Professional Documents
Culture Documents
تعتبر مهمة بلورة تصور بشأن نموذج تنموي جديد لأي بلد كان ،واحدة
من أصعب المهام ،باعتبار أنها تقوم على مغامرة ،قد تفكك أسس النمط
القائم نحو آخر لا تعرف عواقبه ،والأمر على هذا النحو ،لا يعني عدم
خوض هاته المغامرة ،ولكن التحرك بمنطق علمي يترك مساحة مهمة
لتدبير المخاطر التي قد تنجم عن اقتراح بدائل غير ناجعة.
ولعل من دوافع طرح هاته التوطئة ،ما أفرزته بعض النماذج التنموية
التي راح ضحيتها ملايين من البشر ،نتيجة تقديرات خاطئة ،كالتجربة
الستالينية التي راهنت على التجميع الفلاحي (السوفخوزات
والكولخوزات) مما أدى إلى وفاة 13مليون نسمة رغم ايجابيات بعض
المخططات الصناعية على الإنتاج الصناعي ،كما نذكر تجربة الصين في
عهد ماوتسي تونغ من خلال نموذجه التنموي الذي رفع شعار "القفزة
العظمى إلى الأمام" ،والذي راهن على تحويل المجتمع الصيني من نمط
زراعي نحو آخر صناعي خاصة صناعة الحديد ،مما أفرغ الحقول من
الفلاحين وراكم أطنانا من الحديد ضمن بنية الاقتصاد الوطني ،فحصلت
المجاعة الكبرى نتيجة النقص الحاد في الإنتاج الفلاحي سنتي 1960
و ، 1961إذ تقول بعض الإحصائيات أن عدد الوفيات تجاوز 50مليون
نسمة.
إن الخوض في موضوع النموذج التنموي ،يتجاوز آليات إعداد
المخططات التنموية القائمة على تشخيص الحالة ،و تجميع عناصر القوة
والضعف ،ومن ثم استشراف الآفاق المستقبلية عبر خطاطة استراتيجية
تقوم على أهداف وتضم عدة برامج مع تقسيم البرامج لمشاريع
والمشاريع لأنشطة ،فالأمر على هذا النحو ،لا يعدو أن يكون مجرد
ص ياغة لبرنامج تنموي غالبا ما يكون ترابيا ومحدودا في الزمان والمكان،
بينما الرهان على نموذج تنموي ،يبقى خيارا استراتيجيا يرهن حاضر
الأجيال الراهنة ومستقبل الأجيال القادمة على المنظور البعيد ،كما أنه
يتجاوز المعطى الترابي ،نحو التفاعل مع المحيط الإقليمي ،في ظل
الانفتاح الذي يتطلبه تنزيل أوراش هذا النموذج التنموي ،بالإضافة إلى
قيامه على فلسفة عقائدية (بالمعنى السياسي) تعطي فكرة عن الخط
الإيديولوجي الذي يحكم الدولة من خلال خياراتها واختياراتها.