Professional Documents
Culture Documents
محاورات السعادة والشقاء
محاورات السعادة والشقاء
السعادة َّ
والشقاء َّ
لوكيوس أنايوس سينيكا
1
الم�ؤلف :لوكيو�س �أنايو�س �سينيكا
ال�سعادة َّ
وال�شقاء العنوان :محاورات َّ
ترجمة :د .حمادة �أحمد علي
الطبعة :الأولى 2019
ت�صميم الغالف :عمرو الكفراوي
م�ست�شار الن�شر� :سو�سن ب�شير
المدير العام :م�صطفى ال�شيخ
رقم اإليداع:
2018 / 20105
الرتقيم الدوليISBN :
978 - 977 - 765 - 184 - 4
جميع الحقوق محفوظة .ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أى جزء منه .أو تخزينه فى نطاق استعادة
المعلومات ،أو نقله بأى شكل من األشكال دون إذن مسبق من الناشر.
All rights are reserved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval
system, or transmitted in any form, or by any means without prior permission in writing
from the publisher.
1 Kareem El Dawla st. - From Mahmoud Basiuny st. Talaat Harb
CAIRO – EGYPT - Tel: 00202 25778743 - 00202 25779803 Mobile: +202-01111602787
E-mail:afaqbooks@yahoo.com – www.afaqbooks.com
1شارع كريم الدولة -من شارع حممود بسيوين -ميدان طلعت حرب -القاهرة -مجهورية مرص العربية
ت - 00202 25779803 - 00202 25778743 :موبايل01111602787 :
2
محاورات
السعـادة َّ
والشقــاء َّ
تأليف
لوكيوس أنايوس سينيكا
3
بطاقة الفهرسة
إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشؤون الفنية
4
�إهداء
إلى من تكابد الشقاء وتحاول أن تصنع للسعادة طري ًقا.
زوجتى.....
5
6
مقدمة المترجم إلى العربية
لم يكتب سينيكا كتا ًبا بهذا العنوان ،بل هو من صنيع المترجم من اللغة الالتينية،
وكان له دوافعه ،وهي أن الكتاب يتضمن على شقين :األول وهو مجموعة الرسائل
األخالقية التى تتحدث عن الحزن والمواساة ،ومجموعة الرسائل التى توازيها
وتتعرض لمفهوم السعادة.
يتمتع سينيكا بأسلوب أدبي رصين ،وعبارة تبدو سلسة بسيطة ،ولكنها ُتخفي فى
طياتها مهارة الكاتب الماهر الذى أفنى ذاته فى ضبط أقواله ،ويميل سينيكا إلى الحس
الفكاهي الساخر فى توضيحاته وهو يتردد بين األمثلة المختلفة ،ويختم حديثه دو ًما
بحكمة مأثورة تتماشى مع الموضوع الذى يطرحه .ونهض سينيكا بثورة أسلوبية على
التراث الروماني فى أوضاع مترهلة كالتي نعايشها اآلن ،ولم يسع سينيكا إلى تقليد
القدامى ،بل أهمل أساليبهم ،وابتدع لنفسه أسلو ًبا جديدً ا ،واشتهر سينيكا بأسلوبه
بالح َكم والمواعظ ،فكلماته وعباراته معتدلة تدل على اختيار مبدع،
التحليلي الحافل ِ
كما أن استخدامه للمؤثرات السمعية المتعددة فى إشاراته أو فى توكيداته لما يقصده
يميز أسلوبه عن غيره.
والهدف من ترجمة هذا الكتاب ونشره أسباب عدة أولها :إثراء وعي القارئ العربي
المعاصر بالنظر إلى التراث ،حيث إن معالجات سينيكا لواقعه اتسمت بالشمولية فى
فترة زمنية تتشابه مع حياتنا المعاصرة ،فقراءته الكلية نهلت من األصولية الغربية،
7
وأصلحت من المجتمع الروماني ،وهي كذلك صالحة لمجتمعنا المعاصر ،حيث تشعر
حين تقرأ إبداعه األدبي الحكيم وكأنه يعيش بيننا ،ثانيها :لم يترجم من أعمال سينيكا
سوى كتاب اإلحسان الذى نشرته دار آفاق بالقاهرة ،فى حين تكالب المترجمون على
أعمال سهلة بسيطة ال تغذي إصالح الواقع المرير ،وتتجاهل األعمال العالمية التي
خالصا من واقعه.
ً يمكن أن تثري الفكر العربي المعاصر ،التى يمكن أن يجد فيها
يتضمن الكتاب تسعة رسائل ،وتنقسم إلى جزئين ،أما الجزء األول يدور حول
الشقاء ،ويتجسد فى ثالثة رسائل من العزاء ،وهي عزاء إلى ماركيا وعزاء إلى هلفيا
وعزاء إلى بوليبوس ،وهذه العزاءات الثالثة هي الوحيدة التى عرفها الغرب والشرق
من هذا النوع ،حيث يتخلل التاريخ والحكمة والفلسفة واألدب مفهوم العزاء ،وهذا
القالب األدبي لم ُيعرف قبل سينيكا ،ولم يستطع أحد بعده خوض غماره .وأما الجزء
الثاني عن السعادة ،وهو ستة رسائل :وهي سكينة العقل ،وقصر الحياة اإلنسانية،
ووقت الفراغ ،والحياة السعيدة ،والعناية الربانية ،وصمود الحكيم.
وأما الجزء األول يتناول مفهوم الشقاء ويتناول ثالثة رسائل على النحو اآلتي:
أولاً :عزاء إلى ماركيا يقدم فيه العزاء إلى ماركيا لموت ابنها ،ومضمون هذا العزاء
يقدم الراحة لمن أصابه الحزن ،ويستند إلى تقاليد فلسفية وخطابية شتى .وهو يستند
على مبدأ أن الحزن مثل االنفعاالت األخرى ،وهو نتاج المعتقد الخاطئ عن طبيعة
الموت وتأثيره على المتوفى والثكلى .والحقيقة إن عزاء إلى ماركيا أقدم تعزية بقيت
على قيد الحياة.
ثان ًيا :عزاء إلى هلفيا ،يجاهد سينيكا فى هذه الرسالة لتخفيف حزن أمه على معاقبته
بالنفي إلى كورسيكا عام 41م على ما يبدو بتهمة الزنا مع جوليا ليفيال أخت اإلمبراطور
طابعا
جايوس ،والجدة المتناقضة التى يقدمها الرثاء تبعث األسى وتريح من يعزيه ،وتعطي ً
بعينه لهذا التنوع السينيكي من التراث العزائي القديم ،وعزاء المنفى هو النموذج الوحيد
الذى بقي فى اليونانية ،باستثناء عزاء موسونيوس روفوس الذي لم يتجاوز ثالث صفحات.
8
ثالثا :عزاء إلى بوليبوس ،حيث دفع موت شقيق بوليبوس سينيكا لكتابة هذا
العزاء ،وبدأ العمل بالفقد وال نعلم ما المفقود ،ولكن المفقود هو ما لدينا ،ويغطي
سينيكا عد ًدا من الموضوعات القياسية ألدب العزاء القديم ،وهو يتوارى فى تسمية
نظرائه ووجهة النظر الرواقية الدقيقة التى ترى أن الحكيم ال يشعر بحزن على اإلطالق.
وأما الجزء الثاني يتناول مفهوم السعادة ،ويتناول ستة رسائل وهي على النحو
اآلتي:
أولاً :قصر الحياة ،وهى رسالة يوضح فيها شجبه للزمن الضائع باالنشغاالت
المضللة بكل وسائل الراحة والمداهنة ،وتلك االنشغاالت التى تداهننا لتفض عنا
عصب حياتنا ،و ُنخضع أنفسنا لتدقيق معذب للزمن المهدر.
ثان ًيا :صمود الحكيم ،وهى رسالة يبين فيها أن الحكيم ال يتلقى إهانة وال ضرر،
وكما يخبر سينيكا سيرينوس صديقه الذى يخاطبه في العمل ،يتناول سينيكا مباشرة
كيف يمكن للمرء أن يقوم بالضرر ،ومن ثم ال يتلقاه الحكيم ،واستعمل حجج القياس
المنطقي التي تسعى جميعها إلى فصل قصد األداة عن نتيجة الفعل ،والقصدية التي
يمكن أن يتجاهلها الحكيم الذي يتجاوز أفعال المخطئين ،كما لو كانت أحداث
مصادفة ال أهمية لها.
حقيقيا
ًّ ثال ًثا :رسالة سكينة العقل ،وهي رسالة فريدة بين محاوراته؛ ألنها تقدم تبادلاً
بين المخاطب أنايوس سيرينوس وسينيكا ،ولكن هذا الحوار يمنحه صيغة الفعل التي
يوصف بها أزمة هوية الشباب.
رابعا :عن أوقات الفراغ ،وهي رسالة تبين أنه لم تتح الحالة المناسبة للحكيم فى
ً
الخدمة العامة ،فقد يحق له االنسحاب إلى الحياة التأملية فى أي من مراحل العمر،
ومع ذلك تبقى األولوية للعمل حتى في التقاعد.
خامسا :الحياة السعيدة ،وهي رسالة رسمت لوحة مقتضبة للحياة الرواقية السعيدة
ً
التي تبنيها الفضيلة ،وهي تعتد بعالقة الحياة باللذة وأحوال أخرى ،ثم يشرع في تقديم
9
ستة تعريفات للحياة السعيدة بامتداد مختلف ،وهو يبرر نهجه للتعريف بمماثلته
بالجيش الذى بمقدوره أن يتمدد وينكمش فى لحظة واحدة وف ًقا للخطة.
سادسا :العناية الربانية ،وهي رسالة ال يحتفي فيها بشكوى لوكيليوس التي تنظر
ً
إلى األشياء الرديئة التى تحدث لألخيار ،ولكنه يناقش على نحو مفارق أن األشياء
الرديئة ليست سيئة ،بل هي من أعظم ذخائر العناية اإللهية.
والله من وراء القصد
د .حمادة أحمد على
قنا – 2018
10
سينيكا وعالمه
الحظ سينيكا في رسالته ( )Letter 13.14أن ما صنع عظمة سقراط
بسم الشوكران ،حيث أكد موته صمود مبادئه الفلسفية ،واعتقاده
هو موته ُ
بأن الموت ليس مخي ًفا ،وقد القى سينيكا مصير سقراط حين حكم عليه
نيرون باالنتحار عام 65م ،ونعتقد أن ما ذهب إليه تاكيتوس Tacitus
في حوليته ( )15.63صوا ًبا ،حيث إن الرواقية الرومانية وازنت بين موته
وموت سقراط وهو يتحدث عن الفلسفة بسكينة بين أصدقائه كما يتقطر
الدم من عروقه .ولم ينصب وصف تاكيتوس هنا على وعظ سينيكا
فحسب ،بل كذلك على منهج حياته.
وقد منيت حياة سينيكا بخيبة أمل من الناحية السياسية نتيجة تأثرها
بالنفي والعودة وتسوية عالقته باإلمبراطور نيرون تلميذه ومعلمه أولاً
أخيرا ،وتخبرنا كتاباته باليسير عن وظيفته السياسية وعالقته
ً ومقتوله
بنيرون باستثناء ما يمكن أن نستشفه من مقاله عن العفو .On Clemency
وتخبرنا المصادر المتأخرة مثل تاكيتوس وسويتونيوس وكاسيوس
ديو(150ق.م235-م) Dio Tacitus, Suetonius, and Cassius
11
أن سينيكا ُولد لعائلة عريقة في الفروسية بمدينة قرطبة Cordubaفي
بين عامي 4-1قبل الميالد ،وهو االبن الثاني من ثالثة أبناء هسبانيا(•)
12
بوروس Sextus Afranius Burrusمن عام 54وحتى تضاءل نفوذه
في نهاية العقد .ونحن نعلم أنه كتب مقالاً عن العفو لنيرون؛ ليلقيه على
مجلس الشيوخ عقب انضمامه إليه بفترة وجيزة ،وقد احتوى مقاله عن
العفو على بعض الشكوك من خطة نيرون للحفاظ على اإلمبراطور
مشيرا
ً الشاب من العدو المسعور ،واستخدم سينيكا كلمة ملك rex
بها إلى نيرون السيناتور الروماني من باب المماثلة واالندهاش ،ويبدو
أنه امتدح نيرون ،وأشار إلى سلطته التي ال حدود لها وإلى قيمة العفو
التي قد تحفظه من تقلبات السلطة ،وأيدت اإلدارة القضائية والمدنية
اإلمبراطورية سينيكا وبوروس.
وشعر كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين أن الفترة األولى من
حكم نيرون التى أدارها سينيكا وبوروس ،وهي فترة سادها االنسجام
والعدل وأطلق عليها خمسية نيرون ،quinquennium Neronis
وبدأ االنحطاط بقتل نيرون ألجريبينا عام 59م ،وكتب بعدها خطا ًبا
لإلمبراطور يبرئ نفسه ،وربما كان هذا مثالاً لفيلسوف عظيم وجد نفسه
ً
متورطا بسبب منصبه ككبير مستشاري نيرون ،وحتى يزيل الغموض
حول َمن جعلوا معارضتهم لنيرون واضحة مثل ثراسي بياتوس Thrasea
Paetusوهيلفيديوس بريسكوس .Helvidius Priscusويحتمل أن
خيرا
مشاركته في األحداث السياسية قادته العتقاده أن بإمكانه أن يفعل ً
بوقوفه بجانب نيرون الذي ،تخلى عن نصح سينيكا.
وقد تضاءل تأثير سينيكا على نيرون بعد موت بوروس عام 62م،
وحاول التنحي عن منصبه مرتين عام 62م و64م ،ورفض نيرون
المحاولتين ،وغيب سينيكا نفسه عن األحداث بعد عام 64م ،وفي عام
65م جاءت مؤامرة بيزونية Pisonianلقتل نيرون ليتولى محله الزعيم
13
كالبورنيوس بيزو ،C. Calpurnius Pisoورغم أن لوكان ابن أخ سينيكا
ً
متورطا في المحاولة فقد برأ سينيكا نفسه ،ولكن نيرون انتهز الفرصة كان
ليأمر معلمه القديم بقتل نفسه ،فقطع سينيكا شرايينه .ويخبرنا تاكيتوس
أن نحافة سينيكا وتقدمه في العمر قد أعاقا تدفق الدم منه ،وحين فشل
االنتحار في قتله ،أجلسوه في حمام ساخن حتى يتدفق الدم منه بسرعة،
وحاولت زوجته االنتحار بعده ،ولكنهم أنقذوها بأمر نيرون.
رواجا عند المسيحيين ُ
األ َول ،وأثرت كتاباته األخالقية ً ولقي سينيكا
على القديس بولس ،ونال حقه من النقد ،ونشب عليه هجوم للتناقض
الظاهر بين تعاليمه الرواقية في عدم االهتمام بالمظاهر الخارجية ورأيه
في تكديس الثروة ،وربما لم ينل لهذا السبب نفس احترام الرواقي
موسونيوس روفوس الذي ُل ِّقب بـ«سقراط الروماني» .والشخص
الوحيد الذي هاجم سينيكا في حياته هو سيلليوس ،بسبب تراكم ما
يقرب 300مليون سسترس منذ صعود نيرون للسلطة نتيجة الرسوم
الباهظة على إيطاليا والواليات األخرى ،و ُنفي سيلليوس إلى جزيرة
بليار الختالسه وتلصصه .ويبدو أن سينيكا كان متقش ًفا رغم ثروته ،وفي
مقاله عن الحياة السعيدة De vita beataاتخذ موقف الفيلسوف الغني
صاحب الثروة التي تُربح وتُخسر وموقفه منها منفصل تمامًا .ويحتمل
سينيكا في تقديرنا تناقضات عدة فرضتها حياته السياسية.
رواقية سينيكا:
والء ُه للرواقيين في كتاباته
َ يصف سينيكا نفسه بالرواقي ،ويعلن
بوصفهم «أهلنا» ،ويستقل بذاته في عالقته ببعض الرواقيين ،في حين أنه
يلتزم بأسس المذهب الرواقي ،ويعيد صياغته بناء على تجربته وقراءته
المتبحرة للفالسفة اآلخرين ،واتبع في هذا منهج التراث الفلسفي
الرواقي الذي يجسده بانيتوس وبوزدونيوس ،اللذان قدما بعض العناصر
األفالطونية واألرسطية لتتكيف مع رواقية المجتمع الروماني .ويختلف
سينيكا عن سابقيه من الرواقيين؛ ألنه رحب بالفلسفة األبيقورية
باختالفاتها.
وركز سينيكا في تطبيق المبادئ األخالقية الرواقية على حياته وحياة
اآلخرين بالمثل ،والتساؤل الذي هيمن على كتاباته الفلسفية هو :كيف
يعيش المرء حياة خيرة؟ وكان سينيكا يرى أن السعي للفضيلة والسعادة
21
مسعى بطولي يضعه اإلنسان الناجح فوق بطش االنتهازية وفي مستوى
حول سينيكا الحكيم إلى شخصية ملهمة،
الرب ،ولتحقيق هذه الغاية َّ
بإمكانه تحفز اآلخرين ليتبعوا مثاله بلطف اإلنسانية وبهجة الهدوء،
ومفتاح فلسفته هو كيف يوفق المحنة اإلنسانية بالعناية اإللهية ،وكيف
يحرر ذاته من انفعاالت الغضب والحزن ،وكيف يواجه الموت ،وكيف
يحرر ذاته من المشاركة السياسية ،وكيف يعيش الفقر ويستخدم الثروة،
وكيف يفيد اآلخرين ،وقد نظر إلى هذه المساعي في سياق أسمى وهو
منظور األلوهية العاقلة والفاضلة ليحقق نفس الفضيلة في محاوالت
البشر .وقد ناقش سينيكا في مجال السياسة العفو عند الحاكم األسمى،
خاصا بالصداقة وموقف العبيد والعالقات اإلنسانية،
ًّ وقد أولى اهتما ًما
وهدف إلى استبدال البنية االجتماعية باعتمادها على الثروة ببنية أخالقية
مقاربة وف ًقا لغاية الحكيم.
لقد تخلل كتابات سينيكا قلق ومخاوف شخصية ،ورغم أن القارئ
المعاصر يقرأ عن حياة سينيكا األرستقراطية في عهد كالوديوس ونيرو،
وعن ضعف وقوة شخصيته ،إال أنه يتجاوز في الوقت نفسه اهتمامات
سينيكا وعصره .وقد يتردد بين جمهور المعاصرين أن دعوته للبشر
ليتوحدوا؛ هي مطلب لعبيده واهتمامه باالنفعال اإلنسانى وإصراره على
التقوقع في ذاته لتحقيق السعادة ،وأن شخصية سينيكا أوقعت عديدً ا من
القراء في إشكالية ،وقد صوره بعض من معاصريه أنه منافق وال يمارس ما
يعظ به ،وأن أعمال سينيكا -خاصة تعازيه لبوليببوس وألمه هلفيا ومقاله
عن الحياة السعيدة -كانت لخدمة مصالح شخصية ،ورأى سينيكا في
خطابه 84أنه بدل تعاليمه التي جمعها كالرحيق في ٍّ
كل يعكس التركيب
المعقد.
22
لقد قسم الرواقيون المنطق إلى الجدل وهو حجة قصيرة ،والخطاب
وهو عرض مستمر ،وقد تجنبت كتابات سينيكا الجدل والمنطق
الصوري عمو ًما ،ومع ذلك يعرض بين حين وآخر رقائق من المنطق
حسن ما
الرواقي بسخرية؛ ألن ما تحمله الدقة المنطقية تزيد عقيم وال ُي ِّ
عليه المرء ،وينبغي تجنب كل أنواع المراوغات سواء أكانت تنطوى
على خيط رفيع يى الجدل وتقيم فرو ًقا لفظية خفية للغاية ،أم التي تتضمن
تفسيرات فلسفية عويصة ،وحين يعمل سينيكا هكذا ،فإنه يجعل القارئ
متيقنًا من معرفة أن بإمكانه هزيمة منافسه إن أراد.
وعلمنا ضئيل عن وجهة نظر الرواقيين في الخطاب ،ويتضح هذا عند
سينيكا حيث استخدم طائفة من الطرق البالغية الرومانية إلقناع القراء
برسالته الفلسفية ،واكتظت كتاباته بأمثلة حية واستعارات جمة وأقوال
دالة لها وقع مؤثر ،فهو يعرف كيف يغير لهجته من الحديث العرضي إلى
شعبيا ،يلقيه على لسان
ًّ الموعظة الرصينة واالستنكار الساخر .وكان نصه
شخصيات متنوعة ،واشتملت عناوين موضوعاته الجمهور والمعارضين
االفتراضيين واألصدقاء والرموز التاريخية ،وجال في الطريق كصديق
حميم وأحيا ًنا كعدو رجيم ،واتبع سينيكا كليانتس وحول ِشعره ً
نثرا،
حتى يحث القارئ على تحسين ذاته.
وبالنظر إلى الغايات األخالقية عند سينيكا ربما يكون من الغرابة أن
يكرس عملاً مطولاً للتساؤالت الطبيعة في الفيزياء ،ويصف العمل برمته
مرارا على أن العقل قد يرتقي إذا تجاوز
غايات أخالقية .وأصر سينيكا ً
االهتمامات اإلنسانية الضيقة وعاين العالم بأسره ،وأن تأمل العالم الطبيعي
تتمة للفعل األخالقي برؤية السياق الكامل للفعل اإلنساني ،فنحن نرى
الرب في مجده الكامل يهب الحياة لإلنسان؛ ألنه يدبر العالم برمته .ونثر
23
سينيكا رسائله األخالقية بعيدً ا عن محاوراته الطبيعية المحضة ،وأكد
على ضرورة أن يواجه اإلنسان األحداث الطبيعية كالموت والكوارث
الطبيعية بامتنان للرب ،وهو يحذر من إساءة استخدام اإلنسان للمصادر
الطبيعية ،واالنحطاط الذي يصاحب التقدم .ويصوب سينيكا في جل
نقاشه عن الطبيعة المذهب الرواقي ،سواء أكان باإلضافة أم التعديل،
وهو يفند تاريخ الجدل حول الطبيعة بداية من فلسفة ما قبل سقراط حتى
عصره بغية تحسين المذهب الرواقي.
وكتب سينيكا في الرسالة ( )Letters 45.4أن الفالسفة السابقين قد
اكتشفوا األشياء لذاتها ،وتركوا لنا بعضها لندرسها؛ ألنهم لم يدركوا
ُكنهها .وعرض سينيكا في نقاشاته عن الكون تعاليمه األخالقية ليوضح
رؤيته عن العدالة والتجديد ،وكان إسهامه وجهة نظر جديدة ،واستخدم
أساسا للتجديد ،ورسم صورة للتحديات التي
ً االختالفات الرواقية
تواجه اإلنسان ،وإلى السعادة التي ينتظرها َمن يمارسون الفلسفة الحقة.
واتفق سينيكا مع األصولية الرواقية ،حيث تمسك بالتفرقة بين المنفعة
والخير ،والحاجة إلى استئصال االنفعاالت ،وتفضيل عقالنية المرء
الحكيم ،وتماثل الرب والقدر ،وربط ما أضافه لألخالق بحس ِشعري
مرهف حول هذه االختالفات إلى منطلقات للفعل.
ونظر النقاد إلى الحكيم الرواقي على أنه أسمى من إمكانات البشر،
وأنه متحجر العواطف .واعترف سينيكا أن الحكيم أمر نادر الحدوث
بل هو كالعنقاء ،وقد يظهر كل خمس مائة عام ( ،)Letters 42.1وليس
الحكيم كما يرى سينيكا عائ ًقا للتقدم ،بل هو الملهم به ،ومنح سينيكا
الحرية للحكيم من واقع الحياة ،مستشهدً ا بكاتو األصغر the younger
حكيما على الحقيقة ،ويقول
ً Catoعدو يوليوس قيصر ،ولم يكن كاتو
24
سينيكا في مقاله “عن الثبات” :لست على يقين إن كان كاتو تجاوزني أو
ال .وهو ال يطمس بهذا االختالفات الرواقية ،بل يسلط الضوء على القوة
الباطنة للحكيم بمثال كاتو وأمثلة أخرى من الماضى الروماني .ودمج
سينيكا الحكيم الرواقي بالصورة التراثية للبطل الروماني ،وهكذا ح َّفز
قراءه الرومانيين لتأدية واجبهم بمحاكاتهم للحكيم.
َّ
ويحدد سينيكا مراحل ثالث للتقدم األخالقي دون مستوى الحكيم،
ويعاينها وف ًقا الفتقادنا لالنفعاالت العقلية ( .)Letters 75واألولى هي
حالة تقترب من وجود الحكيم ،وهو الشخص الذي لم يتيقن بعد أن
الوجود بإمكانه مجابهة االنفعاالت العقلية وتسمى العواطف أباثيا.
والثانية وهي المرحلة األدنى من المرحلة السابقة ،وهو الشخص الذي
ينزلق إلى مستوى أدنى في التقدم يتجنب ً
بعضا من االنفعاالت العقلية.
واألخيرة وهي أدنى المراحل ،وهم أناس ال يحصون وال يحققون أي
تقدم ،ولم يقل سينيكا في حقهم شيئًا سوى أنه تجنبهم ألنهم ملوثون،
وهم مختلفون عن الذين يناضلون ،ويذوقون المر في البداية ليصبحوا
في حالة أفضل؛ إال أنها فترة وجيزة وستنقضي ،ويقول سينيكا عنهم:
“حين يحرمون األنين واآلهات س ُيختار منهم ألطف النبرات” (Letters
،)23.4وال يزال سينيكا يصر على أن هذه الكلمات حقة وغايتها الوصول
ٌ
عرضة للصدمات ،وتبدو ردود األفعال للحق بقدر الممكن .والحكيم
آنية مثل االنفعاالت العقلية ،ولكن هذه االستجابات االضطرارية قد
تنجح مباشرة برسوخ الحكم .والحكيم عند سينيكا ودود مع اآلخرين
ومغمور بالبهجة ،وال عالقة له بالمتعة الزائلة التي يتعاطها اآلخرون من
المظاهر .ويصور سينيكا التطور األخالقي على أنه نضال شاق أو حملة
عسكرية أو مداهمة متصاعدة لمواقع العدو ،حيث يتكهن العدو هجو ًما
25
شرسا من ضحيته ،وربما يستسلم منافسه ،وسيظفر إذا قاوم حتى نهاية
ً
المعركة ،وقد تأتي الكوارث على المناضل من أشخاص آخرين ،أو من
الظروف المحيطة به ،ومنها الموت والنفي واالضطهاد والمرض ،وقد
حفلت حياة سينيكا بأمثلة شتى ،وذهب سينيكا إلى أن الشدائد وسائل
للتقدم األخالقي ،وأن الظروف تعين َمن يناضلون للوصول إلى التقدم
األخالقي.
يتغيا التقدم األخالقي ال يجابه الظواهر الخارجية فحسب ،بل
و َمن َّ
ونفسا
ً ينظر في ذاته .ويخبرنا سينيكا من وحي أفالطون أن بداخلنا ر ًّبا،
تسعى إلى تحرير ذاتها من براثن الجسد .ويدعو سينيكا القارئ إلى أن
يرتد إلى ذاته الباطنة ليتأمل حالة بعينها ،ومن ثم يتجه نحو تأمل اإلله،
أيضا .ومن األفضل ألاَّ يطول
ويجري هذا االنسحاب على الحياة الفاعلة ً
عمل المرء في االشتغال بالسياسة .وهكذا ربط سينيكا االنسحاب
األخالقي بمحاولة انسحابه من السياسة في األيام األخيرة من عمره،
وهو يصر على االستمرار في عون اآلخرين بتعاليمه الفلسفية كأي رواقي
آخر.
تراجيديا سينيكا:
كتب سينيكا ثمانية أعمال تراجيدية ،وهي :أجاممنون ،وثيستيس،
وأوديبوس ،وميديا ،وفايدرا ،وفوينيساي أي النساء الفينيقيات،
وترواديس Troadesأي النساء الطرواديات ،وهيركوليس فورينس
Hercules furensأي جنون هرقل .وال تشتمل على أوكتافيا الكبرى،
وهيروكليس أوتيوس ،ولم يتبقَّ من فوينيساي سوى شذرات ،وقد ُنظر
لهذه الدراما بأوجه شتى عبر القرون ،وال يزيد َمن ينقدها على أنها مجرد
26
نصوص معيبة للدراما اليونانية القديمة لمسائل قد عالجها سينيكا ،ولم
يكن دوره فيها سوى أنه استخرجها من مخبأ الفلسفة الرواقية الرومانية،
وسلط عليها الضوء ،وأسرف في التمثيل البالغي عليها ،أو أعاد بناء
المسرحيات المفقودة لسوفوكليس و َمن تبعه من شعراء أتيكا ،وفرضت
علينا السمات التي ميزت الدراما صوابها وال تستحق االهتمام النقدي
اآلن .والحقيقة أنَّ دراما سينيكا نصوص ممتدة للتراجيديا الرومانية
عند ماركوس باكيوفيوس ولوكيوس أكسيوس التي افتقدتها األجيال.
وقد ترجمت نصوص سينيكا الدرامية إلى اللغة اإلنجليزية عام 1581م
كتراجيديات تيني ،Tenneوأثرت على التراجيديين في العصر اإلليزابيثي،
ربما قد تحول سينيكا إلى كتابة الدراما قبل فترة حكم كاليجوال 41-37
ق .م ،رغم أنه ال يمكن تحديد متى بدأ بالضبط ،وقد حفظ أجاممنون
Agamemnonأول إشارة للمسرحيات على حائط في بومبي ،ونستنتج
منها أنها ُكتبت قبل ثورة بركان فيزوف عام 71ق .م .وال يؤكد التحليل
األسلوبي والبنيوى لمسرحيات سينيكا ،ويبدو أن الباحثين متفقون على
أن ثيستس وفونيسيا من األعمال المتأخرة ،ونحن نعجز عن تحديد تاريخ
الدراما عند سينيكا وعالقته بمقاالته وخطاباته ،رغم أن هناك انطباعات
في نثره ِ
وشعره قد أرشدت بعض القراء في القرن الخامس العتبار
سينيكا في أعمالهم ،ومنهم الكاهن والخطيب سيدونيوس أبولليناريس
،Sidonius Apollinarisومن بعده أيراسموس وديدرو.
إن التشكيك في كتابات سينيكا أمر طبيعي ،نتج عن فشل الرواقية
رد هذا الفشل إلى ضعف أتباعها
كطريقة للحياة في األعمال الدرامية ،و ُي ُّ
في التحكم في الرغبة واالنفعال ،أو صعوبة ممارسة الرواقية ذاتها ،أو أن
موضوعا للعناية الربانية .وأن دراما سينيكا مفتوحة للنقاش
ً العالم ليس
27
وتفترض قراءتها إتاحة الفرصة لألسطورة التي تدين موت كاسندرا أو
بوليكسينا على يد كليتيمنسترا Clytemnestraأو أوليسوس ،واستفاد
سينيكا من هذه الحقيقة التراجيدية ليطرح مفهوم القدر الذي ال يرحم
دراميا في الجمهورية
ًّ وعدم جدوى ُمالحظاتهُ .وعتبر ثيستس عملاً
المتأخرة؛ لذا فهي العمل الوحيد الكامل لدينا ،حيث نجده فيما ُيسمى
المنفى ،والذي يمتدح حياة العوز ألبنائه ،ويذكرهم بأن الشخص الوحيد
السعيد الذي يعيش بال خوف ،هو َمن يشرب في ٍ
أوان فخارية ،ولكن
حين ُدعي إلى العودة إلى قصر أرجوس لتآمر أخيه أتريوس الذي تسبب
في نفيه ،استجاب إلغرائه بالعودة بعد شيء من تردد ،وقال البنه“ :إني
أتبعك” ،ولكن لم يستسلم في اتباعه للحياة المترفة على عكس رفاهية
الخير الرواقي.
إن ما تبقى بشكل جيد ليس إلاَّ ركام أسطورة ،حيث يجلس ثيستس
ٍ
وبعض من الخمر ملكيا ،ويستمتع بشراب ُيط ِّيب القلب
ًّ مرتد ًيا ز ًّيا
المعتق ،وتجشأ من شبعه وهب ف ِز ًعا حين أبلغه أتريوس أن عشاءه
ُصنع من أوصال أبنائه ،ولكن هل هنا تفسير أخالقي أو رسالة فلسفية؟!
وإذا تابعنا وجهة نظر رواقي آخر هو أبكتيتوس الذي وصف التراجيديا
كما تحدث وهو القائل“ :حين تحدث الصدفة ُي َغشى على الحمقى”
،Discourses 2.26.31ونخلص إلى أن قصة ثيستس توضح بالضبط
واضحا
ً درسا
استسالم الحمقى لرغبة السلطة ،وتبدو معالجة سينيكا ً
قوض به عوامل عدة ،وهي أولاً نشوة النصر التي سيطرت على آتريوس
ُي ِّ
في نهاية الدراما التي هي أصداء ال يمكن إنكارها من الوعظ الرواقي،
وثان ًيا هشاشة المدنية والقيم الدينية في المشهد الجحيمي الذي ُيضحي
فيه أتريوس باألطفال ،وهذا المشهد صورة زائفة للتضحية ذاتها ،ويظهر
28
الملقنون لالبتذال الرواقي في مسرحيات عدة مثل فايدرا وكليتيمنسترا
وميديا ،وهم يلقنون العبارة على عكس تساوقها مع الفعل ،ولعب كريون
Creonالدور نفسه في مسرحية أجاممنون.
ولدى أنصار سينيكا شكوك أكبر حول قيمة النجاح الدنيوي في
السلطة؟ وقال
دراما ثيستس ،حين يسأل أوديب هل متعة اإلنسان في ُّ
إنه غير واثق بأنه يشعر أن اإلجابة ال ،ويقدم أوديب من بداية المسرحية
متناقضات ب ِّينة ألسالفه اليونانيين الذين أكدوا على اكتشاف ميالد الهوية
هنا ،حيث يغمر أوديب اإلحساس بالدنس ،وفزع الملك حتى من
الدراما المفتوحة؛ ألنه لن يستطيع الهروب من نبوءة قتل أبيه ظ ًّنا منه أنه
مسؤول عن اجتياح الطاعون لمدينة طيبة ،حتى أنه تمنى الموت السريع
جزعا ،واختلفت حالته االنفعالية عن شخصيته المحورية في مسرحية
ً
سوفكليس .إن نص سينيكا هو تقرير مطول لكريون في استحضار شبح
آيوس في حديقة مظلمة ،وهو أمر غاب في عمل سوفكليس ،وقد ُأسقط
إحساس الشخصية التي تتفاعل على خشبة المسرح ،ليجعل الشعور في
دراما سينيكا محر ًما ،ويصبح حديث الشخصيات ر ًّدا على العنف ،أكثر
دافعا له.
من كونه ً
إن تدنيس السماء من منظور اإلنسان يتعارض مع الطبيعة الرواقية،
َو ُو ِج َد له صدى في مسرح سينيكا ،حيث وضع مذهب الرواقية نصب
عينيه العالقة بين الكون وأجزائه .وتواف ًقا مع هذا الرأي ،فإن النوما أو
الروح الحيوية ُيقابل كل نتائج المادة بانسجام كوني لألجزاء مع الكل.
وكما يقول أبكتيتوس في “ :Discourses 1.4.1كل األشياء مترابطة
ببعضها البعض ،وتتأثر أشياء األرض بما هو سماوي” ،ولكن ما نراه
في الدراما مشهد مريب لهذا االنسجام ،وفكرة ضعف المرء أو التهوين
29
من شأنه بإمكانها أن تعطل اللوجوس العقالني المنسجم الذي يعكس
وجهة نظر المذهب عن العالم الذي قد نصل إلى إدراكه بالفهم والعقل،
وهكذا نرى العالم يرتجف وقانون السماء يضطرب في عبارات مسرحية
ميديا ،والشمس تحجب وجهها خجلاً من جريمة أتريوسفي مسرحية
ثيستس ،وتختفي أصوات الجوقة بعد افتضاح نوايا فيدرا الخفية ،وبشارة
ّ
يحل في طروادة في مسرحية فيدرا .وتختلف هوريفك التي تنذر بما
مسرحيات سينيكا عن التراجيديا اليونانية ،حيث ال دور فيها للمؤسسات
المدنية أو حتى تتدخل في هذه العالقة ،ومعالجة مفهوم األرباب غير
المغلوطة فيها ،ويدعو جيسون القراء لمطالعة مسرحية ميديا التي ترى
أنه ال يوجد رب في السماوات ،والعربة التي كانت تجنح هي دليل على
العون الرباني ،فاألرباب معضلة ال يمكن معالجتها هنا.
إن الشخصيات الرئيسة في ميديا وثيستس مثيرة للقلق ال ألنها تنتصر
دائما ،ولكن ألن طريقة نصرها تتوافق مع غاية الطموح الرواقي ،حيث
ً
تتبنى وصاياهم موق ًفا بعينه تجاه العالم ،وهو التخلي عن الروابط العائلية
واالجتماعية ورفضهم للنظام األخالقى للعالم من حولهم ،ومحاولتهم
العيش في أنويتهم باعتبارها أفضل صورة للحياة .وطغاة سينيكا
خاصا ومستقلاًّ حول ذواتهم ال يمكن
ًّ عالما
ً مثل حكمائه ،فهم يبنون
اختراقه ،وهم ال يستنكرون ذواتهم .وهناك انقسام في الحوار مع النفس
بين الضرورة األولى وهو رغبة النفس ،والضرورة الثانية وهو الحكم
اعتبارا الئ ًقا كمبدأ حاكم لهم.
ً عليها ،فهم يختارون
وهذا يؤدي بدوره إلى طابع بعد مسرحي metatheatricalفي عديد
من المسرحيات ،ففي مسرحية ميديا على سبيل المثال تظهر ميديا وهي
تنظر إلى فصول سابقة في قصتها لتكتشف ما هو مناسب لشخصيتها،
30
وأوديب عندما يغلق عينيه يالحظ أن “هذا الوجه يليق به هو” أو كما
يقول أتريوس“ :هذه جريمة ،هذا الوجه يناسب ثيستس ويناسب
أيضا” ،Thyestes 271ويبدو أن طابع ما بعد المسرحية يعلو أتريوس ً
على اهتمام النخب الرومانية التقليدية ،حيث إنها تعرض أفعالاً مثالية قد
ُيجمع عليها الجمهور وهي تتبنى مثالية أخالقية بعينها.
وقد ناقش الباحثون باستفاضة مسألة أداء مسرحيات سينيكا على
قديما ،ويرى الباحث األلماني فريدرك ليو في القرن التاسع
ً المسرح
عشر أن هذه التراجيديات ُكتبت لإلنشاد فحسب ،فمن غير المعتاد أو
من المحال تجسيد التضحية الحيوانية والقتل على المسرح ،ويبقى
السؤال بال جواب ،ولكن سواء أكان الجمهور العادي في المسرح أم
في مقصورة اإلنشاد ،فإنهم يشاركوننا معرفة كاملة بكيفية تحول القصة،
وتشابه ذواتهم مع الشخصية الرئيسة في الواقع ،وإن سعادتنا في مشاهدة
دراما سينيكا قد توسع مداركنا حين نالحظ سعادة هذه الشخصيات التي
تئن من األلم ،ويقول سينيكا في مسرحية طروادة في سطر شهير للرسول
الذي يأتي بأخبار عن قاتل أستياناكس ويقص مشهد موت أستياناكس
ويجسده للمسرح“ :الجزء األكبر من الحشد المكتظ يمقت الجريمة
ويشاهدها” ،وهذا التوتر بين هاجس السادية والفزع الذي تعرضه دراما
سينيكا يمكننا من التعرف على عدم رضى المشاهدين من مسرحيات
سينيكا البائسة.
34
:لمزيد من القراءة
On Seneca’s life: Miriam T. Griffin, Seneca: A Philosopher in Politics
(Oxford: 1976),
Paul Veyne, Seneca: The Life of a Stoic, translated from the French
by David Sullivan (New York: 2003).
Shadi Bartsch and David Wray, Seneca and the Self (Cambridge:
2009).
35
36
عزاء �إلى ماركيا
37
38
مقدمة
ولكن والدها
َّ لوال "عزاء إلى ماركيا" ما سمعنا عن المرأة التي ُت ِّوج بها العنوان،
المؤرخ أوليوس كريموتيوس كوردوس Aulus Cremutius Cordusذكر في مصادر
قديمة أخرى ،وكتب في فتر َتي حكم أوغسطس وتيبيريوس تاريخ الحروب األهلية،
وحكم عليه بتهمة الخيانة عام 25م ،وانتحر ُ
وأحرقت أعماله ،وبعد وفاة تيبيريوس ُ
استُعيدت سمعة كوردوس ،وشاعت أعماله التاريخية (ولم َ
تبق حتى يومنا هذا)،
وأشار سينيكا إلى رد اعتبار سمعة كوردوس ،ولذلك ُكتب هذا العزاء بعد موت
تيبيريوس ،وعلى األرجح فى فترة حكم جايوس ( ،)37 -41ويبدو أن سينيكا كان فى
روما أثناء كتابته (فصل ،)2 -16والذي يستبعد سنوات منفاه ( ،)41 -49والتوفيق
بين التاريخ بعد عام ،49والمعلومات التي يقدمها سينيكا عن عمر ماركيا صعب،
وتاريخ التأليف في عهد جايوس ضمن بقاء أعمال سينيكا النثرية.
أدبيا متقد ًما
نوعا ًّ
لمن أصابه الحزن ،وأصبح العزاء ًوإن العزاء يقدم الراحة َ
تأثيرا
يبق من العزاءات األشد ًللغاية ،يستند على تقاليد فلسفية وخطابية شتى ،ولم َ
في العصور القديم سوى اثنين :الحزن على الفيلسوف األكاديمي كرانتور Crantor
) ، (ca. 335–275 bceوعزاء شيشرون الذي كتبه لنفسه بعد موت ابنته توليا Tullia
عام 45م ،والحقيقة أن “عزاء إلى ماركيا” أقدم تعزية بقيت على قيد الحياة ،ويمكن
مقارنته بعزائه إلى بوليبوس وخطابي المعزى رقم ( ،)99-63وتعتمد تعازيه على
39
موضوعات تقليدية مثل الثناء على المتوفي ،والحض على عدم االنغماس في الحزن
المفرط ،والحجة القائلة بأن الموت هو النهاية والبقاء للنفوس؛ ألن موت المتوفي
أفضل من حياته .ويعترف سينيكا بأنه يكتب في ظل تقاليد راسخة ،ويلفت االنتباه
إلى إبداعه في الفصل األول والثاني ،وهو يبتعد عن الممارسة المعتادة ،ويبدأ بأمثلة
بدلاً من النصيحة ،فالرواقية غير معهود عنها العزاء ،وهو يرفض المذهب الرواقي
الصارم الذي ال يحزن فيه الحكيم الرواقي على اإلطالق ،وهو يستند على مبدأ أن
الحزن مثل االنفعاالت األخرى ،وهو نتاج المعتقد الخاطئ ،وفي حالة الحزن هذه
معتقدات خاطئة عن طبيعة الموت وتأثيره على المتوفي والثكلى.
وال نعلم بالضبط ما دفع سينيكا لكتابة هذا العمل إلى ماركيا ،حيث لم تجمعه بها
أي عالقة خاصة أو صداقة بها أو بعائلتها ،وقد قيل من مخاطبته لماركيا أنها ابنة أحد
ضحايا سيجانوس ،وكان يحاول أن ينأى بنفسه عن سيجانوس الذي ُفضح وأعدمه
تيبريوس ،وكان لعائلة سينيكا صالت بسيجانوس ،ولكن ال يمكن إثبات الفضيحة .إن
السبب الظاهري لهذا العمل هو أن ماركيا كانت ال تزال حزينة على ميتليوس ،وهو ابنها
الذي ُتوفي منذ ثالث سنوات ،وأراد سينيكا أن يقنعها بأن ترمي حزنها وراءها ،ولكن
تباعدت الفترة التي ُتوفي فيها ابنها ،وهناك أجزاء كبيرة من العمل (كما هو واضح في
جمهورا
ً المالحظات على الترجمة) تتالشى ماركيا من الخلفية ،بينما ُيخاطب سينيكا
عا ًّما من الذكور ،وهذا يبين أن العمل ليس مجرد عزاء شخصي فحسب.
شكر وتقدير:
إنني مدين بالفضل إلى إليزابيث أسميس ،Elizabeth Asmisوالقارئ المحرر
ُ
مسؤول بمفردي عن العيوب المتبقية. القتراحاته في تحسين الترجمة ،وأنا
40
بنية العزاء
.مقدمة
. ردود الفعل المتناقضة من أوكتافيا وليفيا لفقدان االبن: أمثلة5-2 الفصل من
. نصيحة عامة عن الموت والفجيعة:11 -6 الفصل من
. نصيحة خاصة تتعلق بموقف ماركيا:19.3-12 الفصل من
. حالة ميتيليوس الراهنة لتبرر الحداد المستمر:25- 19.3 الفصل من
. تخيل ماركيا أباها الميت يناديها: الخالصة26 الفصل
:لمزيد من القراءة
41
42
إن لم أعلم يا ماركيا ِ
أنك قد تتملصين من الضعف الذي ُجبلت عليه النساء 1-1
كما تنسلين من كل أنواع الخطايا ،وأن الناس يتطلعون لشخصك كما لو
قديما ،فلن أجرؤ على مداهمة أحزانك؛ ألن البشر يتشبثون بالكآبة
ً كان مثالاً
ويحتضنونها بال هوادة ،ولن أبني أملاً غير ُم َو ٍ
ات للظرف أمام هذا القاضي
الخصم على التهمة المكروهة ،فأكس َبك سوء الحظ الذي تعانينه ،ولكن قوة
شكيمتك وشجاعتك التي بنيتها -والتي تعطيني الثقة -قد تثبت قيمتها تحت
اختبار ٍ
قاس.
أطفالك ،سوى ِ
أنك ِ ولم ألحظ مدى تصرفك تجاه ِ
أبيك الذي أحببتيه مثل 2-1
لم تتمني أن يصمد أمام الموت أو ربما لم ترغبي حتى في هذا؛ ألن الحب
العظيم قد يسمح لذاته أحيا ًنا أن ينافي قواعد األخالق الطبيعية .وبقدر
أبيك أوليوس كريموتيوس كوردوس Aulus حاولت أن تمنعي موت ِِ ِ
همتك
تبين ِ
لك أن هذا هو المهرب الوحيد المتاح له (((
، Cremutius Cordusوقد َّ
ِ
وأنت لم تدعمي حين حاصره أتباع سيجانوس ،((( Sejanus’s henchmen
ِ
تنهداتك، ِ
وتجرعت ِ
دموعك (((، ولوحتي بقبول الهزيمة وانهمرت
مأربه ،بل َّ
((( أوليوس كريموتيوس كوردوس :Aulus Cremutius Cordusمؤرخ كتب في عهد أوغسطس وتيبيريوس ،تاريخه عن
الحروب األهلية الذي لم ُيكتب له البقاء حفل بالجانب الجمهوري ،وكان هذا جذر التهمة الموجهة إليه كما يشير
سينيكا.
حاكما للحرس البرايتوري في عهد تيبيريوس ،وأصبح أقوى رجل في روما من عام 26مً ((( لوكيوس إيليوس سيانوس :كان
حين تقاعد في كابرا ،Capriحتى سقوطه من السلطة وإعدامه عام 31م.
ِ
دموعك” ،ولكن هذه ترجمة متكلفة ،ومع ذلك تتابع زمت بشكل واضح ،وانهمرت “أنت هُ ِ
ِ ((( يترجم البعض هذا بأنها
األفكار محير.
43
ومن َثم لم ُتخفيها بتعبير البهجة -كل هذا في الفترة التي لم تفعلي شيئًا
مكروها يعادل إظهار الحب العظيم.
ً
ِ
فإنك تمكنين الجمهور وحالما يقدم المناخ السياسي المتقلب الفرصة (((، 3-1
أبيك األدبية والتي كانت هد ًفا للعقابِ ،
إنك من أن يقترب أكثر من موهبة ِ
ِ
وأعدت مخطوطات كتبنا العامة التي كتبها هذا ٍ
محقق(((، ٍ
موت أنقذتيه من
ِ
قدمت خدم ًة جليل ًة لألدب استثنائي ،لقد
ٍّ الرجل الشجاع بدمه على نح ٍو
ٌ
جليلة لألجيال ٌ
خدمة مهم منه في النار ،وهي ٌ
طرف ٌّ الروماني الذي احترق
مشو ٍه والذي ك َّلف
َّ تاريخا موثو ًقا فيه وغير
ً الالحقة ،الذين سوف يرثون
مؤلفه ما ندر ،وهذه الخدمة الجليلة تقوي ذكراه ،وستبقى قوي ًة طالما كانت
معرف ًة قيم ًة لتاريخ الرومانـ وطالما هناك ٌ
امرؤ يريد أن ينظر للخلف إلنجازات
رومانيا،
ًّ أسالفه ،وطالما هناك َمن يرغب في أن يعرف ما يجب عليه ليكون
وما يبقيه غير مطأطئًا حين يضطر إلى أن يحني رأسه ويخضع لنير سيجانوس،
وما يجعله إنسا ًنا بذكاء غير ٍ
مقيد وعقلٍ ويدين كذلك.
وإن لم تنقذي فصاحته وبالغته -وهما اثنتان من خصائصه ُألقيا في غياهب 4-1
النسيان ،-فإن الدولة كانت ستتكبد خسائر فادح ًة من قبل هرقل ،إنه كان
يخش مرور الزمن ،رحبت به أيدي الناس َ ٍ
بشعبية ،ولم مطلعا ،ويحظى
ً
الجزارين هو جرائمهم
َّ وقلوبهم ،والشيء الوحيد الذي سوف نتذكره لهؤالء
التي سوف نودعها للصمت.
ِ
وجهك الذي خيم عليه ِ
جنسك أو ِ
نبالتك هذه من أن ألحظ وقد منعني جنون 5-1
مشو ًها من البداية ،وألحظ
َّ ٍ
طوال ،كما لو كان الحزن المتواصل من سنين
ِ
معاناتك الطويلة في تذكرت
ُ ِ
مشاعرك ،لقد ِ
أخدعك أو أفكر في غش أنني لم
44
ِ
أدركت أن جرح الحاضر في حاجة إلى أن يندمل ،وأظهرت الماضي ،وربما
ِ
يعاملك بعض الناس ِ
لك الندبة التي تساوي َّ
الضرر الشديد ،ولذلك ربما
ِ
خوفك ِ
حزنك ،وسوف أضع قررت أن أقاتل من أجل
ُ ٍ
وهدوء ،ولكني ٍ
بلطف
ِ
رغبت أن تعرفي ٍ
مراقبة ،تلك العينان اللتان إذا ِ
وعينيك المرهقتين تحت
الحقيقة ،تدفقت من الطبع أكثر من التوق ،وسوف أفعل ذلك إن أمكن ،مع
ِ
تعلقت ِ
إرادتك ،وح َّتى لو ِ
دعمك ألجل المداواة ،وإن لم أفعله حتى ضد
حيا في موضع ابنك. ِ
بحزنك الذي قد أبقيتيه ًّ
ِ
قلصت كلمات وإلى أين ستنتهين؟ فكل ما تحاولين فيه من دون جدوى ،وقد 6-1
األصدقاء المريحة ونفوذ الرجال العظام الذين يرتبطون ِ
بك في حب األدب
ٍ
ساكنة تصنع بالكاد متع ًة ٍ
راحة ِ
وركنت إلى تلك النعمة التي ورثتيها من ِ
أبيك،
ِ
طبيعتك الزمن الذي يشفي انطباعا في آذانك الصم ،وعالج
ً وجيز ًة ،وتترك
ِ
حالتك ظهر الضعف. حتى أعظم األلم ،ولكن في
لقد مضت ثالث سنوات اآلن ،ولم تخف حدة الصدمة األولى ،ويتجدد 7-1
ِ
حدادك ويقوي ذاته كل نهار ،ويستوطن بمرور الزمن ،وقد وصل إلى حدٍّ
ٍ
بعمق إن لم ُتختم تخجلين من الكف عنه ،كما تندمغ كل صنوف الخطأ
خارجا حين نموها ،وكذلك يتغذى الحزن والبؤس في النهاية على مرارتها،
ً
ً
تحفظا للسعادة في الحزن. فتجد العقول التعسة
ولذا أتمنى أن أبدأ هذه المداواة فى المراحل المبكرة ،وقد يستعمل العالج 8-1
المعتدل ليختبر المرض وهو ينبني ،واألمراض المزمنة في حاجة إلى أن
ٍ
بضراوة ،وكذلك الجروح من اليسير شفاؤها وهي حديثة وال تزال ُتقاوم
لقرح ،فيجب أن ُتكوى و ُتفتح مر ًة أخرى
ٍ تنزف ،ولكن حين تتقيح وتتحول
وتجسها األصابع لتفرغ القيح منها ،وكذلك الحال؛ فال يمكنني مداهمة مثل
هذا الحزن الشديد بوسائل لطيفة ولينة إن توجب دحره.
45
ٍ
نصيحة يبدأ بتوجيهات وينتهي بضرب ٍ
امرئ يرغب في تقديم أعلم أن كل 1-2
أمثلة ،وأحيا ًنا تكون مفيد ًة في تغيير هذا النمط ،واختالف الناس يحتاج
معالجات مختلفة ،فبعضهم ُيرشد بالعقل ،وبعضهم حين يأسر بالمظهر
يحتاج إلى أن تجابههم بهيبة أسماء مشهورة حتى يتقيد تفكيرهم بهم.
ِ
وجيلك؛ األولى امرأة ِ
جنسك ِ
أمامك مثالين بارزين من بني سوف أعرض 2-2
تركت الحزن يجتاح طريقها .والثانية متأثرة بسوء الحظ ذاته ،ولكن بخسارة
أعظم ،وهي ال تسمح لمعاناتها أن تتحكم فيها لفترة أطول ،بل سرعان ما
يتعافى مزاج عقلها المعتاد.
((( تزوجت أوكتافيا أخت أوغسطس من كالوديوس مارسيلوس في المرة األولى ،وعقب وفاته في عام 40ق .م سرعان ما
تزوجت من ماركو أنطونيو ،وكان حديث سينيكا عن طفلها من الزواج األول من مارسيلوس .وأما ليفيا فقد ولدت 58
ق.م ،وتزوجت في المرة األولى من تي كالوديوس نيرونن ،Ti. Claudius Neroوأنجبت منه ولدين هما اإلمبراطور
وطلقت عام 39ق.م وتزوجت أوكتافيان وأغسطس في المستقبل، المستقبلي تيبيريوس ودروسوس الذي توفي 9ق.م ُ ،
وتوفت بعد وفاته عام 29م.
((( ولد كالوديوس مارسيلوس عام 42ق.م ،وتزوج جوليا ابنة أوغسطس عام 25ق.م ،لذلك كان أوغسطس عمه ووالد
زوجته ،وتوفي عام 23ق.م.
((( توفت أوكتافيا عام 11ق.م.
46
النصيحة ،ولم تدع نفسها تتقلب إال على قصد واحد ثبتت ذهنها عليه،
وعاشت حياتها كما لو كانت في جنازة ،وال أقول إنها لم تغامر لترتقي بذاتها،
بل رفضت أي عون في هذا؛ معتبرة ذلك تخل ًيا عن دموعها ،وهو حرمان ٍ
ثان.
لم تحتفظ بأي صورة البنها المحبوب أو تسمح بأي ذكرى منسوجة له، 5-2
وعدت بها
ْ وكرهت كل األمهات ،وليفيا على نحو خاص؛ ألن السعادة التي
نفسها يبدو أنها انتقلت إلى ابن تلك المرأة ،لقد قضت وقتها في المنزل بين
الظالم والعزلة ،ولم تفكر حتى في شقيقها ،ورفضت القصائد التي ُكتبت
وصمت ُأذنينها
َّ لالحتفاء بذكرى مارسيليوس وغيرها من تحيات األدب(((،
عن أي نوع من الراحة ،وانسحبت من واجباتها الرسمية ،ومقتت التألق
المفرط لعظمة شقيقها وحسن حظه ،ودفنت نفسها وخبأتها بعيدً ا .وحين
تجمع أطفالها( ((1وأحفادها حولها ،لم تخلع مالبس الحداد ،ووبخت كل
عائلتها ،واعتقدت أنها بال أطفال رغم أنهم كانوا على قيد الحياة.
إمبراطورا
ً وفقدت ليفيا ابنها دروسوس ،Drususوالذي كان من شأنه أن يكون 1-3
عظيما بالفعل ،إنه تعمق في جرمانيا ووضع ضوابط الرومانية حيث
ً وقائدً ا
كان لديهم بالكاد معرفة لوجود الرومان( ،((1لقد مات في المعركة حين كان
ممرا آمنًا آملين في الهدنة، ً
مريضا ،واحترمه األعداء ذواتهم بشدة ،وأعطوه ًّ
ولم يتضرع ألجل المخرج الذي يناسبهم ،وقد ساد شعور الخسارة بين
مواطنيه في موته الذي كان في خدمة الدولة والمقاطعات وإيطاليا برمتها،
((( أثنى فيرجيل على مارسيلوس في Aeneid 6.861–83ملحمة ِشعرية كتبها الشاعر فرجيل في نهاية القرن األول قبل
الميالد (19-29ق.م) باللغة الالتينية .وهي تصف الحياة األسطورية ألينياس الطروادي ،الذي سافر غر ًبا إلى أراضي
إيطاليا ،وأصبح أ ًبا لكل الرومان .ونظمت أبيات الملحمة على أسس التفعيل السداسي .كما أثنى عليه سكستوس
بروبرتيوس في ،Propertius 3.18وهو شاعر التيني روماني عاش في عصر أوغسطس قيصرُ ،ولد ما بين سنة 45-50
ق م في أسيزي ،وتوفي في سنة 15ق م( .المترجم).
( ((1كان لدى أوكتافيا أربع بنات.
( ((1قاد دروسوس الحمالت الرومانية في جرمانيا من 12ق.م حتى وفاته عام 9ق.م.
47
وقد تدافع جميع َّ
سكان أرجاء الوطن والبلدات والمستعمرات لموكب
جنازته الحزينة ،الذي سار نحو المدينة بكل مظاهر النصر.
ولم ُيسمح ألمه أن تشرب فى قبلة وداع ابنها أو أن تلحن بكلمات موته، 2-3
واصطحبت بقايا محبوبها دريسيوس على طول الرحلة ،وشعرت بالضيق
لكثرة الجثث المحترقة بطول وعرض إيطاليا كما لو كانت تفقده مر ًة أخرى
مع كل جثة منهم ،ورغم ذلك بمجرد أن ألحدته في المقبرة( ،((1طرحت
حزنها للسكون ،ولم تتزيد في الحزن طالما أن القيصر على قيد الحياة .وفي
النهاية لم تتوقف عن الثناء باسم عزيزها دروسوس ،وهي تذكره أينما حلت
في العلن والخصوص ،تتحدث عنه وتسمع عنه بكل سرور ،حيث عاشت مع
ذاكرته ،وهو شيء ليس بإمكان أحد أن يحافظ عليه أو يعيد النظر فيه إذا سمح
مصدرا للحزن.
ً له أن يصبح
ِ
رغبت ولذا اختاري أ ًّيا من هذين المثالين تعتقدين أنه يستحق الثناء .فإذا 3-3
األول ،فسوف ُتغيبين نفسك عن رفقة العيش ،وستتجنبين أن تتبعي المثال َّ
ِ
وستعتبرك أطفال اآلخرين وأطفالك وحتى الطفل الحقيقي الذي افتقدتيه،
ِ
يقابلونك ،وستصدين الملذات الجليلة والمباحة كما األمهات فأل شؤم حين
حظك ،وستكرهين النور الذي ُي ِ
ظلك ،وستُبغضين ِ لو كانت غير مسايرة لسوء
ِ
يطرحك إلى أسفل في الحال ويأتي بحياتك ِ
عمرك ،وهذا المثال ال بمرارة
إلى نهايتها فحسب ،بل الشيء األكثر خز ًيا والخارج تما ًما عن الحفاظ على
ٍ
راغبة في العيش وغير أنك ستؤكدين ِ
أنك غير سمتك ،والذي ُيلحظ بشدة هو ِ
ِ
قادرة على الموت.
ٌ
عظيمة ِ
كرست نفسك لما يحكم الذات أكثر ولمثال إنساني وضعته امرأ ٌة ولو 4-3
ح ًّقا ،فلن تأسي ولن تتحملي ضنك العذاب ،وأي حماقة في السماء أن تعاقب
48
المرء على سوء حظه وتضفي عليه المآسي( ،((1والفضيلة نفسها واالحتياط
أيضا، ِ
ظروفك الحالية ً ِ
حياتك ،سيكون مظهر ذاته كما تحافظين عليهما خالل
حتى الحزن له طابع في االحتشام ،أما بالنسبة للشاب الصغير فإنه يستحق
عظيما إذا كان
ً أن تجعليه سعيدً ا بكل ذك ٍر أو التفكير فيه ،وستصنعين شر ًفا
وفرحا بوجود أمه كما اعتاد طوال حياته.
ً مبتهجا
ً
ٍ
صارمة تأمرك بتحمل تجربة البشر بطريقة ال آدمية، ٍ
إرشادات لن أوجهك نحو 1-4
ِ
معك للحكم أو تجفف عينَي األم في نفس يوم الجنازة( ،((1وسوف أمضي
ٍ
نهاية. عظيما أم أنه بال
ً عم إذا كان الحزن
حيث النزاع بيننا سيكون َّ
((1( Julia ِ
يسعدك مثال جوليا أوجوستا Augusta لدي ٌّ
شك أنه قد وليس َّ 2-4
ِ
تغريك لتنضمي في حوا ٍر معها اآلن ،فهي في ِ
معك ودود ًة ،وهي التي كانت
صدمتها األولى حين يكون بؤس المرء في أقصى حاالته سمحت ألريوس
الفيلسوف(((1
كثيرا من هذا
ً أن يواسيها ،وسلمت بأنها استفادت زوجها
العمل أكثر من الشعب الروماني الذي لم يرغب أن يزيدها حز ًنا على حزنها،
وأكثر من أوغسطس الذي كان ُيعاني من فقد أحد دعامتيه( ،((1وعدم اختالل
توازنه لحزن عائلته ،وأكثر من ابنها تبيريوس Tiberiusالذي وثق حبه قبل أن
تحل الجنازة والذي أبكى األمم ،إن الخسارة الوحيدة التي عانتها هي عدد
أطفالها.
وأتصور كيف كان قري ًبا منها تبيريوس ،وكيف بدأ يخاطب امرأة تحمي 3-4
49
سمعتها .وجوليا( ((1حتى يومنا هذا على حد علمي وقد كنت رفي ًقا ً
دائما
ِ
قبعت لزوجك .ولم أعلم ما قيل في العلن فحسب بل ما سرته قلوبكما ،لقد
يلومك أحدٌ على أمور أعظم فى الضرورة ،بل على أمورِ في الحزن حتى ال
ِ
وحرصت على ألاَّ تفعلي شيئًا تريدين أن يغفر فيه الرأي العام أغلب تفاهة،
النقد الصريح لألباطرة.
وأعتقد أن ال شيء أعظم مجدً ا حين يصفح الذين هم في قمة عطاء المجتمع 4-4
عن كثير من التصرفات ،بل يسعون للعفو من أجل ال شيء ،ولذلك تحتاجين
فى الظروف الحالية أن تنتصبي لسلوكك المعتاد ،وألاَّ تفعلي شيئًا ربما ال
تتمنين فعله على اإلطالق أو قد تفعلينه على نحو مفارق.
ِ
وجهك صعب وألاَّ تقطبي
ٍ ِ
وأناشدك ألاَّ ُتقدمي على ومن َثم ،أتوسل ِ
إليك [ 1-5
علم بأن كلاًّ منهما تفتقد إلى كيفية ِ
ألصدقائك ،وينبغي أن تكوني على ٍ
ِ
حضرتك قد يضر ذكر التصرف ،سواء أكان الحديث عن دروسيوس في
ِ
يؤذيك. الشاب الرفيع أم ذكره قد
ِ
حضورك ونخلو بعضنا إلى بعض ،نحتفي بأعماله وكلماته وحين نفارق [ 2-5
ِ
حضورك ،ولذلك عزفت عن باحترام يستحقه ،ونحفظ الصمت تما ًما عنه في
المتعة الرفيعة والثناء عن ابنك ،وال أشك ِ
أنك تضمنين البقاء األبدي له إن
ِ
حياتك. الحت الفرصة حتى لو ك َّل ِ
فك هذا
تصمي
اسمحي -أو باألحرى -شجعي الحوار حيث يكون هو موضوعه ،وال ِّ 3-5
ِ
أذنيك عن اسم ابنك وذكره ،وال تعتقدي أن هذا كآبة كما يصنع اآلخرون في
ٌ
طرف من سوء حظهم المماثل حين يسمعون لكلمات المواساة على أنها
معاناتهم.
( ((1اكتسبت ليفيا اسم جوليا بعد وفاة أوغسطس ،ولذلك حديث أريوس فيه مفارقة تاريخية ،وبعض المخطوطات تقرأ
‘ليفيا’ من الضرورة أن نتبعها؛ ألن هذه المفارقة التاريخية غير معروفة في مؤلف سينيكا.
50
وكما هي األمور ،سوف تمضين إلى أقصى طرف ،حيث تنسين أفضل 4-5
ِ
انتباهك عن الحياة تحولي ِ
حظك ،وال ِّ األوقات ،وتركزين على أسوأ مظاهر
ِ
ولدك األوقات المبهجة وصبانيته التي قضيتيها معه، ِ
شاركت فيها التي
ومفاتنه البديعة ،أو تقدم تربيته .وسوف تسكنين على هذا المشهد األخير،
واستجمعي بقدر ما تستطيعين رهبة المشهد ،كما لو كانت بغيض ًة بالفعل،
وأتوسل ِ
إليك ألاَّ تطيلي في مجد فاسد ،هو من أعظم سوء حظ النساء.
وتذكري في الوقت نفسه أنه ليس مأثر ًة عظيم ًة أن تتصرفي بشجاعة حين 5-5
تكون الظروف مواتي ًة ،وحين تمضي الحياة بيسر ،فال يظهر هدوء البحر
والريح المرافق له مهارة القبطان أيضا ،وعليه يجب أن تنشأ بعض التحديات
لتختبر شجاعته.
ِ
عليك مهما يكن ولذلك ال تتزعزعي ،وقفي ثابت ًة ،وتحملي األعباء التي تقع 6-5
ٍ
مهابة ،فبمجرد حدوث الصدمة األولى ،تصبح ماض ًيا( ،((1وال شيء دون
احتقارا للحظ أكثر من العقل الهادئ .وبعد هذا القول ،لفت
ً يظهر أعظم
انتباهها لالبن الحي الباقي وأحفادها من االبن الذي فقدته(.((2
ِ
بجانبك، ِ
ظروفك على هذا الظرف ،وأريوس يجلس يا ماركيا ،قد ُج ِّمعت 1-6
ِ
عليك الراحة ،وال تزالين يا ماركيا وتبدلت قائمة الجمع ،وعرض أريوس
تعتقدين ِ
أنك ُسلبتي أكثر من أي أم أخرى قد فقدت ابنها ،وأنا ال أحاول أن
حظ ِ
ك. أضيء ظالم َّ
َ أهد َئ ِ
ك وال أن
وإذا كان يمكن التغلب على القدر بالعويل ،فدعونا نستدعيه ،ونقضي كل 2-6
( ((1يلمح سينيكا إلى المذهب الرواقي في تحمل األلم ،propatheiaiحيث حتى الحكيم يصد من المصيبة المفاجئة ،ولكن
في مثل حاله سوف يتحكم بلطف ،ويمنع انفعاالت الخوف والحزن من أن تتنامى .انظر .1-7
( ((2تبيريوس هو ابن هيلفيا الذي بقي على قيد الحياة ،وكان لدى دروسوس ابنان هما جرمانيكوس وكالوديوس (الذي
أصبح إمبراطورا 41م ،) 54-واالبنة وليفيا.
51
يو ٍم في الحزن ،ونصرف الليل في صحوة البؤس ،ونلطم بأيدينا صدورنا
ُطور السلوى أسبابها ،و ُت ِّ
سخر كل المكدومة ،ونصعر وجوهنا للهم ،فت ِّ
الميت ،وإذا لم يتحول القدر،
َ لطم الصد ِر
صنوف القسوة ،ولكن إن لم ُيعدْ ُ
ويثبت لألبدية ،فإن المحنة ال تتحول ،و ُيبقي الموت على كل ما أخذ ،فدعي
حدَّ للحزن الذي يهلكنا.
دعونا نسيطر على أنفسنا ،وال نسمح لهذه القوة أن تدفعنا بعيدً ا عن المسار، 3-6
فمن المخجل أن تسيطر الموجة على الربان و ُتلقيه فى الثغرة حين يتخلى عن
األشرعة عندما ترفرف على مدى واسع ويترك السفينة لرحمة العاصفة ،ولكن
حتى في غرق السفينة على الربان أن يتشبث بالدفة.
«ولكن الحزن على أحد األقارب أمر طبيعي» ،و َمن الذي يختلف على هذا
َّ 1-7
طالما يجري في إطار معتدل؟ ألننا حين يفارقنا عزيز ال ننسى على الفور،
فهناك طعنة لأللم ال مفر منها ،وانقباض حتى في أعظم العقول قسوة(،((2
ولكن ما يضفيه الخيال يتجاوز ما تأمر به الطبيعة.
وفي حالة البهائم البكماء ،انظر كيف تثير حزنها لفترة قصيرة ،فتسمع للبقر 2-7
خوارا لمدة يوم أو يومين ،ولألفراس شرو ًدا وحركات غير منتظمة ال تطول،
ً
وحين تتبع الحيوانات البرية مسارات أشبالها وتتجول في الغابات ،فحين
تكرارا إلى عرينها المسلوب ،فإنها تطفئ غيظها خالل فترة وجيزة،
ً تؤوب
والطيور الصارخة حول أعشاشها الفارغة بأصوات عالية تصمت في اللحظة
وتستأنف طيرانها ،وبصرف النظر عن البشر فإن الحيوانات ال تحزن طويلاً
على ذريتها ،وتقابل حزنها ،وال تعتمد في مدة مصيبتها على ما تشعر به ،بل
على ما تقرره.
( ((2رأت الرواقية أن الفجيعة نتاج تناقض طبيعي في العقل أو النفس ،وتحمل األلم (انظر .)6-5
52
ِ
بمقدورك أن تقولي ليس من الطبيعي أن يكسرنى الحزن أولاً :ألن الفاجعة 3-7
أثرا على النساء من الرجال ،وعلى البرابرة أكثر من األجناس
نفسها أنجع ً
المثقفة ،وعلى غير المتعلمين أكثر من المتعلمين ،ومن ثم فإن األشياء التي
تستمد قوتها من الطبيعة تحتفظ بالقوة نفسها في كل شاهد ،وإن بدا شيء
مختلف ،فمن البين أنه ال ُيبنى على الطبيعة.
ثان ًيا :ما هو طبيعي ال ينقص مع الزمن ،بل إن مرور األيام يكد الحزن ،وبغض 1-8
النظر عن المكابرة التي تنشط كل يوم والمجاسرة التي تقاوم أي عالج ،إلاَّ أن
روض لالنفعاالت العنيفة ومسيطر على امتدادها.
الزمن هو أعظم ُم ِّ
كثير من مواكب الجنازات تمر بديارنا وال نفكر في الموت ،ويموت كثير
ٌ 2-9
((2( toga من الناس فجأة ونحن نخطط ألطفالنا للحصول على تاجهم
كثيرا من األثرياء
ً وسلطانهم العسكري ،ووراثة ممتلكات آبائهم ،ونقابل
الذين ُفقروا فجأ ًة ولم يتغير فينا أن ثروتنا عابرة ،وهذا يجعل سقوطنا أعظم،
كما لو كنا بعيدً ا عن الكآبة .ولكن حين يطول توقع األشياء ،فإن هجوم قوتها
يقل.
وأنت ( ((2تدرك أنك تقف عرض ًة لكل صنوف اللكمات ،وأن األسلحة التي 3-9
ِ
ماضيك ،كما لو كنت تتسلق بسالح الفقر بعض ضربت اآلخرين قد أرقت
موقعا عال ًيا تحتله سرية كبيرة من العدو ،فتوقع أن هناك
ً جدران المدينة أو
جرحى وأن جسدك مرمي للصخور والرماح والسهام التي تسقط إلى األسفل،
وتصرخ حين يسقط بجانبك ٌ
امرؤ ما« ،إنك لن تخدعني ولن تخدع الحظ ،أو
ً
طائشا حين تهدمني ،وإنني أعلم ما تهدف إليه حيث ضربت تجدني عاب ًثا أو
شخصا آخر ولم تقصدني أنا».
ً
( ((2يرتدي األوالد الرومانيون توجا المراهقين في سن السادسة عشرة تقري ًبا.
خاصا لماركيا.
( ((2الضمير (أنت) في باقي الفصل للمذكر عمو ًما ،وليس ًّ
54
«لم أكن أفكر أن هذه األمور سوف تحدث» ،فكيف تفكر أنه لن يحدث 5-9
شيء في حين أنك تعلم أنه يمكن أن يحدث ،وأنت ترى أنه يحدث لكثير
من الناس ،إن بيت ِّ
الشعر الذي يستحق أن يظهر على خشبة المسرح هنا هو
ٍ
المرئ بعينه يمكن أن يحدث ألي شخص»( ،((2فهذا «ما يمكن أن يحدث
فقد طفله وأنت كذلك يمكن أن تفقد أطفالك ،وهذا ُم ٍ
دان وبراءتك ً
أيضا
مما ال نتوقع،
خالل هذا النطاق ،وهذا الوهم يغمرنا ويخدعنا عندما نعاني َّ
ويمكننا أن نعانيه ،وأما الذين يتوقعون حدوث المعاناة ،فيسلبونها قوتها فور
وصولها.
1-10يا ماركيا ،كل األشياء البراقة العارضة التي ُتحيط بنا مثل األطفال والشرف
والثروة والبهو الواسع large atriaوالفناء المكتظ بحشود الجمهور الذين
قد حصروا في الوعوعة واالسم المشهور والزوجة الجميلة أو النبيلة وكل
األشياء التي تستند على عدم اليقين والفرصة المتقلبة ،فهذه أدوات ال تتبعنا،
بل هي لنا على سبيل اإلعارة ،وليس أي منها هبة ،وقد ُيبنى المنصب بدعائم
مستعارة تعود إلى أصحابها ،فبعض األشياء يعود في يوم ،واآلخر في يوم
آخر ،وقليل الذي يبقى ح ًّقا حتى النهاية.
2-10ولذلك ال ينبغي أن نفخر كما لو كانت األشياء التي تحيط بنا ً
ملكا لنا ،لقد
تلقيناها على سبيل اإلعارة ،وربما نتمتع باستعمالها ،ولكن المعطي هو َمن
يدير هديته ويحدد زمنها المحدد( ،((2ويجب أن نصون ما منحناه لفترة غير
معلومة وميسورة دو ًما ،وحين ُيطلب منا يجب أن نرده دون شكوى؛ فالمدين
السيئ هو الذي يبدأ بجلد دائنه.
( ((2طريقة الكاتب المهرج بوبليليوس سوروس ( Publilius Syrusالمهرج الروماني صورة شائعة للكوميديا ،وال يشبه
المهرج الحديث في استخدام الحوار).
( ((2يفترض سينيكا أن المذكر هنا يفكر فى الله بأنه المانح ،ولكنه في كل مكان آخر فى هذا القسم فإن الحظ مؤنث.
55
3-10ولذلك يجب أن نحب كل أقاربنا ،سواء الذين يتفقون معنا بمحل الميالد
لمن مات لنا سل ًفا،
ونتمنى أن يبقوا أحياء ،والذين يختلفون معنا فنصلي َ
نتلق وعدً ا بأن حياتهم ستدوم إلى ما ال نهاية،
علما أننا لم َّ
ويجب أن نحبهمً ،
والحقيقة ليس هناك وعد بأنهم سيدومون ،إن عقولنا في حاجة إلى أن ُتدفع
لحب األشياء على أساس أننا سوف نفقدها ،وباألحرى نحن نفقدها بالفعل،
وعليك أن تعامل كل هبات الحظ على أنها أشياء تأتي وليست مضمونة.
4-10ولذا اغتنم المتع التي يقدمها عيالك( ،((2ودع عيالك يتمتعون بدورهم،
ٍ
قادمة وقد ٍ
بليلة ٍ
توان ،فليس هناك وعد واقطف من الفرح ما يمكن دون
منحت مد ًدا طويلاً من الزمن ،وليس هناك وعد بساعة آتية كنت تقضيها
برعونة ،فعليك أن ُتعجل ،وقري ًبا تتناثر وحدتك ،وقري ًبا يتصاعد صراخ
شيء من النهب،
ٌ الوغى وسوف تدمر كل الصداقات الحميمة ،ولن يهرب
وال يعرف البائسون كيف يحيون على المسار!
كنت تحزنين لموت ِ
ابنك( ((2وهو منذ لحظة ميالده في المرفأ ينتبه لموت 5-10إن ِ
قد يسعفه كما أوجد ميالده ،فإنه أتى للوجود بموجب هذا النظام ،وبدأ هذا
القدر يرافقه حالما فارق الرحم.
6-10لقد وصلنا إلى مملكة الحظ ،وهي مكان مكين وقاس ،وسنعاني بجدارة وغير
جدارة في إرادته ،وسوف تخضع أجسادنا لسوء التصرف القاسي والهوان
والمخاطرة ،وسوف تحرق البعض نار تنتشر إما عقوب ًة أو مداوا ًة ،وسوف
تقيد البعض بقيود ،وهي تسمح لألعداء أن يصنعوا هذا أحيا ًنا ورفقاء الوطن
وإدبارا ،وهي ُتعريهم على البحار
ً أحيا ًنا أخرى ،وسوف تقرع آخرين إقب ًاال
الغادرة حيث لن تلقيهم على الرمل أو الشاطئ بعد أن تصرعهم باألمواج ،بل
56
ستدفنهم في أمعاء بعض مخلوقات البحر الضخمة ،والبعض بعد أن توهنهم
كليا أنواع المرض المختلفة تبقيهم بين الحياة والموت مثل المزاجية المتقلبة
ًّ
التي تهمل عبيدها تنحرف بين العقاب والثواب.
1-11وما الحاجة إلى أن تذرف الدموع على مراحل الحياة؟ فالحياة برمتها تتطلب
الدموع ،وسوف تهاجمك المصائب الجديدة قبل أن تعالج القديمة ،ولذا
ِ
وعليك ِ
فأنت امرأ ٌة ال ُتظهرين ً
كبحا في المعاناة التي يقيدك على نحو خاص،
ِ
أحزانك العدة ،ولماذا هذا التناسي أن تتشاطري مصادر الروح اإلنسانى بين
ِ
وأنجبت للبشر( ((2رغم أن بشرا لحالك وحال اإلنسان الكلي؟ لقد ُو ِ
لدت ً ِ
ِ
أملت أن تكون هذه مرارا ،فهل ً جسدك ضعيف وهزيل وداهمته األمراض ِ
ِ
رحمك شيئًا قو ًّيا وأبد ًّيا؟ المادة الضعيفة التي حملتيها في
ِ
ولدك ،وها هو قد أكمل المسار ،ووصل إلى نهاية الطريق الذي 2-11قد مات
ِ
نسلك المقدم على عجلٍ ،فكل الماضين نحو تعتقدين أنه أكثر ًّ
حظا من
القانون في المحكمة والتصفيق في المسرح والصالة في المعابد مدفعون
ٍ
متباينة نحو هذه النقطة ،فمن ُتحبين وتقدرين وتحتقرين سوف ٍ
بسرعات
ُيوارى تحت نفس التراب.
57
كون ٍ
فان ،وسيم في مظهره فحسب ،وعاجز عن تحمل البرودة وم ّ ٍ
ضعف ُ من
والحرارة أو العمل الشاق ،ومن ثم هو عرضة لالنحالل بالخمول وعدم
النشاط ،وهو يخشى األشياء التي تأكل لحظة جوعها ،فتدمر من تحميهم،
وهو ب َن ْفس سريع الزوال وغير آمن يهرع بخوف مفاجئ أو بصوت ضجيج
غير متوقع يقرع آذانهم ،فيغذيهم بالقلق والمرض وعدم النفع.
4-11وفي مثل هذا الجسد ،هل نندهش أن نجد الموت الذي ُيمكن أن ينجم عن
سبب فوقي واحد؟ وهل يحتاج الجسم إلى جهد جهيد ليسقط في الموت؟
فالرائحة والنكهة والضجر والنصب والشراب والطعام وكل أساسيات الحياة
يمكن أن تكون قاتل ًة ،ومهما طاف الجسد ،فإنه يعي ضعفه حال عدم قدرته
على تحمل بعض المناخات ،وأنواع غير مألوفة من الماء ،ونفخة نسيم غير
معتادة ،وأهون األسباب واالضطرابات تمرض وتعل وتفسد وتغمر حياته
بالدموع ،ومن ثم ما يخلق الهياج على الدوام هذا المخلوق المهين ،وما الذي
يمنح األفكار مالذها حين تنسى حالها الذي يخصها؟!
« 3-12ولكن ستكون المكافأة أكبر وأطول دوا ًما» .وهل تكونين أفضل حالاً إن
خيارا بين أن تكوني سعيد ًة لزمن محدد أو
ً لم يكن لديك ولد ،وإن واجهتي
ألاَّ تكوني سعيد ًة على اإلطالق .ومن األفضل لنا أن نتلقى النعم التي سوف
تتبخر بدلاً من ألاَّ نتلقى شيئًا على اإلطالق ،فهل تفضلين أن يكون ِ
لك ولد
بال قيمة ويعتبر ابنًا باالسم فقط ،أو ولد بمواهب عظيمة حصل على الحكمة
زوجا ثم أ ًبا ،ثم تحمل واجباته على
في وقت وجيز وصار محبو ًبا وأصبح ً
انطباعا على الجدية؟ والحقيقة أن ال
ً محمل الجد ،فأصبح كاهنًا– أي ُيعطي
أحد يجمع بين تلقي النعم الكبيرة والدائمة ،بل يحصل على سعادة تنمو بطيئًا
ويصل بها إلى نهاية المطاف ،وال تعطيك اآللهة الخالدة ابنًا على الدوام ،ولذا
تمنحك واحدً ا تظهر صفاته ألناس يتطورون حتى على مدى طويل من ِ هي
الزمن.
ِ
بابنك، ِ
عليك فرصة التمتع ِ
اختارتك لتض ِّيع 4-12وال يمكن أن تقولي إن اآللهة قد
بصرك على أناس كثر ممن تعرفين وال تعرفين ،وعلى كل أين ستجدين ِ ِّ
فمدي
أنهم في معاناة أكبر ،وقد شهدت حتى في األساطير القادة العظام وكذلك
األباطرة حتى اآللهة لم ُتترك بال معاناة ،إال أننا ينبغي أن نخفف من أدراكنا بأن
لك :انظري في كل امرئ ،فلن تقدري اآللهة قد تعاني من الفساد( ،((3وأقول ِ
أن ُتسمي عائل ًة بعينها «بائسة» ،ولن تستنتجي راحة من أعظمها ً
بؤسا.
بشرا.
( ((3هيرقل وأخيليوس نموذجان مشهوران لذرية اآللهة الذين كانوا ً
59
ِ
نظرك البائسة للغاية في 5-12ولكن من قبل هيروكليس Herculesلن آخذ بوجهة
أن تعتقدي أن بمقدورك أن تتحملي بيس ٍر سوء حظك ،وكنت ضمن األعداد
الغفيرة المتشيعين ِ
لك من قبل ،وجموع الناس البائسة شكل ٍ
قاس من العزاء،
ِ
عليك بعض األمثلة ال لتوضيح أن اإلنسان في حالة ف ْقد غال ًبا -وليس وسأتلو
كثيرا من الناس
من التفاهة أن تتراكم األمثلة عن فنائنا؛ ولكن حتى أوضح أن ً
خففوا من قسوة المصيبة بتحملها باتزان عقلي.
6-12وسوف أبدأ بأوفر الرجال ًّ
حظا( ((3وهو لوكيوس سولال Lucius Sullaالذي
َ
فقد ابنه ،ولكن هذا لم يخفف حدة الضغينة والشجاعة المفرطة التي أظهرها
للجماهير والمواطنين ،ولم يجعله موته ينظر كما لو كان أخطأ أن يفترض
كنيته ،وتبناها بعد فقدانه ،وليس خو ًفا من كره البشر الذين يعني حظهم
الحسن المفرط المعاناة ،وليس اإلرادة العليلة لألرباب الذين اتُّهموا بأنهم
مسؤولون عن حظ سولال الحسن ،ولكن دعونا نتعامل مع شخصية سولال
نهائي– حتى أعداؤه سوف يعترفون بأنه كان
ٌّ تقييم
ٌ وكأن لم يصدر تجاهها
مح ًّقا في حمل السالح وفي خفضه مرة أخرى( ،((3وهناك اتفاق على هذه
ً
مبالغا فيه. النقطة هنا وهي أن المعاناة تؤثر حتى أن األكثر ًّ
حظا ليس ضر ًبا
( ((3كورنيليوس سولال فيليكس ( :)ca. 138–78 bceمن أبرز الشخصيات العسكرية والسياسية في القرن األول قبل
الميالد ،ويذكر بقساوته وضراوته في الحروب األهلية في الثمانينيات
ُ
( ((3عُ ين سولال عام 88قائدً ا في الحرب ضد ميثراداتس ، Mithradatesثم فصل من القيادة عندما سار إلى روما بجيشه
الستعادتها ،وفي عام ُ 79نقل سلطته طواعية وعادة للحياة الخاصة.
( ((3يشير إلى سلوك أكزينفون الجندي والكاتب اليوناني ( )ca. 430–354 bceعقب سماعه لوفاة ابنه جريلوس في362 .
60
الكابتول ،وتظاهر بأنه لم يسمع ،وبمجرد أن سمع اسم ولده طلب نعمة
جوبتر.
2-13هل تعتقدين أنَّ مثل هذا الحزن يجب أن يكون له نهاية؛ ألنَّ األب لم يدمع منذ
الصدمة األولى في اليوم األول خالل المذبح العام واألداء السليم للحفل؟
إخالصا قل عمله في التاريخ ،إنه يستحق
ً فبطريقة هيروكليس يستحق أن يقوم
أعظم مجد للكهنوت؛ ألنه لم يتوقف عن عبادة األرباب حتى حين أغضبوه،
ولكن حين ذهب للمنزل غرغرت عيناه بالدموع ،وناح ببعض كلمات
الحزن ،وحين أدى ما يتطلبه العرف تجاه الموتى استأنف التالوة التي ُتذكر
في الكابتول(.((3
3-13ومن وقت قريب كان باولوس يحتفل بالنصر ،وجعل التيتان يمشون أمام
عربته في سلسلة ،وكان معه ولدان على العربة ،ودفن ولديه اللذين فقدهما
في معركة مع سكيبيو ،((3( Scipioوفاضت مشاعر الرومان بالبؤس حينما
شاهدوا عربة باولوس فارغة( ،((3وهو ال يزال يلقي خطا ًبا يمنح فيه صالته
لألرباب ،وقد طلب إذا كان انتصاره العظيم يثير الحسد ،فإنه مستعد لدفع أي
ثمن وتسديد الدين على نفقته ،وليس على نفقة الدولة.
ِ
شاهدت الشجاعة التي أظهرها؟ إنه اعتبر فاجعته نعم ًة ،وهل كان يمكن 4-13فهل
ٍ
واحدة مصدر راحته ودعمه، ٍ
بضربة ٍ
بعمق بانعكاس الحظ؟ إنه فقد أن يتأثر
ومن ثم لم يسمح للتيتان بأن يروا الحزن.
( ((3قد كرس معبد جوبتر على الكابتول في أواخر القرن السادس قبل الميالد ،وتقول مصادرأخرى إن بولفيليوس Pulvillus
كان هو القنصل في هذه الفترة ،ولم يقم بونتيفكس بعقد الباب وهو الجزء األساسي من طقوس التكريس.
( ((3هزم إيميليوس بولوس L. Aemilius Paulusملك مقدونيا بيرسيس Persesفي معركة بيدنا Pydnaعام ،168
واحتفل بالنصر في العام التالي ،واألبناء الذين تم تبنيهم كانوا من زواج سابق ،وربما حدث موضوع التبني قبل ذلك
بسنوات ،وسينيكا يشير إلى الشخص الذي أصبح كورنيليوس سكيبيو أيميلينوس اإلفريقي P. Cornelius Scipio
Aemilianus Africanusالفاتح لمدينة قرطاجة.
( ((3إن أبناء القائد المنتصر عادة ما يركبون معه عربته.
61
ِ
عليك أمثل ًة ال ُتحصى للرجال العظام وأبحث عن رجل بائس، 1-14لماذا أطرح
ً
محظوظا؟! فكيف لعائالت قليلة قد كما لو كان من الصعوبة أن أجد رجلاً
ِ
شئت من السنين بقيت بال أذى إلى النهاية دون أن تلم بهم ال َّم ٌة! واختاري ما
أحببت فاستدعي لوكيوس بيبولوس ِ واستدعي أسياد هذه العائالت ،وإن
Lucius Bibulusوجايوس قيصر ،وسترين هؤالء الرفقاء رغم عدائهم
المتبادل ،قد كانوا سواء في مصائبهم(.((3
( ((3أخطأ سينيكا؛ فكالبيرنيوس بابلوس وجايوس قيصر كان هما القناصل عام 59م ،وفي محاولة لعرقلة تشريع قيصر رفض
بابلوس أن يغادر بيته معلنًا أنه كان يراقب النذير.
حاكما proconsulلسوريا ،وتقول مصادر أخرى إنهم قتلوا على يد جنود ً (ُ ((3قتل األبناء عام 50عندما كان بابلوس
رومانيين مقيمين في مصر.
( ((3اعتُبرت بريطانيا كائنة عبر المحيط ،وكانت أي محاولة لعبور المحيط داللة على المجازفة المتهورة (واعتقد الرومان
واليونانيون أن محيط أوربا وآسيا وإفريقيا يطوقه المحيط).
( ((4توفت جوليا ابنة قيصر عام 54ق.م ،وعزز زواجها من بومبي عام 59التحالف بين قيصر وبومبي ،و ُيعتقد أنه ضعف
بموتها.
( ((4كانت كنية بومبي “ماجنوس ”Magnusأي العظيم.
62
أنه كان للنفع العام ،واستأنف جايوس خالل ثالثة أيام واجباته كحاكم ،وغزا
حزنه بأسرع مما يغزو أي شيء آخر.
2-15وبعد أن فقد أوغسطس المقدس أبناءه وأحفاده ونفد مدده ،اتجه للتبني ليمأل
بيته الخالي( ،((4لقد تحمل كل هذا بشجاعة رجل مهموم ح ًّقا ،ومراهنًا على
ألاَّ يشكو أحدً ا من األرباب(.((4
3-15لقد فقد تيبريوس قيصر كلاًّ من ابنه من صلبه وابنه بالتبني( ،((4ومن ثم مدح
ابنه أمام المنصة ،Rostraووقف بجوار الجثة ُي ِّ
ملي نظره ويمسك الحجاب
ليحجب أعين بونتيفكس pontifexعن الجسد الميت( ،((4وكان الشعب
الروماني يبكي وال ُيظهر وجهه أي شعور ،لقد أثبت لسيجانوس أنه يقف
بجواره ،فكيف تحمل بجلد ف ْقد( ((4أقرب الناس إليه.
كم الرجال العظماء الذين لم ُيعفهم سوء الحظ الذي يضرب بكل ِ
رأيت َّ 4-15هل
اتبعت جوليا Juliiسلفها فينوس ،وقد تأله يوليوس قيصر وأوغسطس بعد الموت ،ويضم سينيكا أعضاء الحقين قد (((4
ُيألهون في المستقبل.
ُ
جمل سينيكا المقتضبة تتعالى على التفاصيل ،فقد كان ألوغسطس طفل واحد وهو ابنته جوليا والتي نفيت وأبعدت عنه، (((4
ولكن األحفاد
َّ ومع ذلك قد يشمل صهره مارسيلوس (انظر )3.2وحفيدين هما جايوس ولوكيوس وكالهما مات قبله،
اآلخرين بقوا على قيد الحياة (رغم أن أوغسطوس لم يفكر أنهم يستحقون خالفته) ،والتبني المشار إليه تيبريوس (رغم
أن أوغسطس تبنى جايوس ولوكيوس كأبناء).
إله أوغسطس بعد موته ،وكان ُيسمى في حياته ر ًّبا من قبل الشعراء. (((4
توفي دروسوس ابن تيبريوس عام 23م ،وابنه بالتبني جيرمانيكوس عام .19 (((4
كان تيبريوس هو بونتييكس مكسيموس ،ولذلك تجنب أن يرى تدنيس الجثة. (((4
قد يعني فعل perdereتدمير ،وكذلك خسارة ،على سيجانوس (انظر.)2.1 (((4
63
شيء إلى األدنى ،هؤالء الرجال الذين حفلوا بصفات عقل جمة وباحترام
العامة والخاصة؟ ولكن دوائر هذه العاصفة تدور وتدور ،وتدمر كل شيء
بعشوائية أو تحمله كما لو تتملكه ،تمضي نحو كل امرئ تتفحص أموره ،وال
ينجو أحد من أن ُيولد دون تكبد تكلفة.
1-16أعرف ما تقولينه« :أنك نسيت أنك تمنح السكينة للمرأة وتعطي أمثلة
فمن الذى يقول إن الطبيعة شحيحة في تعاملها مع صفات المرأة،
للرجال»َ ،
وتفرض قيو ًدا ضيقة على فضائلها؟ صدقيني إنهن لديهن نفس القدر من القوة
ونفس القدر من اإلمكانية للخير األخالقي طالما نوين فيه ،إنهن سيتحملن
الحزن والشقاء بنفس الفاعلية إذا طورن هذه الطباع.
2-16في أي مدينة نتحدث عن مثل هذه األرباب الخيرة؟ في المدينة التي أطاح فيها
لوكريتيا وبروتوس بالملك الذي كان يقهر مواطني روما ،فنحن مدينون إلى
بروتوس بالحرية وإلى لوكريتيا ببروتوس( ،((4وفي المدينة التي تجاهلت
كويليا Cloeliaفيها العدو والنهر ،وإننا نتعامل معها مثل رجل لشجاعتها
ٍّ
مكتظ على المفرطة ،حيث جلست في تمثالها على ظهر الحصان في موضع
الطريق المقدس ،والشباب يتدافعون نحو الجسر ،وكلويليا توبخهم لرحيلهم
بهذه الطريقة عن المدينة التي ُمنحت الخيول حتى للنساء(.((4
ِ
أردت أمثل ًة على النساء اللواتي تحلين بالشجاعة حينما فقدوا أقاربهم ،لن وإن 3-16
أمضي من باب إلى باب ألبحث عنهم ،بل سوف أقدم لك اثنتين من كورنيلياس
Corneliasمن أسرة واحدة ،األولى هي ابنة سكيبيو Scipioوأم جراشي
( ((4األسطورة تقول إن لوكريتا ُ Lucretiaأجبرت على أقتراف الزنا مع ابن تاركوين Tarquinآخر ملوك روما ،وبعد أن
كشف زوجها وأبوها ما فعلته قتلت نفسها ،وحث موتها بروتوس لقيادة الثورة التي طردت الملك ،وأسست الجمهورية
عام 509ق.م.
( ((4وكانت األسطورة في السنوات األولى للجمهورية أن سلوليا Cloeliaأعطت ملك كليسيوم Clusiumكرهينة لالرس
بورسيننا ،Lars Porsennaولكنها دبرت لتعبر نهر التيبر.
64
،((5( Gracchiوهي التي أنجبت اثنتي عشرة مرة وتعددت جنائزها ،ومن أبنائها
َمن لم يكن له أي تأثير في المدينة سواء في والدته أو في زواله ،أي لم يكن له ثقل،
ولكن يعترف الجميع بأن تيبيريوس وجايوس كانا عظيمين ،حتى َمن ينكرون
أشرارا ،لقد رأتهم ُيقتلون ولم يدفنوا ،وأما الذين جلبوا لها العار والبؤس
ً أنهما كانا
قالت فيهم« :لن أتوقف عن قول إنني محظوظة وإنني أنجبت جراشي»(.((5
65
ِ
فلديك ابنتان له ،فالحمل عظيم إن لالبن الذي تحزنين عليه ،فانسي ما فقدتيه،
ِ
نحيت صوا ًبا ،واجعلي هذا غايتك ،وحين ترينهم تذكري وهين إن
ٌ ِ
أخطات،
ِ
ابنك وال تحزني.
7-16وحين تسقط األشجار بسبب تمزيق الريح لجذورها أو بسبب اندالع مفاجئ
إلعصار يلوي جذوعها ،فإن الفالح يرعى براعم أوراقها ،ويزرع ويقلع في
سريعا في اللحظة التي
ً المكان نفسه الذي انمحت فيه ،ويمضي الزمن عاجلاً
يكون فيها الفقد والنمو ،فالنمو الجديد أكثر وفر ًة مما ُفقد.
ِ
حزنك عليه 8-16ودعي بنات ميتيليوس يعوضونه ،ويمألن فراغه ،وخففي
باالنفراج الذي حصلتي عليه من البنتين ،وهذه هي طبيعة البشر؛ ال شيء أعز
علينا مما فقدناه ،ولسنا منصفين لما تبقى من خثارهم؛ ألن توقنا دو ًما لما
معك حتى في حالة الغضب، ِ مت كم كان الحظ متساهلاًُأخذ منا ،ولكن لو َّقي ِ
ِ
أحفادك الكثر ومنهم ستدركين أنَّ لديك شيئًا أكبر من العزاء ،انظري إلى
ِ
لنفسك هذا يا ماركيا“ :سأكون مستاء ًة إذا ُقدر ِ
وعليك أن تقولي البنتان،
ٍ
امرئ بسجيته ،وإن األمور السيئة ال تحدث للطيبين ،كما أني أرى حظ كل
الطيبين واألشرار يصابون بنفس الطريقة دون تمييز”.
1-17من الصعوبة أن تفقد شا ًّبا في مقتبل عمره شرع في تقديم العون والمشورة
فمن الذي ينكر أن هذا صعب؟ ولكن هذا هو اإلنسان ،أنت ُولدت
ألمه وأبيهَ ،
ألجل هذا( ((5للمعاناة والفناء واألمل والخوف ،وتنزعج باآلخرين وبنفسك،
أيضا ،واألسوأ من هذا كله ألاَّ تفهم حالتك الحقة.
ولتخاف الموت وترغبه ً
ْ
«اعرف مسب ًقا كل المحاسن متوجها إلى سيراقسة:
ً 2-17إذا قال امرؤ ما لرجل كان
أبحر ،وهذه هي األشياء التي
ْ والعيوب من رحلتك التي تقصدها ،وبعد ذلك
66
ربما تتعجب منها؛ ألنك أولاً سوف ترى الجزيرة ذاتها منفصلة عن إيطاليا
ٍ
ضيقة ،ولكن حالما تعتقد أنها مرتبطة باليابسة ،وفجأ ًة ينفلق البحر ٍ
بقناة
ويتصدع جانب هيسبيريا( ((5من صقلية ،وسوف ترى أسطورة شاريبديس
(ألنه بمقدورك أن ترى حافة الدوامة العاتية) ،وتبقى هادئا ال تتأثر بالرياح
الجنوبية ،ولكن إذا كانت ضربات العاصفة قوية من هذا االتجاه ،فإنه يبتلع
السفن بفمه العميق الواسع(.((5
3-17سوف ترى ربيع أريثوزا المشهور في ِّ
الشعر بأناقته الجميلة ينتقل صوب
األسفل وهو يدفق المياه الثلجية الباردة ،سواء أكانت ُوجدت فيها ألول
مرة ،أو تستعيد النهر الذي قد تدفق بال نقصان تحت األرض وتحت كل هذه
البحار ويحفظها من االختالط بالمياه الملوثة(.((5
5-17ولكن عندما تمر بهذه االكتشافات ،فقد يفسد الصيف الجائر والمعتل منافع
مناخ الشتاء ،وسوف ترى هناك ديونيسيوس الطاغية tyrant Dionysiusمدمر
67
الحرية والعدالة والقانون ،الرجل الجشع للسلطة المطلقة حتى بعد أفالطون،
وألجل الحياة حتى بعد المنفى( ((5سوف يحرق بعض الناس ويقهر اآلخرين
ويأمر بقطع رؤوس اآلخرين بسبب إساءة تافهة ،وينزل الذكور واإلناث
لخدمة شهوته ،وألجل الداعي الشائن لسلطة القصر ال يكفيه أن يزاوج بين
اثنين في نفس الوقت ،لقد سمعت ما يمكن أن يجذبك ،وما يمكن أن يعيقك،
فإما اإلبحار ،أو التوقف هنا».
َّ
تتخل عن األمل الذي سوف ُيكسبهم السمعة الطيبة التي ال يجرؤ أحد أن 7-17ال
يلومك عليه ،وتخيل تكبدهم الخزي فيصبحون أمثلة للشر ،وال يمنعهم شيء
بأن يؤدوا طقوس جنائزكم ،ويتولى أبناؤكم تأبينكم ،وأعد إلمكانية وضع
الولد أو الشاب أو الشيخ على المحرقة ،فالعمر ال عالقة له بالموت ،فأي
موكب للجنازة قد يكون لموت مبكر لوالد» .وبعد هذه الحدود التي ُوضعت
إن كنت ُتربي طفلاً ِّ ،
حرر األرباب من كل عيب ألنهم لم يمنحونك كفالة.
1-18وأقبلِ اآلن وتخيل دخولك إلى حياتك بالحدود ذاتها ،وقد أفسر لك ما
يغريك ،وما يقف أمامك إن تعجبت من زيارة سيراقسة ،فتخيلني قاد ًما
ألعطيك نصيحة كما لو كنت مولو ًدا حديثا.
( ((5ديونيسيوس الثاني طاغية سيراقوسة عام 357-367ق.م ،ثم أطيح به ،وكان هناك محاولة فاشلة لعودته 344-346
ق.م ،تقاعد في كورنثة ،وزارأفالطون محكمته مرتين.
( ((5هذا الكالم وكالم سينيكا في الفصل 18موجه عمو ًما لجمهور الرجال.
68
2-18أنت على وشك أن تدخل مدينة يتقاسمها األرباب والبشر( ،((6وهي تشتمل
على كل شيء مرتبط بالثبات والقوانين األبدية ،وتحوي كل األجرام
السماوية الدوارة التي تؤدي واجباتها بال كلل ،سوف ترى هناك وميض نجوم
ال حصر لها ،وسوف ترى العالم يضيئه نجم واحد ،وترسم الشمس بمسارها
اليومي فترات الليل والنهار ،وتفصل بمسارها السنوي الصيف والشتاء
بالتساوي( ،((6وسترى القمر ُينتزع في الليل ويقتبس اللطف ،وتعكس النور
من مالقاتها قريناتها ،فأحيا ًنا تخبو وأحيا ًنا أخرى ترتسم فوق األرض بوجهها
الكامل( ،((6تتحول مثل الشمع وتنمحي ،وهي تختلف عن ليلتها المنصرمة
دو ًما.
3-18وسوف ترى األجرام الخمسة تتبع مسارات متباينة ،وتندفع نحو حركة العالم
السريعة( ،((6فقد تعتمد ثروات األمم على غيض حركاتها ،وتتشكل أصغر
األشياء وأكبرها بنجم مواكب وغير مواكب ،وسوف يخلبك تجمع السحب
وهطول المطر والبرق المنعرج والسماء المتخمة بالرعد.
( ((6اعتبرت الرواقية أن العالم كله دولة مدنية فيها كل البشر مواطنون.
ً ً
( ((6يشير سينيكا إلى أن طول اليوم يتفاوت دو ًما حسب فصول السنة ،فأحيانا يطول النهار على الليل ،وأحيانا العكس ،ولكن
طول الصيف يساوي طول الشتاء.
(“ ((6يلوح فى األفق ”loomingظالل قمر أوديسا هوراس .Horace Odes 1.4.5
( ((6الكواكب الخمسة المعروفة آنذاك “ميركوري= عطارد” ،و«وفينوس= الزهرة» ،و«ومارس= المريخ» ،و«وجوبتر=
المشترى» ،و«ساتورن= زحل» ،وجملة “يندفع نحو حركة العالم السريعة” تشير إلى حركتهم التدريجية الظاهرة تجاه
الشرق من خالل دائرة البروج كما هي ،وتتحرك النجوم الثابتة األخرى تجاه الغرب.
69
المتسعة بحياتها البرية ،وتراتيل الطيور في اختالف تنافرها.
5-18ومدن في مواقع متنوعة ،وأمم تقطعها تضاريس وعرة بعضها تمتطي الجبال
وأخرى تأوي إلى ضفاف البحيرات والمستنقعات( ،((6فيعززون المحاصيل
بالفالحة ،و ُتفلح األشجار من تلقاء ذاتها ،وتتدفق النسائم اللطيفة خالل
الرياض والخلجان الماتعة ،فتنسحب الضفاف لتشكل الموانئ ،وكل هذه
الجزر المنتشرة عبر المياه الخالية تزين البحار حيث انبثاقها.
70
8-18ولكن في المكان ذاته سوف يكون هناك آالف المحن للجسد والعقل والحروب
والسلب وحطام السفن والسموم واالضطرابات المناخية والجسدية ،والحزن
لمن تعزيهم ،والموت قد يكون هينًا أو حصيلة عقاب وعذاب ،وفكر
المرير َ
مليا ،وزنْ ما تريد ،وكي تصل إلى مجموعة خبرات عليك أن تمتد لبالياًّ
اآلخرين» ،ستردين ِ
بأنك تريدين أن تعيشي بالطبع( ،أو أفترض اعتقا ًدا آخر،
نفسك في موقف فيه تقصير يسبب ِ
لك حز ًنا!) ،وهكذا عيشي ِ ِ
أنك لن تضعي
ولكن والدينا
َّ ِ
ولكنك تقولين« :ال أحد استشارنا»، على الحدود المتفقة،
كانوا يستشيروننا حينما عرفونا حدود الحياة ،ونشؤونا لنعيش معهم.
1-19ولكن اسمحي لي أن أنتقل إلى أسباب العزاء ،ودعونا نرى أولاً حيث الحاجة
إلى العالج ثم نوع العالج ،فالشخص المحزون مصاب بالتوق لمحبوب،
وهذا في حد ذاته يبدو قابلاً للتحمل؛ ألنهم وهم على قيد الحياة لم ِ
نبك على
الناس الذين غابوا أو الماضين في الغياب رغم أننا فقدنا كل اتصال بهم حين
غفلنا عنهم ،وهكذا اعتقادنا أن هذا ُيعذبنا ،والشرور قد تعظم بتقديرنا لها،
والمداوة بأيدينا ،فدعونا نفكر في المتوفي كغائب ،ودعونا نخدع أنفسنا،
فقد أرسلناهم إلى مآلهم ،أو بالحري قد أرسلناهم قد ًما ونحن ماضون في
اتباعهم.
2-19والشخص المحزون يتأثر بهذا التفكير ً
أيضا« ،لن يحميني أحدٌ ولن تنجدني
من معاملة مزدرية» ،أنا أقدم عزاء بعيدً ا عن ما هو جدير بالثناء بل هو حق،
ويخلق العزاء في مدينتنا الرغبة الحسنة أحرى من أن يدمرها ،والشعور
بالوحدة الذي اعتيد استخدامه ليكون لعنة للشيخوخة يمنحها قوة ادعاء
بعض الناس كرهوا أبناءهم وأنكروا ذريتهم ويجعلون أنفسهم بال أبناء
عمدً ا(.((6
( ((6يلمح سينيكا إلى الطريقة التى يجذب بها األثرياء الذين ليس لهم أطفال انتباه صيائدي التركة.
71
لست مضطربة لما ضاع مني ،وال يستحق الناس
ُ 3-19أعرف ما ستقولينه« :إنني
عزاء إذا استاؤوا لموت ابن وكأنه ُمستخدم عندهم ،وإذا وجدوا في حال ً
ِ
يزعجك يا ماركيا؟ ابنهم زمنًا للتفكير في أي شيء إال ابنهم ذاته» ،فما الذي
هل موت ِ
ابنك أم ألنه لم يعش طويلاً ؟ فإن كان قد مات فاحزني عليه طوال
ِ
وأنت تعرفين على الدوام أنه ماض نحو الموت. الدهر،
ِ
وعليك أن تدركي أن الميت ال يشقى بمعاناة ،وأن األشياء التي ُتصنع من 4-19
العالم السفلي المرعب هي مجرد خرافات ،فليس من ظالم يخيم على
الموتى ،وال سجن ،وال أنهار تشتعل بالنار ،وال نهر للنسيان ،((6( Oblivion
ومدَّ عى عليهم ،وال تقويض للحرية من قبل الطغاة(،((7
وال محاكم للقانون ُ
لقد انغمس الشعراء في هذه األوهام وطاردونا برعب أحمق.
5-19الموت انعتاق من كل ألم ،وحد ال يمكن تجاوزه ،وهو يعيدنا لحالة السالم
التي كنا نرقد فيها قبل ميالدنا ،فكل َمن يشعر بالشفقة على الميت ينبغي أن
شرا ،فالشيء يمكن
خيرا وليس ًّ
يشعر بالشفقة على َمن ال يولد ،فالموت ليس ً
شرا ،ولكن هو في حد ذاته ليس شيئًا ،ويختزل كل شيء
خيرا أو ًّ
أن يكون ً
إلى ال شيء ،وال يتركنا في رحمة الحظ؛ ألن الخير والشر يبقيان في بعض
الموجودات المادية ،وال يمكن للحظ أن يقبض على ما أعتقته الطبيعة ،وال
بائسا.
يمكن لغير الموجود أن يكون ً
6-19لقد عبر ابنك الحدود ،وخ َّلف وراءه مكان العبودية ،ورحب به السالم األبدي
الفسيح ،ال يهاجمه الخوف من الفقر أو القلق على الثروة ،أو طعنات الشهوة
التي ُتفسد العقل باللذة ،وال يطوله حسد الناس المرفهين أو يرهقه ،وال َي َغ ْي ُر
على مسامعه الحساسة أي نوع من الشتيمة ،وال يتوقع كوارث سواء أكانت
72
عامة أم خاصة ،وال يقلق على مستقبل متعلق بنتائج تؤدي دو ًما إلى مزيد
أخيرا حيث ال شيء يمكن أن يجبره على الخروج ،وال
ً شك( ،((7إنه أتى
يمكن أن يرعبه شيء.
1-20آه ،كم ينقص الوعي بمعاناة َمن ال يثنون على الموت وال ينظرون إليه على أنه
ختما على سعادتنا ،أم يحفظ الكارثة في
اكتشاف أرقى للطبيعة ،سواء أكان ً
غار ،أم ينهي تعب إنسان مسن وورعه ،أم يقطع حياة قصيرة لشاب في مقتبلها
وهو يتوقع أشياء أفضل ،أم يوقف طفولة قبل أن تصل لمراحل متقدمة،
ٍ
امرئ هو نهايته ،وهو للكثرة عالج ،وللبعض جواب للصالة ،وال فموت كل
ممن يأتيهم دون انتظار دون أن يطلبوه.
أحد أفضل َّ
2-20إنه يجلب الحرية من العبودية ضد صاحب األماني ،إنه يمحي السالسل من
األسرى ،إنه ُيخرجنا من سجن الذين رفضت سلطتهم المطلقة أن تفرج عنا،
إنه إبانة المنفيين الذين يجهدون عقولهم وأعينهم دوما نحو وطنهم ،فال يبالي
بمن ُيدفن تحت التربة ،وحين ُيقاسم الحظ الممتلكات العامة بال
الموت َ
عدل ،و ُيعطي ممتلكات المرء آلخر رغم أنهم ولدوا بحقوق متساوية ،فإن
الموت هو المسوي األعظم ،وال أحد بعد الموت يعمل في هوى آخر ،وال
ألبيك ،إني أقول ِ
لك :ما ِ يشعر أحد بالدونية ،إنه يساوي الكل ،لما تتوقينى
الذي يضمن أن هذا الميالد ليس عقا ًبا؟ وما الذي يضمن أنني لن أسقط حين
أواجه تهديدات الحظ؟ وبإمكاني أن ُأبقي على صوت عقلي وأسيطر عليه،
شيء لما يمكن أن أصنعه في النداء األخير.
ٌ لدى
حيث َّ
3-20هنا أرى الرموز ،ليست كلها من نفس النوع فحسب ،بل ُبنيت على نحو
ٍ
بأناس متفاوتين ،فالبعض يعلقون ضحاياهم من رؤوسهم ،وآخرون مختلف
يقودونهم بعصي نحو موطنهم ،وآخرون يمدون أسلحتهم على المشنقة،
73
أرى مخادع األسلحة وأرى السوط وأدوات التعذيب قد صممت لكل
متضامن( – ((7ولكن أرى الموت ،وهنا أعداء قساة ومواطنون متعجرفون،
ولكن أرى الموت ً
أيضا هنا ،وليس من مشكلة لكونك عبدً ا حين تسأم من
ملكية شخص آخر ،فيمكنك أن تعبر نحو الحرية بخطوة واحدة ،وقد تعز
علي بفضل الموت!
حياتك َّ
4-20فكر في النعمة المناسبة للموت ،وكم هم الناس الذين قد حرموا من العيش
طويلاً ،وإن كان جنايوس بومبيوس مجدًّ ا وسندً ا لإلمبراطورية ،فقد ُحمل
العتالل صحته حين كان في نابلس ،ورحل وهو زعيم بال منازع للشعب
الروماني ،ولكن الموت ذهب به إلى منقلبه ،إنه رأى جحافل ُذبحت أمام
عينيه ،ومن هذه المعركة التي شكلت الخطط األمامي للسوناتو رأى الحاكم
الجزار المصري ،واستسلم لجسد
َّ يظهر للعيان على قيد الحياة( ،((7ورأى
خاضع وقبض المنتصرون على القدسية ،وحتى لو ُترك دون أن يصاب ،فإنه
عارا من أن تعتمد حياة بومبي على كرم
مدخرا ،فما هو األشد ً
ً يأسف لكونه
ملك(((7؟
5-20إذا كان ماركوس شيشرون قد سقط حين كان يتجنب خنجر كاتيلين الذي
ُو ِّجه فيه وفي وطنه على حد سواء ،وحين كان المنقذ للدولة التي حررها،
أو حتى لو مات بعد ابنته بفترة وجيزة ،إلاَّ أن ميتته كانت سعيدة ،فإنه لم َ
ير
السيف يرسم حياة مواطنيه أو ينبش القتلة ممتلكات القتلى حتى يتكفلوا بنفقة
علنيا لغنائم القنصلية ،أو منع الذابح عطاء العامة ،أو السرقة
موتهم ،أو مزا ًدا ًّ
والحرب والنهب ،وكثير مما زاد فيه كاتيلين(.((7
74
6-20وإذا كان البحر قد ابتلع ماركوس كاتو وهو في طريق عودته من قبرص ،حيث
كان يدير ميراث الملك هناك ،وحتى لو كان ابتلع المال الذي كان يجلبه لدفع
الحروب األهلية ،أليس هذا نعمة؟ ويقينا قد توفي وهو يعتقد أنه ال أحد يجرؤ
على فعل خطأ في وجود كاتو ،ولكن اضطر الرجل الذي ُولد ألجل حرية
وطنه وليس حريته فحسب لتحاشي القيصر وأتباع بومبي( .((7ولذا لم ُيسبب
له موته المبكر أي معاناة ،وأنجاه حقيق ًة من كل صنوف المعاناة(.((7
« 1-21ولكنه مات في عجلة وهو شاب يافع» ،وأفترض أنه كان يتطلع إلى أن يعيش
إلى أقصى مدى يعيشه اإلنسان ،فكم من الزمن سوف يعيش؟ إنه ُولد لفترة
وجيزة ليفسح الطريق لآلخرين ،ونحن نرى أن كل وافد جديد ينتقل لهذه
المساكن المؤقتة ،وأنا أتحدث عن حيواتنا فحسب ،فهل نعلم أنها تدحرجنا
وع ِّدي قرون المدن التي خلت وسترين كيف
لألمام بسرعة ال تصدق؟(ُ .((7
تباهت بعراقتها التي لم تصمد طويلاً ،فكل أعمال البشر مقتضبة وعابرة
تافها لزمن ال نهائي.
جزءا ً
وتشغل ً
2-21وهذه األرض بمدنها وشعوبها وأنهارها وبحارها المتاخمة نعدها كثقب إبرة
جزءا أصغر من هذا الثقب إذا ُقورنت
بمقارنتها بالكون ،وتشغل فترة حياتنا ً
وتكرارا
ً مرارا
ً بالزمن كله الذي يتجاوز أمده العالم حيث يعيد العالم ذاته
داخل مسار الزمن( ،((7ولذا ما الغاية من إطالة شيء مهما عظمت زيادته وهو
ٍ
ماض إلى ال شيء؟ إن الطريق الوحيد الذي ُيمكن أن نطيل به حياتنا هو ما
وجدنا أنه ٍ
كاف.
( ((7انتحر كاتو األصغر في 46ق.م بدلاً من طلب العفو من القيصر بعد هزيمة قوات بومبي ،وكان قد أشرف على ضم
قبرص عام .58
( ((7فجأة يتحدث سينيكا مرة أخرى عن ابن ماركيا.
( ((7في الالتينية quas <scimus> incredibili celeritate conuolui.ونعرف أنها تدفعنا بسرعة ال تصدق.
( ((7إشارة للمذهب الرواقي في دورات العالم المتكررة والمتطابقة.
75
سنوات طوالاً قد انصرمت في التاريخ،
ٍ عمروا ٍ
ألناس َّ 3-21ربما تعطينني أسماء
ِ
ذهنك على الزمن وربما تعد لكل منهم مائة وعشر سنوات ،ولكن ركزي
ِ
فحصت عمر المرء برمته ،فالفارق بين أقصر حياة وأطولها كأنه ال شيء ،وإن
الذي عاشه وقارنتِه بطول َّ
الزمن فستعرفين أنه لم يعش.
4-21وعالوة على ذلك ،ومن وجهة نظره كان زمن وفاته حسنًا؛ ألنه عاش ما ُق ِّدر له
عيشه ،ولم يترك شيئًا أزيد مما فعله ،وال يوجد مقياس واحد لكبر العمر عند
البشر ويختلف عن الحيوانات؛ ألنها تنفق في غضون أربعة عشر عا ًما ،وأقصى
عمر يمكن أن تعيشه هو المرحلة األولى لإلنسان ،فكل مخلوق قد ُوهب قوة
باكرا؛ ألنه لن يمضي للعيش أطول مما عاش.
مختلفة للعيش ،وال أحد يموت ً
وقد ثبت حجر الحد القوي في مكان لكل منا ،وسوف يبقى دو ًما حيثما يتم 5-21
ِ
فقدك له كان معدًّ ا سل ًفا، إعداده ،وال يستبعده أي عمل أو تأثير بعيدً ا ،وأدركي أن
وأنه وصل للفترة المقدر له عيشها« ،ووصل إلى غاية الحياة المحددة له»(.((8
6-21ال تكتئبي بالتفكير «بأنه كان يمكن أن يعيش أطول» ،إن حياته لم تكن قصيرة،
وال تتدخل الصدفة في سنين المرء أبدً ا ،وكل امرئ مدفوع لما ُوعد به ،وتمضي
األقدار في طريقها ال ُتضيف وال تطرح ما وعدت به ،والسعي والتضرع بال
ٍ
ماض لما كتب له من يومه األول ،وفي اللحظة األولى ٍ
امرئ جدوى ،فكل
التي رأى فيها النور ،بدأ الرحلة نحو الموت ،ويقترب من مصيره ،وما يضاف
له من سنين مراهقته ُيطرح من حياته.
7-21كلنا عرضة لخطأ التفكير في أن كبار السن فحسب هم الماضون نحو الموت،
ولكن الحقيقة أن الطفولة والشباب وكل مراحل العمر تأخذنا لهذا االتجاه،
واألقدار تقوم بعملها ،وهي تتيقن بأننا لسنا على وعي بأدائها ،ولذا تزحف
76
نحونا بيسر ،ويستتر الموت تحت كلمة الحياة ،فالمهد انتقال للطفولة،
ِ
أحصيت مراحل الشاب ،وإن
َّ ُ
العجوز ُ
الرجل والطفولة انتقال للبلوغ ،ويمحو
نموها ح ًّقا فهي في الواقع مفقودة.
1-22هل تشتكين يا ماركيا من أن ِ
ابنك لم يعش وكان يمكن أن يطول عمره؟ فكيف
تعرفين ما سوف يحصده من طول عمره؟ هل تجدين اليوم أحدً ا قد رسخت
ظروفه وتوطدت وال يخشى انصرام الزمن؟ إن األمور اإلنسانية زلقة ومائعة،
وليس هناك مرحلة في حياتنا عرضة للخطر وغير حصينة كالتي يمنحها المرء
للمرحلة التي ُتعطي أعظم لذة ،ولذا علينا أن نتمنى الموت ونحن في أوج
سعادتنا؛ ألنه ال يقين وسط اللغط والفوضى إال ما كان في الماضي.
2-22لقد جذبت هيئة ِ
ابنك الوسيمة نظرة المدينة المنكوبة ،وقد حافظ على طهارتها
الحتراسه وشرفه ،ومع ذلك َمن الذى يضمن ِ
لك أن هيئته ستبقى على ما هي
عليه؟ فقد ُيذهبها المرض ،والحفاظ على المظهر قد يشينه كبر السن! فكري
في ألف خطأ ُيؤثر على العقل ،فاستقامة وموهبة األفراد التي تظهر في شبابهم
ال تبقى دو ًما حتى الشيخوخة ،وغال ًبا ما تنساق لمسار انحطاط يهاجم الحياة
الالحقة ،ومن ثم تصير مخزي ًة ،وتجلب التشويه على البدايات المشرفة أو
تغرق في مستوى الشهوة والتسول ،وينحصر همهم فيما يأكلون ويشربون.
( ((8روتيليوس روفس P. Rutilius Rufusقنصل عام 105ق.مُ ،حوكم بتهمة االغتصاب ،و ُنفي عام ، 92رغم اعتراف
العموم ببراءتهُ ،
وأدين سقراط في محكمة أثينا عام 399ق.م ،ورفض أن يذهب إلى المنفى تجن ًبا لإلعدام .وعن كاتو
انظر .20.3
77
قديسا أكثر من كاتو
ً ابنك لم يكن أحكم من سقراط ،وفكري أن ِ
ابنك لم يكن ِ
الذي ثقب صدره بنفسه ،وحين تهضمين كل هذا ،ستدركين أن الذين تم
عالجهم هم الذين سحبتهم الطبيعة على عجل نحو السالمة؛ ألن هذا كان
نوعا من الحملة نتوقع أن تخدم حياتهم ،وال شيء خادع مثل حياة اإلنسان،
ً
وال شىء مثل هذه الغادرة ،فهيروكليس يقول :ال أحد يقبلها دون وعي بما
تقدمه ،وإن لم يولد األكثر ًّ
حظا أعتقد أن التمتع بحياة قصيرة وسريعة يعيدنا
إلى حالتنا األصلية.
لك هذا األلم ،حين وهب سيجانوس لنفسك الفترة التي سببت ِ
ِ 4-22صوري
ِ
والدك تابعه ساتريوس سيكوندوس ((8( Satrius Secundusقد غضب معه
إلفصاحه في مناسبة أو مناسبتين أن ليس بمقدوره تحمل الصمت حين ال
يرق سيجانوس علينا فحسب بل يتسلقنا ،وكان هناك اقتراح بإنشاء تمثال له
في مسرح بومبي الذي أعاد قيصر بناءه بعد الحريق( ،((8واعترض كوردوس
Cordus؛ ألن هذا يدمر المسرح ح ًّقا.
ْ
يشتط غض ًبا من شأن سيجانوس لموقفه من جنايوس 5-22حسنًا ،ولماذا لم
بومبيوس Gnaeus Pompeiusلتمجيد الجندي الخائن للنصب التذكاري
للقائد العظيم؟ إن االتهام قد ُس ِّو َي تما ًما( ،((8والكالب الشرسة التي كانت
تتغذى على دم اإلنسان ليجعلها مطيعة له فقط ومفترسة ألي أحد آخر بدأت
في العواء حول الرجل(.((8
6-22وماذا كان يفعل؟ إذا رغب في العيش ،كان عليه أن ينشد سيجانوس ،وإن
رغب في الموت فعليه أن ينشد ابنته ،وكالهما يرفض االستماع ،فقرر خداع
ساتريوس سيكوندوس Satrius Secundusوهو أحد أتباع جراميتيوس كوردوس .Cremutius Cordus (((8
المقصود بقيصر هنا تيبريوس. (((8
تقرأ في الالتينية تكون تما ًما .consarcinatur (((8
تركت بعض الكلمات الممحية التي من الصعب ترجمتها ،ولم تغير في المعنى شيئًا ،والكالب هم أتباع سيجانوس. (((8
78
استحم ليستعيد قوته ،انزوى إلى سرير نومه كما لو أنه يتناول
َّ ابنته ،وبعد أن
انطباعا بأنه أكله،
ً وجبة ،وطرد عبيده ،وألقى ببعض الطعام من النافذة ليخلق
وغاب عن العشاء ،وتظاهر بأن لديه ما يكفي من الطعام في غرفة نومه ،وقد
فعل الشيء نفسه في اليومين الثاني والثالث ،وفي اليوم الرابع خارت قواه
ِ
فعانقك وقال« :ابنتي العزيزة ،هذا هو الشيء الوحيد البدنية واستسلم،
الذي أبقيتُه ِ
لك من حياتى كلها ،لقد بدأت الرحلة نحو الموت ،وأنا اآلن
في منتصف الطريق ،وال تطلبي مني العودة» ،ومن ثم مكث النهار بطوله في
غرغة الموت ،ودفن نفسه في الظالم.
7-22وعندما ُعرفت نواياه ،عمت الفرحة؛ ألن الفريسة انتُزعت من َّ
فكي ذئب
جشع ،وذهب المهمشون في دعوة سيجانوس إلى محكمة القناصل،
واشتكوا بأن كوردوس قد مات ،ولذا قد ُيدخلون فيما أجبروه على عمله،
وح ًّقا كانوا يشعرون أن كوردوس يهرب منهم ،وكانت القضية المحورية في
عم إذا كان قد فقد المدعي الحق في الموت ،وحين جرى
جلسة االستماعَّ ،
هذا النقاش ،جاء المهمشون للمحكمة للمرة الثانية ،وحصل على براءته.
8-22هل ترين يا ماركيا التقلبات التي تهددنا بشكل غير متوقع في أزمنة بائسة؟ هل
ِ
أسرتك ُتوفي؟ إنه فقد الحق في عمل هذا تقري ًبا. تنوحين؛ ألن أحد أفراد
1-23وبصرف النظر عن حقيقة أن المستقبل برمته غير يقيني ،إال أنه يقينا يزداد
توا من المجتمع البشري لديها أيسر رحلة
سوءا ،والعقول التي تحررت ًّ
ً
للعالم العلوي؛ أن يسحبوا معهم قليل دنس ومتاع ،وأن يتحرروا قبل أن
يصابوا بفرط العواطف ويتأثروا باألمور الدنيوية ،إنهم يطيرون بخفة عودة
إلى مكانهم األصلي ،ويغسلون بيسر أثر الرجس والسخام.
2-23وال تفرح العقول العظيمة دو ًما في الجسد ،إنها تتطلع للرحيل عنه وتحطيمه،
وبدنو
ٍّ ويمتعضون من هذه القيود؛ ألنهم يستعملونها بسمو للتجوال في العالم
79
في األمور البشرية ،وهذا هو األساس لما يقوله أفالطون( :((8إن عقل الحكيم
موجه بكليته نحو الموت ،وهذا ما يرغب فيه وما يفكر فيه ،إنه مدفوع دو ًما
بالرغبة الساعية نحو المتعالي.
3-23أخبرينى يا ماركيا ،حين رأيت في هذا الشاب حكمة الشيخ ،والعقل الذي
طامحا
ً ومتحررا من الخلل،
ً يتغلب على صنوف المتع الشتى ،وال يعيبه عيب،
ِ
فكرت أنه للثروة دون جشع ،وللشرف دون أنانية ،وللمتعة دون إفراط ،هل
سوف يتمتع بكل هذا دون أن يصيبه اللمم على الدوام؟ إن ما يصل إلى َأ ْو ِج ِه
تقترب نهايته ،وتهرب فضيلة كماله من نظرنا وتنمحي؛ فاألشياء التي تنضج
باكرا ال تبقى حتى نهاية الموسم.
ً
4-23وإشراق النار المضيء يخرجه السرعة ،فقد يحيا طويلاً حين يناضل احترا ًقا
ووامض في الظلمة ،والمصدر الذي ٍ ٍ
ومغلف بالدخان بطيئًا بوقود صلب
ُيغذيه على مضض يأتي بنهايته ،وبالطريقة نفسها كلما زاد سطوع عقل البشر
قصرت حياته؛ ألنه ال مجال للنمو ودنو الضعف.
5-23يقول فابينوس - ((8( Fabianusوهذا ما رآه والداه ً
أيضا ،إنه كان في روما
صبيا بلياقة رجل كامل ،ولكن سرعان ما توفي ،وقد توقع ذوو العقل أن موته
ًّ
مبكرا ،وكيف
ً قد يكون عاجلاً ؛ ألنه ال يمكن أن يعيش ألجل وقد توقع موته
كان هذا؟ فاالنتكاس داللة على زوال محدق ،وتبلد كل قوى النمو اقتراب
للنهاية.
ِ
شرعت في تقييمه في حدود فضائله ال سنينه ،فإنه عاش بما يكفي ،لقد 1-24وإن
جناحا لرعاية اليتامى حتى سن الرابعة عشرة وكان تحت وصاية والدته،ً ترك
ِ
يغادرك ،وكان ال يزال يعيش مع والدته في ورغم أنه كان له منزل ،إال أنه لم
80
سن يعيش فيه األطفال مع آبائهم ،فقوامه وظهوره الحسن وقواه البدنية القوية
ٍّ
جعلت منه شا ًّبا مولو ًّد للخدمة العسكرية ،ولكنه رفض دخول الجيش حتى
ِ
يتركك. ال
2-25يا ماركيا ،لقد رحب به الملكوت المقدس من قبل سكيبوس وكاتو ،ومن
ِ
والدك فيهم، بينهم الذين احتقروا الدنيا وتحرروا بفضل الموت الذي حققه
الذي يأخذ حفيده اآلن تحت جناحه ،وهو ف ِر ٌح بنور غير مألوف ،وهو يعلمه
مسارات النجوم المجاورة ،تسعده بدايات أسرار الطبيعة هناك ،وال يعتمد
على فرضيات ،بل على تجربته ٍّ
لكل ما هو ح ًّقا ،وهو كزائر يمتن ليحصل
على دليل لهذه المدينة غير المألوفة ،ولذا كل حرصه فهم أسباب األحداث
السماوية ،وقد يمتن أن يكون له أحد من عائلته يفسر له األشياء ،وهو ال يوجه
نظره لألرض إال قليلاً ،فمن األفضل أن ينظر إلى األسفل من أعلى لما تركه.
ِ
وولدك تما ًما ،وليس كما كنت ترين ِ
أباك ِ 3-25ولذا يا ماركيا تصرفي كما لو
العلى ،واشعري ِ
اعتدت أن تعرفيهم ،بل كنبالء يعيشون في السماوات ُ
ِ
أقاربك الذين انتقلوا إلى مكان أفضل ،إنهم ربحوا بالخجل من البكاء على
األبدية ،وهاموا في ساحات أرحب ،إنهم يصلون إلى كل شيء بيسر ،فال
بحار متداخلة أو جبال شاهقة أو وديان غير مطروقة أو حواجز رملية Syrtes
ضحلة تعيق سيرهم( ،((8إنهم يتنقلون بسهولة ودون تقيد ،إنهم في متناول
( ((8الحواجز الرملية مناطق خطرة في البحر الضحل قبالة سواحل شمال إفريقيا.
82
بعضهم البعض ويتخالطون بالنجوم.
ِ
ولدك عليك ،كما كان ِ
لك تأثير على ِ ِ
لوالدك تأثير 1-26وتخيلي يا ماركيا أنه كان
وهو يتحدث من القلعة السماوية ،وليس من البالغة أن يرثي الحروب األهلية
ويحرم المسؤولين عن هذه االنتهاكات لألبد ،ولكن البيان يعلو على ذلك
كما أنه ذاته قد عال شأنه اآلن.
2-26ولماذا يا بنيتي تقبعين في هذا الحزن األبدي المديد؟ ولماذا تواصلين في
ِ
بابنك بظلم؛ ألنه مضى ليلتحق بأسالفه ِ
اعتقادك جهالة الحقيقة التي عاملت
ومكن له؟ هل ال تدركين بأي نصيب تهز
في آن رسخت فيه ظروف عائلتهُ ،
العواصف كل شيء؟ ،وكيف ال تتعامل مع أحد بود وتسامح باستثناء َمن
ِ
أعطيك أسماء الملوك الذين قد غمرتهم لديهم قدرة للتعامل معها؟ هل
السعادة حيث انتشلهم الموت عاجلاً من األمراض التي داهمتهم؟ أو أسماء
ِ
طرحت قليلاً من حياتهم؟ أو القادة الرومان الذين لم ُتنتقص عظمتهم ،إذا
أسماء أعظم وأنبل الرجال الذين انتظروا بثبات ضربة سيف الجندي على
رقابهم الصامدة؟
ِ
وجدك ،إنه وقع في براثن قاتل أجنبي( ،((8لم أدع ألحد ِ
والدك 3-26انظري إلى
علي سلط ًة ،وحرمت نفسي من الطعام ،وأظهرت أن شجاعة كتابتي تعكس
َّ
جرأة معيشتي ،ولماذا َمن يموت في عائلتنا ينال ًّ
حظا أوفر من النحيب عليه؟
كلنا واحد ،وال يطول ما يحيطنا ليل عميق مديد ،وال شيء في عالمك كما
تفرضين وترغبىن ،وال شيء مهيب وال مجيد ،وكل شيء رديء وجائر
ومقلق ،وهو وعي ضئيل بالنور الذي نتمتع به!
4-26هل تحتاجين أن أقول ِ
لك :هنا الجيوش ال تحنق على الجيوش وال تحطم
83
األساطيل األساطيل ،وال يخطط قتلة العائلة أو حتى يتدبرون ،وال تطن
األسواق بالقضايا في المحاكم يو ًما بعد يوم؟ وهل تحتاجين أن أقول ِ
لك:
سرا ،وترقد العقول عارية ،والقلوب شفافة ،وتمضي الحياة في
ال شيء يبقى ًّ
مرئيا يسير جن ًبا مع األحداث القادمة؟
العلن والعراء ،وكل التاريخ ًّ
منفتحا في الجزء البعيد
ً اكتسبت المتعة من الكتابة عن أعمال جيل واحد،
ُ 5-26
للكون وبين قلة من الناس ،ولكن اآلن من الممكن أن تري عديدً ا من األجيال
وتبادل وتعاقب سنين عدة خالل الزمن برمته ،ومن الممكن أن ننظر إلى
نهوض وانحدار الممالك وانهيار المدن العظمى ،واالنتهاك الجديد الذي
يحدثه البحر.
ِ
فجيعتك ،فاعلمي أنه ال شيء يبقى واق ًفا حيث 6-26إن كانت كلية القدر عو ًنا ِ
لك في
يقف اآلن ،فالشيخوخة سوف تسقط كل شيء وتكسحه بعيدً ا ،وهي ال تتالعب
بالبشر فحسب ،بل باألماكن وبالبلدان وبأقسام العالم كلها ،إنها ُتسطح الجبال
كلها ،وتزج في أماكن أخرى جرو ًفا جديدة ،وتبتلع البحار ،وتحول األنهار،
وتعطل االتصال بين األمم ،وتمحو الترابط والتماسك بين جنس البشر ،و ُتخفي
المدن في هوات عميقة ،وتهزها بالزالزل ،وترسل الهواء محملاً بالطاعون من
نفخ عميق ،وتغمر السكان بالفيضانات ،وتقتل كل مخلوق حي ،كما تغرقه
بالماء ،وتحرق و ُتشيط كل ما هو بشري في نيران ضخمة ،وعندما يحين الزمن
للعالم ليطفئَها تجدد نفسها ،كل شيء سوف يحطم ذاته بقوتها ،فالنجوم سوف
تصطدم بالنجوم ،وسوف تستعر المواد كلها ،واألجسام تسطع اآلن في احتراق
منظم سوف يحرقها كلها في نار واحدة.
7-26ونحن نفوس مباركة موجهة نحو األبدية حين يقرر الرب إعادة خلق العالم،
كما ينهار أي شيء آخر ،وسوف نكون الحق ًة ضئيل ًة للتدمير بجملته ،وسوف
نعود إلى عناصرنا األصلية.
84
عزاء �إلى هلفيا
85
86
مقدمة
يجاهد سينيكا في هذه الرسالة لتخفيف حزن أمه على معاقبته بالنفي إلى كورسيكا
عام 41م على ما يبدو بتهمة الزنا مع جوليا ليفيال أخت اإلمبراطور جايوس (cf. Dio
،)60.8.5وقد يرجع تاريخ الرسالة إلى عام 43-42م ،والجدة المتناقضة التي يقدمها
طابعا بعينه لهذا التنوع السينكي من التراث
الرثاء تبعث األسى وتريح َمن يعزيه ،وتعطي ً
العزائي القديم ،وعزاء المنفى لسينيكا من النماذج التي بقيت في اليونانية سواء بقيت
جزئيا ومنها الرواقي موسونيوس روفوس (100 -30م) ،وديو كريسوستوم
ًّ بكليتها أو
Dio Chrysostomتلميذ موسونيوس ،وبلوتـارخ وفافورينوس Favorinus (ca.
) ، 85–155 ceوالمعروف في التراث الرواقي أن االستبعاد من الوطن ال يمثل عندهم
مشقة؛ ألنهم مواطنو العالم ،فالمنفيون ال يحرمون الحق من وطنهم ،بل من المدينة
التي ُمنحت لهم كما يقول موسونيوس روفوس في الفصل الذي عنونه (المنفى ليس
شرا) ،p. 42.1–6 Henseويحث سينيكا نفسه في موضع آخر ( )Letters 28.4قائلاً : ًّ
ٍ
لركن بعينه في العالم ،فالعالم بأسره وطني”. “إنني أعيش في اعتقاد هو أنني لم ُأولد
ويستحضر سينيكا هذا الموروث في عزائه إلى هلفيا“ :وأينما نمضي ستتبعنا
خصلتي الطبيعة العالمية والفضيلة الفردية”( ،)2.8وهو يبني على هذا المحور
87
وضوحا في التراث اليوناني ،وإن كان
ً الجوهري تحليل حالة النفي من منظور أقل
محلي بل في العالم بأسره ،وإذا كان العقل يوجه بعيدً ا عن
ٍّ وجودنا ال يرتكز في مكان
األمور الدنيوية الضيقة ليرتبط بدلاً منها بشساعة العالم ،فإن فكرة النفي تحمل نوعا
في من الدولة المحلية أم من ُغرب عنها أم
من التناقض ،فمن المنفي ح ًّقا؟ أهو َمن ُن َ
عمي عن الدعاوى األسمى للمواطنة الكونية؟ وعلى هذه المقاربة الرمزية يجسد نفي
نوعا من العودة إلى الوطن ،وفي مختتم الرسالة يرتفع برؤية
سينيكا في هذا العزاء ً
جاذبة من المستوى األرضي بال قيود متصاعدة إلى السموات العلى ،حيث ُيحلق
مؤخرا “في مشهد بهيج لألشياء اإللهية” ( ،)2-20إن سينيكا يصل بعيدا عن مجرد
ً
المالحظة المثيرة إلبهاج هلفيا في العزاء ،فإن التحليق بعقلة تجاوز الرحلة عن منفاه
وعن األوحال اليومية واالضطرابات التي يربطها باغترابنا عن النظرة الكونية ،فالحكيم
َمن ُيبقي على مسافته من الحشد وعوامل الجذب والمغريات الظاهرية ( ،)1-5وهذا
نفي رمزي من القيم اليومية ،في حين تنفصل الجماهير عما يتصوره سينيكا كظروف
مناسبة لميالدنا (فنحن ولدنا في ظروف مناسبة إذا لم ُنعزل عنها ،)1.5والشراهة التي
تعبيرا متطر ًفا
ً تتوق لمزيد من الغذاء الغريب من مناطق العالم النائية 11-2-10تعطي
لهذه القطيعة ،وتغترب بيأس من الحياة البسيطة في وفاقها مع الطبيعة ،ويؤكد سينيكا
من ماضي روما أن الفساد الحاضر المتجذر فيها يجعلها مغتربة ،7-5-12ويقارن ما
يتصوره بالرذائل باألنثوية التي يقترفها الروماني بشكل معتاد في يومه ،5-3-16إن
هلفيا هي نفي حق ألنواع االنحطاط المعاصر ،وزيادة عن رفقتها في المنزل ألصحاب
المناصب الجمهورية مثل كورنيليا أم جراشي .6-16
واسعا من فلسفة األدب
ً وبهذه الطرق المتنوعة يقدم سينيكا في عزائه لهلفيا مجالاً
بأساليب ودالالت وروايات مختلفة الغتراب المنفى ،ولم يكن موضوعه عن منفاه
بقدر ما هو عن حال المنفي ذاته سواء في أدبه أو رمزيته ،وربما قد تجد هلفيا راحة
وافرة من دعم عائلتها لها لفقدها سينيكا في المنفى ،19.7-18.2ولكن تظهر
88
مصدرا للعزاء األعظم ،17.3-5ومن ثم االعتماد على الذات الذي غرسه
ً الفلسفة
إيحاء ُيوسع القضية بشكل مثير في
ً في ذهنها بفصلها عن الضعف للظرف الخارجي
اتجاه آخر راسخ ،برز فيه انسحاب النفس كمنفى باطني ،وقد تمتد الرعاية التي ُقدمت
إلى هلفيا لالعتماد على الذات بدورها إلى صلة رسالة سينيكا بحزن أمه إلى وصفه
لطريقة حياة وطريقة منسوخة ألي قارئ في ضائقة مماثلة ،وال يمثل عزاؤه إلى هلفيا
ٍ
جانب من برنامج حالة خاصة بها في أعماله الفلسفية ،بل يرقى إلى مرحلة أخرى ،أو
عالجي يستعرض جسده النثري بشكل تراكمي.
وإضافة لنقده لطبيعة النفي ذاته ،فإن روما ذاتها تتصف بأنها مدينة مكتظة بالمنفيين،
ومكان قامت هويته على النزوح ،حيث كانت روما متورطة بوضوح في االستعراض
المتنقل في الفصل السابع للمشردين عبر العصور والمدن الموجودة باالستعمار
والهجرة والسلطة الرومانية ،ومع الرومان كانوا ال مثيل لهم وكلي الوجود ونفوذهم في
اتجاه واحد“ ،فأينما غزا الرومان ،استقروا” ،7-7وهم تطبعوا بدمج خصالهم بأنماط
التجربة المترامية للتجربة اإلنسانية– وجانب العزاء الذي يستنطق دعائم تأكيد الذات
الرومانية بافتراض “كونها رومانية” ليس بضاعة ثابتة بل عملية تنا ٍم أو حالة تفاوض
في عالم متقلب .وال تعمل وجه النظر الكونية على تخفيف الصدمة على المستوى
الشخصي فحسب بتحديد السلطة الرومانية ضمن رؤية شاملة لتطور اإلنسان واالنتقال
عبر الزمن ،فإن سينيكا يؤكد على شكل من أشكال االنفصال عن السلطة ذاتها التي نفته
في المقام األول ،فيمكن التحكم في المرء والسيطرة عليه بمرسوم إمبراطوري ،إلاَّ أن
سينيكا ارتفع عن هذا القيد والضعف في روما في عهد كالوديوس في األربعينيات
بممارسة المواطنة األولية في الكل الكوني .والنتيجة النهائية المتناقضة هي أن المنفى
مكنه بعقابه ،وحرره كما لو كان اإلطالق الكوني في العزاء إلى هليفيا يرى فيه مكان
روما في العالم من جديد.
89
:لمزيد من القراءة
Fantham, E. 2007. “Dialogues of Displacement: Seneca’s
90
كبحت
ُ وكثيرا ما
ً استشعرت الرغبة في أن أرسل ِ
إليك عزاء، ُ كثيرا ما
يا أعز أمً ، 1-1
هذا ،واالعتبارات التي دفعتني ألجرؤ على المحاولة كانت عدة ،أولها أني
ٍ
وجيزة حتى ٍ
لفينة ِ
دموعك تخيلت أنني سوف أطرح متاعبي جان ًبا حين أمسح
قوتك فسوف ِ استنهضت
ُ لو لم أتمكن من ك ِّفها تما ًما :وثانيها تيقنت أنني إذا
ِ
يقهرك الحظ من جانبي وهو يخضع عزيزً ا لي، وخشيت أن
ُ تنتشى قدرتي،
وضعت يدي على جرحي الغائر ،محاولاً بقدر ما أستطيع أن أزحف
ُ وكذلك
قد ًما نحو ضمادة جروحك.
ِ
حزنك ومن جانب آخر هناك أسباب قد أجلت ما أصبو إليه ،وأدركت أن 2-1
متوهج في مهده ،والعزاء ذاته يلهبه ويفاقمه ،واألمراض على
ٌ ال ُيجابه وهو
انتظرت
ُ الشاكلة نفسها ال يزيد التهابها إال بالمداواة على عجل( ،((9وكذلك
ِ
حزنك من ذاته ،ويلطفه الزمن ليداويه ويخضعه ،ويسمح من حتى يهدأ وهج
ذاته بلمسه ومسه ،ورغم أنني قرأت كل األعمال التي أ َّلفها كتاب مرموقون
ٍ
المرئ قد رثى أقاربه، بهدف السيطرة والحد من الحزن ،إلاَّ أنني لم أجد مثالاً
وخشيت أن يكون جهدي
ُ ترددت
ُ في حين كان هو موضوع رثائهم ،ولهذا
عزاء بل ُم َفا َق َمة.
ً ليس
91
وإلى جانب ذلك ،فإن الشخص الذي رفع رأسه من ركام الدفن ليواسي قري ًبا 3-1
له يحتاج إلى كلمات مختلفة ال تستمد من عزاء يومي مألوف ،ولكن كل
حزن متجاوز في الحجم يمحو بالضرورة قدرتنا الختيار الكلمات ،وغال ًبا ما
يخنق الصوت ذاته.
في أي حال سأكون حسنًا بقدر ما أستطيع ،وليس ثقة في قدراتي ،بل 4-1
عزاء ناجزً ا لكوني ُم َعز ًيا ،وال ترفضي مني شيئًا ،وكذلك
ً بمقدوري أن أقدم
أتمنى ألاَّ ترفضي مني هذا الغيض ،فالحزن ال ينضب دو ًما ،فاقبلي مني وضع
حد لشعورك بالفقد.
ِ
بحبك لي ،وأنا ال أشك بأنني سوف أؤثر على واعدت نفسي
ُ وانظري كيف 1-2
ِ
حزنك رغم أنه ال يوجد شيء له قدرة على البؤس ،وحتى ال أنخرط إرادة
في معركة معها على الفور ،فسوف آخذ جانبها وأقوم على تشجيع نموها،
وأسوف ُأعري وأفتح كل الجروح التي اندملت بالفعل.
واالعتراض الذي سيكون« ،أي نوع للعزاء وهو أن تستدعي البلية المنسية، 2-2
وأن تضع العقل في مرأى من كل شقاوته وهو بالكاد يتحمل واحدة منها؟»،
ودعه يعكس االعتراض ،فمهما كانت األمراض المهلكة تستجمع القوة ضد
مداواتها يمكن أن ُتعامل بطرائق معاكسة ،وكذلك سوف أقف أمام العقل
للكى
ِّ بكل أحزانه ومآسيه ،ولن يكون هذا لتطبيق نهج لين للشفاء ،ولكن
واالستئصال ،فما الذي بمقدوري تحقيقه؟ وإن العقل الذي تغلب على مآسي
شتى يخجل من أن ُيكرب من جرح على البدن يشبه الندبة.
ودع أولئك الذين يضعف طول الرخاء عقولهم المدللة يواصلون النحيب والرثاء، 3-2
ودعهم يخرون باهتين في اضطراب ينجم عن أبسط ضرر ،ولكن دع الذين قضوا
سنينهم في سلسلة من الكوارث يتحملون حتى الضربات الثقيلة بعزم وصمود،
فمنفعة المرء من المصيبة المتواصلة هي أنها ُتقوي َمن تصيبهم دو ًما.
92
ِ
يمنحك الحظ راح ًة من الضربات الثقيلة ،ولم يستثن حتى يوم ميالدك، لم 4-2
ِ
ودخلت الحياة ِ
والدتك، ِ
والدتك ،وبالحري أثناء فقدت ِ
أمك بمجرد ِ حيث
وربتك زوجة ِ
أبيك التي أظهرت االمتثال والتفاني كله الذي يمكن ِ بال أم،
أن ُيلحظ حتى في االبنة ،وجعلتِها أ ًّما فعلي ًة رغم أن زوجة األب حتى لو
ِ
وأنت تترقبين ِ
عمك ِ
وفقدت كانت صالح ًة تأتي بتكلفة وخيمة على أي طفل،
وصوله وهو من أرق وألطف وأعظم الرجال شجاع ًة ،ولم يخفف الحظ من
ِ
وأنت أم لثالثة أبناء زوج في نفس الشهر،
ٍ ِ
دفنت أعز قساوة ضرباته حيث
منه(.((9
ِ
أطفالك في مكان آخر، ِ
وأنت حزينة بالفعل ،وكان ِ
ووصلك خبر هذه الضربة 5-2
ِ
حزنك مكا ًنا ِ
تتعمدك في هذه الفترة ،ولذلك لم يجد كما لو كانت المصائب
ِ
هاجمتك بال ِ
مررت بمهالك عدة ومخاوف شتى كتلك التي للسلوى ،لقد
ِ
أرسلت فيه ِ
واستعدت عظام ثالثة أحفاد( ((9في الحضن نفسه الذي توقف،
ِ
ذراعيك أنت ِ
لولدك ،الذي ُتوفي بين الثالثة في أقل من عشرين يو ًما من دفنك
ِ
وسمعت أنني انتزعته بعيدً ا( ،((9وهذا فحسب ما كنت تحتاجين له تقبلينه،
من قبل.
ِ
جسدك هذا األخير ،وأعترف أشدها ضراوة؛ ومن بين الجروح التي اخترقت 1-3
ِ
صدرك واألعضاء الداخلية ألنه لم يشق الجلد فحسب ،بل فصل طر ًفا من
العميقة ،وكما أن المجندين الجدد يصرخون من جرح سطحي وترتعش
أيديهم أكثر من مسكها للسيف ،في حين أن قدامى المحاربين لو جرحهم
مثقاب ال يتأوهون ،ويتركون األمر ألجسادهم تطهره كما لو كان الجرح ليس
( ((9أنجبت هلفيا لسينيكا األكبر بجانب سينيكا أخوين هما نوفاتوس Novatusوميال .Melaانظر هامش .59
( ((9هويتهم غير معروفة ،ومن غير الواضح إن كان بينهم ابن سينيكا.
( ((9وفي الالتينية Raptumخطفوني ،كما لو كانت المعيشة في المنفى موتًا.
93
ِ
وعليك إذنْ أن ُتقبلي على المداوة بشجاعة. فيهم،
وبعيدً ا عن العويل والتفجع وبقية االضطرابات التي ترافق حزن المرأة عادة، 2-3
كثيرا من الحزن إذا لم تتعلمي كيف تكونين بائسة ،ومدواتي ِ
لك ستهدرين ً
تبدو مترددة ،أليس كذلك؟ وأنا ال أحجب ِ
عنك مصيبة واحدة ،ولكني أكومها
كلها وأضعها أمامك.
ِ
حزنك ،وليس لقد اتخذت هذا النهج الجريء؛ ألنني عازم على التغلب على 1-4
الحد منه ،وسوف أهزمه ،وأعتقد إذا تبين لي أولاً أنني ال أواجه شيئًا يسبب
بؤسا ،أو أن يجعل أقاربي بائسين ،ثان ًيا إذا تحولت ِ
إليك وبرهنت لي ما ُيسمى ً
علي وليس من الصعب تحمله.
أن الكثير الذي تحملينه برمته يعتمد َّ
وسوف أتعامل أولاً إرادتك وما تريدين بشغف أن تسمعيه ،فإنني ال أشعر 2-4
استطعت فسأوضح ِ
لك تلك الظروف التي تعتقدين أنها ترديني ُ ٍ
بضائقة ،وإذا
ٍ
معقول سأكون سعيدً ا مع ِ
وجدت أن هذا غير لألسفل يمكن تحملها ،وإن
لممت بالظروف التي تجعل الناس بائسين عادة.
ُ نفسي على األقل؛ ألننى قد
ِ
ألحميك من المصيبة ال وما من حجة ِ
لك في أن تأخذي عني كالم اآلخرين 3-4
ِ
عينك ال يمكن أن أكون مستاء ،وكي تقر
ً لست ِ
وأخبرتك أنني ُ ُيدرك ما تدبره،
مستاء.
ً
إننا نولد في ظروف قد تكون مناسبة إذا لم نتخل عنها ،وال يحتاج نظام الطبيعة 1-5
ٍ
امرئ بمقدوره أن يجعل نفسه إلى عدة ناجزة للعيش على وجه حسن ،فكل
أثرا ضئيلاً في اتجاه
سعيدً ا ،والخيرات الظاهرة أهميتها زهيدة ،وتمارس ً
أو في آخر ،فالحكيم ال يعبأ بالرفاهية وال ُيلقي بالاً للملمات؛ ألنه يسعى
لالعتماد على ذاته دو ًما ،ويستمد سعادته من ذاته.
لقد أمروني أن أراقب باستمرار كجندي على الحراسة ،وأن أستبق كل 3-5
محاولة لضربة الحظ وهجومها قبل أن تعصف ،فالحظ يسقط بثقله على َمن
يباغتهم على نحو مفاجئ ،وأما َمن يتحرص لهجومها فيقاومها بسهولة؛ ألن
نهج العدو يربك فحسب الذين ُيؤخذون على غرة ،وأما الذين يعدون أنفسهم
لحرب وشيكة قبل اندالعها ،فإنهم ينظمون ويجهزون لها ،ويستوعبون
الضربة األولى بيسر وهي األشد عن ًفا.
علي بسخاء
لم أضع ثقتي في الحظ حتى حين يبدو سال ًما ،وكل هذا يدر َّ 4-5
المال والمنصب المرموق والنفوذ ،لقد تموضعت في مكان يمكنني أن
أستدعيهم دون أن يحدث لي اضطراب ،واحتفظت بمسافة بيني وبينهم،
وكذلك أخذهم الحظ بعيدً ا عني ،ولم يقشرهم بعيدً ا ،وال أحد ُيكسر بمعاداة
الحظ إذا لم ُيخدع أولاً بفضله.
وأولئك الذين أحبوا عطاياها كما لو كانت أبدي ًة ،والذين رغبوا في احترامها 5-5
ٍ
بحزن حين تتخلى مباهجها المتقلبة والزائفة عن عقولهم فيسجدون رياء
الصبيانية الفارغة ،وهي متعجرفة كما لو كانت متعة أبدية ،ولكن المرء الذي
ال ينتفخ بالرخاء ال يضعف حين تتغير األحوال ،فقوة غايته مختبرة بالفعل،
مسالم في مواجهة الحال؛ ألنه في خضم الرخاء يختبر قوته
ٌ وعقله المعصوم
ليتغلب على السوء.
( ((9المدرسة الرواقية ،ولكن تهمة االنشقاق عنها واالنضمام للمعسكر المنافس وها األبيقورية .انظر رسالة عن التفرغ On
.Leisure 1.4
95
ولذلك ال أعتقد أن األشياء التي ُيصلي من أجلها الجميع فيها خير حق، 6-5
ً
عرضا مزينًا بألوان جاذبة ولكن خادعة ،وال شيء ناهيك عن أني وجدتها
فيها يشبه مظهرها الخارجي ،وأسميها في أحوالي الحالية شقاء ،وال أجد
شيئًا قد أخاف وأجار كما هددت هي باالعتقاد المتفشي ،حيث يقع المعنى
الحقيقي للحرمان على األذن بقوة اآلن بسبب قناعة بعينها وشعور شائع ،وإنه
يضرب السامعين مثل شيء بغيض قاتم ،وهكذا قد تقضي الجماهير بأمر،
ولكن الحكماء يتجاهلون حكم الناس.
ولذلك تجاهل حكم األغلبية الذين يعبؤون بمظاهر األشياء مهما كان دافع 1-6
الثقة بها يتخلى عن اعتبار الحرمان أ ًّيا كان ،وبالطبع تغير النطاق ،حتى
أتجنب أي انطباع ُأضعف قوته وانمحت صفته األسوأ ،وترافق عوائق بعينها
هذا التغير في المكان مثل الفقر والعار واالحتقار ،وسوف أتناول هذه القضايا
في وقت الحق( ،((9وفي الوقت نفسه فإن السؤال الذي أضعه في االعتبار
هو ما يتبع الضائقة في التغير الفعلي للنطاق.
«الحرمان من وطنك ال ُيطاق» ،أسرع! وانظر على هذا الحشد الفسيح الذي 2-6
بالكاد تستوعبه مباني المدينة الضخمة مهما اتسعت ،فمعظم هذه الحشد قد
معا من مدنهم ومستعمراتهم ومن العالم كله،
ينفصل عن وطنه ،لقد تجمعوا ً
بعضهم مندفع بالطموح ،وبعضهم بمتطلبات الواجب العام ،وبعضهم مكلفون
باألعمال الدبلوماسية ،وبعضهم بانغماس الذات في طلب المكان الغني بالرذيلة،
وبعضهم بالتوق للمعرفة األسمى ،وبعضهم بالعروض العامة ،وبعضهم تجذبه
أرحب(((9
ليظهر للعيان متطلعا لمجال
ً الصداقة ،وبعضهم بشهيته للعمل
طبائعه ،وبعضهم يجلب بضاعته ويراقب البيع وبالغة اآلخرين فيه.
96
لقد احتشدوا من كل صنف يمكن تصوره صوب المدينة التي ُت ِّ
ثمن فضائلهم 3-6
ورذائلهم ،وتستدعي كلاًّ باسمه وتسأل كلاًّ منهم «من أين أنت؟» ،وسوف
تجد غالبهم قد تركوا منازلهم ليأتوا لهذه المدينة العظيمة واألعظم جمالاً بال
ريب ولكن ليس لهم.
ومن ثم انتقلي من هذه المدينة التي ُيمكن أن يقال إنها تتبع الجميع ،وزوري 4-6
ومري على
كل مدينة ،حيث ال تخلو إحداها من نسب األجانب الكبيرةِّ ،
هذه المدن التي يستقطب محيطها المبهج وموقعها المريح أعدا ًدا غفير ًة،
ِ
عقلك عن األماكن المقفرة والجزر الوعرة مثل سكياتوس Sciathus وحولي
ِّ
وسيريفوس Seriphusوجيارا Gyaraوكوسورا ،((9( Cossuraولن تجدي
مكا ًنا للمنفى حيث ال يمكث المرء فى المنفى لمتعته.
فما الذي تجدينه عار ًيا مثل هذه الصخرة(((9؟ وما الوعر على كل جوانبه؟ 5-6
ِ
نظرت شعبه ،فما ِ
تأملت موارده ،فما الذي يمكن أن يكون متعر ًيا؟ وإذا وإذا
الذي يبدو أكثر وحشي ًة؟ وإذا كانت تضاريس المكان فما األكثر وعورة؟ وإذا
كان الطقس متطر ًفا ،فقد عاش هنا األجانب أكثر من أصحاب البلد ،فتغيير
المكان في حد ذاته مشقة ،حتى إنه يطرد بعض الناس من وطنهم.
وأجد بعض( ((9الذين يقولون إن الفطرية لعقولنا دافع بعينه لتغيير السكن 6-6
جوالاً وال يهدأ ،وال
َّ واالنتقال من مكان آلخر؛ ألن جنس البشر ُمنح عقلاً
تحط رحاله ويمضي في كل اتجاه ،ويبث أفكاره في كل ٍ
أين معروف أو
( ((9أماكن النفي ثالثة :األول إيجي ،والثاني بارين” ”Barrenفي كوسورا Cossuraانظر(،)cf. Ovid Fasti 3.567
والثالث ما نحن بصدده اآلن وهو بانتيلالريا Pantellariaوهي بين صقلية وشمال إفريقيا.
(ُ ((9صورت كورسيكا Corsicaهنا بكآبة مبالغ فيها.
جزءا من البنيوما .وانظر .7.6وانظر بحثنا عن البنيوما عند أرسطو ،مجلة كلية
( ((9يتصور الرواقيون في هذا الحدس النفس ً
اآلداب بقنا ،عدد ( 2013 ،43المترجم).
97
مجهول ،وال يمكن للهائم أن يتسامح مع السكون ويأخذ بهجته العظمى في
مقابلة الجديد والمختلف.
ِ
تأملت أصوله األولى ،إنه ليس مؤل ًفا من وهذا ال يسبب ِ
لك مفاجأة إذا 7-6
جوهر أرضي ثقيل ،بل ينحدر من اللطف والنفثة السماوية( ،((10والكيانات
السماوية بطبيعتها جائلة وسريعة وتدفع بحركة رشيقة ،وتأمل الكواكب التي
تضيء العالم ،التي ال يبقى منها واحد ثابتًا ،فالشمس تنزلج على الدوام،
وتتحول من مكان إلى آخر ،ومع أنها تدور مع الكون وتتحرك في اتجاه
معاكس للسماوات ذاتها( ،((10فإنها تمر بكل عالمات البروج ،وال تتوقف
حركتها كما لو أنها تهاجر من مكان إلى آخر.
كل الكواكب تنتقل دو ًما في مداراتها ومساراتها وف ًقا لقانون الطبيعة الذي ال 8-6
يقبل الجدل ،و ُتنقل من مكان إلى آخر ،وحين تثبت في المسار فترات للسنين
فإنها تكمل دورانها وستستمر بطول الدروب التي سلكتها من قبل ،ويا للعبث
أن تتخيل أن العقل اإلنساني الذي يتألف من نفس العناصر مثل الموجودات
الربانية يسأم من الترحال وتغير المسكن ،وفي حين يجد الرب المتعة على
نحو طبيعي ،وحتى يصون ذاته بالتواصل والحركة السريعة للغاية!
وتحولي اآلن من السماوي إلى األمور البشرية ،وانظري إلى الشعوب والقبائل 1-7
كلها قد غيرت مسكنها ،فما معنى أن المدن اليونانية في قلب المناطق
البربرية؟ ولماذا ُسمع اللسان المقدوني بين الهنود والفارسيين؟(()((10
وسيثيا Scythiaوكل المناطق البرية والقبائل التي لم تُغْ زَ ُتظهر المدن اآلخية
98
التي أقيمت على شواطئ البحر األسود ،وليست قسوة الشتاء الدائم وال طبيعة
السكان وحشية مثل مناخهم ،وال تردع المهاجرين عن اإلقامة هناك.
فاألطفال والزوجات واآلباء الذين تقدم بهم السن ينخرطون في الفسحة، 3 -7
وبعض الناس يندفعون ذها ًبا لتريضهم الطويل ،ولم يختاروا وجهتهم عمدً ا
بل يستقرون بهدوء األرض التي تقربهم ،وآخرون وطدوا حقهم في بلد
أجنبي بقوة السالح ،واجتيحت بعض القبائل بالبحر حين سارت في مناطق
مجهولة ،بينما استقر البعض في المكان ،وقد تقطعت بهم السبل بسبب نفاد
مؤنتهم.
ولم يكن لديهم الدافع نفسه للترحال والسعي نحو أرض جديدة .فبعضهم 4-7
99
أدى تدمير مدنهم بهجوم العدو إلى الهروب إلى أراض أجنبية حيث نهبت
ممتلكاتهم .وبعضهم تقاعدوا في البيت بسبب الخالف السياسي .وبعضهم
ُأرسل لتخفيف العبء الناجم عن الكثافة السكانية المفرطة .وبعضهم كان
مدفوعا بالمرض وبسبب الكوارث المتكررة أو بعض النقص الذي ال يحتمل
ً
في التربة الجدباء .وبعضهم قد ُغش باألخبار المتزيدة عن الشاطئ الخصيب.
أناس شتى أسباب عدة لترك بيوتهم ،ولكن هذا األمر جلي على
وقد يقود ٌ 5-7
األقل ،حيث ال يمكث أحدٌ في المكان الذي جاء منه إلى الوجود ،وجنس
البشر ينتقل باستمرار من هذا االتجاه وذاك ،والعالم يتسع للتحوالت كل
يوم ،حيث ُتبنى قواعد مدن جديدة ،وتبزغ أسماء جديدة من األمم ،في حين
قد تطمس القوى القديمة وتتحول تبعيتها إلى سلطة أقوى ،ولكن هل كل
حاالت هجرات الناس ما هي إال نفي طائفي؟
ِ
أجرك في دائرة مطولة؟ ولماذا تنزعجين لذكر أنتينور Antenorمؤسس ولماذا 6-7
بادوا Paduaوإيفاندر Evanderالذي أنشأ مملكة أركاديان على ضفاف نهر
التيبر؟ ،ولماذا تذكرين ديوميديس Diomedesوآخرين على أنهم مقهورون
مثل الغزاة الذين انتشروا في األراضي األجنبية بسبب حرب طروادة؟
المنفى(((10
مثل ومن المؤكد أن اإلمبراطورية الرومانية ذاتها تنظر إلى 7-7
مؤسسها الالجئ من مدينة أسيرة والذي أخذ معه قليلاً من الناجين منها،
والذي أجبر بالخوف من الغزاة أن ُينفى ألطراف بعيدة ،وقد انتقل إلى إيطاليا،
وكم من المستعمرات قد أرسلت إلى المقاطعات! فأينما غزا الرومان
استقروا ،والناس وضعوا أنفسهم لهذا النوع من الهجرة ،وحتى القدامى
تركوا مذابحهم واتبعوا مستعمري ما وراء البحار.
( ((10أينياس Aeneasفي التاريخ الواسع للهجرات واضح في الفصل السابع ،وأسطورة تأسيس روما هي ذاتها ُمعاير
باالرتباط بمثل هذه الرحالت :انظر تقديمي لهذا المقال.
100
وال يحتاج هذا الموضوع قائم ًة أخرى من الحاالت ،ولكن مع ذلك سوف 8-7
ُأضيف واحدة تفرض نفسها على انتباهي ،وهي تلك الجزيرة التي كثيرا ما
ُتغير سكانها ،وللمرور على تاريخها المبكر الذي عتمه مرور الزمن الطويل،
فاإلغريق الذين تركوا فوكيس Phocisويقطنون اآلن ماسيليا استقروا على
هذه الجزيرة أول( ،((10فما دفعهم لتركها غير واضح ،فهل قسوة المناخ
أم وجهة نظرهم عن قربها من سلطة إيطاليا المتميزة ،أم قلة موانئها ،ولكن
نظرا ألنهم استقروا بين
السبب الواضح ليس في وحشية سكانها األصليينً ،
أشد شعوب الغال تخل ًفا وعن ًفا في ذلك الوقت.
وعبر الليغوريين إلى هذه الجزيرة في وقت الحق ،وكذلك اإلسبان كما هو 9-7
واضح من عاداتهم المتشابهة ،حيث يرتدي سكان الجزيرة مثل الكانتابريانيين
Cantabriansنفس النوع من األحذية وغطاء الرأس ،ناهيك عن تشابه
كلمات بعينها ،وبعضها فقط؛ ألن لغتهم كلها فقدت طابعها األصيل بارتباطها
مؤخرا مستعمرتان لروما؛ األولى
ً باليونانيين والليغوريين( ،((11وقد ُأسست
أنشأها ماريوس ،Mariusوالثانية أقامها سولال ،((11( Sullaوهكذا قد تغير
سكان هذه الصخرة القاحلة الوعرة!
أرضا ال تزال يعيش بها َّ
سكانها األصليون، 10-7وخالصة القول :من النادر أن تجد ً
وكل السكان مركب خليط وساللة غريبة ،وقد قدمت الشعوب بعد أخرى،
وما يزدريه شعب يرغبه بشدة شعب آخر ،وقد يلفظ شعب آخر ليدفعه خارج
( ((10هجرة الفوشيد Phocideخطأ إلى الفوشيين في آسيا الصغرة خطأ (وأسس الفوشيين ( Phocaeansانظر هامش 17
في األعلى) ،إذ سمح االستعمال في الواقع تطبيق كلمة الفوشيد Phocisبشكل خاطئ للفوشيين (cf. OLD Phocis
.)1b
( ((11ويترتب على ذلك أن اللغة الكورسيكانية Corsicanكانت كانتابريان -إسبانية ،وتضررت بمرور الزمن بتأثير الفوشيين
والليجوريين.
( ((11كولونيا ماريانا colonia Marianaفى 100ق.م وسوالن أليريا .Sullan Aleria
101
ذاته فحسب ،وهكذا بأمر القدر ال شيء يبقى على حاله لألبد.
وموازنة التحول الفعلي للمكان ،وحجب المساوئ األخرى التي تلحق 1-8
المنفى .تمسك فارو ((11( Varroأكثر الرومانيين ً
تعلما بكفاية هذا العالج
حتما نفس النظام من الطبيعة ،ويعتقد ماركوس
ً أينما قدمنا وتجربتنا
بروتوس( ((11أن التعويض الكافي للمنفيين أن يأخذوا فضائلهم معهم.
ولو كان هناك رأي يحكم هذين االعتبارين ،فهو ليس كاف ًيا للراحة في المنفى 2-8
بشكل فردي ،بل يقبل أنها فعالة للغاية في حال الجمع ،وكم من القليل ما
نفقده بالفعل! أينما نمضي ،فمن أجمل ما ينسب إلينا أن يذهب معنا االثنان
الطبيعة الكلية والفضيلة الفردية.
صدقوني ،هذا كان مقصو ًدا ممن صنع الكون ،سواء أكان ر ًّبا كلي القدرة أم 3-8
قادرا على إنتاج أعمال واسعة ،أم نفثة إلهية تنشر األشياء كلها
روحانيا ً
ًّ سب ًبا
قدرا وتسلسل علل مترابطة غير قابلة
من األكبر إلى األصغر بتوتر موحد ،أم ً
للتغير( ،((11لذا أقول كان المقصود ال شيء ،إال أنه ال قيمة لممتلكاتنا وهي
تحت إمرة أحد آخر.
وكل ما هو خير يكمن خلف سيطرة البشر ،وليس بمقدورنا أن نمنح وال نتخذ 4-8
طري ًقا ،فهذا العالم الذي هو أعظم خلق وأجل هبة للطبيعة ،والعقل الذي
يطالع العالم ويتعجب فيه واألعظم مجدً ا له ،هذه هي ممتلكاتنا الدائمة ألجل
مسمى التي تبقى معنا طالما بقينا على قيد الحياة.
غير ًّ
وهكذا الواثق والمتحمس يدعنا نسرع بخطوة شجاعة إلى حيث تقودنا 5-8
( ((11تيرينتوس فارو 27-116 M. Terentius Varroق.م من الباحثين البارزين في عصره ،والعبارة المنسوبة له في عمل
مفقود.
( ((11جونايوس بروتوس ( 42-85ق.م) متأمر ضد يوليوس قيصر ،وعبارته هنا ربما تكون من كتابه المفقود عن الفضيلة.
( ((11تسميات رواقية مختلفة للقدرة التي شكلت الكون .انظر .On Favors 4.7–8, Natural Questions 2.45
102
الظروف ،ويدعنا نسافر إلى أي أرض مهما كانت ،فليس هناك مكان موجود
في العالم يمكن أن يكون من ًفى ،فال شيء غريب في العالم تغترب فيه
البشرية(( ،)((11فمن أي مكان على وجه األرض ترفع عينيك نحو السماوات
على مبدأ سواء ،والمسافة بين كل األمور الربانية وكل األمور البشرية هي
دو ًما سواء.
وطالما عيني ليست بعيد ًة عن المشهد الذي ال يمكنهم أن يحملقوا فيه كفاية، 6-8
وطالما بمقدوري مشاهدة الشمس والقمر ،ونظري ثابت على الكواكب
األخرى ،والمسافات بين الحادثات وأسباب حركتها البطيئة والسريعة،
ثابت واآلخر يدور في
وطالما أراقب النجوم المتأللئة طوال الليل ،فبعضها ٌ
نطاقه وال يرحل عنه إلى مسافة بعيد ًة ،وبعضها ينفجر فجأة ،وبعضها ُيبهر
ٍ
بضياء أعيننا بالنار المنشورة كما لو كانت تتساقط ،أو تحلق في درب طويل
زاه ،وطالما ُأناجي هذه بقدر ما يمكن لإلنسان أن ُيخالط األشياء الربانية،
ٍ
وطالما ُأبقي عقلي ساع ًيا للتأمل في الموضوعات اللطيفة -وماذا تحدث لي
األرض التي أدوسها؟
والعقل الضيق هو الذي يبتهج باألمور الدنيوية ،وينبغي أن تتوجه إلى تلك 2-9
الموضوعات التي يتساوى فيها الظاهر من أي نقطة للنظر ،ومن أي نقطة
( ((11وقرأها روالند fill the lacuna in nullum inueniri exilium intra mundum <potest; nihil enim quod
.intra mundum> est alienum homini estليس من مكان يكون مقا ًما للمنفى في العالم ،وال غربة لإلنسان في
العالم.
103
يتساوى فيها النظر ،وشيء آخر يوضع في االعتبار ،وهو أن الموضوعات
الدنيوية تحجب رؤيتنا عن الخير الحق العتقادنا المغلوط في الخير الكاذب،
حيث توسع الشعوب مستعمراتها كلما رفعت أبراجها ،ووسعت رقعة
وطنها ،وعمقت حفر كهوفها الصيفية( ،((11وكلما زادت البنية الضخمة التي
مآد ُبهم ،فإن المزيد من هذا سوف يحجب السماوات ترفع أسقف َر َدهات ِ
عن أبصارهم.
وقد ُيلقيك سوء الحظ نحو منطقة حيث أعظم ترف للمأوى هو مجرد كوخ، 3-9
وح ًّقا يظهر لك ضيق األفق الذي ُيواسي ذاته ببخل إذا وضعت مع هذا اإلقدام
ِ
لنفسك: فحسب؛ ألنك تعرفين كوخ رومولوس( ،((11واألحرى أن تقولي
«هل هذا الكوخ المنخفض فيه غرفة أتخذها للفضائل؟ قري ًبا تصبح أجمل
من كل المعابد حينما ُترى العدالة هناك والتسامح والحكمة والبر ونظام
لتقسم كل الواجبات كما ينبغي ومعرفة األمور اإلنسانية والربانية ،وقد ال
ُيحدد مكان يأوي كثرة هذه الفضائل ،وال يصعب منفى على التحمل حين
تدخله في هذه الرفقة».
يقول بروتوس Brutusفي الكتاب الذي كتبه عن الفضيلة( ،((11إنه رأى 4-9
ماركيليوس Marcellusفي منفى ميتيلين ،يعيش سعيدً ا كما ُتجيز الطبيعة
كبيرا كما هو اآلن( ،((11وهكذا
البشرية ،ولم ُيكرس للدراسات الحرة وقتًا ً
يضيف أنه حين حددوا عودته من المنفى دون ماركيليوس ،شعر بأنه ذاهب
( ((11كهوف متكلفة للهروب من الشمس مثل كهف فاتيا .Vatiaانظر .Letters 55.6
( ((11واحد من كوخين متواضعين سقفه من القش ،وعرف بكوخ روميلو ،وكان أحدهما على الباالتينو ،Palatineواآلخر
على الكابيتول ،وحفظا كآثار قديمة ترمز لبدايات روما المتواضعة.
( ((11انظر 1.8هامش 24أعلى.
منافسا قو ًّيا ليوليوس قيصر الذي تقاعد في ميتيليني Mytileneبعد
ً ( ((11كالوديوس مارسيلوس قنصل عام 51ق.م ،كان
ُ
أن قاتل بومبي الخاسر من معركة فارسالوس Pharsalusعام ،48وقد وافق القيصر على عودته لروما ،ولكنه قتل في
بيريوس Piraeusعام .45
104
إلى المنفى أكثر من أنه ترك ماركيليوس في المنفى.
ً
محظوظا حين فاز باستحسان بروتوس في المنفى أكثر كم كان ماركيليوس 5-9
من كسبه استحسان الدولة لظفره بلقب القنصل! وكم هو عظيم ذلك الرجل
الذي جعل بروتوس يشعر كأنه في المنفى حين فارق المنفى! وما هذا الرجل
ممن أعجبوا حتى بكاتو نسيبه(.((12
الذي استقطب إعجاب أحدً ا َّ
أيضا إن جايوس قيصر( ((12قد أبحر إلى ميتيلين؛ ألنه كان الويقول بروتوس ً 6-9
عظيما بالعار ،وأقر مجلس الشيوخ استدعاءه بتوسلً يحتمل أن ُيلطخ رجلاً
عام ،وبدت على الجميع حالة القلق والحزن ،وهي نفس المشاعر التي انتابت
بروتوس في هذا اليوم ،وكان توسلهم ليس ألجل ماركيليوس ،بل لذاتهم
خو ًفا من شعورهم بالنفي أن رحل عنهم ماركيليوس ،ولكنه حقق الكثير في
هذا اليوم حين لم يحتمل بروتوس رحيله أو أن يراه قيصر في المنفى؛ ألنه
تلقى شهادة من كليهما حيث حزن بروتوس لعودته دون ماركيليوس وتورد
خجل القيصر.
هل تشكين في أن هذا الرجل العظيم المبجل غال ًبا ما ُيشجع نفسه باتزان 7-9
ِ
وأنت غارقة في وطنك ليس علة للضيق، ِ ِ
«ففقدانك كلمات مثل هذه؟
دراساتك كما ِ
كنت ،وتعرفين أن كل مكان هو وطن للحكيم ،إلى جانب هذا
أليس هو الرجل الذي أبعد نفسه عن وطنه عشر سنوات متتالية؟( ((12وكان
السبب توسيع اإلمبراطورية بال شك دون وطنه.
وانظري اآلن ُيجر إلى إفريقيا التي تعج بتهديد تجدد الحرب ،و ُيجر نحو 8-9
إسبانيا التي ُتعيد إحياء قوة المعارضة المكسورة والممزقة ،و ُيجر نحو مصر
( ((12كان بروتوس صهر بوركيوس كاتو ( 46 -95ق.م) وهو معتنق للرواقية والمذهب الجمهوري.
( ((12هنا يوليوس قيصر ،ولكن كان الحديث عن كاليجوال في 4-10في األسفل.
( ((12من عام 49-58ق.م كانت فترة حروب قيصر الغالية .Gallic
105
الغادرة( .((12وباختصار نحو العالم كله الذي يراقب عن كثب فرصة ضد
اإلمبراطورية الواهنة ،وما المشكلة التي تواجهه أولاً ؟ وإلى أي طرف من
العالم سوف يركن أولاً ؟ سيدفعه انتصاره نحو كل أرض ،ودع األمم ُتعجب
به وتعبده ،ويعيش ما حيا إعجا ًبا في بروتوس!.
1-10تحمل ماركيليوس منفاه على نحو حسن ،ومن ثم لم ُيحدث تغيير مكانه أي
تغيير في عقله مطل ًقا ،رغم أن الفقر قد ذهب معه هناك ،وال شيء كارثي في
الفقر كما يعلم الذين لم يدفعهم جنون الطمع واالنغماس المفرط الذي ُيفسد
كل شيء ،فكم هي زهيدة القيمة المطلوبة لدعم اإلنسان! و َمن الذى يفتقر
إلى هذا إن يمتلك أي فضيلة أ ًّيا كانت؟
2-10أما فيما يتعلق بمسألتي التي أركز عليها ،فإنني أعلم أنني لم أفقد ثروة ،بل
انشغلت بالتفكير فحسب ،وحاجات الجسد بسيطة ،إنه يرغب في البارد
ليحفظه ،ويسكن ألم الجوع والعطش بزاد أساسي ،وإذا ُتقنا إلى شيء أكثر
فإننا ُنجهد أنفسنا ألجل رذائلنا وليس الحتياجاتنا ،ولست في حاجة إلى أن
تطهر كل محيط وأن ُتحمل المعدة بمجزرة حيوانات أو تجلب طعام البحر
من الشاطئ المجهول ألبعد البحور ،فاألرباب والربوبية تدمر الذين تتجاوز
أذواقهم المرفهة حدود اإلمبراطورية التي تثير الحسد بالفعل!
106
المحيطات الذي ينقلونه إلى بطونهم ،ووهنوا بحياتهم المرفهة وأصبحوا
بالكاد يستوعبوا ،إنهم يتقيؤوا ليأكلوا ويأكلوا ليتقيئوا ،ويستقصون الوالئم
من جميع العالم وال يتنازلون فيها عن النبش ،ولو أنكر اإلنسان هذه األشياء
فكيف يمكن أن يضره الفقر؟ وإذا كان اإلنسان يتوق لهم فإنه يستفيد حتى من
الفقر ،ويشفي رغم أنفه ،وإذا لم يتجرع دواءه حتى تحت إكراه على األقل
لفترة لعدم مقدرته للحصول على مثل هذه األشياء يماثل ضعف الرغبة لها.
5-10ويا للبؤس َمن ال ُتح َّفز شهيتهم إال بالطعام المكلف؛ ألن ما يجعله مكل ًفا ليس
نكهته الطريفة أو اإلحساس المبهج في الحلق ،بل ندرة وصعوبة الحصول
فلم الحاجة إلى المهارات الشتى
طوعا َ
ً عليه ،ولو عاد هؤالء إلى الحكمة
للمحترفين التي تخدم البطن؟ وما الحاجة إلى االستيراد أو تدمير الغابات أو
مخر البحر؟ وكل ما أعدته الطبيعة من طعام متاح في كل مكان ،ولكن هؤالء
يمرون عليه كاألعمى ،فيجوبون كل بلد ويعبرون البحار رغم أنهم يمكن أن
يسدوا جوعهم بتكلفة زهيدة بدلاً من النفقة الكبيرة.
6-10أشعر وكأنني أقول لهم« :لماذا تطلقون سفنكم؟ ولماذا تشهرون سيفكم
على البشر والبهائم؟ ولماذا تندفعون بفوضى عارمة؟ ولماذا تكدسون الثروة
ونهما
ً على الثروة؟ ألم تنظروا كيف أن أجسادكم هي ضئيلة؟ أليس جنو ًنا
ً
مفرطا أن ترغب في الكثير في حين يكفيك القليل؟ وهكذا ربما ُتزيد منفعتك
و ُتمدد أرضك ،وال تستطيع أن ُتوسع قدرة جسدك ،ورغم أن عملك قد
107
يزدهر ،وتجلب خدمتك العسكرية لك طائل ،وتتعقب الطعام وتجمعه من
كل حدب ،وقد ال تجد مكا ًنا تخزن فيه مؤنك الفاخرة.
ِ
أسألك! إن أسالفنا الذين تسند فضائلهم 7-10لماذا يطاردون أشياء عدة؟ أنا
رذائلنا كانوا تعساء بال ريب؛ ألنهم قدموا الطعام ألنفسهم بأيديهم ،وكانت
األرض سريرهم؛ ألن بيوتهم لم تلمع بالذهب ولم تسطع معابدهم باألحجار
الكريمة ،وفي هذه األيام يكون القسم جليلاً بالحلف بآلهة الطين(،((12
وهؤالء يتوسلون لآللهة أن يرجعوا للعدو حتى لو كانوا متحققين من الموت
أكثر من أن يكسروا كلمتهم(.((12
108
متعته بما يعادل عطايا اإلمبراطورية الكثيرة وإيرادات الدولة الجمة من
الكابيتول تغلبت عليه الديون وأجبرته أن يراجع بعناية حساباته للمرة األولى،
محكوما عليه أن
ُ وعد ما تبقى وهو عشرة مليون سيستريكس ،كما لو كان
يعيش في مجاعة مفرطة إن لم يوجد سوى عشرة ماليين سيستريكس ،ومن
ثم انتحر بالسم.
10-10يا للفخامة إذ تعد عشرة ماليين حدًّ ا للفقر بالنسبة له! ويا لها من حماقة أن تفكر
أن األمور تحسب بمقدار المال ال بغنى العقل! امرؤ ارتعد في عشرة ماليين
فبم يتوسل اآلخرون! والحقيقة أن رجلاً بمثلسيستريكس وهرب بالسمَ ،
هذه العقلية الفاسدة كان الشراب األخير معافاة له ،حيث لم يكن تمتعه بمآدبه
ً
بسيطا ،وكان يجاهر برذائله ،و ُيلفت انتباه المدينة إلى مسالك التي ال حد لها
بهرجته ،ويثير الشباب لتقليده وهم قابلون للتأثير دون أمثلة لإلفساد ،ولذلك
كان ح ًّقا عليه أن يأكل السم ويشربه.
10-11و ُتصيب هذه النهاية الذين ال يقيسون ثروتهم بمعيار العقل الذي ثبتت حدوده،
ولكن الرغبة الفاسدة َم ّيعت حدوده وصارت غير مألوفة ،فال شيء يكفي
الطمع ،ولكن قليل الطبيعة يكفي ،ولذا ال ينطوي فقر المنفى على شقاء،
حيث ال يفتقر أي مكان للنفي على حد كفاية للمرء.
« 1-11ولكن سيشعر في المنفى بفقدان مالبسه وبيته» ،إذنْ سوف يفتقد هذه األشياء
بمدى احتياجه إليها ،ولن يفتقر إلى المأوى والملبس األساسي؛ ألن القليل
يحمي الجسد وكذلك يطعمه ،ولم تجعل الطبيعة ما هو ضرور ًّيا للبشر صع ًبا
في الحصول عليه.
3-11ولكنه يتوق للمآدب التي تلمع آنيتها بالذهب وصحائف الفضة التي تتميز
بأسماء حرفييها القدامى ،والبرونز الذي ُكلف بجمعه من قلة مهوسين،
قسرا ،والرخام من
وحشود العبيد يكتظ بها المنزل ،والحيوانات التي ُسمنت ً
كل قطر ،ورغم أن هذه األشياء التي احتشدت ،إال أنها ال ُترضي نفسه التي
ال تشبع ،وكذلك لن تكون كمية أي سائل كافية لترضي الرجل الذي ُيشيط
عطشا بل ً
مرضا. ً اللهيب بواطنه وليس العوز للماء؛ ألن هذا ليس
4-11وال ينطق هذا على المال والطعام فحسب ،فكل رغبة تنشأ ال عن حاجة،
بل عن رذيلة وصفتها كذلك ،ورغم كثرة ما تكرسه لها فلن يكون هذا نهاية
للرغبة ،ولكن مرحلة فيها فقط ،ولذا َمن ُيبقي نفسه في الروابط التي تحددها
الطبيعة ،لن يشعر بالفقر ،وأما َمن يمضي وراء هذه الروابط ،سوف يستشعر
الفقر ،حتى لو كان بين أعظم ثروة ،وأماكن المنفى كافية للضروريات وليست
ممالك للوفرة.
5-11ما يصنعه األثرياء هو العقل الذي يرافقنا في المنفى وفي البرية المتوحشة،
فحين يجدون ما يكفي ليسند الجسد ،فإنهم يغتبطون بخيراته الوافرة ،وال
يهمهم المال بل تشغلهم األرباب الخالدة.
6-11وكل هذه األشياء من رخام وذهب وفضة ومناضد مصقولة كبيرة مدورة تفوز
بها عقول تافهة وتعلق بأجسادهم ،وكلها أعباء دنيوية ،وليست محببة للعقل
وواع بطبيعته الحقة؛ ألنه منير وال يعبأ بشيء ويرتفع
ٍ الذي ال تشوبه شائبة
للسماوات العلى في الوقت الذي يتحرر فيه من الجسد ،حيث ال تعيقه
أطرافنا وال عبء اللحم الثقيل الذي يحيط به ،ويحلق فوق األشياء اإللهية
بومضات خفيفة للفكر.
110
7-11وكذلك ال يمكن للعقل أن ُينفى أبدً ا ،وهو محرر بما هو ،وقريب لألرباب،
ومسا ٍو لكل العالم وكل األزمان؛ ألن فكره يتحرك حول السماوات كلها ،وقد
ُمنح مدخلاً لكل األزمان سواء الماضي أو المستقبل( ،((13أما هذا الجسد
فمجرد سجن للنفس وقيد لها ،يقضي فيه العقل عقوب ًة ُوقعت عليه وأمراض
وضعة ،ولكن العقل ذاته مقدس وأبدي ،وال يمكن أن ُتوضع عليه يد قوية.
1-12وإن اعتقدت أنني أستعمل تعاليم الفالسفة للتقليل من مشقة الفقر التي ال
يفكر في أنها مرهقة سوى َمن يفكر فيها كذلك ،وتاما أولاً أن نسبة الفقراء
كثيرا ،وسوف ُتالحظ أقل تعاس ًة واضطرا ًبا من األغنياء ،وأعتقد أنهم
تزداد ً
أقل في شكواهم التي ُتلهي عقولهم ،وأسعد منهم.
2-12ودعونا نمر على األغنياء ،فكم يظهرون في كثير من المناسبات مثل أصحاب
الفاقة! وحين يرتحلون تكون أمتعتهم محدودة ،وحين تجبرهم قيود رحلتهم
على العجلة ،وينبذون حشودهم التي ترافقهم ،وحين يؤدون الخدمة
ً
بسيطا من متاعهم؛ ألن االنضباط في المعسكر جزءا
العسكرية الفعلية يبقون ً
يحظر جميع األدوات الفاخرة!
3-12وليست الظروف الخاصة بالعصر والمكان هي التي تضعهم على قدم المساواة
مع أصحاب الحاجة ،فحين يقبض عليهم ملل ثروتهم يخصون أيام بعينها
ليتناولوا طعامهم على األرض ويطرحون صحائف الفضة والذهب جان ًبا
ليستعملوا أطباق الفخار ،فيا لهم من مجانين! إنهم يرهبون حالة الفقر التي
يحنون إليها أحيا ًنا! ويا لظالم العقل ،ويا للجهل بالحق الذي ُيعمي أولئك
الذين يضطربون خو ًفا من الفقر( ،((13والذين ينهلون المتعة بالزيف!
4-12وكلما نظرت على أمثلة الماضي أخجل من ألاَّ أجد عزاء للفقر ،فقد تفسخ
111
بذخ العصور إلى الدرجة التي يسمح فيها االنتقال إلى المنفى بأكثر مما يخلفة
إرث القدماء ،ونعلم جيدً ا أن هوميروس كان له عبد واحد ،وألفالطون ثالثة،
ولم ِ
يقتن زينون المؤسس األساسي للرواقية عبدً ا ،وهل أي أحد تفترض أنهم
عاشوا حياة بائسة من دونه ،وبالتالي يبدون للجميع بائسين؟
ً
وسيطا بين الشريف 5-12مينينيوس أجريبا ((13( Menenius Agrippaالذي كان
النبيل patriciansوالعامي الروماني لحفظ سالم الدولة ُدفن بهبة عامة،
وأتيليوس روجولوس ( ((13( )Atilius Regulusالذي كان يوجه القرطاجيين
في إفريقيا ،كتب للسوناتو أن يده المستأجرة قد ذهبتً ،
تاركا مزرعته مهجورة،
فقرر السوناتو في غياب روجولوس أن تؤول مزرعته لنفقة العامة ،أليس من
لديه أجرة الدفع للعبد فالشعب أولى بأن يكون المزارع المستأجر؟
مهرا من الخزانة العامة؛ ألن أباهم لم يترك لهم 6-12وتلقت بنات سكيبيو(((13
ً
شيئًا ،وكان من المقبول للشعب الروماني أن يدفع سكيبيو الضريبة مرة واحدة
حيث كان يخرجها دو ًما من قرطاجة ،وكان أزواج البنات محظوظين أن يكون
الشعب الروماني حماهم! وهل تعتقد أن البنات الذين تزوجوا بمهر مليون
سيستركيس أكثر سعادة من سكيبيو ،فهؤالء البنات قد تلقوا من السوناتو
كفالتهم بوزن من النحاس كمهر؟
7-12هل يمكن أن يشعر أي أحد باالزدراء للفقر حين تعرض هذه النماذج المميزة؟
وهل للمنفى أن يحزن من أنه يفتقر لشيء ما في حين افتقر سكيبيو للمهر
ورجويليوس لليد المستأجرة ومينينيوس لثمن الجنازة؟ ومتى ُتلبى حاجة كل
هؤالء على نحو شريف ألنهم كانوا في حاجة؟ وهكذا بمثل هذه الدعوى
( ((13قنصل عام 503ق.م ،وعلى ما يبدو أنه أقنع عامة الرومان plebeiansبعقم انفصالهم عن روما .494
( ((13انظر 7.10و هامش 39أعاله.
( ((13انظر On the Shortness of Life 17.6وهامش .44
112
التي نتوسل بها ،فإن الفقر ليس ضمانة لإلعفاء بل هو محبب فحسب.
1-13ولهذا قد يكون الرد« :لماذا تفصل بشكل غير طبيعي العوامل التي ذكرتها التي
يمكن تحملها على نحو فردي وال تدمجها؟ فتغيير المكان يمكن تحمله إذا غيرته
فحسب ،والفقر يمكن أن تطيقه إذا لم ينط ِو على عار كفيل بأن يسحق الروح».
2-13وفي الرد على أي أحد يحاول تخويفي بكتلة من المتاعب ،فهذا يحتاج مني
أن أقول« :إذا كنت محصنًا بما فيه الكفاية من جانب واحد للحظ ،فإن الشيء
نفسه ينطبق على كل الجوانب ،فقد ُتقوي العقل فضيلة واحدة ،وتجعله
محصنًا من أي جهة ،وإذا خفف الجشع واألوبئة التي تفترس جنس البشر
قبضتها عليك ،فإن الطموح لن يعيقك ،وإذا نظرت إلى يومك األخير على أنه
َ
تخش شيئًا يجرؤ أن يدخل صدرك ليس عقا ًبا بل على أنه قانون الطبيعة ،فال
ويخيفك من الموت.
3-13وال تعتقد أن الرغبة الجنسية قد ُمنحت لإلنسان ألجل المتعة ،بل من أجل
تواصل جنس البشر ،فأحيا ًنا تهرب من هذا البالء الخفي الذي ُغرس في
حيواتنا ،وقد ترحل عنك رغبات أخرى دون أن تمسها ،وال يضرب العقل
الرذائل واحدة تلو األخرى ،بل جميعها في آن ،والنصر قطعي ونهائي».
(“ ((13الطغاة الثالثون “ تشير إلى األوليجاركية التي استولت على السلطة في نهاية الحرب البلوبونيزية Peloponnesian
403 -404( Warق.م) .ولتحدي سقراط انظر محاورة الدفاع 32c-dومسرحية السحب ألكسينوفان Xenophon
.Memorabilia 1.2.32
( ((13بعد إدانته عام 399ق.م .انظر .On Leisure 8.2
113
5-13و َمن الذى يعمى عن حقيقة أن ماركوس كاتو قد لقي هزيمة مزدوجة في سعيه
للحصول على لقب البرايتور والقنصل( ((13وكان ً
عارا عليه؟ وقد حل العار
على البرايتور والقنصل الذي كسب الوجاهة بترشيح كاتو.
6-13وال أحد ُيحتقر من آخر إن لم يكن قد احتقر نفسه أولاً ،وربما يوجه العقل
الخنوع والذليل ذاته إلهانة اآلخرين ،ولكن المرء الذي يقتلع ذاته ليواجه
المصائب الصعبة ويتغلب على الشرور التي تطغى على اآلخرين يرتدي
أحزانه كعالمة للوجاهة؛ ألن نزعتنا لهذا ال تقودنا لإلعجاب بشيء بقدر
إعجابنا بالرجل الشجاع وسط الشدائد.
((14( Aristides
إلى تنفيذ حكم اإلعدام على 7-13وحين كان ُيقاد أريستيدس
ٍ
إنسان فحسب ،بل كل َمن قابله ،يلتفت إليه ويولي كما لو كان ليس مجرد
وكأن العدالة ذاتها قد جرت إلى الموت ،وكان الوحيد الذي لم ّ
يول عنه هو
َمن جلس في مواجهته ،وبدلاً من أن يرد أريستيدس بفعل الضيق وهذا فعل
يصنعه مخلوق سليط اللسان ،ولكنه َب َّ
ش وجهه ،وابتسم وقال للقاضي الذي
يرافقه« :أحذر هذا الرفيق الذي لم يفغر فاهه على نحو زميم في المستقبل»،
وهذا فرض إهانة على اإلهانة ذاتها.
( ((13في عام 51-55ق.م على التوالي ،أما بالنسبة لكاتو انظر 5.9وهامش 31أعاله.
( ((14سياسي أثيني من القرن الخامس ملقب بالعادل( ،)d. ca.467ومن المحتمل أنه أعطى هنا خطأ لفوكيون Phocion
) (ca. 402–318رجل الدولة والجنرال األثيني الذي حكى عنه بلوتارخ القصة نفسها في كتابه حياة فوكيون (The Life
.)of Phocion 36.1–2
114
سبب يا أعز أم يدفعك لدموع ال نهاية لها كما أرى ،فربما
1-14وبما أنه ليس لديك ٌ
ِ
فقدت ِ
ألنك تخصك ،وهناك احتماالنِ ،
أنك محزونة ِ قد تبكين ألسباب
ِ
توقك لي ال يطاق في ذاته. ِ
وجدت بعض الحماية ،أو ِ
أنك
ِ
لعزيزك ال لمسا خفي ًفا؛ ألنني أعلم أن في قلبك ًّ
حبا وعلي أن ألمس االحتمال ً
َّ 2-14
يعلوه شيء ،ودع هذه األمهات تلحظ الالئي يستغلون قوة أطفالهن بضعف
المرأة ،والنساء الالئي ال ُيسمح لهن بتقلد المنصب ،فيحرصن على إحراز
يكن هن
تقدم من خالل أطفالهن ،والذين يبتلعن ميراث أبنائهن ويحاولن أن َّ
الورثة ،والالئي يبلين فصاحة أبنائهن بإقراضها لآلخرين.
ِ
واستثمرت الحد األدنى فيها، ِ
أبنائك، ِ
أخذتك الفرحة الشديدة بقوة ِ
ولكنك 3-14
ِ
ومنحت العطايا ألبنائك ِ
عليك، ِ
ووضعت دو ًما حدو ًدا على كرمنا وليس
ِ
وكنت تديرين ميراثنا كما لو حيا(،((14 ِ
والدك كان ال يزال ًّ األثرياء رغم أن
ِ
واقتصدت في استعمال ِ
وتعاملت بحذر مع األغراب، ِ
ميراثك ِ
أنك ترعين
ِ
عليك زمن منصبنا شيئًا شخصا آخر ،ولم يجلب
ً نفوذنا كما لو كان يتبع
ِ
يجعلك العطف تنظرين إلى مصلحة أنانية ،واآلن سوى السعادة والنفقة ،ولم
ابنك بعيدً ا ،ال يمكن أن تشعري بغياب هذه األشياء التي اعتبرتِها ال
وقد انتُزع ِ
تهمك حين كان هو آمنًا في المنزل.
115
المرأة وبمودة وراءها عالقة أمومتنا؟ وأين هي مجالسنا؟ وأين شعور الصبي
بالفرحة حينما يراى أمه؟».
معا،
معا ،وقضينا فيها وقتًا ً
2-15وأضيفي إلى كل هذا األماكن التي احتفلنا فيها ً
مؤخرا– الذكريات التي ُتسبب الكرب العظيم،
ً والذكريات التي تشاركناها
وهذه ضربة وحظ يبدع تجاهك بقساوة ،لقد أعطاني يومين قبل أن يهدمني
ٍ
هادئ وال تخشي أي مصيبة مثل هذه. ِ
وعليك أن ترحلي عني( ((14بعقل
3-15إنه شيء حسن أننا نعيش بعيدً ا عن بعضنا البعض ،وحسن أن غيابي ِ
عنك
ِ
كسبك متعة ِ
عودتك لروما لم ُي ِ
أعدك لهذه الضربة ،وأثر لسنوات طوال قد
ِ
لتحملت ِ
رحلت قبل منفاي ِ
فقدت عادة التوق إليه ،ولو ِ
كنت رؤية ِ
ابنك بل
كنت قد ِ
توقك ،ولو لم تعودي ِ ٍ
بشجاعة أكبر؛ ألن المسافة قد هونت الفقد
كسبت فائد ًة أخير ًة ،وهي أن تري ِ
ابنك ليومين أطول على األقل ،وكما هو ِ
الحال قد رتب القدر القاسي األمور ،ولن تكوني معي حين وقعت المصيبة،
رغم ِ
أنك لم تعتادي البعد عني.
ِ
شجاعتك ،وقاتلي بضراوة ،كما 4-15ولكن إن اشتدت هذه الظروف ،فزيدي من
كنت تعرفين العدو الذي هزمتِه في الماضي غال ًبا ،والدم ال يتدفق من لو ِ
أنك ِ
ِ
ندوبك. الجسم الصحيحِ ،
إنك ُض ِ
ربت في
116
إنسانيا ،وأفضل توازن بين
ًّ تشعري أن عدم الحزن تبلد لإلحساس وليس
عاطفة الواجب والعقل أن تشعري بإحساس الفقد ثم تقمعيه.
3-16وقد ُعفيت دون غالبية النساء من أعظم آفة لعصرنا وهي عدم الحياء ،فال
خيرا
تحولك األحجار الكريمة الثمينة وال اللؤلؤ ،وبريق الثروة ال يجعلها ً
ِ
وأنت في القديم والمألوف القاسي ،فال أسمى لجنس البشر ،وقد تسمو
تنقادي إلى الضالل بمحاكاة أسوأ النساء ،فوبالها حتى الصفات المستقيمة،
وال تخجلي من خصوبتك أبدً ا كما لو أنها جلبت اللوم على العمر الذي
تعيشينه ،وخالفي النساء اللواتي يعولن على جاذبيتهن لمجرد جمالهن ،وال
ِ
أطفالك بعد تصورهم قبيحا ،وال ُتحبطي آمال
ُتخفي حملك كما لو كان عبئًا ً
ِ
فيك.
وجهك بالزينة ومستحضرات التجميل ،وال ترغبي في نوع ِ 4-16ال تشوهي
رأيت ِ
فيك زين ًة فريد ًة وهي ُ المالبس التي ال تشف اللحم حين تخلعينها ،لقد
ِ
تواضعك. قبس من الجمال يدوم لكل عمر ،وأعظم وجاهة هي
ِ
فضائلك ُتبقيك بصرف ِ
حزنك؛ ألن ِ
أمامك األنوثة ذريع ًة لتبررى 5-16ال تضعي
ِ
ابتعدت عن النظر عن األنوثة ،وينبغي أن تبتعدي عن دموع األنثى كما
ِ
يأمرونك لك النسوة أن تنزوي عن جرحك ،بل سوف رذائلهن ،ولن يسمح ِ
بضرورة تعجيل نصب الحداد ليظهر إجهاد القلب مر ًة أخرى ،إذا ِ
كنت على
( ((14أوكتافيا هي أخت أوغسطس التي برزت بعد وفاة ابنها مارسيلوس .انظر عزاء إلى ماركيا (cf. Consolation to
.)Marcia 2.3–4
117
استعداد للنظر إلى هذه النسوة الالئي وضعتهم الشجاعة الملفتة للنظر في
مصاف الرجال العظماء.
ِ
أردت 6-16كورنيليا( ((14كان لها اثنا عشر طفلاً ،واختزلهم الحظ في طفلين ،وإذا
أن تحسبي خسائرها في العدد ،فإنها فقدت عشرة ،وأما في القيمة فقد فقدت
جراشي ،Gracchiوعندما كان تبكي حولها رفيقاتها وينعين قدرها ،منعتهم
من لوم الحظ؛ ألن الحظ منحها جراشي مثلما أعطاها أبناءها ،ومن هذه المرأة
فحسب يمكن أن يولد نوع الرجل الذي يهتف في العلن“ :هل تتحدثين عن
سوء المرأة التي ولدتني؟” ،ويبدو لي كالم األم أكثر حيوي ًة؛ فاالبن وضع
قيمة كبيرة على نسل جراشي ،ولكن األم ركزت على موتهم.
روتيليا(((14
ابنها كوتا Cottaفي المنفى ،وكانت معروفة بتفانيها، 7-16تبعت
حيث فضلت أن تحمل المنفى على توقها له ،ولم تعد إلى البيت حتى رجع،
وبعد عودته برز في الحياة العامة ،وحين مات تحملت فقده بشجاعة كما
دموعا بعد دفنه ،وبانت شجاعتها
ً ير أحدٌ منها
تحملت مرافقته للمنفى ،ولم َ
شيء عن
ٌ حين كان منف ًيا والحكمة حين فقدته ،ففي الحالة األولى لم يثبطها
تصر على حزن ال طائل منه ،وأنا أريد أن
واجب حبها ،وفي الحالة الثانية لم َّ
ِ
أواجهك بمثل هذه النساء ،حتى تتبعي هذه األمثلة من النسوة التي ستُحاكين
ِ
آالمك. ِ
دأبك للسيطرة على قمع حياتهم في
1-17وأنا أعلم أن هذه المسألة ليست في سيطرتنا ،وال نقوى( ((14على المشاعر
التي تولد مع الحزن؛ ألنها عنيفة وتقاوم أي مداوة بالعناد ،وفي الوقت نفسه
نريد أن نتجاوز الحزن ونتجرع طعنات ألمنا ،ولكن دموعنا تتدفق في قناع
( ((14ابنة سكيبيو اإلفريقي الثانية .انظر 6-12أعاله وأم تيبيريوس وجايوس جراكوس . Gaius Gracchus
( ((14والدة الخطيب المميز أوريليوس كوتا الذي ُنفي عام 90ق.م ،بتهمة تحريض اإليطاليين على الثورة ،ويذكر أنه كان
قنصلاً عا ًّما .75راجع Cf. On the Shortness of Life 14.2وهامش .36
(146) On the Shortness of Life 14.2 and n. 36.
118
خاطئ التزان وجوهنا ،وأحيا ًنا ُنلهي العقل باأللعاب العامة والمجالدة ،ولكن
بين المشاهد الفعلية التي ُتلهي الحزن يتراجع بصيص من ذكرى فقدانه.
4-17وكم تمنيت أن أبي -وهو أعظم الرجال -أن يقلل من االرتباط بعادة األجداد،
ِ
كنت ِ
ويعدك لتلقي المذاهب الفلسفية بدلاً من مجرد التوجيهات البدائية!
ستصبحين بال حاجة الكتساب وقاية تجاه الحظ ،بل تطبيق لها فحسب ،ولم
ِ
ليكرسك للدراسة الفلسفية؛ ألن النساء يستخدمون الكتب ال يكن ألبي رغبة
ِ
وعقلك ِ
عجلتك ليكسبوا الحكمة بل كأداة إلظهار الوجاهة ،ومع ذلك بفضل
أسسا لكل ِ
ووضعت ً كبيرا في وقت وجيز من الزمن،قدرا ً
لت ً حص ِ
النهم َّ
ِ
تبقيك آمن ًة. فروع الدراسة الفلسفية،عودي اآلن إلى هذه الدراسات ،فسوف
ِ
عقلك ح ًّقا لن ِ
وتمنحك السعادة ،وإن دخلت 5-17وسوف تجلب ِ
لك الراحة
مر ًة أخرى ،ولن تحدث ِ
لك كر ًبا غير الزم بمعاناة ال ِ
يداهمك الحزن وال القلق َّ
119
معنى لها ،وسوف ينفتح ِ
قلبك إلحداها؛ ألنها أغلقت منذ آمد كل اإلسقاطات
ِ
حمايتك الموثوق ،وهي المصدر األخالقية األخرى ،وهذه الدراسات قالب
ِ
لنجاتك من سطوة الحظ. الوحيد
لك ٍ
مالذ تضمنه ِ ِ
ألنك في حاجة لدعم لتتكئي عليه حتى تصلي إلى 1-18ولكن
الفلسفة ،أود أن أعرض ِ
لك عزاء هو لك بالفعل.
أخوي( ((14حينما كانا حيين ،لم يكن ح ًّقا أن تجدي خطأ معَّ 2-18فكري في
كل منهما سب ًبا للبهجة، ِ
وجدت في ٍّ الحظ ،وباختالف تميز طبائعهما المختلفة
فأحدهما قد حقق منص ًبا بجهد دؤوب ،في حين حقره اآلخرون في حكمته
الفلسفية ،فاقتبسي الراحة من علو ابن واحد وتقاعد عن اآلخرين وأخلصي
للجميع ،واعرفي المشاعر العميقة لكل إخوتي ،فأحدهم ُيحسن مكانته
ل ُيكسبك بري ًقا ،في حين ينجر اآلخر نحو حياة السكينة المريحة؛ ليمنحك
ترفيها.
ً
جميعا العون والبهجة،
ً لك ِ
أبناءك ليجلبوا ِ 3-18وقد رتب ِ
لك الحظ بشكل إيجابي
ِ
فأنت في حمى مكانة أحدهما ،وفي فرحة راحة اآلخر ،إنهم يتنافسون في
أنك ِ
وأعدك بكل ثقة ِ ٍ
واحد، ِ
توقك ٍ
البن خدمتهم ِ
لك ،ويتفانى االبنان ليعوضا
ِ
ألبنائك. ٍ
شيء سوى العدد الكامل لن تفتقري إلى
ِ
أحفادك ،فماركوس صبي وسيم( ،((14فال أحد ينظر إليه 4-18وبعد هذا ،فكري في
ِ
وأنت عاجز ٌة عن تهدئتها ويظل حزينًا ،وال تهون المصيبة وتكون لبادة طرية
ِ
حضنك. في
5-18ومن دموعه له بهجه وليست ً
ضبطا؟ وما العقل الذي قد يضيق بالقلق ويفشل
( ((14نوفاتوس (جاليو ،)Gallioويال ،انظر 4-2وهامش 2أعاله ،ترقى األول ليكون قنصلاً ألخيا proconsulعام ،52
سياسيا (.)Controversiae 2 pref. 3–4
ًّ طموحا
ً والثاني كان أذكى أبناء سينيكا األكبر وأقلهم
( ((14ربما كان الشاعر لوكان ابن ميال (.)39–65 ce
120
في االسترخاء بلغوه السريع؟ و َمن الذي ال ينجذب للسرور بمرحه؟ و َمن
الشخص الذي مع تركيزه على أفكاره ال يتحول أو ُيؤسر بالحديث لنفسه
الذي ال يمكن أن يرتديه أي أحد؟ وأتضرع إلى الرب أن يميتنا قبل أن يفعل!
خصصتِه ِ
حزنك لما قد َّ 6-18وربما تنهك كل قساوة القدر وال تطولني ،ومهما يكن
إلي ،وربما تزهو بقية عائلتي دون ضرر ،ولم
لتعاني كأم أو كجدة ربما ينتقل ّ
ُ
أشك من طفولتي وال من ظروفي الحالية ،ودعيني أخدم ككبش فداء فحسب
سبب آخر للحزن.
للعائلة التي ليس لها ٌ
7-18احتضني نوفاتيال( ((14بحماس ،وهي التي ستمنحك األحفاد قري ًبا ،لقد نقلتها
لرعايتي وتبنيتها(((15
حيا،
،وبفقدانها لي ستبدو يتيمة حتى لو كان والدها ًّ
ِ
بحبك مؤخرا ،ولكن
ً واعتزي بها مثلما صنعت! لقد انتزع الحظ منها أمها
الشديد ال تشعريها بالحزن على أمها.
121
ِ
عليك ،وطالما بطفل وحيد ،فالتتويج الكامل للحياة التي عاشها سعيدً ا يعتمد
ِ
حياتك. أنه يعيش ،فمن الخطأ أن يشتكي من
1-19وحتى اآلن لم أقل شيئًا عن مصدر الراحة األكبر وهو شقيقتك( ،((15وهي
لك ،وتلقت كل المخاوف التي تنقلها ِ
لك دون تحفظ، القلب الذي ُك ِّرس ِ
ِ
دموعك بدموعها وارتمي في وهي إحساس األمومة لنا جميعا ،فاخلطي
حضنها.
ِ
أجلك ،لقد ِ
تشاطرك المشاعر دو ًما ،ولم تحزن لحالي كما تحزن من 2-19وهي
ُحملت إلى روما بين يديها( ،((15وبفضل ما كرسته وتمريضها األمومي
ومارست نفوذها ألجلي حين وقفت
ْ تعافيت من مرضي الذي دام طويلاً ،
ُ
بجانبي في وظيفة الكويستور ،((15( quaestorshipرغم أنها افتقرت إلى
الثقة في الصوت أو التحية بصوت ٍ
عال ،فحبها لي عزاه الخجل ،فليست
طريقة حياتها المنعزلة وال تواضعها المتوارث يقارن بفجاجة المرأة اليوم،
وال هدوؤها وال شخصيتها المتحفظة بميلها للعزلة ،ولم يمنعها هذا من أن
تحقق طموحي.
ِ
تمدك به من قوة ،فاقتربي منها 3-19هي أعز أم ،وهي مصدر الراحة بما يمكن أن
بقدر الممكن ،وتعلقي بها باحتضانها بقوة ،ويميل المشيعيون لتجنب األشياء
التي يحبونها جدًّ ا ويسعوا للحرية ليغمسوا حزنهم ،وعليك أن تتشاطري كل
رغبت في مواصلة هذه الحالة من الشعور أم طرحتِها
ِ ِ
فكرك معها ،وسواء
ِ
لحزنك أو رفقة له. جان ًبا ،ستجدين عندها نهاية
( ((15أخت هلفيا غير الشقيقة نظر لإلشارة لهلفيا على أنها طفل وحيد في ، 9.18وهي زوجة جايوس جاليريوس Gaius
مرضت سينيكا وأعادة له صحته في مصر ( )19 -2في الجزء Galeriusحاكم مصر ،31 -16ومن المفترض أنها َّ
األخير من هذه الفترة.
( ((15وكطفل من قرطبة في إسبانيا من المفترض أن يكون والداه في روما.
( ((15بعد فترة وجيزة عام 33م عادت عمته من مصر عام .31
122
4-19ولو أعلم ح ًّقا الحكمة التي كملت لهذه المرأة ،فإنها لن تسمح ِ
لك أن تتزيي
لك قصص تجاربها التي شهدتها أنا ً
أيضا، بحزن ال طائل منه ،وسوف تسرد ِ
فهي فقدت محبوبها عمي في وسط رحلة بحرية( ((15وهو أول زوج لها،
معا ،ورغم غرق السفينة تغلبت على العاصفة
وحملت ثقل حزنها وخوفها ً
وألقت بجسدها على الشاطئ.
5-19وكم عدد النساء اللواتي خبت أعمالهم المجيدة في ظالم! وما أكثرت من هذا
إلاَّ لتحيي في أزمنة غابرة ،في حين جهر الناس إعجا ًبا بأعمالهم العظيمة،
وكم كان التنافس بين الفنانين الموهوبين ليتغنوا بمديح الزوجة التي تناست
الجسور ،والتي وضعت
ضعف قواها البدنية وتناست البحر الذي يخشاه حتى َ
تخش جنازتها مطل ًقا في حين كانت
َ حياتها في خطر لتدفن زوجها ،والتي لم
تفكر فيه! التي كانت على استعداد أن تمنح حياتها لزوجها( ،((15وذاع صيتها
بين كل الشعراء ،ولكن هذا إنجاز عظيم المرأة سعت أن تدفن زوجها وهي
تخاطر بحياتها ،وأعظم حب الذي يربح عائدً ا أقل من خطر مسا ٍو.
6-19وال يندهش أحد وهي في عمر الستين حين كان زوجها حاكم مصر ،ولم
تسع لمصالح
يشاهدها العامة ،ولم تسمح ألي مواطن أن يدخل بيتها ،ولم َ
سياسية من زوجها ،ولم تسمح بأن يبحثوا عنها ،وكانت المقاطعة مولعة
بالقيل والقال وموهوبة في شتم حكامها ،وحتى الذين بعدوا عن الزلل لم
يسلموا من سوء السمعة ،فانظري لها كمثال فريد للنزاهة –واألمر الصعب
للغاية أن يمنح الشعب ُطر ًفا حتى في الخطر -إنه يحد من لغته المزاحية
المتحررة ،وحتى هذا اليوم يبتهلون رغم أنهم ال يتوقعوا أن يروا مثيلتها،
جديرا باالعتبار لو فازت بموافقة المقاطعة لمدة
ً ً
إنجازا وكانوا سوف يرون
123
ستة عشر عا ًما ،ولكن الجدير بالمالحظة أنها بقيت غير معروفة هناك.
7-19وإني ألذكر هذه األمور ليس بغرض أن أعدد صفاتها الجديرة بالثناء ،بل لذكر
ِ
ولكنك تدركين عقلية المرأة الواسعة التي لم تستسلم معاملتهم لها بظلم،
للطموح وال الجشع واآلفات التي ترافق السلطة دو ًما ،التي لم يردعها الموت
من أن تتشبث بزوج ال حياة له ،حين تعطل قاربها وهي تشاهد حطام سفينتها،
ِ
وعليك أن والتي لم تبحث عن طريق للهرب من السفينة بل لتأمين دفنه،
ِ
عقلك من الحزن ،وبالتالي تأكدي أال ُتظهري شجاع ًة مساوي ًة لها ،واسحبي
لديك أطفال.ِ أحد يأسف ألنه
إلي باستمرا ٍر ً
حتما، ِ
عليك أن تعودي َّ ِ
وأفكارك، ِ
تدابيرك 1-20ولكن رغم كل
ِ
أطفالك؛ ليس ألنهم أقل ومهما كانت الظروف ،ال تجعليها تتخلل عقل
ضرر ،ولذا
ٌ في المعزة ،بل ألن من الطبيعي أن تتمسكي بألاَّ يمس المكان
كنت في أفضل حاالتي؛
في على أنني سعيد وحيوي كما لو ُ ِ
عليك أن تفكري َّ
لدي أن يتحرر عقلي من كل االنشغاالت ،وبمرور الزمن تبدأ
ألن أفضل ما َّ
اهتماماتي ،فاآلن أبتهج بدراسات خفيفة تحرص على بغية الحق ،ثم أرتفع
إلى تأمل طبيعتي ،ثم الكون.
2-20وتسعى هذه الدراسات إلى معرفة األرض وموضعها( ((15وطبيعة البحر الذي
يحيط بها ،وتناوب طفوه وانحداره ،ثم يتسع تمحصي إلى الظواهر الخفية
التي تكمن بين السماوات واألرض ،ذلك الفضاء القريب المضطرب بالرعد
والبرق وهبوب الرياح وسقوط األمطار والبرد والثلج ،وبعد العبور على
الروافد الدنيا نعرج لألعالي ونبتهج بأجمل مشهد لألشياء الربانية ونتعقل
أبديتها ،حيث تتحرك بحرية على كل ما هو كائن وما سيأتي لتعبر الزمن في
كل دهر.
( ((15للتمييز بين األرضي والسامي والسماوي (وإن كان في ترتيب عكسي) .انظر .Natural Questions 2.1.1–2
124
عزاء �إلى بوليبو�س
125
126
مقدمة
نحن نعرف أن هذه المحاورة ُكتبت في عهد اإلمبراطور كالوديوس حين كان
سينيكا في منفى كورسيكا ،أي بين عامي 41م و49م ،وهو يعبر عن الرغبة في أن
يفتح كالوديوس بريطانيا ويحتفل باالنتصارات ،مما يعني أن هذه المحاورة قد
ُكتبت قبل غزو بريطانيا وانتصار كالوديوس الالحق عام 43م ،أو ربما بعد ذلك
بقليل ،على افتراض أن األخبار قد استغرقت بعض الوقت للوصول إلى سينيكا.
مهما في
دورا ًّ
إن المخاطب في المحاورة هو بوليبوس وهو أحد األحرار الذين أدوا ً
القصر اإلمبراطوري مع ماركوس أنطونيوس بالالس Marcus Antonius Pallas
وناركيسوس Narcissusفي عهد كالوديوس ،كان بوليبوس مسؤولاً عن الوثائق
وال سيما االلتماسات ،وقد يكون أستا ًذا مسؤوال عن المسائل األدبية ،ودوره كرجل
إمبراطوري حر يشهد به كتاب أقدمون آخرون في تلك الفترة ،ولكن نعرف من سينيكا
أنه كان أدي ًبا فقط ،وترجم هوميروس إلى النثر الالتيني وفيرجيل إلى النثر اليوناني.
لقد دفع موت شقيق بوليبوس سينيكا لكتابة هذا العزاء ،وبدأ العمل بالفقد ،وال
نعلم ما المفقود ،ولكن المفقود ما لدينا ،ويغطي سينيكا عد ًدا من الموضوعات
القياسية ألدب العزاء القديم (راجع مقدمة المترجم لرسالة عزاء إلى ماركيا) ،وقليل
من المحتوى رواقي تحديدً ا ،والحقيقة أن سينيكا يتوارى في تسمية نظرائه ووجهة
النظر الرواقية الدقيقة التي ترى أن الحكيم ال يشعر بحزن على اإلطالق ،وقد حيكت
الخطط لتناسب ظروف بوليبوس ،حيث يفترض سينيكا أنه يستعمل مواهبه األدبية
127
ليكتب عن شقيقه ويحفظ ذاكرته لألجيال القادمة ،وهو يستدعي العالقة الوثيقة التي
تربط بوليبوس بكالوديوس ،متخيلاً أن اإلمبراطور يقول خطاب عزاء للرجل الحر
ويخبره أن مجرد حضور اإلمبراطور وطلب خدمته قد يصرف الحزن عنه.
وليست الرسالة مجرد مقالة عزاء لبوليبوس ،بل نداء إلى كالوديوس ليستدعي
سينيكا من المنفى ،ويبدو مديح سينيكا لإلمبراطور أجوف وزائ ًفا ،ويعتقد البعض أنه
مثير للسخرية عمدً ا ،ويبدو أن هناك تباينًا قو ًّيا بين ما يقوله سينيكا عن كالوديوس في
ٌ
هذه الرسالة وما يقوله عنه الح ًقا في ،Apocolocyntosisوقد ُكتب الهجاء الخبيث
والجزل على تأليه كالوديوس في فترة مبكرة من عهد نيرونن ،حيث تثني الرسالة على
عدل كالوديوس وإنصافه وبالغته ،في حين يفضح الهجاء ظلمه وتعسفه وقسوته وعدم
تماسكه ،وتتطلع الرسالة إلى كسبه لمكانة مستحقة في السماء بعد موته ،ولكن الهجاء قد
طرده من أوليمبوس وأرسله إلى قدر حافل ضيق في العالم السفلي ،وال ينبغي أن ُنغالي
في الصراع رغم أنه كان حقيقة ،وإن معظم الثناء لكالوديوس في المحاورة يتناسب
تما ًما مع ميثاق اإلطراء اإلمبراطوري الذي نشأ في عهد أوغسطس ،وربما قد تضخم
النقد الموجود في المصادر التاريخية مثل Apocolocyntosisبعد وفاة كالوديوس.
وإن بنية الرسالة بما هي واضحة ومباشرة حيث تقدم الفصول من 11-1نصائح
تراثية متباينة ،والفصول من 13-12تخبر بوليبوس أن يفكر في الراحة التي يمكن أن
يكسبها من أقاربه األحياء ومن اإلمبراطور ،ويعرب سينيكا عن أمله في أن يستدعيه
كالوديوس من المنفى ،ويعطي في الفصول من 17-14أمثلة ليحاكيها بوليبوس،
حيث يصيغ الفقرات 3.16-2.14بفم كالوديوس ،وقدم في الفصل 17المثال
السلبي لكاليجوال ،وفي الفصل 18عرض النتيجة.
شكر وتقدير:
إنني مدين باالمتنان إلى إليزابيث أسميس Elizabeth Asmisوقارئ دار النشر
القتراحاته في تحسين الترجمة ،وأنا مسؤول عن أوجه القصور المتبقية.
128
:لمزيد من القراءة
Atkinson, J. E. 1985. “Seneca’s Consolatio ad Polybium.” Aufstieg
und Niedergang der römischen Welt II.32.2:860–84.
129
130
إذا قارنت المدن وجبال الصخر بحيوات البشر( ،((15فهي أقوى .وإذا طبقت 1-1
معايير الطبيعة التي تدمر كل شيء وتعيده إلى أصوله ،فهي قابلة للفساد .فهل
ما ُيصنع بأيدي الفانين ٍ
فان؟ وتلك العجائب السبع( ((15وما يعلو عليها في
الروعة ُبنيت بطموح السنين المتعاقبة ،وسوف يراها الزائرون يو ًما ما ُتسوى
باألرض ،نعم ،ال شيء أبدي ،وقليل األشياء يدوم طويلاً ،فاألشياء هشة
بطرق مختلفة ،ويأخذ فناؤها أشكالاً عد ًة ،وكل ما له بداية له نهاية.
يهدد بعض الناس العالم كله بالدمار ،وهذا الكون الذي يحتضن كل ما 2-1
يوم
هو رباني وإنساني إن كنت تعتقد أنه غير مجدف على تصديقه سيأتي ٌ
ويتفسخ وينهار في العماء( ((16والفوضى األصليين ،وما من سبيل في نحيب
األنفس الفرادى أو في رثاء رماد قرطاجة ونومانتانيا وكورنثة( ،((16وسوف
يسقط أي مكان آخر من أقصى ارتفاع ،وحين ال يجد مكا ًنا يسقط فيه سيؤول
للفناء( ،((16وإن مضت األقدار بعيدً ا لترتكب مثل هذا الشر العظيم فما من
ينج منهم.
فائدة من شكوى الفرادى في أنه لم ُ
و َمن الذي ُيعفي نفسه وأهله على نحو متعجرف ومتغطرس من الضرورة التي 3-1
معا.
ولكن سياقها يؤدي إلى هذا المعنى باللغة اإلنجليزية والعربية ً
َّ الجملة الالتينية غير واضحة، (((15
عجائب الدنيا السبع كانت قائمة في زمن سينيكا. (((15
يلمح سينيكا إلى مذهب االحتراق ecpyrosisالرواقي. (((16
ثالث مدن دمرها الرومان قرطاجة وكورنثة عام 146ق.م ونومانتانيا Numantiaعام 133ق.م. (((16
ال يوجد شيء خارج العالم ،ولذلك ال يوجد مكان تقع فيه. (((16
131
تفرضها الطبيعة التي تدعو كل شيء لنفس النهاية؟ أو يحاول أن ينقذ أهل
بيت بعينه من دمار يهدد العالم ذاته؟
إن ما يواسينا هو أن نفكر فيما قد يحدث في النفس على أن الجميع يعانيه 4-1
وسوف يعانيه ،ويبدو لي أن الطبيعة قد اتخذت أفجع شيء فعلته وجعلته
كليا ،وحتى تكون معاملة القدر مساوية للجميع ،فإن بعض التعزية لقسوة
ًّ
القدر.
وسوف يعينك إلى حد كبير إن كنت تفكر أن أحزانك ال تفيدك أو تنفع من 1-2
تفقده بمرارة ،فأنت ال ترغب في متاعب ال طائل منها ،وإن كنا نعقد أي أمل
على اليأس فلن أعترض على أن أذرف الدموع المتبقية من مصيبتي لك(،((16
واآلن سأجد شيئًا يمكن أن يتدفق من هذه األعين التي جفت من النحيب إذا
خيرا.
كان قد يسبب هذا لك ً
معا أو باألحرى أن أكون أنا المدعي «والكل ينظر
وماذا تنتظر؟ دعونا نشكو ً 2-2
للحظ على أنه ظالم ،وكشفتين أنك تحتضنين هذا اإلنسان ،والذي بفضلك
قد فاز بهذه المهابة التي لم يجلب ظفرها أي حسد– وهذا أمر يندر أن يحدث
ألحد ،وانظر لقد أصبته بالحزن األكبر الذي قاساه حين كان القيصر على قيد
الحياة ،وبعد التحقق الدقيق من كل زاوية أدركت أن في هذه المرحلة كان
يعري لك مصائبك.
وأي شيء قد صنعت فيه؟ هل سرقت ماله؟ إنه لم يكن عبدً ا له ،حتى ينأى 3-2
عنه قدر اإلمكان ،رغم أنه يسهل عليه كسب المال ،وأكبر فائدة يسعى إليها
منه هي أنه يحتقره.
هل سلبته أصدقاءه؟ إنك تعلم أنه محبوب للغاية ،ومن السهل عليه أن 4-2
132
يستبدل الذين فقدتهم بآخرين؛ ألني رأيت هؤالء يمارسون السلطة في القصر
اإلمبراطوري ،وأعتقد أنني لم أجد أحدً ا منهم صوا ًبا يمكن يدفع نفوس الناس
للبحث عن صداقتهم ،فالرغبة تقودهم بقوة.
وهل سلبت سمعته الطيبة؟ يقينًا لم تهتز من جانبك ،فهل سلبت صحته 5-2
الحسنة؟ إنك عرفت أن أساسه قوي في الدراسات الحرة( ،((16والتي لم
تطوقه في نشأته فحسب بل منذ ميالده ،والتي يترفع بها عن كل ألم جسدي.
وهل سلبته أنفاسه؟ وكم ضئيل ما سببته له من ضرر! لقد وعدته الشهرة بحياة 6-2
مديدة لموهبته األدبية ،لقد بذل كل شيء ليضمن أنه صمد مع الجزء األول
لنفسه( ،((16وأنه سيحمي نفسه من الفناء بأعمال األدب البارزة التي كتبها،
وما دام الشرف قد دفعه لألدب وما دام بقيت قوة اللغة الالتينية وأناقة اليونان،
فإنه سوف يزهو بجانب العمالقة الذين يباري موهبتهم بموهبته ،أو إذا رفض
تواضعه هذا الوصف فسيكرس نفسه له.
دعونا نضيف لهذه الشكاوي -إن أحببت -أن مواهب الشاب قد ُتختزل 1-3
أخا ،ويقينًا تستحق ألاَّ تعاني
بمجرد أن يبدأ تطورها ،لقد استحق أن تتخذه ً
حز ًنا حتى ألخ ال يستحق ،إنه تلقى الثناء نفسه من الجميع ،فالناس يحزنون
( ((16كانت اآلداب الحرة هي الموضوعات التي يكفلها التعليم العام ،وقد وضعت معايير في وقت الحق ليشمل التعليم
(أساسا لدراسة األدب) والجدل والخطابة والهندسة والحساب والموسيقى والفلك.
ً القواعد
( ((16هذا مع عقله.
133
إطراء لإلنسان ذاته.
ً عليه ثناء لك ،وهم يثنون عليه
خيرا،
خيرا حتى لألخ األقل ً
وما من شيء فيه يشقيك لتسلم به ،وقد تكون ً 2-3
ولكن حبك فيه أخذ النوع الصواب للمادي ،وجرى بطيب نفس ،ولم يختبر
أحد قدرته لضررهم ،إنه لم يستعمل حقيقة أنه أخوه ليهدد أي أحد ،وقولب
نفسه على مثال ضبط نفسك ،واعتاد أن يفكر على الطريقة التي رباك بها أهلك
ليس لمجرد االختالف الكبير ،بل الحمل الكبير للمسؤولية ،فقد كان قو ًّيا بما
فيه الكفاية لتحمل الحمل.
ويا لقساوة أقدار الذين ال يتعاملون مع الفضيلة باعتدال! لقد اختُطف أخوك 3-3
شكواي ضعيفة؛ ألنه ال شيء
َ قبل أن يتعلم من حسن حظه ،إنني أعلم أن
ٍ
كلمات تتناسب مع الحزن الكبير ،ومع ذلك فإن أعظم صعوب ًة من أن تجد
كنت فاعلاً للخير دعنا نشتكي.
هل البراءة ُيحكم عليها بقوانين ال فائدة منها؟ هل هو تقليد قديم لعدم 5-3
الفائدة ،أم اعتدال في الحظ الحسن ،أم ضبط أقصى للذات ُيبقي عليه حين
امتالك السلطة القصوى ،أم حب أصيل ومأمون لألدب( ،((16أم عقل متحرر
من أي نوع للزلل؟ بوليبيوس حزين ومتحسر من حالة أخ واحد فيما يمكن أن
يخشاه على اآلخرين ،إنه خائف على الناس الذين يوفرون الراحة لحزنه ،يا له
( ((16يعتبر األدب مسعى أكثر أمنًا من السياسة أو أي مجال من مجاالت الحياة العامة.
134
مستبشرا!
ً ٍ
مضن ،حين يحزن بوليبيوس ويعانس وينظر إليه القيصر ٍ
شيء من
كنت تتطلع إليه وهو الحظ المجازف– وهو برهان بأن ال
شك ما َ وهذا دون ٍّ
أحد يمكن أن يحميك وال حتى القيصر.
يمكننا أن نمضي في اتهام األقدار ،ولكن يمكننا أن نغيرها ،فهي ال تزال قاسي ًة 1-4
وال ترحم ،وال أحد يمكن أن يؤثر عليها بالسباب وال النحيب وال مناقشة
حجتها ،وهي ال تستثني أحدً ا ،وال تدعهم يخرجون عن حوزتها ،ولذلك
دعونا نتجنب الدموع التي ال تحقق شيئًا؛ ألن هذا الحزن سوف ُيضيفنا إلى
أعداد الموتى بدلاً من أن يعيدهم إلينا ،وهو يعذبنا وال يعيننا ،ولذا علينا أن
ننحيه جان ًبا في الحال ،وعلينا أن ننقذ عقولنا من الحزن الفارغ ومن الرغبة
المؤلمة له .وإن لم يضع العقل نهاية لدموعنا ،فإن الحظ لن يكون موات ًيا.
تعال نستقصي البشرية جمعاء ،وكل مكان قد تجده وار ًفا ،وواصل األسباب 2-4
للدموع ،حيث يستدعي الفقر المضني ً
امرأ ما للواجب اليومي ،وآخر يعذبه
طموح ال يسكن أبدً ا ،وآخر يخشى الثروات التي تضرع لها ،وترهقه بما كان
يتوق إليها ،وآخر ُيعذب بالقلق ،وآخر بالعمل ،وآخر بالجماهير التي ُتحاصر
فناءه باستمرار ،وهذا يحزن ألن له أطفالاً ،وهذا ألنه فقد أطفاله .إن دموعنا
سوف تستنزف أقرب من أسبابنا للحزن.
أال ترى نوع الحياة الذي وعدتنا الطبيعة به حين قررت أن أول ما يفعله البشر 3-4
عند والدتهم هو البكاء(((16؟ هذه بدايتنا حين قدمنا للعالم ،ويتبع تسلسل
السنون كلها هذا النمط ،ونحن نعيش حيواتنا على هذه الحدود ،ولذا علينا
أن نمارس االعتدال ،ونقوم بما يجب علينا القيام به في الغالب ،ونرمي خلفنا
كل صور الحزن التي على كواهلنا وتهددنا ،وينبغي لنا إن لم نضع حدًّ ا كاملاً
لدموعنا فعلى األقل نحتجزها ،وألاَّ نستعمل شيئًا بأكثر مما نحتاجه غال ًبا.
135
إرضاء من الشخص
ً سوف ُتعان ً
كثيرا بالتفكير في أن ال أحد يجد حزنك أقل 1-5
الذى يبدو أنك تنغمس في مصلحته ،وهو ال يريدك في عذاب أو ال يعي أنك
معذب ،ولذلك ليس من سبب أن تقدم خدم ًة بقدر ما يهتم المنتفع إن كان ال
يعيها وال لزوم لها ،وإن كان يعيها فهي مرغوبة.
إني أؤكد وبجرأة بأنه ال أحد في العالم كله يستمتع بدموعك ،وهل تعتقد أن 2-5
أخاك يتبنى موق ًفا نحوك لم يقم به أحد ويضرك بتعذيبك ،ويرغب في صرفك
عن عملك ودراساتك والقيصر؟ وهذا ليس محتملاً ؛ ألنه أظهر لك الحب
المناسب لألخ ،واإلخالص المناسب لألب ،واالحترام المناسب لما هو
أسمى ،وهو يرغب أن تنساه ،ولكن ال يرغب أن يسبب لك األلم ،وما الفائدة
من وهن الحزن إذا كان لدى األموات أي وعي ،ويرغب أخوك أن تكون له
نهاية؟
هل كنت أتعامل مع أخ آخر تبدو نواياه الحسنة موضع ريب ،وسوف أعامل 3-5
كل هذا على أنه مشكوك فيه ،وسوف أقول« :إذا كان أخوك يريد أن يعذبك
بدموع ال نهاية لها ،فهو ال يستحق هذا العاطفة ،وإذا كان ال يرغب هذا ،فدع
معا ،وال ينبغي التفجع على األخ غير المحبوب بهذه
الحزن الذي يطاردكما ً
الطريقة ،وال يرغب المحبوب أن يكون هكذا» ،ولكن في حالته حيث إن حبه
قد ثبت تما ًما ،فعلينا أن نوقن أنه ال شيء يضايقه أكثر من رؤية سوء حظه
يضايقك ،وأنه جعلك تعاني بأي شكل ،وأدمع عينيك التي ال تستحق هذا
األلم والتشويه والجفاف دون نهاية لنحيبها.
وال شيء يحول حبك عن هذه الدموع غير المجدية على نحو فعال سوى 4-5
أن تعطي إلخوانك مثالاً على كيف يتحملون بشجاعة جرح الحظ الذي
أصابهم ،فعندما صارت األمور على نحو سيئ مع قادة عظام ،تعمدوا أن
ُيظهروا أنهم مبتهجون ويخفون األخبار السيئة بإظهار السعادة ،خشية إذا رأى
136
الجنود معنويات قادتهم تنهار فسينهارون كذلك ،وهذا ما يجب عليك فعله
اآلن.
تعبيرا ينطوي حالة عقلك ،وإن استطعت أن تتخلص من أحزانك تما ًما،
ً وضع 5-5
وإن لم تستطع خ ِّبئها داخلك حتى ال ُترى ،واحذر أن يقلدك إخوانك؛ ألنهم
يعتقدون أن أي سلوك يالحظونه فيك صحيح ،وسوف ينهلون الشجاعة من
والمعزِّ ي ،وليس بمقدورك أن تمنع
تعبيرك ،وينبغي أن تكون لهم التعزية ُ
نواحهم إذا ُأعطيت حرية المنع لك.
وشيء آخر يمنعك من الحداد المفرط ،وهو تذكير نفسك أن ال شيء تفعله 1-6
مهما يجب عليك
دورا ًّ
يمكن تخفيه عن األنظار ،لقد منحك الرأي العام ً
االلتزام به ،وهناك مجموعة من الجماهير يقفون حولك يقدمون الخدمة
وعم إذا كنت
ويدققون عقلك ويالحظون مقدار قوته حين يواجه الحزنَّ ،
حسنًا في التعامل مع ظروفك المواتية ،أو تواجه المعكوس منها كرجل ،إنهم
يراقبون عينيك.
حرا لتتقصى
و َمن يخفون مشاعرهم يتمتعون بحرية أكبر ،وأنت لست ًّ 2-6
األسرار ،لقد وضعك الحظ في النور المشرق ،فالجميع يعلم كيف كنت
تتصرف بعد هذه المصيبة ،سواء إذا كنت وضعت أسلحتك بمجرد أن أصبت
أم وقفت على األرض ،وقد أعالك حب القيصر ،وقد أعزتك مواصلة األدب
شائعا ،وما البذاءة
ً إلى مستوى أسمى ،فما كان يناسبك ليس شيئًا عاد ًّيا وال
واألنوثة التي تستهلكك بالحزن؟
لن ُيسمح لك أن تتصرف مثل إخوتك ،مع أن خسارتكم متساوية ،ولن تسمح 3-6
لك السمعة التي اكتسبتها كتاباتك وشخصيتك من فعل أشياء كثيرة ،فالناس
يطلبون منك ويتوقعون الكثير ،وإن كنت ترغب أن تتصرف كما تحب فال
تلفت انتباه الجميع نحوك ،وكما آلت األمور عليك أن تسلم ما وعدت به،
137
فكل الذين يثنون على ما أنتجته في األدب ،والذين ينسخونه ،والذين ال
يريدون حظك ويرغبون في قدرتك يضعون عقلك تحت المراقبة ،وليس
بمقدورك أن تقوم بشيء ال يليق بهدوئك؛ ألنك تربيت بسمو ،وألنك إنسان
متعلم ،وع َّل َ
مت ،دون أن يندم كثير من الناس على إعجابهم بك.
لن يحق لك أن تبكي إطال ًقا ،وهذا ليس هو الشيء الوحيد الذي لم ُيسمح 4-6
لك عمله :فلن يحق لك أن تنام في طرف الصباح أو تهرب من صخب العمل
إلى الراحة فتنسحب إلى مالذ ريفي هادئ ،أو حين ينهك جسدك باستمرار
مراقبتك في موضع طلب منك لتستعيده بعطلة ممتعة بالخارج ،أو تسعى
لتسلية عقلية بأنواعها المختلفة أو تنظم يومك كما يحلو لك ،لن يسمحك
لك بعمل أشياء عدة ،قد ُيسمح ألحقر الناس بعملها في أحلك الظروف،
فالحظ العظيم عبودية عظيمة.
وال يحق لك أن تفعل أي شيء كما يحلو لك ،وعليك أن تسمع آالف الناس، 5-6
وتنظم آالف الوثائق ،وتفحص تراكمات األعمال التي جمعت من كل أنحاء
العالم ،ويمكن لفت انتباه إمبراطورنا المرموق باألمر المناسب ،وأخبرك ال
يحق لك البكاء ،وأنت في حاجة إلى أن تسمع ألناس كثر بكائين ،واستمع
لطلبات أناس كثر يقيمون محاكمة ،ويتوقون للحصول على رحمة قيصرنا
المبجل ،وتقوم على كل ما يجفف دموعك.
وقد تعاملت مع عالجات معتدلة رغم أنها معينة ،ولكن حين ترغب أن تنسى 1-7
كل شيء فكر في القيصر ،وانظر لما فيه والء عظيم ومثابرة قوية تدينك
بالعودة لما فيه صالحك ،فسوف تدرك أنه ال يقع على كاهلك أكبر مما يقع
على أكتاف العالم– أو كذلك تقول األساطير(.((16
138
إن قيصر ذاته يحق له أن يفعل كل شيء ،ومن ثم لهذا السبب هناك أشياء عدة 2-7
ال يحق له أن يفعلها ،فيقظته تحمي نوم اآلخرين ،وعمله الشاق راحة للكل،
كرس
ومثابرته ملذات لآلخرين ،ونشاطه الدائم عهد حرية للجميع ،ومنذ أن َّ
قيصر للعالم سلب نفسه من نفسه ،مثل النجوم التي تتبع مساراتها دون راحة،
فال يحق له أن يتوقف أو يفعل شيئًا لنفسه.
وهكذا قد تفرض عليك الضرورة نفسها بمدى معين ،فال يجوز لك أن 3-7
تلتفت لمصلحتك وتأمالتك فحسب ،وفي حين يسيطر القيصر على العالم ال
تستطيع أن تكرس طر ًفا من نفسك للملذات أو األلم أو أي شيء آخر ،إنك
مدين بوجودك كله للقيصر.
عالجا أقوى ،بل أكثر خصوصي ًة لك ،حين تذهب إلى البيت
ً لن أصف لك 1-8
نح الحزن جان ًبا ،حتى ال يتمكن من الوصول إليك طالما تتطلع إلى ألوهيتك،
ِّ
سوف ُيشغل القيصر إخالصك ،ولكن حين تتركه كما لو سلمت للحزن
مسترخ.
ٍ تدريجيا إلى عقلك وهي
ًّ فرص ًة فيحاصر وحدتك ويزحف
وعليك ألاَّ تدع لحظة دون أن ُتشغلها بتأمالتك ،وفي هذه الفترة دع األدب 2-8
الذي أحببته طويلاً وارجع إلى الفضل بوفاء ،وفي هذه الفترة دع األدب
يحميك بكاهنه ومتعبده ،وفي هذه الفترة دع هوميروس وفيرجيل فهم خدموا
جنس البشر كما خدمتهم واآلخرون ،وإن أردت أن تجعلهم معروفين لقراء
139
أكثر من الذين كتبوا لهم( ،((16دعهم يتريثون في رفقتك :فكل الوقت الذي
واكتب في هذا الزمن ما
ْ عهدت به للحفاظ على سالمتهم سيكون آمنًا،
يمكنك فعله حول ما أنجزه قيصرك ،حتى يمرروها عبر العصور بالرسول
في أسرته ،وحين تصبح هناك صياغة لتاريخ وكتابة ،فسوف يكون هو ذاته
ونموذجا(.((17
ً موضوعا
ً الشخص األفضل الذي يقدم لك
لن أغامر لتحصل على مؤلف بأسلوبك المعتاد المقبول والخرافات 3-8
والقصص من أيسوب ،Aesopوهذا أسلوب أدبي لم تعهده الموهبة
الرومانية( ،((17ويقينًا يصعب على عقلك أن يجد طري ًقا لتباشر هذه الصور
الخفيفة من األدب بعد أن تلقت صدمة شديدة ،ولكن خذها دليلاً لعقلك
الذي قوي ُ
وط ِّور بالفعل إن كان يمكن أن ينتقل من أشكال الكتابة الجادة إلى
هذه الكتابة المبسطة.
كثيرا منها
وبالنسبة للنوع األول قد تشتت ذهنك ظالمية الموضوع ،رغم أن ً 4-8
ال يزال منحر ًفا ويكدح مع ذاته ،ولكن ال يحتمل عقلك األعمال التي يلطف
مريح حتى لو كانت مكتملة مع ذاتها في جانب واحد ،ولذلك
ٌ تعبير
ٌ تأليفها
تحتاج أولاً أن تمارسها على موضوع صارم ،وتتحول بعد ذلك إلى نظام
ألطف بشيء أخف.
( ((16ترجم بوليبوس هوميروس إلى الالتينية وترجم فيرجيل إلى اليونانية.
( ((17كان كالوديوس يكتب في التاريخ الروماني واألتروسكاني والقرطاجي.
( ((17يتجاهل سينيكا عمدً ا أو جهلاً األساطير الخرافية لفايدروس ،والتي ُكتبت في عهد تيبريوس.
140
بالرجل الخ ِّير ال يكون معدو ًدا.
وإن كان الحزن على حاله ،وبالضرورة أن أحكم بأحد البديلين التاليين لتكون 2-9
هي الحالة ،إن لم يكن للميت أي إحساس ،فإن أخي قد نجا من كل مساوئ
الحياة ،وهو يستعيد الحالة التي كان عليها قبل أن يولد ،وهي التحرر من كل
شر وال يخشى شيئًا وال يرغب في شيء وال يعاني شيئًا ،فما هذا الجنون؟ أال
تتوقف عن الحزن على َمن ال يحزن؟
هل يزن معك إنه يبدو قد خسر البركات العظيمة حينما كانت تتنزل عليه؟ 4-9
حين تظن أن هناك أشياء عدة قد غابت عنه ،وأن هناك أشياء كثيرة ال يخاف
منها ،وال يعذبه الغضب وال يصيبه المرض وال تساوره الشكوك ،ولن يالحقه
الحسد الذي ُيعادي نجاحات اآلخرين ،ولن يزعجه الخوف ،ولن يزعزعه
تقلب الحظ الذي ُيعيد توجيه هباته عاجلاً في مكان آخر ،وإن أعتبت لما
سبق ،فإنه صرف ما هو مكبوت أكثر من كونه ُحرم منه.
لن تتمتع بحظ وال نفوذ سواء أنت أو هو ،ولن يتلقى فضلاً ولن يمنحه ،وهل 5-9
تعتقد أنه تعيس؛ ألنه فقد كل هذا أو مبارك ألنه لم يفقده؟ وصدقني ،إن المرء
الذي عنده حسن الحظ ليس بالضرورة أكثر نعم ًة ممن امتلكه في قبضته ،وكل
( ((17تشمل كلمة اإللهي هنا األجرام السماوية التي تعتبر من منظور واسع كائنات إلهية.
141
األشياء التي تبهجنا بجاذبية هي ملذات خادعة ،فالمال والشرف والسلطة
وأشياء أخرى عدة من التي ُتغري جنس البشر تجلب المتاعب لمالكيها،
وهي مرأى للحسد ،وتضطهد َمن تميزهم ،ويزيد خطرها على نفعها ،وهي
زلقة وال يعول عليها ،والقبض عليها غير مأمون ،وحتى لو افترضنا أنها ال
توجد في المستقبل ،فالحفاظ على الرفاهية الممدودة في حد ذاته عمل مثير
للقلق.
وإن كنت تعتقد أن هؤالء لهم رؤية أكثر عم ًقا للحقيقة؛ فكل الحياة عقاب، 6-9
وإدبارا ،ويرفعنا في
ً فقد ُألقينا في عمق البحر المائج ،والذي يتدفق مده إقبالاً
لحظة لمكاسب فجأ ًة ،و ُيجرنا لألسفل لخسائر أعظم ،ويتقاذفنا على الدوام
فال نستقر في موضع ثابت ،بل نتأرجح ونموج جيئ ًة وذها ًبا ،ونتصادم بعضنا
ببعض ،ونعاني غرق السفينة من آن آلخر ،ونخاف من البحر على الدوام،
وبينما نجوب البحر العاصف نتعرض لكل العواصف ،وال مرسى سوى
الموت.
حر ومأمون
فال تحسد أخاك على حاله ،إنه في حال الراحة ،على األقل هو ٌّ 7-9
وأبدي ،إنه نجا من قيصر وذريته( ،((17ونجا منك وإخوتك الذين تقاسمهم،
وقبل أن تسحب الثروة طر ًفا من فضله ،فإنه تخلى عنها ،بينما كانت ال تزال
بجانبه ويكوم العطايا بأيدي المن.
اآلن يستمتع بالسماء المطلق من هذا المنخفض ،فقد صعد من البقعة الغويطة 8-9
إلى فوق إلى ذلك المكان ،ومهما كان يرحب باألنفس المحررة من قيودها
إلى أحضانها المباركة ،اآلن يتجول هناك بحرية ،إنك مخطئ ،إن أخاك لم
نورا أنقى ،كلنا نتشاطر الرحلة هناك ،فلماذا نولول
ُيسلب ضياؤه بل اكتسب ً
( ((17حين كان سينيكا يكتب هذه الرسالة ،كان لكالوديوس ثالثة أطفال وهم :أنطونيا Antoniaمن زواجه الثاني بإيليا باتينا
، Aelia Paetinaوأوكتافيا وبريتاننيكوس Britannicusمن زواجه الثالث بميساللينا .Messallina
142
على الموت؟ إنه لم يفارقنا بل مضى قد ًما لألعالي ،صدقني ،إن في حتمية
الموت سعادة بالغة ،وال نوقن في شيء حتى بقية يومنا ،وحينما ُتكفر الحقيقة
فمن الذي بمقدوره أن يخمن إن كان أخوك قد استاء من الموت أم
وتغمضَ ،
رغبه في قلبه؟
1-10إن أفعالك تتجذر دو ًما من شعور قوي بالعدالة ،ولذا أنت مرهون بأن ُتحصل
مزيدً ا من الراحة من هذا الفكر ،فأنت ال ُتعاني ً
ظلما حين فقدت هذا األخ ،بل
منحت فضلاً حين ُسمح لك بأن تتمتع بالثناء على حبه لفترة طويلة.
2-10وليس عدلاً ألاَّ تدع المعطي يحتكم العطية ،ومن الجشع ألاَّ تعد ما تلقيته
مكس ًبا ،بل تعد ما ُرد إليك خسارة ،والجاحد َمن يطلب كف لذة الظلم،
واألحمق َمن يعتقد أن األشياء الحسنة ليس لها جدوى باستثناء ما كان منها
موجو ًدا ،والذين ال يستمدون الرضى األقصى منها حين تمر عليهم يفشلون
في إدراك أن األشياء ال تطول ملكيتنا لها أعظم موثوقية ،حيث ال حاجة
بالنسبة لهم من الخوف من أن ُتقبل على النهاية.
3-10وأ ًّيا ما يعتقد أن يستفيد فقط من شيء ملكه أو يراه ،و َمن ينظر أن ما ملكه بال
قيمة ،وهي نظرة مفرطة للفرح؛ ألن الملذات تهجرنا على عجل وتتالشى
تقري ًبا قبل وصولها ،لذلك على عقلنا أن يركز على الماضي ،وكل شيء قد
أبهجنا علينا أن نستدعيه ونكرره في أفكارنا ،فذاكرة الملذات أطول دوا ًما
وأكثر وثو ًقا من وجودها.
4-10لذلك اعتبر أن لك مثل هذا األخ الجميل من أكبر نعمك ،وعليك ألاَّ تفكر في
المدة التي لم تملكه فيها ،بل في المدة التي ملكته فيها ،وإخوتك مثل باقي
الناس ،فالطبيعة لم تمنحك ملكيته ،بل أعارته لك( ،((17وتطلب منه العودة
143
إليها حين يناسبها ،وال يرشدها فاعلية استمتاعك به بل قانونها.
5-10وهل َمن ينزعج من رد المال المقرض إليه وخاصة المال يستعمله دون فائدة
يعتبر منص ًفا؟ إن الطبيعة منحتك حياة أخيك ،ومنحتك إياها وإن مارست
مبكرا وال تالم؛ ألن حدودها معروفة ،ويكمن
ً حقوقها لطلبت الدين من المرء
مرارا ماهية الطبيعة ،وال
ً اللوم في آمال العقول البشرية الجشعة التي تنسى
تذكيرا.
ً تتذكر حالها إلاَّ حين تتلقى
َ
وارض بتمتعك به ،رغم أن المتعة كانت أقصر 6-10وافرح بأن لك مثل هذا األخ،
مما تريد ،واعتبر أن حقيقة أنك ملكته بهجة بالغة وأنك فقدته كإنسان ،وما
ً
تناقضا من امرئ ينزعج من أنه قد ُمنح مثل هذا األخ لفترة من شيء أشد
قصيرة ،وال يسعد على أي حال أنه قد منح إياه.
« 1-11ولكن قد ُخطف ،ولم أتوقع هذا» .إن الناس مخدعون لسذاجتهم ،وبالنسبة
لهؤالء ينسيهم حبهم عمدً ا بشريتهم ،وقد قررت الطبيعة ألاَّ تمنح أحدً ا ح ًّقا
يوميا جنازات ألناس نعرفهم وال نعرفهم
من متطلباتها ،فقد تمر أمامنا أعيننا ًّ
وال نولي اهتما ًما ،ونعتبر غير المتوقع الذي قد سمعناه في حياتنا سوف
ظلما من القدر ،بل انحراف العقل البشرى برغبته
يحدث ،ولذلك هذا ليس ً
النهمة لكل شيء ،الذي يشتكي من مفارقة المكان الذي قد استحسنه.
2-11كم كان معتدلاً ذلك الذي سمع خبر موت ابنه ،ونطق كلمات جديرة برجل
علمت أنه سيموت» ،ولن يفاجئ هذا الرجل على
ُ عظيم« :عندما ُولِ َد لي،
اإلطالق ،كان له ولد قادر على أن يموت بشجاعة ،ولن يتعامل مع موت ابنه
على أنه خبر غير متوقع ،فهل ما هو غير متوقع عن اإلنسان يموت في حين أن
الحياة كلها مجرد رحلة نحو الموت؟
( ((17يقتبس سينيكا شذرة من التراجيديا الرومانية لمؤلف غير معروف ،كما اقتبسها أيضا شيشرون في Tusculan
Disputations 3.28, 58بتصرف ،وهي تقول“ :عند الوالدة رفع األب الروماني المولود عن األرض ،وهذا اعتراف
رسمي بأن المولود هو طفله”.
عرا.
ً ِ
ش وليست ا نثر
ً وفيرجيل لهوميروس ( ((17كانت ترجمات بوليبوس
145
واطلع كيف كان الملهم رعدً ا لكلماتك القوية ،وسوف تخجل من أن
ْ ْ
اقرأ 6-11
تمضي ُقد ًما في بعضها ،وستتخلى عن عظمة كتابتك القوية ،ولن تؤيد هؤالء
الذين أعجبوا بكتاباتك على اإلطالق ،ويتساءلون كيف لهذا العقل الضعيف
أن يتصور شيئًا قو ًّيا وثابتًا.
1-12وبدلاً من ذلك تحول عن األشياء التي تعذبك إلى مصادر عدة عظيمة تمتلكها
للراحة ،انظر إلى إخوتك الباهرين ،وانظر إلى زوجتك ،وانظر إلى ابنك ،لقد
جميعا( ،((17ولديك أناس
ً اتفق الحظ معك على أن تدفع مقابل سعادتهم
ٍ
امرئ يفكر أن المصدر عدة يمكن أن تجد فيهم الراحة ،وتجنب عيب كل
الوحيد للحزن يعد عندك أعظم من كل مصادر هذه التعزية.
2-12وسوف تراهم قد صدموا مثلك وال يستطيعون عونك ،والحقيقة أنك تدرك
تعليما وموهب ًة منك ،فمن
ً أنهم يتطلعون إلى دعمك ،وبما أنهم كانوا أقل
الضرورة أن تتحمل المعاناة التي تواجهكم جميعا ،وهذا شكل للراحة
لمشاركة حزن المرء مع اآلخرين ،حيث ُيوزع الحزن على كثير من الناس،
ويبقى طر ًفا ضئيلاً منه عندك فقط.
( ((17صورة مالية :الحظ هو الدائن الذي يطلق سراح المدين المتعثر عن دفع جزء مستحق مما يدان به في مقابل أن يدفع ثمن
حياة أخيه ،وبمقدور بوليبوس أن يحافظ على حياة أقاربه اآلخرين.
146
4-12عليك أن تفكر فيه ،وتنظر إليه ليل نهار وال تحول انتباهك عنه ،وعليك أن
تنشد عونك ضد الحظ ،وأنا ال أشك في عظم سخائه وخيره للقريبين منه،
لقد ضمد جروحك هذه بصنوف عدة من العزاء ،وكدس أدوية شتى لتقاوم
ألمك ،وبجانب ذلك حتى لو افترضت أنه لم يفعل هذه األمور ،أليس مجرد
رؤية قيصر وفكره راحة كاملة لك؟
1-13فض يدك عنه والحظ وال ُتظهر قوتك عليه إال في الجانب النافع ،واسمح له
أن يعالج جنس البشر الذي طال عياه وسقمه ،وأسمح له أن يسترجع ويحيي
ما دمره اإلمبراطور السابق( ،((18وهذا النجم الذي هوى على العالم بزغ في
الهاوية وغرق في الظالم وأضاء لألبد(.((18
( ((17وقد شاع هذا اإلطراء في اإلمبراطورية الرومانية ،حيث منزلة اإلمبراطور الحقة بين األرباب ،ولكن الكاتب يناشده أن
يبقى على األرض بقدر الممكن.
( ((17توفي أوغسطس في عمر السادسة والسبعين ،وكان كالوديوس في الخمسينيات من عمره عندما كتب سينيكا هذه
الرسالة.
( ((18االبن المقصود هو بريتاننيكوس ،والذي كانت أمه ميسالينا الزوجة الثالثة لكالوديوس ،ولد بريتاننيكوس عام 41م
بعد زواج كالوديوس بأجريببينا ،Agrippinaوقد ر ُقى ابنها نيرونن فوق بريتاننيكوس والذي قتله نيرونن عام 55م
إمبراطورا بعد هذه الحادثة بعام ،ورأى كالوديوس أن بريتاننيكوس خليفة له
ً وف ًقا للمصادر القديمة ،وأصبح نيرونن
بعد موته وصعد للسماء.
ُ
( ((18كانا يوليوس قيصر وأوغسطس من أسالف كالوديوس وألهوا ،وتتبع أصولهم إلى فينوس ،ولكن عائلته تشير إلى
األرباب عمو ًما.
( ((18كان كاليجوال هو اإلمبراطور السابق حيث حكم من 41-37م.
شائعا في اإلمبراطورية ،حيث مقارنة الحاكم بالنجم.
( ((18كان اإلطراء ً
147
2-13وأصلح جرمانيا( ،((18وفتح بريطانيا( ،((18وقاد لالنتصارات مثل والده(،((18
وانتصارات جديدة ،والفضيلة التي احتلت مكا ًنا بين فضائله هي رحمته التي
متفرجا على هذه االنتصارات( ،((18ألنه لم يوقعني دون
ً صبرت بأنني أكون
يكون على استعداد ليرفعني أو األحرى لم يوقعني ح ًّقا ،بل حين هاجمني
الحظ وقد سقطت أمسك بي ،وحين كنت أندفع بسرعة نحو الدمار منحني
ً
هبوطا لطي ًفا بلمسة من يده اإللهية ،فتوسط لي في السوناتو ،وهو لم ٍ
بلطف
يمنحني قط حياتي بل تشفع لها.
3-13أنا أترك األمر له ،فدعه يفكر كيفما يشاء في حالتي ،فإما تبين عدالته أنه
أفضل أو تجعله رحمته أفضل ،والفضل يعني الشيء نفسه لي ،سواء أكان
يعرف أنني بريء أم أتمنى أن أكون كذلك ،وإنها لراحة بالغة لتعاستي أن ترى
رحمته تتخلل العالم كله ،ومن هذه الزاوية التي دفنت فيها والتي دفنت بالفعل
أناسا عدة غمرتهم المصيبة منذ سنوات عدة وأعادهم للنور ،فأنا لست خائ ًفا؛
ً
ألنني الوحيد الذي سيتجاهله ،ولكنه هو فحسب َمن يعلم الوقت المناسب
الذي ينقذ فيه كل واحد ،وسأبذل كل جهدي ألضمن أنه لن يخجل حين
يحين دوري.
4-13يا لرحمتك المباركة أيها القيصر ،فبفضلك يعيش المستبعدون حياة هادئة
تحت إمرتك أكثر من قيادة المواطنين التي فعلها جايوس تحت قيادته! فهم
( ((18هزم جابينيوس سيكوندس الكوشي ،the Chauciوهي قبيلة جرمانية في عهد كالوديوس ،كما قام جنايوس دوميتوس
كوربيلو Gnaeus Domitius Corbuloبحملة ضد الكوشي في 47م ،ومن المحتمل أنها بعد كتابة هذا العمل.
( ((18قاد كالوديوس غزوة ناجحة إلى بريطانيا عام 43ق.م ،وقد كتبت هذه الفقرة قبل هذه الغزوة أو على األقل قبل وصول
األخبار إلى سينيكا في كورسيكا.
( ((18قام دروسوس Drususوالد كالوديوس بحملة في جرمانيا من عام 12حتى وفاته عام ،9وفاز بشارة النصر ،واحتفل
كالوديوس بالنصر بعد غزوة بريطانيا.
( ((18يقرر سيتونيوس Suetoniusفى كتابه The Life of Claudius 34.3أن كالوديوس سمح لبعض المنفيين بالعودة إلى
روما لرؤية أنتصاره ،ولكن لم يكن سينيكا بينهم.
148
ليسوا خائفين ،وال ينتظرون السيف كل ساعة ،وال يرتعدون في كل مرة
يشاهدون فيها السفينة ،وبفضلك هم ال يستمتعون بوضع حدٍّ لوحشية الحظ
بل باألمل في تحسينه ،وراحة البال حين يبقى الحظ كما هو ،ويمكن للمرء
أن يخبر الصواعق برمتها عندما ُتعبد حتى من الذين ضربتهم(.((18
ٍ
امرئ ،استعاد معنوياتك 1-14ولذلك هذا اإلمبراطور هو مصدر الراحة الكلي لكل
بالفعل إن لم أكن مخطئًا ،وجرب لجرحك أدوية أعظم ،لقد استعمل بالفعل
كل الوسائل ليمنحك القوة ،لقد ملك ح ًّقا ذاكرة قوية تستدعي كل السوابق
التي تحثك نحو االتزان ،وشرح ح ًّقا تهاذيب كل الفالسفة ببالغته المعهودة.
2-14وال يمكن ألحد أن يؤدي دور المعزي بشكل أفضل ،فحين يتكلم يكون
للكلمات وقع خاص ،كما لو كان ينطق بالوحي ،فإن سلطته اإللهية سوف
تسحق كل قوى حزنك ،ولذلك تخيل أنه يقول لك« :إن الحظ لم يخترك
لوحدك ليخضعك لقسوة الحزن ،ولم ُتعف أسرة في العالم بأسره من الحداد
على امرئ ما ،وسوف أمر على أمثلة بسيطة ،حتى لو كانت أقل داللة فهى ال
تزال وافرة ،وسوف أنقلك إلى تقويمنا العام والسنوي(.((18
3-14هل ترى هذه الصور التي ُملئت بآهات atriumالقياصرة؟ وكل واحد منهم
جدير بالذكر لبعض مصائب قومه ،وكل واحد من هذه النجوم التي جلبت
التميز للقرون السابقة قد ابتُلي بالحزن لفقد أقاربه أو شعر أقاربه بالكرب
تجاهه.
( ((18الصواعق التي يستعملها جوبتر في األساطير على نطاق واسع ،وهي مجاز مألو للعقوبة التي يفرضها األباطرة ،وتقام
الطقوس الدينية التراثية في روما في أى بقعة ضربها البرق.
( ((18التقويم العام والفاستي the Fastiهو السجل الرسمي للقضاة الذين يتقلدون فيه المنصب كل عام ،وتشير السجالت
العامة إلى الوقائع األعظم annales maximiالتي يسجلها الكاهن األعظم pontifex maximusفي الجمهوريات
ً
مؤرخا .انظر المبكرة والمتوسطة ،وعلى األرجح يشير إلى األعمال التاريخية الرومانية ،حيث كان كالوديوس نفسه
2.8أعاله.
149
هل تحتاج أن أذكرك بسكيبيو اإلفريقي الذي سمع عن وفاة أخيه في 4-14
المنفى(((19؟ وهذا األخ الذي أنقذ أخاه من السجن لم يستطع أن ينقذه من
واضحا ،ففي اليوم نفسه الذي خطف
ً القدر ،وكان تعصب اإلفريقي لحب أخيه
فيه أخاه من يدي مسؤولي المحكمة ،ورفض منبر الشعب رغم أنه كان مواطنًا
جند ًّيا( ،((19ولكن ندب خسارته ألخيه بالشجاعة نفسها التي قد دافع بها عنه.
( ((19هذا هو بوبليوس كورنيلوس سكيبيو اإلفريقي األكبر Publius Cornelius Scipio Africanus the Elderالذي
هزم حنبعل ،وهو أخو لوكيوس كورنيلوس سكيبيو أسيجينيس ،Lucius Cornelius Scipio Asiagenesومن
المحتمل أن يكون بعض الكتاب على صواب حين يقولون إن بوبليوس قد توفي قبل لوكيوس ،ومن المحتمل أن
بوبليوس ذهب للمنفى الطوعي عام 180ق.م ليتجنب المحاكمة ،وتوفي في العام الذي يليه.
( ((19أنقذ بوبليوس أخاه قبل أن ُينفى بسنين قليلة ،والتاريخ بالضبط غير مؤكد ،ومن يحكم في المنصة يمكن أن يكون له
حق التصويت في منصة أخرى.
( ((19هذا هو أفريكانو األصغر Publius Cornelius Scipio Aemilianus Africanus Numantinusابن لوكيوس
إيميلوس باولوس Lucius Aemilius Paullusوتنبي بالتالي ابن أفريكانو األكبر ،واحتفل أبوه الطبيعي بالنصر بعد
هزيمته لبوروس Perseusعام 167ق.م ،وتُوفي االبن األول بعد خمسة أيام من االحتفال بالنصر ،وتُوفي االبن اآلخر
بعد ثالثة أيام من االحتفال.
( ((19دمر سكيبيو قرطاجة عام 146ق.م.
( ((19لوكيوس ليكينيوس لوكيلليوس Lucius Licinius Lucullusالذي قاد الجيش الروماني في الحرب الميترادكية الثالثة
Third Mithradatic Warوتوفي عام 55أو 56ق.م ،وأخوه ماركوس ليكينيوس لوكيلليوس Marcus Licinius
.Lucullus
ُ
( ((19أبناء بومبيوس المعظم (بومبي العظيم) جنايوس بومبيوس المعظم األصغر (الذي أعدم بعد معركة موندا عام 45ق.م)
وسكتوس بومبيوس المعظم (الذي ُأعدم عام 35ق.م بعد هزيمته في معركة نايلوكوس .)Naulochus
150
نجى أخته التي
بالكارثة نفسها؟ وسكتوس بومبيوس َّ Sextus Pompeius
معا على نحو حسن في روما(،((19
بموتها ارتدت أواصر السالم التي شكالها ً
إنه نجى أخاه الفاضل الذي أقامه الحظ ليطيح به من مكان ال يقل ارتفاعا من
الذى أسقط منه والده ،وال يزال سكتوس بومبيوس بعد هذه المحنة يؤكد أنه
كفأ للحزن فحسب بل للحرب ً
أيضا. ليس ً
2-15وهناك أمثلة ال حصر لها ألشقاء فرق الموت بينهم ،أو وضعهم في اتجاه
معا ،وسأكتفي بأمثلة من
معاكس ،فبالكاد ترى إخوة قد تقدموا في السن ً
عائلتنا ،لم يفتقر أحدهم لملكة الحكم والحس الحسن ليشتكي بأن الحزن
قد يلحق بشخص آخر عندما يعلم أن الحظ قد أصاب دموع القياصرة.
( ((19تمثل هذه الجملة إشكالية؛ ألن أخته كانت بومبيا Pompeiaالتي تزوجت سولال ،لذا لم يكن لوفاتها تأثير يوصف هنا،
ويفترض أحيا ًنا أن سينيكا كان يفكر بارتباك في موت جوليا أخت يوليوس قيصر ،إنها تزوجت بومبي العظيم عام 59
ق.م ،ودعمت التحالف بين بومبي وقيصر ،وكانت وفاتها عام 54ق.م بمثابة حافز النهيار التحالف ،وكانت الزوجة
الثانية لبومبي ،ولذلك زوجة لألب وليس أختًا ،وأخوا بومبي محل نقاش هنا ،ومن المحتمل أن سينيكا يشير إلى الطفلة
ابنة بومبي وجوليا والتي لم تكن شقيقة لألخوين ،لقد توفيت جوليا أثناء والدة هذه الطفلة التي ماتت بعدها بأيام قليلة
الحقة.
( ((19توفيت أوكتافيا عام 11ق.م ،وابنها ماررسيلوس توفي عام 23ق.م.
( ((19كانوا أصهار مارسيللوس وأجريبا ،وكان أحفادهم جايوس ولوكيوس قيصر ،وكان لديه طفل وحيد هو ابنته جوليا،
وماتت في المنفى ،وربما يفكر سينيكا في جايوس ولوكيوس هنا ً
أيضا؛ ألنه تبناهما كأبناء (انظر الهامش اآلتي)..
151
4-15جايوس قيصر ابن وحفيد أوغسطس اإللهي( ((19وخالي( ((20ف َق َد في سنوات
رجولته المبكرة -وهو قائد للشباب -أخاه المحبوب لوكيوس ،Luciusوهو
عاطفيا أشد
ًّ جرحا
ً زعيم للشباب في االستعدادات لحرب بارثيا( ،((20وعانى
مؤخرا ،وتحمل الحب والشجاعة
ً ألما من الجرح الجسدي الذي ألم به
ً
العالقين في آن.
1-16وكان جدي ماركوس أنطونيو Marcus Antoniusال مثيل له ،سوى الرجل
الذي هزمه حين أعاد تنظيم الدولة ،وحين خولت له السلطة الثالثية ولم يسلم
بالسلطة األعلى ،والحقيقة أنه كان ينظر في كل شيء في الحكم بعيدً ا عن
رفيقيه ،لقد سمع أن أخيه قد ُقتل(.((20
2-16أيها الحظ العاثر كيف تروق لك معاناة اإلنسان! ففي الوقت الذي كان يحكم
فيه ماركوس أنطونيو على حياة مواطنيه وموتهمُ ،نفذ حكم اإلعدام على
( ((19كان حفيدً ا بالوالدة (ابن أجريبا وجوليا وابنة أوغسطس) ابن بالتبني.
( ((20كان العم األكبر لكالوديوس (ابنته أنطونيا كانت ابنة أوكتافيا أخت أوغسطس)
رسميا.
ًّ ( ((20تلقى كليهما لقب قائد الشباب princeps iuuentutisعام 2م ،وكان لق ًبا
ً
( ((20ماركوس أنطونيوس والد أم كالوديوس ،وشكلت أنطونيا حكومة الثالثة مع أوكتافيان وأوغسطس الحقا وماركوس
ليبيدوس ،Marcus Lepidusوقد هزمه أوغسطس عام 31ق.م ،و ُقتل أخوه جايوس أنطونيوس عام 42ق.م.
152
أخيه ،وتحمل ماركوس أنطونيو الجرح القاسي بالشجاعة نفسها التي تحمل
بها المحن كلها ،وقدم في حداد أخيه قربانا بدماء عشرين فيل ًقا(.((20
3-16وحتى أمر على كل األمثلة األخرى ،وأتجاهل وفيات اآلخرين التي تأثرت
بها ،فإن الحظ هاجمني مرتين لحزني على أخي ،وعلمني في المرتين ال
يمكن أن أصاب أو أهزم( .((20فقدت أخي جرامانيكوس ،وأي امرئ يرى
ما كرست لكل اإلخوة المخلصين اآلخرين سوف ُيدرك بسهولة ما كرسته
له ،ولكني سيطرت على مشاعري حتى ال أنسى شيئًا قد يطلبه أخ حسن ،ولم
أفعل شيئًا يمكن أن ُينتقد في اإلمبراطور.
4-16وكذلك تخيل راعي قومه يقدم لك هذه األمثلة ويبين لك أنه ال شيء مقدس
وكل شيء ينتهكه الحظ ،الذي ملك الجرأة ليؤدي مواكب الجنازات من
البيت الذي ُقصد فيه السعي عن األرباب ،فال يفاجئ أحدً ا إن تصرف بقسوة
أو بظلم ،فهل تعلم له أي حس لإلنصاف ،أو أنه يتراجع في تعامله مع البيوت
الخاصة حين تؤرق وحشيته العنيدة مضاجع األرباب بالموت؟
5-16وربما ال تلعنه أصواتنا فحسب ،بل أصوات الناس أجمعها ،ومع ذلك ال
يتغير شيء ،وسوف تقف علله أمام صلواتنا وشكوانا ،وهذه هي الطريقة التي
تصرف بها تجاه البشر والتي سوف يتصرف بها ،لم يترك شيئًا إال اخترقه ،ولن
صحيحا ،إنه سوف يهتاج في كل ٍ
أين كما يفعل دو ًما حتى يصيبه، ً يغادر شيئًا
موضعا أنه يدخل تلك المنازل التي تضاهي المعابد،
ً وحتى قد تبلغ الصفاقة به
وسوف يعلق على مداخل األبواب المفسطنة بالغار قماش أسود(.((20
( ((20يشير إلى هزيمة جيوش بروتوس وكاسيوس في فيليببي Philippiعام 42ق.م.
( ((20من المحير أن يوصف الحظ كمهاجم مرتين ،ولكن جيرمانيكوس هو األخ الوحيد المذكور ،ولكن يصف تاكيتوس
صحيحا.
ً فى The Annals 2.82كيف وصال عام 19نبأ وفاة جيرمانيكوس إلى روما ،التقرير األول كان ً
خطأ والثاني
( ((20كان مدخل القصر اإلمبراطوري يشبه المعبد ،حيث نمت شجرة الغار أمامه.
153
6-16دعونا نسعى للحصول هذا الطلب الوحيد منه بالنذور العامة والصلوات
إذا لم يقرر بعد أن يختزل جنس البشر إلى ال شيء ،وإذا كان ال يزال ينظر
بإيجاب على اسم روما :فهذا اإلمبراطور كان هبة لعالم اإلنسان المرهق،
ولذلك رغب في تبجليه وقدسه ،كما يفعل البشر كلهم ،فيتعلمون الرحمة
منه ،وتحلى بلطف األباطرة كلهم.
1-17انظر إلى كل هؤالء الذين ذكرتهم للتو الذين صعدوا للسماء أو اقتربوا منها،
إن الحظ لم يكف يده عن الذين ُنقسم بأسمائهم( ،((20وعليك أن تتفاعل
برباطة جأش حين تمتد يده إليك ً
أيضا ،وعليك أن تتحلى بإصرار الذين
تحملوا أحزانهم وتغلبوا عليها ،بالقدر الذي يحق لك فيه أن تسير على خطى
األلوهية.
ذكرت كل القياصرة الذين سلبهم الحظ إخوتهم وأخواتهم، ُ 3-17وحيث إنني
وليس بمقدوري أن ُأسقط أحدً ا من الذين شطبوا من كل قوائم القياصرة،
والذين خلقتهم الطبيعة لجلب الخراب والعار على جنس البشر ،والذين
حرقوا اإلمبراطورية ودمروها جمل ًة ،واستردتها اآلن رحمة إمبراطورنا
الكريم.
( ((20في الفترة اإلمبراطورية حلف الناس اليمين لإلمبراطور الحالي ،وألوغسطس بعد وفاته.
154
4-17حين فقد جايوس قيصر أخته دروسيلال ،((20( Drusillaلم يزد رفيقه الحزن
أكثر من المرح مثلما فعل اإلمبراطور ،وولى اإلمبراطور النظر ورفقة مواطنيه،
ولم يلحق بجنازة أخته ،ولم تقم لها الشعائر الجنائزية الواجبة ،وخفف صدمة
هذه الفجيعة المؤلمة بإقامته في ألبا Albaبالنرد ولعب القمار وغيرها من
األمور المثيرة لالشمئزاز( ،((20يا له من عار على اإلمبراطورية! القمار هو
عزاء اإلمبراطور الروماني الذي حزن على أخته!
5-17وجايوس نفسه بتقلبه المجنون أطلق لحيته وشعره ،وهام على وجهه بطول
شواطئ إيطاليا وصقلية ،ولم يوقن إن كان يرغب الحزن على أخته أم يعبدها،
في حين كان يقيم لها المعابد والتكايا( ،((20وكان يوقع أقسى العقوبة على
َمن ال يحزنون عليها بما فيه الكفاية؛ ألنه تحمل الشدائد باالفتقار إلى ضبط
النفس ،فعندما صدمته األحداث تبجح بما هو خارج عن حدود اللياقة
اإلنسانية.
6-17وعلى الرجل الروماني أن يتجنب على سبيل المثال الحزن المثير لالشمئزاز
بفوارج مسلية غير مالئمة ،أو يلهب أحزانه بمالبس حداد وقحة ومظهر فظ،
أو يستمتع بأحزانه بمعاناة اآلخرين ،أو شكل ال إنساني من الراحة.
1-18وأنت لست في حاجة إلى أن تغير سلوكك المعتاد على اإلطالق ،حيث
بدأت تكرس ذاتك للدراسات التي تزيد من سعادتك وتقلص بيسر مصائبك
التي تجلب السمو األعظم والراحة األسمى لإلنسان ،لذا اغرس نفسك في
دراساتك بعمق اآلنَ ،
وأ ِح ْط نفسك بها اآلن ،مثل التحصينات لعقلك ،بحيث
ال يجد الحزن طري ًقا له في أي اتجاه.
155
2-18أدم ذكر أخيك في بعض متون أدبك ،فهذا هو المنتج الوحيد الذي ال تضر به
عاصفة وال يتلفه طول الزمن في حياة اإلنسان ،فأثار اآلخرين شيدت من ُبنى
الحجر وكتل الرخام ،أو ُشيدت من ركام تراب قد اعتلى ،وهذه اآلثار ال تكفل
البقاء الطويل؛ ألنها فانية ال محالة ،والبناء التذكاري باألدب العبقري خالد،
فأغدق على أخيك واذكره ليسكن في هذا ،فمن األفضل لك أن تحتفي به في
عبقريتك األدبية ،التي ُيقدر لها أن تدوم لألبد بدلاً من أن ترثيه بحزن ال معنى له.
3-18أما بالنسبة للحظ ذاته؛ فإن حالته ال يمكن الدفاع عنها في هذه اللحظة أمامك
– كل ما قدم لنا يدفعنا لكراهيته ألنه يخطف الشيء بعينه بعيدً ا -ومع ذلك
أنت في حاجة لتدافع عن الحظ بمجرد أن يمكنك الزمن لتحكم بطريقة أكثر
عدلاً ،ومن ثم سوف يكون بمقدورك المصالحة معه ،فإنه وضع تدابير شتى
لعالج هذا الضرر ،وسوف يمنحك في المستقبل عطايا عدة لتعوضك عنه،
وفي النهاية قد يعطيك هو ذاته ما أخذه منك.
4-18فال توظف موهبتك ضد نفسك ،وال تدافع عن حزنك ،فقد تصنع بالغتك
األشياء الصغيرة عظيمة ،وقد تقلص ما هو عظيم فيبدو ضئيلاً ،وحافظ على
قوى موهبتك لمناسبة أخرى ،وكرسها بكليتها لعزائك ،ومن ثم احترس إن
كان هذا غير ضروري اآلن ،فالطبيعة تطلب منا بعض الحزن ،ولكن تتزيد فيه
أنفسنا بفخر فارغ.
5-18لن أطلب منك ألاَّ تحزن مطل ًقا ،رغم أنني أعلم أنه بمقدور المرء أن يجد
رجالاً قسا ًة بدلاً من حكمة جسورة يقولون إن الحكيم ال يشعر بأي حزن(،((21
ويبدو أنهم لم يواجهوا مثل هذا النوع من الشدائد أبدً ا ،وقد يطرح الحظ
( ((21هذا هو الرأي الرواقي ،ولكن سينيكا ينأى بنفسه عن وجهة النظر الصارمة التي ترى أن الحكيم ليس لديه مشاعر على
اإلطالق ،ويعتنق مذهب أرسطو المعتدل الذي يرى على سبيل المثال على المرء أن ينأى بنفسه عن االنفعاالت المفرطة
كما يقول فى .6.18
156
فلسفتهم المتجبرة خارجهم ،ويجبرهم على االعتراف بالحق رغما عنهم.
6-18وسوف يحقق العقل ما يكفي إذا استأصل ببساطة أي حزن ال طائل منه وال
لزوم له ،وال ينبغي لهذا العقل أن يسمح للحزن أن ُيحيي على اإلطالق شيئًا
ال يأمله أحدٌ أو يرغب فيه ،ودع العقل بدلاً أن من يبقى في منتصف الطريق ال
ال يعاني فيه تشابه في افتقار الحب أو افتقار سالمة العقل ،ودعه يبقينا في إطار
الفكر محبوبين وال نكره :حيث يدع الدموع تتدفق وال يدعها تتوقف ،ويدع
التأوهات تخرج من أعماق القلب ،ويدعها تصل إلى نهاية ،أبق عقلك تحت
السيطرة بطريقة تفوز فيها باستحسان كل من الحكيم وإخوتك.
8-18فكر في تواضعه ،وفي دهائه حين ُيقبل على العمل ،وفي طاقته إلنجاز األمور،
واستدع لفائدتك كل
ِ وموثقيته حين يتعلق األمر بالوعود ،ومر على اآلخرين
ما قاله وما فعله ،وفكر فيما كان يحبه ،والتمنيات التي يكنها له ،فهل هناك
شيء ليس بمقدور المرء أن يعد به بثقة فيما يتعلق بهذا األخ؟
ٌ
9-18لقد كتبت هذا بأفضل ما استطعت بعقل ُمجهد ومخدر بعدم االستعمال
الطويل ،وإذا كانت كلماتي تبدو ال تناسب عقلك ،وال تالئم عالج حزنك،
ٌ
منشغل بمعاناته ،وكيف ال ففكر كيف يتحرر المرء وهو ُيعزي ً
امرأ آخر وهو
تأتي الكلمات الالتينية بسهولة عند ثرثرة البرابرة غير المفهومة ،وحتى حين
تحضرا وصعوب ًة(.((21
ً تجدها آذان البرابرة األكثر
( ((21تستدعي الخاتمة نهاية كتاب أوفيد ،Ovid’s Tristia book 3 (3.14.47–52حيث يشتكي الشاعر من األصوات
الغريبة التي تحيط به في مكان في منفاه.
157
158
ِق َ�ص ُر الحياة
159
160
مقدمة
من المحتمل أن بولينيوس Paulinusالذي افتُتحت به الرسالة هو بومبيوس
بولينيوس ،Pompeius Paulinusوهو فارس من أريليت Arelateوهي آرلس
حدي ًثا ،وكان خاز ًنا الذرة من 55- 48ق.م ،ومسؤولاً عن إمداد الحبوب الرومانية،
ومن المقبول عمو ًما أنه كان والد بومبيا بولينا Pompeia Paulinaزوجة سينيكا (cf.
) ، Tacitus Annals 15.60.4وبالنظر إلى نصائح سينيكا المباشرة إلى باولينيوس
للتقاعد عن وظيفته المهمة ( ،)19.2–18.1يبدو أن العمل قد ُأ ِّرخ في 55-48
ً
منهمكا فيها في الحياة العامة وسياسات البالط بعد عودته من تلك الفترة التي سينيكا
المنفى عام ،49وإذا قبل هذا التأريخ ،فإن هنالك معضلتين يفرضان نفسهما على
الفور ،األولى بالنسبة للذين ينجذبون لعقالنية نصائح سينيكا لباولينيوس في التقاعد
فلسفيا ليس لباولينيوس
ًّ عن وظيفته في الدولة ،فكيف للخيار العملي أن يكون انسحا ًبا
فحسب (ناهيك عن الدولة التي يخدمها) بل لقراء سينيكا الكثر القدامى والمعاصرين
وسط كل مسؤوليات الحياة وتحدياتها؟ والثانية كيف يخرج سينيكا من تهمة المداجاة
لحث باولينيوس على التقاعد في السنوات التي انخرط هو نفسه فيها في البالط؟
ربما تكون اإلثارة المطلقة لكال السؤالين هو أفضل إجابة عليهما ،حيث إن
نصائح سينيكا إلى باولينيوس ذات جدوى إذا أحدثت له ولنا ًّ
خطا للرجوع من مسيرة
الحياة التي تسير بال هوادة ،لتقيم جذر ًّيا بديلاً لترتيب أولويات وجودنا ،ونفكر في
استعماالتنا اليومية ونقسم زمننا ،وقد صنف الرواقيون الزمن الواقعي ال الال مادي
161
كأحد الال ماديات األربعة ،بجانب «ما يمكن القول عنه ”sayableالخالء والمكان،
إال أن سينيكا في هذه الرسالة يتصور الزمن كما لو كان سلعة مادية أو شكلاً للملكية
التي يمكن أخذها وردها أو اكتنازها أو إنفاقها أو حفظها أو إهدارها(-)cf. 3.1, 8.1
وهو منهج مادي يتصور فيه الزمن عملة بقيمة انتقالية ويحتاج إلى ميزانية دقيقة،
وهكذا يدخل الزمن المجال األخالقي؛ ألن الحرية الباطنة عند الرواقية تعتمد على
سيطرتنا على الزمن ،وهنا فإن الفاعلية اإليجابية التي يغرسها سينيكا بالحث يمكن أن
ُتسترجع من نهب اآلخرين( )cf. 2.4–5بغرس درب جديد مبني على العيش “الحق
اآلن”( ،)9.1وبتعزيز عدم التهاون مع الزمن المفقود باإلذعان للرذيلة(،)cf. 2.1–2
أو المشاركة غير المجدية في السخافة ( .)13.9–12.2وأسلوبه الرشيق يجمع
أخالقيا ،والتوجه اللطيف واإليجاز الحكيم وقص الطرفة،
ًّ محاور السخط المبرر
ويؤكد هذا في حد ذاته إلحاحه على نقده الالذع لقيمة الزمن ،وتعصب الصوت الذي
يشارك التفاؤل الجوهري للعمل الذي يصر بأن هناك طري ًقا آخر.
والتمييز الذي يصنعه في رسالة وقت الفراغ On Leisureبين جمهور العامة
المحليين وما يقابلهم في المدينة العالمية الكونية ( )2–4.1يتوازى بالتناقض مع ما
يصنعه في رسالة قصر الحياة On the Shortness of Lifeبين واجبات باولينيوس الشاقة
“استدع عقلك المفعم بالحيوية ...من
ِ من عمله خازن وهو يقول في 1-19و:2-18
الوظيفة المرموقة ح ًّقا ،ولكن من الصعب أن ُتبقي على الحياة السعيدة” .وبين المساعي
المستنيرة التي تنتظره في التقاعد الفلسفي وهو يقول في “ :2-19عليك أن تتخلى عن
المستوى الدنيوي ،وتحول عين عقلك إلى هذه الدراسات” ،والتحول الملحوظ في
المنظور الذي استحثه في 1.2-19في اتجاهين قد سبق له عرضهما في الرسالة،
واالتجاه األول في الفصل األول حتى التاسع حيث شجبه للزمن الضائع باالنشغاالت
المضللة لكل وسائل الراحة والمداهنة حيث يستريح باولينيوس باإلبعاد ،وبالتالي
بقرائه من المخالفين الذين يحصيهم ،وتلك االنشغاالت التي تداهننا لتفض عنا
162
عصب حياتنا ،و ُنخضع أنفسنا لتدقيق معذب للزمن المهدر والذي يوجهنا سينيكا إليه
في حوار خيالي .3.2-3واالتجاه الثاني من الفصل العاشر 2-10حتى الفصل -17
،6ورغم التحول المعلن فى فى 1-10من الشجب الصريح إلى المقاربة االستداللية،
درسا وهو أنهم لم يعفوا من الفقد” ،وتتواصل نبرة
“على المنشغلين أن يتعلموا ً
الشجب عند سينيكا في استقصائه للزمن المهدر على المساعي التافهة في الفصل من
،12-11ولكن في هذه الفصول ذاتها تنعرج بتحول االتجاه للتركيز في 1.14على
هذه الجهود الفلسفية والتي تدلل على الحياة الحقة في وقت الفراغ ،وعلى النقيض من
المنشغلين وأبرزهم من بين جمهور العامة الروماني الذي ينفع بلهفة من التزام بعينه
إلى آخر في دائرة التذلالت اليومية ( ،)3 -4-14تبنى سينيكا أسلو ًبا رمز ًّيا ليوفق بين
رعاة الفلسفة مثل سقراط وكارنيادس Carneadesوبين أبيقور أو زينون ،14- 5-2
وخال ًفا للرعاية المعهودة فإن هذا األسلوب للرعاية متحرر على نحو متناقض ،ويحرر
الفيلسوف من أن يعيش على نحو أستاذه في السيطرة على ماضيه وحاضره ومستقبله
،5-15وهذه اآلثار المتحررة تقرب المشاركة في المدينة الكونية الكبيرة.
ومن هذا المنظور األسمى لحالة باولينيوس كخازن للذرة ،ومهما كان سام ًيا
من جانب واحد فإنه يتشابه في جانب آخر لهذا التابع الم ُثقل في الفصل ،14حيث
تنتظره الخدمة األسمى إن حقق االستغناء من كل القيود واالنشغاالت اليومية ،وكل
التكهنات عما إذا كان أنصت بالفعل للتقاعد بإقناع سينيكا ،والمسألة الجوهرية اإلثارة
التي يطرحها سينيكا لتسوية المواقف بمعالجة شخصية باولينيوس البارزة من وجهة
نظر راديكالية ،وحتى لوكان سينيكا ذاته كان في المنصب في زمن كتابة هذه الرسالة،
فإن تهمة النفاق كما يزعم مسألة ثانوية مقارنة بقيمة هذا النداء إلى اليقظة والعودة
إلى الحياة ،وربما ال ينظر إلى رسالة قصر الحياة على المداجاة بل المداجاة تجسيدً ا
لرسالته ،ألن سينيكا حتى لو كان منشغلاً في خضم البالط فإنه يمارس بكتابته الوعي
الذاتي عن قيمة الزمن الذي تروج له أطروحته في اآلخرين.
163
:لمزيد من القراءة
Griffin, M. T. 1962. “De Brevitate Vitae.” JRS 52:104–13.
Williams, G. D., ed. 2003. Seneca: “De Otio,” “De Brevitate Vitae”
(Cambridge: Cambridge University Press), esp. 18–25.
164
يا بولينيوس ،Paulinusيشكو معظم البشر دناءة الطبيعة؛ ألن مدى الحياة 1-1
المقسوم لنا قصير للغاية ،وألن هذا المدى من الزمن الذي ُأعطي لنا يسير
سريعا ،حتى مع االستثناءات القليلة تتخلى الحياة عن البقية منا
ً مجراه عاجلاً
حين نكون على استعداد للعيش ،وليست الجماهير والحشود غير المتخيلة
كليا فحسب ،بل تجد الشعور نفسه حتى عند
شرا ًّ
هي التي تشكو مما يعتبرونه ًّ
أناس متمايزين ،ومن ثم جاء القول المأثور ألعظم الطبيعيين “الحياة قصيرة
وفن طويل”(.((21
( ((21القول األول المأثور ألبيقراط الخيوسي Hippocrates of Cosوهو معاصر لسقراط في أواخر القرن الخامس قبل
الميالد.
( ((21ينسب شيشرون هذا الرأي ( )Tusculan Disputations 3.69لثيوفراسطس رفيق أرسطو وتابعه ،وربما أخطأ في
النسبة ،إذ لم يذكر سينيكا عمدً ا أن حضور أرسطو هنا أثقل وز ًنا من أبقراط.
165
وليست الحياة التي ُمنحناها قصيرة ،ولكننا جعلناها كذلك ،ولسنا في معاش 4-1
والم ْع ِجبة ُتبدد في لحظة حين
السخية ُ
عليل بل ضيعنا الحياة ،كما أن الثروة َّ
الو َك َالة ،ولكنها تتنامى باعتدال بانتقال حريص إذا
ننفقها في أيدي الفقراء بِ َ
عهدنا بها لولي مسؤول ،وكذلك زمن حياتنا يوفر مجالاً أرحب َ
لمن يخطط
له بشكل حسن.
لماذا نشكو الطبيعة؟ إنها خدمت بسخاء ،فإن تعلمت كيف تستعمل الحياة 1-2
حبيس في قبضة نهم البخل ،وآخر في نوع الكد
ٌ فهي طويلة ،ولكن أحدهم
الذي يشغل ذاته بمغامرات ال طائل منها ،فهذا ثمل بالخمر وآخر راكد
بالكسل ،وهذا أنهكه طموحه السياسي الذي يتقيد بحكم اآلخرين دو ًما في
حين أن رغبة اآلخرين ُم ّتقدة لتجارة تقودهم بتهور فوق كل وطن وكل بحر
بأمل المنفعة ،ويولعون بتعذيب بعض الناس المكافحين الذين ال يلحقون
ضررا أو يخشون الضرر على أنفسهم ،ويتزيا البعض باالستعباد
ً باآلخرين
الطوعي للحاشية الجاحدة.
والكثير منهم مهموم بالسعي وراء ثروة اآلخرين أو يشكو ما لديه ،والكثير 2-2
منهم ليس له غاية محددة في الحياة يتأرجح من عزم إلى آخر بتقلب جائل
غير مستقر وحتى غير راض مع ذاته ،والبعض ليس له غاية على اإلطالق تجاه
يوجه مساره ،ولكن الموت يأخذهم على حين غرة وهم يفغرون أفواههم
ما ِّ
ويتثاءبون ،وال أشك في حقيقة الكالم الذي يبدو نبو ًّيا وهو ألعظم الشعراء
«البخل طرف الحياة الذي نعيش فيه»(( ،)((21وكل ما تبقى من الوجود ليس
ً
عيشا بل مجرد زمن.
تحيط بنا الرذائل وتهاجمنا من كل حدب ،وال تسمح لنا أن نرتفع وتحجب 3-2
( ((21التقديم غير العمودي لشاعر تتنازع هويته ،راجع 2-9حيث أطلق على فيرجيل أنه أعظم الشعراء ،وفي Letters 63.2
أطلق على هوميروس أعظم شعراء اليونان ،وال يوجد أي أثر واضح للقول المأثور هنا.
166
أعيننا عن البصيرة الجلية للحقيقة وتحشيها وتبقيها منكسة وتثبتها على مجرد
مكن ضحاياها من العودة إلى ذواتهم الحقة ،ومن قبيل الصدفةالرغبة التي ال ُت ِّ
أن يجدوا بعض الراحة ،فهي تكورهم بال هوادة مثل البحر العميق الذي يستمر
موج ُه حتى بعد سكون الريح ،حيث ال يجدون راحة من رغباتهم.
َ
هل تعتقد أنني أتحدث عن الذين قد ُقبلت نقائصهم فحسب؟ انظر إلى هؤالء 4-2
الذين تستقطب رفاهيتهم الحشد ،وهم الذين اختنقوا من متعهم ،فكم صارت
ثرواتهم عبئًا! فكم استُنزفت دماؤهم بفصاحتهم! وانشغالهم اليومي بعرض
قدراتهم! وكم شحبوا من ملذاتهم المتواصلة! وكم تخلوا عن العديد من
تابعيهم المحاصرين! باختصار انظر إلى كل منهم من أسفل إلى أعلى ،فهذا
يستدعي المحامي ليدافع عن قضيته ،وآخر يلبي الدعوة ،وهذا يقف أمام
المحكمة ،وآخر يدافع ،وآخر يدير كالقاضي ،والكل يسايره لمصلحة أخرى
وال نصير له بالفعل ،واسأل عن المواطنين المؤثرين الذين ُحفرت أسماؤهم
بالمثابرة ،وسوف ترى التمايزات التالية توضح بعضها بعض ،فاألول يزرع
للثاني ،والثاني للثالث ،وال أحد يصدقه.
وأناس بعينهم ينفسون عن هيجان الغضب غير العاقل ،حيث يشكون غطرسة 5-2
جمهورا ،وهل يجرؤ أي أحد
ً رؤسائهم الذين احتفوا باستقبالهم حين أرادوا
وقت إلدانة نفسه؟ ولكن
على أن يشتكي غطرسة اآلخرين في حين ليس لديه ٌ
الرجل العظيم أحيا ًنا ينحني لينظر إليك مهما كان شخصك ،فهم مهيكلون
لسماع كلماتك ،ويسمح لك أن تسير جواره ،ولكنك لم تفكر إطال ًقا أن تنظر
لنفسك وتسمع لها ،وكذلك ال تملك سب ًبا لتتوقع ر ًّدا من أي أحد النتباهك
لنفسك ،حيث قدمت لهم؛ ليس ألنك تريد رفقة اآلخرين ،ولكن ألنه
بمقدورك مناجاة نفسك.
وتتفق كل العقول الالمعة التي أشرقت عبر العصور على غاية واحدة ،وهي 1-3
167
أنها ال تستطيع التعبير عن دهشتها بشكل كاف في هذا الضباب القاتم في
العقل البشري ،وال أحد يسمح ألحد أن يقدر ممتلكاته ،وإذا نشأ نزاع تافه
حول الحدود فإنهم يتراشقون بالحجارة ويتدافعون باألذرع ولكن يسمح
الناس لآلخرين أن يتعدوا على وجودهم ،أو باألحرى يصل بهم الحد لدعوة
من يريدون أن يأخذوا ممتلكات حياتهم ،ولن تجد أحدً ا على استعداد أن
يوزع ماله ولكن كم من الناس منا قد وزَّ ع حياته! فالناس ُممسكون في حراسة
ممتلكاتهم التي بمجرد أن ُتقبل ُتضيع الزمن ،وهم أكثر تطر ًفا بسلعة واحدة
التي ُتحترم بدافع الجشع.
وهكذا أود أن أتوج أحدً ا من الحشد القديم« :انظر إلى الحد الذي وصلت 2-3
إليه الحياة اإلنسانية التي قست عليك منذ مائة عام أو يزيد ،تعال اآلن ،وقدم
حياتك للتدقيق ،واحسب كم من الوقت قضيته مع المرابين والعشيقات
والغرماء والجمهور ،وكم من الوقت قد انصرم في الجدل مع زوجتك وفي
معاقبة أنفسكم وفي النقاش حول المدينة والواجبات االجتماعية ،وأضف
إلى حساباتك األمراض التي جلبناها ألنفسنا ،وكذلك الزمن الذي تبدد في
الخمول ،وسوف ترى أن سنونك أقل مما حسبت.
انظر إلى الوراء ،وتذكر حين كنت على يقين من غايتك ،وكم حولت األيام 3-3
القليلة ما كنت تنويه ،حين كان في إمرتك التدبير ،وحين كشف وجهك عن
تعبيره ،وحين كان عقلك خال ًيا من االضطراب ،فما اإلنجاز الذي يمكن أن
تدعيه في مثل هذه الحياة الطويلة ،وكم الذين نهبوا وجودك وأنت ال تعي ما
ضاع منك ،وكم من وقت ضيعته في معاناة وسخافة ومتعة ورغبة وجشع
ومفاتن للمجتمع ال أساس لها ،كم هو قليل ما تبقى لك من مخزون زمنك،
وعليك أن تدرك أنك قد تموت قبل أوانك!
وما السبب لهذا؟ إن نوعك يعيش كما لو كان يحيا لألبد ،ولم يدخل ضعفك 4-3
168
نظرا لكيف ينصرم الزمن بالفعل ،لقد ضيعت الزمن
لق ًالبشري رأسك ،ولم ُت ِ
مملوءا ليفيض ،واللحظة التي ُتعطى المرئ ما ربما
ً منبعا
كما لو أنه يأتي ً
تكون آخر لحظة له ،أنت مثل كل الفانيين في الخوف من كل األشياء ،وأنت
الم ْبتَغين كل شيء.
مثل الخالدين ُ
لقد سمعت الكثيرين يقولون« :بعد عامي الخمسين سأنسحب لحياة الراحة، 5-3
وبعد عامي الستين سأعتق نفسي من كل الواجبات» ،وإنني أتساءل هل تضمن
أن تمتد حياتك ألمد طويل؟ و َمن الذي سوف يسمح لترتيباتك أن تمضي
ُقد ًما وف ًقا للخطة التي رسمتها؟ ألم تخجل من أن تمنح نفسك بقية وجودك،
و ُت ْ
عين للفكر الفلسفي هذه الفترة من الزمن التي ال تقدر فيها على أي عمل؟
كم تأخرت في أن تبدأ العيش والحياة توشك على النهاية! ويا لسخافة النسيان
من موتانا؛ حيث يضعون الخطط الحكيمة لخمسينيينا وستينيينا أو أن يرغبوا
أن يبدأوا الحياة من النقطة التي وصل منها قلة!
وسوف تجد أن معظم الناس األقوياء في المكانة العالية يقطرون الكلمات في 1-4
تضرعهم من أجل الراحة ويثنون عليها ويفضلونها على كل النعم ،وأحيا ًنا
ينسحبون من رفاهيتهم إذا استطاعوا فعل ذلك بسالم دون اضطراب أو
صدام؛ فإن الحظ يحطم نفسه تحت ثقله.
إن أوغسطس اإللهي The divine Augustusالذي منحته أكثر من أي إنسان 2-4
لم يكف عن الصالة ليريح نفسه وليسعى لتحريرها من أعمال الدولة ،وكل
كالمه يرتد إلى هذه القضية وهي األمل في الراحة ،إنه يخفف كدَّ ه بهذه
وهما ومواسا ًة ،وسوف يعيش الفكر يوم ما لنفسه.
العزوبة حتى لو كانت ً
ففي الخطاب الذي أرسله إلى مجلس الشيوخ أكد على أن تقاعده ليس رغبة 3-4
في الكرامة وال يتعارض مع مكانته السابقة ،وقد عثرت على هذه الكلمات
منه“ :ولكن هذه األشياء أكثر إعجا ًبا في تحققها من تعهدها ،ومن ثم رغبتي
169
العميقة لهذا الزمن الذي صليت من أجله طويلاً تدفعني إلى توقع شيء ما
أبتهج فيه بمتعة الكلمات ،وال تزال متعة هذه الحقيقة بطيئة القدوم”(.((21
ويبدو الترفيه شيئًا مرغو ًبا فيه؛ ألنه لم يستمتع به في الواقع ،واستمتع في 4-4
التفكير به في البكور ،وهو من رأي أن العالم يعتمد عليه وعليه فحسب ،وهو
الذي حدد حظوظ األشخاص واألمم ،إنه كان سعيدً ا بالتطلع إلى هذا اليوم
الذي سيطرح فيه عظمته جان ًبا.
عرف بالتجربة ما اغتصبه الكدح منه بهذه النعم التي أضاءت العالم بأسره، 5-4
وعرف حجم القلق الخفي الذي تحجبه( ،((21وأجبر على التمسك بالسالح
مع مواطنيه في البداية ،ثم مع رفقائه ونهاية مع أقربائه ،لقد سفك الدم على
األرض والبحر ،ودفعته الحرب إلى مقدونيا وصقلية ومصر وسوريا وآسيا
وكل أرض معروفة على الغالب ،وحول جيوشه إلى حروب غريبة حين
تعبوا من ذبح الرومان ،وحين قهر جبال األلب واألعداء رسخ السالم في
قلب اإلمبراطورية ،وحينما كان يوسع حدوده إلى ما وراء الراين والفرات
وجه مورينا Murenaوكاييبو Caepioوليبيدوس Lepidus
والدانوب َّ
وأجناتيوس Egnatiusوغيرهم سيوفهم ضده في المدينة ذاتها.
( ((21الخطاب مفقود وسينيكا هو الشاهد الوحيد على وجوده ،وتاريخه غير واضح كعالقته الممكنة أو عالقته بالتقارير
التاريخية بتفكير أوغسطس للتقاعد في العقد األول من حكمه.
( ((21يمضى سينيكا في تقديم ملخص لتوحيد أوغسطس للسلطة من موت قيصر في 44ق.م حتى هزيمة أنطوني في أكتيوم
في ،31وتهدئة اإلمبراطورية القريبة (قبائل ألبانيا 7-6ق.م) وتوسعه لحدود اإلمبراطورية ،وهذا التوكيد على المكاسب
الظاهرية يتناقض بشكل كبير مع التهديد المتزايد الذي يقترب من المنزل في الفصل الرابع 6-5أولاً بالمشاكل الداخلية
في روما (بمؤامرات كل من أمييليوس ليبيدوس M. Aemilius Lepidusعام 29ق.م ،وفارو مورينا Varro Murena
وفاننيوس كايبو Fannius Caepioعام 23-22وإجناتيوس روفوس M. Egnatius Rufusعام ،)19ومن ثم الفتنة
في األسرة اإلمبراطورية نفسها بالعالقات الجنسية الخطيرة لجوليا ابنة أوغسطس التي ُنفيت عام 29ق.م.
170
الزنا كما لو كان ميثا ًقا للوالء ،وسببت له قل ًقا في سنوات ذبوله –كما فعل
إوللوس Iullusوالمرأة التي شكلت تهديدً ا مع أنطوني -((21( Antony
ولكن تنامى اآلخرون
ْ ولكنه استأصل هذه القروح وأطراف الحاشية الفاسدة،
في أماكنهم كما لو كانوا يتثاقلون بالدم ،وكان الجسد السياسي ينزف د ًما
تقري ًبا ،ولهذا السبب تضرع أوغسطوس من أجل الراحة ،ولماذا عثر على
الراحة من أعماله ،وقد أمل ذلك وفكر فيه ،وهذه هي صالة الرجل الذي سلم
بصلوات اآلخرين.
وقد أثار ماركوس شيشرون Marcus Ciceroعاصفة بين أمثال كاتيلين 1-5
Catilineوكالوديوس Clodiusمن كراسوس وبومبي ،حيث أعلنا له العداء
من جانب ،وهم أصدقاء مشكوك فيهم من جانب آخر( ،((21وكان مهمو ًما
بسفينة الدولة على الدوام ،وقد حاول أن يحفظ ثباتها كلما تحطمت ،ولكنه
ارتد في النهاية ،فلم يكن يسكن في الرخاء ولم يقدر على التحمل في المحنة،
فكم مرة لعن فيها قناصلته( ((21الذين مجدهم بال انقطاع ودون سبب!
وكم هي مثيرة للشفقة تلك الكلمات التي انتزعها من نفسه في رسالته إلى 2-5
أتيكوس Atticusعندما هزم بومبي األكبر ،وال يزال ابنه يحاول إحياء القوات
المحطمة فى إسبانيا( ،((22وهو يقول« :تسأل ماذا أفعل هنا؟» ،سأبقى في
( ((21أوللوس هو االبن الثاني ألنتوني ،والذي عوقب بالموت عام 2بتهمة الزنا مع جوليا التي ُقذفت هنا مثل كليوباترا الثانية.
( ((21أحبطت مؤامرة كاتلين لتحويل النظام الروماني بإسقاط سلطة مجلس الشيوخ األرستقراطية عن طريق شيشرون القنصل
في عام 63ق.م ،وشهد شيشرون عام 61ضد كالوديوس بولشير في المحكمة النتهاك العبادة األسرارية إللهة الخير،
و ُب ِّرئ بالرشوة ،وانتقم كالوديوس مدبر له المنفى عام ،58وكان بومبي وكراسوس حليفين وفي البداية كانا مع يوليوس
قيصر في الحكم الثالثي ،ووجد شيشرون بومبي صدي ًقا محل شك حين واجهه في المنفى عام .58
( - ((21على ما يبدو أنه تشويه من سينيكا ،فكتابات شيشرون الممتدة ال تعطي دليلاً لهذا االحتقار.
( ((22بعد هزيمة بومبي من قيصر في فارسالوس Pharsalusفي 48ق.م هزم ابنه األكبر جنايوس Gnaeusفي موندا
( Mundaإسبانيا) عام ،45ولكن التلميح قد يمتد إلى سيكتوس وأخي جنايوس الذي مدد النشاطات البومبية في
إسبانيا حتى بعد موت قيصر في .44
171
مقاطعة توسكوالن Tusculanنصف حر( ،((22وبعد ذلك ذهب إلى بومبيان
حيث حياته السابقة ،وظل يشكو الحاضر ويأسى من المستقبل.
172
ً
غامضا فيقال إنه خنق نفسه أو أنه سقط وحمال على بني طفولته ،وكان موته
فجأ ًة من جرح في فخده ،والبعض قد شك أنه خنق نفسه ولم يسعفه أحد في
الوقت المناسب.
ومن التزيد أن نذكر مزيدً ا من الشخصيات التي تبدو لآلخرين أنهم أسعد 3-6
الخالئق ،والذين شهدوا على أنفسهم ضد أنفسهم حين أعربوا عن كراهيتهم
المفرطة لكل عمل في حيواتهم ،ومن ثم لم تغيرهم هذه الشكاوي ولم تغير
غيرهم؛ ألن مشاعرهم عادت إلى وضعها الطبيعي بعد الفوران.
في الحقيقة لو امتدت حياتك أل ًفا من السنين أو يزيد ،ستُضغط إلى أقصر فترة 4-6
للزمن ،وسوف تبتلع رذائلك أي عدد من الزمن ،وتيقن أن هذه الفترة للزمن
يطيلها التدبير الحسن حتى وإن كانت طبيعتها العجل ،ويجب أن تفلت من
مسرعا؛ ألنك تفشل في تقديرها واقبض عليها مجد ًدا ،ولن تفعل شيئًا
ً حالتك
لتؤخر من سرعة األشياء ،ولكن اسمح لها أن تمضي كما لو كانت شيئًا ً
فائضا
يمكننا أن نسترده مرة أخرى.
وفي الحقيقة إن من أسوأ الحاالت -كما اعتقد أولئك -الذين يمنحون وقتهم 1-7
إلى ال شيء سوى الشراب والشهوة ،وهذه أعظم االنشغاالت خز ًيا على
ِ
يستول عليهم مظهر المجد فهو زائف مع وأناس آخرون حتى لو
ٌ اإلطالق،
أنه يمضي للضالل في نمط محترم ،ويمكنني أن أستشهد من جانبي بالناس
الجشعين الذين يسارعون للغضب ،أو الذين يشغلون ذواتهم بضغائن جائرة
أو حروب ،ولكن خطايا هؤالء ٌ
نمط يميل للرجولة؛ ألنهم هجروا البطن
والشهوة التي تحمل وصمة العار.
دقق في كل لحظة من حياة هؤالء الناس ،والحظ كم من الزمن يقضونه في 2-7
عناية العوارض ،وكم وقتًا صرفوا في وضع الفخاخ أو في التخويف منها،
وكم قضوا في استنبات اآلخرين أو يستنبتهم اآلخرون ،وكم قضوا في منح
173
الكفالة أو تلقيها ،وكم قضوا في حفالت العشاء التي صارت ذاتها عملاً ،
وسوف ترى أن هذه هي أعمالهم سواء أكانت حسن ًة أم سيئ ًة ،وامنحهم ال
زمن حتى يسحبوا أنفاسهم.
وخالصة القول :يتفق الجميع أن َمن يسعى لنشاط ويشغل نفسه ال يفلح في 3-7
بالغة وال فنون حرة؛ ألن العقل المشتت يركن إلى ال شيء حقيقي بعمق بل
يرفض كل ما هو واقعي ويسحقه إن جاز التعبير ،والال شيء يقلل من سمات
اإلنسان المنشغل أكثر بالعيش ،إذ ليس هناك معرفة قد تشقيه في الحصول
عليها ،فمعلمو اآلخرين االنضباط يأخذون درهمين ،ويمكن للصبية أن
يعلموا مدربيهم ويصبحوا أستاذة في حجرة التعليم كذلك ،فقد يعلمونهم
كيف يعيشون العمر ،وربما تندهش من هذا ،فإنك تقضي العمر كله لتتعلم
كيف تموت(.((22
ويطرح كثير من الناس في المناصب العالية كل أعبائهم جان ًبا ،ويتخلون عن 4-7
ثروتهم وأعمالهم ومتعهم ،ويعرجون للنهاية الحقيقية للحياة ويجعلونها
الغاية الوحيدة للعيش ،والغالبية منهم يرحلون عن الحياة معترفين بأنهم لم
يحصلوا على مثل هذه المعرفة بعد.
صدقوني ،إن داللة عظم اإلنسان في علوه على الضعف البشري وعدم 5-7
سماحه ألي طرف من عمره أن ُينتزع ،فحياة مثل هؤالء تمتد طويلاً ؛ ألنهم
أبقوا ألنفسهم من كل ما عاشوه ما هو نافع ،فليس فيه أرض مزروعة وغير
مزروعة ،وليس فيه شيء تحت إمرة اآلخرين ،بل هو الموجود الوصي على
عمره ،وال يجد شيئًا يستحق ليتحول من أجله ،فهذا اإلنسان قد حاز من الزمن
( ((22المفهوم الرواقي عن (تأمل الموت) أصوله أفالطونية على سبيل المثال (محاورة فيدون )Phaedo 67eوهو يقول“ :إن
مرارا ،على سبيل المثال في Letters 70.18,
الفالسفة الحق يمارسون الموت بمثابرة” .ويحث سينيكا على هذا التأمل ً
114.27بسبب التحرر الذي يجلبه من الخوف من الموت ،وعلى سبيل المثال ،Letters 30.18, 36.8وبتوقع إطالق
النفوس من األسر الجسدي ،على سبيل المثال . Consolation to Marcia 23.2
174
ما يكفي ،ولكن هؤالء ُحرموا الكثير من حياتهم التي أخذ منها العامة القليل
بالضرورة.
وال ينبغي أن تتخيل أن هؤالء الناس ليسوا على وعي بما ضاع منهم أحيا ًنا، 6-7
ومن المؤكد أنك ستسمع من هؤالء المثقلين بنشاطهم العظيم أحيا ًنا وهم
يصيحون وسط جحافل جمهورهم أو الشافعين لحالهم أو َمن يعتدون
لدي إمكانية للعيش».
بمبدئهم في البؤس« :ليس َّ
وبالطبع أنت غيرهم! فكل الذين يجرونك في أعمالهم يسحبونك من 7-7
نفسك ،فكم من األيام قد أخذها المدعي عليك منك؟ وكم من زكيتهم له؟
وكم سئمت المرأة العجوز وكأن وريثتها سوف تدفنها؟ وكم الذين اختلقوا
المرض ليثيروا جشع صيادي التركة؟ وكم من صديق قوي حمل عليك ال من
أجل صداقة حقة ،بل بغرض المشهد ،تحقق مما أقول وراجع أيام حياتك،
وسوف ترى قليلاً منهم ح ًّقا بال قيمة ،وهم يبقونك فيما تملك ،أي ال يريدون
لك تقد ًما.
إن اإلنسان الذي حقق منص ًبا مرمو ًقا يتضرع ألجل أن يطرحه جان ًبا ،ويكرر 8-7
فكرا ،فإن
القول« :متى ينتهي هذا العام؟» ،واإلنسان الذي يعين لأللعاب ً
االمتياز العظيم الذي أواله لها يرتد عليه ،فيقول« :متى أتحرر منها؟»،
والمؤيد الذي تنافس الناس على انتباهه في كل مكان في الميدان الذي
استهواه الحشد ،ينادي في الكل إلى أبعد مكان و ُيسمعهم كلمة متى وهو
يقول« :هل من إجازة؟» ،ويرسل الجميع حياته في سباق سريع يعاني فيه تو ًقا
للمستقبل وتحاش ًيا للحاضر.
ولكن َمن يكرس كل لحظة من عمره الحتياجاته و َمن يرتب كل يوم كما لو 9-7
كان حياة كاملة ال يتوق فيها لليوم التالي وال يخاف منه ،فما النوع الجديد من
اللذة هناك يمكن أن تجلبه أي ساعة؟ لقد شهدت كل شيء ،واستمتعت به
175
إلى أقصى حد ،وأما ما تبقى ربما يرتبه الحظ كما يشاء ،وقد وصلت حياته
ح ًّقا بسالم ،والحياة قد تثريها اإلضافة ولكن ال يفلت منها شيء ،وتأتي
اإلضافة في مسلك َمن رضوا ح ًّقا ،والمتخم الذي يأخذ نصي ًبا من الطعام
الذي ال يرغب فيه وشارك غيره فيه.
10-7وليس من سبب تصدق فيه أن المرء قد عاش طويلاً ؛ ألن شعره أشيب مجعد،
فإنه لم يعش طويلاً بل عانى أطول ،وافترض أنك فكرت أن هناك ً
امرأ أبحر
بعيدً ا ولحقته عاصفة هائجة بمجرد مغادرته للميناء ،ونقل في هذا االتجاه،
ودفع بحركة دائرية إلى المسار نفسه بتناوب الرياح التي تهب من مختلف
ُ
الجهات ،فإنه لن يقطع رحلة طويلة بل ما عناه هو األطول.
وأندهش دو ًما حين أرى الناس يطلبون أعمار اآلخرين ،ويجدون أعظم 1-8
االستجابة من المقربين لهم ،ويركز كال الجانبين على موضوع الطلب،
وليس على جانب الزمن ذاته ،وكأنهم يطلبون ال شيء ولم يمنحوا شيئًا ،فإن
تفاهة الناس أثمن السلع على اإلطالق ،وهي تمحو انتباههم؛ ألنها ال ُتظهر
ألعينهم شيئًا غير مادي ،ولهذا السبب ُتقيم بأبخس ثمن أو باألحرى ليس لها
قيمة عملية على اإلطالق.
وإذا عاين كل منا عدد السنين قبلنا مثل السنين التي قضيناها على وجه 3-8
حريصا
ً التحديد ،فكيف يقلق َمن رأى فقط سنوات قليلة خلت ،وكيف كان
مهما كان صغيرا وهو معروف
كما ًّ
في استعمالها! ومن ثم من اليسير أن ندير ًّ
176
حرصا في الحفاظ على الكم الذي قد نوزعه في
ً تما ًما ،وعلينا أن نكون أكثر
أي وقت.
وليس هناك ما يدعو إلى أن تعتقد أن هؤالء الناس ليسوا على وعي بمدى 4-8
لمن يحبونهم إنهم على استعداد
عظم سلعة الزمن ،واعتادوا أن يقولوا بحدة َ
أن يمنحوهم ً
بعضا من سنونهم ،وهم يعطونهم دون أن يعلموا ما بقي من
أعمارهم ،ولكنهم أعطوا بالطريقة نفسها دون أن ُيضيفوا سنين لمحبيهم
ويقتطعوها من أنفسهم ،وهذه حقيقة ،أعني ،سواء أكانوا يحرمون أنفسهم
ويضيعونها أم يتحملون فقد ما ال يلحظونه في الخسارة.
ال أحد ُيعيد السنين ،وال أحد ُيرجع لك نفسك السابقة ،وستتوالى الحياة في 5-8
داعي للهياج فلن
َ المسار الذي بدأت منه ،ولن تعكس أو توقف مسارها ،فال
تنتبه لسرعتها وسوف تنزلق في صمت ،وسوف ُتطيل نفسها ال بأمر ملك وال
بعجيج شعبه ،ستجري على النحو الذي بدأت منه يومها األول دون تحول
أو تأخير ،وما النتيجة؟ وتجري الحياة وأنت منهمك ويلوح الموت في كل
حين ،وعليك أن تستوعب هذا سواء أحببتها أو ال.
وهل هناك سذاجة أعظم من وجهة نظر هؤالء الناس الذين يفخرون ببعد 1-9
نظرهم؟ وهم منشغلون بأعمال للعيش األفضل ،ويخططون حياتهم على
حساب الحياة ذاتها ،ويشكلون غاياتهم بالمستقبل البعيد في العقل ،ويكمن
الهدر األعظم للحياة في التسويف الذي يختلسنا كل يوم في انعطاف،
ويخطف الحاضر بوعد المستقبل ،إن العائق األكبر للعيش هو األمل الذي
يتكئ على الغد و ُيضيع اليوم ،فقد حددت ما في يد الحظ ولكن فلت ما في
ُ
يدك ،فما الذي تهدف إليه؟ وما غايتك؟ كل ذلك يأتي من عدم اليقين ،فعش
اآلن ح ًّقا.
واسمع صرخة أعظم الشعراء الذي يغني أغنيته كما لو كانت مستوحا ًة من 2-9
177
الكالم اإللهي« :أول ما ينفلت من حياة البشر البائسين هو اليوم األفضل»(،((22
وهو يقول« :لماذا ُتؤخر؟ ولما ُتبطئ في الفعل؟ ،إن لم تغتنم اليوم فسوف
ينزلق منك» ،وحتى حين تغتنمه ال يزال ينزلق منك ،ولذا عليك أن تنافس
عجلة الزمن في السرعة التي تستعملها ،فعليك أن تشرب بسرعة كما لو كنت
فيضانً سريع الحركة وال يفيض دو ًما.
وهذا الشاعر يتحدث بجدارة في معاقبة التسويف الذي ال نهاية له لم يقل 3-9
سريعا،
ً أفضل (عمر) بل أفضل (يوم) ،وقد يبدد الزمن السكينة وخلو البال
فلماذا تخطط لنفسك الشهور والسنين بتعاقبها الطويل ،وإلى أي مدى ترى
طمعك مناس ًبا؟ والشاعر يتحدث لك عن اليوم ،ذلك اليوم الحقيقي الذي قد
تنزلق فيه.
كما هو الحال في المحاورة أو القراءة بعض التفكير العميق الذي ُيلهي 5-9
المسافرين يجدونه قد يصلهم إلى جهتهم قبل أن يعوا االقتراب منها ،ولذلك
بهذه الرحلة المتواصلة والسريعة بال نهاية للحياة التي نجعلها على نفس
الوتيرة سواء كنا متيقظين أو نائمين يصبح االنشغال وع ًيا بها فحسب في
نهايتها.
1-10وإذا أردت أن أقسم موضوعي إلى مقوالت لكل منها براهينها يمكن أن
أنتهي إلى حجج عدة؛ ألبرهن أن حياة االنشغال قصيرة جدًّ ا ،ولكن فابيانوس
178
((22( Fabianusالذي لم يكن واحدً ا من المحترفين الذين يشغلون منص ًبا،
بل كان فيلسو ًفا ح ًّقا من الطراز القديم الذي اعتاد أن يقول علينا أن نكافح
االنفعاالت بهجوم قوي وليس بدقة الحجة ،فخط العدو قد يتحول بهجوم
أمامي كاملاً وليس بطعنة إبرة رقيقة ،وليس لديه اعتبار لمجرد الجدل،
حيث ال تسحق الرذائل بمجرد القرص ،ومع ذلك يسحق االنشغال لسقوطه
المتمايز ،وتعلمهم الدرس ليس بالتخلي عن الخسارة.
2-10تنقسم الحياة إلى ثالثة أجزاء ،وهي :الماضي والحاضر والمستقبل ،فالحاضر
مقتضب والمستقبل مشكوك فيه والماضي يقين ،وأما الماضي فليس للحظ
عليه سطوة ،وليس بمقدور سلطة أحد أن تعيده ،ويفقد المنشغلون هذا
الجزء ،فليس لديهم فراغ ليتطلعوا للماضي ،وحتى لو تمكنوا من النظر إليه
لن يجدوا لذة في استدعاء شيء مؤسف.
تابعا لسيكتوس
( ((22بابيريوس فابيانوس ، Papirius Fabianusوكان قبل عام 35خطي ًبا موهو ًبا ،وأصبح عام 10ق.م ً
ً
Q. Sextiusمؤسس المدرسة الفلسفية المحلية الوحيدة في روما ،وقد تركت تعاليم فابيانوس انطباعً ا عميقا على
سينيكا األصغر Letters 40.12, 58.6وكذلك على والده . Controuersiae 2 pref. 1–2
179
تعطيله وال سرقته ،وامتالكنا له أبدي ال يزول ،واأليام حاضرة في زمن واحد
فحسب ،وهي اللحظة باللحظة فحسب ،ولكن كل أيام الزمن الماضي سوف
تحضر لك ف عرض طلبك ،وسوف تسمح لك أن تختبرها وتقبض عليها
بإرادتك ،وهي الشيء الذى ال يملك المنشغلون وقتا لفعله.
5-10إنها تأخذ العقل المطمئن وغير المضطرب ليتجول بحرية فوق كل أجزاء
الحياة ،ولكن العقول المنهمكة كما لو كانت تحت نير ،وال يمكن أن تتحول
خيرا
وتنظر إلى الوراء ،وتختفي حياتهم في جهنم ،كما لو أنهم لم يفعلوا ً
في أي لحظة لسائل في وعاء ،إن لم يكن هناك شيء في األسفل ليتلقوه
ويبقوه( ،((22ولذلك ال تجعل فار ًقا في مقدار الذي تمنحه إن لم يكن هناك
مقر للسكن ،وتسمح أن تمضي خالل الشقوق والثقوب في العقل.
ٌّ
6-10والزمن الحاضر مقتضب جدًّ ا ،وأكثر اقتضا ًبا عند بعض الناس( ((22ويبدو
غير موجود ،وهو في حركة دائمة ومنزلقة بالسرعة عليها ،وينقطع قبل
وصوله ،وال يعاني ُبطئًا كما في القبة السماوية واألجرام السماوية التي ال تكل
الحركة التي تسمح لها بالبقاء في نفس الموضع ،ولذلك ركز المنهمكون
وسرقت منهم حتى اللحظة
على الحاضر فحسب ،وهربوا مما ال يمكن فهمهُ ،
البسيطة؛ ألنهم انجروا في اتجاهات عدة.
1-11وباختصار ،هل تريد أن تعرف كيف يعيشون ح ًّقا االقتضاب ،انظر كيف
يحرصون على العيش حياة طويلة ،فالشيوخ المضعفون تسولوا في صلواتهم
عمرا مما هم عليه فعلاً ،
ليضاف لهم سنوات قليلة ،وتظاهروا بأنهم أصغر ً
وهم يداهنون أنفسهم بهذا الباطل ،ويخدعون أنفسهم بالسعادة كما لو
( ((22إشارة مرجحة لمصير الدنايدز Danaidsوهم يعاقبن في العالم السفلة لقتلهن أزواجهن الجدد بسحب الماء بأوعية
تسرب أو غرابيل.
ً
( ((22بما فيهم الرواقيون حيث يشير (اآلن) في ذاته إلى العابر وليس (حقيقة) كاملة أو (اآلن) لكونه طرفا للسلسلة الزمنية التي
تتحرك باستمرار على طول الخط مع الكون الرواقي.
180
أنهم يخدعون القدر في نفس الوقت ،ولكن حين يجتاحهم مرض يفنون،
فكم كانوا مذعورين حين ماتوا كما لو كانوا ال يغادرون الحياة بل ُيسحبون
مرارا؛ ألنهم كانوا حمقى حيث لم يعيشوا ح ًّقا ،وإنهم سوف
منها! ويتباكون ً
يهرعون للراحة إذا هربوا من المرض فحسب ،و َمن ثم يعكسون مدى بطلهم
في تقييمهم لألشياء التي لم يتمتعوا بها في عيشهم ومدى غفلتهم في كدهم.
1-12ربما تريد أن تعرف َمن الذين أطلق عليهم (المنهمكون)؟ ال تتخيل أنني أعني
هؤالء المحامين الذين ُيطردون من محكمة القانون حين تعوي كالب الحراسة
بالليل ،أو الذين يفتتن بهم رعاياهم في العرض المعجب في حشد معجبيهم
أو المزدرين لهم في حشد آخر ،أو العمالء الذين تستدعيهم واجباتهم من
بيوتهم لتسبقهم أمام أبواب اآلخرين ،أو الحكام praetorsالذين تبقيهم
رماحهم مشغولين بكسب سوء السمعة والتي ترتبط يو ًما بالقبح(.((22
(ُ ((22يثبت الرمح في األرض في المزادات العلنية ،وعلى ما يبدو أن هذا ممارسة قديمة لبيع غنائم الحرب رمزً ا لملكية
المنتصر ،والداللون الذين يشرفون على بيع ملكية الدولة يتبعون سلك القضاء بما فيهم البرايتورات ، praetorsومن
ثم “رمح البرايتور”.
181
تدعي أن الرجل في فراغه هو َمن يرتب بانتباه دقيق تفاصيل برونزه الكورنثي
كثيرا والذي ُجمع من القلة المهوسين ،و َمن الذي يقضي
الذي تكلف صنعه ً
معظم اليوم على صدأ شرائط النحاس ،أو َمن يجلس حول حلبة المصارعة،
العار لنا! إننا نعاني من الرذائل حتى غير الرومانية ،و َمن يشاهد شجار الصبية
بحماس؟ و َمن الذى يفصل قواته المناضلين الثملين إلى زوجين من نفس
العمر ولون الجلد؟ و َمن الذي يحافظ على ثبات نضارة الرياضيين؟
3-12أخبرنى ،هل تطلق على هؤالء الناس متروحين وهم يقضون ساعات عدة
عند حالقهم يتشاورون في فرق َّ
الشعر وتصفيه أو تمشيطه لألمام ليتدلى
على الجانبين ليغطي الجبهة؟ وكم سيحل الغضب إذا كان الحالق ضعي ًفا
ومهملاً ،كما لو أنه قص َشعر رجل حقيقي! وكم سينفجرون إذا ُقص شيء
ما خطأ من ُع ْر ُفهم الثمين ،أو أرقد َّ
الشعر في غير موضعه ،أو إذا لم يرجع كل
شيء إلى جديلته! أليس هؤالء يتحرون َشعرهم أكثر من وطنهم الذي ُيعاني
الفوضى؟ أليس هؤالء اهتموا بأن يبقى َشعرهم أني ًقا أكثر من أمان وطنهم؟
أليس هؤالء يفضلون الهيئة على االحترام؟ هل تطلق على هؤالء متروحين
وهم منشغلون بين المشط والمرآة؟
5-12والسماء تعرف! إنني لم أوزع وليمتها بين تسلية مرحة؛ ألنني أرى كم يقلقها
ترتيب طبقها الفضة ،وكم هي حريصة على أن تجمع ُستر أوالدها الجذابين
182
على المنضدة ،وكم يزعجها أن ترى الخنزير ينعرج عن الطهي ،وكم هي
حثيثة أن يهرع العبيد ذوو الجلد الناعم في أداء واجباتهم بإشارة بعينها،
وكيف تنحت الطيور بإتقان األجزاء المحبوكة بعناية ،وكيف ُينشف الصبيان
العبيد البائسون أباريق الخمور ،ويسعون بهذه الوسائل إلى السمعة من أجل
معيشة مترفة ،وهؤالء تتبعهم شرورهم في أي ركن من حياتهم ويصل بهم
الحد إلى أن يأكلوا أو يشربوا دون مفاخرة.
6-12وال أعد من بين المتروحين الذين يتجولون في هودج أو حمالة ،الذين يصلون
بأنعامهم في الوقت المحدد كما لو كانوا يحرمون عثرتها ،والذين يذكرونهم
بوقت االستحمام ليستحموا أو ليتناولوا طعامهم ،هؤالء قد أضناهم التراخي
المفرط للعقل المدلل الذي ال يستطيع أن يخبر ذواتهم إذا كانوا جائعين.
كثيرا ،حيث يرون 8-12إنهم غامضون حيال أشياء عدة ،بل يؤثر عليهم النسيان ً
أن رذائل بعينها تسعدهم وهي دليل رفاهيتهم ،وتعرف أن ما يفعله دالل ًة
لإلنسان المنحط والتافه ،وأي حماقة أن تفكر أن تقليد الممثلين( ((22يهاجم
الترف باختالق تفاصيل جمة! ثق في قولي ،إنهم يمضون فوق ما يصطنعون،
ومثل هذه الثروة من الرذائل التي ال ُتعقل تنهض في العصر الذي ُتستعمل فيه
المواهب التافهة في اتجاه واحد بمشاركتنا للممثلين المقلدين في جهلهم،
( ((22التقليد Mimeوسيط مسرحي لواقعية غريبة وشاذة غال ًبا ،والذي يقدمه سينيكا في مكان آخر كعنصر أخالقي شائع.
183
وعليك أن تتخيل كل َمن يفسد بإشباع الرغبة سوف يطلق عليه كلمة أخرى
كالذي كان يسأل هل هو جالس!
9-12وال ينبغي أن نطبق على الشخص الذي يتريض اصطالحات متباينة ،إنه
مريض وباألحرى ميت ،والمتريض الحق هو َمن يعي تر ُّيضه ،وأما الشخص
الذي يحتاج إلى َمن يرشده ليجعله واع ًيا بوظائفه الجسدية فهو نصف حي
فحسب ،فهل يمكن أن يتحكم في وقته؟
1-13وسوف يكون عملاً طويلاً لتتقصى حاالت الذين يقضون كل حيواتهم في لعب
الداما checkersأو لعب الكرة أو يحمصون أجسادهم في الشمس ،وضع هؤالء
الناس السعداء في عمل جدير باالعتبار ليس فيه ترويض ،وعلى سبيل المثال
ال أحد يشك أن َمن يكرسون وقتهم لخالفات أدبية عديمة الفائدة متورطون
بنشاط هو عمل ال شيء ،وقد اكتظت روما بهؤالء في أيامنا هذه(.((23
( ((23بالنسبة لسينيكا فإنه يعتبر هذا حذلقة تقعيد تنامت في روما في القرن األول الميالدي تجهل المغزى الحقيقي لألدب
وفقه اللغة وتنشأة الحكم الرشيد.
( ((23غير معروف ،قد يكون بليني األكبر the elder Plinyولكن ال يوجد دليل قوي على هذا ،وربما يبسط سينيكا باستخدام
أداة بالغية ليقدم جزئية ما بنمط عامي.
( ((23جايوس دويليوس Gaius Duiliusبعد أن قاد الرومان للنصر على القرطاجيين قبالة ميليا ( Mylaeصقلية) عام 260
ق.م احتفل بأول انتصار بحري عام .259
184
استعرض األفيال في النصر( ،((23وحتى لو كانت هذه األشياء المذكورة
توجهنا نحو المجد الحق ،فإنها تدلل على قالب بعينه في خدمة الدولة ،فمثل
هذه المعرفة لن تنفعنا مع أنها من النوع الذي يستولي على انتباهنا؛ ألنها
مجرد مسألة فارغة جاذبة.
4-13ربما نعذر المحققين الذين يسألون عن َمن أول َمن أقنع الرومان في نشر قوات
بحرية– هو كالوديوس ((23( Claudiusالذي ُسمي كوديكس Caudex
لهذا السبب ،وألن القدماء اصطلحوا على بناء المركب من األلواح الخشبية
بكوديكس ،ومن ثم سميت السجالت العامة كوديكس أي المخطوطات،
وال تزال سفن الحموالت التي كانت تنقل التيبر ُتسمى كوديكاريا وف ًقا
لالستخدام القديم.
( ((23وبعد أن هزم دينتاتوس Dentatusبوروس ملك مولوسيين Molossian kingألبيروس ،وهو بطل لحرب السامنيتا
Samniteوحروب أخرى ،ورمز لتواضع العيش .Consolation to Helvia 10.8
( ((23أبيوس كالوديوس كايديكس Appius Claudius Caudexقنصل عام 264ق.م ،عبر إلى صقلية في الحرب البونية
األولى ليواجه التحالف بين القرطاجيين وهيروان الثاني Hieron IIمن سيراقسطة.
( ((23فاليريوس ماكسيموس ميسالال M.’ Valerius Maximus Messallaقنصل عام 263ق.م الذي أجبر هيروان الثاني
على التصالح مع روما في هذا العام ،واحتفل بالنصر ألسره ميسانا الصقلي .Sicilian Messana
( ((23كما قيد البرايتور أورباوس 93 urbanusق.م األسود على ما يبدو ألول مرة في األلعاب في روما عام 104ق.م.
( ((23ملك مورتانيا Mauretaniaالذي أقنعه سولال بخيانة جيويته Jugurthaصهره والرومانيين بقي على عالقة ودية مع
سولال بعد نهاية حرب جوجورثين .Jugurthine
185
ليقتلهم؟ حسنًا ،دعونا نسمح بذلك ،ولكن أي غاية مفيدة حقة قد تخدم معرفة
أن بومبي أول َمن نظم معركة وهمية للقتال على ظهور ثمانية عشر فيلاً في
المدرج الروماني(((23؟ فالرجل الذي حظي بسمعة حسنة بين القواد األقدمين
بقيادة الدولة ورقة الفؤاد فكر في شكل بارز ليشاهد تدمير جنس البشر في نمط
ال ُينسى وهو المعركة الوهمية« ،فهل قاتلوا حتى الموت؟ فهذا ليس كاف ًيا،
هل قطعوا إر ًبا؟ فهذا ال يكفي ،بل تركهم ُيسحقون تما ًما بأجساد الحيوانات
الثقيلة!».
7-13ويقينًا من األفضل أن ُتنسى مثل هذه األشياء؛ خو ًفا من أن يعلمها رجل قوي
في المستقبل ،فينقل هذه الواقعة الال إنسانية بالحرف ،وآه يا لظالم الرفاهية
العظمى الذي يخيم على عقولنا! إنه اعتقد أنه فوق قوانين الطبيعة حين ألقى
بكثير من جحافل البشر البائسين لحيوانات تلد تحت سماء متباعدة ،وحين
أدار حر ًبا بين مثل هذه المخلوقات المتفاوتة ،وحين سفك الدماء أمام أعين
ٍ
بعدئذ ،ولكن هذا الرجل نفسه الرومان– والذين ُأكرهوا على إراقة دمائهم
مؤخرا ،وقدَّ م نفسه ليجر من أحقر عبيده(،((23
ً تعرض لخيانة إسكندرانية
ومن ثم أدرك في النهاية أن التفاخر الفارع كان كنيته(.((24
8-13وعودة إلى النقطة التي استطردت منها حتى أبرهن على سخافة اآلالم التي
يعانيها بعض الناس من مثل هذه المسائل ،فقد أفاد المصدر نفسه( ((24أن
ميتيلليوس Metellusكان متفر ًدا بين الرومانيين ،حيث اتخذ في نصره بعد
( ((23حين احتفل بومبى بافتتاح مسرح الحجر الجديد في حرم مارتيوس Campus Martiusاحتج سينيكا على المذبحة
العامة ( )13.6–7; cf. Letters 7.3–5, 95.33وكما نقل شيشرون (Letters to His Friends 7.1.3; cf. Pliny
)Natural History 8.21وأن الحشد قد تحرك لرحمة الفيلة المضطهدة.
( ((23بعد هزيمة فارساليوس عام 48ق.م سعى بومبي للحماية من بطليموس الثالث عشر في مصربحرسه ورجاله ،ولكن
حين ذهب إلى شاطئ اإلسكندرية قتله نائب بطليموس .
( Magnus ((24تعني العظيم.
( ((24انظر 3.13أعاله.
186
قهر القرطاجيين في صقلية مائة وعشرين فيلاً يقودون موكبه أمام عربته(،((24
وكان سولال آخر الرومانيين الذين وسعوا الحدود pomeriumالتي كانت
ُعر ًفا ً
قديما لالمتداد بعد االستحواذ اإليطالي وليس اإلقليم الريفي( ،((24وهل
هناك أي فائدة في معرفة هذا أكثر من أن نعرف أن أفينتينا هيل Aventine Hill
خارج الحدود ،ووف ًقا له هناك سبب من اثنين؛ األول إما ألن ذلك كان نقطة
تجمع العامة الرومانيين plebeiansفي انعزال روما( ،((24وإما ألن الطيور لم
تتواءم حين حصل راموس Remusعلى الرعاية هناك( ،((24ومعرفة أسباب
أخرى بجانب هذا قد تكون مشحونة بأكاذيب وغير مرجحة.
9-13وحتى لو منحت هؤالء الناس الذين يقولون هذه األمور بحسن نية ،وحتى لو
ضمنوا الصدق في كتاباتهم ،فهل األخطاء سوف تقل في مثل هذه المعلومات؟
شجاعا ،أو
ً وأي االنفعاالت ستكون محلاًّ لالختبار؟ و َمن الذي سيصنع منك
سخاء في روحه؟ واعتاد صديقي فابيانوس أن يقول إنه
ً أكثر عدلاً ،أو أكثر
عم إذا هو األفضل حيث ال يطبق على نفسه أي بحث بدلاً من
يتساءل أحيا ًنا َّ
أن يتورط في هذا.
1-14وهؤالء فحسب من بين الناس َمن يمنحون وقتهم للفلسفة في وقت الفراغ،
وهم فحسب َمن يحيون ح ًّقا ،وليس لهم عمرهم الذي ينتبهون إليه بحرص،
بل يضيفون كل عمر إلى أنفسهم ،ويضيفون كل السنين التي انصرمت قبلهم
( ((24كايكيليوس ميتيللوس L. Caecilius Metellusقنصل عام 251ق.م ،انتصر بعد هزيمة صدر بعل في بانورموس
(باليرمو) عام ،250وعدد الفيلة غير متفق عليه .صدربعل بن حملقار برقا ،قائد قرطاجي ،شارك في الحرب البونيقية
الثانية وهو ثاني أبناء حملقار برقا والشقيق األصغر لحنبعل( .المترجم).
أومع َّلمة بأعمدة من حجر ،وال يمكنُ محروثة ( ((24كان لروما حدود ،pomeriumوكانت هذه الحدود مقدسة وهي
لرعايا المدينة auspicia urbanaأن يتجاوزوها ،وتعزى هذه الحدود بعد سوالن إلى يوليوس قيصر وأوغسطس
وكالوديوس ،ولكن سينيكا أو روايته تزعم أن سولال كان يمدد الحدود ألسباب مشروعة (األراضي اإليطالية المكتسبة).
( ((24مرتين وفقا إلى ليفي Livyعام 494ق.م وما بعدها في عام .449
( ((24في صراعهم األسطوري ليصبح مؤسس روما قد هُ زم راموس حين أخذ الرعايا على هضبة آفينتين .Aventine
187
إلى ذواتهم ،وإذا لم نثبت عدم امتنان الذين ميزوا مؤسسي األفكار المقدسة
التي جاءت إلى وجودنا ومهدت طريقنا للعيش لنا ،فإن عمل اآلخرين يقودنا
إلى حضور أعظم الكنوز جمالاً ،والذي يسحبنا من الظالم وينقلنا إلى النور،
فال ُنحرم من زمن ونتجاوز الكل ،وإن أردنا أن نتجاوز الحدود الضيقة
للضعف اإلنسانى بتوسيع العقل ،فلدينا مدى زمني كبير لالمتداد فوقه.
أسس فعلاً األكاديمية الشكية ( )cf. Cicero Tusculan Disputations 5.11فإن أرخيسالوس ( ((24إذا كان سقراط ّ
) Arcesilaus (316/15–242/1 bceقد أسس األكاديمية الثانية أو األكاديمية الوسطى ،وكارنيادس الكيريني
) Carneades of Cyrene (214–129 bceمؤسس األكاديمية الثالثة أو األكاديمية الجديدة.
( ((24في حين تسعى الرواقية لتحرير االنفعاالت (األباثيا) ،فإن األباثيا الرواقية ليست جمو ًدا بحتًا (،)cf. On Anger 1.16.7
ولكن الكلبية موقفها أكثر تطر ًفا حيث يفصل الحكيم تما ًما ،حتى إنه بال عاطفة.
188
قاسين في خداعهم أكثر من رفضهم القبول! وكثير منهم نصف نائم مثقل
بتأثير شراب األمس ،ويفغر الفاه بكالم مز ٍر ليخاطب هذا الجمهور البائس،
ٍ
بشفاه انتظارا لكالمه وهمس لهم ألف مرة
ً ويطلبون منهم الكف عن الكالم
تتحرك بالكاد!
1-15ولن يجبرك أحد من هؤالء الفالسفة على الموت ،بل سيتعلم الكل كيف
يواجهه( ،((24ولن يأخذ أحدٌ منهم شيئًا من عمرك بل سيقاسمك عمره ،ولن
خطرا يهدد حياة الصداقة أو يكلفك شيئًا ،ومنهم سوف
ً يكون حديثه معك
يأخذك إلى حيث تتمنى ،وال يخطئون إذا فشلت في أن تحصل على اللحظة
التي تتوق إليها.
2-15ويا لها من سعادة ويا لجمال ما تستلقي عليه الشيخوخة في ذاكرة للشخص
الذي وضع نفسه تحت رعاية هؤالء الناس! إنه سيحوز أصدقاء ينصحونه
يوميا ،ويمكنه أن
في مسائلهم سواء أكبرت أم صغرت ،ويراجعونه في نفسه ًّ
يسمع الحق بال إهانة ويتلقى ما يستحق بال تزلف ،إنهم يقدمون له مثالاً ُيقيمه
ٍ
بعدئذ. لنفسه
3-15وهناك قول شائع يقول إنه ليس في وسعنا أن نختار آباءنا الذين ُقسموا لنا
189
وإنهم منحوا لنا بالصدفة ،ومن ثم يمكن أن نولد ألي أحد نتمناه ،وهناك أسر
معظم عقولهم متمايزة ،اختر واحدً ا ترغب أن تعتمد عليه وسوف ال ترث
االسم فحسب بل ما يملكه ح ًّقا ،وهو ليس مشحو ًنا ببؤس أو روح منحطة
يتفق الناس عليها ويقبل عليها العظيم.
4-15هؤالء سيفتحون لك طري ًقا للخلود ،ويرفعونك إلى سمو لم ينله أحدٌ ،وهذا
هو الوسيلة الفريدة لمد الفناء أو باألحرى لتحويله إلى الخلود ،فاحترم
التراث الذي ُدمر اآلن ،والذي ُشيد بمطمح الفخر بأمر أو بنقش على حجر،
وال شيء يطول زمنه ال ُيهدم ويتحول ،ولكن األعمال التي ُكرست بالحكمة
ال يمكن أن تتلف ،وال يطمسها عصر وال يختزلها على اإلطالق ،فالعصر
التالي وكل ما يأتي بعده سيعزز احترا ًما قد اتفقوا عليه ،فموضع الحسد فيما
اقترب من اليد وأما ما َب ُعد عنها فقد يطوله منا اإلعجاب.
5-15ولذلك حياة الحكيم فسيحة النطاق ،وال يتقيد بنفس الحد الذي ُيكبل به
اآلخرون ،وهو فحسب المعتوق من قيود جنس البشر ،وهو سيد كل العصور
كما لوكان ر ًّبا ،ألم تنصرم بعض األزمان؟ إنه يقبض عليها في الذاكرة ،أليس
واقعا؟ إنه يتوقعه ،إنه
الزمن يعلونا؟ إنه يستعمله أي يتحكم فيه ،أليس الزمن ً
يجمع األزمان كلها في زمن واحد ُيطيل حياته.
2-16وأما حقيقة أنهم يطلبون الموت ،فيمكن أن ُتؤخذ كدليل على أن حياتهم
طويلة ،ويعانون في حماقتهم بالمشاعر المتقلبة التي تدفعهم لألشياء التي
ُتخيفهم ،وغال ًبا ما يطلبون الموت؛ ألنهم يخشونه.
190
3-16وليس هناك سبب لتجد دليلاً على أنهم عاشوا طويلاً في الواقع ،فقد يبدو
انتظارا للساعة
ً اليوم لهم طويلاً ،أو أنهم يشكون مرور الساعات البطيء
المحددة للعشاء؛ ألنه حين يفشل المنشغلون عاد ًة وال يجدون شيئا يفعلونه
خارجا،
ً فإنهم يرتبكون دون معرفة كيف يشغلون فراغهم أو كيف يسحبونه
المتَخلل
ولذلك ينتقلون إلى بعض االنشغاالت األخرى ويجدون الزمن ُ
حملاً مره ًقا ،ويصنعون كما ُيفعل في المجالدة حيث ُيعلن عن يوم بعينه لها،
أو حين يحدد زمنًا لبعض العروض األخرى أو تسلية ترتبط باالنتظار ،فإنهم
يرغبون أن يقفزوا على األيام المتخللة ،وينظرون ألي إرجاء على أنه طويل
عليهم.
قصرا؛ ألنهم
ً 4-16ولكن زمن المتعة الفعلي قصير وعابر ،وأخطاؤهم تجعله أشد
يرغبون في اللذة تلو األخرى ،وال يستقرون بثبات على رغبة بعينها ،فال تطول
أيامهم بل ُتكره ،فكم تبدو الليالي التي قضوها في الظفر بالعاهرات أو السكر!
5-16ومن َثم فإن اإللهام المجنون للشعراء هو ما يغذي الضعف البشري بقصصهم
حين ُيغوى فعل(((24 وتخيلهم بأن جوبتر ُ Jupiterيضاعف امتداد الليل
باللذة الجنسية ،وال تساوي هذه اإلثارة ألسوأ انفعاالتنا شيئًا سوى أنها تجنيد
األرباب على أنها تشكل مسب ًقا رذائلنا ،وتمنح للفساد رخصة مبررة بالنموذج
الرباني ،وكيف ال تبدو الليالي في كنف العشيقة قصيرة على هؤالء الناس؟
إنهم أضاعوا النهار في انتظار الليل ،وفقدوا الليل في الخوف من طلوع
الفجر.
1-17إن الملذات الحقيقية لمثل هؤالء قلقة ومضطربة بأنواع التنبيه المتعددة،
واللحظة الحقيقية التي يفرحون فيها هي اللحظة التي يسرقهم فيها الفكر
الهائج ،فإلى متى سوف يستمر هذا؟ هذه المشاعر تتسبب في تباكي الملوك
191
على سلطتهم ،حيث ال تمنحهم الرفاهية أي لذة ،بل يرعبهم األمل في نهاية
مطافه.
2-17وعندما كان الملك الفارسي المتغطرس ينسق جيشه على السهول الفسيحة
جندي
ٌّ لمعرفة حجمه وليس عده ،بكى وفكر في أنه في غضون قرن لن يبقى
من هذه الجحافل الضخمة على قيد الحياة( ،((25والرجل الحقيقي الذي
بكى جلب عليهم قدرهم ،ففقد القوات في بحر وآخرين في بر وبعضهم في
معركة( ((25وآخرون في قتال ،وهكذا دمر كل هؤالء في وقت قصير جدا قبل
المائة عام التي كان يخشاها.
3-17وماذا عن حقيقة أن مرح مثل هؤالء ينتابه القلق؟ ألنهم لم يرتكزوا على
أسباب ثابتة بل ممزقة عند صدورها ،ولكن هل تعتقد أن أوقاتهم قد تتشابه
حين يشقيهم حتى قبولهم؛ ألن األفراح التي ترفعهم وتحولهم أعلى عن
رفقائهم بأي حال محضة؟
4-17وتسبب كل النعم العظمى القلق ،وال يقل الحظ في معظم توافقاته عن ميثاق
حكيم ،ولكي تحافظ على الرفاهية تحتاج إلى رفاهية جديدة ،وتقدم توسالت
بدلاً من التي تحولت بالفعل ،وكل شيء يأتي لنا عن طريق الصدفة متقلب،
ويرتفع حظنا األسمى كلما كنا عرضة للسقوط ،ولكن ما يسقط ال يسر أحدً ا
حتما ،ولذلك فإن حياة الذين يكتسبون بالعمل المضني والذين يعملون بجد
ً
لالمتالك ليست مقتضبة فحسب بل بالضرورة بائسة.
( ((25الملك زركسيس في حملته ضد اليونان عام 480ق.م راجع .Herodotus 7.45–46
وضوحا في البحر في سالميس Salamisعام ،480وعلى األرض في ثيرموبيلي Thermopylaeعام 480
ً ( ((25األكثر
وبليتيا Plataeaعام .479
192
االنشغاالت الجديدة محل القديمة ،وسيثير األمل أملاً جديدً ا والطموح
طموحا جديدً ا ،فهم ال يتطلعون إلى نهاية بؤسهم بل تغيير علته ،هل عذبنا
ً
منصبنا العام؟ حيث أنفقنا جل الوقت على اآلخرين ،فهل نتوقف عن كدح
الترشح للمناصب؟ حيث نتصيد أصوات الناخبين ،وهل نكف عن مضايقة
المدعي العام؟ حيث وضعنا في االعتبار أنه قاض ،وهل يتوقف عن كونه
قاض ًيا؟ حيث ينطلق لترؤس لجنة خاصة ،و َمن الذي يقضي كل عمل حياته
إلدارة ملكية اآلخرين براتب؟ حيث يتحول عن رعاية ملكيته.
( ((25ربح جايوس ماريوس انتخاب القنصلية عام 107ق.م بعد هزيمة يوجيرثا Jugurthaوانتُخب مرة ثانية عام 104ثم
أربع سنوات حتى عام ، 100ثم عام ،86واألكثر الكامل للتلميح هنا ال يكمن في االنتقال السريع لماريوس من كونه
جند ًّيا إلى رجل دولة ،ولكن إلى العدد الكبير لسنين وظيفته في القنصلية ،ويوضح كيف تحل االنشغاالت الجديدة محل
االنشغاالت القديمة.
( ((25وفقا للتقليد قلد الدكتاتور كينتيوس كينكينناتوس L. Quintius Cincinnatusعام 458ق.م (بعد هزيمة إكيو
Aequiفي خمسة عشر يو ًما وترك منصبه) وتولى مرة أخرى عام ،439واألسطورة التي يستدعيها من الجرف ترتبط مع
فترته الديكتاتورية األولى وربطه بالمرحلة الثانية ،والتغاضي عن الفترة بين ،439- 458ويؤكد سينيكا على ضغوط
منصب كينكينناتوس.
( ((25كورنيليوس سكيبيو اإلفريقي ) P. Cornelius Scipio Africanus (235–183 bceعُ ين في عمر السادسة والعشرين
قائدً ا ضد القرطاجيين في الحرب البونية الثانية ،وربما كان االمتعاض من نجاحاته سب ًبا في توجيه االتهام له بعدم األمانة
المالية وتسويتها فيما ُسمي بمحاكمات سكيبيو في ثمانينيات القرن الثاني ، 180ولسخطه انسحب إلى ليتيرنيوم
Liternumحيث مات هناك عام .183-184
( ((25كمفوض يعمل في ظل حكم أخيه ،تفاوض سكيبيو على شروط السالم بعد الهزيمة في ماجنسيا Magnesiaعام 189
ق.م من أنتيخوس الثالث Antiochus IIIملك سوريا.
193
،Capitolineولكن الخالف بين المواطنين جلب المتاعب لمنقذهم ،وبعد
أن احتُقر في شبابه تنافس العامة الشرفاء على هؤالء األرباب ،فقد ُسر في
شيخوخته في نهاية المطاف وهو يتفاخر في المنفى ،وليست أسباب القلق
مرغوبة سواء أكان السبب هو الرفاهية أم البؤس ،وسوف ُتدفع الحياة بانشغال
بعد آخر ،وسوف نطلب الراحة ولن تتحقق أبدً ا.
2-18ما أدعوك إليه في حالة التقاعد ليس هو الكسل والخمول أو أن تغط طاقتك
الحية في النوم وفي الملذات التي تغوي الحشد ،وليس لتجد راحة البال ألنك
مهام تشغلك عن االعتزال الهادئ ،ومن المهم أن تتعامل معها بحيوية.
ستجد َّ
3-18أليس ح ًّقا ،أنت تدير عائدات العالم بموضوعية كما لو كنت غري ًبا ،وبمثابرة
كما لو تدير ما تملك ،وبضمير كما لو كنت أنت الدولة ،لقد فزت بالمودة في
المنصب من الصعب أن تجتنب فيه الكراهية ،ومن ثم صدقني من األفضل أن
تعرف معيار التوازن في حياة المرء أكثر من إمداد العامة بالحبوب.
5-18وتأمل ،رغم قسوة تحملك لهذه المسؤولية الثقيلة عليك أن تتعامل مع معدة
البشر ،فالجوعى ال يخنعون لعقل وال ُتلطفهم معاملة وسط أو تأثر فيهم
مناشدة ،ففي اآلونة األخيرة في غضون األيام القليلة بعد وفاة القيصر جايوس،
حيا وال تزال لديه
وكان ال يزال يعاني إلى أقصى حد؛ ألنه رأى الرومانيين أبقوه ًّ
مؤن تكفيه لسبعة أو ثمانية أيام في جميع األحوال ألنه بنى جسوره للقوارب
وتالعب بمصادر اإلمبراطورية( ،((25لقد واجهنا أسوأ أنواع الكوارث ،حتى
الذين كانوا تحت الحصار عانوا نقص الطعام ،ومحاكاته للغطرسة المشؤومة
للملك األجنبي المجنون جاءت بتكلفة الدمار الشامل بسبب الجوع ،وتال
ذلك الكارثة العامة المجاعة.
6-18وماذا كان تهمة عقل المسؤولين المكلفين بإمدادات الحبوب حين قرروا
مواجهة الحجارة واألسلحة والحرائق وجايوس؟ إنهم غطوا بتمويه متقن
هذا المرض العظيم الكامن وسط األجهزة المتوغلة للدولة ،ولتتأكد بعقل
وجيه ،أنهم تعاملوا مع شكاوى بعينها دون أن يعيها المرضى ويعرفوا أن
أمراضهم تسببت في الكثير حتى الموت.
195
خزانات غير صالحة خيانة أم إهمال الناقلين ،تلك الخزانات التي ال تمتص
الرطوبة وتتعفن بالحرارة ،وأنها تساوي الوزن والمقدار المعروف لها ،أو
سواء كنت تشغل نفسك بدراسات سامية ومقدسة تتعلم فيها جوهر الرب
وإرادته وصفاته الكلية وهيئته ،وما المخرج الذي تنتظره روحك ،وأين تضعنا
الطبيعة لتريح أجسادنا ،وما الذي يحمل وزن كل المواد الثقيلة لهذا العالم
نحو المركز ويدلي مكونات الضوء من أعلى ،ويحمل النار إلى أعلى جزء،
ويرفع النجوم إلى التغيرات التي أحدثتها الحركة ،وتتعلم أشياء أخرى من
هذا القبيل تحدوها العجائب الكبرى؟
196
واحدً ا باسمهم فإنهم أضاعوا كل سنينهم( ،((25لقد تخلت الحياة عن بعضهم
في وسط نضالهم األول وقبل تسلقهم الوعث لقمة طموحهم ،وآخرون بعد أن
ارتقوا فوق ألف إذالل ليصلوا إلى جالل التتويج ،و ُيغير عليهم الفكر الهزيل
الذي يختزل كل كفاحه ألجل النقش على القبر ،وبعضهم يخطط لطموحات
جديدة لشيخوخته المتقدمة كما لو كان في شبابه ،وهم يستسلمون للوهن
وسط مساعيهم العظيمة والجامحة.
2-20إنها نهاية مخزية حين يقاضي الرجل الشيخ في المحكمة خصو ًما ال يعرفون
أن هذا هو نفسه األخير ،وحتى إن فاز في اللحظة التي صفق له فيها المتفرجون
المتأثرون به ،وإنها لنهاية شائنة حين ال يرتد المرء عاجلاً عن العيش بالعمل
منكبا
ًّ المميت وهو في وسط واجباته ،وإنها لنهاية مؤسفة حين يموت المرء
على أرصدته وهو يسحب االبتسامة من الوريث الذي انتظر موته طويلاً .
3-20وال أستطيع أن أمر على مثال واحد قد حدث لي ،كان جايوس تورانيوس
ظاهرا على الكل وكان حينها في التسعين من عمره ،وقد دعاه
ً رجلاً كهلاً
اإلمبراطور جايوس قيصر للتقاعد من منصبه اإلداري ،ووجه أوامره بأن يرقد
على سريره ،وناح بمنزله الحاشد كما لو كان في حالة الموت ،وندب أهل
منزله لبطالة سيدهم الكهل ،ولن يكف عن نواحه حتى استعاد عمله ،فهل من
منكبا على العمل؟
السعادة أن تموت ًّ
4-20والكثيرون عندهم االتجاه نفسه ،ورغبتهم للعمل تزيد على قدرتهم عليه ،وهم
يناضلون أمام عجزهم الجسدي ،وتقضي عليهم الشيخوخة ذاتها بالشقاوة؛
ألنها تزيحهم عن المنصب وليس ألي سبب آخر ،فال يسمح بالتجنيد بعد
( ((25وف ًقا لتاكيتوس ( )Annals 1.7.2, 11.35.1كان جايوس تيراننيوس خاز ًنا للذرة praefectus annonaeعام 14م.
(وبالتالي هذا مثال بطبيعة الحال للعالقة الخاصة بباولينيوس ،)Paulinusوهو ال يزال بالقرب من كالوديوس عام ،48
ومن الصعب أن يكون تجاوز التسعين كما يقول سينيكا قبل نهاية حكم جايوس عام .41ومكث في منصبه سبع سنوات
بعد رجوعه إليه ،ولذا فإن سينيكا يبالغ في تحديد عمره.
197
الخمسين ،وال يتطلب حضور عضو مجلس الشيوخ إذا تجاوز الستين ،ومن
الصعب على الناس أن يقبلوا على التقاعد من أنفسهم بدلاً من القانون.
5-20وطوال الزمن وهم ينهبون وقد نهبوا ،وكسروا راحة كل منهما اآلخر ،وأتعسوا
بعضهم البعض ،وجعلوا الحياة بال نفع وال متعة وال تقدم في العقل ،وال أحد
فيهم يضع الموت في المشهد ،وال أحد ُيحجم عن اآلمال البعيدة ،والحقيقة
أن بعض الناس يقيم ترتيبات ألشياء لما بعد الحياة -مثل إنشاء مقبرة ضخمة،
وتدشين المباني العامة ،والعروض المجالدية للجنائز ،والمواكب الجنائزية
الفارهة ،-والحق أن جنائز مثل هؤالء ينبغي أن ُتقاد بضوء المشاعل والشموع
الرفيعة( ((25كما كانوا يعيشون الفترة المقتضبة.
* * *
( ((25ولتفادي جذب االنتباه ُش ِّيعت جنازات األطفال ليلاً بالمشاعل والشموع.
198
عن �صمود الحكيم
199
OCD Oxford Classical Dictionary, 3rd ed., ed. Simon Hornblower
and Anthony Spawforth. Oxford: Oxford University Press, 1996.
200
مقدمة
عن العنوان الموضوع والبنية:
من المستغرب إلى حد ما أن رسالة صمود الحكيم De Constantia Sapientis
ال تحتوي على الكلمة الالتينية صمود ،Constantiaوالحقيقة أنه في مرحلة ما من
مالئما لإلشارة للعمل أكثر من الطويل ،وهو العنوان
ً التراث أصبح هذا العنوان القصير
ضررا،
ً األساسي الذي يؤكد المفارقة الرواقية ،حيث إن الحكيم ال يتلقى إهان ًة وال
وكما يخبر سينيكا سيرينوس صديقه الذي يخاطبه في العمل ،وبرز الرواقيون من بين
مدارس الفلسفة بمسعى منفرد (مسار اإلنسان) ،2-1.1وهذا التحدي من سيرينوس
أو المسار الحاد والمباشر يشجعه ويصبح المنحدر أسهل ،ويصير الموضوع المركزي
للعمل هو المسار “الذي يرتفع أو أبعد من أي مقذوف”(.)1.1
وسرعان ما نكتشف أن سيرينوس يعبر عن غضب كاتو األصغر الذي تعرض
إلساءة لفظية والبصق( ،)2.3-3.1ويرد سينيكا في الوقت نفسه و ُيطمئن سيرينوس
بأن “الحكيم سالم ومعافى”( ،)3.2وتنطلق المحاورة الحاضرة من هذا النزاع حيث
ومتحمسا لسيرينوس( ،)2-1.3ويستجيب سيرينوس
ً شكيا
يقدم سينيكا اآلن خطا ًبا ًّ
ضررا أو إهانة(.)3.4-3.3
ً بإصغاء لما يقصده بكلمة (ال يتلقى)
وقد ُيتبع االستهالل والحكي بتقسيم للموضوعات( )2-1.5والذي يقسم فيه
موضوعه إلى قسمين الضرر iniuriaواإلهانة ،contumeliaويفسر كيف يتعامل
201
معهما على نحو منفصل ،وتمضي معالجته المنفصلة بعيدة بعض الشيء عن القانون
الجنائي الروماني ،والذي لم يتضمن فعل الضرر actio iniuriarumالضرر الجسدي
فحسب منذ القرن الثاني قبل الميالد -أي اإلحساس األولي بالضرر في القانون الروماني
المبكر مثل قانون األلواح االثني عشر(•) ،بل كلمات وأفعال القذف( ،((26وليست
غاية سينيكا التدقيق في القانون الروماني ،بل توضيح كيف أن الدروب المتمايزة التي
قد يفهم بها القارئ أنها ضرت المرء عمدً ا ال تمس الحكيم ،وهو التمييز بين الضرر
تدريجيا :حيث يستعمل مقولة
ًّ واإلهانة في ( )1.5يسمح له باكتشاف الطيف كاملاً
الضرر ليركز أولاً على حاالت مماثلة لالعتداء الجسدي تكون موضوعية وواضحة
في انتهاك القوانين ،في حين يستعمل مقولة اإلهانة على حاالت يتسبب فيها األذى
بالكلمات وتنطوي على تفسير ،وقد تكمن وراء القوانين (على سبيل المثال حتى لو
علمنا أن حاالت القذف الواضحة تكمن بقوة داخل فعل الضرر) ،وهذه هي طريقة
عم إذا كان الضرر قد أصاب الكل.
سينيكا في إقرار تفسير المتلقي كمحدد واقعي َّ
وفي مناقشة كلمة الضرر( ((26التي تحتشد في النصف األول من العمل (3.5
لوحا مثبتة على منصة المتحدث في (•) وهو أول القوانين الرومانية المكتوبة ،وقد ُكتبت هذه القوانين على اثني عشر ً
المحكمة الرومانية ،حيث كانت تدور مناقشة األمور المهمة .وقد كانت هذه القوانين األسس التي تقوم عليها الحقوق
الخاصة للمواطن الروماني .ومع وجود خالف حول وجود وزمن هذا القانون إال أن معظم الباحثين يعتبرون تاريخ
صدوره في سنة 450-449ق.م .واعتبر الرومان قانون األلواح االثني عشر قانونهم المدني ،ويقصد بذلك قانون
المدينة في نطاق القانون العام والخاص ،وقد جاء هذا القانون من أجل كسر احتكار رجال الدين للقانون ،وكذلك
للسعي في مساواة الطبقة العامة باألشراف .كانت الشكلية هي السمة الرئيسة في إجراءات الدعاوي في القانون
لفظيا قد يؤدي بالشخص لضياع حقه في تقديم الدعوى .وألن الروماني .مما يترتب عليه أن أي خطأ حتى ولو كان ًّ
هذه األلفاظ كانت غير معروفة للجميع باستثناء رجال الدين ،فقد جاءت هذه األلواح لتعلن كافة األلفاظ على المأل.
( ((26اإلهانة contumeliaغال ًبا مظلمة في فعل الضرر .انظر المناقشة العامة Riggsby 2010, 191–94; also, OCD
،s.v. “iniuria and defamationحيث تُظهر مناقشة سينيكا بعض حدود التقعيد القانوني والحجج الفقهية (e.g.,
.)5.3, 7.3–6
( ((26كان من الممكن ترجمة كلمة الضرر iniuriaبكلمة الخطأ كما فعل روبرت كاستر Robert Kasterفي ترجمته
لرسالة عن الغضب ،On Angerوفي السياق الحالي استعملت كلمة الضرر حتى أحافظ على تباينها مع كلمة اإلهانة،
فاألولى مادية والثانية شفوية ،وهذا أمر أساسي لتقسيم لعمل ،ولتوكيد حقيقة أن سينيكا غال ًبا ما يضع تمثالت باعتداءات
جسدية ( ،)e.g., 1.1, 3.5, 16.2ولكن علينا الحذر؛ حيث إن الضرر في اللغة اإلنجليزية يفترض السلوك غير القانوني
والمعاملة غير العادلة والظلم.
202
،)5.9-يتناول سينيكا مباشرة كيف يمكن للمرء أن يقوم بالضرر ،ومن ثم ال يتلقاه
الحكيم -شيء ما كما يفترض رد فعل سيرنيوس الشكي ،والذي يبدو بالقدر نفسه
بديهيا في الالتينية كما في اللغة اإلنجليزية ،ويعيننا أحد االفتراضات األوسع نطا ًقا
ًّ
في فهم أن الضرر يتعلق بالجسد وأمور أخرى ال عالقة لها بأمان العقل ،وعززت هذه
الفكرة بمجموعة من حجج القياس المنطقي( )2-1.8 ،5-3.5وتسعى جميعها إلى
فصل قصد األداة عن نتيجة الفعل( ،((26والقصدية يمكن أن يتجاهلها الحكيم الذي
يتجاوز أفعال المخطئين كما لو كانت أحداث مصادفة ال أهمية لها(،)1.9-2.8
و ُتنقل المناقشة للحياة بمثال تاريخي هو ستابليو الميجاري Stilpo of Megara
(ca. 360–280 bce; 5.6–6.7الذي يعرض ما يعنيه التمييز بين العقل الراسخ
)4.6( wellfounded mindوأسس مدينته المحطمة التابعة للحظ.
والموضوع الثاني هو اإلهانة ،وعرض بموسوعية أكثر من الموضوع األول وهو
واقعيا عن
ًّ الضرر ( ،)6.18-1.10وقد تصنف اإلهانة باعتبارها شكلاً أقل أو يقل
الضرر ( ،)3.16 ،2.10ومن ثم تلقى اإلهانة معالجة حساسة في حد ذاتها بتركيز
سينيكا على مسألة غامضة للغاية في تفسير كالم الناس( ،((26وإن المظهر النفسي
الذي يحمل المرء على تقبل اإلهانة ( )3.10يعكس عظمة عقل الحكيم (،)1.11
وتحليل اإلهانة باعتبارها مستمدة من االحتقار contemptusيقدم اعتبارات للحالة
النسبية للطرفين ،وهذا يسمح لسينيكا أن يرفض األسباب المختلفة لإلهانات التي
اجتماعيا (على سبيل المثال ،)2.10باستثناء
ًّ يتلقاها نخبة الرومان من األدنى منهم
هذا السمو الحقيقي وهو األخالقي وليس االجتماعي ،حيث إن حالة المرء مثل أن
يكون ملكا لميداس ( )3.13ال تعني شيئًا في نظر الحكيم ،والمثال الممتد الذي
ُيختتم به شرح كلمة اإلهانة يركز على اغتيال جايوس قيصر (كاليجوال) ،وكالهما
( ((26تختلف حجج القياس المنطقي هنا عن اللعبة المنطقية التي ينتقدها سينيكا في مكان آخر ( )e.g., Letter 49.5–6كما
الحظ .Barnes 1997, 18 n. 19. See also Cooper 2006
( ((26وضع روللر مناقشة سينيكا في سياق اجتماعي .Roller 2001, 146–54, esp. 151 n. 32
203
مستعمل نهم لإلهانات ومفسر معاد لهم (.)5-1.18
ويعيد سينيكا في مختتم الرسالة الموضوع ،حيث إن ما يتناوله بالفعل هو التحرر
العقلي ،ويفترض استبدال الحرية السياسية باالستقاللية الباطنة المتجذرة في العقل،
والحقيقة أن سينيكا يشير اآلن إلى قرائه المعاصرين الذين يعيشون في ظروف المبدأ
“أولئك الذين ليسوا كاملين ...ينبغء أن يضعوا في حالة تأهب ،وتعيش نفوسهم بين
األضرار واإلهانات” ( ،)3.19وفي الجملة الختامية لهذا العمل ً
أيضا يشير سينيكا
باستبدال العمل العام بآخر حيث استبدال الحرية السياسية التقليدية بفكرة كونية
لمجتمع العقل الذي يشارك فيه البشر واآللهة على حد سواء.
الصمود والحكماء:
رغم ما قيل أعاله ،فإن العنوان الذي ُأضيف الح ًقا «عن صمود الحكيم» ُيعيننا على
إدراك الخيط الرئيس للعمل ،يستخدم سينيكا في كل مكان كلمة صمود constantia
ليصف ثبات السلوك من يوم إلى آخر ،أو المثابرة على ما يقره المرء أو يحكم عليه
مبررا (على سبيل المثال ،((26()Letters 55.5, 92.3, 120.19–22وفي
دون أن يعطي ً
ً
ارتباطا وثي ًقا بمفهوم الصمود هذا العمل توكيد بعينه على سمتين للحكيم يرتبطان
وتماثله مع االصطالح اليوناني كارتيريا ،karteriaالسمة األولى التحمل patientia
) (2.2التي ترتبط في حالة الحكيم بالسمة األخرى وهي رسوخ العقل magnitudo
animiأو magnanimitaوباليونانية ) ،((26( megalopsuchia (1.11ووضحت
هذه المفاهيم من خالل نموذجين مجازيين رئيسين ،أحدهما الصالبة وهو في الالتينية
duritiaأو roburوكالهما يصور حصانة الحكيم وأثره الديناميكي الهزيل على
أولئك الذين يهاجمونه ،واآلخر هو التقييم الرأسي الذي يجمع االستعارات المكانية
المختلفة مثل صعود الفضيلة واالرتفاع فوق الحظ والخروج عن متناول المقذوف
( ((26عن نثر سينيكا ودرامته في رسالة صمود الحكيم انظر .Star 2006
( ((26عن الصمود وارتباطه بالصبر والعقل الراسخ انظر .Viansino 1988, 66
204
وتأمل اآلخرين من نقطة مراقبة هادئة والقرب من الرب ،ويتجه الموضوع إلى التحول
األسلوب ‘الرفيع’ في نثر سينيكا (على سبيل المثال .)4.9
وقد أعانت صورة الحصانة أكثر بتركيز سينيكا على الحكيم بما هو ،حيث ال يتعلق
العمل بالثوابت المجردة بل “التأمل المعقد على طبيعة العقالنية الرواقية”( ،((26وقد
تجسد كالهما في كاتو وستيلبو ،وكما رأينا على خلفية النماذج الشعبية (Hercules,
ممنوحا
ً )Ulysses, 2.1والتعريفات الفلسفية المجردة ،ورغم أن سينيكا يقدم ح ًّقا
لقارئه وهو يركز على نقطة واحدة ليست هي الحكيم 3.16بل المستقيم ،consipiens
والجملة األخيرة في العمل بمثابة تذكير باإلمكانيات الجدلية التي تأتي من معرفة
وجود الحكيم في زمن ما(.((26
إن صورة سينيكا للحكيم الرواقي في هذا العمل ذكورية للغاية ،وقد ظهر هذا
في الجملة األول حيث االختالف بين الرواقيين والفالسفة اآلخرين في مسألة
الجنس( ،)1.1وتجدر اإلشارة إلى أن التوكيد على الرجل لكونه راشدً ا ،ويصف
سينيكا األطفال الخائفين بالظالل واألشياء الوهمية األخرى باعتبار هذا مقارنة لكيف
يقاد الناس بمجرد (فكرة األلم)؛ ليدركوا أن اإلهانة مثل الضرر( ،)2.5وهذا الوصف
به تلميح إلى لوكريتوس ( )On the Nature of Things 2.55–58أو كهف أفالطون،
ويعزز هذا فهمنا لمسار اإلنسان في الفلسفة الرواقية باعتبار أن تقدم البلوغ محدد
بكمال طبيعتنا العقلية.
إن سيرينوس ومفارقات الحياة الرومانية العامة في السعي لتقديم خطابه كمسار
نحو تحمل األضرار واإلهانات اليومية للمجتمع الراقي ،فهذا العمل به قواسم مشتركة
برسالة سينيكا “عن الغضب” والمخاطب نوفاتوس ،Novatusويناقش العمالن
( Wright 1974, 59 ((26العنوان المختصر المناسب بل المضلل لرسالة عن الصمود ربما يدين بشيء لتبني جوستاس
ليبسوس لعنوان سينيكا لعمله الرواقي الجديد ،1584( De Constantiaويعتمد عمل ليبسوس على مجموعة متنوعة
من أعمال سينيكا وليس هذا العمل وحده.
( ((26لمزيد عن مكانة الحكيم عند سينيكا انظر .Inwood 2005, 295–96
205
رفض االنتقام والتوكيد على رسوخ العقل ،وكالهما ً
أيضا يعتمد على حكم كاليجوال
ليبين أطراف الضرر المفترض والمزايا المتكافئة لضبط النفس.
كان أنايوس سيرينوس صدي ًقا لسينيكا ،أو كما يفترض اسم عائلته أنه قريب لها،
وكان موقفة خالل حكم نيرون إن لم يكن في عهود األباطرة السابقين مضللاً لسينيكا،
ومعظم الباحثين أرادوا أن يؤرخوا رسالة صمود الحكيم بأنها في منتصف الخمسينيات
وسابقة على رسالة سكينة العقل ،والمخاطب فيها سيرينوس ً
أيضا ،وهي سابقة على
رسالة عن التفرغ والمخاطب فيها هو ً
أيضا( ،((26ومنطقهم في رسالة سكينة العقل
وعن التفرغ هي أن سيرينوس يتحدث عن موقف معظم الرواقيين ،في حين يشير
سيرينوس في هذا العمل إلى دعاوى الرواقيين المشكوك فيها( ،)2.3حتى لو كان من
المحتمل ألاَّ ُينظر إليه باعتباره واحدً ا من األبيقوريين الذين يشير إليهم سينيكا الح ًقا
في الرسالة ( ،)1.16-4.15ويقينًا فالصور المتباينة لسيرينوس تدعونا إلى أن نتأمل
أنه تحول إلى الرواقية -وهو الشيء الفعلي الذي يمزح به هنا(.)2.3
وقد يدفع سخط سيرينوس إلى حد كبير باستعمال الرواقيين للمتناقضات التي
يصفها باألمثلة المضادة في ،1.3والحقيقة أن معظم المفارقات التي ذكرها سيرينوس
هنا قد وثقت في مكان آخر في التراث الرواقي( ((26بما فيها التصور الرئيس لهذه
الرسالة ،ويشير بلوتارخ على سبيل المثال إلى دعوى خريسبوس بأن «الحكيم ال ُيظلم
.((27(”adikeisthai
( ((26إن معيار التاريخ الوحيد المؤكد الذي ذكره فاليريوس أسياتيكوس بعد وفاته في 1.18الذي يضع العمل لزمن الحق
على 47م ،وهو العام الذي انتحر فيه فاليريوس في حكم كالديوس ) ،(Tacitus Annals 11.3.2وحول سيرينوس
والتسلسل الزمني للعمل المرتبط به انظر تذكر سينيكا لموته في Letter 63.14–15ومناقشة جريفين discussion
see Griffin 1992, 316–17, 354, 396, 399, 447–48; Williams 2003, 12–15; also Grimal 1953,
.13–17, 19
( ((26وعن التراث انظر ،Lee 1953وارتباط المتناقضات في عزاء إلى هلفيا لسينيكا التي أظهرها .Williams 2006
( ((27انظر بلوتارخ عن المتناقضات الرواقية في ،1044aولهذه الشذرة والشذرات األخرى التي احتفظت بهذه المتناقضات
بما فيها ،(including Seneca On Benefits 2.35.2), see SVF 3:567–81وتشمل االصطالحات اليونانية
المختلفة الظلم adikiaوالضرر blabêوالقذف diabolêوالمعاملة القاسية أو القسوة .hubris
206
تعرض
إن ما يزعج سيرينوس هو أن المفارقات الرواقية غال ًبا ما تشوه بالواقع ،فكاتو َّ
حكيما ،ويرد سينيكا بأن مناخ الجمهورية المتأخرة
ً لسوء المعاملة و ُبصق عليه رغم أنه
مسمما ،ومثال ذلك كاليجوال في نهاية العمل حيث انتقلت أجواء
ً ال يزيد عن كونه
الجمعية الشعبية الكونتيو contioمن المنتدى إلى غرفة الطعام اإلمبراطوري()2.18
وهي تقدم أطبا ًقا جديدة من اإلذالل ،واألحرى أن رده هو توضيح حيث إن حججه
التحليلية مثل غزواته في التهكم تهدف إلى إلقاء الضوء على القيم المضللة وترابطات
الحياة االجتماعية الرومانية ،وليس هناك مفارقة على اإلطالق في عملية الكشف عن
المفارقة المركزية ،ويسعى سينيكا بدوره إلى الكشف عن التناقضات األسوء واألصيلة
(إن لم تكن مفارقات فنية) في كيفية تقدير الناس لما ال قيمة له.
إن أمثلة ستيلبو وكاليجوال التاريخية التي يلجأ إليها سيرينوس يبرهن بها أن
المفارقات خاطئة ،ورغم أن ستيلبو ذاته ينتمي إلى المدرسة الميغارية ،وأعماله يمكن
أن تؤخذ بعموميتها باعتبارها دليلاً على الثقة بالنفس ،autarkeiaفإن مثاله هنا(6.5
)7.6-يجسد المفارقة الرواقية من خالل خروج المغزى على القمة مثل الفاتح.
خاصا من الدفاع ،يستند إلى بنية تاريخ
ًّ نوعا
ومثال كاليجوال ( )5-1.18يقدم ً
جوليو كالوديان( ،((27وسوف تقودنا حجة سينيكا في العمل إلى توقع أنه حين أهان
كاليجوال فاليريوس أسياتيكوس Valerius Asiaticusفإن عظم عقل فاليريوس سمح
له أن يرتفع على اإلهانة ويعيش في سكينة ( ،)2.18ومن المستغرب أن سينيكا لم
انطباعا بأن فاليريوس تخلى عن اإلهانة،
ً كثيرا في رد فاليريوس إال بقدر ما يعطي
يطنب ً
ْ
وهو يبالغ بإعادة سرد التاريخ ووضع إهانة فاليريوس بجانب اغتيال كاليجوال بقيادة
لألخرى( ،((27وهذاعقاب ُ
ٌ جاسيوس شايريا ،)3.18( Chaereaويبدو أن أحدهما
أيضا دعوى أن مرتكب الضرر سوف يقابل غريمه عاجلاً أو آجلاً ،
يحول القصة نحو ً
( ((27وحول مثال كاليجوال انظر .Wilcox 2008, 466–72; Wright 1974, 63
( ((27كما الحظ Matthew Roller has noted (2001, 161–62
207
حيث يخرج شخص ما ينتقم لك ً
أيضا ( ،4.17وراجع ،)5.18ولكن سينيكا ال يؤيد
االنتقام بشكل صريح ،وسرعان ما يؤكد أن كاليجوال باغتياله قد أصاب نفسه حيث
ميله المرضي؛ ليرى اإلهانات أينما حل والرد بقسوة ( ،)5-4.18لذا رغم أن مثال
كاليجوال يبدأ بتوضيح كيف أن كبح الرجل –فاليريوس -قد قيده إال أنه يوضح على
نحو مكافئ كيف أن الرجل غير المقيد –كاليجوال -قد سمح لنفسه أن يهان بما يقوله
الناس الذين سيقابلهم بعقوبة إيذاء النفس– وهذا ما يعضد من الدرس الرئيس للعمل،
ومن الهين أن نشك أن سينيكا نفسه قد استحل اغتيال كاليجوال تبرئ ًة لنفسه ،وأما
اآلخرون الذين تعرضوا لسوء معاملة كاليجوال في حين أنهم أظهروا ضبط النفس،
ارتياحا
ً ً
معارضا لفعل االنتقام ،بينما يجد وهو يفعل هذا هنا بطريقة تسمح له أن يبقى
في نتائجه (.((27
( ((27يالحظ جريفين “ Griffin 1992ربما كان مثال كالوديوس هنا إشارة معاملة سينيكا المهينة ودوره المجهول عام ،41
ولكن سينيكا ال يخرج عن طريقه لتنويرنا بذكر السير.
208
ليس عدلاً من جانبي يا سيرينوس Serenusأن أقول إن هناك تباينًا ً
كبيرا بين 1-1
الرواقيين وبقية الذين يطلبون الحكمة ويفرقون بها بين اإلناث والذكور،
وكالهما يسهم في الحياة المجتمعية بمقدار متسا ٍو ،ولكن ُولد أحدهما
عالجا لطي ًفا ومعتدلاً كاألطباء حين
ً ليمتثل واآلخر ليأمر ،ويمنح الحكماء
يصاحبون المرضى الذين يعالجون أجسادهم أو حين يترددون على منزلهم
نفسه ،وهم ال يعاملوهم بطريقة جدية فضلى إال بقدر ما يسمحون ،وقد سار
الرواقيون على مسار اإلنسان ،ولم تهتم الرواقية بأن تكون ماتع ًة َ
لمن يدخل
عليها ،وباألحرى اهتمت بالطريق الذي قد يكشف لنا بقدر الممكن ،وترشدنا
إلى ربوة عالية ترتفع بعيدً ا عن متناول مقذوف الحظ.
“ولكن الطريق الذي نطلبه وعر وشاق ،هل هذا ح ًّقا؟ وهل يمكن الوصول 2-1
وعرا كما يعتقد بعض الناس ،والجزء لألعالي بطريق ُمعبد؟ ليس الطريق ً
األول منه فيه صخور ومنحدرات ويبدو مستحيلاً ،فهو كما نطالع األشياء
من بعيد تبدو مكسورة ،أو تتداخل حيث يخدعنا نظرنا بسبب المسافة ،ولكن
تدريجيا ،وخلف هذه النقطة تبدو
ًّ حين نقترب تتكوم أخطاء أعيننا وتتالشى
األشياء البعيدة وعرة وقد تنخفض إلى ميل هين.
أعربت
َ وحين ذكر حدث قد فعله ماركوس كاتو( ((27في اآلونة األخيرة، 3-1
عن الغضب (كما أنك ال تتسامح مع الظلم) ،وأن عصر كاتو لم تقدره تما ًما
( ((27كاتو األصغر (46-95ق.م) ،ولذكر كاتو عند سينيكا انظر هامش .On Providence 2.9
209
رغم أنه تجاوز بومبي والقيصر ،وصنفه عصره أدنى من أمثال فاتينيوس
ً
فاحشا حين كان يستعد لمعارضة القانون، ((27( Vatiniusويبدو لك كاتو
مدفوعا بأيدي عصبة محرضين على
ً ومزق تاجه togaفي المحكمة ،وكان
طول الخط بداية من روسترا حتى قنطرة فابيان ،Fabian archوقد تحمل
اإلساءات اللفظية والبصق وكل الشتائم األخرى من الحشد المسعور.
ولم يمض كاتو من جنب إلى آخر يصارع الوحوش التي يتتبعها الصيادون 2-2
وسكان البلدة ،ولم يطارد المسوخ بالنار والحديد ،ولم يحدث أن عاش في
زمن يعتقد فيه أن السماء ترتكز على كتفي رجل بعينه ،وقد تخلخلت تما ًما
عفوية السالفين اآلن ،وانتهى بنا الزمن إلى آفاق جديدة من الدهاء ،وقاتل
( ((27هزم فاتينيوس P. Vatiniusكاتو في انتخاب البرايتور عام ،55وهذا ما يدور في عقل سيرينوس كما هو واضح فى
3.2أدناه وفي .)On Providence 3.14; Letters 118.4
( ((27كالوديوس بولشر P. Clodius Pulcher d. 52هو أحد خصوم شيشرون ،وأصبح رمزً ا للفساد السياسي ،وعنف
الرعاع في الخمسينيات.
أخالقيا بجانب ريجولوس وكاتو في رسالة سكينة العقل On Tranquility of Mindًّ لاً ( ((27يقدم سينيكا هيروكليس مثا
عرضيا في أوليسوس (أوديسيوس) وخاصة في ).Letters (e.g., 88.7
ًّ لاً مثا ويظهر التراجيديات، 16.4وهو موجود في كل
210
كاتو ضد الطموح ،والفحش الذي جاء بأشكال عدة ،والشهوة غير المقيدة
للسلطة التي قسمت العالم كله إلى ثالثة ،ولم تكن مرضية( ،((27ووقف
وحيدً ا ضد رذائل مدينة ُمنحلة تهتز تحت ثقلها ،وظل ً
قابضا على الجمهورية
الساقطة كما لو كان يمكن عودتها بيد واحدة فحسب ،وفي نهاية المطاف فقد
قبضته وقدم نفسه كرفيق للفساد الذي ماطله طويلاً ،وقد أخمد اثنين منهم
معا( ،وكان بالمقدور أن تحدث إهانة ال يمكن تصورها لفصلهما)؛ ألن كاتو
ً
لم ينتهك الحرية ولم تنتهك الحرية كاتو.
ويبدو لي أنني أرى عقلك يشتاط ويغلي ،وأنت على وشك البكاء« ،وهذه 1-3
تأخذ النفوذ بعيدً ا عن تعاليم مدرستك ،أنت َمن وعدت الناس فوق ما يتمنون،
فدعهم يعتقدون فحسب( ،((27ومن ثم على بيانك بعد قول إن الحكيم ليس
فقيرا وال مجنو ًنا ،وال تنكر أنه يفتقر عادة للعبد المأوى والطعام ،وال تنكر
ً
أنه يرحل عن نفسه ويتلفظ بكلمات التعقل القليلة ،ويجرؤ على الفعل مهما
كانت تجبره قوة مرضه على القيام به( ،((28وبعد قول إن الحكيم ليس عبدً ا،
فال تنازع أنك سوف تطرحه للبيع ،وأنك ستفعل ما ُتؤمر وستؤدي واجب
العبودية لسيدك ،ولذا حين شنفت أنفك في الهواء نزلت لنفس مستوى
اآلخرين وهم يغيرون بسذاجة أسماء األشياء.
وعظيما،
ً أظن أن هناك شيئًا مماثلاً في هذا ،حيث يبدو للوهلة األولى جميلاً 2-3
( ((27على سبيل المثال الحكومة الثالثية األولى في الخمسينيات بالسلطة المشتركة بين قيصر وبومبي وكراسوس.
( ((27حول مفارقات الرواقية انظر مقدمتي للرسالة.
( ((28ربما يشير الموقف إلى مرور الحكيم بفقد مؤقت لالعتدال وسالمة العقل ،كما هو الحال في سكر كاتو في رسالة
سكينة العقل ،On Tranquility of Mind 17.4وحول السكر انظر .Letters 83.9–27
211
فالحكيم ال يتلقى إساءة وال إهانة ،وما يصنع الفارق الكبير إذا ما كنت تضع
الحكيم وراء اإلساءة أو اإلهانة ،وإن قلت إنه سيتحملها بعقل هادئ فليس
ً
مشتركا وال يمكن تعلمه إال بالتعرض خاصا ،فإنه يمتلك شيئًا
ًّ وضعا
ً هذا
لإلساءة بشكل متكرر ،أعني يتحمله ،وإن قلت ال يتلقى إساءة فإنه يحاول أال
رواقيا!
ًّ تصيبه ،وأنا أتخلى عن كل ما يشغلني وأصير
ح ًّقا ،ليس قصدي أن ُأزين الحكيم بتأليف كلمات شرف وهمية ،بل حتى 3-3
فمن الذي يحكم
موضعا ال ُيساء له فيه« ،ماذا؟ لن يوجد أحد يتحداهَ ،
ً أضعه
ً
انتهاكا لقدسيته ،ولكن عليه؟» ،وال شيء مقدس في طبيعة العالم ال يواجه
األمور الربانية ال يقل سموها ألنها موجودة في هؤالء ،مع أنهم لن يلمسوا
العظمة التي تقبع خلفها رغم أنها تهاجمها ،وليس الشيء المضروب هو
المحزن ولكن الذي لم يضر ،وهذا ما يميز الحكيم الذي أقدمه لك.
ٌ
خالف على أن الثبات يزيد اليقين إن لم يكن مهزو ًما من المؤكد أنه ليس هناك 4-3
وبالحري ليس متحد ًيا ،فالقوة التي ال ُتختبر تفتح باب الشك ،في حين يحكم
على صمود اليقين بصد كل هجوم؟ وبنفس الطريقة ينبغي أن تعرف أن
الطبيعة الفضلى للحكيم إن لم يصبه إساءة أحرى من أن تصيبه على نحو
ٍ
رديء ،وأقول إن الرجل الشجاع الذي ال تهزمه الحروب ،والذي ال يشعر
ٍ
أناس مستسلما للقدر بين
ً بالخوف من اقتراب قوة العدو ،وليس َمن يعيش
خاملين.
ومع هذا أقول إن الحكيم ليس عرضة لإلساءة ،ولذا ال يهم كم القذائف التي 5-3
ُيلقى بها؛ ألن ال شيء يمكن أن يخترقه ،كما ال يمكن خرق الصخور الصلبة
بالحديد ،وال يمكن قطعها أو سحقها أو طحنها ،بل يتكسر حد األشياء التي
ترطمها ،كما أن هناك أشياء بعينها ال يمكن استهالكها بالنار ،حتى حين نوقد
النار عليها تحتفظ بمتانتها وشكلها ،كما أن صخور بعينها تبرز وتخرق البحر
212
وال يظهر أي أثر لوعورتها رغم تعرضها لالنتهاك على مر العصور ،وعقل
الحكيم مثل هذه الصالبة ،وقد اكتسب مثل هذه القوة التي تأمن الخلل مثل
األشياء التي رويتها.
«وماذا؟ وهل هناك امرؤ يحاول أن يؤذي الحكيم؟ إنه يحاول ،ولكن األذى 1-4
لن يصل إليه ،والحكيم ينأى عن االتصال باألشياء الدنيئة حتى ال يحمل
قوتها المؤذية على طول الطريق ،وحتى حين يسعى األقوياء ليلحقوا به ضررا
يرأفون بقوتهم ويحتفظون بها ،وهجومهم سوف يسقط كل شيء إال الحكمة
كأشياء تطلق من قلوع وأقواس حتى لو طارت بعيدً ا َّ
عما تراه العين ترتد
ساقطة قبل أن تصل إلى السماء.
وماذا؟ هل تفكر في الحادثة حين أظلم الملك األحمق النهار بقذائف كثيرة 2-4
أي ما يشبه السهم يصيب به الشمس أو لمس اإلله نيبتون Neptuneبرمي
السالسل في قاع البحر(((28؟ وكما أن األجرام السماوية تملص أيادي
البشر ،وكما أن الذين يهدمون المعابد ويحطمون التماثيل ال يضرون األلوهية
بشيء ،فكذلك ال يهم الشيء المخزي واألرعن والمتغطرس الذي ُيفعل ضد
الحكيم ،فالمحاولة عابثة.
ومن ثم كان من األفضل ألاَّ يرغب في فعل هذا" ،أنت تتمنى شيئًا صع ًبا 3-4
لجنس البشر ،وهو البراءة ،وعالوة على هذا ال ينبغي أن ُيفعل هذا في إطار
مصلحة َمن يفعلونه وال في إطار َمن يمكن أن يتحمل حتى لو قام به ،وأظن أن
السكينة وسط الضجيج تقدم ً
عرضا أفضل لقوة الحكمة ،كما أن أعظم برهان
ومتحررا من القلق في أرض
ً لقوة الجنرال في العتاد والرجال أن يكون آمنًا
العدو.
213
ودعنا نميز يا سيرينوس بين الضرر واإلهانة ،فاألول خطره وخيم بطبيعته، 1-5
والثاني خطره أخف ،وخطره الوحيد على المدللين ،فهم ال يضرون به بل
يستاؤون منه ،ولكن هذا ضعف وغرور عقول أناس تفكيرهم ليس مؤذ ًيا،
وهكذا سوف ترى العبد الذي ُي ِّ
فضل أن يكون مجلو ًدا على أن يكون مربوط
األذنين ،الذي يعتقد أن الموت والضرب مقبول على تحمل اإلهانة بالكلمات.
لقد وصلنا إلى منتهى التفاهة ،وهي ألاَّ يكدرنا األلم بل التفكير فيه مثل 2-5
األطفال الذين يخافون الظل وأقنعة األشباح ،الذين ينهمرون في الدموع
لسماع أسماء بغيضة وإيماءات أصابع وأشياء أخرى يحاولون الفرار منها؛
لجهلهم بها فتدفعهم للتفكير الخاطئ.
إن القصد من األذى هو ما يلي ،تأثر المرء بالسوء ،ولكن الحكمة لم تدع 3-5
موضعا للسيئ ،حيث إن الحكمة الوحيدة للسيئ هي الخجل ،والذي ال
ً
يمكن أن يدخل حيث تكون الفضيلة والخير األخالقي ،إذنْ ال يوجد أذى دون
سوء وال شيء سيئًا باستثناء ما يكون مخجلاً ،وال يصل الخجل المرئ يرتبط
بأمور الخير األخالقي ،وال يصل األذى إلى الحكيم ،وإذا كان األذى معاناة
ً
منشأ سيئًا ،وال يتناسب األذى مع الحكيم. منشئ سيئ فإن الحكيم ال يعاني
وكل أذى نقص فيمن يهاجم ،وال يتلقى أحدٌ أذى دون أن يضر بحاله أو بجسده 4-5
أو األشياء خارجه ،ولكن الحكيم ال يخسر شيئًا؛ ألنه وضع كل األشياء في
خيرا على أرض صلبة قوامه
نفسه ،ولم يضع شيئًا في إدارة الحظ ،وقد حاز ً
الفضيلة ،وليس في حاجة إلى أشياء الحظ فال يزيد وال ينقص؛ ألن األشياء
ٍ
حالة إلى أقصى مدى ،وال مكان للزيادة فيه ،وال ينتزع الحظ شيئًا وصلت في
إلاَّ ما أعطاه ،وال يعطي الحظ فضيلة وبالتالي ال يأخذها ،والفضيلة حرة ال
تنتهك وال تنمحي وال تتذبذب ،وبالتالي فهي عصية أمام أحداث الصدفة التي
ال يمكن أن تلويها ناهيك عن هزيمتها ،ويبقى نمطها ثابتًا وهي تتفرس مكائد
214
الزلل ،سواء أجاءت من الشقاء أم من السعادة.
وهو ال يرغب؛ ألن ما يرغب فيه قد يفقده ،إنه ملك الفضيلة فحسب وال 5-5
يستغني عنها ،وأما األشياء األخرى التي يستعملها كما لو كانت على سبيل
فمن الذي يستاء مما ليس له؟ وال يطول األذى األشياء التي يمتلكها
اإلعارة؟ َ
الحكيم؛ ألن أشياءه آمنه بأمان الفضيلة ،ومن ثم ال يصيب الحكيم أذى.
قبض ديمتريوس على ميجارا Megaraالذي أطلق عليه بوليوركيتيس (مثال 6-5
عم إذا كان قد فقد شيئًا؟ فقال:
المدن) ،وسأل الفيلسوف ستيلبو ديمتريوس َّ
“ال شيء ،كل أشيائي معي”( .((28وقد ُنهب ُملكه ُ
وسبيت بناته ،وهيمن
العدو على وطنه ،وقد جره الملك المزعوم الستجوابه بالسالح.
ومع ذلك انتزع ستيلبو انتصار الرجل منه بشهادة أنه رغم غزو مدينته إلاَّ أنه لم 7-5
خيرا ح ًّقا ال يدعيه ،وأما األشياء التي انتُزعت والتي
ُيهزم ولم ُيهدم؛ ألنه ملك ً
تنتقل من يد إلى يد قد حكم بأنها ليست له ،وباألحرى هي أشياء تغدو وتروح
في دعوة الحظ ،ولذا كان يتمتع بها وكأنه ال يملكها؛ ألن تملك األشياء التي
ٌ
وانزالق. ريب
تتدفق من الخارج ٌ
واآلن تأمل ما إذا كان اللص وسيئ السمعة والجار الوقح أو بعض األثرياء 1-6
ً
ملوكا على فاقة ستيلبو ويمكن أن يصيبوه ،فال يمكن الذين يصنعون أنفسهم
أن تنتزع منه الحرب والعدو والخبير في السطو على الفنون الجميلة للمدن
شيئًا!
ووسط وميض السيوف في كل مكان ،وضجيج نهب الجنود ،ووسط اللهيب 2-6
والدم والمذابح التي اجتاحت المدينة ،ووسط تحطم المعابد التي تسقط
( ((28ديمتريوس Demetrius (336–283 bceهو ابن أنتيجونس Antigonusملك مقدونيا ،وستيلبو –Stilpo (ca. 370
) 290 bceوهو ينتسب للمدرسة الميجارية التي بدأت بإقليدس الميجاري Euclides of Megaraتلميذ سقراط،
وتؤكد أخالقياتهم من بين األمور األخرى رضى النفس.
215
على أربابها ،رجل واحد هو الذي في سالم .وليس من سبب لديك لتعتقد أن
في ،فإني أضمن أن أعطيك ،وألنك
وعدي مغامرة ،ورغم أنك ال تثق تما ًما َّ
قد تشك في أن هذا حمل ثقيل أو هذه عظمة للعقل ،إال أنه يمكن أن يكون
حاضرا في اإلنسان ،ولكن يصعد من بيننا أحد يقول(:((28
ً
"ليس لديك سبب لترتاب من أن َمن يولد إنسا ًنا يمكن أن يرتقي بنفسه فوق 3-6
األمور اإلنسانية ،ويمكن أن ينظر دون قلق على األحزان والفقدان والقروح
والجروح والكوارث العظمى التي تحوط به ،ويمكن أن يتحمل الشقاء بتؤدة
ورضى ،وال يحن لما مضى وال يستند على ما يأتى ،واألحرى أن ُيبقي الذات
وسط األحداث الشتى ،وال يفكر في شيء إال نفسه.
وزحفت اآلن من أنقاض بيتي ،والنيران المستعرة من حولي ،وهربت من 5-6
النيران خالل سيول من الدم ،وال أعلم إن كان قدر بناتث أسوأ من القدر العام
أم ال ،والعجوز وأنا وأرى العدو حولي فقط ،ولم أعلن أن ممتلكاتي سليمة
ولم تضر ،فما هو لي هو لي ،فأنا أملك وأ ُبقي لنفسي.
ال تعتقد أنني َمغزى وأنت الفاتح ،وأن حظك غزا حظي ،وأما أماكن هذه 6-6
األشياء العابرة التي يغيرها السادة ال أعلمه ،وأما أشيائي التي تهمني فهي معي
وستظل معي.
وقد فقد أدعياء الثروة ممتلكاتهم ،وفقد الشهوانيون عشيقاتهم وعاهراتهم 7-6
216
وح مقعده في المفضالت بعد أن أنفقوا في العار تكلفة كبيرة ،وقد فقد َّ
الط َم َ
مجلس الشيوخ والمحكمة واألماكن المحددة لممارسة الرذيلة في األماكن
العامة ،وقد فقد المقرضون دفاترهم في بخل يهلوس ببهجة في الثروة ،أما
بالنسبة لي فقد ملكت كل شيء كامل وغير منقوص ،فامض واسأل هؤالء
الذين يبكون ويرثون ،والذين يلقون أجسادهم العارية أمام السيوف المسلولة
دفاعا عن أموالهم ،والذين يفرون من العدو ويجرون جعابهم بوزنها الثقيل.
ً
هذا هو الطريق يا سيرينوس؛ عليك أن تفهم كيف أن اإلنسان الكامل وكمال 8-6
الفضائل البشرىة واإللهية ال تعاني ف ْقد شيء ،وأن بضاعتهم بحصون صلبة ال
يمكن اقتحامها ،وال يمكن أن تقارن هذه الحصون بحصون بابل التي دخلها
اإلسكندر ،وليست هي حصون قرطاجة أو نيمانتيا Numantiaالتي غزاها
بيد واحدة ،وليست هي القلعة أو الكابتول الروماني ،وتلك التي تحمل آثار
العدو ،وهذه الحصون تحمي الحكيم وتأمنه من اللهب والتسلل ،وال تتخلل
فيه سبيلاً ؛ ألنها شامحة وليست عرضة للعواصف ،وتتساوى مع األرباب.
ال يمكن أن تقول -كما تفعل غال ًبا -إن حكيمنا هذا ال يوجد في ٍ
أين ،نحن ال 1-7
ً
فارغا لطبيعة البشر أو نبتدع صورة ضخمة لشيء كاذب ،واألحرى نصنع مثالاً
أننا أنتجنا وسوف ننتج واحدً ا كما صممنا ،ربما يندر وجوده حتى بعد فترات
زمنية كبيرة ،إال أن األشياء العظيمة تتجاوز التدبير الشائع والعادي وقد ال
ُتولد غال ًبا ،وأشعر بالهلع من االعتقاد بأن ماركوس كاتو من الذين يضاهون
هذا الحكيم وربما يتجاوز نموذجنا.
وفي نهاية المطاف فإن األشياء الضارة أقوى من األشياء التي ُيلحق بها 2-7
الضرر ،وليس األذى أقوى من الفضيلة ،ولذا الحكيم ال ُيضر ،وليس األذى
محاولة ضد الخير باستثناء ما يأتي من قبل األشرار ،فاألخيار فيما بينهم في
سالم ،في حين يحقد األشرار على األخيار كما يفعلون فيما بينهم ،ولكن
217
إذا كان األضعف بمقدوره الضرر والمرء السيئ أضعف من الخير ،والشيء
الخير ال يخشى الضرر إال من امرئ ال يكافئه ،لذا فإن الحكيم ال يمسه أذى،
وأنت لست في حاجة ألذكرك بأن ال أحد خ ِّي ًرا سوى الحكيم.
ضررا
ً والشيء الذي نتعامل معه في إطار هذه المقولة أيضا ،فإذا تلقيت 6-7
فبالضرورة قد ُفعل ،وإن ُفعل فليس بالضرورة تم تلقيه ،وكثير من األشياء
تحدث ونتفادى فيها الضرر ،وقد تقرع بعض األحداث الصدفة بعيدً ا عن
اليد الممدودة أو تحول القذائف التي ُتطلق ،وهكذا يمكن للشيء أن يصد
األضرار بغض النظر عن نوعها ،ويمكن اعتراضها في منتصف الطريق،
218
ولذلك قد ُتفعل األضرار ولكن ال يتم تلقيها.
وليس بمقدور أحد أن يضر الحكيم أو ينفعه ،حيث إن األمور الربانية ال 2-8
تحتاج إلى عون وليس بالمقدور اإلضرار بها ،ويوجد الحكيم كجار مجاور
لألرباب ،وهو شبيه بالرب إال في أخالقياته ،وهو يكافح ساع ًيا نحو األمور
السامية والمحكمة والجسورة التي تتدفق من مسار متسا ٍو ومنسجم متحر ٍر
ٍ
وصاف لنفسه ولآلخرين ،ال ٍ
وموجود ألجل الخير العام، من القلق والنوع،
يرغب في الدنية ،وال يدمع على شيء.
َ 3-8من يعتمد على عقله ليدعمه ويدخل في أحداث البشر بعقل رباني ،ال يمكن
أن يتلقى أذى في أي ٍ
أين ،هل تعتقد أنني أقصد الضرر من البشر فحسب؟
وال حتى من الحظ ،فحين يقبل الحظ للقتال مع الفضيلة فإنه ال يسير بعيدً ا
وصاف أكبر األشياء على اإلطالق التيٍ عن موازاتها ،ولو تلقينا بعقل هادئ
تتجاوز األوامر الغاضبة وقسوة السادة ،فال شيء يهددنا يستعمل الحظ نفوذه
ضرا ،فسوف أمرا سيئًا ،وهو هكذا ليس ًّ
فيه ،وإذا علمنا أن الموت ليس ً
نتسامح مع األمور األخرى مثل الفقد والحزن وتلوث السمعة وتغير المناخ
ووفاة األقارب ُ
والفرقة ،وهذه األشياء ال تغمر الحكيم وال تطوقه ،وهو يقلل
حزنه على انقضاضاتهم الفردية ،وإذا تحمل أذى الحظ باعتدال ،فكم سيزيد
( ((28مفارقة رواقية أخرى“ :ال يتحرك الحكيم باالمتنان مطل ًقا” ).(cf. Cicero On Behalf of Murena 61
219
ما يتحمله من البشر ،وهو يعلم أنهم في أيادي الحظ!
وهكذا في األلعاب المقدسة معظم الناس يهزمون أعداءهم بتحملهم العنيد، 5-9
وتأمل أن يكون الحكيم من هذا النوع ،أي الذين يتحصلون على تدريب حاد
خارجا.
ً ليتصدوا لكل قوة معادية ويطرحوه
1-10وحيث إننا قد وصلنا إلى نهاية الجزء األول ،فدعونا ننتقل إلى الجزء الثاني،
والذي سوف نناقش فيه اإلهانة ،وهو يعرض لحجج عامة بعينها(،((28
واإلهانة أقل من الضرر ،ونحن نشتكي منها أكثر مما نسعى إليها ،وال نوليها
القوانين ما تستحق من العقاب.
2-10وقد ُتستثار هذه العاطفة بوضاعة العقل الذي يفسد بسبب بعض كلمات أو
أفعال ُمحطة" ،هذا الرجل لم يقبلني اليوم ،ولكنه تقبل اآلخرين"" ،وعندما
كنت أتحدث اعتزلني عن قصد أو سخر مني علنًا"" ،لم يجلسني وسط
األريكة ولكن عند قدمه" ،وأشياء أخرى من هذا القبيل( ،((28وماذا ُأسمي هذا
سوى أنها تماحيك عقل أصابه دوار؟ ومحظوظ ومفاخر َمن يجد نطقها عادة،
فال أحد يملك وقتًا لمالحظة هذه األمور إن كان لديه أمور أسوأ يتعامل معها
3-10والعقول بطبيعتها في وقت الفراغ خاملة ومؤنثة ومتسكعة هنا وهناك في
غياب الضرر الحقيقي ،وبعضها يضطرب بهذه األمور ،ويرتد أغلب هذه
األمور لخطأ المفسر.
221
3-10و َمن يتأثر باإلهانة ،ال ُيبين في نفسه شعور طيب أو أي ثقة ،ألنه يحكم دون
لمحة شك وال ُيولي اهتما ًما ،وال يحدث هذا دون تصاغر بعينه في العقل
ُيضعف ذاته ويحط منها ،والحكيم على النقيض ُيولي اهتما ًما بأي أحد ،فهو
يعرف عظمته ،ويعلم أن ليس ألحد سلطة عليه ،وكل هذه األشياء ال ُأسميها
شقاوات العقل بل بالحري الكدر ،والحكيم ال يهزمها واألحرى ال يشعر
حتى بها.
4-10وتضرب الحكيم أشياء أخرى ،حتى إنها ال ُتطيح به مثل األلم الطبيعي وف ْقد
أحد األطراف وف ْقد األصدقاء واألطفال وفاجعة احتراق وطنه في الحرب،
وال أنكر أن الحكيم يشعر بهذه األشياء( ،((28حيث إننا ال نصفه بصالبة
الحجر أو الحديد ،حتى يصمد دون أن يشعر بما تحمله أنت من سوء فضيلة
تقري ًبا ،وما وجه نظري إذنْ ؟ إنه يتلقى بعض الجروح فيتغلب عليها ويبرئها
ويوقف نزيفها ،فهذه الضربات أقل من أن يشعر بها ،وال يستعمل تجاهها
الفضيلة المألوفة التي نتحدث عنها التي يتسامح بها مع المصاعب ،وهو ال
يسجلها أو يعتقد أنها مثيرة للضحك.
( ((28يبدو انها إشارة إلى ما يسبق االنفعال propatheiaiوالذي يشعر به الحكيم الرواقي دون موافقته ،وللمزيد حول وجه
نظر سينيكا في هذا انظر .Graver 2007, 93–101
222
contumeliaمن كلمة االحتقار contemptus؛ ألن ال أحد يصيب أحدً ا
بضرر إال إذا احتقره ،ولكن ال أحد يحتقر ً
امرأ ما أعظم وأحسن حتى لو كان
محتقرا؛ ألن األطفال يضربون آباءهم على وجوههم،
ً يفعل باإلجمال شيئًا
والطفل الصغير يبعثر شعر أمه ويقصفه ويبصق عليها أو يعريها أمام أسرتها،
احتقارا.
ً وال نقول على هذه إهانات ،لماذا؟ ألن فعلهم ليس
3-11وفي األمر نفسه لماذا نستمتع بدعابات العبيد المهينة مع أسيادهم ،وجرأتهم
قد تتمادى تجاه ضيوف العشاء إذا سمح لهم أسيادهم؟! وأكثر ما يحقر المرء
فرط لسانه ،ولهذا الغرض يشتري بعض الناس الفتيان الصفيقين ويحدون
غلظتهم ويدربونهم حتى يصبوا اللعن كخبراء ،وال نطلق على هذه إهانات
بل ذرائع ،ويا له من جنون كي تتسلى وتهين في اللحظة نفسها بنفس األشياء،
وكي ُتسمي ما قاله الصديق قذف وما قاله العبد مجرد دعابة!
1-12إن االتجاه الذي أخذناه في عقولنا تجاه األطفال هو ما يتبناه الحكيم تجاه
َّ
والشعر الرمادى أو أحرزوا من تستمر طفولتهم حتى يصلوا سن الرشد
تقد ًما بعقول َمن حشوا بالخطأ والتعقيد فنموا على نحو أعظم ،الذين
يختلفوا عن األطفال في الحجم وشكل الجسد فقط وخالف ذلك ضالل،
ويسعون بعد المتعة بعشوائية وقلق ،وسالمهم الوحيد في الذعر وليس فى
حسن الخلق؟.
2-12وال أحد يقول إن هناك اختال ًفا بين هؤالء الناس واألطفال؛ ألن األطفال
يتجهوا نحو حيازة الروافع والبندق والنقود المعدنية في حين ينحو هؤالء
الناس نحو حيازة الذهب والفضة والمدن! فاألطفال يلعبون فيما بينهم قضاة،
ويتخيلون وجود التاج األرجواني المهذب وحزمة الصولجانات fasces
وعرش القاضي ،في حين يلعب هؤالء الناس األشياء نفسها على محمل
الجد في حرم مارتيوس Campus Martiusوالمحكمة ومجلس الشيوخ،
223
واألطفال يبنون منازل وهمية بتكويم الرمال على الشاطئ ،في حين يشغل
هؤالء أنفسهم بتكويم األحجار والجدران والسقوف ،ويتخذون ما ابتدعوا
عظيما،
ً إيواء لألجساد ويحولونه إلى شيء مهيب كما لو كانوا قد فعلوا شيئًا
إن الموقف بين األطفال وهؤالء الناس متشاب ُه إال أن خطأ الناس يتعلق بأمور
أخرى أكبر.
3-12وهكذا قد يبرر الحكيم تلقي إهانات هؤالء الناس على أنها مزحة ،وقد
ضررا،
ً يحذرهم من األذى والعقاب أحيا ًنا مثل األطفال ليس لكونه قد تلقى
بل ألنهم قد يضرون وحتى يتوقفون عن هذا الفعل ،فالحيوانات قد تروض
بجلدة سوط ،وال نغضب حين ترفض راكبها ،ونحن نكبحها حتى يكسر
األلم عتُوها ،وسوف ترى كيف أن تحييد هذا االعتراض قد يقام ضدنا»،ُ
ضررا أو إهان ًة ،أيعاقب من يفعلونه؟ وإن
ً وماذا يفعل الحكيم إذا لم يتلق
أردت أن تعرف ،فإنه ال ينتقم من نفسه وبالحرى يصوبها.
1-13ولكن كيف ال تصدق أن هذا الصمود العقلي للحكيم ليس بمقدوره الحضور
فيه في حين أنك تالحظ األمر نفسه ح ًّقا في اآلخرين لسبب مختلف؟ فلماذا
ٍ
امرئ قد جنب عقله جان ًبا؟ و َمن الذي يمتعض حين يتفوه يغضب الطبيب من
امرؤ ما باللعن وهو يتأوه من الحمى وحرمانه من الماء البارد؟
( ((28جزء من النص هنا مفقود ،وقد تم توفيقه في اللغة اإلنجليزية ليتناسب مع المحتوى.
224
يعتبر احترامهم بال قيمة ،ويؤدي االتجاه نفسه تجاه أفعالهم التي تأتي بال
فضيلة.
3-13كما أنه ال يتعجرف حين يتسوله أحد ،وال يهينه ألنه من طبقة دنيا وأنه ال يرد له
ترحيبه ،وكذلك ال يعجب بذاته حين ُيعجب به األثرياء ،ألنه يعلم أن هؤالء
األثرياء ال يختلفون عن المتسولين ويستحقون الشفقة؛ ألن األغنياء يفتقرون
إلى القليل ،والمتسولون يفتقرون إلى الكثير ،وهو ال يأبه إذا مر ملك ميديس
Medesأو ملك أتالوس Attalus of Asiaاآلسيوي على تحيته بصمت
وتعبير غرور( ،((28وهو يعلم أنه الشيء قد يحسد عليه رجل في موقف عبد
في أسرة كبيرة وعلى عاتقه كبح المريض والمجنون.
( ((28ملك ميداس :وربما إشارة فضفاضة إلى زركسيس الملك الفارسي ،أتاليوس Attalusأحد ملوك برجامون الثالثة
الذين يطلق عليهم االسم نفسه فى القرنين الثالث والثانى قبل الميالد.
225
يستطيع أن يحكم على اإلهانة التي ُفعلت تجاهه ،وبالتالي يسمح َ
لمن أهانه
أن يحصل على شرف؛ ألن من ينجح في إزعاج أحد بتوبيخه وبتوريطه يمكن
أن يبتهج في إعجابه.
1-14وبعضهم مجنون للغاية حيث يعتقد بأن بمقدور المرأة أن تهينهم ،وما المسألة
في كيف يتعاملون معها بوجاهة ،وكم ما يحملونه مشينا عليها ،وكم يكون
قرضها ثقيلاً ،وكم يكون كرسيها السيدان واسع؟ وهي تبقي متساوية مع حيوان
ْ
يضف إليها المعرفة ال يفكر ومتوحش ويفتقد السيطرة على شهواته ما لم
والتعلم ،وبعضهم ينزعج إذا وخز بمقص الحالق ،وحين يمنعهم الحاجب
وحين يتعجرف المذيع في إعالن اسمهم أو يتغطرس العبد في تجهيز غرفة
نومهم يعدون هذا إهانة ،آه كم تكون هذه األشياء سخيفة! وكم من لذة للمرء
تمأل عقله بضجيج أخطاء البشر ،بينما يتدبر المرء سأمه وهدوءه!
« 2-14وماذا؟ هل ال يقترب الحكيم من البواباب التي يحرسها حارس فظ؟» ،إنه
سوف يحاول في هذا إذا تطلبت الضرورة ذلك ،وإنه سوف يالطف الحارس
أين كان كما لو كان يرمي طعا ًما إلى كلب مسعور ،ولن يعتقد أنه ال يستحق
معتبرا أن عبور جسور بعينها يتطلب الهدية ،وإنه
ً أن ينفق شيئًا ليعبر العتبة
سوف ُيعط لهذا الرجل أ ًّيا كان الذي ُيدير الربح من استقبال حفالت الصباح،
وهو يعلم أن األشياء التي ُتباع قد ُتشترى بالمال ،وإن المرء ضيق األفق من
يرد بعجرفة على الحارس ،أو يكسر هيئته أو يذهب إلى السيد ويطلب جلد
خصما ،وحتى لو ظفر فإنه في
ً الحارس ،فالذي يقيم معركة يجعل نفسه
مستوى َمن هزمه.
3-14ولكن ماذا يفعل الحكيم حين يلكمه الحارس؟ وماذا فعل كاتو عندما ُضرب
وجهه ،إنه لم يغضب ،ولم ينتقم للضرر ،وبالحري أنكر أنه قد ُضر ،وقد
تطلب تجاهله عقلاً أعظم من الذي قد يتطلبه صفحه.
226
فمن الذي ال يعي
4-14لن نطيل في هذه المسألة أكثر من ذلك ،وبعد كل هذاَ ،
أن األشياء التي يفكر فيها سيئة أم حسنة تبدو للحكيم كما تبدو ألي امرئ
آخر؟ إنه ال يحترم أحكام الناس حول ما هو مخجل أو خادع ،إنه ال يمضي
مسارا عكس حركة السماوات،
ً على مسار العامة ،ولكن مثل الكواكب تسلم
ولذلك يحرز الحكيم تقد ًما تجاه رأي العامة.
2-15ورغم عظم هذه األشياء في العدد والحجم ،فإنها ستكون من نفس الطبيعة،
وإذا كان القليل منها ال يمسه وال حتى الكثير ،فإذا كان القليل منها ال يمسه
فإن الكثير منها ال يمسه كذلك ،ولكنك تأخذ ضعفك دليلاً يرشدك لتخمن
في عقله الجبار وتعتقد أن ما تفكر بمقدوره التحمل ،ووضعت حدًّ ا لحمل
الحكيم وهو مجرد حد قاصر ،ولكن فضيلته تضعه في طرف آخر للعالم
حيث ال يشترك في شيء معك.
ِ
امض وابحث عن بعض األشياء الثقيلة والقاسية لترفعها عن التي تتقهقر عند 3-15
سماعها أو رؤيتها ،فغالب هذه األشياء ال تغلبه ،وسوف يقاومها كلها كما لو
كان يقاومهم فرادى ،وإذا قال امرؤ ما :إن الحكيم يطيق شيئًا وال يطيق آخر،
فإنه يحفظ عظمة العقل في حدود ثابتة ،فإنه ُيخطئ ،والحظ يهزمنا إن لم
نهزمه كلية.
227
4-15وحتى ال تعتقد أن هذه القسوة مقصورة على الرواقيين وأبيقور الذي يتبناه
نموذجا للخمول معتقدين أنه يعلمهم األشياء اللينة والخاملة ومسارات
ً الناس
"نادرا ما يحدث في درب الحكيم حظ" ،فكيف أقبل على نطق
ً اللذة ،ويقول:
كلمات الرجل( .((29هل تريد أن تتحدث بشجاعة أكبر وتفصل الحظ عن
البقية؟
5-15إن منزل الحكيم زهيد ،حيث ال مكان فيه للزينة والصخب والتنمق ،وال ترى
فيه الحارس الذي يقسم الحشد ويمكن أن يرتشي ليعطيهم إذ ًنا بالدخول،
والحري أن عتبته بال بواب ،وال يمر الحظ عليها ،والحظ يعلم أنه ال شيء
يتبعه وال مكان له في المنزل.
1-16وحتى لو أن أبيقور الذي غمس الجسد وهو ينأى عن الضرر ،فأي جزء مما
نتحدث يبدو صع ًبا لتصدقه أو أبعد من مقياس الطبيعة البشرية؟ فهو يقول:
إن الحكيم يتساهل مع الضرر في حين أننا نقول إنه ال توجد أضرار(.((29
3-16وال تعتقد أن بأسنا بيننا شديدٌ ،وأما الشيء المطروح الذي يقلقك هو أن كال
228
المثالين يحثان على ازدراء الضرر واإلهانة ،التي أطلق عليهما ظالل وشكوك
حكيما ،ولكن البسيط بعقله يقول لنفسه:
ً األضرار ،وال يتطلب هذا االحتقار
"هل هذه األشياء التي تحدث لي على نحو مستحق أم غير ذلك؟" ،فإن
كانت مستحق ًة فهي ليست إهانة بل حكم ،وإن كانت ليست مستحقة فعلينا
ظلما".
أن نخجل ممن حمل ً
وعيني
َّ 4-16وما الشيء الذي ُيسمى إهانة؟ وهو أن تقيم مزح ًة على َشعري الناعم
ورجلي المقوستين وطولي ،وما اإلهانة التي ُيقال عنها إنها بينة؟
َّ الرديئتين
حين يقال الشيء من قبل جمهور واحد فنحن نضحك ،ولكن حين يكون أمام
المأل فإننا نقترف الجنون ،ونحن ال نمنح اآلخرين الحرية ليقولوا األشياء
نفسها التي اعتدنا نحن أن نقولها ،فنحن ننشرح بدعابة لطيفة ونمتعض
بأخرى جامحة.
1-17ويبين خريسبوس كيف أن ً
امرأ قد ُجن حين ناداه شخص ما بـ"مستفحل
الغباء"( ،((29ورأينا في مجلس الشيوخ فيدوس كورنيليوس Fidus
Corneliusصهر أوفيدوس ناسو Ovidius Nasoيبكي حين ناداه كوربولو
Corbuloبـ”النعامة المنتوفة”( ،((29وقد حفظ جبينه ثباته رغم كل هذه
اإلساءات األخرى التي تهدف جرح شخصه وحياته ،ولكن انهمرت الدموع
في هذه السخافة ،وهكذا يعظم ضعف عقولنا حين يجانبها الصواب.
2-17وماذا عن إهانتنا إذا قلد أحدٌ طريقة كالمنا ومشينا وبعض خلل أجسادنا
وضوحا عندما يحاكيها آخرون
ً وصوتنا؟ كما لو كانت تلك األشياء أنصع
أكثر من فعلنا لها! البعض قد يكرهون السماع عن شيخوختهم َ
وشعرهم
229
الرمادي وأشياء آخرى نبتهل نحن لنحصل عليها ،واآلخرون مشتاطون بتهمة
الفقر في حين َمن يسعى إلى إخفاء فقره يتهم نفسه ،وبالتالي نمنع أدوات
المشاكسين الذين يجعلون الفكاهة في اإلهانة ،وأنت في حاجة إلى أن تبادر
قبل أن يفعلوا ،وال أحد يحث الضاحك إن لم يحدث الضحك بالفعل من
جانبه.
مهرجا
ً 3-17حكى التراث كيف أن فاتينيوس جمع بين الضحك والغم ،وكان
جذا ًبا وظري ًفا ،فقال أشياء جمة في عرج قدميه ورقبته المندوبة ،وهذا وقد
كثرا مثل تشوهاته وخاصة
تجنب صناعة الفكاهة على أعدائه الذين كانوا ً
شيشرون( ،((29وإذا كان فاتينيوس بمقدوره تحقيق هذا بصالبة كلماته ،وقد
طال قدحه المتواصل منذ تعلم ألاَّ يشعر بالخجل ،فلماذا لم تتحقق فكاهته
في أي من أعدائه في دراساته الحرة وغرس حكمته التي حقق فيها تقد ًما؟
4-17أضف إلى هذا حقيقة أن نوع االنتقام يختطف اللذة التي اقترفت اإلهانة بعيدً ا
عن المرء الذي فعلها ،والناس يقولون غال ًبا" :يا عزيزي ،ال أعتقد أنه فهم"،
ولذلك فالممكن هو نتيجة إهانة على شعور الضحية بها وتحوله إلى إحباط،
وسوف يقابل الجاني النظير عاجلاً أو آجال ،و ُيظهر له االنتقام ً
أيضا.
مدفوعا
ً 1-18مارس جايوس قيصر( ((29اإلهانات بجانب رذائل جمة أخرى ،وكان
بدافع غريب لوسم كل امرئ ببعض العالمات ،رغم أنه ذاته كان مادة ثرية
للضحك ،وشناعة شحوب وجهه أفشت سر جنونه ،وكذلك أخفت وحشية
( ((29بالنسبة لتشوهات فاتينيوس وهجوم شيشرون انظر Plutarch Cicero 9 and 26; Cicero’s speech Against
P. Vatinius was published ca. 56–54 bce, after the trial of P. Sestius. On Vatinius see also 1.3
.above with note
(296) 37. On Caligula (12–41 ce; emperor 37-41), many of the details below arise also in Suetonius’s
–Caligula: physiognomy (50), adultery (36), clothing (52), Chaerea and the assassination (56
58), the name Caligula (9).
230
األعين ما تحت حاجبه التليد ،وكذلك سوء شكله برأسه الكئيب الذي تناثر
عليه َّ
الشعر المدفوع بشدة ،ناهيك عن رقبته التي كستها الشعيرات ،ونحافة
ساقيه ،وضخامة قدمه ،وإن أردت أن تستدعي الحاالت الفردية التي أهان
فيها والديه وأجداده ،والشخوص من كل صنف فال نهاية للحديث ،وسوف
أستدعي تلك التي ختمت قدره.
231
4-18شهد جايوس اإلهانات أينما نظر بقدر الذين تحملوا إهاناته والذين ُفتحت
شهيتهم إلهانته ،لقد كان غاض ًبا من هيرنيوس ماكر Herennius Macer؛
حياه على أنه جايوس فحسب ،ولم يترك حتى قائد وسط الجيش وهو
ألنه َّ
أعلى رتبة دون عقاب؛ ألنه ناداه كاليجوال (الحذاء الصغير)؛ ألن هذا ما أطلق
عليه منذ والدته وهو في مخيم الجيش ،ولم يعرف له الجنود أي اسم آخر،
ولكن اآلن يلبس حذاء الفاجعة العظيمة و ُينظر إليه كفاسد وجبار.
5-18وهذا بمثابة عزاء ،وحتى لو تساهلنا سوف َن َعبر على االنتقام ،وسوف يوجد
من يقتص من المرء الوحشي المتعجرف ،ويكشف الضر والرذيلة التي لم
تصب فر ًدا بعينه ولم تكن إهانة بعينها فحسب.
6-18ودعونا ننظر على األمثلة ونثني عليها لتحملها مثل سقراط ،إنه تل َّقى بروح طيبة
المزاح الذي ُنشر و ُنظم تجاهه ،وضحكه منها ال يقل عن موقفه تجاه زوجته
أكسانثيب Xanthippeحين سكبت الماء القذر عليه( ،((29وأنتيستينس الذي
ُاعتدي عليه من أجنبية هي األم التراقية ،فرد بأن حتى أم اآللهة كانت من جبل
إيدا .((30( Ida
1-19وليس هناك حاجة لنلوذ إلى الخالف أو النضال الطبيعي ،وعلينا أن نستعمل
أقدامنا لنمضي بعيدً ا ،وعلينا أن نتجاهل األشياء التي يفعلها أناس حمقى أ ًّيا
كانت ،وعلينا أن نميز بين الشرف واألضرار التي يقترفها السوقة.
2-19وال حزن على السوقة وال بهجة على الشرف ،وبطريقة أخرى فإن الخوف من
اإلهانات أو الضجر يجعلنا نهمل األشياء الضرورية ونفشل في الواجبات العامة
( ((29حول استفزازات أكسانثيب زوجة سقراط لسقرط انظر Seneca’s On Marriage frag. 31 Vottero and Letters
.104.27وعن كوميديا سقراط انظر .On the Happy Life 27.2
( ((30أنتيستينيس ) Antisthenes (444–365 bceوقلة آخرون من تالميذ سقراط الذين واجهوا سوء المعاملة؛ ألنهم ليسوا
مواطنين أثينيين ،وأم اآللهة هي سيبيل .Cybele
232
والخاصة –والتي هي مفيد ٌة أحيا ًنا ،-وكل هذا ألننا نغتاظ باهتمامات نسوية
عن سماع شيء مناقض لتفكيرنا ،وأحيا ًنا نغضب حتى من األقوياء ونكشف
عن هذا الشعور بممارسة غير منضبطة للحرية ،ولكن التجوز بال شيء ليس
حرية ،فهناك َمن يخدعنا ،وأن الحرية تضع عقل المرء فوق األضرار ،وتجعل
النفس هي المصدر الوحيد للفرح ،وتفصل األشياء الخارجية عن النفس حتى
ال تضطرب حياة المرء ،فيخشى ضحك الجميع ولسانهم ،ولو بمقدور أي
فمن الذي ال يقدر أن يصنع مثيل اإلهانة؟!
أحد أن ُيهينَ ،
3-19وإن سبل المداوات المتباينة سوف يستعملها الحكيم والمرء الملهم بالحكمة،
وأنت ترى غير الكاملين ال يزالون متعلقين بمعيار الحكم العام والذي
يضعهم في حالة تأهب للعيش بين األضرار واإلهانات ،فكل ما يحدث هو
أخف حملاً إذا عرفوا توقعه ،واألكثر احترا ًما للجميع من مولدهم وسمعتهم
شجاع ،ويعلمونهم أن طوال القامة
ٍ وميراثهم ما يفعلونه بأنفسهم على نحو
في الخط األمامي للمعركة ،ودعهم يتحملون اإلهانات والكلمات المسيئة
والهوان واإلذالالت األخرى ،كما لو كانوا يستصرخون العدو واألسلحة
التي ُألقيت من بعد والصخور التي تتراشق حولهم وال تجرحهم ،واألضرار
مثل الجروح بعضها نافذ في الدرع ،وبعضها في الصدر ،ودعه يقاومهم دون
أن ُيصدم أو ُيطرح على األرض ،وحتى لو دفعت بقوة مكروهة فامنح طري ًقا ال
يزال مخز ًيا ،واحفظ موقفك بالطبيعة ،هل تسأل ما هذا الموقف؟ والموقف
هو أن تكون إنسا ًنا.
4-19والحكيم لديه شيء مختلف ليعينه ويكون عكس هذا ،وإن كنت ال تزال تقاتل
فهو قد حقق النصر ،فال تناضل ضد خيرك ،وفي حين ال تزال على طريقك
طوعا ،وتعينهم
للحقيقة ،وتعزز هذا األمل في عقلك ،وتنتقي أفضل األشياء ً
دو ًما بإرادتك وموقفك ،فوجود الشيء ال يقهر ،ووجود المرء ضد الحظ ليس
له قوة على اإلطالق ،وهو في مصلحة دولة جنس البشر.
233
:قائمة بالمراجع
Barnes, Jonathan. 1997. Logic and the Imperial Stoa. Leiden: Brill.
Cooper, John M. 2006. “Seneca on Moral Theory and Moral
Improvement.” In Seeing Seneca Whole: Perspectives on Philosophy,
Poetry and Politics, ed. K. Volk and G. Williams, 43–56. Columbia
Studies in the Classical Tradition. Leiden: Brill.
Riggsby, Andrew M. 2010. Roman Law and the Legal World of the
Romans. Cambridge: Cambridge University Press.
234
Tragedy.” Transactions of the American Philological Association
126:207–44.
Milan: Mondadori.
Bologna:
2006, 178–95.
Paul.
235
236
�سكينة العقل
237
238
مقدمة
المخاطب واألحوال:
حقيقيا
ًّ إن رسالة (سكينة العقل) لسينيكا فريدة بين محاوراته؛ ألنها تقدم تبادلاً
بين المخاطب أنايوس سيرينوس وسينيكا ،واألرجح أن سيرينوس رجل إسباني جاء
إلى روما برعاية سينيكا ،وهو يوجه الكالم عن صمود الحكيم ،ويدور حوار متقطع
عن أوقات التفرغ ،ولكن هذا الحوار يمنحه صيغة الفعل التي توصف بها أزمة هوية
الشباب.
( ((30دراسة حديثة .Seneca on Self Assertion,” pp. 346–51 of Inwood 2005
239
وإنني أقرأ الحوار كاستشارة شفوية مع سيرينوس كمريض يعالجه سينيكا ،حيث
قد عبرت جاذبيته عن حدود مرض العقل( ،((30ويشبه الموقف تقري ًبا العالج ،وقد
أقر سيرينوس بمبادئ العيش الفاضل عند الرواقية ،وهو يراقبهم في أسلوب حياتهم
البسيط ،ولكن تأثر سيرينوس بالقيم المادية وأظهر رفقاءه ،وكافح ليرفض قبول
قيمهم ،ومعضلته تكمن في الصراع الباطني والقيم المكتسبة.
وتركز الجملة األولى على استجواب الذات ،وسوف توضح تعبيرات استياء
الذات ومحاوالت توافق الذات خطاب سيرينوس وحركة رد سينيكا من 2-7و9
حتى 2-14والقسم األخير ،وفي الفصل 1-17يتعلق االهتمام بالباطن الذي يقوى
في المعالجة المنهجية لرسائل سينيكا إلى لوكيليوس ،ورغم أن السكينة استجابة
عالجية العتراف سيرينوس الصريح بمرضه العقلي (حتى استعمال االصطالحات
الطبية لألمراض الفعلية) ،ويستعمل االستجواب المعرفي كجزء للشفاء المفترض،
وال تطابق المناهج الرواقية للقضايا األخالقية أساليب العالج النفسي الحديث(.((30
وأين نضع هذا الحوار في مسار مهنة سيرينوس المعروفة؟ لقد شغل منص ًبا إدار ًّيا،
وهو مسؤول عن فيلق المراقبة (يجمع بين المراقب والشرطي) من عام 54عندما فرغ
المنصب حتى تولى تيجيللينوس Tigellinusهذا المنصب عام ،62وال شيء في هذه
الرسالة يدل على أنه تقلد هذا المنصب ،وكان سينعكس نفوذ سينيكا على وظيفته،
حيث كان سينيكا قو ًّيا في هذه الفترة بوجوده مع أجريبيانا ونيرون ،وهناك تلميحات
نسبيا ،ولكن
لصعوبة المشاركة السياسية خاصة في الفصل الثالث 3-2تقل بعد ذلك ًّ
شائعا في الفكر الهيللينستي .راجع (بعد سينيكا) مقالة بلوتارخ
( ((30كان التوازي بين المرض الجسدي والعقلي /األخالقي ً
“عن أيهما أسوأ أمراض الجسد أم العقل” “Whether the Sicknesses of the Mind or of the Body are
Worse,” Moralia 500b–502b; Loeb Classical Library vol. 6). Even the words observatio sui
(“constant watching”) in 17.1 evoke the medical practice of watching patients (epitērēsis) to
.observe the progress of their symptoms
(303) See Sorabji 1997 and Williams 1997.
240
يفترض الحوار أنه قد ُأ ِّلف في مرحلة مبكرة من حكم نيرون( ،((30ونعرف ذلك
فحسب في رسائل إلى لوكيليوس ( 63 Letters to Lucilius 63من المحتمل ُكتب
عام )63حيث ينظر سينيكا إلى حزنه ومصيبته في موت سيرينوس المفاجئ لتسممه
في مأدبة رسمية؛ ألن سينيكا منحه حب االبن الذي لم ينجبه؛ حيث لم يكن لسينيكا
أبناء.
بنية النص
قد بذلت محاوالت عدة لتحديد بنية الحوار بكليته؛ إما على موضوع الفصول
المتتالية ،وإما تركيبه مثل أسطورة بروكرتيس Procrustesللنمط الخطابي ،ولكن
النموذج الخطابي قد ُص ِّمم لقاعة المحكمة وال يناسب العقلية الفلسفية.
الفصل األول:
القول االستهاللي من سيرينوس هو مفتاح المفاهيم التي تحكم رد سينيكا في
الفصول الستة عشرة ،حيث إن العنوان اعتراف قد ُأعد ليقدم كل األفكار تقري ًبا التي
يمكن تتبعها في التحليل التالي ،وقد يقدم المجازان تشبيهات تتكرر في الحوار ،أول
المجازين المرض العقلي 2-1و ،4-1وثانيهما تشبيه الحياة بالرحلة ،وكالهما مع
السالم العقلي مثل هدوء البحر 17-1وراجع ،11-1ويفتتح سينيكا رده صورة َّ
باستدعاء هذه التشبيهات في إشاراته لمرضى النقاهة واضطراب البحر الباقي بعد
العاصفة ،وقد تهدف التلميحات المألوفة في الحوار عن البحر والعاصفة إلى تذكير
القارئ بالسياق البحري األساسي للسكينة (هدوء البحر بعد عاصفة).
يبدأ سيرينوس بتبصر الذات ،فبعد وصف استيائه في 9-1فإنه يتوقع فرض
سينيكا ،وهو ينتقل في 11-1لتطوير فكرة التركيز داخل نفسه التي ُيطلق عليها في
الغالب باطنية سينيكا« :دع عقلك يركن إلى نفسه ويميل إليها وال تفعل شيئًا غري ًبا
241
عن احتياجاته» ،وسوف ُيتطرق إلى هذه األفكار السائدة خالل تشخيص سينيكا في
7-2حيث يقول« :ولهذه الرذيلة صفات ال حصر لها ومخرج واحد لتستاء بالنفس»،
ويستدعي في 11-2االصطالحات المنعكسة التي سيركز عليها هذا الحوار حتى
نهاية إحصاء سينيكا لعقبات الهدوء ،وبهذا اللوم يتعلق العقل كما في « :2-14دعه
يؤمن بنفسه ويفرح بها ويعتبر صفاته وينسحب بقدر اإلمكان مما هو غريب عليها».
متحمس ،وهو في منتصف الطريق نحو
ٌ رواقي أو
ٌّ طالب
ٌ ُيقدم سيرينوس على أنه
السيطرة على روحه ،حيث اكتسب درجات االختالف للخيرات الخارجية بما فيه
كفايته ليطبقها في تدبيره في شؤونه الداخلية ،ولكن ليست كافية لهروب الكساد في
رفاهية اآلخرين ،إنه يدعي أن خلله ضعف هدف العقل القويم ( ،)1-15لقد تعلم ما
يكفي ليندم ال ليقاوم تقلبه ( ،)9-1وسوف يترك األمر لسينيكا لتشخيص هذا الندم
على أنه نفور ’النفس‘ 5-2وراجع ،((30( 1-3 ،15-2 ،10-2فسيرينوس يصف
ولكن ليس بمقدوره أن ُيسمي الحالة التي يحددها سينيكا في رده الذي شفى رغباته
ضررا من المخاوف) ،وال يزال الطالب ُيعاني من الصراع
ً الدنيوية وأمانيه (األماني أشد
الباطني ،وتصنيفه للخيرات يقلب يعكس اإلنسان الدنيوي ،ولكن في حين تؤسس
على القيم الرواقية فإنها ال تزال غير مأمونة وتميل إلى النفور من العالم الخارجي.
الفصل الثاني:
يقدم سينيكا ر ًّدا جديدً ا أكثر عمقا للسكينة ،3-2وهي تعادل في اللغة اليونانية كلمة
ثبات العقل ،euthumiaويستعمل سيرينوس الكلمة ألول مرة 11-1دون تدقيق على
باطنيا على أنها “التوازن
ًّ أنها تحرر من االضطرابات الخارجية ،ولكن سينيكا يصفها
الثابت للروح” ،ويشير إلى بحث ديمقريطس عن ،((30( Euthumia 2-3ويشير إلى
( ((30أشير هنا إلى البحث القيم الذي أعده كاسستير في الفصل الخامس “ديناميات التعب وأيدولوجيا التزمر” Kaster
”2005 in chap. 5, “The Dynamics of Fastidium and the ideology of disgust.
( ((30عرف سينيكا ديمقريطس بطريقة غير مباشرة ،ولتقييم هذا بإيجابية انظر الفصل الثاني “Epicurus and Democritean
.Ethics,” in Warren 2002
242
ثالثة استشهادات لعدم اكتراث ديمقريطس بالمال(،)5-27-7 ،105-4 ،2-6-1
ويقترب سينيكا في هذه الرسالة في 3-2من رسالته عن الغضب 3-6-5حين يقول:
«سوف نستفيد من حكم ديمقريطس القويم الذي يبين كيف نحقق السكينة إذا لم نؤ ِّد
أشياء عدة أو أشياء وراء قدرتنا سواء أكانت خاص ًة أم عام ًة».
الفصل السادس:
تقريرا للموضوعات «ينبغي أن نفحص أنفسنا قبل كل
ً يعرض الفصل السادس
شيء ،ومن ثم العمل الذي نقوم به ،ثم الناس الذين نعمل ألجلهم ومعهم» ،1-6
جزئيا.
ًّ وهذا حق لديمقريطس ،ولكنه إرهاصات منهاج يتبعه سينيكا
الفصول من :11-8
الفصول من الثمن حتى الحادي عشر تعالج التجليات الخارجية للثروة والملكية
التي يمكن أن تصرف اإلنسان عن السكينة والفضيلة ،ولكن سينيكا هنا يستحضر
مفهومين يحكمان الظرف اإلنساني ،حيث ُسيجت الطبيعة في الفكر الرواقي بالرب
والعناية والحظ وهي معنية بكل التجارب الرديئة ،وتهيمن على هذه الفصول
المداهمات التي ُتشن على الرجل الخير.
243
الفصول من :16-12
تنتقل الفصول من 12إلى 16من مبادئ إلى أمثلة لتقلبات الحظ ،ثم إلى نماذج
للفضيلة في مواجهة الموت (يوليوس كانوس Julius Canusفي حكم كاليجوال
االستبدادي 4-14حتى ،9وكاتو األتيكي Cato of Uticaالممجد حتى وراء
هيروكليس وريجوليوس في .)4-16
شكر وتقدير
إنني مدينة باالمتنان للبرفسور دوج هاتشينسون Doug Hutchinsonولطالبه الستة
الذين يدرسون في حلقته سينيكا؛ لتجميع المسح البيبلوجرافي الستخدامه في نقاش
موسع حول (السكينة) ،والذي أطمح أن أنشره في مكان آخر ،وأود أن أشكر جيمس
كير على النصيحة واالطالع على مقدماته في هذه السلسلة.
244
يقول سيرينيوس Serenusحين كنت أقبض على عصاي( :((30يا سينيكا، 1-1
وخفاء،
ً وضوحا
ً وجدت بعض األخطاء تبدو لي في متناول يدى ،وبعضها أقل
ُ
وبعضها متغير ،وهذا يتكرر على فترات ،وأدعي أن النوع األخير أعظم قل ًقا،
حيث يقفزون مثل األعداء على الخطوة ويهاجمون وف ًقا للظروف ،وتمنعني
كنت في حالة حرب ،أو خال ًيا من القلق كما لو
من االستعداد للفعل كما لو ُ
كنت في حالة سالم.
ُ
( ((30يضع الكلمات المفتاحية في فم سيرينوس ليعلن عن أهمية موضوع فحص الذات واالهتمام بشفائها .وانظر 7-2
و 9-2باألهمية المماثلة على العالج في .2-14
( ((30هذه أول إشارة لحالة سيرينوس على أنها مرض عقلي أو أخالقي.
245
وليس بمقدوري أن أعرض عليك مرة واحدة كل طبائع هذا الضعف في 4-1
العقل( ((30المشقوق بين الميول ،والذي ال ينحرف عن ما هو حق وما هو
باطل ،ولكن بمقدوري أن أفسر لك أركا ًنا منه ،وسأخبرك بما يحدث لي
وسوف تجد اسما لمحنتي.
وأعترف أن حبي لالقتصاد عميق ،فأنا ال أحب ترتيب األريكة للعرض أو 5-1
قسرا بكبس ألف مقدار من القماش،
المالبس المتدلية من الصدر والتي تلمع ً
ً
متحفظا والحري أنني أحب الملبس المنزلي غير المتكلف الذي ال يجعلني
أو يضعني في رقابة تقلقني.
وأحب الطعام الذي ال يشرف على إعداده رهط من الخدم أو الذي يستغرق 6-1
أيا ًما في إعداده ويقدم بأيدي كثيرين ،ولكني أحب المتاح والبسيط دون
داع ،أو ُيحمل جسدي
المكونات الغريبة والثمينة ،فهذا ال أحتاجه بأي ٍ
في القيء(.((31
وميزانيتي عبئًا أو ُيثير َّ
وإني أحب الصاحب ذكي الطلعة ،والعبد البسيط الساذج ،وطبق الفضة الثقيل 7-1
من إنتاج وطني دون توقيع من أي صانع ،وأحب المنضدة التي ال تجذب
العين عالماتها الملونة ،والتي ُعرفت في المجتمع بملكية متعاقبة لسادة عدة،
ولكن لتوضع لالستعمال وليس إللهاء نظرة أي ضيف ألي لذة أو تلهبهم
بالحسد.
ومن ثم رغم أن كل هذا يرضيني تما ًما ،إال أن ما يخدش عقلي كم األوراق التي 8-1
ُيتابع امرؤ شراءها ،ويغلفها بأكثر من المعتاد ،وتزينها بالذهب قبيلة بأكملها
من العبيد البارزين ،وحتى أرضية المنزل التي يطؤها متكلفة ،وتتمدد الغرف
( ((30كلمة النفس animusالالتينية تغطي كلمة dianoiaالعقل اليونانية ،وعادة ما تكون أفضل ترجمة للجوانب األخالقية
والعقلية للشخصية هو العقل وأترجمها (الروح) حين ترتبط بالمزاجية أو المعنويات.
( ((31مثل األشترار bulimicsجعل الرومانيين يتقيؤون عمدً ا ليهربوا من عواقب اإلفراط في األكل.
246
البراقة بالثروات في كل ركن ،ويكرم جمهور الناس كمراقبون وحاضرين
لإلرث الذي قد ُبدد ،هل تحتاج أن أذكر المسارات المتدفقة حول ضيوف
العشاء وهي تشف أسفلها ،والموائد المتماثلة مع طبقاتها؟
وكما أنني أخرج عن االنتباه المطول المنتوج عن االقتصاد ،وقد يجتاحني 9-1
هذا اإلسراف بروعته الهائلة ويتردد صداه حولي ،ويرتعد تحديقي ،وأشحذ
عيني دون ريب ،ولذا ما فارقت هو ما يبعث الحزن وليس
عقلي نحوه أكثر من َّ
األسوأ ،وأمشي متطاولاً بين ممتلكاتي ،وتنتابني لدغة الصمت ،والشك عن
خيرا بعد كل هذا ،وال شيء من هذا يغيرني بل
إذا كانت هذه الرفاهية ليست ً
ال يوقعني في ضيق.
10-1لقد قررت أن أتبع تعاليم معلمينا ،وأدخل الحياة السياسية ،وقررت أن أفوز
بالمنصب والحزمة ،fascesوذلك ألن الصولجان واألرجواني ال يغوياني،
نفعا واستعدا ًدا لعون أصدقائي وأقاربي وكل مواطنينا بل
بل ألكون أكثر ً
البشر أجمعين ،وأنا أتبع بيسر زينون وكليانتس وخريسبوس ،وال أحد منهم
قد دخل الحياة العامة ،ولم يفشل أحدهم أن يمنع اآلخرين.
11-1وحين ُيزعزع قلبي شيء ما ،ويقرع على غير المعتاد حولي حين يحدث شيء
ال يستحق كأشياء كثيرة في حياة البشر ،أو يبطئ في سيره ،أو حين تتطلب
كبيرا من الزمن ،فإنني أتحول للراحة مثل الماشية المنهكة
ً قدرا
المسائل ً
تروح للبيت بخطوات سريعة ،لقد قررت أن أحبس حياتي بين جدراني،
“ولن أدع أحدً ا يأخذ مني يو ًما ال يعود َّ
إلي بكثرة النفقة ،وأدع عقلي ينكب
على ذاته ويراقبها ،وال يفعل شيئًا غري ًبا عن احتياجاته ،فال شيء يتطلب
موافقة الحاكم ،وأدعه يحب السكينة ويخلو من االنشغال العام والخاص”.
12-1وحين تحفز بعض مسائل القراءة الجادة عقلي وتحثني النماذج النبيلة،
فإنني أود أن أقفز نحو الحياة العامة في المنتدى الروماني ،وأعير صوتي
247
لرجل وخدماتي لرجل آخر( ،((31وأحاول أن أسدي ً
بعضا من الخير حتى
سلوكا ًّ
فظا اتبعت بعضه على نحو خاطئ منتفخ بالحظ ً لو لم ينفعه ،وأراجع
الحسن.
13-1وأعتقد يقينًا أنه من األفضل أن تركز الكتابة على مواضيع تأملية حقيقية
وتتحدث بصددها ،وتترك الكلمات تتبع األفكار ،وتتعقب الكالم البسيط
حيث يقودها ،فلماذا تستعمل الكتابات المعقدة الموجهة لألجيال ،ولماذا
ال تكف عن محاولة طمسك بين النسل القادم؟ إنك ولدت للموت ،فالجنازة
الصامتة أقل إثار ًة للقلق ،وحتى ُتشغل الزمن اكتب شيئًا بأسلوب بسيط
تستعمله أنت وليس لإلعالن عن النفس.
14-1وال يقل جهد الناس إذا تدارسوا كل احتياجاتهم اليومية ،في حين يرقى العقل
طموحا في لغته ،ويحرص على الحديث بسمو يوافق
ً بعظم تأمله ،ويصير
اإللهام ،فمنتوج الكالم مطابقة لجالل قضاياه ،ومن ثم أتغاضى عن الحكم أو
لدت سام ًقا ببيان ال أملكه. ً
انضباطا ،فإني ُو ُ القاعدة األكثر
15-1ال أقتفي أثر التفاصيل لفترة أطول ،فهذا الضعف للعقل الحسن يتبعني في
ً
فارغا في الفترة األقصر أو يزيد قلقي وأقف كل عمل ،وأخشى أن أهرول
على حافة السقوط ،وربما قد تزيد جدة العمل بأكثر مما أفطن؛ ألننا ننظر إلى
أعمالنا الحالية بعاطفة هادئة ،والمحاباة تعرقل الحكم الحسن دو ًما.
عام مستطيل الشكل كان يقع في مركز مدينة روما القديمة ،وكان مركز ًا للعديد من األبنية
( ((31المنتدى الروماني هو ميدانٌ ٌّ
الحكومية الرومانية الهامة ،وكان المنتدى منذ الحكم الروماني المبكر مكا ًنا واحدً ا ،ثم أضاف أوغسطس منتدى آخر
وهو منتدى أوغسطس ،حيث عقدت المحاكم المدنية والجنائية في المنتدى المفتوح ،وتدوال فيه رجال التجارة
والعمالء ،وكان في البداية محلاًّ للنخبة وخدمة الدولة ذاتها(المترجم).
248
األخرى بأعين مكفورة ،وليس هناك ما يدعوني أن أحكم بأن فسادنا يزيد
فمن الذي يجرؤ أن يخبر ذاته بالحقيقة؟ ومن
بمداهنة اآلخرين وليس أنفسناَ ،
الذي ال يداهن نفسه بإفراط بين المخادعين والمثنين على الرفقاء؟
17-1ولذلك أسألك إن كان لديك عالج لتضع نهاية لتقلبي ،حتى أعتقد بأنني
أستحق أن أدين لك بسكينتي ،وإنني أعلم أن اضطرابات العقل ال تهدد الحياة
حقيقيا ،ولكني أعبر لك عن شكواي بصدق ،وأنا لست
ًّ وال تجلب اضطرا ًبا
مكلو ًما بالعاصفة( ((31بل بدوار البحر ،ولذلك خذ مني مهما كان الشر وأقبل
متعثرا في رؤية األرض.
ً على عوني كما لو كنت
وقال سينيكا في الحقيقة :يا سيرينيوس ،قد أسأل نفسي بصمت اآلن ،ما الذي 1-2
يتساوى مع هذه الحالة في العقل ،ولن ُأقبل على أي توا ٍز أقرب من حالة
هؤالء الذين يتعافون من أمراض مستديمة وخطيرة تحل بشكل متقطع بحمى
طفيفة أو صدمات خفيفة ،وعندما هربوا من أثرها ال يزالون مضطربين بعدم
األمن وتمتد أيديهم لألطباء حين يكونون أصحاء بالفعل ،ويفكرون بالمرض
صحيحا،
ً كلما الحت الحمى في أجسادهم ،فجسد هؤالء يا سيرينيوس ليس
بل غير معتاد للصحة مثل ارتجاف البحر الهادئ حين يتعافى من العاصفة.
ليس هناك حاجة لهذه العالجات القاسية التي قمنا بها بالفعل ،والتي قاومتها 2-2
نفسك تار ًة وأغضبتها تار ًة وضغطت عليها بشدة تار ًة أخرى ،ولكنك تحتاج
ما يعالجك تما ًما حتى تتيقن وتؤمن بأنك تسير على المسار الصحيح ،وال
تدع نفسك تتحول بالمسارات المعاكسة التي يركض فيها كثير من الناس هنا
وهناك ويطوفون حول المسار ذاته.
ألن ما كنت تتوق إليه شيء عظيم ومأثرة سامية وهي القرب من الرب ال 3-2
( ((31ويستدعي التصوير العرضي للبحر والعاصفة على طول الحوار الشعور األصيل للسكينة– هدوء البحر.
249
أن تكون مذبذ ًبا ،ويطلق اليونانيون على هذا التوازن الثابت للعقل يوثيما
( euthymiaهناك أطروحة بديعة لديمقريطوس عنها) ،وأدعو إلى هذه
السكينة وال نملك أن نحاكي أو ننقل كلماتها في الصورة التي استعملوها،
بل ما علينا أن نلحظه هو الشيء الفعلي في االسم ،وهو المعنى وليس الصورة
التي صاغها اليونانيون.
ولذلك نحن نبحث كيف يمكن للعقل أن يتحرك دو ًما بوتيرة مالئمة وينظم 4-2
ذاته تما ًما ،ويسعد بالنظر إلى طبائعه وال يعيق هذه الفرحة ،بل يبقى في حال
هادئ ال يرفع نفسه لألعلى وال يخفض ذاته لألسفل ،وهذه هي السكينة،
ودعنا ندرس كيف يمكننا أن نصل إلى هذا عمو ًما.
وسوف تأخذ بقدر ما تريد من هذا العالج الشامل ،وفي الوقت نفسه علينا أن 5-2
نسحب الرذيلة إلى الفضاء حيث تمامها حتى يمكن للجميع أن يدرك قسمته،
وحين تفهم كيف تقل المتاعب بامتعاض النفس( ((31أكثر من ارتباطك
بالبهرجة واإلثقال بالهدوء القاتل سوف تبقى في ذريعتهم بالخجل بدلاً من
إرادتهم.
ٍ
امرئ يضجر من عدم االستقرار والجميع يواجه المشكلة نفسها ،وكل 6-2
والملل والتغير المستمر للغايات ،فمنهم َمن يفضل أن يتركهم خلفه ،ومنهم
الذي يشحب ويتثاءب ،وأضف إليهم مجموعة أخرى تصد وتنعطف مثل
المؤرقين ويغيرون الموقف بهذه الطريقة إلى أن يجدوا الراحة من اإلنهاك
المضني ،وبإعادة صياغة حياتهم يستقرون أخيرا في المزاج الذي تجاوزوه
ليس بالنفور من التغير بل بالشيخوخة التي أقعدتهم عن االبتكار ،وأضف
مجموعة أخرى ليسوا مستقرين ً
أيضا؛ ليس بخطأ االتساق بل بضعف القدرة،
( ((31عن امتعاض النفس fastidium suiواالستعماالت المختلفة fastidium suiفي العموم انظر chap. 5 of Kaster
.2005
250
وال يعيش هؤالء كما يريدون بل كما بدأوا.
ولهذه الرذيلة خصائص ال حصر لها ومخرج واحد فحسب لتستاء بالنفس، 7-2
ويأتي هذا من العقل الرديء المتحول ،ومن الرغبات الخجولة أو غير
المحققة ،وحين ال يجرؤون على أن يرغبوا بقدر ما أو ال يحققونها أو يشدهم
األمل فإنهم ال يستقرون ويتقلبون كما يحدث للرجال في التشويق ،وهم
مساعي شاقة
َ يكدحون نحو غاياتهم بكل طريقة ،ويجرون على أنفسهم
ومهلكة ،وحين يذهب مجهودهم سدى يعذبون بالعار الذي ال طائل تحته
والحزن ،ليس ألنهم يبتغون األشياء الضرورية ،بل يريدون األشياء التفاهة.
ومن ثم يتملكهم الندم في تعهدهم والخوف من محاولة هذا ،وهناك يتسلل 8-2
مخرجا؛ ألنهم لم يتحكموا في رغباتهم ولم
ً إليهم العقل الذي ال يجد
يشبعوها ،فحيرة الحياة ال تعمل خارج ذاتها ،وال تتجاهل النفس الخاملة بين
غاياتها المنبوذة.
وكل هذه األمور عبء ثقيل حيث تتجذر عن النفور لفشلهم المضني الذي 9-2
يلجؤون إليه في الراحة وفي العزلة والدراسة والتي ُترقي العقل للواجبات
المدنية والتحمس ألعمال ال يمكن أن تحملها ،وليس لها طبيعة قلقة
وتشتمل على قليل من السلوى الباطنة ،ولذلك حين ُتسحب الملذات التي
تسعى إلشغال الناس الذين يركضون حولها ،فإن عقولهم لن تتحمل المنزل
والعزلة وجدرانها ،ويكرهون التأمل الذي تخلو به النفس.
10-2وال يستقر ملل النفس وسخطها وقذف العقل والتجهم والحمل الذي ُيمرض
الراحة ،وقد يحدث أكثر من هذا حين يشعر المرء بالخزي لقبول األسباب،
ويدفي الخزي بالعذاب داخله ،وتتحدد الرغبات في مساحة صغيرة وتخنق
نفسها دون أي هروب ،حيث يقبل الحزن والذبول وألف موجة تقذف العقل
الشاك ،ويظلون معلقين بآمال لن تتحقق ،وحزانى بآمال تخلوا عنها للضياع،
251
ومن هنا ُتقبل الحالة العاطفية للناس فتذبح راحتهم ،ويشكون أنه ليس لديهم
ما يفعلونه ،والحسد هو أعظم عداء لتقدم اآلخرين ،حيث يغذي التراخي
الفاشل كآبتهم فيرغبون في تحطيم الجميع؛ ألنهم لم يتمكنوا من التقدم.
ً
ساخطا 11-2والغضب من نجاحات اآلخرين والقنوط من إنجازاتهم يولد عقلاً
من الحظ وناد ًبا لعصره ومنسح ًبا إلى زوايا ليتفادى العقاب ،إلى أن يشعر
المرء بالضجر والخجل من نفسه ،حيث تنشط طبيعة العقل البشري وتخضع
للحركة ،وأي مصدر يثير النفس فهو موضع ترحيب ،وأسوأ أنواع العقول
الذي يسعد بالبقاء مشغولاً بأي طريقة ،كما تبحث بعض القروح عن ٍ
أيد
تصيبها وتنعم بالحك ،ومهما كانت مباهج السخط فإن القبح يشوه أجسادهم،
وأود أن أقول إن العقول التي تندلع رغباتها مثل قرحة منتنة تقتبس اللذة من
الكد واألذى.
12-2وتبهج بعض األشياء جسدنا بنوع من األلم مثل تحول الجسم وتوجهه ناحية
الجانب الذي ال يتعبه سع ًيا الستعادة النشاط من موضع إلى آخر ،وهذا النوع
من الناس مثل أخيلوس في هوميروس حيث يرقد على ظهره تار ًة وعلى وجهه
تار ًة أخرى ،وهو يعيد ترتيب نفسه في مواضع مختلفة مثل الرجل المريض،
ال يثبت على موضع لفترة طويلة ويتعامل مع التغيرات كنوع من العالج.
14-2وشرعوا في رحلة تلو األخرى ،وتحولوا من حفلة إلى أخرى كما يقول
لوكريتوس Lucretiusلهذا السبب يهرب كل إنسان من نفسه ،ولكن إلى أين
يهرب إن لم يهرب من نفسه؟ إنه يهرب إلى رفقائه الذين يدفعونه ،فالرفقاء
هم َمن يتحملون العبء األعظم.
15-2وعلينا أن ندرك أننا نعاني ال لخطأ في محيطنا بل لخطأ فينا ،ونحن أضعف
من أن نتحمل أي شيء ،فال نتحمل كدًّ ا وال سعادة وال حتى أنفسنا ،وال أي
شيء لفترة طويلة ،وقد تدفع هذه الحالة بعض الناس إلى الموت؛ ألنهم
حين يغيرون غاياتهم باستمرار يرتدون إلى النظام نفسه ،وال يتركون مجالاً
للتجديد ،فيتخمون بالحياة والعالم ذاته ،وقد ُيجهز عليهم النواح القديم
لالنغماس الفاسد“ ،فمتى نختبر األشياء ذاتها؟”.
وأنت تسألني ما الذي تستعمله ليعينك تجاه هذا الملل ،إنه من األفضل كما 1-3
((31( Athenodorus
أن تبقى النفس منشغلة باألعمال يقول أثينودوروس
وتدبير الشؤون العامة وخدمة المواطنين ،كما يقضي بعض الناس النهار في
الشمس المفتوحة يمارسون التمارين ويعتنون بصحتهم الجسدية ،واألكثر
نفعا للرياضيين أن يغذوا أذرعهم ويقووها ،وهذه هي مهمة يكرسوا لها الجزء
ً
( ((31لقد عبرت رسالة هوراس Horace Epistlesعن هذا في “( 26-11-1الرجال الذين يندفعون للبحر يغيرون بيئتهم
وال يغيرون حال عقولهم”) وقد سبقهم لوكريتوس ،ويقتبس سينيكا من لوكريتوس Lucretius 3.1068فقرة ممتدة
تصف سخط النفس self-discontentوأثره على السلوك.
معلما للفلسفة ألوغسطس الشاب ،ومقدم المشورة للعائلة اإلمبراطورية ،ولسنا على
ً ( ((31كان أثينودوروس الطرطوسي
يقين أنه ترجم االقتباس ،وهو مجرد إعادة صياغة لتعليمه البدايات والنهايات ،ولقد تابعت نص رينولدز Reynolds
( ،)1977والذي خصه في .8-2-3
253
األكبر من وقتهم ،ولذلك حين تعد عقلك لصراع الشؤون المدنية ،فهذا إلى
حد بعيد جميل حيث ُتشغل نفسك بنشاط؛ ألن المرء حين يعتزم أن يصنع
نافعا لمواطنيه والبشرية عامة فإنه ُيدرب نفسه ويطورها في خضم
من نفسه ً
الخدمات العامة وإدارة كل من األعمال الخاصة والعامة وف ًقا لقدرته.
وهو يقول «ولكن»؛ «ألن البساطة غير آمنة في هذه الحياة التي يخيم عليها 2-3
طموح االفتراء إلحباط العمل الحق وإظهاره على أنه سيئ ،واإلعاقة فيها
أكثر من الدعم دو ًما ،ولذا ينبغي أن ننسحب من ميدان الحياة العامة ،ومن ثم
على العقل العظيم أن ينفتح على ذاته حتى لو في أعماله الخاصة وال يندفع
لطريق المخلوقات الضارية والوحوش التي ُتحتجز في أقفاص ،أليس صوا ًبا
أن تتجلى أعظم أعمال البشر في التقاعد.
( ((31ال يزال سينيكا يفكر في مهن السيناتورات والقادة ،وكان البرايتور األجنبي praetor peregrinusيشرف على
الخالفات بين الرومانيين واألجانب ،ويترأس البرايتور المدني urban praetorالخالفات بين المواطنين.
254
كرست الوقت للدراسات التي استنبطتَها من واجبات العامة ،فال
َ ولذلك إذا 5-3
تتنح عن هذا العرض ،فليس المقاتل َمن يعمل كجندي فيقف في خط
ترتد أو َ
المعركة ويدافع عن الميمنة والميسرة ،بل هو الرجل الذي يحرس البوابات
خطرا شرط أن تكون بعيدة عن الخمول ،ويظل مراق ًبا
ً و ُيؤدي وظيفة أقل
ً
ومشاركا في إعدادات الحرب ،مع أن هذه الخدمات خالية من إراقة الدم إال
أنها مناصب عسكرية.
وإن استدعيت نفسك للدرس ،فسوف تهرب من أي نفور للحياة ،ولن تقضي 6-3
الليل خو ًفا من طلوع النهار ،ولن ُتكلف نفسك ،ولن تضيق على اآلخرين بال
ضرورة ،وسوف تفوز بمزيد من األصدقاء ،وأفضلهم سوف يمضي نحوك،
فرغم أن الفضيلة خفية فلن تمضي دون أن يالحظها أحد ،بل ترسل إشارات
من ذاتها ،و َمن يستحقها سوف يجدها من مسالكها.
ألننا إذا استبعدنا كل الوصال االجتماعي وتنكر جنس البشر وأقبلت الحياة 7-3
علينا فحسب ،فإن نتيجة هذه العزلة التي تحرم من الدرس ستقلل األشياء
التي نعملها ،في حين نبتغي أن ُنشيد بعض المباني ونهدم أخرى ،وندفع
البحر للخلف ،ومن ثم مسارات التيارات لنصارع صعوبة الموقع ،ونجعل
االستعمال السيئ للوقت طبيعة ُأعطيت لنا لنمضي بها.
فبعض منا يستخدمها بشكل متقطع ،والبعض اآلخر يبددها ،وبعضنا يقضيها 8-3
بنفس الطريقة التي تمكننا أن نعطيها بها ،والبعض اآلخر ال ُيبقي لنا شيئًا وهو
األكثر خز ًيا من هذه الحاالت ،وغال ًبا ليس للرجل الكهل ٌ
دليل يبرهن به على
أنه عاش طويلاً سوى عمره الفعلي.
عزيزي سيرينيوس ،يبدو لي أن أسينودوروس سلم نفسه لزمننا وتقاعد في 1-4
الحال ،وال أنكر أنه ينبغي أن نفسح المجال في وقت ما ،ولكن علينا أن نرتد
تدريجيا ،حيث
ًّ بمعاييرنا ومنزلتنا العسكرية التي ال زلنا ُنبقي عليها للخلف
255
وسلما مع أعدائهم حين سلموا أسلحتهم كاملة ،وهذا
ً الرجال األكثر احترا ًما
ما أظن ما أنه ينبغي أن تصنعه الفضيلة ومحبها.
وإذا تغلب عليه الحظ( ((31وقلل من قدرته على الفعل ،فال ينبغي عليه أن 2-4
يتحول على الفور ويهرب أعزل ساع ًيا لمخبأ ،كما لو كان ال يالحقه الحظ
في أي مكان ،بل عليه أن يدنو من واجباته باعتدال وينتقي بعض األنشطة التي
يمكن أن تنفع الدولة.
وال ُيسمح له بالعمل كجندي ،ومن ثم دعه يسعى لمنصب ،وعليه أن يعيش 3-4
كمواطن بنمط خاص فدعه يكون داعي ًة ،إنه مفروض عليه الصمت فدعه ينفع
مواطنيه بشجاعة صمته ،فهل محظور أن يدخل المحكمة؟ فدعه يمثل العشير
الحسن والصديق المخلص والضيف المعتدل في بيوت الناس والمنافسات
الرياضية والحفالت ،فهل فقد واجبات المواطن؟ فدعه يؤدي واجبات
الوجود اإلنساني.
وبهذه الطريقة وبالعقل المترفع ال نقيد أنفسنا داخل أسوار المدينة عينها ،بل 4-4
ندفع أنفسنا للقيام بأعمال مع العالم كله و ُنظهر للعالم وطننا ،ولنمنح فضيلتنا
وحرمت من حديث المنبر مكا ًنا أرحب ،وإذا ُأغلق عليك كرسي القضاءُ ،
والمجلس( ،((31انظر خلفك لترى مدى رحابة األقاليم والشعوب التي تقطن
عظيما ،وليس ما تركته هو أعظم
ً وراءها ،وليس هناك مكانٌ يمنعك أن تكون
مكان.
ولكن التفكير في إذا كانت هذه األشياء وساوس وليست رذيلة حيث إنك 5-4
( ((31يعتبر الحظ مسؤوال عن جميع المصائب غير المستوجبة على ما يبدو ،وبجانب العمل في الحياة السياسية ،فإنه يأخذ
دورا ً
بارزا في الفصل الثامن فصاعدً ا. ً
( ((31يحظر على الرجل المحكوم عليه بالنفي أو الفضيحة infamiaمن الظهور في المحكمة أو حضور الجمعية الشعبية ،وال
يمكن ألي أحد أن يظهر على منصة المتحدث إلاَّ إذا ُدعي من رئيس المحكمة ،ويشير سينيكا إلى التناقض باستحضار
الوظائف غير الرومانية من بريتانيس prytanisوكيروكس prytanisوسيفيس Sufes.
256
ترغب في المشاركة في أعمال الدولة كقنصل فقط أو كممثل للقضاء أو
ٍ
كرسول في اإلغريق أو رئيسا للدولة في قرطاجة ،فهل تفترض أنك ليست
زعيما؟ وحتى لو
ً على استعداد للمشاركة في المعركة إال إذا كنت قائدً ا أو
شغل اآلخرون الخط األول ووضعك قدرك في الخط الثالث ،فقاتل من هناك
راسخا مع الذي ُقطعت يداه
ً بصوتك الشجاع والمثالي والمعنوي ،وقف
ودعمه بصرختك حتى يجد شيئًا ما يشارك بجانبه(.((31
وهكذا أصنع شيئًا من هذا النوع ،وإذا أبعدك الحظ عن المستوى األول في 6-4
الحكومة ،فقف وامنح الدعم بصرختك ،وإذا ضيق ٌ
امرؤ عليك الخناق قف
وامنح الدعم بالصمت ،فمسعى المواطن الصالح ال يذهب ُسدى؛ فإنه ُيسمع
و ُيرى بتعبيره ،وإيمائه ومثابرة صمته ،وحتى طريقة المشي هي من سبيل
العون.
وكما أن بعض األدوية مجرد الرائحة فيها نافع دون تذوقها أو تجرعها ،فكذلك 7-4
الفضيلة خفية وبعيدة ،إلاَّ أن قيمتها رائجة سواء درستها وتمرست صحيحها
على ذاتها أو وجدث هجمة خطرة وأجبرت على لف أشرعتها ،وسواء أكانت
مفتوحا ،فكل حال
ً خاملة وصامتة وحددت في مكان ضيق أو كانت مجالاً
صالحا كمثال؟
ً للفضيلة نافع ،فلماذا تعتقد أن اإلنسان الذي يظل صامتًا ليس
ولذلك من األفضل إلى حد بعيد أن تخلط الراحة بأعمالك الخاصة كلما 8-4
منعت حواجز الصدفة وحالة الدولة حياة العمل؛ ألن كل الخيارات لم تكن
ُمسيج ًة تما ًما ولم تترك مجالاً للعمل الشريف.
( ((31يستدعي هذا أسطورة شقيق أسخيلوس الذي فقد يديه في سالميس ولكنه قاتل ،ويردد لوكان ابن شقيق سينيكا هذه
األسطورة في روايته لبطل خيالي في معركة بحرية في ماسيليا ،Massiliaوقد اختلق مونتي باثون Monty Pythonفي
فارسا يقاتل رغم أنه حرم من أطرافه األربعة.
فيلم كوميدي ً
257
ٍ
مواطن من أفضل الرجال ،بل لم الثالثون إر ًبا؟ إنهم قتلوا أل ًفا وثالثمائة
يضعوا نهاية لهذا فقد حفزت وحشيتهم ذاتها ،وفي هذه المدينة التي عقدت
فيها أريوباجوس Areopagusوهي أكثر المحاكم تدقي ًقا ،وكان فيها مجلس
للشيوخ ،وشعب مماثل لمجلس الشيوخ اجتمع فيها مجموعة النحس
الجالدين كل يوم ،واحتشد الطغاة في مجلس الشيوخ التعس ،فهل يمكن
َر َواح الدولة في ظل الطغاة مثلما كانت عليه في ظل المخلصين؟ إن عقولهم
يلح في األفق عالج للقوة العتية
لم تتمتع حتى بأمل الستعادة حريتهم ،ولم ْ
للشر ،فكيف للمدينة الفقيرة أن تجد هارموديين ((32( Harmodiiكثر.
ورغم أن الحكومة تمثل نفسها ،ورغم ما يسمح به الحظ ،فإننا سنوسع 4-5
أنفسنا أو نقلصها بالطريقة التي نرتضيها نحن ،وعلى أي حال ،اتخذ القرار
وال تشله أو تخنقه بالخوف ،وفي الحقيقة أن الرجل الذي تهدده المخاطر من
( ((32استولى الطغاة الثالثون على حكومة أثينا عام 404ق.مبناء على طلب األسبرطيين المنتصرين ،وشملت المؤسسات
الديموقراطية األريوباجوس Areopagusوهو محكمة دينية قديمة ،واألبول bouleوهو مجلس الخمسمائة،
والكنيسة ،ecclesiaوالجمعية المفتوحة للمواطنين ،والمجمع الخطابي Harmodiiويرمز للمقلدين هارموديوس
Harmodiusوإريستوجيتون Aristogeitonاللذين اختاال الطاغية هيبارخوس Hipparchusعام 514ق.م ،ولقد
نجا سقراط من الطاغية ،ولكن حكم عليه بالموت من قبل ممثلي الديموقراطية المرممة عام 399ق.م.
258
كل جانب وتحيط به السالسل والقيود ولم يقمع أو يخفي فضيلته ذلك هو
البطل ،فدفن النفس ليس شكلاً من صور الخالص.
((32( Curius
الحق على حد لقد قال كوريوس دينتاتيوس Dentatus 5-5
اعتقادي حين رأى أنه يفضل الموت على االستمرار في الحياة؛ ألن أسوأ
صادفت فترة
َ المحن أن تتخلى عن مراتب العيش قبل أن تموت ،ولكن إذا
وجيزة في السياسة سوف تراها أكثر وقت للهدوء في الراحة والدراسة كما
لو كنت تتعجل سرعة العودة للميناء بعد رحلة خطرة ،وال تنتظر أن ترسلك
األعمال بعيدً ا بل خلص نفسك منها.
واآلن ينبغي أن نفحص أنفسنا قبل كل شيء ،ومن ثم العمل الذي نقوم به ،ثم 1-6
الناس الذين نعمل ألجلهم ومعهم(.((32
( ((32كان كوريوس قنصلاً عام 290ق.م واشتهر لرفضه المثالي لرشوة العدو ،وكذلك أسلوب حياته البسيط (Valerius
،)Maximus 4.3.5ولم أعثر على مصدر لهذه األقوال.
( ((32يبدو أن هذه قائمة بمواضيع سينيكا بالتسلسل ،فالتقييم األول على قدراته ،ثم الجرأة التي يتحلى بها ،ثم روابط اإلنسان
أو المستفيدين ،ولكن هذا مجرد تحليل جزئي للفصول اآلتية من 6إلى .9
( ((32يستدعي هذا التقييم للذات الفحص الذاتي األولي لسيرينوس واإلشارات التالية لنقد الذات في 7-2و 9-2و2-14
أدناه.
259
استفزازات الصراحة التي ستضر بهم.
وعلينا أن ُنقيم المشاريع التي نتعامل معها ونطابق قوتنا أمام األعمال التي 3-6
نحاول أن نؤديها ،حيث يجب أن يكون األداء أكثر قوة من العمل المطلوب
دوما ،فإن عظمت األعباء على المتحمل تقهره بالضرورة ،وبجانب هذا ليست
بعض المشاريع عظيمة بقدر ما تنتجه وتتحمله أعمال أخرى بها ،وبعضها
ُيولى من أن تتولد انشغاالت أخرى جديدة لها جوانبها المختلفة ،فابتعد عن
أي شيء ليس فيه حرية االنسحاب ،وضع يدك على مثل هذه األعمال بقدر ما
عما يمتد بعيدً ا في َّ
وتخل َّ تستطيع أو على األقل بقدر ما تأمل أن ترى نهايتها،
سير العملية ،وال ُتقبل على النهاية التي تحددها أنت.
وفي أيي حال علينا أن نحذر في اختيار الناس سواء أكانوا يستحقون أن نضع 1-7
جزءا من حياتنا في ثقتهم أم كانوا يضيعون وقتنا إن امتد إليهم ،حيث إن بعض
ً
الناس مدينون بخدماتنا في خطوتهم األولى.
وكان أثينودوروس يقول إنه سوف لن يلبي دعوة عشاء لمن ال يشعر بأنه 2-7
لمن يقل استعدادهم
مدين له بهذا العشاء ،وأعتقد أنك تدرك سوف يذهب َ
للذين يستعملون سفرتهم ليخلصوا لواجبات أصدقائهم ،والذين يعدون
الوليمة كما لو كانوا يفعلون الكرم وغير مقيدين في الشرف بدخيل ،فنأى
عن شهودهم ومتفرجيهم وأكل منازلهم الخاص( ((32الذي ال ُيعطي أي لذة،
وعليك أن تتأمل سواء أكانت طبيعتك مناسبة للعمل الفعال ،أم الدراسة في
واتكئ على االتجاه الذي سيحمل قوة عقلك ،فقد وضع
ْ الراحة والتأمل،
أسيوقراطيس Isocratesيده على أفوروس Ephorusوأخذه بعيدً ا عن الحياة
( ((32تدين هذه العبارة الغريبة تقديم دعوات العشاء على أنها وفاء بااللتزامات تجاه التابعين والمرؤوسين ،كما لو كان
المستفيد يستعمل قاعة عشائه كمنزل لألكل الرخيص في حين دفع الوضعاء ثمن ما أكلوه.
260
العامة معتقدً ا أنه من األفضل له أن يسجل وقائع التاريخ( .((32والحقيقة أن
العقول المجبورة تستجيب باإلكراه حين تقاوم الطبيعة ويهدر الجهد.
ومع ذلك ال شيء يبهج العقل بقدر الصدق والصداقة العذبة ،وعظيم بركتها 3-7
يكون حين يستعد الصدر لتلقي كل سر ويأمن عليه ،والذين يتحدثون بلين في
قلقك ،والذين ييسر رأيهم قرارك ،والذين يهزمون حزنك بالبهجة ،ولذلك
مجرد النظر إليهم ُيبهجك! وسوف نختار أولئك المتحررين من الرغبات،
وهذا ممكن إلى حد بعيد؛ ألن الرذائل تنتشر وتقفز مهما أحكمت اليد وتلحق
الضرر بعدوتها.
كما في الطاعون ،نحن ال نحرص على الحفاظ على الذين تملك أجسادهم 4-7
المرض وأصابهم؛ ألننا سنقلص المخاطر ونتكبد من مجرد أن نجعله يتنفس،
وحين نختار صفة الصديق ،فإننا نأخذ اآلالم لنتبنى اإلصابة على األقل ،وإن
بداية المرض خلط العناصر الصحيحة والسقيمة ،وأنا ال أنصحك أن تتبع أو
يستهوى نفسك أحدٌ سوى الحكيم ،فأين نجد المرء الذي نبحث عنه لكل
نفعا كاألفضل على األقل.
العصور؟ والذي يسمح للسيئ أن يقدم ً
وصعب أن تجد فرص ًة لتختار األفضل إن كنت تسعى لألخيار من بين 5-7
األفالطونيين واألكسينوفانيين وحضنة سقراط ،أو إذا تجاوزت جيل كاتو
الذي أنجب رجالاً عدة يستحقون أن يولدوا في زمن كاتو(( ((32كما وجد
أسوأ الناس أكثر من أي عصر آخر احترفوا أبشع الجرائم ،وكال الفريقين
كان موضع تقدير كاتو ،فقد احتاج لألخيار ليثني على ذاته وللخبثاء ليختبر
( ((32أرشد أسيوقراطيس )) Isocrates 436–338 bceطالبه الصفوة في الخطابة ،ويقال إنه شعر بأن تلميذه إفوروس
Ephorusاحتاج التشجيع ليرفع من شأنه ،ومن ثم حاذ ًقا في الكتابة التاريخية ،فأعماله التاريخية المكثفة كانت معروفة،
ولكنها بقيت فقط في مقتطفات ك َّتاب الحقين مثل ديدوروس .Diodorus
(َ ((32من كاتو؟ إنه الرقيب المعروف بفضيلته وحيويته ( )b. ca. 235 bceأو انحداره من ساللة أوتيكا ،Uticaواشتهر
باستقامته الرواقية وعيشه في جيل الحرب األهلية ،ويعني سينيكا على األرجح كاتو األخير.
261
سلطته) ،وكما هو الحال اآلن ،إن كان هناك نقص في األخيار سيتقلص
االختيار على المتميزين.
وعلى المرء أن يتجنب الرفقاء المتجهمين الذين يأسوا من كل شىء ،أي 6-7
الذين يبررون أي عذر ليقيموا شكواهم ،وحتى لو كان والؤه وحسن نيته يقينًا
فإن الرفيق المضطرب الذي يتأوه في كل شيء عدو للسكينة.
ودعونا ننتقل إلى الخصلة الموروثة ،وهي أردأ وقود للويل البشري ،وإذا 1-8
ماثلته بكل العلل األخرى لمحنتنا مثل الموت والمرض والخوف والشوق
وتحمل األلم والكد وبكل أمور البؤس التي يمدنا بها المال ،فإن هذا الجانب
سوف يزن كفته.
وهكذا علينا أن نفكر في كيف يقل األلم الذي يأتي من عدم الحصول على 2-8
الثروة أكثر من فقدانها ،وسوف ندرك أن الفقر قد يقل معه العذاب حيث تقل
اعتقدت أن األثرياء يتحملون خسارتهم بروح
َ فيه الخسارة ،وإنك مخطئ إذا
سامية ،فقد يتساوى ألم الجرح في أصغر وأضخم األجسام.
262
وديوجين -وهو المفكر العظيم -رأى هذا وتيقن من أنه ال شيء ُينتزع 4-8
منه( ،((32واستدعى الفقر والحاجة والنقص ،وضع أي اسم مخجل تريده
على هذا التحرر من الحذر ،واعتقد أنه يفتقر إلى السعادة إن وجدتني إنسا ًنا
آخر ليس لديه شيء يفقده ،وإما أن أخدع نفسي وإما أنها حياة الملك الذي ال
يؤذي وهو فرد واحد بين البخالء والمحتالين واللصوص والعصابة.
وإن كان يشك أحدٌ في سعادة ديوجين ،فإنه يحمل نفس الشك في األرباب 5-8
الخالدين ،ويتعجب من أنهم يحيون بالسعادة في القليل؛ ألنهم ال يملكون
ضخما من الربح في
ً كما عقارا وال حديق ًة وال ً
أرضا ينتفع بها فالح آخر ،وال ًّ ً
السوق ،ألم تخجلَ ،من أنت حتى تتفوه عن الثروات؟ َ
تعال ،وانظر إلى العالم،
سترى األرباب مجردين لقد منحوا كل شيء ولم يمتلكوا شيئًا ،هل تعتقد أن
اإلنسان الذي قد أسقط كل عطاياه من الثروة معوز أو مثل األرباب الخالدين؟
حتى العبد الوحيد لديوجين قد هرب منه ،ولم يفكر أن يرجعه وهو يشير إليه، 7-8
وقال« :إنه من العار أن يعيش مانيس Manesدون ديوجين ،ولكن ديوجين
ال يمكن أن يعيش دون مانيس” ،وأعتقد أنه قصد “الثروة ،وأن عقلك هو
عملك ،وليس لك شيء عند ديوجين ،فقد هرب عبدي أو باألحرى حررته”.
( ((32ديوجين السينوبي Diogenes of Sinopeالكلبي المعروف في القرن الرابع واشتهر في التراث القصصي (cf
). .Diogenes Laertius 6.20–83
( ((33اعتبر الرومان الرجال األحرار (الذين كانوا عبيدً ا ساب ًقا) من طبقة أقل ،ولكن رجال اليونان األحرار مثل ديمتريوس
البومبي كانوا أثرياء أقوياء ،ويقرر بلوتارخ في Plutarch’s Life of Cato Minor 13أنه مدينة آسيوية بأكلمها رحبت
بديمتريوس.
263
يريد عبيد المنزل الكساء والغذاء ،وعليك أن تشاهد كذلك كثرة بطون 8-8
المخلوقات الجائعة ،وتشتري لهم كساء وتحرس أيديهم المسروقة ،وتعتمد
على خدمات رجال بكائين ولعانين ،وما أعظم سعادة اإلنسان الذي ال يدين
ٍ
ألحد سوى نفسه ،والتي يمكن أن يرفضها بسهولة! بشيء
وبما أنه ليس لدينا مزيد من القوة ،فعلينا أن نقلص إرثنا لنتحاشى أخطاء 9-8
الثروة ،فاألجسام أكثر رشاقة في القتال الذي عهدوه بدروعهم أكثر من
الدروع التي ال يعرفونها ،فحجمها يعرضهم للجروح ،وأفضل مقياس للمال
هو الذي ال يدقعك في الفقر وال يخرجك بعيدً ا عنه.
وهذا المقياس مناسب لنا إذا قررنا االدخار ،ومن دونه ال تكفي الثروة أو ال 1-9
قريب؛ فالفقر ذاته بعون االقتصاد يمكن أن
ٌ يكون الميسور كاف ًيا ،والعالج
يحول ذاته إلى ثروة.
دعونا نعتاد على أن نبدي رفضنا لتقييم األشياء على قيمتها الزخرفية ،فالطعام 2-9
ينبغي أن يخمد جوعنا ،والشراب ينبغي أن يروي عطشنا ،ودع تدفق الشهوة
حيث جاء ،ودعنا نتعلم االعتماد على أعضاء أجسامنا ونبتكر زينتنا ونظامنا
الغذائي كما أشار إليه أسالفنا ال ليساير قوالب بعينها ،دعونا نكثر من ضبط
أنفسنا ونكبح غلونا ،ونسيطر على عظم محنتنا ،ونسكن هياجنا ،وانظر إلى
الفقر بأعين ثابتة ،ومارس االدخار حتى لو سبب ً
بعضا من الخجل(،((33
وعلينا أن نستعمل عالجات رخيصة لتوقنا الطبيعي ونظل في سالسل كما
كانت آمالنا الجامحة ،وعقولنا التي تحوم على المستقبل ،ونسعى للثروة في
أنفسنا أحرى من الحظ.
وال يمكن أن يدفعنا هذا التنوع وعدم التكافؤ في الفرص دون قدر عظيم 3-9
( ((33النص الالتيني لهذه العبارة تالف ،ولكنه يحتوي اإلشارة إلى الخجل.
264
للعواصف يغير على السفن التي تنتشر على نطاق واسع ،وعلينا أن نكثف
أعمالنا في مكان ضيق حيث تسقط القذائف في النطاق الواسع ،ولهذا السبب
ألما ُتعالج
قد تتحول عقوبة المنفى والمصائب إلى عالج ،والخسائر األكثر ً
بأخرى ألطف منها ،وحين يدفع العقل بانتباه بسيط للنصيحة واستعصى
عالجه بلطف ،فلماذا ال يخدم العقل مصلحته إذا طاله الفقر والعار والهزيمة،
شرا ضد آخر؟ دعونا نعتاد تناول الطعام دون تجمع من الضيوف،
ونحن نضع ًّ
ونجعل الخدم أقل من العبيد ،ونوفر الملبس للغاية التي صنعت من أجلها،
ونعيش بتواضع ،وال نحيا من أجل السباقات ومنافسة العربات ،بل يجب أن
تتحول الحتضان الحياة من الداخل.
وأكثر األشكال المتحررة لإلنفاق على الدراسات التي لها مبرر يحددها، 4-9
وما غاية الكتب والمكتبات التي ال ُتحصى طالما مالكها يقرأ بالكاد بطاقتها
طيلة حياته؟ والحمل الزائد ُيضعف الطالب وال يعلمه ،ومن األفضل أن تعهد
نفسك لعدد قليل من الكتاب بدلاً من أن تضل بوفرتهم.
احترق أربعون ألف كتاب في اإلسكندرية( ،((33وقد أشاد بعض الناس 5-9
بهذا الكم الذي ُيضاهي ثروة الملوك مثل ليفي Livyالذي وصفها باألعمال
المتميزة من تهذيب وإتقان الملوك ،ولم يكن هذا تهذي ًبا وال إتقا ًنا ،بل ًّ
غلوا
حبا في الدراسة؛ ألن الكتب لم ُت َ
شتر للدراسة في التوق بالدراسة ،وال حتى ًّ
بل للعرض ،وبعض الناس الجاهلون ببدايات التعليم ال يرون الكتب أداة
للدراسة بل زينة لحفالت العشاء ،لذلك دعنا نحصل من الكتب ما هو ٍ
كاف
وال شيء منها للعرض.
( ((33وقد جاء هذا التقدير للمقتنيات في مكتبة اإلسكندرية الكبيرة إلى الفقرة المقتبسة في ليفي فى الجملة نفسها ،وقد جمع
جزئيا عندما حاصر قيصر
ًّ المكتبة بطليموس فيالديلفوس Ptolemy Philadelphosفي مقتبل القرن الرابع ،واحترقت
الجزيرة في 47ق.م ،وتلقى مصادر مختلفة اللوم للهجوم على اإلسكندرية وتدمير المكتبة.
265
وسوف تقول“ :إن هذه النفقات قد ُسكبت خارج نطاق التبجيل مثل البرونز 6-9
الكورنثي واللوحات المرسومة” ،واإلفراط فيها رذيلة مهما يكن ،وما السبب
الذي تعذر فيه رجلاً يجمع خزائن الكتب المصنوعة من العاج وخشب
الحمضيات ،ويتصيد أعمال المؤلفين حتى المجهولين والمنبوذين ،ويتثاءب
وحوله آالف عدة من الكتب ،فمتى ترضيه األغلفة والملصقات الخارجية
لمجلداته أكثر؟
وهكذا سوف ترى في البيوت أشد المتابعين للتاريخ واللغة كسلاً وأرفف 7-9
مكتباتهم تصل للسقف ،حتى أنهم أقاموا المكتبة بين طرق الحمامات الباردة
والساخنة كزينة أساسية للمنزل ،ومن الواضح أنني سوف أغفر هذا إذا كان
الخطأ الفاضح نشأ من الرغبة المفرطة للدراسة ،ولكن في الواقع استقصوا
هذه المجلدات وطبعت بصورهم( ،((33وحصلوا على األعمال العقلية
المقدسة للعرض وتزيين جدرانهم.
1-10ولكن افترض أنك وقعت في صعوبات ما في الحياة ،أو حتى ضاق بك خناق
الثروة الخاصة والعامة ولم تكن على استعداد للفكاك من هذا أو تجاوزه،
معا وبالكاد يحملون الحمل والمصاعب على
وأعتقد أن الناس مقيدون ً
سيقانهم ،ومن ثم يعقدون النية ال ليستاؤوا بل ليصمدوا ،فالضرورة تزييهم
بالشجاعة ،وتجعلها العادة يسيرة ،وسوف تجد المتعة واللذة واالسترخاء في
أي نوع من الحياة إذا رغبت في ال َباليا أكثر من أن تكرهها.
2-10لقد خدمتنا الطبيعة بأفضل صورة ولم تعتد بأحد آخر ،وتعلم كروب الذين
ولدتهم ،وابتدعت العادة باعتبارها ملط ًفا للمصائب ،وسرعان ما تجعل
( ((33كانت االستنارة من ابتداع اإلسكندرانيين حيث جاءوا إلى روما في نهاية القرن قبل الميالد في زمن فارو Varroلتجميع
موسوعة الرجال العظام ،وظهر كل منهم مع صورته.
266
ألما مألوف ًة ،فال أحد يتحمل إذا كان حضور المصائب له
المصائب األكثر ً
نفس قوة الصدمة األولى.
3-10كلنا مقيدون بالثروة ،فقد ُقيد البعض بقيد ذهبي فضفاض ،وآخرون بقيود
حقيرة ضيقة ،ولكن ما الفارق الذي تصنعه؟ ونفس المشهد قد ُأحيط بالجميع
حتى الذين قيدوا اآلخرين ،هم ذواتهم مقيدون ،إال إذا اعتقدت أن القيد أخف
على األيسر( ،((33والبعض مقيد بالمناصب العليا وآخرون بالثروة فيثقلون
أناس بعينهم بالنبالة ويخفضون مولد اآلخرين ،وآخرون علقوا السيطرة على
اآلخرين فوق رؤوسهم ويهيمن عليهم آخرون ،وتحفظ عقوبة االغتراب
بعض الناس في مكان ويبقيهم الكهنوت في مكان آخر ،وكل الحياة عبودية.
4-10وأصبحنا معتادين لظروفنا ونشتكي منها بقدر ما نستطيع ،ونستولي على أي
فائدة تجلب معها ،وال يوجد شيء أفضل من العقل الذي ال يجدون فيه راح ًة،
وغال ًبا قد تفتح مهارة المهندس المساحات الصغيرة ألغراض كثيرة ويصنع
من األماكن الضيقة للغاية مكا ًنا للسكن ،وطبق السبب على صعوباتك،
فالظروف القاسية يمكن تخفيفها ،واألماكن الضيقة قد تتسع ،والحمول
الثقيلة يقل عبؤها على الذين يتحملونها بحذاقة.
5-10وإلى جانب ذلك ،ال ينبغي لنا أن نرسل رغباتنا إلى مدى بعيد ،بل نسمح لها
أن تخرج قري ًبا من متناول أيدينا؛ ألنها ليست محدد ًة تما ًما ،فالمرء قد يطرح
المستحيل أو الصعب جان ًبا ،ونحن نتبع الغايات القريبة منا وتستثير رجاءنا،
وعلينا أن نعرف أن كل شيء قد يتساوى في التفاهة بالمظهر المتباين ،بل
الكل يتساوى في فراغ الباطن ،وال ينبغي أن نحسد األعلى منا ،فما يبدو
متغطرسا هو مجرد انحدار.
ً
(( ((33على االيسر) تشير على األرجح أن الحارس مقيد سجينه.
267
6-10والذين وضعهم النصيب الجائر على حد السكين سيكونون أكثر أما ًنا بمحو
الفخر من الظروف المتجبرة ذاتها ،وخفض ثروتهم ألدنى مستوى ،وكثيرون
يتشبثون بقمتهم وليس بمقدورهم أن ينزلوا منها إال بالسقوط ،وذرهم
يشهدون بأن هذا أعظم حمولهم ،ليضطروا أن يكونوا حملاً على اآلخرين،
وهم ليسوا ممجدين في األعالي بل مطعونون ،ودع العدالة واالعتدال
أنواعا عدة من الوقاية من أجل
ً واإلنسانية تهيئ لهم مع اليد السخية الكريمة
النجاح الذي يتوقعونه بزيادة التحرر من الحرص ،ومع ذلك ال شيء سيحررنا
تما ًما من هذه التي تقذف العقل كما تضع دو ًما بعض حدود النمو ،وال تترك
قرارا للثروة لتتوقف ،ولكن تتوقف عفو ًّيا طالما الطريق قصير ،كما تشحذ
ً
بعض الرغبات العقل وأخرى تحدده ،وسوف ال تقوده إلى مكان فسيح أو
مسافة غير معلومة.
1-11وحديثي هذا يركز على الناس الناقصين والوسط والمعلوليين وليس للرجل
الحكيم ،فهو ال يمشي خجلاً أو وجلاً ،وال تحيره ثقته بذاته في االرتباط
بالثروة ،وال تحركه اإلرادة إليها ،وليس لديه سبب للخوف ،وال يعتد بالعبيد
والملكية والمنصب ،بل إن جسده وعينيه ويديه وأ ًّيا ما كان يجعل الحياة
محبوبة لإلنسان حتى نفسه ،فهو مجرد أمور طارئة للصدفة ،وتحيا فيه كما
لمن يطلبها بال
لو كانت على سبيل اإلعارة ،وهو على استعداد إلى أن يعيدها َ
حزن.
2-11ولكنه مع ذلك ال يزهد في عينيه؛ ألنه يعلم أنها ليست ملكه ،بل يعمل في كل
شيء بدقة وعناية كرجل مقدس وأمين اعتاد أن يحمي ما عهد به إليه ،وحينما
ُيطلب منه ردها ،فإنه ال يشتكي للحظ ،بل يقول« :أحمد ما قد امتلكته وما
لدي».
َّ
راعيت ما تملك بعظم كلفته ،ولكنك طلبت مني أن أعطيه لك ،فأنا أرده
ُ 3-11وأنا
268
مسرورا ،وإن أردت مني أن أحفظ لك حتى اآلن فسوف أحفظه لك،
ً شاكرا
ً
وإن قررت خالف ذلك ،فإنني بموجب هذا أرد فضتي سواء كانت طب ًقا أو
عمل ًة نقدي ًة( ،((33وبيتي وأهل بيتي» ،وإن أرادت الطبيعة ما عهدت إلينا به
من قبل( ((33فإننا سنقول لها :استرجعي عقلي ،اآلن حسنت من الحالة التي
منحت من أجلها ،وأنا لن أرتد للوراء أو أهرب ،أأنت هنا على استعداد أن
تقدم ما أعطى لك بغير قصد ،استعده!».
4-11وما السوء في رد ما أتاك؟ فإنَّ َمن ال يعرف كيف ُيحسن ميتته فإنه سوف يحيا
على نحو رديء ،لذلك علينا أولاً أن نختزل تقييمنا لهذه المسألة ،ونحصي
أنفاسنا الرخيصة ،وكما يقول شيشرون((« :)((33إننا نخدع المجالدين إذا
رغبناهم في الحصول على حياتهم بأي ثمن ،نحن نمنيهم كما يجب ،إذا
عرضوا بافتخار تنافسوا من أجلها ،وربما قد تخمن أن الشيء نفسه يحدث
لنا؛ ألن فزعة الموت هي علة للموت غال ًبا.
5-11وتقول الثروة التي يلعب بها ألعابه« :لماذا ُأبقيك آمنًا؟! أنت مخلوق بائس
ومرتجف! إنك سوف ُتجرح و ُتثقب بعمق؛ ألنك لم تعرف كيف تظهر
حنجرتك ،ولكنك سوف تعيش طويلاً وستموت بسرعة أكبر لقبضك
الحديد ،وليس بخفض رقبتك أو بحمايتها بيديك ،بل بالروح الشجاعة».
6-11والمرء الذي يخشى الموت لن يفعل شيئًا يستحق أن ُيحيي البشر ،ولكن إذا
تصورا في البداية ،فإنه سوف يحيى
ً كان يعلم أن الموت مكتوب حين كان هو
كما قدر له ،ويحفظ سلوكه بنفس قوة العقل ،ولذلك ال شيء يحدث غفلة،
وبالتوقع مهما كان يمكن أن يحدث ،وسوف ُيلطف من مخاوف الشرور
269
جميعا؛ ألنها ال تجلب شيئًا جديدً ا أعده الناس فينتظرهم ،في حين تدفع
ً
الشرور الناس للتخلي عن الحرص ويتوقعون السعادة فحسب.
7-11وهناك مرض وعبودية وكوارث ونار وال شيء يحدث من هذه األشياء غفلة،
كنت أعلم المأوى المضطرب الذي طوقتني به الطبيعة ،وصرخة الموت تحوم
حولي ،وقد مرت الجنازات السابقة ألوانها بالمشاعل والشموع الرفيعة على
عتبتي ،وعلى جانبي صوت تحطيم قوالب المباني التي تنهار ،وقد خطف
الليل الرفاق الذين كان ٌ
بعض منهم في الميدان forumوفي مجلس الشيوخ،
لقد قيدني الحوار ومزق طرف األيادي الموصولة للرفاق( ،((33وأنا أتساءل
أخيرا؟ فغالب
ً إلي
هل تلك المصائب التي كانت تحوم حولي قد وصلت َّ
الناس ال يفكر في العواصف حين توشك الرحلة على اإلقالع.
8-11لن أشعر بالخجل لالقتباس من مصدر رديء لسبب وجيه ،لقد كان بوبليليوس
((33( Publiliusأكثر انفعالاً من التراجيديا أو المأساوية الهزلية حين تخلى
عن حماقات اإليماء والكلمات التي هدفت للمنصة ،ومن بين األقوال األكثر
جرأة من مأساة الجزمة buskinأنه ترك حجاب اإليماء وأدلى بهذا التعليق:
“إن ما يحدث إلنسان بعينه قد يحدث ألي إنسان ،وإذا سمح لنا امرؤ ما أن
حرا
مسارا ًّ
ً نحفر في قلبه ونطلع على مصائب اآلخرين كلها كما لو كان هذا
له فإنه سوف يسلح نفسه قبل أن ُيغار عليه ،فبعد أن تندلع المخاطر فمن
المتأخر أن تدرب العقل على تحملها.
( ((33التفسير المحتمل للنص الالتيني هنا قد يأخذ كلمة االتحاد copulatesلإلشارة لوجود ارتباط بالحظ ومعاملته على
أنه الحق “لأليدي الممدودة للرفقاء”.
( ((33الجورب والجزمة رمزان قديمان للكوميديا والتراجيديا ،حيث كان يرتدي الممثلون في المسرح اليوناني بوتًا ُيسمى
جزمة أو بوسكين (.buskinالمترجم) ،وقد تحدى يوليوس قيصركاتب التمثيل بوبليليوس سيروس Publilius
وضيعا لرجل نبيل ،ولكنه ألف أكثر من عمل عن مثل هذه الشخصيات طورت فيما ً Syrusأن يعرض في تمثلياته فعلاً
ودرست في المدارس باسمه .انظر .Seneca Letters 16 بعد ُ
270
“ 9-11ال أعتقد أن هذا قد حدث” و”هل تعتقد أن هذا قد جاء ليمضي هكذا؟”،
ولم ال إذنْ ؟ وما الثروات التي ال تتبع في دعمهما الجوع والحاجة والتسول؟
َ
وما المنصب الذي ال يقرن التاج القضائي وهيئة الكهنة وصندل الشريف
بتشوية السمعة والعار وألف من العالمة السوداء واالحتقار الروماني(((34
الشديد؟ وما المملكة التي يوجد فيها الفساد والمراوغة والسيد والجالد
وليست متأهبة وتنتظر؟ وهذه الكوارث ليست مفترق ًة بفواصل كبيرة ،بل
هناك برهة من ساعة بين العرش وركبتي رجل آخر.
10-11واعلم أن المنصب متقلب ،وما ُيسقط غيرك يمكن أن ُيسقطك ،أنت غني،
والمضيف
هل أنت أغنى من بومبي؟ عندما فتح قريب جايوس قيصر الكهل ُ
الجديد منزله له وأغلقه عليه لم يكن هناك خبز وال ماء ،رغم أن جايوس
أنهارا عدة تنبع وتصب في أرضه ،كان متسولاً لقطرات الماء ،وهلك
ً ملك
ً
وعطشا في قصر قريبه ،بينما عهد وريثه بجنازة عامة لقريب له وكان هو جوعا
ً
جوعا(.((34
ً يتضور
11-11لقد تقلدت أعلى مراتب الشرف ،فهل تقلد أحدٌ مثل عظمة وعالمية
سيجانوس(((34؟ اليوم يجره مجلس الشيوخ إلى المحكمة ،ومزقه الناس
إر ًبا ،فالرجل الذي منحه األرباب والناس ما كدسوه لم َ
يتبق له سوى الجالد
يجره.
حذاء
ً ( ((34هذه هي رموز للقضاة toga praetextaوالكهنة the lituusوالشريف الروماني :حيث كان يرتدي السيناتورات
مختل ًفا عن الشرفاء الرومانيين ،ولكن هذا هو المثال الوحيد على تملك زمام األمور loraأي االستشهاد بالصندل.
( ((34هذه القصة الغامضة ليست عن بومبي ويوليوس قيصر عمو ًما ،بل عن بومبيوس المتأخر الذي سجنه (كضيف) يوليوس
قيصر كاليجوال ،وجوعه حتى الموت في قصره ،وال أجد استشها ًدا على هذا في أي مصدر.
( ((34كان إيليوس سيجانوس Aelius Seianusقائد تيبريوس للحرس البرايتوري ،اخترق اإلمبراطور القديم وشهر ودمر
أعضاء األسرة اإلمبراطورية ،وعزل اإلمبراطور عن شؤونه في روما ،ولكن تيبريوس علم خطأه وأرسل خطا ًبا من
كابري Capriإلى روما يدين فيه سيجانوس ،وأعدم لخيانته ،ووصف تاكيتوس لهذا السقوط مفقود ولكن هناك وصف
تصوري في .Juvenal 10.66–77
271
((34( Croesus
الذي رأى 12-11تخيل أنك ملك ،ولن أحيلك إلى كروسوس
حيا ،وأصبح الناجي الوحيد
جثته وهي تضرم فيها النار وتخمد وهو ال يزال ًّ
((34( Jugurtha
الذي من مملكته بل من موته ،ولن أحيلك إلى جوجرثا
رآه الرومان بعد عام من خداعه ،ورأينا بطليموس Ptolemyملك إفريقيا
وميتريداتس األرميني Mithridates of Armeniaتحت حراسة جايوس
بقي متمن ًيا أن يطلق سراحه ُ عينها(((34
،أحدهما أرسل إلى المنفى ،واآلخر أ َ
بأي ضمان ،وقد آلت األمور إلى الفوضى في مثل هذا االضطراب ،فإذا لم
تتعامل مع ما هو ممكن مثل المستقبل ،فقد تواجهك قوة المصيبة تلك القوة
التي قد تسحق أي شخص يتوقعها.
1-12إن التالي من بين شواغلنا ليس كدًّ ا ألشياء زائدة ال يمكن تحقيقها أو تفهم
بعد فوات األوان أو بعد فض هذه الرغبات ،إنني أعني أنه ال ينبغي أن يكون
عملنا معدوم النفع أو أن النتيجة غير جديرة بجهدنا؛ ألن عاقبة خيبات األمل
نجاح أم جلب نجاحه الخزي(.((34
ٍ هذه الحزن سواء أكان العمل بال
2-12وينبغي أن نشذب اندفاع مثل هؤالء الناس الذين يتجولون بين المنازل
والمسارح واألماكن العامة ويسندون أعمالهم آلخرين ،ويعملون كما لو
كانوا يصنعون شيئًا ،وإذا أحدهم غادر منزله؛ فأين يذهب؟ وما الذي ُيخطط
( ((34كورسوس Croesusملك ليديا في القرن السادس الذي اشتُهر بثروته ،وهو محور حكاية هيرودت األخالقية في
، Histories 1.30–33حيث يحذره صولون بأنه ال يمكن ألي إنسان أن يدَّ عي أنه سعيد حتى يصل إلى الموت ،هزمه
قورش ،Cyrusكان على وشك أن يحرق على محرقة الجثث حينها صرخ قائلاً صولون كان على حق (Herodotus
)1.86وذكرها بلوتارخ ). (Cf. Plutarch Solon 27.6–7 and 28.2.
( ((34جوجورثا Jugurthaمغتصب عرش ملك نيميديا ،Numidiaكان مهزو ًما خائنًا ،وأحضر إلى روما ليمشي في عرض
انتصار ماريوس عام 105ق.م.
( ((34هؤالء الملوك هم خلفاء الحكم البطلمي وميثريداتيس العظيم great Mithridatesوأحضروا إلى روما خدعة
وسجنهم جايوس ).(Suetonius Caligula 26, 35; Dio 58.26.4, 59.25
( ((34هذا القسم يرجع إلى نقطة البداية .1-6
272
له؟ ،وسوف يجيبك ،بحق جوبتر ال أعرف ولكني سوف أذهب لرؤية بعض
الناس وأقوم ببعض األعمال.
3-12إنهم يهيمون على وجوههم بال غاية بح ًثا عن عمل ،ولكنهم ال يؤدون ما
نووا حتى لو قابلهم ،فسعيهم مريض وغير نافع مثل النمل الذي يزحف على
الشجر ،يندفع للقمة ويهبط ً
فارغا ،وتسير حياة معظم الناس على هذه الوتيرة،
ويستدعي المرء على نحو غير الئق سلوكهم المتراخي المشوش.
4-12إنك تشعر بالشفقة من أناس بعينهم مندفعين هنا وهناك كما لو كانوا يدعون
إلى النار ،حيث يدفعون هؤالء وهؤالء بثوران عن طريقهم ،ويطأطئون
أنفسهم واآلخرين لتحية امرئ لم يح ِّيهم في عودته أو يتبعون موكب جنازة
لمتقاض متكرر ًة أو حفل زفاف لعريس
ٍ شخص غريب ،أو يحضرون محاكمة
متكرر ،وحين ترافقهم الفوضى يجرونها خلفهم في مناطق بعينها ،وحين
يعودون للبيت منهكين بال فائدة ،أقسم أنهم ال يعرفون لماذا خرجوا أو أين
كانوا ،وفي اليوم التالي سيهيمون في نفس المسارات.
5-12دعوا جهودكم توجه لبعض الغايات ،ودعوها تركس في مكان ما ،فليس من
الجد أن تجعل الناس متراخين ،فالصور الكاذبة لألشياء تدفعهم للجنون،
وحتى المجانين ال يتصرفون بال أمل ،فالمظهر الخارجي كأن عليهم البيض،
ولوثة عقلهم ال تبين فراغه.
( ((34نظرا ألن الحوار االفتتاحي هو امتعاض الذات عند سيرينوس ،4-1وهذه هي اإلدانة الفصل وهي أن الناس ليس لديهم
وقت لمعرفة بواطن أنفسهم.ٌ
273
الشر هو أصل لهذا الخطأ المقيت ،حيث إن تسمع وتصيد المسائل العامة
والخاصة ،ومعرفة شؤون كثيرة ال ُتقال عنها ولم يسمع بها دون مخاطرة.
1-13وأعتقد أن ديمقريطوس قد اتبع هذا المبدأ حين قالَ « :من أراد أن يعيش في
سكينة فال يؤ ِّد أعمالاً عام ًة أو خاص ًة» .ويقينًا أنه كان يشير إلى أعمال النوافل؛
ألنها لو كانت جوهرية لن تتعدد ،ولكن المهام التي ال حد لها ُتؤ َّدى على
معا علينا أن
معا ،وحين ال يستدعي الواجب جمعها ً
النحو العام والخاص ً
نتحقق من أنشطتنا.
2-13إن اإلنسان الذي لديه أعمال كثيرة ُيعطي للثروة سلطة على ذاته ،والحري أن
يختبرها قليلاً ،ويبقيها دو ًما في عقله« ،سأقوم برحلة إن لم يحدث شيء»،
«سأنتخب الحاكم praetorإن لم يمنعني شيء”“ ،وسأقوم بعملي على
أحسن وجه إن لم يوقفني شيء”(.((34
3-13ولهذا السبب نقول ال شيء ُيصيب الحكيم تجاه توقعاته ،ونحن ال نستثنيه من
مصائب الرجال بل من أخطائهم ،وقد تتحول األمور بالنسبة له ال كما يرغب
بل كما يتوقع ،وقد يتوقع فوق هذا كله أن شيئًا سيعترض خططه ،فقد يتالشى
ألم هجر الرغبة بالضرورة بلطف على العقل حين ال تعد نفسك بمخرج ماتع.
1-14وينبغي أن نكون لينين وألاَّ ننغمس في خطط محددة ،وأن نمضي في الفرصة
التي قد ُأتيحت لنا ،وألاَّ نخشى تغير المسار أو المنصب ُموقنين بالتفاؤل،
فالرذيلة أشد عداء للرزانة فال تستولي علينا؛ ألن التوبة مما تستولي عليه
الثروة بالضرورة مقلق ورديء ،والتفاؤل أشد نص ًبا حين ال ُتبقي نفسها تحت
عدو للسكينة ،حيث إنهما عدم قدرة على تغيير شيء
السيطرة ،وكال الظرفين ٌّ
وعدم قدرة على تحمل شيء.
( ((34هذا التوقع المؤقت يشبه الممارسة الرواقية التي تميع أثر المصائب بتوقعها praemeditatio malorumراجع
Cicero Tusculan Disputations 3.29, 3.34.
274
2-14على أي حال على العقل أن يستدعي إلى ذاته المظاهر الخارجية كلها ،ويوقر
اإليمان في ذاته ويبتهج فيها ،ويجل صفاته ،وينسحب بقدر الممكن عن
ما يغرب ذاته ،ويرتكز على نفسه ،وال يشعر بالضياع ،ويفسر حتى المحن
بلطف.
زينون(((34
بغرق سفينته وسمع أن كل ممتلكاته قد غرقت، 3-14حين علم
قال« :طلبت مني الثروة أن أمارس الفلسفة بأقل جهد» ،وظل الطاغية يهدد
ثيودوروس بالموت ،وحرمه من الدفن ،فقال ثيودوروس« :خذ مني نصف
بنتا (لترا) من الدم حتى ترضى ،أما موضوع الدفن الذي تهتم به ،فإنك أكبر
علي سواء تعفنت تحت األرض أو فوقها».
أحمق إذا اعتقدت أن الدفن يؤثر َّ
4-14يوليوس كانوس IuliusCanusرجل عظيم للغاية لم ينل أدنى إعجاب؛ ألنه
ولد في عصرنا ،بعد عراك طويل مع جايوس ،قال له فاالريس أثناء مغادرته:
“شكرا
ً “ال تخدع نفسك بأمل أحمق؛ فلقد حكمت عليك باإلعدام” ،فقال:
أيها اإلمبراطور العظيم!”.
6-14يقول أحدهم“ :إن جايوس أمره بالحياة بعد هذا” ،ولكن جايوس لم يخش
هذا ،ووفاء جايوس من هذا النوع كان سيئ السمعة ،هل تعتقد أنه مر على
( ((34وسينيكا كعادته يروي طرفتين (عن زينون الرواقي وسيريناك ثيودوروس Cyrenaic Theodorusالذي هدده
يسيماخوس Lysimachusبالموت) ،ثم يتبعهما بسرد تفاصيل جمة للبطل األخالقي الروماني من عهد الملك الطاغية
كاليجوال ،ومع ذلك القصة ليست معروفة ،وفي ثنايا القصة ُيساوي سينيكا بين كاليجوال وفاالريس Phalarisالطاغية
الصقلي المعروف الذي حجز ضحاياه في الثور البرونزي وتفحموا حتى الموت.
275
كانوس عشرة أيام ولم ُيساوره أي قلق قبل إعدامه؟ وما قاله هذا الرجل وفعله
ومدى احتفاظه بسكينته يمكن قبوله.
7-14إنه كان يمرح مع َّ
قطاع الطرق حين أمر قائد المائة centurionمجموعة من
الناس لتنفيذ أوامره ليستدعوه ،وحين طلبوه كان يعد ُ
الخطى وقال لصديقه:
“ال تكذب بعد موتي وتقول إنك انتصرت” ،وأومأ للقائد وقال“ :ستشهد
أنني كنت أتقدمك بخطوة” ،هل تعتقد أن كانوس كان يلعب لعبة؟ إنه كان
ساخرا.
ً
8-14لقد حزن صديقه لفقد مثل هذا الرجل ،وقال“ :لماذا أنت متفجع؟ وتحاول
أن تكتشف أن النفوس خالدة ،سوف أعلم قري ًبا” ،لم يتوقف عن تقصي
الحقيقة ،ومباشرة البحث في موته ،حتى في النهاية.
10-14أرى هذا الهدوء وسط العاصفة ،أرى العقل يستحق الخلود ،وهو الذي
استدعى مصيره دليلاً على الصدق ،وأخذ هذه الخطوة األخيرة ليطلب من
روحه الرحيل ،ولم يتعلم شيئًا سوى موته حتى في الموت ال أحد بمقدوره
سريعا ،وعليه أن
ً أن يتفلسف فيه طويلاً ،لن نترك هذا الرجل العظيم يمضي
ٍ
بتفان ،وال ندعك( ((35للذكرى الباقية ،فمعظم األبطال الممجدون يتحدث
كانوا طر ًفا ً
كبيرا لكارثة عهد جايوس.
( ((35يناجي سينيكا كانوس ليعبر عن احترامه ،وهذا هي المناجاة الوحيدة في الحوار.
276
1-15ولكن من غير النافع أن نطرح األسباب لحزن خاص؛ ألن الكاره لجنس
البشر يستولي على ما نملك أحيا ًنا ،حين تفكر أن اإلخالص استثناء ،وأن
الجهل براءة ،وحسن النية قد يذكر بالكاد ما لم يكن في مصلحة الناس ،وهذا
الحشد من الجرائم الناجحة تواجهنا على طول الخط بالمنافع وضياع الشهوة
وكالهما في الكراهية سواء ،ناهيك عن ذكر الطموح الذي ال ُّ
يظل في حدوده
وخذالنه فاضح ،إن العقل يدفع نحو الليل ،وينهض الظالم كما لو كان يطيح
بالفضائل حيث ال يأملها أحد ،وليس يكسب من امتالكها أحدٌ شيئًا.
2-15ولذلك علينا أن نرضخ لنجعل جميع رذائل الحشد تبدو غير مكروهة بل
تافهة ،وأن نحاكي ديمقريطوس أكثر من هيراقليطس؛ ألن هيرقليطس حين
ذهب لألماكن العامة بكى حين ضحك ديمقريطوس؛ ألن كل أعمالنا بدت
لهيراقليطس مزرية وهي حماقة محضة عند ديمقريطوس( ،((35ولذا علينا أن
نخفف كل شيء ونحمله بعقل هين حتى تكون حياة اإلنسان سعيدة بدلاً من
النواح عليها.
3-15وأضف إلى هذا أن اإلنسان الذي يضحك فيها أحرى من الذي ينشد مزيدً ا
من عون جنس البشر ،فاألول قد تركها أملاً في اإلحسان ،واآلخر قد خاب
أمله في تصحيح مساره ،وحين تتأمل األمور في امتدادها ،فإن اإلنسان الذي
ممن ال يتحكم في دموعه ،حيث إن ال يتحكم في إظهار ضحكته أعظم عقلاً َّ
الضحوك ُيتعتع لطف العاطفة ،ويعتقد أن ال شيء أعظم أو أجدى أو حتى
أبغض من عظم ما يفعله.
4-15ودع أي امرئ يضع أمام عينيه األسباب الفردية لسعادتنا وتعاستنا ،وسوف
يعرف أن ما قاله بيون Bionكان صوا ًبا ،حيث تشبه أعمال البشر كلها ابتداء
إلى حد كبير ،وأن حياتهم ليست أكثر قداس ًة وال جد من تصورهم ،فإنهم
( ((35هذا التناقض مع هيراقليطس الغامض هو القصة األكثر اقتباساعن ديمقريطس .راجع .Seneca On Anger 2.10.5
277
ولدوا من ال شيء ويهبطون إلى ال شيء.
5-15ومن األفضل أن تتقبل السلوك الشائع والرذائل البشرية بطريقة هادئة ال تميع
في الضحك وال الدموع؛ ألن التعاسة األبدية أن تعذب اآلخرين بالمصائب،
والسعادة الال آدمية أن تبتهج فيها ،كما لو كان العمل الذي ال طائل منه أن
تبكي لو دفن المرء ابنه أو تظاهر بالتعبير عن األسى.
1-16إن االعتبارات التالية هي أسباب لحزن البشر وجلب الضيق على نحو العادة،
رديئة ،كما ٌأجبر سقراط للموت في السجن،
ٍ ٍ
بميتة حين يتوفى الرجل الصالح
وأن يعيش روتيليوس Rutiliusفي المنفى ،وأن يقدم بومبي وشيشرون
رقبتيهما إلى العالة السابقين ،وأن يعيش كاتو صورة للفضائل ويسقط على
سيفه( ((35وهو يعلن الحقيقة العامة عن نفسه والجمهورية ،وعلينا أن نعذب
ليدفعنا الحظ خارج هذا الجزاء الظالم ،فماذا يأمل الكل حين يرى أفاضل
الرجال يعانون ما هو أسوأ؟
2-16فما الموضوع؟ انظر كيف يتحملها كل منهم ،ولو كانوا شجعا ًنا لشعروا
بضياعهم لروح هؤالء األشخاص ،ولكن لو ماتوا كالنساء والجبناء فلم
278
شيء ،وتستحق فضائلهم استحسانك أو ال يستحقون أن تندم لجبنهم،
ٌ يضع
والحقيقة ما هو األكثر خز ًيا لهؤالء العظماء أن تصنع جبن اآلخرين بموتهم
الشجاع؟
3-16دعونا نثني على الرجل الذي يستحق الثناء ،ونقول« :إنك أوفر ًّ
حظا ،وإنك
أعظم شجاع ًة! إنك برئت من األخطاء جميعها كالحسد والمرض ،إنك تركت
محبسك ،وإنك ال تبدو لألرباب أنك تستحق سوء الحظ ،واألحرى أنك ال
تستحق أن يمارس عليك الحظ أي سلطة» ،ولكن إذا ارتدوا الناس ورجعوا
ونظروا للوراء نحو الحياة في لحظة الموت فإننا ننتزعهم بالقوة(.((35
4-16لن أبكي على أحد سعيد أو أتباكى ،فاألول قد محا دموعي بجانب نفسه،
واآلخر أظهر بدموعه أنه ال يستحق أ ًّيا منها ،هل أبكي على هيروكليس؛ ألنه
حيا ،أو روتيليوس(()((35؛ ألنه ُثقب بالمسامير ،أو كاتو؛ ألنه شق ُ
أحرق ًّ
جروحه؟ اكتشف كل هؤالء األعالم في وقت وجيز منصرم كيف يكونون
أبديين ويصلون للخلود بموتهم.
1-17وهناك مصدر فظ للقلق ،وهو إن قدمت نفسك على نحو مقلق ولم تظهر
طبيعتك منفتحة لآلخرين كما هي حياة الكثيرين يضبطون ويكيفون
ظهورهم؛ ألن المراقبة المستمرة على أنفسنا تعذبنا؛ ألننا نخشى أن يجدنا
اآلخر على غير المعتاد ،إننا لم نتحرر من الحرص إذا اعتقدنا أننا ُنقيم كما
( ((35السياق الطبيعي لالصطالح الالتيني (وضع يده عليهم) وهو توقيف اآلخر لجره للمحكمة (see OLD, s.v. inicere
).6b
( ((35يعتقد أن هيروكليس كان ميتًا حتى وهو عذاب القميص المسموم لنيسوس ،Nessusإنه أحرق نفسه حتى الموت على
جبل أوتا . Mount Oetaورتيليوس وهو القائد الروماني للهجوم الفاشل على قرطاجة عام 257ق.م قد أرسل لطلب
الفدية لألسرى الرومانيين ،وأقنع مجلس الشيوخ لرفض الفدية ،وأرسل إلى قرطاجة كما وعد ل ُيعذب حتى الموت،
ورويت القصة بتفاصيلها عند شيشرون في كتاب الواجبات ، Cicero On Duties 3.99وذكرت كمثال على النزاهة
في ،Horace Odes 3.5وتكرراستعمالها عند سينيكا في كتاب العناية الربانية Providence 3.3 and 3.9مع ذكر
روتيليوس وكاتو وسقراط.
279
ُنرى غال ًبا ،فقد تحدث أمور عدة للناس تحملهم ضد إرادتهم ،وحتى لو كان
هذا الحذر يرتكز على فالح النفس ،فلن تكن الحياة ماتع ًة أو خالي ًة من الهم
للذين يعيشون دو ًما تحت القناع.
مدفوعة في نفس المستوى ،بل نستدعيهاً 4-17فال ينبغي أن ُنبقي عقولنا دو ًما
لطفيستح أن يلعب مع األطفال الصغار ،وكاتو(َّ ((35
ِ للدعابة ،فسقراط لم
عقله بالخمر حين أنهكته األمور العامة ،وسكيبيو Scipioاستحث جسد
الجنرال المظفر والجندي للرقص ،وال ُتضعف الجسد بحركات لينة كما هو
الحال في المجتمع اآلن للرجال المتبخترة خلف التصنع النسوي حتى في
رجوليا
ًّ لباسا
طريقة مشيهم ،ولكن كالرجال الكبار الذين اعتادوا أن يلبسوا ً
في لعبهم وفي إجازاتهم العامة ،وال يخشون حتى لو كان يراقبهم أعداؤهم.
( ((35كان معرو ًفا أن كاتو األوتيكي Cato of Uticaالورع يقضي الليل في الشرب ،وتحول عنه الناس حتى ال يروه يترنح في
عودته للبيت وهو يلعب مع األطفال ،فقد وضع الشراب والرقص على قدم المساواة مع رخصة االسترخاء.
280
5-17وعلينا أن ُن ِّ
روح عقولنا حتى تنهض من سكونها أشد قو ًة ،كما ال ينبغي أن
نقحم األراضي الخصبة على الدوام ،فالخصوبة المتواصلة تستنزفها عاجلاً ،
والكد المتواصل يحطم دوافع عقولنا التي تستعيد القوة بعد التراخي لفترة
وجيزة ،في حين أن العمل المستمر يؤدي إلى وهن العقول وتبلدها.
6-17فرغبتنا لهذا لن تكن بالغة إذا لم تدعم الرياضة واللعب متعتها الطبيعية ،ولكن
المتعة المتكررة في هذا سوف تسحب قوانا كلها وحيوية عقولنا ،فالنوم
ضرورة لإلنعاش ،ولكن إذا واصلت الليل بالنهار سوف تموت ،فهناك فارق
كبير سواء استرخيت شيئًا ما أم تراخيت فيه.
7-17إن واضعي قوانيننا حددوا أيا ًما للعيد حتى يجتمع الناس على المرح المبهج
على العموم ،وأدرجوا هذا كاعتدال ضروري للعمل ،وكما أقول إن الناس
العظماء يمنحون أنفسهم إجازات ثابتة في الشهر ،وبعضهم يقسم اليوم بين
العمل والراحة ،ونحن نتذكر الخطيب العظيم أسينيوس بوليو Asinius
Pollioالذي تخلى عن أي عمل بعد الساعة العاشرة ،حتى أنه لم يقرأ مراسالته
بعد هذه الساعة كي ال تنشأ عنها أعمال جديدة ،ويضع ساعتين ليرتاح من
التعب خالل اليوم كله( ،((35وهناك َمن قطعوا العمل في منتصف اليوم وأجل
األعمال الخفيفة لبعد الظهيرة ،وأسالفنا ً
أيضا منعوا أي اقتراح جديد ُيعرض
على مجلس الشيوخ بعد الساعة العاشرة ،وفي الجندية يقسمون المراقبات
فقد ُيعفى من واجب الليل الذين عادوا من غارة بالنهار.
8-17وعلينا أن نالطف العقل ونمنحه راحة في مكان الغذاء والنشاط ،وعلى المرء
أن يهيم في التنزه حتى يكسب العقل قوة ،وترتفع ذاته بالسماء المفتوحة
( ((35أسينيوس بوليو ) Asinius Pollio (76 bce–4 ceخطيب جمهوري متأخر ،عُ ِّين في منصب القنصل عام 40ق.م،
وظفر بالنصر في إليريا ،Illyriaوانسحب من السياسات الحزبية وأسس أول مكتبة عامة في روما (قبل أوغسطس)،
وفاز باالحترام كمدافع ومروج للثقافة.
281
والهواء النقي الوافر ،وأحيا ًنا ارتياد الرحلة وتغيير المكان يمنح القوة كالرفقة
الحسنة والشراب المحبوب ،وأحيا ًنا علينا أن نقترب من اإلرواء ال كما يغرقنا
بل ِّ
ليهدئنا؛ ألن هذا يغسل جانب ضجيج وحرص عقولنا بعمق ،ويعالج
الحزن كما أنه يحدث بعض األمراض ،وقد أطلق على مخترع النبيذ ليبر
( Liber((35ليس من طالقة لسانه؛ بل ألنه حرر العقل من عبودية الحرص
حيا وجريئًا في كل مخاطرة.
التي تدعمه وتجعله ًّ
9-17ولكن هناك مقدار صحي للخمر كما للحرية ،واعتقد الناس أن صولون
Solonوأرخيسالوس ((35( Arcesilausانغمسا في الخمر ،وقد وبخ كاتو
وجه هذا العتاب سيجعل تهمة الشرف أبسط من كاتو
بسكره ،وكل َمن َّ
المخجل ،ولكننا ال نفعل هذا غال ًبا لنخشى أن تكتسب عقولنا عادة رديئة،
ومع ذلك يجب أن تمتد في حرية بهيجة في أوقات ،و ُتبدد الرزانة المتجهمة
في فترة وجيزة.
11-17وحين يحتقر العقل األمور الشائعة والرتيبة ويرتقي بسمو اإللهام الرباني،
فبهذا وليس بغيره سوف يرتل بشيء أعظم من كالم البشر ،وال شيء يأتي إليه
متجانسا مع اللقب
ً ( ((35إله الخصوبة اإليطالي ليبر Liberيساوي ديونيسوس اليوناني ،وقد فهم اسمه ‘المحرر ’liberator
اليوناني اليوس .Lyaeos
( ((35المصادر التي تدعي هذا غير معروفة ،ولكننا نرى على سبيل المثال في Horace Epistles 1.19.7أن االستشهاد
بالشراب كان معتا ًدا كإلهام للشعراء والرجال العظام.
( ((36يوجد محاكاة للقصيدة الغنائية اليونانية ،ومحاورة فايدروس ألفالطون كما هو أدناه ،وقصيدة هوراديان Horatian
lyricالغنائية ) ،(Odes 2.7, 4.12.28والمحاكاة في فايدروس تؤدي إلى التماثل الواضح للحصان الناري في فريق
عربة النفس ).(Phaedrus 246a–247c
282
ويسمو به ويضعه عال ًيا طالما هو في موضعه مع ذاته ،وينبغي أن يتخلى عن
نظام عادته ،وليتحمل جان ًبا ويعض على النواجذ ويخطف راكبه ويحمله إلى
حيث يخشى أن يرتفع.
* * *
283
284
عن وقت الفراغ
285
286
مقدمة
ألحق كودكس أمبروسينوس Codex Ambrosianusفي أواخر القرن السابع عشر
المخطوط األساسي (عن الفراغ) برسالة (عن الحياة السعيدة) دون فاصلٍ ،وكان
مارك أنطوان دي موريه Marc Antoine de Muretعام 1585-1526أول َمن اقترح
أنهما عمالن منفصالن ،قد التصقا في رسالة (عن الحياة السعيدة) ،و ُفصل العمالن
وعرف عن (وقت الفراغ
في طبعة جوستوس ليبسيوس Justus Lipsiusعام ُ ،1605
)De otioمن قائمة محتويات كودكس أمبروسينوس ،ولكن قد ُمحي اسم مخاطبه
من السبع رسائل التي محت عن التفرغ ،وقد ُقبل أنايوس سيرينوس الحاكم الشاهد
في حكم نيرون 63-62م كمخاطب لسينيكا ليس لسبب أن شخصيته التي ُرسمت في
رسالة عن التفرغ ارتبطت بسماته في رسالة (صمود الحكيم) ورسالة (سكينة العقل)
موجها إليه ،وإذا قبلنا سيرينوس مخاط ًبا ،فإن رسالة عن التفرغ
ً حيث كان الخطاب
قد ُألفت في عا ٍم ال يتجاوز ،63وهذا السيناريو قد يسمح لسينيكا بتأليف هذا التبرير
للتقاعد من الحياة العملية في فترة انسحابه الفعلي من بالط نيرون .أما بالنسبة لمدى
الفجوة قبل بداية المحكي في رسالة عن الفراغ ،فإن سينيكا يقسم حجته إلى قسمين
مشيرا إلى أن النص المتبقي يبدأ فور مفتتحه.
ً في 2-1.2
ويمثل الصوت العارض الغاضب سواء أكان منسو ًبا لسيرينوس أم لشخص متختل
آخر وجهة النظر الرواقية الراشدة التي يتزعمها سينيكا ،والتي تنص على أنه “سوف
نبقى في الخدمة الفعلية حتى نهاية الحياة” ،ويرفض سينيكا أي خرق للوالء الرواقي
287
فيما يفترضه )1( ،1-2.2فقد يرفض الرواقي في سن مبكرة الحياة العملية من أجل
التأمل )2( ،وربما يتقاعد الرواقي للحياة التأملية بعد أداء وظيفته في الخدمة العامة،
والنقطة األخيرة قد تستحضر دعم فترة عمله في البالط وانسحابه ،ولكن الرسالة لها
أهمية فلسفية تفوق بكثير كونها سيرة ذاتية تبرر تقاعده ،والدفاع األساسي لسينيكا
للحياة التأميلية سواء أكان “حتى في سن مبكرة” ،1.2أم “حين يكون المرء جاهزً ا
إلكمال حياة خدمته الرسمية وحياته إن تقادمت إلى حد بعيد ،2.2وحتى إن ُعهد في
التأمل الرواقي الخدمة الفاعلة بالنوع الذي تعهد به المحاور في 4.1حيث يختلفون
في فشل المحاور أو الرفض في تحديد ما هو محلي أو ما يخدم الدولة والمدينة الكونية
الكبرى المزمعة في ،2.4ال يزال الفيلسوف المنعزل الذي يقيم فكر ًّيا في المدينة
الكونية يتعهد بهدف الفعل الرواقي ،وهو ال يفي بهذا الهدف بالمعنى المألوف الذي
يفهمه المحاور في 4.1وفي ،2-1.2والرواقي يتقاعد للفلسفة بعد أن ينهي واجبه
في وظيفة الخدمة العامة“ ،يبقى في الخدمة الفاعلة حتى يصل إلى أرذل العمر” ،2.2
ومن ثم بالتعليم وبكونه مثالاً َ ،
“فمن يخدم نفسه قد ينفع اآلخرين حيث بمقدوره أن
يكون ُمعينًا لهم” ،أما الفيلسوف الشاب الذي ينسحب “حتى في حياته المبكرة”؛ فهو
ينتمي إلى مقولة الرواقي الذي يبذل قصارى جهده إليجاد حالة مناسبة ليخدم -1.8
محليا ،وفي أي دولة
ًّ ،3ولكن بانعزاله عن المدينة الكونية الكبرى سوف يحل الفساد
سواء أثينا أو قرطاجة أو حتى روما ،ويجبره انسحابه للحياة التأملية “ ،3.8وإن لم
يكن هناك أمة من النوع الذي نتخيله ألنفسنا ،فإن التفرغ هو المالذ الذي ال مفر منه
ً
منخرطا وفاعلاً في التأمل الذي يفي بالوصاية للجميع” ،وحتى مع تقاعده ال يزال
الرواقية في الخدمة العامة ،مثلما فعل أفاضل الرواقيين مثل زينون وخريسبوس في
خدمة البشرية بكتاباتهم وأثرهم الفلسفي.5-4.6
مفتوح للحل ،أليست رسالة (في التفرغ)
ٌ وفي هذه المقاربة االختالف بل الجدل
نهايتها مرسلة مثل بدايتها؟ ويكمن عدم اكتمال الحجة الرئيسة في 4.8في الحاجة
288
الملحوظة لتغيير االتجاه في الجزء المفقود من العمل حتى يتسنى فهم الجزء الثاني من
الفرض في 2.2؛ ألنه إن أكد استبعد كل األعمال االجتماعية بسبب فساد حالة الفساد
ألي دولة ،3.8فكيف يمكن للشروع في التقاعد من الوظيفة العامة أن يكون عادلاً ؟
وقعيا للفيلسوف؟ وإن كان ال ،فكيف يكون
خيارا ًّ
ً وهل يمكن الفرض الثاني في 2.2
الموضوع الثاني زائدً ا عن الحاجة في الرسالة التي نتناولها على األقل؟ ومن ثم يبقى
الجدل المضاد حول االكتمال على المحور الذي يظل فيه الفيلسوف متعهدً ا للفعل
حتى في التقاعد ،وكال الفرضين في 2-1.2يدور في العمل ،كما تناولناهما حيث
يالحظ التزام الرواقي المكلف بالعمل طوال الحياة (راجع ،)4.1وإذا أتيحت الحالة
عمليا(،ومن ثم التوكيد في 2.2
ًّ المناسبة ،فإن الرواقي سيخدم العموم بقدر ما يمكنه
على التقاعد حين “يتقدم العمر”) ،وال يقل التزامه بالعمل الفلسفي حتى النهاية ،وإن
لم تتح الحالة المناسبة رغم قصارى جهده للخدمة العامة ،فقد يحق له االنسحاب
إلى الحياة التأملية في أي من مراحل العمر ،ومع ذلك تبقى األولوية للعمل حتى في
التقاعد.
289
:لمزيد من القراءة
Griffin, M. T. 1976. Seneca: A Philosopher in Politics (Oxford,
Williams, G. D., ed. 2003. Seneca: “De Otio,” “De Brevitate Vitae”
290
إن التوافق الكبير يجعل رذائلنا جاذب ًة لنا ،حتى لو لم نحاول شيئًا آخر شاف ًيا؛ 1-1
نافعا ،وقد نكون أفضل بذواتنا،
فإن االنسحاب في ذاته من الحياة العامة يكون ً
فاالنسحاب يمنحنا الفرصة لمرافقة أفضل الناس ،ونختار من بينهم مثالاً
ُيرشد حياتنا ،ويتأتى هذا فحسب في وقت الفراغ ،وحيث يمكننا أن نواصل
ثباتنا ،وحينها ال يأتي أحد ليضلل بعون الجماهير ويقضي بالمجروح فيه،
ٍ
وعندئذ تمضي الحياة التي بترناها من األهداف المشوهة قد ًما على المسار
بال انقطاع.
وإن أسوأ شرورنا هي أن نكبت تغيير رذائلنا ،أو حتى نقتصد استمرارية البقاء 2-1
في الرذيلة التي نعلمها بالفعل ،فالشيء يتلو اآلخر يمنحنا المتعة ،وما يسبب
لنا التعب هو أن أحكامنا ليست فاسد ًة فحسب بل متقلبة كذلك ،ونحن
متقلبون ،وننتهز شيئًا يتلو اآلخر ،ونبحث عن الشيء الذي تخلينا عنه ،وما
نتخلى عنه نسعى لرده ،وكذلك نتأرجح بين الرغبة والندم عليها.
وألننا نعتمد كلي ًة على أحكام اآلخرين ،ونرى األفضل ما ُيثني عليه الكثير 3-1
ويالحقونه ،وليس ما يبرر الثناء والمالحقة ،كما أننا ال نحكم على الطريق
بأنه حسن أو رديء بمزاياه بل بكم اإلقدام عليه ،وال أحد من الناس يمكن أن
يعود من الطريق(.((36
( ((36إشارة إلى أسطورة إيسوب عن األسد والذئب ،حيث يجذب األسد الزائرين المتعاطفين ،ولكن الذئب الماكر يشير إلى
اتجاه لكل المتعاطفين ،وبالنسبة لسينيكا ينداحون نحو التدمير باالنسياق نحو رأي واحد للجمهور .وإيسوب وهو عبد
يوناني عاش في اليونان القديمة بين عامي 620و 560قبل الميالد .اشتهرت حكاياته حول العالم .وتعد أساطيره رافدً ا
للتربية االخالقية لألطفال( .المترجم).
291
وسوف تقول لي« :ما الذي تقوله يا سينيكا؟ هل تهجر وجهتك الرواقية؟ يقينًا 4-1
تقول الرواقية :سنبقى في الخدمة الفاعلة حتى نهاية الحياة دون أن نكف عن
تقديم أنفسنا للخير العام ونعين الفرد ونمنح المساعدة بيد هرمة حتى ألعدائنا،
ونحن الرواقيون ال ُيعفى أحدنا من الخدمة في أي عمر ،ونضع خوذة الحرب
على َشعرنا الرمادي كما يضع الشعراء البالغة على ِّ
الشعر( ،((36ونحن الذين
نتعلق بالقوة حتى لحظة الموت ،والموت ذاته إن سمح الحال ال نقضيه»(،((36
كنت
لقد كان في تعاليم زينون مفهوم للقيادة ،فهل تحدثنا عن تعاليم أبيقور؟ إن َ
قل ًقا من تعاليم المدرسة ،فلماذا ال تتخلى عنها صراح ًة بدلاً من أن تخونها؟».
واآلن أقول لك في الرد فقط« :هل تتوقع ألاَّ أسلك در ًبا يزيد على طريقة 5-1
ِ
أمض إلى حيث أرسلوني ،بل حيث معلمي؟ ،ولذا ما العمل؟ إنني لم
قادوني»(.((36
َّ
أتخل عن تعاليم الرواقية؛ ألن الرواقيين وسوف أبرهن لك اآلن أنني لم 1-2
أنفسهم لم يتخلوا عنها ،ومن ثم لدي عذر معتبر حتى لو اتبعت مثالهم
الشخصي وليس تعاليمهم ،وسأفرق ما أقوله في جزأين ،األول أنه كان للمرء
أن يكرس نفسه كلي ًة لتأمل الحقيقة والسعي نحو أساس عقلي متين للحياة
وممارسته في العزلة.
ثان ًيا حين ُيكمل المرء الخدمة الرسمية بالفعل ،وحين يتقدم به العمر يمكن أن 2-2
يفعل الشيء نفسه على نحو مثالي يصله ببصيرة عالية لآلخرين بعد أن يقسم
طريقهم الطاهر العذري سنين خدمتهم إلى واجبات مختلفة ،ويتعلمون أداء
الطقوس المقدسة ،وعندما يتعلمونها ُيعلمونها.
292
أيضا ،وال أجعله ً
مبدأ وسوف أبين أن هذا المذهب يجد قبولاً مع الرواقية ً 1-3
لي ،حتى ال أرتكب جريمة تجاه أي قول لزينون أو خريسبوس ،بل الحري
أنها حقيقة بسيطة لمسألة تتبعني ألدعم آراءهم ،وإذا كان امرئ يدعم رأ ًيا
للشخص نفسه ،فإنه ال يتبعه في مجلس الشيوخ ،بل في التصفيق المأجور،
وإذا فهم كل شيء بالفعل تتضح الحقيقة و ُتقبل على عمومها ،ولن نغير أ ًّيا
من قناعتنا! بما هو اآلن ،ونحن نبحث عن الحقيقة بجانب َمن يعلمونها.
وال تتفق المدرستان األبيقورية والرواقية على هذا السؤال ومسائل أخرى، 2-3
وكالهما يوجهنا لوقت الفراغ بطرق مختلفة ،فأبيقور يقول« :ال يشارك
الحكيم في الحياة العامة إال في ظروف استثنائية» ،ويقول زينون« :إنه سوف
يشارك في الحياة العامة ما لم يمنعه شيء»(.((36
يهدف األول إلى وقت الفراغ من حيث المبدأ ،واآلخر يهدف إلى أسس 3-3
خاصة ،ولكن هذه األسس واسعة المدى ،وهي إذا مرضت الدولة واحتاجت
العون ،وإذا استولى عليها المرض فال يناضل الحكيم دون حاجة إلى ذلك
ويستهلك نفسه لغاية غير نافعة ،وإذا لم يكن لديه نفوذ أو سلطة كافية ،وإذا لم
تكن الدولة مستعدة لقبولها أو إذا منعته علة المرض ،فإنه لن يصعد على مسار
يعلم أنه من الصعب تحققه كما لو أنه يجند للخدمة العسكرية وهو مشلول أو
ينزل البحر بسفينة مدمرة(.((36
إذنْ من الممكن حتى ألي امرئ لديه كل االختيارات ال تزال مفتوحة ،وقبل 4-3
أن يعاني أي عواصف للحياة حتى يستقر إلى مالذ ،آمن أن يكرس نفسه
لدراسات حرة ويقضي وقته في وقت فراغ غير منقطع ،ويغرس الفضائل التي
أبعد من أن يمارسها العامة.
293
نافعا لآلخرين ،وإن أمكن فللكثرة ويقينا أن المطلوب من أي ٍ
أحد أن يكون ً 5-3
وإن لم يكن فللقلة ،وإن لم يكن للقلة فلألقرب لنا وإن لم يكن لألقرب
نافعا لآلخرين ،فإنه يشارك في الخدمة
فلنفسه ،وحين يجعل المرء من نفسه ً
العامة ،كما أن المرء المسؤول عن انحطاط خلقه ال يضر نفسه فحسب ،بل
كل الذين قد يستفيدون من تحسين ذاته ،وكذلك َمن يخدم نفسه حسنًا ينفع
اآلخرين بما يقدمه من عون لهم.
ودعنا نفترض أن هناك دولتين( ،((36األولى واسعة ويشترك فيها الجميع، 1-4
وتحتوى فيها األرباب مثل البشر ،ونحن ال ننظر إلى هذه الزاوية وال تلك ،بل
نقيس حدود دولتنا بمسار الشمس .والثانية إننا مسجلون بها لظروف ميالدنا،
أعني أثينا وقرطاجة أو أي مدينة أخرى ال تتبع البشر جمعاء ،بل سكان
بعينهم ،ويكرس أناس بعينهم الخدمة لكلتا األمتين وتزيد وتنقص في الوقت
نفسه ،فبعضهم تقل خدمته وبعضهم اآلخر قد يزيد.
ٍ
بتفان حتى في وقت الفراغ، وهذه الدولة األعظم يمكننا أن نخدمها 2-4
واألحرى أنني أنزع إلى التفكير نحو األفضل في وقت الفراغ باالستفسار
وعم إذا كان المرء عم إذا كانت للفرد أم للمجموع؟ عن الفضيلة(((36
َّ َّ
وعم إذا كانت هيئة العالم التي تحتوي البحار
خ ِّي ًرا بالطبيعة أم بالممارسة؟ َّ
واألرض واألشياء التي تتصل باألرض والماء ُتوجد بمفردها ،أم أن الرب قد
وعم إذا كانت المادة التي تأتي منها كل األشياء إلى
نثر هيئات كثيرة مثلها؟ َّ
( ((36حلم زينون في جمهوريته بوعي مدني كلي (وهو مفهوم متأثر بالكلبية ونظرية المثل) ،وتبناه خريسبوس ليشكل فكرة
(مدينة كونية) عند الرواقيين الالحقين.
( ((36تعد الطبيعة والمنطق واألخالق المجاالت أكثر تدولاً في الفكر الهيللينستي ،يبدأ سينيكا بتساؤالت أخالقية أساسية
قبل أن ُيقدم على الطبيعة ،حيث يبدأ بالكون الطبيعي ثم حكمه اإللهي ،وأوجه االختالف بين الرواقية واألبيقورية في
تساؤالت سينيكا الطبيعية هنا ،فالعالم الرواقي المادي متصل والرب متخلل فيه ،وهو يناقض الحركة الذرية العشوائية
في الخالء ،دون تدخل إلهي لهذا العالم أو أي عالم آخر قابل للفناء ،وقد أحيا هذا المجاراة بين المدارس الهيللينستية
.5–1.4
294
الوجود متصلة وال يحدها الفراغ ،أم أنها ممتدة ويخلطها الخالء بالهيئات
الصلبة؟ وأي نوع من المسكن يسكنه الرب سواء أكان ينظر إلى عمل يده
في سكون أم يسيطر عليه عالنية؟ وسواء أكان يحتويه بمفرده أم يجتاحه
كلية ،وسواء أكان العالم أبد ًّيا أم أنه معدود بين األشياء الفانية والمحدودة في
فترة الحياة ،فما الخدمة التي يقدمها المتأمل في هذه المسائل؟ هذه أعماله
العظيمة وهي ليست دون شهادة.
بعض البحارة يتحمل مصاعب لرحلة بعيدة من أجل مكافأة وحيدة ،وهي 2-5
أن يكتشف البعيد أو الخفي ،وهذا هو السبب الذي يجعل الجماهير تتجمع
لمشاهد عامة ،وهذا ما يجعلهم ينقبون عن ما هو مستور ،ويفتشون عن
المبهم ،ويكشفون الماضي ،ويفهموا طرائق األمم الغريبة.
وحتى تفهم مرادها ،ال تشاهد فحسب ،بل راقبها عن قرب ،وتأمل المكان 4-5
الذي عينته لنا ،إنها وضعتنا في مركز خلقها ،ومنحتنا قيادة الكون ،وليس هذا
ليقف اإلنسان منتص ًبا ،بل لتعده للتأمل ،حتى يتمكن من متابعة النجوم وهي
( ((36الرواقيون.
295
تنزلق من بزوغها نحو مواضعها ،ويحول نظره بتحول الكون ،وحتى يضع
رأسه فوق جسده ويضعها على رقبة لينة ،ويكشف عن كل جزء منه بعمل ستة
أبراج تشرق في النهار وستة في الليل ،وبالعجائب التي قد تحلها على نظرنا
تثير اهتما ًما قو ًّيا في اآلخرين كذلك.
وألننا ال نستطيع رؤية كل أبعادها الحقيقية ،إال أن رؤيتنا تفتح الطريق لتفحص 5-5
أساسا للحقيقة ،مما يسمح لنا بحثنا أن نتقدم من الواضح إلى
ً ذاتها وتضع
الخفي ،ونكتشف أشياء أقدم من العالم ذاته ،فما أصل هذه األبراج؟ وما
الحالة الطبيعية التي كان عليها الكون قبل بدء انفصال العناصر المختلفة عن
أجزائه؟ وما المبدأ الذي فصلهم حينما سقطوا نحو ظالم وفوضى؟ و َمن الذي
عين مواضع األشياء؟ وهل األشياء الثقيلة بطبيعتها انهارت لألسفل وتطايرت
َّ
الخفيفة لألعلى ،أم أن هناك قانو ًنا تضعه قوى عليا لألجسام المفردة بصرف
النظر عن دفعها أو وزنها؟ أم أن هناك حجة بالغة تسعى لتبرهن أن البشر جزء
من النفحة الربانية ،وأن بعض الجوانب والشرارات كالنجوم التي تسقط نحو
األرض ال تعلق بمواضعها(((37؟
أفكارنا تحدها أسوار السماء ،وما من معرفة سوى التي تظهر للعين ،وأفكارنا 6-5
تقول« :أنا أبحث عما يكمن وراء العالم ،وهل هو رحابة ال محدودة أم أنه
فضاء ُيغلفه بحدوده؟ وما حالة األشياء وراء هذه الحدود؟ وهل هي عديمة
معا تتخذ الفضاء نفسه في كل االتجاهات ،أم أنها مقسمة
الشكل ومختلطة ً
طبيعيا بهذا العالم ،أم بعيدة عنه وتتركه
ًّ إلى بعض األنظمة؟ وهل هي مرتبطة
يدور في الخالء؟ وهل هي من الذرات التي كل شيء منها ،أم التي سوف تأتي
( ((37النفس العقالنية اإلنسانية في النظرية الرواقية قسم َن ْفسه إلهية أو بنيوما pneumaللعالم الناري ،وتظهر األفكار األبيقورية
والرواقية متوترة مرة أخرى في 6-5.5وراجع هامش ،8ولكن ما يتخطى تنافسهم هنا هو نموذج استجواب الذات
والعالم الذي يطرحه سينيكا كمشاركة ألي عقل مبدع في قمة أدائه.
296
إلى الوجود الذي قد ُشيد ،أم هي جوهر األشياء المتصلة القادرة على التحول
في كل جانب؟ وهل العناصر معادية لبعضها بعض ،أم األحرى أنها تتقاتل
معا في اتجاهات مختلفة؟».
فيما بينها وتعمل بشكل متناغم ً
وانظر إلى هذا اإلنسان الذي ُولد للبحث في هذه المسائل ،وتأمل كم الوقت 7-5
الضيق الذي ُمنح له حتى لو طلب كل لحظة لنفسه! رغم أنه ال يسمح أن ُينتزع
منه وقته بطبيعته السخية ،وال ينزلق بالغفلة ،ورغم أنه يحرس ساعاته الثمينة
بأقصى شح ويصل إلى الحد األبعد لحياة اإلنسان ،ورغم أن الحظ ال يؤرق
جان ًبا مما خصصته له الطبيعة– ومع ذلك يفنى اإلنسان ليحصل على معرفة
األشياء الخالدة.
( ((37وهناك توكيد من سينيكا في أكثر من مكان؛ على سبيل المثال في رسالة سكينة العقل 8.4والرسالة ،6.3مع التوضيح
في 4-2.6أدناه.
297
و َمن الذى ينكر أن هذه الفضيلة تختبر تقدمها عن طريق العمل وليس بالنظر 3-6
فيما ينبغي عمله ،ولكن تعمل على نحو جازم أحيا ًنا وتقدم أفكارها لملء
تأخيرا من جانب الحكيم نفسه ،وإن لم يفتقر إلى الدافع
ً الواقع؟ وإن لم يكن
بل المهمة التي عليه أداؤه،ا فمن المؤكد أنها ستسمح له بأن ينسجم مع نفسه؟
وما األفكار التي يسحبها الحكيم إلى وقت الفراغ؟ إنه يعمل في المعرفة التي 4-6
يربطها بفعالية في مشاريع تنفع األجيال ،وال شك أن زينون وخريسبوس
من الرواقيين الذين حققوا أشياء أكبر من قيادة الجيوش وشغل المناصب
والضلوع في القانون؛ لقد صكوا قانو ًنا ليس لدولة بعينها بل لجنس البشر!
قويما للرجل الخ ِّير إذا استخدمه ليعطي
ً إذنْ لماذا ال يكون وقت الفراغ
توجيهات لألجيال الالحقة وليس في معالجة البسيط ،بل كل الناس واألمم
سواء في الحاضر أو المستقبل؟
وباختصار أسألك عن إذا كان كليانتس وخريسبوس وزينون قد عاشوا وفق 5-6
مذاهبهم(((37؟ وسوف ترد بأنهم عاشوا كما قالوا كيف ُتعاش الحياة ،ومن
أي منهم في الحياة المدنية ،وأنت ترد« :لم يتيح لهم الحظ ،ولم
ثم لم يشارك ٌّ
تسمح الدولة المدنية للناس أن يشاركوا في اإلدارة العامة»( ،((37ومع ذلك لم
تقودهم حياة الخمول ،واكتشفوا كيف يجعلون خمولهم بعينه منعة للبشرية
دورا في الحياة العامة مع
أكثر من كد وصخب اآلخرين ،ولذلك لم يؤدوا ً
أنهم قد فعلوا الكثير.
وعالو ًة على ذلك ،فهم ثالثة أنماط للحياة(ُ ،((37طلب منهم األفضل ،األول 1-7
تفانى في المتعة ،والثاني في التأمل ،والثالث في العمل .وإذا طرحنا تنافسنا
298
الفلسفى والكراهية المتصلبة التي نعلنها تجاه هؤالء الذين اتبعوا طرائق
مختلفة ،فدعونا نالحظ كيف أن الثالثة أقبلوا على الشيء نفسه بمسميات
َّ
يتخل عن التأمل ،والذي تفانى في التأمل مختلفة ،فالمرء الذي مدح المتعة لم
َّ
يتخل عن التأمل. كرس وجوده للعمل لم َّ
يتخل عن المتعة ،والذي َّ لم
وكيف ال يكون حيث إن أبيقور نفسه يقول إنه ينسحب من المتعة ويسعى 3-7
نحو األلم ،إذا الح الندم على المتعة أو إذا أضفى على ألم أقل في موضع أكبر
الحق(((37؟
وما وجهة نظري في قولي هذا؟ وجهة نظري توضح أن كل األطراف تمدح 4-7
التأمل ،فهو للبعض غاية ،وبالنسبة لنا نحن الرواقيون هو موضع للمطية في
المرسى وليس هو الميناء(.((37
وتأمل أنه قد سمح لك وف ًقا لخريسبوس( ((37أن تعيش في وقت الفراغ ،وأنا 1-8
299
ال أقصد التسلية بل أي نشاط تختاره ،إن مدرستنا ترفض أن يقبل الحكيم
المشاركة في الحياة العامة أو في الدولة ،بل في التمييز الذي يصله إلى وقت
الفراغ– سواء بسبب أن الدولة غير متاحة له ،أم أنه غير متاح للدولة ،إذا لم
تكن الدولة غير موجودة ألي أحد؟ والحق أن الدولة ال تتاح للذين يسعون
من أجلها بعين دؤوبة.
وأسألك ما الدولة التي يعلق الحكيم بها نفسه؟ هل دولة األثينيين التي أدانت 2-8
سقراط بالموت ،التي هرب منها أرسطو ليتجنب إدانته فيها(((38؟ وأين
تضطهد الفضائل بالحقد؟ وليس بمقدورك أن تخبرني أن الحكيم سوف
يربط نفسه بهذه الدولة ،هل دولة قرطاجة في خالفها السياسي المتواصل،
وتهديدات الفجور الشعوبي التي تؤذي كل المواطنين الفضالء ،واحتقار
العدالة والمبدأ الحق ،والقسوة البهيمية تجاه األعداء حتى لو تحولوا من
عداء مواطنيهم؟ فهذه واحدة من الدول.
وإذا أردت أن أمسح لك الدول كامل ًة ،فلن أجد واحدة متسامحة أو يتسامح 3-8
معها الحكيم ،ولكن إن لم نجد لنا دول ًة من النوع الذي تصورناه ألنفسنا،
فيبدو أن وقت الفراغ هو الخيار الذي ال مفر منه للجميع؛ ألن الشيء الوحيد
الذي قد فضل لوقت الفراغ موجود في أي ٍ
أين.
وإذا قال أحدهم :من األفضل أن يذهب عن طريق البحر ،ومن ثم يحرم 4-8
اإلبحار حيث يحدث تحطيم السفن عاد ًة ،وغال ًبا ما تصطدم فجأ ًة بالعواصف
التي ترمي القبطان في االتجاه الخاطئ ،إنه يخبرني ،ما لم أكن مخطئًا فلن
أبحر ،مع أنه يثني على اإلبحار(.((38
( ((38بعد موت اإلسكندر في 323ق.م غادر أرسطو المتهم بعدم التقوى أثينا ،وهو يستدعي ما ُفعل بسقراط من قبل.
( ((38لتوكيد دعوى أن رسالة عن التفرغ ليست كامل ًة في رسالتها المرسلة انظر مقدمتي لهذه الرسالة.
300
ال�سعيدة
عن الحياة َّ
301
302
مقدمة
الموضوع والبنية:
تشير عنوان رسالة De vita beataإلى “الحياة السعيدة” أو “السعادة” (أيديمونيا
eudaimoniaفي اليونانية) ،وقد اتفقت المدارس الفلسفية القديمة على الشيء
المرغوب فيه طبيعة من قبل كل البشر ،ومع هذا اإلجماع العام أظهرت المدارس
ً
صارخا حول ما يشكل الخير األقصى أو الهدف والغاية أو كمال الحياة اختال ًفا
حيث يحتاج كل امرئ ليكون سعيدا إلى اللذة والحرية من األلم والقلق كما هو عند
األبيقوريين ،والفضيلة وحدها عند الرواقيين ،والفضيلة يرافقها خيرات بعينها عند
المشاءيين ،وأفضل ما بقي من سرد حول هذا الموضوع هو محاورة شيشرون عن
غايات الخير والشر On the Ends of Good and Badالتي تدرس األبعاد الثالثة.
رسمت رسالة سينيكا لوحة مقتضبة للحياة الرواقية السعيدة التي تبنيها الفضيلة،
وهي تعتد بعالقة الحياة باللذة وأحوال أخرى ،ففي بداية الرسالة ( )1-1يعلن سينيكا
ألخيه جاليو المخاطب في الرسالة “بما نسعى إليه” ثم “طريقة الحصول عليه بلين”
( ،)1.1وبعد التركيز على بداية تحديد الحياة السعيدة يلي ذلك معلومات إضافية
عدة للموضوع الثاني.
وفي مناقشة أولية للمشكلة المطروحة ( )1.3 – 2.1هجا سينيكا التوجه الخاطئ
للناس ويؤكد على الحاجة إلى مرشد خبير ( ،)2.1ويقود هذا إلى تركيزه على تعريف
303
الحياة السعيدة ( )4.5-2.3حيث استقالله المزعوم عن سلطة أي رواقي (،)2.3
وتوازنه بتمسكه بالمبدأ الرواقي المشترك حيث االتفاق حول طبيعة العالم (،)3.3
وهو المبدأ األساس للرواقية والذي أصبح مهيمنًا على العمل كله (على سبيل المثال
،)5.20 ،1.13 ،2 -1.8ثم يشرع في تقديم ستة تعريفات للحياة السعيدة بامتداد
مختلف ،وهو يبرر نهجه للتعريف بمماثلته بالجيش الذي بمقدوره أن يتمدد وينكمش
في لحظة واحدة وف ًقا للخطة(.)1.4
إن جدلية الملذات السالفة الذكر هي المعضلة الرئيسة في حوار سينيكا ،حيث
خيرا أسمى أو بكونها مرتبطة بالفضيلة باعتبارها طر ًفا من
دحض اللذة باعتبارها ً
الخير األسمى (((38()4.15-1.6
عبر عنها
،وكل االعتراضات التي تتوالى (التي َّ
طرف ثالث ،ومن الواضح أنه ليس جاليو) تطابق مركب نوعي للمذهب األبيقوري
عن اللذة ،وفى هذا التغير يظهر سينيكا نفسه على دراية بكتابات أبيقور وواع ًيا بها
حتى إنه تعاطف مع أبيقور ووصف تصوره للذة بالرزانة واالعتدال ( ،)4.12ومن
ناحية أخرى ،يؤكد أن المدرسة األبيقورية أعطت ضمان ًة وحجا ًبا للمتهورين الساعين
للمتعة ( ،)4.12وهو يحمل األبيقوريين المسؤولية عن هذا التطرف ،ومن ثم نخرج
من موضوع اللذة بصورة لنقاء الفضيلة واستقاللها ،وأن حال الفضيلة هو «الضامن
الحق» (.)3.16- 5.15
تغيرا جديدً ا مع محاور لدود– أو
ويثير التصور العام للحياة السعيدة عند سينيكا ً
محاورين ( ،)20-17وهم يسألون« :ولماذا إذنْ تتحدث بجرأة زائدة عما تعيشه؟»
( ،)1.17وهذه الدالئل بقائمتها الموسعة تحث سينيكا إلى تفسير يصف فيه الحكيم،
مطمحا للفيلسوف (.)5-3.20
ً وليس هو ذاته مثالاً أو
واالتجاه التالي الذي يوجه المعترض يوجهنا إلى نقاش يتعلق بعالقة الحكيم بالثروة
( ((38لمزيد من التحليل عن االنحرافات والخفايا في النظريات الرواقية عن اللذة انظر Asmis 1990, 235–44. Cicero
.On the Ends of Good and Bad 2.43–69; cf. Griffin 1992, 307
304
( ،((38()26-21-.3ورد سينيكا صورة وصفية لنظرية المحايدة المفضلة preferred
) indifferents (22.4وتفسير كيف ُيعطي الحكيم اإلحسان ()24.3 ،1.23 ،4-20
ذلك الموضوع الذي تناوله في رسالته عن اإلحسان باستفاضة ،ويكثف النقاش
بالحديث عن الحكيم ،ومن ثم عن سقراط والذي ُيصور في البداية بمصطلحات عامة
نوعيا( ،)1.28 ،26.4ومن الشك أن
ًّ ( ،)25.8 ،24.4ثم يزيد ما يتعلق بالسيرة
يقدر ما فقده سقراط من الهجوم المضطرب لخصومه عليه.
دفاع سينيكا:
كان من السهل على سينيكا أن ُيبقي على الموضوعات النظرية بعد اختياره التركيز
على الحياة السعيدة ( .((38()4.15 ،1.6ويعني التحول في الفصل 17أن العمل
مكرس اآلن لوصف الحياة التي تنقضي في تقدم العمر رغم توافقها مع الحياة الرواقية
السعيدة– وهو تحول دفاعي ،والحياة الرواقية السعيدة ال تمضي على مصرعيها ،بل
تدار بالمحايدات المفضلة باعتبارها طر ًفا من حياة الجسد واألسرة والدولة.
ورغم أن تاريخ كتابة رسالة الحياة السعيدة مجهول ،فإن معظم الباحثين يرون أن
العمل يرد -عاجلاً أم آجلاً -على الهجوم غير المبرر ضد سينيكا في 58ق.م من
المدعي المحنك الساخط سوليوس روفوس ،((38( P. Suillius Rufusوقد لخص
تاكيتوس التهم الموجهة من سوليوس لسينيكا وراء الستار ،وأثنى على نفي سينيكا
( ((38لالطالع على هذا التوكيد والمحتمل أن يكون مستمدًّ ا من بانيتوس Panaetiusيمكن أن تجده عند Cicero On
.Duties 1.17; cf. Asmis 1990, 250; Griffin 1992, 179, 296–97, 307 n. 4
( ((38لمناقشات أخرى عن الحياة السعيدة بتوكيد مختلف انظر .Letters 85 and 92
( ((38عن التسلسل الزمني والمنهج وعالقته بتهم سوليوس انظر Griffin 1992, 19–20, 306–9, 396, 399; Asmis
1990,
47–246ولمناقشة هذه التهم وعالقة سينيكا بالمال انظر Levick 2003ولمعرفة سوليوس ،Rutledge 2001, 111–13
ولتطور النظريات الحديثة حول عالقة رسالة الحياة السعيدة وسياقها التاريخي يمكن تتبعه Chaumartin 1989,
ضمنيا للحاكم” ( )1996.26ال سيما في
ًّ نموذجا
ً .1686–89كما يالحظ شيسارو Schiesaroأن سينيكا “يقدم
التشديد على احترام الحرية.
305
السابق ،وأبرز المتناقضات بين فلسفته وثروته ( ،)Annals 13.42.2–43.1ويذكر
كاسيوس ديو Cassius Dioهذه التهم بجانب تهم أخرى بما فيها تورط سينيكا في
ممارسة الجنس مع “الصبيان في مراهقتهم ،)Roman History 61.10(:وكما يقرر
تاكيتوس أن تهم سوليوس لم ُتعلن ونقلت إلى سينيكا بصورة مبالغ فيها (،)1.43.13
جزئيا ،وعدد قليل َمن سمع صداها ،وتبدأ اتهامات المتحاور
ًّ وتجد االتهامات صدى
المتخيل في رسالة “عن الحياة السعيدة” في ،3.2والح ًقا في ،1.21 ،2-1.17
.5.27
وكان من األحرى ألاَّ يستعمل سينيكا عنوان “الحياة السعيدة”؛ ألنه يعالج موضوع
استعمال الفيلسوف للذة والثروة ،ولكن زوده ببنية ُيعرف فيها موقفه الرواقي من
منهجيا مع المذاهب التي تعطي قيمة للذة والظاهر ،في حين فسر موضع
ًّ خالل تناقضه
اللذة المالئم والظاهر في المذهب الرواقي.
و ُتعرض هذه النصوص بشكلها المميز بتراكيب بالغية يوظفها سينيكا ،وبتقديمه
لسقراط ينقل العمل إلى أجواء دفاع أفالطون عن سقراط حيث يواجه الفيلسوف كثير
من متهميه ويستغل هذه الفرصة ليمحص آراءهم ،ورغم ادعائه للنقيض -3.17
4يبدو سينيكا سعيدً ا؛ ألنه يسمح لصوته أن ينفجر بصوت الحكيم ،واالستعمال
بالغيا آخرُ ،أشير له في البداية
ًّ المكثف لالصطالح السياسي الروماني يشكل تراك ًبا
حين وظف سينيكا االصطالحات االنتخابات السياسية ومداوالت مجلس الشيوخ
لتوصيف الطريقة التي يقررها هو ومحاوره في كيفية صياغة آرائهم وربطها بآراء
اآلخرين ( ،)2.3 ،2.1 -5.1ويبني سينيكا في أوقات الحقة على المثل الموجودة
للسلوك السياسي (على سبيل المثال ،)5.20 ،7.15حتى إنه يسعى الستبدال هذه
القيم السياسية بالقيم الفلسفية(.((38
306
وإن دفاع سينيكا -إن كنا نطلق عليه هكذا -ال يزال مؤثرا في مجابهة تصورات
سينيكا المفترضة للنفاق ،وعلى سبيل المثال قد اتخذ ديدرو Diderotرسالة الحياة
بالغيا في مقاله عن حياة سينيكا وكتاباته Essaisur la vie et les
ًّ منحى
السعيدة ً
،écrits de Sénèqueوالذي ُيدافع فيه الفيلسوف عن كل من سينيكا ونفسه ضد
سوللسوسات ( Suilliusesجمع سوليوس الذي انتقد سينيكا) الحياة المعاصرة أو
االتجاه المضاد لسينيكا.
307
،((38()4.3 ،4.3وينشأ سخاء الحكيم من عقل حر).liber animus (3.24
وصورة الفيلسوف كصانع لحياته ) artifex uitae suae(3.8تنطبق كلية مع اللذة
صانعا يأخذ العقل بداياته من اإلحساسات ،ومن ثم
ً والثروة ،ففي حالة اللذة فلكونه
يؤكد سلطته عليها مثل الرب( ،)4-3.8وفي حالة الثروة فإن مثال الصانع قد يتضح
في العمل بذكر سينيكا المتعدد بأن الثروة ُتعطي الفيلسوف “مادة أعظم لتنقي عقله”
(.)3.24 ،1.22 ،4.21
إن فكرة حياة الصانع بطبيعتها كأسلوب حياة أو مسار الحياة الذي يسلكه الفيلسوف
قد ُضمنت في الفصل الخامس عشر ،وهي في صيغة الحكيم مثل “ضعني في الحظ،...
ضعني في المصيبة ،...على استعداد للمصيبة ،...إنني أفضل الحظ ،”...ويضيف
سينيكا بالقدر نفسه الجرأة بقدر ما يمكن لممارسة الفضائل الهابطة بالتعرض لسقراط
نظرا ألن المسار العام لحياة سقراط انتهى به إلى السجن ،وسم
الناقل لهذا الخطابً ،
الشوكران قد يعين في التخلص من عبء جميع المواد التي تسمح بممارسة فضائل
الهبوط.
ومن السمات المميزة لسينيكا التركيز على الموت كمركب جوهري لفن العيش
وبرهان مطلق للتحرر ،ويتضح هذا في كلمات المتطلع للفلسفة( ،)5.20وفي
وصف سينيكا النتحار ديدوروس Diodorusوهو األبيقوري الذي قطع رقبته “قبل
بضعة أيام” ،والذي كانت كلماته األخيرة إشارة لضميره الخير ( ،)1.19وحتى لو
جليا في وفاته فرصة
لم يثن ذاته على أسلوب حياة األبيقوري ديدوروس ،فإنه رأى ًّ
ليبرهن على قدرة جرأته على اختيار الموت ليتحمل مشهد الحياة المختبرة ،وإن تبنى
إرادة القيام بالموت هو من باب االعتزاز بالقدرة على االنفصال عن اللذة والثروة
وكل المحايدات؛ ألن احتضان الموت تحرر بمعناه الجوهري مثل تحرر النفس من
( ((38حول القيم كتحرر في هذا العمل انظر .Inwood 2005, 314
308
الجسد( ،((39واحتضان الموت يذكر ً
أيضا بحال المشهد الزمني للحياة السعيدة،
والتي ستكون دو ًما من الفضائل الصاعدة التي قد تحتاجها آجلاً ،هذا هو اإلطار
النظري والبيوجرافي الذي يضعه سينيكا في عرضه لألشياء الظاهرية.
( ((39يرى هيل Hill 2004, 151–57أن االنتحار بمثابة تدريب في “المحاكاة المعرفية”.
309
:لمزيد من القراءة
Asmis, Elizabeth. 1990. “Seneca on the Happy Life.” In The Poetics
of Therapy, ed. M. Nussbaum, Apeiron 23:219–55.
310
أخي جاليو ،Gallioالجميع يرغب أن يعيش سعيدً ا ،ولكن حينما يقبل 1-1
ما يجعل الحياة كذلك فإنهم يعمهون ،ويصعب أن يبلغها المتعجل وهو
يهرول نحوها ،ويتخلى عنها اآلخر إذا فقد الطريق ،حيث يقوده في االتجاه
المعاكس ،و ُتبقيه ثمرة َع َج َلته في ُفرقة أعظم .وعلينا أن ُنخطط لمعالجة ما
نسعى إليه أولاً ،ومن ثم علينا أن نلتفت للطريق لنصيبه حثي ًثا ،ويمكننا التعلم
عليه ،طالما أنه هو الطريق الحق ،فكم من الخطى مشيناها كل يوم ،وكم
تقاربنا نحو الشيء الذي تدفعنا إليه الرغبة الطبيعية.
وال شيء نحتاجه إذنْ لنضمن بقدر ما أننا ال نشبه الماشية التي تتبع القطيع 3-1
الذي يمشي أمامها ،وال نسير حيث ينبغي علينا أن نمضي ،بل حيث انتهى
اآلخرون ،ومن ثم ال شيء يورطنا في متاعب وخيمة أكبر من ثبات الشائعة في
نفوسنا ،حين نحكم على تلك األشياء التي حظيت باستحسان كبير ،أو أكبر
من اتخاذنا ألمثلة عدة لها مكانة حسنة ،ونعيش بالمحاكاة بدلاً من العقل.
311
ويحدث هذا حيث ينحدر من كومة كبيرة ،وحيث يقع المرء على اآلخر ،كما 4-1
يحدث في قمع اإلنسانية حين تزاحم الجماهير أنفسها ،وال يسقط الواحد
منهم دون أن يشد اآلخر إليه ،وتفكك ُ
األول لواحقها ،وترى هذا حاد ًثا في
حيوات الجميع .فخطأ المرء ال يؤثر عليه وحده بل هو العلة والمهيئ لخطأ
ٍ
امرئ أن آخر ،ومن الضرر أن تتقيد بالذين ساروا أمامك ،وطالما يفضل كل
حكم على
ٌ ُيحمل األمور على الثقة بدلاً من الحكم عليها فلن يكون هناك
الحياة بل الوثوق بها دو ًما ،فنلقي أحكا ًما خاطئ ًة متعجل ًة ،ونهلك ثمرة ألمثلة
اآلخرين ،وقد نرجع للصواب حين ننفصل عن الجمهور.
ويقف الجمهور في وقتنا هذا ضد العقل ،مدافعين عن موقفهم الرديء .ولذا 5-1
يحدث الشيء نفسه في االنتخابات ،حين يتحول التأييد المقلوب في االتجاه
المعاكس عند الذين قد يندهشون ممن ينتخبون البرايتور praetorsوهم
الذين انتخبوهم .ونحن نستحسن األشياء ثم نجدها نفسها مستهجنة ،وهذا
هو حصيلة أي حكم قد اتفقت عليه األغلبية.
ولذلك دعونا نبحث عما هو أفضل لنقوم به ،وننأى عما ترسخت ممارسته، 2-2
السعادة األبدية ،ال ما استحسنته حشود العامة وهم
وما يمكن أن يضعنا في َّ
نصير السوء للحقيقة .وأقصد بكلمة «حشود العامة» الذين يلبسون التيجان
والذين يتزيون بالعباءات؛ ألنني ال ُأولي اهتما ًما بلون المالبس التي قد تستر
( ((39اعتاد أن يقول رئيس السيناتو هذه الكلمات وهو يعلن نتيجة التصويت بعد طرح األصوات المعارضة للتصويت .انظر
.Talbert 1984, 282–83
312
توهجا
ً عيني إذا تعلق األمر بالبشر ،وأكون أفضل وأقوى
األجساد ،وال أثق في َّ
بتمييز األشياء الحقة عن الزائفة ،حيث أدع الكاشف لحسن العقل هو العقل
ذاته.
هل ترى هؤالء الناس الذين يستحقون البالغة ،والذين يسعون للثروة ،والذين 4-2
يتزلفون على الفضل ،والذين يمجدون السلطة؟ إن الجميع عدو هؤالء أو إن
عدوهم ما يبلغ الشيء نفسه ،وكما يخشاهم الكثيرون يمتعضونهم .ولماذا
ليس من الحري أن أسعى إلى الشيء الحسن في الممارسة– شيء أشعر به
أحرى من الظاهر؟ أي تلك األشياء التي ُينظر إليها والتي تجعل الناس يقفون
ويحدقون ،والتي يشير فيها المرء لآلخر في دهشة وهي تلمع من الخارج
ولكن باطنها بائس.
وعلينا أن نسعى للشيء الذي ال تنظر إليه باستحسان ،ولكنه قوي وثابت 1-3
وجميل في جانبه الخفي ،علينا أن نسترجع هذا وألاَّ نطرحه جان ًبا .وسوف
يكشف أنك تحتاج ببساطة أن تعرف أين تمد يدك ،كما لو كنا في الوقت
الراهن نمر بأشياء قريبة في الظالم ترتطم بما نتوق إليه.
313
وأنا ال أدور بك في دوائر ،وسوف أمر على آراء اآلخرين ،وأسردها وأدحضها. 2-3
أي من الرواقيين،
لذلك اسمع لنا ،وحين أقول (لنا) فأنا ال أربط نفسي بسلطان ٍّ
ولكن لي الحق في إبداء موقفي ،وهكذا سوف أتبع واحدً ا وسيقودني آخر
ألقسم افتراضه ،وربما حين ُأستدعى للحديث بعد اآلخرين ،لن أستحسن
شيئًا قد رفضه َمن سبقوني ،ومن ثم سأقول« :أخذت هذا ألضيف»(،((39
وفي الوقت نفسه أقوم بشيء شائع بين كل الرواقيين وهو أن أتفق مع طبيعة
العالم( ((39وال أنحرف عنها ،بل أتشكل وف ًقا لقانونها ومثالها ،وتلك هي
الحكمة.
فالسعادة هي حياة في اتفاق مع طبيعتها ،وال سبيل لتحقيق هذا إن لم يكن 3-3
ً
راسخا العقل سلي ٍما أولاً ،صل ًبا في ملكية سالمته ،قو ًّيا وحيو ًّيا ثان ًيا ،ومن ثم
في نبالته ،ومتواف ًقا مع العصور ،وحاملاً لجسده ولألشياء التي تتعلق به دون
ومنتبها لألشياء األخرى التي تمد الحياة دون أن يعجب بأحدها،
ً اضطراب،
ومستعدًّ ا الستعمال عطايا الحظ وال يكون عبدً ا له.
إنك تدرك دون إضافتي لها ،أنه بمجرد أن ُتطرد األشياء التي تؤججنا أو 4-3
تروعنا سوف يتبعها سكينة أبدية وحرية ،وحين ُتنبذ الملذات واآلالم ستأتي
فرحة عارمة لتحل محل األشياء التافهة الهشة والتي ُتثير اشمئزاز الذات ح ًّقا،
وهي فرحة دائمة وثابتة يتبعها سالم وانسجام في العقل ،تجمع بين العظمة
واللطف ،حيث إن الشدة ُتشتق من الضعف دو ًما.
314
ويمكن أن ُيعرف تفضيلنا بطرق مختلفة -كما يمكن أن ُيفهم االفتراض 1-4
بعبارات متباينة .كما قد ينبسط الذراع والذراع اآلخر على مدى واسع في
لحظة واحدة ،ويضغط بإحكام ويقوس الجزء األوسط لألقواس إلى أجنحة
أو ُيعدلها في وجهة مستقيمة ،ولكن مهما قد ُيعدل فإن له القوة نفسها واإلرادة
للوقوف على السبب نفسه -وكذلك يمكن لتعريف الخير األقصى أن ينبسط
ويمتد أحيا ًنا ،و ُيضغط و ُيجمع في حد ذاته أحيا ًنا أخرى.
والشيء نفسه إذا قلت« :الخير األقصى هو العقل ينظر إلى أسفل على أمور 2-4
ومبتهجا في الفضيلة» أو «قوة العقل غير المهزومة ،والضالعة في طرق
ً الحظ،
بمن تالمسهم» .ويمكن للمرء
العالم ،والرزينة في الفعل بإنسانية جمة تتعلق َ
أن ُيعرفها ً
أيضا بمثل هذه الطريقة حين يقول إن اإلنسان سعيد ال لشيء حسن
األخالقي(((39 أو رديء ،إال لحسن العقل أو رداءته ،وهو الغارس للخير
والقانع بالفضيلة ،وهو الذي ال ُتعومه تحوالت الحظ وال تكسره ،والذي
يعلم أنه ليس هناك خير أعظم مما يمكن أن يمنحه لنفسه من اللذة الحقة التي
تحتقر الملذات.
وإذا رغبت أن تتوسع حولها إلى شكل أو آخر دون مجازفة أو إضرار بقوتها. 3-4
وبعد هذا ما الذي يمنعنا أن نقول إن الحياة السعيدة هي عقل حر ومستقيم
لمن عندهم الخير الوحيد هو
وجريء ومستقر ،يقف وراء الخوف والرغبة َ
الخير األخالقي فحسب ،والشيء الرديء الوحيد عندهم هو العيب فحسب،
والبقية أشياء محتشدة ال قيمة لها ،وهي ال تنتقص شيئًا من الحياة السعيدة وال
ُتضيف إليها شيئًا ،وتروح وتغدو دون أن تزيد أو تنقص الخير األقصى!
وبالضرورة حين يمتلك العقل هذا النوع من األساس سواء أراد أم ال ،فإنه 4-4
(“ ((39الخير األخالقي” هي ترجمة لكلمة الحق honestumالتي أستعملها سواء “للخير األخالقي” أو “األخالقي” تمش ًيا
مع خطة العمل المتعاقبة.
315
سيكون مصحو ًبا بالبهجة المتواصلة والفرح العميق الذي يأتي من العمق
الباطن .إنه يبتهج في األشياء التي يملكها ،وال يرغب في أكبر مما ملكه في
البيت .لماذا ال نعتبر هذه األشياء ضخمة مقارنة بالنزعات الزائلة والطفيفة
والصغيرة لهذا الشيء الهزيل والجسد؟ واليوم الذي يستسلم فيه المرء للذة
سوف يستسلم فيه لأللم .ولكن سوف ترى أن استعباد المرء المذل والرديء
سوف يكون خاد ًما إذا وقع بالتناوب في ملكية ما ال يمكن التنبؤ به والسادة
الجامحين :حيث الملذات واآلالم ،ولذا وجب الخروج للحرية.
ويمكن أن تمنح الحرية بشيء آخر غير تجاهل الحظ ،ومن ثم ينشأ الخير 5-4
الذي ال يقدر بثمن حيث سكينة العقل المقيم في سالم ورفعة وعظمة وفرحة
ثابتة ناتجة من طرد الخطأ ومعرفة الحقيقة ولطف وموسوعية العقل ،فاألشياء
التي يبتهج بها ليست الخيرات ،بل األشياء التي تنشأ عن خيريته.
وضع في المقولة نفسها البشر ذوي الطبيعة البليدة ويفتقرون إلى معرفة الذات 2-5
وأنزلهم منزلة الماشية والبهائم ،حيث ال فارق بين هؤالء البشر والبهائم،
فليس للبهائم عقل ،وهؤالء لهم عقول قد اعوجت ،وانحرف ذكاؤهم لضرر
أنفسهم ،وال أحد ُيقال عنه إنه سعيد إذا ما رفس نفسه خارج الحقيقة.
وقد تنشأ الحياة السعيدة في حق وحكم بعينة ال يتبدل ،والعقل خالص 3-5
ومتحرر من كل األمور الرديئة ليس بمجرد خالصه من الملمات بل من الكدر
ومدافعا لموقفه حتى حين يغضب
ً الطفيف ،ومهيئ دو ًما للوقوف على أساسه
الحظ ُيعادي.
316
وحتى لو رفضت اللذة من كل جانب وفاضت في كل طريق ،وسكنت العقل 4-5
جزءا وكلاًّ َ ،
فمن من بين بمداهناتها المميزة ،وأضافت الشيء تلو اآلخر لترهقنا ً
البشر فيه أثر إلنسانية يتمنى أن ُيدغدغ ليله ونهاره ويهجر عقله ويعطي للجسد؟
وهو يقول« :ولكن سوف يكون للعقل ملذاته»( ،((39ودعه يملكها على 1-6
اإلطالق ،ودعه يحكم على الرفاهة والملذات ،ودعه يمأل ذاته بكل األشياء
التي تبهج الحواس عاد ًة ،ومن ثم دعه ينظر للخلف على األشياء الماضية،
ويستدعي الملذات السابقة ،ودعه يكتشف ما جاء قبله ،ودعه يتطلع اآلن إلى
هذه الملذات لتأتي ويرتب آماله ،في حين يتمرغ الجسد في متعه ،ودعه يرسل
أفكاره ليستشرف المستقبل ،وسوف تبدو لي أشياء مبهجة جمة ،حيث من
الخبل أن تعتبر األشياء الرديئة كالحسنة! وال يسعد أحد دون صحة ،وال يصح
أحد إذا كان يرغب أشياء المستقبل في موضع لما هو أفضل.
والسعيد هو المرء الصواب في حكمه ،وهو القانع بظروفه الحالية مهما 2-6
كانت ،والرفيق ألعماله ،وهو الذي يتصرف في أعماله كما يعظ العقل تما ًما.
حتى الذين قالوا إن الخير األقصى في المناطق السفلى للجسد ،ويرونه في 1-7
موضع مشين قد حددوه ،ولهذا السبب ينكرون أنه يمكن فصل اللذة عن
الفضيلة ،ويقولون ال أحد يعيش على نحو أخالقي دون العيش بمتعة ،وال
أحد يعيش بمتعة دون أن يعيش على نحو أخالقي ً
أيضا( ،((39وال أرى كيف
تتزاوج هذه األشياء المتشعبة ،ولماذا هي كذلك ،واسأل الناس هل ال تنفصل
اللذة عن الفضيلة؟ وأعتقد بالنظر هل األشياء الخير كلها تأخذ بدايتها من
الفضيلة ،وينشأ من جذور الفضيلة تلك األشياء التي ُتحبها والتي تسعى
( ((39المحاور األبيقوري يتحدث دون سابق إنذار ،وهنا يستجيب سينيكا كما لو كان المعترض كان يشير إلى المذهب
األبيقوري لتذكر الملذات وتوقعها في العقل .انظر .LS 21T, 22E1, F1, 24D
( ((39انظر (Epicurus frag. 506 Use.), compare Diogenes Laertius 10.138; Cicero Tusculan Disputations
.3.20.49. See also LS 21B, P
317
إليها؟ وإذا كانت هذه األشياء ال يمكن تمييزها لماذا نرى أشياء بعينها ماتعة
أخالقيا على وجه التحديد
ًّ أخالقيا ،وأشياء غيرها حسنة
ًّ وهي ليست حسنة
بل مجهدة ،وال ُتحصل إال باأللم فحسب.
أضف إلى حقيقة أن اللذة تأتي حتى من الحياة المشينة ،في حين ال تقبل 2-7
الفضيلة العيش على نحو رديء ،وأشخاص بعينهم ليسوا سعداء من دون
اللذة بل بسبب اللذة تحديدً ا ،وال يأتي هذا إذا مزجت اللذة ذاتها بالفضيلة،
والفضيلة من دون لذة على الغالب بل ليست بحاجة إليها تما ًما.
والخير األقصى خالد ،وال يعرف كيف يرحل ،وال يشعر بتخمة وال ندم. 4-7
حرفيا اإليديل aedilesبالالتينية ،Aedili وهي مشت َّقة من aedes بمعنى معبد وهو منصب في روما القديمة كان
ًّ ( ((39تعني
يتو َّلى حامله صيانة مباني المدينة وتنظيم المهرجانات الشعبية العامة ،كان يتمركز اإليديل في مدينة روما ،وكانت
دائما زوجان من اإليديالت ،بحيث يكون هناك أربعة حاملين بالقوة .كان هناك ً
َّ تتضمن فرض النظام العام َّ صالحياته
للمنصب في أي وقت .إذ لم تكن صالحيات الزوج األول « »aediles plebisتسمح لهما بالتعامل إال مع عامة الناس،
سميين « »aediles curulesالتعامل مع العامة والنبالء الرومان على حدّ سواء .بصورة الم َّ لآلخرين ُ
َ بينما كان يمكن
للتدرج إلى مناصب أعلى ،وعادة ما تعتبر
ُّ عامة ،كان األشخاص الذين يشغلون منصب اإليديل شبا ًنا يافعين يسعون
رتبتهم أعلى من الكويستور لكن أدنى من البريتور .مع ذلك ،لم تكن مرتبة اإليديل ضرورية في هرم الرتب الروماني،
بريتورا دون الحاجة للمرور بمنصب اإليديل .من جهة
ً وبذلك كان يمكن لكويستو ٍر سابق أن يرشح مباشر ًة ليصبح
سياسيا للشخصيات الهامة أن تحمل لقب اإليديل عند مرحلة ما ،فتولي مهام اإليديل كان أشبهًّ أخرى ،كان من المفيد
ٌ
بتقديم إثبات على اهتمام الرجل بأحوال عامة الشعب وحاجاتهم ،كما أنها فرصة له ليشهر نفسه عن طريق الظهور
كمسؤول هام في المهرجانات واالحتفاالت الشعبية بروما ،وهي طريقة ممتازة الكتساب السمعة والشهرة https://
( - www.britannica.com/topic/aedileالمترجم).
318
إنك تحتاج أن تفهم الفكر الصواب وليس العاثر وال الكاره لذاته وال الذي
يحول أي شيء ،والماضي بالفعل لألفضل ،وقد تستأصل اللذة في اآلن
مضجرة،كبيرا ،و ُتمأل عاجلاً وتصبح ُ
موضعا ً
ً الذي ُتبهج فيه ،وهي ال تملك
وتتالشى بعد أول ظهور لها ،وال شيء يوطد طبيعتها المتضمنة في الحركة.
وهكذا ال يكون هناك جوهر لشيء يروح ويغدو على عجل ويفنى تحديدً ا في
استخدامه .وإنك ترى أنها تهرول نحو انقطاعها ،نهايتها في بدايتها.
وماذا عن حقيقة أن اللذة بقدر وجودها في األمور الرديئة فهي في األمور 1-8
الحسنة ً
أيضا ،ويتجرعها المخجلون بقدر ابتهاجهم في أعمالهم المشينة
كما ينهل منها المتخلقون في أعمالهم الرفيعة؟ ولهذا السبب علمنا القدماء
أن نسعى للحياة الفضلى وليست الماتعة ،فاإلرادة الصواب والخيرة ربما
قد ُتسعد رفيقها وليس قائدها؛ ألن القائد يستعمل الطبيعة ،أي الطبيعة التي
يتطلع إليها العقل ويتشاور معها.
وأن تحيا سعيدً ا هو الشيء نفسه أن تعيش وف ًقا للطبيعة ،وسأفسر ما هذا، 2-8
وعدة الطبيعة
إذا كنا حريصين وال نخاف فإننا نحافظ على ما ينفع الجسد ُ
ونتعامل معها باعتبارها زائلة وعابرة ،وإذا لم ندخل في عبوديتها ،وال تتملكنا
األشياء التي ليست لنا ،وإذا كانت األشياء التي ُتسعد الجسد حين يتالقها
فهي بالنسبة لنا مثل اإلمدادات والجنود ذوي التسليح الخفيف في معسكر
الجيش ،حيث عليهم أن يأخذوا أحرى من أن يعطوا أوامر -هذا وفي النهاية
كيف يكونون مفيدين للعقل.
ودع المرء ال يفسد بالظواهر التي ال يمكن عالجها ،وال يعجب إال بنفسه، 3-8
فهو الصانع لحياته« :ثق في عقلك واستعد ألي نتيجة»( ،((39ودع ثقته ال
( ((39اقتباس من إنيادة فرجيل Virgil Aeneid 2.61حيث تصف العبارة المحتال اليوناني سينون ،الذي عرف أنه سوف
ُيقتل ،وأمل أن ُيستقبل من الطرواديين كما يتمنى.
319
تخلو من معرفة وال تخلو معرفته من مثابرة ،ودعه يؤكد قراراته و ُيبقيها وال
يمحوها ،فإنها مفهومة حتى دون أن أضيفها ،وإنسان مثل هذا سوف يكون
عظيما ،وودو ًدا في اآلن ذاته.
ً ومنظما ،ومهما فعل سوف يكون
ً مؤتل ًفا
ودع الحواس تحفز العقل وتأخذ بدايته منها ،ومن المؤكد أنه ال يوجد مورد 4-8
آخر لتعهداته أو لدافعه نحو الحقيقة ،ودعه بعد ذلك يرجع إلى ذاته ،فحتى
كل ما يطوق العالم والرب وحاكم الكون يمتد إلى األشياء الظاهرة ،وال يزال
هو يعود إلى الباطن نحو ذاته ،فدع عقولنا تصنع الشيء نفسه ،وبعد أن تتبع
الحواس وتمتد إلى الظواهر دعها تؤكد سلطتها على الحواس نفسها.
وهذه هي الطريقة التي قد ُينتج بها قوة بعينها وسلطة منسجمة مع ذاتها، 5-8
وسوف يأتي هذا العقل الموقن إلى الوجود وهو غير منقسم أو متزعزع في
اعتقاداته وإدراكاته أو قناعاته .وحين ينظم هذا العقل ذاته ويتوافق مع أجزائه
كما لو كانت أنشودة متناغمة معه فسوف يالمس الخير األقصى.
وكما يقول« :ولكنك ال تغرس الفضيلة ألي سبب آخر سوى أنه يأمل لذة 1-9
منها»( ،((39أولاً إن كانت الفضيلة توفر بعض المتع فال يعني هذا أننا نسعى
إليها لهذا السبب ،أنت ترى أن المتعة ال تقدم شيئًا بل تقدمها ً
أيضا ،وهي ال
( ((39لنقد األبيقوريين للرواقية انظر LS 21P; also, for the Epicurean theory, Epicurus frag. 504 Use.
320
تكدح من أجل اللذة ،والحري سوف تحقق كدحها كذلك حتى إن كانت
تسعى لشيء آخر.
كما هو الحال في حقل الذرة الذي ُيحرث وتنمو فيه بعض الزهور ،ولم يكن 2-9
الحرث ألجل هذه النباتات الصغيرة ،ومهما كان ُيرضي العينين ،فإن للزارع
دافعا للفضيلة بل
حصيلة أخرى في االعتبار ،وكذلك اللذة ليست مكافأة أو ً
ملحقة ،وهي ال تستحسن ألنها تمنح اللذة بل إذا استحسنت تعطي اللذة
ً
أيضا.
والخير األقصى تحديدً ا في الضبط وميل العقل الفضيل ،فعندما يمأل هذا 3-9
العقل ما يتبعه ويحوط ذاته داخل غاياته الدنيوية ،فإن الخير األقصى الذي
يملؤه للذروة لن يتوق لشيء آخر؛ ألنه ال يوجد شيء خارج كماله ،وال شيء
بعد الغاية(.((40
وبطبيعة الحال تسأل لماذا أسعى للفضيلة ،وأنت تسعى لشيء فوق األقصى، 4-9
هل تسأل لماذا أسعى للفضيلة؟ ألجل الفضيلة .فليس هناك شيء أفضل،
عظيما بما فيه الكفاية! حينما
ً حيث تكون الفضيلة مكافأته ،أو ربما هذا ليس
أقول لك« :إن الخير األقصى صالبة للعقل وصمدية وبصيرة وتسامح وصحة
وحرية وانسجام وروعة» ،واآلن هل تطلب أشياء أكثر من هذه األشياء التي
أشرت إليها ،فلماذا تتحدث معي عن اللذة؟ فأنا أبحث عن خير البشر وليس
بطونهم ،والبطون أوسع رحابة في الماشية والبهائم.
1-10وهو يقول« :إنك تتظاهر أنك ال تدرك ما أقوله؛ ألنني أنكر أن يعيش أي أحد
بمتعة إذا لم يكن يحيا خلو ًقا في اآلن ذاته ،وهذا ال يكون في حالة الحيوانات
البكماء أو التي تقيس خيرها في حدود الغذاء .ما أقوله إنني أعلن للجميع
( ((40ترجمة كلمة “غايات” و”غاية” ترجمة لكلمة “نهاية ”finisوالتي تشير إلى الحد الدنيوي أو أي منتهى ،وتلمح هنا
إلى الرابط النهائي ،finis bonorumوهي المرادف المألوف لكلمة غاية telosأو الخير األسمى.
321
وبوضوح أن الحياة التي أسميها ماتعة ال تأتي دون إضافة الفضيلة».
2-10ولكن َمن ال يعرف أن أشد الناس حم ًقا ملؤوا حتى الحافة بملذاتك ،ويتدفق
ضعفهم باألشياء الماتعة؟ وتكتظ عقولهم بصور منحرفة للذة بعدد عظيم،
حيث الغطرسة ووضع قيمة كبيرة للذات واألنا المتضخم الذي يحلق على
اآلخرين ،والولع بأشيائهم التي ُتعمي بصيرتهم وتفقرها ،واإلسراف في
ً
وأيضا االفتراء وتعظيم الذات الذي يتمتع بإلقاء البواعث التافهة والصبيانية،
وخليعا ويدلف بالمباهج ،ويقع
ً اإلهانات ،والعقل البليد الذي يكون كسولاً
في النوم على نفسه.
1-11حين أقول (أنا) ال أصنع شيئًا ألجل اللذة؛ فإنني أتحدث عن الحكيم ،وهو
الشخص الوحيد الذي يمنحك اللذة( ،((40ومع ذلك ال أ ّدعي أن الحكيم قد
ملك أي شيء فوقه ،وأقل األشياء اللذة ،فإذا كانت اللذة قد ُتشتته ،فكيف
يقف أمام الكد والخطر والفقر والتهديدات األخرى التي تؤرق الحياة
اإلنسانية بهذا الكم الهائل؟ وكيف يتحمل مشهد الموت ،وكيف يتحمل
األلم ،وتحطيم العالم ،وكذلك األعداء الشرسين الكثيرين ،فمتى يقهر بهذا
العدو اللين؟ «إنه سوف يؤدي اللذة التي تجذب» هيا! ألم تر كم هي األشياء
322
التي تحاول أن تجذبه إليها؟
2-11وهو يقول« :ليس بمقدورها أن تقنعه بعمل أي شيء مشين؛ ألنها ملتصقة
بالفضيلة» ،ومرة أخرى ،هل ال ترى أي نوع للخير األقصى والذي يحتاج
راع ليؤكد الخير؟ وكيف تحكم الفضيلة اللذة إن اتبعتها؟ ألن األتباع هو
إلى ٍ
فعل َمن ُيطيع ويحكم َمن يأمر ،فهل وضعت اآلمر في المؤخرة؟ إن واجب
الفضيلة البديع يخدمك باعتباره منبأ لملذاتك!
3-11وسوف نرى ما إذا كانت ال تزال الفضيلة في بيتك( ،((40حيث عوملت على
نحو مهين ،حيث إن (الفضيلة) ال يمكن أن تحتفظ باسمها إذا منحته قاعدة.
وفي الوقت نفسه -ونحن مقيدون بموضوعنا -أرى أن الملذات قد حاصرت
أشخاصا عدة من الذين بدد الحظ عطاياهم كلها ،والذين تعترف بأنهم
ً
رديئون.
323
على طول الخط فتكدر العقل ،وسوف تختل بصائرهم بالمعتقدات التي
تناقض بعضها ً
بعضا»( ،((40وأعترف أن هذه هي الحال .ولكن هم أنفسهم
حين يكونون حمقى ومتقلبين وضعفاء يوخزهم الندم ،ومع ذلك يستمرون في
تجربة الملذات ،لذلك علينا أن نعترف أن هؤالء الرجال في هذه المناسبات
يتحررون من كل ألم كما لو كانون يتحررون من العقل الخير ،وكما ُيقبل
الكثيرون منهم وهم يهذون بخبل مبهج ويبتسمون في جنونهم.
ونادرا
ً عمليا ،وهي محصورة
ًّ 2-12وملذات الحكيم على النقيض متواضعة وواهنة
ما تلحظ ،وتأتي من تلقاء أنفسهم ،ورغم أنها تحدث بفطرتها إال أنها ال
تحظى بتقدير كبير أو تجد بهجة عند َمن يختبرونها ،والواقع أن الحكماء
يخلطونها بالملذات ويضعونها في فترات حياتهم بقدر ما قد يلطف العمل
الجاد بلعبة أو مزحة.
( ((40يبدو أن المعترض يقبل أن نومينتانيوس وأبيكوس مثالاً سيئًا ،ولكن ينكر أنهما يوضحان الموقف األبيقوري ،ودحض
سينيكا في السطور اآلتية أنهما يصالن الهدف األبيقوري أو على األقل إلى غاية المتعة ،ويظهران أن هذه متوافقة معهم.
324
ذواتهم نحو اسمه نفسه ،ويسعون إلى الكفيل والحجاب لشهواتهم(.((40
5-12وهكذا يفقدون الشيء الخير الذي صنعوه في أعمالهم الرديئة ،فالعار في
أفعالهم المزرية .واآلن تقول إنهم يثنون على األشياء المخجلة التي اعتادوا
عليها ،ويتفاخرون برذائلهم ،وبالتالي ال ينبعث فيهم حتى الندم حين يضع
أخالقيا على القصور المخزي ،ولهذا السبب ثناؤك للفضيلة خطير،
ًّ طابعا
ً
حيث ُتخفي فيه المفاهيم األخالقية في حين أن ما يستحق يبدو فاسدً ا.
1-13وهذا رأيي ،ورفقائي الرواقيون ليسوا على استعداد لقول ما أقوله ،وهو إذا
اقتربت من تعاليم أبيقور وعقلتها وجدتها مقدسة وحقة ،والحق أن لذته
مقيدة بقدر قليل وضئيل ،وهو يفرض القانون نفسه على اللذة مثلما نفعل
كاف للطبيعة غير ٍ
كاف في الفضيلة ،إنه يأمر اللذة أن تطيع الطبيعة ،وان ما هو ٍ
للترف.
2-13ما المشكلة إذنْ ؟ حين يستعمل لفظ (السعادة) ليشير إلى الراحة الخاملة
وتعاقبات الشره والشهوة ،فإنه يبحث عن سلطة خيرة لشيء رديء ،وحين
يمضي هناك يغر باالسم المبهج والمتعة التي يتبعها والتي ليست هي ما
سمعه ،بل ما جلبه معه ،وبمجرد أن يفكر في رذائله المماثلة لتعاليمه ينغمس
فيها دون خشية أو سرية ،ومن هنا يترف فيها دون خجل .إذنْ ال أقول ما يقوله
رفقائي الرواقيون بأن أبيقور هو معلم الرذيلة ،بل أقول هذا :إنها أسماء مدعية
وسوء سمعة« ،وهو ال يستحقها».
ٍ
امرئ أن يعرف هذا إن لم يقبله في باطنه؟ ويمنح خارجه 3-13ولكن كيف ألي
رخصة لرواية القصص ويحض على احتماالت خبيثة ،وهو مثل رجل شجاع
يتزيا بلباس النساء ،فأنت تثق في احترامك ،وذكورتك غير مخصية ،وجسدك
( ((40كما يعبر يوزنير Usener 1887عن الشذرات في تناوله للنظرية األبيقورية في إشباع الرغبات (frags. 454–84
).Use.
325
ليس عرضة ليعاني أي شيء مشين ،ولكن لديك ُدف في يدك ،لذلك اختر
أخالقيا التي تلهم العقل بيسر بكيفية إدراجها ،فقد اكتُشفت
ًّ التسمية الحسنة
التسمية الموجودة عن طريق الرذيلة.
4-13وكل َمن يقترب من الفضيلة يدلل على طبيعته النبيلة ،ويبدو كل َمن يتبع
سريعا نحو المشين إن لم يبين له امرؤ
ً مكسورا ،ينجذب
ً اللذة ضعي ًفا مخزولاً
الفروق بين الملذات ليعرف الملذات التي في حدود التوق الطبيعي والتي
تتعقب على طولها وليس لها حد ،وهي أكثر قابلي ًة للتحقق كلما زاد إشباعها.
1-14دع الفضيلة تمضي أولاً ،ودع لها معايير تحملها ،ومع هذا سيكون لدينا
لذة ،ولكن سوف نكون أسيا ًدا ومسيطرين عليها ،واللذة تحصل على شيء
منا بطلبه ،فإنها ال تحصل على شيء باإلكراه ،وعلى النقيض الذين حققوا
الموضع األول للذة من دون جمعها بالفضيلة إنهم يفقدون الفضيلة وما هو
أكثر منها ،وهم ال يملكون اللذة بل هي تتملكهم( ،((40وهم يتعذبون ً
أيضا
(407) Epicurus frag. 514 Use. See also Cicero On the Ends of Good and Bad 2.69 = LS 210
( ((40الجملتان األخيرتان تتناقضان مع الكالم المعروف لفيلسوف المتعة أريستيبوس السيريني ،Aristippus of Cyrene
انظر . Diogenes Laertius 2.75
326
بافتقارهم للذة أو خنقها بوفرتها ،ويتعسون إذا هجرتهم وال يزالون تعساء
إذا تجاوزتهم ،كالذين يصيدوا في بحر سيرتيان Syrtian seaيجفون مرة
وتغمرهم األمواج الجارفة في المرة التالية(.((40
2-14وقد يأتي هذا من افتقار مفرط للتحكم في الذات وعمى العاطفة لألمر،
فحين يسعى المرء إلى األشياء الرديئة بدلاً من الخيرة فإنه ُيحف بالخطر
حين يحصل عليها ،كما يحضر الخطر والكد صيدنا للوحوش ،وحتى حين
نصيدهم يجزعنا امتالكهم ألنها تنطح مالكيها ،ولذلك مع ملذاتنا الكبيرة
قد يحدث ضرر عظيم حين تفلت منا ،وحين نصيدهم يصيدوننا ،وكلما زاد
عددها كانت أعظم ،وزاد تضاؤل الرجل الذي يدعوه الحشد سعيدً ا ،وزادت
األشياء التي يستعبدها.
1-15وهو يقول« :ولكن ما الذي يمنع أن ندمج المتعة والفضيلة في شيء واحد؟
وما الذي يمنع من أن يكون الخير األقصى واحدً ا ًّ
مبنيا بالطريقة نفسها،
ٌ
طرف ويجمع الشيء نفسه الخير األخالقي والمتعة؟»؛ ألنه ليس هناك
327
أخالقيا ،وللخير األقصى نقاؤه إن لم تره شيئًا في ذاته
ًّ خيرا
أخالقي ال يكون ً
يختلف عن ما هو أفضل.
3-15وإذا و َّفق امرؤ ما بين الفضيلة واللذة وساوى بينهما في هذا ،فإن هشاشة خير
أحدهما تضعفه مهما كانت القوة في اآلخر ،ويطرح حريته تحت العبودية،
حيث ال تزال منتصر ًة فحسب إذا لم تعترف بشيء آخر يزيد قيمة ذاتها .وألنه
يبدأ من الحاجة إلى الحظ وهو العبودية األعظم للجميع ،والحياة التي تتوالى
مقلقة ومريبة ومخيفة فهي تخشى األحداث وتتعلق على لحظات الزمن
المنصرم.
328
طوعا ً
أيضا ،فهي تعرف دو ًما أنه ال وقت العصيبة هي قانون الطبيعة ،وأن ً
الجندي الحسن سوف يتحمل جروحه ويعتبرها ندو ًبا ،كما أنه يموت طعنًا
بالسهام ،فإنه يحب القائد الذي عشقه ،وهو يضع في االعتبار الحكمة القديمة
«اتبع الرب».
6-15ومن ناحية أخرى كل َمن يشكو وينتحب ويتأوه ُيجبر بالقوة على اتباع
األوامر وهو غير راغب ،ولن ينحو بعيدً ا ليفعل ما يؤمر ،ويا للخبل أن ُيجر
وال يريد( ،((41وأي حماقة من هيروكليس Herculesبل الجهل بحاله ،وأن
تحزن ألنك تفتقر إلى شيء ما أو ألن شيئًا ما قاس ًيا قد يحدث لك ،و ُتفاجأ به
أو تتحمل ما ال يستحق ،إن هذه األشياء تحدث لألخيار واألشرار على حد
سواء ،وأقصد المرض والمآتم وتشوه األجسام وأشياء أخرى تسحق على
غفلة حياة اإلنسان.
7-15إذنْ ألن العالم يتكون ،علينا أن نعاني من شيء ما ،دعونا نأخذه بعقل كبير،
وهذا هو الميثاق الذي أخذناه حينما ُجندنا وهو أن نتحمل األمور الفانية،
وألاَّ نضطرب بأمور ليس بمقدورنا تجنبها ،لقد ولدنا تحت ملك ،والحرية
في طاعة الرب.
وبم تعدك الفضيلة في هذه العجالة؟ بأشياء هائلة تساوي ما هو إلهي ،حيث
َ 2-16
لن ُتجبر على شيء وال تفتقر إليه ،وتكون خال ًيا آمنًا من الضرر ،ولن تحاول
( ((41اللغة قريبة من لغة كليانتس من ترنيمة إلى زيوس وهو يقول تجر األقدار َمن يريد و َمن ال يريد ducunt uolentem fata
،nolentem trahuntوقد ذكر هذا كما الحظت Asmis 2009, 120فى . Letters 107.10–11
329
في أي شيء عب ًثا ولن يمنعك شيء ،وسوف يسير لك كل شيء وف ًقا لتفكيرك،
ولن يظهر شيء يقف في طريقك وال رأيك وال إرادتك.
« 3-16هل الفضيلة كافية للعيش على نحو سعيد؟» ولماذا ليست كافية؟ والحقيقة
مفتقرا في شيء
ً نظرا ألنها كاملة وإلهية؟ فهل ما يمكن أن يكون
أنها فيض ً
يوضع خارج التوق ألي شيء؟ وما االحتياجات الخارجية عند َمن جمع
كل ما لديه في نفسه؟ ولكن المرء الذي يسعى نحو الفضيلة حتى لو قطع
ً
شوطا طويلاً يحتاج إلى هوادة من الحظ في حين ال يزال يناضل وسط األمور
اإلنسانية– حتى يتخلى عن هذه العقدة وكل رباط فان .إذنْ وما الفارق؟ إن
اآلخرين مصفدون ومقيدون أو مربوطون على مخلعة ،في حين َمن يرتفع إلى
األشياء السامية يرتقي بنفسه عال ًيا ،ويجر في سلسلة مرخية ،وليس حر ًّا بل
حرا بالفعل.
كما لو كان ًّ
1-17إذا كان أي من أولئك الذين ينبحون في الفلسفة ،يقول ما يقولونه« :لماذا
تتحدث بشجاعة تزيد على ما تعيشه؟ وكيف تخفض صوتك لشخص في
رتبة أعلى وتعامل المال كمصدر ضروري بالنسبة لك؟»( ((41أأنت تسمح
لنفسك أن تضطرب وتذرف الدموع للفقدان حين تسمع أن صديقك أو
زوجتك ماتت؟ وهل تتطلع إلى سمعتك وتدع نفسك تالمس كلمات
التقوى؟
( ((41هذه تلميحات للتهم الي حاكها سوليوس روفوس عام ،58انظر مقدمتي للرسالة.
330
باهظ الثمن؟ ولماذا تزين منضدة بيتك بالفن الجميل وتطليها بالفضة التي لم
بيدي خبير ،وقد عينت فنا ًنا لنحت لنحت
عشوائيا وعفو ًّيا بل رتبت َ
ًّ توضع
أطباقك الخاصة؟» .وأضف إلى ذلك إن رغبت «لماذا تتملك عبر البحار؟
لماذا تتملك أكثر مما تعيه؟ ولماذا تتجاهل بشكل مشين حتى أنك ال تعرف
عدد عبيدك القلة أو كذلك الترف المشين الذي تملك ذاكراتك منه الكثير
لتحفظ معرفته؟».
3-17وسوف أعين مداهماتك وسألقي باالتهامات على نفسي بأكثر مما تعتقد،
حكيما ،وألغذي مرض اعتالل إرادتك لن
ً لست
ُ وسأرد عليك اآلن ،فأنا
ولست أنا األفضل بل أفضل من األسوأ ،ويكفيني أن أطرح
ُ حكيما،
ً أكون
رذائلي كل يوم وأحاسب نفسي.
4-17ولن أصل إلى عافية طيبة ،ولن أصل بالفعل ،فإنني أدهن المرهم مفضلاً أن
في (النقرس) إذا كانت تقل مناوبته أو تقل حدته ،وقارن هذا مع قدميك
ُيشفى َّ
ووهنك ،فأنا عداء ،وأنا ال أقول هذه األشياء لمصلحة لي (فأنا غارق بعمق
ٍ
امرئ قد يحقق شيئًا. في طرائق الرذائل كلها) ولكن ألجل
1-18أنت تقول« :إنك تتحدث بطريقة وتعيش بطريقة أخرى» ،وقد ُأقيم اتهامك
بالمخلوقات الشريرة العدو الحقيقي لكل َمن هو أفضل ضد أفالطون أبيقور
وزينون( ،((41ولم يقل كل منهم كيف كان يعيش ،بل كيف ينبغي أن يعيش،
أنا أتحدث عن الفضيلة وليس عن نفسي ،وحين ُأداهم الرذائل فإنني ُأهاجم
رذائلي خاصة ،إنني أعيش كما تنبغي قدرتي للعيش.
(414) For Plato as a target of criticism, see especially Athenaeus Deipnosophistae 11.504–9; for
Epicurus, Diogenes Laertius 10.3–8; for Zeno of Citium (ca.
334–262 bce), the first Stoic, Diogenes Laertius 7.33–34. 43. P. Rutilius Rufus (b. ca. 160
bce) and Cato the Younger (95–46); see On Providence 2.9, 3.7, 3.14 with notes.
331
2-18ولن تردعني وقاحتك بسمومها كلها عن األشياء الفضلى ،ولن يعوقني حتى
الغل الذي تسيء به إلى اآلخرين وتقتل به نفوسهم عن االستمرار في الثناء
على الحياة ال أن أعيش أنا؛ ألنني أعرف كيف ُتعاش أو تعوقني عن عبادة
الفضيلة وأركض وراءها من مسافة بعيدة.
3-18هل بمقدوري أن أتوقع صراحة أن البغيضة سوف تترك األشياء كلها ال
تنتهك في حين لم تشغل روتيليوس المقدس أو كاتو( »((41وهل يكترث
فقيرا بما
المرء إذ كان يبدو ثر ًّيا ألناس يالحظون أن ديمتريوس الكلية ليس ً
يكفي؟ واإلنسان المفعم بالحيوية الذي يهزم كل توق طبيعي يجعلهم أفقر
من الكلبيين اآلخرين؛ ألنهم حرموا أنفسهم من امتالك األشياء ،إنه حرم نفسه
فقيرا بما فيه الكفاية! ألنك
من أن يرغب فيهم ،وهذا الرجل كما يقولون ليس ً
ترى أنه لم يزعم معرفة الفضيلة بل الفقر.
((41( Diodorus
الفيلسوف األبيقوري وضع حدًّ ا 1-19يقولون إن ديودورس
لحياته بيده منذ أيام قليلة مضت ،إنه لم يتصرف وف ًقا لتعاليم أبيقور؛ ألنه
قطع رقبته ،والبعض يرغب هذا التصرف ليقال عنه مجنون ،والبعض اآلخر
ليقال عنه متهور ،ولكن ديودوروس كان سعيدً ا وضميره خ ِّي ًرا ،وأعطى شهادة
لنفسه لمفارقة الحياة ،وأثنى على الحياة التي قضاها في الميناء والمرفأ ،وقال
ما أسمعك الناس غير راغبين كما لو كان عليك أن تفعل ذلك ،حيث قال إنني
عشت وفزت بالمسار الذي منحني الحظ إياه.
2-19أنت تجادل حول حياة امرئ وآخرين حول موته ،واستجابة لسمعة هؤالء
الذين يعظمون على حساب العظمة السائدة فإنك تنبح مثل الجراء حين تواجه
( ((41روتيليوس معاصر لسينيكا وصديقه .انظر .On Providence 3.3 with note
( ((41انظر Virgil Aeneid 4.653كلمات ديدو Didoقبل انتحارها ،وقد اقتبس سينيكا هذا في Letters 12.9 and On
.Benefits 5.17.5
332
الغرباء ،وألنه يناسبك األفضل ال أحد يبدو حسنًا ،كما لو كانت فضيلة اآلخر
لوم لكل آثامك ،وتقارن بغيرة عظمتهم بقذارتك ،ولم تفهم كيف خسرت
بجرأتك؛ ألنه إذا كان الذين يتبعون الفضيلة جشعين وشديدي التوق ،فهل
االسم الحقيقي للفضيلة عندك هو الحقد؟
3-19إنك تنكر أن ُتصيب أحدً ا بما يقول أو يعيش على مثال خطابه ،ولماذا هذا
وضخما ومغامرة وراء كل زوابع
ً شجاعا
ً أمر مدهش؟ ومتى يكون ما يقولونه
الوجود اإلنساني؟ ورغم أنهم يحاولون أن تبرح أنفسهم من تقاطعاتهم (في
حين كل منكم يدفع أظافره في تقاطعه) مع أنهم محملون للعقاب وينقطعون
عن مواضع بعينها ،وأنتم َمن يصيب العقاب الذي يمتد إلى تقاطعات عدة بما
لديكم من رغبات ،ومن ثم تألفون بافتراء ومهارة اإلهانات ضد اآلخرين.
كنت اعتقد أنه لديكم الوقت لتفعلوا هذا إذ كان ٌ
بعض منكم ال يبصق أسفل
على المتفرجين من التقاطع(.((41
« 1-20إن الفالسفة ال يصيبون ما يقولونه» ،إنهم يفعلون الكثير مما يقولونه وما
أخالقيا ،وإذا حققوا أشياء تعادل عباراتهم ،فما السعيد
ًّ يتصورونه حسنًا
بالنسبة لهم؟ وفي تلك األثناء ليس هناك سبب لتحقير عباراتهم الحسنة أو
قلوبهم المشحونة باألفكار الحسنة ،وتستحق دراساتهم الثناء حتى لو لم
تحقق غايتهم.
2-20وما الغرابة إذنْ ،وهم يقفون فوق الطريق المنحدر ولم يصلوا إلى القمة؟ ولكن
إن كنت رجلاً فهؤالء َمن يتعهدون أشياء عظيمة حتى لو هبطوا يستحقون
ثناءك ،إنه أمر نبيل أن تحاول في األشياء السامية ،وال تتطلع إلى قوة المرء
( ((41هذه الجملة حيرت المحررين ،وهذه الترجمة من الالتينية إلى اإلنجليزية تقريبية ،والثالث جمل األخيرة استبدلت
(أنت) بشخص ثالث جمع (هم) لتوضيح اإلشارة إلى خصومه.
333
بل قوة الطبيعة ،وتتصور أمور العقل التي تعظم على ما يمكن تحقيقه بنجاح
حتى بالذين وهبوا عظمة العقل الهائلة.
3-20هو الذي يقول لنفسه« :سأرى الموت بالتعبير نفسه حين سمعت عنه ،وسوف
أعرض عملي مهما عظم ،وأحفظ جسدي مع عقلي ،واحتقر الثروة أكانت
حاضرة أم غائبة ،ولن أتجهم إن أقامت في ٍ
أين آخر ،ولن يزيد عزمي إن
انتباها للحظ في مجيئه أو مضيه ،وسوف أنظر
ً لمعت من حولي ،ولن أولي
على كل األرض كأنها لي وكل أرضي للجميع ،وسوف أحيا كما لو أنني
أعلم أني ولدت لآلخرين ،وسوف أقدم الشكر لطبيعة العالم ،فكيف خدمت
أفضل اهتماماتي؟ إنها منحتني ً
امرأ بعينه للجميع ومنحت الجميع لي.
4-20ومهما ملكت لن أمسك بجشع ولن أبذر بتهور ،حيث إنني أعتقد أنني لم
أعطيت حسنًا ،ولن أحسب الفضل وف ًقا لعدده أو وزنه
أمتلك شيئًا أعظم مما ُ
بل وف ًقا لقيمة المتلقي ،أي يتلقاه الشخص الذي يستحقه ،ولن أنظر إلى
الغالي النفيس ،ولن َّ
أعل شيئًا لمصلحة آراء الناس ،بل سأفعل كل شيء وف ًقا
لضميري ،وأ ًّيا ما أفعله بعيدً ا عن ضميري ،فإنني أوقن أنه ُصنع على أعين
الناس.
5-20وسيكون حد طعامي وشرابي لكفاية توقي الطبيعي ،وليس لملء وعاء بطني،
وسأكون لطي ًفا مع أصدقائي وعطو ًفا لينًا مع أعدائي ،وسأظفر قبل أن أطلب،
أخالقي سأصنعه وأركض نحوه ،وسوف أعلم أن ٌّ ٌ
عمل وحين ُيطلب مني
وطني هو العالم وأن األرباب َمن تحميه ،وهي تقف من فوقي ومن حولي
وتراقب أفعالي وكلماتي ،وحين تطلب روحي العودة أو تعطي لعقلي إذ ًنا
للرحيل ،سأرحل شاهدً ا بأنني أحببت ضميري الحسن وتأمالتي الخيرة ،ولن
تحد حرية أحد مني ولن ُتقلص عملي»– إن الذي يعزُ م عمل هذه األشياء
والذي يرغب فعلها ويحاول القيام بها فإنه يتوجه بالسفر نحو األرباب،
334
والحق أنه لو لم يصل إليها المرء لن يفشل؛ ألنه جرؤ على أمور عظيمة(.((41
« 1-21لماذا يدرس هذا الفلسفة ويعيش حياته ثر ًّيا؟ ولماذا يتحدث عن احتقار
الثروة ويمتلكها؟ ولماذا يفكر أن الحياة محتقرة ويعيش ،وأن الصحة محتقرة
ويعتني بنفسه ويفضلها في أحسن حاالتها؟ وهو يعتقد أن المنفى كلمة فارغة
ويقول :ما الضرر في تغيير المناطق؟ ومن ثم هل يمكن أن يقضي شيخوخته
في وطنه؟ وهو يرى أنه ليس هناك فرق بين الزمن األطول واألقصر ،ولكن
إذا لم يكن هناك ما يمنع هذا فهل تمتد حياته ويطعمها بسالم في سن
الشيخوخة؟»(.((41
2-21وهو يقول :إن تلك األشياء ينبغي أن تكون محتقر ًة ،وهو ليس بالتالي ال
يملكها ،بل كذلك لن يمتلكها على نحو قلق ،وهو ال يرفضها لذاتها ،بل
متحررا من القلق ،وأين يمكن للحظ أن يجعل
ً يراها حين ترحل في طريقها
وديعة الثروة أكثر أما ًنا في المكان الذي تلقت فيه دون ضجة ممن ُيعيدها؟
(418) Ovid Metamorphoses 2.328, from the Phaethon episode, a comparison anticipated by the
language at 20.2 above. Compare the similar but more extensive use of Phaethon in On
Providence 5.10–11.
( ((41في الجملتين األخيرتين ربما نالحظ إشارة إلى أعمال سينيكا عزاء إلى هلفيا (فيما يتعلق بالنفي) ،وقصر الحياة.
335
،Coruncaniusوهذا العصر كان يعد فيه امتالك عمالت الفضة القليلة جريمة
مخالفة ،وقد امتلك هو أربعة مليون سيستر ،وبالتأكيد كان أقل من كوريوس
وأكثر من كاتو المراقب المالي ((42( Censorوبعمل مقارنة قد وجد أنه قد
تجاوز سابقه بأكثر ما تجاوزه كراسوس ،Crassusوإن كانت الثروة األعظم
قد وصلت إلى طريقه ،فإنه لم يزدريها.
4-21وال يعتقد الحكيم بأنه ال يستحق أي عطايا عابرة ،فهو ال يحب الثروة ولكنه
يفضلها ،فهو ال يتلقاها في عقله بل في بيته ،وحين يملكها ال يرفضها ،بل
يتعلق بها ويرغب أن تزوده فضيلته بمادة أعظم.
1-22وما الريب هناك وهنا في الثروة فالحكيم لديه مادة أعظم إلعالء عقله أكثر مما
فعل في الفقر؟ ألن النوع الوحيد للفضيلة في الفقر ال ُيردع أو ُيثبط ،في حين
يوجد في الثروة حقل واسع مفتوح للزهد والجود والكد والتدبير والعظمة.
2-22إن الحكيم ال يحتقر نفسه ،حتى لو كان في قامته أقصر ،فإنه يرغب أن يكون
طويلاً ،وسيبقى قو ًّيا حين يعتل جسده أو حين يفقد عينه ومع ذلك يفضل أن
شيء آخر قوي ،وسيحتمل
ٌ يكون له جسد معافى ،رغم أنه يعلم أنه لم يعد فيه
فقيرا ،ولكنه يرغبها جيدة.
صحته كونه ً
( ((42المقصود بكاتو هو ماركوس كاتو وهو كاتو األصغر ،ومن الواضح أنه كان ً
بارزا في اقتصاد القرن الثالث الميالدي في
عهد كوريوس دينتاتوس M. Curius Dentatusوتبيريوس كورونكانيوس ،ولكنه ملك ثروته دون لوم ،وتقع ثروة
كاتو في مكان ما بين الثروة الفاحشة لليكينيوس كراسوس M. Licinius Crassusأحد ممثلي حكومة الثالثة عام 53
ق.م ،وكان بخيلاً ،وجده األكبر هو كاتو األكبر انظر .Cato the Elder, 234–149ولد كاتو سنة 95ق م في روما،
فاهتم
َّ صغيرا،
ً للسياسي الروماني المعروف ماركوس بورسيوس كاتو وزوجته ليفيا دروسا .توفي والداه عندما كان
به خاله ماركوس ليفيوس دروسوس ،إال أنَّ خاله ُسرعَ ان ما قتل اغتيالاً عندما كان في الرابعة .بدأت نزاعات العناد
بالظهور عند كاتو منذ سن مبكرة .فقد كان يصفه مع ّلمه -ساربيدون -بأنه فضولي جدًّ ل ،وهو يقتنع باألشياء ببطء كبير،
سياسيا ُيدعى
ًّ أمرا شديد الصعوبة .تروي قصة من الفيلسوف -اليوناني فلوطرخس بأن بحيث يكون التحكم به أحيا ًنا ً
مازحا من األطفال أن يدعموه في نشاطاته السياسية ،فابتسم
مرة منزل خال كاتو الذي َيرعاه ،فطلب ً كوينتوس سيلو زار َّ
ً
جميعهم وأومؤوا عدا كاتو ،الذي نظر إلى الضيف نظرة متشككة جدًّ ا .عند عدم حصول سيلو على إجابة من الطفل،
أخذه من قدميه وع َّلقه منهما خارج النافذة ،إال أنَّ كاتو َّ
أصر على موقفه ولم يقل شيئًا.
336
3-22إنك في حاجة إلى أن تفهم أن هناك أشياء بعينها حتى لو كانت صغيرة ضمن
المخطط األكبر لألشياء ويمكن أن ُتنزع دون أن تفسد المبدأ الخير ،ومع
ذلك تضيف شيئًا ما للبهجة التي ال تنتهي التي تأتي إلى الوجود من الفضيلة،
والثروة تؤثره وتبهجه مثل الريح المواتية التى تدفع البحار على طول الخط أو
مثل النهار الماتع والمكان المشمس أثناء الشتاء البارد القارص.
وأنت تقول« :لماذا تسخر مني في حين أن الثروة تمثل لك المكانة نفسها التي 5-22
تمثلها لي؟» ،هل تريد أن تعرف كيف تتباين المكانة التي تملكها؟ إذا كانت
الثروة تتدفق بعيدً ا عني ،فإنها لن تأخذ شيئًا سوى ذاتها ،وسوف ُتدهش ،وستبدو
لك أنك تتخلى عن نفسك إذا انحرفت عنك الثروة ،والثروة بالنسبة لي لها مكانة
وبالنسبة لك لها مكانة قصوى ،وباختصار مالي هو لي ومالك هو لك.
1-23ولذلك توقف عن منع الفالسفة من الحصول على الثروة ،فال يحكم أحد
على الحكمة بالفقر ،وقد يكون للفيلسوف ثروة وفيرة وهو ال ينتزعها من
أحد أو يقطرها من دم اآلخرين ،ويتكسب دون ضرر ألحد أو نفعية فاحشة،
أخالقيا ،وال يحزن أحد عليها سوى
ًّ وسيكون خروجها مثل دخولها حسنًا
أخالقيا حتى عندما تكون
ًّ البخيل ،وقلب األمر كما تشاء ،فإن الثروة حسنة
شيء في أن
ٌ هناك أشياء عدة قد يرغب كل امرئ أن يطلبها لنفسه ،فليس هناك
يطلبها المرء لنفسه.
( ((42نوقشت نظرية المحايدات بالتفصيل في .Letters 92.16–26; see also LS 58
337
2-23والحقيقة ،لن يدفع الفيلسوف سخاء الثروة بعيدً ا عنه ،ولن يتباهى ولن
فعليا
شيء ًّ
ٌ أخالقيا ،وهو لديه
ًّ يستحي من ملكية قد اكتسبها بطرق مقبولة
يمكن أن يتباهى به إذا استطاع أن يفتح بيته ويقبل الناس من بين ممتلكاته
ويقول« :دعهم يأخذون كل ما يدركونه» يا له من رجل عظيم! ويا للثروة
في طريقها األفضل إن استطاع أن يقول هذا ،ومن ثم يحتفظ بالمقدار ذاته!
ما أعنيه إن كان يسمح للناس أن ينقبوا في أشيائه وال يفقد منها شيئًا أو يشعر
بالقلق –وإن لم يجد أحدً ا في بيته ما يمكن أن يطلبه -سيكون ثر ًّيا صراحة
وجسارة.
3-23وال يسمح الحكيم لدينار بعينه أن يمر على عتبته إذا كان مكتس ًبا بطريقة غير
مشروعة ،ولكن المرء ذاته الذي توفرت عند الثروة وهبة من الحظ وثمرة
من الفضيلة ال يرفضها أو يأبى الدنو منها ،ولهذا السبب هل يحسد مكانها
الحسن؟ دعها تأتي وتمكث في المنزل ،فهو لن يرميها ولن ُيخفيها ،فاألول
هو فعل لعقل تافه ،واآلخر لعقل بائس ومتردد ،كما لو كان الخير الكبير علق
في جيبه ،وكما قلت ال يرميها خارج بيته.
4-23ولماذا يقول« :إنك غير ُم ْج ٍد» أو «أنا ال أعرف كيف أستعمل الثروة»؟
سيرا على األقدام ،ولكنه يفضل أن َي ْع َ
لق بمقدوره أن ُيكمل الرحلة حتى ً
فقيرا ،ولكنه يتمنى أن يكون ثر ًّيا،
بخارج العربة ،وكذلك بمقدوره أن يكون ً
وهكذا سيمتلك الثروة ويعاملها برفق ليصعد بها ،ولن يسمح أن تكون حملاً
عليه أو على غيره.
5-23إنه سيعطي– فلماذا ُتخرم أذنيك ،فلماذا تفتح جيبك وتستعد؟ إنه سيعطي
للصالحين أو الذين لديهم استعداد للخير ،إنه سوف يعطي منتق ًيا بعناية َمن
يستحق ،حيث يضع في اعتباره أنه عليه أن ينفق بالقدر الذي قد تلقاه(،((42
338
إنه سوف يعطي ألسباب جديرة وحقة؛ ألن العطية الرديئة تعد خسارة مخزية،
وسيفتح جيبه غير المثقوب ،وسيجلب منه الكثير ولن يسقط منه شيء.
1-24إذا اعتقد امرؤ أنه من السهل أن ُتعطي ،فهذا أمر صعب للغاية إذا قدم المرء
منح ًة بدلاً من معونات جزافية واعتباطية ،فلهذا الشخص أسدى فضلاً وأرد له
ما قدمه ،وأنقذ هذا وأحنو على ذاك ،وقد أقدم ألنه يستحق أن يتجنب الحيرة
ويحد الفقر ،وأناس بعينهم لن أعطيهم بغض النظر عن مقدار ما ينقصهم،
حتى لو أعطيت الثروة سيكون هناك نقص ،وآخر من سأقدم لهم ،وسوف
أدوس على آخرين! ال يمكن أن أهمل في هذه المسألة ،فأنا ال أحرص على
ذكر األسماء حين ُأعطي(.((42
339
4-24وليس من سبب لما تسمعه خطأ لما يقال بأخالقية إقدام وبحدة من الذين
يتحمسون للحكمة ،وانتبه لهذا أولاً ،فإن هناك فار ًقا بين َمن يتوق إلى
الحكمة و َمن حازها؛ فاألول يقول لك« :أنا أقول األفضل وال أزال أتمرغ في
أشياء رديئة عدة ،وال يمكنك أن تتبعني ،فأنا أستنهض نفسي في هذه اللحظة
وأشكلها وأرتفع إلى مستوى المثال العالي ،وإذا تقدمت بقدر ما افترضت
لنفسي ،فإنني أتوخى أن تتوافق أفعالي مع كلماتي» ،وأما الذي وصل إلى
مركز الخيرية اإلنسانية فسوف يتعامل معك على نحو مختلف وسيقول لك:
«أولاً ال تسمح لنفسك أن تتجاوز بالحكم على األخيار ،فإن أتحول بالفعل
ما يثيره األشرار» -وهذا دليل على صوابي.
(424)on meditatio in Seneca see Newman, 1988, 1989; Bartsch 2006, 230–81.
موقعا يتردد عليه المتسولون.
( ((42أقدم جسر في روما ،وصار ً
340
على الموت؟ فإنني أفضل هذا البيت المترف على الجسر.
2-25ضعني بين البدع الواضحات والحاشية المترفة ،فلن أصدق نفسي أنني سعيد
ناعما وألن األرجوان مفروش تحت أقدام ضيوفي .وغير
ملبسا ً
ألنني أتزيا ً
تعيسا إن وضعت عنقي المتعب في حفنة تبن ،ولو ارتميت
فراشي ،ولن أكون ً
على وسادة المدرج الروماني المرقعة التي يتسرب الحشو منها ،حسنًا؟ وإنني
أفضل استعراض حالة ذهني وأنا أتزيا بالتوجا والعباءة بدلاً َمن أن تكون
كتفي المسنونة عاري ًة أو نصف مغطاة.
3-25دع أيامي تمضي وفق تضرعي ،ودع جولة البهجة تلو األخرى ،ولن أتعجرف
بسبب هذا ،وحول هذه األوقات المناسبة إلى عكسها ،ودع عقلي ُيغتصب
من كل جهة بالفقدان والحزن والهجمات المختلفة ،وال تدع ساعة دون
نواح ،ولن أقول لهذا السبب بائس وسط الظروف البائسة ،وليس لهذا السبب
ٍ
سألعن اليوم ،ولن ُأسمي يو ًما مررت به (أسود) ،فإنني أفضل أن ُألطف
أفراحي بدلاً من أن ُأقاوم أحزاني».
( ((42ليبر (الموصوف بديونسوس كانت أمه سيميلي Semeleمن طيبة) وكان المبدع األسطوري لموكب النصر .انظر
.Pliny Natural History 7.191
( ((42موضوع النصر الروماني الذي ُيذكر فيها العبد المنتصر “انظر خلفك! وتذكر أنك إنسان!”.
341
5-25وسألقى نظرة على مملكة الثروة برمتها ،ولو منحت فرصة لالختيار سآخذ ما
هو أفضل ،ومهما يكن طريقي سيأتي باألحسن ،ولكني أفضل أن تأتي األشياء
األيسر واألكثر متعة ،واألشياء األقل المشقة في التعامل معها» .وليس من
سبب يجعلك تعتقد أن أي فضيلة تأتي دون جهد ،فبعض الفضائل يحتاج إلى
وخز واآلخر إلى لجم.
6-25وكما أن الجسم يقف على المنحدر ،فعلى المرء أن يواجه هذا الدفع ،وكذلك
بعض الفضائل في حالة انحدار وبعضها اآلخر انحدر ،أو ليس هناك شك أن
هناك تسل ًقا وجهدً ا ونضالاً من أجل التحمل والشجاعة والمثابرة ،فكيف
تواجه الفضائل األخرى األمور الصعبة وتتغلب على الحظ؟
« 1-26وما الفرق بيني واألحمق وبينك والحكيم إذا رغبنا في الحصول على
الثروة؟» ،إنه فارق شاسع ،فأنت ترى أن الثروة في حالة الحكيم هي في
العبودية ،وفي حالة األحمق هي في السيطرة ،وال يعطي الحكيم إجاز ًة للثروة
حيث تمنحك الثروة كل طرق اإلجازات! وتتعود على الثروة وتتعلق بها كما
342
لو أن أحدهم وعدك بملكية أبدية لها ،والحكيم ُيدرب نفسه على الفقر حين
يقف وسط الثروة.
2-26فالقائد ال يأمل السالم وهو ال يعد نفسه لحرب حتى لو لم تندلع وتعلن،
وبعجرفتكم تركتم أنفسكم بال معنى بالمنزل الجميل كما لو كان ال يطوله
انهيار أو ال يحترق ،وبالثروة كما لو كانت قد تسمو فوق كل خطر ،وكما لو
كان يعظم على قوة الحظ أن تفنيها.
4-26يقول سقراط و َمن لهم القدرة والمشاعر نفسها فيما يتعلق بالشؤون اإلنسانية:
«ال يوجد شيء»– «ال شيء قد أقنع به نفسي بشكل كامل أكثر من ألاَّ أحول
سلوك حياتي في اتجاه آرائكم ،أجمع كلماتك المعتادة من كل جانب ،فلن
أظن أنك تهاجمني ،بل األحرى ستبكي مثل األطفال البائسين».
5-26هذا ما سيقوله المرء الذي حقق الحكمة الذي ُعصم عقله من الرذائل ،والذي
يأمره بأن يبكي على اآلخرين ،وال يكرههم بل يقدم لهم دواء ،ولهذا يضيف
اآلتي« :تقييمك لي ال يؤرق جانبي؛ ألنك تكره كل أمل لألحسن ،وأنت
ال تؤذيني ،فليس الذين يحولون المذابح يؤذون األرباب ،ومع ذلك النوايا
السيئة والعزم الرديء بين حتى لو لم يحدث ضرر».
343
6-26إنني أعاني من هالوسك ،كما يتحمل جوبتر العظيم سخافات الشعراء،
فبعض الشعراء وضع لجوبتر أجنحة واآلخر وضع له قرو ًنا ،وبعضهم جعله
ظالما ً
وحشا ضد األرباب ،وبعضهم جعله ً عاهرا وعربيد ليل ،وبعضهم جعله
ً
للبشر ،وبعضهم جعله مغتص ًبا لألحرار وعشيرتهم ،وبعضهم جعله قاتلاً ألبيه
ومنتزعا لعرش اآلخرين بما فيهم أبيه ،هؤالء لم يحققوا شيئًا إذا اعتقد البشر
ً
أن األرباب كذلك ،ويفقدون إحساسهم بالخجل نحو اإلثم.
« 7-26ورغم أن كلماتك ال تؤذيني ،ال أزال أنصحك لصالحك( ،((42فانظر إلى
واعلم أنهم يداومون على
ْ الفضيلة ،وثق في الذين يتبعونها منذ زمن بعيد،
شيء عظيم تظهر عظمته يو ًما بعد يوم ،اعبد الفضيلة ذاتها كما تعبد األرباب،
اعبد الفضيلة بحماس الكهنة ،وحين تذكر الكتابات المقدسة أظهر الفضل
بلسانك ،fauete linguisوال يؤخذ هذا التعبير كما يعتقد معظم الناس من
إظهار الفضل( ،((42بل األحرى من سلطة الصمت ،ولذا ُتودي الطقوس
بشكل صحيح إلى تالشي األصوات الرديئة ،بل بالضرورة أن ترضخ حين
ينطق الكاهن شيئًا ،وأن تركز وتمسك عليك لسانك وأنت تسمع.
8-26ولكن حين يتحشرج امرؤ بكلمات األكاذيب الرسمية ،وحين يمزق الخبير
عضالت ذراعيه وكتفيه برفعة خفيفة ليده ،وحين تزحف امرأة نحو الشارع
على ركبتيها تروي عويلها ،والرجل الكهل يتزيا بالكتان ويقبض على إكليل
الغار والفانوس في وضح النهار ويبكي غاض ًبا من أحد األرباب ،فهرول
واسمع ،وتأكد أنه رباني ُيغذي دهشة بعضه اآلخر.
ْ
1-27انظر! إنه سقراط الذي أعلن من السجن الذي طهره بدخوله ،وصار أكثر
( ((42تستحضر التفاصيل األديان الشرقية المتعددة بما فيها عبادة إيزيس (حشرجة الموت) وسيبيل ( Cybeleتمزق الذات).
(429) in Aristophanes’ Clouds.
344
أخالقي ًة من أي مجلس للسناتو« :ما هذا الجنون ،وأي طبيعة تلك التي تعادي
األرباب والبشر وتشوه الفضائل وتنتهك األمور المقدسة بخطاب الذع؟ ُأثني
على األخيار إن استطعت وإن لم تستطع فال تعقب ،وإن فضلت أن تمارس
حريتك المخزية في الخطاب فهاجم شخص آخر ،فحين توجه جنونك إلى
السماء لن أقول إنك تدنس المقدسات ،بل ضيعت وقتك».
3-27إني أقدم نفسي مثل نتوء وحيد في بحر ضحل ،يجلده الموج من أي حدب
يهيج فيه ،وال يحركونه من مكانه أو يستأصلونه بهجوهم الذي ال نهاية
واصنع هجومك ،فسوف أهزمك
ْ علي َّ
انقض َّ له عبر أزمنة عدة لسبب ما،
بالتحمل ،فالشيء الذي يصطدم بأشياء صلدة ال يمكن التغلب على ممارسة
قوته لضرره ،فأبحث في المستقبل عن بعض األدوات اللينة والنافذة لتتسلح
أمامه.
ٍ
كاف لتنقب عن الصفات الرديئة لآلخرين ،وتطلق وقت
« 4-27ولكن هل لديك ٌ
األحكام على اآلخرين؟ لماذا يعيش هذا الفيلسوف في سخاء؟ ولماذا يتناول
هذا الطعام بأناقة؟ هل تتعقب بثرات الناس حين تكفرها قروح عدة؟ وهذا
كما لو كان المرء يسخر من الشامات والثآليل على األجسام الجميلة ،في
حين يأكله الجرب.
( ((43لتخلي ديمقريطس عن الثروة انظر ،On Providence 6.2وللنظر في الطرف المتشابهة انظر Diogenes Laertius
). 3.3 (Plato), 5.4 (Aristotle), 10.7 (Epicurus
345
5-27اتُّهم أفالطون بالسعي نحو المال ،وأرسطو بتلقيه ،وديموقريطس بتجاهله،
وفايدروس(((43
وأنا وأبيقور باستهالكه ،وتتهمني فيما يتعلق ألكيبياديس
أطلق عليك أسعد الناس– بمجرد أن تكون في موضع حتى لتقلد حتى
رذائلنا!
* * *
( ((43اثنان من تالميذ سقراط الصغار ،حيث اتُّهما بالشذوذ الجنسي ) ،(e.g., Lucian Symposium 39ولمزيد من التهم
التي حيكت ضد سينيكا انظر مقدمتي للرسالة.
346
الربانية
عن العناية َّ
347
348
مقدمة
العنوان والموضوع:
األول الذي
إن العمل المعروف (إلى لوكيلوس عن العناية) ُيشار إليه في المخطوط َّ
ال يزال باق ًيا بعنوان أطول وهو (لماذا تحدث المصائب لألخيار رغم وجود العناية؟)،
ويتجذر هذا العنوان من السؤال الذي نخبر عنه في سطور العمل المفتوحة حيث يسأل
لوكيليوس سينيكا( ،((43ثم يمضي سينيكا في التفسير ( ،)1.1وقد أجاب عن سؤال
صديقه بعمل مطول هو (عن العناية)– وهذا لم يكتب هنا ،وال يوجد دليل على كتابته
مطل ًقا ،أو أنه فعل ذلك ،وال شك أن سينيكا قد أعطى مقومات مذهبه الذي نقرؤه عن
شيشرون في كتاب طبيعة اآللهة ،وهو المصدر الكامل الباقي عن الالهوت ومذهب
نتاج
العناية الرواقي ،وللمذهب األبيقوري المناقض للرواقية ،والذي يرى أن العالم ٌ
للصدفة ،وأن اآللهة ال ُتعنى بالشؤون اإلنسانية(.((43
ويعلن سينيكا أن العمل قد ُكتب بالفعل ،وهو في الحقيقة أقصر المقاالت الكاملة
( ((43قارن العنوان الذي استعمله الكتانتيوس Lactantiusوهو “لماذا تحدث األشياء الرديئة لألخيار رغم وجود العناية”
.Divine Institutes 5.22.11
( ((43عن العناية في التراث الفلسفي القديم وعند سينيكا انظر Dragona-Monachou 1994 (with discussion of
the present work, 4440–42); also Traina 1997, 7–20; Dionigi 1997, 54–70. For Stoic texts, see
SVF II, 1106–86.
349
الباقية( ،((43وهو يتبع مجالاً محد ًدا أصبح معرو ًفا منذ ليبنتز بمسألة ثيوديسيا (العدالة
اإللهية )theodicyوهي كيف أن وجود األشياء الرديئة -أو الشر في االصطالحات
التي أعقبت المسيحية -في العالم يمكن أن تتوافق مع العالم الذي شكلته األلوهية،
وتركز الرسالة على الالهوت وتفسر لماذا هذا العمل من بين النصوص السينيكية
المقتبسة في األدب المسيحي المبكر حتى لو كانت األفكار المسيحية عن الخطيئة
األصلية والحياة األبدية والحكم اإللهي مغايرة للنقاش(.((43
وهناك أثر قد يذكر عند خريسبوس وبعض الرواقيين اآلخرين في تفسير وجود
األشياء الرديئة على مثال المتناقضات الضرورية للخيرات أو المنتوجات الصغرى
للخير األكبر( ،((43ويشير سينيكا إلى مثل هذه الموضوعات في كل كتاباته ،وهو
يلفت في أحد المناقشات على األرباب بأنها «تهمل البشر أحيا ًنا» ،Letters 95.50
ُ
وال يحتفي سينيكا في هذا العمل بشكوى لوكيليوس على اإلطالق التي تنظر إلى
األشياء الرديئة التي تحدث لألخيار ،ولكنه يناقش على نحو مفارق أن األشياء الرديئة
ليست فقط ليست سيئة ،بل هي من أعظم ذخائر العناية اإللهية ،والمشكلة مثل غيرها
من المعضالت التي تعالجها الرواقية ،وهي تختزل لمسألة التعرف الحق على األشياء
القيمة وهي ليست كذلك.
ويضيق نطاق العمل باصطالح آخر وهو (األخيار ،)boniuiriوالتركيز على األخيار
محفزٌ بحقيقة أن األشياء الرديئة ينبغي ألاَّ تحدث لهم من وجهة نظر لوكيلوس ،ولذا
فإن تساؤل لوكيلوس يبدو أنه يعرض ألعظم التناقضات الذاتية الصارخة لمذهب
العناية اإللهية ،أما التساؤل من جانب سينيكا هو فرصة لتفسير تجانس األخيار وسوء
( ((43النظرية غير المقبولة بأن هذا العمل غيركامل ناقشها ورفضها تيرانا Trainaعام .1997
( ((43عن العناية (ورسالة سينيكا في التراث المسيحي) Traina 1997, 13–20; on Augustine in particular,
Dionigi 1997, 51–54, 62–70.
(436) Aulus Gellius Attic Nights 7.1.1–13 (= SVF II, 1170 = LS 54Q); Plutarch On Stoic Contradictions
1050e (= SVF II, 1176).
350
الحظ وعالقته بالمنفعة األخالقية واألبستمولوجية ،وهو كذلك لمن يتحملونه
ويتطلعون إليه.
351
إلى مدى بساطة رؤية اإلمبراطورية الرومانية بتماسكها بالعالم ورؤية اإلمبراطور
ر ًّبا .ورسالة العمل هي تحمل الفاجعة ،والتعامل معها برفضها ،وليس رفض قيمة
المصيبة باعتبارها شر بل بتحويلها إلى خير أو حتى البحث عنه بها ،وبصرف النظر
عن االقتباسين من معاصره ديميتريوس الكلبي ( ،)3.3, 5.5ويناقش سينيكا المصائب
التي عانى منها كاتو واألبطال الجمهوريون اآلخرون ،وكذلك سقراط ،وهذا المجال
الرحب للصور المتباينة للمصيبة ُيكسب العمل شكلاً عا ًّما ،وتتعدد جوانب العزاء.
بنية النقاش:
وصفت رسالة عن العناية بأنها مقتضبة في محتواها وواسعة في مواربتها(،((43
نوعا من الخطاب الدفاعي لما حدده الباحثون فيها من استهالل
وتتضمن الرسالة ً
( )1وسرد ( ،)2وتقسيم المواضيع ( ،)1.3والجدل ( ،)2.6-2.3ونهاية الخطاب
( ،)9-3.6ولكن ُيفاجئ سينيكا القارئ بتحوالت غير متوقعة على الغالب ،فعلى
سبيل المثال بعد اإلعالن في األسطر االفتتاحية أنه لن يكتب عملاً عن العناية ()1.1
فإنه يشرع مباشرة في عمل وصف مهيب حي للحركات التي تشبه القانون في الطبيعة
( )4 -2.1ليستدعي تعجب القارئ ،ويعين المشهد لمنظر أرضي.
وأحجم سينيكا عن تحديد وجهة نظره بتميز إلى أن قدم بعض األفكار العامة التي
تشكل بنية الرسالة ( ،)2.12 -5.1وفوق هذا استعملت األرباب الحب القاسي
«ودافعهم أن يروا العظماء يقاسون من بعض المصائب ( ،)7.2ومثاله الرئيس انتحار
تقييما لداللة ومزايا انتحار كاتو ،وهو يؤكد أن
ً كاتو في أتيكا عام 46ق.م ،وهو يقدم
ومؤخرا يبدو أن سينيكا
ً كاتو فاز بالحرية وأن دور األرباب هو المشاهدة (،)10.2
يستغل الجانب البصري القوي للعناية الربانية وهو البصيرة الالتينية والتي غابت عن
الرؤية اليونانية.
352
إن مخطط سينيكا ( )1.3بمثابة دليل واضح في البداية على األقل ،وهو يقول إنه
سوف يسعى إلى توضيح «كيف أن األشياء الرديئة ليست كذلك» ،ومن الجلي أن
سؤال لوكيليوس ورد سينيكا يتكرران على طول العمل بلغة ال تكف عن التحول،
ويقطع المخطط الموضوع إلى نقاط منفصلة تحدد بالفعل البنية األساسية للرسالة
تقريبا في الفقرات اآلتية (،)2-1.6 ،11-7.5 ،6-3.5 ،2-1.5 ،4.16-2.3
وضوحا كلما تكشف العمل.
ً ومع ذلك أصبحت التحوالت أقل
وتضيف الوحدات واإليقاعات األخرى الشعور باالستمرارية ،وتقدم التناظرات
الوظيفية من األبوية واأللعاب الرياضية والعرض العسكري والمشهد المناقشة
التمهيدية في الفصول من األول والثاني وهي تتواتر و ُترى من زوايا مختلفة .وقد
تتجسد دراسة رموز المصائب في القائمة المتكررة للنماذج األخالقية ،خاصة في
تصاعد التساؤالت الخطابية المتكررة ( )14-5.3والتى فيها يقترن كل فرد بمثال
للسلوك المهين في مجال عام للفعل ذاته أو استعمال جزء الجسم ذاته.
ويقدم سينيكا متحدثين متباينيين للنص في سلسلة مونولوجات متباعدة بشكل
متسا ٍو ،ونسمع الحظ والطبيعة إضافة إلى كاتو وديمتريوس والمحاور (،)14.3 ،3.3
وينجح تضاؤل المخطط الشكلي في الفصول الختامية بخطابين أكثر شمولاً ،األول
من واقعة فايثون Phaethonفى ،Ovid’s Metamorphoses 5.10–11واآلخر في
عرضا كاملاً لأللوهية التي
ً َّ
وشكل الخطاب األخير صوت (الرب) ذاته (،)9-3.6
قد يسمح للقارئ خلسة أن يلقي نظرة على المظاهر المتعددة فيها مثل الطبيعة والحظ
والعناية والقدر والرب ( ،)cf. Natural Questions 2.45.2–3وفي السطور األخيرة
للعمل تماثل قائمة الصور المختلفة المختنقة للرب عناصر الطبيعي األربعة (الماء
والهواء والتراب والنار ،)9.6وهكذا نعود إلى قضية االنتحار بينما نستدعي رسم
مخطط الطبيعة في الفصل األول.
353
المصيبة ومعرفة الذات:
وفي منتصف العمل تما ًما يمثل سينيكا الطبيعة وهو يفسر لماذا جعلت حياة كاتو
حبلى باألشياء المحزنة ( .)14.3ويكمن في عبارة الطبيعة الدرس الرئيس للعمل،
حيث تعتبر األشياء الرديئة حتى لو كانت محزنة ليست فردية في الحقيقة ،والطبيعة
تريد من الكل أن يعرفها ،ويبدو سينيكا في بعض األحيان بأنه يرى أن المصائب
مؤسفة للغاية ( ،)6.6 ،9.5ومن ثم مصائب األخيار متعمدة ،وإرسالها بغية التعلم،
والمدرب الرئيس فيها الرب بمعونة القدر ،فالرب يدرب األخيار «ليكونوا أفضل
ومتميزين بقدر إمكانهم» ( ،)7.2وليصبحوا مثل الرب بقدر ما يسمح لهم.
إن فكرة سينيكا «عن مشهد يستحق النظر إليه من الرب وهو يتفقد مخلوقاته»
موضوعا مركز ًّيا في خطاب التشاؤم المسيحي ،وربما يكون تأثير سينيكا
ً أصبحت
أكثر واقعية على التراث المسيحي (انظر هامش ،)9.2إن رب سينيكا أدنى منزلة من
اإلنسان ،كما يفسر ذاته في الفصل األخير من العمل «الرب أبعد عن معاناة األشياء
الرب بالمصائب ليختبر البشر ()8.4
ُّ الرديئة وأنت فوق معاناتها» ،ولذا حين يبتلي
فإن لديه شيئًا جديدً ا تتعلم منه كيف ترتفع به فوق معاناتها.
ويركز سينيكا بالقدر نفسه على إمكانية أن يتعلم البشر من المصائب ( ،)3.4فإن
محاولة معرفة الذات حتى لو نزلنا إلى اللهيب مثل فايثون ) Phaethon (11.5تبرهن
على إرادة العبد لطاعة الرب و”يعرض نفسه على القدر” ( ،)8.5وهذا هو المعنى
الذي تكون فيه المصيبة في صالح الناس أنفسهم ،حيث تحدث المصيبة وهي فرصة
للفعل وخاصة التفكير بطريقة تتفق مع طبيعة العالم ،ولكن في تفسير المعنى الذي
تكون فيه المصيبة “في مصلحة الجميع” يلمح سينيكا باختصار إلى فكرة الرجال
والنساء األخيار في الحياة الرومانية العامة الذين يمكن أن ينفع كدحهم اآلخرين
درسا ألنهم ولدوا ليكونوا مثالاً (.)3.6
( ،)4-3.5وتركيزه على كيف يعطي األخيار ً
ويقدم سينيكا هذا النهج إلمكان المصائب كجزء من غائية الطبيعة ،وحين يقارن
354
الرجل الشجاع بالبحر الذي يلون كل الماء الذي يدخل إليه ( ،)1.2فإن التشبيه يزيد
تشبيها :حيث يحدد العقل البشري والفضيلة في مشهد أوسع للطبيعة كما
ً عن كونه
يتجلى هذا في كتابه تساؤالت طبيعية ،وهناك دروس جمة يمكن تعلمها كما في
المدرج الروماني وفي التضحية بالحيوان ( ،)8.6 ،8.1ويضع سينيكا كلماته عن
موضحا كيف يمكن لتحول األحداث المحزنة أو الكشف عنها
ً الغائية الطبيعة مواربة
فرصة سانحة لمعرفة الذات مثل المعرفة التي اكتسبها كاتو وفايثون على حد سواء.
355
:لمزيد من القراءة
Dragona-Monachou, Myrto. 1994. “Divine Providence in the
Philosophy of the Empire.” Aufstieg und Niedergang der römischenWelt
2.36.7:4417–90.
Setaioli, Aldo. 2007. “Seneca and the Divine: Stoic Tradition and
Personal Developments. ”International Journal of the Classical
Tradition 13:333–68.
356
لقد سألتني يا لوكيليوس ما الحجة إذا كان العالم محكو ًما بالعناية وأن تحدث 1-1
أمور مكروهة للصالحين ،وكان من الحري اإلجابة على هذا في سياق العمل
ٌ
الذي بره َّنا فيه أن األرباب في محيطنا ،وأن العناية مسؤولة عن كل شيء على
يسيرا من العمل كله ،وتسوي خال ًفا
ً جزءا
ً اإلطالق ،وطالما تريد أن تقتطع
واحدً ا وتتخلى عن الحوار العريض الذي قدمناه ،فإنني سأقوم بشيء هين
وهو أنني سأدافع عن قضية األرباب.
ومن التزيد في الوضع الراهن أن ُتظهر أن عملاً بمثل هذا العظم ال يوجد دون 2-1
معا وتتحرك في هذا االتجاه
نوع من الحماية ،وأن األجرام السماوية ال تجتمع ً
محل للفوضى ويصدم ٌّ بدافع الصدفة ،واألشياء التي تدفعها الصدفة غال ًبا
بعضا ،في حين تستمر هذه الحركة السريعة دون اصطدام ماثلة لقانون بعضها ً
أبدي ،وهي تحمل معها أشياء البر والبحر على طول الخط ،ولذلك تشع
األنوار وتتجلى وف ًقا لتدبير بعينه( ،((44ومن التزيد ً
أيضا أن تبين أن هذا النظام
عشوائيا ،وأن أشياء الصدفة ال يمكن التعبير عنها
ًّ منتوجا لمادة تتحرك
ً ليس
بدقة سوى أنها نتيجة لذلك ،فيمكث وزن األرض الهائل دون حركة ،وترى
وتصب البحار في الوديان فتلطف األرض
ُّ السماوات المتسعة تطير حولها،
وال ُتفيضها األنهار ،فقد ُتولد األشياء الكبيرة من بذور صغيرة للغاية.
( ((44يذكر سينيكا هنا ما ال يذكره في مادية تساؤالت طبيعية ). Natural Questions (e.g., 1.pref.15
357
وحتى تلك األشياء التي تبدو غير منتظمة وغير محتلمة ،أعني المطر والسحب 3-1
والصواعق الرعدية المنيرة ،والنيران التي تتفجر من قمم الجبال المكفورة
والرواسي الهامدة والمضطرمة ،وغيرها من أشياء تزعزع أطراف العالم
التي في حركة حول األرض -وال حتى تلك األشياء التي تحدث فجأة دون
سبب وفيها أسبابها التي تخص حدوثها ،فهي ال تقل عن األشياء في األماكن
الغريبة التي قد ُتعجب بالنظر إليها مثل المياه الدافئة بين المد واألرخبيالت
)•( archipelagosالمواخرة في البحر المفتوح الشاسع.
وإذا راقب امرؤ الشواطئ التي أفرزها البحر بانحساره وغمرها بعد وقت 4-1
وجيز ،فإنه سوف يؤمن بأن األمواج هي الموجود األول الذي جذبهما
معا ،وفي باطنها بعض االضطراب غير المرئي ،ومن ثم هي القوة الحاشدة
ً
والمحطمة الستعادة مواضع الشواطئ ،والحقيقة رغم هذا تتصاعد األمواج
تناسبيا بالساعات واأليام ،فهي تارة هادئة وأخرى مائجة وف ًقا لما
ًّ وتنخفض
يقدره نجم القمر الذي يتحكم في موجة المحيط ،وهذه األشياء آمنة حدوثها،
ً
شكوكا حول العناية بل ستتنصل من الشكوى منها. ولن تثير
ٍ
ألناس فاضلين ،إنك في حاجة إلى أن سأصالحك مع األرباب؛ فهم األفضل 5-1
تعرف أن طبيعة العالم ال تسمح بضرر األشياء الخيرة على اإلطالق ،فهناك
صداقة بين األخيار واألرباب ممهورة بالفضيلة ،هل أتحدث عن الصداقة؟
ح ًّقا هناك قرابة وتشابه بينهما؛ ألن التباين الوحيد بين األخيار والرب هو
الزمن ،فالخير تلميذ الرب ومحاكيه( ((44ونسله الحق ،والوالد النبيل يضع
مطالب قاسية على فضائله ،فماذا يصنع اآلباء المجحفون!
358
ولذا حين ترى األخيار قد فضلوا َس ْعي األرباب وكدهم ،وسلكوا الدرب 6-1
الوعر للقمة ،وانغمس األشرار في الملذات ،فينبغي أن تفكر في هذا :في أن
أبناءنا يبتهجون بالهدوء ،وعبيد المنزل ((44( home-born slavesبالجواز،
فاألبناء ُيكبحون بمزيد من تهذيب صارم ،في حين رضع العبيد من الوقاحة،
جليا لك في حالة الرب ،فإنه يعامل َ
الخ ّير والشيء نفسه ينبغي أن يكون ًّ
كمحبوبه فيجتبيه ويقسو عليه ليصطفيه لنفسه(.((44
وال أقصد أنه ال يشعر بالمحن ،بل أقصد أنه يهزمها ،ورغم هذا حين ُيشن 2-2
هجوم قد يهدأ ويسكن ويقابله في بعض األوقات ،ويشكر الملمات كما
ٌ عليه
أخالقيا،
ًّ اختبارا ،أليس اإلنسان إنسا ًنا طالما وازن بين الصالحات
ً لو كانت
وليس توا ًقا لعمل ساذج ،ومتأه ًبا لتولي الواجبات في الخطر المحدق؟
وأليس َمن يفعل وف ًقا لضميره ال يجد الهالك عقا ًبا؟
ونرى الرياضيين الذين يهتمون بقوتهم ينخرطون في قتال أقوى رجال 3-2
يجدونهم ويطلبون منهم العون في تجهيزهم للمنافسة ،ويستخدمون أضعف
( ((44كان يعامل عبيد المنزل بشكل أفضل من العبيد اآلخرين ،ويقلون عن األطفال األحرار ،وعادة كان يطلق عليهم رقيق
للتلطيف.
( ((44قد يفيد ذلك معنى االصطفاء في الفكر اإلسالمي كما ورد في القرآن العظيم وهو يخاطب سيدنا موسى عليه السالم:
“واصطنعتك لنفسي” ،وقال البخاري عند تفسيرها :حدثنا الصلت بن محمد ،حدثنا مهدي بن ميمون ،حدثنا محمد
ابن سيرين عن أبي هريرة ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال« :التقى آدم وموسى ،فقال موسى :أنت الذي أشقيت
الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم :وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه ،وأنزل عليك التوراة؟ قال:
آدم موسى”( .المترجم).
فحاج ُ
َّ علي قبل أن يخلقني؟ قال :نعم.
نعم .قال :فوجدته قد كتب َّ
359
قواهم ضدهم ،ويسمحون ألنفسهم بأن يسحقوا ويطرحوا ً
أرضا ،وإن لم
يعثروا على خصم واحد مكافئ يبارون أنفسهم في بعض األحيان.
من بدون المحنة تضيع الرجولة فقد ُيرى مقدارها وقوتها فحسب حين 4-2
صمودها ،والصالحين على الشاكلة نفسها ال يتراجعوا في الملمات والشدائد،
وال يشكون القدر ومهما يحدث يبحثون عن الخير فيه ،أو يحولونه للخير،
فهم ال يكيلون التهم للقدر ،بل يواجهونه.
ألم تر كيف يراعي اآلباء أطفالهم من جانب واألمهات من جانب آخر؟ 5-2
مبكرا ليواصلوا درسهم ،وال يسمحون
ً فاآلباء يأمرون أطفالهم باالستيقاظ
دموعا ،في حين
ً لهم بالتراخي حتى في أيام العطل حتى يتصببون عر ًقا وأحيا ًنا
تدللهم األمهات وتتمنى أن تحجبهم عن الناس ،فال يواجهون الشقاء ،وال
يدمعون ،وال يكدحون.
وموقف الرب من الصالحين مثل موقف األب ،إنه يمنحهم الحب القاسي 6-2
قائلاً “ :دعهم ينكبون في األعمال واآلالم والضياع حتى يصبحوا أقوياء ح ًّقا،
فالحيوانات السمينة خاملة وجامدة ،وال تخر قواها حين تكرسها للعمل
فحسب ،بل تعبأ بحمل وزنها ،والحظ الحسن الذي ال يعرف عمق الجرح
ال يمكن أن يطيق أبسط خدش ،وإن استمر المرء في المعركة بسوء حظه
سوءا ،وباألحرى إذا سقط فإنه ً
سميكا ،ولن يجني ً فإن جروحه ستمنحه جلدً ا
سيقاتل حتى ولو على ركبتيه(.((44
أخيارا ويخصهم
ً جما ويريدهم
حبا ًّ
هل تندهش إن كان الرب يحب الصالحين ًّ 7-2
ً
مندهشا إن كانت األرباب لديها دافع بالثروة لممارسة نقيضها؟ فأنا لست
لمشاهدة العظماء وهم يصارعون بعض المصائب.
360
ً
وحوشا تدنو منه شاب بثبات عقله
ٌّ إننا نشعر بالسعادة أحيا ًنا إذا اعترض 8-2
برمحه أو صمد أمام هجوم أسد دون ُيبدي خو ًفا ،وهذا المشهد يسعدنا
عظيما إن اكتمل ،ومثل هذه الطفولية والترف التافه للبشر
ً جميعا وسيكون
ً
ليس كاف ًيا لجذب انتباه األرباب.
وهنا مشهد جدير بأن ينظر إليه الرب( ((44بما أنه يتفقد خلقه ،وهنا يشاهد 9-2
الرب حيث يباري الرجل الشجاع سوء الحظ ،خاصة إذا نبع التحدي من
أر ما على أرض جوبيتر Jupiterقد يكون أكثر جمالاً
ذاته ،ما أقوله إنني لم َ
إذا رغب في أن يحول انتباهه إليها أكثر من نظرة حزب كاتو ((44( Catoالتي
ُدمرت أكثر من مرة ،ومع ذلك كان ثابتًا وسط الخراب العام.
10-2وكما يقول كاتو“ :ربما خضع العالم برمته لسلطة رجل واحد ،وحرست
البالد بالفيالق والبحار باألساطيل والبوابات بجنود القيصر ،ولكن كان لكاتو
طاهرا ونظي ًفا
ً واسعا للحرية ،وهو السيف الذي بقي
ً مخرج ،أي صنع طري ًقا
( ((44لرؤية صدى هذا في المسيحية انظر على سبيل المثال Minucius Felix Octavius 37.1وهو يقول« :أجمل مشهد
يشاهده الرب حين يقبل المسيحي على القتال وهو مشحون باأللم” وانظر ً
أيضا Lactantius On the Deaths of
. the Persecutors 16.6–7
( ((44كاتو األصغر ( )95–46 bceالذي انتحر في أتيكا ،ولذلك لُقب كاتو أوتيسنسيس Cato Uticensisبعد هزيمة بومبي،
وتقدم قوات يوليوس قيصر .وقد استعمل سينيكا اسم كاتو هنا وفي مواضع أخرى ،انظر
;Isnardi Parenti 2000; Hutchinson 1993, 273–79; Griffin 1992, esp. 190–94; Abel 1967, 111–13
and in the tradition more generally, Goar 1987.
ً
محافظا متشد ًدا رواقيا ،وكان
ًّ مـاركـوس پـورسيـوس كاتــو األصغـر(46 – 95( ق.م .حفيد كاتو الكبير وكان فيلسو ًفا
قسطورا أي موظ ًفا إدار ًّيا ًّ
ماليا ،وساعد على ً في السياسة ،واعتبر المبادئ أكثر أهمية من المساومة ،وصار في 65ق.م.
إصالح الخزانة ،وساند بصفته تريبيونا (المدافع عن حقوق العامة ومصالحها) شيشرون ضد كاتلين ،وعارض الثالوث
بريتورا (قاض ًيا عند الرومان) وساند كاتو بومبي في صراعه مع يوليوس قيصر .حين بلغته ً األول الحاكم ،وصار كاتو
هزيمة بومبي في فيرسالوس عام 48ق.م .هرب إلى شمالي إفريقيا ،تولى هناك مسؤولية الدفاع عن أوتيكا ،وبعد
هزيمة قوات بومبي في شايسوس عام 46ق.م ،انتحر كاتو بطعن نفسه .صار بطلاً للذين يعظمون الجمهورية الرومانية
اآلفلة.انظر Badian, E. ‹M. Porcius Cato and the Annexation and Earlyونظر وعارض الثالوث األول
الحاكم.س قيصر وقد استعمل سينكا اسم كاتو هنا وفى مواضع أخرى انظر Administration of Cyprus› JRS 55
( (1965): 110-121المترجم).
361
حتى في الحروب األهلية ،فإن تحقيق األعمال النبيلة والخيرة هو ما منح
لكاتو الحرية التي لم يكن بمقدوره أن يمنحها لوطنه ،وقد وقف عقلي حول
كثيرا ،وحول خروجك عن هموم اإلنسان ،وح ًّقا قتل
المهمة التي بحثتُها فيها ً
بيتريوس Petreiusوجوبا Jubaبعضهم بعض ،وامتد الذبح بأيدي اآلخرين
بجرأة وميثاق الموت الباهر( ،((44ولكن هذا ال يتناسب مع عظمتنا ،ومن
المشين لكاتو أن يسعى إلى موته من آخر ،وكان عليه أن يسعى للحياة.
11-2ومن الواضح أن األرباب شاهدت مرح هذا الرجل محرر النفس بقسوة
طبقه على نفسه في
والذي منح اآلخرين فكرة الرحيل السهل البسيط ،ثم َّ
نهاية المطاف( ،((44فغرس سيفه في صدره المقدس ،فمزق أحشاءه ،ومد
يده ليخرج روحه التي هي أشرف من تلطخ بشفرة.
حاسما
ً 12-2وبمقدوري أن أصدق بأن هذا هو السبب في أن جرحه لم يكن
ليقتله( .((44وألن األرباب ال يموتون ،لم يكن كافيًا أن ترى كاتو يستعيد
فضيلته حينها ،ويظهر ذاته في دور التحدي األعظم ،وبعد ذلك ال يأخذ
تفكيرا عمي ًقا كي يسعى إليه مرة أخرى ،ولماذا لم يشاهد
ً الدخول في الموت
األرباب ذريتهم وهي تهرب من نفس المخرج الظاهر؟ إن الموت يكرس
ممن يخافون منه.
هؤالء الناس الذين خرجوا ليحصدوا ثناء حتى َّ
وسوف يظهر في سياق مناقشتي أن األشياء التي بدت سيئة ليست كذلك، 1-3
واآلن أقول أولاً إن تلك األشياء التي تسمونها قاسية وتدعون أنها محنة
وتثير االشمئزاز كانت في مصلحة الرجال أنفسهم الذين حدثت لهم تلك
( ((44بيتريوس قائد قوات بومبي ،وجوبا ملك نوميديان Numidianالذي حارب مع بومبي ،وقتل كل منهما اآلخر بعد
معركة تابسوس Thapsusفي 46م بعد أن انتابهم اليأس.
( ((44يفترض أن كاتو قد قرأ محاورة أفالطون عن النفس وهي محاورة فيدون ،وقد أشار سينيكا في مواضع أخرى في
Letters 24.6إلى أنه قرأ كتاب أفالطون.
( ((44كان جرح كاتو في البداية بخنجر أو سيف وقد خيطه ،وقيل إنه فتحه بيده.
362
المحنة ،وثان ًيا هي في مصلحة المجموع؛ ألن األرباب تهتم أكثر باألفراد أو
المجموع ،وإن ما حدث لهؤالء كان سيحدث سواء أكانوا على استعداد له
أم ال؛ ألن هؤالء جديرون بالشر ،وأضف إلى هذه النقاط أن هذه األشياء ُتبلى
وتدبر مثل عمل القدر ،وتقبل على الصالحين بالقانون نفسه بما أنهم أناس
صالحون ،ومن ثم سوف أقنع بأنك لم تشعر بالرحمة تجاه رجل صالح ،نعم
يمكن أن يطلق عليه رحيم ،ولكنه ال يمكن أن يكون كذلك(.((45
ومن كل األشياء التي قد افترضتها يبدو أن ما قلته أولاً هو األصعب ،حيث 2-3
إن األشياء التي نرتعد منها ونرتجف هي في مصلحة البشر الذين تقع عليهم،
وأنت تسأل هل من مصلحة البشر أن ينفوا أو يفقروا ليقودوا أطفالهم
ً
مندهشا من أن وزوجاتهم للدفن أو إلحاق العار بهم أو التشويه؟ إن كنت
هذه األشياء في مصلحة المرء ،فإنك ستندهش أن بعض الناس قد ُيعالجون
تأملت بنفسك كيف أن بعض
َ بالنار والنصل والجوع والعطش ،ولكن إذا
الناس ألسباب عالجية ينزعون عظامهم وينتقون منها ويستخرجون عروقهم
ويبترون أطرا ًفا بعينها ال يمكن اإلبقاء عليها متصلة إال بقتل الجسد كله،
ِّ
وسل ْم بأن هذا برها ًنا يقنعك بأن العسر عينه في مصلحة من يقع عليهم ،كما
هو الحال في هرقل حين يقول إن هناك أشياء بعينها ُيثنى عليها و ُيسعى إليها
والسكر وغيرها من
َّ بعد أن كانت ضد مصلحة َمن فرحوا بها مثل األعياد
األشياء التي تقتل باللذة.
“سمعت
ُ ومن بين أقوال ديمتريوس ((45( Demetriusالجمة العظيمة ،قوله: 3-3
( ((45هذه الموضوعات أكثر تواف ًقا أو أقل لما هو ٍ
آت 3.2–4.16 (in the men’s interest); 5.1–5.2 (in everyone’s
interest); 5.3–6 (the men are willing); 5.7–11 (these things are fated); and 6.1–2 (they are not
in fact unhappy).
( ((45ديمتريوس فيلسوف كلبي نفاه نيرونن وأعاده فيسباسيان ،وغال ًبا ُذكر في أعمال سينيكا األخيرة على سبيل المثال كتاب
عن اإلحسان ) (e.g., On Benefits 7.1.3–2.1وكما ذكره المؤرخون والفالسفة مثل أبكتيتوس ولوسيان.
363
مؤخرا كال ًما وال يزال يطن صداه في أذني :ال شيء يبدو لي أكثر تعاسة من
ً
شخص ال يقع عليه مكروه أو محنة”؛ ألنه ال يسمح باختبار نفسه ،رغم
أن كل شيء يفيض عليه وف ًقا لرغبته ،أو حتى قبل أن يرغب فيه ،وال تزال
مريرا؛ ألنه غير جدير حتى بهزيمة الحظ الذي يتقهقر
حكما ً
ً األرباب توجه له
حتى من أي رجل جبان ،كما لو أن الحظ يقول :ماذا؟ هل أعتبر هذا اإلنسان
خصما لي؟ وسيخمد أسلحته على الفور ،فأنا ال أحتاج إلى كل قوتي ضده،
ً
إلي ،دعوناإنه سيهرب بمجرد اإلشارة إليه ،حتى أنه ال يستطيع أن ينظر َّ
نكشف عن شخص آخر يمكن أن نقاتله ،فإنني أخجل من أن أقاتل إنسا ًنا
استعداد لالنتصار!”.
ٌ لديه
تعسا حين قبض على نيران العدو بيده اليمنى ،وحدد هل كان موسيوس(((45
ً 5-3
( ((45تتكرر القائمة في الرسائل Letters 98.12–13وفي مواضع أخرى مع إدخال تغييرات طفيفة على وظائفها وتبدالتها
انظر .Mayer 2008, 304–6
( ((45أو كما يقولون إن المثال العظيم يولد من رحم المعاناة ،أو كما كتب كاتب إيطالي عن طه حسين قائلاً « :إن الفقر ال
والمعاناة تلد أبطالاً »( .المترجم).
ُ ينجب إال رجالاً
( ((45موسيوس سيفوال Q. Mucius Scaevolaأو صاحب اليد اليسرى هو بطل روما في العصر المبكر ،قبض عليه
بعد محاوالت لقتل الرس بورسينا Lars Porsenaملك كلوسيوم Clusiumالذي كان يحاصر روما ،وقد وضع
موسيوس يده في النار إلظهار الال مباالة بإدانته بالموت ،وأطلق الملك سراحه.
364
عقابه على خطئه هذا ،ألنه بحرق يده و َّلى هار ًبا من الملك حيث لم يقدر
على حمل السالح؟ أليس هذا حسنًا؟ هل سيكون أوفر سعاد ًة لو أدفأ يده في
حضن عشيقته؟
تعسا ألن َمن أدانوه أرادوا أن يرفعوا قضيتهم لكل هل كان روتيليوس(((45
ً 7-3
األجيال؟ أو ألنه استقبل طرده من وطنه بعقل هادئ أكثر من رحيل منفاه منه؟
أو ألنه رفض الدكتاتور سوال حين استدعاه للعودة؟ وحينها قال“ :الذين
يريدون سعادتك استولوا على روما ،دعهم يروا كثرة الدم في الميدان ،ورؤساء
مجلس الشيوخ على بحيرة سيرفيليان Servilianحيث مخزون غنائم سوال
هناك ،ويجوب السفاحون أنحاء المدينة ،ويذبح آالف المواطنين الرومان في
مكان واحد حتى بعد أن أعطوا األمان ،في الحقيقة أثناء تقديم األمان لهم ،دع
( ((45فابريكيوس لوسينيوس C. Fabricius Luscinusقبل القرن الثالث الميالدي ،وقد قاوم محاوالت الملك بيرريوس
إلرشائه أثناء الحرب وقد عرف عنه أن عاش في الفقر على مزرعته.
( ((45إشارة إلى البحرين اإلدرياتيكي والتيراني للشرق والغرب اإليطالي.
رواقيا؛ ألنه تلميذ بانيتوس ،Panaetiusونفي في 92بتهمة
ًّ ( ((45روتيليوس روفوس (توفي160م) وهو رجل دولة وكان
فساد خطابه الدفاعي الذي كان على غرار دفاع سقراط ،ورفض دعوة سوال للعودة إلى روما.
365
َمن ال يقدرون على المنفى يرون هذه األشياء”(.((45
ٌ
محظوظ ألنه حين يذهب إلى الميدان هل هذا حسنٌ؟ وهل لوكيوس سوال 8-3
يطهر بالسيف ،وألنه يسمح بأن تعرض عليه رؤوس القناصل السابقين ،وربح
المجزرة التي أعد لها القسطور والسجالت العامة؟ كل هذا حدث ألن هناك
فردًا واحدًا قد تخطى قانون كورنيليان(.((45
وهذا يقودنا إلى ريجيليوس( ((46إلى أن نتساءل ما الضرر الذي ألحقه الحظ 9-3
درسا في الثقة والتحمل؟ لقد تخرم جلده باألظافر وحنى
به حين صنع منه ً
اتجاه جسده المنهك منكفأ على الجرح ،وعقدت عيناه مفتوحتين في يقظة ال
نهاية لها ،وكلما اشتد عذابه عظم مجده ،هل تريد أن تعرف كيف أن القليل
الذي تأسف عليه قد قيم فضيلته بهذا السعر؟ وهو يفكه ويرسله إلى مجلس
الشيوخ وهو يعبر عن الرأي نفسه.
10-3هل تعتقد أن مايسيناس Maecenasسعيدٌ (((46؟ إنه كان مهمو ًما بحب
استِ ْنكاف زوجته النكدية اليومي ،ويحاول أن ينام على انسجام
أعماله ،وينوح ْ
عزف الموسيقيين الذي يتردد صداه بلطف من بعيد ،ومع ذلك ُيهدئ من
نفسه بنبيذ غير مخفف ،وربما يستعمل رذاذ الماء ليصرف أفكاره القلقة التي
يضللها بألف من الملذات ،ويرقد على سريره الناعم في يقظة رحبة كما يرقد
دكتاتورا حكم على آالف الرومان باإلعدام والنفي ،انظر )،(cf. Plutarch Sulla 31ً ( ((45بعد أن صار كورنيليوس سوال
وعلق الرؤوس في الكوس سيرويليوس وهي تقع بعد الميدان الروماني غرب باسيليكا إيوليا.
( ((45قانون lex Cornelia de sicariis et ueneficiisهو قانون القتل والتسميم الذي قدمه كورنيليوس وهو سوال في
81ق.م.
( ((46أتيليوس ريجيوليوس M. Atilius Regulusقائد في الحرب البونية األولى فى ،250وهو أسير القرطاجيين ،وقد
أرسل إلى روما للتفاوض على شروط السالم ،ولكنه أخبر الرومانيين أن يواصلوا الحرب ،وأصر على أن يعود إلى
قرطاجة ،وعُ ذب بفتح جفون عينيه المخيطة حتى الموت.
( ((46ماسينياس C. Maecenasهو الراعي الرئيس للفنون في عصر أوغسطس ،وكان سينيكا يشير إلى كتاباته المنمقة،
وحياته المترفة ،فضلاً عن حياته المثيرة مع زوجته تيرنتيا.
366
ريجيوليوس على العشب ،ولكن ريجيوليوس آسى في تحمل الشقاء من
أخالقيا ،وهو يتطلع إلى أبعد مما تسببه معاناته ،في حين
ًّ أجل ما هو خير
ضعف ماسينياس من الملذات وتعب من السعادة المفرطة ،وقل كدره من
األمور التي يعانيها أكثر من سبب معاناته.
11-3وال تأخذ الرذائل ما يملكه جنس البشر لمثل هذا المدى الذي يشك فيما علق
بها ويمنح الخيار للقدر ،وتتمنى أن تولد ريجيوليوسيا أفضل من أن تولد
ماسينياسيا ،أو أن يجسر أ ًّيا كان على قول إنه يفضل أن يولد ماسينياس وألاَّ
يولد ريجيوليوس ،وحتى لو لم يقل الشخص نفسه ذلك سيفضل أن يولد
تيرنتيا .((46( Terentia
كمن ُي ِّ
قدم لهم النبيذ في كأس مرصع بالجواهر ،أو 13-3وينبغي أن نحسده َ
العبيد من جنس الذكور الذين تربوا على تحمل األمور كلها ،والذين ُنزعت
منهم الرجولة أو الغامض الذي يذوب الثلج الطافي في كأس من الذهب،
وسوف يتقيأون ما شربوه ليقاوموا إعادة تذوق إفرازاتهم الصفراوية ،ولكن
سقراط( ((46تجرع السم بهدوء وسكينة.
14-3ويكفي ما قلنا عن كاتو حيث يتفق البشر جميعهم في االعتراف بأن السعادة
جلها قد حيزت له ،وقد اختارت طبيعة العالم أن تصطدم باألشياء التي
367
هي موضوع للخوف“ ،وعداوة األقوياء موجعة ،فقد تركته الطبيعة يثبت
في معارضة بومبي Pompeyوالقيصر وكراسوس( ((46في آن واحد ،ومن
المجحف أن يتم تجاوزه في المنصب السياسي من قبل أسوأ أنواع البشر،
وتركته يحل بعد فاتينيوس( ((46في المنزلة ،ومن الفاجع أن يشارك في
ٍ
وجيهة بقرار متساو الحروب األهلية ،التي تركته جند ًّيا حول العالم لعلة
ونقص للحظ الحسن ،ومن المجحف أن يبسط يديه على نفسه حيث تركته
يفعل هذا ،فما الذي ابتغاه من هذه األشياء؟ ربما يعرف الجميع أن هذه
شرا ،وبعد ذلك أعتقد أن كاتو يستحقها”.
األشياء ليست ًّ
وقد يبلغ الرخاء كل الناس حتى العقول التي ال تستحق ،ولكن قهر المصيبة 1-4
والهلع من الفانيين ينفرد به الرجل العظيم ،والحقيقة هي أن الموجود السعيد
دو ًما والمتجاوز للحياة دون عقل متحدٍّ ال يعرف الطرف اآلخر لطبيعة العالم.
وأنت رجل عظيم ،ولكن كيف أعرف ،إن لم يعطك الحظ فرصة لتظهر 2-4
الفضيلة؟! لقد ذهبت إلى األلعاب األولمبية ،وذهب الكل لك ،وقد بلغت
التتويج لنصر لم تحرزه ،ولم أبارك لك بما أنك رجل شجاع ،ولكن بما أنك
قنصل أو ٍ
قاض ،praetorshipفتعاظمك هو من الشرف الممنوح لك.
وبمقدوري أن أقول الشيء نفسه حتى لرجل خير إذا لم يعطه عسر الحدث 3-4
الفرصة إلظهار قوة عقله“ ،فإنني أحكم بأنك جدير بالشفقة وأنت غير جدير
بها إطال ًقا؛ ألنك قضيت الحياة بال محنة ،وال يعرف أحد ما تقدر عليه وال
اختبارا ،وال يفض المرء بما يقدر
ً حتى أنت نفسك” ،فمعرفة الذات تتطلب
عليه إال بالمحاولة ،ولهذا السبب هناك أناس يتباطؤون حين تقبل نحوهم
368
عفوا في طريقها ،وحين تماثلهم فضيلتهم
األمور الرديئة ،ويجدون أنفسهم ً
فإنها تسير نحو الغموض ،وتسعى نحو فرصة لتسطع فصاعدً ا.
( ((46ما وضعه تيبيريوس ال يقارن بأغسطس .راجع ).(cf. Suetonius Tiberius 47
( ((46ينتقل سينيكا من (لك) المفرد إلى (لكم) الجمع.
369
األرباب الخالدون في عقولنا مثل النتوءات ،فالفاجعة فرصة للفضيلة ،و َمن
تقع عليهم يستحقون أن يطلق عليهم المرأفون وهم الذين ُشل نموهم من
الحظ الحسن المفرط ،وأما الذين قبعوا في سكينة الخمول كبحر بال حراك،
وإن حدث لهم شيء فإنه يأتي كبدعة.
ولماذا يهاجم الرب الصالحين بعلة المرض أو الحزن أو غيرها من الفجائع؟ 8-4
ألن في معسكر الجيش ُتعطى المهمات الخطرة ألشجع الرجال ،ويرسل
القائد قواته التي اختارها لمهاجمة العدو في الليل الحالك أو استكشاف
إلي القائد.
الطريق أو طرد حامية من موضعها ،وال يقول أحد منهم :قد أساء َّ
بل األحرى أن يقول :قضى ما فيه األصوب .والشيء نفسه يقال عن الذين
يطلبون أشياء المعاناة والتي ُتبكي الهالعين والجبناء ،ويتراءى لنا أن الرب
جدير باختبار مدى تحمل الطبيعة البشرية.
وقد يستنزف الفرار من المباهج والحظ الحسن قوتك ،وقد تتالشى العقول 9-4
في الحظ الحسن ،وإن لم يتدخل شيء ما يذكرك بقسمتك كالبشر ،فإن
عقولكم قد تغط في سبات في حالة سكر سرمدي ،وإذا حمى امرؤ ما نفسه من
العواصف بالنوافذ ،وإذا كانت قدماه دافئة من تتابع االستعماالت الساخنة،
370
وإن ُلطفت درجة حرارة غرفة عشائه بالحرارة التي تأتي من تحت السقف
خطرا.
ً واألنابيب التي في الجدران ،فإن لفحة نسيم الضوء سوف تكون
10-4وألن كل األشياء المؤذية قد تتجاوز قياس الواجب ،فإن شطط الحظ الحسن
زيادة في الفاجعة ،ويشوش الدماغ ،ويستدرج أفكارنا إلى أوهام ال أساس
لها ،وينطوي على قدر جم من الضباب بين الحقيقة والوهم ،فلماذا ال يكون
من األفضل تحمل مصيبة ال نهاية لها باستجماع فضيلة خير من تقطيعها إر ًبا
بأمور حسنة تفتقر إلى الحد والقياس؟ فالموت بالمجاعة ألطف من تفجير
أناس على وليمة.
12-4وما الغرابة إذا وضع الرب األرواح النبيلة في اختبارات صعبة؟ إن الدرس
في الفضيلة ليس هينًا أبدً ا ،إن الحظ يجلدنا ويمزقنا حيث يدعنا نعاني،
إنها ليست قسو ًة بل محنة ،وكلما أقدمنا عليها كلما أصبحنا أكثر شجاع ًة،
والطرف األقوى للجسم هو الذي قد يضع االستعمال المطرد موضع الفعل،
َ
نعرض أنفسنا للحظ بتصلبنا أمامه ،وسوف يجعلنا مكافئين وينبغي علينا أن
له بالتدريج ،حيث تمنحنا وتيرة مخاطرنا ازدراء للخطر ذاته.
13-4ولهذا السبب للبحارة بنية قوية بما يكفي لتحمل البحر ،وللفالحين ٍ
أياد
( ((46ربى اإلسبرطيون أطفالهم بأسلوب أسطوري صارم ،وهو نموذج أساسي في الفلسفة األخالقية.
371
خشنة ،وللجنود أذرع قوية بما يكفي للسيطرة على األسلحة ،وللعدَّ ائين
أطراف رشيقة حيث يدرب األقوى منها ،و ُيقدم العقل على ازدراء المعاناة
بالمعاناة ،وسوف تدرك أن ما نعانيه يمكن أن يثمر فينا إن انتبهت إلى ما يسهم
به العمل المضني في صناعة األمم العراة الذين أصبحوا أشاوس بما يفتقرون
إليه.
14-4انظر إلى كل األجناس التى وصل الرومان إلى حدودها ،وأعني الجرمان
وأجناس البدو أسفل الدانوب( ،((46الذين أرقدهم الشتاء الذي ال نهاية له
والسماوات الكالحة ،والتربة القاحلة التي تغذيهم على مضض ،وحفظوا
األمطار في القش فتسربت إلى البحيرات فتصلبت إلى ثلج ،وتغذوا على
صيد الوحوش.
15-4هل بدا لك أنهم احتقروك؟ وال شيء محتقر إن حملته العادة إلى حيث
طبيعته ،فاألشياء التي بدأت بالضرورة أصبحت رويدً ا رويدً ا ممتع ًة ،وكانت
هذه األجناس بال مأوى وال مستوطن إال ما حدده النصب في نهاية كل يوم،
وتغذيتهم منحطة وسعوا إليها باليد ،والسماء عدو مرعب ،وأجسادهم عارية،
وما يبدو لك فاجعة كان حياة عديد من األجناس.
372
واآلن أضف حقيقة أن من مصلحة الجميع أن يكون الصالحون جنو ًدا كما 1-5
كانوا ،ليؤدوا األعمال ،وهذا هو مسار الرب والرجل الحكيم على حد سواء،
شرا(،((47
خيرا وال ًّ
ليبينا أن األشياء التي يرغب فيها الحشد والمخاوف ليست ً
ولكنها سوف توضح أن هذه األشياء ليست من نصيب أحد ،بل هي للصالح
حيث إنه خير ،واألشياء التي فرضها على الطالح ألنه سيئ فحسب.
والعمى مكرو ٌه إن لم يفقد المرء عينيه باستثناء َمن يستحقونه؛ ألن أعينهم 2-5
مفقوء ٌة ،ولذا دع أبيوس Appiusومتيليوس Metellusيفتقران إلى
خيرا ،ولذا دع حتى إليوس ((47( Elius؛ فالقواد
،والثروة ليست ً
البصر(((47
يتطلب الكدح جهدً ا عال ًيا ،فأعضاء مجلس الشيوخ يتداولون طوال اليوم على 4-5
الغالب والمتنطعون يقضون راحتهم على المروج (مارتيوس )Martiusأو
مستترين في الحانات أو يضيعون أوقاتهم في الحكي الفارغ ،ويحدث الشيء
373
نفسه في هذه الجمهورية من العالم وهو كدح الصالحين؛ فإنهم يبذلون وقد
طوعا وال يهربون من الحظ بل يتبعونه ويماشون سيره.
ُيبذلون ً
أتذكر سماع قول آخر يتحدث عن أشجع الرجال( ((47ديمقريطوس يقول 5-5
فيه “بمقدوري أن أقدم الشكوى لك ولألرباب الخالدين فحسب ،فال تجعل
حاضر الستجابة
ٌ باكرا وأنا اليوم
جئت لهذه األشياء ً
ُ معرفتك لي قبلية؛ ألنني
عظيما بالنسبة لي
ً دعوتك ،فهل تريد طر ًفا من جسدي؟ خذه ،فليس ً
أمرا
أن أعد ،فسوف أرحل عن هذا كله قري ًبا .هل تريد أنفاسي؟ ولماذا أتوانى
في تسليمك ما أعطيته لك؟ ومهما سعيت فإنك سوف تأخذ من امرئ على
استعداد أن يعطي ،أليس هذا حسنًا؟ لقد فضلت أن أقدمه أحرى من أن تسألني
فلم الحاجة إلى أخذه؟ لقد تلقيته ،ولم تأخذه حتى اآلن ،ألن ال شيء
عطاءهَ ،
قد يخطف إال ما كان المرء ً
قابضا عليه”.
ال شيء أجبر عليه ،وال أعاني شيئًا على غير رغبتي ،وال أخدم الرب ،وبالحري 6-5
أتفق معه ،وكل هذا ألنني أعلم أن كل األشياء ُتقبل و ُتدبر بقانون ثابت محتوم
لألبدية.
تقودنا األقدار ،وقد تحدد الزمن الذي يعيشه كل منا منذ اللحظة األولى التي 7-5
نولد فيها( ،((47وتحدث العلة على العلة ،وتترسم األمور الخاصة والعامة
على طول الخط بترتيب طويل لألحداث ،ويجب أن يعاني كل شيء بجسارة؛
ألن كل األشياء لم تحدث ببساطة كما نفكر ،ولكن األحرى أنها جاءت ،لقد
قدر منذ آماد بعيدة ما تملكه فيبهجك وما تحوزه فيبكيك ،ومع ذلك تبدو
حيوات الناس متمايزة بتنوعها العظيم ،والكل يجمع على شيء واحد ،وهو
أن األشياء التي نتلقاها سوف تفنى وكذلك نحن.
374
ِ
نشتك؟ إننا مجبولون لهذا ،فدع الطبيعة تستعمل ولم
ومن ثم لماذا نغضب؟ َ 8-5
أجسامها كما تريد ،وينبغي لنا أن نفرح ونجسر تجاه كل األشياء ،ونتأمل
كيف يهلك الال شيء ما لنا ،فما الذي يصدق على الرجل الصالح؟ ليقدم
نفسه للقدر ،إنه العزاء العظيم هو ما يجرفه للعالم ،ومهما كان األمر الذي
يدفعنا للعيش بهذه الطريقة والموت بها ،كذلك فإنه يربط األرباب بالضرورة
نفسها ً
أيضا ،وقد ُيحمل اإلنسان واإلله على قدم المساوة على مسار ال يمكن
تحويله ،نعم ،إن المصدر والمنظم لكل شيء يخط أقدار نفسه ولكنه يتبعها
أمرا مر ًة واحد ًة ،ويمتثل لها على الدوام. ً
أيضا ،وقد يصدرها ً
ظالما حين وزع القدر حيث بارى الصالحون بالفقر
ً “ولكن لماذا كان الرب 9-5
والجروح والموت قبل األوان؟” ،إن الحرفي ليس بمقدوره أن يغير مواده
حيث ال تسمح الطبيعة بهذا ،وليس بمقدور األشياء عينها أن تنفصل عن
األشياء األخرى؛ ألنها ممزوجة وال تنقسم( ،((47وال تختلف العقول الخاملة
أو تكون عرضة ألن تقع في سبات أو يقظة على هذه الشاكلة عن السكون
الذي ُينسج من عناصر غير فاعلة ،ولكي تبني إنسا ًنا ويطلق عليه إنسان ح ًّقا،
فإنه في حاجة لقدر أقوى ،ولن يكون الطريق ممهدً ا له ،حيث ُيقبل و ُيدبر،
وتتقاذفه األمواج ،وعليه أن يوجه سفينه على البحر العاصف ،ويقبض على
مساره لمواجهة الحظ ،فأكثر األشياء التي ستحدث فظة وغليظة ،ولكن
بمقدوره أن يلطف األشياء و ُيخففها خارج نفسه ،فالنار تستخرج الذهب،
و ُينجب البؤس الرجل الشجاع.
10-5وانظر كيف ينبغي أن ترتقي الفضيلة الجليلة ،وستدرك أن الطريق الذي يحتاج
أن يذهب إليه ليس خال ًيا من العناية ،فالجزء األول من الطريق حاد ،وحتى
لو كان ممهدً ا في الصباح فإن الجياد بالكاد تكدح عليه ،والجزء العلوي في
375
وسط السماء ،وحتى تنظر منه إلى شيء في البر البحر ،فأنا أخشى فعل ذلك،
ويرتعد قلبي من رهبة الرعب ،والجزء األبعد للطريق حاد ،ويدعو لثبات
التحكم ،وحتى ذلك الحين تنظر تيثيس ((47( Tethysمن أسفل ،تخشى أن
تالقيني في األمواج التي تقبع تحت ،وربما قد رميت على عجل(. ((47
“ولكن كيف يسمح الرب بأن يحدث مكروه للصالحين؟” ،حقيقة هو 1-6
ال يسمح بهذا ،إنه يبعد عنهم كل األمور السيئة مثل الجرائم وأفعال الشر
وأفكار الخبث وتدابير الطمع والشهوة العمياء والجشع التي تتأرجح في ما
يتبع اآلخرين ،وما يراقبه الناس ذواتهم ويحموه ،وهل بإمكان أحد أن يطلب
من الرب أن يعتني بمتاع الصالحين؟ وهم أنفسهم ال يشاركون الرب هذه
المسؤولية حيث يحتقرون األشياء الخارجية.
( ((47تيتيس Tethysواحدة من نسل تيتان من أورانوس السماء واألرض جايا ،وقد سرد هزيود أشقاءها وهم أوشيانوس
وكويس وكريوس وهيبيريون وإبيتيوس وثيا وريا وثيميس ومنيموسين وفيبي وكرونوس ،وتزوجت تيتيس شقيقها
أوشيانوس وهو نهر هائل يحيط بالعالم( .المترجم).
(477)Ovid Metamorphoses 2.63–69, then 79–81
أكمل سينيكا اقتباسات ِّ
الشعر بإعادة صياغته للنثر ،والمتحدث هو الشمس ،والتي فشلت في منع ابنها فايثون Phaethon
من قيادة عربته نحو السماء ،وكان سب ًبا لالحتراق ،قارن استعمال Phaethonفي كتاب الحياة السعيدة .5-20
376
ألقى ديمقريطوس ( ((47ثروته ،وعدها مرهقة للعقل القويم ،ومن ثم لماذا 2-6
تندهش من أن يحدث للرجل الصالح ما يرغب هو أن يحدث له؟ فالصالحون
يفقدون أبناءهم ،ولماذا ال وهم يقتلونهم أحيا ًنا؟ وقد يرسلونهم إلى المنفى،
ولماذا ال وهم أحيا ًنا يهجرون أرض الوطن دون نية الرجوع إليه؟ وهم
يقتلون ،ولماذا ال وأحيا ًنا يمدون أيديهم على أنفسهم؟
لماذا يعانوا من ملمات بعينها؟ حتى يعلموا اآلخرين كيف يعانون؛ ألنهم 3-6
ولدوا ليكونوا مثالاً لذلك ،ولذا يقول الرب“ :ماذا لديك حتى تشكوني
به أنت الذي استحسنت ما هو حق؟ لقد طوقت اآلخرين بالمتاع الزائف،
وخدعت عقولهم الفارغة كما لو كانوا في حلم طويل خادع ،لقد زينت لهم
الفضة والذهب والعاج ،وال شيء فيها خير.
هؤالء َمن تحملق فيهم كما لو كانوا سعداء ،إذا نظرت في أجزائهم الباطنة 4-6
وليست الظاهرة فسوف تحتقرهم ،إنهم عار وفاحشون ،يزينون الخارج مثل
جدرانهم ،فليست السعادة عندهم هي الغاية والمأرب بل الشكل ،وضعف
المرء في هذا ،ولهذا السبب ما دام قد سمحت لهم أنفسهم أن يظهروا على
أنهم مصطفون فإنهم يختالون ويتألقون ،وحين يحدث شيء ما يكدرهم
ويكشفهم ،فمن اليسير أن ترى البؤس العميق والحقيقي يزيح األبهة
المتناقضة.
أعطيت لك المتاع الذي ال ريب فيه ،وسوف أستمر ،فاألمور تعظم 5-6
وتستحسن إن أدارها المرء وتأملها من زواياها المختلفة ،لقد سمحت لك
أن تزدري األشياء التي تخيفك لتعالج الرغبات بالتأفف ،وال تنبهر بها من
الخارج ،فمتاعك في الباطن ،وبهذه الطريقة فحسب تزدري أشياء العالم
الظاهرة ،وغاية الفرح في المشهد ذاته ،لقد وضعت الخير كله في الباطن ،وال
377
يحتاج حظك الحسن إلى حظ حسن.
“ولكن هناك أشياء جمة تحدث وهي مرعبة ومن الصعب تحملها ،وألنه ليس 6-6
بمقدوري أن أؤمنكم منها فقد سلحت عقولكم تجاه هذه األشياء ،فتحملوها
بشجاعة! وهذا هو الطريق الذي تتجاوز به الرب ،حيث إنه وراء معاناة
األشياء السيئة ،وأنت فوق معاناتها ،احتقر الفقر ،فال أحد يطيق العيش في
فقيرا .احتقر األلم؛ فإنك سوف ُتذيبه أو ُيذيبك.
الفقر بالمقدار الذي ُولد فيه ً
احتقر الموت؛ فإنه سوف ُيفنيك أو اتخذ لك مكا ًنا آخر( .((47احتقر الحظ؛
سالحا قد يصيب به عقلك.
ً فإنني لم أمنحه
وقبل كل شيء اتخذت تدابير ال أحد يجبرك فيها ضد إرادتك ،والمخرج 7-6
يوجد هنا ،فإذا لم ترغب في القتال فقد يسمح لك بالفرار ،ولهذا السبب
أردت أن تكون كل األشياء لك ضرور ًة ،ولم أصنع شيئًا أهون من الموت،
ووضعت حياتك على منحدر هابط ،فإن ُكتب عليك ،انظر وسوف ترى
الدروب المقتضبة والمباشرة تقود إلى ال مكان ما دام التأجيل بالنسبة لك في
الخروج مثلما فعلت لك في الدخول ،وإلاَّ لو كان موت اإلنسان بطيئًا كما
ولد؛ فإن الحظ سيستحكم سيادته العظمى عليك.
( ((47الموت إما نهاية أو انتقال كما يقول سقراط في صفحاته األخيرة في دفاع أفالطون عن سقراط قارن .Letters 65.24
378
تخب أنفاسك ،فليست بحاجة إلى أن تخفي النصل ،وليست بحاجة إلى
ُ ال 9-6
أن تضع يدك على صدرك حيث عمق الجرح باطن( ،((48فالموت ليس في
متناول اليد ،وأنا لم أحدد موضعا ثابتًا لهذه المصائب ،أينما ترغب يمكن
أن يكون السبيل ،وهذا الشيء ذاته يطلق عليه الموت حيث تفارق الروح
الجسد ،وتشعر بقصر سرعته ،سواء بأحبولة تخنق حنجرتك ،أو بماء يقطع
نفسك ،أو سقطت على رأسك فتحطمت على سطح صلب ،أو بجرعة نار
سريعا ،فهل أنت مرتبك؟
ً تعترض ارتجاع نفسك ،ومهما يكن سيأتي الموت
لقد قضيت وقتًا طويلاً خائ ًفا مما يحدث بسرعة!”.
* * *
379
:المراجع
Abel, Karlhans. 1967. Bauformen in Senecas Dialogen. Heidelberg:
C. Winter.
Goar, Robert J. 1987. The Legend of Cato Uticensis from the First
Century B.C. to the Fifth Century A.D. with an Appendix on Dante and
Cato. Brussels: Latomus.
380
الفهرس
5
إهداء
11
سينيكا وعالمه
21
رواقية سينيكا
26
تراجيديا سينيكا
31
دراما سينيكا بعد المرحلة الكالسيكية
39
مقدمة
41
بنية العزاء
85
عزاء إلى هلفيا :ترجمة :جريث ويليام
87
مقدمة
381
125
عزاء إلى بوليبوس :ترجمة :هاري هينه
127
مقدمة
161
مقدمة
199
عن صمود الحكيم :ترجمة :جيمس كير
201
مقدمة
239
مقدمة
241
بنية النص
285
عن وقت الفراغ :ترجمة :جاريث ويليام
287
مقدمة
301
السعيدة :ترجمة :جيمس كير
عن الحياة َّ
303
مقدمة
303
الموضوع والبنية
305
دفاع سينيكا
307
اللذة والثروة وفن العيش
382
347
الربانية :ترجمة :جيمس كير
عن العناية َّ
349
مقدمة
351
سينيكا ولوكيليوس والجمهور
354
المصيبة ومعرفة الذات
380
المراجع
383
384