You are on page 1of 4

‫وقد اقتفى ابن سينا أثر اخوان الصفاء إذ عمد مثلهم الى تمثيل الحقائق الفلسفية‬

‫المجردة برموز حسية من جهة والى تفسير الرموز الحسية التي وردت في الشرع‬
‫بطريق التأويل البرهاني من جهة أخرى ‪ .‬فبالنسبة للقضية األولى نجد أن ابن سينا‬
‫قد نظم قصيدة عالج فيها مصير النفس بعد هبوطها الى عالم الكون والفساد مستخدما‬
‫الرموز واإلشارات العرفانية ‪ .‬ولقد اعتبرها النقاد من أجمل قصائد ابن سينا ‪ ،‬وهذه‬
‫القصيدة مطلعها ‪:‬‬
‫ورقاء ذات تعزز وتمنع‬ ‫هبطت إليك من المحل األرفع‬
‫كذلك كتب ابن سينا عدة قصص رمزية وقفها على معرفة النفس وقواها‬
‫وانفعاالتها وأحاسيسها وإدراكاتها للمعارف العقالنية منها قصة حي بن يقظان‬
‫ورسالة الطير وقصة سالمان وابسال ورسالة القدر ‪.‬‬
‫القصيدة العينية ‪:‬‬
‫وإذا انتقلنا الى قصيدة ابن سينا العينية نجد بسطا مفصال لعالقة الروح بالجسد ‪،‬‬
‫وابن سينا يمنح الفكرة شيئا من وجدانه ‪ ،‬فينقذ نصه من التقريرية ؛ وذلك باستعماله‬
‫ألفاظا شعرية ‪ ،‬وبعض األساليب البالغية ‪ ،‬معتمدا الخيال مركبا لفكرته ‪ ،‬إذ يقول‬
‫في المقطع األول ‪:‬‬
‫تــعـــز ٍز وتـــمــ ِّنــع‬
‫ِّ‬ ‫ورقـــاء ذات‬ ‫هبطت إليك من المح ِّل األرفع‬
‫وهـي التي ســـــفـرت ولم تتبرقع‬ ‫ف‬ ‫ٌ‬
‫محجوبة عن ك ِّل مقـلة عار ٍ‬
‫كرهــت فراقك وهـي ذات تفجــِّع‬ ‫وصلت على كر ٍه إليك وربـما‬
‫أنســــــت مجاورة الخراب البلـقع‬ ‫أنفت وما ألفـت فلـما واصـــلت‬
‫ومـــنـازال بــفراقــها لــم تــقــــنـع‬ ‫وأظنها نسـيت عهودا بالـحــمى‬
‫في مـيم مـركـزها بــذات األجـرع‬ ‫حـتى إذا اتصـلت بهاء هبوطها‬
‫بين الـمعـالـم والطـلـول الخــضــع‬ ‫علقت بها ذات الثقيل فأصـبحت‬
‫بـمـدامـع تهــمـي ولــم تــتــقــطــع‬
‫ٍ‬ ‫تبكي إذا ذكرت عهــودا بالحـمى‬
‫درســــــت بـتكرار الـرياح األربع‬ ‫وتظل ســــاجعة ًعلى الدمن التي‬
‫قفصٌ عن األوج الفســــيح المربع‬ ‫إذ عاقها الشــرك الثكثيف وصدها‬
‫ودنا الرحـيـل الـى الفضـاء األوسع‬ ‫حتى إذا َقرب المســير الى الحمى‬
‫عنـها حـليـف التـرب غــير مشـــيع‬ ‫ف‬ ‫ً‬
‫مفــارقــة لــكــل مـخــل ٍ‬ ‫وغدت‬
‫ما ليس يـدرك بالـعــــيـون الهــجـع‬ ‫سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت‬
‫والعـلـم يرفع كــل مـن لــم يـــرفـع‬ ‫شــــــاهق‬
‫ٍ‬ ‫وغدت تغرد فوق ذروة‬
‫وقد ذكرنا المقطع على طوله لكي يتضح لنا أن القصيدة وحدة متكاملة في تكثيف‬
‫معانيها ‪ ،‬وإيحاء رموزها ‪ ،‬يتابع فيها ابن سينا النفس منذ هبوطها – معتمدا تشبيهها‬
‫بالورقاء – من عالم األرواح العلوي عالم الغيب الى عالم الشهادة واتصالها بالجسد‬
‫مكرهة ‪ ،‬ثم انسها بمجاورته وهو الخراب البلقع ‪ ،‬ناسية ديارها العلوية ‪ ،‬وعهودها‬
‫التي اخذها هللا عليها حين خلقها‪ ،‬منغمسة في لذات الجسد ‪ ،‬وحب الشهوات ‪ ،‬ومتاع‬
‫الدنيا ولكنها ال تفتأ تذكر في حاالت صحوها ‪ ،‬تلك العهود بالحمى في عالمها‬
‫األصلي فينتابها الحزن ‪ ،‬وتنهمر دموعها ألما ً وحسر ًة بسبب شعورها بالذنب‬
‫لخضوعها للشهوات ‪ ،‬وخلودها الى اللذات ‪ ،‬وحينما تحاول الخالص تجد الجسد‬
‫قفصا محكما ‪ ،‬وشهواته ولذاته شركا ً يعيقها عن الوصول الى األوج الفسيح المربع‬
‫‪ ،‬فإذا حان موعد رحيلها وإيابها وهو الموت الذي ال خيار لها فيه ‪ ،‬فارقت البدن‬
‫غير آسفة عليه ‪ ،‬وال مو ِّدعة له وكيف تودعه او تشيعه وقد اصبح خرابا وانتهى‬
‫الى التراب وتعطلت ادراكاته وانحلت اجزاؤه ‪ ،‬حتى إذا رقدت رقدة الموت كشف‬
‫عنها الغطاء فأبصرت ما ال عين رأت من بهاء العالم العلوي وأنواره ‪ ،‬وحق لها ان‬
‫تغرد فرحة بخالصها من سجن الجسد وأدرانه وعودتها الى عالمها األصلي ‪ ،‬فوق‬
‫الذرى الروحانية ‪ ،‬في الدوحة اإللهية المقدسة ‪ ،‬وعند ذلك ينتهي الجانب القصصي‬
‫التصويري الرمزي الخيالي من القصيدة ‪ ،‬ويبدأ مقطع جديد يعالج مسألة تجريدية‬
‫بأسلوب عقلي مباشر يتضمن سؤاال خطيرا من اسئلة الفلسفة فهو يتسائل عن سبب‬
‫هبوط النفوس ‪ ،‬وعن الحكمة من هذه الرحلة ‪:‬‬
‫سام الى قعر الحـضـيـض األوضع‬
‫ٍ‬ ‫شامخ‬
‫ٍ‬ ‫فأليِّ شي ٍء أهبطت من‬
‫طويت عن الفطن الـلـبــب األروع‬ ‫إن كان أرســـلها اإلله لحكم ٍة‬
‫ً‬
‫ســـامعة بما لم تســــــــمع‬ ‫لتكون‬ ‫فهبوطها إن كان ضربة الز ٍ‬
‫ب‬
‫فـي الـعـالـمـيـن فخـرقهـا لـم يرقع‬ ‫ً‬
‫عــالمة بـكــ ِّل خــفية‬ ‫وتعـــود‬
‫حـتى لـقد غـربت بعـيـن الـمـطلع‬ ‫وهي التي قطع الزمان طريقها‬
‫ثـم انـطـوى فــكـأنــه لـم يـلــمــع‬ ‫فكأنهـا ٌ‬
‫برق تأل َق في الحــــمى‬
‫فهل كان هبوط النفس لحكمة خفيت عن األذكياء والحكماء ؟ او ان هبوطها‬
‫امر الزم لكي تصبح عالمة بك ّل خفيِّ في العالم األرضي ‪ ،‬بعد ان اطلعت على ما‬
‫في العالم العلويّ ؟ ان ابن سينا يرى ان ذلك ال يمكن حصوله ‪ ،‬ألن الزمان قطع‬
‫على النفس رحلتها ‪ ،‬وان المدة التي تقضيها منذ اتصالها بالجسد حتى مفارقتها له ‪،‬‬
‫مدة يسيرة ال تكفيها لكي تكتسب الكمال والمعرفة ‪ ،‬وتطلع على أحوال هذا العالم‬
‫وخفاياه ولذلك فأن "خرقها لم يرقع" وهو يضمن سؤاله سؤاال آخر عن الحكمة في‬
‫قطع عالقة النفس بالجسد ‪ ،‬أي ما الغاية من اإلنفصال ولما يتحقق الهدف الذي من‬
‫اجله أنزلت ؟ وكيف نعلل موت بعض األشخاص الذين هم في المهد ؟ فمن اين‬
‫ِّ‬
‫واإلطالع والمعرفة ‪ ،‬فالنفس إذن انما أرسلت الى العالم‬ ‫يتأتى لهم نشدان الكمال‬
‫األرضي ‪ ،‬وهبطت لتتصل بالجسد ‪ ،‬لكي تعرف أحوال العالم المادي ‪ ،‬وخفاياه‬
‫وتكون سعادتها وشقاؤها بقدر علمها بهذه األحوال والخفايا ‪ ،‬وان هذه المعرفة قليلة‬
‫جدا لقصر المدة التي تمكثها النفس في الجسد ‪ ،‬فكأنها برق تألق في السماء ثم‬
‫انطوى بأقصر سرعة ‪.‬‬
‫هل أجاب ابن سينا عن سؤاله او انه نقضه بجواب الشرط ؟ الحق ان ابن سينا لم‬
‫يقرر جوابا قطعيا ‪ ،‬بل ترك الباب مفتوحا امام اجتهادات الشراح والمفكرين ‪ ،‬وفي‬
‫بعض المصادر يضاف هذا البيت الى القصيدة ‪ ،‬وهو يدل على حيرة ابن سينا‬
‫وعجزه عن اإلجابة اذ يقول ‪:‬‬
‫عنه فنار العلم ذات تشعشع‬ ‫أنعم بر ِّد جواب ما أنا فاحصٌ‬
‫لقد اختلف الباحثون قدماء ومحدثون في شرح معاني القصيدة ‪ ،‬وداللة‬
‫مضامينها ‪ ،‬وحل رموزها ‪ ،‬وقد اختلف الباحثون بشكل خاص في مسألة قدم النفس‬
‫او حدوثها ‪ ،‬وخلودها في القصيدة ‪ ،‬كما اختلفوا في مسألة رد مفاهيم القصيدة الى‬
‫آراء افالطون ‪ ،‬او ارسطو او غيرهما ‪ ،‬فمن قائل ان ابن سينا افالطوني النزعة‬
‫فيها ‪ ،‬وانه تابع افالطون في نظرية المثل التي قال بها ‪ ،‬وعلى هذا اغلب الباحثين ‪،‬‬
‫وهؤالء يرون ان ابن سينا حينما قال (هبطت ) انما يعني ان النفس كانت في العالم‬
‫العلوي ‪ ،‬وانها سابقة للجسد بالوجود ‪ ،‬وهي جوهر روحاني مباين للجسد ‪،‬‬
‫وطبيعتها تختلف عن طبيعته ‪ ،‬ولم يكن التقاؤهما إال على سبيل الرفقة المؤقتة ‪ ،‬اذ‬
‫بعد ان تفارق الجسد بفعل الموت تعود الى عالم الخلود ‪ ،‬بينما يكون مآل الجسد‬
‫الفناء واإلندثار ‪ ،‬فأفالطون يرى ان الروح كانت في العالم العلوي تتأمل الذات‬
‫اإللهية ‪ ،‬وانها إذ اغفلت هذا التأمل هبطت الى األرض ‪ ،‬وسكنت الجسد عقابا لها ‪،‬‬
‫وتلوثت حتى اذا فارقت عادت الى عالمها العلوي ‪.‬‬
‫فالنفس تغادر الجسد ‪ .‬وكأنها تتحرر من سجن ‪ ،‬وتفلت من شرك ‪ ،‬ومن قائل ان‬
‫ابن سينا تابع ارسطو ‪ ،‬وانه انما عرض فكرة افالطون ليوجه نقدا إليها ‪ .‬ذلك ان‬
‫ارسطو يرى ان النفس توجد بوجود الجسم المهيأ الستقبالها وال تسبقه بالوجود ‪،‬‬
‫كذلك فأن ارسطو ال يتكلم على خلود النفس ‪ ،‬بل يرى فناءها مع الجسد حين الموت‬
‫‪ ،‬وتلك مفاهيم اكدها ابن سينا في كتبه ورسائله الفلسفية مثل رسالة "أحوال النفس"‬
‫‪ ،‬ورأى فريق ثالث ان ابن سينا متردد بين افالطون وأرسطو في فلسفته في النفس ‪،‬‬
‫فقد اخذ عن أرسطو ان النفس صورة والجسد هيوالها ‪،‬وأنها ال تسبقه في الوجود ‪،‬‬
‫وأخذ عن افالطون خلودها بعد فناء الجسد ‪ ،‬ورأى هؤالء الباحثون ان افالطونيته‬
‫ليست غريبة ‪ ،‬وال يعد ذلك تناقضا او اضطرابا في فكره ‪ ،‬في حين رأى بعض‬
‫الباحثين ان القصيدة تتضمن مفاهيم افالطونية واشراقية ‪ .‬ورأى بعضهم ان ابن‬
‫سينا تابع هواه بسبب تساؤله عن الحكمة من هبوط النفس وتعرضها للمحنة ‪،‬‬
‫واتصالها بالجسد ‪ ،‬وكأنه يعترض على حكمة الخالق جل شأنه ‪ ،‬ومنهم رأى انه‬
‫يخالف األديان ألنه ال يؤمن بمعاد النفوس واألجسام على ما ذكرته األديان ‪ ،‬ولكنه‬
‫يعتقد ان النفوس وحدها تبقى بعد موت البدن في نعيم او شقاء روحانيين ‪.‬‬
‫وجدير بالذكر ان الباحثين بالغوا في عرض قصيدة ابن سينا على نظريات‬
‫الفلسفة ومفاهيمها ‪ ،‬كما بالغوا في مطابقتها مع فلسفته في كتبه ‪ ،‬بل انهم اغرقوا‬
‫باإلشارة الى مشكالت فلسفية لم تطرحها القصيدة ‪ ،‬ولم تومئ اليها ‪ ،‬وقد اعتمدوا‬
‫في تفصيلها على ما عرضه الفيلسوف ابن سينا في غير قصيدته التي ال يمكن ان‬
‫تلم بهذه المسائل كلها ‪ ،‬وهي في عشرين بيتا او اقل ‪ ،‬او اكثر بقليل ‪ ،‬متناسين ان‬
‫ابن سينا كان فيها شاعرا اطلق عنان مخيلته ‪ ،‬وأوجز ورمز ‪ ،‬ويبدو ان تأويل‬
‫الباحثين جميعهم كان تأويال عموديا ‪ ،‬أي انهم شاطروا ابن سينا تخيله ‪ ،‬وانساقوا‬
‫خلف رمزيته في ان النفس هبطت من المحل االرفع الى العالم السفلي ‪.‬‬

You might also like