You are on page 1of 5

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫فوائد تدريسية من مجلس صحيح البخاري ‪10‬‬

‫يف دار الحديث الرشيف والسيرة النبوية‬

‫د‪ .‬عمر بن موفق النشوقاتي‬

‫رجال صحيح البخاري‬

‫ومنهج اإلمام البخاري يف االنتقاء من أحاديث الرواة المتكلم فيهم‬

‫خر ج اإلمام البخاري رحمه اهلل تعالى يف صحيحه للكثير من رواة الحديث‪ ،‬وقد بلغ‬
‫عددهم (‪ )1525‬راوي ًا حسب ترقيم التراجم يف كتاب «الهداية واإلرشاد يف معرفة أهل الثقة‬
‫والسداد» ألبي نرص الكالباذي الذي جمع فيه تراجم رجال صحيح البخاري‪ ،‬منهم (‪ )34‬راوية‬
‫من النساء من الصحابيات والتابعيات‪.‬‬

‫وجميع الرواة يف صحيح البخاري اتصفوا بالعدالة والصدق‪ ،‬ومعظمهم ممن اتصف‬
‫بالضبط التام‪ ،‬فمن نقص عن مرتبة الضبط التام أو وصف بضعف الحفظ فإن البخاري إذا‬
‫احتاج إلى روايته لسبب من األسباب يخرج له مقرون ًا بغيره‪ ،‬أو يذكر روايته يف المعلقات‪.‬‬

‫وقد عقد الحافظ ابن حجر رحمه اهلل تعالى يف مقدمة فتح الباري المسماة «هدى الساري»‬
‫باب ًا خاص ًا للرجال الذين انتقدوا على البخاري‪ ،‬وأجاب عنهم واحد ًا واحد ًا‪ ،‬وقال يف مقدمة هذا‬
‫الباب‪( :‬سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب‪ ،‬والجواب عن االعتراضات موضع ًا‬
‫موضع ًا‪ ،‬وتمييز من أخرج له منهم يف األصول أو يف المتابعات واالستشهادات) ‪...‬‬

‫ثم قال‪( :‬وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح ألي‬
‫راو كان‪ ،‬مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته‪ ،‬وال سيما ما انضاف إلى ذلك من‬
‫‪1‬‬
‫معنى لم يحصل لغير من خرج‬
‫إطباق جمهور األئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين‪ ،‬وهذا ً‬
‫عنه يف الصحيح‪ ،‬فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما‪ ،‬هذا إذا خرج له يف‬
‫األصول‪ ،‬فأما إن خرج له يف المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له‬
‫منهم يف الضبط وغيره‪ ،‬مع حصول اسم الصدق لهم‪ ،‬وحينئذ إذا وجدنا لغيره يف أحد منهم طعن ًا‬
‫فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا اإلمام‪ ،‬فال يقبل إال مبين السبب مفّس ًا بقادح يقدح يف عدالة هذا‬
‫الراوي ويف ضبطه مطلق ًا‪ ،‬أو يف ضبطه لخبر بعينه‪ ،‬ألن األسباب الحاملة لألئمة على الجرح‬
‫متفاوتة‪ ،‬منها ما يقدح ومنها ما ال يقدح‪ ،‬وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول يف الرجل‬
‫الذي يخرج عنه يف الصحيح‪« :‬هذا جاز القنطرة»‪ .‬يعني بذلك أنه ال يلتفت إلى ما قيل فيه)‪.‬‬

‫وهؤالء الرواة الذين انتقدوا على البخاري تعامل البخاري مع أحاديثهم بمنهج دقيق‬
‫يقوم على أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أنه ينتقي من أحاديث الرواة المتكلم فيهم ما تبين له صحته‪ ،‬وذلك أن الثقة‬
‫مطردة يف جميع األحوال‪ ،‬فمن الرواة من يكون ثق ًة يف جهة مخصوصة‬
‫ً‬ ‫قاعدة‬
‫ً‬ ‫والضعف ليسا‬
‫ضعيف ًا يف غيرها‪ ،‬ومنهم من يكون ضعيف ًا يف جهة مخصوصة ثق ًة يف غيرها‪ ،‬فينتقي البخاري من‬
‫حديثه ما صح عنده‪ ،‬ويف هذا يقول اإلمام البخاري فيما رواه عنه الترمذي يف العلل الكبير‬
‫(ص‪( :)394‬كل رجل ال أعرف صحيح حديثه من سقيمه ال أروي عنه وال أكتب حديثه)‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أنه يخرج لمن تكلم فيه مقرون ًا بغيره‪ ،‬وإنما احتاج إلى طريقه لتنويع األسانيد‪،‬‬
‫ألن الغالب أنه ال يكرر الحديث بالسند نفسه‪ ،‬بل يسوقه من طريق آخر‪ ،‬فإذا احتاج إلى رواية‬
‫المتكلم فيه قرنه بغيره من الثقات ليعلم أنه ضبط هذا الحديث بعينه‪ ،‬بدليل موافقة روايته‬
‫لرواية الثقات‪.‬‬

‫يقول اإلمام الزيلعي يف نصب الراية (‪( :)341 /1‬ومجرد الكالم يف الرجل ال يسقط‬
‫حديثه‪ ،‬ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة‪ ،‬إذ لم يسلم من كالم الناس إال من عصمه اهلل‪ ،‬بل‬

‫‪2‬‬
‫خرج يف الصحيح لخلق ممن تكلم فيهم ‪ ...‬ولكن صاحبا الصحيح رحمهما اهلل إذا أخرجا لمن‬
‫ال‪ ،‬وال يروون‬
‫تكلم فيه‪ ،‬فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه وظهرت شواهده وعلم أن له أص ً‬
‫ما تفرد به‪ ،‬سيما إذا خالفه الثقات)‪.‬‬

‫ونبين فيما يلي بعض األمثلة على انتقاء البخاري من أحاديث الرواة المتكلم فيهم‪:‬‬

‫أو اال‪ :‬انتقاء البخاري من حديث الراوي المعروف بسوء الحفظ‪:‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬أسيد بن زيد الجمال الكويف‪ ،‬قال فيه الدارقطني‪ :‬ليس بالقوي‪ ،‬وقال ابن‬
‫عدي‪ :‬يتبين على رواياته الضعف‪.‬‬

‫وله يف صحيح البخاري حديث واحد رواه البخاري من طريقه مقرون ًا بغيره‪ ،‬قال البخاري‬
‫رقم (‪ :)6541‬حدثنا عمران بن ميّسة‪ :‬حدثنا ابن فضيل‪ :‬حدثنا حصين‪( ،‬ح) وحدثني أسيد بن‬
‫زيد‪ :‬حدثنا هشيم‪ ،‬عن حصين قال‪ :‬كنت عند سعيد بن جبير فقال‪ :‬حدثني ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنهما فقال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬عرضت علي األمم‪ ،‬فأخذ النبي يمر معه األمة‪،‬‬
‫والنبي يمر معه النفر ‪ »...‬الحديث‪.‬‬

‫فقرنه هنا بعمران بن ميّسة وهو ثقة‪ ،‬فتبين بذلك أن أسيد بن زيد قد ضبط هذا الحديث‬
‫ضبط ًا تام ًا‪ ،‬وله طرق أخرى متعددة عن شيخه هشيم بن بشير‪ ،‬وعن شيخ شيخه حصين بن عبد‬
‫الرحمن‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر يف هدى الساري (ص‪( :)391‬لم أر ألحد فيه توثيق ًا‪ ،‬وقد روى عنه‬
‫البخاري يف كتاب الرقاق حديث ًا واحد ًا مقرون ًا بغيره ‪ ...‬وقال ابن عدي‪ :‬وإنما أخرج له البخاري‬
‫حديث هشيم ألن هشيم ًا كان أثبت الناس يف حصين)‪.‬‬

‫المضعف يف شيخ معين‪ ،‬فيتجنب‬


‫َّ‬ ‫ثاني اا‪ :‬انتقاء البخاري من أحاديث الراوي الثقة‪،‬‬
‫البخاري روايته عن ذلك الشيخ‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫من أمثلة ذلك‪ :‬هشيم بن بشير‪ ،‬ثقة إمام‪ ،‬لكنه لم يضبط حديث الزهري‪ ،‬فلذا قال‬
‫الذهبي يف كتابه «الرواة الثقات المتكلم فيهم بما ال يوجب ردهم» (ص‪( :)179‬هشيم بن بشير‬
‫الحافظ‪ ،‬ثقة لكنه يدلس‪ ،‬وحديثه يف الصحاح‪ ،‬لكن ما خرجوا له عن الزهري شيئ ًا ألنه ضعيف‬
‫فيه)‪.‬‬

‫ثالث اا‪ :‬انتقاء البخاري من أحاديث الراوي المو َّثق يف شيخ معين‪ ،‬وإن كان ضعيف اا يف غيره‪،‬‬
‫فيروي البخاري حديثه عن ذلك الشيخ دون غيره‪:‬‬

‫من أمثلة ذلك‪ :‬أبو معاوية محمد بن خازم الرضير‪ ،‬قال عنه اإلمام أحمد يف كتاب «العلل‬
‫ومعرفة الرجال» رواية ابنه عبد اهلل (‪( :)378 /1‬أبو معاوية يف غير حديث األعمش مضطرب‬
‫ال يحفظها حفظ ًا جيد ًا)‪.‬‬

‫فلم يحتج البخاري إال بروايته عن األعمش‪ ،‬فإن روى من طريقه عن غير األعمش فإنه‬
‫يذكر له متابع ًا‪.‬‬

‫رابع اا‪ :‬انتقاء البخاري من أصول الراوي المتقنة وعدم االعتماد على حفظه إن كان ضعيف‬
‫الحفظ‪:‬‬

‫والمثال المشهور يف ذلك‪ :‬إسماعيل بن أبي أويس ابن أخت اإلمام مالك‪ ،‬روى له‬
‫البخاري ‪ 229‬حديث ًا‪ ،‬وهو صدوق يخطئ إذا حدث من حفظه‪ ،‬فلم يعتمد البخاري على حفظه‪،‬‬
‫بل نسخ أحاديثه من كتبه‪.‬‬

‫قال إسماعيل بن أبي أويس‪( :‬ما أخذ عني أحد ما أخذ عني محمد؛ نظر إلى كتبي فرآها‬
‫دارس ًة‪ ،‬فقال لي‪ :‬أتأذن لي أن أجددها؟ فقلت‪ :‬نعم‪ .‬فاستخرج عامة حديثي بهذه العلة)‪ .‬سير‬
‫أعالم النبالء (‪.)430 /12‬‬

‫‪4‬‬
‫فانتسخ البخاري كتب إسماعيل‪ ،‬وكان ينتخب من حديثه‪ ،‬بل كان إسماعيل يعتمد ما‬
‫انتخبه له البخاري‪ ،‬كما روى الخطيب البغدادي يف تاريخ بغداد (‪ )322 /2‬من طريق محمد بن‬
‫أبي حاتم وراق البخاري قال‪ :‬سمعت محمد بن إسماعيل يقول‪( :‬كان إسماعيل بن أبي أويس‬
‫إذا انتخبت من كتابه نسخ تلك األحاديث لنفسه‪ ،‬وقال‪ :‬هذه أحاديث انتخبها محمد بن‬
‫إسماعيل من حديثي)‪.‬‬

‫ومعظم ما انتقاه البخاري من حديث إسماعيل لم ينفرد به‪ ،‬بل هو مما توبع عليه‪ ،‬يقول‬
‫الحافظ ابن حجر يف هدى الساري (ص‪( :)391‬ما أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين)‪.‬‬
‫وهذان الحديثان أيض ًا لهما شواهد‪.‬‬

‫ومسألة انتقاء البخاري من أحاديث الرواة المتكلم فيهم كتب فيها عدد من الدارسين‪،‬‬
‫وإمامهم يف ذلك الحافظ ابن حجر يف مقدمة الفتح‪ ،‬فمما كتب حول المسألة مقالة بعنوان‪( :‬منهج‬
‫اإلمام البخاري يف انتقائه من أحاديث الرواة المتكلم فيهم)‪ ،‬للدكتور بشير السيد شكر‪ ،‬منشورة‬
‫يف مجلة كلية أصول الدين والدعوة باألزهر‪ ،‬وقد استفدت من هذه المقالة يف تلخيص هذه‬
‫الفائدة‪.‬‬

‫‪5‬‬

You might also like