Professional Documents
Culture Documents
خر ج اإلمام البخاري رحمه اهلل تعالى يف صحيحه للكثير من رواة الحديث ،وقد بلغ
عددهم ( )1525راوي ًا حسب ترقيم التراجم يف كتاب «الهداية واإلرشاد يف معرفة أهل الثقة
والسداد» ألبي نرص الكالباذي الذي جمع فيه تراجم رجال صحيح البخاري ،منهم ( )34راوية
من النساء من الصحابيات والتابعيات.
وجميع الرواة يف صحيح البخاري اتصفوا بالعدالة والصدق ،ومعظمهم ممن اتصف
بالضبط التام ،فمن نقص عن مرتبة الضبط التام أو وصف بضعف الحفظ فإن البخاري إذا
احتاج إلى روايته لسبب من األسباب يخرج له مقرون ًا بغيره ،أو يذكر روايته يف المعلقات.
وقد عقد الحافظ ابن حجر رحمه اهلل تعالى يف مقدمة فتح الباري المسماة «هدى الساري»
باب ًا خاص ًا للرجال الذين انتقدوا على البخاري ،وأجاب عنهم واحد ًا واحد ًا ،وقال يف مقدمة هذا
الباب( :سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب ،والجواب عن االعتراضات موضع ًا
موضع ًا ،وتمييز من أخرج له منهم يف األصول أو يف المتابعات واالستشهادات) ...
ثم قال( :وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح ألي
راو كان ،مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ،وال سيما ما انضاف إلى ذلك من
1
معنى لم يحصل لغير من خرج
إطباق جمهور األئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين ،وهذا ً
عنه يف الصحيح ،فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما ،هذا إذا خرج له يف
األصول ،فأما إن خرج له يف المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له
منهم يف الضبط وغيره ،مع حصول اسم الصدق لهم ،وحينئذ إذا وجدنا لغيره يف أحد منهم طعن ًا
فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا اإلمام ،فال يقبل إال مبين السبب مفّس ًا بقادح يقدح يف عدالة هذا
الراوي ويف ضبطه مطلق ًا ،أو يف ضبطه لخبر بعينه ،ألن األسباب الحاملة لألئمة على الجرح
متفاوتة ،منها ما يقدح ومنها ما ال يقدح ،وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول يف الرجل
الذي يخرج عنه يف الصحيح« :هذا جاز القنطرة» .يعني بذلك أنه ال يلتفت إلى ما قيل فيه).
وهؤالء الرواة الذين انتقدوا على البخاري تعامل البخاري مع أحاديثهم بمنهج دقيق
يقوم على أمرين:
األول :أنه ينتقي من أحاديث الرواة المتكلم فيهم ما تبين له صحته ،وذلك أن الثقة
مطردة يف جميع األحوال ،فمن الرواة من يكون ثق ًة يف جهة مخصوصة
ً قاعدة
ً والضعف ليسا
ضعيف ًا يف غيرها ،ومنهم من يكون ضعيف ًا يف جهة مخصوصة ثق ًة يف غيرها ،فينتقي البخاري من
حديثه ما صح عنده ،ويف هذا يقول اإلمام البخاري فيما رواه عنه الترمذي يف العلل الكبير
(ص( :)394كل رجل ال أعرف صحيح حديثه من سقيمه ال أروي عنه وال أكتب حديثه).
الثاني :أنه يخرج لمن تكلم فيه مقرون ًا بغيره ،وإنما احتاج إلى طريقه لتنويع األسانيد،
ألن الغالب أنه ال يكرر الحديث بالسند نفسه ،بل يسوقه من طريق آخر ،فإذا احتاج إلى رواية
المتكلم فيه قرنه بغيره من الثقات ليعلم أنه ضبط هذا الحديث بعينه ،بدليل موافقة روايته
لرواية الثقات.
يقول اإلمام الزيلعي يف نصب الراية (( :)341 /1ومجرد الكالم يف الرجل ال يسقط
حديثه ،ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة ،إذ لم يسلم من كالم الناس إال من عصمه اهلل ،بل
2
خرج يف الصحيح لخلق ممن تكلم فيهم ...ولكن صاحبا الصحيح رحمهما اهلل إذا أخرجا لمن
ال ،وال يروون
تكلم فيه ،فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه وظهرت شواهده وعلم أن له أص ً
ما تفرد به ،سيما إذا خالفه الثقات).
ونبين فيما يلي بعض األمثلة على انتقاء البخاري من أحاديث الرواة المتكلم فيهم:
مثال ذلك :أسيد بن زيد الجمال الكويف ،قال فيه الدارقطني :ليس بالقوي ،وقال ابن
عدي :يتبين على رواياته الضعف.
وله يف صحيح البخاري حديث واحد رواه البخاري من طريقه مقرون ًا بغيره ،قال البخاري
رقم ( :)6541حدثنا عمران بن ميّسة :حدثنا ابن فضيل :حدثنا حصين( ،ح) وحدثني أسيد بن
زيد :حدثنا هشيم ،عن حصين قال :كنت عند سعيد بن جبير فقال :حدثني ابن عباس رضي اهلل
عنهما فقال :قال النبي صلى اهلل عليه وسلم« :عرضت علي األمم ،فأخذ النبي يمر معه األمة،
والنبي يمر معه النفر »...الحديث.
فقرنه هنا بعمران بن ميّسة وهو ثقة ،فتبين بذلك أن أسيد بن زيد قد ضبط هذا الحديث
ضبط ًا تام ًا ،وله طرق أخرى متعددة عن شيخه هشيم بن بشير ،وعن شيخ شيخه حصين بن عبد
الرحمن.
قال الحافظ ابن حجر يف هدى الساري (ص( :)391لم أر ألحد فيه توثيق ًا ،وقد روى عنه
البخاري يف كتاب الرقاق حديث ًا واحد ًا مقرون ًا بغيره ...وقال ابن عدي :وإنما أخرج له البخاري
حديث هشيم ألن هشيم ًا كان أثبت الناس يف حصين).
3
من أمثلة ذلك :هشيم بن بشير ،ثقة إمام ،لكنه لم يضبط حديث الزهري ،فلذا قال
الذهبي يف كتابه «الرواة الثقات المتكلم فيهم بما ال يوجب ردهم» (ص( :)179هشيم بن بشير
الحافظ ،ثقة لكنه يدلس ،وحديثه يف الصحاح ،لكن ما خرجوا له عن الزهري شيئ ًا ألنه ضعيف
فيه).
ثالث اا :انتقاء البخاري من أحاديث الراوي المو َّثق يف شيخ معين ،وإن كان ضعيف اا يف غيره،
فيروي البخاري حديثه عن ذلك الشيخ دون غيره:
من أمثلة ذلك :أبو معاوية محمد بن خازم الرضير ،قال عنه اإلمام أحمد يف كتاب «العلل
ومعرفة الرجال» رواية ابنه عبد اهلل (( :)378 /1أبو معاوية يف غير حديث األعمش مضطرب
ال يحفظها حفظ ًا جيد ًا).
فلم يحتج البخاري إال بروايته عن األعمش ،فإن روى من طريقه عن غير األعمش فإنه
يذكر له متابع ًا.
رابع اا :انتقاء البخاري من أصول الراوي المتقنة وعدم االعتماد على حفظه إن كان ضعيف
الحفظ:
والمثال المشهور يف ذلك :إسماعيل بن أبي أويس ابن أخت اإلمام مالك ،روى له
البخاري 229حديث ًا ،وهو صدوق يخطئ إذا حدث من حفظه ،فلم يعتمد البخاري على حفظه،
بل نسخ أحاديثه من كتبه.
قال إسماعيل بن أبي أويس( :ما أخذ عني أحد ما أخذ عني محمد؛ نظر إلى كتبي فرآها
دارس ًة ،فقال لي :أتأذن لي أن أجددها؟ فقلت :نعم .فاستخرج عامة حديثي بهذه العلة) .سير
أعالم النبالء (.)430 /12
4
فانتسخ البخاري كتب إسماعيل ،وكان ينتخب من حديثه ،بل كان إسماعيل يعتمد ما
انتخبه له البخاري ،كما روى الخطيب البغدادي يف تاريخ بغداد ( )322 /2من طريق محمد بن
أبي حاتم وراق البخاري قال :سمعت محمد بن إسماعيل يقول( :كان إسماعيل بن أبي أويس
إذا انتخبت من كتابه نسخ تلك األحاديث لنفسه ،وقال :هذه أحاديث انتخبها محمد بن
إسماعيل من حديثي).
ومعظم ما انتقاه البخاري من حديث إسماعيل لم ينفرد به ،بل هو مما توبع عليه ،يقول
الحافظ ابن حجر يف هدى الساري (ص( :)391ما أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين).
وهذان الحديثان أيض ًا لهما شواهد.
ومسألة انتقاء البخاري من أحاديث الرواة المتكلم فيهم كتب فيها عدد من الدارسين،
وإمامهم يف ذلك الحافظ ابن حجر يف مقدمة الفتح ،فمما كتب حول المسألة مقالة بعنوان( :منهج
اإلمام البخاري يف انتقائه من أحاديث الرواة المتكلم فيهم) ،للدكتور بشير السيد شكر ،منشورة
يف مجلة كلية أصول الدين والدعوة باألزهر ،وقد استفدت من هذه المقالة يف تلخيص هذه
الفائدة.
5