You are on page 1of 376

‫الرقية بني الشرع والطب‬

‫«مفاهيم تأصيلية ونظرات جتديدية»‬


‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪2‬‬

‫اسم الكتاب‪ :‬الرقية بين الشرع والطب‪ ،‬مفاهيم تأصيلية ونظرات تجديدية‪.‬‬

‫اسم المؤلف‪ :‬معاذ يوسف الهاشمي‬

‫اسم الناشر‪Independent Publishing Network :‬‬

‫عنوان الناشر‪ - https://bookisbn.org.uk :‬المملكة المتحدة‬

‫رقم اإليداع‪978-1-80049-065-9 :‬‬

‫تاريخ النشر‪ :‬رجب ‪1444‬هـ ‪ -‬يناير ‪2023‬م‬

‫يمكن الحصول على الكتاب من خالل أكاديمية الرقية‪:‬‬

‫‪http://www.ruqyacademy.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف‬


‫‪3‬‬ ‫املقدمة‬

‫الرقية بني الشرع والطب‬


‫«مفاهيم تأصيلية ونظرات جتديدية»‬

‫معاذ يوسف الهاشمي‬


‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪4‬‬

‫‪‬‬
‫‪5‬‬ ‫املقدمة‬

‫المقدمة‬

‫الحمد هلل خالق الداء والدواء‪ ،‬كتب على من أحبهم االبتالء‪ ،‬ويرفعه عنهم إذا شاء بال نصب‬
‫وال عناء‪ ،‬والصالة والسالم على من أرسله اهلل لنا شفاء‪ ،‬سيدنا محمد‪ ،‬وعلى آله وأصحابه‬
‫األوفياء‪ ،‬عدد ما خلق ربي يف األرض ويف السماء‪.‬‬

‫الروحية بين مجتمعاتنا المسلمة بشكل لم‬


‫الرقية وما يعرف باألمراض ُّ‬
‫وبعد‪ ،‬فقد انتشرت ُّ‬
‫الرقية واألمراض‬
‫كثير من المفاهيم والمعتقدات حول ُّ‬
‫تكن عليه يف السابق‪ ،‬وصاحب هذا االنتشار ٌ‬
‫الروحية‪ ،‬بعضها صحيح‪ ،‬وبعضها جانب الصواب‪ ،‬فرأيت من الالزم أن أكتب يف ذلك‪ ،‬محاو ًال‬
‫ُّ‬
‫إعادة األفهام إلى الطريق الصحيح‪ ،‬فصححت بعض التعريفات‪ ،‬وذكرت بعض المسائل‬
‫موافق للنقل‪ ،‬ومتبـ ٌع لما كان عليه‬
‫ٌ‬ ‫واألحكام‪ ،‬وأتيت بما قد يكون جديدً ا على العقل‪ ،‬لكنه بإذن اهلل‬
‫السلف الصالحون الذين هم األصل‪.‬‬

‫الروحية وما يتعلق هبما‪ ،‬هديف يف‬


‫الرقية واألمراض ُّ‬
‫وكتبت عدة فصول‪ ،‬رأيت أنها تدور حول ُّ‬
‫كل ذلك أن نفهم األمور بميزان الشرع‪ ،‬بما يوافق الكتاب والسنة‪ ،‬وما كان عليه سلف األمة‪ ،‬بال‬
‫أي‬
‫ابتداع وال إفراط وال تفريط‪ ،‬فإن كان فيما كتبت الصواب؛ فمن اهلل ‪ ‬وحده‪ ،‬وليس لي فيه ُّ‬
‫حول وال قوة‪ ،‬وإن كان يف ذلك من خطأ‪ ،‬فمن نفسي ومن الشيطان‪ ،‬أسأل اهلل أن يرينا الحق حقا‬
‫باطال ويرزقنا اجتنابه‪.‬‬
‫ويرزقنا اتباعه‪ ،‬وأن يرينا الباطل ً‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪6‬‬

‫ولكون أغلب المراجع ‪-‬التي اعتمدت عليها يف الكتاب‪ -‬إلكرتونية‪ ،‬فقد اختصرت ذكرها يف‬
‫الهوامش‪ ،‬كما قمت باإلشارة إلى مصدر واحد لغالب األحاديث‪ ،‬وذلك لسهولة البحث عن‬
‫المصادر األخرى‪.‬‬

‫ولم أجعل الكتاب متنًا مختص ًرا يفهمه فقط العلماء والنُّبغاء‪ ،‬بل أطلت يف شرح كثير من‬
‫األشياء‪ ،‬وربما أكثرت من السرد واإلنشاء يف بعض المواضع‪ ،‬وذلك حتى يتمكن الكثيرون من‬
‫فهمه واستيعابه‪ ،‬أسأل اهلل أن ينفع به اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وأن يرزقني به من الحسنات إلى يوم‬
‫الدين‪.‬‬

‫وأقدم شكري وعرفاين إلى كل من ساعدين على إنجاز الكتاب‪ ،‬وأسأل اهلل أن يخصهم بمزيد‬
‫من األجر والمثوبة والبركة يف كل خير‪ ،‬وأن يجعل ذلك يف ميزان حسناهتم‪ ،‬وأن يجزيهم خير‬
‫الجزاء يف الدُّ نيا واآلخرة‪.‬‬

‫خادم المسلمين‬

‫معاذ بن يوسف الهاشمي‬


‫‪7‬‬ ‫مصادر املعرفة‬

‫مصادر المعرفة‬

‫تاه الكثيرون يف تحديد مصادر المعرفة وطرق الوصول إليها‪ ،‬وأدى هبم ذلك إلى نتائج خاطئة‬
‫يف التع ُّلم ويف تحديد أسباب األشياء‪ ،‬لكن اإلسالم وفر علينا ذلك‪ ،‬فلم يتركنا نتوه ونحتار‪ ،‬إذ‬
‫نجده يوجهنا إلى مصادر المعرفة الصحيحة‪ ،‬فالمصدر العا ُّم الرئيس لكل المعارف هو اهلل الخالق‬
‫‪ ،‬خلق كل شيء وجعل له قوانين وأنظمة‪ ،‬وهذه القوانين ال نمتلك نحن البشر أن نردها أو أن‬
‫ننكرها‪ ،‬بل علينا اكتشافها والتعايش معها‪ ،‬ومن ينكر هذه القوانين فهو كمن ينكر وجود الشمس‬
‫يف رابعة النهار‪ ،‬يض ُّر نفسه ومن يتبعه ليس إال‪ ،‬وللوصول إلى هذه القوانين فإن المتأمل يف اإلسالم‬
‫يجده يضع لنا ثالثة طرق‪ ،‬قال ابن تيمية ‪« :$‬وطرق العلم ثالثة‪ :‬الح ُّس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والمركب‬
‫منهما كالخبر»(‪.)1‬‬

‫وتذوق‪ .‬وانقسم‬
‫ُّ‬ ‫‪ -1‬الح ُّس‪ :‬وذلك ما نتحسسه بحواسنا الخمس‪ ،‬من نظر وشم ولمس وسمع‬
‫سم‬ ‫ٌ‬
‫إفراط ال يقبل بشيء غير الحس‪ ،‬وق ٌ‬ ‫سم عنده‬
‫المعاصرون إلى ثالث فرق حول الحس‪ ،‬فق ٌ‬
‫لديه تفريط يشكك يف كل ما هو حس ٌّي‪ ،‬والثالث هو المعتدل الذي يقبل الحس بمعايير عقلية‬
‫معتدلة وال يحصر المعرفة يف الحس فحسب؛ وهذا هو الصحيح‪ ،‬إذ إن إحساسك بشيء ما‬
‫ليال على عدمه‪ ،‬ألنه من الممكن أن ال‬
‫إدراك منك به‪ ،‬أما عدم إحساسك بشيء ما فليس د ً‬
‫تتمكن من اإلحساس بشيء ما وهو موجود‪ ،‬ومن الممكن أن يحس به آخرون غيرك‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬درء تعارض العقل والنقل؛ البن تيمية؛ الجواب الرابع على االعرتاض «الشهادة بصحة السمع ما لم يعارض العقل»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -2‬العقل‪ :‬لدى العقل مبادئ ضرورية يشرتك فيها كل العقالء‪ ،‬وذلك مثل مبدأ السببية ‪ -‬أي أن‬
‫العقل يجزم أن كل شيء يحصل فال بد له من متسبب فيه‪ ،-‬ومبدأ عدم التناقض – مثال العقل‬
‫يجزم أنه محال أن يكون شخص ما عمره عشرون سنة وثالثون سنة يف نفس الوقت‪ ،-‬ولديه‬
‫القدرة على التمييز والتح ُّقق‪ ،‬كما أن لديه القدرة على التفكير واالستنباط والمالحظة‪ .‬كما‬
‫صدرا مستقال‪،‬‬
‫أن لديه قيما فطرية فطر اهلل اإلنسان عليها منذ خلقه‪ ،‬وجعل البعض الفطرة م ً‬
‫وصنف البعض مصدر الحس تاب ًعا للعقل‪ ،‬فجعلوا الحس مجرد أداة‪ ،‬والعقل هو الذي يميز‬
‫اختالف األصوات والصور والملموسات والروائح واألذواق وكل المحسوسات‪ ،‬والحقيقة‬
‫أنه ال مشاحة يف االصطالح‪ ،‬ولن نختلف حول التسميات واأللفاظ والتفريعات‪ .‬لكن ما‬
‫يهمنا يف سرد هذا المصدر أنه قد تكون هناك أعراض محسوسة‪ ،‬لكن أسباهبا غير محسوسة‪،‬‬
‫بل ملحوظة تمت مالحظتها وتعريفها بواسطة العقل‪ ،‬فالحظ العقل وجودها‪ ،‬واكتشف‬
‫القوانين المتعلقة هبا‪ ،‬واألمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬بعض القوانين الفيزيائية مثل الجاذبية بين‬
‫األجسام المختلفة ‪-‬والتي نتج عنها فهم الجاذبية األرضية‪ -‬ملحوظة مستنبطة بالعقل‪،‬‬
‫الزمكان عرف بالمالحظة وال يمكن رؤيته إلى اآلن‪ ،‬كثير من النظريات المتعلقة بالفيزياء‬
‫الفلكية لم تدرك بالحس بل بالمالحظة واالستنباط‪ ،‬الثقب األسود يف الفضاء اكتشف عن‬
‫طريق المالحظة‪ ،‬العقل الباطن يف الجسم عند خرباء النفس وجد عن طريق المالحظة‪،‬‬
‫خرافة داروين لم تقم على الحس‪ ،‬بل على استنباط خاطئ لمالحظة التشابه بين‬
‫المخلوقات‪ .‬ومن أعظم الملحوظات يف عالمنا هو الخالق ‪ ،‬إلى اآلن لم نعرفه بالحس‪،‬‬
‫ولكن رؤية مخلوقاته وأفعاله وأنظمته وقوانينه ومعجزاته قادت العقل لإليمان به والتسليم‬
‫بوجوب وجوده‪ .‬ولنفهم الرقية واألمراض الروحية اآلن؛ علينا أال نتجاهل هذا المصدر‪ ،‬ألن‬
‫الجزء األكرب منهما ‪-‬إلى اآلن‪ -‬قائم على المالحظة دون الحس‪ ،‬وكل من ينكر وجود‬
‫الخالق أو وجود األمراض الروحية؛ فإنه يلزمه كذلك أن ينكر جميع القوانين العلمية‬

‫المستنتجة بالمالحظة واالستنباط دون الحس‪ ،‬ﱡﭐﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ‬


‫‪9‬‬ ‫مصادر املعرفة‬

‫ﳇﳉﳊﳋﳌ‬
‫ﲽﲿﳀﳁﳂﳃﳄﳅﳆ ﳈ‬
‫ﲾ‬ ‫ﲼ‬

‫ﳍ ﳎﱠ [القصص‪ ،]50 :‬أما إن فعل؛ فاعلم أنه ال عقل له بتا ًتا‪.‬‬


‫‪ -3‬النقل ‪-‬الخرب‪ :-‬وهو أن جهة ما‪ ،‬سواء فردية أو جماعية‪ ،‬تعرضت لشيء محسوس‪ ،‬فنقل‬
‫إلينا ذلك عن طريق أشخاص‪ ،‬وذلك بواسطة السماع أو الكتابة أو غير ذلك‪ ،‬ثم استعملنا‬
‫سليما‪ .‬والقرآن وجميع‬
‫ً‬ ‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫نقال‬
‫العقل يف وضع معايير لمعرفة إن كان النقل وصل إلينا ً‬
‫األحاديث النبوية وصلت إلينا عن هذا الطريق‪ ،‬كذلك أقوال علماء الشرع أو علماء العلوم‬
‫الدُّ نيوية؛ ونتائج أبحاث الباحثين يف شتى المجاالت؛ كلها نقلت إلينا هبذا الطريق‪ ،‬ومن أنكر‬
‫هذا المصدر فلن يفقه شي ًئا من الدنيا وال الدين‪ ،‬ألن علوم الدنيا تطوير لما وصل إلينا عن‬
‫طريق الخرب ممن سبقونا‪ ،‬وعلوم الدين كذلك وصلت إلينا عن طريق المصدر ذاته‪ ،‬أما أن‬
‫يأخذ بأخبار الدنيا ويرتك أخبار الشريعة؛ فهذا كذلك متبع لهواه‪.‬‬

‫ومن يحصر الطرق يف أحد هذه الثالثة فقط؛ فقد أخطأ يف التلقي والتع ُّلم‪ ،‬وسيخطئ ً‬
‫أيضا يف‬
‫النتائج التي سيصل إليها‪ ،‬وسيستحيل عليه فهم أشياء كثيرة تجري يف دنيانا ويف كوننا الفسيح‪ .‬وكل‬
‫ما هو مذكور يف هذا الكتاب من مواضيع وأدلة واستنباطات وشروح آلليات وغير ذلك؛ هو ناتج‬
‫عن استعمال جميع ال ُّطرق الثالثة المذكورة ساب ًقا‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪10‬‬
‫َ‬
‫‪11‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫حقيقة َأم خيال؟‬

‫والمس والحسد حقيقة موجودة؟ أم هو أحالم‬


‫ُّ‬ ‫قد يتساءل البعض‪ :‬هل الج ُّن والسحر والعين‬
‫وخيال وأوها ٌم معقودة؟ لست هنا بصدد التطويل والتفصيل‪ ،‬ولست بحاجة لذلك‪ ،‬فك ُّلها ثابتة عن‬
‫ٌ‬
‫والسنة‪ ،‬أو فعل السلف وعلماء األمة‪ ،‬كذلك بواسطة تاريخ‬
‫طريق النقل‪ ،‬وذلك إما بأدلة القرآن ُّ‬
‫غيرنا من األمم واألقوام األخرى؛ والكتب والمؤلفات يف ذلك كثير ٌة وفيرة‪ ،‬كما أنها ثابتة عن‬
‫طريق المالحظة بالعقل‪ ،‬وتح ُّسس أعراضها بالحس‪ .‬وقد أشار القرآن لنشأة السحر يف سورة‬
‫البقرة(‪ ،)1‬وأورد المفسرون يف ذلك ُّ‬
‫الشروح واألخبار‪ ،‬وأكد القرآن أن موسى ڠ والحاضرين‬
‫حوله سحروا(‪ )2‬يوم الزينة‪ ،‬ووردت كلمة السحر بمشتقاهتا يف القرآن قرابة األربعين مرة‪ ،‬وأثبتت‬
‫أيضا(‪ ،)4‬وأن أم المؤمنين‬
‫السنة أن النبي ﷺ قد سحر(‪ ،)3‬وأن أم المؤمنين عائشة ڤ قد سحرت ً‬
‫ُّ‬
‫أيضا سحرت(‪ ،)5‬وروت آية سورة القلم أن الكفار أرادوا إصابة الرسول ﷺ‬
‫حفصة ڤ ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سورة البقرة‪102 :‬‬

‫ﭐ‬ ‫(‪ )2‬ﱡﭐﱑﱒﱓﱔﱕﱖﱗﱘ ﱙ ﱠ [طه]‪.‬‬

‫ح َر‪َ ،‬حتَّى كَانَ ُيخَ َّي ُل إِ َل ْي ِه َأ َّن ُه َصن ََع َش ْيئًا َو َل ْم َي ْصنَ ْع ُه»‪ ،‬صحيح البخاري «‪»3004‬؛ كتاب الجزية؛ باب‬
‫(‪ )3‬عن عائشة ڤ‪َ « :‬أنَّ النَّبِي ﷺ س ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫«هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟»‪.‬‬
‫أوردت نصه يف صفحة ‪ 271‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )4‬حديث صحيح‪،‬‬
‫(‪ )5‬حديث صحيح‪ ،‬أورد ُّته يف صفحة ‪ 273‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪12‬‬

‫بالعين(‪ ،)1‬وأكد رسول اهلل ﷺ يف أكثر من موضع أن العين حق(‪ ،)2‬وتكراره لتأكيد حقيقة العين‬
‫دليل على نبوته ومعجزاته ﷺ‪ ،‬إذ كأنه علمه اهلل أن أنا ًسا سينكرون العين‪ ،‬كما بين لنا ﷺ سبل‬

‫العالج للتخ ُّلص من العين بأخذ األثر وب ُّ‬


‫الرقية(‪ ،)4‬وأكد القرآن المس يف آية الربا بسورة‬ ‫(‪)3‬‬

‫البقرة(‪ ،)5‬وعالج رسول اهلل ﷺ المس(‪ )6‬بنفسه عليه صلوات ربي وسالمه‪.‬‬

‫قديما وحدي ًثا تأيت ً‬


‫دائما من العقالنيين الذين يقدمون عقلهم على كل‬ ‫ً‬ ‫وحقيقة االعرتاض‬
‫شيء‪ ،‬ويقدمون فلسفتهم فوق أي تطبيق أو عمل‪ ،‬ويف زماننا زاد على ذلك أن أصاهبم االنبهار‬
‫بالثقافة الغربية التي قدست العقل‪ ،‬فظنوا أنها اكتشفت كل شيء‪ ،‬وظنُّوا أن عقولهم واسعة مثل‬
‫الكون تفهم كل شيء‪ ،‬ولم يعرفوا أن عقولهم صغيرة ال تستوعب إال ما يوضع فيها‪ ،‬فصدُّ وا‬
‫نقال وتوات ًرا‪ ،‬ولم ينكروا على‬
‫أنفسهم عن كل ما لم يستطيعوا معرفته والبحث فيه‪ ،‬وأنكروا ما ثبت ً‬
‫أساس وبينة‪ ،‬بل إنكار جلهم بسبب أن عقلهم علمهم أن يقولوا أن هذا هراء وهرطقة‪ ،‬ولدى كثير‬
‫منهم عقدة النقص التي تجعلهم يح ُّسون بالعار والعيب إذا تصادمت أفكارهم مع أفكار وثقافة‬
‫أي بينة أو أساس علمي أو عملي على اإلنكار؛ لتبين لك‬
‫المحتل الغربي‪ ،‬ولو سألتهم هل عندكم ُّ‬

‫________________‬
‫ﭐ‬ ‫(‪ )1‬ﱡﭐﲌﲍﲎﲏﲐ ﲑ ﲒﲓﲔﲕﲖﲗﱠ [القلم‪.]51 :‬‬
‫اس ُتغ ِْس ْلت ُْم َفاغ ِْس ُلوا»‪ .‬صحيح‬
‫(‪ )2‬عن ابن عباس ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ا ْل َع ْي ُن َح ٌّق‪َ ،‬و َل ْو كَانَ َش ْيء َسا َب َق ا ْل َقدَ َر َس َب َق ْت ُه ا ْل َع ْي ُن‪َ ،‬وإِ َذا ْ‬
‫والرقى»‪.‬‬
‫مسلم «‪»2188‬؛ باب «الطب والمرض ُّ‬
‫(‪ )3‬قصة الصحابيين الجليلين مشهورة أورد ُّتها يف صفحة ‪ 220‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )4‬عن عائشة ڤ قالت « َأ َم َرنِي رسول الل ﷺ‪َ ،‬أ ْو َأ َم َر َأنْ ُي ْست َْر َقى ِم َن ا ْل َع ْي ِن»؛ صحيح البخاري «‪»5738‬؛ كتاب الطب؛ باب رقية‬
‫العين‪.‬‬

‫ﭐ‬ ‫(‪ )5‬ﱡﭐﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉ ﱊﱋﱌﱍﱠﭐ[البقرة‪.]275 :‬ﭐ‬


‫(‪ )6‬الحديث مذكور يف صفحة ‪ 292‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫َ‬
‫‪13‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫أنه ليس لديهم ذلك‪ ،‬إال فلسفة ال تالمس الحقائق‪ ،‬أو استدالالت خاطئة ألدلة شرعية‪ ،‬أو إنكار‬
‫والتطور‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫التحضر‬
‫ُّ‬ ‫لثقافة القدماء بغية تقليد من يظ ُّن فيهم‬

‫وألن أمثال هؤالء ال ينفع معهم النقاش باألدلة الشرعية‪ ،‬ألنهم يقدمون عقولهم على هذه‬
‫األدلة؛ ويجعلونه حك ًما يصححون به ما شاءوا‪ ،‬وير ُّدون به ما شاءوا‪ ،‬فإنه قد يكون من المجدي‬
‫أن نتحاور معهم بالعقل الذي قدسوه‪ ،‬فنسأل‪ :‬لم تنكرون؟‬

‫يتحجج البعض أ َّننا ال نستطيع رؤية هذه األشياء‪ ،‬فنقول لهم بأنه ليس كل شيء يف الكون‬
‫َّ‬
‫تحسسه بحواسنا الخمس‪ ،‬ومن المعلوم أنه لكي تؤمن بشيء فإنه ليس من الالزم أن تراه‬
‫يمكن ُّ‬
‫بعينك‪ ،‬بل يكفي اإلثبات المنطقي أو المالحظة للشيء‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى لم نره وله المثل‬
‫األعلى‪ ،‬لكن رسول اهلل ﷺ أعلمنا عن ربنا‪ ،‬والعقل السليم الصحيح والمنطق أثبتا صدقه عليه‬
‫الصالة والسالم‪ .‬وكذا الجنة والنار لم نرهما‪ ،‬لكن المنطق يفرض علينا أن نؤمن أن كل عمل‬
‫صالح يف الدنيا ال بد له من جزاء فيما بعد‪ ،‬وكل عمل فاسد ال بد له من عقوبة وعذاب بعد الحياة‬
‫الدنيا‪ .‬وليس من الشرط أن تذهب إلى القطب الشمالي أو ترى صوره لتصدق أنه موجود‪ ،‬بل‬
‫تكفيك اإلجابات واألخبار والمعلومات المنطقية حوله لتؤمن به‪ .‬كذلك هناك موجات ضوئية لم‬
‫يمكن معرفتها إال بعد صناعة أجهزة تكشف ذلك‪ ،‬وموجات صوتية لم يمكن تمييزها إال بعد صنع‬
‫أجهزة لها‪ ،‬وألننا لم ندركها بالحواس الخمس المجردة من قبل؛ هل اقتضى أنها لم تكن‬
‫موجودة؟! جاذبية األرض لم نرها ولكننا أيقنا بوجودها لمحالحظتنا إياها‪ ،‬والمتعمق المتمرس‬
‫الروحية بطريقة صحيحة؛ بإمكانه أن يثبت لك بالمالحظة والمنطق‬
‫المجرب يف عالج األمراض ُّ‬
‫حقيقة كل هذه األشياء إن أصغيت له سمعك وفتحت له قلبك‪ .‬والقاعدة تقول‪ :‬إن عدم العلم‬
‫دليال على عدم وجوده‪.‬‬
‫بالشيء ليس ً‬

‫أن األجهزة الحديثة لم تكتشف هذه األشياء‪ ،‬فنقول‪ :‬هل توصلنا إلى أجهزة‬
‫آخرون َّ‬
‫يتحجج َ‬
‫و َّ‬
‫تقيس كل شيء يف عالمنا‪ ،‬البشرية كل يوم تكتشف شي ًئا جديدً ا‪ ،‬لكن االكتشافات ال يمكن أن‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪14‬‬

‫تتوقف‪ ،‬وال يمكن أن نصل إلى مرحلة نكون قد أهنينا فيه اكتشاف كل شيء يف هذا الكون‪،‬‬
‫واألجهزة نصنعها نحن بنا ًء على ما اكتشفنا‪ ،‬فكما أنك ال تستطيع المشاهدة عن طريق المذياع‪،‬‬
‫وال يمكنك التقاط صورة عن طريق مسجل الصوت‪ ،‬فإننا إن لم نصنع أجهزة تبحث يف هذا‬
‫المجال‪ ،‬فبالطبع لن تكون هناك أجهزة تكشف لنا هذا العالم الغامض‪ ،‬اسألهم لماذا تؤمنون‬
‫بجاذبية األرض؟ ليس هناك جهاز اكتشف أن هناك شي ٌء يجذبنا لألرض‪ ،‬وليس هناك جهاز يثبت‬
‫قديما‪ ،‬كانوا يظنُّون أنه ال‬
‫ً‬ ‫أن القمر يجذب ماء البحر‪ ،‬هؤالء يذكرونني بأصحاب بعض القرى‬
‫يوجد عالم آخر خلف الجبال المحيطة هبم‪ ،‬بل كانوا يظنُّون أنه ليس وراء الجبال إال آلهتهم الوثنية‬
‫والفضاء الواسع‪.‬‬

‫أن يكون على بينة‪ ،‬مبنيا على أبحاث‪ ،‬ننكر أن األكسجين‬


‫وكذلك نقول‪ :‬إ َّن اإلنكار يجب ْ‬
‫يطفئ النار؛ ألن البشرية مرت بتجارب أثبتت أن األكسجين يزيد النار وال يطفئها‪ ،‬وننكر أن الكرة‬
‫قد تسقط إلى أعلى ألن من بداية البشرية واألشياء تسقط إلى األسفل‪ ،‬فعالم بنى المنكر نكرانه؟‬
‫لو أردت أن تثبت أن فاكه ًة ما مفيدة للقدمين فعليك أن تجري أبحا ًثا لتثبت ذلك‪ ،‬ولو أردت أن‬
‫فأيضا عليك إجراء بحث تثبت به إنكارك‪ ،‬والمنطق‬
‫تنكر أي فائدة للقدمين من تلك الفاكهة ً‬
‫السليم يقضي على الذي أنكر السحر وأثره وطريقته أن يكون لديه عل ٌم بالسحر حتى يقول‪ :‬قد‬
‫تعلمته ولم أجد فيه ما تدندنون عنه‪ ،‬أو أنه تحدث مع سحرة تائبين موثوق يف توبتهم فأخربوه‬
‫بالحقائق‪ ،‬ثم توصل إلى إنكاره بعد النقاش العملي‪.‬‬

‫ولو أخربك أحدٌ أن الجراد يمكنه دخول جسم اإلنسان عن طريق الفم حيا بكامله‪ ،‬لصدقت‬
‫شخص أن الفيل قد يدخل جسم اإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫ذلك ألنك تعرف الجراد وحجمه وسرعته‪ ،‬ولو قال لك‬
‫حيا بكامله ألنكرت ذلك ألنك تعرف ما هو الفيل وحجمه وصفاته‪ ،‬لكن لو سألت هؤالء على أي‬
‫أساس حكمتم أن الجن ال يمكنه أن يدخل ويسكن يف جسم اإلنسان؟ لرأيتهم بال جواب علمي‪،‬‬
‫بل فلسفة ال تقدم وال تؤخر شي ًئا‪ ،‬تسألهم هل أنتم تعرفون الجن وماهيته وأحجامه وطريقته حتى‬
‫َ‬
‫‪15‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫ٌ‬
‫بحوث قمتم هبا أثبتت صحة إنكاركم؟ ولن‬ ‫تقرروا أنه يستطيع دخول اإلنسان أم ال؟ هل لديكم‬
‫تجد منهم جوا ًبا مفيدً ا‪ ،‬بل ربما سيقولون أنه ال يمكن معرفة أي شيء عن الجن‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫قول ال‬
‫دليل عليه‪ .‬وستجد أن حقيقة أمرهم‪« :‬نتبع ما وجدنا عليه عقولنا ومحتلينا»‪.‬‬

‫ولو أعدت السؤال وقلت‪ :‬هل يمكن للجن أن يدخل جسد اإلنسان؟ فسيقولون بكل تعال‪:‬‬
‫ال يمكنه ذلك‪ ،‬ثم اسألهم‪ :‬هل يمكن للفيروسات الدقيقة والبكتيريا الصغيرة والجراثيم أن تدخل‬
‫جسد اإلنسان وتمرضه بل وتقتله؟ فسيجيبون بكل سعادة‪ :‬نعم‪ ،‬ممكن‪ .‬فلماذا ال يكون اإلنكار‬
‫أيضا؟! هل ألن األجهزة الموجودة بين أيدينا استطاعت رؤية الفيروسات آمنتم هبا؛ والجن‬
‫هنا ً‬
‫الذي لم تره أجهزتكم أنكرتموه؟! هل األجهزة والمجاهر التي بأيدينا اآلن قادرة على رصد‬
‫ومعرفة كل ما خلقه اهلل ‪ ‬على وجه األرض؟! أم كل يوم تزداد تقنية األجهزة فتكتشف كائنات‬
‫جديدة ومكونات حديثة لم تكن تعرف من قبل؟! وقد أول منكروا مس الجن بعض النصوص‬
‫ليكيفوا هبا معتقدهم‪ ،‬تكلمت عنها بالتفصيل يف فصل «المس»(‪)1‬؛ فراجعها هناك‪.‬‬

‫ٌ‬
‫وخطأ يقع فيه الكثيرون‪ ،‬إذا ليس‬ ‫ينكر ذلك‪ ،‬وهذا لبس‬
‫العلم الحديث ُ‬
‫َ‬ ‫ويدعي البعض أن‬
‫للعلم أن ينكر ما لم يعرفه‪ ،‬فالعلم يستطيع أن يخربك أن شي ًئا ما موجود أو غير موجود‪ ،‬فيخربك أن‬
‫هناك أكسجينا يف مكان ما أم ال؟ يخربك أن هناك موجات معينة يف مكان ما أم ال؟ أما األمراض‬
‫أصال حتى يستطيع أن يخربك إن كانت موجودة أم ال؟ وذلك ألن اإلنسان‬
‫الروحية فهو لم يعرفها ً‬
‫لم يبحث بشكل صحيح حولها‪.‬‬

‫وأحيا ًنا يكون للمرض الواحد ِعدَّ ة أسباب‪ ،‬فإذا عثر المنكرون على سبب واحد أنكروا وجود‬
‫فمثال قد يصاب الشخص بالصرع بسبب‬
‫باقي األسباب؛ لظنهم أنهم وصلوا إلى الحقيقة الكاملة‪ً ،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صفحة ‪.289‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪16‬‬

‫خلل يف كهرباء الجسم‪ ،‬وقد يصرع بسبب الجن‪ ،‬وألن األطباء عرفوا السبب األول فإنهم قاموا‬
‫بإنكار السبب الثاين‪ .‬والجواب‪ :‬أن هذا خطأ كبير‪ ،‬حصولك على سبب واحد لمرض معين؛ ال‬
‫أيضا‪ ،‬هذا هو أسلوب التفكير الضيق الصغير‪.‬‬
‫أي أسباب أخرى ً‬
‫يعني أنه ال يمكن أن تكون هناك ُّ‬
‫الحمى لها عدة أسباب‪ ،‬مثل االلتهابات أو األمراض الجلدية أو الباطنية أو غير ذلك‪ ،‬تخيل يأيت‬
‫شخص يقول‪ :‬االلتهابات هي السبب الوحيد للحمى وال يوجد سبب آخر؛ وكل ما تحضر له سب ًبا‬
‫طبيا آخر يقول لك‪ :‬هذه أوهام وخرافات وال يوجد غير السبب الذي عرفته‪.‬‬

‫ويزداد األمر تعقيدً ا أنهم لم يتوقفوا عند إنكار األسباب األخرى فحسب‪ ،‬بل يتهمون كل من‬
‫يؤمن هبا بأن لديه أوها ًما وخياالت ثقافي ًة‪ ،‬وذلك ألن غيرهم يؤمنون بأسباب لم يعرفها المنكرون‪.‬‬

‫وقد تكون األسباب ُمتوازية‪ ،‬مثل أن يكون حصول شيء ما له عدة أسباب مباشرة‪ ،‬فحركة‬
‫السيارة قد تكون بسبب دعسك للدواسة‪ ،‬وقد يكون بسبب ترك السيارة على منحدر‪ ،‬وربما بسبب‬
‫دفع بعض الناس لها‪ ،‬كلها أسباب ممكنة‪ ،‬ال يمكن ألي أحد أن يقر بواحدة وينكر األخرى‪ ،‬وقد‬
‫فمثال‪ :‬دعست برجلك على الدواسة مما تسبب يف تد ُّفق البنزين إلى‬
‫ً‬ ‫تكون األسباب ُمتوالية‪،‬‬
‫المحرك‪ ،‬وأدى ذلك إلى زيادة عدد لفات المحرك‪ ،‬وهذا أدى إلى زيادة سرعة دوران الكفرات؛‬
‫مما أدى إلى زيادة سرعة السيارة‪ ،‬فكلها أسباب أدت إلى ما يليها حتى وصلنا إلى النهاية‪ ،‬وال‬
‫يصح ألحد أن ينكر أيا من األسباب السابقة‪ ،‬فلو قلت‪ :‬إنه ازدادت سرعة السيارة ألني دعست‬
‫على الدواسة؛ فإنه ال يعقل أن يأتيك منكر ويقول‪ :‬سرعة السيارة زادت بسبب ازدياد سرعة دوران‬
‫الكفرات فقط ال غير؛ وليس لدعس الدواسة تأثير يف ذلك!!!‬
‫مثاال واض ًحا يف كتابه الكريم عن األسباب المتوالية فقال ‪:‬ﭐﱡﭐ ﲾ ﲿ‬
‫وقد وضح اهلل ‪ً ‬‬
‫ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋﱠ ﭐ اإلسراء‪ ،]16 :‬فاهلل ‪‬‬
‫[‬ ‫ﳀﳁﳂﳃﳄﳅﳆ‬

‫يوضح هنا عدة أسباب متوالية‪ ،‬وهي كالتالي‪ :‬اإلرادة الربانية‪ ،‬ثم أمر المرتفين‪ ،‬ثم فسق العصاة‬
‫المرتفين‪ ،‬ثم قرار العذاب‪ ،‬ثم التدمير يف األخير‪ ،‬لكن «مدعو العقل» ال يرون إال التدمير‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬
‫‪17‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫مثال؛ فإنهم ال يرون إال األسباب التي يعرفوهنا للزالزل‪ ،‬وينكرون بقية‬
‫حصل تدمير بسبب زلزال ً‬
‫الشعوب وانتشار ُّ‬
‫الذنوب بينهم‪ ،‬وهذا‬ ‫األسباب األخرى المحتملة التي لم يعلموها‪ ،‬مثل فسق ُّ‬
‫جهل منهم وعدم استيعاب‪.‬‬
‫وكذلك األسباب المتوازية لها أمثلة واضحة يف كتاب اهلل ‪ ،‬تجدها إما يف آية واحدة‪ ،‬أو يف‬

‫ﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ‬ ‫فمثال يقول اهلل ‪: ‬‬


‫آيات متفرقة‪ً ،‬‬

‫ﲳ ﲴ ﲵﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﱠ [النحل‪،]14 :‬‬

‫فيبين اهلل ‪ ‬أن لخلق البحر عدة أسباب متوزاية‪ ،‬لنأكل سمكه‪ ،‬ولنستخرج الحلي منه للبسه‪،‬‬
‫ووسيلة نقل عن طريق السفن‪ ،‬ومصدر للتجارة‪ ،‬ولنشكر اهلل ‪ ‬على هذه النعم‪ ،‬هذا ما ذكره اهلل‬
‫يف هذه اآلية وليس ذلك حص ًرا‪ ،‬فقد اكتشف العلم الحديث فوائد أخرى كثيرة للبحر‪ ،‬يمكن‬
‫إضافتها إلى أسباب خلق اهلل للبحر وحكمته من ذلك ‪ ،‬وال يجوز لمعرفتنا سب ًبا واحدً ا من هذه‬
‫األسباب أن ننكر األسباب األخرى‪.‬‬

‫لم‬
‫والقدرة على الجمع بين األسباب والقوانين؛ بل وحتى الجمع بين األدلة‪ ،‬هو ف ٌّن راق وع ٌ‬
‫شخص ذو عقل لبيب وعلم وفير‪ ،‬أما من ليس له من ذلك نصيب؛ فليس‬
‫ٌ‬ ‫رزين ال يستطيعه إال‬
‫عنده إال الرفض واإلنكار والتعطيل والتكذيب أو التأويل‪.‬‬

‫مثال ما الذي يسبب للسيارة ضع ًفا يف العزم حين نقودها‪ ،‬هناك عدة أسباب متوازية‪،‬‬
‫ولننظر ً‬
‫مثال عطل يف مضخة الوقود‪ ،‬عطل يف كهرباء السيارة‪ ،‬خلل يف زيت الماكينة وغير ذلك‪ ،‬فإذا جاء‬
‫ً‬
‫أي أسباب أخرى اعتبرناه جاه ًال مجنو ًنا‪،‬‬
‫شخص وقال‪ :‬إن هناك سب ًبا واحدً ا فقط وال توجد ُّ‬
‫طال مصنعيا‪ ،‬قد يكون‬
‫كذلك إذا تساءلنا‪ :‬ما الذي يجعل الهاتف يعلق وال يعمل؟ قد يكون ع ً‬
‫بسبب فيروس‪ ،‬قد يكون بسبب برنامج ال يعمل بطريقة صحيحة‪ ،‬قد يكون بسبب امتالء الذاكرة‪،‬‬
‫ك ُّلها أسباب متوازية‪ ،‬علمنا بأحدها ال يجيز لنا أن نلغي وجود األسباب األخرى‪ ،‬وهذه األسباب‬
‫قد يحصل واحد منها‪ ،‬أو أكثر من واحد‪ ،‬وربما تحصل كلها مجتمعة‪ ،‬ولن تنتهي المشكلة إال‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪18‬‬

‫بإصالح جميع األسباب‪ ،‬كذلك يف الصحة‪ ،‬فلو افرتضنا أن رج ًال عنده أل ٌم يف الحلق‪ ،‬فإن طبي ًبا‬
‫سيخبره أن عندك التها ًبا بكتيريا‪ ،‬والراقي سيقول له‪ :‬هناك عين أصابتك‪ ،‬ومعالج آخر يخربه أن‬
‫المشكلة الرئيسة يف بطنه‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬هناك انسدا ًدا يف المسارات الغير مرئية‪ ،‬والحجام يقول له‪:‬‬
‫بسبب وجود دم فاسد يف الجلد يف مكان معين؛ كل هذه األسباب قد تكون متوازية صحيحة‪ ،‬إدراك‬
‫جهال وجنو ًنا‪ ،‬كما قلنا يف مثال‬
‫أحدها ال يجيز ألي أحد أن يلغي أو ينكر األخرى‪ ،‬وإال فسنعتربه ً‬
‫عزم السيارة وعطل الجوال‪.‬‬

‫الروحية لمجرد معرفتنا وجود أسباب أخرى متوالية‬


‫والمحصلة أنه ال يمكن إنكار األمراض ُّ‬
‫أو متوازية ألعراضها‪.‬‬

‫روحي‪ ،‬وقد قمنا بعالجه‬


‫ٌّ‬ ‫مرض‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬لقد شخصتم أحد المرضى بأن سبب معاناته ٌ‬
‫الروحية؟ فجوابنا‬
‫بأدوية الطب الغربي وانتهى مرضه‪ ،‬أليس هذا دليل على بطالن وجود األمراض ُّ‬
‫عليه من عدة أوجه‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬إما أن نكون قد أخطأنا يف التشخيص‪ ،‬وخطؤنا يعود علينا نحن‪ ،‬وال يربر إلغاء وإنكار‬
‫الروحية كلها بالعموم‪.‬‬
‫األمراض ُّ‬
‫الروحي زال لسبب ما فشفي المريض‬
‫صحيحا يف البداية‪ ،‬لكن المرض ُّ‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬قد يكون تشخيصنا‬
‫وظننتم شفاءه بسببكم‪.‬‬
‫الروحي‪ ،‬وعالجكم عالج‬
‫صحيحا‪ ،‬وال يزال المريض يعاين من المرض ُّ‬
‫ً‬ ‫‪ -3‬قد يكون تشخيصنا‬
‫الروحي‪.‬‬
‫مؤقت لألعراض الناتجة عن المرض ُّ‬

‫الروحية‪.‬‬
‫ومع كل األوجه السابقة؛ نجد أنه ليس لدى القوم حجة إلنكار وجود األمراض ُّ‬
‫ِ‬
‫تستوعب األمر‪ ،‬وهل هذه حجة؟ هل‬ ‫ونجد أن السبب الصريح والحقيقي هو أن عقولهم لم‬
‫شخصا عاش قبل ألف سنة أنه يف يوم واحد‬
‫ً‬ ‫عقولنا هي المعيار يف تحديد األمور؟ لو أنك أخربت‬
‫يمكنك أداء صالة الفجر يف مكة‪ ،‬ثم السفر إلى القاهرة وأداء صالة الظهر هناك جماعة يف‬
‫َ‬
‫‪19‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫المسجد‪ ،‬ثم السفر إلى الدار البيضاء وإدراك صالة العشاء يف المساجد هناك؛ فإنه سيرميك‬
‫بالكذب والجنون‪ ،‬ألن عقله لن يستطيع استيعاب وجود طائرات وسيارات وقطارات‪ ،‬بل لن‬
‫يستوعب وجود شارع معبد باإلسفلت‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬لو أن أربعة توائم ولدوا وعاشوا كل حياهتم داخل كهف؛ ثم خرج أحدهم إلى‬
‫ً‬
‫وجباال وحياة جميلة فإنهم لن يصدقوه‪ ،‬بل‬ ‫وأهنارا‬
‫ً‬ ‫أشجارا‬
‫ً‬ ‫الخارج؛ ورجع ليخربهم بأن هناك‬
‫سيكذبونه ويتهمونه باألوهام واألحالم‪ ،‬والعقالنيون المنكرون هم بالضبط مثل هؤالء القابعين يف‬
‫الكهف‪.‬‬

‫والعجيب الغريب أن الغرب ينتشر فيه السحر واستخدام الجن منذ القدم وإلى اآلن‪ ،‬وها هي‬
‫بعض المحالت يف العاصمة الربيطانية يعمل فيها السحرة ما يشاءون‪ ،‬ويروجون ألعمالهم‬
‫ص على قتل‬
‫قديما كان ين ُّ‬
‫ً‬ ‫وبضاعتهم كما يريدون‪ ،‬مع أن القانون الربيطاين وكذلك األوروبي‬
‫السحرة‪.‬‬

‫ٌ‬
‫خبيث له كتبه ومهاراته‪ ،‬وله مدارس مختلفة وطرق متنوعة‪ ،‬ولكل طريقة قائد‬ ‫علم‬
‫والسحر ٌ‬
‫أو مسؤول‪ ،‬كما أن له رعا ًة وفري ًقا من المؤيدين ممن عملهم الدعاية لكل ما هو شيطاينٌّ خبيث‪،‬‬
‫فهو عبارة عن مسألة ذات عمق غير بسيط‪ ،‬لكن بالرغم من هذا كله؛ تأيت ثل ٌة ممن لم يعرفوا عنه‬
‫شي ًئا ليقولوا‪ :‬إنه مجرد خرافات وأوهام‪ ،‬وذلك كما يقول المثل عندنا‪« :‬الذي ال يعرف الصقر‬
‫يشويه»‪ ،‬أو «ع ٌنز ولو طارت»‪.‬‬

‫ويقول اإلمام ابن القيم ‪ $‬يف القرن الثامن الهجري عن أجداد هؤالء‪« :‬فأبطلت طائف ٌة ممن‬
‫قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنما ذلك أوها ٌم ال حقيقة لها‪ ،‬وهؤالء من أجهل‬
‫الناس بالسمع والعقل‪ ،‬ومن أغلظهم حجا ًبا‪ ،‬وأكثفهم طبا ًعا‪ ،‬وأبعدهم معرف ًة عن األرواح‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪20‬‬

‫والنُّفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها‪ ،‬وعقالء األمم على اختالف مللهم ونحلهم ال تدفع أمر‬
‫العين وال تنكره‪ ،‬وإن اختلفوا يف سبب وجهة تأثير العين»(‪)1‬ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫كما وصفهم ‪ $‬وص ًفا صاد ًقا عليهم فقال‪« :‬وأما جهلة األطباء وسقطهم وسفلتهم‪ ،‬ومن‬
‫يعتقد بالزندقة فضيلةً‪ ،‬فأولئك ينكرون صرع األرواح‪ ،‬وال يق ُّرون بأنها تؤثر في بدن المصروع‪،‬‬
‫وليس معهم إال الجهل‪ ،‬وإال فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك‪ ،‬والح ُّس والوجود شاهدٌ به‪،‬‬
‫وإحالتهم ذلك على غلبة بعض األخالط صاد ٌق في بعض أقسامه ال في كلها‪ ،‬ومن له عق ٌل ومعرف ٌة‬
‫بهذه األرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤالء وضعف عقولهم»(‪.)2‬‬

‫ولقد تجاوز إنكارهم إلى كثير من ال ُّطرق الطبية التي كان الناس يتعالجون هبا منذ آالف‬
‫ويتم لهم الشفاء من اهلل بسببها‪ ،‬فأنكروها ورموا هبا يف سلة األوهام؛ ألنهم لم يستطيعوا‬
‫السنين‪ُّ ،‬‬
‫االقتناع هبا‪ .‬فأصبحوا بسبب إنكارهم محصورين يف دائرة األمراض ال يستطيعون الخروج‪ ،‬ولم‬
‫يسمحوا للمرضى أنفسهم أن يخرجوا منها‪.‬‬

‫وستجد آخرين يقولون‪ :‬إن هذه األشياء ِمن علم الغيب‪ ،‬وال يمكننا معرفة أي شيء عنها وال‬
‫الروحية»‪.‬‬
‫تفصيلها أو شرحها‪ ،‬وقد رددت عليهم يف فصل «علم الغيب» وفصل «األمراض ُّ‬

‫ومن أعجب العجائب أن تجد من يقول بأن األمراض الروحية ال يمكن أن توجد ألن ذلك‬
‫مناف للحكمة والعدل‪ ،‬وكأن هذا القائل وصل إلى منتهى العلوم واكتملت الحكمة لديه‪ ،‬فيفرض‬
‫ويقرر ماذا يجب أن يكون يف هذا الكون وما ال يجوز أن يكون! ومنهم من يقول بأن ذلك ال يمكن‬
‫دليال بجميع‬
‫أن يكون من القوانين الكونية‪ ،‬بل ينافيها‪ ،‬وكأنه عرف ما كان وما يكون‪ ،‬وكأن لديه ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «يف هديه ﷺ يف عالج المصاب بالعين»‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «هديه ﷺ يف عالج الصرع»‪.‬‬
‫َ‬
‫‪21‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫القوانين الكونية التي خلقها اهلل ‪ ،‬بينما اهلل ‪ ‬يقول‪ :‬ﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ‬

‫ﲰ ﲱ ﱠ [الكهف‪ ،]51:‬أال يدرك هؤالء أهنم مجرد مخلوقات صغيرة ولدت وهي جاهلة‪ ،‬وال‬
‫مذكورا؟!‬
‫ً‬ ‫يمكنها إدراك كل العلوم؟! أفال يدركون أهنم يف زمن ما لم يكونوا شي ًئا‬

‫ب إنكاره هو اتباع الهوى‪ ،‬وهؤالء لن يجدي معهم الحوار وال الجدال‪ ،‬ألنه ال‬
‫و ُهناك َم ْن س َب ُ‬
‫يريد الحق‪ ،‬بل يريد نصرة رأي باطل يدين به‪.‬‬

‫ومشكلة العقالنيين هذه ‪-‬كما قلت‪ -‬قديمة؛ حيث ير ُّدون كل ما ال يستطيع عقلهم المحدود‬
‫تق ُّبله‪ ،‬وقد رد أسالفهم أحاديث صحيحة ألن عقولهم لم تستوعبها‪ ،‬وأتذكر أن أحد هؤالء كان‬
‫الذبابة(‪ ،)1‬فلما أثبت أحد العلماء الباحثين ببحث علمي فائدة الحديث بأن ُّ‬
‫الذبابة‬ ‫ينكر حديث ُّ‬
‫تحمل يف إحدى جناحيها دا ًء ويف اآلخر دوا ًء؛ بدأ هذا المجدد العقالين يؤمن بالحديث ويروج له‬
‫على أنه من أوجه اإلعجاز العلمي لرسول اهلل ﷺ‪ ،‬وال أظنُّه أعلن توبته عن إنكاره لهذا الحديث‬
‫للتطور واالستيعاب‪ .‬وكفى بالمرء‬
‫ُّ‬ ‫من قبل‪ ،‬وهكذا هم‪ ،‬أراحنا اهلل منهم ومن عقولهم غير القابلة‬

‫صد ًقا أن يقول لما ال يعرف‪ :‬ال أعرف‪ ،‬ويكفيه ً‬


‫فخرا أن يقول بال استحياء لما ال يفهم‪ :‬ال أفهم‪ ،‬أما‬
‫عقال يعمل مثل محرك السيارة‪ ،‬فهذا هو عين‬
‫أنه ال يرتك شي ًئا إال ويتكلم فيه ليثبت للناس أن له ً‬
‫الغباء والحمق أعاذنا اهلل من ذلك‪.‬‬

‫والمتأمل يف العقالنيين ساب ًقا يجدهم يحتكمون إلى أصول ومعايير يبنون عليها آراءهم‪ ،‬أما‬
‫معيار‬
‫ٌ‬ ‫«مدعو العقل» يف العصر الحديث فال أصول وال فصول‪ ،‬فقط «لم تدخل رأسي»‪ ،‬وهل هذا‬
‫منصف وكاف للحكم على أمور دنيوية؟ فما بالك بأمور شرعية؟‬
‫ٌ‬

‫________________‬
‫َاح ْي ِه َدا ًء َواألُ ْخ َرى ِش َفا ًء»؛ صحيح البخاري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب فِي َش َر ِ‬
‫اب َأ َحدك ُْم َف ْل َيغْم ْس ُه ُث َّم ل َين ِْز ْع ُه‪َ ،‬فإِنَّ في إِ ْحدَ ى َجن َ‬ ‫(‪ )1‬قال النبي ﷺ‪« :‬إِ َذا َو َق َع ُّ‬
‫الذ َب ُ‬ ‫ُّ‬
‫«‪»3142‬؛ كتاب «بدء الخلق»؛ باب «إذا وقع الذباب يف شراب أحدكم فليغمسه‪ ،‬فإن يف إحدى جناحيه داء ويف األخرى شفاء»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪22‬‬

‫والواجب على اإلنسان أن يستعمل عقله ليتعلم ويطور ما علمه اهلل وأقره ‪ ،‬ال ليحكم على‬
‫اهلل ورسوله بما يمكن وما ال يمكن‪ ،‬ومن الخطأ أن يقال عنهم‪ :‬عقالنيون!! فالعقل الصحيح‬
‫يعرف حدوده وإمكانياته‪ ،‬أما المصطلح الصحيح لهؤالء فهو «مدعوا العقل»‪ ،‬وكثير منهم يف‬
‫عصرنا؛ عجز عن تقديم مخرتعات وأفكار تخدم البشرية يف شتى العلوم التطبيقية‪ً ،‬‬
‫فبدال من أن‬
‫يق ُّروا بعجزهم وعدم قدرهتم الشخصية على ذلك؛ إذا هبم يوجهون عقلهم الذي عجز عن اختراع‬
‫والسنة‪ .‬وصدق من قال‪ :‬حيثما‬
‫شيء مفيد للبشرية إلى التشريع والتحكيم والتفسير ألدلة القرآن ُّ‬
‫انتشرت الحياة العملية والتطبيقية؛ انتهى الفالسفة ومدعوا العقل ‪-‬وأصحاب الكالم الفاضي‪-‬‬
‫هداهم اهلل‪.‬‬

‫ويدعي البعض أن الرقية واألمراض الروحية من قبيل اإليحاء‪ ،‬واإليحاء مصطل ٌح يستخدمه‬
‫علماء النفس وأطباؤه‪ ،‬ويقصدون به اإليحاء إلى شخص أو إلى عقله الباطن بفكرة أو معلومة‬
‫فيصدقها فتنعكس عليه كسلوك نفسي أو جسدي‪.‬‬
‫مثاله‪ ،‬لو قلت لشخص سليم‪ :‬إنه على وشك اإلغماء من التعب‪ ،‬فإن ذلك من الممكن أن‬
‫يؤدي إلى قبول ذلك الشخص لهذا اإليحاء وتصديقه ثم الدُّ خول يف غيبوبة‪ ،‬ولو أغمضت عيني‬
‫شخص ثم نغزته بإبرة نغزة بسيطة‪ ،‬ثم قلت له‪ :‬إن الدم يخرج بغزارة‪ ،‬فمن الممكن أن يتقبل هذا‬
‫اإليحاء السلبي ويصدقه‪ ،‬ثم ترى على جسده آثار نقصان الدم من صفار وضعف ثم يموت‪ ،‬مع أنه‬
‫لم تخرج منه قطرة دم واحدة‪ .‬ويمكن كذلك إجراء إيحاء إيجابي فتأيت لشخص مصاب بمرض ما‬
‫بسبب الوهم‪ ،‬وتعطيه حبو ًبا من الحلوى وتزعم له أنها أدوية فعالة أحضرتها من متخصص‬
‫معروف‪ ،‬فيأخذها وتتحسن صحته لتق ُّبله هذا اإليحاء اإليجابي‪.‬‬
‫لكن أصبح هذا المصطلح شماع ًة لكثير من الناس يعلقون عليها كل ما لم يستوعبوه‪،‬‬
‫الروحية وتأثيراهتا‪.‬‬
‫كاألمراض ُّ‬
‫َ‬
‫‪23‬‬ ‫حقيقة أم خيال؟‬

‫ومثل ذلك؛ فإن صن ًفا آخر من الناس لديه شماعة أخرى‪ ،‬أال وهي شماعة التلبيس‪ ،‬فكلما‬
‫اكتشف شي ٌء جديد؛ ولم يفهمه هؤالء أو يستوعبوه؛ فإنهم سيدعون أن ذلك أوها ٌم من تلبيس‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫الرقاة يف‬
‫الرقية واألمراض الروحية إيحاء وأوهام؛ فليشرح لنا لماذا ينجح ُّ‬
‫ومن يدعي أن ُّ‬
‫مغشي عليه؟ أو الطفل الرضيع؟ أو حتى الحيوان الذي ال يفهم الرقية وال يتكلم‬
‫ٌّ‬ ‫معالجة من هو‬
‫معنا حتى نقنعه؟ ولو تأمل ٌ‬
‫عاقل يف شأن العين؛ لوجد أنه يف حاالت كثيرة يصيب العائن المعيون‬
‫عاقال‬
‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫طفال غير مدرك أو‬
‫من دون أن يعرف المعيون أي شيء عن ذلك‪ ،‬سوا ًء كان المعيون ً‬
‫ٌ‬
‫ملحوظ عند المعيون بعد إصابته‬ ‫بال ًغا أو حيوانًا أو حتى جما ًدا‪ ،‬ويرتتب على تلك اإلصابة تغ ُّي ٌر‬
‫بالعين من دون أن يدري‪ ،‬سوا ًء كان تغ ُّي ًرا مرضيا أو نفسيا أو سلوكيا‪ ،‬وإذا أعطي المعيون من أثر‬
‫العائن بدون أن يدري ‪-‬وذلك كأن يدس له يف أكله أو شرابه‪ ،‬أو كأن يسبح الشخصان يف مسبح‬
‫واحد‪-‬؛ فإننا سنجد بعدها أن العين قد انتهت‪ ،‬والتغييرات التي لوحظت ساب ًقا قد اختفت‪ ،‬وذلك‬
‫من دون أن يعلم المعيون أنه قد أصيب أو أنه قد تعالج‪ ،‬ولو جاز لنا تجربة ذلك عمليا لفعلنا‪،‬‬
‫تعمد فعل ذلك ال يجوز‪ ،‬وذلك ألن تجربة مثل هذه األمور أذي ٌة للمعيون‪ ،‬وقد ينتج عنها‬
‫ولكن ُّ‬
‫أضرار شديدة له‪ ،‬ربما تكون عبارة عن أمراض أو حوادث‪ ،‬أو تغير سلوك من حسن إلى قبيح‪،‬‬
‫وقد ينتج عنه هدم بيوت أسر وتشتيتها‪ ،‬أو فصل من العمل أو خسارة يف التجارة‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬
‫وشر مستطير عقوبته خطيرة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وهذا كله مما هو إثم كبير ُّ‬
‫ً‬
‫أطفاال أو بالغين أو‬ ‫ٌ‬
‫عاقل يف السحر لوجد أن المسحورين ‪-‬سوا ًء كانوا‬ ‫كذلك لو تأمل‬
‫ٌ‬
‫ملحوظ بعد أن يسحروا‪ ،‬وذلك من دون أن يعرفوا أنهم‬ ‫حيوانات أو جمادات‪ -‬يطرأ عليهم تغ ُّي ٌر‬
‫سحروا‪ ،‬وكذلك يحصل التغيير بعد أن يبطل هذا السحر‪ ،‬حتى وإن كان اإلبطال قد حصل من غير‬
‫علمهم‪ ،‬وكفى هبذه الرباهين أدلة على أن األمر ليس بوهم وال خيال وال إيحاء‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪24‬‬
‫‪25‬‬ ‫علم الغيب‬

‫علم الغيب‬

‫الغيب يف اللغة‪ :‬ما غاب عنك‪ .‬ويف االصطالح ذكر العلماء السابقون نوعين من الغيب وهما‪:‬‬

‫خاص به ‪ ،‬قال ‪ :‬ﱡﭐﱗ ﱘ ﱙ‬


‫ٌّ‬ ‫‪ -1‬الغ ْيب المطلق‪ :‬وهذا ال يكون علمه إال عند اهلل ‪،‬‬

‫ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠﱠ [النمل‪ ،]65 :‬وقال ‪ :‬ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ‬

‫ﲿﱠﭐ[األنعام‪.]59 :‬‬

‫سبي‪-‬أو الغيب المق َّيد‪ :-‬وهو ما كان غائ ًبا عن شخص ولم يكن غائ ًبا عن‬
‫‪ -2‬الغ ْيب الن ُّ‬
‫ومثال‬
‫ً‬ ‫فمثال أنت ال تعرف ما يحصل خلف الجدار‪ ،‬لكن من خلف الجدار يعرف ذلك‪.‬‬
‫آخرين‪ً .‬‬
‫أنت ال تعرف ماذا حصل قبل والدتك‪ ،‬لكن غيرك يعرف‪ ،‬وقد تكون مع شخص أعمى تشاهد‬
‫شي ًئا أمامكما؛ فتعرفه أنت ويغيب عن األعمى‪ ،‬وقد تجلس مع شخص ال يعرف العربية‪ ،‬وتريان‬
‫ورقة مكتوبة بالعربية‪ ،‬فتفهمها أنت‪ ،‬بينما يكون المكتوب فيها يف حكم الغيب للذي ال يعرف‬
‫العربية‪ .‬وقد ذكر اهلل هذا النوع يف كتابه الكريم‪ ،‬فقال للرسول ﷺ ‪-‬بعد سرد قصة نوح ڠ‪:-‬‬

‫ﱡﭐﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔﱠ [هود‪ ،]49 :‬كذلك‬

‫بعد سرد قصة يوسف ڠ‪ ،‬فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ‬

‫وأيضا قال ‪ ‬بعد سرد قصة مريم ﮋ‪ :‬ﱡﭐ ﲧ ﲨ ﲩ‬


‫ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﱠ [يوسف‪ً ،] 102 :‬‬

‫ﲪ ﲫ ﲬﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ‬

‫كثير‪ ،‬لكنهم‬
‫خلق ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وأحداث عاشها ٌ‬ ‫ﲻﱠ [آل عمران‪ ،]44 :‬فهذا ك ُّله من الغيب النسبي‪ ،‬قص ٌ‬
‫ص‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪26‬‬

‫فنوا وانتهوا وجهلت أخبارهم‪ ،‬فصار غي ًبا نسبيا‪ ،‬قال ابن تيمية ‪« :$‬والغيب املقيد ما علمه بعض‬
‫املخلوقات من املالئكة أو اجلن أو اإلنس وشهدوه‪ ،‬فإنام هو غيب عمن غاب عنه‪ ،‬ليس هو غيبا‬
‫عمن شهده‪ .‬والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيبا مقيدا‪ ،‬أي غيبا عمن غاب‬
‫عنه من املخلوقني‪ ،‬ال عمن شهده‪ ،‬ليس غيبا مطلقا غاب عن املخلوقني قاطبة»(‪ ،)1‬ويمكن تقسيم‬
‫الغيب النسبي إلى قسمين‪:‬‬

‫سبي ال ُيمكن معرفته َّإال عن طريق الوحي‪:‬‬‫ِ‬


‫أ‪ -‬غ ْيب ن ٍّ‬

‫وذلك مثل أخبار الجنة وما فيها‪ ،‬فالموجودون فيها اآلن يعرفون عنها ما يرونه ويتحسسونه‪،‬‬
‫لكن ليس لنا أن نعرف عنها أكثر مما حدثنا عنه رسول اهلل ﷺ‪ ،‬كذلك مثل المالئكة‪ ،‬فهم يعرفون‬
‫أي وسيلة‬
‫بعضهم‪ ،‬ويعرفهم من يصاحبهم يف السماوات السبع‪ ،‬لكن ليس لنا على األرض ُّ‬
‫للمعرفة عنهم غير ما ذكره لنا رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وحيث إن الوحي قد انقطع بوفاة خاتم األنبياء‬
‫والمرسلين رسولنا محمد ﷺ؛ فإنه ال مجال لمعرفة المزيد عن ذلك‪ .‬قد يقول قائل‪ :‬إن البعض قد‬
‫يعلم ذلك عن طريق الرؤى‪ ،‬فنقول‪ :‬ليس من الشرط أن تكون رؤياه صادقة‪ ،‬ومن أجل ذلك ال‬
‫يمكن الجزم بأن ذلك حقيقة‪ ،‬قد يظنُّها الرائي رؤيا صادقة من اهلل وهي يف األصل والحقيقة من‬
‫حديث النفس أو من الشياطين‪.‬‬

‫سبي ال َيلزَم الوحي لمعرفته‪:‬‬‫ِ‬


‫ب‪ -‬غ ْيب ن ٍّ‬

‫وذلك مثل األحداث التاريخية‪ ،‬وسائر علوم الدنيا كعلم الطب والفلك والهندسة‪ ،‬ومثل‬
‫األخبار اليومية‪ ،‬فكل يوم نعرف جديدً ا كان غائ ًبا عنا وعمن سبقنا‪ ،‬وكل يوم نكتشف شيئا جهله‬
‫أجدادنا وتمكنا نحن من معرفته‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى البن تيمية؛ الجزء ‪16‬؛ سورة األعلى‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫علم الغيب‬

‫كيف نعرف الغيب المطلق؟‬

‫ما جاءت به النصوص صراحة أنه من علم الغيب المطلق؛ فهذا يلزم اإليمان بأنه من علم‬

‫ﳅﳇ‬
‫ﳆ‬ ‫الغيب المطلق‪ ،‬كقوله ‪ :‬ﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ‬

‫ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﱠ [لقمان‪ ،]34 :‬أما ما لم‬


‫تصرح األدلة بأنه من علم الغيب المطلق فال يمكن الجزم بأنه كذلك‪.‬‬

‫وكثير من األشياء كان يظ ُّن الناس أنها من الغيب المطلق‪ ،‬لكن ثبت الح ًقا أنها ليست كذلك‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وتم إدراكها عن طريق العلوم التي وهبها اهلل لإلنسان‪ ،‬ولم تعد مما نظنُّه من علم الغيب المطلق‬
‫بتا ًتا‪ ،‬بل كانت من الغيب النسبي الذي جهله األولون واكتشفه اآلخرون‪.‬‬

‫والسنة يؤيد‬
‫ومن ادعى أن شي ًئا ما من علم الغيب المطلق؛ فعليه اإلتيان بدليل من القرآن ُّ‬
‫ادعاءه‪ .‬وإال فإن هذا الشيء قد يكون من الغيب النسبي الذي يمكن إداركه بالحواس؛ والذي‬
‫يمكن االستدالل عليه عن طريق العلوم المستوحاة من التجربة والمشاهدة المنضبطة‪.‬‬

‫تحول الغيب المطلق إلى غيب نسبي‪:‬‬


‫ُّ‬

‫إذا أخرب اهلل ‪ ‬بشيء من علم الغيب المطلق الخاص به ألي أحد من خلقه؛ فإن ذلك يتحول‬
‫إلى مرحلة علم الغيب النسبي‪ ،‬ويخرج من كونه مطل ًقا خاصا‪ ،‬وتصبح معرفته متاح ًة لدى‬
‫المخلوقات األخرى بحسب قدرهتا ومكانتها‪ ،‬فقد يطلع اهلل ‪ ‬من شاء من رسله ۏ على بعض‬

‫من علم الغيب المطلق‪ ،‬قال ‪ :‬ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ‬

‫ﳐﱠ [الجن‪ ،]27 - 26 :‬فيتحول إلى غيب نسبي يعلمه هذا الرسول ويخفى عن غيره‪ .‬وقد يخرب اهلل‬
‫‪ ‬أهل السماء بأمر قبل وقوعه‪ ،‬فيصبح ذلك األمر من الغيب النسبي الذي يعلمه أهل السماء وال‬
‫نعلمه نحن‪ ،‬بعد أن كان من الغيب المطلق الخاص باهلل ‪ ،‬فعن ابن عباس ﭭ قال‪ :‬أخبرني‬

‫رج ٌل من أصحاب النبي ﷺ من األنصار‪ ،‬أنهم بينما هم جل ٌ‬


‫وس ليل ًة مع رسول اهلل ﷺ؛ رمي بنجم‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪28‬‬

‫اه ِل َّي ِة‪ ،‬إِ َذا ُر ِم َي بِ ِم ْث ِل َه َذا؟» قالوا‪ :‬اهلل‬


‫ون فِي ا ْلج ِ‬
‫َ‬ ‫فاستنار‪ ،‬فقال لهم رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ما َذا ُكنْت ُْم َت ُقو ُل َ‬
‫يم‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬فإنَّها َال‬ ‫ورسوله أعلم‪ ،‬كنا نقول ولد الليلة رج ٌل عظي ٌم‪ ،‬ومات رج ٌل عظ ٌ‬
‫ش‪،‬‬ ‫ت َأ َح ٍد َو َال لِ َح َياتِ ِه‪َ ،‬و َلكِ ْن َر ُّبنَا َت َب َار َك َو َت َعا َلى ْاس ُم ُه‪ ،‬إِ َذا َق َضى َأ ْم ًرا َس َّب َح َح َم َل ُة ا ْل َع ْر ِ‬ ‫يرمى بِ َها لِمو ِ‬
‫َْ‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َي ُل َ‬
‫ون‬ ‫الس َماء الدُّ ْن َيا‪ُ ،‬ث َّم َق َال ا َّلذ َ‬‫يح َأ ْه َل َهذه َّ‬ ‫ين َي ُلون َُه ْم‪َ ،‬حتَّى َي ْب ُلغَ الت َّْسبِ ُ‬ ‫الس َماء ا َّلذ َ‬ ‫ُث َّم َس َّب َح َأ ْه ُل َّ‬
‫ش‪َ :‬ما َذا َق َال َر ُّبك ُْم؟ َف ُيخْ بِ ُرون َُه ْم َما َذا َق َال‪َ ،‬ق َال َف َي ْستَخْ بِ ُر َب ْع ُض َأ ْه ِل‬ ‫ش لِ َح َم َل ِة ا ْل َع ْر ِ‬
‫َح َم َل َة ا ْل َع ْر ِ‬

‫ون إِ َلى َأ ْولِ َيائِ ِه ْم‪،‬‬


‫الس ْم َع َف َي ْق ِذ ُف َ‬
‫ج ُّن َّ‬ ‫ف ا ْل ِ‬
‫الس َما َء الدُّ ْن َيا‪َ ،‬فتَخْ َط ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َب ْع ًضا‪َ ،‬حتَّى َي ْب ُلغَ ا ْلخَ َب ُر َهذه َّ‬ ‫َّ‬
‫ون»(‪.)1‬‬ ‫ون فِ ِ‬
‫يه َو َي ِزيدُ َ‬ ‫َو ُي ْر َم ْو َن بِ ِه‪َ ،‬ف َما َجا ُءوا بِ ِه َع َلى َو ْج ِه ِه َف ُه َو َح ٌّق‪َ ،‬و َلكِن َُّه ْم َي ْقرِ ُف َ‬

‫وقد تم منع الجن كليا من اختطاف السمع يف عهد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬قال اهلل ‪ ‬على لسان‬
‫الجن‪ :‬ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ‬

‫ﲝ ﲞﲟﲠﲡﲢﲣﲤﲥﲦﲧﲨﲩ ﲪﲫﲬﲭﲮﲯﲰﲱ ﲲﱠ‬


‫[الجن‪ .]10 – 8 :‬قال اإلمام ابن كثير ‪ $‬يف تفسيره‪« :‬يخبر تعالى عن الجن حين بعث اهلل رسوله‬
‫محمدً ا ﷺ‪ ،‬وأنزل عليه القرآن‪ ،‬وكان من حفظه له أن السماء ملئت حر ًسا شديدً ا‪ ،‬وحفظت من‬
‫سائر أرجائها‪ ،‬وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئال يسترقوا شي ًئا‬
‫من القرآن؛ فيلقوه على ألسنة الكهنة‪ ،‬فيلتبس األمر ويختلط وال يدرى من الصادق‪ ،‬وهذا من‬
‫لطف اهلل بخلقه ورحمته بعباده‪ ،‬وحفظه لكتابه العزيز»(‪.)2‬‬

‫لكن هل زال هذا المنع من بعد أم ال؟ قال الشيخ ابن عثيمين ‪« :$‬واختلف العلماء‪ :‬هل‬
‫المسترقون انقطعوا عن االستراق بعد بعثة الرسول ﷺ إلى األبد؟ أو انقطعوا يف وقته فقط؟ والثاين‬
‫هو األقرب؛ أنهم انقطعوا يف وقت البعثة فقط‪ ،‬حتى ال يلتبس كالم الكهان بالوحي‪ ،‬ثم بعد ذلك‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2229‬؛ كتاب السالم؛ باب «تحريم الكهانة وإتيان الكهان»‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير؛ سورة الجن؛ اآليات ‪.10-8‬‬
‫‪29‬‬ ‫علم الغيب‬

‫زال السبب الذي من أجله انقطعوا‪ )1(».‬وهذا يفسر لنا كيف أن الجن وكهنتهم يف أيامنا هذه‬
‫يخربوننا بأشياء مستقبلية نراها الح ًقا تقع بالتفصيل الذي ذكروه‪ ،‬وهم ال يعلمون الغيب المطلق‬
‫وما ينبغي لهم‪ ،‬إن هو إال خطف سمع لما تم تداوله يف السماء‪ ،‬ولما أصبح من الغيب النسبي‪.‬‬

‫ولو قلنا أن المنع ال يزال موجو ًدا‪ ،‬فإن الجن يمكنها استراق السمع من المالئكة الموجودة يف‬
‫اب‪َ ،‬فت َْذك ُُر األَ ْم َر‬ ‫الس َح ُ‬
‫َان‪َ :‬و ُه َو َّ‬ ‫المَلئِ َك َة َتن ِْز ُل فِي ال َعن ِ‬
‫السحب والغيوم‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َّن َ‬ ‫ُّ‬
‫ون َم َع َها ِما َئ َة ك َْذ َب ٍة‬
‫ان‪َ ،‬ف َيك ِْذ ُب َ‬ ‫ُوح ِ‬
‫يه إِ َلى الك َُّه ِ‬ ‫الشياطِين السمع َفتَسمعه‪َ ،‬فت ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َماء‪َ ،‬فت َْس َترِ ُق َّ َ ُ َّ ْ َ ْ َ ُ ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ُقض َي في َّ‬
‫ِم ْن ِعن ِْد َأ ْن ُف ِس ِه ْم»(‪ ،)2‬كذلك فإنه أحيانًا قد يتمكن مسترق السمع من إلقاء الكلمة قبل أن يصيبه‬
‫المَلئِ َك ُة بِ َأ ْجن ِ َحتِ َها ُخ ْض َعانًا‬‫ت َ‬ ‫اء‪َ ،‬ضرب ِ‬
‫ََ‬
‫الشهاب‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َذا َق َضى الل األَمر فِي السم ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ُ َْ‬
‫لِ َق ْولِ ِه‪ ،‬ك ََأ َّن ُه ِس ْل ِس َلة َع َلى َص ْف َوا ٍن‪َ ،‬فإِ َذا ُفز َع َع ْن ُق ُلوبِ ِه ْم َقا ُلوا‪َ « :‬ما َذا َق َال َر ُّبك ُْم؟» َقا ُلوا لِ َّل ِذي َق َال‪:‬‬
‫ِ‬
‫ض‪-‬‬ ‫الس ْم ِع َهك ََذا َب ْع ُض ُه َف ْو َق َب ْع ٍ‬ ‫الس ْمعِ‪َ ،‬و ُم ْس َترِ ُق َّ‬ ‫الح َّق‪َ ،‬و ُه َو ال َعل ُّي ال َكبِ ُير»‪َ ،‬ف َي ْس َم ُع َها ُم ْس َترِ ُق َّ‬‫« َ‬
‫ان(‪ )3‬بِكَف ِه َف َح َر َف َها‪َ ،‬و َبدَّ َد َب ْي َن َأ َصابِ ِع ِه‪َ -‬ف َي ْس َم ُع الك َِل َم َة َف ُي ْل ِق َيها إِ َلى َم ْن ت َْح َت ُه‪ُ ،‬ث َّم ُي ْل ِق َيها‬
‫ف ُس ْف َي ُ‬
‫َو َو َص َ‬
‫اب َق ْب َل َأ ْن ُي ْل ِق َي َها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الساحرِ َأ ِو الكَاه ِن‪َ ،‬ف ُر َّب َما َأ ْد َر َك الش َه ُ‬ ‫ان َّ‬ ‫اآلخ ُر إِ َلى َم ْن ت َْح َت ُه‪َ ،‬حتَّى ي ْل ِق َي َها َع َلى لِ َس ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اها َق ْب َل َأ ْن ُيدْ ِر َك ُه‪َ ،‬ف َيك ِْذ ُب َم َع َها ِما َئ َة ك َْذ َب ٍة‪َ ،‬ف ُي َق ُال‪َ :‬أ َل ْي َس َقدْ َق َال َلنَا َي ْو َم ك ََذا َوك ََذا‪ :‬ك ََذا‬
‫َو ُر َّب َما َأ ْل َق َ‬
‫كل ما سبق يشرح طريقة معرفة الجن‬ ‫اء»(‪ُّ ،)4‬‬‫ك الك َِلم ِة ا َّلتِي س ِمع ِمن السم ِ‬ ‫َوك ََذا‪َ ،‬ف ُي َصدَّ ُق بِتِ ْل َ‬
‫َ َ َ َّ َ‬ ‫َ‬

‫________________‬
‫ﱕﱗ‬
‫ﱖ‬ ‫ﱒﱔ‬
‫ﱓ‬ ‫(‪ )1‬القول المفيد على كتاب التوحيد البن عثيمين؛ شرح «باب قوله تعالى ﱡﭐ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ‬

‫ﱘﱙ ﱠ [سبأ‪.»]23 :‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»3038‬؛ كتاب «بدء الخلق»؛ باب «ذكر المالئكة»‪.‬‬
‫(‪ )3‬سفيان بن عيينة ‪ ،$‬أحد رواة الحديث‪.‬‬

‫ﱕﱗﱘﱙ ﱠ ﭐ‬
‫ﱖ‬ ‫ﱒﱔ‬
‫ﱓ‬ ‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»4522‬؛ كتاب تفسير القرآن؛ باب ﱡﭐ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ‬
‫[سبأ‪.]23 :‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪30‬‬

‫لألمور المستقبلية؛ والتي كانت من الغيب المطلق؛ ثم أصبحت غي ًبا نسبيا من قبل معرفة الجن‬
‫لها‪ ،‬ويزيل العجب العجاب عن بعض العقول واأللباب‪.‬‬
‫ِ‬
‫الغيب المط َلق والع ُ‬
‫لم الحديث‪:‬‬ ‫ُ‬

‫تطور العلم فأصبح يعرف متى ينزل المطر‪ ،‬كما أصبح لدينا إمكانية إنزال المطر بأنفسنا‪،‬‬
‫كذلك أصبحنا نشاهد ما يف رحم المرأة عن طريق األشعة فنعرف شكل الجنين وجنسه‪ ،‬فاستشكل‬
‫بعض الناس ذلك‪ ،‬وتساءلوا كيف يقول اهلل ‪ ‬أن نزول الغيب ومعرفة ما يف األرحام غيب مطلق‬
‫ال يعلمه إال هو ‪ ‬؟ وها نحن نعرف ما تم ذكره‪ ،‬والجواب على ذلك كما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬بالنسبة للمطر فالعلم ال يستطيع أن يجزم بنزوله يف جميع الحاالت‪ ،‬وإذا جزم فإنه ال يستطيع‬
‫أن يتنبأ بوقوع المطر يف وقت بعيد‪ ،‬وإنما خالل األيام القريبة من يومه الذي تنبأ فيه‪ ،‬كذلك ال‬
‫يستطيع أن يجزم بالدقة المتناهية كمية الماء التي ستسقط على األرض‪ ،‬أما اهلل ‪ ‬فيعلم‬
‫جزمًا كل الحاالت التي سينزل فيها المطر أو لن ينزل‪ ،‬كذلك علمه ‪ ‬بنزول المطر محيط‬
‫بكل األيام إلى قيام الساعة‪ ،‬فهو ‪ ‬يعلم إن كان سينزل يف مكانك مطر بعد مائة سنة أوال‪،‬‬
‫وإن كان سينزل بعد ألف سنة أو ال‪ ،‬ويعلم بالضبط ما هي كمية الماء التي ستنزل؟ وكم عدد‬
‫قطراهتا؟ بل كم عدد ذراهتا؟ وأدق من ذلك‪ ،‬وال يمكن ألي علم مهما تطور أن يصل إلى علم‬
‫اهلل ‪ ،‬وإنما هو يستعين ببعض القوانين الكونية التي وضعها اهلل ‪ ،‬فمثالً لو رميت كرة من‬
‫أعلى الجبل‪ ،‬فإنك حتمًا تعلم أهنا ستسقط إلى األسفل‪ ،‬وتستطيع أن تقدر الوقت الالزم‬
‫لذلك‪ ،‬كذلك تستطيع أن تقدر المنطقة التي ستسقط فيها الكرة‪ ،‬لكن ال يمكنك الجزم بذلك‪،‬‬
‫ألن الريح قد تحرك الكرة أثناء السقوط فتؤثر على الوقت والمكان‪ ،‬وقد تصطدم بطائر أثناء‬
‫السقوط‪ ،‬كذلك ال يمكن التنبؤ بالتحديد إن كانت الكرة ستقع على أحد أو على شيء فتسبب‬
‫له ضرر ًا أو ال‪ ،‬بينما اهلل ‪ ‬يعلم من قبل أن تخلق إن كنت ستقوم هبذه التجربة أم ال‪ ،‬ويعلم‬
‫كذلك ما هي نتائج تجربتك هذه بكل تفصيل‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫علم الغيب‬

‫‪ -2‬اهلل ‪ ‬لم يقل أن جنس الجنين وحجمه وشكله من علم الغيب المطلق‪ ،‬بل قال ‪ ‬أنه يعلم‬

‫ﱡﭐﳃ ﳄ ﳅﱠ‪ ،‬وهذه صيغة عموم تدل على كل شيء يف الرحم مما يمكن للعلم‬

‫الوصول إليه ومما ال يمكنه ذلك‪ ،‬فالجنين الذي نراه يبعث اهلل إليه مل ًكا فينفخ فيه ُّ‬
‫الروح(‪،)1‬‬
‫الروح‪ ،‬وال يمكن لها أن ترى القرين الذي‬
‫وال يمكن لألجهزة أن ترى هذا الملك وال أن ترى ُّ‬
‫أيضا هناك مما ال يمكننا أن نراه‬
‫مع الجنين‪ ،‬وال القرين الذي مع أمه‪ ،‬وال ندري ما هو موجود ً‬
‫أبدً ا‪ ،‬وهبذا يزول اإلشكال‪.‬‬

‫________________‬
‫ث اللُ إِ َل ْي ِه‬ ‫ك‪ُ ،‬ث َّم َي ُكونُ ُم ْض َغ ًة ِم ْث َل َذلِ َ‬
‫ك‪ُ ،‬ث َّم َي ْب َع ُ‬ ‫ين َي ْو ًما‪ُ ،‬ث َّم َي ُكونُ َع َل َق ًة ِم ْث َل َذلِ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )1‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِنَّ َأ َحدَ ك ُْم ُي ْج َم ُع في َب ْط ِن ُأمه َأ ْر َبع َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّار‪َ ،‬حتَّى َما‬ ‫الر ُج َل َل َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأ ْه ِل الن ِ‬
‫وح‪َ ،‬فإِنَّ َّ‬
‫الر ُ‬ ‫َب َع َم ُل ُه‪َ ،‬و َأ َج ُل ُه‪َ ،‬و ِر ْز ُق ُه‪َ ،‬و َشق ٌّي َأ ْو َسعيد‪ُ ،‬ث َّم ُينْ َف ُخ فيه ُّ‬ ‫َم َلكًا ِب َأ ْر َب ِع ك َِل َمات‪َ ،‬ف ُي ْكت ُ‬
‫الجن َِّة‪َ ،‬حتَّى َما‬ ‫الر ُج َل َل َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأ ْه ِل َ‬
‫ِ‬
‫َاب َف َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأ ْه ِل َ‬
‫الجنَّة َف َيدْ ُخ ُل ال َجنَّةَ‪َ ،‬وإِنَّ َّ‬
‫ِ ِ‬
‫َي ُكونُ َب ْينَ ُه َو َب ْين ََها إِ َّال ِذ َراع‪َ ،‬ف َي ْسبِ ُق َع َل ْيه الكت ُ‬
‫َاب‪َ ،‬ف َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأ ْه ِل الن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّار‪َ ،‬ف َيدْ ُخ ُل الن ََّار »‪ .‬صحيح البخاري «‪»3154‬؛ كتاب‬ ‫َي ُكونُ َب ْينَ ُه َو َب ْين ََها إِ َّال ِذ َراع‪َ ،‬ف َي ْسبِ ُق َع َل ْيه الكت ُ‬
‫«أحاديث األنبياء»؛ باب «خلق آدم صلوات اهلل عليه وذريته»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪32‬‬
‫‪33‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقية‬

‫الرقية طريق ٌة طبي ٌة موجود ٌة من قبل اإلسالم‪ ،‬ولما جاء اإلسالم أقر رسول اهلل ﷺ هذه‬
‫ُّ‬
‫الطريقة‪ ،‬وأقر ﷺ رقى الجاهلية التي ليس فيها ش ٌ‬
‫رك‪ ،‬والتي لم تخالف شرع اإلسالم‪ ،‬ونستعرض‬
‫بعضا من األحاديث التي تد ُّل على ذلك‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬عن عوف بن مالك األشجعي ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬كنا نرقي في الجاهلية‪ ،‬فقلنا يا رسول اهلل كيف ترى‬
‫يه ِش ْرك»(‪.)1‬‬
‫في ذلك؟ فقال‪-‬ﷺ‪« :-‬اعرِ ُضوا ع َلي ر َقاكُم‪َ ،‬ال ب ْأس بِالرقى ما َلم يكُن فِ ِ‬
‫َ َ ُّ َ ْ َ ْ‬ ‫َ َّ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫‪ -2‬عن جابر ﭬ قال‪« :‬نَهى رس ُ ِ‬
‫الرقى»‪ ،‬فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول اهلل‬ ‫ول الل ﷺ َع ِن ُّ‬ ‫َ َ ُ‬
‫الرقى‪،‬‬ ‫ﷺ‪ ،‬فقالوا يا رسول اهلل إنه كانت عندنا رقي ٌة يرقى بها من العقرب‪ ،‬وإنك نهيت عن ُّ‬
‫اع ِمنْك ُْم َأ ْن َينْ َف َع َأ َخا ُه َف ْل َينْ َف ْع ُه»(‪.)2‬‬ ‫قال‪ :‬فعرضوها عليه‪ ،‬فقال‪-‬ﷺ‪َ « :-‬ما َأ َرى َب ْأ ًسا‪َ ،‬م ْن ْ‬
‫اس َت َط َ‬
‫ودل هذا الحديث على إقرار رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وحثه ﷺ على النفع واالنتفاع هبا‪ ،‬كما دل على‬
‫الرقى جاء قبل ذلك‬
‫حث نفع اآلخرين بكل ما لم يخالف الشرع‪ ،‬كما دل على أن النهي عن ُّ‬
‫مخصوصا بما فيه شرك أو محرم‪.‬‬
‫ً‬ ‫عاما‬
‫ول الل ِ ﷺ‬ ‫‪ -3‬عن عمير مولى آبي اللحم ﭭ‪ ،‬قال‪« :‬شهدت مع سادتي خيبر‪َ ،‬ف َأ َم َر بِي َر ُس ُ‬
‫وك‪ ،‬قال‪َ :‬ف َأ َم َر لِي بِ َش ْي ٍء ِم ْن ُخ ْرثِي‬
‫فقلدت سي ًفا‪ ،‬فإذا أنا أج ُّره‪ ،‬قال‪ :‬فقيل له‪ :‬إنه عبدٌ ممل ٌ‬

‫________________‬
‫بالرقى ما لم يكن فيه شرك»‪.‬‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2200‬؛ كتاب السالم؛ باب «ال بأس ُّ‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2199‬؛ كتاب السالم؛ باب «استحباب ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪34‬‬

‫ا ْل َمتَا ِع(‪ ،)1‬قال‪ :‬وعرضت عليه رقي ًة كنت أرقي بها المجانين في الجاهلية‪ ،‬قال‪-‬ﷺ‪ :-‬ا ْط َر ْح‬
‫ِمن َْها ك ََذا َوك ََذا‪َ ،‬و ْار ِق بِ َما َب ِق َي»(‪.)2‬‬
‫ار َعةً‪،‬‬‫‪ -4‬قال جابر ﭬ‪ :‬إن النبي ﷺ قال ألسماء بنت عميس‪َ « :‬ما َش ْأ ُن َأ ْج َسا ِم َبنِي َأ ِخي َض ِ‬
‫ِ‬
‫اجة؟» قالت‪« :‬ال‪ ،‬ولكن تسرع إليهم العين‪ ،‬أفنرقيهم؟» قال‪-‬ﷺ‪َ « :-‬وبِ َما َذا؟»‪،‬‬ ‫َأتُصي ُب ُه ْم َح َ‬
‫فعرضت عليه‪ ،‬فقال‪-‬ﷺ‪ْ « :-‬ارقِ ِ‬
‫يه ْم»(‪.)3‬‬

‫الرقية بذاهتا دعاء وعبادة محضة‪ ،‬ولكي يكون هذا‬


‫ولقد رأى بعض العلماء عبر التاريخ أن ُّ‬
‫صحيحا؛ فإنه يجب عليهم أن يستد ُّلوا على ذلك بدليل ثابت صريح‪ ،‬أو بفهم للصحابة‬
‫ً‬ ‫القول‬
‫ﭫ‪ ،‬فاألصل يف العبادات المنع حتى يقوم دليل على مشروعيتها ألهنا توقيفية‪ ،‬فنسألهم‪ :‬هل‬
‫لديكم دليل ثابت صريح يد ُّل على صحة هذا الرأي؟ أم هو تأويل وفهم لألدلة؟ وهل هذا التأويل‬
‫ف ما أنزل اهلل به‬
‫والفهم مطابق لفهم الصحابة ﭫ والسلف الصالح رحمهم اهلل؟ أم هو فهم مخال ٌ‬
‫من سلطان؟‬

‫ال ُقرآن والحديث‪:‬‬

‫أما القرآن الكريم فليس فيه ما يد ُّل على أن ُّ‬


‫الرقية دعاء وعبادة محضة‪ ،‬وكذلك أحاديث‬

‫نص صريح يد ُّل أن ُّ‬


‫الرقية دعاء وعبادة‪ ،‬وقد أخطأ البعض االستدالل‬ ‫رسول اهلل ﷺ ليس فيها ٌّ‬
‫واالستنباط من بعض األحاديث‪ ،‬وسأبين ذلك الح ًقا يف هذا الفصل‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أثاث البيت‪.‬‬
‫(‪ )2‬مسند اإلمام أحمد «‪»21941‬؛ تتمة مسند األنصار؛ حديث عمير آبي اللحم‪ .‬ويف تحقيق طبعة الرسالة‪« :‬حديث صحيح»‪ .‬ورواه‬
‫الرتمذي يف سننه «‪»1557‬؛ أبواب السير؛ باب «هل يسهم للعبد؟»‪ ،‬وقال‪« :‬حديث حسن صحيح»‪ ،‬واللفظ ألحمد‪.‬‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»؛ حديث «‪ ،»2198‬وكذلك جاء‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم «‪»2198‬؛ كتاب «السالم»؛ باب «استحباب ُّ‬
‫يف مسند أحمد «‪»14571‬؛ مسند المكثرين من الصحابة‪ ،‬مسند جابر بن عبد اهلل ﭭ‪ ،‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫الرقية‬

‫الصحابة ﭫ‪:‬‬

‫الرقية دعاء‪ ،‬بل جاء يف موطأ اإلمام مالك ‪$‬‬


‫وأما الصحابة ﭫ فلم يرد عنهم ما يصرح أن ُّ‬
‫أن عائشة ڤ اسرتقت يهودي ًة‪ ،‬وأقرها على ذلك أبو بكر ﭬ‪ ،‬فعن عمرة رحمها اهلل «أن أبا بكر‬
‫دخل على عائشة ﭭ وهي تشتكي‪ ،‬ويهودي ٌة ترقيها‪ ،‬فقال‪ :‬ارقيها بكتاب اهلل»(‪ ،)1‬وهذا األثر‬
‫ضعفه بعض المعاصرين النعدام صيغة الرواية بين راوية األثر عمرة األنصارية رحمها اهلل وبين‬
‫عائشة ڤ‪ ،‬ولكن السابقين صححوا هذا األثر ولم يستنكروه بالرغم من ذلك‪ ،‬ولعل سبب ذلك‬
‫وجود قرائن متعلقة بروايات عمرة رحمها اهلل تؤدي إلى القبول؛ ولذا احتج به اإلمام الشافعي‬
‫‪ $‬لإلباحة؛ لما سئل عن استرقاء أهل الكتاب‪ ،‬وبين يف جوابه أنه ال يعرف من الصحابة من‬
‫خالف ذلك؛ فقال ‪ $‬عن هذا الحديث «وال أعلمكم تروون عن غيره من أصحاب النبي ﷺ‬
‫خالفه»(‪ ،)2‬وهذا نق ٌل من الشافعي إلجماع سكويت للصحابة على جواز االسترقاء من أهل الكتاب‪.‬‬

‫فهم السلف الصالح‪:‬‬

‫راضا أن حديث استرقاء عائشة ڤ باليهودية ضعيف ال يصح‪ ،‬بل لنبالغ‬ ‫أ‪ -‬لنسلم ً‬
‫جدال وافت ً‬
‫يف االفتراض ً‬
‫جدال أن الحديث مكذوب مختلق‪ ،‬فإن األمر الواضح الصحيح الصريح الذي وصل‬
‫أي‬
‫الرواة واألئمة من السلف الصالح مع هذا الحديث‪ ،‬فلم يرد ممن روى هذا األثر ُّ‬
‫إلينا هو تعامل ُّ‬
‫استنكار لهذا المتن والفعل‪ ،‬ومعظمهم من فقهاء السلف‪ ،‬وعلى رأسهم اإلمام الشافعي واإلمام‬
‫مالك‪ ،‬رحمهم اهلل جمي ًعا‪ .‬ولو كانت الرقية دعاء وعبادة محضة لما كان سيغيب عنهم استنكار‬
‫متن ينص على طلب عائشة ڤ الدعاء والعبادة من يهودية‪ ،‬وإقرار أبي بكر ﭬ على ذلك‪،‬‬

‫________________‬
‫والرقية يف‬
‫التعوذ ُّ‬
‫الرقى»‪ ،‬رواية الزهري «‪»1982‬؛ كتاب «الجامع»؛ باب « ُّ‬
‫(‪ )1‬موطأ اإلمام مالك؛ رواية الشيباين «‪»876‬؛ باب « ُّ‬
‫المريض»؛ رواية يحيى «‪»3472‬؛ كتاب «العني»؛ باب «التعوذ والرقية يف املرض»‪.‬‬
‫والنص بكامله يف صفحة ‪.36‬‬
‫ُّ‬ ‫الرقية؛‬
‫(‪ )2‬األ ُّم للشافعي؛ باب ما جاء يف ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪36‬‬

‫خاصة أنه من أبسط المسلمات والبدهيات أن العبادة ال تقبل من غير مسلم‪ ،‬والسبب يف ذلك هو‬
‫للرقية أنها دعاء أو عبادة‪.‬‬
‫بكل بساطة عدم فهمهم ُّ‬

‫ليس هذا فحسب‪ ،‬بل إن اإلمام الشافعي احتج هبذا الحديث كما ذكرت ساب ًقا‪ ،‬وهو كغيره من‬
‫مرسال فلإلمام الشافعي‬
‫ً‬ ‫حتج يف األحكام بضعيف‪ ،‬وإن كان هذا الضعيف‬
‫األئمة والمجتهدين ال ي ُّ‬
‫الرقية فقال‪ :‬ال‬
‫شرائط لقبوله ‪ ،‬فقد جاء يف كتاب األم عن الربيع بن سليمان‪« :‬سألت الشافعي عن ُّ‬
‫(‪)1‬‬

‫بأس أن يرقي الرجل بكتاب اهلل‪ ،‬وما يعرف من ذكر اهلل‪ ،‬قلت‪ :‬أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟‬
‫فقال‪ :‬نعم؛ إذا رقوا بما يعرف من كتاب اهلل أو ذكر اهلل‪ ،‬فقلت‪ :‬وما الحجة في ذلك؟ قال‪ :‬غير‬
‫حجة‪ ،‬فأما رواية صاحبنا وصاحبك فإن مال ًكا أخبرنا عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد‬
‫الرحمن «أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودي ٌة ترقيها‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬ارقيها بكتاب‬
‫اهلل»‪ ،‬فقلت للشافعي‪ :‬فإنا نكره رقية أهل الكتاب‪ ،‬فقال‪ :‬ولم؟! وأنتم تروون هذا عن أبي بكر وال‬
‫أعلمكم تروون عن غيره من أصحاب النبي ﷺ خالفه‪ ،‬وقد أحل اهلل جل ذكره طعام أهل الكتاب‬
‫الرقية إذا رقوا بكتاب اهلل مثل هذا أو أخف‪ ،)2(».‬وقول اإلمام الشافعي ‪$‬‬
‫ونساءهم‪ ،‬وأحسب ُّ‬
‫«وال أعلمكم تروون عن غيره من أصحاب النبي ﷺ خالفه» يد ُّل على‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الشافعي ‪ $‬رغم علمه الواسع فإنه لم يجد أي دليل يد ُّل على وجوب حصر االسترقاء‬
‫على المسلمين فقط‪ ،‬وال أي دليل يمنع استرقاء أهل الكتاب‪.‬‬

‫دليال يد ُّل على أن ُّ‬


‫الرقية دعاء أو عبادة ال تقبل إال من مسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬كذلك لم يجد ‪ً $‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬قال اإلمام النووي عن اإلمام الشافعي‪« :‬يحتج بالمرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور‪ :‬إما حديث مسند‪ ،‬وإما مرسل من طريق آخر‪،‬‬
‫وإما قول صحابي‪ ،‬وإما قول أكثر العلماء»‪ ،‬المجموع؛ باب «زكاة الذهب والفضة»‪ ،‬باب «قسم الصدقات»‪.‬‬
‫الرقية»‪.‬‬
‫(‪ )2‬األ ُّم للشافعي؛ باب «ما جاء يف ُّ‬
‫‪37‬‬ ‫الرقية‬

‫‪ -3‬بل إن قوله‪« :‬غير حجة» يف جوابه حين سئل‪« :‬وما الحجة في ذلك؟»‪ ،‬دليل على وجود أكثر‬
‫يصح االستدالل به فيما ذهب إليه‪.‬‬
‫من حجة ودليل عنده‪ ،‬وكلها مما ُّ‬
‫‪ -4‬كما أن هذا القول هو تصريح منه ‪ $‬بوجود إجماع سكويت من الصحابة ﭫ على جواز‬
‫استرقاء أهل الكتاب‪.‬‬

‫قائال‪« :‬وقد أحل اهلل جل ذكره طعام أهل الكتاب‬


‫واإلمام الشافعي ‪ $‬زاد يف تعليقه ً‬
‫الرقية إذا رقوا بكتاب اهلل مثل هذا أو أخف»‪ ،‬وهذا الكالم يحتاج إلى تأ ُّمل‬
‫ونساءهم‪ ،‬وأحسب ُّ‬
‫فطن شديد‪ ،‬إذ لو أن اإلمام الشافعي ‪ $‬قال إن الرقية من المباحات وليس من العبادات ألمكن‬
‫لمن يرى ضعف األثر أن يقول أن األثر ضعيف فما استنبط منه ال يحتج به‪ ،‬لكن ال يوجد يف األثر‬
‫واضح أن كالم‬
‫ٌ‬ ‫ما ُّ‬
‫يدل على أن الرقية مثل الطعام أو أخف منه حتى نتناقش حول صحة األثر‪ ،‬بل‬
‫نابع عن مفهوم واضح راسخ لديه ليس عنده فيه ريبة وال شك‪ ،‬فهل سنقول‪:‬‬
‫اإلمام الشافعي ‪ٌ $‬‬
‫الرقية مثل الطعام والنكاح أو أخف‬ ‫إن اإلمام الشافعي ‪ $‬يستهين بالدُّ عاء والعبادة‪ ،‬حيث يجعل ُّ‬
‫من ذلك؟! هل من المعقول أن يقول الرسول ﷺ‪َ « :‬ل ْي َس َش ْيء َأك َْر َم َع َلى الل ِ ُس ْب َحا َن ُه ِم َن‬
‫الدُّ عاء»(‪ ،)1‬وأن يقول الرسول ﷺ‪« :‬إِ َّن الدُّ عاء ُه َو ا ْل ِع َبا َد ُة»(‪)2‬؛ ثم يأيت الشافعي ‪ $‬ليهين من‬
‫الدُّ عاء وينزل مقداره؟ حاشا وكال‪ ،‬فاإلمام الشافعي ‪ $‬ال يمكن البتة أن يفعل شي ًئا كهذا‪ ،‬وإنما‬

‫قوله يد ُّل على أنه لم ير ُّ‬


‫الرقية دعاء وعبادة‪ ،‬بل طبا كغيره من أنواع العالجات‪.‬‬

‫ب‪ -‬نقل المازري ‪ $‬الخالف الذي وقع بين السلف يف استرقاء أهل الكتاب‪ ،‬وهذا النقل‬
‫الرقية ليست بدعاء أو عبادة‪ ،‬فيقول ‪« :$‬اختلف في استرقاء أهل الكتاب‪،‬‬
‫أيضا أن ُّ‬
‫يؤكد ً‬
‫فأجازها قو ٌم‪ ،‬وكرهها مال ٌك لئال يكون مما بدلوه‪ ،‬وأجاب من أجاز‪ :‬بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه‪،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه «‪»3829‬؛ أبواب «الدعاء»؛ باب «فضل الدعاء»‪ ،‬وحسنه األرناؤوط‪ ،‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الرتمذي «‪»3247‬؛ وقال‪« :‬حديث حسن صحيح»؛ وصححه ابن حبان والحاكم والمعاصرون ‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪38‬‬

‫وهو كالطب سوا ٌء‪ ،‬كان غير الحاذق ال يحسن أن يقول‪ ،‬والحاذق يأنف أن يبدل؛ حر ًصا على‬
‫استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته‪ ،‬والح ُّق أنه يختلف باختالف األشخاص واألحوال»(‪،)1‬‬
‫الحظ يف هذا النقل ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬لم يوجد عندهم خالف يف مبدأ استرقاء أهل الكتاب‪ ،‬وكراهة بعضهم لذلك هو بسبب‬
‫الخوف أن يرقوا بما بدلوه من كالم اهلل ‪ ‬يف كتبهم‪ ،‬وليس لمجرد كوهنم أهل كتاب‪.‬‬
‫‪ -2‬رأى بعضهم أن أهل الكتاب ال يمكن أن يرقوا بالمحرف ألنه لن يفيد‪ ،‬وهذا إباحة منهم‬
‫للرقية من الثابت فائدته يف الكتب السابقة‪ ،‬حيث ال يتوقعون تحريفه ما دام أنه مؤثر ومفيد‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -3‬ركز معي أخي القارئ على قول المازري ‪« :$‬وهو كالطب سوا ٌء»‪ ،‬وهذا إقرار واضح أن‬
‫ب خالص وليست بدعاء‪.‬‬
‫الرقية ط ٌّ‬
‫ُّ‬

‫جـ‪ -‬لو انتقلنا إلى تفسير اإلمام الطربي ‪ $‬وقرأنا بعض أقوال السلف يف قوله ﱡﭐ ﱠ ﱡﱢ‬

‫ﱣﱠ [القيامة‪ ،]27 :‬فسنجد من المعاين ما يلي‪:‬‬

‫• هل من طبيب شاف؟‬
‫• هو الطبيب‪.‬‬
‫• هل من مداو؟‬
‫• التمسوا له األطباء فلم يغنوا عنه من قضاء اهلل شي ًئا‪.‬‬
‫الرقاة؟‬
‫• أين األطباء و ُّ‬

‫ويف تفسير ال ُّتستري‪ :‬هل من طبيب يداوي؟‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬نقله ابن حجر يف فتح الباري يف مقدمة شرح «قوله باب الرقى»‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫الرقية‬

‫خاص للدعوات‪ ،‬يذكر‬


‫ٌّ‬ ‫كتاب‬
‫ٌ‬ ‫د‪ -‬ويف صحيح البخاري‪ ،‬وقد بوب البخاري ‪ $‬كتابه بنفسه‪،‬‬
‫خاص للطب‪ ،‬يذكر فيه األحاديث الواردة يف‬
‫ٌّ‬ ‫وكتاب آخر‬
‫ٌ‬ ‫فيه البخاري ما ورد من الدُّ عاء واألذكار‪،‬‬
‫الرقية‪ ،‬كذلك يذكرها يف كتاب اإلجارة‪.‬‬
‫التط ُّبب‪ ،‬ويف هذا الكتاب يذكر األحاديث المتعلقة ب ُّ‬

‫هـ‪ -‬جاء يف حديث ضعيف(‪ )1‬أن زينب ڤ زوجة ابن مسعود ﭬ ذهبت إلى يهودي‬
‫وأيضا لم يستنكر‬
‫يرقيها‪ ،‬روى هذا الحديث عدة محدثين فقهاء‪ ،‬من أبرزهم اإلمام أحمد ‪ً ،$‬‬
‫أي نكارة‪.‬‬
‫أي أحد منهم هذا المتن‪ ،‬ألنه ليس يف ذلك ُّ‬
‫ُّ‬

‫فالخُ َلصة‪ :‬أنه ال يوجد أي دليل ُّ‬


‫يدل على أن الصحابة ﭫ والسلف الصالح رحمهم اهلل‬
‫فهموا أن الرقية دعاء أو عبادة محضة‪ ،‬بل إن األدلة والقرائن تدل على أهنم فهموا أهنا طريقة طبية‬
‫ومداواة بشرية‪ ،‬ومن زعم عكس ذلك فإن عليه البينة‪.‬‬

‫الرقية بذاتها ليست ُدعاء أو ِعبادة محضة‪:‬‬ ‫و ْل ُنطالِ ْع بعض األمور األخرى التي ُتثبِت َّ‬
‫أن ُّ‬

‫‪ -1‬لم يعرف الصحابة ﭫ أن سورة الفاتحة رقية‪ ،‬ولم يعلمهم رسول اهلل ﷺ ذلك ابتدا ًء‪ ،‬بل‬
‫عرفوا ذلك بالفكرة والتجربة‪ ،‬وذلك يف الحديث المشهور عن أبي سعيد الخدري ﭬ‪،‬‬
‫ب‪،‬‬
‫يم(‪ ،)2‬وإن نفرنا غي ٌ‬
‫قال‪ :‬كنا في مسير لنا‪ ،‬فنزلنا‪ ،‬فجاءت جاريةٌ‪ ،‬فقالت‪ :‬إن سيد الحي سل ٌ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬له عدة روايات‪ ،‬منها ما جاء يف سنن أبي داوود «‪ »3883‬عن زينب امرأة عبد اهلل ‪-‬ابن مسعود ﭭ‪ -‬عن عبد اهلل ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬سمعت‬
‫الرقى‪َ ،‬والت ََّمائِ َم‪َ ،‬والت َو َل َة ِش ْرك»‪ ،‬قالت‪ :‬قلت‪ :‬لم تقول هذا؟ واهلل لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى‬
‫رسول اهلل ﷺ يقول‪« :‬إِنَّ ُّ‬
‫فالن اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت‪ ،‬فقال عبد اهلل‪ :‬إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها‪ ،‬إنما كان‬
‫الشافِي‪َ ،‬ال ِش َفاء إِ َّال ِشفَاؤُ َك ِش َفاء َال يغ ِ‬ ‫ب ا ْلب ْأس رب النَّاس‪ْ ،‬اش ِ‬
‫ف َأن َ‬ ‫ِ‬
‫َاد ُر‬ ‫ً ُ‬ ‫َ‬ ‫ْت َّ‬ ‫يكفيك أن تقولي كما كان رسول اهلل ﷺ يقول‪َ « :‬أ ْذه ِ َ َ َ َّ‬
‫الرواة‪ ،‬أما قول‬ ‫َس َق ًما»‪ ،‬وكل الروايات التي جاء فيها أن زينب ڤ ذهبت إلى يهودي تسرتقيه ضعيفة لجهالة ابن أخيها وهو أحد ُّ‬
‫الشافِي‪َ ،‬ال ِش َفا َء إِ َّال ِشفَاؤُ َك ِش َفا ًء‬ ‫اش ِ‬
‫ف َأن َ‬
‫ْت َّ‬ ‫الرقى‪َ ،‬والت ََّمائِ َم‪َ ،‬والت َو َل َة ِش ْرك» وقوله ‪َ « :‬أ ْذ ِه ِ‬
‫ب ا ْل َب ْأ َس َر َّب النَّاس‪ْ ،‬‬ ‫الرسول ﷺ‪« :‬إِنَّ ُّ‬
‫َاد ُر َس َق ًما» فصحيح لغيره يف أحاديث أخرى‪.‬‬ ‫َال يغ ِ‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫تفاؤال‪.‬‬ ‫يم‪ :‬لديغ أو مريض‪ ،‬يقال له‪« :‬سليم»‬
‫(‪ )2‬سل ٌ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪40‬‬

‫فهل منكم راق؟ فقام معها رج ٌل ما كنا نأبنه برقية(‪ ،)1‬فرقاه فبرأ‪ ،‬فأمر له بثالثين شاةً‪ ،‬وسقانا‬
‫لبنًا‪ ،‬فلما رجع قلنا له‪ :‬أكنت تحسن رقي ًة أو كنت ترقي؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ما رقيت إال بأم الكتاب‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬ال تحدثوا شي ًئا حتى نأتي ‪-‬أو نسأل‪ -‬النبي ﷺ‪ ،‬فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي ﷺ‬
‫ِ‬ ‫يه أنَّها ُر ْق َية؟ ا ْق ِس ُموا َو ْ‬
‫َان يدْ ِر ِ‬
‫اضرِ ُبوا لي بِ َس ْه ٍم» ‪ .‬فإن كانت ُّ‬
‫الرقية عام ًة‬ ‫فقال‪َ « :‬و َما ك َ ُ‬
‫(‪)2‬‬

‫وبسورة الفاتحة خاص ًة عبادةً؛ فلماذا ترك رسول اهلل بدء التبيين بنفسه أن سورة الفاتحة رقية؟‬
‫الرقية دعاء وعبادة فكأنه يتهم رسول‬
‫لماذا ترك ﷺ ذلك لالجتهاد البشري؟ ومن يقول بأن ُّ‬
‫اهلل ﷺ بالتقصير يف تعليم العبادات والعياذ باهلل‪.‬‬
‫‪ -2‬واضح من روايات الحديث السابق أن الصحابة ﭫ لم يكن عندهم إشكال يف أخذ األجر‬
‫أمرا شائ ًعا وعاديا مثل أجرة أي طبيب‪ ،‬وإنما وقعت ُّ‬
‫الشبهة عندهم‬ ‫الرقية‪ ،‬بل كان هذا ً‬
‫على ُّ‬
‫لسببين‪:‬‬
‫الرقية قبل البدء؛ بقوله‪:‬‬
‫السبب األول‪ :‬أن الصحابي الراقي ﭬ اشرتط األجرة مقابل ُّ‬
‫َّ‬
‫«فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جع ًال»(‪ ،)3‬كما يف الرواية األخرى يف صحيح البخاري‪،‬‬
‫الرقية‪ ،‬حيث قال الصحابة ﭫ‪« :‬ما كنا نأبنه‬
‫وهذا الشرط اشرتطه بالرغم من عدم معرفته ب ُّ‬
‫برقية»‪ ،‬كذلك لم يكن يعرف أن سورة الفاتحة رقية‪ ،‬فخشوا أن يكونوا اكتسبوا ً‬
‫ماال على شيء‬
‫لم يعملوه‪ ،‬ولم يكونوا مؤهلين له‪ ،‬فظنُّوه حرا ًما ‪-‬بعكس الكثير يف زماننا ممن يدعي أنه يعلم‬
‫كل شيء‪ ،‬ومستعدٌّ لعمل أي شيء؛ حتى إن لم يكن عنده ما يؤهله لذلك‪ ،‬وهذا من عدم‬
‫المباالة يف الحرام والحالل‪ ،‬واهلل المستعان‪.-‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬ما كنا نأبنه برقية‪ :‬ما كنا نعلم أنه يرقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5007‬؛ كتاب «فضائل القرآن»؛ باب «فضل فاتحة الكتاب»‪.‬‬
‫الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب»‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري «‪»2156‬؛ كتاب اإلجارة؛ باب «ما يعطى يف ُّ‬
‫‪41‬‬ ‫الرقية‬

‫السبب الثاين‪ :‬أنهم أخذوا ً‬


‫ماال على قراءة القرآن كما يف الرواية األخرى عن ابن عباس‪:‬‬
‫يم‪ ،‬فعرض لهم رج ٌل من أهل‬ ‫أن نف ًرا من أصحاب النبي ﷺ م ُّروا بماء‪ ،‬فيهم لد ٌ‬
‫يغ أو سل ٌ‬
‫يما‪ ،‬فانطلق رج ٌل منهم‪ ،‬فقرأ‬
‫الماء‪ ،‬فقال‪ :‬هل فيكم من راق‪ ،‬إن في الماء رج ًال لدي ًغا أو سل ً‬
‫بفاتحة الكتاب على شاء‪ ،‬فبرأ‪ ،‬فجاء بالشاء إلى أصحابه‪ ،‬فكرهوا ذلك وقالوا‪ :‬أخذت على‬
‫كتاب اهلل أج ًرا‪ ،‬حتى قدموا المدينة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أخذ على كتاب اهلل أج ًرا‪ ،‬فقال‬
‫َاب الل ِ»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َّن َأ َح َّق َما َأ َخ ْذت ُْم َع َل ْيه َأ ْج ًرا كت ُ‬
‫الرقية؟ أي‬
‫ومن المعلوم أنه ال يشرع أخذ األجرة على الدُّ عاء‪ ،‬فكيف حل أخذها على ُّ‬
‫الرقية إن كانت‬ ‫أنه ال يشرع أن يطلب منك شخص ً‬
‫ماال مقابل الدُّ عاء لك‪ ،‬فكيف جاز ذلك يف ُّ‬
‫الرقية ليست دعاء‪ .‬وقد استدل كثير من الفقهاء هبذا الحديث يف أبواب‬
‫دعاء؟ والجواب‪ :‬أن ُّ‬
‫اإلجارة والجعالة(‪ ،)2‬ومعلوم أن اإلجارة والجعالة غير مشروعة يف الدُّ عاء‪ ،‬وهل من خير يف‬
‫دعاء إنسان مستأجر للدعاء؟‬
‫الرقية السابق على جواز أخذ األجرة على تعليم القرآن‬ ‫‪ -3‬استدل بعض الفقهاء من حديث ُّ‬
‫َاب الل ِ»‪ ،‬فكان من ردود الفقهاء اآلخرين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لعموم قوله ﷺ‪« :‬إِ َّن َأ َح َّق َما َأ َخ ْذت ُْم َع َل ْيه َأ ْج ًرا كت ُ‬
‫على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫الرقية‪ -‬وبين ما اختلف فيه ‪-‬من تعليم‬ ‫أ‪ -‬يقول ابن قدامة الحنبلي‪« :‬والفرق بينه ‪-‬أي‪ُّ :‬‬
‫الرقية ن َْو ُع ُمدَ َاو ٍاة‪ ،‬والمأخوذ عليها جع ٌل‪ ،‬والمداواة يباح أخذ األجر‬
‫القرآن وغيره‪ ،-‬أن ُّ‬
‫عليها‪ ،‬والجعالة أوسع من اإلجارة‪ ،‬ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة»(‪.)3‬‬

‫________________‬
‫الرقية بقطيع من الغنم»‪.‬‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5405‬؛ كتاب الطب؛ باب «الشرط يف ُّ‬
‫(‪ )2‬جاء يف كتاب العين للفراهيدي‪« :‬والجعل‪ :‬ما جعلت إلنسان أجر ًا له على عمل يعمله‪ ،‬والجعالة أيضا»‪.‬‬
‫ص فاعلها بكونه من أهل القربة ‪-‬أي‪:‬‬
‫(‪ )3‬المغني البن قدامة؛ فصل «ما التجوز إجارته»؛ فصل «حكم اإلجارة في القرب التي يخت ُّ‬
‫الرقية من أهل القربة فقط‪ ،‬وليس يف كالمه أبدً ا ما يد ُّل على ذلك‪.‬‬
‫المسلمين‪ .»-‬ولم يشرتط ابن قدامة يف كتابه أن تكون ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪42‬‬

‫الرقية ليست ب ُقربة محضة فجاز‬


‫الحنفي يف أحد أجوبته على ذلك‪ُّ « :‬‬
‫ُّ‬ ‫ب‪ -‬ويقول أبو حفص‬
‫أخذ األجرة»(‪.)1‬‬
‫ج‪ -‬ويذكر ابن رشد المالكي ردا آخر فيقول‪« :‬وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن‬
‫فقالوا‪ :‬هو من باب الجعل على تعليم الصالة‪ .‬قالوا‪ :‬ولم يكن الجعل المذكور يف‬
‫الرقى بالقرآن أو غيره؛‬
‫الرقى‪ ،‬وسواء أكان ُّ‬
‫اإلجارة على تعليم القرآن‪ ،‬وإنما كان على ُّ‬
‫االستئجار عليه عندنا جائز كال ِعَلجات‪ .‬قالوا‪ :‬وليس واج ًبا على الناس‪ ،‬وأما تعليم‬
‫القرآن فهو واجب على الناس»(‪.)2‬‬
‫الرقية موجود ٌة من قبل اإلسالم كطريقة طبية وعلم دنيوي‪ ،‬أقرها رسول اهلل‬
‫‪ -4‬ومن المعلوم أن ُّ‬
‫ٌ‬
‫شرك كما سبق بيانه‪ ،‬وكانت موجودة يف جزيرة العرب‬ ‫ﷺ بألفاظها وأفعالها‪ ،‬مالم يكن هبا‬
‫وخارجها‪ ،‬وال زالت موجودة لدى األمم األخرى بلغات أصحاهبا وحسب ثقافتهم‪.‬‬
‫الرقية‪« :‬وكان عند العرب من هذا الطب كثير‪ ،‬وكان فيهم أطباء‬
‫‪ -5‬قال ابن خلدون يف مقدمته عن ُّ‬
‫ب المنقول يف الشرعيات من هذا القبيل‪ ،‬وليس من‬
‫معروفون كالحارث بن كلدة وغيره‪ .‬والط ُّ‬
‫الوحي يف شيء(‪ ،)3‬وإنما هو أمر كان عاديا للعرب‪ ،‬ووقع يف ذكر أحوال النبي ﷺ من نوع ذكر‬
‫أحواله التي هي عادة و جبلة‪ ،‬ال من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل»(‪.)4‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الغرة المنيفة يف تحقيق بعض مسائل اإلمام أبي حنيفة؛ لعمر بن إسحاق بن أحمد الهندي الغزنوي سراج الدين ‪-‬أبو حفص الحنفي‪-‬‬
‫«المتوفى‪773 :‬هـ»؛ كتاب اإلجارة‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد وهناية المقتصد؛ ابن رشد الحفيد القرطبي «المتوفى‪595 :‬هـ»‪.‬‬
‫(‪ )3‬يقصد أنه ليس من العبادات يف شيء‪.‬‬
‫(‪ )4‬مقدمة ابن خلدون؛ الكتاب األول؛ الباب السادس؛ الفصل الخامس والعشرون «يف علم الطب»‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقية ُدعاء؟‪:‬‬
‫َمن جعل ُّ‬

‫الرقية دعاء وعبادة محضة‪ ،‬وكما ذكرت‬


‫لم أستطع الوقوف على أول من قال من العلماء بأن ُّ‬
‫السنة أو فهم الصحابة ما يد ُّل صراحة على ذلك‪ ،‬وإنما هو استنتاج‬
‫فإنه ليس هناك من القرآن أو ُّ‬
‫تنص على أن‬
‫واجتهاد بشري من بعض العلماء األفاضل والفقهاء المجتهدين‪ ،‬والقاعدة الفقهية ُّ‬
‫للرقية أنها دعاء‪ ،‬لكن‬
‫تصورهم وفهمهم ُّ‬
‫تصوره‪ ،‬وهؤالء العلماء كان ُّ‬
‫الحكم على الشيء فرع عن ُّ‬
‫ف لفهم السلف الصالح رحمهم اهلل كما‬
‫هذا الفهم والحكم قد جانب الصواب‪ ،‬بل هو مخال ٌ‬
‫ذكرت‪ .‬وأغلب العلماء يف زماننا مقلدون لمن سبقهم يف هذا القول‪ ،‬وال يالمون على ذلك‪ ،‬بل من‬
‫حق العالم أن يقلد فيما لم يستطع االجتهاد فيه أو استيعابه‪ ،‬وقد تكون هناك عدة أسباب أدت لهذا‬
‫الفهم‪ ،‬منها‪:‬‬

‫الرقية نوع من التع ُّبد بالقرآن‪ ،‬فحصل خلط بين‬


‫الرقية‪ ،‬فظنوا أن ُّ‬
‫‪ -1‬استعملت اآليات القرآنية يف ُّ‬
‫الرقية والتالوة‪ ،‬وهذا خطأ فاحش‪ ،‬إذ إن التع ُّبد بتالوة القرآن الكريم يكون كما شرعه اهلل‪،‬‬
‫ُّ‬
‫وعلمنا إياه رسوله ﷺ‪ ،‬وطريقة تالوته نقلت إلينا عن طريق األئمة القراء‪ ،‬وللتالوة والترتيل‬
‫أحكام وقواعد يلتزم هبا‪ ،‬ويجب أن يصاحبها نية التع ُّبد واالقتداء‪ ،‬كما أنها تستدعي التد ُّبر‬
‫والتف ُّكر يف اآليات‪ ،‬وال تقبل إال من مسلم‪ ،‬ويثاب القارئ على كل حرف يقرأه عشر‬
‫حتمي وبركة تح ُّل على القارئ‪ ،‬وكل ما يتعلق به من صحة ومال‬
‫ٌّ‬ ‫حسنات‪ ،‬وللتالوة أثر‬
‫وممتلكات وأعمال وأهل‪ ،‬مثل بركة سائر الطاعات‪.‬‬
‫الرقية فلم يرد أن اهلل شرعها‪ ،‬وال تحتاج إلى نية‪ ،‬كذلك ال يشرتط لتأثيرها أن ينوى‬
‫أما ُّ‬
‫فيها أنها رقية وعالج(‪ ،)1‬فمجرد القراءة أو السماع بال نية قد يكون مؤث ًرا‪ ،‬وال يلزمها قواعد‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬النية عامل مؤثر يزيد يف نجاح التأثير‪ ،‬لكن ليست شر ًطا للتأثير‪ ،‬مثل سائر األدوية‪ ،‬فال يحتاج عند أخذك دوا ًء معينًا أن تنوي التعالج‬
‫الرقية=‬
‫كثيرا من شرائط وملفات ُّ‬
‫به‪ ،‬وال حين تعطي الدواء للمريض فال يشرتط أنك تنوي عالج المريض‪ ،‬ولو الحظت لوجدت ً‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪44‬‬

‫الرتتيل والتجويد‪ ،‬وكلماهتا تختار بال ترتيب‪ ،‬وذلك حسب األلفاظ أو المعاين أو الفضائل‪،‬‬
‫وقد تكون بغير القرآن‪ ،‬وقد تجد رقية مختلطة هبا آيات من القرآن مع كلمات أخرى ليست‬
‫من القرآن‪ ،‬وتأثيرها غير حتمي‪ ،‬فقد يستفيد المريض وقد ال يستفيد‪ ،‬ولم يشرتط فيها أن‬
‫يكون الراقي مسل ًما‪.‬‬
‫وكثير من العلماء الذين حرموا تالوة القرآن لمن أصابه الحدث األكرب؛ أجازوا قراءته‬
‫شخصا قرأ القرآن بنية التع ُّبد‪ ،‬ونوى أن تكون تالوته‬
‫ً‬ ‫كرقية(‪ ،)1‬ففرقوا بين االثنين‪ .‬لكن لو أن‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫الرقية أنها تالوة وعبادة‪ .‬ولو أن‬
‫رقية‪ ،‬فإن ذلك سيكون تالوة ورقية‪ ،‬وال يعمم على ُّ‬
‫والرقية‪ ،‬فإن ذلك‬
‫قرأ كتب الحديث النبوي أو العلوم الشرعية أو استمع إليها بنية االستفادة ُّ‬
‫يكون تع ُّل ًما ورقية‪ُّ ،‬‬
‫فالرقية بذاهتا هي المداواة باأللفاظ مهما كان مصدر هذه األلفاظ‪.‬‬
‫الرقى تأيت كلماهتا بصيغ‬
‫كثيرا من ُّ‬
‫الرقية‪ ،‬من أسباب ذلك أن ً‬
‫‪ -2‬حصل خلط بين الدُّ عاء و ُّ‬
‫الرقية نوع من الدُّ عاء‪ ،‬لكن هذا سبب غير صحيح‪ ،‬فهناك ر ًقى اشتهرت عند‬
‫الدُّ عاء‪ ،‬فظن أن ُّ‬
‫العرب بكلمات ال تحوي أي دعاء‪ ،‬مثل‪« :‬العروس تحتفل‪ ،‬وتقتال وتكتحل‪ ،‬غير أال تعصي‬
‫الرجل»(‪ ،)2‬كذلك مثل قولهم‪« :‬شجة قرنية‪ ،‬ملحة بحري قفطي»(‪ ،)1‬وهاتان وإن لم نجد سندً ا‬

‫________________‬
‫بالرقية‪ ،‬وهم لم يرقوا‪ ،‬بل قام المنتج بتقطيع‬
‫=المؤثرة عبارة عن تجميع آليات لبعض القراء غير المتخصصين وغير المهتمين ُّ‬
‫اآليات من تالوات كاملة لهؤالء القراء‪ ،‬كذلك تجد بعض المستمعين ليس عنده نية التعالج واالسترقاء‪ ،‬لكن مع ذلك يتأثر بمجرد‬
‫الرقاة لألسف معروفون بحبهم للمال وللسعي وراءه‪ ،‬ورقتيهم من أجل المال‪ ،‬ومع ذلك‬
‫للرقية‪ .‬ويالحظ كذلك أن بعض ُّ‬
‫سماعه ُّ‬
‫فإن رقيتهم تؤثر وتفيد المرضى‪.‬‬
‫(‪ )1‬مثلما جاء يف المختصر للخليل بن إسحاق حيث قال‪« :‬وتمنع الجنابة موانع األصغر والقراءة إال كآية لتع ُّوذ ونحوه»؛ باب «يف أحكام‬
‫أيضا مذهب الشافعية‪.‬‬
‫الطهارة وما يناسبها»؛ فصل «يف أحكام الغسل»‪ .‬وهذا ً‬
‫الرقية إلى الشفاء ڤ‪ ،‬لكن ذلك إسنا ٌد ال أصل له‪،‬‬
‫(‪ )2‬العين للفراهيدي؛ باب الالم والنون والميم معهما؛ نمل‪ ،‬وقد نسبت هذه ُّ‬
‫ونسبت أي ًضا إلى عمر بن العزيز ‪ $‬بإسناد ضعيف‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫الرقية‬

‫دليل على إقرار ال ُّلغويين أن ُّ‬


‫الرقية قد‬ ‫صحيحا لمصدرهما؛ إال أن إيرادهما يف كتب ال ُّلغة ٌ‬
‫ً‬
‫اب‬
‫تكون كال ًما عاما بال دعاء‪ ،‬وكذلك رقية‪« :‬بسم اهلل حب ٌس حاب ٌس‪ ،‬وحج ٌر ياب ٌس‪ ،‬وشه ٌ‬
‫قاب ٌس‪ ،‬رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه‪ :‬ﱡﭐ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ‬

‫[الملك‪ ،)2(»]3:‬فهذه كذلك ليس هبا دعاء‪ ،‬فقد اختلف يف البسملة إن كانت دعاء أم ال‪،‬‬
‫والمعيون يف هذه الرقية يزعم رد العين بنفسه‪ ،‬ويتعدى يف الرد إلى غير العائن‪ ،‬حيث رد العين‬
‫على أقرب الناس إلى العائن ممن ليس له ذنب وال وزر يف العين‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬روى الطرباين يف األوسط «‪ »10050‬بإسناد ضعيف عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬ذكر عند النبي ﷺ رقي ٌة من الحمة‪ ،‬فقال‪« :‬اعرضوها‬
‫علي» فعرضوها عليه‪ :‬بسم اهلل‪ ،‬شجة قرنية‪ ،‬ملحة بحر قفطا‪ ،‬فقال‪« :‬هذه مواثيق أخذها سليمان ‪-‬ڠ‪ -‬على الهوام‪ ،‬ال أرى بها‬
‫بأ ًسا»‪ ،‬وأوردها الفراهيدي يف العين؛ باب القاف والطاء والفاء معهما؛ قفط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فص ٌل «ذكر رقية تر ُّد العين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪46‬‬

‫شخصا دعا اهلل بدعوات‪ ،‬ونوى أن تكون كلمات الدُّ عاء كذلك رقية‪ ،‬فهل‬
‫ً‬ ‫لكن لو أن‬

‫الرقية دعاء وعبادة؟ الجواب‪ :‬أنه يكون دعاء ورقية‪ ،‬وذلك مثل ما ذكرت من قبل عن‬
‫تصبح ُّ‬
‫تالوة القرآن وقراءة األحاديث‪ ،‬ويمكن أن نضرب المثال كذلك بالشعر‪ ،‬فلو أن أحدً ا دعا‬

‫بأبيات شعرية بمثل ما دعا به الرسول ﷺ فقال‪:‬‬

‫َو َال ت ََصدَّ ْقنَا َو َال َص َّل ْينَا‬ ‫ْت َما ْاهتَدَ ْينَا‬ ‫ال َّل ُه َّم َل ْو َال َأن َ‬
‫َ (‪)1‬‬ ‫و َثب ِ‬
‫ت ْاألَ ْقدَ ا َم إِ ْن َالق ْينَا‬ ‫َع َل ْينَا‬ ‫َسكِينَ ًة‬ ‫َف َأن ِْز َل ْن‬
‫َ‬

‫فهل هذا دعاء أم شعر؟ الجواب‪ :‬أنه دعاء وشعر وحديث‪ ،‬وال يقال‪ :‬إن الشعر بعمومه وذاته‬
‫أصبح دعاء وعبادة لمجيء شعر دعا ًء‪ ،‬كما ال يقال‪ :‬إن الشعر «عبادة»؛ ألن الرسول ﷺ‬
‫ردده‪ ،‬كذلك إن دعا شخص ونوى أن يكون دعاؤه رقية فهو إ ًذا دعاء ورقية‪ ،‬وال يعمم على‬
‫الرقية أنها كلها دعاء وعبادة‪ ،‬وإن قرأ راق رقية نبوية بألفاظ الدُّ عاء فنقول‪ :‬إنها رقية ودعاء‬
‫ُّ‬
‫ٌ‬
‫ومثال آخر‪ :‬لو أن أصحاب‬ ‫الرقى‪.‬‬
‫وسنة نبوية‪ ،‬وال نعمم مصطلح الدُّ عاء والعبادة على كل ُّ‬
‫المعازف والغناء والرقص حولوا كلماهتم إلى الدُّ عاء فقط‪ ،‬فسيبقى عملهم يسمى عز ًفا‬
‫ورق ًصا؛ حتى لو غيروا مسمياهتا إلى الدُّ عاء واالبتهال‪ ،‬وال يمكن بأي حال تسمية عملهم‬
‫«دعاء» أو شي ًئا تع ُّبديا‪.‬‬
‫‪ -3‬ولقد ظن البعض أنها عبادة ألن رسول اهلل ﷺ فعلها وأقرها؛ والجواب‪ :‬أنه ليس ُّ‬
‫كل ما عمله‬
‫رسول اهلل ﷺ يدخل يف باب العبادات واألمور التع ُّبدية‪ ،‬بل هناك ما يسمى بباب العادات‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الشعر للصحابي الجليل عبد اهلل بن رواحة ﭬ‪ ،‬وكان الرسول ﷺ يردده يف غزوة الخندق‪ ،‬صحيح البخاري «‪»3880‬؛ كتاب‬
‫«الجهاد والسير»؛ باب «غزوة الخندق»‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫الرقية‬

‫والعاديات‪ ،‬ومن ذلك األخذ باألسباب الدُّ نيوية‪ ،‬مثل ملبسه ومأكله وتط ُّببه بال ُّطرق األخرى‬
‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫الرقية يف ال ُّلغة أال وهو‪ :‬العوذة‪ ،‬والعوذة من االلتجاء‪،‬‬
‫‪ -4‬وبعضهم لعله رجع إلى ما يرادف ُّ‬
‫خاطئ‪ ،‬ألن المطالع للتعريفات‬
‫ٌ‬ ‫ومعلوم أن االلتجاء باهلل دعاء وعبادة‪ ،‬لكن هذا االستدالل‬
‫األخرى للرقية وتطبيقاهتا من قبل الرسول ﷺ والصحابة ﭫ ثم السلف الصالح رحمهم‬
‫اهلل؛ يتبين له أن الرقية أشمل وأعم من العوذة أو االستعاذة‪ ،‬والحقيقة العرفية مقدمة يف‬
‫االتباع‪ ،‬وال عربة حينئذ للحقيقة ال ُّلغوية من معنى الكلمة وما يرادفها‪ ،‬وال بما كان يفهمه‬
‫بعض عرب الجاهلية‪.‬‬
‫الرقية أنها «كالم يستشفى به من كل عارض»(‪ ،)1‬واالستشفاء طلب الشفاء‪،‬‬
‫‪ -5‬جاء يف تعريف ُّ‬
‫وذلك ال يكون إال من اهلل‪ ،‬وذلك دعاء وعبادة‪ ،‬وهذا فهم خاطئ للتعريف‪ ،‬إذ إن العرب‬
‫كانت تضع الشفاء موضع العالج‪ ،‬ويستشفى به أي يعالج به‪ ،‬ولو فتحت كتب مفردات ال ُّلغة‬
‫كثيرا من األدوية واألعشاب ذكر أنه يستشفى هبا(‪ ،)2‬والمعنى‪ :‬أنه يعالج هبا‪ ،‬بل‬
‫لوجدت أن ً‬
‫الرقية من العالجات والمداواة مثل غيرها ال فرق بينهم‪ ،‬وليست‬
‫إن هذا التعريف تأكيد أن ُّ‬
‫دعاء أو عبادة‪.‬‬

‫للرقية ضاب ًطا خاصا‪ ،‬جعل البعض يظ ُّن أن ُّ‬


‫الرقية من العبادات‪،‬‬ ‫‪ -6‬كون الرسول اهلل ﷺ وضع ُّ‬
‫وهذا خطأ كبير‪ ،‬والحقيقة أن الضابط الذي وضعه رسول اهلل ﷺ دليل على شمولية اإلسالم‬
‫وضبطه لجميع أمور الحياة‪ ،‬وقد حدد اإلسالم معايير لكل شيء نفعله يف حياتنا‪ ،‬سواء كان‬

‫________________‬
‫الرقية على أحياء العرب»‪.‬‬
‫نقال عن ابن درستويه؛ شرح باب «ما يعطى يف ُّ‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر ً‬
‫مثال يف العين للفراهيدي باب الجيم والراء‪« :‬واليارج‪ :‬من األدوية‪ ،‬م ٌّر يستشفى به لحدة النظر»‪ ،‬ويف المخصص ألبي الحسن‬
‫(‪ً )2‬‬
‫جر بعينه يستشفى به من الرمد»‪ ،‬وتعريف الكحل يف المعجم الوسيط‪« :‬كل ما وضع في العين يستشفى به‬
‫المرسي‪« :‬وقيل‪ :‬الحلوء ح ٌ‬
‫مما ليس بسائل‪ ،‬كاإلثمد ونحوه»‪ ،‬وغير ذلك كثير‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪48‬‬

‫فمثال البيع والشراء جعل له اإلسالم ضوابط وقوانين‪ ،‬فهل يسمح لنا‬
‫هذا الشيء عبادة أم ال‪ً .‬‬
‫الرقية‬
‫ذلك أن نجعل البيع والشراء من العبادات‪ ،‬وما أفقه اإلمام الشافعي ‪ $‬حين شبه ُّ‬
‫بالطعام والنكاح(‪ ،)1‬فجميع البشر يطعمون ويتناكحون‪ ،‬لكن اإلسالم جعل ضوابط للطعام‪،‬‬
‫فال تأكل أو تشرب ما حرم اهلل‪ ،‬وطريقة الطعام لها آداب وأوامر ال بد من االلتزام هبا‪ ،‬وكذا‬
‫النكاح له شروط وواجبات‪ ،‬والجماع له ضوابط وتقييدات‪ ،‬بل حتى إن دخول الحمام وما‬
‫تفعله داخل الحمام ضبطه اإلسالم وقننه‪.‬‬
‫الرقية عبادة؛ ألنهم قالوا‪:‬‬
‫الرقية؛ جعل البعض يظ ُّن أن ُّ‬
‫‪ -7‬كون الرسول ﷺ هنى عن الشرك يف ُّ‬
‫الرقية مدارها على‬
‫«إن الشرك ال يكون إال يف العبادات»‪ ،‬وهذا فهم خاطئ بالكلية‪ ،‬حيث إن ُّ‬
‫األلفاظ وأساسها الكلمات‪ ،‬وقد يقع الشرك والكفر يف اللفظ من دون أن يكون دعاء أو‬
‫عبادة‪ ،‬كقول قائل‪« :‬أنا ملك األمالك»(‪ ،)2‬وكقول قائل‪« :‬قويت مثل قوة اهلل»‪ ،‬فإن هذه األلفاظ‬
‫شرك وليست بعبادة‪ ،‬وقد تكون بعض األلفاظ من طالسم السحر‪ ،‬والسحر كفر كما نعلم‪،‬‬
‫الرقى؛ ألنه عليه الصالة والسالم كان يفعل ذلك‪،‬‬ ‫يقول فخر الدين الزيلعي ‪« :$‬وال بأس ب ُّ‬
‫ول على رقى الجاهلية إذ كانوا يرقون بِك َِلم ِ‬
‫ات ُك ْفرٍ»(‪،)3‬‬ ‫وما جاء فيه من النهي عنه؛ محم ٌ‬
‫َ‬
‫كذلك علق الدسوقي يف حاشيته‪« :‬لئال تكون َأ ْل َفا ًظا ُمكَف َر ًة»(‪ ،)4‬وذلك كحال الشعر قد يقع يف‬
‫كلماته الشرك أو ألفاظ كفر أو مخالف ٌة لقيم اإلسالم وأخالقه‪ ،‬فهل يسوغ لنا ذلك االدعاء بأن‬
‫الشعر كله عبادة لوقوع الشرك فيه؟ قد يقع الشرك والكفر يف القصص المروية والمقاالت‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬راجع النص يف صفحة ‪.36‬‬
‫الق َي َام ِة ِعنْدَ اللِ َر ُجل ت ََس َّمى َم ِل َ‬
‫ك األَ ْم ََل ِك»؛ صحيح البخاري «‪»5852‬؛ كتاب األدب؛ باب‬ ‫اء يوم ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )2‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ْخنَى األَ ْس َم َ ْ َ‬
‫«أبغض األسماء إلى اهلل»‪.‬‬
‫(‪ )3‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي لفخر الدين الزيلعي الحنفي «المتوفى‪ 743 :‬هـ»؛ كتاب «الكراهية»؛ فصل يف البيع‪.‬‬
‫(‪ )4‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي «المتوفى‪1230 :‬هـ»؛ باب «يف أحكام الجعالة»‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫الرقية‬

‫المؤلفة‪ ،‬فهل لنا أن ندعي أن جميع القصص وأنواع التأليف كلها من العبادات؟ إ ًذا فاأللفاظ‬
‫الرقية‬
‫قد يقع فيها الشرك والكفر من دون أن تكون دعاء أو عبادة‪ .‬وكذلك يمكن أن تكون ُّ‬
‫شر ًكا إذا اقرتنت بعمل شركي أو بسبب غير شرعي وال كوين‪ ،‬مثل أن يرقى برقية مباحة على‬
‫ٌ‬
‫شرك‪ ،‬لكن ذلك ال يجيز التعميم‬ ‫الرقية‬
‫خيط ثم يعلق الخيط للوقاية والحماية‪ ،‬فهنا خالط ُّ‬
‫الرقية بكاملها عبادة‪.‬‬
‫وجعل ُّ‬
‫الرقية‬
‫الرقية تقرب العبد إلى اهلل‪ ،‬أفال يجعلها ذلك عبادة؟ والجواب‪ :‬أن ُّ‬ ‫‪ -8‬قد يقول ٌ‬
‫قائل‪ :‬إن ُّ‬
‫بحد ذاهتا ال تقرب إلى اهلل‪ ،‬بل إن ما يقرب المريض والمبتلى إلى اهلل هو إيمانه ويقينه أن‬
‫الرقية أو باألدوية أو غير ذلك‪ .‬وكم من كافر ال يؤمن‬
‫الشفاء والفرج بيد اهلل‪ ،‬سواء تداوى ب ُّ‬
‫قرب إلى اهلل ليس شر ًطا وال ركنًا‬
‫الرقية‪ .‬فالت ُّ‬
‫باهلل وال يتقرب إليه؛ إال أنه قد استرقى وانتفع ب ُّ‬
‫الرقاة أو المسرتقين‪ ،‬وإنما هي حالة مشرتكة تع ُّم‬
‫الرقية‪ ،‬حتى ولو بدا ذلك من سمات ُّ‬
‫لنجاح ُّ‬
‫كثيرا من‬
‫كثيرا من المرضى‪ ،‬ومن وقع يف االبتالء؛ بغض النظر عن طريقة تداويه‪ .‬كما أن ً‬
‫ً‬
‫الرقية عبادة شرعية توصله إلى الشفاء‪ ،‬فيظنُّون أنهم بذلك يتقربون إلى اهلل‬
‫الناس يظنُّون أن ُّ‬
‫‪‬؛ وهذا ظ ٌّن ٌ‬
‫باطل بني على ظن باطل آخر‪ .‬أما من يزداد يقينًا باهلل لرؤية أثر كالمه ‪ ‬يف‬
‫الرقية؛ فهو مثل من يتعلم ويقرأ عن اإلعجازات العلمية لكتاب اهلل؛ فيتأثر هبا‪ ،‬فكل تم ُّعن‬
‫ُّ‬
‫وتف ُّكر يف كالم اهلل وأثره يزيد يف اإليمان واليقين‪ ،‬وليس ذلك خاصا ب ُّ‬
‫الرقية‪.‬‬
‫الرقية على المرضى؟ وأليس اإليمان‬
‫‪ -9‬لو قال قائل‪ :‬أليس مقدار إيمان الشخص عامل يف تأثير ُّ‬
‫يزيد بالعبادة؟ فالجواب‪ :‬أن زيادة اإليمان تزرع الربكة يف جميع أعمال المؤمن‪ ،‬سواء يف‬
‫عبادته أو يف مهنته أو يف أي شيء يتعلق به‪ ،‬لكن القول بأن «تأثير الراقي يعتمد كليا على إيمانه‬
‫أيضا استنتاج‬
‫أيضا دليل صريح من شرع اهلل ‪ ،‬ولكنه ً‬
‫ويقينه فقط»‪ ،‬فهذا كالم ليس له ً‬
‫صحيحا‪ ،‬إذ ليس شر ًطا أن كل راق ذا إيمان عال تكون رقيته‬
‫ً‬ ‫بشري ليس من الالزم أن يكون‬
‫مؤثرة‪ ،‬وليس شر ًطا أن كل راق جيد يكون إيمانه عال‪ ،‬بل ال بد من وجود عوامل أخرى تؤثر‬
‫الرقية‪ ،‬فكم رأيت من راق له أثر صح ٌّي جيد على المريض بسبب رقيته؛ ثم اكتشفت‬
‫يف قوة ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪50‬‬

‫ً‬
‫أعماال تقدح يف دينه وأخالقه وتبعده عن اهلل‪ ،‬وكم رأيت من راق مشهود له‬ ‫أن لهذا الراقي‬
‫بالدين والتقوى والقرب من اهلل ظاه ًرا وباطنًا؛ لكن رقياه ال تأيت بنتيجة تذكر(‪ .)1‬وال شك أن‬
‫أهل الكتاب الذين أجاز السلف استرقاءهم؛ على باطل وضالل وكفر‪ ،‬وإيمانهم بما نسخ‬
‫وحرف ال ينفعهم أبدً ا‪.‬‬

‫الرقية‪ ،‬فقال ‪« :$‬والح ُّق أنه يختلف‬


‫وقد نقلت قول المازري من قبل عن تأثير ُّ‬
‫باختالف األشخاص واألحوال»‪ ،‬ولم يرجع ذلك إلى إيمان الراقي‪ ،‬وقد أرجع القرايف تأثير‬
‫ابع‬
‫الرقى والطلسمات والسحريات ت ٌ‬
‫الرقى إلى خواص النفس‪ ،‬فيقول ‪« :$‬وكذلك ُّ‬
‫ُّ‬
‫لخواص النُّفوس‪ ،‬فرب رقية تؤثر مع شخص دون غيره‪ ،‬ومن جرب وجد‪ ،‬وال عجب في أن‬
‫تكون النُّفوس مختلفة الخواص»(‪ .)2‬وال يمكن التسليم بأي قول حتى يفتح باب البحث‬
‫واالستقراء بالتجارب يف هذا المجال‪ ،‬فإن ذلك جدير أن يأيت بالجواب الصحيح‪ ،‬وال يغرتن‬
‫أحد بمن أفادت رقيته بالعالج‪ ،‬فكما ذكرت ليس من الشرط أن يكون هذا الراقي المؤثر‬
‫مؤمنًا تقيا عالي اإليمان‪.‬‬

‫الرقاة يعطيهم اهلل كرامات تظهر على رقاهم للمرضى فيشفون‬


‫حتج أن بعض ُّ‬
‫‪-10‬لو احتج م ٌّ‬
‫الرقية دعاء أو عبادة‪ ،‬بل إن الكرامات يؤتيها اهلل من شاء من‬
‫سري ًعا؛ فنجيب‪ :‬أن هذا ال يجعل ُّ‬

‫________________‬
‫هم إال السعي وراء المال‪ ،‬وير ُّدون الفقراء ومن ال يستطيع الدفع‪،‬‬
‫الرقاة ممن اشتهرت رقيتهم بالفائدة والتأثير؛ ليس لهم ٌّ‬
‫(‪ )1‬رأيت بعض ُّ‬
‫يهتمون بصالة الجماعة‪ ،‬وبعضهم ال يظهر عليه آثار االلتزام‪ ،‬كما‬
‫همه النساء واستغاللهن والعياذ باهلل‪ ،‬بل رأيت رقاة ال ُّ‬
‫وقابلت من ُّ‬
‫ووجدت بالعكس بعض العلماء األفاضل ممن عرف‬
‫ُّ‬ ‫رأيت رقاة عندهم انحراف يف العقيدة‪ ،‬وكلهم يتأثر عندهم المريض ويستفيد‪،‬‬
‫عنهم التقوى ومراقبة اهلل نحسبهم على خير واهلل حسيبهم؛ لكن كان تأ ُّثر المرضى عندهم خفي ًفا واستفادهتم ضعيفة‪ ،‬والقصص يف‬
‫الرقية راق ًيا أو مسرتق ًيا‪ ،‬وذكرها قد ال يفيد حيث إنه يكفينا أال دليل من شرع اهلل‬
‫هذا الباب كثيرة يعرفها بالخصوص من عاش عالم ُّ‬
‫أن إيمان الراقي معيار يف قوة تأثير الراقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬الذخيرة للقرايف المالكي «المتوفى‪684 :‬هـ»؛ كتاب الجامع؛ الجنس الثالث‪ :‬األفعال؛ النوع الثامن عشر‪« :‬العين والوضوء إليها»‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫الرقية‬

‫خلقه على حسب إيمانه وتقواه‪ ،‬وقد تعطى للطبيب أو الصيدلي أو العامل أو المهندس‬
‫وغيرهم‪.‬‬

‫إ ًذا كما ذكرت فإن ُّ‬


‫الرقية طريق ٌة للعالج‪ ،‬وعل ٌم من فروع الطب‪ ،‬كانت موجود ًة يف الجاهلية‬
‫ب وليست‬
‫الرقية ط ٌّ‬
‫قبل اإلسالم ثم بعد اإلسالم‪ ،‬يرقي هبا المسلم وغير المسلم‪ .‬وعندما نقول‪ :‬إن ُّ‬
‫بعبادة؛ توجب علينا إخراجها من كل ما يتعلق بفقه العبادات‪ ،‬وإعادهتا إلى فقه الطب والمداواة‪،‬‬
‫الرجوع إلى أهل الخربة يف هذا الباب كغيرها من العلوم‪.‬‬
‫كما وجب ُّ‬

‫والجزائي يف عملية المعالجة وطلب العالج‪ ،‬فال شك أن‬


‫ُّ‬ ‫دي‬
‫وال يراد هنا المعنى القص ُّ‬
‫المريض إن كانت نيته االستنان بالنبي ﷺ للتداوي؛ أو كان قصده التقوي ألداء العبادات‬

‫والواجبات؛ فهو إ ًذا يف عبادة‪ ،‬سوا ًء طلب المداواة عن طريق ُّ‬


‫الرقية أو غيرها مما أباحه اهلل‪،‬‬
‫أيضا يف‬
‫وكذلك فإن المعالج إن نوى خدمة المريض واإلحسان إليه وإزالة غمه وتفريج كربته فهو ً‬
‫أجرا؛ سوا ًء كان المعالج المداوي راق ًيا أو طبي ًبا أو عشا ًبا أو حتى صيدالنيا‪.‬‬
‫عبادة ينال هبا ً‬

‫وبعد أن تناولنا هذه المقدمة سنطرح بعض األسئلة واالستفسارات ثم نجيب عليها‪.‬‬

‫الرقية؟‬
‫ما هي ُّ‬

‫ب‪ ،‬كما جاء يف قوله ‪:‬ﱡﭐ ﱠ ﱡﱢ‬


‫خاص‪ ،‬فأما المعنى العا ُّم فهو‪ :‬الط ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫معنى عا ٌّم وآخر‬
‫ً‬ ‫للرقية‬
‫ُّ‬
‫الخاص فهو‪ :‬العالج بالكالم‪ ،‬أو المداواة باأللفاظ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ﱣﱠ [القيامة‪ ،]27 :‬وأما المعنى‬

‫واللفظ قد يكون مسمو ًعا أو مقرو ًءا أو مكتو ًبا‪ ،‬وقد يكون اللفظ منفر ًدا أو مقرت ًنا بعالج آخر‬
‫معه ‪-‬مثل الماء واألعشاب والتمارين‪.-‬‬

‫وهذا العلم ربما يكون جز ًءا من علم أشمل منه‪ ،‬أال وهو علم أثر الكالم‪ ،‬ومع دخولنا عصر‬
‫التوسع يف البحث عن أثر الكالم والموجات‬
‫ُّ‬ ‫التقنية وثورة االكتشافات؛ فإنه أصبح بإمكاننا‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪52‬‬

‫الصوتية على اإلنسان والحيوان والجماد‪ ،‬حيث إن المستجدات أصبحت مساعدة يف عمل أبحاث‬
‫متعلقة هبذه العلوم‪.‬‬

‫أثرا على‬
‫ولقد وضح الباحث الياباين «ماسارو إيموتو» أن لألصوات والكلمات المختلفة ً‬
‫تغ ُّير جزيئات الماء‪ ،‬وشرح ذلك يف كتابه الذي سماه «رسالة من ماء»(‪ ،)1‬وال غرابة أن يكون كذلك‬
‫األثر على األجسام المختلفة‪ ،‬سواء كانت جما ًدا أو سائل ًة أو غازية‪ .‬كما أن له ولغيره أبحا ًثا‬
‫منتشرة تثبت أثر الكالم الطيب وأثر الكالم السيء يف الماء والنبات والمحاصيل‪.‬‬

‫كذلك استعمل يف زمننا تقنية «الرسائل الضمنية» ”‪ ،“Subliminal Messages‬وهذه‬


‫مثال‪ :‬كن مطي ًعا أو كن مستسل ًما»‪ ،‬ثم يقوم بخفض‬
‫طريقتها أن المرسل يسجل الكلمات بصوته « ً‬
‫الصوت حتى يصبح مجرد موجات ال يمكن سماعها باألذن العادية‪ ،‬ثم يدمج هذه الموجات يف‬
‫مقطع مرئي أو صويت آخر ويعطيه للمستمع‪ ،‬فيتأثر المستمع هبذه الكلمات بالرغم من عدم‬
‫استماعه إليها بأذنه العادية‪ .‬وقد مرت بي تجربة بنفس الطريقة‪ ،‬إذ كان أحد المرضى يستمع إلى‬
‫الرقية يف سماعات األذن بعد أن وضعها يف أذنيه‪ ،‬وال يمكن لمن حوله أن يسمعوا شي ًئا‪ ،‬لكن أخاه‬
‫ُّ‬
‫الرقية بالرغم من عدم استطاعته سماع أي شيء بأذنيه‪.‬‬
‫المريض الذي كان يف نفس الغرفة تأثر من ُّ‬

‫الج بطاقة إيجابية وموجات غير مرئية تخرج‬


‫الرقية ع ٌ‬
‫الرقاة المعاصرين إلى أن ُّ‬
‫وذهب بعض ُّ‬
‫من جسم المعالج أثناء القراءة‪ ،‬وتدخل جسم المريض فتؤثر على ما به من طاقة سلبية‪ ،‬وحتى‬

‫نجري أبحا ًثا دقيقة صحيحة على ُّ‬


‫الرقية؛ فإننا لن نستطيع تقديم إجابة علمية دقيقة حول كيفية‬
‫عملها‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ ،“Message from water” )1‬يمكن االستزادة عن المؤلف وكتابه من موقعه‪ ،/http://www.masaru-emoto.net :‬وقد‬
‫تعقبه البعض بمالحظات على بحثه‪ ،‬والموضوع خاض ٌع للنقاش‪ ،‬والغلبة لمن عنده اإلثبات‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقية الشرعية؟‬
‫ما هي ُّ‬

‫الرقية» فقط مفرد ًة مجردة‪ ،‬لذا‬


‫الرقية قبل اإلسالم ويف عهد الرسول ﷺ وبعده تسمى « ُّ‬
‫كانت ُّ‬
‫الرقية الشرعية»‪ ،‬وإنما هو مصطلح محد ٌ‬
‫ث انتشر يف عصرنا‬ ‫لم يرد يف كتب األولين مصطلح « ُّ‬
‫الحالي‪ ،‬وتعني كل رقية لم تخالف الضابط الذي وضعه رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وكذلك لم تحو أي‬
‫مخالفات شرعية ‪-‬مثل حصول خلوة غير شرعية‪ ،‬أو لمس المرأة األجنبية بال حاجة‪ ،‬أو الكذب أو‬
‫الغش‪ ،‬أو صرف عن ما هو أوجب أو غير ذلك‪ ،-‬ومن يدعي أن يف اإلسالم رقي ًة شرعي ًة غير هذه‬
‫أي نصيب‪.‬‬
‫فقد ابتدع بدعة ضاللة ليس لها من الشرع ُّ‬

‫ويشبه ذلك ما نسميه باألناشيد اإلسالمية‪ ،‬ففي الحقيقة ليس هناك أناشيد إسالمية يف شرع‬
‫اهلل‪ ،‬بل انتشر هذا المصطلح بين الناس كتسمية ألناشيد مباحة عكس األغاين المحرمة‪ ،‬وكذلك‬
‫مثل ما نسميه اآلن بالمصارف الشرعية أو اإلسالمية‪ ،‬فليس المقصود بن ًكا أو مصر ًفا جاء به‬
‫الوحي‪ ،‬بل المقصود أن هذا المصرف ال يتعامل بالربا أو المعامالت المالية المحرمة‪.‬‬

‫الرقية الشرعية»؛ إال أن هذا اللفظ سبب‬


‫شرعي يف إطالق لفظة « ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫وبالرغم من أنه ال يوجد مان ٌع‬
‫شرعي جاء وح ًيا إلى رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫تعبدي‬
‫ٌّ‬ ‫الرقية أمر‬
‫لب ًسا لدى الناس‪ ،‬وجعلتهم يتوهمون وكأن ُّ‬
‫الرقية‬
‫ولذا أفضل إعادهتا إلى أصلها بتجريدها من لفظة «الشرعية»‪ ،‬أو استبدالها بمصطلح « ُّ‬
‫المباحة»‪ ،‬وذلك حتى يزول اللبس والوهم من عند من التبس عليه‪ ،‬واألمر يف ذلك يعود إلى‬
‫العلماء وأصحاب القرار التخاذ ما يرونه مناس ًبا‪.‬‬

‫ما هي ضوابِط وأحكام ُّ‬


‫الرقية؟‬

‫الرقية‪ ،‬وهو أال يكون يف ألفاظها؛ وال فيما‬


‫ص ُّ‬‫وضع رسول اهلل ﷺ ضاب ًطا واحدً ا فقط يخ ُّ‬
‫الرقية بذاهتا‪ ،‬بل أحكام‬
‫ص ُّ‬ ‫اقترن هبا من أفعال ش ٌ‬
‫رك باهلل ‪ ،‬أما غير هذا فليس هناك ضابط يخ ُّ‬
‫عامة تتعلق بكل األمور الحياتية للمسلم‪ ،‬مثلها مثل األحكام التي تتعلق بالطب والعالجات‪ .‬ومن‬
‫الرقية بضوابط غير ذلك فقد جانب الصواب‪ ،‬وزاد يف الشرع ما لم يقرره رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫خص ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪54‬‬

‫الرقية؟‬
‫ما هي الكلمات التي يجوز استعمالها يف ُّ‬

‫الرقية أي شرط غير أنها يجب أال تكون شر ًكا‪ ،‬فلم يشرتط‬
‫لم يشرتط رسول اهلل ﷺ لكلمات ُّ‬
‫ﷺ أن تكون الكلمات من القرآن وحده‪ ،‬أو فقط من األذكار‪ ،‬بل قوله ﷺ‪َ « :‬ال َب ْأ َس بِ ُّ‬
‫الرقى َما َل ْم‬
‫دليل على جواز جميع الكلمات ما دام أنها جانبت الشرك والحرام‪ ،‬قال اإلمام‬ ‫يه ِش ْرك»(‪)1‬؛ ٌ‬
‫يكُن فِ ِ‬
‫َ ْ‬
‫الطحاوي ‪« :$‬فدل ذلك أن كل رقية ال شرك فيها فليست بمكروهة»(‪.)2‬‬

‫وقد رأينا يف األحاديث التي أورد ُّتها يف بداية الفصل إقرار رسول اهلل ﷺ آلل عمرو بن حزم‬
‫ﭫ على رقاهم التي كانوا يرقون هبا قبل اإلسالم‪ ،‬لعدم ما يخالف الشرع فيها‪ ،‬ولم يطلب منهم‬
‫أي تغيير أو تبديل‪ ،‬ولم يأمرهم باالستعاضة عنها بالقرآن‪ ،‬أما مع عمير مولى آبي اللحم ﭭ؛ فقد‬
‫أمره بطرح ما خالف الشرع‪ ،‬وإبقاء ما لم يخالفه كما هو‪ ،‬قال الشيخ المباركفوري يف شرحه‬
‫السنة بشرط أن تكون خالي ًة عن‬ ‫لحديث عمير ﭬ‪« :‬وفيه دل ٌيل على جواز ُّ‬
‫الرقية من غير القرآن و ُّ‬
‫كلمات شركية وعما منعت عنه الشريعة»(‪ ،)3‬وأما اشتراط أبي بكر ﭬ على اليهودية التي كانت‬
‫ترقي عائشة ڤ أن ترقي «بكتاب اهلل»؛ فأو ًال‪ :‬ال يصح لمن يرى ضعف هذا األثر أن يستدل به‪،‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬يحتمل أن يكون معناه‪ :‬بما يبيحه كتاب اهلل وال يخالفه‪ ،‬فقد جاء يف التعليق على أثر استرقاء‬
‫عائشة ڤ‪ ،‬ما يلي‪:‬‬
‫قائال‪« :‬قوله‪« :‬عالجيها بكتاب اهلل» أراد‪:‬‬
‫• يف صحيح ابن حبان وبعد سرد الرواية‪ ،‬علق ابن حبان ً‬
‫عالجيها بما يبيحه كتاب اهلل‪ ،‬ألن القوم كانوا يرقون في الجاهلية بأشياء فيها شر ٌك‪ ،‬فزجرهم‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه صفحة ‪.33‬‬
‫(‪ )2‬شرح معاين اآلثار للطحاوي؛ كتاب الكراهة؛ باب «الكي هل هو مكروه أم ال؟»‪ ،‬يف تعليقه على حديث ميمونة ڤ البن أخيها‪.‬‬
‫(‪ )3‬تحفة األحوذي بشرح جامع الرتمذي لمحمد عبد الرحمن المباركفوري؛ أبواب السير؛ باب «هل يسهم للعبد؟»‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقى إال بما يبيحه كتاب اهلل دون ما يكون شر ًكا»(‪.)1‬‬


‫بهذه اللفظة عن ُّ‬
‫• يف شرح رواية الموطأ قال أبو الوليد القرطبي يف شرح األثر‪« :‬قول أبي بكر الصديق ﭬ‬
‫لليهودية «ارقيها بكتاب اهلل ‪ »‬ظاهره أنه أراد التوراة؛ ألن اليهودية في الغالب ال تقرأ القرآن‪،‬‬
‫ويحتمل ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن يريد بذكر اهلل عز اسمه‪ ،‬أو رقي ًة موافق ًة لما في كتاب اهلل تعالى‪،‬‬
‫ويعلم صحة ذلك بأن تظهر رقيتها؛ فإن كانت موافق ًة لكتاب اهلل ‪ ‬أمرها بها»(‪.)2‬‬

‫كذلك لم يشرتط الرسول ﷺ لها لغة معينة‪ ،‬أما جميع االشتراطات األخرى التي ذكرها‬
‫فمثال نجد أنه قيل عن‬
‫الرقية؛ فهي اجتهادات منهم لتحقيق شرط رسول اهلل ﷺ‪ً .‬‬
‫العلماء لكلمات ُّ‬
‫اإلمام مالك أنه كره رقى أهل الكتاب‪ ،‬وعلل ابن رشد القرطبي ذلك بقوله‪« :‬إذ ال يدرى أهل ترقي‬
‫بكتاب اهلل أو بغير ذلك مما يضاهي السحر؟»(‪ ،)3‬وقال ابن حجر‪« :‬وما ال يعقل معناه؛ ال يؤمن أن‬

‫يؤدي إلى الشرك‪ ،‬فيمتنع احتيا ًطا» ‪ ،‬كذلك قال ‪« :$‬وقد أجمع العلماء على جواز ُّ‬
‫الرقى عند‬ ‫(‪)4‬‬

‫اجتماع ثالثة شروط‪:‬‬


‫‪ -1‬أن يكون بكالم اهلل تعالى أو بأسمائه وصفاته‪.‬‬
‫‪ -2‬وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره‪.‬‬
‫الرقية ال تؤثر بذاهتا‪ ،‬بل بذات اهلل تعالى‪ ،‬واختلفوا يف كوهنا شر ًطا‪.‬‬
‫‪ -3‬وأن يعتقد أن ُّ‬

‫________________‬
‫الرقية للعليل بغير كتاب اهلل ما لم يكن شركًا‪ ،‬وهذه‬
‫الرقى والتمائم؛ ذكر الخبر المصرح بإباحة ُّ‬
‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان «‪»1135‬؛ كتاب ُّ‬
‫الرواية غير صحيحة‪ ،‬حيث قال الدارقطني يف علله عن هذه الرواية‪« :‬ورواه زيد بن الحباب‪ ،‬عن الثوري فوهم فيه»‪ ،‬واألصح رواية‬
‫مالك‪.‬‬
‫(‪ )2‬المنتقى شرح الموطأ؛ كتاب «الجامع»؛ باب «تعالج المريض»‪ ،‬سليمان القرطبي «المتوفى‪474 :‬هـ»‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة؛ كتاب «الجامع األول»؛ باب «رقية البثرة الصغيرة مخافة أن‬
‫تعظم»‪ ،‬محمد القرطبي ‪-‬ابن رشد الجد‪« -‬المتوفى‪520 :‬هـ»‪.‬‬
‫الرقى»‪.‬‬
‫(‪ )4‬فتح الباري البن حجر؛ شرح «باب ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪56‬‬

‫والراجح أنه ال بد من اعتبار الشروط المذكورة»(‪ ،)1‬ولم أستطع الوقوف على سند هذا اإلجماع‬
‫الرقى عند اجتماع ثالثة شروط» ال يد ُّل‬
‫ومستنده وتخريجه‪ ،‬لكن قوله‪« :‬أجمع العلماء على جواز ُّ‬
‫الرقية» إذا اختل الشرط األول‪ ،‬وإنما يد ُّل على إباحة الرقية التي‬
‫على «اإلجماع على تحريم ُّ‬
‫شملت الشروط الثالثة‪ ،‬ويف حالة فقدان الشرط األول فإنه يحتمل أن العلماء انقسموا إلى مبيح‬
‫الرقية يف‬
‫وكاره ومحرم‪ ،‬ثم إن األدلة التي بين أيدينا من فهم السلف رضوان اهلل عليهم ال تحصر ُّ‬
‫أقروا خالفه‪ ،‬وأقوى من ذلك ما ذكرته أن رسول اهلل ﷺ‬
‫الشرط األول المذكور هنا‪ ،‬بل تثبت أنهم ُّ‬
‫أقر الصحابة ﭫ على ما كان عندهم من رقى ‪-‬غير مخالفة‪ -‬من قبل مجيء اإلسالم‪ ،‬ولم‬
‫الرقية إلى القرآن أو أسماء اهلل وصفاته‪ ،‬وهو ﷺ لم يرتك شي ًئا يف‬
‫يشرتط ﷺ عليهم تغيير كلمات ُّ‬
‫الرقية يف القرآن وأسماء اهلل وصفاته واج ًبا لكان النبي ﷺ نبهنا‬
‫الشرع إال وبينه لنا‪ ،‬ولو كان حصر ُّ‬
‫الرقية فيما ذكر يف الشرط األول هو تعد على إقرار رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫إلى ذلك‪ ،‬وحصر كلمات ُّ‬
‫وتحجير لما وسعه اهلل ‪ ‬ورسوله ﷺ‪ ،‬ثم إن اإلجماع الملزم يكون على حادثة شرعية‪ ،‬مثل‬
‫الرقية وجوازها‪ ،‬أما آليتها وطريقتها وكلماهتا فذلك أمر يعود إلى أهل الخربة‬
‫مشروعية ُّ‬
‫فمثال يجوز‬
‫ً‬ ‫حق اختيار كل ما يرونه مناس ًبا ومفيدً ا ما لم يخالف الشرع‪،‬‬
‫واالختصاص‪ ،‬ولهم ُّ‬
‫لعلماء الشرع أن يجمعوا على جواز ومشروعية استعمال الحقنة‪ ،‬لكن ال يؤخذ بإجماعهم يف‬
‫مقدار الحقن الالزم والوقت المناسب لذلك‪ ،‬بل ذلك يعود لألطباء والباحثين يف ذلك المجال‪،‬‬
‫الرقية المباحة فقط يف القرآن وأسماء اهلل ‪‬‬
‫لذلك ال أرى ألحد أن يوجب حصر كلمات ُّ‬
‫وصفاته‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫الرقية‬

‫ويف الحقيقة فإن اشتراطات العلماء تشبه ما هو موجود يف قوانين منظمة الصحة العالمية اليوم‬
‫أن من حق المريض معرفة مكونات الدواء وفوائده ومضاره بوضوح تام‪ ،‬وال يح ُّق للطبيب أو‬
‫الصيدالين أو المصنع إخفاء هذه المعلومات‪.‬‬

‫الرقية تجوز بأي كلمة وبأي لغة؛ ما دامت األلفاظ واضح ًة‬
‫وبنا ًء على ما سبق فإن األصل أن ُّ‬
‫ومفهوم ًة‪ ،‬وليس فيها شرك أو كفر أو محرم‪ ،‬فلو أن راق ًيا رقى بكلمات إنجليزية أو صينية أو غير‬
‫جائز مباح‪ .‬ولالحتياط يمكن‬
‫ذلك؛ بكلمات واضحة مفهومة ليس فيها شرك وال محرم؛ فإن ذلك ٌ‬
‫فاهما للغة الراقي‪ ،‬أو معه مرتجم يفهمها‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫اشرتاط الثقة يف الراقي‪ ،‬أو أن يكون المريض‬
‫نضمن عدم استعمال الراقي لكلمات محرمة‪.‬‬

‫الرقية‪ :‬شرط ثبوت فائدهتا بالتجربة‪ ،‬فليس من‬


‫ومن المهم أن يضاف إلى شروط كلمات ُّ‬
‫المعقول أن يضيع المسلم وقته وماله وجهده يف رقية ليس منها فائدة‪.‬‬

‫الرقية ال بد أن يكون أقوى وأنفع وأفضل من غيره من‬


‫وال شك أن تأثير كالم اهلل ‪ ‬يف ُّ‬
‫الكالم‪ ،‬وقد قيل‪« :‬فضل كالم اهلل على كالم خلقه‪ ،‬كفضل اهلل على خلقه»(‪ .)1‬ولذا نجد أن‬

‫المسلمين األوائل تركوا ما كان من ر ًقى بكالم البشر؛ وتحولوا إلى ُّ‬
‫الرقية بكالم خالق البشر ‪‬‬
‫أيضا‬
‫الرقية ً‬
‫طالبين تأثير هذا الكالم يف رقاهم‪ .‬وكذلك ال شك أن تأثير أسماء اهلل ‪ ‬وصفاته يف ُّ‬
‫أنجع من كالم البشر‪ ،‬ولذا نقول‪ :‬إنه من األولى واألفضل االسترقاء بكالم اهلل وأسمائه وصفاته‪.‬‬

‫الرقية فيما يلي‪:‬‬


‫فألخص شروط ُّ‬
‫‪ -1‬أال يكون يف كلماهتا شرك أو محرم‪.‬‬
‫أمر محرم‪.‬‬
‫‪ -2‬أال يصاحب أداءها ٌ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬اختلف يف كونه حدي ًثا أو كال ًما مدر ًجا‪ ،‬ورجح الدارقطني يف علله اإلدراج‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪58‬‬

‫‪ -3‬أن تكون بكلمات واضحة مفهومة‪.‬‬


‫‪ -4‬أن تثبت فائدهتا‪ ،‬وإال يجب التوضيح للمريض أنها مازالت يف مرحلة التجربة‪.‬‬
‫‪ -5‬يفضل أن تشتمل على آيات من القرآن الكريم‪ ،‬أو على أسماء اهلل وصفاته‪ ،‬ثم أحاديث‬
‫الرقى النبوية‪.‬‬
‫الرسول ﷺ الثابتة‪ ،‬كذلك يفضل اإلتيان ب ُّ‬

‫أما االسترقاء من غير المسلمين فإنه وإن جاز يف األصل؛ إال أنه يف وقتنا المعاصر؛ ال يوجد‬
‫راق غير مسلم إال ورقيته هبا شرك وكفر‪ ،‬كما أنه يخشى على المريض من الفتنة يف دينه خاصة إذا‬
‫كان الراقي ممن يدعو إلى دينه المحرف‪ ،‬ومن باب سد الذرائع فإنه يجب منعه والتحذير منه‪.‬‬

‫الرقية النبوية؟‬
‫ماهي ُّ‬

‫هي ك ُّل ما رقى به رسول اهلل ﷺ أو أقره من آيات أو أدعية أو جمل‪ .‬وحكمها مثل الطب‬
‫النبوي يف األعشاب وال ُّطرق التي استعملها رسول اهلل ﷺ للعالج‪.‬‬

‫الرقية النبوية؟‬ ‫ِ‬


‫هل يجب االكتفاء ب ُّ‬

‫ال شك أن العالجات المذكورة عن رسول اهلل ﷺ هي األفضل واألولى‪ ،‬ولكن على مر‬
‫أي عالم بوجوب االكتفاء بالعالجات التي تداولها رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فالعالجات‬
‫العصور لم يقل ُّ‬
‫التمسك فقط باآليات التي وردت عن‬
‫ُّ‬ ‫النبوية جاءت لإلشارة ال للحصر‪ ،‬ولو قال قائل‪ :‬إنه يجب‬
‫مسك بجميع‬
‫ياسا على ما قال فإنه كذلك يجب الت ُّ‬
‫رسول اهلل ﷺ يف رقيته؛ فيكون الجواب‪ :‬إنه ق ً‬
‫العالجات النبوية‪ ،‬فال يجوز عالج البطن بغير العسل‪ ،‬وال يجوز عالج االكتئاب بغير التلبينة‪ ،‬وال‬
‫يجوز معالجة الحمى بغير الماء‪ ،‬وال يجوز استعمال أعشاب عالجية وال أدوية لم يستعملها‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وبالطبع فإن ً‬
‫قوال كهذا مخالف لفهم الصحابة ﭫ وسلف األمة الطاهرين‬
‫رحمهم اهلل‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقية والبِدْ عة‪:‬‬


‫ُّ‬

‫أجمع الصحابة ﭫ وعلماء السلف رحمهم اهلل على أن البدع الشرعية كلها مذموم ٌة‬
‫ومحرمة وضاللة‪ ،‬وأما ما ذكره بعض العلماء من تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة وغيرها من أقسام‬
‫فمقصودهم بذلك البدعة ال ُّلغوية‪ ،‬وليست الشرعية؛ كما بين ذلك ابن حجر ‪ .)1($‬والبدعة‬
‫غيير يف عبادة‬ ‫ٌ‬
‫حداث لعبادة جديدة‪ ،‬أو فضل‪ ،‬ونسبة ذلك إلى الدين‪ ،‬وإما ت ٌ‬ ‫الشرعية هي إما است‬
‫بإضافة‪ ،‬أو تخصيصها بفضل لم يرد يف الشرع المطهر‪ .‬فالعبادات توقيفية مشرعة من عند اهلل ‪،‬‬
‫الرقية كطريقة ومفهوم ليست بعبادة؛ فال تنطبق عليها قاعدة البدعة الشرعية‪ ،‬بل تدخل يف‬
‫وألن ُّ‬
‫علم طب اإلنسان‪ ،‬وتخضع لقوانين التجربة والبرهان‪.‬‬

‫وقد فهم علماء السلف المحاربون للبدع الشرعية رحمهم اهلل هذا األمر‪ ،‬فقد جاء عن اإلمام‬
‫السنة‬
‫أحمد بن حنبل ‪ :$‬أنه كان يكتب رقية للمرأة إذا تعسرت الوالدة‪ .‬وهذا مما لم يرد يف ُّ‬
‫بسند صحيح وال حسن‪ ،‬قال عبد اهلل بن أحمد بن حنبل‪« :‬رأيت أبي يكتب التعاويذ للذي يقرع‬
‫وللحمى؛ ألهله وقراباته‪ ،‬ويكتب للمرأة اذا عسر عليها الوالدة في جام أو شيء لطيف‪ ،‬ويكتب‬
‫حديث ابن عباس ﭭ(‪ ،)2‬إال أنه كان يفعل ذلك عند وقوع البالء‪ ،‬ولم أره يفعل هذا قبل وقوع‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬قال ابن حجر ‪« :$‬وأما البدع فهو جمع بدعة‪ ،‬وهي ك ُّل شيء ليس له مث ٌال تقدم‪ ،‬فيشمل لغ ًة ما يحمد ويذ ُّم‪ ،‬ويخت ُّ‬
‫ص في عرف‬
‫أهل الشرع بما يذ ُّم‪ ،‬وإن وردت في المحمود فعلى معناها ال ُّلغوي»؛ فتح الباري؛ من شرح‪« :‬باب ما يكره من التع ُّمق والتنازع»‪ .‬كما‬
‫قال «وقوله ‪-‬ﷺ‪« :-‬ك َُّل ِبدْ َع ٍة َضَلَ َلة»؛ قاعد ٌة شرعي ٌة كلي ٌة بمنطوقها ومفهومها»؛ فتح الباري؛ شرح «باب االقتداء بسنن رسول اهلل‬
‫ﷺ»‪.‬‬
‫الرخصة يف القرآن‬
‫(‪ )2‬إسناد الروايات التي بين أيدينا ضعيف‪ ،‬إحدى الروايات يف مصنف ابن أبي شيبة «‪»25052‬؛ كتاب الطب؛ يف ُّ‬
‫يكتب لمن يسقاه؛ عن ابن عباس ﭭ‪ ،‬قال‪ :‬إذا عسر على المرأة ولدها‪ ،‬فيكتب هاتين اآليتين والكلمات في صحفة ثم تغسل‬

‫فتسقى منها‪« :‬بسم اهلل‪ ،‬ال إله إال هو الحليم الكريم‪ ،‬سبحان اهلل رب السموات السبع ورب العرش العظيم‪ ،‬ﱡﭐ ﳖﳗ ﳘ ﳙ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪60‬‬

‫البالء»(‪ ،)1‬وقال ابن القيم ‪« :$‬ورأى جماعة من السلف أن تكتب له ‪-‬أي‪ :‬للمعيون‪ -‬اآليات‬
‫من القرآن‪ ،‬ثم يشرهبا‪ .‬قال مجاهد‪ :‬ال بأس أن يكتب القرآن‪ ،‬ويغسله‪ ،‬ويسقيه المريض‪ ،‬ومثله عن‬
‫السنة على المريض مباشرة بالنفث‬
‫أبي قالبة» ‪ ،‬وجاء يف فتاوى اللجنة الدائمة‪« :‬وقراءة القرآن أو ُّ‬
‫(‪)2‬‬

‫بالسنة المطهرة من رقية الرسول ﷺ لنفسه ولبعض أصحابه ﭫ‪ ،‬أما كتابة اآليات‬
‫عليه ثابتة ُّ‬
‫بماء الورد والزعفران ونحو ذلك ثم غمرها يف الماء وشرهبا‪ ،‬أو القراءة على العسل واللبن‬
‫ونحوها‪ ،‬ودهن الجسم بالمسك وماء الورد المقروء عليه آيات قرآنية فال بأس به‪ ،‬وعليه عمل‬
‫السلف الصالح»(‪.)3‬‬

‫ومن المعاصرين المحاربين للبدع الشرعية فضيلة الشيخ ابن عثيمين ‪ $‬قال يف أحد‬
‫دروسه‪« :‬وكما جرب أن يكتب على الحزا‪ ،‬وهي قروح وبثرات تظهر يف القدم أو يف اليد أو يف‬

‫الذارع ‪-‬اإلكزيما‪ -‬يكتب عليها ﱡﭐﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱠ [البقرة‪ ]266:‬إذا كتبت هذه‬


‫اآلية عليها مرة أو مرتين زالت بإذن اهلل هنائيا‪ ،‬ولو وضعت عليها كل دواء من األدوية المعروفة ما‬
‫نفع‪ ،‬لكن اكتب عليها هذه اآلية تزول‪ ،‬وهذا شيء مجرب‪ ،‬يف عسر الوالدة‪ ،‬تعسر الوالدة على‬
‫المرأة أحيا ًنا‪ ،‬اقرأ يف ماء‪ ،‬أو اكتب بزعفران على جدران اإلناء اآليات التي فيها أن اهلل ‪ --‬معتن‬
‫ﱴﱶﱷﱸ‬
‫ﱵ‬ ‫بالحمل‪ ،‬مثل ‪:‬ﱡﭐﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ‬

‫ﱹ ﱠ [الرعد‪ ،]8:‬ومثل‪ :‬ﱡ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚﱠ [فاطر‪ ،]11:‬ومثل‪ :‬ﱡﭐﱵ‬

‫________________‬
‫ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﱠ ﭐ]النازعات‪ ،[46:‬ﭐﱡﭐ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏﳐ ﳑﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ‬

‫ﳗﱠ ﭐ[األحقاف‪.»]35 :‬‬


‫(‪ )1‬مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد اهلل «‪»1622‬؛ تحقيق زهير الشاويش‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «ما يقوله العائن خشية من ضرر عينه»‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتاوى اللجنة الدائمة؛ الجزء األول؛ صفحة ‪97‬؛ فتوى رقم ‪.19010‬‬
‫‪61‬‬ ‫الرقية‬

‫ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱠ [الزلزلة‪ ،]2-1:‬وما أشبه ذلك من اآليات‪ ،‬ثم‬


‫تشرهبا المرأة التي عسرت والدهتا وتمسح ما حول المكان‪ ،‬وبإذن اهلل يسهل خروج الحمل»(‪.)1‬‬

‫فالمتأمل لما سبق يدرك أن السلف رضوان اهلل عليهم ومن اقتفى أثرهم لم يفهموا أن االبتداع‬
‫يف الرقية بدعة شرعية محرمة‪ ،‬وإنما عدوها من األمور التي يجوز فيها االبتداع والتجربة كباقي‬
‫الرقية لكيال نفتح‬
‫التوسع يف ُّ‬
‫ُّ‬ ‫األمور الدنيوية وغير التعبدية‪ ،‬ولو قال قائل‪ :‬إنه يجب علينا عدم‬
‫الباب أمام السحرة والدجالين الذين يتسترون بستار الدين‪ ،‬ويظهرون بمظاهر التد ُّين وااللتزام؛‬
‫فنسدُّ بذلك الذرائع وندرأ بذلك المفاسد؛ فمثله مثل من يقول‪ :‬إنه علينا أن نوقف تطوير األدوية؛‬
‫ألن بعض الناس يصنعون أدوية تحتوي على مواد محرمة وقد يستعملها آخرون يف أغراض سيئة‪،‬‬
‫وبعضهم يستخدم علب األدوية لتهريب المخدرات‪ .‬والجواب على ما قال هو ضابط الرسول‬
‫يه ِش ْرك»(‪ ،)2‬وكفى به ضاب ًطا وقانو ًنا‪،‬‬
‫ﷺ‪« :‬اعرِ ُضوا ع َلي ر َقاكُم‪َ ،‬ال ب ْأس بِالرقى ما َلم يكُن فِ ِ‬
‫َ ْ َ ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫وتطبيقه يف زماننا أن كل من يرقي فإن عليه أن يعرض رقيته على علماء األمة الذين هم ورثة‬
‫تصريحا‬
‫ً‬ ‫الرقى المعروضة عليهم شر ًكا؛ أن يصدروا‬
‫األنبياء‪ ،‬وعلى هؤالء العلماء إن لم يجدوا يف ُّ‬
‫الرقية علينا‪ ،‬ولم نجد هبا شر ًكا وال محر ًما‪ ،‬مثل ذلك مثل ما‬
‫ترخيصا أنه قد تم عرض هذه ُّ‬
‫ً‬ ‫أو‬
‫تعرضه بعض المؤسسات المالية يف عصرنا على الفقهاء واللجان الشرعية‪ ،‬فيعلن العلماء أن‬
‫المؤسسة المالية السائلة خالية من الربا ومن المعامالت المحرمة‪ ،‬وكذلك مثل ما يعرض من غذاء‬
‫وأدوية على الجهات الصحية لتأكيد صالحيتها وسالمتها‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ (1‬مفرغ من دروس الشيخ الصوتية على موقعه الرسمي‪https://binothaimeen.net/content/696 :‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه صفحة ‪.33‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪62‬‬

‫الرقية عبادة من الدين هو بدعة شرعية ال تجوز‪ ،‬وما‬ ‫وبتأ ُّملنا يف الموضوع فإن االدعاء بأن ُّ‬
‫أصدق الصادق المصدوق ﷺ إذ يقول عن البدع الشرعية‪َ « :‬وك ُُّل بِدْ َع ٍة َض ََل َلة»(‪ ،)1‬ومن الضاللة‬
‫ها هنا ما يلي‪:‬‬

‫والتنزه عن كل نقص وعيب‪ ،‬وهذه الصفات مالزمة كذلك‬


‫ُّ‬ ‫‪ -1‬من صفات اهلل ‪ ‬الكمال‪،‬‬
‫الرقية إلى الدين هو نسبة عمل بشري إلى اهلل ‪ ،‬وتحميله ‪ ‬كل‬
‫لشرعه القويم‪ ،‬ونسبة ُّ‬
‫الرقية من أخطاء أو فشل أو أضرار‪ ،‬سبحانه وتعالى وتنزه عن ذلك‪ .‬كما أن يف هذا‬
‫توابع ُّ‬
‫إعطاء فرصة لبعض ضعاف النُّفوس للمتاجرة باسم الدين‪ ،‬بل غلت طوائف من المبتدعة‬
‫الرقية عل ًما سماويا يأخذونه بالوحي من اهلل‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬
‫حتى جعلت ُّ‬
‫الرقية واالهتمام هبا؛ ألنهم ظنُّوها جز ًءا من الشريعة أو‬
‫‪ -2‬انصرف كثير من األطباء عن دراسة ُّ‬
‫العلم الشرعي الذي لم يتخصصوا فيه‪ ،‬وابتعادهم عنها ساعد على فصلها عن علوم الطب‪،‬‬
‫وعدم تقنينها‪ ،‬أو البحث فيها‪ ،‬بل أدى كذلك إلى انطوائها فترة من الزمن‪ ،‬كما أدى إلى‬
‫احترافها ممن ال يفهم يف الطب شي ًئا‪ ،‬وهذا بالطبع له أثر سلبي على سائر البشر؛ ألنه أدى إلى‬
‫إهمال عامل مهم من عوامل العالج‪.‬‬
‫‪ -3‬من سنن اهلل ‪ ‬يف العلوم البشرية أن تتطور وتتحدث مع مرور الزمن‪ ،‬وزيادة التجارب‪،‬‬
‫الرقية لم تأخذ حقها الطبيعي يف التطوير؛ بسبب ظن البعض أنها‬
‫وتوسع المعلومات‪ ،‬لكن ُّ‬
‫ُّ‬
‫عبادة توقيفية ال يجوز االبتداع فيها‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»867‬؛ كتاب الجمعة؛ باب «تخفيف الصالة والخطبة»‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫الرقية‬

‫هل يجوز تخصيص آيات للرقية؟‬

‫الرقاة بالتجربة عبر األزمان أن تالوة آيات السحر تؤثر يف المسحور‪ ،‬وآيات العين تؤثر‬
‫أثبت ُّ‬
‫الرقاة بآيات السحر‪ :‬اآليات القرآنية التي ذكر فيها السحر؛‬
‫يف المعيون‪ ،‬ومثل ذلك كثير‪ .‬ويقصد ُّ‬

‫مثل قوله تعالى‪:‬ﭐﱡﭐ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﱠ [يونس‪ ،]77 :‬وآيات العين‪ :‬هي اآليات التي ذكر‬

‫فيها العين؛ كقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﱠ [القلم‪ ،]51 :‬أو لفظة العين‬
‫كقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﱠ [ الغاشية‪ ،]12 :‬وآيات الحسد‪ :‬هي اآليات التي ذكر فيها الحسد؛‬
‫كقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱠ [الفلق‪ .]5 :‬ومثل ذلك آيات الهداية والعذاب والحرق‬
‫والشفاء وغير ذلك‪ ،‬وهو ليس من تخصيص رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وإنما مما لوحظ بالتجربة‪ ،‬ووضع‬
‫لغرض الفهرسة والتصنيف‪ ،‬مثلها يف ذلك قولنا آيات التوحيد لآليات التي تكلمت عن التوحيد‪،‬‬
‫وآيات الزكاة لآليات التي تكلمت عن الزكاة‪ ،‬وآيات القصص للتي حوت قص ًصا‪ ،‬وآيات األحكام‬
‫جائز ال حرج فيه ألنه ليس أمر ًا تع ُّبديا‪.‬‬
‫التي حوت أحكا ًما شرعية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وهذا التخصيص ٌ‬
‫ائل‪ :‬لماذا لم يوضح النبي ﷺ آثار آيات القرآن على األمراض بالتخصيص؟‬ ‫وقد يسأل س ٌ‬
‫اعدُ ك ُْم ِم َن الن ِ‬
‫َّار َّإال َقدْ َأ َم ْر ُتك ُْم‬ ‫والجواب حديث الرسول ﷺ‪« :‬إِ َّنه َليس َشيء ي َقربكُم ِمن ا ْلجن َِّة‪ ،‬ويب ِ‬
‫ْ ُ ُ ْ َ َ َ َُ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫اعدُ ك ُْم ِم َن ا ْل َجن َِّة َّإال َقدْ ن ََه ْي ُتك ُْم َعنْ ُه»(‪ ،)1‬فرسول اهلل ﷺ وضح‬‫َّار‪ ،‬ويب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِبه‪َ ،‬و َل ْي َس َش ْيء ُي َقر ُبك ُْم م َن الن ِ َ ُ َ‬
‫لنا كل ما يتعلق بديننا وعبادتنا مما أمره اهلل ‪ ‬أن يبلغ‪ ،‬وشرع اهلل يف العبادات ٌ‬
‫كامل ال ينقصه‬
‫شيء‪ ،‬وطريق الجنة واضح بي ٌن‪ ،‬وطريق النار تم اإلعالم به والتحذير منه‪ ،‬أما غير ذلك من تأثير‬
‫القرآن على المخلوقات فليس من العبادات؛ وال مما يقرب إلى الجنة أو يبعد عن النار‪ ،‬وال يمكن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي يف شعب اإليمان «‪»10376‬؛ باب «الزهد وقصر األمل»‪ ،‬قال عنه األلباين يف الصحيحة «‪« :»2866‬حسن على أقل‬
‫األحوال»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪64‬‬

‫الرقية بسورة الفاتحة‪،‬‬


‫لبشر إحصاء فضائل القرآن وتأثيراته على المخلوقات‪ ،‬وقد ذكرت حديث ُّ‬
‫الرقية لسورة الفاتحة‪ ،‬بل‬
‫وتبين فيها أن الرسول ﷺ لم يخبر الصحابة ﭫ ابتدا ًء بخاصية ُّ‬
‫اكتشفوها اجتها ًدا منهم‪ ،‬وتخصيص رسول اهلل ﷺ سورة الفاتحة دون القرآن كله يف قوله ﷺ‬
‫دليل على أنه ليس جميع سور القرآن رقية‪ ،‬وليس ُّ‬
‫كل القرآن‬ ‫َان يدْ ِر ِ‬
‫يه أنَّها ُر ْق َية»(‪)1‬؛ ٌ‬ ‫عليه‪َ « :‬و َما ك َ ُ‬
‫السنة كسورة الكافرون والمعوذات(‪ ،)2‬واألخرى‬
‫رقية‪ ،‬بل آيات مخصوصة‪ ،‬بعضها جاءت يف ُّ‬
‫تعرف باالجتهاد البشري‪ ،‬وليست من أمور العبادة‪ ،‬لذا لم يكن واج ًبا على رسول اهلل ﷺ أن يعلمنا‬
‫إياها‪.‬‬

‫الرقية؟‬
‫ما هي مجاالت ُّ‬

‫الروحية فقط‪ ،‬بل ثبت بالتجربة أنها تدخل يف عالج‬


‫الرقية ليست عالجا خاصا باألمراض ُّ‬
‫ُّ‬
‫جميع أنواع األمراض ‪-‬روحية وغير روحية‪ ،-‬وقد مر معنا أن من تعريفاهتا لدى العرب هو‪« :‬كالم‬
‫السنة لما أصيب زعيم القوم بسم العقرب كما مر معنا؛‬ ‫ِ‬
‫يستشفى به من كل عارض» ‪ ،‬ورأينا يف ُّ‬
‫(‪)3‬‬

‫مرضا روحيا‪ ،‬وهذا يد ُّل على أن العرب قبل نزول القرآن عرفوا‬
‫الرقية مع أن ذلك ليس ً‬
‫طلب قومه ُّ‬
‫السم‪ ،‬ويف الحديث عن أنس ﭬ قال‪« :‬رخص رسول اهلل‬
‫الرقية بكالمهم تعالج من ُّ‬
‫بالتجربة أن ُّ‬
‫وإقرار من رسول اهلل أن الرقية تعالج‬
‫ٌ‬ ‫الرقية من العين‪ ،‬والحمة(‪ ،)4‬والنملة(‪ ،)6(»)5‬وهذا تأييد‬
‫ﷺ في ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه صفحة ‪.39‬‬
‫أوردت الحديث بكامله يف صفحة ‪.93‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪)2‬‬
‫(‪ )3‬تم التخريج يف صفحة ‪.47‬‬
‫(‪ )4‬الحمة‪ :‬السموم‪.‬‬
‫وف‪ ،‬وسمي نملةً‪ ،‬ألن صاحبه يح ُّس في مكانه كأن نمل ًة تد ُّب عليه وتع ُّضه»‪ ،‬ابن القيم يف زاد‬
‫وح تخرج في الجنبين‪ ،‬وهو دا ٌء معر ٌ‬
‫(‪« )5‬قر ٌ‬
‫المعاد‪.‬‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم «‪»2196‬؛ كتاب السالم؛ باب «استحباب ُّ‬
‫‪65‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقية بسورة الفاتحة للمسموم يبدو أنها رفعت مناعته‬


‫العين والسموم والقروح‪ ،‬وما فعلته ُّ‬
‫السم وعويف منه‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫الطبيعية‪ ،‬فقاوم ُّ‬

‫ان‬
‫اإلن َْس ُ‬ ‫ول الل ِ ﷺ ك َ‬
‫َان إِ َذا ْاش َتكَى ْ ِ‬ ‫ويف الحديث عن سفيان بإسناده إلى عائشة ڤ‪َ ،‬أ َّن َر ُس َ‬
‫َت بِ ِه َق ْر َحة َأ ْو ُج ْرح‪َ ،‬ق َال‪ :‬النَّبِ ُّي ﷺ بِإِ ْص َب ِع ِه َهك ََذا‪- ،‬ووضع سفيان سبابته‬ ‫الش ْي َء ِمنْ ُه‪َ ،‬أ ْو كَان ْ‬
‫َّ‬
‫يمنَا‪ِ ،‬بإِ ْذ ِن َربنَا»(‪ ،)2‬قال‬ ‫ِ (‪ِ )1‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ِم الل‪ ،‬ت ُْر َب ُة َأ ْرضنَا‪ِ ،‬برِي َقة َب ْعضنَا‪ ،‬ل ُي ْش َفى ِبه َسق ُ‬
‫باألرض‪ ،‬ثم رفعها‪ِ « -‬ب ْ‬
‫الرقى من كل األمراض والجراح‬
‫أبو العباس القرطبي يف شرحه لهذا الحديث‪« :‬يدل على جواز ُّ‬
‫ً‬
‫معموال به عندهم»(‪.)3‬‬ ‫أمرا فاش ًيا بينهم‬
‫والقروح‪ ،‬وأن ذلك كان ً‬

‫إ ًذا مجالها أمراض كثيرة يقع فيها اإلنسان أو الحيوان‪ ،‬بل رأينا تأثيرها على الجمادات كذلك‪،‬‬

‫وكما علمنا بالقول بتأ ُّثر جزيئات الماء ب ُّ‬


‫الرقية‪ ،‬فإن الجسم أكثره سوائل‪ ،‬وإذا تأثرت السوائل يف‬

‫الرقية فإنه ال يمنع تأ ُّثرها ب ُّ‬


‫الرقية داخل الجسد‪ ،‬واألمر يثبت بالتجربة والمالحظة‪.‬‬ ‫الخارج ب ُّ‬

‫أخذ المال على الرقية‪:‬‬

‫قرأنا يف حديث الرقية بسورة الفاتحة من سم العقرب(‪ )4‬كيف أن الصحابة ﭫ اشرتطوا أخذ‬
‫مقابل مادي على الرقية‪ ،‬وذلك قبل أن يبدأوا فيها‪ ،‬ولما سألوا رسول اهلل ﷺ عن ذلك أقرهم عليه‪،‬‬
‫بل طلب منهم مشاركتهم يف ذلك المقابل للتأكيد على أنه حالل جائز ال حرج فيه‪ ،‬وليرفع ﷺ عن‬
‫الصحابة ﭫ أي شك أو ريب حيال هذا المقابل‪ ،‬ثم يأيت يف زمننا من يقول بأنه يجد حر ًجا يف أن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬ويف رواية أخرى البخاري «‪ُ « :»5413‬يشفى سقيمنا»‪.‬‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2194‬؛ كتاب السالم؛ باب «استحباب ُّ‬
‫(‪ )3‬المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم «‪ »2132‬ألبي العباس القرطبي؛ كتاب «الرقى والطب»؛ باب «ما كان يرقي به رسول اهلل‬
‫ﷺ المرضى‪ ،‬وكيفية ذلك»‪.‬‬
‫(‪ )4‬الحديث ورد يف صفحة ‪.39‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪66‬‬

‫يأخذ الراقي أجر ًة على رقيته‪ ،‬أو يدعي أن األفضل أن تكون الرقية بال مقابل‪ ،‬ويعيب على الرقاة‬
‫أخذهم شي ًئا مقابل رقيتهم! أال يدرك هؤالء أنهم يحاولون التك ُّلم يف شيء قد قضى فيه رسول ﷺ‬
‫وأقر بإباحته ولم يحكم عليه بالنهي أو حتى بالكراهة؟! وتب ًعا لذلك فإن أئمة المذاهب كلهم على‬
‫اضرِ ُبوا لِي بِ َس ْه ٍم َم َعك ُْم» هذا‬
‫جواز ذلك‪ ،‬قال اإلمام النووي ‪« :$‬قوله ﷺ « ُخ ُذوا ِمن ُْه ْم َو ْ‬
‫يح بجواز أخذ األجرة على الرقية بالفاتحة والذكر‪ ،‬وأهنا حالل ال كراهة فيها‪ ،‬وكذا األجرة‬
‫تصر ٌ‬
‫على تعليم القرآن‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وآخرين من السلف‬
‫قائال‪« :‬وأما قوله‬‫الرقية»‪ ،‬ثم عقب ً‬ ‫ومن بعدهم‪ ،‬ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن‪ ،‬وأجازها في ُّ‬
‫اضرِ ُبوا لِي بِ َس ْه ٍم َم َعك ُْم» فهذه‬
‫اضرِ ُبوا لِي بِ َس ْه ٍم َم َعك ُْم» وفي الرواية األخرى «ا ْق ِس ُموا َو ْ‬
‫ﷺ « َو ْ‬
‫القسمة من باب المروءات والتربعات ومواساة األصحاب والرفاق‪ ،‬وإال فجميع الشياه ملك‬
‫للراقى مختصة به‪ ،‬ال حق للباقين فيها عند التنازع‪ ،‬فقاسمهم ‪-‬الراقي‪ -‬ترب ًعا وجو ًدا ومروء ًة‪ ،‬وأما‬
‫اضرِ ُبوا لِي بِ َس ْه ٍم» فإنما قاله تطيي ًبا لقلوبهم ومبالغ ًة في تعريفهم أنه حال ٌل ال شبهة‬
‫قوله ﷺ « َو ْ‬
‫فيه»(‪.)1‬‬

‫نتفق مع الجميع على أن اإلسالم ينهى عن الجشع والطمع واستغالل الناس‪ ،‬وهذا يف كل‬
‫ً‬
‫معقوال على رقيته بال مغاالة وال نية سيئة فهذا ليس‬ ‫مقابال ماديا‬
‫ً‬ ‫المجاالت‪ ،‬لكن أن يأخذ الراقي‬
‫السنة وفعل الصحابة ﭫ‪ ،‬وبالتجربة ثبت أن المريض إذا دفع ً‬
‫ماال‬ ‫فيه حرج‪ ،‬بل إنه قد وافق ُّ‬
‫ليتعالج فإنه يلتزم بكل تعليمات المعالج‪ ،‬وكذلك يكون لهذا الدفع تأثير نفسي إيجابي عليه‪،‬‬
‫بعكس ما لو قدم إليه العالج مجانًا؛ فإنه يحتقره أو يتجاهله‪ ،‬وال يتشجع يف تناوله‪ ،‬ويكون عنده ‪-‬‬
‫من الناحية النفسية‪ٌّ -‬‬
‫شك يف مدى فاعلية هذا العالج‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬شرح صحيح مسلم للنووي؛ كتاب «السالم»؛ باب «جواز أخذ األجرة على الرقية بالقرآن واألذكار»‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫الرقية‬

‫الرقى؟‬
‫ومراكز ُّ‬
‫الراقي َ‬
‫ما هي أحكام َّ‬

‫الراقي مثله مثل الطبيب‪ ،‬ال فرق بينهما‪ ،‬غير أن لكل واحد منهما طريقة مختلفة يف العالج‪،‬‬
‫الرقى مثل المستشفيات‬
‫ويجب أن تطبق عليه جميع األحكام الشرعية الخاصة بالطبيب‪ ،‬ومراكز ُّ‬
‫ال فرق بينهما‪ ،‬بل إن المستشفى الناجح هو الذي يجمع جميع ال ُّطرق الطبية يف أجنحته بما فيها‬
‫الرقية‪ .‬وقد مر معنا يف األحاديث المذكورة يف بداية هذا الفصل؛ كيف كان بعض الصحابة ﭫ‬
‫ُّ‬
‫معروفين برقى معينة‪ ،‬وأقرهم عليها رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وأما القول بأنه لم تكن هناك مراكز رقى يف‬
‫زمن النبي ﷺ؛ فالجواب‪ :‬أنه لم تكن هناك يف العهد النبوي مستشفيات وال عيادات وال صيدليات‬
‫مثلما يوجد لدينا اآلن‪.‬‬

‫الرقية َع ْن ُبعد؟‬
‫ما هو حكم ُّ‬

‫الرقية عن بعد‪ ،‬فيكون الراقي يف مكان‪ ،‬والمريض يف مكان آخر‪،‬‬


‫يتساءل البعض عن حكم ُّ‬
‫ر ُّبما يف حي آخر‪ ،‬أو مدينة أخرى‪ ،‬وربما يف دولة أخرى‪ ،‬وذلك إما عن طريق أجهزة التواصل مثل‬
‫الهاتف‪ ،‬أو برامج االتصال عن طريق اإلنرتنت‪ ،‬وربما من دون أي وسيط‪ ،‬فأقول‪ :‬إنه شر ًعا ليس‬
‫هناك مان ٌع أو قيدٌ يف المسافة التي يجب أن تكون بين الراقي والمريض‪ ،‬وأما عق ًال فقد ثبت‬
‫مريضا يف جاكرتا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فمثال يمكن لراق يف مكة أن يرقي بوسيط مثل الهاتف‬
‫ً‬ ‫بالتجربة فائدة ذلك‪،‬‬
‫ويمكنه كذلك أن يقرأ بال أي وسيط على مريض يف نواكشوط‪ ،‬وقد لوحظ بالتجربة بوضوح تأثير‬
‫الرقية عن بعد على المرضى‪ ،‬وإذا كان الساحر الكافر يستطيع أن يقرأ الطالسم الكفرية ويؤثر هبا‬
‫ُّ‬
‫الرقية بالكالم المباح أو بكالم اهلل يف المرضى عن‬
‫على المسحور من بعد؛ فمن باب أولى أن تؤثر ُّ‬
‫الرقية عن بعد؛ ليس عنده تحديدٌ لمسافة القصر يف الصالة‪،‬‬
‫بعضا ممن يحرم ُّ‬
‫بعد‪ .‬والعجيب أن ً‬
‫فيقول‪ :‬لم يرد يف ذلك شيء‪ ،‬لكنه يص ُّر أن الراقي يجب أال يبتعد عن المريض أكثر من سنتيمرتات‬
‫معينة‪ ،‬فمن أين جاء هبذا القول؟‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪68‬‬

‫القرآن يف الحمام والمجاري؟‬


‫َ‬ ‫هل يجوز سكب الماء المقروء عليه‬

‫يكثر السؤال عن حكم سكب الماء المقروء عليه القرآن يف الحمام والمجاري خاصة بعد‬
‫االغتسال به‪ ،‬والجواب‪ :‬إن الماء المقروء عليه آيات قرآنية يجوز سكبه يف المجاري واألماكن‬
‫النجسة‪ ،‬ألن الذي حصل هو تأ ُّثر الماء بالقراءة عليه وتغ ُّيره بذلك‪ ،‬مثله مثل المريض المقروء‬
‫عليه آيات قرآنية؛ فإن هذا المريض بعد القراءة عليه يمكنه الذهاب إلى الحمام لقضاء حاجته‪ ،‬وال‬
‫حرج يف ذلك‪ .‬وسئل الشيخ ابن باز ‪« :$‬هل يجوز االغتسال بالماء المقروء يف أماكن الخالء؟»‬
‫فأجاب‪« :‬نعم‪ ،‬االغتسال بالماء المقروء يف الحمام ليس فيه بأس»(‪ ،)1‬وأجاب الشيخ محمد صالح‬
‫قائال‪« :‬نعم‪ ،‬ال بأس بذلك‪ ،‬ألنه ليس للماء المقروء فيه القرآن حكم‬
‫المنجد على سؤال مشابه ً‬
‫القرآن‪ ،‬وال الشريط المسجل عليه القرآن حكم المصحف‪ ،‬ولذلك يجوز للجنب والحائض أن‬
‫يمسا شريط القرآن‪ ،‬وكذلك يجوز أن يغتسل بالماء المرقي فيه يف الحمام ولو كان ماء زمزم»(‪.)2‬‬

‫أما إن كان الماء ممحوا بآيات كتبت بمداد كالزعفران وغيره؛ فحينها أرى األفضل عدم‬
‫االغتسال به يف الحمام‪ ،‬وعدم سكبه يف المجاري أو األماكن النجسة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫________________‬
‫نقال عن فتوى مسجلة للشيخ‬
‫(‪« )1‬فتح الحق المبين يف أحكام رقى الصرع والسحر والعين» ألبي الرباء ياسين المعاين؛ صفحة ‪ً ،351‬‬
‫بتاريخ ‪ 8‬شعبان ‪1419‬هـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المكتبة الشاملة؛ دروس للشيخ محمد المنجد «دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية»؛ درس «‪.»32‬‬
‫‪69‬‬ ‫الرقية‬

‫هل األفضل رقية المريض لنفسه؟‬

‫يقال‪ :‬إن رقية الشخص لنفسه أفضل من غيره‪ ،‬وشر ًعا ليس هناك ما يد ُّل على هذا التفضيل‪،‬‬
‫فقد ورد أن الرسول ﷺ رقى نفسه‪ ،‬وورد أن جربيل ڠ رقى رسول اهلل ﷺ(‪ ،)1‬فاألمر سوا ٌء‪،‬‬
‫ورأينا كذلك كيف أقر الرسول ﷺ رقية الصحابة على غيرهم؛ من دون تنبيه أن ذلك مفضول‬
‫ون» عن السبعين أل ًفا الذين يدخلون الجنة‬
‫وليس بأفضل‪ ،‬أما قوله ﷺ يف حديث آخر‪َ « :‬و َال َي ْس َت ْر ُق َ‬
‫بال حساب‪ ،‬فال يد ُّل كذلك على التفضيل‪ ،‬وقد فصلت القول يف ذلك يف فصل «حكم التداوي»‪.‬‬

‫أما من ناحية التجربة والخربة‪ ،‬فأسأل‪ :‬هل األفضل أن يطبب اإلنسان نفسه؟ أم يذهب إلى‬
‫طبيب؟ وجواب ذلك يختلف حسب مرض المريض وعلمه وقدرته‪ ،‬ففي بعض الحاالت قد‬
‫يفضل أن يطبب المريض نفسه؛ لئال يهدر وق ًتا وجهدً ا فيما ال داعي له‪ ،‬ويف بعض الحاالت يلزم‬
‫الرقية‪ ،‬ففي بعض الحاالت قد‬
‫المريض الذهاب إلى الطبيب‪ ،‬وهذا الحكم نفسه ينطبق على ُّ‬
‫يفضل أن يرقي المريض نفسه‪ ،‬وبعض الحاالت قد يلزم المريض فيها أن يستعين بمن يساعده‪ ،‬أو‬
‫أن يذهب إلى متخصص يرقيه‪.‬‬

‫تبديع وتفسيق الرقاة بغير حق‪:‬‬

‫الرقية أن يكف عن تبديع وتفسيق‬


‫والتبحر يف علم العالج ب ُّ‬
‫ُّ‬ ‫نرجو ممن لم يرزقه اهلل التع ُّلم‬
‫الناس ورميهم بالجهل‪ ،‬ومن قال‪« :‬ال أدري»‪ ،‬فقد أفتى‪ ،‬وال نقلل من شأن العلماء والفقهاء وال‬
‫قديما‪« :‬من تكلم يف غير فنه أتى بالعجائب»‪،‬‬
‫ً‬ ‫نتهمهم يف إخالصهم أو يف نياهتم‪ ،‬ولكن قد قالوا‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬عن أبي سعيد الخدري ﭬ‪ ،‬أن جبريل ڠ أتى النبي ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد اشتكيت؟ فقال ﷺ‪َ « :‬ن َع ْم»‪ ،‬قال جربيل ڠ‪« :‬باسم‬
‫اهلل أرقيك‪ ،‬من كل شيء يؤذيك‪ ،‬من شر كل نفس أو عين حاسد‪ ،‬اهلل يشفيك باسم اهلل أرقيك»؛ صحيح مسلم «‪»2186‬؛ كتاب‬
‫والرقى»‪.‬‬
‫«السالم»؛ باب «الطب والمرض ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪70‬‬

‫ومن حرم شي ًئا أباحه اهلل فقد أتى بمصيبة كبيرة ومعصية عظيمة‪ ،‬وقد رأينا رقا ًة كثيرين لم يخرجوا‬
‫للرقية‪ ،‬ولم يرتكبوا شر ًكا وال محر ًما‪ ،‬ولكنهم قوبلوا بوابل من الكالم‬
‫عن فهم السلف الصالح ُّ‬
‫والمالم‪ ،‬واهلل المستعان على كل شيء‪ ،‬وهو سبحانه ُّ‬
‫أجل وأعلم‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫الرقية بذاهتا دعاء وعبادة محضة بعد كل ما أورد ُّته يف هذا الفصل‪ ،‬فإن الباب أمامه‬
‫من أصر أن ُّ‬
‫مفتوح ليأتينا بدليل ثابت صريح‪ ،‬أو بفهم للصحابة ﭫ والسلف الصالح‪ ،‬فالبينة على من ادعى‪،‬‬
‫واهلل الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬
‫ُّ ْ‬
‫‪71‬‬ ‫النشرة‬

‫الن ُّْشرة‬

‫النُّشرة والتنشير ‪-‬كما وردا يف كتب ال ُّلغة‪ -‬تعني‪ :‬طر ًقا عالجي ًة للسحر والمس‪ ،‬وذلك مثل‬
‫الرقية والعالج‪ ،‬يعالج به من كان يظ ُّن أن‬
‫الرقية‪ ،‬قال ابن األثير ‪ $‬يف تعريف النُّشرة‪« :‬ضر ٌب من ُّ‬
‫ُّ‬
‫به مسا من الجن‪ ،‬سميت نشر ًة ألنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء‪ :‬أي يكشف ويزال»(‪ ،)1‬ويف‬
‫كتاب العين‪« :‬النُّشرة‪ :‬رقية عالج للمجنون»(‪ ،)2‬ويف المخصص‪« :‬نشرت عن المريض‪ :‬رقيته حتى‬
‫يفيق وهو النُّشرة»(‪.)3‬‬

‫أما الحكم الشرعي؛ فإن النُّشرة مثل جميع طرق العالج والطب‪ ،‬منها ما هو جائ ٌز‪ ،‬ومنها ما‬
‫الرقية»(‪.)4‬‬
‫البيهقي ‪« :$‬والقول فيما يكره من النُّشرة وفيما ال يكره؛ كالقول في ُّ‬
‫ُّ‬ ‫هو حرام‪ ،‬قال‬
‫وقال ابن القيم ‪« :$‬والنُّشرة‪ :‬ح ُّل السحر عن المسحور‪ ،‬وهي نوعان‪:‬‬

‫األول‪ :‬ح ُّل سحر بسحر مثله‪ ،‬وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمله‪ ،‬فيتقرب‬
‫ب‪ ،‬فيبطل عمله عن المسحور(‪.)5‬‬
‫إليه الناشر والمنتشر بما يح ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬النهاية يف غريب الحديث واألثر البن األثير؛ حرف النون؛ باب «النون مع الشين»‪.‬‬
‫(‪ )2‬العين للفراهيدي؛ باب «الشين والراء والنون معهما»‪.‬‬
‫والرقية‪.‬‬
‫(‪ )3‬المخصص ألبي الحسن المرسي؛ التمائم والخيط يستذكر به ُّ‬
‫(‪ )4‬السنن الكربى للبيهقي؛ جماع أبواب كسب الحجام؛ باب النشرة‪.‬‬
‫حرا جديدً ا‬
‫(‪ )5‬لعله اجتها ٌد من اإلمام ابن القيم ‪ $‬وغيره‪ ،‬ولكن األصوب فيما تبين لي أن الساحر ال يبطل سحر غيره‪ ،‬بل يعمل س ً‬
‫يطغى على السحر القديم‪ ،‬أو يعقد هدنة مع خدم السحر القديم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪72‬‬

‫ِ‬
‫ب»(‪.)1‬‬ ‫َوال َّثاني‪ :‬النُّشرة ب ُّ‬
‫الرقية والتع ُّوذات والدعوات واألدوية المباحة‪ ،‬فهذا جائ ٌز‪ ،‬بل مستح ٌّ‬

‫وقال ابن حجر‪« :$‬وممن صرح بجواز النُّشرة المزن ُّي صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبر ُّي‬
‫وغيرهما»(‪.)2‬‬

‫ولما سئل النبي ﷺ عن النوع الحرام من النُّشرة قال عليه الصالة والسالم‪ُ « :‬ه َو ِم ْن َع َم ِل‬
‫الش ْي َطان»(‪ ،)3‬والنوع المباح مثل ما جاء يف حديث الرسول ﷺ لما سحر يف صحيح البخاري؛‬ ‫َّ‬
‫حيث سألته عائشة ڤ‪« :‬أفال ‪-‬أي‪ :‬أفال تنشرت؟‪ »-‬فأجاب ﷺ‪َّ « :‬أما اللُ َف َقدْ َش َفانِي‪َ ،‬و َأك َْر ُه َأ ْن‬
‫ُأثِ َير َع َلى َأ َح ٍد ِم َن النَّاس َش ًّرا»(‪ ،)4‬فدل هذا على النوع المباح من النُّشرة‪ ،‬وأن النبي ﷺ لم‬
‫يستعملها ألنه تحقق له الهدف من استعمالها وهو الشفاء؛ فقد شفاه اهلل من دون نشرة ﷺ‪.‬‬

‫وقد جاء يف كتب السابقين بعض أمثلة النشرة المباحة والمعلومة لديهم‪ ،‬بعضها بأسانيد‬
‫منقطعة‪ ،‬قد تكون عرفت لديهم بالتجربة واالجتهاد الطبي‪ ،‬أذكرها لضرب األمثلة وإيضاح‬
‫الفكرة‪:‬‬
‫‪« -1‬قال عبد الرزاق‪ :‬وقال الشعب ُّي‪ :‬ال بأس بالنُّشرة العربية التي ال تض ُّر إذا وطئت‪ ،‬والنُّشرة‬
‫العربية‪ :‬أن يخرج اإلنسان في موضع عضاه(‪ ،)5‬فيأخذ عن يمينه وشماله من كل ثمر يد ُّقه‬
‫ويقرأ فيه‪ ،‬ثم يغتسل به»(‪.)6‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬إعالم الموقعين عن رب العالمين البن القيم؛ فصل «من فتاوى إمام المفتين»؛ فصل «فتاوى يف الطب»‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري البن حجر؛ قوله‪« :‬باب هل يستخرج السحر؟»‪.‬‬
‫(‪ (3‬سنن أبي داود «‪»3868‬؛ كتاب الطب؛ باب يف النشرة‪ ،‬عن جابر بن عبد اهلل ﭬ قال‪ :‬سئل رسول اهلل ﷺ عن النُّشرة فقال‪ُ « :‬ه َو ِم ْن‬
‫الش ْي َط ِ‬
‫ان»‪ ،‬قال األرناؤوط‪« :‬إسناده صحيح»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة حديث «‪.»2760‬‬ ‫َع َم ِل َّ‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»5432‬؛ كتاب الطب؛ باب «هل يستخرج السحر؟»‪.‬‬
‫(‪ )5‬العضاه‪ :‬كل شجر له شوك مثل الطلح والسلم والسمر والسدر؛ غريب الحديث البن قتيبة‪.‬‬
‫(‪ )6‬جامع معمر بن راشد «‪»19763‬؛ باب «النشر وما جاء فيه»‪ ،‬واإلسناد منقطع بين عبد الرزاق والشعبي‪.‬‬
‫ُّ ْ‬
‫‪73‬‬ ‫النشرة‬

‫‪ -2‬قال ابن بطال ‪« :$‬ويف كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر‪ ،‬فيدقه بين‬
‫حجرين‪ ،‬ثم يضربه بالماء‪ ،‬ويقرأ فيه آية الكرسي وذوات قل(‪ ،)1‬ثم يحسو منه ثالث حسوات‬
‫ويغتسل به»(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬قال ابن حجر ‪« :$‬ثم وقفت على صفة النُّشرة في كتاب الطب النبوي لجعفر المستغفري‪،‬‬
‫قال‪« :‬وجد ُّت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من تفسير قتيبة بن أحمد البخاري‪،‬‬
‫طب‪ ،‬أخذ عن امرأته‪ ،‬أيح ُّل له أن ينشر؟» قال‪:‬‬
‫قال‪ :‬قال قتادة لسعيد بن المسيب‪« :‬رج ٌل به ٌّ‬
‫وح‪ :‬فسألني حماد بن‬
‫«ال بأس‪ ،‬إنما يريد به اإلصالح‪ ،‬فأما ما ينفع فلم ينه عنه»‪ ،‬قال نص ٌ‬
‫شاكر‪« :‬ما الح ُّل وما النُّشرة؟» فلم أعرفهما‪ ،‬فقال‪ُّ « :‬‬
‫الحل‪ :‬هو الرجل إذا لم يقدر على‬
‫مجامعة أهله وأطاق ما سواها‪ ،‬فإن المبتلى بذلك يأخذ حزمة قضبان‪ ،‬وفأ ًسا ذا قطارين‪،‬‬
‫ويضعه في وسط تلك الحزمة‪ ،‬ثم يؤجج ن ًارا في تلك الحزمة‪ ،‬حتى إذا ما حمي الفأس‬
‫استخرجه من النار‪ ،‬وبال على حره‪ ،‬فإنه يبرأ بإذن اهلل تعالى(‪ ،)3‬وأما النُّشرة فإنه يجمع أيام‬
‫الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة وورد البساتين‪ ،‬ثم يلقيها في إناء نظيف‪ ،‬ويجعل فيهما ما ًء‬
‫عذ ًبا‪ ،‬ثم يغلي ذلك الورد في الماء غل ًيا يس ًيرا‪ ،‬ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه‪ ،‬فإنه‬
‫يبرأ بإذن اهلل تعالى»»»(‪.)4‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القواقل‪ :‬السور التي تبدأ بـ «قل»‪ ،‬وهي‪ :‬الكافرون‪ ،‬اإلخالص‪ ،‬الفلق‪ ،‬الناس‪.‬‬
‫(‪ )2‬شرح صحيح البخاري البن بطال؛ كتاب الطب؛ باب «هل يستخرج السحر؟»‪.‬‬
‫(‪ )3‬لعل الحكمة من هذا أنه ربما يوجد يف بول المريض آثار الجن خادم السحر‪ ،‬والفأس من حديد‪ ،‬والحديد عرف عند المجربين أنه‬
‫ُّ‬
‫وتبخر البول سيؤدي إلى استنشاقه من قبل المسحور‪ ،‬مما يف ذلك استنشاق ألثر الجان‬ ‫شديد على الجان‪ ،‬والحدان رمزٌ للزوجين‪،‬‬
‫ٌ‬
‫محتمل ألحد الرقاة‪ ،‬واهلل أعلم بالصواب‪ ،‬وليس يف‬ ‫مخلو ًطا بأثر الحديد‪ ،‬وقد يؤدي ذلك إلى افتكاكه من خادم السحر‪ ،‬وهذا تفسير‬
‫هذه الوصفة ُّ‬
‫فك سحر بسحر‪ ،‬وال وجه لتحريمه كما ذهب إليه بعض العلماء‪.‬‬
‫(‪ )4‬فتح الباري البن حجر؛ قوله‪« :‬باب هل يستخرج السحر؟»‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪74‬‬

‫‪ -4‬ولما تكلم ابن حجر ‪ $‬عن اغتسال المعيون بماء العائن‪ ،‬ذكر أن هذا االغتسال هو من‬
‫النُّشرة النافعة(‪ ،)1‬كذلك قال ابن بطال يف شرحه لصحيح البخاري(‪.)2‬‬

‫الرقية والنُّشرة‪:‬‬
‫الفرق ب ْي َن ُّ‬
‫ْ‬

‫الرقية ترتكز على الكلمات واأللفاظ‪ ،‬وقد تقرتن‬


‫المتأ ُّمل يف التعريفات واألمثلة؛ يجد أن ُّ‬
‫بأشياء أخرى‪ ،‬أما النُّشرة عكس ذلك‪ ،‬فهي طرق عالجية ‪-‬كاالغتسال باألعشاب‪ -‬ليس شر ًطا أن‬
‫يكون معها رقية‪ ،‬وقد تصاحبها رقية‪ ،‬كذلك فإن تعريف النُّشرة يخص معالجتها للمس والسحر‬
‫فقط‪ ،‬بينما مجال الرقية يف العالج أوسع بكثير؛ واهلل أعلم‪ ،‬لكن يف زمننا هذا ندر استعمال لفظة‬
‫الرقية فقط هي اللفظ الشائع‬
‫النُّشرة‪ ،‬حتى إنه من الممكن القول أنه اندثر استعمالها‪ ،‬وأصبحت ُّ‬
‫عند الجميع‪.‬‬

‫النُّشرة وفك السحر بالسحر‪:‬‬

‫زعم بعض المعاصرين أن معنى النُّشرة محصور يف فك السحر بالسحر‪ ،‬والقارئ لهذا‬
‫الفصل؛ يجد من التعريفات التي فيه ومن أقوال العلماء وأمثلة النُّشرة المباحة ما يدحض هذا‬
‫الزعم ويخطئه‪ ،‬لكنهم لم يكتفوا هبذا الخطأ‪ ،‬بل جعلوه سل ًما إلباحة فك السحر بالسحر‪ ،‬وزعموا‬
‫أن كل من قال بإباحة النُّشرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين؛ فهو يجيز فك السحر بالسحر‪،‬‬
‫وهذا افتراء وكذب وتعد على سلف األمة وعلمائها‪ ،‬وقد تبين يف هذا الفصل أنهم أجازوا النُّشرة‬
‫التي لم تخالف الشرع‪ ،‬وما خالفها فقد حرموه‪ ،‬وارجع إلى فصل «فك السحر بالسحر» لمزيد من‬
‫التفصيل‪.‬‬

‫________________‬
‫كامال يف صفحة ‪.221‬‬
‫(‪ )1‬سيأيت كالمه ً‬
‫(‪ )2‬شرح صحيح البخاري البن بطال؛ شرح باب «رقية العين»‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪75‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫ُحكم التداوي‬

‫اختلف العلماء يف حكم التداوي‪ ،‬فالجمهور على مشروعيته من دون وجوبه‪ ،‬وذهب البعض‬
‫إلى وجوبه‪ ،‬وآخرون على استحبابه‪ ،‬وبعضهم يرى تركه أفضل من فعله‪ ،‬ولكل أدلته واستدالالته‪،‬‬
‫قال ابن عبد الرب ‪« :$‬وعلى إباحة التداوي واالسترقاء جمهور العلماء»(‪ ،)1‬لكنني أرى من‬
‫الالزم التنبيه على بعض ما يتعلق بحديثين كان لهما أثر كبير يف هذه األحكام‪:‬‬

‫الحديث األول‪:‬‬

‫ت َع َل َّي األُ َم ُم‪َ ،‬ف َأ َخ َذ النَّبِ ُّي َي ُم ُّر َم َع ُه األُ َّمةُ‪،‬‬


‫عن ابن عباس ﭬ قال‪ :‬قال النب ُّي ﷺ‪ُ « :‬عرِ َض ْ‬
‫َوالنَّبِ ُّي َي ُم ُّر َم َع ُه النَّ َف ُر‪َ ،‬والنَّبِ ُّي َي ُم ُّر َم َع ُه ال َع َش َرةُ‪َ ،‬والنَّبِ ُّي َي ُم ُّر َم َع ُه الخَ ْم َسةُ‪َ ،‬والنَّبِ ُّي َي ُم ُّر َو ْحدَ ُه‪َ ،‬فنَ َظ ْر ُت‬
‫يل‪َ ،‬ه ُؤال َِء ُأ َّمتِي؟ َق َال‪َ :‬ال‪َ ،‬و َلكِ ِن ا ْن ُظ ْر إِ َلى األُ ُف ِق‪َ ،‬فنَ َظ ْر ُت َفإِ َذا َس َواد‬ ‫ت‪َ :‬يا ِج ْبرِ ُ‬ ‫َفإِ َذا َس َواد كَثِير‪ُ ،‬ق ْل ُ‬
‫ت‪َ :‬ولِ َم؟‬ ‫اب‪ُ ،‬ق ْل ُ‬‫اب َع َل ْي ِه ْم َو َال َع َذ َ‬
‫ِ‬
‫ون َأ ْل ًفا ُقدَّ َام ُه ْم َال ح َس َ‬ ‫ُك‪َ ،‬و َه ُؤ َال ِء َس ْب ُع َ‬ ‫كَثِير‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ه ُؤ َال ِء ُأ َّمت َ‬
‫ون»(‪ ،)2‬ويف رواية أخرى عن‬ ‫ون‪َ ،‬و َع َلى َرب ِه ْم َيت ََو َّك ُل َ‬ ‫ون‪َ ،‬و َال َي َت َط َّي ُر َ‬‫ون‪َ ،‬و َال َي ْست َْر ُق َ‬‫َق َال‪ :‬كَانُوا َال َي ْكت َُو َ‬
‫ِ‬ ‫ون َأ ْل ًفا بِ َغ ْيرِ ِح َس ٍ‬
‫الجنَّ َة ِم ْن ُأ َّمتِي َس ْب ُع َ‬
‫اب‪ُ ،‬ه ُم ا َّلذ َ‬
‫ين‬ ‫ابن عباس ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال‪َ « :‬يدْ ُخ ُل َ‬
‫ون‪َ ،‬و َع َلى َرب ِه ْم َيت ََو َّك ُل َ‬
‫ون»(‪.)3‬‬ ‫ون‪َ ،‬و َال َي َت َط َّي ُر َ‬
‫َال َي ْست َْر ُق َ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬التمهيد البن عبد الرب؛ باب «الزاء»؛ الحديث «الخامس واألربعون»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»6175‬؛ كتاب «الرقاق»؛ باب‪« :‬يدخل الجنة سبعون أل ًفا بغير حساب»‪.‬‬

‫(‪ )3‬صحيح البخاري «‪»6107‬؛ كتاب «الرقاق»؛ باب ﱡﭐﲗﲘﲙﲚﲛﲜﱠ‪.‬‬


‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪76‬‬

‫الرقية‬
‫دليال على أفضلية ترك التداوي‪ ،‬وترك ُّ‬
‫اتخذ بعض العلماء السابقين هذا الحديث ً‬
‫والعالج‪ ،‬وسبب ذلك أنهم وجدوا من صفات السبعين أل ًفا الذين أكرمهم اهلل أنهم ال يسرتقون‪،‬‬
‫الرقية من الغير‪ ،‬فاستح ُّبوا عدم‬
‫وقال بعض المعاصرين أن االسترقاء المراد يف الحديث هو‪ :‬طلب ُّ‬
‫عال هذا هو المعنى؟‬
‫الرقية من الغير‪ ،‬فهل ف ً‬
‫طلب ُّ‬

‫للعلماء السابقين يف شرح الحديث أربعة أقوال ذكرها اإلمام ابن حجر العسقالين يف فتح‬
‫الرقى والكي من بين سائر األدوية‪،‬‬
‫الرقية‪ ،‬فتمسك بهذا الحديث من كره ُّ‬
‫الباري فقال ‪« :$‬وأما ُّ‬
‫وزعم أنهما قادحان في التوكُّل دون غيرهما‪ ،‬وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة‪:‬‬

‫‪ -1‬أحدها‪:‬‬
‫أ‪ -‬قاله الطبر ُّي والمازر ُّي وطائفةٌ‪ :‬أنه محم ٌ‬
‫ول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن‬
‫األدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون ‪-‬أي ال يسرتقون معتقدين الشفاء‬
‫الرقية والدواء‪ ،‬وإنما يعتقدون الشفاء من عند اهلل‪،-‬‬
‫يف ُّ‬
‫الرقى التي يحمد تركها ما كان من كالم الجاهلية؛ ومن الذي ال يعقل معناه؛‬
‫ب‪ -‬وقال غيره‪ُّ :‬‬
‫الرقى بالذكر ونحوه ‪-‬أي ال يسرتقون بر ًقى من كالم‬
‫الحتمال أن يكون كف ًرا‪ ،‬بخالف ُّ‬
‫الجاهلية أو بما ال يعقل معناه‪.-‬‬
‫اض وغيره‪ :‬بأن الحديث يد ُّل على أن للسبعين أل ًفا مزي ًة على غيرهم؛ وفضيل ًة‬
‫وتعقبه عي ٌ‬
‫انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة‪ ،‬ومن كان يعتقد أن األدوية تؤثر‬
‫بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسل ًما‪ ،‬فلم يسلم هذا الجواب‪.‬‬
‫‪ -2‬ثانيها‪ :‬قال الداود ُّي وطائفةٌ‪ :‬إن المراد بالحديث؛ الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية‬
‫تخو ًفا من الداء‬
‫وقوع الداء‪ ،‬وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فال‪- .‬يعني ال يتداوى ُّ‬
‫أصال‪ ،‬أي ال يسرتقون يف حال الصحة بال أي مرض‪ ،‬أما إن كان بالفعل‬
‫الذي ليس عنده ً‬
‫مريضا فليس عليه حرج‪.-‬‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫‪77‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫‪ -3‬ثالثها‪ :‬قال الحليم ُّي‪ :‬يحتمل أن يكون المراد بهؤالء المذكورين في الحديث؛ من غفل عن‬
‫أحوال الدُّ نيا‪ ،‬وما فيها من األسباب المعدة لدفع العوارض‪ ،‬فهم ال يعرفون االكتواء وال‬
‫االسترقاء‪ ،‬وليس لهم ملج ٌأ فيما يعتريهم إال الدُّ عاء‪ ،‬واالعتصام باهلل‪ ،‬والرضا بقضائه‪ ،‬فهم‬
‫الرقاة‪ ،‬وال يحسنون من ذلك شي ًئا واهلل أعلم‪- .‬أي ال‬
‫غافلون عن طب األطباء‪ ،‬ورقى ُّ‬
‫الرقى لعدم علمهم هبا أو لعدم استطاعتهم الوصول إليها‪ ،‬فال‬
‫يعلمون شي ًئا عن العالجات و ُّ‬
‫يسرتقون وال يتطببون لعدم معرفتهم بالعالج أو لعدم قدرهتم عليه‪.-‬‬
‫الرقى والكي االعتماد على اهلل في دفع الداء‪ ،‬والرضا بقدره‪ ،‬ال القدح‬
‫‪ -4‬رابعها‪ :‬أن المراد بترك ُّ‬
‫في جواز ذلك‪ ،‬لثبوت وقوعه في األحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح‪ ،‬لكن مقام‬
‫الرضا والتسليم أعلى من تعاطي األسباب‪ ،‬وإلى هذا نحا الخطاب ُّي ومن تبعه ‪-‬يعني يرتكون‬
‫جميع أنواع العالجات من رقية أو طب أو غيرها‪ ،‬راضين بالقدر‪ ،‬ومفوضين الشفاء إلى‬
‫اهلل‪.)1(»-‬‬

‫وقري ًبا من ذلك نقل النووي ‪ $‬حيث قال‪« :‬اختلف العلماء في معنى هذا الحديث‪،‬‬

‫‪ -)1‬فقال اإلمام أبو عبد اهلل المازر ُّي‪ :‬احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكرو ٌه‪،‬‬
‫ومعظم العلماء على خالف ذلك‪ ،‬واحت ُّجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره ﷺ لمنافع‬
‫األدوية واألطعمة‪ ،‬كالحبة السوداء والقسط والصبر وغير ذلك‪ ،‬وبأنه ﷺ تداوى‪ ،‬وبإخبار‬
‫عائشة ڤ بكثرة تداويه‪ ،‬وبما علم من االستشفاء برقاه‪ ،‬وبالحديث الذي فيه أن بعض‬
‫يث َع َلى َق ْو ٍم َي ْعت َِقدُ َ‬
‫ون َأ َّن‬ ‫الصحابة أخذوا على الرقية أجرا‪ ،‬فإذا ثبت هذا؛ ح ِم َل ما فِي ا ْلح ِد ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫اض‪« :‬قد ذهب إلى‬ ‫ون ْاألَ ْم َر إِ َلى الل ِ َت َعا َلى‪ ،‬قال القاضي عي ٌ‬
‫ْاألَ ْد ِو َي َة نَافِ َعة بِ َط ْب ِع َها َو َال ُي َفو ُض َ‬

‫________________‬
‫الر ُج ََل ِن‪ ،».....‬والجمل‬
‫الر ُج ُل‪َ ،‬والنَّبِ ُّي َم َع ُه َّ‬
‫ت َع َل َّي األُ َم ُم‪َ ،‬ف َج َع َل َي ُم ُّر النَّبِ ُّي َم َع ُه َّ‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر؛ شرح حديث‪ُ « :‬عرِ َض ْ‬
‫االعرتاضية من إضافتي‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪78‬‬

‫يم َه َذا الت َّْأ ِو ُ‬


‫يل‪ ،‬وإنما أخبر ﷺ أن‬ ‫ِ‬
‫هذا التأويل غير واحد ممن تكلم على الحديث‪َ ،‬و َال َي ْستَق ُ‬
‫هؤالء لهم مزي ٌة وفضيل ٌة يدخلون الجنة بغير حساب‪ ،‬وبأن وجوههم تضيء إضاءة القمر ليلة‬
‫البدر‪ ،‬ولو كان كما تأوله هؤالء لما اختص هؤالء بهذه الفضيلة؛ ألن تلك هي عقيدة جميع‬
‫المؤمنين‪ ،‬ومن اعتقد خالف ذلك كفر»‪،‬‬
‫‪ -)2‬وقد تكلم العلماء وأصحاب المعاني على هذا‪ ،‬فذهب أبو سليمان الخطاب ُّي وغيره إلى أن‬
‫الم َرا َد َم ْن ت ََرك ََها ت ََوك ًَُّل َع َلى الل ِ َت َعا َلى َو ِر َضا ًء بِ َق َضائِ ِه َو َب ََلئِ ِه‪ ،‬قال الخطاب ُّي‪« :‬وهذه من أرفع‬
‫درجات المحققين باإليمان»‪ ،‬قال‪« :‬وإلى هذا ذهب جماع ٌة سماهم»‪ ،‬قال القاضي‪« :‬وهذا‬
‫الرقى َو َسائِ ُر َأن َْوا ِع الطب»‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َظاه ُر ا ْل َحديث‪َ ،‬و ُم ْقت ََضا ُه َأ َّن ُه َال َف ْر َق َب ْي َن َما ُذك َر م َن ا ْلكَي َو ُّ‬
‫يث ا َّل ِذي َي ْف َع ُلو َن ُه فِي الص َّح ِة‪ ،‬فإنه يكره لمن ليست به عل ٌة أن‬ ‫‪ -)3‬وقال الداودي‪« :‬المراد بِا ْلح ِد ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُّ‬
‫الرقى‪ ،‬وأما من يستعمل ذلك ممن به مر ٌض فهو جائ ٌز»‪،‬‬
‫يتخذ التمائم ويستعمل ُّ‬
‫الرقى والكي من بين أنواع الطب لمعنًى‪ ،‬وأن الطب غير قادح‬
‫‪ -)4‬وذهب بعضهم إلى تخصيص ُّ‬
‫في التوكُّل‪ ،‬إذ تطبب رسول اهلل ﷺ والفضالء من السلف‪ ،‬وك ُّل سبب مقط ٌ‬
‫وع به؛ كاألكل‬
‫و ُّ‬
‫الشرب للغذاء والري ال يقدح يف التوكُّل عند المتكلمين في هذا الباب‪ ،‬ولهذا لم ينف عنهم‬
‫التط ُّبب‪ ،‬ولهذا لم يجعلوا االكتساب للقوت وعلى العيال قاد ًحا في التوكُّل؛ إذا لم يكن ثقته‬
‫في رزقه باكتسابه‪ ،‬وكان مفو ًضا في ذلك كله إلى اهلل تعالى‪ ،‬والكالم في الفرق بين الطب‬
‫والكي يطول‪ ،‬وقد أباحهما النب ُّي ﷺ وأثنى عليهما‪ ،‬لكني أذكر منه نكت ًة تكفي‪ ،‬وهو أنه ﷺ‬
‫تطبب في نفسه وطبب غيره‪ ،‬ولم يكتو وكوى غيره‪ ،‬ونهى في الصحيح أمته عن الكي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ب أن أكتوي»‪ ،‬هذا آخر كالم القاضي واهلل أعلم‪.‬‬
‫«ما أح ُّ‬
‫ُ‬
‫‪79‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطاب ُّي ومن وافقه كما تقدم‪ ،‬وحاصله أن هؤالء كمل‬
‫تفويضهم إلى اهلل ‪ ‬فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم‪ ،‬وال شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان‬
‫صاحبها‪ ،‬وأما تط ُّبب النبي ﷺ ففعله ليبين لنا الجواز واهلل أعلم»(‪.)1‬‬

‫جائز من غير شك‪ ،‬وإنه ال يح ُّط المرتبة‬


‫أما ابن العربي ‪ $‬ذكر ثالثة أقوال‪ ،‬فقال‪« :‬التط ُّبب ٌ‬
‫وال يقدح يف المنزلة‪ ،‬وذلك إذا نزل الداء‪ ،‬وأما قبل نزوله؛ فقال علماؤنا‪ :‬إن ذلك مكرو ٌه‪ .‬والذي‬
‫عندي فيه‪ :‬أنه إذا رأى المرء أسبابه‪ ،‬وخشي من نزوله‪ ،‬فإنه يجوز له قطع سببه فيتداوى‪ ،‬فإن قطع‬
‫السبب قطع المسبب‪ ،‬ولو كان التداوي يح ُّط المرتبة‪ ،‬واالسرتقاء يقدح يف المنزلة‪ ،‬ما اسرتقى‬
‫النبي ﷺ وال رقى‪ ،‬وال داوى وال تداوى‪.‬‬

‫وأما قوله ﷺ‪« :‬هم الذين ال يسترقون» الحديث‪ ،‬ففيه ثالثة تأويالت‪:‬‬

‫األول‪ :‬هم الذين ال يسترقون بالتمائم‪ ،‬كما كانت العرب والجاهلية تفعل‪.‬‬

‫التأويل الثاين‪ :‬هم الذين ال يسرتقون عند اليأس‪ ،‬كما فعل الصديق ﭬ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫التأويل الثالث‪ :‬هم الذين ال يسترقون قبل حلول المرض‪».‬‬

‫أسجل بعد هذه النقول بعض الملحوظات‪:‬‬

‫الرقى والكي من بين سائر‬


‫‪ -1‬ابتدأ ابن حجر ‪ $‬القول بأن هذا الحديث تمسك به من كره ُّ‬
‫الرقى والكي‪ ،‬ويف نقل النووي‬
‫جواب من العلماء على قول كراهة ُّ‬
‫ٌ‬ ‫األدوية‪ ،‬ونقله لألقوال هو‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬شرح النووي على مسلم؛ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة؛ كتاب اإليمان‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسالك يف شرح الموطأ البن العربي؛ باب «تعالج المريض»؛ الفصل «األول»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪80‬‬

‫الرقى والكي من بين أنواع الطب له معنى‪ ،‬أي أن هؤالء‬


‫أن بعضهم ذهب إلى أن تخصيص ُّ‬
‫الرقى والكي وبين سائر الطب بعض علماء مردو ٌد عليهم من علماء آخرين‪.‬‬
‫الذي فرقوا بين ُّ‬
‫‪ -2‬قال المازري ‪« :$‬إن معظم العلماء على خالف القول بأن التداوي مكروه»‪ ،‬وقد ذكرت يف‬
‫بداية هذا الفصل قول ابن عبد الرب ‪ $‬أن الجمهور على إباحته‪.‬‬
‫الرقية من الغير أو رقية اإلنسان لنفسه‪،‬‬
‫‪ -3‬لم يفرق الشارحون السابقون لهذا الحديث بين طلب ُّ‬
‫فكالهما عندهم بمنزلة سواء‪.‬‬
‫الرقى وسائر‬
‫‪ -4‬أكد القاضي ‪ $‬أن مقتضى ظاهر الحديث أنه ال فرق بين ما ذكر من الكي و ُّ‬
‫أنواع الطب‪.‬‬
‫قائال‪« :‬ولو كان التداوي يح ُّط المرتبة‪،‬‬
‫‪ -5‬ملحوظة مهمة جميلة ذكرها ابن العربي ‪ً $‬‬
‫واالسرتقاء يقدح يف المنزلة‪ ،‬ما اسرتقى النبي ﷺ وال رقى‪ ،‬وال داوى وال تداوى»‪.‬‬

‫والمفهوم مما سبق؛ أن من رجح معنى الحديث بأفضلية الترك ‪-‬كالخطابي والنووي‪ -‬فإنه‬
‫الرقية سواء‬
‫الرقية والكي فقط فقد عمم يف ترك كل ُّ‬
‫قال بترك جميع أنواع الطب‪ ،‬ومن قال بترك ُّ‬
‫كانت استرقا ًء من الغير أو رقية المريض لنفسه‪ ،‬أما القول بأن المعنى هو تخصيص ترك طلب‬
‫الرقية من الغير‪ ،‬فهذا كما رأينا لم ينقل إلينا عن العلماء السابقين‪.‬‬
‫ُّ‬

‫وزعم المانعون لطلب الرقية من المعاصرين بأن معنى االسترقاء يف ال ُّلغة هو طلب ُّ‬
‫الرقية من‬
‫الغير‪ ،‬واستد ُّلوا كذلك برواية حصين بن عبد الرحمن‪ ،‬حيث قال ‪« :$‬كنت عند سعيد بن جبير‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أ ُّيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت‪ :‬أنا‪ ،‬ثم قلت‪ :‬أما إني لم أكن في صالة‪،‬‬
‫ولكني لدغت‪ ،‬قال‪ :‬فماذا صنعت؟ قلت‪ :‬استرقيت‪ ،‬قال‪ :‬فما حملك على ذلك؟ قلت‪ :‬حد ٌ‬
‫يث‬
‫حدثناه الشعب ُّي فقال‪ :‬وما حدثكم الشعب ُّي؟ قلت‪ :‬حدثنا عن بريدة بن حصيب األسلمي ﭬ‪ ،‬أنه‬
‫ُ‬
‫‪81‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫ﷺ قال‪َ « :‬ال ُر ْق َي َة َّإال ِم ْن َع ْي ٍن َأ ْو ُح َم ٍة»‪ ،‬فقال‪ :‬قد أحسن من انتهى إلى ما سمع‪ ،‬ولكن حدثنا ابن‬
‫عباس‪ ،‬عن النبي ﷺ قال‪« :‬عرضت علي األمم‪ ....‬الحديث»»(‪ ،)1‬فقال المعاصرون إن حصينًا‬
‫الرقية من‬
‫استرقى فأورد له سعيد بن جبير الحديث لبيان أفضيلة ترك االسترقاء الذي هو طلب ُّ‬
‫الغير‪ ،‬والجواب على هذا من وجهين كما يلي‪:‬‬

‫أو ً‬
‫ال‪ :‬االسرتقاء لغة تعني «طلب الرقية»‪ ،‬بمعنى طلب فعلها‪ ،‬سواء فعلها المريض بنفسه أو‬
‫طلبها من غيره‪ ،‬لذا فإن حصر معنى االسرتقاء يف «طلب الرقية من الغير» خطأ وقصور وقع فيه‬
‫بعض المعاصرين‪ ،‬وذلك مثل لفظة االستشفاء‪ ،‬فاالستشفاء ال تعني حصر طلب العالج من الغير‪،‬‬
‫وإنما ترادف التعالج‪ ،‬سواء قام المريض بذلك بنفسه أو طلب من غيره‪ ،‬وكذلك االستخراج؛ قد‬
‫تحتمل أن الفاعل استخرج بنفسه وقد تحتمل أنه استخرج عن طريق شخص آخر‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬يف الحديث الوارد ليس هناك تحديد السرتقاء حصين إن كان رقى نفسه بنفسه أو طلب‬
‫الرقية لم يجعلهم‬
‫من غيره‪ ،‬كما أن جمع كثير من األقدمين لألحاديث المختلفة حول التداوي و ُّ‬
‫يكرهوا االسرتقاء كما مضى معنا من ذكر أقوالهم‪.‬‬

‫الرقية من الغير وكأنها شيء محرم‪ ،‬وشدد يف ترك ذلك‬


‫والمشكلة أن البعض اآلن ترك طلب ُّ‬
‫على غيره‪ ،‬ومع أنه يتوجب وجود شرط القدرة على ترك العالج لمن أراد الترك‪ ،‬أي أال تكون‬
‫ضررهم‪،‬‬
‫الرقية يف زمننا زاد ت ُّ‬
‫هناك مضرة شديدة على المريض؛ إال أن كثيرين ممن امتنع عن طلب ُّ‬
‫مما أثر سل ًبا عليهم وعلى من حولهم‪ .‬ولقد تجاوز بعض المعاصرين الفهم من عدم االسترقاء إلى‬
‫الرقية صارت معصي ًة مثل شرب الخمر ‪-‬واهلل‬
‫«عدم رقية غيره» أو «إرشاد غيره إلى راق»‪ ،‬وكأن ُّ‬
‫المستعان‪ .-‬وهؤالء الذين أتحدث عنهم يهربون من االسترقاء؛ ولكنهم ال يمانعون يف زيارة‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»374‬؛ كتاب «اإليمان»؛ باب‪« :‬الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب وال عذاب»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪82‬‬

‫الرقاة‪ ،‬ولم يمتنعوا عن التط ُّبب لدى األطباء‪،‬‬


‫األطباء والعالج عندهم‪ ،‬فامتنعوا عن الذهاب إلى ُّ‬
‫وإذا شاكته شوكة صغيرة وجدته من المسارعين إلى قسم الطوارئ بالمستشفى‪ ،‬ومتنق ًال بين‬
‫العيادات والصيدليات‪ ،‬فأين ذهب الورع والتفويض؟ وبعضهم ‪-‬لألسف الشديد‪ -‬ترى منه‬
‫صورا يف أشياء كثيرة من حقوق اهلل وحقوق عباده وال يهت ُّم بذلك‪ ،‬وعندما يمرض يمتنع عن‬
‫ق ً‬
‫الذهاب إلى راق بغية الدُّ خول يف السبعين أل ًفا المشار إليهم يف الحديث‪ ،‬فكيف يظ ُّن نفسه داخ ًال‬
‫معهم وهو مقص ٌر يف حق عباد اهلل ممن حوله عمدً ا وظل ًما؟ أليست هذه من األولى إصالحها‬
‫والتن ُّبه لها؟ وأقول لهؤالء‪ :‬إن أردت الصحة فإما أن ترقي نفسك وتداويها‪ ،‬وإما أن ترتك التعالي‬
‫وخداع نفسك وتطلب من غيرك أن يرقيك ويداويك‪ ،‬ورحم اهلل امر ًأ عرف قدر نفسه‪.‬‬

‫والر ِ‬
‫اجح أن االسرتقاء جائز بال أي كراهة‪ ،‬قال ابن عبد الرب ‪« $‬ال أعلم خال ًفا بين أهل‬ ‫َّ‬
‫العلم يف جواز االسرتقاء من العين والحمة‪ ،‬وقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ‪ ،‬واآلثار يف الرقي أكثر من‬
‫أن تحصى‪ ،‬وقال جماعة من أهل العلم الرقي جائز من كل وجع ومن كل ألم ومن العين وغير‬
‫العين»‪ ،‬أما املقصود بالسبعني أل ًفا الذين ال يسرتقون؛ فما أعتقده وأميل إليه مما تقدم من أقوال‬
‫قوة يف هذه الحياة‪َّ ،‬إال‬ ‫ِ‬ ‫العلماء السابقين‪ ،‬هم الذين ال َي ِ‬
‫حول وال َّ‬
‫َلجا‪ ،‬وليس لهم ْ‬
‫جدون ُرقية وال ع ً‬
‫ما أمدَّ هم به الل ‪ ،‬فتركوا العالجات لعدم استطاعتهم الحصول عليها أو الوصول إليها‪ ،‬وهذا‬
‫الميل والترجيح له ثالثة أسباب‪:‬‬

‫َّأو ًال‪ :‬ورد عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ﭭ‪ ،‬عن رسول اهلل ﷺ أنه قال‪« :‬إِ َّن َأ َّو َل ُث َّل ٍة‬
‫َت‬ ‫َار ُه‪ ،‬إِ َذا ُأ ِم ُروا َس ِم ُعوا َو َأ َطا ُعوا‪َ ،‬وإِ ْن كَان ْ‬
‫ين ُت َّت َقى بِ ِه ُم ا ْل َمك ِ‬ ‫اجر َ ِ‬
‫ون‪ ،‬ا َّلذ َ‬ ‫تَدْ ُخ ُل ا ْل َجنَّ َة ا ْل ُف َق َرا ُء ا ْل ُم َه ِ ُ‬
‫وت َو ِه َي فِي َصدْ ِر ِه‪َ ،‬وإِ َّن اللَ َت َعا َلى َيدْ ُعو َي ْو َم‬ ‫ان؛ َل ْم ُت ْق َض َل ُه َحتَّى َي ُم َ‬ ‫الس ْل َط ِ‬
‫اجة إِ َلى ُّ‬
‫ِ‬
‫ل َر ُج ٍل من ُْه ْم َح َ‬
‫ِ‬

‫يل الل ِ‪َ ،‬و ُقتِ ُلوا فِي‬ ‫ين َقا َت ُلوا فِي َسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ي ا َّلذ َ‬
‫ول‪ِ ِ َ :‬‬
‫«أ ْي َن ع َباد َ‬ ‫ا ْل ِق َي َام ِة ا ْل َجنَّةَ‪َ ،‬فت َْأتِي بِز ُْخ ُرفِ َها َو ِري َها َف َي ُق ُ‬
‫اب‪،‬‬‫اب َو َال َع َذ ٍ‬ ‫اهدُ وا فِي َسبِ ِيلي‪ ،‬ا ْد ُخ ُلوا ا ْل َجنَّةَ» َف َيدْ ُخ ُلون ََها بِ َغ ْيرِ ِح َس ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َسبِيلي‪َ ،‬و ُأو ُذوا في َسبِيلي‪َ ،‬و َج َ‬
‫ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫َفت َْأتِي ا ْل َم ََلئِ َك ُة َف َي ُقو ُل َ‬
‫ك‪َ ،‬م ْن َه ُؤ َالء ا َّلذ َ‬
‫ين آ َث ْرت َُه ْم‬ ‫ك ال َّل ْي َل َوالن ََّه َار‪َ ،‬و ُن َقد ُس َل َ‬ ‫ون‪َ :‬ر َّبنَا ن َْح ُن ن َُسب ُح َل َ‬
‫ُ‬
‫‪83‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫ين َقا َت ُلوا فِي َسبِ ِيلي‪َ ،‬و ُأو ُذوا فِي َسبِ ِيلي»‪َ ،‬فتَدْ ُخ ُل‬ ‫ِ ِ‬
‫الر ُّب َت َب َار َك َو َت َعا َلى‪َ :‬‬
‫«ه ُؤ َالء ا َّلذ َ‬ ‫َع َل ْينَا؟ َف َي ُق ُ‬
‫ول َّ‬
‫َع َل ْي ِه ُم ا ْل َم ََلئِ َك ُة ِم ْن كُل َب ٍ‬
‫اب‪ ،‬ﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﱠ [الرعد‪ .)1(»]2٤ :‬نرى يف هذا‬
‫أيضا ‪،‬‬
‫الحديث انطباق صفة دخول الجنة بال حساب وال عذاب على المذكورين يف هذا الحديث ً‬
‫والجمع بين الحديثين يقتضي أن المقصود بال يسترقون يف الحديث األول سببه ألنهم ال‬
‫الرقية وغير ذلك‪،‬‬
‫يستطيعون ذلك كما يف الحديث الثاين‪ ،‬فيموت أحدهم وهو يريد عالج نفسه ب ُّ‬
‫لكن ليس لديه القدرة واالستطاعة على ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬الحديث ذكر أن هؤالء السبعين أل ًفا على رهبم يتوكلون‪ ،‬والتو ُّكل من أهم أركانه األخذ‬
‫باألسباب وإال أصبح تواك ًال‪ .‬جاء عن فخر الدين الزيلعي ‪ $‬قوله‪« :‬قال فخر اإلسالم البزدو ُّي‬
‫السنة والجماعة وأئمة الفتوى‪ ،‬أن التوكُّل المأمور به بعد كسب‬
‫وغيره‪ :‬المذهب عند أهل ُّ‬
‫األسباب‪ ،‬ثم التوكُّل بعده على اهلل تعالى دون األسباب‪ ،‬يعني أن التوكُّل مع مراعاة األسباب‪ ،‬ال‬
‫مع قطع األسباب‪ ،‬لكن بعد مراعاة األسباب يعتمد على اهلل تعالى ال على األسباب‪ ،‬والحقنة من‬
‫هذا القبيل»(‪ .)2‬وقد ذكر الطبر ُّي ‪ $‬مقولة البعض عن التو ُّكل فقال‪« :‬قيل‪ :‬ال يستح ُّق التوكُّل إال‬
‫ف من شيء البتة‪ ،‬حتى السبع الضاري والعدو العادي‪ ،‬وال من لم يسع في‬
‫من لم يخالط قلبه خو ٌ‬
‫طلب رزق وال في مداواة ألم»‪ ،‬ثم رد عليها بقوله‪« :‬والح ُّق أن من وثق باهلل‪ ،‬وأيقن أن قضاءه عليه‬
‫ماض؛ لم يقدح في توكُّله تعاطيه األسباب اتبا ًعا لسنته وسنة رسوله ﷺ‪ ،‬فقد ظاهر ﷺ في‬
‫الرماة على فم الشعب‪ ،‬وخندق حول‬
‫الحرب بين درعين‪ ،‬ولبس على رأسه المغفر‪ ،‬وأقعد ُّ‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬مستدرك الحاكم «‪»2393‬؛ كتاب «الجهاد»‪ ،‬وصححه الحاكم والذهبي‪ ،‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪ .‬وله رواية أخرى يف مسند‬
‫اإلمام أحمد «‪ »6571‬صححها محققوا طبعة الرسالة‪ ،‬وأحمد شاكر‪ ،‬وبلفظ آخر يف صحيح ابن حبان «‪ ،»7378‬ومسند اإلمام أحمد‬
‫«‪ ،»6570‬صححها محققوا طبعة الرسالة‪ ،‬وأحمد شاكر‪ ،‬واأللباين يف صحيح الرتغيب والرتهيب «‪ ،»3183‬واألعظمي يف الجامع‬
‫الكامل‪.‬‬
‫(‪ )2‬تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي؛ فخر الدين الزيلعي الحنفي «المتوفى‪ 743 :‬هـ»؛ كتاب «الكراهية»؛ فصل يف البيع‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪84‬‬

‫المدينة‪ ،‬وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة‪ ،‬وهاجر هو ﷺ‪ ،‬وتعاطى أسباب األكل‬
‫و ُّ‬
‫الشرب‪ ،‬وادخر ألهله قوتهم‪ ،‬ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء‪ ،‬وهو كان أحق الخلق أن‬
‫يحصل له ذلك‪ ،‬وقال للذي سأله‪ :‬أعقل ناقتي أو أدعها؛ قال اعقلها وتوكل‪ ،‬فأشار إلى أن‬
‫االحتراز ال يدفع التوكُّل واهلل أعلم»(‪ .)1‬وبمثل هذا قال اإلمام ابن القيم ‪« :$‬وفي األحاديث‬
‫الصحيحة األمر بالتداوي‪ ،‬وأنه ال ينافي التوكُّل‪ ،‬كما ال ينافيه دفع داء الجوع والعطش‪ ،‬والحر‬
‫اش َر ِة ْاألَ ْس َب ِ‬
‫اب التي نصبها اهلل مقتضيات‬ ‫والبرد‪ ،‬بأضدادها‪ ،‬بل َال تَتِم ح ِقي َق ُة التَّو ِح ِ‬
‫يد َّإال بِ ُم َب َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ َ‬
‫س الت ََّوك ُِّل‪ ،‬كما يقدح في األمر والحكمة‬ ‫لمسبباتها قد ًرا وشر ًعا‪َ ،‬و َأ َّن َت ْعطِي َل َها َي ْقدَ ُح فِي َن ْف ِ‬

‫ويضعفه؛ من حيث يظ ُّن معطلها أن تركها أقوى في التوكُّل‪ ،‬فإن تركها عج ًزا ينافي التوكُّل؛ الذي‬
‫حقيقته اعتماد القلب على اهلل في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه‪ ،‬ودفع ما يض ُّره في دينه‬
‫حك َْم ِة َو َّ‬
‫َان معط ًَل لِ ْل ِ‬ ‫اش َر ِة ْاألَ ْس َب ِ‬ ‫ودنياه‪ ،‬و َال بدَّ مع ه َذا ِاالعتِم ِ‬
‫اد ِم ْن ُم َب َ‬
‫الش ْر ِع‪ ،‬فال يجعل‬ ‫اب‪َ ،‬وإِ َّال ك َ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ َ َ َ‬
‫العبد عجزه توك ًُّال‪ ،‬وال توكُّله عج ًزا‪ ،)2(».‬وقال شيخه من قبله اإلمام ابن تيمية ‪« :$‬ولهذا قال‬
‫ص‬ ‫طائف ٌة من العلماء‪ :‬االلتفات إلى األسباب شر ٌك في التوحيد‪ ،‬ومحو األسباب أن تكون أسبا ًبا نق ٌ‬
‫اب بِا ْلكُل َّي ِة َقدْ ح فِي َّ‬
‫الش ْر ِع‪ ،‬وإنما التوكُّل المأمور به‪ :‬ما اجتمع فيه‬ ‫اض َع ْن ْاألَ ْس َب ِ‬ ‫في العقل‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اإل ْع َر ُ‬
‫مقتضى التوحيد والعقل والشرع»(‪ .)3‬لذا فإن من قرأ هذه األقوال‪ ،‬وجد أن الجمع بين التو ُّكل‬
‫وعدم االسترقاء؛ ال يمكن أن يكون إال بسبب فقد االستطاعة‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬نقله ابن حجر يف فتح الباري؛ يف شرح «باب الطيرة»‪.‬‬
‫ٌ‬
‫فصل‪ :‬الح ُّث على التداوي وربط األسباب‬ ‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل التداوي؛‬
‫بالمسببات‪.‬‬
‫(‪ )3‬مجموع فتاوى ابن تيمية؛ الجزء العاشر‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪85‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫ثال ًثا‪ :‬لم يرد عن رسول اهلل ﷺ منع أحد من الصحابة من االسترقاء‪ ،‬بل لما كان الصحابة‬
‫يستأذنونه يف الرقية كما مر معنا يف بداية الفصل؛ أذن ﷺ لهم ولم يمنعهم أو ينبههم‪ ،‬وجاء يف‬
‫ول الل ِ ﷺ َي ْأ ُم ُرنِي َأ ْن َأ ْست َْرقِ َي ِم َن ا ْل َع ْي ِن»(‪ ،)1‬وهذا‬
‫َان َر ُس ُ‬
‫حديث آخر عن عائشة ڤ‪ ،‬قالت‪« :‬ك َ‬
‫األمر لزوجته ﷺ وأم المؤمنين وأحب النساء إليه ﷺ‪ ،‬فكيف يعقل أن يأمرها ﷺ بما هو قادح يف‬
‫التو ُّكل وصار ٌ‬
‫ف عن الخيرية‪ .‬وصح أن عبد اهلل بن عمر ﭭ «اكتوى من اللقوة(‪ )2‬ورقي من‬
‫العقرب»(‪ ،)3‬ولو كان االسترقاء واالكتواء قادحين يف التو ُّكل أو صارفين عن الخيرية؛ لكان امتنع‬
‫عنهما ﭬ‪ ،‬وهذا هو فهم الصحابة ﭫ‪ ،‬واهلل ‪ ‬هو الهادي والمستعان‪.‬‬

‫الحديث الثاين‪:‬‬

‫ت‪:‬‬‫الجن َِّة؟ ُق ْل ُ‬ ‫ِ‬


‫يك ْام َر َأ ًة م ْن َأ ْه ِل َ‬ ‫عن عطاء بن أبي رباح‪ ،‬قال‪ :‬قال لي ابن عباس ﭭ‪َ « :‬أال ُأ ِر َ‬
‫ف‪َ ،‬فا ْد ُع اللَ لِي‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ت‪ :‬إِني ُأ ْص َر ُع‪َ ،‬وإِني َأ َتك ََّش ُ‬ ‫ب َلى‪َ ،‬ق َال‪ :‬ه ِذ ِه المر َأ ُة السوداء‪َ ،‬أت ِ‬
‫َت النَّبِ َّي ﷺ َف َقا َل ْ‬ ‫َّ ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‪ :‬إِني‬ ‫ت‪َ :‬أ ْصبِ ُر‪َ ،‬ف َقا َل ْ‬ ‫ْت دعو ُت الل َأ ْن يعافِي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك»‪َ ،‬ف َقا َل ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬ ‫الجنَّةُ‪َ ،‬وإِ ْن شئ َ َ ْ‬ ‫«إِ ْن شئْت َص َب ْرت َو َلك َ‬
‫ف‪َ ،‬فا ْد ُع اللَ لِي َّأال َأ َتك ََّش َ‬
‫ف‪َ ،‬فدَ َعا َل َها»(‪.)4‬‬ ‫َأ َتك ََّش ُ‬

‫هذه الواقعة التي حصلت للصحابية الجليلة أم زفر ڤ‪ ،‬استخرج منها بعض العلماء جواز‬
‫ترك المعالجة والتداوي‪ ،‬وذهب بعضهم إلى أن ترك التداوي أفضل وأولى‪ ،‬وقال اإلمام ابن حجر‬
‫الرخصة؛ لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام‬
‫‪« :$‬األخذ بالشدة أفضل من األخذ ب ُّ‬

‫________________‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»‪.‬‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2195‬؛ باب «استحباب ُّ‬
‫(‪ )2‬اللقوة‪ :‬داء يأخذ يف الوجه يعوج منه الشدق‪.‬‬
‫(‪ )3‬موطأ اإلمام مالك «‪»3476‬؛ كتاب «العين»؛ باب «تعالج المريض»‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»5328‬؛ كتاب المرضى؛ باب فضل من يصرع من الريح‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪86‬‬

‫الشدة ‪-‬الحظ الشرط الذي وضعه ابن حجر‪ ،)1(»-‬ولنحكم على هذه األقوال‪ ،‬دعونا نعيد القراءة‬
‫يف الحديث فنرى ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬من نص هذه الرواية يتبين أن المرأة ڤ لم تطلب دوا ًء أو رقية‪ ،‬بل أتت إلى من ال تر ُّد‬
‫دعوته ﷺ‪ ،‬وطلبت منه الدُّ عاء لها‪ .‬ويف نص الحديث فإن الرسول ﷺ لم ينهها عن التداوي‬
‫بال‪ ،‬وليس هناك ذكر ألي دواء أو رقية‪.‬‬
‫مستق ً‬
‫نص هذه الرواية لم يبين إن كان هذا الصرع روح ًيا أم عضو ًيا؟ فالبخاري ‪ $‬بوب لهذا‬
‫‪ُّ -2‬‬
‫عضوي‪ ،‬حيث يرون أن الصرع‬
‫ٌّ‬ ‫مرض‬
‫الحديث بقوله‪« :‬باب فضل من يصرع من الريح»‪ ،‬أي‪ٌ :‬‬
‫يح غليظ ٌة تنحبس في منافذ الدماغ‪ ،‬أو بخ ٌار ردي ٌء يرتفع إليه من بعض األعضاء»(‪،)2‬‬
‫سببه «ر ٌ‬
‫وقال اإلمام ابن القيم ‪« :$‬فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف‪،‬‬
‫يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع ‪-‬يقصد العضوي‪ ،-‬فوعدها النب ُّي ﷺ الجنة بصبرها‬
‫على هذا المرض»(‪ ،)3‬أما ابن حجر فذهب إلى عكس ذلك فقال ‪« :$‬وقد يؤخذ من ال ُّطرق‬
‫التي أورد ُّتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن»(‪ .)4‬وسبب استفسارنا هو‪ :‬إن كان‬
‫السنن الكونية‬
‫الصرع المذكور هنا عضويا فمن المحتمل أن رسول اهلل ﷺ فضل عدم مخالفة ُّ‬
‫بعالج مرض بغير دوائه‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪ -3‬ذكر ابن عبد البر رواية أخرى ضعيفة مرسلة فقال‪ :‬ذكر حجاج وغيره‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن‬
‫َان النَّبِ ُّي ﷺ ُي ْؤتَى بِالم َجانِ ِ‬
‫ين‪َ ،‬ف َي ْضرِ ُب‬ ‫الحسن بن مسلم أنه أخبره أنه سمع طاوو ًسا يقول‪« :‬ك َ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر يف شرح الحديث‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري ال بن حجر يف شرح الباب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل يف هديه ﷺ يف عالج الصرع‪.‬‬
‫(‪ )4‬فتح الباري البن حجر يف شرح الحديث‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪87‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫َصدْ َر َأ َح ِد ِه ْم َو َي ْب َر ُأ‪َ ،‬ف ُأتِ َي بِ َم ْجنُون ٍَة ُي َق ُال َل َها ُأ ُّم ُز َف َر‪َ ،‬ف َض َر َب َصدْ َر َها‪َ ،‬ف َل ْم َت ْب َر ْأ َو َل ْم َيخْ ُر ْج‬
‫اآلخ َر ِة َخ ْير»(‪ ،)1‬وهذه الرواية وإن‬ ‫َشي َطان َُها‪ ،‬فقال رسول الل ﷺ‪ :‬هو ي ِعيب َها فِي الدُّ ْنيا‪ ،‬و َل َها فِي ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫كانت ضعيفة إال أنها تضع أمامنا احتمالية أن رسول اهلل ﷺ حاول عالجها أو ًال قبل الدُّ عاء‬
‫فلم تبرأ‪ ،‬فعلم ﷺ أن صبرها خير لها‪ ،‬فخيرها بين الصرب والجنة وبين الشفاء‪ ،‬فاختارت‬
‫الصرب والجنة‪.‬‬
‫‪ -4‬يف كل األحوال فإن رسول اهلل ﷺ بش ٌر يوحى إليه‪ ،‬وال يمكن للمريض أو من حوله أن يقرروا‬
‫خيرا للمريض؛ يكفر اهلل به عنه خطاياه‪ ،‬ويصرف‬
‫بأنفسهم ما هو خير له‪ ،‬فقد يكون المرض ً‬
‫اهلل به عن المريض عقوبات أخرى يف الدُّ نيا أو يف اآلخرة‪ ،‬أو يرفع اهلل به منزلة المريض يف‬
‫لما ما كان له أن يكتسبه بغير هذا المرض‪،‬‬
‫الجنة ويزيد من حسناته‪ ،‬أو يكسبه اهلل به خربة وع ً‬
‫أو يصرف عنه سو ًءا أو شرا عن طريق هذا المرض‪ ،‬وألننا ال نعلم ما هو الخير لنا؛ ف ُّ‬
‫الحل أن‬
‫يستخير المريض اهلل يف ذلك‪ ،‬واالستخارة(‪ )2‬إما أن تكون عامة فيقول‪« :‬إن كان التداوي خير‬
‫لي‪ ،»..‬أو تكون خاصة فيقول‪« :‬إن كان ذهابي للطبيب الفالين أو الراقي الفالين للتداوي خير‬
‫لي‪ ،»...‬ثم يأخذ باألسباب‪ ،‬وحت ًما ويقينًا سييسر اهلل ‪ ‬له ما هو خير له‪ ،‬وسيصرف عنه اهلل‬
‫‪ ‬ما هو سوء له‪ ،‬وسيهديه ‪ ‬إلى ما هو خير له ويرضيه به‪ ،‬فهو ‪ ‬الذي يعلم ونحن ال‬
‫نعلم‪ ،‬وهو ‪ ‬الذي يقدر ونحن ال نقدر‪ ،‬وهو ‪ ‬عالم الغيوب‪.‬‬
‫‪ -5‬يؤكد ما ذهبنا إليه من بعض المعاين ما جاء يف حديث األعمى الذي طلب من رسول اهلل ﷺ‬
‫الدُّ عاء بالشفاء‪ ،‬فعن عثمان بن حنيف ﭬ‪ ،‬أن رج ًال ضر ًيرا أتى النبي ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬يا نبي‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬االستيعاب يف معرفة األصحاب البن عبد الرب‪ ،‬والرواية كما ذكرت ضعيفة‪ ،‬وال يلزم أن يكون الضرب المذكور مباشرة باليد‪ ،‬بل قد‬
‫يكون بالعصا أو غيره‪.‬‬
‫بالرجوع إليها‪.‬‬
‫(‪ )2‬وردت صفة االستخارة يف كتب الحديث والفقه‪ ،‬ومن أراد االستزادة فعليه ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪88‬‬

‫ْت‬‫ك‪َ ،‬وإِ ْن ِشئ َ‬ ‫ك‪َ ،‬ف ُه َو َأ ْف َض ُل ِآل ِخ َرتِ َ‬ ‫ْت َأ َّخ ْر ُت َذلِ َ‬ ‫اهلل‪ ،‬ادع اهلل أن يعافيني»‪ ،‬فقال‪« :‬إِ ْن ِشئ َ‬
‫ك»‪ ،‬قال‪« :‬ال بل ادع اهلل لي»‪َ ،‬ف َأ َم َر ُه َأ ْن َيت ََو َّض َأ‪َ ،‬و َأ ْن ُي َصل َي َر ْك َع َت ْي ِن‪َ ،‬و َأ ْن َيدْ ُع َو بِ َه َذا‬ ‫َد َع ْو ُت َل َ‬
‫ك‬ ‫الر ْح َم ِة‪َ ،‬يا ُم َح َّمدُ إِني َأت ََو َّج ُه بِ َ‬ ‫ٍ‬
‫ك ُم َح َّمد ﷺ َنبِي َّ‬ ‫ك بِنَبِي َ‬ ‫الله َّم إِني َأ ْس َأ ُل َ‬
‫ك َو َأت ََو َّج ُه إِ َل ْي َ‬ ‫اء « ُ‬ ‫الدُّ ع ِ‬
‫َ‬
‫يه‪َ ،‬وت َُشف ُع ُه فِ َّي» قال‪« :‬فكان يقول هذا مر ًارا»‪.‬‬
‫إِ َلى ربي فِي حاجتِي ه ِذ ِه َف ُت ْقضى‪ ،‬وت َُشفعنِي فِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ثم قال بعد‪« :‬أحسب أن فيها‪ :‬أن تشفعني فيه»‪ .‬قال‪« :‬ففعل الرجل‪ ،‬فبرأ»(‪ .)1‬فهذا الحديث‬
‫جاء فيه الصحابي الضرير ﭬ‪ ،‬طال ًبا تجاوز األسباب الدُّ نيوية‪ ،‬والدُّ عاء من اهلل مباشرة له‬
‫ومعروف أن العمى ليس له دواء إلى زماننا هذا‪ ،‬وخيره رسول اهلل ﷺ‬
‫ٌ‬ ‫الرقية‪.‬‬
‫بالشفاء وليس ب ُّ‬
‫بين الصرب والدُّ عاء كما فعل مع أم زفر ڤ‪ ،‬ولما رفض الضرير الصبر‪ ،‬لم يرقه رسول اهلل‬
‫ﷺ؛ بل علمه الدُّ عاء وطريقة الدُّ عاء‪ ،‬وأن يطلب الضرير من اهلل ‪ ‬قبول دعاء رسول اهلل‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند اإلمام أحمد «‪»17240‬؛ مسند الشاميين؛ حديث عثمان بن حنيف‪ ،‬ويف تحقيق طبعة الرسالة بإشراف األرناؤوط‪« :‬إسناده‬
‫صحيح‪ ،‬رجاله ثقات»‪ ،‬وصحح األلباين رواية الرتمذي «‪ »3578‬يف صحيح وضعيف سنن الرتمذي‪ ،‬ورواه الحاكم يف المستدرك‬
‫«‪ »1909‬وقال‪« :‬هذا حد ٌ‬
‫يث صحيح اإلسناد»؛ كتاب «الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر»‪ .‬واتخذ البعض هذا الحديث‬
‫التوسل بذات أو بجاه الرسول ﷺ بعد موته‪ ،‬وذلك خطأ يف االستدالل‪ ،‬حيث إنه من الواضح جدا أن الصحابي‬
‫ُّ‬ ‫دليال على جواز‬
‫ً‬
‫األعمى ﭬ جاء إلى النبي ﷺ يف حياته طال ًبا الدعاء‪ ،‬ورضي النبي ﷺ أن يدعو ويشفع له‪ ،‬والدُّ عاء تضمن طل ًبا من اهلل بقبول‬
‫التوسل بدعاء‬
‫ُّ‬ ‫شفاعة الرسول ﷺ يف األعمى‪ ،‬وطلب قبول شفاعة األعمى يف الرسول ﷺ‪ ،‬والواضح أن قوله‪« :‬بنبيك»؛ عنى به‬
‫الرسول ﷺ ال بجاهه‪ ،‬ولم يثبت عن أي أحد من الصحابة ﭫ أنه فهم جواز التوسل بجاه الرسول ﷺ من هذا الحديث‪ ،‬لكنهم‬
‫تجاهلوا كل هذه الحيثيات هداهم اهلل‪ .‬كذلك استد ُّلوا برواية أخرى لهذا الحديث يف سندها ضعف‪ ،‬ويف متنها شذوذ ونكارة‪ ،‬إذ أن‬
‫متنها يقدح يف عدالة عثمان ﭬ ورشد خالفته‪ ،‬كما أنه لم يرد إلينا أن الصحابة أو السلف الصالح ﭫ جعلوا هذا الحديث عاما‬
‫خاص هبذا الصحابي الضرير فقط ﭬ‪ ،‬ولم يرد إلينا بنص‬
‫ٌّ‬ ‫لكل مريض أو مصاب بالعمى‪ ،‬بل يفهم مما ورد إلينا أن هذا الحديث‬
‫صحيح عن أحد منهم أنه توسل برسول اهلل ﷺ بعد وفاته يف الدُّ نيا‪ ،‬بل استسقاء عمر ﭬ بدعاء العباس ﭬ دل أنه ال يجوز‬
‫االستسقاء بالرسول ﷺ بعد انتقاله إلى الرفيق األعلى‪ ،‬نسأل اهلل أن يرزقنا اتباع رسوله ﷺ كما أراد اهلل ورسوله ﷺ‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪89‬‬ ‫حكم التداوي‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫أمر آخر ال بد من مراعاته يف اإلفتاء بحكم التداوي‪ ،‬وهو أثر المرض على غير المريض‪،‬‬
‫أضرارا ألوالده ومن يعولهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫فمثال إن كان األب أصابته إعاق ٌة مؤقتة‪ ،‬فإن عدم تداويه سيسبب‬
‫ً‬
‫وكذلك لمن يرعونه‪ ،‬وبالمثل إن كانت الزوجة مسحورة‪ ،‬فإن أذى السحر وأثره يتعدى إلى زوجها‬
‫كسب‬
‫وأبنائها وحتى الجنين يف بطنها‪ ،‬وإذا كان األب معيو ًنا؛ فإن كانت العين تصرفه عن الت ُّ‬
‫والعمل؛ فإن ذلك سيؤثر ماد ًيا على زوجه وأطفاله‪ ،‬وكل من يتحتم عليه نفقتهم‪ .‬كذلك إن كان‬
‫شخص محسو ًدا‪ ،‬فإن األذى يلحق بالنعم التي حسد عليها مما قد ينتج عن ذلك خسائر يف‬
‫ٌ‬
‫األرواح واألموال‪ ،‬وال ننسى األثر النفسي على جميع من حول المريض‪ ،‬فهل يجوز ترك المريض‬
‫للتداوي بينما غيره يعاين بسببه؟‬

‫كذلك ال ننسى أن استمرار المريض يف مرضه مؤثر على مجتمعه وأمته سلبيا‪ ،‬ومعطل لدور‬
‫هذا المسلم يف الحياة‪ ،‬بل قد يؤدي بغيره لالنشغال به‪ ،‬وترك مصالح أخرى قد يكون لها أهمية‬
‫َك َق ْب َل َس َق ِم َ‬
‫ك»(‪،)1‬‬ ‫س»‪ ،‬ومنها « َو ِص َّحت َ‬
‫أعلى وأكثر‪ ،‬والرسول ﷺ يقول‪« :‬ا ْغتَن ِ ْم َخ ْم ًسا َق ْب َل َخ ْم ٍ‬

‫ُّ‬
‫الحث على السعي‬ ‫ٌّ‬
‫وحث الستغاللها‪ ،‬كذلك يفهم‬ ‫ويف هذا تفضيل الصحة على المرض‪،‬‬
‫للحصول عليها‪ ،‬واجتناب المرض واالبتعاد عنه‪ ،‬ليؤدي المسلم مسئولياته وأنشطته تجاه نفسه‬
‫وأهله وأمته‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المستدرك للحاكم «‪»7846‬؛ كتاب الرقاق؛ قال الذهبي‪« :‬على شرط البخاري ومسلم»‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح الرتغيب‬
‫والرتهيب «‪.»3355‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪90‬‬

‫المج َمع الفقهي‪:‬‬


‫فتوى ْ‬

‫قرر المجمع الفقهي يف حكم التداوي ما يلي(‪« :)1‬األصل يف حكم التداوي أنه مشروع‪ ،‬لما‬
‫والسنة القولية والفعلية‪ ،‬ولما فيه من حفظ النفس الذي هو أحد‬
‫ورد يف شأنه يف القرآن الكريم ُّ‬
‫المقاصد الكلية من التشريع‪ .‬وتختلف أحكام التداوي باختالف األحوال واألشخاص‪:‬‬

‫• فيكون واج ًبا على الشخص إذا كان تركه يفضـي إلـى تلـف نفسـه أو أحـد أعضـائه أو عجـزه‪ ،‬أو‬
‫كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كاألمراض المعدية‪.‬‬

‫• ويكون مندو ًبا إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن‪ ،‬وال يرتتب عليه ما سبق يف الحالة األولى‪.‬‬

‫باحا إذا لم يندرج يف الحالتين السابقتين‪.‬‬


‫• ويكون م ً‬

‫كروها إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها»‪.‬‬
‫ً‬ ‫• ويكون م‬

‫ال إنكار يف مسائل االجتهاد‪:‬‬

‫يح ُّق لكل فريق أن ينصح ويحث على القول الذي يدين اهلل به‪ ،‬ولكن ال يمكنه أن يلزم‬
‫صح إلزام اآلخرين باالكتفاء بالدُّ عاء‬
‫اآلخرين باتباع قوله ما دام أن األمر فيه خالف معتبر‪ ،‬فال ي ُّ‬
‫والصبر إذا لم يروا ذلك‪ ،‬وال يجوز ألحد منع اآلخرين من التداوي‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مجلة المجمع الفقهي «ع ‪ ،7‬ج‪ 3‬ص ‪« »563‬قرار رقم‪ ،»7/5 - 67 :‬ذي القعدة ‪1412‬هـ‪.‬‬
‫َ‬
‫‪91‬‬ ‫القرآن أم األسباب؟‬

‫القرآن َأم األسباب؟‬

‫يقول اهلل ‪ :‬ﱡﭐﲔﲕﲖﲗﲘﲙ ﲚﲛﱠ[اإلسراء‪ ،]82 :‬ويقول ‪ :‬ﱡﭐﲰ‬

‫ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵﱠ [فصلت‪ ،]44 :‬ويف الحديث كما ذكرت أن الصحابة ﭫ رقوا من لدغه‬


‫العقرب بسورة الفاتحة فشفاه اهلل(‪ .)1‬ولذا يتساءل كثير من الناس فيقول‪ :‬القرآن كالم اهلل بين أيدينا‪،‬‬
‫وهو كالم العظيم الشايف الجبار‪ ،‬فلماذا ال أكتفي به للتدواي دون األخذ بأي أسباب أخرى؟‬

‫والجواب على ذلك‪ :‬أن اهلل ‪ ‬لما أنزل كتابه الكريم؛ فإنه أنزله على خير خلقه ﷺ؛ ورسول‬
‫اهلل ﷺ هو الذي يبين لنا ما نفعل وما نعمل‪ ،‬وصحابته ﭫ هم من فهموا القرآن على الوجه‬
‫األكمل وطبقوه‪ ،‬ولنجيب على هذا السؤال يجب علينا النظر إلى سنة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وإلى سيرة‬
‫صحابته ﭫ‪ ،‬ثم السلف الصالح خير القرون رحمهم اهلل‪ ،‬وإذا فعلنا ذلك فسنجد ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬لم يستدل أحد من السلف الصالح أن اآليات المذكورة أعاله دليل على الشفاء العام‬
‫ً‬
‫من كل مرض‪ ،‬وإنما جاء يف تفسير الطربي يف شرح اآلية األولى‪« :‬وننزل عليك يا محمد ﷺ من‬
‫القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل ومن الضاللة»(‪ ،)2‬ويف تفسير ابن كثير‪« :‬يذهب ما في‬
‫القلوب من أمراض‪ ،‬من شك ونفاق‪ ،‬وشرك وزيغ وميل‪ ،‬فالقرآن يشفي من ذلك كله»(‪ .)3‬أما شرح‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه صفحة ‪.39‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطربي؛ سورة اإلسراء؛ آية ‪.82‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير؛ سورة اإلسراء؛ آية ‪.82‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪92‬‬

‫اآلية الثانية يف تفسير الطربي‪« :‬يعني أنه شفاء من الجهل»(‪ ،)1‬ويف تفسير ابن كثير‪« :‬أي‪ :‬قل يا‬
‫الصدور من ُّ‬
‫الشكوك والريب»(‪،)2‬‬ ‫محمد ﷺ‪ :‬هذا القرآن لمن آمن به هدً ى لقلبه وشفا ٌء لما في ُّ‬
‫فخالصة تفسير السلف أن القرآن شفاء لألمراض اإليمانية التي تصيب القلب فتعميه وتضله‪ ،‬وال‬
‫الرقية‪،‬‬
‫تفسيرا بأن قراءة القرآن شفاء لجميع األمراض‪ .‬أما حديث العقرب فهو من ُّ‬
‫ً‬ ‫نجد لديهم‬
‫الرقية بالقرآن ناجعة ألمراض كثيرة؛ فإنها تبقى ليست‬
‫وتخصصها‪ ،‬وإن كانت ُّ‬
‫ُّ‬ ‫وهذه لها طرقها‬
‫عالجا عاما وشام ًال لكل أمراض البشر‪ ،‬يشهد على ذلك سنة الرسول ﷺ وفهم السلف ﭫ‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬لو افرتضنا أن لفظة «شفاء» يف اآليات تعني كذلك شفا ًء لألمراض العضوية؛ فإنها‬
‫جاءت بصيغة النكرة وليست معرفة‪ ،‬ألن المعرفة ‪-‬أي‪« :‬الشفاء»‪ -‬تقتضي العموم‪ ،‬أما «شفاء»‬
‫نكرة بدون «أل» التعريف؛ فقد تعني التبعيض والنسبية‪ ،‬يعني‪ :‬شفا ًء لبعض األمراض‪ ،‬أو بعض‬
‫الشفاء لألمراض‪.‬‬
‫َان يدْ ِر ِ‬
‫يه أنَّها‬ ‫ثال ًثا‪ :‬ذكرت يف فصل ُّ‬
‫الرقية أن قول رسول اهلل ﷺ عن سورة الفاتحة‪َ « :‬و َما ك َ ُ‬
‫ُر ْق َية»(‪ )3‬دل ٌيل على أنه ليس كل القرآن رقية‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬لم يرد أن رسول اهلل ﷺ اكتفى بالقرآن للعالج‪ ،‬ولم يرد أنه ﷺ أمر أصحابه ﭫ‬
‫بذلك‪ ،‬بل إن مما ورد إلينا من اآلثار قول عبد اهلل بن مسعود ﭬ‪« :‬عليكم بالشفاءين‪ :‬العسل‬
‫أمر باالكتفاء بالقرآن‪ ،‬بل ٌّ‬
‫حث على استخدام العسل الذي هو دواء‬ ‫والقرآن» ‪ ،‬فهذا األثر ليس فيه ٌ‬
‫(‪)4‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطربي؛ سورة فصلت؛ آية ‪.44‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير؛ سورة فصلت؛ آية ‪.44‬‬
‫(‪ )3‬سبق تخريجه صفحة ‪.39‬‬
‫وف»‪ ،‬وعلق األرناؤؤط على رواية ابن ماجه‬
‫السنن الكربى«‪ ،»19565‬وقال‪« :‬رفعه غير معروف؛ والصحيح موق ٌ‬
‫(‪ )4‬رواه البيهقي يف ُّ‬
‫«‪« :»3452‬صحيح موقو ًفا»‪.‬‬
‫َ‬
‫‪93‬‬ ‫القرآن أم األسباب؟‬

‫وسبب واضح معلوم‪ ،‬وهو شفا ٌء مصدا ًقا لقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ‬
‫ٌ‬ ‫ماد ٌّي محسوس‪،‬‬

‫ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗﱠ [النحل‪ ،]69 :‬والعسل يف هذا األثر قدم على القرآن‪ ،‬ويقول اإلمام ابن‬
‫القيم عن هذا األثر‪« :‬فجمع بين الطب البشري واإللهي‪ ،‬وبين طب األبدان وطب األرواح‪ ،‬وبين‬
‫الدواء األرضي والدواء السمائي»(‪ .)1‬كذلك قد ورد عن علي ﭬ قال‪« :‬لدغت النبي ﷺ عقر ٌب‬
‫اء َو ِم ْلحٍ ‪،‬‬
‫وهو يصلي‪ ،‬فلما فرغ قال ﷺ‪َ « :‬لعن الل ا ْلع ْقرب َال تَدَ ع مصليا و َال َغيره»‪ُ ،‬ثم دعا بِم ٍ‬
‫َّ َ َ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُ ُ َ ً َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ‬
‫َو َج َع َل َي ْم َس ُح َع َل ْي َها َو َي ْق َر ُأ بِـ ُق ْل َيا َأ ُّي َها ا ْلكَافِ ُر َ‬
‫ون‪ ،‬و ُق ْل َأ ُعو ُذ بِ َرب ا ْل َف َل ِق‪ ،‬و ُق ْل َأ ُعو ُذ بِ َرب النَّاس»(‪.)2‬‬
‫فهذا الحديث كذلك فيه جمع بين العالج بالقرآن وبين العالج المادي اللذين هما الملح والماء‪.‬‬
‫الرقية م ًعا‪ ،‬فعن عمرو بن‬
‫ولما رقى رسول اهلل ﷺ نفسه من البثرة؛ استعمل مادة قصب الطيب و ُّ‬
‫يحيى بن عمارة بن أبي حسن‪ ،‬قال‪ :‬حدثتني مريم بنت إياس بن البكير صاحب النبي ﷺ‪ ،‬عن‬
‫بعض أزواج النبي ﷺ ‪-‬وأظنُّها زينب‪ ،-‬أن النبي ﷺ دخل عليها فقال‪ِ « :‬عنْدَ ِك َذ ِر َيرة(‪)3‬؟» فقالت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فدعا بها ووضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله‪ ،‬فقال‪« :‬ال َّل ُه َّم ُم ْط ِف َئ ا ْل َكبِيرِ َو ُمكَب َر‬
‫الص ِغيرِ َأ ْط ِف َها َعني» فطفئت(‪.)4‬‬
‫َّ‬

‫أساسا‬
‫ً‬ ‫دائما‬
‫ولو زدنا النظر يف سيرته ﷺ؛ فإن أخذ السبب الدُّ نيوي المادي للعالج كان ً‬
‫وأصال يف وصفاته الطبية ﷺ‪ ،‬وهذا الذي فهمه الصحابة ﭫ وطبقوه من بعده ﷺ‪ ،‬وكثير من‬
‫ً‬
‫الوصفات الطبية النبوية حصرت يف األعشاب بال رقية وال قرآن‪ ،‬فال ينبغي لنا مخالفة سنته ﷺ بأن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «هديه ﷺ يف عالج استطالق البطن»‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطرباين يف المعجم الصغير «‪ »830‬واألوسط «‪»5890‬؛ باب الميم؛ من اسمه محمد‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪،»548‬‬
‫وحسنه األعظمي يف الجامع الكامل‪.‬‬
‫(‪ )3‬الذريرة‪ :‬فتات قصب من الطيب يجاء به من الهند ‪-‬العين للفراهيدي‪.-‬‬
‫(‪ )4‬مسند أحمد «‪»23141‬؛ أحاديث رجال من أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬وصححه الحافظ ابن حجر يف «نتائج األفكار»؛ المجلس «‪،»331‬‬
‫كذلك أورده الحاكم يف المستدرك «‪»7463‬؛ كتاب الطب؛ وصححه الحاكم والذهبي‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪94‬‬

‫نكتفي بالقرآن الكريم عالجا واستشفا ًء‪ ،‬ونترك األسباب الكونية‪ ،‬بل نجمع بين االثنين كما علمنا‬
‫معلمنا ورسولنا ﷺ‪ ،‬وأخشى أن يكون قول «االكتفاء بالقرآن للعالج» بدعة ضاللة لمخالفتها‬
‫السنة النبوية وفهم السلف الصالح‪.‬‬
‫ُّ‬
‫لماذا ُ‬
‫ألجأ إلى األسباب ما دام الل قادر على عَلجي بَل سبب؟‬

‫أيضا قول بعضهم‪ :‬إن اهلل قادر على عالجي وشفائي من دون أي جهد مني وبذل أي‬
‫يكثر ً‬
‫سبب‪ ،‬فلماذا ألجأ إلى األسباب وأبحث عن العالج؟‬

‫والجواب على ذلك‪ :‬صحيح أن اهلل قادر على شفائك من دون أسباب‪ ،‬وقادر أن يمتعك‬
‫بالصحة كل حياتك من دون أن تمرض‪ ،‬وقادر أن يرزقك من دون أن تكد وتعمل‪ ،‬بل قادر على‬
‫أال يجعلك تجوع وتحتاج إلى طعام أو هواء‪ ،‬كل ذلك ر ُّبنا قادر عليه‪ ،‬فهو ‪ ‬على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬لكن مشيئته وإرادته ‪ ‬أن تكون الحياة بال مرض و ال جوع فذلك يف الجنة ال يف الدُّ نيا‪،‬‬
‫وهو الذي خلق لنا هذه الحياة الدُّ نيوية الفانية‪ ،‬ثم هو الذي سن لها قوانينها‪ ،‬وجعل لها نظا ًما ال بد‬
‫منه‪ ،‬ومن هذه القوانين واألنظمة أن تتخذ العالج واألسباب للشفاء‪ ،‬ولو كان ألحد أن يشفى بال‬
‫سبب لكان األنبياء صلوات ربي وسالمه عليهم أولى بذلك‪ ،‬فهذا أ ُّيوب ڠ بعد معاناته من‬

‫ﱡ ﳙ ﳚﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟﱠ [ص‪:‬‬ ‫المرض؛ جعل اهلل له سب ًبا يفعله ليشفى‪ ،‬فقال له ‪:‬‬


‫‪ ،]69‬ولما شاء اهلل أن يولد عيسى عليه السالم كمعجزة يف تاريخ البشرية؛ أمر أمه الصديقة مريم‬
‫عليها السالم بقوله ‪ :‬ﱡﭐ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﱠ [مريم‪ ،]25 :‬وذلك‬
‫لتتغذى وتخفف من آالم مخاضها وتتيسر معها الوالدة‪ ،‬وهذا ﷺ سيد البشر‪ ،‬وأفضل األنبياء‪،‬‬
‫وأحب المخلوقات إلى اهلل ‪ ،‬كم عانى من عدة أمراض؛ لكنه ﷺ تداوى وأخذ بالعالجات‬
‫ُّ‬
‫الدُّ نيوية والعلوم الطبية‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يكون أفضل منه ﷺ‪ ،‬وال يجوز ألحد مخالفة هديه‬
‫وسنته صلوات ربي وسالمه عليه‪.‬‬
‫َ‬
‫‪95‬‬ ‫القرآن أم األسباب؟‬

‫وقد ذكرت يف الفصل السابق بعض أقوال األئمة الدالة على أن ترك األسباب قد ٌح يف التو ُّكل‬
‫على اهلل‪ ،‬وقد ٌح يف شرعه‪.‬‬

‫الرقية؛ بل تجده‬
‫والعجب أن كل الناس إذا تعرض لكسر أو جرح فإنه ال يكتفي بالقرآن و ُّ‬
‫وطبيعي‪ ،‬ولكن إذا أصيب بعضهم بمرض روحي قد يؤدي‬
‫ٌّ‬ ‫بدهي‬
‫ٌّ‬ ‫مسار ًعا إلى المستشفى‪ ،‬وهذا‬
‫وتضرره هو وأهله؛ تجده يعاف العالجات المتعلقة به‪ ،‬ويقول أكتفي بتالوة‬
‫ُّ‬ ‫إلى إتالفه وموته‬
‫القرآن‪ ،‬فلم التفريق؟‬

‫قِ َّلة اليقين واإليمان‪:‬‬

‫بعض الناس حين يكتفي بالقرآن ليتعالج به؛ ثم ال يشفى به‪ ،‬فإنه يرمي سبب ذلك إلى قلة‬
‫اليقين ونقص اإليمان وعدم التو ُّكل على اهلل حق التو ُّكل‪ ،‬وهذا سبب خاطئ‪ ،‬بل الصواب أن‬
‫السبب هو مخالفته لسنة الرسول ﷺ يف األخذ باألسباب‪ ،‬كذلك مخالفته للقوانين الكونية التي‬
‫وضعها اهلل ‪.‬‬

‫الكرامات‪:‬‬

‫الكرامات هي‪ :‬ما يظهره اهلل ‪ ‬على يد بعض عباده المتقين من أشياء خارقة للعادة‬
‫الرسل صلوات‬
‫وإظهارا لمنزلتهم عند اهلل‪ ،‬وإذا جرت على أيدي ُّ‬
‫ً‬ ‫وللقوانين الكونية‪ ،‬تأييدً ا لهم‬
‫ربي وسالمه عليهم فإنها تسمى‪ :‬معجزة‪ ،‬وهي هدية من اهلل ‪ ‬لعبده لعالقة بين اهلل وبين هذا‬
‫السنة يجد أن الرسول ﷺ كان يأخذ بالقوانين الكونية واألسباب المادية‪ ،‬ثم تأتيه‬
‫العبد‪ ،‬والناظر يف ُّ‬
‫السنة‬
‫المعجزة من اهلل ‪ ،‬كذلك كانت سنة صحابته ﭫ من بعده‪ ،‬ونحن علينا كذلك اتباع هذه ُّ‬
‫باتخاذ جميع األسباب التي خلقها اهلل ‪ ‬وأباحها‪ ،‬فإن جاءت كرام ٌة من اهلل فهي هدي ٌة منه ومن ٌة‬
‫وتكريم وتشريف‪.‬‬
‫ٌ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪96‬‬

‫فهم كَلم ابن القيم ‪:$‬‬

‫يقول ابن القيم ‪« :$‬فالقرآن هو الشفاء التا ُّم من جميع األدواء القلبية والبدنية‪ ،‬وأدواء الدُّ نيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬وما ك ُّل أحد يؤهل وال يوفق لالستشفاء به‪ ،‬وإذا أحسن العليل التداوي به‪ ،‬ووضعه على‬
‫دائه بصدق وإيمان‪ ،‬وقبول تام‪ ،‬واعتقاد جازم‪ ،‬واستيفاء شروطه‪ ،‬لم يقاومه الداء أبدً ا»(‪.)1‬‬

‫وأقول‪ :‬قد يكون المقصد من كالم ابن القيم ‪ $‬أن العمل بما جاء به القرآن فيه الشفاء التا ُّم‬
‫صحيح ال شك فيه‪ ،‬ومما يعلمنا القرآن أن نتبع سنة الرسول ﷺ‬
‫ٌ‬ ‫من كل األمراض‪ ،‬وهذا كال ٌم‬
‫وفهمه‪ ،‬ويعلمنا القرآن كذلك كما أسلفت أن نبي اهلل أ ُّيوب ڠ لزمه فعل سبب ليشفى‪ ،‬وأن‬
‫عيسى ڠ لما شفى اهلل به األكمه واألبرص بال سبب كان ذلك معجزة له وليس لغيره‪ ،‬فهو‬
‫القرآن نفسه يعلمنا األخذ بأسباب العالج‪ ،‬وبذلك يجب العمل للشفاء‪ .‬وقد يكون المقصود هو‬
‫أن تالوة القرآن مع األخذ باألسباب العالجية األخرى تكام ٌل يؤدي إلى الشفاء التام‪ ،‬وهذا أمر‬
‫أيضا‪ ،‬وقد ثبت أن القرآن يؤثر على هرمونات الجسم‪ ،‬ويؤثر على نفسية المريض‬
‫صحيح ً‬
‫ونشاطه‪ .‬لكن البعض فهم أن المقصود هو أن االكتفاء بتالوة القرآن وترديده يؤدي إلى الشفاء‪،‬‬
‫والجامع لكالم ابن القيم ‪ $‬مع التأ ُّمل فيه؛ يجد أن هذا خالف مراده‪ ،‬وبذا يكون قد أخطأ يف‬
‫فهم كالم ابن القيم ‪.$‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فص ٌل‪« :‬في ذكر شيء من األدوية واألغذية المفردة التي جاءت على‬
‫لسانه ﷺ مرتب ًة على حروف المعجم»؛ القرآن‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫‪97‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫تحريم ما َأ َّ‬
‫حل الل‬

‫باحا‪ ،‬وقد ذكر اإلمام‬ ‫من الكبائر يف اإلسالم أن تحرم شي ًئا يف الشرع وقد جعله اهلل ح ً‬
‫الال م ً‬
‫الشاطبي أن هذا من االعتداء(‪)1‬؛ لقول اهلل ‪ :‬ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ‬

‫‪ ،]87‬كما أنه من االفتراء؛ لقوله ‪:‬‬ ‫[المائدة‪:‬‬ ‫ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱠ‬

‫ﱡﭐﱿﲀﲁﲂﲃﲄﲅﱠ [األنعام‪ ،]140 :‬وعن عدي بن حاتم ﭬ قال‪« :‬أتيت النبي‬


‫ي ا ْط َر ْح َعن َ‬ ‫ِ‬
‫ْك َه َذا َ‬
‫الو َث َن»‪ ،‬وسمعته يقرأ في‬ ‫يب من ذهب‪ ،‬فقال ﷺ‪َ « :-‬يا َعد ُّ‬
‫ﷺ وفي عنقي صل ٌ‬

‫سورة براءةٌ‪ :‬ﱡﭐ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﱠ [التوبة‪ ،]31 :‬قال‪-‬ﷺ‪َ « :-‬أ َما‬


‫إِن َُّه ْم َل ْم َيكُونُوا َي ْع ُبدُ ون َُه ْم‪َ ،‬و َلكِن َُّه ْم كَانُوا إِ َذا َأ َح ُّلوا َل ُه ْم َش ْيئًا ْاست ََح ُّلو ُه‪َ ،‬وإِ َذا َح َّر ُموا َع َل ْي ِه ْم َش ْيئًا‬

‫ون َما َأ َح َّل اللُ‬ ‫َح َّر ُمو ُه»»(‪ ،)2‬ويف رواية أخرى «فقلت‪ :‬إنا لسنا نعبدهم‪ ،‬فقال ﷺ‪َ « :‬أ َل ْي َس ُي َحر ُم َ‬
‫ك ِع َبا َدت ُُه ْم»(‪ .)3‬فمسألة‬
‫َح ُّلو َن ُه؟» قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال ﷺ‪َ « :‬فتِ ْل َ‬
‫ون ما حرم الل َفتَست ِ‬ ‫َفتُحرمو ُنه‪ِ ،‬‬
‫ويح ُّل َ َ َ َّ َ ُ ْ‬
‫َ ُ ُ ُ‬
‫عب عظيم‪ ،‬تلحقه مسؤولي ٌة كبير ٌة يف الدُّ نيا واآلخرة‪ ،‬وألن اإلفتاء ٌ‬
‫بيان لحكم اهلل‬ ‫التحريم شي ٌء ص ٌ‬
‫يف مسألة معينة‪ ،‬فإن الذي يفتي من غير علم يؤهله؛ يعترب ممن تجرأ وكذب على اهلل ‪ ،‬وكذلك‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬االعتصام للشاطبي؛ الباب الخامس يف أحكام البدع الحقيقية واإلضافية والفرق بينهما؛ فصل تحريم ما أحل اهلل من الطيبات تد ُّينًا أو‬
‫شبه التد ُّين‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الرتمذي «‪»3095‬؛ أبواب تفسير القرآن؛ باب «ومن سورة التوبة»‪ ،‬وقال عنه األلباين يف الصحيحة «‪« :»3293‬بمجموع طرقه‬
‫حسن إن شاء اهلل تعالى»‪.‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الكبير للطرباين «‪.»218‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪98‬‬

‫يعترب مغو ًيا ومضال لمن اتبعوه‪ .‬وأما الفقيه المجتهد؛ فال يمكنه اإلفتاء بشيء حتى يعلم المسألة‬
‫بالتفصيل‪ ،‬فالحكم على الشيء فر ٌع عن تص ُّوره‪ ،‬أي ال بد من تص ُّور المسألة بالكامل حتى يتسنى‬
‫الحكم عليها‪ ،‬وبعد ذلك فإن المجتهد المخطئ له أج ٌر واحد‪ ،‬والمجتهد المصيب له أجران‪ .‬قال‬
‫الشيخ ابن عثيمين ‪« :$‬فتحريم ما أحل اهلل ال ينقص درج ًة يف اإلثم عن تحليل ما حرم اهلل‪،‬‬
‫وكثير من ذوي الغيرة من الناس؛ تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل اهلل أكثر من تحليل الحرام‪،‬‬
‫ٌ‬
‫بعكس المتهاونين‪ ،‬وكالهما خطأ‪ ،‬ومع ذلك؛ فإن تحليل الحرام فيما األصل فيه الح ُّل أهون من‬
‫بني على األصل وهو الح ُّل‪ ،‬ورحمة‬
‫تحريم الحالل؛ ألن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو م ٌّ‬
‫اهلل سبحانه سبقت غضبه؛ فال يمكن أن نحرم إال ما تبين تحريمه‪ ،‬وألنه أضيق وأشدُّ ‪ ،‬واألصل أن‬
‫تبقى األمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم‪ ،‬أما في العبادات فيشدد؛ ألن األصل المنع‬
‫والتحريم حتى يبينه الشرع»(‪.)1‬‬

‫ولقد شاع يف عالمنا اإلسالمي اآلن مذاهب وطرق طبية مختلفة‪ ،‬جاءتنا من عدة شعوب‬
‫ودول وثقافات‪ .‬والمذاهب الطبية المنتشرة على وجه الكرة األرضية كثيرة؛ منها أنظمة متكاملة‬
‫مثل الطب اليوناين والصيني والهندي‪ ،‬ومنها ما هو متعل ٌق باألدوية مثل «العالج بالمثل»‬
‫بالسلوك والنفس كخط الزمن والبرمجة ال ُّلغوية العصبية‪ ،‬ومنها ما‬
‫«هوميوباثيك»‪ ،‬ومنها ما يتعلق ُّ‬
‫يتعلق بالطاقة(‪ ،)2‬ومنها ما هو متعل ٌق بتمارين رياضية وعقلية‪ُّ ،‬‬
‫وكل يوم تتفتح عيوننا أكثر؛ فنكتشف‬
‫عند غيرنا من البشر مذه ًبا طبيا جديدً ا لم نكن نعرفه‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القول المفيد على كتاب التوحيد البن عثيمين؛ شرح باب «من أطاع العلماء واألمراء يف تحريم ما أحل اهلل أو تحليل ما حرمه فقد‬
‫اتخذهم أربا ًبا»‪.‬‬
‫(‪ )2‬هذه الطاقة ال يقصد هبا الطاقة المعروفة فيزيائيا‪ ،‬بل هي شيء آخر لم يتم إلى اآلن تحديده بشكل دقيق‪ ،‬وأرى أن سبب عدم التحديد‬
‫هو عدم إجراء البحوث الكافية حول ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫‪99‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫ولست بمتخصص يف أحد هذه المذاهب الطبية‪ ،‬ولكنني عاشرت بعض المسلمين‬
‫الممارسين لها‪ ،‬وقرأت كتابات مسلمين آخرين عنها‪ ،‬وال أقول‪ :‬إن تطبيقات جميع المذاهب‬
‫ٌ‬
‫حالل مطلق‪ ،‬كما ال أقول‪ :‬إن كلها حرام بالكامل‪ ،‬بل يجب التفصيل‬ ‫الطبية األخرى كلها‬
‫والتفريق‪ ،‬لكن ذهب البعض إلى تحريمها بالكامل‪ ،‬بل ومحاربتها وتفسيق من يعمل هبا‪ ،‬بعض‬
‫تخصصه الفقه أو‬
‫هؤالء المحرمين للمذاهب الطبية ليسوا بعلماء مجتهدين‪ ،‬بل بعضهم ليس من ُّ‬
‫اإلفتاء‪ ،‬واإلفتاء بال علم أو أهلية إف ٌك وافترا ٌء واعتدا ٌء على اهلل ‪ ‬وعلى دينه‪ ،‬أما من حرم تلك‬
‫المذاهب بعمومها من العلماء المجتهدين؛ تجد أنهم لم يطلعوا على ما حرموه بشكل مفصل‪ ،‬بل‬
‫حكموا عليه كما عرض عليهم من بعض األعوان أو المستفتين‪.‬‬

‫ذرا يف‬
‫ولنعرف األخطاء التي وقع فيها بعض طالب العلم وأسبابهم للتحريم‪ ،‬أستميحكم ع ً‬
‫اإلطالة‪ ،‬ولنقرأ م ًعا ما هو حاصل اآلن‪.‬‬

‫أغلب إنكار وتحريم المذاهب الطبية المختلفة أتى من فئة من طالب العلم تخصصت يف‬
‫خص ًصا يف الفقه وأصوله‪ ،‬وال يعلم عنهم أنهم ٌ‬
‫أهل لإلفتاء‪ ،‬فليس‬ ‫العقيدة‪ ،‬لكن ال يبدو أن لهم ت ُّ‬
‫كثيرا‬
‫قيها من حقه اإلفتاء‪ ،‬ويبدو أن هؤالء المنكرين اعتمدوا ً‬ ‫ُّ‬
‫كل من تخصص يف العقيدة يصبح ف ً‬
‫على الكالم النظري الموجود يف كتب غير المسلمين‪ ،‬واتخذوا ذلك ذريعة للحكم على مذاهب‬
‫طبية متفرقة‪ ،‬ولنأخذ بعض األمثلة التي تبين ذلك‪:‬‬

‫‪ -1‬مما حرموه البرمجة اللغوية العصبية ”‪،“Neuro-Linguistic Programming‬‬


‫لكننا عندما نسمع الكالم عن البرمجة ال ُّلغوية العصبية من مسلمين عدول ثقات يمارسوهنا يتبين‬
‫لنا عدم صحة التحريم المطلق لها‪ ،‬وأول مثال على من يمارسها هو فضيلة الشيخ عوض بن‬
‫وتخصصه الفقه وأصوله‪ ،‬كما أن له صوالت وجوالت يف مقارعة أهل الحداثة‬
‫ُّ‬ ‫محمد القرين‪،‬‬
‫والعلمانية وأعداء الدين‪ ،‬وعقيدته وهلل الحمد صافية نقية على مذهب السلف الصالح رضوان اهلل‬
‫عليهم‪ ،‬قرظ له سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كتاب «الحداثة يف ميزان اإلسالم»‪ ،‬ومع كل ما‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪100‬‬

‫سبق؛ جمع أن يكون مدر ًبا معتمدً ا للبرمجة ال ُّلغوية العصبية‪ ،‬كما أنه أصبح ع ً‬
‫ضوا يف االتحاد‬
‫العالمي لها‪ ،‬بل جعله اهلل سب ًبا يف إسالم رئيس االتحاد العالمي للبرمجة ال ُّلغوية العصبية «وايت‬
‫سمول» عام ‪1428‬هـ وتغيير اسمه إلى عبد الحكيم‪ ،‬فقام عبد الحكيم بتنصيب الشيخ عوض‬
‫بمنصب نائب رئيس االتحاد العالمي للبرمجة ال ُّلغوية العصبية بالخليج‪ ،‬ومسؤوال عن مدربي‬
‫االتحاد العالمي يف الخليج‪.‬‬

‫وقد رد حفظه اهلل على إحدى المنكرات يف مقالة نشرها ملحق الرسالة بجريدة المدينة(‪ ،)1‬جاء‬
‫فيها‪ :‬إن هذه األخت أتت بأخطاء شرعية وأخطاء منهجية‪ ،‬وأن غيرهتا افتقدت إلى الدليل والبرهان‬
‫والرؤية الشاملة المتوازنة والعدل واإلنصاف‪ .‬وقال‪« :‬أقول وأنا مطمئ ٌّن لما أقول‪ :‬إن علم البرمجة‬
‫ُّ‬
‫ال ُّلغوية العصبية من العلوم الحيادية المشرتكة بين الثقافات المختلفة‪ ،‬كعلم الطب والهندسة‬
‫والمحاسبة واإلدارة وغيرها من العلوم‪ .‬وهو علم ناف ٌع ومفيد يف شحذ طاقات اإلنسان‪ ،‬وتدريبه‬
‫على استخدام إمكاناته‪ ،‬وفهم اآلخرين بسهولة‪ ،‬وهو يعطي اإلنسان آليات تجريبي ًة فاعلة لحل‬
‫المشكالت الزوجية واألسرية‪ ،‬ومشكالت العالقات اإلنسانية وإصالح ذات البين‪ ،‬كما يمكن‬
‫أيضا أن تستخدم يف الشر واإلفساد‪،‬‬
‫االستفادة منه يف التربية والتعليم والدعوة‪ ،‬وهي آليات يمكن ً‬
‫كثيرا من مباحث هذا العلم موجودة يف‬
‫إلى غير ذلك من الفوائد‪ ،‬وبالبحث واالستقراء تبين لي أن ً‬
‫والسنة المطهرة‪ .‬ولئن كان بعض الناس يشككون يف هذا العلم؛ فإنما أتوا من‬
‫الكتاب الكريم ُّ‬
‫جهلهم بالشرع‪ ،‬أو جهلهم بالبرمجة ال ُّلغوية العصبية‪ ،‬أو جهلهم باألمرين م ًعا‪ ،‬أو ألغراض يف‬
‫وأخيرا‪ ،‬فإن البرمجة ال ُّلغوية العصبية اجتهاد بشري يصيب‬
‫ً‬ ‫نفوسهم‪ ،».‬وختم مقالته بقوله‪« :‬‬
‫ويخطئ‪ ،‬والعصمة لكتاب اهلل وسنة رسوله ﷺ ال غير‪ ،‬والنقد المنهجي العلمي ظاهرة صحية‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬يوم الجمعة تاريخ ‪1424/5/26‬هـ‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫‪101‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫يجب أن نحرص عليها‪ ،‬لكن عندما يصبح النقد أحقا ًدا تنفث‪ ،‬أو مغالطات تروج‪ ،‬أو تناقضات‬
‫تسوق‪ ،‬أو فت ًحا ألبواب جهنم وإغال ًقا ألبواب الجنة بغير دليل وال برهان‪ ،‬فإن األخذ على يد‬
‫السفيه‪ ،‬وحماية عقول الناس؛ والحيلولة دون امتطاء الدين مطية لألغراض‪ ،‬أقول‪ :‬إن ذلك حينئذ‬
‫واجب شرعي على أهل العلم وطالبه‪ ،».‬وبعد هذا؛ هل نأخذ بكالم المتخصص يف الفقه‪ ،‬الثقة‬
‫العدل الممارس لهذا العلم‪ ،‬المعروف بمحاربته للمذاهب الدخيلة على اإلسالم؟ أم نأخذ بكالم‬
‫خصصه يف الفقه‪ ،‬وال ممارسة عملية لهذا العلم‪ ،‬وإنما مجرد تنظير بعيد عن‬
‫من لم يعرف ت ُّ‬
‫الحقائق كما قال الشيخ عوض حفظه اهلل؟! وأعرف شخ ًصا كان يعاين من حساسية تجاه شرب‬
‫الحليب منذ طفولته‪ ،‬وتخلص من هذه الحساسية عن طريق تقنيات البرمجة ال ُّلغوية العصبية‪.‬‬
‫كذلك حذر المحرمون من استعمال تقنيات البرمجة ال ُّلغوية العصبية يف حفظ القرآن والقدرة على‬
‫عما منهم أن ذلك ترويج لفكر باطني ينبغي التحذير منه‪ ،‬وعندما نبحث‬
‫التركيز وجلب الخشوع؛ ز ً‬
‫عن أشهر من يمارس هذه التطبيقات لتحفيظ القرآن الكريم نجد فضيلة الشيخ يحيى الغوثاين‬
‫حفظه اهلل يف مقدمة القائمة‪ ،‬وهو متخرج بكالوريوس من كلية الشريعة من الجامعة اإلسالمية يف‬
‫المدينة المنورة مما يؤهله للفقه واإلفتاء‪ ،‬وأكمل الماجستير يف الدعوة والدراسات اإلسالمية‪،‬‬
‫ودكتوراه من قسم التفسير وعلوم القرآن‪ ،‬مجاز يف القراءات العشر‪ ،‬وعمل مدر ًسا ومدر ًبا‬
‫ستشارا لحلقات الحرم النبوي‪ ،‬والمستفيدون من دوراته عددهم ال يحصى كثر ًة‪ ،‬ومن تمكن‬
‫ً‬ ‫وم‬
‫من حفظ القرآن أو أجزاء منه بعد االستفادة من تقنياته ودوراته كثيرون‪ ،‬أي إننا نتكلم عن‬
‫متخصص يف الشريعة عامل هبذه التقنيات ال يرى فيها حر ًجا‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل ويستعملها‬
‫بعضا من المنظرين المردود عليهم؟!‬
‫لخدمة كتاب اهلل ‪ ‬وإعانة حفاظه‪ ،‬فهل نصدقه؟ أم نصدق ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -2‬أنكر المحرمون كذلك ع ْلم الفراسة عن طريق الكتابة ال َي َّ‬
‫دوية وال َّتوقيع‬
‫فرس عن طريق الكتابة موجود لدى‬
‫”‪ ،“Graphology‬وزعموا أن هذا كهانة وعرافة‪ ،‬مع أن الت ُّ‬
‫العرب منذ قديم الزمان‪ ،‬لكن يبدو أن هؤالء المحرمين ليس لديهم ما يؤهلهم للتفريق بين ما هو‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪102‬‬

‫علم قائم على التجربة والمالحظة وبين ما هو كهانة وعرافة قائم على الدجل والشعوذة‪ ،‬وأشهر‬
‫شخص معاصر يف هذا المجال هو د‪.‬عبد الجليل عبد اللطيف األنصاري‪ ،‬حاصل على‬
‫بكالوريوس يف الشريعة‪ ،‬وماجستير يف أصول الدعوة‪ ،‬هذا الشخص من خبرته وتجربته أضاف‬
‫أكثر من مائة قاعدة يف تحليل خط اليد‪ ،‬كما أن هذا العلم يدرس يف بعض الجامعات الغربية‪ ،‬فهل‬
‫ضيف إليه؟ أم‬
‫ٌ‬ ‫خصصه شريعة وهو عدل ثقة‪ ،‬ويعمل هبذا العلم ومجر ٌب له بل م‬
‫نصدق من ت ُّ‬
‫نصدق غيره ممن لم يعرف عنهم التجربة العملية؟!‬

‫‪ -3‬وتكلم هؤالء المحرمون عن العالج بال َّطاقة الحيوية ”‪ “Bio Energy‬ووصفوه‬


‫بالعالجات القائمة على الدجل والشعوذة والخرافة ألكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬بينما عندما‬
‫خصص ويعالج به؛ فإنه ينفي أن يكون كالم المحرمين صوا ًبا‪ ،‬بل‬
‫نتحاور مع من تعلم هذا الت ُّ‬
‫وجدوه بالتجربة عل ًما ناف ًعا له فوائده‪ ،‬ونفوا أن يكون للتشخيص والعالج عن طريق الطاقة‬
‫أي عالقة بالعقائد الوثنية أو الخرافات‪ ،‬من هؤالء المعالجين المدرب حسن البشل‪ ،‬الذي‬
‫الحيوية ُّ‬
‫صرح بأنه تلقى هذا العلم من مسلمين يف الصين‪ ،‬ولم يجد فيه أي شيء يقدح يف العقيدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وكتب عنه بشكل طيب يف كتابه المسمى «العافية»‪.‬‬

‫‪ -4‬كذلك كان مما حرموه طريقة العالج بالحر َّية ال َّن ْفسية أو تِقنية َت ْحرير المشاعر‬
‫”‪ ،“Emotional Freedom Techniques‬بينما نجد أن هذه التقنية جربت ونجحت مع‬
‫(‪)1‬‬
‫الكثير‪ ،‬وأصبح لها عيادات منتشرة يف أنحاء العالم‪ ،‬وموقع «جمعية علم النفس األمريكية»‬
‫”‪ “American Psychological Association‬يحوي عدة مقاالت لتجارب تثبت أن هذه‬
‫التقنية لها تأثيرات إيجابية‪ ،‬بل إن أحد هذه التجارب(‪ )2‬أثبت أن هذه التقنية كان لها دور يف تخفيف‬

‫________________‬
‫(‪http://psycnet.apa.org )1‬‬
‫(‪https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037%2Ftra0000563 )2‬‬
‫َ َّ‬
‫‪103‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫الضغط العصبي وكذلك هرمون الكورتيزول‪ ،‬ويؤكد من يمارس هذه التقنية من المسلمين أنه‬
‫أي مخالفة شرعية وال عقدية‪ ،‬وأشهر هؤالء هو المدرب حمود العربي‪ ،‬وقد ذكر يف‬
‫ليس فيها ُّ‬
‫كتابه «الحرية النفسية طريقة مختصرة للتخ ُّلص من المشاعر السلبية» أن عدة حاالت تحسنت على‬
‫يديه باستعمال هذه التقنية‪ ،‬وكان مشر ًفا عاما على مركز الحرية النفسية بقطاع غزة‪ ،‬وهو مشروع‬
‫خيري لعالج األعراض النفسية لما بعد الحروب‪ ،‬وقد عمل به بعض األخصائيين النفسيين‪،‬‬
‫وصدرت دراسة من الجامعة اإلسالمية بغزة بعنوان‪« :‬فعالية تقنية الحرية النفسية يف الحد من‬
‫اضطراب ما بعد الصدمة النفسية جراء الحرب على غزة»(‪ ،)1‬أثبتت هذه الدراسة استفادة من قام‬
‫عليهم البحث من تقنية الحرية النفسية‪ .‬فهل نصدق هؤالء االختصاصيين المخلصين؟ أم من ليس‬
‫له تجربة وال برهان؟!‬

‫وذكر األمثلة يف تحريم المذاهب الطبية يطول‪ ،‬لكن أقول‪ :‬إنني سمعت ساب ًقا أن آالت‬
‫الطباعة تم تحريهما يف الدولة العثمانية خو ًفا من تحريف القرآن الكريم‪ ،‬ولم أكن أصدق ذلك‬
‫لعدم عثوري على سند متصل للحدث‪ ،‬لكني بعد سماعي لهؤالء المحرمين يف هذا العصر؛ جعلوا‬
‫تصديق ذلك من األسهل واأليسر‪ .‬هؤالء المحرمون المعاصرون ليس لديهم وجوه فقهية‬
‫صحيحة لتحريم التقنيات الحديثة علينا‪ ،‬والمتأمل يف كالمهم يجد أن تحريمهم قائم على عدة‬
‫أسباب‪ ،‬أذكرها وأر ُّد عليها كما يلي‪:‬‬

‫مبني على‬
‫ني ُّ‬‫أصلها و َث ُّ‬
‫تكرارا يف تحريمهم هو قولهم‪ :‬إن هذه العلوم ْ‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬من أكثر األسباب‬
‫ٌ‬
‫قرون ببعض الشركيات والكفريات‪ ،‬والر ُّد على هذا القول يأيت‬ ‫عقائد فاسدة‪ ،‬أو ذكروا أن تطبيقها م‬
‫من وجهين‪:‬‬

‫________________‬
‫(‪https://iugspace.iugaza.edu.ps/handle/20.500.12358/28576 )1‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪104‬‬

‫الوجه األول‪ :‬نقول‪ :‬كيف عرفتم أن هذه المذاهب الطبية أصولها عقائد فاسدة؟ جوابهم‪ :‬أنهم‬
‫رجعوا إلى بعض المراجع لهذه المذاهب‪ ،‬والتي ألفها وثن ُّيون‪ ،‬فوجدوا أن بعضهم ذكر أن أصول‬
‫هذه المذاهب وثنية‪ ،‬وبنا ًء على كالم هؤالء الوثنيين؛ بنى المنكر حكمه أن هذا المذهب الطبي‬
‫أصله وثني‪ ،‬لكن هل هذه الطريقة صحيحة يف التلقي واإلفتاء؟ هم وقعوا هنا يف خطأين‪ ،‬ولبيان‬
‫ً‬
‫سؤاال‪ ،‬هل هذه العلوم سبقت العقيدة الوثنية ثم حرفها الوثن ُّيون؟ أم‬ ‫األول أطرح عليهم‬
‫الخطأ َّ‬
‫استحدثها الوثن ُّيون من عقيدهتم؟ ال يمكن ألحد الجزم بإجابة هذا السؤال‪ ،‬بينما هم يقطعون‬
‫ٌ‬
‫خطأ أو ٌل وقعوا فيه‪ ،‬فلو أحضرت لك التوراة أو‬ ‫جازمين أنها من استحداث الوثنيين‪ ،‬وهذا‬
‫اإلنجيل واستخرجت لك منهما آية تد ُّل على وحدانية اهلل ‪ ‬وألوهيته وربوبيته؛ فإنه ال يمكن‬
‫الجزم بأي حال أن هذه اآلية مما نزلت على موسى أو عيسى عليهما السالم‪ ،‬وذلك ألن احتمال‬
‫وضعها من قبل المحرفين وارد‪ ،‬يمكنك القول أن االحتمال األكرب أنها من عند اهلل‪ ،‬لكن ال يمكن‬
‫الجزم بذلك بتا ًتا‪ ،‬فكيف هبؤالء يجزمون بأن العقيدة الوثنية هي أصل تلك العلوم؟ إن ما نقرأه من‬
‫أصول عقائدية لهذه العلوم والمذاهب الطبية؛ ليس شر ًطا أن يكون أ ً‬
‫صال لها‪ ،‬فقد يكون لها أصل‬
‫صحيح آخر غير مرتبط بعقائدهم‪ ،‬لكنه حرف مع الزمن‪ ،‬كمثل التوراة واإلنجيل‪ ،‬أصلهما وحي‬
‫من اهلل وكالمه‪ ،‬ثم تم تحريفهما من قبل البشر‪ ،‬حتى غدت النُّسخ المحرفة مليئة بالشركيات‬
‫والكبائر والخرافات‪ ،‬لكن هذا التحريف ال يعني أن كل شيء فيهما باطل‪ ،‬وال يقال‪ :‬إن أصلهما‬
‫فاسد!! أعوذ باهلل تعالى ربي سبحانه وتقدس وتنزه ‪ ‬من هذا القول‪ .‬بل إن القرآن العظيم تم‬
‫تأويله بمعان وتفسيرات فاسدة وشركية من قبل بعض الفرق الضالة؛ فهل يعني ذلك الطعن يف‬
‫صحة القرآن؟! حاشاه كالم ربي عن أي نقص أو طعن‪ .‬الخطأ الثاين الذي وقعوا فيه أن جزمهم‬
‫هذا قائم على كالم الوثنيين أنفسهم‪ ،‬فاعتمدوا على كالم وثنيين فساق واستد ُّلوا به يف حكم‬
‫قيني تبنى عليه األحكام الشرعية؟ الحديث الضعيف‬
‫شرعي‪ ،‬هل كالم هؤالء الوثنيين أمر ي ٌّ‬
‫المنسوب إلى رسول اهلل ﷺ والذي يف إسناده مسلمون ال يمكن االحتجاج به يف العقيدة‬

‫واألحكام‪ ،‬كذلك ال يمكن االحتجاج باإلسرائيليات ألن رسول اهلل ﷺ أمرنا أال نصدقها وال‬
‫َ َّ‬
‫‪105‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫نكذهبا(‪ ،)1‬فكيف بمن يصدق كالم الوثنيين ويبني على ذلك أحكا ًما شرعية؟ هذا واهلل أشنع وأشدُّ‬
‫جر ًما من تصديق اإلسرائيليات‪ ،‬لذا ال يمكن التسليم والجزم بتا ًتا بأن هذه المذاهب الطبية‬
‫المختلفة أصلها فاسد‪ ،‬أو أن مصدرها عقائد باطلة بمجرد قول الوثنيين ذلك‪ .‬العجيب أنهم لما‬
‫استد ُّلوا بكالم الوثنيين‪ ،‬أخذوا بعضه وتركوا اآلخر‪ ،‬وكأنهم يستد ُّلون ويأخذون بنا ًء على أهواء ال‬
‫على أصول‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ :‬يذكر الوثن ُّيون أسما ًء آللهة يزعمون أنها مصدر للطاقات أو‬
‫العلوم‪ ،‬فيقوم هؤالء المحرمون بتكذيب قول الوثنيين أن هناك آلهة أخرى غير اهلل‪ ،‬لكنهم يتقبلون‬
‫بصدق وجزم أن هذه الطاقات والعلوم مصدرها من يدعيهم الوثن ُّيون آلهة‪ ،‬والصواب إما أن‬
‫تصدق الكالم كله أو تكذبه كله‪ ،‬أما أن تكذب بعض كالمهم ألنه مخالف للعقيدة‪ ،‬وتصدق كال ًما‬
‫آخر ألنه وافق هواك فهذا ال يجوز‪ ،‬واألعجب من ذلك أهنم قدموا قول الوثنيين على قول‬
‫المسلمين العدول ممن يمارسون هذه العلوم والتي ينفون أن يكون فيما يمارسوه أي شرك أو كفر‬
‫أو مخالفة لإلسالم‪.‬‬

‫الوجه الثاين‪ :‬لو افرتضنا جد ًال صحة كالمهم وأنهم استقوا هذه العلوم والمعارف من شياطين‬
‫وعبادات شركية ووثنية‪ ،‬فهل هذا مدعاة لتحريمها؟ فساد المصدر ليس من الشرط أن يكون مؤد ًيا‬
‫إلى فساد المعلومة‪ ،‬بل إن الشيطان لعنه اهلل لما علم أبا هريرة ﭬ قال له‪« :‬دعني أعلمك كلمات‬
‫ينفعك اهلل بها»‪ ،‬فقال أبو هريرة ﭬ‪« :‬ما هو؟»‪ ،‬قال الشيطان‪« :‬إذا أويت إلى فراشك‪ ،‬فاقرأ آية‬

‫الكرسي‪ :‬ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱠ [البقرة‪ ،]255 :‬حتى تختم اآلية‪ ،‬فإنك لن يزال عليك من‬
‫اهلل حاف ٌظ‪ ،‬وال يقربنك شيط ٌ‬
‫ان حتى تصبح»؛ فإن الرسول ﷺ لم يستنكر هذه المعلومة ولم يصدها‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬عن أبي هريرة ﭬ قال‪ :‬كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعربانية‪ ،‬ويفسروهنا بالعربية ألهل اإلسالم‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال‬

‫ُتصدقوا أهل الكتاب وال ُتكذبوهم‪ ،‬وقولوا‪ :‬ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ ﱠﭐ[البقرة‪ ]136 :‬اآلية»‪ ،‬صحيح البخاري «‪ ،»4215‬كتاب‬

‫ﱡﭐﱓﱔﱕﱖ ﱗ ﱘﱠ [البقرة‪.]136 :‬‬ ‫تفسير القرآن‪ ،‬باب‪:‬‬


‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪106‬‬

‫عدو مبين لبني آدم‪ ،‬كما أنه حريص على إغواء‬


‫ألن مصدرها الشيطان‪ ،‬ومعلوم أن الشيطان ٌّ‬
‫اإلنسان وإيقاعه يف حبائله‪ ،‬وتزيين البدع والمنكرات للمؤمنين‪ ،‬بالرغم من كل ذلك فإن رسول اهلل‬
‫ﷺ لم يستنكر المعلومة؛ ألنها صحيحة‪ ،‬ولذلك أقرها ﷺ‪ ،‬وقال ألبي هريرة ﭬ‪َ « :‬أ َما إِ َّن ُه َقدْ‬
‫ك َو ُه َو ك َُذوب»(‪ ،)1‬فاألصل يف العبادات إقرارها من قبل الرسول ﷺ‪ ،‬واألصل يف العلوم‬
‫َصدَ َق َ‬
‫الدُّ نيوية ثبوهتا عن طريق التجربة المنضبطة بالشرع مهما كان مصدرها‪ ،‬والناظر يف التاريخ يرى أن‬
‫قديما بالفالسفة والكهان «مثل الطب‪ ،‬الرياضيات‪ ،‬الفيزياء‪ ،‬الجغرافيا‪،‬‬
‫أغلب العلوم كانت مرتبطة ً‬
‫التاريخ‪ ،‬علم النفس‪..،‬إلخ»‪ ،‬حتى قام علماء المسلمين بتجريد هذه العلوم والتأ ُّكد منها عن طريق‬
‫التجربة والتطبيق‪ ،‬فهل سنحرم كل تلك العلوم ألنها كانت مرتبطة بالفالسفة والكهان الوثنيين؟‬

‫ب اليوناين أكرب مثال ودليل على أن المسلمين أخذوا بعض العلوم الدُّ نيوية المفيدة‬
‫الط ُّ‬
‫ب اليوناين يقال إنه يعود إلى آلهة اإلغريق‬
‫وطوروها رغم قراءهتم أن أصلها يشوبه كفر وفساد‪ ،‬فالط ُّ‬
‫مثل أبول ُّلو ”‪ ،“Apollo‬وكان من ألقابه التي يدعى هبا «إله الوباء والشفاء»‪ ،‬وابنه اسكلبيوس‬
‫”‪ ،“Asclepius‬ويدعى بـ«إله الدواء أو الطب والشفاء»‪ ،‬لكن هذه االدعاءات لم تمنع المسلمين‬
‫من تع ُّلم الطب اليوناين‪ ،‬بعدما اكتشفوا أنه عبارة عن حقائق علمية ثبتت عن طريق التطبيق‪،‬‬
‫وأصبح العالم اإلسالمي ألكثر من ألف سنة معتمدً ا على نظرياته يف عالج البشرية‪ ،‬حتى مجيء‬
‫االحتالل للدُّ ول المسلمة وتعميم الطب الغربي فيها‪ .‬بل إنك لو أمعنت النظر إلى عالمة ال ُّثعبان‬
‫والكأس الموجود والعصا والجناحين على الصيدليات واألدوية اآلن؛ لعلمت أن الطب الغربي لم‬
‫يخل كذلك من عقائد وأصول فاسدة‪ ،‬فالعصا يقال إنها ألسكلبيوس إله الدواء عند اإلغريق‪،‬‬
‫والجناحان رمز للطيران؛ ألنهم كانوا يعتقدون أن اسكلبيوس مراسل بين آلهة السماء وبين البشر‪،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سيأيت تخريجه يف صفحة ‪.204‬‬
‫َ َّ‬
‫‪107‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫لكننا هنا نحرم هذه األخطاء العقدية وحدها وال نحرم الطب الغربي كله‪ ،‬وهذا ما يجب فعله مع‬
‫الرقى كانت قبل اإلسالم بعضها مختلط‬
‫الرقية‪ ،‬أن ُّ‬
‫جميع المذاهب الطبية‪ .‬وقد تبين يف فصل ُّ‬
‫الرقية بعمومها‪ ،‬بل‬
‫بألفاظ أو أعمال شركية‪ ،‬فلما أتى رسول اهلل ﷺ لم يردها كلها‪ ،‬ولم يحرم ُّ‬
‫طلب من الصحابة ﭫ أن يعرضوها عليه ﷺ‪ ،‬فما وافق منها الشرع أقرهم عليها‪ ،‬وما خالف‬
‫الشرع طلب منهم طرحه وإبقاء ما جاز منها‪ ،‬وهذا الفعل من رسول اهلل ﷺ هو ما علينا عمله تجاه‬
‫أي علم اختلط بشركيات لفظية أو عملية‪ ،‬أو أخطاء عقدية أو شرعية‪ ،‬فنطرح منه ما خالف الشرع‪،‬‬
‫مثال من يعتقد الشفاء يف بعض أطباء‬
‫ونبقي على ما لم يخالفه‪ ،‬ثم نقبله إن ثبتت فائدته‪ .‬وهناك ً‬
‫الطب الغربي‪ ،‬أو يف بعض أدويته‪ ،‬وهذا شرك باهلل‪ ،‬ألن اهلل ‪ ‬هو الشايف‪ ،‬واألطباء واألدوية‬
‫مجرد أسباب عالجية‪ ،‬فهل هذا سبب لتحريم الطب الغربي كله؟ ومن المضحك المبكي أن‬
‫فمثال‬
‫ً‬ ‫بعض هؤالء المحرمين حرموا بعض الحميات لكون المشركين يستخدموهنا يف دينهم‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬إنه ال يجوز لك أن تعمل حمية تمتنع فيها عن أكل اللحم‪ ،‬ألن هناك ديانة وثنية تحرم أكل‬
‫اللحم‪ ،‬ونسألهم‪ :‬إذا أتاك الشيطان وقال لك‪ :‬إن الموز مفيد لمرضك‪ ،‬فهل يسوغ ذلك ألي فقيه‬
‫أن يمنعك من أكل الموز ألن الشيطان أوصاك هبذا؟ ليس كذلك‪ ،‬بل نقول‪ :‬جرب الموز‪ ،‬فإن‬
‫انتفعت به فقل‪ :‬صدقني الشيطان وهو كذوب‪ ،‬وإن لم تنتفع به علمت أهنا كذبة من كذباته‪ ،‬إال أن‬
‫يكون هناك طبيب منعك من تناول الموز لضرره عليك‪ ،‬فهنا نحرمه من أجل قول األطباء‪ ،‬ال لقول‬
‫السجود لألصنام يرضي اآللهة‬
‫الشيطان‪ .‬وإذا جاءك الشيطان وقال لك‪ :‬إن أكلك لل ُّتفاح مع ُّ‬
‫فيقومون بزيادة الحديد يف جسمك‪ ،‬فهذا كذلك ال يسوغ لنا منعك من أكل ال ُّتفاح‪ ،‬بل نجيز أكله‪،‬‬
‫لكن نبين أن زيادة الحديد يف الجسم سببه أن اهلل جعل ذلك ميزة يف ال ُّتفاح فينتفع به ُّ‬
‫كل من يأكله‪،‬‬
‫السجود لغير اهلل‪ .‬ومعلوم أن أول سيارة أنتجتها تويوتا‬
‫أي آلهة أخرى‪ ،‬وال يجوز ُّ‬
‫وليس هناك ُّ‬
‫ذهبوا هبا إلى معبدهم ليحصلوا على بركة آلهتهم لها‪ ،‬فهل نقول بتحريم سيارات تويوتا على‬
‫المسلمين إذا اعتقد مالكها أن سبب نجاحها هو حلول بركة آلهتهم فيها‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪108‬‬

‫أغلبنا يعرف أن هناك تمارين رياضية تسمى بالتمارين السويدية‪ ،‬وسميت بذلك ألن الذي‬
‫وضعها رياضي سويدي‪ ،‬ويؤديها ماليين البشر حول العالم من المسلمين وغير المسلمين‪ ،‬فلو‬
‫افرتضنا على سبيل المثال أننا وجدنا كتا ًبا ألفه سويدي غير مسلم يقول فيه أن هذه التمارين أصلها‬
‫عبادات وثنية كانت تؤدى يف الكنائس السويدية‪ ،‬فهل هذا سيسوغ لنا تحريم هذه التمارين على‬
‫المسلمين؟ بالطبع ال‪ ،‬وذلك ً‬
‫أوال ألن هذا الكالم إسناده ضعيف ال يحتج به‪ ،‬وثان ًيا لو ثبت فإن‬
‫المسلمون يمارسون هذه التمارين لتقوية أجسامهم بعد ثبوت فائدهتا‪ ،‬وليس للتقرب من اآللهة‬
‫الوثنية أو من الشياطين‪.‬‬

‫ولو افرتضنا أن اليابانيين أو من جاورهم ادعوا أن جميع التقنيات الحديثة التي اخرتعوها هي‬
‫وحي من آلهتهم المزعومة وتع ُّبد لهم‪ ،‬فهل هذا سيسوغ لنا تحريم هذه التقنيات ومنع المسلمين‬
‫من التعامل هبا؟ بالطبع ال ألنه ً‬
‫أوال ال يمكن القبول بدعواهم لضعف إسناده‪ ،‬وثان ًيا نعلم أسس‬
‫هذه التقنيات وطريقة عملها وأنه ال عالقة لها بأي عقيدة شركية‪ ،‬بل أساسها علوم عملية عرفناها‪.‬‬

‫كما أن أخذ العلوم الدنيوية من الكفار ال يدخل يف التشبه هبم الذي نهينا عنه‪ ،‬طالما ثبت أن‬
‫هذه العلوم مفيدة بعد تنقيتها من المحرمات والشركيات‪.‬‬

‫خَلصة األمر‪ :‬أنه ال يثبت القول بأن بعض العلوم الدنيوية أصلها وثني‪ ،‬ولو افترض ثبوته فإن‬
‫ذلك ال يحرمه بمجرد كون أصله وثنيا أو شيطانيا‪ ،‬بل مر ُّده إلى التجربة بعد تصفيته من المحرمات‬
‫والشركيات‪ ،‬فما ثبتت فائدته نأخذه ونعمل به‪ ،‬وما ثبت خطؤه نر ُّده ونخطئه‪.‬‬

‫‪ -2‬وجد بعض المحرمين بعض األخطاء الشرعية ‪-‬غير العقدية‪ -‬يف المذاهب الطبية‬
‫األخرى‪ ،‬فقام بتحريم وتجريم هذه العلوم كاملة‪ً ،‬‬
‫بدال من إيضاح هذا الخطأ وتالفيه‪ ،‬وهذا ال‬
‫ب الغربي اآلن لم يخل من أخطاء شرعية‪ ،‬لكن لم يجز لنا تحريمه بالكامل‪،‬‬
‫يعقل وال يجوز‪ .‬الط ُّ‬
‫المستشفيات يف العالم مختلطة باختالط غير جائز شر ًعا بين الرجال والنساء‪ ،‬وأصبح األطباء‬
‫الرجال يكشفون على المرضى النساء ويلمسوهنم بال ضرورة‪ ،‬وكذلك أصبحت الطبيبات يكشفن‬
‫َ َّ‬
‫‪109‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫على المرضى الرجال ويلمسوهنم بال ضرورة‪ ،‬وكثير من األطباء يختلون بممرضاهتم خلوة غير‬
‫شرعية‪ ،‬فهل هذه األخطاء الشرعية تسوغ لنا تحريم الطب الغربي كله؟ أم تجعلنا نطالب األطباء‬
‫بتجنُّب هذه األخطاء الشرعية فقط بال تحريم لكامل العلم والطريقة؟ نفس الشيء يقال عن‬
‫المذاهب األخرى‪ ،‬فيجب تحديد الخطأ الشرعي وتجنُّبه‪ ،‬وليس تحريم كامل المذهب الطبي‪.‬‬

‫‪ -3‬بعضهم يحرم بنا ًء على رعاية بعض المن َّظمات الضا َّلة لهذه العلوم‪ ،‬تقول أحد‬
‫المحرمات‪« :‬البرمجة ال ُّلغوية العصبية جزء ال يتجزأ من منظومة تض ُّم أكثر من مائة طريقة لنشر‬
‫فكر «حركة القدرة البشرية الكامنة» أو «حركة العهد الجديد» ”‪ ،“The New Age‬فما هي يف‬
‫محصلتها إال طريقة عملية مبطنة لنشر فكرهم العقدي وفلسفتهم الملحدة يف قالب جذاب‪ ،‬وبطابع‬
‫التدريب والتطبيق والممارسة الحياتية‪ ،‬ال طابع التنظير والفلسفة والدين»‪ ،‬وأقول‪ :‬إن كانت هذه‬
‫العلوم مفيد ًة فال يحق لكم منع المسلمين منها بحجة أن آخرين يستغ ُّلوهنا با ًبا لتحريف اإلسالم‬
‫وتضليل المسلمين‪ ،‬عليكم تنبيه المسلمين لمخططات اآلخرين‪ ،‬لكن ليس منعهم من العلوم‬
‫األخرى‪ ،‬هل ستقومون بتحريم ال ُّلغة اإلنجليزية إذا قامت هذه المنظمات بالحث على تع ُّلمها؟‬
‫هل ستقومون بمنع الطب الغربي عن المسلمين إذا قامت هذه المنظمات برعاية دورات طبية يف‬
‫ظل مظلة الطب الغربي‪ ،‬هذا بعيد عن الفقه واهلل المستعان‪ .‬لو أتاك الشيطان وأحضر لك سيارة‬
‫هدية وقال لك‪ :‬هذه لتستعين هبا يف ذهابك لدروس العلم الشرعي وزيارة المرضى والعلماء‪ ،‬وهو‬
‫يو ُّد أنك تضل وتستعمل السيارة للذهاب ألماكن محرمة‪ ،‬فهل نقول بتحريم أخذك للسيارة؟ ال‪،‬‬
‫بل نقول خذ السيارة وال تستعملها يف حرام‪.‬‬
‫‪ -4‬من أسباب التحريم قولهم‪ :‬إن هذه العلوم تخوض يف ال َغيب َّيات‪ ،‬وقد فصلت عن الغيبيات‬
‫يف فصل «علم الغيب»‪ ،‬وأقول‪ :‬إن هذا االدعاء له ثالثة أوجه‪:‬‬
‫األول‪ :‬إن كان هناك يف هذه العلوم خوض فيما هو غيب مطلق أو غيب نسبي ال يعرف إال‬
‫بالوحي؛ فالواجب التنبيه على هذا الجزء وحذفه‪ ،‬ال تحريم العلم بكامله‪ ،‬وذلك مثل ما يتعلق‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪110‬‬

‫بوصف المالئكة‪ ،‬أو شرح طريقة وصول الدُّ عاء واستجابته‪ ،‬مما هو غيبي وتوقيفي ال سبيل لنا إلى‬
‫معرفته‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬هناك مصطلحات توحي أنها تتعلق بأشياء غيبية‪ ،‬لكن عندما نتأمل يف معناها الحقيقي؛‬
‫ٌ‬
‫خطأ من‬ ‫نجدها تعني أشياء أخرى ليست غيبية على اإلطالق‪ ،‬وهذه ال إشكال فيها‪ ،‬بل هو‬
‫المحرمين حيث لم يبحثوا عن المعنى الصحيح لهذا المصطلح فحرموا العلم كام ًال من أجله‪،‬‬
‫الروحية‪ .‬وهذا اإلشكال واقع‬
‫الروح»‪ ،‬وقد تطرقت لذلك يف فصل األمراض ُّ‬
‫وذلك مثل مصطلح « ُّ‬
‫عند بعض المنكرين يف بعض المصطلحات العلمية والطبية‪ ،‬فالمعنى المعروف لديهم شيء‪ ،‬بينما‬
‫يكون المقصود يف المذاهب الطبية األخرى شي ًئا آخر‪.‬‬

‫أصال‪ ،‬بل أمور ملموسة محسوسة‪،‬‬


‫ً‬ ‫الثالث‪ :‬أن تتعلق هذه العلوم بما هو ليس من الغيب‬
‫علمها البعض وجهلها آخرون‪ ،‬ويمكن تعليمها ألي شخص يريد ذلك‪ ،‬بل قد يمكن صناعة‬
‫أجهزة حديثة لقياسها‪ .‬ولكن المحرمين يروهنا من الغيبيات‪ ،‬فهنا نطالبهم بالدليل على أن ذلك‬
‫مما أجمع على أنه من علم الغيب المطلق‪ ،‬أو الغيب النسبي الذي ال يعرف إال بالوحي‪.‬‬

‫الح ذو حدين‪ ،‬يمكن استعمالها يف الخير‪ ،‬ويمكن كذلك استعمالها‬ ‫‪ُّ -5‬‬
‫كل العلوم الدُّ نيوية س ٌ‬
‫ستعملة يف الشر فقط‪ ،‬فحرموا بنا ًء على‬
‫َ‬ ‫يف الشر‪ ،‬وبعض المحرمين اطلعوا على ال َّت ْطبيقات الم‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا بعيد عن اإلنصاف والنظر ُّ‬
‫الشمولي‪.‬‬

‫‪ -6‬وبعض المحرمين يرى أن هذه العلوم مخالف ٌة للمذهب الطبي السائد والمعمول به‬
‫ب الغَربي‪ ،‬فيرون أن الطب الغربي حجة على ما سواه‪ُّ ،‬‬
‫وكل شيء ينكره‬ ‫لديهم؛ أال وهو الط ُّ‬
‫عقال‪ ،‬هل الفقه‬
‫المنتسبون للطب الغربي فال يقبله هذا المحرم‪ ،‬وهذا كالم ال يقبل شر ًعا وال ً‬
‫حصور على قرارات منظمة الصحة العالمية أو هيئة الغذاء والدواء الدولية؟ هل الدين مجي ٌر لفئة‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫ب الغربي أحد‬
‫طبية غير أخرى؟ وهل العلم محتك ٌر على جامعات أو جهات معينة دون غيرها؟ الط ُّ‬
‫المذاهب الطبية؛ وحت ًما ال يمكن أن يكون له الكمال بال أخطاء‪ ،‬كما أنه خص ٌم للمذاهب الطبية‬
‫َ َّ‬
‫‪111‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫وعلم زائف‪ ،‬وهي تصرح‬


‫ٌ‬ ‫ب الغربي يدعي أن المذاهب الطبية األخرى كلها أوهام‬
‫األخرى‪ ،‬فالط ُّ‬
‫أن الطب الغربي علم ناقص‪ ،‬فكيف يكون الطب الغربي حك ًما وقاض ًيا بينها؟ ال يصح هذا القول‪.‬‬
‫رئيسا‬
‫بل الصواب أن هذه المنظمات قد يستأنس بأقوالها يف األحكام الشرعية‪ ،‬لكنها ال تكون سب ًبا ً‬
‫يف إصدار األحكام الفقهية‪ ،‬وال سب ًبا لحصر علوم دنيوية‪ ،‬إذا كان يجوز مخالفة قرار مجمع فقهي‬
‫معاصر ‪-‬ألن ذلك ال يعد إجماعا‪-‬؛ فمن باب أولى جواز مخالفة هيئات علمية غير شرعية‪.‬‬

‫طريق للنجاح»؛‬
‫ٌ‬ ‫عندما تكلم بعض المعالجين بالبرمجة ال ُّلغوية العصبية أن «تخ ُّيل النجاح هو‬
‫ا ُّتهموا ببيع الوهم والخرافة‪ ،‬لكن عندما أكد الدكتور وليد فتيحي ذلك يف إحدى مقاطعه(‪)1‬؛ فإننا‬
‫لم نسمع للمحرمين أي صولة وجولة‪ ،‬ألن الدكتور وليد خريج مدرسة الطب الغربي‪ ،‬وعزى‬
‫الدكتور يف مقطعه إلى أينشتاين قوله‪« :‬إن القدرة على التخ ُّيل أهم بكثير من المعرفة»‪ ،‬لألسف فإن‬
‫إمكانية تصديق المحرمين ألينشتاين قد تكون قوية‪ ،‬ولكن لن يصدقوا أمثال الشيخ عوض القرين‬
‫ب‬
‫أو الشيخ يحيى الغوثاين إذا قالوا نفس الشيء‪ .‬وقبل مدة من السنين ليست بالبعيدة؛ كان الط ُّ‬
‫الغربي ينفي وجود فوائد للحجامة‪ ،‬وكان بعض األطباء المسلمين يستهزئ هبا وببعض أحاديث‬
‫فر‪ ،-‬ولم نكن نسمع للمحرمين أي‬
‫الطب النبوي ‪-‬مع أن االستهزاء بما ثبت عن رسول اهلل ﷺ ك ٌ‬
‫تعقيب شديد المستوى مثلما يفعلونه اآلن مع العلوم والمذاهب الطبية األخرى‪.‬‬
‫ونعلم جيدً ا أن الطب الغربي ينكر وجود األمراض الروحية وتأثيرها‪ ،‬بالرغم من ثبوهتا عن‬
‫طريق التجربة‪ ،‬فكما أخطأ الطب الغربي يف إنكار األمراض الروحية؛ فإنه من الجائز أن يكون‬
‫مخط ًئا يف إنكار المذاهب الطبية األخرى‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مقطع مرئي للدكتور وليد فتيحي بعنوان «قوة التخ ُّيل يف صناعة الواقع»‪،‬‬
‫‪https://www.youtube.com/watch?v=H7JUAgVXeT4‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪112‬‬

‫‪ -7‬رأى بعض المحرمين أنه لم يمكن تفسير هذه العلوم عن طريق العلوم التي يعرفوهنا‪ ،‬فلم‬
‫يتمكنوا من التعرف عليها أو بحثها مثالً من خالل تخصص الكيمياء المعروفة‪ ،‬وال الفيزياء‬
‫كذلك‪ ،‬فقاموا بتكذيب وجودها ورميها بالخرافة‪ ،‬وتحريم استعمالها‪ .‬لكن هذا يدل على أن‬
‫هؤالء وقعوا يف خطأ كبير‪ ،‬إذا ظنوا أهنم وصلوا إلى الكمال يف العلم الذي ليس بعده شيء‪ ،‬وأن ما‬
‫يعرفوه من كيمياء أو فيزياء أو غير ذلك يؤهلهم لمعرفة كل شيء يف هذا الكون‪ ،‬وتقرير ما يمكن‬
‫أن يكون وال يكون‪ ،‬وهم بذلك بقصد أو بغير قصد جعلوا هذه العلوم معايير هلل ‪ ‬ال يخلق‬
‫بغيرها‪ ،‬فحددوا قدرته ‪ ‬بما يتوافق مع علومهم‪ ،‬حاشاه ربي وتقدس وتنزه عما يصفون‪ ،‬قال اهلل‬

‫‪ :‬ﱡﭐﲙﲚ ﲛﲜﲝﲞﲟﲠﲡﲢ ﲣﲤﲥﱠ [يس‪:‬‬

‫ﱕ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱠ [النحل‪،]8 :‬‬
‫ﱖ‬ ‫‪ ،]36‬وقال ‪ :‬ﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ‬
‫و ً‬
‫بدال أن يؤمنوا أن اهلل ‪ ‬يمكنه أن يخلق ما ليس لهم به علم إلى اآلن؛ قاموا بإنكار وجود أي‬
‫شيء لم يستطع علمهم الحالي تفسيره‪ ،‬ونقول لهم هونوا على أنفسكم‪ ،‬فمهما فعلتم فإنكم لم‬
‫تبلغوا الكمال يف العلوم‪ ،‬يقول اهلل ‪ :‬ﱡﭐﳄﳅﳆﳇﳈﳉﱠ [اإلسراء‪ ،]85 :‬ولو أنهم اكتفوا‬
‫ثيرا منهم تعدوا تحريمها إلى‬
‫خيرا لهم وأقوم‪ ،‬لكن المشكلة أن ك ً‬
‫بقول «لم تثبت لدينا»‪ ،‬لكان ً‬
‫تفسيق من يجيزها‪ ،‬واالستهزاء به واستحقاره‪ ،‬بل ربما إلى الحكم على مصيره يف اآلخرة‪ ،‬واهلل‬
‫المستعان‪.‬‬

‫ومن العجيب أن األمراض الروحية كذلك ليس لها تعريف كيميائي وال فيزيائي إلى اآلن‪،‬‬
‫لكن يوجد من يؤمن هبا ممن ينكر العلوم األخرى بحجة عدم توافقها مع الكيمياء والفيزياء وغير‬
‫ذلك‪ ،‬وعندما تسألهم كيف توفقون بين إيمانكم بوجود األمراض الروحية وبين عدم توافقها مع‬
‫العلوم التي لديكم‪ً ،‬‬
‫بدال من أن يتهموا أنفسهم بالنقص يف فهم العلوم؛ يربؤون أنفسهم ويرمون‬
‫األمراض الروحية بأهنا من األمور الغيبية التي ال يمكن معرفتها‪ ،‬وقد شرحت ساب ًقا يف فصل «علم‬
‫الغيب» كيف أن هذه األشياء ليست من علم الغيب المطلق‪ ،‬لذا فإن هؤالء أخطأوا يف فهم علوم‬
‫َ َّ‬
‫‪113‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫الدنيا والدين‪ .‬أثر العائن الذي يتعالج المعيون باالغتسال به ال يمكن أن يكون له أي تفسير‬
‫كيميائي أو فيزيائي أو غير ذلك من العلوم المعروفة‪ ،‬وليس هو من باب الغيب المطلق أو الذي ال‬
‫أمرا تعبديا أو شرعيا‪ ،‬بل من العادات الطبية التي عالج هبا رسول اهلل ﷺ‬
‫يعرف إال بالوحي‪ ،‬وليس ً‬
‫وأقرها‪-‬كما شرحت ذلك الح ًقا يف هذا الكتاب‪ ،-‬ويقع يف تناقض عجيب عظيم من يقبلها وينكر‬
‫ما سواها بحجة عدم التوافق مع العلوم المعروفة‪ ،‬بل إن إقرار رسول اهلل ﷺ العالج بأثر العائن‬
‫وثبوت نفعه يف التجارب دليل على أن هناك أمور دنيوية وطبية ال يمكن تفسيرها بالعلوم المعروفة‬
‫لدينا اآلن‪ ،‬ونقول للمنكرين كما قال رسول اهلل ﷺ ألعرابي‪َ « :‬ل َقدْ حجر َت و ِ‬
‫اس ًعا»(‪ ،)1‬ونكرر‬ ‫َ َّ ْ َ‬
‫القول ﱡﭐﳄﳅﳆﳇﳈﳉﱠ [اإلسراء‪.]85 :‬‬
‫‪ -8‬وجدت بعض الدراسات الغَربية التي نفت بعض أسس أو فوائد المذاهب الطبية‬
‫األخرى‪ ،‬واعتمد عليها المنكرون إلنكارهم‪ ،‬وهذا انحياز منهم لهذه الدراسات‪ ،‬إذ إنهم لو‬
‫توجهوا إلى أصحاب المذاهب الطبية األخرى لوجدوا لديهم أبحا ًثا تثبت صحة طرقهم‪ ،‬فلدينا‬
‫بأيدينا كتب عربية قديمة تثبت أسس وفوائد الطب اليوناين بالبحث والتجربة‪ ،‬والصينيون لديهم‬
‫أبحاث كثيرة ال تعدُّ وال تحصى تثبت صحة نظرياهتم‪ ،‬لكن أغلبها ‪-‬إن لم يكن كلها‪ -‬بال ُّلغة‬
‫الصينية‪ ،‬ويبدو أن المنكرين لدينا ليس عندهم اإلمكانية لقراءهتا والبحث فيها؛ فلجأوا إلى ما توفر‬
‫أصال م ُّ‬
‫حل شك‬ ‫بال ُّلغة اإلنجليزية من غير أهل هذه العلوم واكتفوا بذلك‪ .‬ثم إن هذه األبحاث ً‬
‫ونظر‪ ،‬فهي تحتمل أن القائمين على هذه الدراسات النافية لم يفهموا أصول وأسس تلك المذاهب‬
‫الطبية كما ينبغي‪ ،‬وأجهزة القياس لدى هؤالء الباحثين من المؤكد أنها غير مصنعة للتماشي مع ما‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5664‬؛ كتاب «األدب»؛ باب «رحمة الناس والبهائم»؛ قال أبو هريرة ﭬ‪« :‬قام رسول اهلل ﷺ في صالة وقمنا‬
‫معه‪ ،‬فقال أعراب ٌّي وهو في الصالة‪ :‬اللهم ارحمني ومحمدً ا‪ ،‬وال ترحم معنا أحدً ا‪ .‬فلما سلم النب ُّي ﷺ قال لألعرابي‪َ « :‬ل َقدْ َح َّج ْر َت‬
‫و ِ‬
‫اس ًعا»»‪.‬‬ ‫َ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪114‬‬

‫لدى المذاهب الطبية األخرى‪ ،‬ونحن بال شك لم نصل إلى ذروة العلوم حتى نقول‪ :‬إن أجهزتنا‬
‫تكشف كل شيء ‪-‬وال يمكن الوصول للكمال يف العلوم بأي حال‪ ،-‬مثلهم يف ذلك ما نسمع من‬
‫أمراضا أخرى‪ ،‬يقولون ذلك‬
‫ً‬ ‫بعض األطباء قولهم‪ :‬إنه ثبت بالتجربة أن العين ال تسبب السرطان أو‬
‫أصال ال يعرفون ماهية العين ولم يجروا أي تجارب عليها‪ ،‬فهل يسوغ ذلك لنا إنكار العين؟‬
‫وهم ً‬
‫بالطبع ال‪ ،‬فإنه ‪-‬إضافة إلى الدالئل الشرعية‪ -‬يوجد يف تاريخنا القديم والمعاصر تجارب متعددة‬
‫شفي فيها كثير من الناس من السرطان أو غيره من األمراض بمجرد أخذهم من أثر العائن‪ .‬لذا‬
‫دائما أن يكون محايدً ا‪ ،‬وكذلك إن أراد دراسة أي علم فعليه بالذهاب إلى أهله‪ ،‬وال‬
‫على الباحث ً‬
‫يأخذه من غيرهم‪ ،‬وإال اعتبر متحام ًال بعيدً ا عن اإلنصاف‪.‬‬
‫‪ -9‬بعض المحرمين وجد شي ًئا جديدً ا عليه َل ْم َيتَق َّبل ُه عقله‪ ،‬ولم يستوعب أو يصدق أن هذا قد‬
‫يكون عالجا‪ ،‬أو سب ًبا كونيا للعالج‪ ،‬فلذلك حرمه شر ًعا‪ .‬وعقولنا ليست بمعيار‪ ،‬فكم من أشياء‬
‫استنكرتها عقول أجدادنا غدت اآلن حقائق علمية واضحة‪ ،‬لكن هؤالء لسان حالهم يقول‪ُّ :‬‬
‫كل ما‬
‫ال نعرفه فهو وه ٌم وخرافة أو شعوذة واستعانة بالشياطين‪ ،‬والمشكلة أهنم سمعوا بقاعدة يف‬
‫ٌ‬
‫شرك أصغر»‪ ،‬فرتى الذين لم يتقبلوا هذه العلوم أن‬ ‫العقيدة‪ ،‬أال وهي‪« :‬جعل ما ليس بسبب سب ًبا؛‬
‫تكونًا أسبا ًبا كونية يتهمون من يتعلمها أو يمارسها بالوقوع يف الشرك‪ ،‬ويف الحقيقة فإن هذه القاعدة‬
‫ليست نصا شرعيا قطعيا‪ ،‬وإنما هي استنباط لبعض العلماء نتج عن اجتهاد واستقراء للنصوص‬
‫الشرعية‪ ،‬فال نستطيع االدعاء بأن هذه القاعدة صحيحة بإطالق‪ ،‬ثم إن العلماء تكلموا بتفصيل يف‬
‫شرح هذه القاعدة‪ ،‬قال الشيخ ابن عثيمين ‪« $‬كل من أثبت سب ًبا لم يجعله اهلل سب ًبا شرعيا وال‬
‫فمثال‪ :‬قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء‪ ،‬وأكل المسهل‬
‫قدريا؛ فقد جعل نفسه شريكا مع اهلل‪ً ،‬‬
‫سبب حسي النطالق البطن‪ ،‬وهو قدري ألنه يعلم بالتجارب»(‪ ،)1‬وأكد أن السبب القدري يجب‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القول المفيد على كتاب التوحيد البن عثيمين؛ باب «من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البالء أو دفعه»‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫‪115‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫وهما‪ ،‬فقال‪« :‬وطريق العلم بأن الشيء سبب‪ :‬إما عن طريق‬


‫أن ال يكون مجرد انفعال نفسي أو ً‬
‫الشرع‪ ،‬وذلك كالعسل‪ :‬ﱡﭐﲕ ﲖ ﲗﱠ [النحل‪ ،]69 :‬وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس‪ ،‬قال اهلل‬
‫تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﱠ [اإلسراء‪ ،]82 :‬وإما عن طريق القدر‪،‬‬
‫كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعا يف هذا األلم أو المرض‪ ،‬ولكن ال بد أن يكون أثره ظاهرا‬
‫مباشر ًا‪ ،‬كما لو اكتوى بالنار فربئ بذلك مثال‪ ،‬فهذا سبب ظاهر بين‪ ،‬وإنما قلنا هذا لئال يقول قائل‪:‬‬
‫أنا جربت هذا وانتفعت به وهو لم يكن مباشرا‪ ،‬كالحلقة؛ فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أهنا نافعة‪،‬‬
‫فينتفع ألن لالنفعال النفسي للشيء أثرا بينا‪ ،‬فقد يقرأ إنسان على مريض فال يرتاح له‪ ،‬ثم يأيت آخر‬
‫يعتقد أن قراءته نافعة‪ ،‬فيقرأ عليه اآلية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة األلم‪ ،‬كذلك الذين يلبسون‬
‫الحلق ويربطون الخيوط‪ ،‬قد يحسون بخفة األلم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناء على اعتقادهم نفعها‪،‬‬
‫وخفة األلم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي‪ ،‬والشعور النفسي ليس طريقا شرعيا‬
‫إلثبات األسباب‪ ،‬كما أن اإللهام ليس طريقا للتشريع»(‪ ،)1‬فكالم الشيخ هنا واضح أن السبب‬
‫القدري هو ما ثبت بالتجربة من دون أن يكون مجرد شعور نفسي‪ ،‬والممارسون للمذاهب الطبية‬
‫األخرى والتقنيات المختلفة كثير منهم مؤمنون هبذه القاعدة‪ ،‬لكنهم يرون أهنم اقتنعوا بأن ما‬
‫يمارسونه أسبا ًبا قدرية كونية بعد تأكدهم من تجربتها‪ ،‬وليس لمجرد الوهم أو الشعور النفسي‪ ،‬فال‬
‫يصح رميهم بوقوعهم يف الشرك األصغر أو األكرب هكذا جزافا‪.‬‬
‫وخداع منهم للبشر‪ ،‬وهذه‬
‫ٌ‬ ‫وبعض من لم يتقبل عقله هذه العلوم ادعى أهنا تلبيس من الجن‪،‬‬
‫شنشنة يعيشها البشر يف كل عصر‪ ،‬فلما انتشرت الكهرباء بين الناس‪ ،‬قال بعضهم أهنا سحر‬
‫بالتعاون مع الجن‪ ،‬ولما بدأ المذياع يف االنتشار‪ ،‬قال بعضهم أن الجن هو من يتكلم‪ ،‬وتدور هذه‬
‫الدائرة مع كل جديد على العقل عند الناس‪ ،‬والحقيقة أن تلبيس الجن والشياطين قد يحصل يف‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪116‬‬

‫كل شيء‪ ،‬لكن هذا ال يعني أن كل شيء من تلبيسهم‪ ،‬بل هناك أدوات ومعايير لكل شيء لتمييز ما‬
‫هو تلبيس وغير تلبيس‪.‬‬

‫أخطاء‪ ،‬وال شك أن هناك أخطا ًء ممن يقدمها أو يمارسها‪،‬‬


‫‪ -10‬ال شك أن هذه العلوم فيها ْ‬
‫وال بد أن يكون هناك ممن يدعي العلم هبا وهو ال يعلمها‪ ،‬كل هذا ال يكون سب ًبا يف تحريم العلم‬
‫فمثال يأيت شخص‬
‫بكامله‪ .‬وحدوث بعض األخطاء الفردية من أفراد ال تجعلنا نحرم كل العلم‪ً ،‬‬
‫همه جمع المال عن طريق دورات قصيرة ال تسمن وال تغني من‬
‫يدعي ممارسة هذه العلوم ويكون ُّ‬
‫تصرفات خاطئة عق ًال وأد ًبا‪ ،‬أو يكذب ويخادع الناس‪ ،‬أو يعطي معلومات‬
‫جوع‪ ،‬أو يتصرف ُّ‬
‫خاطئة وينسبها إلى أحد العلوم المعروفة‪ ،‬أو يغلو يف هذه العلوم فوق حدها‪ ،‬فهذا كله خطؤه يعود‬
‫على شخصه‪ ،‬ال على العلم الذي يدعيه‪ ،‬والمفروض معاقبته وحده‪ ،‬وليس تحريم كل ما يدعي أنه‬
‫تعلمه‪ ،‬تخيل لو أنك ذهبت إلى طبيب فخدعك واحتال عليك ولم يعالجك‪ ،‬فهل هذا يسوغ لك‬
‫تحريم الطب كله؟ وتخيل أنك ذهبت إلى رقاة معينين ثم اكتشفت أهنم دجالون كذابون‪ ،‬هل هذا‬
‫يسوغ لك تحريم مهنة الرقية بالكامل؟‬

‫‪ -11‬ال َف ْهم الخاطئ للعلوم وطريقتها ومصطلحاهتا‪ ،‬فهذا ال شك يؤثر على حكم الناظر‬
‫الرجوع إلى من هم ٌ‬
‫أهل للفهم الصحيح من المسلمين يف هذا‬ ‫والمتأمل لهذه العلوم‪ ،‬والمفرتض ُّ‬
‫المجال واألخذ عنهم‪ ،‬ال العناد واالستكبار‪.‬‬

‫ما سبق كان سر ًدا ألسباب استنتجتها من كالم المحرمين‪ ،‬أدت هبم إلى تحريم علوم طبية‬
‫مفيدة‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬إن هناك علماء كبار ممن هم أهل للفتيا واالجتهاد أيدوا المحرمين يف‬
‫تصوره»‪ ،‬وهؤالء المجتهدون قدم إليهم‬
‫ُّ‬ ‫تحريمهم‪ ،‬فأقول‪ :‬إن «الحكم على الشيء فرع من‬
‫المحرمون معلومات مغلوطة أدت إلى تأييدهم‪ ،‬وأضرب م ً‬
‫ثاال فأقول‪ :‬لو رجعت ربع قرن إلى‬
‫الوراء‪ ،‬ووجدت عال ًما معرو ًفا ومفت ًيا ومجتهدً ا ال يعرف اإلنرتنت وال يمكنه االطالع عليه‪ ،‬ثم‬
‫قائال‪« :‬إن الصليبيين بالتعاون مع الماسونيين اخترعوا اإلنرتنت‪ ،‬وهو مليء بالمواقع‬
‫سألته ً‬
‫َ َّ‬
‫‪117‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫الفاسدة دينيا وخلقيا‪ ،‬ويريدون نشر اإلنرتنت عند المسلمين إلفسادهم‪ ،‬ويخدعون المسلمين‬
‫الشر بالمسلمين وإخراجهم من دينهم‬
‫بحيلة إمكاهنم بناء مواقع إسالمية ودعوية‪ ،‬لكن همهم هو ُّ‬
‫عن طريق اإلنرتنت‪ ،‬وأصله كفري إذ يعود لطائفة كافرة من أركان عقيدهتم أن جميع البشر يجب‬
‫أن يكونوا على تواصل مع بعض‪ ،‬فما هو حكم استعمال اإلنرتنت؟!»‪ ،‬وأرفقت له مع سؤالك‬
‫بعضا من صور سب اهلل ‪ ‬وتحريف القرآن‪،‬‬
‫الصور الخليعة المنتشرة يف النت‪ ،‬كذلك ً‬
‫بعضا من ُّ‬
‫ً‬
‫وأرفقت كذلك بح ًثا كام ًال عن الحروب الصليبية وجرائمهم ضد المسلمين‪ ،‬كذلك بح ًثا عن‬
‫الماسونية ومخططاهتا وحكم العلماء فيها‪ ،‬ورجوته أن ينقذ المسلمين من اإلنرتنت ويحذرهم‬
‫منه‪ ،‬فما ظنُّك سيكون جواب هذا العالم المجتهد الفقيه؟ حت ًما سيقول‪ :‬إن اإلنرتنت حرا ٌم ال‬
‫يجوز‪ ،‬بل سيضيف أن من يستعمل اإلنرتنت يصبح معينًا ألعداء الدين على هدم اإلسالم‪ .‬ويف‬
‫الحقيقة أن المحرمين يف عصرنا أسلوهبم قريب من المثال السابق‪ ،‬ولم يقتصروا على تقديم‬
‫وت عال استعدائي عند‬
‫المعلومات المغلوطة وإصدار الفتاوى عن طريق ذلك‪ ،‬بل كان لهم ص ٌ‬
‫العلماء‪ ،‬حتى قال الشيخ عوض القرين يف رده على إحدى المحرمات‪« :‬واكتفت بالصياح والولولة‬
‫السلطة والعلماء والتربويين‬
‫واالستعداء على من تخالفهم‪ ...‬لقد قامت األخت باستعداء ُّ‬
‫والمسؤولين ‪ ......‬مع أنها تعلم أن أكثر المتخصصين يف هذا العلم هم من أصحاب التد ُّين‪،‬‬
‫والكثير منهم من أصحاب العلم الشرعي»‪ ،‬وقد قال النبي ﷺ‪« :‬إِ َّنك ُْم تَخْ ت َِص ُم َ‬
‫ون إِ َل َّي‪َ ،‬و َل َع َّل‬
‫يه َش ْيئًا بِ َق ْولِ ِه‪َ ،‬فإنَّما َأ ْق َط ُع َل ُه قِ ْط َع ًة ِم َن الن ِ‬
‫َّار‬ ‫ت َله بِحق َأ ِخ ِ‬ ‫َب ْع َضك ُْم َأ ْل َح ُن بِ ُح َّجتِ ِه ِم ْن َب ْع ٍ‬
‫ض‪َ ،‬ف َم ْن َق َض ْي ُ ُ َ‬
‫َف ََل َي ْأ ُخ ْذ َها»(‪ ،)1‬فهذا عند النبي ﷺ‪ ،‬فما بالك بمن دونه ﷺ من علماء ومجتهدين وقضاة؟‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري؛ كتاب الشهادات؛ باب «من أقام البينة بعد اليمين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪118‬‬

‫اإلنكار يحتاج إلى تجارب‪:‬‬

‫يف العلوم الدُّ نيوية؛ كما أن إثبات أمر ما يحتاج إلى تجربة وبحث‪ ،‬فإن اإلنكار كذلك يحتاج‬
‫إلى تجربة وبحث‪ ،‬وهذه قاعدة مهمة يغفل عنها الكثيرون‪ ،‬فيسهل عندهم اإلنكار بحجة «لم يثبت‬
‫فمثال إذا افرتضنا أن ال ُّتفاح يساهم يف زيادة وزن‬ ‫ذلك»‪ ،‬بينما عدم ال ُّثبوت ليس د ً‬
‫ليال على اإلنكار‪ً ،‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬فال نستطيع أن نثبت هذه المعلومة حتى نقوم ببحث وتجربة تؤكد أن هذا الكالم صحيح‪،‬‬
‫كذلك ال نستطيع أن ننكر هذه المعلومة حتى نقوم ببحث وتجربة تؤكد أن هذا الكالم غير‬
‫صحيح‪ ،‬أما بدون تجارب وأبحاث فالواجب التو ُّقف يف األمر وليس اإلنكار‪ ،‬وهذا بعكس األمور‬
‫الشرعية‪ ،‬إذ إن العبادات تستلزم اإلثبات فقط‪ ،‬فما ثبت أنه كان عبادة عند رسول اهلل ﷺ وصحابته‬
‫فهو عبادة مشروعة‪ ،‬أما ما لم يثبت أنه كان وقتها عبادة فال يمكن أن يكون عبادة مشروعة لنا‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫بعض العلماء المجتهدين يحرمون بعض ال ُّطرق أو المذاهب العالجية ليس لحرمتها الذاتية‪،‬‬
‫وإنما در ًءا للمفاسد‪ ،‬فيأيت بعض طالب العلم ويتعاملون مع هذه المذاهب وال ُّطرق معاملة‬
‫التحريم الذايت‪ ،‬وفرق كبير بين االثنين‪ ،‬فالمحرم لذاته ال يجوز التعامل به إال يف الضرورة‪ ،‬وال‬
‫يجوز التداوي به مطل ًقا(‪ ،)1‬بعكس المحرم لدرء المفاسد‪ ،‬فهو يف األصل داللة على إباحة هذا‬
‫سبي راج ٌع إلى فهم المفتي بالمفاسد والمصالح المرتتبة من هذا المباح‪،‬‬
‫المحرم‪ ،‬وتحريمه ن ٌّ‬
‫فيحرمه بعض ويبيحه آخرون بشروط أو بإطالق حسب فهمهم ونظرهتم لألمر‪ ،‬وحسب المكان‬
‫والحال‪ ،‬فال ينبغي اإلنكار فيه على من رأى اإلباحة أو اتبع من يقول هبا‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تم شرح حكم التداوي بالحرام يف فصل «فك السحر بالسحر»‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫‪119‬‬ ‫حتريم ما أحل اهلل‬

‫تجربة الشيخ سالم الشيخي‪:‬‬

‫الشيخ سالم عبد السالم الشيخي فقيه وقاض ليبي‪ ،‬حصل على البكالوريوس من الجامعة‬
‫وزيرا لألوقاف الليبية‬
‫ً‬ ‫اإلسالمية بالمدينة المنورة‪ ،‬عمل يف مناصب علمية كثيرة‪ ،‬منها أنه كان‬
‫للمجلس االنتقالي‪ ،‬وهو أحد أعضاء مجلس أمناء االتحاد العالمي لعلماء المسلمين‪ ،‬أصيبت‬
‫ابنته بمرض حساسية القمح‪ ،‬فعانى سنوات يف عالجها لدى األطباء‪ ،‬ثم سمع بمعالج يعالج عن‬
‫طريق الطاقة‪ ،‬وهو الدكتور عقيل الشفقة‪ ،‬سوري مقيم برتكيا‪ ،‬فتحقق من المسألة شرعيا‪ ،‬ولما لم‬
‫يجد يف طريقة الدكتور ما ينايف الشريعة تواصل معه وجعله يعالج ابنته‪ ،‬وقد تم ذلك وانتهى مرض‬
‫ابنته بالكامل‪ ،‬وتأكد من ذلك عن طريق أعراض ابنته وعن طريق التحاليل الطبية بعد العالج‪ ،‬وقد‬
‫أهال بكم» المعروض يف قناة‬
‫تكلم عن تجربته هذه يف مداخلة هاتفية يف إحدى حلقات برنامج « ً‬
‫وطن‪ ،‬والذي كان مستضي ًفا للدكتور عقيل ليشرح طريقة عالجه بالطاقة‪ ،‬وقد قمت بتفريغ هذه‬
‫المداخلة واختصارها بتصرف كما يلي‪ ،‬قال الشيخ سالم‪:‬‬

‫«ابنتي كانت مصابة بمرض يسمى بمرض السيلياك ”‪ ،“Celiac‬يتعلق بحساسية يف األمعاء‬
‫وارتداد يف المناعة‪ ،‬كانت إذا أكلت أي طعام فيه منتج من منتجات الدقيق؛ يسبب لها أشياء كثيرة‬
‫جدا‪ ،‬وكانت تتعرض دائما للقيء وإرباك شديد جدا يف المعدة‪ ،‬وبقيت خمس سنوات ال نعرف‬
‫المرض‪ ،‬ثم بعد اكتشافه من قبل األطباء أمضت عامين ال تأكل أي منتج يحتوي مادة الجلوتين‬
‫التي يحتوي عليها الدقيق‪ ،‬فإذا وجدت رائحة الدقيق تسبب لها مشاكل صحية كبيرة جدا‪ ،‬سمعت‬
‫يف الحقيقة عن الدكتور عقيل وأنه يعالج بالطاقة‪ ،‬هذا اقتضى مني أن أدرس موضوع الطاقة وأن‬
‫أنظر إليه من الجانب الشرعي‪ ،‬ثم تبين لي أن الدكتور عقيل له خاصية ليست كما يعرف اليوم‬
‫بالعالج بالطاقة أو العالج بالريكي أو غيرها‪ ،‬وله قدرة معينة ليس لها أي صلة بأي نوع الشعوذة‬
‫وال بأي نوع من الخرافات‪ ،‬وهو رجل سليم العقيدة إن شاء اهلل‪ ،‬عرفته عن قرب‪ ،‬وال يستخدم أي‬
‫شيء ينايف الشرع‪ ،‬وهو يستعين باهلل ويقوم بما لديه من طاقة معينة يف يديه ويف إصبعيه بالذات‪،‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪120‬‬

‫وبعد ذلك بدأت بعالج ابنتي بعدما تأكدت من جميع الجوانب‪ ،‬استمرت فرتة معينة وعولجت‬
‫تحليال أن المرض لم يبق له أي‬
‫ً‬ ‫بفضل اهلل تبارك وتعالى بعد أن عانينا فرتة طويلة جدا‪ ،‬ثم تبين لنا‬
‫أثر يف البدن‪ ،‬يعني عادت تأكل كل منتجات الدقيق‪ ،‬وعادت صحتها إليها بفضل اهلل تبارك وتعالى‬
‫بعد تقريبا ست سنوات من المعاناة‪ ،‬بعد أن أجرينا التحليل الدقيق جدا لهذه القضية فوجدنا أن‬
‫نسبة التعايف أعاد البدن إلى حالة الصفر‪ ،‬يعني طبيعية ‪ %100‬كأي إنسان طبيعي‪ ،‬وهذه شهاديت‬
‫التي ألقى هبا وجه اهلل ‪ ،‬وأشكر من خاللكم الدكتور عقيل وما يقدمه حقيقة‪ ،‬وأنا أرسلت ‪-‬‬
‫إليه‪ -‬أكثر من مصاب بنفس مرض السيلياك‪ ،‬والحقيقة أن ربنا أتمم الشفاء على يدي الدكتور جزاه‬
‫اهلل عنا خير الجزاء»(‪.)1‬‬

‫الخَلصة‪:‬‬

‫ملخص األمر أن الطب شيء عملي وليس بنظري‪ ،‬وهذا الشيء العملي يجب أن يكون خال ًيا‬
‫سبب كوين‬
‫ٌ‬ ‫من شرك أو محرم‪ ،‬وعلى المداوي والمتداوي أن يعتقدا أن العالج الذي يستعملونه‬
‫خلقه اهلل‪ ،‬وأن الشايف هو اهلل وحده ‪ .‬وال يجوز ألحد أن يحرم أي مذهب طبي أو طريقة‬
‫قيها مجتهدً ا‪ ،‬ويعلم العلم التام الكامل عن هذه الطريقة بالتفصيل‪ ،‬ال بمجرد‬
‫عالجية حتى يكون ف ً‬
‫السماع أو أخذ فكرة عامة‪ ،‬ومن أراد من الفقهاء المجتهدين أن يحكم على هذه ال ُّطرق؛ فعليه إما‬
‫أن يرجع إلى كتب المسلمين التي تشرح هذه الطريقة‪ ،‬ثم يعلق على ما ورد فيها بالتحريم؛‬
‫والسبب الشرعي للتحريم؛ إن كان يرى حرمتها‪ .‬أو يجب عليه أن يحضر الجلسات العالجية‬
‫بنفسه لدى من يمارسها من المسلمين؛ فإن وجد عنده أخطا ًء فليسمها وليحصرها‪ ،‬وإن لم يجد‬
‫فعليه أن يصرح أن الطريقة التي يستعملها الممارس الذي ذهب إليه الفقيه مباحة ال خطأ فيها‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رابط الحلقة على اليوتيوب‪https://www.youtube.com/watch?v=93Z2NFdpxS4 :‬‬
‫‪121‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫الطب األصيل‬

‫المذاهب الطبية أنواع متعددة‪ ،‬وكل مذهب له طرق وقوانين للتشخيص والعالج‪ ،‬ونعني‬
‫بالطب األصيل‪ :‬الطب الموجود منذ القدم‪ ،‬والذي كان منتش ًرا على وجه الكرة األرضية‪ ،‬مثل‬
‫الطب الشرق اآلسيوي واليوناين والهندي «االيروفيدا» والفرعوين واألفريقي وغيرهم مما لهم‬
‫ب تاريخه من آالف السنين‪ ،‬وفيه قواعد ومبادئ مهمة‪ ،‬ولقد مر‬
‫أصول وقوانين مشرتكة‪ ،‬وهذا الط ُّ‬
‫ب األصيل ‪-‬كغيره‪ -‬بمراحل تطوير مستمرة‪ ،‬فأصبحت قوانينه مع التجارب المستمرة عبارة‬
‫الط ُّ‬
‫عن مسلمات حقيقية ال يمكن إنكارها‪ ،‬هذه المسلمات نجحت يف العالج بدقة عجيبة‪ ،‬لذا ال بد‬
‫من معرفتها لعالج اإلنسان‪ ،‬وإهمالها يؤدي إلى الفشل يف عالج اإلنسان بطريقة كاملة‪.‬‬

‫نشأة الطب األصيل‪:‬‬

‫ُّ‬
‫كل ما هو مدون عن نشأة الطب األصيل فهو من تأريخ البشر‪ ،‬يحتمل الصواب والخطأ‪ ،‬لكن‬
‫ب معلو ٌم منذ آالف السنين‪ ،‬والعجيب أنه برغم تباعد األزمنة‬
‫من المسلم به والمتواتر أنه ط ٌّ‬
‫واألماكن؛ إال أن هناك تشاب ًها بين مفاهيم مدارسه مثل الطب اليوناين والطب الشرق اآلسيوي‬
‫والطب الهندي والطب اإلفريقي والطب الفرعوين‪ ،‬ومع استحالة الجزم بأي شيء عن بداية الطب‬
‫األصيل؛ إال أن رأيي الشخصي هو أن الطب األصيل ربما تكون بدايته منذ عهد آدم ڠ‪ ،‬وذلك‬
‫عن طريق العلوم التي علمها اهلل ‪ ‬آلدم ڠ‪ ،‬فحفظها أقوا ٌم وأضاعها آخرون‪ ،‬ولعل الناظر يف‬
‫أصول الطب األصيل المختلفة؛ سيتوصل إلى أن هذا هو االحتمال األقوى واألرجح‪ ،‬إذ ال يعقل‬
‫أن اهلل ‪ ‬أنزل آدم ڠ إلى األرض من دون أن يعلمه كيف يعالج نفسه وزوجته وأوالده‪ ،‬بل إن‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪122‬‬

‫اهلل ‪ ‬قد قال يف كتابه الكريم‪ :‬ﭐﱡﭐ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ [البقرة‪ ،]31 :‬قال ابن كثير يف تفسيره‪:‬‬
‫«وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء‪ ،‬والصحيح‬
‫أنه علمه أسماء األشياء كلها ذواهتا وصفاهتا وأفعالها»(‪ ،)1‬ولو تفكرنا يف «أسماء كل شيء» فإن‬
‫ذلك سيقودنا إلى احتمالية تعليم آدم ڠ األمراض واألعراض والعالجات واألعشاب والغذاء‬
‫وكل ما يتعلق بالصحة‪ ،‬وهذا مخالف طب ًعا للثقافة الغربية التي تدعي أن اإلنسان األول كان جاه ًال‬
‫عار ًيا ال يعرف المساكن ويعيش يف الكهوف‪ .‬كيف ال يعرف المساكن والمالبس وآدم ڠ قد‬
‫رأى مساكن الجنة ولباسها وغرفها ونعيمها؟‬

‫ب األصيل جاء عن طريق األنبياء الذين أرسلهم اهلل ‪ ‬إلى‬


‫ويحتمل كذلك أن يكون الط ُّ‬
‫األمم السابقة للدعوة إلى التوحيد‪ ،‬فربما علموا قومهم مع التوحيد أصول هذا الطب‪ ،‬ألن األنبياء‬
‫أرسلهم اهلل لصالح البشرية يف دنياهم وأخراهم‪ ،‬فغال السابقون يف هؤالء األنبياء وجعلوهم آلهة‬
‫وحرفوا ما جاءوا به‪ ،‬ومما يزيد هذا االحتمال؛ أنك لو قرأت ما ألفه العلماء األقدمون يف الطب‬
‫وغيره؛ الستنتجت منه التوافق الشديد بين الطب اليوناين والطب‬ ‫(‪)2‬‬
‫النبوي كابن القيم ‪$‬‬
‫النبوي‪ ،‬ولوجدتهم يفسرون أحاديث الطب النبوي على ضوء أصول الطب اليوناين‪.‬‬

‫عمو ًما؛ فإن ال ُّطرق السابقة البتداء الطب األصيل والتي ذكرت أنها رأيي الشخصي‪ ،‬تبقى‬
‫احتماالت ال يمكن الجزم هبا‪ ،‬وال يه ُّمنا يف الحقيقة معرفة تاريخ بداية الطب األصيل بقدر ما يه ُّمنا‬
‫تجربته وثبوت قوانينه وفوائده‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪.31‬‬
‫(‪ )2‬هو فصل من كتابه زاد المعاد يف هدي خير العباد ﷺ‪ ،‬وقد تمت طباعته مستقال كذلك‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫مبادئ الطب األصيل‪:‬‬

‫كثيرا عن الطب الهندي واإلفريقي ومذاهب طبية أخرى من الطب األصيل؛‬


‫ألني لم أبحث ً‬
‫فإنني سأتجنب الحديث عنها‪ ،‬وأختصر ما هو مه ٌّم عن الطب الصيني واليوناين‪ ،‬لكننا سنجد أن‬
‫جميع مدارس الطب األصيل اتفقوا على بعض المبادئ المهمة‪ ،‬والتي غدت عندهم من‬
‫المسلمات التي ال نزاع وال شك فيها‪ ،‬وذلك مثل الطبائع واألخالط والطاقة(‪ )1‬السارية يف البدن‬
‫وعالقة األعضاء ببعضها‪ .‬ويف الحقيقة فإن هذه المسلمات هي قوانين كونية ال تخالف الطبيعة‪،‬‬
‫وال تخالف النظام الذي قرره الخالق لهذا الكون ‪ ،‬فهي صالحة لكل زمان ومكان‪ ،‬وال يمكن‬
‫التشخيص والعالج إال بمعرفتها‪ ،‬وجميع مذاهب الطب األصيل وضعوا نظرياهتم على أسس‬
‫وأصول متينة قائمة على هذه المسلمات والقوانين‪ ،‬هذه األسس تدرك عن طريق المالحظة‬
‫والتدبر‪ ،‬وتثبت عن طريق التجربة واالختبار‪.‬‬

‫ب الصيني‪:‬‬
‫الط ُّ‬

‫هو أ ٌ‬
‫صل للطب الشرق آسيوي‪ ،‬ومنه تفرعت المذاهب الطبية الموجودة يف شرق آسيا‪،‬‬
‫كالطب الياباين والكوري‪ ،‬يقال أن عمره ما بين أربعة إلى سبعة آالف سنة‪ ،‬ويظ ُّن الكثيرون أن‬
‫الطب الصيني هو التعالج باإلبر الصينية‪ ،‬والحقيقة أن اإلبر الصينية إحدى أدوات العالج‬
‫ب الصيني فهو نظام عا ٌّم أكرب وأضخم من ذلك بكثير‪ ،‬ويستغرق ال ُّطالب‬
‫المستخدمة‪ ،‬أما الط ُّ‬
‫لدراسته يف الجامعات من أربع إلى سبع سنوات‪ ،‬ويمكنهم االستمرار يف الدراسة إلى الدراسات‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أكرر ما سبق ذكره يف الفصل السابق‪ ،‬وهو أن هذه الطاقة ال يقصد هبا الطاقة المعروفة فيزيائيا‪ ،‬بل هي شيء آخر لم يتم إلى اآلن‬
‫تحديده بشكل دقيق‪ ،‬وأرى أن سبب عدم التحديد هو عدم إجراء البحوث الكافية حول ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪124‬‬

‫ب الصيني على وجوب معرفة عدة أشياء عن‬


‫ص الط ُّ‬
‫العليا‪ ،‬وذلك الستيعاب الطب بكامله‪ .‬ين ُّ‬
‫الجسم مثل‪:‬‬
‫‪-2‬العناصر الخمسة‪.‬‬ ‫‪ -1‬الطاقة(‪ )1‬ومساراهتا‪.‬‬
‫‪-4‬األخالط المكونة للجسم‪.‬‬ ‫‪ -3‬عالقة األعضاء ببعض‪.‬‬
‫دائما منشؤها الخلل يف هذه األشياء‪ ،‬وللعالج يتوجب إعادة كل شيء إلى وضعه‬
‫واألمراض ً‬
‫الطبيعي‪ ،‬وذلك بعدة طرق من ضمنها األعشاب والحجامة واإلبر الصينية والتدليك‪.‬‬

‫ب الصيني جميع البشر إلى عدة أصناف(‪ ،)2‬لكل صنف نظام مختلف‪ ،‬وأمراض‬
‫ويصنف الط ُّ‬
‫كل صنف ستختلف عن غيره‪ ،‬والغذاء المناسب لكل صنف كذلك يختلف عن اآلخر‪.‬‬

‫والمذاهب الطبية األخرى الموجودة يف المنطقة ‪-‬مثل الطب الياباين والكوري والفلبيني‬
‫واإلندونيسي‪ -‬هي إما فرع من الطب الصيني أو تشبهه‪ ،‬تزيد عنه يف أشياء‪ ،‬وتنقص عنه يف أشياء‪،‬‬
‫للتوسع فيه فإنني أكتفي بذكر ما سبق‪ ،‬ومن أراد‬
‫ُّ‬ ‫وتختلف عنه يف بعض األشياء‪ ،‬ولعدم حاجتنا‬
‫قديما كان يعرتف‬
‫ً‬ ‫االستزادة فعليه بالمراجع الصحيحة له‪ ،‬لكن يه ُّمني القول بأن الطب الصيني‬
‫الروحية‪ ،‬وكان يوجد لديه عالجات للتخ ُّلص من الجن‪ ،‬وهذه العالجات ما‬
‫بالجن واألمراض ُّ‬
‫زال يعمل هبا إلى اآلن‪ ،‬لكن تم تغيير مسميات أسباهبا من الجن إلى مصطلحات أخرى‪.‬‬

‫ب اليوناين‪:‬‬
‫الط ُّ‬

‫ب اليوناين يف القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬أسسه أبقراط ”‪ ،“Hippocrates‬ثم ساهم‬


‫نشأ الط ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أصلها عند الصينيين «تشي»‪ ،‬وهم يعارضون ترجمتها إلى لفظة الطاقة‪ ،‬إذ يقولون أنها ليست بالرتجمة الصحيحة‪ ،‬للمزيد يرجى‬
‫الرجوع إلى مصادر الطب الصيني‪.‬‬
‫(‪ )2‬قد تصل إلى تسعة أصناف‪ ،‬وذلك حسب طريقة التصنيف‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫أيضا من كبار المؤسسين لهذا‬


‫يف التأسيس العديد من أتباعه‪ ،‬كما يعترب جالينوس ”‪ً “Galenos‬‬
‫تطويرا للطب الصيني‪ ،‬واهلل أعلم بالصواب‪ .‬ويف عهد الخالفة العباسية قام‬
‫ً‬ ‫الطب‪ ،‬وقد يكون‬
‫المسلمون باالنفتاح على الثقافات األخرى‪ ،‬ونشطت حركة الترجمة إلى ال ُّلغة العربية‪ ،‬فكان منها‬
‫أن تعرفوا إلى الطب اليوناين وامتهنوه‪ ،‬ثم قاموا بتطويره وإضافة نظرياهتم وآرائهم وتجارهبم إليه‪،‬‬
‫فاشتهر فيما بعد بالطب اإلسالمي نسب ًة إلى المسلمين‪ ،‬أو بطب الحكمة نسبة إلى الحكماء‪ ،‬أو‬
‫بالطب العربي‪ ،‬وجميع األطباء السابقين المشهورين والمنتسبين إلى اإلسالم كانوا عباقر ًة يف هذا‬
‫الطب‪ ،‬وكانوا رواده بنجاح باهر‪ .‬منهم الفيلسوف الطبيب «أبي بكر الرازي»(‪ ،)1‬وكذلك شيخ‬
‫أيضا‬
‫األطباء والذي أطلق عليه لقب الرئيس «أبو عيل احلسني بن عبد اهلل» املعروف بابن سينا(‪ ،)2‬و ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أبو بكر محمد بن زكريا الرازي «‪250‬هـ‪313-‬هـ»‪ ،‬ولد يف الري جنوب شرق طهران‪ ،‬صاحب التصانيف‪ ،‬من أذكياء أهل زمانه‪،‬‬
‫وكان كثير األسفار‪ ،‬صاحب مروءة وإيثار ورأفة بالمرضى‪ ،‬وكان واسع المعرفة‪ ،‬وله‪ :‬كتاب «الحاوي» ثالثون مجلدً ا يف الطب‪.‬‬
‫كانت النظريات يف الطب اليوناين تقوم على الفلسفة أكثر من قيامها على الواقع والتجربة‪ ،‬فقام الرازي بتغيير نظام النظريات الطبية‪،‬‬
‫كثيرا ممن سبقوه لعدم سلوكهم المنهج البحثي‪ ،‬وحرص على سؤال المريض‬
‫وجعلها تقوم على التجربة والبحث العلمي‪ ،‬وانتقد ً‬
‫عن كل ما يتعلق بمرضه‪ ،‬وتسجيل كل معلومة قد تكون مفيدة يف الكشف والعالج‪ .‬كما أرسى دعائم الطب التجريبي على‬
‫الحيوانات‪ ،‬فقد كان يجرب بعض األدوية على القرود قبل تجربتها على اإلنسان‪ ،‬وهو أول من اخرتع خيوط الجراحة من أمعاء‬
‫قطة‪ ،‬وقد ظلت تستعمل حتى أواخر القرن العشرين‪ ،‬وأول من فرق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياين‪ ،‬واستخدم الضغط‬
‫باألصابع إليقاف النزف الوريدي‪ ،‬واستخدم الربط إليقاف النزيف الشرياين‪ ،‬وأول من وصف عملية استخراج الماء من العيون‪،‬‬
‫وأول من أدخل الملينات يف علم الصيدلة‪ ،‬وأول من ابتكر وضع الفتيلة المعقمة يف الجروح‪ ،‬وله غير ذلك كثير من اإلنجازات‬
‫الطبية‪-.‬المرجع‪ :‬مصادر مختلفة‪-‬‬
‫(‪ )2‬أبو علي الحسين بن عبد اهلل بن الحسن بن علي بن سينا «‪370‬هـ‪427-‬هـ»‪ ،‬عرف بلقب الشيخ الرئيس‪ ،‬وسماه الغربيون بأمير‬
‫األطباء‪ ،‬وبأبي الطب الحديث يف العصور الوسطى‪ .‬ألف عدة كتب طبية‪ ،‬منها كتاب «القانون يف الطب»‪ ،‬والذي ظل لسبعة قرون‬
‫المرجع الرئيس يف علم الطب‪ ،‬كما بقي يدرس حتى أواسط القرن السابع عشر الميالدي يف جامعات أوروبا‪ ،‬وكان ابن سينا أول من‬
‫صحيحا‪ ،‬ووصف أسباب اليرقان‪ ،‬ووصف أعراض حصى المثانة‪ .‬نسبت إليه عقائد كفرية‬
‫ً‬ ‫وصف التهاب السحايا األولي وص ًفا‬
‫مخرجة عن اإلسالم‪ ،‬لذا كفره بعض العلماء‪ ،‬لكن ذكر ابن خلكان يف «وفيات األعيان» أنه قبل موته اغتسل وتاب وتصدق بما معه‬
‫على الفقراء‪ ،‬ورد المظالم على من عرفه‪ ،‬وأعتق مماليكه‪ ،‬وجعل يختم القرآن يف كل ثالثة أيام ختمة‪- .‬المرجع‪ :‬مصادر مختلفة‪-‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪126‬‬

‫العالمة الطبيب «ضياء الدين املالقي» املعروف بابن البيطار(‪ ،)1‬والفقيه العالمة الطبيب «عالء الدين‬
‫الدمشقي» المعروف بابن النفيس(‪ ،)2‬وغيرهم كثيرون‪.‬‬

‫ب هو الطبائع األربعة ”‪ “The Four Qualities‬وهي «الحرارة‪،‬‬


‫ومما يعتمد عليه هذا الط ُّ‬
‫والرطوبة»‪ ،‬وكذلك األخالط األربعة ”‪ “The Four Biles‬وهي «الصفراء‪،‬‬
‫والبرودة‪ ،‬واليبوسة‪ُّ ،‬‬
‫والبلغم‪ ،‬والدم‪ ،‬والسوداء»‪ ،‬ويقسم الناس واألمراض تبا ًعا لهذه األخالط والطبائع‪ ،‬والجسم‬
‫السليم الصحيح هو ما كانت األخالط والطبائع موجودة فيه بالكمية المطلوبة وبالجودة المناسبة‪،‬‬
‫كما أنه يعتمد على األرواح التي تسري يف البدن‪ ،‬وسيأيت الحديث عن األرواح بمزيد من التفصيل‬
‫يف الفصل القادم‪.‬‬

‫ومع انتشار الطب الغربي أو ما يسمى بالطب الحديث؛ اندثر هذا النوع من الطب من أوروبا‬
‫حتى من اليونان‪ ،‬وكذلك من العالم العربي‪ ،‬ومن أغلب دول العالم‪ ،‬ولكنه بقي يف عصرنا يدرس‬
‫ويطبق يف بالد السند‪ ،‬وذلك بفضل اهلل ‪ ،‬ثم بفضل الخالفة اإلسالمية التي نقلت هذا الطب إلى‬
‫المسلمين‪ ،‬وبفضل الحكماء المسلمين الذين أقنعوا اإلنجليز المحتلين برتكهم يمارسون هذا‬
‫ب‪ .‬وما زال المتخصصون فيه يطورونه‬
‫الطب‪ ،‬ولوال اهلل ‪ ‬ثم المسلمون الندثر هذا الط ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬ضياء الدين عبد اهلل بن أحمد المالقي«‪593‬هـ‪646-‬هـ»‪ ،‬نسبة إلى مالقة يف األندلس حيث ولد فيها‪ ،‬وعرف بابن البيطار؛ ألن والده‬
‫الروم‪ ،‬وكان أحد األذكياء‪ ،‬فند آراء من سبقوه عن النباتات عن‬
‫كان بيطريا‪ ،‬انتهت إليه معرفة الحشائش‪ ،‬وسافر إلى أقاصي بالد ُّ‬
‫طريق تجارب أجراها بنفسه‪ ،‬وأضاف معلومات كثيرة من تجاربه‪ ،‬من أشهر كتبه «الجامع لمفردات األدوية واألغذية» وقد ترجم‬
‫إلى عدة لغات‪ ،‬وكان يدرس يف معظم الجامعات األوروبية حتى عهود متأخرة‪ ،‬وله مؤلفات وإنجازات أخرى كثيرة‪- .‬المرجع‪:‬‬
‫مصادر مختلفة‪-‬‬
‫(‪ )2‬أبو الحسن عالء الدين علي بن أبي الحزم الخالدي المخزومي القرشي الدمشقي «‪607‬هـ‪687-‬هـ»‪ ،‬الملقب بابن النفيس ‪،‬‬
‫الصغرى‪ ،‬وأحد رواد علم وظائف األعضاء يف‬
‫وهو عالم موسوعي‪ ،‬له إسهامات كثيرة يف الطب‪ ،‬ويعدُّ مكتشف الدورة الدموية ُّ‬
‫رئيسا ألطباء مصر‪- .‬المرجع‪ :‬مصادر مختلفة‪-‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬حيث وضع نظريات يعتمد عليها العلماء إلى اآلن‪ .‬عين ً‬
‫‪127‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ويهت ُّمون به‪ ،‬ولهم جامعات ومعاهد ومستشفيات خاصة هبذا الطب يف الهند ويف باكستان ويف‬
‫بنغالديش‪ ،‬لعل أشهرها جامعة ومستشفى همدرد ”‪ “Hamdard‬يف الهند(‪ ،)1‬وفرع آخر لهم يف‬
‫باكستان(‪ ،)2‬وكذلك يف بنغالديش‪ .‬كذلك جامعة علي گره المسلمة ” ‪Aligarh Muslim‬‬

‫أي مدينة يف الهند أو يف باكستان‪،‬‬


‫‪ )3(“University‬بالهند‪ ،‬أما المعاهد الصغيرة فال تكاد تخلو منها ُّ‬
‫ويمكن استخراج مزيد من النتائج بإدخال كلمة الطب اليوناين ”‪ “Unani Medicine‬يف‬
‫محركات البحث‪.‬‬

‫وأفضل المراجع العربية لهذا الطب هو كتاب القانون البن سينا‪ ،‬كذلك الحاوي للرازي‪،‬‬
‫ويعترب فصل الطب النبوي البن القيم مرج ًعا عالجيا مهما يف هذا المجال‪ ،‬لكنها كلها قديمة‪ ،‬إذ مر‬
‫طورات كثيرة‪.‬‬
‫ب كغيره من العلوم بت ُّ‬
‫هذا الط ُّ‬

‫وال يمكننا اختصار سنين دراسة هذا الطب إلى بضع صفحات يف هذا الكتاب‪ ،‬لكن مما يه ُّمنا‬
‫هو أنه قد ذكر األقدمون أن الجن تقوم بتغيير هذه األخالط والطبائع مما يؤدي إلى األمراض‪،‬‬
‫الروحي أن يتداوى هبذا الطب ليستعيد توازنه‬
‫وينبغي على المريض ليتخلص من آثار المرض ُّ‬
‫وصحته‪ .‬على سبيل المثال يخصص ابن سينا يف كتابه القانون فص ًال كام ًال لمرض يسمى‬
‫المالنخوليا ”‪ ،“Melancholy‬ويقول عنه «وقد رأى بعض األطباء أن المالنخوليا قد يقع عن‬
‫الجن»(‪ ،)4‬ووصفه بالتفصيل كما نراه يف كثير من الممسوسين يف عصرنا‪ ،‬ونراه كذلك يف كثير ممن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رابط الجامعة يف الهند ‪.http://jamiahamdard.edu‬‬
‫(‪ )2‬رابط الجامعة يف باكستان‪ ،http://hamdard.edu.pk ،‬ولديهم مستشفى ومصنع لألدوية كذلك‪ ،‬و«همدرد» بال ُّلغة األوردية‬
‫تعني‪ :‬الشفقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رابط الجامعة‪https://www.amu.ac.in :‬‬
‫(‪ )4‬القانون البن سينا؛ الجزء الثاين؛ «فصل يف المالنخوليا»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪128‬‬

‫يطلق عليهم بمرضى «اضطراب ثنائي القطب» ”‪ ،“Bipolar Disorder‬وذكر عالجه بالتفصيل‬
‫يف كتابه‪.‬‬

‫الروحية مع‬
‫ولو سألت نفسك‪ :‬لماذا لم يشتهر عن أطباء المسلمين السابقين عالج األمراض ُّ‬
‫إلمامهم هبا؟ فقد يكون الجواب أنه ربما عالجهم للناس بالطب اليوناين كان يغنيهم عن عالج‬
‫الروحية‪ ،‬حيث تعود للجسم صحته‪ ،‬ويبدو أنه تخلص كليا مما أصابه‪ .‬وقد شكل إقصاء‬
‫األمراض ُّ‬
‫الروحية‪.‬‬
‫الطب الغربي لمبادئ الطب األصيل فجوة وفش ًال يف تشخيص األمراض العضوية و ُّ‬

‫ب اليوناين القديم أن الطبائع األربعة موجودة يف كل شيء‪ ،‬وينتج عن تغ ُّلب الطبائع‬


‫ويرى الط ُّ‬
‫المتضادة على بعضها ما يعرف بالمزاج ”‪ ،“Temperament‬ويرون أن حصول زيادة أو نقص يف‬
‫الطبع العام للجسم‪ ،‬أو يف طبع عضو معين؛ يسبب األمراض العضوية والنفسية‪ ،‬كما أنه يضعف‬
‫الروحية وغيرها‪ ،‬فيعطى‬
‫المناعة أمام أي مؤثر ضار على جسم اإلنسان‪ ،‬كالجراثيم واألمراض ُّ‬
‫للرجوع إلى مزاجه الطبيعي والتخ ُّلص من جميع أمراضه‪.‬‬
‫المريض من الغذاء واألدوية ما يناسبه ُّ‬

‫نظرية األ ْعضاء األربعة‪:‬‬


‫َّ‬

‫ب اليوناين منذ منشئه إلى منتصف القرن الماضي ثاب ًتا يف األصول‪ ،‬وحصل يف القرن‬
‫بقي الط ُّ‬
‫الماضي أن أتى أحد األطباء الحكماء األذكياء‪ ،‬ويدعى «صابر ملتاين ‪1972-1906‬م»‪ ،‬تخرج‬
‫طبي ًبا على مذهب الطب الغربي ومارسه لعدة سنوات‪ ،‬ثم درس الطب اليوناين‪ ،‬وحاول الجمع‬
‫بينهما وبين مذاهب طبية أخرى‪ ،‬فقام بتطوير كبير يف الطب اليوناين‪ ،‬سماه «نظرية األعضاء‬
‫كثيرا‪ ،‬ولذا س ُّموا هذا‬
‫كثير من الحكماء هذا التطور انقال ًبا يف األصول‪ ،‬وفرحوا به ً‬
‫المفردة»‪ ،‬واعترب ٌ‬
‫المجدد بالحكيم االنقالبي‪ ،‬وفكرته األساسية أنه ربط الطبائع األربعة باألنسجة األربعة يف الجسم‬
‫وباألعضاء الرئيسة‪ ،‬لكنه اكتفى بالتركيز على ثالثة طبائع؛ ألن الطب اليوناين القديم فيه ثالثة‬
‫أعضاء رئيسة فقط‪ ،‬وهي «القلب‪ ،‬الكبد‪ ،‬الدماغ»‪ ،‬ولقد نجحت هذه النظرية يف عالج كثير من‬
‫األمراض‪ ،‬واشتهرت يف باكستان‪ ،‬حتى إن الكثيرين أصبحوا يعالجون هبا إلى اآلن‪ ،‬لكن كان فيها‬
‫‪129‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫نق ًصا‪ ،‬وكاد الدكتور الحكيم صابر أن يتدارك هذا النقص‪ ،‬لكن وافاه األجل قبل ذلك‪ ،‬فأتى بعده‬
‫تلميذه الطبيب الحكيم «رحمت علي راحت ‪2004-1933‬م» ليستدرك هذا النقص‪ ،‬والذي كان‬
‫صيدالنيا على مذهب الطب الغربي ثم درس الطب اليوناين كذلك‪ ،‬فجعل األعضاء الرئيسة أربعة‪،‬‬
‫فأضاف الطحال إلى القلب والكبد والدماغ‪ ،‬فتولدت لدينا «نظرية األعضاء األربعة»‪ ،‬ومن‬
‫أساسياهتا ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬القلب عضو رئيس يتكون معظمه من األنسجة العضلية؛ والخلل فيه يسبب الخلل يف كل‬
‫النسيج العضلي يف الجسم‪ ،‬وطبع اليبوسة غذاء أساسي للنسيج العضلي‪.‬‬
‫‪ -2‬الكبد عضو رئيس يتكون معظمه من األنسجة الطالئية‪ ،‬والخلل فيه يسبب الخلل يف كل‬
‫النسيج الطالئي يف الجسم‪ ،‬وطبع الحرارة غذاء أساسي للنسيج الطالئي‪.‬‬
‫‪ -3‬الدماغ عضو رئيس يتكون معظمه من األنسجة العصبية‪ ،‬والخلل فيه يسبب الخلل يف كل‬
‫الرطوبة غذاء أساسي للنسيج العصبي‪.‬‬
‫النسيج العصبي يف الجسم‪ ،‬وطبع ُّ‬
‫‪ -4‬ال ُّطحال عضو رئيس يتكون معظمه من األنسجة الضامة‪ ،‬والخلل فيه يسبب الخلل يف كل‬
‫النسيج الضام يف الجسم‪ ،‬وطبع البرودة غذاء أساسي للنسيج الضام‪.‬‬
‫‪ -5‬هناك عالقة بين هذه األعضاء األربعة‪ ،‬فإذا حصل نشاط زائد يف عضو ما فإنه سيؤدي إلى‬
‫زيادة النشاط يف النسيج التابع لهذا العضو‪ ،‬كما أنه سيؤدي إلى ضعف بثالث مستويات‬
‫مختلفة لألعضاء الثالثة األخرى وأنسجتها‪ ،‬والنشاط الزائد أو الضعف بمستوياته الثالث يف‬
‫األعضاء واألنسجة األربعة هو المصدر لكل األمراض‪ ،‬ومن خالل النظرية يمكن معرفة‬
‫العضو الذي حصل فيه التغ ُّير أو ًال‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪130‬‬

‫وهناك فروق أصولية بين هذه النظرية وبين الطب اليوناين القديم‪ ،‬منها أهنم أعادوا تركيب‬
‫األمزجة وترتيبها‪ ،‬ومنها أهنم ربطوا هذه األمزجة باألنسجة األربعة كما ذكرنا‪ ،‬واستبدلوا خلط‬
‫الدم بخلط الريح‪ ،‬حيث قالوا إن الدم مجموع من أخالط وليس خلطا بنفسه‪.‬‬
‫الجدير بالذكر أن الطب اليوناين القديم يرى أن كل شيء يف الكون يتكون من أربعة أركان‪،‬‬
‫ويمكن القول أربعة أجزاء‪ ،‬جزء ناري وجزء مائي وجزء هوائي وجزء ترابي‪ ،‬ولكل جزء طبع‬
‫معين‪ ،‬وزيادة كل ركن يف الجسم هو زيادة يف طبعه مما يؤدي إلى المرض‪ ،‬ثم لما اكتشفت الذرة‬
‫تم إنكار هذه األركان األربعة من علماء الغرب‪ ،‬لكن الحكيم «رحمت علي راحت» قام بالجمع‬
‫بين االثنين‪ ،‬فرأى أن مكونات الذرة هي هذه األجزاء األربعة‪ ،‬فاإللكرتونات هي الجزء الناري‪،‬‬
‫والربوتونات هي الجزء الهوائي‪ ،‬والنيوترونات هي الجزء المائي‪ ،‬والبوزيرتونات هي الجزء‬
‫ال ُّترابي‪.‬‬

‫من أسباب تغ ُّير الطبائع يف الطب األصيل‪:‬‬


‫‪ -1‬المرحلة العمرية «طفولة‪ ،‬شباب‪ ،‬فحولة‪ ،‬كهولة»‪.‬‬
‫‪ -2‬الغذاء‪ُّ ،‬‬
‫وكل ما يدخل الجسم مثل الروائح واألبخرة والهواء‪.‬‬
‫‪ -3‬الطقس سواء بتغ ُّير المناخ أو الفصول أو تغ ُّير المكان‪.‬‬
‫‪ -4‬المشاعر «خوف‪ ،‬غضب‪ ،‬قلق‪ ،‬فرح‪ ،‬تفكير‪ ،‬حزن‪ ،‬الصدمات النفسية»‪.‬‬
‫‪ -5‬الحوادث والكسور والجروح‪.‬‬
‫‪ -6‬حركة الجسم «رياضة‪ ،‬عمل‪ ،‬نوم‪ ،‬استرخاء‪ ،‬جماع‪ ،‬إلخ»‪.‬‬
‫‪ -7‬الموجات الكهربائية والمغناطيسية وغيرها مما يتعرض له اإلنسان‪.‬‬
‫الروحية ‪-‬هذا ما سنبدأ الحديث عنه يف الفصل القادم‪.-‬‬
‫‪ -8‬األمراض ُّ‬
‫‪131‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ما هي ال َّطبائع‪:‬‬

‫قد يكون للطبائع حقيقة حيوية أو فيزيائية أو كيميائية أو غير ذلك‪ ،‬لكنني ال أعرف أحد ًا تكلم‬
‫عن المعنى العلمي الدقيق للطبائع األربعة‪ ،‬لكن لو جلس علماء الطب األصيل مع علماء الطب‬
‫صحيحا‪ ،‬طب ًعا ليس‬
‫ً‬ ‫خصصات األخرى؛ فأتوقع أننا سنجد لها وص ًفا علم ًيا‬
‫الغربي وعلماء الت ُّ‬
‫المقصود بطبعي الحرارة والبرودة درجة الحرارة يف جسم اإلنسان‪ .‬وحتى يأيت الوقت الذي نعرف‬
‫فيه ماهيتها وحقيقتها بالضبط؛ فإنني أفضل أن أقول عنها‪ :‬إنها مصطلحات وصفية وملحوظة‪،‬‬
‫تصف حاالت ملحوظة معينة يف الجسم‪ .‬لكنني أميل إلى أن هذه مصطلحات فيزيائية‪ ،‬قد يكون‬
‫طبع الحرارة هو كل ما يزود الجسم بالطاقة‪ ،‬وطبع الربودة هو كل ما يجعل الجسم يخسر طاقة‪،‬‬
‫وطبع الرطوبة كل ما يزود نسبة الماء يف الجسم‪ ،‬وطبع الجفاف عكس ذلك‪ ،‬وقد تكون الطبائع‬
‫عبارة عن موجات أو ترددات فيزيائية معينة تصحب كل غذاء‪ ،‬لكن المؤكد؛ هو أن هناك اشرتاكًا‬
‫حاصال لنتائج تناول الجسم لطبع ما أو التعرض له‪ ،‬ووف ًقا لنظرية األعضاء األربعة فإنه يمكن‬
‫ً‬
‫الجاف هو ُّ‬
‫كل شيء يؤدي‬ ‫ُّ‬ ‫القول بأن الحار هو ُّ‬
‫كل شيء(‪ )1‬يؤدي إلى زيادة االصفرار يف البول‪ ،‬و‬
‫إلى زيادة االحمرار يف البول‪ ،‬والرطب هو ُّ‬
‫كل شيء يؤدي إلى زيادة البياض أو الشفافية يف البول‪،‬‬
‫والبارد هو ُّ‬
‫كل شيء يؤدي إلى زيادة االسوداد يف البول‪ ،‬لكن هذا التعريف ليس دقيقا جدا‪ ،‬بل‬
‫قليال‪ ،‬طب ًعا قد يقول ٌ‬
‫قائل‪ :‬إن العلم الحديث يعرف أسبا ًبا‬ ‫ذكرته من باب تسهيل وتبسيط الفهم ً‬
‫لتغير لون البول‪ ،‬فنقول‪ :‬ال يوجد أي تعارض بين الطبائع وبين ما اكتشفه العلم الحديث من‬
‫فمثال ُّ‬
‫كل سبب يرى العلم الحديث أنه مؤد إلى اصفرار البول؛ فإما هذا السبب طبعه حار‪،‬‬ ‫أسباب‪ً ،‬‬
‫أو نتج عن تناول أشياء حارة الطبع‪ .‬ولقد حاول بعض من شرحت لهم الطبائع من بعض‬

‫________________‬
‫حسوسا تمكنا من رؤية التفاعالت المتسلسلة التي نتجت عنه‪ ،‬أو كان ملحو ًظا وغير محسوس‪ ،‬راجع فقرة‬
‫ً‬ ‫(‪ )1‬كل شيء سواء كان م‬
‫«األسباب الملحوظة غير المحسوسة» الح ًقا يف هذا الفصل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪132‬‬

‫المختصين القول إن طبع الحرارة هو ك ُّل ما سرع وسيل الدم‪ ،‬وطبع الربودة بعكسه‪ ،‬أما طبع‬
‫الجفاف قالوا هو ما يزيد يف حمضية الدم‪ ،‬وطبع الرطوبة هو ما يزيد يف قلويته‪ ،‬وقال آخر أن طبع‬
‫الحرارة هو كل ما يزيد األكسدة‪ ،‬وطبع الربودة ما يضادها‪ ،‬لكن ال يمكن الجزم بأي شيء إال بعد‬
‫الفهم الكامل الصحيح للطبائع وعمل البحث والتجربة‪.‬‬

‫ما هي األخَلط؟‬

‫كانت األخالط ساب ًقا تعرف بأهنا مواد سائلة تكون الدم‪ ،‬أما يف عصرنا الحالي؛ فيمكن القول‬
‫أنها أوصاف لمجموعة من المكونات الموجودة يف الدم والجسم‪ ،‬يمكن معرفتها وتمييزها‬
‫بالبحث فيها‪ ،‬فمثالً حمض البول ”‪ “Uric Acid‬والنُّحاس وخاليا الدم الحمراء مزاجهم جاف‪،‬‬
‫فلذا نعتربهم من مكونات خلط الريح‪ ،‬والدهون الثالثية ”‪ “Triglycerides‬والكالسيوم والنسيج‬
‫الضام مزاجهم بارد‪ ،‬فهم إ ًذا من مكونات الخلط السوداوي‪ ،‬والبليروبين ”‪“Bilirubin‬‬

‫واألكسجين والمغنيسيوم مزاجهم حار‪ ،‬فهم من مكونات الخلط الصفراوي‪ ،‬والهيدروجين‬


‫وخاليا الدم البيضاء والبوتاسيوم طبعهم رطب‪ ،‬إ ًذا هم من مكونات الخلط البلغمي‪ ،‬وهكذا يتم‬
‫تصنيف جميع المواد الداخلة يف تركيب الجسم‪ ،‬سوا ًء كانت عناصر أو مركبات أو هرمونات أو‬
‫أمالح أو أحماض أو حتى خاليا وأنسجة وأعضاء‪.‬‬

‫كيف يرتفع الطبع ويمرض الجسم؟‬

‫الرطب مع‬
‫لتقريب المعنى أضرب المثال التالي ‪ :‬ورد عن النبي الكريم ﷺ أنه كان يأكل ُّ‬
‫(‪)1‬‬

‫البطيخ‪ ،‬ويقول ﷺ نقتل حر هذا ‪-‬أي الرطب‪ -‬ببرد هذا ‪-‬أي البطيخ‪ ،-‬وبرد هذا‪-‬البطيخ‪ -‬بحر‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬هذا المثال يتعارض كليا مع أبجديات الطب الغربي وأسسه‪ ،‬وقد يستهتر به من تعلم الطب الغربي‪ ،‬لكن الحقيقة أن هذا المثال هو‬
‫شرح مبسط للطب األصيل‪ ،‬وعلى هذا كان يقين العلماء ساب ًقا‪ ،‬ومثبت بالتجارب القديمة والمعاصرة‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫الرطب لوحده‪،‬‬
‫الرطب‪ ، -‬لنفرتض أنك لم تلتزم بالمنهج النبوي يف توازن الطبائع‪ ،‬وأكلت ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫هذا‪ُّ -‬‬
‫فهذا سيؤدي إلى ارتفاع طبع الحرارة يف الجسم‪ ،‬وإذا أكثرت من تناول أشياء ذات طبع حار ‪-‬مثل‬
‫ال ُّلحوم والحبة السوداء والقهوة والبصل والطماطم وأشياء أخرى كثيرة‪ -‬فإن ذلك ً‬
‫أيضا سيرفع‬
‫طبع الحرارة لديك‪ ،‬وهذا سيؤثر سل ًبا على النسيج الطالئي لديك‪ ،‬ثم على بقية األنسجة‪ .‬كذلك‬
‫بسبب الزيادة يف طبع الحرارة فإن الخلط الصفراوي يبدأ كذلك يف الزيادة ‪-‬أي أن هناك موادا ذا‬
‫مزاج حار تزيد يف الجسم‪ ،-‬وتصبح نسبته أعلى من نسبة األخالط األخرى يف الجسم‪ ،‬فيشتدُّ‬
‫صفار بولك خاصة بعد استيقاظك من النوم‪ ،‬وتبدأ أعراض أخرى لديك بال ُّظهور‪ ،‬قد يكون منها‬
‫على سبيل المثال‪« :‬حرقة يف المعدة‪ ،‬التهاب يف أغشية الشرايين يمكن أن يؤدي إلى حصول‬
‫الضيق فيها‪ ،‬اإلحساس بالحرارة يف بعض مناطق جسمك‪ ،‬اإلحساس بالحرقان أثناء الت ُّبول‪،‬‬
‫حار‪،‬‬
‫الشعور بطعم المرارة يف الفم‪ ،‬األرق‪ ،‬القذف السريع‪ ،‬إصابتك بفيروسات أو بكتيريا طبعها ٌّ‬
‫بعض السرطانات‪ ،‬فشل كلوي‪ ،‬زيادة يف نشاط الغدد وإنتاج الهرمونات‪ ،‬ميالن لون الجسم إلى‬
‫األصفر‪ ،‬شعور رجفان وزيادة يف قوة أو عدد ضربات القلب خاصة عند بداية النوم‪ ،‬نزيف من‬
‫الرحم أو مع البراز‪ ،‬بلغمك يكون أصفر وقد تتقيأ مواد صفراء»‪ ،‬وغير ذلك الكثير من األعراض‬
‫التي يتسبب هبا ارتفاع طبع الحرارة يف الجسم‪ ،‬ولتتخلص من هذا االرتفاع فإنك بحاجة إلى‬
‫فمثال تكثر من المرطبات مثل‬
‫ً‬ ‫الرطوبة تزيلها‪،‬‬
‫مربدات أو مرطبات‪ ،‬فالبرودة تسكن الحرارة‪ ،‬و ُّ‬
‫الماء والحليب البقري أو الجاموسي والزبادي والموز والبرتقال‪ ،‬وتتوقف عن تناول األشياء ذات‬
‫الطبع الحار حتى تتخلص من الطبع الحار الزائد يف جسمك‪ ،‬ينطبق نفس الكالم على ارتفاع‬
‫الطبائع األخرى يف الجسم‪ ،‬ولكل طبع أعراض أخرى مشابهة أو مختلفة‪ ،‬والتغ ُّير يف الطبائع عند‬
‫اإلنسان له عدة أسباب ذكرتها ساب ًقا‪ ،‬ومثال لتغ ُّير الطبائع يف الثمار ما يحصل للتمر‪ ،‬فإنه يف البداية‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الحديث أوردته بالكامل يف صفحة ‪.135‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪134‬‬

‫يكون بل ًحا صل ًبا ذا مزاج بارد جاف‪ ،‬ثم يصبح رط ًبا فيكون حارا رط ًبا‪ ،‬ثم يصبح تم ًرا حارا جافا‪،‬‬
‫ثم يجف أكثر فيصبح جافا حارا‪.‬‬

‫التشخيص لدى الطب األصيل‪:‬‬

‫من خصائص الطب األصيل إمكانية التشخيص ومعرفة الداء عن طريق وجه المريض وبوله‬
‫وبرازه ونبض قلبه ولسانه وعينه ولون جلده وشكل جسمه‪ ،‬أو عن طريق معرفة مكان األلم ووقته‬
‫ووصفه‪ ،‬ويد ُّل التشخيص على المرض‪ ،‬كما يد ُّل على بعض الصفات والطباع الشخصية‬
‫للمريض وغذائه وسلوكه‪ ،‬كذلك يمكن التشخيص أحيا ًنا عن طريق معرفة األعراض من المريض‬
‫نفسه‪.‬‬

‫وبالرغم من وجود أجهزة حديثة تخدم الطب األصيل حال ًيا‪ ،‬فإن الطب األصيل يف األصل ال‬
‫يحتاج إلى االعتماد على أي جهاز إلكرتوين للتشخيص‪ ،‬بل يؤدي بطرقه التقليدية إلى نتائج فائقة‬
‫يف التشخيص‪ .‬وليس من المعقول أن اهلل خلق البشر من دون أن يعرفوا كيفية تشخيص أمراضهم‬
‫حتى اخرتعوا األجهزة الحديثة بعد آالف السنين‪ ،‬بل من عدل اهلل ورحمته أن جعل نظام‬
‫التشخيص الطبي ال يحتاج لألجهزة‪ ،‬واعتماد األطباء اآلن على األجهزة فقط؛ تسبب يف مشاكل‬
‫كثيرة‪ ،‬منها أنهم ال يعرفون تشخيص األمراض إال هبذه األجهزة‪ ،‬فإذا انقطعت الكهرباء أو تعطل‬
‫الجهاز أو انعدم وجوده لم يستطيعوا التشخيص‪ ،‬وألن بعض األجهزة أسعارها غالية فإنها تكلف‬
‫المريض أو من يتحمل عالجه مبالغ وتكاليف عالية‪ ،‬ولو أتقن األطباء اآلن علم ونظام التشخيص‬
‫والعالج بالطب األصيل لما احتاجوا إلى كل هذه التكاليف‪.‬‬

‫ب النبوي‪:‬‬
‫ب األصيل والط ُّ‬
‫الط ُّ‬

‫من درس الطب األصيل والطب النبوي فإنه يقول‪ :‬إن الطب النبوي جاء مواف ًقا للطب‬
‫كثيرا من العلماء السابقين ‪-‬كابن القيم وغيره‪ -‬شرحوا الطب النبوي‬
‫األصيل‪ ،‬وسبق أن ذكرت أن ً‬
‫على أصول الطب األصيل‪ ،‬ومسلمة الطبائع أقرها النبي ﷺ‪ ،‬حيث جاء عنه ﷺ كما ذكرت ساب ًقا‬
‫‪135‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫حار الطبع والبطيخ بارد‪،‬‬ ‫فالرطب ُّ‬ ‫الرطب‪ ،‬وهذا من التوازن يف الغذاء ُّ‬ ‫أنه كان يأكل البطيخ مع ُّ‬
‫ول‪َ :‬نك ِْس ُر َح َّر َه َذا بِ َب ْر ِد َه َذا‪َ ،‬و َب ْر َد‬ ‫الر َط ِ‬
‫ب َف َي ُق ُ‬ ‫ول الل ِ ﷺ َي ْأك ُُل ا ْلبِط َ‬
‫يخ بِ ُّ‬ ‫َان َر ُس ُ‬
‫قالت عائشة ڤ‪« :‬ك َ‬
‫َه َذا بِ َحر َه َذا»(‪ ،)1‬وهو هنا إقرار منه ﷺ بطبيعتي البرودة والحرارة يف الغذاء وأثرهما على‬
‫الرطب بالقثاء(‪ ،)3‬ونقل ابن حجر يف شرح ذلك عن‬
‫الجسم ‪ .‬كما ورد عنه ﷺ أنه كان يأكل ُّ‬
‫(‪)2‬‬

‫القرطبي قوله‪« :‬يؤخذ منه جواز مراعاة صفات األطعمة وطبائعها واستعمالها على الوجه الالئق‬
‫الرطب حرارةً‪ ،‬وفي القثاء برودةً‪ ،‬فإذا أكال م ًعا اعتدال‪ ،‬وهذا أص ٌل‬
‫بها على قاعدة الطب‪ ،‬ألن في ُّ‬
‫كب ٌير في المركبات من األدوية»(‪ .)4‬وأقر النبي ﷺ الحجامة‪ ،‬بل حث عليها‪ ،‬والتي هي أداة مهمة‬
‫ووسيلة رئيسة للعالج يف الطب األصيل‪ ،‬مما جاء يف ذلك قول رسول اهلل ﷺ‪« :‬الش َفا ُء فِي َث ََل َث ٍة‪:‬‬
‫َار‪َ ،‬و َأن َْهى ُأ َّمتِي َع ِن الكَي»(‪ .)5‬كذلك جاء يف الحديث‪« :‬كان‬
‫َش ْر َب ِة َع َس ٍل‪َ ،‬و َش ْر َط ِة ِم ْح َجمٍ‪َ ،‬و َك َّي ِة ن ٍ‬

‫نحتفي أحيا ًنا»(‪ ،)6‬والمشي حاف ًيا إحدى أدوات العالج لدى الطب األصيل‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫يأمرنا ْ‬
‫النبي ﷺ ُ‬
‫ُّ‬
‫كذلك فإن المتأمل يف الطب األصيل والمتعلم له يجده أقرب تطبي ًقا لقول الرسول ﷺ‪َ « :‬ما َأ ْنز ََل‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داوود «‪»3836‬؛ كتاب األطعمة؛ باب يف الجمع بين لونين يف األكل‪ ،‬قال األرناؤوط «إسناده جيد»‪ ،‬وحسنه األلباين يف‬
‫الصحيحة «‪.»57‬‬
‫(‪ )2‬حاول بعض المسلمين من أطباء الطب الغربي شرح هاذين الطبعين يف الحديث بطرق مختلفة‪ ،‬فمثالً شرح أحدهم طبع الحرارة بأنه‬
‫جالب للعطش وأن طبع الربودة تروية للعطش‪ ،‬وهذه التفسيرات ال تصح وال تجوز‪ ،‬ألن الرسول ﷺ تكلم عن حقيقة عرفية يعرفها‬
‫البشر من آالف السنين‪ ،‬ولفهم هذه الحقيقة العرفية يجب فهم مبدأ الطبائع يف الطب األصيل‪.‬‬
‫اء»؛ صحيح البخاري «‪»5124‬؛ كتاب «األطعمة»؛ باب‬ ‫ول اللِ ﷺ ي ْأك ُُل الر َطب ِب ِ‬
‫الق َّث ِ‬ ‫(‪ )3‬عن عبد اهلل بن جعفر ﭭ‪ ،‬قال‪َ « :‬ر َأ ْي ُ‬
‫ت َر ُس َ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ‬
‫الرطب بالقثاء»‪ ،‬كذلك باب‪« :‬جمع اللونين أو الطعامين بمرة»‪.‬‬
‫« ُّ‬
‫(‪ )4‬فتح الباري البن حجر؛ «قوله‪ :‬باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة»‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري «‪»5357‬؛ كتاب «الطب»‪ ،‬باب «الشفاء يف ثالث»‪.‬‬
‫رجل‪ ،‬قال األرناؤوط‪« :‬إسناده صحيح»‪ ،‬وقال األلباين يف الصحيحة «‪« :»502‬هذا إسناد‬
‫(‪ )6‬سنن أبي داوود «‪»4160‬؛ أول كتاب الت ُّ‬
‫صحيح أيضا على شرط الشيخين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪136‬‬

‫اء َب َر َأ بِإِ ْذ ِن الل ِ َع َّز‬


‫اء دواء‪َ ،‬فإِ َذا ُأ ِصيب دواء الدَّ ِ‬
‫َ ََ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللُ َدا ًء َّإال َأ ْن َز َل َل ُه ش َفا ًء»(‪ ،)1‬وقوله ﷺ‪« :‬لكُل َد َ َ‬
‫َو َج َّل»(‪ ،)2‬حيث إن لدى الطب األصيل العالجات التي تقتلع األدواء من جذورها‪ ،‬وهذه‬
‫العالجات موجودة منذ آالف السنين‪ .‬ومع ذكر هذا الحديث يجدر التنبيه إلى أمر مهم‪ ،‬وهو أن‬
‫كثيرا من األطباء وعامة الناس ينتشر على لساهنم قول‪« :‬ليس هناك عالج لهذا المرض»‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬
‫ب الغربي‬
‫مخالف للحديث السابق‪ ،‬واألصوب أن يقول‪« :‬ال أعلم عالجا لهذا المرض»‪ ،‬أو «الط ُّ‬
‫لم يكتشف عالجا لهذا المرض»‪ .‬كذلك فإن إنزال اهلل وتكوينه لألشياء يكون طبيعيا من دون‬
‫تدخل البشر‪ ،‬ولذا فإن هذين الحديثين ‪-‬اللذين قالهما رسول اهلل ﷺ قبل ظهور التقنيات الحديثة‬
‫بأكثر من ‪1400‬عام‪ٌ -‬‬
‫دليل على أن األمراض عالجها موجودة بشكل طبيعي بدون الحاجة إلى‬
‫التقنيات الحديثة‪ ،‬كذلك يدل الحديثان أنه ال داعي الستبدال األعضاء أو التحكم فيها باألجهزة‬
‫الحديثة‪ ،‬ألن اهلل ‪ ‬قد أنزل أدوية طبيعية لكل األمراض‪ ،‬لكن ال يفهم من هذين الحديثين تحريم‬
‫استعمال التقنية يف العالج‪ ،‬بل إن من يفهم األحاديث بطريقة صحيحة سيستطيع توجيه التقنيات‬
‫الحديثة بطريقة أصح لعالج المرضى يف زمن أسرع مع راحة أكثر‪.‬‬

‫ب الغربي‪:‬‬
‫ب األصيل والط ُّ‬
‫الط ُّ‬

‫يظ ُّن بعض الناس أن الطب األصيل والطب الغربي متناقضان متعاكسان بالكلية‪ ،‬ويظ ُّن‬
‫صورين خاطئ‪ ،‬وقبل‬
‫آخرون أن الفرق بينهما منحصر فقط يف األداة المستخدمة للعالج‪ ،‬وكال الت ُّ‬
‫ويرا للطب األصيل‪ ،‬بل‬
‫بيان الفروق بين االثنين؛ فإنه يجب التنبيه على أن الطب الغربي ليس تط ً‬
‫مدرسة مستقلة بمذهب جديد‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن بداياته نظريا حصلت مع اعتماد نظرية «جرثومية‬
‫المرض» ”‪ “Germ Theory of Disease‬يف أواخر القرن التاسع عشر الميالدي‪ ،‬وذلك عن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5354‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «ما أنزل اهلل دا ًء إال أنزل له شفا ًء»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2204‬؛ كتاب «السالم»؛ باب «لكل داء دواء‪ ،‬واستحباب التداوي»‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫طريق جهود العالم الفرنسي «لويس باستور» ”‪ ،“Louis Pasteur‬والعالم األلماين «روبرت‬
‫كوخ» ”‪ ،“Robert Koch‬ولقد كان ‪-‬وال يزال‪ -‬باإلمكان الجمع بين ما توصلت إليه هذه النظرية‬
‫وبين قوانين الطب األصيل‪ ،‬لكن الذي حصل أن مناصروا هذه النظرية قرروا االستقالل هبا وإنكار‬
‫قوانين الطب األصيل‪ ،‬وثمة عوامل أخرى متزامنة حصلت مع اعتماد النظرية‪ ،‬كحصول الثورة‬
‫العلمية والصناعية يف العالم الغربي‪ ،‬كل ما سبق أدى إلى نشوء الطب الغربي المعاصر‪ ،‬وقرروا أن‬
‫حسسه ورؤيته فقط‪ ،‬سواء بالعين المجردة أو عن طريق‬
‫المرض ومسبباته وعالجه هو ما يمكننا ت ُّ‬
‫المجاهر واألجهزة‪ ،‬وما سوى ذلك مجرد أوهام أو أمراض نفسية‪ ،‬وأصبح هذا القانون صندو ًقا‬
‫صغيرا مغل ًقا‪ ،‬وك ُّل مدارس وعلوم ونظريات ومستشفيات وأبحاث الطب الغربي المنتشرة يف‬
‫ً‬
‫العالم اآلن إنما هي ك ُّلها داخل هذا ُّ‬
‫الصندوق الصغير المغلق وال تخرج منه‪ ،‬كما أنهم أصبحوا‬
‫حجر والتضييق أدى هبم إلى‬
‫يرون أن طريقتهم هذه هي الحقيقة المطلقة الصحيحة‪ ،‬وهذا الت ُّ‬
‫الصندوق الصغير‪،‬‬
‫عصب‪ ،‬وإنكار كل ما ال يمكنهم قياسه أو رؤيته يف هذا ُّ‬
‫طرف الفكري والت ُّ‬
‫الت ُّ‬
‫الروحية والطاقة بكل أنواعها وعلوم‬
‫كثيرا منهم يرون أن الطب األصيل واألمراض ُّ‬
‫ولذلك فإن ً‬
‫العقل الباطن وغيرها من المذاهب الطبية المختلفة مجرد علم زائف وخرافات وأوهام وأساطير‬
‫ال يمكن تق ُّبلها وال استيعاهبا‪ ،‬ومن يعمل هبا خادعون أو مخدوعون(‪ ،)1‬ووصل الحدُّ ببعض‬
‫األطباء المسلمين إلى االدعاء أن الحجامة لم تثبت لها فوائد علمية‪ ،‬وأن الرسول ﷺ عملها ألن‬
‫هذا كان من ضمن علم العرب القديم الخاطئ‪ ،‬وسمعت أحد المنتسبين للعلم الشرعي يقول‪ :‬إنه‬
‫ب نبوي‪ ،‬وعلى المسلمين اتباع ما يراه هذا القائل «العلم الحديث» يف الطب‪ ،‬وبعضهم‬
‫ال يوجد ط ٌّ‬
‫أدى به تقوقعه داخل مذهبه وجهله بالطب األصيل إلى االدعاء أن رسول اهلل ﷺ سيتبع الطب‬

‫________________‬
‫كثيرا من علماء الشريعة والفقه انجروا وراء هذا االدعاء‪ ،‬وحصروا مراجعهم الطبية على الطب الغربي فقط‪،‬‬
‫(‪ )1‬ولألسف الشديد فإن ً‬
‫وخبيرا بمذهبه الطبي اآلخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫سلما عد ًال عال ًما‬
‫وأنكروا كل من أتاهم من خارج مدرسة الطب الغربي ولو كان م ً‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪138‬‬

‫الغربي لو كان موجو ًدا بيننا‪ ،‬ومع إحسان الظن هبؤالء والتأكيد على أن نيتهم حسنة وأن كالمهم‬
‫نابع عن ما هو مبلغهم من العلم؛ إال أن هذا الكالم يف الحقيقة سوء أدب مع رسول اهلل ﷺ وافتراء‬
‫عليه‪ ،‬بل إنه كذ ٌب متعمدٌ على رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وتحقير من شأنه وعلمه فداه أبي وأمي عليه الصالة‬
‫والسالم‪ .‬وإذا شفي أي مريض عن طريق الحجامة أو الرقية أو األعشاب المذكورة يف الطب‬
‫النبوي فإهنم غالبًا يعجزون عن تفسير ذلك علميا حسب قوانين صندوقهم الصغير ودائرهتم‬
‫المغلقة؛ ويرون أن هذا الشفاء الذي تم هو من باب المعجزات واألمور الخارقة‪ ،‬ومن يؤمن‬
‫بالرقية واألمراض الروحية من األطباء المسلمين؛ فإنهم لما لم يستطيعوا تفسير ذلك من خالل‬
‫الدائرة الضيقة للطب الغربي؛ اتجهوا إلى القول بأنها من األمور الغيبية التي ال يمكن للبشر‬
‫إدراكها‪ ،‬والحقيقة أنه لو تم الجمع بين الطب الغربي وغيره من المذاهب الطبية النكشفت‬
‫األسرار ولعرفت األسباب والتضحت لنا القوانين الكونية الكاملة لكل ما يمرض اإلنسان‬
‫ويعالجه‪.‬‬

‫ويف الحقيقة فإن الغرب ليس عندهم ما يجعلهم يبالون حين يتهمون جالينوس وغيره من‬
‫مؤسسي الطب اليوناين بالخطأ الكلي يف فهم الطب‪ ،‬لكن المسلمين يجب أن يكونوا أعقل منهم‪،‬‬
‫إذ ال يمكن اتهام ابن سينا وابن النفيس وابن القيم وغيرهم ممن تعلم الطب اليوناين وعلمه وعمل‬
‫به أنهم كانوا أصحاب خرافة ووهم وهرطقة وعلم زائف‪ ،‬إذ كتبهم بين أيدينا تشهد لهم على‬
‫علمهم وعقلهم وتجارهبم وقدرهتم على االستيعاب والفهم واالستنباط‪ ،‬بل كما أسلفت فإن هناك‬
‫أيضا كلهم‬
‫جامعات ومستشفيات معاصرة متخصصة يف الطب األصيل‪ ،‬وال يمكن أن يكون هؤالء ً‬
‫أصحاب خطأ وضالل مبين‪.‬‬

‫واستقالل الطب الغربي وابتعاده عن الطب األصيل وإنكاره لما سبقه؛ أنتج لنا عدة فروقات‬
‫بين الطب األصيل والطب الغربي‪ ،‬أذكر منها ما يلي‪:‬‬
‫‪139‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫أوال‪ :‬تعريف المرض عند الطب الغربي هو تغ ُّير سلبي حصل يف الخلية ”‪،“Cell Injury‬‬
‫ً‬
‫ب األصيل يرى التغ ُّير الحاصل يف الخلية عر ًضا لمرحلة متقدمة من المرض‪ ،‬والمرض‬
‫بينما الط ُّ‬
‫الرئيس عنده هو تغ ُّير يف الطبائع‪ ،‬فنتج عن هذا التعريف ما يلي‪:‬‬

‫ب الغربي كل األعراض التي تعرتي المريض من دون حصول تغ ُّير يف الخلية؛ إنما‬
‫أ‪ -‬يرى الط ُّ‬
‫هي أوهام وأمور تخ ُّيلية أو نفسية‪ ،‬وطب ًعا ستجد من أطباء المسلمين من قد يلقي باللوم على الجن‬
‫الرقاة ألنهم لم يجدوا سب ًبا لهذه األعراض‪،‬‬
‫الروحية‪ ،‬ويطالب المريض بالذهاب إلى ُّ‬
‫واألمراض ُّ‬
‫ب األصيل يحسن تشخيصها‪ ،‬ويحدد سببها‪ ،‬ويعالجها بنجاح‪ ،‬طب ًعا أنا ال أنكر دور‬
‫بينما الط ُّ‬
‫ب الغربي سببه نقول‪ :‬إن‬ ‫الروحية يف التأثير على اإلنسان‪ ،‬لكن ليس ُّ‬
‫كل ما لم يعرف الط ُّ‬ ‫األمراض ُّ‬
‫الروحية‪.‬‬
‫سببه الج ُّن أو األمراض ُّ‬

‫ب على إصالح الخلية بال ُّطرق‬


‫ب‪ -‬كذلك نتج عن هذا التعريف أن الطب الغربي ه ُّمه منص ٌّ‬
‫الكيميائية؛ عن طريق المركبات والمواد الفعالة‪ ،‬وهذا أدى إلى أضرار جانبية كثيرة وخطيرة لكثير‬
‫ُّ‬
‫التدخل كيميائيا إلصالح الخاليا بنفسك ‪-‬‬ ‫ب األصيل أنه ال يحق لك‬
‫من األدوية‪ ،‬بينما يرى الط ُّ‬
‫إال يف حاالت طارئة ال يمكن فيها االستغناء عن ذلك‪ ،-‬بل إن استخالص المركبات وكذلك‬
‫معالجة الخاليا هي وظيفة الجسم يقوم هبا بنفسه‪ ،‬وإنما دورك هو يف إصالح الجسم ليعالج نفسه‬
‫بنفسه‪ ،‬وإعطائه المركبات الكيميائية كما خلقها اهلل يف األغذية واألعشاب حتى يقوم الجسم‬
‫باستخالصها بنفسه‪.‬‬

‫ج‪ -‬يف حال فشل الطب الغربي يف إصالح الخاليا أو األعضاء فإنه يعمد إلى االستبدال أو‬
‫ب األصيل ال يعجز على اإلطالق عن عالج أي خلية أو عضو أو مرض‪.‬‬
‫اإلزالة‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪140‬‬

‫ب الغربي أسباب تغ ُّير الخلية إلى عدة عوامل رئيسة(‪ ،)1‬وهي‪:‬‬


‫ثان ًيا‪ :‬عزا الط ُّ‬

‫‪ -1‬نقص األوكسجين ”‪ :“Oxygen Deprivation‬إذا نقص عن الحد المطلوب وصوله‬


‫للخلية‪.‬‬
‫‪ -2‬عوامل كيميائية ”‪ “Chemical Agents‬ارتفاع مستوى المواد الكيميائية بالجسم‪ ،‬مثل‬
‫التسمم أو األكسدة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -3‬العدوى ”‪ :“Infectious Agents‬مثل الفيروسات أو البكتيريا أو الفطريات‪.‬‬
‫‪ -4‬ردود فعل المناعة ”‪ :“Immunologic Reactions‬الرد الزائد للمناعة كاألمراض‬
‫المناعية أو الحساسية‪.‬‬
‫‪ -5‬عوامل وراثية ”‪.“Genetic Factors‬‬
‫‪ -6‬عوامل فيزيائية ”‪ :“Physical Agents‬الصدمات‪ ،‬الصدمة الكهربائية‪ ،‬درجة الحرارة‬
‫المحيطة‪ ،‬أشعة أو موجات‪ ،‬التغ ُّير المفاجئ يف الضغط الجوي‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫‪ -7‬الشيخوخة ”‪.“Aging‬‬
‫‪ -8‬االختالل الغذائي ”‪ :“Nutritional Imbalances‬مثل نقص الفيتامينات والمواد الالزمة‬
‫يتم الحصول عليها عن طريق الغذاء‪.‬‬
‫التي ُّ‬

‫ب إلصالح ما يمكن من هذه‬


‫فأيضا ه ُّمه منص ٌّ‬
‫وألن الطب الغربي حصر األسباب فيما سبق‪ً ،‬‬
‫ب األصيل فنظرته لألسباب أوسع وأكرب بكثير‪ ،‬فهو ‪-‬كما‬
‫األسباب بطرقه المحدودة‪ ،‬أما الط ُّ‬
‫قلت‪ -‬يرى سبب األمراض هو تغ ُّير يف الطبائع‪ ،‬ولذا فهو يرى أن األسباب الخمسة األولى‬
‫المذكورة ساب ًقا هي عبارة عن أعراض نتجت عن خلل يف الطبائع‪ ،‬ويرى السببين السادس والسابع‬

‫________________‬
‫(‪Robbins Basic Pathology )1‬؛ الطبعة التاسعة؛ الفصل األول؛ صفحة ‪.6‬‬
‫‪141‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫‪-‬العوامل الفيزيائية والشيخوخة‪ -‬مؤثرين يف الطبائع‪ ،‬لكن الشيخوخة غير مانعة للعالج وإعادة‬
‫الصحة للبدن؛ وذلك بإزالة تأثيرها على الطبع‪ ،‬ويتفق على أن عدم حصول الجسم على التغذية‬
‫السليمة سيضعفه‪ ،‬لكنه يضيف أن الغذاء مهما كان ‪-‬سوا ًء صحيا أو غير صحي‪ -‬فإنه كذلك مؤثر‬
‫يف الطبائع‪ ،‬وألن الطبائع بمثابة المسلمات التي ثبتت صحتها عندهم عبر األزمان عن طريق‬
‫التجربة؛ فإن الطب األصيل يستطيع إصالح الخلية بشكل دائم‪ ،‬والتخ ُّلص هنائ ًيا من جميع‬
‫األسباب المتوالية الرئيسة التي أدت إلى التغ ُّير يف الخلية‪ .‬كذلك نرى أن من أسباب المرض عند‬
‫الطب الغربي هو التركيز واالكتفاء على التفاعالت الكيميائية التي تحدثها المركبات‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال فإن الماء ال ينظر إليه سوى أنه أوكسجين وهيدروجين وأمالح ومعادن مخلوطة فيه‪ ،‬أما‬
‫ب األصيل فيرى أن الماء المربد طبعه «رطب بارد» مع ارتفاع شديد يف جزء الربودة‪ ،‬وهو‬
‫الط ُّ‬
‫حار رطب»‪ ،‬وهذا‬
‫الحار جدا طبعه « ٌّ‬
‫ُّ‬ ‫يسبب نق ًصا يف سيولة الدم وعسر ًا يف الهضم‪ ،‬وعكسه الماء‬
‫ب‬
‫سييال للدم‪ ،‬لكن هذا الكالم ال يناسب معايير وقوانين الطب الغربي‪ ،‬كذلك يقول الط ُّ‬
‫يسبب ت ً‬
‫األصيل‪ :‬إن النوم يف المكيف يزيد من تغ ُّلظ الدم‪ ،‬لكن الطب الغربي يدعي أن هذا ال يثبت لديه‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬هناك اختالف يف كثير من المعايير بين الطب الغربي والطب األصيل‪ ،‬فما يراه الط ُّ‬
‫ب‬
‫فمثال يرى‬
‫ً‬ ‫ب األصيل متعد ًيا للحد األقصى‪،‬‬
‫الغربي حدا أقصى يف بعض األشياء؛ قد يراه الط ُّ‬
‫ب الغربي أن الحد األعلى لحمض البول ”‪ “Uric Acid‬لدى الذكور هو ‪ 7‬ملجم يف واحد‬
‫الط ُّ‬
‫ب األصيل‬
‫ب األصيل يرى أن الحد األعلى هو ‪ 5‬ملجم‪ ،‬وقد يرى الط ُّ‬
‫ديسيلرت من الدم‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫يف تشخيصه ومصطلحاته الوصفية أن الكبد أو المعدة ملتهبتان‪ ،‬وإذا كشفت لدى الطب الغربي‬
‫ب األصيل سمو ًما يجب‬
‫فلن يجد فيهما أي مشكلة ألن معايير االلتهاب عنده مختلفة‪ ،‬قد يرى الط ُّ‬
‫طردها من الجسم مثل ما يعتبره د ًما فاسدً ا أو أخال ًطا زائدة‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫ب الغربي ال يراها فاسد ًة وال‬
‫ضررا من بقائها يف الجسم‪ ،‬وهكذا يف أشياء كثيرة‪ ،‬حتى األمراض لها معايير معينة‪،‬‬
‫ً‬ ‫زائدةً‪ ،‬وال يرى‬
‫ضار يخرج من الرأس وعليك أن تساعده على‬
‫فالزكام يجب أال يعالج باإليقاف‪ ،‬بل هو شيء ٌّ‬
‫ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪142‬‬

‫ضرك يف بطنك‪ ،‬فليس‬


‫ضار‪ ،‬بل هناك إسهال حاصل بسبب وجود ما ي ُّ‬ ‫اإلخراج‪ ،‬وليس ُّ‬
‫كل إسهال ٌّ‬
‫ُّ‬
‫كل إسهال يصح لك أن تمنعه‪ ،‬ودرجة الحرارة عندما ترتفع فإن الجسم يرفعها حتى يتغلب بنفسه‬
‫على مشكلة حدثت عنده‪ ،‬وسيصيبك ضرر آخر إذا تدخلت أنت عن طريق األدوية لخفض هذه‬
‫الحرارة‪ ،‬لذا ليس ُّ‬
‫كل ارتفاع لدرجة حرارة الجسم يمكن أن تخمدها كما تشاء‪ ،‬وغير ذلك كثير‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬العالقة بين جميع األعضاء أكثر تقنينًا ودق ًة يف الطب األصيل بنظام ال يعرفه الط ُّ‬
‫ب‬
‫ب األصيل ينظر إلى الجسد كله بأنه كتلة واحدة‪ ،‬ولذلك عندهم قانون يربط األعضاء‬
‫الغربي‪ ،‬فالط ُّ‬
‫ببعضها‪ ،‬فإذا الحظوا تغ ُّي ًرا يف عضو ما؛ فإنهم يعلمون مباشرة ماذا حصل لألعضاء األخرى‪،‬‬
‫كذلك يعلمون من أين بدأ الخلل‪ ،‬بخالف الطب الغربي الذي غال ًبا يبحث مشاكل كل عضو‬
‫لوحده‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬كما أن الطب الغربي حدد أسبا ًبا لألمراض‪ ،‬فإنه حدد معايير العتماد الدواء‪ ،‬وهذه‬
‫ً‬
‫المعايير تختلف كليا عن معايير الطب األصيل لألدوية(‪ ،)1‬كما أن أدوية الطب الغربي ليس من‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬من الطرائف المعاصرة أنه انتشر يف اآلونة القريبة مقاطع مرئية ألكثر من شخص يقول إنه جرب أكل التين منقوعًا يف زيت الزيتون‬
‫على الريق كل يوم يف الصباح الباكر‪ ،‬مما أدى إلى انتهاء مشكلة نقص فيتامين «د» التي كانت عنده‪ ،‬فما كان من بعض األطباء إال‬
‫مهاجمة ذلك وادعاء أن ذلك وهم‪ ،‬وأنه ال يمكن لفيتامين «د» أن يرتفع عن طريق التين وزيت الزيتون‪ ،‬وهذا بالرغم أن عدد‬
‫المجربين المستفيدين بدأ يزيد‪ ،‬فتعصبوا لمذهبهم حتى لو خالف الواقع‪ ،‬أما يف طب «نظرية األعضاء األربعة» فإن التين وزيت‬
‫حار رطب فإنه يقوم بتسييل الدم‪ ،‬وتغ ُّلظ الدم يف الطب األصيل من أكرب الكبائر يف‬
‫وأي شيء مزاجه ٌّ‬
‫حار رطب‪ُّ ،‬‬
‫الزيتون مزاجهما ٌّ‬
‫السكر‬
‫جسم اإلنسان‪ ،‬والتي بسببها قد تفشل كثير من األعضاء عن العمل أو تقل كفاءهتا‪ ،‬مما قد يؤدي إلى اإلصابة بعدة أمراض ك ُّ‬
‫مثال‪ ،‬وتسييل الدم يؤدي إلى‬ ‫ً‬
‫كسوال ً‬ ‫والفشل الكلوي وآالم المفاصل والسرطان وغيرها‪ ،‬كما يؤثر على شخصية صاحبه بجعله‬
‫فيمتص الجسم فيتامين «د» من‬
‫ُّ‬ ‫اإلحساس بالنشاط‪ ،‬كما يؤدي إلى انتفاع األعضاء بالدم كما يجب‪ ،‬فتقوم بمهامها على خير طريقة‪،‬‬
‫الضوء بشكل صحيح‪ ،‬ويفرز البنكرياس االنسولين بشكل صحيح وهكذا‪ ،‬بينما نقص سيولة الدم عند الطب الغربي ال يشكل‬

‫مشكلة غير التج ُّلط فقط‪ ،‬كوهنم يرون المركبات تصل إلى األعضاء برغم نقص ُّ‬
‫السيولة‪ ،‬وهذا هو المه ُّم عندهم‪ .‬كذلك انتشر يف‬
‫برامج التواصل االجتماعي أن شرب الماء الحار على الريق مفيد للصحة‪ ،‬وطبقه البعض واستفادوا منه‪ ،‬بينما أنكر بعض األطباء=‬
‫‪143‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫تضر آخرين وربما تؤدي هبم إلى الموت‪،‬‬


‫الشرط أن تكون مفيد ًة للجميع‪ ،‬بل قد تفيد نسبة قليلة‪ ،‬و ُّ‬
‫ب األصيل فإن تصنيفه لألمراض والمرضى والعالجات يجعله يعطي الدواء المناسب‬
‫أما الط ُّ‬
‫للمريض من دون أن يضره‪.‬‬

‫ب الغربي إلى جميع الناس أنهم سواسية‪ ،‬ك ُّلهم لديهم نفس األعضاء‬
‫سادسا‪ :‬ينظر الط ُّ‬
‫ً‬
‫ب األصيل فيقسم الناس‬
‫والعناصر والمركبات‪ ،‬ويجري أبحاثه وتجاربه على هذا األساس‪ ،‬أما الط ُّ‬
‫فمثال األشخاص الذين طبعهم‬
‫ً‬ ‫بنا ًء على أمزجتهم‪ ،‬فما يؤثر يف مزاج قد ال يؤثر يف مزاج آخر‪،‬‬
‫حار؛ فإن اإلكثار من تناول األطعمة ذات الطبع الحار ‪-‬مثل لحم الخراف والدجاج‪-‬‬
‫األصلي ٌّ‬
‫ضرهم ذلك‪ ،‬بالرغم من أن تركيبهم الخلوي‬
‫ضرهم ويمرضهم‪ ،‬أما أصحاب الطبع البارد ال ي ُّ‬
‫ي ُّ‬
‫واحد‪.‬‬

‫ب الغربي على أنها واحدة ما دام لها نفس التغ ُّير‬


‫ساب ًعا‪ :‬كذلك األمراض ينظر إليها الط ُّ‬
‫ب األصيل يقسم األمراض حسب أمزجتها‪ ،‬ومن ثم يعطي العالج بنا ًء على هذا‬
‫المرئي‪ ،‬والط ُّ‬
‫الج ما مفيدً ا لمرض ما عند شخص معين‪ ،‬ويف وقت الحق يكون ضارا‬
‫التقسيم‪ ،‬وقد يكون ع ٌ‬
‫لنفس الشخص إذا أصابه نفس المرض مرة أخرى‪ ،‬بالرغم من أن التغ ُّيرات والتركيب الكيميائي يف‬
‫فمثال البواسير قد تكون حارة الطبع أو يابسة الطبع‪ ،‬ولكل منها عالج‬
‫المرض واحدة عند االثنين‪ً ،‬‬
‫حار وبارد‬ ‫مختلف‪ ،‬حتى وإن كانتا تحت المجهر ال يرى فر ٌق بينهما‪ ،‬كذلك ُّ‬
‫الصداع منه ما هو ٌّ‬
‫وجاف ورطب‪ ،‬وحتى االلتهابات ُّ‬
‫وكل ما يتعرض له اإلنسان‪ ،‬ويمكن القول بأن الطب األصيل‬ ‫ٌّ‬
‫يرى أن إطالق مقولة «لكل مرض وصف ٌة» خاطئة‪ ،‬بينما الصواب هو «لكل مريض وصف ٌة»‪ ،‬فما‬

‫________________‬
‫حار رطب‬
‫ضر وثبت ضرره لدى حاالت عنده ‪-‬وكأن أدويته آمنة بال أضرار‪ ،-‬والحقيقة أن الماء المغلي أيضا ٌّ‬
‫=ذلك وقالوا إنه م ٌّ‬
‫السيولة‪ ،‬لكن الحار الرطب يؤذي من عنده التهابات حارة‪ ،‬مثل التهابات أغشية‬
‫يزيد يف سيولة الدم‪ ،‬ويفيد من عنده نقص يف ُّ‬
‫الشرايين واألنسجة الطالئية‪ ،‬مما يجعل الشرايين تضيق أكثر‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪144‬‬

‫ينفع لمريض ما مصاب بمرض ما قد ال ينفع آلخر مصاب بنفس المرض‪ ،‬حتى وإن كان لديهما‬
‫نفس التغ ُّيرات يف الجسم‪.‬‬

‫هتمون‬
‫ثامنًا‪ :‬ال يوجد فرق لذاته بين البلدان واألماكن المختلفة لدى الطب الغربي‪ ،‬بل هم ي ُّ‬
‫بفروق بيئية‪ ،‬مثل درجة الحرارة وكمية أشعة الشمس والمركبات الموجودة يف الهواء‪ ،‬وكذلك‬
‫الكائنات الدقيقة التي تعيش يف ذلك المكان‪ ،‬أما يف الطب األصيل فحتى الدُّ ول والمدن وجميع‬
‫البلدان المختلفة مقسمة إلى أمزجة وطبائع‪ ،‬وهذا يؤثر على من يسكنها أو يزورها‪ ،‬فيمرضون أو‬
‫يص ُّحون‪ ،‬كما تؤثر عليهم يف أشكالهم وصفاهتم الخلقية والخلقية‪ .‬وهذا ينطبق كذلك على‬
‫مثال كيف أن بعض‬
‫األوقات‪ ،‬فالسنة الشمسية مقسمة على األمزجة‪ ،‬وهذا يفسر عندهم ً‬
‫األشخاص يزيد مرضهم يف الصيف ويق ُّل يف الشتاء‪ ،‬بل اليوم كذلك ينقسم إلى أمزجة‪ ،‬لذا هناك‬
‫مثال يزيد مرضهم يف النهار‪ ،‬وآخرون بالعكس يزيد مرضهم بالليل‪ ،‬كذلك الشهر‬
‫أشخاص ً‬
‫ب الغربي ال يق ُّر هبذه‬
‫القمري له تقسيمات وأمزجة حسب بداية الشهر ومنتصفه وانتهائه‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫التقسيمات‪ ،‬لذا يعجز عن فهم أسباب كثير من الحاالت وعالجها‪.‬‬

‫ب الغربي عالقة بين حالة األعضاء الصحية وبين شخصية وصفات‬


‫تاس ًعا‪ :‬ال يرى الط ُّ‬
‫ب األصيل عنده ربط عجيب متقن لذلك‪ ،‬على سبيل المثال ترى نظرية األعضاء‬
‫اإلنسان‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫األربعة أنه كلما كان القلب يعمل بكفاءة فإن شجاعة صاحبه تزداد‪ ،‬وبالعكس إذا كان فيه خلل فإن‬
‫صاحبه سيميل إلى الخوف واالنعزال(‪ ،)1‬وهكذا مع الدم ومع أعضاء أخرى يف الجسم‪ .‬وسوف‬
‫أذكر يف هذا الفصل الح ًقا العالقة بين شخصية وصفات اإلنسان وبين طبعه يف الطب اليوناين‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القول بأن القصور يف عمل القلب يؤدي إلى الخوف أو الحزن واالكتئاب موافق لما جاء يف القرآن الكريم من ربط السكينة بالقلب‬

‫كقوله ‪ :‬ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱠﭐ[الفتح‪ ،] 4 :‬فكأن الطب األصيل يفسر ذلك حقيقيا‬


‫وليس مجازيا‪.‬‬
‫‪145‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫خالصة االختالف بين الطب الغربي والطب األصيل هو أن الطب الغربي يعتبر ناق ًصا أمام‬
‫الطب األصيل‪ ،‬وبسبب هذا النقص فإنه لن يستطيع عمل تشخيص كامل‪ ،‬وبالتالي لن يستطيع‬
‫تقديم عالج كامل‪ ،‬كما أنه بسبب هذا النقص الذي لدى الطب الغربي؛ فإن كث ًيرا من أدوية الطب‬
‫ررا عال ًيا على بعض المرضى‪ ،‬ويف‬
‫الغربي ال تعمل مع الجميع بشكل متساو‪ ،‬بل قد تشكل ض ً‬
‫محاوالت إصالح بعض الخاليا فإنها قد تتسبب بأضرار لخاليا أخرى يف الجسم‪ ،‬ويمكن الحدُّ‬
‫ُّ‬
‫والحل إلزالة هذا‬ ‫من اآلثار الجانبية لألدوية إذا روعيت معها نظريات وأسس الطب األصيل‪.‬‬
‫ب الغربي هذا النقص الذي عنده‪ ،‬ويقر بقوانين الطب األصيل‪ ،‬ويعمل‬
‫الخالف هو أن يكمل الط ُّ‬
‫يف أطرها‪ ،‬ثم بإمكانه تطويرها وتحديثها (‪.)1‬‬

‫ولألسف فإن الطب الغربي يسمي نفسه بالطب الحديث‪ ،‬وغيره بالطب البديل أو التكميلي‪،‬‬
‫طويرا‬
‫وهذا يوهم السامع أنه المتطور الصحيح‪ ،‬وغيره قديم فاسد‪ ،‬والحقيقة كما قلت‪ :‬إنه ليس ت ً‬
‫كثيرا من أطباء وممارسي‬
‫لما سبقه‪ ،‬كذلك فإنه ليس الوحيد الذي يستعمل أجهزة حديثة‪ ،‬فإن ً‬
‫الطب األصيل اآلن يستعينون بالتقنيات واألجهزة الجديدة‪ ،‬كما أنه ليس بأحدث مذهب طبي‪،‬‬
‫فكما مر معنا فإن «نظرية األعضاء األربعة» أحدث منه‪ ،‬ودائما هناك احتمال نشوء مذاهب طبية‬
‫أخرى‪ ،‬فالحياة ال تتوقف‪ ،‬والعلم دائم التطور‪.‬‬

‫ومن العجائب أنك ترى المسلمين اآلن يفتخرون بأسماء األطباء القدامى مثل ابن سينا وابن‬
‫البيطار والرازي وغيرهم‪ ،‬ويقيمون بأسمائهم المؤتمرات والمعاهد والحفالت‪ ،‬ولكنهم عمليا‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أنا يف الحقيقة ال أؤمن بتقسيم الطب إلى شرقي أو غربي أو قديم أو حديث أو مادي أو نفسي‪ ،‬فاألصل أن الطب يجب أن يكون‬
‫فرق وسيصنع‬ ‫واحدً ا شام ًال‪ ،‬وهو متفر ٌق إلى أجزاء بسبب ت ُّ‬
‫فرق البشر وانكفاء كل فريق على نفسه‪ ،‬وتعاوهنم م ًعا سيزيل هذا الت ُّ‬
‫الطب الشامل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪146‬‬

‫وتطبيقيا يتربؤون من األقدمين ومن مدرستهم وعلمهم‪ ،‬بل يرموهنم من حيث ال يدرون بالتخ ُّلف‬
‫والجهل‪.‬‬

‫دور الجراثيم‪:‬‬

‫قد يتساءل ٌ‬
‫سائل‪ :‬وأين دور الجراثيم والفيروسات والبكتيريا وال ُّطفيليات يف الطب األصيل؟‬
‫والجواب أن الطب األصيل يرى أنه لوال حدوث خلل مسبق يف الجسم فإن هذه الكائنات لن‬
‫تتمكن من العيش واإلفساد فيه‪ ،‬وإصالح الخلل يؤدي إلى قتل هذه الكائنات أو طردها من‬

‫الجسم‪ ،‬ألن اهلل أودع يف الجسم مناع ًة ضد كل ما ي ُّ‬


‫ضره‪ ،‬ولذلك يركز على عالج السبب الذي‬
‫ب الغربي يقتل هذه البكتيريا بالمضادات الحيوية‬
‫سمح لهذه الكائنات باالعتداء والتأثير‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫التي تقتل النافع والضار من جسم اإلنسان‪ ،‬وال يستطيع قتل الفيروسات يف الجسم أو إخراجها‬
‫منه‪ ،‬وال يعالج السبب الحقيقي الذي جعل اإلنسان يتأثر سل ًبا هبذه الكائنات‪ .‬مثال ذلك‪ :‬لو أنك‬
‫رأيت جثة ميتة منذ عدة أيام‪ ،‬وتجمعت عليها البكرتيا والجراثيم والعفن‪ ،‬فهل هذه الجثة ماتت‬
‫بسبب هذه الجراثيم والبكتيريا المتجمعة عليها؟ أم العكس هو الذي حصل؟ ال شك يف أن هذه‬
‫الكائنات قد تجمعت على الجثة بعد وفاهتا‪ ،‬وهذا نفسه هو ما يحصل داخل الجسم وخارجه وهو‬
‫حي‪ .‬ونفس هذه الفكرة ترتبط بالجن عند من يؤمن بالمس الداخلي من ممارسي الطب األصيل‪،‬‬
‫فالج ُّن ال يتمكن من االعتداء على الجسم وأعضائه إال إذا كان هناك خ ٌلل يف مناعة الجسم ويف‬
‫أعضائه‪ ،‬وتقويتك للجسم وإرجاعه إلى وضعه األساسي؛ ح ٌ‬
‫رمان لجميع الكائنات من االعتداء‬
‫على اإلنسان‪.‬‬
‫األسباب الم ْلحوظة غير ِ‬
‫الحسية‪:‬‬

‫األسباب يف الطب األصيل قد تكون وصفية ال تدرك عبر الحواس الخمس‪ ،‬لكن يمكن‬
‫استنباطها واستنتاجها من اآلثار الحسية الناتجة عن هذه األسباب الملحوظة‪ ،‬قال ابن سينا عن‬
‫الصحة والمرض‪« :‬وأسباهبما قد يكونان ظاهرين‪ ،‬وقد يكونان خفيين ال يناالن بالحس‪ ،‬بل‬
‫‪147‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫باالستدالل من العوارض»(‪ ،)1‬وقد يأيت يوم يمكن اإلحساس هبذه األسباب الملحوظة عن طريق‬
‫أجهزة جديدة‪ ،‬وإذا سبقنا األحداث وافترضنا جد ًال أن هذه األسباب وغيرها من المصطلحات يف‬
‫الطب األصيل كالطبائع واألخالط والطاقة وغيرها مجرد أوصاف وهمية ال يمكن رؤيتها أو‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫تحديدها عن طريق األجهزة؛ فهل هذا يطعن يف هذه النظريات؟ يف الحقيقة هذا ليس سب ًبا‬
‫للطعن والتشكيك يف هذه النظريات‪ ،‬طالما أنها تثبت بالمالحظة‪ ،‬والعمل هبا يؤيت نتائج صحيحة‬
‫ص أن لكل جسم قوة جاذبة تعتمد على حجمه وكثافته‬
‫وفعالة‪ ،‬وذلك مثل قانون الجاذبية الذي ين ُّ‬
‫وبعده‪ ،‬فهذا القانون يفسر لنا لماذا ننجذب نحن إلى األرض‪ ،‬ولماذا ينجذب ماء البحر إلى القمر‬
‫أي شيء مرئي‬
‫أي جهاز يثبت هذا القانون‪ ،‬وليس هناك ُّ‬
‫فيحدث المدُّ والجزر‪ ،‬لكن ليس هناك ُّ‬
‫يجذبنا يمكن أن نراه ولو بأجهزة دقيقة‪ ،‬يكفي أننا الحظناه وفهمناه ونستطيع أن نستفيد منه‪ ،‬بل‬
‫ونبني اختراعات باالعتماد عليه‪ .‬كذلك من تأمل يف نظريات فيزياء الكم؛ لوجد فيها نظريات‬
‫فمثال اإللكرتون الواحد قد يوجد يف نفس الوقت يف عدة أماكن على شكل‬
‫صور‪ً ،‬‬
‫صعبة القبول والت ُّ‬
‫سيما‪ ،‬وقد يتحكم يف ماضيه‪ ،‬وعندما ينتقل يف الذرة من‬
‫موجات‪ ،‬لكن إذا تم رصده فإنه سيصبح ج ً‬
‫مسار إلى مسار فإنه ال ينتقل بالطريقة المعروفة‪ ،‬بل يختفي من مسار ويظهر يف مسار آخر‪ ،‬وال‬
‫تصورها إال أنها كانت األساس‬
‫يمكن تحديد أي حجم له‪ ،‬هذه النظريات برغم غرابتها وصعوبة ُّ‬
‫دائما أننا ال نصنع القوانين‬
‫لكثير من االختراعات المتعلقة بالضوء والكهرباء‪ .‬يجب أن نتذكر ً‬
‫الكونية‪ ،‬بل اهلل ‪ ‬هو من يصنعها‪ ،‬ثم هو ‪ ‬يعطينا التوفيق الكتشافها‪ ،‬وليس من الشرط أن‬
‫هم أن نعرف طريقة عمل المدخالت والمخرجات لهذا‬
‫تكون تفاصيل كل قانون مرئية لنا‪ ،‬بل الم ُّ‬
‫القانون‪ ،‬لذلك أقول‪ :‬إنه ال حرج أن تكون نظريات الطب األصيل وقواعده غير قابلة لالكتشاف‬
‫عبر األجهزة الحديثة‪ ،‬فكوهنا غير حسية ال يجعلها محل نقص وال معيبة‪ ،‬المه ُّم هو أن هذه‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القانون يف الطب البن سينا؛ الجزء األول؛ الفصل الثاين‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪148‬‬

‫القواعد والنظريات تنجح يف التجارب‪ ،‬وتعالج اإلنسان من أسقامه وأمراضه‪ ،‬ولهذا السبب فإن‬
‫ب الغربي ينكرها لعدم قدرته على رؤيتها‬
‫الطب األصيل يعمل هبا لثبوهتا بالتجربة لديه‪ ،‬والط ُّ‬
‫ضوا ما‪ ،‬ويقدم لها‬
‫ب الصيني‪ :‬إن الربت على نقطة ما يعالج ع ً‬
‫فمثال يقول الط ُّ‬
‫حسسها باألجهزة‪ً ،‬‬
‫وت ُّ‬
‫ريرا أن الطاقة تصل من تلك النُّقطة إلى العضو‪ ،‬وأنها مسدودة يف تلك النُّقطة‪ ،‬وتحتاج إلى ربت‬
‫تب ً‬
‫ب الغربي ال يجد أي رابط بين تلك النُّقطة وبين ذلك العضو فينكر‬
‫أو غرزة إبرة أو حجامة‪ ،‬والط ُّ‬
‫ب الصيني‪ ،‬ويدعي‬
‫هذه القاعدة‪ ،‬والنتيجة أن الطب الغربي يفشل يف عالجات ينجح فيها الط ُّ‬
‫هما ينبغي على المريض أن تكون‬
‫ب الغربي أن هذا من قبيل الوهم‪ ،‬والحقيقة أنه لكي يكون و ً‬
‫الط ُّ‬
‫عنده خلفية مسبقة بأن الربت على النُّقطة ستعالجه‪ ،‬وكذلك ينبغي أن يفيد الربت على أي نقطة يف‬
‫الجسم وليس فقط نقطة واحدة محددة‪ ،‬لكن هذه النقاط تعالج كل المرضى حتى الذين ليس‬
‫فال ال يدرك شي ًئا‪ ،‬أو كان حيوانًا غير‬
‫عندهم خلفية عن األمر‪ ،‬حتى لو كان فاقدً ا لوعيه‪ ،‬أو كان ط ً‬
‫عاقل‪ ،‬كذلك فإن النقاط ثابتة يف أماكن معينة لدى كل البشر‪ ،‬ولكل مرض أو عضو نقاط خاصة‪ ،‬ال‬
‫ب الصيني‪ :‬إن مشاعر الخوف تنحبس يف‬
‫يفيد الربت يف غيرها للعالج‪ .‬ومثال آخر‪ :‬يقول الط ُّ‬
‫ب الغربي هذا الكالم قائ ًال‪ :‬إنه ال نرى باألجهزة فر ًقا بين مكونات كلية الخائف‬
‫الكلى‪ ،‬فير ُّد الط ُّ‬
‫وغير الخائف‪ ،‬والنتيجة أن الطب الغربي غال ًبا ال يستطيع إصالح الكلى‪ ،‬بل يلجأ إلى تغييرها أو‬
‫ب الصيني يف إعادة الصحة إلى الكلية‪ ،‬وجعلها تعمل بشكل صحيح‪ .‬ليس‬
‫غسيلها‪ ،‬بينما ينجح الط ُّ‬
‫المه ُّم أن يكون موضوع الطاقة وانحباس المشاعر حقيقيا نح ُّسه بحواسنا الخمس‪ ،‬وال يه ُّم إن‬
‫صحيحا أم ال‪ ،‬فالمسميات شكلية وال تؤثر على‬
‫ً‬ ‫كانت التسمية بالطاقة أو االنحباس أو الطبع‬
‫وتصور عمل هذه األشياء‪ ،‬ألنه عند تجربتها أثبتت‬
‫ُّ‬ ‫األهم هو فهم‬
‫ُّ‬ ‫العمل أو على حقيقة الشيء‪،‬‬
‫صحتها‪ ،‬وجاءت بنتائج فعالة يف العالج‪ ،‬فالنتائج محسوسة‪ ،‬وال يضير أن يكون السبب غير‬
‫‪149‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫محسوس بالحواس الخمس‪ ،‬ولعل الطب الغربي يحتاج أن يسمع مقولة أحد الفيزيائيين‪« :‬لقد تم‬
‫الحصول على صورة معتدلة لهذا العالم بتكاليف باهظة‪ ،‬ولم يحدث هذا إال بعد أن انتزعنا أنفسنا‬
‫الصورة؛ وتراجعنا إلى موقع المراقبين»(‪ ،)1‬لذا على الطب الغربي أن يتسع صدره بإخراج‬
‫خارج ُّ‬
‫نفسه من األسلوب والدائرة التي يدور فيها‪ ،‬وأن يراقب ما يقوله غيره من المذاهب الطبية‪ ،‬وال‬
‫يحكم على نظريات الطب األصيل بنا ًء على قوانين الطب الغربي‪.‬‬

‫ب األصيل وال َف ْلسفة‪:‬‬


‫الط ُّ‬

‫ثال‬
‫ب األصيل بالفلسفة الطبية‪ ،‬وهو كالم نظري متعلق بالجسد واألمراض‪ ،‬فم ً‬
‫اشتهر الط ُّ‬
‫ب الصيني‪ :‬إن اشتعال النار يف الكبد يؤدي إلى اشتعالها يف القلب‪ ،‬كما يؤدي إلى ت ُّ‬
‫بخر‬ ‫يقول الط ُّ‬
‫الماء من الجسم وجفاف كثير من األعضاء‪ ،‬وال شك أننا ندرك أن هذا الكالم ال يمكن أن يكون‬
‫حقيقة‪ ،‬فال يمكن للنار التي نعرفها أن تشتعل حقيقة داخل عضو من أعضاء الجسم‪ ،‬وال يمكن‬
‫لسوائل الجسم أن تتبخر داخل الجسم‪ ،‬وسنجد مثل هذه الفلسفة يف كتب الطب اليوناين والهندي‪،‬‬
‫ولقد أعرض كثير من المعاصرين عن الطب األصيل بسبب هذه الفلسفة‪ ،‬إذ رأوا أن هذا هراء‬
‫وهرطقة ال يمكن أن تكون واق ًعا‪ .‬ويف الحقيقة فإن هذا الكالم يبدو هرا ًء وخراف ًة لمن لم يفهم‬
‫المراد منه‪ ،‬أما من استطاع أن يفهمه فإنه عرف أهنا محاوالت إلسقاط القوانين الكونية التي خلقها‬
‫اهلل يف عالمنا على جسم اإلنسان‪ ،‬وقد نجحت هذه المحاوالت بشكل باهر يف العالج عرب التاريخ‪،‬‬
‫والمعرضون عنه أخطأوا خطأين اثنين‪ ،‬الخطأ األول هو أنهم أخذوا هذا الكالم على ظاهره ولم‬
‫يسألوا ما هو المراد منه بالضبط؟ ما هي الترجمة بمصطلحات العلم الحديث لهذه الفلسفة؟‬
‫والخطأ الثاين هو أنهم لم يكلفوا أنفسهم النظر إلى أن التطبيقات الناتجة عن هذه الفلسفة والتنظير‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬إيرفين شرودنجر ‪-‬فيزيائي نمساوي‪ ،-‬من كتاب االحتماالت المثيرة للنظرية الكمية لمؤلفه ليونيد بونوماريف؛ صفحة ‪.203‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪150‬‬

‫كانت صائبة ومفيدة‪ ،‬ونجحت يف التجارب لعالج كثير من األمراض‪ ،‬فالمه ُّم هو التطبيق‬
‫والنتيجة‪ ،‬وأما الفلسفة فهي مجرد تنظير ومحاوالت إلسقاط القوانين الكونية والفيزيائية على‬
‫الجسم واألمراض‪ ،‬كذلك هي فهم لألسباب الملحوظة والتي ال تح ُّس مباشرة بالحواس الخمس‬
‫أو األجهزة‪ ،‬وإنما تدرك بالمالحظة والتفكير كما ذكرت ساب ًقا‪.‬‬

‫تصورية لل َف ْرق ب ْي َن الطب ال َغ ْربي والطب األصيل‪:‬‬


‫أمثلة ُّ‬

‫ثاال بسي ًطا لتبيين الفرق بين الطب األصيل والغربي‪ ،‬تخيل لو‬
‫يضرب خرباء الطب األصيل م ً‬
‫أن هناك قد ًرا على نار فيه ماء‪ ،‬فإن الماء بطبيعة الحال سيغلي‪ ،‬وإلنهاء الغليان فإن الطب األصيل‬
‫سيكتشف النار عن طريق نظرياته ثم سيقوم بإطفائها‪ ،‬وستختلف طريقة اإلطفاء حسب نوعية‬
‫ب الغربي فإن‬
‫النار‪ ،‬هل مصدرها غاز أم هي مشتعلة على خشب أو فحم أو غير ذلك؟ أما الط ُّ‬
‫أجهزته ونظرياته غير قادرة على رؤية هذه النار‪ ،‬ولذلك سيقومون بوضع قطع من الثلج يف الماء‬
‫ألنهم الحظوا يف أبحاثهم أن وضع قطعة من الثلج يف الماء المغلي يهدئ من الغليان‪ ،‬لكن هذا لن‬
‫قصيرا ثم سيعود الغليان‪ ،‬ولذلك طالما أنت على قيد الحياة والماء يغلي؛ فعليك أن‬
‫ً‬ ‫يدوم إال وق ًتا‬
‫تشرتي ثل ًجا من صيدلياهتم بانتظام؛ لتضعه على الماء المغلي إليقاف غليانه‪ ،‬وأثناء حياتك قد‬
‫تنطفئ النار النتهاء الغاز أو الخشب أو لوقوع الثلج عليها بالخطأ أو ألي سبب آخر؛ فيتوقف‬
‫الغليان؛ فيظنُّون ذلك من نتائج ثلجهم الذي باعوك إياه‪ ،‬ويعدُّ ونه من االحتماالت الناجحة للعالج‬
‫هبذا الثلج‪.‬‬

‫وقد ضربت م ً‬
‫ثاال آخر ألبين الفرق بين الطب األصيل والغربي‪ ،‬فقلت لو أن شخصين يف‬
‫مدينة رسول اهلل ﷺ يريدان العمرة‪ ،‬أحدهما فقير‪ ،‬وال يملك وسيلة نقل‪ ،‬وال يملك ً‬
‫ماال للنقل‪،‬‬
‫ولكنه يعرف الطريق إلى مكة‪ ،‬واآلخر ذا ثراء فاحش‪ ،‬وعنده سيارة فخمة حديثة‪ ،‬لكنه ال يعرف‬
‫هرا‬
‫الطريق إلى مكة‪ ،‬فإن الفقير العالم باالتجاه سيذهب إلى مكة مش ًيا ويعتمر ويعود‪ ،‬ربما يأخذ ش ً‬
‫ري الذي ال يعرف االتجاه‪ ،‬فقد يتجه شر ًقا حتى يصل إلى الخليج العربي‪،‬‬
‫من الوقت تقري ًبا‪ ،‬أما الث ُّ‬
‫‪151‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ويعمل أبحا ًثا ليعرف كيف يقطع الخليج‪ ،‬هل يذهب برا عن طريق العراق وإيران‪ ،‬أم يقطعه بح ًرا‬
‫عن طريق سفينة‪ ،‬ثم يتخذ القرار المناسب له ويمضي شر ًقا‪ ،‬حتى يقطع القارة بأكملها ويصل إلى‬
‫اليابان‪ ،‬ثم يعبر المحيط الهادي ويصل إلى غرب الكرة األرضية‪ ،‬وبعد شهر تقري ًبا يعود إلى‬
‫المدينة المنورة من غير أن يصل إلى مكة ويؤدي العمرة‪ ،‬ولو سألته ماذا رأى يف طريقه من تجارب‬
‫وأشياء مختلفة‪ ،‬وما هي األبحاث التي اضطر لعملها‪ ،‬فبإمكانه تأليف آالف المجلدات وتحضير‬
‫آالف الوثائق التي تحكي عما رآه يف رحلته من تضاريس وشعوب وحيوانات‪ ،‬ومختلف أشكال‬
‫الحياة‪ ،‬وتجارب وأبحاث مر هبا‪ ،‬وكلها قد تكون من العلم المفيد‪ ،‬لكن كل جهده لم يوصله‬
‫للنتيجة التي يريدها‪ ،‬وهي أداء العمرة‪ ،‬أما الفقير إذا سألته عما رأى‪ ،‬فسيقول‪ :‬ال شيء سوى جبال‬
‫وصحراء‪ ،‬لكنه وصل إلى هدفه واعتمر وعاد‪ ،‬ولو أن الفقير والغني تعاونا م ًعا؛ لوصال إلى مكة‬
‫وواضح من المثال أنني أقصد أن‬
‫ٌ‬ ‫واعتمرا‪ ،‬ثم عادا إلى المدينة المنورة يف نصف يوم أو أقل‪،‬‬
‫الشخص الفقير يمثل الطب األصيل‪ ،‬والشخص الغني يمثل الطب الغربي‪.‬‬

‫شخصا ال يعرف غير بعدين اثنين‪ ،‬ويريد أن يصلح مكع ًبا‪،‬‬


‫ً‬ ‫مثال آخر أبسط مما سبق‪ ،‬تخيل أن‬
‫فإنه لن يستطيع‪ ،‬ألن الذي يحصر نفسه يف عالم ثنائي األبعاد؛ ال يمكنه رؤية وفهم المكعب‪ ،‬وإنما‬
‫يحتاج أن يتعلم البعد الثالث حتى يفهم العالم الثالثي األبعاد ويصلح المكعب‪.‬‬

‫وكما أنني ضربت ً‬


‫مثاال هنا عن األبعاد الثالثة؛ فيمكننا أن نقول بأن هناك عدة أبعاد صحية‬
‫لعالج األمراض والوقاية منها‪ ،‬ومن تلك األبعاد ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬البعد الكيميائي‪ :‬وهذا ما يؤمن به جميع المذاهب الطبية‪ ،‬ومثال ذلك الماء الذي يحتوي‬
‫على الهيدورجين واألكسجين وبعض األمالح والمعادن الذائبة فيه‪.‬‬

‫‪ -2‬البعد الفيزيائي‪ :‬وهذا مما أهمله الطب الغربي‪ ،‬ومثال ذلك أن الماء الذي درجة حرارته‬
‫مرتفعة به طاقة عالية‪ ،‬وعكسه ماء بارد به طاقة منخفضة‪ ،‬فاالثنان بالرغم من أن الرتكيب الكيميائي‬
‫لهما مشرتك؛ إال أن تأثيرهما مختلف على الجسم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪152‬‬

‫‪ -3‬بعد الطاقة الحيوية‪ :‬وهذا ال يؤمن به الطب الغربي البتة‪ ،‬ومثال ذلك ماء مقروء عليه‬
‫قرآن‪ ،‬وعكسه ماء مقروء عليه طالسم سحرية‪ ،‬أو ماء مقدم للشرب مع نية أو مشاعر طيبة‪ ،‬وعكسه‬
‫ماء مقدم للشرب مع نية أو مشاعر سيئة‪ ،‬أو ما ٌء جار يف هنر‪ ،‬وعكسه ماء راكدٌ يف بركة‪ ،‬فهذه المياه‬
‫حتى ولو كان تركيبها الكيميائي واحدً ا ودرجة حرارهتا واحدةً؛ إال أن تأثير كل واحدة منها على‬
‫الجسم يختلف عن اآلخر‪.‬‬

‫وقد تكون هناك أبعا ٌد أخرى لم أميزها أو لم أعرفها‪ ،‬ولكن الطب األصيل ‪-‬بجميع مدارسه‪-‬‬
‫أدرك جميع األبعاد المتعلقة بالصحة‪ ،‬بينما تعمد الطب الغربي حصر نفسه يف البعد الكيميائي‬
‫فقط‪.‬‬

‫أما لو أردت أن أضرب ً‬


‫مثاال بين طبيب درس الطب الغربي وآخر درس الطب األصيل؛‬
‫فأقول هو مثل طالب درس المرحلة االبتدائية وآخر تخرج من الجامعة‪ ،‬فالذي يدرسه الطالب يف‬
‫المرحلة االبتدائية هي معلومات صحيحة‪ ،‬لكنها غير مكتملة‪ ،‬لكن الذي درس الجامعة فإنه يكون‬
‫عنده علم أوسع مما يدرس يف االبتدائية‪ ،‬وعندما يخربك أحدهم أن هناك أحد أطباء الطب الغربي‬
‫من أمهر األطباء وأكثرهم خربة فهو مثل القول أن هناك أشطر طالب يف االبتدائية‪ ،‬مهما بلغ ذكاء‬
‫نقص مراعا ًة لظروف‬
‫وشطارة هذا الطالب فإن علمه يبقى محدو ًدا‪ ،‬الفرق أن االبتدائية يكون فيها ٌ‬
‫الطالب العقلية أو العمرية‪ ،‬أما الطب الغربي فالكثيرون اختاروه ألهنم لم يعرفوا أي شيء عن‬
‫الطب األصيل أو كيف يصلوا إليه‪.‬‬

‫ب الغربي من القائمة الطويلة التي ال‬


‫وأذكر فيما يلي مثالين لمرضين عجز عن عالجهما الط ُّ‬
‫ب اليوناين بنجاح‪:‬‬
‫يمكن أن تنتهي‪ ،‬وعالجها الط ُّ‬

‫األرق‪:‬‬

‫ب الغربي عالج األرق يف عالج االكتئاب والقلق وتهدئة األعصاب‪ ،‬لكنني لم أجد‬
‫يرى الط ُّ‬
‫شخ ًصا تخلص من أرقه بشكل دائم هبذا العالج‪ ،‬بل إن بعضهم يقول له األطباء‪ :‬إنه ليست لديك‬
‫‪153‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫تعوده على السهر‪ ،‬ويربؤون‬


‫أية مشكلة طبية‪ ،‬ويتهمونه بالتفكير الكثير يف مشاكله‪ ،‬أو بسبب ُّ‬
‫أنفسهم من عالجه‪ ،‬والمريض الذي لم يذهب أرقه مع الطب الغربي؛ يقع يف ذهنه مباشرة أنه‬
‫الرقاة‬
‫مصاب بمرض روحي كون أن الطب الغربي لم يستطع عالجه‪ ،‬فيذهب إلى الراقي‪ ،‬و ُّ‬
‫أغلبهم يجهلون الطب األصيل‪ ،‬ولذلك فإنهم يرمون بالقبعة على الجن‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن الجن الذي‬
‫يجعلك ال تنام‪ ،‬وتنتهي هكذا التشخيصات من دون استئصال للمرض‪.‬‬

‫ب اليوناين فيعيد األرق إلى عدة أسباب‪ ،‬منها‪:‬‬


‫أما الط ُّ‬

‫• اليبوسة الزائدة‪ :‬ولقد ذكر اإلمام ابن القيم ‪ $‬أن اليبوسة من أسباب السهر «األرق»‪ ،‬والنوم‬
‫الرطوبة‪ ،‬فقال ‪ $‬يف أثناء كالمه عن األبخرة الخارجة من المعدة‪« :‬ولذلك كان النوم‬
‫سببه ُّ‬
‫رط ًبا‪ ،‬والسهر ياب ًسا»(‪ ،)1‬واليبوسة تسبب أشياء أخرى كثيرة مثل أمراض القولون وسوء الهضم‬
‫واإلمساك‪ .‬ويعالجون ذلك بما يزيل اليبوسة‪ ،‬ومما ذكره ابن القيم للعالج «دهن البنفسج»‪،‬‬
‫الصداع الحار‪ ،‬وينوم أصحاب السهر‪ ،‬ويرطب الدماغ‪ ،‬وينفع من الشقاق‬
‫فقال عنه‪« :‬ينفع من ُّ‬
‫وغلبة اليبس والجفاف‪ ،‬ويطلى به الجرب‪ ،‬والحكة اليابسة‪ ،‬فينفعها ويسهل حركة‬
‫المفاصل»(‪.)2‬‬
‫• زيادة طبع الحرارة‪ :‬وهذا يعالج بمنع المريض من تناول األغذية ذوي الطبع الحار‪ ،‬وإعطائه‬
‫أغذية وأعشاب تزيل ما زاد من طبع الحرارة‪ ،‬كذلك تستعمل الحجامة إلزالة الحرارة الزائدة‪.‬‬

‫• الدم‪ :‬يرى الط ُّ‬


‫ب اليوناين أن سالمة الدورة الدموية أساس مه ٌّم لصحة اإلنسان‪ ،‬كذلك من‬
‫المتطلبات المهمة للنوم السليم‪ ،‬وإذا كان هناك مشكلة يف وصول الدم إلى الدماغ وإلى سائر‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «هديه ﷺ يف عالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل يف ذكر شيء من األدوية واألغذية المفردة التي جاءت على‬
‫لسانه ﷺ مرتبة على حروف المعجم؛ حرف الدال‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪154‬‬

‫ثال إن كان السبب تض ُّي ًقا‬


‫الجسم؛ فإن هذا يسبب األرق ومشاكل أخرى‪ ،‬ويجب أن يعالج‪ ،‬فم ً‬
‫يف األوعية فيجب توسعتها‪ ،‬وإن كانت السموم ”‪ “toxin‬أو الدهون أو األمالح مرتسبة يف‬
‫األوعية فيجب إزالتها‪ ،‬وإن كان الدم غلي ًظا فيجب تسييله‪ ،‬وأما إن كان هناك نقص يف مادة‬
‫الدم‪ ،‬فيراجع نظام الهضم لدى المريض ويت ُّم إصالحه إن كانت به علة‪ ،‬كذلك ينظر إلى الكبد‬
‫إن كان به خلل أو ال‪ ،‬ثم يعطى ما يصنع الدم‪ .‬وإن كان زيادة أحد األخالط مؤث ًرا يف الدم؛‬
‫ب اليوناين مشكل ًة يف‬
‫فيعطى المريض ما يزيل به زيادة الخلط اآلخر‪ .‬ويالحظ أن ما يراه الط ُّ‬
‫الدم؛ فإن الطب الغربي قد ال يراه مشكلة‪ ،‬ومثل ذلك يف أشياء كثيرة‪.‬‬
‫• الوساوس واألفكار‪ :‬قد يكون األرق سببه األفكار والوساوس‪ ،‬وهذه لها أسباب عضوية‪،‬‬
‫فيعالجون السبب العضوي المؤدي لحصول الوساوس والقلق‪.‬‬
‫• خلل يف أعضاء أخرى‪ :‬قد يكون السبب خل ًال يف الدماغ ووظائفه‪ ،‬أو خل ًال يف أي عضو آخر‬
‫مثل البطن أو الرحم أو الكبد أو القلب وغير ذلك‪ ،‬وبطرق تشخيصهم يعرفون ما هو العضو‬
‫الذي حصل فيه الخلل فأدى إلى األرق‪ ،‬ويعالجون ذلك العضو‪ ،‬وهذا موافق لقول الرسول‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ﷺ عن الجسد‪« :‬إِ َذا ْاش َتكَى منْ ُه ُع ْضو تَدَ ا َعى َل ُه َسائ ُر ا ْل َج َسد بِ َّ‬
‫الس َهرِ َوا ْل ُح َّمى»(‪ ،)1‬والسهر هو‪:‬‬
‫األرق‪ ،‬والحديث يد ُّل على أنه قد ينتج بسبب مرض أي عضو يف الجسد‪.‬‬

‫وهذه التشخيصات والعالجات نتيجة لتجارب من آالف السنين أثبتت نجاحها مع البشر‪ ،‬وال‬
‫زالت تثبت ذلك إلى اآلن‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2586‬؛ كتاب الرب والصلة واآلداب؛ باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم؛ والحديث بكامله‪َ « :‬م َث ُل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المؤْ ِمنِين فِي تَواد ِهم وتَر ِ‬
‫احم ِه ْم َو َت َعا ُطف ِه ْم َم َث ُل ا ْل َج َسد‪ ،‬إِ َذا ْاش َتكَى منْ ُه ُع ْضو تَدَ ا َعى َل ُه َسائ ُر ا ْل َج َسد ِب َّ‬
‫الس َهرِ َوا ْل ُح َّمى»‪ .‬قال الفراهيدي‬ ‫َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫يف كتاب العين‪« :‬ويستعمل االشتكاء يف الموجدة والمرض‪ ،‬هو شاك = مريض»‪.‬‬
‫‪155‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ْ‬
‫القذف السريع‪:‬‬

‫ب الغربي يف عالج القذف السريع‪ ،‬والعالج الشائع عندهم دواءان‪ ،‬إما أن تضع على‬
‫فشل الط ُّ‬
‫العضو ما يخدره أو يجعل إحساسه ضعي ًفا‪ ،‬وذلك قبل كل مرة تريد فيها الجماع‪ ،‬وإما أن تتناول‬
‫تأخيرا‬
‫ً‬ ‫مضادات االكتئاب؛ ألنهم خالل تجارهبم على هذه المضادات اكتشفوا مصادف ًة أنها تسبب‬
‫يف عملية القذف‪ ،‬وعليك أن تتناولها قبل كل مرة تريد الجماع‪ ،‬أما إن أردت من الطب الغربي‬
‫عالجا يزيل المشكلة برمتها فإلى اآلن ال يتوفر ذلك‪ ،‬وهناك حسب إحصائياهتم الكثير من الرجال‬
‫ب الغربي يف عالجهم كلهم‪ .‬وألن المريض‬
‫حول العالم يعانون من نفس المشكلة‪ ،‬وقد فشل الط ُّ‬
‫يفهم أنه مشكلته بال حل من وجهة الطب الغربي فإنه يذهب إلى الراقي‪ ،‬والراقي غال ًبا يعطيه جوا ًبا‬
‫جاه ًزا أن هذا سببه الجني العاشق‪.‬‬

‫ب اليوناين فله نظرة مختلفة كلية تعالج هبا هذه المشكلة‪ ،‬وتستأصلها من جذورها‪،‬‬
‫أما الط ُّ‬
‫ويعزون هذه المشكلة إلى عدة أسباب منها‪:‬‬

‫• ُّ‬
‫الرطوبة الزائدة‪ :‬ويعالج بتناول ما يزيلها‪.‬‬
‫• رقة الجلد‪ :‬مما يسبب اإلحساس السريع‪ ،‬وعالجه تناول ما يجعله غلي ًظا‪.‬‬
‫• وجود ماء فاسد يف الجلد‪ :‬ويعالج بإخراج الماء عن طريق المراهم أو الزيوت‪.‬‬
‫• وجود حرارة زائدة‪ :‬وذلك يف المثانة والمسالك البولية‪ ،‬ويعالج بتناول ما يزيل الحرارة الزائدة‪.‬‬
‫• وجود خلل يف الدماغ أو وظائفه‪ :‬فتعطى مقويات وعالجات إلصالح هذا الخلل‪.‬‬
‫• قلة الحيوانات المنوية‪ :‬ويعالج بأخذ ما يكثرها‪.‬‬

‫• سيولة المني‪ :‬وعالج ذلك ي ُّ‬


‫تم بأخذ ما يغلظه‪.‬‬

‫ب الغربي فإنها كلها مؤقتة‪ ،‬وهدفها فقط‬


‫كذلك لو انتبهت للمقويات الجنسية التي يقدمها الط ُّ‬
‫ب األصيل يتحدث عن تقوية دائمة‬
‫عودك عليها يفقدك الفائدة‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫القدرة الجنسية‪ ،‬وت ُّ‬
‫لجسدك كله شام ًال كل األجهزة‪ ،‬بما فيها الجهاز التناسلي‪ ،‬من دون أي آثار جانبية أو ضرر‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪156‬‬

‫السعال‬
‫ولو استرسلت يف ضرب األمثلة فلن أنتهي من شرح عالج األمراض الشائعة مثل ُّ‬
‫والسكر وغيرها‪ ،‬وال من شرح عالج األمراض المستعصية مثل السرطان ووباء الكبد‬
‫واإلمساك ُّ‬
‫ب الغربي إال تغييرها؛ لها عالجات يف‬
‫واإليدز وغيرها‪ ،‬بل حتى فشل األعضاء التي ال يملك الط ُّ‬
‫الطب األصيل تعيدها إلى صحتها السليمة وعملها الصحيح‪.‬‬

‫وقد ذكرت عالج المثالين السابقين من الطب اليوناين فقط لغرض االختصار‪ ،‬وإال فإن الطب‬
‫ليما لكال المرضين المذكورين يف المثالين‪.‬‬
‫خيصا مماث ًال‪ ،‬وعالجا ناج ًعا س ً‬
‫أيضا يعطي تش ً‬
‫الصيني ً‬

‫والحقيقة أن انحسار الطب األصيل؛ وتغطية شمسه بغربال الطب الغربي؛ يضاف إلى ما‬
‫خسره العالم بانحطاط المسلمين‪ .‬وصدمتنا يف الطب الغربي تهون أمام صدمتنا يف ثقافتنا‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فكم تربينا على أحاديث كثيرة كنا نظنُّها صحيحة‪ ،‬ولما كبرنا علمنا أنها ضعيفة أو‬
‫مورا على أنها من الدين‪ ،‬ثم بلغنا وعلمنا أنها من البدع أو العادات‬
‫موضوعة‪ ،‬وكم تعلمنا أ ً‬
‫المحلية‪ ،‬وكم آمنا ببعض األشياء على أنها من القطعيات‪ ،‬ثم نمونا ووجدنا أنها من الظنيات‬
‫واألمور االجتهادية التي ال إشكال يف الخالف فيها‪ .‬ومن علمنا نوقن أن اإلخالص والتقوى كانتا‬
‫حليتهم‪ ،‬وحب الخير واإلحسان صفتهم‪ ،‬ولكن لضعف علمهم بمصطلح الحديث‪ ،‬ولعدم‬
‫توسعهم يف العلوم الشرعية‪ ،‬عذروا فيما نقلوه لنا‪ ،‬لكنا ال نعذر يف تقليدهم اآلن بعد أن علمنا عن‬
‫ُّ‬
‫رسول اهلل ﷺ وصحابته ﭫ وسلفهم الطاهر أكثر مما علمه معلمونا رحمهم اهلل وغفر لهم‪،‬‬
‫وجزاهم عنا خير الجزاء‪ ،‬وأحسن إليهم‪ ،‬وأكرم منازلهم يف الجنان‪ ،‬وجمعنا هبم يف مستقر رحمته‪.‬‬

‫وإن كنا أخطأنا يف التلقي يف ثقافتنا الدينية‪ ،‬فمن باب أولى أن نكون أخطأنا يف التلقي يف العلوم‬
‫الدُّ نيوية‪ ،‬بل قد يكون الثاين نتيجة لألول‪ ،‬واهلل المستعان‪ .‬لكن كما يسر اهلل لنا إصالح ثقافتنا‬
‫التعصب للمذاهب‬
‫ُّ‬ ‫الدينية‪ ،‬فال بد من إصالح علومنا الدُّ نيوية على منهاج الدين القويم‪ ،‬وكما نبذنا‬
‫التعصب للمذاهب الطبية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الفقهية‪ ،‬فال بد من نبذ‬
‫‪157‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ثبوت قوانين الطب األصيل‪:‬‬

‫يكثر أن تسمع من منتسبي الطب الغربي القول بأن قوانين الطب األصيل لم تثبت‪ ،‬وير ُّد على‬
‫هذا القول بوجهين‪ً ،‬‬
‫أوال بسؤالهم‪ :‬وهل قمتم بأبحاث خاصة تبحثون فيها صحة قواعد وقوانين‬
‫مثال؟ إذا لم‬
‫الطب األصيل؟ هل سمعتم بأحد من المعاصرين قام بإجراء بحث عن الطبائع األربعة ً‬
‫تجروا أي أبحاث عليها فكيف تريدوهنا أن تثبت لديكم؟ الوجه الثاين أن أطباء وعلماء العرب‬
‫القدامى معروفون بأنهم ممن ساهموا يف وضع بعض أسس قوانين ونظام البحث الطبي التجريبي‬
‫المعمول به اآلن‪ ،‬وهم كانوا أئمة يف الطب اليوناين‪ ،‬وأثبتوا نجاح الطب اليوناين عبر تجارهبم‬
‫وأبحاثهم‪ ،‬وهذا ر ٌّد كاف على مقولتكم‪.‬‬

‫هل للمريض اختيار المذهب الذي يراه مناس ًبا؟‬

‫قد يقول قائل‪ :‬إن الطب الغربي عبارة عن مذهب طبي ناتج عن مدرسة مستقلة لها نظريات‬
‫الحق يف اختيار ما يراه مناس ًبا‪ ،‬فأقول‪ :‬إن كان االختالف بين الطب الغربي‬
‫ُّ‬ ‫مختلفة‪ ،‬وللمريض‬
‫واألصيل اختالف ت ُّنوع يؤدي إلى النتيجة المطلوبة؛ أال وهي استئصال المرض من جذوره من‬
‫دون إحداث أضرار أخرى‪ ،‬فال مانع من هذا القول‪ ،‬وال مانع من اعتبار الطب الغربي مذه ًبا طبيا‬
‫يتاح للجميع حرية اختياره‪ .‬أما إن كان الفرق هو اختالف تضاد بين االثنين‪ ،‬فال بد من إثبات‬
‫صحيحا‪ ،‬والمقارن بين الطب األصيل والطب الغربي‬
‫ً‬ ‫الصحيح‪ ،‬وإلغاء الخطأ أو تعديله ليصبح‬
‫بعد معرفته بكليهما؛ يجد أنه ال يمكن تسمية الفرق بينهما باختالف الت ُّنوع المؤدي إلى نفس‬
‫واألصح‬
‫ُّ‬ ‫النتيجة‪ ،‬بل إن الطب الغربي ينقصه الكثير مما لدى الطب األصيل للتشخيص والعالج‪،‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪158‬‬

‫هو االطالع على جميع المذاهب الطبية‪ ،‬ثم الوصول إلى طب شامل يجمع الصحيح من كل‬
‫مذهب(‪.)1‬‬

‫صاحب االكتشافات الحديثة؟‬


‫ُ‬ ‫هل الطب الغربي‬

‫قد يقول قائل‪ :‬إن الطب الغربي استطاع أن يكتشف الكثير من المكونات داخل الجسم‬
‫وخصائصها‪ ،‬وهذا من مزاياه وإنجازاته‪ ،‬فأقول‪ :‬إن اكتشاف هذه المكونات يعود فضله للعلم‬
‫الحديث وليس للطب الغربي‪ ،‬فمكونات الجسم وخصائصها ووظائفها عبارة عن قاعدة بيانات‪،‬‬
‫ب الغربي فهو برنامج للتعامل‬
‫طور الوسائل والتقنيات المتوفرة لديه‪ ،‬أما الط ُّ‬
‫يكتشفها اإلنسان مع ت ُّ‬
‫مع هذه البيانات‪ ،‬وكذلك جميع المذاهب الطبية األخرى تستفيد وتتعامل مع هذه المعلومات‪،‬‬
‫وتعترب كذلك مثل الربامج المعالجة للبيانات والمعلومات‪ ،‬ال شك أن هناك تعاون شديد بين‬
‫أيضا تعاون وتعامل من المذاهب‬
‫الطب الغربي وبين العلم الحديث وتقنياته‪ ،‬لكن كذلك هناك ً‬
‫األخرى مع هذه التقنيات والبيانات‪.‬‬

‫طبائع األدوية‪:‬‬

‫من أهم مبادئ الطب األصيل يف العالج أنك تعطيه الدواء المتوافق مع طبعه‪ ،‬وهذا ‪-‬كما‬
‫فمثال إذا كان شخص لديه زيادة يف طبع الحرارة‪ ،‬فال يمكن أن تعطيه‬
‫ب الغربي‪ً ،‬‬
‫قلت‪ -‬أهمله الط ُّ‬
‫أعشا ًبا تزيده حرارة يف الطبع‪ ،‬بل تبحث عن بدائل ألعشاب أخرى لها نفس التأثير‪ ،‬أو تخلطها مع‬
‫أشياء تذهب الحرارة المتولدة عنها‪ ،‬ونفس النظام يجب أن يطبق على األدوية الحديثة‪ ،‬وكمثال‬
‫صح إعطاؤه لمريض لديه‬
‫حار‪ ،‬وال ي ُّ‬
‫من أدوية الطب الغربي فإن دواء «البندول ‪ »Panadol‬طبعه ٌّ‬
‫راضا أخرى ستنتج بسبب زيادة طبع الحرارة‪،‬‬
‫زيادة يف طبع الحرارة‪ ،‬وإال فإن ذلك سيسبب له أع ً‬

‫________________‬
‫راحا حول كيفية تطبيقه يف فصل االجتهاد الطبي صفحة ‪.369‬‬
‫(‪ )1‬هذا ما أراه شخصيا‪ ،‬وقدمت اقت ً‬
‫‪159‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫الرطوبة‬
‫كذلك فإن محلول الجلوكوز المغذي طبعه رطب‪ ،‬ولو أعطي لمريض لديه زيادة يف طبع ُّ‬
‫أعراض أخرى جديدة‪ ،‬أي ال يمكن االكتفاء‬
‫ٌ‬ ‫فإن المحلول سيزيد من رطوبته‪ ،‬وينتج عن ذلك‬
‫بمعرفة المواد الفعالة يف األدوية الكيميائية وتأثيرها على المرض بعينه‪ ،‬بل ينبغي كذلك معرفة‬
‫طبائع هذه المواد الفعالة وتأثيرها على طبائع المريض‪.‬‬

‫العَلج بالغذاء‪:‬‬

‫ب األصيل لديه القدرة على العالج بالغذاء فقط‪ ،‬وينظر إلى األعشاب واألدوية أنها‬
‫الط ُّ‬
‫مسرعة للعالج يمكن االستغناء عنها إذا كانت الحالة ال يلزمها العجلة‪.‬‬

‫قصة انتشار الطب الغربي‪:‬‬

‫ليس العرب أو اآلسيو ُّيون هم الوحيدون الذين ينتقدون الطب الغربي‪ ،‬بل هناك كثيرون من‬
‫الغرب ينتقدونه كذلك‪ ،‬والعيب ليس يف النقد بذاته‪ ،‬إنما العيب أن يكون النقد خاط ًئا‪ ،‬أو أن يكون‬
‫صحيحا وال يتقبله المنتقد‪ ،‬من هؤالء الغربيين المنتقدين الطبيب األمريكي «بيرت جليدن»(‪،)1‬‬
‫ً‬ ‫النقد‬
‫وقد ألف كتا ًبا خاصا بذلك‪ ،‬سماه «امرباطورية الطب الغربي ليس لها مالبس»(‪)2‬؛ بمعنى تعرية أو‬
‫فضح امرباطورية الطب الغربي‪ ،‬ذكر يف مقدمته للكتاب تاريخ انتشار الطب الغربي يف أمريكا‪ ،‬أنقل‬
‫ما قاله باختصار‪«:‬يف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ كان وضع الطب يف أمريكا مختل ًفا‪،‬‬
‫كانت هناك مذاهب طبية أخرى موجودة بمستوى انتشار متواز مع الطب الغربي‪ ،‬وكان هناك‬
‫تنافس شديد بينها قد يصل أحيا ًنا إلى العنف‪ ،‬لكن برغم هذا التنافس الشديد؛ لم يكن ألي أحد‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬د‪ .‬بيرت جليدن ”‪ ،“Peter Glidden‬طبيب أمريكي‪ ،‬حاصل على بكالوريوس يف األحياء عام ‪1987‬م‪ ،‬وحصل على شهادة الطب‬
‫يف المداواة الطبيعية ”‪ “Naturopath‬عام ‪1991‬م‪.‬‬
‫(‪“The MD Emperor Has No Clothes” )2‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪160‬‬

‫تح ُّكم باآلخر‪ ،‬ولكن يف العقد الثاين من القرن العشرين حصل ُّ‬
‫تحول مسرحي يف موازين القوى يف‬
‫المجال الطبي وتغير ُّ‬
‫كل شيء‪ ،‬تم دعم شخص اسمه إبراهام فلكسنر(‪“Abraham Flexner” )1‬‬

‫من قبل معهد كارنيجي ”‪ “Carnegie Institute‬ليقوم برحلة يف كل أمريكا ويجمع فيها قائمة‬
‫المدارس التي تدرس الطب الغربي كذلك المستشفيات التي تعالج بالطب الغربي‪ ،‬استغرقت‬
‫‪“Flexner‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫رحلة إبراهام خمس سنين ليعود بعدها بالقائمة والتي عرفت بتقرير فلكسنر‬
‫”‪ ،Report‬على إثر ذلك قام معهد كارنيجي بالتربُّع بماليين الدُّ والرات للمدارس والمستشفيات‬
‫الموجودة على القائمة‪ ،‬تبعها بالتربُّع عدة مجموعات أخرى مثل مؤسسة روكفلر ‪“Rockefeller‬‬
‫”‪ ،Foundation‬هل يمكنك التخمين لماذا ُّ‬
‫كل هذا التربُّع؟ سببه أن كارنيجي وروكفلر قاموا‬
‫باستثمارات ثقيلة يف مجال أدوية الطب الغربي‪ ،‬وخالل عشر سنوات انقلب الوضع الطبي يف‬
‫ب‬
‫أمريكا‪ ،‬ففي عام ‪ 1920‬انتهت الحروب الموجودة بين جميع المذاهب الطبية‪ ،‬وتربع الط ُّ‬
‫الغربي على عرش القيادة يف المجال الطبي‪ .‬معظم األمريكيين يعتقدون خط ًأ أن الطب الغربي يف‬
‫كرسي القيادة بسبب أن عالجاته أفضل من غيره‪ ،‬وهذا بعيد عن الحقيقة‪ ،‬بل إن الطب الغربي‬
‫يرتأس المجال الطبي بسبب ال َّتحا ُلفات المالية التي تمت يف بداية القرن العشرين»(‪ ،)3‬وأقول‪ :‬هذه‬
‫قصة انتشار الطب الغربي يف أمريكا كما يحكيها الطبيب بيرت‪ ،‬وواضح أن التربُّعات المالية أدت‬
‫إلى جذب الشعب خاصة الفقراء إلى مدارس ومستشفيات الطب الغربي‪ ،‬فنمت وازدهرت هذه‬
‫المدارس والمستشفيات‪ ،‬وأفلست وأغلقت كثير من المدارس والمصحات التابعة للمذاهب‬
‫الطبية األخرى‪ ،‬أما قصة انتشار القيم والمعايير والشركات األمريكية يف العالم اإلسالمي وبقية‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬إبراهام فلكسنر «‪1959-1866‬م»‪ ،‬كان متخص ًصا يف الرتبية والتعليم‪ ،‬ينسب إليه دور كبير يف تطوير التعليم الطبي والدراسات العليا‬
‫يف الواليات المتحدة‪.‬‬
‫(‪ )2‬تقرير بحجم كتاب‪ ،‬كتبه إبراهام فلكسنر عن التعليم الطبي يف أمريكا وكندا‪ ،‬ونشر يف عام ‪ 1910‬تحت رعاية مؤسسة كارنيجي‪.‬‬
‫‪. The‬‬ ‫(‪MD Emperor has no clothes; Peter Glidden; pages 4-5 )3‬‬
‫‪161‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫الدُّ ول فهذه يعرفها ُّ‬


‫كل مسلم عاقل عارف بما يجري حوله‪ .‬ويقول الطبيب بيرت يف إحدى لقاءاته‪:‬‬
‫«األبحاث أثبتت أن ثالث سبب للوفيات يف أمريكا هو أدوية الطب الغربي‪ ،‬حيث يموت قرابة ‪15‬‬
‫ألف مريض شهريا‪ ،‬وال أحد من األطباء يحاكم على ذلك‪ ،‬والسبب يف ذلك أنه تمت سياقتنا خالل‬
‫المائة عام الماضية إلى المعتقد الخاطئ الذي فحواه أن الطبيب ‪-‬ممارس الطب الغربي‪ -‬مثل‬
‫الملك‪ ،‬ويعرف كل شيء عن كل شيء‪ ،‬وعليك حقا أن تصمت وتتبع نصائحه»‪ ،‬كما وصف‬
‫الطب األصيل بالطب ُّ‬
‫الشمولي ”‪ ،“Wholistic Medicine‬وقال عنه‪« :‬هو عبارة عن توجيه‬
‫نظام الجسد‪ ،‬ينظر إلى الجسم أنه مركب من أعضاء داخلية مرتبطة ببعضها‪ ،‬ويؤمن أن الجسم به‬
‫قدرة طبيعة داخلية لضبط وصيانة وإصالح نفسه‪ ،‬وعالجاته قائمة على هذا األساس»(‪.)1‬‬

‫الروح َّية‪:‬‬
‫أهم َّية الطب األصيل لألمراض ُّ‬

‫قد يستنكر بعض القراء إيرادي لفصل الطب األصيل يف هذا الكتاب المختص بالرقية‬
‫واألمراض الروحية‪ ،‬لكنني رأيت من الالزم فعل ذلك لعدة أسباب‪ ،‬منها‪:‬‬

‫بي سببه؛ فهو مرض روحي‬ ‫‪ -1‬حتى أبين بطالن القاعدة التي تقول‪ُّ « :‬‬
‫ب الغر ُّ‬
‫كل ما ال يعرف الط ُّ‬
‫أو غيبي»‪ ،‬فهذه القاعدة ليست صحيحة على اإلطالق‪ ،‬ولألسف فإن هذه القاعدة منتشرة بين‬
‫أغلب الناس بما فيهم أطباء الطب الغربي‪ ،‬ساعد يف نشرها بعض المعتقدات الخاطئة‪ ،‬مثل‬
‫اعتقادهم أن الطب الغربي أحاط بكل شيء عل ًما‪ ،‬وأن أجهزته قادرة على كشف كل شيء‪،‬‬
‫الروحية من علم الغيب المطلق الذي ال يعلمه إال اهلل؛ وال يستطيع أحد‬
‫ولظنهم أن األمراض ُّ‬
‫من البشر كشفها‪ ،‬وتابعهم يف هذا االعتقاد كذلك بعض أطباء الطب البديل‪ ،‬ممن ظن أن كل‬
‫خارجا عن فهمه وعلمه فهو غيب روحي‪ ،‬وهذه ك ُّلها ظنون وأوهام تلبسها الناس‪ ،‬فال‬
‫ً‬ ‫ما كان‬

‫________________‬
‫(‪.The MD Emperor has no clothes; Peter Glidden; page 22 )1‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪162‬‬

‫الروحية من علم الغيب المطلق‪ ،‬وال األجهزة الطبية تكشف كل مستور‬


‫األمراض ُّ‬
‫ومحجوب‪ ،‬وإنما تصور وتحلل ما صنعت له فقط‪ ،‬والكمال يف العلوم هلل وحده ال يمكن‬
‫ألحد من مخلوقاته أن يحوز ذلك‪ ،‬ويف األعراض وكيفيتها ووصفها وتصنيفها فإن الطب‬
‫كثيرا‪ ،‬باإلضافة إلى العمليات وعالج الحاالت الطارئة‪ ،‬أما يف معرفة األسباب‬
‫الغربي برع ً‬
‫الحقيقة الصحيحة فإن الطب األصيل متقد ٌم بمراحل عديدة وسنين كثيرة ال يعلمها إال اهلل‪،‬‬
‫ب الغربي‪ ،‬بينما يعلمها أصحاب مذاهب طبية أخرى‪.‬‬
‫لذا فإن هناك أسباب كثيرة يجهلها الط ُّ‬
‫وتأمل معي هذا المثال‪ ،‬لو أن سيار ًة صدمت بسبب عين عليها؛ فإنك حين تأخذها لمن‬
‫يصلح جسم السيارة؛ فإنه سيعيدها كما كانت عليه‪ ،‬وربما تتكرر لها حاالت االصطدام‬
‫قادرا على إعادهتا كما كانت‪ ،‬لكن‬
‫بسبب العين‪ ،‬وكل مرة تأخذها لمن يصلحها؛ فإنه سيكون ً‬
‫لو عجز مصلح السيارة على إصالح جسمها؛ فإن العيب فيه هو‪ ،‬إذ لم يعرف كيف يصلحها‪،‬‬
‫وليس بسبب العين‪ ،‬ولو أخذتها لغيره ممن يعرف فإنه سيصلحها رغم وجود العين‪ ،‬وهكذا‬
‫جسم اإلنسان؛ لذا‪ ،‬فغال ًبا إذا عجز الطب الغربي عن عالج مرض عضوي لمعيون؛ فإن هذا‬
‫يكون بسبب عجز الطب الغربي‪ ،‬وليس بسبب العين‪ ،‬ولو توجه نفس المريض إلى معالج‬
‫بالطب األصيل فإنه سيعالج المرض‪ .‬وقد تتسبب العين يف عودة المرض كما تسببت يف‬
‫تكرار االصطدام للسيارة؛ لكن المعالج بالطب األصيل لن يعجز عن عالج المرض مرة‬
‫أخرى‪ ،‬مثلما فعل مصلح السيارة الماهر‪.‬‬
‫الروحية» قد يكون ناش ًئا من‬
‫‪ -1‬وألنه كما سيتبين لنا يف الفصل القادم فإن مصطلح «األمراض ُّ‬
‫الطب األصيل‪.‬‬
‫‪ -2‬وكذلك فإن الطب األصيل يعالج جميع األمراض الروحية باستثناء السحر‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫تقوية المناعة التي يف الجسم تجاه هذه األمراض‪ ،‬وطرد كل ما هو غريب عليه‪ ،‬كما أنه يعيد‬
‫الجسم إلى وضعه الطبيعي وصحته بعد التغييرات والعلل التي أحدثتها األمراض الروحية‬
‫‪163‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫الروحية داخل‬
‫فيه‪ ،‬ورأيي الشخصي هو أن فهم الطب األصيل يؤدي إلى فهم عمل األمراض ُّ‬
‫الجسد‪.‬‬
‫زاجا‪ ،‬فإن هذا ينطبق على العين والحسد‬
‫‪ -3‬حيث إن الطب األصيل يقتضي أن لكل شيء م ً‬
‫والسحر والجن‪ ،‬ومعرفة مزاج كل مرض روحي مساعد كبير يف معرفة طرق عالجه‬
‫والتخ ُّلص منه‪.‬‬

‫الروحية‬
‫ولذا بفهمنا نحن للطب األصيل كذلك فإننا سنستطيع فهم كيفية عمل األمراض ُّ‬
‫وتأثيرها‪ ،‬وكذلك كيفية عالجها‪ ،‬ولذلك توجب علي إيراد هذا الفصل قبل البدء مع األمراض‬
‫الروحية‪.‬‬
‫ُّ‬

‫ب األصيل‪:‬‬
‫الرقية والط ُّ‬
‫ُّ‬

‫الرقية على المريض تؤذي الجن الذي فيه‪ ،‬كما أنها تخرج العيون من جسد اإلنسان‪،‬‬
‫ُّ‬
‫باإلضافة إلى ذلك فإنه من المالحظ أنها تساعد يف التخ ُّلص من أمراض عضوية ال عالقة لها بأي‬
‫أي مرض روحي؛ لكنه‬
‫ريضا ليس به ج ٌّن أو ُّ‬
‫مرض روحي‪ ،‬ولذلك من الطبيعي أن تجد شخ ًصا م ً‬

‫الرقية‪ ،‬وقد ذكرت ساب ًقا يف فصل ُّ‬


‫الرقية كيف كان معلو ًما لدى العرب عالج المسموم‬ ‫تعاىف مع ُّ‬
‫بسم العقرب‪ ،‬وكيف أن الرسول ﷺ رخص وأقر الرقية لعالج السموم والقروح‪ .‬وليس من الالزم‬
‫الرقية يد ُّل على وجود مرض روحي‪ ،‬بل قد يحدث بسبب‬
‫أن ظهور أعراض طبية أثناء أو بعد ُّ‬
‫الرقية يف الجسم‪.‬‬
‫التغيير اإليجابي الذي تحدثه ُّ‬

‫الرقاة يف المرضى‪،‬‬
‫راضا كثيرة ال تعدُّ وال تحصى يجدها ُّ‬
‫وكما ذكرت يف المثالين‪ ،‬فإن هناك أع ً‬
‫الروحية هي السبب‬
‫ب الغربي أي تفسير لهذه األعراض‪ ،‬فيظ ُّن الجميع أن األمراض ُّ‬
‫وال يجد الط ُّ‬
‫فسيرا علم ًيا منطق ًيا لهذه األعراض‪ ،‬كذلك‬
‫يف هذه األعراض‪ ،‬لكن من يقرأ يف الطب األصيل يجد ت ً‬
‫الروحية هي التي غيرت الطبائع‬
‫يجد العالج الصحيح المناسب‪ ،‬حتى وإن كانت األمراض ُّ‬
‫وأحدثت األعراض‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪164‬‬

‫وأنقل هنا بعض األعراض التي ذكرها ابن سينا‪ ،‬مقتطف ًة مختصرةً‪ ،‬ألبين بعض التوافق بينها‬
‫الروحية‪ ،‬فيقول ابن سينا عن أعراض‬
‫الرقاة المعاصرين بأعراض األمراض ُّ‬
‫وبين ما يعرفه بعض ُّ‬
‫زيادة األخالط‪:‬‬

‫«أما الدم إذا غلب فعالماته‪ :‬قد يحدث من غلبته ثقل في البدن‪ ،‬في أصل العينين خاصة‪،‬‬
‫والصدغين‪ ،‬وتمط وتثاؤب‪ ،‬وغشيان‪ ،‬ونعاس الزب‪ ،‬وتكدُّ ر الحواس‪ ،‬وبالدة في الفكر‪،‬‬
‫والرأس ُّ‬
‫وإعياء بال تعب سابق‪ ،‬وحالوة في الفم غير معهودة‪ ،‬وحمرة في اللسان‪ ،‬وربما ظهر في البدن‬
‫دماميل‪ ،‬وفي الفم بثور‪ ،‬ويعرض سيالن دم من المواضع السهلة االنصداع‪ ،‬كالمنخر والمقعدة‬
‫واللثة‪.‬‬

‫وترهل‪ ،‬ولين ملمس‪ ،‬وبرودةٌ‪ ،‬وكثرة الريق‬


‫فبياض زائد في اللون‪ُّ ،‬‬
‫وأما عالمات غلبة البلغم‪ٌ :‬‬
‫صوصا في الشيخوخة‪ ،‬وضعف الهضم‪ ،‬والجشاء‬
‫ً‬ ‫ولزوجته‪ ،‬وقلة العطش‪ ،‬إال أن يكون مال ًحا‪ ،‬وخ‬
‫الحامض‪ ،‬وبياض البول‪ ،‬وكثرة النوم‪ ،‬والكسل‪ ،‬واسترخاء األعصاب‪ ،‬والبالدة‪ ،‬واألحالم التي‬
‫طارا وبر ًدا برعدة‪.‬‬
‫لوجا وأم ً‬
‫وأهنارا وث ً‬
‫ً‬ ‫ياها‬
‫يرى فيها م ً‬

‫وأما عالمات غلبة الصفراء‪ :‬فصفرة اللون والعينين‪ ،‬ومرارة الفم‪ ،‬وخشونة اللسان‪ ،‬وجفافه‪،‬‬
‫ويبس المنخرين‪ ،‬واستلذاذ النسيم البارد‪ ،‬وشدة العطش‪ ،‬وسرعة النفس‪ ،‬وضعف شهوة الطعام‪،‬‬
‫والغثيان‪ ،‬والقيء الصفراوي األصفر واألخضر‪ ،‬وقشعريرة كغرز األبر‪ ،‬واألحالم التي يرى فيها‬
‫الصفر‪ ،‬ويرى األشياء التي ال صفرة لها مصفرة‪ ،‬ويرى التها ًبا‪ ،‬وحرارة حمام أو‬
‫النيران‪ ،‬والرايات ُّ‬
‫شمس وما يشبه ذلك‪.‬‬

‫وأما عالمات غلبة السوداء‪ :‬فقحل اللون وكمودته‪ ،‬وسواد الدم وغلظه‪ ،‬وزيادة الوسواس‬
‫والفكر‪ ،‬واحتراق فم المعدة‪ ،‬والشهوة الكاذبة‪ ،‬وبول كمد وأسود‪ ،‬وكون البدن أسود أزب‪ ،‬وكثرة‬
‫‪165‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫حدوث البهق األسود‪ ،‬والقروح الرديئة‪ ،‬واألحالم الهائلة من ال ُّظلم والهوات واألشياء ُّ‬
‫السود‬
‫والمخاوف‪.)1(».‬‬

‫كثيرا من األعراض السابقة يصاب هبا كثيرون‪ ،‬ثم يذهبون إلى أطباء الطب الغربي‬
‫فنرى ً‬
‫للتشخيص والشكاية‪ ،‬فإن عجز أطباء الطب الغربي عن معرفة السبب(‪)2‬؛ أصبح االتهام موج ًها‬
‫الروحية‪ ،‬بينما لو قرأ الواحد يف الكتب العربية للطب األصيل‪ ،‬والتي ألف بعضها قبل‬
‫لألمراض ُّ‬
‫قرابة األلف عام؛ أو ذهب إلى مستشفى يعالج بالطب الصيني أو اليوناين أو غيره من مذاهب‬
‫الطب األصيل‪ ،‬لوجد أن الطب األصيل عنده علم كامل بتشخيص وعالج هذه األعراض‪،‬‬
‫والحقيقة أنه ما من عرض إال ولدى الطب األصيل دواؤه‪ ،‬وما من مرض قديم أو حديث أو‬
‫مستحدث إال ولدى الطب األصيل عالجه‪.‬‬

‫الروحية ال تسبب األعراض المذكورة أو غيرها‪ ،‬بل أؤيد كالم الطب‬


‫وال أقول‪ :‬إن األمراض ُّ‬
‫الروحية هي َأ َحد أسباب تغ ُّير الطبائع واألخالط‪ ،‬وهذا يؤدي إلى‬
‫األصيل‪ ،‬وهو أن األمراض ُّ‬
‫األعراض التي نتجت عن هذا التغ ُّير‪ ،‬وعكس ذلك يعني أنه ال يلزم أن كل األعراض سببها‬
‫الروحية‪.‬‬
‫األمراض ُّ‬

‫ثقال يف‬
‫أشخاصا يعانون ً‬
‫ً‬ ‫وإذا نظرنا يف أمثلة أعراض الخلط الزائد التي ذكرها ابن سينا‪ ،‬سنجد‬
‫حركة البدن‪ ،‬ويذهبون للطب الحديث فال يجد سب ًبا‪ ،‬فيوقنون أنها عين أو سحر صعبت عليهم‬
‫ب الغربي أسباهبا‪ ،‬فيوقن أن‬
‫الحركة وال شيء غير ذلك‪ ،‬أما من به مشاكل يف بطنه ولم يعرف الط ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القانون يف الطب البن سينا؛ الجزء األول؛ الفصل السابع؛ عالمات غلبة الخلط‪.‬‬
‫(‪ )2‬أحيانًا يقولون للمريض‪ُّ :‬‬
‫كل شيء عندك سليم‪ ،‬ال نعرف لماذا يحصل لك هذا؟‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪166‬‬

‫ب األصيل قد يشرح عدة أسباب أخرى غير‬


‫سببها عين أو سحر مأكول ال غير ذلك‪ ،‬بينما الط ُّ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫شارا وهي‬
‫الروحية انت ً‬
‫وأرى أن ما يحصل يف الواقع المعاصر أن الناس تصاب بأكثر األمراض ُّ‬
‫العين‪ ،‬فيتغير لديها الطبع والخلط؛ وتظهر األعراض المرضية لذلك‪ ،‬فتسرتقي وتتخلص من‬
‫األعراض‪ ،‬ثم بسبب آخر مثل الغذاء أو الجو يتغير الطبع والخلط مرة أخرى‪ ،‬فإنها تظ ُّن مرة أخرى‬
‫أن سبب التغ ُّير هو العين مرة أخرى‪ ،‬لكن االسترقاء قد ال يفيد معها هذه المرة مثلما أفاد يف المرة‬
‫األولى‪ ،‬إذ ال بد من عالج بالغذاء واألعشاب‪ ،‬وبسبب جهلها بالطب األصيل؛ فإنها تدور بين‬
‫الرقاة من دون أن تنتهي أعراضها ومشاكلها‪ ،‬وتظ ُّن أن سبب شفائها األول قوة الراقي‪ ،‬وسبب‬
‫ُّ‬
‫فشله يف الثانية تغ ُّيره وضعفه‪.‬‬
‫الطب األصيل واألطباء الم ِ‬
‫سلمون اليوم‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬

‫العالمون بالطب األصيل من أطباء المسلمين اليوم نسبتهم قليلة جدا ال تكاد تذكر‪ ،‬وبقية‬
‫أطباء المسلمين ال يعرفون سوى العالج والتداوي بالطب الغربي‪ ،‬ويف الحقيقة فإن المالم ال يقع‬
‫عليهم‪ ،‬ألن الموجودين اليوم مثلي ومثل الجميع؛ ولدنا وترعرعنا يف وقت قضي فيه إلى بني‬
‫إسرائيل باإلفساد والعلو يف األرض‪ ،‬وذلك بسبب ذنوبنا وابتعادنا عن ديننا‪ ،‬فأقنعتنا بنو إسرائيل أن‬
‫طورات مرهونة بتجارهبم‪ ،‬ولكي نصعد ونرتقي إلى‬
‫مفاتيح العلم موجودة لديهم‪ ،‬وأن آخر الت ُّ‬
‫طور؛ فإنه يجب علينا أن ننزل معهم إلى أسفل؛ لندخل كل جحر ضب‬
‫أعلى سلم المعرفة والت ُّ‬
‫دخلوه‪ ،‬وال أدري كيف يكون النُّزول طري ًقا للعلو؟ فتركنا جميع األقوام واتبعناهم‪ ،‬ألن المغلوب‬
‫يتبع الغالب‪ ،‬ومضت السنوات بنا على هذا الحال‪ ،‬فنحن ال نتعلم إال من كتب علمائهم‪ ،‬ومناهجنا‬
‫الدراسية من االبتدائية إلى الجامعة من أفكارهم‪ ،‬فكيف سنعرف عن طب آخر وعلوم أخرى إذا‬
‫لم نخرج أنفسنا عن دائرهتم؟ نظرنا إليهم بعين الكمال‪ ،‬ونظرنا إلى ماضينا بعين الجهال‪.‬‬
‫‪167‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫وديننا ال يمنعنا من األخذ من غيرنا‪ ،‬بل يمنعنا أن نأخذ كل شيء على عواهنه بال تدقيق وال‬
‫تمحيص‪ ،‬فنصبح كحاطبي ليل‪ ،‬نظ ُّن كل ما أخذناه حط ًبا صال ًحا‪ ،‬بينما اختلط علينا حسنه مع‬
‫سيئه‪ ،‬والواجب يف العلوم األخذ من الجميع بال تح ُّيز‪ ،‬ثم تصفية ما نأخذه بأنفسنا‪ ،‬والتح ُّقق من‬
‫ذلك بتجاربنا‪ ،‬ال أن نكون فقط مستهلكين نفتح أفواهنا‪ ،‬وغيرنا منتجون يطعموننا ما يريدون‪،‬‬
‫وفوق ذلك يأخذون عليه مالنا‪.‬‬

‫إنما المالم يقع على كل من علم الحقائق وتجاهلها‪ ،‬ومن نبه فعاند واستكرب‪ ،‬ومن نوصح‬
‫للرجوع إلى الطب األصيل والتع ُّلم منه‪ ،‬ولتحرير‬
‫فأبى وتكبر‪ ،‬فهذه دعوة لكل أطباء المسلمين‪ُّ ،‬‬
‫أنفسهم من قيود الطب الغربي‪.‬‬

‫ب األصيل‪:‬‬ ‫الصفات َّ‬


‫الشخص َّية والط ُّ‬

‫ب األصيل على أن الطبائع مسؤولة عن كثير من الصفات الجسدية والخلقية لدى‬


‫ص الط ُّ‬
‫ين ُّ‬
‫فمثال‬
‫ً‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وكلما تغيرت هذه الطبائع؛ كلما تغيرت صفات اإلنسان الجسدية والشخصية‪،‬‬
‫طبع الحرارة يجعل الشخص نشي ًطا ذك ًيا‪ ،‬وسريع الغضب وحاز ًما يف القرارات‪ ،‬بعكس البرودة‬
‫ً‬
‫كسوال غير محب للحركة‪ ،‬وال محبا التخاذ القرارات‪ ،‬وعنده ال مباالة عامة‪ ،‬أما‬ ‫فإنها تجعله‬
‫اليبوسة فتجعله مجاد ًال دقي ًقا محبا للتفاصيل‪ ،‬والرطوبة تجعله مرنا سهال ومتسامحا مع الجميع‪،‬‬
‫وليست الصفات الموجودة هنا هي حصرية‪ ،‬بل إن هناك صفات أخرى ال تعدُّ وال تحصى لكل‬
‫طبع‪ ،‬وهذه الصفات مذكورة يف كتب الطب األصيل‪ ،‬ولو بحثت يف الشبكة العنكبوتية عن األمزجة‬
‫”‪ “The Four Temperaments‬فإنك ستجد الصفحات التي تتكلم عن صفات أصحاب‬
‫األمزجة طب ًقا للطب اليوناين القديم‪ ،‬وستجد أن التعامل مع األمزجة انحصر لألسف الشديد يف‬
‫تحديد شخصية الناس وسلوكياهتم‪ ،‬وأهمل الجانب العالجي لهم عن طريق تحديد أمزجتهم‪،‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪168‬‬

‫صرا شديدً ا لما وجد ُّته على أحد المواقع(‪ ،)1‬ولو بحثت ستجد مواقع كثيرة‬
‫وأسرد فيما يلي مخت ً‬
‫تسهب يف ذلك‪:‬‬

‫جاف‪:-‬‬ ‫حار‬ ‫ِ‬


‫ٌّ‬ ‫الصفراوي ”‪ٌّ – “Choleric‬‬
‫المزاج َّ‬

‫أشخاص يفكرون بسرعة‪ ،‬نشيطون‪ ،‬عزيمتهم عالية‪ ،‬يتضايقون بسهولة‪ ،‬يثقون بأنفسهم‪،‬‬
‫ب للمثالية‪ ،‬أفكارهم‬
‫كذلك يعتمدون على أنفسهم‪ ،‬حازمون يف قراراهتم‪ ،‬خيال واسع وح ٌّ‬
‫ومخططاهتم وأهدافهم ال تنقطع‪ ،‬وك ُّلها غال ًبا تكون عملية قابلة للتطبيق‪ ،‬نومهم ُّ‬
‫أقل من غيرهم؛‬
‫للضغوط بسهولة‪ ،‬يضحي من أجل مبادئه‪ ،‬سريعو‬
‫لذا نشاطهم يبدو أكثر من غيرهم‪ ،‬ال يستسلمون ُّ‬
‫الغضب‪ ،‬شديدون يف الرد على الغير‪ ،‬قياديون ويح ُّبون التح ُّكم والتحدي‪.‬‬

‫حار َر ْطب‪:-‬‬ ‫ِ‬


‫المزاج الدَّ َموي ”‪ٌّ – “Sanguine‬‬

‫أشخاص اجتماع ُّيون‪ ،‬تسهل صداقتهم‪ ،‬يح ُّبون المرح‪ ،‬نشيطون‪ ،‬مندفعون‪ ،‬يح ُّبون االستمتاع‬
‫والتسلية‪ ،‬مزاج ُّيون قد يغيرون رغبتهم يف أي شيء يف لحظات‪ ،‬إذا أح ُّبو شي ًئا أح ُّبوه بقوة‪ ،‬وإذا‬
‫أيضا بقوة‪ ،‬يتقبلون اآلخرين بسهولة‪ ،‬كثيرو االبتسام والحديث‪ ،‬ال يشعرون‬
‫كرهوه فإنهم يكرهونه ً‬
‫أيضا بسرعة‪ ،‬يح ُّبون التنافس‪،‬‬
‫بمرور الوقت‪ ،‬وقد يتأخرون عن مواعيدهم‪ ،‬ويصيبهم الملل ً‬
‫عاطف ُّيون وال يستطيعون التح ُّكم يف مشاعرهم‪ ،‬يح ُّبون األنشطة االجتماعية‪ ،‬يجرحهم النقد أو‬
‫الرفض‪ ،‬ويخافون أن يظهر فشلهم أمام الناس‪ ،‬ناجحون يف التشجيع والتنسيق‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ ،/https://fourtemperaments.com/4-primary-temperaments )1‬وهذا التصنيف طب ًقا للطب اليوناين القديم‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫ِ‬
‫المزاج ال َب ْلغمي ”‪ِ – “Phlegmatic‬‬
‫بارد َر ْطب‪:-‬‬

‫أشخاص انطوائ ُّيون‪ ،‬هادئون‪ ،‬غير عاطفيين‪ ،‬متمهلون‪ ،‬ال يقلقون وال ينزعجون‪ ،‬بطيئون‪،‬‬
‫ردودهم غير مباشرة‪ ،‬يستوعبون األمور‪ ،‬ال يم ُّلون‪ ،‬يح ُّبون الرتابة‪ ،‬ال يصيبهم قلق وال تؤثر فيهم‬
‫الضغوط‪ ،‬يحاولون الهروب من الناس بشكل عام‪ ،‬قليلو البذل مع اآلخرين‪ ،‬لكنهم شديدو الوفاء‬
‫ُّ‬
‫ألصدقائهم‪ ،‬ويصعب عليهم قطع العالقات مهما فعل األصدقاء معهم‪ ،‬ال يقبلون التغيير بال‬
‫سبب‪ ،‬ويفضلون عدم حصول تغيير يف حياهتم‪ ،‬يتحاشون اتخاذ القرارات‪ ،‬عمل ُّيون وواقع ُّيون‪،‬‬
‫صرفاهتم غال ًبا تخفي شعورهم الحقيقي‪ ،‬صبورون‬
‫وتقليد ُّيون يف تفكيرهم‪ ،‬تعابير وجوههم وت ُّ‬
‫دائما يح ُّبون اختيار الطريق األسهل‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬وجيدون يف التبعية‪ ،‬لكن ً‬

‫جاف‪:-‬‬ ‫السوداوي ”‪ِ – “Melancholic‬‬


‫بارد‬ ‫ِ‬
‫ٌّ‬ ‫المزاج َّ‬

‫انطوائ ُّيون‪ ،‬منطق ُّيون‪ ،‬محللون ومدققون‪ ،‬واقع ُّيون‪ ،‬بطيئون يف ردة الفعل‪ ،‬تعاملهم غير مباشر‬
‫مع اآلخر‪ ،‬متحفظون ومتشككون حتى يتأكدوا من نوايا اآلخر‪ ،‬يبحثون عن المعاين المخفية يف‬
‫ضحون ألنفسهم‪ ،‬يزعمون ألنفسهم المثالية والكمال‪ ،‬حساسون جدا لما‬
‫كالمك‪ ،‬مرتددون‪ ،‬ي ُّ‬
‫يعتقده اآلخرون فيهم‪ ،‬مرتبون جدا؛ وإذا حصلت عندهم فوضى فإنهم يعرفون بدقة أين وضعوا‬
‫السؤال عدة مرات‪ ،‬يحتاجون‬
‫األشياء‪ ،‬قراراهتم جيدة جدا‪ ،‬يسألون أسئلة تفصيلية‪ ،‬وقد يكررون ُّ‬
‫سب ًبا واض ًحا منطقيا إذا طلب منهم عمل شيء‪ ،‬يخافون من المغامرات واتخاذ القرارات الخاطئة‪،‬‬
‫يحتاجون لمعلومات دقيقة ووقت كاف للتخطيط‪ ،‬لديهم سوء ظن بأي أمر أو شخص جديد حتى‬
‫يتعودوا عليه‪ ،‬مبدعون يف عملهم واكتشافاهتم‪ ،‬ممتازون يف أعمال التحليل وجمع المعلومات‬
‫وكتابة التقارير وحل المشاكل‪.‬‬

‫فيما سبق ملخص بسيط للصفات الخلقية الناتجة عن الطبائع يف الطب اليوناين‪ ،‬ولم أذكر‬
‫مثال أن صاحب المزاج السوداوي مهما يأكل فإنه غال ًبا ال‬
‫الصفات الجسدية لالختصار‪ ،‬وأذكر ً‬
‫واألهم منها هي‬
‫ُّ‬ ‫يسمن‪ ،‬والصفراوي يميل إلى الجمال والوسامة أكثر من غيره‪ ،‬وغيرها كثير‪،‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪170‬‬

‫الصفات المرضية‪ ،‬ما هي األمراض التي تجتاح كل مزاج؟ وما هي عالجاهتا؟ وكيف تعيد‬
‫المريض إلى مزاجه األساسي؟ أسئلة ال بد من اإلجابة عليها قبل عالج أي شخص مريض‪.‬‬

‫مذاهب أخرى‪:‬‬

‫من العالجات القديمة المنتشرة علم تقويم العظام وإعادهتا إلى أماكنها بال عمليات‬
‫”‪ “Bone Setting‬أو ”‪ “Chiropractic‬أو ”‪ ،“Osteopathy‬وكذلك عالج فتق الرأس‪،‬‬
‫كذلك التدليك بشتى أنواعه‪ ،‬وهذه ك ُّلها تدخل يف الطب األصيل كأساليب عالجية‪.‬‬

‫ب الهالة والطاقة‪ ،‬والذي من الممكن أن نعتبره جز ًءا من الطب األصيل؛ حيث‬


‫أيضا ط ُّ‬
‫هناك ً‬
‫كان منتش ًرا يف السابق يف بعض مناطق العالم‪ ،‬ويمكن ربطه بغيره من أنواع الطب‪ ،‬كما أن له أجهزة‬
‫الرجوع إلى مصادره‪ ،‬وقد حرمه‬
‫حديثة تقوم بالقياس عن طريقه‪ ،‬ولمزيد من التفاصيل يرجى ُّ‬
‫بعض العلماء ألسباب ذكرهتا يف الفصل السابق‪ ،‬وأكرر أنني أرى أن الواجب تصفية جميع العلوم‬
‫من الشركيات والمحرمات ثم اختبارها وتجربتها وإبقاء ما يثبت منها‪ ،‬لكن بالتأكيد فإن التجارب‬
‫ال يمكن عملها بمعايير الطب الغربي‪ ،‬بل بنظام أوسع وأشمل من ذلك‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫زعم البعض أن هذه المذاهب الطبية محرمة ألنها جاءت من أصول ذات عقيدة فاسدة‪،‬‬
‫الشبهة أورد ُّته يف الفصل السابق «تحريم ما أحل اهلل» فارجع إليه ‪-‬بارك اهلل‬
‫والجواب على هذه ُّ‬
‫فيك‪.-‬‬

‫ب البديل‪:‬‬
‫ب األصيل والط ُّ‬
‫الط ُّ‬

‫كما ذكرت فإن الطب األصيل عل ٌم شام ٌل كبير‪ ،‬يدرسه طالبه يف الجامعات يف أربع أو سبع‬
‫كثيرا ممن لم يعرف عنه من المعالجين واألطباء‪ ،‬رأوا غالء أدوية الطب الغربي‬
‫سنين‪ ،‬لكن ً‬
‫وفشلها يف العالجات‪ ،‬فلجأوا إلى ما يسمى بالطب البديل‪ ،‬وهو استخدام لبعض أدوات الطب‬
‫‪171‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫خصص يف الحجامة‪ ،‬وبعضهم‬


‫األصيل العالجية من دون دراسة قوانينه وأسسه‪ ،‬فبعضهم انفرد بالت ُّ‬
‫درس شي ًئا عن اإلبر الصينية‪ ،‬فأخذ األداة‪ ،‬ولم يأخذ قواعدها األساسية‪ ،‬وكثيرون لجأوا إلى‬
‫األعشاب بال قواعد الطب األصيل‪ ،‬وبال معرفة بأصول الطبائع والمقادير؛ وهؤالء ليس بينهم‬
‫أي فرق إال أن هؤالء يعطونك الدواء عش ًبا وأولئك منت ًجا كيميائيا‪ ،‬وبعضهم‬
‫وبين الطب الغربي ُّ‬
‫تعلم التدليك فحسب‪ ،‬وبعضهم تعلم شي ًئا عن تقويم العظام‪ ،‬وبعضهم قرأ بضع كلمات عن الطب‬
‫األصيل من دون أن يفهمها؛ ألنه لم يجد يف بيئته معل ًما يفهمه إياها‪ ،‬وبعضهم لجأ للعالج‬
‫بالكهرباء‪ ،‬وبعضهم يعالج عن طريق صناعة األوزون وخلطه يف الدم‪ ،‬وبعضهم يأخذ أي جهاز‬
‫أعلن عنه يف الدعايات التجارية فيتعالج ويعالج به‪ ،‬وترى من فرتة ألخرى دورات قصيرة عن فوائد‬
‫هذا وذاك يف العالج‪ ،‬وأثر هذاك وذلك على األمراض‪ ،‬وك ُّله بعيدٌ عن نظام الطب األصيل‪ ،‬فهؤالء‬
‫يمكن تسميتهم بالطب البديل‪ ،‬فهم خرجوا عن قوانين الطب الغربي‪ ،‬ولم يصلوا إلى قوانين الطب‬
‫األصيل‪ ،‬فأنبههم لكي يتجهوا إلى دراسة الطب األصيل إن أرادوا عالج الناس بطريقة صحيحة‪،‬‬
‫خاصة أصول هذا الطب العظيم‪ ،‬ثم ليستخدموا الفروع وال ُّطرق التي يفضلوهنا بنا ًء على أسس‬
‫صح الخلط بين الطب البديل وبين الطب األصيل‪.‬‬
‫وقوانين الطب األصيل‪ ،‬وكذلك أنبه أنه ال ي ُّ‬

‫ب األصيل واآلثار الجانبية‪:‬‬


‫الط ُّ‬

‫يظ ُّن البعض أن استخدام األعشاب؛ أو األدوية غير الكيميائية؛ ليس له أضرار أو آثار جانبية‪،‬‬
‫وهذا يف الواقع ظ ٌّن غير صحيح‪ ،‬والحقيقة أن كل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده‪ ،‬حتى لو‬
‫كان مجرد غذاء عادي‪ ،‬ولو ماء شرب‪ ،‬لكن إذا عرف الحدُّ ولم يتجاوز‪ ،‬بقي االستعمال يف دائرة‬
‫ب األصيل يضبط هذه الحدود لجميع األدوات العالجية ولجميع أنواع الغذاء‪ ،‬وهذا‬
‫األمان‪ ،‬والط ُّ‬
‫الضبط بإتقان قد يعجز عنه غير الطب األصيل‪ ،‬وذلك لعدم معرفة الغير بالحدود الصحيحة‬
‫والقوانين الحقيقية لألشياء‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪172‬‬

‫ِ‬
‫ال ُفقهاء المعاصرون والط ُّ‬
‫ب األصيل‪:‬‬

‫إن اهلل ‪ ‬لما خلق الدواء لم يحصره يف مذهب طبي معين‪ ،‬وال جاء اإلسالم بنصرة مذهب‬
‫طبي على آخر‪ ،‬بل ترك األمر لالجتهاد البشري‪ .‬لكن لألسف الشديد؛ كان لغلبة مذهب الطب‬
‫كبير يف حصر الفتاوى الطبية على ما يقف عليه‬
‫دور ٌ‬‫الغربي وانتشاره يف السنين القريبة الماضية؛ ٌ‬
‫هذا المذهب دون غيره‪ ،‬واتخاذ الطب الغربي ومدرسته كمعيار للفتاوى واألحكام الشرعية يف‬
‫صح البتة‪ ،‬بل واجب الفقهاء‬
‫المسائل الطبية‪ ،‬ورفض ما سواه من مذاهب طبية أخرى‪ ،‬وهذا ال ي ُّ‬
‫عند إصدار الفتاوى أن يستمعوا لجميع األطباء المسلمين العدول من جميع المذاهب الطبية‪ ،‬ثم‬
‫يصدروا أحكامهم‪ .‬ولهذا أحببت تنبيه الفقهاء وفقهم اهلل لما يح ُّبه ويرضاه‪ ،‬وزاد يف علمهم‬
‫وفقههم‪.‬‬

‫كذلك ينبغي على الفقهاء والعلماء ُّ‬


‫حث المسلمين على االستقالل بأنفسهم يف جميع األمور‪،‬‬
‫بما يف ذلك دوائر الصحة وما يتعلق هبا‪ ،‬وأن يتبعوا ما يتوافق مع الطب النبوي‪ ،‬ال ما ينكره أو يؤوله‬
‫على غير حقيقته‪.‬‬

‫ولينتبهوا إلى أن سؤال من درس الطب الغربي عن المذاهب الطبية األخرى هو مثل سؤال‬
‫للركوع ممن‬
‫أصحاب مذهب فقهي عن مذهب فقهي آخر‪ ،‬فأنت إن سألت عن رفع اليدين ُّ‬
‫يتعصب للقول بنسخه؛ فإنه لن يجيبك بأنه سنة‪ .‬وإذا سألت عن ترك المأموم لقراءة الفاتحة يف‬
‫الصالة الجهرية ممن يرى وجوهبا عليه؛ فلن يجيز لك ذلك‪ .‬ومن يرى بأنه ال تجوز صالة الجمعة‬
‫بأقل من أربعين فر ًدا فإنه لن يجيز جمعتك بأقل من ذلك‪ .‬وكذلك إذا سألت من درس الطب‬
‫الغربي وتعصب له عن المذاهب الطبية األخرى فسينفيها وسينكر فوائدها وأدلتها حتى ولو كانت‬
‫ثابتة واضحة‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫َم ْلحوظة‪:‬‬

‫قد يفهم البعض أن الطبائع واألخالط الموجودة يف الطب الصيني هي نفسها التي يف الطب‬
‫مثال قد يظ ُّن البعض أن طبع الحرارة يف الطب الصيني هو‬
‫اليوناين وكذلك التي يف الطب الهندي‪ً ،‬‬
‫نفسه طبع الحرارة يف الطب اليوناين‪ ،‬ويف الحقيقة هذا القول يحتاج إلى بحث للتأكيد‪ ،‬وال أعرف‬
‫صحيحا وقد‬
‫ً‬ ‫أحدً ا قارن بين هذه الطبائع يف هذه المدارس المختلفة‪ ،‬لذا فإن هذا الفهم قد يكون‬
‫يكون خاط ًئا‪ ،‬وال بد من عمل المقارنات لمعرفة أوجه التشابه والفروق بين المذاهب الطبية‪،‬‬
‫وللوصول إلى الطب الشامل(‪ ،)1‬وشرحي للطبائع واألخالط يف هذا الفصل كان مبنيا على الطب‬
‫اليوناين‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫هذا الفصل ال يعترب مرج ًعا طبيا‪ ،‬بل هو توعوي وتثقيفي‪ ،‬يهدف إلى تقديم األفكار األساسية‪،‬‬
‫جمعت فيه خالصة ما عرفت عن الطب األصيل‪ ،‬سوا ًء عن طريق قراءات متفرقة‪ ،‬أو مشافهة‬
‫لممارسي الطب األصيل‪ ،‬أو بحضور جلسات طبية لديهم‪ ،‬ومن أراد االستزادة فعليه بالمراجع‬
‫الصحيحة لهذه العلوم‪ .‬مما استعنت به يف هذا الفصل‪:‬‬

‫ب الصيني‪:‬‬
‫الط ُّ‬

‫‪• The Foundations of Chinese Medicine: A Comprehensive Text for‬‬


‫‪Acupuncturists and Herbalists. Second Edition 2nd Edition by Giovanni‬‬
‫”‪Maciocia CAc “Nanjing‬‬
‫ب الصيني ِ‬
‫والج ُّن‪:‬‬ ‫الط ُّ‬

‫‪• http://www.tcmstudent.com/journal/Ghost%20Syndromes.html‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬طرحت مزيدً ا من رؤيتي حول الطب الشامل يف فصل «االجتهاد الطبي»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪174‬‬

‫‪• http://www.5element.com.au/The_Seven_Dragons.html‬‬
‫‪• https://go.gale.com/ps/anonymous?id=GALE%7CA176858979&sid=goo‬‬
‫‪gleScholar&v=2.1&it=r&linkaccess=abs&issn=19336586&p=AONE&s‬‬
‫‪w=w‬‬
‫ب اليوناين‪:‬‬
‫الط ُّ‬

‫• القانون البن سينا‪.‬‬

‫• الط ُّ‬
‫ب النبوي البن القيم‪.‬‬
‫• الدُّ رة البهية يف منافع األبدان اإلنسانية‪ ،‬البن البيطار‪.‬‬
‫• حقيقة نظرية األعضاء المفردة األربعة‪ ،‬لمحمد أشرف شاكر‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫قد يرى البعض أنني قسوت على منتسبي الطب الغربي يف هذا الفصل‪ ،‬فأقول‪ :‬إنه ليس بيني‬
‫وبين أشخاصهم عداوة وال بغضاء‪ ،‬وإنما مني ألشخاصهم وأفرادهم ُّ‬
‫كل اإلجالل والتقدير‪ ،‬ولكن‬
‫من يفهم الطب األصيل ثم يقارنه بالطب الغربي؛ فإنه ال بد أن يصل إلى ما وصلت إليه‪.‬‬

‫َتجرِبة شخص َّية‪:‬‬

‫أرى من المفيد أن أطرح تجربتي الشخصية يف هذا الفصل‪ ،‬فمنذ صغري أعاين من مشكلة‬
‫السعال‬
‫السعال‪ ،‬ففي العام الواحد كانت تأتيني نوبة ُّ‬
‫كانت صعبة وكبيرة علي‪ ،‬أال وهي مشكلة ُّ‬
‫مرتين أو ثالث مرات‪ُّ ،‬‬
‫وكل مرة كانت تمكث معي من شهرين إلى ثالثة أشهر‪ ،‬وتبدأ بالتهاب‬
‫الزكمة‪ ،‬ثم يبدأ‬
‫خفيف يف الحلق‪ ،‬ثم يزيد االلتهاب مع مصاحبة ألم شديد يف الحلق‪ ،‬ثم تبدأ ُّ‬
‫السعال‪ ،‬وتبدأ األعراض السابقة يف االندثار‪ ،‬بينما يظ ُّل معي سعال شديد‪ ،‬من شدته ال أستطيع‬
‫ُّ‬
‫النوم‪ ،‬ويصيبني آالم يف األضالع والعضالت بسببه‪ ،‬كما أن ذلك سبب لي إحراجات كثيرة مع‬
‫ال ُّطالب والمدرسين يف المدرسة‪ ،‬ومع المصلين يف المسجد‪ ،‬وربما عانيت نفسيا يف طفولتي‬
‫بسبب ذلك‪ ،‬وقد مررت على أطباء كثيرين ممن درسوا وتخصصوا يف الطب الغربي‪ ،‬وذلك يف‬
‫‪175‬‬ ‫الطب األصيل‬

‫السعودية والهند وبريطانيا‪ ،‬لكن لم أجد ما ينهي معانايت‪ ،‬وأصبحت كلما أصاب‬
‫عدة دول‪ ،‬منها ُّ‬
‫السعال تمكث معي عدة أسابيع‬
‫بااللتهاب‪ ،‬أستسلم وأعلم أن أمامي قد ًرا محتو ًما بنوبة جديدة من ُّ‬
‫صاب‬
‫تصل إلى شهرين أو ثالثة‪ ،‬بمعنى أنني كنت أقضي تقري ًبا نصف العام على األقل وأنا م ٌ‬
‫بسعال حاد‪ ،‬وقد استخدمت الح ًقا بدائل كثيرة من الطب البديل‪ ،‬أدى ذلك إلى تخفيف الفترة‬
‫عريف على نظرية األعضاء األربعة؛ ومعرفة أن لدي‬
‫قليال‪ ،‬لكن لم يقدم حال جاز ًما لإلنهاء‪ ،‬وبعد ت ُّ‬
‫ً‬
‫دائما مشكلة يف البطن‪ ،‬أصبحت‬
‫طغيا ًنا يف طبع الحرارة؛ وأن بداية المشكلة عندي يف الحلق سببها ً‬
‫اآلن بحمد اهلل قاد ًرا على أن أتخلص من االلتهاب قبل الولوج إلى المراحل التي تليه‪ ،‬وإذا هتاونت‬
‫السعال‪ ،‬فلله الحمد أنني أصبحت قاد ًرا على التخ ُّلص منه يف أسبوعين على‬
‫يف العالج وبدأ معي ُّ‬
‫األكثر إن التزمت بالعالج ولم أهتاون فيه‪ ،‬وعالج سعالي هو استعمال األغذية واألعشاب‬
‫واألدوية الرطبة لتسييل البلغم ‪-‬كالحليب والزبادي والموز والكوسة والجزر‪ ،-‬مع استعمال‬
‫األغذية واألعشاب الحارة الرطبة إلخراج هذا البلغم ‪-‬كالزنجبيل والقسط الهندي والشعير وزيت‬
‫الزيتون‪ ،-‬مع إجراء حمية شديدة‪ ،‬فال أدخل البطن ما يتعسر هضمه‪ ،‬أو يكون ذا طبع جاف ألنه‬
‫يجفف البلغم ‪-‬كالليمون والقرفة والفول‪ ،-‬أو أي شيء حار جاف ألنه يزيد االلتهاب ‪-‬مثل لحم‬
‫عريف على نظرية األعضاء األربعة؛ كنت قد‬
‫الماعز والدجاج والبصل والطماطم‪ .-‬كما أنني قبل ت ُّ‬
‫وصلت إلى أعراض أخرى تتعلق بالقلب والنشاط؛ مما ال حل جذري له يف الطب الغربي‪ ،‬لكن‬
‫بحمد اهلل عوفيت منها كلها‪ ،‬كذلك تعافيت بفضل اهلل من ارتفاع ضغط الدم والذي ال يملك الطب‬
‫عالجا‪ ،‬بل مهدئات تأخذها طول حياتك الباقية‪ ،‬وتعافيت بفضل اهلل من آالم يف‬
‫ً‬ ‫الغربي له‬
‫خوف شديد منذ‬
‫العضالت والركبتين ومن النقرس‪ ،‬وأما بالنسبة للمشاعر فلقد كان عندي ت ُّ‬
‫خوف مع برنامج التخ ُّلص من طبع‬
‫ال ُّطفولة من لمس الحيوانات كالقطط وغيرها‪ ،‬وقد زال هذا الت ُّ‬
‫دت على اإلمام يف الصالة ردا خاط ًئا وهو لم يخطئ‪ ،‬فأصبح‬
‫الحرارة الزائد‪ ،‬كما أنني ذات مرة رد ُّ‬
‫ددت جاءتني كتمة يف صدري‬
‫عندي عقدة ال أستطيع بعدها الرد على اإلمام حين يخطئ‪ ،‬وإن ر ُّ‬
‫وشعور نفسي غريب‪ ،‬واستمرت هذه الحالة معي أكثر من عشرين سنة‪ ،‬ثم زالت كذلك مع برنامج‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪176‬‬

‫التخ ُّلص من الطبع الحار‪ ،‬وهناك أشياء أخرى لم أذكرها‪ ،‬وأشياء جربتها مع بعض المعارف‬
‫واألصدقاء‪ ،‬وهلل الحمد على الشفاء والعافية وجميع النعم‪.‬‬

‫وأرجو من اهلل كما أتم علي التأصيل والتأليف يف الرقية؛ أن ييسر لي ترجمة ونقل نظرية‬
‫مستقبال‪.‬‬
‫ً‬ ‫األعضاء األربعة‬
‫‪177‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫األمراض الروحية‬

‫الروحية على جميع أمراض السحر والعين والحسد‬


‫اشتهر يف زمننا إطالق مصطلح األمراض ُّ‬
‫والمس وأمثالها مما يرى أن له عالقة بالجن‪ ،‬وهذا المصطلح مستحدث جديد لم يكن موجو ًدا يف‬
‫عصر السلف رحمهم اهلل‪ ،‬وال أعرف متى بدأ استعماله‪ ،‬لكن يظ ُّن البعض أن سبب هذه التسمية‬
‫الروح التي نفخها اهلل فينا‪ ،‬لكن هذا القول بأن‬
‫هو االعتقاد أن مصدر هذه األمراض ومجالها هي ُّ‬
‫تأثيرها حاصل من أو على أرواحنا التي نفخها اهلل فينا؛ كالم ليس عليه دليل شرعي أو إثبات نقلي‬
‫الروح بشكل جازم‬
‫صال ماهية ُّ‬
‫صريح‪ ،‬ولم يقل به أحد من السلف رضوان اهلل عليهم‪ ،‬وال نعرف أ ً‬
‫حتى نعرف إن كان يؤثر فيها الج ُّن أو هذه األمراض أم ال‪ ،‬أو إن كان يخرج منها شيء أو ال‪ ،‬وليس‬
‫أي سبيل لمعرفة ذلك إال عن طريق الوحي الذي انقطع مع وفاة رسول ﷺ‪ ،‬قال اهلل ‪:‬‬
‫لنا ُّ‬
‫ﲽﲿﳀﳁﳂﳃﳄﳅﳆﳇﳈﳉﱠ [اإلسراء‪.]85 :‬‬
‫ﲾ‬ ‫ﱡﭐﲻﲼ‬

‫قد يكون سبب تسمية هذا المصطلح هو إطالق لفظة «الريح» و«األرواح» على الجن‪ ،‬جاء يف‬
‫الحديث عن ابن عباس‪« :‬أن ضما ًدا قدم مكة‪ ،‬وكان من أزد شنوءة‪ ،‬وكان يرقي من هذه الريح»(‪،)1‬‬
‫ويف رواية أخرى‪« :‬وكان يعالج من األرواح»(‪ ،)2‬لكن يجب أال يظن أنهم مجرد أرواح‪ ،‬ألن الذي‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»868‬؛ كتاب «الجمعة»؛ باب «تخفيف الصالة والخطبة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الكبير للطرباين «‪»8147‬؛ باب «الضاد»‪ ،‬اإليمان البن منده «‪»131‬؛ «ذكر بيعة النبي ﷺ أصحابه على شهادة أن ال إله إال‬
‫اهلل‪ ،‬وأن محمدً ا رسول اهلل»‪ ،‬المسند المستخرج على صحيح مسلم ألبي نعيم «‪»1954‬؛ باب «يف الخطبة»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪178‬‬

‫يظهر من اآليات القرآنية أنهم كائنات لها أجساد مثلنا‪ ،‬أجسادنا خلقها اهلل ‪ ‬من تراب‪،‬‬
‫وأجسادهم خلقها اهلل ‪ ‬من نار‪.‬‬

‫وقد يكون سبب التسمية وجود هذا المصطلح يف الطب اليوناين‪ ،‬حيث إنه دخل على‬
‫ب اليوناين مما تعلموه‬
‫المسلمين مع حركة الترجمة يف عصر الخالفة العباسية‪ ،‬وكان الط ُّ‬
‫الروح»‪ ،‬حيث إن من‬
‫وترجموه‪ ،‬فتمت ترجمة مصطلح طبي موجود يف الطب اليوناين إلى كلمة « ُّ‬
‫الروح» يف كالم العرب النفخ(‪ ،)1‬كذلك نسيم الريح(‪ ،)2‬فأصبح معناها في الفلسفة‪« :‬ما‬
‫معاين لفظة « ُّ‬
‫يقابل المادة»(‪ ،)3‬وفي الكيمياء‪« :‬الجزء الطيار للمادة بعد تقطيرها»(‪ ،)4‬واستعملها الفالسفة العرب‬
‫ومن أتى بعدهم من األطباء‪ ،‬حتى أننا نجد هذا المصطلح يف جميع الكتب الطبية القديمة‪.‬‬

‫يقول الخوارزمي‪« :‬واألرواح عند الفالسفة(‪ )5‬هي ثالث‪:‬‬

‫الروح الطبيعية‪ ،‬وهي يف الحيوان يف الكبد‪ ،‬وهي مشرتكة بين الحيوان والنبات‪ ،‬وتنبعث يف‬
‫‪ُّ -1‬‬
‫العروق غير الضوارب إلى جميع البدن‪.‬‬
‫والروح الحيوانية‪ ،‬هي للحيوان الناطق وغير الناطق‪ ،‬وهي يف القلب‪ ،‬وتنبعث منه يف‬
‫ُّ‬ ‫‪-2‬‬
‫الشرايين‪ ،‬وهي العروق الضوارب إلى أعضاء البدن‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫والروح النفسانية‪ ،‬وهي يف الدماغ‪ ،‬تنبعث منه إلى أعضاء البدن يف األعصاب‪».‬‬
‫ُّ‬ ‫‪-3‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬هتذيب اللغة لألزهري؛ باب الحاء والراء‪.‬‬
‫(‪ )2‬الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للفارابي؛ فصل الراء؛ روح‪.‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ باب الراء‪.‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )5‬األطباء ساب ًقا كان أكثرهم فالسفة‪.‬‬
‫(‪ )6‬مفاتيح العلوم لمحمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي «المتوفى‪387 :‬هـ»؛ المقالة الثانية؛ الباب األول؛ الفصل الثالث؛ صفحة‬
‫‪.160‬‬
‫‪179‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫ولو نظرنا إلى كتاب «القانون يف الطب» لرئيس األطباء ابن سينا؛ والذي يعدُّ أعظم وأهم‬
‫الروح» قرابة المائة واألربعين مرة‪ ،‬منها ما هو روح بخارية‪،‬‬
‫مرجع للطب اليوناين؛ فإننا نقرأ كلمة « ُّ‬
‫وروح حيوانية‪ ،‬وأخرى شهوانية‪ ،‬ونفسانية‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬بدأ بذكرها عندما تكلم عن مواضيع الطب‬
‫فكان مما قال‪« :‬وأما األسباب التمامية‪ :‬فاألفعال‪ ،‬ويف معرفة األفعال معرفة القوى ال محالة‪،‬‬
‫ومعرفة األرواح الحاملة للقوى كما سنبين»(‪ ،)1‬ويف ثنايا كتابه يقول‪« :‬فإن مبدأ الحياة هو القلب‬
‫والروح وهما حاران جدا مائالن إلى اإلفراط»(‪« ،)2‬ومن الواجب أن يخلط باألدوية المسهلة‬
‫ُّ‬
‫األدوية العطرية‪ ،‬ليحفظ هبا قوى األعضاء‪ ،‬واألدوية الطيبة حسنة الموقع من ذلك؛ ألنها تقوي‬
‫الروح الحيواين يف كل عضو»(‪« ،)3‬والثانية حيوانية‪ :‬وهي القوة النابضة لتخلف بدل ما يتحلل من‬
‫ُّ‬
‫الروح‬
‫الروح الذي جوهره هوائي ناري» ‪ ،‬كذلك يف كتاب «الحاوي يف الطب» للرازي ذكرت ُّ‬
‫(‪)4‬‬
‫ُّ‬
‫قرابة الخمس والخمسين مرة‪ ،‬بل إن كتاب «الشامل يف الصناعة الطبية» البن النفيس حوى با ًبا‬
‫خاصا عن األرواح(‪ .)5‬وعلى نهجهم سار العالمة ابن القيم ‪ ،$‬فيقول عن سبب خروج البدن‬
‫عن طبيعته‪« :‬قد يكون من فساد في العضو‪ ،‬وقد يكون من ضعف في القوى أو األرواح الحاملة‬
‫لها»(‪ ،)6‬ويقول عن المريض‪« :‬متى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية‪ ،‬وكان ذلك سب ًبا لقوة‬
‫األرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية‪ ،‬ومتى قويت هذه األرواح‪ ،‬قويت القوى التي هي حامل ٌة‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬القانون البن سينا؛ الجزء األول؛ الفن األول؛ يف حد الطب وموضوعاته من األمور؛ التعليم األول‪.‬‬
‫(‪ )2‬القانون البن سينا؛ الجزء األول؛ الفن األول؛ يف حد الطب وموضوعاته من األمور؛ التعليم الثالث‪.‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬القانون البن سينا؛ الجزء األول؛ الفن األول؛ فصل أبوال النساء والرجال‪.‬‬
‫(‪ )5‬ما زال مخطو ًطا‪ ،‬راجع مقدمة الجزء المطبوع من كتاب الشامل‪ ،‬للمحقق يوسف زيدان‪.‬‬
‫(‪ )6‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل الطب النبوي؛ فصل طب األبدان‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪180‬‬

‫لها‪ ،‬فقهرت المرض ودفعته»(‪ ،)1‬ويتكلم عن الصرع الناتج عن األخالط فيقول‪« :‬وقد تكون‬
‫الروح»(‪ ،)2‬ويقول عن النوم المعتدل‪« :‬والنوم المعتدل‬
‫ألسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ ُّ‬
‫يح للقوة النفسانية‪ ،‬مكث ٌر من جوهر حاملها‪ ،‬حتى إنه ربما‬
‫ممك ٌن للقوى الطبيعية من أفعالها‪ ،‬مر ٌ‬
‫عاد بإرخائه مان ًعا من تح ُّلل األرواح‪.)3(».‬‬

‫والروح الطبية‪،‬‬
‫الروح المنفوخة فينا ُّ‬
‫واإلمام الغزالي ‪ $‬أجاب عن اإلشكال الذي يقع بين ُّ‬
‫الروح فلم يزد عن أن قال‪:‬‬
‫الروح ومثلته؛ ورسول اهلل ﷺ سئل عن ُّ‬
‫فقال‪« :‬فإن قلت‪ :‬فقد وصفت ُّ‬
‫ﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﱠ [اإلسراء‪ ،]85 :‬فلم يصفه لهم على هذا الوجه؛ فاعلم أن هذه َغ ْفلة عن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الروح يطلق لمعان كثيرة ال نطول بذكرها نحن‪ ،‬إنما وصفنا من‬
‫الروح‪ ،‬فإن ُّ‬ ‫االشتراك الواقع يف َل ْفظ ُّ‬
‫سما لطي ًفا تسميه األطباء ر ً‬
‫وحا‪ ،‬وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه يف األعضاء‪،‬‬ ‫جملتها ج ً‬
‫وكيفية حصول اإلحساس والقوى يف األعضاء به‪ ،‬حتى إذا خدر بعض األعضاء؛ علموا أن ذلك‬
‫الروح‪ ،‬فال يعالجون موضع الخدر‪ ،‬بل منابت األعصاب ومواقع السدة‬
‫لوقوع سدة يف مجرى هذا ُّ‬
‫فيها‪ ،‬ويعالجوهنا بما يفتح السدة‪ ،‬فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ يف شباك العصب‪ ،‬وبواسطته يتأدى‬
‫الروح التي هي‬
‫من القلب إلى سائر األعضاء‪ ،‬وما يرتقي إليه معرفة األطباء فأمره سهل نازل‪ ،‬وأما ُّ‬
‫األصل؛ وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن؛ فذلك س ٌّر من أسرار اهلل تعالى لم نصفه‪ ،‬وال‬
‫ﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﱠ [اإلسراء‪،]85 :‬‬ ‫رخصة يف وصفه إال بأن يقال هو أمر رباين كما قال تعالى‪:‬‬
‫واألمور الربانية ال تحتمل العقول وصفها‪ ،‬بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق‪ ،‬وأما األوهام‬
‫والخياالت فقاصرة عنها بالضرورة؛ قصور البصر عن إدراك األصوات‪ ،‬وتتزلزل يف ذكر مبادىء‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «الحث على التداوي وربط األسباب بالمسببات»‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «صرع األخالط»‪.‬‬
‫(‪ )3‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «يف تدبيره ﷺ ألمر النوم واليقظة»‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض؛ المحبوسة يف مضيقها‪ ،‬فال يدرك بالعقل شيء‬

‫من وصفه»(‪ .)1‬ونجد يف كالم اإلمام الغزالي ‪ $‬بعض األمور المهمة وهي‪:‬‬

‫الروح التي نفخها اهلل فينا‪ ،‬بل تأكيده أنه ال يمكن ألي أحد وصفها‬
‫‪ -1‬نفيه أن يكون حديثهم عن ُّ‬
‫والحديث عنها‪ ،‬فذاك مما ال نستطيع إدراكه بالعقل‪.‬‬
‫‪ -2‬بين وقوع اشتراك يف اللفظ‪ ،‬واالشتراك يف اللفظ يعني أن يكون للفظة أكثر من معنًى مختلف‪،‬‬
‫الروح» هنا‪ ،‬كذلك نستطيع ضرب المثال بكلمة «العين»‪ ،‬فالعين تطلق على‬
‫وذلك مثل لفظة « ُّ‬
‫العضو الذي يف رأسنا والذي هو آلة للبصر‪ ،‬كما تطلق على عين الماء‪ ،‬وتطلق على حرف‬
‫العين الذي هو من الحروف األبجدية‪ ،‬وتطلق كذلك على الجاسوس‪ ،‬كما تطلق على مدينة‬
‫الروحي الذي‬
‫يف دولة اإلمارات‪ ،‬وعين الشيء حقيقته وجوهره‪ ،‬وتطلق أيضا على المرض ُّ‬
‫يسببه العائن‪ُّ ،‬‬
‫كل ما سبق يطلق عليه لفظة «العين»‪ ،‬ولقد سبقهم اهلل ‪ ‬يف ذلك‪ ،‬إذ ذكر‬

‫الروح بمعنى الروح المنفوخة يف البشر‪ ،‬فقال ‪ ‬عن آدم ڠ‪ :‬ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ‬

‫روحا فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ‬


‫ً‬ ‫‪ ،]9‬وسمى الوحي‬ ‫[السجدة‪:‬‬ ‫ﲮﱠ‬

‫روحا فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱠ‬ ‫ﲇﱠ [النحل‪ ،]2 :‬وسمى القرآن ً‬


‫أيضا ً‬
‫روحا فقال ‪ :‬ﭐﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ‬
‫وأيضا سمى جربيل ڠ ً‬
‫[الشورى‪ً ،]52 :‬‬
‫ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﱠ [القدر‪ ،]4 :‬فاهلل ‪ ‬جعل عدة أشياء تشرتك يف لفظة الروح يف القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫وحا»‪ ،‬ثم وصفها بدقة‪ ،‬فكان‬
‫طيف تسميه األطباء ر ً‬
‫سم ل ٌ‬
‫الروح الطبية بأنها «ج ٌ‬
‫‪ -3‬عرف الغزالي ُّ‬
‫الروح‪ ،‬فال‬
‫مما قال‪« :‬حتى إذا خدر بعض األعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة يف مجرى هذا ُّ‬

‫________________‬
‫الركن الثاين من أركان الشكر‪.‬‬
‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين للغزالي؛ ربع المنجيات؛ كتاب «الصرب والشكر»؛ ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪182‬‬

‫يعالجون موضع الخدر؛ بل منابت األعصاب ومواقع السدة فيها‪ ،‬ويعالجوهنا بما يفتح‬
‫السدة»‪ ،‬والمتوسع يف العلوم الطبية اآلن يجد أن الغزالي كأنه يصف ما نعرفه بالطاقة السارية‬
‫يف الجسم والمعروفة يف الطب الصيني‪ ،‬وهذه الفكرة من أساسيات الطب األصيل سوا ًء‬
‫الصيني أو اليوناين‪ ،‬وال يستغرب أبدً ا معرفة السابقين هبذه العلوم‪.‬‬

‫وعندما يذكر ابن القيم ‪ُّ $‬‬


‫الروح واألرواح فيما كتبه عن األمراض والتداوي؛ فإن ابن القيم‬

‫الروح التي نفخها اهلل يف اإلنسان‪ ،‬وال يمكنه ذلك‪ ،‬بل إنه ‪ $‬يف بعض‬
‫‪ $‬ال يقصد بتا ًتا ُّ‬
‫الروح المشروحة يف الطب اليوناين‪ ،‬وذلك كقوله‪« :‬ومتى قويت نفسه انبعثت‬
‫المواضع يقصد هبا ُّ‬
‫حرارته الغريزية‪ ،‬وكان ذلك سب ًبا لقوة األرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية‪ ،‬ومتى قويت هذه‬
‫األرواح قويت القوى التي هي حامل ٌة لها‪ ،‬فقهرت المرض ودفعته»(‪ ،)1‬ويف مواضع أخرى يقصد‬
‫هبا الجن‪ ،‬كقوله‪« :‬الصرع صرعان‪ :‬صر ٌع من األرواح الخبيثة األرضية‪ ،‬وصر ٌع من األخالط‬
‫الرديئة‪ ،)2(».‬ويف مواضع أخرى يقصد هبا المالئكة‪ ،‬كقوله‪« :‬فإنه يستنزل بذلك من األرواح‬
‫(‪)4‬‬
‫الملكية ما يقهر هذه األرواح الخبيثة‪ ،‬ويبطل شرها ويدفع تأثيرها»(‪ ،)3‬أما قوله‪« :‬طب األرواح»‬
‫الروح المعنوية‪ ،‬والتي نسميها كذلك بالحالة النفسية‪ ،‬لكن‬
‫فمن الممكن أن يكون مقصوده بذلك ُّ‬
‫الروح الطبية هي المسؤولة عن العين والحسد‪ ،‬يستنبط ذلك من قوله‪« :‬وال‬
‫يبدو أنه كان يرى أن ُّ‬
‫ريب أن اهلل سبحانه خلق في األجسام واألرواح ق ًوى وطبائع مختلفةً‪ ،‬وجعل في كثير منها خواص‬
‫وس‪،‬‬
‫وكيفيات مؤثرةً‪ ،‬وال يمكن لعاقل إنكار تأثير األرواح يف األجسام‪ ،‬فإنه أم ٌر مشاهدٌ محس ٌ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ ٌ‬
‫فصل «الح ُّث على التداوي وربط األسباب بالمسببات»‪.‬‬
‫(‪ )2‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «هديه ﷺ في عالج الصرع»‪.‬‬
‫(‪ )3‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «هديه ﷺ في الطاعون وعالجه واالحتراز منه»‪.‬‬
‫(‪ )4‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «هديه ﷺ في عالج استطالق البطن»‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫وأنت ترى الوجه كيف يحم ُّر حمر ًة شديد ًة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه‪ ،‬ويصف ُّر صفر ًة‬
‫شديد ًة عند نظر من يخافه إليه‪ ،‬وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه‪ ،‬وهذا ك ُّله‬
‫بواسطة تأثير األرواح‪ ،‬ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها‪ ،‬وليست هي الفاعلة‪ ،‬وإنما التأثير‬
‫ل ُّلروح‪ ،‬واألرواح مختلف ٌة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها‪ ،‬فروح الحاسد مؤذي ٌة للمحسود‬
‫أ ًذى بينًا»(‪ ،)1‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫وقراءتنا لكالم السابقين تطرح علينا عدة أسئلة مهمة‪:‬‬

‫الروح بالضبط؟ هل هي شيء محسوس أم ملحوظ؟ هل هي‬


‫السؤال األول‪ :‬ما هي هذه ُّ‬
‫نفسها تيارات الطاقة كما يسميها مرتجموا الطب الصيني‪ ،‬أم أشياء أخرى مثل األيونات والذرات‪،‬‬
‫أو التيارات الكهربائية يف الجسد‪ ،‬أو غير ذلك مما تم الكشف عنه‪ ،‬أو مما لم يتم كشفه باألجهزة‬
‫المخترعة إلى اآلن؟‬

‫الروحية؟ جواب هذا السؤال ال يمكن‬


‫عال تأثير يف األمراض ُّ‬
‫الروح ف ً‬
‫السؤال الثاين‪ :‬هل لهذه ُّ‬
‫الروح التي تحدثوا عنها‪.‬‬
‫أن يتم إال بإجراء األبحاث والتجارب بعد معرفة ماهية ُّ‬

‫للروح‪ ،‬وتأكدنا أنها هي المادة المؤثرة والمتأثرة يف‬


‫السؤال الثالث‪ :‬لو عرفنا المعنى المعاصر ُّ‬
‫ثال األمراض الموجية‪ ،‬أو‬
‫الروحية‪ ،‬فهل من األفضل أن نغير اسم المصطلح؟ فنسميه م ً‬
‫األمراض ُّ‬
‫الروح‬
‫األمراض الطاقية‪ ،‬أو األمراض الكهربائية ‪...‬إلخ‪ ،‬وذلك حتى ينتهي التباس الناس بين ُّ‬
‫والروح التي نفخها اهلل فينا‪.‬‬
‫الطبية ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «هديه ﷺ في عالج المصاب بالعين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪184‬‬

‫َم ْلحوظة‪:‬‬

‫للروح والتي ذكرها الخوارزمي‪ ،‬وتم تعديل هذه األنواع مع تطوير‬


‫قرأنا عن األنواع الثالثة ُّ‬
‫الطب اليوناين إلى «نظرية األعضاء األربعة» كالتالي‪:‬‬
‫رورا بالشرايين‪.‬‬
‫الروح الحيوانية‪ :‬تتولد يف القلب‪ ،‬وتصل إلى الجسم كله م ً‬
‫‪ُّ -1‬‬
‫الروح الطبيعية‪ :‬تتولد يف الكبد‪ ،‬وتصل إلى الجسم كله بواسطة األوردة‪.‬‬
‫‪ُّ -2‬‬
‫الروح النفسانية‪ :‬تتولد يف الدماغ‪ ،‬وتصل إلى الجسم كله بواسطة األعصاب‪.‬‬
‫‪ُّ -3‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الرطوبة ال ُّلعابية‪.‬‬
‫الروح النباتية‪ :‬تتولد يف ال ُّطحال‪ ،‬وتنتشر يف الجسم كله بواسطة ُّ‬
‫‪ُّ -4‬‬
‫الروح َّية وال َغ ِ‬
‫يب‪:‬‬ ‫األمراض ُّ‬

‫الروح التي نفخها اهلل فينا؛ فقد‬


‫الروحية مدارها على ُّ‬
‫ألن الكثيرين يف زماننا ظنُّوا أن األمراض ُّ‬
‫كان لهذا الفهم الخاطئ أثره يف الفتاوى واألحكام الشرعية‪ ،‬فذهب البعض إلى أن هذه األمراض‬

‫من علم الغيب المطلق‪ ،‬وال يمكن معرفة كنهها بسبب تع ُّلقها ُّ‬
‫بالروح‪ ،‬كذلك ال ينبغي محاولة‬
‫بحر لمعرفة هذه األمراض‪ُّ ،‬‬
‫وكل من حاول االستزادة رمي بالدجل والشعوذة وادعاء علم‬ ‫الت ُّ‬
‫الغيب‪.‬‬

‫والحقيقة أنه ال يوجد يف اإلسالم ما يثبت أن هذه األمراض وعلومها من علم الغيب المطلق‬
‫الذي ال يمكن الوصول إليه‪ ،‬بل إن هذه األمراض هي من علم الغيب النسبي الذي يمكن معرفته‬
‫بال وحي‪ ،‬قد تخفى كيفيتها على بعض ويعلمها آخرون‪ ،‬وقد ال تعلم الكيفية يف زمن ما؛ ثم مع‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬حقيقة نظرية األعضاء المفردة األربعة لمحمد أشرف شاكر؛ الطبعة الثالثة؛ فصل األرواح؛ صفحة ‪ .121‬ولمعرفة المزيد عن النظرية‬
‫راجع الفصل السابق‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫طور والتقدُّ م يأيت زم ٌن يمكن فيه البحث والتأصيل فيها‪ ،‬وذلك مثل جميع األمراض العضوية‪،‬‬
‫الت ُّ‬
‫كما يمكن إجراء تجارب وأبحاث عليها حتى يمكن الوصول إلى أفضل العالجات لها‪.‬‬

‫الروحية وكيفيتها من علم الغيب المطلق الذي ال يعلمه إال اهلل»؛‬


‫فأؤكد أن قول‪« :‬األمراض ُّ‬
‫هو قول مبتدع ليس له أصل وال فصل‪ ،‬وليس له سابقة يف فهم السلف رضوان اهلل عليهم‪ ،‬بل هي‬
‫من علم الغيب النسبي الذي يمكن بحثه ودراسته‪.‬‬

‫استدالل خاطئ‪:‬‬

‫وت ِم ْن‬
‫الروح بما روي عن النبي ﷺ أن « ُج ُّل َم ْن َي ُم ُ‬
‫قد يستد ُّل البعض بأن العين مصدرها ُّ‬
‫الروح‪ ،‬وهذا استدالل خاطئ من‬ ‫س» ألن النفس تعني ُّ‬ ‫اء الل ِ َوكتابه َوقدَ ره؛ باأل ْنف‬
‫َ ِ ِ ِ َ ُ ِ (‪)1‬‬ ‫ُأمتِي بعدَ َق َض ِ‬
‫َّ َ ْ‬
‫وجهين‪:‬‬

‫الوجه الشرعي‪ :‬أوال‪ :‬هذا الحديث اختلف يف ثبوته‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬ليس هناك إجماع على أن النفس‬
‫الروح‪ ،‬بل هناك خالف قديم يف التفريق بينهما‪.‬‬
‫هي ُّ‬

‫الوجه ال ُّلغوي‪ :‬للنفس يف ال ُّلغة عدة معان‪ .‬ففي كتاب العين أن النفس تعني ُّ‬
‫الروح‪ ،‬وتعني‬ ‫(‪)2‬‬

‫اإلنسان‪ ،‬وتعني عين الشيء‪ .‬ويف مختار الصحاح(‪ )3‬أضيف إلى معاين النفس‪ :‬الدم والجسد‪ .‬أما يف‬
‫هتذيب ال ُّلغة فمعان أخرى كثيرة مثل‪ :‬العزة واألنفة وغيرها‪ ،‬أقتبس منها ما يلي‪« :‬والنفس‪ :‬العين‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رواه الطيالسي يف مسنده «‪ ،»1868‬والبخاري يف التاريخ الكبير «‪ »3144‬بلفظ مختصر‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ودار اختالف على طالب بن‬
‫حبيب‪ ،‬فمن حسنه حسن الحديث‪ ،‬وذلك مثل ابن حجر يف فتح الباري‪ ،‬والسخاوي يف المقاصد‪ ،‬والهيثمي يف مجمع الزوائد‪،‬‬
‫وتبعهم األلباين يف الصحيحة «‪ ،»747‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪ ،‬أما من ضعف طالب فقد ضعف الحديث‪ ،‬مثل البخاري وتبعه‬
‫الذهبي‪ ،‬وتبعهم مصطفى العدوي‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتاب العين للخليل الفراهيدي؛ حرف السين؛ الثالثي الصحيح؛ باب «السين والنون والفاء»‪.‬‬
‫(‪ )3‬مختار الصحاح لزين الدين محمد الرازي؛ باب النون‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪186‬‬

‫التي تصيب المعين‪ ...‬يقال‪ :‬نفس عليك ف ٌ‬


‫الن ينفس نف ًسا ونفاسة‪ ،‬أي‪ :‬حسدك‪ ...‬وإن فال ًنا‬
‫فسا‪ :‬أصابه بعين‪ ...‬نافس في‬
‫وس‪ :‬أي‪ :‬عيون ‪-‬كثير العين‪ . »-‬ويف المعجم الوسيط «نفسه ن ً‬
‫(‪)1‬‬
‫لنف ٌ‬
‫الشيء‪ :‬بالغ فيه ورغب‪ ،‬و‪-‬نافس‪ -‬فالنًا في كذا سابقه وباراه فيه من غير أن يلحق الضرر‬
‫به‪...‬النافس‪ :‬العائن أو الحاسد‪ ...‬يقال أصابته نف ٌس‪ :‬أي‪ :‬عين‪ ...‬النفوس‪ :‬الحسود‪ ...‬ورجل‬
‫نفيس‪ :‬أي‪ :‬حاسد»(‪ .)2‬وما اقتبسناه من معان من هتذيب ال ُّلغة والمعجم الوسيط هو ما أكده راوي‬
‫ستقيما‬
‫ً‬ ‫الحديث بأن المقصود باألنفس هو العين ال غيره‪ .‬وال شك أن معنى الحديث لن يكون م‬
‫إذا قيل‪ :‬إن أكثر األمة تموت باألرواح‪.‬‬

‫الروحية إلى الشرع‪:‬‬


‫األمراض ُّ‬
‫نسبة ْ‬

‫الروحية على أهنا أمراض شرعية‪ ،‬وهذا‬


‫نجد بعض الناس يف عصرنا يتكلم عن األمراض ُّ‬
‫أي دليل من القرآن‬
‫ابتداع منهم ووقوع يف خطأ جسيم بنسبتهم هذه األمراض إلى الشرع‪ ،‬فال يوجد ُّ‬
‫أصال مصطلح «مرض شرعي» منسوب إلى الشرع‬
‫والسنة على أنها أمراض شرعية‪ ،‬وال يوجد ً‬
‫ُّ‬
‫الحنيف‪ ،‬وإنما األمراض إما معنوية قلبية أو حسية جسدية‪ ،‬واألمراض الروحية حسية مثل غيرها‬
‫من األمراض كالحمى وااللتهابات والكسور وغير ذلك مما يعالج بالطب‪ .‬أما أن سبب الحسد‬
‫ناتج عن بعد الناس عن شرع اهلل وعدم خوفهم منه وعدم رضاهم بما‬
‫والسحر هو معنوي قلبي ٌ‬
‫أمراضا معنوية‪ ،‬ألن الكيفية والنتائج حسية‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫قدره وكتبه فهذا صحيح‪ ،‬لكن ال يجعل منها‬
‫روحا أو‬
‫لما بما يسبب ج ً‬
‫مثل تسميم الناس أو حقنهم عمدً ا بما يض ُّرهم‪ ،‬أو التعدي على الغير ظ ً‬
‫أيضا لم يخافوا اهلل ولم يرضوا بما قسمه اهلل‪ ،‬فهم سوا ٌء مع من يحسد أو‬
‫راضا عضوية‪ ،‬فهؤالء ً‬
‫أم ً‬
‫يسحر‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬هتذيب ال ُّلغة لمحمد بن أحمد بن األزهري؛ باب «السين والنون مع الفاء»‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الوسيط لمجمع ال ُّلغة العربية بالقاهرة؛ باب النون‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫الروح َّية‪:‬‬
‫األمراض ُّ‬
‫تاريخ ْ‬

‫هذه األمراض موجودة من قبل مجيء اإلسالم‪ ،‬بل من الممكن القول بأنها موجودة منذ بدء‬
‫تاريخ البشرية‪ ،‬فأول حسد نعرفه كان من إبليس لعنه اهلل ألبينا آدم ڠ‪ ،‬ثم رأينا حسد قابيل‬
‫لهابيل‪.‬‬

‫وهذه األمراض بالنسبة لنا اآلن هي كمثل البكتيريا والفيروسات والكائنات الدقيقة لمن قبلنا‪،‬‬
‫فهم كانوا يرون الفواكه يصيبها العفن‪ ،‬ولكن لم يكونوا يعرفون تفاصيل هذه األشياء بالدقة التي‬
‫نعرفها اآلن‪ ،‬ويرون الدم وأعضاء الجسم‪ ،‬لكن ال يصنفون الخاليا الحمراء والبيضاء ومكونات‬
‫الدم بالطريقة والدقة الحالية‪ ،‬وكذلك إن مضينا يف أبحاث جادة وبطريقة صحيحة؛ فلن نعدم‬
‫الروحية إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫معرفة تفاصيل األمراض ُّ‬

‫الروح َّية‪:‬‬ ‫َت ْشخيص ْ‬


‫األمراض ُّ‬

‫شارا يف جميع األنحاء هي الطريقة القديمة‪ ،‬وهي معرفة أعراض‬


‫طريقة التشخيص األكثر انت ً‬
‫الرقية عليه‪ ،‬وهذه الطريقة بالرغم من أنها أفادت مع الكثير‪،‬‬
‫المريض ومالحظتها قبل وأثناء وبعد ُّ‬
‫الرقية أو بعدها بالرغم من‬
‫أي تغ ُّير عند الكثيرين أثناء ُّ‬
‫كثيرا‪ ،‬ألنه قد ال يحصل ُّ‬
‫إال أنها ناقصة ً‬
‫الرقاة حدي ًثا إلى وضع اليد بشكل أفقي ثم‬
‫الروحية‪ ،‬وقد لجأ بعض ُّ‬
‫إصابتهم ببعض األمراض ُّ‬
‫الرقية‪ ،‬ولجأ آخرون إلى مالحظة نبض القلب يف أماكن النبض أثناء‬
‫مالحظة حركات األصابع أثناء ُّ‬
‫الرقية‪ ،‬وذلك عن طريق اليد أو عن طريق األجهزة‪ ،‬وما زالت هذه ال ُّطرق بحاجة لمزيد من‬
‫ُّ‬
‫األبحاث إلثباهتا والتفصيل فيها‪ ،‬واألمر اجتهادي يعرف بالتجربة‪.‬‬

‫الروح َّية‪:‬‬ ‫ِ‬


‫األمراض ُّ‬
‫عَلج ْ‬

‫الرقية ليست العالج‬


‫يختلف عالج كل مرض روحي عن اآلخر‪ ،‬وكل حالة عن غيرها‪ ،‬و ُّ‬
‫أي دليل يد ُّل على إفراد ُّ‬
‫الرقية واختصاصها دون غيرها‬ ‫الروحية‪ ،‬وال يوجد ُّ‬
‫الوحيد لألمراض ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪188‬‬

‫الروحية بطرق أخرى‪ ،‬منها ما يكتشف‬


‫الروحية‪ ،‬بل يمكن عالج األمراض ُّ‬
‫لعالج األمراض ُّ‬
‫بالتجربة والمالحظة‪ .‬وألنها موجودة منذ بداية التاريخ البشري‪ ،‬فمن البدهي جدا أن الناس كانوا‬
‫يتعالجون منها طيلة آالف السنين بشتى ال ُّطرق‪ ،‬وال شك أن منها عالجات بأشياء مادية محسوسة‪،‬‬
‫ولكن بسبب أن دول المسلمين انتشر فيها مذهب الطب الغربي وتفرد؛ أدى ذلك إلى إبعادنا عن‬
‫الروحية وعالجاهتا‪.‬‬
‫عالجات الطب األصيل‪ ،‬وأدى كذلك إلى تنفيرنا من البحث يف األمراض ُّ‬

‫ال ِعَلجات المادية‪:‬‬

‫الرقية‪ ،‬وأثبتت‬
‫الروحية وذلك من دون أن تقرتن ب ُّ‬
‫وجدت منذ القدم عالجات مادية لألمراض ُّ‬
‫التجارب اآلن وساب ًقا فائدة هذه العالجات للتخ ُّلص من األمراض ُّ‬
‫الروحية‪ ،‬وذلك مثل ماء البحر‬
‫وورق السدر والزنجبيل والحرمل والشذاب والملح وغير ذلك‪ ،‬فهذه األشياء إن عولج هبا لوحظ‬
‫الرقية أم لم تقرأ‪ .‬بل إن اغتسال المعيون بغسول العائن عد من‬
‫أنها ذات فائدة‪ ،‬سوا ًء قرئت عليها ُّ‬
‫العادات والعالجات المادية‪ ،‬قال اإلمام ابن حجر ‪« :$‬أمر العائن باالغتسال عند طلب المعيون‬
‫منه ذلك؛ ففيها إشار ٌة إلى أن االغتسال لذلك كان معلو ًما بينهم»(‪ ،)1‬وقال اإلمام المازري ‪:$‬‬
‫«متى خشي ‪-‬المعيون‪ -‬الهالك؛ وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به؛ فإنه يتعين ‪-‬‬
‫يعني يصبح واج ًبا‪ ،-‬وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر‪ ،‬وهذا أولى»(‪ .)2‬وال شك أن‬
‫مزيدً ا من األبحاث الطبية والعلمية يمكنها إيجاد عالجات وأدوية أخرى مفيدة ومجدية لألمراض‬
‫السنة إذا‬
‫الروحية‪ .‬وبسبب اختالل المفاهيم انتشر عند الناس أن يطالبوك بالدليل من القرآن أو ُّ‬
‫ُّ‬
‫الروحية‪ .‬وإلزالة هذا اإلشكال عند الناس ببساطة؛ يمكن‬
‫أتيت بعالج مادي جديد ألحد األمراض ُّ‬
‫والسنة أن األدوية التي تباع يف الصيدليات ذات فائدة للتخ ُّلص من‬
‫أن تطالبهم بالدليل من القرآن ُّ‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر؛ شرح حديث أبي هريرة ﭬ‪ ،‬عن النبي ﷺ قال‪« :‬ال َع ْي ُن َح ٌّق»؛ ونهى عن الوشم؛ باب «العين حق»‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ ،‬والجمل االعتراضية من إضافتي‪.‬‬
‫‪189‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫األمراض العضوية؟ هل لديهم دليل شرعي أن «الفولتارين» يخفف اآلالم؟ أو أن «البندول»‬


‫الصداع؟ أو أن «الجلوكوز» يغذي المريض؟ ما الذي يجعلهم يفرقون بين هذا وذاك؟‬
‫يخفف ُّ‬
‫وهذه المطالبة طريقة بسيطة إلفهام العامة من الناس‪.‬‬

‫قال اإلمام ابن القيم ‪« :$‬الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم‪ :‬فاألول‬
‫‪-‬دليل المشروعية‪ -‬متوقف على الشارع‪ ،‬والثاين ‪-‬دليل الوقوع‪ -‬يعلم بالحس أو الخبر أو‬
‫والسنة ليس إال؛ ُّ‬
‫وكل دليل سواهما يستنبط منهما‪ ،‬والثاين‪ :‬مثل العلم‬ ‫الشهادة‪ ،‬فاألول‪ :‬الكتاب ُّ‬
‫بسبب الحكم وشروطه وموانعه فدليل مشروعيته يرجع فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث‪،‬‬
‫ودليل وقوعه يرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك األسباب ُّ‬
‫والشروط والموانع»(‪.)1‬‬

‫ضوي َة والنَّفس َّي َة؟‪:‬‬ ‫َ‬


‫األمراض ال ُع َّ‬ ‫الروح َّية‬ ‫ُ‬
‫األمراض ُّ‬ ‫ب‬
‫كيف ُت َسب ُ‬

‫ينكر كثيرون خاص ًة من األطباء القول بأن األمراض ُّ‬


‫الروحية تتسبب بأمراض عضوية ونفسية؛‬
‫ألن هذا مناق ٌض لما درسوه وتعلموه‪ ،‬وألشبه لهم الكيفية أضرب لهم المثال التالي‪ ،‬إذا زرت مع‬
‫شخصا كسرت قدمه وسألته عن سبب الكسر فأجابك أن السبب أنه لم ينتبه إلى‬
‫ً‬ ‫طفلك الصغير‬
‫حفرة‪ ،‬فإن طفلك الصغير قليل العلم والفهم والخبرة قد يتوجه إليك بسؤال؛ أننا جمي ًعا ال ننتبه‬
‫مر بجانبها وال تنكسر أقدامنا‪ ،‬فلم انكسرت قدمه؟ لكنك اإلنسان البالغ العاقل‬
‫إلى حفر كثيرة ون ُّ‬
‫الخبير تستطيع أن تفهم الطفل أن هذا الشخص لم يقصد أن قدمه تكسرت بمجرد عدم االنتباه إلى‬
‫الحفرة‪ ،‬بل ألنه سقط فيها‪ .‬وإذا كنت مع نفس الطفل ورأيت أحد أصدقائك قد تحطمت أنوار‬
‫سيارته؛ وسألته عن السبب فأجابك‪ :‬ألن فال ًنا من الناس قد قطع اإلشارة الحمراء؛ فإن طفلك قد‬
‫دائما يقطع اإلشارة الحمراء يف جميع األماكن التي يسوق فيها؛ فما دخل ذلك‬
‫يسألك أن فال ًنا هذا ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬بدائع الفوائد البن القيم؛ المجلد الرابع؛ فائدة «الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪190‬‬

‫بتح ُّطم األنوار؟ فتجيبه‪ :‬إن السبب ليس مجرد قطعه لإلشارة‪ ،‬وإنما هناك س ٌ‬
‫بب آخر محذوف لم‬
‫يخبروا به؛ وهو إما أن فال ًنا بعد قطعه لإلشارة صدم سيارة صديقك‪ ،‬أو أن صديقك انحرف‬
‫بسيارته لتجنُّب االصطدام فاصطدمت سيارته بمكان آخر‪ .‬وهكذا عندما نقول‪ :‬إن العين والحسد‬
‫راضا عضوية كالسرطان وغيره‪ ،‬فإننا نواجه باإلنكار ممن لم‬
‫الروحية تسبب أم ً‬
‫وبقية األمراض ُّ‬
‫يتبحر يف هذا المجال ولم يتعلمه‪ ،‬ومثلما أجاب بطل مثالنا طفله‪ ،‬فنجيب بقولنا‪ :‬إن األمراض‬
‫الروحية تسبب األسباب التي تؤدي إلى األمراض العضوية‪ ،‬أي أن هناك أسبا ًبا متوالية‪ ،‬خفيت‬
‫ُّ‬
‫عنكم الطبقات األولى من هذه األسباب ألنكم لم تبحثوا فيها ولم تشاهدوها بأجهزتكم‪ ،‬ورأيتم‬
‫الطبقات الدُّ نيا من األسباب فظننتم أنه ال توجد أسباب أخرى‪ .‬طب ًعا ما سبق ال يحمل جوا ًبا علميا‬
‫على كيفية التأثير‪ ،‬وإنما هو مثال لتشبيه ما يحصل‪ ،‬والمقصد أن هناك أشياء تحدثها األمراض‬
‫الروحية لم نصل نحن إلى المرحلة التي يمكننا فيها رؤية ذلك أو معرفتها‪ ،‬بل نرى األعراض‬
‫ُّ‬
‫الناتجة عن ذلك‪ ،‬والسبب ليس ألن هذه األسباب من الغيب المطلق الذي ال يمكن الوصول إليه؛‬
‫فهي ليست كذلك كما ذكرت ساب ًقا‪ ،‬بل هي من الغيب النسبي الممكن معرفته‪ ،‬لكن لم تقم‬
‫ماالت ال يمكن الجزم‬
‫ٌ‬ ‫الرقاة افتراضات واحت‬
‫أبحاث كافية للوصول إلى معرفة ذلك‪ ،‬وتنتشر بين ُّ‬
‫بأي منها من دون أن يحصل بحث علمي حول ذلك‪.‬‬

‫السنة النبوية‪ ،‬لقول الرسول ﷺ عن‬


‫وتس ُّبب الجن يف أمراض عضوية هو أمر مؤكد من ُّ‬
‫الطاعون أنه وخز الجن‪ ،‬فعن أبي موسى ﭬ‪ ،‬أنه قال‪« :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال َّل ُه َّم اجعل فناء‬
‫أمتي بالطعن والطاعون» قلنا‪ :‬هذا الطعن قد عرفناه‪ ،‬فما الطاعون؟ قال‪-‬ﷺ‪« :-‬وخز أعدائكم من‬
‫الجن‪ ،‬ويف كل شهداء»(‪ ،)1‬وعن عائشة ڤ قالت‪« :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تفنى أمتي إِ َّال بالطعن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند أحمد «‪ ،»19744‬وحسنه األعظمي يف الجامع الكامل‪ .‬وأخرجه الحاكم «‪ »158‬برواية أخرى وصححه‪ ،‬ووافقه الذهبي‪،‬‬
‫يك ُم له بالصحة لتعدد طرقه إليه»‪.‬‬
‫وقال ابن حجر يف فتح الباري «قوله باب ما يذكر يف الطاعون»‪ ُ « :‬ح‬
‫‪191‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫والطاعون» قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هذا الطعن قد عرفناه‪ ،‬فما الطاعون؟ قال‪-‬ﷺ‪« :-‬غدة كغدة‬
‫البعير‪ ،‬المقيم بها كالشهيد‪ ،‬والفار منها كالفار من الزحف»(‪.)1‬‬

‫والطاعون يف اللغة هو كل مرض عام سبب وباء‪ ،‬لكن رسول اهلل ﷺ حدده بنوع معين‪ ،‬وهو‬
‫الذي يظهر عند المريض غدة كغدة اإلبل‪ ،‬وهذا يسمى اآلن بالطاعون الدبلي أو الطاعون الدُّ ملي‬
‫”‪ “Bubonic Plague‬وهو معروف عند األطباء بأنه مرض بكتيري معد ينتقل من الفئران إلى‬
‫البشر عن طريق الرباغيث التي تتغذى عليهما‪ ،‬بينما الرسول ﷺ يقول عنه وخز من الجن‪ ،‬وإذا‬
‫علم هبذا الحديث من قدم عقله على صحيح النقل؛ فإنه سينكره وير ُّده لعدم استطاعة عقله الجمع‬
‫بين الحديث والواقع‪ ،‬لكن لو وسع هؤالء عقولهم لوجدوا أن الجمع ممكن بين الحديث وبين ما‬
‫مثال ممكن القول أن الجن هم يف األساس من يتولى إدارة وصول البكتيريا‬
‫عرفه األطباء‪ً ،‬‬
‫باستعمال الرباغيث‪ ،‬أو أهنم يتشكلون على شكل براغيث لنشر هذا المرض‪ ،‬وقد نصل‬
‫الحتماالت أخرى لكيفية وخز الجن لإلنسان ال تعارض بينها وبين ما وجده األطباء‪ ،‬فاألطباء‬
‫عرفوا سب ًبا‪ ،‬لكن لم يعرفوا السبب األول‪ .‬وهكذا يمكن القول لكثير من األمراض التي قد يكون‬
‫رئيسا يف حدوثها‪ ،‬لكن األطباء لم يكتشفوا ذلك‪ ،‬وإنما اكتشفوا‬
‫الروحية سب ًبا ً‬
‫الج ُّن أو األمراض ُّ‬
‫األسباب التالية لذلك‪.‬‬

‫فائدة‪:‬‬

‫يف حديث الطاعون نجد أن الرسول ﷺ يوضح لنا أن هذا المرض قت ٌل لإلنسان من الجن‪،‬‬
‫وذلك عن طريق حرب بكتيرية‪ ،‬مثلما يحصل يف الحروب البشرية‪ ،‬وأن الموت يف كال الحربين‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند أحمد «‪ ،»25118‬ويف تحقيق طبعة الرسالة «إسناده جيد»‪ ،‬وحسنه األعظمي يف الجامع الكامل‪ ،‬وصححه األلباين يف سلسلة‬
‫األحاديث الصحيحة «‪.»1928‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪192‬‬

‫يعتبر شهادة‪ ،‬ولذا نأمل ونرجو أن كل مريض يموت بسبب اعتداء الجن عليه أن يكون عند اهلل‬
‫شهيدً ا يف اآلخرة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫األمراض ال ُعضوية الناتِجة عنها؟‬


‫الروح َّية إلى زوال ْ‬
‫األمراض ُّ‬
‫هل يؤدي زوال ْ‬

‫قبل أن أجيب على السؤال؛ أضرب هنا مثالين‪:‬‬


‫ِ‬
‫المثال األول‪ :‬لو أن غصن شجرة سقط بسبب عين من شخص ما‪ ،‬ثم قمنا بإزالة العين من‬
‫الشجرة فإنه من الممكن أن ينبت يف نفس المكان غص ٌن جديد‪ ،‬وذلك من دون أن نبذل أي جهد‬
‫آخر‪.‬‬

‫كأسا من زجاج انكسرت بسبب عين من شخص ما‪ ،‬وقمنا بإزالة هذه‬ ‫ِ‬
‫المثال الثاين‪ :‬لو أن ً‬
‫الزجاج فإنه لن يعود إلى محله‪ ،‬بل يلزمك استعمال أدوات خاصة إلعادته‬
‫العين‪ ،‬فإنك مهما تترك ُّ‬
‫كما كان‪ ،‬أو استبداله‪ ،‬ولو أصلحته بدون أن تتخلص من العين التي عليه فإنه غال ًبا سينكسر مرة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫لو فهمنا المثالين السابقين فإنه يمكن فهم ما سيحصل لألمراض العضوية لو زالت األمراض‬
‫الروحية المسببة لها‪ ،‬فإذا كان المرض من الممكن زواله بال عالج فإنه سيزول‪ ،‬وأما إن كان‬
‫ُّ‬
‫الروحي فإنه سيلزمه العالج الطبي‬
‫المرض العضوي سببه ال يزول بمجرد زوال المرض ُّ‬
‫المناسب‪.‬‬

‫من أضرار األمراض الروحية‪:‬‬


‫‪ -1‬قد تسبب الوسوسة وبعض األفكار السيئة‪ ،‬أو األمراض النفسية للمصاب‪.‬‬
‫أمراضا عضوية بسيطة أو شديدة للمصاب‪ ،‬وقد تؤدي هذه األمراض إلى موته على‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬قد تسبب‬
‫المدى القريب أو البعيد‪.‬‬
‫‪ -3‬قد تسبب التلف لممتلكات المصاب‪ ،‬أو لألشياء المصابة‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫األمراض الروحية‬

‫‪ -4‬قد تسبب التعطيل؛ فيجد المصاب نفسه غير قادر على اإلنجاز‪ ،‬سواء يف الدراسة أو العمل أو‬
‫التجارة أو العالقات‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬وكلما أراد إنجاز شيء ‪ -‬مما أصيب فيه‪ -‬صرف عنه بأمور‬
‫أخرى‪.‬‬
‫‪ -5‬قد تسبب تغ ُّي ًرا يف سلوكيات المصاب‪ ،‬سواء يف عاداته وأخالقه‪ ،‬أو يف طريقة تفكيره وأولوياته‪.‬‬
‫‪ -6‬قد تسبب اإلحساس بقلة المال والوقت‪ ،‬وإذا رزق المصاب بمال؛ فإنه قد تأتيه ظروف تسبب‬
‫ذهاب هذا المال‪.‬‬
‫‪ -7‬قد تسبب الفرقة واالبتعاد بين المصابين‪ ،‬أو بين المصاب ومن حوله‪ ،‬وقد يصل هبم الحال‬
‫لحد االختالف والعراك‪.‬‬
‫‪ -8‬قد تؤثر بكل ما سبق على القريبين من المريض مثل الزوج واألبناء‪.‬‬

‫هذه األضرار عرفت من خالل الخربة والتجربة‪ ،‬وقد تكون هناك أضرار أخرى لم تذكر‪.‬‬

‫هل تُعطل األمراض الروحية الرزق؟‬

‫الرزق مكتوب عند اهلل ‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يتدخل فيه أو يغيره‪ ،‬وهذه حقيقة مسل ٌم هبا‬
‫عند جميع المسلمين؛ لكن اهلل ‪ ‬جعل أسبا ًبا للوصول إلى األرزاق‪ ،‬فما كان من نصيبك فإنك‬
‫ستجد السبب المؤدي إليه‪ ،‬وإن لم يكن مكتو ًبا لك فإنك لن تستطيع الوصول إليه‪ ،‬حتى لو أخذت‬
‫عامال بأجرة يومية‪ ،‬يعمل كل يوم‪ ،‬ويأخذ أجره كل يوم‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫بجميع األسباب‪ .‬لنفرتض أن هناك‬
‫تسبب شخص ما يف وقوع حادث سيارة له‪ ،‬مما منعه من االستمرار يف العمل‪ ،‬أو هتجم عليه‬
‫لما وعدوانًا؛ هؤالء كلهم تسببوا يف انقطاع‬
‫شخص وقطع أطرافه‪ ،‬أو رمى به ظالم يف السجن ظ ً‬
‫عمله وانقطاع األجر الذي كان يأتيه من هذا العمل‪ ،‬هؤالء ال نستطيع أن نقول بأهنم قطعوا رزقه‬
‫مكتوب عند اهلل ‪ ‬كذلك‪ ،‬ولكنهم فعلوا‬
‫ٌ‬ ‫المكتوب؛ ألن كل ما حصل له من عطاء أو حرمان هو‬
‫أسبا ًبا حرمته من المال الذي كان يحصل عليه بشكل دائم‪ ،‬واألمراض الروحية تعمل الشيء‬
‫نفسه‪ ،‬فإهنا ال تستطيع أن تغير فيما هو مكتوب لك‪ ،‬وإنما هي أسباب تمنعك من الوصول إلى‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪194‬‬

‫بعض أشكال الرزق‪ ،‬مثل المال والصحة والزواج واألوالد وغير ذلك‪ ،‬وكما أنك ستسعى‬
‫للتخ ُّلص من األسباب المادية التي تمنع عنك أشكال الرزق؛ فكذلك يكون السعي للتخ ُّلص من‬
‫أيضا‪.‬‬
‫سبب األمراض الروحية‪ ،‬والذي يمنعك تلك األشكال ً‬

‫ال ُب ْعدُ وال ُق ْر ُب من مكان المرض‪:‬‬

‫الروحية ضعف تأثيرها عليه‪،‬‬


‫تبين لنا بالتجربة أنه كلما ابتعد المريض عن مصدر األمراض ُّ‬
‫ف عليه‪ ،‬وهذا‬
‫فلو ابتعد عن مكان سحره‪ ،‬أو عن المكان الذي أصيب فيه بالعين فإن التأثير يخ ُّ‬
‫برأيي أحد األسباب التي تجعلنا ننشط ونشعر براحة أكثر حين نسافر إلى مدن أخرى غير التي‬
‫نسكن فيها‪.‬‬

‫الر ْوحان َّية‪:‬‬


‫األمراض َّ‬
‫ْ‬

‫كثيرا‪ ،‬وهو مصطلح «األمراض الروحانية»‪ ،‬ويستعمله البعض‬


‫هناك مصطلح آخر يستعمل ً‬
‫مراد ًفا للروحية‪ ،‬لكن اآلن انتشر استعمال السحرة لهذا المصطلح لتحسين عملهم أمام الناس‪،‬‬
‫فيسمي نفسه «معالج روحاين» لعالج «األمراض الروحانية»‪ ،‬وبعضهم زعم أن المالئكة تساعده‬
‫وكل ما علموه أصبح روحانيا‪ ،‬وهذا ك ُّله خطأ يف‬
‫وتعلمه‪ ،‬فقال‪ :‬إن المالئكة مخلوقات روحانية‪ُّ ،‬‬
‫خطأ‪ ،‬حيث إن المالئكة من نور وليس لها عالقة بشيء يسمى روحاين‪ ،‬ثم إن المالئكة ال تأيت‬
‫للبشر لتعليمهم‪ ،‬بل الشياطين هي التي تأيت وتدعي أنها مالئكة لتخدع المغفلين‪.‬‬
‫‪195‬‬ ‫إبليس الشيطان واجلن‬

‫إبليس الشيطان والجن‬

‫إبليس؟‬
‫ُ‬ ‫َمن هو‬

‫السجود ألبينا آدم ڠ‪ ،‬ثم أغوى أبانا آدم وأمنا حواء ڽ‬


‫هو ذلك الشيطان الذي رفض ُّ‬
‫ليأكال من الشجرة التي هناهما اهلل ‪ ‬عنها‪.‬‬

‫ولقد قرر بعض العلماء أن إبليس لعنه اهلل هو أبو الجن‪ ،‬لكن دليلهم على هذا الحكم حديث‬
‫ضعيف جدا(‪ )1‬ال يصح االستدالل به‪.‬‬

‫ولو رجعنا إلى كالم الحق ‪ ‬الذي ليس فيه لب ٌس لقرأنا قوله ‪ :‬ﱡﭐﲌﲍﲎﲏ‬

‫ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﱠ [الكهف‪ ،]50 :‬فإن ظاهر اآلية يد ُّل على أنه كان‬


‫واحدً ا من الجن وليس أباهم‪ ،‬والمفسرون لهذه اآلية على ثالثة أقوال ال تزيد(‪:)2‬‬

‫‪ -1‬أنه كان من الجن كما هو ظاهر اآلية‪.‬‬


‫‪ -2‬أنه كان من المالئكة من قبيلة تدعى‪« :‬الج ُّن»‪.‬‬

‫‪ -3‬أنه كان من المالئكة ممن يحرسون الجنة فنسب إلى الجنة‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رواه الطرباين يف األوسط «‪ ،»6174‬ويف إسناده مجهوالن‪ ،‬كذلك راو متهم بوضع األحاديث‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطربي لآلية‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪196‬‬

‫ولو تأملنا األحاديث الثابتة‪ ،‬فإن القول األول هو الصحيح‪ ،‬والذي هو أن إبليس واحد من‬
‫الجن‪ ،‬ألن رسول اهلل ﷺ قد وصف القرين بالجن تارة؛ وبالشيطان تارة أخرى‪ .‬فعن عبد اهلل بن‬
‫مسعود ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ما ِمنْك ُْم ِم ْن َأ َح ٍد‪َّ ،‬إال َو َقدْ ُوك َل بِ ِه َقرِينُ ُه ِم َن ا ْل ِ‬
‫جن َقا ُلوا‪:‬‬
‫اي‪َّ ،‬إال َأ َّن اللَ َأ َعانَنِي َع َل ْي ِه َف َأ ْس َلم‪َ ،‬فَلَ َي ْأ ُم ُرنِي َّإال بِخَ ْيرٍ»(‪ ،)1‬ويف حديث‬ ‫اك يا رس َ ِ‬
‫ول الل؟ َق َال‪َ :‬وإِ َّي َ‬ ‫َوإِ َّي َ َ َ ُ‬
‫آخر عن عروة‪ ،‬أن عائشة ڤ زوج النبي ﷺ‪ ،‬حدثته أن رسول اهلل ﷺ خرج من عندها لي ًال‪،‬‬
‫ك يا عائِ َشةُ؟ َأ ِغر ِ‬ ‫ِ‬
‫ت؟» فقلت‪ :‬وما لي ال يغار‬ ‫ْ‬ ‫قالت‪ :‬فغرت عليه‪ ،‬فجاء فرأى ما أصنع‪ ،‬فقال‪َ « :‬ما َل َ َ‬
‫ُك؟» قالت‪ :‬يا رسول اهلل أو معي‬ ‫مثلي على مثلك؟ فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ َقدْ جاء ِك َشي َطان ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ان؟ قال‪« :‬نعم» قلت‪ :‬ومع كل إنسان؟ قال‪َ « :‬ن َع ْم»‪ .‬قلت‪ :‬ومعك يا رسول اهلل؟ قال‪َ « :‬ن َع ْم‪،‬‬ ‫شيط ٌ‬
‫َو َلكِ ْن َربي َأ َعانَنِي َع َل ْي ِه َحتَّى َأ ْس َلم»(‪.)2‬‬

‫َمن ُهم الشياطين؟‬

‫بعد النظر يف األدلة فإنه من الممكن أن نخرج بثالثة أقوال‪:‬‬

‫إكماال لآلية فإن اهلل ‪ ‬يقول‪ :‬ﱡﭐﲜﲝﲞﲟﲠﲡﲢﲣﱠﭐ‬


‫ً‬ ‫األول‪:‬‬
‫َّ‬
‫[الكهف‪ ،]50 :‬ومدلول اآلية أن الشياطين هم أبناء إبليس وذريته‪ ،‬يؤيد ذلك إذا قلنا‪ :‬إن «قبيله» يعني‪:‬‬

‫نسله(‪ )3‬يف قوله ‪ ‬عن الشيطان‪ :‬ﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﱠ [األعراف‪،]27 :‬‬


‫وأصبحت الشياطين هبذا القول نو ًعا من جنس الجن‪ ،‬والقول بأن ذرية إبليس نوع من الجن قول‬
‫قطعي صحيح لصراحة آية سورة الكهف بذلك‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2814‬؛ كتاب «صفة القيامة والجنة والنار»؛ باب‪« :‬تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان‬
‫قرينًا»‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬أحد األقوال كما جاء يف تفسير الطربي‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫إبليس الشيطان واجلن‬

‫الثاين‪ :‬وقد يقال‪ :‬إن الشياطين هي ُّ‬


‫كل من كفر من الجن‪ ،‬حيث إن الشيطان لغة من شطن أي‪:‬‬
‫بعد‪ ،‬والشيطان يف كالم العرب يطلق على «كل متمرد من الجن واإلنس والدواب وكل شيء»(‪.)1‬‬
‫وأصبحت الشياطين هبذا القول وص ًفا لبعض جنس الجن‪ .‬وقد يمكن االستدالل عليه بقول‬
‫المدين َِة ِجنًّا َقدْ َأ ْس َل ُموا‪َ ،‬فإِ َذا َر َأ ْيت ُْم ِمن ُْه ْم َش ْيئًا‪َ ،‬فآ ِذنُو ُه َث ََل َث َة َأ َّيامٍ‪َ ،‬فإِ ْن َبدَ ا َلك ُْم َب ْعدَ‬
‫الرسول ﷺ‪« :‬إِ َّن بِ ِ‬

‫ك‪َ ،‬فا ْق ُت ُلو ُه‪َ ،‬فإنَّما ُه َو َش ْي َطان»(‪ ،)2‬فمفهوم المخالفة لهذا الحديث يقتضي أن كل من لم يسلم من‬ ‫َذلِ َ‬

‫الجن فهو شيطان‪ .‬قال األلوسي ‪ $‬يف تفسير اآلية السابقة‪« :‬والقبيل الجماعة‪ ،‬فإن كانوا من أب‬

‫واحد فهم قبيلة‪ ،‬والمراد هبم هنا جنوده من الجن»(‪.)3‬‬

‫الثالث‪ :‬القول األول والثاين م ًعا‪.‬‬


‫الش ِ‬
‫اهد‪:‬‬ ‫َّ‬

‫بعضا من الجن؛ فإنه ال يجوز أن نعمم على الجن ما خصص للشيطان‪ُّ ،‬‬
‫فكل‬ ‫ما دام الشيطان ً‬
‫اآليات واألحاديث التي تحدثت عن الشيطان؛ فهي خاصة به وبالشياطين وال تع ُّم الجن‪،‬‬
‫لص ََل ِة؛ َأ ْد َب َر َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬
‫ان َو َل ُه ُض َراط‬ ‫ُود ِ‬
‫ِ‬
‫فاالستعاذة خاصة بالشياطين‪ ،‬وقول الرسول ﷺ‪« :‬إِ َذا ن َ‬
‫ي ل َّ‬
‫ص الشياطين‪ ،‬وليس من الالزم أن يكون لبقية الجن نفس ردة‬ ‫َحتَّى َال َي ْس َم َع الت َّْأ ِذ َ‬
‫ين»(‪ )4‬فهذا يخ ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطربي؛ القول يف تأويل االستعاذة‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2236‬؛ كتاب «قتل الحيات وغيرها»‪.‬‬

‫(‪ )3‬روح المعاين يف تفسير القرآن العظيم والسبع المثاين؛ لشهاب الدين محمود األلوسي؛ يف شرحه لقوله ‪ :‬ﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ‬

‫ﲍﲎﲏ ﲐﲑﱠ ﭐ[األعراف‪.]2٧ :‬‬

‫لص ََل ِة؛ َأ ْد َب َر‬ ‫ُود ِ‬


‫ِ‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪ »583‬عن أبي هريرة ﭬ؛ كتاب األذان؛ باب «فضل التأذين»‪ ،‬والحديث بتمامه قال ﷺ‪« :‬إِ َذا ن َ‬
‫ي ل َّ‬
‫ِ‬
‫يب َأ ْق َب َل‪َ ،‬حتَّى‬ ‫الص ََلة َأ ْد َب َر‪َ ،‬حتَّى إِ َذا َق َضى ال َّت ْث ِو َ‬ ‫الش ْي َطانُ َو َل ُه ُض َراط َحتَّى َال َي ْس َم َع الت َّْأ ِذ َ‬
‫ين‪َ ،‬فإِ َذا َق َضى الندَ ا َء َأ ْق َب َل‪َ ،‬حتَّى إِ َذا ُثو َب ِب َّ‬ ‫َّ‬
‫الر ُج ُل َال َيدْ ِري ك َْم َص َّلى»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الم ْر ِء َو َن ْف ِس ِه‪َ ،‬ي ُق ُ‬ ‫ِ‬
‫ول‪ :‬ا ْذك ُْر ك ََذا‪ ،‬ا ْذك ُْر ك ََذا‪ ،‬ل َما َل ْم َيك ُْن َي ْذك ُُر َحتَّى َي َظ َّل َّ‬ ‫َيخْ ط َر َب ْي َن َ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪198‬‬

‫الفعل عند سماع األذان‪ ،‬كما يحتمل أن الشياطين المربوطة بأسحار وعقد ال تستطيع اإلدبار‬
‫أيضا‪ ،‬وعندما نعلم أن رسول اهلل‬ ‫والهروب عند سماع صوت األذان‪ ،‬فال يعمم عليها هذا الحديث ً‬
‫يت َلك ُْم َوال‬ ‫ان‪َ :‬ال َمبِ َ‬ ‫الر ُج ُل َب ْي َت ُه؛ َف َذك ََر اللَ ِعنْدَ ُد ُخولِ ِه َو ِعنْدَ َط َع ِام ِه؛ َق َال َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬ ‫ﷺ قال‪« :‬إِ َذا َد َخ َل َّ‬
‫يت‪َ ،‬وإِ َذا َل ْم َي ْذ ُكرِ اللَ ِعنْدَ‬ ‫ان‪َ :‬أ ْد َر ْكت ُُم المبِ َ‬ ‫َع َشا َء‪َ ،‬وإِ َذا َد َخ َل؛ َف َل ْم َي ْذ ُكرِ اللَ ِعنْدَ ُد ُخولِ ِه؛ َق َال َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬
‫ص الشياطين وال يص ُّح تعميمه على‬ ‫يت َوا ْل َع َشا َء»(‪ ،)1‬فإن هذا الحديث يخ ُّ‬ ‫َط َع ِام ِه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬أ ْد َر ْكت ُُم المبِ َ‬
‫ان ي ْجرِي ِم َن ِ‬
‫اإلن َْس ِ‬ ‫بقية الجن‪ ،‬كذلك إن قرأنا قوله ﷺ‪« :‬إِ َّن َّ‬
‫ان َم ْج َرى الدَّ ِم»(‪ )2‬فهذا كذلك‬ ‫الش ْي َط َ َ‬
‫صح تعميمها‬
‫ينطبق على الشياطين‪ ،‬وليس من الشرط أن تنطبق هذه الكيفية على بقية الجن‪ ،‬وال ي ُّ‬
‫عليهم‪ ،‬ومثل هذا كثير‪ .‬ولمزيد من الشرح فإنني أضرب م ً‬
‫ثاال يف الفرق بين السباع وبين‬
‫الحيوانات‪ ،‬فطائفة السباع من الحيوانات‪ ،‬لكن لها بعض األحكام الفقهية الخاصة والتي ال يمكن‬
‫تعميمها على بقية الحيوانات‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫الروحية‪ ،‬إذ ليس من‬


‫والخلط بين الشيطان وبقية الجن سبب سوء فهم لكثير من األمراض ُّ‬
‫الروحية تدور علتها على الشياطين‪ ،‬بل قد تكون علتها قائمة على جن‬
‫الشرط أن جميع األمراض ُّ‬
‫ليسوا بشياطين‪ ،‬والتفريق بين الجن والشياطين الزم لفهم المسألة والحالة‪.‬‬

‫الجريان مجرى الدم‪:‬‬

‫جريان الشيطان يف ابن آدم مجرى الدم عليه ملحوظتان‪:‬‬

‫أوال‪ :‬يحتمل أن يكون عاما بكل الشياطين‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون خاصا بالقرين دون غيره من‬
‫ً‬
‫الشياطين الذين يعتدون ويدخلون داخل الجسد‪ ،‬وذلك لما روي عن رسول اهلل ﷺ يف الحديث‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2018‬؛ كتاب «األشربة»؛ باب «آداب الطعام والشراب وأحكامهما»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»3107‬؛ كتاب «بدء الخلق»؛ باب «صفة إبليس وجنوده»‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫إبليس الشيطان واجلن‬

‫ان َي ْجرِي ِم ْن َأ َح ِدك ُْم َم ْج َرى الدَّ مِ‪ُ ،‬ق ْلنَا‪َ :‬و ِمن َ‬
‫ْك؟‬ ‫الش ْي َط َ‬ ‫المغيب ِ‬
‫ات‪َ ،‬فإِ َّن َّ‬ ‫َ‬
‫الضعيف‪« :‬ال ت َِلجوا ع َلى ِ‬
‫ُ َ‬
‫َق َال‪َ :‬و ِمني‪َ ،‬و َلكِ َّن اللَ َأ َعانَنِي َع َل ْي ِه َف َأ ْس َلم»(‪ ،)1‬أما الحديث الصحيح عن صفية بنت حيي ڤ‪،‬‬
‫قالت‪ :‬كان رسول اهلل ﷺ معتك ًفا فأتيته أزوره لي ًال‪ ،‬فحدثته ثم قمت فانقلبت‪ ،‬فقام معي ليقلبني‪،‬‬
‫وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد‪ ،‬فمر رجالن من األنصار‪ ،‬فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا‪ ،‬فقال‬
‫ْت ُح َي ٍّي»‪ ،‬فقاال‪ :‬سبحان اهلل يا رسول اهلل‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إِ َّن‬ ‫النب ُّي ﷺ‪َ « :‬ع َلى ِر ْس ِلك َُما إنَّها َص ِف َّي ُة بِن ُ‬
‫ف فِي ُق ُلوبِك َُما ُسو ًءا»‪ ،‬أو قال ﷺ‪:‬‬
‫يت َأ ْن َي ْق ِذ َ‬
‫ان َم ْج َرى الدَّ مِ‪َ ،‬وإِني َخ ِش ُ‬ ‫ان ي ْجرِي ِم َن ِ‬
‫اإلن َْس ِ‬
‫الش ْي َط َ َ‬
‫َّ‬
‫تصور أن الصحابيين ﭭ كانا‬
‫ُّ‬ ‫« َش ْيئًا»(‪)2‬؛ فإنه قد يستنتج منه نفس الشيء‪ ،‬حيث من ُّ‬
‫الصعوبة‬
‫ممسوسين يف ذلك الوقت بشياطين أخرى غير القرين؛ ويتركهما رسول اهلل ﷺ بال عالج من‬
‫المس‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬قوله ﷺ « َمجرى الدَّ م» قد يفهم منه أن الجري يكون يف مجرى الدم‪ ،‬أي يف عروق الدم‬
‫وما يسمى باألوعية الدموية‪ ،‬وإلى ذلك ذهب العلماء‪ ،‬وقد يفهم كذلك أن جريانه مثل جريان‬
‫مجرى آخر‬
‫الدم‪ ،‬أي أنه يجري يف اإلنسان أو حوله بحركة تشبه جريان الدم‪ ،‬سوا ًء كان ذلك يف ً‬
‫شبيه باألوعية الدموية‪ ،‬مثل شبكة األعصاب أو شبكة مسارات الطاقة(‪ )3‬أو غير ذلك مما نعلمه أو‬
‫يصح الجزم والقطع أن معنى‬
‫ُّ‬ ‫ال نعلمه‪ ،‬أو يكون جريه مثل الدم بال مجرى معين مخصوص‪ ،‬فال‬
‫كالم رسول اهلل ﷺ هو أن الشيطان يجري يف األوعية الدموية‪ ،‬واهلل ‪ ‬أعلم‪.‬‬

‫________________‬
‫يب من هذا الوجه‪ ،‬وقد تكلم بعضهم في مجالد بن سعيد‬ ‫يث غر ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه الرتمذي يف سننه «‪»1172‬؛ «أبواب الرضاع»‪ ،‬وقال‪« :‬هذا حد ٌ‬
‫من قبل حفظه‪-‬أحد رواة الحديث‪ ،-‬وسمعت علي بن خشرم يقول‪ :‬قال سفيان بن عيينة في تفسير قول النبي ﷺ‪َ « :‬و َلكِ َّن اللَ َأ َعانَنِي‬
‫ات» والمغيبة‪ :‬المرأة التي يكون زوجها‬ ‫المغيب ِ‬
‫ع َليه َف َأس َلم»‪ ،‬يعني‪ :‬أسلم أنا منه‪ ،‬قال سفيان‪ :‬والشيطان ال يسلم‪« ،‬وال ت َِلجوا ع َلى ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ ُ‬
‫غائ ًبا‪ ،‬والمغيبات‪ :‬جماعة المغيبة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»3107‬؛ كتاب بدء الخلق؛ باب صفة إبليس وجنوده‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسارات الطاقة جزء من الطب الصيني أو الشرق آسيوي‪ ،‬وهو أساس يف العالج بالحجامة واإلبر الصينية‪ ،‬راجع صفحة ‪.123‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪200‬‬
‫ُّ‬
‫‪201‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫اجلِن‬

‫الج ُّن من مخلوقات اهلل ‪ ،‬خلقهم اهلل ألجل عبادته ‪ ‬وكلفهم بذلك‪ ،‬قال ‪ :‬ﱡﭐ ﱣ‬

‫ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱠ [الذاريات‪ ،]56 :‬ووضح اهلل ‪ ‬أنه خلقهم من النار وذلك قبل خلق‬
‫البشر؛ فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﱠ [الحجر‪ ،]27 :‬وقال ‪ :‬ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﲧ‬

‫ﲨ ﲩ ﲪﱠ [الرحمن‪ ،]15 :‬وأغلب المفسرين على أن ذلك من لهب النار(‪ ،)1‬لكن هل بقيت‬
‫نارا أم تغيرت إلى أشياء أخرى؟ رأى بعض العلماء(‪ )2‬أنهم تغيروا من األصل الناري إلى‬
‫كيفيتهم ً‬
‫أشياء أخرى‪ ،‬مثلما كنا نحن ترا ًبا وتحولنا إلى مكونات جسمنا التي نعرفها‪ ،‬وورد عن ابن سينا‬
‫تعريف الجن بأنه «حيو ٌ‬
‫ان هوائ ٌّي يتشكل بأشكال مختلفة»(‪ ،)3‬وعلق ابن تيمية على مقولة‪« :‬حد‬
‫قائال‪« :‬فيكون‬
‫الجني‪ :‬حيوان هوائي‪ ،‬ناطق‪ ،‬مشف الجرم‪ ،‬من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة» ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬راجع تفسير الطربي‪.‬‬
‫(‪ )2‬مثل بدر الدين العيني يف «عمدة القاري يف شرح صحيح البخاري»؛ كتاب «الصالة»؛ باب «األسير أو الغريم يربط في المسجد»؛ يف‬
‫ار َح َة»‪ ،‬حيث قال ‪« :$‬فيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم‬ ‫َّ‬ ‫شرحه لحديث «إنَّ ِع ْفرِي ًتا ِم َن الجن َت َف َّل َ‬
‫ت َع َلي ال َب ِ‬

‫الناري‪ ،‬وألنه ‪-‬ﷺ‪ -‬قال‪« :‬إِن عدو الل إبليس َجا َء بشهاب من نَار ليجعله فِي َو ْجهي»‪ ...‬ولو كانوا باقين على عنصرهم الناري‪،‬‬
‫وأنهم نار محرقة‪ ،‬لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار‪ ،‬ولكانت يد الشيطان أو العفريت أو شيء من‬
‫أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه‪ ،‬كما تحرق اآلدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس‪ ،‬فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر‬
‫العناصر»‪ .‬وقال محمد الشبلي يف كتابه آكام المرجان‪« :‬فبرد لسان الشيطان ولعابه دليل على أنه انتقل عن العنصر الناري»‪.‬‬
‫والحديث مذكور يف صفحة ‪.304‬‬
‫(‪ )3‬نسب هذا الكالم البن سينا يف رسالته «حدود األشياء»‪ ،‬ذكر ذلك فخر الدين الرازي يف تفسيره؛ سورة الجن‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪202‬‬

‫شرحا لالسم يف تفاهم الناس‪ ،‬فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالربهان‪ ،‬فإن دل‬
‫هذا ً‬
‫على وجوده؛ كان حدا بحسب الذات»(‪.)1‬‬

‫وهم مخلوقون قبل اإلنسان‪ ،‬لكن ال نعلم جز ًما كم هي المدة بين االثنين‪ ،‬وقيل‪ :‬إنهم خلقوا‬

‫قبل آدم عليه السالم بألفي عام‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعين سنةً‪ ،‬لكن ال يوجد دليل من القرآن أو ُّ‬
‫السنة على‬

‫صحة ذلك‪ .‬وهم بالطبع ليسوا من المالئكة‪ ،‬بل ذلك عالم آخر ال قرابة بينهم‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫مما ُو ِص َ‬
‫ف َلك ُْم»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ارجٍ ِم ْن ن ٍ‬
‫َار‪َ ،‬و ُخل َق آ َد ُم َّ‬ ‫ان ِم ْن َم ِ‬ ‫المَلئِ َك ُة ِم ْن ن ٍ‬
‫ُور‪َ ،‬و ُخ ِل َق ا ْل َج ُّ‬ ‫ت َ‬ ‫« ُخ ِل َق ِ‬

‫ويف كتب اللغة فإن الجن «جماعة ولد الجان‪ ،‬وجمعهم الجنة والجنان‪ ،‬س ُّموا به الستجناهنم‬
‫ُّ‬
‫والجان أبو الجن خلق من نار ثم خلق نسله»(‪« ،)3‬ويقال‪ :‬أجنه الليل وجن‬ ‫من الناس فال يرون‪.‬‬
‫عليه الليل إذا أظلم حتى يستره بظلمته‪ .‬واستجن ف ٌ‬
‫الن إذا استتر بشيء»(‪.)4‬‬

‫كثير من العلماء السابقين عن الجن وعن كثير مما يتعلق بحياهتم‪ ،‬نثبت نحن منه‬
‫ولقد تكلم ٌ‬
‫ما أثبته كالم اهلل ورسوله ﷺ؛ وهذا هو القطعي الذي ال مراء فيه‪ ،‬أما الباقي فإما مصادر أخرى ال‬
‫يلزم صحتها‪ ،‬وال يمكن االعتماد عليها بشكل يقيني‪ ،‬أو اجتهادات بشرية قابلة للخطأ واالنتقاد‪،‬‬
‫تبقى ك ُّلها يف حكم الظـنـيات‪ ،‬نثبت منها ما يثبت بالتجربة والربهان‪.‬‬

‫وكوهنم خلقوا من نار؛ فإنه يد ُّل على أنهم من األشياء المادية والمحسوسة لكوننا نح ُّس النار‬
‫بحواسنا‪ ،‬فنحن نراها بأعيننا‪ ،‬ونسمع صوهتا بآذاننا‪ ،‬كذلك يمكن لمسها بأيدينا‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الرد على المنطقيين البن تيمية؛ المقام الثاين «المقام اإليجابي يف الحدود والتصورات»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2996‬؛ كتاب «الزهد والرقائق»؛ باب «يف أحاديث متفرقة»‪.‬‬
‫(‪ )3‬العين للفراهيدي؛ حرف الجيم؛ باب «الجيم مع النون»‪.‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪203‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫وعن عامر الشعبي‪ ،‬قال‪ :‬سألت علقمة هل كان ابن مسعود ‪-‬ﭬ‪ -‬شهد مع رسول اهلل ﷺ‬
‫ليلة الجن؟ قال‪ :‬فقال علقمة‪ :‬أنا سألت ابن مسعود فقلت‪ :‬هل شهد أحدٌ منكم مع رسول اهلل ﷺ‬
‫ليلة الجن؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكنا كنا مع رسول اهلل ذات ليلة ففقدناه‪ ،‬فالتمسناه في األودية والشعاب‪،‬‬
‫فقلنا‪ :‬استطير أو اغتيل‪ .‬قال‪ :‬فبتنا بشر ليلة بات بها قو ٌم‪ ،‬فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء‪،‬‬
‫قال ﭬ‪ :‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل فقدناك‪ ،‬فطلبناك فلم نجدك‪ ،‬فبتنا بشر ليلة بات بها قو ٌم‪ ،‬فقال ﷺ‪:‬‬
‫آن»‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار‬ ‫ت َم َع ُه‪َ ،‬ف َق َر ْأ ُت َع َل ْي ِه ُم ال ُق ْر َ‬
‫جن‪َ ،‬ف َذ َه ْب ُ‬ ‫ِ‬
‫اعي ا ْل ِ‬ ‫َ ِ‬
‫«أتَاني َد َ‬
‫اس ُم الل ِ َع َل ْي ِه َي َق ُع فِي َأ ْي ِديك ُْم َأ ْو َف َر َما َيك ُ‬
‫ُون َل ْح ًما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫نيرانهم‪ ،‬وسألوه الزاد‪ ،‬فقال‪َ « :‬لك ُْم ك ُُّل َع ْظ ٍم ُذك َر ْ‬
‫َوك ُُّل َب ْع َر ٍة َع َلف لِدَ َوابك ُْم»‪ .‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ف ََل ت َْس َتن ُْجوا بِ ِه َما َفإِن َُّه َما َط َعا ُم إِ ْخ َوانِك ُْم»(‪ .)1‬ودل‬
‫هذا الحديث على أن آثار الجن وآثار نيراهنم كانت مرئية محسوسة من لدن الصحابة ﭫ‪ ،‬كما أن‬
‫طعام الجن ودوابهم من المحسوسات مثل العظام والبعر(‪.)2‬‬

‫رؤية الجن‪:‬‬

‫والج ُّن يمكن رؤيتهم بسهولة إذا تشكلوا وتصوروا يف صورة إنسان أو حيوان‪ ،‬وقد حصل هذا‬
‫عدة مرات يف زمن الرسول ﷺ؛ منها ما جاء عن أبي هريرة ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬وكلني رسول اهلل ﷺ‬
‫بحفظ زكاة رمضان‪ ،‬فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته‪ ،‬وقلت‪ :‬واهلل ألرفعنك إلى رسول‬
‫اج‪ ،‬وعلي عي ٌال ولي حاج ٌة شديدةٌ‪ ،‬قال‪ :‬فخليت عنه‪ ،‬فأصبحت‪ ،‬فقال النب ُّي‬ ‫اهلل ﷺ‪ ،‬قال‪ :‬إني محت ٌ‬
‫ﷺ‪َ « :‬يا َأ َبا ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ما َف َع َل َأ ِس ُير َك ال َب ِ‬
‫ار َح َة»‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬شكا حاج ًة شديد ًة وعي ًاال‪،‬‬
‫فرحمته فخليت سبيله‪ ،‬قال ﷺ‪َ « :‬أما إِ َّن ُه َقدْ ك ََذ َب َ‬
‫ك‪َ ،‬و َس َي ُعو ُد»‪ ،‬فعرفت أنه سيعود‪ ،‬لقول رسول اهلل‬
‫ﷺ‪ :‬إنه سيعود‪ ،‬فرصد ُّته‪ ،‬فجاء يحثو من الطعام‪ ،‬فأخذته‪ ،‬فقلت‪ :‬ألرفعنك إلى رسول اهلل ﷺ‪،‬‬

‫________________‬
‫الصبح والقراءة على الجن»‪.‬‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»450‬؛ كتاب «الصالة»؛ باب «الجهر بالقراءة يف ُّ‬
‫(‪ )2‬البعر‪ :‬رجيع ذوات الخف وذوات الظلف إال البقر األهلي‪ ،‬أو ما يخرج من بطون الغنم واإلبل وما شاهبها‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪204‬‬

‫اج وعلي عي ٌال‪ ،‬ال أعود‪ ،‬فرحمته فخليت سبيله‪ ،‬فأصبحت‪ ،‬فقال لي رسول‬ ‫قال‪ :‬دعني فإني محت ٌ‬
‫اهلل ﷺ‪َ « :‬يا َأ َبا ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ما َف َع َل َأ ِس ُير َك»‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل شكا حاج ًة شديد ًة وعي ًاال‪ ،‬فرحمته‬
‫فخليت سبيله‪ ،‬قال ﷺ‪َ « :‬أما إِ َّن ُه َقدْ ك ََذ َب َ‬
‫ك َو َس َي ُعو ُد»‪ ،‬فرصد ُّته الثالثة‪ ،‬فجاء يحثو من الطعام‪،‬‬
‫فأخذته‪ ،‬فقلت‪ :‬ألرفعنك إلى رسول اهلل‪ ،‬وهذا آخر ثالث مرات‪ ،‬أنك تزعم ال تعود‪ ،‬ثم تعود‪،‬‬
‫قال‪ :‬دعني أعلمك كلمات ينفعك اهلل بها‪ ،‬قلت‪ :‬ما هو؟ قال‪ :‬إذا أويت إلى فراشك‪ ،‬فاقرأ آية‬

‫الكرسي‪ :‬ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱠ [البقرة‪ ،]255 :‬حتى تختم اآلية‪ ،‬فإنك لن يزال عليك من‬
‫ان حتى تصبح‪ ،‬فخليت سبيله‪ ،‬فأصبحت فقال لي رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ما‬ ‫اهلل حاف ٌظ‪ ،‬وال يقربنك شيط ٌ‬
‫َف َع َل َأ ِس ُير َك ال َب ِ‬
‫ار َح َة»‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني اهلل بها‪ ،‬فخليت سبيله‪،‬‬
‫قال ﷺ‪َ « :‬ما ِه َي؟»‪ ،‬قلت‪ :‬قال لي‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم‬

‫اآلية‪ :‬ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱠ [البقرة‪ ،]255 :‬وقال لي‪ :‬لن يزال عليك من اهلل حاف ٌظ‪ ،‬وال‬
‫ان حتى تصبح ‪-‬وكانوا(‪ )1‬أحرص شيء على الخير‪ -‬فقال النب ُّي ﷺ‪َ « :‬أما إِ َّن ُه َقدْ‬ ‫يقربك شيط ٌ‬
‫ِ‬
‫ث َلي ٍ‬
‫ال َيا َأ َبا ُه َر ْي َرةَ؟»‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال ﷺ‪َ « :‬ذ َ‬ ‫ِ‬
‫اك‬ ‫ب ُمن ُْذ َث ََل َ‬
‫ك َو ُه َو ك َُذوب‪َ ،‬ت ْع َل ُم َم ْن تُخَ اط ُ‬
‫َصدَ َق َ‬
‫َش ْي َطان»(‪.)2‬‬

‫ويف حديث آخر عن أبي السائب‪ ،‬مولى هشام بن زهرة‪ ،‬أنه دخل على أبي سعيد الخدري في‬
‫بيته‪ ،‬قال‪ :‬فوجدته يصلي‪ ،‬فجلست أنتظره حتى يقضي صالته‪ ،‬فسمعت تحري ًكا في عراجين في‬
‫ناحية البيت‪ ،‬فالتف ُّت فإذا حي ٌة فوثبت ألقتلها‪ ،‬فأشار إلي أن اجلس فجلست‪ ،‬فلما انصرف أشار‬
‫إلى بيت في الدار‪ ،‬فقال‪ :‬أترى هذا البيت؟ فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬كان فيه فتًى منا حديث عهد بعرس‪،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أي الصحابة ﭫ‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»2187‬؛ كتاب «الوكالة»؛ باب «إذا وكل رج ًال‪ ،‬فترك الوكيل شي ًئا فأجازه الموكل فهو جائز‪ ،‬وإن أقرضه إلى أجل‬
‫مسمى جاز»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪205‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫قال‪ :‬فخرجنا مع رسول اهلل ﷺ إلى الخندق‪ ،‬فكان ذلك الفتى يستأذن رسول اهلل ﷺ بأنصاف‬
‫النهار فيرجع إلى أهله‪ ،‬فاستأذنه يو ًما‪ ،‬فقال له رسول اهلل ﷺ خذ عليك سالحك‪ ،‬فإني أخشى‬

‫عليك قريظة‪ ،‬فأخذ الرجل سالحه‪ ،‬ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائم ًة فأهوى إليها ُّ‬
‫الرمح‬
‫ليطعنها به وأصابته غيرةٌ‪ ،‬فقالت له‪ :‬اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي‬
‫الرمح فانتظمها به‪ ،‬ثم خرج‬
‫أخرجني‪ ،‬فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش‪ ،‬فأهوى إليها ب ُّ‬
‫فركزه في الدار فاضطربت عليه‪ ،‬فما يدرى أ ُّيهما كان أسرع مو ًتا الحية أم الفتى‪ ،‬قال‪ :‬فجئنا إلى‬
‫احبِك ُْم»‪ ،‬ثم قال‪« :‬إِ َّن‬ ‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فذكرنا ذلك له‪ ،‬وقلنا ادع اهلل يحييه لنا فقال‪« :‬اس َتغ ِْفروا لِص ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫المدين َِة ِجنًّا َقدْ َأ ْس َل ُموا‪َ ،‬فإِ َذا َر َأ ْيت ُْم ِمن ُْه ْم َش ْيئًا‪َ ،‬فآ ِذنُو ُه َث ََل َث َة َأ َّيامٍ‪َ ،‬فإِ ْن َبدَ ا َلك ُْم َب ْعدَ َذلِ َ‬
‫ك‪َ ،‬فا ْق ُت ُلو ُه‪،‬‬ ‫بِ ِ‬

‫َفإنَّما ُه َو َش ْي َطان»(‪.)1‬‬

‫السنة النبوية على صاحبها أفضل‬


‫ويف كتب التاريخ والسير أمثلة كثيرة يغنينا عنها ما نقلته من ُّ‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬ثبت فيما نقلته رؤية الصحابة للشيطان على هيئة إنسان ‪ -‬والشيطان واحدٌ من‬
‫الجن كما ذكرت يف الفصل السابق‪ ،-‬كذلك ثبت رؤيتهم للجن على هيئة ثعبان‪.‬‬

‫لكن إذا تحدثنا عن رؤية الجن بصورهتم الحقيقية؛ فالصواب أنه لم يرد دليل صريح يمكن‬

‫االستدالل به للجزم بنفي إمكانية ذلك‪ ،‬أما قول اهلل ‪ :‬ﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ‬

‫ﲑﱠ [األعراف‪ ،]27 :‬فهذه ليس من الالزم أن يفهم منها استحالة ُّ‬
‫الرؤية على اإلطالق‪ ،‬قال‬
‫األلوسي ‪ $‬يف تفسيره لآلية‪« :‬والقضية مطلقة ال دائمة»‪ ،‬كما قال ‪« :$‬وأما رؤية األولياء بل‬
‫سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة هبا‪ ،‬ودفاتر المؤرخين والقصاص مألى منها‪.‬‬
‫وعلى هذا ال يفسق مدعي رؤيتهم يف صورهم األصلية إذا كان مظنة للكرامة‪ ،‬وليس يف اآلية أكثر‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم؛ باب‪ :‬قتل الحيات وغيرها‪ .‬والعراجين‪ :‬األعواد التي يف سقف البيت‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪206‬‬

‫من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة‪ ،‬على أنه يمكن أن تكون اآلية خارجة مخرج التمثيل‪ ،‬لدقيق‬
‫الرؤية حقيقة‪ ،‬ومن هذا يعلم أن القول بكفر‬
‫مكرهم وخفي حيلهم‪ ،‬وليس المقصود منها نفي ُّ‬
‫مدعي تلك الرؤية خارج عن اإلنصاف‪ ،‬فتدبر‪ ،)1(».‬ونستفيد مما قاله األلوسي ‪ $‬عدة فوائد‪،‬‬
‫منها‪:‬‬

‫‪ -1‬اآلية تد ُّل على عدم ُّ‬


‫الرؤية مطلق ًة ال دائمة‪ ،‬وليس يف اآلية أكثر من نفي رؤيتهم بحسب العادة‪.‬‬
‫الرؤية حقيقة‪.‬‬
‫‪ -2‬يمكن أن تكون اآلية خارجة مخرج التمثيل‪ ،‬وليس المقصود منها نفي ُّ‬
‫‪ -3‬ليس من اإلنصاف القول بكفر مدعي رؤية الجن‪-‬بمعنى أن ذلك ليس فيه مخالفة لصريح‬
‫القرآن‪.-‬‬

‫وقال ابن حجر ‪ $‬يف شرحه للحديث(‪ )2‬الذي فيه اعتداء شيطان على رسول ﷺ يف الصالة‪:‬‬
‫«واستدل الخطاب ُّي بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيئتهم‬

‫حال تص ُّرفهم‪ ،‬قال وأما قوله تعالى ﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﱠ [األعراف‪]27 :‬؛‬


‫فالمراد األكثر األغلب من أحوال بني آدم‪ ،‬وتعقب بأن نفي رؤية اإلنس للجن على هيئتهم ليس‬
‫بقاطع من اآلية‪ ،‬بل ظاهرها أنه ممك ٌن‪ ،‬فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيدٌ بحال رؤيتهم لنا‪ ،‬وال ينفي‬
‫إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة»‪ ،‬وقال اإلمام البغوي ‪ $‬يف شرحه للحديث‪« :‬وفيه دل ٌيل‬

‫على أن رؤية الجن غير مستحيلة‪ ،‬فأما قوله تعالى وتقدس‪ :‬ﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ‬

‫ﲑﱠ [األعراف‪ ،]27 :‬فإنه حكم األعم واألغلب من اآلدميين‪ ،‬امتحنهم بذلك‪ ،‬ليفزعوا إليه عز‬
‫وجل‪ ،‬ويستعيذوا به من شرهم‪ ،‬وفيه دل ٌيل على أن أصحاب سليمان ﷺ كانوا يرون الجن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬تم ذكره يف صفحة ‪.304‬‬
‫ُّ‬
‫‪207‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫ت َأ ْن‬
‫وتص ُّرفهم»(‪ .)1‬وقال اإلمام النووي ‪ $‬يف شرحه لنفس الحديث‪« :‬قوله ﷺ‪َ « :‬ف َل َقدْ َه َم ْم ُ‬
‫ون إِ َل ْي ِه َأ ْج َم ُع َ‬
‫ون َأ ْو ُك ُّلك ُْم» فيه دل ٌيل على أن الجن موجودون‪ ،‬وأنهم قد‬ ‫َأ ْربِ َط ُه َحتَّى ت ُْصبِ ُحوا َتنْ ُظ ُر َ‬

‫ﱡﭐﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﱠ [األعراف‪:‬‬ ‫يراهم بعض اآلدميين‪ ،‬وأما قول اهلل تعالى‬


‫‪]27‬؛ فمحم ٌ‬
‫ول على الغالب‪ ،‬فلو كانت رؤيتهم مح ًاال لما قال النب ُّي ﷺ ما قال من رؤيته إياه‪ ،‬ومن‬
‫أنه كان يربطه لينظروا ك ُّلهم إليه‪ ،‬ويلعب به ولدان أهل المدينة‪ ،‬قال القاضي‪ :‬وقيل‪ :‬إن رؤيتهم‬
‫على خلقهم وصورهم األصلية ممتنع ٌة لظاهر اآلية إال لألنبياء صلوات اهلل وسالمه عليهم أجمعين‬
‫ومن خرقت له العادة‪ ،‬وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم كما جاء في اآلثار‪ ،‬قلت‪ :‬هذه‬
‫دعوى مجردةٌ‪ ،‬فإن لم يصح لها مستندٌ فهي مردود ٌة‪.)2(».‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اح‬‫السنة أن الحمير والكالب ترى الشياطين‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َذا َسم ْعت ُْم ص َي َ‬ ‫وقد ثبت يف ُّ‬
‫ار‪َ ،‬ف َت َع َّو ُذوا بِالل ِ ِم َن‬ ‫الديك َِة‪َ ،‬فاس َأ ُلوا الل ِمن َف ْض ِل ِه‪ ،‬فإنَّها ر َأ ْت م َلكًا‪ ،‬وإِ َذا س ِمعتُم ن َِه َيق ا ْل ِ‬
‫ح َم ِ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فتعوذوا‬‫الح ُمرِ بالليل‪َّ ،‬‬ ‫الكَلب ون َِه َيق ُ‬
‫ِ‬ ‫ان‪ ،‬فإنَّها َر َأ ْت َش ْي َطانًا»(‪ ،)3‬وقال ﷺ‪« :‬إذا سمعت ُْم ُن َباح‬ ‫الش ْي َط ِ‬
‫َّ‬
‫ين ما ال ت ََر ْون»(‪ ،)4‬وقد يد ُّل هذا على إمكانية دراسة تكوين وعمل عيون الحمير‬
‫بالل‪ ،‬ف َّإنهن َير َ‬
‫وصل إلى طريقة رؤية الجن‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫والكالب للت ُّ‬

‫الرؤية‪ ،‬فهناك حاالت كثيرة من البشر ادعت أنها أحست‬ ‫أما ُّ‬
‫الشعور بالجن وأعمالهم من دون ُّ‬
‫وكثير من الممسوسين يرون أمامهم ما ال يستطيع غيره رؤيته‪ ،‬ويشعرون بالجن‬
‫ٌ‬ ‫بالجن يف اليقظة‪،‬‬

‫________________‬
‫السنة ألبي محمد الحسين البغوي الشافعي ‪$‬؛ كتاب «الصالة»؛ باب «العمل اليسير ال يبطل الصالة»‪ ،‬والحديث عن النبي‬
‫(‪ )1‬شرح ُّ‬
‫ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة‪ »...‬متفق على صحته‪ ،‬وتم إيراد رواية مسلم له يف صفحة ‪.304‬‬
‫(‪ )2‬شرح النووي على صحيح مسلم؛ كتاب المساجد ومواضع الصالة؛ «باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصالة والتع ُّوذ منه»‪،‬‬
‫والحديث تم ذكره بالكامل يف صفحة ‪.304‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم «‪»229‬؛ كتاب «الذكر والدُّ عاء والتوبة واالستغفار»؛ باب «استحباب الدعاء عند صياح الديك»‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود «‪»5103‬؛ أبواب النوم‪ ،‬باب «ما جاء يف الديك والبهائم»‪ ،‬حسنه األرناؤوط؛ وصححه األلباين يف الصحيحة «‪.»3184‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪208‬‬

‫حين يحاول الجن ضمهم أو خنقهم أو أذيتهم‪ ،‬وكذلك يسمعون صوت كالم الجن وأنفاسهم‪.‬‬
‫قر بالجن وال يؤمن به من أرباب العلم الحديث؛ أن رؤية الجن وسماعهم‬
‫وادعى من ال ي ُّ‬
‫واإلحساس هبم مجرد أوهام وإيحاءات وأمراض نفسية‪ ،‬لكن كيف لهم أن ينكروا ذلك وهم لم‬
‫أصال‪ ،‬ولم يجعلوا له أي وزن يف أبحاثهم‪.‬‬
‫يعرفوا الجن ً‬

‫وإذا اتفقنا أن الجن من المحسوسات والماديات‪ ،‬فإنه بنا ًء على ذلك يمكن صناعة أجهزة‬
‫استشعار تتحسسهم وترصدهم‪ ،‬وهذا العمل يحتاج إلى أبحاث وتجارب حتى نصل إلى النتيجة‬
‫النهائية‪ .‬وما دام أن بعض الحيوانات والبشر تمكنوا من رؤية الجن على صورهم الحقيقة؛ وما دام‬
‫الشرع ال يقول باستحالة ذلك كما قرأنا من قبل؛ فال يستبعد أن تكون هناك قدرة على صناعة‬
‫أجهزة تصور لنا الجن وتظهرهم على صورهم الحقيقية‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫حيوانات ِمن الجن‪:‬‬

‫عن عبد اهلل بن الصامت‪ ،‬عن أبي ذر ﭬ قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َذا َقا َم َأ َحدُ ك ُْم ُي َصلي؛‬
‫الر ْح ِل؛ َفإِ َّن ُه َي ْق َط ُع‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الر ْح ِل‪َ ،‬فإِ َذا َل ْم َيك ُْن َب ْي َن َيدَ ْيه م ْث ُل آخ َرة َّ‬ ‫َفإِ َّن ُه َي ْست ُُر ُه إِ َذا ك َ‬
‫َان َب ْي َن َيدَ ْيه م ْث ُل آخ َرة َّ‬
‫ِ‬
‫ب ْاألَ ْس َو ُد»‪ ،‬قلت‪ :‬يا أبا ذر‪ ،‬ما بال الكلب األسود من الكلب األحمر‬ ‫المر َأ ُة َوا ْل َك ْل ُ‬
‫َص ََل َت ُه ا ْلح َم ُار َو ْ‬
‫ب ْاألَ ْس َو ُد‬
‫من الكلب األصفر؟ قال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬سألت رسول اهلل ﷺ كما سألتني‪ ،‬فقال‪« :‬ا ْل َك ْل ُ‬
‫َش ْي َطان»(‪.)1‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»510‬؛ كتاب «الصالة»؛ باب «قدر ما يستر المصلي»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪209‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫ب»‪ ،‬حتى إن المرأة تقدم من‬ ‫ول الل ِ ﷺ بِ َقت ِْل ا ْلكِ ََل ِ‬
‫وعن جابر بن عبد اهلل ﭬ قال‪َ « :‬أ َم َرنَا َر ُس ُ‬
‫البادية بكلبها فنقتله‪ُ « ،‬ث َّم ن ََهى النَّبِ ُّي ﷺ َع ْن َقت ِْل َها»‪ ،‬وقال‪َ « :‬ع َل ْيك ُْم بِ ْاألَ ْس َو ِد ا ْل َب ِهي ِم ِذي النُّ ْق َط َت ْي ِن‪،‬‬
‫َفإِ َّن ُه َش ْي َطان»(‪.)1‬‬

‫وعن الرباء بن عازب ﭬ‪ ،‬قال‪« :‬سئل رسول اهلل ﷺ عن الصالة يف مبارك اإلبل‪ ،‬فقال‪« :‬ال‬
‫«صلوا فيها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اإلبل‪ ،‬فإنها من َّ‬
‫الشياطين»‪ ،‬وسئل عن الصالة يف مرابض الغنم‪ ،‬فقال‪َ :‬‬ ‫بار ِك‬
‫ت َُصلوا يف َم ِ‬

‫فإنها َب َركة»»(‪.)2‬‬

‫اختلف العلماء يف معنى األحاديث السابقة‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬إن المقصود هو تشبيه الحيوانات‬
‫المذكورة بالشياطين يف طبائعها وصفاهتا‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إنها كذلك على وجه الحقيقة‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال غير ذلك‪ .‬قال اإلمام النووي ‪« :$‬قوله ﷺ‪« :‬بِ ْاألَ ْس َو ِد ا ْل َب ِهي ِم ِذي النُّ ْق َط َت ْي ِن‪َ ،‬فإِ َّن ُه َش ْي َطان»‪،‬‬
‫معنى البهيم‪ :‬الخالص السواد‪ ،‬وأما النُّقطتان فهما نقطتان معروفتان بيضاوان فوق عينيه‪ ،‬وهذا‬
‫وف‪ ،‬وقوله ﷺ‪َ « :‬فإِ َّن ُه َش ْي َطان» احتج به أحمد بن حنبل وبعض أصحابنا(‪ )3‬في أنه ال‬
‫مشاهدٌ معر ٌ‬
‫يجوز صيد الكلب األسود البهيم‪ ،‬وال يح ُّل إذا قتله ألنه شيط ٌ‬
‫ان‪ ،‬وإنما حل صيد الكلب‪ ،‬وقال‬
‫الشافع ُّي ومال ٌك وجماهير العلماء‪« :‬يح ُّل صيد الكلب األسود كغيره»‪ ،‬وليس المراد بالحديث‬
‫إخراجه عن جنس الكالب‪ ،‬ولهذا لو ولغ في إناء وغيره وجب غسله كما يغسل من ولوغ الكلب‬
‫األبيض»(‪.)4‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»1572‬؛ كتاب «المساقاة»؛ باب «األمر بقتل الكالب‪ ،‬وبيان نسخه‪ ،‬وبيان تحريم اقتنائها إال لصيد‪ ،‬أو زرع‪ ،‬أو ماشية‬
‫ونحو ذلك»‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود «‪»493‬؛ كتاب «الصالة»؛ باب «باب النهي عن الصالة يف مبارك اإلبل»‪ .‬وصححه األرناؤوط يف تحقيقه لسنن أبي‬
‫داود‪ ،‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي الشافعية‪.‬‬
‫(‪ )4‬شرح النووي على صحيح مسلم؛ يف شرحه للحديث الوارد أعاله‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪210‬‬

‫ولخص لنا ابن رجب األقوال واختصرها كما يلي‪[ :‬‬


‫النص؛ أنها خلقت من الشياطين‪ .‬قال‬ ‫ُّ‬ ‫‪ -1‬والمنصوص عن الشافعي‪ :‬التعليل بما ورد به‬
‫ت»(‪،)1‬‬ ‫اإلبِ ِل‪ ،‬فإنَّها ِج ٌّن‪ِ ،‬م ْن ِج ٍّن ُخ ِل َق ْ‬
‫ان ْ ِ‬‫الشافعي‪« :‬وفي قول النبي ﷺ‪َ « :‬ال ت َُص ُّلوا فِي َأ ْع َط ِ‬

‫ادي‪َ ،‬فإِ َّن ُه‬ ‫اخرجوا بِنَا ِمن ه َذا ا ْلو ِ‬


‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫دل ٌيل على أنه إنما نهى عنها‪ ،‬كما قال حين نام عن الصالة‪ُ ُ ْ « :‬‬
‫اد بِ ِه َش ْي َطان»(‪ ،)2‬فكره ﷺ أن يصلي قرب شيطان‪ ،‬وكذلك كره أن يصلي قرب اإلبل؛ ألنها‬ ‫و ٍ‬
‫َ‬
‫أيضا‪ ،‬وأنه ﷺ إنما‬
‫خلقت من جن‪ ،‬ال لنجاسة موضعها»(‪ .)3‬وذكر أبو بكر األثرم المعنى هذا ً‬
‫كره الصالة يف معاطن اإلبل؛ ألنها خلقت من الشياطين‪.‬‬
‫‪ -2‬وقد فسر ابن قتيبة خلق اإلبل من الشياطين بأنها خلقت من جنس خلقت منه الشياطين‪ .‬قال‪:‬‬
‫«وورد يف حديث آخر أنها خلقت من أعيان الشياطين‪ ،‬يريد من نواحيها وجوانبها»‪ .‬قال‪:‬‬
‫جنسا من اإلبل إلى الحوش‪ ،‬فتقول‪ :‬ناقة حوشية‪ ،‬وهي أنفر اإلبل‬
‫«ولم تزل العرب تنسب ً‬
‫إبال ببالد الحوش‪ ،‬وأنها ضربت يف نعم الناس فنتجت منها‬
‫وأصعبها‪ ،‬ويزعمون أن للجن ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رواه الشافعي يف األم معل ًقا؛ كتاب «الصالة»؛ باب «الصالة يف أعطان اإلبل ومراح الغنم»‪ ،‬ولم أجده هبذا اللفظ يف كتب الحديث‪.‬‬
‫(‪« )2‬عرس رسول اهلل ﷺ ليل ًة بطريق مكة‪ ،‬ووكل بال ًال أن يوقظهم للصالة‪ ،‬فرقد بال ٌل ورقدوا‪ ،‬حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم‬
‫الشمس‪ ،‬فاستيقظ القوم‪ ،‬وقد فزعوا‪ .‬فأمرهم رسول اهلل ﷺ أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي‪ ،‬وقال‪« :‬إن هذا واد به‬
‫شي ط ٌ‬
‫ان»‪ ،‬فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي‪ .‬ثم أمرهم رسول اهلل ﷺ أن ينزلوا‪ ،‬وأن يتوضأوا‪ ،‬وأمر بال ًال أن ينادي بالصالة‪ ،‬أو‬
‫يقيم‪ .‬فصلى رسول اهلل ﷺ بالناس‪ ،‬ثم انصرف إليهم‪ ،‬وقد رأى من فزعهم‪ ،‬فقال‪« :‬يا أ ُّيها الناس إن اهلل قبض أرواحنا‪ ،‬ولو شاء‬
‫لردها إلينا في حين غير هذا‪ ،‬فإذا رقد أحدكم عن الصالة أو نسيها‪ ،‬ثم فزع إليها‪ ،‬فليصلها‪ ،‬كما كان يصليها في وقتها»‪ .‬ثم التفت‬
‫رسول اهلل ﷺ إلى أبي بكر فقال‪« :‬إن الشيطان أتى بال ًال وهو قائ ٌم يصلي‪ ،‬فأضجعه‪ ،‬فلم يزل يهدئه‪ ،‬كما يهدأ الصب ُّي حتى نام»‪ ،‬ثم‬
‫دعا رسول اهلل ﷺ بال ًال‪ ،‬فأخبر بال ٌل رسول اهلل ﷺ مثل الذي أخبر رسول اهلل ﷺ أبا بكر‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أشهد أنك رسول اهلل‪ ».‬رواه‬
‫مالك يف موطئه «‪»26‬؛ وقوت الصالة؛ النوم عن الصالة‪ ،‬والحديث هبذا اللفظ مرسل‪.‬‬
‫(‪ )3‬األ ُّم للشافعي؛ كتاب «الصالة»؛ باب «جماع ما يصلى عليه وال يصلى من األرض»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪211‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫هذه الحوشية‪ ،‬فعلى هذا يجوز أن يراد أنها خلقت من نتاج نعم الجن‪ ،‬ال من الجن نفسها‪».‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫‪ -3‬ويجوز أن خلقت يف أصلها من نار‪ ،‬كما خلقت الج ُّن من نار‪ ،‬ثم توالدت كما توالدت الج ُّن‪.‬‬
‫واهلل تعالى أعلم‪.‬‬
‫‪ -4‬وزعم الخطابي أنها نسبت إلى الشياطين لما فيها من النفار ُّ‬
‫والشرود‪ ،‬قال‪ :‬والعرب تسمي‬
‫(‪)1‬‬
‫كل مارد شيطانًا‪ .‬وقال أبو عبيد‪ :‬المراد‪ :‬أنها يف أخالقها وطبائعها تشبه الشياطين‪].‬‬

‫والمتأمل يف هذه الخالفات؛ يجد أن ردها إلى ظاهر األحاديث لعله يكون األرجح‪ ،‬أي‬
‫نفسرها على حقيقتها كما قال رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وهو ما ذهب إليه اإلمامان الشافعي وابن حنبل‬
‫رحمهما اهلل ورضي عنهما‪ ،‬خاصة قد ثبت بالتجربة أن بعض الطبائع التي ذكروها يف الكلب‬
‫األسود ليست موجودة يف كل الكالب السوداء‪ ،‬وقد يشرتك يف هذه الطبائع أفراد كالب من ألوان‬
‫للتعرف أكثر على الجن وتركيبته‪ ،‬وذلك‬
‫أخرى‪ ،‬وترجيح هذا القول قد يفتح أمام الباحثين المجال ُّ‬
‫بإجراء التجارب على الحيوان المعني ومعرفة الفرق بينه وبين غيره‪ ،‬وقد يؤدي هذا إلى نتائج‬
‫مفيدة يف عالج الممسوسين‪ ،‬وكف اعتداءات الجن والشياطين على اإلنسان بال ُّطرق المحسوسة‪،‬‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬

‫أنواع الجن‪:‬‬

‫اء‪َ ،‬و ِصنْف‬


‫ون فِي ا ْل َهو ِ‬
‫َ‬ ‫َاف‪ِ ،‬صنْف َل ُه ْم َأ ْجن ِ َحة َيطِ ُير َ‬
‫جن َث ََل َث ُة َأصن ٍ‬
‫ْ‬ ‫قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ا ْل ِ ُّ‬
‫ُون»(‪ .)2‬لفظ هذا الحديث يقين ال شك فيه‪ ،‬وبعد هذا‬ ‫ون َو َي ْظ َعن َ‬ ‫حيات وكِ ََلب‪ ،‬و ِصنْف ي ِ‬
‫ح ُّل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري شرح صحيح البخاري البن رجب الحنبلي؛ كتاب الصالة؛ باب «الصالة يف مواضع اإلبل»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح ابن حبان «‪»4667‬؛ النوع «السادس والستون»؛ «ذكر وصف أجناس الجان التي عليها خلقت»‪ ،‬ومستدرك الحاكم‬
‫«‪»3702‬؛ واللفظ له‪ ،‬وصححه الحاكم والذهبي‪ ،‬واأللباين يف المشكاة «‪ ،»4148‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪212‬‬

‫الحديث قام العلماء السابقون بتصنيفات أخرى‪ ،‬منها ما هو مستنبط من هذا الحديث ومن القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ومنها ما هو مستنبط بالمالحظة والتجربة‪ ،‬وك ُّلها ال تصادم بينها‪ً ،‬‬
‫فمثال من العلماء من‬
‫قسمهم حسب قوهتم‪ ،‬أو أشكالهم‪ ،‬أو مكان عيشهم‪ ،‬أو قدراهتم وغير ذلك‪ ،‬واآلراء التي ال نص‬
‫صريح فيها؛ تعتبر اجتهادات بشري ًة تحتمل الصواب والخطأ‪.‬‬
‫ِ‬
‫مذاهب الجن‪:‬‬

‫قال اهلل ‪ ‬على لسان الجن‪ :‬ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ [الجن‪ ،]11 :‬يقول‬

‫القرطبي ‪« :$‬أي‪ :‬فر ًقا شتى‪ ،‬قاله ُّ‬


‫السد ُّي‪ .‬الضحاك‪ :‬أديانًا مختلفةً‪ .‬قتادة‪ :‬أهوا ًء متباينةً‪...‬‬
‫والمعنى‪ :‬أي لم يكن ك ُّل الجن كف ًارا بل كانوا مختلفين‪ :‬منهم كف ٌار‪ ،‬ومنهم مؤمنون صلحاء‪،‬‬
‫السد ُّي‪:‬‬
‫ومنهم مؤمنون غير صلحاء‪ .‬وقال المسيب‪ :‬كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس‪ .‬وقال ُّ‬
‫في الجن مثلكم قدريةٌ‪ ،‬ومرجئةٌ‪ ،‬وخوارج‪ ،‬ورافضةٌ‪ ،‬وشيعةٌ‪ ،‬وسني ٌة»(‪ .)1‬وروى ابن كثير ‪ $‬يف‬
‫ب الطعام إليكم؟ فقال‬
‫تفسيره بإسناد صحيح عن األعمش‪ ،‬قال‪« :‬تروح إلينا جن ٌّي‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما أح ُّ‬
‫األرز‪ .‬قال‪ :‬فأتيناهم به‪ ،‬فجعلت أرى ال ُّلقم ترفع وال أرى أحدً ا‪ .‬فقلت‪ :‬فيكم من هذه األهواء التي‬
‫فينا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬فما الرافضة فيكم؟ قال‪ :‬ش ُّرنا»(‪.)2‬‬

‫أن يخْ طِف األشياء؟‪:‬‬


‫هل ُيمكن للجن ْ‬

‫لما سأل سليمان ‪ :‬ﱡﭐ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱠ [النمل‪]38 :‬؛ رد عليه عفريت‬

‫ﱷﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱠ‬
‫ﱸ‬ ‫من الجن ممن كانوا حاضرين عنده بقوله‪ :‬ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲﱳ ﱴ ﱵ ﱶ‬
‫[النمل‪ ،]39 :‬فصرح بأن لديه االستطاعة يف إحضار عرش بلقيس إلى سليمان ڠ‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫دليل على‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي؛ سورة الجن؛ آية ‪.11‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير؛ سورة الجن؛ آية ‪.11‬‬
‫ُّ‬
‫‪213‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫أن لدى الجن قوة يف حمل األشياء ونقلها من مكان إلى آخر‪ ،‬وجاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى‪،‬‬
‫«أن رج ًال من قومه من األنصار خرج يصلي مع قومه العشاء‪ ،‬فسبته الج ُّن ففقد‪ ،‬فانطلقت امرأته‬
‫إلى عمر بن الخطاب ﭬ فقصت عليه القصة‪ ،‬فسأل عنه عمر قومه‪ ،‬فقالوا‪ :‬نعم خرج يصلي‬
‫العشاء ففقد‪ ،‬فأمرها أن تربص أربع سنين‪ ،‬فلما مضت األربع سنين أتته فأخبرته‪ ،‬فسأل قومها‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فأمرها أن تتزوج‪ ،‬فتزوجت‪ ،‬فجاء زوجها يخاصم في ذلك إلى عمر بن الخطاب‬
‫ﭬ‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب ﭬ‪ :‬يغيب أحدكم الزمان الطويل ال يعلم أهله حياته‪ ،‬فقال له‪ :‬إن‬
‫لي عذ ًرا يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬وما عذرك؟ قال‪ :‬خرجت أصلي العشاء‪ ،‬فسبتني الج ُّن‪ ،‬فلبثت‬
‫يال‪ ،‬فغزاهم ج ٌّن مؤمنون‪- ،‬أو قال‪ :‬مسلمون‪ ،‬شك سعيدٌ ‪ -‬فقاتلوهم‪ ،‬فظهروا‬
‫فيهم زمانًا طو ً‬
‫عليهم‪ ،‬فسبوا منهم سبايا‪ ،‬فسبوني فيما سبوا منهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬نراك رج ًال مسل ًما وال يح ُّل لنا سبيك‪،‬‬
‫فخيروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي‪ ،‬فاخترت القفول إلى أهلي‪ ،‬فأقبلوا معي‪ ،‬أما بالليل‬
‫فليس يحدثوني‪ ،‬وأما بالنهار فعصار ريح أتبعها‪ ،‬فقال له عمر ﭬ‪ :‬فما كان طعامك فيهم؟ قال‪:‬‬
‫الفول وما لم يذكر اسم اهلل عليه قال‪ :‬فما كان شرابك فيهم؟ قال‪ :‬الجدف‪ - ،‬أي ما ال يغطى من‬
‫الشراب‪ -‬قال‪ :‬فخيره عمر ﭬ بين الصداق وبين امرأته»(‪ ،)1‬وهذا دليل صريح على أن بعض‬
‫الجن يمكنهم خطف البشر‪.‬‬

‫وكتب التاريخ واألحداث السابقة والمعاصرة مليئة بمثل هذه القصص الحقيقية‪ ،‬فإن كان‬
‫الج ُّن قادرين على خطف البشر‪ ،‬فمن باب أولى أن تكون لهم قدرة على خطف وسرقة ما دون‬
‫ذلك‪ ،‬لكن الظاهر أن هذه القدرة ليست لجميعهم‪ ،‬كذلك ليست على اإلطالق يف كل حال‪ ،‬نسأل‬
‫اهلل أن يحفظنا ويعصمنا منهم‪ ،‬ومن كل من يريد بنا سو ًءا‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬السنن الكربى للبيهقي «‪»1557‬؛ جماع أبواب «عدة المدخول هبا»؛ باب «من قال بتخيير المفقود إذا قدم بينها وبين الصداق ومن‬
‫أنكره»‪ ،‬وصححه األلباين يف اإلرواء «‪.»1709‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪214‬‬

‫الجن ِ‬
‫وع ْلم ال َغ ْيب‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫تحدثت عن علم الغيب وأنواعه يف فصل «علم الغيب»‪ ،‬ومن الواضح أن عالم الجن ليس من‬
‫الغيب المطلق المختص باهلل ‪ ‬وحده دون غيره‪ ،‬إذ إنهم مخلوقات منتشرون يف كل مكان‪،‬‬
‫يعرفون بعضهم‪ ،‬ويتحدثون مع بعض‪ ،‬وعالمون بخفايا أنفسهم وأسرارها‪ ،‬كذلك تعرفهم‬
‫المالئكة وتراهم‪ ،‬فهم بالنسبة لنا من الغيب النسبي‪ ،‬ونقصد الغيب النسبي الذي يمكن معرفته بال‬
‫وحي‪ ،‬وذلك ألنهم يتحدثون إلى البشر‪ ،‬ويتعاونون مع بعضهم‪ ،‬ويح ُّس هبم كثير من الناس‪،‬‬
‫ومخلوقون من مادة النار التي نعرفها‪ ،‬وغذاؤهم من مواد بعضها محسوسة‪ ،‬ونرى آثارهم مثلما‬
‫الس ْم َع َف َي ْق ِذ ُف َ‬
‫ون إِ َلى‬ ‫ف ا ْل ِ‬
‫ج ُّن َّ‬ ‫رآها الصحابة ﭫ‪ ،‬وقرأنا ساب ًقا قول الرسول ﷺ‪َ « :‬فتَخْ َط ُ‬
‫أن التواصل بني اجلن وأوليائهم من اإلنس يقع مبارشة‪،‬‬ ‫َأ ْولِ َيائِ ِه ْم»(‪ ،)1‬وهذا تأكيدٌ من رسول اهلل ﷺ َّ‬
‫لذا بال شك فإهنم من علم الغيب النسبي الذي يمكنه معرفته بال وحي‪.‬‬

‫لذا علينا أال نتهم من يبحث عن الجن وأذيته بالشرك أو العصيان؛ الدعائنا أن ذلك من علم‬
‫الغيب الذي ال يمكن ولوجه ومعرفته‪ ،‬ولنبحث عنه بطرق علمية حديثة منضبطة بالشرع‪ ،‬وليس‬
‫قول بال‬
‫بطريق القيل والقال وقص القصص والحكايات‪ ،‬ولنتوقف عن تحريم ما أحل اهلل‪ ،‬والت ُّ‬
‫علم وال دليل شرعي وال عقلي‪.‬‬

‫الجن والعقيدة‪:‬‬
‫ُّ‬

‫فهم البعض أن اإليمان بالجن وما يتعلق به من سحر وغيره أصل من أصول العقيدة‪،‬‬
‫يير للعقيدة‪ ،‬وتعليلهم هو أن أغلب كتب العقيدة‬ ‫وأن التك ُّلم عن هذه األشياء طع ٌن وتش ٌ‬
‫كيك وتغ ٌ‬
‫تحدثت عن الجن والسحر وغير ذلك‪ ،‬وهذا فهم خاطئ منهم‪ ،‬إذ إن األصل يف العقيدة أن تؤمن‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تم ذكر الحديث وتخريجه يف صفحة ‪.28‬‬
‫ُّ‬
‫‪215‬‬ ‫اجلن‬
‫ِ‬

‫وتصدق وتعتقد بكل ما جاء يف القرآن وثبت عن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬هذا هو األصل وهذه هي العقيدة‪،‬‬
‫والسنة وغاب عنا ولم نره من غيب مطلق أو‬
‫من نتائج ذلك وفروعه‪ :‬اإليمان بما جاء يف القرآن ُّ‬
‫والسنة‪ ،‬ومثل المالئكة‬
‫نسبي‪ ،‬مثل األنبياء السابقين وقصصهم مع أقوامهم كما وردت يف القرآن ُّ‬
‫والسنة مما نستطيع أن نراه أو نشعر به‬
‫أيضا اإليمان بما جاء يف القرآن ُّ‬
‫والجنة والنار‪ ،‬ومن ذلك ً‬
‫بحواسنا‪ ،‬سواء كان الجن أو السحر‪ ،‬أو كانت الحيوانات واألشجار والثمار الموجودة يف القرآن‬
‫والسنة النبوية‪.‬‬
‫الكريم ُّ‬

‫السنة‬
‫والسنة يعتبر من الغيب المطلق‪ ،‬بل جاء يف القرآن وثبت يف ُّ‬ ‫فليس ُّ‬
‫كل ما جاء يف الكتاب ُّ‬
‫أمور كثيرة من الغيب النسبي‪ ،‬وكذلك أمور دنيوية معلومة‪ ،‬علينا أن نعتقد ونوقن أن كل ذلك‬
‫ص ٌ‬
‫دق وحقيقي واقع‪ ،‬سواء كان من علم الغيب المطلق‪ ،‬أو الغيب النسبي بنوعيه‪ ،‬أو من المعلوم‬
‫مسب ًقا عن طريق حواس اإلنسان‪.‬‬

‫محاوالت لتعريفات معاصرة‪:‬‬

‫ذهب بعض المعاصرين إلى أن الجن مخلوقات كهربائية‪ ،‬أو عبارة عن موجات‬
‫كهرومغناطيسية‪ ،‬أو عبارة عن طاقة سلبية‪ ،‬بمعنى آخر‪ :‬أنها مخلوقات فيزيائية‪ ،‬وال مانع أن يكون‬
‫صحيحا‪ ،‬لكن ينقص ذلك اإلثبات العلمي‪.‬‬
‫ً‬ ‫أحد هذه األقوال‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪216‬‬
‫‪217‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫العين والحسد‬

‫الروحية فت ًكا وانت ً‬


‫شارا‪ ،‬ثم الحسد‪ .‬وهما مع اختالفهما يف تأثيرهما‬ ‫العين هي أشدُّ األمراض ُّ‬
‫وآلية عملهما؛ إال أنهما يشتركان يف أنهما يخرجان من كائن حي إلى أي شيء فيصيبانه‪.‬‬

‫والح َسد‪:‬‬ ‫ِ‬


‫ماه َية ال َعين َ‬

‫ال يعرف ماهية العين والحسد بطريقة جازمة قاطعة أحدٌ إلى اآلن ‪-‬حسب علمي القاصر‪،-‬‬
‫ألنه ليس هناك دليل نقلي على تعريفهما‪ ،‬ولم تقم أبحاث معاصرة تدرسها‪ ،‬فليس أمامنا إال كالم‬
‫القدماء‪ ،‬فأنقل مقتطفات مما ذكره اإلمام ابن القيم ‪ $‬فيقول‪:‬‬

‫«وال ريب أن اهلل سبحانه خلق في األجسام واألرواح ق ًوى وطبائع مختلفةً‪ ،‬وجعل في كثير‬
‫منها خواص وكيفيات مؤثرةً‪ ،‬وال يمكن لعاقل إنكار تأثير األرواح يف األجسام‪ ،‬فإنه أم ٌر مشاهدٌ‬
‫وس‪ ،‬وأنت ترى الوجه كيف يحم ُّر حمر ًة شديد ًة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه‪،‬‬
‫محس ٌ‬
‫ويصف ُّر صفر ًة شديد ًة عند نظر من يخافه إليه‪ ،‬وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه‪،‬‬
‫وهذا ك ُّله بواسطة تأثير األرواح‪ ،‬ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها‪ ،‬وليست هي الفاعلة‪،‬‬
‫وإنما التأثير ل ُّلروح‪ ،‬واألرواح مختلف ٌة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها‪ ،‬فروح الحاسد‬
‫مؤذي ٌة للمحسود أ ًذى بينًا»(‪ ،)1‬وقال ‪:$‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل «الطب النبوي»؛ فصل «يف هديه ﷺ يف عالج المصاب بالعين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪218‬‬

‫«فقالت طائفةٌ‪ :‬إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة‪ ،‬انبعث من عينه قو ٌة سمي ٌة تتصل‬
‫بالمعين‪ ،‬فيتضرر‪....‬‬

‫وقالت فرق ٌة أخرى‪ :‬ال يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيف ٌة غير مرئية‪ ،‬فتتصل‬
‫بالمعين‪ ،‬وتتخلل مسام جسمه‪ ،‬فيحصل له الضرر»‪،‬‬

‫ثم يقول ‪« :$‬وهي سها ٌم تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه‬
‫تار ًة‪ ،‬وتخطئه تار ًة»(‪.)1‬‬

‫ون‪ ،‬ورج ٌل‬


‫وقال اإلمام ابن حجر ‪« :$‬تقول عنت الرجل‪ :‬أصبته بعينك‪ ،‬فهو معي ٌن ومعي ٌ‬
‫وب بحسد من خبيث الطبع‪ ،‬يحصل للمنظور‬ ‫ان وعي ٌ‬
‫ون‪ ،‬والعين نظ ٌر باستحسان‪ ،‬مش ٌ‬ ‫عائ ٌن ومعي ٌ‬
‫منه ضر ٌر‪ ... ،‬وقد أشكل ذلك على بعض الناس‪ ،‬فقال‪ :‬كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل‬
‫الضرر للمعيون؟ والجواب‪ :‬أن طبائع الناس تختلف‪ ،‬فقد يكون ذلك من سم يصل من عين‬
‫العائن في الهواء إلى بدن المعيون‪ ،‬وقد نقل عن بعض من كان معيانًا أنه قال إذا رأيت شي ًئا يعجبني‬
‫وجدت حرار ًة تخرج من عيني‪ ...،‬وقال المازر ُّي‪ :‬زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه‬

‫قو ٌة سمي ٌة تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد‪ ،‬وهو كإصابة ُّ‬


‫السم من نظر األفاعي‪ ،‬وأشار إلى منع‬
‫السنة‪ :‬أن العين إنما تض ُّر عند نظر‬
‫الحصر في ذلك مع تجويزه‪ ،‬وأن الذي يتمشى على طريقة أهل ُّ‬
‫العائن بعادة أجراها اهلل تعالى؛ أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آلخر‪ ،‬وهل ثم جواهر خفي ٌة‬
‫أو ال؟ هو أم ٌر محتم ٌل ال يقطع بإثباته وال نفيه‪ ،‬ومن قال ممن ينتمي إلى اإلسالم من أصحاب‬
‫الطبائع بالقطع «بأن جواهر لطيف ًة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل بالمعيون وتتخلل مسام‬
‫السموم»؛ فقد أخطأ بدعوى‬
‫جسمه فيخلق الباري الهالك عندها كما يخلق الهالك عند شرب ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪219‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫القطع‪ ،‬ولكن جائ ٌز أن يكون عاد ًة ليست ضرور ًة وال طبيع ًة‪.‬اهـ‪ .‬وهو كالم سديد‪ ...‬والحاصل أن‬
‫ورا على االتصال الجسماني‪ ،‬بل يكون تار ًة به‪ ،‬وتار ًة‬
‫التأثير بإرادة اهلل تعالى وخلقه ليس مقص ً‬
‫الرقى‬
‫الروح‪ ،‬كالذي يحدث من األدعية و ُّ‬
‫الرؤية‪ ،‬وأخرى بتو ُّجه ُّ‬
‫بالمقابلة‪ ،‬وأخرى بمجرد ُّ‬
‫وااللتجاء إلى اهلل‪ ،‬وتار ًة يقع ذلك بالتو ُّهم والتخ ُّيل‪ ،‬فالذي يخرج من عين العائن سه ٌم معنو ٌّي؛ إن‬
‫صادف البدن ال وقاية له أثر فيه‪ ،‬وإال لم ينفذ السهم‪ ،‬بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي‬
‫سوا ًء‪.)1(».‬‬

‫أما التفسير العصري فلعدم إجراء أبحاث خاصة العين يف معامل أو مختربات فليس لدينا‬
‫تفسير جازم‪ ،‬لكن لدى الرقاة وغيرهم فرضيات شخصية مختلفة‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أنها أيونات‪،‬‬
‫فالعين عبارة عن أيونات موجبة تزيد المعيون تأ ُّينًا بالموجب‪ ،‬والحسد عبارة عن أيونات سالبة‬
‫تزيد المحسود تأ ُّينًا بالسالب‪ .‬وقال من درس الطب الصيني‪ :‬إنهما عبارة عن طاقة سلبية تعطل‬
‫مسارات الطاقة اإليجابية يف جسم اإلنسان‪ ،‬وبعض من درس الطب اليوناين قال‪ :‬إن العين عبارة‬
‫عن موجات لها طبع معين‪ ،‬تصيب المعيون أو المحسود فتغير يف طبعه‪.‬‬

‫ُّ‬
‫وكل ما سبق من تعريفات القدماء والمعاصرين؛ ليس عليه دليل نقلي؛ وال أبحاث علمية‬
‫كثيرا من الدقائق والتفاصيل حولها‪.‬‬
‫حتى نجزم بالماهية‪ .‬وألننا تجاهلنا هذه المسائل؛ فقد جهلنا ً‬

‫وقد نجد اختال ًفا يف المصطلحات بين السابقين والمعاصرين‪ ،‬فلقد كان الحسد ساب ًقا يطلق‬
‫على كل ما يخرج من اإلنسان من عين أو غبطة أو تمني زوال النعم‪ ،‬لكن مع مرور الزمن فإن هذا‬
‫المعنى العام قد تغير استعماله‪ ،‬ويف عصرنا فرق بين الحسد والعين والغبطة‪ ،‬وال مشاحة يف‬
‫االصطالح‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر؛ شرح «قوله‪ :‬باب رقية العين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪220‬‬

‫ال َعين‪:‬‬

‫فأما العين فهي من المحبة واإلعجاب‪ ،‬وغال ًبا تصيبك من شخص قريب منك‪ ،‬ربما عزيز‬
‫وغال عليك‪ ،‬تح ُّبه ويح ُّبك‪ ،‬يعجب بخصلة أو ميزة فيك‪ ،‬قد يكون أحد والديك أو أبنائك‪ ،‬أو‬
‫الزوج أو أحد األقارب أو الجيران‪ ،‬وقد يكون أحد زمالئك يف المدرسة أو العمل أو الحي‪ ،‬أو أي‬
‫شخص تكون بينك وبينه مود ٌة ومعرفة‪ ،‬وربما تكون أنت من أصبت نفسك هبذه العين‪ .‬وهذه‬
‫العين مثل التي خرجت من الصحابي الجليل عامر بن ربيعة ﭬ فأصابت الصحابي الجليل سهل‬
‫بن حنيف ﭬ مسبب ًة له إغما ًء مفاج ًئا‪ .‬وقصة هذين الصحابيين الجليلين مشهورة وردت بعدة‬
‫روايات يف عدة مراجع‪ ،‬منها‪« :‬عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف‪ ،‬أنه قال‪ :‬رأى عامر بن ربيعة ‪-‬‬
‫ﭬ‪ -‬سهل بن حنيف ‪-‬ﭬ‪ -‬يغتسل‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل ما رأيت كاليوم وال جلد مخبأة‪ ،‬فلبط(‪ )1‬سه ٌل‬
‫مكانه‪ ،‬فأتي رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هل لك في سهل بن حنيف؟ واهلل ما يرفع رأسه‪،‬‬
‫ون ِبه ِم ْن َأ َح ٍد؟» فقالوا‪ :‬نتهم عامر بن ربيعة‪ ،‬قال‪ :‬فدعا رسول اهلل ﷺ عامر بن‬ ‫فقال‪َ « :‬ه ْل َتت َِّه ُم َ‬
‫ْت؟ ا ْغت َِس ْل َل ُه»‪ ،‬فغسل له عام ٌر وجهه‬
‫ربيعة‪ ،‬فتغيظ عليه‪ ،‬فقال‪َ « :‬ع ََل َم َي ْقت ُُل َأ َحدُ ك ُْم َأ َخا ُه؟ َأ َال َب َّرك َ‬
‫ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح‪ ،‬ثم صب عليه‪ ،‬فراح سهل بن حنيف‬
‫مع الناس ليس به بأ ٌس»(‪ .)2‬وحاشا هذين الصحابيين ﭭ أن تكون بينهما عداو ٌة أو بغضاء‪،‬‬
‫يحب صاحبه يف اهلل‪ ،‬ويتعاملون كاإلخوان تما ًما‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فكالهما‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬لبط‪ :‬صرع وسقط‪.‬‬
‫(‪ )2‬موطأ اإلمام مالك برواية الزهري «‪»1972‬؛ كتاب «الجامع»‪ ،‬باب «الوضوء من العين»‪.‬‬
‫‪221‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫فوائد ِمن الحديث‪:‬‬

‫ذكر الحافظ ابن حجر عدة فوائد من هذا الحديث‪ ،‬فقال ‪« :$‬وفي الحديث من الفوائد‬
‫أي ًضا أن العائن إذا عرف يقضى عليه باالغتسال‪ ،‬وأن االغتسال من النُّشرة النافعة‪ ،‬وأن العين تكون‬
‫مع اإلعجاب ولو بغير حسد‪ ،‬ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح‪ ،‬وأن الذي يعجبه‬
‫الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدُّ عاء للذي يعجبه بالبركة‪ ،‬ويكون ذلك رقي ًة منه‪ ،‬وأن الماء المستعمل‬
‫طاه ٌر‪ ،‬وفيه جواز االغتسال بالفضاء‪ ،‬وأن اإلصابة بالعين قد تقتل»(‪ .)1‬وقد أضفت بعض الفوائد‬
‫ها هنا‪:‬‬

‫‪ -1‬سرعة تأثير العين على الجسم‪.‬‬


‫‪ -2‬اإلرشاد النبوي يف العالج بالبحث عن العائن ً‬
‫أوال‪ ،‬وأن ذلك ليس من علم الغيب المطلق‪،‬‬

‫وإال لما سأل رسول اهلل ﷺ أصحابه ﭫ عن ذلك‪.‬‬

‫‪ -3‬اغتسال المعيون بغسل العائن عالج مقطوع بصحته‪ ،‬إلقرار رسول اهلل ﷺ بذلك‪ ،‬وهو سيد‬
‫األطباء والعلماء عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫الرقية إذا أمكن أخذ أثر العائن‪ ،‬وأنه أسرع وأكثر فائدة‪،‬‬
‫‪ -4‬أن هذا العالج مقد ٌم على العالج ب ُّ‬
‫الرقية إال أنه لم يلجأ إليها يف هذه الحادثة‪ ،‬بل فضل عليها‬
‫ألنه مع قدرة الرسول ﷺ على ُّ‬
‫العالج بأخذ األثر‪.‬‬
‫‪ -5‬إرشاد الرسول ﷺ إلى التربيك حتى ال تصيب عين العائن‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر؛ قوله‪« :‬باب العين حق»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪222‬‬

‫ال َّت ْبريك‪:‬‬

‫عامرا ﭬ على اإلعجاب‪ ،‬فهذا أمر طبيعي من كل البشر‪ ،‬لكنه ﷺ المه‬


‫لم يلم الرسول ﷺ ً‬
‫على عدم كسر العين بالتربيك‪ ،‬فنجد أن توجيه الرسول ﷺ للعائن هو التبريك حتى ال تضر عينه‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬اللهم بارك‪ ،‬أو بارك اهلل؛ وينتشر بين الناس أن العائن إذا ذكر اهلل ‪ ‬بأي صيغة؛ أو صلى‬
‫السنة‪ ،‬وربما نفع‬ ‫على رسول اهلل ﷺ؛ فإن عينه ال تضر‪ ،‬ويف الحقيقة ليس لهذا القول ٌ‬
‫دليل من ُّ‬
‫دائما هو توجيه الرسول ﷺ‪،‬‬
‫ذلك مع البعض بالتجربة أو المصادفة‪ ،‬لكن األنفع واألجدى ً‬
‫وتوجيهه ﷺ للعائن هو التبريك‪ .‬كذلك ينتشر بين الناس أن قول العائن‪ :‬ما شاء اهلل؛ تكسر عينه‬

‫فال تصيب‪ ،‬لما جاء يف قصة صاحب الجنة يف القرآن‪ :‬ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ‬

‫ﱿ ﲀﱠ [الكهف‪]39 :‬؛ والمتأمل للحديث السابق واآلية يجد أن اآلية تخ ُّ‬


‫ص العائن عندما يعجب‬
‫بشيء يخ ُّصه أو يمتلكه‪ ،‬كإعجابه بنفسه أو ماله أو أهله أو أوالده‪ ،‬وليس للعائن الذي يعجب‬
‫بغيره‪ ،‬ولفظة «ما شاء اهلل» يف اآلية لم تأت مفردة‪ ،‬بل اقترنت مع «ال قوة إال باهلل»‪ ،‬وليس يف هذه‬
‫أي دليل آخر يثبت غير هذه اآلية‪ ،‬قال الشيخ ابن عثيمين ‪« :$‬األحسن إذا كان‬
‫األلفاظ للعائن ُّ‬
‫اإلنسان يخاف أن تصيب عينه أحد ًا إلعجابه به أن يقول‪« :‬تبارك اهلل عليك»؛ ألن النبي صلى اهلل‬
‫عليه وعلى آله وسلم قال للرجل الذي أصاب أخاه بعين‪« :‬هال بركت عليه»‪ ،‬أما ما شاء اهلل ال قوة‬
‫إال باهلل فهذه يقولها من أعجبه ملكه‪ ،‬كما قال صاحب الجنة لصاحبه‪.)1( ».‬‬

‫أسباب االنتِشار‪:‬‬

‫شارا‪ ،‬وسبب انتشارها يف زمننا هذا خاص ًة له عدة‬


‫عين اإلعجاب هي أكثر األمراض انت ً‬
‫أسباب‪ ،‬منها ما يلي‪:‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أسئلة لقاء الباب املفتوح «‪.»235‬‬
‫‪223‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫عود على ذلك‪.‬‬


‫‪ -1‬الغفلة عن التبريك كقول‪« :‬بارك اهلل» أو «اللهم بارك»‪ ،‬وعدم الت ُّ‬
‫فقديما كان ال يعرف الشخص إال عد ٌد محدو ٌد ممن حوله يف مكان‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬كثرة الناس والمعارف‪،‬‬
‫السكان‪ ،‬واتساع‬
‫إقامته أو بعض األمصار التي يسافر إليها‪ ،‬أما اآلن فكثر المعارف مع ازدياد ُّ‬
‫المدن‪ ،‬كما أن شهرة الشخص تصل إلى عدد أكرب‪ ،‬ومسافة أبعد‪ ،‬بسبب وسائل اإلعالم التي‬
‫نراها بين أيدينا اليوم ومواقع التواصل االجتماعي وشبكة اإلنرتنت‪.‬‬
‫فقديما‬
‫ً‬ ‫‪ -3‬بعكس ما كان يف السابق فإننا لم نعد نأخذ من آثار بعضنا كما كان يحدث يف السابق‪،‬‬
‫كان جميع الناس يأكلون من صحن واحد‪ ،‬ويشربون من كأسات واحدة‪ ،‬ويتوضؤون من‬
‫حوض واحد‪ ،‬وبواقي أكلهم من الطعام مثل الحبوب والخضار ونوى التمر وغيره كانوا‬
‫يعطونه غذا ًء لحيواناتهم؛ ثم يشربون حليب هذه الحيوانات ويأكلون من بيضها ولحمها‪،‬‬
‫وكان الماء غال ًبا مصدره بئر واحدة تنزل فيه أواين الناس حاملة بصماهتم‪ ،‬فيمتلئ ماء البئر‬
‫بآثارهم‪ ،‬فكانت دائرة األثر تدور بين الناس‪ ،‬وكان الجميع يأخذ من آثار غيرهم من دون أن‬
‫يشعروا بذلك‪ .‬لكننا يف زماننا هذا أصبحنا ال نشارك أحدً ا يف طعامنا وشرابنا‪ ،‬بل أحيا ًنا نأكل‬
‫ونشرب يف صحون وكأسات من البالستيك ونرميها‪ ،‬كما أننا أصبحنا نسكن يف أماكن‬
‫ب من‬
‫متباعدة فقلت لقاءاتنا‪ ،‬وازداد انشغالنا بأنفسنا فندرت اجتماعاتنا‪ ،‬وماء الحمام يص ُّ‬
‫الصنبور إلى المجاري‪ ،‬فال يجعلنا نتشارك يف آثارنا‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -4‬الضعف الصحي للجسم‪ ،‬فقد خلق اهلل يف الجسم مناعة ضد األمراض‪ ،‬ومنها مناعة ضد‬
‫الروحية‪ ،‬لكنه بسبب إهمالنا لصحتنا؛ لفقد األكل الصحي‪ ،‬وحياتنا غير الصحية‪،‬‬
‫األمراض ُّ‬
‫وابتعادنا عن الطب األصيل؛ فإننا عطلنا هذه المناعات‪ ،‬وجعلنا الجسم يتقبل األمراض‬
‫والعيون بكل سهولة لألسف الشديد‪.‬‬
‫‪ -5‬أقبل الناس بشكل كبير على الدنيا‪ ،‬وأصبح كثير من األمور الدُّ نيوية والشكلية مثار اهتمامهم‪،‬‬
‫حتى صارت عند الكثيرين أكرب همهم ومبلغ علمهم‪ .‬ولو تعلق اإلنسان باآلخرة وما أعد فيها‬
‫من نعيم وعقاب‪ ،‬وفهم ذلك حق الفهم؛ لما تعجب يف الدنيا من عجيب‪ ،‬وال استغرب فيها‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪224‬‬

‫من غريب‪ ،‬ولرأى كل متعها صغيرة ذليلة‪ ،‬والدنيا ك ُّلها ال تعدل عند اهلل جناح بعوضة‪ .‬وقد‬
‫قديما كيف أن الفقراء يتركون حاجياهتم وضرورياهتم لكي يجمعوا ً‬
‫ماال يح ُّجون به‬ ‫كنا نسمع ً‬
‫إلى بيت اهلل الحرام؛ مع أنهم معذورون لعدم استطاعتهم‪ ،‬أما اآلن فقد قلب الناس‬
‫الكماليات إلى ضروريات‪ ،‬وأصبح الغالب ه ُّمه كيف يجمع ً‬
‫ماال ليشتري هذه الكماليات‪.‬‬

‫هل ضعف اإليمان سبب لإلصابة بالعين؟‬

‫ف يف اإليمان لدى العائن أو المعيون‬


‫ما يظنُّه الناس أن سبب حصول العين وإصابتها؛ ضع ٌ‬
‫يحا للزم أن نقول‬
‫فهذا أمر ال دليل عليه‪ ،‬والتجارب تدل على تخطئته‪ ،‬ولو كان ما يظنُّه الناس صح ً‬
‫إن الصحابيين الجليلين عامر بن ربيعة ﭬ ‪-‬العائن‪ -‬وسهل بن حنيف ﭬ ‪-‬المعيون‪ -‬كان‬

‫هناك نقص يف إيماهنم حالة اإلصابة بالعين‪ ،‬وهذا لم يقل به أحد من المسلمين من قبل‪.‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫إذا علم المعيون الشخص الذي أصابه بعين اإلعجاب؛ فعليه أن يتخلص من العين‪ ،‬وال يأخذ‬
‫يف نفسه شي ًئا على العائن‪ ،‬وإنما ينصحه –إن استطاع‪ -‬أن يعود نفسه على التبريك وقول‪« :‬بارك‬
‫اهلل» عندما يرى شي ًئا يعجبه‪ ،‬أو أن يدعو بالبركة‪ ،‬وال يسهل المعيون طري ًقا للشيطان ليفرق بينه‬
‫وبين معارفه بسبب العين وسوء ال ُّظنون واألوهام‪.‬‬

‫الح َسد‪:‬‬
‫َ‬

‫وأما تعريف الحسد يف عصرنا فهو تمني زوال النعمة‪ ،‬وحرق ٌة يف النفس الفاسدة على نعمة‬
‫رزقك اهلل إياها‪ ،‬فيكون من شخص حاقد معترض على قضاء اهلل‪ ،‬وقد يكون مناف ًقا تظهر منه‬
‫المحبة والطيبة‪ ،‬ولكن قلبه يخفي الحسد والحقد والمكر‪ ،‬وبد ًال من أن يحمد اهلل ويشكره على‬
‫النعم التي وهبها إياه؛ يتمنى ويشتاق لزوال النعم من عندك‪ ،‬أعاذنا اهلل جمي ًعا من هؤالء‪ .‬وقد أثبت‬

‫اهلل ‪ ‬وقوع الحسد على المسلمين‪ ،‬فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ‬


‫‪225‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒﱠ [البقرة‪ ،]109 :‬وال‬


‫شك أن هذا الحسد على المسلمين واقع يف كل زمان ومكان ممن عرف الحق من الكفار ثم لم‬
‫يؤمن به‪ ،‬بل إنه بالعكس يتمنى أن تزول نعمة اإلسالم واإليمان واألخالق من عند المسلمين‪،‬‬
‫نسأل اهلل السالمة والعافية‪.‬‬
‫النَّ ْفس‪ِ -‬‬
‫الغبطة‪:‬‬

‫يعرف بعضهم النفس بأنه شيء مختلف عن عين اإلعجاب‪ ،‬وهو تمني الشيء‪ ،‬أو تمني ما‬
‫عند اآلخرين‪ ،‬من دون محبة أو تع ُّلق بصاحب الشيء‪ ،‬وذلك الغبطة‪ ،‬ويدعون أنها تؤثر يف‬
‫المعجب به‪ ،‬كما أنهم يفرقون بين العين والنفس يف طريقة التشخيص والعالج‪ ،‬وذلك بخالف من‬
‫يقول أن النفس والعين شيء واحد‪ ،‬وأن لهما نفس العالج‪ ،‬وقد يثبت مع الوقت صحة هذا القول‪،‬‬
‫وربما يتبين لنا صحة القول اآلخر‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫ولقد ذكرت ساب ًقا أن الحسد كان يطلق على العين والغبطة كذلك‪ ،‬وقسم البعض الحسد إلى‬
‫حسد مذموم ‪-‬وقيل‪ :‬الحسد الحقيقي‪ ،-‬وذلك الذي فيه تمني زوال النعمة‪ ،‬وحسد محمود ‪-‬‬
‫وقيل‪ :‬الحسد المجازي‪ ،-‬وهو تمني الحصول على ما عند الغير من دون تمني زوال النعمة‪ ،‬وهو‬
‫ِ‬
‫َاب‪،‬‬‫ما يسمى بالغبطة‪ .‬قال رسول اهلل ﷺ عن الغبطة‪َ « :‬ال َح َسدَ إِ َّال َع َلى ا ْثنَ َت ْي ِن‪َ :‬ر ُجل آتَا ُه اللُ الكت َ‬
‫ار»(‪ ،)1‬ويف حديث آخر‪َ « :‬ال‬ ‫َو َقا َم ِب ِه آنَا َء ال َّل ْي ِل‪َ ،‬و َر ُجل َأ ْع َطا ُه اللُ َم ًاال‪َ ،‬ف ُه َو َيت ََصدَّ ُق ِب ِه آنَا َء ال َّل ْي ِل َوالن ََّه ِ‬

‫ار‪َ ،‬ف َس ِم َع ُه َجار َل ُه‪َ ،‬ف َق َال‪:‬‬ ‫َح َسدَ إِ َّال فِي ا ْثنَ َت ْي ِن‪َ :‬ر ُجل َع َّل َم ُه اللُ ا ْل ُق ْر َ‬
‫آن‪َ ،‬ف ُه َو َي ْت ُلو ُه آنَا َء ال َّل ْي ِل‪َ ،‬وآنَا َء الن ََّه ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫يت ِم ْث َل ما ُأوتِي ُفَلَن‪َ ،‬فع ِم ْل ُ ِ‬ ‫َل ْيتَنِي ُأوتِ ُ‬
‫الحق‪،‬‬‫ت م ْث َل َما َي ْع َم ُل‪َ ،‬و َر ُجل آتَا ُه اللُ َم ًاال َف ُه َو ُي ْهل ُك ُه في َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»4737‬؛ كتاب «فضائل القرآن»؛ باب «اغتباط صاحب القرآن»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪226‬‬

‫ت ِم ْث َل َما َي ْع َم ُل»(‪ ،)1‬ويف حديث آخر قال ﷺ‪َ « :‬ال‬ ‫يت ِم ْث َل َما ُأوتِ َي ُفَلَن‪َ ،‬ف َع ِم ْل ُ‬
‫َف َق َال َر ُجل‪َ :‬ل ْيتَنِي ُأوتِ ُ‬
‫آخ ُر آتَا ُه اللُ ِحك َْم ًة َف ُه َو‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َسدَ إِ َّال في ا ْثنَ َت ْي ِن‪َ :‬ر ُجل آتَا ُه اللُ َم ًاال‪َ ،‬ف َس َّل َط ُه َع َلى َه َلكَته في َ‬
‫الحق‪َ ،‬و َ‬
‫َي ْق ِضي بِ َها َو ُي َعل ُم َها»(‪ ،)2‬وهذه أدلة أن الغبطة أو النفس ال تؤثر بضرر أو بسوء على ما ورد يف هذه‬
‫األحاديث؛ من تالوة القرآن‪ ،‬والتصدُّ ق بالمال‪ ،‬والعمل بالعلم والحكمة وتعليمهما‪.‬‬

‫والح َسد ِ‬
‫بالجن‪:‬‬ ‫َعَلقة ال َعين َ‬

‫العين والحسد غال ًبا يصحبهما الج ُّن‪ ،‬فيعتبران مثل المدخل له‪ ،‬وكذلك مقو ًيا لربطه بالجسد‪،‬‬
‫سبب يسمح للجن بالدُّ خول والخروج‪ ،‬ومهما حاول الراقي أو المريض إخراج‬
‫ٌ‬ ‫وهذا المدخل‬
‫المس فإنه سيعود‪ ،‬فكونه قد أصيب ساب ًقا بالعين أو الحسد؛ فإن ذلك قد فتح يف جسده مد ً‬
‫خال‬
‫مثل النافذة للجن‪ ،‬وللتخ ُّلص من هذا الجن؛ فإنه يجب إغالق هذه المداخل والنوافذ بالتخ ُّلص‬
‫من العيون والحسد أو ًال‪.‬‬

‫والح َسد‪:‬‬
‫َم ْصدر ال َعين َ‬

‫دائما مع البشر‪ ،‬فإن أكثر العيون التي تصيبنا أو الحسد الذي يسلط علينا‬
‫ألن تعاملنا ً‬
‫مصدرهما من البشر الذين هم حولك‪ ،‬لكن قد يصيبك عين أو حسد من الجن‪ ،‬فعن أبي سعيد‬
‫أخ َذهما‬
‫فلما َن َز َلت المعو َذتان َ‬ ‫ِ‬
‫ﭬ قال‪« :‬كان رسول الل ﷺ يتعوذ من َعين الجان‪ ،‬وأ ْع ُين اإلنس‪َّ ،‬‬
‫و َت َرك ما ِسوى ذلك»(‪ ،)3‬قال اإلمام ابن القيم ‪« :$‬والعين‪ :‬عينان‪ :‬عي ٌن إنسيةٌ‪ ،‬وعي ٌن جنيةٌ‪ ،‬فقد‬
‫است َْر ُقوا َل َها‪،‬‬
‫صح عن أم سلمة ڤ‪ ،‬أن النبي ﷺ رأى في بيتها جاري ًة في وجهها سفعةٌ‪ ،‬فقال‪ْ « :‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»73‬؛ كتاب العلم؛ باب «االغتباط في العلم والحكمة»‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن ابن ماجه «‪»3511‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «العين»‪ ،‬وصححه األرناؤوط يف تحقيقه لسنن ابن ماجه‪ ،‬وكذلك األلباين يف صحيح‬
‫وضعيف سنن ابن ماجه‪ ،‬وتوقف آخرون عن تصحيحه لعدم تأكدهم من سماع الرواة الحديث من سعيد بن إياس الجريري قبل اختالطه‪.‬‬
‫‪227‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫َفإِ َّن بِ َها النَّ ْظ َر َة»(‪ ،)1‬قال الحسين بن مسعود الفراء‪« :‬وقوله ‪:‬ﷺ « َس ْف َعة» أي نظر ٌة‪ ،‬يعني من الجن‪.‬‬
‫يقال‪ :‬بها عي ٌن أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح(‪ .)3(»)2‬وأضيف إلى تصنيف ابن القيم هنا‬
‫عينًا ثالث ًة‪ ،‬وهي عين الحيوان‪ ،‬فقد يصيبك عين أو حسد من الحيوانات‪ ،‬وهذا قد عرف بالتجربة‪،‬‬
‫وروي عن ابن عباس ﭭ قوله‪« :‬الكالب أم ٌة من الجن وهي ضعفة الجن‪ ،‬فإذا غشيتكم عند‬
‫طعامكم‪ ،‬فألقوا لها‪ ،‬فإن لها أنف ًسا» يعني‪ :‬أن لها عيونًا تصيب بها(‪ .)4‬وروى ابن الجوزي أن اإلمام‬
‫أحمد بن حنبل أكد مقولة ابن عباس ﭭ‪ ،‬فروى بإسناده إلى المروذي ‪ $‬قال‪ « :‬كنت مع أبي‬
‫عبد اهلل يف طريق العسكر‪ ،‬فنزلنا منز ًال‪ ،‬فأخرجت رغي ًفا‪ ،‬ووضعت بين يديه كوز ماء‪ ،‬فإذا بكلب قد‬
‫جاء فقام بحذائه ‪-‬أي‪ :‬بمحاذاة اإلمام أحمد‪ ،-‬وجعل يحرك ذنبه‪ ،‬فألقى إليه لقمة‪ ،‬وجعل يأكل‬
‫ويلقي إليه لقمة‪ ،‬فخفت أن يضر بقوته‪ ،‬فقمت فصحت به ألنحيه من بين يديه‪ ،‬فنظرت إلى أبي‬
‫عبد اهلل قد احمار وتغير من الحياء‪ ،‬وقال‪ :‬دعه‪ ،‬فإن ابن عباس ﭭ قال‪ :‬لها أنفس سوء»(‪ .)5‬وقال‬
‫الجاحظ‪« :‬فأما علماء الفرس والهند‪ ،‬وأطباء اليونانيين ودهاة العرب‪ ،‬وأهل التجربة من نازلة‬
‫األمصار وحذاق المتكلمين‪ ،‬فإنهم يكرهون األكل بين أيدي السباع‪ ،‬يخافون نفوسها وأعينها‪....،‬‬
‫ولذلك كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب واألشربة على رؤوسهم وهم يأكلون؛ مخافة النفس‬
‫والعين‪ .‬وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا‪ ،‬وكانوا يقولون يف السنور والكلب‪ :‬إما أن تطرده‬
‫قبل أن تأكل‪ ،‬وإما أن تشغله بشيء يأكله‪ ،‬ولو بعظم‪ .‬ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5739‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «رقية العين»‪.‬‬
‫(‪ )2‬مث ٌل كان يضرب عند العرب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فصل الطب النبوي؛ فص ٌل «في هديه ﷺ في عالج المصاب بالعين»‪.‬‬
‫(‪ )4‬تأويل مختلف الحديث البن قتيبة الدينوري «المتوفى‪276:‬هـ»؛ الر ُّد على مطاعن المناهضين؛ ذكر األحاديث التي ادعوا عليها‬
‫التناقض؛ المسألة الرابعة والعشرون‪ :‬قتل الكالب‪.‬‬
‫(‪ )5‬مناقب اإلمام أحمد بن حنبل البن الجوزي؛ الباب الثاين واألربعون يف ذكر كرمه وجوده‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪228‬‬

‫لقمة فرفع رأسه‪ ،‬فإذا عين غالم له تحدق نحو لقمته‪ ،‬وإذا الغالم يزدرد ريقه لتح ُّلب فمه من‬
‫الشهوة‪ ،‬وكان ذلك الحكيم جيد ال ُّلقم‪ ،‬طيب الطعام‪ ،‬ويضيق على غلمانه‪ .‬فيزعمون أن نفوس‬
‫السباع وأعينها يف هذا الباب أردأ وأخبث‪.)1(».‬‬

‫والح َسد ِمن حيث المتابعة‪:‬‬


‫أنواع ال َعين َ‬

‫ُمنقطِعة‪ :‬وهو أن تنطلق العين من العائن إلى المعيون مرة واحدة‪ ،‬وكذلك الحسد‪ ،‬فتؤذيه‬
‫حتى يتخلص منها المريض‪.‬‬

‫ُمتابِعة‪ :‬وهو أن يكون العائن على تواصل دائم بالمعيون‪ ،‬أو يذكره على الدوام‪ ،‬وهذه عالجها‬
‫يختلف عن المنقطعة‪.‬‬

‫ال َّتهويل والمبا َلغة‪:‬‬

‫ب عزيز‪ ،‬والموازنة الزم ٌة لمساواة كفتي الميزان‪ ،‬فال إفراط وال‬


‫ال شك أن اإلنصاف مطل ٌ‬
‫تفريط‪ ،‬ال إهمال وال تشديد‪ ،‬لكن الميزان ليس ميزاننا حتى نتحكم يف معاييره‪ ،‬وإنما ميزان رب‬
‫العالمين‪ ،‬هو الذي خلق وسوى‪ ،‬وعلم وهدى‪ ،‬وهو الذي يعرف ما هو خط ٌر علينا وما درجة‬
‫خطورته‪ ،‬ورسوله ﷺ هو المبلغ األمين لذلك‪.‬‬

‫ولما يحذر رسول اهلل ﷺ من خطورة العين‪ ،‬فيقول ﷺ‪« :‬ا ْل َع ْي ُن َح ٌّق‪َ ،‬و َل ْو ك َ‬
‫َان َش ْيء َسا َب َق‬
‫الر ُج َل‬ ‫ِ‬
‫أيضا لخطورة العين‪« :‬ا ْل َع ْي ُن تُدْ خ ُل َّ‬ ‫ا ْل َقدَ َر َس َب َق ْت ُه ا ْل َع ْي ُن»(‪ ،)2‬ويقول ﷺ يف حديث آخر مؤكدً ا ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬كتاب الحيوان للجاحظ؛ الجزء الثاين؛ باب «آخر يف الكلب وشأنه؛ األكل بين أيدي السباع»‪.‬‬
‫اس ُتغ ِْس ْلت ُْم َفاغ ِْس ُلوا»‪.‬‬
‫والرقى»‪ ،‬وتتمة الحديث‪َ « :‬وإِ َذا ْ‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2188‬؛ باب «الطب والمرض ُّ‬
‫‪229‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫الج َم َل ا ْل ِقدْ َر»(‪ ،)1‬ويشرح العلماء هذه األحاديث فيؤكدون خطورة العين؛ فالعجب‬ ‫ِ‬
‫ا ْل َق ْب َر‪َ ،‬وتُدْ خ ُل َ‬
‫كل العجب ممن يهون من أمرها ويخفف من خطرها ويقلل من أثرها‪.‬‬

‫وعلى النقيض؛ فعندما تأيت منظمة الصحة العالمية البشرية‪ ،‬الناشئة يف رحم نظام الرأسمالية‬
‫همه جمع المال بأي طريق‪ ،‬والسعي نحو الثراء الفاحش ولو بالكذب والخداع‪ ،‬هذه‬
‫الذي ُّ‬
‫المنظمة التي ترعرعت تحت رعاية النظام العالمي الجديد؛ الذي يريد فرض سيطرته على العالم‬
‫كله‪ ،‬فتحذر من «إنفلونزا ال ُّطيور» أو الكورونا أو غيرها من الفيروسات؛ تقوم دول العالم ك ُّلها‬
‫بتناقل التحذير‪ ،‬وذبح ال ُّطيور والحيوانات‪ ،‬وتدمير أو حرق كل ما يمكن أن ينقل العدوى‪ ،‬وشراء‬
‫األمصال واللقاحات‪ ،‬وتوزيعه يف المدارس والمستشفيات وكل القطاعات‪ ،‬وتقوم حمالت‬
‫إعالمية مكثفة قوية على مستوى العالم كله‪ ،‬وجميع قنوات التلفاز والمذياع وصحف الجرائد‬
‫واإلنرتنت؛ وبقية وسائل األخبار واالتصال؛ ك ُّلها تصدع ليل هنار تحذر من المرض‪ ،‬وتتناقل‬
‫األخبار فيمن أصيب ومن مات‪ ،‬ومن أخذ اللقاح ونجا‪ ،‬ومن قتل عصافيره وحيواناته ورمى‬
‫وأحرق ممتلكاته‪ ،‬ومن مات غما وكمدً ا أو خو ًفا‪ ،‬ويقوم الناس بإلغاء رحالهتم السياحية‪ ،‬وحتى‬
‫رحلة العمرة والحج‪ ،‬ويتوقفون عن شراء كل أنواع ال ُّطيور‪ ،‬ومن قبل ذلك لحوم الماعز‪ ،‬وقبلها‬
‫لحوم البقر‪ ،‬ويلبسون الكمامات والقفازات‪ ،‬ويتباعدون يف المجالس والصلوات‪ ،‬بل يحجر‬

‫الجميع يف بيوهتم مخافة انتشار األمراض‪ ،‬هذا ك ُّله يرى أنه تقدُّ م وت ُّ‬
‫طور واحتياط ووقاية صحية‪،‬‬
‫صرف حضاري الئق‪.‬‬
‫وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة‪ ،‬وت ُّ‬

‫أما إذا حذرت مما حذر منه الصادق المصدوق الموحى إليه من رب الخالئق والذي ال ينطق‬
‫عن الهوى رسول اهلل ﷺ؛ فيقال لك‪ :‬تبا لك ألهذا جمعتنا؛ ما هذا التهويل والمبالغة؟! والنفع‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو نعيم يف حلية األولياء‪ ،‬وصححه السيوطي يف الجامع الصغير «‪ ،»7593‬وحسنه األلباين يف صحيح الجامع الصغير «‪.»4144‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪230‬‬

‫والض ُّر بيد اهلل‪ ،‬وأنت تعيش يف زمن قديم‪ ،‬وتنشر وه ًما تقتل به نفسك وتزعج اآلخرين‪ ،‬وما إلى‬
‫ُّ‬
‫ذلك من الجمل والعبارات التي تسمع وتقال‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫تقول للناس انتبهوا على أنفسكم وأبنائكم من العين‪ ،‬يقولون لك توكل على اهلل وال تجعل‬
‫الناس يعيشون يف خوف وأوهام‪ ،‬قل لهم إ ًذا زوروا مع أبنائكم من يش ُّك أنه من أصحاب األمراض‬
‫المعدية‪ ،‬فيمتنعون ويقولون ال بد باألخذ من األسباب‪ ،‬فلماذا هذا التناقض العجيب الغريب؟‬

‫ولتحقيق الموازنة؛ فإنه ليس من العيب والخطأ التحذير والحذر من العين‪ ،‬لكن الخطأ هو أن‬
‫تعيش خائ ًفا متقوق ًعا من أي شيء مما يؤدي بك إلى تقييد حياتك‪ .‬وليس من الخطأ أن تشخص‬
‫نفسك أنك أصبت بالعين‪ ،‬لكن الخطأ أال تسعى لعالج وحماية نفسك‪ .‬ليس الخطأ أن تنتبه‬
‫وتحذر‪ ،‬ولكن الخطأ أال تجمع مع ذلك التو ُّكل على اهلل ‪ ،‬ويف عالمنا العربي فإن نسبة الموت‬
‫واإلصابة بسبب حوادث السيارات عالية‪ ،‬لكن هذا ال يمنع أحد ًا من المشي أو القيادة يف الطرقات‪،‬‬
‫بل الحريص الواعي يمشي أو يسوق وهو منتبه‪ ،‬وهكذا يجب علينا فعله مع العين وكل األمراض‪.‬‬
‫كذلك من الموازنة أنك تتعلم كيف تتعالج من العين‪ ،‬فإذا أصبت هبا تخلصت منها على الفور‪،‬‬
‫ومعرفة عالج أي مرض يقلل من الخوف والقلق منه‪.‬‬

‫ُحكم العائن المعروف بكثرة إصابته‪:‬‬

‫اشتهار البعض بالقوة أو الكثرة يف إصابة غيرهم بالعين شيء طبيعي‪ ،‬لكنه غريب وعجيب‬
‫دو ما جهل‪ ،‬بل إن معاملة العائن بطبعه‬
‫على من لم يتعود هذا المصطلح وهذه الثقافة‪ ،‬واإلنسان ع ُّ‬
‫مسألة فقهية‪ ،‬مثل مسألة معاملة المجذوم ومن به مرض معد‪ .‬قال اإلمام ابن القيم ‪« :$‬وقد‬
‫يعين الرجل نفسه‪ ،‬وقد يعين بغير إرادته بل بطبعه‪ ،‬وهذا أردأ ما يكون من النوع اإلنساني‪ ،‬وقد قال‬
‫أصحابنا وغيرهم من الفقهاء‪ :‬إن من عرف بذلك حبسه اإلمام‪ ،‬وأجرى له ما ينفق عليه إلى‬
‫‪231‬‬ ‫العني واحلسد‬

‫الموت‪ ،‬وهذا هو الصواب قط ًعا»(‪.)1‬‬

‫وقال ابن بطال ‪« :$‬وقال بعض أهل العلم‪ :‬إذا عرف أحدٌ باإلصابة بالعين؛ فينبغى اجتنابه‬
‫عرض ألذاهم‪،‬‬
‫حرز منه‪ ،‬وإذا ثبت عند اإلمام؛ فينبغى لإلمام منعه من مداخلة الناس والت ُّ‬
‫والت ُّ‬
‫قيرا رزقه ما يقوم به‪ ،‬وكف عن الناس عاديته‪ ،‬فض ُّره أشدُّ من ضر آكل‬
‫ويأمره بلزوم بيته‪ ،‬فإن كان ف ً‬
‫الثوم الذى منعه النبي ﷺ مشاهدة صالة الجماعة‪ ،‬وض ُّره أشدُّ من ضر المجذومة التى منعها عمر‬
‫بن الخطاب الطواف مع الناس»(‪.)2‬‬

‫العين والحسد وفيزياء الكم‪:‬‬

‫ذكرت يف فصل «الطب األصيل» أنه طبقًا لبعض الفيزيائيين المختصين بفيزياء الكم فإن‬
‫شكل اإللكرتونات وحركتها يختلف إذا أحست أنها مراقبة‪ ،‬فهل هذا ٌ‬
‫دليل أنها قد تتأثر بالعين‬
‫والحسد؟ أي‪ :‬هل لو أدركت اإللكرتونات المكونة لذرات الجسم أو أي مادة أنها معيونة أو‬
‫محسودة؛ فهل تقوم بالتغ ُّير والتس ُّبب بأعراض العين والحسد؟ موضوع يحتاج إلى بحث عميق‪.‬‬

‫________________‬
‫ب النبوي البن القيم من زاد المعاد؛ فصل «يف هديه ﷺ يف عالج المصاب بالعين»‪.‬‬
‫(‪ )1‬الط ُّ‬
‫(‪ )2‬شرح صحيح البخاري البن بطال؛ كتاب «الطب»؛ باب «العين حق»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪232‬‬
‫‪233‬‬ ‫عالج العني واحلسد‬

‫عَلج العين والحسد‬

‫الرقاة أن طرق عالج العين والحسد واحدة‪ ،‬لكن البعض يفرق‬


‫المتعارف عليه بين أغلب ُّ‬
‫السنة‪ ،‬أو تم‬
‫بينهما يف طريقة العالج‪ ،‬وسألخص يف هذا الكتاب بعض عالجات وردت يف ُّ‬
‫استنباطها من أدلة شرعية‪.‬‬

‫ال َّطريقة األُولى‪ :‬استعمال أ َثر العائن‪:‬‬

‫من أصح العالجات وأسرعها هو أخذ األثر من العائن ثم االغتسال به أو تناوله‪ ،‬وهذا كان‬
‫موجو ًدا يف الطب العربي‪ ،‬وأقره الرسول ﷺ كما أسلفت من قبل‪ ،‬لكن بما أننا فرقنا بين عين‬
‫اإلعجاب والحسد؛ فإننا نقول بأن هذا العالج ناف ٌع يقينًا مع عين اإلعجاب‪ ،‬وليس شر ًطا نفعه مع‬
‫حالة الحسد‪ ،‬ألن حادثة العين بين الصحابيين الجليلين عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف ﭭ‬
‫كانت عين إعجاب وليست حسدً ا‪ ،‬كما أننا نرى أن رسول اهلل ﷺ لم يتطرق بتا ًتا إلى العالج‬
‫الرقية يف هذه الحادثة‪ ،‬بل سأل مباشرة عن العائن ليأخذ من أثره‪ ،‬مما يد ُّل أن أخذ األثر هو أفضل‬
‫ب ُّ‬
‫الرقية ومن أي عالج آخر لعين اإلعجاب‪ ،‬وهذا العالج له مرحلتان‪:‬‬
‫من ُّ‬

‫الم ْرحلة األُولى‪َ :‬معرِفة العائن‪:‬‬

‫السعي يف معرفة العائن ال يدخل يف علم الغيب المطلق‪ ،‬فنحن ال نتكلم عمن سيعطيك عينًا‬
‫غدً ا أو يف المستقبل‪ ،‬وإنما نتكلم عمن أعطاك عينًا يف الماضي‪ ،‬ولذلك السبب أنت تعاين وتتألم‪،‬‬
‫ولو كان هذا من علم الغيب لما سألهم رسول اهلل ﷺ عن العائن‪ .‬وكذلك هو ليس بفتنة‪ ،‬ومن‬
‫قال‪ :‬إنه مدعاة للفتنة فقد اتهم رسول اهلل ﷺ بأنه فت ٌ‬
‫ان لما سأل عمن أصاب سهل بن حنيف ﭬ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪234‬‬

‫ياسا على ادعاءات هؤالء؛ نقول‪ :‬إنه إذا سرق أحد‬


‫بالعين‪ ،‬حاشاه ﷺ أن يكون فتا ًنا أو محر ًضا‪ .‬وق ً‬
‫منزلك فيجب عليك أال تبلغ الشرطة؛ ألن السارق من علم الغيب‪ ،‬والشرطة ستأيت ألخذ‬
‫البصمات‪ ،‬وهذه طريقة لم تكن موجودة يف عهد الرسول ﷺ‪ ،‬وال يف عهد السلف الصالح‪ ،‬ثم إن‬
‫الشرطة قد تستدعي أقاربك وجيرانك للتحقيق أو لالشتباه هبم؛ وهذا يولد فتن ًة بين الناس‪.‬‬

‫ولهؤالء يقال‪ :‬إن كنت ال تعلم طريق ًة يمكن هبا معرفة العائن؛ فقل‪ :‬ال أعرف كيف يمكن‬
‫ذلك‪ ،‬وال تبرر عدم علمك بادعائك أنه من علم الغيب الذي ال يعلمه إال اهلل ‪ .‬وأقول‪ :‬الحمد‬
‫هلل أن جعل رسول اهلل ﷺ يد ُّلنا على مفتاح الدواء‪ ،‬ويرفع عنا الحرج يف العالجات‪ ،‬وكفى بسنته‬
‫هداية وسدا ًدا‪.‬‬

‫والحاصل أنك تسعى يف معرفة العائن إن استطعت‪ ،‬وقد يمكن ذلك بالتخمين والتحليل فيما‬
‫حصل لك‪ ،‬وكما قلت لك‪ ،‬أحسن الظن بالعائنين‪ ،‬ألن عين اإلعجاب نابعة عن محبة وانبهار‪ ،‬ال‬
‫حسد وحقد وانتقام‪ ،‬فإذا عرفت العائن تطلب أثره أو تأخذه منه بدون علمه‪ ،‬وإن لم تستطع‬
‫أشخاص حولك‪ ،‬ولذا خذ آثار أغلب الناس بال ُّطرق المجربة‬
‫ٌ‬ ‫تحديده فاعلم أن العائنين غال ًبا‬
‫والمذكورة يف هناية هذا الفصل‪.‬‬

‫أخذ األ َثر واستِعماله‪:‬‬


‫الم ْرحلة ال َّثانية‪ْ :‬‬

‫الوارد يف الطب النبوي هو أن يغتسل المعيون بماء غسل العائن‪ ،‬مما جاء يف طريقة غسل‬
‫العائن‪ ،‬والتي اغتسل هبا عامر ﭬ‪ ،‬ما رواه اإلمام مالك ‪« :$‬فغسل عام ٌر ﭬ وجهه ويديه‪،‬‬
‫ومرفقيه وركبتيه‪ ،‬وأطراف رجليه‪ ،‬وداخلة إزاره‪ ،‬في قدح»(‪ ،)1‬أما المعيون فجاء يف نفس الرواية‪:‬‬
‫«ثم صب عليه»‪ ،‬وهو كما ذكرت ساب ًقا من الطب المتداول عند العرب يف ذلك الوقت‪ ،‬ومما جاء‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬موطأ اإلمام مالك؛ كتاب العين؛ باب «الوضوء من العين»‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫عالج العني واحلسد‬

‫الزهري ‪« :$‬والغسل أن يؤتى بقدح‬


‫يف وصف اغتسال المعيون من أثر العائن قول اإلمام ُّ‬
‫فيدخل الغاسل كفيه جمي ًعا‪ ،‬فيهريق على وجهه في القدح‪ ،‬فيدخل يده اليمنى فيغسل مرفقه في‬
‫القدح‪ ،‬ثم يدخل يده فيغسل ظهر يده‪ ،‬ثم يأخذ بيده اليسرى‪ ،‬ويفعل مثل ذلك‪ ،‬ثم يغسل صدره‬
‫في القدح‪ ،‬ثم يغسل ركبته اليمنى وأطراف أصابعه من ظهر القدم‪ ،‬ويفعل مثل ذلك بالرجل‬
‫اليسرى‪ ،‬ويدخل داخلة إزاره‪ ،‬ثم يعطي ذلك القدح ‪-‬قبل أن يضعه باألرض‪ -‬الذي أصابته العين‪،‬‬
‫ب على رأسه‪ ،‬ثم يكفأ القدح من وراء‬
‫فيحسو منه ويتمضمض‪ ،‬ويهريق على وجهه‪ ،‬ويص ُّ‬
‫الزهري ‪ $‬شرط اغتسال المعيون باألثر قبل أن يالمس األثر‬
‫ظهره‪ ،)1(».‬وال أعلم لم ذكر ُّ‬
‫األرض‪ ،‬هل كانوا يرون األثر مثل الكهرباء إذا لمست األرض انتقلت إليها وفرغت فيها؟ ال أعلم‬
‫من المعاصرين من دقق يف هذا أو الحظ فر ًقا‪ ،‬وربما لم نالحظ فر ًقا بسبب استعمالنا غال ًبا‬
‫للبالستيك والموا ُّد غير الناقلة للكهرباء يف أخذ األثر‪.‬‬

‫ولقد جاءت بعض الروايات بلفظة الوضوء وليس الغسل‪ ،‬فظن كثير من الناس يف عصرنا أن‬
‫رعي الذي هو لرفع الحدث وللصالة‪ ،‬وبالرغم من أن ماء‬ ‫المطلوب من العائن الوضوء الش ُّ‬
‫الوضوء الشرعي للعائن يفيد يف رفع العين؛ إال أن من يجمع الروايات ينتبه إلى أن الوارد يف‬
‫األحاديث هو الوضوء ال ُّلغوي(‪ )2‬وليس الشرعي‪ ،‬لذا ال يصح نسبة األمر بالوضوء الشرعي للعائن‬
‫إلى رسول اهلل ﷺ‪ .‬والمتأمل للرواية التي أورد ُّتها يف الفصل السابق؛ يجد أن يف صفة الغسل غسل‬
‫الركبتين وداخلة اإلزار‪ ،‬وهذا معلو ٌم أنه ليس جز ًءا من الوضوء الشرعي‪.‬‬
‫ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند الشاميين للطرباين «‪»3002‬؛ بإسناد رجاله ثقات‪.‬‬
‫وف‪ .‬وقد‬
‫(‪ )2‬جاء يف النهاية البن األثير؛ باب «الواو مع الضاد»؛ وضأ‪« ،‬وأصل الكلمة من الوضاءة‪ ،‬وهي الحسن‪ .‬ووضوء الصالة معر ٌ‬
‫السنة للبغوي؛ كتاب الطهارة؛ باب ترك الوضوء مما مست النار؛ «قال قتادة‪ :‬من غسل يديه‬
‫يراد به غسل بعض األعضاء»‪ .‬ويف شرح ُّ‬
‫فقد توضأ»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪236‬‬

‫وقد أمر الرسول ﷺ كل مسلم طلب منه ماء غسله أن يعطيه للسائل‪ ،‬فقال ﷺ‪َ « :‬وإِ َذا‬
‫ْاس ُتغ ِْس ْلت ُْم َفا ْغ ِس ُلوا»(‪ ،)1‬وذلك دف ًعا للمرض وحفا ًظا على المريض‪.‬‬

‫فأي‬
‫والتجارب المختلفة أثبتت أنه يمكن استعمال أي أثر للعائن لرفع العين عن المعيون‪ُّ ،‬‬
‫شيء قام العائن بلمسه يمكنك وضعه يف ماء ثم تغتسل منه وتتمضمض‪ .‬لكن لوحظ بالتجربة أن‬
‫ليس ُّ‬
‫كل العيون تخرج من االغتسال مرة واحدة‪ ،‬بل بعضها يلزم إلخراجها تكرار االغتسال كل‬
‫يوم إلى أسبوع أو أسبوعين‪ ،‬فبعضها تخرج يف اليوم الثاين وبعضها يف الثالث وهكذا‪ ،‬وربما السبب‬
‫يرجع إلى قدم اإلصابة بالعين وتم ُّكنها من جسم المعيون‪ ،‬أما العين الواردة يف الحديث‪ ،‬والتي لزم‬
‫االغتسال مرة واحدة إلخراجها؛ فتلك كانت حديث ًة لم يمر عليها سوى دقائق كما يبدو من ظاهر‬
‫الحديث‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫كذلك من المجربات أنه يكتفى بصب ماء األثر على مكان العين يف المعيون إن علم‬
‫موضعها‪ ،‬واالحتياط أن يغسل به ُّ‬
‫كل بدنه‪ ،‬كذلك بعض العيون خارجية يكفي االغتسال‬
‫إلخراجها‪ ،‬وبعضها داخلية يلزم لها المضمضة أو احتساء الماء ولو بضع قطرات‪ .‬واألحوط يف‬
‫كل األحوال هو تكرار االغتسال الكامل مع المضمضة لمدة سبعة أيام أو حتى تحصل الراحة‬
‫التامة‪ .‬ولقد ذكرت يف هناية هذا الفصل فائدة مهمة من المجربات أنصح الجميع هبا‪.‬‬

‫َم ْلحوظات‪:‬‬

‫يقع البعض يف خطأ بقولهم‪ :‬إن الشريعة جاءت باغتسال المعيون من ماء غسل العائن لعالجه‪،‬‬ ‫•‬

‫وهذه الجملة خاطئة‪ ،‬ألنها توهم وكأن األمر جاء وح ًيا وأم ًرا من اهلل‪ ،‬والصواب أن يقال‪ :‬إن‬
‫الشريعة أقرت هذا العالج‪ ،‬ولم تحدثه‪.‬‬

‫________________‬
‫والرقى»‪.‬‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2188‬؛ كتاب «السالم»؛ باب «الطب والمرض ُّ‬
‫‪237‬‬ ‫عالج العني واحلسد‬

‫كثيرا مع العين المتابعة‪ ،‬بل يلزم لها‬


‫ثبت للبعض عن طريق التجربة أن هذه الطريقة ال تفيد ً‬ ‫•‬

‫المداومة على عالجات أخرى مثل بقية ال ُّطرق المذكورة أدناه‪.‬‬

‫ال َّطريقة الثانية‪ُّ :‬‬


‫الرقية‪:‬‬

‫الرقية ال شك أنها عالج فعال ونافع للعين‪ ،‬وهذا مأخو ٌذ من كالم سيد البشر ﷺ‪ ،‬فعن أم‬
‫ُّ‬
‫سلمة ڤ‪ :‬أن النبي ﷺ رأى في بيتها جاري ًة في وجهها سفعةٌ‪ ،‬فقال‪ْ « :‬است َْر ُقوا َل َها‪َ ،‬فإِ َّن بِ َها‬
‫ول الل ِ ﷺ َي ْأ ُم ُرنِي َأ ْن َأ ْست َْرقِ َي ِم َن ا ْل َع ْي ِن»(‪ ،)2‬ويلجأ‬ ‫ال َّن ْظ َر َة»(‪ ،)1‬وعن عائشة ڤ قالت‪« :‬ك َ‬
‫َان َر ُس ُ‬
‫الرقية من‬
‫الرقية إذا لم يعرف العائن‪ ،‬أو عرف ولكن لم يمكن أخذ أثره‪ ،‬لكن لم يأت يف كيفية ُّ‬
‫إلى ُّ‬
‫العين خربٌ ثابت عن الصحابة ﭫ يشرح صيغتها أو صفتها‪ ،‬واألمر مت ٌ‬
‫روك لالجتهاد والتجربة‪،‬‬
‫للرقية من الراقي مباشرة‪ ،‬أو من‬
‫وقد لوحظ من المجربات أن بعض العيون تخرج مع االستماع ُّ‬
‫الرقية على بعض‬
‫التسجيل‪ ،‬وبعضها عن طريق قراءة المعيون على نفسه‪ ،‬وبعضها عن طريق ُّ‬
‫المواد «مثل الماء والزيت واألعشاب»‪ ،‬ثم االغتسال هبذه المواد أو االدهان هبا أو تناولها عن‬
‫طريق الفم أو استنشاقها‪ ،‬وهكذا‪..‬‬

‫وتحليلي لألمر أننا بحاجة لتصنيف للعيون وأنواعها قائم على البحث والنظر فيها‪ ،‬ثم تحديد‬
‫الرقية المناسبة لكل نوع من العيون‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫طريقة ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5739‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «رقية العين»‪.‬‬
‫الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة»‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2195‬؛ باب «استحباب ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪238‬‬

‫ال َّطريقة الثالثة‪ :‬ال َّتداوي باألعشاب‪:‬‬

‫أقصد هنا تناول هذه األعشاب ‪«-‬بال رقية عليها»‪ -‬أك ًال‪ ،‬أو شر ًبا بعد غليها‪ ،‬أو ادها ًنا بزيتها‬
‫أو مائها‪ ،‬أو وضعها كمرهم على الجسم‪ ،‬أو غير ذلك مما هو معروف يف أساليب التط ُّبب‪ .‬وقد‬
‫ذكر رسول اهلل ﷺ وجود الشفاء يف عدة أشياء سيأيت ذكرها الح ًقا يف فصل «الطب النبوي»‪.‬‬

‫الرقية عن تصنيف ودراسة العيون فإني أعيده هنا‪ ،‬إذ ال بد من‬


‫وكما ذكرت يف العالج ب ُّ‬
‫تصنيف للعيون لمعرفة العشبة المناسبة لكل نوع‪ .‬ويقول ممارسو الطب األصيل‪ :‬إن العين تخرج‬
‫مع تناول ما يضا ُّد طبعها‪ ،‬فإذا كانت العين حارة تسبب زيادة يف طبع الحرارة؛ فإنها ستزول بتناول‬
‫ما يزيل طبع الحرارة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫ولعله إذا ثبت أن عشبة ما تخرج عينًا ما‪ ،‬فال يستبعد أن الدواء المستخلص من هذه العشبة‬
‫سيؤدي نفس الغرض‪ ،‬وال يستبعد كذلك أن تكون األدوية المصنعة حال ًيا تخرج بعض العيون أو‬
‫تضعفها من دون أن نعرف ذلك‪ ،‬والمسألة تحتاج كما ذكرت إلى أبحاث‪.‬‬

‫ال َّطريقة الرابعة‪ :‬الحجامة‪:‬‬

‫ذكرت يف فصل «الطب النبوي» األحاديث التي جاءت يف فضل الحجامة‪ ،‬ومع هذه‬
‫األحاديث والتوصيات المتعددة فإن الحجامة ال شك دواء ألدواء كثيرة‪ ،‬ال بد أن يكون العين من‬
‫هذه األمراض التي تقتلعها الحجامة‪ ،‬وقد أثبتت التجربة ذلك‪.‬‬

‫لكن تبقى مسألة تحديد مواضع الحجامة اجتهادي ًة بين األطباء والمحجمين و ُّ‬
‫الرقاة‪ ،‬فبعضهم‬
‫يحدد ذلك عن طريق أعراض المريض‪ ،‬وآخرون عن طريق غسل المريض ببعض األعشاب مثل‬
‫مغلي الزنجبيل‪ ،‬فيرون ما هي المناطق التي تأثرت يف الجسد إما بارتفاع حرارة أو احمرار‪،‬‬
‫أيضا اجتهادية‬
‫وبعضهم يحدد المواضع عن طريق الطب الصيني‪ ،‬كذلك مسألة تكرارها للمريض ً‬
‫تعود إلى التجارب واألبحاث‪.‬‬
‫‪239‬‬ ‫عالج العني واحلسد‬

‫والشرب ِمن ِم ِ‬
‫ياه اآلبار‪:‬‬ ‫ال َّطريقة الخامسة‪ :‬االغتِسال ُّ‬

‫ذكر القرآن قصة حسد إخوة يوسف له‪ ،‬وإرادهتم قتله ڠ‪ ،‬ولكن اهلل سلم ولطف بحكمته‬
‫الرقاة من هذه القصة أن االغتسال‬
‫فصرف عنهم الرغبة يف القتل إلى الرمي يف البئر‪ ،‬واستنبط أحد ُّ‬
‫بالبئر ُّ‬
‫والشرب منه عالج للحسد‪ ،‬ووجد نتائج إيجابية لذلك‪ ،‬ويفضل رقية الماء‪ ،‬واالستمرار يف‬
‫استعمال ماء البئر فترة ال تق ُّل عن أسبوع كامل‪.‬‬

‫ُط ُرق أخرى‪:‬‬

‫أي طريقة أخرى؛ قديمة أو مستحدثة؛ إذا لم يكن فيها شرك وال محرم‪ ،‬وثبتت فائدهتا يف‬
‫ُّ‬
‫التخ ُّلص من العيون والحسد‪ ،‬أو إيجاد العائنين أو الحاسدين‪ ،‬فإنه يجوز استعمالها والتداوي هبا‪.‬‬

‫هازا يكشف العين يف جسد المريض‪ ،‬أو يتتبع موجات العين‪ ،‬أو‬
‫وإن زعم زاع ٌم أنه صنع ج ً‬
‫عقال‪ -‬يجب عليه إثبات كيف علم‬
‫وجد طريقة لمعرفة العائن‪ ،‬فال مانع شرعي يف ذلك‪ ،‬ولكن ‪ً -‬‬
‫ماهية العين‪ ،‬وآلية عمل الجهاز‪ ،‬ومعرفة العائن‪ ،‬وذلك بالتجربة والبينة العقلية‪.‬‬

‫جربات‪:‬‬ ‫ِ‬
‫من الم َّ‬

‫مع اهتمامي يف هذا الكتاب بالمفاهيم واألحكام‪ ،‬إال أنني أجد من المفيد أن أذكر طريقتين من‬
‫المجربات للحصول على أثر العائنين‪ ،‬أحدها بالماء‪ ،‬واألخرى بزيت الزيتون‪.‬‬

‫َطريقة ْ‬
‫أخذ األ َثر بالماء‪:‬‬

‫تأخذ قطعة من قماش أو منديل‪ ،‬ثم تبللها بالماء‪ ،‬ثم تمسح هبا أي شيء لمسه العائن‪ ،‬مثل‬
‫أرضية مدخل البيت‪ ،‬مقبض باب البيت‪ ،‬مقبض باب الحمام من الداخل‪ ،‬مقبض باب السيارة‪،‬‬
‫أزرار المصعد‪ ،‬أطراف الطاولة‪ ،‬عمود الدرج‪ ،‬إلخ‪ ..‬ثم ترمي هذه القطعة يف سطل به ماء‪،‬‬
‫فيصبح الماء ملي ًئا باألثر ولكن متس ًخا‪ ،‬فتأخذ منه قطرات وتضعها يف ماء نظيف‪ ،‬ثم يغتسل‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪240‬‬

‫المريض هبذا الماء النظيف ‪-‬المضاف إليه األثر‪ -‬سبعة أيام على األقل‪ ،‬مع احتساء قطرات منه‬
‫عن طريق الفم أو المضمضة به‪ ،‬وذلك مع فترة االغتسال‪.‬‬

‫أخذ األ َثر ب َزيت ال َّزيتون‪:‬‬


‫طريقة ْ‬

‫فكرهتا تعتمد على أن زيت الزيتون يعمل مثل المغناطيس مع اآلثار‪ ،‬فتضع قطرة من زيت‬
‫الزيتون على باطن أناملك‪ ،‬ثم تصافح بيدك العائنين‪ ،‬أو تمسح بأناملك أماكن بصماهتم مثل‬
‫المقابض وغيرها‪ ،‬ثم تغمس أناملك يف زيت زيتون‪ ،‬فيصبح هذا الزيت مملو ًءا باآلثار‪ ،‬وتدهن‬
‫به نفسك يوميا لمدة أسبوع على األقل‪ ،‬وتشرب منه ملعقة صغيرة ولو قطرات‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪241‬‬ ‫السحر‬

‫الس ْحر‬

‫ما هو الس ْحر؟‬

‫السحر لغ ًة‪ :‬األخذة وك ُّل ما لطف مأخذه ودق(‪ )1‬أو األخذة التي تأخذ العين(‪ ،)2‬أما شر ًعا؛‬
‫فالسحر اآلثم المحرم هو‪ :‬عم ٌل تقرب فيه إلى الشيطان وبمعونة منه(‪ ،)3‬وما قيل عن أنواع أخرى‬
‫قر ٌب وتع ُّبدٌ لغير اهلل؛ فليس ذلك بالسحر المنصوص عليه بالتحريم‬
‫من السحر مما ليس فيه ت ُّ‬
‫والقتل يف الشريعة‪.‬‬

‫قال ابن قدامة ‪« :$‬والسحر الذي ذكرنا حكمه؛ هو الذي يعدُّ في العرف سح ًرا‪ ،‬مثل فعل‬
‫لبيد بن األعصم‪ ،‬حين سحر النبي ﷺ في مشط ومشاطة‪ ،‬وروينا في مغازي األموي أن النجاشي‬
‫دعا السواحر‪ ،‬فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد‪ ،‬فهام مع الوحش‪ ،‬فلم يزل معها إلى إمارة عمر‬
‫بن الخطاب ﭬ فأمسكه إنس ٌ‬
‫ان‪ ،‬فقال‪ :‬خلني وإال م ُّت‪ ،‬فلم يخله‪ ،‬فمات من ساعته‪ .‬وبلغنا أن‬
‫بعض األمراء أخذ ساحرةً‪ ،‬فجاء زوجها كأنه محتر ٌق‪ ،‬فقال‪ :‬قولوا لها تح ُّل عني‪ .‬فقالت‪ :‬ائتوني‬
‫بخيوط وباب‪ .‬فأتوها به‪ ،‬فجلست على الباب حين أتوها به‪ ،‬وجعلت تعقد‪ ،‬وطار بها الباب‪ ،‬فلم‬
‫يقدروا عليها‪ .‬فهذا وأمثاله‪ ،‬مثل أن يعقد الرجل المتزوج‪ ،‬فال يطيق وطء زوجته‪ ،‬هو السحر‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مختار الصحاح؛ باب السين؛ س ح ر‪.‬‬
‫(‪ )2‬العين للخليل؛ حرف الحاء؛ باب الثالثي الصحيح؛ «باب الحاء والسين‪ ،‬والراء معهما»‪.‬‬
‫نقال عن الليث بن المظفر؛ الجزء الرابع؛ أبواب الحاء والسين‪.‬‬
‫(‪ )3‬هتذيب اللغة لألزهري ً‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪242‬‬

‫المختلف في حكم صاحبه(‪ .)1‬فأما الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن‪ ،‬ويأمرها‬
‫فتطيعه‪ ،‬فهذا ال يدخل في هذا الحكم ظاه ًرا»(‪.)2‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫ليس كل سحر تكلم عنه العلماء السابقون هو السحر المحرم المعروف‪ ،‬وإنما قد يكون‬
‫حرا لغويا‪ ،‬ولذا يجب االنتباه والتمييز عند قراءة لفظة السحر يف كتب السابقين‪ ،‬وقد ذكر فخر‬
‫س ً‬
‫الدين الرازي ‪ $‬ثمانية أنواع للسحر يف تفسيره‪ ،‬ثم نقلها منه ابن كثير ‪ $‬يف تفسيره‪ ،‬وأنا أنقلها‬
‫هنا مختصرة من تفسير ابن كثير‪ ،‬قال ابن كثير‪« :‬ثم قد ذكر أبو عبد اهلل الراز ُّي أن أنواع السحر‬
‫ثمانية‪:‬‬

‫األول‪ :‬سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة‪ ،‬وهي‬
‫السيارة‪ ،‬وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم‪ ،‬وأنها تأتي بالخير والشر‪ ،‬وهم الذين بعث اهلل إليهم‬
‫إبراهيم الخليل ڠ مبط ًال لمقالتهم ورادا لمذهبهم‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬سحر أصحاب األوهام والنُّفوس القوية‪ ،‬ثم استدل على أن الوهم له تأث ٌير بأن‬
‫اإلنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه األرض‪ ،‬وال يمكنه المشي عليه إذا كان‬
‫ممدو ًدا على نهر أو نحوه‪.‬‬

‫والنوع الثالث‪ :‬االستعانة باألرواح األرضية وهم الج ُّن‪ ... ،‬وهم على قسمين‪ :‬مؤمنون‪،‬‬
‫وكف ٌار وهم الشياطين‪ ... ،‬ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن االتصال بهذه‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المختلف يف حكم صاحبه يقصد يف االستتابة والحد‪ ،‬هل تقبل توبته أم ال؟ أو هل يحدُّ على فعله أم ال؟‬
‫(‪ )2‬المغني البن قدامة؛ كتاب المرتد؛ فصل «السحر الذي يحدُّ على فعله»‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪243‬‬ ‫السحر‬

‫الرقى والدخن والتجريد‪ ،‬وهذا النوع هو المسمى‬


‫األرواح األرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من ُّ‬
‫بالعزائم وعمل التسخير‪.‬‬

‫النوع الرابع‪ :‬التخ ُّيالت‪ ،‬واألخذ بالعيون‪ ،‬والشعبذة‪ ،‬ومبناه على أن البصر قد يخطىء‬
‫ويشتغل بالشيء المعين دون غيره‪ ،‬أال ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان‬
‫الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه‪ ،‬حتى إذا استفرغهم ُّ‬
‫الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه‪ ،‬عمل‬
‫شي ًئا آخر عم ًال بسرعة شديدة‪ ،‬وحينئذ يظهر لهم شي ٌء آخر غير ما انتظروه‪ ،‬فيتعجبون منه جدا‪،‬‬
‫ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله‪ ،‬ولم تتحرك النُّفوس‬
‫واألوهام إلى غير ما يريد إخراجه‪ ،‬لفطن الناظرون لكل ما يفعله‪.‬‬

‫النوع الخامس‪ :‬األعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آالت مركبة على النسب الهندسية‪،‬‬
‫كفارس على فرس في يده ب ٌ‬
‫وق‪ ،‬كلما مضت ساع ٌة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحدٌ ‪،‬‬
‫الروم والهند حتى ال يفرق الناظر بينها وبين اإلنسان‪.‬‬
‫الصور التي تصورها ُّ‬
‫ومنها ُّ‬

‫النوع السادس‪ :‬االستعانة بخواص األدوية يف األطعمة والدهانات‪ ،‬قال‪ :‬واعلم أنه ال سبيل‬
‫إلى إنكار الخواص‪ ،‬فإن تأثير المغناطيس مشاهدٌ ‪.‬‬

‫النوع السابع‪ :‬التعليق للقلب‪ ،‬وهو أن يدعي الساحر أنه عرف االسم األعظم‪ ،‬وأن الجن‬
‫يطيعونه وينقادون له في أكثر األمور‪ ،‬فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز؛‬
‫الرعب والمخالفة‪ ،‬فإذا حصل الخوف‬
‫اعتقد أنه ح ٌّق وتعلق قلبه بذلك‪ ،‬وحصل في نفسه نوع من ُّ‬
‫ضعفت القوى الحساسة‪ ،‬فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء‪ .‬قلت‪-‬ابن كثير‪« :-‬هذا النمط‬
‫يقال له التنبلة‪ ،‬وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪244‬‬

‫النوع الثامن‪ :‬السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائ ٌع في الناس‪ )1(».‬ثم استدرك‬
‫ابن كثير على هذه األنواع بقوله‪« :‬وإنما أدخل كث ًيرا من هذه األنواع المذكورة في فن السحر‬
‫للطافة مداركها‪ ،‬ألن السحر في ال ُّلغة عبار ٌة عما لطف وخفي سببه‪ ،‬ولهذا جاء في الحديث‪« :‬إِ َّن‬
‫ِمن ا ْلبي ِ ِ‬
‫السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل‪ ،‬والسحر‪ :‬الرئة‪ ،‬وسميت بذلك‬ ‫ان َلس ْح ًرا» ‪ ،‬وسمي ُّ‬
‫(‪)2‬‬
‫َ ََ‬
‫لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن‪.)3(».‬‬

‫والساحر‪:‬‬
‫حكم الس ْحر َّ‬

‫السحر اجتمعت فيه مصيبتان وهي‪:‬‬

‫قر ٌب إليهم وإلى غيرهم من دون اهلل‪.‬‬ ‫‪ -1‬أنه ش ٌ‬


‫رك باهلل‪ ،‬ألنه تع ُّبدٌ للشياطين وت ُّ‬
‫‪ -2‬أنه إيذاء للخلق وتعد عليهم بال أي وجه حق‪.‬‬

‫ولذلك لما ذكر رسول اهلل ﷺ الكبائر الموبقات يف أكثر من حديث؛ ابتدأ بالشرك باهلل‪ ،‬ثم‬
‫أتبعه بالسحر‪ ،‬مما يبين عظم جرمه‪ ،‬من ذلك قوله ﷺ‪« :‬اج َتن ِبوا الموبِقات‪ :‬الش ْرك بالل‪،‬‬
‫والس ْحر»(‪ .)4‬والساحر كاف ٌر مشر ٌك معتد ظالم‪ ،‬حكمه أن يقتل‪ ،‬وذلك من قبل ولي األمر‪ ،‬جاء عن‬
‫عمر ﭬ‪« :‬أن اقتلوا كل ساحر وساحرة»(‪.)5‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪ ،102‬وقد اختصرت يف النقل‪.‬‬
‫اب‪« :‬إن من البيان سح ًرا»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5434‬؛ كتاب الطب؛ ب ٌ‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪ ،102‬وأصل هذا الكالم موجود يف تفسير الرازي «مفاتيح الغيب» عند تفسير نفس اآلية‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»5431‬؛ كتاب الطب؛ باب الشرك والسحر من الموبقات‪.‬‬
‫(‪ )5‬مصنف ابن أبي شيبة «‪»30922‬؛ كتاب الحدود؛ باب‪« :‬ما قالوا يف الساحر؟ ما يصنع به؟»‪ ،‬وصححه سعد الشثري‪ ،‬وكذلك رواه‬
‫اإلمام أحمد يف مسنده «‪ ،»1657‬ويف تحقيق طبعة الرسالة بإشراف األرناؤوط‪« :‬إسناده صحيح على شرط البخاري»‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪245‬‬ ‫السحر‬

‫وقد اشترط بعض العلماء لقتل الساحر أن يشتمل سحره على كفر‪ ،‬أما إذا لم يشتمل على كفر‬
‫فال يقتل‪ ،‬والظاهر أن هذا عند من لم يفرق بين السحر ال ُّلغوي واالصطالحي‪ ،‬وإنما جعل السحر‬
‫االصطالحي جز ًءا من السحر ال ُّلغوي‪ ،‬كما قرأنا للرازي من قبل‪ ،‬والمتأمل يف أخبار السحرة الذين‬
‫يمارسون السحر االصطالحي وطرقهم اآلن؛ يجد أن كل السحرة ال يت ُّم سحره وال علمه إال‬

‫فر مصدا ًقا لقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱌ‬


‫قرب إليهم‪ ،‬واتباع السحر ك ٌ‬
‫بالكفر والتع ُّبد إلى الشياطين والت ُّ‬
‫ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [البقرة‪ ،]102 :‬فاآلية ظاهرها أن الشياطين كفروا بسبب‬
‫تعليمهم السحر والعمل به‪ ،‬وهبذا قال بعض المفسرين(‪ ،)1‬والسحر الذي ليس فيه كفر؛ فليس‬
‫حر لغوي أو عريفٌّ‪ ،‬أحكامه تختلف حسب التفصيل فيه‪.‬‬
‫بالسحر االصطالحي‪ ،‬بل س ٌ‬

‫نقل ابن كثير يف تفسيره عن ابن هبيرة قوله‪« :‬أجمعوا على أن السحر له حقيق ٌة‪ ،‬إال أبا حنيفة؛‬
‫فإنه قال‪ :‬ال حقيقة له عنده‪ .‬واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومال ٌك‬
‫وأحمد‪ :‬يكفر بذلك‪ .‬ومن أصحاب أبي حنيفة من قال‪ :‬إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فال يكفر‪ ،‬ومن‬
‫تعلمه معتقدً ا جوازه أو أنه ينفعه كفر‪ .‬وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كاف ٌر‪ .‬وقال‬
‫الشافع ُّي ‪ :$‬إذا تعلم السحر قلنا له‪ :‬صف لنا سحرك‪ .‬فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده‬
‫أهل بابل من التق ُّرب إلى الكواكب السبعة‪ ،‬وأنها تفعل ما يلتمس منها‪ ،‬فهو كاف ٌر‪ .‬وإن كان ال‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬يف تفسير التسرتي جاء عن الحسن البصري‪ « :‬ﭐﱡﭐ ﱌ ﱍ ﱎ ﱠ ‪ ،‬قال‪« :‬اتباع السحر كف ٌر‪ ،‬وليس من دين سليمان‬

‫السحر»»‪ ،‬ويف تفسير الطربي عن ابن إسحاق‪« :‬ﭐﱡﭐ ﱉﱊ ﱋ ﱌﱍﱎ ﱠ ‪ ،‬أي باتباعهم السحر وعملهم‬
‫به»‪ ،‬وقال الطربي يف تفسيره‪« :‬وأن معنى الكالم‪ :‬واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان‪ ،‬وما‬

‫كفر سليمان‪ ،‬فيعمل بالسحر‪ ،‬ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‪ .‬وقد كان قتادة يتأول قوله‪ :‬ﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ‬

‫ﱌﱍﱎﱠعلى ما قلنا»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪246‬‬

‫يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كاف ٌر»(‪ ،)1‬ونقل كذلك عن أبي هبيرة‪« :‬وهل يقتل بمجرد فعله‬
‫واستعماله؟ فقال مال ٌك وأحمد‪ :‬نعم‪ .‬وقال الشافع ُّي وأبو حنيفة‪ :‬ال‪ .‬فأما إن قتل بسحره إنسانًا فإنه‬
‫يقتل عند مالك والشافعي وأحمد‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ال يقتل حتى يتكرر منه ذلك‪ ،‬أو يقر بذلك في‬
‫حق شخص معين‪ .‬وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إال الشافع ُّي‪ ،‬فإنه قال‪ :‬يقتل ‪-‬والحالة هذه‪-‬‬
‫اصا»(‪.)2‬‬
‫قص ً‬

‫واختار الشيخ عبد العزيز بن باز قتل الساحر بال استتابة‪ ،‬فقال ‪« :$‬والصحيح عند أهل‬
‫العلم‪ :‬أن الساحر يقتل بغير استتابة؛ لعظم شره وفساده‪ ،‬وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه‬
‫يستتاب‪ ،‬وأنهم كالكفرة اآلخرين يستتابون‪ ،‬ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم‪ :‬أنه ال يستتاب؛‬
‫ضر الناس‬
‫ألن شره عظيم‪ ،‬وألنه يخفي شره‪ ،‬ويخفي كفره‪ ،‬فقد يدعي أنه تائب وهو يكذب‪ ،‬في ُّ‬
‫عظيما؛ فلهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن من عرف وثبت سحره يقتل‪ ،‬ولو زعم‬
‫ً‬ ‫ضررا‬
‫ً‬
‫أنه تائب ونادم فال يصدق يف قوله»(‪.)3‬‬
‫حكم الس ِ‬
‫احر ال َّتائب‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬

‫التوبة عند اهلل باهبا مفتوح‪ ،‬والساحر إن استجمع شروط التوبة فقبولها أم ٌر بينه وبين اهلل ‪،‬‬
‫لكن يجب عليه أن يرد الحقوق الخاصة حسب استطاعته‪ ،‬وأن يبطل ما استطاع من أسحار عملها‪،‬‬
‫ولو تسبب يف قتل أحد بأسحاره؛ فعليه أن يقدم نفسه لمحاكمته على جريمة القتل‪ ،‬ولو تسبب يف‬
‫خاص بالناس؛ فعليه أن يضمن ويتحمل ذلك‪ ،‬إال إن عفا عنه من تضرر‬
‫ٌّ‬ ‫مرض أو أمر آخر مما هو‬
‫منه‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪.102‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬مجموع فتاوى ابن باز؛ المجلد الثامن؛ السحر وأنواعه‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪247‬‬ ‫السحر‬

‫لكن هل للقاضي أن يقبل توبته ويعفو عنه؟ أم يعامله معاملة السحرة حتى وإن أظهر التوبة؟‬
‫اختلف أهل العلم يف ذلك‪ ،‬نقل ابن كثير عن أبي هبيرة رحمهما اهلل‪« :‬وهل إذا تاب الساحر تقبل‬
‫توبته؟ فقال مال ٌك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما‪ :‬ال تقبل‪ .‬وقال الشافع ُّي وأحمد في‬
‫الرواية األخرى‪ :‬تقبل»(‪ ،)1‬قال الشيخ عبد العزيز الراجحي معل ًقا‪« :‬هذه المسألة فيها خالف‪،‬‬
‫أيضا الزنديق‪ ،‬ومن سب اهلل‪،‬‬
‫وهي‪ :‬هل تقبل توبة الساحر؟ فالمحققون على أنها ال تقبل‪ ،‬وكذلك ً‬
‫أو الرسول‪ ،‬أو سب الدين‪ ،‬أو استهزأ باهلل وبرسوله وبكتابه‪ ،‬فال تقبل توبته يف الدنيا؛ زج ًرا له‬
‫وألمثاله عن هذا الكفر الغليظ‪ ،‬قالوا‪ :‬فلو ادعى التوبة ال نقبل توبته‪ ،‬بل ال بد من قتله يف الدنيا‪،‬‬
‫وأما يف اآلخرة فأمره إلى اهلل‪ ،‬فإن كان صاد ًقا فاهلل يحب الصادقين‪ ،‬وإن كان كاذ ًبا فله حكم‬
‫الكاذبين‪.‬‬

‫وقال آخرون من أهل العلم‪ :‬يستتاب‪ ،‬فإن تاب ‪-‬ولو كان ساح ًرا‪ -‬فإنه يرتك‪ ،‬والصواب أنه‬
‫إن سلم نفسه قبل أن يقبض عليه فإنه تقبل توبته؛ ألن هذا دليل على أنه تاب‪ ،‬وأما إذا قبض عليه ثم‬
‫ادعى التوبة فال تقبل‪ ،‬ويكون حكمه حكم المحاربين»(‪.)2‬‬
‫الكاهن والعراف والس ِ‬
‫احر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ال َف ْرق ب ْي َن‬
‫َّ‬ ‫َّ‬

‫قال ابن قدامة‪« :‬فأما الكاهن الذي له رئ ٌّي من الجن‪ ،‬تأتيه باألخبار‪ ،‬والعراف الذي يحدس‬
‫ف من السحر‪ ،‬والساحر أخبث‪ ،‬ألن‬
‫ويتخرص»‪ ،‬ثم نقل كال ًما لإلمام أحمد فيه‪« :‬والعرافة طر ٌ‬
‫السحر شعب ٌة من الكفر»(‪ .)3‬قال الخطابي‪« :‬والفرق بين الكاهن والعراف‪ :‬أن الكاهن إنما يتعاطى‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪.102‬‬
‫(‪ )2‬شرح تفسير ابن كثير للشيخ عبد العزيز الراجحي؛ دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية؛‬
‫‪https://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=188484#225239‬‬
‫(‪ )3‬المغني البن قدامة؛ كتاب المرتد؛ فص ٌل‪ :‬حدُّ الكاهن والعراف والساحر‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪248‬‬

‫األخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان‪ ،‬ويدعي معرفة األسرار‪ ،‬والعراف هو الذي يتعاطى معرفة‬
‫الشيء المسروق‪ ،‬ومكان الضالة‪ ،‬ونحوهما من األمور»(‪.)1‬‬
‫حكم إ ْتيان الس ِ‬
‫احر‪:‬‬ ‫َّ‬

‫مجرد سؤال عراف يجعل صالتك ألربعين يو ًما غير مقبولة‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬م ْن َأتَى‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َع َّرا ًفا َف َس َأ َل ُه َع ْن َش ْيء‪َ ،‬ل ْم ُت ْق َب ْل َل ُه َص ََلة َأ ْر َبع َ‬
‫ين َل ْي َل ًة»(‪ ،)2‬والعرافة طرف من السحر كما ذكرت قبل‬
‫قليل‪ ،‬فالساحر يمتهن العرافة وأشياء أخرى أسوأ من ذلك‪ .‬قال اإلمام النووي ‪« :$‬وأما عدم‬
‫قبول صالته؛ فمعناه أنه ال ثواب له فيها‪ ،‬وإن كانت مجزئ ًة في سقوط الفرض عنه‪ ،‬وال يحتاج معها‬
‫إلى إعادة‪ ،‬ونظير هذه الصالة في األرض المغصوبة؛ مجزئة مسقطة للقضاء‪ ،‬ولكن ال ثواب فيها‪،‬‬
‫كذا قاله جمهور أصحابنا‪ ،‬قالوا فصالة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتي بها على وجهها‬
‫الكامل ترتب عليها شيئان‪ :‬سقوط الفرض عنه‪ ،‬وحصول الثواب‪ ،‬فإذا أداها في أرض مغصوبة‬
‫حصل األول دون الثاين‪ ،‬وال بد من هذا التأويل في هذا الحديث»(‪.)3‬‬

‫وإذا كان ما سبق جزاء من يأيت العراف فقط‪ ،‬فما بالك بمن يأتيه هو وأمثالهم ويصدقهم فيما‬

‫يقولون؟ أو يطلب منهم أن يعملوا له سحر ًا؟ ال شك أن هذا أكرب ً‬


‫إثما ومصيبة‪ ،‬وإن كان ذلك يتم‬
‫ٌ‬
‫وتعاون على اإلثم والعدوان‪ ،‬وإن كان‬ ‫كفر وشرك‬
‫عن طريق التقرب إلى الشياطين بطاعتهم فهذا ٌ‬
‫وإثما وعدوانا‪.‬‬
‫السحر ليؤذي به غيره فذلك أشدُّ جر ًما ً‬

‫________________‬
‫السنن للخطابي؛ كتاب البيوع؛ «ومن باب حلوان الكاهن»‪.‬‬
‫(‪ )1‬معالم ُّ‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2230‬؛ كتاب «السالم»؛ «باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان»‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح النووي على صحيح مسلم؛ يف شرحه للحديث‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪249‬‬ ‫السحر‬

‫كيف َيتِ ُّم الس ْحر؟‬

‫ٌ‬
‫إنسان حاسدٌ ‪ ،‬حاقدٌ عليك‪ ،‬يرجو إزالة نعمة بادية عليك‪ ،‬أو يريد صرفك‬ ‫طالب السحر إما‬
‫عن أمر ما‪ ،‬أو عطفك على نفسه أو شيء آخر‪ ،‬أو يريد أم ًرا غير ذلك‪ ،‬وقد يكون الذي طلب‬

‫ب عام ٌّي جاه ٌل طيب؛ غير مدرك لخطورة السحر‪ ،‬أو ال يميز بين السحر و ُّ‬
‫الرقية‪،‬‬ ‫السحر مح ٌّ‬
‫فيذهب طالب السحر إلى ساحر‪ ،‬ويشرح له ما يريد أن يفعله بالمسحور‪ ،‬فإن كان حاسدً ا طلب‬
‫الشر مثل التفريق بين المسحور وزوجه‪ ،‬أو صرفه عن عمله أو تجارته وما إلى ذلك‪ ،‬وإن كان‬
‫خير للمسحور‪ ،‬مثل أن ينجح المسحور يف دارسته أو يف‬
‫طالب السحر ساذ ًجا غبيا طي ًبا طلب ما فيه ٌ‬
‫ٌ‬
‫فشيطان إنس ٌّي ال خير يرجى منه‪ ،‬فيعمل السحر‬ ‫عمله‪ ،‬أو يوفق يف زواجه أو يف مهمته‪ ،‬أما الساحر‬
‫بطريقته ثم يعطي أجزاء السحر لمن طلبه‪ ،‬وهذه األجزاء عبارة عن أشياء مادية محسوسة‪ ،‬ليقوم‬
‫طالب السحر بتوزيع هذه األجزاء يف المكان الذي يطلب منه الساحر وضعها فيه‪.‬‬

‫نيف الس ْحر ِم ْن ُ‬


‫حيث المس(‪:)1‬‬ ‫تص ُ‬‫ْ‬
‫‪ -1‬بعض األسحار تسبب مسا داخليا‪.‬‬
‫‪ -2‬وبعضها تتسبب بمس خارجي ال يدخل الجسم‪.‬‬
‫‪ -3‬وبعضها ليس فيها م ٌّس يصيب المسحور‪ ،‬بل يت ُّم تغيير الطبيعة حول المسحور‪ ،‬مثل تغيير‬
‫الموجات أو الهواء‪ ،‬وهذا مثل الذي سحر به رسول اهلل ﷺ وموسى ڠ‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سيأيت شرح المس يف فصل مستقل صفحة ‪.289‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪250‬‬

‫تصنيف السحر ِمن ُ‬


‫حيث المعمول له‪:‬‬ ‫ْ‬
‫‪ -1‬قد يكون السحر خاصا بالمريض م ً‬
‫عموال له مباشرة‪.‬‬
‫مثال يكون على‬
‫‪ -2‬وقد يكون السحر خاصا بشخص قريب للمريض ولكن يؤثر على المريض‪ً ،‬‬
‫مثال يكون على الوالدة ويؤثر كذلك على األطفال‪.‬‬
‫الزوج ويؤثر كذلك على الزوجة‪ ،‬أو ً‬
‫مثال سحر لجميع الموظفين‪ ،‬أو سحر لكل من دخل‬
‫‪ -3‬وقد يكون سح ًرا عاما ويشمل المريض‪ً ،‬‬
‫المطعم الفالين‪.‬‬

‫أماكِن َو ْضع الس ْحر‪:‬‬

‫دائما قرب مكان تواجد المسحور حتى تؤثر فيه بشكل فعال‪ ،‬أو يف‬
‫هذه األماكن تكون ً‬
‫دائما‪ ،‬وكلما ابتعد المسحور عن سحره خف التأثير عليه‪ ،‬فإما أنهم‬
‫األماكن التي يرتدد إليها ً‬
‫مثال قري ًبا من بيته أو عمله أو‬ ‫يدخلونه إلى جسده عن طريق األكل أو ُّ‬
‫الشرب أو الشم‪ ،‬أو يضعونه ً‬
‫مدرسته‪ ،‬وذلك عن طريق الدفن أو الرش أو التعليق أو الحرق‪ .‬ولقد ظن بعض الناس أن مكان‬
‫السحر من علم الغيب المطلق‪ ،‬وأقول كيف يكون من علم الغيب والساحر هذا إنسان مثلك‪ ،‬له‬
‫أبوان من البشر مثلما لك‪ ،‬وهو الذي أعطى بيديه السحر لطالب السحر وقال له أين يضعه‪ ،‬والذي‬
‫أيضا إنسان وبشر يعرفك ويعرف مكانك ويتابعك‪ ،‬وهو الذي وضع السحر بيديه يف‬
‫طلب السحر ً‬
‫المكان الذي أمره الساحر به‪ ،‬فكيف يكون مكان السحر من علم الغيب؟! وبعضهم يظ ُّن ذلك‬
‫لكونه ال يعرف طريقة مباحة لمعرفة مكان السحر‪ ،‬وأقول لهذا‪« :‬الصمت خير لك من ادعائك أن‬
‫ذلك من علم الغيب الذي ال يعلمه إال اهلل‪ ،‬أوكلما جهلت شي ًئا؛ جعلته من علم الغيب المطلق؟!‬
‫ليال من‬
‫بالرؤى‪ ،‬فنقول‪ :‬هات د ً‬
‫هداك اهلل»‪ .‬ومنهم من يقول‪ :‬إن السحر ال يمكن معرفة مكانه إال ُّ‬
‫الرؤيا‬
‫صحيح أن بعض المسحورين قد يريه اهلل ‪ ‬مكان السحر يف ُّ‬
‫ٌ‬ ‫والسنة على ما قلت‪.‬‬
‫القرآن ُّ‬
‫وتكر ًما على المسحور‪ ،‬وقد يري خادم السحر ‪-‬الذي يريد أن يتحرر من عمله‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫فضال منه ونعم ًة‬
‫ً‬
‫ِّ ْ‬
‫‪251‬‬ ‫السحر‬

‫مكان السحر للمسحورين يف منامهم‪ ،‬لكن هذا ال يد ُّل على حصر وتقييد طريقة معرفة مكان‬
‫الرؤى والمنامات‪.‬‬
‫السحر يف ُّ‬

‫ِخ َّف ُة ال َيد‪:‬‬

‫انتشر يف زمننا ما يعرف بخفة اليد‪ ،‬وحركات الخدعة من دون استعانة بالجن أو الشياطين‪،‬‬
‫وعرف هذا األمر بالسحر‪ ،‬ويسمى من يفعله بالساحر‪ ،‬لكن هذا سح ٌر لغوي‪ ،‬وليس بالسحر‬
‫االصطالحي المراد يف سورة البقرة‪ ،‬وليس كذلك نو ًعا من سحر التخييل –مثل الذي وقع لموسى‬
‫ڠ‪ ،-‬حيث إن سحر التخييل يندرج يف السحر االصطالحي المذكور يف هذا الفصل‪ .‬والشبه بين‬
‫سحر خفة اليد وبين السحر الحقيقي أو الشيطاين هو مثل الشبه بين مسدسات األطفال التي يلعبون‬
‫هبا وبين المسدس الحقيقي الذي يقتل الناس‪ .‬فكالهما يسمى مسد ًسا‪ ،‬لكن شتان بين هذا وهذا‪،‬‬
‫وتختلف أحكام كل منهما عن اآلخر‪ .‬وأحكام سحر خفة اليد هي مثل أحكام المواد الترفيهية‪.‬‬
‫واتهام من يفعلها باالستعانة بالجن والشياطين ادعاء ال بد له من بينة واضحة‪ ،‬وإال يصبح المدعي‬
‫صما للمدعى عليه أمام اهلل ‪ ،‬واهلل ‪ ‬أعلم‪.‬‬
‫خ ً‬

‫وقد شرح اإلمام ابن القيم سحر التخييل الذي تعرض له موسى ڠ والحاضرون‪ ،‬فقال‬

‫‪« :$‬وقد قال تعالى عن سحرة فرعون أنهم ﱡﭐ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ‬

‫ﲶﲷﱠ [األعراف‪ ،]116 :‬فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك‪:‬‬

‫‪ -1‬إما أن يكون لتغيير حصل يف المرئي‪ ،‬وهو الحبال والعصي‪ ،‬مثل أن يكون السحرة استعانت‬
‫بأرواح حركتها وهي الشياطين‪ ،‬فظنُّوا أنها تحركت بأنفسها‪ ،‬وهذا كما إذا جر من ال يراه‬

‫صيرا أو بسا ًطا؛ فرتى الحصير والبساط ي ُّ‬


‫نجر؛ وال ترى الجار له؛ مع أنه هو الذي يج ُّره‪،‬‬ ‫ح ً‬
‫فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتق ُّلب الحية‪ ،‬فظن الرائي أنها تقلبت‬
‫بأنفسها‪ ،‬والشياطين هم الذين يقلبوهنا‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪252‬‬

‫‪ -2‬وإما أن يكون التغيير حدث يف الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة يف أنفسها‪.‬‬

‫وال ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا‪ ،‬فتارة يتصرف يف نفس الرائي وإحساسه؛ حتى يرى‬
‫الشيء بخالف ما هو به‪ ،‬وتارة يتصرف يف المرئي باستعانته باألرواح الشيطانية حتى يتصرف‬
‫فيها»(‪.)1‬‬

‫ثم ذكر ‪ $‬فائدة بديعة فقال‪« :‬وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا يف الحبال والعصي ما‬
‫أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت؛ فهذا باطل من وجوه كثيرة‪ ،‬فإنه لو كان‬
‫حرا ألعين الناس‪ ،‬وال يسمى ذلك‬ ‫كذلك لم يكن هذا خ ً‬
‫ياال بل حركة حقيقية‪ ،‬ولم يكن ذلك س ً‬
‫سح ًرا‪ ،‬بل صناعة من الصناعات المشرتكة‪ ،‬وقد قال تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ‬

‫ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ [طه‪ .]66 :‬ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون؛ لم يكن هذا من‬
‫وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤالء؛ لكان طريق إبطالها‬
‫السحر يف شيء‪ ،‬ومثل هذا ال يخفى‪ً .‬‬
‫وأيضا فمثل‬
‫إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال‪ ،‬ولم يحتج إلى إلقاء العصا البتالعها‪ً ،‬‬
‫الصناع‪ ،‬وال يحتاج يف ذلك‬
‫هذه الحيلة ال يحتاج فيها إلى االستعانة بالسحرة‪ ،‬بل يكفي فيها حذاق ُّ‬
‫وأيضا فإنه ال يقال يف‬
‫ً‬ ‫إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم‪ ،‬ووعدهم بالتقريب والجزاء‪،‬‬
‫ذلك‪ :‬إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‪ ،‬فإن الصناعات يشرتك الناس يف تع ُّلمها وتعليمها»(‪.)2‬‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫[البقرة‪] 102 :‬؛‬ ‫يظ ُّن كثير من الناس أن اآلية‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱠ‬

‫تفسيرها مجزو ٌم أن ملكين اسمهما «هاروت وماروت» نزال يعلمان السحر‪ ،‬وهذا مطابق ًة للرواية‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬بدائع الفوائد البن القيم؛ المجلد الثاين؛ تفسير المعوذتين؛ فصل «تأثير السحر»؛ صفحة ‪747‬؛ طبعة دار عالم الفوائد‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪253‬‬ ‫السحر‬

‫اإلسرائيلية المشهورة‪ ،‬ولكن التفسير األصح أن «ما» نافية لنزول السحر على الملكين‪ ،‬قال ابن‬

‫ﱘ ﱚﱛﱜﱝﱞﱟ‬
‫ﱙ‬ ‫كثير‪« :‬وقوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ‬

‫ﱤ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭﱠﭐ؛ اختلف الناس‬


‫ﱥ‬ ‫ﱠﱡﱢﱣ‬

‫ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ ‪،‬‬ ‫في هذا المقام‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أن «ما» نافيةٌ‪ ،‬أعني التي في قوله‪:‬‬

‫قال القرطب ُّي‪« :‬ما» نافي ٌة ومعطوف ٌة على قوله‪ :‬ﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱠ ثم قال‪ :‬ﱡﭐ ﱌ ﱍ‬

‫ﱎﱏﱐ ﱑﱠ‪،‬ﱡﭐﱒﱓﱠ‪-‬أي‪ :‬السحر‪ -‬ﱡﭐﱔﱕﱠ وذلك أن اليهود‬

‫لعنهم اهلل كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل‪ ،‬فأكذبهم اهلل في ذلك وجعل قوله‪ :‬ﱡﭐ ﱗ‬

‫ﱘﱠ بد ًال من ﱡﭐ ﱄ ﱠ ‪ ،‬قال‪ :‬وصح ذلك‪ ،‬إما ألن الجمع قد يطلق على االثنين كما في‬

‫اع‪ ،‬أو ذكرا من بينهم لتم ُّردهما‪ ،‬فتقدير‬ ‫قوله‪ :‬ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﱠ [النساء‪ ،]11 :‬أو يكون لهما أتب ٌ‬
‫ت َع َل ْي ِه‬
‫الكالم عنده‪ :‬تعلمون الناس السحر ببابل‪ ،‬هاروت وماروت‪ .‬ثم قال‪َ :‬و َه َذا َأ ْو َلى َما ُح ِم َل ْ‬
‫ت إِ َلى َما ِس َوا ُه‪.‬‬
‫ْاآل َي ُة َو َأ َص ُّح َو َال ُي ْل َت َف ْ‬

‫وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪ :‬ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ‬

‫ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱠ ﭐ يقول‪ :‬لم ينزل اهلل السحر‪ .‬وبإسناده‪ ،‬عن الربيع بن أنس‪ ،‬في‬

‫قوله‪ :‬ﱡﭐﱒﱓﱔﱕﱠ قال‪ :‬ما أنزل اهلل عليهما السحر‪.‬‬

‫قال ابن جرير‪ :‬فتأويل اآلية على هذا‪ :‬واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر‪،‬‬
‫وما كفر سليمان‪َ ،‬و َال َأ ْنز ََل اللُ الس ْح َر َع َلى الم َل َك ْي ِن‪ ،‬ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‬

‫ببابل‪ ،‬هاروت وماروت‪ .‬فيكون قوله‪ :‬ﱡﭐﱖﱗﱘﱠﭐمن المؤخر الذي معناه المقدم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪254‬‬

‫قال‪ :‬فإن قال لنا قائ ٌل‪ :‬وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل‪ :‬وجه تقديمه أن يقال‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ‬

‫ﱄﱅﱆﱇﱠﭐ‪«-‬من السحر»‪ ،-‬ﱡﭐﱉﱊ ﱋﱠ‪ ،‬وما أنزل اهلل «السحر» على‬

‫الملكين‪ ،‬ﱡﭐﱌﱍﱎﱏﱐﱑﱠ ببابل وهاروت وماروت‪.‬‬

‫فيكون معنيا بالملكين‪ :‬جبريل وميكائيل‪ ،‬عليهما السالم؛ ألن سحرة اليهود فيما ذكر كانت‬
‫تزعم أن اهلل أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ڠ‪ ،‬فأكذبهم اهلل‬
‫بذلك‪ ،‬وأخبر نبيه محمدً ا ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينزال بسحر‪ ،‬وبرأ سليمان ڠ مما نحلوه‬
‫من السحر‪ ،‬وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين‪ ،‬وأنها تعلم الناس ذلك ببابل‪ ،‬وأن الذين‬
‫يعلمونهم ذلك رجالن‪ ،‬اسم أحدهما هاروت‪ ،‬واسم اآلخر ماروت‪ ،‬فيكون هاروت وماروت‬
‫على هذا التأويل ترجم ًة عن الناس‪ ،‬وردا عليهم‪ ،)1(».‬ومثل هذا التقديم والتأخير؛ فهو من عادة‬
‫قديما وحدي ًثا ال إشكال فيه‪.‬‬
‫كالم العرب ً‬

‫ثم أورد ابن كثير الرواية اإلسرائيلية بعدة أوجه‪ ،‬وحدي ًثا ضعي ًفا منكر المتن(‪ ،)2‬ثم قال بعدها‪:‬‬
‫السدي والحسن‬
‫«وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين‪ ،‬كمجاهد و ُّ‬
‫الزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم‪ ،‬وقصها خل ٌق من‬ ‫البصري وقتادة وأبي العالية و ُّ‬
‫ار َبنِي إِ ْس َرائِ َ‬
‫يل‪ ،‬إذ‬ ‫المفسرين من المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬وحاصلها راج ٌع في تفصيلها إلى َأ ْخ َب ِ‬

‫يح متصل اإلسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي ال ينطق‬


‫وع صح ٌ‬ ‫ليس فيها حد ٌ‬
‫يث مرف ٌ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪.102‬‬
‫(‪ )2‬رواه اإلمام أحمد يف مسنده «‪ ،»6178‬ويف تحقيق طبعة الرسالة بإشراف األرناؤوط‪« :‬إسناده ضعيف ومتنه باطل‪ ....‬والصحيح أن‬
‫هذا الحديث ال تصح نسبته إلى النبي ﷺ‪ ،‬وإنما هو من قصص كعب األحبار‪ ،‬نقله عن كتب بني إسرائيل»‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪255‬‬ ‫السحر‬

‫عن الهوى‪ ،‬وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط وال إطناب فيها‪ ،‬فنحن نؤمن بما ورد‬
‫في القرآن على ما أراده اهلل تعالى‪ ،‬واهلل أعلم بحقيقة الحال»(‪.)1‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير؛ سورة البقرة؛ آية ‪.102‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪256‬‬
‫‪257‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول الل ﷺ‬


‫وزوجاته رضي الل عنهن‬

‫الس ْحر الذي أصاب رسول الل ﷺ‪:‬‬

‫كثرت األحاديث الصحيحة يف نقل أخبار السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬منها ما ورد يف‬
‫صحيح البخاري وصحيح مسلم‪ ،‬وقد أنكر بعض المسلمين ذلك ألن عقولهم لم تستوعب جريان‬
‫السحر على رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وذلك ألنهم لم يعرفوا السحر معرفة صحيحة تامة‪ ،‬ولم يعرفوا رسول‬
‫اهلل ﷺ حق المعرفة‪ ،‬فهو منهم نف ٌي لما لم يعرفوه‪ ،‬عن من لم يعرفوه حق المعرفة ﷺ‪ .‬والسحر قد‬
‫قدمت عنه نبذة يف الفصل السابق‪ ،‬أما رسول اهلل ﷺ أشرف المخلوقات وأفضلها قاطبة‪ ،‬فأنى‬
‫لشخص مثلي أن يعرفه ويتكلم عنه صلوات ربي وسالمه عليه‪ ،‬لكن هؤالء ممن لم يعاصروه ﷺ؛‬
‫ً‬
‫رسوال له ﷺ‪ ،‬وأنه ﷺ بش ٌر‬ ‫ولم يعاصروا صحابته ﭫ؛ خفي عليهم أنه ﷺ عبدٌ هلل قبل أن يكون‬
‫من ساللة آدم ڠ‪ ،‬يعتريه ما يعتري غيره من البشر من أمراض وأسقام‪ ،‬وأنه ﷺ قد عصمه اهلل يف‬
‫دينه وتبليغه‪ ،‬وهذا ال يعني عدم إصابته يف جسده الشريف ﷺ‪ .‬وبعض المنكرين رأى بعض‬
‫التعارضات بين الروايات‪ ،‬فب ً‬
‫دال من البحث عن سبب التعارض وتفسيره؛ قام بإنكار جميع‬
‫األحاديث المتعلقة به‪.‬‬

‫كما أنه ال يوجد تعارض بين واقعة السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ وبين قول اهلل ‪ ‬على‬

‫لسان المشركين‪ :‬ﱡﭐ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﱠ [اإلسراء‪ ،]47 :‬فالسحر الذي ادعاه المشركون‬


‫ونفاه القرآن؛ هو السحر الذى يؤثر يف عقل المسحور ويجعله يهذى كالمجانين‪ ،‬وحاشاه ﷺ أن‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪258‬‬

‫يصيبه مثل ذلك‪ ،‬والسحر الذي أصابه ﷺ لم يكن له تأثير على العقل والدين‪ ،‬وإنما أشياء تتشكل‬
‫تغير يحصل داخل الجسم‪ ،‬وذلك بالضبط مثلما حصل لموسى‬
‫له ﷺ خارج جسده الشريف‪ ،‬وال ٌ‬
‫ڠ‪ ،‬فقال ‪ ‬عنه‪ :‬ﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ [طه‪ .]66 :‬ومما ير ُّد أيضًا على المنكرين‬

‫أن كفار قريش رموا رسول اهلل ﷺ بالجنون‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ‬

‫عنه ذلك‪ ،‬حيث قال يف موضع آخر‪ :‬ﱡﭐ ﲡ ﲢ‬ ‫ﱱ ﱲ ﱠ [الحجر‪ ،]6 :‬فنفى اهلل ‪‬‬
‫ﲣﱠ [التكوير‪ ،]22 :‬والجنون مرض يصيب الدماغ‪ ،‬فهل نفي الجنون عنه ﷺ يعني أن رسول اهلل‬
‫ﷺ معصوم من جميع األمراض‪ ،‬بالطبع ال‪ ،‬وإنما تم نفي مرض معين عنه ﷺ أال وهو الجنون‪،‬‬
‫كذلك حينما اتهم المشركون رسول اهلل ﷺ بالسحر فإنهم قصدوا السحر الذي يصيب العقل‪،‬‬
‫وهذا الذي نفاه اهلل ‪ ‬عنه ﷺ‪.‬‬

‫قال اإلمام ابن القيم ‪ $‬عن هذا السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪« :‬قد أنكر هذا طائف ٌة من‬
‫الناس‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال يجوز هذا عليه‪ ،‬وظنُّوه نق ًصا وعي ًبا‪ ،‬وليس األمر كما زعموا‪ ،‬بل هو من جنس ما‬
‫السم ال‬
‫كان يعتريه ﷺ من األسقام واألوجاع‪ ،‬وهو مر ٌض من األمراض‪ ،‬وإصابته به كإصابته ب ُّ‬
‫اض‪ :‬والسحر مر ٌض من‬
‫فرق بينهما‪ ،‬وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ڤ‪ ....‬قال القاضي عي ٌ‬
‫األمراض‪ ،‬وعار ٌض من العلل يجوز عليه ﷺ‪ ،‬كأنواع األمراض مما ال ينكر‪ ،‬وال يقدح في نبوته‪،‬‬
‫وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله‪ ،‬فليس في هذا ما يدخل عليه داخل ًة في شيء من‬
‫صدقه‪ ،‬لقيام الدليل واإلجماع على عصمته من هذا‪ ،‬وإنما هذا فيما يجوز طر ُّوه عليه في أمر دنياه‬
‫التي لم يبعث لسببها‪ ،‬وال فضل من أجلها‪ ،‬وهو فيها عرض ٌة لآلفات كسائر البشر‪ ،‬فغير بعيد أنه‬
‫يخيل إليه من أمورها ما ال حقيقة له‪ ،‬ثم ينجلي عنه كما كان‪)1(».‬ا‪.‬هـ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد؛ فص ٌل في هديه ﷺ في عالج السحر الذي سحرته اليهود به‪.‬‬
‫‪259‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫وقال كذلك ‪ $‬متحد ًثا عن حديث السحر‪« :‬وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث‪،‬‬
‫متلقى بالقبول بينهم ال يختلفون يف صحته»(‪ ،)1‬كما قال‪« :‬وقد اتفق أصحاب الصحيحين على‬
‫تصحيح هذا الحديث‪ ،‬ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة‪ ،‬والقصة مشهورة عند‬
‫والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء‪ ،‬وهؤالء أعلم بأحوال رسول اهلل ﷺ وأيامه من‬
‫أهل التفسير ُّ‬
‫المتكلمين(‪ ،)3(»)2‬وأقول هذه كتب أهل الحديث بين أيدينا؛ تشهد بما قاله اإلمام ابن القيم ‪،$‬‬
‫ومن ادعى عكس ذلك فعليه البينة‪.‬‬

‫رضا من‬
‫وقال ‪ $‬عن السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪« :‬قالوا‪ :‬والسحر الذي أصابه كان م ً‬
‫األمراض عار ًضا شفاه اهلل منه‪ ،‬وال نقص يف ذلك وال عيب بوجه ما‪ ،‬فإن المرض يجوز على‬
‫األنبياء‪ ،‬وكذلك اإلغماء فقد أغمي عليه يف مرضه‪ ،‬ووقع حين انفكت قدمه وجحش ش ُّقه‪ ،‬وهذا‬
‫من البالء الذي يزيده اهلل به رفعة يف درجاته ونيل كرامته‪ ،‬وأشدُّ الناس بالء األنبياء‪ ،‬فابتلوا من‬
‫أممهم بما ابتلوا به‪ ،‬من القتل والضرب والشتم والحبس‪ ،‬فليس ببدع أن يبتلى النبي ﷺ من بعض‬
‫أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه‪ ،‬وابتلي بالذي ألقى على ظهره السال وهو‬
‫ساجد‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فال نقص عليهم وال عار يف ذلك‪ ،‬بل هذا من كمالهم وعلو درجاهتم عند‬
‫اهلل»(‪.)4‬‬

‫وقال كذلك «وأما قولكم‪ :‬إن سحر األنبياء ينايف حماية اهلل تعالى لهم؛ فإنه سبحانه كما‬
‫يحميهم ويصوهنم ويحفظهم ويتوالهم‪ ،‬فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم‪ ،‬ليستوجبوا كمال‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬بدائع الفوائد البن القيم؛ المجلد الثاين؛ تفسير المعوذتين؛ فصل‪ :‬الشر الثالث ‪ -‬السحر؛ صفحة ‪739‬؛ طبعة دار الفوائد‪.‬‬
‫(‪ )2‬يقصد أهل الكالم والفلسفة الذين قدموا عقولهم الضيقة على النقل‪.‬‬
‫(‪ )3‬بدائع الفوائد البن القيم؛ المجلد الثاين؛ تفسير المعوذتين؛ فصل‪ :‬الشر الثالث ‪ -‬السحر؛ صفحة ‪740‬؛ طبعة دار الفوائد‪.‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق؛ صفحة ‪.742‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪260‬‬

‫كرامته‪ ،‬وليتسلى هبم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس‪ ،‬فرأوا ما جرى على‬
‫الرسل واألنبياء صبروا ورضوا وتأسوا هبم‪ ،‬ولتمتلئ صاع الكفار‪ ،‬فيستوجبون ما أعد لهم من‬
‫ُّ‬
‫النكال العاجل والعقوبة اآلجلة‪ ،‬فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوهتم‪ ،‬فيعجل تطهير األرض منهم‪،‬‬
‫فهذا من بعض حكمته تعالى يف ابتالء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم‪ ،‬وله الحكمة البالغة والنعمة‬
‫السابغة‪ ،‬ال إله غيره وال رب سواه‪.)1(».‬‬

‫وقال اإلمام المازري ‪« :$‬أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث من طريق ثابتة‪ ،‬وزعموا أنه‬
‫يح ُّط منصب النُّبوة ويشكك فيها‪ ،‬وك ُّل ما أدى إلى ذلك فهو باط ٌل‪ ،‬وزعموا أن تجويز هذا يعدم‬
‫الثقة بما شرعوه من الشرائع‪ ،‬ولعله يتخيل إليه جبريل ڠ وليس ثم ما يراه‪ ،‬أو أنه أوحي إليه وما‬
‫أوحي إليه‪ ،‬وهذا الذي قالوه باطل‪ ،‬وذلك أن الدليل قد قام على صدقه ﷺ فيما يبلغه عن اهلل‬
‫سبحانه وعلى عصمته فيه‪ ،‬والمعجزة شاهد ٌة بصدقه‪ ،‬فتجويز ما قام الدليل على خالفه باط ٌل‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫رسوال مفض ًال من أجلها‪ ،‬فهو في كثير منه‬ ‫يتعلق ببعض أمور الدُّ نيا التي لم يبعث بسببها‪ ،‬وال كان‬
‫عرض ٌة لما يعترض البشر‪ ،‬فغير بعيد أن يخيل إليه في أمور الدُّ نيا ما ال حقيقة له»(‪ .)2‬وقال القاضي‬
‫عياض ‪« :$‬إن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه‪ ،‬ال على تمييزه ومعتقده»(‪.)3‬‬

‫والعجيب يف األمر أن البشر اآلن وصلوا إلى تقنية تشبه تقنية سحر التخييل‪ ،‬فعن طريق أجهزة‬
‫العرض الحديثة ترى األشياء تظنُّها حقيقة أمامك‪ ،‬وهي يف الواقع مجرد صور ثالثية األبعاد‪ ،‬لكن‬
‫العين تراها وكأنها شيء حقيقي ال خيال‪ ،‬ثم نستكثر هذا العمل على السحرة‪ ،‬صحيح أن هناك‬
‫فر ًقا بين التقنية البشرية والتقنية السحرية‪ ،‬وهو أن التخ ُّيل التقني يراه ُّ‬
‫كل من وقف أمامه‪ ،‬أما‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق؛ صفحة ‪.745‬‬
‫(‪ )2‬المعلم بفوائد مسلم للمازري؛ شرح أحاديث باب السحر من كتاب الطب؛ صفحة ‪.159‬‬
‫(‪ )3‬نق ًال من فتح الباري البن حجر؛ قوله‪« :‬باب السحر»‪.‬‬
‫‪261‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫التخ ُّيل السحري يقع فقط للمسحورين‪ ،‬ومن حولهم من غير المسحورين ال يتأثرون بذلك‪ ،‬وقد‬
‫قديما يرى التخ ُّيل التقني من يلبس‬
‫ً‬ ‫يكون للجن دور يف تشكيل الخيال أمام المسحور‪ ،‬وقد كان‬
‫النظارات الخاصة هبا فقط‪ ،‬أما من يقف بجانبه بال نظارات فال يراها ثالثية األبعاد؛ بل ثنائية‬
‫الصور الناتجة عن‬
‫األبعاد‪ ،‬وقد تصل التقنية البشرية يو ًما ما إلى تصنيف وتفريق من يستطيع رؤية ُّ‬
‫طور‪.‬‬ ‫األجهزة حسب جسمه وعينه‪ُّ ،‬‬
‫وكل شيء جائز حدوثه ما دام العلم قاب ًال للت ُّ‬

‫نص الحديث‪:‬‬
‫ُّ‬

‫كما ذكرت فإن الروايات كثيرة‪ ،‬لكن أورد هنا رواي ًة مما يف صحيح البخاري‪ ،‬حيث قال ‪:$‬‬
‫حدثني عبد اهلل بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬سمعت ابن عيينة‪ ،‬يقول‪ :‬أول من حدثنا به ابن جريج‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫َان‬
‫حدثني آل عروة‪ ،‬عن عروة‪ ،‬فسألت هشا ًما‪ ،‬عنه‪ ،‬فحدثنا عن أبيه‪ ،‬عن عائشة‪ ،‬ڤ قالت‪« :‬ك َ‬
‫يه َّن»‪- ،‬قال سفيان‪« :‬وهذا أشدُّ ما يكون‬ ‫َان َي َرى َأ َّن ُه َي ْأتِي الن َسا َء َو َال َي ْأتِ ِ‬ ‫ول الل ِ ﷺ س ِ‬
‫ح َر‪َ ،‬حتَّى ك َ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ُ‬
‫يه‪َ ،‬أتَانِي‬
‫ت َأ َّن الل َقدْ َأ ْفتَانِي فِيما اس َت ْف َتي ُته فِ ِ‬
‫َ ْ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫من السحر إذا كان كذا»‪ ،-‬فقال ﷺ‪« :‬يا عائِ َشةُ‪َ ،‬أع ِلم ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫اآلخ ُر ِعنْدَ ِر ْج َل َّي‪َ ،‬ف َق َال ا َّل ِذي ِعنْدَ َر ْأ ِسي لِ ْْل َخرِ‪َ :‬ما َب ُال‬
‫َر ُج ََل ِن‪َ ،‬ف َق َعدَ َأ َحدُ ُه َما ِعنْدَ َر ْأ ِسي‪َ ،‬و َ‬
‫الر ُج ِل؟ َق َال‪َ :‬م ْط ُبوب‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و َم ْن َط َّب ُه؟ َق َال‪َ :‬لبِيدُ ْب ُن َأ ْع َص َم ‪َ -‬ر ُجل ِم ْن َبنِي ز َُر ْي ٍق َح ِليف لِ َي ُهو َد ك َ‬
‫َان‬ ‫َّ‬
‫ت‬‫ط َو ُم َشا َق ٍة(‪َ ،)1‬ق َال‪َ :‬و َأ ْي َن؟ َق َال‪ :‬فِي ُجف َط ْل َع ٍة َذ َكرٍ‪ ،‬ت َْح َ‬ ‫منَافِ ًقا‪َ -‬ق َال‪ :‬وفِيم؟ َق َال‪ :‬فِي م ْش ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ان» قالت‪َ « :‬ف َأتَى النَّبِ ُّي ﷺ البِئ َْر َحتَّى ْاستَخْ َر َج ُه»‪ ،‬فقال ﷺ‪َ « :‬ه ِذ ِه البِئ ُْر ا َّلتِي‬ ‫َرا ُعو َف ٍة(‪ )2‬فِي بِ ْئرِ َذ ْر َو َ‬
‫استُخْ رِ َج»‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫الش َياطِ ِ‬
‫ين»‪ ،‬قال‪َ «:‬ف ْ‬ ‫وس َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُأ ِريت َُها‪َ ،‬وك ََأ َّن َما َء َها ُن َقا َع ُة الحنَّاء‪َ ،‬وك ََأ َّن َنخْ َل َها ُر ُء ُ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المشاقة‪ :‬ما سقط من الشعر والكتان ونحوهما عند المشط‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال ابن حجر يف فتح الباري يف شرحه للحديث‪« :‬والراعوفة‪ :‬حج ٌر يوضع على رأس البئر ال يستطاع قلعه‪ ،‬يقوم عليه المستقي‪ ،‬وقد‬
‫يكون في أسفل البئر‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬هي صخر ٌة تنزل في أسفل البئر إذا حفرت‪ ،‬يجلس عليها الذي ينظف البئر‪ ،‬وهو حج ٌر يوجد‬
‫صل ًبا ال يستطاع نزعه فيترك»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪262‬‬

‫«فقلت‪ :‬أفال؟ ‪-‬أي تنشرت‪ »-‬فقال ﷺ‪َّ « :‬أما اللُ َف َقدْ َش َفانِي‪َ ،‬و َأك َْر ُه َأ ْن ُأثِ َير َع َلى َأ َح ٍد ِم َن النَّاس‬
‫َش ًّرا»(‪.)1‬‬

‫والستخراج أحكام العبادات فإن االعتماد ال بد أن يكون على أحاديث ثابتة؛ أي تكون يف‬
‫درجة الصحيح أو الحسن‪ ،‬لكن الستخراج األمور الطبية والدُّ نيوية؛ يمكننا مطالعة جميع‬
‫الروايات صحيحها وضعيفها كما نفعل يف قراءة السير والمغازي‪ ،‬ونفهم من ذلك لنستنتج‬
‫ونجرب؛ ثم نثبت طبيا ما يص ُّح سندً ا أو تجربةً‪ ،‬وقد وفر علينا كثير من العلماء الجمع بين‬
‫الروايات‪ ،‬منها ما جاء يف فتح الباري البن حجر‪ ،‬ويف بدائع الفوائد البن القيم‪ ،‬فنستخرج ما يلي‪:‬‬

‫ُمقدمة الس ْحر‪:‬‬

‫جاء يف رواية ضعيفة‪« :‬لما رجع رسول اهلل ﷺ من الحديبية في ذي الحجة ‪6-‬هـ‪ -‬ودخل‬
‫المحرم؛ جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر اإلسالم وهو مناف ٌق‪ ،‬إلى لبيد بن‬
‫األعصم اليهودي‪ ،‬وكان حلي ًفا في بني زريق‪ ،‬وكان ساح ًرا‪ ،‬قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم‬
‫السموم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬يا أبا األعصم‪ ،‬أنت أسحر منا‪ ،‬وقد سحرنا محمدً ا‪ ،‬فسحره منا‬
‫بالسحر وب ُّ‬
‫الرجال والنساء فلم نصنع شي ًئا‪ ،‬وأنت ترى أثره فينا‪ ،‬وخالفه ديننا‪ ،‬ومن قتل منا وأجلى‪ ،‬ونحن‬
‫نجعل لك على ذلك جع ًال‪ ،‬على أن تسحره لنا سح ًرا ينكؤه‪ ،‬فجعلوا له ثالثة دنانير(‪ )2‬على أن‬
‫يسحر رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر‪ ،‬فعقد فيه عقدً ا‪ ،‬وتفل فيه‬
‫تف ًال‪ ،‬وجعله في جب طلعة ذكر‪ ،‬ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة البئر‪ ،‬فوجد رسول اهلل ﷺ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5432‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «هل يستخرج السحر؟»‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدينار الذهبي الواحد وزنه تقريبا ‪ 4.25‬جرام‪ ،‬والثالث دنانير ستكون بناء على ذلك ‪ 12.75‬جرام‪ ،‬والتي قيمتها اآلن تساوي‬
‫دوالرا أمريكيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تقريبا ‪720‬‬
‫‪263‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫أم ًرا أنكره‪ ،‬حتى يخيل إليه أنه يفعل الشيء وال يفعله‪ ،‬وأنكر بصره‪ ،‬حتى دله اهلل عليه»(‪ ،)1‬ويف‬
‫رواية أخرى كذلك ضعيفة‪« :‬كان غال ٌم من اليهود يخدم رسول اهلل ﷺ فدبت إليه اليهود‪ ،‬فلم‬
‫يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي ﷺ و عدة أسنان من مشطه‪ ،‬فأعطاها اليهود‪ ،‬فسحروه‬
‫فيها»(‪.)2‬‬

‫كرارا سحر رسول اهلل ﷺ‪ ،‬واهلل ‪ ‬يحفظه ويرعاه‬


‫رارا وت ً‬
‫تبين القصة أن اليهود حاولوا م ً‬
‫ويحميه من هذه األسحار‪ ،‬حتى أعيتهم الحيل‪ ،‬فذهبوا إلى لبيد بن األعصم يعرضون عليه ً‬
‫ماال‬
‫ممحو ًقا وأج ًرا دنيويا حرا ًما‪ ،‬وهكذا هم اليهود والسحرة يشترون الدُّ نيا ببيع اآلخرة‪ ،‬وقد استغ ُّلوا‬
‫وجود أحد غلماهنم يف خدمة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فتقربوا من هذا الغالم وأقنعوه أن يحضر لهم شي ًئا من‬
‫أثر رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ففعل وأحضر لهم مشاطة ‪-‬وهو ما خرج من شعره ﷺ أثناء التمشيط‪ ،-‬كما‬
‫أيضا‪ :‬مشاقة ‪-‬أي‪ :‬ما خرج من الكتان من مالبسه‬
‫أحضر لهم الغالم بعض أسنان مشطه ﷺ‪ ،‬وقيل ً‬
‫ﷺ‪.-‬‬

‫دائما تعاد وتكرر من قبل جميع الحساد‪ ،‬فعندما يضمرون الحسد والحقد يف‬
‫وهذه القصة ً‬
‫نارا وكمدً ا؛ فإنهم يكررون المحاوالت تلو المحاوالت‪ ،‬ولو كلفهم ذلك‬
‫أنفسهم وتشتعل قلوهبم ً‬
‫ً‬
‫ماال وخسرا ًنا يف الدُّ نيا واآلخرة‪ ،‬ويبحثون عن األفضل واألقوى لفعل األذية وإلحاق الضرر‪ ،‬وال‬
‫يهدأ لهم بال حتى يروا المحسود يتعذب ويتألم يف مصيبته‪ ،‬وذلك قمة فرحهم وسعادهتم أهلكهم‬
‫اهلل‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن سعد يف الطبقات الكربى عن الواقدي بسند له إلى عمر بن الحكم‪ ،‬والحديث مرس ٌل ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن كثير؛ سورة الناس؛ ونقلها عن الثعلبي من تفسيره‪ ،‬ثم قال‪« :‬هكذا أورده بال إسناد»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪264‬‬

‫الس ِ‬
‫احر‪:‬‬ ‫َّ‬

‫لبيد بن األعصم‪ ،‬من بني زريق‪ ،‬وبنو زريق بطن من األنصار مشهور من الخزرج‪ ،‬وكان لبيد‬
‫مناف ًقا‪ ،‬قيل أصله كان يهوديا‪ ،‬وقيل مشر ًكا‪ ،‬ولكن غلب على وصفه باليهودية لتحالفه مع‬
‫اليهود(‪ ،)1‬ثم أظهر اإلسالم وأبطن الكفر‪ ،‬وبقي من حلفاء اليهود‪ ،‬وكان كما يتبين من أمهر وأفضل‬
‫السحرة‪ ،‬وهو يذكرنا بالسحرة الموجودين بين أظهرنا‪ ،‬يص ُّلون معنا يف مساجدنا‪ ،‬ويحملون‬
‫المصحف والسجاد يف أمتعتهم وسياراهتم‪ ،‬لكنهم يف خلواهتم يمارسون عبادة الشياطين ويتقربون‬
‫إليهم‪ ،‬وصالهتم قد تكون على جنابة استهزا ًء باهلل ‪ ‬وبشرعه ودينه‪.‬‬

‫آثار السحر‪:‬‬

‫خييال يخيل إليه ﷺ يف اليقظة‪ ،‬فيراه كأنه حقيقة‪ ،‬فإذا تأمل فيه ﷺ‬
‫األرجح واهلل أعلم أنه كان ت ً‬
‫عرف حقيقته وأنكر بصره ولم يجزم به‪ ،‬وهذا ‪-‬كما ذكرت سابقًا‪ -‬مثل السحر الذي تعرض له‬

‫موسى ‪ ‬مع الحاضرين من قبل جبابرة سحرة فرعون وكربائهم‪ ،‬حيث قال ‪ :‬ﱡﭐﱔﱕﱖ‬

‫ﱗﱘ ﱙ ﱠ [طه‪ ،]66 :‬واهلل ‪ ‬أعلم‪.‬‬

‫ُمدَّ ة الس ْحر‪:‬‬

‫كل الروايات التي لدينا والتي تنقل مدة السحر على رسول اهلل ﷺ ضعيفة‪ ،‬ننقلها لالستئناس‬
‫ال لإلثبات‪ ،‬قال اإلمام ابن حجر ‪« :$‬ووقع في رواية أبي ضمرة عند اإلسماعيلي «فأقام أربعين‬
‫ليل ًة»‪ ،‬وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد «ستة أشهر»‪ ،‬ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر‬
‫السهيل ُّي‪« :‬لم أقف في شيء من‬
‫من ابتداء تغ ُّير مزاجه‪ ،‬واألربعين يو ًما من استحكامه‪ ،‬وقال ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬وربما كان ممن ولد لألوس والخزرج ثم هودوه‪ ،‬جاء يف تفسير ابن كثير لآلية ‪ 256‬من سورة البقرة‪« :‬عن ابن عباس ‪-‬ﭭ‪ ،-‬قال‪:‬‬
‫نذرا‪ -‬إن عاش لها ولدٌ أن تهوده»‪.‬‬
‫كانت المرأة تكون مقالة‪-‬قليلة الولد‪ -‬فتجعل على نفسها – ً‬
‫‪265‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫األحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النب ُّي ﷺ فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع‬
‫الزهري أنه لبث سنة»‪ ،‬كذا قال‪ ،‬وقد وجدناه موص ً‬
‫وال بإسناد الصحيح فهو المعتمد»(‪.)1‬‬ ‫معمر عن ُّ‬

‫ماذا َف َعل رسول الل ﷺ؟‪:‬‬

‫يقول ابن حجر ‪« :$‬سلك النبي ﷺ في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي األسباب‪،‬‬
‫ففي أول األمر فوض وسلم ألمر ربه فاحتسب األجر في صبره على بالئه‪ ،‬ثم لما تمادى ذلك‬
‫وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته؛ جنح إلى التداوي‪ ،‬ثم إلى الدُّ عاء»(‪.)2‬‬

‫فبدأ رسول اهلل ﷺ بالصبر واالحتساب‪ ،‬ثم بدأ التداوي بما يعلمه ويستطيعه ﷺ‪ ،‬إلى أن‬
‫اكتفى بالدُّ عاء‪ ،‬وذلك لعجز األسباب الدُّ نيوية المتوفرة لديه ﷺ‪.‬‬

‫الر ُجَلن؟ «ال َّتشخيص وال َّتحديد»‪:‬‬ ‫ِ‬


‫الخُ طوة األولى يف العَلج – ماذا فعل َّ‬

‫الرجالن هما ملكان كما يف روايات أخرى‪ ،‬ولننظر ماذا فعلوا‪ ،‬جلس أحدهما إلى قدميه ﷺ‬
‫واآلخر إلى رأسه ﷺ‪ ،‬ثم اكتشفوا تشخيص مرضه بأنه سحر‪ ،‬وحددوا مكان السحر واسم الساحر‬
‫ومم يتكون السحر‪.‬‬

‫لماذا لم يوح اهلل ‪ ‬العالج إلى رسوله ﷺ مباشرة كما أوحى القرآن أو األخبار األخرى؟‬
‫لماذا نزل الملكان ليجلسا عند قدمه ورأسه الشريفتين ﷺ؟ ما الحكمة من كل ما حصل؟ ال يمكن‬
‫أن يكون األمر ك ُّله مجرد أفعال بال حكمة أو حاجة‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر؛ قوله «باب السحر»‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري البن حجر؛ قوله «باب السحر»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪266‬‬

‫الرقاة‬
‫الجواب األكيد هو‪ :‬أننا اآلن ال نعلم جز ًما لماذا حصل ذلك‪ ،‬لكن ذهب بعض ُّ‬
‫المعاصرين إلى أن هذا الحديث تلميح لتعليم التشخيص وكيفية معرفة مكان األسحار‪ ،‬وأن ذلك‬
‫يمكن بمالحظة ما بين الرأس والقدمين كما فعل الملكان‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن ما بين الرأس والقدمين هو‬
‫األوعية الدموية وشبكة األعصاب‪ ،‬لذا فإن مراقبة نبض القلب والتيارات السارية يف شبكة‬
‫سحورا أم ال‪ ،‬وذلك أن شدة النبض أو‬
‫ً‬ ‫الرقية يؤدي إلى معرفة إن كان الشخص م‬
‫األعصاب أثناء ُّ‬
‫حركته ستتغير مع رقية المريض بآيات السحر‪ ،‬وكذلك تخمين أماكن السحر وترديدها على‬
‫المسحور سيؤدي بنا إلى معرفة أماكن السحر‪ ،‬إذ إن النبض والتيارات ستتغير عند تكرار اسم‬

‫المكان الذي فيه السحر «مثل ترداد قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿﱠ‬

‫[العنكبوت‪ ،»]41 :‬وهكذا‪ ،‬وما ذهبوا إليه ليس فيه مان ٌع شرعي‪ ،‬لكن إثبات صحة طريقتهم يحتاج إلى‬
‫بحث وتجربة‪.‬‬

‫صحيحا أم ال‪ ،‬فإنه قد تكون الحكمة‬


‫ً‬ ‫وبغض النظر إن كان كالمهم حول النبض واألعصاب‬
‫عال من هذه الحادثة أن اهلل ‪ ‬يريد أن يعلمنا كيفية تشخيص وعالج هذا المرض‪ ،‬واختار اهلل ‪‬‬
‫ف ً‬
‫لذلك سيد البشرية قدوتنا ﷺ الذي هو رحمة للعالمين‪ ،‬وأنزل ‪ ‬من السماء ملكين يعطياننا‬
‫المفاتيح لكسر هذا الداء‪ ،‬فبذلك ال يكون ابتالؤه ﷺ رفع ًة لدرجاته ومنزلته فقط‪ ،‬بل يكون فدا ًء‬
‫حمله ﷺ قدو ًة وأسو ًة للمبتلين‪ ،‬وعالجا‬
‫وتضحية منه ﷺ لتعليم البشرية طريق الشفاء‪ ،‬يكون ت ُّ‬
‫ودوا ًء للمسحورين‪ ،‬وما هو أعظم شرف ومواساة للمسحورين من هذا األمر؟ ما هو أعظم شر ًفا‬
‫من أن تصاب بمثل ما أصيب به رسول اهلل ﷺ‪ ،‬إنه قمة الشرف واالفتخار واالعتزاز‪ ،‬وإنه لمصيب ٌة‬
‫كبير ٌة للسحرة الخاسرين‪ ،‬فب ً‬
‫دال من أن يؤذوا المسحورين فإنهم أحسنوا إليهم بأن جعلوا‬
‫الرقاة أن يعالجوا‬
‫المسحورين يقتدون برسول اهلل ﷺ يف ابتالئه‪ ،‬وهو كذلك شرف للمعالجين و ُّ‬
‫الناس مما ابتلي به رسول اهلل ﷺ ساب ًقا‪ ،‬وشرف لهم أن تكون المالئكة النازلة لعالج رسول اهلل‬
‫‪267‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫ﷺ قدوة لهم يف عالج البشر‪ .‬فجزى اهلل نبينا ﷺ خير الجزاء‪ ،‬فبتضحيته ﷺ نتعلم كيف نخلص‬
‫أيضا نخلص كذلك خدام السحر من أسرهم وقيدهم‪.‬‬
‫الناس من هذا الداء‪ ،‬بل ً‬

‫أسأل اهلل أن يزيدنا عل ًما وفق ًها يف دينه ودنياه‪ ،‬وأن يوفقنا لما فيه خدمة المرضى‬
‫والمسحورين‪ ،‬وخدمة جميع المسلمين‪.‬‬

‫الخُ طوة الثانية يف ال ِعَلج – استخراج الس ْحر وإ ْبطاله‪:‬‬

‫نص الحديث الذي رويته ساب ًقا ص ً‬


‫ريحا أن السحر تم استخراجه‪ ،‬ففيه أن عائشة ڤ قالت‪:‬‬
‫« َف َأتَى النَّبِ ُّي ﷺ البِئ َْر َحتَّى ْاستَخْ َر َج ُه»‪ ،‬ووقع خالف بين العلماء هل تم استخراج السحر أم ال‪،‬‬
‫وسبب هذا الخالف أن روايات أخرى لم تذكر االستخراج كما يف هذه الرواية‪ ،‬كما حصل وجود‬
‫ما يوحي بالتعارض بين بعض الروايات‪ُّ ،‬‬
‫وحل هذا التعارض من وجهين كما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬هل كان سؤال عائشة ڤ للنبي ﷺ «أفال استخرجته؟»‪ ،‬أم «أفال تنشرت؟»‪ ،‬أم «أفال؟»‬
‫فقط‪ ،‬يح ُّل هذا اإلشكال اإلمام ابن بطال ‪ $‬مؤيدً ا وقوع االستخراج‪ ،‬فيقول ‪« :$‬قال‬
‫المهلب‪ :‬وقع يف هذا الحديث «فاستخرج السحر»‪ ،‬ووقع يف باب السحر «قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫الرواة‪ ،‬ومدار الحديث على هشام بن‬
‫أفال استخرجت فأمر هبا فدفنت»‪ ،‬وهذا اختالف من ُّ‬
‫عروة وأصحابه مختلفون يف استخراجه‪ ،‬فأثبته سفيان يف روايته من طريقين يف هذا الباب‪،‬‬
‫وأوقف سؤال عائشة النبي ﷺ عن النُّشرة‪ ،‬ونفي االستخراج عن عيسى بن يونس‪ ،‬وأوقف‬
‫سؤالها للنبي ﷺ على االستخراج ولم يذكر أنه جاوب على االستخراج بشيء‪ ،‬وحقق أبو‬
‫أسامة جوابه ﷺ؛ إذ سألته عائشة عن استخراجه بال‪ ،‬فكان االعتبار يعطي سفيان أولى بالقول‬
‫لتقدُّ مه يف الضبط‪ ،‬وأن الوهم على أبي أسامة يف أنه لم يستخرجه‪ ،‬ويشهد لذلك أنه لم يذكر‬
‫النُّشرة يف حديثه‪ ،‬فوهم يف أمرها‪ ،‬فرد جوابه ﷺ بال على االستخراج‪ ،‬فلم يذكر النُّشرة‪.‬‬
‫وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه ﷺ جاوب على استخراجه بال وال ذكر النُّشرة‪ ،‬والزيادة‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪268‬‬

‫كرره فيه مرتين‪ ،‬فبعد من‬


‫من سفيان مقبولة؛ ألنه أثبتهم‪ ،‬وقوى ثبوت االستخراج يف حديثه لت ُّ‬
‫الوهم فيما حقق من االستخراج‪ ،‬ويف ذكره للنُّشرة يف جوابه ﷺ مكان االستخراج»(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬ما ذكره ابن القيم ‪ $‬لوقوع االستخراج‪ ،‬فقال‪« :‬فهذان الحديثان قد يظ ُّن يف الظاهر‬
‫تعارضهما‪ ،‬فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه األول فيه أنه لم يستخرجه‪ ،‬وحديث ابن‬
‫جريج عن هشام فيه أنه استخرجه‪ ،‬وال تنايف بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه‪،‬‬
‫ثم دفنه بعد أن شفي‪ ،‬وقول عائشة ڤ هال استخرجته أي‪ :‬هال أخرجته للناس حتى يروه‬
‫ويعاينوه‪ ،‬فأخربها بالمانع له من ذلك‪ ،‬وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك‪ ،‬فيقع‬
‫اإلنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الش ُّر‪ ،‬وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر هبا‬
‫فدفنت ولم يستخرجها للناس‪ ،‬فاالستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة‪ ،‬والذي يد ُّل‬
‫عليه أنه ﷺ إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه‪ ،‬ولم يجئ إليه لينظر إليها ثم ينصرف إذ ال‬
‫غرض له يف ذلك»(‪.)2‬‬

‫فوائد‪:‬‬

‫‪ -1‬جاء يف الحديث الصحيح كما أورد ُّته‪َ « :‬ف َأتَى النَّبِ ُّي ﷺ البِئ َْر َحتَّى ْ‬
‫استَخْ َر َج ُه»‪ ،‬ولكن هناك‬
‫روايات ضعيفة توضح أنه ﷺ لم ينزل ليستخرج السحر‪ ،‬والجمع بين الروايات يوصل إلى‬
‫أنه ﷺ أمر بعض الصحابة أن يأتوا البئر أو ًال؛ ثم توجه ﷺ معهم أو لحقهم‪ ،‬كان من هؤالء‬
‫علي ﭬ وعم ٌار ﭬ‪ ،‬والذي وجد السحر ودل على موضعه جبير بن إياس ﭬ‪،‬‬
‫الصحابة ٌّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬شرح صحيح البخاري البن بطال‪ .‬وقد نقل ابن حجر هذا الكالم يف فتح الباري على وجه التأييد والموافقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬بدائع الفوائد البن القيم؛ المجلد الثاين؛ تفسير المعوذتين؛ فصل‪ :‬الشر الثالث ‪ -‬السحر؛ صفحة ‪739-738‬؛ طبعة دار الفوائد‪.‬‬
‫‪269‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫واستخرجه قيس بن محصنﭬ(‪ )1‬ويف هذا فائدة أن األفضل للمسحور أن يبعث غيره ممن‬
‫يثق فيهم‪ ،‬ممن هم قريبون جدا منه‪ ،‬أو ‪-‬كما يقال‪ -‬من خاصة الخاصة‪ ،‬ليبطل له السحر‪ ،‬وال‬
‫يذهب لوحده‪ ،‬كما أنه يستعين بالثقات من أهل المكان الذي فيه السحر حتى ال يثير الشك‬
‫والريب‪ ،‬وقد كان جبير وقيس ﭭ من بني زريق‪.‬‬
‫‪ -2‬كذلك من المستفاد من الروايات األخرى قراءة المعوذتين إلبطال السحر أو أثناء اإلبطال‪،‬‬
‫ويجب فعل ذلك على السحر بعد استخراجه‪.‬‬

‫الخُ طوة ال َّثالثة يف ال ِعَلج – ال َّتخ ُّلص ِمن آثار الس ْحر بال ِعَلج‪:‬‬

‫دل سؤال عائشة ڤ على النُّشرة أنها مشروعة بعد إبطال السحر الكتمال الشفاء‪ ،‬وألن اهلل‬
‫قد شفى نبيه ﷺ من غير نشرة؛ فإنه ﷺ لم يحتج إليها‪ .‬ويستفاد من ذلك أنه ال بد أو ًال من إبطال‬
‫السحر‪ ،‬ثم التخ ُّلص من آثاره بال ُّطرق الطبية‪.‬‬
‫ِ‬
‫الحادثة‪:‬‬ ‫المس َتفاد ِمن‬

‫‪ -1‬بيان كيد اليهود والمنافقين وبغضهم وخيانتهم وعداوهتم لرسول اهلل ﷺ ثم ألمته من بعده‪.‬‬
‫‪ -2‬إثبات بشرية رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وأنه ﷺ يجري عليه من األمور الدُّ نيوية ما يجري على سائر‬
‫كار لمن غال فيه ﷺ‪.‬‬
‫البشر‪ ،‬وهذا إن ٌ‬
‫‪ -3‬زيادة لالبتالءات التي مر هبا رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وهو أفضل األنبياء وخير الخلق‪ ،‬وما من بلية إال‬
‫وابتلي هبا ﷺ؛ من يتم وفقد أم وجد وعم وزوج وابن وبنات‪ ،‬ومن أمراض وآالم وجراح‪،‬‬
‫ومن طعن يف العرض ومن قذف لزوجته ﷺ‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الطبقات الكربى البن سعد؛ ذكر من قال‪« :‬إن اليهود سحرت رسول اهلل ﷺ»‪ .‬كذلك راجع فتح الباري البن حجر؛ شرح «قوله‪:‬‬
‫باب السحر»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪270‬‬

‫‪ -4‬ليكون تسلية لكل مسحور من المسلمين‪ ،‬فهذا قدوتنا أفضل الخلق ﷺ قد سحر وشفي‪ ،‬هذا‬
‫من هو أحسن وأعظم منك‪ ،‬فال تقلق وال تحزن‪ ،‬واحمد اهلل وافتخر أن ابتليت بما ابتلي به‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وجرى عليك ما جرى عليه ﷺ‪.‬‬
‫‪ -5‬بيان لعظم خطورة السحر وأهميته‪ ،‬وتنبيه إلى أنه كان موجو ًدا يف أفضل زمن‪ ،‬وعانى منه‬
‫رسول اهلل ﷺ فما بالك فيما بعده‪.‬‬
‫الرقية أو بتالوة‬
‫‪ -6‬تعليم الناس طريقة عالج السحر‪ ،‬ونالحظ أن الرسول ﷺ لم يبطل سحره ب ُّ‬
‫القرآن‪ ،‬وسوف أبين ذلك يف الفصل القادم‪.‬‬
‫‪ -7‬استنبط أحد األفاضل(‪ )1‬من قول الملكين‪« :‬ما وجع الرجل؟» أن السحر مرض حس ٌّي‬
‫متسائال لماذا صنف اإلمام‬
‫ً‬ ‫عضوي يصيب البشر يف أجسادهم‪ ،‬وقال بدر الدين العني ‪$‬‬
‫ب؟‬ ‫البخاري ‪ $‬باب السحر تحت كتاب الطب؟‪« :‬ما وجه إِيراد‪ :‬باب السحر‪ِ ،‬يف كتاب ال ِّط ّ‬
‫السحر نوع من املحرض‪ ،‬و ُهو ُيمرض املسحور‪ ،‬و ِِلذا ذكر النَّبِي ﷺ‪« :‬أما اهلل‬ ‫قلت‪ :‬ال ّ‬
‫شك أن ِّ‬ ‫ُ‬
‫فقد شفاين»‪...‬والشفاء يكون ملرض م حو ُجود»(‪.)2‬‬

‫هل مكان السحر من علم الغيب المطلق؟‬

‫ظن بعض الناس من الحادثة أن مكان السحر من علم الغيب المطلق الخاص باهلل؛ والذي ال‬
‫يمكن معرفته بأسباب دنيوية‪ ،‬وقد تكلمت عن هذا ساب ًقا يف الفصل السابق‪ ،‬وظنُّهم هذا سببه أن‬
‫اهلل أخرب نبيه ﷺ مكان السحر عن طريق الملكين‪ ،‬فأجيب‪ :‬أن اهلل ‪ ‬أوحى إلى رسوله ﷺ أشياء‬
‫السم يف األكل‬
‫كثيرة مما هي ليست من الغيب المطلق‪ ،‬مثلما أوحى اهلل إلى رسوله ﷺ بوجود ُّ‬
‫الذي قدمته اليهودية للرسول ﷺ‪ ،‬وكإخبار اهلل ‪ ‬لرسوله ﷺ خبر وفاة النجاشي وكسرى‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬د‪ .‬سعد سعيد أحمد عبده يف كتابه «مرض السحر»؛ صفحة ‪.162‬‬
‫(‪ )2‬عمدة القاري شرح صحيح البخاري؛ كتاب «الطب»؛ باب «السحر»‪.‬‬
‫‪271‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫فارس‪ ،‬وغير ذلك من الغيب النسبي الذي يمكن معرفته بال ُّطرق الدُّ نيوية‪ ،‬كما أن من وضع السحر‬
‫يف البئر كان عال ًما بمكانه‪ُّ ،‬‬
‫وكل من كان موجو ًدا حول البئر عند وضع السحر فيه؛ سواء من إنس أو‬
‫جن أو حيوان فإنهم شاهدوا ذلك‪ ،‬فال يمكن أن يكون مكان السحر من الغيب المطلق أبدً ا‪.‬‬

‫نص حديث ِس ْحر عائشة ڤ‪:‬‬


‫ُّ‬

‫وردت رواية صحيحة يف موطأ اإلمام مالك عن عمرة‪« :‬أن عائشة زوج النبي ﷺ كانت‬
‫أعتقت جاري ًة لها عن دبر منها ‪-‬أي‪ :‬تعتق حين وفاة عائشة ڤ‪ ،-‬ثم إن عائشة ڤ بعد ذلك‬
‫اشتكت ما شاء اهلل أن تشتكي‪ ،‬ثم إنه دخل عليها رج ٌل سند ٌّي‪ ،‬فقال لها أنت مطبوب ٌة ‪-‬أي‪:‬‬
‫مسحورة‪ ،-‬فقالت له عائشة‪ :‬ويلك‪ ،‬من طبني؟ قال‪ :‬امرأ ٌة من نعتها كذا وكذا‪ ،‬فوصفها‪ ،‬وقال‪ :‬إن‬
‫في حجرها اآلن صبيا قد بال‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬ادعوا لي فالن ًة ‪-‬جاري ًة كانت تخدمها‪ ،-‬فوجدوها‬
‫في بيت جيران لهم في حجرها صب ٌّي‪ ،‬قالت‪ :‬اآلن حتى أغسل بول هذا الصبي‪ ،‬فغسلته ثم جاءت‪،‬‬
‫فقالت لها عائشة‪ :‬أسحرتني؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬لم؟ قالت‪ :‬أحببت العتق‪ ،‬قالت‪ :‬فواهلل ال تعتقين‬
‫أبدً ا‪ ،‬ثم أمرت عائشة ابن أختها أن يبيعها من األعراب ممن يسيء ملكتها‪ ،‬قالت‪ :‬ثم ابتع لي بثمنها‬
‫رقبةً‪ ،‬ثم أعتقها‪ ،‬فقالت عمرة‪ :‬فلبثت عائشة ڤ ما شاء اهلل من الزمان‪ ،‬ثم أنها رأت في المنام أن‬
‫اغتسلي من آبار ثالثة يمدُّ بعضها بع ًضا‪ ،‬فإنك تشفين‪ ،‬فدخل على عائشة إسماعيل بن أبي بكر‪،‬‬
‫وعبد الرحمن بن سعد بن زرارة‪ ،‬فذكرت عائشة الذي رأت‪ ،‬فانطلقا إلى قناة‪ ،‬فوجدا آب ًارا ثالث ًة‬
‫يمدُّ بعضها بع ًضا‪ ،‬فاستقوا من كل بئر منها ثالث شجب(‪ ،)1‬حتى مألوا ُّ‬
‫الشجب من جميعها‪ ،‬ثم‬
‫أتوا بذلك الماء إلى عائشة‪ ،‬فاغتسلت فيه فشفيت»(‪.)2‬‬

‫________________‬
‫للسقيا قديمة‪.‬‬
‫(‪ )1‬يف لسان العرب الشجب‪ :‬السقاء الذي أخلق وبلي‪ ،‬وصار شنا‪ ،‬أي‪ :‬آنية ُّ‬
‫(‪ )2‬موطأ اإلمام مالك رواية الزهري «‪ »2782‬والشيباين «‪»843‬؛ باب «بيع المدبر»‪ ،‬ورواه اإلمام أحمد يف مسنده «‪ »24126‬بلفظ‬
‫مختصر‪ ،‬وقال محققوا طبعة الرسالة‪« :‬هذا األثر صحيح»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪272‬‬

‫فوائد ِمن الحديث‪:‬‬

‫‪ -1‬استطاع رجل أن يشخص مرض عائشة ڤ أنه سح ٌر أصابها‪ ،‬واستطاع أن يخبرها من‬

‫سحرها وعن حالها‪ ،‬وفعله هذا يد ُّل أنه ربما كان مستعينًا بالجن‪ ،‬فالت ُّ‬
‫عرف على حالة الجارية‬
‫فال بال عليها لحظة وجود الرجل عند عائشة ڤ غال ًبا يكون أخذه‬
‫الحالية بأن يصف أن ط ً‬
‫عن طريق الجن أو القرين‪.‬‬
‫‪ -2‬لكن نالحظ هنا فائدة مهم ًة‪ ،‬وهي أن عائشة ڤ لم تتخذ إجرا ًء مباش ًرا بمجرد كالم الرجل‪،‬‬
‫بل استدعت الجارية وتأكدت منها صحة ذلك‪ ،‬لذا يجب علينا أال نأخذ كالم الجن ومن‬
‫يستعين هبم على محمل الجد واليقين حتى نتأكد بأنفسنا وبطرقنا البشرية‪.‬‬
‫‪ -3‬الرجل استطاع وصف الجارية بأنه يف وقت حديثه مع عائشة ڤ؛ بال ط ٌ‬
‫فل ذك ٌر يف حجر‬
‫الجارية‪ ،‬وأكثر من نعت الجارية ووصفها‪ ،‬مع أنه يمكن االختصار واإلتيان باسم الجارية‬
‫مباشرة‪ ،‬وهذه يف الحقيقة من أالعيب الجن‪ ،‬ال يعطون المعلومة مختصرة مفيدة‪ ،‬بل يطولون‬
‫ويسترسلون إليهام العامة أن كالمهم دقيق وعندهم علم غزير‪.‬‬
‫‪ -4‬مع أن الرجل نجح يف التشخيص‪ ،‬إال أنه فشل يف عالج السحر‪ ،‬فظلت عائشة ڤ مريضة‬
‫الرؤيا العالجية واغتسلت بمياه اآلبار‪ ،‬وهذا دليل أن المستعين بالجن قد‬
‫مسحورة حتى رأت ُّ‬
‫يفشل يف العالج‪ ،‬ونجاحه يف التشخيص ليس ضما ًنا على نجاحه يف عالج المرض‪.‬‬
‫‪ -5‬المداواة باالغتسال من اآلبار الثالثة‪ ،‬ونرى أن عالج السحر هنا اختلف عن عالج السحر‬
‫الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬إذ لم يلزم هنا الذهاب إلى السحر واستخراجه‪ ،‬وإنما تم عن‬
‫طريق االغتسال بمياه اآلبار‪ ،‬فلماذا؟ ال نعلم جوا ًبا جاز ًما‪ ،‬لكن يمكن تو ُّقع التالي‪:‬‬
‫قد يكون االغتسال هنا نتيجته قطع موجات السحر عن المسحور‪ ،‬فكما أن االستخراج‬ ‫•‬

‫واإلبطال يعالج المسحور‪ ،‬فإن قطع الموجات عن طريق االغتسال كذلك يعالجه‪ ،‬فيبقى‬
‫المريض مخي ًرا بين الطريقتين‪.‬‬
‫‪273‬‬ ‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ‬

‫ربما بعض األسحار ال بد من استخراجها وإبطالها‪ ،‬وبعضها يكفي االغتسال للخروج من‬ ‫•‬

‫تأثيره‪ ،‬أي أن المريض ليس مخي ًرا‪ ،‬وإنما يعتمد على نوع السحر‪.‬‬
‫‪ -6‬ويالحظ هنا كذلك أن عائشة ڤ كانت مريضة لفترة قبل مجيء المطبب‪ ،‬وكذلك استمر‬
‫مرضها بعد تشخيصه‪ ،‬حتى رأت رؤيا اآلبار وتعالجت به‪ُّ ،‬‬
‫وكل هذا الوقت لم تبطل السحر‬
‫الرقية وال بتالوة القرآن‪.‬‬
‫ب ُّ‬
‫‪ -7‬أن المبتلى قد تأتيه ر ًؤى تبين له مرضه وعالجه‪.‬‬
‫‪ -8‬لم تقتل عائشة ڤ الجارية‪ ،‬وإنما باعتها لمن يسيء معاملتها‪ ،‬وذلك ربما ألن الجارية‬
‫كانت طالبة سحر وليست ساحرة‪.‬‬
‫‪ -9‬توجد قاعدة فقهية جميلة‪ ،‬بل هي قاعدة كونية‪ ،‬وقد تمثلت هنا يف هذه القصة‪ ،‬وهي‪ :‬من‬
‫استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه‪.‬‬
‫‪-10‬ما ذهب إليه اإلمام مالك وغيره من العلماء أن المدبر‪ ،‬وهو العبد أو الجارية الذين اعتبرهم‬
‫سيدهم عتقاء بموته‪ ،‬هؤالء يجوز تغيير هذا القرار عليهم وبيعهم‪.‬‬

‫نص حديث ِس ْحر أم المؤمنين َح ْفصة ڤ‪:‬‬


‫ُّ‬

‫عن نافع عن عبد اهلل بن عمر ﭭ‪« :‬أن جاري ًة لحفصة ڤ سحرتها‪ ،‬ووجدوا سحرها‪،‬‬
‫واعترفت به‪ ،‬فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها‪ ،‬فبلغ ذلك عثمان ﭬ فأنكره واشتد عليه‪ ،‬فأتاه‬
‫ابن عمر ﭭ فأخبره أنها سحرتها واعترفت به ووجدوا سحرها‪ ،‬فكان عثمان إنما أنكر ذلك ألنها‬
‫قتلت بغير إذنه»(‪.)1‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مصنف ابن أبي شيبة «‪»29750‬؛ جماع أبواب الحكم يف الساحر؛ باب «تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كالم كفر صريح»‪،‬‬
‫إسناده ثقات‪ ،‬وصححه سعد الشثري‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪274‬‬

‫فوائد ِمن الحديث‪:‬‬

‫‪ -1‬تكررت القصة هنا‪ ،‬حيث جاري ٌة سحرت حفصة ڤ‪ ،‬ويف هذا الحديث والذي قبله تسلية‬
‫لعامة المسلمين‪ ،‬وخاصة لنساء المسلمات الذين يتضررن من السحر المعمول من‬
‫خادماتهن‪ ،‬وكذلك للمديرين وأصحاب األعمال ممن يسحرون من قبل الموظفين لديهم‪.‬‬
‫فها هو أذاهم قد طال أمهات المؤمنين‪ ،‬فاصبروا واحتسبوا شفاكم اهلل وعافاكم‪.‬‬
‫‪ -2‬بيان أن حكم الساحر هو القتل‪ ،‬وال بد أن يكون بإذن ولي األمر‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪275‬‬ ‫عالج السحر‬

‫عَلج الس ْحر‬

‫صح عن رسول اهلل ﷺ قوله‪« :‬ا ْق َر ُءوا ا ْل َب َق َرةَ‪َ ،‬فإِ َّن َأ ْخ َذ َها َب َركَة‪َ ،‬وت َْرك ََها َح ْس َرة‪َ ،‬وال َي ْستَطِي ُع َها‬
‫ا ْل َب َط َل ُة»(‪ ،)1‬كما صح عنه ﷺ قوله‪َ « :‬م ْن َت َص َّب َح َس ْب َع ت ََم َرات َع ْج َوة؛ َل ْم َي ُض َّر ُه َذلِ َ‬
‫ك ال َي ْو َم ُس ٌّم َو َال‬
‫ِس ْحر»(‪ ،)2‬لكن المالحظ أن رسول اهلل ﷺ لم يرو عنه قراءة القرآن على نفسه إلبطال السحر الذي‬
‫أصابه‪ ،‬وكذلك عائشة وحفصة ﭭ لم يرو عنهما أهنما أبطال السحر بقراءة القرآن على أنفسهما‪،‬‬
‫وكذلك لم يرد عنهم تناول العجوة للعالج من السحر‪ ،‬والجمع بين هذه األحاديث يقضي بأن‬
‫سورة البقرة والعجوة ليستا بعالج لألسحار بعد اإلصابة هبا‪ ،‬وإنما وقاي ٌة وح ٌ‬
‫فظ قبل الوقوع‪ ،‬ولو‬
‫كانت العجوة وسورة البقرة وتالوة القرآن عالجا للسحر؛ لكان رسول اهلل ﷺ وأمهات المؤمنين‬
‫رضوان اهلل عليهن أحق الناس باالستشفاء هبا من األسحار التي أصابتهم‪.‬‬

‫والمعوذات نزلت إلبطال السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وذلك بقراءهتما على السحر‬
‫بعد استخراجه‪ ،‬ولم يرد عن أمهات المؤمنين عائشة أو حفصة ﭭ رقية أنفسهن بالمعوذات‬
‫لعالج أنفسهن من السحر؛ مع أن مرضهن كان بعد نزول المعوذات ووفاة رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»804‬؛ كتاب «صالة المسافرين وقصرها»؛ باب «فضل قراءة القرآن‪ ،‬وسورة البقرة»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5436‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «الدواء بالعجوة للسحر»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪276‬‬

‫ث ع َلي ِه بِا ْلمعو َذ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َان رس ُ ِ‬


‫ات»(‪ )1‬قد‬ ‫ُ َ‬ ‫ول الل ﷺ إِ َذا َمرِ َض َأ َحد م ْن َأ ْهله َن َف َ َ ْ‬ ‫وقول عائشة ڤ‪« :‬ك َ َ ُ‬
‫يحتمل أن الغرض من ذلك هو تخفيف المرض‪ ،‬ولو افرتضنا أن الغرض هو الدواء والشفاء؛ فإن‬
‫عائشة ڤ لم تتعالج من السحر الذي أصاهبا بقراءة المعوذات على نفسها كما رأينا يف الفصل‬
‫السابق‪ ،‬أي أن لفظة «إذا مرض» أو «إذا اشتكى» كما يف أحاديث أخرى ال يفهم منها العموم‬
‫وعقال أن االكتفاء بقراءة المعوذات أو الرقية ال‬
‫ً‬ ‫المطلق لعالج جميع األمراض‪ ،‬ومعلوم شر ًعا‬
‫يعالج كل األمراض‪ ،‬فهناك الكثير من األمراض التي تحتاج إلى تدخل خارجي للعالج‪ ،‬مثل‬
‫الغذاء أو الدواء أو الجراحة‪ ،‬وتكلمت بتفصيل أكثر ساب ًقا يف فصل «القرآن أم األسباب؟»‪.‬‬

‫كذلك ثبت من قصة السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وقصة السحر الذي أصاب عائشة‬
‫ڤ‪ ،‬أنهم لم ينتفعوا بأي عالج معروف مسب ًقا لديهم من أعشاب أو حجامة أو رقية أو غير ذلك‪،‬‬
‫واألحاديث تد ُّل على أنهم لم يستطيعوا عالج أنفسهم حتى أنزل اهلل على رسوله ﷺ الملكين‪،‬‬
‫الرقية يف إبطال‬
‫الرؤيا‪ ،‬ووجدوا سحر جارية حفصة ڤ‪ ،‬وإذا لم تفدهم ُّ‬
‫وحتى رأت عائشة ڤ ُّ‬
‫األسحار التي أصابتهم؛ فال شك أنها لن تفيد أحدً ا آخر‪.‬‬

‫ويف رواية صحيحة لرقية جربيل ڠ الرسول ﷺ‪ :‬عن أبي سعيد ﭬ‪ ،‬أن جبريل أتى النبي‬
‫يك‪،‬‬ ‫اس ِم الل ِ َأ ْرقِ َ‬
‫يك‪ِ ،‬م ْن كُل َش ْي ٍء ُي ْؤ ِذ َ‬ ‫ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬يا محمد اشتكيت؟» فقال ﷺ‪َ « :‬ن َع ْم» قال‪« :‬بِ ْ‬
‫ِ َ ِ َ (‪)2‬‬
‫الرقية من العين‬ ‫يك» ‪ ،‬فجاء فيها ُّ‬ ‫يك‪ ،‬بِ ْ‬
‫اس ِم الل أ ْرق‬ ‫اس ٍد‪ ،‬اللُ َي ْش ِف َ‬
‫س َأو عي ِن ح ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َشر كُل َن ْف ٍ ْ َ ْ َ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2192‬؛ كتاب السالم؛ باب «رقية المريض بالمعوذات والنفث»‪.‬‬
‫والرقى»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»2186‬؛ كتاب السالم؛ باب «الطب والمرض ُّ‬
‫ِّ ْ‬
‫‪277‬‬ ‫عالج السحر‬

‫الرقية من سحر‪ ،‬أما الرواية التي فيها «ومن شر النفاثات في العقد»(‪،)1‬‬


‫والحسد‪ ،‬ولم يأت فيها ُّ‬
‫الرقية للعالج من‬
‫فتلك ضعيفة ال يصح االستدالل هبا‪ ،‬والشاهد أنه حتى جربيل ڠ لم يستعمل ُّ‬
‫سحر‪.‬‬

‫كما مر معنا يف فصل «عالج العين» أن الرسول ﷺ حث على االسترقاء للعالج من العين‪،‬‬
‫أي حديث يفيد أن االسترقاء يعالج السحر‪.‬‬
‫لكنه لم يرد عنه ﷺ ُّ‬

‫الرقية قد تخرج أشياء من الجسم عن طريق التق ُّيؤ أو من مخرج‬


‫لكن ثبت بالتجربة أن ُّ‬
‫السبيلين‪ ،‬وقد تكون هذه األشياء سح ًرا مأ ً‬
‫كوال أو مشرو ًبا‪ ،‬أو عينًا أصابت المريض‪ ،‬أو طعا ًما غير‬
‫مهضوم احتبس بسبب مشكلة يف الجهاز الهضمي ولو لفترة طويلة‪ُّ ،‬‬
‫كل هذا ثبت بالتجربة خروجه‬
‫الرقية‪ ،‬وكذلك مع تناول بعض األعشاب‪.‬‬
‫مع ُّ‬

‫الرقية وسورة البقرة تخففان آثار السحر مؤق ًتا‪ ،‬لكن ما أن يتخلى‬
‫كذلك ثبت بالتجربة أن ُّ‬
‫عنهما المسحور إال ويقوى السحر‪ ،‬ويبقى الحال كذلك حتى يبطل السحر كليا‪.‬‬

‫وعليه أقول‪ :‬إن عالج السحر كالتالي‪:‬‬

‫ال َّطريقة األولى‪- :‬مأخوذة من ُّ‬


‫السنة‪ -‬اإليجاد واإلبطال‪ ،‬أي إيجاد السحر ثم إبطاله‪ ،‬كما‬
‫حصل مع السحر الذي أصاب رسول اهلل ﷺ‪ ،‬والسحر الذي أصاب حفصة ڤ‪.‬‬

‫ال َّطريقة الثانية‪- :‬مأخوذة من ُّ‬


‫السنة‪ -‬االغتسال بمياه ثالثة آبار قريبة من بعض ولها مصدر‬
‫واحد‪ ،‬كما حصل مع السحر الذي أصاب عائشة ڤ‪ ،‬ولم ترد صفة االغتسال‪ ،‬كم عدد مرات‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند اإلمام أحمد؛ مسند المكثرين من الصحابة؛ مسند أبي هريرة ﭬ‪ ،‬يف تحقيق طبعة الرسالة بإشراف األرنؤوط‪« :‬هذا إسناد‬
‫ضعيف؛ لضعف عاصم بن عبيد اهلل»‪ ،‬وتعقبت جميع الروايات التي فيها «ومن شر النفاثات يف العقد» يف بقية المصادر‪ ،‬فوجد ُّتها‬
‫كلها عن عاصم بن عبيد اهلل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪278‬‬

‫وأيام االغتسال؟ وهل تخلط المياه م ًعا؟ وما هو وقت االغتسال؟ وكم كمية الماء؟ وهل يمكن‬
‫االستعاضة عن مياه اآلبار باألعشاب؟ ُّ‬
‫كل هذا لم يرد‪ ،‬فأصبح محال لالجتهاد البشري‪.‬‬

‫ال َّطريقة ال َّثالثة‪- :‬مأخوذة بالتجربة‪ُّ -‬‬


‫الرقية وتناول األشياء المناسبة من أدوية مباحة‪ ،‬وذلك‬
‫مثال السحر‬
‫فقط لألسحار التي تكون داخل الجسد وليس خارجه‪ ،‬فال تبطل هذه الطريقة ً‬
‫السنة‪ ،‬بل هو‬
‫المرشوش وال المدفون وال المعلق‪ ،‬ولم ترد هذه الطريقة لعالج السحر الداخلي يف ُّ‬
‫من باب االجتهاد الطبي الذي لوحظ بالتجربة‪.‬‬

‫ُط ُرق أخرى‪:‬‬

‫أي طريقة أخرى؛ قديمة أو مستحدثة؛ ليس فيها ش ٌ‬


‫رك أو محر ٌم؛ وثبت بالتجربة نفعها يف‬ ‫ُّ‬
‫إيجاد األسحار‪ ،‬أو يف إبطال األسحار‪ ،‬أو تهدئة المسحورين‪ ،‬أو التخ ُّلص من آثار األسحار‪ ،‬فهي‬
‫مباحة ال بأس هبا‪.‬‬

‫وقد رأينا كيف أن عالج عائشة ڤ‪-‬من السحر الذي أصاهبا‪ -‬كان بأمر مباح ال عالقة له‬
‫الرقية‪ ،‬وروي عنها ڤ أنها قالت‪« :‬من أصابه بسر ٌة(‪ )1‬أو س ٌّم أو سح ٌر‬
‫باألمور التع ُّبدية وال ب ُّ‬
‫فليأت الفرات‪ ،‬فليستقبل الجرية(‪ ،)2‬فيغتمس فيه سبع مرات»(‪ .)3‬وقال الشيخ ابن باز يف تعليقه على‬
‫هذا الحديث‪« :‬إسناده جيد ويف متنه نكارة»‪ ،‬وتبسم الشيخ وقال‪« :‬إن كان ثبت بالتجارب أنه ينفع‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬البسرة األصل أنها التمرة‪ ،‬وقد تطلق على الطراوة‪ ،‬وقد تكون الكلمة هنا حرفت من بثرة‪ ،‬والمتن به نكارة كما قال الشيخ عبد العزيز‬
‫بن باز ‪ ،$‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬الماء الجاري بين حافتي النهر‪ ،‬فيستقبل الماء القادم‪.‬‬
‫(‪ )3‬مصنف ابن أبي شيبة «‪»25062‬؛ كتاب الطب؛ «يف الرجل يسحر ويس ُّم فيعالج»‪ ،‬قال أبو محمد أسامة بن إبراهيم يف تحقيقه‬
‫للمصنف‪« :‬إسناده صحيح»‪ ،‬وصحح إسناده كذلك الشيخ سعد الشثري يف تحقيقه للمصنف‪.‬‬
‫ِّ ْ‬
‫‪279‬‬ ‫عالج السحر‬

‫فال بأس؛ ألن الطب يثبت بالتجارب»(‪ ،)1‬وصحح الشيخ سعد بن ناصر الشثري هذا األثر‪ ،‬ألنه‬
‫عضد برواية متابعة فيها «أن أم المؤمنين عائشة ‪-‬ڤ‪ -‬سئلت عن النشر‪ ،‬فقالت‪« :‬ما تصنعون‬
‫هبذا؟ هذا الفرات إلى جانبكم يستنقع فيه أحدكم سب ًعا يستقبل الجرية»»(‪.)2‬‬

‫وإن زعم زاع ٌم أن بإمكانه اختراع جهاز يتتبع موجات السحر إليجاد السحر؛ أو يستطيع به‬
‫وعقال عليه اإلثبات والبينة‪ ،‬كيف عرف ماهية‬
‫ً‬ ‫إبطال األسحار‪ ،‬فليس هناك مانع شرعي يف ذلك‪،‬‬
‫موجات السحر؟ وكيف يعمل الجهاز؟ وما هي تجاربه الناجحة يف ذلك؟‬

‫كَلم ابن قدامة ‪:$‬‬

‫قال اإلمام ابن قدامة ‪« :$‬وأما من يح ُّل السحر‪ ،‬فإن كان بشيء من القرآن؛ أو شيء من‬
‫الذكر واإلقسام والكالم الذي ال بأس به؛ فال بأس به‪ ،‬وإن كان بشيء من السحر‪ ،‬فقد توقف أحمد‬
‫عنه‪ .‬قال األثرم‪ :‬سمعت أبا عبد اهلل‪ ،‬سئل عن رجل يزعم أنه يح ُّل السحر‪ ،‬فقال‪ :‬قد رخص فيه‬
‫بعض الناس‪ .‬قيل ألبي عبد اهلل‪ :‬إنه يجعل الطنجير ما ًء‪ ،‬ويغيب فيه‪ ،‬ويعمل كذا‪ ،‬فنفض يده‬
‫كالمنكر‪ ،‬وقال‪ :‬ما أدري ما هذا؟ قيل له‪ :‬فترى أن يؤتى مثل هذا يح ُّل السحر؟ فقال‪ :‬ما أدري ما‬
‫هذا؟‬

‫وروي عن محمد بن سيرين‪ ،‬أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة‪ ،‬فقال رج ٌل‪ :‬أخ ُّط خطا عليها‪،‬‬
‫وأغرز السكين عند مجمع الخط‪ ،‬وأقرأ القرآن‪ .‬فقال محمد‪ :‬ما أعلم بقراءة القرآن بأ ًسا على حال‪،‬‬
‫وال أدري ما الخ ُّط والسكين؟ وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته‪ ،‬فيلتمس‬
‫من يداويه‪ ،‬فقال‪ :‬إنما نهى اهلل عما يض ُّر‪ ،‬ولم ينه عما ينفع‪ .‬وقال أي ًضا‪ :‬إن استطعت أن تنفع أخاك‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سؤاالت ابن وهف لشيخ اإلسالم؛ سؤال رقم ‪258‬؛ صفحة ‪.178‬‬
‫(‪ )2‬مصنف ابن أبي شيبة «‪»25058‬؛ كتاب الطب؛ «يف الرجل يسحر ويس ُّم فيعالج»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪280‬‬

‫فافعل‪ .‬فهذا من قولهم يد ُّل على أن المعزم ونحوه‪ ،‬لم يدخلوا في حكم السحرة؛ وألنهم ال‬
‫يسمون به‪ ،‬وهو مما ينفع وال يض ُّر»(‪.)1‬‬

‫وهنا أورد ملحوظة مهمة‪ ،‬وهي أنه عند قول ابن قدامة‪« :‬وإن كان بشيء من السحر‪ ،‬فقد‬
‫توقف أحمد عنه»‪ ،‬فإن القارئ للمسائل التي ذكرها ابن قدامة‪ ،‬يفهم منها أن المعنى‪« :‬وإن كان‬
‫بشيء من السحر ال ُّلغوي»‪ ،‬أو «وإن كان بشيء يشبه السحر»‪ ،‬وليس المقصود هنا السحر‬
‫االصطالحي‪ ،‬ألن تساؤل اإلمام أحمد «ما أدري ما هذا؟» ُّ‬
‫يدل على تو ُّقفه يف الحكم على الطريقة‬
‫المعينة التي ذكرت عن الرجل المعين الذي يح ُّل السحر‪ ،‬فهو ال يدري ما هي هذه الطريقة؟ سحر‬
‫أم غير سحر؟ وليس التو ُّقف يف حكم فك السحر بالسحر المحرم ‪-‬كما توهم البعض‪ ،-‬كما أنه‬
‫واض ٌح من مسائل اإلمامين أحمد وابن سيرين أنهما مبدئيا لم يجدا سب ًبا للتحريم‪ ،‬ولكنهما توقفا‬
‫يف الحكم على الطريقة لعدم علمهما بتفاصيلها‪ ،‬وهل كان فيها شرك أو محرم؟ وقد فرق ابن قدامة‬
‫‪ $‬بين الساحر والمعزم‪ ،‬والمستنتج من ذلك كله أن ال ُّطرق التي ليس فيها شرك وال محر ٌم فإنها‬
‫مباحة عندهم ال إشكال فيها‪.‬‬

‫الرقية والتالوة فهو مخطئ‪،‬‬


‫الفصل أن من يظ ُّن أن جميع األسحار تبطل بمجرد ُّ‬
‫َر ْأينا يف هذا ْ‬
‫بل فهم فه ًما خالف فهم رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وخالف فهم عائشة ڤ‪ ،‬وإن أصر على ظنه‪ ،‬فعليه البينة‬
‫والدليل‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المغني البن قدامة؛ فصل السحر الذي يحدُّ على فعله‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُّ‬
‫‪281‬‬ ‫فك السحر بِالسحر‬

‫ك السحر بِالسحر‬
‫َف ُّ‬

‫من الفتن الشديدة والباليا العظيمة التي بلينا هبا يف زمننا هذا؛ وجود بعض ممن نسب إلى‬
‫الفقه والعلم يجيزون فك السحر بسحر آخر‪ ،‬ويدعون أن لهم سل ًفا يف هذا الرأي‪ ،‬وهذا مخال ٌ‬
‫ف‬
‫للشرع والعقل‪ ،‬فأما شر ًعا‪:‬‬

‫يقول رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َّن اللَ َخ َل َق الدَّ ا َء والدَّ َوا َء‪َ ،‬فتَدَ َاو ْوا‪َ ،‬والَ َتتَدَ َاو ْوا بِ َح َرام»(‪ ،)1‬وروي عن‬
‫رسول اهلل ﷺ أنه قال‪« :‬إِ َّن اللَ َع َّز َو َج َّل َل ْم َي ْج َع ْل ِش َفا َءك ُْم فِي َح َرا ٍم»(‪ ،)2‬وعن أبي هريرة ﭬ‪،‬‬
‫يث»(‪ ،)3‬وعن عبد اهلل بن مسعود ﭬ أنه قال‪« :‬إن اهلل لم‬ ‫اء ا ْلخَ بِ ِ‬ ‫ول الل ِ ﷺ ع ِن الدَّ و ِ‬
‫قال‪« :‬ن ََهى َر ُس ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»(‪ ،)4‬وهذه األحاديث ٌ‬
‫أصل غير قابل للنقاش أو التعدي‪ ،‬يؤكد أنه‬
‫من المستحيل وغير الممكن أن يقع شفا ٌء من التداوي بما حرمه اهلل‪ ،‬ومن جرب التداوي بالحرام‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير للطرباين «‪»1315‬؛ باب الخاء؛ خيرة «بنت أبي حدرد أم الدرداء ويقال لها هجيمة ڤ»‪ ،‬وقال الهيثمي يف مجمع‬
‫الزوائد «رجاله ثقات»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪.»1633‬‬
‫(‪ )2‬مسند أبي يعلى الموصلي «‪»6996‬؛ مسند أم سلمة ‪-‬ڤ‪ -‬زوج النبي ﷺ‪ ،‬وقال المحقق حسين سليم‪« :‬إسناده جيد»‪ ،‬وأورده ابن‬
‫حبان يف صحيحه «‪ ،»2261‬وقال الهيثمي يف مجمع الزوائد‪« :‬ورجال أبي يعلى رجال الصحيح خال حسان بن مخارق‪ ،‬وقد وثقه‬
‫ابن حبان ‪-‬يف الثقات‪ ،»-‬ووثقه السودوين يف «الثقات ممن لم يقع يف الكتب الستة»‪ ،‬وحسنه األعظمي يف الجامع الكامل‪ ،‬ومن لم‬
‫يقبل بتعديل حسان ضعف الحديث‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود «‪»3870‬؛ أول كتاب الطب؛ باب «يف األدوية المكروهة»‪ ،‬قال األرناؤوط‪« :‬إسناده حسن»‪ ،‬وصححه األلباين يف‬
‫املشكاة «‪.»4539‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري؛ كتاب األشربة؛ باب «شراب الحلواء والعسل»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪282‬‬

‫فقد أضاع وقته وماله وجهده بال أية فائدة ترجى‪ ،‬إضاف ًة إلى أنه أثم وأذنب وعصى اهلل ورسوله ﷺ‬
‫بارتكابه للمحرم‪ ،‬وإن كان ذلك بنية التداوي ‪-‬إال إن كان ممن يعذر‪ ،-‬فكيف يمكن للسحر وهو‬
‫حرام معلوم حرمته أن يكون عالجا ودوا ًء للمسحورين‪ .‬والسحر ليس مجرد حرام بسيط‪ ،‬بل إن‬
‫فرا أكرب مخر ًجا‬
‫اإلسالم قد جعل السحر من أكرب الكبائر والموبقات؛ وصاحبه ال بد أن يرتكب ك ً‬
‫فأي شفاء يرجى من السحر أو الساحر‪.‬‬
‫من الملة ليكون ساح ًرا‪ُّ ،‬‬

‫‪ -1‬يقول اهلل ‪ :‬ﱡﭐﱵﱶﱷﱸﱹﱠ [طه‪ ،]69 :‬أي‪ :‬مهما فعل الساحر من عمل فإنه لن‬
‫شخص ما أن الساحر يستطيع أن يفلح وينجح يف إبطال سحرك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يفلح فيه‪ ،‬فكيف يدعي‬

‫‪ -2‬قال اهلل ‪ ‬عمن يتعلم السحر‪ :‬ﱡﭐ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱠ [البقرة‪ ،]102 :‬فيثبت‬


‫اهلل ‪ ‬أن السحرة يتعلمون ما يض ُّر‪ ،‬وينفي ‪ ‬إمكانية النفع والفائدة فيما يتعلمه السحرة‪،‬‬
‫ررا وسو ًءا‪ ،‬وال يمكن‬
‫أي نفع يف السحر‪ ،‬فإنهم لن يزيدوا من يطلبهم إال ض ً‬
‫فإن لم يكن هناك ُّ‬
‫ضرهم‬
‫أن ينفعوه بإبطال سحره‪ .‬وإن قال قائل‪ :‬إن المقصود يف اآلية أن السحرة يتعلمون ما ي ُّ‬
‫سيضر الساحر نفسه لينفعك أنت؟‬
‫ُّ‬ ‫هم وال ينفعهم‪ ،‬أما المسحور فغير مقصود‪ ،‬فأقول‪ :‬لماذا‬
‫وكيف يمكن لمن ال يستطيع نفع نفسه أن ينفعك؟‬
‫أي تخصيص‪َ « :‬م ْن َأتَى َع َّرا ًفا َف َس َأ َل ُه َع ْن َش ْي ٍء‪َ ،‬ل ْم‬
‫‪ -3‬قال الرسول ﷺ يف حديث عام ليس له ُّ‬
‫ِ‬
‫ين َل ْي َل ًة»(‪ ،)1‬هذا فيمن أتى عرا ًفا والتي هي كما ذكرت ساب ًقا جزء من‬ ‫ُت ْق َب ْل َل ُه َص ََلة َأ ْر َبع َ‬
‫السحر‪ ،‬لذا فإن إتيانك للساحر لتسأله إبطال سحرك أشد جر ًما ويوقعك تحت هذا العقاب‬
‫الذي يف هذا الحديث‪ .‬وقد يقول ٌ‬
‫قائل‪ :‬إن المراد هو سؤال العراف فيما هو من أمور‬
‫فالنص‬
‫ُّ‬ ‫المغيبات‪ ،‬وليس يف فك السحر بسحر آخر‪ ،‬فنقول‪ :‬من أين أتيت هبذا التخصيص؟‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2230‬؛ كتاب السالم؛ باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُّ‬
‫‪283‬‬ ‫فك السحر بِالسحر‬

‫عا ٌّم لقوله ﷺ‪َ « :‬ف َس َأ َل ُه َع ْن َش ْي ٍء»‪ ،‬وذلك يعني كل طلباتك منه‪ ،‬سواء أكان من المغيبات‪ ،‬أو‬
‫من إبطال للسحر‪ ،‬أو من أي علم آخر‪.‬‬
‫‪ -4‬الدعوة إلى الكفر كف ٌر‪ ،‬وأنت عندما تطلب من الساحر سح ًرا فأنت يف الحقيقة تطلب منه أن‬
‫قوع منك يف الكفر‬
‫قرب إلى الشياطين ليعمل لك السحر‪ ،‬وهذا بحد ذاته و ٌ‬
‫يقوم بشركيات وت ُّ‬
‫ب من الساحر‬
‫والشرك‪ ،‬يقول الشيخ حامد آدم(‪ )1‬ما معناه‪« :‬طلب فك السحر بالسحر طل ٌ‬
‫خير لك من أن تطلب من أحد أن‬
‫مريضا طول دهرك ٌ‬
‫ً‬ ‫ليشرك باهلل حتى يداويك‪ ،‬فألن تبقى‬
‫يشرك باهلل»‪.‬‬
‫‪ -5‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ما َأ ْنز ََل الل داء َّإال َأ ْن َز َل َله ِش َفاء»(‪ ،)2‬وقال ﷺ‪« :‬لِكُل د ٍ‬
‫اء َد َواء‪َ ،‬فإِ َذا‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ً‬ ‫َ‬
‫حالال طي ًبا بما يف‬ ‫ً‬ ‫اء َب َر َأ بِإِ ْذ ِن الل ِ َع َّز َو َج َّل»(‪ ،)3‬وهذا دليل أن لكل داء دوا ًء‬
‫ُأ ِصيب دواء الدَّ ِ‬
‫َ ََ ُ‬
‫ذلك ما يعالج السحر ويبطله‪.‬‬

‫ف لكتاب اهلل يف‬ ‫نديق خ ٌ‬


‫بيث نزع من قلبه الخير واإليمان‪ ،‬وحياته قذ ٌ‬ ‫قال فإن الساحر ز ٌ‬
‫وأما ع ً‬

‫القاذورات‪ ،‬وكتاب ٌة لكالم اهلل بالنجاسات‪ ،‬وطاع ٌة وتع ُّبدٌ للشياطين‪ ،‬وح ٌ‬
‫ضور للصلوات على جنابة‬
‫ٌ‬
‫وهتك للشرف واألعراض‪ ،‬وتط ُّب ٌع على إيذاء خلق اهلل وإمراضهم وتفريق األقارب‬ ‫ونجاسة‪،‬‬
‫وإفساد العالقات‪ ،‬قد باع دينه بدنياه‪ ،‬وباع آخرته بدراهم معدودة‪ ،‬وبعد كل هذا يرجى أن يذهب‬
‫مريض إلى الساحر ويستأمنه على صحته وأهله وعرضه‪ ،‬وأن يطلب منه فعل خير بأن يعالجه من‬
‫ٌ‬
‫سحره الذي عقده أحد أصحاب هذا الساحر المتبعين لنهجه وعبادته‪ .‬وأنى لشيطان أن يبطل عمل‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬من السحرة التائبين‪ ،‬له محاضرات على الشبكة العنكبوتية‪ ،‬واالقتباس من إحدى محاضراته‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5354‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «ما أنزل اهلل دا ًء إال أنزل له شفا ًء»‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم «‪»2204‬؛ كتاب «السالم»؛ باب «لكل داء دواء‪ ،‬واستحباب التداوي»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪284‬‬

‫شيطان آخر‪ ،‬إنه كالطلب من الصليبيين أن يحرروا فلسطين من اليهود المتصهينين‪ ،‬وال حول وال‬
‫قوة إال باهلل‪.‬‬

‫وأرى أن ثمة أسبا ًبا أدت هبؤالء إلى القول بجواز فك السحر بالسحر‪ ،‬منها‪:‬‬

‫باس للفظ «النُّشرة»‪ ،‬وقد تحدثت عنها يف فصل سابق‪.‬‬


‫أوال‪ :‬حصل لدى البعض سوء فهم والت ٌ‬
‫ً‬
‫ً‬
‫أقواال تجيز النُّشرة‪ ،‬وظن المجيزون أن‬ ‫ووجه التلبيس وسوء الفهم أنهم قرأوا لعلماء متقدمين‬
‫النُّشرة معناها منحص ٌر فقط يف فك السحر بالسحر االصطالحي‪ ،‬وبذلك حصروا معنى النُّشرة يف‬
‫محض لغ ًة وشر ًعا‪ ،‬ومن يقرأ فصل النُّشرة يتبين له وجه الخطأ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫خطأ‬ ‫هذا العمل الشيطاين‪ ،‬وهذا‬
‫الذي ارتكبوه‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬حصل لدى البعض سوء فهم للفظة السحر‪ ،‬حيث كما ذكرت ساب ًقا هناك السحر‬
‫ال ُّلغوي‪ ،‬وهناك السحر االصطالحي الذي هو جزء من السحر ال ُّلغوي‪ ،‬فربما يقرأ بعض‬
‫حر لغوي مباح‪ ،‬فيظ ُّن‬
‫المعاصرين بعض أقوال العلماء السابقين ممن أجازوا فك السحر بما هو س ٌ‬
‫هؤالء المعاصرون أن مراد السابقين هو إباحة فك السحر بالسحر االصطالحي المحرم‪.‬‬

‫قديما‬ ‫ثال ًثا‪ :‬بعض المنتسبين للعلم يتتبعون ُّ‬


‫الرخص‪ ،‬فيختارون ما يناسبهم من أقوال العلماء ً‬
‫وحدي ًثا من دون تحقيق إن كان هذا القول مواف ًقا أم مخال ًفا للكتاب ُّ‬
‫والسنة‪ ،‬وهل هو راج ٌح أم‬

‫مرجوح‪ ،‬وهل هو معتب ٌر به أم ال؟ وهل هو شا ٌّذ؟ وقد قيل‪ :‬من تتبع ُّ‬
‫الرخص فقد تزندق‪ ،‬فقرأ‬
‫هؤالء بعض األقوال لبعض من أخطأ وأجاز هذا الفعل ففرحوا به وأفتوا به الناس‪ ،‬ولكن كيف‬
‫قي ال يفتي فيما يجهل‪ ،‬والورع يتحقق قبل أن يجيب‪ ،‬نسأل‬
‫يجيب أولئك ربهم حين يسألون؟ فالت ُّ‬
‫اهلل لنا ولهم العافية‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬قرأ بعضهم ً‬


‫قوال لسعيد بن المسيب ‪ ،$‬ففهم منه جواز فك السحر بالسحر‬
‫االصطالحي‪ ،‬ولو تتبعنا قوله لن نجد يف كالمه ما يد ُّل على ذلك‪ ،‬وقد روي عنه ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُّ‬
‫‪285‬‬ ‫فك السحر بِالسحر‬

‫ب‪ ،‬أو‪ :‬يؤخذ عن امرأته‪ ،‬أيح ُّل عنه أو‬


‫‪« -1‬قال قتادة‪ :‬قلت لسعيد بن المسيب‪ :‬رج ٌل به ط ٌّ‬
‫ينشر؟ قال‪ :‬ال بأس به‪ ،‬إنما يريدون به اإلصالح‪ ،‬فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه»(‪ ،)1‬ليس يف هذه‬
‫الرواية إجازة لفك السحر بالسحر‪ ،‬بل أجاز ابن المسيب عالجه عن طريق الحل والنُّشرة‪ ،‬وقد‬
‫ذكرت يف فصل النُّشرة ما نقله ابن حجر عن كتاب الطب النبوي لجعفر المستغفري يف صفة الحل‬
‫والنُّشرة التي تكلم عنهما ابن المسيب ‪.$‬‬

‫‪« -2‬عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان ال يرى بأ ًسا إذا كان بالرجل سح ٌر أن يمشي إلى‬
‫من يطلق عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هو صال ٌح‪ ،‬قال قتادة‪ :‬وكان الحسن يكره ذلك‪ ،‬يقول‪ :‬ال يعلم ذلك إال‬
‫ساح ٌر‪ ،‬قال فقال سعيد بن المسيب‪ :‬إنما نهى اهلل عما يض ُّر‪ ،‬ولم ينه عما ينفع»(‪ ،)2‬وظن بعض‬
‫الناس أن جواب ابن المسيب «إنما هنى اهلل عما يض ُّر‪ »..‬بعد كالم الحسن البصري «ال يعلم ذلك‬
‫إال ساحر» جزم على إجازة ابن المسيب لفك السحر بالسحر االصطالحي‪ ،‬وللرد على هذا نقول‬
‫إنه ليس يف الرواية دليل صريح على إجازة فك السحر بالسحر االصطالحي‪ ،‬ويبدو أن جواب‬
‫سعيد يف هذه الرواية تتمة لكالمه األول‪ ،‬وال عالقة له بتعليق الحسن البصري‪ ،‬فيكون الكالم‬
‫كام ًال‪« :‬أنه كان ال يرى بأ ًسا إذا كان بالرجل سح ٌر أن يمشي إلى من يطلق عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هو صال ٌح‪،‬‬
‫خارجا عن كالم ابن المسيب‪،‬‬
‫ً‬ ‫إنما نهى اهلل عما يض ُّر ولم ينه عما ينفع»‪ ،‬ويكون تعليق الحسن‬
‫وهذا يؤيده ما جاء يف الرواية األولى‪ ،‬والذهاب إلى من يف ُّك السحر بطريقة مباحة؛ جائز ال حرج‬
‫ساحرا‪ ،‬كذلك قول الحسن البصري ‪« :$‬ال يعلم ذلك إال ساحر»؛ إن كان‬
‫ً‬ ‫يف ذلك إن لم يكن‬
‫المقصود به هو الساحر الممارس للسحر االصطالحي فهذا غير صحيح‪ ،‬وقد وجد يف التاريخ ويف‬
‫باح يبطل به األسحار‪ ،‬ولذا‬
‫علم م ٌ‬
‫العصر الحالي من ليس ساح ًرا وال يعرف السحر؛ ولكن عنده ٌ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري؛ كتاب الطب؛ ترجمة باب «هل يستخرج السحر؟»‪.‬‬
‫(‪ )2‬هذه الرواية نقلها ابن حجر يف فتح الباري؛ شرح قوله «باب هل يستخرج السحر؟»‪ ،‬عن الطربي يف هتذيب اآلثار‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪286‬‬

‫يمكن حمل المقصود بذلك الساحر على الممارس للسحر ال ُّلغوي المباح‪ ،‬وقد ذكرنا يف صفات‬
‫أثرا يف إبطال األسحار عن المسحورين‪.‬‬
‫قديما كيف كانوا يرون أن لها ً‬
‫النُّشرة ً‬

‫وبنقلي للروايتين وتعليقي عليها؛ يتبين خطأ من قال‪ :‬إن ابن المسيب يجيز فك السحر بسحر‬
‫آخر‪ ،‬وإن كان عند من يقول بذلك رواية أخرى صريحة بإسناد ثابت فليأتنا هبا حتى نناقشها‪ ،‬وأن‬
‫يحرص على أال يحمل كالم ابن المسيب معان لم تكن مراده‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬سبق أن نقلت يف فصل «عالج السحر» كالم ابن قدامة وقوله‪« :‬وإن كان بشيء من‬
‫ً‬
‫السحر‪ ،‬فقد توقف أحمد عنه»‪ ،‬وقد يتخذ بعضهم هذا القول عن اإلمام أحمد بن حنبل ذريعة‬
‫ذرا‪ ،‬حيث يظنُّون أن اإلمام أحمد توقف يف فك السحر بالسحر االصطالحي ولم يحرمه‪،‬‬
‫وع ً‬
‫وظنوا أن المذهب يجيز فك السحر بالسحر االصطالحي‪ ،‬لكن كما أسلفت‪ ،‬فإن من يتم قراءة‬
‫كالم ابن قدامة‪ ،‬ويقرأ المسألة التي أوردها ابن قدامة عن اإلمام أحمد؛ لعلم أن مقصود ابن قدامة‬
‫هو التو ُّقف بما هو من السحر ال ُّلغوي‪ ،‬أو بما يشبه السحر االصطالحي‪ ،‬وأن اإلمام أحمد توقف‬
‫عن الحكم على طريقة معينة لم يعلم تفاصيلها‪.‬‬

‫و ُّ‬
‫كل من قال من الحنابلة بجواز فك السحر بالسحر فلعله ارتكز على ما ذكره ابن قدامة يف‬
‫دت بشكل شاف كاف إن شاء اهلل‪ ،‬ووضحت أن كالم اإلمام أحمد ‪ $‬ورضي‬
‫«المغني»‪ ،‬وقد رد ُّ‬
‫عنه ال يد ُّل على التو ُّقف وال اإلباحة حالة الضرورة لفك السحر بالسحر االصطالحي‪.‬‬

‫تصوره‪ ،‬فيظ ُّن بعض المنتسبين للعلم أن الساحر قد‬


‫ُّ‬ ‫سادسا‪ :‬الحكم على الشيء فرع عن‬
‫ً‬
‫وأمر ليس له وجود‪،‬‬
‫يعمل أشياء مباحة يبطل هبا سحر المريض‪ ،‬فيجيز ذلك‪ ،‬وهذا خطأ محض‪ٌ ،‬‬
‫فر باهلل‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الساحر ال يمكن أن يعمل شي ًئا إال به ش ٌ‬
‫رك وك ٌ‬

‫الرقاة واألطباء والجهات‬ ‫ساب ًعا‪ :‬بعضهم يفتي بذلك بعد اليأس والقنوط‪ً ،‬‬
‫فبدال من أن يحث ُّ‬
‫المختصة لمزيد من البحوث حول هذا األمر؛ ينقلب ليضع رأسه يف التُّراب‪ ،‬ويجيز الذهاب‬
‫للساحر النعدام الرجاء واألمل عنده‪ ،‬هداهم اهلل جمي ًعا للطريق القويم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُّ‬
‫‪287‬‬ ‫فك السحر بِالسحر‬

‫استفدْ ُت من الساحر‪:‬‬

‫قد يقول البعض‪ :‬إين قد ذهبت إلى ساحر ففك لي سحري واسرتحت من مشكلتي‬
‫والضرورات تبيح المحظورات فلماذا المنع؟ والجواب على ذلك أن نقول أو ًال‪ :‬إن األدلة‬
‫الشرعية تؤكد أنه ال يمكن حصول الشفاء من المحرمات فهل نصدق األدلة أم نصدق إحساسك‬
‫ومشاعرك‪ ،‬بل نقول‪ :‬صدق اهلل ورسوله ﷺ‪ ،‬وكذب شعورك‪ .‬ثان ًيا‪ :‬فإن سحرك يف الواقع لم يحل‬
‫ولم يفك‪ ،‬بل كما هو موجو ٌد لم يتحرك من مكانه‪ ،‬والذي حصل واحدٌ من اثنين‪ :‬إما أن الساحر‬
‫عقد هدن ًة مع خادم السحر القديم الذي معك لكي يتوقف عن أذيتك لفرتة معينة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫قرب إلى الشياطين ببعض الكفريات‪ ،‬أو عن طريق خدامه من الجن والذين هم أقوى من خادم‬
‫الت ُّ‬
‫السحر لديك‪ ،‬وإما أن الساحر عمل لك سح ًرا جديدً ا أقوى ليهدئ من السحر القديم‪ ،‬فضاعفت‬
‫بذلك مرضك‪ ،‬وأضعت مالك ووقتك‪ ،‬وال أدري أباق إيمانك أم ال؟! واحسرتاه على ذلك‪ ،‬واهلل‬
‫المستعان‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪288‬‬
‫ُّ‬
‫‪289‬‬ ‫املس‬

‫الم ُّس‬

‫أذية الجن لإلنسان مسلم ٌة قديمة‪ ،‬وحقيقة منقولة بالتواتر عند جميع األمم‪ ،‬ال تحتاج إلى‬
‫جدال أو نقاش‪ ،‬وكان العرب يعرفون هذه المسلمة قبل اإلسالم‪ ،‬فلما نزل القرآن بلغتهم؛ أثبتها‬

‫اهلل ‪ ‬يف كتابه حيث قال ‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ‬

‫ﱋ ﱌ ﱍﱠ [البقرة‪ ،]275 :‬فوصف اهلل قيام آكلي الربا بمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس‪،‬‬
‫قال الطبري‪« :‬الذي يتخبله الشيطان يف الدنيا‪ ،‬وهو الذي يخنقه فيصرعه‪« ،‬من المس» يعني‪ :‬من‬
‫الجنون»(‪ ،)1‬والعرب كانت تقول للجنون‪ :‬الم ُّس‪ ،‬ألنها كانت ترى أن الجنون ناتج عن مس الجن‪،‬‬
‫جاء يف كتب ال ُّلغة ما يلي‪:‬‬

‫«مس‪ :‬جنون‪ ...‬الم ُّس مصدر‪ ،‬والجنون ألنه عند العرب يعرض من مس الجن»(‪« ،)2‬الم ُّس‪:‬‬
‫سوس‪ :‬به م ٌّس من الجنون‪ ،‬كأن الجن مسته»(‪« ،)3‬بفالن خطر ٌة من الجن أي‪ :‬م ٌّس‬
‫الجنون‪ ...،‬مم ٌ‬
‫منه‪ ...،‬خاط ٌر من الجن كذلك»(‪ ،)4‬ويتخبطه الشيطان أي‪« :‬يتوطؤه فيصرعه»(‪« ،)5‬والشيطان يخبط‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطربي؛ سورة البقرة؛ آية ‪.275‬‬
‫(‪ )2‬تكملة المعاجم العربية؛ رينهارت بيرت؛ مس‪.‬‬
‫(‪ )3‬تاج العروس من جواهر القاموس؛ للحسيني؛ فصل «م س س»‪.‬‬
‫(‪ )4‬المخصص ألبي الحسن المرسي؛ فصل الجنون‪.‬‬
‫(‪ )5‬هتذيب ال ُّلغة لألزهري؛ فصل «خ ط ب»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪290‬‬

‫اإلنسان ويتخبطه إذا مسه بأ ًذى فأجنه وخبله»(‪« ،)1‬يتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون»(‪،)2‬‬
‫والشيطان كما ذكرنا واحدٌ من الجن‪ ،‬فما تفعله الشياطين‪ ،‬فإن بقية الجن من الممكن أن تعمله‪،‬‬
‫لكن ما يخصص من حكم للشياطين‪ ،‬فليس من الشرط أن يعم بقية الجن‪ ،‬كما شرحت ذلك يف‬
‫فصل «إبليس الشيطان والجن»‪.‬‬

‫وتسليم هبا‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬إن هذا مجرد تشبيه‪ ،‬وقد‬
‫ٌ‬ ‫وذكر القرآن لهذه الحقيقة تأكيدٌ لها‪،‬‬
‫تختلف أوجه التشبيه‪ ،‬والجواب عليه‪ :‬نعم هو تشبيه‪ ،‬ونعم قد تختلف أوجه التشبيه‪ ،‬لكن المشبه‬
‫ياال‪ ،‬نعم قد يكون هناك فر ٌق بينهما‪،‬‬
‫جازا أو خ ً‬
‫دائما يكون حقيقة‪ ،‬وليس م ً‬
‫والمشبه به يف القرآن ً‬
‫فمثال يقول ‪ :‬ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ‬
‫ً‬ ‫لكن هذا ال ينفي عنهما أنهما حقيقة‪،‬‬

‫ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽﱠ ﭐ[البقرة‪ ،]261 :‬من المؤكد أن هناك فر ًقا‬

‫بين البشر والنبات‪ ،‬وبين المال وبين حبات القمح‪ ،‬لكن المشبه يف اآلية هو‪ :‬ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ‬

‫ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱠ ‪ ،‬وهؤالء حقيقة لهم وجود‪ ،‬والمشبه به هو‪ :‬ﱡﭐ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ‬

‫ﱼﱽﱠﭐ‪ ،‬كذلك سنابل القمح شيء حقيقي له وجود‪.‬‬

‫ومثال آخر‪ ،‬يقول اهلل ‪ ‬عن شجرة الز ُّقوم‪ :‬ﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﱠ [الصافات‪،]65 :‬‬
‫فشجرة الز ُّقوم حقيقة موجودة يف جهنم أعاذنا اهلل منها‪ ،‬ولها طلع كما أخربنا اهلل ال شك يف ذلك‪،‬‬
‫والشياطين حقيقة ولها رؤوس كما أخربنا اهلل ال شك يف ذلك‪.‬‬

‫ولو عدنا إلى قوله ‪ :‬ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱠ ‪ ،‬فمعناها كما مر معنا‪:‬‬


‫«كقيام الذي يصرعه الشيطان ويؤذيه فيسبب له الجنون»‪ ،‬وهذا ال بد أن يكون حقيق ًة ال شك فيها‪،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬المخصص ألبي الحسن المرسي؛ فصل الجنون‪.‬‬
‫(‪ )2‬النهاية يف غريب الحديث واألثر؛ البن األثير؛ فصل خبت‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪291‬‬ ‫املس‬

‫وهو إقرار من اهلل ‪ ‬لما كان يعتقده العرب من أن الجن والشياطين تسبب الجنون لإلنسان‪،‬‬

‫رار بالحقيقة العرفية للمس عند العرب‪ ،‬والش ُّك يف هذه الحقيقة طع ٌن يف القرآن‪ ،‬وز ٌ‬
‫عم أن‬ ‫وإق ٌ‬
‫ٌ‬
‫وقول لم يقل به حتى‬ ‫القرآن أتى بمشبه به غير حقيقي وإنما من الخيال أو األوهام والمستحيالت‪،‬‬
‫مشركوا العرب وال أهل الكتاب‪.‬‬

‫السنة‬
‫قال ابن تيمية ‪« :$‬وكذلك دخول الجني في بدن اإلنسان ثاب ٌت باتفاق أئمة أهل ُّ‬
‫والجماعة‪ ،‬قال اهلل تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ‬

‫ان َي ْجرِي ِم ْن ا ْب ِن آ َد َم َم ْج َرى‬


‫الش ْي َط َ‬
‫ﱌ ﱍﱠ [البقرة‪ ،]275 :‬وفي الصحيح عن النبي ‪ -‬ﷺ‪« :-‬إ َّن َّ‬
‫الدَّ ِم»(‪ .)1‬وقال عبد اهلل بن اإلمام أحمد بن حنبل‪« :‬قلت ألبي‪ :‬إن أقوا ًما يقولون‪ :‬إن الجني ال‬
‫يدخل في بدن المصروع‪ ،‬فقال‪ :‬يا بني يكذبون‪ ،‬هذا يتكلم على لسانه»‪....‬وليس في أئمة‬
‫المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره‪ ،‬ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع‬
‫يكذب ذلك‪ ،‬فقد كذب على الشرع‪ ،‬وليس في األدلة الشرعية ما ينفي ذلك»)‪.(2‬‬

‫وقال فخر الدين الرازي ‪« :$‬المشهور أن الجن لهم قدر ٌة على النُّفوذ في بواطن البشر‪،‬‬
‫وأنكر أكثر المعتزلة ذلك‪ ،‬أما المثبتون فقد احت ُّجوا بوجوه‪ ،‬األول‪ :‬أنه إن كان الج ُّن عبار ًة عن‬
‫موجود ليس بجسم وال جسماني فحينئذ يكون معنى كونه قاد ًرا على النُّفوذ في باطنه أنه يقدر على‬
‫التص ُّرف في باطنه‪ ،‬وذلك غير مستبعد‪ ،‬وإن كان عبار ًة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه؛‬
‫كان نفاذه في باطن بني آدم أي ًضا غير ممتنع قياسا على النفس وغيره»(‪.)3‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»6750‬؛ كتاب «األحكام»؛ باب «الشهادة تكون عند الحاكم يف واليته القضاء أو قبل ذلك للخصم»‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتاوى ابن تيمية؛ كتاب «الجنائز»؛ مسأل ٌة «ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها»‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الرازي‪-‬مفاتيح الغيب؛ سورة الفاتحة؛ باب «يف المباحث العقلية المستنبطة من قولنا‪ :‬أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪292‬‬

‫ِ‬
‫الخارجي‪:‬‬ ‫الم ُّس‬

‫الم ُّس الخارجي هو‪« :‬أذية الجن لإلنسان من الخارج‪ ،‬وربما مالزمته له‪ ،‬من دون أن يدخل‬
‫ين ُيو َلدُ ‪َ ،‬ف َي ْست َِه ُّل َص ِ‬ ‫الشي َط ُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ار ًخا‬ ‫ان ح َ‬ ‫يف جسده»‪ .‬قال الرسول ﷺ‪َ « :‬ما م ْن َبني آ َد َم َم ْو ُلود َّإال َي َم ُّس ُه َّ ْ‬
‫ان‪َ ،‬غ ْي َر َم ْر َي َم َوا ْبن ِ َها»(‪ ،)1‬وذكر اهلل يف القرآن الكريم شكوى أ ُّيوب ڠ من أذية‬ ‫ِم ْن َمس َّ‬
‫الش ْي َط ِ‬

‫الشيطان‪ ،‬قال اهلل ‪ :‬ﱡﭐﳍﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕ ﳖﳗﱠﭐ[ص‪ ،]41:‬وجاء‬


‫يف اإلسرائيليات أن المرض كان بسبب نفخة نفخها الشيطان يف أنف أ ُّيوب ڠ (‪ ،)2‬وهذا كذلك‬
‫والمس الداخلي ال يتصور وال يجوز على األنبياء عليهم الصالة والسالم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫من المس الخارجي‪،‬‬
‫ِ‬
‫الداخلي‪:‬‬ ‫الم ُّس‬

‫الم ُّس الداخلي هو‪« :‬دخول الجن إلى داخل الجسد‪ ،‬وقد يصاحبه أذية من الجن‬
‫للممسوس»‪ ،‬والعرب كانت تؤمن بوجود المس الداخلي‪ ،‬وآية الربا إقرار لهم على ما كانوا‬
‫يؤمنون به يف عرفهم كما ذكرت‪ ،‬والحقيقة العرفية مقدمة عند األصوليين على الحقيقة ال ُّلغوية‪،‬‬
‫ولدينا دليل آخر يؤيد المس الداخلي‪ :‬عن عثمان بن أبي العاص ﭬ قال‪ :‬لما استعملني رسول‬
‫اهلل ﷺ على الطائف جعل يعرض لي شي ٌء في صالتي حتى ما أدري ما أصلي‪ ،‬فلما رأيت ذلك‬
‫رحلت إلى رسول اهلل ﷺ فقال‪« :‬ا ْب ُن َأبِي ا ْل َع ِ‬
‫اص؟» قلت‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ .‬قال‪َ « :‬ما َجا َء بِ َ‬
‫ك؟»‬
‫الش ْي َط ُ‬
‫ان‪ ،‬ا ْد ُن ْه»‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬عرض لي شي ٌء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي‪ ،‬قال‪َ « :‬ذ َ‬
‫اك َّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»3248‬؛ كتاب أحاديث األنبياء؛ باب «قول اهلل تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ‬

‫ﱬﱠﭐ[مرمي‪.»]16 :‬‬
‫عدو اهلل جوا ًدا‪ ،‬فوجد أ ُّيوب ساجدً ا‪ ،‬فعجل قبل أن يرفع رأسه‪،‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطربي؛ سورة األنبياء؛ آية ‪ ،83‬عن وهب بن منبه‪« :‬فانقض ُّ‬
‫فأتاه من قبل األرض يف موضع وجهه‪ ،‬فنفخ يف منخره نفخة اشتعل منها جسده‪ ،‬فرتهل‪ ،‬ونبتت به ثآليل مثل أليات الغنم‪ ،‬ووقعت فيه‬
‫حكة ال يملكها»‪ ،‬واإلسرائيليات ال يجزم بتصديقها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪293‬‬ ‫املس‬

‫اخ ُر ْج‬
‫فدنوت منه‪ ،‬فجلست على صدور قدمي‪ ،‬قال‪ :‬فضرب صدري بيده‪ ،‬وتفل في فمي وقال‪ْ « :‬‬
‫ك» قال‪ :‬فقال عثمان‪« :‬فلعمري ما أحسبه‬ ‫َعدُ َّو الل ِ» ففعل ذلك ثالث مرات‪ ،‬ثم قال‪« :‬ا ْل َح ْق بِ َع َم ِل َ‬
‫خالطني بعد»(‪.)1‬‬

‫وقد أنكر بعض العلماء حدوث المس الداخلي‪ ،‬وإنكارهم له لم يقم على تجارب وأبحاث‪،‬‬
‫وإنما قام على فلسفة ونظريات ليس لها ما يثبتها من الجانب العملي‪ ،‬كذلك أتوا باستنباطات ليس‬
‫السنة ‪-‬كما رأينا‪ -‬ثم يف تجارب السابقين ما ينكر‬
‫لها من الصواب نصيب‪ ،‬بالرغم أن يف القرآن و ُّ‬
‫والسنة ما يد ُّل‬
‫قولهم‪ ،‬ويثبت حدوث المس الداخلي‪ .‬ولنفرتض معهم جد ًال أنه ال يوجد يف القرآن ُّ‬
‫ينص على نفي ذلك؟ هل هناك‬
‫صريح ُّ‬
‫ٌ‬ ‫على دخول الجن إلى اإلنسان كما يدعون‪ ،‬فهل هناك ٌ‬
‫دليل‬
‫تأويالت‬
‫ٌ‬ ‫أي دليل صريح‪ ،‬بل كما قلت؛‬
‫دليل صريح بنفي المس الداخلي؟ الجواب أنه ال يوجد ُّ‬
‫وتفسيرات للنُّصوص ول ٌّي ألعناقها بطرق خاطئة وبعيدة عن المعنى الصحيح‪ ،‬فأقول‪ :‬إذا انتفى‬
‫ٌ‬
‫إثبات المس الداخلي بالدليل الشرعي كما تزعمون؛ وانتفى كذلك الدليل الشرعي الصريح الذي‬
‫ينفي المس الداخلي كما تعلمون؛ فإن العلم حينئذ يؤخذ بالتجربة والبحث المنصف‪ ،‬ونصيحتي‬
‫عصب لما يعتقدون‪ ،‬وبأن يفتحوا عقولهم للبحث العملي بد ًال من إغالقها على‬
‫لهم بعدم الت ُّ‬
‫معتقدات وأوهام خاطئة‪.‬‬

‫بعضا من األدلة التي اتخذوها ذريعة إلنكار المس الداخلي‪:‬‬


‫وسأستعرض فيما يلي ً‬

‫‪ -1‬قال اهلل ‪ :‬ﱡﭐ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ‬

‫ﲇﲈﲉﲊﲋﲌﲍﲎﲏﲐﲑ ﲒﲓﲔﲕﲖﲗ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه «‪»3548‬؛ باب الفزع واألرق وما يتعوذ به؛ ويف الزوائد‪« :‬إسناده صحيح رجاله ثقات»‪ ،‬وقال األرناؤوط‪« :‬إسناده‬
‫قوي»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪ ،»2918‬وحسنه األعظمي يف اجلامع الكامل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪294‬‬

‫ﲘﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧ‬

‫ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﱠ [إبراهيم‪ ،]22 :‬قالوا إن اآلية توضح أن الشيطان ليس له إال‬


‫أي حجة على البشر‪ ،‬أما االتباع والمعصية فمن اإلنسان‪ ،‬ولذلك ال يمكن‬
‫الوسوسة وليس له ُّ‬
‫حصول مس داخلي‪ ،‬وأقول أين هذا من ذاك؟! أو ًال‪ :‬اآلية تتحدث عن إبليس‪ ،‬وال تع ُّم بقية‬
‫الجن‪ ،‬فإن استعنا باآلية يف نفي المس من الشيطان‪ ،‬فال تسوغ اآلية لنا أن ننفي المس من‬
‫الجن المسلمين‪ ،‬ثم إنه إن سلمنا بتفسيركم؛ فال يشترط للوسوسة أن تكون بال دخول يف‬
‫صور حصول الوسوسة لإلنسان بعد دخول الشيطان للجسم‪ ،‬فكيف‬
‫الجسم‪ ،‬فقد يمكن ت ُّ‬
‫استنبطتم الجزم بعدم جواز دخول الجن إلى الجسد من هذه اآلية؟ هذه اآلية يف الحقيقة ال‬

‫تنفي المس أو دخول الجسد البشري‪ ،‬ثم إن اآلية األخرى تقول‪ :‬ﱡﭐ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ‬

‫ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﱠ [النحل‪ ،]100 :‬وبعقليتكم هذه وفهمكم ومعياركم؛ وجب‬


‫عليكم القول بأن المس الداخلي ودخول الشيطان للجسد واجب حصوله على أجسام‬
‫الكفار والمشركين طب ًقا لهذه اآلية األخرى‪.‬‬
‫‪ -2‬عن ابن عباس ﭭ‪ ،‬قال‪« :‬جاء رجل إلى النبي ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن أحدنا يجد يف‬
‫أكبر‪،‬‬
‫ب إليه من أن يتكلم به‪ ،‬فقال‪-‬ﷺ‪« :-‬اللُ ُ‬ ‫نفسه‪ ،‬يعرض بالشيء‪ ،‬ألن يكون حمم ًة أح ُّ‬
‫الوسوس ِة»(‪ ،)1‬فقالوا‪ :‬إن كيد الشيطان ال يتجاوز‬
‫َ‬ ‫أكبر‪ ،‬الحمدُ لل الذي ر َّد كيدَ ه إلى‬
‫اللُ ُ‬
‫الوسوسة كما يف الحديث‪ ،‬وأقول‪ :‬هنا الحديث جاء عن الصحابي الذي لم يستجب‬
‫لوساوس وأفكار الشيطان‪ ،‬فحمد رسول اهلل ﷺ اهلل ألن كيد الشيطان عند هذا الصحابي لم‬
‫يتجاوز الوسوسة‪ ،‬وليس يف هذا الحديث نفي إلمكانية التجاوز عند غيره‪ ،‬بل لو سلمنا‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود «‪»5112‬؛ أبواب النوم؛ باب «يف رد الوسوسة»‪ ،‬قال األرناؤوط‪« :‬إسناده صحيح»‪ ،‬وصححه األعظمي يف الجامع‬
‫الكامل‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪295‬‬ ‫املس‬

‫باستنباطكم؛ فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن كل من لم يستنكر ما استنكره الصحابي الجليل‬


‫ﭬ من حديث النفس؛ فإن الشيطان يكون قد تجاوز عنده الوسوسة إلى مراحل أكرب بعدها‪،‬‬
‫فكم من مسكين تجاوز مرحلة الوسوسة ُّ‬
‫والشبهات إلى اإللحاد والكفر أو المعاصي؛ فهل‬
‫سوسا بنا ًء على قولكم هذا؟ ومرة أخرى فإن الوسوسة ال عالقة لها بالمس‬
‫تعتبرونه مم ً‬
‫ودخول الجسد‪ ،‬فالوسوسة قد تحصل من خارج الجسد ومن داخله‪ ،‬ويحتمل أن يدخل‬
‫ٌ‬
‫شيطان إلى الجسد وال يوسوس‪ ،‬فال عالقة طردية وال تناسبية بين الوسوسة والمس‪ .‬ثم نعود‬
‫ونسأل؛ هل الحديث تكلم عن إبليس؟ أم عن القرين؟ أم جن مسلمين؟ ولماذا تعممون ما يف‬
‫هذا الحديث على كل الجن؟‬

‫ﱰ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱠ [النساء‪ ، ]76 :‬قالوا ما دام أن كيده‬


‫ﱱ‬ ‫‪ -3‬قال ‪ :‬ﱡﭐ ﱮ ﱯ‬

‫ضعيف فإنه ال يستطيع الدُّ خول إلى الجسد وتحريكه أو بث األمراض فيه‪ ،‬ولو نظرنا للمعني‬
‫بالكيد يف تفسير الطربي لوجدته‪« :‬ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار باهلل على‬
‫رسوله وأوليائه أهل اإليمان به»‪ ،‬وصفة الضعف يف هذه اآلية إنما هي لهذا الكيد الذي هو‬
‫تحزيبه الكفار على رسول اهلل ﷺ والمسلمين‪ .‬ثم إن ضعف الكيد ال ينفي دخوله للجسم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ‬ ‫‪-4‬‬

‫ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ [اإلسراء‪ ،]70 :‬قالوا من لوازم تكريم بني آدم أنه ال يمكن للجن‬
‫دخوله‪ ،‬فنقول‪ :‬على فهمكم هذا فإنه كذلك ال يمكن ألي كائن آخر دخول اإلنسان‪ ،‬فال‬
‫يمكن للبكتيريا والفيروسات دخول جسم اإلنسان‪ ،‬كذلك ال يمكن للحيوانات أن تعتدي‬
‫على اإلنسان‪ ،‬هذا فهمكم وتأويلكم رد إليكم‪ ،‬وتبين لكم خطأ ما فهمتموه‪ .‬وقد ذكرت يف‬
‫فصل «حقيقة أم خيال» هذا التناقض الواقع عند العقالنيين‪ ،‬فهم ال يمانعون يف دخول‬
‫الكائنات الدقيقة من فيروسات وبكتيريا وديدان إلى داخل جسم اإلنسان‪ ،‬وال يمانعون يف‬
‫إفساد هذه الكائنات ألعضاء وخاليا المريض‪ ،‬لكن يمانعون أن يكون للجن نفس ميزات هذه‬
‫أي حل فيما يبدو لديهم‪ .‬وعق ًال فإن الفيروسات‬
‫الكائنات الدقيقة‪ ،‬تناقض عجيب ليس له ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪296‬‬

‫والبكتيريا ال توصف بالحقد والحسد لبني آدم‪ ،‬لكنها تدخل الجسم وتفعل فيه األفاعيل‪ ،‬أما‬
‫الشياطين فهي حاسدة وحاقدة على البشر منذ خلقوا‪ ،‬وعداوهتم لنا ثابتة شر ًعا‪ ،‬وليست‬
‫كل بغضاء وحقد وأذية شديدة‪ ،‬وهم أكثر خربة منا‬ ‫عداوة بسيطة‪ ،‬بل عداوة مبينة قديمة فيها ُّ‬
‫الروح‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ل َّما َص َّو َر اللُ آ َد َم فِي ا ْل َجن َِّة ت ََر َك ُه َما‬ ‫بأنفسنا من قبل أن تنفخ فينا ُّ‬
‫ف َأ َّن ُه ُخ ِل َق َخ ْل ًقا َال‬‫ف َع َر َ‬ ‫يف بِ ِه َينْ ُظ ُر َما ُه َو‪َ ،‬ف َل َّما َرآ ُه َأ ْج َو َ‬
‫يس ُيطِ ُ‬ ‫ِ‬
‫َشا َء اللُ َأ ْن َيت ُْر َك ُه‪َ ،‬ف َج َع َل إِ ْبل ُ‬
‫َيت ََما َل ُ‬
‫ك»(‪ ،)1‬ويرون أشياء ال نستطيع رؤيتها‪ ،‬فال يعقل برغم كل هذا أن الشياطين تعجز‪ ،‬وال‬
‫تحاول أن تدخل أجساد البشر أو تمرضه أو تقتله أو تفسده أو تؤذيه‪ ،‬ومن يقول باستحالة‬
‫ذلك فهو ال يعرف الشياطين وال الجن وال قدراهتم المادية وال العقلية‪ ،‬أو ربما ال يؤمن‬
‫بوجودهم وإمكانياهتم‪.‬‬

‫صريحا ينفي حصول‬


‫ً‬ ‫بعضا من استنباطاهتم لألدلة النقلية‪ ،‬وال نجد فيها نصا‬
‫ما سبق كان ً‬
‫المس‪ ،‬بل تأويالت ك ُّلها مردودة‪ ،‬وقد أوردوا أدلة أخرى عقلية‪ ،‬ك ُّلها مخالفة للتجربة والواقع‪.‬‬

‫وادعى البعض أن البحث يف أمراض الجن وعالجه من أمور الغيب المطلق التي ال يعلمها إال‬ ‫•‬

‫اهلل؛ لذا ليس من المعقول أن اهلل يبتلي اإلنسان بأمراض غيبية ثم يطالبه بالبحث عن شفائها‪،‬‬
‫وكما شرحت يف هذا الكتاب أن أمراض الجن ليست من علم الغيب المطلق‪ ،‬وهذا ادعاء ال‬
‫أيضا من الصحة نصيب‪.‬‬
‫دليل صريح عليه‪ ،‬وإنما تأويالت وأفهام ليس لها ً‬
‫والبعض رأى حاالت تدعي اإلصابة بالمس‪ ،‬لكن حقيق ًة ليس فيها م ٌّس‪ ،‬وإنما أوهام أو تمثيل‬ ‫•‬

‫من المريض‪ ،‬فحكموا وعمموا على جميع الحاالت بأنها من األوهام ومن نفسية المريض‪،‬‬
‫ضاربين عرض الحائط بالتجارب األخرى الكثيرة التي تثبت المس الداخلي لدى آخرين‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2611‬؛ كتاب «الرب والصلة واآلداب»؛ باب «خلق اإلنسان خل ًقا ال يتمالك»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪297‬‬ ‫املس‬

‫راضا قيل‪ :‬إنها من المس؛ ثم هدأت أو شفيت عن طريق األدوية‪،‬‬


‫ورأى البعض حاالت أو أم ً‬ ‫•‬

‫فلم يستطع الجمع بين األسباب المتوازية وال المتوالية‪ ،‬حيث أن المس قد يكون تسبب بتغيير‬
‫فصيال‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف الجسم‪ ،‬بينما األدوية هذه عالجت التغيير‪ ،‬فأنكر من رأى ذلك المس جمل ًة وت‬

‫والمضحك أنهم حين أنكروا المس الداخلي؛ فإنهم لما رأوه أمامهم أتوا بتفسيرات له ال‬

‫قال وال منط ًقا هداهم اهلل‪ ،‬لكن نسألهم‪ :‬ما تفسيركم حين ينطق مريض أثناء ُّ‬
‫الرقية بلغة‬ ‫تدخل ع ً‬
‫مفهومة غير لغته التي يتكلم هبا؛ بالرغم من أنه ال يعرف هذه ال ُّلغة ولم يتعلمها أبدً ا يف حياته؛ بل‬
‫الرقية بأسرار شخصية خاصة بالراقي ال‬
‫ولم يسمعها البتة؟ وما تفسيركم حين يتكلم المريض أثناء ُّ‬
‫يعرفها أحد من البشر إال هذا الراقي فقط؟ ولو ذكرنا مثل هذا لوجدنا أمثلة أخرى كثيرة ال يمكن‬
‫أن يكون سببها غير المس‪.‬‬

‫قد يقول بعض مدعي العقل بأنهم يجيزون دخول الجن إلى الجسم‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن‬
‫طور يف علم األعصاب ”‪ “Neuroscience‬وصل إلى‬
‫يحرك أعضاء هذا الجسم‪ ،‬فأقول‪ :‬إن الت ُّ‬
‫تصنيع أجهزة يمكنك من خاللها التح ُّكم يف أعضاء اآلخرين‪ ،‬وذلك عن طريق ربط أسالك بينك‬
‫وبين الشخص الساكن تنتقل فيها التيارات العصبية القادمة من الدماغ‪ ،‬فإذا رفعت يدك ارتفعت‬
‫يده من غير إرادته‪ ،‬وإذا قبضت أصابعك انقبضت أصابعه من غير إرادته‪ ،‬وهذه التقنية اآلن عن‬
‫طريق األسالك‪ ،‬وغدً ا قد تصبح السلكية‪ ،‬بل بعضهم يبحث يف كيفية االستفادة من هذه التقنية يف‬
‫عالج المشلولين‪ ،‬فهذا ممكن بين البشر‪ ،‬فلماذا تستكثرون ذلك على الجن؟ من باب أولى أن‬
‫الجن يستطيع التح ُّكم يف تيارات األعصاب الواصلة من الدماغ إلى جميع أعضاء الجسم(‪.)1‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬لمعرفة المزيد عن هذه التقنيات والتجارب يمكنك مراجعة الموقع‪/https://backyardbrains.com :‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪298‬‬

‫كذلك من األبحاث(‪ )1‬العجيبة ما هو منشور عن طفيلي اسمه «توكسوبالزما»(‪« )2‬المقوسة‬


‫الغوندية»‪ ،‬وهو يعيش داخل مضيف‪ ،‬ومضيفه األساسي هو القطط‪ ،‬ويف هذا البحث وجد أنه بعد‬
‫إصابة الفئران هبذه ال ُّطفيليات فإن سلوك الفئران يتغير وتصبح أكثر جرأة‪ ،‬بمعنى آخر أن هذا‬
‫الطفيلي يجعلها تواجه القطط ب ً‬
‫دال من الهروب منها حتى تستطيع االنتقال من الفأر إلى القطة‪ ،‬فإذا‬
‫السلوك فمن باب أولى أن الجن تقدر‬
‫كان طفيلي صغير ال يرى بالعين المجردة قادر على تغيير ُّ‬
‫على ذلك‪.‬‬

‫ولدينا كذلك علم الجينات الضوئية ”‪ ،“Optogenetics‬وهذا العلم باختصار هو عبارة عن‬
‫تسليط الضوء على بعض الخاليا يف المخ لتوليد الكهرباء وذلك بعد زرع بروتينات تحول الضوء‬
‫إلى كهرباء يف هذه الخاليا‪ ،‬ومع تجربته مع الفئران استطاعوا التح ُّكم يف مشاعر الفئران وشهيتهم‬
‫وسلوكياهتم‪ ،‬ويزعم الباحثون يف هذا العلم أنه باإلمكان استعماله بنفس الطريقة يف اإلنسان‪ ،‬فإذا‬
‫كنا نستطيع أن نصل إلى تقنيات نتحكم هبا يف أدمغتنا‪ ،‬فلماذا ال يستطيع الج ُّن عمل ذلك؟‬

‫أسباب المس‪:‬‬

‫أما أسباب المس فكثيرة‪ ،‬منها السحر والعين والحسد‪ ،‬ومنها المشاعر السلبية الشديدة؛‬
‫كالخوف والغضب والفرح والحزن‪ ،‬ومنها أسباب لحظية عرضية مثل رغبة اإليذاء أو االنتقام من‬
‫الجن والشياطين‪ ،‬ومنها المعاصي واآلثام‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬بحث صادر عن المركز الوطني لمعلومات التقنية الحيوية «أمريكي»؛‬
‫‪/https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3378833‬‬
‫(‪.Toxoplasma gondii )2‬‬
‫ُّ‬
‫‪299‬‬ ‫املس‬

‫َمواقِع المس يف ِ‬
‫الجسم‪:‬‬

‫سبق أن تكلمت يف فصل «الجن» على أن جريان الشيطان يف مجرى الدم قد يكون خاصا‬
‫بالقرين‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون عاما بكل جن يدخل الجسد‪ ،‬ومجرى الدم يحتمل األوعية الدموية‪،‬‬
‫كذلك يحتمل المعنى جريان الشيطان مثل الدم‪ ،‬سوا ًء يف شبكات وأوعية أخرى يف الجسم مما‬
‫نعلمه أو ال نعلمه‪ ،‬أو من غير مسار محدد‪ ،‬هذا ما يمكن استنباطه من الشريعة‪.‬‬

‫أما المسائل األخرى‪ ،‬مثل‪ :‬ما هي مداخل الجن للجسم؟ وما هي مخارجه؟ وأين يسكن يف‬
‫الجسم؟ وهل يسكن داخل األعضاء ويؤثر عليها من هناك‪ ،‬أم يؤثر عليها عن طريق التح ُّكم يف‬
‫دماغ اإلنسان وتياراته؟ وهل يقرأ أفكار اإلنسان مباشرة من عقله‪ ،‬أم أنه يحلل موجات هذه‬
‫األفكار ليتعرف عليها‪ ،‬وكيف يسبب الم ُّس األمراض؟ ُّ‬
‫كل هذه األسئلة وغيرها عن الكيفيات‬
‫أي أبحاث‬
‫أي أجوبة جازمة إلى اآلن‪ ،‬ألنه لم تقم ُّ‬
‫جواهبا يعود إلى االجتهاد الطبي‪ ،‬وليس هناك ُّ‬
‫متخصصة يف ذلك‪.‬‬

‫كذلك ما يجري من كالم مثل حبس الجن داخل الجسد‪ ،‬أو داخل جزء من الجسد‪ ،‬أو حرقه‪،‬‬
‫أو قتله‪ ،‬أو تعذيبه‪ ،‬أو حتى إخراجه‪ُّ ،‬‬
‫فكل هذا من االجتهادات الطبية التي تحتاج إلى بحث‬
‫وإثبات‪.‬‬

‫الكَلم مع الجن‪:‬‬

‫ال شك أن الكثيرين يرون الكالم مع الجن من األشياء الشيقة الممتعة‪ ،‬ومن الغرائب‬
‫واللطائف‪ ،‬ولكنه مهد ٌر للوقت‪ ،‬وتضييع لعقل اإلنسان‪ ،‬ومعلومات أغلبها غير ممكن إثباهتا‬
‫والجزم هبا‪ ،‬وسوف يأيت الحديث عن االستعانة هبم يف فصل االستعانة بالجن‪ ،‬لكن أقول‪ :‬هنا أن‬
‫األولى واألفضل أن يتجنب اإلنسان الحديث مع الجن‪ ،‬وال يأخذ كالمه على محمل الجد أبدً ا‪،‬‬
‫ومن أفسد المريض‪ ،‬فهو ال بد أن يحاول إفساد ما يملكه المريض من وقت وجهد وعالقات وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪300‬‬

‫ُحك ُْم الم ْمسوس‪:‬‬

‫هل يؤاخذ القاضي الممسوس بما فعله بسبب المس أم ال؟ ورد عن ابن عباس ﭭ قال‪ :‬أيت‬
‫عمر بمجنونة قد زنت‪ ،‬فاستشار فيها أناسًا‪ ،‬فأمر هبا عمر أن ترجم‪ ،‬فمر هبا على علي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬فقال‪ :‬ما شأن هذه؟ قالوا‪ :‬مجنونة بني فالن زنت‪ ،‬فأمر هبا عمر أن ترجم‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪:‬‬
‫ارجعوا هبا‪ ،‬ثم أتاه‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أما علمت أن القلم قد رفع عن ثالثة‪ :‬عن المجنون‬
‫حتى يربأ‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبى حتى يعقل؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فما بال هذه ترجم؟‬
‫قال‪ :‬ال شيء‪ ،‬قال‪ :‬فأرسلها‪ ،‬قال‪ :‬فأرسلها‪ ،‬قال‪ :‬فجعل يكبر (‪ .)1‬ويف رواية أخرى أن عمر بن‬
‫الخطاب ﭬ أتي بامرأة قد زنت‪ ،‬فأمر برجمها‪ ،‬فذهبوا بها ليرجموها‪ ،‬فلقيهم عل ٌّي ﭬ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ما هذه؟ قالوا‪ :‬زنت فأمر عمر برجمها‪ ،‬فانتزعها عل ٌّي من أيديهم وردهم‪ ،‬فرجعوا إلى عمر ﭬ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما ردكم؟ قالوا‪ :‬ردنا عل ٌّي ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬ما فعل هذا عل ٌّي إال لشيء قد علمه‪ ،‬فأرسل إلى علي‬
‫فجاء وهو شبه المغضب‪ ،‬فقال‪ :‬ما لك رددت هؤالء؟ قال‪ :‬أما سمعت رسول اهلل ﷺ يقول‪ُ « :‬رفِ َع‬
‫الص ِغيرِ َحتَّى َي ْك َب َر‪َ ،‬و َع ِن الم ْب َت َلى َحتَّى َي ْع ِق َل» قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ا ْل َق َل ُم َع ْن َثَل َثة‪َ :‬ع ِن النَّائ ِم َحتَّى َي ْس َت ْيق َظ‪َ ،‬و َع ِن َّ‬
‫بلى‪ ،‬قال عل ٌّي ﭬ‪ :‬فإن هذه مبتالة بني فالن فلعله أتاها وهو بها‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ال أدري‪ ،‬قال‪ :‬وأنا‬
‫ال أدري‪ ،‬فلم يرجمها(‪.)2‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود «‪»4399‬؛ كتاب «الحدود»؛ باب «يف المجنون يسرق أو يصيب حد ًا»‪ ،‬وقال األرناؤوط‪« :‬حديث صحيح»‪ ،‬وقال‬
‫الخطابي يف معالم السنن‪« :‬لم يأمر عمر ﭬ برجم مجنونة مطبق عليها يف الجنون‪ ،‬وال يجوز أن يخفى هذا عليه وال على أحد ممن‬
‫بحضرته‪ ،‬ولكن هذه امرأة كانت تج ُّن مرة وتفيق أخرى‪ ،‬فرأى عمر ﭬ أال يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون إذ كان الزنا‬
‫علي كرم اهلل وجهه أن الجنون شبهة يدرأ هبا الحد عمن يبتلى به‪ ،‬والحدود تدرأ ُّ‬
‫بالشبهات‪ ،‬لعلها قد‬ ‫منها يف حال اإلفاقة‪ ،‬ورأى ٌّ‬
‫أصابت ما أصابت وهي يف بقية من بالئها‪ ،‬فوافق اجتهاد عمر ﭬ اجتهاده يف ذلك فدرأ عنها الحد‪ ،‬واهلل أعلم بالصواب»‪.‬‬
‫(‪ )2‬مسند اإلمام أحمد «‪»1328‬؛ مسند علي بن أبي طالب ﭬ؛ يف تحقيق طبعة الرسالة‪« :‬صحيح لغيره»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪301‬‬ ‫املس‬

‫تأثيرا من الجن‪ ،‬والعلة‬


‫سبق يف بداية هذا الفصل يف تعريف المجنون أن العرب كانت ترى له ً‬
‫هي يف غياب العقل‪ ،‬ولذا فمن الممكن أن يقاس على المجنون ُّ‬
‫كل ممسوس ال يعي وال يدرك ما‬
‫يفعله‪ ،‬وإن أدرك هذا الممسوس أفعاله فقد يمكن القياس على المكره‪ ،‬وبينة ذلك تعود إلى أهل‬
‫هم أنه أذنب أو أتلف تحت تأثير المس‪ ،‬فإنه يتوجب على القاضي التأ ُّكد من‬
‫الخربة‪ ،‬فإن ادعى مت ٌ‬
‫ذلك عن طريق أهل الخربة يف هذا المجال قبل أن يصدر الحكم عليه‪.‬‬

‫حكيما‪ ،‬فإذا جاء مال يف يديه انقلب فجأة إلى سفيه يتلف المال أو‬
‫ً‬ ‫ولقد رأيت من يكون عاق ًال‬
‫شخصا أعرفه بأدبه وأخالقه ودينه‪،‬‬
‫ً‬ ‫يصرفه يف غير ضرورياته‪ ،‬وذلك بسبب حسد على ماله‪ ،‬ورأيت‬
‫وفجأة بسبب سحر أصبح يلمس بناته بطريقة مخلة إذا قابل إحداهن أمامه‪ ،‬وإال فتراه كما هو‬
‫عاق ًال رزينًا‪ ،‬وأتاين يبكي ال يعرف كيف يحصل منه هذا‪ ،‬ولما فك سحره؛ انتهى بالؤه وهلل الحمد‪.‬‬
‫خصا طبيعيا‪ ،‬فإن أتى على الشيء‬ ‫وهناك أمثلة كثيرة‪ ،‬ك ُّلها تت ُّم بنفس ُّ‬
‫الصورة‪ ،‬فترى الممسوس ش ً‬
‫الذي من أجله حسد أو سحر أو أصابته عين؛ انقلب إلى شخص غير عاقل البتة‪ ،‬حتى يزول هذا‬
‫الرجوع إلى أهل الخربة‪ ،‬حتى ال تزر‬
‫الشيء‪ .‬ولضبط قواعد وأسس هذه الحاالت‪ ،‬فإنه يتوجب ُّ‬
‫وازر ٌة وزر أخرى‪ ،‬وحتى ال يعاقب أحد بجرم غيره فنظلمه‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪302‬‬
‫ِّ‬
‫‪303‬‬ ‫عالج املس‬

‫عَلج المس‬

‫للتخ ُّلص من المس بيسر وسهولة‪ ،‬فإنه يجب التخ ُّلص من السبب الذي أدى إلى حصول‬
‫حالة المس‪ ،‬ثم التخ ُّلص من المس‪ .‬أما محاولة التخ ُّلص من المس من دون التخ ُّلص من السبب‬
‫فصعبة وشاقة‪ ،‬وقد يؤدي إلى إضاعة الوقت والجهد بال جدوى‪ ،‬كذلك قد يؤدي إلى خروج‬
‫المس ثم رجوعه هو أو غيره بكل سهولة‪ ،‬وهذا ما يحصل مع كثير من المرضى يف زماننا هذا‪ ،‬فهم‬
‫يحاولون التخ ُّلص من المس دون التخ ُّلص من السبب كالسحر أو العين أو الحسد‪ ،‬فيخرج منهم‬
‫حسن‪ ،‬ثم ما يلبث أن يعود الج ُّن فيهم ألن مداخله وأسبابه موجودة مفتوحة‪.‬‬
‫الج ُّن ويشعرون بت ُّ‬

‫ولنذهب إلى الطب النبوي‪ ،‬ولنتأمل يف الحديث الذي عالج فيه رسول اهلل ﷺ المس من‬
‫عثمان ابن العاص ﭬ‪ ،‬فنجد أنه ﷺ استعمل معه ثالثة طرق‪:‬‬

‫ال َّطريقة األُولى‪ :‬ضرب رسول اهلل ﷺ صدر عثمان ﭬ بيده الشريفة‪ ،‬ومن هذا يمكن القول‬
‫بأنه من المفيد ضرب الممسوس ضر ًبا خفي ًفا ال يؤلمه وال يبرحه بحيث يكون أقرب إلى الطبطبة‬
‫أو الربت‪ ،‬وذلك يف األماكن التي يتوقع وجود الجن فيها‪ ،‬وهذا من فوائده أن ينشط الدورة الدموية‬
‫ب الصيني‪ :‬إن ذلك يساهم يف تمرير‬
‫يف المنطقة‪ ،‬كذلك ينشط الغدد الليمفاوية‪ ،‬ويقول الط ُّ‬
‫الرقاة المعاصرين‪ :‬إن التدليك يساهم يف إخراج‬
‫التيارات المسدودة يف المنطقة‪ .‬ويقول بعض ُّ‬
‫المس من جسد اإلنسان‪.‬‬

‫ال َّطريقة الثانية‪ :‬أدخل ﷺ ريقه الشريف إلى جوف عثمان بالتفل يف فمه ﭬ‪ ،‬وال شك أن‬
‫حمله‪ ،‬وبالطبع ال يمكننا الحصول اآلن على ريق‬
‫ريقه ﷺ مؤذ للشيطان فال يستطيع مالمسته وال ت ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪304‬‬

‫رسول ﷺ‪ ،‬وال على ما يماثله‪ ،‬لكن يقاس على ذلك أن نقوم بتغذية المريض بما يؤذي الجن من‬
‫أعشاب أو زيت أو مياه آبار أو ماء مقروء عليه وغيره‪.‬‬

‫الرقية‪ ،‬وطرق‬ ‫ِ‬ ‫ال َّطريقة الثالثة‪ :‬قوله ﷺ‪ْ « :‬‬


‫اخ ُر ْج َعدُ َّو الل»‪ ،‬هذا مداواة بالكالم‪ ،‬والذي هو ُّ‬
‫الرقاة إلخراج المس كثيرة مختلفة‪ ،‬تعتمد على اجتهاداهتم ومالحظاهتم‪ ،‬كذلك تعتمد‬
‫الرقية عند ُّ‬
‫ُّ‬
‫على اختالف حاالت المرضى لديهم‪ ،‬وتن ُّوع أنواع المس يف هؤالء المرضى‪ ،‬لكنها على كثرهتا‬
‫فإنها تدخل يف حكم التجارب الفردية‪ ،‬ولو تم تدوين هذه ال ُّطرق ثم تم تجربتها بشكل أعم‬
‫وأضخم على عدد أكرب من الممسوسين؛ فإنه بال شك سنصل إلى المفيد والجيد من هذه ال ُّطرق‪،‬‬
‫وسنعرف كيف نصنفها وننظمها‪.‬‬

‫المناعة‪:‬‬

‫قال عثمان ﭬ بعد عالج رسول اهلل ﷺ له‪« :‬فلعمري ما أحسبه خالطني بعد»‪ ،‬قلت‪ :‬وكيف‬
‫يمكن لشيطان أن يعتدي على عثمان بن أبي العاص ﭬ وقد دخل ريق رسول ﷺ يف جسده‬
‫واختلط بدمه‪ .‬ويقاس على ذلك إن كانت مناعة اإلنسان قوية ضد المس؛ فلن يمكنه الدُّ خول‪،‬‬
‫وتحديد المناعة موضوع اجتهادي يحتاج إلى بحث‪ ،‬هل هذه المناعة تعتمد على عبادة اإلنسان‬
‫وإيمانه؟ هل تزداد بتالوة القرآن أو بالحفاظ على األذكار واألدعية كما ينتشر بين الناس؟ وال شك‬
‫أن عثمان بن أبي العاص ﭬ كان من المحافظين على التالوة واألذكار‪ ،‬وال شك أن إيمانه ال‬
‫يمكن مضاهاته بإيمان أي أحد دون الصحابة ﭬ‪ ،‬إال أن ذلك لم يمنع المس من الدُّ خول إلى‬
‫فريت إيذاء رسول اهلل‬ ‫عثمان ﭬ‪ ،‬بل إن المس كان يؤذيه يف صالته أثناء تأديته لها‪ .‬وقد حاول ع ٌ‬
‫ك(‪َ )1‬ع َلي ا ْل َب ِ‬
‫ار َحةَ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جن َج َع َل َي ْفتِ ُ‬
‫ﷺ وهو يصلي ليقطع عليه صالته‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إِ َّن ِع ْفرِيتًا ِم َن ا ْل ِ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬الفتك‪ :‬األخذ يف غفلة وخديعة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪305‬‬ ‫عالج املس‬

‫ار َي ٍة ِم ْن‬‫ْب َس ِ‬
‫ت َأ ْن َأ ْربِ َط ُه إِ َلى َجن ِ‬‫الص ََلةَ‪َ ،‬وإِ َّن اللَ َأ ْم َكنَنِي ِمنْ ُه َف َذ َع ُّت ُه(‪َ ،)1‬ف َل َقدْ َه َم ْم ُ‬ ‫ِ‬
‫ل َي ْق َط َع َع َل َّي َّ‬
‫ان‪:‬‬‫ون ‪َ -‬أ ْو ُك ُّلك ُْم‪ُ -‬ث َّم َذك َْر ُت َق ْو َل َأ ِخي ُس َل ْي َم َ‬
‫ون إِ َل ْي ِه َأ ْج َم ُع َ‬
‫ج ِد‪َ ،‬حتَّى ت ُْصبِ ُحوا َتنْ ُظ ُر َ‬ ‫َس َو ِاري الم ْس ِ‬

‫اسئًا»(‪ ،)2‬ويف رواية أخرى‪َ « :‬قا َم‬ ‫ﱡﭐﲛﲜ ﲝﲞﲟﲠﲡﲢﲣﲤﲥﱠ[ص‪َ ،] 35 :‬فرده الل َخ ِ‬
‫َ َّ ُ ُ‬
‫ُك بِ َل ْعن َِة اللِ» َث ََل ًثا‪َ ،‬و َب َس َط َيدَ ُه ك ََأ َّن ُه‬ ‫«أ ُعو ُذ بِالل ِ ِمن َ‬
‫ْك» ُث َّم َق َال َ‬
‫«أ ْل َعن َ‬ ‫ول الل ِ ﷺ َف َس ِم ْعنَا ُه َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ك‬ ‫الص ََل ِة َش ْيئًا َل ْم ن َْس َم ْع َ‬ ‫ول في َّ‬
‫َاك َت ُق ُ ِ‬ ‫ول الل ِ َقدْ َس ِم ْعن َ‬ ‫الص ََل ِة ُق ْلنَا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ِ‬
‫َي َتن ََاو ُل َش ْيئًا‪َ ،‬ف َل َّما َف َر َغ م َن َّ‬
‫َار لِ َي ْج َع َل ُه‬
‫اب ِم ْن ن ٍ‬ ‫يس‪َ ،‬جا َء بِ ِش َه ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك‪َ ،‬و َر َأ ْين َ‬ ‫َت ُقو ُل ُه َق ْب َل َذلِ َ‬
‫ت َيدَ َك‪َ ،‬ق َال‪-‬ﷺ‪« :-‬إِ َّن َعدُ َّو الل إِ ْبل َ‬ ‫َاك َب َس ْط َ‬
‫ُك بِ َل ْعن َِة الل ِ الت ََّّام ِة‪َ ،‬ف َل ْم َي ْست َْأ ِخ ْر‪،‬‬‫ت‪َ :‬أ ْل َعن َ‬ ‫ث مر ٍ‬
‫ات‪ُ ،‬ث َّم ُق ْل ُ‬ ‫ْك‪َ ،‬ث ََل َ َ َّ‬ ‫ت‪َ :‬أ ُعو ُذ بِالل ِ ِمن َ‬ ‫فِي َو ْج ِهي‪َ ،‬ف ُق ْل ُ‬
‫ب بِ ِه ِو ْلدَ ُ‬
‫ان َأ ْه ِل‬ ‫ات‪ُ ،‬ث َّم َأ َر ْد ُت َأ ْخ َذ ُه‪َ ،‬والل ِ َل ْو َال َد ْع َو ُة َأ ِخينَا ُس َل ْي َم َ‬
‫ان َألَ ْص َب َح ُمو َث ًقا َي ْل َع ُ‬
‫ث مر ٍ‬
‫َث ََل َ َ َّ‬
‫ا ْل َم ِدين َِة»(‪ ،)3‬وقد اجتمعت يف هذه الحادثة ثالث فضائل‪ ،‬لكنها لم تمنع العفريت من محاولة‬
‫األذية‪ ،‬ففضل المكان وهو مسجد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وفضل العبادة وهي صالة الفريضة جماعة مع‬
‫ما فيها من قراءة للقرآن‪ ،‬وفضل من حاول العفريت أذيته وهو رسول اهلل ﷺ وكان إما ًما يف‬
‫الصالة‪ ،‬ولم يستأخر الشيطان برغم من تعوذ رسول اهلل ﷺ منه ولعنه إياه‪.‬‬

‫وسئل الشيخ ابن عثيمين ‪ $‬عن الجمع بين األحاديث التالية‪:‬‬

‫وم ِه»(‪.)4‬‬
‫يت ع َلى َخي ُش ِ‬
‫ْ‬ ‫ان َيبِ ُ َ‬ ‫َام ِه َفت ََو َّض َأ َف ْل َي ْس َتنْثِ ْر َث ََل ًثا‪َ ،‬فإِ َّن َّ‬
‫الش ْي َط َ‬ ‫‪« -1‬إ َذا اس َتي َق َظ ُأراه َأحدُ كُم ِمن من ِ‬
‫َ ُ َ ْ ْ َ‬ ‫ْ ْ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬فذع ُّته‪ :‬خنقته‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم «‪»541‬؛ كتاب «المساجد ومواضع الصالة»؛ باب «جواز لعن الشيطان في أثناء الصالة‪ ،‬والتع ُّوذ منه وجواز العمل‬
‫القليل في الصالة»‪.‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»3121‬؛ كتاب «بدء الخلق»؛ باب «صفة إبليس وجنوده»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪306‬‬

‫‪« -2‬إذا أويت إلى فراشك‪ ،‬فاقرأ آية الكرسي‪ :‬ﱡﭐﲓﲔﲕﲖﲗﲘﲙﱠ [البقرة‪ ،]255 :‬حتى‬
‫ان حتى تصبح»(‪.)1‬‬ ‫تختم اآلية‪ ،‬فإنك لن يزال عليك من اهلل حاف ٌظ‪ ،‬وال يقربنك شيط ٌ‬
‫ان‪َ :‬ال َمبِ َ‬
‫يت َلك ُْم‪َ ،‬و َال‬ ‫الر ُج ُل َب ْي َت ُه‪َ ،‬ف َذك ََر اللَ ِعنْدَ ُد ُخولِ ِه َو ِعنْدَ َط َع ِام ِه‪َ ،‬ق َال َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬ ‫‪« -3‬إِ َذا َد َخ َل َّ‬
‫َع َشا َء»(‪.)2‬‬

‫فأجاب ‪« :$‬الجمع بين هذه األحاديث أنه ال يقربه قرب ضرر»(‪ ،)3‬ومعنى كالمه ‪ $‬أن‬
‫الشيطان قد يقرب من اإلنسان رغم قراءته آلية الكرسي قبل نومه‪ ،‬ولكن ال يستطيع أن يضره‪ ،‬لذا‬
‫فإن القول بأن «قراءتك لألذكار والتحصينات والقرآن تمنع عنك جز ًما الجن واألمراض‬
‫الروحية»‪ ،‬أراه ً‬
‫قوال غير دقيق وبحاجة إلعادة النظر فيه‪ ،‬وللوصول إلى النتائج الصحيحة فإنه ال بد‬ ‫ُّ‬
‫الروحية واألمراض الجسدية‬
‫من جمع جميع النُّصوص الثابتة فيما يتعلق بأذية الجن واألمراض ُّ‬
‫األخرى‪ ،‬ثم النظر والتحقيق فيها جمي ًعا ممن لديه األهلية لذلك‪.‬‬

‫أم أن المناعة تعتمد على الجسد وصحته؟ وقد الحظت أن بعض العالجات التي ينصح هبا‬
‫الرقاة تؤدي إلى تنشيط الغدد الليمفاوية‪ ،‬فهل يكون النظام الليمفاوي هو جهاز المناعة ضد الجن‬
‫ُّ‬
‫أيضا؟ وبعضهم يعطي ما يصفي الدم وينشطه‪ ،‬وبعضهم ينصح بالجري والرياضة‪ ،‬فالمسألة تحتاج‬
‫ً‬
‫كما ذكرت إلى بحث وتجارب‪ ،‬وكما نقول‪ :‬إن العقل السليم يف الجسم السليم‪ ،‬فحينئذ يمكننا‬
‫القول بأن الجن الفاسد يف الجسم الفاسد‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تم ذكر الحديث بكامله يف صفحة ‪.203‬‬
‫(‪ )2‬تم ذكر الحديث بكامله يف صفحة ‪.198‬‬
‫(‪ )3‬الكنز الثمين يف سؤاالت ابن سنيد البن عثيمين؛ لفهد السنيد؛ السؤال الثالث والعشرون؛ صفحة ‪ .11‬وتم تغيير بعض ألفاظ‬
‫األحاديث يف السؤال بما يتفق مع اللفظ الوارد‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪307‬‬ ‫عالج املس‬

‫أم يجب الجمع بين المناعة اإليمانية والجسدية؟ أم هي الهالة التي حول الجسم كما يدعي‬
‫من تعلمها وامتهن عالجها‪ ،‬ال نستطيع الجزم بشيء حتى نبحث الموضوع بتفصيل دقيق‪.‬‬
‫َان جنْح ال َّلي ِل‪َ ،‬أو َأمسيتُم‪َ ،‬ف ُك ُّفوا ِصبيا َنكُم‪َ ،‬فإِ َّن َّ ِ‬
‫ين‬ ‫الش َياط َ‬ ‫َْ ْ‬ ‫ْ ْ َ ْ ْ‬ ‫ولقد قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َذا ك َ ُ ُ ْ‬
‫ان‬ ‫اب َوا ْذك ُُروا ْاس َم اللِ‪َ ،‬فإِ َّن َّ‬
‫الش ْي َط َ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم‪َ ،‬ف َأغْل ُقوا األَ ْب َو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍِ‬
‫َتنْتَش ُر حينَئذ‪َ ،‬فإِ َذا َذ َه َ‬
‫ب َسا َعة م َن ال َّل ْي ِل َف ُح ُّل ُ‬
‫َال َي ْفت َُح َبا ًبا ُم ْغ َل ًقا‪َ ،‬و َأ ْوكُوا قِ َر َبك ُْم َوا ْذك ُُروا ْاس َم اللِ‪َ ،‬و َخم ُروا آنِ َي َتك ُْم َوا ْذك ُُروا ْاس َم اللِ‪َ ،‬و َل ْو َأ ْن‬
‫ِ‬
‫ذيرا من الخروج من البيت‬ ‫َت ْع ُر ُضوا َع َل ْي َها َش ْيئًا‪َ ،‬و َأ ْطفئُوا َم َصابِ َ‬
‫يحك ُْم» ‪ ،‬ونجد يف هذا الحديث تح ً‬
‫(‪)1‬‬

‫منذ غروب الشمس إلى قبيل العشاء‪ ،‬لكن هذا التحذير خص األطفال دون الكبار‪ ،‬فأمر ﷺ الكبار‬
‫أي تحذير إلى‬
‫باالنتباه لألطفال وعدم جعلهم يخرجون يف هذا الوقت من المسكن‪ ،‬لكن لم يوجه ُّ‬
‫الكبار من الخروج يف هذا الوقت‪ ،‬ويحتمل لهذا التفريق عدة أسباب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬لعل المناعة الجسدية والصحية يف األطفال ضد الجن أضعف من مناعة الكبار‪.‬‬
‫‪ -2‬يوجد احتمال كبير أن يؤذي الطفل الشيطان بال شعور منه‪ ،‬وذلك بسبب حركاته الكثيرة‬
‫والطائشة‪ ،‬فيكون عرضة النتقام الشياطين منه‪.‬‬
‫‪ -3‬قد يقول قائل‪ :‬إن السبب هو أن الكبار قادرون على تحصين أنفسهم‪ ،‬بينما األطفال ال‬
‫صحيحا لكان المطلوب تحصينهم باألذكار‬
‫ً‬ ‫يستطيعون‪ ،‬ويمكن أن يرد على هذا أنه لو كان‬
‫عند المغرب وليس حبسهم يف البيت‪.‬‬

‫لكن الحديث حت ًما يد ُّل أن هناك فر ًقا بين الكبار والصغار يف المناعة ضد الجن‪ ،‬لكن ال‬
‫نستطيع الجزم بما هو السبب الصحيح لذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪ .‬ولعل الحديث كذلك قد يد ُّل على أن‬
‫المناعة تتكون من العبادات ومن الماديات م ًعا‪ ،‬وإصالح الواحد دون اآلخر ال يوفر المناعة‪،‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»5300‬؛ كتاب «األشربة»؛ باب «تغطية اإلناء»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪308‬‬

‫فمثال طلب رسول اهلل ﷺ طلبين اثنين حتى نمنع الشيطان من الدُّ خول؛ أن نغلق الباب‪ ،‬وأن نذكر‬
‫ً‬
‫اسم اهلل‪ ،‬فاجتمع السبب المادي مع التسمية‪.‬‬

‫ِعَلج أيوب ڠ‪:‬‬

‫ذكرت يف الفصل السابق أن أيوب ڠ كان مرضه نو ًعا من المس الخارجي‪ ،‬فوجهه اهلل ‪‬‬
‫إلى العالج النافع له‪ ،‬فقال ‪ :‬ﱡﭐ ﳙ ﳚﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﱠ [ص]‪ ،‬نستفيد من هذا‬
‫التوجيه الرباين ثالثة طرق أخرى‪ ،‬فنكمل ال ُّطرق التي سبقت بما يلي‪:‬‬

‫الطريقة الرابعة‪ :‬الركض بالرجل والهرولة‪ ،‬ويدخل يف هذا الباب التمارين الرياضية‪ ،‬والحفاظ‬
‫على اللياقة البدنية‪ ،‬فكلما كان الجسم صحيا صعب على الجن أذيته‪.‬‬

‫الطريقة الخامسة‪ :‬االغتسال بالماء البارد‪ ،‬ويقاس عليه كذلك االغتسال بكل ما يؤذي الجن‬
‫والشياطين من ماء مقروء عليه‪ ،‬أو مخلوط بأعشاب‪ ،‬أو معطر‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫الطريقة السادسة‪ :‬شرب الماء‪ ،‬ونالحظ أن لفظة الشراب جاءت خالي ًة من صفة البرودة‪،‬‬
‫ب األصيل أن الماء المشروب يجب أن يكون‬
‫وإنما صفة البرودة جاءت لالغتسال‪ ،‬ويرى الط ُّ‬
‫عروف أنه مشك ٌل لمعظم الجسم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بدرجة حرارة الغرفة من دون تبريد يف الثالجة‪ ،‬والماء م‬

‫ﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓﲔ ﲕ ﲖ ﱠ [األنبياء‪ ،] 30 :‬طب ًعا يدخل يف هذا الباب شرب كل ما‬


‫يجلب للجسم الصحة‪ ،‬ويؤذي الجن ويطرده‪.‬‬

‫طرق أخرى‪:‬‬

‫الرقاة والمعالجين‪ ،‬والقاعدة أن كل طريقة‪ ،‬قديمة أو مستحدثة‪ ،‬ليس‬


‫تتنوع طرق أخرى لدى ُّ‬
‫فيها ش ٌ‬
‫رك وال محر ٌم؛ فإنها مباحة ما دام قد ثبت نفعها وفائدهتا يف إخراج المس وإبعاده عن‬
‫الجسم‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪309‬‬ ‫عالج املس‬

‫ولما سئل الشيخ ابن عثيمين ‪ $‬عن استعمال الذئب يف عالج من به ج ٌّن؛ أجاب بقوله‪« :‬إذا‬
‫كان مجر ًبا فال بأس به»(‪.)1‬‬

‫ب األصيل أن التخ ُّلص من الطبائع الزائدة وكل مسببات األمراض يرفع مناعة‬
‫ويرى الط ُّ‬
‫اإلنسان ضد كل شيء بما فيه الج ُّن‪ ،‬مما يؤدي إلى خروج المس من جسد الممسوس‪ .‬ويف الطب‬
‫الصيني نقاط يف الجسد خاص ٌة للمس الداخلي ”‪ ،“Internal Demon‬وأخرى للمس الخارجي‬
‫”‪ “External Demon‬كذلك نقاط الشبح ”‪ ،“Ghost Points‬يقال‪ :‬إن معالجتها باإلبر الصينية‬
‫أو ال ُّطرق البديلة يخرج المس من الجسم‪ ،‬وإثبات ذلك يحتاج إلى بحث وتقص‪.‬‬

‫وإن زعم زاع ٌم أن لديه إمكانية صنع جهاز يستشعر الجن‪ ،‬فال مانع شرعي من ذلك كما‬
‫ذكرت يف فصل «الجن»‪ ،‬وإن زعم زاع ٌم أن لديه إمكانية صنع جهاز يستكشف مكان الجن داخل‬
‫أي مانع‬
‫الجسد‪ ،‬أو يخرج الجن من الجسد‪ ،‬أو يؤذي الجن أو يقتله أو يؤثر عليه‪ ،‬فليس هناك ُّ‬
‫عقال؛ فإن عليه أن يقدم الدليل القويم والبرهان الواضح؛ إلثبات‬
‫شرعي يف ذلك‪ ،‬لكن ليثبت ذلك ً‬
‫ما زعم وصنع‪ ،‬وذلك يف كل حاالت االفتراض السابقة‪.‬‬

‫________________‬
‫وأوردت اإلجابة لبيان إباحة ما يثبت فائدته‬
‫ُّ‬ ‫(‪ (1‬الكنز الثمين يف سؤاالت ابن سنيد البن عثيمين؛ السؤال رقم ‪695‬؛ صفحة ‪،150‬‬
‫بالتجربة‪ ،‬ال القتناعي بفائدة الذئب يف العالج‪ ،‬فمع أنني سمعت أقاويل كثيرة بأسانيد مقطوعة عن من تعالج من المس بالذئب أو‬
‫بجلده‪ ،‬إال أنني لم أقف بنفسي على ذلك‪ ،‬بل رأيت بنفسي شخصًا ممسو ًسا مرب ًيا لذئب عند يف مزرعته‪ ،‬ولم يؤثر ذلك على المس‬
‫بأي شيء‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪310‬‬
‫‪311‬‬ ‫االستعانة باجلن‬

‫االستعانة بالجن‬

‫من األمور التي ذاعت وانتشر الخالف فيها حكم االستعانة بالجن فيما يقدرون عليه‪ ،‬خاص ًة‬
‫الرقية‪ ،‬وال يوجد نص صريح واضح يمنع ذلك‪ ،‬لكن ذهب بعض العلماء فيها‬
‫يف مسألة العالج و ُّ‬
‫إلى المنع مطل ًقا‪ ،‬وبعضهم إلى الجواز واإلباحة مع التفصيل(‪ .)1‬لكن القول بالمنع هو قول حكيم‪،‬‬
‫ومن ذهب إلى المنع فإنهم فعلوا ذلك بعد أن آتاهم اهلل عل ًما وحكم ًة وبصيرةً‪ ،‬وهم لم يأتوا هبذا‬
‫الرأي اعتبا ًطا؛ بل إن علمهم الوفير الذي أعطاهم اهلل من علوم الشريعة والحياة والتاريخ المقرتن‬
‫بالخربة والتجارب‪ ،‬فرض عليهم أن يمنعوا ذلك‪ ،‬آخذين الرؤية بمنظار واسع وعينين مبصرتين‬
‫تريان كل الجوانب‪ ،‬وبنظرة شمولية ترى ما خفي وما بان‪ ،‬ودر ًءا للمفاسد واألضرار‪.‬‬

‫وخير لفعله رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ولفعله الصحابة والسلف‬


‫ٌ‬ ‫ولو كان يف االستعانة بالجن فائد ٌة‬
‫الصالح ﭫ‪ .‬وإخواننا من الجن المسلمين مستعدُّ ون أن يفدوا بأنفسهم وأموالهم وأهليهم‬
‫رسول اهلل ﷺ وصحابته ﭫ‪ .‬لكن لم يرد أبدً ا بتا ًتا أنه تمت االستعانة هبم ال يف العالج وال يف‬
‫الدعوة إلى اهلل بين اإلنس وال يف جهاد وقتال المشركين أو التجسس عليهم وال غير ذلك‪.‬‬

‫وقد مررت بنفسي بتجارب مع رقاة صالحين ال أطعن يف إخالصهم وأخالقهم‪ ،‬زعموا أن‬
‫معهم جنا صالحين يد ُّلوهنم على التشخيص والعالج‪ ،‬ولكنهم بعد عرض الحاالت عليهم؛ لم‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬مثل قول ابن تيمية ‪« :$‬ومن كان يستعمل الجن يف أمور مباحة له‪ ،‬فهو كمن استعمل اإلنس يف أمور مباحة له»‪ ،‬مجموع الفتاوى؛‬
‫فصل «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»؛ فصل «الجن مع اإلنس على أحوال»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪312‬‬

‫يعرفوا الداء الصحيح‪ ،‬ولم ينجحوا يف التشخيص والعالج‪ ،‬ألنهم مجرد ناقلي كالم‪ ،‬ينقلون ما‬
‫الرقاة طيبون جدا يف‬
‫يخبرهم الج ُّن‪ ،‬وال يستطيعون التأكُّد من صحة الكالم‪ .‬وكثيرون من هؤالء ُّ‬
‫طبيعتهم ونواياهم لدرجة أنهم يقعون بأسهل ما يكون يف خداع اإلنس‪ ،‬فما بالك بخداع الجن؟‬
‫فكم من مريض أضاع وقته مع مثل هؤالء‪ ،‬وكم من مستعين بالجن أجر عقله للجن‪ ،‬وصدق كل ما‬
‫يقولون‪ .‬وكم من مسحور ذهب إليهم وما زال سحره وال طاب‪ ،‬وكم من معيون ما زاد من هؤالء‬
‫وألما‪.‬‬
‫إال وج ًعا ً‬

‫السؤال عنه وعن علمه وخربته‪،‬‬


‫واألعجب أنه ال يمكنك أن تثق بمن تراه من اإلنس إال بعد ُّ‬
‫وتطالبه بالتزكيات من غيره حتى تثق به‪ ،‬فكيف يمكنك أن تستعين وتثق بمن زعم لك أنه ج ٌّن‬
‫السؤال عنه‪ .‬فأنت ال تذهب إلى طبيب إال‬
‫خبير‪ ،‬وأنت ال تعرف أن تميزه وال تستطيع ُّ‬
‫ٌ‬ ‫صال ٌح‬
‫السؤال عنه‪ ،‬وال تذهب‬
‫وتعرف أين درس وكيف اشتغل‪ ،‬وال تذهب إلى مهندس سيارات إال بعد ُّ‬
‫إلى خياط حتى تسمع المديح يف خياطته‪ ،‬فكيف تذهب إلى شخص يعتمد كليا على جن لم‬
‫يرهم؟! وأنت ال تعلم أي شيء عن هؤالء الجن‪ ،‬وال يمكنك أن تعلم أبدً ا‪ ،‬والقاعدة أن خرب‬
‫اإلنسي المجهول ال يقبل‪ ،‬فما بالك بخبر الجني الذي ال يمكنك أن تتأكد عنه شي ًئا‪.‬‬

‫ومن أغرب الغرائب إذا سألت المستعين بالجن كيف عرفت أن من يخدمك ج ٌّن صالحون‬
‫استفدت منهم من قبل‪ ،‬أو‪ :‬إنهم يعينوين على‬
‫ُّ‬ ‫وماهرون‪ ،‬لن تجد عنده جوا ًبا شاف ًيا‪ ،‬قد يقول‪ :‬إنني‬
‫دليال على صالح‬
‫التقرب إلى اهلل‪ ،‬أو‪ :‬إنهم أخربوين ذلك بأنفسهم‪ .‬كل هذا ليس ً‬
‫أمور دينية‪ ،‬وعلى ُّ‬
‫أو مهارة‪ ،‬قد يكون مخادعة يف البداية لينجذب إليهم المستعين‪ ،‬وهذا يحصل من كثير من اإلنس‬
‫حينما تتعرف عليه أول مرة‪ ،‬فإنه يخدمك ويسعى معك حتى إذا استولى على قلبك وثقتك؛ يبدأ‬
‫بخداعك والكذب عليك‪ .‬وقد ذكر العلماء ساب ًقا عن طريق الخربة أن الشياطين قد تصرفك من‬
‫عبادة أهم وأولى إلى عبادة أقل أهمية وأولوية‪ ،‬فقد يصرفك عن بر والديك إلى القيام بنوافل ال‬
‫ترقى يف أهميتها وال ثواهبا إلى بر الوالدين‪ ،‬وهكذا قد يصرفك عن واجب متحتم عليك فعله إلى‬
‫‪313‬‬ ‫االستعانة باجلن‬

‫مستحب غير واجب عليك‪ ،‬فتأثم بترك الواجب أكثر مما تكسبه من عمل المستحب هذا‪ ،‬وقد‬
‫يصرفك عن عالج جذري إلى عالج مؤقت‪.‬‬

‫وقد سمعنا عن أناس يساعدهم بعض الجن فيحضرون له السحر بعد استخراجه‪ ،‬ولو كان‬
‫صحيحا لكانت المالئكة أقدر على إحضار سحر النبي ﷺ وإبطاله‪ ،‬ولكنه لم يقدر لهم أكثر‬
‫ً‬ ‫هذا‬
‫من تشخيص مرضه ﷺ‪ ،‬ولم يستعن رسول اهلل ﷺ بالجن يف ذلك‪ .‬ومن فعل خالف هديه ﷺ‬
‫فقد أضاع وقته وماله بال فائدة‪ ،‬بل ربما يكون يف طريقه لضياع دينه أعاذنا اهلل من ذلك‪ ،‬ولقد‬
‫جلست مع أحد هؤالء فأحضر شي ًئا ادعى أنه السحر الذي على المريض‪ ،‬وتأكدت أنه ليس‬
‫والسنن والقوانين الكونية‪ ،‬وصحبتهم يجب الحذر‬
‫ُّ‬ ‫ف للفطرة‬
‫كذلك‪ .‬فاالستعانة بالجن مخال ٌ‬
‫لوه من الصحة‬
‫منها‪ .‬وما يدعيه الج ُّن من إحضار األسحار فهو كذب ودجل قد ثبت لنا بالتجربة خ ُّ‬
‫والصدق‪ ،‬فهم ال يحضرون السحر الحقيقي‪ ،‬بل يكذبون على من استعان هبم ويخدعونه‪،‬‬
‫ويحضرون له أشياء أخرى يدعون أنها السحر المطلوب‪ .‬ولم أر إلى اآلن رج ًال مستعينًا بالجن‬
‫أخبره الج ُّن بالمكان الصحيح ألسحار المرضى‪ ،‬وإنما أكثر ما يفعله الج ُّن هو مواجهة المس‬
‫الموجود يف داخل المريض‪ ،‬إما بمحاربته وطرده‪ ،‬أو بمفاوضته واالتفاق معه‪ ،‬وطرد المس من‬

‫دائما كما ذكرت ساب ًقا‪ ،‬ويستطيع ُّ‬


‫المس العودة يف أي لحظة يشاء‪،‬‬ ‫دون إغالق المداخل ليس حال ً‬
‫وهذا الذي يحصل مع أغلب المرضى الذين يذهبون إلى من يستعين بالجن‪ ،‬وقد مر معنا يف‬
‫الحديث عن عائشة ڤ لما سحرت؛ أن المستعين بالجن لما قام بتشخيص مرضها لم تأخذ‬
‫بقوله مباشرة‪ ،‬وإنما سألت الجارية أو ًال ڤ لتتأكد‪ ،‬ومر كذلك أن هذا المستعين لم يتمكن من‬
‫عالجها‪.‬‬

‫ملحوظات هامة‪:‬‬
‫صيب من الخربة‬
‫‪ -1‬ال يعني ما سبق أننا ننكر وجود إخوة من الجن مسلمين صالحين‪ ،‬ولهم ن ٌ‬
‫والعلم يف معرفة الداء والعالج الصحيح‪ ،‬لكن المشكلة أنك كيف تتأكد أنك تتعامل مع مثل‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪314‬‬

‫هؤالء‪ ،‬بل المصيبة األدهى هي أن الشياطين دو ًما ترسل أفرادها ليغووا البشر ويبعدوهم عن‬
‫قديما‬
‫ً‬ ‫دينهم‪ ،‬وقصصهم مع الصالحين ومع غيرهم لإلفساد واإلضرار معلوم ٌة ومشهور ٌة‬
‫وحدي ًثا(‪ ،)1‬فكيف تميز الصالح والخبيث منهم؟ ودو ًما ينطبق عليهم المثل «يتمسكن حتى‬
‫يتمكن»‪ ،‬فيبدأ بعرض خدماته مجا ًنا لوجه اهلل‪ ،‬ويدعي أنه يح ُّبك يف اهلل ويريد عمل الخير لك‬
‫وللمسلمين‪ ،‬ويريد أن يتعاون معك على البر والتقوى؛ بينما هو يف الحقيقة يخطط كيف‬
‫يبعدك عن الدين‪ ،‬ويجعلك تقع يف الشرك والكفر‪ ،‬أو ترتكب إفسا ًدا وفتنًا بين الناس‪ ،‬أو على‬
‫األقل كيف تضيع وقتك فيما ال يفيدك‪ ،‬وذلك بخطة محبوكة محفوظة مكررة طويلة األجل‬
‫واألمد‪ ،‬نجحت مع أناس كثيرين جدا جدا عبر التاريخ‪ .‬كما لو أننا افترضنا أنك تعرفت على‬
‫عال وحقيق ًة‪ ،‬ثم قتل وأصبح يأتيك مكانه آخر فاسد؛ فهل سيمكنك التفريق‬
‫جني صالح ف ً‬
‫بينهما؟ يف زماننا هذا ال يمكنك أن تأمن شياطين اإلنس‪ ،‬وقل أن تجد اآلن إنسا ًنا يشار إليه‬
‫كثير من البشر النصب واالحتيال باحتراف ومهارة‪ ،‬فيقابلك‬
‫بالصدق واألمانة‪ ،‬وامتهن ٌ‬
‫الصدفة جمعته بك‪ ،‬ويقول لك‪ :‬أنا أحببتك وأريد أن أدخل معك كشريك‪،‬‬
‫شخص يدعي أن ُّ‬
‫ٌ‬
‫أو أريدك أن ترحمني وتجعلني أعمل عندك وأخدمك‪ ،‬حتى إذا تمكن من موقعه ووثقت به‬
‫ثقة عمياء؛ ضرب ضربته الشريرة وسرقك‪ ،‬بل وحملك مسائل مالية وقانونية قد تودي‬
‫بحياتك؛ هذا وهو شيطان إنسي كنت تظنُّه مسكينًا أمينًا صاحب قلب أبيض وفاعل خير‪ ،‬فهل‬
‫من الممكن أن تصاحب جنا ال يمكن تمييزه وتدعي أنه مسكي ٌن أمي ٌن صاحب قلب أبيض‬
‫وفاعل خير؟‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬من أفضل ما كتب يف ذلك كتاب «تلبيس إبليس» البن الجوزي ‪ ،$‬وممن تكلم ووضح من المعاصرين الشيخ التائب حامد آدم‪،‬‬
‫وله محاضرات مرئية على الشبكة العنكبوتية‪.‬‬
‫‪315‬‬ ‫االستعانة باجلن‬

‫بعضا من الصالحين الذي ال يعرف عنك شي ًئا يصبح فجأ ًة يعرف عنك كل‬
‫كثيرا أن ً‬
‫‪ -2‬يحصل ً‬
‫شيء‪ ،‬ويظنُّها كرامة من عند اهلل‪ ،‬كما تظنُّها أنت كرام ًة وعالمة والية وإشار ًة لتصديق كل ما‬
‫يقول‪ ،‬والحقيقة أن ما يحصل هو أن قرينك الذي معك يعرف عنك كل شيء منذ والدتك‪،‬‬
‫ويمكنه التحدُّ ث مع من شاء من الجن‪ ،‬فيقوم هؤالء الج ُّن الذين تكلموا مع قرينك‬
‫بالوسوسة إلى الرجل الصالح بما عرفوه عنك من غير أن يطلب منهم‪ ،‬ومن دون أن يعرفهم‪.‬‬
‫فتظنُّون جمي ًعا أنها إلهام وكرامة من اهلل ‪-‬والج ُّن حولكم يضحكون‪ ،‬ويقولون‪ :‬ما أغبى القوم‬
‫صالحا يف الحقيقة يخدعك‬
‫ً‬ ‫وأجهلهم؛ هيا لنجرب غيرهم(‪ .-)1‬وقد يكون من تراه وليا‬
‫بمظهره وأخالقه‪ ،‬ويتقرب إلى الجن والشياطين بشركيات يطلبوهنا منه‪ ،‬ثم يحدثونه بكل ما‬
‫قاله قرينك لهم‪.‬‬
‫‪ -3‬كما رأينا يف فصل سابق عن المستعين بالجن حين أراد إيجاد من سحر عائشة ڤ فنعت‬
‫فمثال إذا أراد‬
‫الجارية ولم يذكر اسمها‪ ،‬وهذا من باب التضخيم اإلعالمي الذي يمارسونه‪ً ،‬‬
‫إخبارك أنك أصبت بعين من أخيك‪ ،‬فإن الجن ال يأيت ويخبرك باسم أخيك مباشرة‪ ،‬وإنما‬
‫مثال‪ :‬شخص قريب له عالقة‬
‫تنفتح شهيته للدردشة معك‪ ،‬فيقول معلومات صحيحة ً‬
‫بوالديك‪ ،‬كذلك له عالقة بجدك وجدتك‪ ،‬ويسكن يف نفس الحي‪ ،‬بل يسكن بيتك‪ ،‬ومتي ٌن أو‬
‫حيف‪ ،‬تشاجرت معه يف صغرك‪ ،‬طوله كذا ولونه كذا‪ ،‬وهكذا يصف أخاك بالدقة ليوهمك‬
‫ن ٌ‬
‫أن لديه معلومات مفصلة‪ ،‬وإذا أراد إخبارك بمكان السحر فإنه يحوم ويدور‪ ،‬فيقول واص ًفا‬
‫صحيحا دقي ًقا ً‬
‫مثال‪ :‬عندكم شقة فيها ثالث غرف‪ ،‬على شارع رئيسي‪ ،‬فيها مصعدٌ جهة‬ ‫ً‬ ‫وص ًفا‬
‫الشرق‪ ،‬عندما تدخل البيت يكون الحمام على جهتك اليمين‪ ،‬ثم توجد غرفة جهة الغرب‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬قد يكون هذا لسان حالهم‪ ،‬وأما إن كان الج ُّن الذي ألقى الخرب من الصالحين بغرض المساعدة فقد أثم بفعله هذا إذ وقع يف التغرير‪،‬‬
‫وعليه أن يوضح أن ملقي الخبر ج ٌّن وليس اهلل ‪ ،‬تعالى اهلل ‪ ‬عن أفعالهم وأعمالهم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪316‬‬

‫فيها مجلس أبيض‪ ،‬عليه وسائد صفراء‪ ،‬وعليه نقش ورود‪ ،‬السحر مرشوش على هذا‬
‫المجلس‪ُّ ،‬‬
‫كل هذه الكلمات إلضاعة الوقت وإليهامك بغزارة علمه؛ بسبب دقة البيانات التي‬
‫أحضرها‪ ،‬بينما كان يكفيه من البداية أن يقول‪ :‬السحر مرشوش على المجلس يف بيتكم‪.‬‬

‫عمو ًما إذا أخربك الج ُّن من العائن‪ ،‬فال حرج لدفع الشك والريبة أن تأخذ من أثره‬
‫وتغتسل من دون إخبار العائن‪ ،‬ويمكنك اتباع ال ُّطرق األخرى لعالج العين‪ ،‬واقطع الشك‬
‫باليقين‪ ،‬فكالم الجن غير متيقن؛ يدخلك يف أوهام وخياالت وأفكار ال تستطيع الخروج‬
‫منها‪ ،‬وأخذ أثر العائن ثم االغتسال به قطع للوساوس واألفكار‪ ،‬فإن كان هناك بالفعل عين‬
‫منه؛ ذهبت وانتهت‪ ،‬وإن لم تكن هناك عين فلن تخسر شي ًئا‪ ،‬لكن ال تضيع وق ًتا أكثر من ذلك‬
‫مع الجن‪ .‬وإذا أخربك عن مكان سحر‪ ،‬فإن كان من المتيسر الوصول إليه؛ أبطله بال ُّطرق‬
‫المباحة‪ ،‬وأنه حالة الشك والحيرة‪ ،‬أما إذا كان المكان بعيدً ا عن مكان المسحور‪ ،‬فاعلم أن‬
‫الجن يكذب ويكذب ويكذب‪.‬‬

‫‪ -4‬لم يطلب رسول اهلل ﷺ يف حياته االستعانة من المالئكة‪ ،‬بل كانت مساعد ًة وعو ًنا من اهلل‬
‫يهبها له ﷺ‪ ،‬ولم يطلب الصحابة ﭫ كذلك االستعانة من المالئكة‪ ،‬لكن األعجب من‬
‫ناسا يدعون االستعانة بالمالئكة‪ ،‬ونسألهم كيف عرفتم أنهم‬
‫االستعانة بالجن أن تجد أ ً‬
‫مالئكة؟ على أي أساس ادعيتم هذا؟ لماذا ال يكونون جنا وشياطين تكذب عليكم‬
‫وتخدعكم‪ ،‬وتجعلكم تعيشون أوها ًما وأفال ًما ومغامرات ومسلسالت ال مخرج منها‪ ،‬ﱡﭐ‬

‫‪ ،]19‬ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ‬ ‫[الزخرف‪:‬‬ ‫ﲨﲪ ﲫﲬﱠ‬


‫ﲩ‬ ‫ﲧ‬

‫ﱖ‬
‫ﱗ‬ ‫ﱑﱓﱔ ﱕ‬
‫ﱒ‬ ‫ﱆﱇﱈﱉ ﱊﱋﱌﱍﱎﱏﱐ‬

‫ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱠ [سبأ‪ .]41 - 40 :‬هؤالء نطلب منهم ُّ‬


‫الرجوع إلى هدي الرسول ﷺ‬
‫وصحابته ﭫ‪ ،‬وننصحهم بعدم االنجرار إلى مزالق الشيطان وحزبه‪ ،‬كما نطالبهم باحترام‬
‫‪317‬‬ ‫االستعانة باجلن‬

‫المالئكة وتقديرهم‪ ،‬كما نطالبهم بعدم االفتراء على مالئكة اهلل وعدم التهوين من شأهنم‪،‬‬

‫فنعم العباد هم رفع اهلل قدرهم ﱡﭐﲸﲹﲺﲻﲼﲽﲾﲿﱠ [التحريم‪.]6 :‬‬

‫ُخَلصة ُحكم االستِعانة ِ‬


‫بالجن‪:‬‬

‫أرى أن األولى واألرجح هو عدم إجازة االستعانة بالجن‪ ،‬وذلك سدا للذرائع ودر ًءا‬
‫للمفاسد‪ ،‬وإن خالف شخص ما ذلك واستعان بالجن؛ فإن احتمال االستفادة منهم يف التشخيص‬
‫ضئيل جد ًا‪ ،‬حيث ناد ًرا جدا ما يوجدون أماكن بعض األسحار أو بعض العائنين‪ ،‬وغال ًبا يكذبون‪،‬‬
‫أما يف العالج فقد يخففون عن المريض مرضه بإبعاد المس عنه لفترة بسيطة‪ ،‬لكنهم ال يستطيعون‬
‫كبيرا أن ينجرف المستعين هبم إلى‬ ‫ً‬
‫احتماال ً‬ ‫دائما‪ ،‬كما أن هناك‬
‫عالج المريض عالجا جذريا ً‬
‫صح هو االتجاه لمعرفة ال ُّطرق‬
‫الكهانة أو العرافة وهو غير منتبه أو ال يدري‪ ،‬واألفضل واأل ُّ‬
‫البشرية‪ ،‬واألسباب الكونية للتشخيص والعالج‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪318‬‬
‫‪319‬‬ ‫العالج باحلروف واألوفاق‬

‫العَلج بالحروف واألوفاق‬

‫انتشر عند كثير من المسلمين عالج األمراض عن طريق علم الحروف واألوفاق‪ ،‬فتجدهم‬
‫يعطونك ورقة تحتوي على كلمات أو حروف أو أرقام داخل أشكال هندسية مثل المربع والنجمة‬
‫أو بدون هذه األشكال‪ ،‬ويدعون أنها عالج ناجع مفيد لألمراض‪ ،‬وقبل الحكم على استعمالها‬
‫يجب االنتباه إلى نقاط معينة‪:‬‬
‫‪ -1‬هذا العلم لم يأت عن طريق الوحي إلى رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ولم يثبت عن رسول اهلل ﷺ وال أحد‬
‫أي شيء منه ‪ ،‬وليس‬
‫من الصحابة ﭫ معرفتهم به أو استعماله‪ ،‬وال يوجد يف كتب الشريعة ُّ‬
‫أي عالقة بديننا القويم الواضح‪ ،‬وال يجوز أبدً ا نسبة هذا العلم إلى الشرع‪ ،‬وادعى البعض‬
‫له ُّ‬
‫َان َنبِ ٌّي‬
‫أن هذا العلم أنشأه نبي اهلل إدريس ڠ‪ ،‬واستد ُّلوا على ذلك بقول رسول اهلل ﷺ‪« :‬ك َ‬
‫اك»(‪ ،)1‬وهذا الحديث يتكلم عن الخط يف الرمال‪ ،‬ولم‬ ‫ِمن ْاألَ ْنبِي ِ‬
‫اء َيخُ ُّط‪َ ،‬ف َم ْن َوا َف َق َخ َّط ُه َف َذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يصرح الحديث باسم النبي الذي كان يخ ُّط‪ ،‬وال يمكن بأي حال ألي بشر أن يعلم طريقة‬
‫تخطيط ذلك النبي حتى يدعي موافقته‪ ،‬فاالدعاء أن علم الحروف أصله من نبي‪ ،‬أو أن الخط‬
‫والتقول على األنبياء كذ ًبا وبهتانًا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫يف الرمل اآلن موافق لخط ذلك النبي؛ إنما هو من االفتراء‬
‫وال أدري كيف يسهل على بعض المسلمين نسبة بعض األشياء إلى األنبياء عليهم السالم من‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»537‬؛ كتاب «المساجد ومواضع الصالة»؛ باب «تحريم الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحته»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪320‬‬

‫دون سند وال دليل صحيح‪ ،‬لكن إن عرفنا أنه قد هان عند البعض الكذب على أفضل الرسل‬
‫سيدنا محمد ﷺ؛ فالكذب على غيره من األنبياء يكون عنده أهون والعياذ باهلل‪.‬‬
‫‪ -2‬من تتبع المصدر لهذا العلم وجد أن كثيرين تعلموه عن طريق ما يسمى باألجسام الروحانية‪،‬‬
‫يعني من غير اإلنس‪ ،‬ويدعون أنها مالئكة تلهمهم هذا العلم وهتديهم‪ ،‬ويقولون هو من عند‬
‫خاص وصلهم من اهلل‪ ،‬تعالى اهلل ومالئكته عن هذا االفتراء والكذب‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫اهلل‪ ،‬فهو علم لدن ٌّي‬
‫والحقيقة أن من يدعون أنهم مالئكة هم ليسوا أكثر من شياطين يلبسون على عباد اهلل‬
‫ويخدعوهنم‪ ،‬وماذا تتوقع من الشيطان أن يعلمك؟ هل سيعلمك توحيد اهلل وعبادته أو السعي‬
‫يف مساعدة الناس وعالجهم؟ أم سيأمرك بما يس ُّر الشيطان ويسعده ويقودك إلى الكفر‬
‫والفسوق ومعصية الرحمن ونشر الفساد واألمراض بين الناس؟‬
‫‪ -3‬كثير ممن يستعمل هذه ال ُّطرق معروفون بالشعوذة والتعامل مع الجن واالنحراف عن العقيدة‬
‫والدين‪.‬‬
‫اعتما ًدا على ما سبق؛ فإن استعمال هذا العلم يدرأ ويمنع‪ ،‬ألن كون مصدره ال يقودك إال إلى‬
‫الشرك والفساد‪ ،‬ومن زعم أن مصدره ليس من الشيطان؛ فنقول له‪ :‬يمنع استعمال هذا العلم‬
‫للعالج لعدم وضوح كلماته وطرقه‪ ،‬وقد مر معنا ساب ًقا يف فصل «الرقية» كيف أن جميع العلماء‬
‫الرقية‪ ،‬واألحرف المقطعة والكلمات غير المفهومة واألشكال‬
‫اشترطوا الوضوح يف كلمات ُّ‬
‫أي وضوح‪ ،‬بل أشبه بالطالسم‪ ،‬وليس بعيدً ا أبدً ا أن تكون من الكفريات‬
‫المختلفة ليس فيها ُّ‬
‫والشركيات التي أمرنا رسول اهلل ﷺ باجتناهبا‪.‬‬
‫ملحوظات‪:‬‬
‫‪ -1‬بعضهم يكتب آيات من القرآن بطريقة غير التي أنزلها اهلل على رسوله ﷺ‪ ،‬فيكتبون اآلية‬
‫ناقصة الكلمات‪ ،‬أو مع تغيير ترتيب الكلمات يف اآلية أو األحرف‪ ،‬أو بإضافة أحرف أو‬
‫كلمات أخرى إلى هذه اآليات‪ ،‬ويدعون أن هذه من خصائص القرآن التي عرفوها بطرق‬
‫ب لمعانيه‪ ،‬بل‬
‫زوير له وقل ٌ‬
‫خاصة‪ ،‬والمتأمل يف هذا األمر يجد أنه تحريف لكالم اهلل وت ٌ‬
‫‪321‬‬ ‫العالج باحلروف واألوفاق‬

‫وازدراء لكالم اهلل وتحقير واستهانة له‪ ،‬وماذا عسى يفرح الشيطان أكثر من تحريف كالم اهلل؟‬
‫فنسأل هؤالء أن يتقوا اهلل ويخشوه‪ ،‬وأن يرتكوا تحريف كالم اهلل‪ ،‬وإن أرادوا العالج بكالم اهلل‬
‫الحق المبين الواضح الذي ال يأتيه‬
‫فليستعملوه كما أنزله اهلل ‪ ‬على رسوله ﷺ‪ ،‬فذلك هو ُّ‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬أما تحريفه وتزويره واالدعاء أن ذلك من خصائص القرآن‬
‫فر بالرحمن معاذ اهلل‪.‬‬
‫فهذا اتباع للشيطان وك ٌ‬
‫‪ -2‬قد يقول البعض‪ :‬إنه وجد كثير من العلماء عبر التاريخ يستعملون هذه ال ُّطرق المذكورة يف‬
‫صالحا تقيا‪ ،‬وغفر لهم وسامحهم‪ ،‬ونحن مكلفون بما‬
‫ً‬ ‫الفصل‪ ،‬فنقول‪ :‬رحم اهلل من كان منهم‬
‫دائما فهم الصحابة ﭫ ثم القرون المفضلة‪ ،‬ال فهم‬
‫نعرفه نحن‪ ،‬ال بما عرفه غيرنا‪ ،‬يقيدنا ً‬
‫غيرهم‪ ،‬وقد يفوت على األول ما يدركه اآلخر‪ ،‬نسأل اهلل أن يمن على الجميع بلطفه‬
‫ورحمته‪.‬‬
‫‪ -3‬قد يقول البعض‪ :‬إن علم األوفاق له قواعد معروفة مباحة‪ ،‬وفوائد جمة‪ ،‬وهو تحويل لجمل‬
‫واضحة إلى أرقام‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إن األرقام الناتجة حتى وإن كانت معروفة المعنى لمن كتبها فإنها ت ُّ‬
‫ظل غير‬ ‫ً‬
‫معروفة وال واضحة لكل من يراها ويقرؤها‪.‬‬
‫أيضا يستعملون نفس القواعد ليرتجموا جم ًال وكلمات شركية ويحولوهنا‬
‫ثان ًيا‪ :‬السحرة ً‬
‫إلى أرقام‪ ،‬فكيف يمكن للقارئ التمييز؟‬
‫ولذا أقول بمنعها مطل ًقا‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪322‬‬
‫ُ ُ‬
‫‪323‬‬ ‫التمائم واحلجب‬

‫والح ُجب‬
‫التمائم ُ‬

‫الحجاب هو‪ :‬عبارة عن أشياء مكتوبة يظ ُّن أنها تحجب المرض عمن يحملها‪ ،‬والتميمة هي‪:‬‬
‫أشياء تعلق على أجزاء من الجسم كالعنق مثل القالدة‪ ،‬أو تعلق على الحيوانات أو الجمادات؛‬
‫والشرور أو تعالجها‪ ،‬وقد جاءت عدة أحاديث تمنع التمائم‪،‬‬ ‫ويظ ُّن أنها تمنع وتقي من األمراض ُّ‬
‫وال وقال له‪َ « :‬ال َت ْب َق َي َّن فِي َر َق َب ِة َب ِعيرٍ‬ ‫مثل ما جاء يف موطأ اإلمام مالك أن رسول اهلل ﷺ أرسل رس ً‬
‫ت»‪ .‬قال يحيى‪ :‬سمعت مال ًكا يقول‪« :‬أرى ذلك من العين»(‪،)1‬‬ ‫قِ ََل َدة ِم ْن َو َترٍ‪َ -‬أ ْو قِ ََل َدة‪ -‬إِ َال ُقطِ َع ْ‬
‫يم ًة َف َقدْ َأ ْش َر َك»(‪ )2‬لكن ورد‬ ‫ِ‬
‫كذلك ورد يف مسند اإلمام أحمد أن رسول اهلل ﷺ قال‪َ « :‬م ْن َع َّل َق تَم َ‬
‫عن عائشة ڤ أنها قالت‪« :‬التمائم ما علق قبل نزول البالء‪ ،‬وما علق بعده فليس بتميمة»(‪،)3‬‬
‫والمتأمل يف األحاديث السابقة يحاول الجمع بينها‪ ،‬فيجد أن هناك قسمان من التمائم‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬تمائم وقائية‪ ،‬وهذه ال تجوز البتة‪ ،‬مهما كانت محتوياهتا‪ ،‬وهي إما تع ُّل ٌق تا ٌّم بغير‬
‫اهلل يف الحفظ والوقاية‪ ،‬وإما مؤد إلى ذلك ال محالة‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬تمائم عالجية‪ ،‬وهذه قد اختلف فيها العلماء‪ ،‬جاء عن ابن عبد الرب يف شرحه‬
‫للحديث الذي ذكرته ساب ًقا من الموطأ قوله‪« :‬وهو عند جماعة من أهل العلم كما قال مال ٌك؛ ال‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬موطأ اإلمام مالك برواية يحيى الليثي «‪»733‬؛ صفة النبي ﷺ؛ ما جاء في نزع المعاليق والجرس من العين‪ .‬والحديث صحيح‬
‫أخرجه البخاري «‪ »2843‬ومسلم «‪ »2115‬يف صحيحيهما عن مالك‪.‬‬
‫(‪ )2‬مسند اإلمام أحمد «‪»17422‬؛ مسند الشاميين؛ حديث عقبة بن عامر ﭬ‪ ،‬ويف تحقيق طبعة الرسالة بإشراف األرناؤوط‪« :‬إسناده‬
‫قوي»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪.»492‬‬
‫الرقى والتمائم‪ .‬وصححه الحاكم والذهبي‪.‬‬
‫(‪ )3‬مستدرك الحاكم «‪»8291‬؛ كتاب ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪324‬‬

‫يجوز أن يعلق على الصحيح شي ٌء من بني آدم وال من البهائم بشيء من العالئق خوف نزول العين‬
‫لهذا الحديث وما كان مثله‪ ،‬ورخصوا فيه بعد نزول البالء‪ ،‬ومنهم من كرهه على كل حال‪ ،‬قال‬
‫مال ٌك‪« :‬ال بأس بتعليق الكتب التي فيها اسم اهلل تعالى على أعناق المرضى»‪ ،‬وكره من ذلك ما‬
‫أريد به مدافعة العين‪ ،‬وقال إسحاق بن منصور قلت ألحمد بن حنبل‪ :‬ما يكره من المعاليق؟ قال‪:‬‬
‫«ك ُّل شيء يعلق فهو مكرو ٌه»‪ ،‬واحتج بالحديث « َم ْن َت َع َّل َق َش ْيئًا ُوكِ َل إِ َل ْي ِه»(‪ ،)1‬قال إسحاق بن‬
‫منصور‪ :‬وقال لي إسحاق بن راهويه كما قال أحمد بن حنبل‪« :‬إال أن يفعله بعد نزول البالء‪ ،‬فهو‬
‫اح كما قالت عائشة ڤ»»(‪ .)2‬وجاء يف اآلداب الشرعية «قال الميمون ُّي سمعت من سأل‬
‫حينئذ مب ٌ‬
‫أبا عبد اهلل عن التمائم تعلق بعد نزول البالء؟ قال‪« :‬أرجو أال يكون به بأ ٌس»‪ ،‬وقال حر ٌب قلت‬
‫ألحمد‪ :‬تعليق التعويذ فيه القرآن وغيره؟ قال‪« :‬كان ابن مسعود يكرهه كراهي ًة شديد ًة»‪ ،‬وذكر‬
‫اإلمام أحمد عن عائشة وغيرها أنهم سهلوا في ذلك ولم يشدد فيه أحمد‪ ،‬وقال أبو داود رأيت‬
‫على ابن ألبي عبد اهلل وهو صغير تميم ًة في رقبته في أديم‪ ،‬قال الخالل‪ :‬قد كتب هو من الحمى‬
‫بعد نزول البالء‪ ،‬والكراهة من تعليق ذلك قبل وقوع البالء‪ ،‬وهو الذي عليه العمل»(‪.)3‬‬
‫ويف الحقيقة أرى أن أفصل مسألة التمائم العالجية كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬إذا كان المريض يعتقد أن الشفاء من الحجاب أو التميمة وليس من اهلل‪ ،‬أي ال يظنُّهما سب ًبا؛ بل‬
‫يرى أن النفع حاصل بذاهتما؛ فهذا شرك أكرب ال يجوز بتا ًتا‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا كان يظنُّهما أسبا ًبا تعالج مرضه الذي وقع فيه فالتفصيل فيها كما يلي‪:‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن الرتمذي «‪ ،»2072‬ومسند اإلمام أحمد «‪»18781‬؛ ويف تحقيق طبعة الرسالة للمسند بإشراف األرناؤوط‪« :‬حسن لغيره»‪،‬‬
‫وكذلك قال األلباين يف صحيح الرتغيب والرتهيب «‪.»3456‬‬
‫(‪ )2‬االستذكار البن عبد الرب‪ ،‬يف شرحه لحديث الموطأ الوارد ساب ًقا‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلداب الشرعية البن مفلح‪ ،‬فصل «في حكم التداوي مع التوكُّل على اهلل»‪ ،‬فص ٌل «في الكي والحقنة وتعاليق التمائم»‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫‪325‬‬ ‫التمائم واحلجب‬

‫أ‪ -‬إن كان محتواها هبا شرك أو كفر صريح‪ ،‬أو شيء غير مفهوم وال واضح‪ ،‬فهذه بالطبع‬
‫ال تجوز بتا ًتا‪.‬‬
‫السؤال التالي‪ :‬هل‬
‫فرا فإنني أطرح ُّ‬
‫ب‪ -‬إن كان المحتوى مكتو ًبا واض ًحا وليس شركًا وال ك ً‬
‫فعال من الممكن أن تكون‬
‫عال فوائد؟ هل ً‬
‫الحجاب أو التميمة الخالية من الشركيات لها ف ً‬
‫السؤال‬
‫سب ًبا لعالج الشخص من األمراض؟ وليسهل فهم المسألة أكثر من هذا سأطرح ُّ‬
‫التالي‪ :‬هل كتابة آية الكرسي أو المعوذات يف ورقة على شكل حجاب أو تعليقها يف تميمة‬
‫عال للعالج من العين أو السحر أو الجن واألمراض األخرى؟ أنا لم أر أي شيء‬
‫يؤدي ف ً‬
‫يد ُّل على ذلك‪ ،‬وما ورد يف التاريخ السابق والمعاصر تعتبر تجارب فردية؛ ال تسمح لنا‬
‫بأن نجزم أن مثل هذه الحجب أو التمائم كانت السبب الحقيقي يف العالج‪ .‬والمتأمل‬
‫لسنة الرسول ﷺ وسيرته يجد أنه ﷺ لم يقصر أبدً ا يف تنبيه الناس لما فيه مصالحهم‬
‫الم ْج ُذو ِم ك ََما ت َِف ُّر ِم َن األَ َس ِد»(‪ ،)1‬وهو ﷺ‬ ‫ِ ِ‬
‫الدينية والدُّ نيوية‪ ،‬فهو القائل ﷺ‪َ « :‬وف َّر م َن َ‬
‫َاء َأو ينْ َف َخ فِ ِ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يه»(‪ ،)2‬وغير ذلك مما جاء عنه يف طرق الوقاية‬ ‫الذي‪« :‬ن ََهى َأ ْن ُي َتنَ َّف َس في اإلن ْ ُ‬
‫كثيرا من العين ونبه منها‪ ،‬لكنه ﷺ لم يزد على تعويذ سبطيه‬ ‫الطبية‪ ،‬كما أنه ﷺ حذر ً‬
‫ات الل ِ الت ََّّام ِة ِم ْن كُل َش ْي َط ٍ‬
‫ان َو َه َّام ٍة‪،‬‬ ‫الحسن والحسين ﭭ بقوله ﷺ‪ُ « :‬أ ِع ُيذكُما بِك َِلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َو ِم ْن كُل َع ْي ٍن َال َّم ٍة»(‪)3‬؛ ولم يرد عنه ﷺ أنه استفاد من الحجب والتمائم يف العالج وال‬
‫فعال فيهما فائدة حقيقة؟ رأيي الشخصي أنني لم أر‬
‫حث على ذلك‪ ،‬فأعود وأسأل؛ هل ً‬
‫من ذلك أية فائدة ‪-‬وقد أكون مخط ًئا‪ -‬وبنا ًء عليه ال أرى جواز استعمال التمائم المكتوب‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪ ،»5707‬كتاب «الطب»‪ ،‬باب «الجذام»‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الرتمذي «‪ ،»1888‬أبواب األشربة‪ ،‬باب «ما جاء في كراهية النفخ في الشراب»‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود «‪»4737‬؛ أول كتاب السنة؛ باب «يف القرآن»‪ ،‬وأورده الحاكم يف مستدركه «‪ »7481‬وصححه‪ ،‬وقال الذهبي‪ :‬على‬
‫شرط البخاري ومسلم‪ ،‬وأورده البخاري يف صحيحه «‪ »3191‬بلفظ «أعوذ»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪326‬‬

‫فيها أشياء مباحة أو من القرآن واألدعية‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬إنني حرمت شي ًئا أباحه بعض‬
‫السلف الصالح‪ ،‬فأقول‪ :‬إنهم أباحوه بنا ًء على ظنهم الفائدة منه‪ ،‬فإن ثبتت الفائدة فإني‬
‫أقول قولهم باإلباحة‪ ،‬أما إن لم تثبت الفائدة فال أراها تجوز‪.‬‬
‫جـ‪ -‬إن لم يكن يف الحجب والتمائم شيء مكتوب‪ ،‬بل كانت مجرد ًة من الكتابات مثل‬
‫المعادن‪ ،‬فينظر هل ثبتت فائدهتا عن طريق أهل الخربة والتجربة العدول‪ ،‬فإن ثبتت‬
‫فائدهتا يف عالج المرض أو هتدئته جاز االستعمال‪ ،‬وتبقى هذه اإلباحة مقرونة بشرط‬
‫اعتبار الحجاب أو التميمة سب ًبا كالدواء وليس باعتبارهما شافيين بذاهتما‪ ،‬فإن اعتقد‬
‫ٌ‬
‫شرط أن يسلك‬ ‫الشفاء يف ذاهتما انقلب األمر إلى شرك محرم‪ ،‬كذلك يضاف إليها‬
‫المريض مع تعليقها األسباب األخرى لزوال المرض‪ ،‬وأن يكون التعليق فرتة الضرورة‬
‫للعالج‪ ،‬أما ما ال تثبت فائدته كالخيط والخرزات وغيرها فال يجوز استعمالها كتمائم‬
‫عالجية‪.‬‬
‫ملحوظات‪:‬‬
‫‪ -1‬قد يقول البعض‪ :‬إنه الحظ فوائد محسوسة بعينه لبعض التمائم والحجب مثل تجنُّب‬
‫الرصاصات وعدم استطاعة الغير االعتداء على حامل الحجاب‪ ،‬فالجواب أن هذا حاصل‬
‫وصحيح‪ ،‬لكنك لو فتحت هذا الحجاب لوجدته ملي ًئا باألشياء غير الواضحة مثل التي جرى‬
‫الحديث عنها يف الفصل السابق «العالج بالحروف واألوفاق»‪ ،‬وكلها من الشركيات التي‬
‫تؤدي إلى االستعانة بالشياطين التي تؤدي المطلوب من عمل الحجاب‪ ،‬ولو أنك أحضرت‬
‫أشخاصا بجانب الحجاب وأمرهتم أن يؤذنوا ويقرؤوا القرآن ثم جربت الحجاب فإنك‬
‫ً‬
‫ستجد أن الحجاب فقد تأثيره وفائدته مؤق ًتا حتى االنتهاء من األذان والقراءة؛ وسبب ذلك أن‬
‫الشياطين الموكل إليها تنفيذ المطلوب من الحجاب لم تستطع المكث مع تالوة القرآن‬
‫واألذان‪ ،‬فهربت إلى حين االنتهاء من القراءة‪ ،‬وال يغرنك كذلك منظر ومظهر الشخص الذي‬
‫أعطاك الحجاب‪ ،‬فمهما يكن شكله يتوسم فيه أنه من أهل الديانة والصالح إال أنه يف الحقيقة‬
‫ُ ُ‬
‫‪327‬‬ ‫التمائم واحلجب‬

‫ساحر مستعين بالشياطين ماهر بالشرك أعاذنا اهلل منهم‪ ،‬وللتخ ُّلص من هذا الحجاب يجب‬
‫عليك اتباع خطوات إبطال السحر‪ ،‬والمشروحة يف فصل «عالج السحر»‪.‬‬
‫‪ -2‬استدل البعض على تحريم التمائم العالجية بالحديث المروي عن عمران بن حصين‬
‫ﭬ أن النبي ﷺ أبصر على عضد رجل حلقةً‪ ،‬أراه قال من صفر(‪ ،)1‬فقال‪« :‬ويحك ما‬
‫هذه؟» قال‪ :‬من الواهنة(‪)2‬؟ قال ﷺ‪« :‬أما إنها ال تزيدك إال وهنًا‪ ،‬انبذها عنك؛ فإنك لو مت‬
‫وهي عليك ما أفلحت أبدً ا»(‪ ،)3‬ويف رواية أخرى «ان ِحز حعها‪ ،‬فإِ َّهنا ال ت ِزيدُ ك إِ َّال و حهنًا» ‪،‬‬
‫‪4‬‬

‫صح لسببين‪:‬‬
‫واالستدالل هبذا الحديث لتحريم التمائم العالجية ال ي ُّ‬
‫أ‪ -‬السبب األول‪ :‬الحديث ضعيف‪ ،‬ضعفه األلباين(‪ ،)5‬كذلك ضعفه محققوا مسند اإلمام‬
‫أحمد ‪-‬طبعة الرسالة‪ -‬بإشراف شعيب األرناؤوط‪ ،‬واألعظمي يف الجامع الكامل‪،‬‬
‫والحديث الضعيف ال تقوم به حجة‪.‬‬
‫ب‪ -‬السبب الثاين‪ :‬لو افترضنا صحة الحديث فإنه يحتمل أن يكون المقصود أن النهي جاء‬
‫عن وضع الحلقة للوقاية وليس للعالج‪ ،‬قال الخطابي‪« :‬وإنما أنكر عليه اتخاذ الحلقة‬
‫الصفر ألنه إنما كان اتخذها على أنها تعصمه من ضربان العرق‪ ،‬وكان ذلك عنده يف‬
‫من ُّ‬
‫معنى التمائم التي ورد النهي عن تع ُّلقها»(‪ ،)6‬فيكون ً‬
‫دليال على تحريم التمائم الوقائية‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬النُّحاس؛ من كتاب «المصباح المنير يف غريب الشرح الكبير»‪.‬‬
‫(‪ )2‬وج ٌع يأخذ يف المنكب حتى ال يستطيع اإلنسان تحريك ذراعه إال بألم شديد؛ معجم اللغة العربية المعاصرة؛ و هـ ن‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسند اإلمام أحمد «‪»2000‬؛ مسند البصريين؛ حديث عمران بن حصين ﭬ‪ ،‬وضعفه محققوا طبعة الرسالة بإشراف األرناؤوط‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن ابن ماجه «‪»3531‬؛ أبواب الطب؛ باب «تعليق التمائم»‪ ،‬وضعفه األرناؤوط‪.‬‬
‫(‪ )5‬سلسة األحاديث الضعيفة والموضوعة «‪.»1029‬‬
‫(‪ )6‬غريب الحديث للخطابي؛ أحاديث الصحابة؛ حديث عمران بن حصين ﭬ‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪328‬‬

‫وليست العالجية‪ ،‬وحديث عائشة ڤ المذكور ساب ًقا صحيح صريح يف إباحة التمائم‬
‫العالجية‪.‬‬
‫مسألة‪:‬‬
‫انتشر يف زمننا التطعيم‪ ،‬خاصة تطعيم األطفال‪ ،‬ويف الحقيقة سبب هذا التطعيم هو الخوف من‬
‫ب الغربي‪ ،‬بينما عالجها‬
‫وقوع أمراض لألطفال مستقب ًال‪ ،‬وهذه األمراض عجز عن عالجها الط ُّ‬
‫متوفر يف الطب األصيل‪ ،‬وهذا الخوف الواقع أراه نفس اإلشكالية الواقعة يف التمائم الوقائية‪ ،‬كما‬
‫أنه ادعاء أن اهلل خلق اإلنسان على اإلطالق ناق ًصا معر ًضا ألمراض معينة‪ ،‬وقد ثبت لدى بعض‬
‫األطباء أن تطعيم األطفال قد يض ُّرهم ويؤدي هبم إلى أمراض أخرى‪ ،‬فأرى أن هذا األمر يجب‬
‫مراجعته من قبل العلماء‪ ،‬وأفضل منعه‪ .‬ومثل ذلك تطعيم الحجاج خو ًفا من مرض محتمل‪ ،‬أما إن‬
‫كان هناك مسافر سيذهب إلى منطقة موبوءة بمرض ما‪ ،‬ويغلب على الظن بدرجة كبيرة أنه قد‬
‫يصاب هبذا المرض لو لم يتطعم‪ ،‬فأرى أن األمر يختلف‪ ،‬واهلل أعلم بالصواب‪.‬‬
‫ُ َّ‬
‫‪329‬‬ ‫الـمجربات اللفظية‬

‫جربات اللفظية‬
‫الـ ُم َّ‬

‫افرتض معي أخي الكريم أن ثالثة أشخاص أصيبوا بألم يف جزء ما من جسمهم‪ ،‬فقام أحدهم‬
‫بتجربة دواء كيميائي فذهب ألمه‪ ،‬وقام الثاين بتجربة عشبة نباتية‪ ،‬فذهب ألمه كذلك‪ ،‬هذه‬
‫السنة عنها أي فضل‬
‫التجارب معقولة ومعروفة لدى الجميع‪ ،‬أما الثالث فاختار آية قرآنية لم يرد يف ُّ‬
‫خاص‪ ،‬وكرر هذه اآلية عدة مرات‪ ،‬فالحظ أن ألمه زال‪ ،‬فسجل هذه المالحظة وقام بنشرها بين‬
‫الناس‪ ،‬وقال أن هذا يدخل يف المجربات‪ ،‬فهل كالمه صحيح؟‬
‫حتى نعرف إن كانت الفكرة من أساسها سليمة أم ال‪ ،‬نتساءل هل هذا األمر بدعة؟ والجواب‬
‫يعتمد على نية الرجل‪ ،‬فإن لم يدع أنه اخرتع عبادة معينة‪ ،‬ولم يكن مقصده من ترديد اآلية التع ُّبد‬
‫إلى اهلل‪ ،‬بل أراد تأثير كلمات اآلية على ألمه‪ ،‬فإن ذلك ليس ببدعة شرعية أو تعبدية‪ ،‬وإنما هي‬
‫والرقية كما علمنا هو التعالج بتأثير الكالم‪ ،‬وهذا يف الحقيقة هو ما حصل من الصحابة ﭫ‬
‫رقية‪ُّ ،‬‬
‫حينما قرأوا سورة الفاتحة على الملدوغ من عقرب فعالجوه؛ وذلك من غير أن يخربهم رسول اهلل‬
‫ﷺ مسب ًقا بذلك‪.‬‬
‫بعض الناس يرون أن هذا األمر غير معقول‪ ،‬خاص ًة من حصر نفسه بما يسميها بالماديات‪،‬‬
‫ألنه يرى أن األلم حصل فقط بسبب تغيرات كيميائية وعضوية يف الجسم‪ ،‬لكن هؤالء يتجاهلون‬
‫أن األلم قد يكون له أسباب أخرى غير ذلك مما لم يعرفه الطب الغربي حتى اآلن‪ ،‬وتكرار اآلية‬
‫أزال هذا السبب‪.‬‬
‫قد يجرب البعض تكرار كلمات إيجابية على نفسه أو على المريض‪ ،‬ويالحظ أن تكرار هذه‬
‫الكلمات أدت إلى تغ ُّير إيجابي يف المتلقي للكلمات‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪330‬‬

‫السنة تؤثر يف المعيون وتذهب عيونه؟ وكيف‬


‫كيف عرفنا أن تكرار آيات العين التي لم ترد يف ُّ‬
‫عرفنا أن آيات الحرق تحرق العين والحسد والجن؟ كلها من خالل تجارب الرقاة عرب مئات‬
‫السنين‪.‬‬
‫إ ًذا فاألصل هو أن هذا العمل جائز ومباح‪ ،‬لكن ال شك أنه يجب أن تكون هناك ضوابط‬
‫فمثال هل كل شخص يستطيع أن يجرب وينشر تجربته؟ وهل هناك معايير‬
‫تضبط هذا األمر وتقننه‪ً ،‬‬
‫لهذه التجربة؟‬
‫أما جواب السؤال األول‪ ،‬فهو بالطبع ليس كل شخص يمكنه التجربة‪ ،‬فكما نشرتط شرو ًطا‬
‫خاصة يف كفاءة وأهلية من يعمل التجارب على األدوية واألعشاب‪ ،‬كذلك ال بد أن تكون هناك‬
‫شرو ًطا تنطبق على من يجرب اآليات أو الكلمات‪ .‬وأما جواب السؤال الثاين فنعم كذلك‪ ،‬فكما‬
‫توجد معايير لتجارب األدوية واألعشاب‪ ،‬يجب أن تكون هناك معايير لتجربة اآليات والكلمات‪،‬‬
‫فعال هذا الشخص استفاد من تكرار اآلية أو الكلمة؟ أم المسألة كانت نفسية؟ أم كانت صدفة؟‬
‫هل ً‬
‫وكم من شخص جرب ذلك؟ وما هي ظروف هذه التجارب؟ كل ذلك يجب أن يدخل يف‬
‫الحسبان‪.‬‬
‫لكن ما يحصل اآلن هو عكس ذلك‪ ،‬كل من هب ودب ادعى أن له مجربات نافعة‪ ،‬وبدأ‬
‫أيضا مع تجارب األدوية‬
‫ينشرها بين الناس ويؤلف لها الكتب‪ ،‬ويف الحقيقة هذا ما يحدث اآلن ً‬
‫واألعشاب‪ ،‬فكل شخص أصبح ينشرها ويؤلف فيها‪ ،‬بغض النظر عن مؤهله ومعايير تجاربه‪.‬‬
‫كذلك أصبح عند البعض تع ُّل ٌق شديد وكثير بالمجربات اللفظية‪ ،‬وقد يصل إلى درجة األوهام‬
‫والخزعبالت‪ ،‬فتجده يكثر منها يف كل شيء‪ ،‬ويقطع بصحتها مع كوهنا ظنية‪ ،‬وهذا أمر ال بد أن‬
‫يفهمه الجميع‪ ،‬أن جميع المجربات فوائدها ظنية‪ ،‬إال ما أقر رسول اهلل ﷺ بفائدته‪.‬‬
‫ونسبها بعضهم للشرع وقال أنها مجربات شرعية‪ ،‬وهذا ابتداع شرعي ال يجوز‪ ،‬وزعم‬
‫بعضهم أن هناك مجربات دعائية تجعل اهلل يقبل منك الدعاء‪ ،‬والدعاء عبادة عظيمة‪ ،‬لم يقصر‬
‫ُ َّ‬
‫‪331‬‬ ‫الـمجربات اللفظية‬

‫يصح القول بذلك‪ ،‬لكن من الممكن أن‬


‫ُّ‬ ‫رسول اهلل ﷺ يف إبالغنا وتعليمنا كل ما يتعلق به‪ ،‬فال‬
‫نقول عنها مجربات سببية يف غير أمور العبادة‪ ،‬أو مجربات طبية لفظية‪.‬‬
‫والخالصة أن هذا األمر ممك ٌن ومباح‪ ،‬لكن يجب أن يكون له ضوابط تضبطه‪ ،‬وينطبق عليه‬
‫مفتوحا على‬
‫ً‬ ‫كل ما يتعلق بالرقية‪ ،‬مثل تجنب الشرك والحرام ووضوح الكلمات والمعنى‪ ،‬وليس‬
‫مصراعيه كما يحدث اآلن‪ ،‬وإذا ادعى أحد أن هذه التجربة عبادة‪ ،‬فقد ابتدع بدعة شرعية ما أنزل‬
‫اهلل هبا من سلطان‪ ،‬وحرمت عليه تجربته‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪332‬‬
‫‪333‬‬ ‫األذكار‬

‫األذكار‬

‫المحافظة على األذكار النبوية للصباح والمساء وما قبل النوم من أعظم أسباب الحفظ‬
‫والتحصين‪ ،‬لكن اعلم أن التحصين واألذكار دعاء‪ ،‬والدُّ عاء قد يقبل منك وقد ير ُّد‪ ،‬وإذا قبل فإنه‬
‫يت ُّم لك أحد ما يلي‪:‬‬

‫تم تحصينك كما طلبت من اهلل‪.‬‬


‫‪ -1‬إما أن يستجاب لك كما دعوت‪ ،‬في ُّ‬
‫تم تحصينك بعد الدُّ عاء‪.‬‬
‫‪ -2‬أو قد يدخر لك يف اآلخرة تأخذه هناك ثوا ًبا وحسنات‪ ،‬وال ي ُّ‬
‫تم تحصينك بعد الدُّ عاء‪.‬‬
‫‪ -3‬أو يصرف عنك به ش ٌّر آخر يف الدُّ نيا‪ ،‬وال ي ُّ‬

‫ولو استجيب لك وحصنك اهلل‪ ،‬فإن هذا التحصين قد ينتقض مثل الوضوء‪ ،‬فلو أن شخ ًصا‬
‫حصن نفسه باألذكار‪ ،‬ثم دخل مكا ًنا فيه معصي ٌة أو ارتكب هو معصي ًة؛ فإن هذا التحصين قد‬
‫ينتقض وال يحميه‪.‬‬

‫كما أن التحصينات لن ترد عنك شي ًئا استحققته يف ظل القوانين الكونية التي وضعها اهلل‪ ،‬مثل‬
‫االبتالء أو العقوبة بسبب الذنب أو ال ُّظلم‪ .‬ولذا ال يلزم من إصابة أي شخص بمرض روحي أن‬
‫دليال على عدم محافظته على األذكار والتحصينات أو الطاعات‪ ،‬كذلك ال يلزم أن كل‬
‫يكون ذلك ً‬
‫من قرأ األذكار والتحصينات لن يصيبه مرض روحي أو غير روحي‪ ،‬لكن ال يكون هذا مخذ ًال‬
‫للمرء عن األذكار‪ ،‬بل اقرأ األذكار وتحصن وخذ باألسباب‪ ،‬واعتمد على اهلل ‪ ،‬وابتعد عن‬
‫التقصير يف حق اهلل أو حق عباده‪ .‬فاألذكار واألدعية عبادة عظيمة كبيرة‪ ،‬ترافق فيها اهلل ‪ ‬وتشعر‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪334‬‬

‫خير لك من اختيارك أنت ومن اختيار‬


‫بمعيته لك‪ ،‬ويكفي أن استجابة اهلل لك كما يريد هو ‪‬؛ ٌ‬
‫العالمين أجمعين‪.‬‬

‫ال َّتخصيص‪:‬‬

‫الرقى النبوية ورد فيها التخصيص للحفظ أثناء النوم‪ ،‬وذلك مثل آية الكرسي كما سبق‬
‫بعض ُّ‬
‫معنا‪ ،‬فجاء فيها‪« :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم اآلية‪ :‬ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ‬

‫ان حتى‬ ‫ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﱠ ﭐ[البقرة‪ ،]255 :‬وقال لي‪ :‬لن يزال عليك من اهلل حاف ٌظ‪ ،‬وال يقربك شيط ٌ‬
‫ث‬‫اش ِه‪َ ،‬ن َف َ‬ ‫ول الل ِ ﷺ إِ َذا َأوى إِ َلى فِر ِ‬ ‫َان َر ُس ُ‬ ‫تصبح»(‪ ،)1‬وكذلك ما جاء عن عائشة ڤ‪ ،‬قالت‪« :‬ك َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َت َيدَ ا ُه ِم ْن َج َس ِد ِه»‬
‫فِي َك َّف ْي ِه بِ ُق ْل ُه َو اللُ َأ َحد َوبِالم َعو َذ َت ْي ِن َج ِمي ًعا‪ُ ،‬ث َّم َي ْم َس ُح بِ ِه َما َو ْج َه ُه‪َ ،‬و َما َب َلغ ْ‬
‫يصح الجزم‬ ‫ُّ‬ ‫ك بِ ِه»(‪ .)2‬فهذه وأمثالها ال‬ ‫َان َي ْأ ُم ُرنِي َأ ْن َأ ْف َع َل َذلِ َ‬
‫اش َتكَى ﷺ ك َ‬ ‫قالت عائشة‪َ « :‬ف َل َّما ْ‬
‫بفائدهتا يف وقت آخر غير وقت النوم‪ ،‬فال يجزم أن الشيطان ال يمكنه دخولك وقت اليقظة إذا‬
‫قرأت آية الكرسي‪ ،‬وال يجزم أن قراءتك للمعوذات والنفث هبا على بدنك يف غير وقت النوم أنها‬
‫تفيدك‪ ،‬بل إن ترك رسول اهلل ﷺ لها يف األوقات األخرى قد يد ُّل على أنها تحمي أثناء النوم وليس‬
‫وقت اليقظة‪ .‬وما سبق ينطبق على كل ذكر أو دعاء أو رقية نبوية تم تخصيصها بظرف زماين أو‬
‫مكاين‪.‬‬

‫وأغلب التحصينات جاءت عامة لكل شيء‪ ،‬ويندر مجيء ذكر مخصص لمرض معين كالعين‬
‫وغيره‪ ،‬فما أتى عاما نبقي فائدته عامة‪ ،‬واقي ًة لكل ما يض ُّر اإلنسان‪ ،‬وما أتى مخص ًصا قلنا‬
‫الروحية‪ ،‬فهذا خطأ شنيع‪.‬‬
‫بتخصيصه‪ ،‬أما أن نقول‪ :‬كل التحصينات خاصة باألمراض ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه صفحة ‪.203‬‬
‫الرقية»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5416‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «النفث يف ُّ‬
‫‪335‬‬ ‫األذكار‬

‫إ ْلزا ُم ما ال َي ْلزم‪:‬‬

‫واألدعية واألذكار األولى فيها ما كان من كتاب اهلل ‪ ‬ثم من سنة نبيه ﷺ‪ ،‬لكن ال يجزم فيها‬
‫صريحا‪ ،‬أما األدعية غير النبوية فجائزة ومباحة‬
‫ً‬ ‫بشيء من تحصين لم يخربنا به رسول اهلل ﷺ نصا‬
‫إن كانت بغير تخصيص‪ ،‬لكن ال أحد يستطيع الجزم بأن الدُّ عاء الذي اخترعه؛ أو قلد فيه غيره؛ هو‬
‫الذي حماه أو حصنه أو وقاه‪ ،‬إذ قد يكون الحفظ من اهلل حاص ًال ألسباب أخرى‪ ،‬وليس بسبب‬
‫ترديد دعائه المحدث‪ ،‬وإن جزم تخصيص الدُّ عاء أو الذكر المحدث بفائدة معينة‪ ،‬فقد تكلم بما ال‬
‫يمكنه أن يعلم‪ ،‬وتقول بما ال يمكنه استيعابه‪.‬‬

‫ملحوظة‪:‬‬

‫يف حديث(‪ )1‬العين التي أصابت سهل بن حنيف ﭬ؛ نجد أن رسول اهلل ﷺ عاتب عامر بن‬
‫سهال ﭬ على أي شيء‪ ،‬مثالً على عدم قراءة‬
‫ربيعة ﭬ على عدم التربيك‪ ،‬ولكنه ﷺ لم يعاتب ً‬
‫األذكار أو عدم قراءة القرآن أو قلة الطاعات‪ ،‬وهذا قد يستنبط منه أن هذه األشياء ليست السبب‬
‫الوحيد يف تجنب العين‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬تم إيراد الحديث يف صفحة ‪.220‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪336‬‬
‫‪337‬‬ ‫الطب النبوي‬

‫الطب النبوي‬

‫ب النبوي هو ما ورد عن رسول اهلل ﷺ من أحاديث قولية أو فعلية أو إقرار يف كل ما له‬


‫الط ُّ‬
‫عالقة بالطب والعالج‪ .‬وقد ألف فيه كثير من العلماء‪ ،‬منهم اإلمام ابن القيم ‪ $‬يف كتابه زاد‬
‫المعاد‪ ،‬ذكر فيه جميع األدوية المذكورة يف الطب النبوي ومنافعها وطبائعها‪ ،‬وذلك حسب قواعد‬
‫الطب األصيل‪ ،‬ومما قاله فيه «كان عالجه ﷺ للمرض ثالثة أنواع أحدها‪ :‬باألدوية الطبيعية‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬باألدوية اإللهية‪ ،‬والثالث‪ :‬بالمركب من األمرين»(‪.)1‬‬

‫ِشفاء ِمن كل داء‪:‬‬

‫ذكر رسول اهلل ﷺ وجود الشفاء من كل داء سوى الموت يف بعض العالجات‪ ،‬مما ثبت ذكره‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫الس ْو َدا َء ش َفاء م ْن كُل َداء‪َّ ،‬إال م َن َّ‬
‫السا ِم»(‪،)2‬‬ ‫‪ -1‬الح َّبة السوداء‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َّن َهذه َ‬
‫الح َّب َة َّ‬
‫والسام هو‪ :‬الموت‪.‬‬
‫يهما ِش َفاء ِمن كُل د ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء َّإال‬ ‫َ‬ ‫ً ْ‬ ‫السنُّوت َفإِ َّن ف ِ َ‬ ‫السنوت‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ع َل ْيك ُْم بِ َّ‬
‫السنَا َو َّ‬ ‫السنا و َّ‬
‫‪َّ -2‬‬
‫السا َم»(‪ ،)3‬والسنا معروف‪ ،‬أما السنُّوت فلم يحدد الرسول ﷺ ما هو‪ ،‬بل قال عنه ﷺ يف‬
‫َّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل الطب النبوي؛ فصل «أنواع عالجه ﷺ»؛ «القسم األول‪ :‬العالج باألدوية الطبيعية»‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5363‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «الحبة السوداء»‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن ابن ماجه «‪»3457‬؛ أبواب «الطب»‪ ،‬وقال األلباين يف الصحيحة «‪« :»1798‬للحديث شواهد بمعناه يتقوى هبا»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪338‬‬

‫موضع آخر‪َ « :‬ل ْو َشا َء اللُ َل َع َّر َفك ُُموه»(‪ ،)1‬فرتك ذلك لالجتهاد البشري‪ ،‬ولذلك مهما قيل فيه؛‬
‫أمرا ظنيا ال يجوز ألحد أن يقطع به‪ ،‬فعليه أن يقول‪ :‬أظ ُّن أنه كذا‪ ،‬أو أرى أنه كذا‪ ،‬أو‬
‫فإنه يبقى ً‬
‫أرجح أنه كذا‪ ،‬لكن ال يجوز ألحد أن يجزم بما هو السنُّوت‪ ،‬ولو مر بتجربة ناجحة أو رأى‬
‫فيه رؤيا‪ .‬وقد ذكر ابن القيم يف زاد المعاد ثمانية أقوال مختلفة ذهب إليها العلماء السابقون يف‬
‫السنُّوت‪.‬‬
‫«ما َأ ْنز ََل اللُ َدا ًء إِ َّال َأ ْنز ََل َل ُه َد َوا ًء‪َ ،‬ف َع َل ْيك ُْم بِ َأ ْل َب ِ‬
‫ان ا ْل َب َقرِ‪َ ،‬فإِن ََّها ت َُر ُّم‬ ‫الحليب‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ :‬‬ ‫‪َ -3‬‬
‫ان ا ْل َب َقرِ‪َ ،‬فإِن ََّها َترِ ُّم ِم ْن كُل َش َجرٍ‪َ ،‬و ُه َو ِش َفاء‬ ‫ِم ْن كُل َّ‬
‫الش َجرِ»(‪ ،)2‬ويف رواية أخرى « َع َل ْيك ُْم بِ َأ ْل َب ِ‬
‫ِمن كُل د ٍ‬
‫اء»)‪.(3‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َار‪َ ،‬و َأن َْهى‬ ‫الحجامة‪ :‬قال رسول ﷺ‪« :‬الش َفا ُء فِي َث ََل َث ٍة‪َ :‬ش ْر َب ِة َع َس ٍل‪َ ،‬و َش ْر َط ِة ِم ْح َجمٍ‪َ ،‬و َك َّي ِة ن ٍ‬ ‫‪ِ -4‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ي»(‪.)5‬‬ ‫ُأ َّمتي َع ِن الكَي»(‪ ،)4‬وقال ﷺ‪« :‬إِ َّن َأ ْم َث َل َما تَدَ َاو ْيت ُْم بِه الح َج َامةُ‪َ ،‬وال ُق ْس ُط ال َب ْحرِ ُّ‬

‫العموم يف الشفاء‪:‬‬

‫نص بعض العلماء أن قول الرسول ﷺ‪ِ « :‬شفاء ِمن كل داء» هو عا ٌّم مخصوص‪ ،‬قال الخطابي‬
‫يف شرحه لحديث الحبة السوداء‪« :‬وهذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص؛ إذ ليس يجتمع‬

‫________________‬
‫يه َّن ِش َفاء ِم ْن‬
‫(‪ )1‬عن محمد بن عمارة‪ ،‬عن عبد اهلل بن عبد اهلل بن أبي طلحة‪ ،‬عن أنس بن مالك ﭬ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ث ََلث فِ ِ‬
‫ٍ‬
‫ُّوت»‪ ،‬قال محمدٌ –ابن عمارة‪ :-‬ونسيت الثالثة‪« ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هذا السنا قد عرفناه‪ ،‬فما السنُّوت؟‬‫السن ُ‬
‫السنَا َو َّ‬ ‫كُل َداء إِ َّال َّ‬
‫السا َم َّ‬
‫قال‪َ :‬ل ْو َشا َء اللَ َل َع َّر َفك ُُمو ُه»‪ُّ ،‬‬
‫السنن الكربى للنسائي «‪»7533‬؛ كتاب «الطب»؛ «الدواء بالسنا والسنوت»‪ ،‬وصححه مؤلفوا‬
‫الموسوعة الحديثية الصادر عن ديوان الوقف السني بالعراق بإشراف د‪ .‬عبد اللطيف الهميم «‪.»1243‬‬
‫(‪ )2‬السنن الكربى للنسائي «‪»6835‬؛ كتاب «األشربة المحظورة»؛ باب «لبن البقر»‪ ،‬ورواه ابن حبان يف صحيحه «‪ ،»4618‬وقال‬
‫األرناؤوط يف تحقيق اإلحسان يف تقريب صحيح ابن حبان «‪« :»6075‬إسناده صحيح»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪.»518‬‬
‫(‪ )3‬مستدرك الحاكم «‪»8224‬؛ كتاب «الطب»‪ ،‬وصححه الحاكم والذهبي‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري «‪»5356‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «الشفاء يف ثالث»‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري «‪»5371‬؛ كتاب «الطب»؛ باب «الحجامة من الداء»‪.‬‬
‫‪339‬‬ ‫الطب النبوي‬

‫يف طبع شيء من النبات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها؛ يف معالجة األدواء على‬
‫الرطوبة والبلغم‪ ،‬وذلك أنه‬
‫اختالفها وتباين طبائعها‪ ،‬وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من ُّ‬
‫الرطوبة والبرودة‪ ،‬وذلك أن الدواء أبدً ا بالمضاد‪،‬‬
‫حار يابس‪ ،‬فهو شفاء بإذن اهلل للداء المقابل له يف ُّ‬
‫ٌّ‬
‫والغذاء بالمشاكل»(‪ ،)1‬وقال ابن حجر‪« :‬وقال أبو بكر بن العربي‪« :‬العسل عند األطباء أقرب إلى‬
‫أن يكون دوا ًء من كل داء من الحبة السوداء‪ ،‬ومع ذلك فإن من األمراض ما لو شرب صاحبه‬

‫العسل لتأذى به‪ ،‬فإن كان المراد بقوله في العسل ﱡﭐﲕﲖﲗﱠ األكثر األغلب‪ ،‬فحمل الحبة‬
‫السوداء على ذلك أولى»‪ ،‬وقال غيره‪« :‬كان النب ُّي ﷺ يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال‬
‫المريض فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بار ٌد‪ ،‬فيكون معنى قوله شفا ٌء من كل‬
‫داء أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه‪ ،‬والتخصيص بالحيثية كث ٌير شائ ٌع واهلل أعلم»»(‪ ،)2‬وقال‬
‫ابن القيم‪« :‬وقوله‪ِ « :‬ش َفاء ِمن كُل د ٍ‬
‫اء» مثل قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ [األحقاف‪،] 25 :‬‬ ‫َ‬ ‫ً ْ‬
‫أي‪ :‬كل شيء يقبل التدمير ونظائره»(‪ ،)3‬قلت‪ :‬كالمهم ظاهره الصواب‪ ،‬وذلك أو ًال‪ :‬لعدم اقتصار‬
‫رسول اهلل ﷺ على هذه العالجات يف حياته‪ ،‬ولو كانت هذه شفاء من كل شيء لكفاه ﷺ االلتزام‬
‫هبا وعدم استعمال غيرها‪ ،‬وثان ًيا‪ :‬مما تعلمه العلماء األفاضل من علوم الطب األصيل وجربوه‪ ،‬إال‬
‫أننا يف الزمن المعاصر لدينا مذهب طبي يسمى الهميوباثي ”‪ ،“Homeopathy‬ويمكن ترجمته‬
‫إلى «العالج بالمثل»‪ ،‬وفكرته أنك تصنع الدواء بطريقة معينة من نفس المادة التي تسبب المرض‪،‬‬
‫فمثال لو أن هناك عشبة تطلق البطن وتسهله لمن به إمساك‪ ،‬فإنه عن طريق «العالج بالمثل» يمكن‬
‫ً‬
‫صنع دواء من نفس العشبة ليعطي م ً‬
‫فعوال معاك ًسا‪ ،‬فيسبب اإلمساك والقبض‪ ،‬ويعطى لمن به‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أعالم الحديث للخطابي؛ كتاب المرضى؛ الحبة السوداء‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري البن حجر؛ شرح قوله «باب الحبة السوداء»‪.‬‬
‫(‪ )3‬زاد المعاد يف هدي خير العباد البن القيم؛ فصل «أنواع عالجه ﷺ»؛ فصل «يف ذكر شيء من األدوية»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪340‬‬

‫إسهال‪ .‬وإذا استعملنا هذه الطريقة مع العالجات التي ذكر رسول اهلل ﷺ هبا الشفاء من كل داء؛‬
‫فإن ذلك ربما يعيدها إلى عمومها‪ ،‬واألمر بحاجة للتجربة‪ .‬كذلك قد يكون المقصود أنه لحصول‬
‫الشفاء من كل داء فإنه يلزم خلطها بعالجات أخرى مما لم يكن موجو ًدا لدى الصحابة ﭫ يف‬
‫زمن النبي ﷺ‪ ،‬وحيث إنه لم يثبت لدينا خطأ العلماء السابقين ممن قال‪ :‬إن الشفاء عا ٌّم‬
‫مخصوص‪ ،‬بل تأيد ذلك بما ذكرته ساب ًقا‪ ،‬فنرجح قولهم ونميل إليه حتى يثبت العكس‪ ،‬واهلل أعلم‬
‫بالصواب‪.‬‬

‫َو َصفات ِمن الطب النبوي‪:‬‬

‫توسع بعض المعاصرين يف إطالق مصطلح الطب النبوي على جميع الوصفات التي تحوي‬
‫يصح وال يجوز؛ ألن عمل وصفات لم ترد‬
‫ُّ‬ ‫التوسع ال‬
‫ُّ‬ ‫أعشا ًبا وطر ًقا ذكرت يف األحاديث‪ ،‬وهذا‬
‫بتفاصيلها عن النبي ﷺ هو عمل اجتهادي‪ ،‬قد يكون صوا ًبا أو خط ًأ‪ ،‬وقد يكون ناف ًعا أو ضارا‪.‬‬
‫فمثال لما تكلم النبي ﷺ عن الحبة السوداء؛ لم يذكر ﷺ المقادير والجرعات المطلوبة‪ ،‬ولم يذكر‬
‫ً‬
‫ﷺ إن كانت تؤخذ لوحدها أو مركبة مع أعشاب وأدوية أخرى‪ ،‬واالجتهاد يف هذه األشياء زائد‬
‫على النص؛ ال يجوز نسبته إلى الطب النبوي‪ ،‬وإنما ننسبها إلى من اكتشفها أو وصى هبا‪.‬‬

‫وكذلك نسمع عن مراكز ومعاهد لالهتمام بالطب النبوي‪ ،‬وك ُّلها تقوم على نفس الفكرة‪،‬‬
‫فيجب أال نحمل الطب النبوي فوق ما يحمل عليه‪ ،‬وبعضهم لألسف الشديد يورد أحاديث‬
‫ضعيفة أو موضوعة لتزكية وصفاته‪ ،‬فإلى اهلل المشتكى‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫السنة‪،‬‬
‫بالسنة»‪ ،‬فإذا ذهبت إليه‪ ،‬رقاك بآيات لم ترد يف ُّ‬
‫وبعضهم يسمي نفسه «المعالج ُّ‬
‫السنة‪ ،‬وصنف لك أنواع العسل الذي عنده حسب‬
‫وحجمك بأجهزة حديثة يف مواضع لم ترد يف ُّ‬
‫األمراض‪ ،‬فهذا العسل لهذا المرض‪ ،‬وذاك العسل لمرض آخر‪ ،‬ويطلب منك أن تأخذ مقدار‬
‫ملعقة من العسل يف كوب ماء مع ملعقة من الخل مع حبة سوداء مطحونة كل يوم‪ ،‬فتسأله من أين‬
‫الرقاة‪ ،‬ومواضع‬
‫أتى هبذه اآليات والمواضع والتصنيفات والخلطة؟! فيقول‪ :‬اآليات من اجتهاد ُّ‬
‫‪341‬‬ ‫الطب النبوي‬

‫الحجامة من الخريطة الصينية أو اليابانية أو األلمانية‪ ،‬وتصنيف العسل من اجتهاد المعالجين‪،‬‬


‫بالسنة وهو قد خرج عما‬
‫والخلطة بمقاديرها وجدولها اليومي من اجتهاده هو‪ ،‬فكيف صار معال ًجا ُّ‬
‫جاء فيها‪.‬‬

‫وصف دقيق للمقادير‪ ،‬وربما‬


‫ٌ‬ ‫بالسنة يف الوصفات ال يمكن بتا ًتا‪ ،‬ألنه ال يوجد‬
‫وااللتزام ُّ‬
‫األحاديث التي يمكن تطبيقها بحذافيرها من الطب النبوي تكاد تكون معدودة قليلة‪ ،‬مثل حلق‬
‫الحدَ ْيبِ َي ِة َو َر ْأ ِسي‬ ‫ف ع َلي رس ُ ِ‬
‫ول الل ﷺ بِ ُ‬ ‫الشعر لمن أصابه القمل‪ ،‬قال كعب بن عجرة ﭬ‪َ « :‬و َق َ َ َّ َ ُ‬
‫ك»(‪ ،)1‬وربما كذلك‬ ‫اح ِل ْق َر ْأ َس َ‬
‫ك؟‪ ،‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال ﷺ‪َ :‬ف ْ‬ ‫ت َق ْم ًَل‪َ ،‬ف َق َال ﷺ‪ُ :‬ي ْؤ ِذ َ‬
‫يك َه َو ُّام َ‬ ‫َيت ََها َف ُ‬
‫مثل صفة اكتحال رسول اهلل ﷺ‪ ،‬أما الحجامة فلم يرد كم سحب من الدم‪ ،‬واألعشاب لم ترد‬
‫الرقى النبوية هل تكرر عند قراءهتا؟ كم مرة؟ وهل تكرر كل يوم؟‬
‫مقاديرها‪ ،‬وال عدد جرعاهتا‪ ،‬و ُّ‬
‫أو كل ساعة؟ فنحن يف الطب النبوي أمام إشارات وتزكيات‪ ،‬وباقي األمور من اجتهادنا الطبي‬
‫البشري الذي قد يخطئ وقد يصيب‪ ،‬وال يجوز أن ندعي أن اجتهاداتنا هذه هي من الطب النبوي‬
‫بالسنة‪.‬‬
‫أو من العالج ُّ‬

‫واألصح يف كل حال‪ ،‬لكن ما ال يعرفه‬


‫ُّ‬ ‫وال شك أن أفعال الرسول ﷺ ونصائحه هي األكمل‬
‫الكثيرون أن األصوليين قسموا أفعال الرسول ﷺ إلى عدة أقسام‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬ما فعله ﷺ بمقتضى الجبلة والطبيعة‪ ،‬كالنوم واألكل ُّ‬
‫والشرب‪.‬‬
‫‪ -2‬ما فعله ﷺ على وجه العادة‪ ،‬كطريقة ال ُّلبس‪.‬‬
‫‪ -3‬ما فعله ﷺ ام ً‬
‫تثاال ألمر اهلل عز وجل‪ ،‬مثل الفروض والنوافل‪.‬‬
‫سوك‪.‬‬
‫فعال مجر ًدا يظهر فيه التع ُّبد هلل ‪ ،‬مثل الت ُّ‬
‫‪ -4‬ما فعله ﷺ ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»1720‬؛ أبواب «المحصر»؛ باب «قول اهلل تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﱠ [البقرة‪ ]196 :‬وهي إطعام ستة مساكين»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪342‬‬

‫‪ -5‬ما كان مرتد ًدا بين العادة والعبادة‪ ،‬بمعنى أننا ال ندري هل فعله ﷺ على سبيل التع ُّبد أو على‬
‫سبيل العادة‪.‬‬
‫‪ -6‬ما فعله ﷺ على وجه الخصوصية‪ ،‬أي جاز خاصا له ﷺ‪ ،‬وليس لغيره‪.‬‬

‫ففي هذه التقسيمات نجد أن الطب النبوي يندرج يف القسم األول أو الثاين‪ ،‬وهذه ليس من‬
‫مثال‬
‫الشرط أن يكون لها من األحكام ما هو يف القسم الثالث والرابع‪ ،‬فليس التعالج بالحجامة ً‬
‫سوك ال يختلف يف حكمه أحد بأنه مندوب‪ ،‬أما العادات‬
‫سوك يف الحكم واألجر‪ ،‬فالت ُّ‬
‫مساو ًيا للت ُّ‬
‫واألمور الجبلية فقد اختلف العلماء فيها بين اإلباحة واالستحباب والقول بعدم التأسي واالقتداء‪،‬‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪343‬‬ ‫اإلتقان‬

‫اإلتقان‬

‫حبوب إلى اهلل ‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫أمر م‬
‫اإلتقان هو‪ :‬اإلحكام لألشياء‪ ،‬يقال‪ :‬أتقن الشيء إذا أحكمه ‪ .‬وهو ٌ‬
‫(‪)1‬‬

‫أن ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫تقنَه»(‪ .)2‬وللوصول إليه يجب طلب‬ ‫ب إِذا َعم َل َ‬
‫أحدُ كُم َع َم ًَل ْ ُ‬ ‫إن الل ُيح ُّ‬
‫قال رسول اهلل ﷺ‪َّ « :‬‬
‫أوال‪ ،‬ثم العلم بالحرفة ثان ًيا‪ ،‬وثال ًثا المهارة فيها‪ .‬واإلتقان دليل للنجاح‬
‫التوفيق من اهلل ‪ً ‬‬
‫والتم ُّكن‪.‬‬

‫خصصات واألعمال‪ ،‬وهو‬


‫لكنه ليس مختصا بمهنة معينة‪ ،‬أو مجال محدد‪ ،‬بل هو عا ٌّم لكل الت ُّ‬
‫هندسا أتقن هندسته‪ ،‬وتجد آخر فشل وأخطأ‪ .‬قد تجد‬
‫يعتمد على الفرد يف تحقيقه‪ ،‬فقد تجد م ً‬
‫مصم ًما أبدع يف تصميمه‪ ،‬وآخر لم يصمم سوى شخابيط‪ .‬قد تجد مدر ًسا يوصل المعلومات‬
‫بذكاء ومهارة إلى ال ُّطالب‪ ،‬وتجد مدر ًسا ال فائدة من دروسه إال الزعيق والنعيق‪.‬‬

‫فالفشل يف اإلتقان والنجاح ينبغي أن ينسب إلى العامل ال إلى العمل‪ .‬ولكن حين يكون‬
‫الهوى هو الذي يحدد؛ ويكون الجهل هو الذي يقود؛ فإن الخطأ يعمم‪ ،‬فيصبح العامل وعمله يف‬
‫مواجهة اللوم والسباب‪ .‬فإذا أخطأ العشاب؛ ً‬
‫فبدال من محاسبته فإن اللوم أصبح يقع على مهنة‬
‫الرقاة جميعهم محل‬
‫الرقية كلها و ُّ‬
‫العطارة وعلى جميع العشابين‪ .‬وإذا أخطأ راق واحد؛ أصبحت ُّ‬
‫شك وريبة ونقاش‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬لسان العرب البن منظور؛ حرف النون؛ فصل التاء المثناة فوقها‪.‬‬
‫(‪ )2‬شعب اإليمان للبيهقي «‪»5314‬؛ «األمانات وما يجب من أدائها إلى أهلها»‪ ،‬وصححه األلباين بشواهده يف الصحيحة «‪.»1113‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪344‬‬

‫وهذا بعيد كل البعد عن اإلنصاف والتع ُّقل‪ .‬هل سمعت بمناد ينادي بإغالق المستشفيات‬
‫وكليات الطب؛ ألن هناك أطباء يرتكبون أخطاء قاتلة؟ هل سمعت بمن يطالب بإغالق المدارس‬
‫بسبب المشاكل األخالقية من قبل بعض المدرسين الذين ال يخافون اهلل؟ أو هل خطر ببال أحد أن‬
‫يمنع استيراد السيارات ألنها تتسبب يف حوادث تقتل األفراد‪ ،‬أو تسبب لهم عاهات وجراحات؟‬
‫طب ًعا كل هذا بعيد عن التع ُّقل والصواب‪.‬‬

‫أما إن كان الذي أخطأ راق ًيا‪ ،‬أو عشا ًبا‪ ،‬أو أحد ممارسي الطب األصيل أو الطب البديل‪،‬‬
‫شيخا أو محف ًظا للقرآن أو آم ًرا بالمعروف؛ فإن المطالبات تتعالى باإلغالق‬
‫ً‬ ‫ومثله إن كان‬
‫السمعة السيئة على الجميع‪ ،‬ويطبق الش ُّك وسوء الظن مع كل أفراد المهنة‪،‬‬
‫والشطب‪ ،‬وتسري ُّ‬
‫سليم يد ُّل على عقل ناضج؟‬
‫ٌ‬ ‫ف‬
‫صر ٌ‬
‫فهل هذا ت ُّ‬

‫كذلك من الخطأ ما يطالب به من إغالق جمعيات خيرية‪ ،‬أو أجهزة األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر؛ وذلك لحصول أخطاء فردية ممن يعمل هبا‪ .‬بالرغم من أنك تسمع شكاوى‬
‫باألضعاف ضد جهات أخرى مثل األندية الرياضية أو أجهزة المرور والمطافئ‪ ،‬لكن ال أحد‬
‫يطالب بإغالقها!!!‬

‫ختص بالشخص وليس بالمهن‪ ،‬فق ٌ‬


‫ليل من‬ ‫اإلتقان واإلبداع ال مهنة لهما‪ ،‬وكذلك األخالق ت ُّ‬
‫اإلنصاف والتف ُّكر والرفق مع ُّ‬
‫الرقاة والمعالجين‪ ،‬هدى اهلل الجميع‪.‬‬

‫الرقاة السعي إلى اإلتقان‪ ،‬ومن‬


‫ويف نفس الوقت يتوجب على كل مسلم بمن فيهم األطباء و ُّ‬
‫أسبابه بعد توفيق اهلل؛ التركيز يف المسألة‪ ،‬والتف ُّكر فيها بروية وصبر وعدم استعجال‪ ،‬كذلك إعطاء‬
‫المريض والمرض حقهما من وقت المعالج‪ ،‬وجعل النية خالصة هلل‪ ،‬وليس ألسباب مادية أو‬
‫جرد وإنصاف‪ ،‬وليس بالعاطفة أو باألهواء‪.‬‬
‫منافع ومصالح دنيوية‪ ،‬والبحث بت ُّ‬
‫‪345‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫أخطاء شائعة‬

‫بعد تتبعي لكثير من الحاالت؛ رأيت أن هناك بعض األخطاء التي يقع فيها كثير من الناس‪ ،‬ثم‬
‫الرقاة‪ ،‬ولو أنهم تجنبوا هذه األخطاء؛ لكفوا أنفسهم‬
‫بسببها يدورون بين األطباء والمعالجين و ُّ‬
‫وغيرهم المشقة والتعب والتكاليف‪ ،‬وما أبرئ نفسي‪ ،‬وال أدعي الكمال‪ ،‬وإنما تذكيري لنفسي‬
‫أولى من نصحي لغيري‪ ،‬ولكن إن سقطت فال يسقط غيري‪.‬‬

‫يف المجال ال ِغذائي‪:‬‬

‫‪ -1‬ال َّتوا ُزن الكمي‪:‬‬

‫يدلنا رسول اهلل ﷺ على قاعدة عامة تحفظ لنا الصحة‪ ،‬فيقول ﷺ‪َ « :‬ما َمأل َ آ َد ِم ٌّي ِو َعا ًء َش ًّرا‬
‫ت ُي ِق ْم َن ُص ْل َب ُه‪َ ،‬فإِ ْن ك َ‬
‫َان َال َم َحا َلةَ؛ َف ُث ُلث َط َعام‪َ ،‬و ُث ُلث َش َراب‪،‬‬ ‫ث َأك َََل ٍ‬
‫ب ا ْب ِن آ َد َم َث ََل ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َب ْطنه‪َ ،‬ح ْس ُ‬
‫َو ُث ُلث لِنَ َف ِس ِه»(‪ ،)1‬وتأمل يف تعبير رسول اهلل ﷺ ال ُّلغوي الطبي الدقيق‪ ،‬وكيف أنه ال يمكن أن يكون‬
‫هناك شيء أسوأ على اإلنسان ملؤه من بطنه ومعدته‪ ،‬قال ابن رجب‪« :‬وهذا الحديث أص ٌل جام ٌع‬
‫ألصول الطب كلها‪ ،‬وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة‪،‬‬
‫قال‪ :‬لو استعمل الناس هذه الكلمات‪ ،‬سلموا من األمراض واألسقام‪ ،‬ولتعطلت المارستانات‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن الرتمذي «‪»2380‬؛ أبواب الزهد؛ «باب ما جاء يف كراهية كثرة األكل»‪ ،‬وقال‪« :‬هذا حديث حسن صحيح»‪ ،‬ورواه الحاكم يف‬
‫المستدرك «‪»7139‬؛ كتاب الرقاق‪ ،‬وصححه الحاكم والذهبي‪ ،‬ويف تحقيق اإلحسان يف تقريب صحيح ابن حبان لألرناؤوط‬
‫«‪« :»674‬إسناده صحيح على شرط مسلم»‪ ،‬وصححه األلباين يف الصحيحة «‪.»2265‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪346‬‬

‫ودكاكين الصيادلة‪ ،‬وإنما قال هذا؛ ألن أصل كل داء التُّخم‪ ...‬وقال الحارث بن كلدة طبيب‬
‫العرب‪ :‬الحمية رأس الدواء‪ ،‬والبطنة رأس الداء‪ ،‬ورفعه بعضهم وال يص ُّح أي ًضا ‪-‬أي نسبه بعضهم‬
‫لرسول اهلل ﷺ وال يصح ذلك‪ .-‬وقال الحارث أي ًضا‪ :‬الذي قتل البرية‪ ،‬وأهلك السباع في البرية‪،‬‬
‫إدخال الطعام على الطعام قبل االنهضام‪ .‬وقال غيره‪ :‬لو قيل ألهل القبور‪ :‬ما كان سبب آجالكم؟‬
‫قالوا‪ :‬التُّخم‪ .‬فهذا بعض منافع تقليل الغذاء‪ ،‬وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صالح البدن‬
‫وصحته‪ .‬وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصالحه؛ فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب‪ ،‬وقوة الفهم‪،‬‬
‫وانكسار النفس‪ ،‬وضعف الهوى والغضب‪ ،‬وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك‪ .‬قال الحسن‪ :‬يابن آدم‬
‫كل في ثلث بطنك‪ ،‬واشرب في ثلثه‪ ،‬ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر‪ .‬وقال المروذ ُّي‪ :‬جعل أبو‬
‫عبد اهلل ‪-‬أحمد بن حنبل‪ -‬يعظم أمر الجوع والفقر‪ ،‬فقلت له‪ :‬يؤجر الرجل في ترك الشهوات‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وكيف ال يؤجر‪ ،‬وابن عمر ﭭ يقول‪ :‬ما شبعت منذ أربعة أشهر؟ قلت ألبي عبد اهلل‪ :‬يجد‬
‫الرجل من قلبه رق ًة وهو يشبع؟ قال‪ :‬ما أرى‪ ...‬عن ابن سيرين قال‪ :‬قال رج ٌل البن عمر ﭭ‪ :‬أال‬
‫أجيئك بجوارش؟ قال‪ :‬وأ ُّي شيء هو؟ قال‪ :‬شي ٌء يهضم الطعام إذا أكلته‪ ،‬قال‪ :‬ما شبعت منذ‬
‫أربعة أشهر‪ ،‬وليس ذاك أني ال أقدر عليه‪ ،‬ولكن أدركت أقوا ًما يجوعون أكثر مما يشبعون»(‪ ،)1‬فهذا‬
‫قليال من دون أن تشبع‪ ،‬وهذا ما توصل إليه‬
‫الحديث دليل على الحمية يف المقدار‪ ،‬فال تأكل إال ً‬
‫بعض خرباء الغذاء الصحي يف عصرنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن األفضل أال تأكل إال على جوع‪ ،‬وإذا أكلت‬
‫قليال جدا بحيث ال تصل إلى مستوى الشبع‪ .‬وقد نسب إلى رسول اهلل ﷺ أنه قال‪« :‬نحن‬
‫فتأكل ً‬
‫قوم ال نأكل حتى نجوع‪ ،‬وإذا أكلنا ال نشبـع»‪ ،‬وهذا معناه صحيح صحيا‪ ،‬لكن الحديث لم يعثر له‬
‫السنة ما هو خالف هذه القاعدة‪ ،‬وأن‬
‫صح نسبته إلى رسول اهلل ﷺ‪ .‬ولقد جاء يف ُّ‬
‫على أصل‪ ،‬فال ت ُّ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬جامع العلوم والحكم؛ البن رجب الحنبلي؛ الحديث السابع واألربعون‪.‬‬
‫‪347‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫الصحابة ﭫ أكلوا حتى شبعوا‪ ،‬والجمع يقتضي أن المرء قد يمأل بطنه يف بعض األحيان‪ ،‬لكن‬
‫كثيرا مات سري ًعا‪.‬‬
‫ليس كل يوم حتى وفاته‪ ،‬وقد قيل‪ :‬من أكل ً‬

‫‪-2‬التوا ُزن يف الطبائع «النوعي»‪:‬‬

‫فال يأكل اإلنسان ما يزيد أي طبع من الطبائع فوق قدرها المطلوب يف جسده‪ ،‬ألنه كما ذكرت‬
‫يف فصل «الطب األصيل»‪ ،‬أن أساس كل مرض يف الطب األصيل هو طغيان الطبائع‪ ،‬وتوازن‬
‫الطبائع مؤد إلى عمل جميع األعضاء بشكل طبيعي‪ ،‬ومؤد إلى وجود توازن يف الفيتامينات‬

‫والهرمونات والخاليا وجميع ما يف الجسم‪ ،‬ولفعل ذلك يجب تع ُّلم الطب األصيل ُّ‬
‫والرجوع إلى‬
‫َان‬
‫مصادره ومراجعه‪ ،‬ولنا يف رسول اهلل ﷺ يف ذلك خير أسوة وسلف‪ ،‬فعن عائشة ڤ قالت‪« :‬ك َ‬
‫ول‪َ :‬نك ِْس ُر َح َّر َه َذا بِ َب ْر ِد َه َذا‪َ ،‬و َب ْر َد َه َذا بِ َحر َه َذا»(‪ ،)1‬وعن‬ ‫الر َط ِ‬
‫ب َف َي ُق ُ‬ ‫ول الل ِ ﷺ َي ْأك ُُل ا ْلبِط َ‬
‫يخ بِ ُّ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫اء»(‪ ،)2‬قال ابن‬‫الق َّث ِ‬
‫ت النَّبِي ﷺ ي ْأك ُُل الر َطب بِ ِ‬ ‫عبد اهلل بن جعفر بن أبي طالب ﭭ‪ ،‬قال‪َ « :‬ر َأ ْي ُ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫حجر‪« :‬وقال القرطب ُّي يؤخذ منه جواز مراعاة صفات األطعمة وطبائعها واستعمالها على الوجه‬
‫الرطب حرار ًة وفي القثاء برود ًة‪ ،‬فإذا أكال م ًعا اعتدال‪ ،‬وهذا‬
‫الالئق بها على قاعدة الطب‪ ،‬ألن في ُّ‬
‫أص ٌل كب ٌير في المركبات من األدوية»(‪ ،)3‬ولقد كان الحليب هو الشراب المفضل والمنتشر لدى‬
‫العرب‪ ،‬وهو رطب يذهب الطبيعة اليابسة والحارة التي يف الجو أو يف التمر‪ ،‬أما القهوة والشاي‬
‫فهما دخيلتان علينا‪ ،‬وهما أكثر شيء أفسد علينا توازن الطبائع‪ ،‬إلكثارنا منها واستبدالنا الحليب‬
‫هبما وبالمشروبات الغازية‪ .‬ويقول المسلمون من خرباء الطب األصيل‪ :‬إن اهلل ‪ ‬خلق لنا من كل‬
‫يارا منه‪ ،‬أما أن يميل‬
‫الطيبات‪ ،‬فتوجب على اإلنسان األكل منها جمي ًعا‪ ،‬وتنويع غذائه عليها‪ ،‬اخت ً‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه صفحة ‪.135‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري «‪»5124‬؛ كتاب «األطعمة»؛ باب «الرطب بالقثاء»‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتح الباري البن حجر؛ قوله‪« :‬باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪348‬‬

‫الرز والدجاج والبصل والطماطم‪ -‬ويترك ما سواه من الطيبات‪ ،‬فإنه‬


‫إلى طعام معين كل يوم ‪-‬مثل ُّ‬
‫رارا‬
‫سيمرض‪ ،‬وسيدفع إلى تجنُّب ما يأكله كل يوم‪ ،‬وسيتوجب عليه تناول باقي الطيبات اضط ً‬
‫ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ [الحجر‪ ،] 19 :‬وقال تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱺ‬ ‫لعالج نفسه‪ ،‬قال اهلل ‪:‬‬
‫ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ [الرحمن‪ ،]8 - 7 :‬ومن ال ُّطغيان اإلكثار من طبع أو غذاء‬
‫على حساب طبائع وأغذية أخرى‪.‬‬

‫‪ -3‬التوا ُزن الطاقي‪:‬‬

‫مهما أكلت من سعرات حرارية وأدخلتها إلى جسمك‪ ،‬فإنه سيتوجب عليك إخراج الزائد‬
‫عن طريق نشاط الجسم‪ ،‬وإال تخزنت لديك وسببت لك مشاكل صحية‪ ،‬فعليك الموازنة يف‬
‫السعرات الحرارية‪ ،‬إما أن تأكل بقدر نشاطك‪ ،‬أو تنشط بمقدار أكلك‪.‬‬
‫ُّ‬

‫تذكير‪:‬‬

‫أكل كل ما تشتهيه وتريد‪ ،‬كما ترغب وتريد‪ ،‬ويف الوقت الذي تريد‪ ،‬هذه ميزة خاصة بأهل‬
‫الجنة يف الجنة‪ ،‬أما الدُّ نيا فال يمكنك أن تطبق عليها أحكام الجنة‪ ،‬فعليك بمجالدة نفسك‪ ،‬والصرب‬
‫سليما معا ًفى‪ ،‬إلى أن تدخل الجنة‪ ،‬وتأكل فيها ما تريد بال حساب وال‬
‫ً‬ ‫على شهوة بطنك‪ ،‬لتعيش‬
‫نظام‪.‬‬

‫يف المجال ال ُسلوكي‪:‬‬

‫‪ -1‬النَّوم الخاطئ‪:‬‬

‫يؤكد اهلل ‪ ‬يف أكثر من موضع أنه ‪ ‬خلق الليل وق ًتا لسكوننا ونومنا‪ ،‬والنهار عكسه‬
‫لحركتنا وعملنا‪ ،‬منها قوله ‪ :‬ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱠ [النبأ‪ ،]11 – 10 :‬فمن‬
‫يعكس ذلك فقد خالف سنن اهلل التي خلقها لنا‪ ،‬وخالف الطريقة الصحيحة لعيش البشر منذ خلق‬
‫آدم ڠ‪ ،‬وجلب لنفسه األمراض والهالك‪ .‬يحدثنا أبو برزة ﭬ عن رسول اهلل ﷺ فيقول‪:‬‬
‫‪349‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫الح ِد َ‬
‫يث َب ْعدَ َها»(‪ ،)1‬وعن عبد اهلل‬ ‫َان َيك َْر ُه الن َّْو َم َق ْب َل َها‪َ ،‬و َ‬
‫َحب َأ ْن ي َؤخر ِ‬
‫الع َشا َء‪َ ،‬ق َال‪َ :‬وك َ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫َان َي ْست ُّ‬
‫« َوك َ‬
‫اء»(‪ ،)3‬وعن عروة بن الزبير قال‪:‬‬ ‫ول الل ِ ﷺ السمر بعدَ ا ْل ِع َش ِ‬ ‫بن مسعود ﭬ قال‪َ « :‬جدَ َب(‪َ )2‬لـنَا َر ُس ُ‬
‫َّ َ َ َ ْ‬
‫ول الل ِ‬
‫سمعتني عائشة وأنا أتكلم بعد العشاء اآلخرة‪ ،‬فقالت‪« :‬يا عر ُّي‪ ،‬أال تريح كاتبك(‪َ ،)4‬فإِ َّن َر ُس َ‬
‫ﷺ َل ْم َيك ُْن َينَا ُم َق ْب َل َها َو َال َيت ََحدَّ ُ‬
‫ث َب ْعدَ َها»(‪ ،)5‬وعن خرشة بن الحر قال‪ :‬رأيت عمر بن الخطاب‬
‫ﭬ يضرب الناس على الحديث بعد العشاء ويقول‪« :‬أسم ٌر أول الليل ونو ٌم آخره»(‪ ،)6‬وقد يتعلل‬
‫الشخص بأن المجتمع ال يساعده على ذلك‪ ،‬إذ الجميع يسهر ويسمر يف الليل‪ ،‬فأقول‪ :‬إن هذا من‬
‫البالء واالبتالء‪ ،‬وتذكر أن المجتمع لن يشاركك مرضك‪ ،‬ولن يشاركك آالمك ومعاناتك‪،‬‬
‫ليال ال يفسد صحتك فقط‪ ،‬بل يفسد كذلك رزقك ودخلك‪ ،‬ألنك ستعوض النوم‬ ‫ُّ‬
‫والتأخر يف النوم ً‬
‫يف الصباح‪ ،‬حين توزع األرزاق‪ ،‬وحين تكون البركة يف األعمال‪.‬‬

‫‪ -2‬ق َّلة الحركة‪:‬‬

‫يقول اهلل ‪ ‬يف كتابه الحكيم‪ :‬ﱡﭐ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﱠ [البلد‪ ،]4 :‬و ﭐﱡﭐ ﱿ ﱠ فسره ٌ‬
‫كثير من‬
‫المفسرين بالعناء والشدة والنصب‪ ،‬حيث يكابد اإلنسان أمر الدُّ نيا واآلخرة‪ ،‬وهذه حقيقة ال بد من‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»574‬؛ كتاب مواقيت الصالة؛ باب «ما يكره من السمر بعد العشاء»‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال ابن ماجه عن الجدب‪ :‬يعني زجرنا عنه أي هنانا عنه‪..‬‬
‫(‪ )3‬سنن ابن ماجه «‪»703‬؛ أبواب «مواقيت الصالة»؛ باب «النهي عن النوم قبل صالة العشاء وعن احلديث بعدها»‪ ،‬وصححه‬
‫األرناؤوط‪.‬‬
‫(‪ )4‬تقصد الكاتب الذي يكتب األعمال‪ ،‬وهذه المقولة ليست على حقيقتها‪ ،‬وإنما من باب المـداعبة‪ ،‬كما نالحظ كيف دلعت عائشة‬
‫ڤ ابن أختها عروة بقولها‪« :‬يا عر ُّي»‪.‬‬
‫(‪ )5‬اإلحسان يف تقريب صحيح ابن حبان «‪»5547‬؛ باب «آداب النوم»‪ ،‬صححه األرناؤوط‪ ،‬واأللباين يف صحيح موارد الظمآن‪.‬‬
‫اب متفرق ٌة»؛ باب «من كره السمر بعد العتمة»‪ ،‬وصححه سعد‬
‫(‪ )6‬مصنف ابن أبي شيبة «‪»6845‬؛ كتاب «صالة التط ُّوع واإلمامة وأبو ٌ‬
‫الشثري‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪350‬‬

‫إدراكها من أجل صحة جيدة‪ ،‬حيث العمل والحركة متوجبان على اإلنسان ليحيا حياة صحية من‬
‫الركون إلى حياة الراحة والدعة‬
‫غير أمراض‪ ،‬وهذه فطرة اإلنسان التي فطره اهلل ‪ ‬عليها‪ ،‬أما ُّ‬
‫والسكون؛ فهو عكس هذه الفطرة‪ ،‬وهو ما يجلب للجسم األمراض واألسقام‪.‬‬
‫ُّ‬

‫ولو نظرنا يف التاريخ البشري منذ أن خلق اهلل آدم ڠ‪ ،‬فإنهم كانوا ماضين على نسق هذا‬
‫صباحا منذ طفولته‪ ،‬ثم يساعد والديه وأهله‪ ،‬ويعمل يف خارج البيت‬
‫ً‬ ‫فالرجل يستيقظ‬
‫القانون‪ُّ ،‬‬
‫ليال بال مكيف وال مروحة وال كهرباء‪ .‬والمرأة تساعد أمها يف‬
‫وداخله‪ ،‬ويأوي إلى الفراش ً‬
‫صغرها‪ ،‬ثم تتزوج قبل بلوغ العشرين‪ ،‬وتنتقل إلى بيت جديد تعمل فيه من بداية الصباح‪ ،‬فتطبخ‬
‫والضيوف‪ ،‬وهكذا كانت الحياة‪.‬‬
‫وتغسل وترعى األبناء وتكرم الزوج ُّ‬

‫أما يف زمننا كثرت أدوات الراحة والرفاهية‪ ،‬فانقلبنا على القانون الذي خلقه اهلل عز وجل‪،‬‬
‫حركاته بالسيارة أو المواصالت‪ ،‬ال يكاد يمشي إال دقائق يف اليوم‪،‬‬
‫حتى إن الواحد أصبح كل ت ُّ‬
‫وبعضهم استغنى عن العمل بالخدم والعمال والطباخين ليتمتع هو بالراحة‪ ،‬وما عرف أن الراحة‬
‫طريق إلى التعب والمرض‪ ،‬فيتفرغ هو لزيارة المستشفيات واألطباء‪ ،‬فيخسر ماله‬
‫ٌ‬ ‫الزائدة هي‬
‫السترجاع صحته‪ ،‬وال يزال يدفع للعمال ليقوموا بعمله نيابة عنه‪.‬‬

‫وال أقول‪ :‬إنه يجب علينا ترك وسائل الراحة والرفاهية‪ ،‬بل يجب علينا االتزان يف استعمالها‪،‬‬
‫ويجب علينا تعويض الحركة التي يفقدها الجسم بسبب نظامنا الحيايت الجديد الذي ابتكرناه‪،‬‬
‫فيجب على األقل تخصيص نصف ساعة متواصلة للمشي السريع كل يوم‪ ،‬ويجب علينا عدم‬
‫هم لصحتنا‪ ،‬كما يجب عدم االستعانة بالغير إال للحاجة‪،‬‬
‫االنسياق وراء ملهيات تلهينا عما هو م ٌّ‬
‫فملخص القول‪ :‬إنه لحياة صحية يجب التوازن بين الراحة والنشاط؛ حتى ال تتعبنا الراحة‪.‬‬

‫الَل ُمباالة‪:‬‬
‫‪َّ -3‬‬

‫هتم بشيء‪ ،‬يعيش الحياة بثقل عجيب‪ ،‬ال ته ُّمه صحته‬


‫هذه مصيبة انتشرت بين الناس‪ ،‬فهو ال ي ُّ‬
‫أي شيء من أموره الخاصة‪ ،‬كذلك وليس عنده اهتمام أو مباالة باألمور‬
‫وال أطفاله وال أمواله‪ ،‬وال ُّ‬
‫‪351‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫العامة بالمجتمع وبالمسلمين‪ ،‬يأكل كما يريد‪ ،‬ينام كما يريد‪ ،‬يذهب إلى المسجد وقتما يريد‪ ،‬يقود‬
‫السيارة كما يريد‪ ،‬يهمل أسرته كما يريد‪ ،‬وإذا سألته لماذا؟ قال‪ :‬اتركها على اهلل‪ .‬يف الحقيقة فعلك‬
‫هذا المباالة باهلل ‪ ‬وقوانينه‪ ،‬يجب أن يكون لديك أهداف تعيش من أجلها‪ ،‬ومصالح تسعى‬
‫أيضا‬
‫ألجلها‪ ،‬وأمور أنت مسؤول عنها أمام اهلل ‪ ‬يف الدُّ نيا واآلخرة‪ ،‬وكما أن اهلل غفور رحيم فهو ً‬
‫شديد العقاب‪.‬‬

‫‪ -٤‬المعاصي وال ُّظ ْلم‪:‬‬

‫كثرت ُّ‬
‫الذنوب والمعاصي التي تجلب للناس االبتالءات والعقوبات‪ ،‬وكما تقول الحكمة‪:‬‬
‫«ما نزل بالء إال بذنب‪ ،‬وال رفع إال بتوبة»‪ ،‬خاص ًة أن بعض ُّ‬
‫الذنوب اآلن انتشرت وسهلت أكثر من‬
‫الماضي‪ ،‬مثل النظر المحرم‪ ،‬إذ لم يكن هناك وسائل إعالم وأجهزة كهربائية يف الماضي مثل اآلن‪،‬‬
‫فكان محدو ًدا يف ظروف معدودة‪ ،‬ولو نوى الشخص ارتكاب معصية ولم يرتكبها لم تكتب عليه‪،‬‬
‫لكن لو تيسر له ارتكاهبا وارتكبها كتبت عليه‪ ،‬واستحق عقوبتها‪ .‬كذلك انتشرت المنكرات وقل‬
‫الحياء عند الناس‪ ،‬وزاد البالء سكوت الناس عن إنكار المنكرات‪ ،‬فتجد المصلي ال ينكر على‬
‫جاره الذي ال يصلي‪ ،‬وإنما األمر عندهم‪« :‬نفسي‪ ..‬نفسي»‪ ،‬وانتشر كذلك ال ُّظلم‪ ،‬ظلم الناس يف‬
‫جنب ربهم‪ ،‬وظلمهم ألنفسهم‪ ،‬وظلمهم بمن عليهم مسؤولية تجاههم‪ ،‬وظل ٌم بمن يخدموهنم أو‬
‫يعملون لهم‪ ،‬وظل ٌم بالحيوانات والنبات‪.‬‬

‫وكان األقدمون يعصون مع معرفتهم بالمعصية وإقرارهم بخطئها‪ ،‬فيتوبون إلى اهلل منها‪ ،‬أما يف‬
‫كثيرا من الناس أصبح يجوز ويربر لنفسه المعصية‬
‫عصرنا الحالي‪ ،‬فمما زاد المصائب وعقدها أن ً‬
‫التي يريدها‪ ،‬ويتبع كل فتوى تعجبه‪ ،‬ويهمل كل فتوى تسخطه‪ ،‬ويأخذ الدين هبواه‪ ،‬وليس بمراد‬
‫اهلل ‪ ،‬فيعمل المعصية ظانا أنه على صواب وطاعة‪ ،‬ثم ال يتوب لظنه عدم الحاجة إلى التوبة‬
‫منها‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪352‬‬

‫ويظ ُّن كثير من الناس أن عقوبة معاصيه وظلمه ينالها فقط يف اآلخرة‪ ،‬وما علم المسكين‪ ،‬أنه‬
‫يعاقب هبا يف الدُّ نيا قبل اآلخرة‪ ،‬ويكفي انعدام البركة عقوب ًة له يف حياته‪ ،‬فما بالك بغير ذلك من‬
‫العقوبات الدُّ نيوية؟ فالمعاصي والمظالم جالبة للعقوبة باألمراض والمصائب والويالت وغيرها‪،‬‬

‫وبدال من أن نتوب ونرد المظالم‪ ،‬نلجأ إلى من يعالج أبداننا‪ ،‬بينما داؤنا يف قلوبنا وضمائرنا‪ .‬ﱡﭐﳌ‬
‫ً‬

‫ﳍﳎﳏﳐﳑﳒﳓﳔﳕﱠ[الشورى‪.]30 :‬‬

‫يف المجال اإلداري‪:‬‬

‫اإلدراة علم وف ٌّن ومهارة‪ ،‬من أجادها جادت عليه حياته‪ ،‬ومن أساءها ساءت عليه حياته‪،‬‬
‫واألولون بالرغم من جهلهم بعلمها‪ ،‬إال أن تجارهبم اليومية كانت تعلمهم اإلدارة‪ ،‬ونمط حياهتم‬
‫كان بسي ًطا ال يحتاج إلى إدارة معقدة‪ .‬واإلدارة يمكن تع ُّلمها من تجارب الحياة‪ ،‬أو من دراسة‬
‫متخصصة لها‪ ،‬وبعضهم يكتسبها بالبداهة‪ ،‬ولكن يف عصرنا ق ٌ‬
‫ليل من يتعلم من تجاربه‪ ،‬ويخفف‬
‫من عناده ليتقبل تغيير نظامه‪ ،‬وهذه األخطاء اإلدارية تؤدي إلى الفشل وعدم اإلنجاز‪ً ،‬‬
‫وبدال من أن‬
‫يلوم الشخص جهله‪ ،‬أو يلوم عناده واستكباره أو المباالته‪ ،‬فإنه يلوم الناس ويقول‪ :‬حسدوين‬
‫وسحروين‪.‬‬

‫الروحية تساعدك يف عمل أخطاء إدارية‪ ،‬لكن دورها غالبًا ال يزيد على‬
‫صحيح أن األمراض ُّ‬
‫المساعدة والتشجيع الرتكاب األخطاء‪ ،‬لذلك إذا نظر الواحد منا إلى جميع الشركات والمتاجر‬
‫الروحية‪ ،‬بل يد ُّل على إدارة‬
‫المشهورة‪ ،‬فإن نجاحها ال يعني خلوها أو خلو أصحاهبا من األمراض ُّ‬
‫جيدة تستطيع التغ ُّلب على مكر األمراض ُّ‬
‫الروحية‪ ،‬ومن هذه األخطاء التي نعايشها‪:‬‬

‫‪ -1‬إدارة األَو َّ‬


‫لويات‪:‬‬

‫كل شيء تحتاجه أو تريده له درجة من األولوية‪ ،‬هذه األولوية تحددها عدة أمور عليك‬
‫اتباعها‪ ،‬إذا لم تعط األشياء درجة األولوية الصحيحة‪ ،‬وأخطأت يف ترتيبها يف سلم األولويات‪ ،‬فإنه‬
‫‪353‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫يؤدي إلى فشلك وعدم نجاحك‪ ،‬هذه األولويات قد تكون يف حياتك العامة‪ ،‬أو قد تكون يف دائرة‬
‫صغيرة مثل البيت أو العمل‪ ،‬كذلك إن خيرت بين ضررين وحصرت بينهما‪ ،‬توجب عليك‬
‫ارتكاب األخف منهما‪ .‬وأولى األولويات هو أداء حقوق اهلل عليك‪ ،‬والسعي يف إرضائه ‪ ،‬ثم‬
‫حقوق الناس بد ًءا بحقوق الوالدين‪ ،‬ثم من تجب عليك رعايتهم من زوج وأبناء وغيرهم‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫والسنن‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ويف دائرة حقوق اهلل تبدأ بأداء الفرائض والواجبات واجتنبات المنهيات‪ ،‬ثم النوافل‬
‫وعندما ندخل إلى دائرة البيت؛ فإمضاؤك وقتك مع أهلك أهم من إمضائه مع غيرهم‪ ،‬وتربية‬
‫أهم من كل ذلك‪ ،‬وهكذا يف‬
‫أهم من ترفيههم‪ ،‬وسدُّ جوعهم ُّ‬
‫أهم من تعليمهم‪ ،‬وتعليمهم ُّ‬
‫األوالد ُّ‬
‫كل دائرة من دوائر حياتك‪ ،‬عليك بجمع أعمالك وتصنيفها يف سلم األولويات‪ ،‬حتى تتوالى عليك‬
‫قديما كان من أولوياهتم الحفاظ على األسرة‬
‫اإلنجازات والنجاحات‪ ،‬ونالحظ أن الرجال والنساء ً‬
‫والصرب على ذلك‪ ،‬فكان االفرتاق ال يحصل بكثرة كبيرة أو بسهولة ولو كان هناك أسحار أو حسد‬
‫أو عيون‪ ،‬ولو كانت هناك مشاكل ال تعد وال تحصى بين الزوجين‪.‬‬

‫‪ -2‬إدارة األَوقات‪:‬‬

‫إذا علمت أولوياتك‪ ،‬فإنك تب ًعا لذلك توزع األوقات بينها‪ ،‬فال تعطي شي ًئا أكثر من الوقت‬
‫الذي يستح ُّقه‪ ،‬وال أقل من الوقت الذي يستح ُّقه‪ ،‬وإال بدأت مع المشاكل‪ ،‬ونالحظ أن أغلب‬
‫رب البيت مع أسرته‪ ،‬فتبدأ مشاكل‬
‫مشاكل األسر اليوم هي بسبب قلة الوقت الذي يقضيه ُّ‬
‫الزوجات واألبناء‪ .‬كذلك من الخطأ عدم إعطاء الوقت الكايف لما يحافظ على صحة الجسم‪،‬‬
‫وعدم إعطاء الوقت الكايف لتطوير الذات‪ ،‬والحفاظ على المهارات والمكتسبات‪.‬‬

‫‪ -3‬إدارة األموال‪:‬‬

‫أ‪-‬األَ َّ‬
‫ولويات‪ :‬إذا تعلمت إدارة األولويات‪ ،‬فستعرف ما هو األولى أن تدفع من أجله‪ ،‬فدفع‬
‫إيجار بيتك أولى من الكماليات‪ ،‬وادخارك لشراء بيت أولى من السفريات والرحالت‪ ،‬وأولى من‬
‫أهم من صرف المال يف لعبهم وترفيههم‪ ،‬وكونك‬
‫شراء سيارة فارهة‪ ،‬ومصاريف تعليم األبناء ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪354‬‬

‫تعرف مصاريفك األساسية خالل الشهر وإعطائها األولوية؛ يجعلك تحتفظ وتوفر المبلغ الالزم‬
‫لسداد هذه المصاريف‪ ،‬وإنفاق المال فيما يعود بالفائدة الدائمة‪ ،‬أولى من إنفاقه فيما يعود بفائدة‬
‫مؤقتة‪.‬‬

‫ب‪-‬اإلسراف‪ :‬هو تجاوز الحد يف صرف المال‪ ،‬واإلسراف يؤدي إلى انتهاء مالك بسرعة‬
‫كبيرة‪ ،‬وتقليل الربكة فيه‪ ،‬كما أن إلقاءك بالنعمة يف المخلفات بسبب شرائك ما يزيد منها عن‬
‫حاجتك؛ طريق لتولي النعم عنك‪ ،‬ونزول العقوبة عليك‪ ،‬فال تشرت إال ما تستعمله أو تأكله‪ ،‬وإن‬
‫هم‬
‫أخذت زيادة فتصدق به على من يستفيد منه‪ ،‬وعكس اإلسراف هو االقتصاد‪ ،‬واالقتصاد أمر م ٌّ‬
‫تع ُّلمه وممارسته لحياة خالية من اإلفالس والدُّ يون‪.‬‬

‫حتاجا لقرض من أجل ضرورة أو حاجة؛ قاصدً ا رد الدين يف‬


‫جـ‪-‬الدُّ يون‪ :‬إذا كان الشخص م ً‬
‫أقرب وقت ممكن‪ ،‬فال بأس بذلك‪ ،‬بل نبشره أن اهلل سيعينه‪ ،‬وسيؤديه عنه‪ ،‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫« َم ْن َأ َخ َذ َأ ْم َو َال النَّاس ُيرِيدُ َأ َدا َء َها َأ َّدى اللُ َعنْ ُه‪َ ،‬و َم ْن َأ َخ َذ ُيرِيدُ إِ ْتَلَ َف َها َأ ْت َل َف ُه اللُ»(‪ ،)1‬لكن اإلشكالية‬
‫يف من يستقرض من أجل الكماليات‪ ،‬وليس عنده خطة معينة إلرجاع المبلغ‪ ،‬بل إن بعض الناس‬
‫صاروا يستدينون لينفقوا فيما ال يرضي اهلل ‪ ،‬وكذلك يف عادات لن تفيدهم أمام اهلل شي ًئا‪ ،‬وأكرب‬
‫مثال على ذلك إقامة الحفالت والوالئم من غير القادر عليها‪ ،‬وإكرام الضيف بأكثر من الموجود‪،‬‬
‫زاع ًما أن ذلك من الدين والعادات‪ ،‬فأقول‪ :‬أو ًال‪ :‬إن اهلل عافاك من الحج لعدم استطاعتك المادية‬
‫الضيوف بما ال تملكه‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬كانت العادات‬
‫وديونك المرتاكمة‪ ،‬فمن باب أولى أنه عافاك من إكرام ُّ‬
‫أن الناس كانوا ساب ًقا يرعون الماشية يف بيوهتم‪ ،‬كما أن أسعارها كانت معقولة مقدور عليها‪ ،‬فكانوا‬
‫يجودون على الناس من الموجود عندهم‪ ،‬وبما هو يف استطاعتهم‪ ،‬ويكفينا أسو ًة رسول اهلل ﷺ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»2257‬؛ كتاب «االستقراض وأداء الدُّ يون والحجر والتفليس»؛ باب «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو‬
‫إتالفها»‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫أخطاء شائعة‬

‫الضيوف مثل ضيافتكم‪ ،‬فهل أنتم أفضل أو أحرص منه‬


‫الذي لم يكن يوجد يف بيته ما يضيف به ُّ‬
‫ﷺ؟ أم أن فهمكم للدين والعادات هو الخطأ؟! تجويع نفسك إلطعام غيرك قد يتقبل‪ ،‬أما‬
‫عقال‪ ،‬واستدانتك إلطعام غيرك مع عدم‬
‫تجويعك ألبنائك إلطعام الغير غير مقبول شر ًعا وال ً‬
‫قدرتك على السداد أشدُّ جنو ًنا وحم ًقا‪ ،‬أليس انقالب الدين إلى هم وغم لك يف الليل والنهار أشد‬
‫للضيوف؟ أليس موتك وعليك‬ ‫ٌ‬
‫فالن مسكي ٌن أو غير قادر على البذخ ُّ‬ ‫ررا من التعيير وأن يقال‪:‬‬
‫ض ً‬
‫هتم بالدُّ يون‬
‫ضررا ومصيبة من كالم الناس فيك وعنك؟ وإن كنت ال ت ُّ‬
‫ً‬ ‫ديون وحقوق للناس؛ أشد‬
‫وحقوق الناس؛ فتلك أشدُّ مصيب ًة وأعظم منك ًرا‪ ،‬ونيتك إتالف المال وعدم رده؛ مدعا ٌة ألن يتلفك‬
‫رضا ربو ًيا‪ ،‬فيمحق اهلل كل مالك الذي‬
‫اهلل كما سبق يف الحديث‪ ،‬واألسوأ من ذلك أن تستدين ق ً‬
‫اختلط هبذا القرض‪.‬‬
‫ِ‬
‫الفاشلة‪ :‬من عادات البعض أنهم إذا رأوا فكرة جيدة‪ ،‬أو خطرت ببالهم فكرة‬ ‫د‪-‬التجارات‬
‫ظنُّوها ممتازة‪ ،‬فإنهم يسعون إلى تطبيقها‪ ،‬والمشكلة أنه ال يجري لها دراسة مشروع‪ ،‬ويستشير‬
‫أصدقاء ليس لهم العلم والخربة الكافيان‪ ،‬أو قد ال يستشير أحدً ا‪ ،‬وعند االبتداء يفاجأ بمصاريف‬
‫مخفية لم يحسب حسبتها‪ ،‬وبعد االبتداء يصدم أن الناس ال تقبل على منتجه‪ ،‬إما لغالء السعر‪ ،‬أو‬
‫عدم اقتناعها بالمنتج‪ ،‬أو اختيار المنطقة الخاطئة‪ ،‬أو فشله يف التسويق‪ ،‬أو ألي سبب آخر‪ ،‬فيخسر‬
‫رأس ماله‪ ،‬ويضط ُّر لالستدانة ليكمل المشوار‪ ،‬فيستدين ويغرق يف الدُّ يون‪ ،‬ثم يغلق المشروع‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬حسدين الناس ولم يرتكوين يف حالي‪.‬‬

‫لو أن هذا الشخص اتخذ جميع الخطوات الصحيحة البتداء مشروع‪ ،‬من دراسة جدوى‪،‬‬
‫ورصد التكاليف الكاملة‪ ،‬وتوفير رأس مال يشغل المشروع لفترة طويلة من دون النظر إلى‬
‫األرباح‪ ،‬وعمل الدعاية المناسبة‪ ،‬وسط فئة مناسبة ترغب يف المشروع‪ ،‬حاس ًبا احتماالت الربح‬
‫خص‬
‫والخسارة‪ ،‬فهنا يمكن للواحد أن يتوقع أن هناك حسدً ا أو عينًا أو عدم توفيق من اهلل‪ ،‬أما ش ٌ‬
‫الروحية‪.‬‬
‫أهمل كل ما سبق‪ ،‬فعليه عالج إهماله‪ ،‬ال تربير ذلك بالحسد واألمراض ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪356‬‬

‫والمشكلة أنه مع عدم خربته يف التجارة‪ ،‬وعدم علمه بأسسها‪ ،‬فإنه قد يجد من يشاركه‬
‫المشروع ويساهم معه يف رأس المال‪ ،‬وبعد الخسارة يتهمه المساهم بالخداع والنصب ألنه لم‬
‫أيضا‪ :‬حسدين الناس؛ والخطأ خطأ المساهم إذ أعطى مساهمته من‬
‫باحا‪ ،‬ويقول المساهم ً‬
‫يعط أر ً‬
‫ستحق ذلك‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ال ي‬

‫وبعض ممن عندهم مشاريع‪ ،‬يخلط بين أمواله الشخصية‪ ،‬وبين أموال تشغيل المشروع‬
‫ٌ‬
‫األول‪ ،‬وأموال تشغيل المشروع الثاين‪ ،‬وهكذا‪ ،‬بعيدً ا عن قواعد المحاسبة المالية‪ ،‬فتنتهي أموال‬
‫تشغيل المشاريع‪ ،‬ويعلق يف منتصف الطريق‪ ،‬ويقول‪ :‬أصابني الحسد والعين‪.‬‬

‫يا أخي اذهب وتعلم ً‬


‫أوال فنون إدارة األموال والمشاريع‪ ،‬وقم بدراسة جدوى صحيحة ولو‬
‫كلفك ذلك ً‬
‫ماال‪ ،‬ثم شاور أهل الخربة المعروفين‪ ،‬ثم استخر اهلل‪ ،‬واعمل بطريقة صحيحة غير‬
‫فوضوية‪ ،‬وإن لم تستطع فاستعن بأمين ذي علم وخربة ليساعدك‪ ،‬ولو دفعت له جل مالك‬
‫ونصيبك‪ ،‬فقليل مضمون خير من كثير ضائع‪.‬‬

‫ويدخل يف هذا الباب من يشرتي أشياء رخيصة ذات جودة منخفضة فتفسد عليه سري ًعا‪ ،‬أو‬
‫يشرتي أشياء غالية ذات جودة عالية ثم يسيء استعمالها‪ ،‬ثم ً‬
‫بدال من أن يلوم نفسه يقول‪:‬‬
‫حسدوين‪ ،‬كلما اشرتيت شي ًئا فسد علي!!‬

‫تنبيه‪:‬‬

‫الروحية قد تساعد المريض يف ارتكاب األخطاء السابقة‪ ،‬لكن‬


‫أنبه إلى أني أ ُّقر بأن األمراض ُّ‬
‫مرضا روحيا‪ ،‬بل رأيي‬
‫هذا ال يعني العكس‪ ،‬فال يعني أن كل من ارتكب األخطاء السابقة فإن به ً‬
‫الروحية غال ًبا تعتبر عوامل مساعدة الرتكاب األخطاء وزيادة أثرها‪.‬‬
‫الشخصي أن األمراض ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫‪357‬‬ ‫دفاعا عن الرقاة‬

‫الرقاة‬
‫دفا ًعا عن ُّ‬

‫الرقاة إلى حملة وهجمة شرسة من غيرهم‪ ،‬ويتزعم هذه الحملة كثير من األطباء‬
‫يتعرض ُّ‬
‫الرقاة‪.‬‬
‫والعاملين يف مجال الصحة‪ ،‬متناسين أنهم هم السبب الرئيس يف انتشار ُّ‬

‫تأمل معي يا أخي هذا المثال‪ ،‬إذا كان هناك جيش نظامي معه جميع األسلحة والمعدات‬
‫العسكرية؛ ثم انسحب هذا الجيش من إحدى ال ُّثغور‪ ،‬فوجد األعداء الفرصة أمامهم مفتوحة لشن‬
‫الهجمات واالعتداء على المسلمين‪ ،‬فعند ذلك سينبري كثير من الناس للدفاع عن هذا الثغر‬
‫وحمايته‪ ،‬أكثرهم لن تكون عندهم الخربة القتالية التي عند الجيش‪ ،‬وقد يكون منهم من يقاتل‬
‫بالبندقية‪ ،‬ومنهم من يقاتل بالسيف‪ ،‬ومنهم من يقاتل بالحجارة‪ٌّ ،‬‬
‫وكل يبذل ما يستطيع من جهد‬
‫للدفاع‪ ،‬هؤالء يف الشرع محسنون أدوا ما يستطيعون بالكيفية التي يستطيعوهنا‪ ،‬وهؤالء يقول اهلل‬

‫‪ ‬عن أمثالهم‪ :‬ﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗﱠ ﭐ]التوبة‪ ،[91:‬وهؤالء ال يمكن لومهم البتة‪ ،‬بل‬


‫خيرا‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬أحسنتم وجزاكم اهلل ً‬

‫أما اللوم الحقيقي فإنه يقع على الجيش ومن يدير الجيش‪ ،‬لماذا هربوا وتركوا الثغر‬
‫واستصغروا أهميته واستهانوا به؟ لماذا تركوا واجبهم يف الدفاع عنه؟ والمشكلة أن الجيش ً‬
‫بدال‬
‫قائال‪ :‬هؤالء ال يعرفون القتال‪،‬‬
‫من أن يعترف بخطئه فإنه أصبح يلوم المتطوعين والمحسنين ً‬
‫وهؤالء معدومي الخربة‪ ،‬وهؤالء ضررهم أكثر من نفعهم‪ ،‬وهم يقاتلون ليجمعوا األموال والغنائم‬
‫وليس للدفاع عن المسلمين‪ ،‬فيا سبحان اهلل كيف يقلبون األمور!!‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪358‬‬

‫الروحية‪ ،‬وال‬
‫هتموا باألمراض ُّ‬
‫الرقاة‪ ،‬فإن األطباء لم ي ُّ‬
‫هذا ما نراه بأنفسنا بين األطباء و ُّ‬
‫بالمذاهب الطبية األخرى‪ ،‬وحصروا جهدهم وتعليمهم يف الطب الغربي‪ ،‬وتركوا غير ذلك إما‬
‫الرقاة ممن ال يفهم يف الطب شي ًئا‪ ،‬وال يفهم مصطلح‬
‫إنكارا لها أو تهاو ًنا هبا‪ .‬فانبرى جمع من ُّ‬
‫ً‬
‫األبحاث كما ينبغي‪ ،‬وربما وجدت بعضهم ليس عنده شهادة دراسية أو جامعية‪ ،‬والجامعيون‬
‫منهم غالبًا ليس لهم أدنى عالقة بالطب‪ ،‬انبروا محسنين متطوعين لكشف كربات المسلمين‪،‬‬
‫وعالج مرضاهم‪ ،‬ومحاولة سد النقص الذي تسبب به األطباء‪ ،‬فكانت ردة الفعل من األطباء ً‬
‫بدال‬
‫الرقاة جهلة‬
‫وهنارا بالقول بأن ُّ‬
‫ً‬ ‫ليال‬
‫من أن يباركوا ويشجعوا ويتعاونوا‪ ،‬فإنهم أصبحوا يهاجموهنم ً‬
‫ال يفهمون شي ًئا‪ ،‬وال يستطيعون إثبات ما يفعلونه بطريقة علمية‪.‬‬

‫للرقاة أن يثبتوا علميا ما يفعلونه وهم محاربون ال يستطيع الواحد منهم أن يعمل‬
‫كيف يمكن ُّ‬
‫بأريحية‪ ،‬وليس مدعو ًما بدعم يساعده على اإلثبات‪ ،‬ولو جمعت رقاة المنطقة الواحدة‬
‫وإمكانياهتم جمي ًعا المادية والعلمية؛ فإنه لن يكون بإمكانك إنشاء أصغر مركز أبحاث‪ ،‬فكيف‬
‫الرقاة‪ ،‬هل تجد واحدً ا منهم‬
‫تريدهم أن يثبتوا ذلك علميا‪ .‬العجيب أنك إذا نظرت إلى جميع ُّ‬
‫طبي ًبا؟ أنا شخصيا ال أعرف أي طبيب أو حتى ممرض مشهور عنه أنه راق‪ ،‬ولو وجد فسيكون مثل‬
‫شعرة سوداء بين شعر أبيض وذلك من ندرته‪.‬‬

‫وفعل منتسبي الطب الغربي هذا ال يد ُّل على ُّ‬


‫التهرب من المسؤولية فحسب‪ ،‬وإنما هو دليل‬
‫التعصب المذهبي واإلرهاب الفكري‪ .‬نعم هم متعصبون لمذهبهم‬
‫ُّ‬ ‫كذلك على إصابتهم بمرض‬
‫ب الغربي‪ ،‬أقوالهم يعتبروهنا صحيحة ال تحتمل أي خطأ‪ ،‬وأقوال غيرهم‬
‫الطبي والذي هو الط ُّ‬
‫ك ُّلها خطأ وظنون‪ ،‬هم العالمون بكل األمور‪ ،‬وغيرهم جهلة ال يفهمون شي ًئا‪ ،‬وال يصلون إلى‬
‫مستوى فهمهم‪.‬‬

‫نسأل اهلل أن يهديهم وأن يبصرهم ويفتح قلوهبم ويشرح صدورهم‪ ،‬فالجميع إخوة‪ ،‬والجميع‬
‫تعصب وال حقد وال حسد‪.‬‬
‫أحبة‪ ،‬والجميع يجب أن يعمل لمصلحة واحدة عليا‪ ،‬من دون ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫‪359‬‬ ‫دفاعا عن الرقاة‬

‫كثيرا من أطباء المسلمين ممن تعلموا وبرزوا يف الطب الغربي ‪-‬خاص ًة ممن‬
‫والمالحظ أن ً‬
‫شابت لحاهم يف الطب الغربي‪ ،-‬قد بدأوا يدركون الحقائق‪ ،‬وبدأوا يمدُّ ون أيديهم لغيرهم‪ ،‬وبدأوا‬
‫التوسع والبحث خارج مذهبهم‪ ،‬أو على األقل يتعاونون مع غيرهم‪ ،‬لهم مني كل االحترام‬
‫ُّ‬ ‫يف‬
‫والتقدير‪ ،‬وكذلك لهم كل المحبة والتبجيل‪ ،‬واهلل الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪360‬‬
‫‪361‬‬ ‫دعوة وعتاب‬

‫دعوة وعتاب‬

‫كلمات من القلب أبعثها عتا ًبا إلى إخوة لي أح ُّبهم يف اهلل وأحرتمهم‪ ،‬وأقدر علمهم‬
‫ٌ‬
‫ورا وإنا ًثا‪ ،‬والذين درسوا تحت‬
‫وجهودهم‪ ،‬وهم أطباء المسلمين والمخت ُّصون باألبحاث الطبية ذك ً‬
‫مظلة نظام الطب الغربي‪ ،‬وعتابي م ٌ‬
‫سبوق بعلمي أهنم ما تعلموا هذا العلم وال دخلوا هذا المجال‬
‫كبير‬
‫رف ٌ‬ ‫إال ليخدموا اإلسالم والمسلمين‪ ،‬بل ليخدموا البشرية جمعاء‪ .‬فالتطبيب مهن ٌة عظيم ٌة وش ٌ‬
‫ال غنى للبشرية عنه مهما تبدلت األحوال واأليام‪ .‬أقول لهم‪ :‬إخواين قد علمتم أن الطب الغربي قد‬
‫فشل يف معالجة الكثير من األمراض واألوبئة‪ ،‬ولم يستطع تقديم تفسيرات لكثير من الحاالت‪،‬‬
‫وقد تجاهل وأنكر يف أبحاثه الجن والعين التي أنتم مؤمنون هبا‪ ،‬وتق ُّرون بوجودها وبضررها؛‬
‫والسنة ثم بالمشاهد والواقع‪ ،‬كذلك أنكر الطب األصيل الذي عاشت عليه‬
‫وذلك بأدلة الكتاب ُّ‬
‫وحي منز ٌل من السماء؟!‬
‫ٌ‬ ‫كثير منكم مع الطب الغربي وكأنه‬
‫البشرية آالف السنين‪ ،‬فلم يتعامل ٌ‬
‫قديم منذ أن‬
‫ٌ‬ ‫ولماذا تلزمون أنفسكم وعلمكم االقتصار على هذا المذهب الجديد؟ علم الطب‬
‫طارئ جديدٌ ناك ٌر لما قبله‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ب الغربي إال‬
‫خلق اهلل آدم ڠ‪ ،‬وتنوعت مذاهبه وطرقه‪ ،‬وما الط ُّ‬
‫وسع خارجه؟ لماذا جعلتم أنفسكم أسرى ألبحاث‬
‫فلماذا حصرتم أنفسكم فيه؟ ولماذا رفضتم الت ُّ‬
‫الغرب ومصانع أدويته؟ لماذا تص ُّرون على التقوقع واالنغالق على ما جاءكم من هذا الطب؟ إننا‬
‫عصب المذهبي يف الفقه‪ ،‬فلماذا تصابون أنتم‬
‫كثيرا من المسلمين تركوا الت ُّ‬
‫نفرح ونسعد حين نرى ً‬
‫عصب المذهبي يف الطب؟ أهو اتباع المغلوب للغالب؟ أم هو من االنبهار بالتقنية واألجهزة‬
‫بالت ُّ‬
‫الحديثة؟ أم هو مجارا ٌة لبقية المسلمين يف اتباع وتقفي كل ما هو غربي؟‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪362‬‬

‫مثلكم يف حصر الطب يف هذا المذهب مثل الذين يحصرون دين اهلل ورسوله ﷺ يف مذهب‬
‫فقهي واحد‪ ،‬ويدعون له الكمال والصحة‪ ،‬وما علموا أن علم اهلل ورسوله ﷺ ال يمكن حصره‬
‫وعدُّ ه من قبل البشر‪ ،‬وأنتم بنفس الطريقة حصرتم علوم الطب يف الطب الغربي‪ ،‬مع أنه هناك‬
‫مذاهب طبي ٌة أقدم أثبتت النجاح يف المعالجة‪ ،‬مثل الطب اليوناين‪ ،‬والذي اعتنى به وطوره العلماء‬
‫المسلمون؛ فأصبح فيما بعد مشته ًرا بالطب اإلسالمي‪ ،‬ومثل الطب الصيني‪ ،‬والطب الهندي‬
‫وغيره‪ ،‬ولدينا قدوة حسنة يف الطب النبوي وطب السلف ومن بعدهم‪ ،‬وطب أجدادنا األقربين يف‬
‫بدونا وحضرنا وقرانا ومدننا‪ ،‬ك ُّل ذلك منه ما هو م ٌ‬
‫نقول إلينا بالتواتر طرقه ونتائجه‪ ،‬فال يص ُّح إلقاء‬
‫كل هذا وإنكاره‪ ،‬كما ال يعقل وصف كل ما سبق بالجهل‪ ،‬فهذا هو عين الجهل والحمق والعياذ‬
‫باهلل‪.‬‬

‫وبعد العتاب؛ لكم مني دعو ٌة للتو ُّسع يف جميع علوم الطب‪ ،‬دعو ٌة للوقوف بحياد وتج ُّرد تجاه‬
‫جميع المذاهب الطبية‪ ،‬دعو ٌة لكي تستقل أبحاثنا عن غيرنا‪ ،‬دعو ٌة لكم لالنطالق يف أبحاث نابعة‬
‫عن إيماننا ومعتقداتنا‪ ،‬دعو ٌة لالنفتاح على جميع المذاهب الطبية‪ ،‬دعو ٌة إلى تطبيق آداب الخالف‬
‫والحوار بين هذه المذاهب الطبية‪ .‬هي دعو ٌة لتصحيح المسار التاريخي للطب‪ ،‬دعو ٌة للقيام‬
‫بأبحاث طبية تدرس الجن وماهيته وتأثيره على اإلنسان‪ ،‬وكذلك أبحاث تتعلق بجميع األمراض‬
‫الروحية وماهيتها وأثرها على اإلنسان‪ .‬كذلك دعوة لتع ُّلم جميع المذاهب للجمع بينها حتى نصل‬
‫ُّ‬
‫إلى الطب الشامل‪ ،‬هي دعو ٌة إلى بداية صحيحة تؤدي إلى انتهاء جميع األمراض‪ ،‬وتذكروا دو ًما‬
‫أنه من صعد أول درجة يف سلم أي علم ظن نفسه أعلم الناس‪ ،‬روي عن الشعبي ‪ $‬قوله‪« :‬العلم‬
‫ثالثة أشبار‪ ،‬فمن نال شرب ًا منه؛ شمخ بأنفه وظن أنه ناله ‪-‬أي ظن أنه نال العلم‪ ،-‬ومن نال منه‬
‫‪363‬‬ ‫دعوة وعتاب‬

‫الشرب الثاين؛ صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله‪ ،‬وأما الشرب الثالث فهيهات ال يناله أحد ًا أبد ًا»(‪.)1‬‬
‫وقيل كذلك‪« :‬العلم ثالثة أشبار‪ ،‬من دخل يف الشرب األول تكبر‪ ،‬ومن دخل يف الشرب الثاين تواضع‪،‬‬
‫أيضا‪« :‬ال يزال‬
‫ومن دخل يف الشرب الثالث علم أنه ال يعلم شيئا‪ ،‬فاحذر أن تكون أبا شرب»‪ ،‬وقيل ً‬
‫الرجل عال ًما ما طلب العلم؛ فإذا ظن أنه علم فقد جهل»‪ ،‬واهلل وحده الموفق لما فيه الخير‬
‫والصالح‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬أدب الدنيا والدين للماوردي؛ الباب الثاين «آداب العلم»؛ فصل يف «آداب العلماء»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪364‬‬
‫‪365‬‬ ‫تنبيهات للفقهاء‬

‫تنبيهات للفقهاء‬

‫هذه بعض النقاط التي رأيت من المهم تنبيه العلماء والفقهاء إليها‪ ،‬حتى تساعدهم يف أداء‬
‫أمانتهم ورسالتهم إلى الناس على أكمل وجه‪ ،‬فهم ورثة األنبياء‪ ،‬ويحملون أشرف العلوم‪ ،‬وح ُّقهم‬
‫علينا كبير وعظيم‪ ،‬أسأل اهلل لهم التوفيق والسداد‪ ،‬والرفعة واإلخالص‪.‬‬

‫التنبيه األول‪:‬‬

‫كما أن األنبياء عليهم السالم كانوا بش ًرا؛ جمعوا بين رسالة اهلل واصطفائه لهم وبين البشرية‪،‬‬
‫فإن العلماء كذلك جمعوا بين إرث النُّبوة الذي هو العلم الشرعي‪ ،‬وبين بشريتهم التي ولدوا‬
‫عليها‪ ،‬وكوهنم بش ًرا يعني أن لهم تجارب يف الحياة‪ ،‬وعلو ًما أخرى دنيوية تعلموها أو تثقفوها إلى‬
‫ٌ‬
‫إشكال يحصل؛ إذا أصدروا فتاوى يف أمور دنيوية؛ مبنية على‬ ‫جانب العلوم الشرعية‪ ،‬لكن هناك‬
‫علمهم الشرعي وخربهتم الدُّ نيوية م ًعا؛ بال توضيح يف الفرق بينهما‪ .‬ووجه اإلشكال أن من‬
‫يستفتيهم؛ غال ًبا يبحث عن حكم الدين يف المسألة‪ ،‬لكن الجواب الناتج عن الخربة والعلم‬
‫مثال لو سأل سائل عن حكم يف أمر دنيوي؛‬
‫الدُّ نيوي يوهم السائل أن كل الفتوى من أصل الدين‪ً ،‬‬
‫قد حكمت الشريعة فيه باإلباحة‪ ،‬ولكن الخربة تقول بأنه غير ممكن‪ ،‬فيجيب المفتي بقوله‪« :‬ال‬
‫صح» اعتما ًدا على خربته الدُّ نيوية‪ ،‬فإن السائل قد يفهم أن المعنى هو أن هذا األمر‬
‫يمكن» أو «ال ي ُّ‬
‫حرام شر ًعا ال يجوز فعله‪ ،‬واألصوب أن يقول المفتي ‪«:‬من حيث الشريعة ليس فيه بأس‪ ،‬ولكن‬
‫صح ما سألت عنه»‪ ،‬وذلك حتى ال يلتبس على السائل‬
‫من خربيت أقول لك ال يمكن هذا وال ي ُّ‬
‫حكم الشرع وحكم الخربة‪ .‬ثم إن العلوم الدُّ نيوية تتغير من زمن آلخر‪ ،‬ولذا األفضل على المفتي‬
‫خصص‪ ،‬دون إبداء رأيه غير الشرعي فيها‪.‬‬
‫أن يحيل أمرها إلى أصحاب الت ُّ‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪366‬‬

‫التنبيه الثاين‪:‬‬

‫هذا التنبيه ذكرته يف فصل «الطب األصيل»‪ ،‬وألهميته أكرره هنا‪ ،‬فأقول‪ :‬إن اهلل ‪ ‬لما خلق‬
‫الدواء لم يحصره يف مذهب طبي معين‪ ،‬وال جاء اإلسالم بنصرة مذهب طبي على آخر‪ ،‬بل ترك‬
‫األمر لالجتهاد البشري‪ .‬لكن لألسف الشديد؛ كان لغلبة مذهب الطب الغربي وانتشاره يف السنين‬
‫كبيرا يف حصر الفتاوى الطبية على ما يقف عليه هذا المذهب دون غيره‪،‬‬
‫ورا ً‬‫القريبة الماضية؛ د ً‬
‫واتخاذ الطب الغربي ومدرسته كمعيار للفتاوى واألحكام الشرعية يف المسائل الطبية‪ ،‬ورفض ما‬
‫صح البتة‪ ،‬بل واجب الفقهاء عند إصدار الفتاوى أن‬
‫سواه من مذاهب طبية أخرى‪ ،‬وهذا ال ي ُّ‬
‫يستمعوا لجميع األطباء المسلمين العدول من جميع المذاهب الطبية‪ ،‬ثم يصدروا أحكامهم‪.‬‬
‫وسؤال من درس الطب الغربي عن المذاهب الطبية األخرى هو مثل سؤال أصحاب مذهب فقهي‬
‫كروها أو محر ًما يف‬
‫ً‬ ‫ب أو واجب يف مذهب ما؛ فإنه قد يكون م‬
‫عن مذهب فقهي آخر‪ ،‬فما هو مستح ٌّ‬
‫الرجوع لألدلة والنظر فيها للترجيح‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫مذهب آخر‪ ،‬وال بد للمجتهدين من ُّ‬

‫التنبيه الثالث‪:‬‬

‫ص لطالب العلم‪ ،‬والعلماء يف غنًى عن هذا التنبيه لعلمهم وفهمهم له سل ًفا‪،‬‬


‫هذا التنبيه مخص ٌ‬
‫ولكن من باب الذكرى أذكرهم‪ ،‬وأنبه طالب العلم لهذا التنبيه المهم‪ ،‬وذلك أنني أصبحت أرى‬
‫طالب العلم يخلطون يف آلية الحكم والترجيح بين العلوم الشرعية والعلوم الدُّ نيوية أو الطبية‪ ،‬ففي‬
‫تم ترجيح ما ترجح بنا ًء على ذلك‪ ،‬أما علوم‬
‫العلوم الشرعية تستعرض األدلة وأقوال العلماء‪ ،‬ثم ي ُّ‬
‫ب‬
‫الدُّ نيا فهي تطبيقية بحتة‪ ،‬والترجيح فيها يكون عن علم وخربة وتجربة‪ ،‬فال يص ُّح أن يقرأ طال ٌ‬
‫كتب الطب لعلماء المسلمين؛ ثم يقارن بينها يف مسائل لم يرد عليها دليل شرعي؛ ثم ينتهي إلى‬
‫مثال يقول‪ :‬إن األرجح هو أخذ سبع حبات من الحبة السوداء كل يوم‪،‬‬
‫الترجيح فيها بشكل نظري‪ً ،‬‬
‫الضحى‪ ،‬أو أن األفضل أن يؤخذ القسط مع العسل‪ ،‬فهذه ك ُّلها نتائج‬
‫أو األفضل االحتجام بعد ُّ‬
‫تبنى على تجارب‪ ،‬كتبها العلماء السابقون بنا ًء على تجارهبم‪ ،‬نعم يمكن لطالب العلم أن ينقل ما‬
‫‪367‬‬ ‫تنبيهات للفقهاء‬

‫صح له أن يرجح أو يفضل أو يحكم بال تجارب وال برهان على ذلك‪.‬‬
‫سطره السابقون‪ ،‬لكن ال ي ُّ‬
‫الرقية نجد من ال يرقي يقول‪ :‬أميل أن يرقى كذا وكذا‪ ،‬واألفضل للجن والعين كذا وكذا؛‬
‫كذلك يف ُّ‬
‫وهو لم يجرب على أحد‪ ،‬وليس عنده أية خربة عملية حتى يبين ما هو األفضل واألنفع‪ ،‬فأحببت‬
‫التنبيه لهذه المسألة حتى يتوقف عن الكالم والترجيح من ال يح ُّق له ذلك‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪368‬‬
‫‪369‬‬ ‫االجتهاد الطبي‬

‫االجتهاد الطبي‬

‫لو نظرنا إلى العلوم الشرعية؛ فبإمكاننا تصنيف من تعلمها حسب ما تعلم‪ ،‬فهناك الفقيه الذي‬
‫درس الفقه‪ ،‬وهناك األصولي الذي درس األصول‪ ،‬وهناك المفسر الذي درس التفسير‪ ،‬وهناك‬
‫القارئ الذي درس القراءات‪ ،‬والمحدث الذي درس علم الحديث‪ ،‬ومعهم ال ُّلغوي الذي درس‬
‫علوم ال ُّلغة‪ ،‬لكن كل واحد من هؤالء ال يمكن أن يصبح مجتهدً ا يح ُّق له االجتهاد الكلي يف‬
‫الشريعة‪ ،‬بل هؤالء أكثر ما يمكنهم فعله هو اختيار ما يرونه أصح األقوال يف مجالهم الذي برعوا‬
‫فيه وحده وتقديمها للناس‪ .‬أما للوصول إلى مرحلة االجتهاد الشرعي‪ ،‬فيجب على المجتهد‬
‫اإللمام بجميع العلوم الشرعية باإلضافة إلى المعرفة الدُّ نيوية باألمور التي يتطلب االجتهاد فيها‪.‬‬

‫ثال دنيويا‪ ،‬عندما يبزغ الضوء على وجه النباتات وأوراق الشجر‪،‬‬
‫ولنبتعد عن الفقه لنأخذ م ً‬
‫فإن الورقة تقوم بامتصاص ثاين أكسيد الكربون وتغييره إلى أكسجين ثم إرجاعه إلى الهواء‪،‬‬
‫ولذلك تسمى الغابات برئة العالم‪ ،‬وتسمى هذه العملية بالتمثيل الغذائي‪ ،‬ولفهم هذه العملية‬
‫يجب على الباحث أن يكون عنده فكرة عن األحياء والفيزياء والكيمياء م ًعا‪ ،‬فال يستطيع الكيميائي‬
‫وحده بحث هذه المسألة‪ ،‬وال الفيزيائي وحده‪ ،‬وال الذي تخصص يف علم األحياء فقط‪ ،‬وإنما كما‬
‫قلت ساب ًقا‪ ،‬يجب من تو ُّفر العلوم الثالثة لديه‪.‬‬

‫فمثال إذا عرضت سيارتك على الميكانيكي قد‬


‫وهذا المثال ينطبق على كل شيء يف حياتنا‪ً ،‬‬
‫تجد لديه جوا ًبا لمشكلتك‪ ،‬وإذا عرضت السيارة على الكهربائي ستجد جوا ًبا آخر لنفس‬
‫شخصا يجيد الميكانيكا وكهرباء السيارات يف وقت واحد‪.‬‬
‫ً‬ ‫المشكلة‪ ،‬واألفضل أن تجد‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪370‬‬

‫نعود إلى الطب وعالج األمراض‪ ،‬لدينا يف الوقت الحالي رقاة يحاولون مواجهة األمراض‬
‫وحدهم وبطريقتهم الخاصة‪ ،‬ومن درس الطب الغربي ينظر إلى األمراض بعينيه فقط‪ ،‬ومن درس‬
‫الطب اليوناين ال يلتفت إلى شيء آخر‪ ،‬ومن درس الطب الصيني ال يبالي بأي علم غيره‪ ،‬وصاحب‬
‫كل مذهب طبي على نفس هذا المنوال‪ ،‬هؤالء قد يعالجون بعض األمراض‪ ،‬أو أجزا ًء لبعض‬
‫األمراض‪ ،‬لكنهم لن يصلوا أبدً ا إلى مرحلة االجتهاد الطبي الكلي؛ وال إلى التشخيص الصحيح‬
‫الكامل؛ حتى يعملوا م ًعا أو يتعلموا كل المدارس المختلفة‪ ،‬أما غير ذلك فعالجهم سيكون ناق ًصا‬
‫ولن يحق لهم االجتهاد الكلي يف الطب‪.‬‬

‫ولذا أرى لزا ًما لكي نسعى نحو طب شامل يعالج كل مرض؛ أن نسعى إلى جمع طرق‬
‫التشخيص والعالج لدى جميع المذاهب الطبية‪ ،‬ثم نجمع بينها قدر اإلمكان‪ ،‬وإن لم يمكن‬
‫الجمع؛ فنأخذ منها ما يثبت‪ ،‬ونترك ما تحققنا من خطئه‪ ،‬وذلك إما بتمكين طالب عندهم آلية‬
‫التوصل إلى النتائج المطلوبة‪ ،‬وقد يستغرق‬
‫ُّ‬ ‫وكفاءة االجتهاد؛ من دراسة جميع المذاهب الطبية ثم‬
‫تم ترشيح‬
‫هذا األمر عدة سنوات‪ ،‬أو بإحضار طبيبين أو أكثر من كل مذهب يف مركز لألبحاث‪ ،‬وي ُّ‬
‫هؤالء األطباء من المعتمدين يف مذهبهم الطبي‪ ،‬ثم النظر فيما يقوله كل مذهب عند الكشف على‬
‫المرضى وعالجهم‪ ،‬وهذا سيؤدي بإذن اهلل إلى النتائج المرجوة‪ ،‬أما انفراد كل طبيب بمذهبه‪،‬‬
‫وتغريد كل طير يف سربه فقط‪ ،‬فإن هذا سيبقينا يف دوامة األمراض بال انتهاء‪.‬‬

‫يمكننا القول بأن الطب اآلن هو مثل لعبة تجميع األجزاء المتناثرة حتى تكون صورة كاملة‪،‬‬
‫بعض من هذه األجزاء‪ ،‬وجمع‬‫الروحية‪ -‬لديه ٌ‬ ‫الرقية واألمراض ُّ‬
‫وكل مذهب طبي ‪-‬يشمل ذلك ُّ‬
‫هذه األجزاء م ًعا أراه سيؤدي إلى الطب المتكامل الشامل بإذن اهلل‪ .‬وقول رسول اهلل ﷺ‪« :‬لِكُل‬
‫‪371‬‬ ‫االجتهاد الطبي‬

‫اء َب َر َأ بِإِ ْذ ِن الل ِ ‪)1(»‬؛ يمكن االستنباط منه أن لكل داء قانو ًنا ونظا ًما‬
‫اء دواء‪َ ،‬فإِ َذا ُأ ِصيب دواء الدَّ ِ‬
‫َ ََ ُ‬
‫ٍ‬
‫َد َ َ‬
‫أكيدً ا للعالج والبرء‪ ،‬يختلف هذا القانون حسب اختالف العوامل المتعلقة بالداء‪ ،‬ولمعرفة هذا‬
‫القانون فإنه سيتحتم النظر إلى الطب المتكامل‪ ،‬واهلل الهادي والموفق‪ ،‬وهو المستعان ‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم «‪»2204‬؛ كتاب «السالم»؛ باب «لكل داء دواء‪ ،‬واستحباب التداوي»‪.‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪372‬‬
‫‪373‬‬ ‫اخلامتة‬

‫الخاتمة‬

‫الحمد هلل الذي يسر لي الختام‪ ،‬والصالة والسالم األتمان األكمالن على من أرسله اهلل رحمة‬
‫لألنام‪ ،‬أرجو أن أكون قد وفقت يف تناول الموضوع‪ ،‬وإيصال المعلومات‪ ،‬وبيان الحقائق‪،‬‬
‫وعقال يف المسائل‬
‫ً‬ ‫وتصحيح المفاهيم‪ ،‬كما أرجو أن يكون قد اتضح للقارئ ما هو الصواب شر ًعا‬
‫المذكورة يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫وكل توفيق وصواب وصحة فيما كتبته فهو من اهلل ‪ ‬وحده‪ُّ ،‬‬
‫وكل خطأ وزلل فمن نفسي‬ ‫ُّ‬
‫ومن الشيطان‪ ،‬أسأل اهلل القبول واإلخالص فيما كتبت‪ ،‬والنفع والفائدة لسائر من قرأ‪ ،‬واألجر‬
‫والمثوبة لكل من علق ونبه‪.‬‬

‫كما أكرر شكري إلى كل من ساعدين على إنجاز الكتاب‪ ،‬وأسأل اهلل أن يجزيه خير الجزاء يف‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫اطبي ‪ $‬يف ألفيته المعروفة بـ «حرز األماين ووجه التهاين»‪:‬‬


‫يقول اإلمام الش ُّ‬
‫السوق أجمال‬
‫ينادى عليه كاسد ُّ‬ ‫أخي أ ُّيها المجتاز نظمي ببابه‬
‫باإلغضاء والحسنى وإن كان هله ًال‬ ‫وظن به خي ًرا وسامح نسيجه‬
‫واالخرى اجتها ٌد رام صو ًبا فأمحال‬ ‫وسلم إلحدى الحسنيين‪ :‬إصاب ٌة‪،‬‬

‫من الحلم وليصلحه من جاد مقو ًال‬ ‫وإن كان خر ٌق فادركه بفضلة‬
‫لطاح األنام الك ُّل في الخلف والقال‬ ‫وقل صاد ًقا لوال الوئام وروحه‬
‫تحضر حظار القدس أنقى مغسال‬ ‫الما صد ًرا وعن غيبة فغب‬
‫وعش س ً‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪374‬‬

‫وأطلب من الجميع الدُّ عاء لي ولوالدي وألسريت ولمشايخي بالمغفرة والرضوان‪ ،‬وتيسير كل‬

‫خير يف كل زمان‪ ،‬اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه‪ ،‬وأرنا الباطل باط ًال وارزقنا اجتنابه‪ ،‬ﱡﭐﲴﲵ‬

‫ﳆﳈﳉ‬
‫ﳇ‬ ‫ﲺ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ‬
‫ﲻ‬ ‫ﲶﲷﲸﲹ‬

‫ﳕ ﳗﳘﳙﳚﳛﳜ ﱠ‬
‫ﳖ‬ ‫ﳏﳑﳒﳓﳔ‬
‫ﳊ ﳋﳌﳍﳎ ﳐ‬
‫[البقرة‪.]286 :‬‬

‫يم‪ ،‬إِ َّن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬ك َما َص َّل ْي َ‬
‫«ال َّل ُهم َصل َع َلى م َحم ٍد َو َع َلى ِ‬
‫ك‬ ‫ت َع َلى إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪َ ،‬و َع َلى آل َإ ْب َراه َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬ك َما َب َار ْك َ‬
‫ار ْك َع َلى م َحم ٍد َو َع َلى ِ‬‫جيد‪ ،‬ال َّل ُه َّم َب ِ‬ ‫َح ِميد َم ِ‬
‫يم َو َع َلى آل إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪،‬‬ ‫ت َع َلى إِ ْب َراه َ‬ ‫ُ َّ‬
‫جيد»(‪.)1‬‬ ‫ك َح ِميد َم ِ‬ ‫إِ َّن َ‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري «‪»3190‬؛ كتاب «األنبياء»؛ باب «ﱡﭐﲝﱠ [الصافات‪ ،]94 :‬النسالن يف المشي»‪.‬‬
‫‪375‬‬ ‫الفِهرس‬

‫ِ‬
‫الفهرس‬

‫المقدمة ‪5 .......................................................................................‬‬
‫مصادر المعرفة ‪7 ................................................................................‬‬
‫حقيقة أم خيال؟ ‪11 ..............................................................................‬‬
‫علم الغيب ‪25 ...................................................................................‬‬
‫الرقية ‪33 .........................................................................................‬‬
‫النُّشرة ‪71 ........................................................................................‬‬
‫حكم التداوي ‪75 ................................................................................‬‬
‫القرآن أم األسباب؟‪91 ...........................................................................‬‬
‫تحريم ما أحل اهلل ‪97 .............................................................................‬‬
‫الطب األصيل ‪121 ..............................................................................‬‬
‫األمراض الروحية ‪177 ..........................................................................‬‬
‫إبليس الشيطان والجن ‪195 ......................................................................‬‬
‫الج ُّن ‪201 .......................................................................................‬‬
‫العين والحسد ‪217 ..............................................................................‬‬
‫عالج العين والحسد ‪233 ........................................................................‬‬
‫السحر ‪241 ......................................................................................‬‬
‫وقفات مع األسحار التي أصابت رسول اهلل ﷺ وزوجاته رضي اهلل عنهن ‪257 ...................‬‬
‫الرقية بني الشرع والطب‬ ‫‪376‬‬

‫عالج السحر ‪275 ...............................................................................‬‬


‫ف ُّك السحر بالسحر ‪281 .........................................................................‬‬
‫الم ُّس ‪289 ......................................................................................‬‬
‫عالج المس ‪303 ................................................................................‬‬
‫االستعانة بالجن ‪311 ............................................................................‬‬
‫العالج بالحروف واألوفاق ‪319 .................................................................‬‬
‫التمائم والحجب ‪323 ...........................................................................‬‬
‫الـمجربات اللفظية ‪329 .........................................................................‬‬
‫األذكار ‪333 .....................................................................................‬‬
‫الطب النبوي ‪337 ...............................................................................‬‬
‫اإلتقان ‪343 .....................................................................................‬‬
‫أخطاء شائعة‪345 ................................................................................‬‬
‫الرقاة ‪357 .............................................................................‬‬
‫دفا ًعا عن ُّ‬
‫دعوة وعتاب ‪361 ...............................................................................‬‬
‫تنبيهات للفقهاء‪365 .............................................................................‬‬
‫االجتهاد الطبي ‪369 .............................................................................‬‬
‫الخاتمة ‪373 .....................................................................................‬‬
‫الفهرس ‪375 ....................................................................................‬‬

You might also like