Professional Documents
Culture Documents
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خلال القرن التاسع عشر نموذجا
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خلال القرن التاسع عشر نموذجا
ص69 - 38
مجلـة الدراسات التاريخية العسكرية
تاريخ القبول1410/01/12 : تاريخ االستالم1410/01/01 :
ملخص:
يبحث هذا المقال في سوسيولوجية الفعل المقاوم
الجزائري لالحتالل الفرنس ي ،من خالل دراسة نموذجين
للمقاومة الشعبية :مقاومة األمير عبد القادر والمقاومة العـنـوان
السلمية التي تمثلت في العرائض وحركات اإلصالح الديني
وصوال للحركة الوطنية ،في محاولة لتحليل الفعل الجمعي سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر
للجزائريين وتفاعلهم لطرد المحتل اعتمادا على ما رسبته المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع
الذاكرة الجمعية من تقاليد المقاومة ضد الغزاة ،اشتقت
عشر(" )91نموذجا"
كأساليب للمواجهة ضد الفرنسيين.
كلمات مفتاحية:
المقاومة ،الفعل الجمعي ،التفاعل ،تفكيك المجتمع The Sociology of Resistance in
Algeria
Popular Resistance during the
Abstract: Nineteenth Century As
This paper examines the sociology of A Model
Algerian act of resistance to the French
occupation, by studying two models : the
popular resistance of Emir Abd-el-Kader المؤلف:
and the peace full resistance that was المقدم :بشينية عبد الغني/
represented in the petitions and the
religious reform movements to reach the المركز الوطني للدراسات والبحث-ت ع ج
national movement, in an attempt to
analyses the collective action of the
Algerians and their interaction to expel the البلد:
occupier, depending on what he sent الجزائر
collective memory of resistance against
invaders, derived as methods of البريد االلكتروني:
confrontation against the French.
abdelghanibechinia@gmail.com
Keywords :
Resistance, collective action, interaction,
disintegration of society.
83
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
مقدمة:
من الممكن النظر إلى مقاومة الشعب الجزائري لالحتالل الفرنس ي لبالده ،من زوايا علمية متعددة ،وعلم
االجتماع كأحدها ،يهتم بتحليل الفعل الجمعي للمقاومة ،من حيث الرفض وردة الفعل تجاه المحتل المؤدلج
بالعقيدة الكنسية والطامح لالمتداد والتوسع في األراض ي المستعمرة الجديدة ،لذلك كانت طبيعة المقاومة
الوطنية تختلف شكال ومضمونا عن بقية المقاومات في العالم المستعمر من طرف الغرب ،وقدرة تكيفها مع
أشكال الفعل االجتماعي وسيكولوجية الشعب الجزائري.
سوسيولوجية الفعل المقاوم
تولي نظريات الفعل االجتماعي "قدرا أكبر من األهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع ،...ويبرز
دور علم االجتماع هنا في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل االجتماعي والتفاعل ،لتفسير طبيعة القوى
الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من األفعال"(.)1
ينطبق هذا المبدأ على الفاعلين الجزائريين غداة سقوط الجزائر العاصمة في براثن االستعمار يوم 41
جويلية 0384كمركز للقرار والسلطة السياسية في البالد ،وهو ما أدى فيما بعد إلى تتابع سقوط العماالت
األخرى(وهران ،0380عنابة ،0381قسنطينة )0382وإلى ضياع الدولة بمؤسساتها وجيشها ،وما تبع ذلك من
أعمال عنف فظيعة ارتكبها جنود االحتالل في حق المدنيين وممتلكاتهم ومقدساتهم ،فعمت الفوض ى وسادت حالة
من االرتباك في المجتمع أعقبها تسليط اإلدارة االستعمارية لجملة من القوانين قصد ترتيب أوضاع حكمها لألهالي،
وتسيير "المستعمرة الجديدة" وفق مصالح الدولة الفرنسية ،وهو احتالل "كان في واقع األمر نتيجة لتوسع
االستعمار األوربي الذي كان يهدف إلى السيطرة على األسواق العالمية وتسهيل عملية االستيراد والتصدير ،وفي
الوقت نفسه استغالل المستعمرات الجديدة ،والمهمة األساسية لهذا التوسع كانت تحطيم البنى الثقافية
واالجتماعية للسكان األصليين وتحويل اقتصادهم من اقتصاد استهالكي إلى اقتصاد موجه إلى التصدير ،وأثناء تلك
العملية التدميرية كان األهالي عرضة ألعمال وحشية"()2
أمام هذا الوضع المأساوي ،انتظم الجزائريون في مجموعات مسلحة ببنادق بسيطة وأسلحة بيضاء
لمقاومة العدوان الفرنس ي الغاشم على بالدهم ،وقد كان "عنصر المقاومة حاضرا في كل أشكال المواقف ،في كل
أنماط التموقع ،غ ير أن هذه المقاومة تختلف شكال كما تختلف مضمونا ...وهكذا سوف نميز بين ثالثة أشكال من
المقاومات من االستعمار الفرنس ي :أ -المقاومة النشطة ،....ب -المقاومة الهادئة ،....ج -المقاومة الرمزية3"...
إن انبثاق فعل المقاومة قد جسدته الرغبة في الحرية وعدم الخضوع لالستعمار ،وهو فعل ذو رواسب
ممتدة في الكيان الجزائري منذ قرون ،اشتقت كفعل جماعي ضد الفرنسيين إلحساسهم بتهديد وجودهم ،السيما
وأن المحتل قد باشر غداة االحتالل التفكيك المبرمج ألنساق المجتمع ،وباستعمال درجات كبيرة من العنف
التدميري ،قصد تهجير أهالي المستعمرة الجديدة أو إبادتهم إلدماجها بفرنسا وهو ما سنعرضه كاآلتي:
84
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
85
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
انتزاع األراض ي منها كمصدر رزق أساس ي في حياتها االجتماعية ،األمر الذي أدى إلى تدني مستوى المعيشة ،مما أثر
على عمليات المقاومة لتفكك أواصر التضامن ،والسعي في البحث عن أسباب الحياة بالهجرة إلى أماكن أخرى.
عمد االحتالل بذلك جراء الفوض ى التي أتبعت الحرب ،وانشغال السكان لترتيب أوضاعهم االجتماعية في
بيئات جديدة ،إلى سن قوانين مجحفة والتي نزعت بمقتضاها حق المواطنة ،فصدر قانون األحوال المدنية سنة
0391والذي ينص على أن "الجزائريين يعتبرون رعايا فرنسيين ،وليس لهم الحق في الجنسية الفرنسية إال إذا
تخلوا عن حالتهم الشخصية كمسلمين"(.)7
أحدث هذا التفكيك الممنهج صدمة كبيرة في الوسط االجتماعي" ،وكانت أزمة ،0393 -0392وهي أكثر
حدة ،التجلي العام األول للقطيعة في توازن ما قبل الغزو ،وكانت فضال عن ذلك سبب انتفاضة 0320العامة ،وهي
آخر تمرد عنيف بهذا االتساع عرفه المجتمع األصلي ،خالل هذه األزمة ،شجع الجوع والبؤس االنتشار السريع
لألوبئة ،السيما الكوليرا ،التي قضت على قبائل بكاملها ،لم تكن أزمة 0393 -0392أزمة عابرة ،بل ظهرت بعد
توسع أراض ي المستعمرين وبداية تكوين الملكية الفردية ،إنها التعبير العنيف عن انتقال المجتمع الجزائري من
مرحلة كان يشبع فيها الحاجات األساسية ألبنائه إلى مرحلة بات معها عاجزا عن تأمين ذلك"(.)8
أدى إلغاء االحتالل الفرنس ي للملكية الجماعية (أراض ي العرش) ،إلى تشتت القبائل وتفكيك وحدتها
االجتماعية وتفتيت اللحمة العضوية الموجودة بين أفرادها ،وانفصال الفرد عن القبيلة بحثا عن المأوى والمرعى
الجديد" ،واستلزم األمر إعادة تجميع العدد الكبير من األفراد المتحررين من الروابط االجتماعية في إطار ما -أرض ي
وإداري ،هذا اإلطار هو "الدوار" ،وهو دائرة لحد ما إدارية ،شكلها قرار مجلس األعيان الذي استهدفت عملياته
تفتيت القبائل"( ،)9حيث تشكلت البلدية والدائرة من مجموع هذه الدوارات ،وهي خليط مع المعمرين إلدارة الحالة
المدنية لهم ولألهالي ،وهي طريقة احتيالية من االستعمار النتزاع األراض ي ومصادرتها للمعمرين ،وبذلك قلب نظام
الحياة االجتماعية لهذه القبائل المفتتة ،والقضاء على العالقات التي تربط أفرادها وكذا آلية التضامن العضوي
بينهم ،ومنه القضاء على األفعال الجماعية المنظمة للمقاومة.
– 3اقتص ــاديا:
بلغ العنف االستعماري ذروة متقدمة في البطش واإلبادة بعد تفكيك الدولة والمجتمع ،ومطاردة القبائل
وقتلها في الكهوف والمغارات والسهول ،وإحراق مزارعهم وقطع أشجارهم وإتالفها لتدمير البنية االقتصادية
التقليدية وتعويضها بسياسة اقتصادية رأسمالية ترتبط مع األسواق الخارجية األوربية ،حيث شهدت الفترة التي
أعقبت نهاية الثورات الشعبية من 0330إلى ،0680محاوالت فرنسة البالد والقضاء على العنصر األصلي وتعويضه
بالمعمرين ،كما شهدت أيضا بدء التوسع الرأسمالي وتعاظم أجهزة تجديد إنتاجه وهو ما يالحظ في تركز الرأسمال
والملكية العقارية ونمو المنتجات والصادرات ،واستخدام األجر" الزهيد لألجراء الجزائريين وذلك لربط اإلنتاج
بحاجات المتروبول"(.)10
اعتمدت تلك السياسة االقتصادية االستيطانية على إلغاء حق القبائل الجزائرية في أراضيها يوم
،0304/41/00حيث أعلن الماريشال بيجو في مجلس النواب" :أينما وجدت مياه صالحة وأراض ي خصبة ،هناك
ينبغي وضع المستوطنين دون السؤال عمن يملكون األراض ي"( ،)11هذا اإلجراء أدى إلى استعمال كل الوسائل
86
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
والحيل الكولونيالية لوضع اليد على األراض ي الجزائرية :تصنيف أراض ي خالية افتراضا" ،بوصفها أمالكا مشاعة،
امتالك طرق ،حجز ،طريقة االستمالك بدعوى المنفعة العامة ،فرنسة أراض ي تسمح بشرائها بسعر منخفض جدا،
رهونات ،إباحات قضائية ،بيع بالمزاد ،بفضل هذه األساليب ،انتقل المجال العقاري األوربي من 001444هكتار
سنة 0314إلى 291444سنة ،0324وإلى 1248444هكتار سنة .)12("0614
عمدت سلطات االحتالل إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية أخرى بعد انتزاع األراض ي ،لفصل الفالح الجزائري
عن أرضه حيث "حرم البدو قانونيا من حق االنتفاع بأراض ي التجوال"( ،)13بسبب عدم وجود أي مالك أصلي لها
ومن ثم رجوعها إلى ملكية السلطة العامة لالحتالل ،وهو إجراء قلص من عدد سكان البدو كما أدى إلى نقصان
قطعان الماشية ،التي فرضت عليها "الضريبة" واستمر تطبيق هذا القانون حتى الثورة التحريرية الكبرى.
لقد أدت هذه اإلجراءات التفكيكية والممارسات القمعية ضد الفالح والبدوي والحضري في الجزائر إلى
تدمير البنية االجتماعية االقتصادية التقليدية ،وانتقال الفرد الجزائري إلى عالم تقسيم العمل الرأسمالي :التجاري
جراء النهب والسلبأو الصناعي أو الزراعي لدى المعمرين األوروبيين بأجر زهيد ،رغم تراكم الرأسمال الكولونيالي ّ
للثروات الوطنية ،هذا اإلجراء لم يسمح باالنتقال إلى تأسيس نظام رأسمالي شبيه باألوروبي يستفيد منه العامل
الجزائري رغم قلة معارفه وتجربته ،وهو ما يبين بوضوح عدم وجود بنية تحتية لالقتصاد الرأسمالي في المستعمرة
الجديدة إال ما يخدم االقتصاد الموجه للحاجيات الضرورية للمعمرين واألسواق األوروبية كصناعات النبيذ
(الخمور) ،الفحم والمواد االستخراجية األولية ،وهي صناعات لم تكن موجهة لخدمة السكان األصليين ،بل إن شق
الطرق وسكة الحديد وبناء الجسور إنما كان لربط المدن األوروبية في الجزائر ببعضها البعض وتسيير نقل المواد
والمزروعات إلى الموانئ لتصديرها نحو أوروبا ،كما دفعت تلك اإلجراءات االقتصادية المتعسفة إلى هجرة آالف
الجزائريين كعمال بسطاء للعمل بفرنسا في مناجم الفحم وصناعات التعدين وبناء المدن والجسور...إلخ مقابل
أجور زهيدة.
قابلت هذه اإلجراءات االقتصادية االستعمارية ،ردود أفعال جزائرية مقاومة لصد التوسع والزحف
الكولونيالي على أراضيهم وسلبهم إياها ،وأبرز مثال مقاومة المقراني .0320
-4ثقافـيا:
"شهدت الجزائر قبل الغزو الفرنس ي حياة ثقافية مزدهرة بالعلم وتأليف الكتب وبروز جهابذة من العلماء،
الذين أدوا دورا مشرفا في ازدهار الحضارة ،وتذكر تقارير قادة االستعمار الفرنس ي أن نسبة األمية تكاد تكون
منعدمة في أوساط الجزائريين سنة ،0384حيث اندهشوا من كثرة المدارس وحرية التعليم وكثرة المتعلمين ووفرة
الوسائل من أجل التعلم ،كالمداخيل الوقفية ،ومحالت األوقاف واألجور العالية ،وفي المدن كما في األرياف كان
التعليم جزءا أساسيا من حياة الناس ،وكان المعلم والمتعلم موضع تقدير الجميع ،كما اندهش أولئك من وفرة
المدارس التي كانت ربما تزيد عن نسبة السكان"( ،)14هكذا كان المشهد الثقافي للجزائر غداة االحتالل ،فقد
"وجدت فرنسا نفسها وجها لوجه أمام مجتمع حسن التنظيم ،له حضارته الخاصة الشبيهة إلى حد ما بحضارات
البحر األبيض المتوسط "( ، )15كما كانت مؤسساته الثقافية والدينية فاعلة في ذلك المشهد ،الش يء الذي جعلها
هدفا للتفكيك االستعماري كباقي مؤسسات المجتمع والدولة في الجزائر.
87
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
مارست فرنسا منذ الغزو أعماال تهديمية كبرى للشخصية والهوية الوطنية ،وتفتيت مقوماتها ،كمحاربة
الدين اإلسالمي ،حيث استولوا "على األوقاف اإلسالمية كما وضعوا أيديهم على المساجد وأغلقوا المدارس
والزوايا ،وشردوا علماء الدين ،واضطهدوهم وعزلوهم عن العامة"( )16في محاولة لطمس معالم الشخصية الوطنية،
واستالب الذهنية ببث فكر وتعليم استعماري غربي جديد ،وتمسيخ الهوية عن معالمها األصلية ،حيث كثرت أعمال
التبشير المسيحي التي قادها شارل ال فيجري Charles Lavigerieوشارل دو فوكو Charles de Foucauldفي أوساط
السكان ،مع استغالل ظروفهم اإلنسانية الصعبة كالمجاعة والفقر واألمراض المستعصية وحاالت اليتم والتشرد،
لذلك فقد نشطت أعمال التفكيك الثقافي بمنع استعمال اللغة العربية وممارسة العبادات الدينية ،ذلك ما أدى
إلى مواجهات ثقافية عنيفة في المدن واألرياف بين المشروع االستعماري الذي يلغي البنى الثقافية والدينية القائمة
في الجزائر ،وبين أصالة ثقافية وطنية تجد سندها في الرموز واألماكن التاريخية المقدسة ،والدالالت التعبيرية
للتراث في األغاني والحرف ،والعالقات البينية في المجتمع.
كانت تلك المواجهات تدميرية للشكل الثقافي الجزائري ،الذي لم يستوعب لحظة "الصدام مع اآلخر"
المحمل بالعنف في ممارساته إللغاء كل ما هو وطني ،وإحالل ثقافته وتراثه وقيمه في المجتمع األهلي ولو بالقوة،
بحجة نشر الحضارة الغربية المتفوقة على مثيالتها في العالم ،وإن كانت تلك اللحظة لحظة "مكاشفة" بالتعبير
الصوفي للثقافة الوطنية والتي هي في ظل السيطرة االستعمارية عبارة عن "ثقافة مجمدة تابع االستعمار تحطيمها
متابعة منظمة ،وسرعان ما تصبح مضطرة إلى التخفي والسرية"(.)17
ْ
لقد ادى نشر الثقافة الفرنسية وتفكيك الثقافة الوطنية إلى صراعات كبيرة على مستوى نفسية الفرد
الجزائري ،لتعارض ثقافته المعلمة بالبعد الديني والتاريخي مع ثقافة المحتل التي تدعمت بالمنظور السوسيولوجي
في البحوث منها االثنوجرافي األنثروبولوجي" ،كتبرير للسيطرة االستعمارية ،عن طريق تقديمه التكوين االجتماعي
ْ
الجزائري وكانه من دون تاريخ ،وبالتالي جامد ،كي ال يكون لالستعمار أية مسؤولية عن جموده ،باعتباره حالة
سابقة عليه ،والمالحظ أن هذا المنظور قد ركز في األساس ،على دراسة البنى القبلية والدين واللسانيات والثقافة
الشعبية كمجموعة من الوحدات العمودية المنفصلة والمستقلة ذاتيا ،ووظفت االستنتاجات حولها ضمن سياسة
تعمل على دمجها في بنى تسهل عملية االحتراق وتضمن الوالء لالستيطان"(.)18
شجع صدور "المجلة اإلفريقية "Revue Africaineبين 0691-0319الباحثين الفرنسين على طرح
أفكارهم االستئصالية لعناصر الثقافة الوطنية ورسم صورة مقيتة عن واقع الحياة االجتماعية والثقافية التي
يعيشها المجتمع الجزائري الواجب تمدينه ونشر الحضارة الغربية المسيحية فيه ،كعمل إنساني وحضاري ،وواقع
تلك اإلجراءات هو إيجاد طبقة من المثقفين الجزائريين لخدمة االستعمار وإدارة شؤون األهالي ،عن طريق التعليم
المزدوج في المدارس الفرنسية ألبناء أعوان االحتالل من الجزائريين ،كما تم إحداث ثالث مدارس شرعية -فرنسية
في قسنطينة والمدية وتلمسان ،تحت إدارة السلطات العسكرية الفرنسية في 84سبتمبر ،0314حيث كانت "تعد
وسيلة أخرى لتجنيد الجزائريين إلى جانب اإلدارة الفرنسية ،فبعد الفراغ الذي خلفه الذين حملوا السالح وقاوموا
االحتالل أرادت السلطات الفرنسية أن تعلم جيال من أبناء هؤالء ليكونوا لها مطية في تولي الوظائف القضائية
والدينية"(.)19
88
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
ارتبط تفكيك االحتالل للمجتمع والدولة في الجزائر باستعمال العنف المفض ي لإلبادة وارتكاب المجازر
والحرق وتدمير الهوية الثقافية وتشريد السكان وتهجير العلماء ،ومحو اآلثار اإلسالمية للتاريخ الوطني ،بتدمير
المساجد والزوايا والسطو على أخرى وتحويلها لمستشفيات وإصطبالت ومراكز جند ،مع انتزاع األوقاف لفائدة
ملكية الدولة الفرنسية وكذا أراض ي الفالحين ،حيث لم يبق للجزائريين أمام هذا العنف االستعماري إال التجند في
حركات مقاومة كتعبير عن فعل جماعي رافض للممارسات االستعمار الفرنس ي.
سوسيولوجيا مقاومة االستعمار الفرنس ي
تأسست مجموعات المقاومة المسلحة في المدن واألرياف في األيام األولى التي أعقبت احتالل الجزائر،
وانخرط الجزائريون جماعات وأفرادا فيها ،سعيا لتوقيف امتداد االحتالل إلى مناطق أخرى ،وأمام تباين القوة بين
الطرفين ،زحفت جحافل الجيوش الفرنسية وترسخ النظام االستعماري ومؤسساته السياسية االجتماعية
االقتصادية الثقافية والعسكرية ،التي تعمل على خدمة االستيطان وتفكيك المجتمع والدولة في الجزائر ،لذلك
كانت الحركات المقاومة كشكل من أشكال التضامن الجمعي الذي دأب السكان على إظهاره في وجه الغزاة وكتعبير
عن التضامن اآللي الموجود بينهم لدحر المستعمرين ،واستمرت تلك الحركات في المقاومة "يحركها السعي الواعي
والهادف إلى تحقيق المصالح"( )20المشروعة لألمة الجزائرية ،وهي بهذا تندرج في الحركات الثورية على وجه
الخصوص ،إذ "تتضمن في الغالب ضربا من التنظيم القوي والفعال لألنشطة اإلنسانية لخدمة األهداف
والمصالح الجمعية"(.)21
من هذا المنظور ،كان نشوء الحركات المقاومة أمرا طبيعيا وضروريا إلنهاء االحتالل وإعادة وحدة
المجتمع وتحقيق الدولة ،حيث كان االنتماء لحركات المقاومة الشعبية الدافع الوطني ،ذلك أن "الجزائريين كانوا
يشعرون شعورا واضحا ،وبحكم الفطرة أنهم يؤلفون كيانا قوميا ،وأنه البد من اليقظة الدائمة من أجل الدفاع
عن وطنهم ،وكيف ال يشعرون بذلك ،وقد ربطت بينهم أواصر كثيرة وآالم وأمال مشتركة ،وأرض ذات حدود
واضحة"(.)22
لم يكن فعل المقاومة الجزائرية منعزال عن العالم الذي عاش فيه الجزائريون ،فقد تعددت أنماط
الثورات في العالم ،وظهرت بشكل حديث في القرنين التاسع عشر والعشرين ،كالثورة األمريكية 0229والثورة
الفرنسية ،0236حيث هدفت تلك الحركات الثورية إلى "تحقيق نوع من التحول االجتماعي العلماني والثوري ،وقد
ظهرت هذه الحركات مع ظهور فكرة حقوق المواطنة العامة ،جنبا إلى جنب مع مفاهيم المساواة
والديمقراطية"( ،)23ولم يكن ظهور تلك الحركات الثورية بمنأى عن الجزائريين ،السيما وأن العالقات التجارية كانت
نشطة في تلك الفترة مع الدول األوروبية ،حيث ألف المفتي محمد بن محمود العنابي كتاب بعنوان "السعي
المحمود في نظام الجنود" ،قبل االحتالل الفرنس ي للجزائر ببضع سنوات" ،طرح فيه قضية التجديد واألخذ من
األوروبيين ،وكان في ذلك متأثرا بدون شك بأحداث الثورة الفرنسية ،وبتطور مصر في عهد محمد علي(،)24
لذلك ،فقد تعددت الحركات المقاومة لالحتالل الفرنس ي في الجزائر خالل القرنين 06و ،14حسب
خصائصها سواء مسلحة أو سلمية ،وإن كان يجمعها هدف واحد هو تحقيق االستقالل الوطني وطرد االستعمار،
وإعادة بناء الدولة والمجتمع ،وقد انبثقت من تعبئة قادة القبائل والزعماء الدينيين للجماهير ،للنضال ضد الغزاة
89
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
الفرنسيين ،وقد عبرت المقاومة الشعبية عن حسن تنظيم الفعل المقاوم الجزائري في أرجاء الوطن تحت قيادة
زعماء ملهمين ،ألهبوا الجماهير المناضلة بخطبهم وبشرح أهداف برنامجهم في إطار مقاومتهم لالحتالل ،وبحيويتهم في
الكفاح على األرض رغم التضاريس الوعرة التي تتحرك فوقها القوات ،وهي في تحركاتها إنما تندفع بعقيدة وهوية
وطنية أكسبتها القدرة على الثبات ومواجهة خصمها ،لذا فإن التحليل السوسيو -تاريخي لهذه الحركات المقاومة،
سيعتمد على عينتين هما :المقاومة المسلحة لألمير عبد القادر والمقاومة السلمية.
-29المقاومة المسلحة لألمير عبد القادر 9341- 9332
أدى سقوط الدولة الجزائرية سنة 0384وتفكك مؤسساتها ،إلى مبايعة عبد القادر بن محي الدين يوم
0381/00/12كقائد وزعيما وطنيا وأميرا على البالد ،حيث "كان يتمتع بصفات الزعامة ويمتلئ حماسا وإيمانا
وشجاعة ،فابتدأ عمله ببسط نفوذه على مختلف القبائل وإخضاعها له حتى يواجه الفرنسيين بجبهة قوية
موحدة"( ،)25كانت الجهة الشعبية التي قادها األمير تخزن في شعور األفراد ذكريات الدولة الجزائرية عبر حقب
التاريخ ،لذلك اعتمدت استراتيجيته لتعبئة الجماهير وحثهم على المقاومة ،على الحس الديني والوطني ،وإقامة
عالقات اجتماعية وطيدة مع زعماء القبائل والعشائر ،حتى يرسخ السلطة السياسية للدولة.
اعتمد برنامج األمير عبد القادر ،على وضع أسس وبناء دولة جزائرية حديثة بمؤسساتها القضائية
والعسكرية واالقتصادية ،ناهيك عن التشريعية التي يرأسها األمير ،وقد جسدت المقاومة الشرسة التي خاضها
ضد القوات الفرنسية اعتراف المحتل بدولته ،كما نصت معاهدة وادي تافنة ( 84ماي )0382والتي جاء في بنودها:
"تعترف فرنسا بإمارة األمير على إقليم وهران ،وإقليم تيطري والقسم الذي لم يدخل تحت نفوذ فرنسا في إقليم
الجزائر من الناحية الشرقية"( ،)26وقد تفرغ األمير لبناء الدولة بعد عقد معاهدة السالم ،وهو ما سعى إليه بحركة
المقاومة المسلحة الهادفة لطرد االستعمار ،وإن كان هو قائد تلك الحركة التي أثمرت ببناء الدولة ،فقد تولى فيها
"القيادة السياسية والعسكرية ،ولم يضع السلطة المطلقة بيده ،وإنما جعلها معززة بمجالس شورى وفتوى
لضبط الخطط والقوانين"( ،)27وهو ما يدل على تمسكه بالديمقراطية ،كما دعم أسس دولته الفتية ولم يقلد
األوروبيين في نظام الحكم ،وإنما وضع الفكر واألسلوب الجزائري في إرساء قواعد الدولة الحديثة" ،فنظم جيشه
ودربه وسلحه ،وأنشأ عدة مصانع إلنتاج السالح والمدافع واعتنى بتحصين البالد ،وقسم البالد الخاضعة
"لسلطته" إلى ثماني عماالت عين على كل منها نائب عنه ،وبقدر ما اهتم األمير بالجيش وشؤون الحرب أولى عنايته
كذلك بالشؤون األخرى ،فشجع الفالحين على الزراعة ودعا الناس إلى تربية المواش ي وألح على األهالي في أن يهتموا
بالتعليم"( ،)28وراسل ملوك الدول وسالطينها لمساعدته على تحديث دولته وطرد االحتالل الفرنس ي وهو ما يؤكد
اهتمامه بالدبلوماسية في المجال السياس ي لربط العالقات بين الدول ،وجلب المساعدات التي تعين على نهضة
البالد وتقدمها.
كان تأسيس األمير للدولة الجزائرية الحديثة –رغم قصر عمرها ،-بالغ األثر في تأسيس الدولة الوطنية،
وهو بهذا التفاعل الذي أحدثه بين الفاعلين الجزائريين طوال سنوات نضاله ،والذي أسهم في تأجيج روح المقاومة
المسلحة ،إنما عطل المشاريع االستعمارية السيما الرأسمالية الغربية لبضع سنين ،كما قدم نموذجا فريدا في
االجتماع السياس ي بعاصمته المتنقلة من الخيام "الزمالة" التي ضمت 14444ساكن ،تفاعلت فيها القوى
90
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
االجتماعية المختلفة والمؤسسة للدولة والمدافعة عنها ،من خالل إعادة بناء النظام االجتماعي للقبائل المفككة
والمهددة استعماريا ،وضمان أمنها ،وصك العملة للتعامالت االقتصادية وفرض الضرائب وجباية الزكاة وتنظيم
المعامالت التجارية مع فرنسا وحماية اإلرث الثقافي بتشجيع التعليم ،...وهو ما أدى إلى نسج عالقات اجتماعية
قوية بين أفراد القبائل كأعضاء في حركة األمير الثورية ،كما وطد عالقة األفراد بالدولة وقض ى على الفرقة
والتمذهب وعزز االنتماء لها.
لقد كان لعالم األفكار أثر كبير في تجنيد الفاعلين وصياغة عالم األشياء والجغرافية لفائدة المقاومة
المسلحة ،وتجسيد سلطة الدولة وهيبتها ،إن عالم األفكار الذي أحاط باألمير ،قد جعل تغيير الذوات وعالم
األشياء هدفا حيويا لمواجهة قوة فرنسا االستعمارية المتعددة (العسكرية ،االقتصادية والحضارية) ،والتغيير إنما
يقع بالفاعلية والتفاعل بين الفاعلين لتحطيم الخوف من اآلخر ومواجهته ،وهو ما ثبت في الحالة الجزائرية بعد
فقد الدولة ووحدة المجتمع وانكفائه إلى أطياف متعددة ،حتى لما توحدت جهود التعبئة وبعث مقاومة األمير
المسلحة ،توحدت معها القوى الفاعلة ،وفي الواقع السوسيولوجي ،تعد تلك المرحلة مرحلة إثبات الذات
والشخصية الوطنية ،في مواجهة شراسة االستعمار وبداية االستيطان األوروبي وانتزاعه ألراض ي وممتلكات األهالي.
-22المقاومة السلمية
تتعدد أنماط حركات المقاومة السلمية ضد االحتالل الفرنس ي ،من حركة اإلصالح الديني ،إلى حركة
العرائض واالحتجاج وصوال إلى الحركة الوطنية السياسية في القرن العشرين ،وهو ما يبين حجم التفاعل بين
مكونات المجتمع الجزائري بهدف طرد المحتل ومقاومة مشاريعه التخريبية للهوية والشخصية الوطنية ،لذلك لجأ
الفاعلون الجزائريون إلى عدة أنماط من الفعل المقاوم األكثر تناسبا في نضالهم ضد االستعمار الغاشم.
أ-حركة اإلصالح الديني:
نشأت حركات اإلصالح الديني في بيئة اجتماعية فرضت فيها سلطات االحتالل غزوا معنويا بعد غزوها
المادي للتراب الجزائري ،حيث شنت السيما بعد ثورة المقراني " 0320حملة شعواء ضد اللغة العربية وضد
الشخصية الوطنية التي صقلتها ثورة األمير عبد القادر ،فأخذت تضيق على الممارسة ّ
الحرة للشعائر الدينية،
ووضعت األئمة ورجال الدين تحت السلطة المباشرة للسلطات االستعمارية وتصاعدت تدريجيا عملية تفكيك
المجتمع الجزائري"( )29بحمالت التبشير وخطف األطفال وتمسيحهم وتدمير المساجد واالستيالء على األوقاف
وصياغة معنى جديد للدين اإلسالمي بما يتناسب مع أهداف االحتالل ،وذلك بتكوين أئمة في المدارس الشرعية
الفرنسية ،تلك اإلجراءات والعوامل خلخلت البناء االجتماعي ،وأثرت على الهوية والثقافة الوطنية ،وهو ما دفع
بالنخب الدينية والمثقفة التجند ضمن حركات إصالحية ،بتبني برنامج المقاومة السلمية.
نظمت النخبة الدينية الممثلة في القضاة وخريجي المدارس الدينية والزوايا حركات احتجاجية سلمية
بتعبئة السكان وتجنيدهم لرفض االنخراط في التعليم الفرنس ي والمحاكم اإلدارية للمحتل ،حيث اعتبر عدة باحثين
"هذا الرفض وجها من وجوه المقاومة التي فتح الشعب الجزائري سجله الرافض لسياسة االحتالل االستعماري"()30
ورغم أن تلك المقاومة كانت سلمية في مواجهتها المستمرة مع االحتالل ،إال أن رد المستعمر كان قمعيا وعنيفا،
حيث تعرضت المساجد إلى الغلق والتهديم ،كما خربت الزوايا وتفككت بعض الطرق الدينية كالرحمانية إلى
91
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
مذاهب ،والواقع أن عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر ،شهد حركات مقاومة مستميتة ،كرد فعل طبيعي من
السكان من خالل تجندهم للدفاع عن ذاتيتهم االجتماعية ،وأحوالهم الشخصية ،وتترجم تلك المقاومة مدى
ارتباط الجزائري فكريا وشعوريا بواقعه االجتماعي الماض ي والحاضر ،الذي يحمل دالالت قيمية عن تاريخه الحافل
بالمعاني الدالة على حضارته ،كما تترجم تلك أفعال المقاومة ضد الغزو المعنوي ومحاولة االجتثاث من كيانه،
وهي مقاومة ضمن حركات واسعة بأطياف متعددة ضد خصم إمبراطوري ذو برنامج تدميري للمجتمع والدولة في
الجزائر.
تمعلمت الحركة اإلصالحية كحركة مقاومة إحيائية للذات والهوية الوطنية ،من خالل تجنيد زعماء
الزوايا ألتباعهم وإرسالهم لمختلف أرجاء القطر الجزائري ،بأفكار التجديد والمقاومة ضد الممارسات االستعمارية
الهادفة إلى مسخ الشخصية الجزائرية ،وتغيير الواقع االجتماعي لألهالي بنمط حياتي أوروبي ،باجتثاثهم من بيئتهم
االجتماعية الثقافية إلى بيئة غير متصلة في وقائعها بالسابقة ،وفي محاولة لتجريد اإلنسان الجزائري من أرضه
وكينونته وفصله عن شروط بقائه متحدا ومتفاعال مع أمثاله ،ودفعه إلى االغتراب وانفصال شخصيته ،لذلك ّنمت
الحركة اإلصالحية ،ثقافة المقاومة لمغريات الحياة األوروبية ومظاهرها ،وقد دل على ذلك ضعف اإلقبال على
التعليم الفرنس ي واللجوء للمحاكم االستعمارية ،ورفض التجنيد في الجيش الفرنس ي خاصة مع اندالع الحرب
العالمية األولى ،واضطر آالف الجزائريين إلى الهجرة القسرية للبلدان العربية خوفا من تجنيدهم والدفاع عن دولة
تحتل بالدهم ،وقد تجسدت الحركة اإلصالحية في قدرتها على تشخيص الحالة االجتماعية الثقافية الجزائرية
وتعبئة الرأي العام الوطني ضد اإليحاءات الفرنسية ،ذلك أنها تماهت في الشكل الديني حتى العقود األولى للقرن
العشرين كمنظم ودافع للمقاومة السلمية ضد االستعمار بعد فشل المقاومة المسلحة عموما ،و"رغم أن الحركة
اإلصالحية قد ظهرت في بعض المناسبات كحزب سياس ي معارض ،فإنها لم تكتس داللتها التامة إال بوصفها حركة
مقاومة ثقافية ،فمن وراء مطالبها اآلنية ذات الطابع السياس ي أو االجتماعي ،مثلت هذه الحركة شيئا أعمق وأبقى،
لقد جسدت إرادة الشعب الجزائري المسلم في الحفاظ على الخصائص األساسية لشخصيته الوطنية ،بعد أن
وعت مصير شعبها االستثنائي ،ولما كانت ترفض احتمال قيام جزائر فرنسية الروح والثقافة ،أعطت الحركة دفعا
قويا لالنتفاضة الوطنية ضد المسخ الثقافي الذي كانوا يستشرفون دالئله األولى والذين كانوا يخشون عواقبه
الوخيمة"(.)31
ب-حركة العرائض:
يقصد بـ "العريضة" "نص مطلبي من المستهدف أن يتبناه عدد من األشخاص منهم شخص واحد على
األقل لم تتح له إمكانية تعديله") ،(32وهي نمط من الفعل المقاوم لالحتالل ووسيلة احتجاجية سلمية استعملها
الجزائريون ،لتحصيل مطالبهم الوطنية ،حيث قدمت عديد العرائض وااللتباسات ،إلى رئيس الجمهورية الفرنسية،
الحاكم العام بالجزائر ،والجمعية العمومية الفرنسية ،عن طريق الرسائل ،كتيبات ،المقاالت الصحافية ،...وأمثلة
ذلك ما قام به حمدان بن عثمان خوجة حينما قدم عريضة احتجاج إلى الجمعية العمومية الفرنسية سنة 0388
يدافع فيها عن بلده ،ويصف فيها الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية مطالبا بلجنة تحقيق ،وهو الطلب الذي
استجابت إليه الجمعية ،إضافة للمكي بن باديس وعريضة األمير خالد للرئيس األمريكي ولسون نهاية الحرب
92
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
العالمية األولى(المطالبة بالحقوق والمساواة واالندماج مع المعمرين ،وباإلصالح الديني واالجتماعي ورد االعتبار
للشخصية الوطنية والمطالبة كذلك باالستقالل الوطني عن طريق الجمعيات والنوادي واألحزاب الوطنية).
اعتمدت النخبة المثقفة الوطنية في برنامج مقاومتها السلمية على الكتابات األدبية والصحفية ورسائل
االحتجاج والعرائض وتقديمها للسلطات االستعمارية ،وقد برز حمدان بن عثمان خوجة والمفتي ابن العنابي في
بداية االحتالل بنشاطهما التعبوي واحتجاجهما ضد اإلجراءات االستعمارية ،مما كلفهما النفي خارج البالد ،كما
اعتمد المكي بن باديس الذي تولى القضاء في قسنطينة ما بين سنوات 0329 -0319في مواجهة االستعمار ،على
العرائض ورسائل االحتجاج ،وبرز خطيبا "سياسيا وداعيا صحفيا ،وكان من القالئل الذين تفطنوا ألهمية
الصحافة واإلشهار في خدمة القضية"( ،)33وقد استغل عمله كقاض ي حتى يعارض إجراءات اإلحتالل ويؤلب السكان
على الفرنسيين من خالل خطبه فيهم وكتاباته ،والتي تعد تعبئة للرأي العام وإثارة لمشاعر الرفض للقوانين
المجحفة.
ومن الكتيبات التي نشرها المكي بن باديس سنة 0321ذلك العمل الذي سماه (بيان القوانين الردعية
المطبقة على اللصوص في األرياف الجزائرية) ،وكان يريد به الدفاع عن الشريعة اإلسالمية والمطالبة بتطبيقها على
األهالي الذين يرتكبون المخالفات بدل تطبيق قانون األهالي االستثنائي الذي كان من وضع المستوطنين الفرنسيين،
كما طالب ابن باديس بإحالل الشريعة محل قانون األهالي بعد أن رأى فشل نابليون في تطبيق مرسوم 0399
الخاص بالقضاء")(34
شجعت التعبئة المعنوية للفاعلين االجتماعيين على بروز حركة مقاومة سلمية في قسنطينة ،السيما وأن
الفرنسيين أصدروا في 04سبتمبر " 0339مرسوما جديدا حول القضاء اإلسالمي ،أبطلوا فيه بالخصوص دور
القضاة المسلمين في المسائل العقارية .وقد اتهم القضاة المسلمون بأنهم عطلوا قصدا تطبيق قانون األرض سنة
،0328وهو القانون الذي اعتبره القضاة المسلمون بالفعل معطال لهم...ونتج عنه ضرر كبير ألبناء جنسهم ،ونتيجة
لذلك قدم أهل قسنطينة إلى السلطات الفرنسية عريضة في سنة 0332تطالب بإلغاء المرسوم المذكور والرجوع
إلى مرسوم ديسمبر (.35"0399من ما بين ما جاء به هذا المرسوم هو إحالل قاض ي الصلح محل القاض ي المسلم في
الحكم بالشريعة اإلسالمية إذا رض ي الخصمان بذلك ،أي عدم ضرورة المحاكم اإلسالمية).
لقد شجع أسلوب العرائض نخب المجتمع الجزائري على مقاومة إجراءات االستعمار الفرنس ي ،وأسهم في
فعالية المقاومة السلمية ،من خالل رفض الممارسات التمييزية والعنصرية ضد الجزائريين ،كما وحدت الفعل
الجماعي المقاوم لمخططات اإلدارة االستعمارية في فرض القوانين التعسفية عليهم ،وهو ما أنتج أسلوبا جديدا
للمقاومة تمثل في نشوء الحركة الوطنية بجمعياتها وأحزابها ونواديها.
ج -نشوء الحركة الوطنية:
إن التحليل السوسيولوجي للحركة الوطنية هو تحليل لمقاومة المجتمع الجزائري عبر نخبه المثقفة
خصوصا ،والتي قاومت سلميا مع مختلف فئات الجزائريين االحتالل الفرنس ي ،وهو تشريح كذلك للوضع االجتماعي
االقتصادي للطبقة الكادحة المهاجرة في فرنسا من الجزائريين الذي فقدوا أمالكهم بوطنهم ،واضطرتهم الحاجة
المادية إلى العمل في مصانع الفحم وبناء المدن األوروبية وغيرها ،فالحركة الوطنية ،هي تلك التيارات السياسية
93
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
والنقابية والجمعيات الدينية اإلصالحية ،التي استبدل بها المجتمع الجزائري مقاومة االستعمار الفرنس ي بعد فشل
المقاومات المسلحة خالل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد كان نشوء الحركة الوطنية كامتداد للمقاومة الشعبية لالحتالل ،منذ العقد الثامن من القرن التاسع
عشر-كما سبق -مع النشاط السياس ي للمكي بن باديس الذي استفاد "من وسائل جديدة للدفاع عن المصالح
الجزائرية وخصوصا النشرات المطبوعة"( ،)36التي نشرها في الوسط الجزائري وأمام رجال السياسة الفرنسيين ،إذ
أن ممارسة االحتجاج بالعرائض والرسائل السياسية ،قد بلور الفكر التحرري في برنامج الحركة الوطنية رغم قمع
االحتالل الذي عبر عنه "النضال السياس ي في األحزاب السياسية ،الجمعيات النقابية ،الصحافة والمظاهرات
والفضل في ذلك أوال للمهاجرين الجزائريين في فرنسا الذين استطاعوا أن يتعرفوا من خالل اختالطهم بالمجتمع
الفرنس ي على التحوالت الكبرى السياسية االقتصادية واالجتماعية عبر العالم"( ،)37خاصة بعد انتشار األفكار
الماركسية التحررية عقب نجاح الثورية البلشفية سنة 0602وتكون األحزاب الشيوعية واستقطاب الحركات
العمالية.
لذلك ،من الممكن القول "بأن السياسة االستعمارية في الجزائر قد خلقت شروط نشأة الحركة الوطنية
وتطورها وحولت مطالبها من إصالحات اجتماعية إلى المطالبة باالستقالل الكامل"( ،)38وقد تكرست تلك
اإليديولوجية رغم عدم تجانس أعضاء الحركة الوطنية واختالف برامجهم ،كاالندماجيون واإلصالحيون ودعاة
االستقالل الوطني.
لقد استمرت الحركة الوطنية في المقاومة السلمية ،بتكون عديد األحزاب والجمعيات والنوادي ،وهي
كامتداد للمقاومة الشعبية قد كرست فعل المقاومة والنضال لتحقيق االستقالل الوطني وإعادة بناء الدولة
الجزائرية.
الخاتمة:
إن عملية إنتاج فعل المقاومة من طرف الفاعلين الجزائريين على الرغم من عدم اهتمامهم بنتائج الفعل،
قد كشفت عن عبقرية فذة تجلت في رواسب المقاومة المتجذرة في نفسية المجتمع ،والتي انبثقت عنها مشتقات
الفعل المقاوم ضد االحتالل الفرنس ي ،بتفاعل جمع أطياف المجتمع بنخبه المثقفة وطبقاته الكادحة وفئاته
الشابة ،تفا عل اتسم بالحكمة والقوة ضد مستعمر غاشم ،سلب الهوية الوطنية ومسخ الشخصية الجزائرية ،وأباد
الماليين من الجزائريين ،لتثبيت وجوده ،فكان السؤال المهم :من أين أتى الجزائريون بتلك الدافعية للمقاومة؟.
إن اإلجابة على التساؤل الذي طرحناه توا ،يجعلنا نركز على السيكولوجيا ،أي على سلوك الفاعلين
االجتماعيين الذي توحد بعد اإلدراك الكبير لمعنى الحرية والوطن ،لذلك لم تكن التضحيات التي قدموها كنتيجة
غير متوقعة للفعل المقاوم مهمة ،بالنظر لما سيتم تحقيقه من نصر على العدو واسترجاع لما سلب منهم.
94
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
الهوامش:
- 1غدنز ،أنتوني ،ترجمة د.فايز الصياغ ،علم اإلجتماع (بيروت :المنظمة العربية للترجمة،ط )0،1441ص .29
- 2فياللي ،صالح ،إيديولوجيات الحركة الوطنية في :سليمان رياش ي و آخرون ،األزمة الجزائرية :الخلفيات السياسية واالجتماعية واالقتصادية والثقافية
( بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،ط )0666 ،1ص ص .03 -02
-3د .يزلي ،عمار ،سوسيوجيا المقاومة الثقافية لالحتالل مدخل تاريخي لفهم البنية الذهني ،مجلة الحضارة اإلسالمية ،عدد 6رقم .01ص ص -082
.083
-4نايت بلقاسم ،مولود قاسم ،مفاهيم وصيغ خاطئة عن تاريخنا ،في :الثقافة-مجلة السنة 09العدد ( 60الجزائر :المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية،
)0639ص .16
-5نايت بلقاسم ،مولود قاسم ،شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة 0384جزء ( 1الجزائر :دار األمة ط )1442 ،1ص .160
- 6الهرماس ي ،محمد عبد الباقي ،المجتمع والدولة في المغرب العربي (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،ط )8،0666ص.01
- 7سعد الله ،أبو القاسم ،أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (الجزائر :الشركة الوطنية للنشر والتوزيع )0623 ،ص .21
- 8عدي ،الهواري ،ترجمة جوزيف عبد الله ،االستعمار الفرنس ي في الجزائر :سياسة التفكيك االقتصادي-االجتماعي ( 0694-0384بيروت :دار الحداثة،
ط )0638 ،0ص .23
- 9نفس المرجع ،ص .26
-10ذياب ،محمد حافظ ،علم االجتماع في الجزائر :الهوية والسؤال ،في سليمان الرياش ي وآخرون ،األزمة الجزائرية :الخلفيات السياسية واالجتماعية
واالقتصادية والثقافية (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية،ط )0666 ،1ص .841
-11بوكراع ،لياس ،ترجمة.أ.د.خليل أحمد خليل،الجزائر ،الرعب المقدس (الجزائر :المؤسسة الوطنية لالتصال والنشر واإلشهار،ط )00،1448ص .16
-12نفس المرجع ،ص .16
-13الهواري ،مرجع سابق ،ص.042
-14سعد الله ،أبو القاسم ،تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الثالث ( 0610 -0384الجزائر :دار البصائر )1442 ،ص.06
-15األشرف ،مصطفى ،ترجمة د.حنفي بن عيس ى ،الجزائر :األمة والمجتمع (الجزائر :دار القصبة للنشر )1442،ص.10
-16دبوز ،محمد علي ،نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة الجزء األول (الجزائر :وزارة الثقافة )1442،ص .11
-17فانون ،فرانتز ،ترجمة د.سامي الدروبي ود .جمال األتاس ي ،معذبو األرض (الجزائر :طبعة خاصة وزارة المجاهدين )1440،ص .190
-18ذياب ،مرجع سابق ،ص .840
-19سعد الله ،مرجع سابق ،ص 820
-20غدنز ،أنتوني ،ترجمة د.فايز الصياغ ،علم اإلجتماع (بيروت :المنظمة العربية للترجمة،ط )0،1441ص .211
-21نفس المرجع ،ص .219
- 22األشرف ،مرجع سابق ،ص.43
-23غدنز ،مرجع سابق ،ص .218
-24سعد الله ،أبو القاسم ،تاريخ الجزائر الثقافي ،الجزء األول ( 0384-0144الجزائر :دار البصائر )1442،ص .011
-25يحي بوعزيز ،ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين الجزء األول :ثورات القرن التاسع عشر (الجزائر :منشورات المتحف الوطني للمجاهد،
ط )0669 ،1ص.89
-26نفس المرجع ،ص.00
-27األميرة بديعة الحسني الجزائري ،األمير عبد القادر :حقائق ووثائق بين الحقيقة والتحريف (الجزائر :دار المعرفة )1443 ،ص .81
-28بوعزيز ،مرجع سابق ،ص .00
95
سوسيولوجيا المقاومة في الجزائر المقاومات الشعبية خالل القرن التاسع عشر نموذجا
-29الراس ي ،جورج ،الدين والدولة في الجزائر من األمير عبد القادر إلى عبد القادر (الجزائر:دار القصبة للنشر )1443 ،ص.36
-30حمادي ،عبد الله ،الحركة الطالبي ـة الجزائري ـ ـ ـ ـ ـة 0691-0320مشارب ثقافية وإيديولوجية (الجزائر :المؤسسة الوطنية للنشر واإلشهار )0661 ،1ص
.01
-31مراد ،علي ،ترجمة :يحياتن ،محمد ،الحركة اإلصالحية اإلسالمية في الجزائر من 0604-0611بحث في التاريخ الديني واإلجتماعي (الجزائر ،دار
الحكمة )1442 ،ص .182
-32سيسيل بيشو ،أوليفيه فيليول وليليان ماتيو ،ترجمة عمر الشافعي ،قاموس الحركات االجتماعية ،دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات ،الطبعة
األولى )1402 ،ص .022
-33سعد الله ،أبو القاسم ،تاريخ الجزائر الثقافي ،الجزء الرابع ( 0610-0384الجزائر :دار البصائر )1442 ،ص .091
-34نفس المرجع ،ص .090
-35نفس المرجع ،ص .091
-36كريستلو ،آالن ،المكي بن باديس وبعض نواحي الحركة الوطنية الجزائرية في القرن التاسع عشر ،في مجلة الثقافة ،السنة 00عدد( 90الجزائر:
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع )0630 ،ص .02
37
- Amour, Amar, Résumé de l’histoire de l’Algérie (Algérie : Edition RAIHANA, 2007) p, 235.
96