يتطلب هذا االحتقار‬
‫"هل هذه األشياء التي تحدث لي على نحو مستحق أم غير ذلك؟"‪ ،‬فإن‬
‫كانت مستحق ًة فهي ليست إهانة بل حكم‪ ،‬وإن كانت ليست مستحقة فعلينا‬
‫ظلما"‪.‬‬
‫أن نخجل ممن حمل ً‬
‫وعيني‬
‫َّ‬ ‫‪ 4-16‬وما الشيء الذي ُيسمى إهانة؟ وهو أن تقيم مزح ًة على َشعري الناعم‬
‫ورجلي المقوستين وطولي‪ ،‬وما اإلهانة التي ُيقال عنها إنها بينة؟‬
‫َّ‬ ‫الرديئتين‬
‫حين يقال الشيء من قبل جمهور واحد فنحن نضحك‪ ،‬ولكن حين يكون أمام‬
‫المأل فإننا نقترف الجنون‪ ،‬ونحن ال نمنح اآلخرين الحرية ليقولوا األشياء‬
‫نفسها التي اعتدنا نحن أن نقولها‪ ،‬فنحن ننشرح بدعابة لطيفة ونمتعض‬
‫بأخرى جامحة‪.‬‬
‫‪ 1-17‬ويبين خريسبوس كيف أن ً‬
‫امرأ قد ُجن حين ناداه شخص ما بـ"مستفحل‬
‫الغباء"(‪ ،((29‬ورأينا في مجلس الشيوخ فيدوس كورنيليوس ‪Fidus‬‬
‫‪ Cornelius‬صهر أوفيدوس ناسو ‪ Ovidius Naso‬يبكي حين ناداه كوربولو‬
‫‪ Corbulo‬بـ”النعامة المنتوفة”(‪ ،((29‬وقد حفظ جبينه ثباته رغم كل هذه‬
‫اإلساءات األخرى التي تهدف جرح شخصه وحياته‪ ،‬ولكن انهمرت الدموع‬
‫في هذه السخافة‪ ،‬وهكذا يعظم ضعف عقولنا حين يجانبها الصواب‪.‬‬

‫‪ 2-17‬وماذا عن إهانتنا إذا قلد أحدٌ طريقة كالمنا ومشينا وبعض خلل أجسادنا‬
‫وضوحا عندما يحاكيها آخرون‬
‫ً‬ ‫وصوتنا؟ كما لو كانت تلك األشياء أنصع‬
‫أكثر من فعلنا لها! البعض قد يكرهون السماع عن شيخوختهم َ‬
‫وشعرهم‬

‫(‪ ((29‬مصدر غير معروف‪.‬‬


‫(‪ ((29‬حسب شهود عيان سينيكا من الصعب تحديده‪ ،‬ولكن من المحتمل في عهد كاليجوال أو في زمن الحق‪ ،‬انظر ‪Griffin‬‬
‫‪.1992, 44 n. 4‬‬

‫‪229‬‬
‫الرمادي وأشياء آخرى نبتهل نحن لنحصل عليها‪ ،‬واآلخرون مشتاطون بتهمة‬
‫الفقر في حين َمن يسعى إلى إخفاء فقره يتهم نفسه‪ ،‬وبالتالي نمنع أدوات‬
‫المشاكسين الذين يجعلون الفكاهة في اإلهانة‪ ،‬وأنت في حاجة إلى أن تبادر‬
‫قبل أن يفعلوا‪ ،‬وال أحد يحث الضاحك إن لم يحدث الضحك بالفعل من‬
‫جانبه‪.‬‬

‫مهرجا‬
‫ً‬ ‫‪ 3-17‬حكى التراث كيف أن فاتينيوس جمع بين الضحك والغم‪ ،‬وكان‬
‫جذا ًبا وظري ًفا‪ ،‬فقال أشياء جمة في عرج قدميه ورقبته المندوبة‪ ،‬وهذا وقد‬
‫كثرا مثل تشوهاته وخاصة‬
‫تجنب صناعة الفكاهة على أعدائه الذين كانوا ً‬
‫شيشرون(‪ ،((29‬وإذا كان فاتينيوس بمقدوره تحقيق هذا بصالبة كلماته‪ ،‬وقد‬
‫طال قدحه المتواصل منذ تعلم ألاَّ يشعر بالخجل‪ ،‬فلماذا لم تتحقق فكاهته‬
‫في أي من أعدائه في دراساته الحرة وغرس حكمته التي حقق فيها تقد ًما؟‬

‫‪ 4-17‬أضف إلى هذا حقيقة أن نوع االنتقام يختطف اللذة التي اقترفت اإلهانة بعيدً ا‬
‫عن المرء الذي فعلها‪ ،‬والناس يقولون غال ًبا‪" :‬يا عزيزي‪ ،‬ال أعتقد أنه فهم"‪،‬‬
‫ولذلك فالممكن هو نتيجة إهانة على شعور الضحية بها وتحوله إلى إحباط‪،‬‬
‫وسوف يقابل الجاني النظير عاجلاً أو آجال‪ ،‬و ُيظهر له االنتقام ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫مدفوعا‬
‫ً‬ ‫‪ 1-18‬مارس جايوس قيصر(‪ ((29‬اإلهانات بجانب رذائل جمة أخرى‪ ،‬وكان‬
‫بدافع غريب لوسم كل امرئ ببعض العالمات‪ ،‬رغم أنه ذاته كان مادة ثرية‬
‫للضحك‪ ،‬وشناعة شحوب وجهه أفشت سر جنونه‪ ،‬وكذلك أخفت وحشية‬

‫(‪ ((29‬بالنسبة لتشوهات فاتينيوس وهجوم شيشرون انظر ‪Plutarch Cicero 9 and 26; Cicero’s speech Against‬‬
‫‪P. Vatinius was published ca. 56–54 bce, after the trial of P. Sestius. On Vatinius see also 1.3‬‬
‫‪.above with note‬‬
‫‪(296) 37. On Caligula (12–41 ce; emperor 37-41), many of the details below arise also in Suetonius’s‬‬
‫–‪Caligula: physiognomy (50), adultery (36), clothing (52), Chaerea and the assassination (56‬‬
‫‪58), the name Caligula (9).‬‬

‫‪230‬‬
‫األعين ما تحت حاجبه التليد‪ ،‬وكذلك سوء شكله برأسه الكئيب الذي تناثر‬
‫عليه َّ‬
‫الشعر المدفوع بشدة‪ ،‬ناهيك عن رقبته التي كستها الشعيرات‪ ،‬ونحافة‬
‫ساقيه‪ ،‬وضخامة قدمه‪ ،‬وإن أردت أن تستدعي الحاالت الفردية التي أهان‬
‫فيها والديه وأجداده‪ ،‬والشخوص من كل صنف فال نهاية للحديث‪ ،‬وسوف‬
‫أستدعي تلك التي ختمت قدره‪.‬‬

‫‪ 2-18‬كان فاليريوس أسياتيكوس من بين األصدقاء المعروفين لإلمبراطور‪ ،‬وهو‬


‫رجل شرس‪ ،‬كان بالكاد يتحمل إهانات اآلخرين بعقل هادئ‪ ،‬أثناء مأدبة في‬
‫الجمعية العامة والكل يسمع اإلمبراطور يوبخ فاليريوس على وضعية زوجته‬
‫في السرير‪ ،‬يا إلهي! كيف يسمع الرجل هذا وكيف يعلمه اإلمبراطور‪ ،‬وكيف‬
‫تصل حرية الكالم إلى هذا الحد الجارح الذي لم يصل من قنصل سابق وال‬
‫حتى من صديق‪ ،‬واإلمبراطور يحكي عن زناه وعدم رضاه‪ ،‬وليس عنه كزوج!‬

‫‪ 3-18‬وعلى النقيض من ذلك كان شايريا ‪ Chaerea‬القائد العسكري‪ ،‬حيث كان‬


‫يتحدث بال منازع في براعته(‪ ((29‬وكان ضئيل الحجم‪ ،‬وإن لم تكن تعي أفعاله‬
‫مشبوها‪ ،‬عندما سأل تشيرا عن كلمة السر‪ ،‬أعطاه جايوس عالمة فينوس‬
‫ً‬ ‫حسبته‬
‫مرة وعالمة بريابوس ‪ Priapus‬في مرة أخرى‪ ،‬وفي المرة األولى والثانية المه‬
‫الجندي لرخاوته‪ ،‬وفعل هذه األشياء وهو يتزيا بأروبة شفافة وشبشب وقرط!‬
‫وكذلك أجبر تشيرا على استعمال سيفه حتى ال ُيسأل عن كلمة السر بعد اآلن‪،‬‬
‫وهذا الرجل كان أول المتآمرين حيث رفع يده وقطع رقبته بضربة واحدة(‪،((29‬‬
‫وجاءت الطعنات من كل حدب وصوب انتقا ًما لإلهانات العامة والخاصة‪،‬‬
‫ومن َث َّم كان أول َمن طعن هو َمن يبدو الرجل فحسب‪.‬‬

‫(‪ ((29‬كاسيوس شايريا‪.‬‬


‫(‪ ((29‬كما يالحظ ‪ Wilcox 2008, 467‬هذا من سخرية القدر صدى لقول كاليجوال (سجله البعض وسجله سينيكا في ‪On‬‬
‫‪ )Anger 3.19.2‬حيث تمنى أن يكون للرومان رقبة واحدة‪ ،‬حتى يمكنه أن يعاقبهم جميعها بضربة واحدة‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫‪ 4-18‬شهد جايوس اإلهانات أينما نظر بقدر الذين تحملوا إهاناته والذين ُفتحت‬
‫شهيتهم إلهانته‪ ،‬لقد كان غاض ًبا من هيرنيوس ماكر ‪Herennius Macer‬؛‬
‫حياه على أنه جايوس فحسب‪ ،‬ولم يترك حتى قائد وسط الجيش وهو‬
‫ألنه َّ‬
‫أعلى رتبة دون عقاب؛ ألنه ناداه كاليجوال (الحذاء الصغير)؛ ألن هذا ما أطلق‬
‫عليه منذ والدته وهو في مخيم الجيش‪ ،‬ولم يعرف له الجنود أي اسم آخر‪،‬‬
‫ولكن اآلن يلبس حذاء الفاجعة العظيمة و ُينظر إليه كفاسد وجبار‪.‬‬

‫‪ 5-18‬وهذا بمثابة عزاء‪ ،‬وحتى لو تساهلنا سوف َن َعبر على االنتقام‪ ،‬وسوف يوجد‬
‫من يقتص من المرء الوحشي المتعجرف‪ ،‬ويكشف الضر والرذيلة التي لم‬
‫تصب فر ًدا بعينه ولم تكن إهانة بعينها فحسب‪.‬‬

‫‪ 6-18‬ودعونا ننظر على األمثلة ونثني عليها لتحملها مثل سقراط‪ ،‬إنه تل َّقى بروح طيبة‬
‫المزاح الذي ُنشر و ُنظم تجاهه‪ ،‬وضحكه منها ال يقل عن موقفه تجاه زوجته‬
‫أكسانثيب ‪ Xanthippe‬حين سكبت الماء القذر عليه(‪ ،((29‬وأنتيستينس الذي‬
‫ُاعتدي عليه من أجنبية هي األم التراقية‪ ،‬فرد بأن حتى أم اآللهة كانت من جبل‬
‫إيدا ‪.((30( Ida‬‬

‫‪ 1-19‬وليس هناك حاجة لنلوذ إلى الخالف أو النضال الطبيعي‪ ،‬وعلينا أن نستعمل‬
‫أقدامنا لنمضي بعيدً ا‪ ،‬وعلينا أن نتجاهل األشياء التي يفعلها أناس حمقى أ ًّيا‬
‫كانت‪ ،‬وعلينا أن نميز بين الشرف واألضرار التي يقترفها السوقة‪.‬‬

‫‪ 2-19‬وال حزن على السوقة وال بهجة على الشرف‪ ،‬وبطريقة أخرى فإن الخوف من‬
‫اإلهانات أو الضجر يجعلنا نهمل األشياء الضرورية ونفشل في الواجبات العامة‬

‫(‪ ((29‬حول استفزازات أكسانثيب زوجة سقراط لسقرط انظر ‪Seneca’s On Marriage frag. 31 Vottero and Letters‬‬
‫‪ .104.27‬وعن كوميديا سقراط انظر ‪.On the Happy Life 27.2‬‬
‫(‪ ((30‬أنتيستينيس )‪ Antisthenes (444–365 bce‬وقلة آخرون من تالميذ سقراط الذين واجهوا سوء المعاملة؛ ألنهم ليسوا‬
‫مواطنين أثينيين‪ ،‬وأم اآللهة هي سيبيل ‪.Cybele‬‬

‫‪232‬‬
‫والخاصة –والتي هي مفيد ٌة أحيا ًنا‪ ،-‬وكل هذا ألننا نغتاظ باهتمامات نسوية‬
‫عن سماع شيء مناقض لتفكيرنا‪ ،‬وأحيا ًنا نغضب حتى من األقوياء ونكشف‬
‫عن هذا الشعور بممارسة غير منضبطة للحرية‪ ،‬ولكن التجوز بال شيء ليس‬
‫حرية‪ ،‬فهناك َمن يخدعنا‪ ،‬وأن الحرية تضع عقل المرء فوق األضرار‪ ،‬وتجعل‬
‫النفس هي المصدر الوحيد للفرح‪ ،‬وتفصل األشياء الخارجية عن النفس حتى‬
‫ال تضطرب حياة المرء‪ ،‬فيخشى ضحك الجميع ولسانهم‪ ،‬ولو بمقدور أي‬
‫فمن الذي ال يقدر أن يصنع مثيل اإلهانة؟!‬
‫أحد أن ُيهين‪َ ،‬‬
‫‪ 3-19‬وإن سبل المداوات المتباينة سوف يستعملها الحكيم والمرء الملهم بالحكمة‪،‬‬
‫وأنت ترى غير الكاملين ال يزالون متعلقين بمعيار الحكم العام والذي‬
‫يضعهم في حالة تأهب للعيش بين األضرار واإلهانات‪ ،‬فكل ما يحدث هو‬
‫أخف حملاً إذا عرفوا توقعه‪ ،‬واألكثر احترا ًما للجميع من مولدهم وسمعتهم‬
‫شجاع‪ ،‬ويعلمونهم أن طوال القامة‬
‫ٍ‬ ‫وميراثهم ما يفعلونه بأنفسهم على نحو‬
‫في الخط األمامي للمعركة‪ ،‬ودعهم يتحملون اإلهانات والكلمات المسيئة‬
‫والهوان واإلذالالت األخرى‪ ،‬كما لو كانوا يستصرخون العدو واألسلحة‬
‫التي ُألقيت من بعد والصخور التي تتراشق حولهم وال تجرحهم‪ ،‬واألضرار‬
‫مثل الجروح بعضها نافذ في الدرع‪ ،‬وبعضها في الصدر‪ ،‬ودعه يقاومهم دون‬
‫أن ُيصدم أو ُيطرح على األرض‪ ،‬وحتى لو دفعت بقوة مكروهة فامنح طري ًقا ال‬
‫يزال مخز ًيا‪ ،‬واحفظ موقفك بالطبيعة‪ ،‬هل تسأل ما هذا الموقف؟ والموقف‬
‫هو أن تكون إنسا ًنا‪.‬‬

‫‪ 4-19‬والحكيم لديه شيء مختلف ليعينه ويكون عكس هذا‪ ،‬وإن كنت ال تزال تقاتل‬
‫فهو قد حقق النصر‪ ،‬فال تناضل ضد خيرك‪ ،‬وفي حين ال تزال على طريقك‬
‫طوعا‪ ،‬وتعينهم‬
‫للحقيقة‪ ،‬وتعزز هذا األمل في عقلك‪ ،‬وتنتقي أفضل األشياء ً‬
‫دو ًما بإرادتك وموقفك‪ ،‬فوجود الشيء ال يقهر‪ ،‬ووجود المرء ضد الحظ ليس‬
‫له قوة على اإلطالق‪ ،‬وهو في مصلحة دولة جنس البشر‪.‬‬
‫‪233‬‬
:‫قائمة بالمراجع‬
Barnes, Jonathan. 1997. Logic and the Imperial Stoa. Leiden: Brill.
Cooper, John M. 2006. “Seneca on Moral Theory and Moral
Improvement.” In Seeing Seneca Whole: Perspectives on Philosophy,
Poetry and Politics, ed. K. Volk and G. Williams, 43–56. Columbia
Studies in the Classical Tradition. Leiden: Brill.

Griffin, Miriam T. 1992. Seneca: A Philosopher in Politics. 2nd ed.


Oxford: Oxford University Press.

Inwood, Brad. 2005. Reading Seneca: Stoic Philosophy at Rome. Oxford:


Clarendon Press.

Kaster, Robert A. 2002. “The Taxonomy of Patience, or When Is


“Patientia” Not a Virtue?” Classical Philology 97:133–44.

Lanzarone, Nicola, trans. and notes. 2001. La fermezza del saggio: La


vita ritirata. Milan: Rizzoli.

Lee, A. D., intro. and notes. 1953. M. Tulli Ciceronis Paradoxa


Stoicorum. London: Macmillan.

Riggsby, Andrew M. 2010. Roman Law and the Legal World of the
Romans. Cambridge: Cambridge University Press.

Roller, Matthew B. 2001. Constructing Autocracy: Autocrates and


Emperors in Julio-Claudian Rome. Princeton: Princeton University
Press.

Star, Chistopher. 2006. “Commanding Constantia in Senecan

234
Tragedy.” Transactions of the American Philological Association

126:207–44.

Viansino, Giovanni, trans. and comm. 1988, 1990. I Dialoghi. 2 vols.

Milan: Mondadori.

Volk, Katharina, and Gareth D. Williams. 2006. Seeing Seneca Whole:

Perspectives on Philosophy, Poetry, and Politics. Columbia Studies

in the Classical Tradition. Leiden: Brill.

Vottero, Dionigi, ed. 1998. Lucio Anneo Seneca: I frammenti.

Bologna:

Wilcox, Amanda. 2008. “Nature’s Monster: Caligula as Exemplum in

Seneca’s Dialogues.” In KAKOS: Badness and Anti-Value in Classi

cal Antiquity, ed. R. Rosen and I. Sluiter, 451–75. Leiden: Brill.

Williams, Gareth D. 2003. Seneca: “De Otio,” “De

Brevitate Vitae.” Cambridge: Cambridge University Press.

———. “States of Exile, States of Mind: Paradox and Reversal in

Seneca’s Consolatio ad Helviam Matrem.” In Volk and Williams

2006, 178–95.

Wright, J. R. G. 1974. “Form and Content in the Moral Essays.” In

Seneca, ed. C. D. N. Costa, 39–69. London: Routledge and Kegan

Paul.

235
236
‫�سكينة العقل‬

‫‪237‬‬
238
‫مقدمة‬
‫المخاطب واألحوال‪:‬‬
‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫إن رسالة (سكينة العقل) لسينيكا فريدة بين محاوراته؛ ألنها تقدم تبادلاً‬
‫بين المخاطب أنايوس سيرينوس وسينيكا‪ ،‬واألرجح أن سيرينوس رجل إسباني جاء‬
‫إلى روما برعاية سينيكا‪ ،‬وهو يوجه الكالم عن صمود الحكيم‪ ،‬ويدور حوار متقطع‬
‫عن أوقات التفرغ‪ ،‬ولكن هذا الحوار يمنحه صيغة الفعل التي توصف بها أزمة هوية‬
‫الشباب‪.‬‬

‫ويثير الفصل االفتتاحي تساؤلاً َّ‬


‫عم إذا كان الحوار خطا ًبا أم مناظر ًة درامي ًة؟ وإن كان‬
‫مناظرة يمكن أن تكون منمذجة على مثال مناظرات المعلم والتلميذ عند شيشرون‪،‬‬
‫وإن كان خطا ًبا فهو باكورة لمراسالت سينيكا من جانب واحد مع لوكيليوس من‬
‫عام ‪ 64-63‬ق‪.‬م‪ .‬في حين يمكن أن تقرأ في الفصل االفتتاحي طلب سيرينوس‬
‫للمساعدة‪ ،‬فإن سينيكا يعدل على األرجح الكلمات التي يضعها في فم سيرينوس‬
‫لتشتمل على قضايا يريد هو أن يناقشها في رده‪ .‬وهناك سمات في الفصل األول هي‬
‫االنشغال بالمجالس التشريعية السيناتورية وفنية الكتابة والتحدث‪ ،‬وهذه األمور تتعلق‬
‫بسينكا وال تخص َمن يخاطبه(‪ ،((30‬والحقيقة أن في الفصل األول ‪ 14 -13‬توكيد‬
‫إيجابي على أن الحاجة للنبل تمكن العقل من أن يسمو‪ ،‬وأن التماثل بدقة في التقريب‬
‫ً‬
‫معارضا لغاية السكينة‪.‬‬ ‫معيارا بعيدً ا حتى لو كان‬
‫ً‬ ‫في الفصل ‪ 11-17‬يستحضر‬

‫(‪ ((30‬دراسة حديثة ‪.Seneca on Self Assertion,” pp. 346–51 of Inwood 2005‬‬

‫‪239‬‬
‫وإنني أقرأ الحوار كاستشارة شفوية مع سيرينوس كمريض يعالجه سينيكا‪ ،‬حيث‬
‫قد عبرت جاذبيته عن حدود مرض العقل(‪ ،((30‬ويشبه الموقف تقري ًبا العالج‪ ،‬وقد‬
‫أقر سيرينوس بمبادئ العيش الفاضل عند الرواقية‪ ،‬وهو يراقبهم في أسلوب حياتهم‬
‫البسيط‪ ،‬ولكن تأثر سيرينوس بالقيم المادية وأظهر رفقاءه‪ ،‬وكافح ليرفض قبول‬
‫قيمهم‪ ،‬ومعضلته تكمن في الصراع الباطني والقيم المكتسبة‪.‬‬
‫وتركز الجملة األولى على استجواب الذات‪ ،‬وسوف توضح تعبيرات استياء‬
‫الذات ومحاوالت توافق الذات خطاب سيرينوس وحركة رد سينيكا من ‪ 2-7‬و‪9‬‬
‫حتى ‪ 2-14‬والقسم األخير‪ ،‬وفي الفصل ‪ 1-17‬يتعلق االهتمام بالباطن الذي يقوى‬
‫في المعالجة المنهجية لرسائل سينيكا إلى لوكيليوس‪ ،‬ورغم أن السكينة استجابة‬
‫عالجية العتراف سيرينوس الصريح بمرضه العقلي (حتى استعمال االصطالحات‬
‫الطبية لألمراض الفعلية)‪ ،‬ويستعمل االستجواب المعرفي كجزء للشفاء المفترض‪،‬‬
‫وال تطابق المناهج الرواقية للقضايا األخالقية أساليب العالج النفسي الحديث(‪.((30‬‬
‫وأين نضع هذا الحوار في مسار مهنة سيرينوس المعروفة؟ لقد شغل منص ًبا إدار ًّيا‪،‬‬
‫وهو مسؤول عن فيلق المراقبة (يجمع بين المراقب والشرطي) من عام ‪ 54‬عندما فرغ‬
‫المنصب حتى تولى تيجيللينوس ‪ Tigellinus‬هذا المنصب عام ‪ ،62‬وال شيء في هذه‬
‫الرسالة يدل على أنه تقلد هذا المنصب‪ ،‬وكان سينعكس نفوذ سينيكا على وظيفته‪،‬‬
‫حيث كان سينيكا قو ًّيا في هذه الفترة بوجوده مع أجريبيانا ونيرون‪ ،‬وهناك تلميحات‬
‫نسبيا‪ ،‬ولكن‬
‫لصعوبة المشاركة السياسية خاصة في الفصل الثالث ‪ 3-2‬تقل بعد ذلك ًّ‬
‫شائعا في الفكر الهيللينستي‪ .‬راجع (بعد سينيكا) مقالة بلوتارخ‬
‫(‪ ((30‬كان التوازي بين المرض الجسدي والعقلي‪ /‬األخالقي ً‬
‫“عن أيهما أسوأ أمراض الجسد أم العقل” “‪Whether the Sicknesses of the Mind or of the Body are‬‬
‫‪Worse,” Moralia 500b–502b; Loeb Classical Library vol. 6). Even the words observatio sui‬‬
‫‪(“constant watching”) in 17.1 evoke the medical practice of watching patients (epitērēsis) to‬‬
‫‪.observe the progress of their symptoms‬‬
‫‪(303) See Sorabji 1997 and Williams 1997.‬‬

‫‪240‬‬
‫يفترض الحوار أنه قد ُأ ِّلف في مرحلة مبكرة من حكم نيرون(‪ ،((30‬ونعرف ذلك‬
‫فحسب في رسائل إلى لوكيليوس ‪( 63 Letters to Lucilius 63‬من المحتمل ُكتب‬
‫عام ‪ )63‬حيث ينظر سينيكا إلى حزنه ومصيبته في موت سيرينوس المفاجئ لتسممه‬
‫في مأدبة رسمية؛ ألن سينيكا منحه حب االبن الذي لم ينجبه؛ حيث لم يكن لسينيكا‬
‫أبناء‪.‬‬

‫بنية النص‬
‫قد بذلت محاوالت عدة لتحديد بنية الحوار بكليته؛ إما على موضوع الفصول‬
‫المتتالية‪ ،‬وإما تركيبه مثل أسطورة بروكرتيس ‪ Procrustes‬للنمط الخطابي‪ ،‬ولكن‬
‫النموذج الخطابي قد ُص ِّمم لقاعة المحكمة وال يناسب العقلية الفلسفية‪.‬‬

‫الفصل األول‪:‬‬
‫القول االستهاللي من سيرينوس هو مفتاح المفاهيم التي تحكم رد سينيكا في‬
‫الفصول الستة عشرة‪ ،‬حيث إن العنوان اعتراف قد ُأعد ليقدم كل األفكار تقري ًبا التي‬
‫يمكن تتبعها في التحليل التالي‪ ،‬وقد يقدم المجازان تشبيهات تتكرر في الحوار‪ ،‬أول‬
‫المجازين المرض العقلي ‪ 2-1‬و‪ ،4-1‬وثانيهما تشبيه الحياة بالرحلة‪ ،‬وكالهما مع‬
‫السالم العقلي مثل هدوء البحر ‪ 17-1‬وراجع ‪ ،11-1‬ويفتتح سينيكا رده‬ ‫صورة َّ‬
‫باستدعاء هذه التشبيهات في إشاراته لمرضى النقاهة واضطراب البحر الباقي بعد‬
‫العاصفة‪ ،‬وقد تهدف التلميحات المألوفة في الحوار عن البحر والعاصفة إلى تذكير‬
‫القارئ بالسياق البحري األساسي للسكينة (هدوء البحر بعد عاصفة)‪.‬‬
‫يبدأ سيرينوس بتبصر الذات‪ ،‬فبعد وصف استيائه في ‪ 9-1‬فإنه يتوقع فرض‬
‫سينيكا‪ ،‬وهو ينتقل في ‪ 11-1‬لتطوير فكرة التركيز داخل نفسه التي ُيطلق عليها في‬
‫الغالب باطنية سينيكا‪« :‬دع عقلك يركن إلى نفسه ويميل إليها وال تفعل شيئًا غري ًبا‬

‫‪(304) See Griffin 1976, 447–48.‬‬

‫‪241‬‬
‫عن احتياجاته»‪ ،‬وسوف ُيتطرق إلى هذه األفكار السائدة خالل تشخيص سينيكا في‬
‫‪ 7-2‬حيث يقول‪« :‬ولهذه الرذيلة صفات ال حصر لها ومخرج واحد لتستاء بالنفس»‪،‬‬
‫ويستدعي في ‪ 11-2‬االصطالحات المنعكسة التي سيركز عليها هذا الحوار حتى‬
‫نهاية إحصاء سينيكا لعقبات الهدوء‪ ،‬وبهذا اللوم يتعلق العقل كما في ‪« :2-14‬دعه‬
‫يؤمن بنفسه ويفرح بها ويعتبر صفاته وينسحب بقدر اإلمكان مما هو غريب عليها»‪.‬‬
‫متحمس‪ ،‬وهو في منتصف الطريق نحو‬
‫ٌ‬ ‫رواقي أو‬
‫ٌّ‬ ‫طالب‬
‫ٌ‬ ‫ُيقدم سيرينوس على أنه‬
‫السيطرة على روحه‪ ،‬حيث اكتسب درجات االختالف للخيرات الخارجية بما فيه‬
‫كفايته ليطبقها في تدبيره في شؤونه الداخلية‪ ،‬ولكن ليست كافية لهروب الكساد في‬
‫رفاهية اآلخرين‪ ،‬إنه يدعي أن خلله ضعف هدف العقل القويم (‪ ،)1-15‬لقد تعلم ما‬
‫يكفي ليندم ال ليقاوم تقلبه (‪ ،)9-1‬وسوف يترك األمر لسينيكا لتشخيص هذا الندم‬
‫على أنه نفور ’النفس‘ ‪ 5-2‬وراجع ‪ ،((30( 1-3 ،15-2 ،10-2‬فسيرينوس يصف‬
‫ولكن ليس بمقدوره أن ُيسمي الحالة التي يحددها سينيكا في رده الذي شفى رغباته‬
‫ضررا من المخاوف)‪ ،‬وال يزال الطالب ُيعاني من الصراع‬
‫ً‬ ‫الدنيوية وأمانيه (األماني أشد‬
‫الباطني‪ ،‬وتصنيفه للخيرات يقلب يعكس اإلنسان الدنيوي‪ ،‬ولكن في حين تؤسس‬
‫على القيم الرواقية فإنها ال تزال غير مأمونة وتميل إلى النفور من العالم الخارجي‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫يقدم سينيكا ر ًّدا جديدً ا أكثر عمقا للسكينة ‪ ،3-2‬وهي تعادل في اللغة اليونانية كلمة‬
‫ثبات العقل ‪ ،euthumia‬ويستعمل سيرينوس الكلمة ألول مرة ‪ 11-1‬دون تدقيق على‬
‫باطنيا على أنها “التوازن‬
‫ًّ‬ ‫أنها تحرر من االضطرابات الخارجية‪ ،‬ولكن سينيكا يصفها‬
‫الثابت للروح”‪ ،‬ويشير إلى بحث ديمقريطس عن ‪ ،((30( Euthumia 2-3‬ويشير إلى‬

‫(‪ ((30‬أشير هنا إلى البحث القيم الذي أعده كاسستير في الفصل الخامس “ديناميات التعب وأيدولوجيا التزمر” ‪Kaster‬‬
‫”‪2005 in chap. 5, “The Dynamics of Fastidium and the ideology of disgust.‬‬
‫(‪ ((30‬عرف سينيكا ديمقريطس بطريقة غير مباشرة‪ ،‬ولتقييم هذا بإيجابية انظر الفصل الثاني “‪Epicurus and Democritean‬‬
‫‪.Ethics,” in Warren 2002‬‬

‫‪242‬‬
‫ثالثة استشهادات لعدم اكتراث ديمقريطس بالمال(‪،)5-27-7 ،105-4 ،2-6-1‬‬
‫ويقترب سينيكا في هذه الرسالة في ‪ 3-2‬من رسالته عن الغضب ‪ 3-6-5‬حين يقول‪:‬‬
‫«سوف نستفيد من حكم ديمقريطس القويم الذي يبين كيف نحقق السكينة إذا لم نؤ ِّد‬
‫أشياء عدة أو أشياء وراء قدرتنا سواء أكانت خاص ًة أم عام ًة»‪.‬‬

‫الفصول من الثالث إلى الخامس‪:‬‬


‫إن الخيار األفضل للحياة هو المشاركة الفاعلة في الشؤون العامة‪ ،‬ويخدم كمواطن‬
‫إخوانه المواطنين على نحو فردي أو جماعي‪ ،‬وبالنسبة للنخبة قد تكون من بين األفعال‬
‫المالئمة ‪ Καθῆκον ‬الرواقية والواجبات الشخصية أو االلتزامات المحددة بمواقفهم‪،‬‬
‫وقد ترجمها شيشرون بالمسؤوليات ‪ ،officia‬واالستعارة بالجندي والواجب‬
‫العسكري واضحة في الفصل الثالث‪ ،‬وتتطور من التشابه المعقد بين المستويات‬
‫المختلفة للخدمة المدنية والعسكرية ‪ ،5-3‬والروماني وليس اليوناني الهيللينستي‬
‫الذي عاش في عصر المرتزقة يفرض سمو الواجب العسكري على المدني‪.‬‬

‫الفصل السادس‪:‬‬
‫تقريرا للموضوعات «ينبغي أن نفحص أنفسنا قبل كل‬
‫ً‬ ‫يعرض الفصل السادس‬
‫شيء‪ ،‬ومن ثم العمل الذي نقوم به‪ ،‬ثم الناس الذين نعمل ألجلهم ومعهم» ‪،1-6‬‬
‫جزئيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫وهذا حق لديمقريطس‪ ،‬ولكنه إرهاصات منهاج يتبعه سينيكا‬

‫الفصول من ‪:11-8‬‬
‫الفصول من الثمن حتى الحادي عشر تعالج التجليات الخارجية للثروة والملكية‬
‫التي يمكن أن تصرف اإلنسان عن السكينة والفضيلة‪ ،‬ولكن سينيكا هنا يستحضر‬
‫مفهومين يحكمان الظرف اإلنساني‪ ،‬حيث ُسيجت الطبيعة في الفكر الرواقي بالرب‬
‫والعناية والحظ وهي معنية بكل التجارب الرديئة‪ ،‬وتهيمن على هذه الفصول‬
‫المداهمات التي ُتشن على الرجل الخير‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫الفصول من ‪:16-12‬‬
‫تنتقل الفصول من ‪ 12‬إلى ‪ 16‬من مبادئ إلى أمثلة لتقلبات الحظ‪ ،‬ثم إلى نماذج‬
‫للفضيلة في مواجهة الموت (يوليوس كانوس ‪ Julius Canus‬في حكم كاليجوال‬
‫االستبدادي ‪ 4-14‬حتى ‪ ،9‬وكاتو األتيكي ‪ Cato of Utica‬الممجد حتى وراء‬
‫هيروكليس وريجوليوس في ‪.)4-16‬‬

‫الفصل السابع عشر‪:‬‬


‫ابتهاجا‪ ،‬بعد التحذيرات الجديدة تجاه التذرع‬
‫ً‬ ‫الفصل السابع عشر األخير أكثر‬
‫وتفحص النفس المشوه بالتركيز المفرط بقيم الدخالء ‪ 3-17‬ينصح باستقامة المرء‬
‫باالنسحاب واالسترخاء واالستعمال الحكيم للشراب ‪9-17‬و‪ 11‬لتحفيز العقل قبل‬
‫أن يغلق بخاتمة قصيرة لألماني الخيرة لسيرينيوس‪.‬‬

‫شكر وتقدير‬
‫إنني مدينة باالمتنان للبرفسور دوج هاتشينسون ‪ Doug Hutchinson‬ولطالبه الستة‬
‫الذين يدرسون في حلقته سينيكا؛ لتجميع المسح البيبلوجرافي الستخدامه في نقاش‬
‫موسع حول (السكينة)‪ ،‬والذي أطمح أن أنشره في مكان آخر‪ ،‬وأود أن أشكر جيمس‬
‫كير على النصيحة واالطالع على مقدماته في هذه السلسلة‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫يقول سيرينيوس ‪ Serenus‬حين كنت أقبض على عصاي(‪ :((30‬يا سينيكا‪،‬‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫وخفاء‪،‬‬
‫ً‬ ‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫وجدت بعض األخطاء تبدو لي في متناول يدى‪ ،‬وبعضها أقل‬
‫ُ‬
‫وبعضها متغير‪ ،‬وهذا يتكرر على فترات‪ ،‬وأدعي أن النوع األخير أعظم قل ًقا‪،‬‬
‫حيث يقفزون مثل األعداء على الخطوة ويهاجمون وف ًقا للظروف‪ ،‬وتمنعني‬
‫كنت في حالة حرب‪ ،‬أو خال ًيا من القلق كما لو‬
‫من االستعداد للفعل كما لو ُ‬
‫كنت في حالة سالم‪.‬‬
‫ُ‬

‫مشاعا في هذه الحالة‪ ،‬ولماذا ال أقبل الحقيقة‬


‫ً‬ ‫ومع ذلك أجد نفسي أكثر‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫كما أود أن أقولها للطبيب(‪((30‬؟ فهي ال تنبعث من األشياء التي أخشاها‬
‫أو أكرهها وال القابلة للجرح فيها‪ ،‬وحتى مع أني بحالة سيئة فال أزال متقل ًبا‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مريضا وال‬ ‫لست‬
‫ومحتجا ألبعد حد‪ ،‬فأنا ُ‬
‫ًّ‬
‫أنت ال تخبرني عن بدايات الفضائل التي كرستها والتي تكتسب صالبة وقوة‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫مع الزمن‪ ،‬وإنني أعلم أن العمل الذي نعلنه للمأل قد يستغرق فترة طويلة من‬
‫الزمن‪ ،‬فشهرة وبالغة الموهبة مهما كانت تعتمد على صوت رجل آخر‪ ،‬وفي‬
‫الحقيقة فإن المواهب التي تنتج القوة الحقة ومظاهرها التي تستحوز على‬
‫انطباع اآلخرين تستغرق سنوات وتمر بفترات تدريجية حتى توضع في صبغة‬
‫معقولة‪ ،‬ولكنني عادة أخشى أن ما ينتج الثبات قد يدفعني بخطأ أكثر عم ًقا‪،‬‬
‫فالمجالسة الطويلة تجلب حب السلوك الرديء مثل الحسن‪.‬‬

‫(‪ ((30‬يضع الكلمات المفتاحية في فم سيرينوس ليعلن عن أهمية موضوع فحص الذات واالهتمام بشفائها‪ .‬وانظر ‪7-2‬‬
‫و‪ 9-2‬باألهمية المماثلة على العالج في ‪.2-14‬‬
‫(‪ ((30‬هذه أول إشارة لحالة سيرينوس على أنها مرض عقلي أو أخالقي‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫وليس بمقدوري أن أعرض عليك مرة واحدة كل طبائع هذا الضعف في‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫العقل(‪ ((30‬المشقوق بين الميول‪ ،‬والذي ال ينحرف عن ما هو حق وما هو‬
‫باطل‪ ،‬ولكن بمقدوري أن أفسر لك أركا ًنا منه‪ ،‬وسأخبرك بما يحدث لي‬
‫وسوف تجد اسما لمحنتي‪.‬‬

‫وأعترف أن حبي لالقتصاد عميق‪ ،‬فأنا ال أحب ترتيب األريكة للعرض أو‬ ‫‪ 5-1‬‬
‫قسرا بكبس ألف مقدار من القماش‪،‬‬
‫المالبس المتدلية من الصدر والتي تلمع ً‬
‫ً‬
‫متحفظا‬ ‫والحري أنني أحب الملبس المنزلي غير المتكلف الذي ال يجعلني‬
‫أو يضعني في رقابة تقلقني‪.‬‬

‫وأحب الطعام الذي ال يشرف على إعداده رهط من الخدم أو الذي يستغرق‬ ‫‪ 6-1‬‬
‫أيا ًما في إعداده ويقدم بأيدي كثيرين‪ ،‬ولكني أحب المتاح والبسيط دون‬
‫داع‪ ،‬أو ُيحمل جسدي‬
‫المكونات الغريبة والثمينة‪ ،‬فهذا ال أحتاجه بأي ٍ‬
‫في القيء(‪.((31‬‬
‫وميزانيتي عبئًا أو ُيثير َّ‬
‫وإني أحب الصاحب ذكي الطلعة‪ ،‬والعبد البسيط الساذج‪ ،‬وطبق الفضة الثقيل‬ ‫‪ 7-1‬‬
‫من إنتاج وطني دون توقيع من أي صانع‪ ،‬وأحب المنضدة التي ال تجذب‬
‫العين عالماتها الملونة‪ ،‬والتي ُعرفت في المجتمع بملكية متعاقبة لسادة عدة‪،‬‬
‫ولكن لتوضع لالستعمال وليس إللهاء نظرة أي ضيف ألي لذة أو تلهبهم‬
‫بالحسد‪.‬‬

‫ومن ثم رغم أن كل هذا يرضيني تما ًما‪ ،‬إال أن ما يخدش عقلي كم األوراق التي‬ ‫‪ 8-1‬‬
‫ُيتابع امرؤ شراءها‪ ،‬ويغلفها بأكثر من المعتاد‪ ،‬وتزينها بالذهب قبيلة بأكملها‬
‫من العبيد البارزين‪ ،‬وحتى أرضية المنزل التي يطؤها متكلفة‪ ،‬وتتمدد الغرف‬

‫(‪ ((30‬كلمة النفس ‪ animus‬الالتينية تغطي كلمة ‪ dianoia‬العقل اليونانية‪ ،‬وعادة ما تكون أفضل ترجمة للجوانب األخالقية‬
‫والعقلية للشخصية هو العقل وأترجمها (الروح) حين ترتبط بالمزاجية أو المعنويات‪.‬‬
‫(‪ ((31‬مثل األشترار ‪ bulimics‬جعل الرومانيين يتقيؤون عمدً ا ليهربوا من عواقب اإلفراط في األكل‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫البراقة بالثروات في كل ركن‪ ،‬ويكرم جمهور الناس كمراقبون وحاضرين‬
‫لإلرث الذي قد ُبدد‪ ،‬هل تحتاج أن أذكر المسارات المتدفقة حول ضيوف‬
‫العشاء وهي تشف أسفلها‪ ،‬والموائد المتماثلة مع طبقاتها؟‬

‫وكما أنني أخرج عن االنتباه المطول المنتوج عن االقتصاد‪ ،‬وقد يجتاحني‬ ‫‪ 9-1‬‬
‫هذا اإلسراف بروعته الهائلة ويتردد صداه حولي‪ ،‬ويرتعد تحديقي‪ ،‬وأشحذ‬
‫عيني دون ريب‪ ،‬ولذا ما فارقت هو ما يبعث الحزن وليس‬
‫عقلي نحوه أكثر من َّ‬
‫األسوأ‪ ،‬وأمشي متطاولاً بين ممتلكاتي‪ ،‬وتنتابني لدغة الصمت‪ ،‬والشك عن‬
‫خيرا بعد كل هذا‪ ،‬وال شيء من هذا يغيرني بل‬
‫إذا كانت هذه الرفاهية ليست ً‬
‫ال يوقعني في ضيق‪.‬‬

‫‪ 10-1‬لقد قررت أن أتبع تعاليم معلمينا‪ ،‬وأدخل الحياة السياسية‪ ،‬وقررت أن أفوز‬
‫بالمنصب والحزمة ‪ ،fasces‬وذلك ألن الصولجان واألرجواني ال يغوياني‪،‬‬
‫نفعا واستعدا ًدا لعون أصدقائي وأقاربي وكل مواطنينا بل‬
‫بل ألكون أكثر ً‬
‫البشر أجمعين‪ ،‬وأنا أتبع بيسر زينون وكليانتس وخريسبوس‪ ،‬وال أحد منهم‬
‫قد دخل الحياة العامة‪ ،‬ولم يفشل أحدهم أن يمنع اآلخرين‪.‬‬

‫‪ 11-1‬وحين ُيزعزع قلبي شيء ما‪ ،‬ويقرع على غير المعتاد حولي حين يحدث شيء‬
‫ال يستحق كأشياء كثيرة في حياة البشر‪ ،‬أو يبطئ في سيره‪ ،‬أو حين تتطلب‬
‫كبيرا من الزمن‪ ،‬فإنني أتحول للراحة مثل الماشية المنهكة‬
‫ً‬ ‫قدرا‬
‫المسائل ً‬
‫تروح للبيت بخطوات سريعة‪ ،‬لقد قررت أن أحبس حياتي بين جدراني‪،‬‬
‫“ولن أدع أحدً ا يأخذ مني يو ًما ال يعود َّ‬
‫إلي بكثرة النفقة‪ ،‬وأدع عقلي ينكب‬
‫على ذاته ويراقبها‪ ،‬وال يفعل شيئًا غري ًبا عن احتياجاته‪ ،‬فال شيء يتطلب‬
‫موافقة الحاكم‪ ،‬وأدعه يحب السكينة ويخلو من االنشغال العام والخاص”‪.‬‬

‫‪ 12-1‬وحين تحفز بعض مسائل القراءة الجادة عقلي وتحثني النماذج النبيلة‪،‬‬
‫فإنني أود أن أقفز نحو الحياة العامة في المنتدى الروماني‪ ،‬وأعير صوتي‬
‫‪247‬‬
‫لرجل وخدماتي لرجل آخر(‪ ،((31‬وأحاول أن أسدي ً‬
‫بعضا من الخير حتى‬
‫سلوكا ًّ‬
‫فظا اتبعت بعضه على نحو خاطئ منتفخ بالحظ‬ ‫ً‬ ‫لو لم ينفعه‪ ،‬وأراجع‬
‫الحسن‪.‬‬

‫‪ 13-1‬وأعتقد يقينًا أنه من األفضل أن تركز الكتابة على مواضيع تأملية حقيقية‬
‫وتتحدث بصددها‪ ،‬وتترك الكلمات تتبع األفكار‪ ،‬وتتعقب الكالم البسيط‬
‫حيث يقودها‪ ،‬فلماذا تستعمل الكتابات المعقدة الموجهة لألجيال‪ ،‬ولماذا‬
‫ال تكف عن محاولة طمسك بين النسل القادم؟ إنك ولدت للموت‪ ،‬فالجنازة‬
‫الصامتة أقل إثار ًة للقلق‪ ،‬وحتى ُتشغل الزمن اكتب شيئًا بأسلوب بسيط‬
‫تستعمله أنت وليس لإلعالن عن النفس‪.‬‬

‫‪ 14-1‬وال يقل جهد الناس إذا تدارسوا كل احتياجاتهم اليومية‪ ،‬في حين يرقى العقل‬
‫طموحا في لغته‪ ،‬ويحرص على الحديث بسمو يوافق‬
‫ً‬ ‫بعظم تأمله‪ ،‬ويصير‬
‫اإللهام‪ ،‬فمنتوج الكالم مطابقة لجالل قضاياه‪ ،‬ومن ثم أتغاضى عن الحكم أو‬
‫لدت سام ًقا ببيان ال أملكه‪.‬‬ ‫ً‬
‫انضباطا‪ ،‬فإني ُو ُ‬ ‫القاعدة األكثر‬

‫‪ 15-1‬ال أقتفي أثر التفاصيل لفترة أطول‪ ،‬فهذا الضعف للعقل الحسن يتبعني في‬
‫ً‬
‫فارغا في الفترة األقصر أو يزيد قلقي وأقف‬ ‫كل عمل‪ ،‬وأخشى أن أهرول‬
‫على حافة السقوط‪ ،‬وربما قد تزيد جدة العمل بأكثر مما أفطن؛ ألننا ننظر إلى‬
‫أعمالنا الحالية بعاطفة هادئة‪ ،‬والمحاباة تعرقل الحكم الحسن دو ًما‪.‬‬

‫كثيرا من الناس بمقدورهم أن يبلغوا الحكمة إن لم يعتقدوا‬


‫ً‬ ‫‪ 16-1‬وأعتقد أن‬
‫أنهم حازوها بالفعل‪ ،‬وإن لم يخفوا بعض الجوانب من أنفسهم ويستخفوا‬

‫عام مستطيل الشكل كان يقع في مركز مدينة روما القديمة‪ ،‬وكان مركز ًا للعديد من األبنية‬
‫(‪ ((31‬المنتدى الروماني هو ميدانٌ ٌّ‬
‫الحكومية الرومانية الهامة‪ ،‬وكان المنتدى منذ الحكم الروماني المبكر مكا ًنا واحدً ا‪ ،‬ثم أضاف أوغسطس منتدى آخر‬
‫وهو منتدى أوغسطس‪ ،‬حيث عقدت المحاكم المدنية والجنائية في المنتدى المفتوح‪ ،‬وتدوال فيه رجال التجارة‬
‫والعمالء‪ ،‬وكان في البداية محلاًّ للنخبة وخدمة الدولة ذاتها(المترجم)‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫األخرى بأعين مكفورة‪ ،‬وليس هناك ما يدعوني أن أحكم بأن فسادنا يزيد‬
‫فمن الذي يجرؤ أن يخبر ذاته بالحقيقة؟ ومن‬
‫بمداهنة اآلخرين وليس أنفسنا‪َ ،‬‬
‫الذي ال يداهن نفسه بإفراط بين المخادعين والمثنين على الرفقاء؟‬

‫‪ 17-1‬ولذلك أسألك إن كان لديك عالج لتضع نهاية لتقلبي‪ ،‬حتى أعتقد بأنني‬
‫أستحق أن أدين لك بسكينتي‪ ،‬وإنني أعلم أن اضطرابات العقل ال تهدد الحياة‬
‫حقيقيا‪ ،‬ولكني أعبر لك عن شكواي بصدق‪ ،‬وأنا لست‬
‫ًّ‬ ‫وال تجلب اضطرا ًبا‬
‫مكلو ًما بالعاصفة(‪ ((31‬بل بدوار البحر‪ ،‬ولذلك خذ مني مهما كان الشر وأقبل‬
‫متعثرا في رؤية األرض‪.‬‬
‫ً‬ ‫على عوني كما لو كنت‬

‫وقال سينيكا في الحقيقة‪ :‬يا سيرينيوس‪ ،‬قد أسأل نفسي بصمت اآلن‪ ،‬ما الذي‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫يتساوى مع هذه الحالة في العقل‪ ،‬ولن ُأقبل على أي توا ٍز أقرب من حالة‬
‫هؤالء الذين يتعافون من أمراض مستديمة وخطيرة تحل بشكل متقطع بحمى‬
‫طفيفة أو صدمات خفيفة‪ ،‬وعندما هربوا من أثرها ال يزالون مضطربين بعدم‬
‫األمن وتمتد أيديهم لألطباء حين يكونون أصحاء بالفعل‪ ،‬ويفكرون بالمرض‬
‫صحيحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كلما الحت الحمى في أجسادهم‪ ،‬فجسد هؤالء يا سيرينيوس ليس‬
‫بل غير معتاد للصحة مثل ارتجاف البحر الهادئ حين يتعافى من العاصفة‪.‬‬

‫ليس هناك حاجة لهذه العالجات القاسية التي قمنا بها بالفعل‪ ،‬والتي قاومتها‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫نفسك تار ًة وأغضبتها تار ًة وضغطت عليها بشدة تار ًة أخرى‪ ،‬ولكنك تحتاج‬
‫ما يعالجك تما ًما حتى تتيقن وتؤمن بأنك تسير على المسار الصحيح‪ ،‬وال‬
‫تدع نفسك تتحول بالمسارات المعاكسة التي يركض فيها كثير من الناس هنا‬
‫وهناك ويطوفون حول المسار ذاته‪.‬‬

‫ألن ما كنت تتوق إليه شيء عظيم ومأثرة سامية وهي القرب من الرب ال‬ ‫‪ 3-2‬‬

‫(‪ ((31‬ويستدعي التصوير العرضي للبحر والعاصفة على طول الحوار الشعور األصيل للسكينة– هدوء البحر‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫أن تكون مذبذ ًبا‪ ،‬ويطلق اليونانيون على هذا التوازن الثابت للعقل يوثيما‬
‫‪( euthymia‬هناك أطروحة بديعة لديمقريطوس عنها)‪ ،‬وأدعو إلى هذه‬
‫السكينة وال نملك أن نحاكي أو ننقل كلماتها في الصورة التي استعملوها‪،‬‬
‫بل ما علينا أن نلحظه هو الشيء الفعلي في االسم‪ ،‬وهو المعنى وليس الصورة‬
‫التي صاغها اليونانيون‪.‬‬

‫ولذلك نحن نبحث كيف يمكن للعقل أن يتحرك دو ًما بوتيرة مالئمة وينظم‬ ‫‪ 4-2‬‬
‫ذاته تما ًما‪ ،‬ويسعد بالنظر إلى طبائعه وال يعيق هذه الفرحة‪ ،‬بل يبقى في حال‬
‫هادئ ال يرفع نفسه لألعلى وال يخفض ذاته لألسفل‪ ،‬وهذه هي السكينة‪،‬‬
‫ودعنا ندرس كيف يمكننا أن نصل إلى هذا عمو ًما‪.‬‬

‫وسوف تأخذ بقدر ما تريد من هذا العالج الشامل‪ ،‬وفي الوقت نفسه علينا أن‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫نسحب الرذيلة إلى الفضاء حيث تمامها حتى يمكن للجميع أن يدرك قسمته‪،‬‬
‫وحين تفهم كيف تقل المتاعب بامتعاض النفس(‪ ((31‬أكثر من ارتباطك‬
‫بالبهرجة واإلثقال بالهدوء القاتل سوف تبقى في ذريعتهم بالخجل بدلاً من‬
‫إرادتهم‪.‬‬

‫ٍ‬
‫امرئ يضجر من عدم االستقرار‬ ‫والجميع يواجه المشكلة نفسها‪ ،‬وكل‬ ‫‪ 6-2‬‬
‫والملل والتغير المستمر للغايات‪ ،‬فمنهم َمن يفضل أن يتركهم خلفه‪ ،‬ومنهم‬
‫الذي يشحب ويتثاءب‪ ،‬وأضف إليهم مجموعة أخرى تصد وتنعطف مثل‬
‫المؤرقين ويغيرون الموقف بهذه الطريقة إلى أن يجدوا الراحة من اإلنهاك‬
‫المضني‪ ،‬وبإعادة صياغة حياتهم يستقرون أخيرا في المزاج الذي تجاوزوه‬
‫ليس بالنفور من التغير بل بالشيخوخة التي أقعدتهم عن االبتكار‪ ،‬وأضف‬
‫مجموعة أخرى ليسوا مستقرين ً‬
‫أيضا؛ ليس بخطأ االتساق بل بضعف القدرة‪،‬‬

‫(‪ ((31‬عن امتعاض النفس ‪ fastidium sui‬واالستعماالت المختلفة ‪ fastidium sui‬في العموم انظر ‪chap. 5 of Kaster‬‬
‫‪.2005‬‬

‫‪250‬‬
‫وال يعيش هؤالء كما يريدون بل كما بدأوا‪.‬‬

‫ولهذه الرذيلة خصائص ال حصر لها ومخرج واحد فحسب لتستاء بالنفس‪،‬‬ ‫‪ 7-2‬‬
‫ويأتي هذا من العقل الرديء المتحول‪ ،‬ومن الرغبات الخجولة أو غير‬
‫المحققة‪ ،‬وحين ال يجرؤون على أن يرغبوا بقدر ما أو ال يحققونها أو يشدهم‬
‫األمل فإنهم ال يستقرون ويتقلبون كما يحدث للرجال في التشويق‪ ،‬وهم‬
‫مساعي شاقة‬
‫َ‬ ‫يكدحون نحو غاياتهم بكل طريقة‪ ،‬ويجرون على أنفسهم‬
‫ومهلكة‪ ،‬وحين يذهب مجهودهم سدى يعذبون بالعار الذي ال طائل تحته‬
‫والحزن‪ ،‬ليس ألنهم يبتغون األشياء الضرورية‪ ،‬بل يريدون األشياء التفاهة‪.‬‬

‫ومن ثم يتملكهم الندم في تعهدهم والخوف من محاولة هذا‪ ،‬وهناك يتسلل‬ ‫‪ 8-2‬‬
‫مخرجا؛ ألنهم لم يتحكموا في رغباتهم ولم‬
‫ً‬ ‫إليهم العقل الذي ال يجد‬
‫يشبعوها‪ ،‬فحيرة الحياة ال تعمل خارج ذاتها‪ ،‬وال تتجاهل النفس الخاملة بين‬
‫غاياتها المنبوذة‪.‬‬

‫وكل هذه األمور عبء ثقيل حيث تتجذر عن النفور لفشلهم المضني الذي‬ ‫‪ 9-2‬‬
‫يلجؤون إليه في الراحة وفي العزلة والدراسة والتي ُترقي العقل للواجبات‬
‫المدنية والتحمس ألعمال ال يمكن أن تحملها‪ ،‬وليس لها طبيعة قلقة‬
‫وتشتمل على قليل من السلوى الباطنة‪ ،‬ولذلك حين ُتسحب الملذات التي‬
‫تسعى إلشغال الناس الذين يركضون حولها‪ ،‬فإن عقولهم لن تتحمل المنزل‬
‫والعزلة وجدرانها‪ ،‬ويكرهون التأمل الذي تخلو به النفس‪.‬‬

‫‪ 10-2‬وال يستقر ملل النفس وسخطها وقذف العقل والتجهم والحمل الذي ُيمرض‬
‫الراحة‪ ،‬وقد يحدث أكثر من هذا حين يشعر المرء بالخزي لقبول األسباب‪،‬‬
‫ويدفي الخزي بالعذاب داخله‪ ،‬وتتحدد الرغبات في مساحة صغيرة وتخنق‬
‫نفسها دون أي هروب‪ ،‬حيث يقبل الحزن والذبول وألف موجة تقذف العقل‬
‫الشاك‪ ،‬ويظلون معلقين بآمال لن تتحقق‪ ،‬وحزانى بآمال تخلوا عنها للضياع‪،‬‬
‫‪251‬‬
‫ومن هنا ُتقبل الحالة العاطفية للناس فتذبح راحتهم‪ ،‬ويشكون أنه ليس لديهم‬
‫ما يفعلونه‪ ،‬والحسد هو أعظم عداء لتقدم اآلخرين‪ ،‬حيث يغذي التراخي‬
‫الفاشل كآبتهم فيرغبون في تحطيم الجميع؛ ألنهم لم يتمكنوا من التقدم‪.‬‬
‫ً‬
‫ساخطا‬ ‫‪ 11-2‬والغضب من نجاحات اآلخرين والقنوط من إنجازاتهم يولد عقلاً‬
‫من الحظ وناد ًبا لعصره ومنسح ًبا إلى زوايا ليتفادى العقاب‪ ،‬إلى أن يشعر‬
‫المرء بالضجر والخجل من نفسه‪ ،‬حيث تنشط طبيعة العقل البشري وتخضع‬
‫للحركة‪ ،‬وأي مصدر يثير النفس فهو موضع ترحيب‪ ،‬وأسوأ أنواع العقول‬
‫الذي يسعد بالبقاء مشغولاً بأي طريقة‪ ،‬كما تبحث بعض القروح عن ٍ‬
‫أيد‬
‫تصيبها وتنعم بالحك‪ ،‬ومهما كانت مباهج السخط فإن القبح يشوه أجسادهم‪،‬‬
‫وأود أن أقول إن العقول التي تندلع رغباتها مثل قرحة منتنة تقتبس اللذة من‬
‫الكد واألذى‪.‬‬

‫‪ 12-2‬وتبهج بعض األشياء جسدنا بنوع من األلم مثل تحول الجسم وتوجهه ناحية‬
‫الجانب الذي ال يتعبه سع ًيا الستعادة النشاط من موضع إلى آخر‪ ،‬وهذا النوع‬
‫من الناس مثل أخيلوس في هوميروس حيث يرقد على ظهره تار ًة وعلى وجهه‬
‫تار ًة أخرى‪ ،‬وهو يعيد ترتيب نفسه في مواضع مختلفة مثل الرجل المريض‪،‬‬
‫ال يثبت على موضع لفترة طويلة ويتعامل مع التغيرات كنوع من العالج‪.‬‬

‫‪ 13-2‬ولهذا السبب يتجول الناس في أسفارهم ويهيمون حول المنتجعات الشاطئية‪،‬‬


‫حيث إن ضجرهم ُيعادي ظروفهم الحاضرة دو ًما‪ ،‬فيختبرون أنفسهم بالبحر‬
‫تار ًة وعلى األرض تار ًة أخرى‪« ،‬دعهم يمرحون بالمزارع كامبانيا ‪Campania‬‬
‫اآلن”‪ ،‬وقري ًبا سيجلسون بالمنتجعات الفارهة»‪“ ،‬ودعهم يمرحون ويرون‬
‫البالد البربرية ويعملون من أجل مربى بروتيوم ‪ Bruttium‬ولوكانيا ‪.Lucania‬‬
‫ولكن حتى في المناطق غير المأهولة يفتقدون المفاتن حتى يمنحوا أعينهم‬
‫المدللة الراحة من امتداد اإلهمال للتضاريس الوعرة»‪“ ،‬دعهم يمرحون في‬
‫‪252‬‬
‫تارينتوم ‪ Tarentum‬بمينائها المشيد وطقس شتائها المعتدل وثراء مناطقها‬
‫النائية”‪“ ،‬اآلن دعهم يتحولون عن المدينة”‪ ،‬فقد يحرمون آذانهم من التصفيق‬
‫لفترة طويلة‪ ،‬واآلن يحرصون على التمتع بإراقة دماء البشر(‪.((31‬‬

‫‪ 14-2‬وشرعوا في رحلة تلو األخرى‪ ،‬وتحولوا من حفلة إلى أخرى كما يقول‬
‫لوكريتوس ‪ Lucretius‬لهذا السبب يهرب كل إنسان من نفسه‪ ،‬ولكن إلى أين‬
‫يهرب إن لم يهرب من نفسه؟ إنه يهرب إلى رفقائه الذين يدفعونه‪ ،‬فالرفقاء‬
‫هم َمن يتحملون العبء األعظم‪.‬‬

‫‪ 15-2‬وعلينا أن ندرك أننا نعاني ال لخطأ في محيطنا بل لخطأ فينا‪ ،‬ونحن أضعف‬
‫من أن نتحمل أي شيء‪ ،‬فال نتحمل كدًّ ا وال سعادة وال حتى أنفسنا‪ ،‬وال أي‬
‫شيء لفترة طويلة‪ ،‬وقد تدفع هذه الحالة بعض الناس إلى الموت؛ ألنهم‬
‫حين يغيرون غاياتهم باستمرار يرتدون إلى النظام نفسه‪ ،‬وال يتركون مجالاً‬
‫للتجديد‪ ،‬فيتخمون بالحياة والعالم ذاته‪ ،‬وقد ُيجهز عليهم النواح القديم‬
‫لالنغماس الفاسد‪“ ،‬فمتى نختبر األشياء ذاتها؟”‪.‬‬

‫وأنت تسألني ما الذي تستعمله ليعينك تجاه هذا الملل‪ ،‬إنه من األفضل كما‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫‪((31( Athenodorus‬‬
‫أن تبقى النفس منشغلة باألعمال‬ ‫يقول أثينودوروس‬
‫وتدبير الشؤون العامة وخدمة المواطنين‪ ،‬كما يقضي بعض الناس النهار في‬
‫الشمس المفتوحة يمارسون التمارين ويعتنون بصحتهم الجسدية‪ ،‬واألكثر‬
‫نفعا للرياضيين أن يغذوا أذرعهم ويقووها‪ ،‬وهذه هي مهمة يكرسوا لها الجزء‬
‫ً‬
‫(‪ ((31‬لقد عبرت رسالة هوراس ‪ Horace Epistles‬عن هذا في ‪“( 26-11-1‬الرجال الذين يندفعون للبحر يغيرون بيئتهم‬
‫وال يغيرون حال عقولهم”) وقد سبقهم لوكريتوس‪ ،‬ويقتبس سينيكا من لوكريتوس ‪ Lucretius 3.1068‬فقرة ممتدة‬
‫تصف سخط النفس ‪ self-discontent‬وأثره على السلوك‪.‬‬
‫معلما للفلسفة ألوغسطس الشاب‪ ،‬ومقدم المشورة للعائلة اإلمبراطورية‪ ،‬ولسنا على‬
‫ً‬ ‫(‪ ((31‬كان أثينودوروس الطرطوسي‬
‫يقين أنه ترجم االقتباس‪ ،‬وهو مجرد إعادة صياغة لتعليمه البدايات والنهايات‪ ،‬ولقد تابعت نص رينولدز ‪Reynolds‬‬
‫(‪ ،)1977‬والذي خصه في ‪.8-2-3‬‬

‫‪253‬‬
‫األكبر من وقتهم‪ ،‬ولذلك حين تعد عقلك لصراع الشؤون المدنية‪ ،‬فهذا إلى‬
‫حد بعيد جميل حيث ُتشغل نفسك بنشاط؛ ألن المرء حين يعتزم أن يصنع‬
‫نافعا لمواطنيه والبشرية عامة فإنه ُيدرب نفسه ويطورها في خضم‬
‫من نفسه ً‬
‫الخدمات العامة وإدارة كل من األعمال الخاصة والعامة وف ًقا لقدرته‪.‬‬

‫وهو يقول «ولكن»؛ «ألن البساطة غير آمنة في هذه الحياة التي يخيم عليها‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫طموح االفتراء إلحباط العمل الحق وإظهاره على أنه سيئ‪ ،‬واإلعاقة فيها‬
‫أكثر من الدعم دو ًما‪ ،‬ولذا ينبغي أن ننسحب من ميدان الحياة العامة‪ ،‬ومن ثم‬
‫على العقل العظيم أن ينفتح على ذاته حتى لو في أعماله الخاصة وال يندفع‬
‫لطريق المخلوقات الضارية والوحوش التي ُتحتجز في أقفاص‪ ،‬أليس صوا ًبا‬
‫أن تتجلى أعظم أعمال البشر في التقاعد‪.‬‬

‫ترفيها‪ ،‬إنه أراد نفع‬


‫ً‬ ‫ولذلك دعه يذهب إلى التقاعد بشرط أن تكون العزلة له‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫األفراد والمجتمع برمته بنظره وقوله ونصيحته‪ ،‬والحق أنه ليس هو الشخص‬
‫المرشح للمنصب والمدافع عن التهم والمانح لرأيه في الحرب والسالم‪ ،‬إنه‬
‫النافع للدولة‪ ،‬والمشجع للشباب‪ ،‬والمانح للتعليم الحسن لنقصه الحاد‪،‬‬
‫لمن ُيسارعون لكسب‬
‫والغارس للفضيلة في العقول‪ ،‬وهو القابض والمحجم َ‬
‫األموال والتمتع بالرفاهية أو على األقل يبطئهم‪ ،‬فهذا الشخص يقوم بأعمال‬
‫عامة في قالب خاص‪.‬‬

‫حاكما ‪ praetor‬حضر ًّيا‬


‫ً‬ ‫أو يعمل قاض ًيا يحكم بين الغرباء والمواطنين‪ ،‬أو‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫يعلن آراء مساعديه للذين يستشيروه‪ ،‬أو يعمل أكثر من هذا فيفسر العدالة أو‬
‫التقوى أو التحمل أو الشجاعة أو يتأمل الموت ومعرفة األرباب‪ ،‬فكيف يمنح‬
‫البركة بحرية وهو حسن الضمير(‪((31‬؟‬

‫(‪ ((31‬ال يزال سينيكا يفكر في مهن السيناتورات والقادة‪ ،‬وكان البرايتور األجنبي ‪ praetor peregrinus‬يشرف على‬
‫الخالفات بين الرومانيين واألجانب‪ ،‬ويترأس البرايتور المدني ‪ urban praetor‬الخالفات بين المواطنين‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫كرست الوقت للدراسات التي استنبطتَها من واجبات العامة‪ ،‬فال‬
‫َ‬ ‫ولذلك إذا‬ ‫‪ 5-3‬‬
‫تتنح عن هذا العرض‪ ،‬فليس المقاتل َمن يعمل كجندي فيقف في خط‬
‫ترتد أو َ‬
‫المعركة ويدافع عن الميمنة والميسرة‪ ،‬بل هو الرجل الذي يحرس البوابات‬
‫خطرا شرط أن تكون بعيدة عن الخمول‪ ،‬ويظل مراق ًبا‬
‫ً‬ ‫و ُيؤدي وظيفة أقل‬
‫ً‬
‫ومشاركا في إعدادات الحرب‪ ،‬مع أن هذه الخدمات خالية من إراقة الدم إال‬
‫أنها مناصب عسكرية‪.‬‬

‫وإن استدعيت نفسك للدرس‪ ،‬فسوف تهرب من أي نفور للحياة‪ ،‬ولن تقضي‬ ‫‪ 6-3‬‬
‫الليل خو ًفا من طلوع النهار‪ ،‬ولن ُتكلف نفسك‪ ،‬ولن تضيق على اآلخرين بال‬
‫ضرورة‪ ،‬وسوف تفوز بمزيد من األصدقاء‪ ،‬وأفضلهم سوف يمضي نحوك‪،‬‬
‫فرغم أن الفضيلة خفية فلن تمضي دون أن يالحظها أحد‪ ،‬بل ترسل إشارات‬
‫من ذاتها‪ ،‬و َمن يستحقها سوف يجدها من مسالكها‪.‬‬

‫ألننا إذا استبعدنا كل الوصال االجتماعي وتنكر جنس البشر وأقبلت الحياة‬ ‫‪ 7-3‬‬
‫علينا فحسب‪ ،‬فإن نتيجة هذه العزلة التي تحرم من الدرس ستقلل األشياء‬
‫التي نعملها‪ ،‬في حين نبتغي أن ُنشيد بعض المباني ونهدم أخرى‪ ،‬وندفع‬
‫البحر للخلف‪ ،‬ومن ثم مسارات التيارات لنصارع صعوبة الموقع‪ ،‬ونجعل‬
‫االستعمال السيئ للوقت طبيعة ُأعطيت لنا لنمضي بها‪.‬‬

‫فبعض منا يستخدمها بشكل متقطع‪ ،‬والبعض اآلخر يبددها‪ ،‬وبعضنا يقضيها‬ ‫‪ 8-3‬‬
‫بنفس الطريقة التي تمكننا أن نعطيها بها‪ ،‬والبعض اآلخر ال ُيبقي لنا شيئًا وهو‬
‫األكثر خز ًيا من هذه الحاالت‪ ،‬وغال ًبا ليس للرجل الكهل ٌ‬
‫دليل يبرهن به على‬
‫أنه عاش طويلاً سوى عمره الفعلي‪.‬‬

‫عزيزي سيرينيوس‪ ،‬يبدو لي أن أسينودوروس سلم نفسه لزمننا وتقاعد في‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫الحال‪ ،‬وال أنكر أنه ينبغي أن نفسح المجال في وقت ما‪ ،‬ولكن علينا أن نرتد‬
‫تدريجيا‪ ،‬حيث‬
‫ًّ‬ ‫بمعاييرنا ومنزلتنا العسكرية التي ال زلنا ُنبقي عليها للخلف‬
‫‪255‬‬
‫وسلما مع أعدائهم حين سلموا أسلحتهم كاملة‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫الرجال األكثر احترا ًما‬
‫ما أظن ما أنه ينبغي أن تصنعه الفضيلة ومحبها‪.‬‬

‫وإذا تغلب عليه الحظ(‪ ((31‬وقلل من قدرته على الفعل‪ ،‬فال ينبغي عليه أن‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫يتحول على الفور ويهرب أعزل ساع ًيا لمخبأ‪ ،‬كما لو كان ال يالحقه الحظ‬
‫في أي مكان‪ ،‬بل عليه أن يدنو من واجباته باعتدال وينتقي بعض األنشطة التي‬
‫يمكن أن تنفع الدولة‪.‬‬

‫وال ُيسمح له بالعمل كجندي‪ ،‬ومن ثم دعه يسعى لمنصب‪ ،‬وعليه أن يعيش‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫كمواطن بنمط خاص فدعه يكون داعي ًة‪ ،‬إنه مفروض عليه الصمت فدعه ينفع‬
‫مواطنيه بشجاعة صمته‪ ،‬فهل محظور أن يدخل المحكمة؟ فدعه يمثل العشير‬
‫الحسن والصديق المخلص والضيف المعتدل في بيوت الناس والمنافسات‬
‫الرياضية والحفالت‪ ،‬فهل فقد واجبات المواطن؟ فدعه يؤدي واجبات‬
‫الوجود اإلنساني‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة وبالعقل المترفع ال نقيد أنفسنا داخل أسوار المدينة عينها‪ ،‬بل‬ ‫‪ 4-4‬‬
‫ندفع أنفسنا للقيام بأعمال مع العالم كله و ُنظهر للعالم وطننا‪ ،‬ولنمنح فضيلتنا‬
‫وحرمت من حديث المنبر‬ ‫مكا ًنا أرحب‪ ،‬وإذا ُأغلق عليك كرسي القضاء‪ُ ،‬‬
‫والمجلس(‪ ،((31‬انظر خلفك لترى مدى رحابة األقاليم والشعوب التي تقطن‬
‫عظيما‪ ،‬وليس ما تركته هو أعظم‬
‫ً‬ ‫وراءها‪ ،‬وليس هناك مكانٌ يمنعك أن تكون‬
‫مكان‪.‬‬

‫ولكن التفكير في إذا كانت هذه األشياء وساوس وليست رذيلة حيث إنك‬ ‫‪ 5-4‬‬

‫(‪ ((31‬يعتبر الحظ مسؤوال عن جميع المصائب غير المستوجبة على ما يبدو‪ ،‬وبجانب العمل في الحياة السياسية‪ ،‬فإنه يأخذ‬
‫دورا ً‬
‫بارزا في الفصل الثامن فصاعدً ا‪.‬‬ ‫ً‬
‫(‪ ((31‬يحظر على الرجل المحكوم عليه بالنفي أو الفضيحة ‪ infamia‬من الظهور في المحكمة أو حضور الجمعية الشعبية‪ ،‬وال‬
‫يمكن ألي أحد أن يظهر على منصة المتحدث إلاَّ إذا ُدعي من رئيس المحكمة‪ ،‬ويشير سينيكا إلى التناقض باستحضار‬
‫الوظائف غير الرومانية من بريتانيس ‪ prytanis‬وكيروكس ‪ prytanis‬وسيفيس ‪Sufes.‬‬

‫‪256‬‬
‫ترغب في المشاركة في أعمال الدولة كقنصل فقط أو كممثل للقضاء أو‬
‫ٍ‬
‫كرسول في اإلغريق أو رئيسا للدولة في قرطاجة‪ ،‬فهل تفترض أنك ليست‬
‫زعيما؟ وحتى لو‬
‫ً‬ ‫على استعداد للمشاركة في المعركة إال إذا كنت قائدً ا أو‬
‫شغل اآلخرون الخط األول ووضعك قدرك في الخط الثالث‪ ،‬فقاتل من هناك‬
‫راسخا مع الذي ُقطعت يداه‬
‫ً‬ ‫بصوتك الشجاع والمثالي والمعنوي‪ ،‬وقف‬
‫ودعمه بصرختك حتى يجد شيئًا ما يشارك بجانبه(‪.((31‬‬

‫وهكذا أصنع شيئًا من هذا النوع‪ ،‬وإذا أبعدك الحظ عن المستوى األول في‬ ‫‪ 6-4‬‬
‫الحكومة‪ ،‬فقف وامنح الدعم بصرختك‪ ،‬وإذا ضيق ٌ‬
‫امرؤ عليك الخناق قف‬
‫وامنح الدعم بالصمت‪ ،‬فمسعى المواطن الصالح ال يذهب ُسدى؛ فإنه ُيسمع‬
‫و ُيرى بتعبيره‪ ،‬وإيمائه ومثابرة صمته‪ ،‬وحتى طريقة المشي هي من سبيل‬
‫العون‪.‬‬

‫وكما أن بعض األدوية مجرد الرائحة فيها نافع دون تذوقها أو تجرعها‪ ،‬فكذلك‬ ‫‪ 7-4‬‬
‫الفضيلة خفية وبعيدة‪ ،‬إلاَّ أن قيمتها رائجة سواء درستها وتمرست صحيحها‬
‫على ذاتها أو وجدث هجمة خطرة وأجبرت على لف أشرعتها‪ ،‬وسواء أكانت‬
‫مفتوحا‪ ،‬فكل حال‬
‫ً‬ ‫خاملة وصامتة وحددت في مكان ضيق أو كانت مجالاً‬
‫صالحا كمثال؟‬
‫ً‬ ‫للفضيلة نافع‪ ،‬فلماذا تعتقد أن اإلنسان الذي يظل صامتًا ليس‬

‫ولذلك من األفضل إلى حد بعيد أن تخلط الراحة بأعمالك الخاصة كلما‬ ‫‪ 8-4‬‬
‫منعت حواجز الصدفة وحالة الدولة حياة العمل؛ ألن كل الخيارات لم تكن‬
‫ُمسيج ًة تما ًما ولم تترك مجالاً للعمل الشريف‪.‬‬

‫هل يمكنك بأي حال أن تجد مدين ًة أكثر ً‬


‫بؤسا من أثينا‪ ،‬حين مزقها الطغاة‬ ‫‪ 1-5‬‬

‫(‪ ((31‬يستدعي هذا أسطورة شقيق أسخيلوس الذي فقد يديه في سالميس ولكنه قاتل‪ ،‬ويردد لوكان ابن شقيق سينيكا هذه‬
‫األسطورة في روايته لبطل خيالي في معركة بحرية في ماسيليا ‪ ،Massilia‬وقد اختلق مونتي باثون ‪ Monty Python‬في‬
‫فارسا يقاتل رغم أنه حرم من أطرافه األربعة‪.‬‬
‫فيلم كوميدي ً‬

‫‪257‬‬
‫ٍ‬
‫مواطن من أفضل الرجال‪ ،‬بل لم‬ ‫الثالثون إر ًبا؟ إنهم قتلوا أل ًفا وثالثمائة‬
‫يضعوا نهاية لهذا فقد حفزت وحشيتهم ذاتها‪ ،‬وفي هذه المدينة التي عقدت‬
‫فيها أريوباجوس ‪ Areopagus‬وهي أكثر المحاكم تدقي ًقا‪ ،‬وكان فيها مجلس‬
‫للشيوخ‪ ،‬وشعب مماثل لمجلس الشيوخ اجتمع فيها مجموعة النحس‬
‫الجالدين كل يوم‪ ،‬واحتشد الطغاة في مجلس الشيوخ التعس‪ ،‬فهل يمكن‬
‫َر َواح الدولة في ظل الطغاة مثلما كانت عليه في ظل المخلصين؟ إن عقولهم‬
‫يلح في األفق عالج للقوة العتية‬
‫لم تتمتع حتى بأمل الستعادة حريتهم‪ ،‬ولم ْ‬
‫للشر‪ ،‬فكيف للمدينة الفقيرة أن تجد هارموديين ‪ ((32( Harmodii‬كثر‪.‬‬

‫منفتحا في الحياة العامة وأثنى على اآلباء وحث الرجال اليائسين‬


‫ً‬ ‫وكان سقراط‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫وخوفهم من عواقب ثرائهم؛ ألنهم أدركوا‬
‫َّ‬ ‫من الدولة‪ ،‬والم الرجال األثرياء‬
‫عظيما‬
‫ً‬ ‫متأخرا المخاطر التي جلبها عليهم جشعهم‪ ،‬وتحمل أن يكون مثالاً‬
‫ً‬
‫حرا بين ثالثين سيدً ا‪.‬‬
‫لمن رغبوا أن يحاكوه‪ ،‬وسار ًّ‬
‫َ‬
‫ولكن أثينا نفسها قتلته في محبسه‪ ،‬ولم تتحمل الحرية حرية الرجل الذي‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫أثار بسالم حشد الطغاة‪ ،‬وتعلم من هذا أنه حتى في دولة االضطهاد هناك‬
‫فرصة للرجل الحكيم ليضع نفسه في المقدمة‪ ،‬وأن الدولة السعيدة والمزدهرة‬
‫يهيمن عليها الحسد وآالف الشرور األخرى‪.‬‬

‫ورغم أن الحكومة تمثل نفسها‪ ،‬ورغم ما يسمح به الحظ‪ ،‬فإننا سنوسع‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫أنفسنا أو نقلصها بالطريقة التي نرتضيها نحن‪ ،‬وعلى أي حال‪ ،‬اتخذ القرار‬
‫وال تشله أو تخنقه بالخوف‪ ،‬وفي الحقيقة أن الرجل الذي تهدده المخاطر من‬

‫(‪ ((32‬استولى الطغاة الثالثون على حكومة أثينا عام ‪ 404‬ق‪.‬مبناء على طلب األسبرطيين المنتصرين‪ ،‬وشملت المؤسسات‬
‫الديموقراطية األريوباجوس ‪ Areopagus‬وهو محكمة دينية قديمة‪ ،‬واألبول ‪ boule‬وهو مجلس الخمسمائة‪،‬‬
‫والكنيسة ‪ ،ecclesia‬والجمعية المفتوحة للمواطنين‪ ،‬والمجمع الخطابي ‪ Harmodii‬ويرمز للمقلدين هارموديوس‬
‫‪ Harmodius‬وإريستوجيتون ‪ Aristogeiton‬اللذين اختاال الطاغية هيبارخوس ‪ Hipparchus‬عام ‪ 514‬ق‪.‬م‪ ،‬ولقد‬
‫نجا سقراط من الطاغية‪ ،‬ولكن حكم عليه بالموت من قبل ممثلي الديموقراطية المرممة عام ‪ 399‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫كل جانب وتحيط به السالسل والقيود ولم يقمع أو يخفي فضيلته ذلك هو‬
‫البطل‪ ،‬فدفن النفس ليس شكلاً من صور الخالص‪.‬‬
‫‪((32( Curius‬‬
‫الحق على حد‬ ‫لقد قال كوريوس دينتاتيوس ‪Dentatus‬‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫اعتقادي حين رأى أنه يفضل الموت على االستمرار في الحياة؛ ألن أسوأ‬
‫صادفت فترة‬
‫َ‬ ‫المحن أن تتخلى عن مراتب العيش قبل أن تموت‪ ،‬ولكن إذا‬
‫وجيزة في السياسة سوف تراها أكثر وقت للهدوء في الراحة والدراسة كما‬
‫لو كنت تتعجل سرعة العودة للميناء بعد رحلة خطرة‪ ،‬وال تنتظر أن ترسلك‬
‫األعمال بعيدً ا بل خلص نفسك منها‪.‬‬

‫واآلن ينبغي أن نفحص أنفسنا قبل كل شيء‪ ،‬ومن ثم العمل الذي نقوم به‪ ،‬ثم‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫الناس الذين نعمل ألجلهم ومعهم(‪.((32‬‬

‫وعلينا أن ُنقيم النفس ًّ‬


‫ذاتيا(‪ ((32‬قبل كل شيء؛ ألننا نعتقد بأننا قادرون على‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫فعليا‪ ،‬فأحدنا يتعثر بثقته في بالغته‪ ،‬وآخر قد‬
‫ًّ‬ ‫أن نفعل بأكثر مما نستطع‬
‫يستدعي من ملكاته الموروثة أكثر مما تتحمله‪ ،‬وآخر قد يرده ضعف المزاج‬
‫مع الواجب الشاق‪ ،‬وليس تواضع البعض مناس ًبا للحياة العامة التي تحتاج‬
‫إلى نظرة واثقة‪ ،‬وجهل اآلخرين ال يناسب المحكمة‪ ،‬فهناك َمن ال يسيطر‬
‫على غضبه‪ ،‬وقد يحملهم أي سبب للغضب إلى الكلمات النابية‪ ،‬وهناك َمن‬
‫ال يسيطرون على خفة دمهم وال يمتنعون عن النكات المحرجة‪ ،‬فمثل هؤالء‬
‫التقاعد لهم أولى من العمل‪ ،‬الطبيعة نافذة الصبر والشعواء ينبغي أن تتجنب‬

‫(‪ ((32‬كان كوريوس قنصلاً عام ‪ 290‬ق‪.‬م واشتهر لرفضه المثالي لرشوة العدو‪ ،‬وكذلك أسلوب حياته البسيط (‪Valerius‬‬
‫‪ ،)Maximus 4.3.5‬ولم أعثر على مصدر لهذه األقوال‪.‬‬
‫(‪ ((32‬يبدو أن هذه قائمة بمواضيع سينيكا بالتسلسل‪ ،‬فالتقييم األول على قدراته‪ ،‬ثم الجرأة التي يتحلى بها‪ ،‬ثم روابط اإلنسان‬
‫أو المستفيدين‪ ،‬ولكن هذا مجرد تحليل جزئي للفصول اآلتية من ‪6‬إلى ‪.9‬‬
‫(‪ ((32‬يستدعي هذا التقييم للذات الفحص الذاتي األولي لسيرينوس واإلشارات التالية لنقد الذات في ‪ 7-2‬و‪ 9-2‬و‪2-14‬‬
‫أدناه‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫استفزازات الصراحة التي ستضر بهم‪.‬‬

‫وعلينا أن ُنقيم المشاريع التي نتعامل معها ونطابق قوتنا أمام األعمال التي‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫نحاول أن نؤديها‪ ،‬حيث يجب أن يكون األداء أكثر قوة من العمل المطلوب‬
‫دوما‪ ،‬فإن عظمت األعباء على المتحمل تقهره بالضرورة‪ ،‬وبجانب هذا ليست‬
‫بعض المشاريع عظيمة بقدر ما تنتجه وتتحمله أعمال أخرى بها‪ ،‬وبعضها‬
‫ُيولى من أن تتولد انشغاالت أخرى جديدة لها جوانبها المختلفة‪ ،‬فابتعد عن‬
‫أي شيء ليس فيه حرية االنسحاب‪ ،‬وضع يدك على مثل هذه األعمال بقدر ما‬
‫عما يمتد بعيدً ا في‬ ‫َّ‬
‫وتخل َّ‬ ‫تستطيع أو على األقل بقدر ما تأمل أن ترى نهايتها‪،‬‬
‫سير العملية‪ ،‬وال ُتقبل على النهاية التي تحددها أنت‪.‬‬

‫وفي أيي حال علينا أن نحذر في اختيار الناس سواء أكانوا يستحقون أن نضع‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫جزءا من حياتنا في ثقتهم أم كانوا يضيعون وقتنا إن امتد إليهم‪ ،‬حيث إن بعض‬
‫ً‬
‫الناس مدينون بخدماتنا في خطوتهم األولى‪.‬‬

‫وكان أثينودوروس يقول إنه سوف لن يلبي دعوة عشاء لمن ال يشعر بأنه‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫لمن يقل استعدادهم‬
‫مدين له بهذا العشاء‪ ،‬وأعتقد أنك تدرك سوف يذهب َ‬
‫للذين يستعملون سفرتهم ليخلصوا لواجبات أصدقائهم‪ ،‬والذين يعدون‬
‫الوليمة كما لو كانوا يفعلون الكرم وغير مقيدين في الشرف بدخيل‪ ،‬فنأى‬
‫عن شهودهم ومتفرجيهم وأكل منازلهم الخاص(‪ ((32‬الذي ال ُيعطي أي لذة‪،‬‬
‫وعليك أن تتأمل سواء أكانت طبيعتك مناسبة للعمل الفعال‪ ،‬أم الدراسة في‬
‫واتكئ على االتجاه الذي سيحمل قوة عقلك‪ ،‬فقد وضع‬
‫ْ‬ ‫الراحة والتأمل‪،‬‬
‫أسيوقراطيس ‪ Isocrates‬يده على أفوروس ‪ Ephorus‬وأخذه بعيدً ا عن الحياة‬

‫(‪ ((32‬تدين هذه العبارة الغريبة تقديم دعوات العشاء على أنها وفاء بااللتزامات تجاه التابعين والمرؤوسين‪ ،‬كما لو كان‬
‫المستفيد يستعمل قاعة عشائه كمنزل لألكل الرخيص في حين دفع الوضعاء ثمن ما أكلوه‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫العامة معتقدً ا أنه من األفضل له أن يسجل وقائع التاريخ(‪ .((32‬والحقيقة أن‬
‫العقول المجبورة تستجيب باإلكراه حين تقاوم الطبيعة ويهدر الجهد‪.‬‬

‫ومع ذلك ال شيء يبهج العقل بقدر الصدق والصداقة العذبة‪ ،‬وعظيم بركتها‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫يكون حين يستعد الصدر لتلقي كل سر ويأمن عليه‪ ،‬والذين يتحدثون بلين في‬
‫قلقك‪ ،‬والذين ييسر رأيهم قرارك‪ ،‬والذين يهزمون حزنك بالبهجة‪ ،‬ولذلك‬
‫مجرد النظر إليهم ُيبهجك! وسوف نختار أولئك المتحررين من الرغبات‪،‬‬
‫وهذا ممكن إلى حد بعيد؛ ألن الرذائل تنتشر وتقفز مهما أحكمت اليد وتلحق‬
‫الضرر بعدوتها‪.‬‬

‫كما في الطاعون‪ ،‬نحن ال نحرص على الحفاظ على الذين تملك أجسادهم‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫المرض وأصابهم؛ ألننا سنقلص المخاطر ونتكبد من مجرد أن نجعله يتنفس‪،‬‬
‫وحين نختار صفة الصديق‪ ،‬فإننا نأخذ اآلالم لنتبنى اإلصابة على األقل‪ ،‬وإن‬
‫بداية المرض خلط العناصر الصحيحة والسقيمة‪ ،‬وأنا ال أنصحك أن تتبع أو‬
‫يستهوى نفسك أحدٌ سوى الحكيم‪ ،‬فأين نجد المرء الذي نبحث عنه لكل‬
‫نفعا كاألفضل على األقل‪.‬‬
‫العصور؟ والذي يسمح للسيئ أن يقدم ً‬
‫وصعب أن تجد فرص ًة لتختار األفضل إن كنت تسعى لألخيار من بين‬ ‫‪ 5-7‬‬
‫األفالطونيين واألكسينوفانيين وحضنة سقراط‪ ،‬أو إذا تجاوزت جيل كاتو‬
‫الذي أنجب رجالاً عدة يستحقون أن يولدوا في زمن كاتو(‪( ((32‬كما وجد‬
‫أسوأ الناس أكثر من أي عصر آخر احترفوا أبشع الجرائم‪ ،‬وكال الفريقين‬
‫كان موضع تقدير كاتو‪ ،‬فقد احتاج لألخيار ليثني على ذاته وللخبثاء ليختبر‬

‫(‪ ((32‬أرشد أسيوقراطيس ))‪ Isocrates 436–338 bce‬طالبه الصفوة في الخطابة‪ ،‬ويقال إنه شعر بأن تلميذه إفوروس‬
‫‪ Ephorus‬احتاج التشجيع ليرفع من شأنه‪ ،‬ومن ثم حاذ ًقا في الكتابة التاريخية‪ ،‬فأعماله التاريخية المكثفة كانت معروفة‪،‬‬
‫ولكنها بقيت فقط في مقتطفات ك َّتاب الحقين مثل ديدوروس ‪.Diodorus‬‬
‫(‪َ ((32‬من كاتو؟ إنه الرقيب المعروف بفضيلته وحيويته (‪ )b. ca. 235 bce‬أو انحداره من ساللة أوتيكا ‪ ،Utica‬واشتهر‬
‫باستقامته الرواقية وعيشه في جيل الحرب األهلية‪ ،‬ويعني سينيكا على األرجح كاتو األخير‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫سلطته)‪ ،‬وكما هو الحال اآلن‪ ،‬إن كان هناك نقص في األخيار سيتقلص‬
‫االختيار على المتميزين‪.‬‬

‫وعلى المرء أن يتجنب الرفقاء المتجهمين الذين يأسوا من كل شىء‪ ،‬أي‬ ‫‪ 6-7‬‬
‫الذين يبررون أي عذر ليقيموا شكواهم‪ ،‬وحتى لو كان والؤه وحسن نيته يقينًا‬
‫فإن الرفيق المضطرب الذي يتأوه في كل شيء عدو للسكينة‪.‬‬

‫ودعونا ننتقل إلى الخصلة الموروثة‪ ،‬وهي أردأ وقود للويل البشري‪ ،‬وإذا‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫ماثلته بكل العلل األخرى لمحنتنا مثل الموت والمرض والخوف والشوق‬
‫وتحمل األلم والكد وبكل أمور البؤس التي يمدنا بها المال‪ ،‬فإن هذا الجانب‬
‫سوف يزن كفته‪.‬‬

‫وهكذا علينا أن نفكر في كيف يقل األلم الذي يأتي من عدم الحصول على‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫الثروة أكثر من فقدانها‪ ،‬وسوف ندرك أن الفقر قد يقل معه العذاب حيث تقل‬
‫اعتقدت أن األثرياء يتحملون خسارتهم بروح‬
‫َ‬ ‫فيه الخسارة‪ ،‬وإنك مخطئ إذا‬
‫سامية‪ ،‬فقد يتساوى ألم الجرح في أصغر وأضخم األجسام‪.‬‬

‫وقال بيون ‪ ((32( Bion‬بعناية ال تقل المشقة في انتزاع َّ‬


‫الشعر من الصلعان‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫عن الذين لديهم َشعر حسن‪ ،‬وبمقدورك أن تتقين من التشابه في حالة الفقير‬
‫والغني‪ ،‬حيث إن مشقتهم متشابهة‪ ،‬فكل مال المرء لصيق به‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫ينحسر دون شعوره به‪ ،‬ولذلك أقول إن ما يمكن قبول تحمله واأليسر ألاَّ‬
‫تكوم المال أحرى من أن تفقده‪ ،‬ولهذا السبب سوف ترى الذين يملكون‬
‫الثروة ليسوا أكثر سعاد ًة من الذين هجروها(‪.((32‬‬

‫كلبيا في العصر الهيللينستي‪ ،‬ارتبط بأقوال بليغة في التراث‬ ‫ً‬


‫واعظا ًّ‬ ‫(‪ ((32‬بيون من بوريسثينيس ‪ Bion of Borysthenes‬كان‬
‫القصصى انظر ‪.Diogenes Laertius 4.7‬‬
‫(‪ ((32‬في هذه المناقشة للخيرات الخارجية يظهر الحظ وهو في السيطرة‪ ،‬قارن ‪ 5-8‬أدناه حيث تُسمى الممتلكات الدنيوية‬
‫عطايا للحظ ‪.fortuita‬‬

‫‪262‬‬
‫وديوجين ‪-‬وهو المفكر العظيم‪ -‬رأى هذا وتيقن من أنه ال شيء ُينتزع‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫منه(‪ ،((32‬واستدعى الفقر والحاجة والنقص‪ ،‬وضع أي اسم مخجل تريده‬
‫على هذا التحرر من الحذر‪ ،‬واعتقد أنه يفتقر إلى السعادة إن وجدتني إنسا ًنا‬
‫آخر ليس لديه شيء يفقده‪ ،‬وإما أن أخدع نفسي وإما أنها حياة الملك الذي ال‬
‫يؤذي وهو فرد واحد بين البخالء والمحتالين واللصوص والعصابة‪.‬‬

‫وإن كان يشك أحدٌ في سعادة ديوجين‪ ،‬فإنه يحمل نفس الشك في األرباب‬ ‫‪ 5-8‬‬
‫الخالدين‪ ،‬ويتعجب من أنهم يحيون بالسعادة في القليل؛ ألنهم ال يملكون‬
‫ضخما من الربح في‬
‫ً‬ ‫كما‬ ‫عقارا وال حديق ًة وال ً‬
‫أرضا ينتفع بها فالح آخر‪ ،‬وال ًّ‬ ‫ً‬
‫السوق‪ ،‬ألم تخجل‪َ ،‬من أنت حتى تتفوه عن الثروات؟ َ‬
‫تعال‪ ،‬وانظر إلى العالم‪،‬‬
‫سترى األرباب مجردين لقد منحوا كل شيء ولم يمتلكوا شيئًا‪ ،‬هل تعتقد أن‬
‫اإلنسان الذي قد أسقط كل عطاياه من الثروة معوز أو مثل األرباب الخالدين؟‬

‫وأنت تدعو ديمتريوس ‪ Demetrius‬الرجل البومبي الحر(‪ ((33‬السعيد؛ ألنه‬ ‫‪ 6-8‬‬


‫لم يشعر بالخجل في أنه أغنى من بومبي ذاته‪ ،‬الذي حاز عد ًدا من العبيد‬
‫يبلغونه كل يوم كما تبلغ الجيوش القائد‪ ،‬مع أن ثروته كانت من قبل نائبين‬
‫وحجرة كبيرة‪.‬‬

‫حتى العبد الوحيد لديوجين قد هرب منه‪ ،‬ولم يفكر أن يرجعه وهو يشير إليه‪،‬‬ ‫‪ 7-8‬‬
‫وقال‪« :‬إنه من العار أن يعيش مانيس ‪ Manes‬دون ديوجين‪ ،‬ولكن ديوجين‬
‫ال يمكن أن يعيش دون مانيس”‪ ،‬وأعتقد أنه قصد “الثروة‪ ،‬وأن عقلك هو‬
‫عملك‪ ،‬وليس لك شيء عند ديوجين‪ ،‬فقد هرب عبدي أو باألحرى حررته”‪.‬‬

‫(‪ ((32‬ديوجين السينوبي ‪ Diogenes of Sinope‬الكلبي المعروف في القرن الرابع واشتهر في التراث القصصي (‪cf‬‬
‫)‪. .Diogenes Laertius 6.20–83‬‬
‫(‪ ((33‬اعتبر الرومان الرجال األحرار (الذين كانوا عبيدً ا ساب ًقا) من طبقة أقل‪ ،‬ولكن رجال اليونان األحرار مثل ديمتريوس‬
‫البومبي كانوا أثرياء أقوياء‪ ،‬ويقرر بلوتارخ في ‪ Plutarch’s Life of Cato Minor 13‬أنه مدينة آسيوية بأكلمها رحبت‬
‫بديمتريوس‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫يريد عبيد المنزل الكساء والغذاء‪ ،‬وعليك أن تشاهد كذلك كثرة بطون‬ ‫‪ 8-8‬‬
‫المخلوقات الجائعة‪ ،‬وتشتري لهم كساء وتحرس أيديهم المسروقة‪ ،‬وتعتمد‬
‫على خدمات رجال بكائين ولعانين‪ ،‬وما أعظم سعادة اإلنسان الذي ال يدين‬
‫ٍ‬
‫ألحد سوى نفسه‪ ،‬والتي يمكن أن يرفضها بسهولة!‬ ‫بشيء‬

‫وبما أنه ليس لدينا مزيد من القوة‪ ،‬فعلينا أن نقلص إرثنا لنتحاشى أخطاء‬ ‫‪ 9-8‬‬
‫الثروة‪ ،‬فاألجسام أكثر رشاقة في القتال الذي عهدوه بدروعهم أكثر من‬
‫الدروع التي ال يعرفونها‪ ،‬فحجمها يعرضهم للجروح‪ ،‬وأفضل مقياس للمال‬
‫هو الذي ال يدقعك في الفقر وال يخرجك بعيدً ا عنه‪.‬‬

‫وهذا المقياس مناسب لنا إذا قررنا االدخار‪ ،‬ومن دونه ال تكفي الثروة أو ال‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫قريب؛ فالفقر ذاته بعون االقتصاد يمكن أن‬
‫ٌ‬ ‫يكون الميسور كاف ًيا‪ ،‬والعالج‬
‫يحول ذاته إلى ثروة‪.‬‬

‫دعونا نعتاد على أن نبدي رفضنا لتقييم األشياء على قيمتها الزخرفية‪ ،‬فالطعام‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫ينبغي أن يخمد جوعنا‪ ،‬والشراب ينبغي أن يروي عطشنا‪ ،‬ودع تدفق الشهوة‬
‫حيث جاء‪ ،‬ودعنا نتعلم االعتماد على أعضاء أجسامنا ونبتكر زينتنا ونظامنا‬
‫الغذائي كما أشار إليه أسالفنا ال ليساير قوالب بعينها‪ ،‬دعونا نكثر من ضبط‬
‫أنفسنا ونكبح غلونا‪ ،‬ونسيطر على عظم محنتنا‪ ،‬ونسكن هياجنا‪ ،‬وانظر إلى‬
‫الفقر بأعين ثابتة‪ ،‬ومارس االدخار حتى لو سبب ً‬
‫بعضا من الخجل(‪،((33‬‬
‫وعلينا أن نستعمل عالجات رخيصة لتوقنا الطبيعي ونظل في سالسل كما‬
‫كانت آمالنا الجامحة‪ ،‬وعقولنا التي تحوم على المستقبل‪ ،‬ونسعى للثروة في‬
‫أنفسنا أحرى من الحظ‪.‬‬

‫وال يمكن أن يدفعنا هذا التنوع وعدم التكافؤ في الفرص دون قدر عظيم‬ ‫‪ 3-9‬‬

‫(‪ ((33‬النص الالتيني لهذه العبارة تالف‪ ،‬ولكنه يحتوي اإلشارة إلى الخجل‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫للعواصف يغير على السفن التي تنتشر على نطاق واسع‪ ،‬وعلينا أن نكثف‬
‫أعمالنا في مكان ضيق حيث تسقط القذائف في النطاق الواسع‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫ألما ُتعالج‬
‫قد تتحول عقوبة المنفى والمصائب إلى عالج‪ ،‬والخسائر األكثر ً‬
‫بأخرى ألطف منها‪ ،‬وحين يدفع العقل بانتباه بسيط للنصيحة واستعصى‬
‫عالجه بلطف‪ ،‬فلماذا ال يخدم العقل مصلحته إذا طاله الفقر والعار والهزيمة‪،‬‬
‫شرا ضد آخر؟ دعونا نعتاد تناول الطعام دون تجمع من الضيوف‪،‬‬
‫ونحن نضع ًّ‬
‫ونجعل الخدم أقل من العبيد‪ ،‬ونوفر الملبس للغاية التي صنعت من أجلها‪،‬‬
‫ونعيش بتواضع‪ ،‬وال نحيا من أجل السباقات ومنافسة العربات‪ ،‬بل يجب أن‬
‫تتحول الحتضان الحياة من الداخل‪.‬‬

‫وأكثر األشكال المتحررة لإلنفاق على الدراسات التي لها مبرر يحددها‪،‬‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫وما غاية الكتب والمكتبات التي ال ُتحصى طالما مالكها يقرأ بالكاد بطاقتها‬
‫طيلة حياته؟ والحمل الزائد ُيضعف الطالب وال يعلمه‪ ،‬ومن األفضل أن تعهد‬
‫نفسك لعدد قليل من الكتاب بدلاً من أن تضل بوفرتهم‪.‬‬

‫احترق أربعون ألف كتاب في اإلسكندرية(‪ ،((33‬وقد أشاد بعض الناس‬ ‫‪ 5-9‬‬
‫بهذا الكم الذي ُيضاهي ثروة الملوك مثل ليفي ‪ Livy‬الذي وصفها باألعمال‬
‫المتميزة من تهذيب وإتقان الملوك‪ ،‬ولم يكن هذا تهذي ًبا وال إتقا ًنا‪ ،‬بل ًّ‬
‫غلوا‬
‫حبا في الدراسة؛ ألن الكتب لم ُت َ‬
‫شتر للدراسة‬ ‫في التوق بالدراسة‪ ،‬وال حتى ًّ‬
‫بل للعرض‪ ،‬وبعض الناس الجاهلون ببدايات التعليم ال يرون الكتب أداة‬
‫للدراسة بل زينة لحفالت العشاء‪ ،‬لذلك دعنا نحصل من الكتب ما هو ٍ‬
‫كاف‬
‫وال شيء منها للعرض‪.‬‬

‫(‪ ((33‬وقد جاء هذا التقدير للمقتنيات في مكتبة اإلسكندرية الكبيرة إلى الفقرة المقتبسة في ليفي فى الجملة نفسها‪ ،‬وقد جمع‬
‫جزئيا عندما حاصر قيصر‬
‫ًّ‬ ‫المكتبة بطليموس فيالديلفوس ‪ Ptolemy Philadelphos‬في مقتبل القرن الرابع‪ ،‬واحترقت‬
‫الجزيرة في ‪ 47‬ق‪.‬م‪ ،‬وتلقى مصادر مختلفة اللوم للهجوم على اإلسكندرية وتدمير المكتبة‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫وسوف تقول‪“ :‬إن هذه النفقات قد ُسكبت خارج نطاق التبجيل مثل البرونز‬ ‫‪ 6-9‬‬
‫الكورنثي واللوحات المرسومة”‪ ،‬واإلفراط فيها رذيلة مهما يكن‪ ،‬وما السبب‬
‫الذي تعذر فيه رجلاً يجمع خزائن الكتب المصنوعة من العاج وخشب‬
‫الحمضيات‪ ،‬ويتصيد أعمال المؤلفين حتى المجهولين والمنبوذين‪ ،‬ويتثاءب‬
‫وحوله آالف عدة من الكتب‪ ،‬فمتى ترضيه األغلفة والملصقات الخارجية‬
‫لمجلداته أكثر؟‬

‫وهكذا سوف ترى في البيوت أشد المتابعين للتاريخ واللغة كسلاً وأرفف‬ ‫‪ 7-9‬‬
‫مكتباتهم تصل للسقف‪ ،‬حتى أنهم أقاموا المكتبة بين طرق الحمامات الباردة‬
‫والساخنة كزينة أساسية للمنزل‪ ،‬ومن الواضح أنني سوف أغفر هذا إذا كان‬
‫الخطأ الفاضح نشأ من الرغبة المفرطة للدراسة‪ ،‬ولكن في الواقع استقصوا‬
‫هذه المجلدات وطبعت بصورهم(‪ ،((33‬وحصلوا على األعمال العقلية‬
‫المقدسة للعرض وتزيين جدرانهم‪.‬‬

‫‪ 1-10‬ولكن افترض أنك وقعت في صعوبات ما في الحياة‪ ،‬أو حتى ضاق بك خناق‬
‫الثروة الخاصة والعامة ولم تكن على استعداد للفكاك من هذا أو تجاوزه‪،‬‬
‫معا وبالكاد يحملون الحمل والمصاعب على‬
‫وأعتقد أن الناس مقيدون ً‬
‫سيقانهم‪ ،‬ومن ثم يعقدون النية ال ليستاؤوا بل ليصمدوا‪ ،‬فالضرورة تزييهم‬
‫بالشجاعة‪ ،‬وتجعلها العادة يسيرة‪ ،‬وسوف تجد المتعة واللذة واالسترخاء في‬
‫أي نوع من الحياة إذا رغبت في ال َباليا أكثر من أن تكرهها‪.‬‬

‫‪ 2-10‬لقد خدمتنا الطبيعة بأفضل صورة ولم تعتد بأحد آخر‪ ،‬وتعلم كروب الذين‬
‫ولدتهم‪ ،‬وابتدعت العادة باعتبارها ملط ًفا للمصائب‪ ،‬وسرعان ما تجعل‬

‫(‪ ((33‬كانت االستنارة من ابتداع اإلسكندرانيين حيث جاءوا إلى روما في نهاية القرن قبل الميالد في زمن فارو ‪ Varro‬لتجميع‬
‫موسوعة الرجال العظام‪ ،‬وظهر كل منهم مع صورته‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫ألما مألوف ًة‪ ،‬فال أحد يتحمل إذا كان حضور المصائب له‬
‫المصائب األكثر ً‬
‫نفس قوة الصدمة األولى‪.‬‬

‫‪ 3-10‬كلنا مقيدون بالثروة‪ ،‬فقد ُقيد البعض بقيد ذهبي فضفاض‪ ،‬وآخرون بقيود‬
‫حقيرة ضيقة‪ ،‬ولكن ما الفارق الذي تصنعه؟ ونفس المشهد قد ُأحيط بالجميع‬
‫حتى الذين قيدوا اآلخرين‪ ،‬هم ذواتهم مقيدون‪ ،‬إال إذا اعتقدت أن القيد أخف‬
‫على األيسر(‪ ،((33‬والبعض مقيد بالمناصب العليا وآخرون بالثروة فيثقلون‬
‫أناس بعينهم بالنبالة ويخفضون مولد اآلخرين‪ ،‬وآخرون علقوا السيطرة على‬
‫اآلخرين فوق رؤوسهم ويهيمن عليهم آخرون‪ ،‬وتحفظ عقوبة االغتراب‬
‫بعض الناس في مكان ويبقيهم الكهنوت في مكان آخر‪ ،‬وكل الحياة عبودية‪.‬‬

‫‪ 4-10‬وأصبحنا معتادين لظروفنا ونشتكي منها بقدر ما نستطيع‪ ،‬ونستولي على أي‬
‫فائدة تجلب معها‪ ،‬وال يوجد شيء أفضل من العقل الذي ال يجدون فيه راح ًة‪،‬‬
‫وغال ًبا قد تفتح مهارة المهندس المساحات الصغيرة ألغراض كثيرة ويصنع‬
‫من األماكن الضيقة للغاية مكا ًنا للسكن‪ ،‬وطبق السبب على صعوباتك‪،‬‬
‫فالظروف القاسية يمكن تخفيفها‪ ،‬واألماكن الضيقة قد تتسع‪ ،‬والحمول‬
‫الثقيلة يقل عبؤها على الذين يتحملونها بحذاقة‪.‬‬

‫‪ 5-10‬وإلى جانب ذلك‪ ،‬ال ينبغي لنا أن نرسل رغباتنا إلى مدى بعيد‪ ،‬بل نسمح لها‬
‫أن تخرج قري ًبا من متناول أيدينا؛ ألنها ليست محدد ًة تما ًما‪ ،‬فالمرء قد يطرح‬
‫المستحيل أو الصعب جان ًبا‪ ،‬ونحن نتبع الغايات القريبة منا وتستثير رجاءنا‪،‬‬
‫وعلينا أن نعرف أن كل شيء قد يتساوى في التفاهة بالمظهر المتباين‪ ،‬بل‬
‫الكل يتساوى في فراغ الباطن‪ ،‬وال ينبغي أن نحسد األعلى منا‪ ،‬فما يبدو‬
‫متغطرسا هو مجرد انحدار‪.‬‬
‫ً‬
‫(‪( ((33‬على االيسر) تشير على األرجح أن الحارس مقيد سجينه‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫‪ 6-10‬والذين وضعهم النصيب الجائر على حد السكين سيكونون أكثر أما ًنا بمحو‬
‫الفخر من الظروف المتجبرة ذاتها‪ ،‬وخفض ثروتهم ألدنى مستوى‪ ،‬وكثيرون‬
‫يتشبثون بقمتهم وليس بمقدورهم أن ينزلوا منها إال بالسقوط‪ ،‬وذرهم‬
‫يشهدون بأن هذا أعظم حمولهم‪ ،‬ليضطروا أن يكونوا حملاً على اآلخرين‪،‬‬
‫وهم ليسوا ممجدين في األعالي بل مطعونون‪ ،‬ودع العدالة واالعتدال‬
‫أنواعا عدة من الوقاية من أجل‬
‫ً‬ ‫واإلنسانية تهيئ لهم مع اليد السخية الكريمة‬
‫النجاح الذي يتوقعونه بزيادة التحرر من الحرص‪ ،‬ومع ذلك ال شيء سيحررنا‬
‫تما ًما من هذه التي تقذف العقل كما تضع دو ًما بعض حدود النمو‪ ،‬وال تترك‬
‫قرارا للثروة لتتوقف‪ ،‬ولكن تتوقف عفو ًّيا طالما الطريق قصير‪ ،‬كما تشحذ‬
‫ً‬
‫بعض الرغبات العقل وأخرى تحدده‪ ،‬وسوف ال تقوده إلى مكان فسيح أو‬
‫مسافة غير معلومة‪.‬‬

‫‪ 1-11‬وحديثي هذا يركز على الناس الناقصين والوسط والمعلوليين وليس للرجل‬
‫الحكيم‪ ،‬فهو ال يمشي خجلاً أو وجلاً ‪ ،‬وال تحيره ثقته بذاته في االرتباط‬
‫بالثروة‪ ،‬وال تحركه اإلرادة إليها‪ ،‬وليس لديه سبب للخوف‪ ،‬وال يعتد بالعبيد‬
‫والملكية والمنصب‪ ،‬بل إن جسده وعينيه ويديه وأ ًّيا ما كان يجعل الحياة‬
‫محبوبة لإلنسان حتى نفسه‪ ،‬فهو مجرد أمور طارئة للصدفة‪ ،‬وتحيا فيه كما‬
‫لمن يطلبها بال‬
‫لو كانت على سبيل اإلعارة‪ ،‬وهو على استعداد إلى أن يعيدها َ‬
‫حزن‪.‬‬

‫‪ 2-11‬ولكنه مع ذلك ال يزهد في عينيه؛ ألنه يعلم أنها ليست ملكه‪ ،‬بل يعمل في كل‬
‫شيء بدقة وعناية كرجل مقدس وأمين اعتاد أن يحمي ما عهد به إليه‪ ،‬وحينما‬
‫ُيطلب منه ردها‪ ،‬فإنه ال يشتكي للحظ‪ ،‬بل يقول‪« :‬أحمد ما قد امتلكته وما‬
‫لدي»‪.‬‬
‫َّ‬
‫راعيت ما تملك بعظم كلفته‪ ،‬ولكنك طلبت مني أن أعطيه لك‪ ،‬فأنا أرده‬
‫ُ‬ ‫‪ 3-11‬وأنا‬
‫‪268‬‬
‫مسرورا‪ ،‬وإن أردت مني أن أحفظ لك حتى اآلن فسوف أحفظه لك‪،‬‬
‫ً‬ ‫شاكرا‬
‫ً‬
‫وإن قررت خالف ذلك‪ ،‬فإنني بموجب هذا أرد فضتي سواء كانت طب ًقا أو‬
‫عمل ًة نقدي ًة(‪ ،((33‬وبيتي وأهل بيتي»‪ ،‬وإن أرادت الطبيعة ما عهدت إلينا به‬
‫من قبل(‪ ((33‬فإننا سنقول لها‪ :‬استرجعي عقلي‪ ،‬اآلن حسنت من الحالة التي‬
‫منحت من أجلها‪ ،‬وأنا لن أرتد للوراء أو أهرب‪ ،‬أأنت هنا على استعداد أن‬
‫تقدم ما أعطى لك بغير قصد‪ ،‬استعده!»‪.‬‬

‫‪ 4-11‬وما السوء في رد ما أتاك؟ فإنَّ َمن ال يعرف كيف ُيحسن ميتته فإنه سوف يحيا‬
‫على نحو رديء‪ ،‬لذلك علينا أولاً أن نختزل تقييمنا لهذه المسألة‪ ،‬ونحصي‬
‫أنفاسنا الرخيصة‪ ،‬وكما يقول شيشرون((‪« :)((33‬إننا نخدع المجالدين إذا‬
‫رغبناهم في الحصول على حياتهم بأي ثمن‪ ،‬نحن نمنيهم كما يجب‪ ،‬إذا‬
‫عرضوا بافتخار تنافسوا من أجلها‪ ،‬وربما قد تخمن أن الشيء نفسه يحدث‬
‫لنا؛ ألن فزعة الموت هي علة للموت غال ًبا‪.‬‬

‫‪ 5-11‬وتقول الثروة التي يلعب بها ألعابه‪« :‬لماذا ُأبقيك آمنًا؟! أنت مخلوق بائس‬
‫ومرتجف! إنك سوف ُتجرح و ُتثقب بعمق؛ ألنك لم تعرف كيف تظهر‬
‫حنجرتك‪ ،‬ولكنك سوف تعيش طويلاً وستموت بسرعة أكبر لقبضك‬
‫الحديد‪ ،‬وليس بخفض رقبتك أو بحمايتها بيديك‪ ،‬بل بالروح الشجاعة»‪.‬‬

‫‪ 6-11‬والمرء الذي يخشى الموت لن يفعل شيئًا يستحق أن ُيحيي البشر‪ ،‬ولكن إذا‬
‫تصورا في البداية‪ ،‬فإنه سوف يحيى‬
‫ً‬ ‫كان يعلم أن الموت مكتوب حين كان هو‬
‫كما قدر له‪ ،‬ويحفظ سلوكه بنفس قوة العقل‪ ،‬ولذلك ال شيء يحدث غفلة‪،‬‬
‫وبالتوقع مهما كان يمكن أن يحدث‪ ،‬وسوف ُيلطف من مخاوف الشرور‬

‫(‪ ((33‬هذه لغة قياسية لإلرادة واالتفاقيات الخاصة‪.‬‬


‫(‪ ((33‬هبات الطبيعة هي الحياة ذاتها والصحة والبقية هي هبات الحظ‪.‬‬
‫(‪ ((33‬هذا اقتباس سافر لخطاب الدفاع لشيشرون في رسالته “نيابة عن ميلو” ‪.On Behalf of Milo 92‬‬

‫‪269‬‬
‫جميعا؛ ألنها ال تجلب شيئًا جديدً ا أعده الناس فينتظرهم‪ ،‬في حين تدفع‬
‫ً‬
‫الشرور الناس للتخلي عن الحرص ويتوقعون السعادة فحسب‪.‬‬

‫‪ 7-11‬وهناك مرض وعبودية وكوارث ونار وال شيء يحدث من هذه األشياء غفلة‪،‬‬
‫كنت أعلم المأوى المضطرب الذي طوقتني به الطبيعة‪ ،‬وصرخة الموت تحوم‬
‫حولي‪ ،‬وقد مرت الجنازات السابقة ألوانها بالمشاعل والشموع الرفيعة على‬
‫عتبتي‪ ،‬وعلى جانبي صوت تحطيم قوالب المباني التي تنهار‪ ،‬وقد خطف‬
‫الليل الرفاق الذين كان ٌ‬
‫بعض منهم في الميدان ‪ forum‬وفي مجلس الشيوخ‪،‬‬
‫لقد قيدني الحوار ومزق طرف األيادي الموصولة للرفاق(‪ ،((33‬وأنا أتساءل‬
‫أخيرا؟ فغالب‬
‫ً‬ ‫إلي‬
‫هل تلك المصائب التي كانت تحوم حولي قد وصلت َّ‬
‫الناس ال يفكر في العواصف حين توشك الرحلة على اإلقالع‪.‬‬

‫‪ 8-11‬لن أشعر بالخجل لالقتباس من مصدر رديء لسبب وجيه‪ ،‬لقد كان بوبليليوس‬
‫‪ ((33( Publilius‬أكثر انفعالاً من التراجيديا أو المأساوية الهزلية حين تخلى‬
‫عن حماقات اإليماء والكلمات التي هدفت للمنصة‪ ،‬ومن بين األقوال األكثر‬
‫جرأة من مأساة الجزمة ‪ buskin‬أنه ترك حجاب اإليماء وأدلى بهذا التعليق‪:‬‬
‫“إن ما يحدث إلنسان بعينه قد يحدث ألي إنسان‪ ،‬وإذا سمح لنا امرؤ ما أن‬
‫حرا‬
‫مسارا ًّ‬
‫ً‬ ‫نحفر في قلبه ونطلع على مصائب اآلخرين كلها كما لو كان هذا‬
‫له فإنه سوف يسلح نفسه قبل أن ُيغار عليه‪ ،‬فبعد أن تندلع المخاطر فمن‬
‫المتأخر أن تدرب العقل على تحملها‪.‬‬

‫(‪ ((33‬التفسير المحتمل للنص الالتيني هنا قد يأخذ كلمة االتحاد ‪ copulates‬لإلشارة لوجود ارتباط بالحظ ومعاملته على‬
‫أنه الحق “لأليدي الممدودة للرفقاء”‪.‬‬
‫(‪ ((33‬الجورب والجزمة رمزان قديمان للكوميديا والتراجيديا‪ ،‬حيث كان يرتدي الممثلون في المسرح اليوناني بوتًا ُيسمى‬
‫جزمة أو بوسكين ‪(.buskin‬المترجم)‪ ،‬وقد تحدى يوليوس قيصركاتب التمثيل بوبليليوس سيروس ‪Publilius‬‬
‫وضيعا لرجل نبيل‪ ،‬ولكنه ألف أكثر من عمل عن مثل هذه الشخصيات طورت فيما‬ ‫ً‬ ‫‪ Syrus‬أن يعرض في تمثلياته فعلاً‬
‫ودرست في المدارس باسمه‪ .‬انظر ‪.Seneca Letters 16‬‬ ‫بعد ُ‬

‫‪270‬‬
‫‪“ 9-11‬ال أعتقد أن هذا قد حدث” و”هل تعتقد أن هذا قد جاء ليمضي هكذا؟”‪،‬‬
‫ولم ال إذنْ ؟ وما الثروات التي ال تتبع في دعمهما الجوع والحاجة والتسول؟‬
‫َ‬
‫وما المنصب الذي ال يقرن التاج القضائي وهيئة الكهنة وصندل الشريف‬
‫بتشوية السمعة والعار وألف من العالمة السوداء واالحتقار‬ ‫الروماني(‪((34‬‬

‫الشديد؟ وما المملكة التي يوجد فيها الفساد والمراوغة والسيد والجالد‬
‫وليست متأهبة وتنتظر؟ وهذه الكوارث ليست مفترق ًة بفواصل كبيرة‪ ،‬بل‬
‫هناك برهة من ساعة بين العرش وركبتي رجل آخر‪.‬‬

‫‪ 10-11‬واعلم أن المنصب متقلب‪ ،‬وما ُيسقط غيرك يمكن أن ُيسقطك‪ ،‬أنت غني‪،‬‬
‫والمضيف‬
‫هل أنت أغنى من بومبي؟ عندما فتح قريب جايوس قيصر الكهل ُ‬
‫الجديد منزله له وأغلقه عليه لم يكن هناك خبز وال ماء‪ ،‬رغم أن جايوس‬
‫أنهارا عدة تنبع وتصب في أرضه‪ ،‬كان متسولاً لقطرات الماء‪ ،‬وهلك‬
‫ً‬ ‫ملك‬
‫ً‬
‫وعطشا في قصر قريبه‪ ،‬بينما عهد وريثه بجنازة عامة لقريب له وكان هو‬ ‫جوعا‬
‫ً‬
‫جوعا(‪.((34‬‬
‫ً‬ ‫يتضور‬

‫‪ 11-11‬لقد تقلدت أعلى مراتب الشرف‪ ،‬فهل تقلد أحدٌ مثل عظمة وعالمية‬
‫سيجانوس(‪((34‬؟ اليوم يجره مجلس الشيوخ إلى المحكمة‪ ،‬ومزقه الناس‬
‫إر ًبا‪ ،‬فالرجل الذي منحه األرباب والناس ما كدسوه لم َ‬
‫يتبق له سوى الجالد‬
‫يجره‪.‬‬

‫حذاء‬
‫ً‬ ‫(‪ ((34‬هذه هي رموز للقضاة ‪ toga praetexta‬والكهنة ‪ the lituus‬والشريف الروماني‪ :‬حيث كان يرتدي السيناتورات‬
‫مختل ًفا عن الشرفاء الرومانيين‪ ،‬ولكن هذا هو المثال الوحيد على تملك زمام األمور ‪ lora‬أي االستشهاد بالصندل‪.‬‬
‫(‪ ((34‬هذه القصة الغامضة ليست عن بومبي ويوليوس قيصر عمو ًما‪ ،‬بل عن بومبيوس المتأخر الذي سجنه (كضيف) يوليوس‬
‫قيصر كاليجوال‪ ،‬وجوعه حتى الموت في قصره‪ ،‬وال أجد استشها ًدا على هذا في أي مصدر‪.‬‬
‫(‪ ((34‬كان إيليوس سيجانوس ‪ Aelius Seianus‬قائد تيبريوس للحرس البرايتوري‪ ،‬اخترق اإلمبراطور القديم وشهر ودمر‬
‫أعضاء األسرة اإلمبراطورية‪ ،‬وعزل اإلمبراطور عن شؤونه في روما‪ ،‬ولكن تيبريوس علم خطأه وأرسل خطا ًبا من‬
‫كابري ‪ Capri‬إلى روما يدين فيه سيجانوس‪ ،‬وأعدم لخيانته‪ ،‬ووصف تاكيتوس لهذا السقوط مفقود ولكن هناك وصف‬
‫تصوري في ‪.Juvenal 10.66–77‬‬

‫‪271‬‬
‫‪((34( Croesus‬‬
‫الذي رأى‬ ‫‪ 12-11‬تخيل أنك ملك‪ ،‬ولن أحيلك إلى كروسوس‬
‫حيا‪ ،‬وأصبح الناجي الوحيد‬
‫جثته وهي تضرم فيها النار وتخمد وهو ال يزال ًّ‬
‫‪((34( Jugurtha‬‬
‫الذي‬ ‫من مملكته بل من موته‪ ،‬ولن أحيلك إلى جوجرثا‬
‫رآه الرومان بعد عام من خداعه‪ ،‬ورأينا بطليموس ‪ Ptolemy‬ملك إفريقيا‬
‫وميتريداتس األرميني ‪ Mithridates of Armenia‬تحت حراسة جايوس‬
‫بقي متمن ًيا أن يطلق سراحه‬ ‫ُ‬ ‫عينها(‪((34‬‬
‫‪ ،‬أحدهما أرسل إلى المنفى‪ ،‬واآلخر أ َ‬
‫بأي ضمان‪ ،‬وقد آلت األمور إلى الفوضى في مثل هذا االضطراب‪ ،‬فإذا لم‬
‫تتعامل مع ما هو ممكن مثل المستقبل‪ ،‬فقد تواجهك قوة المصيبة تلك القوة‬
‫التي قد تسحق أي شخص يتوقعها‪.‬‬

‫‪ 1-12‬إن التالي من بين شواغلنا ليس كدًّ ا ألشياء زائدة ال يمكن تحقيقها أو تفهم‬
‫بعد فوات األوان أو بعد فض هذه الرغبات‪ ،‬إنني أعني أنه ال ينبغي أن يكون‬
‫عملنا معدوم النفع أو أن النتيجة غير جديرة بجهدنا؛ ألن عاقبة خيبات األمل‬
‫نجاح أم جلب نجاحه الخزي(‪.((34‬‬
‫ٍ‬ ‫هذه الحزن سواء أكان العمل بال‬

‫‪ 2-12‬وينبغي أن نشذب اندفاع مثل هؤالء الناس الذين يتجولون بين المنازل‬
‫والمسارح واألماكن العامة ويسندون أعمالهم آلخرين‪ ،‬ويعملون كما لو‬
‫كانوا يصنعون شيئًا‪ ،‬وإذا أحدهم غادر منزله؛ فأين يذهب؟ وما الذي ُيخطط‬

‫(‪ ((34‬كورسوس ‪ Croesus‬ملك ليديا في القرن السادس الذي اشتُهر بثروته‪ ،‬وهو محور حكاية هيرودت األخالقية في‬
‫‪ ، Histories 1.30–33‬حيث يحذره صولون بأنه ال يمكن ألي إنسان أن يدَّ عي أنه سعيد حتى يصل إلى الموت‪ ،‬هزمه‬
‫قورش ‪ ،Cyrus‬كان على وشك أن يحرق على محرقة الجثث حينها صرخ قائلاً صولون كان على حق (‪Herodotus‬‬
‫‪ )1.86‬وذكرها بلوتارخ )‪. (Cf. Plutarch Solon 27.6–7 and 28.2.‬‬
‫(‪ ((34‬جوجورثا ‪ Jugurtha‬مغتصب عرش ملك نيميديا ‪ ،Numidia‬كان مهزو ًما خائنًا‪ ،‬وأحضر إلى روما ليمشي في عرض‬
‫انتصار ماريوس عام ‪ 105‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((34‬هؤالء الملوك هم خلفاء الحكم البطلمي وميثريداتيس العظيم ‪ great Mithridates‬وأحضروا إلى روما خدعة‬
‫وسجنهم جايوس )‪.(Suetonius Caligula 26, 35; Dio 58.26.4, 59.25‬‬
‫(‪ ((34‬هذا القسم يرجع إلى نقطة البداية ‪.1-6‬‬

‫‪272‬‬
‫له؟‪ ،‬وسوف يجيبك‪ ،‬بحق جوبتر ال أعرف ولكني سوف أذهب لرؤية بعض‬
‫الناس وأقوم ببعض األعمال‪.‬‬

‫‪ 3-12‬إنهم يهيمون على وجوههم بال غاية بح ًثا عن عمل‪ ،‬ولكنهم ال يؤدون ما‬
‫نووا حتى لو قابلهم‪ ،‬فسعيهم مريض وغير نافع مثل النمل الذي يزحف على‬
‫الشجر‪ ،‬يندفع للقمة ويهبط ً‬
‫فارغا‪ ،‬وتسير حياة معظم الناس على هذه الوتيرة‪،‬‬
‫ويستدعي المرء على نحو غير الئق سلوكهم المتراخي المشوش‪.‬‬

‫‪ 4-12‬إنك تشعر بالشفقة من أناس بعينهم مندفعين هنا وهناك كما لو كانوا يدعون‬
‫إلى النار‪ ،‬حيث يدفعون هؤالء وهؤالء بثوران عن طريقهم‪ ،‬ويطأطئون‬
‫أنفسهم واآلخرين لتحية امرئ لم يح ِّيهم في عودته أو يتبعون موكب جنازة‬
‫لمتقاض متكرر ًة أو حفل زفاف لعريس‬
‫ٍ‬ ‫شخص غريب‪ ،‬أو يحضرون محاكمة‬
‫متكرر‪ ،‬وحين ترافقهم الفوضى يجرونها خلفهم في مناطق بعينها‪ ،‬وحين‬
‫يعودون للبيت منهكين بال فائدة‪ ،‬أقسم أنهم ال يعرفون لماذا خرجوا أو أين‬
‫كانوا‪ ،‬وفي اليوم التالي سيهيمون في نفس المسارات‪.‬‬

‫‪ 5-12‬دعوا جهودكم توجه لبعض الغايات‪ ،‬ودعوها تركس في مكان ما‪ ،‬فليس من‬
‫الجد أن تجعل الناس متراخين‪ ،‬فالصور الكاذبة لألشياء تدفعهم للجنون‪،‬‬
‫وحتى المجانين ال يتصرفون بال أمل‪ ،‬فالمظهر الخارجي كأن عليهم البيض‪،‬‬
‫ولوثة عقلهم ال تبين فراغه‪.‬‬

‫‪ 6-12‬ومثل هؤالء كل الذين يخرجون لتضخيم الحشد ليقودهم في كل أرجاء المدينة‬


‫بسخافة ومبررات تافهة‪ ،‬وحين ال يكون لديه سبب للكد فاألدنى يرفعه ألعلى‪،‬‬
‫وحين ُيهرس في التفاهة في المداخل يحييه مساعدوه ويستبعده كثيرون‪ ،‬وإنه‬
‫يجد صعوبة أن يجتمع بنفسه(‪ ((34‬في البيت من غير أي شخص آخر‪ .‬وهذا‬

‫(‪ ((34‬نظرا ألن الحوار االفتتاحي هو امتعاض الذات عند سيرينوس ‪ ،4-1‬وهذه هي اإلدانة الفصل وهي أن الناس ليس لديهم‬
‫وقت لمعرفة بواطن أنفسهم‪.‬‬‫ٌ‬

‫‪273‬‬
‫الشر هو أصل لهذا الخطأ المقيت‪ ،‬حيث إن تسمع وتصيد المسائل العامة‬
‫والخاصة‪ ،‬ومعرفة شؤون كثيرة ال ُتقال عنها ولم يسمع بها دون مخاطرة‪.‬‬

‫‪ 1-13‬وأعتقد أن ديمقريطوس قد اتبع هذا المبدأ حين قال‪َ « :‬من أراد أن يعيش في‬
‫سكينة فال يؤ ِّد أعمالاً عام ًة أو خاص ًة»‪ .‬ويقينًا أنه كان يشير إلى أعمال النوافل؛‬
‫ألنها لو كانت جوهرية لن تتعدد‪ ،‬ولكن المهام التي ال حد لها ُتؤ َّدى على‬
‫معا علينا أن‬
‫معا‪ ،‬وحين ال يستدعي الواجب جمعها ً‬
‫النحو العام والخاص ً‬
‫نتحقق من أنشطتنا‪.‬‬

‫‪ 2-13‬إن اإلنسان الذي لديه أعمال كثيرة ُيعطي للثروة سلطة على ذاته‪ ،‬والحري أن‬
‫يختبرها قليلاً ‪ ،‬ويبقيها دو ًما في عقله‪« ،‬سأقوم برحلة إن لم يحدث شيء»‪،‬‬
‫«سأنتخب الحاكم ‪ praetor‬إن لم يمنعني شيء”‪“ ،‬وسأقوم بعملي على‬
‫أحسن وجه إن لم يوقفني شيء”(‪.((34‬‬

‫‪ 3-13‬ولهذا السبب نقول ال شيء ُيصيب الحكيم تجاه توقعاته‪ ،‬ونحن ال نستثنيه من‬
‫مصائب الرجال بل من أخطائهم‪ ،‬وقد تتحول األمور بالنسبة له ال كما يرغب‬
‫بل كما يتوقع‪ ،‬وقد يتوقع فوق هذا كله أن شيئًا سيعترض خططه‪ ،‬فقد يتالشى‬
‫ألم هجر الرغبة بالضرورة بلطف على العقل حين ال تعد نفسك بمخرج ماتع‪.‬‬

‫‪ 1-14‬وينبغي أن نكون لينين وألاَّ ننغمس في خطط محددة‪ ،‬وأن نمضي في الفرصة‬
‫التي قد ُأتيحت لنا‪ ،‬وألاَّ نخشى تغير المسار أو المنصب ُموقنين بالتفاؤل‪،‬‬
‫فالرذيلة أشد عداء للرزانة فال تستولي علينا؛ ألن التوبة مما تستولي عليه‬
‫الثروة بالضرورة مقلق ورديء‪ ،‬والتفاؤل أشد نص ًبا حين ال ُتبقي نفسها تحت‬
‫عدو للسكينة‪ ،‬حيث إنهما عدم قدرة على تغيير شيء‬
‫السيطرة‪ ،‬وكال الظرفين ٌّ‬
‫وعدم قدرة على تحمل شيء‪.‬‬

‫(‪ ((34‬هذا التوقع المؤقت يشبه الممارسة الرواقية التي تميع أثر المصائب بتوقعها ‪ praemeditatio malorum‬راجع‬
‫‪Cicero Tusculan Disputations 3.29, 3.34.‬‬

‫‪274‬‬
‫‪ 2-14‬على أي حال على العقل أن يستدعي إلى ذاته المظاهر الخارجية كلها‪ ،‬ويوقر‬
‫اإليمان في ذاته ويبتهج فيها‪ ،‬ويجل صفاته‪ ،‬وينسحب بقدر الممكن عن‬
‫ما يغرب ذاته‪ ،‬ويرتكز على نفسه‪ ،‬وال يشعر بالضياع‪ ،‬ويفسر حتى المحن‬
‫بلطف‪.‬‬
‫زينون(‪((34‬‬
‫بغرق سفينته وسمع أن كل ممتلكاته قد غرقت‪،‬‬ ‫‪ 3-14‬حين علم‬
‫قال‪« :‬طلبت مني الثروة أن أمارس الفلسفة بأقل جهد»‪ ،‬وظل الطاغية يهدد‬
‫ثيودوروس بالموت‪ ،‬وحرمه من الدفن‪ ،‬فقال ثيودوروس‪« :‬خذ مني نصف‬
‫بنتا (لترا) من الدم حتى ترضى‪ ،‬أما موضوع الدفن الذي تهتم به‪ ،‬فإنك أكبر‬
‫علي سواء تعفنت تحت األرض أو فوقها»‪.‬‬
‫أحمق إذا اعتقدت أن الدفن يؤثر َّ‬
‫‪ 4-14‬يوليوس كانوس ‪ IuliusCanus‬رجل عظيم للغاية لم ينل أدنى إعجاب؛ ألنه‬
‫ولد في عصرنا‪ ،‬بعد عراك طويل مع جايوس‪ ،‬قال له فاالريس أثناء مغادرته‪:‬‬
‫“شكرا‬
‫ً‬ ‫“ال تخدع نفسك بأمل أحمق؛ فلقد حكمت عليك باإلعدام”‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أيها اإلمبراطور العظيم!”‪.‬‬

‫أفكارا كثيرة تراودني‪ ،‬إنه رغب أن يكون ُمهينًا‪،‬‬


‫ً‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬ ‫‪ 5-14‬ال أعرف ما يفكر فيه‪،‬‬
‫و ُيظهر قسوة العالم في موت كان شفقة؟ أم كان يناقض جايوس لجنونه‬
‫اليومي؟ ألن الناس كانوا يشكرونه حين يقتل أطفالهم وحين يأخذ ما يملكون‪،‬‬
‫أم أن هذا يعني أنه قبل الحرية ممتنًا؟ وفي كلتا الحالتين أجاب بروح عظيمة‪.‬‬

‫‪ 6-14‬يقول أحدهم‪“ :‬إن جايوس أمره بالحياة بعد هذا”‪ ،‬ولكن جايوس لم يخش‬
‫هذا‪ ،‬ووفاء جايوس من هذا النوع كان سيئ السمعة‪ ،‬هل تعتقد أنه مر على‬

‫(‪ ((34‬وسينيكا كعادته يروي طرفتين (عن زينون الرواقي وسيريناك ثيودوروس ‪ Cyrenaic Theodorus‬الذي هدده‬
‫يسيماخوس ‪ Lysimachus‬بالموت)‪ ،‬ثم يتبعهما بسرد تفاصيل جمة للبطل األخالقي الروماني من عهد الملك الطاغية‬
‫كاليجوال‪ ،‬ومع ذلك القصة ليست معروفة‪ ،‬وفي ثنايا القصة ُيساوي سينيكا بين كاليجوال وفاالريس ‪ Phalaris‬الطاغية‬
‫الصقلي المعروف الذي حجز ضحاياه في الثور البرونزي وتفحموا حتى الموت‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫كانوس عشرة أيام ولم ُيساوره أي قلق قبل إعدامه؟ وما قاله هذا الرجل وفعله‬
‫ومدى احتفاظه بسكينته يمكن قبوله‪.‬‬
‫‪ 7-14‬إنه كان يمرح مع َّ‬
‫قطاع الطرق حين أمر قائد المائة ‪ centurion‬مجموعة من‬
‫الناس لتنفيذ أوامره ليستدعوه‪ ،‬وحين طلبوه كان يعد ُ‬
‫الخطى وقال لصديقه‪:‬‬
‫“ال تكذب بعد موتي وتقول إنك انتصرت”‪ ،‬وأومأ للقائد وقال‪“ :‬ستشهد‬
‫أنني كنت أتقدمك بخطوة”‪ ،‬هل تعتقد أن كانوس كان يلعب لعبة؟ إنه كان‬
‫ساخرا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 8-14‬لقد حزن صديقه لفقد مثل هذا الرجل‪ ،‬وقال‪“ :‬لماذا أنت متفجع؟ وتحاول‬
‫أن تكتشف أن النفوس خالدة‪ ،‬سوف أعلم قري ًبا”‪ ،‬لم يتوقف عن تقصي‬
‫الحقيقة‪ ،‬ومباشرة البحث في موته‪ ،‬حتى في النهاية‪.‬‬

‫‪ 9-14‬رافقه فيلسوفه الخاص والقبر الذي كان قربا ًنا ًّ‬


‫يوميا ليوليوس قيصر‪ ،‬وربنا‬
‫“فيم تفكر يا كانوس اآلن؟ أو ما حال عقلك؟”‪،‬‬
‫َ‬ ‫لم يكن بعيدً ا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقال كانوس‪“ :‬إنني عازم على مشاهدة أخف اللحظات حين يشعر العقل‬
‫برحيله”‪ ،‬ووعد أنه إذا وجد شيئًا في العالم اآلخر‪ ،‬سوف يقوم بجولة بين‬
‫أصدقائه ويطلعهم على حال النفوس هناك‪.‬‬

‫‪ 10-14‬أرى هذا الهدوء وسط العاصفة‪ ،‬أرى العقل يستحق الخلود‪ ،‬وهو الذي‬
‫استدعى مصيره دليلاً على الصدق‪ ،‬وأخذ هذه الخطوة األخيرة ليطلب من‬
‫روحه الرحيل‪ ،‬ولم يتعلم شيئًا سوى موته حتى في الموت ال أحد بمقدوره‬
‫سريعا‪ ،‬وعليه أن‬
‫ً‬ ‫أن يتفلسف فيه طويلاً ‪ ،‬لن نترك هذا الرجل العظيم يمضي‬
‫ٍ‬
‫بتفان‪ ،‬وال ندعك(‪ ((35‬للذكرى الباقية‪ ،‬فمعظم األبطال الممجدون‬ ‫يتحدث‬
‫كانوا طر ًفا ً‬
‫كبيرا لكارثة عهد جايوس‪.‬‬

‫(‪ ((35‬يناجي سينيكا كانوس ليعبر عن احترامه‪ ،‬وهذا هي المناجاة الوحيدة في الحوار‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫‪ 1-15‬ولكن من غير النافع أن نطرح األسباب لحزن خاص؛ ألن الكاره لجنس‬
‫البشر يستولي على ما نملك أحيا ًنا‪ ،‬حين تفكر أن اإلخالص استثناء‪ ،‬وأن‬
‫الجهل براءة‪ ،‬وحسن النية قد يذكر بالكاد ما لم يكن في مصلحة الناس‪ ،‬وهذا‬
‫الحشد من الجرائم الناجحة تواجهنا على طول الخط بالمنافع وضياع الشهوة‬
‫وكالهما في الكراهية سواء‪ ،‬ناهيك عن ذكر الطموح الذي ال ُّ‬
‫يظل في حدوده‬
‫وخذالنه فاضح‪ ،‬إن العقل يدفع نحو الليل‪ ،‬وينهض الظالم كما لو كان يطيح‬
‫بالفضائل حيث ال يأملها أحد‪ ،‬وليس يكسب من امتالكها أحدٌ شيئًا‪.‬‬

‫‪ 2-15‬ولذلك علينا أن نرضخ لنجعل جميع رذائل الحشد تبدو غير مكروهة بل‬
‫تافهة‪ ،‬وأن نحاكي ديمقريطوس أكثر من هيراقليطس؛ ألن هيرقليطس حين‬
‫ذهب لألماكن العامة بكى حين ضحك ديمقريطوس؛ ألن كل أعمالنا بدت‬
‫لهيراقليطس مزرية وهي حماقة محضة عند ديمقريطوس(‪ ،((35‬ولذا علينا أن‬
‫نخفف كل شيء ونحمله بعقل هين حتى تكون حياة اإلنسان سعيدة بدلاً من‬
‫النواح عليها‪.‬‬

‫‪ 3-15‬وأضف إلى هذا أن اإلنسان الذي يضحك فيها أحرى من الذي ينشد مزيدً ا‬
‫من عون جنس البشر‪ ،‬فاألول قد تركها أملاً في اإلحسان‪ ،‬واآلخر قد خاب‬
‫أمله في تصحيح مساره‪ ،‬وحين تتأمل األمور في امتدادها‪ ،‬فإن اإلنسان الذي‬
‫ممن ال يتحكم في دموعه‪ ،‬حيث إن‬ ‫ال يتحكم في إظهار ضحكته أعظم عقلاً َّ‬
‫الضحوك ُيتعتع لطف العاطفة‪ ،‬ويعتقد أن ال شيء أعظم أو أجدى أو حتى‬
‫أبغض من عظم ما يفعله‪.‬‬

‫‪ 4-15‬ودع أي امرئ يضع أمام عينيه األسباب الفردية لسعادتنا وتعاستنا‪ ،‬وسوف‬
‫يعرف أن ما قاله بيون ‪ Bion‬كان صوا ًبا‪ ،‬حيث تشبه أعمال البشر كلها ابتداء‬
‫إلى حد كبير‪ ،‬وأن حياتهم ليست أكثر قداس ًة وال جد من تصورهم‪ ،‬فإنهم‬

‫(‪ ((35‬هذا التناقض مع هيراقليطس الغامض هو القصة األكثر اقتباساعن ديمقريطس‪ .‬راجع ‪.Seneca On Anger 2.10.5‬‬

‫‪277‬‬
‫ولدوا من ال شيء ويهبطون إلى ال شيء‪.‬‬

‫‪ 5-15‬ومن األفضل أن تتقبل السلوك الشائع والرذائل البشرية بطريقة هادئة ال تميع‬
‫في الضحك وال الدموع؛ ألن التعاسة األبدية أن تعذب اآلخرين بالمصائب‪،‬‬
‫والسعادة الال آدمية أن تبتهج فيها‪ ،‬كما لو كان العمل الذي ال طائل منه أن‬
‫تبكي لو دفن المرء ابنه أو تظاهر بالتعبير عن األسى‪.‬‬

‫‪ 6-15‬والمرء في مصائبه ينبغي أن يعمل من أجل أن يكسب األسى الذي تتطلبه‬


‫الطبيعة فحسب(‪ ،((35‬وليس ما تتطلبه العادة‪ ،‬ومعظم الناس يذرفون الدموع‬
‫للعرض‪ ،‬ويجففونها حين يغيب المتفرج‪ ،‬والتفكر فيها مخجل ال مبكى حين‬
‫يفكر الجميع فعلها‪ ،‬وقد يغرس هذا الشر ذاته لالتكال على رأي البشر بعمق‬
‫حتى في المسائل البسيطة ويتحول الحزن إلى مظهر‪.‬‬

‫‪ 1-16‬إن االعتبارات التالية هي أسباب لحزن البشر وجلب الضيق على نحو العادة‪،‬‬
‫رديئة‪ ،‬كما ٌأجبر سقراط للموت في السجن‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بميتة‬ ‫حين يتوفى الرجل الصالح‬
‫وأن يعيش روتيليوس ‪ Rutilius‬في المنفى‪ ،‬وأن يقدم بومبي وشيشرون‬
‫رقبتيهما إلى العالة السابقين‪ ،‬وأن يعيش كاتو صورة للفضائل ويسقط على‬
‫سيفه(‪ ((35‬وهو يعلن الحقيقة العامة عن نفسه والجمهورية‪ ،‬وعلينا أن نعذب‬
‫ليدفعنا الحظ خارج هذا الجزاء الظالم‪ ،‬فماذا يأمل الكل حين يرى أفاضل‬
‫الرجال يعانون ما هو أسوأ؟‬

‫‪ 2-16‬فما الموضوع؟ انظر كيف يتحملها كل منهم‪ ،‬ولو كانوا شجعا ًنا لشعروا‬
‫بضياعهم لروح هؤالء األشخاص‪ ،‬ولكن لو ماتوا كالنساء والجبناء فلم‬

‫طبيعيا‪ ،‬والطبيعة هنا تتناقض مع العادات‪.‬‬


‫ًّ‬ ‫أمرا‬
‫(‪ ((35‬األسف على الميت أو الحزن على فقدان زوينا يبدو ً‬
‫(‪ ((35‬تباين لسقراط؛ فإن الموت ظلم له ربعة أربعة أمثلة عند الرومان‪ :‬حيث نفى الحاكم األمين روتيليوس عام ‪ 91‬ق‪.‬م‪،‬‬
‫كثيرا كسابقة لشرفه في المنفى)‪ ،‬وقتل بومبي عام ‪48‬ق‪.‬م على يد الجندي الروماني في النظام‬ ‫(اقتبسها شيشرون ً‬
‫المصري‪ ،‬وقتل شيشرون بأمر حكومة الثالثين عام ‪ ،43‬وانتحار كاتو عام ‪.46‬‬

‫‪278‬‬
‫شيء‪ ،‬وتستحق فضائلهم استحسانك أو ال يستحقون أن تندم لجبنهم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يضع‬
‫والحقيقة ما هو األكثر خز ًيا لهؤالء العظماء أن تصنع جبن اآلخرين بموتهم‬
‫الشجاع؟‬
‫‪ 3-16‬دعونا نثني على الرجل الذي يستحق الثناء‪ ،‬ونقول‪« :‬إنك أوفر ًّ‬
‫حظا‪ ،‬وإنك‬
‫أعظم شجاع ًة! إنك برئت من األخطاء جميعها كالحسد والمرض‪ ،‬إنك تركت‬
‫محبسك‪ ،‬وإنك ال تبدو لألرباب أنك تستحق سوء الحظ‪ ،‬واألحرى أنك ال‬
‫تستحق أن يمارس عليك الحظ أي سلطة»‪ ،‬ولكن إذا ارتدوا الناس ورجعوا‬
‫ونظروا للوراء نحو الحياة في لحظة الموت فإننا ننتزعهم بالقوة(‪.((35‬‬

‫‪ 4-16‬لن أبكي على أحد سعيد أو أتباكى‪ ،‬فاألول قد محا دموعي بجانب نفسه‪،‬‬
‫واآلخر أظهر بدموعه أنه ال يستحق أ ًّيا منها‪ ،‬هل أبكي على هيروكليس؛ ألنه‬
‫حيا‪ ،‬أو روتيليوس((‪)((35‬؛ ألنه ُثقب بالمسامير‪ ،‬أو كاتو؛ ألنه شق‬ ‫ُ‬
‫أحرق ًّ‬
‫جروحه؟ اكتشف كل هؤالء األعالم في وقت وجيز منصرم كيف يكونون‬
‫أبديين ويصلون للخلود بموتهم‪.‬‬

‫‪ 1-17‬وهناك مصدر فظ للقلق‪ ،‬وهو إن قدمت نفسك على نحو مقلق ولم تظهر‬
‫طبيعتك منفتحة لآلخرين كما هي حياة الكثيرين يضبطون ويكيفون‬
‫ظهورهم؛ ألن المراقبة المستمرة على أنفسنا تعذبنا؛ ألننا نخشى أن يجدنا‬
‫اآلخر على غير المعتاد‪ ،‬إننا لم نتحرر من الحرص إذا اعتقدنا أننا ُنقيم كما‬

‫(‪ ((35‬السياق الطبيعي لالصطالح الالتيني (وضع يده عليهم) وهو توقيف اآلخر لجره للمحكمة ‪(see OLD, s.v. inicere‬‬
‫)‪.6b‬‬
‫(‪ ((35‬يعتقد أن هيروكليس كان ميتًا حتى وهو عذاب القميص المسموم لنيسوس ‪ ،Nessus‬إنه أحرق نفسه حتى الموت على‬
‫جبل أوتا ‪ . Mount Oeta‬ورتيليوس وهو القائد الروماني للهجوم الفاشل على قرطاجة عام ‪ 257‬ق‪.‬م قد أرسل لطلب‬
‫الفدية لألسرى الرومانيين‪ ،‬وأقنع مجلس الشيوخ لرفض الفدية‪ ،‬وأرسل إلى قرطاجة كما وعد ل ُيعذب حتى الموت‪،‬‬
‫ورويت القصة بتفاصيلها عند شيشرون في كتاب الواجبات ‪ ، Cicero On Duties 3.99‬وذكرت كمثال على النزاهة‬
‫في ‪ ،Horace Odes 3.5‬وتكرراستعمالها عند سينيكا في كتاب العناية الربانية ‪ Providence 3.3 and 3.9‬مع ذكر‬
‫روتيليوس وكاتو وسقراط‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫ُنرى غال ًبا‪ ،‬فقد تحدث أمور عدة للناس تحملهم ضد إرادتهم‪ ،‬وحتى لو كان‬
‫هذا الحذر يرتكز على فالح النفس‪ ،‬فلن تكن الحياة ماتع ًة أو خالي ًة من الهم‬
‫للذين يعيشون دو ًما تحت القناع‪.‬‬

‫‪ 2-17‬ولكن ما المتعة العظيمة التي يختبرها بالصراحة وصدق تزكية المظهر‪،‬‬


‫فالدسر ليس حجا ًبا أمام عاداته! وحتى هذه الحياة تعاني من مخاطرة االزدراء‬
‫مفتوحا على اإلطالق‪ ،‬حيث هناك َمن يستخف من كل‬
‫ً‬ ‫إذا وضع كل شيء‬
‫خطرا حين توضع أمام األعين‪ ،‬ومن األفضل‬
‫ً‬ ‫يقربون منه‪ ،‬ولكن الفضيلة ال تدر‬
‫أن تزدري صراحة المرء بدلاً من أن تعذبه بالحضور المستمر‪ ،‬ودعونا نضع‬
‫حدًّ ا عليها فحسب؛ ألنها تصنع فار ًقا ً‬
‫كبيرا سواء عشت بصراحة أم غير مبال‪.‬‬

‫مرارا؛ ألن الجماعة دون رابط الرفقة ستكون‬


‫‪ 3-17‬وعلى المرء أن ينكفئ في الذات ً‬
‫وملهبة لما ضعف أو ُأهمل في العقل‪،‬‬
‫في حال خصام مستديم ومثير لالنفعال ُ‬
‫مع ذلك يجب أن تكون العزلة والرفقة ممزوجة ومتناوبة‪ ،‬فاألولى تجلب‬
‫الشوق للناس والثانية ألنفسنا‪ ،‬وكل حالة شافية لألخرى‪ ،‬فالعزلة شافية‬
‫لعوف الحشد والحشد ضجر للمرء في العزلة‪.‬‬

‫مدفوعة في نفس المستوى‪ ،‬بل نستدعيها‬‫ً‬ ‫‪ 4-17‬فال ينبغي أن ُنبقي عقولنا دو ًما‬
‫لطف‬‫يستح أن يلعب مع األطفال الصغار‪ ،‬وكاتو(‪َّ ((35‬‬
‫ِ‬ ‫للدعابة‪ ،‬فسقراط لم‬
‫عقله بالخمر حين أنهكته األمور العامة‪ ،‬وسكيبيو ‪ Scipio‬استحث جسد‬
‫الجنرال المظفر والجندي للرقص‪ ،‬وال ُتضعف الجسد بحركات لينة كما هو‬
‫الحال في المجتمع اآلن للرجال المتبخترة خلف التصنع النسوي حتى في‬
‫رجوليا‬
‫ًّ‬ ‫لباسا‬
‫طريقة مشيهم‪ ،‬ولكن كالرجال الكبار الذين اعتادوا أن يلبسوا ً‬
‫في لعبهم وفي إجازاتهم العامة‪ ،‬وال يخشون‪ ‬حتى لو كان يراقبهم أعداؤهم‪.‬‬

‫(‪ ((35‬كان معرو ًفا أن كاتو األوتيكي ‪ Cato of Utica‬الورع يقضي الليل في الشرب‪ ،‬وتحول عنه الناس حتى ال يروه يترنح في‬
‫عودته للبيت وهو يلعب مع األطفال‪ ،‬فقد وضع الشراب والرقص على قدم المساواة مع رخصة االسترخاء‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫‪ 5-17‬وعلينا أن ُن ِّ‬
‫روح عقولنا حتى تنهض من سكونها أشد قو ًة‪ ،‬كما ال ينبغي أن‬
‫نقحم األراضي الخصبة على الدوام‪ ،‬فالخصوبة المتواصلة تستنزفها عاجلاً ‪،‬‬
‫والكد المتواصل يحطم دوافع عقولنا التي تستعيد القوة بعد التراخي لفترة‬
‫وجيزة‪ ،‬في حين أن العمل المستمر يؤدي إلى وهن العقول وتبلدها‪.‬‬

‫‪ 6-17‬فرغبتنا لهذا لن تكن بالغة إذا لم تدعم الرياضة واللعب متعتها الطبيعية‪ ،‬ولكن‬
‫المتعة المتكررة في هذا سوف تسحب قوانا كلها وحيوية عقولنا‪ ،‬فالنوم‬
‫ضرورة لإلنعاش‪ ،‬ولكن إذا واصلت الليل بالنهار سوف تموت‪ ،‬فهناك فارق‬
‫كبير سواء استرخيت شيئًا ما أم تراخيت فيه‪.‬‬

‫‪ 7-17‬إن واضعي قوانيننا حددوا أيا ًما للعيد حتى يجتمع الناس على المرح المبهج‬
‫على العموم‪ ،‬وأدرجوا هذا كاعتدال ضروري للعمل‪ ،‬وكما أقول إن الناس‬
‫العظماء يمنحون أنفسهم إجازات ثابتة في الشهر‪ ،‬وبعضهم يقسم اليوم بين‬
‫العمل والراحة‪ ،‬ونحن نتذكر الخطيب العظيم أسينيوس بوليو ‪Asinius‬‬
‫‪ Pollio‬الذي تخلى عن أي عمل بعد الساعة العاشرة‪ ،‬حتى أنه لم يقرأ مراسالته‬
‫بعد هذه الساعة كي ال تنشأ عنها أعمال جديدة‪ ،‬ويضع ساعتين ليرتاح من‬
‫التعب خالل اليوم كله(‪ ،((35‬وهناك َمن قطعوا العمل في منتصف اليوم وأجل‬
‫األعمال الخفيفة لبعد الظهيرة‪ ،‬وأسالفنا ً‬
‫أيضا منعوا أي اقتراح جديد ُيعرض‬
‫على مجلس الشيوخ بعد الساعة العاشرة‪ ،‬وفي الجندية يقسمون المراقبات‬
‫فقد ُيعفى من واجب الليل الذين عادوا من غارة بالنهار‪.‬‬

‫‪ 8-17‬وعلينا أن نالطف العقل ونمنحه راحة في مكان الغذاء والنشاط‪ ،‬وعلى المرء‬
‫أن يهيم في التنزه حتى يكسب العقل قوة‪ ،‬وترتفع ذاته بالسماء المفتوحة‬

‫(‪ ((35‬أسينيوس بوليو )‪ Asinius Pollio (76 bce–4 ce‬خطيب جمهوري متأخر‪ ،‬عُ ِّين في منصب القنصل عام ‪ 40‬ق‪.‬م‪،‬‬
‫وظفر بالنصر في إليريا ‪ ،Illyria‬وانسحب من السياسات الحزبية وأسس أول مكتبة عامة في روما (قبل أوغسطس)‪،‬‬
‫وفاز باالحترام كمدافع ومروج للثقافة‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫والهواء النقي الوافر‪ ،‬وأحيا ًنا ارتياد الرحلة وتغيير المكان يمنح القوة كالرفقة‬
‫الحسنة والشراب المحبوب‪ ،‬وأحيا ًنا علينا أن نقترب من اإلرواء ال كما يغرقنا‬
‫بل ِّ‬
‫ليهدئنا؛ ألن هذا يغسل جانب ضجيج وحرص عقولنا بعمق‪ ،‬ويعالج‬
‫الحزن كما أنه يحدث بعض األمراض‪ ،‬وقد أطلق على مخترع النبيذ ليبر‬
‫(‪ Liber((35‬ليس من طالقة لسانه؛ بل ألنه حرر العقل من عبودية الحرص‬
‫حيا وجريئًا في كل مخاطرة‪.‬‬
‫التي تدعمه وتجعله ًّ‬
‫‪ 9-17‬ولكن هناك مقدار صحي للخمر كما للحرية‪ ،‬واعتقد الناس أن صولون‬
‫‪ Solon‬وأرخيسالوس ‪ ((35( Arcesilaus‬انغمسا في الخمر‪ ،‬وقد وبخ كاتو‬
‫وجه هذا العتاب سيجعل تهمة الشرف أبسط من كاتو‬
‫بسكره‪ ،‬وكل َمن َّ‬
‫المخجل‪ ،‬ولكننا ال نفعل هذا غال ًبا لنخشى أن تكتسب عقولنا عادة رديئة‪،‬‬
‫ومع ذلك يجب أن تمتد في حرية بهيجة في أوقات‪ ،‬و ُتبدد الرزانة المتجهمة‬
‫في فترة وجيزة‪.‬‬

‫‪ 10-17‬وسواء اعتقدنا أن السرور يمضي بالشاعر اليوناني إلى الجنون أو أن أفالطون‬


‫عظيما دون‬
‫ً‬ ‫الشعر عب ًثا أو أن أرسطو ليس عقلاً‬
‫بتحكمه في نفسه طرق أبواب ِّ‬
‫مزيج من الجنون‪ ،‬فليس بمقدور العقل أن ينطق بأي شيء عظيم ويعلو على‬
‫اآلخرين إال إذا استثار(‪.((36‬‬

‫‪ 11-17‬وحين يحتقر العقل األمور الشائعة والرتيبة ويرتقي بسمو اإللهام الرباني‪،‬‬
‫فبهذا وليس بغيره سوف يرتل بشيء أعظم من كالم البشر‪ ،‬وال شيء يأتي إليه‬

‫متجانسا مع اللقب‬
‫ً‬ ‫(‪ ((35‬إله الخصوبة اإليطالي ليبر ‪ Liber‬يساوي ديونيسوس اليوناني‪ ،‬وقد فهم اسمه ‘المحرر ‪’liberator‬‬
‫اليوناني اليوس ‪.Lyaeos‬‬
‫(‪ ((35‬المصادر التي تدعي هذا غير معروفة‪ ،‬ولكننا نرى على سبيل المثال في ‪ Horace Epistles 1.19.7‬أن االستشهاد‬
‫بالشراب كان معتا ًدا كإلهام للشعراء والرجال العظام‪.‬‬
‫(‪ ((36‬يوجد محاكاة للقصيدة الغنائية اليونانية‪ ،‬ومحاورة فايدروس ألفالطون كما هو أدناه‪ ،‬وقصيدة هوراديان ‪Horatian‬‬
‫‪ lyric‬الغنائية )‪ ،(Odes 2.7, 4.12.28‬والمحاكاة في فايدروس تؤدي إلى التماثل الواضح للحصان الناري في فريق‬
‫عربة النفس )‪.(Phaedrus 246a–247c‬‬

‫‪282‬‬
‫ويسمو به ويضعه عال ًيا طالما هو في موضعه مع ذاته‪ ،‬وينبغي أن يتخلى عن‬
‫نظام عادته‪ ،‬وليتحمل جان ًبا ويعض على النواجذ ويخطف راكبه ويحمله إلى‬
‫حيث يخشى أن يرتفع‪.‬‬

‫‪ 12-17‬عزيزي سيرينوس‪ ،‬لقد سمعت ما يمكن أن يحفظ السكينة‪ ،‬وما يستعيدها‪،‬‬


‫وما يقدم لمعارضة الرذائل المتعرشة‪ ،‬ولكن أعلم هذا ليست هذه المكائد‬
‫قوية تما ًما للذين يعانون من الضعف إلاَّ إذا كان الحرص الذي يحيط بالعقل‬
‫الفاشل ثابتًا وكثي ًفا‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪283‬‬
284
‫عن وقت الفراغ‬

‫‪285‬‬
286
‫مقدمة‬
‫ألحق كودكس أمبروسينوس ‪ Codex Ambrosianus‬في أواخر القرن السابع عشر‬
‫المخطوط األساسي (عن الفراغ) برسالة (عن الحياة السعيدة) دون فاصلٍ ‪ ،‬وكان‬
‫مارك أنطوان دي موريه ‪ Marc Antoine de Muret‬عام ‪ 1585-1526‬أول َمن اقترح‬
‫أنهما عمالن منفصالن‪ ،‬قد التصقا في رسالة (عن الحياة السعيدة)‪ ،‬و ُفصل العمالن‬
‫وعرف عن (وقت الفراغ‬
‫في طبعة جوستوس ليبسيوس ‪ Justus Lipsius‬عام ‪ُ ،1605‬‬
‫‪ )De otio‬من قائمة محتويات كودكس أمبروسينوس‪ ،‬ولكن قد ُمحي اسم مخاطبه‬
‫من السبع رسائل التي محت عن التفرغ‪ ،‬وقد ُقبل أنايوس سيرينوس الحاكم الشاهد‬
‫في حكم نيرون ‪63-62‬م كمخاطب لسينيكا ليس لسبب أن شخصيته التي ُرسمت في‬
‫رسالة عن التفرغ ارتبطت بسماته في رسالة (صمود الحكيم) ورسالة (سكينة العقل)‬
‫موجها إليه‪ ،‬وإذا قبلنا سيرينوس مخاط ًبا‪ ،‬فإن رسالة عن التفرغ‬
‫ً‬ ‫حيث كان الخطاب‬
‫قد ُألفت في عا ٍم ال يتجاوز ‪ ،63‬وهذا السيناريو قد يسمح لسينيكا بتأليف هذا التبرير‬
‫للتقاعد من الحياة العملية في فترة انسحابه الفعلي من بالط نيرون‪ .‬أما بالنسبة لمدى‬
‫الفجوة قبل بداية المحكي في رسالة عن الفراغ‪ ،‬فإن سينيكا يقسم حجته إلى قسمين‬
‫مشيرا إلى أن النص المتبقي يبدأ فور مفتتحه‪.‬‬
‫ً‬ ‫في ‪2-1.2‬‬
‫ويمثل الصوت العارض الغاضب سواء أكان منسو ًبا لسيرينوس أم لشخص متختل‬
‫آخر وجهة النظر الرواقية الراشدة التي يتزعمها سينيكا‪ ،‬والتي تنص على أنه “سوف‬
‫نبقى في الخدمة الفعلية حتى نهاية الحياة”‪ ،‬ويرفض سينيكا أي خرق للوالء الرواقي‬
‫‪287‬‬
‫فيما يفترضه ‪ )1( ،1-2.2‬فقد يرفض الرواقي في سن مبكرة الحياة العملية من أجل‬
‫التأمل‪ )2( ،‬وربما يتقاعد الرواقي للحياة التأملية بعد أداء وظيفته في الخدمة العامة‪،‬‬
‫والنقطة األخيرة قد تستحضر دعم فترة عمله في البالط وانسحابه‪ ،‬ولكن الرسالة لها‬
‫أهمية فلسفية تفوق بكثير كونها سيرة ذاتية تبرر تقاعده‪ ،‬والدفاع األساسي لسينيكا‬
‫للحياة التأميلية سواء أكان “حتى في سن مبكرة” ‪ ،1.2‬أم “حين يكون المرء جاهزً ا‬
‫إلكمال حياة خدمته الرسمية وحياته إن تقادمت إلى حد بعيد ‪ ،2.2‬وحتى إن ُعهد في‬
‫التأمل الرواقي الخدمة الفاعلة بالنوع الذي تعهد به المحاور في ‪ 4.1‬حيث يختلفون‬
‫في فشل المحاور أو الرفض في تحديد ما هو محلي أو ما يخدم الدولة والمدينة الكونية‬
‫الكبرى المزمعة في ‪ ،2.4‬ال يزال الفيلسوف المنعزل الذي يقيم فكر ًّيا في المدينة‬
‫الكونية يتعهد بهدف الفعل الرواقي‪ ،‬وهو ال يفي بهذا الهدف بالمعنى المألوف الذي‬
‫يفهمه المحاور في ‪ 4.1‬وفي ‪ ،2-1.2‬والرواقي يتقاعد للفلسفة بعد أن ينهي واجبه‬
‫في وظيفة الخدمة العامة‪“ ،‬يبقى في الخدمة الفاعلة حتى يصل إلى أرذل العمر” ‪،2.2‬‬
‫ومن ثم بالتعليم وبكونه مثالاً ‪َ ،‬‬
‫“فمن يخدم نفسه قد ينفع اآلخرين حيث بمقدوره أن‬
‫يكون ُمعينًا لهم”‪ ،‬أما الفيلسوف الشاب الذي ينسحب “حتى في حياته المبكرة”؛ فهو‬
‫ينتمي إلى مقولة الرواقي الذي يبذل قصارى جهده إليجاد حالة مناسبة ليخدم ‪-1.8‬‬
‫محليا‪ ،‬وفي أي دولة‬
‫ًّ‬ ‫‪ ،3‬ولكن بانعزاله عن المدينة الكونية الكبرى سوف يحل الفساد‬
‫سواء أثينا أو قرطاجة أو حتى روما‪ ،‬ويجبره انسحابه للحياة التأملية ‪“ ،3.8‬وإن لم‬
‫يكن هناك أمة من النوع الذي نتخيله ألنفسنا‪ ،‬فإن التفرغ هو المالذ الذي ال مفر منه‬
‫ً‬
‫منخرطا وفاعلاً في التأمل الذي يفي بالوصاية‬ ‫للجميع”‪ ،‬وحتى مع تقاعده ال يزال‬
‫الرواقية في الخدمة العامة‪ ،‬مثلما فعل أفاضل الرواقيين مثل زينون وخريسبوس في‬
‫خدمة البشرية بكتاباتهم وأثرهم الفلسفي‪.5-4.6‬‬
‫مفتوح للحل‪ ،‬أليست رسالة (في التفرغ)‬
‫ٌ‬ ‫وفي هذه المقاربة االختالف بل الجدل‬
‫نهايتها مرسلة مثل بدايتها؟ ويكمن عدم اكتمال الحجة الرئيسة في ‪ 4.8‬في الحاجة‬
‫‪288‬‬
‫الملحوظة لتغيير االتجاه في الجزء المفقود من العمل حتى يتسنى فهم الجزء الثاني من‬
‫الفرض في ‪2.2‬؛ ألنه إن أكد استبعد كل األعمال االجتماعية بسبب فساد حالة الفساد‬
‫ألي دولة ‪ ،3.8‬فكيف يمكن للشروع في التقاعد من الوظيفة العامة أن يكون عادلاً ؟‬
‫وقعيا للفيلسوف؟ وإن كان ال‪ ،‬فكيف يكون‬
‫خيارا ًّ‬
‫ً‬ ‫وهل يمكن الفرض الثاني في ‪2.2‬‬
‫الموضوع الثاني زائدً ا عن الحاجة في الرسالة التي نتناولها على األقل؟ ومن ثم يبقى‬
‫الجدل المضاد حول االكتمال على المحور الذي يظل فيه الفيلسوف متعهدً ا للفعل‬
‫حتى في التقاعد‪ ،‬وكال الفرضين في ‪ 2-1.2‬يدور في العمل‪ ،‬كما تناولناهما حيث‬
‫يالحظ التزام الرواقي المكلف بالعمل طوال الحياة (راجع ‪ ،)4.1‬وإذا أتيحت الحالة‬
‫عمليا‪(،‬ومن ثم التوكيد في ‪2.2‬‬
‫ًّ‬ ‫المناسبة‪ ،‬فإن الرواقي سيخدم العموم بقدر ما يمكنه‬
‫على التقاعد حين “يتقدم العمر”)‪ ،‬وال يقل التزامه بالعمل الفلسفي حتى النهاية‪ ،‬وإن‬
‫لم تتح الحالة المناسبة رغم قصارى جهده للخدمة العامة‪ ،‬فقد يحق له االنسحاب‬
‫إلى الحياة التأملية في أي من مراحل العمر‪ ،‬ومع ذلك تبقى األولوية للعمل حتى في‬
‫التقاعد‪.‬‬

‫‪289‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Griffin, M. T. 1976. Seneca: A Philosopher in Politics (Oxford,

Clarendon Press; repr. with postscript, 1992), esp. 315–21, 328–34.

Williams, G. D., ed. 2003. Seneca: “De Otio,” “De Brevitate Vitae”

(Cambridge: Cambridge University Press), esp. 10–18.

290
‫إن التوافق الكبير يجعل رذائلنا جاذب ًة لنا‪ ،‬حتى لو لم نحاول شيئًا آخر شاف ًيا؛‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫نافعا‪ ،‬وقد نكون أفضل بذواتنا‪،‬‬
‫فإن االنسحاب في ذاته من الحياة العامة يكون ً‬
‫فاالنسحاب يمنحنا الفرصة لمرافقة أفضل الناس‪ ،‬ونختار من بينهم مثالاً‬
‫ُيرشد حياتنا‪ ،‬ويتأتى هذا فحسب في وقت الفراغ‪ ،‬وحيث يمكننا أن نواصل‬
‫ثباتنا‪ ،‬وحينها ال يأتي أحد ليضلل بعون الجماهير ويقضي بالمجروح فيه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ تمضي الحياة التي بترناها من األهداف المشوهة قد ًما على المسار‬
‫بال انقطاع‪.‬‬

‫وإن أسوأ شرورنا هي أن نكبت تغيير رذائلنا‪ ،‬أو حتى نقتصد استمرارية البقاء‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫في الرذيلة التي نعلمها بالفعل‪ ،‬فالشيء يتلو اآلخر يمنحنا المتعة‪ ،‬وما يسبب‬
‫لنا التعب هو أن أحكامنا ليست فاسد ًة فحسب بل متقلبة كذلك‪ ،‬ونحن‬
‫متقلبون‪ ،‬وننتهز شيئًا يتلو اآلخر‪ ،‬ونبحث عن الشيء الذي تخلينا عنه‪ ،‬وما‬
‫نتخلى عنه نسعى لرده‪ ،‬وكذلك نتأرجح بين الرغبة والندم عليها‪.‬‬

‫وألننا نعتمد كلي ًة على أحكام اآلخرين‪ ،‬ونرى األفضل ما ُيثني عليه الكثير‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫ويالحقونه‪ ،‬وليس ما يبرر الثناء والمالحقة‪ ،‬كما أننا ال نحكم على الطريق‬
‫بأنه حسن أو رديء بمزاياه بل بكم اإلقدام عليه‪ ،‬وال أحد من الناس يمكن أن‬
‫يعود من الطريق(‪.((36‬‬

‫(‪ ((36‬إشارة إلى أسطورة إيسوب عن األسد والذئب‪ ،‬حيث يجذب األسد الزائرين المتعاطفين‪ ،‬ولكن الذئب الماكر يشير إلى‬
‫اتجاه لكل المتعاطفين‪ ،‬وبالنسبة لسينيكا ينداحون نحو التدمير باالنسياق نحو رأي واحد للجمهور‪ .‬وإيسوب وهو عبد‬
‫يوناني عاش في اليونان القديمة بين عامي ‪ 620‬و ‪ 560‬قبل الميالد‪ .‬اشتهرت حكاياته حول العالم‪ .‬وتعد أساطيره رافدً ا‬
‫للتربية االخالقية لألطفال‪( .‬المترجم)‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫وسوف تقول لي‪« :‬ما الذي تقوله يا سينيكا؟ هل تهجر وجهتك الرواقية؟ يقينًا‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫تقول الرواقية‪ :‬سنبقى في الخدمة الفاعلة حتى نهاية الحياة دون أن نكف عن‬
‫تقديم أنفسنا للخير العام ونعين الفرد ونمنح المساعدة بيد هرمة حتى ألعدائنا‪،‬‬
‫ونحن الرواقيون ال ُيعفى أحدنا من الخدمة في أي عمر‪ ،‬ونضع خوذة الحرب‬
‫على َشعرنا الرمادي كما يضع الشعراء البالغة على ِّ‬
‫الشعر(‪ ،((36‬ونحن الذين‬
‫نتعلق بالقوة حتى لحظة الموت‪ ،‬والموت ذاته إن سمح الحال ال نقضيه»(‪،((36‬‬
‫كنت‬
‫لقد كان في تعاليم زينون مفهوم للقيادة‪ ،‬فهل تحدثنا عن تعاليم أبيقور؟ إن َ‬
‫قل ًقا من تعاليم المدرسة‪ ،‬فلماذا ال تتخلى عنها صراح ًة بدلاً من أن تخونها؟»‪.‬‬

‫واآلن أقول لك في الرد فقط‪« :‬هل تتوقع ألاَّ أسلك در ًبا يزيد على طريقة‬ ‫‪ 5-1‬‬
‫ِ‬
‫أمض إلى حيث أرسلوني‪ ،‬بل حيث‬ ‫معلمي؟‪ ،‬ولذا ما العمل؟ إنني لم‬
‫قادوني»(‪.((36‬‬
‫َّ‬
‫أتخل عن تعاليم الرواقية؛ ألن الرواقيين‬ ‫وسوف أبرهن لك اآلن أنني لم‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫أنفسهم لم يتخلوا عنها‪ ،‬ومن ثم لدي عذر معتبر حتى لو اتبعت مثالهم‬
‫الشخصي وليس تعاليمهم‪ ،‬وسأفرق ما أقوله في جزأين‪ ،‬األول أنه كان للمرء‬
‫أن يكرس نفسه كلي ًة لتأمل الحقيقة والسعي نحو أساس عقلي متين للحياة‬
‫وممارسته في العزلة‪.‬‬

‫ثان ًيا حين ُيكمل المرء الخدمة الرسمية بالفعل‪ ،‬وحين يتقدم به العمر يمكن أن‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫يفعل الشيء نفسه على نحو مثالي يصله ببصيرة عالية لآلخرين بعد أن يقسم‬
‫طريقهم الطاهر العذري سنين خدمتهم إلى واجبات مختلفة‪ ،‬ويتعلمون أداء‬
‫الطقوس المقدسة‪ ،‬وعندما يتعلمونها ُيعلمونها‪.‬‬

‫‪(362) Virgil Aeneid 9.612.‬‬


‫(‪ ((36‬من المفترض أنها إشارة لالنتحار الرواقي‪.‬‬
‫(‪ ((36‬يستثمر سينيكا عدم توافق سوء السمعة الرواقي‪ ،‬وأن زينون الكتيومي أول رئيس للمدرسة وخريسبوس السولي ثالث‬
‫رئيس لها قد دعوا إلى الخدمة العامة ولم يجرؤا ممارستها بأنفسهم على األقل بالمعنى المألوف‪ ،‬راجع )‪. cf. 6.4–5‬‬

‫‪292‬‬
‫أيضا‪ ،‬وال أجعله ً‬
‫مبدأ‬ ‫وسوف أبين أن هذا المذهب يجد قبولاً مع الرواقية ً‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫لي‪ ،‬حتى ال أرتكب جريمة تجاه أي قول لزينون أو خريسبوس‪ ،‬بل الحري‬
‫أنها حقيقة بسيطة لمسألة تتبعني ألدعم آراءهم‪ ،‬وإذا كان امرئ يدعم رأ ًيا‬
‫للشخص نفسه‪ ،‬فإنه ال يتبعه في مجلس الشيوخ‪ ،‬بل في التصفيق المأجور‪،‬‬
‫وإذا فهم كل شيء بالفعل تتضح الحقيقة و ُتقبل على عمومها‪ ،‬ولن نغير أ ًّيا‬
‫من قناعتنا! بما هو اآلن‪ ،‬ونحن نبحث عن الحقيقة بجانب َمن يعلمونها‪.‬‬

‫وال تتفق المدرستان األبيقورية والرواقية على هذا السؤال ومسائل أخرى‪،‬‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫وكالهما يوجهنا لوقت الفراغ بطرق مختلفة‪ ،‬فأبيقور يقول‪« :‬ال يشارك‬
‫الحكيم في الحياة العامة إال في ظروف استثنائية»‪ ،‬ويقول زينون‪« :‬إنه سوف‬
‫يشارك في الحياة العامة ما لم يمنعه شيء»(‪.((36‬‬
‫يهدف األول إلى وقت الفراغ من حيث المبدأ‪ ،‬واآلخر يهدف إلى أسس‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫خاصة‪ ،‬ولكن هذه األسس واسعة المدى‪ ،‬وهي إذا مرضت الدولة واحتاجت‬
‫العون‪ ،‬وإذا استولى عليها المرض فال يناضل الحكيم دون حاجة إلى ذلك‬
‫ويستهلك نفسه لغاية غير نافعة‪ ،‬وإذا لم يكن لديه نفوذ أو سلطة كافية‪ ،‬وإذا لم‬
‫تكن الدولة مستعدة لقبولها أو إذا منعته علة المرض‪ ،‬فإنه لن يصعد على مسار‬
‫يعلم أنه من الصعب تحققه كما لو أنه يجند للخدمة العسكرية وهو مشلول أو‬
‫ينزل البحر بسفينة مدمرة(‪.((36‬‬

‫إذنْ من الممكن حتى ألي امرئ لديه كل االختيارات ال تزال مفتوحة‪ ،‬وقبل‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫أن يعاني أي عواصف للحياة حتى يستقر إلى مالذ‪ ،‬آمن أن يكرس نفسه‬
‫لدراسات حرة ويقضي وقته في وقت فراغ غير منقطع‪ ،‬ويغرس الفضائل التي‬
‫أبعد من أن يمارسها العامة‪.‬‬

‫(‪ ((36‬ليست اقتباسات مباشرة‪ ،‬ولكنها طباقات متقنة لبتدعها سينيكا‪.‬‬


‫نظرا لتقاعد سينيكا من البالط النيروني بعد عام ‪62‬م‪ ،‬حيث كشف عن مالمح سيرته هنا‪ ،‬ولكن أسباب اإلعفاء من‬ ‫ً‬ ‫(‪((36‬‬
‫شخصيا‪ ،‬حتى تكون سيرة واضحة‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ا‬ ‫أمر‬
‫ً‬ ‫كونها‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫وهي‬ ‫سينيكا‪،‬‬ ‫قبل‬ ‫من‬ ‫توثق‬ ‫وسوف‬ ‫‪3.3‬‬ ‫في‬ ‫الخدمة‬

‫‪293‬‬
‫نافعا لآلخرين‪ ،‬وإن أمكن فللكثرة‬ ‫ويقينا أن المطلوب من أي ٍ‬
‫أحد أن يكون ً‬ ‫‪ 5-3‬‬
‫وإن لم يكن فللقلة‪ ،‬وإن لم يكن للقلة فلألقرب لنا وإن لم يكن لألقرب‬
‫نافعا لآلخرين‪ ،‬فإنه يشارك في الخدمة‬
‫فلنفسه‪ ،‬وحين يجعل المرء من نفسه ً‬
‫العامة‪ ،‬كما أن المرء المسؤول عن انحطاط خلقه ال يضر نفسه فحسب‪ ،‬بل‬
‫كل الذين قد يستفيدون من تحسين ذاته‪ ،‬وكذلك َمن يخدم نفسه حسنًا ينفع‬
‫اآلخرين بما يقدمه من عون لهم‪.‬‬

‫ودعنا نفترض أن هناك دولتين(‪ ،((36‬األولى واسعة ويشترك فيها الجميع‪،‬‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫وتحتوى فيها األرباب مثل البشر‪ ،‬ونحن ال ننظر إلى هذه الزاوية وال تلك‪ ،‬بل‬
‫نقيس حدود دولتنا بمسار الشمس‪ .‬والثانية إننا مسجلون بها لظروف ميالدنا‪،‬‬
‫أعني أثينا وقرطاجة أو أي مدينة أخرى ال تتبع البشر جمعاء‪ ،‬بل سكان‬
‫بعينهم‪ ،‬ويكرس أناس بعينهم الخدمة لكلتا األمتين وتزيد وتنقص في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬فبعضهم تقل خدمته وبعضهم اآلخر قد يزيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بتفان حتى في وقت الفراغ‪،‬‬ ‫وهذه الدولة األعظم يمكننا أن نخدمها‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫واألحرى أنني أنزع إلى التفكير نحو األفضل في وقت الفراغ باالستفسار‬
‫وعم إذا كان المرء‬ ‫عم إذا كانت للفرد أم للمجموع؟‬ ‫عن الفضيلة(‪((36‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وعم إذا كانت هيئة العالم التي تحتوي البحار‬
‫خ ِّي ًرا بالطبيعة أم بالممارسة؟ َّ‬
‫واألرض واألشياء التي تتصل باألرض والماء ُتوجد بمفردها‪ ،‬أم أن الرب قد‬
‫وعم إذا كانت المادة التي تأتي منها كل األشياء إلى‬
‫نثر هيئات كثيرة مثلها؟ َّ‬
‫(‪ ((36‬حلم زينون في جمهوريته بوعي مدني كلي (وهو مفهوم متأثر بالكلبية ونظرية المثل)‪ ،‬وتبناه خريسبوس ليشكل فكرة‬
‫(مدينة كونية) عند الرواقيين الالحقين‪.‬‬
‫(‪ ((36‬تعد الطبيعة والمنطق واألخالق المجاالت أكثر تدولاً في الفكر الهيللينستي‪ ،‬يبدأ سينيكا بتساؤالت أخالقية أساسية‬
‫قبل أن ُيقدم على الطبيعة‪ ،‬حيث يبدأ بالكون الطبيعي ثم حكمه اإللهي‪ ،‬وأوجه االختالف بين الرواقية واألبيقورية في‬
‫تساؤالت سينيكا الطبيعية هنا‪ ،‬فالعالم الرواقي المادي متصل والرب متخلل فيه‪ ،‬وهو يناقض الحركة الذرية العشوائية‬
‫في الخالء‪ ،‬دون تدخل إلهي لهذا العالم أو أي عالم آخر قابل للفناء‪ ،‬وقد أحيا هذا المجاراة بين المدارس الهيللينستية‬
‫‪.5–1.4‬‬

‫‪294‬‬
‫الوجود متصلة وال يحدها الفراغ‪ ،‬أم أنها ممتدة ويخلطها الخالء بالهيئات‬
‫الصلبة؟ وأي نوع من المسكن يسكنه الرب سواء أكان ينظر إلى عمل يده‬
‫في سكون أم يسيطر عليه عالنية؟ وسواء أكان يحتويه بمفرده أم يجتاحه‬
‫كلية‪ ،‬وسواء أكان العالم أبد ًّيا أم أنه معدود بين األشياء الفانية والمحدودة في‬
‫فترة الحياة‪ ،‬فما الخدمة التي يقدمها المتأمل في هذه المسائل؟ هذه أعماله‬
‫العظيمة وهي ليست دون شهادة‪.‬‬

‫نحن(‪ ((36‬نقول عادة إنَّ أعظم خير أن تعيش ُ‬


‫وفقا للطبيعة‪ ،‬والطبيعة خلقتنا‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫لغايتين وهما التأمل والفعل‪ ،‬واسمح لي أن أبرهن على العبارة األولى‪ ،‬ولماذا‬
‫أقول أكثر من ذلك؟ ألم يثبت إذا ما كان كل منا يسأل نفسه كم يتوق إلى‬
‫معرفة المجهول وكم يتحمس للحصول على بيان لكل جديد يسمعه؟‬

‫بعض البحارة يتحمل مصاعب لرحلة بعيدة من أجل مكافأة وحيدة‪ ،‬وهي‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫أن يكتشف البعيد أو الخفي‪ ،‬وهذا هو السبب الذي يجعل الجماهير تتجمع‬
‫لمشاهد عامة‪ ،‬وهذا ما يجعلهم ينقبون عن ما هو مستور‪ ،‬ويفتشون عن‬
‫المبهم‪ ،‬ويكشفون الماضي‪ ،‬ويفهموا طرائق األمم الغريبة‪.‬‬

‫فضوليا ووع ًيا بحذقها وجمالها‪ ،‬ومنحتنا الحياة لرؤية‬


‫ًّ‬ ‫منحتنا الطبيعة ميلاً‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫مشهدها العظيم‪ ،‬وإنها تؤكد أنها سوف تفقد المتعة في ذاتها إذا عرضت‬
‫أعمالها باتساع وتميز وإبداع فاتن وبريق وجمال يصعب على المرء مشاهدته‬
‫في عزلة خالية‪.‬‬

‫وحتى تفهم مرادها‪ ،‬ال تشاهد فحسب‪ ،‬بل راقبها عن قرب‪ ،‬وتأمل المكان‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫الذي عينته لنا‪ ،‬إنها وضعتنا في مركز خلقها‪ ،‬ومنحتنا قيادة الكون‪ ،‬وليس هذا‬
‫ليقف اإلنسان منتص ًبا‪ ،‬بل لتعده للتأمل‪ ،‬حتى يتمكن من متابعة النجوم وهي‬

‫(‪ ((36‬الرواقيون‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫تنزلق من بزوغها نحو مواضعها‪ ،‬ويحول نظره بتحول الكون‪ ،‬وحتى يضع‬
‫رأسه فوق جسده ويضعها على رقبة لينة‪ ،‬ويكشف عن كل جزء منه بعمل ستة‬
‫أبراج تشرق في النهار وستة في الليل‪ ،‬وبالعجائب التي قد تحلها على نظرنا‬
‫تثير اهتما ًما قو ًّيا في اآلخرين كذلك‪.‬‬

‫وألننا ال نستطيع رؤية كل أبعادها الحقيقية‪ ،‬إال أن رؤيتنا تفتح الطريق لتفحص‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫أساسا للحقيقة‪ ،‬مما يسمح لنا بحثنا أن نتقدم من الواضح إلى‬
‫ً‬ ‫ذاتها وتضع‬
‫الخفي‪ ،‬ونكتشف أشياء أقدم من العالم ذاته‪ ،‬فما أصل هذه األبراج؟ وما‬
‫الحالة الطبيعية التي كان عليها الكون قبل بدء انفصال العناصر المختلفة عن‬
‫أجزائه؟ وما المبدأ الذي فصلهم حينما سقطوا نحو ظالم وفوضى؟ و َمن الذي‬
‫عين مواضع األشياء؟ وهل األشياء الثقيلة بطبيعتها انهارت لألسفل وتطايرت‬
‫َّ‬
‫الخفيفة لألعلى‪ ،‬أم أن هناك قانو ًنا تضعه قوى عليا لألجسام المفردة بصرف‬
‫النظر عن دفعها أو وزنها؟ أم أن هناك حجة بالغة تسعى لتبرهن أن البشر جزء‬
‫من النفحة الربانية‪ ،‬وأن بعض الجوانب والشرارات كالنجوم التي تسقط نحو‬
‫األرض ال تعلق بمواضعها(‪((37‬؟‬

‫أفكارنا تحدها أسوار السماء‪ ،‬وما من معرفة سوى التي تظهر للعين‪ ،‬وأفكارنا‬ ‫‪ 6-5‬‬
‫تقول‪« :‬أنا أبحث عما يكمن وراء العالم‪ ،‬وهل هو رحابة ال محدودة أم أنه‬
‫فضاء ُيغلفه بحدوده؟ وما حالة األشياء وراء هذه الحدود؟ وهل هي عديمة‬
‫معا تتخذ الفضاء نفسه في كل االتجاهات‪ ،‬أم أنها مقسمة‬
‫الشكل ومختلطة ً‬
‫طبيعيا بهذا العالم‪ ،‬أم بعيدة عنه وتتركه‬
‫ًّ‬ ‫إلى بعض األنظمة؟ وهل هي مرتبطة‬
‫يدور في الخالء؟ وهل هي من الذرات التي كل شيء منها‪ ،‬أم التي سوف تأتي‬

‫(‪ ((37‬النفس العقالنية اإلنسانية في النظرية الرواقية قسم َن ْفسه إلهية أو بنيوما ‪ pneuma‬للعالم الناري‪ ،‬وتظهر األفكار األبيقورية‬
‫والرواقية متوترة مرة أخرى في ‪ 6-5.5‬وراجع هامش ‪ ،8‬ولكن ما يتخطى تنافسهم هنا هو نموذج استجواب الذات‬
‫والعالم الذي يطرحه سينيكا كمشاركة ألي عقل مبدع في قمة أدائه‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫إلى الوجود الذي قد ُشيد‪ ،‬أم هي جوهر األشياء المتصلة القادرة على التحول‬
‫في كل جانب؟ وهل العناصر معادية لبعضها بعض‪ ،‬أم األحرى أنها تتقاتل‬
‫معا في اتجاهات مختلفة؟»‪.‬‬
‫فيما بينها وتعمل بشكل متناغم ً‬
‫وانظر إلى هذا اإلنسان الذي ُولد للبحث في هذه المسائل‪ ،‬وتأمل كم الوقت‬ ‫‪ 7-5‬‬
‫الضيق الذي ُمنح له حتى لو طلب كل لحظة لنفسه! رغم أنه ال يسمح أن ُينتزع‬
‫منه وقته بطبيعته السخية‪ ،‬وال ينزلق بالغفلة‪ ،‬ورغم أنه يحرس ساعاته الثمينة‬
‫بأقصى شح ويصل إلى الحد األبعد لحياة اإلنسان‪ ،‬ورغم أن الحظ ال يؤرق‬
‫جان ًبا مما خصصته له الطبيعة– ومع ذلك يفنى اإلنسان ليحصل على معرفة‬
‫األشياء الخالدة‪.‬‬

‫كرست نفسي كلي ًة لها‪ ،‬وإن عشقتها وعبدتها‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ولذلك أعيش وف ًقا للطبيعة‪ ،‬وإن‬ ‫‪ 8-5‬‬
‫وحرا في تأملي(‪ ،((37‬وأنا‬
‫ًّ‬ ‫وتتمنى الطبيعة أن أفعل كليهما‪ :‬أي أكون فاعلاً‬
‫أفعلهما على حد سواء‪ ،‬حيث ينطوي التأمل على الفعل‪.‬‬
‫وأنت تقول‪“ :‬ولكن ثم ٌ‬
‫فرق عن إذا كنت تتحول إليها من أجل المتعة‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫فحسب‪ ،‬ولست ساع ًيا لشيء سوى التأمل دون انقطاع وبال منفعة عملية؛ ألن‬
‫هذا الوجود جاذب لمفاتنه الخاصة”‪ ،‬وردي عليك‪ :‬إن هذه مسائل تساوي‬
‫في إطار العقل ما تصنعه في حياتك السياسية‪ ،‬فهل تنشغل دو ًما‪ ،‬وال تتخذ‬
‫وقتًا لنفسك لتحول نظرك من الشؤون اإلنسانية إلى األشياء الربانية؟‬

‫جديرا بالثناء أن تسعى وراء الثروة دون أي حب للفضائل ودون‬


‫ً‬ ‫وليس‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫غرس للعقل وتنشغل في عمل أجرد‪ ،‬ويجب أن تترابط هذه األشياء ببعضها‬
‫البعض‪ ،‬مثل الفضيلة التي تضيع في وقت الفراغ دون فعل‪ ،‬وإن لم تقدم ما‬
‫تعلمته للفحص فهي ناقصة وخير خامل‪.‬‬

‫(‪ ((37‬وهناك توكيد من سينيكا في أكثر من مكان؛ على سبيل المثال في رسالة سكينة العقل ‪ 8.4‬والرسالة ‪ ،6.3‬مع التوضيح‬
‫في ‪ 4-2.6‬أدناه‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫و َمن الذى ينكر أن هذه الفضيلة تختبر تقدمها عن طريق العمل وليس بالنظر‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫فيما ينبغي عمله‪ ،‬ولكن تعمل على نحو جازم أحيا ًنا وتقدم أفكارها لملء‬
‫تأخيرا من جانب الحكيم نفسه‪ ،‬وإن لم يفتقر إلى الدافع‬
‫ً‬ ‫الواقع؟ وإن لم يكن‬
‫بل المهمة التي عليه أداؤه‪،‬ا فمن المؤكد أنها ستسمح له بأن ينسجم مع نفسه؟‬

‫وما األفكار التي يسحبها الحكيم إلى وقت الفراغ؟ إنه يعمل في المعرفة التي‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫يربطها بفعالية في مشاريع تنفع األجيال‪ ،‬وال شك أن زينون وخريسبوس‬
‫من الرواقيين الذين حققوا أشياء أكبر من قيادة الجيوش وشغل المناصب‬
‫والضلوع في القانون؛ لقد صكوا قانو ًنا ليس لدولة بعينها بل لجنس البشر!‬
‫قويما للرجل الخ ِّير إذا استخدمه ليعطي‬
‫ً‬ ‫إذنْ لماذا ال يكون وقت الفراغ‬
‫توجيهات لألجيال الالحقة وليس في معالجة البسيط‪ ،‬بل كل الناس واألمم‬
‫سواء في الحاضر أو المستقبل؟‬

‫وباختصار أسألك عن إذا كان كليانتس وخريسبوس وزينون قد عاشوا وفق‬ ‫‪ 5-6‬‬
‫مذاهبهم(‪((37‬؟ وسوف ترد بأنهم عاشوا كما قالوا كيف ُتعاش الحياة‪ ،‬ومن‬
‫أي منهم في الحياة المدنية‪ ،‬وأنت ترد‪« :‬لم يتيح لهم الحظ‪ ،‬ولم‬
‫ثم لم يشارك ٌّ‬
‫تسمح الدولة المدنية للناس أن يشاركوا في اإلدارة العامة»(‪ ،((37‬ومع ذلك لم‬
‫تقودهم حياة الخمول‪ ،‬واكتشفوا كيف يجعلون خمولهم بعينه منعة للبشرية‬
‫دورا في الحياة العامة مع‬
‫أكثر من كد وصخب اآلخرين‪ ،‬ولذلك لم يؤدوا ً‬
‫أنهم قد فعلوا الكثير‪.‬‬

‫وعالو ًة على ذلك‪ ،‬فهم ثالثة أنماط للحياة(‪ُ ،((37‬طلب منهم األفضل‪ ،‬األول‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫تفانى في المتعة‪ ،‬والثاني في التأمل‪ ،‬والثالث في العمل‪ .‬وإذا طرحنا تنافسنا‬

‫(‪ ((37‬راجع ‪ 5.1‬وهامش ‪.4‬‬


‫(‪ ((37‬لم يكن زينون وكيليانتس وخريسبوس مؤهلين للمنصب القانوني أو السياسي هناك؛ ألنهم ليسوا من مواليد أثينا‪.‬‬
‫(‪ ((37‬الصياغة في كتاب األخالق النيقوماخية عند أرسطو )‪ ،(Nicomachean Ethics 1095b 17–19‬ويمتد االختالف‬
‫إلى أفالطون و َمن سبقوه‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫الفلسفى والكراهية المتصلبة التي نعلنها تجاه هؤالء الذين اتبعوا طرائق‬
‫مختلفة‪ ،‬فدعونا نالحظ كيف أن الثالثة أقبلوا على الشيء نفسه بمسميات‬
‫َّ‬
‫يتخل عن التأمل‪ ،‬والذي تفانى في التأمل‬ ‫مختلفة‪ ،‬فالمرء الذي مدح المتعة لم‬
‫َّ‬
‫يتخل عن التأمل‪.‬‬ ‫كرس وجوده للعمل لم‬ ‫َّ‬
‫يتخل عن المتعة‪ ،‬والذي َّ‬ ‫لم‬

‫رئيسا أو ملح ًقا ببعض‬


‫وأنت تقول‪« :‬لكن هناك فرق كبير بي إذا كان الشيء ً‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫كبيرا‪ ،‬ومع ذلك ال يوجد‬
‫ً‬ ‫األهداف الرئيسة األخرى»‪ ،‬ربما يكون فر ًقا‬
‫أحدهما دون اآلخر‪ ،‬فال يتأمل المتأمل دون فعل‪ ،‬وال يستغني الفاعل عن‬
‫التأمل‪ ،‬والمرء الثالث الذي اتفقنا على أنه أقل في درجة الرأي(‪ ((37‬ال ُيعاقب‬
‫على المتعة الخاملة‪ ،‬بل المتعة التي تجعله متقوقعا في ذاته بعقله(‪ ،((37‬ووف ًقا‬
‫لذلك حتى لو كان هذا متع ًة‪ ،‬فإن هذه المدرسة أحبت المتعة ألجل العمل‪.‬‬

‫وكيف ال يكون حيث إن أبيقور نفسه يقول إنه ينسحب من المتعة ويسعى‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫نحو األلم‪ ،‬إذا الح الندم على المتعة أو إذا أضفى على ألم أقل في موضع أكبر‬
‫الحق(‪((37‬؟‬

‫وما وجهة نظري في قولي هذا؟ وجهة نظري توضح أن كل األطراف تمدح‬ ‫‪ 4-7‬‬
‫التأمل‪ ،‬فهو للبعض غاية‪ ،‬وبالنسبة لنا نحن الرواقيون هو موضع للمطية في‬
‫المرسى وليس هو الميناء(‪.((37‬‬

‫وتأمل أنه قد سمح لك وف ًقا لخريسبوس(‪ ((37‬أن تعيش في وقت الفراغ‪ ،‬وأنا‬ ‫‪ 1-8‬‬

‫(‪ ((37‬كلمة األبيقوري قد تلمح إلى نقطة النقاش المفقودة في االفتتاحية‪.‬‬


‫(‪ ((37‬على سبيل المثال تهدف األبيقورية إلى تحقيق اللذة ‪( katastematic‬ليس بالجوع) بل على العكس باإلشباع (باألكل‬
‫لتخفيف الجوع)‪.‬‬
‫(‪ ((37‬راجع خطاب أبيقور إلى منشيوس ‪.130-129‬‬
‫(‪ ((37‬يعود االختالف في ‪ 2-1.2‬إلى حالة التقاعد للحياة التأملية من مقتبل العمر (‪ ،)1.2‬أو بعد االنسحاب من الخدمة‬
‫العامة (‪ ،)2.2‬والرواقية تلتزم بالعمل دو ًما حتى في حالة التقاعد للتأمل‪ ،‬فهي تباشر العمل للخير العام‪.‬‬
‫(‪ ((37‬على غرار وصف زينون في ‪ 2.3‬أعاله‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫ال أقصد التسلية بل أي نشاط تختاره‪ ،‬إن مدرستنا ترفض أن يقبل الحكيم‬
‫المشاركة في الحياة العامة أو في الدولة‪ ،‬بل في التمييز الذي يصله إلى وقت‬
‫الفراغ– سواء بسبب أن الدولة غير متاحة له‪ ،‬أم أنه غير متاح للدولة‪ ،‬إذا لم‬
‫تكن الدولة غير موجودة ألي أحد؟ والحق أن الدولة ال تتاح للذين يسعون‬
‫من أجلها بعين دؤوبة‪.‬‬

‫وأسألك ما الدولة التي يعلق الحكيم بها نفسه؟ هل دولة األثينيين التي أدانت‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫سقراط بالموت‪ ،‬التي هرب منها أرسطو ليتجنب إدانته فيها(‪((38‬؟ وأين‬
‫تضطهد الفضائل بالحقد؟ وليس بمقدورك أن تخبرني أن الحكيم سوف‬
‫يربط نفسه بهذه الدولة‪ ،‬هل دولة قرطاجة في خالفها السياسي المتواصل‪،‬‬
‫وتهديدات الفجور الشعوبي التي تؤذي كل المواطنين الفضالء‪ ،‬واحتقار‬
‫العدالة والمبدأ الحق‪ ،‬والقسوة البهيمية تجاه األعداء حتى لو تحولوا من‬
‫عداء مواطنيهم؟ فهذه واحدة من الدول‪.‬‬

‫وإذا أردت أن أمسح لك الدول كامل ًة‪ ،‬فلن أجد واحدة متسامحة أو يتسامح‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫معها الحكيم‪ ،‬ولكن إن لم نجد لنا دول ًة من النوع الذي تصورناه ألنفسنا‪،‬‬
‫فيبدو أن وقت الفراغ هو الخيار الذي ال مفر منه للجميع؛ ألن الشيء الوحيد‬
‫الذي قد فضل لوقت الفراغ موجود في أي ٍ‬
‫أين‪.‬‬

‫وإذا قال أحدهم‪ :‬من األفضل أن يذهب عن طريق البحر‪ ،‬ومن ثم يحرم‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫اإلبحار حيث يحدث تحطيم السفن عاد ًة‪ ،‬وغال ًبا ما تصطدم فجأ ًة بالعواصف‬
‫التي ترمي القبطان في االتجاه الخاطئ‪ ،‬إنه يخبرني‪ ،‬ما لم أكن مخطئًا فلن‬
‫أبحر‪ ،‬مع أنه يثني على اإلبحار(‪.((38‬‬

‫(‪ ((38‬بعد موت اإلسكندر في ‪ 323‬ق‪.‬م غادر أرسطو المتهم بعدم التقوى أثينا‪ ،‬وهو يستدعي ما ُفعل بسقراط من قبل‪.‬‬
‫(‪ ((38‬لتوكيد دعوى أن رسالة عن التفرغ ليست كامل ًة في رسالتها المرسلة انظر مقدمتي لهذه الرسالة‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫ال�سعيدة‬
‫عن الحياة َّ‬

‫‪301‬‬
302
‫مقدمة‬
‫الموضوع والبنية‪:‬‬
‫تشير عنوان رسالة ‪ De vita beata‬إلى “الحياة السعيدة” أو “السعادة” (أيديمونيا‬
‫‪ eudaimonia‬في اليونانية)‪ ،‬وقد اتفقت المدارس الفلسفية القديمة على الشيء‬
‫المرغوب فيه طبيعة من قبل كل البشر‪ ،‬ومع هذا اإلجماع العام أظهرت المدارس‬
‫ً‬
‫صارخا حول ما يشكل الخير األقصى أو الهدف والغاية أو كمال الحياة‬ ‫اختال ًفا‬
‫حيث يحتاج كل امرئ ليكون سعيدا إلى اللذة والحرية من األلم والقلق كما هو عند‬
‫األبيقوريين‪ ،‬والفضيلة وحدها عند الرواقيين‪ ،‬والفضيلة يرافقها خيرات بعينها عند‬
‫المشاءيين‪ ،‬وأفضل ما بقي من سرد حول هذا الموضوع هو محاورة شيشرون عن‬
‫غايات الخير والشر ‪ On the Ends of Good and Bad‬التي تدرس األبعاد الثالثة‪.‬‬
‫رسمت رسالة سينيكا لوحة مقتضبة للحياة الرواقية السعيدة التي تبنيها الفضيلة‪،‬‬
‫وهي تعتد بعالقة الحياة باللذة وأحوال أخرى‪ ،‬ففي بداية الرسالة (‪ )1-1‬يعلن سينيكا‬
‫ألخيه جاليو المخاطب في الرسالة “بما نسعى إليه” ثم “طريقة الحصول عليه بلين”‬
‫(‪ ،)1.1‬وبعد التركيز على بداية تحديد الحياة السعيدة يلي ذلك معلومات إضافية‬
‫عدة للموضوع الثاني‪.‬‬
‫وفي مناقشة أولية للمشكلة المطروحة (‪ )1.3 – 2.1‬هجا سينيكا التوجه الخاطئ‬
‫للناس ويؤكد على الحاجة إلى مرشد خبير (‪ ،)2.1‬ويقود هذا إلى تركيزه على تعريف‬
‫‪303‬‬
‫الحياة السعيدة (‪ )4.5-2.3‬حيث استقالله المزعوم عن سلطة أي رواقي (‪،)2.3‬‬
‫وتوازنه بتمسكه بالمبدأ الرواقي المشترك حيث االتفاق حول طبيعة العالم (‪،)3.3‬‬
‫وهو المبدأ األساس للرواقية والذي أصبح مهيمنًا على العمل كله (على سبيل المثال‬
‫‪ ،)5.20 ،1.13 ،2 -1.8‬ثم يشرع في تقديم ستة تعريفات للحياة السعيدة بامتداد‬
‫مختلف‪ ،‬وهو يبرر نهجه للتعريف بمماثلته بالجيش الذي بمقدوره أن يتمدد وينكمش‬
‫في لحظة واحدة وف ًقا للخطة(‪.)1.4‬‬
‫إن جدلية الملذات السالفة الذكر هي المعضلة الرئيسة في حوار سينيكا‪ ،‬حيث‬
‫خيرا أسمى أو بكونها مرتبطة بالفضيلة باعتبارها طر ًفا من‬
‫دحض اللذة باعتبارها ً‬
‫الخير األسمى (‪((38()4.15-1.6‬‬
‫عبر عنها‬
‫‪ ،‬وكل االعتراضات التي تتوالى (التي َّ‬
‫طرف ثالث‪ ،‬ومن الواضح أنه ليس جاليو) تطابق مركب نوعي للمذهب األبيقوري‬
‫عن اللذة‪ ،‬وفى هذا التغير يظهر سينيكا نفسه على دراية بكتابات أبيقور وواع ًيا بها‬
‫حتى إنه تعاطف مع أبيقور ووصف تصوره للذة بالرزانة واالعتدال (‪ ،)4.12‬ومن‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬يؤكد أن المدرسة األبيقورية أعطت ضمان ًة وحجا ًبا للمتهورين الساعين‬
‫للمتعة (‪ ،)4.12‬وهو يحمل األبيقوريين المسؤولية عن هذا التطرف‪ ،‬ومن ثم نخرج‬
‫من موضوع اللذة بصورة لنقاء الفضيلة واستقاللها‪ ،‬وأن حال الفضيلة هو «الضامن‬
‫الحق» (‪.)3.16- 5.15‬‬
‫تغيرا جديدً ا مع محاور لدود– أو‬
‫ويثير التصور العام للحياة السعيدة عند سينيكا ً‬
‫محاورين (‪ ،)20-17‬وهم يسألون‪« :‬ولماذا إذنْ تتحدث بجرأة زائدة عما تعيشه؟»‬
‫(‪ ،)1.17‬وهذه الدالئل بقائمتها الموسعة تحث سينيكا إلى تفسير يصف فيه الحكيم‪،‬‬
‫مطمحا للفيلسوف (‪.)5-3.20‬‬
‫ً‬ ‫وليس هو ذاته مثالاً أو‬
‫واالتجاه التالي الذي يوجه المعترض يوجهنا إلى نقاش يتعلق بعالقة الحكيم بالثروة‬

‫(‪ ((38‬لمزيد من التحليل عن االنحرافات والخفايا في النظريات الرواقية عن اللذة انظر ‪Asmis 1990, 235–44. Cicero‬‬
‫‪.On the Ends of Good and Bad 2.43–69; cf. Griffin 1992, 307‬‬

‫‪304‬‬
‫(‪ ،((38()26-21-.3‬ورد سينيكا صورة وصفية لنظرية المحايدة المفضلة ‪preferred‬‬

‫)‪ indifferents (22.4‬وتفسير كيف ُيعطي الحكيم اإلحسان (‪)24.3 ،1.23 ،4-20‬‬
‫ذلك الموضوع الذي تناوله في رسالته عن اإلحسان باستفاضة‪ ،‬ويكثف النقاش‬
‫بالحديث عن الحكيم‪ ،‬ومن ثم عن سقراط والذي ُيصور في البداية بمصطلحات عامة‬
‫نوعيا(‪ ،)1.28 ،26.4‬ومن الشك أن‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ،)25.8 ،24.4‬ثم يزيد ما يتعلق بالسيرة‬
‫يقدر ما فقده سقراط من الهجوم المضطرب لخصومه عليه‪.‬‬

‫دفاع سينيكا‪:‬‬
‫كان من السهل على سينيكا أن ُيبقي على الموضوعات النظرية بعد اختياره التركيز‬
‫على الحياة السعيدة (‪ .((38()4.15 ،1.6‬ويعني التحول في الفصل ‪ 17‬أن العمل‬
‫مكرس اآلن لوصف الحياة التي تنقضي في تقدم العمر رغم توافقها مع الحياة الرواقية‬
‫السعيدة– وهو تحول دفاعي‪ ،‬والحياة الرواقية السعيدة ال تمضي على مصرعيها‪ ،‬بل‬
‫تدار بالمحايدات المفضلة باعتبارها طر ًفا من حياة الجسد واألسرة والدولة‪.‬‬
‫ورغم أن تاريخ كتابة رسالة الحياة السعيدة مجهول‪ ،‬فإن معظم الباحثين يرون أن‬
‫العمل يرد ‪-‬عاجلاً أم آجلاً ‪ -‬على الهجوم غير المبرر ضد سينيكا في ‪ 58‬ق‪.‬م من‬
‫المدعي المحنك الساخط سوليوس روفوس ‪ ،((38( P. Suillius Rufus‬وقد لخص‬
‫تاكيتوس التهم الموجهة من سوليوس لسينيكا وراء الستار‪ ،‬وأثنى على نفي سينيكا‬

‫(‪ ((38‬لالطالع على هذا التوكيد والمحتمل أن يكون مستمدًّ ا من بانيتوس ‪ Panaetius‬يمكن أن تجده عند ‪Cicero On‬‬
‫‪.Duties 1.17; cf. Asmis 1990, 250; Griffin 1992, 179, 296–97, 307 n. 4‬‬
‫(‪ ((38‬لمناقشات أخرى عن الحياة السعيدة بتوكيد مختلف انظر ‪.Letters 85 and 92‬‬
‫(‪ ((38‬عن التسلسل الزمني والمنهج وعالقته بتهم سوليوس انظر ‪Griffin 1992, 19–20, 306–9, 396, 399; Asmis‬‬
‫‪1990,‬‬
‫‪ 47–246‬ولمناقشة هذه التهم وعالقة سينيكا بالمال انظر ‪ Levick 2003‬ولمعرفة سوليوس ‪،Rutledge 2001, 111–13‬‬
‫ولتطور النظريات الحديثة حول عالقة رسالة الحياة السعيدة وسياقها التاريخي يمكن تتبعه ‪Chaumartin 1989,‬‬
‫ضمنيا للحاكم” (‪ )1996.26‬ال سيما في‬
‫ًّ‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫‪ .1686–89‬كما يالحظ شيسارو ‪ Schiesaro‬أن سينيكا “يقدم‬
‫التشديد على احترام الحرية‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫السابق‪ ،‬وأبرز المتناقضات بين فلسفته وثروته (‪ ،)Annals 13.42.2–43.1‬ويذكر‬
‫كاسيوس ديو ‪ Cassius Dio‬هذه التهم بجانب تهم أخرى بما فيها تورط سينيكا في‬
‫ممارسة الجنس مع “الصبيان في مراهقتهم‪ ،)Roman History 61.10(:‬وكما يقرر‬
‫تاكيتوس أن تهم سوليوس لم ُتعلن ونقلت إلى سينيكا بصورة مبالغ فيها (‪،)1.43.13‬‬
‫جزئيا‪ ،‬وعدد قليل َمن سمع صداها‪ ،‬وتبدأ اتهامات المتحاور‬
‫ًّ‬ ‫وتجد االتهامات صدى‬
‫المتخيل في رسالة “عن الحياة السعيدة” في ‪ ،3.2‬والح ًقا في ‪،1.21 ،2-1.17‬‬
‫‪.5.27‬‬
‫وكان من األحرى ألاَّ يستعمل سينيكا عنوان “الحياة السعيدة”؛ ألنه يعالج موضوع‬
‫استعمال الفيلسوف للذة والثروة‪ ،‬ولكن زوده ببنية ُيعرف فيها موقفه الرواقي من‬
‫منهجيا مع المذاهب التي تعطي قيمة للذة والظاهر‪ ،‬في حين فسر موضع‬
‫ًّ‬ ‫خالل تناقضه‬
‫اللذة المالئم والظاهر في المذهب الرواقي‪.‬‬
‫و ُتعرض هذه النصوص بشكلها المميز بتراكيب بالغية يوظفها سينيكا‪ ،‬وبتقديمه‬
‫لسقراط ينقل العمل إلى أجواء دفاع أفالطون عن سقراط حيث يواجه الفيلسوف كثير‬
‫من متهميه ويستغل هذه الفرصة ليمحص آراءهم‪ ،‬ورغم ادعائه للنقيض ‪-3.17‬‬
‫‪ 4‬يبدو سينيكا سعيدً ا؛ ألنه يسمح لصوته أن ينفجر بصوت الحكيم‪ ،‬واالستعمال‬
‫بالغيا آخر‪ُ ،‬أشير له في البداية‬
‫ًّ‬ ‫المكثف لالصطالح السياسي الروماني يشكل تراك ًبا‬
‫حين وظف سينيكا االصطالحات االنتخابات السياسية ومداوالت مجلس الشيوخ‬
‫لتوصيف الطريقة التي يقررها هو ومحاوره في كيفية صياغة آرائهم وربطها بآراء‬
‫اآلخرين (‪ ،)2.3 ،2.1 -5.1‬ويبني سينيكا في أوقات الحقة على المثل الموجودة‬
‫للسلوك السياسي (على سبيل المثال ‪ ،)5.20 ،7.15‬حتى إنه يسعى الستبدال هذه‬
‫القيم السياسية بالقيم الفلسفية(‪.((38‬‬

‫ضمنيا للحاكم” (‪ )1996.26‬ال سيما في التشديد على‬


‫ًّ‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫(‪ ((38‬كما يالحظ شيسارو ‪ Schiesaro‬أن سينيكا “يقدم‬
‫احترام الحرية‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫وإن دفاع سينيكا ‪-‬إن كنا نطلق عليه هكذا‪ -‬ال يزال مؤثرا في مجابهة تصورات‬
‫سينيكا المفترضة للنفاق‪ ،‬وعلى سبيل المثال قد اتخذ ديدرو ‪ Diderot‬رسالة الحياة‬
‫بالغيا في مقاله عن حياة سينيكا وكتاباته ‪Essaisur la vie et les‬‬
‫ًّ‬ ‫منحى‬
‫السعيدة ً‬
‫‪ ،écrits de Sénèque‬والذي ُيدافع فيه الفيلسوف عن كل من سينيكا ونفسه ضد‬
‫سوللسوسات ‪( Suilliuses‬جمع سوليوس الذي انتقد سينيكا) الحياة المعاصرة أو‬
‫االتجاه المضاد لسينيكا‪.‬‬

‫اللذة والثروة وفن العيش‪:‬‬


‫تركز رسالة الحياة السعيدة على السلوك األخالقي في أوقات الحظ الحسن على‬
‫خالف الرسائل القصيرة األخرى‪ ،‬وسينيكا كفيلسوف يضعها ضمن الفضائل «الهابطة‬
‫‪ ”downhill‬مثل الحرية واالعتدال واللطف بدلاً من الفضائل “الصاعدة ‪”uphill‬‬
‫مثل التحمل والشجاعة والمثابرة ‪ ،8-6.25‬وفي هذا العمل لدينا الفرصة لنرى‬
‫كيف صنع سينيكا هذه النصوص المختلفة‪ ،‬ونالحظ كيفية معالجته للذة والثروة في‬
‫شيوعها‪.‬‬
‫ويستجيب سينيكا بطرق معاكسة إلى حد ما إلى مسائل اللذة والثروة(‪ ،((38‬ويصارع‬
‫سينيكا في الفصول من السادس حتى الخامس عشر الذين يعلون من اللذة‪ ،‬ويجعلون‬
‫الفضيلة أداتها‪ ،‬وعلى النقيض في حالة الثروة حيث إن هدف سينيكا هو تبرير تفضيل‬
‫الحكيم لها‪ ،‬ويناقش الذين يرون التناقضات الذاتية في ملكية الرواقية للثروة‪.‬‬
‫ولكن تعين كثير من التصورات في توحيد القسمين‪ ،‬وكال الموضوعين على سبيل‬
‫المثال صيغ في معاني تميز الشخص الحكيم الفريد المشرق عن المتعة (السكينة‬
‫ً‬
‫أيضا) وهذا هو الخيط الواصف لصورة سينيكا في كيفية أن تكون سعيدً ا(‪ ،((38‬وكال‬
‫الموضوعين قد صيغ في معاني التحرر‪ ،‬وبالفضيلة كتحرر من اللذة (على سبيل المثال‬

‫(‪ ((38‬عن عدم تجانس المناقشات انظر ‪.Griffin 1992, 307‬‬


‫(‪ ((38‬عن المتعة واللذة هنا انظر ‪ ،Asmis 1990, 232–35,244‬وعن المتعة والثروة انظر ‪Griffin 1992, 179.‬‬

‫‪307‬‬
‫‪ ،((38()4.3 ،4.3‬وينشأ سخاء الحكيم من عقل حر)‪.liber animus (3.24‬‬
‫وصورة الفيلسوف كصانع لحياته )‪ artifex uitae suae(3.8‬تنطبق كلية مع اللذة‬
‫صانعا يأخذ العقل بداياته من اإلحساسات‪ ،‬ومن ثم‬
‫ً‬ ‫والثروة‪ ،‬ففي حالة اللذة فلكونه‬
‫يؤكد سلطته عليها مثل الرب(‪ ،)4-3.8‬وفي حالة الثروة فإن مثال الصانع قد يتضح‬
‫في العمل بذكر سينيكا المتعدد بأن الثروة ُتعطي الفيلسوف “مادة أعظم لتنقي عقله”‬
‫(‪.)3.24 ،1.22 ،4.21‬‬
‫إن فكرة حياة الصانع بطبيعتها كأسلوب حياة أو مسار الحياة الذي يسلكه الفيلسوف‬
‫قد ُضمنت في الفصل الخامس عشر‪ ،‬وهي في صيغة الحكيم مثل “ضعني في الحظ‪،...‬‬
‫ضعني في المصيبة‪ ،...‬على استعداد للمصيبة‪ ،...‬إنني أفضل الحظ‪ ،”...‬ويضيف‬
‫سينيكا بالقدر نفسه الجرأة بقدر ما يمكن لممارسة الفضائل الهابطة بالتعرض لسقراط‬
‫نظرا ألن المسار العام لحياة سقراط انتهى به إلى السجن‪ ،‬وسم‬
‫الناقل لهذا الخطاب‪ً ،‬‬
‫الشوكران قد يعين في التخلص من عبء جميع المواد التي تسمح بممارسة فضائل‬
‫الهبوط‪.‬‬
‫ومن السمات المميزة لسينيكا التركيز على الموت كمركب جوهري لفن العيش‬
‫وبرهان مطلق للتحرر‪ ،‬ويتضح هذا في كلمات المتطلع للفلسفة(‪ ،)5.20‬وفي‬
‫وصف سينيكا النتحار ديدوروس ‪ Diodorus‬وهو األبيقوري الذي قطع رقبته “قبل‬
‫بضعة أيام”‪ ،‬والذي كانت كلماته األخيرة إشارة لضميره الخير (‪ ،)1.19‬وحتى لو‬
‫جليا في وفاته فرصة‬
‫لم يثن ذاته على أسلوب حياة األبيقوري ديدوروس‪ ،‬فإنه رأى ًّ‬
‫ليبرهن على قدرة جرأته على اختيار الموت ليتحمل مشهد الحياة المختبرة‪ ،‬وإن تبنى‬
‫إرادة القيام بالموت هو من باب االعتزاز بالقدرة على االنفصال عن اللذة والثروة‬
‫وكل المحايدات؛ ألن احتضان الموت تحرر بمعناه الجوهري مثل تحرر النفس من‬

‫(‪ ((38‬حول القيم كتحرر في هذا العمل انظر ‪.Inwood 2005, 314‬‬

‫‪308‬‬
‫الجسد(‪ ،((39‬واحتضان الموت يذكر ً‬
‫أيضا بحال المشهد الزمني للحياة السعيدة‪،‬‬
‫والتي ستكون دو ًما من الفضائل الصاعدة التي قد تحتاجها آجلاً ‪ ،‬هذا هو اإلطار‬
‫النظري والبيوجرافي الذي يضعه سينيكا في عرضه لألشياء الظاهرية‪.‬‬

‫(‪ ((39‬يرى هيل ‪ Hill 2004, 151–57‬أن االنتحار بمثابة تدريب في “المحاكاة المعرفية”‪.‬‬

‫‪309‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Asmis, Elizabeth. 1990. “Seneca on the Happy Life.” In The Poetics
of Therapy, ed. M. Nussbaum, Apeiron 23:219–55.

Griffin, Miriam T. 1992. “Seneca Praedives.” In Seneca: A Philosopher


in Politics, 2nd ed., 286–314. Oxford: Oxford University Press.

Ker, James. 2010. “Socrates Speaks in Seneca, De Vita Beata 24–28.” In


Ancient Models of Mind: Studies in Human and Divine Rationality,
ed. A. Nightingale and D. Sedley, 180–95. Cambridge: Cambridge
University Press.

310
‫أخي جاليو ‪ ،Gallio‬الجميع يرغب أن يعيش سعيدً ا‪ ،‬ولكن حينما يقبل‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫ما يجعل الحياة كذلك فإنهم يعمهون‪ ،‬ويصعب أن يبلغها المتعجل وهو‬
‫يهرول نحوها‪ ،‬ويتخلى عنها اآلخر إذا فقد الطريق‪ ،‬حيث يقوده في االتجاه‬
‫المعاكس‪ ،‬و ُتبقيه ثمرة َع َج َلته في ُفرقة أعظم‪ .‬وعلينا أن ُنخطط لمعالجة ما‬
‫نسعى إليه أولاً ‪ ،‬ومن ثم علينا أن نلتفت للطريق لنصيبه حثي ًثا‪ ،‬ويمكننا التعلم‬
‫عليه‪ ،‬طالما أنه هو الطريق الحق‪ ،‬فكم من الخطى مشيناها كل يوم‪ ،‬وكم‬
‫تقاربنا نحو الشيء الذي تدفعنا إليه الرغبة الطبيعية‪.‬‬

‫ناسا بكائين يدعوننا‬


‫وأ ً‬‫هوى‪ ‬م َت َبايِنًا ُ‬
‫ُ‬ ‫والحقيقة طالما أننا نطوف حوله ونتبع‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫في اتجاهات متفرقة وال نتبع مرشدً ا‪ ،‬فإن حيواتنا المقتضبة حتى لو كنا‬
‫نعمل على نحو حسن ليل نهار سوف ترتد عن الطريق في ظالل َم ْو ُهوم‪ .‬إذنْ‬
‫دعونا نحدد أين نتجه وبأي طريق يختار‪ ،‬ودعونا ننهل خبرة من استكشف ما‬
‫يدفعنا نحو الطريق ح ًّقا؛ ألن الحدود هنا ال تشبه رحالت أخرى‪ .‬فاستكشاف‬
‫الطريق وسؤال السكان الذين يجيبوننا يحمينا من الخطأ‪ ،‬في حين تخدعنا‬
‫الطرق المكتظة والملتبسة على الغالب‪.‬‬

‫وال شيء نحتاجه إذنْ لنضمن بقدر ما أننا ال نشبه الماشية التي تتبع القطيع‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫الذي يمشي أمامها‪ ،‬وال نسير حيث ينبغي علينا أن نمضي‪ ،‬بل حيث انتهى‬
‫اآلخرون‪ ،‬ومن ثم ال شيء يورطنا في متاعب وخيمة أكبر من ثبات الشائعة في‬
‫نفوسنا‪ ،‬حين نحكم على تلك األشياء التي حظيت باستحسان كبير‪ ،‬أو أكبر‬
‫من اتخاذنا ألمثلة عدة لها مكانة حسنة‪ ،‬ونعيش بالمحاكاة بدلاً من العقل‪.‬‬
‫‪311‬‬
‫ويحدث هذا حيث ينحدر من كومة كبيرة‪ ،‬وحيث يقع المرء على اآلخر‪ ،‬كما‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫يحدث في قمع اإلنسانية حين تزاحم الجماهير أنفسها‪ ،‬وال يسقط الواحد‬
‫منهم دون أن يشد اآلخر إليه‪ ،‬وتفكك ُ‬
‫األول لواحقها‪ ،‬وترى هذا حاد ًثا في‬
‫حيوات الجميع‪ .‬فخطأ المرء ال يؤثر عليه وحده بل هو العلة والمهيئ لخطأ‬
‫ٍ‬
‫امرئ أن‬ ‫آخر‪ ،‬ومن الضرر أن تتقيد بالذين ساروا أمامك‪ ،‬وطالما يفضل كل‬
‫حكم على‬
‫ٌ‬ ‫ُيحمل األمور على الثقة بدلاً من الحكم عليها فلن يكون هناك‬
‫الحياة بل الوثوق بها دو ًما‪ ،‬فنلقي أحكا ًما خاطئ ًة متعجل ًة‪ ،‬ونهلك ثمرة ألمثلة‬
‫اآلخرين‪ ،‬وقد نرجع للصواب حين ننفصل عن الجمهور‪.‬‬

‫ويقف الجمهور في وقتنا هذا ضد العقل‪ ،‬مدافعين عن موقفهم الرديء‪ .‬ولذا‬ ‫‪ 5-1‬‬
‫يحدث الشيء نفسه في االنتخابات‪ ،‬حين يتحول التأييد المقلوب في االتجاه‬
‫المعاكس عند الذين قد يندهشون ممن ينتخبون البرايتور ‪ praetors‬وهم‬
‫الذين انتخبوهم‪ .‬ونحن نستحسن األشياء ثم نجدها نفسها مستهجنة‪ ،‬وهذا‬
‫هو حصيلة أي حكم قد اتفقت عليه األغلبية‪.‬‬

‫علي على غرار‬


‫إن كان موضوعنا عن الحياة السعيدة فال فائدة أن يكون ردك َّ‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫االنقسامات في مجلس الشيوخ‪“ :‬يبدو هذا هو رأي األغلبية”((‪)((39‬؛ ألن‬
‫ضررا‪ ،‬وليست الشؤون اإلنسانية بحالة أفضل مما يحابيه‬
‫ً‬ ‫هذه الطريقة أشد‬
‫األغلبية لألفضل‪ ،‬فالجماهير بينة على ما هو أسوأ‪.‬‬

‫ولذلك دعونا نبحث عما هو أفضل لنقوم به‪ ،‬وننأى عما ترسخت ممارسته‪،‬‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫السعادة األبدية‪ ،‬ال ما استحسنته حشود العامة وهم‬
‫وما يمكن أن يضعنا في َّ‬
‫نصير السوء للحقيقة‪ .‬وأقصد بكلمة «حشود العامة» الذين يلبسون التيجان‬
‫والذين يتزيون بالعباءات؛ ألنني ال ُأولي اهتما ًما بلون المالبس التي قد تستر‬

‫(‪ ((39‬اعتاد أن يقول رئيس السيناتو هذه الكلمات وهو يعلن نتيجة التصويت بعد طرح األصوات المعارضة للتصويت‪ .‬انظر‬
‫‪.Talbert 1984, 282–83‬‬

‫‪312‬‬
‫توهجا‬
‫ً‬ ‫عيني إذا تعلق األمر بالبشر‪ ،‬وأكون أفضل وأقوى‬
‫األجساد‪ ،‬وال أثق في َّ‬
‫بتمييز األشياء الحقة عن الزائفة‪ ،‬حيث أدع الكاشف لحسن العقل هو العقل‬
‫ذاته‪.‬‬

‫وإذا ُأعطي هذا الشيء والعقل زمنًا ليرشف ً‬


‫نفسا ويسحبه إلى ذاته ترى كم‬ ‫‪ 3-2‬‬
‫ُيعذب نفسه ويعترف لها بالحقيقة قائلاً ‪ :‬وأ ًّيا كان ما فعلت قبل اآلن‪ ،‬فإنني‬
‫ُأ ِّ‬
‫فضل التراجع‪ ،‬وكلما فكرت فيما قلته‪ ،‬فإنني أحسد هؤالء ال ُبكم‪ .‬وأ ًّيا كان‬
‫ما تمنيته‪ ،‬فإنني أفكر في لعنات خصومي‪ .‬وأ ًّيا كان ما خشيت األرباب الخيرة‬
‫خففت ما كنت أرغبه! وقد عاديت الكثيرين ثم رجعت من الكراهية‬
‫ُ‬ ‫فقد‬
‫إلى الفضل‪ .‬وعلى أي حال‪ ،‬هذا كائن‪ ،‬وهناك شيء صالح بين األشرار‪.‬‬
‫كرست كل طاقتي ألميز نفسي‬
‫ُ‬ ‫ليست حتى اآلن صدي ًقا لنفسي‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫مشهورا بمهر الزواج‪ .‬هل ما فعلته سوى وضع‬
‫ً‬ ‫عن الكثيرين‪ ،‬وجعلت نفسي‬
‫نفسي مباشرة في مسار القذائف وإظهار الحسد حيث يلدغني؟‬

‫هل ترى هؤالء الناس الذين يستحقون البالغة‪ ،‬والذين يسعون للثروة‪ ،‬والذين‬ ‫‪ 4-2‬‬
‫يتزلفون على الفضل‪ ،‬والذين يمجدون السلطة؟ إن الجميع عدو هؤالء أو إن‬
‫عدوهم ما يبلغ الشيء نفسه‪ ،‬وكما يخشاهم الكثيرون يمتعضونهم‪ .‬ولماذا‬
‫ليس من الحري أن أسعى إلى الشيء الحسن في الممارسة– شيء أشعر به‬
‫أحرى من الظاهر؟ أي تلك األشياء التي ُينظر إليها والتي تجعل الناس يقفون‬
‫ويحدقون‪ ،‬والتي يشير فيها المرء لآلخر في دهشة وهي تلمع من الخارج‬
‫ولكن باطنها بائس‪.‬‬

‫وعلينا أن نسعى للشيء الذي ال تنظر إليه باستحسان‪ ،‬ولكنه قوي وثابت‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫وجميل في جانبه الخفي‪ ،‬علينا أن نسترجع هذا وألاَّ نطرحه جان ًبا‪ .‬وسوف‬
‫يكشف أنك تحتاج ببساطة أن تعرف أين تمد يدك‪ ،‬كما لو كنا في الوقت‬
‫الراهن نمر بأشياء قريبة في الظالم ترتطم بما نتوق إليه‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫وأنا ال أدور بك في دوائر‪ ،‬وسوف أمر على آراء اآلخرين‪ ،‬وأسردها وأدحضها‪.‬‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫أي من الرواقيين‪،‬‬
‫لذلك اسمع لنا‪ ،‬وحين أقول (لنا) فأنا ال أربط نفسي بسلطان ٍّ‬
‫ولكن لي الحق في إبداء موقفي‪ ،‬وهكذا سوف أتبع واحدً ا وسيقودني آخر‬
‫ألقسم افتراضه‪ ،‬وربما حين ُأستدعى للحديث بعد اآلخرين‪ ،‬لن أستحسن‬
‫شيئًا قد رفضه َمن سبقوني‪ ،‬ومن ثم سأقول‪« :‬أخذت هذا ألضيف»(‪،((39‬‬
‫وفي الوقت نفسه أقوم بشيء شائع بين كل الرواقيين وهو أن أتفق مع طبيعة‬
‫العالم(‪ ((39‬وال أنحرف عنها‪ ،‬بل أتشكل وف ًقا لقانونها ومثالها‪ ،‬وتلك هي‬
‫الحكمة‪.‬‬

‫فالسعادة هي حياة في اتفاق مع طبيعتها‪ ،‬وال سبيل لتحقيق هذا إن لم يكن‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫ً‬
‫راسخا‬ ‫العقل سلي ٍما أولاً ‪ ،‬صل ًبا في ملكية سالمته‪ ،‬قو ًّيا وحيو ًّيا ثان ًيا‪ ،‬ومن ثم‬
‫في نبالته‪ ،‬ومتواف ًقا مع العصور‪ ،‬وحاملاً لجسده ولألشياء التي تتعلق به دون‬
‫ومنتبها لألشياء األخرى التي تمد الحياة دون أن يعجب بأحدها‪،‬‬
‫ً‬ ‫اضطراب‪،‬‬
‫ومستعدًّ ا الستعمال عطايا الحظ وال يكون عبدً ا له‪.‬‬

‫إنك تدرك دون إضافتي لها‪ ،‬أنه بمجرد أن ُتطرد األشياء التي تؤججنا أو‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫تروعنا سوف يتبعها سكينة أبدية وحرية‪ ،‬وحين ُتنبذ الملذات واآلالم ستأتي‬
‫فرحة عارمة لتحل محل األشياء التافهة الهشة والتي ُتثير اشمئزاز الذات ح ًّقا‪،‬‬
‫وهي فرحة دائمة وثابتة يتبعها سالم وانسجام في العقل‪ ،‬تجمع بين العظمة‬
‫واللطف‪ ،‬حيث إن الشدة ُتشتق من الضعف دو ًما‪.‬‬

‫إجراء‪ ،‬ثم يعدله‬


‫ً‬ ‫(‪ ((39‬هذه العبارة ‪ hoc amplius censeo‬هي تطبيق إجرائي في مجلس الشيوخ‪ ،‬حيث يدعم السيناتور‬
‫باإلضافة‪ .‬انظر ‪.Talbert 1984, 256‬‬
‫(‪ ((39‬بدأت الرواقية مع زينون بمبدأ العيش على وفاق مع الطبيعة‪ ،‬ولكن هذا المبدأ تبناه الفالسفة باتجاهات مختلفة (‪see‬‬
‫‪ )Long, A. A., and D. N. Sedley, The Hellenistic Philosophers 63 ABC‬ال سيما فيما يتعلق باإلشارة‬
‫الدقيقة للطبيعة‪ ،‬ويذكر سينيكا بعض السطور أدناه قائلاً “طبيعتنا” ويستدعي إضافة خريسبوس الذي يقصد بالطبيعة‬
‫“جنس البشر” )‪ ،(cf. LS 63C2 and Chaumartin 1989, 1692‬ويشير أسميس ‪ Asmis 1990, 225–28‬إلى أن‬
‫سينيكا يحددها بطبيعة الفرد‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫ويمكن أن ُيعرف تفضيلنا بطرق مختلفة‪ -‬كما يمكن أن ُيفهم االفتراض‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫بعبارات متباينة‪ .‬كما قد ينبسط الذراع والذراع اآلخر على مدى واسع في‬
‫لحظة واحدة‪ ،‬ويضغط بإحكام ويقوس الجزء األوسط لألقواس إلى أجنحة‬
‫أو ُيعدلها في وجهة مستقيمة‪ ،‬ولكن مهما قد ُيعدل فإن له القوة نفسها واإلرادة‬
‫للوقوف على السبب نفسه‪ -‬وكذلك يمكن لتعريف الخير األقصى أن ينبسط‬
‫ويمتد أحيا ًنا‪ ،‬و ُيضغط و ُيجمع في حد ذاته أحيا ًنا أخرى‪.‬‬

‫والشيء نفسه إذا قلت‪« :‬الخير األقصى هو العقل ينظر إلى أسفل على أمور‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫ومبتهجا في الفضيلة» أو «قوة العقل غير المهزومة‪ ،‬والضالعة في طرق‬
‫ً‬ ‫الحظ‪،‬‬
‫بمن تالمسهم»‪ .‬ويمكن للمرء‬
‫العالم‪ ،‬والرزينة في الفعل بإنسانية جمة تتعلق َ‬
‫أن ُيعرفها ً‬
‫أيضا بمثل هذه الطريقة حين يقول إن اإلنسان سعيد ال لشيء حسن‬
‫األخالقي(‪((39‬‬ ‫أو رديء‪ ،‬إال لحسن العقل أو رداءته‪ ،‬وهو الغارس للخير‬
‫والقانع بالفضيلة‪ ،‬وهو الذي ال ُتعومه تحوالت الحظ وال تكسره‪ ،‬والذي‬
‫يعلم أنه ليس هناك خير أعظم مما يمكن أن يمنحه لنفسه من اللذة الحقة التي‬
‫تحتقر الملذات‪.‬‬

‫وإذا رغبت أن تتوسع حولها إلى شكل أو آخر دون مجازفة أو إضرار بقوتها‪.‬‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫وبعد هذا ما الذي يمنعنا أن نقول إن الحياة السعيدة هي عقل حر ومستقيم‬
‫لمن عندهم الخير الوحيد هو‬
‫وجريء ومستقر‪ ،‬يقف وراء الخوف والرغبة َ‬
‫الخير األخالقي فحسب‪ ،‬والشيء الرديء الوحيد عندهم هو العيب فحسب‪،‬‬
‫والبقية أشياء محتشدة ال قيمة لها‪ ،‬وهي ال تنتقص شيئًا من الحياة السعيدة وال‬
‫ُتضيف إليها شيئًا‪ ،‬وتروح وتغدو دون أن تزيد أو تنقص الخير األقصى!‬

‫وبالضرورة حين يمتلك العقل هذا النوع من األساس سواء أراد أم ال‪ ،‬فإنه‬ ‫‪ 4-4‬‬

‫(‪“ ((39‬الخير األخالقي” هي ترجمة لكلمة الحق ‪ honestum‬التي أستعملها سواء “للخير األخالقي” أو “األخالقي” تمش ًيا‬
‫مع خطة العمل المتعاقبة‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫سيكون مصحو ًبا بالبهجة المتواصلة والفرح العميق الذي يأتي من العمق‬
‫الباطن‪ .‬إنه يبتهج في األشياء التي يملكها‪ ،‬وال يرغب في أكبر مما ملكه في‬
‫البيت‪ .‬لماذا ال نعتبر هذه األشياء ضخمة مقارنة بالنزعات الزائلة والطفيفة‬
‫والصغيرة لهذا الشيء الهزيل والجسد؟ واليوم الذي يستسلم فيه المرء للذة‬
‫سوف يستسلم فيه لأللم‪ .‬ولكن سوف ترى أن استعباد المرء المذل والرديء‬
‫سوف يكون خاد ًما إذا وقع بالتناوب في ملكية ما ال يمكن التنبؤ به والسادة‬
‫الجامحين‪ :‬حيث الملذات واآلالم‪ ،‬ولذا وجب الخروج للحرية‪.‬‬

‫ويمكن أن تمنح الحرية بشيء آخر غير تجاهل الحظ‪ ،‬ومن ثم ينشأ الخير‬ ‫‪ 5-4‬‬
‫الذي ال يقدر بثمن حيث سكينة العقل المقيم في سالم ورفعة وعظمة وفرحة‬
‫ثابتة ناتجة من طرد الخطأ ومعرفة الحقيقة ولطف وموسوعية العقل‪ ،‬فاألشياء‬
‫التي يبتهج بها ليست الخيرات‪ ،‬بل األشياء التي تنشأ عن خيريته‪.‬‬

‫ومنذ أن بدأت التعامل مع الموضوع بموسوعية‪ ،‬حيث إن الشخص الذي‬ ‫‪ 1-5‬‬


‫يمكن أن يقال عنه سعيد هو َمن ال يشعر برغبة وال خوف بسبب نعمة العقل‪،‬‬
‫وحتى الصخور والماشية تفتقر الخوف والحزن‪ ،‬وال أحد يقول عنهم سعداء‬
‫وهم ال يفهمون السعادة‪.‬‬

‫وضع في المقولة نفسها البشر ذوي الطبيعة البليدة ويفتقرون إلى معرفة الذات‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫وأنزلهم منزلة الماشية والبهائم‪ ،‬حيث ال فارق بين هؤالء البشر والبهائم‪،‬‬
‫فليس للبهائم عقل‪ ،‬وهؤالء لهم عقول قد اعوجت‪ ،‬وانحرف ذكاؤهم لضرر‬
‫أنفسهم‪ ،‬وال أحد ُيقال عنه إنه سعيد إذا ما رفس نفسه خارج الحقيقة‪.‬‬

‫وقد تنشأ الحياة السعيدة في حق وحكم بعينة ال يتبدل‪ ،‬والعقل خالص‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫ومتحرر من كل األمور الرديئة ليس بمجرد خالصه من الملمات بل من الكدر‬
‫ومدافعا لموقفه حتى حين يغضب‬
‫ً‬ ‫الطفيف‪ ،‬ومهيئ دو ًما للوقوف على أساسه‬
‫الحظ ُيعادي‪.‬‬
‫‪316‬‬
‫وحتى لو رفضت اللذة من كل جانب وفاضت في كل طريق‪ ،‬وسكنت العقل‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫جزءا وكلاًّ ‪َ ،‬‬
‫فمن من بين‬ ‫بمداهناتها المميزة‪ ،‬وأضافت الشيء تلو اآلخر لترهقنا ً‬
‫البشر فيه أثر إلنسانية يتمنى أن ُيدغدغ ليله ونهاره ويهجر عقله ويعطي للجسد؟‬

‫وهو يقول‪« :‬ولكن سوف يكون للعقل ملذاته»(‪ ،((39‬ودعه يملكها على‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫اإلطالق‪ ،‬ودعه يحكم على الرفاهة والملذات‪ ،‬ودعه يمأل ذاته بكل األشياء‬
‫التي تبهج الحواس عاد ًة‪ ،‬ومن ثم دعه ينظر للخلف على األشياء الماضية‪،‬‬
‫ويستدعي الملذات السابقة‪ ،‬ودعه يكتشف ما جاء قبله‪ ،‬ودعه يتطلع اآلن إلى‬
‫هذه الملذات لتأتي ويرتب آماله‪ ،‬في حين يتمرغ الجسد في متعه‪ ،‬ودعه يرسل‬
‫أفكاره ليستشرف المستقبل‪ ،‬وسوف تبدو لي أشياء مبهجة جمة‪ ،‬حيث من‬
‫الخبل أن تعتبر األشياء الرديئة كالحسنة! وال يسعد أحد دون صحة‪ ،‬وال يصح‬
‫أحد إذا كان يرغب أشياء المستقبل في موضع لما هو أفضل‪.‬‬

‫والسعيد هو المرء الصواب في حكمه‪ ،‬وهو القانع بظروفه الحالية مهما‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫كانت‪ ،‬والرفيق ألعماله‪ ،‬وهو الذي يتصرف في أعماله كما يعظ العقل تما ًما‪.‬‬

‫حتى الذين قالوا إن الخير األقصى في المناطق السفلى للجسد‪ ،‬ويرونه في‬ ‫‪ 1-7‬‬
‫موضع مشين قد حددوه‪ ،‬ولهذا السبب ينكرون أنه يمكن فصل اللذة عن‬
‫الفضيلة‪ ،‬ويقولون ال أحد يعيش على نحو أخالقي دون العيش بمتعة‪ ،‬وال‬
‫أحد يعيش بمتعة دون أن يعيش على نحو أخالقي ً‬
‫أيضا(‪ ،((39‬وال أرى كيف‬
‫تتزاوج هذه األشياء المتشعبة‪ ،‬ولماذا هي كذلك‪ ،‬واسأل الناس هل ال تنفصل‬
‫اللذة عن الفضيلة؟ وأعتقد بالنظر هل األشياء الخير كلها تأخذ بدايتها من‬
‫الفضيلة‪ ،‬وينشأ من جذور الفضيلة تلك األشياء التي ُتحبها والتي تسعى‬

‫(‪ ((39‬المحاور األبيقوري يتحدث دون سابق إنذار‪ ،‬وهنا يستجيب سينيكا كما لو كان المعترض كان يشير إلى المذهب‬
‫األبيقوري لتذكر الملذات وتوقعها في العقل‪ .‬انظر ‪.LS 21T, 22E1, F1, 24D‬‬
‫(‪ ((39‬انظر ‪(Epicurus frag. 506 Use.), compare Diogenes Laertius 10.138; Cicero Tusculan Disputations‬‬
‫‪.3.20.49. See also LS 21B, P‬‬

‫‪317‬‬
‫إليها؟ وإذا كانت هذه األشياء ال يمكن تمييزها لماذا نرى أشياء بعينها ماتعة‬
‫أخالقيا على وجه التحديد‬
‫ًّ‬ ‫أخالقيا‪ ،‬وأشياء غيرها حسنة‬
‫ًّ‬ ‫وهي ليست حسنة‬
‫بل مجهدة‪ ،‬وال ُتحصل إال باأللم فحسب‪.‬‬
‫أضف إلى حقيقة أن اللذة تأتي حتى من الحياة المشينة‪ ،‬في حين ال تقبل‬ ‫‪ 2-7‬‬
‫الفضيلة العيش على نحو رديء‪ ،‬وأشخاص بعينهم ليسوا سعداء من دون‬
‫اللذة بل بسبب اللذة تحديدً ا‪ ،‬وال يأتي هذا إذا مزجت اللذة ذاتها بالفضيلة‪،‬‬
‫والفضيلة من دون لذة على الغالب بل ليست بحاجة إليها تما ًما‪.‬‬

‫أمورا ليست متشابهة ومتباينة؟ فالفضيلة شيء سا ٍم ورفيع‬


‫ً‬ ‫ولماذا تجمع‬ ‫‪ 3-7‬‬
‫وملكي ومنيع وال ينضب‪ ،‬واللذة وضيعة ومتدنية وهذيلة وعابرة‪ ،‬والحقيقة‬
‫أنها تسكن هناك‪ ،‬وسوف تجد الفضيلة في المعبد وفي المحكمة وفي مجلس‬
‫ٍ‬
‫وبأياد متكلسة‪،‬‬ ‫الشيوخ واقف ًة أمام الجدران ومغطاة بالغبار واحمرت بالشمس‬
‫وغال ًبا ما تجد اللذة متخفية وترعى الظالل حول الحمامات وغرف البخار‬
‫واألماكن التي ال يصل إليها مفتشو الدولة(‪ ،((39‬وهي طيعة وهذيلة‪ ،‬وتتقطر‬
‫مع النبيذ والمراهم‪ ،‬وهي شاحبة ومحمرة ومضمخة بالمواد الكيماوية‪.‬‬

‫والخير األقصى خالد‪ ،‬وال يعرف كيف يرحل‪ ،‬وال يشعر بتخمة وال ندم‪.‬‬ ‫‪ 4-7‬‬

‫حرفيا اإليديل ‪  aediles‬بالالتينية ‪ ،Aedili ‬وهي مشت َّقة من ‪ aedes ‬بمعنى‪ ‬معبد وهو منصب في‪ ‬روما القديمة‪ ‬كان‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((39‬تعني‬
‫يتو َّلى حامله صيانة مباني المدينة وتنظيم‪ ‬المهرجانات‪ ‬الشعبية العامة‪ ،‬كان يتمركز اإليديل في مدينة‪ ‬روما‪ ،‬وكانت‬
‫دائما زوجان من اإليديالت‪ ،‬بحيث يكون هناك أربعة حاملين‬ ‫بالقوة‪ .‬كان هناك ً‬
‫َّ‬ ‫تتضمن فرض النظام العام‬ ‫َّ‬ ‫صالحياته‬
‫للمنصب في أي وقت‪ .‬إذ لم تكن صالحيات الزوج األول «‪ »aediles plebis‬تسمح لهما بالتعامل إال مع‪ ‬عامة الناس‪،‬‬
‫سميين «‪ »aediles curules‬التعامل مع العامة‪ ‬والنبالء الرومان‪ ‬على حدّ سواء‪ .‬بصورة‬ ‫الم َّ‬ ‫لآلخرين ُ‬
‫َ‬ ‫بينما كان يمكن‬
‫للتدرج إلى مناصب أعلى‪ ،‬وعادة ما تعتبر‬
‫ُّ‬ ‫عامة‪ ،‬كان األشخاص الذين يشغلون منصب اإليديل شبا ًنا يافعين يسعون‬
‫رتبتهم أعلى من‪ ‬الكويستور‪ ‬لكن أدنى من‪ ‬البريتور‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لم تكن مرتبة اإليديل ضرورية في هرم الرتب الروماني‪،‬‬
‫بريتورا دون الحاجة للمرور بمنصب اإليديل‪ .‬من جهة‬
‫ً‬ ‫وبذلك كان يمكن لكويستو ٍر سابق أن يرشح مباشر ًة ليصبح‬
‫سياسيا للشخصيات الهامة أن تحمل لقب اإليديل عند مرحلة ما‪ ،‬فتولي مهام اإليديل كان أشبه‬‫ًّ‬ ‫أخرى‪ ،‬كان من المفيد‬
‫ٌ‬
‫بتقديم إثبات على اهتمام الرجل بأحوال عامة الشعب وحاجاتهم‪ ،‬كما أنها فرصة له ليشهر نفسه عن طريق الظهور‬
‫كمسؤول هام في المهرجانات واالحتفاالت الشعبية بروما‪ ،‬وهي طريقة ممتازة الكتساب السمعة والشهرة ‪https://‬‬
‫‪( - www.britannica.com/topic/aedile‬المترجم)‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫إنك تحتاج أن تفهم الفكر الصواب وليس العاثر وال الكاره لذاته وال الذي‬
‫يحول أي شيء‪ ،‬والماضي بالفعل لألفضل‪ ،‬وقد تستأصل اللذة في اآلن‬
‫مضجرة‪،‬‬‫كبيرا‪ ،‬و ُتمأل عاجلاً وتصبح ُ‬
‫موضعا ً‬
‫ً‬ ‫الذي ُتبهج فيه‪ ،‬وهي ال تملك‬
‫وتتالشى بعد أول ظهور لها‪ ،‬وال شيء يوطد طبيعتها المتضمنة في الحركة‪.‬‬
‫وهكذا ال يكون هناك جوهر لشيء يروح ويغدو على عجل ويفنى تحديدً ا في‬
‫استخدامه‪ .‬وإنك ترى أنها تهرول نحو انقطاعها‪ ،‬نهايتها في بدايتها‪.‬‬

‫وماذا عن حقيقة أن اللذة بقدر وجودها في األمور الرديئة فهي في األمور‬ ‫‪ 1-8‬‬
‫الحسنة ً‬
‫أيضا‪ ،‬ويتجرعها المخجلون بقدر ابتهاجهم في أعمالهم المشينة‬
‫كما ينهل منها المتخلقون في أعمالهم الرفيعة؟ ولهذا السبب علمنا القدماء‬
‫أن نسعى للحياة الفضلى وليست الماتعة‪ ،‬فاإلرادة الصواب والخيرة ربما‬
‫قد ُتسعد رفيقها وليس قائدها؛ ألن القائد يستعمل الطبيعة‪ ،‬أي الطبيعة التي‬
‫يتطلع إليها العقل ويتشاور معها‪.‬‬

‫وأن تحيا سعيدً ا هو الشيء نفسه أن تعيش وف ًقا للطبيعة‪ ،‬وسأفسر ما هذا‪،‬‬ ‫‪ 2-8‬‬
‫وعدة الطبيعة‬
‫إذا كنا حريصين وال نخاف فإننا نحافظ على ما ينفع الجسد ُ‬
‫ونتعامل معها باعتبارها زائلة وعابرة‪ ،‬وإذا لم ندخل في عبوديتها‪ ،‬وال تتملكنا‬
‫األشياء التي ليست لنا‪ ،‬وإذا كانت األشياء التي ُتسعد الجسد حين يتالقها‬
‫فهي بالنسبة لنا مثل اإلمدادات والجنود ذوي التسليح الخفيف في معسكر‬
‫الجيش‪ ،‬حيث عليهم أن يأخذوا أحرى من أن يعطوا أوامر‪ -‬هذا وفي النهاية‬
‫كيف يكونون مفيدين للعقل‪.‬‬

‫ودع المرء ال يفسد بالظواهر التي ال يمكن عالجها‪ ،‬وال يعجب إال بنفسه‪،‬‬ ‫‪ 3-8‬‬
‫فهو الصانع لحياته‪« :‬ثق في عقلك واستعد ألي نتيجة»(‪ ،((39‬ودع ثقته ال‬

‫(‪ ((39‬اقتباس من إنيادة فرجيل ‪ Virgil Aeneid 2.61‬حيث تصف العبارة المحتال اليوناني سينون‪ ،‬الذي عرف أنه سوف‬
‫ُيقتل‪ ،‬وأمل أن ُيستقبل من الطرواديين كما يتمنى‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫تخلو من معرفة وال تخلو معرفته من مثابرة‪ ،‬ودعه يؤكد قراراته و ُيبقيها وال‬
‫يمحوها‪ ،‬فإنها مفهومة حتى دون أن أضيفها‪ ،‬وإنسان مثل هذا سوف يكون‬
‫عظيما‪ ،‬وودو ًدا في اآلن ذاته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومنظما‪ ،‬ومهما فعل سوف يكون‬
‫ً‬ ‫مؤتل ًفا‬

‫ودع الحواس تحفز العقل وتأخذ بدايته منها‪ ،‬ومن المؤكد أنه ال يوجد مورد‬ ‫‪ 4-8‬‬
‫آخر لتعهداته أو لدافعه نحو الحقيقة‪ ،‬ودعه بعد ذلك يرجع إلى ذاته‪ ،‬فحتى‬
‫كل ما يطوق العالم والرب وحاكم الكون يمتد إلى األشياء الظاهرة‪ ،‬وال يزال‬
‫هو يعود إلى الباطن نحو ذاته‪ ،‬فدع عقولنا تصنع الشيء نفسه‪ ،‬وبعد أن تتبع‬
‫الحواس وتمتد إلى الظواهر دعها تؤكد سلطتها على الحواس نفسها‪.‬‬

‫وهذه هي الطريقة التي قد ُينتج بها قوة بعينها وسلطة منسجمة مع ذاتها‪،‬‬ ‫‪ 5-8‬‬
‫وسوف يأتي هذا العقل الموقن إلى الوجود وهو غير منقسم أو متزعزع في‬
‫اعتقاداته وإدراكاته أو قناعاته‪ .‬وحين ينظم هذا العقل ذاته ويتوافق مع أجزائه‬
‫كما لو كانت أنشودة متناغمة معه فسوف يالمس الخير األقصى‪.‬‬

‫منزلق‪ ،‬وال شيء يسبب له تداع ًيا أو انزال ًقا‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫وال ُيهمل هناك شيء ملت ٍو أو‬ ‫‪ 6-8‬‬
‫شيء غير متوقع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وسوف تعمل كل األشياء وف ًقا إلمرته‪ ،‬ولن يحدث‬
‫واألحرى أن كل ما يقوم به سيكون حصيلة في الخير‪ ،‬سه ً‬
‫ال كما ُخطط له‪،‬‬
‫ودون أن يعلق ظهر الفاعل‪ ،‬والمقاومة والتردد داللة على الصراع وعدم‬
‫االتساق‪ ،‬وربما تنتهي مع الثقة إلى أن الخير األقصى هو انسجام عقلي؛ ألن‬
‫الفضائل تكون في موضع االتفاق والوحدة‪ ،‬والرذائل في الفرقة‪.‬‬

‫وكما يقول‪« :‬ولكنك ال تغرس الفضيلة ألي سبب آخر سوى أنه يأمل لذة‬ ‫‪ 1-9‬‬
‫منها»(‪ ،((39‬أولاً إن كانت الفضيلة توفر بعض المتع فال يعني هذا أننا نسعى‬
‫إليها لهذا السبب‪ ،‬أنت ترى أن المتعة ال تقدم شيئًا بل تقدمها ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهي ال‬

‫(‪ ((39‬لنقد األبيقوريين للرواقية انظر ‪LS 21P; also, for the Epicurean theory, Epicurus frag. 504 Use.‬‬

‫‪320‬‬
‫تكدح من أجل اللذة‪ ،‬والحري سوف تحقق كدحها كذلك حتى إن كانت‬
‫تسعى لشيء آخر‪.‬‬

‫كما هو الحال في حقل الذرة الذي ُيحرث وتنمو فيه بعض الزهور‪ ،‬ولم يكن‬ ‫‪ 2-9‬‬
‫الحرث ألجل هذه النباتات الصغيرة‪ ،‬ومهما كان ُيرضي العينين‪ ،‬فإن للزارع‬
‫دافعا للفضيلة بل‬
‫حصيلة أخرى في االعتبار‪ ،‬وكذلك اللذة ليست مكافأة أو ً‬
‫ملحقة‪ ،‬وهي ال تستحسن ألنها تمنح اللذة بل إذا استحسنت تعطي اللذة‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫والخير األقصى تحديدً ا في الضبط وميل العقل الفضيل‪ ،‬فعندما يمأل هذا‬ ‫‪ 3-9‬‬
‫العقل ما يتبعه ويحوط ذاته داخل غاياته الدنيوية‪ ،‬فإن الخير األقصى الذي‬
‫يملؤه للذروة لن يتوق لشيء آخر؛ ألنه ال يوجد شيء خارج كماله‪ ،‬وال شيء‬
‫بعد الغاية(‪.((40‬‬

‫وبطبيعة الحال تسأل لماذا أسعى للفضيلة‪ ،‬وأنت تسعى لشيء فوق األقصى‪،‬‬ ‫‪ 4-9‬‬
‫هل تسأل لماذا أسعى للفضيلة؟ ألجل الفضيلة‪ .‬فليس هناك شيء أفضل‪،‬‬
‫عظيما بما فيه الكفاية! حينما‬
‫ً‬ ‫حيث تكون الفضيلة مكافأته‪ ،‬أو ربما هذا ليس‬
‫أقول لك‪« :‬إن الخير األقصى صالبة للعقل وصمدية وبصيرة وتسامح وصحة‬
‫وحرية وانسجام وروعة»‪ ،‬واآلن هل تطلب أشياء أكثر من هذه األشياء التي‬
‫أشرت إليها‪ ،‬فلماذا تتحدث معي عن اللذة؟ فأنا أبحث عن خير البشر وليس‬
‫بطونهم‪ ،‬والبطون أوسع رحابة في الماشية والبهائم‪.‬‬

‫‪ 1-10‬وهو يقول‪« :‬إنك تتظاهر أنك ال تدرك ما أقوله؛ ألنني أنكر أن يعيش أي أحد‬
‫بمتعة إذا لم يكن يحيا خلو ًقا في اآلن ذاته‪ ،‬وهذا ال يكون في حالة الحيوانات‬
‫البكماء أو التي تقيس خيرها في حدود الغذاء‪ .‬ما أقوله إنني أعلن للجميع‬

‫(‪ ((40‬ترجمة كلمة “غايات” و”غاية” ترجمة لكلمة “نهاية ‪ ”finis‬والتي تشير إلى الحد الدنيوي أو أي منتهى‪ ،‬وتلمح هنا‬
‫إلى الرابط النهائي ‪ ،finis bonorum‬وهي المرادف المألوف لكلمة غاية ‪ telos‬أو الخير األسمى‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫وبوضوح أن الحياة التي أسميها ماتعة ال تأتي دون إضافة الفضيلة»‪.‬‬

‫‪ 2-10‬ولكن َمن ال يعرف أن أشد الناس حم ًقا ملؤوا حتى الحافة بملذاتك‪ ،‬ويتدفق‬
‫ضعفهم باألشياء الماتعة؟ وتكتظ عقولهم بصور منحرفة للذة بعدد عظيم‪،‬‬
‫حيث الغطرسة ووضع قيمة كبيرة للذات واألنا المتضخم الذي يحلق على‬
‫اآلخرين‪ ،‬والولع بأشيائهم التي ُتعمي بصيرتهم وتفقرها‪ ،‬واإلسراف في‬
‫ً‬
‫وأيضا االفتراء وتعظيم الذات الذي يتمتع بإلقاء‬ ‫البواعث التافهة والصبيانية‪،‬‬
‫وخليعا ويدلف بالمباهج‪ ،‬ويقع‬
‫ً‬ ‫اإلهانات‪ ،‬والعقل البليد الذي يكون كسولاً‬
‫في النوم على نفسه‪.‬‬

‫‪ 3-10‬وتهز الفضيلة كل هذه األشياء‪ ،‬وتقرص ذاتها مستيقظة(‪ ،((40‬و ُتقيم‬


‫الملذات قبل أن تقبلها‪ ،‬وال تركن إلى األشياء التي تلقى استحسا ًنا وال تبتهج‬
‫باستعمالهم بل بلطفهم‪ ،‬واللطف في اختزال المتع التي تضر الخير األقصى‪،‬‬
‫فأنت تعانق اللذة‪ ،‬وأنا أكبحها‪ ،‬أنت تستمتع بها‪ ،‬وأنا أستعملها‪ ،‬أنت تعتقد‬
‫أنها الخير األقصى‪ ،‬وأنا ال أعتقد أنها خير‪ ،‬وأنت تفعل كل شيء من أجل‬
‫اللذة‪ ،‬وأنا ال أفعل شيئًا ألجلها‪.‬‬

‫‪ 1-11‬حين أقول (أنا) ال أصنع شيئًا ألجل اللذة؛ فإنني أتحدث عن الحكيم‪ ،‬وهو‬
‫الشخص الوحيد الذي يمنحك اللذة(‪ ،((40‬ومع ذلك ال أ ّدعي أن الحكيم قد‬
‫ملك أي شيء فوقه‪ ،‬وأقل األشياء اللذة‪ ،‬فإذا كانت اللذة قد ُتشتته‪ ،‬فكيف‬
‫يقف أمام الكد والخطر والفقر والتهديدات األخرى التي تؤرق الحياة‬
‫اإلنسانية بهذا الكم الهائل؟ وكيف يتحمل مشهد الموت‪ ،‬وكيف يتحمل‬
‫األلم‪ ،‬وتحطيم العالم‪ ،‬وكذلك األعداء الشرسين الكثيرين‪ ،‬فمتى يقهر بهذا‬
‫العدو اللين؟ «إنه سوف يؤدي اللذة التي تجذب» هيا! ألم تر كم هي األشياء‬

‫حرفيا‪ :‬تشد أذنها ‪.aurem peruellit‬‬


‫ًّ‬ ‫(‪((40‬‬
‫(‪ ((40‬هذه العبارة ليست مفهومة في األصل الالتيني‪ ،‬ولكن صغناها على هذا النحو‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫التي تحاول أن تجذبه إليها؟‬

‫‪ 2-11‬وهو يقول‪« :‬ليس بمقدورها أن تقنعه بعمل أي شيء مشين؛ ألنها ملتصقة‬
‫بالفضيلة»‪ ،‬ومرة أخرى‪ ،‬هل ال ترى أي نوع للخير األقصى والذي يحتاج‬
‫راع ليؤكد الخير؟ وكيف تحكم الفضيلة اللذة إن اتبعتها؟ ألن األتباع هو‬
‫إلى ٍ‬
‫فعل َمن ُيطيع ويحكم َمن يأمر‪ ،‬فهل وضعت اآلمر في المؤخرة؟ إن واجب‬
‫الفضيلة البديع يخدمك باعتباره منبأ لملذاتك!‬

‫‪ 3-11‬وسوف نرى ما إذا كانت ال تزال الفضيلة في بيتك(‪ ،((40‬حيث عوملت على‬
‫نحو مهين‪ ،‬حيث إن (الفضيلة) ال يمكن أن تحتفظ باسمها إذا منحته قاعدة‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه ‪-‬ونحن مقيدون بموضوعنا‪ -‬أرى أن الملذات قد حاصرت‬
‫أشخاصا عدة من الذين بدد الحظ عطاياهم كلها‪ ،‬والذين تعترف بأنهم‬
‫ً‬
‫رديئون‪.‬‬

‫‪ 4-11‬انظر إلى نومينتانوس ‪ Nomentanus‬وأبيكيوس ‪ ((40( Apicius‬وهم محصلو‬


‫خيرات األرض والبحر كما يقولون‪ ،‬والذين أكلت على موائدهم مخلوقات‬
‫كل أمة‪ ،‬أرى نفس هؤالء الرجال يحملقون ألسفل على موائدهم من كومة‬
‫الزهور‪ ،‬يدغدغ آذانهم طنين األصوات‪ ،‬ومالمح أعينهم مثيرة‪ ،‬وتتبرعم‬
‫أذواقهم بالنكهات‪ ،‬و ُتحفز أجسادهم على كل االستعماالت اللطيفة والعذبة‪،‬‬
‫وتسكن أنوفهم حين يحدث هذا‪ ،‬وتنقع غرفهم بأنواع العطور المختلفة‪،‬‬
‫وتذبح أضاحيهم للمترفين‪ ،‬إنك تقول هؤالء الرجال مغمورون في الملذات‪،‬‬
‫إال أن األمر ال يمضي كما يجب بالنسبة لهم؛ ألنهم ال يبتهجون في الخير‪.‬‬

‫كثيرا من األشياء ستأتي‬


‫‪ 1-12‬وهو يقول‪« :‬إن األمر يمضي بالسوء بالنسبة لهم؛ ألن ً‬
‫(‪ ((40‬لمناقشة مستفيضة انظر ‪.Dyson 2010‬‬
‫ومبذرا‪ ،‬وجافيوس أبيكوس التهم (الكاتب النهم) من مينتورنيا ‪ Minturnae‬وازدهر‬
‫ً‬ ‫نهما‬
‫(‪ ((40‬كسيوس نومينتانوس كان ً‬
‫في عصر تيبريوس‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫على طول الخط فتكدر العقل‪ ،‬وسوف تختل بصائرهم بالمعتقدات التي‬
‫تناقض بعضها ً‬
‫بعضا»(‪ ،((40‬وأعترف أن هذه هي الحال‪ .‬ولكن هم أنفسهم‬
‫حين يكونون حمقى ومتقلبين وضعفاء يوخزهم الندم‪ ،‬ومع ذلك يستمرون في‬
‫تجربة الملذات‪ ،‬لذلك علينا أن نعترف أن هؤالء الرجال في هذه المناسبات‬
‫يتحررون من كل ألم كما لو كانون يتحررون من العقل الخير‪ ،‬وكما ُيقبل‬
‫الكثيرون منهم وهم يهذون بخبل مبهج ويبتسمون في جنونهم‪.‬‬

‫ونادرا‬
‫ً‬ ‫عمليا‪ ،‬وهي محصورة‬
‫ًّ‬ ‫‪ 2-12‬وملذات الحكيم على النقيض متواضعة وواهنة‬
‫ما تلحظ‪ ،‬وتأتي من تلقاء أنفسهم‪ ،‬ورغم أنها تحدث بفطرتها إال أنها ال‬
‫تحظى بتقدير كبير أو تجد بهجة عند َمن يختبرونها‪ ،‬والواقع أن الحكماء‬
‫يخلطونها بالملذات ويضعونها في فترات حياتهم بقدر ما قد يلطف العمل‬
‫الجاد بلعبة أو مزحة‪.‬‬

‫معا‪ ،‬ويتوقفون عن‬


‫‪ 3-12‬ولذلك دعهم يتوقفون عن ربط األشياء التي ال تتساير ً‬
‫شرا‪ .‬وهذا‬
‫شبك الفضيلة باللذة– حيث تجد الرذيلة تشجع أشد الناس ًّ‬
‫الفاسق المتمتع في حالة سكر دائمة ويشجع عليها؛ ألنه يعلم أنه يحيا مع‬
‫اللذة‪ ،‬وحين يسمع أن المتعة جزء ال يتجزأ من الفضيلة يعتقد أنه يعيش‬
‫أيضا‪ ،‬وبالتالي يعطي لرذيلته ً‬
‫بعضا من الحكمة‪ ،‬ويختلق كال ًما‬ ‫مع الفضيلة ً‬
‫حقيرا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 4-12‬وهم ال ينغمسون في الترف في تعاليم أبيقور‪ ،‬وباألحرى يدافعون عن الرذائل‪،‬‬
‫ويخفون ترفهم في حضن الفلسفة‪ ،‬ويعملون مباشرة حيث يسمعون المتعة‬
‫التي يثنون عليها‪ ،‬وال يقدرون مدى رزانة واعتدال لذة أبيقور‪ ،‬بل يسقطون‬

‫(‪ ((40‬يبدو أن المعترض يقبل أن نومينتانيوس وأبيكوس مثالاً سيئًا‪ ،‬ولكن ينكر أنهما يوضحان الموقف األبيقوري‪ ،‬ودحض‬
‫سينيكا في السطور اآلتية أنهما يصالن الهدف األبيقوري أو على األقل إلى غاية المتعة‪ ،‬ويظهران أن هذه متوافقة معهم‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫ذواتهم نحو اسمه نفسه‪ ،‬ويسعون إلى الكفيل والحجاب لشهواتهم(‪.((40‬‬

‫‪ 5-12‬وهكذا يفقدون الشيء الخير الذي صنعوه في أعمالهم الرديئة‪ ،‬فالعار في‬
‫أفعالهم المزرية‪ .‬واآلن تقول إنهم يثنون على األشياء المخجلة التي اعتادوا‬
‫عليها‪ ،‬ويتفاخرون برذائلهم‪ ،‬وبالتالي ال ينبعث فيهم حتى الندم حين يضع‬
‫أخالقيا على القصور المخزي‪ ،‬ولهذا السبب ثناؤك للفضيلة خطير‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫طابعا‬
‫ً‬
‫حيث ُتخفي فيه المفاهيم األخالقية في حين أن ما يستحق يبدو فاسدً ا‪.‬‬

‫‪ 1-13‬وهذا رأيي‪ ،‬ورفقائي الرواقيون ليسوا على استعداد لقول ما أقوله‪ ،‬وهو إذا‬
‫اقتربت من تعاليم أبيقور وعقلتها وجدتها مقدسة وحقة‪ ،‬والحق أن لذته‬
‫مقيدة بقدر قليل وضئيل‪ ،‬وهو يفرض القانون نفسه على اللذة مثلما نفعل‬
‫كاف للطبيعة غير ٍ‬
‫كاف‬ ‫في الفضيلة‪ ،‬إنه يأمر اللذة أن تطيع الطبيعة‪ ،‬وان ما هو ٍ‬
‫للترف‪.‬‬

‫‪ 2-13‬ما المشكلة إذنْ ؟ حين يستعمل لفظ (السعادة) ليشير إلى الراحة الخاملة‬
‫وتعاقبات الشره والشهوة‪ ،‬فإنه يبحث عن سلطة خيرة لشيء رديء‪ ،‬وحين‬
‫يمضي هناك يغر باالسم المبهج والمتعة التي يتبعها والتي ليست هي ما‬
‫سمعه‪ ،‬بل ما جلبه معه‪ ،‬وبمجرد أن يفكر في رذائله المماثلة لتعاليمه ينغمس‬
‫فيها دون خشية أو سرية‪ ،‬ومن هنا يترف فيها دون خجل‪ .‬إذنْ ال أقول ما يقوله‬
‫رفقائي الرواقيون بأن أبيقور هو معلم الرذيلة‪ ،‬بل أقول هذا‪ :‬إنها أسماء مدعية‬
‫وسوء سمعة‪« ،‬وهو ال يستحقها»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ أن يعرف هذا إن لم يقبله في باطنه؟ ويمنح خارجه‬ ‫‪ 3-13‬ولكن كيف ألي‬
‫رخصة لرواية القصص ويحض على احتماالت خبيثة‪ ،‬وهو مثل رجل شجاع‬
‫يتزيا بلباس النساء‪ ،‬فأنت تثق في احترامك‪ ،‬وذكورتك غير مخصية‪ ،‬وجسدك‬

‫(‪ ((40‬كما يعبر يوزنير ‪ Usener 1887‬عن الشذرات في تناوله للنظرية األبيقورية في إشباع الرغبات ‪(frags. 454–84‬‬
‫)‪.Use.‬‬

‫‪325‬‬
‫ليس عرضة ليعاني أي شيء مشين‪ ،‬ولكن لديك ُدف في يدك‪ ،‬لذلك اختر‬
‫أخالقيا التي تلهم العقل بيسر بكيفية إدراجها‪ ،‬فقد اكتُشفت‬
‫ًّ‬ ‫التسمية الحسنة‬
‫التسمية الموجودة عن طريق الرذيلة‪.‬‬

‫‪ 4-13‬وكل َمن يقترب من الفضيلة يدلل على طبيعته النبيلة‪ ،‬ويبدو كل َمن يتبع‬
‫سريعا نحو المشين إن لم يبين له امرؤ‬
‫ً‬ ‫مكسورا‪ ،‬ينجذب‬
‫ً‬ ‫اللذة ضعي ًفا مخزولاً‬
‫الفروق بين الملذات ليعرف الملذات التي في حدود التوق الطبيعي والتي‬
‫تتعقب على طولها وليس لها حد‪ ،‬وهي أكثر قابلي ًة للتحقق كلما زاد إشباعها‪.‬‬

‫‪ 5-13‬هيا! دع الفضيلة تمضي في المقدمة‪ ،‬وستكون الخطى آمنة‪ ،‬فاللذة قد تكون‬


‫ضار ًة حين تفرط فيها‪ ،‬وال حاجة للخوف في الفضيلة إن تطرفت في شيء‬
‫منها‪ ،‬حيث ال حد في الفضيلة ذاتها‪ ،‬والشيء ال يمكن أن يكون حسنًا إذا كدح‬
‫تحت حجمه‪ .‬وأضف إلى ذلك‪ ،‬ما الهدف األفضل الذي يعلو العقل بالنسبة‬
‫للمخلوقات التي قد ُعين لها طبيعة عاقلة؟ حتى لو كان اقترانك يرضيك– إذا‬
‫كان هذا الرفيق يفضل المضي قد ًما نحو الحياة السعيدة‪ .‬دع الفضيلة تمضي‬
‫إلى األمام‪ ،‬ودع اللذة مواكبة وتحوم حول جسمك مثل الظل‪ ،‬ولكن لتعلو‬
‫الفضيلة تلك المعشوقة السامية‪ ،‬ولتخدم اللذة كخادمة‪ ،‬فإن هذا من قبيل فعل‬
‫َمن يتصور أنه ال شيء عظيم في عقله(‪.((40‬‬

‫‪ 1-14‬دع الفضيلة تمضي أولاً ‪ ،‬ودع لها معايير تحملها‪ ،‬ومع هذا سيكون لدينا‬
‫لذة‪ ،‬ولكن سوف نكون أسيا ًدا ومسيطرين عليها‪ ،‬واللذة تحصل على شيء‬
‫منا بطلبه‪ ،‬فإنها ال تحصل على شيء باإلكراه‪ ،‬وعلى النقيض الذين حققوا‬
‫الموضع األول للذة من دون جمعها بالفضيلة إنهم يفقدون الفضيلة وما هو‬
‫أكثر منها‪ ،‬وهم ال يملكون اللذة بل هي تتملكهم(‪ ،((40‬وهم يتعذبون ً‬
‫أيضا‬

‫‪(407) Epicurus frag. 514 Use. See also Cicero On the Ends of Good and Bad 2.69 = LS 210‬‬
‫(‪ ((40‬الجملتان األخيرتان تتناقضان مع الكالم المعروف لفيلسوف المتعة أريستيبوس السيريني ‪،Aristippus of Cyrene‬‬
‫انظر ‪. Diogenes Laertius 2.75‬‬

‫‪326‬‬
‫بافتقارهم للذة أو خنقها بوفرتها‪ ،‬ويتعسون إذا هجرتهم وال يزالون تعساء‬
‫إذا تجاوزتهم‪ ،‬كالذين يصيدوا في بحر سيرتيان ‪ Syrtian sea‬يجفون مرة‬
‫وتغمرهم األمواج الجارفة في المرة التالية(‪.((40‬‬

‫‪ 2-14‬وقد يأتي هذا من افتقار مفرط للتحكم في الذات وعمى العاطفة لألمر‪،‬‬
‫فحين يسعى المرء إلى األشياء الرديئة بدلاً من الخيرة فإنه ُيحف بالخطر‬
‫حين يحصل عليها‪ ،‬كما يحضر الخطر والكد صيدنا للوحوش‪ ،‬وحتى حين‬
‫نصيدهم يجزعنا امتالكهم ألنها تنطح مالكيها‪ ،‬ولذلك مع ملذاتنا الكبيرة‬
‫قد يحدث ضرر عظيم حين تفلت منا‪ ،‬وحين نصيدهم يصيدوننا‪ ،‬وكلما زاد‬
‫عددها كانت أعظم‪ ،‬وزاد تضاؤل الرجل الذي يدعوه الحشد سعيدً ا‪ ،‬وزادت‬
‫األشياء التي يستعبدها‪.‬‬

‫‪ 3 -14‬وإني أميل لالستمرار في استعمال الصورة نفسها ألصف الشيء نفسه‪،‬‬


‫ألتأمل كيف يصيد المرء أزواج الوحوش‪ ،‬ويعتقد أن «صيد فريسة في فخ‬
‫والتجول بالكالب في الغابات»(‪ ((41‬شيء عظيم‪ ،‬وحتى يتمكن من تضييق‬
‫مساراتها يتخلى عن أشياء مهمة‪ ،‬ويقول ال لواجبات عدة‪ .‬وبالطريقة‬
‫نفسها الساعي إلى اللذة يرتب كل األشياء خلفها‪ ،‬ويهمل األشياء األولى‬
‫وهي حريته‪ ،‬وينفق كل شيء على بطنه‪ ،‬وال يشتري الملذات لنفسه بل‬
‫يبيع نفسه لها‪.‬‬

‫‪ 1-15‬وهو يقول‪« :‬ولكن ما الذي يمنع أن ندمج المتعة والفضيلة في شيء واحد؟‬
‫وما الذي يمنع من أن يكون الخير األقصى واحدً ا ًّ‬
‫مبنيا بالطريقة نفسها‪،‬‬
‫ٌ‬
‫طرف‬ ‫ويجمع الشيء نفسه الخير األخالقي والمتعة؟»؛ ألنه ليس هناك‬

‫(‪ ((40‬إشارة إلى المياه الضحلة قبالة ساحل شمال إفريقيا‪.‬‬


‫(‪ ((41‬اقتباسات من فيرجيل جيورجكس ‪ Virgil Georgics 1.139–40‬وقد اقتُبست السطور نفسها إلشارة مختلفة في‬
‫‪.Letters 90.11‬‬

‫‪327‬‬
‫أخالقيا‪ ،‬وللخير األقصى نقاؤه إن لم تره شيئًا في ذاته‬
‫ًّ‬ ‫خيرا‬
‫أخالقي ال يكون ً‬
‫يختلف عن ما هو أفضل‪.‬‬

‫‪ 2-15‬حتى البهجة التي ُتستمد من الفضيلة مع خيريتها ال تزال ليست ً‬


‫جزءا من الخير‬
‫الكامل‪ ،‬وال تزيد عن كونها بهجة وسكينة‪ ،‬حتى لو جاءت من أكثر األسباب‬
‫جمالاً ؛ ألنها خيرة وتتبع الخير األقصى وال تكمله(‪.((41‬‬

‫‪ 3-15‬وإذا و َّفق امرؤ ما بين الفضيلة واللذة وساوى بينهما في هذا‪ ،‬فإن هشاشة خير‬
‫أحدهما تضعفه مهما كانت القوة في اآلخر‪ ،‬ويطرح حريته تحت العبودية‪،‬‬
‫حيث ال تزال منتصر ًة فحسب إذا لم تعترف بشيء آخر يزيد قيمة ذاتها‪ .‬وألنه‬
‫يبدأ من الحاجة إلى الحظ وهو العبودية األعظم للجميع‪ ،‬والحياة التي تتوالى‬
‫مقلقة ومريبة ومخيفة فهي تخشى األحداث وتتعلق على لحظات الزمن‬
‫المنصرم‪.‬‬

‫أساسا ثابتًا وجا ًّدا‪ ،‬وباألحرى ترتبها لتقف على موضع‬


‫ً‬ ‫‪ 4-15‬هل لم تمنح الفضيلة‬
‫غير ثابت‪ ،‬وما هو غير ثابت مثل انتظار أشياء الحظ أو قدرة تحول الجسد‬
‫واألشياء التي تؤثر عليه؟ وكيف لهذا المرء أن ُيطيع الرب‪ ،‬ويقبل كل ما‬
‫مفسرا متواف ًقا ألحواله إذا‬
‫ً‬ ‫يحدث بعقل حسن‪ ،‬وال يشكو القدر بل يكون‬
‫ناقما‬
‫خيرا أو ً‬
‫وصيا ً‬
‫ًّ‬ ‫اهتاج بأضعف متطلبات اللذة واأللم؟ ولكن ليس حتى‬
‫على وطنه‪ ،‬ال مدافعا عن أخالئه إذا انحرف نحو الملذات‪.‬‬

‫العلى فال تخلعه أي قوة‪ ،‬وال يطوله حزن‬


‫‪ 5-15‬وعلى الخير األقصى أن يرتفع إلى ُ‬
‫وال أمل وال خوف وال أي شيء آخر يقلص سلطته‪ ،‬وصعوده لألعالي تصنعه‬
‫الفضيلة فحسب‪ ،‬وقد يروض هذا الميل الحاد بسلم الفضيلة‪ ،‬وسوف تقف‬
‫الفضيلة شجاعة وتتحمل األحداث مهما تكن‪ ،‬ليس بالصب فحسب بل‬

‫(‪ ((41‬انظر ‪. Cicero De finibus 3.55.40‬‬

‫‪328‬‬
‫طوعا ً‬
‫أيضا‪ ،‬فهي تعرف دو ًما أنه ال وقت العصيبة هي قانون الطبيعة‪ ،‬وأن‬ ‫ً‬
‫الجندي الحسن سوف يتحمل جروحه ويعتبرها ندو ًبا‪ ،‬كما أنه يموت طعنًا‬
‫بالسهام‪ ،‬فإنه يحب القائد الذي عشقه‪ ،‬وهو يضع في االعتبار الحكمة القديمة‬
‫«اتبع الرب»‪.‬‬

‫‪ 6-15‬ومن ناحية أخرى كل َمن يشكو وينتحب ويتأوه ُيجبر بالقوة على اتباع‬
‫األوامر وهو غير راغب‪ ،‬ولن ينحو بعيدً ا ليفعل ما يؤمر‪ ،‬ويا للخبل أن ُيجر‬
‫وال يريد(‪ ،((41‬وأي حماقة من هيروكليس ‪ Hercules‬بل الجهل بحاله‪ ،‬وأن‬
‫تحزن ألنك تفتقر إلى شيء ما أو ألن شيئًا ما قاس ًيا قد يحدث لك‪ ،‬و ُتفاجأ به‬
‫أو تتحمل ما ال يستحق‪ ،‬إن هذه األشياء تحدث لألخيار واألشرار على حد‬
‫سواء‪ ،‬وأقصد المرض والمآتم وتشوه األجسام وأشياء أخرى تسحق على‬
‫غفلة حياة اإلنسان‪.‬‬

‫‪ 7-15‬إذنْ ألن العالم يتكون‪ ،‬علينا أن نعاني من شيء ما‪ ،‬دعونا نأخذه بعقل كبير‪،‬‬
‫وهذا هو الميثاق الذي أخذناه حينما ُجندنا وهو أن نتحمل األمور الفانية‪،‬‬
‫وألاَّ نضطرب بأمور ليس بمقدورنا تجنبها‪ ،‬لقد ولدنا تحت ملك‪ ،‬والحرية‬
‫في طاعة الرب‪.‬‬

‫فبم تقنعك هذه الفضيلة؟ بالنظر إلى ما‬


‫‪ 1-16‬إن السعادة الحقة كائنة في الفضيلة‪َ ،‬‬
‫ليس حسنًا وال رديئًا وهو ما ال يتعلق بفضيلة وال خبث‪ ،‬ومن ثم الثبات سواء‬
‫تجاه ما هو رديء وتمش ًيا مع ما هو حسن بقدر إمكانك في حدود المسموح‬
‫به وصنيع صورة الرب‪.‬‬

‫وبم تعدك الفضيلة في هذه العجالة؟ بأشياء هائلة تساوي ما هو إلهي‪ ،‬حيث‬
‫َ‬ ‫‪ 2-16‬‬
‫لن ُتجبر على شيء وال تفتقر إليه‪ ،‬وتكون خال ًيا آمنًا من الضرر‪ ،‬ولن تحاول‬

‫(‪ ((41‬اللغة قريبة من لغة كليانتس من ترنيمة إلى زيوس وهو يقول تجر األقدار َمن يريد و َمن ال يريد ‪ducunt uolentem fata‬‬
‫‪ ،nolentem trahunt‬وقد ذكر هذا كما الحظت ‪ Asmis 2009, 120‬فى ‪. Letters 107.10–11‬‬

‫‪329‬‬
‫في أي شيء عب ًثا ولن يمنعك شيء‪ ،‬وسوف يسير لك كل شيء وف ًقا لتفكيرك‪،‬‬
‫ولن يظهر شيء يقف في طريقك وال رأيك وال إرادتك‪.‬‬

‫‪« 3-16‬هل الفضيلة كافية للعيش على نحو سعيد؟» ولماذا ليست كافية؟ والحقيقة‬
‫مفتقرا في شيء‬
‫ً‬ ‫نظرا ألنها كاملة وإلهية؟ فهل ما يمكن أن يكون‬
‫أنها فيض ً‬
‫يوضع خارج التوق ألي شيء؟ وما االحتياجات الخارجية عند َمن جمع‬
‫كل ما لديه في نفسه؟ ولكن المرء الذي يسعى نحو الفضيلة حتى لو قطع‬
‫ً‬
‫شوطا طويلاً يحتاج إلى هوادة من الحظ في حين ال يزال يناضل وسط األمور‬
‫اإلنسانية– حتى يتخلى عن هذه العقدة وكل رباط فان‪ .‬إذنْ وما الفارق؟ إن‬
‫اآلخرين مصفدون ومقيدون أو مربوطون على مخلعة‪ ،‬في حين َمن يرتفع إلى‬
‫األشياء السامية يرتقي بنفسه عال ًيا‪ ،‬ويجر في سلسلة مرخية‪ ،‬وليس حر ًّا بل‬
‫حرا بالفعل‪.‬‬
‫كما لو كان ًّ‬
‫‪ 1-17‬إذا كان أي من أولئك الذين ينبحون في الفلسفة‪ ،‬يقول ما يقولونه‪« :‬لماذا‬
‫تتحدث بشجاعة تزيد على ما تعيشه؟ وكيف تخفض صوتك لشخص في‬
‫رتبة أعلى وتعامل المال كمصدر ضروري بالنسبة لك؟»(‪ ((41‬أأنت تسمح‬
‫لنفسك أن تضطرب وتذرف الدموع للفقدان حين تسمع أن صديقك أو‬
‫زوجتك ماتت؟ وهل تتطلع إلى سمعتك وتدع نفسك تالمس كلمات‬
‫التقوى؟‬

‫‪ 2-17‬وكيف يزيد فالح ممتلكات وطنك أكثر من االستخدام الطبيعي؟ ولماذا‬


‫ال تتناول طعامك وف ًقا الحتياجاتك؟ ولماذا أساسك باهظ الثمن؟ ولماذا‬
‫ذهب في كل ٍ‬
‫أين؟‬ ‫تستهلك ً‬
‫نبيذا في بيتك أقدم من محصولك؟ ولماذا هناك ٌ‬
‫ولماذا ُتغرس األشجار لتقدم شيئًا غير الظل؟ ولماذا تلبس زوجتك في أذنيها‬
‫أصولاً تعادل ما تملكه أسرة ثرية؟ ولماذا ُتزخرف مدرسة الفتيان العبيد بزي‬

‫(‪ ((41‬هذه تلميحات للتهم الي حاكها سوليوس روفوس عام ‪ ،58‬انظر مقدمتي للرسالة‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫باهظ الثمن؟ ولماذا تزين منضدة بيتك بالفن الجميل وتطليها بالفضة التي لم‬
‫بيدي خبير‪ ،‬وقد عينت فنا ًنا لنحت لنحت‬
‫عشوائيا وعفو ًّيا بل رتبت َ‬
‫ًّ‬ ‫توضع‬
‫أطباقك الخاصة؟»‪ .‬وأضف إلى ذلك إن رغبت «لماذا تتملك عبر البحار؟‬
‫لماذا تتملك أكثر مما تعيه؟ ولماذا تتجاهل بشكل مشين حتى أنك ال تعرف‬
‫عدد عبيدك القلة أو كذلك الترف المشين الذي تملك ذاكراتك منه الكثير‬
‫لتحفظ معرفته؟»‪.‬‬

‫‪ 3-17‬وسوف أعين مداهماتك وسألقي باالتهامات على نفسي بأكثر مما تعتقد‪،‬‬
‫حكيما‪ ،‬وألغذي مرض اعتالل إرادتك لن‬
‫ً‬ ‫لست‬
‫ُ‬ ‫وسأرد عليك اآلن‪ ،‬فأنا‬
‫ولست أنا األفضل بل أفضل من األسوأ‪ ،‬ويكفيني أن أطرح‬
‫ُ‬ ‫حكيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫أكون‬
‫رذائلي كل يوم وأحاسب نفسي‪.‬‬

‫‪ 4-17‬ولن أصل إلى عافية طيبة‪ ،‬ولن أصل بالفعل‪ ،‬فإنني أدهن المرهم مفضلاً أن‬
‫في (النقرس) إذا كانت تقل مناوبته أو تقل حدته‪ ،‬وقارن هذا مع قدميك‬
‫ُيشفى َّ‬
‫ووهنك‪ ،‬فأنا عداء‪ ،‬وأنا ال أقول هذه األشياء لمصلحة لي (فأنا غارق بعمق‬
‫ٍ‬
‫امرئ قد يحقق شيئًا‪.‬‬ ‫في طرائق الرذائل كلها) ولكن ألجل‬

‫‪ 1-18‬أنت تقول‪« :‬إنك تتحدث بطريقة وتعيش بطريقة أخرى»‪ ،‬وقد ُأقيم اتهامك‬
‫بالمخلوقات الشريرة العدو الحقيقي لكل َمن هو أفضل ضد أفالطون أبيقور‬
‫وزينون(‪ ،((41‬ولم يقل كل منهم كيف كان يعيش‪ ،‬بل كيف ينبغي أن يعيش‪،‬‬
‫أنا أتحدث عن الفضيلة وليس عن نفسي‪ ،‬وحين ُأداهم الرذائل فإنني ُأهاجم‬
‫رذائلي خاصة‪ ،‬إنني أعيش كما تنبغي قدرتي للعيش‪.‬‬

‫‪(414) For Plato as a target of criticism, see especially Athenaeus Deipnosophistae 11.504–9; for‬‬
‫‪Epicurus, Diogenes Laertius 10.3–8; for Zeno of Citium (ca.‬‬
‫ ‬ ‫‪334–262 bce), the first Stoic, Diogenes Laertius 7.33–34. 43. P. Rutilius Rufus (b. ca. 160‬‬
‫‪bce) and Cato the Younger (95–46); see On Providence 2.9, 3.7, 3.14 with notes.‬‬

‫‪331‬‬
‫‪ 2-18‬ولن تردعني وقاحتك بسمومها كلها عن األشياء الفضلى‪ ،‬ولن يعوقني حتى‬
‫الغل الذي تسيء به إلى اآلخرين وتقتل به نفوسهم عن االستمرار في الثناء‬
‫على الحياة ال أن أعيش أنا؛ ألنني أعرف كيف ُتعاش أو تعوقني عن عبادة‬
‫الفضيلة وأركض وراءها من مسافة بعيدة‪.‬‬

‫‪ 3-18‬هل بمقدوري أن أتوقع صراحة أن البغيضة سوف تترك األشياء كلها ال‬
‫تنتهك في حين لم تشغل روتيليوس المقدس أو كاتو(‪ »((41‬وهل يكترث‬
‫فقيرا بما‬
‫المرء إذ كان يبدو ثر ًّيا ألناس يالحظون أن ديمتريوس الكلية ليس ً‬
‫يكفي؟ واإلنسان المفعم بالحيوية الذي يهزم كل توق طبيعي يجعلهم أفقر‬
‫من الكلبيين اآلخرين؛ ألنهم حرموا أنفسهم من امتالك األشياء‪ ،‬إنه حرم نفسه‬
‫فقيرا بما فيه الكفاية! ألنك‬
‫من أن يرغب فيهم‪ ،‬وهذا الرجل كما يقولون ليس ً‬
‫ترى أنه لم يزعم معرفة الفضيلة بل الفقر‪.‬‬
‫‪((41( Diodorus‬‬
‫الفيلسوف األبيقوري وضع حدًّ ا‬ ‫‪ 1-19‬يقولون إن ديودورس‬
‫لحياته بيده منذ أيام قليلة مضت‪ ،‬إنه لم يتصرف وف ًقا لتعاليم أبيقور؛ ألنه‬
‫قطع رقبته‪ ،‬والبعض يرغب هذا التصرف ليقال عنه مجنون‪ ،‬والبعض اآلخر‬
‫ليقال عنه متهور‪ ،‬ولكن ديودوروس كان سعيدً ا وضميره خ ِّي ًرا‪ ،‬وأعطى شهادة‬
‫لنفسه لمفارقة الحياة‪ ،‬وأثنى على الحياة التي قضاها في الميناء والمرفأ‪ ،‬وقال‬
‫ما أسمعك الناس غير راغبين كما لو كان عليك أن تفعل ذلك‪ ،‬حيث قال إنني‬
‫عشت وفزت بالمسار الذي منحني الحظ إياه‪.‬‬

‫‪ 2-19‬أنت تجادل حول حياة امرئ وآخرين حول موته‪ ،‬واستجابة لسمعة هؤالء‬
‫الذين يعظمون على حساب العظمة السائدة فإنك تنبح مثل الجراء حين تواجه‬

‫(‪ ((41‬روتيليوس معاصر لسينيكا وصديقه‪ .‬انظر ‪.On Providence 3.3 with note‬‬
‫(‪ ((41‬انظر ‪ Virgil Aeneid 4.653‬كلمات ديدو ‪ Dido‬قبل انتحارها‪ ،‬وقد اقتبس سينيكا هذا في ‪Letters 12.9 and On‬‬
‫‪.Benefits 5.17.5‬‬

‫‪332‬‬
‫الغرباء‪ ،‬وألنه يناسبك األفضل ال أحد يبدو حسنًا‪ ،‬كما لو كانت فضيلة اآلخر‬
‫لوم لكل آثامك‪ ،‬وتقارن بغيرة عظمتهم بقذارتك‪ ،‬ولم تفهم كيف خسرت‬
‫بجرأتك؛ ألنه إذا كان الذين يتبعون الفضيلة جشعين وشديدي التوق‪ ،‬فهل‬
‫االسم الحقيقي للفضيلة عندك هو الحقد؟‬

‫‪ 3-19‬إنك تنكر أن ُتصيب أحدً ا بما يقول أو يعيش على مثال خطابه‪ ،‬ولماذا هذا‬
‫وضخما ومغامرة وراء كل زوابع‬
‫ً‬ ‫شجاعا‬
‫ً‬ ‫أمر مدهش؟ ومتى يكون ما يقولونه‬
‫الوجود اإلنساني؟ ورغم أنهم يحاولون أن تبرح أنفسهم من تقاطعاتهم (في‬
‫حين كل منكم يدفع أظافره في تقاطعه) مع أنهم محملون للعقاب وينقطعون‬
‫عن مواضع بعينها‪ ،‬وأنتم َمن يصيب العقاب الذي يمتد إلى تقاطعات عدة بما‬
‫لديكم من رغبات‪ ،‬ومن ثم تألفون بافتراء ومهارة اإلهانات ضد اآلخرين‪.‬‬
‫كنت اعتقد أنه لديكم الوقت لتفعلوا هذا إذ كان ٌ‬
‫بعض منكم ال يبصق أسفل‬
‫على المتفرجين من التقاطع(‪.((41‬‬

‫‪« 1-20‬إن الفالسفة ال يصيبون ما يقولونه»‪ ،‬إنهم يفعلون الكثير مما يقولونه وما‬
‫أخالقيا‪ ،‬وإذا حققوا أشياء تعادل عباراتهم‪ ،‬فما السعيد‬
‫ًّ‬ ‫يتصورونه حسنًا‬
‫بالنسبة لهم؟ وفي تلك األثناء ليس هناك سبب لتحقير عباراتهم الحسنة أو‬
‫قلوبهم المشحونة باألفكار الحسنة‪ ،‬وتستحق دراساتهم الثناء حتى لو لم‬
‫تحقق غايتهم‪.‬‬

‫‪ 2-20‬وما الغرابة إذنْ ‪ ،‬وهم يقفون فوق الطريق المنحدر ولم يصلوا إلى القمة؟ ولكن‬
‫إن كنت رجلاً فهؤالء َمن يتعهدون أشياء عظيمة حتى لو هبطوا يستحقون‬
‫ثناءك‪ ،‬إنه أمر نبيل أن تحاول في األشياء السامية‪ ،‬وال تتطلع إلى قوة المرء‬

‫(‪ ((41‬هذه الجملة حيرت المحررين‪ ،‬وهذه الترجمة من الالتينية إلى اإلنجليزية تقريبية‪ ،‬والثالث جمل األخيرة استبدلت‬
‫(أنت) بشخص ثالث جمع (هم) لتوضيح اإلشارة إلى خصومه‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫بل قوة الطبيعة‪ ،‬وتتصور أمور العقل التي تعظم على ما يمكن تحقيقه بنجاح‬
‫حتى بالذين وهبوا عظمة العقل الهائلة‪.‬‬

‫‪ 3-20‬هو الذي يقول لنفسه‪« :‬سأرى الموت بالتعبير نفسه حين سمعت عنه‪ ،‬وسوف‬
‫أعرض عملي مهما عظم‪ ،‬وأحفظ جسدي مع عقلي‪ ،‬واحتقر الثروة أكانت‬
‫حاضرة أم غائبة‪ ،‬ولن أتجهم إن أقامت في ٍ‬
‫أين آخر‪ ،‬ولن يزيد عزمي إن‬
‫انتباها للحظ في مجيئه أو مضيه‪ ،‬وسوف أنظر‬
‫ً‬ ‫لمعت من حولي‪ ،‬ولن أولي‬
‫على كل األرض كأنها لي وكل أرضي للجميع‪ ،‬وسوف أحيا كما لو أنني‬
‫أعلم أني ولدت لآلخرين‪ ،‬وسوف أقدم الشكر لطبيعة العالم‪ ،‬فكيف خدمت‬
‫أفضل اهتماماتي؟ إنها منحتني ً‬
‫امرأ بعينه للجميع ومنحت الجميع لي‪.‬‬

‫‪ 4-20‬ومهما ملكت لن أمسك بجشع ولن أبذر بتهور‪ ،‬حيث إنني أعتقد أنني لم‬
‫أعطيت حسنًا‪ ،‬ولن أحسب الفضل وف ًقا لعدده أو وزنه‬
‫أمتلك شيئًا أعظم مما ُ‬
‫بل وف ًقا لقيمة المتلقي‪ ،‬أي يتلقاه الشخص الذي يستحقه‪ ،‬ولن أنظر إلى‬
‫الغالي النفيس‪ ،‬ولن َّ‬
‫أعل شيئًا لمصلحة آراء الناس‪ ،‬بل سأفعل كل شيء وف ًقا‬
‫لضميري‪ ،‬وأ ًّيا ما أفعله بعيدً ا عن ضميري‪ ،‬فإنني أوقن أنه ُصنع على أعين‬
‫الناس‪.‬‬

‫‪ 5-20‬وسيكون حد طعامي وشرابي لكفاية توقي الطبيعي‪ ،‬وليس لملء وعاء بطني‪،‬‬
‫وسأكون لطي ًفا مع أصدقائي وعطو ًفا لينًا مع أعدائي‪ ،‬وسأظفر قبل أن أطلب‪،‬‬
‫أخالقي سأصنعه وأركض نحوه‪ ،‬وسوف أعلم أن‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫عمل‬ ‫وحين ُيطلب مني‬
‫وطني هو العالم وأن األرباب َمن تحميه‪ ،‬وهي تقف من فوقي ومن حولي‬
‫وتراقب أفعالي وكلماتي‪ ،‬وحين تطلب روحي العودة أو تعطي لعقلي إذ ًنا‬
‫للرحيل‪ ،‬سأرحل شاهدً ا بأنني أحببت ضميري الحسن وتأمالتي الخيرة‪ ،‬ولن‬
‫تحد حرية أحد مني ولن ُتقلص عملي»– إن الذي يعزُ م عمل هذه األشياء‬
‫والذي يرغب فعلها ويحاول القيام بها فإنه يتوجه بالسفر نحو األرباب‪،‬‬
‫‪334‬‬
‫والحق أنه لو لم يصل إليها المرء لن يفشل؛ ألنه جرؤ على أمور عظيمة(‪.((41‬‬

‫‪ 6-20‬ويقينًا أن الناس بكراهيتهم للفضيلة وغرسها ال يفعلون شيئًا جديدً ا‪،‬‬


‫وألعينهم الضعيفة يخشون الشمس حيث تهرب الحيوانات الليلية من نور‬
‫النهار ويصدمون من بزوغها‪ ،‬فيتناثرون بح ًثا عن مخابئهم أو يختبئون في‬
‫الزوايا واألركان خو ًفا من النور‪ ،‬نائحين تواصل ألسنتهم التعسة ممارسة‬
‫قذف األخيار‪ ،‬ويفتحون أفواههم ويغلقونها‪ ،‬فقد تكسر أسنانك قبل أن تترك‬
‫أي انطباع‪.‬‬

‫‪« 1-21‬لماذا يدرس هذا الفلسفة ويعيش حياته ثر ًّيا؟ ولماذا يتحدث عن احتقار‬
‫الثروة ويمتلكها؟ ولماذا يفكر أن الحياة محتقرة ويعيش‪ ،‬وأن الصحة محتقرة‬
‫ويعتني بنفسه ويفضلها في أحسن حاالتها؟ وهو يعتقد أن المنفى كلمة فارغة‬
‫ويقول‪ :‬ما الضرر في تغيير المناطق؟ ومن ثم هل يمكن أن يقضي شيخوخته‬
‫في وطنه؟ وهو يرى أنه ليس هناك فرق بين الزمن األطول واألقصر‪ ،‬ولكن‬
‫إذا لم يكن هناك ما يمنع هذا فهل تمتد حياته ويطعمها بسالم في سن‬
‫الشيخوخة؟»(‪.((41‬‬

‫‪ 2-21‬وهو يقول‪ :‬إن تلك األشياء ينبغي أن تكون محتقر ًة‪ ،‬وهو ليس بالتالي ال‬
‫يملكها‪ ،‬بل كذلك لن يمتلكها على نحو قلق‪ ،‬وهو ال يرفضها لذاتها‪ ،‬بل‬
‫متحررا من القلق‪ ،‬وأين يمكن للحظ أن يجعل‬
‫ً‬ ‫يراها حين ترحل في طريقها‬
‫وديعة الثروة أكثر أما ًنا في المكان الذي تلقت فيه دون ضجة ممن ُيعيدها؟‬

‫‪ 3-21‬حين امتدح ماركوس كاتو ‪ Marcus Cato‬كوريوس ‪ Curius‬وكورنكانيوس‬

‫‪(418) Ovid Metamorphoses 2.328, from the Phaethon episode, a comparison anticipated by the‬‬
‫‪language at 20.2 above. Compare the similar but more extensive use of Phaethon in On‬‬
‫‪Providence 5.10–11.‬‬
‫(‪ ((41‬في الجملتين األخيرتين ربما نالحظ إشارة إلى أعمال سينيكا عزاء إلى هلفيا (فيما يتعلق بالنفي)‪ ،‬وقصر الحياة‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫‪ ،Coruncanius‬وهذا العصر كان يعد فيه امتالك عمالت الفضة القليلة جريمة‬
‫مخالفة‪ ،‬وقد امتلك هو أربعة مليون سيستر‪ ،‬وبالتأكيد كان أقل من كوريوس‬
‫وأكثر من كاتو المراقب المالي ‪ ((42( Censor‬وبعمل مقارنة قد وجد أنه قد‬
‫تجاوز سابقه بأكثر ما تجاوزه كراسوس ‪ ،Crassus‬وإن كانت الثروة األعظم‬
‫قد وصلت إلى طريقه‪ ،‬فإنه لم يزدريها‪.‬‬

‫‪ 4-21‬وال يعتقد الحكيم بأنه ال يستحق أي عطايا عابرة‪ ،‬فهو ال يحب الثروة ولكنه‬
‫يفضلها‪ ،‬فهو ال يتلقاها في عقله بل في بيته‪ ،‬وحين يملكها ال يرفضها‪ ،‬بل‬
‫يتعلق بها ويرغب أن تزوده فضيلته بمادة أعظم‪.‬‬

‫‪ 1-22‬وما الريب هناك وهنا في الثروة فالحكيم لديه مادة أعظم إلعالء عقله أكثر مما‬
‫فعل في الفقر؟ ألن النوع الوحيد للفضيلة في الفقر ال ُيردع أو ُيثبط‪ ،‬في حين‬
‫يوجد في الثروة حقل واسع مفتوح للزهد والجود والكد والتدبير والعظمة‪.‬‬

‫‪ 2-22‬إن الحكيم ال يحتقر نفسه‪ ،‬حتى لو كان في قامته أقصر‪ ،‬فإنه يرغب أن يكون‬
‫طويلاً ‪ ،‬وسيبقى قو ًّيا حين يعتل جسده أو حين يفقد عينه ومع ذلك يفضل أن‬
‫شيء آخر قوي‪ ،‬وسيحتمل‬
‫ٌ‬ ‫يكون له جسد معافى‪ ،‬رغم أنه يعلم أنه لم يعد فيه‬
‫فقيرا‪ ،‬ولكنه يرغبها جيدة‪.‬‬
‫صحته كونه ً‬
‫(‪ ((42‬المقصود بكاتو هو ماركوس كاتو وهو كاتو األصغر‪ ،‬ومن الواضح أنه كان ً‬
‫بارزا في اقتصاد القرن الثالث الميالدي في‬
‫عهد كوريوس دينتاتوس ‪ M. Curius Dentatus‬وتبيريوس كورونكانيوس‪ ،‬ولكنه ملك ثروته دون لوم‪ ،‬وتقع ثروة‬
‫كاتو في مكان ما بين الثروة الفاحشة لليكينيوس كراسوس ‪ M. Licinius Crassus‬أحد ممثلي حكومة الثالثة عام ‪53‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬وكان بخيلاً ‪ ،‬وجده األكبر هو كاتو األكبر انظر ‪ .Cato the Elder, 234–149‬ولد كاتو سنة ‪ 95‬ق م في روما‪،‬‬
‫فاهتم‬
‫َّ‬ ‫صغيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫للسياسي الروماني المعروف ماركوس بورسيوس كاتو وزوجته ليفيا دروسا‪ .‬توفي والداه عندما كان‬
‫به خاله ماركوس ليفيوس دروسوس‪ ،‬إال أنَّ خاله ُسرعَ ان ما قتل اغتيالاً عندما كان في الرابعة‪ .‬بدأت نزاعات العناد‬
‫بالظهور عند كاتو منذ سن مبكرة‪ .‬فقد كان يصفه مع ّلمه ‪-‬ساربيدون‪ -‬بأنه فضولي جدًّ ل‪ ،‬وهو يقتنع باألشياء ببطء كبير‪،‬‬
‫سياسيا ُيدعى‬
‫ًّ‬ ‫أمرا شديد الصعوبة‪ .‬تروي قصة من الفيلسوف ‪ -‬اليوناني‪ ‬فلوطرخس‪ ‬بأن‬ ‫بحيث يكون التحكم به أحيا ًنا ً‬
‫مازحا من األطفال أن يدعموه في نشاطاته السياسية‪ ،‬فابتسم‬
‫مرة منزل خال كاتو الذي َيرعاه‪ ،‬فطلب ً‬ ‫كوينتوس سيلو زار َّ‬
‫ً‬
‫جميعهم وأومؤوا عدا كاتو‪ ،‬الذي نظر إلى الضيف نظرة متشككة جدًّ ا‪ .‬عند عدم حصول سيلو على إجابة من الطفل‪،‬‬
‫أخذه من قدميه وع َّلقه منهما خارج النافذة‪ ،‬إال أنَّ كاتو َّ‬
‫أصر على موقفه ولم يقل شيئًا‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫‪ 3-22‬إنك في حاجة إلى أن تفهم أن هناك أشياء بعينها حتى لو كانت صغيرة ضمن‬
‫المخطط األكبر لألشياء ويمكن أن ُتنزع دون أن تفسد المبدأ الخير‪ ،‬ومع‬
‫ذلك تضيف شيئًا ما للبهجة التي ال تنتهي التي تأتي إلى الوجود من الفضيلة‪،‬‬
‫والثروة تؤثره وتبهجه مثل الريح المواتية التى تدفع البحار على طول الخط أو‬
‫مثل النهار الماتع والمكان المشمس أثناء الشتاء البارد القارص‪.‬‬

‫‪ 4-22‬و َم ْن ِم ْن بين الحكماء‪ -‬أعني حكماءنا‪ ،‬أعني الذين فضيلتهم هي الخير‬


‫الخالص‪ -‬ينكر أن حتى هذه األشياء التي نسميها غير مكترثين لها بعض القيم‬
‫في ذاتها وبعضها اآلخر مفضلة على اآلخرين(‪((42‬؟ وبعض هذه األشياء‬
‫يمنح ً‬
‫بعضا من الشرف والبعض اآلخر يعطى المزيد‪ ،‬ولتتيقن أنك لم تخطئ‬
‫الثروة هي من بين األشياء المفضلة‪.‬‬

‫وأنت تقول‪« :‬لماذا تسخر مني في حين أن الثروة تمثل لك المكانة نفسها التي‬ ‫‪ 5-22‬‬
‫تمثلها لي؟»‪ ،‬هل تريد أن تعرف كيف تتباين المكانة التي تملكها؟ إذا كانت‬
‫الثروة تتدفق بعيدً ا عني‪ ،‬فإنها لن تأخذ شيئًا سوى ذاتها‪ ،‬وسوف ُتدهش‪ ،‬وستبدو‬
‫لك أنك تتخلى عن نفسك إذا انحرفت عنك الثروة‪ ،‬والثروة بالنسبة لي لها مكانة‬
‫وبالنسبة لك لها مكانة قصوى‪ ،‬وباختصار مالي هو لي ومالك هو لك‪.‬‬

‫‪ 1-23‬ولذلك توقف عن منع الفالسفة من الحصول على الثروة‪ ،‬فال يحكم أحد‬
‫على الحكمة بالفقر‪ ،‬وقد يكون للفيلسوف ثروة وفيرة وهو ال ينتزعها من‬
‫أحد أو يقطرها من دم اآلخرين‪ ،‬ويتكسب دون ضرر ألحد أو نفعية فاحشة‪،‬‬
‫أخالقيا‪ ،‬وال يحزن أحد عليها سوى‬
‫ًّ‬ ‫وسيكون خروجها مثل دخولها حسنًا‬
‫أخالقيا حتى عندما تكون‬
‫ًّ‬ ‫البخيل‪ ،‬وقلب األمر كما تشاء‪ ،‬فإن الثروة حسنة‬
‫شيء في أن‬
‫ٌ‬ ‫هناك أشياء عدة قد يرغب كل امرئ أن يطلبها لنفسه‪ ،‬فليس هناك‬
‫يطلبها المرء لنفسه‪.‬‬

‫(‪ ((42‬نوقشت نظرية المحايدات بالتفصيل في ‪.Letters 92.16–26; see also LS 58‬‬

‫‪337‬‬
‫‪ 2-23‬والحقيقة‪ ،‬لن يدفع الفيلسوف سخاء الثروة بعيدً ا عنه‪ ،‬ولن يتباهى ولن‬
‫فعليا‬
‫شيء ًّ‬
‫ٌ‬ ‫أخالقيا‪ ،‬وهو لديه‬
‫ًّ‬ ‫يستحي من ملكية قد اكتسبها بطرق مقبولة‬
‫يمكن أن يتباهى به إذا استطاع أن يفتح بيته ويقبل الناس من بين ممتلكاته‬
‫ويقول‪« :‬دعهم يأخذون كل ما يدركونه» يا له من رجل عظيم! ويا للثروة‬
‫في طريقها األفضل إن استطاع أن يقول هذا‪ ،‬ومن ثم يحتفظ بالمقدار ذاته!‬
‫ما أعنيه إن كان يسمح للناس أن ينقبوا في أشيائه وال يفقد منها شيئًا أو يشعر‬
‫بالقلق –وإن لم يجد أحدً ا في بيته ما يمكن أن يطلبه‪ -‬سيكون ثر ًّيا صراحة‬
‫وجسارة‪.‬‬

‫‪ 3-23‬وال يسمح الحكيم لدينار بعينه أن يمر على عتبته إذا كان مكتس ًبا بطريقة غير‬
‫مشروعة‪ ،‬ولكن المرء ذاته الذي توفرت عند الثروة وهبة من الحظ وثمرة‬
‫من الفضيلة ال يرفضها أو يأبى الدنو منها‪ ،‬ولهذا السبب هل يحسد مكانها‬
‫الحسن؟ دعها تأتي وتمكث في المنزل‪ ،‬فهو لن يرميها ولن ُيخفيها‪ ،‬فاألول‬
‫هو فعل لعقل تافه‪ ،‬واآلخر لعقل بائس ومتردد‪ ،‬كما لو كان الخير الكبير علق‬
‫في جيبه‪ ،‬وكما قلت ال يرميها خارج بيته‪.‬‬

‫‪ 4-23‬ولماذا يقول‪« :‬إنك غير ُم ْج ٍد» أو «أنا ال أعرف كيف أستعمل الثروة»؟‬
‫سيرا على األقدام‪ ،‬ولكنه يفضل أن َي ْع َ‬
‫لق‬ ‫بمقدوره أن ُيكمل الرحلة حتى ً‬
‫فقيرا‪ ،‬ولكنه يتمنى أن يكون ثر ًّيا‪،‬‬
‫بخارج العربة‪ ،‬وكذلك بمقدوره أن يكون ً‬
‫وهكذا سيمتلك الثروة ويعاملها برفق ليصعد بها‪ ،‬ولن يسمح أن تكون حملاً‬
‫عليه أو على غيره‪.‬‬

‫‪ 5-23‬إنه سيعطي– فلماذا ُتخرم أذنيك‪ ،‬فلماذا تفتح جيبك وتستعد؟ إنه سيعطي‬
‫للصالحين أو الذين لديهم استعداد للخير‪ ،‬إنه سوف يعطي منتق ًيا بعناية َمن‬
‫يستحق‪ ،‬حيث يضع في اعتباره أنه عليه أن ينفق بالقدر الذي قد تلقاه(‪،((42‬‬

‫عشوائيا‪ ،‬وانتقد سينيكا هذا في رسالة عن اإلحسان ‪.2.1.1‬‬


‫ًّ‬ ‫(‪ ((42‬على النقيض من االتجاه الشائع ليعطي‬

‫‪338‬‬
‫إنه سوف يعطي ألسباب جديرة وحقة؛ ألن العطية الرديئة تعد خسارة مخزية‪،‬‬
‫وسيفتح جيبه غير المثقوب‪ ،‬وسيجلب منه الكثير ولن يسقط منه شيء‪.‬‬

‫‪ 1-24‬إذا اعتقد امرؤ أنه من السهل أن ُتعطي‪ ،‬فهذا أمر صعب للغاية إذا قدم المرء‬
‫منح ًة بدلاً من معونات جزافية واعتباطية‪ ،‬فلهذا الشخص أسدى فضلاً وأرد له‬
‫ما قدمه‪ ،‬وأنقذ هذا وأحنو على ذاك‪ ،‬وقد أقدم ألنه يستحق أن يتجنب الحيرة‬
‫ويحد الفقر‪ ،‬وأناس بعينهم لن أعطيهم بغض النظر عن مقدار ما ينقصهم‪،‬‬
‫حتى لو أعطيت الثروة سيكون هناك نقص‪ ،‬وآخر من سأقدم لهم‪ ،‬وسوف‬
‫أدوس على آخرين! ال يمكن أن أهمل في هذه المسألة‪ ،‬فأنا ال أحرص على‬
‫ذكر األسماء حين ُأعطي(‪.((42‬‬

‫نظرا ألتلقى ال ألبذر‪ ،‬ودع‬


‫نظرا لتتلقى؟»‪ ،‬بالفعل ً‬
‫‪ 2-24‬أنت تقول‪« :‬لماذا تعطي ً‬
‫العطية تمضي إلى مكان ال تحتاج إلى أن تلتمس فيه العودة بل ترد فيه‪ ،‬ودعنا‬
‫نودع هذا الكنز المدفون في األعماق الذي لن تحفره إال في الضرورة‪.‬‬

‫لمن يطلبون أن يوجه‬


‫‪ 3-24‬حسنًا! كيف تعظم المادة لعملها من بيت رجل ثري! َ‬
‫السخاء نحو الذين يرتدون التوجا فقط؟ إن الطبيعة تطلب مني أن أكون‬
‫أحرارا‪ ،‬أحرار المولد‬
‫ً‬ ‫مفيدً ا للبشر‪ ،‬وهل من اعتبار إن كان هؤالء عبيدً ا أو‬
‫أو محررين‪ ،‬يمتلكون حرية قانونية أو يمنحهم صديق هذه الحرية؟ فأينما‬
‫يكون البشر فهناك مكان للفضل‪ ،‬وهكذا يمكن أن يوزع المال حتى على‬
‫اختبارا في التحرر‪ ،‬الذي قد ُيسمى كذلك ليس‬
‫ً‬ ‫عتبة المرء‪ ،‬ويمكن أن يكون‬
‫لكونه قد ُدفع لتحرير األفراد‪ ،‬بل ألنه متجذر في العقل الحر‪ ،‬والحرية في بيت‬
‫الحكيم ال ُتمنح للمشين‪ ،‬أو من ال يستحق وال تنفد أبدً ا‪ ،‬كما أنها ليست في‬
‫خزان مملوء تتدفق كلما وجدت َمن يستحق‪.‬‬

‫‪(423) cf. On Benefits 1.1.2‬‬

‫‪339‬‬
‫‪ 4-24‬وليس من سبب لما تسمعه خطأ لما يقال بأخالقية إقدام وبحدة من الذين‬
‫يتحمسون للحكمة‪ ،‬وانتبه لهذا أولاً ‪ ،‬فإن هناك فار ًقا بين َمن يتوق إلى‬
‫الحكمة و َمن حازها؛ فاألول يقول لك‪« :‬أنا أقول األفضل وال أزال أتمرغ في‬
‫أشياء رديئة عدة‪ ،‬وال يمكنك أن تتبعني‪ ،‬فأنا أستنهض نفسي في هذه اللحظة‬
‫وأشكلها وأرتفع إلى مستوى المثال العالي‪ ،‬وإذا تقدمت بقدر ما افترضت‬
‫لنفسي‪ ،‬فإنني أتوخى أن تتوافق أفعالي مع كلماتي»‪ ،‬وأما الذي وصل إلى‬
‫مركز الخيرية اإلنسانية فسوف يتعامل معك على نحو مختلف وسيقول لك‪:‬‬
‫«أولاً ال تسمح لنفسك أن تتجاوز بالحكم على األخيار‪ ،‬فإن أتحول بالفعل‬
‫ما يثيره األشرار»‪ -‬وهذا دليل على صوابي‪.‬‬

‫‪ 5-24‬ولكن كي أعطيك ما ال أضن به على مخلوق‪ ،‬أسمع ما أعد به وكيف أقيم‬


‫أخيارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫خير‪ ،‬فلو كانت خير ًة فستجعل الناس‬
‫كل شيء‪ ،‬فأنا أنكر أن الثروة ٌ‬
‫خيرا‪ ،‬فأنا أنكر الثروة‬
‫وكما أن األشرار يعلقون بعمل ال يمكن أن يطلق عليه ً‬
‫بهذا االسم‪ ،‬ولكنني أقبل أن تكون الثروة مكتسبة ونافعة وتجلب فائدة عظيمة‬
‫للحياة‪.‬‬

‫خيرا‪ ،‬واسمع ما أسهم به في حالة اختلفت الثروة‬


‫‪« 1-25‬واسمع لماذا ال أعتبر الثروة ً‬
‫عما يفعله الناس‪ ،‬وترى أننا نتفق على الحصول عليها(‪ ،((42‬فضعني في‬
‫عن َّ‬
‫بيت سخي‪ ،‬وضعني في المكان الذي ُيستعمل فيه الذهب والفضة‪ ،‬فلن أنظر‬
‫إلى نفسي؛ ألن األشياء حتى لو كانت معي فهي ال تزال خارجي‪ ،‬حولني إلى‬
‫جسر سوبليكيان ‪ ((42( Sublician bridge‬وارمني بين المحتاجين‪ ،‬ولن أنظر‬
‫إلى نفسي؛ ألنني التحقت بأولئك الذين يمدون أيديهم من أجل الصدقات‪،‬‬
‫وما الفرق بين إذا كان المرء يفتقر إلى قطعة خبز وإذا كان يفتقر إلى القدرة‬

‫‪(424)on meditatio in Seneca see Newman, 1988, 1989; Bartsch 2006, 230–81.‬‬
‫موقعا يتردد عليه المتسولون‪.‬‬
‫(‪ ((42‬أقدم جسر في روما‪ ،‬وصار ً‬

‫‪340‬‬
‫على الموت؟ فإنني أفضل هذا البيت المترف على الجسر‪.‬‬

‫‪ 2-25‬ضعني بين البدع الواضحات والحاشية المترفة‪ ،‬فلن أصدق نفسي أنني سعيد‬
‫ناعما وألن األرجوان مفروش تحت أقدام ضيوفي‪ .‬وغير‬
‫ملبسا ً‬
‫ألنني أتزيا ً‬
‫تعيسا إن وضعت عنقي المتعب في حفنة تبن‪ ،‬ولو ارتميت‬
‫فراشي‪ ،‬ولن أكون ً‬
‫على وسادة المدرج الروماني المرقعة التي يتسرب الحشو منها‪ ،‬حسنًا؟ وإنني‬
‫أفضل استعراض حالة ذهني وأنا أتزيا بالتوجا والعباءة بدلاً َمن أن تكون‬
‫كتفي المسنونة عاري ًة أو نصف مغطاة‪.‬‬

‫‪ 3-25‬دع أيامي تمضي وفق تضرعي‪ ،‬ودع جولة البهجة تلو األخرى‪ ،‬ولن أتعجرف‬
‫بسبب هذا‪ ،‬وحول هذه األوقات المناسبة إلى عكسها‪ ،‬ودع عقلي ُيغتصب‬
‫من كل جهة بالفقدان والحزن والهجمات المختلفة‪ ،‬وال تدع ساعة دون‬
‫نواح‪ ،‬ولن أقول لهذا السبب بائس وسط الظروف البائسة‪ ،‬وليس لهذا السبب‬
‫ٍ‬
‫سألعن اليوم‪ ،‬ولن ُأسمي يو ًما مررت به (أسود)‪ ،‬فإنني أفضل أن ُألطف‬
‫أفراحي بدلاً من أن ُأقاوم أحزاني»‪.‬‬

‫فاتحا لكل األمم‪ ،‬وأمتلك‬


‫‪ 4-25‬سيقول لك سقراط المعروف ما يلي‪« :‬اجعلني ً‬
‫عربة ليبر ‪ ((42( Liber‬المترفة تنقلني في النصر من مطلع الشمس إلى طيبة‪،‬‬
‫ودع الملوك يطلبون القوانين مني‪ ،‬فأنا أفكر في نفسي كإنسان عندما يحييني‬
‫واحد وكإله حين يحييني الجميع(‪ ،((42‬ومن ثم أتبع هذا األساس الشامخ مع‬
‫التحول الفعلي‪ ،‬دعني ُأوضع على عوامة شخص آخر؛ ألزين موكب الفاتح‬
‫المتوحش المتغطرس‪ ،‬ولن أتواضع أكثر حين ُأحمل في عربة آخر كما كنت‬
‫مغزوا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫أقف في عربتى‪ .‬حسنًا؟ ومع ذلك فأنا أفضل أن أكون غاز ًيا ال‬

‫(‪ ((42‬ليبر (الموصوف بديونسوس كانت أمه سيميلي ‪ Semele‬من طيبة) وكان المبدع األسطوري لموكب النصر‪ .‬انظر‬
‫‪.Pliny Natural History 7.191‬‬
‫(‪ ((42‬موضوع النصر الروماني الذي ُيذكر فيها العبد المنتصر “انظر خلفك! وتذكر أنك إنسان!”‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫‪ 5-25‬وسألقى نظرة على مملكة الثروة برمتها‪ ،‬ولو منحت فرصة لالختيار سآخذ ما‬
‫هو أفضل‪ ،‬ومهما يكن طريقي سيأتي باألحسن‪ ،‬ولكني أفضل أن تأتي األشياء‬
‫األيسر واألكثر متعة‪ ،‬واألشياء األقل المشقة في التعامل معها»‪ .‬وليس من‬
‫سبب يجعلك تعتقد أن أي فضيلة تأتي دون جهد‪ ،‬فبعض الفضائل يحتاج إلى‬
‫وخز واآلخر إلى لجم‪.‬‬

‫‪ 6-25‬وكما أن الجسم يقف على المنحدر‪ ،‬فعلى المرء أن يواجه هذا الدفع‪ ،‬وكذلك‬
‫بعض الفضائل في حالة انحدار وبعضها اآلخر انحدر‪ ،‬أو ليس هناك شك أن‬
‫هناك تسل ًقا وجهدً ا ونضالاً من أجل التحمل والشجاعة والمثابرة‪ ،‬فكيف‬
‫تواجه الفضائل األخرى األمور الصعبة وتتغلب على الحظ؟‬

‫منحدرا للحرية واالعتدال واللطف؟ ففي‬


‫ً‬ ‫واضحا أن هناك طري ًقا‬
‫ً‬ ‫‪ 7-25‬حسنًا! أليس‬
‫الحاالت األخيرة نكبح عقولنا من االنزالق لألمام‪ ،‬وفي الحاالت الالحقة‬
‫نعظها ونحفزها بشدة‪ ،‬ولذلك سنطبق على الفقر تلك الفضائل الجريئة التي‬
‫تعرف كيف تقاتل‪ ،‬وسنطبق على الثروة الفضائل المضنية التي تسير على‬
‫رؤوس األصابع وال تعبأ بحملها الثقيل‪.‬‬

‫‪ 8-25‬وفي ضوء هذا التمييز‪ ،‬فإنني ُأ ِّ‬


‫فضل أن أستعمل تلك الفضائل التي ُتمارس‬
‫بهدوء عن تلك التي تثبت بالدم والعرق‪ ،‬وكذلك يقول الحكيم‪« :‬ال أعيش‬
‫بطريقة مختلفة أكثر مما أتحدث‪ ،‬ولكنك تسمع على نحو مختلف‪ ،‬إن ما‬
‫يصل إلى أذنيك هو صوت كالمي وال تتمحص ما يعني»‪.‬‬

‫‪« 1-26‬وما الفرق بيني واألحمق وبينك والحكيم إذا رغبنا في الحصول على‬
‫الثروة؟»‪ ،‬إنه فارق شاسع‪ ،‬فأنت ترى أن الثروة في حالة الحكيم هي في‬
‫العبودية‪ ،‬وفي حالة األحمق هي في السيطرة‪ ،‬وال يعطي الحكيم إجاز ًة للثروة‬
‫حيث تمنحك الثروة كل طرق اإلجازات! وتتعود على الثروة وتتعلق بها كما‬
‫‪342‬‬
‫لو أن أحدهم وعدك بملكية أبدية لها‪ ،‬والحكيم ُيدرب نفسه على الفقر حين‬
‫يقف وسط الثروة‪.‬‬

‫‪ 2-26‬فالقائد ال يأمل السالم وهو ال يعد نفسه لحرب حتى لو لم تندلع وتعلن‪،‬‬
‫وبعجرفتكم تركتم أنفسكم بال معنى بالمنزل الجميل كما لو كان ال يطوله‬
‫انهيار أو ال يحترق‪ ،‬وبالثروة كما لو كانت قد تسمو فوق كل خطر‪ ،‬وكما لو‬
‫كان يعظم على قوة الحظ أن تفنيها‪.‬‬

‫وتالعب بثروتك‪ ،‬وال تتطلع إلى مخاطرها‪ ،‬مثل‬


‫ْ‬ ‫اسكن في وقت الفراغ‪،‬‬
‫ْ‬ ‫‪ 3-26‬‬
‫الشعوب الغريبة التي ُحوصرت وليس لديهم معرفة بمحركات المعركة‪،‬‬
‫وغال ًبا يراقبون بتكاسل محاوالت محاصريهم‪ ،‬وال يفهمون غاية هذه األشياء‬
‫التي ُبنيت في المسافة‪ ،‬والشيء نفسه يحدث لك‪ ،‬إنك تنمو هزيلاً بين‬
‫ممتلكاتك‪ ،‬وال تنظر إلى كثرة الحوادث التي ُتهدد من كل صوب‪ ،‬وتتوقع‬
‫حتى اآلن أن تحمل الغنائم الثمينة‪ .‬وكل َمن يسلب ثروة الحكيم يترك له كل‬
‫مبتهجا في الظروف الحالية وال يهتم بالمستقبل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما لديه؛ ألن الحكيم يعيش‬

‫‪ 4-26‬يقول سقراط و َمن لهم القدرة والمشاعر نفسها فيما يتعلق بالشؤون اإلنسانية‪:‬‬
‫«ال يوجد شيء»– «ال شيء قد أقنع به نفسي بشكل كامل أكثر من ألاَّ أحول‬
‫سلوك حياتي في اتجاه آرائكم‪ ،‬أجمع كلماتك المعتادة من كل جانب‪ ،‬فلن‬
‫أظن أنك تهاجمني‪ ،‬بل األحرى ستبكي مثل األطفال البائسين»‪.‬‬

‫‪ 5-26‬هذا ما سيقوله المرء الذي حقق الحكمة الذي ُعصم عقله من الرذائل‪ ،‬والذي‬
‫يأمره بأن يبكي على اآلخرين‪ ،‬وال يكرههم بل يقدم لهم دواء‪ ،‬ولهذا يضيف‬
‫اآلتي‪« :‬تقييمك لي ال يؤرق جانبي؛ ألنك تكره كل أمل لألحسن‪ ،‬وأنت‬
‫ال تؤذيني‪ ،‬فليس الذين يحولون المذابح يؤذون األرباب‪ ،‬ومع ذلك النوايا‬
‫السيئة والعزم الرديء بين حتى لو لم يحدث ضرر»‪.‬‬
‫‪343‬‬
‫‪ 6-26‬إنني أعاني من هالوسك‪ ،‬كما يتحمل جوبتر العظيم سخافات الشعراء‪،‬‬
‫فبعض الشعراء وضع لجوبتر أجنحة واآلخر وضع له قرو ًنا‪ ،‬وبعضهم جعله‬
‫ظالما‬ ‫ً‬
‫وحشا ضد األرباب‪ ،‬وبعضهم جعله ً‬ ‫عاهرا وعربيد ليل‪ ،‬وبعضهم جعله‬
‫ً‬
‫للبشر‪ ،‬وبعضهم جعله مغتص ًبا لألحرار وعشيرتهم‪ ،‬وبعضهم جعله قاتلاً ألبيه‬
‫ومنتزعا لعرش اآلخرين بما فيهم أبيه‪ ،‬هؤالء لم يحققوا شيئًا إذا اعتقد البشر‬
‫ً‬
‫أن األرباب كذلك‪ ،‬ويفقدون إحساسهم بالخجل نحو اإلثم‪.‬‬

‫‪« 7-26‬ورغم أن كلماتك ال تؤذيني‪ ،‬ال أزال أنصحك لصالحك(‪ ،((42‬فانظر إلى‬
‫واعلم أنهم يداومون على‬
‫ْ‬ ‫الفضيلة‪ ،‬وثق في الذين يتبعونها منذ زمن بعيد‪،‬‬
‫شيء عظيم تظهر عظمته يو ًما بعد يوم‪ ،‬اعبد الفضيلة ذاتها كما تعبد األرباب‪،‬‬
‫اعبد الفضيلة بحماس الكهنة‪ ،‬وحين تذكر الكتابات المقدسة أظهر الفضل‬
‫بلسانك ‪ ،fauete linguis‬وال يؤخذ هذا التعبير كما يعتقد معظم الناس من‬
‫إظهار الفضل(‪ ،((42‬بل األحرى من سلطة الصمت‪ ،‬ولذا ُتودي الطقوس‬
‫بشكل صحيح إلى تالشي األصوات الرديئة‪ ،‬بل بالضرورة أن ترضخ حين‬
‫ينطق الكاهن شيئًا‪ ،‬وأن تركز وتمسك عليك لسانك وأنت تسمع‪.‬‬

‫‪ 8-26‬ولكن حين يتحشرج امرؤ بكلمات األكاذيب الرسمية‪ ،‬وحين يمزق الخبير‬
‫عضالت ذراعيه وكتفيه برفعة خفيفة ليده‪ ،‬وحين تزحف امرأة نحو الشارع‬
‫على ركبتيها تروي عويلها‪ ،‬والرجل الكهل يتزيا بالكتان ويقبض على إكليل‬
‫الغار والفانوس في وضح النهار ويبكي غاض ًبا من أحد األرباب‪ ،‬فهرول‬
‫واسمع‪ ،‬وتأكد أنه رباني ُيغذي دهشة بعضه اآلخر‪.‬‬
‫ْ‬
‫‪ 1-27‬انظر! إنه سقراط الذي أعلن من السجن الذي طهره بدخوله‪ ،‬وصار أكثر‬

‫(‪ ((42‬تستحضر التفاصيل األديان الشرقية المتعددة بما فيها عبادة إيزيس (حشرجة الموت) وسيبيل ‪( Cybele‬تمزق الذات)‪.‬‬
‫‪(429) in Aristophanes’ Clouds.‬‬

‫‪344‬‬
‫أخالقي ًة من أي مجلس للسناتو‪« :‬ما هذا الجنون‪ ،‬وأي طبيعة تلك التي تعادي‬
‫األرباب والبشر وتشوه الفضائل وتنتهك األمور المقدسة بخطاب الذع؟ ُأثني‬
‫على األخيار إن استطعت وإن لم تستطع فال تعقب‪ ،‬وإن فضلت أن تمارس‬
‫حريتك المخزية في الخطاب فهاجم شخص آخر‪ ،‬فحين توجه جنونك إلى‬
‫السماء لن أقول إنك تدنس المقدسات‪ ،‬بل ضيعت وقتك»‪.‬‬

‫‪ 2-27‬إني أمد أريستوفانيس بمواد النكات في بعض المناسبات(‪ ،((43‬وجماعة‬


‫علي‪ ،‬وقد استضاءت‬
‫بأكملها من الشعراء الهزليين قد نشروا طرفهم السامة َّ‬
‫علي‪ ،‬وأنت ترى أنه من النافع أن ُتنقح هذه‬
‫فضيلتي باألشياء التي حملوها َّ‬
‫الطرف و ُتمحص‪ ،‬وال أحد يفهم حجمها أفضل من الذين طعنوا بها وشعروا‬
‫بقوتها‪ ،‬وال يعرف أحد صالبة الصخرة أفضل من الذين تحطموا عليها‪.‬‬

‫‪ 3-27‬إني أقدم نفسي مثل نتوء وحيد في بحر ضحل‪ ،‬يجلده الموج من أي حدب‬
‫يهيج فيه‪ ،‬وال يحركونه من مكانه أو يستأصلونه بهجوهم الذي ال نهاية‬
‫واصنع هجومك‪ ،‬فسوف أهزمك‬
‫ْ‬ ‫علي‬ ‫َّ‬
‫انقض َّ‬ ‫له عبر أزمنة عدة لسبب ما‪،‬‬
‫بالتحمل‪ ،‬فالشيء الذي يصطدم بأشياء صلدة ال يمكن التغلب على ممارسة‬
‫قوته لضرره‪ ،‬فأبحث في المستقبل عن بعض األدوات اللينة والنافذة لتتسلح‬
‫أمامه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كاف لتنقب عن الصفات الرديئة لآلخرين‪ ،‬وتطلق‬ ‫وقت‬
‫‪« 4-27‬ولكن هل لديك ٌ‬
‫األحكام على اآلخرين؟ لماذا يعيش هذا الفيلسوف في سخاء؟ ولماذا يتناول‬
‫هذا الطعام بأناقة؟ هل تتعقب بثرات الناس حين تكفرها قروح عدة؟ وهذا‬
‫كما لو كان المرء يسخر من الشامات والثآليل على األجسام الجميلة‪ ،‬في‬
‫حين يأكله الجرب‪.‬‬

‫(‪ ((43‬لتخلي ديمقريطس عن الثروة انظر ‪ ،On Providence 6.2‬وللنظر في الطرف المتشابهة انظر ‪Diogenes Laertius‬‬
‫)‪. 3.3 (Plato), 5.4 (Aristotle), 10.7 (Epicurus‬‬

‫‪345‬‬
‫‪ 5-27‬اتُّهم أفالطون بالسعي نحو المال‪ ،‬وأرسطو بتلقيه‪ ،‬وديموقريطس بتجاهله‪،‬‬
‫وفايدروس(‪((43‬‬
‫وأنا‬ ‫وأبيقور باستهالكه‪ ،‬وتتهمني فيما يتعلق ألكيبياديس‬
‫أطلق عليك أسعد الناس– بمجرد أن تكون في موضع حتى لتقلد حتى‬
‫رذائلنا!‬

‫‪ 6-27‬ولماذا ال ُتلقي نظرة في أحوالك الرديئة التي تخترقك من كل جانب ويهاجمك‬


‫تع حالك‪ ،‬فإن‬
‫بعضها من الخارج ويؤججك بعضها من الداخل؟ حتى لو لم ِ‬
‫األمور اإلنسانية لم تصل إلى حد أن توفر لك ً‬
‫فراغا ُتطلق فيه الحرية لممارسة‬
‫لسانك بإيذاء الناس األفاضل‪.‬‬

‫تعبير ال يتوافق مع حظك‪ ،‬مثل الذين يجلسون‬


‫ٌ‬ ‫‪« 1-28‬أنت ال تفهم هذا‪ ،‬ويتلبسك‬
‫في السيرك أو المسرح وعندهم حالة وفاة في العائلة ولم يسمعوا بعد الخبر‬
‫التعس‪ ،‬إنني أتأمل من فوق ربوة عالية وأرى العواصف التي تهددك‪ ،‬تطلق‬
‫العنان لعبابها بعد برهة‪ ،‬أو تقترب بالفعل وتتخطفك أنت وأشياءك‪ ،‬وماذا‬
‫تع من ذلك إال القليل منه‪ ،‬فإن الزوبعة تغزل عقلك‬ ‫ً‬
‫أيضا؟ يقينًا رغم أنك لم ِ‬
‫وتشوشه‪ ،‬كما لو كنت تتخلى عن األشياء القديمة وتبحث عنها نفسها في آن‪،‬‬
‫ويحلق عقلك على ارتفاع وينزلق إلى أعماق في ٍ‬
‫آن‪...‬‬

‫* * *‬

‫(‪ ((43‬اثنان من تالميذ سقراط الصغار‪ ،‬حيث اتُّهما بالشذوذ الجنسي )‪ ،(e.g., Lucian Symposium 39‬ولمزيد من التهم‬
‫التي حيكت ضد سينيكا انظر مقدمتي للرسالة‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫الربانية‬
‫عن العناية َّ‬

‫‪347‬‬
348
‫مقدمة‬
‫العنوان والموضوع‪:‬‬
‫األول الذي‬
‫إن العمل المعروف (إلى لوكيلوس عن العناية) ُيشار إليه في المخطوط َّ‬
‫ال يزال باق ًيا بعنوان أطول وهو (لماذا تحدث المصائب لألخيار رغم وجود العناية؟)‪،‬‬
‫ويتجذر هذا العنوان من السؤال الذي نخبر عنه في سطور العمل المفتوحة حيث يسأل‬
‫لوكيليوس سينيكا(‪ ،((43‬ثم يمضي سينيكا في التفسير (‪ ،)1.1‬وقد أجاب عن سؤال‬
‫صديقه بعمل مطول هو (عن العناية)– وهذا لم يكتب هنا‪ ،‬وال يوجد دليل على كتابته‬
‫مطل ًقا‪ ،‬أو أنه فعل ذلك‪ ،‬وال شك أن سينيكا قد أعطى مقومات مذهبه الذي نقرؤه عن‬
‫شيشرون في كتاب طبيعة اآللهة‪ ،‬وهو المصدر الكامل الباقي عن الالهوت ومذهب‬
‫نتاج‬
‫العناية الرواقي‪ ،‬وللمذهب األبيقوري المناقض للرواقية‪ ،‬والذي يرى أن العالم ٌ‬
‫للصدفة‪ ،‬وأن اآللهة ال ُتعنى بالشؤون اإلنسانية(‪.((43‬‬
‫ويعلن سينيكا أن العمل قد ُكتب بالفعل‪ ،‬وهو في الحقيقة أقصر المقاالت الكاملة‬

‫(‪ ((43‬قارن العنوان الذي استعمله الكتانتيوس ‪ Lactantius‬وهو “لماذا تحدث األشياء الرديئة لألخيار رغم وجود العناية”‬
‫‪.Divine Institutes 5.22.11‬‬
‫(‪ ((43‬عن العناية في التراث الفلسفي القديم وعند سينيكا انظر ‪Dragona-Monachou 1994 (with discussion of‬‬
‫‪the present work, 4440–42); also Traina 1997, 7–20; Dionigi 1997, 54–70. For Stoic texts, see‬‬
‫‪SVF II, 1106–86.‬‬

‫‪349‬‬
‫الباقية(‪ ،((43‬وهو يتبع مجالاً محد ًدا أصبح معرو ًفا منذ ليبنتز بمسألة ثيوديسيا (العدالة‬
‫اإللهية ‪ )theodicy‬وهي كيف أن وجود األشياء الرديئة ‪-‬أو الشر في االصطالحات‬
‫التي أعقبت المسيحية‪ -‬في العالم يمكن أن تتوافق مع العالم الذي شكلته األلوهية‪،‬‬
‫وتركز الرسالة على الالهوت وتفسر لماذا هذا العمل من بين النصوص السينيكية‬
‫المقتبسة في األدب المسيحي المبكر حتى لو كانت األفكار المسيحية عن الخطيئة‬
‫األصلية والحياة األبدية والحكم اإللهي مغايرة للنقاش(‪.((43‬‬
‫وهناك أثر قد يذكر عند خريسبوس وبعض الرواقيين اآلخرين في تفسير وجود‬
‫األشياء الرديئة على مثال المتناقضات الضرورية للخيرات أو المنتوجات الصغرى‬
‫للخير األكبر(‪ ،((43‬ويشير سينيكا إلى مثل هذه الموضوعات في كل كتاباته‪ ،‬وهو‬
‫يلفت في أحد المناقشات على األرباب بأنها «تهمل البشر أحيا ًنا» ‪،Letters 95.50‬‬
‫ُ‬
‫وال يحتفي سينيكا في هذا العمل بشكوى لوكيليوس على اإلطالق التي تنظر إلى‬
‫األشياء الرديئة التي تحدث لألخيار‪ ،‬ولكنه يناقش على نحو مفارق أن األشياء الرديئة‬
‫ليست فقط ليست سيئة‪ ،‬بل هي من أعظم ذخائر العناية اإللهية‪ ،‬والمشكلة مثل غيرها‬
‫من المعضالت التي تعالجها الرواقية‪ ،‬وهي تختزل لمسألة التعرف الحق على األشياء‬
‫القيمة وهي ليست كذلك‪.‬‬
‫ويضيق نطاق العمل باصطالح آخر وهو (األخيار ‪ ،)boniuiri‬والتركيز على األخيار‬
‫محفزٌ بحقيقة أن األشياء الرديئة ينبغي ألاَّ تحدث لهم من وجهة نظر لوكيلوس‪ ،‬ولذا‬
‫فإن تساؤل لوكيلوس يبدو أنه يعرض ألعظم التناقضات الذاتية الصارخة لمذهب‬
‫العناية اإللهية‪ ،‬أما التساؤل من جانب سينيكا هو فرصة لتفسير تجانس األخيار وسوء‬

‫(‪ ((43‬النظرية غير المقبولة بأن هذا العمل غيركامل ناقشها ورفضها تيرانا ‪ Traina‬عام ‪.1997‬‬
‫(‪ ((43‬عن العناية (ورسالة سينيكا في التراث المسيحي) ‪Traina 1997, 13–20; on Augustine in particular,‬‬
‫‪Dionigi 1997, 51–54, 62–70.‬‬
‫‪(436) Aulus Gellius Attic Nights 7.1.1–13 (= SVF II, 1170 = LS 54Q); Plutarch On Stoic Contradictions‬‬
‫‪1050e (= SVF II, 1176).‬‬

‫‪350‬‬
‫الحظ وعالقته بالمنفعة األخالقية واألبستمولوجية‪ ،‬وهو كذلك لمن يتحملونه‬
‫ويتطلعون إليه‪.‬‬

‫سينيكا ولوكيليوس والجمهور‪:‬‬


‫إن رسالة (عن العناية) هي العنصر األول من مجموعة مقاالت (محاورات) سينيكا‪،‬‬
‫ولكن المقاالت ليست مرتب ًة ًّ‬
‫زمنيا‪ -‬فعلى سبيل المثال رسالة (عزاء إلى هلفيا) هي من‬
‫متأخرا‪ ،‬وحين نتحول إلى سؤال أين الموضع المناسب‬
‫ً‬ ‫الرسائل األولى ترتب ترتي ًبا‬
‫لرسالة عن العناية الربانية في حياة سينيكا‪ ،‬فليس من السهولة تحديد زمنها في تاريخ‬
‫سينيكا الذي يعج بالتراجيديا(‪((43‬؛ فهناك عديد من الظروف تحمل كتابتها إلى سنوات‬
‫المنفى كما يعتقد قلة من الباحثين‪ ،‬وهذا احتمال ضعيف‪ ،‬أو ترجح زمن كتابتها إلى‬
‫فترة تواجده في بالط نيرون أكثر من فترة تقاعده عام ‪62‬م في سنواته األخيرة‪.‬‬
‫وإن أوضح داللة لتاريخ العمل هو تكريسه الرسالة إلى لوكيليوس‪ ،‬وهو صديق‬
‫سينيكا المخاطب في رسالتين كبيرتين في سنواته األخيرة‪ ،‬وهما‪ :‬تساؤالت طبيعية‬
‫‪ ،Natural Questions‬ورسائل إلى لوكيليوس ‪ .((43( Letters to Lucilius‬وقد‬
‫تلقي رسالة عن العناية الضوء على لوكيليوس في دور الجاحد الذي يشكو العالم‪،‬‬
‫والحق أن المعضلة تكمن في قيمه الخاطئة‪ ،‬وهذا يمنح سينيكا الفرصة ليعد صديقه‬
‫قائلاً ‪« :‬سوف أصالحك مع اآللهة» ‪ 5.1‬وراجع ‪ ، Letters 74.10–11‬ويجري تصوير‬
‫لوكيليوس في موقف القارئ الذي يفشل في تقدير اإلمكانية النافعة للمصيبة‪ ،‬وبالفعل‬
‫يصبح المحاور الرئيس مجهولاً في سير الرسالة‪ ،‬و ُيعالج أحيا ًنا بصيغة الجمع‬
‫المخاطب (أنتم)‪ ،‬كما في ‪ 6.4‬كمثال‪.‬‬
‫وتكشف هذه الرسالة عن عالقة واضحة بين سينيكا ومعاصريه األرستقراطيين‬
‫في ضوء تعرضهم لتقلبات الحظ المفاجئة في عهد يوليو كالوديان‪ ،‬وال سيما النظر‬

‫‪(437) Griffin 1992, 396, 400.‬‬


‫(‪ ((43‬يبدو أن مواجهة لوكيليوس تكررت في ‪.Letters 96.1‬‬

‫‪351‬‬
‫إلى مدى بساطة رؤية اإلمبراطورية الرومانية بتماسكها بالعالم ورؤية اإلمبراطور‬
‫ر ًّبا‪ .‬ورسالة العمل هي تحمل الفاجعة‪ ،‬والتعامل معها برفضها‪ ،‬وليس رفض قيمة‬
‫المصيبة باعتبارها شر بل بتحويلها إلى خير أو حتى البحث عنه بها‪ ،‬وبصرف النظر‬
‫عن االقتباسين من معاصره ديميتريوس الكلبي (‪ ،)3.3, 5.5‬ويناقش سينيكا المصائب‬
‫التي عانى منها كاتو واألبطال الجمهوريون اآلخرون‪ ،‬وكذلك سقراط‪ ،‬وهذا المجال‬
‫الرحب للصور المتباينة للمصيبة ُيكسب العمل شكلاً عا ًّما‪ ،‬وتتعدد جوانب العزاء‪.‬‬

‫بنية النقاش‪:‬‬
‫وصفت رسالة عن العناية بأنها مقتضبة في محتواها وواسعة في مواربتها(‪،((43‬‬
‫نوعا من الخطاب الدفاعي لما حدده الباحثون فيها من استهالل‬
‫وتتضمن الرسالة ً‬
‫(‪ )1‬وسرد (‪ ،)2‬وتقسيم المواضيع (‪ ،)1.3‬والجدل (‪ ،)2.6-2.3‬ونهاية الخطاب‬
‫(‪ ،)9-3.6‬ولكن ُيفاجئ سينيكا القارئ بتحوالت غير متوقعة على الغالب‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل المثال بعد اإلعالن في األسطر االفتتاحية أنه لن يكتب عملاً عن العناية (‪)1.1‬‬
‫فإنه يشرع مباشرة في عمل وصف مهيب حي للحركات التي تشبه القانون في الطبيعة‬
‫(‪ )4 -2.1‬ليستدعي تعجب القارئ‪ ،‬ويعين المشهد لمنظر أرضي‪.‬‬
‫وأحجم سينيكا عن تحديد وجهة نظره بتميز إلى أن قدم بعض األفكار العامة التي‬
‫تشكل بنية الرسالة (‪ ،)2.12 -5.1‬وفوق هذا استعملت األرباب الحب القاسي‬
‫«ودافعهم أن يروا العظماء يقاسون من بعض المصائب (‪ ،)7.2‬ومثاله الرئيس انتحار‬
‫تقييما لداللة ومزايا انتحار كاتو‪ ،‬وهو يؤكد أن‬
‫ً‬ ‫كاتو في أتيكا عام ‪ 46‬ق‪.‬م‪ ،‬وهو يقدم‬
‫ومؤخرا يبدو أن سينيكا‬
‫ً‬ ‫كاتو فاز بالحرية وأن دور األرباب هو المشاهدة (‪،)10.2‬‬
‫يستغل الجانب البصري القوي للعناية الربانية وهو البصيرة الالتينية والتي غابت عن‬
‫الرؤية اليونانية‪.‬‬

‫‪(439) Wright 1974, 48–54; Abel 1967, 97–123.‬‬

‫‪352‬‬
‫إن مخطط سينيكا (‪ )1.3‬بمثابة دليل واضح في البداية على األقل‪ ،‬وهو يقول إنه‬
‫سوف يسعى إلى توضيح «كيف أن األشياء الرديئة ليست كذلك»‪ ،‬ومن الجلي أن‬
‫سؤال لوكيليوس ورد سينيكا يتكرران على طول العمل بلغة ال تكف عن التحول‪،‬‬
‫ويقطع المخطط الموضوع إلى نقاط منفصلة تحدد بالفعل البنية األساسية للرسالة‬
‫تقريبا في الفقرات اآلتية (‪،)2-1.6 ،11-7.5 ،6-3.5 ،2-1.5 ،4.16-2.3‬‬
‫وضوحا كلما تكشف العمل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومع ذلك أصبحت التحوالت أقل‬
‫وتضيف الوحدات واإليقاعات األخرى الشعور باالستمرارية‪ ،‬وتقدم التناظرات‬
‫الوظيفية من األبوية واأللعاب الرياضية والعرض العسكري والمشهد المناقشة‬
‫التمهيدية في الفصول من األول والثاني وهي تتواتر و ُترى من زوايا مختلفة‪ .‬وقد‬
‫تتجسد دراسة رموز المصائب في القائمة المتكررة للنماذج األخالقية‪ ،‬خاصة في‬
‫تصاعد التساؤالت الخطابية المتكررة (‪ )14-5.3‬والتى فيها يقترن كل فرد بمثال‬
‫للسلوك المهين في مجال عام للفعل ذاته أو استعمال جزء الجسم ذاته‪.‬‬
‫ويقدم سينيكا متحدثين متباينيين للنص في سلسلة مونولوجات متباعدة بشكل‬
‫متسا ٍو‪ ،‬ونسمع الحظ والطبيعة إضافة إلى كاتو وديمتريوس والمحاور (‪،)14.3 ،3.3‬‬
‫وينجح تضاؤل المخطط الشكلي في الفصول الختامية بخطابين أكثر شمولاً ‪ ،‬األول‬
‫من واقعة فايثون ‪ Phaethon‬فى ‪ ،Ovid’s Metamorphoses 5.10–11‬واآلخر في‬
‫عرضا كاملاً لأللوهية التي‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وشكل الخطاب األخير‬ ‫صوت (الرب) ذاته (‪،)9-3.6‬‬
‫قد يسمح للقارئ خلسة أن يلقي نظرة على المظاهر المتعددة فيها مثل الطبيعة والحظ‬
‫والعناية والقدر والرب (‪ ،)cf. Natural Questions 2.45.2–3‬وفي السطور األخيرة‬
‫للعمل تماثل قائمة الصور المختلفة المختنقة للرب عناصر الطبيعي األربعة (الماء‬
‫والهواء والتراب والنار ‪ ،)9.6‬وهكذا نعود إلى قضية االنتحار بينما نستدعي رسم‬
‫مخطط الطبيعة في الفصل األول‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫المصيبة ومعرفة الذات‪:‬‬
‫وفي منتصف العمل تما ًما يمثل سينيكا الطبيعة وهو يفسر لماذا جعلت حياة كاتو‬
‫حبلى باألشياء المحزنة (‪ .)14.3‬ويكمن في عبارة الطبيعة الدرس الرئيس للعمل‪،‬‬
‫حيث تعتبر األشياء الرديئة حتى لو كانت محزنة ليست فردية في الحقيقة‪ ،‬والطبيعة‬
‫تريد من الكل أن يعرفها‪ ،‬ويبدو سينيكا في بعض األحيان بأنه يرى أن المصائب‬
‫مؤسفة للغاية (‪ ،)6.6 ،9.5‬ومن ثم مصائب األخيار متعمدة‪ ،‬وإرسالها بغية التعلم‪،‬‬
‫والمدرب الرئيس فيها الرب بمعونة القدر‪ ،‬فالرب يدرب األخيار «ليكونوا أفضل‬
‫ومتميزين بقدر إمكانهم» (‪ ،)7.2‬وليصبحوا مثل الرب بقدر ما يسمح لهم‪.‬‬
‫إن فكرة سينيكا «عن مشهد يستحق النظر إليه من الرب وهو يتفقد مخلوقاته»‬
‫موضوعا مركز ًّيا في خطاب التشاؤم المسيحي‪ ،‬وربما يكون تأثير سينيكا‬
‫ً‬ ‫أصبحت‬
‫أكثر واقعية على التراث المسيحي (انظر هامش ‪ ،)9.2‬إن رب سينيكا أدنى منزلة من‬
‫اإلنسان‪ ،‬كما يفسر ذاته في الفصل األخير من العمل «الرب أبعد عن معاناة األشياء‬
‫الرب بالمصائب ليختبر البشر (‪)8.4‬‬
‫ُّ‬ ‫الرديئة وأنت فوق معاناتها»‪ ،‬ولذا حين يبتلي‬
‫فإن لديه شيئًا جديدً ا تتعلم منه كيف ترتفع به فوق معاناتها‪.‬‬
‫ويركز سينيكا بالقدر نفسه على إمكانية أن يتعلم البشر من المصائب (‪ ،)3.4‬فإن‬
‫محاولة معرفة الذات حتى لو نزلنا إلى اللهيب مثل فايثون )‪ Phaethon (11.5‬تبرهن‬
‫على إرادة العبد لطاعة الرب و”يعرض نفسه على القدر” (‪ ،)8.5‬وهذا هو المعنى‬
‫الذي تكون فيه المصيبة في صالح الناس أنفسهم‪ ،‬حيث تحدث المصيبة وهي فرصة‬
‫للفعل وخاصة التفكير بطريقة تتفق مع طبيعة العالم‪ ،‬ولكن في تفسير المعنى الذي‬
‫تكون فيه المصيبة “في مصلحة الجميع” يلمح سينيكا باختصار إلى فكرة الرجال‬
‫والنساء األخيار في الحياة الرومانية العامة الذين يمكن أن ينفع كدحهم اآلخرين‬
‫درسا ألنهم ولدوا ليكونوا مثالاً (‪.)3.6‬‬
‫(‪ ،)4-3.5‬وتركيزه على كيف يعطي األخيار ً‬
‫ويقدم سينيكا هذا النهج إلمكان المصائب كجزء من غائية الطبيعة‪ ،‬وحين يقارن‬
‫‪354‬‬
‫الرجل الشجاع بالبحر الذي يلون كل الماء الذي يدخل إليه (‪ ،)1.2‬فإن التشبيه يزيد‬
‫تشبيها‪ :‬حيث يحدد العقل البشري والفضيلة في مشهد أوسع للطبيعة كما‬
‫ً‬ ‫عن كونه‬
‫يتجلى هذا في كتابه تساؤالت طبيعية‪ ،‬وهناك دروس جمة يمكن تعلمها كما في‬
‫المدرج الروماني وفي التضحية بالحيوان (‪ ،)8.6 ،8.1‬ويضع سينيكا كلماته عن‬
‫موضحا كيف يمكن لتحول األحداث المحزنة أو الكشف عنها‬
‫ً‬ ‫الغائية الطبيعة مواربة‬
‫فرصة سانحة لمعرفة الذات مثل المعرفة التي اكتسبها كاتو وفايثون على حد سواء‪.‬‬

‫‪355‬‬
:‫لمزيد من القراءة‬
Dragona-Monachou, Myrto. 1994. “Divine Providence in the
Philosophy of the Empire.” Aufstieg und Niedergang der römischenWelt
2.36.7:4417–90.

Setaioli, Aldo. 2007. “Seneca and the Divine: Stoic Tradition and
Personal Developments. ”International Journal of the Classical
Tradition 13:333–68.

356
‫لقد سألتني يا لوكيليوس ما الحجة إذا كان العالم محكو ًما بالعناية وأن تحدث‬ ‫‪ 1-1‬‬
‫أمور مكروهة للصالحين‪ ،‬وكان من الحري اإلجابة على هذا في سياق العمل‬
‫ٌ‬
‫الذي بره َّنا فيه أن األرباب في محيطنا‪ ،‬وأن العناية مسؤولة عن كل شيء على‬
‫يسيرا من العمل كله‪ ،‬وتسوي خال ًفا‬
‫ً‬ ‫جزءا‬
‫ً‬ ‫اإلطالق‪ ،‬وطالما تريد أن تقتطع‬
‫واحدً ا وتتخلى عن الحوار العريض الذي قدمناه‪ ،‬فإنني سأقوم بشيء هين‬
‫وهو أنني سأدافع عن قضية األرباب‪.‬‬

‫ومن التزيد في الوضع الراهن أن ُتظهر أن عملاً بمثل هذا العظم ال يوجد دون‬ ‫‪ 2-1‬‬
‫معا وتتحرك في هذا االتجاه‬
‫نوع من الحماية‪ ،‬وأن األجرام السماوية ال تجتمع ً‬
‫محل للفوضى ويصدم‬ ‫ٌّ‬ ‫بدافع الصدفة‪ ،‬واألشياء التي تدفعها الصدفة غال ًبا‬
‫بعضا‪ ،‬في حين تستمر هذه الحركة السريعة دون اصطدام ماثلة لقانون‬ ‫بعضها ً‬
‫أبدي‪ ،‬وهي تحمل معها أشياء البر والبحر على طول الخط‪ ،‬ولذلك تشع‬
‫األنوار وتتجلى وف ًقا لتدبير بعينه(‪ ،((44‬ومن التزيد ً‬
‫أيضا أن تبين أن هذا النظام‬
‫عشوائيا‪ ،‬وأن أشياء الصدفة ال يمكن التعبير عنها‬
‫ًّ‬ ‫منتوجا لمادة تتحرك‬
‫ً‬ ‫ليس‬
‫بدقة سوى أنها نتيجة لذلك‪ ،‬فيمكث وزن األرض الهائل دون حركة‪ ،‬وترى‬
‫وتصب البحار في الوديان فتلطف األرض‬
‫ُّ‬ ‫السماوات المتسعة تطير حولها‪،‬‬
‫وال ُتفيضها األنهار‪ ،‬فقد ُتولد األشياء الكبيرة من بذور صغيرة للغاية‪.‬‬

‫(‪ ((44‬يذكر سينيكا هنا ما ال يذكره في مادية تساؤالت طبيعية )‪. Natural Questions (e.g., 1.pref.15‬‬

‫‪357‬‬
‫وحتى تلك األشياء التي تبدو غير منتظمة وغير محتلمة‪ ،‬أعني المطر والسحب‬ ‫‪ 3-1‬‬
‫والصواعق الرعدية المنيرة‪ ،‬والنيران التي تتفجر من قمم الجبال المكفورة‬
‫والرواسي الهامدة والمضطرمة‪ ،‬وغيرها من أشياء تزعزع أطراف العالم‬
‫التي في حركة حول األرض‪ -‬وال حتى تلك األشياء التي تحدث فجأة دون‬
‫سبب وفيها أسبابها التي تخص حدوثها‪ ،‬فهي ال تقل عن األشياء في األماكن‬
‫الغريبة التي قد ُتعجب بالنظر إليها مثل المياه الدافئة بين المد واألرخبيالت‬
‫‪ )•( archipelagos‬المواخرة في البحر المفتوح الشاسع‪.‬‬

‫وإذا راقب امرؤ الشواطئ التي أفرزها البحر بانحساره وغمرها بعد وقت‬ ‫‪ 4-1‬‬
‫وجيز‪ ،‬فإنه سوف يؤمن بأن األمواج هي الموجود األول الذي جذبهما‬
‫معا‪ ،‬وفي باطنها بعض االضطراب غير المرئي‪ ،‬ومن ثم هي القوة الحاشدة‬
‫ً‬
‫والمحطمة الستعادة مواضع الشواطئ‪ ،‬والحقيقة رغم هذا تتصاعد األمواج‬
‫تناسبيا بالساعات واأليام‪ ،‬فهي تارة هادئة وأخرى مائجة وف ًقا لما‬
‫ًّ‬ ‫وتنخفض‬
‫يقدره نجم القمر الذي يتحكم في موجة المحيط‪ ،‬وهذه األشياء آمنة حدوثها‪،‬‬
‫ً‬
‫شكوكا حول العناية بل ستتنصل من الشكوى منها‪.‬‬ ‫ولن تثير‬

‫ٍ‬
‫ألناس فاضلين‪ ،‬إنك في حاجة إلى أن‬ ‫سأصالحك مع األرباب؛ فهم األفضل‬ ‫‪ 5-1‬‬
‫تعرف أن طبيعة العالم ال تسمح بضرر األشياء الخيرة على اإلطالق‪ ،‬فهناك‬
‫صداقة بين األخيار واألرباب ممهورة بالفضيلة‪ ،‬هل أتحدث عن الصداقة؟‬
‫ح ًّقا هناك قرابة وتشابه بينهما؛ ألن التباين الوحيد بين األخيار والرب هو‬
‫الزمن‪ ،‬فالخير تلميذ الرب ومحاكيه(‪ ((44‬ونسله الحق‪ ،‬والوالد النبيل يضع‬
‫مطالب قاسية على فضائله‪ ،‬فماذا يصنع اآلباء المجحفون!‬

‫(•) األرخبيل هو مجموعة من الجزر المتقاربة (المترجم)‪.‬‬


‫(‪ ((44‬استخدم كلمة (محاكي) ‪ mulator‬هنا ليفترض شيئًا أعلى من مستوى التشابه ‪ similitude‬للرب‪ ،‬وربما نظير أو ند‬
‫‪ rival‬كما في تريانا هامش ‪. Traina 1997, 86 notes 86‬‬

‫‪358‬‬
‫ولذا حين ترى األخيار قد فضلوا َس ْعي األرباب وكدهم‪ ،‬وسلكوا الدرب‬ ‫‪ 6-1‬‬
‫الوعر للقمة‪ ،‬وانغمس األشرار في الملذات‪ ،‬فينبغي أن تفكر في هذا‪ :‬في أن‬
‫أبناءنا يبتهجون بالهدوء‪ ،‬وعبيد المنزل ‪ ((44( home-born slaves‬بالجواز‪،‬‬
‫فاألبناء ُيكبحون بمزيد من تهذيب صارم‪ ،‬في حين رضع العبيد من الوقاحة‪،‬‬
‫جليا لك في حالة الرب‪ ،‬فإنه يعامل َ‬
‫الخ ّير‬ ‫والشيء نفسه ينبغي أن يكون ًّ‬
‫كمحبوبه فيجتبيه ويقسو عليه ليصطفيه لنفسه(‪.((44‬‬

‫شر لألخيار‪ ،‬وال‬


‫جمة؟”‪ .‬ال يحدث ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫محن‬ ‫“فلماذا يتعرض األخيار على‬ ‫‪ 1-2‬‬
‫تختلط المتناقضات‪ ،‬كما يبقى َط َّيب البحر بال تغير وال َي ْضعف رغم تعدد‬
‫األنهار ورغم هطول المطر عليه‪ ،‬وكذلك ال يتعثر عقل الرجل الشجاع وهو‬
‫يواجه انقضاض المحن‪ ،‬إنه يبقى كما تعلمون حيث موضعه‪ ،‬ويحول ما‬
‫يحدث ليتناسب مع لونه ووجوده‪ ،‬إنه أقوى من مظاهر األشياء جميعها‪.‬‬

‫وال أقصد أنه ال يشعر بالمحن‪ ،‬بل أقصد أنه يهزمها‪ ،‬ورغم هذا حين ُيشن‬ ‫‪ 2-2‬‬
‫هجوم قد يهدأ ويسكن ويقابله في بعض األوقات‪ ،‬ويشكر الملمات كما‬
‫ٌ‬ ‫عليه‬
‫أخالقيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫اختبارا‪ ،‬أليس اإلنسان إنسا ًنا طالما وازن بين الصالحات‬
‫ً‬ ‫لو كانت‬
‫وليس توا ًقا لعمل ساذج‪ ،‬ومتأه ًبا لتولي الواجبات في الخطر المحدق؟‬
‫وأليس َمن يفعل وف ًقا لضميره ال يجد الهالك عقا ًبا؟‬

‫ونرى الرياضيين الذين يهتمون بقوتهم ينخرطون في قتال أقوى رجال‬ ‫‪ 3-2‬‬
‫يجدونهم ويطلبون منهم العون في تجهيزهم للمنافسة‪ ،‬ويستخدمون أضعف‬

‫(‪ ((44‬كان يعامل عبيد المنزل بشكل أفضل من العبيد اآلخرين‪ ،‬ويقلون عن األطفال األحرار‪ ،‬وعادة كان يطلق عليهم رقيق‬
‫للتلطيف‪.‬‬
‫(‪ ((44‬قد يفيد ذلك معنى االصطفاء في الفكر اإلسالمي كما ورد في القرآن العظيم وهو يخاطب سيدنا موسى عليه السالم‪:‬‬
‫“واصطنعتك لنفسي”‪ ،‬وقال البخاري عند تفسيرها‪ :‬حدثنا الصلت بن محمد‪ ،‬حدثنا مهدي بن ميمون‪ ،‬حدثنا محمد‬
‫ابن سيرين عن أبي هريرة‪ ،‬عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪« :‬التقى آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى‪ :‬أنت الذي أشقيت‬
‫الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم‪ :‬وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه‪ ،‬وأنزل عليك التوراة؟ قال‪:‬‬
‫آدم موسى”‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫فحاج ُ‬
‫َّ‬ ‫علي قبل أن يخلقني؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫نعم‪ .‬قال‪ :‬فوجدته قد كتب َّ‬

‫‪359‬‬
‫قواهم ضدهم‪ ،‬ويسمحون ألنفسهم بأن يسحقوا ويطرحوا ً‬
‫أرضا‪ ،‬وإن لم‬
‫يعثروا على خصم واحد مكافئ يبارون أنفسهم في بعض األحيان‪.‬‬

‫من بدون المحنة تضيع الرجولة فقد ُيرى مقدارها وقوتها فحسب حين‬ ‫‪ 4-2‬‬
‫صمودها‪ ،‬والصالحين على الشاكلة نفسها ال يتراجعوا في الملمات والشدائد‪،‬‬
‫وال يشكون القدر ومهما يحدث يبحثون عن الخير فيه‪ ،‬أو يحولونه للخير‪،‬‬
‫فهم ال يكيلون التهم للقدر‪ ،‬بل يواجهونه‪.‬‬

‫ألم تر كيف يراعي اآلباء أطفالهم من جانب واألمهات من جانب آخر؟‬ ‫‪ 5-2‬‬
‫مبكرا ليواصلوا درسهم‪ ،‬وال يسمحون‬
‫ً‬ ‫فاآلباء يأمرون أطفالهم باالستيقاظ‬
‫دموعا‪ ،‬في حين‬
‫ً‬ ‫لهم بالتراخي حتى في أيام العطل حتى يتصببون عر ًقا وأحيا ًنا‬
‫تدللهم األمهات وتتمنى أن تحجبهم عن الناس‪ ،‬فال يواجهون الشقاء‪ ،‬وال‬
‫يدمعون‪ ،‬وال يكدحون‪.‬‬

‫وموقف الرب من الصالحين مثل موقف األب‪ ،‬إنه يمنحهم الحب القاسي‬ ‫‪ 6-2‬‬
‫قائلاً ‪“ :‬دعهم ينكبون في األعمال واآلالم والضياع حتى يصبحوا أقوياء ح ًّقا‪،‬‬
‫فالحيوانات السمينة خاملة وجامدة‪ ،‬وال تخر قواها حين تكرسها للعمل‬
‫فحسب‪ ،‬بل تعبأ بحمل وزنها‪ ،‬والحظ الحسن الذي ال يعرف عمق الجرح‬
‫ال يمكن أن يطيق أبسط خدش‪ ،‬وإن استمر المرء في المعركة بسوء حظه‬
‫سوءا‪ ،‬وباألحرى إذا سقط فإنه‬ ‫ً‬
‫سميكا‪ ،‬ولن يجني ً‬ ‫فإن جروحه ستمنحه جلدً ا‬
‫سيقاتل حتى ولو على ركبتيه(‪.((44‬‬

‫أخيارا ويخصهم‬
‫ً‬ ‫جما ويريدهم‬
‫حبا ًّ‬
‫هل تندهش إن كان الرب يحب الصالحين ًّ‬ ‫‪ 7-2‬‬
‫ً‬
‫مندهشا إن كانت األرباب لديها دافع‬ ‫بالثروة لممارسة نقيضها؟ فأنا لست‬
‫لمشاهدة العظماء وهم يصارعون بعض المصائب‪.‬‬

‫(‪ ((44‬ألنه اكتسب قو ًة نتيجة الجروح والخشونة في المعارك‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫ً‬
‫وحوشا تدنو منه‬ ‫شاب بثبات عقله‬
‫ٌّ‬ ‫إننا نشعر بالسعادة أحيا ًنا إذا اعترض‬ ‫‪ 8-2‬‬
‫برمحه أو صمد أمام هجوم أسد دون ُيبدي خو ًفا‪ ،‬وهذا المشهد يسعدنا‬
‫عظيما إن اكتمل‪ ،‬ومثل هذه الطفولية والترف التافه للبشر‬
‫ً‬ ‫جميعا وسيكون‬
‫ً‬
‫ليس كاف ًيا لجذب انتباه األرباب‪.‬‬

‫وهنا مشهد جدير بأن ينظر إليه الرب(‪ ((44‬بما أنه يتفقد خلقه‪ ،‬وهنا يشاهد‬ ‫‪ 9-2‬‬
‫الرب حيث يباري الرجل الشجاع سوء الحظ‪ ،‬خاصة إذا نبع التحدي من‬
‫أر ما على أرض جوبيتر ‪ Jupiter‬قد يكون أكثر جمالاً‬
‫ذاته‪ ،‬ما أقوله إنني لم َ‬
‫إذا رغب في أن يحول انتباهه إليها أكثر من نظرة حزب كاتو ‪ ((44( Cato‬التي‬
‫ُدمرت أكثر من مرة‪ ،‬ومع ذلك كان ثابتًا وسط الخراب العام‪.‬‬

‫‪ 10-2‬وكما يقول كاتو‪“ :‬ربما خضع العالم برمته لسلطة رجل واحد‪ ،‬وحرست‬
‫البالد بالفيالق والبحار باألساطيل والبوابات بجنود القيصر‪ ،‬ولكن كان لكاتو‬
‫طاهرا ونظي ًفا‬
‫ً‬ ‫واسعا للحرية‪ ،‬وهو السيف الذي بقي‬
‫ً‬ ‫مخرج‪ ،‬أي صنع طري ًقا‬

‫(‪ ((44‬لرؤية صدى هذا في المسيحية انظر على سبيل المثال ‪ Minucius Felix Octavius 37.1‬وهو يقول‪« :‬أجمل مشهد‬
‫يشاهده الرب حين يقبل المسيحي على القتال وهو مشحون باأللم” وانظر ً‬
‫أيضا ‪Lactantius On the Deaths of‬‬
‫‪. the Persecutors 16.6–7‬‬
‫(‪ ((44‬كاتو األصغر (‪ )95–46 bce‬الذي انتحر في أتيكا‪ ،‬ولذلك لُقب كاتو أوتيسنسيس ‪ Cato Uticensis‬بعد هزيمة بومبي‪،‬‬
‫وتقدم قوات يوليوس قيصر‪ .‬وقد استعمل سينيكا اسم كاتو هنا وفي مواضع أخرى‪ ،‬انظر‬
‫;‪Isnardi Parenti 2000; Hutchinson 1993, 273–79; Griffin 1992, esp. 190–94; Abel 1967, 111–13‬‬
‫‪and in the tradition more generally, Goar 1987.‬‬
‫ً‬
‫محافظا متشد ًدا‬ ‫رواقيا‪ ،‬وكان‬
‫ًّ‬ ‫مـاركـوس پـورسيـوس كاتــو األصغـر(‪46 – 95( ‬ق‪.‬م‪ .‬حفيد‪ ‬كاتو الكبير‪ ‬وكان فيلسو ًفا‬ ‫ ‬
‫قسطورا أي موظ ًفا إدار ًّيا ًّ‬
‫ماليا‪ ،‬وساعد على‬ ‫ً‬ ‫في السياسة‪ ،‬واعتبر المبادئ أكثر أهمية من المساومة‪ ،‬وصار في ‪ 65‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫إصالح الخزانة‪ ،‬وساند بصفته تريبيونا (المدافع عن حقوق العامة ومصالحها) شيشرون ضد كاتلين‪ ،‬وعارض الثالوث‬
‫بريتورا (قاض ًيا عند الرومان) وساند كاتو بومبي في صراعه مع يوليوس قيصر‪ .‬حين بلغته‬ ‫ً‬ ‫األول الحاكم‪ ،‬وصار كاتو‬
‫هزيمة بومبي في فيرسالوس عام ‪ 48‬ق‪.‬م‪ .‬هرب إلى شمالي إفريقيا‪ ،‬تولى هناك مسؤولية الدفاع عن أوتيكا‪ ،‬وبعد‬
‫هزيمة قوات بومبي في شايسوس عام ‪ 46‬ق‪.‬م‪ ،‬انتحر كاتو بطعن نفسه‪ .‬صار بطلاً للذين يعظمون الجمهورية الرومانية‬
‫اآلفلة‪.‬انظر ‪ Badian, E. ‹M. Porcius Cato and the Annexation and Early‬ونظر وعارض الثالوث األول‬
‫الحاكم‪.‬س قيصر وقد استعمل سينكا اسم كاتو هنا وفى مواضع أخرى انظر ‪Administration of Cyprus› JRS 55 ‬‬
‫‪( (1965): 110-121‬المترجم)‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫حتى في الحروب األهلية‪ ،‬فإن تحقيق األعمال النبيلة والخيرة هو ما منح‬
‫لكاتو الحرية التي لم يكن بمقدوره أن يمنحها لوطنه‪ ،‬وقد وقف عقلي حول‬
‫كثيرا‪ ،‬وحول خروجك عن هموم اإلنسان‪ ،‬وح ًّقا قتل‬
‫المهمة التي بحثتُها فيها ً‬
‫بيتريوس ‪ Petreius‬وجوبا ‪ Juba‬بعضهم بعض‪ ،‬وامتد الذبح بأيدي اآلخرين‬
‫بجرأة وميثاق الموت الباهر(‪ ،((44‬ولكن هذا ال يتناسب مع عظمتنا‪ ،‬ومن‬
‫المشين لكاتو أن يسعى إلى موته من آخر‪ ،‬وكان عليه أن يسعى للحياة‪.‬‬

‫‪ 11-2‬ومن الواضح أن األرباب شاهدت مرح هذا الرجل محرر النفس بقسوة‬
‫طبقه على نفسه في‬
‫والذي منح اآلخرين فكرة الرحيل السهل البسيط‪ ،‬ثم َّ‬
‫نهاية المطاف(‪ ،((44‬فغرس سيفه في صدره المقدس‪ ،‬فمزق أحشاءه‪ ،‬ومد‬
‫يده ليخرج روحه التي هي أشرف من تلطخ بشفرة‪.‬‬

‫حاسما‬
‫ً‬ ‫‪ 12-2‬وبمقدوري أن أصدق بأن هذا هو السبب في أن جرحه لم يكن‬
‫ليقتله(‪ .((44‬وألن األرباب ال يموتون‪ ،‬لم يكن كافيًا أن ترى كاتو يستعيد‬
‫فضيلته حينها‪ ،‬ويظهر ذاته في دور التحدي األعظم‪ ،‬وبعد ذلك ال يأخذ‬
‫تفكيرا عمي ًقا كي يسعى إليه مرة أخرى‪ ،‬ولماذا لم يشاهد‬
‫ً‬ ‫الدخول في الموت‬
‫األرباب ذريتهم وهي تهرب من نفس المخرج الظاهر؟ إن الموت يكرس‬
‫ممن يخافون منه‪.‬‬
‫هؤالء الناس الذين خرجوا ليحصدوا ثناء حتى َّ‬
‫وسوف يظهر في سياق مناقشتي أن األشياء التي بدت سيئة ليست كذلك‪،‬‬ ‫‪ 1-3‬‬
‫واآلن أقول أولاً إن تلك األشياء التي تسمونها قاسية وتدعون أنها محنة‬
‫وتثير االشمئزاز كانت في مصلحة الرجال أنفسهم الذين حدثت لهم تلك‬

‫(‪ ((44‬بيتريوس قائد قوات بومبي‪ ،‬وجوبا ملك نوميديان ‪ Numidian‬الذي حارب مع بومبي‪ ،‬وقتل كل منهما اآلخر بعد‬
‫معركة تابسوس ‪ Thapsus‬في ‪46‬م بعد أن انتابهم اليأس‪.‬‬
‫(‪ ((44‬يفترض أن كاتو قد قرأ محاورة أفالطون عن النفس وهي محاورة فيدون‪ ،‬وقد أشار سينيكا في مواضع أخرى في‬
‫‪ Letters 24.6‬إلى أنه قرأ كتاب أفالطون‪.‬‬
‫(‪ ((44‬كان جرح كاتو في البداية بخنجر أو سيف وقد خيطه‪ ،‬وقيل إنه فتحه بيده‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫المحنة‪ ،‬وثان ًيا هي في مصلحة المجموع؛ ألن األرباب تهتم أكثر باألفراد أو‬
‫المجموع‪ ،‬وإن ما حدث لهؤالء كان سيحدث سواء أكانوا على استعداد له‬
‫أم ال؛ ألن هؤالء جديرون بالشر‪ ،‬وأضف إلى هذه النقاط أن هذه األشياء ُتبلى‬
‫وتدبر مثل عمل القدر‪ ،‬وتقبل على الصالحين بالقانون نفسه بما أنهم أناس‬
‫صالحون‪ ،‬ومن ثم سوف أقنع بأنك لم تشعر بالرحمة تجاه رجل صالح‪ ،‬نعم‬
‫يمكن أن يطلق عليه رحيم‪ ،‬ولكنه ال يمكن أن يكون كذلك(‪.((45‬‬

‫ومن كل األشياء التي قد افترضتها يبدو أن ما قلته أولاً هو األصعب‪ ،‬حيث‬ ‫‪ 2-3‬‬
‫إن األشياء التي نرتعد منها ونرتجف هي في مصلحة البشر الذين تقع عليهم‪،‬‬
‫وأنت تسأل هل من مصلحة البشر أن ينفوا أو يفقروا ليقودوا أطفالهم‬
‫ً‬
‫مندهشا من أن‬ ‫وزوجاتهم للدفن أو إلحاق العار بهم أو التشويه؟ إن كنت‬
‫هذه األشياء في مصلحة المرء‪ ،‬فإنك ستندهش أن بعض الناس قد ُيعالجون‬
‫تأملت بنفسك كيف أن بعض‬
‫َ‬ ‫بالنار والنصل والجوع والعطش‪ ،‬ولكن إذا‬
‫الناس ألسباب عالجية ينزعون عظامهم وينتقون منها ويستخرجون عروقهم‬
‫ويبترون أطرا ًفا بعينها ال يمكن اإلبقاء عليها متصلة إال بقتل الجسد كله‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وسل ْم بأن هذا برها ًنا يقنعك بأن العسر عينه في مصلحة من يقع عليهم‪ ،‬كما‬
‫هو الحال في هرقل حين يقول إن هناك أشياء بعينها ُيثنى عليها و ُيسعى إليها‬
‫والسكر وغيرها من‬
‫َّ‬ ‫بعد أن كانت ضد مصلحة َمن فرحوا بها مثل األعياد‬
‫األشياء التي تقتل باللذة‪.‬‬

‫“سمعت‬
‫ُ‬ ‫ومن بين أقوال ديمتريوس ‪ ((45( Demetrius‬الجمة العظيمة‪ ،‬قوله‪:‬‬ ‫‪ 3-3‬‬
‫(‪ ((45‬هذه الموضوعات أكثر تواف ًقا أو أقل لما هو ٍ‬
‫آت ‪3.2–4.16 (in the men’s interest); 5.1–5.2 (in everyone’s‬‬
‫‪interest); 5.3–6 (the men are willing); 5.7–11 (these things are fated); and 6.1–2 (they are not‬‬
‫‪in fact unhappy).‬‬
‫(‪ ((45‬ديمتريوس فيلسوف كلبي نفاه نيرونن وأعاده فيسباسيان‪ ،‬وغال ًبا ُذكر في أعمال سينيكا األخيرة على سبيل المثال كتاب‬
‫عن اإلحسان )‪ (e.g., On Benefits 7.1.3–2.1‬وكما ذكره المؤرخون والفالسفة مثل أبكتيتوس ولوسيان‪.‬‬

‫‪363‬‬
‫مؤخرا كال ًما وال يزال يطن صداه في أذني‪ :‬ال شيء يبدو لي أكثر تعاسة من‬
‫ً‬
‫شخص ال يقع عليه مكروه أو محنة”؛ ألنه ال يسمح باختبار نفسه‪ ،‬رغم‬
‫أن كل شيء يفيض عليه وف ًقا لرغبته‪ ،‬أو حتى قبل أن يرغب فيه‪ ،‬وال تزال‬
‫مريرا؛ ألنه غير جدير حتى بهزيمة الحظ الذي يتقهقر‬
‫حكما ً‬
‫ً‬ ‫األرباب توجه له‬
‫حتى من أي رجل جبان‪ ،‬كما لو أن الحظ يقول‪ :‬ماذا؟ هل أعتبر هذا اإلنسان‬
‫خصما لي؟ وسيخمد أسلحته على الفور‪ ،‬فأنا ال أحتاج إلى كل قوتي ضده‪،‬‬
‫ً‬
‫إلي‪ ،‬دعونا‬‫إنه سيهرب بمجرد اإلشارة إليه‪ ،‬حتى أنه ال يستطيع أن ينظر َّ‬
‫نكشف عن شخص آخر يمكن أن نقاتله‪ ،‬فإنني أخجل من أن أقاتل إنسا ًنا‬
‫استعداد لالنتصار!”‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لديه‬

‫خصما أدنى منه في القوة‪ ،‬حيث يعلم‬


‫ً‬ ‫ويعتقد المجالد أنه من العار أن يباري‬ ‫‪ 4-3‬‬
‫ُّ‬
‫الحظ‬ ‫أنه ليس من المجد أن يهزم امرأ بمقدوره أن يهزمه بال عناء‪ ،‬ويصنع‬
‫الشيء نفسه‪ ،‬إنه يسعى ألشجع الرجال ويباريهم ويمر على اآلخرين عائ ًفا‬
‫َ‬
‫لهم‪ ،‬إنه يقترب من الهازئين منه لتوجيه قوته ضدهم‪ ،‬فيختبر النار على‬
‫موسيوس ‪ ،Mucius‬والفقر على فابريكيوس ‪ ،Fabricius‬والنفي على‬
‫روتيليوس ‪ ،Rutilius‬والتعذيب على ريجولوس ‪ ،Regulus‬والسم على‬
‫سقراط ‪ ،Socrates‬والموت على كاتو ‪ .((45( Cato‬وال يمكن العثور على‬
‫المثال العظيم إال في الحظ التعس(‪.((45‬‬

‫تعسا حين قبض على نيران العدو بيده اليمنى‪ ،‬وحدد‬ ‫هل كان موسيوس(‪((45‬‬
‫ً‬ ‫‪ 5-3‬‬

‫(‪ ((45‬تتكرر القائمة في الرسائل ‪ Letters 98.12–13‬وفي مواضع أخرى مع إدخال تغييرات طفيفة على وظائفها وتبدالتها‬
‫انظر ‪.Mayer 2008, 304–6‬‬
‫(‪ ((45‬أو كما يقولون إن المثال العظيم يولد من رحم المعاناة‪ ،‬أو كما كتب كاتب إيطالي عن طه حسين قائلاً ‪« :‬إن الفقر ال‬
‫والمعاناة تلد أبطالاً »‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ينجب إال رجالاً‬
‫(‪ ((45‬موسيوس سيفوال ‪ Q. Mucius Scaevola‬أو صاحب اليد اليسرى هو بطل روما في العصر المبكر‪ ،‬قبض عليه‬
‫بعد محاوالت لقتل الرس بورسينا ‪ Lars Porsena‬ملك كلوسيوم ‪ Clusium‬الذي كان يحاصر روما‪ ،‬وقد وضع‬
‫موسيوس يده في النار إلظهار الال مباالة بإدانته بالموت‪ ،‬وأطلق الملك سراحه‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫عقابه على خطئه هذا‪ ،‬ألنه بحرق يده و َّلى هار ًبا من الملك حيث لم يقدر‬
‫على حمل السالح؟ أليس هذا حسنًا؟ هل سيكون أوفر سعاد ًة لو أدفأ يده في‬
‫حضن عشيقته؟‬

‫تعسا ألنه كان قد فلح حقوله في الوقت الذي‬ ‫فابريكيوس(‪((45‬‬


‫ً‬ ‫هل كان‬ ‫‪ 6-3‬‬
‫ترك فيه الجمهورية؟ وألنه كان يخوض الحرب بغرض الثروة كما فعل في‬
‫بيرروس ‪Pyrrhus‬؟ وألنه كان يتعشى بموقده الذي يشعله بجذور وأعشاب‬
‫حسن؟ هل‬
‫ٌ‬ ‫حقله الذي يطهره منها وهو رجل عجوز يحتفل بالنصر؟ هل هذا‬
‫سيكون أوفر سعاد ًة لو حشا بطنه بأسماك نزيح الشواطئ والطيور المجلوبة؟‬
‫أو أسعد لو أيقظ معدته البليدة والمريضة بمحار أعالي البحر وسافلها(‪((45‬؟‬
‫أو لو جمع كومة ضخمة من الثمار متناثرة هنا وهناك تركها الصيادون بعد‬
‫صيد الوحوش؟‬

‫تعسا ألن َمن أدانوه أرادوا أن يرفعوا قضيتهم لكل‬ ‫هل كان روتيليوس(‪((45‬‬
‫ً‬ ‫‪ 7-3‬‬
‫األجيال؟ أو ألنه استقبل طرده من وطنه بعقل هادئ أكثر من رحيل منفاه منه؟‬
‫أو ألنه رفض الدكتاتور سوال حين استدعاه للعودة؟ وحينها قال‪“ :‬الذين‬
‫يريدون سعادتك استولوا على روما‪ ،‬دعهم يروا كثرة الدم في الميدان‪ ،‬ورؤساء‬
‫مجلس الشيوخ على بحيرة سيرفيليان ‪ Servilian‬حيث مخزون غنائم سوال‬
‫هناك‪ ،‬ويجوب السفاحون أنحاء المدينة‪ ،‬ويذبح آالف المواطنين الرومان في‬
‫مكان واحد حتى بعد أن أعطوا األمان‪ ،‬في الحقيقة أثناء تقديم األمان لهم‪ ،‬دع‬

‫(‪ ((45‬فابريكيوس لوسينيوس ‪ C. Fabricius Luscinus‬قبل القرن الثالث الميالدي‪ ،‬وقد قاوم محاوالت الملك بيرريوس‬
‫إلرشائه أثناء الحرب وقد عرف عنه أن عاش في الفقر على مزرعته‪.‬‬
‫(‪ ((45‬إشارة إلى البحرين اإلدرياتيكي والتيراني للشرق والغرب اإليطالي‪.‬‬
‫رواقيا؛ ألنه تلميذ بانيتوس ‪ ،Panaetius‬ونفي في ‪ 92‬بتهمة‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((45‬روتيليوس روفوس (توفي‪160‬م) وهو رجل دولة وكان‬
‫فساد خطابه الدفاعي الذي كان على غرار دفاع سقراط‪ ،‬ورفض دعوة سوال للعودة إلى روما‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫َمن ال يقدرون على المنفى يرون هذه األشياء”(‪.((45‬‬
‫ٌ‬
‫محظوظ ألنه حين يذهب إلى الميدان‬ ‫هل هذا حسنٌ؟ وهل لوكيوس سوال‬ ‫‪ 8-3‬‬
‫يطهر بالسيف‪ ،‬وألنه يسمح بأن تعرض عليه رؤوس القناصل السابقين‪ ،‬وربح‬
‫المجزرة التي أعد لها القسطور والسجالت العامة؟ كل هذا حدث ألن هناك‬
‫فردًا واحدًا قد تخطى قانون كورنيليان(‪.((45‬‬

‫وهذا يقودنا إلى ريجيليوس(‪ ((46‬إلى أن نتساءل ما الضرر الذي ألحقه الحظ‬ ‫‪ 9-3‬‬
‫درسا في الثقة والتحمل؟ لقد تخرم جلده باألظافر وحنى‬
‫به حين صنع منه ً‬
‫اتجاه جسده المنهك منكفأ على الجرح‪ ،‬وعقدت عيناه مفتوحتين في يقظة ال‬
‫نهاية لها‪ ،‬وكلما اشتد عذابه عظم مجده‪ ،‬هل تريد أن تعرف كيف أن القليل‬
‫الذي تأسف عليه قد قيم فضيلته بهذا السعر؟ وهو يفكه ويرسله إلى مجلس‬
‫الشيوخ وهو يعبر عن الرأي نفسه‪.‬‬

‫‪ 10-3‬هل تعتقد أن مايسيناس ‪ Maecenas‬سعيدٌ (‪((46‬؟ إنه كان مهمو ًما بحب‬
‫استِ ْنكاف زوجته النكدية اليومي‪ ،‬ويحاول أن ينام على انسجام‬
‫أعماله‪ ،‬وينوح ْ‬
‫عزف الموسيقيين الذي يتردد صداه بلطف من بعيد‪ ،‬ومع ذلك ُيهدئ من‬
‫نفسه بنبيذ غير مخفف‪ ،‬وربما يستعمل رذاذ الماء ليصرف أفكاره القلقة التي‬
‫يضللها بألف من الملذات‪ ،‬ويرقد على سريره الناعم في يقظة رحبة كما يرقد‬

‫دكتاتورا حكم على آالف الرومان باإلعدام والنفي‪ ،‬انظر )‪،(cf. Plutarch Sulla 31‬‬‫ً‬ ‫(‪ ((45‬بعد أن صار كورنيليوس سوال‬
‫وعلق الرؤوس في الكوس سيرويليوس وهي تقع بعد الميدان الروماني غرب باسيليكا إيوليا‪.‬‬
‫(‪ ((45‬قانون ‪ lex Cornelia de sicariis et ueneficiis‬هو قانون القتل والتسميم الذي قدمه كورنيليوس وهو سوال في‬
‫‪ 81‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((46‬أتيليوس ريجيوليوس ‪ M. Atilius Regulus‬قائد في الحرب البونية األولى فى ‪ ،250‬وهو أسير القرطاجيين‪ ،‬وقد‬
‫أرسل إلى روما للتفاوض على شروط السالم‪ ،‬ولكنه أخبر الرومانيين أن يواصلوا الحرب‪ ،‬وأصر على أن يعود إلى‬
‫قرطاجة‪ ،‬وعُ ذب بفتح جفون عينيه المخيطة حتى الموت‪.‬‬
‫(‪ ((46‬ماسينياس ‪ C. Maecenas‬هو الراعي الرئيس للفنون في عصر أوغسطس‪ ،‬وكان سينيكا يشير إلى كتاباته المنمقة‪،‬‬
‫وحياته المترفة‪ ،‬فضلاً عن حياته المثيرة مع زوجته تيرنتيا‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫ريجيوليوس على العشب‪ ،‬ولكن ريجيوليوس آسى في تحمل الشقاء من‬
‫أخالقيا‪ ،‬وهو يتطلع إلى أبعد مما تسببه معاناته‪ ،‬في حين‬
‫ًّ‬ ‫أجل ما هو خير‬
‫ضعف ماسينياس من الملذات وتعب من السعادة المفرطة‪ ،‬وقل كدره من‬
‫األمور التي يعانيها أكثر من سبب معاناته‪.‬‬

‫‪ 11-3‬وال تأخذ الرذائل ما يملكه جنس البشر لمثل هذا المدى الذي يشك فيما علق‬
‫بها ويمنح الخيار للقدر‪ ،‬وتتمنى أن تولد ريجيوليوسيا أفضل من أن تولد‬
‫ماسينياسيا‪ ،‬أو أن يجسر أ ًّيا كان على قول إنه يفضل أن يولد ماسينياس وألاَّ‬
‫يولد ريجيوليوس‪ ،‬وحتى لو لم يقل الشخص نفسه ذلك سيفضل أن يولد‬
‫تيرنتيا ‪.((46( Terentia‬‬

‫سيئ؛ ألنه تجرع علنًا جرع ًة‬


‫‪ 12-3‬وهل كان في اعتقادك أن سقراط قد تصرف بشكل ٍ‬
‫مخلوط ًة ال تختلف عن منشط الخلود وتحدث في الموت حتى الموت؟ هل‬
‫ٍ‬
‫ردىء؛ ألن دمه كان جامدً ا‪ ،‬وسدت البرودة الزاحفة رويدً ا‬ ‫تصرف بشكل‬
‫رويدً ا نشاط عروقه؟‬

‫كمن ُي ِّ‬
‫قدم لهم النبيذ في كأس مرصع بالجواهر‪ ،‬أو‬ ‫‪ 13-3‬وينبغي أن نحسده َ‬
‫العبيد من جنس الذكور الذين تربوا على تحمل األمور كلها‪ ،‬والذين ُنزعت‬
‫منهم الرجولة أو الغامض الذي يذوب الثلج الطافي في كأس من الذهب‪،‬‬
‫وسوف يتقيأون ما شربوه ليقاوموا إعادة تذوق إفرازاتهم الصفراوية‪ ،‬ولكن‬
‫سقراط(‪ ((46‬تجرع السم بهدوء وسكينة‪.‬‬

‫‪ 14-3‬ويكفي ما قلنا عن كاتو حيث يتفق البشر جميعهم في االعتراف بأن السعادة‬
‫جلها قد حيزت له‪ ،‬وقد اختارت طبيعة العالم أن تصطدم باألشياء التي‬

‫(‪ ((46‬تيرنتيا زوجة ماسينياس‪.‬‬


‫ست وعشرين مرة ذكره فيها‪ ،‬ولمعرفة ذكر‬
‫(‪ ((46‬ذكر سينيكا سقراط وهو يركز على موته حوالي ست عشرة مرة من أصل ٍّ‬
‫سقراط عند سينيكا انظر ‪.Isnardi Parenti 2000‬‬

‫‪367‬‬
‫هي موضوع للخوف‪“ ،‬وعداوة األقوياء موجعة‪ ،‬فقد تركته الطبيعة يثبت‬
‫في معارضة بومبي ‪ Pompey‬والقيصر وكراسوس(‪ ((46‬في آن واحد‪ ،‬ومن‬
‫المجحف أن يتم تجاوزه في المنصب السياسي من قبل أسوأ أنواع البشر‪،‬‬
‫وتركته يحل بعد فاتينيوس(‪ ((46‬في المنزلة‪ ،‬ومن الفاجع أن يشارك في‬
‫ٍ‬
‫وجيهة بقرار متساو‬ ‫الحروب األهلية‪ ،‬التي تركته جند ًّيا حول العالم لعلة‬
‫ونقص للحظ الحسن‪ ،‬ومن المجحف أن يبسط يديه على نفسه حيث تركته‬
‫يفعل هذا‪ ،‬فما الذي ابتغاه من هذه األشياء؟ ربما يعرف الجميع أن هذه‬
‫شرا‪ ،‬وبعد ذلك أعتقد أن كاتو يستحقها”‪.‬‬
‫األشياء ليست ًّ‬
‫وقد يبلغ الرخاء كل الناس حتى العقول التي ال تستحق‪ ،‬ولكن قهر المصيبة‬ ‫‪ 1-4‬‬
‫والهلع من الفانيين ينفرد به الرجل العظيم‪ ،‬والحقيقة هي أن الموجود السعيد‬
‫دو ًما والمتجاوز للحياة دون عقل متحدٍّ ال يعرف الطرف اآلخر لطبيعة العالم‪.‬‬

‫وأنت رجل عظيم‪ ،‬ولكن كيف أعرف‪ ،‬إن لم يعطك الحظ فرصة لتظهر‬ ‫‪ 2-4‬‬
‫الفضيلة؟! لقد ذهبت إلى األلعاب األولمبية‪ ،‬وذهب الكل لك‪ ،‬وقد بلغت‬
‫التتويج لنصر لم تحرزه‪ ،‬ولم أبارك لك بما أنك رجل شجاع‪ ،‬ولكن بما أنك‬
‫قنصل أو ٍ‬
‫قاض ‪ ،praetorship‬فتعاظمك هو من الشرف الممنوح لك‪.‬‬

‫وبمقدوري أن أقول الشيء نفسه حتى لرجل خير إذا لم يعطه عسر الحدث‬ ‫‪ 3-4‬‬
‫الفرصة إلظهار قوة عقله‪“ ،‬فإنني أحكم بأنك جدير بالشفقة وأنت غير جدير‬
‫بها إطال ًقا؛ ألنك قضيت الحياة بال محنة‪ ،‬وال يعرف أحد ما تقدر عليه وال‬
‫اختبارا‪ ،‬وال يفض المرء بما يقدر‬
‫ً‬ ‫حتى أنت نفسك”‪ ،‬فمعرفة الذات تتطلب‬
‫عليه إال بالمحاولة‪ ،‬ولهذا السبب هناك أناس يتباطؤون حين تقبل نحوهم‬

‫(‪ ((46‬أول حكومة الثالثة ‪.triumvirate of the 50s bce‬‬


‫(‪ ((46‬رغم السخرية من تشوهاته الجسدية وقدحه في شيشرون حاز على منصب سياسي رفيع أثناء حكومة الثالثة‪ ،‬وهزم كاتو‬
‫في انتخابات البراتور ‪ praetor‬عام ‪.55‬‬

‫‪368‬‬
‫عفوا في طريقها‪ ،‬وحين تماثلهم فضيلتهم‬
‫األمور الرديئة‪ ،‬ويجدون أنفسهم ً‬
‫فإنها تسير نحو الغموض‪ ،‬وتسعى نحو فرصة لتسطع فصاعدً ا‪.‬‬

‫وما أقوله هو أن العظماء يبتهجون في المحن كالجنود الشجعان يفرحون‬ ‫‪ 4-4‬‬


‫بالحرب‪ ،‬وقد سمعت المجالد تريومفوس ‪ Triumphus‬مرة يندب ندرة‬
‫العوينات تحت حكم تيبيريوس قيصر قائلاً ‪“ :‬إن العصر الجميل قد‬
‫تفكيرا فيما ستعانيه بل فيما‬
‫ً‬ ‫ولى!”(‪ .((46‬والفضيلة طمع في تهلكة‪ ،‬وليست‬
‫تسعى نحوه؛ ألن ما ستعانيه طرف من مجدها‪ ،‬وشموخ الجنود في جروحهم‪،‬‬
‫ويبهجهم عرض الدم المتدفق كشوط للحظ الحسن‪ ،‬وحتى أولئك الذين‬
‫عادوا من المعركة غير جرحى قد أنجزوا الشيء نفسه؛ ألن َمن يعود قد تمنى‬
‫أن يجرح‪.‬‬

‫أمرا ما بحماس‪ ،‬أراد‬


‫ما أقوله إنه حين مد الرب الناس بما هو مادي ليؤدوا ً‬ ‫‪ 5-4‬‬
‫أن يظهر اهتمامه بهم‪ ،‬وهو يرغب أن يكونوا حسني األخالق بقدر الممكن‪،‬‬
‫ويتطلب أداء هذه األعمال صعوبة بعينها‪ ،‬وربما يعترف المرء وقت العاصفة‬
‫للقبطان وفي المعركة للجندي‪ ،‬وكيف لي أن أعرف بأي قدر قد قاومت‬
‫مغمورا في الثروة؟ وكيف لي أن أعرف كيف صمدت‬
‫ً‬ ‫روحك الفقر إن كنت‬
‫أمام العار والشرف وكره الناس لك إن كنت تعيش شيخوختك وسط التهليل‪،‬‬
‫متبوعا بشعبية ليست عرضة للهجوم‪ ،‬وبأي كيف قد حولت العقول‬
‫ً‬ ‫وإن كنت‬
‫باإليجاب تجاهك؟ وكيف لي أن أعرف كيف سكن عقلك عند مواجهة‬
‫الحرمان ومشهد أطفالك أمام عينيك؟ لقد سمعتك حين َت ّ‬
‫أسى اآلخرون‪،‬‬
‫حرمت على نفسك الحزن‪.‬‬
‫وسوف أعير انتباهي إن واسيت نفسك وإن َّ‬
‫وندائي لك(‪ :((46‬ال تسمحوا ألنفسكم أن تخيفكم من هذه األشياء التي يضعها‬ ‫‪ 6-4‬‬

‫(‪ ((46‬ما وضعه تيبيريوس ال يقارن بأغسطس‪ .‬راجع )‪.(cf. Suetonius Tiberius 47‬‬
‫(‪ ((46‬ينتقل سينيكا من (لك) المفرد إلى (لكم) الجمع‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫األرباب الخالدون في عقولنا مثل النتوءات‪ ،‬فالفاجعة فرصة للفضيلة‪ ،‬و َمن‬
‫تقع عليهم يستحقون أن يطلق عليهم المرأفون وهم الذين ُشل نموهم من‬
‫الحظ الحسن المفرط‪ ،‬وأما الذين قبعوا في سكينة الخمول كبحر بال حراك‪،‬‬
‫وإن حدث لهم شيء فإنه يأتي كبدعة‪.‬‬

‫ُتقبل األمور القاسية كصدمة قوية َ‬


‫لمن يفتقرون للخبرة‪ ،‬ويشعرون بالحلس‬ ‫‪ 7-4‬‬
‫الثقيل على رقبتهم الرقيقة‪ ،‬وقد يشحب الجندي المبتدئ عند رؤية الجرح‪،‬‬
‫وينظر الجندي المخضرم إلى نزيفه بجرأة‪ ،‬وهو يعلم أن بعد الدم نصر على‬
‫الغالب‪ ،‬ولهذا السبب تمحص قسوة الرب وتختبر الذين اجتباهم‪ ،‬أولئك‬
‫الذين يحبهم‪ ،‬وأما َمن يبدون أنه أمهلهم فإنه يتجنبهم ويؤ ِّمنهم من أن تأتي‬
‫ٍ‬
‫المرئ‬ ‫عليهم الشرور‪ ،‬وإنك لمخطئ إن حكمت أن هناك استثناء قد حدث‬
‫أيضا‪ ،‬ومهما كان يبدو‬ ‫ً‬
‫محظوظا ألمد بعيد‪ ،‬إن نصيبه سوف يأتيه ً‬ ‫ما؛ ألنه كان‬
‫متروكا فإنه ُأ ِّخر ألجل‪.‬‬
‫ً‬

‫ولماذا يهاجم الرب الصالحين بعلة المرض أو الحزن أو غيرها من الفجائع؟‬ ‫‪ 8-4‬‬
‫ألن في معسكر الجيش ُتعطى المهمات الخطرة ألشجع الرجال‪ ،‬ويرسل‬
‫القائد قواته التي اختارها لمهاجمة العدو في الليل الحالك أو استكشاف‬
‫إلي القائد‪.‬‬
‫الطريق أو طرد حامية من موضعها‪ ،‬وال يقول أحد منهم‪ :‬قد أساء َّ‬
‫بل األحرى أن يقول‪ :‬قضى ما فيه األصوب‪ .‬والشيء نفسه يقال عن الذين‬
‫يطلبون أشياء المعاناة والتي ُتبكي الهالعين والجبناء‪ ،‬ويتراءى لنا أن الرب‬
‫جدير باختبار مدى تحمل الطبيعة البشرية‪.‬‬

‫وقد يستنزف الفرار من المباهج والحظ الحسن قوتك‪ ،‬وقد تتالشى العقول‬ ‫‪ 9-4‬‬
‫في الحظ الحسن‪ ،‬وإن لم يتدخل شيء ما يذكرك بقسمتك كالبشر‪ ،‬فإن‬
‫عقولكم قد تغط في سبات في حالة سكر سرمدي‪ ،‬وإذا حمى امرؤ ما نفسه من‬
‫العواصف بالنوافذ‪ ،‬وإذا كانت قدماه دافئة من تتابع االستعماالت الساخنة‪،‬‬
‫‪370‬‬
‫وإن ُلطفت درجة حرارة غرفة عشائه بالحرارة التي تأتي من تحت السقف‬
‫خطرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫واألنابيب التي في الجدران‪ ،‬فإن لفحة نسيم الضوء سوف تكون‬

‫‪ 10-4‬وألن كل األشياء المؤذية قد تتجاوز قياس الواجب‪ ،‬فإن شطط الحظ الحسن‬
‫زيادة في الفاجعة‪ ،‬ويشوش الدماغ‪ ،‬ويستدرج أفكارنا إلى أوهام ال أساس‬
‫لها‪ ،‬وينطوي على قدر جم من الضباب بين الحقيقة والوهم‪ ،‬فلماذا ال يكون‬
‫من األفضل تحمل مصيبة ال نهاية لها باستجماع فضيلة خير من تقطيعها إر ًبا‬
‫بأمور حسنة تفتقر إلى الحد والقياس؟ فالموت بالمجاعة ألطف من تفجير‬
‫أناس على وليمة‪.‬‬

‫‪ 11-4‬ويتبع األرباب مع الصالحين المنطق نفسه الذي يتبعه المربون مع طالبهم‪،‬‬


‫ممن يرجون فيهم أملاً مزيدً ا من العمل‪ ،‬وهل ال يمكنك‬
‫حيث يطلبون َّ‬
‫االعتقاد بأن الكيديميونيانيين ‪ Lacedaemonians‬كانوا يكرهون أطفالهم‪،‬‬
‫إنهم اختبروا قدراتهم بالجلد العلني(‪((46‬؟ لقد كان آباؤهم يحثونهم على‬
‫وعي يطلبون‬
‫ٍ‬ ‫تحمل جلد السوط بشجاعة‪ ،‬رغم أنهم ممزقون وبنصف ال‬
‫منهم ألاَّ يتأثروا بالجروح‪.‬‬

‫‪ 12-4‬وما الغرابة إذا وضع الرب األرواح النبيلة في اختبارات صعبة؟ إن الدرس‬
‫في الفضيلة ليس هينًا أبدً ا‪ ،‬إن الحظ يجلدنا ويمزقنا حيث يدعنا نعاني‪،‬‬
‫إنها ليست قسو ًة بل محنة‪ ،‬وكلما أقدمنا عليها كلما أصبحنا أكثر شجاع ًة‪،‬‬
‫والطرف األقوى للجسم هو الذي قد يضع االستعمال المطرد موضع الفعل‪،‬‬
‫َ‬
‫نعرض أنفسنا للحظ بتصلبنا أمامه‪ ،‬وسوف يجعلنا مكافئين‬ ‫وينبغي علينا أن‬
‫له بالتدريج‪ ،‬حيث تمنحنا وتيرة مخاطرنا ازدراء للخطر ذاته‪.‬‬
‫‪ 13-4‬ولهذا السبب للبحارة بنية قوية بما يكفي لتحمل البحر‪ ،‬وللفالحين ٍ‬
‫أياد‬

‫(‪ ((46‬ربى اإلسبرطيون أطفالهم بأسلوب أسطوري صارم‪ ،‬وهو نموذج أساسي في الفلسفة األخالقية‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫خشنة‪ ،‬وللجنود أذرع قوية بما يكفي للسيطرة على األسلحة‪ ،‬وللعدَّ ائين‬
‫أطراف رشيقة حيث يدرب األقوى منها‪ ،‬و ُيقدم العقل على ازدراء المعاناة‬
‫بالمعاناة‪ ،‬وسوف تدرك أن ما نعانيه يمكن أن يثمر فينا إن انتبهت إلى ما يسهم‬
‫به العمل المضني في صناعة األمم العراة الذين أصبحوا أشاوس بما يفتقرون‬
‫إليه‪.‬‬

‫‪ 14-4‬انظر إلى كل األجناس التى وصل الرومان إلى حدودها‪ ،‬وأعني الجرمان‬
‫وأجناس البدو أسفل الدانوب(‪ ،((46‬الذين أرقدهم الشتاء الذي ال نهاية له‬
‫والسماوات الكالحة‪ ،‬والتربة القاحلة التي تغذيهم على مضض‪ ،‬وحفظوا‬
‫األمطار في القش فتسربت إلى البحيرات فتصلبت إلى ثلج‪ ،‬وتغذوا على‬
‫صيد الوحوش‪.‬‬

‫‪ 15-4‬هل بدا لك أنهم احتقروك؟ وال شيء محتقر إن حملته العادة إلى حيث‬
‫طبيعته‪ ،‬فاألشياء التي بدأت بالضرورة أصبحت رويدً ا رويدً ا ممتع ًة‪ ،‬وكانت‬
‫هذه األجناس بال مأوى وال مستوطن إال ما حدده النصب في نهاية كل يوم‪،‬‬
‫وتغذيتهم منحطة وسعوا إليها باليد‪ ،‬والسماء عدو مرعب‪ ،‬وأجسادهم عارية‪،‬‬
‫وما يبدو لك فاجعة كان حياة عديد من األجناس‪.‬‬

‫‪ 16-4‬ولماذا تندهش إذا ناضل الصالحون وبمقدورهم أن يصبحوا أقوياء؟ فالشجرة‬


‫ال تقوى وال تشتد إن لم تطوحها الرياح المتواصلة؛ ألن المطاوحة تجعلها‬
‫صامدة وتقر جذورها‪ ،‬واألشجار التي تنمو في األودية المشمسة عرضة‬
‫للقطم‪ ،‬ومن مصلحة الصالحين أن يلقوا وسط األشياء المرعبة حتى يقدروا‬
‫على الخوف‪ ،‬وهم يتحملون األشياء بعقل هادئ؛ فاألشياء ليست سيئة إال‬
‫المرئ يحملها على وجه سيئ‪.‬‬

‫(‪ ((46‬احتفاء األمم بطابعها الصارم بسبب أساليبها الصعبة‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫واآلن أضف حقيقة أن من مصلحة الجميع أن يكون الصالحون جنو ًدا كما‬ ‫‪ 1-5‬‬
‫كانوا‪ ،‬ليؤدوا األعمال‪ ،‬وهذا هو مسار الرب والرجل الحكيم على حد سواء‪،‬‬
‫شرا(‪،((47‬‬
‫خيرا وال ًّ‬
‫ليبينا أن األشياء التي يرغب فيها الحشد والمخاوف ليست ً‬
‫ولكنها سوف توضح أن هذه األشياء ليست من نصيب أحد‪ ،‬بل هي للصالح‬
‫حيث إنه خير‪ ،‬واألشياء التي فرضها على الطالح ألنه سيئ فحسب‪.‬‬

‫والعمى مكرو ٌه إن لم يفقد المرء عينيه باستثناء َمن يستحقونه؛ ألن أعينهم‬ ‫‪ 2-5‬‬
‫مفقوء ٌة‪ ،‬ولذا دع أبيوس ‪ Appius‬ومتيليوس ‪ Metellus‬يفتقران إلى‬
‫خيرا‪ ،‬ولذا دع حتى إليوس ‪((47( Elius‬؛ فالقواد‬
‫‪ ،‬والثروة ليست ً‬
‫البصر(‪((47‬‬

‫يملكها رغم أن الناس قد كرسوها في المعابد وتراها في الدعارة‪ ،‬وليس الرب‬


‫طري ًقا لمحو رغبات الناس في األشياء‪ ،‬بل هو يمنحها لألشرار ويبعدهم عن‬
‫طريق الصالحين‪.‬‬

‫شوه الصالحون ويعذبوا أو يقيدوا بالقيود في حين‬


‫“ولكن من غير العدل أن ُي َّ‬ ‫‪ 3-5‬‬
‫ظلما للشجعان‬
‫ينعم الطالحون بالحرية والعفو وتسلم أجسادهم”‪ ،‬أليس ً‬
‫أن يرفعوا أسلحتهم ويقضوا الليل يحرسون‪ ،‬وأن يقفوا أمام المتاريس‬
‫بجروحهم المعصوبة‪ ،‬وفي الوقت نفسه يحيا المخصيون ودعاة العار في‬
‫ظلما أن تستيقظ أنبل العذارى في الليل لتؤدي‬
‫المدينة ال يرعون شيئًا؟ أليس ً‬
‫الطقوس المقدسة‪ ،‬في حين تنعم المنحرفة بنوم عميق؟‬

‫يتطلب الكدح جهدً ا عال ًيا‪ ،‬فأعضاء مجلس الشيوخ يتداولون طوال اليوم على‬ ‫‪ 4-5‬‬
‫الغالب والمتنطعون يقضون راحتهم على المروج (مارتيوس ‪ )Martius‬أو‬
‫مستترين في الحانات أو يضيعون أوقاتهم في الحكي الفارغ‪ ،‬ويحدث الشيء‬

‫(‪ ((47‬أي أنهم غير مبالين‪.‬‬


‫(‪ ((47‬أبيوس كلوديوس كايكوس ‪ Appius Claudius Caecus‬وكيسيليوس ميتيلوس ‪ L. Caecilius Metellus‬من رجال‬
‫الدولة في الجمهورية الوسطة‪ ،‬وفقد ميتيلوس بصره وهو ينقذ تماثيل اآللهة من النار في معبد فيستا ‪.Vesta‬‬
‫(‪ ((47‬غير معروف‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫نفسه في هذه الجمهورية من العالم وهو كدح الصالحين؛ فإنهم يبذلون وقد‬
‫طوعا وال يهربون من الحظ بل يتبعونه ويماشون سيره‪.‬‬
‫ُيبذلون ً‬

‫أتذكر سماع قول آخر يتحدث عن أشجع الرجال(‪ ((47‬ديمقريطوس يقول‬ ‫‪ 5-5‬‬
‫فيه “بمقدوري أن أقدم الشكوى لك ولألرباب الخالدين فحسب‪ ،‬فال تجعل‬
‫حاضر الستجابة‬
‫ٌ‬ ‫باكرا وأنا اليوم‬
‫جئت لهذه األشياء ً‬
‫ُ‬ ‫معرفتك لي قبلية؛ ألنني‬
‫عظيما بالنسبة لي‬
‫ً‬ ‫دعوتك‪ ،‬فهل تريد طر ًفا من جسدي؟ خذه‪ ،‬فليس ً‬
‫أمرا‬
‫أن أعد‪ ،‬فسوف أرحل عن هذا كله قري ًبا‪ .‬هل تريد أنفاسي؟ ولماذا أتوانى‬
‫في تسليمك ما أعطيته لك؟ ومهما سعيت فإنك سوف تأخذ من امرئ على‬
‫استعداد أن يعطي‪ ،‬أليس هذا حسنًا؟ لقد فضلت أن أقدمه أحرى من أن تسألني‬
‫فلم الحاجة إلى أخذه؟ لقد تلقيته‪ ،‬ولم تأخذه حتى اآلن‪ ،‬ألن ال شيء‬
‫عطاءه‪َ ،‬‬
‫قد يخطف إال ما كان المرء ً‬
‫قابضا عليه”‪.‬‬

‫ال شيء أجبر عليه‪ ،‬وال أعاني شيئًا على غير رغبتي‪ ،‬وال أخدم الرب‪ ،‬وبالحري‬ ‫‪ 6-5‬‬
‫أتفق معه‪ ،‬وكل هذا ألنني أعلم أن كل األشياء ُتقبل و ُتدبر بقانون ثابت محتوم‬
‫لألبدية‪.‬‬

‫تقودنا األقدار‪ ،‬وقد تحدد الزمن الذي يعيشه كل منا منذ اللحظة األولى التي‬ ‫‪ 7-5‬‬
‫نولد فيها(‪ ،((47‬وتحدث العلة على العلة‪ ،‬وتترسم األمور الخاصة والعامة‬
‫على طول الخط بترتيب طويل لألحداث‪ ،‬ويجب أن يعاني كل شيء بجسارة؛‬
‫ألن كل األشياء لم تحدث ببساطة كما نفكر‪ ،‬ولكن األحرى أنها جاءت‪ ،‬لقد‬
‫قدر منذ آماد بعيدة ما تملكه فيبهجك وما تحوزه فيبكيك‪ ،‬ومع ذلك تبدو‬
‫حيوات الناس متمايزة بتنوعها العظيم‪ ،‬والكل يجمع على شيء واحد‪ ،‬وهو‬
‫أن األشياء التي نتلقاها سوف تفنى وكذلك نحن‪.‬‬

‫(‪ ((47‬ذكر بالفعل في الفقرة ‪ 3-3‬عاليه‪.‬‬


‫جزئيا صدى ألشعار كليانتس التي كتبها في ‪. Letters 113.26‬‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((47‬هذه العبارة‬

‫‪374‬‬
‫ِ‬
‫نشتك؟ إننا مجبولون لهذا‪ ،‬فدع الطبيعة تستعمل‬ ‫ولم‬
‫ومن ثم لماذا نغضب؟ َ‬ ‫‪ 8-5‬‬
‫أجسامها كما تريد‪ ،‬وينبغي لنا أن نفرح ونجسر تجاه كل األشياء‪ ،‬ونتأمل‬
‫كيف يهلك الال شيء ما لنا‪ ،‬فما الذي يصدق على الرجل الصالح؟ ليقدم‬
‫نفسه للقدر‪ ،‬إنه العزاء العظيم هو ما يجرفه للعالم‪ ،‬ومهما كان األمر الذي‬
‫يدفعنا للعيش بهذه الطريقة والموت بها‪ ،‬كذلك فإنه يربط األرباب بالضرورة‬
‫نفسها ً‬
‫أيضا‪ ،‬وقد ُيحمل اإلنسان واإلله على قدم المساوة على مسار ال يمكن‬
‫تحويله‪ ،‬نعم‪ ،‬إن المصدر والمنظم لكل شيء يخط أقدار نفسه ولكنه يتبعها‬
‫أمرا مر ًة واحد ًة‪ ،‬ويمتثل لها على الدوام‪.‬‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬وقد يصدرها ً‬
‫ظالما حين وزع القدر حيث بارى الصالحون بالفقر‬
‫ً‬ ‫“ولكن لماذا كان الرب‬ ‫‪ 9-5‬‬
‫والجروح والموت قبل األوان؟”‪ ،‬إن الحرفي ليس بمقدوره أن يغير مواده‬
‫حيث ال تسمح الطبيعة بهذا‪ ،‬وليس بمقدور األشياء عينها أن تنفصل عن‬
‫األشياء األخرى؛ ألنها ممزوجة وال تنقسم(‪ ،((47‬وال تختلف العقول الخاملة‬
‫أو تكون عرضة ألن تقع في سبات أو يقظة على هذه الشاكلة عن السكون‬
‫الذي ُينسج من عناصر غير فاعلة‪ ،‬ولكي تبني إنسا ًنا ويطلق عليه إنسان ح ًّقا‪،‬‬
‫فإنه في حاجة لقدر أقوى‪ ،‬ولن يكون الطريق ممهدً ا له‪ ،‬حيث ُيقبل و ُيدبر‪،‬‬
‫وتتقاذفه األمواج‪ ،‬وعليه أن يوجه سفينه على البحر العاصف‪ ،‬ويقبض على‬
‫مساره لمواجهة الحظ‪ ،‬فأكثر األشياء التي ستحدث فظة وغليظة‪ ،‬ولكن‬
‫بمقدوره أن يلطف األشياء و ُيخففها خارج نفسه‪ ،‬فالنار تستخرج الذهب‪،‬‬
‫و ُينجب البؤس الرجل الشجاع‪.‬‬

‫‪ 10-5‬وانظر كيف ينبغي أن ترتقي الفضيلة الجليلة‪ ،‬وستدرك أن الطريق الذي يحتاج‬
‫أن يذهب إليه ليس خال ًيا من العناية‪ ،‬فالجزء األول من الطريق حاد‪ ،‬وحتى‬
‫لو كان ممهدً ا في الصباح فإن الجياد بالكاد تكدح عليه‪ ،‬والجزء العلوي في‬

‫معا‪ .‬انظر ‪see Aulus Gellius Attic Nights 7.1.9 = LS 54 Q (2).‬‬


‫(‪ ((47‬لمعرفة فكرة األحداث التي أقدارها ترتبط ً‬

‫‪375‬‬
‫وسط السماء‪ ،‬وحتى تنظر منه إلى شيء في البر البحر‪ ،‬فأنا أخشى فعل ذلك‪،‬‬
‫ويرتعد قلبي من رهبة الرعب‪ ،‬والجزء األبعد للطريق حاد‪ ،‬ويدعو لثبات‬
‫التحكم‪ ،‬وحتى ذلك الحين تنظر تيثيس ‪ ((47( Tethys‬من أسفل‪ ،‬تخشى أن‬
‫تالقيني في األمواج التي تقبع تحت‪ ،‬وربما قد رميت على عجل(‪. ((47‬‬

‫‪ 11-5‬وعندما سمع الشاب النبيل(فايثون ‪ )Phaethon‬هذا‪ ،‬قال‪“ :‬هذا الطريق‬


‫ينشدني‪ ،‬وسأصعد‪ ،‬ومن النافع أن أذهب خالل هذه األشياء حتى لو‬
‫سقطت”‪ ،‬وثبتت (الشمس) في محاولة ترهيب عقله التواق بالعلل لتخيفه‪،‬‬
‫وتقول الشمس حتى لو سلكت الطريق‪ ،‬ولم ُتجر إلى خطأ منه‪ ،‬فسوف‬
‫تمكث وسط قرون الثور التي تقف بالعكس والقوس الهيموني ‪Haemonian‬‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ‪“ :‬أعطني العربة وشدها‪ ،‬فهذه‬ ‫‪ Bow‬وتواجه األسد الشرس‪ ،‬وقال‬
‫األشياء التي تعتقد أنها تثنيني تحفزني‪ ،‬إنني أرغب أن أقف في المكان الذي‬
‫ترتجف منه الشمس ذاته”‪ ،‬فمن االنحطاط والخمول أن تتبع الطريق اآلمن‪،‬‬
‫إذ الفضيلة تتبع الطريق الوعر‪.‬‬

‫“ولكن كيف يسمح الرب بأن يحدث مكروه للصالحين؟”‪ ،‬حقيقة هو‬ ‫‪ 1-6‬‬
‫ال يسمح بهذا‪ ،‬إنه يبعد عنهم كل األمور السيئة مثل الجرائم وأفعال الشر‬
‫وأفكار الخبث وتدابير الطمع والشهوة العمياء والجشع التي تتأرجح في ما‬
‫يتبع اآلخرين‪ ،‬وما يراقبه الناس ذواتهم ويحموه‪ ،‬وهل بإمكان أحد أن يطلب‬
‫من الرب أن يعتني بمتاع الصالحين؟ وهم أنفسهم ال يشاركون الرب هذه‬
‫المسؤولية حيث يحتقرون األشياء الخارجية‪.‬‬

‫(‪ ((47‬تيتيس ‪ Tethys‬واحدة من نسل تيتان من أورانوس السماء واألرض جايا‪ ،‬وقد سرد هزيود أشقاءها وهم أوشيانوس‬
‫وكويس وكريوس وهيبيريون وإبيتيوس وثيا وريا وثيميس ومنيموسين وفيبي وكرونوس‪ ،‬وتزوجت تيتيس شقيقها‬
‫أوشيانوس وهو نهر هائل يحيط بالعالم‪( .‬المترجم)‪.‬‬
‫‪(477)Ovid Metamorphoses 2.63–69, then 79–81‬‬
‫أكمل سينيكا اقتباسات ِّ‬
‫الشعر بإعادة صياغته للنثر‪ ،‬والمتحدث هو الشمس‪ ،‬والتي فشلت في منع ابنها فايثون ‪Phaethon‬‬ ‫ ‬
‫من قيادة عربته نحو السماء‪ ،‬وكان سب ًبا لالحتراق‪ ،‬قارن استعمال ‪ Phaethon‬في كتاب الحياة السعيدة ‪.5-20‬‬

‫‪376‬‬
‫ألقى ديمقريطوس (‪ ((47‬ثروته‪ ،‬وعدها مرهقة للعقل القويم‪ ،‬ومن ثم لماذا‬ ‫‪ 2-6‬‬
‫تندهش من أن يحدث للرجل الصالح ما يرغب هو أن يحدث له؟ فالصالحون‬
‫يفقدون أبناءهم‪ ،‬ولماذا ال وهم يقتلونهم أحيا ًنا؟ وقد يرسلونهم إلى المنفى‪،‬‬
‫ولماذا ال وهم أحيا ًنا يهجرون أرض الوطن دون نية الرجوع إليه؟ وهم‬
‫يقتلون‪ ،‬ولماذا ال وأحيا ًنا يمدون أيديهم على أنفسهم؟‬

‫لماذا يعانوا من ملمات بعينها؟ حتى يعلموا اآلخرين كيف يعانون؛ ألنهم‬ ‫‪ 3-6‬‬
‫ولدوا ليكونوا مثالاً لذلك‪ ،‬ولذا يقول الرب‪“ :‬ماذا لديك حتى تشكوني‬
‫به أنت الذي استحسنت ما هو حق؟ لقد طوقت اآلخرين بالمتاع الزائف‪،‬‬
‫وخدعت عقولهم الفارغة كما لو كانوا في حلم طويل خادع‪ ،‬لقد زينت لهم‬
‫الفضة والذهب والعاج‪ ،‬وال شيء فيها خير‪.‬‬

‫هؤالء َمن تحملق فيهم كما لو كانوا سعداء‪ ،‬إذا نظرت في أجزائهم الباطنة‬ ‫‪ 4-6‬‬
‫وليست الظاهرة فسوف تحتقرهم‪ ،‬إنهم عار وفاحشون‪ ،‬يزينون الخارج مثل‬
‫جدرانهم‪ ،‬فليست السعادة عندهم هي الغاية والمأرب بل الشكل‪ ،‬وضعف‬
‫المرء في هذا‪ ،‬ولهذا السبب ما دام قد سمحت لهم أنفسهم أن يظهروا على‬
‫أنهم مصطفون فإنهم يختالون ويتألقون‪ ،‬وحين يحدث شيء ما يكدرهم‬
‫ويكشفهم‪ ،‬فمن اليسير أن ترى البؤس العميق والحقيقي يزيح األبهة‬
‫المتناقضة‪.‬‬

‫أعطيت لك المتاع الذي ال ريب فيه‪ ،‬وسوف أستمر‪ ،‬فاألمور تعظم‬ ‫‪ 5-6‬‬
‫وتستحسن إن أدارها المرء وتأملها من زواياها المختلفة‪ ،‬لقد سمحت لك‬
‫أن تزدري األشياء التي تخيفك لتعالج الرغبات بالتأفف‪ ،‬وال تنبهر بها من‬
‫الخارج‪ ،‬فمتاعك في الباطن‪ ،‬وبهذه الطريقة فحسب تزدري أشياء العالم‬
‫الظاهرة‪ ،‬وغاية الفرح في المشهد ذاته‪ ،‬لقد وضعت الخير كله في الباطن‪ ،‬وال‬

‫معاصرا لسقراط تقري ًبا‪ .‬انظر ‪.Diogenes Laertius 9.35, 39‬‬


‫ً‬ ‫(‪ ((47‬ديمقريطوس من أبديرا‪ ،‬كان‬

‫‪377‬‬
‫يحتاج حظك الحسن إلى حظ حسن‪.‬‬

‫“ولكن هناك أشياء جمة تحدث وهي مرعبة ومن الصعب تحملها‪ ،‬وألنه ليس‬ ‫‪ 6-6‬‬
‫بمقدوري أن أؤمنكم منها فقد سلحت عقولكم تجاه هذه األشياء‪ ،‬فتحملوها‬
‫بشجاعة! وهذا هو الطريق الذي تتجاوز به الرب‪ ،‬حيث إنه وراء معاناة‬
‫األشياء السيئة‪ ،‬وأنت فوق معاناتها‪ ،‬احتقر الفقر‪ ،‬فال أحد يطيق العيش في‬
‫فقيرا‪ .‬احتقر األلم؛ فإنك سوف ُتذيبه أو ُيذيبك‪.‬‬
‫الفقر بالمقدار الذي ُولد فيه ً‬
‫احتقر الموت؛ فإنه سوف ُيفنيك أو اتخذ لك مكا ًنا آخر(‪ .((47‬احتقر الحظ؛‬
‫سالحا قد يصيب به عقلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫فإنني لم أمنحه‬

‫وقبل كل شيء اتخذت تدابير ال أحد يجبرك فيها ضد إرادتك‪ ،‬والمخرج‬ ‫‪ 7-6‬‬
‫يوجد هنا‪ ،‬فإذا لم ترغب في القتال فقد يسمح لك بالفرار‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫أردت أن تكون كل األشياء لك ضرور ًة‪ ،‬ولم أصنع شيئًا أهون من الموت‪،‬‬
‫ووضعت حياتك على منحدر هابط‪ ،‬فإن ُكتب عليك‪ ،‬انظر وسوف ترى‬
‫الدروب المقتضبة والمباشرة تقود إلى ال مكان ما دام التأجيل بالنسبة لك في‬
‫الخروج مثلما فعلت لك في الدخول‪ ،‬وإلاَّ لو كان موت اإلنسان بطيئًا كما‬
‫ولد؛ فإن الحظ سيستحكم سيادته العظمى عليك‪.‬‬

‫إشعارا للطبيعة وترجع‬


‫ً‬ ‫دع كل لحظة وكل مكان يعلمك كم هو يسير أن تعطي‬ ‫‪ 8-6‬‬
‫هديتها لها‪“ :‬حتى المذابح والطقوس الرسمية للمضحين عندما تكون الحياة‬
‫تضرعا فإنها تعلم الموت‪ ،‬وإن جثث الثيران السمينة تنهار من جروح بالغة‬
‫ً‬
‫الصغر‪ ،‬وإن القوى الجبارة للحيوانات تخر بضربة من يد إنسان‪ ،‬حيث يعرقل‬
‫اتصال الرقبة بنصل حاد‪ ،‬وحين ينفصل االتصال بين الرقبة والرأس‪ ،‬فإن‬
‫الكتلة برمتها تنهار إلى أسفل‪.‬‬

‫(‪ ((47‬الموت إما نهاية أو انتقال كما يقول سقراط في صفحاته األخيرة في دفاع أفالطون عن سقراط قارن ‪.Letters 65.24‬‬

‫‪378‬‬
‫تخب أنفاسك‪ ،‬فليست بحاجة إلى أن تخفي النصل‪ ،‬وليست بحاجة إلى‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫‪ 9-6‬‬
‫أن تضع يدك على صدرك حيث عمق الجرح باطن(‪ ،((48‬فالموت ليس في‬
‫متناول اليد‪ ،‬وأنا لم أحدد موضعا ثابتًا لهذه المصائب‪ ،‬أينما ترغب يمكن‬
‫أن يكون السبيل‪ ،‬وهذا الشيء ذاته يطلق عليه الموت حيث تفارق الروح‬
‫الجسد‪ ،‬وتشعر بقصر سرعته‪ ،‬سواء بأحبولة تخنق حنجرتك‪ ،‬أو بماء يقطع‬
‫نفسك‪ ،‬أو سقطت على رأسك فتحطمت على سطح صلب‪ ،‬أو بجرعة نار‬
‫سريعا‪ ،‬فهل أنت مرتبك؟‬
‫ً‬ ‫تعترض ارتجاع نفسك‪ ،‬ومهما يكن سيأتي الموت‬
‫لقد قضيت وقتًا طويلاً خائ ًفا مما يحدث بسرعة!”‪.‬‬

‫* * *‬

‫(‪ ((48‬كما فعل كاتو في (‪.)cf. 2.12 above‬‬

‫‪379‬‬
:‫المراجع‬
Abel, Karlhans. 1967. Bauformen in Senecas Dialogen. Heidelberg:
C. Winter.

Dionigi, Ivano. 1997. “Problematica e fortuna del De Providentia.”


In Seneca, “La provvidenza,” trans. A. Traina, 41–74. Milan: Rizzoli.

Goar, Robert J. 1987. The Legend of Cato Uticensis from the First
Century B.C. to the Fifth Century A.D. with an Appendix on Dante and
Cato. Brussels: Latomus.

Griffin, Miriam T. 1992. Seneca: A Philosopher in Politics. 2nd ed.


Oxford: Oxford University Press.

Hutchinson, G. O. 1993. Latin Literature from Seneca to Juvenal: A


Critical Study. Oxford: Clarendon Press.

Isnardi Parenti, Margherita. 2000. “Socrate e Catone in Seneca: Il


filosofo e il politico.” In Seneca e il suo tempo, ed. P. Parroni, 215–25.
Rome: Salerno.

Mayer, Roland. 2008. “Roman Historical Exempla in Seneca.” In


Seneca, ed. J. Fitch, 299–315. Oxford: Oxford University Press. Traina,
Alfonso, trans. 1997. Seneca, La provvidenza. Milan: Rizzoli.

———, ed. 1999. L’avvocato di dio: Colloquio sul “De providentia”


di Seneca. Bologna: Pàtron.

Wright, J. R. G. 1974. “Form and Content in the Moral Essays.” In


Seneca, ed. C. D. N. Costa, 9–69. London: Routledge and Kegan Paul.

380
‫الفهرس‬
‫‪5‬‬ ‫ ‬
‫إهداء‬

‫‪7‬‬ ‫مقدمة المترجم إلى العربية ‬

‫‪11‬‬ ‫ ‬
‫سينيكا وعالمه‬

‫‪14‬‬ ‫مقدمة موجزة عن الرواقية ‬

‫‪21‬‬ ‫ ‬
‫رواقية سينيكا‬

‫‪26‬‬ ‫ ‬
‫تراجيديا سينيكا‬

‫‪31‬‬ ‫ ‬
‫دراما سينيكا بعد المرحلة الكالسيكية‬

‫‪37‬‬ ‫ ‬‫عزاء إلى ماركيا‪ :‬ترجمة‪ :‬هاري هينه‬

‫‪39‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪41‬‬ ‫ ‬
‫بنية العزاء‬

‫‪85‬‬ ‫ ‬
‫عزاء إلى هلفيا‪ :‬ترجمة‪ :‬جريث ويليام‬

‫‪87‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬
‫‪381‬‬
‫‪125‬‬ ‫ ‬
‫عزاء إلى بوليبوس‪ :‬ترجمة‪ :‬هاري هينه‬

‫‪127‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪159‬‬ ‫ِق َص ُر الحياة ‪ :‬ترجمة‪ :‬جريث ويليام ‬

‫‪161‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪199‬‬ ‫ ‬
‫عن صمود الحكيم‪ :‬ترجمة‪ :‬جيمس كير‬

‫‪201‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪201‬‬ ‫ ‬‫عن العنوان الموضوع والبنية‬

‫‪204‬‬ ‫ ‬‫الصمود والحكماء‬

‫‪237‬‬ ‫سكينة العقل‪ :‬ترجمة‪ :‬إلينا فانثام ‬

‫‪239‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪241‬‬ ‫ ‬
‫بنية النص‬

‫‪285‬‬ ‫ ‬
‫عن وقت الفراغ‪ :‬ترجمة‪ :‬جاريث ويليام‬

‫‪287‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪301‬‬ ‫ ‬
‫السعيدة‪ :‬ترجمة‪ :‬جيمس كير‬
‫عن الحياة َّ‬
‫‪303‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪303‬‬ ‫ ‬
‫الموضوع والبنية‬

‫‪305‬‬ ‫ ‬
‫دفاع سينيكا‬

‫‪307‬‬ ‫ ‬
‫اللذة والثروة وفن العيش‬

‫‪382‬‬
‫‪347‬‬ ‫ ‬
‫الربانية‪ :‬ترجمة‪ :‬جيمس كير‬
‫عن العناية َّ‬
‫‪349‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة‬

‫‪349‬‬ ‫ ‬‫العنوان والموضوع‬

‫‪351‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫سينيكا ولوكيليوس والجمهور‬

‫‪352‬‬ ‫ ‬‫بنية النقاش‬

‫‪354‬‬ ‫ ‬
‫المصيبة ومعرفة الذات‬

‫‪380‬‬ ‫ ‬
‫المراجع‬

‫‪383‬‬
384

You might also like