You are on page 1of 20

‫تجربة الشعر والصراع النفسي‬

‫لبيد بن‬ ‫عند الشاعر المخضرم‬


‫ربيعة‬

‫خلصاة البحث ‪:‬‬

‫يقوم هذا البحث بمحاولة استقصاء الحالة النفسية التي ينطلق منها الشاعر في‬
‫المراحل الوليية التي تسبق نظم القصيدة ‪ ،‬وهي محاولة لمعايشة تجربته الشعورية‬
‫التي من خللها يتم نظم القصيدة بمكيوناتها البداعية ‪ ،‬وهي مرحلة تكون مشحونة‬
‫بصراع نفسي داخلي يكون له تأثير كبير على الشاعر وبالتالي على شعره بصورة‬
‫عامة ‪ ،‬وهذا يتم عبر خلق تصيور عام لمعاناة الشاعر من خللا تحليل قصيدته‬
‫أول ‪ ،‬والنظر إلى أهم الظروف التي صااحبت نظم بعض قصائده ثانيا ‪.‬‬
‫وتربط هذه الدراسة بين هذه الحاجة المليحة للشاعر على نظم الشعر للتخيلصّ‬
‫من ركام عذاباته النفسيية ‪ ،‬وبين اهتمامه بالمتلقي ومحاولته اليدائبة على أن يكون‬
‫شعره ملئما لما في نفس السامع ‪ ،‬وهما أمرين يصعب الجمع بينهما ‪ ،‬وكان محور‬
‫هذه الدراسة خمس قصائد للشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫الباحث ‪/‬‬
‫م ـ م ‪ :‬حسن سعد لطيف‬

‫‪1‬‬
‫مقــــــــــــــــيدمــــــــــــ‬
‫ـة ‪:‬‬
‫الشعر هو المنفذ الكبير لولئك الذين يتأثرون تأثرا بالغا بما يطرأ على نفوسهم‬
‫من تقلبات سواء كانت خيرا أم شرا ‪ ،‬فتنطلق من وجدانهم مشاعر عارمة تفيض ـ‬
‫أحيانا ـ بحب عظيم ومعانن سامية ‪ ،‬وأحيانا بقسوة متناهية وثورة جامحة ‪ ،‬لن‬
‫الحاسيس التي تمل الوجدان ـ حين انفلت اللسان بالتعبير عن تلك الحاسيس ـ‬
‫هي المنتج الحقيقي لذلك الفن الجميل ) الشعر ( ‪ ،‬والغرائز التي تتختزن في قلب‬
‫الشاعر مدةة ثيم تثور فجأة هي المكيونة الفعليية لتلك الفكار التي تفعل فينا فعل‬
‫السحر ‪.‬‬
‫إين الروح الوادعة المسالمة ـ أحيانا ـ والروح الصلبة الخشنة ـ أحيانا أخرى ـ‬
‫هي التي تمتلك وسائل التعبير عن كوامن النفس البشرية وانفعالتها ‪ ،‬وأهم هذه‬
‫الوسائل اللغة التي تعيبر عن الفكار المختزنة بطريقة فنية خاصاة ترتفع درجات‬
‫كثيرة عن الكلم العام ‪ ،‬ولهذا نجد الشعر ـ في مواطن كثيرة ـ يبتعد عن النكشاف‬
‫والوضوح ‪ ،‬ويحتاج إلى وقفات مطيولة من التأيمل والتحليل والتأويل ‪.‬‬
‫وكثير من النفوس البشرية متطبعة على حب التطلع والتأيمل في الشياء‬
‫والخروج منها بكثير من المور التي ل نراها فيها بمجرد النظر الطبيعي ‪ ،‬والشاعر‬
‫يجب عليه ـ كما يرى طه حسين ـ أن يصور الشياء ل كما تشاء الشياء أو كما‬
‫تشاء الطبيعة )‪ ، (1‬ولهذا فإين معرفة النسان بالشياء أصابحت تمتزج بمؤثرات‬
‫نفسية ‪ ،‬تجعلها تبتعد خطوات عن العقل والمنطق ‪ ،‬لين صاورة الشياء في النفس‬
‫تعيبر عن حالت جديدة ‪ ،‬ل يمكن للنظر المجرد بغير وعي وتأيمل أن يكتشفها أو‬
‫يعيبر عنها ‪ ،‬وعلى هذا فإننا نلحظ وجود توافق واضح ) بين ما نسميه الشعور ‪،‬‬
‫وبين ما نسميه الوعي والتأيمل ‪ ،‬والشعر هنا رؤيا كيانية ‪ ،‬وتجربة نفسية تأمليية ‪،‬‬
‫وهو استبصار معرفي ‪ ،‬لكن أداته ليست النقل ول العقل ‪ ،‬وليست البرهان ول‬
‫المنطق ‪ ،‬إينها الحدس ‪ ،‬أو البصيرة ‪ ،‬أو عين القلب ( )‪. (2‬‬
‫وقد جعل حازم القرطاجني ) ينبوع الشعر من حركات النفس ‪ ،‬ومصيبه‬
‫النفوس النسانية في مدى تقيبلها أو إعراضها بحسب الفطرة ‪ ،‬أو بقوة الكتساب‬
‫الذي يرقى إلى درجة العادة ‪ ،‬ولهذا كان من الطبيعي أن يوجه الشاعر ليستمد‬
‫معانيه من التجربة الحسية ‪ ،‬بحيث ترتسم صاور المحسوسات في خياله ‪ ،‬ثيم‬
‫يستطيع خياله أن يؤيد التجربة المستمدة من عالم الطبيعة بقوة التخييل‬
‫والملحظة ‪ ،‬والتجربة المستمدة عن طريق الثقافة ‪ ،‬كدراسة ما جرى من قبل من‬
‫صاص ‪ ،‬أو ما‬ ‫تجارب غيره من الشعراء والدباء ‪ ،‬أو ما أورده المؤرخون والق ي‬
‫تبلور من التجربة الشعرية في صاور أمثالا ‪ ،‬والفادة منه زائدا على التجربة‬
‫الطبيعية ‪ ،‬وشاعريته هي التي تستطيع أن تهديه إلى كيفية التصيرف بهذا الزاد‬
‫الثقافي في شعره ( )‪. (3‬‬

‫‪2‬‬
‫لكن تبقى كل هذه العملية مقييدة بصراعات ذهنية كثيرة يعيشها الشاعر ‪،‬‬
‫ويعاني منها غاية المعاناة ‪ ،‬إيما أن يفحم بعدها أو يخرج منها برائعة شعرية ‪،‬‬
‫فالشاعر قبل أن يخوض تجربته الشعرية يمر بكثير من حالت الصراع النفسي‬
‫الداخلي ‪ ،‬ولول هذا الصراع لما تواجدت لدينا قصيدة الشاعر بمكيوناتها البداعية‬
‫هذه ‪.‬‬
‫إين القصيدة قبل أن تظهر بصورتها النهائية الكاملة تكون قد ميرت بكثير من‬
‫حالت اللهام والتفيكر والتديبر في قريحة الشاعر ‪ ،‬وقبل أن نعيش نحن في أجواء‬
‫القصيدة ونحلق في فضاءات معانيها ‪ ،‬يكون الشاعر قد عاش صاراعات تركيبها‬
‫ومخاض استيلدها ‪ ،‬وهي لحظة عسيرة ‪ ،‬تيجهد الشاعر فيها نفسه ‪ ،‬وينالا‬
‫الرهاق من نفسه ومن جسده ‪.‬‬
‫ومن العسير أن نجد أنفسنا في قلب تكوين القصيدة حيث منشأ صايرورتها‬
‫الولى ولحظة تركيب مكيوناتها ‪ ،‬لن معايشة الشاعر والغوص في أعماق ذاته ‪،‬‬
‫والوقوف على ذلك الصراع النفسي الممض الذي يعيشه ساعة نظم قصيدته أمر‬
‫يصعب تصيوره أو تخيله لدى المتلقي أو الناقد ‪ ،‬ولذلك يعيب الدكتور عبدالجبار‬
‫المطلبي على النقاد عدم قدرتهم على إعادة خلق هذه التجربة في نفوسهم ‪،‬‬
‫ليتمكنوا من الوصاولا إلى طبيعة هذا الصراع النفسي الذي يعانيه الشاعر حقيقة ‪،‬‬
‫يقولا ‪ ) :‬هناك قصور واضح من جانب النقاد في إعادة خلق التجربة الشعورية في‬
‫نفوسهم ‪ ،‬فهم ل ينظرون إلى القصيدة كما ينظر إليها الشاعر في لحظة تكوينها ‪،‬‬
‫وإينما ينظرون إلى قصيدته من خللا ظروفه ‪ ،‬وتقلبات الحياة به التي تركت آثارها‬
‫على إنتاجه الشعري ‪ ،‬وهذه المور ل يمكن أن تتغلغل إلى عمق الشاعر وتنفذ إلى‬
‫ذاته كثيرا ‪ ،‬بل تبقى حائمة حولا السطح الخارجي لما يتركه الشاعر من أثر إبداعي‬
‫( )‪ ، (4‬وليس بالمكان الدعاء بامتلك القدرة على معايشة هذه التجربة وإعادة‬
‫خلقها ‪ ،‬ولكنها محاولة لخلق تصيور حولا ما يمكن أن يعيشه النسان الذي يمر‬
‫بهذه التجربة الشعرية ‪ ،‬وقد اخترنا بعض قصائد لبيد الجاهلية والسلمية لتكون‬
‫محورا لهذه الدراسة ‪.‬‬
‫ولكن قبل أن ندخل إلى عالم لبيد وتجاربه الشعرية يتبادر إلى الذهن هذا‬
‫التساؤلا حولا مدى حاجة الشاعر إلى الشعر ومدى حاجته للتعبير ـ عبر طاقاته‬
‫البداعية الكامنة ـ عن هذه الحاسيس التي تجيش في نفسه إذا كان الشعر مجرد‬
‫صانعة ‪ ،‬وكل ما يجب عليه ليكون مقيدما أن يكون قادرا على إحكام صانعته ‪ ،‬وهذا‬
‫ما يذهب إلى تقريره كثير من علماء الشعر ونيقاده من القدامى والمحدثين ‪ ،‬مثل‬
‫الدكتور محمد رضا المبارك الذي يقولا ‪ ) :‬إين للمتلقي حضورا قويا داخل نظام‬
‫البيان العربي ‪ ،‬وقد ويجه هذا المتلقي طبيعة هذا النظام بسبب تداخل العوامل الدبية‬
‫والفكرية وتعاونها في إيجاده ‪ ،‬لن التجاه البلغي والنقدي لم يصنع خصوصايته‬
‫بمعزلا عن التجاهات الخرى ‪ ،‬كما أينه لم يقف موقف المعارض بل المنسجم ‪ ،‬لن‬
‫جل النقاد كانوا ذوي انتماءات فكرية واضحة ‪ ،‬أو هم قريبون من هذا أو ذاك من‬
‫التجاهات سواء كانت لغوية أم كلمية أم فلسفية ( )‪. (5‬‬

‫‪3‬‬
‫وعلى هذا أصابح الشاعر مكيبل بقيود عدم الخروج على ما يحدده له الخرون‬
‫من هذه المور ‪ ،‬وإعمالا فكره في كيفية التواصال معهم بحيث ل يأتي بما يستعصي‬
‫على أفهامهم ‪ ،‬لسييما وأين القصيدة هي البضاعة التي يشتد عليها الطلب في ذلك‬
‫الوقت ‪ ،‬والحاجة التي ل يمكن الستغناء عنها طويل ‪.‬‬
‫إين الشاعر ل يمكن أن يكون مجردا من الفكر المنطقي ‪ ،‬ومن طرق التحليل‬
‫العقلي مما يجعله مهييأ للتواصال والتقارب مع جمهوره ومستمعيه ‪ ،‬ولكن ذلك‬
‫يحدث كثيرا في الحماسييات التي يكون مدارها ـ غالبا ـ المدح والهجاء والفتخار‬
‫والوصاف ‪ ،‬أيما تلك الشعاعات التي يثيرها الخوف أو العاطفة أو الندهاش أو‬
‫الحزن فإينها تأتي بغير مؤثرات من المستمعين والمتلقين ‪ ،‬لنهم هم الذين يجب أن‬
‫يتواصالوا مع الشاعر ويقتربون منه ‪ ،‬ويتسلقون له دون أن يهبط إليهم ‪ ،‬لنه قد‬
‫انشغل عنهم بما يدور في كيانه من صاراعات ‪ ،‬وليس له إذا أطبقت عليه نشوة‬
‫المل أو سورة الغضب أن يفكر في ما يمكن أن يرتأيه الخرون في الذي يعيبر فيه‬
‫عن سعة أمله أو عمق ألمه ‪.‬‬
‫أيما الجانب التأثيري للشعر فهو قديم ‪ ,‬والشعر ـ أساسا ـ هو مصدر التأثير ‪،‬‬
‫وعليه فهو الذي يجب أن يتحيكم بالمتلقي والناقد وليس العكس ‪ ) ،‬فمنذ أن تدرس‬
‫الدب تدرس جانبه التأثيري ‪ ،‬إذ ل يتحقق للدب وجود إلي بتأثيره بالنفوس ( )‪. (6‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪4‬‬
‫لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلب العامري ‪ ،‬كان من أسرة هي الذروة‬
‫في المجد والشرف ‪ ،‬وكان أبوه يسمى ربيع المقترين لكرمه وسخائه )‪ ، (7‬وكان‬
‫لسان قومه في الجاهلية ‪ ،‬وكان كثير العتداد بهم ‪ ،‬يذكرهم ‪ -‬دائما ـ في أشعاره‬
‫مادحا ومفاخرا وراثيا ‪ ،‬ولذلك يقدم على غيره من شعراء بني عامر ‪.‬‬
‫أدرك السلم ‪ ،‬وقدم إلى رسولا ا ) صلـىّ الله عليه وآله وسلـمّ ( في وفد‬
‫بني كلب فأعلنوا إسلمهم وعادوا إلى ديارهم ‪ ،‬ويقالا أنه قدم أواخر حياته إلى‬
‫الكوفة ومات بها أوائل حكم معاوية بن أبي سفيان وله من العمر مائه وسبع‬
‫وخمسين سنة )‪. (8‬‬
‫كان لبيد طوالا حياته لسان حالا قومه ‪ ،‬المحامي عنهم والمفاخر بهم ‪ ،‬وقد‬
‫اختلف النقاد حولا شعره فمنهم من رآه سهل المنطق رقيق الحواشي ‪ ،‬ومنهم من‬
‫عيده مثال لخشونة الكلم وصاعوبته )‪ ، (9‬ولكن شعره ظيل يختلط بتلك النزعة‬
‫الدينية التي كانت تميز شعره وحياته حتى في جاهليته ‪ ،‬ولكن أعظم ما يميز هذا‬
‫الشعر تساميه غير المنقطع في التحليق في فضاءات الفكر ‪ ،‬والتفكير فيما وراء‬
‫ب لبيد كل‬ ‫الطبيعة ‪ ،‬والتأيمل في الملكوت اللمتناهي لمصدر العدلا والقوة ‪ ،‬وقد صا ي‬
‫تلك المعاني والتأملت في قوالب تعبيرية اتسمت بالجزالة والفخامة ‪ ،‬وكانت له‬
‫خللا كل ذلك حالته النفسية الخاصاة وتجاربه الشعورية التي تدفعه إلى هذا الفيض‬
‫الزاخر بالحكم والمواعظ ‪.‬‬
‫وميما تيعرف عن لبيد أينه بدأ نظم الشعر صاغيرا ‪ ،‬وربما كانت مرحلة الشباب‬
‫ذات أثر حاسم في صاقل موهبته الشعرية ‪ ،‬وقد عيبر لبيد عن تلك المرحلة من حياته‬
‫ببعض أشعاره التي يبدو فيها لهيا صااخبا محبا للهو والتمتع كغيره من شبان‬
‫قبيلته الذين كانت تثور في نفوسهم رغبات الهوى ‪ ،‬ونشوة الفروسية ‪ ،‬فيطاردون‬
‫العذارى في الوديان ‪ ،‬ويطرقون دور الخمر والقيان ‪ ،‬يقضون فيها لباناتهم ‪،‬‬
‫ويفرغون فيها حمى فتوتهم‪ ،‬وقد عيبر لبيـد عن فـورة الشـباب تـلك في بعض‬
‫أشعـاره كما في قولــه )‪: (10‬‬
‫أو أن يلوم بحاجة لــــــــــيوامهــا‬ ‫أقضي اللبانة ل أفيرط ريبــــــة‬
‫صاالا عقد حبائنل جيذامهـــــــــــا‬ ‫و ي‬ ‫أولم تكنن تدري نواتر بأننــــــــي‬
‫س حمامها‬ ‫أو يعتلق بعض النفو س‬ ‫تيراك أمكننة إذا لنم أرضهـــــــــــا‬
‫ق لذينذ لهوها وندامهـــــــــــا‬ ‫طل ن‬ ‫ت تدرين كم من ليلــــــــــنة‬ ‫بل أن س‬
‫ت إذ ترفعنت وعيز مدامهــــــا‬ ‫وافي ت‬ ‫قند بيت سامرها وغاية تاجــــــــنر‬
‫ض ختامهـــا‬ ‫ت‬ ‫ت‬
‫أو جوننة قدحنت وف ي‬ ‫ق‬‫سباء بكل أدكن عاتــــــ ن‬ ‫أغلي ال ي‬
‫بموتـ ينر تأتـلـ يهت إبهامهـــــــــــــــا‬ ‫بصبوح صاافينة وجذب كريـنـــــنة‬
‫لعيل منها حين هيب نيامهـــــــا‬ ‫ت حاجتها اليدجاج بسحــــرنة‬ ‫باكر ت‬
‫هكذا يحلق لبيد بعيدا في فضاء حماسته ‪ ،‬ويعيبر تعبيرا واضحا عن هذه المتع‬
‫الحسية التي تعتمل في نفسه ‪ ،‬فهو ل يبخل على نفسه بإمتاعها حتى لو تعيرض‬
‫بسبب ذلك إلى لوم اللئمين ‪ ،‬ويتحدث لصاحبته نوار ويحاولا أن يبين لها فروسيته‬
‫‪ ،‬فهو معشوق ‪ ،‬يواصال حبائل النساء متى يشاء ‪ ،‬ويقطعها متى يشاء ‪ ،‬كما ل‬

‫‪5‬‬
‫ينسى أن يعيدد لها مغامراته ولياليه الساخنة التي قضاها بين كؤوس الخمر‬
‫والستماع إلى غناء الجميلت ‪ ،‬وذلك بقصد إشعالا نار الغيرة في قلبها ‪.‬‬
‫ربما كان الشاعر في غير هذا الموضع سهل النقياد ‪ ،‬سليم الطوية ‪ ،‬يخشى أن‬
‫يفصح بكل مكنونات النفس التي يذكرها هنا ‪ ،‬لن طابع الستكانة والتخشع وإيثار‬
‫السلمة وحب الخير هو الذي يغلب عليه كثيرا ‪ ،‬فما الذي يدعوه إذن إلى مثل هذا‬
‫التصريح المفرط بما يدور في نفسه من مكابدات هذه المرحلة من العمر ؟ وهل حقا‬
‫أينه فعل كل ما ذكره في شعره هنا أم أينه من الشعراء الذين يقولون ما ل يفعلون ؟‬
‫لبيد أينه مير بثورة عارمة طغت على نفسه واجتاحت كيانه ‪ ،‬وأثارت فيه مكامن‬
‫القوة في الشاب المفعم بالحيوية ‪ ،‬فجعلته يرسل هذه الزفرات المتلحقة ‪.‬‬
‫أبعد ما يمكن أن نتصوره عن فتى في مقتبل العمر ‪ ،‬جعل منه القدر شاعرا‬
‫مق يدما على غيره من شعراء قومه ‪ ،‬يمتلك هذا الحس الكبير بوجوب المحاماة عن‬
‫عشيرته ‪ ،‬أن يكون معيرضا لكل هذه الضغوط النفسية ‪ ،‬فيأتي هذه المرحلة من‬
‫العمر ليعيب من لذائذ الحياة ومتع الدنيا وقد أوكل بالمهام الجسام وعظائم المور ‪،‬‬
‫إ يل إذا كانت المرأة سببا في هذا النقلب المفاجئ الذي أخرجه من مهمته الولى‬
‫إلى ما هو غير مألوف بالنسبة لشخصّ مثله ‪.‬‬
‫ومن تكون نوار هذه التي أيقظت فيه هذه الفتيوة المفاجئة ؟ وماذا يمكن أن تكون‬
‫بالنسبة إليه وهو الشاب الفارس الشاعر صااحب النسب الرفيع والمجد التليد ؟ لبيد‬
‫أن شخصا مثله يسوءه أن تمتنع عنه نوار أو غيرها من النساء ‪ ،‬ولذلك كان ذهنه‬
‫منشغل في كيفية النتقام منها ‪ ،‬فلم يجد خيرا من هذه الوسيلة ‪ ،‬وهي أن تكون‬
‫بالنسبة إليه مجرد امرأة ل تعني شيئا أكثر من ذلك ‪ ،‬ولكن النفس متألمة وحائرة ‪.‬‬
‫هكذا تعامل لبيد مع المرأة في بدء حياته ‪ ،‬ولكن المر الكبير الذي كان يقض‬
‫مضجعه ‪ ،‬ويشغله عن كل متعة حسيية ‪ ،‬هو المر الذي ل مفر منه ول مناص من‬
‫وقوعه لكل البشر ‪ ،‬فحقيقة الموت وحتميته هي القضية الكبرى التي شغلت فكر‬
‫لبيد طويل فمضى يذكرها في مواطن كثيرة من شعره ‪ ،‬ويقيلب فيها رأيه ‪ ،‬ويطيل‬
‫فيها تأمله ‪ ،‬وكم كان صاعبا عليه فقد أخيه )أربد(‪ ،‬حتى أصابح شعره نواحا ونشيجا‬
‫عليه ‪ ،‬تقطر كلماته أسى ‪ ،‬وتسيل أبياته دموعا ‪ ،‬من مثل قوله )‪: (11‬‬
‫ب‬‫ب وعناه ذكرى خيلــة لم تصقــــــ س‬ ‫طرب الفؤاد وليته لم يـطـر س‬
‫ب‬
‫فيما يشرن به بسفح المذنـــــ س‬ ‫سفها ولو أيني أطعت عواذلي‬
‫ي إذا تنهى لم تيعتـــــــــ س‬
‫ب‬ ‫إين الغو ي‬ ‫ت قلبا ل يريع لزاجــــنر‬
‫لزجر ت‬
‫ب‬
‫واذكر شمائل من أخيك المنج س‬ ‫فتعيز عن هذا وقل في غيـــره‬
‫ب‬ ‫أفردتني أمشي بقرن أعضـــــ س‬ ‫يا أربد الخير الكريم جـــدوده‬
‫ب‬
‫خ كضوء الكوكــــ س‬ ‫فقدان كل أ ن‬ ‫إن الرزية ل رزيـــة مثلــــها‬
‫ب‬ ‫ف كجلد الجـــر س‬ ‫ت في خل ن‬ ‫وبقي ت‬ ‫ذهب الذين تيعاش في أكنافهم‬
‫ثم إذا بالموت يقتطف أحبائه وأقربائه واحدا بعد الخر ‪ ،‬وليس له إل أن‬
‫يتذاكرهم بأناشيد رثائه الباكية ‪ ،‬ودموعه الساكبة ‪ ،‬فيقولا )‪: (12‬‬
‫ق ول ولـــــــسد‬ ‫ل والــــند مشف ن‬ ‫ما أن تعري المنون من احسد‬

‫‪6‬‬
‫كم هي مؤلمة هذه التجربة التي تأتي فيها الكلمات بموسيقاها الرتيبة ونهاياتها‬
‫المتكررة كناقوس يدق دقات متناغمة متلحقة ‪ ،‬ولكنها كلمات ناعية باكية‬
‫متفيجعة ‪ ،‬تنطلق من الجوف بحسرة ومرارة ‪ ،‬معيبرة عن ألم كبير وحزن عميق ‪.‬‬
‫ليس هيينا على المرء اجترار هذا الكم الهائل من الحزان ‪ ،‬لسييما إذا كان‬
‫الحزن بسبب موت أعز الناس وأقربهم إلى النفس ‪ ،‬حتى يصل إلى قناعة تامة بأينه‬
‫قد ) ذهب الذين تيعاش في أكنافهم ( ‪ ،‬فما من معين على الحياة بعدهم ‪ ،‬وليس له‬
‫إيل أن ينطوي على حزنه ‪ ،‬ويصارع ألم التفيرد والتغيرب بعد مضييهم ‪ ،‬ولكينه يترك‬
‫بين أيدينا هذه الكلمات التي حاولا من خللها إخماد ما يشتعل في النفس من حرقة‬
‫الشجن ‪ ،‬ولكن كيف يمكن له أن يمزج بين هذه الشاعرية وهذه المعاناة ؟ ريبما كان‬
‫النسان البسيط الساذج يعتقد أين الحزن على الفقيد يشغله عن كل شيء سوى ندبه‬
‫والبكاء عليه ‪ ،‬ولكن الحقيقة أين العزاء في هذا الرثاء ‪ ،‬والمعاناة التي يسيببها فقد‬
‫الحيبة هي مصدر الشاعريية ‪.‬‬
‫إين تجربة الشعر تنطلق من قيوة الحساس بالواقعة ‪ ،‬لسييما إذا كانت ميرة‬
‫ومؤلمة ‪ ،‬وتجربة لبيد هنا انطلقت من هذا الواقع المر الذي تميثل بنكبته بموت‬
‫س بضياع‬ ‫أخيه ) أربد ( الذي كان يعني له موطن سيره وشقيق نفسه ‪ ،‬وكأينه اح ي‬
‫شيقه الكبر ‪ ،‬واين عليه أن يكمل الحياة وكأينه نصف إنسان ‪ ،‬ولم تتوقف معاناته‬
‫عند هذا الحيد ‪ ،‬فهو يرى ـ في سريرته ـ أين ما وقع لربد ولغيره من شقائق النفس‬
‫يمكن أن يقع له كما وقع لهم ‪ ،‬فيكون هو ضحيته التالية ‪ ،‬ولكين لبيدا ـ كما ييتضح‬
‫من نفسييته ـ ليس ميمن يرهب الموت ‪ ،‬ولكنه ـ في الحقيقة ـ يخشى أن يموت دون‬
‫أن يكون قد أعيد العيدة للحباة الخرى التي تعقب الموت ‪ ،‬وهذا ما سنتبيينه من‬
‫أشعاره التي ستأتي لحقا ‪.‬‬
‫هذا الحس المشبع بالخوف من العاقبة ‪ ،‬أو الخوف من المصير المجهولا ‪ ،‬أو‬
‫ما يمكن أن يسفر عنه الغد هو الذي جعل لبيداة يقلع ـ في زمن مبكر من حياته ـ‬
‫عن متعه الحسية ‪ ،‬لينه يجد الموت الحقيقة الكبرى هي الخالدة ‪ ،‬وكل ما سواها‬
‫رجاء كاذب وأمل زائف ‪ ،‬وكلما أعمل ذهنه في التفكير بهذا المصير المحتوم خرج‬
‫إلينا بصرخة مديوية ينفث فيها ركام عذاباته المستقرة بالينفس ‪ ،‬من مثل قوله)‪:(13‬‬
‫ب‬
‫وقد جيربت لو تقــتدي بالمجــير س‬ ‫أرى النفس ليجت في رجاء مكيذب‬
‫ب‬‫ت من وفــند كرانم وموك س‬ ‫وصااحب ت‬ ‫ت من ملونك وسوقــــنة‬ ‫وكائن رأي ت‬
‫ب‬
‫ضــ س‬ ‫س تمتغ ي‬
‫عليسه السموط عـــاب ن‬ ‫ت من ذي بهجنة ورقيتـــــهت‬ ‫وساني ت‬
‫ب‬
‫بستحسن الثنــاء من وراء المغيي س‬ ‫وفارقتـــهت والـــوتد بينــي وبينــــهت‬
‫ب‬
‫ت مـــن عيم كرينم ومـن أ س‬ ‫وفارق ت‬ ‫ت من فقسد ابن عيم وخيلــــــــنة‬ ‫وأيبن ت‬
‫سوى أملي فيما أمامي ومرغبي‬ ‫فبانــوا ولم تيحــسدث عليي سبيلهــم‬
‫ب‬
‫ف ل أتعيجــــــ س‬ ‫بقصند من المعرو س‬ ‫ي أوانن ل تجئنـــــي منييتــــــي‬ ‫فــأ ي‬
‫ب‬
‫ج وغــــير س‬ ‫سوا ن‬‫ت من ت‬‫ول الخالدا ت‬ ‫ت بركـــنن مـن أبانن وصاــاحنة‬ ‫فلس ت‬
‫ب‬
‫ونفس الفتى رهنن بقمرسة مـــؤر س‬ ‫ة‬ ‫ت حاجــة‬ ‫ت وسلـــيـي ت‬ ‫ت لبانـــا ن‬‫قضي ت‬
‫تزخر هذه البيات بالشعرية في تشابك من المعاني المتداخلة التي تعيبر كلها عن‬
‫حقيقة واحدة ‪ ،‬هي أين الفناء لحق بالبشر لينه يتمتع بالحيوية وليس جلمودا ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ويتنامى النصّ ليكشف لنا في نهايته عن حقيقة ميرة هي التي أيقظت الشاعر من‬
‫سباته ‪ ،‬وأثارت فزعه ‪ ،‬فإينه بعد هذا العمر الذي قضى فيه لباناته ‪ ،‬وسيلى حاجاته ‪،‬‬
‫بل خشية أو وجل ‪ ،‬اكتشف فجأة أين حياته مرهونة بلحظة معينة إذا أتته ل مهرب‬
‫منها ‪ ،‬كما يرفع المقامر قيمة الرهان ليفوز بالنصيب الكبر فيقع الوقعة التي ل‬
‫نهوض بعدها ‪.‬‬
‫عمق التجانس في هذه البيات ينيبه إلى وجود صاراع فكري عاشه الشاعر ‪،‬‬
‫وحاولا فيه أن يمزج كل المعاني في مخييلته ليخرج بمعنى وحيد يعيبر فيه عن‬
‫خشيته من وقوع اللحظة الحاسمة ‪ ،‬لحظة مواجهة الموت قبل أن يكون قد أعيد له‬
‫عيدته ‪ ،‬لقد كانت لديه دوافع كثيرة للحياة ‪ ،‬ولكن تساقط الحيبة كتساقط أوراق‬
‫الشجر جعل هذه الدوافع لديه تتحيولا إلى حطام ‪.‬‬
‫طط كثيرا في أعماق نفسه ليصل إلى هذه المور التي عيبرت‬ ‫لبيد أين الشاعر خ ي‬
‫بصورة جليية عن عمق صاراعاته النفسية ‪ ) ،‬أرى النفس ليجت في رجاء‬
‫مكيذب ‪ ( ...‬إين لوم الذات هو إصارار على محاسبة النفس على خطاياها ‪ ،‬وكأينه في‬
‫محاولة للتكفير عنها ‪ ،‬أو التخفيف ـ على القل ـ من آثارها النفسية القاتلة ‪.‬‬
‫من خللا هذا التصيور لمعاناة الشاعر ل يستعصي علينا أن نستشعر هذه الروح‬
‫الهائمة المعذبة للشاعر تسري في أبيات قصيدته في شيء من التناسق بين‬
‫الكلمات والمعنى ‪ ،‬وهي تويلد فينا ليذة استشعارها ‪ ،‬أو ما يمكن أن نطلق عليه هنا )‬
‫لذة النصّ ( ‪.‬‬
‫ولو كان المر متعلقا بغير لبيد بن ربيعة لكان الوضع ل يتجاوز أحد أمرين ‪ ،‬إيما‬
‫أن يعيش الحياة كما هي ويستسلم للقدر المحتوم متى يقع وأينما يقع ‪ ،‬أو يبقى‬
‫خائفا حذرا مترقبا حتى تيفاجئه الموت بغتة ‪ ،‬ولكن لبيدا كان ذا عقل راجح ونفس‬
‫مؤمنة ‪ ،‬فهو يعلم حتما أين الموت ليس نهاية المطاف وإينما هناك حياة أخرى يجب‬
‫أن يكون مستعيدا لها ‪ ) ،‬فالنسان الجاهلي ‪ ،‬ومن خللا تصيوره للحياة كان يدرك أين‬
‫ا هو الخالق ‪ ،‬ولكنه ضيل الطريق ‪ ،‬فأنكر البعث والحساب وظين أين الموت نهاية‬
‫المطاف ‪ ،‬وعنده ينتهي كل شيء ‪ ،‬وتصيور كهذا يزرع في قلب صااحبه الهلع‬
‫والحزن ‪ ،‬ويدفعه إلى الشعور بعبثية الحياة وتفاهتها ‪ ،‬وهو يرى الحيبة يذوبون في‬
‫طع أوصاالهم في التراب ‪ ،‬فل أمل ول لقاء ( )‪. (14‬‬ ‫دنيا الفناء ‪ ،‬وتتق ي‬
‫هذا مايمكن أن يتصوره شخصّ سوى لبيد بن ربيعة الذي يعلم أين النفس تعود‬
‫إلى بارئها ‪ ،‬فيعيدها كما أنشأها أولا ميرة ‪ ،‬وقد صايرح لبيد بذلك كثيرا كما في قوله )‬
‫‪: (15‬‬
‫تتعار فتأتي ريبها فرط أشهسر‬ ‫هل النفس إل متعة مستعارة‬
‫ولذلك صايب لبيد كل أفكاره في قوالبه الشعرية في التأيمل والتفيكر في هذا الملكوت‬
‫الكبير الذي يجب على النسان أن يتعظ منه ويعتبر ‪ ،‬فكانت للحكمة في شعره‬
‫موضع كبير ‪ ،‬فهو تيكثر من التأيمل في الطبيعة النسانية ‪ ،‬وفي طبيعة الكون ‪ ،‬وهو‬
‫يرقب هذه التحولت والتطورات في حياة النسان وفي البيئة بصورة عامة ‪ ،‬ويلحظ‬
‫كميية التغيرات الهائلة التي تطرأ عليها ‪ ،‬فمنها ما يبلى ويقوده الدهر إلى الفناء ‪،‬‬
‫ومنها ما يستمر ويبقى ول يدركه العطب ‪ ،‬أيما النسان فهو من الكائنات التي‬

‫‪8‬‬
‫يصيبها التقادم والبلى ‪ ،‬ولذلك شغل فكره به وعلم أين مصيره الهلك ‪ ،‬وأينه في‬
‫طريق الفناء ل محالة ‪ ،‬ولكن عقلية لبيد المؤمنة وروحه المسالمة أرشدته إلى أينه‬
‫فناء مؤقت وموت غير دائم ‪ ،‬وأين مرجعه إلى خالقه الذي يعيد نشأته الولى ‪ ،‬ويبدأ‬
‫سبق بها لبيد من قبل‬ ‫محاسبته على ما اجتناه في حياته ‪ ،‬وقد تكون هذه النظرة ت‬
‫غيره من الشعراء ‪ ،‬مثل زهير بن أبي سلمى الذي يقولا )‪: (16‬‬
‫ليخفى ومهما تيكتم ا يعلسم‬ ‫فل تكتتمين ا ما في نفوسكم‬
‫ليوم الحساب أو تيعيجل فتينقسم‬ ‫تيؤيخر فيوضع في كتاب فيتيدخر‬
‫ولكن لبيد أطولا باعا وأعمق نظرة ‪ ،‬فله من تأملته وتصوراته ما يصل به إلى‬
‫الحكم البالغة ‪ ،‬والمعاني المحكمة ‪ ،‬يقولا )‪: (17‬‬
‫وتبقى الجبالا بعدنا والمصانـــــتع‬ ‫بلينا وما تبلى النجوم الطوالـــــتع‬
‫وكيل فتى يوما به اليدهر فاجــــــتع‬ ‫ع إن فيرق الدهر بيننــــــا‬ ‫فل جز ن‬
‫ع‬
‫ول أنا ميما أحدث الدهر جــــاز ت‬ ‫فل أنا يأتيني طريف بفرحـــــــــنة‬
‫بها يوم حيلوها وغدوا بلقــــــــتع‬ ‫وما اليناس إلي كالديار وأهلهــــا‬
‫يحوتر رمادا بعتد إذ هو ساطـــــــتع‬ ‫وما المرء إل كالشهاب وضوئه‬
‫ت ودائــــــــتع‬ ‫وما المالا إلي تمعمرا ن‬ ‫وما البير إل مضمرات من التقى‬
‫ولبيد يوما أن تتريد الودائــــــــــــتع‬ ‫وما المالا والهلون إل وديعـــة‬
‫كما ضيم أخرى اليتاليات المشايــتع‬ ‫ف بعدهــم‬ ‫ويمضون أرسال ونخلت ت‬
‫تيتيبر ما يبني وآخر رافـــــــــــــــتع‬ ‫وما الناس إل عاملن فعامــــــنل‬
‫ومنهم شقيي بالمعيشة قانـــــــــتع‬ ‫فمنهم سعيند آخذ لنصيبـــــــــــــــه‬
‫لزوم العصا تحنى عليها الصاابـتع‬ ‫أليس ورائي أن تراخت منييتـــــي‬
‫ت راكــــــــــــــتع‬ ‫ب كأيني كيلما قم ت‬‫أد ي‬ ‫أخيبر أخبار القرون التي مضــــت‬
‫تقادم عهد القين والنصل قاطــــتع‬ ‫ت مثل السيف تغيير جفـنــه‬ ‫فأصابح ت‬
‫عليك فدانن للطلوع وطالــــــــــــتع‬ ‫فل تبعدن إين المنيية موعـــــــــــــند‬
‫ول زاجرات الطير ما ا صاانــــتع‬ ‫لعمترك ما تدري الضوارب بالحصى‬

‫هذا النوع من التأمل في طبيعة الكون والنسان يشير إلى عقلية ناضجة ‪ ،‬تدرك‬
‫أين مصير النسان إلى فناء ‪ ،‬فنهايته الطبيعية عودته إلى رحم الرض ‪ ،‬وقد عيبر‬
‫الشاعر عن نظرته إلى تركيبة النسان وكيف يدركه التلف ‪ ،‬فشيبهه بالشهاب الذي‬
‫يكون ساطعا في بداية أمره ولكنه سرعان ما يتحيولا إلى رماد ‪ ،‬وعيبر عن رأيه في‬
‫خلود العمل الصالح ‪ ،‬لينه من أعمالا التقى التي تتضمر لصاحبها فتنفعه بعد حين ‪،‬‬
‫أيما المالا فإينه وديعة لبيد أن تترد ‪ ،‬وعيبر عن إيمانه بالبعث والحساب لين المالا‬
‫والهل وديعة عند النسان تيسألا عنهما يوم تترد الودائع ‪ ،‬وعيبر عن رأيه في طبيعة‬
‫النفس النسانية وتباينها ‪ ،‬فالناس في نظره عاملن إيما خاسر أو رابح ‪ ،‬وهما لذلك‬
‫شقيي وسعيد ‪ ،‬وعيبر عن نظرته إلى ما سوف يصيب النسان من العجز والهرم ‪،‬‬
‫فإينه لبيد له يوما من لزوم العصا منحنيا عليها بالصاابع ‪ ،‬ولكن يبقى علم المنيية‬
‫وعلم كل شيء بيد ا وحده ‪ ،‬يقيدره كيفما شاء ‪ ،‬فل زاجرات الطير تعلم منه شيئا‬
‫ول الضوارب بالحصى ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫البيات بمجملها تكشف عن نفسية معيذبة ‪ ،‬وخوف مشوب بالحذر ‪ ،‬ففي كل‬
‫بيت من هذه البيات تتميثل أمام عيني الشاعر حقيقة الموت وانقضاء العمر شيئا‬
‫فشيئا ‪ ،‬لقد حققت هذه البيات الفهم الكامل الصحيح لما يمكن أن يعيشه النسان‬
‫المكيبل بالشعور النفسي الداخلي الذي يتعيمق وجدانه ويعبث بدواخل نفسه ‪،‬‬
‫والموازنة بين ذلك وبين ما يتحسسه من ظواهر الشياء في الحياة المعتادة ‪ ،‬وهي‬
‫الشياء التي تكون في سجييتها ذات طبيعة صاامتة وجمود دائم ‪ ،‬ولكنها في مرآة‬
‫النفس تكون ذات حيوية مفرطة ‪ ،‬ذلك الحساس الذي ل يملك النسان البسيط‬
‫إمكانييات التعبير عنه وإبرازه بهذا الشكل ‪ ) ،‬إين تحويل رؤيا الشاعر من حدود‬
‫ذاتيتها إلى موضوعات مشتركة بين الناس هو الذي يساعد متلقي الشعر ونقاده‬
‫على الدخولا إلى عوالم الذات البشرية واستنفار ما فيها من مخبوء أو مستور ( )‬
‫‪. (18‬‬
‫ماذا يمكن أن يبقى من النسان وهو يحس هذا الحساس المر بتحطم النفوس‬
‫وانكسارها على جدران الحياة ‪ ،‬وبقاء الحجر والجماد وما شييده منهما شاهدا على‬
‫وجوده في يوم من اليام ؟ وما هو مقدار اللحظات التي يمكن أن يعيشها هانئا‬
‫مستقرا وهو يعتقد في قرارة نفسه أين ) كل فتى يوما به الدهر فاجع ( ؟ ولكن إيمان‬
‫لبيد المطلق بالرجوع إلى ا جعله ناسكا ‪ ،‬زاهدا في الحياة ‪ ،‬واعظا للبشر ‪ ،‬أنه‬
‫أدرك أين النسان وكل ما يمتلك ما هو إل وديعة في الدنيا ) ولبيد يوما أن تتريد‬
‫الودائع ( ‪.‬‬
‫لقد أصابح التأيمل في الحياة ‪ ،‬وفي طبيعة الكون ودورانه ‪ ،‬وطبيعة النفس‬
‫البشرية وتقيلباتها ديدن لبيد وشغله الشاغل ‪ ،‬فالنسان في نظره مريكب عجيب ‪،‬‬
‫وأعجب ما في أمره أينه يسعى في أمور يظين أين له القدرة على إتمامها ‪ ،‬وينسى‬
‫قدرة ا الذي بيديه حسم كل المور ‪ ،‬وإينما سعيه في ضللا ‪ ،‬وكل أمره باطل ‪ ،‬إذا‬
‫لم يكن أمرا قد كتبه ا له ‪ ،‬ويرى في مير اليام والدهور مواعظ للنسان يجب أن‬
‫يهتدي بها ‪ ،‬ويعلم أين كل ما تيحاذره من ا واقع إذا أراد ا له أن يقع ‪ ،‬يقولا )‬
‫‪: (19‬‬

‫ض أم ضللال وباطـــــــلل‬ ‫ب فيق ض‬


‫أنح لا‬ ‫أل تسألنا المرء ماذا يحــــــاولل‬
‫ويفنى إذا ما أخطأتهل الحبــــــــــائلل‬ ‫حبائلـــــــــهل مبثوثة بسبيلـــــــــهه‬
‫قضى عمل والمرلء ما عاش عاملل‬ ‫إذا المرء أسرى ليلــــة ظـن أنــــهل‬
‫ألـما يعظكّ الدهلر أـمكّ هابـــــــــــلل‬ ‫فقول لــه إنا كانا ليقسم أمـــــــرهل‬
‫ول أنت مما تحذر النفس وائـــــلل‬ ‫فتعلم أنا ل أنت مدرك ما مــضى‬
‫لعـلكّ تهديكّ القرونا الوائــــــــــلل‬ ‫فإذا أنت لم تصدقكّ نفسكّ فانتسـب‬
‫ب إلى ا واســــــلل‬ ‫بلى كـل ذي ل ـ‬ ‫أرى الناس ل يدرونا ما قدلر أمرهم‬
‫وكـل نعيمم ل محالة زائــــــــــــــلل‬ ‫أل كل شيمء ما خل ا باطـــــــــلل‬

‫‪10‬‬
‫دويهية تصفـر منها النامـــــــــــلل‬ ‫وكـل أناس سوف تدخل بينــــــــــهم‬
‫إذا كشفت عند الله المحاصــــــلل‬ ‫وكـل امر م‬
‫ئ يوما سيعـللم سعيــــــــــهل‬

‫كيان الشاعر ممتلئ بمثل هذه السرار ‪ ،‬يخشى كثيرا من عواقب الزمن ‪ ،‬حتى‬
‫صاار متيقنا من وجود ) دويهية تصفير منها النامل ( لبيد أن تفيرق شمل المجتمعين‬
‫‪ ،‬وتتلحق القاطنين بالمغتربين ‪ ،‬هذه النفس النسانية التي ذاقت كثيرا مرارة الفرقة‬
‫والتغيرب في الحياة أصابحت خاشعة لمر ربها ‪ ،‬متيقنة من حسابه ‪ ،‬وأينه لبيد أن‬
‫تنكشف بين يدي المحاصال ‪ ،‬فيعلم كل امرئ ما سعى ‪.‬‬
‫إينه يتجه بخطابه إلى النسان الذي ل تيحاذر الموت وهو متريبصّ به ‪ ،‬ول‬
‫يستعد له وهو مدركه ‪ ،‬ويبدو أين هناك علقة متوترة بين ما يعيشه الشاعر ويراه‬
‫عيانا من فقد الحيبة والمقربين ‪ ،‬وبين مايستشعره من صاراع داخلي حولا النتيجة‬
‫النهائية التي سيؤولا إليها مصيره ‪ ،‬وبأي كيفية تكون ؟ وهذه العلقة هي التي‬
‫تجعله يرى العجب من فعل النسان الذي ينغمر في حياة المليذات والهوى وينسى‬
‫هذا المصير الذي قتيدر عليه أن يلقاه كما لقيه الوائل من البشر قبله ‪.‬‬
‫كم من الناس يمكن أن يكون لهم الدهر واعظا ؟ وكم من المتعظين يمكن أن‬
‫يحيولا هذه العظات إلى قصائد تنطق بهويته وترسم صاورته وتحكي تجربته ؟ إين‬
‫لبيدا من القلئل الذين يفعلون ذلك ‪ ،‬لينه ل يمكن أن يدع عقله في سبات ‪ ،‬بل هو‬
‫في صاراع مستمر ‪ ،‬تنتقل الصورة المحسوسة من واقعه التمعاش إلى وعيه‬
‫الباطن ‪ ،‬فيترجمها ـ بعد تحليلها واستخلص التجارب منها ـ إلى قصائد تتشعرنا‬
‫بمشاعره وتحسسنا بأحاسيسه ‪ ،‬حيتى ليتبادر إلى المتميعن في قصيدته كأينه أمام‬
‫الشاعر عينه ‪ ،‬وكأين القصيدة ـ بدقائقها وتفاصايلها ـ هي الشاعر ذاته ‪.‬‬
‫ولكن يبقى كيان الشاعر يرزح تحت وطأة المعاناة وهذه النفس التي ل تهدأ ول‬
‫تستكين ‪ ،‬أين يمكن أن يجد الخلص ؟ وما هي الوسيلة التي بفضلها يلقى راحة‬
‫النفس ؟ ل يمكن أن يكون عاجزا عن إيجادها وهو الرجل الحكيم الذي صاقلته‬
‫تجارب الحياة ‪ ،‬وعركته سنوات العمر الطويل ‪.‬‬
‫التقوى في نظر لبيد هي المل ‪ ،‬والتمسك بما يدعو إلى وحدانية ا هو الخلص‬
‫من كل هذه المعاناة ‪ ،‬وترقب الرحمة من ا ورجاء مغفرته والموت على اليمان‬
‫هي الراحة البديية ‪ ،‬بهذا يصل لبيد إلى التخيلصّ من هذا الصراع النفسي الذي يأخذ‬
‫بمجامع نفسه ‪ ،‬ويستنزف مقدرته ‪ ،‬ويجعل شعره يقطر أسى ‪ ،‬وأبياته تسيل دموعا‬
‫على الراحلين من أهله وعشيرته ‪ ،‬ولكينه بعد أن اكتشف طريق الخلص تويجه إلى‬
‫ا يذكر فضله وعظمته وقدرته على المم السالفة فيقولا )‪:(20‬‬
‫وات ريبي ماجند محمــــــــوتد‬ ‫تقضزي الموتر وتأنجزز الموعـــــــــوتد‬
‫ث الخير والمعـــــدوتد‬‫ولهت أثي ت‬ ‫ولهت الفواضتل والنوافتل والعــتــــــل‬
‫ولقد بلـتهت بعد ذازك ثمـــــــوتد‬ ‫ولقد بلنت إرنم وعاند كيـــــــــــــــــدهت‬
‫فهم بأفنية البيوت همـــــــوتد‬ ‫خليــوا ثيابهم على عوراتهـــــــــــم‬
‫س كيف لبيـتد‬ ‫وسؤالا هذا النا س‬ ‫ت من الحياة وطولهــــــا‬ ‫ولقد سئم ت‬

‫‪11‬‬
‫ج خلوتد‬
‫لو كان للنفس اللجو س‬ ‫ت سبتاة قبل مجرى داحــــــ ن‬
‫س‬ ‫وغيني ت‬
‫انقضى المر ‪ ،‬كأين الشاعر ـ بعد طولا معاناة ـ أسدلا الستار على معاناته ‪ ،‬فقد‬
‫اكتشف وسيلة الخلص ‪ ،‬إينه " ا " الذي خبرت عاند كيده ‪ ،‬وعلمت ثمود شيدة‬
‫وطأته ‪ ،‬وهاهو الشاعر وقد سئم الحياة وطولها يتمينى الرجوع إلى ا ويرجو‬
‫رحمته ‪ ،‬لينه أيقن أين النفس ليس لها خلود ‪.‬‬
‫لقد أصابح طابع سلوك الشاعر يتميثل في هذا التطيلع الطهور إلى الحقيقة العظمى‬
‫‪ ،‬وهي حقيقة انتهاء الجل ‪ ،‬إينه يتطيلع إلى الحياة بنظرة جديدة هي نظرة المستظل‬
‫بشجرة لبيد أن يتركها ويمضي ‪ ،‬لقد أصابح الموت ـ في نظره ـ يرتفع درجات كثيرة‬
‫عن الحياة ‪ ،‬والدروس والتجارب التي مير بها عيلمته أن يستعيد لملقاته ‪ ،‬لقد أصابح‬
‫حكيما في التعامل مع الموت والحياة ‪ ،‬وقد أفرغ لنا حكمته التي واتته عن طريق‬
‫تجاربه السابقة بهذه القصائد التي كشفت لنا جهد معاناته الفكرية ‪ ) ،‬فأبيات‬
‫الحكمة تنبثق ـ عادة ـ عن ضرب من التنظير الفكري لنتائج التجربة التي تستقطب‬
‫جهد المعاناة ‪ ،‬بيد أين الشاعر ل يسترفد ـ حيتى من خللا هذا المفهوم ـ تفاصايل‬
‫التجربة وحدها ‪ ،‬وإينما يؤولا إلى قيم غدت أشبه بالبديهيات في الحياة الفكرية ‪،‬‬
‫فامتلكت القدرة على منح الموقف الني قوة القانون الملزم ( )‪. (21‬‬
‫وريبما كانت خلصاة تجربة لبيد ليست مواقف آنيية تستفيزه فجأة فيستنفر طاقاته‬
‫الفكرية ليعيبر عن إحساسه بها في التو واللحظة ‪ ،‬ولكينها خزين الذاكرة ‪ ،‬وتاريخ‬
‫الصراع الطويل الذي عاش ـ لحقبة مديدة ـ قلق أيامه ولياليه ‪ ،‬فأصابح يسترجع‬
‫ق تفاصايله ويسكبه في قوالبه الشعرية التي يبث لنا فيها عصارة تجاربه ‪،‬‬ ‫أد ي‬
‫) ولعيل من الصواب القولا أين الذاكرة هي موهبة الشعر الطبيعية ‪ ،‬لين الخيالا نفسه‬
‫ليس إيل ممارسة للذاكرة ‪ ،‬فما من شيء تتخيله ميما لم يسبق اللمام به ‪ ،‬والقدرة‬
‫على التخييل هي قدرتنا على تذيكر ما كينا جيربناه ‪ ،‬فنطيبقه على مواقف أخرى ‪،‬‬
‫ولهذا فالشعراء الكبار هم أولئك الذين يمتلكون ذاكرة عظيمة تتجاوز أقوى تجاربهم‬
‫ق ملحظاتهم عن الناس والشياء ميما يقع بعيدا عن مراكز أنفسهم‬ ‫إلى أد ي‬
‫المستقطبة ( )‪. (22‬‬
‫وليس لبيد كغيره من الشعراء في التعبير عن تجاربه الشعورية ‪ ،‬فهناك تباين‬
‫سسهم للمؤثرات الخارجيية ‪ ،‬وما يطرأ على‬ ‫واختلف كبير بين الشعراء في مدى تح ي‬
‫حياتهم من تحيولا أو تغيير حتى لو كان طفيفا ‪ ،‬فبعضهم يعيش ما تيدعى " بالحالة‬
‫الشعورية " الدائمة حيتى أين كيل شيء حوله يتحيولا إلى رمز يثير لديه حالة‬
‫شعورية معيينة )‪ ، (23‬ومنهم من يحتاج إلى هيزة عنيفة تبعث فيه حالة خاصاة في‬
‫موقف معيين أو عيدة مواقف مشابهة ‪ ،‬فتتأجج فيه مشاعر عارمة تبعثه على قولا‬
‫الشعر ‪ ،‬فينفث فيه تلك المشاعر الساخنة التي يمتلئ بها كيانه ‪ ،‬وعلى هذه الشاكلة‬
‫لبيد بن ربيعة ‪.‬‬
‫وقد يكون في هذا التعبير المفعم بالحالت الشعورية المتأججة في دواخل‬
‫الشاعر الجاهلي عامة وليد خاصاة ما يدعون إلى النظر بشيء من الخصوصاية إلى‬
‫ما بناه النقاد القدماء والمحدثون حولا ققضية التلقي في الدب العربي ‪ ،‬أو العلقة‬
‫بين الشفوية الشعرية والسماع ميما جعل النقد الشعري يتأسس على السماع ‪ ،‬يعني‬

‫‪12‬‬
‫مستوى الصلة بين الشعر وسامعه ‪ ،‬إذ ) لم يكن الشاعر الجاهلي ـ في هذا المنظور‬
‫ـ ينشئ الشعر لنفسه ‪ ،‬بل لغيره ‪ ،‬لمن يسمعه ‪ ،‬لكي يتأثر به ‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫تتقاس شاعرية الشاعر ‪ ،‬بقدرته على البتكار الذي يؤثر في نفس السامع ‪ ،‬وهذا‬
‫ميما جعل الشاعر مسكونا بهاجس أساسي هو أن يكون ما يقوله مطابقا لما في‬
‫نفس السامع ‪ ،‬ذلك أين مدى فهم السامع لما يقوله هو الذي يحدد مستوى بيانه‬
‫الشعري ‪ ،‬لكن هذا الذي في نفس السامع ليس إلي الشيء المشترك العام ‪ ،‬وليس‬
‫فهمه إلي انعكاسا للذوق الشائع العام ( )‪ ، (24‬وهذا يعني ـ بالمقابل ـ أين كل ما أراد‬
‫أن يعيبر عنه لبيد من تجاربه الشعورية لم يكن ينطلق فيه من معاناته ومكابداته‬
‫الخاصاة ‪ ،‬بل من معاناة ومكابدات الخرين ‪ ،‬كأينه أصابح الوسيلة التي يعيبرون بها‬
‫جميعا عن الغامض والمعتم في أنفسهم الذي يعجزون عن التعبير عنه ‪ ،‬فهل يمكن‬
‫أن يميثل هذا نوعا من التطابق في تجارب النسان بحيث تأتي متشابهة أو متماثلة‬
‫إلى حد بعيد ؟ كأين المتلقي هو الشاعر ‪ ،‬والشاعر هو المرآة التي يرى فيها المتلقي‬
‫نفسه ‪.‬‬

‫ريبما كان من الجدر أن نقولا ‪ :‬إين الشاعر ل يميثل إلي نفسه ‪ ،‬ول ينطق إلي‬
‫بتجربته ‪ ،‬ول يعيبر إلي عن إحساسه ‪ ،‬لينه مهما بلغ من القدرة على استشعار معاناة‬
‫سس آلمهم فإينه إحساس مؤقت ل يلبث أن يزولا بزوالا مؤثراته ‪،‬‬ ‫الخرين وتح ي‬
‫ويبقى صااحب الجرح وحده يحمل معاناته ويكابد آلم جرحه ‪ ،‬وعلى ذلك فإينه‬
‫يستحيل إيجاد نوع من التكامل بين الشاعر والمتلقي ‪ ،‬وليس كل ما يمر به الشاعر‬
‫من حالت الشعور التي أثارت فيه عواطفه الكامنة وقدحت لديه زناد قريحته أن‬
‫تأتي تأتي على شيء من التطابق أو التماثل مع الحالت الشعورية التي تثيرها‬
‫القصيدة في المتلقي بعد سماعها أو قراءتها ‪ ،‬لينها ـ في أكثر الحيان ـ تمس وترا‬
‫ساسا في قلب المتلقي ل تيشترط أن يكون هو الوتر ذاته في قلب الشاعر ‪ ،‬وريبما‬ ‫ح ي‬
‫صاادف مع مرور الزمن أن يكون الشاعر ذاته ذو تجربة أخرى مغايرة فل يحس‬
‫بذلك النتشاء الذي مير به حين نظم قصيدته أيولا ميرة ‪ ،‬لينه غيير أفكاره ‪ ،‬ونسي‬
‫مشاعره الولى ‪ ،‬وهكذا يعود إلى قصيدته ـ بعد زمن ـ فيجدها ل تميثل مشاعره‬
‫الحاليية ول تنطق بتجاربه الجديدة )‪ ، (25‬ول يمكن لشاعر حقيقي ) أن يكف عن‬
‫النظر في مراياه الشعرية ‪ ،‬فهي وسيلته للرؤيا ومراجعة الذات ‪ ،‬لذلك تمثل لحظات‬
‫النعكاس التأيملي درجات عديدة من الفكر الشعري المبدع ‪ ،‬ل تعود كلها إلى‬
‫العجاب بالذات في طقس نرجسي مألوف ‪ ،‬بل تحيل في كثير من الحيان إلى‬
‫أقصى لحظات التركيز الوجداني للتقاط تجربة الخلق في انهمارها وانحباسها ‪ ،‬في‬
‫تدفقها وتعثرها ( )‪. (26‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪13‬‬
‫خاتمــــــــــــ‬
‫ة‬

‫لم يكن الغوص في أعماق الشاعر واستكناه ما في نفسه من حقائق ‪ ،‬ومحاولة‬


‫معايشة تجربته الشعرية بالمر الهيين ‪ ،‬لين الطريق إلى ذلك المر ليس معيبدا ‪،‬‬
‫فالفارق الزمني بيننا وبينه كبير جدا ‪ ،‬وليس بين أيدينا إلي هذا التراث الذي خيلفه‬
‫لنا ‪ ،‬نعيش ساعات طوالا في البحار بين كلماته ومعانيه ‪ ،‬وينقلنا بأجنحته إلى‬
‫عوالمه الخاصاة ‪ ،‬كأينه يعيد بنا الزمن إلى لحظة نشأته ‪ ،‬فنحاولا أن نستكشف ما‬
‫تحت أجنحته من خفايا ‪ ،‬ونستخلصّ منه الدروس والعبر ‪.‬‬
‫لم يكن لبيد بن ربيعة رجل سعيدا ‪ ،‬ولم يكن شخصا عاش حياة هانئة ‪ ،‬لينه‬
‫كان يحيا حياة الفلسفة الذين ينظرون إلى الكون والنسان والطبيعة بعيون فاحصة‬
‫ونظرات مدققة ‪ ،‬ويتأيملون في الحي والجماد كل الحركات والسكنات ‪ ،‬فيخرجون‬
‫من تأملتهم بمواعظ للنسان لم يكن يعيها أو يستطيع اليتوصال إليها ‪ ،‬فينقلون إليه‬
‫ثمار تجربتهم عيله أن يتعظ بها ‪.‬‬
‫وكان الموت هو القضية الكبرى التي أثارت مخاوف الشاعر ‪ ،‬وخلقت لديه‬
‫ذلك الصراع النفسي الطويل الذي عانى منه كثيرا ‪ ،‬كما ديلا على ذلك شعره ‪ ،‬وكانت‬
‫له خللا ذلك تجاربه الشعورية التي خرج منها بمقدار كبير من الحكم والمواعظ‬
‫تديلا بمجملها على فناء النسان وخلود العمل الصالح ‪ ،‬وكان في بداية أمره يرهب‬
‫الموت ويخشى على أهله وصاحبته ذلك المصير المجهولا ‪ ،‬ولكن بصيرته الثاقبة‬
‫وروحه الوادعة المسالمة فتحت أمام عينيه سبيل الخلص ‪.‬‬
‫أبيات الشاعر مفعمة بما يدلا على نفسيته ‪ ،‬في كل بيت تجد روحه هائمة غير‬
‫مستقرة ‪ ،‬يبرز فيها طابع الحزن وتختفي منها نغمة الفرح ‪ ،‬وتنطوي تحت معانيه‬
‫تجمل كثيرة من التويتر والقلق ‪ ،‬وكلها تشير إلى معاناته وخوفه ميما هو مخبوء له ‪،‬‬
‫وتتم يثل شاعريته في تأملته وتحليقه في فضاءات الفكر ‪ ،‬ورجوعه إلى تاريخ المم‬
‫واستخلص ما فيه من تجارب وعبر ‪.‬‬
‫وجد لبيد في الشعر منفذا كبيرا للخروج من عذاباته النفسية ‪ ،‬فراح ينفث فيه‬
‫همومه وكربه ‪ ،‬وقد اتسم شعره بكثير من القيم الروحية التي تلئم نفسيته المهذبة‬
‫‪ ،‬وهي قيم تنطق بحقيقته وترسم لنا صاورته ‪ ،‬رجل عركته السنون وصاقلته‬
‫التجارب ‪ ،‬فكثرت في شعره أبيات التأمل والحكمة ‪ ،‬والحكمة في شعره تنظير فكري‬
‫لنتائج تجربته المعاشة ‪.‬‬
‫وتجربة لبيد في الشعر هي خلصاة مواقف كثيرة ‪ ،‬عاش الشاعر صاراعا نفسيا‬
‫مريرا قبل أن ينفث بها في شعره ‪ ،‬وقد اعتمد على ذاكرته في استرجاع تفاصايلها ‪،‬‬
‫وتجيل تلك المواقف قد ارتبطت بمعاناته الكبيرة بفقد أقربائه وذويه ‪ ،‬فكانت تميثل‬
‫نقطة تحيولا مهيمة في مرحلة مبيكرة من حياته ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫أخيرا فإين تجربة الشعر عند لبيد بن ربيعة وما صااحبها من صاراع نفسي‬
‫تجعلنا ننظر إليها بشيء من الخصوصايية بعيدا عن قضية التلقي في النقد العربي ‪،‬‬
‫لين هذه القضية ريكزت على اهتمام الشاعر بالمتلقي ‪ ،‬وسعيه الدؤوب في إرضاء‬
‫أذواق مستمعيه ‪ ،‬وبذلك تتقاس شاعريته ‪ ،‬وهذا يناقض ما وجدناه من سعي لبيد‬
‫في التعبير عن تجربته ‪ ،‬وما يدور ويضطرب في نفسه من صاراعات ‪ ،‬لينه إذا اهتيم‬
‫بالمتلقي فقد اهتمامه بذاته ‪ ،‬فتهدأ نفسه ويزولا منها ذلك الصراع الذي يؤجج‬
‫شاعريته ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪15‬‬
‫الهوامش‬
‫)‪ (1‬نقل عن ‪ :‬نظرات في الشعر العربي الحديث ) د‪ .‬عبده بدوي ( ‪.115 /‬‬
‫)‪ (2‬الشعرية العربية ) أدونيس ( ‪.71 /‬‬
‫)‪ (3‬تاريخ النقد الدبي عند العرب ) د‪ .‬إحسان عباس ( ‪.554 /‬‬
‫)‪ (4‬مواقف في النقد والدب ‪.182 /‬‬
‫)‪ (5‬استقبالا النصّ عند العرب ‪.211 /‬‬
‫)‪ (6‬المصدر نفسه ‪.35 /‬‬
‫)‪ (7‬الشعر والشعراء ‪.123 /‬‬
‫)‪ (8‬المصدر نفسه ‪.123 /‬‬
‫)‪ (9‬ينظر مقدمة ديوان لبيد ‪.5 /‬‬
‫)‪ (10‬ديوان لبيد ‪ ، 230-228‬الغاية‪ :‬راية يرفعها‬
‫مار لييعرف مكانه ‪ ،‬يأغُلي السباء‪ :‬أي‬ ‫الخ م‬
‫أشتري الخمرة الغالية ‪ ،‬العاتق‪ :‬القديمّ ولونه‬
‫أدكن ‪ ،‬جونة‪ :‬سوداء ‪ ،‬الكرينة‪ :‬الجارية التي‬
‫تستعمل العود في الغناء ‪ ،‬الموتـر‪ :‬العود ‪،‬‬
‫الدجاج‪ :‬أراد بها الديوك ‪.‬‬
‫)‪ (11‬ديوانه ‪ 28 /‬ـ ‪ ،29‬المذنب ‪ :‬اسم جبل ‪ ،‬يريع ‪ :‬يتعظ ‪.‬‬
‫)‪ (12‬المصدر نفسه ‪.39 /‬‬
‫)‪ (13‬المصدر نفسه ‪ 17 /‬ـ ‪ ،18‬سانيت ‪ :‬لطفت ‪ ،‬رقيته ‪ :‬رفقت به ‪ ،‬السموط ‪:‬‬
‫التاج فيه الجواهر ‪ ،‬أبان وصااحة وسواج وغيرب ‪ :‬أسماء جبالا ‪ ،‬المؤرب ‪ :‬الذي‬
‫يرفع قيمة الرهان ويفوز بالقسم الكبير منه ‪.‬‬
‫مقيدمة في نظرية الشعر السلمي ) عباس المناصارة ( ‪.149 /‬‬ ‫)‪(14‬‬
‫ديوانه ‪.67 /‬‬ ‫)‪(15‬‬
‫شعر زهير بن أبي سلمى ‪.14 /‬‬ ‫)‪(16‬‬
‫ديوان لبيد ‪ ، 81 /‬المصانع ‪ :‬المباني الشاهقة أو القصور ‪ ،‬المعمر ‪:‬‬ ‫)‪(17‬‬
‫الوديعة التي تذهب مدى العمر ‪ ،‬يتيبر ‪ :‬يخسر ويهلك ‪.‬‬
‫)‪ (18‬جماليات المعنى الشعري ) عبدالقادر الرباعي ( ‪.23 /‬‬
‫)‪ (19‬ديوانه ‪ 130 /‬ـ ‪ ، 132‬النحب ‪ :‬النذر ‪ ،‬هابل ‪ :‬ناكل وذلك دعاء عليه‬
‫‪ ،‬واسل ‪ :‬متخذ الوسيلة إلى ا ‪.‬‬
‫)‪ (20‬المصدر نفسه ‪.38 /‬‬
‫)‪ (21‬دراسات نقدية في الدب العربي ) د‪ .‬محمود الجادر ( ‪.151 /‬‬
‫)‪ (22‬مواقف في الدب والنقد ‪.208 /‬‬
‫)‪ (23‬تينظر المصدر نفسه ‪.196 /‬‬
‫)‪ (24‬الشعرية العربية ) أدونيس ( ‪.22 /‬‬
‫)‪ (25‬تينظر جماليات المعنى الشعري ‪.193 /‬‬

‫‪16‬‬
‫نبرات الخطاب الشعري ) د‪ .‬صالح فضل ( ‪.59 /‬‬ ‫)‪(26‬‬

‫المصادر والمراجع ‪:‬‬

‫) ‪ ( 1‬استقبالا النصّ عند العرب ‪ :‬د‪ .‬محمد رضا مبارك ‪ ،‬المؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬الطبعة الولى ‪1996‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 2‬تأريخ النقد الدبي عند العرب ‪ :‬د ‪ .‬إحسان عباس ‪ ،‬دار الثقافة ‪،‬‬
‫بيروت ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1401‬هـ ـ ‪1981‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 3‬دراسات نقدية في الدب العربي ‪ :‬د‪ .‬محمود الجادر ‪ ،‬مطبعة دار‬
‫الحكمة للطباعة والنشر ‪ ،‬الموصال ‪.‬‬
‫) ‪ ( 4‬ديوان لبيد بن ربيعة ‪ :‬قيدم له وشرحه ‪ :‬إبراهيم جزيني ‪ ،‬دار القاموس‬
‫الحديث ‪ ،‬بيروت ‪.‬‬
‫) ‪ ( 5‬شعر زهير بن أبي سلمى ‪ :‬صانعة العلم الشنتمري ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬د‪ .‬فخر‬
‫الدين قباوة ‪ ،‬المكتبة العربية ‪ ،‬حلب ‪ ،‬الطبعة الولى ‪1390‬هـ ـ ‪1970‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 6‬الشعر والشعراء ‪ :‬عبدا بن مسلم بن قتيبة الدينوري ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬د‪ .‬مفيد‬
‫قميحة ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬الطبعة الولى ‪1401‬هـ ـ ‪1981‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 7‬الشعرية العربية ‪ :‬أدونيس ‪ ،‬دار الداب ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1985‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 8‬مقيدمة في نظرية الشعر السلمي ‪ :‬عباس المناصارة ‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة ‪ ،‬دار النشر ‪ ،‬الردن ‪1996‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 9‬مواقف في الدب والنقد ‪ :‬د‪ .‬عبدالجبار المطلبي ‪ ،‬دار الرشيد للنشر ‪،‬‬
‫بغداد ‪1980‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 10‬نبرات الخطاب الشعري ‪ :‬د‪ .‬صالح فضل ‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر ‪،‬‬
‫القاهرة ‪1998‬م ‪.‬‬
‫) ‪ ( 11‬نظرات في الشعر العربي الحديث ‪ :‬د‪ .‬عبده بدوي ‪ ،‬دار قباء‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة ‪1998‬م ‪.‬‬

‫‪17‬‬
The Poetic Experience and the inner
conflect in Labeed Bin –Rabeaa's
Poetry

Labeed Bin Rabeaa Al-Amiry was


from a great family which characterized
of honour . His father was well known
and generous .He realized Islam and
come prophet Mohammed with people
called Bany-Kilab. They announced their
Islam and returned to their lands .
It was said that he came ,in his
last days to Al-Kufa then he died in it in
the beginning of Muaawiya Bin –Abi-
Suffyan's region with one hundred and
fifty seven years of age .
Labeed left poetry after he realized
Islam and he never said poetry but only
one line .
Labeed was in the beginning of his
life interesting in playing and loving like
all young people in his tripe ,but he was
always opening his poems in thanking
and prying for Allah ,mention the
benefit of believing of God who is the
source of happiness .
The death was the main idea which
toke Labeed's mind for along time .He
always repeated it in his poems
,because of the death of his brother

18
,Arbad, who was toke care of him ,and
the death also was taking his lover and
his relativesone by one ,but he couldn't
do any thing only mention them in his
poems ,because he know that Allah who
control death and conquer all human
beings .
We can classify Al-Jahily Labeed's
poetry in to two parts :-First :pure Jahily
contain Jahilic meanings and the
mention the days of youth ,chasing
,women and heroism ,Second :Jahily was
mixed in spirit of Islam contain the
mention of death and advices from the
last nations.
For his Islamic poetry it contained
the repetition the meaning of Al-Quraan
and how to be near by Allah.
Labeed's experience in poetry was
asummary of many actions which he
tasted before he said them in his poetry
,he depended upon his memory to re-
trieve thir details .
Many of these actions were
connected with his painful suffering by
loosing his relatives and family ,so all
these as a transition point at the early
age in his life .The sad impact appeared
in his poetry and the happiness tune
was disappeared . The meanings of
Labeed's poetry were containing more
of nerves and unstable ,Labeed's

19
poetry was grew from his large
imagination ,wisdom and his return to
the nations' history to benefit from it's
experience .

Hasan Saad Lateef

20

You might also like