Professional Documents
Culture Documents
«الفقه األكبر» رواية حماد و«الفقه األكبر» رواية أبي مطيع و«العالم واملتعلم»
رستم مهدي
14نيسان 2024
قد ألفت في «الفقه األكبر» رواية حماد و«الفقه األكبر» رواية أبي مطيع سنة ،2018كما ألفت
في كتاب «العالم واملتعلم» سنة .2019وأقدم كليهما في هذه املقالة ،مع ضم بعض املسائل إتماما
للفائدة.
1
حول «الفقه األكبر» رواية حماد و«الفقه األكبر» رواية أبي مطيع
15أيلول2018 ،
2
َ
عادة أصحاب الحديث ،طعن بعضهم في بعض ،وكذا عادتهم الطعن في الفقهاء (يقصد الفقهاء
الحنفية) ،فإن عندهم أن الفقهاء يردون األحاديث»[.البزدوي« ،معرفة الحجج الشرعية»]132 ،
ثم إن ابن حجر أشار إلى سبب الطعن بعد أن نقله قائال« :وأظن ذلك من قبل الرأي»[ .ابن حجر،
«لسان امليزان» ]518/7 ،فعلم بهذا أن الباعث األساس ي على طعن البخاري في ابن مقاتل ،هو كون الثاني
من أهل الرأي .فهذا سبب غير مقبول.
وأما تضعيف الذهبي إياه ،فهو وإن ضعفه في «املغني» قال عنه في «ميزان االعتدال»« :تكلم فيه،
ولم يترك»[ .الذهبي« ،ميزان االعتدال»]47/4 ،
وأما تضعيف ابن حجر ،فحكمه كحكم تضعيف من سبقه؛ ألنه بهم اقتدى .وقد علمت سبب
َ
وحكمه. تضعيف البخاري
وأما عصام بن يوسف البلخي ،فهو من كبار الحنفية ،ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال« :كان
صاحب حديث ثبتا في الرواية .وربما أخطأ»[ .ابن حجر «،لسان امليزان» ]436/5 ،وقال عبد القادر
القرش ي« :كان صاحب حديث ،وهو ثبت فيه ،وكان هو وأخوه إبراهيم بن يوسف شيخي بلخ في
زمانهما»[ .القرش ي« ،الجواهر املضية» ]527/2 ،وقال أبو يعلى الخليلي« :فأما عصام ،سمع شعبة،
والحمادين ،والثوري ،وإسرائيل بن يونس ،وغيرهم .وهو مشهور ،لكن البخاري لم يخرجه في
«التاريخ» وال في «الصحيح» ،وهو صدوق ،سمع منه القدماء أبو شهاب معمر بن محمد وأقرانه ،وال
َ
يروي حديثا ُينكر ،ورأيه رأي الكوفيين»[ .الخليلي« ،اإلرشاد في معرفة علماء الحديث»]937 ،
وأما قول ابن سعد فيه« :كان عندهم ضعيفا في الحديث» ،يعني املحدثين ،فقد سبق أن
املحدثين كانوا أشداء على أصجاب الرأي .وهو معروف ومقبول عند الحنفية.
وأما حماد بن أبي حنيفة ،فهو من املشهورين من الحنفية ،وهو أبو القاض ي إسماعيل بن حماد،
وملروياته عن أبيه ،وخاصة لهذا الكتاب ،مكانة خاصة عند أهل الرأي ،وله مسند من رواياته بطريق
أبيه .وتجد قسما منها في املسانيد التي تحتوي على مرويات أبي حنيفة .مثل مسند أبي محمد الحارثي،
وما جمعه الخوارزمي.
وقال الصيمري« :وكان الغالب عليه الدين والورع والزهد ،مع علمه بالفقه وكتابته للحديث،
أخبرنا عمر بن شاهين قال :ثنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة قال :حدثني جدي قال :سمعت
ُ
أبا نعيم الفضل بن دكين قال :تقدم حماد بن أبي حنيفة إلى شريك بن عبد هللا في شهادة ،فقال له
شريك :وهللا إنك لعفيف البطن والفرج ،خيار مسلم»[ .الصيمري« ،أخبار أبي حنيفة وأصحابه»]158 ،
وقال القرش ي« :حماد بن النعمان اإلمام ابن اإلمام ،تفقه على أبيه ،فأفتى في زمنه ،وتفقه عليه ابنه
إسماعيل ،وقد تقدم ،وهو في طبقة أبي يوسف ،ومحمد ،وزفر ،والحسن بن زياد ،وكان الغالب عليه
الورع والزهد»[ .القرش ي« ،الجواهر املضية»]153/2 ،
وقال ابن خلكان« :كان على مذهب أبيه رض ي هللا تعالى عنه ،وكان من الصالح والخير على قدم
عظيم»[ .ابن خلكان« ،وفيات األعيان» ]205/2
3
وأما كالم ابن عدي« :ال أعلم له رواية تستقيم» ،فقال بدر الدين العيني فيه« :لم يسلم من
لسان ابن عدي أبوه الذى هو إمام الدنيا ،وإمام األئمة املجمع على جاللة قدره ،وكثرة علمه وفقهه،
فضال ابنه ،وال يلتفت إلى ذلك؛ ألن هؤالء كاألعداء ألبى حنيفة وأصحابه على ما يظهر من كالمهم».
[العيني« ،مغاني األخيار شرح أسامي رجال معاني اآلثار»]243/1 ،
4
وليس كتاب أبي حنيفة إال متنا صغيرا ،واملعهود في املتون مثله ،عدم اعتضاد املسائل بكثرة
الدالئل من القرآن واألحاديث ،بل تسرد فيها املسائل االعتقادية سردا .هذا هو املعهود في تأليف
املتون.
النقد الثالث« :إن في الكتاب مسائل ليست لها عالقة بالعقيدة ،نحو قول مؤلفه« :وقاسم،
وطاهر ،وإبراهيم كانوا بني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وفاطمة ،ورقية ،وزينب ،وأم كلثوم كن
جميعا بنات رسول هللا صلى هللا عليه وسلم»».
قلت :إن احتواء كتاب ما مسائل خارجة عن موضوعه األصلي ،ال يستلزم كونه مزورا وموضوعا.
وال يمتنع أن يذكر أبو حنيفة مسألة ليست لها عالقة بالعقيدة ،إذا وقع الخالف فيها بين الناس،
خاصة إذا تعلقت بمعرفة شخص النبي محمد .ولربما وصل إليه كالم يخالف ما عليه عامة
املسلمين ،في عدد أوالده كما أشار إليه صاحب «مختصر الحكمة النبوية» ،أو في أسماء بعض
أبنائه ،فذكر هذه املسألة.
النقد الرابع« :إن الكتاب ينفي وحدانية هللا من طريق العدد» .يعتمد أصحاب هذا النقد على
قول أبي حنيفة« :وهللا تعالى واحد ال من طريق العدد ،ولكن من طريق أنه ال شريك له» .وادعى
صاحب النقد "أن هذا الكالم مخالف لصحيح االعتقاد؛ ألن وحدانية هللا ثابتة من طريق العدد،
بمعنى عدم وجود املوجود الثاني مثله ،كما هي ثابتة من طريق أنه ال شريك له .والكالم السابق في
الكتاب ،يدل على أن وحدانية هللا من طريق أنه ال شريك له فقط ،وليس من طريق عدم وجود
املوجود الثاني مثله".
قلت :هذا أضعف نقد قيل .ألنه ال يوجد بين املسلمين من يقصد بقوله« :وهللا تعالى واحد ال من
َ
طريق العدد» نفي عدم إمكانية املوجود الثاني مثله .ال يعتقد هذا املعتقد عوام الناس من املسلمين،
فضال عمن ألف متنا في العقيدة .وإنما ُ
قصده هو أن املسلمين ملا يوحدون هللا ويقولون« :إنه واحد»،
ال يقصدون «الواحد» الذي هو من العدد؛ ألن «الواحد» العددي يمكن أن يأتي بعده عدد مثله،
فلهذا يقول علي بن سلطان القاري في شرح هذا الكالم« :حتى ال يتوهم أن يكون بعده أحد»[ .القاري،
«منح الروض األزهر»]48 ،
ثم الواحد العددي يمكن إكثاره بضم الواحد اآلخر إليه ،ويمتنع هذا في وحدانية هللا ،فإلى هذا
املعنى أشار أبو شكور الساملي في «التمهيد في بيان التوحيد» في أثناء كالمه عن الضد والند قائال:
«وهللا تعالى متفرد بصفاته ،ال يشاركه وال يوافقه أحد؛ ألن صفاته قديمة ،وصفات الغير محدثة،
واملحدث ال يوافق القديم .ولهذا املعنى قلنا :إن هللا تعالى واحد ال من أصل العدد ،وال من جنس
العدد؛ ألنه ال جنس له حتى ُيضم إليه (أي يضم إليه واحد آخر) ُويعد منه ،وليس من أصل العدد؛
ألنه ال ثاني له ،فثبت أنه واحد متفرد من غير جنس ،وال نوع»[ .الساملي« ،التمهيد في بيان التوحيد»-105 ،
]106
5
وأما الوحدة بمعنى وقوع الواحد في املرتبة األولى ،فهي ال تختص به .وعلل كمال الدين البياض ي
زاده في «إشارات املرام» في الباب الثاني منه في أثناء كالمه عن الصفات الذاتية ،قول أبي حنيفة
بهذا[ .البياض ي زاده« ،إشارات املرام من عبارات اإلمام»]107 ،
واملقصود هنا هو أن الوحدانية التي يراد إثباتها بالبراهين في كالم العلماء ،والتي تختص به هللا،
هي ليست بالوحدة من طريق العدد ،بل الوحدة من طريق أنه ال شريك له.
النقد الخامس« :إن في الكتاب مسائل ظهرت في عهود متأخرة عن عهد أبي حنيفة ،وهذا يدل
على أن الكتاب ليس من كالمه».
قلت :إن دعوى األولية لوقت معين ظرفا لظهور مسألة ما ،ال يمكن أن تبطل وجود تلك املسألة
في كتاب ما قبل هذا الوقت؛ إذ األولية لوقت ما ،دعوى محض وليست إال ،حتى يقوم الدليل على
أوليته في نفس األمر .فنحن نسأل :ما هو ضابط األولية؟ وال جواب على هذا السؤال سوى أن
الضابط هو عدم سبق الكالم في تلك املسألة قبل هذا الزمان .ونحن نسأل ونقول :فإذا ظهر الكالم
فعالم يدل هذا؟ وهنا جوابان الَ في كتاب ما ،في هذه املسألة قبل هذا الزمان الذي ادعيتم أوليته،
ثالث لهما:
-على تزوير املصدر الذي وجد هذا الكالم فيه.
-على بطالن دعوى أولية الوقت الذي ادعيت أوليته لظهور تلك املسألة.
وال يصح الجواب األول؛ إذ وقت ما لظهور مسألة ما ،ليس بأولى من وقت آخر .فإن كان عدم
سبق الكالم في تلك املسائل إلى وقت أبي حنيفة ،يمنع كالمه فيها ،فهو يمنع أن يتكلم فيها من ادعى
أصحاب تلك النقود أنه أول من تكلم فيها أيضا ،فإذا لم يمنع عدم سبق الكالم في تلك املسألة أو َل
من تكلم فيها أن يتكلم فيها ،فلماذا يمنع أبا حنيفة أن يتكلم فيها قبل أن يظهر أحد بالكالم فيها؟
وهذا هو عين السبب الذي يجعل أصحاب النقود به كالم أبي حنيفة في تلك املسألة مستحيال،
فليجعلوا كالم من يدعون كونه أول متكلم فيها مستحيال أيضا؛ إذ السبب واحد .فكل من يكون أول
متكلم في مسألة ما ،ال يسبقه الكالم فيها.
وبقي الجواب الثاني ،وهو بطالن دعوى أولية الوقت الذي ادعيت أوليته لظهور تلك املسألة.
وأما دعوى تزوير الكتاب ،فيحتاج إلى دليل آخر ،غير دعوى أولية وقت ما لظهور املسألة.
النقد السادس« :إن في الكتاب أمورا تخالف عقيدة أهل السنة ،فال يمكن أن يخالف أبو حنيفة
علماء أهل السنة».
قلت :ويقصدون بـ"أهل السنة" الحنابلة أو السلفية .فهم اتخذوا كتب الحنابلة معيارا في تصوير
عقيدة أبي حنيفة .مع أن أبا حنيفة يعد مبتدعا في تلك الكتب.
فهم يقصدون بـكتب أئمة السلف ،كتاب «إجماع السلف في االعتقاد» لحرب الكرماني،
و«النقض على بشر املريس ي» لعثمان بن سعيد الدارمي ،و«السنة» لعبد هللا بن أحمد ،وغيرها من
6
الكتب التي تعتبر أحجارا أساسية ملبنى الحنبلية أو السلفية .فلننظر من هو أبو حنيفة عند أصحاب
تلك الكتب:
يقول حرب الكرماني –وهو من النحاتين األوائل لهيكل الحنبلي السلفي -في كتابه «إجماع
السلف في االعتقاد» ،في أثناء كالمه عن أصحاب الرأي ،وهو يعني بكالمه أبا حنيفة وأصحابه:
«وأصحاب الرأي ،وهم مبتدعة ضالل ،أعداء السنة واألثر ،يرون الدين رأيا وقياسا واستحسانا،
وهم يخالفون اآلثار ،ويبطلون الحديث ،ويردون على رسول هللا عليه الصالة والسالم ،ويتخذون أبا
حنيفة ومن قال بقوله إماما ،يدينون بدينهم ،ويقولون بقولهم ،فأي ضاللة بأبين ممن قال بهذا ،أو
كان على مثل هذا؟ يترك قول الرسول وأصحابه ،ويتبع رأي أبي حنيفة وأصحابه ،فكفى بهذا غيا
وطغيانا وردا»[ .الكرماني« ،إجماع السلف في االعتقاد»]95-94 ،
أفيعتمد في تصوير عقيدة أبي حنيفة ،على كتاب هذا الشخص؟
وأما عبد هللا بن أحمد ،فجمعه الطعون في أبي حنيفة في كتابه املسمى بـ«السنة» في باب خاص
عبد هللا هذا :من هو أبو حنيفة عند السلف؟ يجيب ناقال ،ومعتقدا« :مات مشهور جدا ،فإذا سألنا َ
جهميا ...وكان يقول بقول جهم»[ .عبد هللا« ،السنة» ]181 ،وينسب هذا الكالم إلى أبي يوسف ،تلميذ
صادق لشيخه أبي حنيفة.
ويستمر عبد هللا مجيبا« :إن أبا حنيفة كان مرجئا ...وأبو حنيفة أول من قال :إن القرآن مخلوق...
وأبو حنيفة كان يعمل بكتب جهم تأتيه من خراسان ...وأبو حنيفة كان يقول :إن القرآن ليس
بمخلوق تقية ،وكان يعتقد خلقه»[ .املصدر السابق]183-181 ،
ُ
ويرسل -في زعم عبد هللا -شيخه حماد بن أبي سليمان ،سفيان الثوري إلى أبي حنيفة قائال:
«اذهب إلى الكافر أبي حنيفة ،فقل له :إن كنت تقول :إن القرآن مخلوق ،فال تقربنا»[ .املصدر السابق،
]184هكذا زوروا على حماد ،ال يعرف هل قاله أبو حنيفة أم ال ،ويحكم بكفره ويكفره ،ثم يقول
لسفيان اذهب وقل له« :إن كنت تقول »...وحماد بريء من هذا الكالم السخيف براءة الذئب من دم
يوسف ،بل كون أبي حنيفة أخص أصحابه ،مما يغنيه عن أن يستفسره عن رأيه بطريق الثوري
الذي كان بينه وبين أبي حنيفة جفاء ،وهو بريء من أن يقول لتلميذه الحبيب« :يا كافر ،يا زنديق»
[املصدر السابق ،]185 ،إلى غير ذلك من ترهات النقلة[ .انظر املصدر السابق ،من 180إلى ]228
ويروي عبد هللا عن أبيه في موضع آخر من كتابه فيقول« :سمعت أبي رحمه هللا يقول :أظن أن
ۡ َّ َ َّ َ ُ َ ُ ۡ َ َ َ َ َ
ون﴾ [الصافات ]180 :قال أبو صف أبا حنيفة استتيب في هذه اآلية﴿ :سبحَٰن ربِّك ر ِّ
ب ٱلعِّزة ِّ عما ي ِّ
حنيفة :هذا مخلوق ،فقالوا له :هذا كفر فاستتابوه»[ .عبد هللا« ،السنة»]192 ،
ُ
فكيف يمكن أن تتخذ هذه الكتب التي تقطر تعصبا ،معيارا في تصوير اعتقاد أبي حنيفة؟
وكيف يعتمد شخص على هذه الكتب التي يجعل أصحابها من ال يعتقد اعتقادهم جهميا وزنديقا
وكافرا ،ويعتقد في آن واحد أن اعتقاد أصحابها ،واعتقاد أبي حنيفة على خط واحد؟
النقد السابع« :إن العلماء لم يذكروا هذا الكتاب ،ولم ينقلوا منه شيئا».
7
قلت :قال أبو الفرج ابن النديم حين تكلم عن كتب أبي حنيفة« :وله من الكتب كتاب «الفقه
األكبر» ،وكتاب «رسالته إلى البستي» وكتاب «العالم واملتعلم» رواه عنه مقاتل ،وكتاب الرد على
القدرية ،والعلم برا وبحرا ،شرقا وغربا ،بعدا وقربا تدوينه رض ي هللا عن»[ .ابن النديم« ،الفهرست»،
1]251
فابن النديم ذكر في أول كالمه كتاب «الفقه األكبر» ،ثم ذكر أن ألبي حنيفة كتابا رد فيه على
القدرية .ونحن نعلم أن أبا حنيفة ،لم يرد على القدرية بش يء من التفصيل في «الفقه األكبر» الذي
رواه عنه ابنه حماد ،وإنما فعل هذا في كتاب «الفقه األكبر» الذي رواه عنه أبو مطيع البلخي .وتكلم
فيه بما يتعلق بالقدر نحو حكم قول القائل« :إن أصابتني مصيبة ليست هي مما ابتالني هللا بها»،
وكالمه في تقدير هللا الغرق لفرعون ،وروايته حديث ابن مسعود في جمع خلق أبناء آدم في بطون
أمهاتهم الذي فيه ذكر كتابة الرزق واألجل ،وسبق الكتاب ،وما قاله في املشيئة .وهذا هو كتاب
«الفقه األبسط» ،وهو ما ذكره ابن النديم بقوله« :كتاب الرد على القدرية» .وأما «الفقه األكبر»
الذي ذكره ابن النديم قبله ،فهو الكتاب الذي رواه ابنه حماد عنه.
وقد نقل العلماء من هذا الكتاب ،مثل عالء الدين البخاري في أول «كشف األسرار»[ .البخاري،
«كشف األسرار»]36/1 ،
وذكره كامال القاض ي البياض ي زاده في «األصول املنيفة لإلمام أبي حنيفة» بترتيب خاص مع سائر
أقوال أبي حنيفة.
وقد شرحه العلماء ،منهم علي بن سلطان القاري ،وشرحه «منح الروض األزهر شرح الفقه
األكبر» مشهور متداول .وشرحه مولى إسحاق في «مختصر الحكمة النبوية» ،ومولى إسحاق ليس أبا
القاسم إسحاق بن محمد الحكيم السمرقندي املتوفى سنة ( 342هـ) ،كما وهمه بعضهم2؛ إذ في
ُ
كتابه نقول من العلماء الذين عاشوا بعد هذا الزمان 3.وله شرح آخر لبهاء الدين زاده ،املسمى بـ
«القول الفصل» ،وكذا شرحه أبو املنتهى أحمد بن محمد املغنيساوي.
الزيادات على الكتاب
في الكتاب مواضع هي ليست من كالم أبي حنيفة في رأيي ،بل هي مدرجات من قبل الرواة .ومن
هذه ما جاء فيه « :لم يزل عاملا بعلمه والعلم صفة في األزل ،وقادرا بقدرته والقدرة صفة في األزل،
ومتكلما بكالمه والكالم صفة في األزل ،وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في األزل ،وفاعال بفعله
1والصحيح هو أن رسالة أبي حنيفة كانت إلى البتي ال البستي ،والبستي تصحيف من البتي ،فاالسمان قريبا الهيئة.
وكذا راوي كتاب «العالم واملتعلم» هو أبو مقاتل السمرقندي ،وليس بمقاتل ،وفيه سقط «أبو».
2وهو محقق كتاب «منح الروض األكبر» ط :دار النفائس.
3ذكر محقق كتاب «مختص الحكمة النبوية» بيازيد نيشفيج ،أنه إسحاق الرومي الذي ذكره طاش كبري زاده في
«الشقائق النعمانية» املتوفى سنة 950هـ .وكذا ذكره طاش كبري زاده هناك ،وصرح بأنه شرح كتاب «الفقه األكبر»
ولكن لم أقف هناك على تاريخ وفاته.
8
والفعل صفة في األزل .والفاعل هو هللا تعالى ،والفعل صفة في األزل ،واملفعول مخلوق وفعل هللا
تعالى غير مخلوق .وصفاته في األزل غير محدثة وال مخلوقة .ومن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف
أو شك فيها ،فهو كافر باهلل تعالى»[ .أبو حنيفة« ،الفقه األكبر رواية حماد»]2-1 ،
هذا القسم ال يشبه كالم أبي حنيفة؛ ألن الوقف في الكالم مذهب مروي عنه ،بل أوصاه
لتالمذته ،وال يمكن أن يكفر من رأى هذا الرأي.
روى ابن أبي العوام قال« :حدثني محمد بن أحمد بن حماد ،حدثني محمد بن شجاع قال سمعت
الحسن بن أبي مالك يقول :سمعت أبا يوسف يقول :جاء رجل إلى مسجد الكوفة يوم الجمعة ،فدار
على الحلق يسألهم عن القرآن ،وأبو حنيفة غائب في مكة ،فخاض الناس في ذلك واختبطوا ،ووهللا
ما أحسبه إال كان شيطانا تصور في صورة اإلنس .فانتهى إلى حلقتنا فسألنا ،فنهى بعضنا بعضا عن
الجواب في ذالك وقلنا له :شيخنا غائب وليس بحاضر ،ونكره أن نتقدمه بكالم حتى يكون هو املبتدئ
به ،فانصرف عنا.
قال أبو يوسف :فلما قدم أبو حنيفة تلقيناه بالقادسية ،فسلمنا عليه ،وسألنا عن األهل والبلد،
فأخبرناه ثم قلنا له بعد أن تمكنا :يا أبا حنيفة وقعت مسألة فما تقول فيها؟ فكأنه كان في قلوبنا
وأنكرنا وجهه ،وظن أنها مسألة مفتنة وإنا قد تكلمنا فيها بش يء ،فقال :ما هي؟ قلنا :كذا وكذا،
فأخبرناه بما سأل عنه الرجل .فسكت ساعة ثم قال لنا :فما كان جوابكم فيها؟ قلنا :لم نتكلم فيها
بش يء ،فخشينا أن نتكلم بش يء تنكره .فسري عنه وأسفر وجهه وقال :جزاكم هللا خيرا ،جزاكم هللا
خيرا ،احفظوا وصيتي ،ال تتكلموا فيها بكلمة واحدة أبدا ،وال تسألوا عنها أحدا أبدا ،انتهوا إلى أنه
كالم هللا عز وجل بال زيادة حرف واحد ،ما أحسب هذه املسألة تنتهي حتى توقع أهل اإلسالم في أمر
ال يقومون له وال يقعدون ،أعاذنا هللا وإياكم من الشيطان الرجيم»[ .ابن أبي العوام« ،فضائل أبي حنيفة
وأخباره ومناقبه»]117-116 ،
وقال ابن أبي العوام أيضا« :حدثني أحمد بن محمد بن حماد ،قال سمعت محمد بن شجاع
يقول :سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول :أتيت داود الطائي أنا وحماد بن أبي حنيفة ،فجرى ذكر
ش يء ،فقال داود الطائي لحماد :يا أبا إسماعيل ،مهمى تكلم فيه املتكلم من ش يء رجاء أن يسلم منه،
فليحذر أن يتكلم في القرآن إال بما قال هللا عز وجل فيه ،فلقد سمعت أباك –يعنى أبا حنيفة -يقول:
أعلمنا هللا أنه كالمه ،فمن أخذ بما علمه هللا فقد استمسك بالعروة الوثقى ،فهل بعد التمسك
بالعروة الوثقى إال السقوط في الهلكة؟ فقال حماد لداود :جزاك هللا خيرا من أخ ،فنعم ما أشرت به.
قال أبو عبد هللا محمد بن شجاع :فذكرت هذا الكالم ألبي عاصم النبيل فجعل يستحسنه
وقال :ومن يدري ما بعد هذا أنه كالم هللا عز وجل إال هللا؟
قال محمد بن شجاع :فذكرته للحسن بن أبي مالك ،فقال :صدق ،لقد كنا بطانة أبي يوسف
وخاصته ،ولقد كان يقول لنا :لو أني قدرت على أن أقاسمكم ما في قلبي من العلم وما عندي لفعلت.
9
وكان ناصحا رحمه هللا .وما سمتعه يرخص في ش يء من هذا ،ولقد كان ينهى عنه أشد النهي»[ .املصدر
السابق]118-117 ،
وأحمد بن محمد بن حماد في السند هو أبو بشر الدوالبي الحافظ املعروف ،وشيخه محمد بن
شجاع هو الثلجي ،من أعلم أعالم العراق قراءة وحديثا وفقها .وهو الذي اشتهر بالوقف.
وهذا املذهب مروي عن كبار أصحاب أبي حنيفة ،فبالسند السابق يروي ابن أبي العوام عن ابن
شجاع الثلجي أنه قال« :قلت للحسن بن أبي مالك :أروي عنك أن أبا يوسف كان يرى أن من زاد على
أن القرآن كالم هللا ،أنه يرى عليه العقوبة بالضرب؟ قال :نعم ،ارو ذلك عني ،سمعت أبا يوسف
يقول :من سأل عنه عوقب .قلت( :القائل ابن شجاع) يا أبا علي ،فهل توافق أبا يوسف على هذا؟
قال :لو خالفته في جميع قوله لوافقته على هذا ،من سمعته يسأل عن ش يء من هذا فهو رجل سوء
ال يؤديه سواله إلى خير»[ .املصدر السابق]312 ،
وبه إلى الحسن بن زياد قال« :سمعت زفر بن الهذيل وسأله رجل فقال له :القرآن كالم هللا ،فقال
له الرجل :أمخلوق هو؟ فقال له زفر :لو شغلك فكر في مسألة أنا فيها أرجو أن ينفعني هللا بعلمها،
لشغلك ذلك عن هذا الذي تفكرت فيه .والذي تفكرت فيه بال شك يضرك ،سلم هلل عز وجل ما
رض ي به منك ،وال تكلف نفسك ما ال تكلف»[ .املصدر السابق]296 ،
ومنها ما جاء فيه« :وله يد ووجه ونفس كما ذكره هللا تعالى في القرآن ،فما ذكره هللا تعالى في القرآن
من ذكر الوجه واليد والنفس ،فهو له صفات بال كيف .وال يقال إن يده قدرته أو نعمته؛ ألن فيه
إبطال الصفة ،وهو قول أهل القدر واالعتزال ،ولكن يده صفته بال كيف… وكل ش يء ذكره العلماء
بالفارسية من صفات هللا تعالى عز اسمه ،فجائز القول به ،سوى اليد بالفارسية ،ويجوز أن يقال:
«بروى خداي» بالفارسية».
وهذا القسم في رأيي مما أدرج في كالم أبي حنيفة من باب الشرح ،من قبل أحد رواة اإلسناد،
فنقل املتن والشرح املدرج ككالم واحد .ويدل على هذا أنه لم يكن في زمان أبي حنيفة التأليف
بالفارسية ،بل كان بالعربية ،فكيف يقول« :كل ش يء ذكره العلماء بالفارسية»؟؟؟ فمن ألف في ذلك
الزمان عن تلك املسائل بالفارسية؟ وال أظن هذا إال إدراجا من قبل أحد الرواة في العهود املتأخرة،
وال يشبه هذا كالمه.
وقد يكون في الكتاب مدرجات غير ما ذكرت.
10
عن أبي مالك نصران بن نصر الختلي ،عن علي بن الحسن بن محمد الغزال ،عن أبي الحسن علي
بن أحمد الفارس ي ،عن نصير بن يحيى ،عن أبي مطيع البلخي ،عن أبي حنيفة.
ويمكن أن نقسم النقود قسمين :القسم األول النقود املوجهة إلى الرجال حتى أبي مطيع ،والقسم
الثاني النقود املوجهة إلى أبي مطيع نفسه.
النقد األول :رجال اإلسناد إلى أبي مطيع .فقالوا« :إن أبا بكر الكاساني ،وعالء الدين
السمرقندي ،وأبا املعين النسفي ،ال يوجد في حقهم أي جرح وال أي تعديل .وأبو عبد هللا الكاشغري،
قال عنه الذهبي« :اتهم بالكذب» ،وقال السمعاني« :تصانيفه في الحديث تزيد على مائة وعشرين
مؤلفا ،وأكثر حديثه مناكير» .ونصران بن نصر الختلي ،ما ذكر عنه الذهبي شيئا سوى أنه راوي
كتاب «الفقه األكبر» ،وهذا يدل على أن الرجل مجهول ،وأن املعلومة الوحيدة عنه هي كونه راوي
الكتاب هذا .وأبو الحسن الفارس ي مجهول ،ليس له ذكر في كتب الرجال .ونصير بن يحيى مجهول،
ليس له ذكر سوى في «الجواهر املضية» للقرش ي ،وهو لم يذكر عنه إال تاريخ وفاته ،وأنه تفقه على
رجل اسمه أبو سليمان الجوزجاني».
قلت :أما الكاساني ،وعالء الدين السمرقندي ،وأبو املعين النسفي ،فثالثتهم من عظماء املذهب
الحنفي ،فال حاجة لهم بأن يعدلهم أحد تعديال خاصا ،ملعرفة القاص ي والداني مكانتهم املرموقة في
املذهب .ثم الناظر في الكتب التي تحتوي على تراجم هؤالء الثالثة يجد فيها املدح والثناء عليهم ،وهذا
تعديل .وال حاجة إلى التعديل بألفاظ خاصة مصطلح عليها عند أصحاب الجرح والتعديل ،نحو
«ثقة ،وثبت ،وصدوق» وغير ذلك من ألفاظ التعديل .وإذا شرطنا هذا ،لوجب التشكيك في حق
العلماء الكبار الذين لم نجد فيهم التعديل الخاص بهذه األلفاظ الخاصة في تلك الكتب .وكتب
الطبقات تختلف في هذا عن كتب الرجال.
وأما تهمة الكذب في حق الكاشغري ،فال تدل على أن املتهم كذاب أو يتعمد الكذب؛ إذ قد اتهم
العلماء الكبار الثقات بالكذب ،منهم الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة .وقد نقل الخطيب
في «مسألة االحتجاج بالشافعي» في الصاحبين تهمة الكذب أيضا[ .الخطيب« ،مسألة االحتجاج
بالشافعي» ]97 ،ولكن هذه األقاويل ذاهبة أدراج الرياح ،وليست معتمدة عند الجنفية.
وأما ما قاله السمعاني ،فليس في أيدينا مؤلفات الكاشغري ،حتى ننظر فيها لنعلم هل العلة في
تلك املناكير الكاشغري أم غيره؟ ولم يبينه السمعاني أيضا.
ثم وإن قبلنا الكالم في الكاشغري تنزال ،فهذا ال يؤثر في القضية؛ إذ الكتاب كان مشهورا قبل
الكاشغري ،فهو توفي سنة (484هـ) ،وقال ابن النديم في «فهرسته» الذي ألفه سنة ( 377هـ) عن أبي
حنيفة« :وله من الكتب كتاب «الفقه األكبر» ،ورسالته إلى البستي ،وكتاب «العالم واملتعلم» رواه
عنه مقاتل ،وكتاب الرد على القدرية .والعلم برا وبحرا ،شرقا وغربا ،بعدا وقربا تدوينه رض ي هللا
عنه»[ .ابن النديم« ،الفهرست» ]251 ،وقد سبق أن الكتاب الذي ذكره ابن النديم وفيه الرد على
القدرية هو كتاب «الفقه األكبر» رواية أبي مطيع ،كما صرحه عبد القاهر البغدادي قائال« :وأول
11
متكلميهم من الفقهاء وأرباب املذاهب أبو حنيفة والشافعي ،فإن أبا حنيفة له كتاب في الرد على
القدرية سماه كتاب «الفقه األكبر»»[ .البغدادي« ،أصول الدين» ]308 ،والبغدادي توفي سنة (429هـ)
قبل وفات الكاشغري.
وقال أبو املظفر اإلسفراييني في «تبصيره» ،في القسم الذي تكلم فيه عن مفاخر ومحاسن أهل
السنة« :وكتاب «الفقه األكبر» الذي أخبرنا به الثقة ،بطريق معتمد وإسناد صحيح ،عن نصر بن
يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة[ .» ...اإلسفراييني« ،التبصير في الدين»]184 ،
وهذا تصحيح صريح إلسناد الكتاب ،واإلسفراييني هذا توفي سنة (471هـ) .والصحيح من اسم
الراوي «نصير» كما سبق.
وأما نصران بن نصر ،ودعوى أن الذهبي لم يذكر فيه سوى أنه راوي كتاب «الفقه األكبر» وهذا
يدل على أنه مجهول ،فهذا –أعني داللة كالم الذهبي على مجهولية نصران -غير مسلم .فإن الذهبي
ذكره في كتابه «املشتبه في أسماء الرجال» ،وهذا الكتاب ُوضع لبيان الفرق بين الرجال الذين
اشتبهت أسماؤهم ،فذكر الذهبي فيه كل راو بما يميزه عن غيره .ولذا ذكر نصران بن نصر بأهم
مزيته التي تميزه عن غيره من الذين نسبتهم «الختلي».
ثم لم يرد عن هذا الراوي أي جرح في حقه .فالذي ذكره الذهبي ال يعتبر جرحا ،خاصة إذا اعتمد
على روايته أمثل الكاساني ،والعالء السمرقندي ،وأبي املعين النسفي.
ثم إن الذهبي قال في «املشتبه في أسماء الرجال» في قسم «الختلي»« :أبو مالك نصران بن نصر
الختلي ،راوي «الفقه األكبر» ألبي حنيفة عن علي بن الحسن الغزال[ .»...الذهبي« ،املشتبه في أسماء
الرجال» ]90 ،ولكن بتر بعضهم كالم الذهبي ونقله ناقصا دون لفظه« :ألبي حنيفة».
وأما دعوى أن أبا الحسن الفارس ي مجهول ليس له ذكر في كتب الرجال ،فهذا قول من لم يقف
على كتب الرجال كما ينبغي .بل هو ثقة ذكره الخليلي في «إرشاده» وقال« :أبو الحسن علي بن أحمد
البلخي ،ويعرف بـ«الفارس ي» ،سمع عيس ى بن أحمد ،ومحمد بن الفضل البلخي .ثقة ،سمع منه
املاسرجس ي ،وأبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي ،وحدثنا منه أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ،
أثنوا عليه ،مات بعد الثالثين وثالثمائة بسنة أو أقل»[ .الخليلي« ،اإلرشاد» ]952 ،951 ،إال أن الكوثري
جزم بأنه مات سنة (335هـ) عن سن عالية[ .الكوثري« ،مقدمات الكوثري»]170 ،
وأما نصير بن يحيى ،فقد سبق الكالم عنه[ .انظر ص]2 :
النقد الثاني :حال أبي مطيع البلخي .ذكروا فيه بعض الطعون ،فقالوا« :قال يحيى بن معين:
«ليس بش يء» .وقال أحمد« :ال ينبغي أن يروى عنه بش يء» .وقال أبو داود« :تركوا حديثه وكان
جهميا» .وقال أبو حاتم« :كان مرجئا كذابا ،ضعفه البخاري والنسائي» .وقال ابن حبان« :كان من
رؤساء املرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها» .وقال ابن عدي« :هو ّبين الضعف ،عامة ما يرويه ال
يتابع عليه»».
قلت :إن ما قيل في أبي مطيع البلخي من الطعون قسمان:
12
.1القسم األول يفيد ضعف حديثه ،وهذا مفاد حكم ابن معين ،وأحمد ابن حنبل ،وابن عدي.
وهذا الحكم من املحدثين ال يضر رواية أبي مطيع هذا الكتاب للسببين:
السبب األول :إن أبا مطيع البلخي ،إمام ذو مكانة عند الحنفية .وال يلزم من تضعيف املحدثين
إمامهم أبا حنيفة؛ إذ قد ضعفه إياه ترك روايته عند الحنفية ،ولو كان كذلك ،لوجب تضعيفهم َ
أحمد والبخاري .وعلى الرغم من هذا ،فهو إمام ثقة عند أصحابه.
والسبب الثاني :الفرق بين رواية الحديث ورواية الكتاب ظاهر .إذ نسبة الحديث إلى النبي محمد
تكون بواسطة عدة رجال ،وفيه احتمال الخطأ والنسيان .وأما أبو مطيع البلخي ،فهو يروي كتابا
معينا عن شيخه الذي لزمه سنين بال واسطة الرجال .وقد أماله عليه أبو حنيفة .ففي هذه الحالة
يبعد جدا أن ينسب لشيخه كتابا من إمالئه ،ويخطئ فيه ويقول :قلت له كذا فقال لي كذا .فأين ُرئي
طالب يظهر كتابا فيقول أماله علي شيخي الفالن ،وينسبه إليه خطأ؟
.2والقسم الثاني يتهم اعتقاد أبي مطيع البلخي ،وهذا مفاد قول أبي داود وأبي حاتم وابن حبان.
فعلى قولهم إن أبا مطيع البلخي كان جهميا مرجئا كذابا يبغض السنة ومنتحليها .فهذه االتهامات
الثالثة –أعني اإلرجاء والتجهم وبغض السنة وأهلها -شبعنا منها سماعا ،وكلها قيلت في أبي حنيفة
كذلك .وأما اإلرجاء والتجهم ،فاتهام النقلة أبا حنيفة بهما أشهر من أن أنقل كالمهم هنا.
وأما تهمة البغض للسنة ،فقد قيل في أبي حنيفة مثلها بل أشد منها ،فروى سليمان بن يعقوب
الفسوي في «املعرفة والتاريخ» عن سليمان بن حرب أنه قال« :أبو حنيفة وأصحابه ممن يصدون
عن سبيل هللا»[ .الفسوي« ،املعرفة والتاريخ» ]786/2 ،ومثله حرب الكرماني الذي اتهم أهل الرأي
بالضاللة واتخاذ أبي حنيفة إماما دون النبي محمد.
إال أن تلك األقوال ،ليس لها أي وزن عند الحنفية ،وهم ال يجعلون ترهات النقلة هذه ميزانا في
تقييم إمامهم .وإذا كان كذلك ،فال معنى في تقييم أبي مطيع بهذه الكلمات أيضا؛ إذ سبب الطعون
واحد.
وابن حبان ممن اتهم أبا مطيع في اإلرجاء ،وهو يتنافس مع ابن عدي في النيل عن أبي حنيفة
وأصحابه ،وال يهدأ لهما بال إال بهذا .ومن عجائب ابن حبان أنه يكاد أن يكون قراءة كتب الحنفية
من شروط اإلرجاء عنده ،فهو يقول في ترجمة موس ى بن حزام« :كان في ابتداء أمره ينتحل اإلرجاء،
ثم أعانه هللا بأحمد ابن حنبل ،وانتحل السنة وذب عنها ،وقمع من خالفها مع لزوم الدين إلى أن مات
رحمه هللا»[ .ابن حبان« ،الثقات»]163/9 ،
ولم يذكر ابن حبان هنا كيف خلص أحمد ابن حنبل موس ى بن حزام هذا من اإلرجاء .ولكنا
ننظر في «حلية األولياء» ألبي نعيم ،لنجده يروي القصة كاملة .وقد نقل أبو نعيم بسنده عن موس ى
بن حزام أنه قال« :كنت أختلف إلى أبي سليمان الجوزجاني في كتب محمد بن الحسن ،فاستقبلني
أحمد ابن حنبل عند الجسر ،فقال لي :إلى أين؟ فقلت :إلى أبي سليمان ،فقال :العجب منكم ،تركتم
إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ثالثة ،وأقبلتم على ثالثة إلى أبي حنيفة .فقلت :كيف يا أبا عبد هللا؟
13
قال :يزيد بن هارون بواسط يقول :حدثنا حميد عن أنس قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
وهذا يقول :حدثنا محمد بن الحسن ،عن يعقوب ،عن أبي حنيفة .قال موس ى بن حزام :فوقع في
قلبي قوله ،فاكتريت زورقا من ساعتي فانحدرت إلى واسط ،فسمعت من يزيد بن هارون»[ .أبو نعيم،
«حلية األولياء»]185/9 ،
فانكشف بهذا أن اإلرجاء الذي خلص أحمد ابن حنبل موس ى بن حزام منه ،هو سماع كتب
محمد من أبي سليمان الجوزجاني .ويعلم الجميع أن كتب محمد كانت كتب فقه ،وأحمد ابن حنبل
نفسه تعلم دقائق الفقه من تلك الكتب التي منع موس ى بن حزام عنها ،كما اعترف هو نفسه في رواية
إبراهيم الحربي عنه.
وليس يحسن أن ننقل هذه القصة ،ونمر عليها دون أن نتكلم فيها .وال يمتلك اإلنسان إلجام
نفسه عن التعجب حين يرى مثل هذه التصرفات الرخيصة من شخص يشار إليه أنه إمام أحد
املذاهب الفقهية.
وإن مقارنة أحمد ابن حنبل سماع كتب محمد بسماع حديث النبي محمد ال يمكن تصحيحها
بأي وجه من الوجوه؛ إذ لم يكن ما يرويه أبو سليمان ،إال فقه املدرسة املعينة ،وفقه املدرسة املعينة
ال يروى إال عن إمام تلك املدرسة ،وال يمكن أن يروى عن النبي محمد كما تروى أحاديثه ،فبالتالي
تبطل مقارنة رواية كتب املذهب برواية األحاديث ،ومقارنة عدد رجال أسانيد الكتب بعدد رجال
أسانيد األحاديث.
ثم الرواية بسند عال بال تفقه في املروي ،لم تكن مزية عند أصحاب الرأي الفقهاء خالفا ألهل
النقل ،بل ترك التفقه مذمة عندهم؛ ألن املطلوب هو العمل باملروي ،وليس مجرد الرواية .وبالتفقه
يصحح العمل .وإذا كانت الرواية بسند عال مزية في جانب الرواية ،فالتفقه باملروي مزية في جانب
العمل والدراية .ففي هذا يقول الكوثري في «بلوغ األماني» بعد أن ذكر ما قاله أحمد ابن حنبل في
كتب محمد بن الحسن ،وذكر هذه القصة وقال« :فيا ترى ما هو الداعي له -يقصد أحمد ابن حنبل-
إلى هذا االضطراب؟ تراه يثني على كتب محمد بن الحسن وعلمه مرة ،وتراه يسعى مرة أخرى في صرف
املستمعين إلى كتبه من سماعها بأن يقول :هناك علو السند .وهو يعلم أن السماع بعلو بدون تفقه
قليل الجدوى»[ .الكوثري« ،بلوغ األماني»]51 ،
والحق أن ذم أحمد ابن حنبل محمد بن الحسن وكتبه ال قيمة له عند الحنفية .وما رفع محمدا
مدح أحمد حتى يسقطه ذمه ،كما قال أبو سليمان الجوزجاني تلميذ صادق لشيخه ،ملا كتب إليه
أحمد ابن حنبل« :إنك إن تركت رواية كتب محمد جئنا إليك لنسمع منك الحديث» ،فكتب أبو
سليمان إليه على ظهر رقعته« :ما مصيرك إلينا يرفعنا ،وال قعودك عنا يضعنا ،وليت عندي من هذه
الكتب أوقارا حتى أرويها حسبة».
فلنعد إلى أبي مطيع البلخي ،هو من كبار الحنفية ،وكبير املحل عندهم .وكان له رسوخ في العلم،
وفقه يجعله يناظر مثل أبي يوسف .وكان على قضاء بلخ ست عشرة سنة ،وكان ينزل بغداد حينا
14
بعد حين ،ويذاكر أئمتها .فروى الخطيب بسنده عن القاسم بن زريق تلميذ أبي مطيع أنه قال:
َ
«دخلت أنا وأبو مطيع بغداد ،فاستقبلنا أبو يوسف فقال :يا أبا مطيع كيف قدمت؟ قال :ثم نزل
عن دابته ،فدخال املسجد ،فأخذا في املناظرة»[ .الخطيب« ،تاريخ مدينة السالم» ]122/9 ،فهكذا كان
الوالء بينه وبين أبي يوسف.
ومن شيوخه أبو حنيفة ،وقد لزمه سنين ،وسمع مالكا ،والثوري ،وغيرهما.
وممن أخذ منه نصير بن يحيى راوي الكتاب عنه ،ومحمد بن مقاتل الرازي ،وموس ى بن نصر،
والقاسم بن زريق وغيرهم من أهل العلم كثير.
وروى الخطيب بسنده عن محمد بن فضيل البلخي قال« :مات أبو مطيع وأنا ببغداد ،فجاءني
املعلى بن منصور فعزاني فيه ،ثم قال :لم يوجد ههنا منذ عشرين سنة مثله»[ .املصدر السابق] فلينظر
القارئ الكريم من عاش في بغداد قبل عشرين سنة من وفاة أبي مطيع ،ليفهم قدر كالم املعلى فيه.
وروى الخطيب أيضا بسنده عن ابن املبارك قال« :أبو مطيع له املنة على جميع أهل الدنيا».
[املصدر السابق]123/9 ،
والخطيب نفسه يقول فيه« :كان فقيها ،بصيرا بالرأي»[ .املصدر السابق]121/9 ،
وقال عبد القادر القرش ي« :تفقه به أهل تلك الديار ،وكان بصيرا عالمة كبيرا ،كان ابن املبارك
يعظمه ويبجله لدينه وعلمه»[ .القرش ي« ،الجواهر املضية»]87/4 ،
وقال تقي الدين الغزي« :اإلمام العالم العامل ،أحد أعالم هذه األمة ،ومن أقر له بالفضائل
جهابذة األئمة ...وولي قضاء بلخ ،وقدم بغداد غير مرة ،وحدث بها ،وتلقاه أبو يوسف ،وتناظر معه،
وكانت مدة واليته على قضاء بلخ ست عشرة سنة ،يقول بالحق ويعمل به»[ .الغزي« ،الطبقات السنية»،
]178/3
وقال ابن العماد الحنبلي« :وبلغنا أن أبا مطيع كان من كبار اآلمرين باملعروف ،والناهين عن
املنكر»[ .ابن العماد« ،شذرات الذهب»]471/2 ،
وكان محمد بن مقاتل الرازي ،وموس ى بن نصر يبجالنه ،وهو كبير املحل عند الحنفية كما قال
ابن حجر[ .ابن حجر« ،لسان امليزان»]248/2 ،
األسانيد األخرى للكتاب .لقد ذكر الذهبي كما نقله الكوثري عنه ،وكما نقتله من «املشتبه في
أسماء الرجال» أن نصران بن نصر الختلي يروي هذا الكتاب عن علي بن الحسن الغزال .ورواه عن
نصران الكاشغري .ويرويه الغزال عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارس ي ،عن نصير بن يحيى ،عن
أبي مطيع ،عن أبي حنيفة .وهكذا ذكر الكوثري السند في أول الكتاب مع ذكر الغزال.
وقد ذكر الكوثري سندا آخر للكتاب .ففي هذا السند يروي الكتاب أبو املعين النسفي ،عن يحيى
بن مطرف ،عن أبي صالح محمد بن الحسين ،عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر بن عبد هللا
البستي الجرمقي ،عن علي بن أحمد الفارس ي بسنده.
15
وللكتاب سند آخر لم يذكره الكوثري .لقد وجدته في كتاب «القند في ذكر علماء سمرقند» لنجم
الدين النسفي .يقول النسفي في أثناء كالمه عن الياركثي« :أخبرنا اإلمام أبو املحامد محمد بن محمد
بن الحسن الزالي بسمرقند قال :أخبرنا اإلمام أبو عبد هللا محمد بن عبد هللا ابن محمد الشوماني
قال :أخبرنا األديب العارف أبو الحسن علي بن محمد بن عمرو الياركثي قال :أخبرنا أبو سعيد محمد
بن عبد هللا العجيفي ،عن أبي الحسن الفارس ي ،عن نصير بن يحيى ،عن أبي مطيع البلخي ،عن أبي
حنيفة رض ي هللا عنه بكتاب «الفقه األكبر» وبكتاب «العالم واملتعلم» من جهته كالهما»[ .النسفي،
«القند في ذكر علماء سمرقند»]549 ،
وصاحب الكتاب هو املحدث املشهور نجم الدين عمر بن محمد بن أحمد النسفي .فقيه فاضل
عالم باملذهب كما قال السمعاني.
وأما أبو املحامد شيخه في السند ،فنسبه السمعاني «الدالي» بالدال املهملة وليس بـ«الزالي»
بالزاي املعجمة .وذكره في عداد الرواة عن أبي عبد هللا الشوماني كما سيأتي .وقد وصفه النسفي
باإلمامة كما سبق في السند.
وأما أبو عبد هللا الشوماني ،فهو واعظ شهير وعالم .قال السمعاني في أثناء كالمه عن نسبة
«الشوماني»« :أبو عبد هللا محمد بن عبد هللا بن محمد الشومانى البلخي ،كان واعظا من أهل بلخ،
َ
يلقب بـ«زين الصالحين» ،وكان أستاذ امللك شمس امللك نصر بن إبراهيم الخاقاني ومعلمه ،يروي
عن أبى محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الواشجردي ،روى عنه أبو املحامد محمد بن محمد بن
الحسن الدالي البلخي بسمرقند»[ .السمعاني« ،األنساب»]487/3 ،
وأما أبو الحسن الياركثي ،فقد ذكره النسفي في علماء سمرقند وقال« :الشيخ أبو الحسن علي
بن محمد بن عمرو املؤدب الياركثي ،صاحب «شرح املقامات» ،تلميذ الشيخ أبي القاسم الحكيم
رحمه هللا ،حدث بسمرقند»[ .النسفي« ،القند في ذكر علماء سمرقند»]548 ،
وأما أبو سعيد العجيفي ،فهو ابن الفقيه أبي القاسم عبد هللا بن عجيف .وقد سبق الكالم في
باقي رجال السند.
النقد الثالث« :إن الكتاب ينسب إلى أبي مطيع البلخي دون أبي حنيفة .يقول الذهبي عن أبي
مطيع البلخي« :صاحب كتاب «الفقه األكبر»» .فهذه إشارة منه إلى أن الكتاب ليس من تأليف أبي
حنيفة ،وإنما هو من تأليف أبي مطيع البلخي .ولذا قال األلباني عن كالم الذهبي« :وفيه إشارة قوية
إلى أن كتاب «الفقه األكبر» ليس لإلمام أبي حنيفة رحمه هللا تعالى ،خالفا ملا هو املشهور عند
الحنفية» .كذا اعترف اللكنوي قائال« :أبو مطيع البلخي صاحب أبي حنيفة ،وصاحب كتاب «الفقه
األكبر»».
قلت :هذا النقد غير صحيح؛ ألن الذهبي قصد بقوله «صاحب كتاب «الفقه األكبر»» ،كون أبي
مطيع جامع الكتاب من سماعه عن أبي حنيفة .وأكبر دليل على هذا ،كالم الذهبي نفسه الذي نسب
فيه الكتاب صريحا إلى أبي حنيفة .يقول الذهبي في كتابه «املشتبه في أسماء الرجال»« :أبو مالك
16
نصران بن نصر الختلي ،راوي «الفقه األكبر» ألبي حنيفة عن علي بن الحسن الغزال[ .»...الذهبي،
«املشتبه في أسماء الرجال» ]90 ،ولكن الحميدي وكذا الخميس مسحا اسم أبي حنيفة من كالم الذهبي.
وبهذا علم ضعف كالم األلباني السابق.
وأما اعتراف اللكنوي -على تعبيرهم ،-فهذا الزعم في حق اللكنوي نشأ عن بتر كالمه وعدم سرده
كامال .فاللكنوي جمع كتابه «الفوائد البهية» من سائر كتب طبقات الحنفية ،ثم أضاف كالمه قائال:
«قال الجامع» .ويقول اللكنوي عن أبي مطيع البلخي« :الحكم بن عبد هللا بن مسلمة بن عبد
الرحمن ،القاض ي أبو مطيع البلخي راوي «الفقه األكبر» عن أبي حنيفة»[ .اللكنوي« ،الفوائد البهية»،
]34
فهنا ذكر أبا مطيع كراوي الكتاب كما ترى .ثم نقل اللكنوي من كتاب «العبر في خبر من غبر»
للذهبي كالمه حيث قال« :قال الجامع :أرخ الذهبي وفاته في «العبر في خبر من غبر» سنة تسع وتسعين
ومائة حيث قال :فيها توفي أبو مطيع البلخي الفقيه ،صاحب أبي حنيفة وصاحب كتاب «الفقه
األكبر»»[ .املصدر السابق]
فأنت ترى أن اللكنوي نقل كالم الذهبي من «عبره» ،ولم يعترف بش يء كما زعموا .نعم الذهبي
قال هذا الكالم في «عبره»[ ،انظر :الذهبي« ،العبر في خبر من غبر» ]258/1 ،ولكنه صرح في «مشتبهه» بأن
الكتاب ألبي حنيفة كما سبق .وهذا أكبر دليل على أن الذهبي يقصد بقوله «صاحب «الفقه األكبر»»
كون أبي مطيع جامع الكتاب وراويه.
واللكنوي أيضا صرح في بداية ترجمة أبي مطيع بأنه راوي الكتاب كما سبق ،ثم نقل كالم الذهبي
من «عبره» .ولكن أصحاب النقد هذا ،أخفوا كالمه في بداية ترجمة أبي مطيع ،ونقلوا ما نقله عن
الذهبي ،وجعلوه اعترافا منه على أن الكتاب ليس ألبي حنيفة.
فإذا قيل :إن اللكنوي لم يعترض على كالم الذهبي ،فيكون مؤيدا له في كالمه ،قلت :كان كذلك
لو نقل كالم الذهبي معقبا على كالمه في أنه راوي الكتاب .ولكنه لم ينقل كالم الذهبي معترضا على
هذا ،بل نقل كالمه في بيان تاريخ وفاته ،فال يكون نقله نقدا منه على كالمه هو في بداية الترجمة.
ثم ولو قبلنا تنزال أن اللكنوي يؤيد كالم الذهبي ،ففي هذه الحالة يكون محيال األمر إلى كالم
الذهبي ،وقد سبق معنى كالمه جمعا بين قوله هذا ،وقوله في «املشتبه».
وال شك أن كاتب ما في الكتاب بمعنى الجمع هو أبو مطيع البلخي .وفي عهد أبي حنيفة كان اإلمالء
أسلوبا سائدا في التأليف .ويقول املرتض ى الزبيدي في «إتحاف السادة املتقين» في مقدمته على قواعد
العقائد« :فمن عزاهن (يقصد كتب أبي حنيفة) إلى اإلمام صح لكون تلك املسائل من إمالئه ،ومن
عزاهن إلى أبي مطيع البلخي ،أو غيره ممن هو في طبقته ،أو ممن هو بعدهم صح لكونها من جمعهم.
ونظير ذلك املسند املنسوب لإلمام الشافعي ،فإنه من تخريج أبي عمرو محمد بن جعفر بن محمد
بن مطر النيسابوري عن أبي العباس األصم من أصول الشافعي»[ .الزبيدي« ،إتحاف السادة املتقين»،
]19/2
17
كالم أبي حنيفة على أن ما كتبه ليس ألبي حنيفة؟ وملذا تنسب مسائل فمتى دل كتابة أبي مطيع َ
ولم ال نقول إن تلك املسائل نسبتها إلى أحمد باطلة ،بل هي من عمل ابنيه عبد هللا، أحمد إليه؟ َ
وصالح ،أو من عمل أصحابه مثل إسحاق بن إبراهيم ،وإسحاق بن منصور؛ ألن أحمد كان ال يرتض ي
وضع كتاب في الفقه ،وأصحابه هم الذين قاموا بجمع آرائه؟
ونظيرها «مدونة» سحنون ،فهل يجب أن ال ننسب ما فيه من اآلراء إلى مالك؛ ألن الجامع هو
سحنون وليس مالكا؟ وإذا كان ما جمعه سحنون الذي لم ير مالكا من آراء مالك بواسطة أصحابه
ينسب إلى مالك ،فلم ال ينسب ما جمعه أبو مطيع الذي صحب أبا حنيفة سنين من كالمه إلى أبي
حنيفة؟
وأبو حنيفة لم يؤلف كتابا في الفقه أيضا ،ولكن أصحابه جمعوا أقواله .فهل نقول إن اآلراء التي
ُجمعت في كتب أصحابه ليست له؟
الخميس نفسه اعترف مصرحا بأن ما في «الفقه األكبر» هو كالم أبي حنيفة ،إال أن أبا مطيعّ ثم
هو الذي جمعه حيث قال« :ويظهر -وهللا أعلم -أنها ليست من تأليف اإلمام مباشرة ،بل من تأليف
تلميذه أبي مطيع البلخي ،جمع فيها أمالي اإلمام وأقواله ،لذا يقول الذهبي عن أبي مطيع البلخي:
«صاحب كتاب «الفقه األكبر»»[ .الخميس« ،أصول الدين عند اإلمام أبي حنيفة» ]119 ،إذا كان كذلك،
فأين املشكلة في نسبة الكتاب إلى أبي حنيفة؟
نعم ،الكتاب من أمالي أبي حنيفة ،وجامعه أبو مطيع البلخي .وهذا ظاهر في أسلوب الكتاب .إذ
يذكر أبو مطيع ما جرى بينه وبين شيخه بأسلوب «قلت-قال» .وال أحد ينكر هذا.
18
ويقول عالء الدين البخاري في شرحه على «أصول البزدوي»« :ثم إن كتاب «أصول الفقه»
املنسوب إلى الشيخ اإلمام املعظم ،والحبر الهمام املكرم ،العالم العامل الرباني »...إلى آخر كالمه.
[البخاري« ،كشف األسرار» ]16/1 ،فهل يشك البخاري أو أحد غيره في نسبة «أصول البزدوي» إلى
صاحبه؟
ويقول نظام الدين النيسابوري في «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» عن تفسير الرازي« :وملا كان
التفسير الكبير املنسوب إلى اإلمام األفضل والهمام األمثل ،الحبر النحرير والبحر الغزير ،الجامع
بين املعقول واملنقول الفائز بالفروع واألصول ،أفضل املتأخرين ،فخر امللة والحق والدين ،محمد
بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي ،تغمده هللا برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه[ .»...النيسابوري،
«غرائب القرآن ورغائب الفرقان» ]6/1 ،وال يشك النيسابوري ،أو أحد غيره في أن «التفسير الكبير» من
وضع الرازي نفسه.
النقد الثاني« :لم يرو الكتب عن أبي حنيفة سوى حماد وأبي مطيع ،فلو كانت الكتب املنسوبة
إلى أبي حنيفة له ،لرواها عنه جميع أصحابه أو أكثرهم».
قلت :ربما هذه هي أضعف النقود حول كتب أبي حنيفة؛ إذ لو جعلناها ضابطا في اإلثبات
والنفي ،لوجب علينا نفي ما انفرد به الصحابة من األحاديث ،وعلى رأسهم أبو هريرة الذي يزيد ما
انفرد به عن مائة حديث ،منها الصحاح ومنها الحسان.
وإذا قال قائل :ولكن الكتب املنسوبة إلى أبي حنيفة هي في العقيدة ،وأقواله في غاية األهمية أن
ويرويها أكثر أصحابه ،قلت :ففي مفاريد أبي هريرة أحاديث في باب العقيدة أيضا ،منها حديث: تجمعَ ،
«إن هلل تسعة وتسعين اسما ،مائة إال واحدا ،من أحصاها دخل الجنة» .فهذا الحديث يحتوي على
معلومة عقدية في عدد أسماء هللا ،ومع ذلك لم يروه قدماء أصحاب النبي محمد من املهاجرين
واألنصار ،بل هو مما انفرد به أبو هريرة.
ثم من روى كتاب «أصول السنة» عن أحمد غير عبدوس بن مالك العطار؟ وهذا الكتاب زبدة
عقيدة أحمد ابن حنبل ،فهو في غاية األهمية عند الحنابلة ،فيه يقول ابن أبي يعلى الحنبلي في
«طبقاته» في ذكر من اسمه عبدوس« :ووقع إلينا منها ش يء أخرجه أبو عبد هللا في جماع أبواب
السنة ،ما لو رحل رجل إلى الصين في طلبها لكان قليال ،أخرجه أبو عبد هللا ودفعه إليه»[ .ابن أبي
يعلى« ،طبقات الحنابلة» ]166/2 ،ومع هذا ال يشك الحنابلة في نسبة الكتاب إلى أحمد ابن حنبل.
ومن روى رسالة «شرح السنة» عن املزني؟ ولم يروها عنه غير علي بن عبد هللا الحلواني ،وعبد
الكريم بن عبد الرحمن بن معاذ بن كثير ،وهما مجهوالن .ومع هذا ينسبها إليه الحنابلة بكل فخر.
ثم إن أصحاب هذا النقد يعتمدون على رواية الطحاوي في مختصره العقدي في رواية عقيدة أبي
حنيفة وصاحبيه ،ولم يعاصرهم الطحاوي ،ولم يذكر إسنادا بينه وبينهم .وهذا يوجب التوقف على
أصولهم عن قبول مرويه ،فلم قبلوا رواية الطحاوي املرسلة ،ولم تقبلوا رواية حماد وأبي مطيع وأبي
مقاتل املسندة؟
19
حول كتاب «العالم واملتعلم»
20أيلول 2019
20
والسبب الثاني :رواية الحارثي منه عدة أحاديث ،وذكر اسمه بتمامه ،وبيان نسبته تدل على أنه
كان معروفا عند الحارثي ،مقبوال عنده.
والسبب الثالث :رواية الكتاب من طريق آخر في كتاب «القند» ،وكذا رواية املاتريدي تقويان
رواية محمد بن يزيد ،عن الحسن بن صالح ،عن أبي مقاتل .خاصة وأن السرخس ي بنى تصحيح ما
في كتاب االستحسان على انتشار الفسق في زمانه ،فهذا يدل على أن ترك رواية املستور ليس لذات
الستر ،بل لغلبة الفسق في العصور املتأخرة ،فلذا قبلوا رواية املستور إذا كان من الصدر األول ،أي
إلى الثلث األول من القرن الثاني تقريبا .فإذا كان كذلك فوجود طريقين آخرين يدل على صدق سند
محمد بن يزيد بن أبي خالد.
والحسن بن صالح أظنه ابن أبي الدواهي املذكور في «جامع املسانيد»[،الخوارزمي« ،جامع
املسانيد» ]359/1(،الراوي عن موس ى بن طارق عن أبي حنيفة ،املتوفى سنة إحدى وثالثين ومائتين
(231ﻫ) .روى عنه عبيد بن كثير الكوفي ،وأبو جعفر املطين الكوفي الحافظ[ .الخطيب« ،املتفق واملفترق»،
]668/1ولم أجد في حقه أي جرح .وليس هو الحسن بن صالح املتوفى سنة تسع وستين ومائة (169ﻫ)
كما وهمه بعضهم.
وأبو مقاتل إمام أهل سمرقند في عهد أبي حنيفة ،صحبه وأكثر عنه الرواية كما قاله املكي[،املكي،
«مناقب اإلمام أبي حنيفة» ]246/1 ،وهو مشهور بالصدق والعلم ،وكان ممن يفتي في أيامه ،وله في العلم
والفقه محل ،ويعنى بجمع حديثه ،كما قاله الخليلي[ .الخليلي« ،اإلرشاد في معرفة علماء الحديث»]975/3 ،
وقال ابن حجر« :مقبول من الثامنة»[ .ابن حجر العسقالني« ،تقريب التهذيب» ]1209 ،وهذا في كتابه
«تقريب التهذيب» الذي قال عنه« :إنني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه،
وأعدل ما وصف به» .ثم ذكر أنه إذا قال «مقبول» يقصد به من لم يثبت فيه ما يترك حديثه من
أجله[ .املصدر السابق ]81 ،80 ،ولقد أشبعت الكالم في طعون جارحيه في مقالة مستقلة سميتها باسمه.
والسند الثالث الذي ذكره الكوثري هو من طريق أبي منصور املاتريدي ،عن أبي بكر الجوزجاني،
عن أبي سليمان الجوزجاني ومحمد بن مقاتل ،عن أبي مطيع ،وعصام بن يوسف البلخيين ،عن أبي
مقاتل ،عن أبي حنيفة .وأراه خطأ ،والصحيح أن يكون هكذا :عصام بن يوسف عن أبي مطيع البلخي
وأبي مقاتل السمرقندي ،وهما عن أبي حنيفة؛ ألن الكتاب مروي بطريق أبي مطيع في سند نجم
الدين النسفي[ .انظر ص ]16 :وفي بعض النسخ تصريح أن املتعلم هو أبو مطيع .ثم عصام بن يوسف
في طبقة أصحاب األصحاب ،وأبو مطيع من أصحاب أبي حنيفة ،وال يتصور أن يجتمعا في الرواية
اويي الكتاب وأحد عن أبي مقاتل ،صاحب آخر ألبي حنيفة ،خاصة إذا كان أبو مطيع هو أحد ر ْ
السائلين كما سيأتي ،بل املتصور أن يروي عصام عنهما؛ لكونهما صحبا أبا حنيفة ،ورويا عنه هذه ْ
األجوبة ،وكانا في مجلس األسئلة.
ومما يدل على وقوع الخطأ في السند ،هو صدره ،حيث يرويه ابن قاض ي العسكر عن برهان
الدين علي بن الحسن البلخي بـ«أنبأنا» .وبرهان الدين توفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (548ﻫ)
21
[القرش ي« ،الجواهر املضية في طبقات الحنفية» ]562/2 ،قبل أن يولد ابن قاض ي العسكر سنة ثمان وستمائة
َ
الشخص الذي بينهما ،فإذا كان (608ﻫ) [املصدر السابق ،4 ]568/2 ،وربما أسقط الناسخ من غير قصد
كذلك يمكن جدا أن يخطئ في آخر السند أيضا.
وسبق الكالم عن أبي الحسن الفارس ي .ونصير بن يحيى ،وأبي مطيع البلخي[ .انظر ص]15 ،12 ،2 :
ولقد سبق أن للكتاب إسنادا آخر عند نجم الدين النسفي[ .انظر ص ]16 :فعلى هذا السند يكون
الجامع أو السائل هو أبو مطيع البلخي .ورأيت في بعض املخطوطات املوجودة على الشبكة الدولية
التصريح بأن املتعلم هو أبو مطيع البلخي 5،وليس في بعضها بيان اسم املتعلم أصال 6.وفي املطبوع
بتحقيق الكوثري« :قال املتعلم –وهو أبو مقاتل[ ،»-أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم» ]8 ،وال أدري هل هذا
في املخطوطة التي اعتمد عليها الكوثري ،أم هو من زيادته توضيحا السم املتعلم.
ويظهر لي مما سبق أن السائل في هذا الكتاب ليس شخصا واحدا ،بل هما شخصان ،أبو مطيع
البلخي وأبو مقاتل السمرقندي ،يسأل هذا أحيانا ،وذاك أحيانا أخرى ،فلذا لم يسم السائل في كل
سؤال ،بل جاء« :قال املتعلم».
4في املطبوع تاريخ والدته :سنة ثمانين وستمائة (680ﻫ) ،وهذا خطأ؛ ألنه توفي سنة خمسين وستمائة ،وله ثالث
وأربعون سنة كما في «الجواهر» نفسه.
5انظر:
https://dorar.uqu.edu.sa/uquui/web/viewer.html?file=https://dorar.uqu.edu.sa/uquui/bitstream/2
1/107908/0.500.12248/b12124266_0.pdf
https://www.alukah.net/manu/files/manuscript_3447/makhtot.pdf
6انظر:
https://dorar.uqu.edu.sa/uquui/web/viewer.html?file=https://dorar.uqu.edu.sa/uquui/bitstream/2
1/112489/0.500.12248/b12646751_0.pdf
22
فهذا النقل من كتاب «العالم واملتعلم» ،وقد جاء فيه« :قال املتعلم رحمه هللا :قد وصفت
العدل ،ولكن أخبرني من أين جاء أصل اإلرجاء ،وما تفسيره ،ومن الذي يؤخر ويرجىء أمره؟ قال
وِن العالم :جاء أصل اإلرجاء من قبل املالئكة ،حيث عرض هللا عليهم األسماء ،ثم قال لهم﴿ :أ َ ُ
ۢنب
ِّ ِّ
َٓ َ ٓ
بِّأ ۡس َماءِّ َ َٰٓه ُؤَلءِّ﴾ [البقرة ،]31 :فخافت املالئكة الخطأ إن تكلموا بغير علم تعسفا فوقفت وقالت:
َّ ٓ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ ٓ َّ
حَٰ َنك َل عِّل َم َلَا إَِّل َما َعل ۡم َت َنا﴾ [البقرة[ .»]32 :أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم»]22 ، ﴿سب
وقال املاتريدي في موضع آخر من تفسيره« :ثم قيل فيمن عص ى ربه :أليس قد أطاع الشيطان؟
قيل :بلى ،فإن قيل :فإن أطاع أال يكفر؟ قيل :ال؛ ألنه ليس يقصد طاعة الشيطان ،وإنما يكفر بقصد
طاعة الشيطان ،وإن كان في عصيان الرب طاعته .وكذلك روي عن أبي حنيفة رض ي هللا عنه أنه
سئل عن ذلك ،فأجاب بمثل هذا الجواب»[ .املاتريدي« ،تأويالت القرآن»]105/1 ،
وهذا عين ما في «العالم واملتعلم» كما جاء فيه« :قال املتعلم :هذا لعمري هو قول أهل الورع
والتثبت ،ولكن أخبرني أليس من أطاع الشيطان وطلب مرضاته فهو كافر ،وعابد الشيطان؟ قال
العالم رض ي هللا عنه :أوعلمت ما أردت بهذه املسألة أن املؤمن إذا عص ى هللا تعالى ،ليس يكون
بمعصيته تلك مطيعا للشيطان ،طالبا ملرضاته يتعمد ذلك ،وإن وافق عمله للشيطان طاعة
ورضا؟»[ .أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم»]27 ،
ونقل املاتريدي من هذا الكتاب بذكر اسمه أيضا حيث قال« :فإن قال قائل :فإن أبا حنيفة
رحمه هللا ذكر في كتاب «العالم واملتعلم» أن إيمان املالئكة وإيمان الرسل ،وإيماننا واحد .ثم قال
(أي املتعلم) :فإذا استوينا نحن والرسل في اإليمان ،فكيف صار الثواب لهم أكمل ،وخوفهم من هللا
أشد؟ فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة ،وقال في جملة ما أجاب :إنهم لو ارتكبوا الزالت لحل بهم
العقاب عقيب الزلل ،فصار خوفهم باهلل تعالى ألزم من هذه الجهة»[ .املاتريدي« ،تأويالت القرآن»،
]206-205/16
فهنا صرح باسم الكتاب كما ترى ،وذكر جواب أبي حنيفة باملعنى ،وهو يقصد قوله« :والرابعة:
إنهم كانوا يعاينون ما ينزل بغيرهم من العقوبة على املعصية ،وكان ذلك أيضا مما يحجزهم عن
املعاص ي»[ .أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم» ]15 ،وذكر قبله أن الرسل عاينوا من املالئكة والعجائب مما لم
نعاين نحن .فعلى هذا يكون خوفهم أشد؛ ألنهم عرفوا أن إقامة الحجة على املعاين أقوى من إقامتها
على غيره ،فكان خوفهم أشد ،وحذرهم من املعاص ي أقوى حتى ال ينزل عليهم عذاب هللا عقيب
املعصية.
واملاتريدي نفسه في عداد رواة هذا الكتاب كما سبق.
23
التوحيد» ]194 ،وهذا اللفظ ليس موجودا في النسخة املطبوعة بتحقيق الكوثري .وهو موجود في
مقدمة النسخ التي رأيتها على الشبكة الدولية ،وكذا في مقدمة النسخة التي شرحها ابن فورك[ .ابن
فورك« ،شرح العالم واملتعلم» ]43 ،وهل هذه املقدمة من قول أبي حنيفة ،أم هي مدرجة من قبل الراوي؟
فأما أن تكون هي من اعتقاد أبي حنيفة فال شك في هذا ،وأما أن تكون من لفظه فإني أراه احتماال
ضعيفا لسببين ،السبب األول :إن الكتاب جمع أجوبة أبي حنيفة على األسئلة املطروحة عليه في باب
االعتقاد ،وليس من تأليف يده مباشرة ،كما أنه ليس من أماليه دون أن ُيسأل ،وإنما هو مجموع
أجوبته على األسئلة ،وليس من شأن املجيب أن يقدم بمقدمة كهذه.
فإذا قيل :وكيف باملقدمة املذكورة في املطبوع؟ قلت :الظاهر أنها من الحمد إلى قوله« :منقلبا
كريما» ليس من كالم أبي حنيفة ،بل هو من كالم الجامع ،وأما من قوله« :وقد أجبتك» إلى قوله:
«وعليه التكالن» ،فال شك أن مكانه آخر الكتاب؛ فال يصح أن يقول« :أجبتك» قبل اإلجابة .وجعله
في صدر الكتاب من تصرف الجامع.
والسبب الثاني :إن مثل هذه املقدمات املكونة من الحمدلة الطويلة أمر متأخر عن عهد أبي
حنيفة ،فلذا ال نرى مثلها في سائر كتبه.
24
مختلفان فهذا ال يكون ،فإذا مال القلب إلى الجور أحب أهله ،وإذا أحب القوم كان منهم ،وإذا مال
القلب إلى الحق وأهله كان لهم وليا»[ .أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم»]10-9 ،
وأنت ترى أن كالم أبي حنيفة هو في التمييز بين الحالتين .نعم ،قد يستدل به على فضل علم
الكالم ،ولكن هذا من محتمالت كالمه ،وليس هو نصا فيه .يبينه الفقرة التي قبله ،فإن املتعلم بين
سبب إتيانه أبا حنيفة فقال« :إني ابتليت بأصناف من الناس ،وسألوني عن أشياء لم أهتد لجوابها،
ولم أترك الحق الذي بيدي ،وإن عجزت عن جوابهم ،وعرفت أن للحق من يعبر عنه ،وليس الحق
بمنقوض والباطل مزهوق به ،وكرهت أيضا لنفس ي الجهالة بأصل الدين وما أنتحل من الحق ...إلى
أن قال :فأحببت أصلحك هللا أن أكون عاملا بأصل ما أنتحل من الحق وأتكلم به ،حتى إذا جاءني مارد
يتمرد علي ،أو يريد أن يزيلني عن الحق لم يطق ،وإن جاءني متعلم أوضحت له ،وأكون على بصيرة
من أمري»[ .املصدر السابق]9-8 ،
فهو كما ترى يطلب معرفة أصول املذهب الذي انتحله ،وطرق الرد على املخالفين .وتعلم هذا
القدر جائز حتى عند أعداء علم الكالم .وبعد هذا قص ألبي حنيفة أن أقواما حرموا التكلم في هذه
األمور ،أي األمور التي وقع الخالف فيها بين املذاهب .وليس فيه أنه طلب منه دقائق علم الكالم ،أو
حثه أبو حنيفة على تعلمها .بل فيه أنه أراد مقدار ما يتمكن به من الدفاع عن رأيه .وحثه أبو حنيفة
على تعلم هذا املقدار .وهذا القدر جائز عند الجميع.
النقد الثاني« :إن في الكتاب استعمال القياس في قضايا العقيدة كما في الصفحات ،16 ،15
»17
قلت :جاء في الكتاب« :وإنما نقيس أمر الناس بأمر أنفسنا ،ألنه ربما كانت منا الزلة أو الجذع
عند املصيبة ،أو جبن من عدو ،فال يدخل علينا شك في هللا ،وال في ش يء مما جاء من عند هللا ،فغيرنا
عندنا بمنزلة أنفسنا»[ .املصدر السابق]15 ،
وجاء أيضا« :قال العالم رحمه هللا :وأما ما طلبت من القياس في أن يقيننا ويقين املالئكة واحد،
وخوفهم أشد من خوفنا بأنه كيف يكون ذلك؟ فأخبرك أن القياس في ذلك كرجلين عاملين
بالسباحة ،ال يفوق أحدهما صاحبه في ش يء من األمور ،فانتهيا إلى نهر كثير املاء شديد الجرية،
فأحدهما على دخوله أجرأ واآلخر أجبن .أو كرجلين بهما مرض واحد ،وأتيا بدواء واحد شديد املرارة،
فأحدهما على شربه أجرأ ،واآلخر أجبن»[ .املصدر السابق]
وجاء أيضا« :قال العالم رحمه هللا :قد أعلم أنه إن كان هللا يغفر للقاتل ،فإن صاحب النظرة
َّ
أجدر أن يغفر له ،وإن عذب على النظرة ،فهو على القتل أجدر أن يعذب؛ ألنه تعالى قال﴿ :إِّن
َ ۡ َ َ ُ ۡ َ َّ َ ۡ َ َٰ ُ
ك ۡم﴾ [الحجرات .]13 :وصاحب النظرة إذا لم يقتل كان أتقى من القاتل، أكرمكم عِّند ٱَّللِّ أتقى
وأما ما ذكرت من الرجاء لهما ،فإنهما ال يستويان عندي؛ ألني لصاحب الذنب الصغير أرجى مني
لصاحب الذنب الكبير .والقياس في ذلك رجالن ركب أحدهما البحر ،واآلخر ركب نهرا صغيرا ،وأنا
أتخوف عليهما الغرق ،وأرجو لهما النجاة جميعا ،غير أني على صاحب البحر أخوف أن يغرق مني
25
على صاحب النهر الصغير ،وأنا لصاحب النهر الصغير أرجى بالنجاة مني لصاحب البحر ،وكذلك أنا
على صاحب الذنب الكبير أخوف مني لصاحب الذنب الصغير ،وأنا لصاحب الذنب الصغير أرجى
مني لصاحب الذنب الكبير ،وأنا في ذلك أرجو لهما وأخاف عليهما على قدر أعمالهما»[.املصدر السابق،
]17
والفرق كبير بين إثبات أمر ما بالقياس ،وضرب مثل ألمر ثابت لتقريبه إلى فهم املستمع .ففي
األول يكون القياس دليال للمسألة ،وأما في الثاني فيكون القياس مجرد طريق لتقريب املسألة إلى
األذهان.
ففي النص األول ال يثبت أبو حنيفة عدم وقوع الشك بالقياس ،بل يستدل بالواقع من نفسه
ونفس املستمع على أن وقوع حوادث كما لم ينقص من يقينهما ،فكذلك ال تؤثر تلك الحوادث في
يقين اآلخرين .فهل هذا إال بضرب مثل من الواقع؟
وفي النص الثاني يضرب مثال ليبين أن اتحاد املؤمن به بين املالئكة والناس ،ال يمنع كونهم أشد
خوفا من الناس ،وهذا ليس ألنه عجز عن إتيان دليل على املسألة ،بل املسألة ال تحتاج إلى دليل،
فالكل يثبت أن املؤمن به واحد عند الناس وعند املالئكة ،وكذا الكل يثبت أن خوف املالئكة أكبر
من خوف الناس .فما العيب لو ضرب أبو حنيفة بمثل ال إلثبات األمر نفسه ،بل إلثبات جواز تفاوت
الخوف مع اتحاد املؤمن به؟
وكالم أبي حنيفة كان جوابا للسؤال« :لقد وقفت على ما وصفت ،فلم تزل تصف عدال وتقول
عرفا ،ولكن أحب أن تأتيني بقياس فيما وصفت من يقيننا ويقينهم ،وخوفنا وخوفهم ،وجرأتنا
وجرأتهم كيف ذلك؟ فإن الجاهل إذا كان مهتما بأمر عاقبته ،ويريد أن يتعلم ،ووصفت له أمرا لم
يفطن له فأثبته بقياس كان أجدر أن يفطن له»[ .املصدر السابق ]15 ،فهو يطلب القياس ال إلثبات
املسألة ،بل لتقريبها إلى فهمه.
وكذا نقول في النص الثالث ،املنكرون نسبة الكتاب إلى أبي حنيفة يثبتون أن صاحب الكبيرة
وصاحب الصغيرة في مشيئة هللا قبل التوبة ،فإن شاء عذبهما هللا وإن شاء عفا عنهما ،وليس أبو
حنيفة إال ضارب مثل ليسهل فهم املسألة للسائل ،وأن يفهم عدم التضاد في تفاوت الخوف والرجاء
لهما مع اتحادهما في تفويض عاقبة أمرهما إلى هللا .وهذا كان جوابا منه للسؤال« :ألست تدري أنه
لعل هللا يغفر للقاتل ،ويعذب صاحب النظرة ،وليسا عندك بمنزلة واحدة في الرجاء لهما؟»[ .املصدر
السابق]16 ،
فاستعمال القياس في قضايا العقيدة لتقريب املسألة إلى فهم املستمع أمر سائغ ،وارد في القرآن،
َّ ان َم َث اٗل ۡ َ
ٱۡل ۡم ُد َِّّللِّ شكِّسون ورجٗل سلما ل ِّرج ٍل هل يستوِّي ِّ
ٱَّلل َم َث اٗل َّر ُج اٗل فِّيهِّ ُ َ
ُش ََك ٓ ُء ُمتَ َ َٰ ُ َ َ َ ُ ا َ َ ا َ ُ َ ۡ َ ۡ َ َ َض َب َّ ُ
كاآليةَ َ ﴿ :
َۡ َ ۡ َُ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ َ
ون﴾ [الزمر]29 : بل أكَثهم َل يعلم
النقد الثالث« :إن في الكتاب إرجاء حقيقيا ،وهو القول :من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو
مؤمن عند هللا».
26
قلت :رأي أبي حنيفة في «العالم واملتعلم» ليس مغايرا ملا روي عنه في غيره ،بل صرح أيضا في
«العالم واملتعلم» أن اإليمان هو التصديق واإلقرار ،جاء في الكتاب« :قال املتعلم :أخبرني ما اإليمان؟
قال العالم :اإليمان هو التصديق واملعرفة واليقين واإلقرار واإلسالم»[ .أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم»]13 ،
فكذا صرح أبو إسحاق الصفار بأن اإليمان حسب كتاب «العالم واملتعلم» هو التصديق واإلقرار
حيث قال« :إن أبا حنيفة رض ي هللا عنه ذكر في كتاب «العالم واملتعلم» أن اإليمان التصديق بالقلب
واإلقرار باللسان»[ .الصفار« ،تلخيص األدلة»]702-701 ،
فإذا ُعرف هذا فلننظر املواضع التي فيها "إرجاء حقيقي" في زعمهم .فهؤالء عزو "اإلرجاء
الحقيقي" إلى ثالثة مواضع من هذا الكتاب ،وهي الصفحات ،10 :و ،13و[ .22الخميس« ،أصول الدين
عند اإلمام أبي حنيفة» ،124 ،الحاشية رقم]2 :
وجاء في الصفحة الثالثة عشر ما نصه« :من صدق باهلل وبما جاء من عند هللا بقلبه ولسانه،
فهو عند هللا وعند الناس مؤمن ،ومن صدق بلسانه وكذب بقلبه ،كان عند هللا كافرا ،وعند الناس
مؤمنا؛ ألن الناس ال يعلمون ما في قلبه ،وعليهم أن يسموه مؤمنا بما ظهر لهم من اإلقرار بهذه
الشهادة ،وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب ،ومنهم من يكون عند هللا مؤمنا ،وعند الناس
كافرا ،وذلك بأن الرجل يكون مؤمنا باهلل ،ويظهر الكفر في حالة التقية بلسانه ،فيسميه من ال يعرف
أنه يتقي كافرا ،وهو عند هللا مؤمن»[ .أبو حنيفة« ،العالم واملتعلم»]13 ،
فأنت ترى أن أبا حنيفة يقول« :من صدق بقلبه ولسانه فهو مؤمن عند هللا وعند الناس» ،وفيه
التصريح باإلقرار باللسان .وأما التصديق بالقلب والتكذيب باللسان فهو في حالة التقية .وأصحاب
النقد يجعلون صاحب التقية حالة الخوف من أهل اإلرجاء الحقيقي ،مع أن القرآن والسنة يجيزان
التقية عند التهلكة ،وكذا هي جائزة في املذهب الذي ينتسب إليه أصحاب النقد.
وأما الصفحة الثانية والعشرون فجاء فيها ما نصه« :قال املتعلم رحمه هللا :أخبرني من أين سمى
هللا الناس مؤمنين وكفارا؟ ومن أين نحن نسميهم مؤمنين وكفارا؟ قال العالم رض ي هللا عنه :سماهم
مؤمنين وكفارا بما في القلوب ،ألنه تعالى يعلم ما في القلوب ،ونحن نسميهم مؤمنين وكفارا ملا يظهر
لنا من ألسنتهم من التكذيب والصديق ،والزي والعبادة ،وذلك بأنا لو انتهينا إلى قوم ال نعرفهم غير
أنهم في املساجد ،مستقبلين إلى القبلة يصلون ،سميناهم مؤمنين وسلمنا عليهم ،وعس ى أن يكونوا
يهودا أو نصارى .وكذلك كان املنافقون على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،كان املسلمون
يسمونهم مؤمنين بما يظهرون لهم من اإلقرار ،وهم عند هللا كفار بما في القلوب من التكذيب .فمن
هاهنا زعمنا أنا نسمي أناسا مؤمنين بما يظهر لنا منهم ،وعس ى أن يكونوا عند هللا كفارا ،وآخرين
نسميهم كفارا بما يظهرون لنا من زي الكفار من غير أن يكون فيهم ش يء من زي املؤمنين ،وعس ى أن
يكونوا عند هللا تعالى مؤمنين من قبل إيمانهم باهلل ،ويصلون من غير أن نعلم ذلك منهم ،فال يؤاخذنا
هللا سبحانه وتعالى بذلك؛ ألنه لم يكلفنا علم القلوب والسرائر ،وإنما كلفنا ربنا أن نسمي الناس
مؤمنين ،ونحبهم ونبغضهم على ما يظهر لنا منهم ،وهللا أعلم بالسرائر»[ .املصدر السابق]22 ،
27
فأنت ترى أن هذه الفقرة هي في بيان الحكم على الناس بظواهرهم ،وأنه ُيحكم على الناس بما
يظهر من ألسنتهم من اإلقرار أو التكذيب ،كما كان في عهد النبي محمد ،وهذا أمر متفق عليه .وهم
قد جعلوا األمر الثابت في عهده إرجاء حقيقيا.
وأما ما في الصفحة العاشرة فجاء فيها ما نصه« :من آمن بقلبه ،ولم يتكلم بلسانه كان عند هللا
مؤمنا» ،فليس هذا معارضا الشتراط اإلقرار؛ ألن أبا حنيفة يتكلم هنا عن صاحب التقية .فنحن إذا
نظرنا إلى سياق كالمه وسباقه تبين لنا مقصده ،فإنه يقول هناك« :فإذا مال القلب إلى الجور أحب
أهله ،وإذا أحب القوم كان منهم ،وإذا مال القلب إلى الحق وأهله كان لهم وليا؛ وذلك بأن تحقيق
األعمال والكالم ال يكون إال من قبل القلب ،وذلك أن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لم يكن عند
هللا مؤمنا ،ومن آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه كان عند هللا مؤمنا»[ .املصدر السابق]10-9 ،
فهنا يتكلم أبو حنيفة عن كون القلب أصال في قبول الكلمات واألعمال عند هللا ،فيقول إن بميل
القلب نحو الجور أو الحق يتغير صاحبه ،وبحسب القلب يكون صادقا عند هللا فيما يقول ويفعل،
أو كاذبا عنده في القول والعمل« :وذلك بأن تحقيق األعمال والكالم ال يكون إال من قبل القلب» ،ثم
بين كذب املنافقين ،وأن سببه تكذيب قلبهم ألسنتهم« :وذلك أن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لم
يكن عند هللا مؤمنا» ،وبعد هذا قال« :ومن آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه كان عند هللا مؤمنا» ،فإتيان
هذه الجملة بعد ذكر حال املنافقين يدل على أنه يقصد صاحب التقية؛ إذ عكس املنافق هو
صاحب التقية ،وليس عكسه املؤمن املجاهر باإليمان ،فإنه عكس املكذب جهارا ،أما عكس املنافق
املجاهر باإليمان ومخفي عكسه ،فهو صاحب التقية املجاهر بالتكذيب ومخفي اإليمان .ولقد بين
أبو حنيفة نفسه قصده بهذا كما سبق من نصه في الصفحة الثالثة عشر.
وتصريح أبي حنيفة بأن اإليمان هو التصديق واإلقرار في هذا الكتاب نفسه ينسف هذا النقد،
فإذا ُوضع الكتاب باسم أبي حنيفة ،وأراد واضعه أن يستر عقيدته ،فلم صرح في الكتاب نفسه بأن
اإليمان هو التصديق واإلقرار؟
ثم أبو حنيفة ذكر أن اإليمان هو التصديق واإلقرار ،وليس في كالمه املجمل هذا ،كون اإلقرار
شطرا من اإليمان ،بل في قوله املفسر الذي سبق ذكره ،بيان شرطية اإلقرار لبناء األحكام الدنيوية
عليه ،وهو قوله« :فمن هاهنا زعمنا أنا نسمي أناسا مؤمنين بما يظهر لنا منهم ،وعس ى أن يكونوا عند
هللا كفارا ،وآخرين نسميهم كفارا بما يظهرون لنا من زي الكفار من غير أن يكون فيهم ش يء من زي
املؤمنين ،وعس ى أن يكونوا عند هللا تعالى مؤمنين من قبل إيمانهم باهلل ،ويصلون من غير أن نعلم
ذلك منهم ،فال يؤاخذنا هللا سبحانه وتعالى بذلك؛ ألنه لم يكلفنا علم القلوب والسرائر ،وإنما كلفنا
ربنا أن نسمي الناس مؤمنين ،ونحبهم ونبغضهم على ما يظهر لنا منهم ،وهللا أعلم بالسرائر»[ .أبو
حنيفة« ،العالم واملتعلم»]22 ،
وكذا في «الفقه األكبر» ،رواية أبي مطيع حيث قال« :فإن قيل أين مستقر اإليمان؟ يقال :معدنه
ومستقره القلب ،وفرعه في الجسد» .وهنا بين أن اإلقرار الذي هو من عمل اللسان الذي هو من
28
الجسد فرع اإليمان ،وليس معدنه ومستقره .والفرع ليس من أصل الش يء وشطره ،فتبين أن ذكره
اإلقرار في التعريف من باب ذكر الشرط ،وليس من باب ذكر الشطر.
النقد الرابع« :إن في الكتاب نسبة أصل اإلرجاء إلى املالئكة».
قلت :جاء في الكتاب« :أخبرني من أين جاء أصل اإلرجاء ،وما تفسيره ،ومن الذي يؤخر ويرجىء
أمره؟
قال العالم :جاء أصل اإلرجاء من قبل املالئكة ،حيث عرض هللا عليهم األسماء ثم قال لهم:
َٓ َ ٓ ﴿أَ ُ
وِن بِّأ ۡس َماءِّ َ َٰٓه ُؤَلءِّ﴾ [البقرة ،]31 :فخافت املالئكة الخطأ إن تكلموا بغير علم تعسفا فوقفت ۢنب ِِّّ
ُ ۡ َ َٰ َ َ َ ۡ َ َ َ ٓ َّ َ َ َّ ۡ َ َ ٓ
وقالت﴿ :سبحنك َل عِّلم َلا إَِّل ما علمتنا﴾[البقرة ،]32 :ولم يبتدعوا كالرجل الذي يسأل عن األمر الذي
هو به جاهل ،فيتكلم فيه وال يبالي» ،هذا في أصل اإلرجاء ،ثم بين تفسيره فقال« :وتفسير الوقوف
أنه إذا سئلت عن أمر ال تعلمه من حرام أو حالل ،أو أنباء من كان قبلنا قلت :هللا أعلم به ،وإذا جاء
ثالثة نفر بحديث ال نعلمه ،وال نطيق على ذلك بالتجارب واملقاييس ترد علم ذلك إلى هللا تعالى وتقف.
ومن تفسيراإلرجاء أنه إذا كنت في قوم على أمر حسن جميل ،وفارقتهم على ذلك ،ثم بلغك أنهم
صاروا فريقين يقاتل بعضهم بعضا ،فانتهيت إليهم وهم على األصل الذي فارقتهم عليه ،وقتل بعضهم
بعضا فتسألهم فيقول كل واحد من الفريقين إنه هو املظلوم ،وليس عليهم وال لهم شهود من غيرهم،
وقد ترى القتل بينهم ،وليس املظلوم والظالم منهم ببين ،وهما خصمان ال تجوز شهادة بعضهم
ببعض ،فينبغي لك أن تعلم أنهما ليسا كالهما بمصيبين وقد قتل بعضهم بعضا ،فإما أن يكونا
مخطئين ،أو أحدهما مخطئ واآلخر مصيب.
ومن اإلرجاء أن ترجىء أهل الذنوب وال تقول إنهم من أهل النار أو من أهل الجنة».
ثم بين أصحاب الذنوب الذين يرجىء أمرهم فقال« :فإن الناس عندنا على ثالثة منازل ...واملنزلة
الثالثة للموحدين ،نقف عليهم ،وال نشهد أنهم من أهل النار ،أو من أهل الجنة ،ولكنا نرجو لهم
وب ٱَّلل أَن َي ُت َ
اخ َر َسي ائا َع ََس َّ ُ َ َ ُ ْ َ َ ا َ َٰ ا َ َ َ
ونخاف عليهم ،ونقول كما قال هللا عز وجل﴿ :خلطوا عمٗل صل ِّحا وء
ِّ
َ
َ َ ُ َ ۡ ٱَّلل ََل َي ۡغف ُِّر أن ي ُ ۡ َ
ۡش َك بِّهِّۦ َو َيغف ُِّر َما دون ذَٰل ِّك َعلَ ۡيه ۡم﴾[التوبة ،]102 :فنرجوا لهم ،ألن هللا تعالى قال﴿ :إ َّن َّ َ
ِّ ِّ
ُ َ ََ ٓ
ل ِّمن يشاء﴾[النساء ،]48 :ونخاف عليهم بذنوبهم وخطاياهم»[ .املصدر السابق]23-22 ،
فأنت ترى أن اإلرجاء الذي نسب أبو حنيفة أصله إلى املالئكة هو إرجاء لغوي بمعنى تفويض
املرء علم ما ليس له به علم إلى هللا ،والذي منه اإلرجاء االصطالحي املحمود الذي هو إرجاء أمر أهل
الذنوب إلى هللا ،إن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ،وإن شاء عفا عنهم .واآلن أمام أصحاب هذا النقد
طريقان :فإما أن ينفوا هذا النوع من اإلرجاء ويحكموا ببطالنه وينفوه عن املالئكة ،وإما أن يقبلوه
–كما قبله أهل مذهبهم -ويعترفوا بأن نسبته إلى املالئكة حق.
ثم وإن قبلنا تنزال صحة تلك النقود ،فل َم العجب؟ وأبو حنيفة عند أئمتهم جهمي مرجئي ضال،
فلم ينكرون نسبة الكتاب إليه وكأنه كان على مذهب أئمتهم؟ كما سبق أقوالهمَ .
29
وأختم املوضوع بقول الكردري في «مناقبه» حيث قال« :رأيت بخط العالمة موالنا شمس امللة
والدين الكردري البراتقيني العمادي ،هذين الكتابين –يقصد «الفقه األكبر» و«العالم واملتعلم»-
وكتب فيهما أنهما ألبي حنيفة ،وقد تواطأ على ذلك جماعة كثيرة من املشايخ»[ .الكردري« ،مناقب اإلمام
األعظم»]108/1 ،
30
املصادر
ابن أبي العوام ،عبد هللا بن محمد« ،فضائل أبي حنيفة وأخباره ومناقبه» ،مكة ،املكتبة اإلمدادية ،الطبعة األولى:
،2010التحقيق :لطيف الرحمن البهرائجي القاسمي.
ابن أبي يعلى ،محمد بن محمد« ،طبقات الحنابلة» ،الرياض ،األمانة العامة لالحتفال بمرور مائة سنة على تأسيس
اململكة .1999 ،التحقيق :عبد الرحمن بن سليمان العثيمين.
ابن العماد ،عبد الحي بن أحمد« ،شذرات الذهب في أخبار من ذهب» ،دمشق ،دار ابن كثير ،الطبعة األولى.1988 :
ابن النديم ،محمد بن إسحاق« ،الفهرست» ،بيروت ،دار املعرفة ،الطبعة األولى.1994 :
ابن حبان ،محمد بن حبان« ،الثقات» ،حيدرآباد ،دائرة املعارف العثمانية ،الطبعة األولى ،1973 :التحقيق :محمد
عبد املعيد خان.
ابن حجر ،أحمد بن علي« ،تقريب التهذيب» ،الرياض ،دار العاصمة ،1992 :التحقيق :أبو األشبال صغير أحمد
شاغف.
ابن حجر ،أحمد بن علي« ،لسان امليزان» ،بيروت ،مكتبة املطبوعات اإلسالمية ،الطبعة األولى ،2002 :التحقيق:
عبد الفتاح أبي غدة.
ابن خلكان ،أحمد بن محمد« ،وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان» ،بيروت ،دار الصادر ،1978 ،التحقيق :إحسان
عباس.
ابن فورك ،محمد بن الحسن« ،شرح العالم واملتعلم» ،القاهرة ،مكتبة الثقافة الدينية ،الطبعة األولى،2009 :
التحقيق :أحمد عبد الرحيم السايح ،وتوفيق علي وهبة.
أبو حنيفة ،نعمان بن ثابت« ،العالم واملتعلم» ،القاهرة ،مطبعة األنوار ،1948 ،التحقيق :محمد زاهد الكوثري.
أبوحنيفة ،نعمان بن ثابت« ،الفقه األكبر رواية حماد» ،حييدرآباد ،مجلس دائرة املعارف العثمانية ،الطبعة الثالثة:
.1979
اإلسفراييني ،طاهر بن محمد« ،التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين» ،بيروت ،دار عالم
الكتب ،الطبعة األولى ،1983 :التحقيق :كمال يوسف الحوت.
اإلصفهاني ،أحمد بن عبد هللا« ،حلية األولياء وطبقات األصفياء» ،بيروت ،دار الفكر.1996 ،
31
البخاري ،عبد العزيز بن أحمد« ،كشف األسرار شرح أصول البزدوي» ،بيروت ،دار الكتاب العربي ،الطبعة الثانية:
،1994التحقيق :محمد املعتصم باهلل البغدادي.
البزدوي ،محمد بن محمد« ،معرفة الحجج الشرعية» ،بيروت ،مؤسسة الرسالة ناشرون ،الطبعة األولى،2000:
التحقيق :عبد القادر بن ياسين بن نصر الخطيب
البغدادي ،عبد القاهر بن طاهر« ،أصول الدين» ،بيروت ،دار الكتب العلمية.1981 ،
بهاء الدين زاده ،محمد بن بهاء الدين« ،القول الفصل شرح الفقه األكبر» ،بيروت ،دار املنتخب العربي ،الطبعة
األولى ،1998 :التحقيق :رفيق العجم.
بياض ي زاده ،أحمد بن حسن« ،إشارات املرام من عبارات اإلمام» ،إسطنبول ،دار الكتاب اإلسالمي ،الطبعة األولى:
،1949التحقيق :يوسف عبد الرزاق،
الحارثي ،عبد هللا بن محمد« ،مسند أبي حنيفة» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى ،2008 :التحقيق :أبو
محمد األسيوطي.
الخطيب ،أحمد بن علي« ،املتفق واملفترق» ،دمشق ،دار القادري ،الطبعة األولى ،1997 :التحقيق :محمد صادق
آيدن الحامدي.
الخطيب ،أحمد بن علي« ،تاريخ مدينة السالم» ،بيروت ،دار الغرب اإلسالمي ،الطبعة األولى ،2001 :التحقيق بشار
عواد معروف.
الخطيب ،أحمد بن علي« ،مسألة االحتجاج بالشافعي» ،الرياض ،شركة الطباعة العربية السعودية املحدودة،
،1980التحقيق :خليل إبراهيم مال خاطر.
الخليلي ،الخليل بن عبد هللا« ،اإلرشاد في معرفة علماء الحديث» ،الرياض ،مكتبة الرشد ،الطبعة األولى،1989 :
التحقيق :محمد سعيد بن عمر إدريس.
الخميس ،محمد بن عبد الرحمن« ،أصول الدين عند اإلمام أبي حنيفة» ،الرياض ،دار الصميعي ،الطبعة األولى:
.1996
الخوارزمي ،محمد بن محمود« ،جامع املسانيد» ،حيدرآباد ،مجلس دائرة املعارف ،الطبعة األولى.1913 :
الذهبي ،محمد بن أحمد« ،العبر في خبر من غبر» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى ،1985 :التحقيق:
محمد السعيد بن بسيوني زغلول.
الذهبي ،محمد بن أحمد« ،املشتبه في أسماء الرجال» ،ليدن ،مطبعة بريل.1881 ،
32
الذهبي ،محمد بن أحمد« ،ميزان االعتدال في نقد الرجال» ،بيروت ،دار املعرفة ،التحقيق :علي محمد البجاوي.
الزبيدي ،محمد بن محمد« ،إتحاف السادة املتقين بشرح إحياء علوم الدين» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة
الثانية.2002 :
الزبيدي ،محمد بن محمد« ،عقود الجواهر املنيفة في أدلة مذهب اإلمام أبي حنيفة» ،اإلسكندرية ،املطبعة
الوطنية ،الطبعة األولى.1875 :
الساملي ،محمد بن عبد السيد« ،التمهيد في بيان التوحيد» ،أنقرة ،نشريات وقف الديانة التركي ،الطبعة األولى:
،2017التحقيقُ :ع ُمر تركمان.
السمعاني ،عبد الكريم بن محمد« ،األنساب» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى ،1998 :التحقيق :محمد
عبد القادر عطا.
الصفار ،إبراهيم بن إسماعيل« ،تلخيص األدلة لقواعد التوحيد» ،بيروت ،املعهد األملاني لألبحاث الشرقية ،الطبعة
األولى ،2011 :التحقيق :أنجيليكا برودرسن
الصيمري ،الحسين بن علي« ،أخبار أبي حنيفة وأصحابه» ،بيروت ،دار عالم الكتب ،الطبعة الثانيية.1985 :
عبد هللا بن أحمد« ،السنة» ،الرياض ،دار ابن القيم ،الطبعة األولى ،1986 :التحقيق :محمد بن سعيد القحطاني.
العيني ،محمود بن أحمد« ،مغاني األخيار في شرح أسامي رجال معاني اآلثار» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة
األولى ،2006 :التحقيق :محمد حسن محمد حسن إسماعيل.
الغزي ،تقي الدين بن عبد القادر« ،الطبقات السنية في تراجم الحنفية» ،القاهرة ،املجلس األعلى للشؤون
اإلسالمية ،1970 ،التحقيق :عبد الفتاح محمد الحلو.
الفسوي ،يعقوب بن سفيان« ،املعرفة والتاريخ» ،املدينة ،مكتبة الدار ،الطبعة األولى ،1989 :التحقيق :أكرم ضياء
العمري.
القاري ،علي بن سلطان« ،منح الروض األزهر في شرح الفقه األكبر» ،بيروت ،دار النفائس ،الطبعة الثالثة،2016 :
التحقيق :مروان محمد الشعار.
القرش ي ،عبد القادر بن محمد« ،الجواهر املضية في طبقات الحنفية» ،القاهرة ،دار هجر ،الطبعة الثانية،1993 :
الحقيق :عبد الفتاح محمد الحلو.
الكردري ،محمد بن محمد« ،مناقب اإلمام األعظم» ،حيدرآباد ،مطبعة مجلس دائرة املعارف النظامية ،الطبعة
األولى.1903 :
33
الكرماني ،حرب بن إسماعيل« ،إجماع السلف في االعتقاد» ،القاهرة ،دار اإلمام أحمد ،الطبعة الثانية،2012 :
التحقيق :أسعد بن فتحي الزعتري.
الكوثري ،محمد زاهد بن حسن« ،اإلمتاع بسيرة اإلمامين الحسن بن زياد وصاحبه محمد بن شجاع» ،القاهرة،
املكتبة األزهرية للتراث.
الكوثري ،محمد زاهد بن حسن« ،مقدمات اإلمام الكوثري» ،بيروت ،دار الثريا ،الطبعة األولى.1997 :
اللكنوى ،محمد عبد الحي بن محمد عبد الحليم« ،الفوائد البهية في تراجم الحنفية» ،القاهرة ،دار الكتاب
اإلسالمي ،1906 ،التحقيق :محمد بدر الدين أبي الفراس النعاني.
املاتريدي ،محمد بن محمد« ،تأويالت القرآن» ،إسطنبول ،دار امليزان ،2005 ،التحقيق :مجموعة من املحققين
بمراجعة بكر طوبال أوغلي.
املكي ،املوفق بن أحمد« ،مناقب اإلمام أبي حنيفة» ،حيدرآباد ،مجلس دائرة املعارف النظامية ،الطبعة األولى:
.1903
النسفي ،عمر بن محمد« ،القند في ذكر علماء سمرقند» ،طهران ،آينه ميراث (مرآة التراث) ،الطبعة األولى،1999 :
التحقيق :يوسف الهادي.
النيسابوري ،الحسن بن محمد «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» ،بيروت ،دار الكتب العلمية ،الطبعة األولى:
،1996التحقيق :زكريا عميرات.
34