You are on page 1of 186

‫للدراسات‬

‫مركز الجزيرة ّ‬

‫التقرير االستراتيجي‬
‫‪2023 - 2022‬‬

‫يناير‪ /‬كانون الثاني ‪2023‬‬


‫تصدير ‪7.........................................................................................................................................‬‬

‫مقدمة ‪9..........................................................................................................................................‬‬

‫الجيوسياسي ‪13..............................................‬‬ ‫الروسية على أوكرانيا في الميزان‬


‫الحرب ّ‬
‫إلياس ط ّنوس ح ّنا‬

‫الدّ ولية ‪25............................‬‬ ‫تداعيات أزمة تايوان على نفوذ الصين اإلقليمي ومكانتها‬
‫شريفة كالع‬

‫جديد ‪37.........................................‬‬ ‫ديناميات األحالف والبحث عن توازن قوى عالمي‬


‫عزالدين عبد المولى‬

‫والســاح‬
‫ّ‬ ‫تداعيــات الحــرب الروســية األوكرانيــة علــى ّ‬
‫الطاقــة والغــذاء‬
‫العربية ‪47.................................................................................................................‬‬ ‫في المنطقة‬
‫صباح نعوش‬

‫ومسارات ‪61.........................................‬‬ ‫العالم العربي وحالة ّ‬


‫الطوارئ المناخية‪ :‬مخاطر‬
‫قسوم‬
‫سليم ّ‬

‫تغيــرات‬ ‫الســيبراني وتداعياتــه علــى ّ‬


‫الشــرق األوســط فــي ســياق ّ‬ ‫الخطــر ّ‬
‫الدّ ولية ‪71............................................................................................................................‬‬ ‫البيئة‬
‫حسن الرزو‬
‫‪5‬‬
‫الدّ ولي‪85....................‬‬ ‫إفريقيا‪ :‬محاوالت ال ّنهوض وعوائق اإلصالح في ّ‬
‫ظل ال ّتنافس‬
‫سيدي أحمد ولد األمير‬

‫ال ّنظام ‪97.......................................................‬‬ ‫إيران‪ :‬راية الثّأر المرفوعة وال ّتلويح بإسقاط‬
‫فاطمة الصمادي‬

‫واألمنية ‪107.....................‬‬ ‫السياسية واالجتماعية‬


‫وتشعباتها ّ‬
‫ّ‬ ‫أفغانستان‪ :‬استمرار األزمة‬
‫فاطمة الصمادي‬

‫العالم العربي‪ :‬فرص وتح ّديات‬

‫متزايدة ‪115....................................‬‬ ‫دول الخليج‪ :‬آفاق اقتصادية واعدة وتهديدات أمنية‬


‫الحواس تقية‬

‫مؤجلة‪129.....................................................‬‬
‫ّ‬ ‫سوريا‪ ،‬ليبيا‪ ،‬اليمن‪ :‬أزمات ممتدّ ة وحلول‬
‫إعداد جماعي‬

‫الثانية ‪143............................................................‬‬ ‫لبنان‪ ،‬العراق‪ ،‬السودان‪ :‬أزمات الموجة‬


‫إعداد جماعي‬

‫اجتماعية‪161........‬‬ ‫مصر‪ ،‬تونس‪ ،‬األردن‪ :‬أزمات اقتصادية وسياسية تنذر بانفجارات‬


‫إعداد جماعي‬

‫ال ّتطبيع ‪175..............................‬‬ ‫فلسطين‪ :‬نضال في ساحات متعدّ دة مع استمرار مسار‬


‫شفيق شقير‬

‫‪6‬‬
‫تصدير‬
‫ال ّتقرير االستراتيجي‪ ..‬جديد الجزيرة للدراسات‬
‫يفتتــح مركــز الجزيــرة للدراســات العام ‪ 2023‬بإصــدار جديد هــو "ال ّتقرير‬
‫السابقة‪ ،‬من كتب ودور ّيات‬ ‫االســتراتيجي"‪ .‬وبذلك يضيف المركز إلى منتجاته ّ‬
‫محكمة ومل ّفات بحثية وأوراق وتحليالت للشــؤون الجارية‪ ،‬منتجا نوعيا آخر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الصعيد‬‫مركزة ألبرز أحداث العام ‪ 2022‬على ّ‬ ‫يقدّ م "التقرير االستراتيجي" قراءة ّ‬
‫وألهم انعكاسات تلك األحداث على األوضاع المحلية في‬ ‫ّ‬ ‫الدّ ولي واإلقليمي‪،‬‬
‫بلــدان المنطقة العربية‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬يستشــرف التقريــر االتّجاهات العا ّمة‬
‫ويرجح حســب ما تو ّفر من‬ ‫ّ‬ ‫ألحــداث العــام ‪ ،2023‬فيوازن بين االحتماالت‪،‬‬
‫بيانات‪ ،‬سيناريوهات على أخرى‪.‬‬
‫تطوراتها المستقبلية‪ ،‬يتفاعل معدّ و التقرير‬
‫الراهنة واستشراف ّ‬ ‫وبين رصد األحداث ّ‬
‫مع طائفة من األزمات التي يعيشها العالم و ُتمثّل تهديدا جدّ يا ألمنه واستقراره‪،‬‬
‫بــد ًءا من الحرب الروســية على أوكرانيا‪ ،‬مرورا بال ّتوتّــر المتصاعد بين الصين‬
‫والواليــات المتحــدة في منطقة المحيط الهادئ على خلفية الصراع على تايوان‬
‫وفــي بحر الصين الجنوبي‪ ،‬وانتهاء بأزمات عالمية أخرى متفاوتة الخطورة مثل‬
‫السيبرانية‪.‬‬
‫والتغير المناخي والحروب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ارتفاع أسعار الطاقة والركود االقتصادي‬
‫عربيا‪ ،‬وباســتثناء دول الخليج‪ ،‬التي ح ّققت فــي العام ‪ 2022‬عوائد مالية ّ‬
‫مهمة‬
‫ظل الحرب الروسية على‬ ‫بفضل زيادة الطلب على الطاقة وارتفاع أسعارها في ّ‬
‫أوكرانيا‪ ،‬يعيش أغلب بلدان المنطقة أزمات سياسية واقتصادية وأمنية مستفحلة‪.‬‬
‫تحولت ّ‬
‫جل مساراتها‬ ‫وال يختلف واقع األمر كثيرا بين بلدان الربيع العربي‪ ،‬التي ّ‬
‫االنتقالية منذ بداية العشرية الماضية‪ ،‬إلى مآزق سياسية وصراعات مس ّلحة‪ ،‬ولم‬
‫تنجــح إلى حدّ اآلن في تجاوز أزماتهــا المفتوحة على كل االحتماالت‪ ،‬وبين‬
‫دخالت اإلقليمية‬
‫تفجرت أزماتها مع نهاية العشــرية ذاتها‪ ،‬وزادتهــا ال ّت ّ‬‫بلــدان ّ‬
‫والصراعات الدولية تفاقما‪.‬‬
‫ّ‬
‫بصــورة عا ّمــة‪ ،‬ال يبدو أن العام ‪ 2023‬يحمل في ّ‬
‫طياته الكثير من الحلول لهذه‬
‫الروسية األوكرانية‬ ‫إن أغلبها ّ‬
‫مرشح للمزيد من ال ّتعقيد‪ .‬فال الحرب ّ‬ ‫األزمات‪ ،‬بل ّ‬

‫‪7‬‬
‫الصيني في المحيط الهادئ ي ّتجه‬
‫تســير باتّجاه نهاية قريبة‪ ،‬وال ال ّتوتّر األميركي ّ‬
‫تؤكد‬‫السياق ذاته‪ّ ،‬‬
‫والتوصل إلى تفاهمات بين القوتين العظميين‪ .‬في ّ‬‫ّ‬ ‫نحو ال ّتهدئة‬
‫ّ‬
‫الحل‪،‬‬ ‫أن أزمات المنطقة العربية‪ ،‬في عمومها‪ ،‬ال تسير نحو‬ ‫ّ‬
‫المؤشــرات ّ‬ ‫أغلب‬
‫وأن البيئة العالمية ال تســاعد على إيجاد تسويات عادلة في المستقبل المنظور‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فشــعوب المنطقة‪ ،‬باســتثناء الخليج‪ ،‬مقبلة على المزيد من المعاناة في معيشتها‬
‫بســبب احتداد األزمات االقتصادية وارتفاع األســعار وتراجع القدرة الشرائية‪.‬‬
‫وفي غياب الحلول وتراجع فرص الحوار الوطني‪ ،‬ال ُيســتبعد أن يشــهد عدد‬
‫من البلدان العربية توتّرات اجتماعية وموجات احتجاجات شعبية‪ ،‬قد تكون أكثر‬
‫عنفا من موجات االحتجاجات التي شهدتها المنطقة في مراحل سابقة‪.‬‬
‫الك ّتاب‪ ،‬بعضهم من باحثي مركز الجزيرة‬ ‫شارك في إعداد هذه التقرير نخبة من ُ‬
‫تخصصهم‪،‬‬‫ّ‬ ‫المتميزين في مجاالت‬
‫ّ‬ ‫للدراسات‪ ،‬وبعضهم من الباحثين المتعاونين‪،‬‬
‫مــن بلدان عربية مختلفة‪ .‬لهم جميعا جزيل الشــكر والتقدير‪ ،‬ونأمل أن يح ّقق‬
‫المرجوة منه‪ ،‬وأن ُيفيد منه ُ‬
‫الق ّراء وصانعو‬ ‫ّ‬ ‫هــذا المنتج الجديد اإلضافة ال ّنوعية‬
‫السياسات وأصحاب القرار‪ ،‬أ ّيا كانت مواقعهم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫د‪ .‬محمد المختار الخليل‬


‫مدير مركز الجزيرة للدراسات‬
‫يناير‪ /‬كانون الثاني‪2023 ،‬‬

‫‪8‬‬
‫مقدمة‬
‫دخل العالم مع بداية الحرب الروســية على أوكرانيا في فبراير‪ /‬شــباط ‪2022‬‬
‫فالسياقات‬
‫منعطفا خطيرا ال تزال تداعياته اإلقليمية والدّ ولية في مراحلها األولى‪ّ .‬‬
‫والترســبات ال ّتاريخيــة التي خ ّلفتها‬
‫ّ‬ ‫الجيوسياســية التــي انطلقت فيها الحرب‪،‬‬
‫صراعــات الماضي بين الشّ ــرق والغرب‪ ،‬والتي كانت الحــرب الباردة إحدى‬
‫التطور أبعادا تتجــاوز بكثير طرفي الحرب‬ ‫ّ‬ ‫عالماتهــا البــارزة‪ ،‬تضفي على هذا‬
‫الروسية األوكرانية في ضوء‬ ‫المباشرين‪ ،‬روسيا وأوكرانيا‪ .‬وتزداد أهمية الحرب ّ‬
‫األحالف العســكرية واألمنية واالقتصادية‪ ،‬التي تشــهد ديناميكية الفتة‪ ،‬وتعيد‬
‫تشــكيل موازين القوى العالمية واإلقليمية‪ .‬فاألبعاد الدّ ولية لهذه الحرب ليست‬
‫ومحركاتها‪ ،‬أو في تأثيراتها‬
‫ّ‬ ‫خافية‪ ،‬ســواء في أســبابها ودوافعها‪ ،‬أو في أطرافها‬
‫ونتائجها‪.‬‬
‫الروســية على أوكرانيا جعلت منها عامال فاعال‪ ،‬ســواء مباشرة‬ ‫محورية الحرب ّ‬
‫السياسية واالقتصادية في العالم‬
‫التطورات ّ‬
‫ّ‬ ‫أو بصورة غير مباشــرة‪ ،‬في عدد من‬
‫الصعب فهم الكثير من األحداث‬ ‫كل األحوال‪ ،‬بات من ّ‬ ‫خالل العام ‪ .2022‬وفي ّ‬
‫وتحليلها‪ ،‬بما في ذلك المح ّلية‪ ،‬دون أخذ هذه الحرب بعين االعتبار‪ ،‬ولو على‬
‫السياق ال ّتفسيري‪ .‬فما تشهده أوروبا من احتجاجات اجتماعية متصاعدة‬ ‫ســبيل ّ‬
‫وارتفاع قياســي لألسعار وسياسات تقشّ فية غير مسبوقة واضطراب في إمدادات‬
‫الطاقــة؛ ومــا يجري في بحر الصيــن الجنوبي من منــاورات متعدّ دة األطراف‬
‫تمر‬
‫واألهداف وتوتّر متصاعد في العالقات الصينية األميركية بشأن تايوان؛ وما ّ‬
‫ّ‬
‫الملف ال ّنووي اإليراني من تر ّدد وتعثّر وغموض بين اتّفاق وشيك‬ ‫به مفاوضات‬
‫يتشــكل من تحالفات إقليمية ودولية واســتقطاب سياسي‬ ‫ّ‬ ‫وتصعيد وتهديد؛ وما‬
‫وعســكري واســتراتيجي يوحي بعودة أجواء الحرب البــاردة وتك ّتالتها ويعيد‬
‫إلى ســاحة ال ّنقاش أطروحات األقطاب المتعددة وتغيير شــكل النظام العالمي؛‬
‫وما تشــهده الحروب وال ّنزاعات المس ّلحة من تطوير ألدوات ومجاالت جديدة‬
‫الروسية على‬
‫كل ذلك تلعب فيه الحرب ّ‬ ‫السيبرانية؛ ّ‬
‫المســيرات والحروب ّ‬‫ّ‬ ‫مثل‬
‫أوكرانيا أدوارا متفاوتة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫إلى جانب الحرب في أوكرانيا وآثارها القريبة والبعيدة‪ ،‬تتفاعل في مناطق مختلفة‬
‫تطورات وأزمات‪ ،‬بعضها ممتدّ وبعضها مســتجدّ ‪ ،‬بعضها على نطاق‬ ‫من العالم ّ‬
‫عالمــي وبعضهــا إقليمي أو مح ّلي‪ .‬فخطر ّ‬
‫التغير المناخي لم يعد شــأنا نخبويا‬
‫تتداول فيه ال ّنخب وأهل االختصاص في المؤتمرات أو حمالت ال ّناشطين‪ ،‬بل‬
‫والص ّحة ونمط‬
‫ّ‬ ‫كونيا عا ّما وتهديدا مباشرا للبيئة واالقتصاد والغذاء‬
‫أصبح شــأنا ّ‬
‫حياة أعداد متزايدة من البشــر‪ .‬وباتت شــواهده حاضرة في االحترار المتصاعد‬
‫الزراعة‬
‫والحرائق التي ي ّتســع نطاقها والفيضانات المد ّمرة والجفاف الذي يهدّ د ّ‬
‫التغيرات‪ ،‬التي كانت تتأثر بها الشــعوب الفقيرة‬
‫واألنهار والثروة الحيوانية‪ .‬هذه ّ‬
‫أكثــر من غيرها‪ ،‬أصبحت نتائجهــا الكارثية مرئية في قلب أوروبا وفي عواصم‬
‫نموا أكثر ُعرضة‬
‫تظل البلــدان والمناطق األدنى ّ‬ ‫الصناعية‪ .‬ومع ذلك‪ّ ،‬‬ ‫البلــدان ّ‬
‫وأقل جاهز ّيــة لمواجهتها‪ .‬فإفريقيا‪ ،‬التي تعاني أصال من مخ ّلفات‬‫ّ‬ ‫لتلــك اآلثار‬
‫كرست االستبداد والفساد لعقود‪ ،‬سيكون‬ ‫االســتعمار ولواحقه من أنظمة حكم ّ‬
‫خاصة بعدما عاد بعض بلدانها في‬‫ّ‬ ‫التغيرات المناخيــة كبيرا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نصيبهــا من نتائج‬
‫السنتين األخيرتين إلى الحكم العسكري إثر سلسلة من االنقالبات‪ .‬فقد عكست‬
‫السياسي واالنتقال الدّ يمقراطي التي بدأت تنتشر‬
‫تلك االرتدادات موجة اإلصالح ّ‬
‫القارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في أنحاء عدّ ة من‬
‫ّ‬
‫الملف ال ّنووي اإليراني محورا ثابتا تدور حوله‬ ‫يســتمر‬
‫ّ‬ ‫الصعيد اإلقليمي‪،‬‬
‫على ّ‬
‫والسياســات واالســتراتيجيات‪ .‬وال تزال سياسات طهران‬ ‫الكثير من الخيارات ّ‬
‫في المنطقة تثير الجدل وتســتقطب المواقف وتزيد من مخاوف جيرانها العرب‬
‫خاصــة‪ .‬وفي أفغانســتان‪ ،‬رغم انســحاب القوات األميركية واســتعادة طالبان‬
‫ّ‬
‫حكمها بعد عشــرين عاما من الحرب‪ ،‬ال يزال الوضع األمني هشّ ــا وال تزال‬
‫الحكومة األفغانية تسعى إلى اعتراف دولي ّ‬
‫يفك عزلتها ويخ ّفف عن البالد أعباء‬
‫السياسية‬
‫اقتصادية متزايدة‪ ،‬وســط جدل داخلي ال يتوقف حول خيارات طالبان ّ‬
‫واالجتماعية‪.‬‬
‫أ ّما أوضاع العرب فمنقسمة بين أزمات طالت‪ ،‬وتضاءلت فرص ح ّلها‪ ،‬وأخرى‬
‫تتفاعل في األفق وتتخ ّلق في سياقات مح ّلية متفاوتة الخطورة‪ .‬فاألزمات ّ‬
‫السورية‬
‫الربيع العربي‪ّ ،‬‬
‫وغذتها تفاعالت الثّورة‬ ‫واليمنية والليبية‪ ،‬التي نشــبت في ســياق ّ‬

‫‪10‬‬
‫والثّــورة المضا ّدة فــي بعديها المح ّلي واإلقليمي‪ ،‬امتدّ ت وتع ّقدت وغابت عنها‬
‫والســودان‪ ،‬التي اندلعت‬
‫الحلول رغم تعدّ د المبادرات‪ .‬وأزمات لبنان والعراق ّ‬
‫السياسية‬ ‫ظل تقاطع األجندات اإلقليمية وعجز ّ‬
‫الطبقة ّ‬ ‫الحقا‪ُ ،‬تراوح مكانها في ّ‬
‫مكوناتها عن الوصول إلى توافقات وطنية وصيغ لتســوية الخالفات‬ ‫بمختلــف ّ‬
‫والطائفية‪ .‬تتفاعل هذه األزمات في ظروف دولية غير‬ ‫السياسية ّ‬
‫تتجاوز حساباتها ّ‬
‫مواتية‪ ،‬تســهم في تعقيدها وتضيف إليها تحدّ يات جديدة بدل أن تســاعد على‬
‫السياق أزمات أخرى في المنطقة ألسباب‬ ‫ح ّلها‪ .‬وال ُيســتبعد أن تندلع في هذا ّ‬
‫الهش في دول مثل تونس ومصر واألردن‪.‬‬‫ّ‬ ‫اقتصادية واجتماعية تعصف باالستقرار‬
‫الســلمية للقضية‬
‫التحــوالت‪ ،‬تبتعد أكثر فرص ال ّتســوية ّ‬
‫ّ‬ ‫خضــم ّ‬
‫كل هذه‬ ‫ّ‬ ‫فــي‬
‫السياســي والجغرافي الذي يمكن أن يكون‬ ‫الفلســطينية‪ ،‬ويتق ّلص أكثر المجال ّ‬
‫إطــارا ّ‬
‫لحل الدّ ولتين‪ .‬فتتســارع دورات ال ّتصعيد اإلســرائيلي مدفوعة بأزمات‬
‫غزة وباقي األراضي الفلســطينية‪ .‬على‬
‫داخليــة‪ ،‬وتتصاعد وتيــرة الحرب على ّ‬
‫تتعزز قــدرات المقاومة رغم الحصــار واالحتالل‪ ،‬وتتقارب‬ ‫الجانــب اآلخر‪ّ ،‬‬
‫التحول إلى خيار وحيد في وجه‬‫ّ‬ ‫رؤاها وتنظيماتها وأساليب عملها‪ ،‬وكأنّها بصدد‬
‫االحتالل‪ ،‬مع تق ّلص الخيارات وضيق هامش الحركة أمام ّ‬
‫السلطة الفلسطينية‪.‬‬
‫يقدّ م هذا التقرير االستراتيجي‪ ،‬الذي يصدره مركز الجزيرة للدّ راسات‪ ،‬قراءة في‬
‫الوضع الدّ ولي وعناوينه األساسية (الحرب الروسية األوكرانية والتوتّر المتصاعد‬
‫بيــن الواليات الم ّتحدة األميركية والصين)‪ ،‬وفــي أبرز األزمات ذات المخاطر‬
‫الصعيد‬‫السيبرانية)‪ .‬على ّ‬ ‫العالمية المتزايدة (االقتصاد والطاقة والمناخ والحروب ّ‬
‫وخارجيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫داخليا‬
‫ّ‬ ‫أهم مل ّفاته‬
‫اإلقليمي‪ ،‬يتناول ال ّتقرير الشّ ــأن اإليراني ويبحــث ّ‬
‫كمــا يبحــث الوضع األفغاني واألولويات المطروحــة على حكومة طالبان بعد‬
‫عودتها إلى الحكم عقب االنســحاب األميركي‪ .‬ويســتعرض ال ّتقرير كذلك أبرز‬
‫القارة من تحدّ يات إلى‬
‫ّ‬ ‫طورات التي شهدها الفضاء اإلفريقي وما تواجهه دول‬ ‫ال ّت ّ‬
‫خصص له ال ّتقرير مساحة‬ ‫جانب الفرص المتاحة أمامها‪ .‬أ ّما العالم العربي‪ ،‬فقد ّ‬
‫ســجلت في العام ‪ 2022‬مكاسب‬ ‫ّ‬ ‫أوســع‪ ،‬تناول فيها ّأوال منطقة الخليج‪ ،‬التي‬
‫مهمة بفضــل بداية تعافي االقتصاد العالمي مــن آثار جائحة كورونا‬ ‫اقتصاديــة ّ‬
‫الطلب على ّ‬
‫الطاقة‪ ،‬وبال ّتالي‬ ‫تسببت في ارتفاع ّ‬
‫والحرب الروسية األوكرانية‪ ،‬التي ّ‬

‫‪11‬‬
‫ولكن هذه المكاسب تترافق مع تحدّ يات أمنية بنيوية وصعوبات‬‫ّ‬ ‫ارتفاع أسعارها‪.‬‬
‫تواجه محاوالت دول الخليج تنويع اقتصاداتها‪ .‬وتشترك باقي البلدان العربية في‬
‫ّ‬
‫وتظل القضية‬ ‫حالة األزمة العا ّمة التي تعيشها‪ ،‬وإن بتفاوت في نطاقها وحدّ تها‪.‬‬
‫التحوالت‪ ،‬وقد شهدت ساحاتها في الداخل‬ ‫ّ‬ ‫الفلسطينية عنوانا بارزا في ّ‬
‫كل هذه‬
‫السلمية‪،‬‬
‫السياســي على مستوى ال ّتسوية ّ‬‫مهمة‪ ،‬رغم الجمود ّ‬‫تطورات ّ‬ ‫والخارج ّ‬
‫حل الدّ ولتين‪ .‬هذه القراءة ترصد األوضاع التي أشرنا‬‫والمأزق الذي انتهى إليه ّ‬
‫التطورات المحتملة في ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫إليها أعاله‪ ،‬كما بدت في العام ‪ ،2022‬وتستشــرف‬
‫منها خالل العام ‪.2023‬‬

‫المحرر‬
‫الدّ وحة‪ ،‬ديسمبر‪ /‬كانون األول ‪2022‬‬

‫‪12‬‬
‫الحرب الروسية على أوكرانيا في الميزان الجيوسياسي‬
‫إلياس ط ّنوس ح ّنا‬

‫مقدمة‬
‫خالل سبعة وسبعين عاما من عمر النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية‬
‫الثانيــة‪ ،‬وقعت الكثير من الحروب من بينها الحرب الكور ّية بين عامي ‪-1950‬‬
‫الفيتنامية بين عامي ‪ .1975-1955‬خالل هاتين الحربين‪ ،‬قاتلت‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،1953‬والحرب‬
‫ال من االتحاد السوفيتي والصين خارج أراضيها‪ ،‬أي على األرض الكور ّية‬ ‫أميركا ك ّ‬
‫شكلت هاتان الحربان االختبارات األولى لمتانة وصالبة النظام‬ ‫والفيتنامية‪ .‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫التشــكل‪ ،‬ولم يكن قد وصل بعدُ إلى نقطة االســتقرار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العالمي الذي كان قيد‬
‫بعد عقود من الصراع بين قطبيه األميركي والروسي‪ ،‬تخ ّللتها حروب بالوكالة في‬
‫واستمر حتى سقوط‬
‫ّ‬ ‫تمكن هذا النظام من الصمود‬ ‫أغلب مناطق العالم وأقاليمه‪ّ ،‬‬
‫جــدار برلين في العام ‪ .1989‬وبعد انهيار نظام القطبية الثنائية‪ ،‬انتقل العالم إلى‬
‫نظام أحادي القطب تقوده الواليات المتحدة ويهيمن عليه الغرب عموما‪.‬‬
‫ورغم تعدد الحروب والصراعات التي نشــأت في ظل النظام العالمي الجديد‪،‬‬
‫ّ‬
‫يشــكل تحدّ يا جدّ يا الســتقراره مثلما هي الحال مع الحرب‬ ‫إال ّ‬
‫أن أ ّيا منها لم‬
‫أهمها مســرح الحرب‬‫الروســية علــى أوكرانيا‪ .‬ويعــود ذلك إلى عدة عوامل‪ّ ،‬‬
‫وأطرافها وأهدافها‪ .‬فالحرب تدور في قلب أوروبا‪ ،‬التي كانت إلى وقت قريب‬
‫تظن أن الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب التي ُتخاض على مســرحها‪.‬‬
‫وأحد أطرافها روســيا‪ ،‬وريثة االتحاد الســوفيتي‪ ،‬العدو التاريخي للغرب‪ ،‬بينما‬
‫طرفها الثاني‪ ،‬أوكرانيا‪ ،‬التي تســعى لالنضمام إلى حلف الناتو وتعزيز حضوره‬
‫علــى الحدود الروســية‪ .‬أما أهداف الحرب كما تتردد في الخطاب السياســي‬
‫الراهن وإعادة تشــكيله على أسس أكثر‬‫الروســي فهي اإلطاحة بالنظام العالمي ّ‬
‫عدال تقوم على تعدد األقطاب بدال من القطب الواحد‪.‬‬
‫يقدّ م نموذج "مودلســكي" تفســيرا مغريا‪ ،‬خاصة ألولئك الذين تستهويهم فكرة‬

‫‪13‬‬
‫فالمفكر األميركي‪ ،‬جورج مودلســكي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النهايــة القريبــة للنظام العالمي الراهن‪.‬‬
‫مقســمة على‬‫أي نظام عالمي ال يمكن أن يســتمر أكثر من مئة ســنة ّ‬ ‫يعتبر أن ّ‬
‫أربــع مراحــل تدوم كل مرحلة خمســة وعشــرين عاما (‪ .)1‬تســود الفوضى‬
‫عالمية مهيمنة‬
‫ّ‬ ‫والحــروب في المرحلة األولى‪ ،‬وفي المرحلــة الثّانية تظهر قوة‬
‫القوة‬
‫شرعية ّ‬
‫ّ‬ ‫تحقق االســتقرار وتقود ال ّنظام العالمي‪ ،‬وفي المرحلة الثّالثة تتآكل‬
‫الرابعة فيعود فيها الوضع‬
‫وشــرعية ال ّنظام الذي تقوده‪ ،‬أما المرحلــة ّ‬
‫ّ‬ ‫المهيمنــة‬
‫األول‪ ،‬حيث تســود الفوضى وتنشب الحروب العالمية‪ .‬حسب هذا‬ ‫إلى المر ّبع ّ‬
‫النموذج‪ ،‬يمكن اعتبار الحرب الروســية على أوكرانيا الشــرارة التي ستنقلنا من‬
‫يتفكك فيها النظام العالمي السائد لينشأ‬ ‫الرابعة‪ ،‬التي ّ‬
‫المرحلة الثّالثة إلى المرحلة ّ‬
‫تدل على عكس هذ‬ ‫مؤشــرات كثيرة ّ‬ ‫علــى أنقاضــه نظام عالمي جديد‪ .‬غير أن ّ‬
‫أن هذه الحرب و ّفرت للغرب فرصة لتجديد نظامه وترســيخ‬ ‫ّ‬
‫وتؤكد ّ‬ ‫االتجــاه‪،‬‬
‫قواعده ليســتمر لسنوات وربما لعقود قادمة‪ .‬تقدّ م هذه الورقة قراءة في أحداث‬
‫الحرب الروســية على أوكرانيا على عدة مســتويات‪ ،‬تبدأ من وضع الحرب في‬
‫ميزان الحســابات الجيوسياســية للقوى الكبرى‪ ،‬ثم تناقش أبعادها االستراتيجية‬
‫والعمالنية والتكتيكية‪ .‬وفي األخير تحاول استشــراف السيناريوهات المستقبلية‬
‫التي يمكن أن تتطور إليها األحداث‪.‬‬

‫انية في ميزان المسّلمات الجيوسياسية للقوى الكبرى‬


‫الحرب االوكر ّ‬
‫ُ‬
‫صمام أمنها‬‫لــكل دولة مســ ّلمات جيوسياســية ال يمكنها التخ ّلي عنها‪ .‬فهــي ّ‬
‫ّ‬
‫القومــي‪ ،‬وهي اإلطــار الفكري الذي تبني عليه اســتراتيجياتها الكبرى و ُتحدّ د‬
‫الاّلزمة لتحقيق أهدافها االستراتيجية‪ ،‬وهي السند الذي‬‫على أساســه الوســائل ّ‬
‫العالمية (‪ .)2‬هناك‬
‫ّ‬ ‫ترتكــز عليه لتلعب أدوارها وتضمن موقعها فــي المنظومة‬
‫ُمســ ّلمات ثابتة مثل الجغرافيا والطوبوغرافيا وما تراكمه تجارب األمم وتختزنه‬
‫والتحوالت‬
‫ّ‬ ‫الذاكرة الجماعية‪ ،‬وهناك مس ّلمات ّ‬
‫متغيرة تفرضها السياقات الطارئة‬
‫المفاجئة مثل تغيير النظام أو الحاكم أو السياسات أو التحالفات‪.‬‬
‫ضمن المس ّلمات الجيوسياسية للقوى الكبرى‪ ،‬تقع أوكرانيا على تقاطع حسابات‬
‫جغرافيا‪ ،‬تقع ضمن المحيط‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل من روســيا والواليات الم ّتحدة األميركية‪ .‬فهي‬

‫‪14‬‬
‫العالمية‬
‫ّ‬ ‫المباشــر لروســيا‪ ،‬ومنها هاجم هتلر االتحاد الســوفيتي خالل الحرب‬
‫تاريخيا‪ ،‬مرتبطة بروســيا القيصر ّية‪ ،‬كما ارتبطت باالتحاد السوفيتي‬
‫ّ‬ ‫الثانية‪ .‬وهي‬
‫ســابقا وبروســيا الحقا‪ ،‬لذلك ينظر إليها الكثير من الروس باعتبارها "روســيا‬
‫الصغرى" بالنســبة إلى "روســيا الكبرى"‪ .‬وتريدها روسيا ضمن مناطق نفوذها‪،‬‬
‫تشكل المنطقة العازلة في محيطها المباشر‪ ،‬خاصة تجاه حلف الناتو الذي‬ ‫ألنها ّ‬
‫يتمدد شرقا‪.‬‬
‫في المقابل‪ ،‬تقع أوكرانيا ضمن مس ّلمات الواليات الم ّتحدة األميركية كما ضمن‬
‫مســ ّلمات حلف الناتــو‪ .‬وألن أميركا دولة بمحيطين‪ ،‬هما المحيط األطلســي‬
‫األوروبية‪ ،‬كما شرق آسيا‪ ،‬ضمن‬
‫ّ‬ ‫والمحيط الهادئ‪ ،‬فمن الطبيعي أن تكون القارة‬
‫مناطق نفوذها التي تدخل في مس ّلماتها الجيوسياسية‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬
‫تدخلت أميركا في‬
‫العالميتين األولــى والثانية لمنع أي قوة أخرى من الهيمنة‬
‫ّ‬ ‫أوروبــا في الحربين‬
‫تدخلت في شرق آسيا لمنع اليابان من الهيمنة على تلك‬ ‫كل أوروبا‪ .‬كما ّ‬ ‫على ّ‬
‫المنطقة التي تقع بدورها ضمن مس ّلماتها الجيوسياسية‪.‬‬

‫حرب بوتين على أوكرانيا وحساباتها االستراتيجية والتكتيكية‬


‫االســتراتيجية فــي معناها المجرد نوع من الوهــم كونها توضع للتنفيذ في‬
‫ّ‬ ‫ألن‬
‫المســتقبل‪ ،‬لك ّنها ُتســتدعى إلى الحاضر لرســم معالمها‪ ،‬فــإن الواقع بطبيعته‬
‫االســتراتيجية أو‬
‫ّ‬ ‫والمتغيرة هو العامل الحاســم في نجاح‬
‫ّ‬ ‫الديناميكيــة المتبدّ لة‬
‫االســتراتيجية ال تستطيع دائما تو ّقع األسرار التي يحملها الواقع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فشــلها‪ .‬وألن‬
‫االستراتيجية يضطر في‬
‫ّ‬ ‫خطط أو واضع‬ ‫الم ِّ‬
‫تغيراته ومفاجآته‪ ،‬فإن ُ‬ ‫أو التأقلم مع ّ‬
‫كثير من األحيان إلى االفتراض والتبســيط‪ ،‬وهنا تقع الكارثة‪ .‬ألم يقل الجنرال‬
‫األلماني هلموت فون مولتكه األكبر (‪" :)Helmuth von Moltke the Elder‬ال‬
‫مخطــط حربي مطلقا بعد ّأول تماس مع العدو" (‪ .)3‬في ضوء هذه‬ ‫ّ‬ ‫أي‬
‫يصمــد ّ‬
‫المتغيرة‪ ،‬نقرأ الوضع‬
‫ّ‬ ‫االستراتيجية بمعناها المجرد وتحديات الواقع‬
‫ّ‬ ‫الفجوة بين‬
‫االستراتيجي للحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬ونفهم ما نعتبره أخطاء وقعت فيها‬
‫القيادة الروســية‪ ،‬سواء على المستوى االستراتيجي أو في الجوانب العمالنية –‬
‫التكتيكية للحرب‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫اتيجية‬
‫أ‪ -‬األخطاء االستر ّ‬
‫لم يكن الرئيس بوتين‪ ،‬وهو يخطط لحربه ضد أوكرانيا‪ ،‬يتو ّقع ر ّدة فعل الغرب‪،‬‬
‫وخاصة الواليات الم ّتحدة األميركية‪ .‬لقد أخطأ في حساباته بشأن الناتو‪ ،‬وتو ّقع‬
‫أن تدفعه الحرب في أوكرانيا إلى االنحســار والتراجع‪ ،‬فإذا به يتمدّ د أكثر على‬
‫الروســية بمســافة ُتقدّ ر بـ‪ 1333‬كلم مع فنلندا‪ .‬لم يكن بوتين يتوقع ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫الحدود‬
‫الناتو سيستفيق من "موته السريري"‪ ،‬على حد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل‬
‫وتوجهت إلى آسيا ومنطقة اإلندو‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ماكرون‪ ،‬وظن ّ‬
‫أن أميركا التي أهملت أوروبا‬
‫بقوة إلى أوروبا بمزيد من العديد والعتاد‪ .‬لم يتو ّقع الرئيس‬‫باســفيك لن تعود ّ‬
‫موحد وسريع جدّ ا‪ ،‬سيتمكن من عزل روسيا عن النظام‬ ‫بوتين أن الغرب‪ ،‬بقرار ّ‬
‫المالــي العالمي‪ .‬وغاب عن حســاباته أن ألمانيا‪ ،‬التي تربطها بروســيا مصالح‬
‫اقتصادية ضخمة‪ ،‬ســتتخلى عن الغاز الروســي‪ ،‬الذي يغطي أكثر من ‪ % 50‬من‬
‫احتياجاتها‪ ،‬وتنحاز إلى أوكرانيا و ُترسل إليها أسلحة وعتادا‪.‬‬
‫المتكرر منذ مؤتمر ميونيــخ لألمن في العام‬
‫ّ‬ ‫لقــد بقــى خطاب الرئيس بوتيــن‬
‫روســية حبرا على ورق (‪)4‬‬
‫ّ‬ ‫العالمية على الغرب بقيادة‬
‫ّ‬ ‫‪ 2007‬حول االنتفاضة‬
‫مهميــن‪ّ :‬أوال‪ ،‬خلق التكتالت والتحالفات‬‫‪ .‬فلــم يقترن ذلك الخطاب بأمرين ّ‬
‫القــادرة على زعزعة موقــع أميركا في العالم‪ .‬ثانيا‪ ،‬توفير الوســائل واألدوات‬
‫الالزمة لتحقيق هذا المشروع‪ .‬فقد أثبتت حرب روسيا على أوكرانيا أن التفكير‬
‫خطي لم يزاوج األهداف بالوسائل الضرور ّية‪.‬‬ ‫االستراتيجي في الكرملين تفكير ّ‬
‫والتخطيط االستراتيجي الذي يغيب عنه ال ّتناسب بين األهداف والوسائل محكوم‬
‫عليه بالفشــل‪ .‬هذا النمط من التفكير تعكســه تسمية الحرب بـ"عملية عسكر ّية‬
‫خاصة‪ ،‬ولك ّنها من ناحية أخرى‪ ،‬مدعومة بالتهديد‬
‫ّ‬ ‫خاصة"‪ .‬فهي من ناحية عملية‬
‫وموجهة ضد حلف الناتو‪ ،‬وتستهدف إعادة تشكيل النظام العالمي الذي‬ ‫ّ‬ ‫النووي‪،‬‬
‫األميركية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تقوده الواليات المتحدة‬

‫ب ‪ -‬في البعد العمالني – التكتيكي‬


‫كشــفت الحرب الروســية على أوكرانيا خلال هائال في التناســب بين األهداف‬
‫االســتراتيجية والوســائل المتو ّفــرة لتحقيقها‪ .‬فقد وضع الرئيــس بوتين أهدافا‬
‫كبيرة لك ّنه اســتعمل وســائل متواضعة جدّ ا‪ .‬وأراد إســقاط كل أوكرانيا وتغيير‬
‫‪16‬‬
‫يســميه بالنظام ال ّنازي‪ ،‬ولك ّنه لم يحشــد فــي أرض المعركة أكثر من‬
‫ّ‬ ‫مــا كان‬
‫‪ 150‬ألف جندي للقتال في مســاحة جغرافية تقدر بنحو ‪ 600‬ألف كلم مربع‪.‬‬
‫أساســية للهجوم‪ ،‬لكن معطيات‬
‫ّ‬ ‫في بداية الحرب‪ ،‬حدّ دت القيادة ثالثة محاور‬
‫األصلية تقتضي الهجوم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخطة‬ ‫اضطرتها لتغيير خططها‪ .‬كانت‬ ‫ّ‬ ‫الواقع ومفاجآته‬
‫على المحور الشمالي من بالروسيا إلسقاط كييف العاصمة‪ ،‬أما المحور الشرقي‬
‫فيتمثّــل في إقليم دونباس‪ ،‬بينما يهدف الهجــوم على المحور الجنوبي لوصل‬
‫ضمتها روسيا عام ‪.2014‬‬
‫الجنوب األوكراني بشبه جزيرة القرم التي ّ‬
‫يكمــن الخلل في هذه الخطة في كون المســافة التــي تفصل بين كييف وإقليم‬
‫خيرســون تقــارب ‪ 2000‬كلم‪ ،‬والهجوم المتزامن علــى المحاور الثالثة يجعل‬
‫الخارجية‪ ،‬حيث تنطلق الوحدات القتالية من‬
‫ّ‬ ‫الجيش الروســي يقاتل بالخطوط‬
‫مناطق متباعدة وتتجه إلى نفس الهدف‪ .‬وهذا النوع من القتال صعب جدّ ا خاصة‬
‫اللوجســتية‪ ،‬وإمكانية دعم الوحدات بعضها لبعض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيما يتعلق بتأمين الجوانب‬
‫الداخلية‪ ،‬حيث تنطلق‬
‫ّ‬ ‫فــي المقابــل يقاتل الجيش األوكراني بطريقة الخطــوط‬
‫الوحــدات القتاليــة من مركز واحد وتتجه إلى أهــداف متباعدة‪ .‬وهذه الطريقة‬
‫ويتفوق على الجانب الروسي‬
‫ّ‬ ‫تناسب الجيش األوكراني الذي يقاتل على أرضه‪،‬‬
‫في مستوى وعيه بالمكان وتعقيداته الطوبوغرافية‪.‬‬
‫إلــى جانب التحــدّ ي الذي يواجه الجيش الروســي والمتمثّل في طول الجبهة‬
‫تطبق القيادة الروسية المبادئ األساسية للحرب‪ ،‬وأهمها‪ :‬وحدة‬
‫وصعوبتها‪ ،‬لم ّ‬
‫القيادة‪ ،‬المفاجأة‪ ،‬المناورة‪ ،‬اقتصاد القوى‪ ،‬البساطة‪ ،‬تأمين الخطوط (‪ .)5‬فكيف‬
‫تج ّلى الخلل في تطبيق هذه المبادئ على المستوى العمالني ‪ -‬التكتيكي؟‬
‫‪ -‬غابت وحدة القيادة‪ ،‬فلم يكن هناك قائد واحد للمسرح الحربي في أوكرانيا‪،‬‬
‫صعب العمليات العسكرية بشكل عام‪ .‬فقد جرى تعيين واستبدال‬ ‫وهذا الغياب ُي ّ‬
‫يتوصل الرئيس إلى تعيين قائد‬
‫ّ‬ ‫عدّ ة قادة خالل األشــهر األولى للحرب قبل أن‬
‫موثوق لديه‪ ،‬هو الجنرال ســيرغي ســوروفيكين‪ .‬لكن تعيين هذا القائد‪ ،‬الذي‬
‫ألن الجيش الروسي كان قد ُمني‬‫متأخرا ّ‬
‫قاتل في حربي الشيشان وسوريا‪ ،‬جاء ّ‬
‫بخسائر كبيرة‪ ،‬واضطر إلى التراجع على أكثر من محور‪ ،‬سواء في خاركيف أو‬
‫في خيرسون‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -‬خســر الرئيس بوتين عنصر المفاجأة‪ ،‬فقد بدأ حربه بعد أن نشــرت وســائل‬
‫اإلعــام الغربية جاهزية جيشــه على الحدود مع أوكرانيــا ونيته الواضحة لبدء‬
‫الهجوم‪.‬‬
‫‪ -‬تأرجــح الجيش الروســي في تطبيق مبدأ المنــاورة خالل المراحل المختلفة‬
‫الحركية والمناورة لك ّنه اصطدم بتحصينات‬
‫ّ‬ ‫للحرب‪ .‬ففي المرحلة األولى اعتمد‬
‫الجيش األوكراني الذي كان قد أعدّ لهذا النوع من الحرب منذ العام ‪ .2014‬في‬
‫هذه المرحلة‪ ،‬كان الجيش الروسي في وضع الحركة والجيش االوكراني يقاتل‬
‫للتأخير‪ ،‬أي كسب الوقت مقابل التخ ّلي عن األرض‪ ،‬مع السعي لتكبيد الجيش‬
‫الروســي أكبر قدر من الخســائر في العديد والعتاد‪ .‬في المرحلة الثّانية‪ ،‬أي بعد‬
‫استراتيجية‬
‫ّ‬ ‫تحولت الحرب في دونباس إلى‬ ‫تخ ّلي بوتين عن هدف إسقاط كييف‪ّ ،‬‬
‫األرض المحروقــة‪ ،‬وأصبــح الجيش األوكراني ثابتا فــي الدفاع‪ ،‬بينما الجيش‬
‫الروسي يتقدّ م ببطء شديد‪ .‬في المرحلة الثّالثة‪ ،‬التي تلت سقوط سيفيرودونتسك‬
‫تكتيكيا‪ ،‬أوقفت القوات الروسية‬
‫ّ‬ ‫وانســحاب الجيش األوكراني من ليسيشانسك‬
‫عملياتها فيما يعرف بالتوقف العمالني‪ ،‬لقياس النجاح وتعديل االســتراتيجيات‬
‫الصعوبات الميدانية التي‬‫ولكن طول مدّ ة التوقف كشــف عــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫إذا لــزم األمر‪.‬‬
‫اللوجســتية‪ .‬في‬
‫ّ‬ ‫يواجها الجيش الروســي‪ ،‬خاصة في عدد قواته وفي المتطلبات‬
‫والحركية‪ ،‬فاستر ّد إقليم‬
‫ّ‬ ‫الرابعة للحرب‪ ،‬بدأ الجيش األوكراني بالمناورة‬
‫المرحلة ّ‬
‫خاركيف‪ ،‬وتابع هجومه في إقليم خيرســون‪ ،‬ودفع القوات الروســية للتراجع‬
‫وأفقدهــا هامش المناورة‪ .‬في المرحلة الخامســة‪ ،‬اســتدعت القيادة الروســية‬
‫ضم األقاليم األوكرانية األربعة‪ :‬لوغانســك ودونيتسك‬ ‫جيش االحتياط وقررت ّ‬
‫المسيرات اإليرانية‬
‫ّ‬ ‫وزاباروجيا وخيرســون‪ .‬هذه المرحلة شهدت أيضا استعمال‬
‫من نوع شــاهد ‪ 136‬ضد البنية التحتيــة ألوكرانيا‪ ،‬وليس على الجبهات‪ ،‬حيث‬
‫تمكن الجيش الروسي من تحقيق‬ ‫يحقق الجيش األوكراني نجاحات متتالية‪ .‬فإذا ّ‬
‫المســيرات اإليرانية فهي تظل نجاحات تكتيكية‪ ،‬وحتى‬‫ّ‬ ‫بعض النجاحات بفضل‬
‫لو تراكمت تلك النجاحات فلن تؤ ّثر كثيرا في طبيعة المعركة‪ ،‬ألن الخلل يكمن‬
‫االستراتيجية الكبرى الحاضنة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في‬
‫‪ -‬لم يكن التأمين العمالني للوحدات وخطوط اإلمداد الروســية كامال‪ ،‬بســبب‬
‫فشل منظومة القيادة والسيطرة واالتصاالت الروسية‪ ،‬وقد تسبب ذلك في مقتل‬

‫‪18‬‬
‫العديــد مــن الجنراالت الروس علــى الجبهات‪ .‬كما أن االســتعالم التكتيكي‬
‫واالســتراتيجي حول القدرات األوكرانية‪ ،‬كالهما كان فاشال‪ ،‬فرغم ّ‬
‫أن أوكرانيا‬
‫التعرف على نوايا قيادتها ومستوى جاهز ّية‬
‫ّ‬ ‫مالصقة لروسيا‪ ،‬أخفق الكرملين في‬
‫ونوعية ال ّتدريب الذي تل ّقته من حلف الناتو‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قواتها وقدراتها العسكر ّية‬
‫‪ -‬إذا أضفنا التطبيق الخاطئ لمبدأ اقتصاد القوى إلى الفشــل االســتخباراتي‪،‬‬
‫وتدنّي مســتوى التأمين العمالني‪ ،‬وغياب المرونة في سلسلة القيادة والسيطرة‪،‬‬
‫الصناعية لمواكبة المجهود الحربي‪ ،‬فال يجب أن نستغرب‬ ‫وعدم جاهزية القاعدة ّ‬
‫ممن هم‬‫من ضعف األداء العســكري الروسي‪ .‬فالجندي الروسي ينتظر األوامر ّ‬
‫وحرية عمل تكتيكية للجندي األوكراني الذي‬ ‫ّ‬ ‫أعلى منه مقابل مرونة في الحركة‬
‫الســرعة‪ .‬يجدر التذكير هنا بأن الجيش‬‫يمســك بزمام المبادرة من خالل عامل ّ‬
‫األوكراني استطاع االنتقال بسرعة قياسية من عقيدة القتال على الطريقة السوفيتية‬
‫إلــى طريقــة القتال على الطريقة الغربية‪ ،‬مع قدرة واضحة على االســتفادة من‬
‫التكنولوجيا الحديثة ومزاياها‪.‬‬
‫‪ -‬لكل مرحلة من مراحل الحرب الخمس‪ ،‬التي أشــرنا إليها أعاله‪ ،‬ســاحها‬
‫الخاص‪ .‬ففي المرحلة األولى‪ ،‬كان صاروخ جافلين المضاد للدروع‪ ،‬وســتينغر‬
‫التركية بيرقدار‪ ،‬أسياد المعركة‪ .‬وعبر‬
‫ّ‬ ‫المســيرات‬
‫ّ‬ ‫المضاد للطائرات‪ ،‬إلى جانب‬
‫االســتعمال الذكي والصحيح لهذه األســلحة اســتطاع الجيش األوكراني وقف‬
‫ّ‬
‫لتحتل مركز‬ ‫الروسية‬
‫ّ‬ ‫المدفعية‬
‫ّ‬ ‫االجتياح الروســي‪ .‬وفي المرحلة الثّانية‪ ،‬تقدمت‬
‫لكن ال ّنجاح الذي حققته فضح ســبب ذلك التقدم‪.‬‬ ‫الصدارة في إقليم دونباس‪ّ .‬‬
‫ففي دونباس‪ ،‬هناك ســكك حديدية تحت ســيطرة القوات الروسية جاهزة لنقل‬
‫اللوجســتية إلى الخطوط األمامية مباشرة من الدّ اخل الروسي‪ .‬وهو ما يعني أن‬
‫جغرافيا بســكك الحديد التي ّ‬
‫تغذيها بالقذائف‪ ،‬األمر‬ ‫ّ‬ ‫مقيدة‬
‫الروســية ّ‬
‫ّ‬ ‫المدفعية‬
‫ّ‬
‫الــذي فتح الباب واســعا لســاح المرحلة الثّالثة‪ ،‬التي ح ّققــت فيها راجمات‬
‫وجوي‬
‫ّ‬ ‫بشري‬
‫ّ‬ ‫تكتيكيا الفتا لعدّ ة أســباب‪ ،‬منها‪ :‬استعالم دقيق‬
‫ّ‬ ‫الهايمرس نجاحا‬
‫بمســاعدة أميركية وبريطانية‪ .‬إصابات دقيقة لألهداف بعيدة المدى‪ ،‬انكشــاف‬
‫القتالية للجيش الروسي وطريقة قتاله‪ ،‬انكشاف طرق المواصالت ومركز‬ ‫ّ‬ ‫ال ّتركيبة‬
‫تمكنت القوات األوكرانية من‬ ‫والســيطرة‪ .‬فبعد ضرب مراكز الثّقل هذه‪ّ ،‬‬ ‫القيادة ّ‬

‫‪19‬‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫توغلت القوات‬‫الروســية‪ .‬في المرحلة الرابعة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫إيقاف اآللة العســكر ّية‬
‫الروســية في إقليم خاركيف لتدرس طريقة انتشــارها‬‫ّ‬ ‫األوكرانية خلف الخطوط‬
‫عملية استعادة‬‫ّ‬ ‫وقدراتها العســكر ّية‪ .‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬أعلنت كييف عن إطالق‬
‫خيرســون‪ ،‬بهدف تشــتيت االهتمام الروسي واستقطابه إلى هذا اإلقليم فيما بدا‬
‫أنّهــا عملية خداع ناجحة‪ .‬في المرحلة الخامســة‪ ،‬يبدو أن القصف العشــوائي‬
‫سيد الموقف‪ .‬جدير بالذكر هنا‬ ‫والمســيرات اإليرانية االنتحار ّية هو ّ‬
‫ّ‬ ‫بالصواريخ‬
‫بالمسيرات يكتسب داللة بالغة‪ ،‬إذ يقلب المعادلة التقليد ّية‬
‫ّ‬ ‫أن تزويد إيران لروسيا‬
‫االقليمية‪ .‬فاألصغر في هذه الحالة غير‬
‫ّ‬ ‫فــي العالقة بين القوى العظمى والقوى‬
‫يزود األكبر‪ ،‬وهو ما يدفعنا للتفكير في آلية اإلنتاج الحربي‬ ‫الطبيعيــة‪ ،‬هــو الذي ّ‬
‫ّ‬
‫الصناعات‬ ‫الروســي وأولوياته‪ ،‬خاصة في ظل غياب االكتفاء الذاتي في بعض ّ‬
‫الذكية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والموصالت‬
‫ّ‬ ‫اإللكترونية‬
‫ّ‬ ‫والرقاقات‬
‫والذخائر ّ‬ ‫المسيرات ّ‬
‫ّ‬ ‫مثل‬

‫سيناريوهات المرحلة القادمة‬


‫هناك عدّ ة سيناريوهات لمشهد الحرب الروسية على أوكرانيا في المرحلة القادمة‪،‬‬
‫أبرزها‪:‬‬
‫توســيع نطاق الحرب وخلق وقائع جديدة على األرض‪ :‬يبدو أن الرئيس بوتين‬
‫بشــن هجوم شــامل على أوكرانيا أشــدّ تدميرا لتجاوز‬ ‫ّ‬ ‫يعدّ لمزيد من ال ّتصعيد‬
‫اإلخفاقــات الميدانية خالل المراحل األولى للحــرب‪ .‬لذلك‪ ،‬عمد إلى تعيين‬
‫دموي‪ ،‬ســواء في الشيشان‬
‫ّ‬ ‫عســكري‬
‫ّ‬ ‫قائد جديد للمســرح األوكراني له تاريخ‬
‫هيأ لهذه المرحلة بإصدار ثالثة مراســيم بعد إعالن التعبئة‬ ‫أو في ســوريا‪ .‬وقد ّ‬
‫الروسية صالحيات واسعة لضبط‬ ‫ّ‬ ‫األول ُح ّكام األقاليم‬
‫الجزئية‪ .‬يعطي المرسوم ّ‬
‫األمن واالســتقرار في مناطقهم‪ ،‬بينما يحدّ المرســوم الثّاني من الحركة بتســعة‬
‫األوكرانية‪ .‬أ ّما المرسوم الثّالث‪ ،‬فيفرض األحكام‬
‫ّ‬ ‫روسية مجاورة للحدود‬
‫ّ‬ ‫أقاليم‬
‫ضمتها روســيا‪ .‬في‬‫األوكرانية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫العرفية‪ ،‬أو القانون العســكري في األقاليم‬
‫ّ‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬تجري اســتعدادات عســكر ّية على حدود أوكرانيا مع بالروســيا‪.‬‬
‫المضي فيه‪ ،‬بعد انقضاء السنة‬
‫ّ‬ ‫رجح أن يبدأ تنفيذ هذا السيناريو‪ ،‬إذا قرر بوتين‬ ‫و ُي ّ‬
‫األولى للحرب‪ ،‬أي مع حلول ربيع ‪.2023‬‬

‫‪20‬‬
‫تغيير اســتراتيجي باستخدام الســاح النووي التكتيكي‪ :‬لن يوضع هذا السيناريو‬
‫على الطاولة إال إذا وصل الرئيس بوتين إلى مرحلة مذ ّلة من الخسارة العسكر ّية‬
‫واالنهيار التام لجيشــه في أوكرانيا‪ .‬حينها‪ ،‬ســ ُيضطر إلى تنفيذ وعيده‪ ،‬وهو ما‬
‫والدولية‪ .‬لكن اإلقدام على‬
‫ّ‬ ‫واإلقليمية‬
‫ّ‬ ‫المحلية‬
‫ّ‬ ‫سيغير مسار الحرب في مستوياتها‬
‫ّ‬
‫استعمال السالح النووي التكتيكي على المسرح األوكراني تواجهه عدة تحديات‪،‬‬
‫ضمتها‬‫ّأولها أن منطقة االستخدام يجب أن تكون من غير األقاليم األربعة التي ّ‬
‫الجماعية الروسية مدينة‬
‫ّ‬ ‫روســيا‪ .‬فإذا اســ ُتهدفت كييف‪ ،‬التي ُتعتبر في الذاكرة‬
‫مجيدة لتصدّ يها للنازية‪ ،‬فإن حســابات الرئيس بوتين ســتكون أكثر تعقيدا‪ .‬هل‬
‫يضمن اتجاه الرياح‪ ،‬وإلى أين ستأخذ االشعاعات النووية؟ هل قواته العسكر ّية‬
‫جهزة لحرب نوو ّية من عدّ ة وعتاد؟ هل يدرك طبيعة‬ ‫على المســرح األوكراني ُم ّ‬
‫وحــدود الــرد الغربي؟ هل يضمن بقاء حلفائه اإلقليميين والدوليين إلى جانبه؟‬
‫وماذا عن الداخل الروسي‪ ،‬إلى أي حدّ يمكن أن يظل متماسكا وداعما للحرب؟‬
‫تحول العملية العســكرية الخاصة إلى حرب اســتنزاف طويلة األمد‪ :‬إذا فشلت‬ ‫ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬فطال أمدها‬
‫ّ‬ ‫العملية العســكر ّية‬
‫ّ‬ ‫روســيا في تحقيق أهدافها تحت الفتة‬
‫فالمرجح أن تتوالى‬
‫ّ‬ ‫وتحولت إلى حرب اســتنزاف لروســيا عسكر ّيا واقتصاد ّيا‪،‬‬
‫الضغــوط علــى الرئيس بوتين بهــدف إحداث تغيير سياســي داخلي يطيح به‬
‫شخصيا‪ ،‬على غرار ما حدث مع الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشيف‪ .‬غير أن تنفيذ‬
‫هذا الســيناريو لن يكون ســهال أو سلسا‪ .‬فاألكيد أن الرئيس بوتين استعدّ لهذا‬
‫فصمم نظاما مضا ّدا لالنقالبات يضمن بقاءه في كل األحوال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االحتمــال جيدا‪،‬‬
‫أما إذا حصل مثل هذا التغيير‪ ،‬فإن من سيخلف بوتين سيكون أضعف منه‪ ،‬وربما‬
‫يميل إلى تســوية ما مع الغرب تنتهي برفع العقوبات على االقتصاد الروســي‪.‬‬
‫ولك ّنه لن يستطيع التنازل نهائيا عن أهداف الحرب األساسية طالما استمر إدراك‬
‫الدولة الروسية بأن وجود الناتو على حدودها يمثّل تهديدا ألمنها القومي‪.‬‬
‫الموقــف األميركي وتداعيــات االنتخابات النصفية‪ :‬بعد أن فقدت إدارة الرئيس‬
‫بايدن أغلبيتها في مجلس النواب لفائدة الجمهوريين في االنتخابات النصفية التي‬

‫‪21‬‬
‫جرت في نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني ‪ُ ،2022‬يتوقع أن تتعرض إلى ضغوط بهدف‬
‫دفعهــا لتغيير مقاربتها الحالية للحرب في اتجــاه تقليص الدعم ألوكرانيا‪ .‬فإذا‬
‫حصلت تلك الضغوط وتزايدت‪ ،‬فإن ذلك لن يؤ ّثر على مسار األحداث الميدانية‬
‫في أوكرانيا وحســب‪ ،‬بل ســ ُيفقد الموقف األوروبي وحدته وتماسكه الذي بدا‬
‫عليــه منذ اندالع الحرب‪ .‬فبفضل صالبة الموقف األميركي بدرجة أولى‪ ،‬ظ ّلت‬
‫أولو ّيــة مواجهــة الخطر الذي تمثّله حرب بوتين علــى األمن األوروبي متقدّ مة‬
‫األوروبية‪ ،‬بما في ذلك مواجهــة الصعوبات االقتصادية‬
‫ّ‬ ‫بقية األولويــات‬
‫علــى ّ‬
‫التي تسببت فيها الحرب ذاتها‪ .‬فإذا تراجعت حرب أوكرانيا في س ّلم األولويات‬
‫األميركية‪ ،‬سيتراجع الموقف األوروبي ويتصدع ويبدأ بالبحث عن تسوية تشعر‬ ‫ّ‬
‫بقية أهدافه‪ .‬في األثناء‪ ،‬ســيخلق هذا‬
‫للمضي في تحقيق ّ‬
‫ّ‬ ‫بوتين بال ّنصر وتدفعه‬
‫لضم جزيرة تايوان‬
‫ّ‬ ‫الصين على اتخاذ خطوات‬ ‫شــجع ّ‬‫الوضع بيئة دولية مواتية ُت ّ‬
‫الدولية ال تزال‬
‫ّ‬ ‫مرجحــا‪ ،‬فموازين القوى‬
‫ولكن هذا الســيناريو ال يبدو ّ‬
‫ّ‬ ‫بالقوة‪.‬‬
‫ّ‬
‫قوة عســكر ّية ضاربة دون‬ ‫تميل بوضوح لصالح الغرب‪ ،‬وال يزال حلف الناتو ّ‬
‫منافــس مكافــئ‪ .‬كما أن ال ّنفوذ األميركي المتزايد في المحيط الهادئ وفي بحر‬
‫للصين يمنعها في الوقت الراهن من اإلقدام على‬ ‫الصين الجنوبي يشكل رادعا ّ‬
‫ضم تايوان بالقوة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫المراجع‬
(1) Melissa Rock, Introduction to Modelski’s Model of World Leadership,
Pennsylvania State University.
See: www.e-education.psu.edu/geog128/node/646/ accessed on 20/10/2022.
(2) Utah State University, Geopolitical Codes.
See: https://chass.usu.edu/international-studies/aggies-go/geopolitical-
codes#:~:text=Geopolitical %20codes %20are %20how %20a,the %20
rest %20of %20the %20world/ Accessed on 21/10/2022.
(3) Helmuth von Moltke, The Franco German War of 1870-1871.
See: www.goodreads.com/author/quotes/805919.Helmuth_Karl_Bernhard_
von_Moltke/ accessed on 22/10/2022.
(4) Ted Galen Carpenter, Did Putin’s 2007 Munich Speech Predict the
Ukraine Crisis?, CATO Institute, January 24, 2022.
See: www.cato.org/commentary/did-putins-2007-munich-speech-predict-
ukraine-crisis#/ accessed on the 23/10/2022.
(5) Frank L. Johnson, The Principles of War, Naval War College
Information Service for Officers, Vol. 4, No. 2, 1951, pp. 1-26.

23
‫تداعيات أزمة تايوان على نفوذ الصين‬
‫اإلقليمي ومكانتها الدولية‬
‫شريفة كالع‬

‫مقدمة‬
‫تقوم رؤية الصين ألمنها القومي على مفهوم "توحيد العالم الصيني"‪ ،‬الذي يعني‬
‫تاريخيا‪ .‬ونظرا لما لهذه األراضي‬
‫ّ‬ ‫وحــدة األراضي الصينية التي كانت تابعة لها‬
‫ّ‬
‫التحكم في مجالها‬ ‫يمكن الصين من‬‫اســتراتيجية فإن إعادة توحيدها ّ‬
‫ّ‬ ‫من أهمية‬
‫ويتضمن هذا المفهــوم إعادة كل من "هونغ كونغ" و"مكاو"‬ ‫َّ‬ ‫الحيــوي بالكامل‪.‬‬
‫البر‬
‫ضمها إلى ّ‬ ‫تجسد فعليا‪ ،‬ثم تايوان التي تسعى بيجين منذ عقود إلى ّ‬ ‫وهو ما ّ‬
‫الرئيسي مستخدمة وسائل مختلفة‪ ،‬معتمدة استراتيجية النفس الطويل‪ .‬فتايوان لها‬
‫أهمية خاصة في المنظور االستراتيجي الصيني العتبارات تاريخية وجيوسياسية‬
‫واقتصاديــة‪ ،‬إضافة إلى أنها ّبوابة لدفــاع الصين عن مجالها البحري‪ .‬والتحكم‬
‫في هذه الجزيرة يســمح لها بمدّ ســيطرتها على المجاالت البحرية الواقعة في‬
‫نقاط التقاطع الرابطة بين المحيطين الهندي والهادئ‪ .‬لهذه األسباب تولي القيادة‬
‫البر الرئيســي أهمية قصوى‪ ،‬وترى أن ذلك يمكن‬ ‫ضم تايوان إلى ّ‬‫الصينية أمر ّ‬
‫أن يحدث في التاريخ الذي ســتحتفل فيه الصين بمئوية تأسيســها ســنة ‪.2049‬‬
‫هــذه الرؤيــة تقابلها رؤية أميركية تقوم على ضرورة احتواء الصين وضبط وتيرة‬
‫مســتمرة في مضيق تايــوان‪ .‬وقد تج ّلت هذه‬
‫ّ‬ ‫صعودهــا‪ ،‬وذلك بخلق توترات‬
‫السياسة بوضوح خالل العام ‪.2022‬‬
‫تعالج هذه الورقة التوتر المتصاعد في بحر الصين الجنوبي بين الصين والواليات‬
‫المتحدة األميركية بشأن تايوان‪ ،‬وتبحث في تطورات هذه األزمة وتأثيراتها على‬
‫أي مدى يمكــن ألزمة تايوان أن تؤ ّثر‬‫قــدرة الصين ونفوذها المســتقبلي‪ .‬فإلى ّ‬
‫المستمر إلى توحيد العالم‬
‫ّ‬ ‫الصعود الصيني وعلى ســعيها‬
‫ســلبا أم إيجابا على ّ‬

‫‪25‬‬
‫الصينــي؟ وما هو الــدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الجزيرة في االســتراتيجية‬
‫ّ‬
‫والتحكم في وتيرة صعودها؟‬ ‫األميركية الحتواء بيجين ومحاصرتها‬

‫تايوان في المنظور االستراتيجي الصيني‬


‫تسعى الصين منذ عقود إلى توحيد المناطق التابعة لها تاريخيا واستعادة المناطق‬
‫الموحدة ذات المركز‬
‫ّ‬ ‫وضمها إلى دولة الصين‬
‫ّ‬ ‫التي ُسلبت منها أو انفصلت عنها‪،‬‬
‫الواحد‪ .‬فمنذ الحرب الصينية الفيتنامية في مطلع العام ‪ ،1979‬وبعد وفاة الرئيس‬
‫ماوتســي تونغ بثالث سنوات‪ ،‬والقضاء على ما ُس ّمي آنذاك بـ"عصابة األربعة"‪،‬‬
‫وبروز نخبة برنامج التحديثات‪ ،‬دخلت الصين مرحلة جديدة تقوم على األسس‬
‫التالية‪:‬‬
‫وتجسد ذلك سياسيا في التأكيد على‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الحنين التاريخي للمجد الصيني القديم‪،‬‬
‫"الهوية القومية الصينية"‪.‬‬
‫بالحــس القومي‪ ،‬وهو ما تتضمنــه نظرية الصعود‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬مــزج النزعة االشــتراكية‬
‫(التنموية) السلمية‪.‬‬
‫الموحدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫استعادة الصين الكبرى انطالقا من مبدأ الصين‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬زيادة التواصل مع األقليات الصينية في منطقة آسيا‪.‬‬
‫كل من هونغ كونغ‬ ‫ألجــل ذلــك‪ ،‬عملت الصين بشــكل حثيث على اســتعادة ّ‬
‫وجزيرتي مكاو وتايوان تحت سيادتها‪ .‬وقد نجحت في استرداد هونغ كونغ من‬
‫بريطانيا سنة ‪ ،1997‬كما استعادت جزيرة مكاو من البرتغال سنة ‪ ،1999‬في حين‬
‫بقيت قضية تايوان حاضرة في السياسة الصينية القائمة على وحدة أراضيها‪ ،‬مع‬
‫اتّباع استراتيجية "االنتظار"‪ .‬كان ذلك واضحا في تصريح الرئيس الصيني السابق‬
‫دينغ كســياو بينــغ في أكتوبر ‪ ،1995‬الذي جاء فيه بخصــوص تايوان‪" :‬يمكننا‬
‫ّ‬
‫الحل دولة‬ ‫االنتظار إلى أن يصبح الوقت مالئما‪ ،‬لكننا ال نقبل أن تشــاركنا في‬
‫يؤكد الرئيس كســياو بينغ أيضا على أن إعادة‬‫أخــرى" (‪ .)1‬في هذا التصريح‪ّ ،‬‬
‫سلميا عبر تقوية الروابط مع أجزاء الصين المختلفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫توحيد العالم الصيني ستتم‬
‫البر الصيني بعد انفصال دام أكثر من ســبعين‬
‫وضم تايوان إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫ودفع التحديث‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫ســنة (‪ .)2‬وتنبع أهمية تايوان في المنظور االستراتيجي الصيني من عدّ ة عوامل‬
‫أهمها ما يلي‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ .1‬تنظر الصين إلى تايوان باعتبارها أحد األهداف طويلة األمد لتحقيق الوحدة‬
‫الوطنيــة بعــد أن ُف ّككت الصين الكبرى خالل القرنين الثامن عشــر والتاســع‬
‫األم تعزيز للميراث التاريخي والوطني للصين‬
‫عشر‪ .‬فعودة الجزيرة إلى الوطن ّ‬
‫واستكمال لسيادتها على كامل أراضيها‪.‬‬
‫‪ .2‬تعتبر الصين أن ســعي تايوان لالســتقالل يهدّ د سالمة أراضيها ويحول دون‬
‫تكاملهــا اإلقليمــي‪ .‬كما ّ‬
‫أن القادة الصينيين يؤمنــون بنظرية الدومينو الداخلي‪،‬‬
‫يشــجع االنفصاليين‬
‫ّ‬ ‫التي تفيد ّ‬
‫أن فقدان الســيادة على إقليم واحد من شــأنه أن‬
‫في بقية األقاليم‪ ،‬مثل التبت وتركستان الشرقية‪ ،‬ما ّ‬
‫يشكل تهديدا لألمن القومي‬
‫واالستقرار االجتماعي في الصين (‪.)3‬‬
‫‪ُ .3‬تعتبــر تايــوان ذات أهمية جيوســتراتيجية ّ‬
‫ألن مضيقها (مضيق تايوان) وقناة‬
‫الممرين البحريين الرئيســيين اللذين يربطان شمال شرقي آسيا‬
‫ّ‬ ‫"ياشــي" يمثالن‬
‫بجنوب شرقي آسيا والشرق األوسط‪.‬‬
‫‪ .4‬تكتســي تايــوان أيضا أهمية جيوســتراتيجية‪ ،‬فهي على حــد تعبير الجنرال‬
‫األميركي‪ ،‬دوغالس ماك آرثر "حاملة طائرات ال يمكن إغراقها"‪ .‬وهي‪ ،‬بسيطرتها‬
‫للســاحل المحدّ ب للصين‪ ،‬يمكن أن تسمح لقوة خارجية‬ ‫على النقطة المركز ّية ّ‬
‫الســاحلي‬
‫مثل الواليات المتحدة األميركية أن تبســط قوتها على طول المحيط ّ‬
‫للصيــن‪ .‬وعلــى هذا النحو‪ ،‬ال شــيء يزعج االســتراتيجيين فــي بيجين بقدر‬
‫ضم تايوان‪ ،‬فإن قواتها‬
‫االســتقالل الفعلــي لتايوان‪ .‬أما إذا نجحت الصيــن في ّ‬
‫البحرية ستكون فجأة في وضع األفضلية االستراتيجية في مواجهة سلسلة الجزر‬
‫الواقعة في بحر الصين الجنوبي‪.‬‬
‫‪ُ .5‬تعــدّ تايوان أحد محاور الصراع الرئيســية بين الصيــن والواليات المتحدة‪،‬‬
‫ضــم الصين لتايوان جزء ال يتجزأ من اســتراتيجيتها الوطنية في الدفاع‬
‫ّ‬ ‫و ُيعتبــر‬
‫عن سيادتها تجاه األطماع األميركية في آسيا‪.‬‬
‫ضم تايوان‪ ،‬فإن ذلك سيمثّل خسارة استراتيجية كبرى‬
‫‪ .6‬إذا نجحت الصين في ّ‬

‫‪27‬‬
‫للواليات المتحدة‪ ،‬وسيفرض قيودا على حركة قواتها‪ ،‬وعلى نشاطها العسكري‬
‫في بحر الصين الجنوبي‪ .‬وس ُتضعف الخسارة األميركية لتايوان نفوذ واشنطن في‬
‫شــرق وجنوب شرقي آسيا‪ ،‬وســتتراجع قدرتها على حماية حلفائها مثل اليابان‬
‫والفلبين وكوريا الجنوبية من الهيمنة الصينية‪.‬‬

‫ديناميات أزمة تايوان إو�مكانية امتداد تأثير الدومينو إلى الصين‬


‫وضم بعض أراضيها بالقوة العســكرية‬ ‫ّ‬ ‫أضافت الحرب الروســية على أوكرانيا‬
‫تحدّ يا جديدا أمام الواليات المتحدة في صراعها مع الصين في منطقة المحيط‬
‫الهادئ‪ .‬فالخطوة الروســية بفرض واقع جيوسياســي جديــد ُتعدّ اختبارا جدّ يا‬
‫للقوة األميركية ولمصداقيتها في حماية النظام الدولي الذي تتزعمه‪ ،‬وقد تؤدي‬
‫إلــى إحداث ما ُيعرف بـ"أثر الدومينو"‪ .‬فإذا أخفقت الواليات المتحدة في ردع‬
‫روسيا في أوكرانيا‪ ،‬سينعكس ذلك بالتأكيد سلبا على قدرتها على ردع الصين في‬
‫أن تحالفات أميركا في شــرق آسيا ليست بعمق ومتانة تحالفاتها‬ ‫تايوان‪ ،‬خاصة ّ‬
‫عبر األطلســي في إطار الناتو‪ .‬وال ُيســتبعد أن ُت ّ‬
‫فجر المسألة التايوانية حربا بين‬
‫تمسك تايوان باستقاللها من جهة‪ ،‬وتصميم‬ ‫الصين والواليات المتحدة‪ ،‬في ظل ّ‬
‫ضمها بكل الوســائل من جهة أخرى‪ .‬فإذا أضفنا إلى هذا التقابل‬ ‫الصين على ّ‬
‫الحــا ّد فــي المواقف‪ ،‬التزام الواليات المتحدة بمســاعدة تايوان في الدفاع عن‬
‫نفسها في حال هاجمتها الصين وفقا لقانون العالقات مع تايوان الذي أقر سنة‬
‫الصدام بين القوتين العظميين يصبح مسألة وقت ال غير (‪.)4‬‬ ‫‪ّ ،1979‬‬
‫فإن ّ‬
‫في هذا اإلطار‪ ،‬يمكن فهم التوتّر الذي تصاعد بين البلدين بشكل الفت خالل‬
‫العام ‪ .2022‬فبالرغم من تحذيرات الرئيس الصيني شي جين بينغ بشأن مخاطر‬
‫تجاوز الواليات المتحدة وحلفائها لسياسة "صين واحدة"‪ ،‬ودعوته إلى التو ّقف‬
‫عن التحركات االســتفزازية بشــأن تايوان‪ ،‬أقدمت رئيســة الكونغرس‪ ،‬نانســي‬
‫بيلوسي‪ ،‬على زيارة جزيرة تايوان في الثاني من أغسطس‪ /‬آب‪ ،‬وترافقت زيارتها‬
‫السالح لتايباي‪ .‬فاالستراتيجية األميركية في‬
‫بتقديم المزيد من الوعود بإمدادات ّ‬
‫منطقة اإلندو‪ -‬باســيفيك تقوم على احتــواء الصين من خالل محاصرتها بعقد‬
‫مكونات البيئة المحيطة بها‪ .‬تأتي زيارة بيلوســي كذلك‪ ،‬في إطار‬
‫تحالفات مع ّ‬

‫‪28‬‬
‫توجهات إدارة بايدن االستراتيجية‪ .‬فقد استغ ّلت إدارته تصاعد موجة العداء‬
‫تنفيذ ّ‬
‫للصين‪ ،‬خاصة بعد انقطاع سالســل اإلمداد القادمة منها نتيجة جائحة كورونا‪،‬‬
‫وتقدمت بمشــروع قانون‪ ،‬وافق عليه الكونغرس في أواخر شــهر يوليو‪ /‬تموز‬
‫تضمن المشــروع حزمة بقيمة ‪ 280‬مليار دوالر لتعزيز القدرة التنافســية‬
‫ّ‬ ‫‪.2022‬‬
‫للواليــات المتحدة في إنتاج الرقائق اإللكترونية وأشــباه الموصالت‪ ،‬لمواجهة‬
‫ّ‬
‫تشــكله الصين باعتبارها أكبر منتج في العالم لهذه التكنولوجيات‬ ‫التهديد الذي‬
‫الدقيقة‪ ،‬التي ُتستخدم في العديد من الصناعات المدنية والعسكرية (‪.)5‬‬
‫استمرت‬
‫ّ‬ ‫ر ّدا على زيارة بيلوســي‪ ،‬أعلن الجيش الصيني عن مناورات عسكر ّية‪،‬‬
‫ثالثة أيام في ســت مناطق قريبة من تايوان‪ ،‬في تصعيد غير مســبوق للتكتيكات‬
‫العســكرية الصينيــة في مضيق تايــوان‪ .‬وقد حاكت المنــاورات حصارا بحريا‬
‫للجزيــرة‪ ،‬وكانت بمثابة تذكير بأن الصين لديها العديد من الطرق للضغط على‬
‫تايوان‪ ،‬وتقليص مفعول الدعم األميركي لها (‪ .)6‬إلى جانب المناورات العسكرية‬
‫في الجوار التايواني‪ ،‬اتخذت الصين بعض اإلجراءات العقابية‪ .‬ففرضت عقوبات‬
‫التوجه االنفصالي‪ ،‬التي تسعى إلى استقالل تايوان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على بعض المنظمات ذات‬
‫البر‬
‫شملت منع تلك المنظمات من التعاون مع منظمات أو شركات أو أفراد في ّ‬
‫الرئيسي داخل الصين‪ .‬وفي محاولة لعزل اقتصاد تايوان عن االقتصاد العالمي‪،‬‬
‫اتخذت بيجين عدة قرارات‪ ،‬أبرزها وقف االســتيراد من ‪ 2600‬شــركة تايوانية‪،‬‬
‫البر الصيني‪،‬‬
‫ووقف االستثمارات الصينية في تايوان‪ ،‬وحظر استثمارات تايوان في ّ‬
‫ومحاصرة التجارة البحرية من وإلى تايوان من خالل توسيع المساحات البحرية‬
‫أن إجمالي‬ ‫والجوية التي تجري فيها المناورات العسكرية الصينية‪ .‬جدير بالذكر ّ‬
‫البر الصيني وتايوان وصل إلى ‪ 126‬مليار دوالر وفقا لبيانات ‪.2021‬‬
‫التجارة بين ّ‬

‫ارتدادات أزمة تايوان على طموحات الصين في مجالها اإلقليمي والدولي‬


‫تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها في محيطها اإلقليمي‪ ،‬الذي يمثّل أولوية لها في‬
‫مجاالت االقتصاد والتجارة واألمن‪ .‬وقد أسهم استثمارها في تلك المنطقة خالل‬
‫العقــود الماضية في بروزها قوة اقتصادية عظمى في القرن الواحد والعشــرين‪.‬‬
‫ترســخ نفوذها اإلقليمي‪ ،‬إلى حالة من االســتقرار طويل‬
‫وتحتاج الصين‪ ،‬لكي ّ‬

‫‪29‬‬
‫الضامــن لألمن والرخاء والرفاه االقتصادي في المنطقة‪.‬‬ ‫األمــد‪ ،‬تلعب فيه دور ّ‬
‫غير ّ‬
‫أن المســألة التايوانية‪ ،‬بما تدفع إليه من تكثيف للنشاط العسكري األميركي‬
‫في بحر الصين الجنوبي وفي المجال اإلندو‪ -‬باسيفيكي عامة‪ ،‬ترى فيها الصين‬
‫تهديدا لالســتقرار وعقبة تحول دون صعودها بالوتيرة التي تطمح إليها‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫تظل مواجهة التهديد األميركي بتعزيز قدراتها الدفاعية‪ ،‬والضغط المســتمر على‬
‫تايوان‪ ،‬شرطا للمضي في تحقيق أهدافها االستراتيجية‪ .‬و ُيعتبر تحالفها مع كوريا‬
‫الشــمالية‪ ،‬بما تملكه من قدرات صاروخية متطورة‪ ،‬إحدى أدواتها المتعددة في‬
‫الصراع‪.‬‬
‫هذا ّ‬
‫تستمر الصين في تطوير‬
‫ّ‬ ‫وفي سياق مدّ نفوذها خارج مجالها اإلقليمي المباشر‪،‬‬
‫مســارات مشروع "الحزام والطريق" الذي يربطها ّ‬
‫بقارتي أوروبا وإفريقيا ومنطقة‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬عبر آسيا الوسطى من ناحية‪ ،‬والمحيط الهندي من ناحية أخرى‪.‬‬
‫وتطمح الصين من خالل هذه المبادرة إلى نحت مكانة متميزة على المســتوى‬
‫الدولــي‪ ،‬لتصبح دولة محورية وحلقة مركزية في االقتصاد العالمي‪ .‬كما تطمح‬
‫إلــى تحويل "الحزام والطريق" إلى شــبكة أمان جماعيــة نظرا لما ينطوي عليه‬
‫المشــروع من مصالح اقتصادية متشــابكة‪ ،‬ســيحرص الجميع على رعايتها بما‬
‫ُيســهم في تراجع الهيمنة األميركية‪ ،‬وتحريــر الصين من محاوالت محاصرتها‬
‫وتهديد االستقرار من حولها‪ ،‬سواء من خالل دعم تايوان أو عبر استغالل بعض‬
‫بؤر التوتر محل النزاع بين الصين وجيرانها‪.‬‬
‫إلى جانب مبادرة "الحزام والطريق"‪ ،‬تنشط الصين ضمن مجموعة من التحالفات‬
‫والشراكات االستراتيجية الثنائية ومتعددة األطراف‪ ،‬سواء منها االقتصادية أو ذات‬
‫الطابع األمني‪ .‬وتلعب تلك التحالفات أدوارا متفاوتة في مواجهة جهود الواليات‬
‫يتبين بوضوح في‬ ‫الم ّتحــدة الحتــواء الصين أو تطويقها أو إعاقة صعودها‪ ،‬كما ّ‬
‫االســتراتيجيات األميركية المتعاقبة‪ .‬فقــد ّأكدت رؤية إدارة الرئيس بايدن‪ ،‬التي‬
‫صدرت في شــهر مــارس ‪ 2021‬بعنوان "التوجه االســتراتيجي المؤقت"‪ ،‬على‬
‫أولوية منطقة المحيط الهادئ‪ ،‬وضرورة "محاســبة" الصين‪ ،‬وهو ما يعني زيادة‬
‫قررت الواليات الم ّتحدة تزويد‬‫القيمة االستراتيجية لتايوان (‪ .)7‬بناء على ذلك‪ّ ،‬‬
‫تايباي بصفقة ســاح بلغت قيمتها ‪ 850‬مليون دوالر في العام ‪ّ ،2021‬‬
‫وعززتها‬
‫فــي العــام ‪ 2022‬بصفقة إضافية بقيمة ‪ 195‬مليون دوالر‪ ،‬في خطوة تهدف منها‬

‫‪30‬‬
‫اإلدارة األميركية إلى "ردع الصين بدال من اســتفزازها" (‪ .)8‬تجدر اإلشارة إلى‬
‫ّ‬
‫تحتل المرتبة الثامنة عالميا بين الشّ ركاء ال ّتجاريين للواليات المتحدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أن تايوان‬
‫وقــد وصلت قيمــة التبادل التجاري بينهما إلى أكثر مــن ‪ 114‬مليار دوالر مع‬
‫نهاية العام ‪ .2021‬وقد ساعد على تطوير هذه العالقات‪ ،‬شخصية رئيسة تايوان‬
‫الحالية "تسي إنغ وين"‪ ،‬التي تتبنى خطابا شديدا تجاه الصين‪ ،‬يجد صداه داخل‬
‫ال ّتيار الليبرالي الذي وصل إلى الســلطة بقيادتها في انتخابات العام ‪ .2016‬وقد‬
‫خلقت سياسة وين بيئة مناسبة لتوسيع نطاق الدعوة لالنفصال‪ ،‬خاصة مع انتهاج‬
‫السابق "ما يينغ جيو"‪ ،‬ذي التوجه‬
‫سياسة ال ّتجنيد اإللزامي‪ ،‬عكس سياسة الرئيس ّ‬
‫القومي‪ ،‬الذي كان مؤ ّيدا للوحدة مع الصين‪ ،‬واتسمت العالقات التايوانية الصينية‬
‫في عهده بالهدوء‪ ،‬وشهدت تحسنا كبيرا (‪.)9‬‬
‫ولكــن‪ ،‬ال يبــدو أن تنامــي ال ّنزعة االنفصاليــة في تايوان‪ ،‬مدعومــة بالجهود‬
‫األميركية الحتواء الصين أو ردعها‪ ،‬ســتؤتي أكلها في المســتقبل المنظور‪ .‬فقد‬
‫ّأكدت ُمخرجات المؤتمر الوطني العشــرين للحزب الشــيوعي الصيني‪ ،‬الذي‬
‫لضم‬
‫ّ‬ ‫األول ‪ ،2022‬أن بيجين ماضية في طريقها‬ ‫انعقد في شهر أكتوبر‪ /‬تشرين ّ‬
‫كل‬‫تايوان‪ .‬واعتبر المؤتمر أن اســتعادة الجزيرة مســألة محسومة تقتضي حشد ّ‬
‫الطاقــات إلنهائهــا‪ ،‬والعمل على إقناع ّ‬
‫كل دول العالم‪ ،‬بما في ذلك تايوان‪ ،‬أن‬
‫هذا الموضوع ليس تكتيكا عابرا‪ ،‬بل هو خيار اســتراتيجي ال رجعة عنه‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن أداة تحقيقه (‪.)10‬‬
‫ســتمضي الصين إذن في ســعيها لضم تايوان بكل الوســائل وتحقيق أهدافها‬
‫بـ"توحيد العالم الصيني"‪ ،‬وستسمر الواليات المتحدة‪ ،‬من جهتها‪ ،‬في دعم تايوان‬
‫وتوظيــف "المســألة التايوانية" للحد من الهيمنــة الصينية على مجالها اإلقليمي‬
‫قبل أن تتحول إلى قوة عالمية منافسة على مختلف المستويات‪ .‬ورغم استمرار‬
‫الحرب الروســية على أوكرانيا غربا‪ ،‬فإن كل المؤشــرات تدل على أن التوتر‬
‫في العالقات الصينية األميركية شــرقا سيســتمر ويتصاعد في السنوات القادمة‪.‬‬
‫فالتعارض االســتراتيجي بين رؤيتي القوتين لموقع تايوان‪ ،‬ولدورهما في منطقة‬
‫المحيــط الهــادئ‪ ،‬ولحدود الصعود الصيني ووتيرته عميــق‪ ،‬وإمكانية التقارب‬
‫بينهما مستبعدة على المديين القريب والبعيد‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫خالصات واستشراف‬
‫لضمها إلى‬
‫ّ‬ ‫الساعية‬
‫السياســات الصينية ّ‬ ‫ُتعتبر قضية تايوان ذات أهمية كبيرة في ّ‬
‫الوطن األم بشتى الطرق‪ ،‬لتعزيز نفوذها في مجالها الحيوي بآسيا‪ .‬مقابل ذلك‪،‬‬
‫الرئيس بايدن لمحاصرتها من خالل العودة إلى استراتيجية "االتجاه‬ ‫تسعى إدارة ّ‬
‫الرئيس‬‫شــرقا"‪ ،‬أي االتجاه نحو آســيا والمحيط الهادئ‪ ،‬وهي نفس استراتيجية ّ‬
‫تجسدت آنذاك في "اتفاقية الشراكة العابرة للباسيفيك"‪.‬‬
‫األسبق باراك أوباما‪ ،‬التي ّ‬
‫فاالتجاه شرقا تلعب فيه المسألة التايوانية دورا محوريا‪ ،‬وتشكل حالة من التوتّر‬
‫المتصاعد بين الصين وتايوان‪ ،‬من ناحية‪ ،‬والصين والواليات الم ّتحدة األميركية‬
‫وحلفائها في المنطقة من ناحية أخرى‪ .‬وفيما يلي خالصات هذه الورقة‪:‬‬
‫تنضم تايوان‪ ،‬في الوقت المناســب‪،‬‬‫ّ‬ ‫‪ .1‬يبقى هدف الصين في آخر المطاف أن‬
‫أهمية‬
‫إلى بقية "العالم الصيني"‪ ،‬بشــكل ســلمي إن أمكن‪ .‬ويكتسي هذا الهدف ّ‬
‫بالغة بال ّنسبة إلى الصين من أجل استكمال أمنها القومي وحماية سيادتها الوطنية‪.‬‬
‫التعهدات األميركية بدعم تايوان ومساعدتها في مواجهة محاوالت الصين‬ ‫ّ‬ ‫ورغم‬
‫أن تلك المساعدات‬ ‫ضمها‪ ،‬وفقا لقانون ‪ 1979‬بشأن "العالقات مع تايوان"‪ ،‬إال ّ‬
‫ّ‬
‫ظل التصميم الصيني وتنامي قدراتها العسكرية واالقتصادية‪.‬‬ ‫تبقى محدودة‪ ،‬في ّ‬
‫ضم موسكو أجزاء‬ ‫وستقدم لنا نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬ال سيما بعد ّ‬
‫مؤشرا على وضع تايوان في المستقبل‪.‬‬ ‫من األراضي المحت ّلة‪ّ ،‬‬
‫‪ .2‬تعتبر الصين موضوع استعادة تايوان قضية استراتيجية وليست هدفا تكتيكيا‪،‬‬
‫أقره البيان الختامي لمؤتمر الحزب‬ ‫وهي لذلك مســألة ال عودة عنها‪ ،‬وفق ما ّ‬
‫الشــيوعي الصيني العشــرين‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬ستحشد بيجين كل قدراتها لتنفيذ‬
‫هذه االســتراتيجية‪ ،‬وســتكون االنتخابات البرلمانية التايوانية المقررة في يناير‪/‬‬
‫تطور األحداث في المستقبل‪ .‬وسواء استمر‬ ‫مهما على ّ‬ ‫كانون الثاني ‪ّ 2024‬‬
‫مؤشرا ّ‬
‫التيــار الليبرالي بنزعته االنفصالية في الحكم‪ ،‬أم عاد إليه القوميون القريبون من‬
‫بيجين‪ ،‬فســيكون لهذه االنتخابات تأثير على الوضع الداخلي في تايوان‪ ،‬وعلى‬
‫عالقتها بالصين وبالواليات المتحدة‪.‬‬
‫‪ .3‬تــدرك القيادة الصينية أن انتهاج المقاربة الســلمية فــي عالقاتها مع تايوان‪،‬‬
‫ومراكمة المصالح المشتركة بين الطرفين‪ ،‬سيعزز التوجه الوحدوي‪ ،‬ويدفع نحو‬
‫‪32‬‬
‫خلق رأي عام أقل عداء لبيجين‪ .‬وهذه المقاربة لن تح ّقق أهدافها على المدى‬
‫القريب‪ ،‬ولك ّنها ستؤدي في ال ّنهاية إلى تحقيق أهداف الصين‪ ،‬المعروفة بسياسة‬
‫"النفس الطويل"‪.‬‬
‫‪ .4‬على األرجح‪ ،‬لن تختار الصين اســتخدام القوة العســكرية ضد تايوان من‬
‫ضمها إلى الوطن األم‪ .‬ولكن‪ ،‬إذا حصلت تغييرات نوعية داخل تايوان أو‬ ‫أجل ّ‬
‫في محيطها‪ ،‬فإن هذه المقاربة ستتغير‪ .‬فإذا أقدمت القيادة التايوانية على إعالن‬
‫االستقالل من جانب واحد‪ ،‬أو اشتد الحصار على الصين وتكثّفت االستفزازات‬
‫والمناورات العسكرية األميركية حولها‪ ،‬ال ُيستبعد أن تلجأ الصين إلى استخدام‬
‫لضم تايوان‪ .‬ليس ذلك فقط ألن تايوان هدف في حد ذاتها‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫القوة العسكرية‬
‫أيضــا مخافة أن تنحو باقي المقاطعات الصينية "القلقة"‪ ،‬على غرار إقليم التبت‬
‫أو تركستان الشرقية‪ ،‬إلى االستقالل هي أيضا‪.‬‬
‫‪ .5‬أ ّيا كان االتجاه الذي ستسلكه "المسألة التايوانية" في السنوات القادمة‪ ،‬سيستمر‬
‫التوتر وتتواصل الرهانات الجيوسياسية المتناقضة بين الواليات الم ّتحدة والصين‬
‫خالل العقدين القادمين‪ .‬فالصين تسعى لالحتفال بمئوية تأسيسها سنة ‪ 2049‬وقد‬
‫ح ّققت أهدافها االستراتيجية الكبرى‪ ،‬وعلى رأسها "توحيد العالم الصيني"‪ ،‬بما‬
‫في ذلك تايوان‪ .‬عندها‪ ،‬سيختلف بالتأكيد موقعها من النظام العالمي‪ ،‬الذي تقوده‬
‫اليوم الواليات الم ّتحدة األميركية‪ ،‬ويهيمن الغرب على أغلب مفاصله‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫المراجع‬
‫ أبو‬،2010-1978 ‫ المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي‬،‫) وليد سليم عبد الحي‬1(
.154-153 .‫ ص‬،2010 ،‫ مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االستراتيجية‬،‫ظبي‬

،‫ دور الصين في الترتيبات األمنية إلقليم آسيا – الباسيفيك‬،‫) أركان محمود أحمد الخانوتي‬2(
.229 .‫ ص‬،2019 ،‫ دار األكاديميون للنشر والتوزيع‬،‫عمان‬
(3) Li Jiayao, China’s National Defense in the New Era, White Papers,
Ministry of National Defense of the People’s Republic of China,
24/07/2019.
See: https://bit.ly/3AaeNAJ/ accessed on 19/10/2022.

‫ هل تنجح الصين‬،‫ حتمية الحرب بين القوة الصاعدة والقوة المهيمنة‬،‫) غراهام أليســون‬4(
‫ دار‬:‫ بيروت‬،‫وأمريكا في اإلفالت من فخ ثيوســيديديز؟ ترجمة إسماعيل بهاء الدين سليمان‬
.339 .‫ ص‬،2018 ‫ سبتمبر‬،‫الكتاب العربي‬

‫ مركز‬،‫ أبو ظبيي‬،‫المنضبط" ضــد الصين؟‬


ُ " ‫ ما وراء التصعيد األمريكي‬،‫) محمــد كمــال‬5(
:‫ انظر الرابط التالي‬.2022 ‫ آب‬/‫ أغســطس‬18 ،‫المســتقبل لألبحاث والدراســات المتقدمة‬
.)2022/10/18 :‫ (تاريخ الدخول‬https://bit.ly/3dzMGll
(6) Minxin Pei, Pelosi’s Taiwan Trip is Only the Start of US Headaches,
Bloomberg UK, 03/08/2022.
See: https://bloom.bg/3A4idoy/ accessed on 20/10/2022.
(7) Joseph R. Biden, Renewing America’s Advantages Interim National
Security Strategic Guidance, March 2021, The White House, Washington,
p. 10.
(8) Nathaniel Sher, The real lesson of the war in Ukraine for Taiwan,
Responsible Statecraft, 04/05/2022.
See: https://bit.ly/3BW11ml/ accessed on 20/10/2022.
(9) Andrew Scobell, "Chinese thinking on the South China Sea and
the future of regional security", in: US–China Competition and the
South China Sea Disputes, Huiyun Feng and Kai He (ed.), New York:
Routledge, 2018, p. 36.

34
‫(‪ )10‬وليد سليم عبد الحي‪ ،‬المواجهة الدولية القادمة‪ :‬تايوان‪ .‬ومن الضروري انتظار هذين‬
‫الحدثيــن الهامين‪ ،2022/06/03 ،‬موقع مدار الســاعة‪ .‬انظــر الرابط التالي‪https://bit. :‬‬
‫‪( ly/3bjZxHK‬تاريخ الدخول ‪.)2022/10/22‬‬

‫‪35‬‬
‫ديناميات األحالف والبحث عن توازن قوى عالمي جديد‬
‫عزالدين عبد المولى‬

‫مقدمة‬
‫أطلقت الحرب الروســية على أوكرانيا ديناميات سياســية واقتصادية وعسكرية‬
‫الصعيد العالمي‪ ،‬وفي مناطق عدّ ة من العالم‪ .‬وقد تج ّلت بعض تلك‬ ‫وأمنية على ّ‬
‫الديناميات في حركية غير مسبوقة شهدتها بعض األحالف والتك ّتالت اإلقليمية‬
‫الصراع‪ .‬ورغم تعدّ د تلــك التك ّتالت‪ ،‬واختالف طبائعها‪،‬‬‫والدّ وليــة على جاني ّ‬
‫أن دورها في إحداث‬ ‫وتنــوع أطرافها‪ ،‬ومســحها ألغلب جغرافية العالــم‪ ،‬إال ّ‬
‫ّ‬
‫إنها كشــفت عــن حقيقة االختالل الهائل في موازين‬ ‫التوازن كان محدودا‪ ،‬بل ّ‬
‫يركز هذا التحليل على واقع األحالف السياسية والعسكرية التي‬ ‫القوى الدّ ولية‪ّ .‬‬
‫شــهدت خــال العام ‪ 2022‬حركية الفتة تعكس حالــة التوتّر والتر ّقب وغياب‬
‫أن الحرب الروســية على أوكرانيا لم‬ ‫اليقيــن التي أصبح عليها العالم‪ .‬صحيح ّ‬
‫ّ‬
‫اختل فيه‬ ‫تكن سببا في نشأة أحالف جديدة‪ ،‬فهي ذاتها نتيجة لوضع استراتيجي‬
‫اختل ذلك ال ّتوازن حين انهار حلف وارسو في بداية‬‫ّ‬ ‫التوازن بين أحالف قديمة‪.‬‬
‫ظل حلف شمال األطلسي‬ ‫تســعينات القرن الماضي واختفى من الوجود‪ ،‬بينما ّ‬
‫(‪ )NATO‬يتوســع شــرقا حتى بلغ حدود روسيا‪ .‬لم تنشئ هذه الحرب أحالفا‬
‫جديدة‪ ،‬ولك ّنها خلقت مناخا تنافسيا جديدا‪ ،‬وبعثت الحياة والحركية في تك ّتالت‬
‫كانت إلى وقت قريب تعيش حالة من الخمول‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويحلل الحركية التي بعثتها الحرب الروسية على أوكرانيا في‬ ‫يرصد هذا التقرير‬
‫ومنظمات إقليمية ودولية أبرزها حلف شمال األطلسي (‪ ،)NATO‬منظمة‬ ‫ّ‬ ‫أحالف‬
‫شانغهاي لل ّتعاون (‪ ،)SCO‬معاهدة األمن الجماعي (‪ ،)CSTO‬مجموعة البريكس‬
‫(‪ ،)BRICS‬ورباعي الحوار األمني (‪ .)QUAD‬تشــترك هذه التك ّتالت في ثالثة‬
‫الصراع الرئيسية وداعميها المباشرين وغير‬
‫تضم أطراف ّ‬ ‫ّ‬ ‫مالمح أساســية‪ ،‬كونها‬
‫المباشرين شرقا وغربا؛ كونها‪ ،‬باستثناء الناتو‪ ،‬نشأت بعد نهاية الحرب الباردة في‬
‫سياق اختالل استراتيجي هائل ح ّفز القوى الكبرى والوسيطة للبحث عن ّ‬
‫مظاّلت‬

‫‪37‬‬
‫إقليمية‪ ،‬والســعي إلعادة ال ّتوازن بين الشّ رق والغرب؛ كونها‪ ،‬جميعها‪ ،‬تك ّتالت‬
‫للتوســع في عضويتها وجغرافيتها ووظيفتها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومرشــحة‬ ‫مفتوحة على المســتقبل‬
‫ويعمق حالة ّ‬
‫الاّليقين‪ .‬لقد ضاعفت‬ ‫ّ‬ ‫وقوتها‪ ،‬ما سيزيد من سيولة الوضع الراهن‬
‫أهمية األحالف والتك ّتالت بمختلف صيغها‬‫الحرب الروســية على أوكرانيا من ّ‬
‫ونطاقاتها‪ ،‬وهي بصدد إعادة تشــكيلها على ضوء األخطار التي تزايدت بشــكل‬
‫الفت خالل العام ‪ 2022‬على أمن العالم واستقراره‪.‬‬

‫التوسع على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا‬


‫ّ‬ ‫‪ .1‬الناتو‪ :‬المزيد من‬
‫قررت روســيا غزو جارتها أوكرانيا تحت الفتة "عملية عســكرية خاصة"‪،‬‬ ‫حين ّ‬
‫المطرد‪ ،‬منذ تأسيســه في العام‬ ‫توســعه ّ‬‫كان الناتو في خلفية ذلك القرار‪ .‬وكان ّ‬
‫‪ 1949‬على يد تسع دول إلى أن بلغ عدد أعضائه ثالثين عضوا في العام ‪،2020‬‬
‫مبعثــا لقلق دائم وســببا لمخاوف أمنية متصاعــدة‪ .‬كانت تلك المخاوف‪ ،‬التي‬
‫تأكدت قبل ذلك في‬ ‫عبــرت عنها موســكو بوضوح قبيل غزوها أوكرانيا‪ ،‬قــد ّ‬ ‫ّ‬
‫ضم الناتو دول البلطيق الثالث‪ ،‬إســتونيا والتفيا وليثوانيا‪،‬‬
‫العــام ‪ ،2000‬حيــن ّ‬
‫توسعيتان كان لهما‬‫الواقعة على الحدود مع روسيا‪ .‬سبقت هذه الخطوة خطوتان ّ‬
‫القوة بين الشّ رق والغرب‪.‬‬ ‫داللة عميقة على حجم االختالل المتزايد في توازن ّ‬
‫أوالهما‪ ،‬حين أصبحت ألمانيا بكاملها عضوا في الحلف بعد انهيار جدار برلين‪،‬‬
‫وتوحد شطريها الشرقي والغربي في العام ‪ ،1990‬وانهيار االتحاد السوفيتي بعد‬ ‫ّ‬
‫انضمت بولنــدا في العام ‪ ،1999‬وهي التي كان‬ ‫ّ‬ ‫ذلك مباشــرة‪ .‬وثانيتهما‪ ،‬حين‬
‫تأسس على أرضها في العام ‪،1955‬‬ ‫حلف وارسو‪ ،‬بقيادة االتحاد السوفيتي‪ ،‬قد ّ‬
‫أهمية انضمام بولندا إلى الناتو‬
‫الراهنة ّ‬
‫وس ّمي باسم عاصمتها‪ .‬وقد أثبتت الحرب ّ‬ ‫ُ‬
‫من خالل الدور المحوري الذي تلعبه لفائدته كجسر عسكري ولوجستي حيوي‬
‫لدعم أوكرانيا واستنزاف روسيا‪.‬‬
‫األهم‪ ،‬ربما في تاريخ الحلف‪ ،‬خاصة إذا ُنظر إليها في سياق‬
‫ّ‬ ‫التوسعية‬
‫ّ‬ ‫الخطوة‬
‫ال ّتطورات الراهنة‪ ،‬هي التي ح ّفزتها الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬والتي دفعت‬
‫التوسع ليس عدديا أو جغرافيا أو‬
‫ّ‬ ‫والسويد لطلب العضوية‪ .‬فهذا‬
‫ّ‬ ‫ُك ّاّل من فنلندا‬
‫ديمغرافيا وحسب‪ ،‬بل هو بالتحديد ما كانت روسيا تسعى لدرئه من خالل غزو‬

‫‪38‬‬
‫لتوســع الناتو باتجاهها‪ ،‬وإبعاد خطره عن‬
‫ّ‬ ‫جارتهــا أكرانيا‪ .‬فبدال من وضع حدّ‬
‫حدودها‪ ،‬انضافت إلى حدود الناتو مع روســيا ‪ 1340‬كلم‪ .‬وبذلك تكون هذه‬
‫قربت حلف شــمال األطلسي من روسيا‪ ،‬وخلقت واقعا جيوسياسيا‬ ‫الحرب قد ّ‬
‫جديدا‪ ،‬وو ّفرت للناتو فرصة ّ‬
‫توسعية‪ ،‬ما كان ليحظى بها لوال ما أثارته الحرب‬
‫الســويد وفنلندا‬
‫من مخاوف أمنية وأخطار اســتراتيجية دفعت بلدين في أهمية ّ‬
‫للخروج عن حيادهما الذي دام أكثر من قرنين لألولى‪ ،‬وأكثر من ســبعين عاما‬
‫للثّانية‪.‬‬

‫‪ .2‬منظمة شانغهاي للتعاون‪ :‬كتلة مهمة ولكن غير كافية إلسناد روسيا‬
‫تر ّدد اسم منظمة شانغهاي للتعاون في منابر ال ّنقاش خالل العام ‪ ،2022‬باعتبارها‬
‫إحدى البدائل الممكنة إلســناد الموقف الروســي‪ ،‬وربما تلعب دورا سياســيا‬
‫وأن البعض‬ ‫واقتصاديا في المواجهة التي تخوضها موســكو مع الغرب‪ ،‬خاصة ّ‬
‫يعتبرها بمثابة "الناتو اآلسيوي"‪ .‬فهذه المنظمة األوراسية‪ ،‬التي تأسست في العام‬
‫‪ 2001‬بهــدف التعاون في المجاالت االقتصادية والسياســية واألمنية‪ُ ،‬تعدّ أكبر‬
‫الكتل اإلقليمية في العالم من حيث وزنها االقتصادي والديمغرافي والجغرافي‪.‬‬
‫ســت دول‪ ،‬هي‬ ‫ّ‬ ‫أن عضويتها كانت إلى حدود العام ‪ 2017‬تقتصر على‬ ‫ورغــم ّ‬
‫الصين وروســيا وكازاخســتان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان‪ ،‬قبل أن‬
‫فإن الوزن الحقيقي‬ ‫تنضم إليها الهند وباكســتان في العام ‪ 2017‬لتصبح ثماني‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫للمنظمــة يتجــاوز هذا الرقم بكثير‪ .‬فحجم اقتصاديــات أعضائها يبلغ نحو ‪25‬‬
‫ترليون دوالر‪ ،‬ويمثّل نحو ‪ % 25‬من حجم الناتج المحلي الخام على مســتوى‬
‫قارتي‬
‫تشــكلها هذه الكتلة تبلغ ‪ % 80‬من مساحة ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالم‪ .‬ومســاحة البلدان التي‬
‫ســكانها ‪ % 40‬من عدد ســكان العالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫آســيا وأوروبا مجتمعتين‪ .‬ويتجاوز عدد‬
‫بـــ‪ 3.2‬مليار نســمة‪ .‬إضافة إلى أعضائها الدّ ائميــن‪ ،‬يتم ّتع عدد آخر من الدّ ول‬
‫بعضو ّية المراقب في المنظمة‪ ،‬مثل إيران وأفغانستان ومنغوليا وبالروسيا‪.‬‬
‫أهمية منظمة‬
‫إلــى جانب ثقلها اإلقليمي الذي تكشــفه األرقام أعــاه‪ ،‬ازدادت ّ‬
‫شانغهاي في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬لعدّ ة أسباب‪ .‬فالمنظمة كتلة‬
‫قسمته الحرب مجدّ دا إلى غرب وشرق‪ .‬وكما تك ّتل الغرب بش ّقيه‬
‫شرقية في عالم ّ‬

‫‪39‬‬
‫فإن روسيا كانت تأمل أن يدعمها حلفاؤها‬ ‫األوروبي واألميركي لدعم أوكرانيا‪ّ ،‬‬
‫تفك عزلتها وتح ّقق نوعا من ال ّتوازن العالمي‪ .‬وكان اسم‬‫الشرقيون بفاعلية أكبر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫منظمة شــانغهاي قد تر ّدد كثيرا في الخطاب الروســي عن تعدّ د األقطاب سبيال‬
‫لبناء نظام عالمي أكثر عدال‪ .‬ولكن‪ ،‬يبدو أن التو ّقعات الروســية ورهاناتها على‬
‫هذه الكتلة كانت أعلى من مســتوى استعداد أعضائها لتقديم الدعم المطلوب‪،‬‬
‫أهم عضوين فيها‪ ،‬من حيث الوزن االقتصادي والديمغرافي والمساحة‬ ‫سيما ّ‬
‫وأن ّ‬
‫الجغرافية‪ ،‬ال ُيتو ّقع منهما الدّ خول في صراع مع الغرب‪ .‬فالهند‪ ،‬عضو في تك ّتل‬
‫والصين تربطهــا بأوروبا وأميركا مصالح‬‫ّ‬ ‫آخــر يجمعهــا مع الواليات المتحدة‪،‬‬
‫تجاريــة واقتصادية أضعاف ما يربطها بروســيا‪ ،‬وهي في حاجة إلى المزيد من‬
‫الصعيــد الدولي‪ .‬ما يزيد من‬ ‫الوقــت لمواصلــة صعودها وزيــادة تأثيرها على ّ‬
‫الصراع كونها‪ ،‬باستثناء الهند‪ ،‬تجمع أنظمة‬ ‫أهمية منظمة شانغهاي في سياق هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫سياســية يص ّنفها الغرب في خانة االســتبداد ومناهضــة الديمقراطية والليبرالية‪.‬‬
‫ويفســر جانبا آخر من‬
‫ّ‬ ‫يعزز ال ّتقابل بينها وبين المنظومة الغربية‪،‬‬
‫وهذا ال ّتصنيف ّ‬
‫قوة هذه الكتلة‪ .‬فوف ًقا لنظرية بريجنسكي‪ ،‬التي‬ ‫الحســابات الروسية في توظيف ّ‬
‫ّ‬
‫التحكم في الكتلة األوراسية مفتاح الهيمنة العالمية‪،‬‬ ‫جيدا‪ُ ،‬يعتبر‬
‫يعرفها الروس ّ‬
‫الســيطرة على الكتلة األوراسية‪ .‬غير ّ‬
‫أن‬ ‫والتحكم في آســيا الوسطى هو مفتاح ّ‬ ‫ّ‬
‫ال ّتنافس داخل منظمة شانغهاي ذاتها‪ ،‬يضع حدودا على قدرة روسيا على توظيفها‬
‫في صراعها مع الغرب‪ .‬فدول المجموعة ك ّلها تقع ضمن مشروع الصين الكبير‬
‫المسمى "مبادرة الحزام والطريق" الذي ُضخت فيه استثمارات ضخمة‪.‬‬

‫‪ .3‬معاهدة األمن الجماعي‪ ،‬أو ما بقي من الميراث السوفيتي‬


‫تأسست عام ‪ 1992‬في أعقاب نهاية‬ ‫ُتعتبر منظمة معاهدة األمن الجماعي‪ ،‬التي ّ‬
‫توجهات روســيا‪ ،‬واألكثر خدمة ألجندتها من بين‬
‫الحرب الباردة‪ ،‬األقرب إلى ّ‬
‫التجمعات اإلقليمية في الفضاء األوراســي‪ .‬فقد نشــأت المنظمة بمبادرة روسية‬
‫ّ‬
‫الســوفيتي‪ ،‬وأعضاؤها ك ّلهم من‬
‫للمحافظــة على ما تب ّقى مــن ميراث االتّحاد ّ‬
‫تضم معاهدة األمن الجماعي‬
‫ّ‬ ‫السابقة‪ .‬إلى جانب روسيا‪،‬‬
‫السوفيتية ّ‬‫الجمهوريات ّ‬
‫ُك ّاّل من بالروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان‪ .‬ورغم الطبيعة‬
‫الرابع على الدفاع المشترك‪ ،‬أسوة‬
‫تنص في بندها ّ‬
‫العسكرية لهذه المعاهدة‪ ،‬التي ّ‬
‫‪40‬‬
‫بالبند الخامس من معاهدة حلف شمال األطلسي‪ّ ،‬‬
‫فإن القوة الردعية لهذه الما ّدة‬
‫الردعية لحلف الناتو‪ .‬فــأوزان الدّ ول الخمس‪ ،‬التي‬ ‫ال يمكــن أن ُتــوازن ّ‬
‫القوة ّ‬
‫تتحالف مع روســيا في هذه المنظمة‪ ،‬ال ُتقارن بأوزان الدول التســع والعشرين‬
‫التــي تتحالف مع الواليــات المتحدة في حلف الناتو‪ ،‬ال من حيث عددها وال‬
‫للقوة‬
‫نوعية ّ‬‫ّ‬ ‫تشكل إضافة‬‫قدراتها العسكرية وال امتدادها الجغرافي‪ .‬كما أنّها ال ّ‬
‫الروسية‪ ،‬بل إن هذه الدّ ول أحوج إلى المساعدة الروسية من حاجة روسيا إلى‬
‫تســتقر عضوية معاهــدة األمن الجماعي منذ‬‫ّ‬ ‫مســاعدتها‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬لم‬
‫كل من جورجيا وأذربيجان وأوزباكستان ألسباب مختلفة‪.‬‬ ‫إنشائها‪ ،‬فقد غادرتها ّ‬
‫انضم إلى تك ّتالت منافســة‪ ،‬مثل تك ّتل غوام (‪،)GUAM‬‬ ‫ّ‬ ‫وبعــض هــذه البلدان‬
‫الســوفيتي الســابقة‪ ،‬ويقع خارج‬ ‫يضم عددا آخر من جمهوريات االتّحاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬
‫دائرة النفوذ الروسي‪ ،‬بل يسعى إلى منافسته والحدّ منه‪.‬‬
‫مــن نقــاط الضعف األخرى التــي تعاني منها منظمة معاهــدة األمن الجماعي‬
‫هشاشــة األوضاع الداخلية لبعض أعضائها‪ ،‬وتعدّ د ال ّنزاعات الحدودية والعرقية‬
‫مهمات‬
‫والدينية بين بعضها اآلخر‪ .‬فقبيل اجتياح روســيا ألوكرانيا‪ ،‬كانت آخر ّ‬
‫المنظمة إرسال قوات مشتركة لوضع حدّ لالضطرابات السياسية واالحتجاجات‬
‫االجتماعية التي كانت تعصف بنظام رئيس كازاخســتان قاسم جومرت توكايف‬
‫وحكومته‪ .‬وقبل ذلك‪ ،‬كانت موجة من االحتجاجات قد أطاحت بنظام الرئيس‬
‫الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول‬ ‫القرغيزي باكييف في العام ‪ .2010‬وال يزال ّ‬
‫يســتمر ال ّنزاع بين‬
‫ّ‬ ‫مســتمرا منذ أكثر من ثالثة عقود‪ ،‬كما‬
‫ّ‬ ‫إقليم ناغورنو كاراباخ‬
‫أوزباكستان وقيرغيزستان من ناحية‪ ،‬وطاجيكستان وقيرغيزستان من ناحية أخرى‪.‬‬
‫أما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا‪ ،‬اللتان انفصلتا عن جورجيا بدعم عسكري روسي‪،‬‬
‫فال تعترف بهما أ ّية دولة من دول معاهدة األمن الجماعي‪ ،‬باستثناء روسيا‪.‬‬
‫أن منظمة معاهدة األمن الجماعي قادرة على لعب دور‬‫لهذه األسباب‪ ،‬ال يبدو ّ‬
‫فعال في تعديل موازين القوى لصالح روسيا في صراعها مع الغرب‪ .‬فهي كتلة‬ ‫ّ‬
‫الراهن‪ ،‬أقرب إلى كونها عب ًءا على‬
‫مستقرة‪ .‬وهي‪ ،‬بوضعها ّ‬
‫ّ‬ ‫ضعيفة وهشّ ة وغير‬
‫قوته وتأثيره‪ .‬وقد كشــفت الحرب‬
‫االتّحاد الروســي من كونها رصيدا يزيد من ّ‬
‫الروسية على أوكرانيا هذا الخلل‪ ،‬حيث بدت موسكو وحيدة في مواجهة حلف‬

‫‪41‬‬
‫ويمول الجانب األوكراني‪ ،‬بينما تلجأ هي إلى دول‬
‫ّ‬ ‫ويدرب‬
‫ّ‬ ‫الناتو‪ ،‬الذي يس ّلح‬
‫من خارج حلفها األقرب‪ ،‬لطلب المساعدة العسكرية مثل الصين وإيران وكوريا‬
‫الشمالية‪.‬‬

‫‪ .4‬مجموعة البريكس‪ ،‬أفق مستقبلي واعد‬


‫تأسست مجموعة البريكس في العام ‪ 2009‬بين رباعي ما كان ُيعرف باالقتصاديات‬ ‫ّ‬
‫الصاعدة‪ :‬البرازيل وروسيا والهند والصين‪ ،‬ثم انضمت إليها جنوب إفريقيا في‬ ‫ّ‬
‫العــام ‪ .2010‬و ُتعــدّ هذه المجموعة‪ ،‬التي عقدت ّ‬
‫قمتها الرابعة والعشــرين في‬
‫يونيو‪ /‬حزيران ‪ ،2022‬مقا ِربة لمجموعة شــانغهاي من حيث ثقلها االقتصادي‬
‫والديمغرافي والجغرافي‪ .‬فاقتصاد البريكس يتجاوز ‪ 30‬ترليون دوالر‪ ،‬ويمثل أكثر‬
‫ّ‬
‫ســكانها‬ ‫من ‪ % 30‬من حجم الناتج المحلي الخام على مســتوى العالم‪ .‬وعدد‬
‫ّ‬
‫وتغطي مســاحة بلدانها أكثر من‬ ‫ّ‬
‫ســكان العالم‪،‬‬ ‫يبلغ أكثر من ‪ % 40‬من مجموع‬
‫ربع مساحة العالم‪.‬‬
‫لم تلعب مجموعة البريكس دورا واضحا وال مؤثرا في ســياق الحرب الروسية‬
‫على أوكرانيا‪ ،‬ولم تو ّفر مالذا حيو ّيا لالقتصاد الروســي المســتهدف بالعقوبات‬
‫الغربية الصارمة التي يشتدّ وقعها وي ّتسع نطاقها باستمرار‪ .‬ثمة أسباب موضوعية‬
‫تمنــع هذه الكتلة‪ ،‬في وضعها الحالــي‪ ،‬من لعب الدّ ور الذي يطمح إليه القادة‬
‫الــروس‪ ،‬وهم يبشّ ــرون بإقامة نظــام عالمي عادل ومتعــدّ د األقطاب‪ .‬فأعضاء‬
‫المجموعة اآلخرون‪ ،‬الذين تربطهم بالغرب مصالح اقتصادية كبرى‪ ،‬ال يرغبون‬
‫في الوقوع تحت طائلة العقوبات التي شملت حليفهم الروسي في غياب بدائل‬
‫أن المجموعة تش ّقها خالفات استراتيجية عميقة وتنافس جيوسياسي‬ ‫واضحة‪ .‬كما ّ‬
‫متصاعد‪ ،‬خاصة بين عضويها األثقل اقتصاديا وديمغرافيا‪ ،‬الصين والهند‪ُ .‬يضاف‬
‫إلى ذلك‪ ،‬اختالف القيم وطبيعة األنظمة السياســية‪ ،‬بين ديمقراطية على نموذج‬
‫كل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا‪ ،‬ومركزية حزبية‬ ‫الغرب الليبرالي تمثّلها ّ‬
‫وشخصية تمثّلها الصين وروسيا‪.‬‬
‫أهم ال ّتحديات التي تواجه مجموعة البريكس وتمنعها من تحويل ثقلها االقتصادي‬
‫السياسات الخارجية‬
‫إلى نفوذ سياسي‪ ،‬يكمن في التناقض وغياب االنسجام بين ّ‬

‫‪42‬‬
‫ألعضائها‪ .‬يتج ّلى هذا التناقض باألســاس فــي ازدواجية انتماء الهند للبريكس‬
‫من ناحية‪ ،‬ولل ّتحالف الرباعي (الكواد) الذي تقوده الواليات المتحدة لمحاصرة‬
‫الصين والحدّ من نفوذها في جنوب شرق آسيا من ناحية أخرى‪ .‬كما تج ّلى في‬
‫صوتــت البرازيل لفائدة قرار إدانة‬
‫الموقف من الغزو الروســي ألوكرانيا‪ ،‬حين ّ‬
‫كل من الصين والهند وجنوب إفريقيا‪ ،‬ولم‬ ‫روسيا‪ ،‬بينما امتنعت عن التصويت ّ‬
‫تعارض القرار دولة واحدة من المجموعة‪.‬‬
‫خاصة مع رغبة روسيا والصين‬‫أهمية البريكس قائمة‪ّ ،‬‬ ‫ورغم هذه التحدّ يات‪ّ ،‬‬
‫تظل ّ‬
‫األهمية في ثقل‬
‫ّ‬ ‫الراهن‪ .‬وال تنحصر هذه‬ ‫عالمي بديل من ال ّنظام ّ‬
‫ّ‬ ‫في قيام نظام‬
‫المجموعة على المستوى االقتصادي والديموغرافي والجغرافي وحسب‪ ،‬بل أيضا‬
‫في األفق المســتقبلي الذي تمثّله للبلدان التي تبحث عن بدائل قابلة لالستدامة‬
‫خارج ال ّنظام العالمي الذي يسيطر عليه الغرب ويهيمن على أدق تفاصيله‪ .‬وقد‬
‫رســميا‪ ،‬مثل إيران واألرجنتين‪ ،‬بينما‬
‫ّ‬ ‫دفع هذا األفق بعدّ ة دول لطلب االنضمام‬
‫تدرس كل من تركيا ومصر والسعودية والجزائر طلب عضوية المجموعة‪ .‬بهذا‬
‫التوسع الممكن والمتو ّقع‪ ،‬يمكن أن تتحول مجموعة البركيس بالفعل إلى كتلة‬ ‫ّ‬
‫وأن المجموعة‬ ‫اقتصادية وجيوسياسية مؤ ّثرة باستطاعتها أن تنافس الغرب‪ ،‬سيما ّ‬
‫عمليا لبناء منظومة مالية عالمية بديال من نظام سويفت‪ ،‬وتناقش إصدار‬‫ّ‬ ‫تســعى‬
‫موحدة تهدف إلى ّ‬
‫فك هيمنــة الدّ والر األميركي على االقتصاد وال ّتجارة‬ ‫عملــة ّ‬
‫العالميين‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ .5‬رباعي الحوار األمني‪ :‬ذراع أميركية في المحيطين الهندي والهادئ‬


‫الحتواء الصين‬
‫تأسســت مجموعــة رباعي الحوار األمنــي المعروفة اختصارا باســم "الكواد"‬
‫وتضم ُك ّاّل من الواليات المتحــدة األميركية والهند واليابان‬
‫ّ‬ ‫فــي العــام ‪،2007‬‬
‫وأســتراليا‪ .‬وهي عبارة عن تحالف استراتيجي عسكري وأمني يهدف إلى تعزيز‬
‫الحــوار وال ّتعاون بين أعضائه‪ ،‬وزيــادة نفوذهم عبر المحيطين الهندي والهادئ‬
‫أن الواليات المتحدة والهند واليابان‪،‬‬‫وفي جنوب آســيا وجنوبها الشّ رقي‪ .‬وبما ّ‬
‫والسعي‬
‫والصراع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثالثتهم تربطهم بالصين عالقات دائمة ال ّتوتّر‪ ،‬يحكمها ال ّتنافس‬

‫‪43‬‬
‫للهيمنة وتوسيع ال ّنفوذ‪ّ ،‬‬
‫فإن الصين ترى في هذا التحالف "ناتو آسيويا"‪ ،‬يهدف‬
‫كقوة‬
‫باألساس لمحاصرتها والحدّ من نفوذها اإلقليمي والرفع من كلفة صعودها ّ‬
‫اقتصادية وعسكرية عالمية‪.‬‬
‫منذ تأسيســه‪ ،‬دأب تحالف "الكواد" على إجراء مناورات وتدريبات عســكرية‬
‫ثنائية وثالثية ورباعية‪ ،‬وبعضها شــمل دوال أخرى في المنطقة مثل ســنغافورة‪.‬‬
‫و ُتعتبر مناورات "حافة الهادئ" (‪ )RIMPAC‬التي جرت خالل شــهري يوليو‪/‬‬
‫تموز ‪ ،2022‬وشــاركت فيها دول "الكواد" وخمســة من الدول اآلسيوية الواقعة‬
‫على تخوم بحر الصين الجنوبي‪ ،‬أكبر مناورات بحرية على مستوى العالم‪ .‬فقد‬
‫شاركت في هذه المناورات‪ ،‬إلى جانب "الكواد" وبعض حلفاء أميركا في أوروبا‬
‫الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وبروناي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الاّلتينية‪ُ ،‬ك ّل من‬
‫وأميركا ّ‬
‫بتجمعات أخرى‪ ،‬يكتسي تحالف "الكواد"‬
‫ّ‬ ‫ورغم العدد المحدود ألعضائه‪ ،‬مقارنة‬
‫أهمية اســتراتيجية كبرى‪ ،‬خاصة في سياق المخاطر األمنية التي خلقتها الحرب‬ ‫ّ‬
‫الروسية على أوكرانيا‪ ،‬وحالة األزمة والاليقين التي تهيمن على العالم‪ .‬صحيح‬
‫وضم روســيا‬‫ّ‬ ‫ولكن الحرب في أوروبا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن ال ّتوتّر في بحر الصين ليس جديدا‪،‬‬
‫ألراض أوكرانية بالقوة‪ ،‬دفعا بهذا ال ّتوتّر إلى مســتويات غير مســبوقة وبعثتا إلى‬
‫تمر‬
‫الغني بال ّنفط والغاز‪ ،‬والذي ّ‬‫ّ‬ ‫العالم برسائل متناقضة‪ .‬فبحر الصين الجنوبي‪،‬‬
‫فــي مياهه أكثر من ‪ % 60‬من حركة التجارة البحرية العالمية‪ ،‬ونحو ربع ال ّتجارة‬
‫العالمية بشــكل عام‪ ،‬إلــى جانب ثلث المالحة الدولية‪ ،‬تحاول الصين بســط‬
‫السيادة عليه ُك ّل من إندونيسيا وماليزيا‬
‫هيمنتها شبه الكاملة عليه‪ .‬ولكن‪ ،‬تنازعها ّ‬
‫والفلبيــن وبروناي‪ .‬وهذه الدول ك ّلها تربطها بتحالف "الكواد" عالقات‬ ‫ّ‬ ‫وفيتنــام‬
‫قو ّية‪ ،‬وهي تشــارك في مناوراته غيــر البعيدة عن مناطق ال ّتوتّر مع الصين‪ .‬فإذا‬
‫يحف بها من تعقيدات جيوسياسية‪ ،‬نفهم‬ ‫ّ‬ ‫أضفنا إلى ذلك‪ ،‬المسألة التايوانية وما‬
‫الرسائل التي بعثت بها الحرب الروسية إلى هذه المنطقة‪ .‬فالصين‪ ،‬القوة‬ ‫خطورة ّ‬
‫اإلقليمية المهيمنة‪ ،‬والتي تسعى الستعادة تايوان إلى سيادتها الكاملة‪ ،‬و ّفرت لها‬
‫والحجة والسابقة‪ .‬والواليات المتحدة‪ ،‬التي تخوض مع حلفائها‬ ‫ّ‬ ‫الحرب الفرصة‬
‫عدوها التاريخي في أوكرانيا لتلحق به "هزيمة‬ ‫ّ‬ ‫في الناتو حربا غير مباشــرة ضدّ‬
‫ّ‬
‫يستغل انشغالها في أوروبا ليح ّقق‬ ‫لعدوها المســتقبلي أن‬
‫ّ‬ ‫اســتراتيجية"‪ ،‬ال تريد‬

‫‪44‬‬
‫أهمية تحالف "الكواد"‬
‫"نصــرا اســتراتيجيا" في المحيط الهادئ‪ .‬من هنا تأتــي ّ‬
‫بصبغته العســكرية وطبيعة نشــاطه في المجال الهندو ‪ -‬باســيفيك‪ ،‬ومناوراته‬
‫البحرية المكثّفة التي تحشــد فيها الواليــات المتحدة أعداء الصين من جيرانها‬
‫في استعراض دوري للقوة استعدادا ألي طارئ‪ .‬من هنا أيضا‪ ،‬تأتي ال ّتحذيرات‬
‫تحرك تجاه تايوان‪ ،‬وتأتي في الســياق ذاته زيارات‬
‫أي ّ‬ ‫األميركيــة لبيجين مــن ّ‬
‫المسؤولين الغربيين لتايوان‪ ،‬بما في ذلك زيارة رئيسة مجلس ال ّنواب األميركي‪،‬‬
‫نانسي بيلوسي‪ ،‬في أغسطس‪ /‬آب ‪.2022‬‬
‫تو ّفر الحرب الروســية على أوكرانيا سياقا إضافيا‪ ،‬ولك ّنه غير كاف‪ ،‬لفهم ال ّتوتّر‬
‫الخاصة قبل‬‫ّ‬ ‫المتصاعــد فــي بحر الصين الجنوبي‪ .‬فلهــذه المنطقة دينامياتهــا‬
‫الصراع بين روسيا والغرب‪ .‬وإذا كان‬ ‫وستستمر بعدها أ ّيا كانت نتيجة ّ‬
‫ّ‬ ‫الحرب‪،‬‬
‫فالمرجح أن يكون مجاله‬ ‫ّ‬ ‫هناك صراع قادم في المســتقبل بين قوتين عالميتين‪،‬‬
‫ألن كل عوامل االصطدام بين الصين والواليات الم ّتحدة‬ ‫بحر الصين الجنوبي‪ّ ،‬‬
‫التجمع والتراكم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في تلك المنطقة بصدد‬

‫خالصة‬
‫تســببت الحرب الروسية على أوكرانيا في أزمة عالمية متعدّ دة األوجه‪ ،‬وخلقت‬
‫التنبؤ بآثارها‬
‫مناخــات مــن المخاوف المتزايدة واألخطار األمنية التــي يصعب ّ‬
‫فالصراع العســكري المباشــر‪ ،‬الذي تصطدم فيه ثاني أكبر قوة‬‫القريبة والبعيدة‪ّ .‬‬
‫عالمية مع القوات األوكرانية مدعومة بســاح أكبر حلف عسكري على مستوى‬
‫العالم‪ ،‬هو الوجه األبرز ولك ّنه ليس الوحيد لهذه األزمة‪ .‬فالعقوبات التي يفرضها‬
‫ومؤسساته ارتدّ ت جزئيا على اقتصادات الدول‬‫ّ‬ ‫الغرب على االقتصاد الروســي‬
‫األوروبية بدرجة أولى‪ ،‬وعلى االقتصاد العالمي بشــكل عام‪ .‬وشــهدت ســوق‬
‫مهمة منها‪ ،‬اضطرابا في اإلمدادات وتغييرا‬
‫الطاقة التي تسيطر روسيا على نسبة ّ‬
‫في المســارات وارتفاعا في األســعار وسعيا محموما للبحث عن بدائل قد تعيد‬
‫وتحول الغذاء إلى ســاح في هذه الحرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تشــكيل خارطة الطاقــة العالمية‪.‬‬
‫فارتفعت أســعار الحبوب والزيوت النباتية إلى مســتويات قياســية‪ ،‬سيما ّ‬
‫وأن‬
‫خضم هذه األزمة‬ ‫ّ‬ ‫مزودي سوق الغذاء في العالم‪ .‬في‬
‫أوكرانيا وروسيا من أكبر ّ‬

‫‪45‬‬
‫والعالمية‬
‫ّ‬ ‫العالميــة متعدّ دة األوجه‪ ،‬اســتعادت التك ّتالت واألحــاف اإلقليمية‬
‫أهميتها‪ ،‬بحثا عن توازن افتقده العالم منذ نهاية الحرب الباردة في بداية تسعينات‬ ‫ّ‬
‫القرن الماضي‪ .‬فشهد حلف شمال األطلسي ‪ -‬الناتو حركية ونشاطا الفتين بعد‬
‫أن كان الرئيس الفرنسي‪ ،‬إيمانويل ماكرون قد وصفه في العام ‪ 2019‬بكونه "في‬
‫حالة موت إكلينيكي"‪ .‬فالحرب الروسية على أوكرانيا لم تكتف ببعث الحياة في‬
‫والتوسع واالقتراب أكثر من األراضي‬ ‫ّ‬ ‫التوحد‬
‫ّ‬ ‫هذا الحلف‪ ،‬بل دفعته للمزيد من‬
‫والسويد‪ .‬في‬
‫األهمية‪ ،‬هما فنلندا ّ‬‫ّ‬ ‫بضم محتمل لدولتين على غاية من‬ ‫ّ‬ ‫الروســية‬
‫المقابل‪ ،‬تبحث روســيا عن دعم سياســي واقتصادي وعســكري في عدد من‬
‫ال ّتك ّتــات اإلقليميــة التي تنتمي إليها وتلعب فيهــا أدوارا قيادية أو مؤ ّثرة‪ ،‬مثل‬
‫منظمة شــنغهاي ومعاهدة األمن الجماعي ومجموعة البريكس‪ .‬وإذا كان الدّ عم‬
‫الحركية‬
‫ّ‬ ‫الســنة األولى للحرب‪ ،‬فإن‬ ‫المقدّ م لروســيا محدودا وغير كاف خالل ّ‬
‫المستمر لتوسيعها وتعزيز قدراتها‪ ،‬تضفي‬‫ّ‬ ‫والسعي‬
‫ّ‬ ‫التي تشهدها هذه ال ّتك ّتالت‪،‬‬
‫الصورة المستقبلية لتوزّ ع موازين القوى العالمية على‬ ‫أهمية كبيرة باعتبارها ّ‬‫عليها ّ‬
‫الصيغة األقرب‬ ‫الكتلوي" هو ّ‬ ‫الصعيدين العسكري واالقتصادي‪ .‬فهذا التشكيل " ُ‬ ‫ّ‬
‫واألكثر واقعية في سياق محاوالت تجديد بنية ال ّنظام العالمي أو إعادة تشكيله‪،‬‬
‫ليس من قبل روســيا وحســب‪ ،‬بل أيضا من قبل قوى دولية أخرى على رأسها‬
‫الصين‪ ،‬التي تسعى الواليات المتحدة إلى احتوائها ومحاصرتها من خالل حشد‬
‫الرباعي‬
‫ال ّتك ّتالت اإلقليمية الناشطة في المجال الهندو ‪ -‬باسيفيك‪ ،‬مثل تحالفي ّ‬
‫األمنــي – "الكواد" واألوكــوس (‪ .)AUKUS‬واألرجــح‪ ،‬أن تلعب األحالف‬
‫وال ّتك ّتالت اإلقليمية دورا متزايدا في إدارة الشؤون الدولية في السنوات القادمة‪،‬‬
‫قوتها وتأثيرها‪.‬‬ ‫يتجاوز أدوار الدّ ول الكبرى منفردة‪ ،‬مهما كانت ّ‬

‫‪46‬‬
‫تداعيات الحرب على الطاقة والغذاء‬
‫السالح في المنطقة العربية‬
‫و ّ‬
‫صباح نعوش‬

‫مقدمة‬
‫أ ّثرت الحرب الروســية على أوكرانيا تأثيــر ًا اقتصادي ًا بالغ ًا على المنطقة العربية‬
‫بشــكل عام‪ .‬وي ّتســم هذا التأثير بتعدّ د أبعاده من جهة‪ ،‬وتباين اتجاهاته من جهة‬
‫أخرى‪ .‬فهو ال يقتصر على ارتفاع أسعار الوقود األحفوري والمواد الغذائية‪ ،‬بل‬
‫ولكن هذه الحرب لها تداعيات اقتصادية إيجابية‬ ‫ّ‬ ‫يشــمل أيض ًا قطاعات أخرى‪.‬‬
‫تتمثّل أساسا في االرتفاع الكبير لعوائد النفط والغاز التي استفادت منها خزائن‬
‫عدد من البلدان العربية‪ .‬باســتثناء ذلك‪ ،‬جميع ال ّتداعيات األخرى سلبية‪ ،‬سواء‬
‫تع ّلــق األمر بالبلدان ال ّنفطية أم غير ال ّنفطية‪ .‬وتزداد خطورة هذا التأثير ّ‬
‫الســلبي‬
‫تضررت جميــع البلدان العربية نتيجة‬ ‫فــي الــدّ ول ذات الدّ خل المنخفض‪ .‬فقد ّ‬
‫الضرورية للمعيشــة‪ .‬كما أفضت‬ ‫ارتفاع أســعار المواد الغذائية‪ ،‬خاصة الحبوب ّ‬
‫الحرب إلى تدهور واضح لإليرادات السياحية وتق ّلص احتياطي النقد األجنبي‪.‬‬
‫ولم تقتصر تداعيات الحرب السلبية على القطاعات المدنية للبلدان العربية‪ ،‬بل‬
‫شــملت أيض ًا قطاعاتها العســكرية‪ ،‬إذ تعتمد جيوش بعض بلدان المنطقة على‬
‫الصعب الحصول عليها‪.‬‬ ‫األسلحة الروسية‪ ،‬التي بات من ّ‬

‫المتضررون‬
‫ّ‬ ‫تأثير الحرب على سوق الطاقة‪ :‬المستفيدون و‬
‫في ‪ 20‬ديسمبر‪ /‬كانون األول ‪ 2021‬بلغ سعر س ّلة أوبك ‪ 70.9‬دوالر ًا للبرميل‪،‬‬
‫وفي ‪ 23‬فبراير‪ /‬شباط ‪ ،2022‬أي قبل اندالع الحرب الروسية بيوم واحد‪ ،‬ارتفع‬
‫مســج ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫إلى ‪ 95.8‬دوالر ًا‪ .‬وفي ‪ 9‬مارس‪ /‬آذار ‪ 2022‬قفز إلى ‪ 128.2‬دوالر ًا‬
‫أعلى مستوياته‪ .‬ومنذ ‪ 5‬سبتمبر‪ /‬أيلول ولغاية ‪ 21‬أكتوبر‪ /‬تشرين األول ‪2022‬‬
‫يدل هذا التطور على ثالثة اتجاهات‬ ‫ظل سعره يتراوح بين ‪ 90‬و‪ 99‬دوالر ًا (‪ّ .)1‬‬
‫ّ‬

‫‪47‬‬
‫في ســوق الطاقة خالل هذه الفترة الزمنية‪ :‬االتّجاه األول‪ ،‬ارتفاع األسعار ح ّتى‬
‫قبل الحرب الروســية على أوكرانيا نتيجة التخ ّلص ال ّتدريجي لالقتصاد العالمي‬
‫الضغوط الشّ ــديدة التي فرضها وباء كورونا‪ .‬واالتّجاه الثّاني‪ ،‬ارتفاع جديد‬
‫من ّ‬
‫لألســعار بصورة أكبر ووتيرة أســرع نتيجة الحرب وما نجم عنها من عقوبات‬
‫تحتل مركز‬‫ّ‬ ‫أميركيــة وأوروبية على صادرات النفط الروســية‪ .‬وبما ّ‬
‫أن روســيا‬
‫ال أساســي ًا في ارتفاع‬‫الصــدارة في ســوق الطاقة‪ ،‬تصبح تلــك العقوبات عام ً‬ ‫ّ‬
‫األســعار‪ .‬أ ّما االتّجاه الثّالث‪ ،‬فهو عودة األســعار إلى مســتوى ما قبل الحرب‬
‫اعتبــار ًا من ‪ 5‬ســبتمبر‪ /‬أيلول ‪ .2022‬ولكن هــذه العودة ال تعني إطالق ًا انتهاء‬
‫تأثيــر الحرب على األســعار‪ ،‬فتأثيرها ال يزال كبيــرا ولواله لما اضطرت دول‬
‫أوبك‪ +‬إلى تقليص إنتاجها‬
‫وكانت اإلدارة األميركية السابقة قد مارست ضغوطا شديدة على البلدان النفطية‬
‫بغيــة تخفيض اإلنتاج‪ .‬ففي عام ‪ ،2020‬وبفعل كورونا‪ ،‬انهارت أســعار الخام‪،‬‬
‫الصناعة النفطية األميركية‪ .‬ومع إدارة الرئيس‬‫فانعكس الوضع بصورة سلبية على ّ‬
‫خاصة‪ ،‬ولكن في االتجاه المعاكس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الضغط على دول الخليــج‬ ‫بايدن‪ ،‬اســتمر ّ‬
‫أولهما‬‫المرة على أمرين‪ّ ،‬‬‫أي مــن أجل إلى زيادة اإلنتاج‪ .‬يســتند الضغط هــذه ّ‬
‫الصناعية بسبب الحرب الروسية‪ .‬فحسب المنظور‬ ‫ّ‬
‫التضخم في البلدان ّ‬ ‫مســتوى‬
‫ّ‬
‫التضخم‪ .‬وثانيهما‬ ‫يتعين علــى أوبك زيادة إنتاجها لكبح جماح هذا‬ ‫األميركــي‪ّ ،‬‬
‫تصاعد أسعار النفط وما يعنيه من زيادة العوائد الروسية‪ ،‬وبال ّتالي التخفيف من‬
‫األعباء المالية للحرب في أوكرانيا وتقليص الخســائر االقتصادية المرتبطة بها‪.‬‬
‫أن األسعار المتدنّية للنفط تجعل االقتصاد الروسي غير قادر على‬ ‫فالغرب يرى ّ‬
‫الصمود أمام الخسائر الك ّلية‪ .‬فهناك‬‫تحمل تلك األعباء لفترة طويلة‪ ،‬وال يمكنه ّ‬ ‫ّ‬
‫أن كلفة العمليات العسكرية تبلغ نحو ‪ 993‬مليون دوالر في‬ ‫تقديرات تشير إلى ّ‬
‫الصادرات النفطية الروســية‪ .‬وحسب‬ ‫اليوم الواحد (‪ ،)2‬وهو مبلغ يفوق حجم ّ‬
‫تقديرات أخرى‪ ،‬تصل الخســائر الروســية التي تشمل عدد الضحايا والعقوبات‬
‫الغربية والخســائر النفطية والمصروفات العسكرية المباشرة إلى ‪ 20‬مليار دوالر‬
‫وبغض ال ّنظر عــن د ّقة هذه التقديرات أو تلك‪ ،‬الثّابت أنّه ك ّلما‬
‫ّ‬ ‫فــي اليوم (‪.)3‬‬
‫تحمل الخسائر بما فيها النفقات‬ ‫ارتفعت أسعار النفط ازدادت قدرة روسيا على ّ‬
‫العسكرية‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫وبصرف النظر عن الجدل الذي أثاره قرار أوبك ‪ +‬في ‪ 5‬أكتوبر‪ /‬تشرين األول‬
‫‪ 2022‬خفض اإلنتاج بمعدّ ل مليوني برميل يوميا‪ ،‬وما ألقاه ذلك من ظالل على‬
‫فإن هناك دوافع مالية جعلت السعودية توافق على‬ ‫العالقات السعودية األميركية‪ّ ،‬‬
‫خفــض اإلنتاج‪ .‬فالمملكة تحتاج إلى تحقيق التوازن المالي بحلول العام ‪2023‬‬
‫بعد تحقيق فائض في السنة المالية ‪ 2022‬يقدّ ر بـ‪ 90‬مليار ريال (‪ .)4‬وقد لعب‬
‫ارتفاع الضرائب دور ًا أساسيا في زيادة إيرادات الدّ ولة‪ ،‬كما أسهم تراجع اإلنفاق‬
‫لكن القســط‬
‫العســكري بفعل الهدنة في اليمن في تقليص اإلنفاق اإلجمالي‪ّ .‬‬
‫األكبر من الفائض يعود إلى تصاعد أســعار النفط نتيجة الحرب الروســية على‬
‫أوكرانيا‪.‬‬
‫وفي مجال الغاز‪ ،‬اســتفادت البلدان العربية المصدّ رة لهذه الســلعة وتضاعفت‬
‫أهميتها وتأثيرها في سوق الطاقة‪ .‬فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي‪ ،‬في مرحلة‬
‫الربع األخير من العام ‪ 2021‬ألسباب صناعية وبيئية‪ .‬وقد أسهم‬ ‫أولى‪ ،‬اعتبار ًا من ّ‬
‫هذا االرتفاع في تقليص العجز المالي لقطر الذي ُقدّ ر في العام الماضي بمبلغ‬
‫‪ 34.6‬مليار ريال‪ ،‬علم ًا بأن قسط ًا من هذا العجز ناجم عن استثمارات ُخ ّصصت‬
‫لتطوير البنية التحتية ومرافق مونديال قطر ‪ .2022‬ومع اندالع الحرب الروســية‬
‫على أوكرانيا‪ ،‬شــهدت أســعار الغاز ارتفاعا آخر ســيح ّقق فائضا في الميزانية‬
‫القطرية للعام ‪ .2022‬أما الجزائر‪ ،‬التي وضعت ميزانيتها لهذا العام على أساس‬
‫عجــز هائل‪ ،‬حيث ال ّنفقات تعادل ضعف اإليرادات تقريبا‪ ،‬فقد اســتفادت هي‬
‫الطلب عليه بعد الحرب‪ .‬وقد‬ ‫األخرى من ارتفاع أســعار الغاز الطبيعي وزيادة ّ‬
‫التحســن لخفض نســبة العجز في الميزانية‪،‬‬ ‫اســتغ ّلت الحكومة الجزائية هذا ّ‬
‫الضريبي المفروض على الموا ّد الغذائية‪ ،‬كما زادت االعتمادات‬‫وتخفيف العبء ّ‬
‫العسكرية‪ ،‬خاصة مشتريات األسلحة‪.‬‬
‫مــن جهــة أخرى‪ ،‬كانت للحرب تأثيرات ســلبية متفاوتة الخطورة على الوضع‬
‫االقتصــادي للبلدان العربية المســتوردة للطاقــة األحفورية‪ .‬ففي المغرب مثال‪،‬‬
‫الذي يســتورد جميع حاجاته الطاقية‪ ،‬ارتفع ســعر الوقود ليقترب من سعره في‬
‫خاصة بعد إلغاء الدعم الحكومي ألسعار الطاقة‪ .‬وال يعود هذا االرتفاع‬‫ّ‬ ‫أوروبا‪،‬‬
‫الزيادة التي شــهدتها‬
‫خاصة‪ ،‬إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫إلى عامل الحرب فقط‪ ،‬بل كذلك‪ ،‬وبصورة‬

‫‪49‬‬
‫الرسوم تمثّل ثالثة‬
‫الرســوم المفروضة على منتجات الطاقة بشــكل عام‪ .‬فهذه ّ‬ ‫ّ‬
‫الســعر‪ ،‬ما يجعل لها مكانة مرموقة في ميزانية الدولة‪ .‬وفي العام ‪،2022‬‬ ‫أرباع ّ‬
‫المخصصة لوزارة‬
‫ّ‬ ‫بلغــت حصيلتهــا ‪ 17.1‬مليار درهم‪ ،‬أي ما يعادل ال ّنفقــات‬
‫الص ّحة والحماية االجتماعية‪ .‬وإذا كان المغرب من كبار الدول العربية المنتجة‬ ‫ّ‬
‫والمصدّ رة للمواد الغذائية‪ّ ،‬‬
‫فإن األردن يســتورد النفط والغاز وكثيرا من الموا ّد‬
‫فإن آثار الحرب على اقتصاده شــديدة الخطورة‪ ،‬ويشترك معه‬ ‫الغذائية‪ .‬وبالتالي ّ‬
‫السودان واليمن وتونس‪.‬‬ ‫في هذا الوضع عدد آخر من البلدان العربية مثل ّ‬

‫الحرب وخطرها على األمن الغذائي في المنطقة العربية‬


‫كشــفت الحرب الروســية األوكرانية عن المكانة التي تحت ّلها ُك ّل من روســيا‬
‫الضرورية لمعيشــة مئات‬ ‫وأوكرانيا في إنتاج الغذاء العالي‪ ،‬وفي توفير الســلع ّ‬
‫الماليين من البشر في أنحاء مختلفة من العالم‪ ،‬وفي المنطقة العربية على وجه‬
‫الخصوص‪ .‬فقد بلغت واردات الدّ ول العربية من القمح الروســي ‪ 13.1‬مليون‬
‫طن‪ ،‬أي ‪ % 35.5‬من صادرات روسيا من هذه المادة‪ .‬وبلغت وارداتها من القمح‬
‫األوكرانــي ‪ 7.5‬مليون طــن‪ ،‬أي ‪ % 41.6‬من صادرات أوكرانيا من القمح‪ّ .‬‬
‫تدل‬
‫هذه األرقام على حجم اعتماد الدول العربية في غذائها على هذين البلدين‪ .‬كما‬
‫ُت ّبين مدى تأ ّثرها بالحرب الروســية على أوكرانيا‪ ،‬التي أ ّدت إلى تو ّقف القســط‬
‫األكبر من صادرات هذين البلدين وإلى ارتفاع أســعار الحبوب على المســتوى‬
‫السوق العالمية من ‪275‬‬ ‫العالمي‪ .‬بسبب هذه الحرب‪ ،‬ارتفع سعر طن القمح في ّ‬
‫دوالر ًا في بداية فبراير‪ /‬شباط ‪ ،2022‬قبل اندالع الحرب‪ ،‬إلى ‪ 350‬دوالر ًا في‬
‫ولما كانت الدول العربية تســتورد ‪ 20.6‬مليون طن من‬ ‫بداية ســبتمبر‪ /‬أيلول‪ّ .‬‬
‫فإن حجم خسارتها المالية اليومية يناهز ‪ 42‬مليون‬ ‫القمح الروســي واألوكراني‪ّ ،‬‬
‫تتحمل القسط‬‫ّ‬ ‫والمتوســط‬
‫ّ‬ ‫ولكن البلدان العربية ذات الدخل المنخفض‬ ‫ّ‬ ‫دوالر‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحتل المرتبة العالمية األولى في استيراد‬ ‫األكبر من هذه الخسارة‪ .‬فمصر‪ ،‬التي‬
‫القمح الروسي واألوكراني‪ُ ،‬تعدّ أكبر بلد متضرر من الحرب على هذا الصعيد‪.‬‬
‫السودان في المرتبة الخامسة عالميا في استيراد القمح الروسي‪ ،‬يليه اليمن‬ ‫ويأتي ّ‬
‫ّ‬
‫فتحتل المرتبة السادســة عالميا في اســتيراد القمح‬ ‫في المرتبة الثامنة‪ .‬أ ّما تونس‬
‫األوكراني‪ ،‬يليها المغرب مباشرة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫تضررا من بين البلدان العربية لعدّ ة عوامل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وتظــل كل مــن مصر واليمن األكثر ّ‬
‫الســكان (‪ 104‬مليون نســمة)‪ ،‬تنتج‬ ‫فمصر‪ ،‬أكبر البلدان العربية من حيث عدد ّ‬
‫أقل من نصف‬ ‫يغطي ّ‬‫لكن إنتاجها من القمــح ّ‬ ‫مختلــف أنواع المــواد الغذائية‪ّ ،‬‬
‫حاجتها‪ .‬وقد بلغ إنتاجها من القمح ‪ 9.1‬مليون طن‪ ،‬في حين وصل االستهالك‬
‫إلى ‪ 20.5‬مليون طن‪ ،‬حسب تقرير صادر عن مجلس الوزراء في يوليو‪ /‬تموز‬
‫‪ .)5( 2022‬وبســبب هذه الفجوة بين اإلنتاج واالســتهالك‪ ،‬تســتورد مصر أكثر‬
‫الكمية تأتي من روســيا‬‫ّ‬ ‫من عشــرة ماليين طن من القمح‪ ،‬أربعة أخماس هذه‬
‫الذرة من هذين‬ ‫وأوكرانيا بما قيمته ‪ 2.1‬مليار دوالر‪ .‬يضاف إلى ذلك واردات ّ‬
‫البلدين بمبلغ ‪ 557‬مليون دوالر (‪ .)6‬وبعد تو ّقف صادرات هذين البلدين بسبب‬
‫مضطرة لدفع‬
‫ّ‬ ‫الصعيد العالمي‪ ،‬باتت مصر‬ ‫الحرب وارتفاع أسعار الحبوب على ّ‬
‫مبالغ أكبر لردم تلك الفجوة‪.‬‬
‫تتجلى في‬ ‫ّ‬ ‫أن مصر تعاني أصال من أزمة مالية خانقة‬‫وما يزيد من خطورة الوضع ّ‬
‫ارتفاع عجز الموازنة العا ّمة‪ ،‬الذي وصل في ‪ 2022-2021‬إلى ‪ 472‬مليار جنيه‪،‬‬
‫أي بزيادة قدرها ‪ % 11‬مقارنة بالسنة المالية السابقة‪ .‬كما ارتفعت ديونها الخارجية‬
‫فــي نهايــة مارس‪ /‬آذار ‪ 2022‬إلى ‪ 158‬مليار دوالر‪ .‬لذلك‪ ،‬ال تجد القاهرة ُبدًّ ا‬
‫مــن زيادة الضرائب للتصدّ ي لهذه األزمة‪ ،‬وهو ما انعكس ســلبا على المقدرة‬
‫الســلطة اتّخذت بعض اإلجراءات للتخفيف من‬ ‫أن ّ‬ ‫الشــرائية للمواطن‪ .‬ورغم ّ‬
‫والتعهد بعدم رفع سعر‬ ‫ّ‬ ‫وقع هذه األزمة‪ ،‬مثل تسعير رغيف الخبر غير المدعوم‪،‬‬
‫الخبــز المدعوم (العيش البلدي)‪ ،‬وزيادة اإلنتاج المح ّلي من الحبوب بتوســيع‬
‫أن حجم األزمة يتجاوز مفعول هذه اإلجراءات‪ ،‬بل‬ ‫نطاق األراضي الزراعية‪ ،‬إال ّ‬
‫إن بعض تلك اإلجراءات أ ّدى إلى نتائج اجتماعية خطيرة‪ .‬فقد خ ّفضت الدولة‬ ‫ّ‬
‫الصرف ليصل في منتصف أكتوبر‪ /‬تشرين األول ‪ 2022‬إلى عشرين جنيه ًا‬ ‫سعر ّ‬
‫للدوالر‪ ،‬ثم قامت بتعويمه في نهاية الشهر ليصل إلى ‪ 23‬جنيها‪.‬‬
‫العمال المصريين المقيمين‬
‫السياحة وزيادة تحويالت ّ‬ ‫تحاول هذه السياسة تشجيع ّ‬
‫في الخارج بهدف تحقيق بعض التوازن في المالية العا ّمة‪ ،‬وتحسين قدرة الدولة‬
‫السلبية‬ ‫على االستيراد‪ ،‬غير ّ‬
‫أن االستمرار في هذه السياسة النقدية‪ ،‬مع ال ّتداعيات ّ‬
‫الضرائب أ ّدى إلى تدنّي مستوى معيشة المواطن‪ .‬قد‬ ‫للحرب الروســية‪ ،‬وزيادة ّ‬

‫‪51‬‬
‫يخ ّفــف ا ّللجــوء إلى ال ّتمويل الخارجي من حدّ ة هــذه األزمة مؤ ّقتا‪ّ ،‬إاّل أنّه لن‬
‫ال جذريا أو طويل المدى‪ ،‬بل سيســهم في مفاقمة المديونية الخارجية‬ ‫يقدم ح ّ‬
‫المرتفعــة أصال‪ .‬فما تســعى إليه القاهرة من االقتــراض الخارجي على المدى‬
‫القصير‪ ،‬هو توفير الخبز المدعوم وتحديث صوامع القمح ودعم استيراد كميات‬
‫من الحبوب‪ ،‬إلى جانب الشّ ــروع في اســتصالح بعض األراضي لتوسيع نطاق‬
‫المساحات الزراعية (‪.)7‬‬
‫نموا في العالم‪ ،‬فقد استورد في العام‬ ‫ّ‬
‫األقل ًّ‬ ‫أ ّما اليمن‪ ،‬المص ّنف من بين البلدان‬
‫‪ 2020‬ما قيمته ‪ 796‬ألف طن من القمح الروسي بمبلغ ‪ 174‬مليون دوالر‪ .‬كما‬
‫استورد ‪ 708‬ألف طن من القمح األوكراني بمبلغ ‪ 144‬مليون دوالر (‪ .)8‬ورغم‬
‫ارتفاع أسعار الحبوب في العالم بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬لم يجد‬
‫ال لوارداته من القمح الروسي واألوكراني‪ .‬وقد أسهم هذا الوضع في‬ ‫اليمن بدي ً‬
‫ّ‬
‫للتضخم البالغ ‪ ،% 45‬ومعدّ ل ارتفاع أسعار المواد الغذائية‬ ‫ارتفاع المعدّ ل العام‬
‫تســببت هذه األزمة في تدهور القدرة الشــرائية لليمنيين‪،‬‬‫ّ‬ ‫البالغ ‪ .)9( % 58‬وقد‬
‫وتوســيع شــريحة الذين يعانون من الفقر المدقع ليصل عددهم إلى ‪ 19‬مليون‬
‫الس ّكان‪.‬‬
‫شخص‪ ،‬أي ما يعادل ثلثي عدد ّ‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬ورغم اعتماد الدول الخليجية على روسيا وأوكرانيا في استيراد‬
‫أن الحرب لم ّ‬
‫تشكل بعدُ خطرا على أمنها الغذائي على غرار باقي‬ ‫الحبوب‪ ،‬إال ّ‬
‫للزراعة‪ ،‬وتعاني من‬
‫الدول العربية‪ ،‬رغم أنها عموما تقع في منطقة غير صالحة ّ‬
‫ق ّلة المياه وارتفاع درجة الحرارة‪ .‬ويعود ذلك إلى عدّ ة أسباب منها‪:‬‬
‫الزراعية المح ّلية لالســتهالك وليس لل ّتصدير كما‬
‫‪ -‬تخصيص أغلب المنتجات ّ‬
‫هي الحال في دول عربية أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬شراء أو استئجار أراضي زراعية في دول أخرى واالستفادة من إنتاجها‪ .‬فعلى‬
‫ســبيل المثال‪ ،‬اشترت السعودية منذ العام ‪ 2008‬مساحات واسعة من األراضي‬
‫والفلبين وإثيوبيا لهذا الغرض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السودان‬
‫الزراعية في كل من ّ‬
‫‪ -‬ارتباط العمالت الخليجية بســعر ثابت مقابل الدّ والر‪ ،‬في حين تعتمد الدول‬
‫بمجرد هبوط ســعر‬
‫ّ‬ ‫العربيــة األخــرى على التعويم بصورة أو بأخرى‪ .‬وهكذا‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫الصرف ترتفع أســعار الموا ّد االســتهالكية في الدول غير الخليجية مثل مصر‬
‫وسوريا ولبنان والعراق وتونس‪.‬‬
‫‪ -‬ارتفاع مســتوى الدخــل الفردي في دول الخليج‪ ،‬فمســتوى دخل المواطن‬
‫العماني‪ ،‬وهو أدنى دخل فردي في هذه المنطقة‪ ،‬يفوق ضعف أعلى دخل غير‬ ‫ُ‬
‫خليجــي وهو ا ّلليبــي‪ .‬من هذه الزاوية‪ُ ،‬تعدّ قطر من الــدول األقل تضرر ًا من‬
‫الحرب‪ ،‬ليس فقط على المســتوى العربي‪ ،‬بل كذلك على المســتوى العالمي‪،‬‬
‫إذ يصل معدّ ل دخلها الفردي إلى خمسين ألف دوالر‪.‬‬
‫‪ -‬ارتفاع أسعار الطاقة وما يترتّب عن تلك اإليرادات من تعزيز إمكانات الدول‬
‫الخليجية لمواجهة تصاعد أسعار الموا ّد الغذائية وغيرها‪.‬‬

‫تأثير الحرب على النشاط السياحي وعائداته‬


‫الســياحي في جميع أنحاء العالم من أزمة حا ّدة منذ حوالي ثالث‬ ‫يعاني القطاع ّ‬
‫سنوات‪ .‬فقد أ ّدت جائحة كورونا خالل العامين ‪ 2020‬و‪ 2021‬إلى تباطؤ أنشطة‬
‫هذا القطاع فانخفضت إيراداته‪ .‬وقبل أن يبدأ النشــاط السياحي في التعافي بعد‬
‫تراجع اآلثار الســلبية للجائحة‪ ،‬اندلعت الحرب الروســية على أوكرانيا‪ ،‬فألقت‬
‫السياحة مخ ّلفة أضرارا جسيمة في عدد من البلدان العربية‪ ،‬وخاصة‬ ‫بظاللها على ّ‬
‫مهمة من‬
‫مصر وتونس واإلمارات التي تمثّل السياحة الروسية واألوكرانية نسبة ّ‬
‫إيراداتها‪ .‬ففي العام ‪ ،2021‬اســتقبلت مصر ‪ 1.4‬مليون ســائح أوكراني وهو ما‬
‫يمثّل ثلث عدد السياح األجانب (‪ .)10‬وفي العام ‪ ،2019‬استقبلت تونس ‪633‬‬
‫ّ‬
‫وتحتل‬ ‫الس ّياح األجانب‪،‬‬
‫الس ّياح الروس‪ ،‬أي ما يعادل ‪ % 7.3‬من مجموع ّ‬ ‫ألفا من ّ‬
‫روسيا المرتبة الرابعة بعد الجزائر وفرنسا وليبيا (‪ .)11‬أ ّما اإلمارات‪ ،‬فقد كانت‬
‫السياحة الروسية في السنوات‬ ‫ترمي إلى تحقيق إيرادات قدرها مليار دوالر من ّ‬
‫القليلة القادمة‪ ،‬وقد استقبلت دبي وحدها أكثر من ربع مليون سائح روسي في‬
‫الربع الثّالث من العام ‪.)12( 2021‬‬‫ّ‬
‫الس ّياح‬
‫في جميع هذه البلدان‪ ،‬أ ّدت الحرب الروســية إلى تراجع هائل في عدد ّ‬
‫السفر‬
‫الروس واألوكرانيين‪ .‬ورغم اإلجراءات التي اتّخذتها هذه الدول لتشجيع ّ‬
‫الصعوبــات ُيفقد هذه اإلجراءات‬
‫أن عددا من ّ‬ ‫إليهــا من روســيا وأوكرانيا‪ّ ،‬إاّل ّ‬

‫‪53‬‬
‫السفر بسبب ارتفاع أسعار الطاقة‪،‬‬‫فاعليتها وجدواها‪ .‬من ذلك غالء أسعار تذاكر ّ‬
‫الروبل مقابل الدّ والر‪ .‬فقد هبطت القيمة التعادلية‬
‫وبالمقابل انخفاض سعر صرف ّ‬
‫ال في أكتوبر‪ /‬تشرين األول ‪.2022‬‬ ‫ال عام ‪ 2021‬إلى ‪ 64‬روب ً‬
‫للدوالر من ‪ 32‬روب ً‬
‫الروبل مقابل جميع العمالت العربية‪ ،‬وبال ّتالي‬‫وهذا يعني انخفاض سعر صرف ّ‬
‫للسائح الروســي‪ .‬من ذلك أيضا‪ ،‬العقوبات االقتصادية‬ ‫تدهور القدرة الشــرائية ّ‬
‫على روســيا وحرمانها من ال ّتعامل بنظام ســويفت المالي‪ ،‬وهو ما يعرقل جميع‬
‫معامالتها المصرفية‪ُ .‬يضاف إلى ذلك‪ ،‬تو ّقف شركتي فيزا وماستركارد عن تقديم‬
‫الخدمات المالية للمواطنين الروس‪.‬‬
‫السياحة األوروبية‪،‬‬
‫لمواجهة هذه الصعوبات‪ ،‬تسعى بعض الدّ ول العربية لتشجيع ّ‬
‫خاصة أن كلفة فصل الشتاء في أوروبا أعلى بكثير من كلفته في مصر أو تونس‬ ‫ّ‬
‫أو لبنان أو المغرب أو منطقة الخليج‪.‬‬

‫تأثير الحرب على سياسات التسّلح في المنطقة‬


‫موردي األسلحة لعدد من الجيوش العربية النخفاض كلفتها‬ ‫ُتعدّ روسيا من كبار ّ‬
‫أن روسيا تبيع أسلحتها دون ربطها بأي‬ ‫مقارنة باألســلحة الغربية المماثلة‪ .‬كما ّ‬
‫أن اســتمرار الحرب في‬‫شــروط قيمية من قبيل حقوق اإلنســان أو غيرها‪ .‬غير ّ‬
‫تســبب في خســائر كبيرة للجيش الروسي على مستوى العديد والعتاد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أوكرانيا‬
‫السبعة‬
‫أن خسائر الدّ ّبابات الروسية خالل األشهر ّ‬ ‫وتذهب بعض التقديرات إلى ّ‬
‫األولى للحرب تعادل تسعة أضعاف خسائر الدّ ّبابات الروسية في حرب أفغانستان‬
‫ثمة مبالغات في تقدير خسائر األطراف‬ ‫أن ّ‬ ‫ّ‬
‫شــك ّ‬ ‫التي دامت عشــر سنوات‪ .‬ال‬
‫أن اإلمكانات التكنولوجية العسكرية الروسية عالية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫شــك أيضا ّ‬ ‫المتحاربة‪ ،‬وال‬
‫كل األحوال ســتحتاج موســكو إلى وقت طويل‪ ،‬قد يستغرق سنوات‬ ‫ولكن في ّ‬
‫إلعادة التســ ّلح بالمســتوى الذي كانت عليه قبل الحرب‪ .‬وســتكون العقوبات‬
‫االقتصادية‪ ،‬بما في ذلك حرمان روسيا من بعض التكنولوجيات الدقيقة‪ ،‬عامال‬
‫أساسيا في إطالة المدّ ة التي ستحتاجها روسيا إلعادة التس ّلح وجعلها أكثر صعوبة‪.‬‬
‫الســلبي لهذه الحرب على سياسات التس ّلح‬
‫الســياق هو ال ّتأثير ّ‬
‫يهمنا في هذا ّ‬
‫ما ّ‬
‫الصناعة العسكرية الروسية‪،‬‬
‫في الدّ ول العربية التي تعتمد بصورة أو بأخرى على ّ‬

‫‪54‬‬
‫السالح الروسي بدرجة‬ ‫كالجزائر ومصر والعراق وسوريا‪ .‬فالجزائر‪ ،‬تعتمد على ّ‬
‫أولى‪ ،‬ويستخدم الجيش الجزائري طائرات سوخوي أس يو ‪ 30‬وميغ ‪ 29‬ود ّبابات‬
‫تي ‪ 72‬وتي ‪ 90‬وصواريخ أس ‪ 300‬وأس ‪ 400‬الروسية (‪ .)13‬وفي العام ‪2021‬‬
‫عقد البلدان اتفاقا تقتني الجزائر بمقتضاه معدّ ات عسكرية بقيمة ‪ 7.5‬مليار دوالر‬
‫تتضمن أصناف ًا عديدة من األسلحة‪ ،‬من بينها طائرات من طراز سوخوي أس يو‬ ‫ّ‬
‫‪ 34‬المتطورة التي أثبتت فاعليتها في ســوريا‪ .‬يقضي االتفاق بتسليم الجزائر ‪14‬‬
‫طائرة على ثالث دفعات‪ ،‬األولى في سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ 2021‬والثانية في منتصف‬
‫ولكن الحــرب أ ّدت إلى تعطيل هذا‬
‫ّ‬ ‫‪ 2022‬والثالثــة فــي منتصف ‪،)14( 2023‬‬
‫االتفاق‪.‬‬
‫على خــاف الجزائر‪ ،‬تحاول مصر تنويع مصادر تســ ّلحها‪ .‬فالجيش المصري‬
‫يملك طائرات أف ‪ 16‬األميركية ورافال الفرنسية وسوخوي ‪ 35‬الروسية وغيرها‪.‬‬
‫ولديه د ّبابات أبرامز وباتون األميركية وتي ‪ 80‬وتي ‪ 62‬وتي ‪ 55‬الروسية‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫فإن األسلحة الروسية تمثّل ‪ % 41‬من مجموع واردات األسلحة‬ ‫التنوع ّ‬
‫رغم هذا ّ‬
‫أن مصر تكاد تكون الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت‬ ‫المصرية‪ .‬جدير ّ‬
‫بالذكر ّ‬
‫تصنيع األســلحة مح ّل ّيا‪ ،‬بما في ذلك بعض األســلحة الثقيلة والمعدات ذات‬
‫الصناعات يعتمد التجميع‬
‫بأن القســط األكبر من هذه ّ‬ ‫التكنولوجيا العالية‪ ،‬علم ًا ّ‬
‫ويرتكز على اتّفاقيات مع الشّ ركات المص ّنعة‪.‬‬
‫الصنع‪ .‬وبعد‬ ‫أ ّما العراق‪ ،‬فقد كانت غالبية أســلحته إلى حدود ‪ 2003‬روســية ّ‬
‫تغير الوضع‪ ،‬فأصبح تســليح الجيش العراقي يعتمد‪ ،‬بدرجة‬ ‫االحتالل األميركي ّ‬
‫الســوفيتية القديمة ال تزال‬‫ولكن األســلحة ّ‬
‫ّ‬ ‫أولــى‪ ،‬على الواليــات الم ّتحدة‪.‬‬
‫مســتخدمة‪ ،‬ومن بينها د ّبابات تي ‪ 55‬ود ّبابات تي ‪ 72‬وراجمات صواريخ توس‬
‫‪ .1‬وكان العراق قد أبرم صفقة عسكرية في العام ‪ 2012‬بقيمة ‪ 1300‬مليون دوالر‬
‫لشراء طائرات عمودية من طراز ميل مي ‪ 28‬وميل مي ‪ 42‬الروسية‪ ،‬إضافة إلى‬
‫تكررت الصفقات الحق ًا تحت تأثير إيران التي باتت‪،‬‬ ‫أســلحة ثقيلة أخرى‪ .‬ثم ّ‬
‫إلى حد كبير‪ ،‬تســيطر على القرار السياســي والعسكري في العراق‪ .‬وفي العام‬
‫‪ ،2009‬اســتورد العراق من أوكرانيا أســلحة بقيمة ‪ 550‬مليون دوالر‪ ،‬من بينها‬
‫مدرعــة من طراز بي تي آر ‪ 4‬المصنعــة في أوكرانيا‪ .‬لذلك‪ ،‬تتأ ّثر بغداد‬‫آليــات ّ‬

‫‪55‬‬
‫بشــدة بالحرب الروســية التي أدت إلى تعليق الواردات العسكرية‪ ،‬ويلعب منع‬
‫روسيا من االستفادة من نظام سويفت المالي دور ًا أساسيا في هذا التعليق‪.‬‬
‫ّ‬
‫تظل سوريا الدولة العربية الوحيدة التي يكاد تسليحها يقتصر على روسيا‪ ،‬وقد‬
‫أ ّثرت الحرب على أوكرانيا بصورة سلبية على تسليح الجيش السوري‪ .‬وخالفا‬
‫لباقي الدول العربية‪ ،‬التي يمكنها تنويع مصادر تس ّلحها‪ ،‬خاصة وأنّها قطعت في‬
‫مهمة‪ ،‬ليس أمام سوريا خيارات كثيرة على هذا الصعيد‪ .‬بالمقابل‪،‬‬
‫ذلك أشواطا ّ‬
‫وألســباب اســتراتيجية‪ُ ،‬يستبعد أن تتخ ّلى موسكو عن دمشق رغم خسائرها في‬
‫الحرب‪ ،‬ورغم معاناة سوريا من أزمة مالية خانقة‪.‬‬

‫اتجاهات المستقبل‬
‫أ ّثــرت الحرب الروســية على أوكرانيا على جميع الــدول العربية في اتّجاهات‬
‫وسيســتمر هذا التأثير في المســتقبل‪ ،‬بغض ال ّنظر‬
‫ّ‬ ‫مختلفــة وبدرجات متفاوتة‪.‬‬
‫عن ال ّنتائج المباشــرة أو اآلنية للحرب‪ .‬فهذه الحرب تأتي في بداية فترة ركود‬
‫اقتصادي عالمي ستظهر آثاره بوضوح في األشهر القليلة القادمة‪ ،‬وستسهم بفاعلية‬
‫الركود‪ ،‬وما سيرافقه من سياسات طاقية تهدف‬ ‫في تسريعه وتفاقمه‪ .‬وبسبب هذا ّ‬
‫إلى تقليص استهالك الوقود األحفوري في الدول الصناعية الكبرى‪ ،‬ستنخفض‬
‫أســعار النفط اعتبار ًا من العام ‪ .2023‬وســيتوقف مستوى هذا االنخفاض على‬
‫السياسات من ناحية أخرى‪ .‬إزاء هذا‬ ‫الركود ومدّ ته‪ ،‬وعلى فاعلية تلك ّ‬
‫معدّ الت ّ‬
‫ستستمر الدول النفطية‪ ،‬وفي مقدّ متها دول الخليج‪ ،‬في تخفيض اإلنتاج‬
‫ّ‬ ‫الوضع‪،‬‬
‫وسيستمر خالل العام ‪.2023‬‬
‫ّ‬ ‫الذي بدأ بالفعل في نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪،2022‬‬
‫سيتسبب ذلك في تراجع اإليرادات النفطية‪ ،‬وفي تداعيات مالية سلبية‪.‬‬
‫ّ‬
‫فيما يتعلق باألمن الغذائي في المنطقة العربية‪ ،‬وحســب تو ّقعات صندوق ال ّنقد‬
‫الدولي‪ ،‬ستشــهد أسعار المواد الغذائية األساسية مزيدا من االرتفاع في ‪،2023‬‬
‫وســتتضرر الدّ ول العربيــة ذات الدّ خل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التضخم‪.‬‬ ‫مدفوعــة بارتفاع معــدّ الت‬
‫السياحي العربي‬
‫والســودان‪ .‬وســيكون القطاع ّ‬‫المنخفض بشــدّ ة‪ ،‬خاصة اليمن ّ‬
‫تضرر ًا من الحرب الروســية ّ‬
‫والركــود العالمي‪ .‬فعدد‬ ‫ضمــن القطاعات األكثر ّ‬
‫الس ّياح سيتراجع‪ ،‬وسينخفض حجم إنفاقهم بشكل عام‪ ،‬وسينخفض تبعا لذلك‬ ‫ّ‬

‫‪56‬‬
‫االحتياطي ال ّنقدي ّ‬
‫لكل من مصر وتونس والمغرب‪ ،‬التي ستفقد عمالتها الوطنية‬
‫المزيد من قيمتها‪.‬‬
‫يســتمر اعتماد بعض الدّ ول العربية‪ ،‬ال سيما‬
‫ّ‬ ‫أما بخصوص التســ ّلح‪ ،‬فســوف‬
‫الصعب تعويضها بأسلحة‬ ‫الجزائر وسوريا على األسلحة الروسية‪ .‬وسيكون من ّ‬
‫أخرى على المدى القصير‪ ،‬رغم ما تعيشــه روســيا من صعوبات على مستوى‬
‫التزويد‪ ،‬إذ ال يمكنها عقد صفقات عسكرية جديدة دون زيادة إنتاجها‪ ،‬خاصة في‬
‫ظل العقوبات الغربية على موسكو وما خلقته من تعقيدات في وجه التحويالت‬
‫المصرفية الدّ ولية‪.‬‬
‫من شــأن التحدّ يات التي فرضتها الحرب الروســية على أوكرانيا أن يستخلص‬
‫الركود االقتصادي‬ ‫العرب بعض الدّ روس لمســتقبلهم‪ ،‬واالســتعداد لمواجهــة ّ‬
‫الضروري تب ّني سياسات جديدة‪ ،‬والقيام بإصالحات‬ ‫العالمي القادم‪ .‬فقد بات من ّ‬
‫خاصة في ميادين‬ ‫ّ‬ ‫السياســات المالية‪،‬‬
‫واســعة ال ّنطاق من قبيل إعادة ال ّنظر في ّ‬
‫اإلنفاق العام‪ ،‬ومحاربة الفساد المالي المتفشّ ي في غالبية البلدان العربية والذي‬
‫يعــوق خطط ال ّتنمية ويفاقم الفقر ويهدد بالمجاعة‪ .‬أ ّما العوائد النفطية وحصيلة‬
‫ال من إنفاقها على‬ ‫والزراعية بــد ً‬
‫الصناعية ّ‬‫الضرائــب‪ ،‬فينبغي توجيههــا للتنمية ّ‬
‫الص ّحة وال ّتعليم‬
‫القطاع العســكري المســتورد وغيــر المصدّ ر‪ ،‬وفي مجــاالت ّ‬
‫وتكنولوجيات المستقبل‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫المراجع‬
‫‪(1) OPEC: www.opec.org/opec_web/en/data_graphs/40.htm/ accessed on‬‬
‫‪24/10/2022.‬‬
‫‪(2) Fabrice Obrist, Combien la guerre de Poutine lui coûte chaque jour,‬‬
‫‪Blick, 07/05/22.‬‬
‫‪See:‬‬ ‫‪www.blick.ch/fr/news/monde/les-munitions-plombent-le-budget-‬‬
‫‪combien-la-guerre-de-poutine-lui-co-te-chaque-jour-id17468012.html/‬‬
‫‪accessed on 14l10/2022.‬‬
‫‪(3) Mohammad Kara Maryam, Des estimations évaluent le coût de la‬‬
‫‪guerre russe en Ukraine à plus de 20 milliards de dollars par jour,‬‬
‫‪Anadolu Agency, 03/03/2022.‬‬
‫‪See:‬‬ ‫‪www.aa.com.tr/fr/ %C3 %A9conomie/des-‬‬
‫‪estimations- %C3 %A9valuent-le-co %C3 %BBt-de-la-guerre-russe-en-‬‬
‫‪ukraine- %C3 %A0-plus-de-20-milliards-de-dollars-par-jour/2522535/‬‬
‫‪accessed on 14/10/2022‬‬

‫(‪ )4‬وزارة المالية‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬بيان الميزانية العامة للدولة ‪.2022‬‬

‫(‪ )5‬األمــن الغذائي في مصر في ضوء الحرب الروســية األوكرانية‪ ،‬مركز المعلومات ودعم‬
‫اتخاذ القرار‪ ،‬مجلس الوزراء‪ ،‬العدد ‪ ،5‬يوليو‪/‬تموز ‪ ،2022‬ص ‪.38‬‬

‫(‪ )6‬األمن الغذائي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬

‫(‪ )7‬البنك الدولي‪ ،‬مشــروع بقيمة ‪ 500‬مليون دوالر للمســاعدة في تدعيم األمن الغذائي في‬
‫مصر‪ 29 ،‬يونيو‪/‬حزيران ‪ ،2022‬تاريخ الدخول ‪ 16‬أكتوبر ‪.2022‬‬

‫(‪ )8‬تأثير األزمة الروســية‪-‬األوكرانية على األمن الغذائــي العربي‪ ،‬اتحاد المصارف العربية‪،‬‬
‫فبراير‪/‬شباط ‪.2022‬‬

‫(‪ )9‬خبــراء صنــدوق النقد الدولي يختتمون زيارتهم بشــأن اليمن‪ ،‬صندوق النقد الدولي‪5 ،‬‬
‫أكتوبر ‪ ،2022‬تاريخ الدخول ‪ 16‬أكتوبر ‪.2022‬‬

‫(‪ )10‬مصر ثاني أكبر وجهة لمواطني أوكرانيا ب ‪ 1.46‬مليون ســائح عام ‪ ،2021‬المصري‬
‫اليوم‪ 25 ،‬يناير‪/‬كانون الثاني ‪ ،2022‬تاريخ الدخول ‪ 16‬أكتوبر ‪.2022‬‬

‫‪58‬‬
‫ المستقبل لألبحاث والدراسات‬،‫) تأثير الحرب األوكرانية على السياحة في الشرق األوسط‬11(
.2022 ‫ أكتوبر‬16 ‫ تاريخ الدخول‬،2022 ‫آذار‬/‫ مارس‬11 ،‫المتقدمة‬

‫ صحيفة الوطن‬،‫) اإلمارات تتصدر الوجهات السياحية الخليجية المفضلة للسياح الروس‬12(
.2022 ‫كانون الثاني‬/‫ يناير‬28 ،‫اإلماراتية‬
(13) Ukraine: L’armée russe a perdu 259 avions de combat, TRT Francais,
25/09/2022
See: https://www.trtfrancais.com/actualites/ukraine-larmee-russe-a-perdu-
259-avions-de-combat-10348942/ accessed on 17/10/2022.
(14) La Russie exporte son avion d’attaque Sukhoi Su-34 vers l’Algérie,
Avions Legendaires, March 2021
See: www.avionslegendaires.net/2021/03/actu/la-russie-exporte-son-avion-
dattaque-sukhoi-su-34-vers-lalgerie/ accessed on 17/10/2022.

59
‫العالم العربي وحالة الطوارئ المناخية‪ :‬مخاطر ومسارات‬
‫سليم قسوم‬

‫مقدمة‬
‫في العام ‪ 1972‬انعقد في ستوكهولم مؤتمر األمم المتحدة للبيئة البشرية‪ّ ،‬‬
‫فشكل‬
‫بدايــة العصر الحديث للوعي "األخضر" والعمل البيئي‪ ،‬ووضع البيئة في طليعة‬
‫خاصة مع إطالق برنامج األمم المتحدة للبيئة (‪)UNEP‬‬ ‫ّ‬ ‫أهداف العمل الدولي‪،‬‬
‫مهــم على طريق تعزيز الحوكمة البيئية العالمية‪ .‬بعد خمســة عقود من‬
‫ّ‬ ‫كمعلــم‬
‫ذلــك المؤتمر‪ ،‬اســتضافت ســتوكهولم العالم مرة أخرى فــي يونيو‪ /‬حزيران‬
‫قمة دولية بعنوان "ســتوكهولم بعد ‪ 50‬عاما‪ :‬عافية الكوكب من أجل‬ ‫‪ 2022‬في ّ‬
‫القمة‪ّ ،‬أكد المشاركون على‬
‫ازدهار الجميع ‪ -‬مســؤوليتنا‪ ،‬فرصتنا"‪ .‬خالل هذه ّ‬
‫وأن األرض على عتبات‬‫أن اإلنسانية أمام تحدّ يات بيئية متزايدة العدد وال ّتعقيد‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مخاطر‪ ،‬لن تتوفر فرصة أخرى للتعافي بعدها‪.‬‬
‫فالتغيــرات البيئيــة تنطوي على أضرار جســيمة وخســائر قد ال تكــون قابلة‬ ‫ّ‬
‫والس ّكان والبنيات ال ّتحتية‪ .‬يحدث هذا بسبب‬‫لل ّتعويض‪ ،‬في ال ّنظم اإليكولوجية ّ‬
‫كالزيادة في درجات‬
‫الزيــادات الملحوظة في تواتر الظواهر المناخية وشــدّ تها‪ّ ،‬‬
‫الحرارة القصوى على اليابســة وفي المحيط‪ ،‬وظواهــر هطول األمطار الغزيرة‬
‫تسببه من‬
‫التحوالت في التوقيت الموسمي وما ّ‬ ‫ّ‬ ‫والجفاف والحرائق‪ ،‬فضال عن‬
‫لتصور المخاطر‬
‫ّ‬ ‫آثار اجتماعية واقتصادية ســلبية‪ .‬وقد ّبينت نتائج أحدث مسح‬
‫العالميــة (‪ )GRPS‬أن المخاطــر البيئية والمجتمعيــة ُتعدّ األكثر إثارة للقلق في‬
‫الســنوات المقبلة‪ .‬فالمخاطر البيئية باتت أبرز خمســة تهديدات عالمية طويلة‬
‫محتماًل على الناس والكوكب (‪.)1‬‬ ‫ً‬ ‫ضررا‬
‫ً‬ ‫األمد‪ ،‬وأكثرها‬
‫ومــع انقضاء ســنة ‪ ،2022‬ال تزال التو ّقعــات العالمية متدنّية بإحداث تحوالت‬
‫والتكيف مع االتّجاهات العالمية‬
‫ّ‬ ‫تغير المناخ ومخاطــره‪،‬‬ ‫مهمــة للحدّ من آثار ّ‬
‫ّ‬
‫غير المناخية التي تتكشّ ف بشكل متزامن‪ ،‬كفقدان ّ‬
‫التنوع البيولوجي واالستهالك‬

‫‪61‬‬
‫والتوسع‬
‫ّ‬ ‫غير المستدام للموارد الطبيعية‪ ،‬وتدهور األراضي وال ّنظم اإليكولوجية‪،‬‬
‫والتحــوالت الديموغرافية‪ ،‬وغياب المســاواة االجتماعية‬
‫ّ‬ ‫الســريع‪،‬‬
‫الحضــري ّ‬
‫واالقتصادية‪ ،‬وانتشــار األوبئة‪ .‬فتقارير برنامج األمم الم ّتحدة للبيئة تشير إلى ّ‬
‫أن‬
‫متوســط درجات الحرارة العالمية آخذ في االرتفاع‪ ،‬ومن المتو ّقع أن يتجاوز ‪3‬‬ ‫ّ‬
‫وسيتسبب تركيز انبعاثات غازات االحتباس‬‫ّ‬ ‫درجات مئوية مع نهاية هذا القرن‪.‬‬
‫الحراري في الغالف الجوي في إحداث الفوضى في جميع أنحاء العالم‪ ،‬مهدّ دا‬
‫أن العالم مازال بعيد ًا عن‬
‫والصحة والغذاء والحياة بشــكل عام‪ .‬كما ّ‬‫ّ‬ ‫االقتصاد‬
‫تأميــن خفض ارتفاع درجــة الحرارة العالمية إلى ما دون درجتين مئويتين‪ ،‬كما‬
‫أن وقف أسوأِ التأثيرات المناخية يتط ّلب الحدّ من‬ ‫وعدت اتّفاقية باريس‪ ،‬علما ّ‬
‫ارتفاع درجة الحرارة إلى ‪ 1.5‬درجة مئوية‪ ،‬وخفض االنبعاثات بمقدار ‪ 30‬جيجا‬
‫طن سنو ًيا بحلول عام ‪.)2( 2030‬‬

‫التغير المناخي والعالم العربي‪ :‬مضاعفة التهديدات وتسريع االضطرابات‬


‫تغير المناخ بأنّه عامل مضاعف لل ّتهديد‪،‬‬
‫تصف األدبيات الخاصة باألمن القومي ّ‬
‫أن لديه القدرة على مفاقمة‬ ‫مســرع لعدم االســتقرار‪ ،‬ما يعني بشكل أساسي ّ‬‫ّ‬ ‫أو‬
‫الدّ وافــع األخرى النعــدام األمن في مجاالت حيوية كالمــاء والغذاء والطاقة‪.‬‬
‫فال ّتغيــرات المناخيــة قد ال تنشــئ تهديدات جديدة ّ‬
‫بالضــرورة‪ ،‬إال أنّها تفاقم‬
‫ال‪ ،‬ال سيما في المناطق ذات المخاطر والهشاشة العالية‬ ‫المشكالت القائمة أص ً‬
‫كإفريقيــا وآســيا وأميركا الالتينية‪ .‬فعدم المســاواة والتفاوتــات الناجمة عنها‪،‬‬
‫والنزاعات بين األعراق والســاالت تتفاقم نتيجــة ندرة الموارد أو زيادة تواتر‬
‫الكــوارث‪ ،‬كحالــة دارفور التي غالبا ما يجري تقديمها كمثال نموذجي للتفاعل‬
‫المميــت بيــن العرقية والمناخ والحرب‪ .‬وقد تفاقمت بذور التوتّر العرقي‪ ،‬التي‬
‫المتطرفة مثل الجفاف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫زرعها االســتعمار في المنطقة‪ ،‬بفعل الظواهر المناخية‬
‫فإن زيادة سخونة األرض يالئم انتشار بعض األمراض خارج‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ّ ،‬‬
‫وحمى المستنقعات وغيرها (‪.)3‬‬‫ّ‬ ‫نظامها ووسطها البيئي كالمالريا‬
‫ّ‬
‫تشــكل منطقة الشّ رق األوسط وشــمال إفريقيا واحدة من‬ ‫ضمن هذا الســياق‪،‬‬
‫لتغير المناخ وتأثيراته بعيدة المدى‪ ،‬ما ســيقود إلى‬
‫أكثــر مناطــق العالم عرضة ّ‬

‫‪62‬‬
‫زيادة ال ّتفــاوت االجتماعي ومفاقمة األزمات االقتصادية وإحداث االضطرابات‬
‫السياســية‪ .‬وبالنســبة إلى البلدان التي تكافح تداعيات األوبئة والحروب األهلية‬
‫لتغير المناخ ستضاف إليها‬
‫ومشاكل ال ّنزوح وال ّنمو السكاني‪ ،‬فإن اآلثار المتتالية ّ‬
‫مجموعة أخرى من التحدّ يات‪.‬‬
‫الراهن درجات حــرارة عالية للغاية‪ ،‬تمتدّ‬ ‫تســجل المنطقة العربيــة في الوقت ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتشكل زيادة الغازات الدفيئة ال ّتأثير المهيمن‬ ‫لفترات زمنية أطول من ذي قبل‪.‬‬
‫والمســؤول عن معظم االحترار الملحوظ‪ ،‬حيث ينبعث ثاني أكســيد الكربون‬
‫والميثان من االستغالل واالستخدام المكثّف للوقود األحفوري‪ .‬فازدياد معدّ الت‬
‫مصدرا أساسيا النبعاث‬‫ً‬ ‫استهالك الطاقة األحفورية بسرعة في المنطقة يجعل منها‬
‫الغازات الدفيئة بمعدالت تتجاوز مثيالتها في الهند واالتّحاد األوروبي‪ .‬وينعكس‬
‫ذلك ســلب ًا على بعض المناطق‪ ،‬فتصبح غير صالحة للعيش والزراعة‪ ،‬مع زيادة‬
‫الضغط على المحاصيل والموارد المائية الشّ حيحة‪ .‬وباحتوائها على نحو ‪%  6.3‬‬
‫ســكان العالم‪ُ ،‬تعدّ منطقة الشرق األوسط وشمال إفريقيا أكثر المناطق فقرا‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫ّ‬
‫فســكانها ال يصلون إال إلى ‪ % 1.4‬فقط من الميــاه العذبة المتجدّ دة في‬ ‫مائيــا‪.‬‬
‫متوســط تو ّفر المياه للفرد ‪1200‬م‪ 3‬في السنة‪ ،‬مقابل‬ ‫ّ‬ ‫العالم‪ .‬وبذلك‪ ،‬ال يتجاوز‬
‫الزراعة هي أكبر‬ ‫حوالي ‪7000‬م‪ 3‬في المناطق الجغرافية األخرى (‪ .)4‬ومع كون ّ‬
‫قطاع مســتهلك للمياه في العالم العربي‪ ،‬فقد تأ ّثر إنتاج القمح‪ ،‬كغذاء أساســي‪،‬‬
‫والتصحر‪ .‬وهذا االتجاه يهدّ د‬
‫ّ‬ ‫ســل ًبا من خالل زيادة موجات الحرارة والجفاف‬
‫المحاصيل ومصادر الغذاء األخرى‪ ،‬ما يحيل إلى زيادة االعتماد على الواردات‬
‫حساســة بشــكل خاص للتق ّلبات في سالسل اإلمداد‬ ‫الغذائية‪ ،‬ويجعل المنطقة ّ‬
‫أدل على ذلك من أزمة الغذاء‬ ‫الغذائي واألسواق العالمية وزيادة األسعار‪ .‬وليس ّ‬
‫العالمية الحالية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا‪.‬‬
‫الطلب على مثل هذه الموارد الشّ حيحة‬‫من جانب آخر‪ ،‬يمكن أن ينتج عن زيادة ّ‬
‫منافسة شديدة‪ .‬فالعديد من البلدان تعتمد على مصادر المياه من خارج حدودها‪،‬‬
‫وما يعنيه ذلك من خطر على أمنها القومي‪ ،‬وعلى اســتدامة العيش المشــترك‬
‫على المستوى المحلي‪ .‬فليست المياه وحدها مصدرا لل ّنزاع‪ ،‬بل ّ‬
‫إن الموارد في‬
‫وخاصة األسماك‪ ،‬هي أيض ًا مجال للخالف في ّ‬
‫السياقات‬ ‫ّ‬ ‫المســطحات المائية‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫المرجح أن تتفاقم الخالفات في‬
‫ّ‬ ‫التي تتشــارك فيها البلدان تلك الموارد‪ .‬ومن‬
‫مرســمة أو تكتنفها‬
‫خاصة إذا كانت الحدود غير ّ‬ ‫ّ‬ ‫العديد من المناطق الحدودية‪،‬‬
‫مطالبات ومنافسة على الموارد‪ .‬وعليه‪ ،‬فبلدان المنطقة التي تشترك في مورد مياه‬
‫جوفية واحد‪ ،‬تواجه مخاطر أعلى للدخول في نزاعات عسكرية أو حروب مائية‬
‫في المســتقبل (‪ .)5‬و ُتعدّ األزمة المســتمرة بين مصر ّ‬
‫والسودان وأثيوبيا‪ ،‬بسبب‬
‫التوصل إلى تسوية بشأن سدّ النهضة‪ ،‬حالة نموذجية على هذا الصعيد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفشل في‬
‫أن هناك أد ّلة قوية تدعم الفرضية القائلة ّ‬
‫بأن‬ ‫على صعيد آخر‪ ،‬يشير الباحثون إلى ّ‬
‫الس ّكان‬ ‫ّ‬
‫ســكانية كبيرة مح ّلي ًا ودولي ًا‪ .‬فعدد ّ‬ ‫تتســبب في حركات‬
‫ّ‬ ‫ال ّندرة البيئية قد‬
‫التغيرات المناخية‬
‫ّ‬ ‫المرشــحين للهجرة وال ّترحال داخل حدود أوطانهم بســبب‬ ‫ّ‬
‫يصل إلى حوالي ‪ 216‬مليون نسمة بحلول العام ‪ ،2050‬منهم حوالي ‪ 19‬مليون‬
‫الس ّكانية أن تزيد‬
‫نسمة من منطقة شمال إفريقيا وحدها‪ .‬ومن شأن هذه الحركة ّ‬
‫من خطر عدم االســتقرار وصراعات الهوية بيــن الجماعات‪ .‬يضاف إلى خطر‬
‫ال ّندرة البيئية‪ ،‬ارتفاع منســوب مياه البحر‪ ،‬وانخفاض مستوى المياه الجوفية‪ ،‬ما‬
‫سكان المناطق الساحلية الذين يعيشون على‬ ‫سيؤ ّثر في المستقبل على نمط عيش ّ‬
‫السياحية‪ ،‬بسبب تعرض تلك المناطق‪ ،‬ال سيما في المغرب‬ ‫والصناعات ّ‬
‫ّ‬ ‫الزراعة‬
‫ّ‬
‫والجزائر وتونس ودلتا ال ّنيل‪ ،‬ألخطار متزايدة‪ .‬عالوة على ذلك‪ُ ،‬يتو ّقع أن تزداد‬
‫الهجرة إلى شــمال إفريقيا‪ ،‬كوجهة ومنطقة عبور‪ ،‬بســبب آثار المناخ في منطقة‬
‫الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء (‪.)6‬‬
‫لهذه األسباب‪ ،‬تواجه معظم القطاعات االجتماعية واالقتصادية وخدمات النظام‬
‫اإليكولوجي في المنطقة تحديات مقلقة‪ ،‬أســهمت في تعقيدها المخاطر البيئية‬
‫خاصة في‬‫ّ‬ ‫صحة اإلنسان ورفاهه بشكل مباشر‪،‬‬
‫وتغير المناخ السريع‪ ،‬حيث تتأثر ّ‬
‫ّ‬
‫لتلوث الهواء ومخاطر الحرائق واالحتياجات المتزايدة‬ ‫ّ‬
‫ظل المســتويات العالية ّ‬
‫من الطاقة وغيرها‪.‬‬

‫التحول األخضر‬
‫ّ‬ ‫جهود مكافحة التغير المناخي العربية وتحفيز‬
‫يقرون‬
‫أن مواطني الدّ ول العربية ّ‬ ‫ُتظهر نتائج الدورة الســابعة للباروميتر العربي ّ‬
‫بالتحدّ يــات البيئية التي تواجه المنطقة ويشــعرون بالقلــق إزاءها‪ .‬فال ّناس‪ ،‬عبر‬

‫‪64‬‬
‫المنطقة‪ ،‬يشاركون الحكومات مسؤولية هذه التحدّ يات‪ ،‬مع إظهار دعم عريض‬
‫تغير المناخ‪ .‬وســتعمل الجهود‬ ‫لبذل المزيد من الجهود الحكومية في مواجهة ّ‬
‫التكيف مع المناخ على توســيع نافذة الفرص‬ ‫ّ‬ ‫ال ّتحويليــة لزيــادة القدرة علــى‬
‫تغيرات المناخ واألزمة البيئية عموم ًا‪.‬‬
‫تتكيف مع ّ‬
‫للمجتمعات وال ّنظم البيئية حتى ّ‬
‫أيضا إلى إبراز أهمية اإلدارة التعاونية‬‫فالمنافســة على الموارد يمكن أن تؤ ّدي ً‬
‫للموارد المشــتركة بين الدّ ول وإحداث تغييرات إيجابية في إدارتها مح ّلي ًا‪ .‬لقد‬
‫الري وإعادة استخدام مياه‬ ‫ن ّفذت مصر‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬مشاريع لتطوير أنظمة ّ‬
‫ال عن مبادرات تحلية المياه في ضوء حاالت عدم اليقين‬ ‫الص ّحي‪ ،‬فض ً‬
‫الصرف ّ‬ ‫ّ‬
‫التي أحدثها سدّ ال ّنهضة وغياب أطر تقاسم الموارد‪.‬‬
‫دفع هذا اإلدراك المتزايد لدى العديد من البلدان العربية لهشاشة أوضاعها إزاء‬
‫التكيف والتقدّ م نحو تحقيق‬
‫ّ‬ ‫السعي لتعزيز قدراتها على‬‫تغير المناخ‪ ،‬إلى ّ‬
‫تأثيرات ّ‬
‫أهدافها الوطنية في مجال ال ّتنمية المســتدامة‪ .‬فقد قدّ مت كل دولة في المنطقة‬
‫خطة لكيفية مســاهمتها في اإلطــار العالمي بموجب اتفاقية باريس‪ ،‬التي‬ ‫تقري ًبا ّ‬
‫خال مــن الكربون ومقاوم للمناخ‪ .‬فتقرير‬ ‫تدفع العمل الجماعي نحو مســتقبل ٍ‬
‫ال ّتنمية البشرية العربية لعام ‪ 2022‬ينظر بتفاؤل إلى زخم متزايد في المنطقة لتنويع‬
‫اقتصاداتها‪ ،‬بهدف تجاوز اقتصاد الوقود األحفوري‪ .‬وقد أدرجت بعض البلدان‬
‫ال خضراء ضمن تدابير ال ّتعافي الخاصة بها عبر تحديد‬ ‫في المنطقة بالفعل حلو ً‬
‫إجراءات لتســريع االنتقال إلى حلول الطاقة المتجدّ دة‪ ،‬والكفاءة في اســتخدام‬
‫الطاقة‪ ،‬بهدف توســيع االســتثمارات في ال ّنقل والبنى التحتية الخضراء‪ ،‬وســدّ‬
‫الفجــوات في خدمات المياه وإدارة النفايــات‪ ،‬ودمج حلول االقتصاد الدائري‬
‫فــي التنمية المحلية‪ ،‬ودعم اســتعادة األنظمة البيئيــة‪ ،‬بما في ذلك وضع تدابير‬
‫لصــون األنظمــة البيولوجية‪ .‬ويمكن لتدابير ال ّتعافي األخضر أن تو ّلد أشــكاال‬
‫تعزز من قدرات‬ ‫جديدة ومســتدامة من اإليرادات‪ ،‬وتخلق فرص عمل خضراء ّ‬
‫المجتمعات وال ُّنظم البيئية على مواجهة األزمات المستقبلية (‪.)7‬‬
‫تعهد عدد من كبار منتجي النفط في منطقة الخليج بالوفاء‬
‫الســياق‪ّ ،‬‬
‫ضمن هذا ّ‬
‫بأهداف المناخ‪ .‬فقد ّأكدت المملكة العربية السعودية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬سعيها‬
‫إلــى تحقيق "انبعاثات صفرية صافية" بحلول العــام ‪ .2060‬بال ّتوازي مع ذلك‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫الرياض إصالحات على دعم الطاقــة‪ ،‬التي كانت مدفوعة في الغالب‬ ‫أدخلــت ّ‬
‫باعتبارات اقتصادية‪ ،‬وربطتها بالتزامات مناخية متعدّ دة األطراف‪ .‬وفي يناير‪ /‬كانون‬
‫وجه مجلس الوزراء الكويتي بضرورة مراجعة طرق خفض إنتاج‬ ‫الثاني ‪ّ ،2022‬‬
‫تعهد سابق بخفض االنبعاثات بنسبة‬ ‫البالد من غازات االحتباس الحراري‪ ،‬بعد ّ‬
‫متواضعة تعادل ‪ % 7.4‬بحلول العام ‪ .2035‬وقد قطعت دول أخرى في المنطقة‬
‫السياسات المناخية المبتكرة‪ ،‬فأصبح المغرب‪ ،‬مثال‪،‬‬ ‫مهمة على صعيد ّ‬ ‫أشــواطا ّ‬
‫رائدً ا في مجال الطاقة الشمسية‪ .‬في غضون ذلك‪ ،‬رفعت بلدان المنطقة مستوى‬
‫المعــززة والمحدّ دة وطنيا‬
‫ّ‬ ‫أهدافهــا المتع ّلقة بطاقة الكربون‪ ،‬ضمن مســاهماتها‬
‫كيف مع‬ ‫كيف الوطني (‪ )NAPs‬لتيســير إدماج ال ّت ّ‬‫(‪ ،)NDC‬واعتمدت خططا لل ّت ّ‬
‫السياسات والبرامج واألنشطة الجديدة والقائمة‪،‬‬ ‫تغير المناخ بطريقة متماسكة في ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصة على مســتوى استراتيجيات التخطيط التنموي في جميع القطاعات ذات‬ ‫ّ‬
‫الصلة وعلى مختلف المستويات‪.‬‬
‫ورغم توجيه مئات المليارات من الدّ والرات نحو استثمارات جديدة في مجال‬
‫الطاقــة المتجــدّ دة‪ ،‬والكفاءة الطاقية حتى العــام ‪ ،2030‬يواجه العالم والمنطقة‬
‫العربية بشــكل خاص‪ ،‬فجوة هائلة في ال ّتمويل المناخي‪ .‬فبنا ًء على احتياجات‬
‫تمويل المناخ محدّ دة ال ّتكلفة إلحدى عشــرة دولــة عربية (‪ ،)8‬تحتاج المنطقة‬
‫العربيــة إلى مــا مجموعه ‪ 570‬مليار دوالر أميركي حتــى عام ‪ .2030‬ويتو ّقف‬
‫جــزء كبير من هذا المبلغ على الدّ عم الدولي العام أو ال ّتمويل الخارجي‪ .‬وبناء‬
‫تغير المنــاخ‪ ،‬تهدف خارطة‬ ‫خطة عمــل مجموعة البنك الدّ ولي بشــأن ّ‬ ‫علــى ّ‬
‫الخاصة بالمناخ في منطقة الشــرق األوســط وشمال إفريقيا‪ ،‬على مدى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطريق‬
‫السنوات الخمس المقبلة (‪ ،)2025 - 2021‬إلى المساعدة على تقليل االنبعاثات‬
‫تضمنت هذه الخارطة زيادة‬‫ّ‬ ‫لتغير المنــاخ‪ .‬فقد‬
‫في مواجهة الوتيرة المتســارعة ّ‬
‫االســتثمارات بتخصيــص نحو ‪ 10‬مليارات دوالر مــن تمويل مجموعة البنك‬
‫ملياري‬
‫ْ‬ ‫السياســات‪ ،‬مع زيادة‬
‫مناخيا وإصالح ّ‬
‫ّ‬ ‫الدّ ولي لتمويل المشــاريع ّ‬
‫الذكية‬
‫وســيتم اســتثمار حوالي ‪ % 50‬من هذا المبلغ‬
‫ّ‬ ‫دوالر من تمويل القطاع الخاص‪.‬‬
‫التغيرات‬
‫الصمــود في وجه ّ‬ ‫التدخالت التي تســاعد على بناء القدرة على ّ‬‫ّ‬ ‫فــي‬
‫المناخية وأخطارها (‪.)9‬‬

‫‪66‬‬
‫مؤتمر األطراف‪ 27-‬ومستقبل الوعود الخضراء‬
‫السابع والعشرين‬
‫اســتضافت مصر‪ ،‬في نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني ‪ ،2022‬المؤتمر ّ‬
‫تغير المناخ‬
‫لألطــراف المنخرطة فــي اتّفاقية األمــم المتحدة اإلطارية بشــأن ّ‬
‫تجمع ســنوي حول العمل المناخي‪ .‬وستستضيف دولة‬ ‫(‪ ،)COP27‬ضمن أكبر ّ‬
‫اإلمــارات الــدورة القادمــة (‪ .)COP28‬وقد ناقش المؤتمــر‪ ،‬الذي انعقد في‬
‫شــرم الشــيخ‪ ،‬مجموعة من القضايا الحاسمة لمعالجة حالة الطوارئ المناخية‪،‬‬
‫والتكيف مع اآلثار‬
‫ّ‬ ‫وتقليل انبعاثات غازات االحتباس الحراري‪ ،‬وبناء المرونة‪،‬‬
‫لتغير المناخ‪ ،‬إلى جانب الوفاء بالتزامــات تمويل العمل المناخي في‬
‫الحتميــة ّ‬
‫البلدان النامية‪.‬‬
‫الضوء على الدول العربية كمنطقة‬ ‫مهمة لتسليط ّ‬‫محطة ّ‬‫ّ‬ ‫المؤتمر‬‫بشكل عام‪ ،‬مثّل ُ‬
‫التكيف‬
‫ّ‬ ‫الظواهر المناخية القاسية‪ ،‬وكأولوية قصوى الستثمارات‬ ‫تشهد المزيد من ّ‬
‫الطموح في جميــع أنحاء المنطقة العربية‬ ‫وأكد المؤتمرون تنامي ّ‬ ‫مــع المنــاخ‪ّ .‬‬
‫الصمود‬‫للمضــي قد ًما في انتقال ســلس لخفض انبعاثات الكربــون قادر على ّ‬
‫التغيرات البيئية‪ .‬بذلك‪ ،‬يكون مؤتمر األطراف‪ -27‬قد أســهم بشــكل ّ‬
‫فعال‬ ‫ّ‬ ‫مع‬
‫في توســيع دائرة البلدان المؤ ّيدة للتغيير‪ ،‬وتجديد ال ّتضامن بين هذه البلدان من‬
‫للتغير‬
‫ّ‬ ‫أجل تنفيذ توصيات اتّفاق باريس ال ّتاريخي‪ ،‬لتخفيف حدّ ة اآلثار الســلبية‬
‫المناخي على ال ّناس والكوكب‪.‬‬
‫والتكيف‬
‫ّ‬ ‫في هذا السياق‪ ،‬ناقش المؤتمر أربعة بنود رئيسية تتع ّلق بتمويل المناخ‬
‫والخسائر واألضرار‪ ،‬كما أعطى دفعة إضافية لرفع مستوى الطموح في مكافحة‬
‫الظاهرة‪ .‬وكان موضوع االلتزام بتمويل العمل المناخي مركز اهتمام خاص‬ ‫هذه ّ‬
‫الصناعية للوفاء بالتزاماتها في تأمين ‪ 100‬مليار دوالر سنو ًيا‪ ،‬مع‬
‫بدعوة البلدان ّ‬
‫تم‬
‫التكيف إلى ‪ 40‬مليــون دوالر على ال ّنحو الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مضاعفــة تمويــل إجراءات‬
‫االتفاق عليه في مؤتمر األطراف‪ -26‬بغالسغو‪ .‬تجدر اإلشارة هنا إلى أنّه يمكن‬
‫كثيرا في هذا المجال‪ ،‬كاآللية التي وضعتها‬ ‫لألدوات المالية المبتكرة أن تساعد ً‬
‫اإلسكوا لمقايضة الدّ يون بتمويل العمل المناخي وتنفيذ أهداف ال ّتنمية المستدامة‬
‫وتآزر المانحين (‪.)10‬‬

‫‪67‬‬
‫المستقر بفعل‬
‫ّ‬ ‫الســياق العالمي غير‬
‫يرجح أن يكون لتداعيات ّ‬ ‫من ناحية أخرى‪ّ ،‬‬
‫جراء الحرب في أوكرانيا‪ ،‬وتزايد التوتّرات‬‫إعادة تشــكيل سوق الطاقة العالمية ّ‬
‫التحول العالمي منخفض‬‫ّ‬ ‫اإلقليمية بين القوى الكبرى‪ ،‬تأثيرات طويلة المدى على‬
‫التغير المناخي‪ .‬فقد أجبرت أزمة‬
‫ّ‬ ‫الكربــون والجهود العالمية لمواجهة أخطــار‬
‫الطاقة المتزايدة وأســعارها المرتفعة الدّ ول األوروبية على العودة إلى تشــغيل‬
‫ّ‬
‫محطــات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم لحماية احتياطياتها من الغاز الطبيعي‪.‬‬
‫وبســبب ضغط الوقت‪ ،‬ال تزال هذه الدّ ول تبحث عن حلول في مجال الطاقة‬
‫األحفورية‪ ،‬ما يضع المزيد من العقبات أمام إمكانية تحقيق الهدف المعلن بخفض‬
‫االحترار العالمي إلى ‪ 1.5‬درجة مئوية‪ .‬وكانت االستجابة العالمية لجائحة كوفيد‬
‫‪ 19‬قد كشفت عن عيوب في ال ّتعاون الدولي إلدارة األزمات‪ ،‬وأبرزت محدودية‬
‫ال ّتضامن العالمي والعمل الجماعي لمواجهة ال ّتهديدات واسعة ال ّنطاق‪.‬‬

‫ومــن المتو ّقع أن تزداد اآلثار االجتماعية واالقتصادية والبيئية ّ‬


‫لتغير المناخ على‬
‫مســتقبل المنطقــة العربية‪ ،‬مع وجــود مخاطر حقيقية على األمن واالســتقرار‬
‫السياســي واالجتماعي‪ .‬ففي العام ‪ ،2023‬سيجري تقييم مستوى التقدّ م المحرز‬ ‫ّ‬
‫فإن حقيقة تأميننا لكوكب‬ ‫في تحقيق أهداف اتّفاق باريس‪ .‬ومهما كانت ال ّنتائج‪ّ ،‬‬
‫صحي ومزدهر للجميع‪ ،‬يعني الشّ روع في رحلة مشتركة نحو إعادة ضبط مسارنا‬ ‫ّ‬
‫الصمود‪ .‬وحتى ال تعوق سياســاتنا‬ ‫التحولي وتعزيز القدرة على ّ‬
‫ّ‬ ‫باتجــاه ال ّتغيير‬
‫يتعين أن يصبح ترابطنا مع المناخ‬
‫اليوم رفاهية األجيال الحالية والمستقبلية‪ ،‬فإنه ّ‬
‫محرك ًا جديدً ا لسياســات‬
‫ّ‬ ‫ومكونات األنظمة البيئية األخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمحيط الحيوي‬
‫ال ّتنمية في العالم وعلى المستوى المح ّلي واإلقليمي‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫المراجع‬
(1) The Global Risks Report 2022, World Economic Forum, p. 7.
(2) Climate Action Progress, United Nations Environment Programme,
2021.
See: www.unep.org/explore-topics/climate-action/what-we-do/climate-
action-note/climate-action-progress.html/ accessed on 20/10/2022.

:‫ ســاحات المعارك الجديدة" في‬:‫ الموارد الطبيعية‬،‫ الطبيعة‬،‫ "المناخ‬،‫) رازميغ كوشــيان‬3(
:‫ بيروت‬،‫ ترجمة نصير مروة‬،‫ تحرير برتراند بادي ودومينيك فيــدال‬،2015 ‫أوضــاع العالــم‬
.74 ‫ ص‬،2015 ،‫مؤسسة الفكر العربي‬

‫ دولة في الشــرق األوسط‬12 ‫ تعاني‬،2020 ‫) بحســب تقرير معهد الموارد العالمية لســنة‬4(
‫ في‬،‫ تتصدّ رها قطر وفلسطين ولبنان‬،‫ أزمة كبيرة في المياه‬،‫ دولة‬17 ‫ من بين‬،‫وشمال إفريقيا‬
‫حيــن ُصنفت إيران واألردن وليبيا والكويت واإلمارات والبحرين وعمان ضمن قائمة الدول‬
‫ دولة أخرى تعاني من نقص حاد‬27 ‫ ُيضاف إلى ذلــك‬.‫ذات األزمــة العاليــة جدا في المياه‬
.‫في المياه من بينها اليمن والجزائر وتونس والمغرب والعراق وسوريا وتركيا ومصر وغيرها‬
(5) Salomé van Jaarsveld Bronkhorst and Urmilla Bob, Environmental
Conflicts: Key Issues and Management Implications, ACCORD,
26/10/2010.
See: www.accord.org.za/ajcr-issues/environmental-conflicts/ accessed on
21/10/2022.
(6) Frederic Wehrey and Ninar Fawal, Cascading Climate Effects in the
Middle East and North Africa: Adapting Through Inclusive Governance,
Carnegie Endowment for International Peace, 24/02/2022.
See: https://carnegieendowment.org/2022/02/24/cascading-climate-effects-
in-middle-east-and-north-africa-adapting-through-inclusive-governance-
pub-86510/ accessed on 21/10/2022.

‫ تعظيم الفرص لتعاف يشمل الجميع ويعزز‬:2022 ‫) "تقرير التنمية اإلنسانية العربية للعام‬7(
،‫ برنامج األمم المتحدة اإلنمائي‬،"-19‫القــدرة على مواجهة األزمات في حقبة ما بعد كوفيد‬
.100 ‫ ص‬،2022 ،‫نيويورك‬

69
‫ دولة عربية فقط تقديرات التكلفة الحتياجاتها المالية لتنفيذ مساهماتها المحددة‬11 ‫) قدمت‬8(
‫ وهي جزر القمر وجيبوتي ومصر والعراق واألردن وموريتانيا والمغرب‬،‫وطن ًيــا أو المحدثــة‬
.‫ودولة فلسطين والصومال والسودان وتونس‬
(9) Driving Transformation: A Climate Roadmap for the Middle East &
North Africa, World Bank, 14/01/2022.
See: www.worldbank.org/en/news/feature/2022/01/24/driving-
transformation-a-climate-roadmap-for-the-middle-east-north-africa/ accessed
on 22/10/2022.
(10) Towards COP27: Arab Regional Forum on Climate Finance, ESCWA,
Press Release, 15/09/2022.
See: www.unescwa.org/news/towards-cop27-arab-regional-forum-climate-
finance-0/ accessed on 22/10/2022.

70
‫السيبراني وتداعياته على الشرق األوسط‬
‫الخطر ّ‬
‫في سياق تغيرات البيئة الدولية‬
‫حسن مظفر الرزو‬

‫مقدمة‬
‫الصعيد العالمي بال ّنســبة إلــى عدد الهجمات‬‫ُيعــدّ العام ‪ 2022‬األســوأ على ّ‬
‫الســيبرانية‪ ،‬مع تعاظم تأثير هذه الظاهرة على المســتويات األمنية‬
‫والتهديدات ّ‬
‫مؤسســة "مايكرو ترند"‬
‫واالقتصادية والسياســية‪ .‬وحســب ال ّتقرير الذي أعدّ ته ّ‬
‫الســيبراني‪ ،‬بلغ حجــم التهديدات‬
‫المتخصصــة فــي األمن ّ‬
‫ّ‬ ‫(‪)Micro Trend‬‬
‫األول من ‪ 2022‬حوالــي ‪ 63,789,373,773‬هجمة‬ ‫والهجمــات خالل ال ّنصف ّ‬
‫برمجيات "الفدية" كل ‪ 14‬ثانية‬
‫ّ‬ ‫ــجلت هجمة واحدة من هجمات‬ ‫(‪ ،)1‬بينما ُس ّ‬
‫(‪.)2‬‬
‫السيبرانية‬
‫ويعج عالمنا المعاصر بزوبعة غير مسبوقة من الهجمات واالختراقات ّ‬ ‫ّ‬
‫في فضاء مفتوح تغيب عنه الحدود السياسية وال ّتضاريس الجغرافية‪ .‬وإذا كانت‬
‫الدّ ول المتقدّ مة قد قطعت شــوط ًا كبير ًا في تحصين مجال استخداماتها ّ‬
‫الرقمية‬
‫فإن عالمنا العربي ال زال يرزح تحت وطأة‬‫الســيبرانية‪ّ ،‬‬
‫في مواجهة ال ّتهديدات ّ‬
‫تراجع قدرات موارده البشرية‪ ،‬وحداثة تجربته على صعيد إحكام نسيجه الشبكاتي‬
‫السيبراني‪.‬‬
‫وأمنه ّ‬
‫يضــاف إلــى هذا التحدّ ي‪ ،‬حزمــة إضافية من التحدّ يات التــي صاحبت تكاثر‬
‫السيبرانية التي باتت لصيقة بمسألة االستقرار الجيوسيبراني‬
‫الهجمات وال ّتهديدات ّ‬
‫السياسية التي تتزاحم على بلدان المنطقة‬ ‫في الشّ رق األوسط‪ ،‬نتيجة لل ّتجاذبات ّ‬
‫من دول الجوار‪ ،‬والتي باتت تســتخدم ســاح ال ّتهديد السيبراني لزيادة تأثيرها‬
‫وتوسيع مجال نفوذها وإحداث فجوات أمنية وسياسية لدى خصومها من خالل‬
‫توطين مجموعات من الميليشيات والوكالء السيبرانيين في هذا الفضاء الجديد‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫وقد زاد من تعقيد المشــهد‪ ،‬تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬التي ألقت‬
‫تتسبب في إحداث فجوات في ال ّتحالفات‬‫بظاللها على عدة مجاالت‪ .‬و ُيتوقع أن ّ‬
‫الســابقة بين دول خليجية وأخرى عربية‪ ،‬مع الواليات الم ّتحدة ودول االتحاد‬
‫األوربي‪ ،‬خاصة بعد قرار دول أوبك بلس خفض إنتاجها من النفط‪.‬‬

‫الشرق األوسط في العام ‪2022‬‬


‫السيبراني في منطقة ّ‬
‫واقح الخطر ّ‬
‫الســيبراني عام ً‬
‫ال‬ ‫يمر العالم العربي بنقطة انعطاف كبير بعد أن أصبح المجال ّ‬‫ّ‬
‫مهما وأداة فاعلة يمكن أن تمارس دور ًا خطير ًا في زعزعة االستقرار أو ترسيخ‬‫ًّ‬
‫ال ّتــوازن السياســي واالقتصادي (‪ .)3‬ومع تزايد عدد مســتخدمي اإلنترنت في‬
‫الســيبراني حوالي ‪ 213‬مليون‬
‫البلدان العربية وبلوغ عدد ال ّناشــطين في فضائها ّ‬
‫مستخدم في ال ّنصف الثاني من العام ‪( 2022‬حوالي ‪ % 79.7‬من عدد السكان)‪،‬‬
‫الســيبراني العربي‪ ،‬وال تكاد‬
‫نمت وتيرة الهجمات على عموم تضاريس الفضاء ّ‬
‫السيبرانية‪.‬‬
‫تعثر على بلد في المنطقة لم يعان من طوفان الهجمات ّ‬
‫تعرضت البحرين خالل هذه الفترة إلى أكثر من ‪ 13‬مليون‬ ‫فعلى ســبيل المثال‪ّ ،‬‬
‫تهديد عبر خدمة البريد اإللكتروني‪ ،‬و‪ 1.7‬مليون اختراق لمواقع الويب‪ ،‬و‪480‬‬
‫برمجيات خبيثة‪ ،‬و‪ 492‬ألف هجمة على ال ُّنظم ّ‬
‫الذكية‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫ألف هجمة بواسطة‬
‫ُتستخدم في إدارة المساكن والشّ ركات‪ .‬وارتفع عدد الهجمات ببرمجيات الفدية‬
‫السيبراني لإلمارات خالل العام ‪ 2022‬بنسبة ‪ % 230‬مقارنة مع العام‬‫في الفضاء ّ‬
‫الربع‬
‫الســيبراني ‪ 3,481,419‬هجمة خالل ّ‬ ‫التصيد ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ ،2021‬بينما بلغت هجمات‬
‫الحج‪ ،‬من‬
‫ّ‬ ‫الســعودية‪ ،‬حتى في موسم‬
‫الثّاني من العام ‪ 2022‬فقط‪ .‬ولم تســلم ّ‬
‫الحجاج الوافدين ومرافق‬‫ّ‬ ‫الهجمــات‪ ،‬التي بلغت أكثر من مليونــي هجمة على‬
‫الحــج المختلفة خالل هذا العــام‪ .‬وكانت دورة كأس العالم لكرة القدم ‪2022‬‬
‫ّ‬
‫مجــا ً‬
‫ال خصبــ ًا لتكاثر التهديدات والهجمات ّ‬
‫الســيبرانية‪ ،‬مع توافد حوالي ‪1.5‬‬
‫مليــون زائر على دولة قطر‪ .‬وقد كانت هذه األعداد ُعرضة لهجمات ســيبرانية‬
‫السفر والفنادق‪،‬‬
‫من مختلف أنحاء العالم خالل عمليات بيع ال ّتذاكر وحجوزات ّ‬
‫كما استهدفت بعض الهجمات التأثير على أمن المالعب التي ُتدار بأدوات ذكية‪.‬‬
‫نمــوا متزايدا في عدد ال ّتهديدات والهجمات‬
‫ًّ‬ ‫بشــكل عام‪ ،‬تواجه الدّ ول العربية‬

‫‪72‬‬
‫الســيبرانية التي تتقاســمها البرمجيات الخبيثة وبرمجيــات الفدية واالختراقات‬‫ّ‬
‫التي تمارســها ميليشيات وقراصنة سيبرانيون مدعومون من قبل بعض الدّ ول أو‬
‫الجماعات المعارضة‪ .‬ولم تســلم جميع القطاعات في البلدان العربية من هذه‬
‫للمؤسسات الحكومية‬
‫ّ‬ ‫ال ّتهديدات والهجمات التي انتشرت في الفضاء االتّصالي‬
‫الحساسة‪ ،‬وشركات القطاع الخاص واألفراد‪ ،‬فأصبحت ّ‬
‫جل عقد النسيج الشبكي‬ ‫ّ‬
‫السيبراني ُعرضة بصورة دائمة لل ّتهديدات والهجمات‪.‬‬ ‫ّ‬
‫و ُتعدّ دول مجلس ال ّتعاون الخليجي األكثر ُعرضة للهجمات ّ‬
‫الســيبرانية مقارنة‬
‫التوغل الكبير ألدوات المعلومات واالتّصاالت في‬ ‫ّ‬ ‫ببقية الدول العربية‪ ،‬بســبب‬
‫ومؤسســاتها‪ .‬يضاف الى ذلك‪ ،‬المكانة الجيوسياســية‬‫ّ‬ ‫جميع مفاصل حكوماتها‬
‫التــي تتم ّتــع بها‪ ،‬نتيجة لما تملكه من مصادر الطاقة وما تمارســه من أنشــطة‬
‫المستقرة بجارتها إيران‪ ،‬التي ُتعدّ من‬
‫ّ‬ ‫اقتصادية واسعة‪ ،‬مع عالقات بعضها غير‬
‫السيبرانية‪.‬‬
‫الدول المتقدّ مة في مجال الحرب ّ‬
‫السيبرانية في الوطن‬
‫يمكن تقســيم الجهات التي تمارس ال ّتهديدات والهجمات ّ‬
‫العربي إلى نوعين‪ :‬جهات تقيم داخل الحدود الجغرافية للبلدان العربية‪ ،‬وجهات‬
‫تقيــم خــارج تلك الحدود‪ .‬وتشــترك جميع هذه الجهات فــي إقامتها بالفضاء‬
‫الســيبراني المفتوح الذي ال يقيم وزن ًا للحدود الجغرافية والسياسية للدّ ول‪ .‬في‬
‫ّ‬
‫هذا الفضاء‪ ،‬تقيم جيوش وكتائب ومجاميع قرصنة تدعمها بعض الدول للتأثير‬
‫على المشهد الجيوسياسي في المنطقة‪ .‬وهناك كتائب قرصنة أخرى تنشط بدعم‬
‫من جماعات معارضة‪ ،‬إضافة إلى قراصنة منفردين يسعون لتحقيق مكاسب مادية‬
‫سريعة‪ ،‬أو نشر خطابات سياسية وإيديولوجية معارضة ألنظمة الحكم‪.‬‬
‫الســيبراني ووفــرة أدوات القرصنة وال ّتهديد‬‫لقد أســهمت ميزة انفتاح الفضاء ّ‬
‫ممن يمارسون حرفة ال ّتهديد‬‫متنوعة‪ ،‬وخلق أعداد كبيرة ّ‬ ‫السيبراني في إنتاج فئات ّ‬
‫ّ‬
‫أن تغييب هوية من ينشــطون في هذا المجال وصعوبة تحديد‬ ‫واالختراق‪ .‬كما ّ‬
‫انتماءاتهم جعلت بعض األنظمة السياسية في المنطقة وخارجها تضع من ضمن‬
‫أولوياتها ممارســة الضغوط السيبرانية وال ّتأثير في سياسات الدّ ول المناوئة لها‪.‬‬
‫ويرسم الجدول التالي معالم المشهد الجيوسيبراني وتجاذباته في منطقة الشرق‬
‫األوسط‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أهم الجهات التي تمارس ال ّتهديدات‬
‫جدول (‪ّ )1‬‬
‫الشرق األوسط‬
‫السيبرانية في منطقة ّ‬
‫والهجمات ّ‬
‫الجهات التي تستهدفها‬ ‫االنتماء‬ ‫الفئة‬ ‫الجهة‬

‫تتركّز هجماته ض ّد المملكة العربية‬


‫السعودية وبقية دول مجلس التعاون‬ ‫ّ‬ ‫خليط من‬
‫الكتائب العسكرية الحرس الثّوري الخليجي‪ ،‬وتشكّل تهديداته وهجماته رسائل‬ ‫جيش إيران‬
‫وضغوطا سياسية مباشرة على هذه الدول‪.‬‬ ‫اإليراني‬ ‫ومجموعات‬ ‫السيبراني‬
‫ّ‬
‫وينشط هذه الجيش أيضا ض ّد المواقع‬ ‫قرصنة سيبرانية‬
‫للرّد على هجماتها ضد إيران‬ ‫اإلسرائيلية ّ‬
‫كتائب من‬
‫السورية‬
‫ممارسة هجمات على المعارضة ّ‬ ‫الجيش‬
‫الجيش وقراصنة‬
‫السوري واستهداف ال ّدول المناوئة للنّظام السوري‪،‬‬
‫سيبرانيون موالون النّظام ّ‬ ‫اإللكتروني‬
‫خاصة الدول الخليجية‬ ‫السوري‬
‫ّ‬
‫للنظام السوري‬

‫تابع للحوثيين‬ ‫مجموعات‬


‫يركّز هجماته على أهداف منتقاة في‬ ‫ومدعوم من‬ ‫من القراصنة‬ ‫الجيش‬
‫الحرس الثّوري المملكة العربية السعودية ودولة اإلمارات‬ ‫السيبراني اليمني ّ‬
‫السيبرانيين من‬ ‫ّ‬
‫اإليراني‬ ‫اليمن إو�يران‬

‫تمارس االختراقات والهجمات لسرقة‬


‫البيانات إو�حداث خلل في المنظومات‬ ‫كتائب عسكرية‬
‫جيش ال ّدفاع‬
‫األمنية لل ّدول العربية‪ ،‬وتركّز اهتمامها على‬ ‫وقراصنة‬ ‫الوحدة ‪8200‬‬
‫اإلسرائيلي‬
‫مواجهة الهجمات التي يمارسها وكالء إيران‬ ‫سيبرانيون‬
‫السيبرانيون وكتائب ّ‬
‫القسام‬

‫استهداف نظم المعلومات اإلسرائيلية‬


‫حزب الله‬ ‫قراصنة‬ ‫كتائب حزب‬
‫والتّنسيق مع جيش إيران السيبراني لممارسة‬
‫اللبناني‬ ‫سيبرانيون‬ ‫السيبرانية‬
‫الله ّ‬
‫هجمات ض ّد دول خليجية‬

‫اختراق نظم المعلومات اإلسرائيلية وتنسيق‬


‫الجناح‬
‫الهجمات مع كتائب حزب الله السيبرانية‬ ‫قراصنة‬ ‫كتائب القسام‬
‫العسكري‬
‫وجيش إيران السيبراني لتوجيه ضربات‬ ‫سيبرانيون‬ ‫السيبرانية‬
‫ّ‬
‫لحركة حماس‬
‫نوعية لمواقع إسرائيلية‬

‫‪74‬‬
‫الاّلعب األكبر على صعيد ممارسة ال ّتهديدات والهجمات‬‫بصورة عامة‪ُ ،‬تعدّ إيران ّ‬
‫السيبرانية في منطقة الشّ رق األوسط بواسطة جحافل جيشها ّ‬
‫السيبراني والوكالء‬ ‫ّ‬
‫المرتبطين بالقيادة العليا للحرس الثّوري اإليراني‪ .‬وينشط هؤالء الوكالء بدرجة‬
‫أساسية في لبنان واليمن وسوريا والعراق‪ .‬في المقابل‪ ،‬ال نكاد نعثر على بصمة‬
‫لكتائب سيبرانية مرتبطة بالحكومات العربية‪ ،‬أو مجموعات قرصنة عربية تمارس‬
‫هجماتها بدعم حكومي لتحقيق غايات سياسية محدّ دة‪ .‬وما يشاع عن تهديدات‬
‫أو هجمات ســيبرانية تمارســها بعض األنظمة العربية المتصارعة ال تعدو كونها‬
‫هجمــات لمجموعات مــن المرتزقة الذين قد يكلفون بممارســة تهديدات أو‬
‫هجمات مقابل مبالغ مالية‪ .‬أما القراصنة الســيبرانيون العرب فهم أشــتات‪ ،‬ال‬
‫تجمعهم أهداف مشــتركة‪ ،‬كما أنّهم يفتقــرون إلى مهارات تجعل لهم حضور ًا‬
‫يــوازي حضور الكتائب والقراصنة الذين تدعمهم إيران‪ ،‬أو الدول الكبرى التي‬
‫السياسي واالقتصادي للدّ ول العربية‪.‬‬
‫تتنافس على فرض سلطانها على المجالين ّ‬
‫الســيبراني للدّ ول العربية من حضور مكثّف لوحدات مرتبطة‬ ‫وال يخلو الفضاء ّ‬
‫والصين‪ ،‬تمارس‬
‫ّ‬ ‫بجيــوش الــدول الكبرى‪ ،‬مثل الواليــات الم ّتحدة وروســيا‬
‫متكررة لســرقة البيانات وممارســة ضغوط جيوسياســية غير معلنة‪،‬‬‫ّ‬ ‫اختراقات‬
‫والتأثيــر علــى آلة االقتصاد في الدول العربية‪ .‬يضــاف إلى ذلك‪ ،‬األعداد التي‬
‫الســيبرانية لتحقيق مكاسب مادية‪،‬‬
‫ممن احترفوا مهنة القرصة ّ‬ ‫ال يمكن حصرها ّ‬
‫والذين يتوزّ عون على جميع تضاريس الفضاء ّ‬
‫السيبراني العالمي (‪.)4‬‬

‫السيبراني واستراتيجياته‬
‫المؤسسية العربية لسياسات األمن ّ‬
‫ّ‬ ‫الهيكلة‬
‫السيبرانية‪ ،‬وتعاملت‬‫جل الدول العربية خطورة االختراقات وال ّتهديدات ّ‬ ‫أدركت ّ‬
‫مع المسألة وفق منظور يتناسب مع هذه الخطورة ويضمن سالمة أمنها الدّ اخلي‪.‬‬
‫فأولتها اهتماما كبيرا وســعت الى توفير المتط ّلبات ال ّتقنية وتخصيص مبالغ في‬
‫موازناتهــا لتعزيــز دفاعاتها‪ .‬وقد أثمرت جهود الدّ ول العربية في توفير متط ّلبات‬
‫الســيبراني بلوغ الكثير منها مرتبة متقدمة على المســتوى العالمي‪ .‬فقد‬ ‫األمــن ّ‬
‫متفوقتين على‬
‫السعودية المرتبة الثانية‪ ،‬ودولة اإلمارات المرتبة الخامسة‪ّ ،‬‬‫تبوأت ّ‬ ‫ّ‬
‫كثير من الدّ ول المتقدمة‪ .‬في المقابل‪ ،‬تراجعت دول عربية أخرى بشــكل كبير‬

‫‪75‬‬
‫بسبب ما تعانيه من اضطرابات سياسية وحروب أهلية‪ ،‬مثل ليبيا وسوريا ولبنان‬
‫والعــراق‪ .‬أ ّمــا اليمن‪ ،‬فلم يظفر بأي نقطة علــى صعيد تحقيق الحدّ األدنى من‬
‫السيبراني‪ ،‬كما يظهر ذلك في الشكل (‪.)1‬‬
‫مقومات األمن ّ‬ ‫ّ‬

‫السيبراني للدول العربية (‪)5‬‬


‫مؤشر األمن ّ‬
‫الشكل (‪ّ )1‬‬
‫المصدر‪ITU, Global Cybersecurity Index 2020 :‬‬

‫بمهمة إعــداد الخطط الوطنية‬


‫ّ‬ ‫المؤسســية التي تنهض‬
‫ّ‬ ‫أ ّمــا على صعيد الهيكلة‬
‫الســيبرانية‪ ،‬فقد سارعت معظم الدول العربية‬ ‫وبناء القدرات الحتواء الهجمات ّ‬
‫إلى الوفاء بالتزاماتها مع االتّحاد الدولي لالتّصاالت (‪ )ITU‬في تشــكيل مراكز‬
‫تضم ِفرقا احترافية لمواجهة ال ّتهديدات وال ّتعامل مع طوارئ الحاســبات‬‫ّ‬ ‫وطنية‬
‫السيبراني في بعض الدّ ول‬‫والشّ بكات‪ .‬وقد اقتصرت االستراتيجية الوطنية لألمن ّ‬
‫السيبراني التي حدّ دها االتّحاد الدّ ولي لهذه المراكز‪،‬‬
‫العربية على أنشــطة األمن ّ‬
‫مثل مصر والكويت واألردن والمغرب ولبنان والعراق وفلسطين‪ .‬بينما حرصت‬
‫السيبراني من‬
‫دول عربية أخرى على توســيع مجال االستراتيجية الوطنية ألمنها ّ‬
‫السيبراني‬
‫خالل تطوير الهيكلة ال ّتنظيمية وزيادة مستويات اهتمامها بتفاصيل األمن ّ‬
‫تخص ًصا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتداعياته‪ ،‬فأنشأت مراكز موازية أشد‬
‫في هذ اإلطار‪ ،‬أنشأت المملكة العربية السعودية المركز الوطني اإلرشادي لألمن‬
‫خاصة‬
‫مؤسسة ّ‬ ‫السيبراني‪ ،‬وأنشأت اإلمارات مركز األمن اإللكتروني‪ ،‬وبعثت قطر ّ‬‫ّ‬
‫السيبراني‪ .‬وفي‬
‫السيبراني‪ ،‬وأقامت البحرين المركز الوطني لألمن ّ‬
‫بشؤون األمن ّ‬
‫للســامة المعلوماتية‪ ،‬وفي الجزائر مركز األمن‬
‫تونس أنشــئت الوكالة الوطنية ّ‬

‫‪76‬‬
‫الســوداني ألمن المعلومات‪ ،‬وفي ليبيا الهيئة‬
‫السودان المركز ّ‬
‫الســيبراني‪ ،‬وفي ّ‬
‫ّ‬
‫السيبراني‪.‬‬
‫الوطنية ألمن وسالمة المعلومات‪ ،‬وفي اليمن المركز الوطني لألمن ّ‬
‫إال ّ‬
‫أن ما يثير االنتباه‪ ،‬هو تعامل جميع الدول العربية مع ال ّتهديدات والهجمات‬
‫السيبرانية بوصفها جز ًءا من مسؤولية وزارة االتصاالت وتكنولوجيا المعلومات‪،‬‬‫ّ‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫السيبراني بعيدة عن مجال االستراتيجيات‬
‫األمر الذي جعل مسألة األمن ّ‬
‫بحماية األمن الوطني‪ .‬فكانت بعيدة إلى حدّ ما عن مجال اهتمام وزارة الداخلية‬
‫واألمن الوطني‪ ،‬وال تبدو عالقتها بشؤون الدفاع واضحة‪ .‬وذلك على خالف ما‬
‫نالحظه لدى دول أخرى في منطقة الشرق األوسط مثل إيران وإسرائيل وتركيا‪،‬‬
‫الســيبراني بمهام حماية األمن الوطني والدفاع عنه في‬
‫التــي ترتبط مراكز أمنها ّ‬
‫السيبراني‪.‬‬
‫للردع ّ‬‫خاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫قوة‬
‫مواجهة ال ّتهديدات الخارجية‪ ،‬مع السعي إلى امتالك ّ‬
‫وقد انتبهت المملكة العربية السعودية إلى هذه المسألة‪ ،‬خصوص ًا بعد الهجمات‬
‫تعرضت لها شــركة أرامكو النفطية‪ ،‬فأنشــأت الهيئة الوطنية لألمن‬ ‫المؤ ّثرة التي ّ‬
‫الســيبراني كبديل استراتيجي للمركز الوطني لألمن اإللكتروني‪ .‬وأوكلت للهيئة‬ ‫ّ‬
‫الســيبرانية الوطنية وتشكيل‬
‫الجديدة جملة من المهام‪ ،‬من بينها تطوير السياســة ّ‬
‫الســيبرانية للمملكة‪ .‬ولحقت بها دولة اإلمارات‪،‬‬ ‫معالم االســتراتيجية األمنية ـ ّ‬
‫الســيبراني في العام ‪ ،2020‬وأنشأت سلطنة عمان مركز‬ ‫فأنشــأت مجلس األمن ّ‬
‫الدّ فــاع اإللكتروني في العام ذاته‪ .‬وفــي العام ‪ ،2021‬التحقت ُك ّل من البحرين‬
‫وقطــر بهذا االتجــاه لتتصدّ ر الدول الخليجية المنطقة العربية على هذا الصعيد‪.‬‬
‫السيبراني في‬
‫السياسات وصياغة االستراتيجيات الوطنية لألمن ّ‬ ‫وال تزال صناعة ّ‬
‫بقية الدول العربية دون هذا المســتوى‪ .‬فالوثائق التي أصدرتها ّ‬
‫جل تلك الدّ ول‬
‫الســيبراني من التهديدات والهجمات‬ ‫بعيــدة عن تلبية احتياجاتها لحماية أمنها ّ‬
‫المتكاثرة‪ .‬وهي بحاجة إلى قراءة موضوعية بعيد ًا عن سياسة الحرص على نيل‬
‫تتضمن‬
‫ّ‬ ‫أن تلك الوثائق‬ ‫ّ‬
‫المنظمــات الدولية‪ ،‬خاصة ّ‬ ‫مراتــب متقدّ مة وفق معايير‬
‫ستغل في تكثيف الهجمات وتعميق آثارها الجيو سيبرانية‬ ‫ّ‬ ‫ثغرات ّبينة يمكن أن ُت‬
‫واالقتصادية (‪.)6‬‬

‫‪77‬‬
‫السيبراني في الفضاء العربي خالل العام ‪2023‬‬
‫مخاطر ال ّتهديد ّ‬
‫الصراعات الجيوسياسية في‬ ‫التطورات التكنولوجية المتسارعة واحتدام ّ‬
‫ّ‬ ‫في سياق‬
‫المنطقة العربية والشّ رق األوسط بشكل عام‪ُ ،‬يتو ّقع أن يشهد العام ‪ 2023‬ارتفاعا‬
‫السيبرانية‪ .‬وسواء أكانت دوافع المهاجمين‬ ‫كبيرا في عدد الهجمات واالختراقات ّ‬
‫سياسية أم اقتصادية‪ ،‬سيسعى القراصنة‪ ،‬أفراد ًا ومجموعات‪ ،‬إلى توظيف تقنيات‬
‫التوطن في فضاء الحوسبة السحابية لضمان تغييب‬ ‫ّ‬ ‫أكثر تعقيد ًا‪ ،‬مع التوجه إلى‬
‫هوية حضورهم وزيادة تأثير هجماتهم‪ .‬وســيبقى الخطأ البشــري عنصر ًا ّ‬
‫مهما‬
‫يستثمره القراصنة الختراق المواقع الحكومية ومواقع القطاع الخاص‪ ،‬خاصة مع‬
‫وجود قراصنة داخل المؤسسات التي تستهدفها تلك الهجمات‪ ،‬بعضهم ينشطون‬
‫ألسباب شخصية وبعضهم يمكن توظيفه من قبل جهات معادية أو منافسة‪ .‬وتكاد‬
‫السيبراني ت ّتفق على ّ‬
‫أن العام ‪2023‬‬ ‫آراء الخبراء والمتخصصين في مجال األمن ّ‬
‫سيشهد تهديدات وهجمات يفوق عددها وتتجاوز خطورتها بكثير ما حصل في‬
‫العام ‪.2022‬‬
‫الصراع وال ّتنافس اإلقليمي في الشّ ــرق األوســط‪ُ ،‬يتو ّقع أن‬
‫باإلضافة إلى عاملي ّ‬
‫الســيبرانية في هذه المنطقة بســبب الحرب الروســية على‬ ‫يزيد عدد الهجمات ّ‬
‫يدق ناقوس الخطر في أوروبا‬ ‫والركود االقتصادي العالمي‪ ،‬الذي بات ّ‬ ‫أوكرانيا‪ّ ،‬‬
‫ستمر دورة المشهد‬ ‫ّ‬ ‫والواليات الم ّتحدة األميركية بدرجة أولى‪ .‬وعلى األغلب‪،‬‬
‫التحوالت كما‬‫ّ‬ ‫الســيبراني في منطقة الشّ رق األوسط بجملة من‬‫الجيوسياســي ـ ّ‬
‫ي ّتضح من خالل الشّ ــكل (‪ .)2‬فالمتو ّقع أن يحصل تصعيد في عدد الهجمات‬
‫يمنح هذا ال ّنوع من ال ّتهديد دورا جيوسياســيا متعاظما‪ .‬ولمواجهة هذا التهديد‬
‫السيبراني‪ ،‬وسيكون ال ّتطبيع‬ ‫الخاصة بالدفاع ّ‬
‫ّ‬ ‫ســترفع الدول العربية من موازناتها‬
‫المطبعة نوعا من الحماية‪ ،‬ولك ّنه‬
‫ّ‬ ‫مع إســرائيل ســاحا ذا حدّ ين‪ ،‬يمنح البلدان‬
‫يعرضها لتهديــدات الدول والقوى المناهضة لهذا المســار‪.‬‬ ‫فــي الوقــت ذاته‪ّ ،‬‬
‫السيبرانية‬
‫وس ُتضاعف تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا من نشاط الجيوش ّ‬
‫ستعزز من‬
‫ّ‬ ‫في بيئة تشهد استقطابا سياسيا واقتصاديا متزايدا‪ .‬هذه البيئة الجديدة‪،‬‬
‫الســيبرانيين وترفع من قيمة الخدمــات التي يقدّ مونها للدّ ول التي‬ ‫دور الوكالء ّ‬
‫تحتاجها‪ ،‬ور ّبما ُتسهم في تغيير طبيعة ال ّتحالفات في هذا الفضاء‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫السيبراني في اّلشرق األوسط عام ‪2023‬‬
‫الشكل (‪ )2‬توّقعات المشهد الجيوسياسي ‪ّ -‬‬

‫وظف فيها‬‫نوع‪ ،‬وســ ُت ّ‬


‫الســيبرانية بال ّتكاثر وال ّت ّ‬
‫وستســتمر ال ّتهديدات والهجمات ّ‬
‫ّ‬
‫الذكاء االصطناعي لضمان اختراق جدران الحماية النارية‪ ،‬مع االستمرار‬ ‫تقنيات ّ‬
‫السياسي‬
‫في نشر برامج الفدية لتحقيق غايات الجهات المهاجمة على المستويين ّ‬
‫السيبرانية ضمن‬ ‫رجح أن يدخل مجال المواجهة ّ‬ ‫واالقتصادي‪ .‬في هذا السياق‪ُ ،‬ي ّ‬
‫اهتمامات الجيوش ال ّتقليدية في منطقة الشّ رق األوسط‪ ،‬بمستويات ترتبط ّ‬
‫بالسياسة‬
‫التــي تنتهجها دول المنطقة‪ ،‬وطبيعة الكيانات التي ســتكون ُعرضة لل ّتهديدات‬
‫حصة الوطــن العربي من تلك الهجمات لتصل‬ ‫والهجمــات‪ .‬و ُيتو ّقع أن ترتفع ّ‬
‫السيبرانية التي تحصل على المستوى‬ ‫إلى أكثر من ‪ % 10‬من مجموع الهجمات ّ‬
‫العالمي في العام ‪ .2023‬وكانت نسبة الهجمات قد ارتفعت خالل العام ‪2022‬‬
‫عما كانت عليه في العام ‪ ،2021‬وتراوحت بين ‪ % 100‬و‪ ،% 183‬مع ظهور أنماط‬ ‫ّ‬
‫جديدة من الهجمات‪ ،‬كما يبدو من خالل الشكل (‪.)3‬‬

‫‪79‬‬
‫السيبرانية التي ُيتوّقع انتشارها‬
‫أهم أنواع الهجمات ّ‬
‫الشكل (‪ّ )3‬‬
‫السيبراني العربي عام ‪2023‬‬
‫في الفضاء ّ‬

‫علــى صعيد الخســائر المترتّبة عن كل هجمة ســيبرانية‪ُ ،‬يتو ّقع أن ّ‬


‫تتبوأ الدول‬
‫العربيــة إحدى المراتب الثّالث األولــى عالميا‪ .‬فقد أظهرت إحصائيات ‪2022‬‬
‫تبوأت المرتبة األولى‪ ،‬حيث وصلت خسائرها إلى حوالي‬ ‫أن الواليات المتحدة ّ‬ ‫ّ‬
‫كمتوسط للهجمة الواحدة‪ ،‬بينما أتت دول الشرق األوسط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 9,44‬مليون دوالر‬
‫وفي مقدّ متها الدّ ول الخليجية‪ ،‬في المرتبة الثانية‪ ،‬و ُقدّ رت خسائرها بنحو ‪7.46‬‬
‫مرشحة لالرتفاع خالل ‪2023‬‬ ‫لكل هجمة‪ .‬وهذه الخسائر ّ‬ ‫كمتوسط ّ‬‫ّ‬ ‫مليون دوالر‬
‫متوســط‬
‫ّ‬ ‫كمتوســط للهجمة الواحدة‪ ،‬بينما لم تزد قيمة‬
‫ّ‬ ‫لتتجاوز ‪ 9‬مليون دوالر‬
‫مؤشر خطير‬ ‫كلفة الهجمة على المســتوى العالمي عن ‪ 4.3‬مليون دوالر‪ .‬وهذا ّ‬
‫السيبرانية على الدّ ول العربية‪ ،‬بسبب‬
‫ارة للهجمات ّ‬ ‫على ال ّتأثيرات االقتصادية ّ‬
‫الض ّ‬
‫غياب الموارد البشرية الماهرة في هذا المضمار‪ ،‬وتراجع الكفاءة األمنية لل ّنسيج‬
‫الشّ بكي في العالم العربي (‪.)7‬‬

‫‪80‬‬
‫المخصصــات المالية لتلبية‬
‫ّ‬ ‫لهــذه األســباب‪ ،‬يتو ّقع الخبــراء أن يرتفع حجم‬
‫الســيبراني العربــي من ‪ 20.3‬مليار دوالر فــي العام ‪،2022‬‬‫احتياجــات األمن ّ‬
‫بمتوســط نمو ســنوي يبلغ ‪ ،% 4.88‬ليصــل إلى ‪ 44.7‬مليــار دوالر في العام‬ ‫ّ‬
‫السياســي‬ ‫ً‬
‫الســيبراني مجــاال خصب ًا لفرض الخطاب ّ‬‫‪ .2027‬وســيبقى الفضاء ّ‬
‫الضغوط على الدّ ول العربية‪ ،‬ســواء من قبل دول الجوار‬ ‫اإلقليمي‪ ،‬وممارســة ّ‬
‫أو الدّ ول الكبرى‪ .‬وستشــترك في هذا النوع من ال ّنزاعات مجموعات القرصنة‬
‫الســيبرانيون‪ ،‬وقد تقتضي الحاجة إلى مشــاركة كتائب‬ ‫المتخصصــة والوكالء ّ‬
‫ّ‬
‫الصراع اإلقليمي على المستوى‬ ‫الســيبرانية لدول المنطقة عندما يتطور ّ‬
‫الجيوش ّ‬
‫السياسي أو االقتصادي‪ .‬وسيفرض هذا االتجاه على الحكومات العربية ال ّتفكير‬ ‫ّ‬
‫في تشــكيل قوى ردع سيبرانية وعدم االقتصار على عمليات االحتواء ومعالجة‬
‫آثار ال ّتهديدات والهجمات التي ُت ّ‬
‫شن عليها‪.‬‬
‫المخصصات المالية لتطوير أمنها‬ ‫ّ‬ ‫ومع تو ّقع اســتمرار الدّ ول العربية في زيــادة‬
‫الســيبراني وتحســين جاهز ّية نسيجها الشّ ــبكي‪ ،‬ال نتو ّقع أن ُيحدث ذلك تأثيرا‬ ‫ّ‬
‫فور ّيا وحاســما علــى صعيد وضوح وتكامــل األهداف االســتراتيجية ألمنها‬
‫اســتمر ال ّتعامل مع هذه المســألة مــن خالل وزارات‬ ‫ّ‬ ‫الســيبراني‪ ،‬خاصــة إذا‬‫ّ‬
‫التوجهات التي ستقدم عليها دولة اإلمارات‬ ‫ّ‬ ‫االتّصاالت‪ُ .‬يســتثنى من هذا األمر‬
‫سيمكنها ذلك‬‫ّ‬ ‫السيبرانية اإلسرائيلية‪ ،‬حيث‬ ‫بال ّتنسيق مع اآللة الهجومية والدّ فاعية ّ‬
‫من دخول تحالفات دولية لضمان أمنها في هذا الفضاء‪ .‬ولكن‪ ،‬مثلما ستستفيد‬
‫طبعت عالقاتها مع إســرائيل في تطوير قدراتها ال ّتقنية في‬ ‫الدّ ول الخليجية التي ّ‬
‫عرض فضاء تلك الدول‬ ‫فإن هذه العالقات ذاتها ســ ُت ّ‬ ‫مجالــي الدفاع والهجوم‪ّ ،‬‬
‫وســيمهد ذلك إلى ظهور نمط‬ ‫ّ‬ ‫لهجمات وتهديدات من قبل معارضي ال ّتطبيع‪.‬‬
‫جديد من ال ّتجاذبات الجيوسياســية في المســتقبل‪ ،‬ســتصطبغ بصبغة سيبرانية‬
‫تتوجه نحو ترسيخ استراتيجيتها‬ ‫ّ‬ ‫الســعودية‪ ،‬ف ُيتو ّقع أن‬‫(‪ .)8‬أما المملكة العربية ّ‬
‫الصين وروسيا‪.‬‬ ‫السيبرانية‪ ،‬وستوليها اهتمام ًا كبير ًا باالنفتاح على دول أخرى مثل ّ‬ ‫ّ‬
‫الســيبراني‪،‬‬ ‫مهمة لتعزيز جهودها على صعيد األمن ّ‬ ‫رجح أن تقطع أشــواطا ّ‬ ‫و ُي ّ‬
‫خاصة بعد اإلجراءات التي فرضتها عليها متط ّلبات األمن أثناء منافســات كأس‬ ‫ّ‬
‫العالم‪ ،‬والتي أسهمت بوضوح في توطين مستوى عال من األمن والحماية قبل‬
‫ستستمر هذه الجهود بعد انتهاء الفعاليات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدورة‪ ،‬وبالتأكيد‬
‫‪81‬‬
‫السيبراني في عدد من البلدان‬‫ضمن هذه المعادلة‪ ،‬سيتعاظم دور شركات األمن ّ‬
‫خاصة في دول‬
‫ّ‬ ‫السيبرانية‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬وستحتدم المنافسة في سوق الخدمات األمنية ّ‬
‫الخليــج‪ ،‬التي تحتاج إلى معالجــة بعض الفجوات األمنية في هذ الفضاء وبناء‬
‫مؤسســتها األمنية والعسكرية‪ .‬في المقابل‪ ،‬سيحرص الوكالء‬
‫قدرات ردعية في ّ‬
‫خاصة أولئك الذين نجحت إيران في بناء قدراتهم‬‫ّ‬ ‫الناشــطون في هذا الفضاء‪،‬‬
‫الصراع الجيو سيبراني‬
‫وضمهم إلى استراتيجيتها‪ ،‬على تعزيز حضورهم في سياق ّ‬
‫ّ‬
‫في منطقة الشّ رق األوسط‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫المراجع‬
‫‪(1) Microtrend, Defending the Expanding Attack Surface.‬‬
‫‪See: https://www.trendmicro.com/vinfo/us/security/research-and-analysis/‬‬
‫‪threat-reports/roundup/defending-the-expanding-attack-surface-trend-micro-‬‬
‫‪2022-midyear-cybersecurity-report/ accessed on 20/10/2022.‬‬

‫(‪ )2‬برمجية الفدية (‪ )Ransomware‬من البرمجيات الخبيثة التي يزرعها قراصنة المعلومات‬
‫في الحواســب أو شــبكات المعلومات للوصول إلى الملفات وتشفيرها ومنع استخدامها ما‬
‫لم تقم الضحية بتسديد مبلغ مالي كفدية‪ .‬وفي حال الرفض‪ ،‬يلجؤون إلى إتالف الملفات‪.‬‬

‫(‪ )3‬خالل العام ‪ُ 2022‬س ّجلت زيادة بنسبة ‪ % 42‬في عدد الهجمات السيبرانية ومضاعفة أعداد‬
‫برامج الفدية في عموم الفضاء السيبراني العالمي مقارنة بالعام ‪ ،2021‬مع تزايد نسبة الجرائم‬
‫السيبرانية بنسبة ‪.% 300‬‬

‫(‪ )4‬على سبيل المثال‪ ،‬مجموعة التنين الليلي (‪ )Night Dragon‬التي تعمل لصالح الحكومة‬
‫الصينية وتمارس عملية اختراق شــبكات الحواسيب في شركات النفط بدول الخليج العربي‬
‫لسرقة البيانات وإحداث خلل في أداء المعدات‪ ،‬لتحقيق غايات سياسية واقتصادية تصب في‬
‫مصلحة النظام الصيني‪ .‬وكذلك قيام وحدات سيبرانية في وزارة الدفاع األمريكية بزج أشكال‬
‫متعددة من البرمجيات الخبيثة مثل الدودة الخبيثة ‪ Flame‬التي أصيبت بها معظم حواســيب‬
‫منطقة الشــرق األوسط لتلبية غايات تجسسية على المستويين السياسي واالقتصادي‪ .‬وينطبق‬
‫تنصب هجمات‬
‫ّ‬ ‫األمر ذاته على جهاز المخابرات الروسي الذي يمارس أدوار ًا مشابهة‪ ،‬بينما‬
‫القراصنة السيبرانيين من كوريا الشمالية على جني األموال لتخفيف أعباء الحصار المفروض‬
‫عليها‪.‬‬
‫‪(5) ITU, Global Cybersecurity Index 2020: Measuring Commitment‬‬
‫‪to Cybersecurity, International Telecommunication Union, Development‬‬
‫‪Sector, 2021, pp. 39-42.‬‬

‫(‪ )6‬الحظ على سبيل المثال أن ُك ّ‬


‫ال من إسرائيل التي تحتل المرتبة ‪ 36‬على المستوى العالمي‪،‬‬
‫وإيران التي تحتل المرتبة ‪ ،51‬تأتيان في مراتب متأخرة عن بعض الدول الخليجية‪ .‬فالسعودية‬
‫تحتل المرتبة الثانية واإلمارات تحتل المرتبة الخامسة على صعيد مؤشر األمن السيبراني ومع‬
‫ذلك تعانيان هشاشة واضحة أمام الهجمات السيبرانية‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪(7) Cost of Data Breach Report 2022, New York: IBM Security, 2022,‬‬
‫‪p.10.‬‬

‫(‪ )8‬فــي ‪ 25‬مايــو‪ /‬أيار ‪ 2022‬تعرضت مجموعة من الحواســيب في إســرائيل إلى هجمة‬
‫سيبرانية بواسطة برنامج فدية خبيث نجحت في إلغاء كمية من البيانات‪ ،‬وكان لدولة اإلمارات‬
‫نصيب من هذه الهجمة في التوقيت ذاته‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫إفريقيا‪ :‬محاوالت النهوض وعوائق اإلصالح‬
‫في ظل تصاعد وتيرة التنافس الدولي‬
‫سيدي أحمد ولد األمير‬

‫مقدمة‬
‫مهمة على مختلف األصعدة‪،‬‬ ‫تطورات ّ‬‫شهدت البلدان اإلفريقية خالل العام ‪ّ 2022‬‬
‫تراوحت بين نجاح العمليات االنتخابية واالنتقاالت السياســية‪ ،‬وبين الكوارث‬
‫المعزز إلى الطاقة‪ ،‬باإلضافة‬
‫ّ‬ ‫الطبيعية المتع ّلقة ّ‬
‫بتغير المناخ‪ ،‬ومســاعي الوصول‬
‫والصراعات الدّ ولية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى ال ّتداعيات السياسية واالجتماعية واالقتصادية لألزمات‬
‫الســلبية التي‬
‫وفــي حيــن ال تزال أغلب البلدان اإلفريقية تحاول معالجة اآلثار ّ‬
‫خ ّلفتها جائحة كورونا على اقتصاداتها‪ ،‬وال ّتعامل مع تصاعد ال ّتنافس الدولي على‬
‫ثرواتها ومجالها الجيوسياسي‪ ،‬بدأت تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا ّ‬
‫تدق‬
‫القارة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تحاول بعض الحكومات‬ ‫ّ‬ ‫نواقيس الخطر في أرجاء مختلفة من‬
‫اغتنام الفرص المتاحة واالستفادة من اإلمكانات المتو ّفرة لل ّتخفيف من تداعيات‬
‫األزمــات المتعــدّ دة‪ ،‬وتوجيه اقتصاداتها نحو مســارات إيجابية بالشّ ــراكة مع‬
‫الص ّحية ّ‬
‫والطبيعية‪،‬‬ ‫والقارية والدّ ولية‪ .‬وبين ضغط الكوارث ّ‬
‫ّ‬ ‫المؤسسات اإلقليمية‬
‫ّ‬
‫للقارة‬
‫ّ‬ ‫وإيقاع األزمات المزمنة والطارئة‪ ،‬اخ ُتتمت سنة ‪ 2022‬بحضور غير مسبوق‬
‫الرياضية الدولية‪ .‬فقد بلغ المنتخب المغربي نصف نهائي‬ ‫الساحة ّ‬
‫اإلفريقية على ّ‬
‫القارية في هذا الحدث‬‫ّ‬ ‫مرة في تاريخه وتاريخ المشــاركات‬‫ألول ّ‬‫مونديال قطر ّ‬
‫مهمة على‬‫الرياضي الكبير‪ ،‬ما أعطى إلفريقيا‪ ،‬وهي تستقبل سنة جديدة‪ ،‬مساحة ّ‬
‫أهميته‬
‫الصعيد الرياضي‪ ،‬وأمال جديدا في تطوير هذا القطاع ال ّتنافسي الذي تزداد ّ‬‫ّ‬
‫باستمرار‪.‬‬
‫تطورات خالل العام ‪ ،2022‬مع التركيز على‬ ‫القارة من ّ‬
‫ّ‬ ‫فيما يلي‪ ،‬أبرز ما شهدته‬
‫محــاوالت ال ّنهوض‪ ،‬وما تواجهه جهود اإلصالح في بعض دولها من تحدّ يات‬
‫وعوائق في ّ‬
‫ظل احتدام ال ّتنافس الدولي وتعدّ د أطرافه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫مشاريع تنموية ومساعي لإلصالح السياسي‬
‫القارة اإلفريقية‬
‫ّ‬ ‫علــى الصعيد التنموي‪ ،‬تعدّ دت محاوالت ال ّنهوض وال ّتنمية في‬
‫والص ّحية وجلب‬‫ّ‬ ‫خــال العــام ‪ ،2022‬من خالل تطوير المشــاريع ال ّتعليميــة‬
‫االســتثمارات‪ .‬وقد بدأت المشــاريع التي يدعمها بنك ال ّتنمية اإلفريقي لتطوير‬
‫ال ّتعليــم وال ّتدريــب ال ّتقني والمهني في أرياف وقــرى أكثر من ‪ 20‬دولة إفريقية‬
‫تؤتي أكلها وتســفر عن نتائج إيجابية‪ .‬ففي شــمال محافظــة الوادي المتصدّ ع‬
‫في كينيا مثال‪ ،‬حيث أكمل البنك المرحلة األولى من المشــروع‪ ،‬تشــهد القرى‬
‫المختارة تحســينات في جودة المرافق التعليمية في المؤسسات ال ّتقنية‪ ،‬وتطوير‬
‫الاّلزمة‪ .‬وأ ّدى المشــروع إلى رفع ّكلية الفنون‬ ‫البنيــة ال ّتحتية‪ ،‬وتوفير المعدّ ات ّ‬
‫موســع ًة لعدد كبير من ّ‬
‫الط ّاّلب‪ ،‬وهو ما‬ ‫ٍ‬
‫دورات ّ‬ ‫ال ّتطبيقية إلى معهد تقني يقدّ م‬
‫عزز المجاميع ّ‬
‫الط ّاّلبية وال ّنشاط االقتصادي في المنطقة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وتســهم هذه المشــاريع وغيرها من المبادرات ال ّتعليمية في ال ّتخفيف من أزمة‬
‫البطالة والحدّ من ظاهرة ترك ّ‬
‫الطلبة لك ّليات ال ّتعليم الف ّني بســبب ق ّلة ال ّتدريب‬
‫وفقدان المستلزمات‪ ،‬كما تسهم في مكافحة تداعيات كوفيد‪ -19‬التي أ ّثرت سلبا‬
‫على أغلب األنظمة التعليمية في إفريقيا‪ .‬من جهة أخرى‪ُ ،‬تحدث هذه المشاريع‬
‫تعزز القــدرات الف ّنية لديها من خالل‬ ‫فر ًقــا كبيــرا في البلدان التــي تن ّفذها‪ ،‬إذ ّ‬
‫الزراعيين وتزويد المجتمع‬ ‫المســاعدة على فحص ال ّتربة وتدريب المهندســين ّ‬
‫الاّلزمة لتحسين إنتاجية المزارع‪.‬‬ ‫الزراعي بالخبرة الف ّنية ّ‬ ‫ّ‬
‫لســيدات األعمال فرصا غير مســبوقة‬‫ّ‬ ‫وفــي تنزانيــا‪ ،‬و ّفر نظام ضمان االئتمان‬
‫أعمالهن في قطاعات مختلفة‪ ،‬بما في ذلك المشــاركة في جهود زيادة‬ ‫ّ‬ ‫لتطوير‬
‫الزراعية‪ .‬وفي جنوب شرقي بوركينا فاسو‪ ،‬و ّفر‬ ‫لنمو المحاصيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنتاج األسمدة‬
‫مو عددا من البنى ال ّتحتية االجتماعية واالقتصادية الجديدة‬
‫مشروع دعم قطب ال ّن ّ‬
‫المصممة لتعزيز الدّ خل وتحسين مستوى المعيشة وتسهيل‬ ‫ّ‬ ‫ــكان‪ ،‬واألنشطة‬‫للس ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫محطة‬ ‫اندماج الشــباب‪ .‬وفي مقاطعة "ناروك" جنوب غربي كينيا‪ ،‬أنشــئت ّأول‬
‫الص ّحي‪ ،‬و ُيتو ّقع أن ي ّتســع نطاق إنشاء هذه المشاريع في‬
‫الصرف ّ‬ ‫لمعالجة مياه ّ‬
‫التحول في‬
‫ّ‬ ‫أن االســتراتيجية الوطنية في مالوي أطلقت شرارة‬ ‫المســتقبل‪ .‬كما ّ‬
‫سهلت مشاريع متعدّ دة وسائل‬ ‫الزراعة‪ .‬وفي المقاطعة الشّ رقية لسيراليون‪ّ ،‬‬ ‫قطاع ّ‬

‫‪86‬‬
‫الوصــول إلى المياه ال ّنظيفة‪ .‬باإلضافة إلى ذلــك‪ ،‬بدأت اآلثار اإليجابية لقطار‬
‫السنغال تظهر‪ .‬وكان هذا المشروع اإلقليمي قد ُأنجز في أواخر العام‬ ‫إكسبرس ّ‬
‫السنغال‪.‬‬
‫محركات ال ّتنمية في ّ‬
‫ّ‬ ‫أهم‬
‫‪ 2021‬وأصبح في العام ‪ 2022‬من ّ‬
‫وفي ســاحل العــاج وبوركينا فاســو‪ُ ،‬أ ْط ِلقت مبادرات تحســين الوصول إلى‬
‫الكهربــاء‪ ،‬وكانــت نتيجتها ربط ‪ 260‬منطقة مح ّلية في األرياف العاجية بشــبكة‬
‫الكهرباء الوطنية‪ ،‬و ُيتو ّقع بعد تكملة المشروع نهاية العام ‪ 2023‬أن يتو ّفر الكهرباء‬
‫إلجمالي ‪ 460‬بلدة‪ .‬وفي المناطق شــبه الحضرية في واغادوغو وبوبو ديوالسو‬
‫في بوركينا فاسو‪ ،‬ح ّقق هذا المشروع ربط ‪ 32.449‬منزال جديدا بشبكة الكهرباء‬
‫الص ّحة العا ّمة في دول مختلفة‬
‫الوطنيــة‪ .‬كما أ ّدت مبادرات تكنولوجية لتعزيــز ّ‬
‫بوســط وشــرق إفريقيا‪ ،‬مثل رواندا التي بدأت باســتخدام الذكاء االصطناعي‬
‫لمعالجة أزمة نفاد مخزون األدوية من خالل إدارة عمليات سلســلة ال ّتوريد من‬
‫الطبية بد ّقة‬
‫شحن وتخزين وتوزيع وإدارة للمخزون‪ ،‬إلى ضمان توفير اإلمدادات ّ‬
‫الص ّحية‪.‬‬
‫الرعاية ّ‬
‫في المخزون ومرافق ّ‬
‫الســلمية مدعاة للتفاؤل‬
‫التحوالت واالنتقاالت ّ‬
‫ّ‬ ‫السياســي‪ ،‬كانت‬
‫الصعيد ّ‬‫على ّ‬
‫حرة ونزيهة‪ .‬ففي كينيا‪ ،‬أجريت سلســلة من‬‫في البلدان التي شــهدت انتخابات ّ‬
‫االنتخابات شــملت الجمعيــة الوطنية ومجلس الشّ ــيوخ ومجالس المقاطعات‬
‫والمح ّليات‪ .‬فاز في الرئاسيات "وليام روتو" رغم جهود الرئيس المنتهية واليته‪،‬‬
‫"أوهــورو كينياتــا"‪ ،‬إلعاقة وصوله إلى المنصب‪ .‬وفي ليســوتو‪ ،‬شــهد الوضع‬
‫مهما بعد انتخابات الجمعية الوطنية والمحلية التي خســر فيها‬
‫السياســي تغييرا ّ‬
‫حزب عموم باسوتو الحاكم جميع دوائره ليصبح "سام ماتيكاني"‪ ،‬رجال األعمال‬
‫وزعيــم الحزب الجديــد "الثورة من أجل الرخاء"‪ ،‬رئيســا للوزراء في حكومة‬
‫ائتالفية شملت‪ ،‬إلى جانب حزبه‪ ،‬حزبين معارضين هما "تحالف الديمقراطيين"‬
‫الرئاســية وانتخابات‬
‫و"حركة التغيير االقتصادي"‪ .‬وفي حين لم تأت االنتخابات ّ‬
‫بأي جديد بعد فوز الرئيس "جواو لورنسو"‬‫الجمعية الوطنية والمح ّلية في أنغوال ّ‬
‫الرئيس "ماكي سال"‬ ‫السنغال تحالف ّ‬
‫بوالية ثانية‪ ،‬فاز باالنتخابات البرلمانية في ّ‬
‫بفارق ضئيل‪ ،‬بينما فشــلت المعارضة في الحصول على أغلبية برلمانية ّ‬
‫تمكنها‬
‫من حرمان "ســال" من والية رئاســية ثالثة‪ .‬أما في شــرق إفريقيا‪ ،‬فقد أجريت‬

‫‪87‬‬
‫السابق‬
‫الرئيس ّ‬‫الصومال في مايو‪ /‬أيار ‪ 2022‬وفاز فيها ّ‬
‫الرئاسية في ّ‬
‫االنتخابات ّ‬
‫"حسن شيخ محمود" على الرئيس المنتهية واليته "محمد عبد الله محمد"‪ .‬وفي‬
‫الرئيسة "سامية حسن"‪ ،‬من خالل فتح‬
‫تنزانيا بدأت حركة إصالح سياسي أطلقتها ّ‬
‫السياسي وإعادة إشراك مجتمع األعمال في أنشطة حكومتها‪.‬‬ ‫المجال ّ‬
‫وفي نيجيريا‪ ،‬تجري االستعدادات لتنظيم االنتخابات العامة في ‪ .2023‬وستكون‬
‫السابعة على ال ّتوالي منذ عودة البالد إلى الدّ يمقراطية في العام‬ ‫هذه االنتخابات ّ‬
‫ويتركز ال ّنقاش العام خالل هذه االســتعدادات على مدى جودة العملية‬ ‫ّ‬ ‫‪.1999‬‬
‫حرية المواطنين في ال ّتصويت دون عراقيل‪.‬‬ ‫االنتخابية ومصداقية االقتراع وضمان ّ‬
‫ومن أبرز محاور االهتمام التي برزت في الحمالت االنتخابية التي انطلقت في‬
‫أواخر ســبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،2022‬قضايا انعدام األمن في الشّ مال الغربي والجنوب‬
‫الشّ رقي‪ ،‬وال ُّنظم البيئية الهيكلية والبنية ال ّتحتية واالقتصاد‪.‬‬

‫التغيرات المناخية والحرب الروسية على‬


‫تحديات األمن واالستقرار في ظل ّ‬
‫أوكرانيا‬
‫السياسي التي شهدتها القارة اإلفريقية‬ ‫رغم محاوالت ال ّنهوض وجهود اإلصالح ّ‬
‫القارة رياحا وأزمات معاكســة‪ ،‬بعضها‬‫ّ‬ ‫فــي العــام ‪ ،2022‬يواجه عدد من بلدان‬
‫مرتبط بعوامل خارجية وبعضها اآلخر ألسباب داخلية تتعلق بالحوكمة وال ّتنمية‬
‫فبالرغم من النتائج الحاســمة لالنتخابات‬‫ّ‬ ‫وســيادة القانون وغياب المســاءلة‪.‬‬
‫الرئاســية والعا ّمة التي أجريت في بعض البلدان‪ ،‬وانتهت بنقل الســلطة بشــكل‬ ‫ّ‬
‫السياسية‬ ‫والسالم واألمن‪ ،‬أ ّدت االنتخابات واألنشطة ّ‬
‫سلس‪ ،‬وتعزيز الدّ يمقراطية ّ‬
‫في بلدان أخرى إلى أعمال عنف وجدل حول ال ّنتائج‪ ،‬وتشــكيك في مســارات‬
‫العملية االنتخابية ومخرجاتها‪.‬‬
‫ثمة تحدّ يات أخرى تتع ّلق بسوء اإلدارة الحضرية للبنية ال ّتحتية في منطقة إفريقيا‬
‫ّ‬
‫توســع دائرة الفقــر وتفاقم التفاوت االجتماعي‪.‬‬ ‫الصحراء‪ ،‬ما يزيد من ّ‬ ‫جنــوب ّ‬
‫أن المنطقة تواجه واحدة من أكثر البيئات االقتصادية صعوبة منذ ســنوات‪،‬‬ ‫كما ّ‬
‫نتيجة لل ّتعافي البطيء من وباء كوفيد‪ ،-19‬وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة‪ ،‬وارتفاع‬
‫جراء الحرب الروســية على أوكرانيا‪ .‬وال تزال الحاجة‬ ‫مســتويات الدّ ين العام ّ‬

‫‪88‬‬
‫الزمان‪ ،‬والتي تؤ ّثر سلبا‬ ‫ّ‬
‫التضخم المرتفعة لعقد من ّ‬ ‫ماسة إلى معالجة مستويات‬‫ّ‬
‫متوسط ​​معدّ الت‬
‫ّ‬ ‫على الدّ خل واألمن الغذائي رغم المساعي التنموية‪ .‬فقد ارتفع‬
‫التضخم في المنطقة إلى ما يقرب من ‪ % 9‬في أغسطس‪ /‬آب ‪ ،2022‬ليصل إلى‬ ‫ّ‬
‫ضعف مستويات ما قبل وباء كوفيد‪.-19‬‬
‫الصحراء بشــكل حا ّد وصل إلى نسبة‬ ‫إلى جانب تباطؤ النمو في إفريقيا جنوب ّ‬
‫يظل مستواه ضعيفا عند ‪ % 3.7‬في عام ‪،2023‬‬ ‫‪ % 3.6‬خالل العام ‪ُ ،2022‬يتو ّقع أن ّ‬
‫الســلع اإلفريقية‪.‬‬ ‫الصين على ّ‬‫النمو العالمي وضعف طلب ّ‬ ‫ّ‬ ‫وذلك بســبب تباطؤ‬
‫وتستدعي هذه التو ّقعات االقتصادية ضرورة اتخاذ الحكومات اإلفريقية إجراءات‬
‫حاسمة لضمان استقرار االقتصاد الك ّلي‪ ،‬ودعم الفئات األكثر فقرا وسط ارتفاع‬
‫التضخم في دولة مثل نيجيريا إلى أكثر من ‪ .% 20.5‬أ ّما‬ ‫ّ‬ ‫األســعار‪ ،‬حيث ارتفع‬
‫في جنوب إفريقيا‪ ،‬فقد أسهم الصراع اإلثني واإلقليمي وانقطاع ال ّت ّيار الكهربائي‬
‫المســتمر في ارتفاع نســبة عدم اليقين بين الشــباب‪ .‬كما ارتفع مستوى ال ّنزوح‬
‫ّ‬
‫الجماعي وهجرة الشّ ــباب اإلفريقي إلى دول غربية‪ ،‬وزادت نسبة هجرة العقول‬
‫القارة‪ ،‬تزداد نســبة‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيــة وذوي المواهب الفريدة‪ .‬وفي مناطق مختلفة من‬
‫الصراعات‬ ‫وتستمر ّ‬
‫ّ‬ ‫عدم االســتقرار نتيجة النتشار الجريمة واألعمال اإلرهابية‪.‬‬
‫السياســية واإلثنيــة مثل ما يجــري في إثيوبيا منذ نوفمبــر ‪ 2020‬بين الحكومة‬ ‫ّ‬
‫ومتمردي تيغراي‪ .‬وقد فشــلت عدّ ة مبادرات ســابقة في إنهاء األزمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفدرالية‬
‫الصراع في جنوب إفريقيا بقيادة‬ ‫أن المفاوضات التي تجري بين جانبي ّ‬ ‫وال يبدو ّ‬
‫حل جذري‪.‬‬ ‫االتّحاد اإلفريقي ستفضي إلى ّ‬
‫وفي شــرق الكونغــو الديمقراطية‪ ،‬تفاقــم القتال وتصاعدت ال ّتوتّرات بســبب‬
‫ال ّتنافس اإلثني والجيوسياســي بين دول مجاورة مثل رواندا وأوغندا وبورندي‬
‫ومختلف الجماعات المســ ّلحة غير الحكومية‪ .‬وأ ّدت األزمة إلى توتّر العالقات‬
‫خاصة بعد اتّهام كنشاسا جارتها‬
‫ّ‬ ‫الدّ بلوماسية بين الكونغو الدّ يمقراطية ورواندا‪،‬‬
‫متمردي حركة ‪ 23‬مارس لنهب ثروات البالد وزعزعة اســتقرار‬ ‫ّ‬ ‫كيغالــي بدعم‬
‫الرواندي‪ ،‬وال تزال‬‫السفير ّ‬
‫المنطقة‪ .‬في ســياق هذه االتّهامات‪ ،‬طردت الكونغو ّ‬
‫مبــادرات االتّحاد اإلفريقي وجماعة شــرق إفريقيا ودولــة أنغوال ّ‬
‫لحل األزمة‬
‫وتفادي وقوع حرب إقليمية جارية‪ .‬أ ّما في بوركينا فاســو‪ ،‬فقد حدث انقالبان‬

‫‪89‬‬
‫خالل ‪ 9‬أشــهر فقط‪ ،‬نتيجة تزايد االســتياء العام من تراجع قدرة الدّ ولة على‬
‫تحقيق األمن واالستقرار ومكافحة الجماعات المس ّلحة‪ .‬وتشهد دول أخرى في‬
‫سواحل خليج غينيا‪ ،‬مثل بنين وتوغو وساحل العاج‪ ،‬نشاطا متزايدا للجماعات‬
‫شــن هجمات مس ّلحة رغم‬ ‫ّ‬ ‫الصومال‪ ،‬تواصل حركة الشّ ــباب‬‫المســ ّلحة‪ .‬وفي ّ‬
‫الســنوات األخيرة‪ .‬وال تزال‬ ‫التحســن ال ّنســبي للوضع األمني في البالد خالل ّ‬‫ّ‬
‫تعرضا لهجمات تنظيم الدّ ولة اإلسالمية‬ ‫نيجيريا ُتعدّ ثاني أكثر البلدان اإلفريقية ّ‬
‫وفروعه‪ .‬وقد بدأت األعمال المســ ّلحة تنتشر نحو مناطق البالد الجنوبية‪ ،‬رغم‬
‫مخصصات ميزانية الدولة لمكافحة هذه الظاهرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ارتفاع‬
‫ّ‬
‫تؤكد هذه التحدّ يات التي تواجه الكثير من البلدان اإلفريقية‪ ،‬وتهدّ د استقرارها‪،‬‬
‫السالم في جميع‬ ‫وتعوق تنميتها‪ ،‬الحاجة إليجاد اســتراتيجيات مختلفة لتحقيق ّ‬
‫الصراع وتنفيذ المبادرات المشتركة لدعم الحوار‬ ‫القارة‪ ،‬وتعزيز آليات منع ّ‬
‫ّ‬ ‫أنحاء‬
‫اإلنساني والسياسي‪.‬‬
‫يقل خطورة‪ .‬وقد‬ ‫التغير المناخــي الذي ال ّ‬
‫ُيضــاف إلــى هذه التحدّ يات تحدّ ي ّ‬
‫القارة‪ .‬فقد شــهدت أنحاء‬
‫ّ‬ ‫بدأت آثاره الســلبية تظهر في عدد متزايد من بلدان‬
‫كثيرة في إفريقيا خالل العام ‪ 2022‬ارتفاعا ملحوظا في درجات الحرارة‪ ،‬واتّساعا‬
‫وتغيرا في أنماط هطول األمطار‪ ،‬وزيادة في وتيرة تق ّلب المناخ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لرقعة الجفاف‪،‬‬
‫حدث ذلك رغم أن إفريقيا ال تســاهم إال بنســبة ‪ % 3‬من إجمالي انبعاثات ثاني‬
‫ســكان العالم‪ .‬ويؤكد‬‫ّ‬ ‫أوكســيد الكربون العالمية‪ ،‬مع أنها تمثّل نحو ‪ % 17‬من‬
‫الدّ مار الواسع الذي رافق موجة الفيضانات لعدة أشهر‪ ،‬خطورة اآلثار االقتصادية‬
‫المتطرفة على الشعوب‬
‫ّ‬ ‫لتغير المناخ وزيادة ّ‬
‫الظواهر الجوية‬ ‫واالجتماعية والبيئية ّ‬
‫اإلفريقية‪.‬‬
‫فقد تأ ّثر عدد من مناطق شرق إفريقيا بشدّ ة باإلجهاد المائي وحاالت الجفاف‪،‬‬
‫وتفجر أزمة المجاعة في‬‫ّ‬ ‫الصراع واتّساع حركة ال ّنزوح‬
‫وتســبب ذلك في تفاقم ّ‬
‫ّ‬
‫أن ارتفاع مستوى‬ ‫القرن اإلفريقي‪ .‬وكشــفت دراســات صدرت في العام ‪ّ 2022‬‬
‫المتوسط ​​العالمي‪ّ ،‬‬
‫وأن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫سطح البحر على طول السواحل اإلفريقية أسرع من‬
‫الساحلية واألعاصير المدارية والتعرية‬
‫ُيســهم في زيادة وتيرة وشــدّ ة الفيضانات ّ‬
‫والتنوع‬
‫ّ‬ ‫والملوحــة في األراضي المنخفضة‪ ،‬ويؤ ّثــر بالتالي على ّ‬
‫الزراعة والبيئة‬

‫‪90‬‬
‫تكبدتها البلدان اإلفريقية في األرواح‪،‬‬‫أن الخســائر التي ّ‬ ‫ّ‬
‫شــك ّ‬ ‫البيولوجي‪ .‬وال‬
‫التغيرات‪ ،‬تحدّ من قدرة إفريقيا‬
‫جراء هذه ّ‬ ‫واألضــرار التي لحقــت بالممتلكات ّ‬
‫مو االقتصادي الشّ امل وال ّتنمية المستدامة‪ .‬يزداد‬
‫على الوفاء بالتزاماتها لتحقيق ال ّن ّ‬
‫القارة اإلفريقية في وقت مازال العديد من بلدانها‬ ‫ّ‬ ‫التغيرات المناخية على‬
‫ّ‬ ‫خطر‬
‫النمو وتالشــي‬
‫ّ‬ ‫تســببت في تراجع نســب‬‫ّ‬ ‫يعاني من آثار أزمة كوفيد‪ ،-19‬التي‬
‫الكثير المكتسبات االقتصادية واالجتماعية التي تح ّققت بفضل الجهود ال ّتنموية‬
‫تسببت الجائحة في دفع ‪ 30‬مليون شخص إلى الفقر‬ ‫خالل العقد الماضي‪ .‬فقد ّ‬
‫المدقع في العام ‪ ،2021‬وفقدان حوالي ‪ 22‬مليون وظيفة‪ ،‬كما أعاقت قدرة المدن‬
‫نموها‪.‬‬
‫اإلفريقية عن صناعة الثّروة أو الحصول على قروض طويلة األجل لتمويل ّ‬
‫و ُتعــدّ الحرب الروســية على أوكرانيا تحدّ يا إضافيــا‪ ،‬يزيد من تعقيد األوضاع‬
‫القارة‪ ،‬ويعرقل مســاعيها لإلصالح السياســي واالقتصادي‬ ‫ّ‬ ‫في الكثير من بلدان‬
‫واالجتماعي‪ .‬فإلى جانب اآلثار السلبية على االقتصادات اإلفريقية بسبب جائحة‬
‫تستمر ح ّتى نهاية العام ‪ ،2023‬بدأت اآلثار السلبية لألزمة‬
‫ّ‬ ‫كورونا‪ ،‬والتي ُيتو ّقع أن‬
‫االقتصادية الناجمة عن حرب روسيا على أوكرانيا تظهر‪ .‬وقد دفعت بنحو ‪1.8‬‬
‫القارة إلى الفقر المدقــع خالل العام ‪.2022‬‬
‫ّ‬ ‫مليون شــخص في جميــع أنحاء‬
‫رجــح أن يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من مليوني شــخص خالل العام ‪،2023‬‬ ‫و ُي ّ‬
‫الســلع مثل الطاقة والغذاء‪ ،‬إضافة إلى االرتفاع‬
‫بســبب صعوبة اســتيراد بعض ّ‬
‫المســتمر في أسعارها‪ .‬واستنادا إلى تقارير في هذا الشّ أن‪ ،‬يواجه أكثر من ‪340‬‬
‫ّ‬
‫مليون شــخص في إفريقيا خطر انعدام األمن الغذائي بسبب تأثير هذه الحرب‪،‬‬
‫القارة تعتمد بشكل كبير على أوكرانيا وروسيا لتأمين غذائها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نظرا ّ‬
‫ألن‬
‫القارية أن تلعب‬‫ّ‬ ‫الحرة‬
‫ّ‬ ‫فــي مواجهة هذه التحدّ يات‪ ،‬كان يمكن التفاقية ال ّتجارة‬
‫فعــاال في ال ّتخفيف مــن تداعيات اآلثار االقتصادية لألزمات العالمية‪ ،‬إال‬ ‫دورا ّ‬
‫أن عمليات اإلغالق الك ّلي أو الجزئي التي فرضتها معظم البلدان اإلفريقية أثناء‬ ‫ّ‬
‫جائحة كورونا‪ ،‬أ ّدت إلى حدوث أزمة اجتماعية واقتصادية‪ .‬فقد باتت االتفاقية‬
‫غيــر ذات جدوى مع بداية مرحلة تنفيذها‪ ،‬نظــرا إلغالق الحدود وحظر تن ّقل‬
‫السياســات القومية لبعــض الدول اإلفريقية‬ ‫األشــخاص والبضائع‪ ،‬إلى جانب ّ‬
‫الصرف‪ .‬ورغم الفرص التــي تو ّفرها اتّفاقية‬ ‫وتذبــذب قيم ال ّتعريفات وأســعار ّ‬

‫‪91‬‬
‫خاصة بعد رفع تلك القيود‪ ،‬ال تزال بعض البلدان اإلفريقية‬
‫القارية‪ّ ،‬‬
‫الحرة ّ‬
‫ّ‬ ‫التجارة‬
‫متر ّددة في االنخراط الفعلي في تنفيذ كامل بنودها‪ .‬فمواءمة قواعد االســتثمار‬
‫تعزز الدّ خل اإلقليمي بنسبة‬
‫والمنافسة‪ ،‬التي تهدف إليها االتفاقية‪ ،‬من شأنها أن ّ‬
‫تصل إلى ‪ ،% 9‬بقيمة ‪ 571‬مليار دوالر‪ .‬و ُيتو ّقع أن يخلق ذلك ما يقرب من ‪18‬‬
‫مليــون وظيفة ذات رواتب أعلى وجودة أفضل‪ .‬ويمكن للوظائف ال ّناتجة عنها‪،‬‬
‫نمو الدّ خل بحلول العام ‪ ،2035‬أن تساعد حوالي ‪ 50‬مليون شخص‬ ‫إلى جانب ّ‬
‫على الخروج من دائرة الفقر المدقع‪ .‬ويمكن لالتّفاقية أن تساعد أيضا على إبقاء‬
‫توســعت‬‫القارة والتخفيف من حركة ال ّنزوح والهجرة التي ّ‬
‫ّ‬ ‫الع ّمال المهرة داخل‬
‫ُ‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في أوساط الشّ باب خالل العام ‪ 2022‬بشكل‬

‫التنافس الدولي على إفريقيا‪ :‬أطرافه ومظاهره وتداعياته‬


‫اشــتدّ ت مظاهر ال ّتنافس الدولي على إفريقيا خالل العام ‪ ،2022‬وعلقت بلدان‬
‫أن العديد‬‫فجرتها حرب روســيا على وأوكرانيــا‪ ،‬رغم ّ‬ ‫القــارة في األزمة التي ّ‬
‫ّ‬
‫ألي طرف من أطراف‬ ‫مــن الــدّ ول اإلفريقية تتب ّنى موقف الحياد وعدم االنحياز ّ‬
‫الصراع‪ .‬أ ّما بقية الدول‪ ،‬فبعضها نأى بنفســه عن انتقاد روسيا تقديرا لمصلحته‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وبعضها اآلخر أعلن تأييده ألوكرانيا بسبب عالقاته الوثيقة مع الغرب‪ .‬من ناحية‬
‫وبالرغم‬
‫ّ‬ ‫الرئيسية في منطقة الساحل‪.‬‬‫أخرى‪ ،‬ال تزال محاربة اإلرهاب من القضايا ّ‬
‫الساحل الخمس (بوركينا فاسو وموريتانيا وال ّنيجر‬‫قوة مجموعة دول ّ‬ ‫من تشكيل ّ‬
‫القوة واجهت إخفاقات كثيرة‬ ‫أن تلك ّ‬ ‫وتشاد ومالي) بهدف مكافحة اإلرهاب‪ ،‬إال ّ‬
‫بســبب صعوبة الحصول على ال ّتمويل الكافي‪ ،‬وعالقة قادة االنقالب في مالي‬
‫بفرنسا‪ ،‬التي ق ّلصت من وجودها العسكري هناك‪.‬‬
‫وفي ســط إفريقيا ومنطقة الســاحل‪ ،‬تنامى ال ّنفوذ الروســي في مواجهة ال ّنفوذ‬
‫الفرنســي‪ .‬فروســيا تحظى بتأييد عدد من دول القارة‪ ،‬ليــس فقط ألنّها قدّ مت‬
‫التحرر اإلفريقية زمن االستعمار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدّ عم العســكري وال ّتدريب لعدد من حركات‬
‫السنوات األخيرة وجهة تلجأ إليها الدّ ول‬
‫ألن روســيا أصبحت في ّ‬ ‫ولكن أيضا‪ّ ،‬‬
‫اإلفريقية لمعالجة أزماتها األمنية‪ .‬وقد تج ّلى التأييد اإلفريقي لروسيا في الجمعية‬
‫العا ّمــة لألمم الم ّتحدة في مــارس‪ /‬آذار ‪ ،2022‬حين امتنعت ‪ 17‬من أصل ‪54‬‬

‫‪92‬‬
‫دولــة إفريقية عن التصويت لفائدة إدانة الحرب الروســية علــى أوكرانيا‪ .‬وقد‬
‫ّ‬
‫شــكلت الكتلة اإلفريقية التي اختارت االمتناع‪ ،‬نصف عدد الدّ ول التي امتنعت‬
‫عن التصويت على مستوى العالم‪ .‬وكانت أوغندا قد أعلنت دعمها لروسيا في‬
‫حربهــا على أوكرانيا‪ ،‬إضافة إلى زيمبابوي التــي تراجعت عالقاتها مع الغرب‬
‫بشــكل الفت‪ ،‬وجنوب إفريقيا التي تربط بين حزبها الحاكم (المؤتمر الوطني)‬
‫وروسيا عالقة طويلة األمد‪ ،‬تعود إلى حقبة ال ّنضال ضدّ نظام الفصل العنصري‪.‬‬
‫وقد بدأت روسيا‪ ،‬من جهتها‪ ،‬في تطبيق االستراتيجية‪ ،‬التي ن ّفذتها في جمهورية‬
‫إفريقيا الوســطى ومالي‪ ،‬في دول إفريقية أخرى‪ .‬وتقوم هذه االســتراتيجية على‬
‫كسب معركة الرأي العام اإلفريقي من خالل إثارة المشاعر المعادية لالستعمار‬
‫والغرب عموما‪.‬‬
‫وفي سياق ال ّتنافس الدولي‪ ،‬جاء االنقالب األخير في بوركينا فاسو‪ .‬فأسبابه ال‬
‫تنحصر في اســتياء المواطنين من سياســات المجلس العسكري االنتقالي الذي‬
‫قاده بول سانداوغو داميبا‪ ،‬بل تعود كذلك إلى االنقسام داخل الجيش وضعف‬
‫التكتيكات العسكرية لمواجهة الجماعات المس ّلحة‪ .‬في هذا اإلطار‪ ،‬وعد الزعيم‬
‫الجديد لبوركينا فاســو‪ ،‬إبراهيم تراوري‪ ،‬بأنه ســيخوض المعركة الجديدة ضد‬
‫ويرجح أن تكون هذه الشراكة مع روسيا‪ ،‬ال سيما‬
‫ّ‬ ‫اإلرهاب بشراكة غير فرنسية‪.‬‬
‫بعد رفع المواطنين أعالما روسية خالل المظاهرات المؤ ّيدة لترواري‪ .‬وسيفسح‬
‫التوجه المجال أمام روســيا لتوسيع دائرة نفوذها في البالد والمنطقة‪ ،‬رغم‬
‫ّ‬ ‫هذا‬
‫تحذيرات الواليات الم ّتحدة للمجلس العســكري الحاكم في بوركينا فاســو من‬
‫مخاطر ال ّتحالف مع موسكو‪.‬‬
‫إلى جانب ال ّتنافس الفرنسي الروسي‪ ،‬تعرف بعض البلدان اإلفريقية تقدّ ما ملحوظا‬
‫للوجود ال ّتركي‪ .‬فقد اتّســع نطاق ال ّتجارة العســكرية التركية‪ ،‬و ُيتو ّقع أن تلعب‬
‫المسيرات التركية "بيرقدار ‪ "TB2‬وغيرها من المعدّ ات العسكرية‪ ،‬دورا فاعال في‬ ‫ّ‬
‫ويالحظ‬
‫َ‬ ‫السنوات القادمة‪.‬‬ ‫القارة خالل ّ‬
‫ّ‬ ‫المعادالت األمنية في أنحاء متعدّ دة من‬
‫أن عددا متزايدا من الحكومات اإلفريقية بدأ يرفع من قيمة إنفاقه الدّ فاعي على‬ ‫ّ‬
‫األســلحة ال ّتركية‪ ،‬بعدما أثبتت أنها بديل موثوق لألســلحة القادمة من المصادر‬
‫نموا سريعا في إفريقيا‪ ،‬بالرغم من‬ ‫التقليدية‪ .‬وتشــهد المبيعات الدّ فاعية ال ّتركية ّ‬

‫‪93‬‬
‫السالح اإلفريقية ال تزال ضئيلة عند ‪ .% 0.5‬ويأتي هذا‬
‫أن حصة أنقرة في سوق ّ‬ ‫ّ‬
‫توسع‬
‫التوسع لنفوذ تركيا العسكري واألمني في إفريقيا بعد أكثر من عقد على ّ‬ ‫ّ‬
‫القارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نفوذها االقتصادي والثقافي في‬
‫التطورات تراجعا نســبيا في اهتمــام الواليات الم ّتحدة بإفريقيا في‬ ‫ّ‬ ‫تعكس هذه‬
‫بالقارة‪ .‬فالصين ال‬
‫ّ‬ ‫الســنوات األخيرة‪ ،‬مقابل زيادة االهتمام الصيني والروســي‬ ‫ّ‬
‫تتحول روســيا بال ّتدريج‬
‫ّ‬ ‫تهتم بال ّتمويل واالســتثمار في البنية ال ّتحتية‪ ،‬بينما‬
‫تزال ّ‬
‫إلى بديل فيما يتع ّلق بالمساعدات والحلول األمنية‪.‬‬
‫القمة األميركية اإلفريقية التي اســتضافتها واشــنطن بين ‪ 13‬و‪15‬‬
‫وال يبــدو أن ّ‬
‫الرئيس جو بايدن ونحو ‪ 50‬من القادة‬
‫ديســمبر‪ /‬كانون األول ‪ ،2022‬وحضرها ّ‬
‫القمة من‬
‫تتمكن مخرجات ّ‬ ‫األفارقة‪ ،‬ستعكس هذا االتجاه‪ .‬ومن غير المتو ّقع أن ّ‬
‫جسر الفجوة بين سقف التو ّقعات المرتفع وما سيتح ّقق من إنجازات على أرض‬
‫الواقــع‪ ،‬خصوصا بعد انقطاع الواليــات الم ّتحدة عن التواصل مع إفريقيا لمدّ ة‬
‫القمة لتوجيه‬
‫الرئيس بايدن انعقاد هذه ّ‬ ‫ّ‬
‫اســتغل ّ‬ ‫زادت على ثماني ســنوات‪ .‬وقد‬
‫عدد من الرسائل‪ّ ،‬أولها إلى الكتلة الناخبة من أصول إفريقية‪ ،‬والتي ّ‬
‫تشكل جزء ًا‬
‫لمرشحي الحزب الديمقراطي‪ .‬والرسالة الثانية إلى‬ ‫ّ‬ ‫أساسي ًا من القاعدة االنتخابية‬
‫أن أميركا تنظر بقلق كبير إلى النفوذ‬‫القوى الدولية المتنافسة على إفريقيا‪ ،‬مفادها ّ‬
‫وأن الصين باتت الشّ ريك ال ّتجاري‬‫المتزايد لكل من الصين وروســيا‪ ،‬خصوصا ّ‬
‫القارة‬
‫ّ‬ ‫األكبــر للعديــد من الدّ ول اإلفريقية‪ .‬فقد بلغ حجم ال ّتجــارة الصينية مع‬
‫اإلفريقيــة فــي العام ‪ 2021‬أكثر من ‪ 260‬مليــار دوالر مقارنة بـ‪ 64‬مليار دوالر‬
‫فقط للواليات المتحدة‪ .‬وتتمتع بيجين بنفوذ سياســي ودبلوماســي متزايد في‬
‫كل ثالث سنوات‪ ،‬باإلضافة‬ ‫القمة الصينية اإلفريقية ّ‬
‫إفريقيا‪ ،‬ال ســيما مع انعقاد ّ‬
‫الى اتّســاع نطاق المســاندة اإلفريقية للمواقف الصينية في العديد من المحافل‬
‫تستمر موسكو في دعم نفوذها في إفريقيا من خالل ال ّتعاون‬ ‫ّ‬ ‫الدولية‪ .‬من جهتها‪،‬‬
‫السالح‪ .‬وقد استضافت موسكو في أكتوبر‪ /‬تشرين األول‬ ‫العسكري وصادرات ّ‬
‫قرر أن ُتعقد ّ‬
‫القمة القادمة‬ ‫الم ّ‬‫قمة روسية إفريقية في مدينة سوتشي‪ ،‬ومن ُ‬ ‫‪ّ 2019‬‬
‫خالل العام ‪.2023‬‬

‫‪94‬‬
‫أ ّما دول الخليج‪ ،‬فلم تشهد عالقاتها اإلفريقية تقدّ ما ُيذكر‪ ،‬باستثناء بعض ال ّنفوذ‬
‫فــي القــرن اإلفريقي‪ .‬وقد ظهرت خالل العام ‪ 2022‬حاالت من االســتياء في‬
‫العديد من الدول اإلفريقية إزاء دول خليجية بســبب ســوء المعاملة‪ .‬فقد منعت‬
‫دولة اإلمارات‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬مواطني ‪ 20‬دولة إفريقية من دخول أراضيها‪.‬‬
‫وتشــمل هذه الدول أوغندا وغانا وســيراليون والســودان والكاميرون ونيجيريا‬
‫وليبيريــا وبورونــدي وغينيا وغامبيــا وتوغو وجمهورية الكونغــو الديمقراطية‬
‫والسنغال وبنين وساحل العاج وجمهورية الكونغو ورواندا وبوركينا فاسو وغينيا‬ ‫ّ‬
‫بيساو وجزر القمر‪.‬‬
‫تمكنت عدّ ة دول إفريقية من تسجيل نجاحات مختلفة في‬ ‫وسط هذه التحدّ يات‪ّ ،‬‬
‫تشكل األزمة ال ّناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا‬ ‫العام ‪ .2022‬ويمكن أن ّ‬
‫التزود بالطاقة والغذاء‪ ،‬فرصة للبلدان اإلفريقية‬
‫ّ‬ ‫تسببت فيه من صعوبات في‬ ‫وما ّ‬
‫قاري‬‫لتقليل اعتمادها على الواردات الخارجية‪ ،‬واالستثمار في بناء نظام غذائي ّ‬
‫الس ّكان المتزايد عددهم في ّ‬
‫السنوات القادمة‪ .‬فالكثير‬ ‫مرن يمكنه تلبية احتياجات ّ‬
‫القارة يتم ّتع بموارد طبيعية هائلة وأراضي صالحة للزراعة يمكنها أن‬ ‫ّ‬ ‫من بلدان‬
‫القارة على المســرح الدّ ولي‬
‫ّ‬ ‫الذاتي إلفريقيا ك ّلها‪ ،‬وتعزيز مكانة‬
‫تح ّقق االكتفاء ّ‬
‫القارة‬
‫ّ‬ ‫من خالل ال ّتصدير‪ .‬ويتيح ال ّتنافس الدّ ولي أيضا فرصا غير محدودة لدول‬
‫لتستفيد من تباينات سياسات القوى المتنافسة عليها‪ ،‬وتحسين شروط ال ّتفاوض‬
‫معها للحصول على أفضل الخدمات بأقل ال ّتكاليف في مختلف المجاالت‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫إيران‪ :‬راية الثأر المرفوعة والتلويح بإسقاط النظام‬
‫فاطمة الصمادي‬

‫مقدمة‬
‫تتصاعــد الحالــة االحتجاجية في إيــران وتنبئ بأزمة قد تأخذ أبعادا عســكرية‬
‫الصعوبات‬ ‫تســتمر حالة ال ّتوتّــر الدّ اخلي‪ ،‬تتواصل ّ‬
‫ّ‬ ‫تطال بنارها الجميع‪ .‬وبينما‬
‫التي يعانيها االقتصاد اإليراني‪ ،‬وتزداد حدّ ة ال ّتوتّر مع الغرب‪ ،‬ولم ُتؤت سياسة‬
‫رئيســي حول أولوية الجوار ُأكلها المتو ّقــع‪ .‬وبعد تقدّ م بطيء وحذر في وتيرة‬
‫أن األزمة مازالت‬ ‫السعودية اإليرانية‪ ،‬جرى تعليقها بصورة تشير إلى ّ‬ ‫المحادثات ّ‬
‫للسعودية‪ ،‬مشيرا‬ ‫وجه قائد الحرس الثّوري تحذيرا مباشرا ّ‬ ‫عميقة‪ .‬وبصورة علنية ّ‬
‫إلــى دور لها في هجمات شــهدتها إيران مؤخرا‪ ،‬مــا يعيد إلى األذهان ال ّتهديد‬
‫الســعودي القديم بنقل المعركة إلــى الدّ اخل اإليراني‪ .‬في هذه األجواء‪ ،‬تلعب‬ ‫ّ‬
‫فضائيات ناطقة بالفارســية وت ّتهمها طهران بتل ّقي تمويل ســعودي‪ ،‬دورا دعائيا‬
‫واضحــا‪ ،‬وصــل إلى حدّ أن يقدّ م ضيوفها للمحتجيــن توجيهات لصنع القنابل‬
‫ويحرضون على استخدام العنف وقتل رجال األمن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومواجهة الشّ رطة‪،‬‬
‫خالل األسابيع الماضية‪ ،‬أعادت المواقع اإليرانية وبشكل واسع نشر اقتباس من‬
‫حديــث للقائــد األعلى للثورة في إيران‪ ،‬آية اللــه علي خامنئي‪ ،‬يعود إلى العام‬
‫‪ 2019‬يقول فيه‪" :‬العدو استعدّ للحرب وعلى الشعب اإليراني أن يكون مستعدّ ا‬
‫يتحرك وفق قراءات تقول بتصاعد‬ ‫ّ‬ ‫هو اآلخر"‪ .‬فهل بات صانع القرار في إيران‬
‫مستوى التهديد بصورة غير مسبوقة‪ ،‬ما يقتضي تصعيدا من جانبه في اتجاهات‬
‫عدة؟ أم ستسعى إيران إلى تسوية ُتسكت قرع طبول الحرب‪ ،‬وتقود إلى اتّفاق‬
‫الساحة الدّ اخلية واإلقليمية؟‬
‫يحدث انفراجا اقتصاديا واجتماعيا ويهدّ ئ ّ‬

‫راية الثأر المرفوعة‬


‫ُرفع علم "يا لثارات الحســين األحمر" فوق ّقبة مســجد جمكران الواقع جنوب‬
‫شــرقي مدينة قم‪ ،‬وعدد من المســاجد والمقامات‪ ،‬من بينها ّقبة مســجد "مقام‬
‫‪97‬‬
‫تعرض لهجوم دام تب ّناه تنظيم الدولة‬ ‫شاهچراغ" في مدينة شيراز اإليرانية‪ ،‬الذي ّ‬
‫الراية التي ُترفع على ّقبة‬ ‫أن ّ‬‫األول ‪ .2022‬ومعلوم ّ‬
‫اإلسالمية في أكتوبر‪ /‬تشرين ّ‬
‫المقام تكون ســوداء في أيام عاشــوراء وخضراء في بقية األ ّيام‪ ،‬و ُيعتبر التلويح‬
‫الرمزية‬
‫رمزا لالنتقام وطلب الثّأر للدماء‪ .‬وكان لهذه الخطوة ّ‬ ‫بهذا العلم األحمر ً‬
‫دوليا في ال ّتقارير اإلعالمية والبحثية‪ ،‬و ُفهمت على أنّها رسالة بعمل‬
‫ّ‬ ‫انعكاساتها‬
‫الراية عقب اغتيال الواليات الم ّتحدة‬ ‫انتقامي ستن ّفذه إيران‪ .‬وسبق أن ُرفعت هذه ّ‬
‫األميركية قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني مطلع العام ‪.2020‬‬

‫االحتجاجات خط رفيع بين التظاهر إو�حداث الفوضى‬


‫لم تتو ّقف االحتجاجات التي اندلعت منذ أســابيع في عدد من المدن اإليرانية‬
‫أن وتيرتها قد انحسرت‪.‬‬ ‫عقب وفاة مهسا أميني في مركز للشرطة في طهران‪ ،‬إال ّ‬
‫وأميني فتاة كردية اعتقلتها شرطة مراقبة اللباس واآلداب العا ّمة في إيران (شرطة‬
‫اإلرشــاد)‪ ،‬وأحدثت وفاتها موجة احتجاجات عارمة جعلت موضوع "الحجاب‬
‫اإلجباري" يتصدّ ر النقاش كقضية اجتماعية سياســية‪ .‬والقت هذه االحتجاجات‬
‫وعبرت الواليات المتحدة األميركية ودول أوروبية عن‬ ‫تأييــدا دوليا في العالم‪ّ ،‬‬
‫دعمها الكبير لشــعار "زن زندگی آزادی" (المرأة – الحياة ‪ -‬الحرية)‪ ،‬وفرضت‬
‫السابقة‪.‬‬
‫على إيران حزمة عقوبات جديدة تضاف إلى اآلالف من العقوبات ّ‬
‫يتم خاللها قتل رجال الشّ رطة‬
‫شــيئا فشــيئا‪ ،‬كانت إيران تدخل في موجة عنف ّ‬
‫ّ‬
‫والمحاّلت التجارية‪ .‬وحيث أنه‬ ‫وقوات التعبئة "بســيج"‪ ،‬مع اســتهداف للبنوك‬
‫ومحركون ظاهرون‪،‬‬‫ّ‬ ‫ال يمكن الحديث عن تظاهرات ّ‬
‫منظمة‪ ،‬لها قادة معروفون‬
‫تأتي رواية ال ّنظام بشــأن اســتغالل الحالة االحتجاجية لنشر الفوضى من خالل‬
‫السلطات‬ ‫مجموعات مســ ّلحة ّ‬
‫مدربة ومرتبطة بالخارج‪ .‬لتأكيد روايتها‪ ،‬نشــرت ّ‬
‫لكميات من‬‫تقارير لتحقيقات مع أشــخاص ُقبض عليهم‪ ،‬كما نشــرت صورا ّ‬
‫األسلحة التي جرى ضبطها في مناطق مختلقة من إيران‪ .‬وتحدّ ث وزير الخارجية‬
‫ّ‬
‫مخططــا بعدّ ة مراحل لزعزعة أمن‬ ‫عــن معلومــات ّ‬
‫مؤكدة ّ‬
‫بأن "األعداء يديرون‬
‫الجمهورية اإلســامية‪ّ ،‬‬
‫وأن إيران لن تســمح بأن تكون مصالحها وأمنها ألعوبة‬
‫يتدخلون في شــؤون البالد بذريعة حقوق‬‫ّ‬ ‫بأيــدي اإلرهابييــن واألجانب الذين‬
‫االنســان"‪ .‬ور ّدا علــى الحركــة االحتجاجية‪ ،‬وبعد أكثر مــن هجوم دموي في‬

‫‪98‬‬
‫سيســتان وبلوشســتان وشــيراز وكرج وطهران‪ ،‬خرج أنصار ال ّنظام بكثافة في‬
‫تظاهــرات عارمــة في طهران ومدن إيرانية عدّ ة‪ .‬وأظهرت الحكومة أنّها ما تزال‬
‫قادرة على تحشيد الشّ ارع ضدّ ما ترى أنّه فوضى وعنف مقصود لذاته‪.‬‬
‫أن ال ّتحــركات االحتجاجية األخيرة في إيــران تفتقد إلى رأس أو قيادة‬ ‫الواقــع ّ‬
‫واضحــة‪ ،‬وال يمكــن الحديث عن حالة ثورية عارمــة على غرار ما حدث في‬
‫أن أهدافها غير محدّ دة‪،‬‬ ‫الثّورة اإلســامية‪ .‬ورغم وضوح أســبابها ظاهر ّيا‪ ،‬إال ّ‬
‫كما يصعب تصنيفها ما إذا كانت سلمية أو عنيفة‪ .‬ولك ّنها في المجمل ال تقدّ م‬
‫منظومة اجتماعية وسياسية مختلفة‪ ،‬بل هي حالة احتجاجية اعتراضية تع ِّبر بصورة‬
‫الرضى تجاه النظام‪ .‬فهذه االحتجاجات تفتقد إلى الهيكلية وال ّتعبئة‬
‫جلية عن عدم ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫المنظمة‪ ،‬وال تمثّل تهديدً ا جدّ يا بإمكانه إسقاط ال ّنظام‪ ،‬أو يهدف في األساس إلى‬
‫العمال والمع ّلمين في هذه الحركة ورفعهم‬ ‫اســقاط ال ّنظام‪ ،‬خاصة مع انخراط ّ‬
‫تاريخيا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لمطالــب ذات صبغة اجتماعية معيشــية‪ .‬ويمثّل االحتجــاج في إيران‪،‬‬
‫السياسي للدّ ولة‪ .‬ومع ذلك‬
‫واقعيا على أزمة تحتاج إلى تغيير في السلوك ّ‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬
‫مؤش ًرا‬
‫يمكن أن نسوق الخالصات ال ّتالية بشأن هذه الحالة االحتجاجية‪:‬‬
‫‪ -‬الجمهورية اإلســامية ال تزال قادرة على الحشــد الشّ ــعبي‪ ،‬وال يزال ال ّنظام‬
‫محافظا على قاعدته االجتماعية ولديه القدرة على إدارة االحتجاج‪.‬‬
‫‪ -‬ليــس لــدى خصوم ال ّنظام في الوقت الراهن قائــد واحد أو هدف واحد أو‬
‫مطلب موحد‪.‬‬
‫‪ -‬ال يمكــن إنــكار التأثير الكبير لشــبكات ال ّتواصل االجتماعــي على الحالة‬
‫لكــن الثّورة في شــبكات ال ّتواصل ال تعنــي ّ‬
‫بالضرورة ثورة في‬ ‫ّ‬ ‫االحتجاجيــة‪،‬‬
‫السابق‪.‬‬
‫مرات في ّ‬‫الواقع‪ ،‬وقد جرى "إسقاط ال ّنظام" افتراضيا عدّ ة ّ‬
‫السياســي الغربي لوســائل ال ّتواصل االجتماعي في‬
‫‪ -‬ال يمكن إنكار ال ّتوظيف ّ‬
‫المواجهة مع ال ّنظام اإليراني‪.‬‬

‫سقوط الّنظام أو إسقاطه‬


‫الســفارة األميركية في‬
‫منــذ انتصار الثورة في العام ‪ 1979‬وما أعقبه من اقتحام ّ‬
‫السياســية التي حدثت بين طهران وواشــنطن‪ ،‬لم يغب خيار‬ ‫طهران والقطيعة ّ‬
‫‪99‬‬
‫إســقاط نظام الجمهورية اإلســامية عــن أجندات ُص ّناع القــرار في الواليات‬
‫تشكل باستمرار تحدّ يا للغرب عموما‪،‬‬‫المتحدة األميركية‪ .‬وكانت سياسات إيران ّ‬
‫وللواليات المتحدة على وجه الخصوص‪ .‬وقد وانعكس ذلك في دورات متتالية‬
‫الســلوك السياســي إليران‪ ،‬ولك ّنها‬
‫من العقوبات االقتصادية‪ ،‬لم تنجح في تغيير ّ‬
‫أضرت بصورة كبيرة باالقتصاد اإليراني ومعيشــة اإليرانيين‪ .‬وقد تكون‬
‫ّ‬ ‫بال ّتأكيد‬
‫أســهمت بصورة أو بأخرى في تصعيد البعد االحتجاجي ذي ّ‬
‫الطبيعة المعيشية‪،‬‬
‫على غرار ما حدث في الموجة االحتجاجية التي شهدتها إيران مع أواخر العام‬
‫‪.2017‬‬
‫الصحفية التي يجريها روبــرت مالي‪ ،‬الممثّل‬ ‫تحولت بعض المقابــات ّ‬ ‫وقــد ّ‬
‫منصة يرسل من خاللها رسائل حرب إلى‬ ‫الخاص لشؤون إيران‪ ،‬إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫األميركي‬
‫طهــران‪ .‬ففي إحدى المقابالت‪ ،‬يعرض عليه المذيع مجموعة من المقترحات‪،‬‬
‫للمحتجين لتشجيعهم على اإلضراب‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫كأن تدفع الحكومة األميركية أمواال‬
‫بث القسم الفارسي ‪ 24‬ساعة‬ ‫الســيبراني ضدّ إيران‪ ،‬وأن تجعل ّ‬ ‫توظف المجال ّ‬ ‫ّ‬
‫يتم تنفيذها بالفعل‪،‬‬
‫أن بعض تلك المقترحات ّ‬ ‫فــي اليوم‪ ،‬فيجب مالي بوضوح ّ‬
‫لك ّنه ال يستطيع الخوض في التفاصيل‪ .‬وفي مقابلة أخرى مع "فرانس ‪ ،"24‬أعلن‬
‫مالي على الهواء عن سلســلة جديدة من العقوبات ضدّ المســؤولين اإليرانيين‬
‫يتم إحراز تقدّ م بشــأن المحادثات ال ّنووية منذ ســبتمبر"‪ .‬وبشــأن‬ ‫ّ‬
‫مؤكدا أنّه "لم ّ‬
‫المسيرات اإليرانية التي تستخدمها روسيا في الحرب على أوكرانيا‪ ،‬خاطب إيران‬ ‫ّ‬
‫المسيرة إلى روسيا لقتل األوكرانيين"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بقوله‪" :‬تو ّقفوا عن نقل الطائرات‬
‫مؤخرا‪ ،‬ظهر المرشد‬ ‫من جهته‪ ،‬ور ّدا على شائعات مرضه ووفاته التي انتشرت ّ‬
‫األعلى تباعا في عدّ ة مناسبات كان بعضها ذا طبيعة عسكرية‪ .‬في هذه المناسبات‪،‬‬
‫الراهن‪ ،‬وأعاد ال ّتأكيد علــى موقفه من الواليات‬
‫قــدّ م خامنئي قراءاتــه للوضع ّ‬
‫السفارة األميركية‬ ‫الم ّتحدة قائال ّ‬
‫إن األزمة في العالقات معها لم تبدأ مع اقتحام ّ‬
‫وتدخلت‬
‫ّ‬ ‫في العام ‪ ،1979‬بل هي أقدم بكثير‪ .‬لقد بدأت منذ أن "تواطأت أميركا‬
‫في شؤون إيران وأسقطت حكومة وطنية هي حكومة مصدّ ق"‪ .‬كما أعاد التأكيد‬
‫أن االنتقام الغتيال سليماني مسألة وقت‪ّ ،‬‬
‫وأن إيران لن ُتسقط هذه المسألة‬ ‫على ّ‬
‫من حساباتها‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫لم يتراجع خيار إسقاط ال ّنظام اإليراني في األجندة األميركية ّإاّل في عهد باراك‬
‫أوبامــا‪ ،‬الذي قدّ م مقاربة تقوم على ّ‬
‫حل سياســي يــؤ ّدي إلى انفتاح في إيران‪،‬‬
‫للسلطة الوقوف في وجهه‪ .‬وكان‬ ‫ويفضي في النهاية إلى تغيير اجتماعي ال يمكن ّ‬
‫يمكن لهذه السياسة أن ُتؤتي ُأكلها وأن تدعم صعود ّتيار االعتدال برئاسة حسن‬
‫بأن أولوياته تختلف‬‫روحاني‪ ،‬الذي أرسل حينها رسائل سياسية واجتماعية تفيد ّ‬
‫يخطط ليأخذ إيران بصورة أكبر‬ ‫التيار األصولي‪ ،‬وأنّه ّ‬
‫بصورة كبيرة عن أولويات ّ‬
‫باتجاه الغرب‪ .‬لقد راهن روحاني بالفعل على العالقة مع الغرب‪ ،‬وسعى لفتح‬
‫أن مشــكالت‬‫منظرو تياره يرون ّ‬ ‫صفحة جديدة في العالقة مع واشــنطن‪ ،‬وكان ّ‬
‫ولكن هذا الرهان لم ينجح‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حل معضلة العالقة مع واشنطن‪.‬‬ ‫حل دون ّ‬‫إيران ال ُت ّ‬
‫خاصة بعد أن جاءت رياح ترامب بما ال تشتهيه سفن روحاني‪ ،‬فدخل االتّفاق‬ ‫ّ‬
‫الاّلحقة في ح ّلها رغم خروج ترامب‬ ‫ال ّنووي في أزمة لم تفلح جلسات ال ّتفاوض ّ‬
‫السلطة‪.‬‬‫وروحاني كليهما من ّ‬

‫تطوير البرنامج النووي وخفض التزامات إيران‬


‫مقررا لالتفاق المو ّقع في العام ‪ 2015‬أن يرفع جزءا من العقوبات االقتصادية‬
‫كان ّ‬
‫السعي المتالك سالح نووي وخفض‬ ‫المفروضة على إيران مقابل التزامها بعدم ّ‬
‫أنشطتها ال ّنووية‪ .‬وقد لقي االتّفاق حينها معارضة في طهران‪ ،‬ورأى منتقدوه أنّه‬
‫سيشل البرنامج ال ّنووي‪ ،‬وشككوا في الجدوى االقتصادية لالتفاق‪ ،‬وفي الوعود‬ ‫ّ‬
‫التي قدّ متها الدّ ول الغربية‪ .‬وبعد قرار ترامب االنســحاب من االتّفاق‪ ،‬وضعت‬
‫للتوصل إلى اتّفاق جديد في األشــهر األخيرة من ‪،2018‬‬
‫ّ‬ ‫واشــنطن ‪ 12‬شــرط ًا‬
‫وفرضت عقوبات اقتصادية ثقيلة اســتهدفت بصورة أساســية القطاعين ال ّنفطي‬
‫تسببت تلك العقوبات في انسحاب شركات عالمية من االستثمار‬ ‫والمالي‪ .‬وقد ّ‬
‫قرر‬‫في هذه القطاعات‪ ،‬في مقدّ متها "توتال" الفرنســية‪ .‬وفي مايو‪ /‬أيار ‪ّ ،2019‬‬
‫ترامب إنهاء اإلعفاءات التي ســمحت لثماني دول بشــراء ال ّنفط اإليراني‪ ،‬دون‬
‫التعرض للعقوبات األميركية‪.‬‬
‫مقابل انسحاب واشنطن من االتفاق النووي وتشديد العقوبات على إيران‪ ،‬بدأت‬
‫نص االتّفاق‪ ،‬ورأت ّ‬
‫أن‬ ‫طهران بال ّتخلي ال ّتدريجي عن بعض التزاماتها الواردة في ّ‬

‫‪101‬‬
‫من ح ّقها اتّخاذ تلك الخطوات‪ .‬وفي يوليو‪ /‬تموز من العام ذاته‪ ،‬تجاوزت إيران‬
‫الحدّ األقصى لل ّتخصيب البالغ ‪ 300‬كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب‬
‫الذي يفرضه االتفاق‪ ،‬ثم أعلنت أنها بدأت بتخصيب اليورانيوم بدرجة أعلى من‬
‫الحدّ األقصى البالغ ‪ .% 3,67‬وفي العام ‪ ،2019‬أشــارت الوكالة الدّ ولية للطاقة‬
‫متطورة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن إيران أطلقت عملية تخصيب فــي أجهزة طرد مركزي‬ ‫ّ‬
‫الذ ّريــة إلــى ّ‬
‫وأكــدت تقاريرهــا ّ‬
‫أن االحتياطــات اإليرانية من المياه الثّقيلــة تجاوزت الحدّ‬ ‫ّ‬
‫المسموح به في االتّفاق‪.‬‬
‫لم تنف الحكومة اإليرانية تلك ال ّتقارير‪ ،‬بل ّأكدت اســتئناف أنشــطة ال ّتخصيب‬
‫مجمدة وفق االتفاق‪ ،‬في منشــأة "فوردو"‪ .‬ومع مطلع العام ‪،2020‬‬ ‫ّ‬ ‫التي كانت‬
‫جوية أميركية قرب‬ ‫وفي إطار ر ّدها على اغتيال ا ّللواء قاســم ســليماني بضربة ّ‬
‫كل القيود المتع ّلقة بعدد أجهزة‬‫مطــار بغداد الدولي‪ ،‬أعلنــت إيران التخ ّلي عن ّ‬
‫الطــرد المركزي‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬جرت محاوالت أوروبيــة إلنقاذ االتّفاق ال ّنووي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫عرض‬‫وفعلت الدول األوروبية آلية "انستكس" لل ّتبادل ال ّتجاري مع إيران‪ ،‬دون ال ّت ّ‬
‫ّ‬
‫لكن تلك اآللية كانت عقيمة ولم تنجح في تحقيق الغرض‬ ‫للعقوبات األميركية‪ّ ،‬‬
‫المطلوب منها‪.‬‬
‫وعلى إثر االنفجار الذي استهدف منشأة "نطنز"‪ ،‬وأفادت تقارير ّ‬
‫بأن إسرائيل تقف‬
‫الذ ّرية في ‪ 18‬نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪2020‬‬ ‫وراءه‪ ،‬أعلنت الوكالة الدولية ّ‬
‫للطاقة ّ‬
‫متطورة في تلك المنشــأة‪ .‬وفي ‪27‬‬ ‫ّ‬ ‫أن إيران بدأت بتشــغيل أجهزة طرد مركزي‬ ‫ّ‬
‫من نفس الشــهر‪ ،‬اغتالت إســرائيل العالم النووي اإليراني البارز محسن فخري‬
‫زاده‪ .‬فر ّد مجلس الشّ ــورى بإصدار قانون ألزم فيه الحكومة بإنتاج وتخزين "ما‬
‫المخصب بنســبة ‪ ،% 20‬وفرض قيودا‬ ‫ّ‬ ‫ال يقل عن ‪ 120‬كيلوغرام ًا من اليورانيوم‬
‫الذ ّرية للمواقع غير ال ّنووية‪ .‬وبالفعل‪،‬‬ ‫عمليات تفتيش الوكالة الدّ ولية ّ‬
‫للطاقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫أعلنت إيران‪ ،‬مع مطلع العام ‪ ،2021‬البدء في تخصيب اليورانيوم بنسبة ‪ % 20‬في‬
‫قررت واشنطن قبول دعوة االتّحاد األوروبي إلجراء‬ ‫منشأة "فوردو"‪ .‬عقب ذلك‪ّ ،‬‬
‫محادثات مع طهران‪ ،‬لتنطلق جوالت محادثات متتالية لم تفلح في إعادة إحياء‬
‫االتّفاق ال ّنووي‪ .‬وفي أبريل‪ /‬نيســان ‪ ،2021‬دخلت إيران في مباحثات جديدة‬
‫من أجل إحياء االتّفاق في فيي ّنا مع الدول المو ّقعة على االتّفاق‪ ،‬وبمشاركة غير‬

‫‪102‬‬
‫ثم ما لبث أن أعلنت أنها ستبدأ في تخصيب اليورانيوم‬ ‫مباشرة للواليات الم ّتحدة‪ّ .‬‬
‫حملت إسرائيل‬ ‫بنســبة ‪ % 60‬بعد يومين من تفجير آخر اســتهدف منشأة "نطنز" َّ‬
‫مسؤوليته‪ .‬بعدد ذلك‪ ،‬توالت اإلعالنات اإليرانية عن تشغيل أجهزة طرد مركزي‬
‫أكثر تقدّ م ًا‪ ،‬ودخلت عالقتها مع الوكالة الدّ ولية للطاقة ّ‬
‫الذ ّرية في أزمة‪ .‬وبعد أن‬
‫كان الوصول إلى توافق بإحياء االتّفاق ال ّنووي قاب قوســن أو أدنى‪ ،‬انحسرت‬
‫الصيغة المطروحة ما يجعلها تعود إلى‬ ‫أن إيران ال تجد في ّ‬ ‫حالة ال ّتفاؤل‪ ،‬وبدا ّ‬
‫أن مطلبها األساسي بإزالة ّ‬
‫كل العقوبات لم يتح ّقق‪.‬‬ ‫خاصة ّ‬‫ّ‬ ‫تنفيذ االتّفاق‪،‬‬

‫المسيرات اإليرانية عامل إضافي لل ّتصعيد ضد طهران‬


‫ّ‬
‫في العام ‪ 2022‬كشــف القائد العام للحرس الثوري‪ ،‬اللواء حسين سالمي‪ ،‬عن‬
‫المســيرة تابعتين للحرس الثّوري‬
‫ّ‬ ‫للصواريخ ّ‬
‫والطائرات‬ ‫قاعدتين تحت األرض ّ‬
‫وأكدت تقارير الحقة أن هاتين القاعدتين دخلتا بالفعل دورة ال ّتشغيل‪.‬‬ ‫اإليراني‪ّ .‬‬
‫المســيرة ال ّتابعة للحرس الثّوري والجيش اإليراني جز ًءا‬
‫ّ‬ ‫لقد أصبحت الطائرات‬
‫ثاب ًتــا في المناورات العســكرية اإليرانية التي جرت خالل الســنوات األخيرة‪.‬‬
‫المسيرات خالل مناورات "الرسول األعظم" في نسختها‬ ‫ّ‬ ‫وجاءت ذروة عروض‬
‫األول ‪ 2021‬في مياه الخليج ومضيق هرمز‬ ‫الـ‪ ،17‬التي جرت في ديسمبر‪ /‬كانون ّ‬
‫وجوية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وثالث محافظات إيرانية جنوبية‪ .‬شملت تلك المناورات تدريبات بحرية‬
‫من بينها محاكاة لحرب إلكترونية وإجراء عمليات استطالع إلكترونية لمواجهة‬
‫مزودة بأدوات خداع إلكترونية‪.‬‬ ‫مســيرات ّ‬
‫ّ‬ ‫مســيرات العدو واستهدافها بواسطة‬
‫ّ‬
‫وقبل إعالن قائد الحرس الثوري عن هاتين القاعدتين‪ ،‬كانت تقارير غير رسمية‬
‫طيار في المعارك في ســوريا‪،‬‬ ‫قــد تحدّ ثت عن مشــاركة طائرات إيرانية بدون ّ‬
‫واستخدامها من قبل حزب الله اللبناني‪ .‬ومن أشهر العمليات التي شاركت فيها‬
‫الســعودية‬
‫الطائرات‪ ،‬الهجوم على مصفاة "بقيق" وحقل نفط "خريس" في ّ‬ ‫تلك ّ‬
‫في سبتمبر‪ /‬أيولول ‪.2018‬‬
‫لم يكن لدى الجيش اإليراني قبل الثّورة اإلسالمية سوى عدد قليل من ّ‬
‫الطائرات‬
‫طيار‪ُ ،‬تستخدم في التدريب‪ .‬لكن‪ ،‬مع اندالع الحرب العراقية اإليرانية في‬
‫بدون ّ‬
‫بداية ثمانينات القرن العشــرين‪ ،‬وتشديد القيود المفروضة على التس ّلح‪ُ ،‬أطلقت‬

‫‪103‬‬
‫المسماة "رعد" في قاعدة‬
‫ّ‬ ‫المسيرة التابعة للحرس الثّوري اإليراني‬
‫ّ‬ ‫كتيبة الطائرات‬
‫المسيرة في تلك الفترة محدودة‬
‫ّ‬ ‫في األهواز‪ .‬وكانت قدرات ّ‬
‫الطائرات اإليرانية‬
‫ثم تالها الجيل‬
‫للغايــة‪ .‬وفي منتصف الثمانينات‪ ،‬دخلــت "مهاجر ‪ "1‬للخدمة‪ّ ،‬‬
‫الصناعات العسكرية‬
‫أهم ّ‬
‫المسيرات من بين ّ‬‫ّ‬ ‫الثّاني والثّالث من هذه الفئة‪ ،‬لتصبح‬
‫الصناعة‪ ،‬وأضيفت‬‫للحرس الثّوري اإليراني‪ .‬وبعد الحرب‪ ،‬اســتمر تطوير هذه ّ‬
‫إليها أجيال أخرى‪ ،‬كان آخرها "مهاجر‪ "6‬التي ُأطلقت في العام ‪.2017‬‬
‫المســيرات‬
‫ّ‬ ‫إلى جانب "مهاجر"‪ ،‬أنتجت ّ‬
‫الصناعة العســكرية اإليرانية عددا من‬
‫األخرى خالل فترة الحرب مع العراق‪ ،‬مثل طائرة "أبابيل" التي ُصنعت في العام‬
‫‪ُ ،1987‬‬
‫وط ّورت منها خمسة أجيال خالل الثالثين عا ًما الماضية‪ ،‬أحدثها "أبابيل‬
‫‪ "5‬الذي ُعرض بمناســبة يوم الجيش في ‪ .2022‬وفي مناورة "الرســول األعظم‬
‫طيار هجومية‪ ،‬منها‬‫‪ ،"17‬شاركت "شاهد ‪ "123‬و"مهاجر ‪ 4‬و‪ "6‬وطائرات بدون ّ‬
‫"شاهد ‪ "129‬و"شاهد ‪ "191‬ال ّتابعة للحرس الثوري‪ .‬و ُتعدّ "شاهد ‪ "191‬نموذجا‬
‫المسيرة األميركية "‪ "،RQ-170‬التي أسقطتها إيران‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مصغّ را بنسبة ‪ % 60‬من‬
‫المسيرة لخمس‬
‫ّ‬ ‫على صعيد ال ّتسويق‪ ،‬يقول الحرس الثوري إنّه بات يبيع طائراته‬
‫دول‪ .‬وفي ســبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،2022‬أعلنت "واشــنطن بوســت" في تقرير لها ّ‬
‫أن‬
‫أول‬ ‫المسيرة‪ّ ،‬‬
‫وأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫إيران تشــارك في الحرب الروسية على أوكرانيا عبر طائراتها‬
‫الطائرات ُأرســلت إلى موسكو وتســ ّلمها الجيش الروسي في‬ ‫شــحنة من هذه ّ‬
‫‪ 28‬أغســطس‪ /‬آب‪ .‬ونقلــت الصحيفة عــن عمالء في المخابــرات األميركية‬
‫خاصة بعد اكتشــافهم‬ ‫ّ‬ ‫أن الروس ليســوا راضين عن فاعلية ّ‬
‫الطائرات اإليرانية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أن دخول‬ ‫عيوبــا في برمجتها وأجهزتهــا‪ .‬في المقابل‪ ،‬تفيد ال ّتقاريــر الميدانية ّ‬
‫تســبب في دمار كبير للبنية ال ّتحتية األوكرانية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المســيرات ســاحة المعركة‬
‫ّ‬ ‫هذه‬
‫مــا دفع كييف لل ّتهديد بقطع العالقات الدبلوماســية مع طهران‪ ،‬وقصف قواعد‬
‫متخصصا لمســاعدة‬‫ّ‬ ‫المســيرة في إيران‪ .‬كما أوفدت إســرائيل فريقا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطائرات‬
‫خاصة ّ‬
‫أن إسرائيل معنية أيضا‬ ‫ّ‬ ‫المســيرات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجيش األوكراني على مواجهة هذه‬
‫ولكن طهران تنفي تزويدها روسيا‬
‫ّ‬ ‫بمراقبة ومواجهة القدرات العسكرية اإليرانية‪.‬‬
‫تؤكد عكس ذلك‪ ،‬وتقول ّ‬
‫إن‬ ‫مســيرة‪ ،‬رغم توالي التقارير الغربية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫بطائرات‬
‫إيران أصبحت طرفا في الحرب‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫المسيرات اإليرانية بال ّتدريج إلى شرك إليران‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتحول مسألة‬
‫ّ‬ ‫وبين ال ّنفي والتأكيد‪،‬‬
‫المسيرات‪ ،‬فتصبح طرفا في‬ ‫ّ‬ ‫زودت روسيا بالفعل بهذه‬ ‫فإ ّما أن تكون طهران قد ّ‬
‫الحرب إلى جانب روســيا من وجهة ال ّنظر الغربية‪ ،‬وتدفع بذلك الغرب بشــ ّقيه‬
‫للتوحد ضدّ ها وفرض المزيد من العقوبات عليها‪ .‬وإ ّما ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫األميركي واألوروبي‬
‫لشن عمل عسكري ضدّ إيران‪،‬‬ ‫يتم تضخيمه بصورة مدروسة لتقديم ذريعة ّ‬ ‫األمر ّ‬
‫وهو ما تسعى إليه إسرائيل‪ ،‬مستغ ّلة حالة العداء الغربية لروسيا وإيران معا‪.‬‬

‫خالصات‬
‫غربيا‬
‫يتم اســتخدامها ّ‬
‫‪ -‬تشــهد إيران حالة احتجاج جدية‪ ،‬لكن من الواضح أنّه ّ‬
‫في إطار مزيد من الضغوط على طهران لضرب شــرعية النظام وتوســيع نطاق‬
‫الغضب الشعبي‪.‬‬
‫‪ -‬بعد الزخم الذي بدأت به في أ ّيامها األولى‪ ،‬تراجعت وتيرة االحتجاجات من‬
‫جغرافيا‪ ،‬وبدأت ت ّتخذ طابعا عنيفا‪ .‬لك ّنها بصورة عا ّمة ال‬
‫ّ‬ ‫حيث مساحة انتشارها‬
‫تشكل تهديدا جدّ يا لل ّنظام‪ ،‬وإن كانت قد كشفت عن أزمة حقيقية في البالد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬تعثّر المفاوضات ال ّنووية بعد بلوغها مرحلة متقدّ مة نجم عنه تصعيد أميركي‬
‫ولكن تبعات عمل عسكري ستكون‬ ‫ّ‬ ‫القوة ضدّ إيران‪.‬‬
‫‪ -‬غربي وتلويح باستخدام ّ‬
‫عالميا‪ .‬وعلى‬
‫ّ‬ ‫خطيرة وســتطال دوال كثيرة في المنطقة التي ُتعدّ عصب الطاقة‬
‫األغلب‪ ،‬ستدفع هذه المخاطر نحو استئناف المفاوضات من جديد‪ ،‬بقطع النظر‬
‫عن نتائجها‪.‬‬
‫المتكررة إللحاق أضــرار بالبرنامج ال ّنووي اإليراني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إضافــة إلى محاوالتها‬
‫تتحين إسرائيل الفرص‬ ‫ّ‬ ‫سواء باستهداف مرافقه أو بتصفية العلماء القائمين عليه‪،‬‬
‫لل ّتصعيد ضدّ إيران‪ ،‬على أمل دفع الواليات المتحدة للمشاركة أو المساعدة في‬
‫تعطله‪.‬‬‫توجيه ضربات عسكرية تنهي البرنامج ال ّنووي اإليراني أو ّ‬
‫‪ -‬قد يدفع تصعيد التهديد الغربي واإلسرائيلي ضدّ إيران إلى اتّخاذ قرار سياسي‬
‫ّ‬
‫فالمؤشرات على امتالك إيران المعرفة‬ ‫بترجيح البعد العسكري لبرنامجها ال ّنووي‪.‬‬
‫ّ‬
‫لتخطي العتبة ال ّنووية قوية‪ ،‬وتعقيدات البيئة اإلقليمية‬ ‫الكافية والتكنولوجيا ّ‬
‫الاّلزمة‬
‫والدّ ولية المتزايدة بات معها التفكير في "إيران نووية" أمرا ممكنا‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫المتطورة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصناعات العسكرية‬‫المسيرة اسم إيران إلى ساحة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أدخلت الطائرات‬
‫بالمسيرات‬
‫ّ‬ ‫لك ّنها قد تكون أيضا ذريعة لتوريط إيران واتّخاذ قضية تزويد روسيا‬
‫المســيرات إلى‬
‫ّ‬ ‫كل األحوال‪ ،‬ســيضاف ّ‬
‫ملف‬ ‫لمزيــد ال ّتصعيــد ضدّ هــا‪ .‬وفي ّ‬
‫باقــي مل ّفات األزمة بين إيران والغــرب‪ ،‬إلى جانب البرنامج ال ّنووي والبرنامج‬
‫الصاروخي وسياسات طهران اإلقليمية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫السعودية النتكاسة قد تدفعها للتو ّقف تماما‪ ،‬ما‬
‫تعرضت المحادثات اإليرانية ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫يشير إلى إمكانية عالية لعودة خيار ال ّتصعيد والحرب بالوكالة في عدّ ة ساحات‬
‫الساحة اليمنية‪ ،‬التي شهدت خالل العام ‪ 2022‬تهدئة محسوبة‪.‬‬ ‫أبرزها ّ‬

‫‪106‬‬
‫وتشعباتها‬
‫ّ‬ ‫أفغانستان‪ :‬استمرار األزمة‬
‫السياسية واالجتماعية واألمنية‬
‫فاطمة الصمادي‬

‫مقدمة‬
‫كان خــروج القوات األميركية من أفغانســتان لحظة انتصار كبيرة بال ّنســبة إلى‬
‫حركــة طالبان وأنصارها‪ ،‬فقد"هزموا الواليــات المتحدة األميركية" وعادوا إلى‬
‫حكــم البــاد بعد عقود من اإلطاحة بهم‪ .‬كانت اآلمال كبيرة بأن تنجح الحركة‬
‫في إرســاء االستقرار واســتيعاب ما تتط ّلبه الحالة األفغانية‪ ،‬سواء على ّ‬
‫الصعيد‬
‫الدّ اخلي أو الخارجي‪ .‬لكن‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬كانت المخاوف كبيرة من استئثار‬
‫بالســلطة وأن تفرض نمطا اجتماعيا مغلقا‪ ،‬وأن تفشــل في تقديم نفسها‬ ‫الحركة ّ‬
‫خارجيا لتحظى باالعتراف‪.‬‬
‫ســارعت الحركة فور اســتعادتها السلطة إلى انتهاج سياســات تتع ّلق باإلعالم‬
‫ّ‬
‫أقــل تطرفا من‬ ‫والمرأة ومســائل أخــرى ذات طبيعــة اجتماعية ُوصفت بأنها‬
‫الســابقة‪ ،‬التي انتهجتها قبــل عقود‪ ،‬لك ّنها لم تســتجب لل ّتغيرات‬
‫السياســات ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية التي شــهدها المجتمع األفغاني طوال الفترة التي غابت فيها الحركة‬
‫عن الحكم وانشغلت بالقتال‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ترى الحركة أنّها ح ّققت إنجازات ّ‬
‫مهمة‬
‫السلطة‪ ،‬مثل تقديم الحماية األمنية للمجتمعات‬ ‫ونيف من عودتها إلى ّ‬ ‫بعد عام ّ‬
‫أن تلك الجهود‬ ‫الشــيعية‪ ،‬وخفض وتيرة العنف‪ ،‬وتقليص مســتوى الفساد‪ .‬غير ّ‬
‫تجمعهم‪ ،‬ولم‬‫لم تحل دون حدوث تفجيرات استهدفت مساجد الشيعة وأماكن ّ‬
‫تضع حدّ ا لتهديد تنظيم الدّ ولة‪ ،‬أ ّما تقليص مستويات الفساد‪ ،‬فهو إلى حدّ كبير‪،‬‬
‫مرتبط بإنهاء المســاعدات الخارجية والعمليات الدّ ولية التي كانت أرضا خصبة‬
‫الستشــراء الفســاد في األوســاط الحكومية‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فرضت الحركة‬
‫رســوما وضرائب وشــرعت في جمع األموال عبر مطار كابل الخاضع لسيطرة‬
‫‪107‬‬
‫وزارة الدّ اخلية برئاسة سراج الدين حقاني‪ .‬علما أن المطار بدأ تشغيله من خالل‬
‫شراكة قطرية تركية حتى سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،2021‬وفي خطوة مفاجئة ُمنحت اإلدارة‬
‫مقرها في دولة اإلمارات العربية الم ّتحدة‪.‬‬
‫لشركة ّ‬

‫متعددة األوجه‬
‫تحديات ّ‬
‫حكم طالبان في مواجهة ّ‬
‫مــن القضايــا التي لم ّ‬
‫تتمكن الحركة من حســمها‪ ،‬ولم تقــدّ م بعدُ إجابة عليها‬
‫تســمح برفع المقاطعة وتدفع المجتمع الدولي إلى االعتراف بشــرعية حكمها‪،‬‬
‫قضية حقوق المرأة وفي مقدّ مة ذلك ح ّقها في التعليم‪ .‬فالمرســوم الصادر عن‬
‫األول ‪ 2021‬تالحقه اتّهامات بأنّه‬‫أمير هيبة الله أخوندزاده في ديســمبر‪ /‬كانون ّ‬
‫السابقة مراسيم مشابهة له دون أن تجد‬ ‫مرسوم شكلي سبق أن س ّنت الحكومات ّ‬
‫الزواج‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫نجاحا على األرض‪ .‬يشترط المرسوم موافقة المرأة على ّ‬
‫موافقة األرامل‪ ،‬ويحظر تبادل البنات بين العائالت أو العشــائر كوســيلة إلنهاء‬
‫ّ‬
‫ويؤكد حقّ المرأة في المهر وفي الملكية والميراث وف ًقا للشّ ــريعة‬ ‫الخالفــات‪.‬‬
‫الرجل العدل في حال تعدّ د الزوجات‪ .‬باستثناء ذلك‪،‬‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ويشترط على ّ‬
‫لم يأت المرسوم على ذكر حقوق المرأة في ال ّتعليم والعمل التي تعتبرها الحركة‬
‫مســائل ثانوية يمكن ح ّلها بالتدريج‪ ،‬وفق ما يالحظه الدّ كتور بارنت روبن في‬
‫مطولة بعنوان‪" :‬أفغانستان تحت حكم طالبان‪ :‬نتائج بشأن الوضع الحالي‪،‬‬ ‫دراسة ّ‬
‫تحليل القيادة الجديدة للعالقات الداخلية والخارجية في أفغانستان"‪.‬‬
‫فــي مجــال ال ّتعليم‪ ،‬تدافــع الحركة عن موقفها بالقــول ّ‬
‫إن المدارس االبتدائية‬
‫والخاصة مفتوحة في جميع المقاطعات وفي المناطق التي توجد بها‬ ‫ّ‬ ‫الحكومية‬
‫وأن المــدارس الثّانوية العا ّمة مفتوحة في ‪ 13‬من أصل ‪34‬‬ ‫مــدارس ومع ّلمون‪ّ .‬‬
‫والخاصة مفتوحة لكال الجنســين مع الفصل‬ ‫ّ‬ ‫واليــة‪ّ .‬‬
‫وأن الجامعات الحكومية‬
‫بينهما‪ ،‬و ُيســمح للفتيات بارتياد كليات ال ّتمريض ّ‬
‫والطب وال ّتعليم فقط‪ .‬ولقيت‬
‫تجمع‬
‫سياســة الحركــة تجاه تعليم الفتيات انتقادات عديــدة‪ ،‬صدر بعضها عن ّ‬
‫دولي لعلماء المســلمين ُعقد في تركيا‪ .‬ومنذ انســحاب الواليات الم ّتحدة من‬
‫أفغانســتان‪ ،‬واســتعادة طالبان الســلطة في كابل في ‪ 15‬أغسطس‪ /‬آب ‪،2021‬‬
‫منعت الحكومة طالبات المرحلتين ال ّتكميلية والثّانوية في البالد من العودة إلى‬

‫‪108‬‬
‫دراستهن وفق شروط صارمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مدارسهن‪ ،‬وسمحت لطالبات الجامعة باستكمال‬
‫ّ‬
‫األول ح ّتى الثّاني عشــر‪ ،‬بينما‬
‫ف ّ‬ ‫للذكور بالتع ّلم من ّ‬
‫الص ّ‬ ‫تبرر طالبان ســماحها ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الســادس فقط‪ ،‬بأن الحكومــة تعكف على إعداد‬ ‫ّ‬
‫الصف ّ‬ ‫ّ‬
‫تتوقــف الفتيات عند ّ‬
‫الظروف المناسبة لتشجيع الناس‬ ‫المناهج وأماكن التعليم ووســائل ال ّنقل وتهيئة ّ‬
‫الســابقة‪ ،‬في نظر الحركة‪" ،‬كانت من‬ ‫الســماح لبناتهم بال ّتعليم‪ .‬فالمناهج ّ‬
‫على ّ‬
‫صنع أميركا"‪ .‬ويترافق استمرار الجدل حول سياسات طالبان ال ّتعليمية مع تواصل‬
‫تظاهرات ال ّنساء الغاضبات من إجراءات الحكومة في هذا المجال في عدد من‬
‫المقاطعات األفغانية‪ .‬وترتبط اإلشــكاالت المتع ّلقة بتعليم الفتيات أيضا بممانعة‬
‫بأن غالبية ّ‬
‫سكان‬ ‫المؤشرات تفيد ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعية في عدد من المحافظات‪ ،‬وإن كانت‬
‫لكن بعض القوى المحافظة في معقل‬ ‫أفغانستان تدعم ال ّتعليم الثانوي للفتيات‪ّ .‬‬
‫تضم مقاطعات قندهار وهلمند وأوروزغان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحركــة في قندهار الكبرى‪ ،‬التــي‬
‫السياق‪ ،‬فرضت واشنطن في أكتوبر‪/‬‬ ‫تقاوم مسألة تعليم الفتيات بشراسة‪ .‬في هذا ّ‬
‫تشــرين األول ‪ 2022‬عقوبات جديدة على الحكومة األفغانية بســبب ما اعتبرته‬
‫"انتهاكات لحقوق ال ّنساء والفتيات في أفغانستان"‪.‬‬
‫يتعين على طالبان تســويتها لرفع‬
‫تضــاف هذه القضيــة إلى قضايا أخرى كثيرة ّ‬
‫العقوبات والحصول على اعتراف دبلوماســي دولي‪ ،‬فهذه المسألة باتت أولوية‬
‫ملحة ألفغانستان‪ .‬وما يزيد من حدّ ة المشكالت التي تواجهها الحكومة األفغانية‪،‬‬‫ّ‬
‫والصراع بين ّتياراتهــا تجاه هذه القضايا‬
‫ّ‬ ‫الخــاف داخل حركة طالبــان ذاتها‪،‬‬
‫اإلشكالية‪ .‬يضاف إلى ذلك‪ ،‬ال ّتحديات التي تفرضها حركة المعارضة التي تمثّلها‬
‫الرغم من تأثيرها المحدود‪ .‬ويجري ال ّتعامل مع مطالبة‬ ‫"جبهة الخالص"‪ ،‬على ّ‬
‫المعارضة ّ‬
‫بالاّلمركزية بحساســية عالية لما قد تنتجه من انقســامات عرقية حا ّدة‬
‫الحل لحسم‬‫ّ‬ ‫السياســي هو‬
‫يظل الحوار ّ‬ ‫حول هوية أفغانســتان وبنيتها‪ .‬ولذلك ّ‬
‫العديد من القضايا ومجابهة المخاطر المتزايدة‪.‬‬
‫من تلك المخاطر اتّســاع نطاق عمليات تنظيم الدّ ولة التي تمثّل تهديدا مباشــرا‬
‫تأسست على يد التنظيم‬ ‫ومتعدّ د األوجه‪ .‬وكانت "والية خراسان اإلسالمية" قد ّ‬
‫في يناير‪ /‬كانون الثاني ‪ ،2015‬بعد مناقشــات جرت في باكســتان بين مبعوثي‬
‫الدّ ولة اإلســامية في العراق والشّ ــام وأعضاء منشــ ّقين عن حركة طالبان في‬

‫‪109‬‬
‫تجمع ُأمراء‬
‫أفغانستان وحركة طالبان الباكستانية‪ .‬وأسفرت تلك المناقشات عن ّ‬
‫عدّ ة مجموعات مســ ّلحة من مناطق قبلية باكســتانية‪ ،‬ومن داخل أفغانستان في‬
‫منطقة على الشريط الحدودي بين باكستان وأفغانستان‪ ،‬وبايعوا حافظ سعيد خان‬
‫أميرا لهم‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬أنشــأ التنظيم قواعد إقليمية في أفغانســتان‪ ،‬ون ّفذ‬
‫أوركزاي ً‬
‫وتركزت هجمات التنظيم في البداية على‬ ‫ّ‬ ‫هجمات دامية في كابل وجالل أباد‪.‬‬
‫وخاصة مدارس البنات‪ .‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫أهداف مدنية شــيعية مثل المســاجد والمدارس‪،‬‬
‫السفارة الروسية ومسجدا‬ ‫وقت الحق‪ ،‬استهدفت مركزا صوف ًيا س ّنيا‪ ،‬إضافة إلى ّ‬
‫في حي وزير أكبر خان في وســط كابل‪ ،‬قريبا من الوزارات الحكومية والقصر‬
‫شن التنظيم هجو ًما انتحار ًيا ضدّ مركز‬
‫الرئاسي‪ .‬وفي ‪ 30‬سبتمبر‪ /‬ايلول ‪ّ ،2022‬‬ ‫ّ‬
‫تعليمي لفتيات الهزارة في غرب كابل‪ ،‬كان قد هاجمه في وقت ســابق‪ .‬وتفيد‬
‫بأن المواجهة المســ ّلحة بين حركة طالبان وتنظيم الدّ ولة ستشتدّ‬
‫عدّ ة مؤشــرات ّ‬
‫في المســتقبل‪ّ ،‬‬
‫وأن ال ّتفجيرات الدّ امية التي أعلن تنظيم الدولة مســؤوليته عنها‪،‬‬
‫تعبر بوضوح عن تصميمه على تصعيد المواجهة مع حكومة طالبان‪.‬‬ ‫ّ‬
‫على صعيد العالقات الخارجية‪ ،‬ما تزال دبلوماسية طالبان تصطدم بعراقيل كثيرة‪،‬‬
‫ولم تعترف بحكومتها أي دولة‪ ،‬بما في ذلك الجارة باكستان‪ .‬وإلى جانب سعيها‬
‫للحصول على اعتراف المجتمع الدّ ولي‪ ،‬ال تزال الحركة‪ ،‬بعد أكثر من عام على‬
‫الســلطة‪ ،‬تحاول أيضا كسب الشّ رعية الدّ اخلية‪ .‬يتواصل هذا ّ‬
‫السعي‬ ‫عودتها إلى ّ‬
‫المزدوج لنيل االعتراف الخارجي والداخلي تحت وطأة ضغط متزايد لل ّتحديات‬
‫المتكرر التزامهــا بقطع العالقة مع‬
‫ّ‬ ‫االقتصاديــة واألمنية‪ .‬فرغم تأكيــد الحركة‬
‫المنظمات اإلرهابية"‪ ،‬ال تزال دول الجوار تبدي مخاوف بشأن تد ّفق الجماعات‬ ‫" ّ‬
‫المس ّلحة إلى أفغانستان‪ ،‬خاصة بعد اغتيال زعيم تنظيم القاعدة‪ ،‬أيمن الظواهري‪،‬‬
‫على يد القوات األميركية في نهاية يوليو‪ /‬تموز ‪ .2022‬وكانت العالقة مع القاعدة‬
‫وغيرها من الجماعات المس ّلحة‪ ،‬وكذلك مصطلحات "اإلرهاب" وأشباهها‪ ،‬مثار‬
‫خالف كبير بين حركة طالبان والواليات الم ّتحدة األميركية أثناء المحادثات التي‬
‫اســتضافتها قطر‪ .‬وقد جرى توقيع اتفاق الدوحة في العام ‪ 2020‬دون الوصول‬
‫إلى صيغة نهائية ي ّتفق عليها الجميع بشــأن هذه االشــكالية‪ .‬وتخشى الحركة أن‬
‫يدفع وصمها ال ّتنظيمات األخرى باإلرهاب وحظر ال ّتعامل معها‪ ،‬إلى االنخراط‬
‫في تحالفات ضدّ ها مع تنظيم الدولة‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫وتشــكل العقوبات األميركية على مســؤولين من طالبان عقبة أخرى في طريق‬ ‫ّ‬
‫صوتت الواليات الم ّتحدة في مجلس األمن في العام ‪2022‬‬ ‫للسلطة‪ .‬فقد ّ‬‫إدارتها ّ‬
‫ضدّ تمديد اســتثناء حظر الســفر لـ‪ 13‬من أعضاء الحركــة‪ ،‬بما في ذلك وزير‬
‫كل من الصين وروســيا لصالح تمديد‬ ‫صوتت ّ‬ ‫الخارجية أمير خان متقي‪ ،‬بينما ّ‬
‫االســتثناء‪ .‬ورغم زيارات وفود صينية وروسية ومن دول أخرى إلى أفغانستان‪،‬‬
‫بح ًثا عن فرص اقتصادية‪ ،‬إال أنّه ال يمكن الحديث عن صفقة واحدة كبيرة جرى‬
‫توقيعها مع أفغانســتان‪ .‬فالقلق وعدم اليقين في جدوى إنشــاء مشاريع اقتصادية‬
‫ظل حكم طالبان ال يزال مهيمنا‪ .‬وما يمنع الصين‪ ،‬على ســبيل المثال‪ ،‬من‬ ‫في ّ‬
‫ظل حكم طالبان‪ ،‬الدّ عم المحتمل الذي يمكن‬ ‫بقوة في أفغانستان في ّ‬
‫االستثمار ّ‬
‫أن تقدّ مه "اإلمارة اإلســامية" لحركات تعتبرها بيجين تهديدا أمنيا‪ ،‬مثل حركة‬
‫تفهمها لمخاوف الصين وأنّها‬ ‫تركســتان الشّ رقية اإلســامية‪ ،‬رغم تأكيد طالبان ّ‬
‫ضارة‬
‫ّ‬ ‫قوة باســتخدام األراضي األفغانية لالنخراط في "أعمال‬ ‫لن تســمح ألي ّ‬
‫باألصدقاء الصينيين"‪ .‬أما روســيا‪ ،‬ومقارنــة بغيرها من الدّ ول‪ ،‬فتبدي ميال أكبر‬
‫وقعت اتفاقية لتوريــد الغاز وال ّنفط والدّ يزل‬
‫لل ّتعــاون مــع حكومة طالبان‪ ،‬وقد ّ‬
‫كل من روسيا وطالبان‪.‬‬ ‫والقمح‪ ،‬وهي صفقة تتج ّنب العقوبات المفروضة على ّ‬
‫إلى جانب دلك‪ ،‬تثني روســيا على موقف طالبــان من اإلرهاب‪ ،‬وفي المقابل‬
‫تتهم الواليات المتحدة بنقل مقاتلي تنظيم الدولة في آســيا الوســطى من سوريا‬
‫إلى أفغانستان‪.‬‬

‫الدولي في المستقبل‬
‫حكومة شاملة شرطا لالعتراف ّ‬
‫على صعيد إدارة الحكم وطريقة تشــكيل الحكومة في المرحلة القادمة‪ ،‬يطالب‬
‫جميع جيران أفغانســتان‪ :‬الصين وروسيا وإيران وباكستان والهند وأوزبكستان‪،‬‬
‫للمكونات السياسية والعرقية‬
‫ّ‬ ‫حركة طالبان بتشــكيل حكومة شاملة وأكثر تمثيال‬
‫في أفغانستان‪ .‬ويرون في ذلك ضرورة وشرطا لالعتراف بالحكومة‪ .‬فهذا الشرط‬
‫ّ‬
‫مشكلة‬ ‫في نظرهم هو ما يجعل أي حكومة أفغانية قادمة قادرة أكثر من حكومة‬
‫من أعضاء حركة طالبان بصورة أساســية على جلب االســتقرار إلى أفغانستان‬
‫وتحقيق األمن وال ّتنمية‪ .‬ولتحقيق هذا الشــرط‪ ،‬الذي تطالب به أطراف أفغانية‬
‫التحرك ضمن خارطة‬
‫ّ‬ ‫إلــى جانــب القوى اإلقليمية والدولية‪ ،‬تحتاج طالبان إلى‬

‫‪111‬‬
‫طريق ُتصاغ برعاية دولية للوصول إلى حكومة شــاملة‪ ،‬تمثّل مختلف ّ‬
‫مكونات‬
‫الطيــف األفغاني‪ ،‬وتحظى باالعتراف الدّ ولي‪ .‬تجدر المالحظة هنا ّ‬
‫أن عددا من‬ ‫ّ‬
‫الدّ ول المؤ ّثرة‪ ،‬ســواء في الجوار أو علــى ّ‬
‫الصعيد العالمي‪ ،‬باتت منخرطة في‬
‫أزمات أفغانســتان ومشــكالتها الداخلية‪ ،‬وربما يسهم هذا االنخراط في تأجيل‬
‫الوصول إلى ّ‬
‫حل ي ّتفق عليه الجميع‪ ،‬وفي مقدّ مة هذه الدول روســيا والواليات‬
‫الم ّتحدة والصين وإيران‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫العالم العربي‬
‫فرص وتحديات‬
‫دول الخليج بين ‪:2023-2022‬‬
‫آفاق اقتصادية واعدة وتهديدات أمنية متزايدة‬
‫الحواس تقية‬
‫مقدمة‬
‫ح ّققت دول الخليج في العام ‪ 2022‬مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية بنسب‬
‫لتطورات سابقة‪ ،‬مثل تو ّلي الرئيس‬‫متفاوتة‪ ،‬نتيجة عدّ ة تحوالت‪ ،‬بعضها استمرار ّ‬
‫جو بايدن القيادة في الواليات الم ّتحدة في ‪ ،2021‬وال ّتعافي العالمي من كوفيد‬
‫الروسي ألوكرانيا‪ .‬في الوقت ذاته‪ ،‬تواجه‬ ‫‪ ،19‬وبعضها وقع في ‪ 2022‬مثل الغزو ّ‬
‫لتطورات سابقة‪ ،‬مثل تعثّر مفاوضات‬ ‫دول الخليج مخاطر عديدة‪ ،‬بعضها استمرار ّ‬
‫العودة لالتّفاق ال ّنووي اإليراني‪ ،‬وبعضها اســتجدّ في العام ‪ ،2022‬مثل الحرب‬
‫المرجح أن تحافظ دول‬ ‫ّ‬ ‫األوكرانية والمظاهرات المناهضة لل ّنظام اإليراني‪ .‬ومن‬
‫ّ‬
‫ستظل‬ ‫ألن نفس العوامل التي أ ّدت إليها‬ ‫الخليج على مكاسبها في العام ‪ّ ،2023‬‬
‫مرشــحة لل ّتفاقم‪ ،‬ال ســيما إذا فشلت المفاوضات مع‬ ‫فاعلة‪ .‬أ ّما المخاطر‪ ،‬فهي ّ‬
‫الســلطات اإليرانية‬ ‫إيران حول برنامجها النووي‪ ،‬أو تصاعدت المواجهات بين ّ‬
‫والمحتجين إلى مستويات أعلى تهدّ د استقرار ال ّنظام تهديدا جدّ يا‪.‬‬
‫ّ‬
‫على األغلب‪ ،‬س ُتسهم مكاسب الدّ ول الخليجية في توفير فرص إضافية ّ‬
‫تمكنها‬
‫والتحول إلى‬
‫ّ‬ ‫مــن التصدّ ي لبعض مشــكالتها البنيوية‪ ،‬مثل ال ّتنويــع االقتصادي‬
‫اقتصاد مستديم وصديق للبيئة‪ ،‬وتنويع شركاتها األمنية‪.‬و أو ولكن في المقابل‪،‬‬
‫قد تغري هذه المكاسب بعض تلك الدّ ول بالحفاظ على الوضع القائم وتفويت‬
‫الضروري وتزداد تعقيداته وتتضاءل‬ ‫التحول ّ‬
‫ّ‬ ‫الفرص الممكنة‪ ،‬فترتفع بذلك كلفة‬
‫فرص نجاحه في المستقبل‪.‬‬

‫مكاسب دول الخليج األمنية واالقتصادية‬


‫تغير في العالقة‬
‫الرئيس ألمن دول الخليج‪ ،‬وكل ّ‬ ‫الواليات الم ّتحدة هي ّ‬
‫الضامن ّ‬
‫بيــن ّ‬
‫الطرفيــن تمتدّ آثاره إلى أمن المنطقة ك ّلها ّ‬
‫قوة وضعفا‪ .‬وقد شــهدت هذه‬

‫‪115‬‬
‫تطــورات الفتة منذ أغســطس‪ /‬آب ‪ ،2021‬حين انســحبت الواليات‬ ‫ّ‬ ‫العالقــة‬
‫مستمرة و ُتسهم في إعادة‬
‫ّ‬ ‫الم ّتحدة من أفغانستان‪ .‬وال تزال آثار ذلك االنسحاب‬
‫الســياق‪ ،‬تعدّ قطر‬
‫ترتيب العالقة بين دول الخليج والواليات الم ّتحدة‪ .‬في هذا ّ‬
‫الكاســب األكبر من االنســحاب األميركي من أفغانستان‪ ،‬وإن لم تكن الكاسب‬
‫توســطت الدّ وحة بين الواليــات الم ّتحدة وحركة طالبان إلى غاية‬‫الوحيد‪ .‬فقد ّ‬
‫توصلهما إلى اتّفاق االنسحاب‪ ،‬ثم ساهمت أثناء االنسحاب األميركي المرتبك‬ ‫ّ‬
‫الفارين من‬
‫ّ‬ ‫في تخفيف خســائره‪ ،‬كتوفير طائرات لل ّنقل‪ ،‬وإيواء آالف األفغانيين‬
‫بالدهــم‪ ،‬والتك ّفــل برعاية المصالح األميركية في أفغانســتان‪ .‬كما عملت على‬
‫ال ّتقريب بين الحكومة األفغانية الجديدة والدّ ول الغربية‪ ،‬والمســاهمة في إيصال‬
‫المساعدات اإلنسانية واإلشراف على وصولها إلى مستح ّقيها‪.‬‬
‫امتــدّ ت اآلثــار اإليجابية لتلك الجهود إلى العــام ‪ ،2022‬فقد ص ّنفت الواليات‬
‫مميزة‬
‫الم ّتحدة قطر في مارس‪ /‬آذار حليفا رئيسيا من خارج الناتو‪ ،‬وهي مكانة ّ‬
‫تتيــح لقطــر الحصول على امتيازات أمنية لم تحصــل عليها دول كثيرة صديقة‬
‫للواليات الم ّتحدة‪ .‬من بين تلك االمتيازات ال ّتعاون في المجال البحثي وال ّتمويل‬
‫وتخزين المعدّ ات العســكرية ال ّتابعة للواليات الم ّتحدة‪ ،‬والمشاركة في عطاءات‬
‫إلصالح المعدّ ات العسكرية‪ .‬وسيكون هذا ال ّتصنيف‪ ،‬على المدى البعيد‪ ،‬ضمانة‬
‫إضافية تمنع اإلدارات األميركية القادمة من اتّخاذ مواقف معادية لقطر‪ .‬ويعكس‬
‫هــذا ال ّتصنيــف‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬إجماعا أميركيا في البيت األبيض والكونغرس‬
‫والبنتاغــون علــى اعتبــار قطر حليفا موثوقا يحقّ له الحصــول على دعم أمني‬
‫للمشــرعين‬
‫ّ‬ ‫وجهه الكونغرس‬‫إضافي‪ .‬وقد تج ّلى ذلك االمتياز في البيان الذي ّ‬
‫في شهر يناير‪ /‬كانون الثاني ‪ 2022‬ودعاهم إلدراج قطر في قانون الدّ فاع الوطني‬
‫بعد اإلشادة بدورها‪.‬‬
‫ترســخت هذه الثّقة الحقا في التماس الواليات الم ّتحدة وســاطة قطر مع إيران‬ ‫ّ‬
‫أن هذه الوساطة لم تسفر‬ ‫في مل ّفات خالفية مثل الملف ال ّنووي اإليراني‪ .‬ورغم ّ‬
‫بعــدُ عن نجاحــات في هذا الملف المع ّقد‪ ،‬إال أنها ُتعــدّ في حدّ ذاتها نجاحا‬
‫مهمتين بأهمية الدور القطري وثقة مشتركة‬ ‫دبلوماسيا‪ّ ،‬‬
‫ألن فيها اعترافا من دولتين ّ‬
‫في قدرة الدّ وحة على فهم ومراعاة شــواغلهما األمنية‪ .‬ور ّبما تســهم هذه الثقة‬

‫‪116‬‬
‫تضر أمن قطر وأمن منطقة‬
‫ّ‬ ‫تحول ال ّنزاع بينهما إلى مواجهة ساخنة‪ ،‬قد‬
‫في منع ّ‬
‫الخليج ك ّلها‪.‬‬
‫التطور ال ّنوعي في عالقة قطــر بالواليات الم ّتحدة أيضا في‬
‫ّ‬ ‫وســتظهر آثــار هذا‬
‫تمر به أغلب‬
‫عالقــات قطر ببقيــة دول الخليج‪ ،‬بحيث تصبح الدّ وحة مركــزا ّ‬
‫ال ّتفاعالت‪ ،‬خاصة في المجال السياسي واألمني‪ .‬وستحسب دول الخليج مستقبال‬
‫المميزة التي تحت ّلها في سياسة الواليات الم ّتحدة‬
‫ّ‬ ‫مواقفها من قطر باعتبار المكانة‬
‫ظرفية‪ ،‬أي مرتبطة باإلدارة‬
‫ّ‬ ‫في منطقة الشّ ــرق األوسط‪ .‬ولن تكون تلك المكانة‬
‫األميركية الحالية‪ ،‬ألنها تســتند إلى عاملين بنيويين لم تحظ بهما دولة خليجية‬
‫المميزة بإجماع سياســي بين الحزبين‬ ‫ّ‬ ‫أخــرى‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬تحظى تلك المكانة‬
‫الجمهــوري والديمقراطي نظــرا ألهمية قطر ألمن الواليات الم ّتحدة األميركية‪.‬‬
‫تتميز قطر عن بقيــة دول الخليج مجتمعة بمتانة العالقات‬ ‫ومــن ناحيــة أخرى‪ّ ،‬‬
‫العســكرية بين البنتاغــون وقطر‪ .‬وينتج عن هذا أمران من شــأنهما تعزيز هذه‬
‫تكفل لوبي القوات المس ّلحة‪،‬‬‫الفكرة عن أهمية قطر بال ّنسبة إلى أميركا‪ّ ،‬أولهما ُّ‬
‫وهو أقوى لوبي في الواليات الم ّتحدة‪ ،‬بالدّ فاع عن العالقة االستثنائية مع قطر‪.‬‬
‫السياســي الذي تحظى به القوات المســ ّلحة داخل الواليات‬ ‫وثانيهما اإلجماع ّ‬
‫الظرفية‪ ،‬مثل االنسحاب‬ ‫التطورات ّ‬‫ّ‬ ‫ومؤسساتها المختلفة‪ .‬وبذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ّ‬ ‫الم ّتحدة‬
‫تشكل عالقة قطر‬‫األميركي من أفغانســتان‪ُ ،‬تسهم في ترســيخ اتّجاهات بنيوية ّ‬
‫بالواليــات الم ّتحدة‪ ،‬وتعزيز مكانتهــا المركز ّية في منطقة الخليج‪ .‬ولن تنحصر‬
‫ســتعم دول الخليج‪ ،‬وســتحافظ على‬ ‫ّ‬ ‫فوائد تلك المكانة في قطر وحدها‪ ،‬بل‬
‫مؤشــرات ذلك‬ ‫ال ّتــوازن بينهــا‪ ،‬وتح ّفزها على المزيد من ال ّتقارب‪ .‬وقد بدأت ّ‬
‫ولي العهد‪ ،‬محمد‬ ‫السعودية ممثلة في ّ‬ ‫العال‪ ،‬بين القيادة ّ‬‫قمة ُ‬
‫ال ّتقارب تظهر بعد ّ‬
‫بن سلمان‪ ،‬وأمير قطر‪ ،‬الشّ يخ تميم بن حمد آل ثاني‪.‬‬
‫التطــورات‪ ،‬ح ّققت معظم دول الخليج مكاســب اقتصادية‬‫ّ‬ ‫بال ّتــوازي مع هذه‬
‫الطلب على ّ‬
‫الطاقة وارتفاع أسعار ال ّنفط والغاز‪ .‬وقد تح ّققت تلك‬ ‫بفضل تزايد ّ‬
‫المكاســب بال ّتزامن مع بداية تعافي االقتصــاد العالمي من آثار جائحة كورونا‪،‬‬
‫عززت ال ّتماسك بين أعضاء أوبك‬ ‫واندالع الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬التي ّ‬
‫الســعودية وروســيا‪ ،‬رغم ّ‬
‫الضغوط التي مارســتها الواليات‬ ‫خاصة بين ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالس‪،‬‬
‫الم ّتحدة والدّ ول الغربية المستوردة ّ‬
‫للطاقة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫الطلب على‬ ‫مؤشرات تعافي االقتصاد العالمي من تداعيات كورونا‪ ،‬ارتفاع ّ‬ ‫من ّ‬
‫السلع في األسواق العالمية‪ ،‬فارتفعت األسعار ارتفاعا قياسيا‪ ،‬كما‬
‫المعروض من ّ‬
‫التضخم‪ .‬وقد ح ّفز ارتفاع األســعار المستثمرين لزيادة اإلنتاج‬
‫ّ‬ ‫ي ّتضح في نســب‬
‫الطلب على ّ‬
‫الطاقة‬ ‫بغرض مراكمة األرباح‪ ،‬فبدأ االقتصاد يســتعيد عافيته‪ ،‬وزاد ّ‬
‫الطلب على الموا ّد‬‫الســلع للمســتهلكين‪ .‬وكان ارتفاع ّ‬‫الضرورية لإلنتاج ونقل ّ‬‫ّ‬
‫االستهالكية والخدمات كبيرا بسبب تدنّي حجم المخزونات خالل فترات الحجر‬
‫الكمي أو‬
‫ّ‬ ‫الص ّحي‪ ،‬ووفرة األموال غير المســتهلكة سواء نتيجة سياسة التسهيل‬
‫ّ‬
‫كميات إضافية من األوراق الماليــة في الكثير من بلدان العالم‪.‬‬
‫نتيجــة لطباعــة ّ‬
‫ضختها البنوك نحو ‪ 20‬تريليون دوالر‪ .‬أما قيمة‬‫فقــد بلــغ مجموع األموال التي ّ‬
‫المدّ خرات المالية فقد بلغت نحو ‪ 4.7‬تريليون دوالر بســبب سياســات الحجر‬
‫الص ّحي التي حدّ ت كثيرا من حجم االستهالك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الطاقة تراجع ال ّنشــاط االقتصادي خــال فترات الحجر‬ ‫وزاد من رفع أســعار ّ‬
‫الطاقة تتو ّقف عن االســتثمار في اكتشــاف حقول‬ ‫الص ّحي‪ ،‬ما جعل شــركات ّ‬ ‫ّ‬
‫جديدة أو تزيد من طاقة الحقول ال ّنشــطة‪ .‬ولم يكن بمقدور تلك الشّ ــركات أن‬
‫الطلب على‬ ‫تفعل ذلك بعد التعافي من الجائحة بســرعة تواكب ســرعة تزايد ّ‬
‫الضروري الســتخراج ّ‬
‫الطاقة أو زيادة اإلنتاج‪،‬‬ ‫الزمن ّ‬‫الطاقة‪ ،‬بســبب الفارق بين ّ‬‫ّ‬
‫وزمن تلبية احتياجات الجهات المنتجة‪ ،‬مثل المصانع أو المستهلكة مثل البيوت‪.‬‬
‫ّ‬
‫وستظل‬ ‫فاألولى تحتاج إلى سنوات‪ ،‬بينما تحتاج الثّانية إلى أشهر لتلبية طلبها‪.‬‬
‫الطلب خالل العام ‪ ،2023‬ما يعني اســتمرار‬ ‫زيــادة اإلنتاج عاجزة عن مالحقة ّ‬
‫ارتفاع األسعار‪.‬‬
‫منظمة أوبك بالس‪ ،‬دور أساسي‬ ‫وكان الستمرار ال ّتوافق وال ّتماسك بين أعضاء ّ‬
‫الطاقة خالل ‪ ،2022‬خاصة في ّ‬
‫ظل ال ّتفاهم بين أكبر المنتجين‬ ‫في رفع أســعار ّ‬
‫المنظمة في أكتوبر‪ /‬تشرين األول خفض‬ ‫ّ‬ ‫قررت‬‫السعودية وروسيا‪ .‬فقد ّ‬
‫للبترول‪ّ ،‬‬
‫حصص اإلنتــاج بمقدار مليوني برميل‪ ،‬تتك ّفل بغالبيتها ّ‬
‫الســعودية واإلمارات‪.‬‬
‫الرئيس األميركي جو بايدن في تفكيك هذا ال ّتماســك‪ ،‬فقد‬ ‫ولم تفلح مســاعي ّ‬
‫ولي العهد‬
‫الســعودية في يوليو‪ /‬تمــوز ‪ 2022‬إقناع ّ‬ ‫حــاول خــال زيارته إلى ّ‬
‫حصة روسيا في‬‫الســعودي‪ ،‬محمد بن ســلمان‪ ،‬برفع ســقف اإلنتاج لتعويض ّ‬ ‫ّ‬

‫‪118‬‬
‫خاصة‪ ،‬وخفض أسعار البنزين داخل الواليات الم ّتحدة قبيل‬ ‫ّ‬ ‫الســوق األوروبية‬
‫ّ‬
‫السعودية‬
‫انتخابات التجديد ال ّنصفي‪ ،‬دون جدوى‪ .‬فهناك اعتباران ها ّمان يجعالن ّ‬
‫تحرص على التوافق مع روســيا‪ ،‬وهما الحرب في اليمن والوضع في ســوريا‪،‬‬
‫للضغط عليها‪.‬‬‫السعودية إيران وتحتاج إلى الدّ عم الروسي ّ‬‫وفي الحالتين تواجه ّ‬
‫الســعودية في هذا االتجاه‪ ،‬االحتياط من ال ّتغييرات الممكنة‬‫ويعزز الحســابات ّ‬
‫ّ‬
‫خاصة بعد ما تخ ّلت إدارة ترامب عن مســاعدة‬ ‫ّ‬ ‫في الموقف األميركي تجاهها‪،‬‬
‫الرياض في التصدّ ي لهجمات إيرانية على منشــآت ال ّنفط في أبقيق عام ‪.2019‬‬ ‫ّ‬
‫أن الواليات الم ّتحدة لن تر ّد على إيران‪ّ ،‬‬
‫وأن مسؤولية‬ ‫صرح ترامب آنذاك ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫السعودية‪.‬‬‫الر ّد تقع على عاتق ّ‬
‫العامل الثّالث الذي رفع أســعار ال ّنفط هو الحرب الروســية على أوكرانيا‪ ،‬التي‬
‫ر ّدت عليها الدّ ول الغربية بســ ّلة من العقوبات االقتصادية شــملت قطاع ّ‬
‫الطاقة‬
‫قــررت الدول األوروبيــة التو ّقف عن اســتيراد البترول والغاز‬
‫الروســي‪ .‬فقد ّ‬
‫كل دولة واحتياجاتها‪ .‬فإمدادات ّ‬
‫الطاقة‬ ‫الروســيين‪ ،‬على مراحل تراعي أوضاع ّ‬
‫ّ‬
‫تغطــي احتياجات أوروبا من ال ّنفط والغاز بنســب تتراوح بين‬ ‫الروســية كانت ّ‬
‫‪ % 27‬و‪ % 40‬على ال ّتوالي‪ ،‬وتجد الدول األوربية صعوبة كبيرة في تعويض تلك‬
‫الســعي لالستيراد من الواليات الم ّتحدة‪ ،‬أو‬
‫خاصة من الغاز‪ .‬ورغم ّ‬‫ّ‬ ‫الحصص‪،‬‬
‫اقتطاع جزء من حصص الدول األخرى‪ ،‬أو ا ّللجوء إلى الدّ ول المنتجة التي لم‬
‫تســتنفذ كل طاقتها اإلنتاجية‪ ،‬ال يزال بعض الدول األوروبية عاجزا عن تغطية‬
‫الفجوة في إمدادات الطاقة‪.‬‬
‫فالســعودية واإلمارات والكويت‬
‫كل هذه الحاالت اســتفادت دول الخليج‪ّ ،‬‬ ‫في ّ‬
‫قررت ذلك‪ ،‬ألنّها تنتج ّ‬
‫أقل من طاقتها‪.‬‬ ‫تســتطيع رفع إنتاجها من البترول متى ّ‬
‫أ ّما قطر‪ ،‬فتملك ثالث احتياطي للغاز في العالم‪ ،‬وهي أكبر مصدّ ر للغاز المسال‪،‬‬
‫وتستطيع زيادة إنتاجها‪ ،‬ولو في وقت الحق‪ .‬وقد بدأت في توقيع عقود تزويد‬
‫طويلة األجل لبعض البلدان األوروبية‪ ،‬منها عقد لتزويد ألمانيا بالغاز لخمســة‬
‫عشر سنة قادمة وقع توقيعه بين البلدين في شهر نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪.2022‬‬
‫ّ‬
‫ستظل قائمة‪ .‬فالحرب‬ ‫ألن أسبابه‬‫مســتمرا في العام ‪ّ 2023‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ســيظل هذا االتّجاه‬
‫الروســية على أوكرانيا ال يبدو أنها ســتنتهي قريبا‪ ،‬والدّ ول األوروبية ماضية في‬

‫‪119‬‬
‫تنفيــذ قرارها بالتخ ّلي نهائيا عن اســتيراد ّ‬
‫الطاقة الروســية بحلول العام ‪.2030‬‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫وستحاول تعويض ال ّنقص من مصادرة مختلفة‪ ،‬على رأسها دول الخليج‪،‬‬
‫السعودية واإلمارات في مجال البترول‪ ،‬وقطر في مجال الغاز‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مهمة لتحقيق‬ ‫مــن ناحية أخرى‪ ،‬و ّفرت اســتضافة قطر لــكأس العالم فرصــة ّ‬
‫يخص العوائد‬‫ّ‬ ‫المزيــد من المكاســب لدول الخليج بدرجات متفاوتــة‪ ،‬بعضها‬
‫االقتصاديــة‪ ،‬وبعضها يتع ّلق بالتأثيرات القيمية واالجتماعية على ّ‬
‫الصورة ال ّنمطية‬
‫الصعيد االقتصادي‪ ،‬يمثّل نجاح قطر‬ ‫للخليــج والخليجيين والعرب عا ّمة‪ .‬فعلى ّ‬
‫في تنظيم كأس العالم حافزا للمســتثمرين األجانب للشّ عور باألمان‪ ،‬وهو شرط‬
‫ضروري لتشــجيع رأس المال ودفعه لالســتثمار‪ .‬وستستفيد دول الخليج ك ّلها‬
‫من هذا ال ّتغيير في انطباعات المستثمرين‪ ،‬كما ي ّتضح بخصوص قطر في ّ‬
‫مؤشر‬
‫مديري المشتريات‪ ،‬الذي ارتفع إلى ‪ 48.4‬نقطة‪ ،‬وشمل آراء ‪ 450‬مدير شركة من‬
‫القطاع الخاص‪ ،‬حسب التقرير الذي نشرته وكالة "زاوية" التابعة لوكالة رويترز‪.‬‬
‫وسنرى نتائج ذلك ال ّتغيير في ارتفاع قيمة االستثمار األجنبي خالل العام ‪.2023‬‬
‫و ُيتو ّقــع أن تجتذب منطقة الخليج أعدادا متزايدة من ذوي المهارات العالية في‬
‫السنوات القادمة‪.‬‬
‫إلى جانب ذلك‪ ،‬هناك مكاســب اقتصادية مباشــرة لدول الخليج بفضل كأس‬
‫ــياح الذين قدموا إلى المنطقة بهذه المناســبة‪ ،‬ونمت‬ ‫الس ّ‬
‫العالم‪ .‬فقد ارتفع عدد ّ‬
‫ّ‬
‫والضيافة واإلعالم وال ّترفيه‪ .‬ومن‬ ‫مداخيــل القطاعات المرتبطة بها‪ ،‬مثل ال ّنقــل‬
‫المؤشــرات على الفائدة المشتركة بين دول الخليج‪ ،‬تخصيص نحو ‪ 186‬رحلة‬ ‫ّ‬
‫يوميــة تربــط بين الدوحة وعدّ ة مدن خليجية لتلبية احتياجات كأس العالم‪ ،‬مثل‬
‫المشــجعين لمشــاهدة المباريات وإيوائهم‪ ،‬وقد بلغ عدد زوار قطر خالل‬ ‫ّ‬ ‫نقل‬
‫كأس العالم مليونا وأربعمائة ألف زائر‪ .‬و ُتعدّ قطر المستفيد األكبر من تنظيم كأس‬
‫العالــم‪ ،‬التــي ُتقدّ ر عائداتها بنحو ‪ 17‬مليار دوالر‪ .‬أ ّما مصاريفها التي تجاوزت‬
‫‪ 200‬مليار دوالر‪ ،‬فقد توزّ عت بين نفقات مباشرة تمثّلت في بناء وتجهيز المرافق‬
‫الخاصة بال ّتظاهرة‪ ،‬ونفقات غير مباشرة‪ ،‬تنضوي تحت رؤية قطر ‪ 2030‬ال ّتنموية‪.‬‬‫ّ‬
‫وقــد شــملت تلك ال ّنفقات عدّ ة مشــاريع تتع ّلق بتطوير البنيــة ال ّتحية مثل بناء‬
‫الصرف‬‫الطرق والجسور واالتّصاالت وقنوات ّ‬ ‫المطارات وتوسيع الموانئ ومدّ ّ‬

‫‪120‬‬
‫الص ّحي‪ ،‬إلى جانب تشييد مدن جديدة بالكامل‪ ،‬مثل مدينتي مشيرب ولوسيل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ومن بين مشاريع تطوير البنية ال ّتحية‪ ،‬نذكر شبكة مترو الدوحة التي بلغت كلفتها‬
‫‪ 36‬مليار دوالر‪ ،‬ومطار حمد الدّ ولي بكلفة ‪ 15‬مليار دوالر‪ ،‬وتوسعة ميناء حمد‬
‫بكلفــة ‪ 7.5‬مليار دوالر‪ ،‬وتطوير وســط مدينة الدّ وحة بكلفة ‪ 4.5‬مليار دوالر‪،‬‬
‫وتهيئة مناطق اقتصادية بكلفة ‪ 3.2‬مليار دوالر‪ ،‬وتشــييد ‪ 1791‬كم من ّ‬
‫الطرق‪،‬‬
‫وبناء ‪ 207‬جسرا و‪ 143‬نفقا‪.‬‬
‫الصعيــد القيمي واالجتماعي‪ ،‬فقد أســهمت اســتضافة كأس العالم‬ ‫أ ّمــا على ّ‬
‫الصورة ال ّنمطيــة وال ّنظرة الدّ ونية‬
‫فــي إحداث بعض ال ّتغييــرات اإليجابية على ّ‬
‫التي شــاعت عــن دول الخليج وبقية الدّ ول العربية‪ .‬فقــد ارتبطت صورة هذه‬
‫عممتها ســنما هوليود ووسائل اإلعالم الغربية‪ ،‬مثل‬ ‫المجتمعات بمعاني ســلبية ّ‬
‫والتطرف واحتقار المرأة وال ّتز ّمت الدّ يني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التخلف والجشع والتبذير واإلرهاب‬
‫الصور ال ّنمطية في انتهاج سياســات إقصائيــة ضدّ العرب‬ ‫وقــد ُو ّظفت تلــك ّ‬
‫والمسلمين في بعض الدّ ول الغربية‪ ،‬كقرار ترامب منع دخول مواطني عدّ ة بلدان‬
‫الرئيس الفرنســي ماكرون‬ ‫عربية وإســامية إلى الواليات الم ّتحدة‪ ،‬وتصريحات ّ‬
‫الصورة‬‫التي ربط فيها بين اإلســام واإلرهاب‪ .‬ويمكن قياس مدى شعبية هذه ّ‬
‫المتطرفة التي تستفيد لتوسيع‬ ‫ّ‬ ‫المن ّفرة في أذهان الغربيين بشعبية األحزاب اليمنية‬
‫قاعدتها االنتخابية بترويج خطاب الكراهية ضدّ العرب والمسلمين‪.‬‬
‫تمكنت قطر‪ ،‬من خالل اســتضافتها لكأس العالم‪ ،‬صورا‬ ‫الصور‪ّ ،‬‬
‫مقابــل تلــك ّ‬
‫التمسك بال ّتقاليد‪ ،‬وال ّتعارف‬
‫ّ‬ ‫أخرى أكثر إيجابية عن هذه المجتمعات‪ ،‬تجمع بين‬
‫ولعل من أبرز‬ ‫ّ‬ ‫بين الشّ ــعوب‪ ،‬واالنفتاح على اآلخر‪ ،‬وال ّتســامح مع المختلف‪.‬‬
‫مؤشــرات هــذا ال ّتحول في نظــرة األجانب للمجتمعــات الخليجية هو ارتداء‬ ‫ّ‬
‫المشجعين ا ّللباس الخليجي بعد تغيير ألوانه لل ّتوافق مع ألوان منتخباتهم وأعالم‬
‫ّ‬
‫معبرا‬
‫الزي الخليجي الحواجز الثّقافية والقيمية‪ ،‬وبات ّ‬ ‫بلدانهــم‪ .‬وبذلك ّ‬
‫تخطى ّ‬
‫عن ال ّتشابه بدال من االختالف‪ ،‬وعن المشاركة وتقاسم نفس ال ّتجربة اإلنسانية‪.‬‬
‫ستستمر في االنتشار في‬
‫ّ‬ ‫ولن تنتهي آثار هذه التجربة مع انتهاء كأس العالم‪ ،‬بل‬
‫السنوات المقبلة‪ .‬و ُيتو ّقع‬
‫مشــاعر وانطباعات وأفكار أعداد هائلة من الناس في ّ‬
‫السياســية‪ ،‬كتراجع‬ ‫الصور ال ّنمطية في المواقف ّ‬
‫أن نشــهد آثار ال ّتغيير في هذه ّ‬

‫‪121‬‬
‫خطاب كراهية العرب والمســلمين في الغرب‪ ،‬واتّخاذ قرارات اقتصادية بزيادة‬
‫االستثمارات نتيجة تغيير مدركات المستثمرين األجانب‪ .‬وقد نرى تأثيراتها أيضا‬
‫في اإلنتاج السينمائي مستقبال‪.‬‬

‫االنكشاف األمني ومعضلة الطاقة‬


‫في مقابل هذه المكاسب‪ ،‬تواجه دول الخليج تحدّ يات سياسية وأمنية واقتصادية‪،‬‬
‫للســنوات الماضية‪ ،‬مثل تعثّر مفاوضات االتّفاق ال ّنووي اإليراني‪.‬‬ ‫بعضها امتداد ّ‬
‫وبعضها مســتجدّ ‪ ،‬مثل الحرب الروسية على أوكرانيا‪ .‬أ ّما التحدّ يات االقتصادية‬
‫تظل مداخيل بلدان المنطقة‬ ‫وتتلخص في تنويع االقتصاد حتى ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫مستمرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فهي‬
‫الصعبة رهينة لتصدير ال ّنفط والغاز‪ ،‬وكي يكون اقتصادها صديقا للبيئة‬ ‫من العملة ّ‬
‫باعتمادها على ّ‬
‫الطاقة ال ّنظيفة‪.‬‬
‫فقد تواصل تعثّر مفاوضات العودة لالتّفاق ال ّنووي بين إيران ومجموعة الخمس‬
‫زائد واحد في العام ‪ .2022‬وانعكس هذا التعثّر ســلبا على دول الخليج وعلى‬
‫الطرفين‪.‬‬‫عالقاتها باإلدارة األميركية‪ ،‬وكشف عن تباين في األولويات األمنية بين ّ‬
‫الضمانات األمنية األميركية في ّ‬
‫ظل‬ ‫فقد زاد ال ّتشــكيك الخليجي في مصداقيــة ّ‬
‫تزايد ال ّنفوذ اإليراني في المنطقة‪ .‬فالواليات الم ّتحدة لم تحرص على إشــراك‬
‫تمس أمن الواليات‬ ‫مما ّ‬ ‫تمس أمنها مباشــرة أكثر ّ‬ ‫دول الخليــج فــي مفاوضات ّ‬
‫أن واشــنطن تعطي األولو ّية لوقف برنامــج إيران ال ّنووي‪ ،‬بينما‬ ‫الم ّتحــدة‪ .‬كما ّ‬
‫تتمثّل مخاوف دول الخليج في تمدّ د إيران اإلقليمي‪ ،‬ودعمها للفصائل الشّ يعية‬
‫الصاروخي‪ .‬وقد دفع هذا التباين في‬ ‫المس ّلحة‪ ،‬واالستمرار في تطوير مشروعها ّ‬
‫والســعي إلى تنويع‬‫ّ‬ ‫األولويات األمنية دول الخليج إلى إعادة ال ّتفكير في أمنها‬
‫شركائها األمنيين‪.‬‬
‫يستمر تعثّر المفاوضات ال ّنووية في العام‬
‫ّ‬ ‫المرجح أن‬
‫ّ‬ ‫وســط هذه ال ّتباينات‪ ،‬من‬
‫التعهد‬
‫ّ‬ ‫تمســك الواليات الم ّتحدة برفضها‬‫‪ 2023‬لعدّ ة أســباب‪ .‬فباإلضافة إلى ّ‬
‫بالتــزام اإلدارات األميركية القادمة بعدم االنســحاب مــن االتّفاق‪ ،‬ال يبدو ّ‬
‫أن‬
‫الوكالة الدّ ولية ّ‬
‫للطاقة ســتقبل بالتخ ّلي عن ال ّتحقيق فيما تعتبره أنشــطة إيرانية‬
‫نوويــة غير معلنة‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬هناك عامالن آخران ســيدفعان إلى المزيد‬

‫‪122‬‬
‫من تعقيد المفاوضات وسيســهمان في تعطيل العــودة لالتّفاق النووي‪ّ .‬أولهما‬
‫لمسيرات إيرانية في حربها على أوكرانيا لضرب أهداف مدنية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫استخدام روسيا‬
‫وثانيهمــا االحتجاجات الشــعبية المناهضة للنظام اإليرانــي الذي ي ّتهم الغرب‬
‫بافتعالهــا وتأجيجها‪ .‬فإذا ّ‬
‫تعذرت العودة لالتفاق‪ ،‬واســتمر التوتر بين الجانبين‬
‫ستستمر إيران في تطوير برنامجها ال ّنووي لتقترب أكثر من امتالك‬
‫ّ‬ ‫في ال ّتصاعد‪،‬‬
‫الســاح ال ّنووي‪ .‬في المقابل‪ ،‬ســتضاعف إسرائيل من عملياتها ال ّتخريبية داخل‬‫ّ‬
‫السيناريو الذي يزيد‬‫إيران‪ ،‬لتعطيل المشروع واستعجال سيناريو المواجهة‪ ،‬وهو ّ‬
‫من المخاوف الخليجية ويبقي حالة انعدام اليقين سائدة في المنطقة‪.‬‬
‫سيترســخ ال ّنفوذ اإليراني في‬
‫ّ‬ ‫تمت العودة لالتّفاق ال ّنووي‪،‬‬‫من جهة أخرى‪ ،‬إذا ّ‬
‫المنطقة باعتراف ضمني دولي‪ ،‬وستحصل طهران على عائدات مالية كبيرة بعد‬
‫المجمدة بسبب العقوبات والعودة إلى تصدير ال ّنفط دون قيود‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫استعادة أموالها‬
‫مخصصات الفصائل المســ ّلحة ال ّتابعة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ســتتمكن إيران من رفع‬ ‫في هذه الحالة‪،‬‬
‫الصاروخي بما يزيد من خطر ال ّتهديد األمني‬ ‫لها‪ ،‬وســتواصل تطوير مشــروعها ّ‬
‫لدول الخليج العربية‪ .‬فهناك ثالث ســاحات أساســية تخشــى الدّ ول الخليجية‬
‫مــن زيادة ال ّنفوذ اإليراني فيها‪ :‬مياه الخليج على ضفافها‪ ،‬والعراق الذي يجاور‬
‫كل األحوال‪،‬‬ ‫وعمان‪ .‬وفي ّ‬ ‫السعودية ُ‬
‫الســعودية والكويت‪ ،‬واليمن الذي يجاور ّ‬ ‫ّ‬
‫وأي تر ّدد من الواليات الم ّتحدة لردعه سيدفع‬ ‫للسعودية‪ّ ،‬‬ ‫سيكون ال ّتهديد مباشرا ّ‬
‫البلدان الخليجية للدّ خول في ترتيبات أمنية إقليمية حسب الشروط اإليرانية‪ ،‬وهنا‬
‫تكمن معضلة األمن الخليجي‪.‬‬
‫التطــور الجديــد الذي مثّل تحدّ يا إضافيا لألمــن الخليجي في العام ‪ 2022‬هو‬
‫ّ‬
‫الحرب الروسية على أوكرانيا‪ ،‬التي خلقت حالة من االستقطاب الحا ّد بين روسيا‬
‫والقوى الغربية بقيادة الواليات الم ّتحدة األميركية‪ .‬في ســياق هذا االستقطاب‪،‬‬
‫سعت واشنطن لحشد حلفائها في مواجهة روسيا‪ ،‬ومن بينهم دول الخليج‪ ،‬التي‬
‫تباينت مواقفها الختالف حســابات بعضها عن الحسابات األميركية واألوروبية‪،‬‬
‫سواء العتبارات جيوسياسية أو اقتصادية مثل أسعار الطاقة‪ .‬وقد برز هذا ال ّتباين‬
‫الســعودي واإلماراتي‪ ،‬الذي بدا أقرب إلى الموقف‬ ‫بوضوح أكبر في الموقف ّ‬
‫الروسي‪ ،‬ليس فقط بشأن أسعار الطاقة‪ ،‬بل أيضا إزاء مل ّفات أخرى مثل المل ّفين‬

‫‪123‬‬
‫السوري وا ّلليبي‪ .‬أ ّما بقية البلدان الخليجية فقد امتنعت عن إظهار االنحياز ألحد‬
‫ّ‬
‫طرفي الحرب‪ ،‬حفاظا على عالقاتها مع الواليات الم ّتحدة‪ ،‬وفي الوقت نفســه‬
‫تستفز روسيا الدّ اعمة إليران في عدّ ة ملفات إقليمية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى ال‬
‫ال ّتطــور الثّانــي الذي ألقى بظالله علــى األمن الخليجي فــي العام ‪ 2022‬هو‬
‫االحتجاجات الشّ ــعبية في إيران‪ .‬فقد اتّهمت القيــادة اإليرانية أطرافا خارجية‪،‬‬
‫وتوعدتها بالر ّد‪ .‬ويأتي‬
‫ّ‬ ‫السعودية‪ ،‬بتأجيجها واإلضرار باألمن اإليراني‬ ‫على رأسها ّ‬
‫االنزعاج اإليراني باألساس من دعم وسائل إعالم ناطقة بالفارسية تدّ عي طهران‬
‫الرياض ذلك‪ .‬وقد أ ّدى هذا ال ّتوتّر إلى تو ّقف‬ ‫للســعودية‪ ،‬بينما تنفي ّ‬ ‫أنّها تابعة ّ‬
‫السعودية بعد عدّ ة جوالت كادت تفضي إلى عودة العالقات‬ ‫المباحثات اإليرانية ّ‬
‫الدبلوماســية بين البلدين بعد انقطاعها منذ ‪ .2016‬وكانت تقارير لصحيفة وول‬
‫الرياض تقاســمت معلومات اســتخباراتية مع‬ ‫أن ّ‬ ‫ســتريت جورنال قــد نقلت ّ‬
‫السعودية‪،‬‬ ‫تحضر لهجوم عسكري على ّ‬ ‫ّ‬ ‫واشــنطن وعواصم غربية تفيد ّ‬
‫أن إيران‬
‫التأهب العسكري‪ .‬فإذا تواصلت‬ ‫السعودية ودوال مجاورة لها رفعت مستوى ّ‬ ‫وأن ّ‬
‫االحتجاجات اإليرانية وارتفع مســتوى تهديدها الســتقرار ال ّنظام‪ ،‬ال ُيستبعد أن‬
‫والســعودية في العام ‪ .2023‬وقد تن ّفذ إيران هجمات‬ ‫ّ‬ ‫يتصاعد ال ّتوتّر بين إيران‬
‫مس ّلحة ضد مواقع سعودية عبر وكالئها لتأكيد جدية تهديداتها وجاهزيتها للر ّد‪.‬‬
‫توعدت‬ ‫خاصة بعد أن ّ‬ ‫وليس معلوما في هذه الحال‪ ،‬كيف سيكون الر ّد األميركي‪ّ ،‬‬
‫المؤشرات‬‫ّ‬ ‫واشنطن بالر ّد على إيران إذا هاجمت حلفاءها‪ .‬على أ ّية حال‪ ،‬أغلب‬
‫الضمانة‬‫ألن ّ‬‫أن البيئة األمنية الخليجية ستتدهور أكثر في العام ‪ّ ،2023‬‬ ‫تدل على ّ‬‫ّ‬
‫األميركية بصدد ال ّتراجع‪ ،‬بينما يزداد نفوذ إيران اإلقليمي اتّساعا ورسوخا‪ ،‬ويزداد‬
‫تطورا واقترابا من العتبة ال ّنووية‪ ،‬ما يعني إمكانية تحولها إلى‬‫برنامجهــا ال ّنووي ّ‬
‫دولة نووية‪ .‬في المقابل‪ ،‬ال تزال دول الخليج عاجزة عن تحقيق شــروط أمنها‬
‫الذاتي بعيدا عن الحماية الخارجية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫على صعيد التحدّ يات االقتصادية‪ ،‬ورغم المكاســب التي حصلت عليها الدّ ول‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫الطلب على ّ‬
‫الطاقة وارتفاع أســعار ال ّنفط والغاز‪،‬‬ ‫الخليجية بفضل تزايد ّ‬
‫بعد اندالع الحرب الروسية األوكرانية‪ ،‬ال تزال دول المنطقة تواجه عدّ ة تحديات‪.‬‬
‫الطاقة في موارد العملة‬ ‫أبرز تلك ال ّتحديات تنويع االقتصاد لخفض نسبة قطاع ّ‬

‫‪124‬‬
‫الصديقة للبيئة‬
‫خاصة القطاعات ّ‬
‫ّ‬ ‫بقية القطاعات المنتجــة‪،‬‬
‫الصعبة‪ ،‬ورفع نســبة ّ‬‫ّ‬
‫الرقمية والمصرفية والخدمات وتوليد‬
‫والتي ت ّتســم باالســتدامة‪ ،‬مثل القطاعات ّ‬
‫ّ‬
‫الطاقة الشّ مسية‪ ،‬وغيرها‪ .‬وال تزال أمام دول الخليج أشواط طويلة لقطعها قبل‬
‫فمتوســط االعتماد على موارد ال ّنفط والغاز ال زال مرتفعا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التحول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إنجاز هذا‬
‫إذ ُيقدّ ر بنحو ‪.% 75‬‬
‫الطلب على‬‫التطورات التي شهدها العالم خالل سنة ‪ 2022‬في خفض ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولم ُتسهم‬
‫الطاقة األحفورية بل رفعته‪ ،‬ســواء بســبب بداية ال ّتعافي من جائحة كورونا‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬
‫السوق العالمية بال ّنفط والغاز نتيجة العقوبات الغربية‬
‫لتعويض ال ّنقص في تزويد ّ‬
‫الزيادة‬
‫على االقتصاد الروسي بعد اندالع الحرب على أوكرانيا‪ .‬وقد تعوق هذه ّ‬
‫الطاقة األحفورية خطط تنويع االقتصادات الخليجية‪،‬‬ ‫الطلب على ّ‬‫المتجدّ دة في ّ‬
‫الطاقة إلى تشجيع دول الخليج على زيادة استثماراتها‬ ‫وربما يؤ ّدي ارتفاع أسعار ّ‬
‫الطاقة لعائداته المجزية وكلفته المنخفضة‪ .‬وهناك شواهد سابقة ّ‬
‫تؤكد‬ ‫في قطاع ّ‬
‫هذا االرتباط بين ارتفاع أسعار الطاقة وتأجيل دول الخليج االستثمار في تنويع‬
‫االقتصاد‪.‬‬
‫عالميا بتراجع‬
‫ّ‬ ‫الطلب على الطاقة األحفوريــة‬ ‫مــن جهــة أخرى‪ ،‬يترافق تزايــد ّ‬
‫الضغوط الدّ ولية على منتجيها للتخ ّلي عنها حفاظا على البيئة‪ .‬وسيشمل تراجع‬ ‫ّ‬
‫إضافيا لزيادة إنتاجها‪ ،‬وبال ّتالي‬
‫ّ‬ ‫الضغوط دول الخليج‪ ،‬التي ستجد فيه مح ّفزا‬ ‫تلك ّ‬
‫زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬وما ستؤ ّدي إليه من تر ّدى الوضع البيئي في‬
‫رجح أن تشــهد البلدان الخليجية في العام ‪ 2023‬ارتفاعا قياســيا في‬ ‫المنطقة‪ .‬و ُي ّ‬
‫ســجلته الكويت في العام ‪ ،2022‬حيث بلغت ‪52‬‬ ‫ّ‬ ‫درجات الحرارة‪ ،‬شــبيها بما‬
‫التغير المناخي وتر ّدي الوضع‬ ‫ّ‬ ‫درجة مئوية‪ ،‬وكانت األعلى عالميا‪ .‬وسيقود هذا‬
‫البيئي في المنطقة إلى زيادة خطورة األعاصير‪ ،‬مثل إعصار شاهين الذي ضرب‬
‫العمانية في العام ‪ ،2021‬وسيؤ ّدي كذلك إلى ارتفاع المخاطر التي تهدّ د‬ ‫الشواطئ ُ‬
‫المدن الخليجية الواقعة في مجملها بمحاذاة البحر‪.‬‬
‫الطاقة األحفوريــة المتناهية‪ّ ،‬‬
‫يمثل فرصة‬ ‫ولكــن االرتفــاع المؤ ّقت في مداخيل ّ‬
‫ّ‬
‫لدول الخليج كي تســتثمر في ّ‬
‫الطاقة ال ّنووية المســتدامة التي ُتعدّ حاليا الخيار‬
‫أخف ضررا‪ .‬وقد‬‫ّ‬ ‫األمثــل لالنتقــال من طاقة مؤذية للبيئة إلى طاقــة صديقة أو‬

‫‪125‬‬
‫عادت إلى هذا الخيار بعض الدّ ول الغربية بعد أن اســتبعدته لسنوات وحاولت‬
‫أن دول الخليج‬ ‫استبداله بمصادر أخرى للطاقة‪ ،‬مثل فرنسا وألمانيا‪ .‬والمالحظ ّ‬
‫الســعودية واإلمارات وقطر في‬ ‫لم تتقدم كثيرا في هذا االتجاه‪ ،‬فلم تشــرع إال ّ‬
‫ّ‬
‫محطات نووية متفاوتة القدرة‪ ،‬األولى بشراكة مع الصين منذ ‪ ،2016‬والثّانية‬ ‫إنشاء‬
‫بشراكة مع كوريا الجنوبية والواليات الم ّتحدة في ‪ 2009‬والصين في ‪ .2018‬أ ّما‬
‫محطات نووية صغيرة إلنتاج‬‫ّ‬ ‫قطر‪ ،‬فقد اتّفقت مع شركة رولز رويس على إنشاء‬
‫الكهرباء بداية من العام ‪ .2021‬وال يزال أداء هذه المشاريع ضعيفا‪ ،‬حيث تتط ّلع‬
‫اإلمارات إلى إسهام قطاع الطاقة النووية بإنتاج ‪ % 6‬من الكهرباء بحلول ‪.2050‬‬
‫الطاقة ال ّنووية سهال‪ ،‬بل سيكون محفوفا بالمخاطر‬ ‫التحول إلى خيار ّ‬
‫ّ‬ ‫لن يكون‬
‫تتوجس من اســتخدامه غطــاء المتالك ال ّتكنولوجيا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والضغــوط‪ .‬فبعض الدّ ول‬
‫ال ّنووية وتطوير القدرات العلمية والف ّنية ا ّلالزمة لحيازة ّ‬
‫السالح ال ّنووي‪ .‬وتعتبره‬
‫ّ‬
‫الهــش‪ ،‬مثل أحزاب‬ ‫الســام العالمي‬‫قــوى أخرى مهــدّ دا للبيئة وخطرا على ّ‬
‫السالم‪ .‬وتقدّ م لنا حوادث سابقة لمنشآت نووية مثل تشرنوبيل‬ ‫الخضر ونشطاء ّ‬
‫قررت‬‫وفوكوشــيما أمثلة مرعبة على هذه األخطار‪ .‬وستحتاج دول الخليج‪ ،‬إذا ّ‬
‫المضي في هذا الخيار‪ ،‬إلى توفير البيئة اآلمنة لمثل هذه المشــاريع‪ ،‬إلى جانب‬ ‫ّ‬
‫ال ّتفكير في توفير ال ّتمويل والقدرات التكنولوجية ا ّلالزمة‪.‬‬

‫الخليج في ‪ :2023‬فرص ومخاطر‬


‫التطورات‬
‫ّ‬ ‫إجمــاال‪ ،‬ح ّققت أغلب دول الخليج مكاســب اقتصادية ّ‬
‫مهمة بفضل‬
‫تستمر هذه المكاسب‬
‫ّ‬ ‫المرجح أن‬
‫ّ‬ ‫السياسية واالستراتيجية في العام ‪ ،2022‬ومن‬
‫ّ‬
‫الطاقة بسبب‬‫الطلب على ّ‬‫ألن أسبابها مستمرة‪ ،‬ال سيما تزايد ّ‬ ‫خالل العام ‪ّ ،2023‬‬
‫تعافي االقتصاد العالمي من جائحة كورونا‪ ،‬واستمرار الغزو الروسي ألوكرانيا‪.‬‬
‫لكــن هذه المكاســب قد تحدث أضــرارا بالبيئة األمنيــة الخليجية‪ ،‬خاصة مع‬‫ّ‬
‫الســعودية واإلمارات باتفاقهما مع روســيا في إطار أوبك بلس‪ ،‬الذي‬ ‫تمســك ّ‬
‫ّ‬
‫اعتبرته الواليات الم ّتحدة انحيازا لموسكو‪ .‬وسيكون لهذا الخالف وما يمكن أن‬
‫يؤ ّدي إليه من تعميق الشّ كوك المتبادلة‪ ،‬آثار سلبية على العالقات بين الحليفين‬
‫األميركــي والخليجــي‪ .‬أما تعثّر مفاوضات االتّفاق ال ّنووي اإليراني واســتمرار‬

‫‪126‬‬
‫االحتجاجات الشــعبية في إيران‪ ،‬فسيرفعان منســوب ال ّتوتّر في منطقة الخليج‪،‬‬
‫شــن هجمات مســ ّلحة على دول خليجية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويزيدان من احتمال لجوء إيران إلى‬
‫ستكون على األغلب عبر أذرعها الممتدّ ة في أكثر من دولة عربية‪.‬‬
‫وتختلف حصيلة قطر عام ‪ 2022‬وآفاقها في ‪ 2023‬قليال‪ .‬فقد ح ّققت مكاســب‬
‫الراهن أو عبر اتفاقات لتوريد الغاز‬ ‫كبيرة من تصدير الطاقة‪ ،‬ســواء في الوقت ّ‬
‫أمنيا بحصولها على‬
‫حصنت موقعها ّ‬ ‫الســنوات القادمة‪ .‬كما ّ‬ ‫إلى دول أوربية في ّ‬
‫مميزة لدى الواليات الم ّتحدة‪ ،‬تتمثّل في صفة حليف رئيســي من خارج‬ ‫مكانة ّ‬
‫الحلف األطلسي‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬كسبت ثقة الواليات الم ّتحدة وإيران كوسيط‬
‫لتقريب الش ّقة بينهما‪ .‬وقد ُيسهم هذا الدّ ور في تخفيف ال ّتوتّر في المنطقة‪ ،‬وإبعاد‬
‫الصدام العسكري‪ ،‬أو على األقل تأجيله‪.‬‬ ‫شبح ّ‬

‫‪127‬‬
‫مؤجلة‬
‫ممتدة وحلول ّ‬
‫سوريا‪ ،‬ليبيا‪ ،‬اليمن‪ :‬أزمات ّ‬
‫إعداد جماعي‬

‫مقدمة‬
‫الســبل بالبلدان‬
‫تفرقت ّ‬ ‫منذ انطلقت حركة ال ّتغيير العربية في نهاية العام ‪ّ ،2010‬‬
‫وتنوعت التحدّ يات‬‫التي شــملتها تلك الحركة‪ .‬فاختلفت مســاراتها االنتقاليــة ّ‬
‫التــي واجهتها‪ ،‬كما تفاوتت حدّ ة المعارضــة ومقاومة ال ّتغيير داخلها‪ ،‬وتعدّ دت‬
‫الصعيديــن المح ّلي واإلقليمي‪ .‬في‬ ‫اســتراتيجيات القــوى المضا ّدة للثّورة على ّ‬
‫بالربيع العربي‪ ،‬إلى جملة‬ ‫تحولت حركة التغيير الواعدة‪ ،‬والتي ُعرفت ّ‬ ‫ال ّنهايــة‪ّ ،‬‬
‫من األزمات‪ ،‬يستعرض هذا التقرير ثالثة منها‪ ،‬تشترك في عدّ ة خصائص‪ ،‬رغم‬
‫الســورية وا ّلليبية واليمنية‪ ،‬طالت مدّ تها دون‬ ‫ما بينها من اختالفات‪ .‬فاألزمات ّ‬
‫الطريق إلى نهايتها‪ .‬وبعد ســنوات مــن العنف والحروب األهلية أو‬ ‫أن ت ّتضــح ّ‬
‫بالوكالــة‪ ،‬دخلــت هذه األزمات جميعها خالل الســنة الماضيــة في حالة من‬
‫الجمــود أو الهدنة المؤ ّقتة‪ .‬وفي هذه األزمات الثّالث‪ ،‬يلعب العامل الخارجي‬
‫دورا أساســيا في تعقيدها وإطالة أمدها‪ ،‬دون أن يســهم في ح ّلها أو يصل إلى‬
‫أي من‬ ‫متوسطة أو طويلة األمد‪ .‬ورغم هذا الجمود الميداني‪ ،‬لم يشهد ّ‬ ‫ّ‬ ‫تسويات‬
‫السورية‪ ،‬التي اخ ُتزلت‬ ‫السياسي‪ .‬فاألزمة ّ‬ ‫الصعيد ّ‬‫هذه األزمات تقدّ ما ُيذكر على ّ‬
‫مؤ ّقتا في مفاوضات ا ّللجنة الدّ ســتورية‪ُ ،‬تــراوح مكانها في انتظار توافقات بين‬
‫أطرافهــا اإلقليميين والدّ وليين ّأوال‪ ،‬بعد تراجع أوزان أطرفها المح ّلية‪ .‬واألزمة‬
‫مقررا‬
‫السياسي الذي رافق االستعداد لالنتخابات التي كان ّ‬ ‫الزخم ّ‬ ‫ا ّلليبية فقدت ّ‬
‫المؤسســي بعد تكليف‬ ‫ّ‬ ‫لهــا أن تجري في نهاية العام ‪ .2021‬فتجدّ د االنقســام‬
‫البرلمــان حكومة موازية لحكومة "الوحــدة الوطنية"‪ ،‬وعاد ال ّتوتّر األمني ليهدّ د‬
‫الصراع إلى المر ّبع العسكري‪ .‬أ ّما األزمة اليمنية‪،‬‬ ‫الهش وينذر بعودة ّ‬‫ّ‬ ‫االســتقرار‬
‫التوصل إلى هدنة خالل العام ‪ ،2022‬دامت‬ ‫ّ‬ ‫ورغــم نجاح الجهود األممية فــي‬
‫س ّتة أشهر وانخفض معها منسوب العنف والعمليات العسكرية بشكل ملحوظ‪،‬‬
‫التوصل إلى تســوية سياســية أو وقف دائم إلطالق ال ّنار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لم تفلح أطرافها في‬

‫‪129‬‬
‫الصراع المســ ّلح وتصاعد العنف إلى مستوياته‬
‫فعادت المخاوف بشــأن تجدّ د ّ‬
‫الراعية‬
‫خاصة مع اســتمرار ال ّتناقض بين األجندات اإلقليمية للدّ ول ّ‬
‫ّ‬ ‫الســابقة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ألطرف األزمة على ض ّفتي الخليج‪.‬‬

‫‪ .1‬سوريا‪ ،‬استمرار الجمود وحلول صغيرة‬


‫الصراع في ســوريا على حالها منذ ســنوات‪.‬‬ ‫ال تزال مناطق ال ّنفوذ بين أطراف ّ‬
‫تشــكل ما يقرب من ثلثي مســاحة سوريا‪،‬‬ ‫فالمنطقة األولى‪ ،‬وهي األكبر‪ ،‬والتي ّ‬
‫الروســي مع اإليراني‪ ،‬إلى‬ ‫يســيطر عليها ال ّنظام وحلفاؤه‪ ،‬ويتداخل فيها ال ّنفوذ ّ‬
‫جانب الميليشيات المؤ ّيدة لألسد‪ .‬والمنطقة الثّانية تسيطر عليها المعارضة‪ ،‬وتقع‬
‫في القلب منها إدلب‪ ،‬التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشــام‪ ،‬إضافة إلى القوى‬
‫المدعومة من تركيا‪ .‬أ ّما المنطقة الثّالثة‪ ،‬فتقع في شــمال شــرق سوريا‪ ،‬وتسيطر‬
‫تتكون في معظمها من األكراد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عليها قوات ســوريا الدّ يمقراطية (قســد)‪ ،‬التي‬
‫وتســتفيد من دعم الواليات الم ّتحدة‪ ،‬التي تحتفظ فيها بوجود عســكري كجزء‬
‫الســيطرة المح ّلية على حالها‪ ،‬طالما لم‬ ‫ّ‬
‫وســتظل خريطة ّ‬ ‫من ال ّتحالف الدولي‪.‬‬
‫السياسي‬
‫يحدث تغيير ملموس في مواقف القوى الدّ ولية واإلقليمية ذات ال ّنفوذ ّ‬
‫السورية ومحدودية تأثيرها‪ .‬و ُتعدّ هذه‬ ‫والميداني‪ ،‬خاصة مع تراجع وزن القوى ّ‬
‫حل حقيقي أو إطالق‬ ‫أهم أســباب عدم اكتمال شــروط تبلور ّ‬ ‫المعادلة من أحد ّ‬
‫الراهنة‬
‫الســورية في المرحلة ّ‬ ‫مســار مفاوضات مثمر‪ .‬ويمكن تكثيف المســألة ّ‬
‫ّ‬
‫ومؤشرا عا ّما على مسارها‬ ‫محركا أساسيا لألزمة‬
‫ّ‬ ‫في مسألتين مترابطتين تمثّالن‬
‫وتطورها في المستقبل‪:‬‬
‫ّ‬
‫السورية بمرحلة دون أفق قريب‬ ‫المســألة األولى‪ ،‬مســار التفاوض‪ّ :‬‬
‫تمر األزمة ّ‬
‫للحل بســبب المراوحة في مســار المفاوضات‪ .‬فقد انتهى ذلك المسار‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬
‫المكونة‬
‫ّ‬ ‫انطلق قبل سنوات بزخم سياسي كبير‪ ،‬إلى اجتماعات ا ّللجنة الدّ ستورية‬
‫مــن ‪ 45‬عضو ًا‪ 15 ،‬منهم يمثّلون ال ّنظــام‪ ،‬و‪ 15‬يمثّلون المعارضة‪ ،‬و‪ 15‬ينتمون‬
‫أن هذه االجتماعات تكاد تكون العنصر‬ ‫منظمات المجتمع المدني‪ .‬ورغم ّ‬ ‫إلــى ّ‬
‫المتحرك في األزمة‪ّ ،‬‬
‫فإن الجولة ال ّتاسعة منها‪ ،‬التي كان مزمعا عقدها في‬ ‫ّ‬ ‫الوحيد‬
‫جنيف في ‪ 25‬يوليو‪ /‬تموز ‪ ،2022‬أرجئت إلى موعد غير محدّ د‪ ،‬ور ّبما تستأنف‬
‫اجتماعاتها في العام ‪.2023‬‬

‫‪130‬‬
‫المســألة ال ّثانية‪ ،‬أدوار األطراف اإلقليميــة والدّ ولية‪ :‬وهذه األطراف متعدّ دة في‬
‫ولكل منها ظروفه ومصالحه التي قد تسهم في تعقيد األزمة‬ ‫ّ‬ ‫الســورية‬
‫الســاحة ّ‬ ‫ّ‬
‫بدل تســهيل ح ّلها‪ .‬وال يمكن تفعيل مسار المفاوضات والوصول به إلى نهايته‬
‫المرجــوة دون توافــق إقليمي ودولي‪ ،‬ولو على الحدّ األدنى‪ .‬وتبقى أدوار هذه‬ ‫ّ‬
‫الســوري‬‫األطراف العامل المحدّ د في تشــكيل المشــهد السياســي والميداني ّ‬
‫والتحكم في مساراته وتفاعالته‪.‬‬‫ّ‬

‫تفاعالت المشهد السوري‬


‫رغم أن ا ّللجنة الدّ ســتورية لم تحرز تقدّ ما ُيذكر ح ّتى ا ّللحظة‪ّ ،‬‬
‫فإن اجتماعاتها‬
‫أي مســار آخر بديل عنها‪ .‬وتنشــط هذه ا ّللجنة في تقاطع‬ ‫مســتمرة‪ ،‬في غياب ّ‬
‫ّ‬
‫تمسك االطراف الدّ ولية‬‫ويؤكد استمرار عملها على ّ‬ ‫ّ‬ ‫مع مساري جنيف وآستانا‪،‬‬
‫السورية وفق القرارات الدّ ولية‪ .‬فال ّنظام الذي قبل‬‫السياســي لألزمة ّ‬‫الحل ّ‬‫ّ‬ ‫بمبدأ‬
‫الروسي كضامن لبقائه وبقاء‬ ‫يعول على مسار آستانا والدّ ور ّ‬‫بتشكيل هذه ا ّللجنة‪ّ ،‬‬
‫الرئيس للمعارضة‪ ،‬يشارك في أعمال هذه‬ ‫مصالحه‪ .‬واالئتالف الوطني‪ ،‬الممثّل ّ‬
‫ويتمســك بمرجعية األمم الم ّتحدة وقراراتها‪ ،‬السيما القرار ‪ ،2254‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫ا ّللجنة‬
‫الســوري في تقرير مستقبل البالد وتشكيل حكومة‬ ‫يؤكد على مرجعية الشّ ــعب ّ‬ ‫ّ‬
‫انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية‪.‬‬
‫على صعيد أدوار الفاعلين‪ ،‬يشهد الدّ ور ال ّتركي في الوقت الراهن دينامية الفتة‬
‫السوري‪ ،‬وإعالنها عن لقاءات‬ ‫التغير الملحوظ في موقف أنقرة من ال ّنظام ّ‬
‫بسبب ّ‬
‫الرئيس ال ّتركي رجب‬‫جمعت مســؤولين أتراك وسوريين‪ ،‬وح ّتى عن اســتعداد ّ‬
‫الرئيس األســد إن تط ّلب األمر‪ .‬وال ُيســتبعد أن يكون‬ ‫طيب إردوغان لمقابلة ّ‬
‫التغير عالقة باالنتخابات ال ّتركية‪ ،‬التي ستجري في يونيو‪ /‬حزيران ‪.2023‬‬ ‫ّ‬ ‫لهذا‬
‫السوريين من يد معارضيه الذين‬ ‫فالرئيس إردوغان يسعى لسحب ورقة الالجئين ّ‬ ‫ّ‬
‫يشــدّ دون على ال ّتطبيع مع األسد بسبب هذه الورقة‪ .‬و ُيتو ّقع أيضا أن يكون هذا‬
‫ّ‬
‫تحث تركيا‬ ‫التغير قد حصل بســبب مقتضيات العالقة مع روســيا‪ ،‬التي ما فتئت‬‫ّ‬
‫وأن تركيا تلعب دورا الوسيط الفاعل في الحرب‬ ‫خاصة ّ‬
‫على اتّخاذ هذه الخطوة‪ّ ،‬‬
‫الروسية األوكرانية‪ ،‬وأنقرة وموسكو كالهما العب أساسي في سوريا إلى جانب‬

‫‪131‬‬
‫أن سياسة تركيا‬ ‫إيران والواليات الم ّتحدة األميركية وإسرائيل‪ .‬أضف إلى ذلك‪ّ ،‬‬
‫السنوات األخيرة تميل نحو ال ّتهدئة‪.‬‬
‫الخارجية‪ ،‬ال سيما اإلقليمية‪ ،‬أصبحت في ّ‬
‫الســعودية واإلمارات ومصر‬ ‫وقــد تج ّلى ذلك بوضوح في تطوير العالقات مع ّ‬
‫وإسرائيل‪.‬‬
‫خاصة بعد اندالع الحرب‬ ‫ّ‬ ‫تغير سياستها في سوريا‪،‬‬
‫أ ّما الواليات الم ّتحدة‪ ،‬فلم ّ‬
‫الروســية على أوكرانيا وانشغال واشــنطن والغرب عموما بال ّتهديدات الخطيرة‬
‫ّ‬
‫لهــذه الحرب على األمن األوروبي وعلى االقتصاد العالمي‪ .‬وك ّلما طالت هذه‬
‫الروســي في المســتنقع األوكراني‪ ،‬سيتراجع نفوذ موسكو‬
‫الحرب‪ ،‬وزاد الغرق ّ‬
‫السورية إلى نوع من ال ّتسوية‪.‬‬
‫وتتغير موازين القوى بما يدفع األزمة ّ‬
‫ّ‬ ‫في سوريا‬
‫الراهن‪ ،‬وهما‬ ‫حركية في الوقت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفاعلين اإليراني واإلسرائيلي األكثر‬
‫ْ‬ ‫ويبقى دور‬
‫تركز نشاطها في سوريا على‬ ‫في مواجهة مباشرة ترتفع وتيرتها وتنخفض‪ .‬فإيران ّ‬
‫تعزيز وجودها العسكري ونفوذها داخل القرار السياسي في دمشق‪ ،‬معتمدة في‬
‫ذلك على أدواتها ال ّناعمة من قبيل تقديم المساعدات االقتصادية والتأثير الثّقافي‬
‫السوري‪ .‬وسيزداد تلقائيا اعتماد ال ّنظام‬‫والدّ يني في شرائح متزايدة من المجتمع ّ‬
‫تصعد إسرائيل من‬ ‫ّ‬ ‫الروسي‪ .‬في المقابل‪،‬‬‫السوري على إيران ك ّلما تراجع الدّ ور ّ‬ ‫ّ‬
‫تسميه‬
‫والصاروخية لمواقع إيران وحلفائها في سوريا في إطار ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجو ّية‬
‫ّ‬ ‫ضرباتها‬
‫استراتيجية "المعارك بين الحروب"‪ ،‬التي تستهدف منع استقرار إيران في سوريا‪،‬‬
‫الصواريخ‬ ‫الضربات على استهداف " ّ‬ ‫وتركز من خالل هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫كما فعلت في لبنان‪.‬‬
‫الدّ قيقة" لمنع اقتراب الميليشيات الموالية إليران من "حدودها"‪.‬‬

‫إلى أين تتجه األزمة السورية‬


‫الســورية خالل العام ‪ ،2022‬ســواء‬ ‫بناء على المعادلة التي انتهت إليها األزمة ّ‬
‫على مستوى مسار ال ّتفاوض أو على مستوى أدوار ا ّلالعبين وأجنداتهم اإلقليمية‬
‫والدّ ولية‪ُ ،‬يتو ّقع أن يكون المشهد ّ‬
‫السوري خالل العام ‪ 2023‬على ال ّنحو ال ّتالي‪:‬‬
‫تحول جذري في‬ ‫أي ّ‬ ‫السياســي‪ ،‬مع غياب ّ‬‫‪ -‬اســتمرار الجمود على المستوى ّ‬
‫عالقــة الفاعليــن اإلقليميين والدّ وليين ببعضهم البعــض‪ .‬فاإلطار العام ال يزال‬
‫ّ‬
‫الملف ال ّنووي اإليراني باســتئناف‬ ‫ذاتــه رغم ال ّتطورات الجزئية التي شــهدها‬

‫‪132‬‬
‫وتؤجل إلــى وقت الحق‪ ،‬ورغم اندالع‬
‫ّ‬ ‫المفاوضــات قبــل أن تتعثّر من جديد‬
‫أن أحدا من أطرافها يرغب في توسيع‬ ‫الروسية األوكرانية‪ ،‬التي ال يبدو ّ‬
‫الحرب ّ‬
‫الصراع الحالية‪.‬‬
‫نطاق تداعياتها المباشرة خارج ميادين ّ‬
‫‪ -‬استمرار الدور المحوري لتركيا في سوريا والذي ُيتو ّقع أن يكون أكثر حيو ّية‬
‫خالل العام ‪ ،2023‬مســتفيدا من ال ّنجاح الدبلوماسي الذي تح ّقق بفضل وساطة‬
‫الروســية األوكرانية لتســهيل عبور الحبــوب إلى بقية أنحاء‬ ‫أنقــرة في الحرب ّ‬
‫الروســية إلى أوروبا‪،‬‬ ‫تتوســع هذه الوســاطة لتشــمل عبور الطاقة ّ‬
‫العالم‪ .‬وقد ّ‬
‫ستســتمر‬
‫ّ‬ ‫التوصل إلى تســوية ما بين روســيا وأوكرانيا‪ .‬من جهة أخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ور ّبما‬
‫تركيــا في تنفيــذ أجندتها اإلقليمية لحماية أمنها القومي‪ ،‬والتي تقتضي منع قيام‬
‫أي كيان قومي كردي على حدودها الجنوبية‪ ،‬ما يعني استمرار وجودها العسكري‬ ‫ّ‬
‫خاصة بعد‬‫ّ‬ ‫السوري‪ .‬وســتزداد حاجتها إلى توسيع الحزام األمني‪،‬‬ ‫في الشّ ــمال ّ‬
‫وتعرض أمنها الداخلي لالختراق‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫الســورية‬
‫تعرضها لهجمات عبر الحدود ّ‬ ‫ّ‬
‫حصل في تفجير إســطنبول بتاريخ ‪ 13‬نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني ‪ .2022‬وســتظلّ‬
‫السوريين على أراضيها‪ ،‬والذين‬ ‫حل لمشــكلة ا ّلالجئين ّ‬
‫تركيا في حاجة إليجاد ّ‬
‫سياسيا‬
‫ّ‬ ‫الســوريون باتوا ّ‬
‫يشكلون تحدّ يا‬ ‫يبلغ عددهم قرابة ‪ 4‬ماليين‪ .‬فا ّلالجئون ّ‬
‫خاصة قبل االنتخابات القادمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واقتصاديا ضاغطا على الرئيس إردوغان وحزبه‪،‬‬
‫السوري الواقعة‬ ‫فالرئيس يسعى لـ"إعادة تسكين" مليون الجئ في مناطق الشّ مال ّ‬
‫تحت سيطرة المعارضة‪.‬‬
‫أن العالقات العربية واإلقليمية مع دمشق‬ ‫‪ -‬في ّ‬
‫ظل الممانعة األميركية‪ ،‬ال يبدو ّ‬
‫أن مســاعي تأهيل ال ّنظام ســتكون مثمرة‪ .‬فقانون‬ ‫ســتعود إلى طبيعتها قريبا‪ ،‬أو ّ‬
‫السوري‪،‬‬‫"قيصر"‪ ،‬الذي يضع قيودا شديدة على حركة ال ّتبادل ال ّتجاري مع ال ّنظام ّ‬
‫ّ‬
‫ويعطل‬ ‫من شــأنه أن يع ّقد األزمة االقتصادية واالجتماعية في مناطق ســيطرته‪،‬‬
‫ستستمر بعض الدّ ول‬
‫ّ‬ ‫مشاريع إعادة اإلعمار وال ّتنمية ومحاربة الفقر‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬مثل اإلمارات والبحرين والجزائر‪ ،‬في مساعيها لتطبيع العالقة مع دمشق‬
‫بقدر المتاح‪ ،‬وفي محاولة إعادتها إلى جامعة الدّ ول العربية‪ .‬أ ّما تركيا‪ ،‬فستبقى‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫عالقاتها مع ال ّنظام محكومة بحاجاتها األمنية والقومية وبعالقاتها الدّ ولية‪،‬‬
‫مع روسيا‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫يظل احتمال المواجهة المباشرة بين إسرائيل والميليشيات الموالية إليران في‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الصراع اإليراني اإلسرائيلي يتجاوز سوريا‪.‬‬ ‫سوريا عبر الحدود قائما‪ ،‬السيما أن ّ‬
‫يضم سوريا وحزب الله‬‫ّ‬ ‫فإيران تعمل في مواجهة إسرائيل في إطار محور أوسع‬
‫الصراع‬
‫تفجر ّ‬
‫في لبنان وقوى في المقاومة الفلســطينية‪ ،‬فتتعدّ د بال ّتالي أســباب ّ‬
‫وجبهاته الممكنة‪ .‬أ ّما إســرائيل‪ ،‬وفي إطار استراتيجية "المعركة بين الحروب"‪،‬‬
‫أن روسيا مشغولة بحربها‬‫خاصة ّ‬
‫ستسعى لمنع استقرار ال ّنفوذ اإليراني في سوريا‪ّ ،‬‬
‫أن دائرة ال ّتناقضات بينها وبين إسرائيل آخذة في االتّساع بسبب‬ ‫في أوكرانيا‪ ،‬كما ّ‬
‫الصراع إلى جانب المحور الغربي‪.‬‬ ‫لتل أبيب في ّ‬ ‫االنخراط المتزايد ّ‬
‫ستســتمر عملية إعادة تأهيل المعارضة وال ّنظام‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وســط كل هذه التفاعالت‪،‬‬
‫بالضرورة إلى إنضاج‬‫السياق ذاته عملية ال ّتفاوض دون أن تصل ّ‬ ‫وس ُتستأنف في ّ‬
‫حل م ّتفق عليه بين جميع األطراف خالل العام ‪ .2023‬من جانبها‪ ،‬يســتبعد أن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫التشكل‪ ،‬سواء‬ ‫ّ‬
‫ستظل باستمرار عرضة إلعادة‬ ‫الســورية‪ ،‬لك ّنها‬
‫تتوحد المعارضة ّ‬
‫ّ‬
‫الصراعات أو عبر ال ّتوافقات البينية أو بضغط خارجي لتتالءم مع الشّ ــروط‬‫عبر ّ‬
‫الصلة باألزمة‪.‬‬
‫والقرارات األممية ذات ّ‬

‫مقيد‬
‫معقد وأفق ّ‬
‫‪ .2‬ليبيا‪ :‬وضع ّ‬
‫السياســية في إجراء االنتخابات التي كانت مقررة‬ ‫الرغم من فشــل ّ‬
‫الطبقة ّ‬ ‫على ّ‬
‫األول ‪ ،2021‬دخلت ليبيا عام ‪ 2022‬على أمل ّ‬
‫تحســن‬ ‫فــي ديســمبر‪ /‬كانــون ّ‬
‫مر‬
‫ولكن هذا العام ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والهش‪.‬‬ ‫السياســي ال ّنســبي‬
‫الوضع العام وتعزيز االســتقرار ّ‬
‫كذلك دون تحقيق توافق سياسي يخرج البالد من أزمتها التي طال أمدها‪ .‬فقد‬
‫يتوصل ا ّلليبيون إلى توحيد ّ‬
‫مؤسساتهم‬ ‫ّ‬ ‫استمر االنقسام بين الشّ رق والغرب‪ ،‬ولم‬
‫ّ‬
‫أن األزمة التي تعيشها ليبيا ليست وليدة‬ ‫السياسية واألمنية والعسكرية‪ .‬والحقيقة ّ‬
‫ّ‬
‫الزمن‪ ،‬حين أفرزت انتخابات‬ ‫اليــوم‪ ،‬بــل تعود جذورها إلى أكثر من عقد مــن ّ‬
‫معمر ّ‬
‫القذافي‪ ،‬ثم‬ ‫المؤتمــر العام في صيف ‪ ،2012‬عقب اإلطاحة بنظام العقيد ّ‬
‫قوة المليشيات‬‫مؤسســيا هشّ ــا لم يصمد أمام ّ‬
‫انتخابات ‪ 2014‬البرلمانية‪ ،‬وضعا ّ‬
‫وسياسيا‬
‫ّ‬ ‫جغرافيا‬
‫ّ‬ ‫تمكنت تلك المليشــيات‪ ،‬المنقســمة‬ ‫للســاح‪ .‬فقد ّ‬ ‫الحاملة ّ‬
‫وإيديولوجيا‪ ،‬والمرتبطة بأجندات إقليمية متنافســة ومتناقضة‪ ،‬من إرباك المسار‬
‫ّ‬

‫‪134‬‬
‫االنتقالي واالنقالب عليه في النهاية‪ .‬وبين عامي ‪ 2019‬و‪ ،2020‬عاشت العاصمة‬
‫مقر حكومة الوفاق الوطني‪ ،‬حصارا عســكر ّيا بعد هجوم ش ّنه المشير‬
‫طرابلس‪ّ ،‬‬
‫المتقاعــد خليفــة حفتر تحت راية "الجيش الوطني الليبي"‪ ،‬القادم من الشــرق‬
‫والمدعوم من حكومة طبرق وبرلمانها‪.‬‬
‫وال يمكن فصل األزمة ا ّلليبية كما تج ّلت خالل عامي ‪ 2022-2021‬عن اإلطار‬
‫السياسي ا ّلليبي‪،‬‬ ‫السياســي لخارطة ّ‬
‫الطريق االنتقالية التي أفرزها حوار المنتدى ّ‬ ‫ّ‬
‫الذي انطلق في نهاية العام ‪ 2020‬بإشــراف أممي‪ .‬فقد أخفقت األطراف ا ّلليبية‬
‫في الوصول بتلك الخارطة إلى نهايتها‪ ،‬بما في ذلك تنظيم انتخابات عا ّمة قبل‬
‫نهايــة العام ‪ ،2021‬وانتهاء تفويض حكومــة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد‬
‫الطريق‬‫الدبيبة في يونيو ‪ .2022‬فقد شــهدت األزمة منعطفا جديدا في منتصف ّ‬
‫بعد أن سحب مجلس ال ّنواب الثّقة من حكومة الدبيبة قبل ثالثة أشهر من إجراء‬
‫االنتخابــات‪ ،‬وك ّلف فتحي باشــاغا في فبراير ‪ 2022‬بتشــكيل حكومة جديدة‪.‬‬
‫الســلطة ال ّتنفيذية التي بات يقودها رئيســان للوزراء‬
‫وبذلك عاد االنقســام إلى ّ‬
‫المتكررة والمتزايدة‬
‫ّ‬ ‫بشــرعيتين متنازعتين‪ ،‬وعاد معه ال ّتوتّر األمني واالشتباكات‬
‫في العاصمة وأجزاء أخرى من غرب ليبيا‪.‬‬
‫وعلى الرغــم من المبادرات اإلقليمية والدّ ولية المتعدّ دة‪ ،‬ومســاعي المبعوثين‬
‫الخاصيــن لألمــم الم ّتحدة‪ ،‬ودورات الحــوار ا ّلليبي التي جــرت في عواصم‬‫ّ‬
‫عربيــة وأوروبيــة وما أفضت إليه من اتفاقات‪ ،‬ال تزال الخالفات قائمة بشــأن‬
‫عدّ ة قضايا مثل األســاس الدّ ستوري‪ ،‬وتسلســل االنتخابات‪ ،‬وأحكام المرحلة‬
‫االنتقالية‪ ،‬وتوزيع المقاعد في البرلمان‪ ،‬وترتيبات الحكم المح ّلي‪ ،‬ومعايير أهلية‬
‫السياسي‪ ،‬وتتواصل معه‬ ‫المرشحين‪ .‬وفي مواجهة هذه القضايا‪ ،‬يتواصل المأزق ّ‬ ‫ّ‬
‫ال ّتهديدات األمنية با ّللجوء إلى استخدام ّ‬
‫القوة المس ّلحة‪ ،‬فتزداد ال ّتأثيرات ّ‬
‫السلبية‬
‫على األوضاع االقتصادية واالجتماعية‪.‬‬

‫تداعيات سلبية على الوضع االقتصادي واالجتماعي‬


‫مباشرا على الوضع االقتصادي‪،‬‬
‫ً‬ ‫يؤ ّثر غياب االســتقرار ّ‬
‫السياســي في ليبيا تأثيرا‬
‫والقوة‬
‫ّ‬ ‫المؤسسات والشّ رعية‬
‫ّ‬ ‫كما يؤ ّثر االنقسام بين الشّ رق والغرب على صعيد‬
‫العســكرية في قدرة الدولة على االســتفادة من مداخيل النفط باعتباره المورد‬

‫‪135‬‬
‫تحســنت أرصدة ال ّتجارة والحساب الجاري في ليبيا‬ ‫األساســي للميزانية‪ .‬وقد ّ‬
‫خالل العام ‪ 2021‬وبداية العام ‪ 2022‬بفضل زيادة إنتاج ال ّنفط وارتفاع أسعاره‪.‬‬
‫وأن سعر العملة‬‫الصعبة آمن ّ‬‫أن االحتياطي ا ّلليبي من العملة ّ‬
‫وكشفت ال ّتقديرات ّ‬
‫الوطنية شهد ثباتا نسبيا خالل هذه الفترة‪ ،‬قبل أن يبدأ باالنخفاض منذ سبتمبر‪/‬‬
‫الضغوط ألســباب داخلية وأخرى خارجية‪ .‬ورغم‬ ‫أيلول ‪ ،2022‬نتيجة اشــتداد ّ‬
‫أن الخالفات‬ ‫الجهود الدولية لتســهيل االتفاقيات ال ّتجارية قصيــرة األجل‪ ،‬إال ّ‬
‫األساســية ال تــزال قائمة حول قضايا مثل إعادة توحيــد البنك المركزي ا ّلليبي‬
‫موحدة وآليات شفافة لتقاسم عائدات‬ ‫وتفعيل مجلس إدارته وإنشاء ميزانية دولة ّ‬
‫ال ّنفط‪.‬‬
‫وقد تصاعد الخالف بين شهري يناير‪ /‬كانون الثاني وأبريل‪ /‬نيسان ‪ 2022‬بين‬
‫الرواتب والمدفوعات ال ّتشــغيلية‬
‫مجلس النواب والمجلس األعلى للدّ ولة حول ّ‬
‫للمؤسســة الوطنية للنفط‪ .‬وقد أ ّثر ذلك الخالف على المناقشــات التي كانت‬ ‫ّ‬
‫جارية بشأن ال ّترتيبات المالية المؤ ّقتة في لجنة المتابعة الدّ ولية لمجموعة العمل‬
‫تعرضت‬ ‫أن إدارة ا ّللجنة لهذه النقاشات ّ‬
‫ا ّلليبية المعنية بالقضايا االقتصادية‪ .‬كما ّ‬
‫النتقادات بسبب افتقارها للشّ فافية المحيطة بهدفها ووظيفتها‪.‬‬
‫السياسي وانفالت األعمال‬ ‫السلبية لالنقسام ّ‬
‫إلى جانب االنعكاسات االقتصادية ّ‬
‫المســ ّلحة خارج سلطة الدّ ولة‪ ،‬تبرز بعض ال ّتداعيات األمنية واإلنسانية المتمثّلة‬
‫في حركات ال ّنزوح الجماعي والمخاطر ال ّناجمة عن األلغام األرضية المزروعة‬
‫الص ّحية والمدارس‬ ‫حدي ًثــا‪ .‬كمــا ّ‬
‫تعرضت البنيــة ال ّتحتية الحيوية مثل الرعايــة ّ‬
‫ألضــرار متفاوتة الخطورة وعمليات تدميــر ممنهج في أكثر من منطقة‪ .‬يضاف‬
‫المدنيين وانتشــار المقابر الجماعية التي تحتوي‬
‫ّ‬ ‫إلــى ذلك‪ ،‬فقدان المئات من‬
‫على عشــرات الجثث مجهولة الهوية‪ .‬ويعاني المهاجرون وطالبو ا ّللجوء الذين‬
‫يعبرون ال ّتراب ا ّلليبي من سوء المعاملة واالبتزاز واالحتجاز ال ّتعسفي‪.‬‬

‫الوضع األمني ودور األطراف الخارجية‬


‫السياســي‪ ،‬يتواصل تدهور الوضع األمني ​بعد أن‬ ‫على خلفية اســتمرار المأزق ّ‬
‫الســلطات في إحراز تقــدّ م حقيقي في إصالح قطــاع األمن‪ .‬كما ّ‬
‫أن‬ ‫أخفقــت ّ‬
‫السيطرة‬
‫مســاعي استمرار الهدنة ووقف إطالق ال ّنار مهدّ دة بسبب ال ّتنافس على ّ‬
‫‪136‬‬
‫علــى األراضي بين الجماعات المســ ّلحة‪ ،‬ال ســيما فــي طرابلس وبلدات في‬
‫الشّ ــمال الغربي‪ .‬وفي األشهر األخيرة‪ ،‬تصاعدت الخالفات بين الكتائب ال ّتابعة‬
‫لـ"لجيــش الوطني الليبي" بقيادة خليفة حفتر والقوات الداعمة لحكومة الوحدة‬
‫الوطنيــة‪ .‬وقد بلــغ ال ّتوتّر ذروته في ‪ 16‬مايو‪ /‬أيــار ‪ 2022‬عندما حاول رئيس‬
‫الحكومة المك ّلف من مجلس ال ّنواب‪ ،‬فتحي باشــاغا‪ ،‬دخول طرابلس لتنصيب‬
‫حكومته‪ .‬فانتهت تلك المحاولة باشتباكات بين القوات المرافقة والقوات الموالية‬
‫لحكومة عبد الحميد الدبيبة‪.‬‬
‫و ُيمثّــل وجود المرتزقة األجانب عامال إضافيا لتهديد االســتقرار في ليبيا‪ .‬فقد‬
‫نشبت في شرق البالد خالل األشهر األخيرة مواجهات مس ّلحة بين قوات حفتر‬
‫السودانيين‪ .‬وتنشط في مناطق‬ ‫وجماعات المعارضة المس ّلحة التشادية والمرتزقة ّ‬
‫ليبية مختلفة مجموعات أخرى من المرتزقة م ّتهمة بالعمل لصالح دول عربية إلى‬
‫جانب روســيا وتركيا‪ .‬وقد كشــفت تقارير استفادة هؤالء المرتزقة من انتهاكات‬
‫حظر األسلحة رغم جهود المستشار الخاص لألمم الم ّتحدة وبعثة األمم الم ّتحدة‬
‫خطة عمل لسحب المرتزقة والمقاتلين األجانب‬ ‫الرامية لتفعيل ّ‬
‫للدّ عم في ليبيا‪ّ ،‬‬
‫والقوات األجنبية من األراضي ا ّلليبية‪.‬‬

‫ا ّتجاهات األزمة الليبية في العام ‪2023‬‬


‫والتطورات التي شهدتها ليبيا في العام ‪ ،2022‬ال يمكن‬
‫ّ‬ ‫بناء على المعادلة الراهنة‬
‫تو ّقع حدوث إصالحات سياسية واقتصادية فعلية خالل العام ‪ 2023‬دون اتّخاذ‬
‫مجموعة من الخطوات أبرزها‪:‬‬
‫‪ -‬تعديل المقاربة األممية في ال ّتعامل مع األزمة ا ّلليبية وأطرافها المح ّلية واإلقليمية‬
‫التحيزات والمجامالت التي ســادت خالل المرحلة الســابقة‪ ،‬ووضع‬ ‫ّ‬ ‫بعيدا عن‬
‫مصلحة ليبيا واستقرارها قبل مصالح القوى المتصارعة عليها وعلى ال ّنفوذ فيها‪.‬‬
‫‪ -‬جلــوس األطراف ا ّلليبية على طاولة الحــوار وفق أجندة وطنية جامعة تضع‬
‫على رأس أولوياتها ال ّتسريع بإجراء انتخابات عا ّمة واالتّفاق على إطار دستوري‬
‫السياســية والعســكرية واألمنيــة بعيدا عن تضارب‬
‫مؤسســات الدّ ولة ّ‬ ‫وتوحيد ّ‬
‫األجندات السياسية والفصائلية والقبلية والمناطقية‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫مكونــات ليبية أخرى مثــل المجتمع المدني‬ ‫‪ -‬توســيع مائدة الحوار لتشــمل ّ‬
‫واألهلــي‪ ،‬مع تركيز الحوار على قضايا المرحلــة االنتقالية قصيرة المدى بد ً‬
‫ال‬
‫للصراع‪ ،‬التي ال يمكن ح ّلها إال في إطار‬
‫السعي لمعالجة األسباب الجذرية ّ‬ ‫من ّ‬
‫وموحدة تحظى باعتراف الجميع وبشرعية كاملة‪.‬‬‫ّ‬ ‫مؤسسات قو ّية‬
‫ّ‬
‫وقبل أن تتح ّقق هذه الشّ ــروط‪ ،‬التي من شــأنها وضع حدّ لحالة عدم االستقرار‬
‫ســتظل الفرص المتاحة أمــام إمكانية تحقيــق إصالحات اقتصادية‬ ‫ّ‬ ‫السياســي‪،‬‬
‫ّ‬
‫بأي حال أن الخزانة الليبية‬ ‫كبرى خالل العام ‪ 2023‬مســتبعدة‪ .‬وال يعني ذلك ّ‬
‫لن تســتفيد من ارتفاع أســعار ال ّنفط العالمية إذا تمكنت من الحفاظ على وتيرة‬
‫اإلنتاج وال ّتصدير دون اضطراب‪ ،‬أو زيادته مقارنة بمســتويات اإلنتاج في عامي‬
‫الصعيد األمني‪ُ ،‬يتو ّقع أن تتفاقم ال ّتحديات األمنية مع تزايد‬
‫‪ 2021‬و‪ .2022‬وعلى ّ‬
‫الروسية‬‫المســلح‪ .‬وقد ُيسهم استمرار الحرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫والصراع‬
‫ّ‬ ‫االنزالقات نحو العنف‬
‫على أوكرانيا وما قد ُتحدثه من اضطرابات في سالسل ال ّتوريد وزيادة حا ّدة في‬
‫أســعار المواد االستهالكية األساسية في انخفاض القدرة الشّ رائية وتهديد األمن‬
‫الغذائي وزيادة أسباب االضطرابات االجتماعية‪.‬‬
‫متنازعتي الشّ رعية في الشّ رق والغرب‬
‫ْ‬ ‫وأخيرا‪ ،‬سيؤ ّدي استمرار وجود حكومتين‬
‫إلى منع ال ّتوافق بشأن إدارة واستخدام عائدات النفط‪ ،‬وإعاقة قدرة الدّ ولة على‬
‫مو العالمي والدّ خول في حالة ركود‬ ‫تقديــم الخدمات العا ّمة‪ .‬كمــا ّ‬
‫أن تباطؤ ال ّن ّ‬
‫الطلب على ال ّنفط‬‫اقتصادي‪ ،‬حســب أغلب التقديرات‪ ،‬ســيقود إلى انخفاض ّ‬
‫واختالل ميزان المدفوعات وتراجع أرصدة الدّ ولة من احتياطي ال ّنقد األجنبي‪.‬‬

‫‪ .3‬اليمن‪ :‬هدنة بعد تصعيد وغياب للحل الدائم‬


‫الســبعة عنفــا في اليمن بفضل الهدنة التي‬
‫أقل أعوام الحرب ّ‬ ‫ُيعــدّ العام ‪ّ 2022‬‬
‫الصراع في عقدها برعاية أممية منذ أبريل‪ /‬نيسان ‪ .2022‬وعلى‬ ‫نجحت أطراف ّ‬
‫السياسي‪ ،‬كانت أبرز األحداث‪ ،‬على ق ّلتها‪ ،‬في جانب الحكومة المعترف‬ ‫الصعيد ّ‬
‫ّ‬
‫دوليا‪ ،‬التي اخت ّلت صفوفها وتع ّقدت ارتباطاتها الخارجية‪ ،‬خاصة بعد عودتها‬
‫بها ًّ‬
‫الحوثيون‪ ،‬فرغم خسائرهم الميدانية في شبوة وتعز‪ ،‬استمروا في‬ ‫ّ‬ ‫إلى عدن‪ .‬أ ّما‬
‫خاصة فــي محافظتي البيضاء وصنعاء‪.‬‬‫ّ‬ ‫تعزيــز ســيطرتهم على المناطق القبلية‪،‬‬

‫‪138‬‬
‫شن‬
‫السعودية واإلمارات من خالل ّ‬ ‫استمروا في تهديد أجواء ّ‬
‫ّ‬ ‫وفي الوقت ذاته‪،‬‬
‫المسيرة‪ ،‬كما أظهروا قدرة كبيرة على استدامة ال ّتهديد‬
‫ّ‬ ‫هجمات ّ‬
‫متقطعة بالطائرات‬
‫البحري الذي تج ّلى أساســا في اختطاف ّ‬
‫الســفينة اإلماراتية "روابي"‪ .‬وفيما يلي‬
‫أبرز تلك األحداث وتأثيراتها على الجانبين‪.‬‬
‫الرياض برعاية‬ ‫‪ -‬المشــاورات اليمنية ‪ -‬اليمنية‪ :‬جرت هذه المشــاورات فــي ّ‬
‫مجلــس ال ّتعاون الخليجــي في الفترة بين ‪ 29‬مارس‪ /‬آذار و‪ 7‬أبريل‪ /‬نيســان‬
‫الحوثيين‪ .‬وشــارك فيها نحو سبعمائة شخص مثَّلوا معظم‬
‫ّ‬ ‫‪ 2022‬دون مشــاركة‬
‫الرئيس عبد ربه منصور هادي‬ ‫َّ‬
‫وشكلوا غطاء إلزاحة ّ‬ ‫القوى المنحازة للحكومة‪،‬‬
‫الســلطة‪ ،‬ونقل صالحياتهما إلى مجلس قيادة‬ ‫ونائبه علي محســن األحمر من ّ‬
‫الرئيس هادي في نهاية‬‫الرئاسي‪ ،‬الذي أعلن عنه ّ‬‫تشكل المجلس ّ‬ ‫رئاســي‪ .‬وقد ّ‬
‫وتضمن اإلعالن‬
‫ّ‬ ‫الع ِليمي‪.‬‬
‫المشــاورات‪ ،‬من ثمانية أعضاء بقيادة رشــاد محمد َ‬
‫تشكيل هيئات وفرق عمل داعمة للمجلس‪ ،‬منها هيئة ال ّتشاور والمصالحة وفريق‬
‫قانوني وفريق اقتصادي‪ ،‬إضافة إلى لجنة عسكرية وأمنية‪.‬‬
‫‪ -‬عودة القيادة إلى عدن وتعزيز سلطاتها على أرض الواقع‪ :‬في النصف الثاني‬
‫من أبريل‪ /‬نيســان ‪ 2022‬عاد أعضاء الحكومة ومجلس ال ّنواب ومجلس القيادة‬
‫الرئاســي إلى عدن‪ ،‬وأجريت تعديالت وزار ّية وتعيينات لرؤساء مجلس القضاء‬ ‫ّ‬
‫األعلــى والمحكمة العليا‪ ،‬إلى جانب تغييرات في عدد من القيادات الوســطى‬
‫ولكن مجلس القيادة لم يصمد طويال نتيجة خالفات‬‫ّ‬ ‫لألجهزة العسكرية واألمنية‪.‬‬
‫الزبيدي‪ .‬وعقب اندالع‬
‫داخلية‪ ،‬ال سيما بين الرئيس وعضو المجلس عيدروس ّ‬
‫الخاصة في‬
‫ّ‬ ‫المواجهات المســ ّلحة في شــبوة بين المحافظ وقائد ّ‬
‫قوات األمن‬
‫ّ‬
‫وظل‬ ‫الرياض‪،‬‬
‫أغســطس‪ /‬آب‪ ،‬غــادر مجلس القيادة إلى أبو ظبي ومنهــا إلى ّ‬
‫هناك إلى حدود أكتوبر‪ /‬تشرين األول‪.‬‬
‫‪ -‬معارك شــبوة وتمدّ د المجلس االنتقالي الجنوبي‪ :‬حدثت تلك االشــتباكات‬
‫في مدينة َعتَق‪ ،‬المركز اإلداري لمحافظة شبوة‪ ،‬خالل األسبوع األول من شهر‬
‫أغسطس‪ /‬آب ‪ ،2022‬بين قوات موالية للمحافظ عوض العولقي‪ ،‬وقوات األمن‬
‫الخاصة بقيادة العميد عبد ر ّبه َل ْع َكب‪ ،‬وانتهت لمصلحة المحافظ‪ .‬وقد أفسحت‬
‫ّ‬
‫إماراتيا‪ ،‬للتمدُّ د‬
‫ًّ‬ ‫تلك النتيجة المجال أمام المجلس االنتقالي الجنوبي‪ ،‬المدعوم‬

‫‪139‬‬
‫في محافظتي أ ْب َين وحضرموت‪ ،‬قبل أن تعود القوات الموالية للمجلس االنتقالي‬
‫قوات االنتقالي وتنظيم القاعدة وجماعة الحوثي‬‫لتخوض سلســلة معارك أمام ّ‬
‫وتستعيد مواقعها في حضرموت‪.‬‬
‫وقــوات ال ّتحالف‪ :‬في الثّالث من يناير‪ /‬كانون‬
‫ّ‬ ‫الحوثيين‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬تصعيــد متبادل بين‬
‫الســفينة "روابي"‪ ،‬التــي كانت تحمل العلم‬ ‫الحوثيون ّ‬
‫ّ‬ ‫الثانــي ‪ ،2022‬اختطــف‬
‫اإلماراتي واقتادوها إلى ميناء الحديدة‪ ،‬بينما كانت في طريقها إلى ميناء جيزان‪،‬‬
‫شــن‬
‫ّ‬ ‫قادمة من جزيرة ســقطرى‪ .‬وعلى امتداد ال ّنصف الثاني من الشّ ــهر ذاته‪،‬‬
‫المسيرة على دبي وأبو ظبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالصواريخ البالستية ّ‬
‫والطائرات‬ ‫الحوثيون هجمات ّ‬ ‫ّ‬
‫الرئيس اإلسرائيلي‪ ،‬فر ّدت اإلمارات‬‫وقد تزامنت بعض تلك الهجمات مع زيارة ّ‬
‫جوية استهدفت مواقع عسكرية في صنعاء‪ .‬وخالل شهري فبراير‪ /‬شباط‬ ‫بغارات ّ‬
‫السعودية في ينبع‬
‫الحوثيون هجمات على شــركة أرامكو ّ‬ ‫ّ‬ ‫شــن‬
‫ّ‬ ‫ومارس‪ /‬آذار‪،‬‬
‫جوية على صنعاء وصعدة‬ ‫الرياض بغــارات ّ‬ ‫شــمالي جــدّ ة وفي جيزان‪ ،‬فر ّدت ّ‬
‫والحديدة وعمران‪.‬‬
‫ــبوة وتعز‬‫الحوثيون هزيمة عســكرية في َش ْ‬‫ّ‬ ‫تكبد‬
‫للحوثيين‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬تراجعات ميدانية‬
‫القوات الحكومية في مديريات َب ْيحان‪،‬‬ ‫خالل عملية "إعصار الجنوب"‪ ،‬التي ش ّنتها ّ‬
‫وع ْين‪ ،‬التي كانوا قد سيطروا عليها في سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ .2021‬انطلقت‬ ‫وعسيالن‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫وتركزت‬ ‫تلــك العملية مطلع يناير‪ /‬كانون الثاني ‪ ،2022‬بقيادة "ألوية العمالقة"‪،‬‬
‫حجة‪،‬‬
‫جنوبي مأرب المجاورة لشبوة‪ ،‬وفي تعز‪ ،‬ومدينة َح َرض شمالي محافظة ّ‬
‫اضطرت‬
‫ّ‬ ‫الحوثية التي‬
‫ّ‬ ‫بالقوات‬
‫ّ‬ ‫واســتمرت ح ّتى مارس‪ /‬آذار‪ ،‬وألحقت الهزيمة‬
‫ّ‬
‫لل ّتراجع واالنسحاب‪.‬‬
‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫تمكن مبعوث األمم الم ّتحدة‬‫‪ -‬هدنة مؤقتة بأفق وقف دائم إلطالق النار‪ّ :‬‬
‫الصراع لل ّتوقيع على اتّفاق هدنة‬ ‫إلــى اليمن‪ ،‬هانس غروندبرغ‪ ،‬من دفع أطراف ّ‬
‫إنســانية لمدّ ة شــهرين‪ ،‬بدأت في الثّاني من أبريل‪ /‬نيسان ‪ 2022‬ووقع تمديدها‬
‫وخارجيا‪ّ ،‬برا‬
‫ّ‬ ‫داخليا‬
‫ّ‬ ‫وتضمن االتّفاق وقفا شــامال للعمليات العسكرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مرتين‪.‬‬
‫ّ‬
‫عمان والقاهرة‪ .‬وقد‬ ‫أســبوعيا إلــى ّ‬
‫ًّ‬ ‫وجوا‪ ،‬وفتح مطار صنعاء لرحلتين‬
‫ّ‬ ‫وبحــرا‬
‫الحديدة‪.‬‬ ‫محملة بالوقود شهر ًّيا إلى ميناء ُ‬
‫ّ‬ ‫سمحت هذه الهدنة بدخول ‪ 16‬سفينة‬
‫وفي الثّاني من أكتوبر‪ /‬تشرين األول‪ ،‬تعثَّر تمديد الهدنة لفترة ثالثة بعد اشتراط‬

‫‪140‬‬
‫المدنيين والعسكريين‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الموظفين‬ ‫الحوثيين تحميل الحكومة مسؤولية دفع رواتب‬
‫ّ‬
‫استمرت الهدنة بشكل غير معلن‬ ‫ّ‬ ‫والمتقاعدين في مناطق سيطرتهم‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫المتكررة لوقف إطالق ال ّنار‪ ،‬كان أبرزها هجومان‬
‫ّ‬ ‫واســتمرت معها الخروقات‬
‫ّ‬
‫الحوثيون في أكتوبر‪ /‬تشرين األول على مينائي ال ّنشيمة‬
‫ّ‬ ‫مسيرة ش ّنهما‬
‫بطائرات ّ‬
‫والضبة في حضرموت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في شبوة‬

‫اتجاهات األزمة اليمنية ومستقبلها‬


‫أساسيان‪ّ ،‬أولهما‬
‫ّ‬ ‫يتحكم في اتّجاهات األزمة اليمنية خالل العام ‪ 2023‬عامالن‬ ‫ّ‬
‫دوليا‪ ،‬وثانيهما مسار‬
‫الحوثيين والحكومة المعترف بها ّ‬‫ّ‬ ‫مصير الهدنة اإلنسانية بين‬
‫الصراع‪ :‬ال ّتحالف‬
‫الراعية ألطراف ّ‬‫السياســي ومواقف القوى اإلقليمية ّ‬ ‫االنتقال ّ‬
‫للحوثيين من جهة أخرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الدّ اعم للحكومة "الشرعية" من جهة‪ ،‬وإيران الدّ اعمة‬
‫السالم‪ :‬هذا االتجاه أقرب للتح ّقق‪،‬‬
‫‪ -‬االتّجاه األول‪ ،‬صمود الهدنة وتقدّ م عملية ّ‬
‫زمنيا وتوسيع نطاقها من‬
‫فالمســاعي الدّ ولية جارية الســتمرار الهدنة وتمديدها ّ‬
‫الحوثيين استعداد لذلك‪ ،‬إذا ما اس ُتجيب‬
‫ّ‬ ‫حيث الموضوعات التي تشملها‪ .‬ولدى‬
‫خاصة بعد المكاسب التي تح ّققت لهم خالل فترة‬ ‫ّ‬ ‫للحدّ المعقول من مطالبهم‪،‬‬
‫أقل من كلفة الحــرب‪ .‬فرغم عدم تمديد الهدنة بعد‬ ‫وقــف إطــاق ال ّنار بكلفة ّ‬
‫الحوثيون عن اســتئناف‬
‫ّ‬ ‫انقضائها في الثّاني من أكتوبر‪ /‬تشــرين األول‪ ،‬أحجم‬
‫المعارك على نطاق واســع‪ ،‬واكتفوا بضربات تحذيرية اســتهدفت منشآت نفطية‬
‫تمكنوا بواســطتها من إيقاف تصدير ال ّنفط‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬هناك‬ ‫داخل اليمن‪ّ ،‬‬
‫حاجة خليجية عربية وأميركية إليقاف الحرب‪ ،‬أو على األقل تمديد الهدنة إلى‬
‫فتــرة أطول‪ .‬أ ّما إيران‪ ،‬فقد شــغلتها مؤ ّقتا االحتجاجــات الدّ اخلية‪ ،‬إلى جانب‬
‫تعثّــر مفاوضــات مل ّفها ال ّنووي التي يمكــن أن تنطلق من جديد بعد أن انتهت‬
‫دوليا‬
‫أن الحكومة اليمنية المعترف بها ّ‬ ‫االنتخابــات ال ّنصفية األميركية‪ .‬وال يبدو ّ‬
‫تملك شيئا كثيرا من أمرها للوقوف في معارضة هذا االتجاه‪.‬‬
‫‪ -‬االتّجاه الثّاني‪ ،‬انهيار الهدنة وتجدّ د العمليات العسكرية‪ :‬يمكن أن يرجح هذا‬
‫الحوثيين من وراء الهدنة ولم تتح ّقق شروطهم‬
‫ّ‬ ‫االتّجاه إذا ما تراجعت مكاسب‬
‫نهائيا‪ .‬وفي ّ‬
‫كل األحوال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الملف ال ّنووي اإليراني ّ‬ ‫الجديدة‪ ،‬أو تو ّقفت مفاوضات‬

‫‪141‬‬
‫مضي عدّ ة أشهر من بداية العام ‪ ،2023‬حيث من‬ ‫ّ‬ ‫لن ي ّتضح الموقف الحوثي قبل‬
‫تستمر المساعي األممية والعربية لمنع تجدّ د القتال‪ .‬إ ّما إذا انهارت‬
‫ّ‬ ‫المتو ّقع أن‬
‫وصل إلى حلول سياسية‬ ‫أي ظرف‪ ،‬قبل االتّفاق على تجديدها أو ال ّت ّ‬‫الهدنة تحت ّ‬
‫وتستمر هذه األزمة المتطاولة إلى‬
‫ّ‬ ‫طويلة األمد‪ ،‬ستعود البالد إلى مستنقع العنف‬
‫سنوات أخرى‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫السودان‪ :‬أزمات الموجة الثانية‬
‫لبنان‪ ،‬العراق‪ّ ،‬‬
‫إعداد جماعي‬

‫مقدمة‬
‫قبل أن تنقضي العشــرية األولى لثــورات الربيع العربي‪ ،‬التي انطلقت في نهاية‬
‫ال من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين‪ ،‬انطلقت‬ ‫‪ ،2010‬وشملت ك ّ‬
‫في عدد آخر من البلدان العربية موجة ثانية من الحركات االحتجاجية‪ ،‬شــملت‬
‫السودان والجزائر ولبنان والعراق‪ .‬وقد نجحت هذه االحتجاجات‪ ،‬مثل سالفتها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫في إحداث تغييرات سياســية محدودة على رأس أنظمة الحكم‪ ،‬فأطاحت بعمر‬
‫السودان‪ ،‬وبوتفليقة في الجزائر‪ ،‬ودفعت حكومتي لبنان والعراق إلى‬ ‫البشير في ّ‬
‫االســتقالة‪ .‬وال تزال األوضاع السياسية في ثالثة من تلك البلدان مضطربة‪ ،‬في‬
‫حين تفاقمت أوضاعها االقتصادية واالجتماعية في ّ‬
‫ظل تدخالت إقليمية لم تزد‬
‫تلك األزمات ّإاّل تعقيدا‪.‬‬
‫فلبنــان‪ ،‬الواقع فــي قلب صراع إقليمي متصاعد وتنافس حا ّد على تحديد دوره‬
‫ومصيره‪ ،‬فشــلت قواه السياســية والطائفية في االتّفاق ح ّتى على انتخاب رئيس‬
‫الرئيس ميشــال عون‪ .‬ولم يعــد اتّفاق الطائف‪ ،‬اإلطار‬ ‫جديــد بعد انتهاء والية ّ‬
‫تتحرك ضمنه المعادلــة الداخلية منذ أكثر مــن ثالثين عاما‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المرجعــي الــذي‬
‫التكيف مع المعطيات الجديدة‪ .‬ومع تواصل األزمة‬ ‫ّ‬ ‫قادرا على االســتمرار دون‬
‫حل رغم تعدّ د المبادرات‪ ،‬يتواصل شبح الحرب‪ ،‬سواء‬ ‫االقتصادية والمالية دون ّ‬
‫في شــكل مواجهة ثنائية بين لبنان وإســرائيل‪ ،‬أو في سياق حرب إقليمية يكون‬
‫أساســيا فيها‪ .‬وال يبعد الوضع العراقي كثيــرا عن الوضع اللبناني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لبنــان طرفا‬
‫التدخل الخارجي‪ ،‬أو في عجز األطراف الدّ اخلية عن االتّفاق‬ ‫ّ‬ ‫ســواء في حجم‬
‫وتمهد لمعالجة األزمة االقتصادية المتفاقمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على تسوية سياسية تح ّقق االستقرار‬
‫السوداني تحقيق إنجازات‬ ‫وال ُيتو ّقع من حكومة "اإلطار التنسيقي" بقيادة شياع ّ‬
‫وأن أولويتها ت ّتجه نحو تنظيم انتخابات ّ‬
‫مبكرة‬ ‫خاصة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُتذكــر على هــذا الصعيد‪،‬‬
‫قبل نهاية العام ‪ ،2023‬في ظل اســتقطاب سياسي حا ّد وتحدّ يات أمنية متزايدة‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫الســودان‪ ،‬وبعد نهاية اإلدارة المشــتركة للمرحلة االنتقالية بســبب تصاعد‬‫أما ّ‬
‫بالسلطة بداية‬
‫المكونين العســكري والمدني‪ ،‬واستئثار العسكريين ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخالف بين‬
‫من أكتوبر‪ /‬تشــرين األول ‪ ،2021‬فقد دخل في مأزق حا ّد ال يبدو أن الخروج‬
‫منه ســيكون قريبا‪ .‬ولم تعد الخالفات منحصرة بين العســكريين والمدنيين‪ ،‬بل‬
‫المكون المدني الذي انقســم بدوره إلى أكثر من طرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتعمقت بين‬
‫ّ‬ ‫توســعت‬
‫ّ‬
‫دب الخالف بين العســكريين حول عالقتهم بالمدنيين من ناحية‪ ،‬ودورهم‬ ‫كما ّ‬
‫التدخل الخارجي دورا‬
‫ّ‬ ‫وموقعهم من الحياة السياســية من ناحيــة ثانية‪ .‬ويلعب‬
‫إضافيــا في تعقيد هذه األزمة‪ ،‬مــع اختالف أجندات األطراف اإلقليمية المعنية‬
‫السوداني‪.‬‬
‫بالشأن ّ‬
‫يستعرض هذا ال ّتقرير أبرز العوامل المؤ ّثرة في األزمات التي يعيشها ُك ّل من لبنان‬
‫والســودان‪ ،‬هذا الثّالثي الذي شــملته الموجة الثانية من االحتجاجات‬ ‫والعراق ّ‬
‫الشــعبية بين عامي ‪ 2019‬و‪ .2020‬فكثير من مظاهر هذه األزمات متشــابه‪ ،‬وال‬
‫وتدخالت‬
‫ّ‬ ‫ظل تحديات اقتصادية خانقة‬‫خاصة في ّ‬ ‫ّ‬ ‫تختلف أساليب إدارتها كثيرا‪،‬‬
‫خارجية متزايدة‪.‬‬

‫‪ .1‬األزمة اللبنانية وأولوية الحفاظ على الطائف‬


‫السياســي‬
‫الصعيدين ّ‬
‫ازدادت األزمــة اللبنانيــة خالل العــام ‪ 2022‬تعقيدا على ّ‬
‫واالقتصادي‪ ،‬وأخفقت المســاعي اإلقليمية والدولية في تخفيف حدّ تها وإيجاد‬
‫الحلول المناسبة‪ .‬ويواجه لبنان أربعة تحدّ يات أساسية سترسم حدود هذه األزمة‬
‫ووجهتها في العام ‪:2023‬‬
‫السنوات األخيرة بلبنان‬
‫تطورات ّ‬‫استمرار لبنان في قلب ال ّنزاع اإلقليمي‪ :‬دفعت ّ‬
‫إلى الض ّفة اإليرانية أكثر‪ ،‬مع تراجع ال ّتأثير العربي والدّ ولي بصورة ملحوظة‪ .‬وال‬
‫يزال ال ّنزاع الجيوسياسي على موقعه ودوره مستعرا في سياق مواجهة إقليمية بين‬
‫تســتمر هذه المواجهة‬
‫ّ‬ ‫القوى المؤ ّثرة في معادلته الداخلية‪ ،‬وعلى رأســها إيران‪.‬‬
‫بال ّتوازي مع تفاعالت "انتفاضة تشــرين ‪ ،"2019‬وبوجه أخص مع خروج ســعد‬
‫أن جذور األزمة‬ ‫الحريري من رئاسة الحكومة واعتزاله الحياة السياسية‪ .‬ال ّ‬
‫شك ّ‬
‫أبعد من ذلك‪ ،‬فقد بدأت مع تراجع الطائف واغتيال الحريري األب سنة ‪.2005‬‬

‫‪144‬‬
‫السنة إلى تراجع نفوذها في المعادلة‬
‫وقد أ ّدى انسحاب سوريا من لبنان في نفس ّ‬
‫ا ّللبنانية وتزايد التحدّ يات الجيوسياســية أمام سياساتها اإلقليمية‪ .‬وازدادت تلك‬
‫التحدّ يــات مــع موجة الثّورات العربية التي شــملتها من ضمن عدد من الدّ ول‬
‫العربية‪.‬‬
‫وإقليميا واتّســع مع اتّســاع دائرة حلفائها في‬
‫ّ‬ ‫لبنانيا‬
‫ّ‬ ‫تعزز دور إيران‬
‫في المقابل‪ّ ،‬‬
‫السورية‬
‫الساحة ّ‬‫خاصة في ّ‬‫ّ‬ ‫المنطقة‪ ،‬وعلى رأسهم حزب الله‪ .‬تج ّلى ذلك ا ّلدور‬
‫السياسي والعسكري في دمشق‪ .‬فقد أصبح‬ ‫حيث تزايد تأثير طهران على القرار ّ‬
‫رئيســية في تنفيذ سياســتها‬
‫ّ‬ ‫لبنانيا‪ ،‬وفي الوقت ذاته أداة‬
‫ّ‬ ‫حزب الله‪ ،‬بوصفه كيانا‬
‫ّ‬
‫محاّل‬ ‫يشكل تحدّ يا لعالقات لبنان مع محيطه العربي والدّ ولي‪ .‬وبات‬ ‫اإلقليمية‪ّ ،‬‬
‫لتقاطع ال ّنزاعات اإلقليمية الم ّتصلة بإيران‪ ،‬ســواء في سوريا أو غيرها‪ .‬وسيبقى‬
‫وإقليميا أحد أســباب‬
‫ّ‬ ‫ال ّنــزاع على وظيفة حزب الله األمنية والعســكرية مح ّليا‬
‫ال ّتوتّــر في لبنان‪ ،‬وعامال أساســيا في تمديد أمد أزمته‪ .‬وكان ســاح الحزب‪،‬‬
‫محل نقاش لم يكتمل على طاولة حوار لبنانية تحت‬ ‫ّ‬ ‫مفتاح وظيفته العســكرية‪،‬‬
‫أن الحــزب ال يرفض‪ ،‬من حيث المبدأ‪،‬‬ ‫عنــوان "االســتراتيجية الدفاعية"‪ .‬ومع ّ‬
‫ال ّنقاش حول دور ســاحه وحدود اســتخدامه‪ ،‬إال أنّه يضع ذلك ضمن ســياق‬
‫تطوير ال ّنظام ا ّللبناني‪ ،‬وليس بالخضوع لل ّنظام الحالي‪ .‬جدير بالذكر ّ‬
‫أن المبادرة‬
‫الفرنسية لتحييد لبنان عن نزاعات اإلقليم بعد انفجار بيروت قد فشلت‪ ،‬وال يبدو‬
‫أن هذا التحييد سيتح ّقق في المستقبل المنظور‪ .‬وتكمن خطورة هذا التحدّ ي في‬
‫وأي مبادرة ّ‬
‫لحل‬ ‫ألي جهد دولي أو عربي لمساعدة لبنان‪ّ .‬‬ ‫كونه مدخال ضرور ّيا ّ‬
‫سياسيا واقتصاد ّيا ينبغي أن تبدأ بمعالجة هذا التحدّ ي‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ّ‬ ‫أزمة البالد المتفاقمة‬
‫دور حزب الله المتعاظم قد أصبح مقلقا للجميع‪.‬‬
‫الطائف من أجل إيقاف الحــرب ا ّللبنانية وإعادة‬‫تصــدّ ع اتّفــاق الطائف‪ :‬جــاء ّ‬
‫حل الميليشــيات من أبرز عناوينه‪ .‬ولكن‪ ،‬بعد أكثر من‬ ‫تأســيس الدّ ولة‪ ،‬وكان ّ‬
‫بمؤسسات‬ ‫ّ‬ ‫ثالثين عاما على توقيع االتّفاق‪ ،‬يجد لبنان نفسه على حا ّفة االنهيار‪،‬‬
‫أهلية‪،‬‬
‫معطل وفوضى أمنية قد تؤ ّدي مجدّ دا إلى حرب ّ‬ ‫متشظية واقتصاد ّ‬‫ّ‬ ‫سياسية‬
‫ال سيما مع تعاظم دور سالح حزب الله الذي أصبح أقوى من سالح الدّ ولة‪.‬‬
‫الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي جديد‪ّ ،‬‬
‫بغض ال ّنظر‬ ‫وأي معالجة لهذا الوضع تفترض ّ‬ ‫ّ‬

‫‪145‬‬
‫عما إذا كانت نتيجته اســتبدال ّ‬
‫الطائف أو تعديله‪ .‬فاالســتراتيجية الدّ فاعية تعني‬ ‫ّ‬
‫مؤسسات الدّ ولة ستقود إلى نفس الغاية‪ .‬أ ّما اإلنعاش‬ ‫طائفأ جديدا‪ ،‬وإعادة تفعيل ّ‬
‫االقتصادي‪ ،‬فموقوف على الدّ ور العربي الذي ال يزال يحتفظ بمسافة بينه وبين‬
‫الطوائف‪ ،‬الذي يتج ّلى بشكل خاص في‬ ‫األزمة ا ّللبنانية بسبب فقدان ال ّتوازن بين ّ‬
‫الس ّنية بما يتوافق مع الدّ اخل ا ّللبناني‪ ،‬ومع تط ّلعات‬ ‫غياب ممثّلين أقوياء ّ‬
‫للطائفة ّ‬
‫الدّ ول العربية الفاعلة‪ ،‬وبعض القوى األجنبية المنخرطة في الشّ أن ا ّللبناني‪.‬‬
‫مؤسسات الدّ ولة‪ ،‬أحد مظاهر‬ ‫و ُيعدّ استمرار الشّ غور في رئاسة الجمهورية‪ ،‬أعلى ّ‬
‫الرئيس ميشال عون في نوفمبر‪ /‬تشرين‬ ‫الطائف‪ .‬فقد انتهت والية ّ‬ ‫تصدّ ع اتّفاق ّ‬
‫الثانــي ‪ ،2022‬وانقضــت المهلة الدّ ســتورية دون انتخاب رئيس جديد بســبب‬
‫فالرئيس عون كان محســوبا‬ ‫والصراع اإلقليمي على لبنان‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الخالفــات المح ّلية‬
‫على محور إيران‪ ،‬وهناك إصرار من الدّ ول العربية المعنية بالشــأن ا ّللبناني على‬
‫أن الحكومة تمأل دســتوريا‬ ‫الرئيس الجديد من نفس المحور‪ .‬ورغم ّ‬ ‫ّأاّل يكون ّ‬
‫هذا الفراغ الذي خ ّلفه غياب رئاســة الجمهورية‪ ،‬إال أنّها ال تســتطيع أن تمأله‬
‫يســبب االضطراب ويثير الجدل حول حقوق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وســيظل هذا اإلشكال‬ ‫سياســيا‪.‬‬
‫ّ‬
‫أن لبنان كان قد‬ ‫السياسي‪ .‬الجدير ّ‬
‫بالذكر ّ‬ ‫الطوائف وحدود صالحياتها ونفوذها ّ‬ ‫ّ‬
‫شهد أطول فترة فراغ في رئاسة الجمهورية قبل انتخاب عون عام ‪ ،2016‬دامت‬
‫السنة‪ ،‬كما شهد تأليف الحكومات في عهده مددا متفاوتة‬ ‫حوالي سنتين ونصف ّ‬
‫من الفراغ الحكومي‪ .‬وهناك احتمال كبير أن يمتدّ هذا الفراغ لفترة أطول‪.‬‬
‫الحرب ا ّللبنانية اإلسرائيلية‪ :‬رغم أن لبنان وإسرائيل يعيشان حالة وقف إطالق نار‬
‫مبررات الحرب ظ ّلت‬ ‫منــذ العام ‪ 2006‬وفقا لقرار مجلس األمن ‪ ،1701‬إال ّ‬
‫أن ّ‬
‫دائما حاضرة‪ ،‬وما يمنع اندالعها هو تداعياتها التي ستكون على األغلب مد ّمرة‬
‫للبنان ومؤذية إلسرائيل‪ .‬وجاء تحدّ ي ال ّنزاع الحدودي البحري بين ّ‬
‫الطرفين ليزيد‬
‫لكن مفاوضات ال ّترســيم غير المباشرة بين الحكومة‬
‫من فرص اندالع الحرب‪ّ .‬‬
‫ا ّللبنانية وإســرائيل انتهت باالتّفاق على أن يكون الخط ‪ 23‬هو الفاصل بينهما‪،‬‬
‫أن احتماالت الحرب قد‬ ‫حصة لبنان‪ .‬صحيــح ّ‬ ‫علــى أن يكــون حقل قانــا من ّ‬
‫الصعيد‬‫خاصة على ّ‬
‫ّ‬ ‫ثمة عومل أخرى‪،‬‬ ‫تراجعت نســبيا بعد هذا االتّفاق‪ ،‬إال ّ‬
‫أن ّ‬
‫اإلقليمي‪ ،‬يمكنها أن تشــعل فتيل الحرب‪ .‬من بين تلك العوامل‪ ،‬فشــل أميركا‬

‫‪146‬‬
‫التوصل إلى اتفاق على خفض ال ّتوتّر في المنطقة‪ ،‬ســواء في ســياق‬
‫ّ‬ ‫وإيران في‬
‫إقليميا‪ .‬وتزداد‬
‫ّ‬ ‫االتّفاق ال ّنووي‪ ،‬أو في م ّلفات أخرى يلعب فيها حزب الله دورا‬
‫احتماالت الحرب بين إسرائيل ولبنان في العام ‪ ،2023‬بال ّنظر إلى حالة االشتباك‬
‫اإلقليمي في ســوريا‪ .‬فإذا ما اعتقدت إســرائيل أنّها جاهزة لخوض حرب على‬
‫أكثر من جبهة في مواجهة إيران وحلفائها على الحدود ا ّللبنانية ّ‬
‫السورية‪ ،‬حينها‬
‫قد يكون لبنان المسرح األبرز لهذه الحرب أو إحدى ساحاتها‪.‬‬
‫الوضــع المعيشــي وال ّتدهور االقتصــادي واألمني‪ :‬يأتي هذا التحدّ ي انعكاســا‬
‫الســنتين األخيرتين أصبــح حالة قائمة‬ ‫الســابقة‪ ،‬لك ّنه في ّ‬
‫للتحديــات الثّالثــة ّ‬
‫ّ‬
‫ومؤسساتها عن ال ّتعامل مع األزمة المالية‬
‫ّ‬ ‫بذاتها‪ .‬فالدّ ولة عاجزة بمختلف قواها‬
‫وتداعياتها االجتماعية‪ .‬وقد شــهدت ا ّلليرة ا ّللبنانية تدهورا سريعا بعد "انتفاضة‬
‫‪ "2019‬بسبب ما تكشّ ف من حجم الفساد وتراجع الكفاءة السياسية واالقتصادية‪،‬‬
‫بال ّتوازي مع تراجع الدّ عم العربي والدّ ولي للبنان‪ .‬وكذلك بال ّتوازي مع األزمات‬
‫المالية واالضطرابات االقتصادية العالمية بسبب اضطراب سالسل اإلمداد خالل‬
‫الروســية األوكرانية‪.‬‬‫والطاقة ال ّناجمة عن الحرب ّ‬ ‫جائحة كورونا‪ ،‬وأزمة الغذاء ّ‬
‫لكل ذلك‪ ،‬يشــهد لبنــان اضطرابات اجتماعية متواصلــة‪ ،‬وفوضى أمنية‬ ‫نتيجة ّ‬
‫عجزت القوى العســكرية واألمنية عن ضبطها نظرا لتراجع إمكاناتها ا ّللوجستية‬
‫مؤشــر الفقر إلى‬ ‫ومخصصاتها المالية‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ارتفع ّ‬ ‫ّ‬ ‫وانهيار رواتبها‬
‫أكثــر من ثمانين بالمئة‪ ،‬وزادت معدّ الت الجريمة بمختلف أنواعها‪ ،‬كما عادت‬
‫بشكل محدود ظاهرة االلتحاق بتنظيم الدولة (داعش) في العراق‪ .‬وتفيد ال ّتقارير‬
‫أن عددا محدودا من الشّ باب ا ّللبناني وقع تجنيدهم من قبل هذا ال ّتنظيم‪ .‬تتفاوت‬ ‫ّ‬
‫الصعود في العام ‪.2023‬‬ ‫ّ‬
‫المؤشرات‪ ،‬ولك ّنها جميعا ت ّتجه نحو ّ‬ ‫خطورة هذه‬

‫خالصات‬
‫بنــاء علــى هذه التحدّ يات األربعــة‪ ،‬ال ُيتو ّقع أن يخرج لبنــان ّ‬
‫فعليا من أزماته‬
‫إن بعض تلك األزمات ســيتفاقم‪ ،‬وعلى رأســها‬ ‫المتعدّ دة في العام ‪ .2023‬بل ّ‬
‫األزمة المالية وتداعياتها االجتماعية‪ .‬و ُيستبعد أن ُتطلق أو تنجح مبادرات ّ‬
‫مهمة‬
‫أي من األزمات الداخلية بشكل جذري‪ ،‬ما لم ي ّتفق الفرقاء ا ّللبنانيون على‬ ‫ّ‬
‫لحل ّ‬

‫‪147‬‬
‫ّ‬
‫ستظل‬ ‫تحييد بلدهم عن صراع المحاور اإلقليمية‪ .‬وما لم يحصل ذلك االتّفاق‪،‬‬
‫للتوصل إلى حلول سياسية أو اقتصادية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أي مسعى‬‫الصراع تعوق ّ‬
‫تداعيات ّ‬
‫ّ‬
‫وســيتعذر الشّ ــروع في إجراء‬ ‫فالمفاوضــات مع صندوق ال ّنقد الدّ ولي متعثّرة‪،‬‬
‫أهمية‬
‫الصندوق‪ .‬وتكمن ّ‬ ‫التوصل إلى اتّفــاق مع ّ‬
‫ّ‬ ‫أي إصالحــات اقتصادية قبل‬ ‫ّ‬
‫هذا االتّفاق‪ ،‬إلى جانب ما ســيح ّققه من مســاعدة مباشرة للخزينة ا ّللبنانية‪ ،‬في‬
‫والمؤسسات المالية الدّ ولية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصناديق‬
‫كونه مدخال لمســاعدة لبنان‪ ،‬ســواء من ّ‬
‫حل األزمة المالية ا ّللبنانية بشــكل جذري‪،‬‬ ‫ولكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو مــن بعض الدّ ول العربية‪.‬‬
‫يحتــاج إلى أكثر من اتّفاق مع صندوق ال ّنقد الدّ ولي‪ ،‬فالكثير من المســاعدات‬
‫خاصة العربية منها‪ ،‬مرتبط بشــروط سياســية ت ّتصل باستعادة الدّ ولة‬ ‫ّ‬ ‫الموعودة‪،‬‬
‫لسيادتها وضبط حدودها واستعادة ال ّتوازن بين طوائفها ومحاربة الفساد‪ .‬وح ّتى‬
‫اتّفاق ترســيم الحدود البحرية الذي ُأنجز مع إســرائيل في أواخر العام ‪،2022‬‬
‫لن تســتفيد منه الدّ ولة ا ّللبنانية في وقت قريب‪ .‬فأموال الغاز لن تدخل خزينتها‬
‫كميات الغاز المتو ّقعة وقيمة عائداتها المالية‪.‬‬‫قبل عدّ ة سنوات‪ ،‬بقطع ال ّنظر عن ّ‬
‫شكل مدخال آخر لل ّتهدئة في‬ ‫أهمية أخرى‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ولكن اتّفاق ترسيم الحدود له ّ‬
‫ّ‬
‫سيشــكل انتخاب رئيس جديد للجمهورية مجمع‬ ‫ّ‬ ‫الســياق‪،‬‬
‫المنطقة‪ .‬وفي نفس ّ‬
‫دوليا مدخال لتهدئة مح ّلية قد ُتســهم في تراجع دور حزب الله اإلقليمي‬ ‫ّ‬ ‫عليه‬
‫وضبط دوره المح ّلي ليكون شريكا في القرار دون الهيمنة عليه أو تعطيله‪ ،‬على‬
‫غرار موقفه في ملف ترســيم الحدود حين ترك القرار للدّ ولة وأعلن التزامه به‪.‬‬
‫السياسي ا ّللبناني بما يعيد‬
‫ومن شــأن ذلك أن ُيســهم في إعادة تشكيل المشهد ّ‬
‫له توازنه‪ ،‬ويعيد االعتبار لقوى ‪ 14‬آذار أو قوى شــبيهة بها‪ ،‬ولو تحت عناوين‬
‫الطائف‪ ،‬تمهيدا إلنعاشــه‪،‬‬ ‫الضروري الســتمرار ّ‬ ‫مختلفة‪ .‬وهذا هو الحدّ األدنى ّ‬
‫قبل أن تلتقي مختلف القوى مجدّ دا على اتّفاق أكثر استدامة‪.‬‬
‫إن عدم اســتتباع اتّفاق ال ّترســيم بمســار تهدئة إقليمي والمسارعة بفتح ورشة‬ ‫ّ‬
‫إصالح داخلية‪ ،‬ســيدفع باألزمة ا ّللبنانية إلى ال ّتراجع مجدّ دا على ُس ّلم أولو ّيات‬
‫األجنــدة الدّ ولية لصالح أزمات أخرى في المنطقة وخارجها‪ ،‬وســتطول نتيجة‬
‫لذلك معاناة اللبنانيين‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫متجددة وفساد مستفحل‬
‫‪ .2‬العراق‪ :‬أزمة ّ‬
‫ورث العراق في العام ‪ 2022‬أزمة سياسية وأمنية واقتصادية انتقلت إليه من العام‬
‫مبكرة جرت في أكتوبر ‪ .2021‬جاءت تلك االنتخابات‬ ‫الذي سبقه إثر انتخابات ّ‬
‫اســتجابة لمطالب االحتجاجات الشــعبية التي ُعرفت بـ"انتفاضة تشرين"‪ ،‬وكان‬
‫الســلطة السياســية وإجراء‬
‫ينبغــي لتلــك االنتخابــات أن تفتح الباب لتجديد ّ‬
‫اصالحات اقتصادية شــاملة على رأســها محاربة الفساد‪ .‬ولكن‪ ،‬بدال من ذلك‪،‬‬
‫تحولت االنتخابات وما أسفرت عنه من نتائج إلى سبب لخلق أزمات جديدة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫إعادة إنتاج األزمات بدال من حّلها‬


‫حظيــت انتخابات ‪ 2021‬ال ّنيابية بإشــادة دولية‪ ،‬وفاز فيهــا ال ّتيار الصدري بأكبر‬
‫تمكن ال ّتيار من تشــكيل تحالف برلماني‬ ‫عدد من المقاعد (‪ 73‬مقعدا)‪ .‬ورغم ّ‬
‫أن تعقيدات قانونية وسياسية‬ ‫أهله لتشكيل الحكومة‪ ،‬إال ّ‬ ‫مع قوى ســ ّنية وكردية ّ‬
‫تســببت في منع هذا ال ّتحالف الثّالثي من الحصول على ثلثي أعضاء‬ ‫ّ‬ ‫وإجرائية‬
‫المجلــس لعقد جلســة اختيار رئيس الجمهورية وتكليــف رئيس للوزراء‪ .‬وقد‬
‫تســببت تلك ال ّتعقيدات في أزمة متعدّ دة األشــكال طغت على العام ‪ .2022‬في‬ ‫ّ‬
‫الصدر ّيين من تمرير‬‫المقابل‪ ،‬نجحت جهود اإلطار التنسيقي (الشيعي) في منع ّ‬
‫الطرفين إلى استقالة‬ ‫أجندتهم االنتخابية وتشكيل الحكومة‪ ،‬وانتهى الخالف بين ّ‬
‫الصدر ّيين احتجاجا على اســتمرار األزمة‪ .‬وقد تل ّقف اإلطار ال ّتنســيقي‬ ‫ال ّنواب ّ‬
‫مرشحوه الخاســرون بفرصة الدّ خول إلى البرلمان‪،‬‬ ‫تلك االســتقاالت‪ ،‬ليحظى ّ‬
‫ثمة على األغلبية لتشكيل الحكومة‪.‬‬ ‫ويحصل من ّ‬
‫في سياق هذا ال ّتدافع‪ ،‬جرى تجاوز الخالف الكردي حول هوية رئيس الجمهورية‬
‫تعطل خاللها تشكيل الحكومة‬‫بعد عام كامل من االنتخابات‪ .‬وبعد فترة طويلة ّ‬
‫الحل مفاجئا وبــا تعقيدات‪ ،‬فجرى تكليف‬‫ّ‬ ‫وســط أزمة سياســية عميقة‪ ،‬جاء‬
‫السوداني الذي قدّ م وزارته لنيل الثقة خالل فترة قصيرة لم تتجاوز‬
‫محمد شياع ّ‬
‫ظل استقطاب سياسي حا ّد جوبه برفض‬ ‫السوداني في ّ‬ ‫ولكن ترشيح ّ‬
‫ّ‬ ‫األسبوعين‪.‬‬
‫الصدري‪ ،‬الــذي اقتحم أنصاره مبنى البرلمان فــي يوليو‪ /‬تموز ‪.2022‬‬ ‫ال ّتيــار ّ‬
‫تطورت الحقا‬
‫ومثّلت هذه الحركة االحتجاجية تعقيدا إضافيا لألزمة القائمة التي ّ‬

‫‪149‬‬
‫وتسببت في وقوع عشرات‬
‫ّ‬ ‫إلى مواجهات مس ّلحة عنيفة داخل المنطقة الخضراء‪،‬‬
‫ّ‬
‫الضحايا‪.‬‬
‫فتحول الخالف‬
‫ّ‬ ‫الصعيد األمني‪ ،‬تأ ّثر العراق بتداعيات األزمة ّ‬
‫السياســية‪،‬‬ ‫علــى ّ‬
‫الصدري وخصومه في اإلطار التنســيقي إلى مواجهات مس ّلحة‬ ‫الحا ّد بين ال ّت ّيار ّ‬
‫الســام ال ّتابعة لل ّت ّيار وميليشــيات عصائب أهل الحق‪،‬‬
‫بين عناصر من ســرايا ّ‬
‫تركــزت في العاصمــة بغداد وفي البصرة والناصرية جنوب البالد‪ .‬كما شــمل‬ ‫ّ‬
‫وخاصة‬
‫ّ‬ ‫ال ّتدهور األمني تصاعد ظاهرة ال ّنزاعات العشــائرية في مناطق الجنوب‪،‬‬
‫في محافظتي ال ّناصرية وميســان‪ ،‬فضال عن عمليات اغتيال شــملت ناشــطين‬
‫ورجال أمن‪.‬‬
‫أ ّما اقتصاديا‪ ،‬فقد عكس العراق االتجاه بشكل حاد‪ ،‬وح ّقق في العام ‪ 2022‬نسبة‬
‫عربيا والثّانية على مستوى العالم‪ ،‬حسب مصادر صندوق ال ّنقد‬‫ّ‬ ‫نمو هي األعلى‬
‫ّ‬
‫الدّ ولي‪ .‬فقد بلغت تلك ال ّنسبة ‪ % 9.4‬بفضل زيادة ّ‬
‫الصادرات ال ّنفطية بنحو مليون‬
‫لكن هذا‬‫برميل مقارنة بفترة جائحة كورونا‪ ،‬وارتفاع أســعار ال ّنفط بنسبة ‪ّ .% 40‬‬
‫االرتفاع ا ّلالفت في نسبة ال ّنمو لم ينعكس على الوضع االقتصادي واالجتماعي‪،‬‬
‫أو على مستوى الخدمات العا ّمة في البالد‪ .‬فظ ّلت نسبة الفقر‪ ،‬حسب اإلحصاءات‬
‫الرسمية‪ ،‬في حدود ‪ ،% 25‬وبلغ عدد العاطلين عن العمل مليونين و‪ 750‬ألفا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تحديات تنتظر العراق خالل العام ‪2023‬‬


‫ّ‬
‫السياسي‬
‫السوداني قدرا من االستقرار ّ‬
‫السهولة ال ّنسبية في تشكيل حكومة ّ‬
‫خلقت ّ‬
‫الســابقة حافلة بنماذج االنهيارات المفاجئة التي‬
‫لكن تجارب العراق ّ‬‫واألمني‪ّ ،‬‬
‫السريعة‪ .‬وال ُيستبعد أن يكون الهدوء ال ّنسبي الذي شهده الوضع‬
‫تعقب ال ّتسويات ّ‬
‫السياسي واألمني بعد أحداث المنطقة الخضراء ناتجا عن تسوية حصلت بسبب‬ ‫ّ‬
‫لكن عوامل االضطراب ما زالت قائمة‪،‬‬ ‫ضغوط داخلية أو خارجية أو كليهما معا‪ّ .‬‬
‫وسيواجه العراق خالل العام ‪ 2023‬عددا من التحدّ يات نعرضها فيما يلي‪:‬‬
‫السنوات ا ّلالحقة‬
‫‪ -‬التحدّ ي األمني‪ :‬هو تحدّ متوارث منذ العام ‪ ،2003‬وقد زادته ّ‬
‫تعقيدا‪ ،‬وتتمثل أبرز مل ّفاته في العناوين التالية‪:‬‬

‫‪150‬‬
‫أ) ّ‬
‫ملف تنظيم الدّ ولة (داعش)‪ :‬رغم هزيمة ال ّتنظيم منذ نهاية العام ‪ ،2017‬واصل‬
‫متقطعة في بعض المناطق شــمال بغداد‪ .‬واستهدف أغلب تلك‬ ‫ّ‬ ‫شــن هجمات‬
‫ّ‬
‫الهجمات مواقع للقوات األمنية والحشد الشّ عبي‪ .‬في المقابل‪ ،‬أعلنت الحكومة‬
‫مقرات ال ّتنظيــم وقتل أو اعتقال عدد من عناصره‪ .‬من‬
‫عــن تنفيذ عمليات ضدّ ّ‬
‫الســوداني‪ ،‬اســتمرارها‬
‫رحبت بحكومة ّ‬ ‫جهتها‪ّ ،‬أكدت الواليات الم ّتحدة‪ ،‬التي ّ‬
‫في ال ّتنســيق مع العراق في مواجهة تنظيم داعش‪ ،‬وهو ما يحمل على االعتقاد‬
‫أن هذا الملف ســيبقى مفتوحا خالل العام ‪ ،2023‬ســواء في جوانبه العسكرية‬ ‫ّ‬
‫الميدانية‪ ،‬أو في عالقات العراق مع المجتمع الدولي‪.‬‬
‫الساحة العراقية عشرات المليشيات التي يرتبط‬ ‫ملف المليشيات‪ :‬تنشط في ّ‬ ‫ب) ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معظمها إداريا وماليا بالحشــد الشّ عبي‪ ،‬لك ّنها بشكل عام لديها قياداتها‬
‫السابق‬‫مرات خالل والية رئيس الوزراء ّ‬ ‫تمرد بعض تلك المليشــيات عدّ ة ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫مصطفى الكاظمي بصفته قائدا عا ّما للقوات المس ّلحة‪ ،‬واستعرضت ّ‬
‫قوتها ضدّ ه‬
‫بشــن هجمات ضدّ قواعد عســكرية‬ ‫ّ‬ ‫في بغداد‪ .‬وفي أكثر من مناســبة‪ ،‬اتُّهمت‬
‫السياســة العراقية‪ .‬وبال ّتالي تبقى‬
‫أو قوافــل إمداد أميركية‪ ،‬وهو ما يتعارض مع ّ‬
‫تلك المليشيات قوة نفوذ مس ّلحة مؤ ّثرة في ّ‬
‫السياسة الدّ اخلية ومهدّ دة لالستقرار‬
‫األمني‪.‬‬
‫الســاح‪ :‬وهو ّ‬
‫ملف مع ّقد‪ ،‬ســواء بســبب كثافة االنتشار عبر‬ ‫ج) ّ‬
‫ملف انتشــار ّ‬
‫السالح‬
‫المجموعات االجتماعية المختلفة خارج الدّ ولة‪ ،‬أو بســبب حجم ونوع ّ‬
‫المسيرة‪ .‬وينتشر‬
‫ّ‬ ‫والصواريخ ّ‬
‫والطائرات‬ ‫ّ‬ ‫المنتشــر‪ ،‬بما في ذلك األسلحة الثّقيلة‬
‫الســاح في العراق بين الميليشــيات والعشــائر‪ ،‬والمجموعــات التي توصف‬ ‫ّ‬
‫كميات كبيرة من سالح سائب ُيباع بعضه للعا ّمة في أسواق‬ ‫باإلرهابية‪ ،‬إلى جانب ّ‬
‫السالح تحدّ يا أمنيا خطيرا‪ ،‬سواء ضدّ الدّ ولة وأجهزتها‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬
‫ويشكل هذا ّ‬ ‫خاصة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ضدّ أمن المجتمع وسالمته‪.‬‬
‫ّ‬
‫الملف بأكثر القضايا تأثيرا على األوضاع‬ ‫‪ -‬تحدّ ي محاربة الفســاد‪ :‬يرتبط هذا‬
‫السياسية واالقتصادية واإلدارية في العراق‪ .‬فالعراق من بين أكثر دول العالم تأ ّثرا‬
‫ّ‬
‫بالفساد‪ ،‬الذي يشمل طائفة واسعة من القضايا مثل المشاريع الوهمية‪ ،‬وتهريب‬
‫ّ‬
‫المنظم للمال العام‪ ،‬والجبايات غير الشرعية‪ ،‬واالبتزاز المباشر‬ ‫األموال‪ ،‬وال ّنهب‬
‫وغير المباشر على كا ّفة المستويات‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫عــاوي‪ ،‬وكان من بين‬ ‫ّ‬ ‫ففي أغســطس‪ /‬آب ‪ 2022‬اســتقال وزير المالية علي‬
‫المروع في معايير‬ ‫ّ‬ ‫ما قاله في رســالة اســتقالته‪" :‬أعترف أنّي لم أتّوقع ال ّتدهور‬
‫ّ‬
‫الكل تقري ًبا يتآمر‬ ‫الحوكمة في بلدنا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية‪.‬‬
‫إلحباط ال ّتغيير الحقيقي وترسيخ استمرار الممارسات الفاسدة التي تد ّمر األسس‬
‫سرية واسعة‬ ‫وأكد عالوي في رسالته وجود شبكات ّ‬ ‫األخالقية والما ّدية للبلد"‪ّ .‬‬
‫وموظفي الدّ ولة الفاسدين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والسياســيين‬
‫من كبار المســؤولين ورجال األعمال ّ‬
‫للســيطرة على قطاعات كاملة من االقتصاد‪ ،‬وتســحب مليارات‬ ‫الظل ّ‬‫تعمل في ّ‬
‫الــدّ والرات مــن الخزينة العا ّمــة‪ .‬وفي كلمة لها مطلع نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني‬
‫الخاصة لألمين العام لألمم الم ّتحدة في العراق‪ ،‬جينين‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،2022‬وصفت الممثّلة‬
‫وتطوره‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالســخارت‪ ،‬الفســاد بأنّه ال ّتحدّ ي األكبر الذي يقف ضدّ تقدّ م العراق‬
‫وفي أكتوبر‪ /‬تشرين األول‪ ،‬كانت بالسخارت قد ّأكدت في كلمتها أمام مجلس‬
‫السياســي في العراق‪ ،‬وهو جزء من‬ ‫أن "الفســاد ســمة أساسية لالقتصاد ّ‬ ‫األمن ّ‬
‫المعامالت اليومية"‪.‬‬
‫السابق برهم‬‫الرئيس ّ‬‫لكن ّ‬
‫ليست هناك تقديرات دقيقة لحجم الفساد في العراق‪ّ ،‬‬
‫المهربة للخارج ُتقدّ ر بنحو ‪ 150‬مليار‬
‫ّ‬ ‫صالح كان أشار إلى ّ‬
‫أن األموال المنهوبة‬
‫الرقم ويقدّ رون قيمة تلك األموال بما‬ ‫ّ‬
‫ويشكك خبراء اقتصاد ّيون في هذا ّ‬ ‫دوالر‪.‬‬
‫ال يقل عن ‪ 350‬مليار دوالر‪ .‬أ ّما رئيس الوزراء األسبق‪ ،‬عادل عبد المهدي‪ ،‬فقدّ ر‬
‫قيمة األموال المنهوبة عام ‪ 2015‬بنحو ‪ 450‬مليار دوالر‪ .‬وهذه القيمة تمثّل أكثر‬
‫من نصف قيمة الموازنات العراقية منذ ‪ 2003‬وح ّتى ذلك العام‪ .‬وما زال العراق‬
‫الرافدين الحكومي وهيئة‬ ‫يعيش على وقع فضيحة في حقّ مسؤولين في مصرف ّ‬
‫خاصة‪ ،‬اتّهموا بنهب نحو ‪ 3‬مليارات دوالر‪ .‬وكانت هيئة‬ ‫ّ‬ ‫الضرائب وشــركات‬ ‫ّ‬
‫تورط ‪ 11‬ألف ًا و‪605‬‬
‫ال ّنزاهــة في العراق أعلنت في فبراير‪ /‬شــباط ‪ 2022‬عــن ّ‬
‫وجهت لهم‬ ‫مســؤولين‪ ،‬بينهم ‪ 54‬وزيرا‪ ،‬في م ّلفات فســاد خالل العام ‪ّ ،2021‬‬
‫‪ 15290‬تهمة‪.‬‬
‫بناء على هذه ال ّتقديرات‪ّ ،‬‬
‫فإن محاربة الفساد تمثّل تحدّ يا جوهريا للعراق خالل‬
‫العــام ‪ ،2023‬وال تكفــي القوانين أو اإلجراءات الحازمة لمواجهته‪ .‬فمشــكلته‬
‫الحقيقية تكمن في امتداده الواســع عبر تحالف رأس المال الفاســد مع مراكز‬

‫‪152‬‬
‫السياســية والمســ ّلحة‪ ،‬وهو ما يمنح شــبكة الفساد غطاء ّ‬
‫وقوة قد تفوق‬ ‫القوى ّ‬
‫قوة الدّ ولة ذاتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫الهش الذي تح ّقق بصعوبة في العراق نهاية‬ ‫ّ‬ ‫السياسي‪ :‬رغم االستقرار‬ ‫‪ -‬التحدّ ي ّ‬
‫السياسية التي سبقته عن أزمة عميقة‬ ‫العام ‪ ،2022‬فقد كشــفت طبيعة الخالفات ّ‬
‫السياســي وال ّنمط الجديد من الخالفات‬ ‫ومشــكالت بنيوية تتع ّلق بطبيعة ال ّنظام ّ‬
‫التي تشــ ّقه‪ .‬وقد تجــاوزت هذه الخالفات االســتقطاب ّ‬
‫الطائفي ال ّتقليدي إلى‬
‫المكونات العراقية‪ ،‬ال ســيما القوى السياســية‬
‫ّ‬ ‫مكون من‬
‫اســتقطاب داخل كل ّ‬
‫السوداني في تشكيل الحكومة‪ ،‬لم ينته الخالف بين ال ّتيار‬ ‫الشّ يعية‪ .‬ورغم نجاح ّ‬
‫الصدر مشاركته في‬ ‫الصدري واإلطار ال ّتنســيقي‪ .‬فقد رفض زعيم ال ّتيار مقتدى ّ‬ ‫ّ‬
‫مهما في مواجهتها‪ .‬فال ّتيار يمثّل كتلة شعبية‬
‫تلك الحكومة‪ ،‬وفرض بذلك تحدّ يا ّ‬
‫وقوة سياسية فازت في االنتخابات بفارق كبير‪ ،‬رغم انسحابها بعد ذلك‪.‬‬ ‫ضخمة ّ‬
‫فإن عدم مشاركتها في الحكم سيفتح أمامها المجال واسعا لالحتجاج‬ ‫وبال ّتالي ّ‬
‫السوداني أمام اختبار صعب‬ ‫أي خلل أو خطأ ترتكبه الحكومة‪ .‬وســيكون ّ‬ ‫على ّ‬
‫مرشــح رئيس الوزراء األســبق‬ ‫الصدري الذين اعتبروه ّ‬ ‫ليحظى بثقة أنصار ال ّتيار ّ‬
‫نوري المالكي‪ ،‬الخصم ا ّللدود للصدريين‪.‬‬
‫الســوداني قبل تكليفه بتشــكيل الحكومة يرأس ّتيار الفراتين‪ ،‬وهو كتلة‬
‫وكان ّ‬
‫مــن ثالثة نواب فقط‪ .‬لذلك‪ ،‬فهو ال يملــك رصيدا برلمانيا‪ ،‬ويعتمد في دعمه‬
‫رشحته‪ .‬وسيكون مطالبا برعاية مصالح‬ ‫السياسي على قوى اإلطار ال ّتنسيقي التي ّ‬
‫ّ‬
‫السياســية المختلفة ليضمن بقاء حكومته‪ ،‬وهو ما سيضع‬ ‫اإلطار ومواقفه وقواه ّ‬
‫السوداني‬
‫السياســية‪ .‬إضافة إلى ذاك‪ ،‬تواجه حكومة ّ‬‫قيودا على حركته وخياراته ّ‬
‫تحــدّ ي إجراء انتخابات عا ّمــة مبكرة خالل عام واحد‪ ،‬أي قبل حلول نوفمبر‪/‬‬
‫تشرين الثاني ‪.2023‬‬
‫التعرض الختبارات جديدة في‬
‫ّ‬ ‫سيستمر العراق في‬
‫ّ‬ ‫السياسة الخارجية‪،‬‬
‫على صعيد ّ‬
‫عالقاته الخارجية‪ ،‬السيما في الموازنة بين دول يعتبرها صديقة‪ ،‬لك ّنها متخاصمة‬
‫والسعودية من جانب‪ ،‬وإيران من جانب آخر‪.‬‬ ‫فيما بينها‪ ،‬مثل الواليات الم ّتحدة ّ‬
‫الصراعات التي‬
‫وكان العراق قد واجه تحدّ يات خطيرة من قبل في ســياق هذه ّ‬
‫تشقّ محيطه اإلقليمي‪ .‬ومثّلت الغارة األميركية التي استهدفت الجنرال اإليراني‬

‫‪153‬‬
‫قاســم سليماني والمسؤول العراقي أبو مهدي المهندس في يناير‪ /‬كانون الثاني‬
‫يتوســط منذ أبريل‪ /‬نيســان‬
‫ّ‬ ‫أن العراق‬‫‪ 2020‬أحد أبرز تلك التحدّ يات‪ .‬ورغم ّ‬
‫أن جهوده لم تثمر بعدُ نتائج حقيقية‪ .‬وقد يكون‬‫والسعودية‪ ،‬إال ّ‬
‫‪ 2021‬بين إيران ّ‬
‫استمرار وزير الخارجية فؤاد حسين ومستشار األمن الوطني قاسم األعرجي في‬
‫أي تصعيد يؤ ّثر على الوضع‬ ‫للمضي في تلك الوساطة وتج ّنب ّ‬
‫ّ‬ ‫منصبيهما ّ‬
‫مؤشرا‬
‫والسياسي في العراق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األمني‬
‫الســامية لشؤون‬
‫ضية ّ‬‫المفو ّ‬
‫ّ‬ ‫ثالثا‪ :‬التحدّ ي اإلنســاني والحقوقي‪ :‬حســب ممثّل‬
‫ا ّلالجئين ال ّتابعة لألمم الم ّتحدة في العراق‪ ،‬تجاوز عدد ال ّنازحين داخليا المليون‬
‫الرقم جزء من‬ ‫و‪ 200‬ألــف عراقي‪ ،‬ولــم ّ‬
‫يتمكنوا من العودة إلى ديارهم‪ .‬وهذا ّ‬
‫اضطروا لمغادرة مدنهم هربا من تنظيم الدّ ولة‪ ،‬أو بسبب‬
‫ّ‬ ‫نحو ‪ 6‬ماليين عراقي‬
‫المعــارك التي تخوضها الحكومة ضــدّ ال ّتنظيم‪ .‬ورغم انتهاء تلك المعارك منذ‬
‫أن مئات اآلالف من ال ّنازحين ما زالوا غير قادرين على‬ ‫نهايــة العــام ‪ّ ،2017‬إاّل ّ‬
‫العودة إلى ديارهم ومناطقهم األصلية‪ ،‬إ ّما لدواعي سياســية وأمنية‪ ،‬أو ألسباب‬
‫والمهجرين أعلنت في يوليو‪ /‬تموز‬
‫ّ‬ ‫بيروقراطيــة وخدمية‪ .‬وكانت وزارة الهجرة‬
‫مخيمات ال ّنازحين باستثناء الموجودة منها في إقليم كردستان‪.‬‬ ‫‪ 2022‬إغالق كافة ّ‬
‫يتضمن آليات معالجة مشكالت ال ّنازحين الممنوعين أصال‬ ‫ّ‬ ‫لكن هذا اإلعالن لم‬
‫ّ‬
‫من العودة إلى مناطقهم بسبب معارضة المليشيات‪.‬‬
‫فالمليشيات المس ّلحة تسيطر على مناطق عديدة في محيط بغداد وفي محافظات‬
‫صالح الدّ ين وديالى وكركوك‪ .‬وقد منعت عودة األهالي إلى بعضها‪ ،‬ووضعت‬
‫شروطا أمنية مشدّ دة أو قيودا بيروقراطية تجعل عودة األهالي إلى بعضها اآلخر‬
‫الصخر جنوب شرقي بغداد ويثرب‬ ‫صعبة أو مستحيلة‪ .‬وتمثّل بلدات مثل جرف ّ‬
‫وعزيز بلد في محافظة صالح الدّ ين شمال العاصمة‪ ،‬وسواها من المناطق التي‬
‫السنوات األخيرة‪ ،‬أبرز ال ّنماذج الخاضعة لسيطرة المليشيات‬ ‫تكرر ذكرها خالل ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫السوداني قد أمر‪ ،‬بعد توليه مها ّمه‪،‬‬
‫التي تمنع أهلها من العودة إليها‪ .‬وكان شياع ّ‬
‫باتّخاذ إجراءات ســريعة إللغاء عمليات ال ّتدقيق األمني التي كانت تعوق عودة‬
‫ّ‬
‫الملف خالل‬ ‫مشجعة لمعالجة هذا‬
‫ّ‬ ‫ال ّنازحين‪ .‬ويمكن أن ّ‬
‫يشكل هذا القرار بداية‬
‫السابق مصطفى الكاظمي كان قد قدّ م عقب‬ ‫العام ‪ ،2023‬علما ّ‬
‫أن رئيس الوزراء ّ‬

‫‪154‬‬
‫تو ّليه منصبه في مايو‪ /‬أيار ‪ 2020‬وعودا شبيهة أغلبها لم يتح ّقق‪.‬‬
‫مو المرتفعة التي ح ّققها العراق في العام‬ ‫‪ -‬التحدّ ي االقتصادي‪ :‬رغم نســبة ال ّن ّ‬
‫نمو‬
‫‪ ،2022‬والتي تعود أساسا إلى ارتفاع أسعار ال ّنفط وزيادة اإلنتاج‪ ،‬وليس إلى ّ‬
‫النمو‬
‫ّ‬ ‫فعال للحوكمة والشفافية‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك‬ ‫اقتصادي حقيقي ناتج عن تطوير نظام ّ‬
‫لم ينعكس إيجابا على الوضع االجتماعي ولم ُيســهم في خفض نســبة البطالة‬
‫تضمن البرنامج الحكومي‬ ‫ّ‬ ‫أو تراجع نسبة الفقر أو رفع معدّ الت االستثمار‪ .‬وقد‬
‫الطموحة لتطوير أداء‬ ‫الســوداني للبرلمان الكثير من األهداف ّ‬ ‫الذي قدّ مه شــياع ّ‬
‫لكن مدّ ة‬
‫تضمن خططا لمعالجــة االختالالت الحالية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫االقتصــاد العراقي‪ .‬كما‬
‫المبكرة لن تكون كافية‬‫ّ‬ ‫البرنامــج المحــدّ دة بعام واحد قبل إجراء االنتخابــات‬
‫كل تلك األهداف أو ح ّتى بعضها‪ .‬فهناك اختالالت هيكلية في االقتصاد‬ ‫إلنجاز ّ‬
‫متوســطة وطويلة المدى‪ ،‬من ذلك اعتماده شــبه‬ ‫ّ‬ ‫العراقي تحتاج إلى معالجات‬
‫المطلق على ال ّنفط كمورد رئيس لتسيير الدّ ولة وتمويل الميزانية العا ّمة‪ .‬فموارد‬
‫ال ّنفط تقدّ ر بنحو ‪ % 95‬من الدّ خل القومي اإلجمالي للعراق‪ ،‬وهو ما يجعل من‬
‫الضغط على برامج‬ ‫تق ّلبات األســعار العالمية ومستوى اإلنتاج المحدّ د سببا في ّ‬
‫ال ّتنمية والميزانيات االستثمارية والتشغيلية‪.‬‬
‫وربما وحيد لالقتصاد‪ ،‬تفرض قيودا إضافية‬
‫ّ‬ ‫كما ّ‬
‫أن مركز ّية الدّ ولة كمشغّ ل رئيس‪،‬‬
‫فعال‪،‬‬‫على األداء االقتصادي‪ ،‬ال ســيما مع الفشــل في بناء قطاع خاص وطني ّ‬
‫أي محاولة لإلصالح‪،‬‬ ‫والعجز عن محاربة الفســاد الذي ينخر االقتصاد ويمنع ّ‬
‫وغياب بيئة سياسية وأمنية وقانونية مناسبة لجلب االستثمارات الخارجية‪ .‬يضاف‬
‫إلى جملة هذه التحدّ يات الدّ اخلية‪ ،‬ما يعيشــه العراق من ظروف إقليمية مع ّقدة‬
‫وتوتّرات حدودية وأزمات في عدد من دول الجوار‪.‬‬

‫‪ .3‬السودان‪ :‬تفاقم األزمة على أكثر من صعيد‬


‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫المهمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السياسية‬
‫التطورات ّ‬
‫ّ‬ ‫السودان خالل العام ‪ 2022‬سلسلة من‬ ‫شهد ّ‬
‫المكونين العسكري والمدني‪ ،‬دون أن يحدث ذلك تغييرا‬
‫ّ‬ ‫على صعيد العالقة بين‬
‫ولكن الجانب االقتصادي واالجتماعي لألزمة‬
‫ّ‬ ‫فعليا في بنية األزمة المستفحلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحسنا ُيذكر‪ ،‬بل ازداد سوءا مع حالة االضطراب وعدم االستقرار‪ ،‬وفي‬
‫لم يشهد ّ‬

‫‪155‬‬
‫الروسية على أوكرانيا‪ .‬فتدهورت القدرة الشّ رائية‬ ‫الســلبية للحرب ّ‬
‫ظل التأثيرات ّ‬‫ّ‬
‫ضخم في االرتفاع‪ ،‬وانخفضت قيمة العملة‬ ‫واســتمرت معدّ الت ال ّت ّ‬
‫ّ‬ ‫للمواطنين‪،‬‬
‫للسودان مهدّ دا‪.‬‬ ‫المح ّلية‪ ،‬وبات األمن الغذائي ّ‬

‫السياسية واألمنية‬
‫تفاقم األزمة ّ‬
‫السودان في العام ‪ 2021‬طويال‪ .‬فسرعان‬ ‫لم تدم الدّ يمقراطية الهشّ ة التي دخلها ّ‬
‫والمكون‬
‫ّ‬ ‫ما اشــتدّ الخالف على إدارة المرحلة االنتقالية بين القيادة العســكرية‬
‫الســلطة في ‪ 25‬أكتوبر‪ /‬تشرين‬ ‫المدني‪ ،‬ما أ ّدى إلى اســتيالء العســكر ّيين على ّ‬
‫التطور عن اعتقال رئيس الوزراء‪ ،‬عبد الله‬ ‫ّ‬ ‫الســنة‪ .‬وأســفر ذلك‬
‫األول من نفس ّ‬ ‫ّ‬
‫حمدوك‪ ،‬وانتشار االضطرابات في عدد من المدن إلى جانب العاصمة الخرطوم‪،‬‬
‫وتصاعد العنف في بعض األقاليم‪ .‬وفي ‪ 2‬يناير‪ /‬كانون الثّاني ‪ ،2022‬اســتقال‬
‫حمدوك بعد مفاوضات مع القيادة العســكرية أ ّدت إلى توســيع ســلطة جهاز‬
‫المخابرات العا ّمة‪ ،‬وانفراد الجيش بال ّتعيينات في المناصب الحكومية والعا ّمة‪.‬‬
‫السياســي‪ ،‬رفضت لجان المقاومة‬ ‫ظل حالة االضطراب وعدم االســتقرار ّ‬ ‫وفي ّ‬
‫الســودانيين مقترح األمم الم ّتحدة ال ّتحكيم بين الفصائل المدنية‬ ‫المهنيين ّ‬
‫ّ‬ ‫ونقابة‬
‫واستمرت تلك ا ّللجان في مطالبة الجيش بمغادرة العملية ّ‬
‫السياسية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والعسكرية‪،‬‬
‫القوات المسلحة‪،‬‬
‫السيادة وقائد ّ‬ ‫المتكررة من جانب رئيس مجلس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ورغم الوعود‬
‫عبد الف ّتاح البرهان‪ ،‬وغيره من القيادات العسكرية‪ ،‬بعودة الجيش إلى ثكناته وترك‬
‫أن شيئا من ذلك لم يحدث‪.‬‬ ‫للسياسيين‪ّ ،‬إاّل ّ‬‫السياسة ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫المشكلة غال ًبا على‬ ‫السياســية‪ ،‬تصاعدت أنشــطة المليشيات‪،‬‬ ‫إلى جانب األزمة ّ‬
‫السياسي واالقتصادي‬ ‫أســس عرقية وشــبه عرقية‪ ،‬والتي تقاتل من أجل ال ّتأثير ّ‬
‫واالجتماعــي‪ ،‬ويرتبط بعضها بأطــراف إقليمية‪ .‬فشــهدت المنطقة الغربية من‬
‫وســكان القرى والمدن‪،‬‬‫ّ‬ ‫دارفــور مواجهات عنيفة‪ ،‬واعتداءات على المزارعين‬
‫خاصة تلك التي تأوي نازحين‪ .‬وعلى طول الحدود التشادية‪ ،‬ش ّنت المليشيات‬ ‫ّ‬
‫الســريع‪ ،‬عمليات ضدّ جماعات عرقية‬ ‫العربية‪ ،‬التي ُتنســب إلى قوات الدّ عم ّ‬
‫أخرى‪ .‬وشــهدت واليتا جنوب وغرب كردفان‪ ،‬بالقرب من الحدود مع جنوب‬
‫تستمر أعمال العنف في والية‬
‫ّ‬ ‫السودان‪ ،‬قتاال منتظما بين المليشيات المح ّلية‪ ،‬كما‬
‫ّ‬

‫‪156‬‬
‫يستمر ال ّتوتّر بين‬
‫ّ‬ ‫شــمال كردفان‪ .‬وفي منطقة الفشــقة بوالية القضارف الشّ رقية‪،‬‬
‫السودان وأثيوبيا‪ .‬فقد ظ ّلت األجزاء الغربية من الفشقة تحت سيطرة المزارعين‬ ‫ّ‬
‫متكررة‬
‫ّ‬ ‫تتعرض أجزاؤها الشّ رقية إلى هجمات‬ ‫السنين‪ ،‬بينما ّ‬‫السودانيين لعشرات ّ‬‫ّ‬
‫السودانية خالل العام ‪ 2022‬في‬ ‫القوات ّ‬
‫من قبل المليشيات اإلثيوبية‪ .‬وقد نجحت ّ‬
‫الطرفين خالل‬ ‫اســتعادة معظم تلك المناطق‪ ،‬و ُيتو ّقع أن تتجدّ د المواجهات بين ّ‬
‫العام ‪.2023‬‬

‫تحديات اقتصادية وأوضاع إنسانية صعبة‬


‫ّ‬
‫السودان خالل العام ‪ 2022‬وضعا اقتصاديا‬ ‫السياسية واألمنية في ّ‬ ‫خلقت األزمة ّ‬
‫أن البالد ما زالت تعاني من آثار جائحة كورونا ومن دمار واسع‬ ‫خاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫صعبا‪،‬‬
‫ّ‬
‫التضخم وارتفاع‬ ‫الصعوبات في زيادة‬ ‫السيول الجارفة‪ .‬وقد تج ّلت تلك ّ‬ ‫بســبب ّ‬
‫األســعار وغالء المعيشة وانكماش قطاع األعمال‪ .‬في المقابل‪ُ ،‬يتو ّقع أن يح ّقق‬
‫مدفوعا باالنتعاش المتو ّقع‬
‫ً‬ ‫نموا ملحوظا في العام ‪2023‬‬ ‫ال ّناتج المح ّلي اإلجمالي ّ‬
‫الزراعة وال ّتعدين واالســتهالك واالســتثمار‪ .‬ومن شأن ذلك‪ ،‬إذا تح ّقق‪ ،‬أن‬ ‫في ّ‬
‫ولكن اإلقبال على‬ ‫ّ‬ ‫ويحسن القدرة الشرائية للمواطنين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخ ّفف من أعباء المعيشة‬
‫الزراعة‬‫األهمية األكبر للمستثمرين األجانب‪ ،‬مثل ّ‬ ‫ّ‬ ‫االستثمار في القطاعات ذات‬
‫الطبيعي‪ ،‬ال يزال ضعيفا‪ .‬ولن‬ ‫واســتخراج المعادن وال ّتنقيب عن ال ّنفــط والغاز ّ‬
‫الســودانية‪ ،‬وتخفيف البيروقراطية‬ ‫تتغيــر هذه المعادلة دون تطوير البنية ال ّتحتية ّ‬
‫ّ‬
‫أن غياب االســتقرار‬ ‫ّ‬
‫شــك ّ‬ ‫المرهقة‪ ،‬والحدّ من استشــراء ظاهرة الفســاد‪ .‬وال‬
‫ّ‬
‫المنظمات الدّ ولية‬ ‫الصراعات اإلثنية‪ ،‬وما يتر ّدد في تقارير‬ ‫السياسي واتّساع دائرة ّ‬ ‫ّ‬
‫السودان الدّ ولية‪ ،‬ويحدّ من‬ ‫يضر بسمعة ّ‬‫ّ‬ ‫عن أحداث العنف في بعض المناطق‪،‬‬
‫رغبة الشّ ركات األجنبية في استكشاف فرص االستثمار‪.‬‬

‫في العام ‪ ،2022‬شــهد ّ‬


‫الســودان أيضا تهديدا حقيقيا ألمنه الغذائي‪ ،‬وقد كشف‬
‫الس ّكان‬
‫تقرير دولي أنّه من يونيو‪ /‬حزيران إلى سبتمبر‪ /‬أيلول عانى أكثر من ربع ّ‬
‫(حوالي ‪ 11.7‬مليون شــخص) من الجوع الشّ ــديد بزيادة نحو مليوني شخص‬
‫مقارنة بالفترة ذاتها من العام ‪ .2021‬و ُتعدّ واليات غرب وشمال ووسط دارفور‬
‫تضررا على صعيد األمن الغذائي‪.‬‬
‫والخرطوم وكسال وال ّنيل األبيض‪ ،‬أكثر المناطق ّ‬

‫‪157‬‬
‫التغيرات المناخية‬
‫ّ‬ ‫السودان أزمة بيئية متفاقمة ناجمة عن‬
‫إلى جانب ذلك‪ ،‬يواجه ّ‬
‫تسببت في إطالة فترات الجفاف وتراجع مساحة األراضي المزروعة وعدم‬ ‫التي ّ‬
‫انتظام هطول األمطار‪ .‬وكان من نتائج ذلك تراجع محصول القمح بشكل كبير‬
‫الروسية األوكرانية‪،‬‬
‫في موسم ‪ ،2022‬واتّساع حركة ال ّنزوح‪ .‬ومع اندالع الحرب ّ‬
‫السودانية على يجاد بدائل للقمح األوكراني وعجزه‬ ‫انكشــفت محدودية القدرة ّ‬
‫عن تأمين حاجته من هذه الما ّدة الحيوية بسبب تراجع مخزون العملة األجنبية‪.‬‬
‫الســودان في ‪20‬‬
‫الصعوبات‪ ،‬كشــف برنامج الغذاء العالمي في ّ‬
‫في ســياق هذه ّ‬
‫اضطر إلى خفض توزيع الغــذاء في جميع أنحاء‬ ‫ّ‬ ‫يونيــو‪ /‬حزيــران ‪ ،2022‬أنّه‬
‫الســودان بســبب ال ّنقص الحا ّد في الميزانية‪ ،‬األمر الذي أ ّثر ســلبا على أوضاع‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتسبب تقلص ميزانية البرنامج في دفع‬
‫ّ‬ ‫خاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ا ّلالجئين وال ّنازحين قسرا بصورة‬
‫ً‬
‫هذه الفئات إلى اعتماد أساليب تأقلم سلبية مثل ترك المدرسة وعمالة األطفال‬
‫الســودانيين إلى الهجرة إلى دول‬
‫واضطر آالف من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المبكــر وغيرها‪.‬‬ ‫والــزواج‬
‫ّ‬
‫أخرى‪ ،‬على رأسها مصر‪ ،‬لتأمين عيشهم والبحث عن فرص عمل‪.‬‬

‫مواقف دولية بأجندات مختلفة‬


‫الســودان مثــاال عن تراجع ال ّنفوذ‬
‫أ ّما على المســتوى الدّ ولي‪ ،‬فقد كانت أزمة ّ‬
‫القارة اإلفريقية بشــكل عام‪ .‬واكتفى موقف واشنطن بإعالن تأييده‬ ‫ّ‬ ‫األميركي في‬
‫الســودانيون فيما بينهم‪ .‬أ ّما روســيا‪ ،‬التي بدأ نفوذها‬
‫يتوصل إليها ّ‬
‫ّ‬ ‫للحلول التي‬
‫دعمت موقف‬ ‫الصعيد األمني‪ ،‬فقد ّ‬
‫خاصة على ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتوسع في بعض دول المنطقة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فسر‬
‫الســوداني الذي تربطه بروسيا عالقات عسكرية طويلة األمد‪ .‬وقد ّ‬ ‫الجيش ّ‬
‫الروسي‬ ‫البعض زيارة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو في بداية الغزو ّ‬
‫السودان طلب‬ ‫الروســي‪ ،‬وتمهيد لقبول ّ‬ ‫ألوكرانيا على أنّه دعم صريح للموقف ّ‬
‫روسيا بناء قاعدة بحرية على ساحل البحر األحمر‪ .‬من ناحيتها‪ ،‬تبدي إسرائيل‬
‫السودان وتسعى إلى توثيق عالقاتها بقيادة الجيش‬ ‫خاصا بما يحدث في ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهتماما‬
‫أن هذا االهتمام مرتبط بصالت مزعومة إلسرائيل مع عدد من‬ ‫السوداني‪ .‬ويبدو ّ‬ ‫ّ‬
‫الســودان في "اتفاقيات‬ ‫الطريق أمام مشــاركة ّ‬ ‫مهدوا ّ‬
‫القادة العســكريين الذين ّ‬
‫أسست لتطبيع العالقات بين إسرائيل وعدد من الدّ ول العربية‪.‬‬ ‫أبراهام" التي ّ‬

‫‪158‬‬
‫مستقبل األزمة وا ّتجاهاتها‬
‫المكونين المدني‬‫ّ‬ ‫الســودان بيــن‬
‫بعــد تجربــة ال ّتوافق القصيرة‪ ،‬التي عاشــها ّ‬
‫السلطة‪ ،‬فيما اع ُتبر انقالبا‬
‫والعسكري‪ ،‬وما أعقبها من استيالء قيادة الجيش على ّ‬
‫السودانية في منعطف‬ ‫عســكر ّيا بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان‪ ،‬دخلت األزمة ّ‬
‫أن له أفقا قريبا‪ .‬فالخالف جوهري بين رؤية المدنيين لطريقة‬ ‫جديد ونفق ال يبدو ّ‬
‫السياســة ورؤية العسكريين‪ .‬وما يزيد من تعقيد‬ ‫إدارة الحكم ولدور الجيش في ّ‬
‫تشــق‬
‫حل لألزمة هي الخالفات التي ّ‬ ‫التوصل إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫العالقة بين ّ‬
‫الطرفين وتأجيل‬
‫المدنيين من ناحية والعســكريين من ناحية أخــرى‪ .‬وقد تكون تلك الخالفات‬
‫بالسلطة رغم وعود البرهان المتكررة بتسليمها للجانب‬ ‫تمسك العسكريين ّ‬ ‫وراء ّ‬
‫ويتم االتّفاق على‬‫المدني بشروط‪ .‬وما لم تحصل تسوية سياسية بين الجانبين‪ّ ،‬‬
‫السودانية خالل العام ‪ ،2023‬وستتفاقم‬ ‫خارطة طريق واضحة‪ ،‬ستتواصل األزمة ّ‬
‫الصعوبات االقتصادية واالجتماعية‪ .‬وال يبدو أن الشّ ــارع‪ ،‬المنقســم هو اآلخر‪،‬‬
‫والذي اس ُتنزف في احتجاجات شبه يومية خالل العام ‪ ،2022‬سيكون قادرا على‬
‫السلطة على غير شروطها‪.‬‬ ‫إحداث التغيير أو إجبار القيادة العسكرية على تسليم ّ‬

‫‪159‬‬
‫مصر‪ ،‬تونس‪ ،‬األردن‪ :‬أزمات اقتصادية‬
‫تنذر بانفجارات اجتماعية‬
‫إعداد جماعي‬

‫مقدمة‬
‫مرشحة‬‫تشــترك مصر وتونس واألردن في كونها تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة ّ‬
‫التحسن على المدى القريب‪ .‬وتعيش ثالثتها‬ ‫ّ‬ ‫للمزيد من التأزّ م‪ ،‬مع غياب آفاق‬
‫هش ُيستبعد معه اإلقدام على‬ ‫يغطيها اســتقرار سياسي ّ‬ ‫أوضاعا سياســية مأزومة ّ‬
‫والسياســية الدّ اخلية في هذه‬
‫إصالحــات حقيقية‪ .‬وتتفاعل األزمات االقتصادية ّ‬
‫ظل حروب وصراعات تهدّ د‬ ‫البلدان مع أوضاع إقليمية ودولية تزداد صعوبة في ّ‬
‫تظل معالجة األوضاع الدّ اخلية‬ ‫أمن العالم واقتصاده‪ .‬في مواجهة هذه التحدّ يات‪ّ ،‬‬
‫من خالل اإلقدام على إصالحات سياســية وتشــريعية عميقة شــرطا ضروريا‬
‫ّ‬
‫ويظل الحوار الوطني والشّ راكة الجامعة‬ ‫للتخفيف من آثار االزمات المستفحلة‪،‬‬
‫أساسيا لتجاوز االنقسامات واالســتقطابات وتوحيد الجهود في محاربة‬ ‫ّ‬ ‫شــرطا‬
‫تأخرت تلك‬ ‫الفســاد وتطوير القدرات الكفيلة ببناء مســتقبل للجميــع‪ .‬وك ّلما ّ‬
‫وتعــذرت الحلول وانفجرت االحتجاجات‬ ‫ّ‬ ‫اإلصالحــات‪ ،‬زادت األزمات حدّ ة‬
‫الســلطات الحاكمة‪ .‬ويبدو أن العام ‪ 2023‬ســيكون مسرحا لتحركات‬ ‫في وجه ّ‬
‫احتجاجية غير مسبوقة في هذه البلدان الثالثة‪.‬‬

‫‪ .1‬مصر بين األزمة االقتصادية وأوضاع حقوق اإلنسان‬


‫واجهت مصر خالل العام ‪ 2022‬تحدّ يا رئيسا تمثّل في تفاقم األزمة االقتصادية‬
‫للمرة الثّانية خــال عام واحد‪ .‬ومع‬
‫التــي كانــت آخر تداعياتهــا تعويم الجنيه ّ‬
‫تعرضت الحكومة‬ ‫للقمة العالمية للمناخ خالل نوفمبر من العام ذاته‪ّ ،‬‬
‫استضافتها ّ‬
‫المصرية لضغوط سياســية وإعالمية بشــأن انتهاكات حقوق اإلنســان‪ .‬أ ّما على‬
‫مهمة‪،‬‬
‫صعيــد العالقات مع إثيوبيا حول أزمة ســدّ ال ّنهضــة‪ ،‬فلم تطرأ تغييرات ّ‬

‫‪161‬‬
‫إذ واصلت القاهرة مطالبتها أديس أبابا بإبرام اتّفاق شامل إلدارة السدّ ‪ ،‬واكتفت‬
‫باالحتجاج لدى مجلس األمن قبيل بدء الملء الثّالث في أغسطس‪ /‬آب ‪.2022‬‬
‫يســتمر اهتمام القاهرة بتفاعــات األزمة ا ّلليبية‬
‫ّ‬ ‫الصعيد الخارجي أيضا‪،‬‬‫علــى ّ‬
‫وبال ّترتيبــات الجاريــة هناك بين طرابلس وطبرق‪ ،‬وما يمكن أن تســفر عنه من‬
‫تحســنا واضحا في‬ ‫تداعيات أمنية وسياســية واقتصادية‪ .‬كما شــهد العام ‪ّ 2022‬‬
‫العالقات بين مصر وقطر‪ ،‬حيث جرت لقاءات على مستويات مختلفة وزيارات‬
‫متبادلة بين زعيمي البلدين‪ .‬جاء هذا ال ّتطور في العالقات بعد مشاورات طويلة‬
‫طور خالل‬ ‫تستمر عالقات البلدين في ال ّت ّ‬
‫ّ‬ ‫عقب نهاية األزمة الخليجية‪ .‬و ُيتو ّقع أن‬
‫العام ‪ ،2023‬مع تعزيز ال ّتنســيق في مل ّفات عديدة مشــتركة سياسية واقتصادية‪،‬‬
‫خاصة في سياق إقليمي مناسب‪ ،‬يشهد تقاربات تركية سعودية مصرية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫التحديات في العام ‪2023‬‬


‫ّ‬ ‫األزمة االقتصادية على رأس‬
‫تدخــل مصر العام ‪ 2023‬بوضع اقتصادي يشــهد أزمة حا ّدة‪ ،‬مع آمال حكومية‬
‫التوصل إلى حلول جزئية بعد الحصول على قرض من صندوق ال ّنقد‬ ‫ّ‬ ‫بإمكانيــة‬
‫التوصل إلى اتّفاق مع‬
‫ّ‬ ‫الدّ ولي بقيمة ‪ 3‬مليارات دوالر‪ .‬وكانت مصر قد أعلنت‬
‫قرر البنك المركزي المصري االنتقال إلى ســعر‬‫الصندوق في نفس اليوم الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫تســببت تلك الخطوة في انخفاض قياسي‬‫ّ‬ ‫صرف مرن للجنيه بشــكل دائم‪ .‬وقد‬
‫السابق في شهر مارس‪/‬‬ ‫لقيمة الجنيه وصلت نسبته إلى نحو ‪ % 55‬منذ التعويم ّ‬
‫آذار ‪.2022‬‬
‫الســلبية المباشرة النخفاض قيمة الجنية على الوضع المعيشي‬ ‫ورغم ال ّتداعيات ّ‬
‫للمواطنيــن‪ ،‬مازالت الحكومة تأمل في أن يســهم قرض صندوق ال ّنقد الدّ ولي‬
‫فــي منح االقتصاد المصري جرعة ضرورية من الثّقة لمســاعدته على ال ّتعافي‪.‬‬
‫وســ ُيصرف القــرض على مدى أربعة أعوام‪ ،‬شــريطة تنفيــذ الحكومة برنامجا‬
‫إصالحيــا هيكليا‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬ســتحصل مصر على حزمة أخرى تشــمل‬
‫مليار دوالر من صندوق االســتدامة والمرونة ال ّتابع لصندوق ال ّنقد و‪ 5‬مليارات‬
‫دوالر من الدّ ول الشّ ريكة سيقع توجيهها لتمويل مشاريع تنموية‪ .‬في المحصلة‪،‬‬
‫ُيتو ّقع أن تحصل مصر‪ ،‬خالل السنوات األربع القادمة‪ ،‬على قروض ومساعدات‬
‫بقيمة ‪ 9‬مليارات دوالر‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫أن أزمة االقتصاد المصري تبدو‬ ‫ورغــم الحجم الكبير لهذه األرقام ظاهريا‪ ،‬إ ّ‬
‫ال ّ‬
‫الضائقة‬ ‫ّ‬
‫ســيوظف أغلبها لمواجهة ّ‬ ‫أكبر من أن تعالجها حزمة مســاعدات مالية‬
‫الماليــة التي تواجهها الخزينــة‪ ،‬والتي زادت معاناتها بســبب تداعيات جائحة‬
‫الروسية على أوكرانيا‪ .‬فالخزينة المصرية تشهد عجزا كبيرا في‬ ‫كورونا والحرب ّ‬
‫الموازنة العا ّمة للدّ ولة‪ ،‬والدّ ين العام بلغ مستويات قياسية تحتاج إلى مبالغ طائلة‬
‫يمر به االقتصاد العالمي‬
‫ظل الوضع العام الذي ّ‬ ‫لسداد أقساطه مع فوائدها‪ .‬وفي ّ‬
‫السلعية في االرتفاع‪ ،‬ال‬
‫تســتمر فاتورة الواردات ّ‬
‫ّ‬ ‫وما ينتظره من ركود وشــيك‪،‬‬
‫أن مصر تعاني من عجز كبير في ميزانها التجاري‪ ،‬وارتفاع متزايد في نسبة‬ ‫سيما ّ‬
‫التضخم‪ .‬فحسب وكالة موديز لل ّتصنيف االئتماني‪ُ ،‬تعدّ مصر واحدة من خمس‬ ‫ّ‬
‫دول في العالم مهدّ دة بالعجز عن سداد أقساط ديونها الخارجية البالغة أكثر من‬
‫‪ 150‬مليار دوالر‪ .‬وفي آب‪ /‬أغسطس ‪ ،2022‬قال مصرف غولدمان ساكس إن‬
‫ّ‬
‫لتتمكن من سداد ديونها‪.‬‬ ‫مصر بحاجة إلى نحو ‪ 15‬مليار دوالر‬

‫تحد آخر يواجه النظام المصري‬


‫حقوق اإلنسان‪ّ :‬‬
‫مســتمرة بشــأن انتهاكها لحقوق‬
‫ّ‬ ‫الصعيد الحقوقي‪ ،‬تواجه مصر انتقادات‬
‫على ّ‬
‫قمة‬
‫اإلنســان‪ .‬وقــد تصاعدت هــذه االنتقادات وتكثّفت بشــكل خاص خالل ّ‬
‫المناخ‪ ،‬التي ُعقدت في شــرم الشّ ــيخ في نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني ‪ .2022‬وفي‬
‫السياسيين‬‫الســجناء ّ‬ ‫ّ‬
‫المنظمات الحقوقية مطالبتها بإطالق ســراح ّ‬ ‫حين تواصل‬
‫تركزت الحملة خالل مؤتمر المناخ‪ ،‬والتي انخرط فيها رؤســاء‬ ‫بصــورة عامة‪ّ ،‬‬
‫دول وحكومات‪ ،‬على المطالبة باإلفراج عن ال ّناشط المصري عالء عبد الف ّتاح‪،‬‬
‫المسجون منذ عام ‪ 2019‬بتهمة نشر أخبار زائفة‪ .‬وفي ر ّده على هذه االنتقادات‪،‬‬
‫السيســي لنظيــره األميركي جو بايدن خالل‬ ‫الرئيس المصري عبد الف ّتاح ّ‬
‫قــال ّ‬
‫إن مصر أطلقت استراتيجية لحقوق‬ ‫قمة شــرم الشــيخ‪ّ ،‬‬ ‫اجتماعهما على هامش ّ‬
‫الرئاســي تنظر في لوائح‬
‫اإلنســان ومبادرة للحوار الوطني‪ ،‬ولديها لجنة للعفو ّ‬
‫أسماء من يستح ّقون اإلفراج‪ .‬وستكون قضايا حقوق اإلنسان وقدرة مصر على‬
‫ّ‬
‫الملف من بين التحدّ يات التي يواجهها‬ ‫الوفاء بوعودها لتحســين أدائها في هذا‬
‫قمة المناخ األخيرة وما كشفت‬ ‫ال ّنظام المصري خالل العام ‪ ،2023‬ال سيما بعد ّ‬
‫عنه من اهتمام دولي بهذا الموضوع‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫السياسية بعض‬ ‫المتكررة لعقد حوار وطني يعيد للحياة ّ‬‫ّ‬ ‫سياسيا‪ ،‬ورغم الدّ عوات‬
‫ّ‬
‫حيويتها‪ ،‬ال ُيتو ّقع أن ُينجز الكثير على هذا الصعيد‪ .‬وال يتع ّلق األمر فقط بجدّ ية‬
‫ال ّنظام واســتعداده لفتح صفحة جديدة من الشّ ــراكة في إدارة الشّ ــأن العام‪ ،‬بل‬
‫الضعف وال ّتشــرذم وغياب‬ ‫أيضا بالمعارضة التي تعيش منذ ســنوات حالة من ّ‬
‫السياســة الخارجية‪ُ ،‬يتو ّقع أن‬
‫الرؤية الجامعة‪ .‬وعلى مســتوى ّ‬ ‫ال ّتنســيق وفقدان ّ‬
‫تطورات األزمة‬ ‫تواصل القاهرة خالل العام ‪ 2023‬انشــغالها بعدّ ة مل ّفات أبرزها ّ‬
‫الحل العسكري من خالل دعم المشير‬ ‫ّ‬ ‫في ليبيا‪ .‬فبعد فشل مراهنتها على خيار‬
‫السياســي‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬
‫الحل ّ‬ ‫تحول الموقف المصري إلى دعم‬ ‫المتقاعــد خليفة حفتر‪ّ ،‬‬
‫المطالبة بضرورة االعتراف بحكومة فتحي باشــاغا‪ ،‬التي ك ّلفها مجلس النواب‪،‬‬
‫واعتبار حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الشّ رعية‪.‬‬
‫السياســة الخارجية‬ ‫وتبقى أزمة ســدّ ال ّنهضة اإلثيوبي مل ّفا مفتوحا ضمن ملفات ّ‬
‫التوصل إلى‬‫ّ‬ ‫تركز القاهرة جهودها الدّ بلوماســية على ضرورة‬ ‫المصريــة‪ ،‬حيث ّ‬
‫والسودان‪ .‬وقد حظي‬ ‫السدّ يشمل الثّالثي إثيوبيا ومصر ّ‬ ‫اتّفاق شامل حول إدارة ّ‬
‫القمة العربية التي ُعقدت في بداية شــهر نوفمبر‪ /‬تشــرين‬ ‫هذا الموقف بدعم ّ‬
‫للقمة الدّ عوة إلى "ضرورة ال ّتضامن‬
‫وتضمن البيان الختامي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثانــي في الجزائر‪.‬‬
‫فــي حماية الحقــوق المائية لجميع الــدّ ول العربية وفق القانــون الدّ ولي‪ ،‬بما‬
‫يضمــن حقوقها المائية كاملة‪ ،‬خصوص ًا حقوق مصر ّ‬
‫والســودان في مياه ال ّنيل‪،‬‬
‫وعدم اتّخاذ أي خطوات أحادية لملء سدّ ال ّنهضة"‪ .‬فبعد ال ّتصعيد الذي شهدته‬
‫األول‬
‫الســدّ وبداية ملئه ّ‬ ‫العالقــات المصرية اإلثيوبية على إثر االنتهاء من بناء ّ‬
‫يتطور إلى صراع مســ ّلح‪ ،‬عادت القاهرة لل ّتعويل‬ ‫ّ‬ ‫فــي العام ‪ ،2020‬والذي كاد‬
‫الضغط على إثيوبيا للقبول بالمطالب‬ ‫على ال ّتضامن العربي واإلفريقي من أجل ّ‬
‫والسودانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المصرية‬

‫‪ .2‬تونس‪ :‬أزمة سياسية متفاقمة وغياب الحلول االقتصادية‬


‫تموز ‪2021‬‬
‫سعيد في يوليو‪ّ /‬‬
‫الرئيس قيس ّ‬
‫يستقر الوضع في تونس منذ أعلن ّ‬
‫ّ‬ ‫لم‬
‫السلطات بين يديه‪ّ ،‬‬
‫فعطل‬ ‫تطبيق التدابير االستثنائية‪ ،‬التي جمع بموجبها مختلف ّ‬
‫ّ‬
‫وحل الهيئات الدّ ســتورية التي نشأت في ظل‬ ‫البرلمان وألغى أحكام الدّ ســتور‬
‫عشرية االنتقال الديمقراطي‪ .‬وعلى خالف منطوق شعار "تصحيح المسار" الذي‬

‫‪164‬‬
‫ات ُِّخــذت تحته تلك اإلجراءات‪ ،‬دخلت البالد في أزمة خانقة على المســتويين‬
‫السياســية‬
‫السياســي واالقتصادي‪ .‬ورغم تواصل واتّســاع دائرة االحتجاجات ّ‬ ‫ّ‬
‫سعيد انقالبا على المسار‬ ‫والميدانية التي تقودها المعارضة‪ ،‬التي تعتبر إجراءات ّ‬
‫الرئيس في تنفيذ خارطة طريق معلنة من شــأنها أن تنتهي‬ ‫اســتمر ّ‬
‫ّ‬ ‫الديمقراطي‪،‬‬
‫بإقامة حكم رئاسي شبه مطلق‪ .‬فبادر بتنظيم استشارة وطنية حظيت بنسبة مشاركة‬
‫متدنّية كانت في حدود ‪ ،% 5‬تالها اســتفتاء على دســتور جديد قوبل بمقاطعة‬
‫واسعة شملت أكثر من ثلثي عدد ال ّناخبين‪ .‬و ُت ّوج هذا المسار بانتخابات تشريعية‬
‫جل األحزاب السياســية وأفرزت‬ ‫في ‪ 17‬ديســمبر‪ /‬كانون األول ‪ 2022‬قاطعها ّ‬
‫السياســية‪ ،‬ال يملك صالحيــات رقابية فعلية على عمل‬ ‫برلمانــا فاقدا لل ّتمثيلية ّ‬
‫الحكومة وسياســاتها‪ .‬أ ّما الوضع االقتصادي‪ ،‬الذي كان قبل فرض اإلجراءات‬
‫االستثنائية يعاني من صعوبات كبيرة‪ ،‬فقد دخل بعد ذلك في أزمة حا ّدة ال يبدو‬
‫أن ح ّلها سيكون ممكنا خالل العام ‪ .2023‬تتعدّ د مظاهر هذه األزمة وال تقتصر‬
‫ّ‬
‫التضخم‬ ‫الصعوبات التي تعانيها خزينة الدولة وتراجع مواردها وارتفاع نسبة‬ ‫على ّ‬
‫وارتفاع أســعار الموا ّد األساســية وفقدان بعضها اآلخر‪ ،‬مع صعوبة االقتراض‬
‫الصديقة والشّ قيقة‪.‬‬
‫الخارجي وشح المساعدات المالية من البلدان ّ‬

‫أزمة سياسية دون أفق‬


‫الرئيس قيس‬ ‫السنة حين أعلن ّ‬‫السياسة في تونس قبل سنة ونصف ّ‬ ‫تفجرت األزمة ّ‬‫ّ‬
‫تموز ‪ 2021‬سلســلة من ال ّتدابير االستثنائية أقال بموجبها‬
‫ســعيد في ‪ 25‬يوليو‪ّ /‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وجمد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن ال ّنواب وعطل‬ ‫ّ‬ ‫يشي‬ ‫المشّ‬ ‫حكومة هشام‬
‫الرئيس ومؤ ّيدوه‬
‫السلطات‪ .‬وفي حين اعتبر ّ‬ ‫أحكام الدّ ستور وتو ّلى بنفسه جميع ّ‬
‫تلك الخطوة إجراء ضروريا لـ"تصحيح مسار الثورة"‪ ،‬رأى فيها معارضوه انقالبا‬
‫وزجا بالبالد في مســار مجهول العواقب‪ .‬وبعد عام من البدء‬ ‫على الدّ يمقراطية ًّ‬
‫فــي تنفيذ تلك اإلجراءات‪ ،‬تخللته احتجاجــات المعارضة وانتقادات المجتمع‬
‫الرئيس‪ُ ،‬أ ْج ِري استفتاء على دستور‬ ‫الدّ ولي‪ ،‬وشــهد تدهورا متسارعا في شعبية ّ‬
‫جديد بديل من دستور ‪ ،2014‬لم تبلغ نسبة المشاركة فيه ثلث عدد ال ّناخبين‪.‬‬
‫وبدال من أن يكون االســتفتاء الشــعبي ّ‬
‫حاّل ألزمة سياسية ودستورية مستفحلة‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫وعمق من حالة االنقســام التي تعيشــها البالد‪.‬‬
‫أضــاف إليهــا تعقيدات جديدة ّ‬
‫فالتدنّي الكبير في نســبة ال ّتصويت‪ ،‬ســواء أكان عزوفا ســلبيا أم مقاطعة فاعلة‪،‬‬
‫وحجة كافية لنزع الشّ رعية‬
‫ّ‬ ‫رأت فيه المعارضة دليال على عزلة الرئيس ومشروعه‪،‬‬
‫السياســي الذي ســيقوم على أساســه‪ .‬ومثلما دعت‬ ‫عن الدّ ســتور وعن ال ّنظام ّ‬
‫السابع عشر‬‫المعارضة إلى مقاطعة االستفتاء‪ ،‬دعت أيضا إلى مقاطعة انتخابات ّ‬
‫أن القانون االنتخابي الجديد يقصي‬ ‫خاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫من ديســمبر‪ /‬كانون األول ‪،2022‬‬
‫األحزاب من العملية االنتخابية‪ ،‬فال يسمح لها بترشيح قوائم حزبية وال بتمويلها‬
‫ّ‬
‫المرشحين‪.‬‬ ‫أو تنظيم حمالت انتخابية لفائدة‬
‫سعيد‪ ،‬الذي‬ ‫السياسية من العملية االنتخابية مع رؤية قيس ّ‬ ‫ينسجم إقصاء األحزاب ّ‬
‫السياســي ينبغي أن ينبع‬ ‫الزمن‪ّ ،‬‬
‫وأن ال ّتمثيل ّ‬ ‫يعتبر األطر الحزبية كيانات تجازها ّ‬
‫فإن عضو ّية البرلمان الجديد ستقتصر على أصحاب‬ ‫مباشرة من الشعب‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬
‫المرشحين مقاعدهم‬ ‫ّ‬ ‫السياســي واالجتماعي‪ ،‬وقد ضمن عدد من‬ ‫المال وال ّنفوذ ّ‬
‫ظل‬‫قبل إجراء االنتخابات‪ ،‬نظرا لغياب منافســين فــي دوائرهم االنتخابية‪ .‬في ّ‬
‫السياسية‬ ‫يكرس الحكم الفردي المطلق‪ ،‬ستزداد األزمة ّ‬ ‫برلمان صوري‪ ،‬ودستور ّ‬
‫الرقابة وال ّتعديل وال ّتصحيح والمحاسبة‪ .‬وستجد‬ ‫تفاقما‪ ،‬مع غياب كامل آلليات ّ‬
‫المؤسسي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الطبيعية لممارسة نشاطها‬ ‫السياســية نفســها خارج األطر ّ‬
‫المعارضة ّ‬
‫وتتعرض للمضايقات األمنية والمتابعات‬ ‫ّ‬ ‫تتحرك في مســاحات تضيق باستمرار‪،‬‬
‫القضائية بهدف إســكات صوتها ورفع كلفة معارضة ال ّنظام بشكل عام‪ .‬غير ّ‬
‫أن‬
‫ّ‬
‫ســتظل تمدّ‬ ‫األزمة االقتصادية واالجتماعية التي ت ّتجه نحو المزيد من ال ّتعقيد‪،‬‬
‫المعارضة بأسباب ال ّنشاط و ُتسهم في توسيع رقعتها وتجذير مطالبها الشّ عبية‪.‬‬
‫تفاقم الوضع االقتصادي‬
‫الصبغة االجتماعية لالحتجاجات التي ات ِ‬
‫ُّخــذت على إثرها إجراءات ‪25‬‬ ‫رغــم ّ‬
‫أن الثمانية عشر شهرا التي تلت تلك اإلجراءات لم‬ ‫يوليو‪ /‬تموز االستثنائية‪ ،‬إال ّ‬
‫المحتجين ولم تضع حدّ ا لتدهور الوضع االقتصادي‬ ‫ّ‬ ‫تســهم في تحسين أوضاع‬
‫الــذي يعانــي أصال من اختالالت هيكلية ومن تداعيــات جائحة كورونا‪ .‬ومع‬
‫الروسية على أوكرانيا تصاعدت حدّ ة األزمة وتسارعت وتيرتها‪،‬‬ ‫اندالع الحرب ّ‬
‫فارتفعت أسعار ّ‬
‫الطاقة والموا ّد االستهالكية‪ ،‬وتهاوت قيمة الدّ ينار‪ ،‬وعجزت الدّ ولة‬

‫‪166‬‬
‫السياســية‬
‫تعذر االقتراض الخارجي بســبب األزمة ّ‬ ‫خاصة مع ّ‬
‫ّ‬ ‫عن إيجاد بدائل‪،‬‬
‫الصعوبات‪ ،‬دخلت‬ ‫خضم هذه ّ‬‫ّ‬ ‫وتراجع تصنيف تونس االئتماني بشكل متتال‪ .‬في‬
‫الحكومة في مفاوضات مع صندوق ال ّنقد الدّ ولي لتأمين قرض تخ ّفف به حدّ ة‬
‫الصندوق‪ ،‬المتمثّلة أساسا في تجميد األجور ورفع الدّ عم‬‫أن شروط ّ‬ ‫األزمة‪ ،‬إال ّ‬
‫مؤسسات القطاع العام‪ ،‬س ُترتّب أعباء إضافية‬
‫عن المواد األساســية وخصخصة ّ‬
‫على معيشة المواطنين بدال من تخفيفها‪.‬‬
‫التضخم في شــهر ديسمبر‪ /‬كانون‬ ‫ّ‬ ‫وف ًقا للمعهد الوطني لإلحصاء‪ ،‬قفزت نســبة‬
‫األول إلى ‪ ،% 9.8‬مقارنة بـ‪ % 6.7‬في يناير‪ /‬كانون الثاني من نفس السنة‪ .‬ودفعت‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫التضخم البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة‬ ‫هذه االرتفاعات المتتالية في نسبة‬
‫أول زيادة منذ أكتوبر ‪.2020‬‬ ‫بمقــدار ‪ 0.75‬نقطة أســاس في مايو‪ /‬أيار‪ ،‬وهــي ّ‬
‫كما ارتفعت األســعار إلى مســتويات قياسية‪ ،‬فتضاعفت أســعار بعض الموا ّد‬
‫الســوق‪ ،‬مثــل الحليب والزيت‬ ‫االســتهالكية فــي حين غابت مواد أخرى من ّ‬
‫يســتمر الدّ ين العام في االرتفاع‪ ،‬حيث قفز‬
‫ّ‬ ‫والس ّ‬
‫ــكر والقهوة‪ .‬في الوقت ذاته‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مــن ‪ % 40.7‬من إجمالي ال ّناتــج المح ّلي في العام ‪ 2010‬إلى ‪ % 84.5‬في العام‬
‫السلع األساسية بنسبة ‪% 61‬‬ ‫‪ .2021‬واتّســع العجز ال ّتجاري بسبب ارتفاع أسعار ّ‬
‫في األشهر الثّمانية األولى من العام ‪ ،2022‬ليصل إلى ‪ % 11.6‬من ال ّناتج المح ّلي‬
‫الروسية األوكرانية وما أ ّدت إليه من اضطراب‬
‫اإلجمالي‪ ،‬وكذلك بسبب الحرب ّ‬
‫السوق العالمية بال ّنفط والغاز والحبوب‪ ،‬وارتفاع أسعار هذه المنتجات‬‫في تزويد ّ‬
‫عالميا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي زاد الطلب عليها‬

‫مستقبل األزمة بين ضرورات الحوار الوطني واحتماالت االنفجار االجتماعي‬


‫السياسية في تونس تسير في‬ ‫أن األزمة ّ‬ ‫ّ‬
‫المؤشرات المتواترة‪ ،‬ال يبدو ّ‬ ‫من خالل‬
‫فالرئيس‪ ،‬رغم عزلته الدّ اخلية المتزايدة‪ ،‬واتســاع رقعة المعارضة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الحل‪ّ .‬‬ ‫اتّجاه‬
‫واستمرار االنتقادات الخارجية لسياساته‪ ،‬واحتداد األزمة االقتصادية بشكل غير‬
‫السياسي الذي ينشده‪.‬‬‫المضي إلى ال ّنهاية في إقامة ال ّنظام ّ‬
‫ّ‬ ‫مصمم على‬
‫ّ‬ ‫مسبوق‪،‬‬
‫حل األزمة واتسعت‬ ‫الرئيس أكثر في تنفيذ مشروعه‪ ،‬تضاءلت فرص ّ‬ ‫وك ّلما تقدّ م ّ‬
‫تتوحد أو على األقل‬
‫ّ‬ ‫الهــوة بينه وبين المعارضة التي بدأت قواها تتقارب‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬

‫‪167‬‬
‫توحد المعارضة‬
‫تبــدأ في التنســيق بينها خالل العام ‪ .2023‬وح ّتى في صــورة ّ‬
‫المؤسستان‬
‫ّ‬ ‫استمرت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تشــكله محدودا‪ ،‬طالما‬ ‫الضغط الذي‬ ‫السياســية‪ ،‬ســيبقى ّ‬
‫ّ‬
‫تتحول االنتقادات الخارجية‬
‫ّ‬ ‫العســكرية واألمنية في حماية ال ّنظام القائم‪ ،‬ولــم‬
‫الرئيس على تغيير سلوكه‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫أن الموقفين الفرنسي‬ ‫إلى ضغوط فعلية تجبر ّ‬
‫لتوجهاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والجزائري تحديدا ال زاال يمثّالن سندا قويا‬
‫بتطور األزمة االقتصادية وما يمكن أن‬‫ال ّتغييــر المتو ّقع في هــذه المعادلة رهين ّ‬
‫تفضــي إليــه من تداعيات اجتماعية‪ .‬فالحكومة بدأت بالفعل في تنفيذ شــروط‬
‫صنــدوق ال ّنقد الدّ ولي ح ّتى قبل موافقته ال ّنهائية على منحها القرض المنشــود‪.‬‬
‫وال يعود ارتفاع أســعار الموا ّد األساسية إلى ال ّتأثيرات الخارجية فقط‪ ،‬بل أيضا‬
‫وسيســتمر هذا‬
‫ّ‬ ‫الرفع ال ّتدريجي للدّ عم الذي كانت تحظى به في الماضي‪.‬‬ ‫إلى ّ‬
‫االرتفاع مدفوعا بموجة الغالء العالمية مع عجز خزينة الدّ ولة عن توفير الموارد‬
‫ا ّلالزمة لمساعدة محدودي الدّ خل والحدّ من تدهور القدرة الشّ رائية للمواطنين‪.‬‬
‫الضرائب القائمة‬‫وقد عكست موازنة العام ‪ 2023‬هذا االتجاه‪ ،‬فر ّفعت في قيمة ّ‬
‫السياق‪ ،‬بدأ االتّحاد العام ال ّتونسي‬
‫واســتحدثت أبوابا لضرائب جديدة‪ .‬في هذا ّ‬
‫للشّ ــغل ينأى بنفســه عن خيارات الحكومة وسياســاتها االجتماعية ّ‬
‫منبها إلى‬
‫خطورة ال ّنتائج التي سيؤ ّدي إليها اتّفاقها مع صندوق ال ّنقد الدّ ولي‪ .‬فإذا اتّسعت‬
‫سعيد الذي ساندته‬‫الرئيس ّ‬ ‫الشّ ــ ّقة بين االتّحاد والحكومة‪ ،‬ومن ورائها مشــروع ّ‬
‫التطور أرضية مناسبة ل ّلقاء بين المعارضة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المنظمة النقابية منذ البداية‪ ،‬سيخلق هذا‬
‫الطريق‪ ،‬إ ّما إلطالق حوار وطني جامع يبحث‬ ‫وسيمهد ّ‬
‫ّ‬ ‫السياســية واالجتماعية‪،‬‬‫ّ‬
‫السياسية واالقتصادية المتفاقمة‪ ،‬أو الندالع موجة واسعة من‬ ‫في حلول لألزمة ّ‬
‫االحتجاجات الشّ ــعبية قد تفضي إلى تغيير سياســي تســتأنف تونس من خالله‬
‫مسارها الدّ يمقراطي‪.‬‬

‫الدور اإلقليمي في بيئة مضطربة‬


‫السياسي وترميم ّ‬
‫‪ .3‬األردن‪ :‬اإلصالح ّ‬
‫الصعيد‬
‫يواجه األردن مجموعة من التحدّ يات الدّ اخلية والخارجية‪ ،‬أبرزها على ّ‬
‫وشــح الموارد الماليــة‪ .‬أما التحدّ يات الخارجية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الداخلي التحدّ ي االقتصادي‬
‫بالتحوالت الجارية في محيطه اإلقليمي‪ .‬فاألردن يقع في قلب المثّلث‬
‫ّ‬ ‫فتتع ّلــق‬

‫‪168‬‬
‫السوري‪ ،‬الذي لم يعرف الهدوء منذ عقود‪ .‬فقد أحدث احتالل‬ ‫الفلسطيني العراقي ّ‬
‫تغيرت معه موازين القوى اإلقليمية‪ .‬وجاءت األزمة‬‫العراق في العام ‪ 2003‬زلزاال ّ‬
‫الســورية في ‪ ،2011‬فأفسحت المجال للتمدّ د اإليراني ح ّتى وصل إلى الحدود‬ ‫ّ‬
‫الســام إلى نهايتها‪ ،‬فقد‬
‫القضية الفلســطينية‪ ،‬وبعد وصول عملية ّ‬
‫ّ‬ ‫األردنية‪ .‬أ ّما‬
‫الصراع‬
‫مهمة مثل صفقة القرن واتّساع دائرة ال ّتطبيع وتصعيد ّ‬
‫تطورات ّ‬‫شــهدت ّ‬
‫العسكري بدال من تخفيضه‪.‬‬

‫‪ -‬األزمة االقتصادية وهشاشة الحياة السياسية‪ :‬يعاني االقتصاد األردني في ّ‬


‫السنوات‬
‫األخيرة من أزمة حا ّدة تعدّ دت أســبابها ومظاهرها وأثقلت كاهل األردنيين‪ .‬فقد‬
‫ارتفعــت ديون األردن فــي العام ‪ 2022‬إلى أكثر من ‪ 41‬مليار دوالر لتبلغ نحو‬
‫‪ % 90‬من قيمة الناتج المح ّلي اإلجمالي التي ُتقدّ ر بـ‪ 45‬مليار دوالر‪ ،‬كما ارتفعت‬
‫مؤشر سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ .2022‬ومع ارتفاع أسعار‬ ‫التضخم بـ‪ % 5.39‬بحسب ّ‬ ‫ّ‬ ‫نسبة‬
‫الروسية على أوكرانيا‪ ،‬بلغت نسبة البطالة‬
‫الطاقة والموا ّد األساسية بسبب الحرب ّ‬ ‫ّ‬
‫الربع الثاني من العام ‪ ،2022‬بينما تجاوزت نسبة الفقر ‪.% 24‬‬ ‫‪ % 22.6‬في ّ‬
‫الصعوبات االقتصادية على الوضع االجتماعي‪ ،‬فتدهورت القدرة‬ ‫انعكست هذه ّ‬
‫مؤشرات الغضب واالحتقان االجتماعي في‬ ‫الشّ ــرائية لعموم المواطنين‪ ،‬وبدأت ّ‬
‫الظهور وال ّتراكم‪ .‬تضاف إلى ذلك عدّ ة تحدّ يات يواجهها الوضع السياسي‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬
‫تراجعت ثقة الشّ ــارع األردني فــي أداء الحكومة وفي قدرتها على إدارة األزمة‬
‫وإيجاد الحلول المناســبة في ســياق إقليمي ودولي يزداد تعقيدا‪ .‬وال ينحصر‬
‫تراجع الثّقة الشّ ــعبية في الحكومة فقط‪ ،‬بل يشــمل العملية ّ‬
‫السياســية بر ّمتها‪،‬‬
‫ومؤسســات وآليات عمل‪ .‬وقد أشــار اســتطالع أجراه مركز الدّ راسات‬ ‫ّ‬ ‫أحزابا‬
‫أن ‪ % 2‬فقط‬ ‫االســتراتيجية في الجامعة األردنية في أغســطس‪ /‬آب ‪ 2022‬إلى ّ‬
‫يفكرون في االنضمام ألحزاب سياسية‪ ،‬و‪ % 8‬فقط منهم يتو ّقعون‬ ‫من األردنيين ّ‬
‫ّ‬
‫شــكل‬ ‫نجــاح الحيــاة الحزبية‪ .‬جدير ّ‬
‫بالذكر ّ‬
‫أن الملك عبد الله الثاني كان قد‬
‫السياســية وتحديثها‪.‬‬ ‫فــي يونيو‪ /‬حزيران ‪ 2021‬لجنة ملكية إلصالح المنظومة ّ‬
‫السياسية‬‫وقد أصدرت تلك اللجنة توصيات لتعديل القوانين المتع ّلقة باألحزاب ّ‬
‫وتنظيم االنتخابات‪ ،‬كما أوصت باستحداث تشريعات جديدة من شأنها أن تسمح‬
‫بتوسيع نطاق المشاركة في الحياة العا ّمة‪ ،‬وتعيد ترتيب المشهد السياسي ليستعيد‬

‫‪169‬‬
‫قدرته على اســتقطاب المزيد من الفاعلين من مختلف الفئات االجتماعية ومن‬
‫قضية "األمير حمزة"‪ ،‬التي شــغلت‬‫السياســية ال ّتقليدية‪ .‬فتداعيات ّ‬ ‫خارج ّ‬
‫الطبقة ّ‬
‫الرأي العام خالل سنة ‪ 2021‬ال تزال ماثلة‪ ،‬رغم أن مل ّفها ُأغلق رسميا في مايو‪/‬‬
‫وتحركاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يقيد اتصاالت األمير وإقامته‬‫أيار ‪ 2022‬بمرسوم ملكي ّ‬
‫غيرت صفقة القرن من مركز‬ ‫‪ -‬القضية الفلســطينية ومســتقبل الكيان األردني‪ّ :‬‬
‫السالم‪ ،‬فبات ال ّتطبيع العربي اإلسرائيلي يسير في طريق منفصل عن مسار‬ ‫عملية ّ‬
‫الســام بين الفلســطينيين واإلسرائيليين‪ .‬ولم يعد الدّ ور األردني في‬‫مفاوضات ّ‬
‫طبعت‬ ‫السابق‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫القضية الفلســطينية يكتســي نفس البعد العربي‪ ،‬كما في ّ‬
‫تــل أبيب وفتحت دول أخرى قنوات اتّصال‬ ‫بعــض الدول العربية عالقاتها مع ّ‬
‫والســودان‪ .‬ومن شــأن هذا‬ ‫ّ‬ ‫مباشــر معها‪ ،‬مثل اإلمارات والبحرين والمغرب‬
‫ويغيبها عن ســ ّلم‬
‫الســام ّ‬ ‫يكرس حالة الجمود التي تشــهدها عملية ّ‬ ‫طور أن ّ‬‫ال ّت ّ‬
‫أن الفصل‬ ‫اهتمامــات المجتمع الدّ ولي واألطراف المعنيــة ّ‬
‫بحل الدّ ولتين‪ .‬كما ّ‬
‫الرسمية‬‫السلطة ّ‬
‫بين المسارين س ُيسهم في محاصرة القضية الفلسطينية وفي عزل ّ‬
‫الممثّلة للفلسطينيين عن محيطها العربي بما في ذلك األردن‪.‬‬
‫السياق‪ ،‬كان من ّ‬
‫الطبيعي أن تسوء العالقات األردنية اإلسرائيلية‪ ،‬وتحديدا‬ ‫في هذا ّ‬
‫الرئيس األميركي دونالد ترامب بين‬ ‫ظل حكومة بنيامين نتنياهــو وفي عهد ّ‬ ‫فــي ّ‬
‫عامي ‪ .2021-2017‬وبعد تشكيل الحكومة االئتالفية بينيت ‪ -‬لبيد‪ ،‬شهدت تلك‬
‫الرئيس األميركي‬ ‫تحسنا نسبيا‪ ،‬ال سيما وقد تزامن ذلك مع وجود إدارة ّ‬ ‫العالقات ّ‬
‫ولكن سقوط حكومة ذلك االئتالف وصعود‬ ‫ّ‬ ‫جوزيف بايدن في البيت األبيض‪.‬‬
‫والمتطرف في انتخابات نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪ ،2022‬وتشكيله‬ ‫ّ‬ ‫اليمين واليمين‬
‫أهمية ال ّتغييرات التي‬
‫حكومة بقيادة نتنياهو‪ ،‬أعاد الوضع إلى ما كان عليه‪ .‬ورغم ّ‬
‫السياسي داخل إسرائيل‪ ،‬يبقى أثرها على طبيعة الدّ ور األردني‬ ‫يشــهدها الوضع ّ‬
‫األهم بال ّنســبة إلى األردن هو عدم‬
‫ّ‬ ‫في القضية الفلســطينية محدودا‪ .‬فالتحدّ ي‬
‫أي‬
‫السالم إلى األمام تحت ّ‬ ‫طرف إســرائيلي مســتعدّ للمضي بعملية ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫وجود ّ‬
‫عنــوان يفضي في النهاية إلى إقامة دولة فلســطينية‪ .‬ومــا يزيد من تعقيد الدّ ور‬
‫األردني‪ ،‬ضعف القيادة الفلسطينية وتراجع مكانتها العربية واإلقليمية‪ ،‬فضال عن‬
‫التوحد على أرضية مشروع‬ ‫ّ‬ ‫االنقســام الدّ اخلي وعجز الفصائل الفلســطينية عن‬

‫‪170‬‬
‫الض ّفة الغربية إلى انفجار شامل‪،‬‬
‫وطني جامع‪ .‬وال ُيستبعد أن يؤ ّدي ال ّتصعيد في ّ‬
‫المؤسسات األمنية‬
‫ّ‬ ‫المتطرف قبضته على‬
‫ّ‬ ‫يتحول مع تشديد اليمين اإلسرائيلي‬ ‫ّ‬ ‫قد‬
‫إلى انتفاضة جديدة‪.‬‬
‫أي تراجع في‬‫السياســي والشّ ــعبي بين فلسطين واألردن يجعل من ّ‬ ‫إن ال ّتداخل ّ‬
‫مجرد تحدّ إقليمي على حدوده‬ ‫ّ‬ ‫مسار ّ‬
‫حل الدّ ولتين تحدّ يا أردنيا داخليا‪ ،‬وليس‬
‫الســام نهائيا‪ ،‬ووصلــت قضية الالجئين‬ ‫الغربيــة‪ ،‬خاصــة إذا تو ّقفــت عملية ّ‬
‫رسميا عن اعتبار القدس‬
‫ّ‬ ‫وحقّ العودة إلى طريق مســدود‪ ،‬وتراجعت إســرائيل‬
‫وتنكرت لوصاية األردن على المقدّ سات اإلسالمية‬ ‫الشّ ــرقية عاصمة لفلسطين‪ّ ،‬‬
‫فيها‪ .‬فاألردن يســتضيف حوالي ‪ % 40‬من مجموع عدد الالجئين الفلســطينيين‪،‬‬
‫المســجلين منهم في قوائم األونــروا المليونين‪ ،‬يتم ّتع معظمهم‬
‫ّ‬ ‫ويتجــاوز عدد‬
‫ويشكل هذا الوضع عبئا ثقيال على األردن‪ ،‬الذي يعاني من‬ ‫ّ‬ ‫بالجنســية األردنية‪.‬‬
‫مؤشــرات‬‫أزمــة اقتصادية خانقة‪ ،‬وتراجع حا ّد في موارده المالية‪ ،‬وتصاعد في ّ‬
‫السالم ال‬ ‫ّ‬
‫وألن عملية ّ‬ ‫واألردنيين من أصل فلســطيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األردنيين‬
‫ّ‬ ‫االنقســام بين‬
‫الخطة المطروحة في صفقة القرن‪ ،‬وال يمكنها أيضا أن‬ ‫ّ‬ ‫ُيتو ّقع لها أن تتقدّ م وفق‬
‫تعود إلى منطلقاتها األساسية التي انبنى عليها اتّفاق أوسلو‪ ،‬فإن هذه المراوحة‬
‫ّ‬
‫وســيظل االعتماد عليه واالستثمار فيه يتراجع‬ ‫ســتضعف دور األردن اإلقليمي‪،‬‬
‫بنفس الدّ رجة‪.‬‬
‫السورية والتمدّ د اإليراني‪ :‬تزداد مخاوف األردن من ال ّتهديدات المتأتّية‬
‫‪ -‬المسألة ّ‬
‫خاصة مع تزايد حضور ونشــاط المليشيات المدعومة‬ ‫ّ‬ ‫عبر حدوده مع ســوريا‪،‬‬
‫الســوري‪ .‬فقد نشــطت في تلك المناطق تجارة‬ ‫من إيران في مناطق الجنوب ّ‬
‫ظل تراجع دور روســيا‬ ‫المخدّ رات وتعدّ دت مســالك تهريبها عبر الحدود‪ ،‬في ّ‬
‫تحول األردن‬‫السورية ّ‬ ‫في سوريا بسبب حربها في أوكرانيا‪ .‬ومنذ اندالع األزمة ّ‬
‫السوريين‪ .‬وتشير تقديراته إلى وجود أكثر من مليون‬ ‫إلى وجهة رئيسية ّلاّلجئين ّ‬
‫مفوضية األمم المتحدة عددهم‬‫ّ‬ ‫الجئ سوري على األراضي األردنية‪ ،‬بينما تقدّ ر‬
‫ويشكل هؤالء عبئا اقتصاديا وتحدّ يا سياسا متصاعدا مع‬ ‫ّ‬ ‫بنحو ‪ 700‬ألف الجئ‪.‬‬
‫حل أو تسوية ولو جزئية تسمح بعودة الالجئين‪،‬‬ ‫الســورية دون ّ‬ ‫اســتمرار األزمة ّ‬
‫أن هناك‬ ‫أو علــى األقــل تمنع تد ّفقهم عبر الحدود نحو األردن‪ .‬ولكن‪ ،‬ال يبدو ّ‬

‫‪171‬‬
‫الســورية خالل العام المقبل‪.‬‬ ‫أي مبادرة دولية حقيقية في األفق لتســوية األزمة ّ‬
‫ّ‬
‫فواشنطن مشغولة بأولو ّيات أخرى‪ ،‬على رأسها الحرب في أوكرانيا ونزاعها مع‬
‫أي مبادرة عربية‪ ،‬وال‬
‫الصين حول تايوان وفي المحيط الهادئ‪ .‬وال توجد كذلك ّ‬
‫عول عليه في هذا الشأن‪ .‬في‬ ‫الراهن‪ ،‬دورا ُي ّ‬
‫ُينتظر أن يعلب العرب‪ ،‬في وضعهم ّ‬
‫المقابل‪ ،‬تبقى تركيا وإيران هي القوى اإلقليمية الفاعلة ميدانيا وسياسيا وعسكريا‬
‫السورية‪ .‬وفي غياب الدّ ور العربي وتراجع الدّ ور الدّ ولي‪ ،‬يجد األردن‬‫الساحة ّ‬
‫في ّ‬
‫السوري على حدوده وداخل أرضه وفق إمكاناته‬ ‫ّ‬
‫الملف ّ‬ ‫مضطرا لل ّتعامل مع‬
‫ّ‬ ‫نفسه‬
‫ّ‬
‫يشــكل‬ ‫فإن قانون قيصر األميركي‬ ‫المحدودة‪ .‬أ ّما بخصوص عالقته مع دمشــق‪ّ ،‬‬
‫الســوري ســتكون محفوفة‬ ‫وأي عالقة دولية مع ال ّنظام ّ‬
‫كابحا ضدّ هذا االتجاه‪ّ ،‬‬
‫تتسبب في عقوبات اقتصادية تزيد الوضع تعقيدا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالمخاطر وقد‬

‫خاتمة‬
‫السنوات األخيرة‪ ،‬وما‬‫ظل ال ّتغيرات التي شهدتها منطقة الشّ رق األوسط في ّ‬ ‫في ّ‬
‫تطورات أ ّثرت على أوضــاع بعض الدّ ول وأفقدت بعض ا ّلالعبين‬ ‫تخ ّللهــا من ّ‬
‫أدوارهم اإلقليمية ال ّتقليدية‪ ،‬ســعى األردن إلــى تثبيت وضعه وتجديد وظيفته‪،‬‬
‫السورية‪ ،‬أو في مواجهة‬‫الصراع العربي اإلســرائيلي‪ ،‬أو تجاه األزمة ّ‬
‫ســواء إزاء ّ‬
‫التمدّ د اإليراني في المنطقة‪ .‬ففي العام ‪ ،2020‬انخرط في المشــروع االقتصادي‬
‫الثّالثــي "الشــام الجديد"‪ ،‬إلــى جانب مصر والعراق‪ .‬وقد نشــط هذا المحور‬
‫بشــكل ملحوظ إ ّبان حكومة مصطفى الكاظمي في العراق‪ .‬وكان من المفترض‬
‫يتحول األردن في ســياق تلك المبادرة إلى جســر يربط بين العراق ومصر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫تتحول‬
‫ّ‬ ‫مهمة‪ ،‬إال أن تلك المشــروعات لم‬
‫وممر لمشــروعات اقتصادية إقليمية ّ‬ ‫ّ‬
‫بعــدُ إلى إنجازات على أرض الواقع‪ .‬وفــي العام ‪ ،2021‬دعا العاهل األردني‪،‬‬
‫عبــد الله الثاني‪ ،‬إلى تشــكيل تحالف إقليمي يكــون أقرب إلى "ناتو" عربي أو‬
‫شــرق أوسطي لل ّتعامل مع التهديدات األمنية في المنطقة‪ ،‬ويكون األردن العبا‬
‫ولكن ذلك المشروع لم ت ّتضح صورته‪ ،‬ولم يجد طريقه إلى التح ّقق‪.‬‬‫ّ‬ ‫أساسيا فيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫الصعوبات فــي العام ‪ ،2023‬وسيســعى األردن للحفاظ على‬ ‫ســتتواصل هــذه ّ‬
‫االســتقرار في مواجهــة تحدّ يات الدّ اخل وتهديدات الخــارج‪ ،‬في بيئة إقليمية‬

‫‪172‬‬
‫مستقرة‪ .‬فاألزمة االقتصادية المتفاقمة ستضع شرائح اجتماعية واسعة‬
‫ّ‬ ‫ودولية غير‬
‫تفجر احتجاجات‬ ‫السياســية واألمنية‪ ،‬ما يعني إمكانية ّ‬
‫في مواجهة أجهزة الدولة ّ‬
‫شعبية‪ .‬والدّ ور اإلقليمي لألردن‪ ،‬الذي كان يؤ ّمن جزءا من استقراره المالي عبر‬
‫المساعدات الخارجية‪ ،‬تراجع فتراجعت معه تلك المساعدات‪ ،‬التي بلغت قيمتها‬
‫فــي العام ‪ 2021‬نحو ‪ 4.6‬مليار دوالر‪ ،‬وكان مصدرها البلدان الخليجية بدرجة‬
‫أولى‪.‬‬
‫الصعيد اإلقليمي‪ُ ،‬يتو ّقع أن تدفع عودة اليمين إلى الحكم في إسرائيل إلى‬
‫وعلى ّ‬
‫السياســي واألمني والعســكري‪ ،‬بما يرفع من درجة ال ّتهديد‬ ‫المزيد من ال ّتصعيد ّ‬
‫السياسي في العراق وذهاب‬ ‫الستقرار األردن‪ .‬ومع ال ّتغييرات التي شهدها الوضع ّ‬
‫سياسيا ودفع من خالله إلى‬‫ّ‬ ‫مهما استثمر فيه‬
‫حكومة الكاظمي‪ ،‬فقد األردن حليفا ّ‬
‫الخليجية تعيش‬
‫ّ‬ ‫االرتقاء بمســتوى ال ّتعاون اإلقليمي‪ .‬وال زالت عالقات األردن‬
‫ظل انقســام الموقف الخليجي ذاته من عدّ ة قضايا في‬ ‫حالة من الغموض‪ ،‬في ّ‬
‫مقدّ متها القضية الفلسطينية بعد انخراط بعض البلدان في مسار ال ّتطبيع وال ّتحالف‬
‫تطور يرى البعض أنّه سيكون على حساب دور األردن وحقوق‬ ‫مع إسرائيل‪ ،‬وهو ّ‬
‫الفلسطينيين‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫متعددة مع استمرار مسار ال ّتطبيع‬
‫فلسطين‪ :‬نضال في ساحات ّ‬
‫شفيق شقير‬

‫مقدمة‬
‫بدت القضية الفلسطينية في العقد األخير محكومة بعدد من المحدّ دات المترابطة‪،‬‬
‫الربيع العربي فــي ‪ّ .2011‬‬
‫لكن هذه‬ ‫تحكمت في مســارها منذ أحــداث ّ‬ ‫التــي ّ‬
‫السنتين األخيرتين بعد مواجهات‬ ‫تنفك عن بعضها البعض في ّ‬ ‫ّ‬ ‫المحدّ دات بدأت‬
‫وغزة‪ ،‬وعودة المقاومة الشّ عبية بوسائل مختلفة‪ ،‬وبعد‬ ‫الض ّفة الغربية ّ‬
‫متعدّ دة في ّ‬
‫السياسة‬
‫المطرد في ّ‬‫لكن تقدّ م اليمين ّ‬
‫تغيرات ملحوظة في البيئة العربية واإلقليمية‪ّ .‬‬
‫يكرس‬‫اإلسرائيلية‪ ،‬والذي بلغ ذروته في انتخابات نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪ّ ،2022‬‬
‫السعي إلى المزيد من ال ّتطبيع مع الدّ ول العربية‬
‫منطقين يسيران جنبا إلى جنب‪ّ :‬‬
‫واإلســامية‪ ،‬وخوض المزيد من الحروب والمواجهات بذريعة تكريس يهودية‬
‫الدّ ولة وضمان أمن إسرائيل‪.‬‬
‫رجح أن تســير وفقها‬
‫الســياق‪ ،‬تبرز أربعة عناوين التّجاهات رئيســية ُي َّ‬
‫في هذا ّ‬
‫القضية الفلســطينية في المســتقبل المنظور‪ .‬وتتمثّل هذه االتجاهات في عملية‬
‫السالم‪ ،‬وال ّتطبيع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬وال ّتصعيد العسكري‪ ،‬والنضال الفلسطيني‪.‬‬
‫ّ‬
‫فيما يلي تحليل لهذه االتّجاهات واستشرف لمستقبلها خالل العام ‪.2023‬‬

‫السالم‪ :‬موت سريري وغياب شروط اإلنعاش‬


‫عملية ّ‬
‫الســام تعاني من "موت‬ ‫أن عملية ّ‬ ‫الرئيس الفلســطيني محمــود عباس ّ‬ ‫يعتقــد ّ‬
‫سريري" نتيجة الممارسات اإلسرائيلية واالستيطان وتهويد المقدّ سات‪ .‬وقد أعاد‬
‫فــي خطابه أمام األمم الم ّتحدة في ســبتمبر‪ /‬أيلــول ‪ 2022‬ال ّتأكيد على ما كان‬
‫أن ّ‬
‫حل الدّ ولتين لم يعد خيارا إسرائيليا‪.‬‬ ‫عبر عنه في عدّ ة مناســبات ســابقة‪ّ ،‬‬
‫قد ّ‬
‫الســام‬‫عباس اإلجماع الفلســطيني حول القناعة بموت عملية ّ‬ ‫وبذلك يعكس ّ‬
‫الراهن‪ّ .‬‬
‫فالظروف اإلقليمية‬ ‫الرهان عليها‪ ،‬على األقل في الوقت ّ‬ ‫وبعدم جدوى ّ‬
‫‪175‬‬
‫تغيرت كثيرا‪ ،‬وال يبدو‬
‫السالم قبل ثالثة عقود ّ‬ ‫والدّ ولية التي انطلقت فيها عملية ّ‬
‫فالقضية الفلسطينية في‬
‫ّ‬ ‫أن إنعاش هذه العملية سيكون ممكنا في األفق القريب‪.‬‬
‫خاصة مع انشغال‬‫الوقت الحالي ليســت على ســ ّلم أولو ّيات المجتمع ا ّلدولي‪ّ ،‬‬
‫الروســية األوكرانية وتصاعد ال ّتوتّر في بحر الصين الجنوبي‬ ‫واشــنطن بالحرب ّ‬
‫ركزت سياستها‬ ‫ّ‬
‫كالملف ال ّنووي اإليراني‪ .‬أ ّما إسرائيل‪ ،‬فقد ّ‬ ‫وقضايا إقليمية أخرى‬
‫إ ّبان حكم الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو على تطبيع العالقات مع دول عربية في‬
‫السياسة خيار ال ّتفاوض مع‬
‫ــمي حينها بصفقة القرن‪ .‬وتجاهلت تلك ّ‬ ‫إطار ما ُس ّ‬
‫السالم إلى األمام‪.‬‬ ‫الفلسطينيين ودفع عملية ّ‬
‫بناء على هذه المعطيات‪ ،‬ســتبقى القضية الفلسطينية عالقة في منزلة بين اثنتين‪،‬‬
‫اتّفــاق أوســلو (‪ )1993‬كإطار مفرغ من محتواه‪ ،‬وصفقــة القرن (‪ )2020‬كآلية‬
‫عمليــة تنبني على الحقائق التي فرضتها إســرائيل علــى األرض‪ ،‬وتعتبر األمر‬
‫يضم اليمين واليمين‬
‫ّ‬ ‫شــرعيا‪ .‬ومع الفوز المريح لتحالف نتنياهو‪ ،‬الذي‬
‫ّ‬ ‫الواقع‬
‫السالم إلى األجندة‬ ‫المتطرف في االنتخابات األخيرة‪ ،‬ال ُيتو ّقع أن تعود عملية ّ‬
‫ّ‬
‫التوجه سيكون نحو توسيع دائرة ال ّتطبيع ليشمل المزيد من‬ ‫ّ‬ ‫اإلســرائيلية‪ ،‬بل ّ‬
‫إن‬
‫الدّ ول العربية على حساب البحث عن ّ‬
‫حل مع الفلسطينيين‪.‬‬

‫مسار ال ّتطبيع وكوابحه‬


‫الســنوات األخيرة مواقف عدد من الدول العربية من إســرائيل في‬ ‫تطورت في ّ‬ ‫ّ‬
‫الربيع العربي‬
‫اتّجــاه ال ّتقــارب معها‪ .‬وقد دفع الوضع الذي نجم عن أحــداث ّ‬
‫وتفاعالتهــا‪ ،‬بما في ذلك صعود ال ّتيار اإلســامي خــال المراحل االنتقالية‪،‬‬
‫والتمدّ د اإليراني في المنطقة العربية وما أحدثه من توتّرات إقليمية‪ ،‬بعض الدّ ول‬
‫إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتصنيف أصدقائها وخصومها‪ .‬فتصاعد الخطاب الذي‬
‫يدعو لل ّتطبيع مع إسرائيل‪ ،‬مدعوما باتجاه لتعزيز العالقات معها‪ ،‬بل وصل األمر‬
‫إلى حدّ الدعوة لل ّتحالف معها في مواجهة "الخطر اإليراني"‪ .‬و ُتعدّ صفقة القرن‬
‫األرضية األســاس التي نهض عليها ذلك الخطاب مســتفيدا من سياسات إدارة‬
‫الرئيــس األميركي دونالــد ترامب بين عامي ‪ 2017‬و‪ 2020‬تجاه الصراع العربي‬ ‫ّ‬
‫ضمت‬‫السياســات عن "اتفاقيات أبراهام" التي ّ‬‫اإلســرائيلي‪ .‬فقد أســفرت تلك ّ‬

‫‪176‬‬
‫دولتي اإلمارات والبحرين في العام ‪ ،2020‬ثم لحقت بهما‬ ‫ْ‬ ‫إلى جانب إسرائيل‬
‫الســودان والمغرب في العام ‪ ،2021‬مع اختالف في أســباب ومســتوى ونوع‬ ‫ّ‬
‫الرباعي مع إســرائيل‪ .‬وكان من تداعيات‬ ‫كل دولة من هذا ّ‬ ‫العالقــة التــي تربط ّ‬
‫صعود خطاب ال ّتطبيع‪ ،‬انتقال خصومة بعض األنظمة العربية مع اإلسالميين إلى‬
‫خصومة مع حركة حماس تحديدا‪ ،‬ومع قوى المقاومة الفلسطينية بصورة عا ّمة‪.‬‬
‫الســلطة‬‫التغير في الموقف من المقاومة تص ّلبا في العالقة مع ّ‬
‫ّ‬ ‫بل انعكس ذلك‬
‫الفلسطينية أيضا‪ ،‬حيث شابها بعض ال ّتوتّر في أحيان كثيرة‪.‬‬
‫تج ّلت "االنتعاشة" التي شهدها مسار ال ّتطبيع بين عامي ‪ 2020‬و‪ 2021‬في ّ‬
‫تطور‬
‫آخر على صعيد عالقة األنظمة العربية‪ ،‬التي تربطها عالقات قديمة مع إسرائيل‪.‬‬
‫تل أبيب وتطوير العالقات االقتصادية‬‫فمصر باتت أكثر انفتاحا على ال ّتعاون مع ّ‬
‫وال ّتجارية بينهما‪ .‬وقد عقد الطرفان في يونيو‪ /‬حزيران ‪ 2022‬اتفاقية لتصدير غاز‬
‫إسرائيل عبر مصر إلى أوروبا‪ .‬أ ّما األردن‪ ،‬فيسعى لمقايضة الكهرباء بالمياه من‬
‫إسرائيل عبر مشروع ّ‬
‫للطاقة الشّ مسية بتمويل إماراتي‪.‬‬
‫ولكــن هذا المســار لم يجد دعما في قمة جامعة الــدّ ول العربية التي انعقدت‬ ‫ّ‬
‫في الجزائر في بداية نوفمبر‪ /‬تشــرين الثاني ‪ .2022‬فقد أعادت ّ‬
‫القمة االعتبار‬
‫وأكدت علــى أولويتها وعلى دعمها بوصفها قضية العرب‬ ‫للقضية الفلســطينية‪ّ ،‬‬
‫لمقــررات قمة بيروت ‪ 2002‬والمبادرة‬ ‫ّ‬ ‫القمة إلى العودة‬
‫المركزيــة‪ .‬كما دعت ّ‬
‫غزة‪،‬‬
‫للقمة إلــى رفع الحصار عن قطاع ّ‬ ‫للســام‪ .‬ودعا البيان الختامي ّ‬ ‫العربيــة ّ‬
‫توجه دولة فلســطين للحصول على العضو ّية الكاملة في األمم الم ّتحدة‪.‬‬ ‫وتب ّنى ّ‬
‫القوة الكافية‬
‫قمة الجزائر ّ‬ ‫الرســمي الذي ســاد في ّ‬ ‫قد ال تكون للخطاب العربي ّ‬
‫والتمسك‬
‫ّ‬ ‫مهما في تأكيده على الثّوابت العربية‬‫يظل ّ‬‫لوقف مسار ال ّتطبيع‪ ،‬إال أنه ّ‬
‫بالحقوق الفلسطينية في مقاومة االحتالل وإقامة الدّ ولة‪.‬‬
‫القضية‬
‫ّ‬ ‫السياسة العربية تجاه‬
‫وسط هذا ال ّتعارض بين االتجاهين والخطابين في ّ‬
‫ّ‬
‫محل إدانة عا ّمة في‬ ‫الفلســطينية‪ ،‬لم تعد العالقة مع إســرائيل من حيث المبدأ‬
‫السنوات‬‫الرسمي العربي‪ .‬وقد تلتحق دول عربية أخرى بمسار ال ّتطبيع في ّ‬ ‫الحيز ّ‬
‫ّ‬
‫السياســية‪ ،‬وقراءتها للوضع اإلقليمي وموازينه‪،‬‬
‫للظروف ّ‬ ‫القادمــة‪ ،‬وف ًقا لفهمها ّ‬
‫موحد للمصلحة‬ ‫وتقديرهــا لمصالحها الوطنية‪ ،‬في غيــاب االتّفاق على مفهوم ّ‬

‫‪177‬‬
‫العربية أو الفلســطينية‪ .‬وقد ُتســهم عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة في‬
‫إسرائيل في إعطاء مسار ال ّتطبيع دفعا جديدا ليكمل المسار الذي بدأه في عهدته‬
‫السابقة‪ ،‬ويح ّقق فيه مزيدا من اإلنجازات لدولة إسرائيل‪ّ ،‬إاّل أن طبيعة ال ّتحالف‬
‫ّ‬
‫المتطرف‪ ،‬ســتحدّ نســبيا من اندفاعه في هذا‬
‫ّ‬ ‫الذي يقوده‪ ،‬بين اليمين واليمين‬
‫االتّجاه‪.‬‬

‫سيناريو ال ّتصعيد العسكري‬


‫السالم على أساس اتّفاق أوسلو‪ ،‬وانقطاع األمل في نجاح‬ ‫أســهم تو ّقف عملية ّ‬
‫حاّل للقضية الفلسطينية‪ ،‬في تأجيج مقاومة االحتالل في القدس وفي‬ ‫هذا المسار ّ‬
‫نسبيا‬
‫غزة هدوء ّ‬ ‫الض ّفة الغربية‪ ،‬ال سيما في نابلس وجنين‪ .‬في المقابل‪ ،‬شهدت ّ‬ ‫ّ‬
‫وسماها اإلسرائيليون‬
‫ّ‬ ‫الساحات"‪،‬‬
‫سماها الفلسطينيون "عملية وحدة ّ‬‫بعد مواجهة ّ‬
‫العملية على اســتهداف حركة‬
‫ّ‬ ‫ركزت إســرائيل في هذه‬‫"الفجر الصادق"‪ .‬وقد ّ‬
‫غزة بين ‪ 5‬و‪ 7‬أغســطس‪ /‬آب‬ ‫الجهاد اإلســامي في ســياق تصعيد جديد ضدّ ّ‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫‪ .2022‬وحسب بيتر موهان مايثري بيريس‪ ،‬رئيس لجنة األمم الم ّتحدة‬
‫بال ّتحقيق في االنتهاكات اإلســرائيلية لحقوق اإلنســان في األراضي الفلسطينية‬
‫والعربية المحت ّلة‪ ،‬كان العام ‪ 2022‬األكثر دموية لفلسطيني ّ‬
‫الض ّفة الغربية والقدس‬
‫غزة‪ ،‬التي يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطيني‬‫الشّ رقية منذ عام ‪ .2006‬ووصف ّ‬
‫حصارا خانقا منذ العام ‪ ،2007‬بأنّها سجن مفتوح‪.‬‬
‫وبحسب تقارير األمم الم ّتحدة " ُقتل" منذ بداية ‪ 2022‬وح ّتى نهاية أكتوبر‪ /‬تشرين‬
‫فلســطينيا بنيران االحتالل‪ ،‬في حين تحدّ ثت مصادر فلســطينية عن‬
‫ّ‬ ‫األول ‪144‬‬
‫ّ‬
‫اســتمر العدد في االرتفاع‬
‫ّ‬ ‫فلســطينيا خالل الفترة نفســها‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫استشــهاد ‪165‬‬
‫حيث تجاوز ‪ 220‬مع نهاية العام‪ .‬وبحســب المصادر اإلســرائيلية‪ُ ،‬قتل خالل‬
‫إســرائيليا‪ ،‬وبلغ عدد العمليات الفلســطينية ‪ .2204‬أ ّما المصادر‬
‫ّ‬ ‫هذه الفترة ‪25‬‬
‫فتؤكد حصول أكثر من ‪ 10‬آالف عمل مقاوم‪ّ .‬‬
‫تدل هذه األرقام على‬ ‫الفلسطينية ّ‬
‫السلطة الفلسطينية واألجهزة اإلسرائيلية فقد قدرته على‬‫أن ال ّتنســيق األمني بين ّ‬‫ّ‬
‫الطرفين‪ ،‬وأنّه مع الوقت ســيفقد كثيرا من‬‫أي من ّ‬ ‫الصراع أو حفظ أمن ّ‬ ‫ضبط ّ‬
‫الض ّفة‬
‫جدواه‪ .‬فقد باتت المقاومة تتشــكل عبــر مجموعات محدودة العدد في ّ‬

‫‪178‬‬
‫المنسقة بين مجموعات صغيرة ال ترتبط‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتركز على العمليات الفردية أو‬ ‫الغربية‪،‬‬
‫بأي من الفصائل الفلســطينية التقليديــة المعروفة‪ ،‬وتجتمع على عنوان‬‫تنظيميا ّ‬
‫ّ‬
‫واحــد هــو مقاومة االحتالل‪ .‬من أمثلة ذلك مجموعة "عرين األســود" و"كتيبة‬
‫جنين" و"كتيبة مخيم بالطة"‪ ،‬فضال عن استمرار وتزايد أعمال المقاومة الفردية‬
‫ّ‬
‫وبكل الوسائل المتاحة‪.‬‬ ‫والعفوية‬
‫وستتعزز بسبب سياسة إسرائيل‬
‫ّ‬ ‫وستبقى دواعي ال ّتصعيد قائمة خالل العام ‪،2023‬‬
‫جراح‪،‬‬‫حي الشــيخ ّ‬ ‫خاصة حول القدس‪ ،‬كما حصل مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي "تهويــد الدّ ولة"‪،‬‬
‫والمســجد األقصى‪ ،‬إضافة إلى محاوالت ال ّتقســيم الزماني والمكاني له‪ .‬وقد‬
‫ّ‬
‫وستظل سببا محتمال على‬ ‫هبة القدس" في العام ‪،2021‬‬ ‫السياســة " ّ‬‫فجرت تلك ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫غزة خطا أحمر‬ ‫الــدّ وام النفجــار الوضع بعد أن وضعت فصائــل المقاومة في ّ‬
‫ســتتعزز دواعي ال ّتصعيد بســبب استمرار‬
‫ّ‬ ‫إزاء هذا الموضوع‪ .‬من جهة أخرى‪،‬‬
‫إســرائيل في توســيع رقعة االستيطان بهدف "تقليص دائرة الصراع"‪ ،‬مع ال ّتركيز‬
‫السياســي مع‬ ‫الســام االقتصادي" بال ّتوازي مع رفض الحوار ّ‬ ‫تســميه " ّ‬
‫ّ‬ ‫على ما‬
‫القوة العسكرية وال ّتنسيق األمني‬
‫الطرف الفلسطيني‪ ،‬واالعتماد بشكل كبير على ّ‬ ‫ّ‬
‫وستســتمر إســرائيل‪ ،‬إلى جانب ذلك‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫السياســة‪.‬‬
‫الســلطة لفرض هذه ّ‬ ‫مع ّ‬
‫غزة لمنع الفلسطينيين من تطوير وسائل الدّ فاع‬‫اســتراتيجية "جز العشــب" ضدّ ّ‬
‫القوة لتعزيز قدرتهم على المقاومة‪ ،‬ما يعني تواصل دورات‬ ‫عن أنفسهم ومراكمة ّ‬
‫عمن تأتي به االنتخابات إلى سدّ ة الحكم في إسرائيل‪.‬‬ ‫بغض ال ّنظر ّ‬‫ّ‬ ‫العنف‬
‫تطورت المقاومة الفلسطينية في‬ ‫في ســياق هذه المتوالية من ال ّتصعيد الدّ وري‪ّ ،‬‬
‫الفترة األخيرة إلى ما يشبه انتفاضة تشمل شريحة واسعة من الشّ عب الفلسطيني‪،‬‬
‫أن معالم هذه المرحلة لم ت ّتضــح بعدُ بالكامل‪ ،‬إال‬‫ال ســيما الشّ ــباب‪ .‬ورغم ّ‬
‫متنوعة تشمل العمليات العسكرية‬ ‫المؤكد هو اســتخدام المقاومة ألســاليب ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫ّ‬
‫ويتبين ذلك من خالل عودة المظاهر المس ّلحة إلى بعض مناطق ّ‬
‫الض ّفة‬ ‫ّ‬ ‫وغيرها‪.‬‬
‫للســلطة الفلسطينية‪ ،‬رغم المرســوم الذي كان قد صدر عن محمود‬ ‫الخاضعة ّ‬
‫عبــاس في يونيــو‪ /‬حزيران ‪ ،2007‬والــذي يقضي بحظر كافــة المجموعات‬ ‫ّ‬
‫المســلحة وال ّتشكيالت العســكرية‪ .‬ويبدو أن االحتالل‪ ،‬باإلضافة إلى مواصلة‬ ‫ّ‬
‫سيســتمر في محاولة‬
‫ّ‬ ‫الســلطة لتجهض أو تحدّ من هذه الظاهرة‪،‬‬ ‫ضغوطه على ّ‬

‫‪179‬‬
‫السياسة التي‬
‫تتحول هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫اختراق هذه ال ّتشــكيالت واغتيال نشطائها‪ .‬و ُيتو ّقع أن‬
‫بــادر إليهــا في العام ‪ 2022‬إلى نهج ثابت واتّجاه عســكري له أدواته ووحداته‬
‫المختصة في العام ‪.2023‬‬
‫ّ‬
‫التحول إلى‬
‫ّ‬ ‫فستســتمر في تطوير قدراتها العســكرية‪ ،‬ويبدو أنّها بصدد‬
‫ّ‬ ‫غزة‪،‬‬
‫أ ّما ّ‬
‫جزء من محور إقليمي أوســع بعد إعادة عالقاتها مع سوريا وتعزيز عالقتها مع‬
‫أهميــة مطلقة لمواجهة دورات العنف‬‫غزة ّ‬
‫إيــران‪ .‬وتولــي فصائل المقاومة في ّ‬
‫هبة‬ ‫المتو ّقعة‪ ،‬واالســتمرار في معادلة ربط القــدس واألقصى ّ‬
‫بغزة‪ ،‬للبناء على ّ‬
‫القدس في ‪ ،2021‬ولو بالحدّ األدنى‪.‬‬

‫أفق الّنضال الفلسطيني‬


‫يبدو أفق ال ّنضال الفلسطيني وما يمكن أن يح ّققه في العام ‪ 2023‬غامضا‪ّ ،‬‬
‫فكل‬
‫تتحرك في مناخ من انعدام اليقين‪ .‬وأســباب ذلك متعدّ دة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ســاحة من ســاحاته‬
‫بعضهــا يتع ّلق بموازين القوى ّ‬
‫والظروف الدّ ولية‪ ،‬وبعضها اآلخر يتع ّلق بالوضع‬
‫الداخلي وفي مقدّ مته اســتمرار االنقســام الفلســطيني‪ .‬وال ّ‬
‫شك ّ‬
‫أن العالقة بين‬
‫والض ّفة ُتعدّ أحد أهم المؤشرات على مسار ال ّنضال الفلسطيني في المرحلة‬
‫ّ‬ ‫غزة‬‫ّ‬
‫لم الشمل"‪ ،‬الذي انعقد‬‫أهمية "إعالن الجزائر"‪ ،‬المنبثق عن مؤتمر " ّ‬
‫القادمة‪ .‬ومع ّ‬
‫األول ‪ّ ،2022‬‬
‫فإن المصالحة ال تزال بعيدة المنال‪،‬‬ ‫بين ‪ 11‬و‪ 13‬أكتوبر‪ /‬تشرين ّ‬
‫القمة العربية‪،‬‬
‫رغــم ما حظي به اإلعالن من تنويه فلســطيني وعربي ودعم في ّ‬
‫التي حرصت الجزائر أن ُيعقد المؤتمر قبلها وعلى أرضها‪ .‬وسيتواصل االنقسام‬
‫مستمرا إزاء الموقف من‬
‫ّ‬ ‫الدّ اخلي ما دام الخالف بين القوى الفلسطينية األساسية‬
‫الســام‪ ،‬والعالقة التي يجب أن تكون مع االحتالل‪ ،‬وما يعنيه ذلك من‬ ‫عملية ّ‬
‫غياب المشروع الوطني الجامع‪.‬‬
‫كرســه تشــ ّتت الجغرافيا‬
‫ويزيــد مــن حدّ ة هذا االنقســام‪ ،‬واقع ال ّتجزئة الذي ّ‬
‫لــكل منها متط ّلبات‬
‫ّ‬ ‫والديمغرافيــا الفلســطينية وتوزّ عهما على عدّ ة ســاحات‪،‬‬
‫فكل ســاحة من ســاحات ال ّنضال‬ ‫ضرورية تختلف‪ ،‬وربما تتناقض مع غيرها‪ّ .‬‬
‫خاصة وتتط ّلب اســتجابة مختلفة‪ .‬فالض ّفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفلســطيني الخمس تعيــش ظروفا‬
‫الرسمي للشّ عب الفلسطيني‪ ،‬تعيش في عزلة‬ ‫الســلطة الفلسطينية‪ ،‬الممثّل ّ‬‫حيث ّ‬
‫وغزة المحاصرة إنسانيا‪ ،‬والتي تجري المواجهات ال ّتقليدية‬ ‫الساحات‪ّ .‬‬ ‫عن بقية ّ‬
‫‪180‬‬
‫باألســلحة الثّقيلــة عبر حدودها‪ ،‬مفصولة عن ســواها‪ ،‬وقد جعلت على رأس‬
‫أولوياتها المحافظة على نفسها كقاعدة للمقاومة العسكرية‪ .‬والقدس‪ ،‬التي عزلها‬
‫يركز‬‫اتّفاق أوسلو بدال من أن يعطيها األولو ّية ويحميها من ال ّتهويد واالستيطان‪ّ ،‬‬
‫أهلها على حماية هويتهم ومقاومة سياسات االحتالل بأشكال فردية وعفوية‪ .‬أ ّما‬
‫موضوعيا جزءا من دولة‬
‫ّ‬ ‫السالم وباتوا‬
‫فلسطينيو الدّ اخل‪ ،‬الذين اس ُتثنوا من عملية ّ‬
‫إســرائيل‪ ،‬يصعب عليهم مدّ الجسور نحو شعبهم خارج ساحتهم‪ ،‬وقد أصبحوا‬
‫السياســية اإلسرائيلية‪ ،‬يتعايشون معها ويخضعون إلكراهاتها‪.‬‬ ‫جزءا من المعادلة ّ‬
‫الرئيس في الوقت‬ ‫وفي المهجر‪ ،‬ينتشر فلسطينيو الشّ تات ويعتقدون أنّهم الهدف ّ‬
‫ويركزون نشاطهم على القضايا الحقوقية واإلنسانية للشّ عب‬ ‫ّ‬ ‫الراهن لصفقة القرن‪،‬‬
‫الفلسطيني‪ ،‬ويكافحون للحفاظ على هويتهم الوطنية‪.‬‬
‫الســاحات‪ .‬ففلسطينيو‬ ‫كل من هذه ّ‬‫وأحيانا تختلف ظروف الفلســطينيين داخل ّ‬
‫واســتقروا‬
‫ّ‬ ‫الشّ ــتات‪ ،‬مثال‪ ،‬تختلف حاجاتهم بحســب األوطان التي لجأوا إليها‬
‫فيهــا‪ .‬وظروف فلســطينيي ال ّنقــب تختلف عن ظروف أولئك الذين يعيشــون‬
‫الســاحات‬ ‫في مدن عربية أخرى داخل إســرائيل‪ ،‬ونفس األمر ينطبق على بقية ّ‬
‫يتمكن الفلسطينيون من تجاوز هذه الحواجز الجغرافية‬ ‫الفلسطينية‪ .‬وال ُيتو ّقع أن ّ‬
‫والسياسية المفروضة عليهم بحكم أمر واقع ممتدّ ‪ .‬وقد انعكس هذا الواقع على‬ ‫ّ‬
‫ال ّنضال الفلســطيني فأصبح متعدّ دا في مشاريعه وقياداته وميادينه واستراتيجياته‪.‬‬
‫وغزة على خلفية‬ ‫الض ّفة ّ‬‫بهذا المعنى‪ ،‬لم يعد االنقسام الفلسطيني مقتصرا على ّ‬
‫تحول‪ ،‬مع الزمن‪ ،‬إلى نموذج واقعي قد تنشــأ عنه بعض ال ّتوتّرات‪.‬‬ ‫أوســلو‪ ،‬بل ّ‬
‫وغزة‪ ،‬بعد انتقاد رئيس‬ ‫وقد بدت بوادر ذلك تظهر بين بعض فلسطيني الدّ اخل ّ‬
‫الموحدة بســبب مشــاركتها في‬ ‫ّ‬ ‫الســنوار‪ ،‬للقائمة العربية‬
‫حركة حماس‪ ،‬يحيى ّ‬
‫السنوار قد وصف رئيس القائمة‬ ‫السابق‪ .‬وكان ّ‬ ‫االئتالف الحكومي اإلســرائيلي ّ‬
‫عباس منصور بالخائن‪ ،‬لير ّد األخير أنّه يعمل وفق مصلحة العرب في إسرائيل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهذا الموقف ّأكدته الحركة اإلسالمية (الشقّ الجنوبي)‪ ،‬التي تنتمي إليها "القائمة‬
‫أن الحركة تعمل وفق مصلحة شعبها في‬ ‫الموحدة"‪ ،‬بخطاب سياسي واضح يرى ّ‬ ‫ّ‬
‫الدّ اخل‪ ،‬وأنّها حريصة على حماية األقصى والقدس‪ .‬وبدت في خطابها حريصة‬
‫كل فريق وفق‬ ‫على عدم الدّ خول في ســجال مع حماس‪ ،‬ودعت إلى أن يعمل ّ‬
‫مكة أدرى بشعابها"‪.‬‬ ‫رؤيته تحت مبدأ "أهل ّ‬

‫‪181‬‬
‫متنوع‪ ،‬وتطوير‬
‫بقدر ما يســمح تعدّ د ســاحات ال ّنضال الفلسطيني بنشأة خطاب ّ‬
‫تتحول معها ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫أساليب عمل مختلفة ومتكاملة‪ ،‬فإنّه يفتح ثغرة خطيرة يمكن أن‬
‫تميزها عن سواها‪،‬‬‫خاصة ّ‬‫ّ‬ ‫ساحة فلسطينية إلى جزيرة معزولة تغلب عليها هو ّية‬
‫الســاحات‪.‬‬‫و ُتفرض عليها أجندة مختلفة‪ ،‬وربما متناقضة جذريا مع غيرها من ّ‬
‫فإن هذه الثّغرة يصعب ســدّ ها في‬ ‫وبال ّنظر إلى تاريخ ال ّتجربة الفلســطينية ذاتها‪ّ ،‬‬
‫تركز على‬‫السياســة اإلسرائيلية التي ّ‬
‫ظل ّ‬‫خاصة في ّ‬‫ّ‬ ‫الواقع الفلســطيني الراهن‪،‬‬
‫كل طرف فلسطيني‬ ‫الساحات بعضها عن بعض‪ ،‬حتى باتت وكأنّها تحاور ّ‬ ‫فصل ّ‬
‫فإن هذه المعضلة بصدد التفاقم‪ ،‬وستكون من أبرز التحدّ يات‬ ‫على حدة‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬
‫المقبلة أمام القضية الفلسطينية‪.‬‬

‫خالصات‬
‫الرئيســية األربعة التي تســير وفقها‬
‫أن االتّجاهات ّ‬ ‫ّ‬
‫المؤشــرات على ّ‬ ‫ّ‬
‫تدل أغلب‬
‫ستســتمر خالل العام ‪ ،2023‬لك ّنها ستتأ ّثر ّ‬
‫نسبيا بما يشهده‬ ‫ّ‬ ‫القضية الفلســطينية‬
‫ّ‬
‫ملف الحرب‬ ‫خاصة في مل ّفين اثنيــن‪ّ :‬أولهما ّ‬
‫ّ‬ ‫تطــورات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الســياق الدّ ولــي من‬‫ّ‬
‫الروســية على أوكرانيا والوجهة ســت ّتخذها األحداث‪ ،‬بيــن مزيد من ال ّتصعيد‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الســير نحو ال ّتهدئة‪ .‬وثانيهما ملف إيران ال ّنووي والقضايا المرتبطة به‪ ،‬مثل‬
‫أو ّ‬
‫المســيرة التي‬
‫ّ‬ ‫وقضية ّ‬
‫الطائرات‬ ‫ّ‬ ‫الصاروخي‬‫سياســات إيران اإلقليمية وبرنامجها ّ‬
‫حيزا إضافيا في الخالف المتصاعد بين طهران والدّ ول الغربية‪.‬‬ ‫بدأت تأخذ ّ‬
‫ّ‬
‫تتمكن إدارة‬ ‫مؤشر تصعيد ميداني‪ ،‬وال ُيتو ّقع أن‬
‫السالم سيكون ّ‬ ‫إن فشل عملية ّ‬ ‫ّ‬
‫بايدن من تحقيق إنجاز فعلي على هذا المســار في العام ‪ ،2023‬بل ســتكتفي‬
‫اســتقرت على أســاس الحقائق التي فرضتها إسرائيل‬ ‫ّ‬ ‫بالبناء على المعادلة التي‬
‫على أرض الواقع‪ .‬وتتمثّل عناصر تلك المعادلة فيما اســتولت عليه إســرائيل‬
‫قطعت به‬ ‫من أراض فلسطينية في مختلف المراحل‪ ،‬وما زرعته من مستوطنات ّ‬
‫أوصال ما بقي من أراض‪ ،‬وما بلغه مسار ال ّتطبيع مع عدد من الدّ ول العربية‪ ،‬وما‬
‫والردع والدّ فاع عن حقوقهم وهو ّيتهم‪.‬‬‫يملكه الفلسطينيون من وسائل للمقاومة ّ‬
‫تلك هي العادلة التي ســتكون في المستقبل إطارا غير منضبط لمحدّ دات سالم‬
‫تتحرك ضمنه القضية الفلسطينية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أوسلو‪،‬‬

‫‪182‬‬
‫أ ّما اتّجاه ال ّتطبيع‪ ،‬ف ُيســتبعد أن يشــمل دوال عربية أخرى في المستقبل القريب‪،‬‬
‫طبعت‬ ‫تكرس على أرض الواقع بعد اتّســاع دائرة األنظمة العربية التي ّ‬ ‫رغم أنه ّ‬
‫سيســتمر ضمن نفس تلك‬‫ّ‬ ‫ولكن البناء عليه‬
‫ّ‬ ‫عالقاتها مع إســرائيل في ‪.2020‬‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الدّ ائرة في مجاالت ال ّتبادل ال ّتجاري والتنســيق األمني واالســتخباراتي‬
‫الطبيعية" إلى‬‫ومع ذلك‪ ،‬ال ُيتو ّقع أن تنجح إسرائيل في تحويل هذه العالقات " ّ‬
‫تحالف عسكري لصالحها أو لصالح حليفتها أميركا ح ّتى في صورة تصاعد ال ّتوتّر‬
‫بين إيران والواليات الم ّتحدة أو اندالع مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران أو‬
‫أي من حلفائها في المنطقة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التطرف اليميني الذي‬
‫ّ‬ ‫السياســة اإلسرائيلية نحو‬
‫إلى جانب االتّجاه المتزايد في ّ‬
‫كشــفته االنتخابات األخيرة‪ ،‬وشــيوع االعتقاد في إســرائيل بقدرتها على حسم‬
‫مرشح لالستمرار‪ ،‬مع تسارع وتيرة االستيطان‬ ‫بالقوة‪ ،‬فإن اتّجاه ال ّتصعيد ّ‬
‫ّ‬ ‫الصراع‬
‫ّ‬
‫القضية‬
‫ّ‬ ‫يتعزز هذا االتّجاه مع تراجع المجتمع الدّ ولي عن التزاماته تجاه‬
‫وتوسعه‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫الفلسطينية واستمرار دعم أميركا غير المشروط إلسرائيل‪ ،‬رغم انشغالها بأولويات‬
‫أخرى مثل الحرب في أوكرانيا وال ّتوتّر المتصاعد مع الصين في المحيط الهادئ‪.‬‬
‫ومع اســتمرار هذا االتّجاه‪ُ ،‬يتو ّقع أن تندفع األوضاع في األراضي الفلســطينية‬
‫نحو االنفجار من حين آلخر‪ ،‬وتجدّ د دورة ال ّتصعيد العسكري بدال من التهدئة‪.‬‬
‫رغم اســتمرار االنقســام الفلســطيني وتعدّ د ســاحات المقاومة عبر الحواجز‬
‫أن ال ّنضال‬ ‫المؤشرات ّ‬
‫تدل على ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجغرافية واألمنية التي يفرضها االحتالل‪ّ ،‬‬
‫كل‬
‫السنوات القادمة‪ .‬فالحكومة اإلسرائيلية‬ ‫الفلسطيني سيتصاعد وي ّتســع نطاقه في ّ‬
‫متطرفة‪ ،‬لن يكون بإمكانها إحياء‬‫ّ‬ ‫الجديــدة‪ ،‬بما تحمله من أجندة يمينية ويمينية‬
‫أي مستوى أو تشريكهم‬ ‫عملية السالم‪ ،‬ولن تسعى لل ّتفاوض مع الفلسطينيين في ّ‬
‫ستســتمر في إنكار حقوقهم‬
‫ّ‬ ‫في أي ّ‬
‫حل‪ ،‬بما في ذلك فلســطينيو الدّ اخل‪ ،‬بل‬
‫ستتعزز الهو ّية‬
‫ّ‬ ‫واالستيالء على أرضهم وال ّتضييق على سبل عيشهم‪ .‬في المقابل‪،‬‬
‫الساحات‪.‬‬ ‫قوة كعنوان جامع لمعاناة الفلسطينيين في مختلف ّ‬ ‫الفلسطينية وتزداد ّ‬

‫‪183‬‬

You might also like