You are on page 1of 148

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�صـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثـقافة بال�شارقة‬

‫ال�سنة الخام�سة‪-‬العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪٢٠٢١‬م‬

‫�شـاكر الفحـام‬ ‫النـقـد الأدبـي‬


‫اللغة العربية رهان الأمة وم�ستقبلها‬ ‫بين ال�صحافة والبحث الأكاديمي‬

‫�أرواد‪..‬‬ ‫الــعــلـــوم عـنــد الــعــرب‬


‫جزيرة الأحـالم والأرجوان‬ ‫�صنـاعـة العطور‬

‫�إ�سمـاعيـل �صـبـري‬ ‫�سعيـد الكفـراوي‬


‫معـلــم الـ�شـعـراء و�أمـيـرهــم‬ ‫كبيـر الحـكـائيـن الـعـرب‬
‫مجالت دائرة الثقافة‬
‫عدد يناير ‪2021‬‬
‫مجلة شهرية تُ ـعنى بالشعر واألدب الشعبي ‪ -‬السنة الثالثة ‪ -‬يناير ‪2021‬م ‪ -‬العدد (‪)17‬‬
‫تصدر عن دائرة الـثـقـافـة بالشارقـة‬

‫خــورفكــــان‬ ‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�شـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثـقافة بال�شارقة‬
‫ال�شنة الخام�شة‪-‬العدد الواحد والخم�شون ‪ -‬يناير ‪٢٠٢١‬م‬

‫بطولــة مـدينــة‬ ‫�صـاكر الفحـام‬ ‫النـقـد الأدبـي‬


‫فيلـم مـن ت�أليــف‬ ‫اللغة العربية رهان الأمة وم�صتقبلها‬ ‫بين ال�صحافة والبحث الأكاديمي‬

‫�سلط�ن الق��سمي‬
‫الــشـعــــر الـــجـمـيــــل‪..‬‬ ‫رحــــــــــــــلــــــــــــــة مــــــع‬ ‫العدد (‪ | )281‬ينـاير ‪2021‬‬
‫بـــــــــيــــن الـــمـــوهـــبـــة‬ ‫"هــــمــــس األنـــــامـــــل"‬
‫وال ـــ ــف ــك ــرة واإللـــقـــاء‬ ‫لـلشاعر نـاصر الـنعيمـي‬

‫مــحــــمــد الـــشريـــــف‪:‬‬ ‫"الـــــــــغـــــــــــــــــــاف"‪..‬‬


‫أبـــــدع فـــي الــقــصــيــدة‬ ‫الــــشــــجــــرة األثــــيــــرة‬
‫الـــمـــغـــنّ ـــاة والـــشـــات‬ ‫لــــــــــدى الـــــشـــــعـــــراء‬

‫الــقـصـيدة‬ ‫اأرواد‪..‬‬ ‫الــعــلـــوم عـنــد الــعــرب‬

‫الشعبيـة‬ ‫جزيرة الأحـالم والأرجوان‬ ‫�صنـاعـة العطور‬

‫الـعراقـية‪..‬‬ ‫اإ�صمـاعيـل �صـبـري‬


‫معـلــم الـ�صـعـراء واأمـيـرهــم‬
‫�صعيـد الكفـراوي‬
‫كبيـر الحـكـائيـن الـعـرب‬

‫‪Cover-281.indd 1‬‬ ‫‪12/22/20 9:23 AM‬‬

‫سوق الواحة في الذيد‪..‬مزار سياحي وصندوق ذكريات جميلة‬

‫مجلة �شهرية ت�شدر عن دائرة الثقافة بال�شارقة‬


‫السـراب‬
‫مجلـة شهـريـة ثقـافـيـة تنمويـة تصـدر‬

‫ال�شنة الثالثة ‪ -‬العدد (‪ - )17‬يناير ‪2021‬‬


‫من المنطقة الشـرقية بإمـارة الشـارقـة‬
‫السـنـة الثـانيــة‪-‬الـعـدد الـ (‪ - )16‬يــنـايــر ‪2021‬‬
‫العدد (‪ )16‬السنة الثانية ‪ -‬يناير ‪ - 2021‬جمادى األولى ‪ 1442‬هـ‬

‫شراع الشعراء في‬


‫الحضـور والغيـاب‬

‫«مخاوي شمه للفزعة»‪..‬‬


‫قيم النجدة األصيلة‬ ‫شعاع ثقافي تنموي‬ ‫قــرطــبـة‬
‫في ثوب جديد‬ ‫قـالدة األندلـس‬
‫«فـيـلـم خـورفـكـان»‬ ‫والمدينة الزاهرة‬ ‫تُعنى بال�شعر والأدب العربي‬

‫مجلة شهرية ثقافية تنموية تـصـدر من المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة‬ ‫و مدرجهـا و شاللهـا‬
‫إنجازات متواصلة‬
‫‪2020‬‬
‫حصاد من اإلنجازات‬

‫المنطقة الوسطى‬
‫ومـراع أنجــزت‬
‫ٍ‬ ‫مسـاكن‬ ‫رهــف المـبــارك‬ ‫الشعـر والموسيقى‬
‫ومشروعات أخرى قادمة‬ ‫اإلبداع محفوف بالمجازفة‬ ‫أصـوات فـي أزمـنـة تتـوالى‬

‫مـراكـز الـتنـمـيـة األسـريـة‬


‫في الشرقية تعزز لحمة المجتمع‬
‫كـعـب األشقـري‬ ‫أوصاف النّ ّ‬
‫ص الشعري‬
‫رابع أشعر شعراء اإلسالم‬ ‫في خطـاب التراث والحداثـة‬

‫‪Cover Wosta-Issue-16 Jan-2021.indd 1‬‬ ‫‪12/24/20 3:33 PM‬‬

‫ص‪.‬ب‪ 5119 :‬الشارقة ‪ -‬اإلمارات العربية المتحدة‬


‫براق‪+971 6 5123303 :‬‬
‫ّ‬ ‫هاتف‪+971 6 5123333 :‬‬
‫البريد اإللكتروني‪ - sdc@sdc.gov.ae :‬الموقع اإللكتروني‪www.sdc.gov.ae :‬‬
‫‪sharjahculture‬‬
‫كلمة العدد‬

‫عالمية اللغة العربية‬

‫الإمارات العربية في االحتفال بهذا اليوم‬ ‫والتاريخ وكتب العلوم التي �شهدها العرب‬ ‫ي�صادف اليوم العالمي للغة العربية‬
‫الذي ي�صادف ‪ 18‬دي�سمبر من كل عام‪.‬‬ ‫ما بين القرنين الثاني والرابع الهجريين‬ ‫الثامن ع�شر من دي�سمبر من كل عام‪ ،‬حيث‬
‫وكانت �إم ��ارة ال�شارقة‪ ،‬وم��ن خالل‬ ‫ف��ي ح��وا���ض��ر ب��غ��داد ودم�����ش��ق وال��ق��اه��رة‬ ‫�صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة‬
‫ر�ؤي���ة �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬ ‫والأن��دل�����س‪ ،‬ب��ل �أ�سهمت ف��ي نقل العلوم‬ ‫رقم (‪ ،)3190‬ال��ذي �أعلنت فيه �أن اللغة‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي �سباقة �إلى‬ ‫وال��م��ع��ارف الرومانية واليونانية �إل��ى‬ ‫العربية �أ�صبحت لغة ر�سمية في العالم‬
‫تعزيز اللغة العربية‪ ،‬وا�ستخدامها في كل‬ ‫�أوروب��ا‪ ،‬فكانت �صلة الو�صل من ح�ضارة‬ ‫ولغة عمل في الأمم المتحدة‪ ،‬بعد اقتراح‬
‫المجاالت العلمية والأدبية واالجتماعية‪،‬‬ ‫�إلى ح�ضارة تاريخي ًا وثقافي ًا و�أدبي ًا‪.‬‬ ‫قدمته دولتا المغرب وال�سعودية في الدورة‬
‫لأنها ق��ادرة على التفاعل والتكيف مع‬ ‫وتعد اللغة العربية �إحدى �أكثر اللغات‬ ‫(‪ ،)190‬في العام ‪1973‬م‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم‬
‫مختلف العلوم والح�ضارات‪.‬‬ ‫انت�شاراً في العالم‪ ،‬حيث يتحدث بها ما‬ ‫والوطن العربي يحتفل باليوم العالمي‬
‫لقد ج��اءت م��ب��ادرات �صاحب ال�سمو‬ ‫يقرب من ن�صف مليار �شخ�ص‪ ،‬يتوزعون‬ ‫للغة العربية‪.‬‬
‫حاكم ال�شارقة لدعم اللغة العربية تعزيزاً‬ ‫ب�شكل �أ�سا�سي في �أقطار الوطن العربي‪،‬‬ ‫لقد نظم العرب منذ �سنين طويلة �أعظم‬
‫لمكانتها الكبيرة التي حظيت بها عبر‬ ‫�إ�ضافة �إل��ى بع�ض المناطق الجغرافية‬ ‫الق�صائد ودونوا مخطوطات �أثرية تاريخية‬
‫ق��رون‪ ،‬وتتويج ًا للجهود التي بذلت من‬ ‫ال��م��ج��اورة‪� ،‬إذ ل��م تت�أثر اللغة العربية‬ ‫وعلمية و�أدبية‪� ،‬أكدت �أن هذه اللغة �ضاربة‬
‫�أج��ل �إع�لاء �ش�أن العربية‪ .‬يقول �سموه‪:‬‬ ‫باللغات المجاورة كثيراً‪ ،‬برغم االختالط‬ ‫الجذور في عمق التاريخ‪ ،‬وتكمن �أهمية‬
‫(�إن اللغة العربية �أرقى اللغات و�أ�سماها‪،‬‬ ‫بين ال��ع��رب وال�شعوب الأخ���رى‪ ،‬خا�صة‬ ‫هذه اللغة في �أن اهلل تعالى اختار العرب‬
‫وزاده��ا طيبة وع��ذوب��ة �أن ال��ق��ر�آن يتلى‬ ‫خالل الفتوحات الإ�سالمية‪ ،‬حيث بقيت‬ ‫دون غيرهم‪ ،‬ف�أنزل عليهم القر�آن الكريم‬
‫بها)‪ ،‬فكان �إط�لاق مجمع اللغة العربية‬ ‫قواعد اللغة العربية كما هي‪ ،‬ال بل امتد‬ ‫بلغة عربية‪� ،‬إ�شارة �إلى تكريم هذه اللغة؛‬
‫في (�شارقة الثقافة)‪ ،‬و�إ�صدار (المعجم‬ ‫وبنى لغوية �إلى الكثير‬ ‫ت�أثيرها كمفردات ُ‬ ‫فكانت داللة �إ�ضافية لأهميتها‪ ،‬فالعربية‬
‫التاريخي) للغة العربية على ر�أ�س حزمة‬ ‫من اللغات الأخرى‪ ،‬فقد كانت اللغة العربية‬ ‫ا�سم م�شتق من الإع ��راب عن ال�شيء‪� ،‬أي‬
‫من المبادرات والإنجازات الكثيرة التي‬ ‫عند ال�شعوب الم�سلمة من غير العرب �أداة‬ ‫الإف�صاح عنه‪ ،‬وهكذا فهي تعني من حيث‬
‫�أطلقها �سموه في �إطار اهتمامه وحر�صه‬ ‫لتعلم علوم ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ف�أ�صبحت‬ ‫اال�شتقاق لغة الف�صاحة‪.‬‬
‫على اللغة العربية‪.‬‬ ‫�أحد عوامل انت�شار هذه اللغة‪.‬‬ ‫�إن دور اللغة العربية منذ ن�شوئها‬
‫�إن االح��ت��ف��اء باليوم العالمي للغة‬ ‫وقد �أخذت دولة الإمارات على عاتقها‬ ‫وحتى اليوم‪ ،‬لم يقت�صر على �إنتاج الأدب‬
‫العربية في ال�شارقة‪ ،‬يتجاوز ال�شكل �إلى‬ ‫مهمة قيادة الجهود والمبادرات‪ ،‬من �أجل‬
‫الم�ضمون‪ ،‬ما ي�ؤكد ريادة �إمارة ال�شارقة‬ ‫المحافظة على اللغة والهوية العربية‪،‬‬
‫المخطوطات الأثرية‬
‫للحركة الثقافية في الدولة‪ ،‬و�أن االهتمام‬ ‫والنهو�ض الحقيقي بها على مختلف‬
‫باللغة العربية تحول �إلى م�شاريع ثقافية‬ ‫الم�ستويات االقت�صادية واالجتماعية‬ ‫التاريخية والعلمية �أكدت‬
‫م�ستدامة ت�صب في م�شروع الدكتور �سلطان‬ ‫والمعرفية‪ ،‬وتكري�س مكانتها في المجتمع‬ ‫�أن هذه اللغة �ضاربة‬
‫القا�سمي الثقافي‪ ،‬الذي ينطلق من فكرة‬ ‫الإم��ارات��ي‪ ،‬وتزامن ًا مع االحتفاء باليوم‬ ‫الجذور في عمق التاريخ‬
‫وحدة الثقافة العربية‪.‬‬ ‫العالمي للغة ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬ت�����ش��ارك دول��ة‬

‫‪3‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫رئي�س دائرة الثقافة‬
‫عبد اهلل بن محمد العوي�س‬

‫مدير التحرير‬
‫نـواف يونـ�س‬

‫هيئة التحرير‬
‫عبد الكريم يون�س‬
‫عـــــزت عـــــمــــــــر‬
‫حــ�ســـــان الـعــبـــد‬
‫عبدالعليم حري�ص‬

‫الت�صميم والإخـراج‬
‫محـمـد �سـمــير‬

‫‪32‬‬ ‫م�ساعد مخرج‬


‫محـمـد غانم‬

‫المحتوى الب�صري والإلكتروني‬


‫من معالم جزيرة‬ ‫محـمـد مح�سن‬
‫�أرواد‬
‫التوزيع والإعالنات‬
‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة ‪ -‬ال�شارقة ‪ -‬الإمارات العربية المتحدة‬ ‫خالد �صديق‬
‫ال�سنة اخلام�سة‪-‬العدد الواحد واخلم�سون ‪ -‬يناير ‪ ٢٠٢١‬م‬
‫مراقب الجودة والإنتاج‬
‫�أحمد �سعيد‬

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫قيمـة اال�شـتـراك ال�سنـوي‬


‫الأ�سعار‬ ‫داخل الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 400‬لرية �سورية‬ ‫�سوريا‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫الإمارات‬ ‫بالربيد‬ ‫الت�سليم املبا�شر‬
‫دوالران‬ ‫لبنان‬ ‫‪ 150‬درهم ًا‬ ‫‪ 100‬درهم‬ ‫الأفراد‬
‫‪ 10‬رياالت‬ ‫ال�سعودية‬
‫ديناران‬ ‫الأردن‬ ‫‪ 170‬درهم ًا‬ ‫‪ 120‬درهم ًا‬ ‫امل�ؤ�س�سات‬
‫ريال‬ ‫عمان‬
‫دوالران‬ ‫اجلزائر‬
‫دينار‬ ‫البحرين‬ ‫خارج الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫املغرب‬ ‫�شامل ر�سوم الربيد‬
‫‪ ٢٥٠٠‬دينار‬ ‫العراق‬
‫‪ 4‬دنانري‬ ‫تون�س‬ ‫‪ 600‬درهم‬ ‫دول اخلليج‬
‫دينار‬ ‫الكويت‬
‫‪ 3‬جنيهات �إ�سرتلينية‬ ‫اململكة املتحدة‬ ‫‪ 650‬درهم ًا‬ ‫الدول العربية الأخرى‬
‫‪ 4‬يورو‬ ‫دول الإحتاد الأوربي‬ ‫‪ 400‬ريال‬ ‫اليمن‬
‫‪ 280‬يــورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬
‫‪ 4‬دوالرات‬ ‫الواليات املتحدة‬ ‫‪ 10‬جنيهات‬ ‫م�صر‬ ‫‪ 300‬دوالر‬ ‫الواليات املتحدة‬
‫‪ 5‬دوالرات‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬ ‫‪ 20‬جنيه ًا‬ ‫ال�سودان‬ ‫‪ 350‬دوالر ًا‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬
‫فكر ور�ؤى‬
‫‪١٢٢‬‬ ‫‪� 12‬أنطونيو لوزانو ر�صد م�آ�سي الهجرة‬
‫اللغة العربية في ال�سنغال‬ ‫‪1 6‬‬
‫�أمكنة و�شواهد‬
‫�سوهاج ‪..‬مدينة التاريخ والمواويل‬ ‫‪ ٢٠‬‬
‫هنريك �إب�سن‪ ..‬رائد الواقعية الم�سرحية‬ ‫العرائ�ش‪..‬جوهرة المحيط الأطل�سي‬ ‫‪٢٦‬‬
‫ ‬
‫يعد النرويجي هنريك �إب�سن (‪1906-1828‬م) الكاتب الم�سرحي الذي يلقب‬
‫ب�أبي الم�سرح الحديث‪ ،‬ومن �أهم كتاب الم�سرح على مر التاريخ‪...‬‬ ‫�إبداعات‬
‫�أمين يو�سف غراب‪ ..‬عالمة‬ ‫�أدبيات‬ ‫‪٣٦‬‬
‫ ‬
‫فارقة في تاريخ الأدب‬ ‫قا�ص وناقد‬ ‫‪٤٠‬‬
‫ ‬
‫�أمين يو�سف غراب‪ ،‬من �أ�شهر الروائيين‬ ‫م�سار‪ /‬ق�صة ق�صيرة‬ ‫‪٤٤‬‬
‫ ‬
‫وك ّتاب الق�صة‪ ،‬فهو �صاحب �أ�سلوب‬
‫�أدبي مبهر وجذاب‪...‬‬
‫‪٥٦‬‬ ‫الحجر الأخطر‪/‬ق�صة ق�صيرة‬ ‫‪٤٥‬‬
‫ ‬
‫التلميذ‪ /‬ق�صة مترجمة‬ ‫‪٤٦‬‬
‫ ‬

‫‪٦٠‬‬ ‫ماركيز يفرق بين العي�ش‬ ‫�أدب و�أدباء‬


‫والحياة‬ ‫�سعيد الكفراوي‪ ..‬رومان�سي في ر�ؤية العالم‬‫‪٦٤‬‬
‫ ‬
‫(الحياة لي�ست م��ا يعي�شه �أح��دن��ا ‪..‬‬
‫و�إنما هي ما يتذكره‪ ،‬وكيف يتذكره؛‬ ‫‪ ٧‬النقد الأدبي بين ال�صحافة والبحث الأكاديمي‬‫‪ ٢‬‬
‫ليرويه) بهذه الكلمات افتتح ماركيز‬ ‫‪ ٨٤‬د‪ .‬طه محمود طه‪ :‬جوي�س مبدع بلغة جديدة‬ ‫ ‬
‫(ع�شت لأروي)‪...‬‬
‫ُ‬ ‫�سيرته‬
‫‪� ٩٤‬إليف �شافاق في روايتها (‪ ١٠‬دقائق و‪ ٣٨‬ثانية)‬
‫الإم�����ارات‪��� :‬ش��رك��ة ت ��وزي ��ع‪ ،‬ال��رق��م ال��م��ج��ان��ي ‪8002220‬‬
‫وكـالء التوزيع‬
‫ال�����س��ع��ودي��ة‪ :‬ال�����ش��رك��ة ال��وط��ن��ي��ة ل��ل��ت��وزي��ع ‪-‬ال��ري��ا���ض ‪-‬‬ ‫فن‪.‬وتر ‪.‬ري�شة‬
‫ه��ات��ف‪ ،٠٠966114871414 :‬الكويت‪ :‬المجموعة الإع�لام��ي��ة العالمية ‪ -‬الكويت‬
‫‪ -‬ه� ��ات� ��ف‪� ،0096524826821:‬سلطنة ُعمان‪ :‬المتحدة لخدمة و�سائل الإع�ل�ام ‪-‬‬ ‫‪� ١١٢‬ضياء مكين‪ ..‬انحاز للفن ال�شعبي دون �أي قيود‬
‫م�سقط ‪ -‬هاتف‪ ،0096824700895 :‬البحرين‪ :‬م�ؤ�س�سة الأي ��ام للن�شر ‪ -‬المنامة‬ ‫‪ ١١٨‬جوليو روزاتي‪ ..‬ع�شق ال�شرق و�ص ّوره‬
‫‪ -‬هاتف‪ ،0097317617733 :‬م�صر‪ :‬م�ؤ�س�سة الأه��رام للتوزيع ‪ -‬القاهرة ‪ -‬هاتف‪:‬‬
‫‪ ،0020227704293‬لبنان‪� :‬شركة نعنوع والأوائ����ل ل��ت��وزي��ع ال�صحف ‪ -‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ١٢٦‬ح�سن ناجي‪ :‬زاوج بين النثر وال�شعر م�سرحي ًا‬
‫عمان ‪ -‬هاتف‪،0096265358855 :‬‬ ‫‪ ،009611666314‬الأردن‪ :‬وكالة التوزيع الأردنية ‪ّ -‬‬
‫المغرب‪� :‬سو�شبر�س للتوزيع ‪ -‬ال ��دار البي�ضاء ‪ -‬ه��ات��ف‪،00212522589121 :‬‬ ‫تحت دائرة ال�ضوء‬
‫تون�س‪ :‬ال�شركة التون�سية لل�صحافة ‪ -‬تون�س ‪ -‬هاتف‪0021671322499 :‬‬ ‫‪« ١٣٩‬المعقول والالمعقول في تراثنا الفكري»‬
‫الإمارات العربية المتحدة ‪-‬ال�شارقة ‪ -‬الل ّية ‪-‬دائرة الثقافة‬ ‫عناوين المجلة‪:‬‬ ‫‪ ١٤١‬وليد عثمان ير�صد تاريخ م�صر المعا�صر‬
‫‪ ١٤٤‬توظيف ال�سرد في ال�شعر الإماراتي‬
‫براق‪+97165123303 :‬‬ ‫هاتف‪ّ +97165123333 :‬‬ ‫�ص ب‪ 5119 :‬ال�شارقة‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬ ‫‪shj.althaqafiya@gmail.com‬‬

‫التوزيع والإعالنات‬ ‫ر�سوم العدد للفنانين‪:‬‬


‫‪k.siddig@sdc.gov.ae‬‬ ‫براق‪+97165123259 :‬‬
‫هاتف‪ّ +٩٧١٦٥١٢٣٢٦٣ :‬‬ ‫د‪ .‬جهاد العامري‬ ‫نبيل ال�سنباطي‬
‫¯ترتيب ن�شر المواد وفق ًا لـ�ضرورات فـنية‪.‬‬ ‫مهاب لبيب‬ ‫جمال عقل‬
‫¯ المقاالت المن�شـورة تعبر عن �آراء �أ�صحابهـا وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة‪.‬‬
‫¯المجلة غير ملزمـة ب�إعادة �أي مادة تتلقاها للن�شر �سواء ن�شرت �أم لـم تن�شر‪.‬‬
‫¯ حـقوق ن�شر ال�صور والمو�ضوعات الخا�صة محفوظة للمجلة‪.‬‬
‫توزع في جميع �إمارات ومدن الدولة‬
‫¯ال تقبل المواد المن�شورة في ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية‪.‬‬ ‫لال�ستفـ�سـار الـرقـم المجـاني‪8002220 :‬‬
‫علماء العرب يح ُيونها بتراكيبهم الكيميائية‬

‫�صناعة العطور‬
‫حياة مترفة ووله بال�شذا الف ّواح‬
‫م�����ن �أي�������ن ج�����اءت‬
‫ه��ات��ي��ك ال��رائ��ح��ة؟‬
‫�أم��ن زه��رة يا�سمين‬
‫�أم فل؟ �أم من ع�شبة‬
‫غ��ار ورائ��ح��ة ط��ل؟!‬
‫يقظان م�صطفى‬
‫�أه�������ي ال��ك��ي��م��ي��اء‬
‫ت��ن��اف�����س ال��ف��ي��زي��اء ف��ت��خ��ت��رق ال��زم��ن‬
‫بتركيبة ت�سمى عطراً؟! وكيف للرائحة‬
‫المتهادية ف��ي الأج����واء �أن تُحب�س‬
‫ف��ي زج��اج��ة ك���أن��ه��ا م���ارد الم�صباح؟!‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪6‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫البخور كان �أول �أ�شكال العطر‪ ،‬اكت�شفه‬


‫قدماء العراقيين في ح�ضارة ما بين النهرين‪،‬‬
‫وع��رف عنهم ف��رك �أج�سامهم ب�سائل معطر‬
‫ي�صنعونه من نقع الأخ�شاب العطرية في خليط‬
‫من الماء وال��زي��ت‪ ..‬وو�صلت العناية بالعطر‬
‫حد الهو�س في الح�ضارة الرومانية بتعطير‬
‫الأر���ض��ي��ات وال��ج��دران والخيول‪ ،‬وال��ك�لاب‪..‬‬
‫وا�ستخدام النوافير التي تخرج الماء المعطر في‬
‫الحفالت‪.‬‬
‫لكن ي�سجل التاريخ للعرب ال��ري��ادة في‬
‫اال�شتغال بالعطر؛ بحث ًا وتجريب ًا و�صناع ًة‪،‬‬
‫لدرجة �أن تلك المعلومات والتفا�صيل المتعلقة‬
‫ب�أو�صاف العطور‪ ،‬ومراكز �إنتاجها في �شبه‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬ا�ستهوت الم�ؤرخين والرحالة‬
‫�ضمنه هيرودوت في‬ ‫اليونان والرومان‪ .‬ومما ّ‬
‫(تاريخه)‪� ،‬أن بالد العرب كانت تفوح بالعطور‬
‫والأطياب‪ :‬الم�سك والعنبر والعود وال�صندل‪.‬‬
‫وو�صف الرحالة (�أغاتر�شيد) (‪ 100‬ق‪.‬م)‬
‫(عبِقة‬ ‫�سواحل جنوبي الجزيرة العربية ب�أنها َ‬
‫ح�ضارة ما بين‬ ‫برائحة البخور وتبعث في الزائر �إح�سا�س ًا ال‬
‫النهرين اكت�شفت‬ ‫يو�صف من المتعة وان�شراح النف�س)‪ .‬كانت‬
‫�أول �أ�شكال العطر‬ ‫�سفن العرب تغادر ميناء عدن باتجاه الهند‬
‫لإح�ضار البهارات والعطورات والأع�شاب‬
‫الطبية من ج��زر ال�شرق الأق�صى‪ ،‬ثم تعود‬
‫�أدراجها للقاء القوافل العربية التي ُت َح َّمل‬
‫بالب�ضائع الم�ستوردة والبخور العربي لتنقله‬
‫ب��راً �إل��ى ميناء غ��زة على (طريق البخور)‪/‬‬
‫(طريق الحرير)‪ ،‬ومنها رحلتا ال�شتاء وال�صيف‬
‫اللتان د�أبت قري�ش على القيام بهما �سنوي ًا‪..‬‬
‫ثم من غزة �إلى بلدان حو�ض البحر الأبي�ض‬
‫المتو�سط‪ .‬لم تكن قائمة الب�ضائع التي يتاجر‬

‫‪7‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أع�شاب م�ستخدمة في �صناعة العطور‬
‫للزيوت العطرية والمراهم والمياه العطرية‪،‬‬ ‫بها العرب قديم ًا طويلة‪ ،‬لكنها كانت ت�شتمل‬
‫و�أج��رى تجارب مكثفة ناجحة لدمج عطور‬ ‫على �سلع للرفاهية‪ ،‬مثل‪ :‬الحرير‪ ،‬والثياب‬
‫النباتات المختلفة مع مواد وخامات �أخرى‪،‬‬ ‫الأرجوانية‪ ،‬والأبنو�س‪ ،‬والزعفران وخ�شب‬
‫باعتماد كيمياء التبلور والتبخير‪� ،‬آخ ��ذاً‬ ‫ال�صندل والقرفة‪..‬‬
‫بالح�سبان مقاديرها ك��ي يتمكن الجهاز‬ ‫�أ ِذن القرن التا�سع الميالدي ببدء تجارة‬
‫�شمها‪ ،‬و�أ�ضاف‬‫والح�سي عند الب�شر من ّ‬
‫ّ‬ ‫الع�صبي‬
‫ّ‬ ‫وا�سعة للعطور عبر العالم الإ���س�لام��ي بعد‬
‫ق�سم‬
‫ّ‬ ‫أخ���ف‪.‬‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫�ل‬‫�‬ ‫أق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫للروائح‬ ‫تثبيت‬ ‫م��واد‬ ‫ات�ساع رقعة الدولة العربية العبا�سية‪ ،‬وكثرة‬
‫عطر الورد �أقدم‬ ‫الكندي مخطوطه (الترفق في العطر) �إلى ع�شرة‬ ‫مواردها‪ ،‬وتنوع �أرا�ضيها‪ ،‬وبعد انت�شار حياة‬
‫م�صادر ا�ستخراج‬ ‫�أبواب‪� ،‬أورد فيها كيفية تح�ضير ما يبلغ ‪109‬‬ ‫الدعة والترف؛ فانت�شرت �أ�سواقه وكثر �ص ّناعه‪،‬‬
‫َّ‬
‫�أن��واع من الطيب والعطر‪ ،‬وو�صفات لمعدات‬ ‫وتعددت �أن��واع��ه‪� .‬صارت مهنة العطارة من‬
‫العطور عند العرب‬ ‫وف�صل فيه �أهم المركبات من‬ ‫المهن الرفيعة التي يمتهنها علية القوم‪،‬‬
‫�صنع العطور‪ّ .‬‬
‫الأع�شاب والنباتات والحيوانات والمعادن‪،‬‬ ‫وي�صرفون من وقتهم الثمين م�ساحة لتركيب‬
‫وطرق مزجها وا�ستخال�صها‪.‬‬ ‫عطورات يتفاخرون بتوليفاتها‪ ،‬و�أم الخليفة‬
‫�أما �أبو الطب الحديث‪ ،‬ابن �سينا‪ ،‬فتو�صل‬ ‫المقتدر �صنعت بنف�سها ما تتطيب به؛ هذا ما‬
‫لعملية ا�ستخراج الزيوت من الزهور عن طريق‬ ‫دفع الكيميائيين العرب �إلى تطوير �آليات �أقل‬
‫التقطير بالبخار‪ ،‬كما هو الإجراء ال�شائع اليوم‪،‬‬ ‫تكلفة لإنتاج الكميات الكبيرة من العطور‪.‬‬
‫للح�صول على م�ستخل�ص زيتي نقي ومركز‬ ‫ولعل �أقدم م�صادر ا�ستخراج العطور عند‬
‫ونظيف‪ ،‬وعليه �أ�س�س العلماء العرب �صناعات‬ ‫أ�شهره ورد‬
‫العرب و�أ�شهرها (عطر ال��ورد)‪ ،‬و� ُ‬
‫الطائف‪ ،‬و�أزه��ار اليا�سمين والبنف�سج والفل‬
‫وزهر الليمون‪ ،‬وخ�شب الأرز وخ�شب ال�صندل‪،‬‬
‫و�أوراق النعناع والغرنوق والخزامى‪ ،‬وجذور‬
‫الزنجبيل وال�سو�سن‪ .‬ومنذ �أكثر من �ألف عام‪،‬‬
‫ك��ان ال��ع��رب �أول م��ن ا�ستخدم ت��اج الزهرة‬
‫ال�ستخراج ماء الزهور العطري واال�ست�شفائي؛‬
‫با�ستق�صار تيجان الأزهار مع الماء‪ ،‬عبر و�ضع‬
‫رقائق زجاج في �إطارات خ�شبية تغلف بدهن‬
‫نقي وتغطى بتيجان الأزهار مكد�سة الواحدة‬
‫الدهن النقي‬
‫ُ‬ ‫ف��وق الأخ ��رى‪� ..‬إل��ى �أن يمت�ص‬
‫الكمي َة المطلوبة من العطر‪.‬‬
‫في القرن التا�سع الميالدي‪ ،‬كتب فيل�سوف‬
‫العرب والكيميائي (الكندي) كتاب (كيمياء‬
‫العطور) ال��ذي ت�ضمن �أكثر من مئة و�صفة‬
‫تقنيات التقطير الحديثة‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪8‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫وال��م��م��ل��وك��ي��ة‪،‬‬ ‫متميزة؛ مطورين معدات ال�ستخال�ص العطور‬


‫ف��ك��ان��ت ق��ن��ان��ي‬ ‫الفواحة المتطايرة من النباتات‬ ‫وال��زي��وت ّ‬
‫ال ��ع ��ط ��ر ت�����ص��ن��ع‬ ‫والورود‪ ،‬مثل (الإنبيق)‪ ..‬ومنها �صناعة (عطر‬
‫م�������ن ال����ب����ل����ور‬ ‫ال�صابون وال�شامبو‬ ‫ّ‬ ‫اليا�سمين) وت�صنيع‬
‫الرقيق وال�شفاف‬ ‫و�صبغات ال�شعر وم�ستح�ضرات ال ّتجميل‪،‬‬
‫وتزخرف بالذهب‬ ‫وم��زي�لات رائ��ح��ة ال��ع��رق‪ ،‬وكريمات م��ا بعد‬
‫م�صورة‬
‫ِّ‬ ‫والميناء‬ ‫الحالقة‪ ،‬وزيوت اال�ستحمام‪.‬‬
‫الكندي‬ ‫هيرودوت‬
‫ط ��ي ��وراً وزه����وراً‬ ‫لقد �أ�سهم التفوق العربي في علمي الكيمياء‬
‫عليها‪.‬‬ ‫والنبات في تطوير �صناعة العطور‪ ،‬وبف�ضل‬
‫في الح�ضارة‬ ‫جابر ب��ن ح� ّ�ي��ان‪ ،‬تح�سنت تقنيات التقطير‬
‫العربية الإ�سالمية‬ ‫فحول عطور‬ ‫والتبخير والتر�شيح �إلى حد كبير؛ ّ‬
‫لم يترك ال�صانع‬ ‫النباتات �إلى بخار ثم جمعه في �شكل ماء �أو‬
‫الكيميائي العربي‬ ‫زيت‪.‬‬
‫�شاردة وال واردة‬ ‫ونتيجة الرتباط المنطقة العربية بالطيب؛‬
‫تتعلق بالأطياب‬ ‫فقد ا�شتهرت �أ���س��واق كانت تبيعه وت�صدره‪،‬‬
‫جابر بن حيان‬ ‫ابن �سينا‬
‫�إال و در�سها در�س ًا‬ ‫ومنها (�سوق عكاظ‪ ،‬و�سوق �صنعاء‪ ،‬و�سوق‬
‫عميق ًا‪ ،‬و�أفرد لها م�ساحات كبيرة في م�ؤلفاته‬ ‫هجر لتجارة العنبر وم�سك داري��ن من الهند‪،‬‬
‫الكيميائية والنباتية‪ ،‬ليتم تركيبها بالزيوت‬ ‫و�سوق ُعمان التي بقي �سوقها يقام في مو�سمه‬
‫الطبيعية الأ���ص��ل��ي��ة‪ ..‬ويعترف الم�ست�شرق‬ ‫حتى (‪193‬ه)‪ ،‬و�سوق دبا الذي كان يعد منفذ ًا‬
‫(رينالدي) ب�أنه قد انتقلت �إل��ى الأوروبيين‬ ‫للب�ضائع العربية المتجهة لل�شرق الأق�صى‪،‬‬
‫�أع�شاب ونباتات طبية وعطرية كثيرة‪ ،‬وذكر‬ ‫وع ��رف بتجارة الم�سك‪ ،‬وال��ع��ود‪ ،‬والق�سط‪،‬‬
‫(ليكرك) منها ما يزيد على الثمانين‪ ،‬بع�ضها‬ ‫والكافور‪ ،‬والزعفران)‪.‬‬
‫بف�ضل جابر بن‬ ‫مايزال بلفظه العربي‪.‬‬ ‫وعندما بلغت تجارة العطور �أوجها في‬
‫حيان تح�سنت‬ ‫ورثت �أوروبا �أغلب طرقها في ا�ستخال�ص‬ ‫الع�صر العبا�سي‪� ،‬أُن�شئت لها �أ�سواق خا�صة كانت‬
‫تقنيات التقطير‬ ‫العطور عن العرب بعدما و�صلها عن طريق‬ ‫ت�سمى (�أ�سواق العطارين)‪ ،‬ومن �أ�شهرها �سوق‬
‫فيني�سيا الإيطالية؛ فخالل ع�صور النه�ضة‪،‬‬ ‫بغداد‪ ،‬وبلغ عدد �أ�صناف العطور والعقاقير‬
‫والتبخير والتر�شيح‬ ‫كانت العربة الملكية للملك لوي�س الخام�س ع�شر‬ ‫التي ي�ستوردها ميناء الب�صرة (‪ )1479‬نوع ًا‪..‬‬
‫تدهن كل �صباح بالعطور‪ ،‬و�أثاثه يدهن يومي ًا‬ ‫و�سوق العطارين في القاهرة‪ ،‬و�سوق ال�شورجة‬
‫بالعطور‪ ،‬ومالب�سه تظل داخل �إناء العطور لعدة‬ ‫في بغداد‪ ،‬و�سوق بيروت‪ ،‬و�سوق العطارين‬
‫�أيام‪� .‬أما نابوليون بونابرت؛ فقد ا�ستخدم (‪)60‬‬ ‫في البزورية في دم�شق‪ ،‬و�سوق العطارين في‬
‫زجاجة من عطر اليا�سمين المركز كل �شهر‪،‬‬ ‫القد�س‪.‬‬
‫وف�ضل الم�سك العربي الأ�صيل‪ .‬وفي �إنجلترا‬ ‫ّ‬ ‫ويذكر �أن الخليفة العبا�سي المقتدر باهلل‪،‬‬
‫�أدخل هنري الثامن والملكة �إليزابيث الأولى‬ ‫كان م�سرف ًا في اقتناء النفائ�س‪ ،‬وكان يملك‬
‫�صناعة العطور �إلى بلدهما‪.‬‬ ‫خزائن من (الغالية) المعتق �شديد التركيز‪ .‬وفي‬
‫ت�سجل لوحة (�صانع العطر) التي ر�سمها‬ ‫ع�صر ازدهار الح�ضارة العربية الإ�سالمية في‬
‫�أ�سواق العطارين‬ ‫الم�ست�شرق ال��ن��م�����س��اوي رودل����ف �أرن�����س��ت‪،‬‬ ‫بالد الأندل�س؛ زمن تمجيد الحياة الطبيعية‬
‫انت�شرت مع التفوق‬ ‫ا�ستخال�ص الزيت العطري من الورد الجوري‪،‬‬ ‫وال��ح��ب والغناء وال���ورد‪ ،‬ر��ّ�ش��وا العطور في‬
‫الح�ضاري العربي‬ ‫وفيها يجل�س �صانع العطر المغربي ليراقب‬ ‫بيوتهم وق�صورهم‪ :‬عطر لل�صباح وعطر لما‬
‫الإ�سالمي‬ ‫مرحلة م��ن م��راح��ل �صناعته بيدي فتاتين‬ ‫بعد الظهيرة وعطر للم�ساء وال�سهرة‪ ،‬ولم يكن‬
‫بجمال الورد‪� .‬أما رواية (العطر) للروائي باتريك‬ ‫هذا ترف ًا بقدر ما كان �أناقة في الذوق واحتفا ًال‬
‫زو�سكيند؛ فتظهر فل�سفة مثيرة للرائحة‪ :‬مدارات‬ ‫بجماليات الحياة‪ ،‬وتهذيب ًا للعقل من خالل‬
‫و�أف�لاك كتلك التي تحيط بنا في الف�ضاءات!‬ ‫تهذيب حا�سة ال�شم‪.‬‬
‫كما جعلت رائحة المر�أة في فيلم (عطر امر�أة)‪،‬‬ ‫� ّأدى انت�شار تركيب العطور �إل��ى ازده��ار‬
‫الأعمى �آل بات�شينو �شخ�ص ًا يب�صر بالأنف‬ ‫�صناعة القوارير والمباخر في كل من �سوريا‬
‫وتدله الرائحة‪.‬‬ ‫وم�صر‪ ،‬وبلغت �أوجها في الفترتين الأيوبية‬

‫‪9‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫ابن طفيل ووالدة الرواية الفل�سفية‬


‫«ر�سالة حي بن يقظان»‬
‫�سرد خيالي بر�ؤية واقعية‬
‫خو�سيه ميغيل بويرتا‬

‫اللذين �أعجبا بهذه ال��رواي��ة الإ�سبانية‪،‬‬ ‫مف�سراً �أي�ض ًا لبع�ض �أع��م��ال اب��ن ر�شد‪،‬‬ ‫�أن نلتفت مجدداً �إلى ‌(ر�سالة حي بن‬
‫لكن �أكبر حافز ل��رواج (ر�سالة حي بن‬ ‫وابن �سينا‪ ،‬والغزالي‪ ،‬و�أر�سطو‪ ،‬و�أن كهنة‬ ‫يقظان) البن طفيل الغرناطي الأندل�سي‪،‬‬
‫يقظان) كان بال ريب الترجمة الالتينية‬ ‫ديانته نبذوه لر�شديته وندائه �إلى تبني‬ ‫يعني �أن نعيد قطع الج�سور الممتدة بين‬
‫التي �أ�صدرها ‪ Pococke‬في ‪Oxford‬‬ ‫ال ��ر�أي الأ�سا�سي لر�سالة اب��ن طفيل‪� ،‬أال‬ ‫الأل�سنة والح�ضارات والمعتقدات والتي‬
‫ع ��ام (‪١٦٧١‬م) م��ان��ح � ًا �إي��اه��ا ع��ن��وان‬ ‫وهو نهج المنهج الفردي‪ ،‬بل والع�صامي‪،‬‬ ‫�أن�شئت ركائزها ب�صعوبة لتحقيق حلم‬
‫(الفيل�سوف الع�صامي)‪ ،‬وهو العنوان الذي‬ ‫لك�سب المعرفة والت�صرف ب���إرادة حرة‪.‬‬ ‫تكوين �إن�سان مالك م�صيره‪ .‬فما يعتبر‬
‫�سوف ت�شتهر به ر�سالة ابن طفيل‪� ،‬أو ًال في‬ ‫هناك توجد �أي�ض ًا ق�صة �شعبية �إ�سبانية‬ ‫ثاني كتاب من الأدب العربي الكال�سيكي‬
‫�أو�ساط عهد التنوير الإنجليزي‪ ،‬وثاني ًا في‬ ‫م�أخوذة عن ر�سالة ابن طفيل تدوولت في‬ ‫ذيوع ًا في العالم بعد (�أل��ف ليلة وليلة)‪،‬‬
‫العالم برمته‪ .‬بعد �صدور ترجمة هولندية‬ ‫�أجواء الموري�سكيين في منطقة �سرق�سطة‪،‬‬ ‫على ح�سب قول عبد الرحمن بدوي‪ ،‬والن�ص‬
‫في عام (‪١٦٧٢‬م) وترجمتين �إنجليزيتين‬ ‫�شمال �شرقي �إ�سبانيا‪� ،‬ألهمت �أح��د �أهم‬ ‫الم�ؤ�س�س للرواية الفل�سفية في العالم‪،‬‬
‫�أخريين في عامي ( ‪ ١٦٧٤‬و‪١٦٨٦‬م)‪،‬‬ ‫م�ؤلفات الع�صر الذهبي للأدب الإ�سباني‪،‬‬ ‫مازالت تكمن في �صميمه �أ�سئلة خليقة‬
‫ظهرت الترجمة الهولندية الثانية في‬ ‫هي الرواية الفل�سفية المعنونة (ال َّن َّقاد) لــ‬ ‫بالتفكير فيها‪� .‬إن ات�ساق حبكة ق�صة‬
‫ع ��ام (‪١٧٠١‬م)‪ ،‬وه ��ي ال��ت��ي ق ��ام بها‬ ‫(غراثيان) التي �صدرت في ثالثة �أجزاء‬ ‫متوحد في جزيرة مهجورة في عر�ض البحر‬
‫‪ ،Bouwmeester‬رفيق ومعاون لواحد‬ ‫بين (‪ ١٦٥١‬و‪١٦٥٧‬م)‪ ،‬يعر�ض فيها‬ ‫من�سوجة بمواد خرافية وواقعية‪ ،‬تت�سل�سل‬
‫من �أكبر الفال�سفة المنورين ‪،Spinoza‬‬ ‫الم�ؤلف �أفكاره المت�شائمة حيال المجتمع‬ ‫فيها الت�سا�ؤالت البحثية والوجودية لبطل‬
‫ال��ذي دع��ا‪� ،‬ش�أنه �ش�أن اب��ن طفيل وابن‬ ‫الب�شري عبر ق�صة نجا بطل متعلم من‬ ‫ي�صعد في �س ّلم المعرفة بمجرد فطرته‪،‬‬
‫ر�شد‪� ،‬إل��ى (حرية التفل�سف)‪ ،‬وط��رد لذلك‬ ‫الغرق في جزيرة معزولة‪ ،‬حيث التقى‬ ‫عالوة على المالحظات التجريبية المكثفة‬
‫من الجماعة اليهودية لمدينة �أم�ستردام‪.‬‬ ‫بمتوحد �أم��ي ع ّلمه الكالم‪ ،‬ثم �أطلع هذا‬ ‫لبع�ض الأحداث والآراء الفل�سفية الخطرة‬
‫ول��ن��ذك��ر هنا �أن اب��ن طفيل واب ��ن ر�شد‬ ‫الأخير ال�شخ�ص الجديد في الجزيرة على‬ ‫بكم ال ب�أ�س به من الن�سبية في‬
‫المعالجة ّ‬
‫�أخ�ضعا لإقامة جبرية في �آخر م�شوارهما‬ ‫مغامرة والدت��ه في كهف ون�شوئه تحت‬ ‫الأحكام‪ ،‬ا�سترعى ب�شدة اهتمام مفكري‬
‫ب�سعي من الفقهاء المت�شبثين‪ .‬في ال�سنة‬ ‫حماية حيوان �أر�ضه حتى ع��رف جمال‬ ‫عهود النه�ضة والتنوير والحداثة �شرق ًا‬
‫(‪١٧٠٨‬م) �صدرت ترجمة �إنجليزية جديدة‬ ‫الطبيعة و�ضرورة وجود خالق لها‪ ،‬وهي‬ ‫وغرب ًا‪ .‬يبدو �أن م�شاركة ق�صة ابن طفيل‬
‫منجزة مبا�شرة عن اللغة العربية‪ ،‬وفي‬ ‫المغامرة عينها التي عا�شها بطل ابن‬ ‫في الفكر الغربي ب��د�أ على يد بيكو ديال‬
‫عامي (‪ ١٧٢٦‬و‪( ١٧٨٣‬ن�شرت ترجمتان‬ ‫طفيل‪ .‬ومثلما يحدث في الأ�صل الأندل�سي‪،‬‬ ‫م��ي��ران��دوال (‪١٤٩٤-١٤٦٣‬م)‪ ،‬ر�شدي‬
‫�ألمانيتان قربتا ن�ص ابن طفيل مبا�شرة‬ ‫�سافر الرجالن العا ِلمان والفا�ضالن �إلى‬ ‫التوجه و�أب��ي نزعة الأن�سنة الأوروب��ي��ة‪،‬‬
‫من المفكرين المنورين الأل��م��ان‪ .‬وكما‬ ‫بالطات ملوك �إ�سبانيا وفرن�سا و�إيطاليا‬ ‫والذي ن�سبت �إليه ترجمة التينية مفقودة‬
‫ه��و معلوم‪ ،‬جعلت (جماعة الأ���ص��دق��اء‬ ‫بحث ًا عن ال�سعادة لكنهما لم يح�صال عليها‬ ‫عن كتاب اب��ن طفيل �أنجزت باال�ستناد‬
‫الدينية)‪ ،‬المعروفة با�سم ‪،The Quaker‬‬ ‫حتى نهاية حياتهما وفي جزيرة الخلود‪،‬‬ ‫�إل��ى ترجمة عبرية �ضاعت هي الأخ��رى‬
‫ر�سالة اب��ن طفيل مرجع ًا �أ�سا�سي ًا لهذا‬ ‫على من�أى من كدر المجتمع‪ .‬ولهذه الرواية‬ ‫�شرحها مو�سى ال َّن ْربوني بالعبرية خالل‬
‫المذهب ال��ذي �أ�س�سه في منت�صف القرن‬ ‫�أث��ر بالغ في م�ستهل النزعة الوجودية‬ ‫�إقامته في بر�شلونة في عام (‪١٣٧٠‬م)‪.‬‬
‫‪ ١٧‬الإنجليزي ‪ ،George Fox‬وهو الذي‬ ‫الألمانية‪ ،‬ال �سيما لدى �شوبنهاور ونيت�شه‬ ‫وتجدر الإ���ش��ارة �إل��ى �أن هذا العالم كان‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪10‬‬


‫ج�سور‬

‫في الق�سم الأخير للكتاب‪ ،‬تن�سج حبكة يقودها‬ ‫تعر�ض لل�سجن بتهمة الم�ؤامرة �ضد الكني�سة‬‫ّ‬
‫الت�سا�ؤل والأحكام المفتوحة‪ ،‬مثل امتناع‬ ‫الأنجليكانية‪ ،‬والذي اليزال �أتباعه ن�شطين‬
‫الم�ؤلف عن الح�سم في �ش�أن روايتي والدة‬ ‫في الواليات المتحدة في الوقت الراهن‪� .‬أما‬
‫حي الموم�أ �إليهما �آنف ًا‪� ،‬أو في مع�ضلة قدم‬ ‫عام (‪١٩٩٠‬م) ف�شهد �صدور كل من الترجمة‬
‫ا�سترعت الق�صة‬ ‫العالم �أو حدوثه‪ ،‬كما تذييله بعبارة (تقريب ًا)‬ ‫الفرن�سية ال�شهيرة لـ ‪Léon Gauthier‬‬
‫تعداد �أ�سابيع و�سنين م��دة درج��ات البطل‬ ‫و�أول ترجمة �إ�سبانية على يد ‪Francisco‬‬
‫اهتمام مفكري عهود‬ ‫‪ ،Pons‬التي �ستليها الترجمة الإ�سبانية‬
‫المعرفية‪ .‬وما �أبهى �سرده لوفاة الظبية‪-‬‬
‫النه�ضة والتنوير‬ ‫الأم لحي‪ ،‬الحدث الباعث لتراتب الت�سا�ؤالت‬ ‫الثانية بقلم ‪ González Palencia‬في‬
‫في الغرب فتمت‬ ‫وال�شكوك ال��م��ؤدي��ة �إل��ى المعرفة‪ ،‬خا�صة‬ ‫عام( ‪١٩٣٤‬م)‪ .‬بعدئ ٍذ تعددت الترجمات (�إلى‬
‫ترجمتها �إلى �أكثر من‬ ‫و�صفه لت�شريح الظبية الحافل بمعطيات‬ ‫أردو‬‫اللغة الرو�سية في عام ‪١٩٢٠‬م‪ ،‬ثم ال ُ‬
‫لغة‬ ‫الطبيب المتمرن وبم�شاعر انفعال البطل‬ ‫والفار�سية‪ ،‬وال��خ) و�إع���ادة الطبعات‪ ،‬بما‬
‫لحظة اكت�شافه حقيقة الموت!! �شيمة �أخرى‬ ‫فيها الن�شرة العربية الأولى التي �صدرت في‬
‫لروعة اب��ن طفيل هي ال�صبغة الت�صويرية‬ ‫القاهرة في عام (‪١٨٨١‬م) تارك ًة ب�صمتها‬
‫القوية ل��رواي��ة و�صول (ح��ي) الر�ضيع �إلى‬ ‫ف��ي النه�ضة العربية‪ ،‬منذ ذل��ك الحين لم‬
‫جزيرة غير محدد موقعها مخب�أ في تابوت‬ ‫تتوقف الن�شرات المحققة وال�شعبية‪ ،‬وحتى‬
‫(دالل��ة على خطورة هالك و�شيك)‪ ،‬و�شرحه‬ ‫للأطفال‪ ،‬بلغتها الأم وبلغات �أخرى‪.‬‬
‫تعد رائدة الرواية‬ ‫(ال�سينمائي) لإخ�ضاع الطبيعة الحق ًا من قبل‬ ‫ولئن كانت ثمار ر�سالة ابن طفيل‬ ‫ ‬
‫الفل�سفية في التراث‬ ‫حي‪ ،‬وهو �أمر �سوف يجد فيه البع�ض �سابقة‬ ‫المقتطفة في هذا الم�ضمار الثقافي �أو ذاك‪،‬‬
‫العربي وثاني �أثر‬ ‫لرواية (روبن�سون ك��روزو) لديفو (‪١٧١٩‬م)‬ ‫ف ��إن ن�ص (ح��ي بن يقظان) الأ�صلي يبقى‬
‫�أدبي خالد بعد «�ألف‬ ‫وح��ت��ى لق�ص�ص و�أف��ل�ام ط� ��رزان (‪١٩١٢‬‬ ‫متلألئ ًا ب�أ�سلوبه ال�سل�س المفعم بمحبة‬
‫و‪١٩٤٠‬م) وروبن�سون ما بعد الحداثة للكاتب‬ ‫الم�ؤلف للتفكير والإ�صالح االجتماعي وال�سرد‬
‫ليلة وليلة»‬ ‫الفرنسي‪١٩٦٧( Michael Tournier‬م)‪،‬‬ ‫الجميل‪ .‬في مقدمة الر�سالة ير�سم الم�ؤلف‬
‫رغ��م التباين الجلي القائم بين مغازيها‬ ‫معالمه الفل�سفية برف�ضه الت�صوف الم�ؤدي‬
‫وتفا�صيلها‪ .‬وم��ا �أعجب كذلك ال�صفحات‬ ‫�إلى ت�أله الإن�سان‪ ،‬من طرف‪ ،‬و(�أه��ل النظر)‬
‫المكر�سة على ق�صة �أ�سال ونزوله في جزيرة‬ ‫المنغلقين في المنطق الفارغ‪ ،‬من طرف ثانٍ ‪،‬‬
‫(حي) واندها�شه‪ ،‬بعد تعليمه الكالم‪ ،‬لإلمام‬ ‫ال�س َنوية حق ًال‬
‫ويتخذ (الحكمة الم�شرقية) َّ‬
‫المتوح�ش بكل المعارف والحقيقة بمح�ض‬ ‫مالئم ًا للتوحيد بين التفكير والم�شاهدة‬
‫للرواية �أثر كبير في‬ ‫اجتهاده وف�شلهما في محاولة �إر�شاد نا�س‬ ‫و�إدراك التوافق بين المنقول والمعقول‪ .‬ثم‬
‫النزعة الوجودية‬ ‫جزيرة �أخ��رى �إل��ى طريق الخير!! وتعقيب ًا‬ ‫يفلح الم�ؤلف في توظيف المادة الخرافية‬
‫الألمانية وبخا�صة‬ ‫على ما ذهبت �إليه بع�ض الدرا�سات الحديثة‬ ‫والرمزية للر�سالة بان�سجام مع التجارب‬
‫لدى �شوبنهاور‬ ‫حول عدم �إعطاء ابن طفيل دوراً للمر�أة في‬ ‫والأح ��داث الواقعية‪ .‬ا�ستعادة خرافتي حي‬
‫ونيت�شه اللذين‬ ‫ج��زي��رت��ه‪ ،‬وح�صر دور الأن��ث��ى على خالف‬ ‫بن يقظان و�أ�سال ال�شائعتين في الم�شرق‪،‬‬
‫ال�شرع الإ�سالمي نف�سه‪ ،‬على الأمومة (الأميرة‬ ‫وق�صتي والدة البطل ذات �أ�صداء قر�آنية (رمي‬
‫�أعجبا بها‬ ‫التي رمت �سراً بحي �إلى اليم لإنقاذه‪ ،‬والظبية‬ ‫ر�ضيع �إلى اليم على غرار مو�سى �أو خلقه من‬
‫المربية له والتي �أ�سماها حي نف�سه بالأم)‪،‬‬ ‫الطين مثل �آدم)‪ ،‬وجزيرة الوقواق الخرافية‬
‫دعونا نلمح �إلى �أنه‪ ،‬بغ�ض النظر عن انتماء‬ ‫المذكورة في (الليالي)‪ ،‬ور�ضاعة حيوان‬
‫الم�ؤلف �إلى مجتمع ت�سود فيها الأبوية‪ ،‬مثله‬ ‫لحي المماثلة لأ�سطورة رومولو�س ورمو�س‬
‫مثل �أغلبية المجتمعات‪ ،‬وعن رمزية ر�سالته‪،‬‬ ‫م�ؤ�س�سي روما‪ ،‬ثم ترتيب المراحل المعرفية‬
‫انحازت الرواية �إلى‬ ‫مهد الطريق للقفزة التي‬ ‫ال �شك �أن ابن طفيل ّ‬ ‫للبطل في �سباعيات زمانية‪ ،‬تتخلله تعابير‬
‫التوافق بين المنقول‬ ‫قام بها زميله الطبيب الفيل�سوف والفقيه ابن‬ ‫الت�سا�ؤل وال�شك والن�سبية للذات المتكلمة‪،‬‬
‫والمعقول وبين‬ ‫ر�شد‪ ،‬الذي �أعلن جهراً في (تخلي�ص جمهورية‬ ‫والباحثة على ال���دوام‪ .‬تعددية الأ���ص��وات‬
‫�أفالطون) قدرة المر�أة على التفل�سف وبالتالي‬ ‫المتداخلة في الر�سالة‪� ،‬صوت الم�ؤلف الراوي‬
‫الم�شاهدة والتفكير‬
‫�أهليتها لتولي مهام �إدارة المدينة الفا�ضلة‪،‬‬ ‫تارة و�صوت الأخ ال�سائل والمتلقي المفتر�ض‬
‫�إن �أتيحت لها الفر�صة للتعلم وال تهم�ش في‬ ‫للخطاب ت ��ارة �أخ���رى‪� ،‬أو الن�ص القر�آني‬
‫الأ�شغال والمهن التقليدية المحددة لها‪.‬‬ ‫كم�صدر للحقيقة الموحية الظاهرة خ�صو�ص ًا‬

‫‪11‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫ال��رواي��ة تحكي ق�صة خالد واب��ن عمه‪،‬‬
‫اللذين ت�أثرا بق�ص�ص �صديق لهما‪ ،‬يدر�س في‬
‫�إ�سبانيا ا�سمه حميد‪ ،‬والذي كان يعي�ش حياة‬
‫الرفاهية‪ ،‬في المقابل‪ ،‬كانا يعي�شان حياة‬
‫�أقل ما يمكن �أن يقال عنها �إنها حياة بائ�سة‪،‬‬
‫ف�أوقد ذلك في نف�سيهما رغبة الهجرة ال�سرية‬
‫�إلى مدينة (طريفة) التي ال تبعد عن مدينة‬
‫(طنجة) �إال ب�أميال قليلة‪ ،‬من هنا بد�أت رحلة‬
‫البحث عن تجار �أو الم�شتغلين بالهجرة‬
‫ال�سرية من �أجل ترحيلهما عن وطنهما الأم‬
‫نحو ال�ضفة ال�شمالية‪ ،‬وبالفعل ت�أتى لهما‬
‫هذا الأمر‪ ،‬لكن ما �سيواجهانه في �إ�سبانيا‬
‫�شيء �آخر‪ ،‬ال عالقة له بما كانا ير�سمانه في‬
‫�أذهانهما‪ ،‬فقد اعتقل (خالد) ب�سبب �أن�شطته‬
‫المحظورة و�أودع ال�سجن‪ ،‬و�أ�صبح يحلم مرة‬
‫�أخرى بالعودة �إلى �أر�ض الوطن والت�صالح‬
‫مع �أه��ل��ه‪ ،‬الذين لم يودعهم �أث��ن��اء رحلته‬
‫(الم�ش�ؤومة)‪.‬‬
‫ويرى الكاتب من خالل روايته هذه‪� ،‬أن‬
‫هناك عدة نظريات مف�سرة للهجرة‪� ،‬أهمها ما‬
‫يعرف بـ(نظرية الطرد والجذب)؛ وهي نظرية‬
‫قديمة ترى‪� ،‬أن الأ�سباب الأ�سا�سية للهجرة‬
‫تتمثل في عاملين �أ�سا�سيين هما‪ :‬االت�صال‪،‬‬
‫وتعدد العالقات القائمة بين البلدان المر�سلة‬
‫والم�ستقبلة للمهاجرين‪ .‬وقد اعتبر �أنطونيو‬
‫لوزانو‪� ،‬أن �سمتي الطرد والجذب اللتين تتميز‬
‫بهما البلدان الأ�صلية للمهاجرين �أو البلدان‪،‬‬
‫التي يهاجر �إليها النا�س متغيرات ت�ساعد في‬
‫مغربي الأ�صل �إ�سباني الجن�سية‬

‫�أنطونيو لوزانو‬
‫اختيار جماعات معينة لكي تهاجر من مكان‬
‫لآخ��ر‪ .‬وتتمثل عوامل الطرد الب�سيطة في‬
‫الفقر واال�ضطهاد والعزلة االجتماعية وهي‬
‫ما كان يعانيها (خالد) بطل الرواية‪ّ � ،‬أما‬
‫القوية‪ ،‬فتتجلى في المجاعات‬ ‫عوامل الطرد ّ‬
‫والحروب والكوارث الطبيعية‪ ،‬كما يمكن �أن‬
‫ير�صد م�آ�سي الهجرة نحو ال�شمال‬
‫تكون عوامل الطرد عوامل بنائية‪ ،‬كالنمو‬ ‫���راك���ة ‪ –)Harraga‬وه���ي كلمة دارج���ة‬ ‫ت��ع��د رواي����ة (ح ّ‬
‫ال�سكاني ال�سريع و�أثره في الغذاء والموارد‬ ‫تطلق في دول �شمالي �إفريقيا على المهاجرين ال�سريين‪-‬‬
‫الهوة المرتبطة بالرفاهية‬‫الأخ��رى‪� ،‬أو في ّ‬ ‫للكاتب المغربي الأ���ص��ل والإ���س��ب��ان��ي الجن�سية �أنطونيو‬
‫بين ال�شمال والجنوب‪.‬‬
‫لقد ظهرت حاجة �أوروب���ا ال�صناعية‬ ‫لوزانو من الأعمال ال�صادرة �أخيراً‪ ،‬والتي تناولت مو�ضوع‬
‫�إلى العمالة الرخي�صة بعد الحرب العالمية‬ ‫الهجرة ال�سرية بعمق كبير‪ ،‬وه��ي عمل يقع ف��ي (‪)153‬‬
‫الثانية‪ ،‬فوجدت في الدول النامية ‪ -‬ومنها‬ ‫د‪ .‬نفي�سة الزكي‬
‫�صفحة م��ن الحجم المتو�سط‪ ،‬ب�� ّي��ن فيها ال��ك��ات��ب وي�لات‬
‫دول �شمالي �إفريقيا على وجه الخ�صو�ص‪-‬‬ ‫وم���آ���س��ي �أن��ا���س ح��اول��وا ال��ع��ب��ور م��ن �شمالي �إف��ري��ق��ي��ا �إل��ى‬
‫الجهة الأخ��رى‪ ،‬بحث ًا عن فردو�س ر�سموه في عقولهم‪ ،‬لكن �أحالمهم �ستتك�سر بغيتها‪ ،‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬كانت العمالة في‬
‫على �ضفاف البحر الأبي�ض المتو�سط؛ فقد انتهى بهم المطاف �إم��ا غرقى‪� ،‬أو هذه الدول في حاجة �إلى المال ال�ست�شراف‬
‫م�ستقبل �أح�سن‪ ،‬من هنا بد�أت الهجرة بكل‬
‫م�ساجين في �أح�سن الأح��وال‪� ،‬أو مر�ضى من �شدة ما قا�سوه في تجربتهم هذه‪.‬‬
‫�أن��واع��ه��ا �إل ��ى �أوروب����ا‪ ،‬للبحث ع��ن العمل‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪12‬‬


‫ق�ضية‬

‫ولإيجاد متنف�س للم�شاكل االقت�صادية‪ ،‬التي‬


‫كانت تعانيها هذه ال��دول الفقيرة‪ ،‬فالهجرة‬
‫ب�أعداد كبيرة‪ ،‬والتي �شجعها الغرب بنف�سه‪،‬‬
‫�أدت �إلى ت�صاعد موجة العداء تجاه الأجانب‪،‬‬
‫وجعلتهم يواجهون م�شاكل كبيرة‪� ،‬سواء تعلق‬
‫الأم��ر بالم�ستوى االقت�صادي‪� ،‬أو بالم�ستوى‬
‫االجتماعي‪� ،‬أو بالم�ستوى العقدي‪� ،‬أو محو‬
‫الهوية والمواطنة‪ ،‬وبالتالي فكر �أ�صحاب القرار‬
‫في ال�سنوات الموالية‪ ،‬بغلق الحدود والحد من‬
‫الهجرة المقننة‪ ،‬وهو ما جعل الكثيرين من �أبناء‬
‫�صورة للجاليات العربية في فرن�سا‬ ‫دول �شمالي �إفريقيا‪ ،‬يفكرون في الهجرة ال�سرية‬
‫وثقافية‪ ،‬من ال�صعب على �أي عاقل القفز عليها‪،‬‬ ‫لتحقيق بع�ض من طموحاتهم‪.‬‬
‫�أ�ضحت منذ العقود الأخيرة ت�شكل ‪ -‬من وجهة‬ ‫لقد �أ�صبحت الهجرة ال�سرية �إلى �أوروبا واقع ًا‬
‫نظر الغرب عموم ًا و�أوروبا تحديداً‪ ،‬باعتبارها‬ ‫يتزايد با�ستمرار‪ ،‬فخالل العقدين الأخيرين‪،‬‬
‫من الأخطار الجديدة العابرة للحدود‪ ،‬ال �سيما‬ ‫عبرت �أعداد كبيرة من المهاجرين ال�سريين �إلى‬
‫في ظل بروز مدلول الأمن االجتماعي‪ -‬خطراً‬ ‫القارة‪ ،‬بحث ًا عن م�ستقبل �أف�ضل‪ ،‬وعلى‬ ‫ّ‬ ‫هذه‬
‫على القيم الثقافية والهوية الغربية‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من �ضخامة �أعداد المهاجرين‪ ،‬ف�إن ال ّتطور‬ ‫ّ‬
‫الأمن والكيان الأوروبي‪.‬‬ ‫في هذا االتجاه‪ ،‬اليزال في بداياته وح�سب‪.‬‬
‫وفي المقابل �أكد �صاحب الرواية ‪ -‬ومن‬ ‫وي��رى �أنطونيو ل��وزان��و‪� ،‬أن دول �شمالي‬
‫(حراكة)‬
‫ّ‬ ‫روايته‬ ‫خالل بطلها (خالد) الذي لم يحترم القوانين‬ ‫�إفريقيا منبع الهجرة ال�سرية‪ ،‬كانت في ال�سابق‬
‫الجاري بها العمل في �إ�سبانيا‪� -‬أن المهاجر‬ ‫م�ستعمرات لدول الجذب المتمثلة خ�صو�ص ًا في‬
‫تعالج مو�ضوع الهجرة‬
‫والذي ي�سعى �إلى االندماج مطالب بال ّت�صرف‬ ‫�إ�سبانيا وفرن�سا‪ ،‬فهاتان الدولتان‪ ،‬ا�ستغلتا‬
‫ال�سرية بعمق كبير‬ ‫خيرات البالد العربية لعقود‪ ،‬في الوقت الذي لم‬
‫مطلع ًا على‬
‫باعتباره مواطن ًا‪ ،‬وعليه �أن يكون ّ‬
‫المنظمة للحياة في تلك البالد‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬ ‫القوانين‬ ‫تقدما فيه �شيئ ًا لهذه الدول‪ ،‬يغنيها من الناحية‬
‫والم�ستمرة ف��ي مختلف‬ ‫الم�شاركة اليومية‬ ‫االقت�صادية عن ت�صدير المهاجرين‪ ،‬ومن هنا‬
‫ّ‬ ‫�أكد �ضرورة اعتذار الدول الغربية لم�ستعمراتها‬
‫الأن�����ش��ط��ة‪ ،‬وف ��وق ه ��ذا‪ ،‬ال ب��د �أن ي�سري في‬
‫الجاليات المهاجرة �إلى �أوروبا‪� ،‬شعور حقيقي‬ ‫ال�سابقة كخطوة �أول ��ى على درب الت�صالح‬
‫باالنتماء �إلى المجتمع الذي يعي�شون فيه؛ �إذ‬ ‫وخلق عالقات من�سجمة‪ ،‬فالهجرة �إلى �أوروبا‪،‬‬
‫ال معنى الندماج �إيجابي‪ ،‬ي�ستجيب لمقت�ضيات‬ ‫ح�سب الكاتب‪ ،‬لي�ست في الواقع �سوى انعكا�س‬
‫ت�صور وج��ود �شباب‬ ‫الإي��م��ان الجماعية‪ ،‬مع‬ ‫لمعطيات تاريخية‪ ،‬واقت�صادية‪ ،‬وجغرافية‬
‫ّ‬
‫من المهاجرين يتقوقعون في دوائ��ر مغلقة؛‬
‫يتجاهلون محيطهم االجتماعي‪ ،‬ويتهاونون‬
‫الر�سمية والمتداولة‬ ‫�أحيان ًا في �إتقان ال ّلغة ّ‬
‫يرى من خالل �أبطال‬ ‫للبالد التي يقيمون فيها‪ ،‬فالجماعة المهاجرة‬
‫و�أحداث روايته‬ ‫لي�ست عابرة‪ ،‬بل هي ف�ضاء �إ�شعاعي يمنح الفرد‬
‫�أن �أ�سباب الهجرة‬ ‫المهاجر مزيداً من الحما�س والفعل وال ّنزاهة‬
‫الفكرية‪ ،‬واالنفتاح على مجتمعه ب�صفته فرداً‬
‫نظرية الطرد‬ ‫ومواطن ًا �أوروبي ًا‪.‬‬
‫والجذب‬ ‫�شخ�صت وبكل واقعية‬ ‫(حراكة) �إذاً ّ‬ ‫رواي��ة ّ‬
‫الو�ضع (الم�أزوم) الذي تعي�شه الدول الم�صدرة‬
‫للهجرة ال�سرية‪ ،‬ف�أبناء هذه الدول‪ ،‬لو وجدوا ما‬
‫يغنيهم في بلدانهم من الناحية االقت�صادية‪ ،‬ما‬
‫فكروا في ركوب (قوارب الموت)‪ ،‬والتي �أ�ضحت‬
‫مر الأيام تح�صد �أرواح خيرة ال�شباب بال‬ ‫على ّ‬
‫وحولت معبر جبل طارق �إلى‬ ‫رحمة وال �شفقة‪ّ ،‬‬
‫مقبرة جماعية‪.‬‬ ‫من رواياته‬

‫‪13‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫الرواية والفنون الب�صر ّية‬


‫غ�سان كامل ونو�س‬

‫عدداً وقدرات مع مرور الزمن؛ في ع�صر �أ�صبح‬ ‫مغم�سة ب�صهارة‬ ‫ن�صه بري�شة ّ‬ ‫يكتب المبدع ّ‬
‫لل�صورة ح�ضور �أوفر و�أغزر‪ ،‬وباتت �أكثر عر�ض ًا‬ ‫القلب‪ ،‬وذوب الم�شاعر وال��ع��واط��ف‪ ،‬ونفثات‬
‫لوقت �أكب ِر قدرٍ من النا�س‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫و�إلحاح ًا‪ ،‬وا�ستراق ًا‬ ‫الهموم ونفائ�س الأف��ك��ار؛ ناثراً مفرداته من‬
‫وف��ي مختلف حاالتهم و�أماكنهم و�أهوائهم‬ ‫ر�صيده المكتنز‪ ،‬ف��ارداً حواراته من �شخو�ص‬
‫وم�ستوياتهم‪ ..‬وغ���دت ترافقهم ف��ي ح ّلهم‬ ‫اختلقها‪ ،‬ومبادرات ارت�آها‪ ،‬وعالقات ارت�سمها‬
‫المحطات العار�ضة‬ ‫ّ‬ ‫وترحالهم‪ ،‬وتنتظرهم في‬ ‫تكهن �أو‬ ‫تنب�أ بها‪� ،‬أو ّ‬ ‫�أو ابتناها‪ ،‬وخال�صات ّ‬
‫والمزمنة‪ ،‬وت�شاغلهم‪ ،‬وتداعبهم‪ ،‬وتعابثهم‪،‬‬ ‫توهم‪� ،‬أو تم ّنى‪..‬‬
‫ّ‬
‫وتع ّلمهم‪ ،‬وت�ض ّللهم‪ ،‬وتريحهم‪ ،‬وت�ضغط على‬ ‫بعد ك� ّل ه��ذا العمل المتوا�شج والم�ضني‪،‬‬
‫�أع�صابهم‪ ،‬وت�سهم في ت�شكيل وعيهم ومواقفهم‬ ‫ال��ذي ي�ستغرق زم��ن� ًا يطول �أو يق�صر‪ ،‬وبعد‬
‫داخلي ًا‬
‫ّ‬ ‫مح�صنة‬
‫ّ‬ ‫و�آرائهم‪ ،‬ولو كانوا في بروج‬ ‫وغ ٍ‬
‫رف‬ ‫و�شح‪َ ،‬‬
‫تتي�سر‪ ،‬ودفق ّ‬ ‫محاوالت تتع ّثر �أو ّ‬
‫نحن في ع�صر �أ�صبح‬ ‫وخارجي ًا‪.‬‬ ‫الن�ص كائن ًا قادراً على الح�ضور‬
‫ّ‬ ‫ونحت‪ ..‬ينه�ض ّ‬
‫لل�صورة ح�ضور �أوفر‬ ‫وعلى الرغم من توا�شج الإب��داع الف ّني في‬ ‫بعالمات الزم��ة وكافية للتخوي�ض بمفرده‬
‫و�أغزر‬ ‫مختلف المجاالت‪ ،‬وتعالقه؛ ل ّأن �أ�صله واحد‪،‬‬ ‫بين المتل ّقين القريبين والبعيدين؛ مو�شي ًا بما‬
‫بينة بين �أ�شكاله و�أنواعه‪،‬‬ ‫ف� ّإن هناك اختالفات ّ‬ ‫لمورثاته بهذا القدر �أو‬ ‫ّ‬ ‫خطر لمبدعه‪� ،‬أمين ًا‬
‫الفن المرئي والم�سموع‪،‬‬ ‫�شك في � ّأن عنا�صر ّ‬ ‫وال ّ‬ ‫المعبرة‬
‫ّ‬ ‫الفن التدويني‬ ‫ّ‬ ‫ذاك‪ ،‬متم ّث ًال عنا�صر‬
‫الفن المقروء‪ ،‬و� ّأن‬
‫تختلف عن تلك التي يتط ّلبها ّ‬ ‫والم�ستحبة‪ ،‬والقادرة على البقاء واالنبعاث‬ ‫ّ‬
‫متميزون‪،‬‬‫ّ‬ ‫ون‬ ‫اخت�صا�صي‬
‫ّ‬ ‫من �سيقوم ب�إنجازه‬ ‫واالنتثار زمن ًا؛ لو يطول!‬
‫قد تختلف ر�ؤاهم ووجهات نظرهم وقراءاتهم‬ ‫وب��ي��ن ال��ن���� ّ�ص؛ رغ��ب��ة وه��اج�����س � ًا وف��ك��رة‬
‫عما ارت�آه الكاتب‪� ،‬أو خل�ص �إليه؛‬ ‫وت�أويالتهم‪ّ ،‬‬ ‫القراء‪،‬‬
‫وم��ح��اوالت‪ ،‬وبين و�صوله �إل��ى �أي��دي ّ‬
‫كما � ّأن الو�سائل الم�ستخدمة والأ�ساليب الم ّتبعة‪،‬‬ ‫أر�ضية‪ ،‬غالب ًا ما تطول في‬ ‫زمنية و� ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�سافة‬
‫قد تدفعهم �إلى التحوير والزيادة والنق�صان‪،‬‬ ‫إمكانياته‬
‫ّ‬ ‫ظ��روف الن�شر والتوزيع القائمة‪ ،‬و�‬
‫وال��ت��غ��ي��ي��ر ف��ي ت�سل�سل الأح������داث‪ ،‬و�إظ��ه��ار‬ ‫القراء‪،‬‬‫والخا�ص؛ ويتباين ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتفاوتة بين العام‬
‫ال�شخ�صيات‪ ،‬وال��ح��وارات بينها‪ ،‬وق��د ت�ضاف‬ ‫ّ‬ ‫ويتنوعون‪ ،‬ويتباعدون؛ كما يق ّل عدد الن�سخ‬ ‫ّ‬
‫ال �شك �أن هناك‬ ‫يتغير ح�ضور �أخرى‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫العمل‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫�‬ ‫ات‬ ‫�شخ�صي‬ ‫المطبوعة والمو ّزعة من العمل الأدبي �إلى ب�ضع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اختالفات في‬ ‫حتى الإلغاء؛ وفق ر�ؤية كاتب الن�ص الجديد على‬ ‫مئات �أو ع�شرات‪ ،‬في وقتنا الحا�ضر؛ فكم يكون‬
‫عنا�صر الفن المرئي‬ ‫وربما‬‫�شكل �سيناريو‪ ،‬ومخرجه‪ ،‬والعاملين فيه‪ّ ،‬‬ ‫بقراء! ناهيك عن �أن يتاح‬ ‫عدد الن�سخ المحظوظة ّ‬
‫جهة �إنتاجه‪ ،‬وت�شيع‪ ،‬بين الحين والآخر‪� ،‬أنباء‬ ‫عر�ض �صحافي‪� ،‬أو ر� ُأي ناق ٍد؛ وكم �سيكون‬ ‫ُ‬ ‫لها‬
‫والم�سموع عن‬ ‫خالفات بين الم�ؤلف الأدبي‪ ،‬وكاتب ال�سيناريو‬ ‫�صاحب العمل الأدبي محظوظ ًا و�سعيداً‪� ،‬إذا ما‬
‫المقروء‬ ‫تن�صل الم�ؤ ّلف‬
‫حد ّ‬ ‫�أو المخرج الفني‪ ،‬و�صلت �إلى ّ‬ ‫زاد عدد المتل ّقين �أ�ضعاف ًا؛ بتحويله �إلى جن�س‬
‫المخرج‪ ،‬ويق ّل هذا االختالف‪� ،‬إذا‬ ‫َ‬ ‫من العمل‬ ‫الفن‪ ،‬و�شكل �آخر من العر�ض‪ ،‬يجوب‬ ‫�آخر من ّ‬
‫ما قام الم�ؤ ّلف نف�سه بكتابة (�سيناريو) عمله‪،‬‬ ‫بث �إلى النا�س‪ ،‬ح ّتى‬ ‫ال�صاالت وال�شا�شات‪� ،‬أو ُي ّ‬
‫�أو قام به �أدي��ب �أو قريب من الأدب‪� ،‬أو رافق‬ ‫وهم في بيوتهم‪ ،‬عبر �أجهزة التلفزة و�سواها‬
‫وقربوا وجهات‬ ‫العاملين في الفيلم‪ ،‬وتحاوروا‪ّ ،‬‬ ‫المتنوعة‪ ،‬التي تت�ضاعف‬ ‫ّ‬ ‫من ذوات ال�شا�شات‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪14‬‬


‫�أقالم‬

‫الم�شاهد المحدودة في العمل المرئي‪� ،‬أو كثير‬ ‫الن�ص‬‫ّ‬ ‫النظر؛ ليخرج العمل �أقرب ما يكون �إلى‬
‫من العاملين فيه؟!‬ ‫مميز‪ .‬وقد تزداد‬ ‫الأ�صلي ور�ؤيته‪ ،‬وب�شكل ف ّني ّ‬
‫الدرامية وفر�ص‬ ‫ّ‬ ‫أعمال‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أ�سواق‬ ‫كما � ّأن �‬ ‫الم�شكالت حين تكون الغاية من العمل الف ّني‬
‫ح�ضورها‪ ،‬في الداخل والخارج‪� ،‬أكثر و�أو�سع‬ ‫إعالمية؛ هذا الذي لم يخطر في بال‬ ‫ّ‬ ‫ت�سويقية و�‬
‫ّ‬
‫بما ال يقارن مع الكتب والمطبوعات؛ ناهيك‬ ‫ربما‪� -‬آناء كتابته‪ ،‬على النحو الذي‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب‪-‬‬
‫الحدودية‪ ،‬التي تحول دون بلوغ‬ ‫ّ‬ ‫عن العقبات‬ ‫الفن الب�صري‪.‬‬ ‫يف ّكر فيه �أ�صحاب ّ‬
‫الكتاب الروائي مديات �أبعد‪ ،‬ومتل ّقين �أكثر؛‬ ‫وعربية‬ ‫ّ‬ ‫أجنبية‬
‫روائية � ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد حظيت ن�صو�ص‬
‫لأ�سباب و�أ�سباب؛ فيما قد تكتفي الرقابات على‬ ‫درامي ًا �إلى ال�سينما‪ ،‬والحق ًا‬ ‫ّ‬ ‫عديدة‪ ،‬بتحويلها‬
‫الدرامية بحذف بع�ض الم�شاهد! ل ّأن‬ ‫ّ‬ ‫الأعمال‬ ‫�إلى التلفزيون‪ ،‬ونال بع�ضها ن�صيب ًا وافراً من‬
‫الحاجة �إلى مثل هذه الأعمال تت�ضاعف‪ ،‬في‬ ‫العر�ض وال�شهرة‪ .‬لكن هذا الأم��ر ت�ضاءل في‬
‫ع�صر اال�ستهالك الذي نعي�ش‪..‬‬ ‫حد كبير؛‬ ‫ال�سنوات الأخيرة‪ -‬ح�سب ما �أعلم‪� -‬إلى ّ‬
‫حظيت بع�ض‬ ‫وم��ن المفارقات �أي�ض ًا؛ �أن يبد�أ ت�صوير‬ ‫كما تناق�ص ح�ضور ال�سينما ذاتها‪ ،‬وت�ضاعف‬
‫الروايات ال�شهيرة‬ ‫وربما عر�ضه‪ ،‬قبل �أن ينتهي كاتب‬ ‫الم�سل�سل‪ّ ،‬‬ ‫ح�ضور ال�شا�شات ال�صغيرة‪ ،‬وظهرت عرو�ض‬
‫ال�سيناريو من حلقاته! �أال ت�ؤ ّثر �ضغوط ذلك على‬ ‫�سينمائية تحمل ا�سم الم�ؤ ّلف المخرج‪ ،‬و�صلت‬ ‫ّ‬
‫بتحويلها �إلى دراما‬ ‫م�ستوى العمل و�إبداعه؟! �إ�ضافة �إلى االهتمام‬ ‫حتى التلفزة‪.‬‬
‫�سينمائية عربي ًا‬ ‫بالفن المرئي وازدياد ن ّقاده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الإعالمي الكبير‬ ‫ومن المفارقة �أن يق ّل ح�ضور الروايات في‬
‫وعالمي ًا‬ ‫ربما‪!-‬‬‫بث العمل‪ ،‬وقبله‪ّ -‬‬ ‫بعد االنتهاء من ّ‬ ‫والتلفزيونية‪ ،‬مع ازدياد‬ ‫ّ‬ ‫ال�سينمائية‬
‫ّ‬ ‫(الدراما)‬
‫وال ب��أ���س ف��ي �أن ن��ق��ارن بين ظهور ا�سم‬ ‫بث‬ ‫ّ‬ ‫وا�ستمرار‬ ‫القنوات‪،‬‬ ‫د‬ ‫وتعد‬
‫ّ‬ ‫ال�صورة‪،‬‬ ‫ح�ضور‬
‫كاتب العمل‪� ،‬أو كاتب ال�سيناريو‪� ،‬أو �صاحب‬ ‫الكثير منها �آن��اء النهار والليل‪ ،‬وازدي��اد عدد‬
‫العمل الأدب ��ي الم�أخوذ عنه‪� ،‬إن وج��د‪ ،‬الذي‬ ‫الم�سل�سالت‪ ،‬وتكرار عر�ضها م� ّ�رات‪ ،‬و�صارت‬
‫يكاد ال ُيقر�أ‪ ،‬على ال�شا�شة‪ ،‬وبين ا�سم �أي من‬ ‫خا�صة بـ(الدراما)‪ ،‬وموا�سم‬ ‫ّ‬ ‫هنا وهناك قنوات‬
‫الرئي�سيين فيه‪� ،‬أو مخرجه‪� ،‬أو العاملين‬ ‫ّ‬ ‫المم ّثلين‬ ‫محددة تحت�شد بالعرو�ض الأولى‪ ،‬وظهر ك ّتاب‬ ‫ّ‬
‫أ�سا�سيين!‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫دراميون كثر؛ قليل منهم �أدباء‪ ،‬لك ّنهم يعرفون‬ ‫ّ‬
‫يتحول‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫باللغة‬ ‫ق‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫يتع‬ ‫آخر‪،‬‬ ‫�‬ ‫أمر‬ ‫�‬ ‫وهناك‬ ‫(ال��ك��ار) وعالقاته‪ ،‬و�أ���س��واق��ه‪ ،‬التي �سيعر�ض‬
‫الب�صري؛‬
‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫الف‬ ‫العمل‬ ‫�إليها العمل الروائي في‬ ‫فيها‪ ،‬والظروف والأوقات والجمهور المتو ّقع‪..‬‬
‫العام ّية‪ ،‬التي قد يحتاج بع�ضها‬ ‫ففي الغالب هي ّ‬ ‫وقد �أدى هذا‪ ،‬في ر�أي��ي‪� ،‬إلى الت�أثير �سلب ًا في‬
‫�إلى �شرح المفردات! � ّأما الأعمال الف ّن ّية‪ ،‬التي‬ ‫الن�صو�ص والعرو�ض؛ ل ّأن الغاية لي�ست ف ّن ّية‬
‫وربما نادرة‪،‬‬ ‫تكتب باللغة الف�صيحة؛ فهي قليلة ّ‬ ‫خال�صة لوجه الإب��داع! كما هي لدى المبدعين‬
‫طغت اللغة المحكية‬ ‫والتراثية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التاريخية‬
‫ّ‬ ‫وتكاد تقت�صر على الأعمال‬ ‫الحقيقيين‪ ،‬الذين يكتبون من وحي �إلهامهم‬ ‫ّ‬
‫في الأعمال التي‬ ‫وقد تبدو جا ّفة وب��اردة ومفتعلة �أحيان ًا؛ كما‬ ‫ور�ؤاهم و�أفكارهم وفرادتهم!‬
‫قد تقع �أخطاء فاح�شة في الأداء الحواري �أو‬ ‫وي�شهد ال��واق��ع الأدب���ي وال��ف� ّن��ي للأ�سف‪،‬‬
‫تحولت من الروائية‬ ‫ال�سردي‪ ،‬ت�ؤ ّثر �سلب ًا في التل ّقي‪.‬‬ ‫يتعمدون الإث��ارة‬ ‫� ّأن من ك ّتاب ال��درام��ا‪ ،‬من‬
‫ّ‬
‫�إلى الفنية الب�صرية‬ ‫حق الروائي �أن يحظى عمله باالهتمام‬ ‫� ّإن من ّ‬ ‫بحجة‬ ‫ّ‬ ‫إ�سفاف؛‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫حد‬
‫والت�شويق والإ�ضحاك �إلى ّ‬
‫على اللغة الف�صحى‬ ‫والتقدير‪ ،‬لكن من ح ّقه �أي�ض ًا �أن يكون له ح�ضور‬ ‫� ّأن (الجمهور �أو ال�سوق عاوز كده)!‬
‫الئق في العر�ض والنقد والإعالم‪ ،‬ومن ح ّقه � ّأل‬ ‫� ّإن الن��ف��راد ال��ق��ارئ بالكتاب ال��روائ��ي‪،‬‬
‫ي�شوه عمله من �أجل الت�سويق والجمهور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وانغما�سه مع تفا�صيله‪ ،‬ومعاي�شته لل�شخو�ص‬
‫جاد‬
‫ّ‬ ‫تعاون‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫وال�ضروري‪،‬‬ ‫المهم‬
‫ّ‬ ‫ومن‬ ‫خ�صو�صية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في �أحيازه‪ ،‬وتحليقه في ف�ضاءاته‪،‬‬
‫وحري�ص على الفعل الثقافي‪ ،‬بين الم� ّؤ�س�سات‬ ‫الجماعية؛ وهي الحال‬ ‫ّ‬ ‫تختلف عن الم�شاهدة‬
‫المعنية بالكتاب والنتاج الأدب ��ي‪ ،‬والأخ��رى‬ ‫ّ‬ ‫الجمعية‬ ‫ّ‬ ‫الغالبة‪ .‬على الرغم من متعة الطقو�س‬
‫المهتمة بالنتاج الف ّني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واالحتفالية �أحيان ًا‪ ،‬التي ت� ّؤمنها م�شاهدة العمل‬ ‫ّ‬
‫الفن المرئي‬ ‫ومع االحترام لكثير من ك ّتاب ّ‬ ‫الف ّني المرئي‪.‬‬
‫المح ّل ّيين والعرب؛ ومنهم �أدباء مبدعون‪ ،‬ف� ّإن‬ ‫وهناك م�س�ألة ال يمكن �إغفالها في هذا‬
‫ن�صه و�أكثر تم ّث ًال‬ ‫المبدع الروائي �أكثر قرب ًا من ّ‬ ‫المادي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المو�ضوع؛ فهل تمكن مقارنة المردود‬
‫وتمعن ًا ور�ؤي��ة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لأفكاره‪ ،‬و�أكثر ت� ّأم ًال وعمق ًا‬ ‫الذي ينتظره الروائي �أو يتو ّقعه‪ ،‬بالمردود الذي‬
‫م�صداقية مع نف�سه ومع الإب��داع‪ ،‬و�أكثر‬ ‫ّ‬ ‫و�أكثر‬ ‫قد يفر�ضه كاتب ال�سيناريو‪� ،‬أو تعر�ضه ال�سوق‬
‫فقراً وقناعة و�أمانة‪..‬‬ ‫ال��درام� ّ�ي��ة‪� ،‬أو بما يتقا�ضاه الممثل �صاحب‬

‫‪15‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫اللغة العربية في ال�سنغال‬

‫عبدالأحد الكجوري‬
‫�شاعر الغربة والمنافي‬
‫عانت قارة �إفريقيا كثير ًا ب�سبب ق�ضايا العن�صرية‬
‫عبر قرون متتالية‪ ،‬من ويالت اال�ستعمار والتمييز‬
‫العن�صري‪ ،‬حتى و�صفت ب��ال��ق��ارة ال�����س��وداء‪� ،‬أو‬
‫ال�سمراء‪ ،‬وظلت ال�شعوب م�ضطهدة من الذين ا�ستولوا‬
‫على الثروات والحكم ومقدرات الأمة الإفريقية‪ ،‬ثم‬
‫حاتم عبد الهادي‬
‫جاءت الحربان العالميتان؛ الأولى والثانية‪ ،‬لت�صبح‬
‫�إفريقيا تحت ال�سيادة الغربية التي �سعت �إلى طم�س الهوية واللغة‪،‬‬
‫ون�شر الثقافة الغربية عن طريق التعليم‪ ،‬وفي �شتى مناحي الحياة‪.‬‬

‫وقد انعك�س ذلك بالطبع على الأدب‪ ،‬لكن الأدباء ورجاالت‬


‫الثقافة‪ ،‬تم�سكوا باللغة الإفريقية للحفاظ على تراثهم الح�ضاري‬
‫والثقافي الأممي‪� ،‬إال �أن بع�ض الكتاب‪ ،‬ارت�أوا تعلم الإنجليزية‪،‬‬
‫والفرن�سية والكتابة بهما لن�شر ق�ضاياهم الم�صيرية‪ ،‬وك�شف‬
‫زيف الواقع الذي يعي�شونه‪ .‬لقد ظلت الثقافة الإفريقية خا�صة‬
‫(ال�شعر‪ ،‬والرواية) في مواجهة الهيمنة الغربية‪.‬‬
‫يعد ال�شاعر الأدي��ب ليو بولد �سيدار �سنغور �أيقونة ال�شعر‬
‫ال�سنغالي‪ ،‬فهو �أول رئي�س لل�سنغال بعد اال�ستقالل‪ ،‬ودول��ة‬
‫يت�صدرها رئي�س �شاعر يجب �أن تكون دولة مثقفة وجميلة‪ .‬ولقد‬
‫ا�شتهر �سنغور ببلورة م�صطلح الخ�صو�صية الزنجية‪ ،‬وبنى عليه‬
‫كل نظريته الفل�سفية‪ ،‬بل وحتى ال�سيا�سية‪ ،‬ويق�صد به �أن لإفريقيا‬
‫ال ��� ��س ��وداء خ�صو�صية تميزها عن بقية ال�شعوب والقارات‪،‬‬
‫فالإن�سان الأ�سود �أو الزنجي‪� ،‬شخ�ص يعي�ش‬
‫على الحوا�س والعاطفة واالنفعال بالدرجة‬
‫الأولى‪ ،‬وانطالق ًا من مفهوم �سنغور عن الحوا�س‬
‫والعاطفة التي تميز ال�شعب‪ ،‬ندلف �إلى الحديث عن �شعراء‬
‫ال�سنغال المعا�صرين‪.‬‬
‫يحيلنا ال�شاعر عبدالأحد الكجوري ‪ -‬منذ البداية ‪ -‬في‬
‫ق�صائده �إلى �أجواء الذات المحبة العا�شقة‪ ،‬الت�صوف الذاتي ‪-‬‬
‫كما �أ�سميه‪ ،‬وهو ال�شاعر الجوال‪ ،‬نراه يجول في �أقانيم الروح‬
‫و�أقاليمها بحث ًا عن الحبيبة عبر �أقنوم ال�شعر المقد�س‪ ،‬الجواد‬
‫الذي يم�سك بلجامه ليعبر به مرافئ الذات �إلى �آفاق �أكثر تحرراً‬
‫ورحابة‪ ،‬حيث نراه الهث ًا يقتفي �أثر �سندريال المحبوبة‪ ،‬ويعود‬
‫�إلى الما�ضي ليتذكر عبر الحكايات والذكريات الجميلة في كنف‬
‫المحبوبة‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪16‬‬


‫مبدعون‬

‫في رحلتين �إل��ى الما�ضي �أ�سير على‬


‫خطى ال��م��ج��ازات �أج��ت��اح المواويال‬
‫�أ���س��ي��ر ن��ح��و خ��ري��ر ال��م��اء يجذبني‬
‫ن��ح��و ال��م��ف��اوز �أ���س��ط��و ًال ف���أ���س��ط��وال‬
‫م����اذا �أق����ول وق��ل��ب��ي �إذ ر� ِآك �سدى‬
‫��ت ال��م��واوي�لا؟‬ ‫ه���وى �إل��ي��ك وق���د ك��ن ِ‬
‫�إنه ال�شاعر المحب العا�شق‪ ،‬يغزل لها من‬
‫مرافئ ال�شوق جداول للحب‪ ،‬وحدائق للع�شق‪،‬‬
‫يتذكرها وي�شده الحنين �إلى جمال م�شيتها‪،‬‬
‫ولنلحظ ال�صور الفنية الباذخة‪ ،‬وجماليات‬
‫التعبير عبر �سل�سال اللغة المن�ساب‪ ،‬والمثال‬
‫من �أ�ص�ص الجمال‪ ،‬ونورانية الحب التي ت�صل‬
‫�إلى ال�شيفونية‪ ،‬التي رقت و�شفت وتاق لق�ضم‬
‫رواد بيت ال�شعر يحتفون بال�شاعر ال�سنغالي‬ ‫فاكهة الحبيبة الحا�ضرة ‪ /‬الغائبة ‪ /‬المقيمة‪/‬‬
‫ت�سترحمها لنعطف عليها‪ ،‬وهو المحب الهائم‬
‫في ح�ضرتها النورانية‪ ،‬ح�ضرة المحبوبة‬ ‫غيبتها الأيام فعاد يتذكر من‬ ‫العابرة‪ ،‬والتي ّ‬
‫الغائبة‪ ،‬يتوق �إليها في كل الأوقات‪ ،‬وي�ستمد‬ ‫جديد‪.‬‬
‫رغم ال�صعاب والمحن‬ ‫من ذكرياتها قوت ًا لحطب قلبه المحترق‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫�إن��ه �شاعر الحب ف��ي الغربة والمنافي‪،‬‬
‫مللت م��ن نكهة الفنجان ف��ي �شفتي‬ ‫فحياته بعدها �أ�صبحت عدم ًا‪ ،‬ولنرى جماليات‬
‫التي عانتها �إفريقيا‬ ‫المعنى الفطري ال�صادق‪ ،‬في تعبيره‪:‬‬
‫ي��ا للفناجين ك��م ت�شدو التراتيال‬
‫تم�سك الأدباء‬ ‫فهل على ال��ن��اي �أن ي�شقى ول��ي لغة‬ ‫اتخذت من ج��ذوة ال�سيناء بو�صلة نحو‬
‫ورجاالت الثقافة‬ ‫�ستمنع الحزن �أن يردى (نعم) في (ال)؟‬ ‫المحاالت �أدمنت العراقيال‬
‫بلغتهم وحافظوا‬ ‫فهي هنا قد �أ�صبحت بو�صلته التي يحدد‬
‫على تراثهم‬ ‫هنا ه��و ال�شاعر الخائف ال��م��ت��ردد بين‬ ‫قلبه اتجاهات خطواتها ومكانها‪ ،‬لكنها محال‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬وال‪ ،‬بين الإق��دام والإحجام‪ ،‬بين العبور‬ ‫ومجهول‪ ،‬فقد �أدمن العراقيل والمنعطفات التي‬
‫وهويتهم‬ ‫تو�صله �إليها وخابت بو�صلة الحب في تحديد‬
‫�إلى الم�شتهى الروحي‪ ،‬والركون �إلى ال�سكون‬
‫وال�صمت عند خرير جدولها ال�صادح ب�أقحوان‬ ‫مكانها‪ ،‬فغدا في العراء الكوني غريب ًا م�شرداً‬
‫الحب وزيتونته الم�ضيئة‪ ،‬يم�سك بناي الروح‬ ‫ي�ستعذب الألم‪ ،‬وي�ألف العراقيل والعذاب ووجع‬
‫ليعزف لها �أل��ح��ان المحبة‪ ،‬وي�شرب قهوته‬ ‫البعاد‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫من فنجانها حين تهم�س‪ ،‬فيذوب ولع ًا‪ ،‬لذا‬ ‫رح��ل��ت ن��ح��وك ال زاد ���س��وى ثقتي‬
‫ال�شاعر ليو بولد‬ ‫ب�����أن ق��ل��ب��ك ال ي��ر���ض��ى ال��م��ث��اق��ي�لا‬
‫نراه ي�ستعذب الوحدة‪ ،‬ويجل�س في عراء الذات‬
‫�سنغور كان �أول‬ ‫والكون‪ ،‬ليدمن حبهما في روح��ه التي تطن‬ ‫وال��ح��ب محت�ضر الع�شاق لي�س لهم‬
‫رئي�س لل�سنغال‬ ‫با�سمها طوال الوقت‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫�سوى الدقائق فاغتالوا التفا�صيال‬
‫ونجح في جعلها دولة‬ ‫�أعي�ش في غربة الع�شاق يف�ضحني‬
‫مثقفة‬ ‫قلبي‪� ..‬شقيت وم��ا بي ح ّير الجيال‬ ‫�إنها لغة الجمال الباذخ‪ ،‬وال�صور الم�ؤنقة‬
‫التي يمتاحها من جذوة روحه لتدخل قلوبنا‪� ،‬أنَّ�����ى ا���س��ت��ل��ذ ن���وا� ٌّ‬
‫���س���ي ���س�لاف ه��وى‬
‫�أ�صير كالملك ال�ضليل �ضلي ًال‬
‫ولنلمح الإح��ال��ة الجمالية‬
‫عبر تنا�ص التحويل‪ ،‬التنا�ص‬
‫عبدالأحد الكجوري‬ ‫ال� ��ذي ي ��أخ��ذن��ا ع��ب��ر ال��ت��اري��خ‬
‫يم�سك بناي الروح‬ ‫لي�ستدعى �أبا نوا�س‪ ،‬وامر�أ القي�س‬
‫ويعزف �ألحان‬ ‫وكانه ي�ستلهم مناحة المحبين‬
‫المحبة‬ ‫عبر ال�شعرية العربية‪ ،‬وال�شعراء‬
‫وعلى ر�أ�سهم �أبو نوا�س‪ ،‬وامر�ؤ‬
‫القي�س‪ ،‬و�أبو العتاهية‪ ،‬وب�شار بن‬
‫برد‪ ،‬وغيرهم‪:‬‬
‫محمد المحبوب‬ ‫�سنغور‬

‫‪17‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مبدعون‬

‫من معالم دكار‬


‫ال�شاعر العا�شق‪ ،‬العابد في محرابها‪،‬‬ ‫ذه��ل��ت م��ن و�شمة الحناء �إذ لمحت‬
‫محراب ذاته‪ ،‬ومرافئ روحه المحلقة حول‬ ‫ب��ك��ف��ه��ا‪ ،‬وان���ث���ن���ت م���ازل���ت م��ذه��وال‬
‫جزائر �شعرها المن�ساب‪ ،‬ي�ست�صرخها وهو‬ ‫ف��ك��ل��م��ا خ��ل��ت �أن ال�������ش���وق منطلق‬
‫في بهو الغياب‪ ،‬ال الح�ضور‪ ،‬وينتظرها كي‬ ‫ت��ق��اط��رت ج����ذوة ال��م��ع��ن��ى ق��ن��ادي�لا‬
‫يمتلك مهارة‬ ‫يمنعها من ركوب مركبة النيل لتبحر �إلى ال‬
‫الت�صوير وال�صدق‬ ‫عودة‪ ،‬بل يدعوها �إلى عدم جرح طفل روحه‬ ‫�إنها بهاء ال�صورة‪� ،‬سحر الت�صوير عبر اللغة‬
‫المخبوء ف��ي الكبد‪ ،‬وي�ستميحها ببراءة‬ ‫التي تتمعجن في يديه‪ ،‬وتتجمل عبر حنائها‬
‫في التعبير ويجملها‬ ‫الحب‪� ،‬أن تعود لتجده في بهو الغياب‪ ،‬وعبر‬ ‫لتعيد �صوغ بكارة الحياة‪ ،‬لتنطلق ال�صورة‬
‫برمزية ذات �أ�صالة‬ ‫مرافئ الغربة ينتظرها ب�شوق‪� ،‬إلى العا�شقة‬ ‫والظل مع ًا‪ ،‬فغدا يقر�أ البهاء من ابت�سامتها‬
‫معا�صرة‬ ‫الأخيرة‪ ،‬التي كانت حا�ضرة في الغياب‪،‬‬ ‫ال�صافية العذبة‪.‬‬
‫وغائبة في الح�ضور‪ ،‬لين�سى ويتذكر مع ًا‪،‬‬ ‫وال يخلو ال�شاعر من لطافة في المعنى‪،‬‬
‫ولتهطل لنا غيمة روحه مزن ع�شقها الباذخ‬ ‫وم��ن ب��ذاخ��ة ف��ي الت�صوير‪ ،‬وم��ن �صدق في‬
‫الأثير‪.‬‬ ‫التعابير‪ ،‬ومن تجديدية في الر�ؤية‪ ،‬ومن �أ�صالة‬
‫يك�سوها بمعا�صرة حالمة‪ ،‬عبر قوة تعبيرية‬
‫الحروف وترميزاتها‪ ،‬وعبر ان�سياب هارمونية‬
‫ال�سرد ال�شاعري الدافق عبر ق�صة الحب الخالدة‪،‬‬
‫وال��ف��راق ال��ذي ا�ستدعاه ليعي�ش مع الغائبة‬
‫ح�ضوراً في الغياب‪ ،‬وهي تهطل عليه الحب‬
‫من مزنة قريبة في الروح‪ ،‬لت�ؤجج نيران قلبه‬
‫الموجوع‪ ،‬المقروح‪ ،‬ال�شقي‪ ،‬المقتول‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫عينيك ن��اف��ذة‬ ‫ِ‬ ‫�أراق����ب ال�صبح ف��ي‬
‫وف���ي ال��م�����س��اء �أران�����ي ف��ي��ه مقتوال‬
‫ترمي الهواج�س في جنبي نار جوى‬
‫ول��ي��ت��ه��ا �أر����س���ل���ت ط���ي���ر ًا �أب��اب��ي�لا‬
‫ق��د انتظرتك ف��ي بهو ال��غ��ي��اب وفي‬
‫م��راف��ئ ال��ح��ب ك��ي ال تركبي النيال‬
‫ال تجرحي طفلي المخبوء في كبدي‬
‫الكجوري مع ال�شيخ نوح‬ ‫دع��ي ال��ب��راءة ت�ستق�صي الأباطيال‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪18‬‬


‫أمكنة وشواهد‬
‫جزيرة �أرواد ومدينة طرطو�س‬

‫¯ �سوهاج‪ ..‬مدينة التاريخ والمواويل‬


‫¯ العرائ�ش‪ ..‬مدينة النوار�س والبحارة المردة‬
‫¯ �أرواد‪ ..‬جزيرة الأحالم والأرجوان‬

‫‪19‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وحد «مينا» القطرين‬
‫فيها ّ‬
‫�سوهاج‪..‬‬
‫مدينة التاريخ والمواويل‬
‫�أحداث ًا تاريخية مهمة‪ ،‬بداية من ع�صور ما‬ ‫���س��وه��اج م��ن �أق���دم م��دن ال��ع��ال��م‪ ،‬فهي ح��ا���ض��رة ف��ي كلّ‬
‫قبل التاريخ‪� ،‬إذ ا�ستوطن فيها الم�صري القديم‪،‬‬
‫و�أ�س�س فيها ح�ضارة في منطقة (�أم العقاب)‬
‫�صفحات وع�صور التاريخ‪ ،‬بداية من الفرعوني‪ ،‬م��رور ًا‬
‫بمقابر للأ�سرتين الأول��ى والثانية‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫ب��ال��روم��ان��ي وال��ي��ون��ان��ي والقبطي والإ���س�لام��ي‪ ،‬تنت�شر‬
‫�إلى مركز عبادة �أوزوري�س‪ ،‬وكونها عا�صمة‬ ‫فيها الأدي����رة القبطية‪ ،‬والم�ساجد التاريخية‪ ،‬في‬
‫لم�صر‪ ،‬بعد توحيد مينا للقطرين‪.‬‬ ‫�أغلب مدنها‪ ،‬ما يعك�س الت�سامح بين الأدي��ان‪ ،‬واحتواء‬
‫تحتفل ���س��وه��اج بعيدها ال��وط��ن��ي في‬ ‫عبدالعليم حري�ص‬
‫العا�شر من �أبريل من كل عام‪ ،‬وذلك تخليداً‬
‫ك��اف��ة ال��م��ع��ت��ق��دات ال��دي��ن��ي��ة‪ .‬ت��ق��ع محافظة �سوهاج‬
‫للدور البطولي الذي قام به �أهالي (جهينة)‬ ‫�إح���دى �أه���م الأق��ال��ي��م الم�صرية‪ ،‬ف��ي منت�صف الم�سافة بين القاهرة‬
‫�إح��دى �أب��رز م��دن �سوهاج ال�شمالية‪ ،‬حيث‬ ‫و�أ�سوان تقريباً‪ ،‬ولها تاريخ حافل بالإنجازات‪ ،‬فيكفي �أن خرج منها مينا‬
‫ت�صدوا للحملة الفرن�سية بكل ب�سالة ون�ضال‪،‬‬ ‫(نارمر – مينا) موحد القطرين ال�شمالي والجنوبي‪ ،‬بم�صر القديمة‪.‬‬
‫وت��راج��ع��ت الحملة ول��م ت�ستكمل طريقها‬
‫للجنوب‪ ،‬وه��ذه تعتبر م��ن �أه��م المحطات‬ ‫�إل��ى الأ�سطورة الفرعونية الخالدة (�إيزي�س‬ ‫ويرجع الم�ؤرخون �سبب ت�سمية �سوهاج‪،‬‬
‫التاريخية في المحافظة‪ ،‬ويقال �إن ا�سم‬ ‫و�أوزوري�����س)‪ ،‬وتتكون المحافظة من (‪)12‬‬ ‫و�أغلب مراكزها لأ�سماء فرعونية‪ ،‬كما هو‬
‫(جهينة) ن�سبة �إلى قبيلة جهينة العربية‪ ،‬التي‬ ‫مركزاً‪ ،‬ت�ضم (‪ )12‬مدينة‪ ،‬و(‪� )3‬أحياء‪ ،‬و(‪)51‬‬ ‫الحال في �أخميم وجرجا والبلينا‪ ،‬وت�شتهر‬
‫نزلت م�صر في الع�صر الإ�سالمي‪ ،‬مع جي�ش‬ ‫قرية رئي�سية‪ ،‬و (‪ )270‬قرية تابعة‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�سوهاج بعدة �أ�سماء منها‪ :‬عرو�س النيل‪،‬‬
‫الراية بقيادة عمرو بن العا�ص‪ ،‬وانت�شرت‬ ‫�إلى (‪ )1445‬عزبة ونجع ًا‪ ،‬كما �شهدت �سوهاج‬ ‫وبلد ال��م��واوي��ل‪ ،‬وعا�صمة الأ�ساطير ن�سبة‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪20‬‬


‫مدن‬

‫في �أغلب محافظات م�صر وفي �شمالي �إفريقيا‪.‬‬


‫على الجانب ال�شرقي من النيل تقع �أخميم‪،‬‬
‫�أهم مدن �سوهاج التي عا�ش فيها الملكان( يويا‬
‫وتويا) وال��دا الملكة (ت��ي)‪ ،‬زوجة الملك العظيم‬
‫�أمنحتب الثالث ووالدة �إخناتون‪�( ،‬أول من نادى‬
‫بالتوحيد)‪ ،‬و�أخميم كانت عا�صمة للإقليم التا�سع‬
‫بم�صر القديمة‪ ،‬وتعد مدينة �أخميم من �أهم المدن‬
‫من معالم المدينة‬
‫�سوهاج‪ ،‬والتي تحول اال�سم من مديرية �إلى‬ ‫التاريخية في الع�صر القديم والحديث‪ ،‬و�إليها‬
‫محافظة الح��ق � ًا‪ ،‬وع��رف��ت (ج��رج��ا) ببلد العلم‬ ‫ين�سب المت�صوف (ذو النون الم�صري) �أحد �أهم‬
‫والعلماء‪ ،‬وال�سبب في ذلك �أنه في العام (‪1780‬م)‬ ‫علماء الم�صريين في القرن الثالث الهجري‪،‬‬
‫جاء �إليها ال�شيخ جالل الدين ال�سيوطي‪ ،‬و�أن�ش�أ بها‬ ‫وت�شتهر ب�صناعة المن�سوجات اليدوية‪ ،‬حتى �أطلق‬
‫من �أقدم مدن العالم‬ ‫المعهد العلمي الديني‪ ،‬والذي مازال موجوداً بها‬ ‫عليها لقب مان�ش�ستر ما قبل التاريخ‪ ،‬ن�سبة �إلى‬
‫واكبت التاريخ‬ ‫حتى الآن‪ ،‬كما تعرف بن�شاطها التجاري الكبير‪.‬‬ ‫مان�ش�ستر البريطانية المعروفة بالمن�سوجات‪.‬‬
‫الفرعوني والروماني‬ ‫وتعتبر مدينة (البلينا) من �أقدم مدن م�صر‪،‬‬ ‫�أما مديرية جرجا (�أو والية جرجا في الع�صر‬
‫واليوناني والإ�سالمي‬ ‫ولها تاريخ عريق‪ ،‬و�سميت بعدة �أ�سماء تغيرت‬ ‫العثماني) فتقع في المنت�صف بين القاهرة‬
‫على مر الع�صور‪ ،‬وكانت ت�سمى �أي��ام الفراعنة‬ ‫و�أ�سوان‪ ،‬وهي العا�صمة لمديرية �سوهاج حتى‬
‫(تبلور)‪ ،‬ثم حرف اال�سم في الع�صر الروماني‬ ‫تم نقل المديرية �إلى‬‫عام (‪1960‬م)‪ ،‬ومن ثم ّ‬

‫‪21‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�إلى (تيبوران)‪ ،‬كما ذكر ذلك عدد من الم�ؤرخين‪،‬‬
‫ثم تغير ا�سمها في الع�صر الإ�سالمي �إلى ا�سمها‬
‫الحالي (البلينا)‪ ،‬كما وردت بهذا اال�سم في كتاب‬
‫الإدري�سي (نزهة الم�شتاق في اختراق الآف��اق)‪،‬‬
‫وبقيت على هذا اال�سم الى يومنا هذا‪ ،‬كما ذكرها‬
‫الم�ؤرخ ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)‬
‫با�سم (بلينا)‪ ،‬وذكرها علي مبارك با�شا في‬
‫الخطط التوفيقة با�سم (بليني)‪.‬‬
‫وكان حتى وقت قريب يطلق على (�أبيدو�س)‬
‫قرية العرابة المدفونة؛ لأن �آثارها مدفونة تحت‬
‫معبد �سيتي الأول‬ ‫الرمال‪ ،‬وتم تغيير اال�سم �إلى ا�سمها الحقيقي‪ ،‬وهو‬
‫يوجد جثمانه فى مقبرة بالعرابة المدفونة‬ ‫�أبيدو�س‪ ،‬والتي تعد من القرى الأ�شهر والأعرق‬
‫ومعبده ال�شهير ب�أبيدو�س (�سيتي الأول)‪ ،‬تلك‬ ‫في المحافظة‪ ،‬وفي م�صر‪ ،‬حيث كانت (�أبيدو�س)‬
‫البقعة المقد�سة التي كان يحج �إليها الموتى‬ ‫عا�صمة لم�صر فى ع�صور الأ�سر الأرب��ع الأولى‬
‫الفراعنة للح�ساب عند �أوزوري�س‪.‬‬ ‫للملك (مينا) موحد القطرين؛ فتوحيد م�صر بد�أ من‬
‫وتوارث ال�سوهاجيون ينابيع الحزن والأ�سى‬ ‫البلينا‪ ،‬وكانت �أبيدو�س �أهم المدن‪ ،‬عندما كانت‬
‫منذ ه��ذه الق�صة ال��خ��ال��دة‪ ،‬ال��ت��ي تغلغلت فى‬ ‫م�صر �إمبراطورية تمتد من بالد الرافدين حتى‬
‫�ضمير ال�شعب الم�صري‪ ،‬وخا�صة �أبناء �سوهاج‪،‬‬ ‫المغرب‪ ،‬وانتهاء بمنابع النيل في و�سط �إفريقيا‪.‬‬
‫تقع في منت�صف‬ ‫ارتبط ا�سم �سوهاج ببلد المواويل‪ ،‬ولهذا‬
‫لذلك كان الموال (الأحمر) الذي يعالج م�شاعر‬
‫الم�سافة بين القاهرة‬ ‫الحزن والأ�سى والمر�ض والعلل‪ ،‬وكذلك الموال‬ ‫االرت��ب��اط ج ��ذور ت��اري��خ��ي��ة‪ ،‬فقد ع��رف �أب��ن��اء‬
‫و�أ�سوان و�أهم مدنها‬ ‫(الأخ�ضر) في الحب والع�شق‪ ،‬وهناك الموال‬ ‫المحافظة الموال من �أول نائحة في التاريخ‪،‬‬
‫�أخميم وجرجا‬ ‫(المربع‪ ،‬والمخم�س‪ ،‬والم�سبع‪ ،‬و�أكثر من ذلك)‪.‬‬ ‫وهي �إيزي�س عندما رثت �أوزوري�س‪ ،‬ويقول �أحمد‬
‫وارتبطت المواويل والغناء منذ قديم الزمن ب�أبناء‬ ‫الليثى‪ ،‬كبير باحثي �أطل�س الفولكلور الم�صري‪:‬‬
‫والبلينا‬ ‫تعرف �سوهاج منذ ع�صر الفراعنة الأوائل طقو�س‬
‫المحافظة‪ ،‬فنجد في مو�سم الح�صاد يتبارى‬
‫الفالحون والعمال في ترديد الأغاني والمواويل؛‬ ‫الموت‪ ،‬وت�ستقبلها بالموال منذ �إيزي�س �أول نائحة‬
‫ليمر عليهم يومهم دون �أن ي�شعروا بم�شقة‪ ،‬كما �أن‬ ‫فى التاريخ والتي ندبت زوجها �أوزوري�س‪ ،‬الذي‬

‫التحطيب (الع�صا)‬

‫ميدان وجامع العارف باهلل‬ ‫من الفنون ال�شعبية‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪22‬‬


‫مدن‬

‫�أبناء المحافظة يرددون مواويل في مو�سم الحج‬


‫والأفراح‪ ،‬وحتى الجنائز لها طقو�س خا�صة لدى‬
‫الن�ساء‪ ،‬ولذلك �أطلق على المحافظة بلد المواويل‪.‬‬
‫وع��رف��ت �سوهاج م��ن عمق ال��م��وال ال�سيرة‬
‫الهاللية و�أبدع المحترفون فيها والهواة في �سيرة‬
‫بني هالل على نمط فن المربع‪ ،‬وكان من رواتها‬
‫وروادها‪ :‬جابر �أبو ح�سين‪ ،‬والقليعي‪ ،‬وعبدالبا�سط‬
‫نوح‪ ،‬وعزالدين ن�صرالدين‪ ،‬و�سيد ال�ضوي‪ ...‬وهم‬
‫حمدي �أحمد‬ ‫المن�شاوي‬ ‫�سيد طنطاوي‬ ‫�أبناء �سوهاج‪.‬‬
‫وم��ن �أب��رز الفنون ال�شعبية المنت�شرة في‬
‫�سوهاج لعبة التحطيب (الع�صا) وه��ي اللعب‬
‫بالع�صا للمناف�سة‪ ،‬وت�سمى (لعبة الرجال)‪ ،‬وهي‬
‫اللعبة التراثية الأكثر �شهرة وانت�شاراً في كافة‬
‫احتفاالت الأهالي في �سوهاج وجنوب م�صر‪،‬‬
‫من معالم قرطاج‬ ‫وت��دل على ال�شجاعة والدفاع عن النف�س‪ ،‬كما‬
‫ي�ؤكد الباحثون �أنها من الموروثات الفرعونية‪،‬‬
‫�سجلها الم�صري القديم على جدران المعابد‪،‬‬ ‫التي ّ‬
‫رافع الطهطاوي‬ ‫جمال الغيطاني‬ ‫محمد عبد المطلب‬ ‫وقد اعتمدتها هيئة اليون�سكو العالمية في العام‬
‫(‪2016‬م)‪ ،‬كتراث عالمي غير مادي‪ .‬و ُتلعب في‬
‫وي�ضيق المقام ع��ن ذك��ر �أع�ل�ام محافظة‬ ‫المنا�سبات القومية والتاريخية والدينية‪ ،‬و�شم‬
‫�سوهاج‪ ،‬ومنهم على �سبيل اال�ستدالل‪ :‬المفكر‬ ‫الن�سيم‪ ،‬ووفاء النيل‪ ،‬وت�شتهر في الأفراح وتقام‬
‫رف��اع��ة راف��ع الطهطاوي‪ ،‬م��ن طهطا‪ ،‬وال�شيخ‬ ‫لها عدة مهرجانات‪.‬‬
‫م�صطفى المراغي‪� ،‬شيخ الأزه��ر‪ ،‬وال�شيح محمد‬ ‫وتوجد ب�سوهاج الجامعة التي ب��د�أت في‬
‫�سيد طنطاوي‪� ،‬شيخ الأزه� ��ر‪ ،‬وال�شيخ محمد‬ ‫العام (‪1971‬م) بكلية التربية‪ ،‬ومن ثم ا�ستقلت‬
‫ارتبط ا�سم �سوهاج‬ ‫�صديق المن�شاوي‪ ،‬و�أخ���وه محمود م��ن ق��راء‬ ‫عن جامعة �أ�سيوط‪ ،‬وجامعة جنوب الوادي بقنا‬
‫بالمواويل منذ �أول‬ ‫القر�آن الكريم الم�شاهير‪ ،‬و�سامح عا�شور‪ ،‬نقيب‬ ‫في العام (‪2006‬م)‪� ،‬إلى جانب عدد من كليات‬
‫نائحة في التاريخ‬ ‫المحامين ال�سابق‪ ،‬وفي مجال الأدب قدمت جمال‬ ‫الأزهر ال�شريف‪ ،‬والجامعات الخا�صة‪ ،‬والم�شاريع‬
‫الغيطاني‪ ،‬وعبدالعال الحمام�صي‪ ،‬وال�شاعر محمد‬ ‫ال�صناعية الكبرى‪ ،‬كما هو الحال في حي الكوثر‪،‬‬
‫حين ندبت �إيزي�س‬ ‫عبدالمطلب‪ ،‬والمخرج عاطف الطيب‪ ،‬والفنان‬ ‫و�سوهاج الجديدة‪ ،‬والكوامل وغيرها من المدن‬
‫زوجها �أوزوري�س‬ ‫ج��ورج �سيدهم‪ ،‬وحمدي �أحمد‪ ،‬ونادية لطفي‪،‬‬ ‫التجارية وال�صناعية‪ ،‬التي تنت�شر في �أرج��اء‬
‫والمو�سيقار بليغ حمدي‪ ،‬ومحمد عبدالحميد‬ ‫المحافظة‪ ،‬وكذلك الأ�سواق القديمة (القي�سارية)‪،‬‬
‫ر�ضوان وزير الثقافة ال�سابق‪ ،‬وح�شمت �أبو�ستيت‪،‬‬ ‫والم�سرح الروماني ب�سوهاج‪ ،‬وجزيرة الزهور‪،‬‬
‫الخبير الد�ستوري والقانوني المعروف‪ ،‬والدكتور‬ ‫ومتحف �سوهاج القومي‪ ،‬والجامع ال�صيني‪،‬‬
‫عزالدين عمر �أبو�ستيت‪ ،‬وزير الزراعة ال�سابق‪.‬‬ ‫وم�سجد الأمير ح�سن‪ ،‬والآث��ار القبطية كالدير‬
‫الأبي�ض‪ ،‬والدير الأحمر‪.‬‬
‫وت�����ش��ه��د ���س��وه��اج ح��رك��ة‬
‫عرفت �سوهاج من‬ ‫�أدب ��ي ��ة وم�����س��رح��ي��ة وثقافية‬
‫عمق ال�سيرة الهاللية‬ ‫ك��ب��رى‪ ،‬والمتمثلة ف��ي ق�صور‬
‫و�أبدع المحترفون‬ ‫الثقافة‪ ،‬المنت�شرة في �أغلب مدن‬
‫فيها �إلى جانب لعبة‬ ‫المحافظة‪ ،‬والتي قدمت للحركة‬
‫الأدبية الم�صرية والعربية الكثير‬
‫الرجال (التحطيب)‬ ‫من الأ�سماء في �شتى �صنوف‬
‫الأدب‪� ،‬إلى جانب فرقة �سوهاج‬
‫للفنون ال�شعبية‪ ،‬التي ت�شارك في‬
‫الكثير من المهرجانات الأدبية‪،‬‬
‫داخل م�صر وخارجها‪.‬‬
‫ميدان الثقافة‬

‫‪23‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫تال�شى دورها برغم �أهميتها‬


‫هرمز‪..‬‬
‫المملكة التي �سقطت من التاريخ‬
‫د‪ .‬محمد �صابر عرب‬
‫كل �أ�سواق العالم‪ ،‬لذا فهي بحق مدينة عظيمة)‪.‬‬ ‫�شغل الخليج العربي �أهمية كبيرة في كتابات‬
‫وف��ي منت�صف ال��ق��رن ال��راب��ع ع�شر‪ ،‬زاره��ا‬ ‫الم�ؤرخين والجغرافيين العرب والأجانب‪� ،‬سواء‬
‫اب��ن بطوطة‪ ،‬في رحلته ال�شهيرة �إل��ى الخليج‪،‬‬ ‫في الع�صور الإ�سالمية �أو في التاريخ الحديث‪،‬‬
‫و�أ�شاد ب�أهميتها االقت�صادية و�أ�سواقها الرائجة‪،‬‬ ‫وبحكم �أهمية الخليج في حركة التجارة العالمية‪،‬‬
‫وهي مر�سى الهند وال�سند‪ ،‬ومنها تنقل التجارة‬ ‫�أو في ظهور ممالك لعبت دوراً �سيا�سي ًا وح�ضاري ًا‪،‬‬
‫�إل��ى العراق وفار�س وخرا�سان‪ .‬كما كتب عنها‬ ‫ثم تراجع دورها مع مقدم البرتغاليين في بداية‬
‫الأب راينل (‪ ،)Raynel‬عند زيارته للخليج في‬ ‫القرن ال�ساد�س ع�شر‪ ،‬وفي خ�ضم هذه الأحداث لم‬
‫نهاية القرن الرابع ع�شر في مهمة غام�ضة ربما‬ ‫تحظَ مملكة (هرمز) من الم�ؤرخين‪ ،‬ما يتنا�سب‬
‫لم تجد من‬ ‫تب�شيرية‪ ،‬وقد �أ�شاد ب�أهميتها قائ ًال‪ ( :‬لقد �أ�صبحت‬ ‫ودوره���ا الح�ضاري واالقت�صادي ف��ي تاريخ‬
‫الم�ؤرخين‬ ‫هرمز عا�صمة لإمبراطورية ت�شمل جزءاً كبيراً من‬ ‫الخليج العربي‪ ،‬برغم ما كتبه الرحالة عن هذه‬
‫االهتمام الذي يليق‬ ‫بالد العرب‪ ،‬وجزءاً �آخر من فار�س‪ ،‬والتجار يفدون‬ ‫الجزيرة ال�صغيرة‪ ،‬التي ف��اق مو�ضعها كثيراً‬
‫بدورها الح�ضاري‬ ‫�إليها من كل بالد العالم يتبادلون �سلعهم ويرتبون‬ ‫موقعها الجغرافي‪.‬‬
‫�أ�شغالهم بمنتهى الأدب واللياقة‪ ،‬و�شوارع المدينة‬ ‫كتب الم�ؤرخون عن �أهمية مدينة (�سيراف)‬
‫واالقت�صادي‬ ‫مغطاة بالح�صر‪ ،‬وفي بع�ض الحاالت بالب�سط‬ ‫كواحدة من �أه��م المراكز التجارية في ال�شرق‬
‫والتاريخي‬ ‫للوقاية من ح��رارة ال�شم�س‪ ،‬والبيوت تزينها‬ ‫منذ القرن العا�شر الميالدي‪ ،‬وحتى نهاية القرن‬
‫مزهريات وتحف من الهند وال�صين‪ ،‬والزهور‬ ‫الثاني ع�شر‪� ،‬إل��ى �أن دهمها المغول و�أحالوها‬
‫العطرية متناثرة في كل مكان‪ ،‬وماء ال�شرب يقدم‬ ‫�إلى �أطالل‪ ،‬وبهذه النهاية الم�أ�ساوية فقد انتقل‬
‫�إلى النا�س في ال�ساحات العامة)‪.‬‬ ‫الن�شاط ال��ت��ج��اري �إل��ى مدينة هرمز القديمة‬
‫وفق رواية نوران �شاه الذي حكم هرمز عام‬ ‫على ال�ساحل الفار�سي‪� ،‬إال �أنها لم تجذب �إليها‬
‫(‪١٥١٦‬م)‪ ،‬ي�شير �إلى �أن م�ؤ�س�س هذه المدينة �شيخ‬ ‫التجار كما كان عليه الحال في �سيراف‪ ،‬ما دفع‬
‫عربي وفد من عمان �إل��ى فار�س‪ ،‬ثم انتقل �إلى‬ ‫بحاكمها (�شهاب الدين) �إلى االنتقال �إلى جزيرة‬
‫هرمز و�أ�س�س بها هذه المملكة‪ ،‬وت�شير درا�سات‬ ‫�أخ��رى �أطلقوا عليها ا�سم بلدهم الأول (هرمز)‪،‬‬
‫�أخرى فار�سية �إلى ما قال به نوران �شاه حينما‬ ‫التي تزاحم عليها التجار من العرب والهنود‬
‫كان الق�سم ال�شرقي من الخليج (ميناب وعمان‬ ‫والأوروبيين و�سفنهم محملة بالعاج والتوابل‬
‫في نهاية القرن‬ ‫وهرمز) تحت �سيطرة حكام عرب اتخذوا من هرمز‬ ‫والأقم�شة الحريرية‪ ،‬وخ�لال فترة ق�صيرة لم‬
‫الثاني ع�شر كانت‬ ‫عا�صمة لهم‪ ،‬وهم من �ساللة الأَ�سد العمانيين‪،‬‬ ‫تتجاوز عقدين في نهاية القرن الثاني ع�شر‪ ،‬كانت‬
‫(هرمز) قد جذبت‬ ‫وكان �أميرهم (محمد)‪ ،‬وقد �ضرب العملة با�سمه‪،‬‬ ‫هرمز الجديدة قد ا�ستطاعت �أن تلعب دوراً عظيم ًا‬
‫ل��ذا لقب بـ(محمد دره ��م)‪ ،‬وكتب الجغرافيون‬ ‫في حركة التجارة العالمية‪ ،‬لدرجة �أنها لم تجذب‬
‫�إليها التجار والرحالة‬ ‫الم�سلمون كالأ�صطخري والمقد�سي والإدري�سي‪،‬‬ ‫�إليها التجار فقط‪ ،‬بل جذبت �إليها الرحالة من كل‬
‫من كل بالد العالم‬ ‫حينما قالوا ب�أن المدينة تتميز بطابعها العالمي‪،‬‬ ‫بالد العالم‪ ،‬بعد �إن ذاعت �شهرتها؛ فقد زارها في‬
‫ف�سكانها خليط من كل الجن�سيات‪ ،‬تجار من‬ ‫نهاية القرن الثالث ع�شر الرحالة الإيطالي ال�شهير‬
‫ف��ار���س‪ ،‬والهند‪ ،‬وبلو�ش�ستان‪ ،‬و�أت���راك‪ ،‬وعرب‬ ‫(‪ ،)Marco plo‬وقد �سجل انطباعاته عنها قائ ًال‪:‬‬
‫و�أوروبيين‪� ،‬إلى درجة �أن المدينة بدت وك�أنها‬ ‫(يفد التجار �إلى هرمز و�سفنهم محملة بالتوابل‬
‫تجمع عالمي‪ ،‬برغم احتفاظها بطابعها العربي‬ ‫والأحجار الثمينة والعاج والأقم�شة الحريرية‪،‬‬
‫الإ�سالمي‪ ،‬وقد قدر عدد �سكانها ب�أربعين �ألفا‬ ‫ثم يتولى تجار هرمز نقل تلك الب�ضائع �إلى‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪24‬‬


‫�أ�سئلة‬

‫قدم �إلى هرمز قائد برتغالي جديد (ليتاكو تنهو)‬ ‫من كل الجن�سيات والديانات‪ ،‬وقد تمكن �سكان‬
‫‪ ،Leitacoutinho‬مبعوث ًا من حكومة مدريد‪ ،‬بعد‬ ‫هرمز من �أن ي�صنعوا لأنف�سهم كيان ًا م�ستق ًال‬
‫�أن توحدت البرتغال و�إ�سبانيا في دولة واحدة‪،‬‬ ‫عن فار�س‪ ،‬بعد �أن امتلكوا قوة بحرية �ضاربة‪،‬‬
‫وكتب ليتاكو تقريراً عن �أحوال هرمز قائ ًال (لقد‬ ‫تمكنوا بموجبها من فر�ض الأم��ن في الخليج‪،‬‬
‫و�صلت الق�سوة بالقادة البرتغاليين على الأهالي‪،‬‬ ‫�إل��ى درج��ة �أن البرتغاليين ت ��رددوا كثيراً في‬
‫�إلى حد �أن اعتبروا �أنف�سهم بمثابة �آلهة‪ ،‬وتركوا‬ ‫مهاجمة الجزيرة‪ ،‬ب�سبب ا�ستحكاماتها المنيعة‬
‫واجبهم الحقيقي واتجهوا �إلى مزاولة التجارة‪،‬‬ ‫و�سفنها الرا�سية بمحاذاة ال�ساحل‪ ،‬وهي في كامل‬
‫زارها الرحالة‬ ‫وك��ان��وا يجبرون التجار على �شراء ب�ضائعهم‬ ‫ا�ستعدادها لمواجهة �أي عدو قادم‪.‬‬
‫الإيطالي ال�شهير‬ ‫بفوائد يحددونها ب�أنف�سهم‪ ،‬لذا تقل�صت �إيرادات‬ ‫مع نهاية الع�صور الو�سطى‪ ،‬ات�سع ن�شاط‬
‫(ماركو بولو)‬ ‫الجمارك)‪.‬‬ ‫الجزيرة حتى �أ�صبحت حلقة الو�صل بين ال�شرق‬
‫وابن بطوطة‬ ‫في ع��ام (‪١٦٠٠‬م)‪ ،‬ت�أ�س�ست �شركة الهند‬ ‫والغرب‪ ،‬فقد و�صلت تجارتها �إلى �أوروبا عبر دجلة‬
‫ال�شرقية الإنجليزية‪ ،‬بعد �أن عجز البرتغاليون عن‬ ‫والفرات‪ ،‬و�صو ًال �إل��ى حلب على البحر الأبي�ض‬
‫�أ�شاد ب�أهميتها‬ ‫حماية ممتلكاتهم المترامية‪ ،‬وقد فقدت (هرمز)‬ ‫المتو�سط‪ ،‬الذي كان ي�سيطر على تجارته تجار من‬
‫االقت�صادية‬ ‫�أهميتها العالمية‪ ،‬وبد�أت التجارة العالمية ت�سلك‬ ‫جنوا والبندقية‪ ،‬وقد عرفها الأوروبيون باعتبارها‬
‫وازدهارها التجاري‬ ‫طريق ًا بري ًا يبد�أ من الهند فقندهار عبر �أفغان�ستان‪،‬‬ ‫نموذجا للغنى وال��ث��راء‪ ،‬وق��د �أ�شاد بها ال�شاعر‬
‫ومنها �إلى فار�س ف�أوروبا‪ ،‬وان�صرف التجار عن‬ ‫الإنجليزي (جون ملتون) في ديوانه (الفردو�س‬
‫هرمز‪ ،‬بعد �أن قطع الإنجليز والهولنديون �شوط ًا‬ ‫المفقود)‪ ،‬حينما �أورد بيت ًا من ال�شعر‪�( :‬إذا كان‬
‫كبيراً في تدعيم نفوذهما في الخليج‪ ،‬بينما‬ ‫العالم مجرد خاتم ف�إن هرمز جوهرته الغالية)‪.‬‬
‫تدهور دور البرتغاليين‪ ،‬لذا راح ال�شاه عبا�س‪،‬‬ ‫مع نهاية القرن الخام�س ع�شر الميالدي‪،‬‬
‫الذي كان قد تولى الحكم (‪١٥٨٧‬م)‪ ،‬يعمل على‬ ‫كان ال�ضعف قد بد�أ يدب في كيان هرمز ب�سبب‬
‫ا�ستعادة هرمز من خالل تحالفه مع الإنجليز‪.‬‬ ‫ال�صراع بين �سكانها‪ ،‬مما دفع القبائل العربية‬
‫�أب��رم ال�شاه مع الإنجليز اتفاقية (ميناب‬ ‫على ال�سواحل ال�شرقية للجزيرة �إلى التخل�ص من‬
‫‪١٦٢٢‬م)‪ ،‬وقد ت�ضمنت م�ساهمة الفر�س بن�صف‬ ‫تبعيتهم لهرمز‪ .‬وكانت ال�صراعات في البحرين‬
‫العمليات الع�سكرية‪ ،‬بعدها تق�سم الغنائم بين‬ ‫والأح�ساء تتفاقم بين بني جبر‪ ،‬بينما كانت‬
‫تغ ّنى بها ال�شاعر‬ ‫الطرفين‪ ،‬على �أن يت�سلم الإنجليز قلعة هرمز بكل‬ ‫الأو�ضاع في عمان تزداد ا�ضطراب ًا بين �سكان‬
‫الإنجليزي جون‬ ‫ما بداخلها من �أ�سلحة ومعدات‪ ،‬وقد انطلقت ال�سفن‬ ‫ال�ساحل والداخل‪ ،‬الذي كان تحت حكم النباهنة‪،‬‬
‫الإنجليزية والفار�سية قا�صدة هرمز‪ ،‬وقد توا�صل‬ ‫وقد تفاقم ال�صراع على �أ�شده فيما بينهم‪.‬‬
‫ملتون واعتبرها‬ ‫البرتغاليون �سراً بالإنجليز لي�سلموا �أنف�سهم �إليهم‪،‬‬ ‫عند مقدم البرتغاليين (‪١٥٠٧‬م)‪ ،‬كانت‬
‫الفردو�س المفقود‬ ‫وفي (‪� ٢٣‬أبريل ‪١٦٢٢‬م)‪� ،‬أنزل العلم البرتغالي‬ ‫(هرمز) تترنح ب�سبب االنق�سامات الداخلية‪ ،‬ورغم‬
‫من على قلعة هرمز‪.‬‬ ‫ذلك فقد تردد البرتغاليون في اقتحامها‪ ،‬لكنهم‬
‫لم يتحم�س ال�شاه عبا�س‪ ،‬لعودة (هرمز)‬ ‫بعد �أن ق�ضوا على المماليك في المحيط الهندي‪،‬‬
‫كمدينة م��زده��رة تمار�س دوره��ا في التجارة‬ ‫�أعاودوا هجومهم مرة �أخرى عام (‪١٥١٥‬م)‪ ،‬وكان‬
‫العالمية كما كان عليه الحال من قبل‪ ،‬بعد �أن‬ ‫هجوم القوات البرتغالية بمثابة هجوم الجياع‬
‫جردت المدينة من كل جمالها‪ ،‬واختار ال�شاه بد ًال‬ ‫على م�ستودعات التموين‪ ،‬وق��د خاطب القائد‬
‫منها مدينة (جمبرون) بعد �أن �أطلق ا�سمه عليها‬ ‫البرتغالي البوكيرك قائ ًال لهم (�إما االنت�صار‪� ،‬أو‬
‫(بندر عبا�س)‪ ،‬ولم يعد في هرمز �سوى �أطالل‬ ‫يقطع الم�سلمون رقابكم)‪ ،‬بعدها �أحدثت المدفعية‬
‫فقدت �أهميتها‬ ‫مهدمة‪ ،‬وقلعة قديمة‪� ،‬إنها ق�صة مدينة تال�شى‬ ‫البرتغالية خ�سائر مروعة‪ ،‬ولم ي�ستطع حاكم‬
‫العالمية مع ت�أ�سي�س‬ ‫دورها‪ ،‬و�أخرى (بندر عبا�س) بد�أ دورها في حركة‬ ‫الجزيرة (�سيف الدين) مواجهة ع��دوه‪ ،‬لذا �أعلن‬
‫التجارة العالمية‪.‬‬ ‫اال�ست�سالم‪� .‬إال �أن البرتغاليين ان�شغلوا بم�شاكل‬
‫�شركة الهند ال�شرقية‬
‫�إن الدرو�س الم�ستفادة من هذه الق�صة‪ ،‬هي‬ ‫الهند وتدهورت �أح��وال هرمز التجارية ب�سبب‬
‫وتغيير خطوط‬ ‫�أن التاريخ يم�ضي على هواه‪ ،‬حيث تتوارى مدن‬ ‫ق�سوة البرتغاليين في تعاملهم مع الأهالي‪.‬‬
‫التجارة العالمية‬ ‫وت�شيد �أخرى في �سياق منتظم‪ ،‬في نف�س الحقبة‬ ‫َّ‬ ‫تفاقمت كراهية ال��ع��رب للبرتغاليين في‬
‫التاريخية التي �شهدت ازدهار مدن �أوروبية‪ ،‬لم‬ ‫كل �شواطئ الخليج‪ ،‬ب�سبب ق�سوتهم في جباية‬
‫يكن لها دور في التاريخ الو�سيط‪ ،‬كلندن وباري�س‬ ‫ال�ضرائب‪ ،‬كما اتجه البرتغاليون �إلى ال�سيطرة على‬
‫وغيرهما من عوا�صم المدن الأوروبية‪ ،‬لكن تظل‬ ‫البحرين والأح�ساء والقطيف وغيرها من المناطق‪،‬‬
‫)هرمز) واحدة من الكيانات الكبيرة‪ ،‬التي التزال‬ ‫التي كانت تابعة لهرمز‪ ،‬ولم ي�ست�سلم الأهالي‬
‫في حاجة �إلى الكتابة عنها من جانب الم�ؤرخين‪.‬‬ ‫رغ��م ق�سوة البرتغاليين‪ ،‬وف��ي ع��ام (‪١٥٩٨‬م)‪،‬‬

‫‪25‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫جوهرة المحيط الأطل�سي‬

‫العرائ�ش‬
‫مدينة النوار�س والبحارة المردة‬
‫هي مدينة الياب�سة والبحر‪ ،‬هي مدينة الزرقة البحرية والخ�ضرة‬
‫و�س)‬
‫الأر�ضية والبيا�ض المتلألئ ال�صوفي‪ ،‬ما بين منعرجات وادي (ال ِّلك ُْ�س ِ‬
‫وه�ضبة ال�شرفة الأطل�سية‪ .‬هي مدينة النوار�س وال�سمك والبحارة‬
‫وق��وارب ال�صيد العتيق والمنارة‪ ،‬مدينة الرومان واليونان والفينيق‪،‬‬
‫مدينة ال�ساحل والأبراج والمنجنيق‪ ،‬هي مدينة العرائ�ش المغربية‪� ،‬أو‬
‫�إليا�س الطريبق‬
‫كما �أطلق عليها م�ستوطنوها في الع�صور القديمة من قبل (لك�سو�س)‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪26‬‬


‫�أماكن‬

‫من �أقدم و�أهم الموانئ التي تزخر بثروة �سمكية‬ ‫على ُبعد ب�ضعة كيلومترات �شمالي المدينة‪،‬‬
‫هائلة وتاريخ مالحي عتيد‪ ،‬كما ت�شتهر �أحوازها‬ ‫تح�صنت (لك�سو�س) ب�أ�سيجة �أ�سرارها‪ ،‬واحتمت‬
‫ب�إنتاج فواكه التين والعنب والبطيخ والكروم‪،‬‬ ‫بالحديد والتراب لل�صد عن �إرثها الدفين‪ ،‬الذي‬
‫و�صنوف �أخ��رى كثيرة من الفواكه المو�سمية‬ ‫يعود �إل��ى �آالف ال�سنين‪ ،‬وهنا حيث تعاقبت‬
‫وغير المو�سمية لوفرة مائها وخ�صوبة �أرا�ضيها‪.‬‬ ‫�سائر الح�ضارات من الإمبراطورية الفينيقية �إلى‬
‫تعاقبت عليها‬ ‫وهي مدينة �شاطئية بامتياز �أي�ض ًا‪ ،‬حيث‬ ‫الإمبراطورية الرومانية فالعهد الإ�سالمي‪ .‬لم‬
‫�سائر الح�ضارات‬ ‫ت�شتهر ب�شاطئها الخالب (‪)playa pelegrosa‬‬ ‫يبق من (اللك�سو�س) اليوم �إال بقايا الزمن الداثر‬
‫الفينيقية‬ ‫وتعني بالإ�سبانية الخطيرة‪� ،‬سميت كذلك‬ ‫الجميل‪ ،‬حيث ت�صور لنا الخريطة الطوبوغرافية‬
‫والرومانية‬ ‫لخطورة �أمواجها وعلوها الكبير الذي يفوق طوله‬ ‫على م�صب نهر (لك�سو�س) بع�ض الآث��ار التي‬
‫وواجهت الكثير‬ ‫مترين كاملين‪ ،‬بحيث يجعل من متعة ال�سباحة‬ ‫التزال حية و�شاهدة على حدائق التفاح الذهبي‬
‫فيه متعة م�ضاعفة‪ ،‬ف�ض ًال عن رماله الذهبية‬ ‫والحياة الزاخرة لما يعرف في المدونة التاريخية‬
‫من الحروب‬ ‫النا�صعة النظيفة‪.‬‬ ‫بالمغرب القديم‪ ،‬الذي تك�شف الأركيولوجيا يوم ًا‬
‫والغزوات‬ ‫ت�شتهر مدينة العرائ�ش �أي�ض ًا بقوارب ال�صيد‬ ‫بعد يوم عن بع�ض مالمح �أوجهه ال�ضائعة‪.‬‬
‫وال�سفن البحرية‪ ،‬التي تمخر عباب الأطل�سي‪،‬‬ ‫�أما اليوم فمدينة العرائ�ش هي مدينة �ساحلية‬
‫وهي عند خروجها من مرف�أ ال�صيد وقت غروب‬ ‫على �ضفاف المحيط الأطل�سي‪ ،‬تبعد عن عرو�س‬
‫ال�شم�س‪ ،‬ت�شكل منظراً هائ ًال لزوارها ومرتاديها‪،‬‬ ‫ال�شمال مدينة (طنجة) بخم�سة و�سبعين كم‪،‬‬
‫خ�����ص��و���ص� ًا ع��ن��د ن��ق��ط��ة ال�����ش��رف��ة الأط��ل�����س��ي��ة‪،‬‬ ‫وعن مدينة (�أ�صيلة) ب�أربعين كم‪ .‬يعد مينا�ؤها‬

‫‪27‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أو ما يطلق عليها (‪ )Balcon Atlantico‬حيث‬
‫تجتمع ال�ساكنة لي ًال على �أن��غ��ام الفالمينكو‬
‫والمو�سيقا الأندل�سية‪ ،‬يخيطون �أنغام الم�ساء‬
‫على �إيقاعات البحر وروائح الملوحة البحرية‪.‬‬
‫لكن هنالك ق��وارب من نوع �آخ��ر‪ ،‬هذه القوارب‬
‫تعمل بمجدافين اثنين‪ ،‬تتجلى وظيفتها في نقل‬
‫الم�صطافين من الياب�سة �إلى البحر عابرة بذلك‬
‫حو�ض م�صب (اللك�سو�س) الذي يف�صل ال�شاطئ‬
‫عن المدينة قبل �أن تتطور لتعمل با�ستخدام‬
‫ال�شاعر مح�سن �أخريف‬ ‫جان جينيه توفي في مدينة العرائ�ش‬ ‫م��ح��رك��ات ن��ف��اث��ة‪ .‬وم��ن ال��م ��أك��والت ال�شعبية‬
‫الرياح الغربية القادمة من البحر ومنظر الغروب‬ ‫(غ��ل� َا ْل) وهو‬
‫الرخي�صة المنت�شرة بالمدينة ُ‬
‫الفاتن الآ�سر‪.‬‬ ‫حلزون م�سلوق مطهو بخلطة الأع�شاب الطبية‬
‫لمدينة العرائ�ش تراث �إيبيري �أندل�سي خلفه‬ ‫مثل الزعتر والنعناع البري و�إكليل الجبل وعرق‬
‫الوجود الإ�سباني في المدينة‪ ،‬ابتداء من �سنة‬ ‫و(كلي ْن ِتي ‪� )Caliente‬أي�ض ًا‪،‬‬
‫ال�سو�س وغيرها‪َ ،‬‬
‫(‪1911‬م)‪ ،‬وهو التراث الإن�ساني الذي يتجلى‬ ‫وهي �أكلة ابتكرها في �شمال �إفريقيا من قدموا‬
‫في الم�سحة التجديدية التي �ستعرفها المدينة من‬ ‫من الأندل�س وتتكون من دقيق الحم�ص والزيت‬
‫قال عنها الملك‬ ‫خالل عمارتها وتخطيط طرقاتها وهند�ستها‪،‬‬ ‫والبي�ض والحليب‪ ،‬بحيث ال ت�ضاهي �شعبيتها �أي‬
‫فيليبي الثاني �إنها‬ ‫وبع�ض الأل��ف��اظ ال��دارج��ة ف��ي اللغة المحكية‬ ‫�أكلة �شعبية �أخرى‪ ،‬والحم�ص الم�سلوق والبطاطا‬
‫وحدها ت�ساوي‬ ‫ل�ساكنتها وطبائعهم‪.‬‬ ‫إي�لادو ‪ )helad‬هو الآي�س كريم‪،‬‬ ‫الم�سلوقة وال ُ‬
‫التزال �إلى اليوم بع�ض البنايات التي كانت‬ ‫وحبوب البيبا (‪ )pipas‬وهي بذور دوار ال�شم�س‬
‫�إفريقيا ب�أ�سرها‬ ‫تلعب دورها الديني والتعليمي والإداري ماثلة‬ ‫المقلية‪ ،‬كلها من الم�أكوالت ال�شعبية الرخي�صة‬
‫للعيان‪ ،‬فعلى الم�ستوى الإداري نخ�ص بالذكر‬ ‫التي ب�إمكان �سياح المدينة وزوارها في ف�صل‬
‫مبنى قيادة المهند�سين الذي يحتفظ لنا �أر�شيف‬ ‫ال�صيف �أن يتناولوها عند �ساحة التحرير‪� ،‬أو‬
‫المدينة ببع�ض �صوره والمعلومات عنه بعد �أن‬ ‫�ساحة (‪� )España‬سابق ًا �أو بال�شرفة الأطل�سية‬
‫تعر�ض للهدم في وقت �سابق‪ ،‬هذا المبنى الذي‬ ‫�أو ب�أي مكان �آخر بالمدينة م�ستمتعين بن�سائم‬

‫مالمح و�إطالالت للعرائ�ش‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪28‬‬


‫�أماكن‬

‫من معالم المدينة‬


‫لم�صلحته و�أ�صبحت دولة البرتغال تحت �سيادة‬ ‫�شكل مقراً �إداري�� ًا للمهند�سين الم�ستقطبين من‬
‫�إ�سبانيا لمدة ثالث وت�سعين �سنة‪.‬‬ ‫�إ�سبانيا لإن�شاء م�شاريعهم بمدينة العرائ�ش‪ ،‬وقد تم‬
‫وتخليداً لهذا االنت�صار العظيم للمغاربة‬ ‫�إن�شا�ؤه خالل �سنة (‪1915‬م �إلى ‪1917‬م) من قبل‬
‫وجي�شهم في المعركة‪� ،‬أمر �أحمد المن�صور الذهبي‬ ‫وزارة الأ�شغال العمومية الإ�سبانية‪ ،‬ليتحول مكانه‬
‫ببناء ح�صن الفتح ذي الأبراج العاتية الم�صاقبة‬ ‫حالي ًا �إلى �ساحة الم�سيرة المحاذية لق�صر البلدية‪.‬‬
‫لأم��واج المحيط الأطل�سي‪ ،‬على ه�ضبة مرتفعة‬ ‫وللتعرف �أكثر �إلى هذا الموروث الإن�ساني‪،‬‬
‫لديها تراث �أندل�سي‬ ‫�شمالي المدينة‪ ،‬ثم ح�صن الن�صر الذي �سيتحول‬ ‫تكفيك �إطاللة على �ساحة التحرير‪ ،‬التي تحيط‬
‫�إن�ساني يتجلى في‬ ‫فيما بعد �إل��ى معر�ض لل�صور الفوتوغرافية‪،‬‬ ‫بها البنايات الأوروبية من كل جهة في موازاة‬
‫معمارها و�شخ�صية‬ ‫وم�سرح للمهرجانات المو�سيقية بقلب المدينة‬ ‫مع المدينة الإ�سالمية‪ ،‬التي ال تختلف كثيراً عن‬
‫العتيقة التي ت�شرف على البحر‪.‬‬ ‫�سائر المدن العتيقة المغربية‪ ،‬بق�صبتها المطلة‬
‫�سكانها‬
‫هذه هي مدينة العرائ�ش‪ ،‬لقبت كذلك ن�سبة‬ ‫على البحر و�أبوابها المتعددة و�أقوا�سها‪ ،‬دروبها‬
‫�إلى عرائ�ش العنب والكروم‪ ،‬التي كانت منت�شرة‬ ‫و�أزقتها المتقاطعة والملتوية في �شبه متاهة‬
‫بباديتها بمحاذاة نهر (اللك�سو�س)‪ ،‬هذا النهر‬ ‫�سحرية خالبة‪.‬‬
‫ال��ق��ادم م��ن �أق��ا���ص��ي ج��ب��ال ال��ري��ف بمحاذاة‬ ‫العرائ�ش‪ ،‬معروفة �أي�ض ًا بتاريخها الحافل‬
‫(�شف�شاون) دائم الجريان‪ ،‬هو النقطة التي تف�صل‬ ‫في الجهاد البحري‪� ،‬ضد الحمالت ال�صليبية‬
‫البحر عن الياب�سة‪ ،‬وفي نف�س الوقت ي�صل البحر‬ ‫القادمة من �شبه الجزيرة الإيبيرية؛ تاريخ‬
‫بالمدينة‪.‬‬ ‫مطبوع بال�صراع الطويل والتناف�س الح�ضاري‬
‫وه��دو�ؤه��ا الباعث على ال�شعور بالرخاء‬ ‫الم�ستمر‪ ،‬فهي المدينة التي ق��ال عنها الملك‬
‫ت�شتهر ب�أنها مدينة‬ ‫والطم�أنينة‪ ،‬يجعل منها مدينة رحيمة ب�ساكنيها‪،‬‬ ‫فيليبي الثاني في �سياق حملته على العرائ�ش‬
‫التفاح والكروم‬ ‫برغم تمنعها على ال ��دوام في وج��ه الكائدين‬ ‫قبل ا�ستيالئه عليها �سنة (‪1610‬م)‪�(:‬إنها وحدها‬
‫وتجمع بين الريف‬ ‫لها ومكر التاريخ و�إجحافه‪ ،‬وقد ظلت تحتمي‬ ‫ت�ساوي �إفريقيا كلها)؛ جملة كفيلة ب�أن تبين لنا‬
‫وال�ساحل‬ ‫ب�أ�سطورتها ال�ضاربة في جذور الزمان ال�سحيق‪،‬‬ ‫حجم المدينة في ذلك الوقت وحجم ال�صراع الدائر‬
‫ال تكل �أمواج البحر وال تمل في روايتها حكايتها‬ ‫حولها فيما بين الجنوب الإ�سالمي وال�شمال‬
‫الطويلة للعابرين بها قبل المقيمين‪ ،‬هي مدينة‬ ‫الم�سيحي‪ .‬هي المدينة التي �شهدت �أي�ض ًا �سنة‬
‫ي�شي لونها الأزرق والأبي�ض وهوا�ؤها باعتدال‬ ‫(‪1578‬م) المعركة ال�شهيرة التي دارت بين‬
‫مناخها ورونق العي�شة المتو�سطية بها ب�سحرها‬ ‫جي�ش محمد المتوكل ال�سلطان المغربي وجي�ش‬
‫الخا�ص المتمثل في ال�سلم والمهادنة ال�صادقة‪،‬‬ ‫�سيبا�ستيان ملك البرتغال وتحديداً في وادي‬
‫على رغ��م تاريخها الحافل بال�صراع الطويل‬ ‫المخازن ال��وادي الذي �سميت المعركة با�سمه؛‬
‫الحافل باالنت�صارات‪.‬‬ ‫معركة ح�سم فيها الجي�ش المغربي االنت�صار‬

‫‪29‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫قراءة م�ضيئة في‬


‫«المقامات النظرية»‬ ‫محمد نجيب قدورة‬
‫لم�ؤلفها �أبي بكر مح�سن باعبود الح�ضرمي‬

‫الن�سخة من رفعت عبداهلل القر�شي‪ ،‬من �أهل‬ ‫لطالما عرفنا �شيئ ًا وغابت عنا �أ�شياء‪ ..‬وذلك‬
‫حيدر �أب���اد‪ .‬ت��ب��د�أ رحلة التحقيق بالرجوع‬ ‫في �أخبار الموروث المفقود �أو ال�ضائع‪ ..‬حدث‬
‫�إل��ى مخطوطات المكتبة الآ�صفية‪ ،‬ومكتبة‬ ‫وال حرج‪ ..‬لقد قر�أت �أن للمعري كتاب ًا بعنوان‬
‫بوهار ومكتبة بي�شاور ومكتبة برامبور‪� ،‬إال‬ ‫(معجز �أحمد) ويق�صد به المتنبي‪ ..‬لم يعثر‬
‫�أن المخطوط المعتمد هو المطبوعة الحجرية‪،‬‬ ‫عليه‪ ،‬ومثله كثير‪ ،‬لكن م�ؤلفنا الحا�ضر الغائب‪،‬‬
‫�ضمن المكتبة الآ�صفية بحيدر �آباد برقم (‪)٢١‬‬ ‫�ألف كتابه على منوال مقامات بديع الزمان‬
‫فن المحا�ضرات‪ ،‬و�أخيراً طبع الكتاب من قبل‬ ‫الهمذاني والحريري في بالد الغربة والمهجر‪..‬‬
‫المجمع الثقافي في �أبوظبي‪ ،‬ومحققه هو‬ ‫من اليمن �إلى الهند كانت رحلته كعادة قومه‬
‫عبداهلل محمد الحب�شي عام (‪ )١٩٩٩‬بعنوان‪:‬‬ ‫الح�ضارم‪ ..‬عرفنا �أحمد علي باكثير‪ ،‬القادم‬
‫المحقق للمقامة‬ ‫المقامات النظرية لأب��ي بكر مح�سن باعبود‬ ‫من �إندوني�سيا �إلى م�صر‪ ،‬فغدا ناراً على علم في‬
‫الح�ضرمي‪ ،‬فما هي حقيقة هذه المقامات؟‬ ‫ال�شعر والم�سرح وهو يمني الأ�صل‪.‬‬
‫عبداهلل محمد‬ ‫يمكن ط��رح ال��ت�����س��ا�ؤل ه��ن��ا‪ :‬ب��م تختلف‬ ‫�أم ��ا م�ؤلفنا «ب��اع��ب��ود» ف��خ��رج ول��م يعد‬
‫الحب�شي قام بدوره‬ ‫مقامات «باعبود» عن مقامات �سواه من العرب‬ ‫وانقطعت �أخباره حتى عن م�ؤرخي الأدب في‬
‫في التعريف بهذه‬ ‫القدماء‪ ،‬الذين �سجلوا ق�ص�صهم وحكاياتهم‬ ‫بالد العرب‪ ،‬لي�س غريب ًا ما ح��دث‪ ،‬فالغائب‬
‫على نمط النكتة وال�سخرية‪ ،‬بهدف تفتيح‬ ‫حجته معه‪� ،‬إلى �أن يذوب �شيء ما‪..‬‬
‫المقامة المجهولة‬ ‫الأذه��ان والإبهار البالغي والت�سلية؟ ك�صنع‬ ‫ثم ب��د�أت الحقيقة تطفو ك��ق��ارورة فيها‬
‫عربي ًا‬ ‫الم�ؤ�س�س بديع الزمان الهمذاني‪ ،‬والقا�سم بن‬ ‫ر�سالة ن�سخة في دم�شق �أو بغداد‪ ..‬ال ندري كيف‬
‫علي الحريري‪ ،‬والمقامات الزينية و�أ�شباه‬ ‫ح�صل الأب لوي�س �شيخو المتوفى (‪ )١٩٢٧‬على‬
‫المقامات‪ ،‬م��ن �أخ��ب��ار المغفلين والحمقى‬ ‫ن�سخة اقتطف منها مقامتين �ضمهما كتابه‬
‫والدهاة‪ ،‬وقد عرف �أ�سلوب المقامات بتكلفه‬ ‫(مجاني الأدب) هما المقامة الجونغورية‬
‫وت�صنعه‪ ،‬لكنه كان في حبكته ال يخلو من‬ ‫والمقامة ال�صرنجية‪ ..‬ولم تذكر هذه المقامات‬
‫المتعة في الحدث والحوار‪ ،‬الذي يتم عادة بين‬ ‫عند غيره وال عند �شوقي �ضيف في كتابه‬
‫الراوي والبطل‪ ..‬الراوي عي�سى بن ه�شام عند‬ ‫(المقامات) ولم يذكرها �إال الهنود كمخطوطات‬
‫بديع الزمان‪ ،‬والحارث بن همام عند ال�سروجي‪،‬‬ ‫في مكتباتهم‪ .‬ثم ج��اء دور المحقق عبداهلل‬
‫�أما البطل �أبو الفتح الإ�سكندري عند البديع‪،‬‬ ‫محمد الحب�شي‪ ،‬لنتعرف (المقامات النظرية) �أو‬
‫و�أبو زيد ال�سروجي عند الحريري‪ ..‬والمقامات‬ ‫الهندية‪ ..‬فما هي الحكاية؟‬
‫عند «باعبود» خم�سون مقامة‪ ..‬مثل غيره‬ ‫في �صنعاء‪ ،‬ظهر المخطوط مكتوب ًا بخط‬
‫�أقول‪ :‬هذا الأ�سلوب في الرواية والبطولة‪ ،‬قلده‬ ‫ه��ن��دي ف��ي غ��اي��ة الغمو�ض‪ ،‬حيث و�صلتنا‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪30‬‬


‫واحة‬

‫العي�ش الح�سن‪ ،‬فانظر ما �أفعل وال تعار�ضني‬ ‫باعبود‪ ،‬فالراوي عنده هو النا�صر بن فتاح‪،‬‬
‫وال ت�س�أل ف�إني �س�أ�صرف عنك وجوه العباد‪،‬‬ ‫والبطل هو �أبو الظفر الهندي‪ ،‬و�أماكن الأحداث‬
‫وكان بالقرب بلدة يقال لها مر�شد �أباد‪.‬‬ ‫تجري في الهند‪ ،‬التي قدم �إليها الم�ؤلف باعبود‬
‫ثم لما م��ات الكلب كفناه وو�ضعاه في‬ ‫الح�ضرمي‪ ،‬بعد ما �سمع عن جمالها وجذبها‬
‫�صندوق وغ�شياه بالحرير‪ ،‬وحماله �إلى ال�سوق‪،‬‬ ‫للمهاجرين العرب على مدى قرون‪ ..‬فتت�شكل‬
‫ح�صل الأب لوي�س‬ ‫وما �إن و�صال �إال وقد حل الم�ساء‪ ،‬وحثيا على‬ ‫جالية عربية تتمخ�ض عن مجال�س تجارية‬
‫�شيخو على ن�سخة‬ ‫ر�ؤ�سهما التراب وبكيا بكاء الخن�ساء‪ ،‬ولما‬ ‫�أو �أدبية‪ ،‬وكانت �أ�سرة �آل العيدرو�س‪ ،‬من �أ�شهر‬
‫اقتطفت منها‬ ‫�سئال عن الميت وحقيقته ومذهبه وطريقته‬ ‫البيوتات التي كانت مجمع المغتربين من‬
‫فبالغا غاية الإغراق‪ ،‬فكان �أهل البلد يجلونه‪،‬‬ ‫رجال الأدب والت�صوف‪.‬‬
‫مقامتين �ضمهما‬ ‫وب��ات��وا ط��ول ليلهم ي��ق��ر�ؤون على ال�صندوق‬ ‫وباعبود‪ ،‬هو القائل في مقدمة المقامات‪:‬‬
‫لكتابه (مجاني‬ ‫القر�آن‪ ،‬وتطول الحكاية‪ ..‬حيث يقام مزار وقبة‬ ‫لما رماني البين ب�سهام االغتراب‪ ،‬وفارق بيني‬
‫الأدب)‬ ‫فوق القبر ويبد�أ ه�ؤالء المحتاالن الأب واالبن‬ ‫وبين الوطن والأحباب‪ ،‬خرجت ذات يوم بعد‬
‫يجنيان النذور والغنائم �إلى �أن ك�شف �أمرهما‬ ‫�صالة الع�صر �إلى منتزه مع بع�ض �أدباء الع�صر‪،‬‬
‫ف�سجنا‪ ،‬وبعدها انهزما من ذلك البلد‪ ..‬وهدمت‬ ‫وا�صطحبت معي المقامات الحريرية والنوابغ‬
‫القبة و�صار مكان المزار ب�ستان ًا‪ ..‬وهذه حكاية‬ ‫والمقامات الزينية‪ ،‬وكان معنا جماعة‪ ،‬لي�س‬
‫تتكرر‪ ،‬حيث يتكرر م�شهد الغفلة والجهل وعدم‬ ‫لهم تعلق بعلوم العربية وال اطالع على النكت‬
‫التحري‪ ،‬مع �أن الحكمة تقول‪ :‬اعقلها وتوكل‪..‬‬ ‫الأدبية‪ ،‬فعند ذلك �أ�شار علي بع�ض من ح�ضر‪،‬‬
‫فالحذر الحذر‪.‬‬ ‫ب�إن�شاء مقامات يفهمها القا�صي والداني‪،‬‬
‫ظهر المخطوط �أو ً‬ ‫فن المقامات الأدب��ي��ة ال يتقنه‪� ،‬إال من‬ ‫ف�أن�ش�أت وتجنبت الوح�شي والغريب‪ ،‬وحق ًا كان‬
‫ال‬ ‫جرب و�شاهد وغامر‪ ،‬مع امتالك زمام الموهبة‬ ‫للم�ؤلف ما �أراد‪ ،‬فقد جاءت مقاماته مر�سلة‬
‫في �صنعاء وقد كتب‬ ‫في الحكاية و�إدارة المجال�س الأدبية‪� ..‬أجل‬ ‫العبارات �إال ما ال بد منه من �إحداث جر�س‪ ..‬فلم‬
‫بخط هندي غاية في‬ ‫المقامات لي�ست فن ًا م�ستحدث ًا في الرواية‬ ‫يت�شدق ولم ي�ستوح�ش‪ ،‬وال يحيجك و�أنت في‬
‫ال�شفوية بين المتحادثين‪ ،‬لكنها ا�ستحدثت‬ ‫العر�ض وال�سرد �إلى التواء في المعاني �أو تعقيد‬
‫ال�صعوبة‬ ‫لتكون نواة الق�صة الق�صيرة �أو الرواية‪ ،‬ذات‬ ‫في الأفكار‪ ..‬و�أ�ستطيع القول‪� ،‬إنها حكاية فكرة‬
‫الحلقات المت�سل�سلة في بقع من �ضوء‪ ،‬يوثق‬ ‫وحدث وحركة على م�سرح الملح والنوادر‪ ،‬ف�إذا‬
‫وي�سلط على الحياة اليومية في الحي والمنزل‬ ‫كانت المقامات �أ�سلوب ًا عربي ًا في الحكاية‪ ،‬فهي‬
‫وال�سوق والمجال�س‪� ،‬أو على مقاهي الر�صيف‬ ‫ت�سجيل وتوثيق لطباع النا�س في �أيام هندية‪..‬‬
‫الثقافية‪.‬‬ ‫كما هي �إ�ضافة في القيمة لأعمال �أدبية عربية‬
‫وفي المقامات م��ادة نف�سية اجتماعية‪،‬‬ ‫الروح في بالد المهاجر تغني الثقافة العربية‪،‬‬
‫هي و�صفة لتخفيف حالة الغربة عن الكاتب‬ ‫وال ب�أ�س �إذا ردت و�أعادت �إلينا ب�ضاعتنا‪ ،‬لكن‬
‫ك��أم��ث��ال باعبود الح�ضرمي‪ ..‬وه��و يتلقى‬ ‫مع �شيء من محاولة التهذيب والتثقيف‪.‬‬
‫يروي «باعبود»‬ ‫�صدمات تقت�ضي منه ردود �أفعال �سريعة �أو‬ ‫و�أخ��ي��راً‪ ،‬فلنقر�أ و لنت�أمل نموذج ًا من‬
‫مخارج مواقف ذكية‪� ،‬أم��ا البراهين والأدل��ة‬ ‫م��ق��ام��ات «ب��اع��ب��ود» ال��م��ق��ام��ة ال�����س��اد���س��ة‬
‫في مقامته حكايات‬
‫في المقامات النظرية‪ ،‬فهي �إ�شارات كا�شفة‬ ‫والأرب��ع��ون‪ ،‬وتعرف بالمر�شد �آب��ادي��ة‪ :‬روى‬
‫ونوادر مت�ضمنة‬ ‫وردت على ل�سان ال��راوي والبطل‪« :‬وتهي�أت‬ ‫النا�صر بن فتاح قال‪ :‬لقد ر�أيت في الهند من‬
‫النكتة وال�سخرية‬ ‫لركوب مركب الغربة»‪ ..‬واغترفنا من بحارها‬ ‫العجب ما يكتب لندرته بماء الذهب‪ ،‬وذلك �أنه‬
‫القامو�سية‪ ،‬وا�ستمطرنا �سحائبها العيدرو�سية‪،‬‬ ‫جمع ال�سفر بيني وبين رجلين‪ ،‬ومعهما كلب في‬
‫�أتيت �إليه بنابغة اليمن وخاتمة �شعراء الزمن‪،‬‬ ‫جيده طوق من لجين‪ ،‬واتفق �أن مر�ض الكلب‬
‫وفي النهاية يك�شف �أبو الظفر الهندي قناعة‬ ‫مر�ض الموت‪ ،‬وحين خ�شيا عليه من الفوت‪،‬‬
‫بم�شيئة الراوي «�أبو الفتاح»‪� ..‬أال من عرفني‬ ‫�سمعتهما يتحدثان في �سرهما ويت�شاوران في‬
‫عرفني‪ ،‬ومن لم يعرفني ف�أنا �أبو الظفر الهندي‪..‬‬ ‫�أمرهما‪ .‬ف�أحدهما يقول للآخر‪ :‬يا �أبتي يعز‬
‫رد �إحدى ال�شخ�صيات «�إن من ال يعرف‬ ‫ويكون ّ‬ ‫علي رمي الكلب لل�سباع والذئاب وال�ضباع‪،‬‬
‫الأدب ال يفهم رموز كالم العرب»‪.‬‬ ‫والآخر يقول ال تخف وال تحزن ف�سنعي�ش ب�سببه‬

‫‪31‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أ�س�سها الفينيقيون قبل (‪� )٤٠٠٠‬سنة‬
‫�أرواد‪ ..‬جزيرة الأحالم والأرجوان‬
‫هو جزيرة �أرواد‪ .‬وتروي �أ�سطورة فينيقية‪:‬‬
‫�أن (�أرواد) ابنة بعل (�إله البر) �أُعجبت بـ(يم)‬ ‫�أرواد �أو (�أرادو��������س) ج��زي��رة ���س��وري��ة ق��دي��م��ة ق��د َم‬
‫فف�ضلت‬‫(�إله البحر) الذي كان عدو �أبيها‪ّ ،‬‬ ‫التاريخ‪ ،‬يحت�ضنها �ساحل البحر الأبي�ض المتو�سط‪،‬‬
‫البقاء معه ون�سبت الجزيرة �إليها‪.‬‬ ‫وه���ي ال��ج��زي��رة ال��وح��ي��دة ال��م���أه��ول��ة ب��ال�����س��ك��ان منذ‬
‫ورد ا�سم (�أرواد �أو �أرادو�س) في ر�سائل‬ ‫�أي���ام الفينيقيين قبل (‪� )4‬آالف ع��ام‪ .‬ج��زي��رة �أرواد‬
‫ت ّل العمارنة‪ ،‬وفي حوليات ملوك �آ�شور‪،‬‬
‫الفينيقية التي ذك��ر ياقوت الحموي في معجمه �أنها‬
‫وف��ي ن�صو�ص �أوغ ��اري ��ت‪ ،‬وجميع هذه‬ ‫غيثاء رفعت‬
‫تتحدث عن �أهمية �أرواد التاريخية‬ ‫(ج��زي��رة ف��ي ال��م��ت��و���س��ط ق���رب ق�سطنطينية دخلها‬
‫الكتابات ّ‬
‫أهم‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫من‬ ‫أنها‬ ‫�‬ ‫وعن‬ ‫والمالحية‪،‬‬ ‫واالقت�صادية‬ ‫الم�سلمون �سنة (‪54‬ه����ـ) م��ع ج��ن��ادة ب��ن �أب���ي �أم��ي��ة ف��ي �أي���ام م��ع��اوي��ة)‪.‬‬
‫و�سميت الجزيرة قديم ًا‬ ‫المدن الفينيقية‪ُ .‬‬
‫(�آراد) �أو (�آرفاد)‪ ،‬باللغة الفينيقية‪ .‬وفي زمن‬ ‫وتحكي �إحداها عن ق�صة �شاب ركب البحر‬ ‫كما ُذك��رت (�أرواد) في �أل ��واح مدينة‬
‫الكنعانيين‪ ،‬كانت مملكة م�ستقلة ُ�سميت‬ ‫طالب ًا الرزق‪ ،‬لكنه لم يعد‪ ،‬فراحت حبيبته‬ ‫(�إيبال)‪ ،‬فقد كانت عا�صمة مملكة ازدهرت‬
‫(�أرادو���س) وبهذا اال�سم عرفها اليونانيون‪،‬‬ ‫ت�س�أل عنه �إلى �أن �أخبرها �صديقه �أنه وقع‬ ‫في الألف الثاني قبل الميالد‪ ،‬وكانت حدود‬
‫وتعني الملج�أ والم�أوى والمالذ‪� ،‬إذ كانت‬ ‫�ضحية جنيات البحر اللواتي �أغرقن مركبه‪،‬‬ ‫هذه المملكة بين النهرين الكبيرين ال�شمالي‬
‫ملج�أ �سكان ال�ساحل ال�سوري من الغزوات‬ ‫لكن الفتاة لم ت�صدق تلك الرواية وراحت‬ ‫والجنوبي في ال�ساحل ال�سوري‪ ،‬وكان لها‬
‫الآ�شورية‪ ،‬و�أطلق عليها الرومان ا�سم مرف�أ‬ ‫تبتهل حتى يعود‪ ،‬وعندما �سمعت دعواتها‬ ‫�أ�سطول تجاري مهم‪� ،‬إذ عا�شت ع�صرها‬
‫الأرجوان‪ ،‬وكل هذه الت�سميات ت�شير �إلى �أن‬ ‫ملكة الجنيات ر ّقت لحالها‪ ،‬وبعثت �إليها‬ ‫الذهبي في القرنين الرابع ع�شر والثامن‬
‫م�ؤ�س�سيها كانوا من الفينيقيين‪.‬‬ ‫مع �أح��د طيور الماء ر�سالة تخبرها �أن‬ ‫ع�شر قبل الميالد‪.‬‬
‫تقع ج��زي��رة (�أرواد) �أم ��ام ال�سواحل‬ ‫حبيبها �سيعود‪ ،‬و�أمرت ببناء مالذ �آمن لهما‬ ‫ويختلط تاريخ (�أرواد) بالأ�ساطير‪،‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪32‬‬


‫معالم‬

‫بقايا �سور قديم‪ ،‬يعود للفترة الفينيقية لحماية‬


‫المدينة من العوا�صف البحرية ول�صد الغزوات‬
‫مبني من حجارة �ضخمة ي�صل وزن بع�ضها‬
‫�إلى ع�شرين طن ًا‪ ،‬وارتفاعه كان تقريب ًا ع�شرة‬
‫�أمتار‪.‬‬
‫من �أ�سمائها‬ ‫وم��ن معالمها القديمة؛ معبد يعود �إلى‬
‫(�أرادو�س) و(�أرفاد)‬ ‫القرن الخام�س قبل الميالد‪ ،‬وبقايا ملعب‬
‫وقد ذكرها ياقوت‬ ‫ريا�ضي كبير كان الأروادي��ون يقيمون عليه‬
‫موا�سم الألعاب الريا�ضية الأولمبية القديمة‪،‬‬
‫الحموي في معجمه‬ ‫ويعود �إلى القرن ال�ساد�س ع�شر قبل الميالد‪،‬‬
‫ومنهم �أخ��ذ اليونانيون تلك الفكرة و�أطلقوا‬
‫الألعاب الأولمبية‪.‬‬
‫توجد في �أرواد قلعتان �صغيرتان؛ الأولى‬
‫و�سط الجزيرة‪ ،‬وهي من القرن (‪ ،)13‬تت�ألف من‬
‫طابق واحد‪ ،‬بنيت بالحجارة الرملية المنحوتة‪،‬‬
‫�أر���ض��ه��ا �صخرية‪ ،‬وبابها م��ن جهة الغرب‬
‫مزخرف بالمرمر والأح��ج��ار البي�ضاء‪ ،‬فيها‬
‫يبلغ طول‬ ‫قاعات ومالجئ وم�ستودعات‪ ،‬وغرف ل�سكن‬
‫الجزيرة ‪ 800‬م‪،‬‬ ‫الجنود‪ ،‬ويحيط بالقلعة �سور فيه ثالثة �أبراج‬
‫وعر�ضها ‪ 500‬م‬ ‫م�ستديرة في ثالثة من الزوايا‪ ،‬لها �شرفات‬
‫بم�ساحة تقدر‬ ‫ومرام وم�سارات للحرا�س‪� ،‬أهمها البرج الأيوبي‬
‫بـ ‪� 400‬ألف م‪٢‬‬ ‫ويقع في الجهة ال�شرقية‪ ،‬ويت�ألف من طابقين‪.‬‬
‫�أما القلعة الثانية؛ فهي عربية �صغيرة تقع‬
‫�إلى جانب المرف�أ‪ ،‬وت�ستخدم حالي ًا كمتحف‪،‬‬
‫�أحد �أبراجها المركزية ي�ضم �أجنحة للفخاريات‬

‫ال�شرقية للبحر الأب��ي�����ض المتو�سط‪ ،‬قبالة‬


‫البر ال�سوري جنوب غربي مدينة طرطو�س‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تو�ضعات طينية حديثة‬ ‫تتكون الجزيرة من ّ‬
‫تغطي‬ ‫تعود �إلى الحقبة الجيولوجية الرابعة‪ّ ،‬‬
‫�صخوراً رملية ُتعرف بحجر الرملة‪ ،‬وتر�سم‬
‫هذه ال�صخور عند التقائها بالبحر‪� ،‬شرفات‬
‫وجروف ًا �ساحلية‪ ،‬كما تحيط بالجزيرة خم�س‬
‫جزر من�سية غير م�أهولة‪ ،‬تنت�شر حولها ت�سمى‬
‫(بنات �أرواد) وهي‪ :‬الحبي�س والمخروط و�أبو‬
‫علي والنمل والم�شار‪.‬‬
‫ويبلغ طول الجزيرة (‪ )800‬متر‪ ،‬وعر�ضها‬
‫(‪ )500‬متر‪� ،‬أي � ّأن م�ساحتها تبلغ تقريب ًا‬
‫مربع‪ ،‬الم�سكون منها (‪)50‬‬ ‫(‪� )400‬ألف متر ّ‬
‫في المئة‪ ،‬وقد و�صفها العالم (ا�سترابون) ب�أنها‬
‫مهمة ت�شغل م�ساحة من الياب�سة و�صخرة‬ ‫مدينة ّ‬
‫يلطمها البحر من ك ّل جهة حتى يكاد يغمرها‪.‬‬
‫ومن �أهم معالمها الأثرية (المرف�أ)‪ ،‬ويقع‬
‫في الجهة ال�شمالية ال�شرقية من الجزيرة‪،‬‬
‫مقابل مدينة طرطو�س‪ ،‬وتحيط بالجزيرة‬
‫ميناء �أرواد‬

‫‪33‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫معالم‬

‫والنقود الأروادية وال�صدفيات البحرية النادرة‬


‫والأ���س��ف��ن��ج الطبيعي وال�صناعات اليدوية‬
‫الأروادية والفن الحديث‪ ،‬وفيها �آثار من العهد‬
‫الفينيقي‪ ،‬وبع�ض الكهوف وبقايا الحمام‬
‫تهدم ب�سبب الأم��واج القوية‬ ‫العثماني‪ ،‬الذي ّ‬
‫التي ت�ضرب ال��ج��زي��رة‪ ،‬وعثر على كتابات‬
‫منقو�شة عددها (‪ )22‬ن�ص ًا‪.‬‬
‫ا�شتهر �سكان ال��ج��زي��رة ب��أن��ه��م بحارة‬
‫عبداهلل لبادي‬ ‫م�صطفى عثمان‬ ‫�صفوان بهلوان‬ ‫ماهرون‪ ،‬حتى قيل �إنهم من �أهم بحارة البحر‬
‫الثاني) ا�ستقاللها لي�ضمن م�ساعدة بحريتها‪،‬‬ ‫يلمون بالظواهر البحرية‪،‬‬ ‫المتو�سط‪ ،‬كما كانوا ّ‬
‫الحرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتم ّتعت وقتذاك بامتيازات المدينة‬ ‫والجوية‪ ،‬ويعملون بال�صيد والتجارة البحرية‬
‫واعتبر العام (‪ )259‬قبل الميالد نقطة بدء‬ ‫و�صناعة ال�شباك والأ�شغال ال�صدفية اليدوية‪،‬‬
‫وتدخل الأروادي��ون في نزاع‬ ‫ّ‬ ‫الت�أريخ لديها‪،‬‬ ‫والحرفة الأ�سا�سية لهم التي توارثوها عن‬
‫ال�سلوقيين بين بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬حيث وقفوا �إلى‬ ‫�أج��داده��م هي �صناعة ال�سفن‪ ،‬التي �ضربت‬
‫جانب �سلوق�س الثاني‪ ،‬وا�ضطر (�أنطيوخيو�س‬ ‫�شهرتها �آف��اق الأر���ض‪ ،‬وكانت �أرواد قديم ًا‬
‫الرابع) �إلى �إخ�ضاعهم بعد مقاومة‪ ،‬ثم تحالف‬ ‫قوي ًا‪ ،‬وحارب الأرواديون‬ ‫تملك �أ�سطو ًال بحري ًا ّ‬
‫ي�شتهر �سكانها ب�أنهم‬ ‫معهم‪ ،‬و�أعاد (�أنطيوخيو�س) ال�سابع �إلى (�أرواد)‬ ‫�ضد الإغريق اليونانيين‪ ،‬ووقعت بينهم معركة‬ ‫ّ‬
‫بحارة ماهرون‬ ‫حريتها ليك�سب م�ساعدتها‪ ،‬وكان لأرواد نفوذ‬ ‫ّ‬ ‫بحرية هي معركة (�ساالمي�س)‪.‬‬
‫ويجيدون �صناعة‬ ‫عظيم على طول �سواحل �سوريا‪.‬‬ ‫كانت (�أرواد) مدينة مزدهرة منذ الألف‬
‫ال�سفن وكل ما يتعلق‬ ‫وعندما احتل ال��روم��ان �سوريا بقيادة‬ ‫الثاني قبل الميالد‪ ،‬ثم وقعت تحت نفوذ مملكة‬
‫بحرفة ال�صيد‬ ‫القائد الروماني (بومبيو�س)‪ ،‬حافظت (�أرواد)‬ ‫وتمتد‬
‫ّ‬ ‫�صور‪� ،‬إال �أنها ا�ستق ّلت عنها‪ ،‬و�أخذت تنمو‬
‫الن�سبي‪ ،‬و� ّأيدت القائد الروماني‬
‫ّ‬ ‫على ا�ستقاللها‬ ‫لت� ّؤ�س�س م�ستعمرات‪ ،‬وتن�شئ مدن ًا على ال�شاطئ‬
‫(بومبيو�س) عند خالفه مع قي�صر‪ ،‬وا�ستخ ّفت‬ ‫و�سميت‬‫ل�ضرورات اقت�صادية ودينية ودفاعية‪ّ ،‬‬
‫بعمالء (�أنطونيو�س) ورف�ضت دفع الجزية‪� .‬إال‬ ‫هذه الم�ستعمرات �أي�ض ًا (بنات �أرواد)‪ ،‬وتوغل‬
‫�أن المجاعة التي نتجت عن الح�صار دفعتها‬ ‫الأرواديون في الداخل ف�أقاموا معابد وقالع‪،‬‬
‫�إل��ى اال�ست�سالم‪ ،‬واحتفظت (�أرواد) في تلك‬ ‫و�أ�سهموا في ت�أ�سي�س مدينة ط��روادة‪ ،‬و�أ�شهر‬
‫الآونة بم� ّؤ�س�ساتها الهيلن�ستية‪ ،‬وكانت الوحيدة‬ ‫بنات ط ��روادة (�أن��ت��رادو���س) وه��ي طرطو�س‬
‫حريتها‪.‬‬‫التي حافظت على ّ‬ ‫الحالية‪ ،‬و(عمريت)‪.‬‬
‫ت�شكل مع مدينة‬
‫لم تدخل (�أرواد) الفتح العربي مع �سوريا‪،‬‬ ‫فعندما �أغارت �شعوب البحر على �أوغاريت‪،‬‬
‫(�أنترادو�س)‬ ‫قرر‬ ‫كانت �أرواد �أوف��ر حظ ًا‪� ،‬إذ نجت من الغزو‪،‬‬
‫بل بقيت قاعدة بحرية بيزنطية‪� ،‬إلى �أن ّ‬
‫�أو (ماراتو�س)‬ ‫معاوية بن �أبي �سفيان فتحها‪� .‬أُعيد ا�ستخدام‬ ‫و�أ�صبحت من �أب��رز المدن ال�ساحلية‪� ،‬إال �أنها‬
‫طرطو�س حالي ًا‬ ‫ال��ج��زي��رة ك��ق��اع��دة بحرية لأ�ساطيل ال��دول‬ ‫خ�ضعت للملك الآ�شوري (تغالت بال�صر) الأول‬
‫واجهة �سياحية‬ ‫وا�ستقر‬
‫ّ‬ ‫الإيطالية في حقبة الغزو الإفرنجي‪،‬‬ ‫ثم (�آ�شور نا�صربال)‪ ،‬غير �أن الأرواديين ا ّتحدوا‬
‫فيها فر�سان الهيكل فزادوا من تح�صينها‪ .‬بعد‬ ‫مع ملوك �سوريا الآراميين ع��ام (‪ )854‬قبل‬
‫لل�ساحل ال�سوري‬
‫ذلك تناوب على �أرواد المماليك‪ ،‬ثم �أُهملت و�أتى‬ ‫الميالد‪ ،‬ليحاربوا جي�ش (�شلمان�صر الثالث) الذي‬
‫العثمانيون زمن ال�سلطان �سليمان القانوني‪،‬‬ ‫تم ّكن فيما بعد من فر�ض الغرامات على �أرواد‪.‬‬
‫و�شيد فيها ح�صنان �صغيران‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد غزا الإ�سكندر المقدوني البالد عام‬
‫وف ��ي ال��ح��رب العالمية الأول�����ى‪ ،‬نزلت‬ ‫(‪ )333‬قبل الميالد‪ ،‬وق� ّ�دم ابن ملك (�أرواد)‬
‫فيها البحرية الفرن�سية‬ ‫الخ�ضوع والطاعة �أم��ام الإ�سكندر‪ ،‬والالفت‬
‫و�أخ�ضعتها لفرن�سا عام‬ ‫�أن الإ�سكندر لم ي�ش�أ �إثارة ح�سا�سية �أهل �أرواد‬
‫(‪ ،)1915‬وحتى ا�ستقالل‬ ‫و���ش��ع��وره��م‪ ،‬ول��م ي��دخ��ل ال��ج��زي��رة على رغم‬
‫�سوريا عام (‪ ،)١٩٤٦‬ومن‬ ‫وجوده في (ماراتو�س) طرطو�س القريبة منها‪،‬‬
‫�أ�شهر �أبنائها ال�شاعر عبداهلل‬ ‫والمقابلة لها على البر ال�سوري‪.‬‬
‫لبادة والفنان الموي�سقار‬ ‫مهم ف��ي ال��ن��زاع بين‬
‫ك��ان لأرواد ���ش��أن ّ‬
‫�صفوان بهوان‪.‬‬ ‫البطالمة وال�سلوقيين‪ ،‬لذا‪ ،‬منحها (�أنطيوخيو�س‬
‫�أرواد قبالة مدينة طرطو�س‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪34‬‬


‫إبداعات‬
‫�صناعة القوارب وال�سفن في �أرواد‬
‫�شعر ‪ -‬ق�صة ‪ -‬ترجمة‬

‫¯ �أدبيات‬
‫¯ قا�ص وناقد‬
‫¯ م�سار‪ /‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ الحجر الأخطر‪/‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ التلميذ‪ /‬ق�صة مترجمة‬

‫‪35‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫جمال ّيات ال ّلغة‬
‫الب ْي ِت ُم�ضاف ًة‬
‫يكر ُرها في َ‬
‫ثم ّ‬ ‫ا�س ٌم‪ ،‬و� َّإما ِ�صف ٌة‪ّ ،‬‬ ‫اعر ب َل ْف ٍ‬
‫ظة هي � َّإما ْ‬ ‫ال�ش ُ‬‫فريع في البالغ ِة‪ْ � ،‬أن َي ْب َد�أ ّ‬
‫ال ّت ُ‬
‫نبي‪:‬‬ ‫من المعاني‪ ،‬كقولِ ُ‬
‫الم َت ّ‬ ‫أنواع َ‬‫من ُج ْم َل ِتها � ٌ‬
‫تفر ُع ْ‬ ‫ٍ‬
‫و�صفات‪َ ،‬ت ّ‬ ‫ماء‬
‫�إلى � ْأ�س َ‬
‫���ن ال��طِّ ��ع��انِ‬
‫��راب �أن���ا اب ُ‬
‫�����ض ِ‬
‫���ن ال ِّ‬
‫�أن���ا اب ُ‬ ‫�����س��خ��اءِ‬ ‫اب���ن ال�� ّل��ق��اءِ �أنَ����ا ُ‬
‫اب���ن ال َّ‬ ‫�أنَ����ا ُ‬
‫���ن ال ِّ��رع��انِ‬‫��روج �أنَ���ا اب ُ‬
‫�����س ِ‬
‫���ن ال ُّ‬
‫�أنَ���ا اب ُ‬ ‫���ن القَوافي‬ ‫���ن الفَيافي �أنَ���ا اب ُ‬ ‫�أنَ���ا اب ُ‬
‫اللئق ِة ِب ِه‪ ،‬كقولِ ال ْأع�شى‪:‬‬
‫�صاف ِه ّ‬
‫في‪ُ ،‬ث َّم َي ِ�ص ُف ُه ب ُِم ْعظ ِم �أو ِ‬
‫با�سم َم ْن ٍّ‬
‫كالم ُه ٍ‬
‫اعر َ‬
‫ال�ش ُ‬
‫ومن ُه‪ْ � ،‬أن ُي َ�ص ِّد َر ّ‬ ‫�إعداد‪ :‬فواز ال�شعار‬
‫(‪)1‬‬ ‫اء َج��ا َد َع َل ْيها ُم ْ�س ِب ٌل َه ِطلُ‬ ‫خَ ْ�ض َر ُ‬ ‫الح ْزنِ ُم ْع ِ�ش َب ٌة‬
‫ِيا�ض َ‬ ‫ما ر ْو َ�ض ٌة ِم ْن ر ِ‬
‫��ي��م ال��� َّن��� ْب ِ‬
‫���ت ُم�� ْك��تَ��هِ��لُ‬ ‫َم���������ؤّ َّز ٌر َب��ع�� ِم ِ‬ ‫�ضاح ُك ال�شَّ ْم َ�س منها َك ْوك ٌَب َ�شرِ قٌ‬ ‫ُي ِ‬
‫���ص��لُ‬ ‫وال ب���أَ ْح َ‬
‫�����س َ��ن منها �إِ ْذ َدنَ���ا ا ُلأ ُ‬ ‫َي�� ْوم�� ًا ب���أَطْ �� َي َ‬
‫��ب منها نَ��� ْ��ش َ��ر رائ ِ‬
‫��ح ٍ��ة‬
‫من ال ْأر ِ‬
‫�ض‪.‬‬ ‫الح ْز ُن‪ :‬ما ْار َتف ََع َ‬
‫‪َ -1‬‬

‫وادي عبقر‬
‫ال�ص ِبر‬
‫بائع َّ‬
‫يا َ‬
‫نا�صيف اليازجي (بحر الب�سيط)‬
‫ْ�����ف دي��ن��ا ِر‬‫�����س�� َوى �أل َ‬
‫ال�����ص�� ْب��رِ َي ْ‬
‫����م َّ‬ ‫ف ِ‬
‫����د ْر َه ُ‬ ‫�����ص�� ْب��رِ ال تُ�شْ ِف ْق على ال�شَّ اري‬ ‫ي��ا ب��ائ�� َع ال َّ‬
‫وال َح�������� َوى ِم����ثْ����ل ُ‬
‫َ����ه ح�����ان�����وتُ َع����طَّ ����ا ِر‬ ‫�صاح ِ‬
‫به‬ ‫ِ‬ ‫���ر َح‬
‫كال�ص ْبرِ َي�شْ في ُج ْ‬ ‫َّ‬ ‫ال ���ش ْ��ي َء‬
‫ك����ب����ا ِر ِد ال����م����اءِ ُي��ط��ف��ي ِح َّ‬
‫�������د َة ال��� َّن���ا ِر‬ ‫ُ��ه‬
‫��ر َع��ت ُ‬ ‫������زان ُج ْ‬
‫َ‬ ‫ه���ذا ال���ذي ُت��خْ �� ِم ُ‬
‫��د ال ْأح‬
‫������دلَ � ْإع�����������س�����ا ٌر ب����إي�������س���ا ِر‬
‫ح����تّ����ى ُي������ َب َّ‬ ‫ْ���ب ب�����اقٍ ف���ي ���س�لا َم��ت ِ��ه‬ ‫���ظ ال���قَ���ل َ‬ ‫���ح��� ْف ُ‬‫و َي ْ‬
‫�������ن م�������الٍ ب��� ِق��� ْن���ط���ا ِر‬
‫�����ه ت������قُ������ َّو ُم ِم ْ‬
‫ِم����� ْن ُ‬ ‫����ر َدل ٍ‬
‫َ����ة‬ ‫���ة كَ���� ْن����زٌ ‪ ..‬ك����لُّ خَ ْ‬ ‫�������س�ل�ام َ‬ ‫� ّإن ال َّ‬
‫ال�������دا ِر‬
‫َّ‬ ‫����������د ّو ًا ِ‬
‫داخ��������لَ‬ ‫����ون َع ُ‬ ‫�������د ي����ك ُ‬
‫وق ْ‬ ‫َ‬ ‫��اج�� ِت ِ��ه‬
‫���د ح َ‬ ‫���دع���ى ���ص��دي��ق�� ًا ِع��� ْن َ‬ ‫وال���م���الُ ُي ْ‬
‫���ا����س ِم����� ْق�����دار ًا ب��� ِم��� ْق���دا ِر‬
‫����رات����ب ال��� َّن ِ‬
‫ِ‬ ‫َم‬ ‫َ��ج��ري ف��ي ال��ب�لا ِد على‬ ‫���د ْه���رِ ت ْ‬ ‫َح�����وا ِدثُ ال َّ‬
‫��ن ال��� ِّ��ش��ي ِ��ح وال��غ��ا ِر‬ ‫��ف غُ ْ‬
‫�����ص َ‬ ‫ول��ي��� َ��س ت�� ْق ِ‬
‫�����ص ُ‬ ‫��ب ال��نَّ��خْ ��لَ تَ�� ْق ِ‬
‫�����ص�� ُف ُ��ه‬ ‫ي���اح تُ�����ص��ي ُ‬
‫ال���ر َ‬
‫� َّإن ِّ‬
‫َ�����س ٍ‬
‫��ف و�أكْ����دا ِر‬ ‫َ�����س�� َل ُ��م ال��� َّ��ش ْ��م��� ُ��س ِم ْ‬
‫���ن ك ْ‬ ‫ه��لْ ت ْ‬ ‫ً‬
‫طالعة‬ ‫ِ‬
‫أف��ل�اك‬ ‫م�س ف��ي ال‬ ‫���ب � َ‬
‫أن���ك ال�شَّ ُ‬ ‫َه ْ‬
‫�����د ْم ف��ي ُح��ك��م ِ��ه ال��ج��اري‬
‫َ����م َي ُ‬ ‫َي����� ْو ٌم ل��ن��ا ل ْ‬ ‫ل���ل���د ْه���رِ َي������� ْو ٌم َع��� َل��� ْي���ن���ا ال ي������دو ُم كما‬
‫َّ‬
‫ح����تَّ����ى تَ�����������را ُه ب���������������أوراقٍ و�أثْ�������م�������ا ِر‬ ‫���ن ُع���ري���ان��� ًا ب�ل�ا ثَ��� َم���رٍ‬ ‫ال ي��� ْل��� َب���ثُ ال���غ ْ‬
‫ُ�������ص ُ‬
‫ٍ‬
‫ْ���ح���وظ ب����أ ْب�������ص���ا ِر‬ ‫و َم��� ْن��� َه���ج��� ًا غَ ���� ْي َ‬
‫����ر َم���ل‬ ‫ُ����ه‬ ‫َ���ح ُ‬
‫اهلل ب����اب���� ًا ل���ي���� َ���س تَ���� ْع����رِ ف ُ‬ ‫َ����س���ي���ف���ت ُ‬
‫����م����ة ال���ب���اري‬‫َ‬ ‫�����د َق���طَ ��� ْع���ن���ا َر ْح‬
‫ف����إنّ���ن���ا َق ْ‬ ‫َ����ر ٍج‬ ‫�����س ِم ْ‬
‫����ن ف َ‬ ‫ج�����اء ال�� َّن�� ْف ِ‬
‫َ‬ ‫�إذا َق��طَ �� ْع��ن��ا َر‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪36‬‬


‫�أدبيات‬

‫ق�صائد مغنّاة‬
‫ْ‬
‫تنتقد خجلي‬ ‫ال‬
‫لحنها‪ :‬كمال الطويل‪ ،‬وغ ّنتها نجاة �سنة (‪2001‬م)‬
‫ال�صباح‪ّ ،‬‬
‫�شعر ‪� :‬سعاد ّ‬
‫خ��ب��ي��ر‬
‫ُ‬ ‫���ة ج�����������داً‪ ..‬و�أن���������ت‬ ‫ب�������س���ي���ط ٌ‬ ‫���د ف���إنّ��ن��ي‬ ‫َ��ن��ت��ق��د خ��ج��ل��ي ال���� ّ���ش���دي َ‬
‫ْ‬ ‫ال ت‬
‫������ه ال��� ُع�������ص���ف���و ُر‬
‫�������س ُ‬‫�����ر د ْر َ‬‫ح���تّ���ى ي�����ذاك َ‬ ‫ُ��ر ً‬
‫���ص��ة‬ ‫����ب ل���ي ف ْ‬ ‫ِ‬
‫ال��ك��ل��م��ات‪َ ..‬ه ْ‬ ‫ي���ا ���س�� ّي َ��د‬
‫َ����م �أزلْ �أخ����ط����و‪ ..‬و�أنْ�������تَ ق��دي ُ��ر‬ ‫�أن����ا ل ْ‬ ‫ُخ���ذْ ن���ي ب���ك���لّ َب�����س��اط��ت��ي‪ ..‬وطُ ��ف��ول��ت��ي‬
‫���ر‬
‫و�أن��������ا ي����ت����و ُه ع���ل���ى ف���م���ي ال���تّ���ع���ب���ي ُ‬ ‫���ص���اح ِ‬
‫���ة ك�� ِّل��ه��ا‬ ‫أي������ن ت����أت���ي ب���ال���فَ���� َ‬
‫�����ن � َ‬ ‫ِم ْ‬
‫����ح����ب ِب����طَ ���� ْب���� ِع ِ‬
‫����ه َم��� ْك�������س���و ُر‬ ‫َّ‬ ‫ال����م‬
‫ُ‬ ‫� َّإن‬ ‫�أن�����ا ف���ي ال��� َه���وى ال َح�����ولَ ل���ي �أو ق���وةٌ‬
‫و�أن��������ا ع���ل���ى ذات�������ي �أدو ُر‪� ..‬أدو ُر‬ ‫���ت‬ ‫ي����ا ه�������ادئَ ال ْأع���������ص����اب �إن َ‬
‫ّ��������ك ث���اب ٌ‬
‫���ري���ر‬
‫ُ‬ ‫وح‬
‫���ل َ‬ ‫ت��ح��ت��ك ُم���خْ ��� َم ٌ‬
‫َ‬ ‫أر����������ض‬
‫وال ُ‬ ‫ٌ‬
‫���روق���ة‬ ‫أر����������ض ت��ح��ت��ي دائ����م���� ًا َم ْ‬
‫���ح‬ ‫ال ُ‬
‫ٌ‬
‫����ظ����ة و�أن����������تَ َج�������س���و ُر‬ ‫ف������أن�����ا ُم����ح����ا ِف‬ ‫ف��������رقٌ ك����ب����ي ٌ‬
‫����ر َب��� ْي���نَ���ن���ا ي����ا ����س��� ّي���دي‬ ‫ْ‬
‫���ة ج�����د ًا و�أنْ��������تَ ���ش��ه��ي ُ��ر‬ ‫و�أن������ا َم���ج���ه���ول ٌ‬ ‫و�أن�����������ا ُم������ق������ ّي������دةٌ و�أن�������������تَ ت���ط���ي ُ‬
‫���ر‬

‫فروق لغوية‪:‬‬ ‫فقه لغة‪..‬‬


‫وب َدان ًة‪،‬‬
‫وب َّد َن‪َ :‬ب ُد َن َي ْب ُد ُن ُب ْدن ًا َ‬‫وك ُب َر ال ْأم ُر‪َ :‬ع ُظ َم‪َ .‬ب ْين َب ُد َن‪َ ،‬‬
‫الرجل‪َ � :‬أ�س َّن‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وك ُب َر‪َ :‬كب َِر‬
‫َب ْي َن َكب َِر‪َ ،‬‬
‫و�ضع َف؛ قال‬ ‫ُ‬ ‫وب َّد ٌن‪� .‬أما َب َّد َن‪ ،‬ف�أَ َ�س َّن‬
‫والجمع ُب ْد ٌن ُ‬
‫ُ‬ ‫بادن وبادن ٌة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫وهو با ِد ٌن‪�َ :‬ض ُخ َم‪ ،‬والأُنثى‬
‫ُح َم ْي ُد ال ْأرقط‪:‬‬
‫�����م م���م���ا ُي�����ذْ ِه�����لُ ال���قَ���رِ ي���ن���ا‬
‫وال����� َه َّ‬ ‫��ب وال��تَّ��ب ِ��دي��ن��ا‬ ‫���ت ِخ��� ْل ُ‬
‫���ت ال��� َّ��ش�� ْي َ‬ ‫وكُ ��� ْن ُ‬
‫وه َج َد َي ْه ُج ُد ُهجوداً و�أَ ْه َج َد‪ :‬نام‪.‬‬
‫وه َج ْد‪َ :‬ت َه َّج ْد ي َت َه َّج ُد َت َه ُّجداً‪�َ :‬سهِ َر‪َ .‬‬
‫َب ْي َن َت َه َّج ْد َ‬
‫يزان‪�ُ ،‬س ّمي به من‬
‫الم ُ‬‫�سط‪� َ :‬أ ْق َ�س َط ُي ْق ِ�س ُط‪ ،‬فهو ُم ْق ِ�س ٌط �إِذا َع َد َل‪ .‬وال ِق ْ�س ُط‪ِ :‬‬ ‫وق َ‬ ‫َب ْي َن �أَقْ َ�س َط َ‬
‫الحق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وع َد َل عن‬
‫جار وظ َل َم‪َ ،‬‬ ‫قا�س ٌط‪� ،‬أي َ‬ ‫الع ْدلِ ‪ّ � .‬أما َق َ�س َط َي ْق ِ�س ُط ُق�سوط ًا‪ ،‬فهو ِ‬ ‫ال ِق ْ�س ِط‪� ،‬أي َ‬
‫طامي‪:‬‬
‫أن�شد ال ُق ُّ‬ ‫فر َقه‪ .‬و� َ‬ ‫ال�شيء‪َّ :‬‬
‫َ‬ ‫و َق َّ�س َط‬
‫ال�سطاعا‬ ‫على ال�� ُّن�� ْع��م��انِ ‪ ،‬وا ْب���ت َ‬
‫َ���دروا ِّ‬ ‫�أَلَ�� ْي�����س��وا ب���الأُل���ى ق َ‬
‫�����س��ط��وا َق��دي��م�� ًا‬
‫والرواق‪.‬‬ ‫ن�ص ُب َو َ�س َط ِ‬
‫الخبا ِء ُّ‬ ‫وال�سطاع‪َ :‬خ َ�ش َب ٌة ُت َ‬
‫ِّ‬

‫من الطرائف‬
‫قال‪َ :‬ق ْد َ�ص َّح ِع ْندي‬ ‫�ض � ْأهلِ ال ْأم�صا ِر والي ًا �إلى الم�أمونِ ‪َ ،‬ف َك َّذ َب ُه ْم‪ ،‬و َ‬ ‫�شكا َب ْع ُ‬
‫رج ٌل ِم ْن ُه ْم‪ ،‬و َ‬
‫قال‪:‬‬ ‫فقام ُ‬ ‫فا�س َت َح َي ْوا � ْأن َي ُر ّدوا َع َل ِي ِه‪َ .‬‬
‫َع ْد ُل ُه في ُك ْم‪ ،‬و� ْإح�سا ُن ُه �إ َل ْي ُك ْم‪ْ .‬‬
‫فاج َع َل ُه في ِم ْ�ص ٍر َغ ْي ِر ِم ْ�صرِنا‪،‬‬
‫وام‪ْ ،‬‬ ‫قد َع َد َل فينا َخ ْم�س َة � ْأع ٍ‬ ‫الم�ؤمنين ‪ْ :‬‬ ‫أمير ُ‬ ‫يا � َ‬
‫أمون‪،‬‬
‫ف�ضحك الم� ُ‬ ‫َ‬ ‫الح َ�س َن؛‬
‫عاء َ‬ ‫الد َ‬‫بح ُّ‬‫جميع َر ِع َّي ِت َك‪ ،‬و َت ْر َ‬ ‫َ‬ ‫ح ّتى َي َ�س َع َع ْد ُل ُه‬
‫الوالي َع ْن ُه ْم‪.‬‬‫َ‬ ‫و�ص َر َف‬
‫َ‬
‫‪37‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬
‫أدب على ِ�ش ْعر ِه‪،‬‬
‫فوظات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الم ْح‬
‫غلب ا�شتغا ُل ُه في � ْأخبا ِر ال ِ‬
‫كثرين ِم َن َ‬ ‫َ‬ ‫العلما ِء ُ‬
‫الم‬ ‫من ُ‬
‫لكن َ‬
‫فكان َ‬ ‫َ‬
‫ينابي ُع ال ُّل َغ ِة‬
‫لعين على �أخبا ِر ال ّنا�س‪.‬‬ ‫والم ّط َ‬ ‫ُ‬ ‫ابن عبد ر ّبه‬
‫اخ المت� ّأخرون لفظ‬ ‫أ�ضاف ال ُّن َّ�س ُ‬ ‫ِ‬
‫ُك ُت ُبه‪( :‬الع ْق ُد)‪ ،‬و� َ‬ ‫رطبي‬
‫مر ال ُق ّ‬ ‫ربه‪� ،‬أبو ُع َ‬ ‫بن ُم َح ّم ٍد بنِ َع ْب ِد ّ‬ ‫مد ُ‬
‫� ْأح ُ‬
‫�ساب العرب)‪،‬‬ ‫أ�صبح (ال ِعقد ال َفريد)‪ ،‬و(�أ ْن ُ‬ ‫(الفريد)‪ ،‬ف� َ‬ ‫ُ‬ ‫أخباري َع ّلم ٌة‪ُ .‬و ِل َد في ُق ْرطب َة‪ ،‬في‬ ‫ٌّ‬ ‫أديب �‬
‫دل�سي؛ � ٌ‬ ‫الأ ْن ّ‬
‫مح�صات)‪.‬‬ ‫و(الم َّ‬
‫المتنبي)‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بار‬
‫و(� ْأخ ُ‬ ‫م�ضان �سن َة (‪246‬هـ‪ ).‬ون�ش�أ فيها‪ ،‬وكانت ُم ْز َدهر ًة‬ ‫َ‬ ‫َر‬
‫تك�شف ثقا َف َة ابنِ‬ ‫ُ‬ ‫جلي ًة‬
‫الفريد)‪� ،‬صور ًة ّ‬ ‫ُ‬ ‫عد (ال ِع ْق ُد‬ ‫ُي ُّ‬ ‫عد عا�صم َة‬ ‫وكانت ُت ُّ‬
‫ْ‬ ‫وم�ضيئ ًة َل ْي ًال‪،‬‬ ‫زاهي ًة َنهاراً ُ‬
‫الوا�س َع ِة‪� ،‬إ ْذ ُي ْم ِك ُن لقارئ ِه � ْأن َيرى ال ّت َ‬
‫اريخ‬ ‫ِ‬ ‫رب ِه‬
‫َع ْب ِد ّ‬ ‫ناء‪ ،‬وطابت‬ ‫أحب ال ّل ْه َو وال ِغ َ‬ ‫رو�سها‪ .‬ف� ّ‬ ‫وع َ‬ ‫دل�س‪َ ،‬‬ ‫الأ ْن ِ‬
‫طائف‪ ،‬ومطالع َة‬ ‫وال َأد َب‪ ،‬وال ّت ْمحي�ص في ال ّنوا ِد ِر وال ّل ِ‬ ‫من َ�ص ْفو ِة‬ ‫هو ْر‪َ ،‬ف َتق ِّر َب ْ‬ ‫َن ْف ُ�س ُه �إلى َمغانيها‪ ،‬لكنه لم ي َت ُّ‬
‫ال�سير ِة ال ّنبوية‪ ،‬و ِدرا�س َة � ْأخبا ِر‬ ‫والع ْم َق في ّ‬ ‫الدواوينِ ‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أدب‬‫والدينِ وال ِ‬ ‫�أُ َمرائها و�أُ َدبائها‪ ،‬وث َّق َف َن ْف َ�س ُه بال ِف ْق ِه ّ‬
‫ال�صحاب ِة وال ّتابعين‪ .‬كما َي ْل َم ُ�س َت َع ُّم َق ُه في ال ِف ْق ِه‬ ‫َّ‬ ‫اريخ وال َف ْل َ�س َف ِة‪ ،‬لكن ال َي ْعني َ‬
‫ذلك � َّأن‬ ‫وال َّن ْح ِو وال ّت ِ‬
‫ِ‬
‫تبح َر ُه في ع ْلم‬ ‫�شف ُّ‬ ‫والحديث‪ .‬كما َي ْك َت ُ‬ ‫ِ‬ ‫لوم ال ُقر�آن‪َ ،‬‬ ‫وع ِ‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬
‫كانت ك ُّلها َ�سعاد ًة‪ ،‬و َل ْم يت�أ ّل ْم �أو يت�أ ّثر‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫حيا َت ُه‬
‫لوب‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وال�ص ْرف‪ ،‬ب�أ ْ�س ٍ‬ ‫َّ‬ ‫تب ال َّن ْح ِو‬ ‫وك ِ‬ ‫العرو�ض والقوافي‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫�سام؛ �إ ْذ َخ ِ�س َر و َل َد ْين‪ ،‬وكانا � َ‬
‫أثير ْين‬ ‫داث جِ ٌ‬ ‫َم َّر ْت ِب ِه � ْأح ٌ‬
‫والراغب ال ْأ�صبهاني‪.‬‬ ‫ره ب�أ�سلوبي الجاحظ ّ‬ ‫ذك ُ‬ ‫ِ‬
‫َمتينٍ ُي ّ‬ ‫عدة‪ ،‬كما‬ ‫�سنين ّ‬ ‫َ‬ ‫بالفالج الذي �أ ْق َع َد ُه‬ ‫ِ‬ ‫َل َد ْيه‪ .‬ف�أُ َ‬
‫�صيب‬
‫كتاب ُه «ال ِع ْقد» ك َّل �شيء)‪،‬‬ ‫(حوى ُ‬ ‫ابن العماد‪َ :‬‬ ‫قال عن ُه ُ‬ ‫�أنه �شكا من َج ْو ِر ال ّزمان‪�ِ ،‬ش ْعراً‪.‬‬
‫الم ْم ِت َعة)‪.‬‬ ‫تب ُ‬ ‫(من ال ُك ِ‬ ‫ابن َخ ِّلكان‪َ :‬‬ ‫وقال ع ْن ُه ُ‬ ‫(الم َم َّح�صات)‪،‬‬ ‫اه ُ‬ ‫�سم ُ‬
‫جيد‪ ،‬من ُه ما َّ‬ ‫ديوان ِ�ش ْع ٍر ٌ‬
‫ُ‬ ‫ل ُه‬
‫ربه‪ ،‬يقول الم َق ّر ُّي‪:‬‬ ‫من �آرا ِء العلماء في ابنِ َع ْب ِد ّ‬ ‫ْ‬ ‫نق�ض ما قا َل ُه في‬ ‫واعظ وال ّز ْهد‪َ ،‬‬ ‫الم ِ‬ ‫ق�صائد في َ‬ ‫ُ‬ ‫وهي‬
‫�ساد بال ِع ْل ِم ور�أَ ْ�س‪ ،‬وا ْق َت َب َ�س به ما ا ْق َت َب ْ�س‪،‬‬ ‫(عا ِل ٌم َ‬ ‫�صباه من ال َغ َزل وال ّن�سيب‪ ،‬ومن �شعره‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الم ْ�شرِقِ ِذ ْك ُر ُه‪،‬‬ ‫������ط ال����� ِع�����ذا ُر بِ���خ���ـ ِّ‬
‫���د ِه‬ ‫ي��ـ��ا ذا ال�����ذي خَ َّ‬
‫�سار �إلى َ‬ ‫و�شهِ َر بالأ ْند ُل ْ�س‪ ،‬حتى َ‬ ‫ُ‬
‫وكانت له عناي ٌة بال ِع ْلم‬ ‫�شر َر ال ّذكاء ِف ْك ُر ُه‪.‬‬ ‫ه����اج����ا لَ����� ْو َع ً‬
‫�����ـ�����ة و َب��ل�ابِ��ل�ا‬ ‫خَ ����طّ ���� ْي����نِ‬
‫ْ‬ ‫وا�ستطار َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ويقول ال َف ْت ُح بن خاقان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫و ِث َقة‪ ،‬ورِواي ٌة ل ُه ُم ّت�س َقة)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫����ص���ار ٌِم‬
‫���ك َ‬ ‫���ح ِع��� ْن���دي � َّأن ل ْ‬
‫َ���ح���ظَ َ‬ ‫����ص���ـ َّ‬
‫م��ـ��ا َ‬
‫���ك َح��� َم���ا ِئ�ل�ا‬‫ِ����ض��� ْي َ‬ ‫َح���� َتّ����ى لَ��� ِب ْ‬
‫�������س���تَ بِ���ع���ار َ‬
‫تهاه‪،‬‬ ‫أدب‪ ،‬و� َّإن َل ُه ِ�ش ْعراً ان ْتهى ُم ْن ُ‬ ‫(�إ ّن ُه ُح َّج ٌة في ال ِ‬
‫هبي‪:‬‬ ‫و�سهاه)‪ .‬وقال عنه ال ّذ ُّ‬ ‫ماك ال ْإح�سانِ ُ‬ ‫وتجاو َز ِ�س َ‬
‫(كان مو َّثق ًا نبي ًال بليغ ًا �شاعراً)‪.‬‬ ‫َ‬
‫أيام ِم ْن‬ ‫رب ِه َم ْيت ًا في َم ْنز ِل ِه‪َ ،‬ب ْع َد � ٍ‬ ‫ابن َع ْبد ّ‬ ‫ُوجِ َد ُ‬
‫وكان ذلك يوم ‪18‬‬ ‫َ‬ ‫دون � ْأن َي ْع َل َم ِب ِه � َأح ٌد‪،‬‬ ‫َوفا ِت ِه‪َ ،‬‬
‫جمادى الأولى ( ‪328‬هـ ‪940 -‬م)‪ ،‬ول ُه ا ْثنتانِ‬
‫ود ِف َن في ُقرطب َة‪.‬‬ ‫مانون �سن ًة‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫و َث‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪38‬‬


‫�أدبيات‬

‫������ه‬
‫اق ُ‬ ‫َ�������ض ال�����ذي �أَ ْح َ‬
‫������د ُ‬
‫����م م����ا ي����ق����ولُ ُخ����زَ ا ُم����ه����ا‬
‫�������س ال���غ ُّ‬ ‫َّ���رجِ ُ‬
‫َ�����رنُ�����و ِل����تَ���� ْف���� َه َ‬
‫ت ْ‬
‫وال���ن ْ‬ ‫واح ُة ِّ‬
‫ال�ش ْعر‬ ‫َ‬
‫����ح���� َم���� َّر ًة‬ ‫ً‬
‫������ن������ة ُم ْ‬ ‫وال�������������� َو ْر ُد َي���ح���ك���ي َو ْج‬ ‫تقية ال�صورية‬
‫ال����ح����ي����اءِ ِل��ث��ا ُم��ه��ا‬ ‫َ��������ر ِط َ‬
‫������ن ف ْ‬ ‫ْ�����ح�����لَّ ِم ْ‬ ‫ان َ‬ ‫علي‪ ،‬تقية بنت �أبي الفرج ال�سالمية الأرمنازية‬ ‫�أم ّ‬
‫الخلن‪:‬‬
‫وفي هجر ّ‬
‫ال�صورية‪ُ .‬ولدت في دم�شق �سنة (‪1111‬م‪ 505 -‬هـ)‪.‬‬
‫�����ل����ا ِئ����������ي وم��������ا ُخ����� ْن�����تُ����� ُه ْ‬
‫�����م‬ ‫َّ‬ ‫خ���������ان �أَ ِخ‬
‫َ‬
‫بـ(�ست ال ّنعم)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُعرفت‬
‫����ص��� ِف���ي ْ‬
‫���ق‬ ‫وج�����ه����� ًا َ‬‫ل���ل�������ش���ر ْ‬
‫ِّ‬ ‫������������������رزُوا‬
‫َ‬ ‫و�أَ ْب‬
‫ال������ق������دي������م ال�������ذي‬ ‫�����������������د َر ال�������������و ُّد‬ ‫وكُ‬
‫تعليمها‬
‫َ‬ ‫إ�سكندرية‪ ،‬وتل َّق ْت‬
‫َّ‬ ‫قلت في �صباها �إلى ال‬ ‫ا ْن َت ْ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫�����دم����� ًا ����ص���اف���ي��� ًا ك���ال��� َّرح���ي ْ‬
‫���ق‬ ‫ك������ان ِق ْ‬
‫َ‬ ‫َق ْ‬
‫������د‬ ‫ال�سلفي‪ .‬كانت �شاعر ًة وباحث ًة‪.‬‬ ‫هناك على ي ِد �أبي طاهر ّ‬
‫وم ْن كتبوا َع ْنها ب ِف ْطن ِتها‬ ‫واعترف معا�صروها َ‬ ‫َ‬
‫�����م‬
‫������رب������ي لَ����� ُه ْ‬ ‫������د ُق ْ‬
‫وب������اع������دون������ي َب������ ْع َ‬ ‫َ‬
‫�������ي�������ق‬
‫ْ‬ ‫ق����ل����ب����ي م������ا ال �أُ ِط‬
‫َ‬ ‫َو َح������� َّم�������لُ�������وا‬ ‫وكان باحث ًا‬ ‫َ‬ ‫بن َحمدون‪،‬‬ ‫تزوجت فا�ض َل َ‬ ‫وم ْو ِه َب ِتها‪ّ .‬‬
‫َ‬
‫وال�ش ْوقِ ‪:‬‬
‫الحنين َّ‬ ‫بارزاً‪.‬‬
‫وفي َ‬
‫َ���ح��� َو �أَ ْوطَ ����ا ِن����ي‬
‫���ت و����س���او� ُ���س ���ش��وق��ي ن ْ‬ ‫ه���اج ْ‬‫َ‬ ‫ما�س ِة‬
‫الح َ‬‫وتنوع في ال َف ْخ ِر و َ‬ ‫جيداً‪ّ ،‬‬ ‫وكان ِ�ش ْع ُرها ّ‬
‫���د ُ���س��لْ��وان��ي‬ ‫ِ‬
‫ا����ص���ط��� َب���اري ب��� ْع َ‬ ‫وب������ان َع���نِّ���ي‬
‫َ‬ ‫وكان‬
‫المظ ّفر‪َ .‬‬ ‫الملك ُ‬
‫دحت َ‬ ‫وقد َم ْ‬ ‫أدب‪ْ .‬‬ ‫ديح والهِ جا ِء وال ِ‬ ‫والم ِ‬‫َ‬
‫���ر‬ ‫وب�����ت �أَ ْر َع���������ى ال ُّ‬
‫�������س��� َه���ا وال���ل���ي���لُ ُم��� ْع���تَ��� ِك ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫بن فا�ضل باحث ًا متميزاً �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫علي ُ‬ ‫اب ُنها �أبو الح�سن‪ّ ،‬‬
‫��ب َ�أ ْج���فَ���ان���ي‬‫��ح ِ‬ ‫�����س��جِ ٌ��م ِم ْ‬
‫����ن ُ���س ْ‬ ‫����ع ُم�� ْن َ‬
‫وال����د ْم ُ‬
‫َّ‬ ‫فالمها‬ ‫َ‬ ‫قالت �أبيات ًا ت ْف َخ ُر ِب َن ْف�سها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫تقي ُة‪،‬‬
‫وكانت ّ‬
‫����ت ُم��� ْق���لَ��� ِت���ي ط��� ْي���ف��� ًا �أَل َّ‬
‫َ����������م ب��ه��ا‬ ‫وع����اتَ���� َب ْ‬ ‫أبيات‪َ ،‬م ْط ِل ُعها‪:‬‬
‫أحد ُهم ب� ٍ‬ ‫� ُ‬
‫���ل��انِ‬ ‫ِ‬
‫ب������خ ّ‬ ‫������ل������انٍ‬
‫ّ‬ ‫�أَه���������كَ���������ذَ ا ِف������� ْع�������لُ ِخ‬ ‫�����س ُ��ه‬
‫����ر ُء نَ�� ْف َ‬
‫����د َح ال���� َم ْ‬ ‫����ر ٌف � ْأن َي ْ‬
‫����م َ‬ ‫و م���ا � َ����ش َ‬
‫��ر َل��ظ ً��ى‬‫��م ُ‬ ‫���ت َع�� ْن��ك ْ��م وف���ي الأح�����ش��اءِ َج ْ‬ ‫������د ُح ن����أَ ْي ُ‬ ‫ل����ك����ن � ْأع�������م�������ا ًال تُ�����������ذَ ُّم و ت ْ‬
‫ُ������م َ‬ ‫َّ‬ ‫و‬
‫�����س��م��ي ِل��� َم���ا �أَ ْه���������� َوا ُه ُع�� ْن��وان��ي‬ ‫���م جِ ْ‬ ‫و����س��� ْق ُ‬
‫ُ‬ ‫فرد ْت عليه‪ ،‬بهذه ال ِ‬
‫أبيات‪:‬‬ ‫ّ‬
‫َّ�������رتُ �أ ّي������ام������ ًا ل���ن���ا َ����س���لَ���ف ْ‬
‫َ���ت‬ ‫�إذا تَ�������ذَ ك ْ‬ ‫���ب ع��ل��ى الإ ْن���������س����انِ �إظْ �����ه�����ا َر ِع��� ْل��� ِم ِ‬
‫���ه‬ ‫تَ���ع���ي ُ‬
‫ع���������ان َد ْم����ع����ي ع���ل���ى تَ���غْ���ري���ق ِن ْ‬
‫�����س��ي��ان��ي‬ ‫َ‬ ‫�أَ‬ ‫َ����م����زَ ُح؟‬
‫���ك �أ ْم �أنْ������تَ ت ْ‬ ‫����د ه����ذا ِم��� ْن َ‬ ‫�أَب����الْ����جِ ِّ‬
‫توفيت في م�صر �سنة (‪1185‬م ‪ 579 -‬هـ‪ ،).‬عن‬ ‫َ�����د َم َق�� ْب��لَ��ن��ا‬ ‫َ�����دتْ�����ك ح���ي���ات���ي‪َ ،‬ق ْ‬
‫������د تَ�����ق َّ‬ ‫ف َ‬
‫أربع و �سبعين �سنة‪.‬‬ ‫ِ���م َق������ ْو ٌم و ق���ال���وا ف���أفْ�����ص��ح��وا � ٍ‬ ‫���د ِح���ه ْ‬ ‫�إل����ى َم ْ‬
‫���دي���ح ِ‬
‫���ه‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫�����������رف ف����ي َم‬ ‫و ِل���ل ُ‬
‫ْ���م���تَ���ن��� ّب���ي � ْأح‬
‫����ح‬
‫�����ض ُ‬
‫وال����ح����قُّ �أ ْو َ‬
‫َ‬ ‫ب���ال���ح���قّ ‪،‬‬
‫َ‬ ‫�������س ِ‬
‫���ه‬ ‫ع��ل��ى نَ��� ْف ِ‬
‫���وق���ن���ي‬‫�أرون����������ي ف�����ت�����ا ًة ف�����ي زم�����ان�����ي تَ���ف ُ‬
‫���د ُح‬ ‫و تَ�� ْع��ل��و ع��ل��ى ِع��لْ��م��ي و تَ��ه��ج��و و ت ْ‬
‫َ���م َ‬
‫ومن �شعرها في ال ّت� ّأمل‪:‬‬
‫������ت �أَ َّي����ا ُم����ه����ا‬
‫������ر َق ْ‬ ‫�أع�����وا ُم�����نَ�����ا ق����د �أَ ْ‬
‫�������ش َ‬
‫ِ‬
‫���م���اك خ��ي��ا ُم��ه��ا‬ ‫ال�������س‬
‫ِّ‬ ‫���ل��ا ع���ل���ى ظَ ���� ْه����رِ‬
‫وع َ‬
‫ق�����اح ِ‬
‫�����ه‬ ‫ِ‬ ‫���م بِ�����نَ����� ْو ِر �أَ‬ ‫وال�����رو������ض ُم��� ْب���ت ِ‬
‫َ�������س ٌ‬ ‫ُ‬
‫َ������رح������ ًا َع����لَ���� ْي ِ‬
‫����ه غَ ��� َم���ا ُم���ه���ا‬ ‫لَ���� ّم����ا ب���ك���ى ف َ‬

‫‪39‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ت�أليف‬
‫على �صواب‬
‫على �صواب؟)‪.‬‬ ‫�آخر لأنه �شتم ملكه‪ ،‬و�أحد �أجداد الثاني هو‬
‫وم�ضت ال�شا�شة ع� ّ�دة م ��رات‪ ،‬م��ا لبثت‬ ‫الحار�س المقتول ال��ذي �شتم الملك‪ .‬الثالث‬
‫بحديث �صاخب‬ ‫ٍ‬ ‫�أن انطف�أت‪ ،‬وب��د�أ الأربعة‬ ‫ُولد في مكانٍ ما من � ٍأب و�أم مختلفين في‬
‫ا�ستحال �إلى �صراخ‪ ،‬ثم �إلى �شجارٍ ج�سدي‪.‬‬ ‫اعتقادهما‪� ،‬أما الرابع فال يعرف �أ�صله‪ ،‬يعتقد‬
‫�سره �أن��ه على‬ ‫كل منهم يعتقد في ّ‬ ‫كان ٌّ‬ ‫�أنه لقيط‪ ،‬وغير مبالٍ فقط‪.‬‬ ‫يو�سف محمد �شرقاوي‬
‫�صواب‪ ،‬ولما ف�شل في �إقناع الآخرين وجد‬ ‫� ّإن هذه الوجوه الأربعة هي وجه واحد‬
‫تحول �أ�سلوبه‪.‬‬
‫إرادة منه قد ّ‬ ‫نف�سه بال � ٍ‬ ‫كل منهم ت�سري فيه دماء‬ ‫في الأ�صل‪ ،‬وج�سد ٍ ّ‬ ‫�شخ�ص ما الآن في ه��ذا العالم‬ ‫ٌ‬ ‫يقف‬
‫ُ‬
‫عد تنازلي‬ ‫ظهر على ال�شا�شة مرة �أخرى ٌّ‬ ‫ومكون من لحم‪ ،‬ذات الأع�ضاء لأربعتهم‪ ،‬لكن‬ ‫على �شرفته لينظر �إلى المطر المت�ساقط من‬
‫للوقت‪ ،‬ابتد�أ من �ستين ثانية‪ ،‬خاللها‪ ،‬احترق‬ ‫كل واح��د منهم له معتقده الخا�ص‪ ،‬فمث ًال‬ ‫غيمة �ض ّلت طري َقها �إلى �سما ٍء �أخرى‪ ،‬ويقف‬ ‫ٍ‬
‫واحد منهم‬ ‫ٌ‬ ‫المترجم الآلي من ال�صراخ‪ ،‬وك�سر‬ ‫فقط في النظر �إلى م�س�ألة الروح والج�سد هم‬ ‫�شخ�ص ما غيره وا�ضع ًا وجهه على زجاج‬ ‫ٌ‬
‫نافذة في الطائرة حتى هوت بهم جميع ًا‪.‬‬ ‫مختلفون‪� ،‬إذ يوجد منهم من ي�ؤمن بثنائية‬ ‫بالحمى �أو الزكام‪،‬‬‫ّ‬ ‫نافذته كي ال ُي�صاب‬
‫اعتلى العا ِلم المن�صة من جديد‪ ،‬و�سط‬ ‫ال��روح والج�سد‪ ،‬ومنهم من ي�ؤمن ب�أحادية‬ ‫و�شخ�ص‬
‫ٌ‬ ‫ثلج ثقيل قرب عينيه‪،‬‬ ‫بينما يهطل ٌ‬
‫ب�صوت واث��ق‪� :‬أر�أيتم كيف‬ ‫ٍ‬ ‫الت�صفيق‪ ،‬وقال‬ ‫الج�سد‪ ،‬ومنهم من يجحد الج�سد‪ ،‬ومنهم من‬ ‫بقبعة‬ ‫ٍ‬
‫حديقة ما ّ‬ ‫�آخر يجل�س على كر�سي في‬
‫ِ‬
‫الإن�سان ي�سيل خراب ًا �إذا ما ُجمع ببني جن�سه؟‬ ‫ال يكترث لهذا ك ّله‪.‬‬ ‫�صيفية تقيه القيظ والحر‪ ،‬و�آخر في بقعةٍ‬
‫عدة مرات بعد ذلك‪،‬‬ ‫�أُجريت تلك الم�سابقة ّ‬ ‫والآن‪� ،‬سنجمعهم على متن ط��ائ��رة‪،‬‬ ‫�أخ��رى يت� ّأمل زه��ر ًة تتف ّتح ونحل ًة قطعت‬
‫ودائم ًا ما كانت تنتهي بالنتيجة نف�سها‪.‬‬ ‫ونو ّثق ما �سيجري‪.‬‬ ‫م�سافة لي�ست بق�صيرة �إلى يده على وجه‬
‫حينما طلبوا من العا ِلم نف�سه �أن يخو�ض‬ ‫�رج��ل ال��ع��ا ِل��م ع��ن ال��م��ن��� ّ��ص��ة‪ ،‬و�ص ّفق‬
‫ت� ّ‬ ‫التحديد‪.‬‬
‫التجربة‪ ،‬وحينما كان على متن طائرة مع‬ ‫الح�ضور‪ ،‬ثم ُبعث موظف �إل��ى منطقة كل‬ ‫� َّإن ه��ذه الأوج���ه الأرب��ع��ة المختلفة‪،‬‬
‫بقوة الفكر‬ ‫ثالثة �أ�شخا�ص �آخرين يعادلونه ّ‬ ‫واحد من �أولئك الأربعة‪ ،‬ليعطيه تذكرة �سفر‬ ‫هي نف�سها وج ٌه واحد لمخلوقٍ واحد‪ ،‬على‬
‫والبداهة والفطنة‪ ،‬حدث الأمر نف�سه‪ ،‬وك�سر‬ ‫ليتم ّكن من الم�شاركة بم�سابقة عامة ُتعقد‬ ‫الرغم من � ّأن �أولئك الأربعة يختلفون في‬
‫�أحدهم نوافذ الطائرة كي تهوي‪ ،‬وكان العالم‬ ‫جوية‪.‬‬‫خالل رحلة ّ‬ ‫يظن � ّأن ال�سعادة‬ ‫ّ‬ ‫وجهات النظر‪ ،‬ف� ّأولهم‬
‫ي�ضحك‪ ،‬وه��و ي�صرخ‪ ،‬وق��د ط��ار عقله‪� :‬ألم‬ ‫وجمعوا على‬ ‫وافق الأربعة على الرحلة‪ُ ،‬‬ ‫محور الحياة‪ ،‬وي�سير على نهج �أبيقور‬
‫�أخبركم �أنني على �صواب؟‬ ‫متن طائرة واح��دة‪ ،‬ت�سير من خالل التحكم‬ ‫بعي�ش اللحظة‪ ،‬غير مكترث بما هو قادم‪،‬‬
‫الآلي‪ ،‬لي�س فيها �سواهم‪.‬‬ ‫غارق في روحه وما‬ ‫ٌ‬ ‫وثانيهما متدين جداً‪،‬‬
‫ف��ي ���ص��در ال��ط��ائ��رة‬ ‫مادة‪ ،‬ويغو�ص‬ ‫ّ‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫ناكر ك ّل‬
‫�ست�ؤول �إليه‪ٌ ،‬‬
‫�شا�ش ٌة �صغيرة‪ُ ،‬عر�ض‬ ‫ليت�صور ج�سده‬
‫ّ‬ ‫ال�شباك‬
‫قرب كرات الثلج من ّ‬
‫ع��ل��ي��ه��ا ف���ي ال ��ب ��داي ��ة‪:‬‬ ‫عالم مختلف‪ ،‬محاو ًال �أن يفتح نافذة‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫(ت��ح� ّ�دث��وا �إل���ى بع�ضكم‬ ‫ينظر من خاللها �إلى ما يختبئ خلف هذا‬
‫بع�ض ًا)‪.‬‬ ‫يظن � َّأن‬
‫ّ‬ ‫العالم �أو ما هو بعده‪ ،‬والثالث‬
‫ك�����ان�����ت ال���ل���غ���ات‬ ‫الب�ؤ�س والوحدة هما محور �سنينه‪ ،‬و�أنه‬
‫مختلفة‪ ،‬وهناك مترجم‬ ‫بيت معزول ي�ستمع‬ ‫�سي�شيخ وحيداً‪ ،‬وهو في ٍ‬
‫�آل� ��ي ي��ت��رج��م ك�ل�ام ك � ٍّل‬ ‫لمو�سيقا كئيبة‪ ،‬لديه كلب ما �أو �أي حيوان‬
‫منهم �إل ��ى لغة الثالثة‬ ‫�أليف ي�ؤن�سه في عزلته‪ ،‬والعرق يت�صبب من‬
‫الآخرين‪ ،‬وبعد �أن انتهوا‬ ‫جبهته �إل��ى عينيه ليمنحه �صور ًة ما عن‬
‫بد�أت الأ�سئلة‪.‬‬ ‫م�ستقبله البعيد‪� ،‬أما الرابع والأخير‪ ،‬الذي‬
‫ؤال واحد‪،‬‬ ‫ُعرِ�ض �س� ٌ‬ ‫يقف قرب النحلة‪ ،‬فهو ال يعتقد �شيئ ًا‪ ،‬هو‬
‫���ش��رط ال‬
‫ٌ‬ ‫وك�� ِت ��ب تحته‬‫ُ‬ ‫غير مبالٍ فقط‪ ،‬ح ّتى � ّإن منظر الربيع ال‬
‫بد �أن يتحقق‪� ،‬أن ي ّتفق‬ ‫ّ‬ ‫يبعث في �سريرته �أي �شعور‪� ،‬إنما يراه منظراً‬
‫جواب واحد‬ ‫ٍ‬ ‫الأربعة على‬ ‫االعتيادية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طاغي ًا في‬
‫لهذا ال�س�ؤال‪ ،‬ظهر ال�س�ؤال‬ ‫ه���ؤالء الأرب��ع��ة ينحدرون من �أ�صولٍ‬
‫على ال�شا�شة ف��ي هذه‬ ‫مختلفة‪ ،‬متقاربة فيما بينها‪ .‬فال ّأول �أحد‬
‫ال�صيغة‪ُّ �( :‬أي واح ٍد منكم‬ ‫�أج���داده ك��ان ح��ار���س� ًا لملك قتل حار�س ًا‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪40‬‬


‫قا�ص وناقد‬

‫نقد‬

‫«على �صواب»‬
‫انحياز للمو�ضوع على ح�ساب ال�شكل‬
‫د‪ .‬عاطف عطااهلل البطر�س‬

‫خطاب الحكاية‪� :‬إن ه��ذه الأوج��ه هي‬ ‫المتوقع �أو المنتظر �أن يكون ت�صرفهم بحكم‬ ‫م��ا �إن تفرغ م��ن ق ��راءة ق�صة يو�سف‬
‫نف�سها وج��ه واح��د لمخلوق واح��د مع �أن‬ ‫موقعهم العلمي ومكانتهم مفارق ًا ل�سلوك‬ ‫محمد �شرقاوي (على �صواب) متوقف ًا عند‬
‫�أولئك الأربعة يختلفون في وجهات النظر‪....‬‬ ‫الأربعة المتجلين بوجه واحد‪ ،‬وذلك يغني‬ ‫نهايتها‪ ،‬حتى تجد نف�سك مبا�شرة �أم��ام‬
‫�إذا ت�أملنا ه��ذا اال�ستنتاج فهو بعيد عن‬ ‫الق�صة ويمنحها قيمة م�ضافة‪.‬‬ ‫العتبة الن�صية الأولى(العنوان) في حركة‬
‫ال�صواب م��ن الناحية العلمية‪ ،‬فالنا�س‬ ‫�أم��ا من حيث المتن البنائي فحكاية‬ ‫دائ��ري��ة تعود فيها �إل��ى حيث ب ��د�أت‪ ،‬دون‬
‫�أفراد متمايزون لكلٍ منهم �شكله الج�سدي‪،‬‬ ‫الق�صة لي�ست الق�صة نف�سها‪ ،‬ت�صبح الحكاية‬ ‫اعتبار لأهمية النهاية ومدى ت�أثيرها في‬
‫وتكوينه النف�سي والثقافي‪ ،‬وهذا ال ينفي‬ ‫ق�صة با�ستخدام تقنيات ال�سرد‪ ،‬وما تو�صلت‬ ‫فعل التلقي‪.‬‬
‫ا�ستثمار للعالقة‬
‫ٌ‬ ‫التقاءهم في العام‪ ،‬وهنا‬ ‫�إليه الق�صة الق�صيرة من مهارة بالتالعب‬ ‫العنوان عتب ٌة ن�صي ٌة �أولى ولحظة تنوير‬
‫بين العام الم�شترك الإن�ساني والخا�ص‬ ‫ب��ال��زم��ن‪ ،‬وت��ب��دل ب��الأم��ك��ن��ة وا���س��ت��خ��دام‬ ‫ولقاء فاعل بين المر�سل والمتلقي‪ ،‬كما هو‬
‫التكوين ال�شخ�صي الذي �أغفله الكاتب لي�صل‬ ‫لل�ضمائر ال�سردية المختلفة‪� ،‬إ�ضاف ًة �إلى ٍ‬
‫لغة‬ ‫حامل للداللة ومفتاح للمقروء‪.‬‬
‫�إل��ى النتيجة (تبئير الق�ص) ب ��أن الوجوه‬ ‫�أدبية ت�ستثير الخيال وتحفز العاطفة خالقة‬ ‫ع��ن��وان ق�����ص��ة (ع��ل��ى � ��ص ��واب) ي�شي‬
‫الأربعة وجه واحد‪.‬‬ ‫بناء بين المر�سل و المتلقي‪.‬‬ ‫تفاع ًال ً‬ ‫بمو�ضوعها ويتطابق مع متنها تطابق ًا‬
‫وب��م��ا �أن ال��ق�����ص��ة ت��م��ي��ل م ��ن حيث‬ ‫كام ًال دون انزياح �أو �إف�ساح في المجال‪،‬‬
‫(�أر�أي��ت��م كيف الإن�����س��ان ي�سيل خراب ًا‬ ‫المو�ضوع �إلى �إثبات فكرة‪ :‬الإن�سان واحد‬ ‫لأي ت�أويل ي�ضيفه القارئ �إليها يف�ضي‬
‫�إذا ما جمع ببني جن�سه)‪ .‬نجيز لأنف�سنا‬ ‫في متعدد‪ ،‬وفي تكوينه م�شتركات �إن�سانية‬ ‫�إلى داللة جديدة تفتح �أفق ًا للتلقي‪ ،‬عنوان‬
‫التركيز على الم�ضمون في حالة تراخي‬ ‫على اختالف وجوده الجغرافي والمناخي‪،‬‬ ‫مكتف بذاته‪ ،‬مو�ضوع ًا‬ ‫ٍ‬ ‫منغلق على متنه‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ال�شكل ووجود افتراق بينهما‪ ،‬فهل ا�ستنتاج‬ ‫ف�أحد �شخ�صيات الق�صة من ب�لاد كثيرة‬ ‫ودالل ًة‪.‬‬
‫الم�ؤلف (ال�سارد) �صحيح؟ بمعنى �آخر ومن‬ ‫المطر‪ ،‬و�آخر من بالد الثلج‪ ،‬وثالث يجل�س‬ ‫�أَول���ى الكاتب ج � َّل اهتمامه لأهمية‬
‫نف�س المنطلق‪ ،‬هل كان ال�سارد (الم�ؤلف)‬ ‫ف��ي م��ك��ان �شديد ال��ح��ر‪ ،‬و�آخ���ر ف��ي ف�صل‬ ‫المو�ضوع ال��ذي يميل �إل��ى الفكر الفل�سفي‬
‫على �صواب؟!‬ ‫الربيع؛ يعني من مناطق مختلفة من حيث‬ ‫دون �أن ي�ستخدم ف��ي عر�ضه لم�ضمونه‬
‫خير عميم‬ ‫اجتماع النا�س قد يكون فيه ٌ‬ ‫البيئة الجغرافية‪ ،‬و مع هذا فهم مختلفون‬ ‫تدعم البناء الفني لق�صته‪،‬‬ ‫أدوات �سردي ًة ّ‬ ‫� ٍ‬
‫للب�شرية جمعاء‪ ،‬وقد يحمل �شروراً �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫في �آرائهم و �أفكارهم‪ ،‬وه��ذا يتنا�سب مع‬ ‫من و�صف وح��وار ومونولوج وا�سترجاع‬
‫وه ��ذا يتوقف على نوعية النا�س وعلى‬ ‫تكوين وطبائع الب�شر‪.‬‬ ‫وغ��ي��ره��ا‪ ،...‬ف��الأف��ك��ار مهما كانت نبيلة‬
‫�أهدافهم‪.‬‬ ‫جهد الكاتب على تر�سيخ الفكرة القائلة‪:‬‬ ‫وقيمة ال ت�صنع ق�صة ‪�،‬إال �أن الق�صة ال تقوم‬
‫والخال�صة �أن الم�سكوت عنه في الق�صة‪،‬‬ ‫مهما اختلف النا�س وتباينوا ف��ي كثير‬ ‫بدونها‪.‬‬
‫�أو ما لم يقل فيها مبا�شرة لكنه ي�ستنتج من‬ ‫من الق�ضايا وال�سلوكيات والأف��ك��ار‪ ،‬فهم‬ ‫يتطابق ال��راوي المهيمن (العليم) مع‬
‫بين �سطورها‪ :‬ال تظنوا �أنف�سكم دائم ًا على‬ ‫�أق��رب �إلى التطابق كالأربعة الذين يعتقد‬ ‫الم�ؤلف في بناء الن�ص و�إدارة الوقائع‬
‫�صواب واعترفوا ب�إمكانية احتمال الخط�أ‬ ‫كل منهم �أنه على �صواب‪ ،‬وكذلك العلماء‬ ‫وتطور الأحداث وتقديم ال�شخ�صيات وتحديد‬
‫أكيد لمقولة معروفة‬ ‫بما تعتقدون‪ ،‬وهو ت� ٌ‬ ‫الذين يفتر�ض �أن يكونوا على �سوية علمية‬ ‫النهاية‪.‬‬
‫�صواب يحتمل الخط�أ‪ ،‬ور�أي��ك خط�أ‬ ‫ٌ‬ ‫(ر�أي��ي‬ ‫ومعرفية �أعلى ال يتمايزون عن �سواهم‪،‬‬ ‫وفي الق�صة (البنية الن�صية) اعتماد‬
‫يحتمل ال�صواب)‪.‬‬ ‫في نف�س التجربة اعتقد كل منهم �أنه على‬ ‫ك ّلي على الحكاية‪ ،‬فقد بدت الحبكة متينة‬
‫وهي دع��و ٌة �إل��ى االنفتاح على الآخ��ر‪،‬‬ ‫�صواب ‪.‬‬ ‫من الناحية الفكرية وواقعية لغة وعر�ض ًا‬
‫والإ�صغاء له وال��ح��وار معه‪ ،‬و���ص��و ًال �إلى‬ ‫الفكرة وا�ضحة دون �أقنعة فنية �أو‬ ‫وتما�سك ًا‪ ،‬بما ف��ي ذل��ك المقطع الأخير‬
‫قوا�سم م�شتركة تغني الر�أي الواحد‪ ،‬وتنقله‬ ‫جماليات بنائية تنقل الق�صة من الواقع‬ ‫(العالم ومن يقاربه معرف ًة وت�صرف ًا و�سلوك ًا‬
‫�إلى المتعدد والمختلف‪.‬‬ ‫(الحكاية) �إلى متعة المتخيل‪.‬‬ ‫كما حدث في الطائرة التي �أقلتهم)‪ ،‬كان من‬

‫‪41‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫المتواريات‬
‫بين الإبداع والتلقي‬ ‫نوال يتيم‬

‫المتلقي وال��م��ت��ذوق‪ ،‬وهنا تتجلى جمالية‬ ‫�إن تلقي جماليات الن�صو�ص الأدبية‪� ،‬شعراً‬
‫التوازي الم�صاحبة للن�ص بين رحلتين هما‪:‬‬ ‫كانت �أو نثراً‪ ،‬مجال رحيب يحلق في ف�ضاء‬
‫(الإبداع والتلقي)‪.‬‬ ‫خيال المتلقي وذوقه‪ ،‬فيرحل به �إلى ما تن�سمه‬
‫وقد �أدرك �أبو الطيب المتنبي‪ ،‬هاته الحقيقة‬ ‫الأديب ويتبع خطاه‪ ،‬وير�صد م�شاعره و�أفكاره‬
‫منذ القرن الرابع الهجري‪ ،‬مجيب ًا �سائ ًال عن‬ ‫وتعبيراته‪ ،‬ويتمتع بخواطره فيلتقي �أف��ق‬
‫قد ينجح المتلقي‬
‫معنى بيت �شعري له بقوله‪( :‬ا�س�ألوا ابن جني‬ ‫الكاتب ب�أفق المتلقي فيكمل كل منهما الآخر‪.‬‬
‫بب�صيرته وذائقته‬ ‫فهو �أعلم ب�شعري مني)‪ ،‬وهي مقولة موجزة‬ ‫فال�شاعر بحكم �ضوابط ال�شعر وقيوده‪،‬‬
‫في ا�ستكمال العنا�صر‬ ‫مذهلة مخت�صرة لنظرية التلقي‪ ،‬منحت المتذوق‬ ‫ال يتاح له التوقف عند جزئيات وتفا�صيل‪،‬‬
‫مكانة مرموقة‪ ،‬من خ�لال ا�ستجابة للن�ص‬ ‫وال ت�سمح له طبيعة ال�شعر القائمة على اللمح‬
‫الغائبة في ال�صورة‬
‫وا�ستكمال ثغراته عن طريق ذائقته وفهمه له‪،‬‬ ‫والإيجاز با�ستكمال بع�ض الجزئيات المكملة‬
‫فجعل المتنبي (وهو المبدع) ابن جني (وهو‬ ‫للم�شهد‪ ،‬فيتلقى القارئ بب�صيرته وذائقته‬
‫المتلقي) �أو�سع علم ًا ب�شعره و�أكثر �إدراك� ًا له‪،‬‬ ‫العنا�صر الغائبة �أو ال��م��ت��واري��ة‪ ،‬ف��ي ظالل‬
‫ما يجعل ال�شاعر يقتل �إبداعه وي�ضيق مجاله‬ ‫ال�صورة و�أفيائها‪ ،‬ويحاول ا�ستكمال ر�سمها‬
‫لو ف�سره‪.‬‬ ‫والمتخيلة‪ ،‬لتتجلى‬
‫ّ‬ ‫بعنا�صرها المح�سو�سة‬
‫وق���د �أورد ال��دك��ت��ور (م��ح��م��د حما�سة‬ ‫نظرية (المتلقي) التي �أر�سى دعائمها الباحثان‬
‫عبداللطيف) بكتابه (الإبداع الموازي‪ -‬التحليل‬ ‫الألمانيان (هانز روبرت ياو�س) و(ولفغانغ‬
‫الن�صي لل�شعر) �شرح ًا م�ستفي�ض ًا عن التذوق‪،‬‬ ‫�إي��زر)‪ ،‬ليطلق عليها (ا�ستجابة المتلقي) من‬
‫معتبراً �إج��اب��ة المتنبي نظرية تج�سدت من‬ ‫طرف الأمريكيين‪� ،‬أمثال (هير�ش) و(�ستانلي‬
‫عندما يلتقي �أفق‬ ‫خالل اعترافه بالإبداع الموازي للمتلقي الذي‬ ‫في�ش) و(هوالند)‪.‬‬
‫الكاتب ب�أفق المتلقي‬ ‫ي�ستنطق ظواهر ال�صورة ال�شعرية‪ ،‬ويرتحل‬ ‫فال�شعر ال ي���أذن بالبوح بكل تفا�صيل‬
‫ويطوف ويت�أمل عنا�صر الم�شهد‪ ،‬وتتجلى له‬ ‫الخلجات والأحا�سي�س وال���ر�ؤى‪ ،‬بل يكتفي‬
‫يكمل كل منهما‬ ‫�إي��ح��اءات محتجبة في ثنايا الن�ص‪ ،‬معتبراً‬ ‫باللمحة والإي��م��اء والتلويح‪ ،‬في�ضع ال�شاعر‬
‫الآخر‬ ‫ال�شعر لمحات موحية‪ ،‬والتلقي بيان ًا وتف�صي ًال‬ ‫رحلته ال�شعورية ف��ي معالم موحية على‬
‫لتلك اللمحات‪ ،‬ت�سايرها وتوازيها وتالم�سها‬ ‫المتلقي ا�ستكمال م�سارها‪ ،‬من خالل عدته في‬
‫وتقر�أ �إيحاءاتها‪ ،‬وبذلك تتكامل رحلة الإبداع‬ ‫الترحال ال�شعوري‪ ،‬وزاده القائم على ما لديه‬
‫الأدب� ��ي‪ ،‬عندما ت�ضم ف��ي م�سارها المبدع‬ ‫من مخزون معرفي وخيالي وثقافي‪.‬‬
‫والمتلقي حتى قيل‪ :‬ال�شعر لمح تكفي �إ�شارته‬ ‫فكما �أن رحالت الإب��داع الأدب��ي تتفاوت‬
‫طولت خطبه‪.‬‬ ‫ولي�س بالهذر ّ‬ ‫بين الأدب����اء‪ ،‬ك��ذل��ك تتنوع وت��ت��ف��اوت لدى‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪42‬‬


‫ر�ؤية‬

‫و�صورة �أخرى في تفكره الذي يجرحها دون‬ ‫فعندما يطلق ال�شاعر لب�صره وب�صيرته‬
‫م�شاهدتها‪ ..‬نوغل بال�صورتين في �إيحاءات‬ ‫العنان‪ ،‬ويالم�س نوا�صي المعاني‪ ،‬ف�إن ب�صيرة‬
‫�شديدة البالغة بين الواقع والخيال ت�ستفز‬ ‫المتلقي �أي�ض ًا‪ ،‬تحاول �أن تمنح ما احتجب من‬
‫المتلقي لمحاولة �إدراك المع�شوقة‪ ،‬وقد تعجزنا‬ ‫ال�ضياء �إن��ارة‪ ،‬يكتمل بها الم�شهد فينال كل‬
‫عن الإلمام بها ومعرفتها‪ ،‬وهنا تتجلى �إ�شراقة‬ ‫منهما حظه من الرغبة في الهم�س والنجوى‬
‫ال�شعر ال يبوح بكل‬ ‫الإبداع والت�صوير والتعبير‪ ،‬ولعله ي�صدق على‬ ‫والتعبير والنور‪ ،‬فتطوف اللم�سات الجمالية في‬
‫تفا�صيل الخلجات‬ ‫ليلى ا�ستفهام‪:‬‬ ‫�أرجاء العالم ال�شعري الف�سيح ب�إ�ضمامات ندية‬
‫والر�ؤى ويكتفي‬ ‫ِ‬
‫ظبيات ال��ق��ا ِع ُق�� ْل َ��ن لنا‬ ‫ب���ا ِ‬
‫هلل ي��ا‬ ‫تف�سح المجال رحب ًا لما احتجب من بينها‪ ،‬تعول‬
‫منكن �أ ْم ليلى م��ن الب�شرِ‬ ‫َّ‬ ‫��ي�لاي‬
‫ل َ‬ ‫على اال�ستيحاء واال�ستدعاء واال�ستح�ضار‪،‬‬
‫باللمحة والإيماء‬ ‫ونجد مجنون ليلى‪ ،‬ف��ي �أب��ي��ات �أخ��رى‪،‬‬ ‫وتت�أمل الظاهر من عنا�صر الم�شهد وت�ستنطق‬
‫والتلويح‬ ‫مفتتح ًا ن�صه ب ��أداة ا�ستفتاح للتنبيه ليوقظ‬ ‫بواطن ال�صورة الإبداعية‪.‬‬
‫المتلقي‪� ،‬إال �أن �أم��راً ذا �ش�أن �سوف يالم�س‬ ‫فنجد م��ن تلك الإ�ضمامات على �سبيل‬
‫�سمعه‪ ،‬و�إذا به �أمام عا�شق ينفث لواعج ع�شق‬ ‫المثال ال الح�صر ل��واع��ج ال�شوق والحنين‪،‬‬
‫�أثخنت قلبه في قوله‪:‬‬ ‫و�إن كانت بع�ض اللواعج عند ال�شعراء م�ؤن�سة‬
‫نجد متى هجت من نجدِ‬ ‫�أال يا َ�صبا ٍ‬ ‫�شافية‪ ،‬وها هو مجنون ليلى يئن قائ ًال‪:‬‬
‫وجد‬ ‫م�سراك وجد ًا على ِ‬
‫َ‬ ‫فقد زادني‬ ‫���ر ف��� َي����ؤُ ُّده���ا‬
‫ي��م��ر ب��وه��م��ي خ���اط ٌ‬
‫ّ‬
‫و�إن قربت دار ًا بكيت و�إن ن���أت‬ ‫ويجرحها دون العيان لها فكري‬
‫يتكئ المتلقي‬ ‫ِ‬
‫البعد‬ ‫كلفت‪ ،‬فال للقرب �أ�سلو وال‬ ‫فال�صورة هنا تحتاج �إل��ى رحلة خيالية‬
‫على ما لديه من‬ ‫فها ه��و يبث لواعجه للمتلقي‪ ،‬فيوازن‬ ‫موغلة في الدقة و�إدراك الم�شاهد‪ ،‬التي توحي‬
‫ال�صبا)‬
‫بين الريح التي تهب من الغرب (ريح َّ‬ ‫�أو تبوح بها المفردات والتراكيب‪ ،‬فليلى ال�شاعر‬
‫مخزون معرفي‬ ‫وما تتلذذ به النف�س مما تجلبه تلك الريح‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬عجيبة الأطوار والتكوين‪ ،‬ف�إذا مر بها في‬
‫وخيالي وثقافي في‬ ‫وم��ا لل�صبا من دالالت و�إي��ح��اءات‪ ،‬فيجعل‬ ‫رحاب وهمه خاطر طيفها‪� ،‬أح�س ب�أنه �أمر جلل‬
‫تذوق وفهم الن�ص‬ ‫القارئ ي�شعر بف�سحة ممتدة بين �ألم اللواعج‬ ‫ثقيل الوط�أة يكاد يودي بها‪ ،‬وال ندري �أيهما‬
‫والتلذذ بها‪ ،‬ما يدعوه للبحث عن موازنة‬ ‫�أكثر �إيغا ًال وعمق ًا في عالم الخيال واللغة؛‬
‫الإبداعي‬ ‫بينهما فيحمل في �أكنافه‪ ،‬كما ال�شاعر‪ ،‬ت�ضاداً‬ ‫�أمحبوبته �أم خ��اط��ره؟ وه��و ي��رى �أن م��رور‬
‫لذيذاً برغم وجيعته‪ ،‬فيت�ضوع �أن�سام الربوع‪،‬‬ ‫طيفها في عالم وهمه وخياله عبء ينوء به‬
‫ويكتمل الم�شهد بمخيلته بال�شيء المجاوز‬ ‫كاهله‪ ،‬فما كنه هاته المع�شوقة التي ي�شق على‬
‫لحده‪ ،‬فينقلب �إل��ى �ضده‪ ،‬فالعين المحزونة‬ ‫عا�شقها مجرد مرور طيفها؟‬
‫تدمع والعين ال�سعيدة تدمع فرح ًا‪ ،‬فت�سعى‬ ‫وال ن�ستطيع حقيقة �أن ن��ج��ي��ب دون‬
‫ت�أمالت المتلقي في ن�ص ال�شاعر �إل��ى �إب��راز‬ ‫اال�ستعانة بخيالنا كمتذوقين‪ ،‬و�صورنا‬
‫جماليات خفية فيطوف بها الناقد في مناهج‬ ‫التعبيرية الخا�صة لمحاولة تف�سير هذه اللوحة‬
‫اعتبر الناقد محمد‬ ‫التحليل والنقد والدرا�سة‪ ،‬ويعمد لإظهارها على‬ ‫التعبيرية مترامية الأط����راف‪ ،‬ف��ي الإي��ح��اء‬
‫م�ستويات لغوية داللية دقيقة‪ ،‬فيما تكون عدة‬ ‫والمعنى ذي الرقة والدقة في التو�صيف‪ ،‬و�إن‬
‫حما�سة عبداللطيف‬
‫القارئ المتذوق العادي في رحلته تلك‪ ،‬هي‬ ‫كنا نرى �أننا النزال في حيرة من �أمرها؛ �أهي‬
‫�أن ال�شعر لمحات‬ ‫اال�ست�شعار واال�ستنباط واال�ستدعاء الجمالي‬ ‫من الظباء �أم الب�شر �أم الأطياف والأوهام؟ فيما‬
‫موحية والتلقي بيان‬ ‫الكامن في الن�ص‪.‬‬ ‫يحاول ال�شاعر في ال�شطر الثاني تقريب �صورة‬
‫وهكذا تتك�شف المتواريات بين الكاتب‬ ‫حبيبته من خيال القارئ بقوله (ويجرحها)‪..‬‬
‫وتف�صيل لها‬
‫والمتلقي في رحلة‪ ،‬ي�شد �أزرها الت�أمل وعلوم‬ ‫فالجرح ال يكون �إال بج�سد له ج��رم‪ ،‬وجرم‬
‫ال�صرف والنحو‪ ،‬والداللة م�شفوعة بقطوف‬ ‫محبوبة ال�شاعر هنا غريب يجرح بالخواطر‬
‫م��ن نظرية المتلقي �أو ا�ستجابة ال��ق��ارئ‪،‬‬ ‫والأفكار‪ ،‬وال ندري حق ًا كيف تكون حاله في‬
‫لت�ستكمل ال�صورة �شكلها وتظهر العنا�صر‬ ‫عالم المعاينة والم�شاهدة‪.‬‬
‫المتوارية‪ ،‬بتحليق ن�ص المبدع في ف�ضاء‬ ‫�صورتان في �شطرين‪� ،‬صورة �أول��ى في‬
‫خياالت القارئ‪.‬‬ ‫خ��اط��ره ال��ذي يمر ف��ي وهمه في�شق عليها‪،‬‬

‫‪43‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫م�سار‬
‫ح � ّل��ت ال��ف��ج��ي��ع��ة‪ ..‬بحثت ع��ن��ه‪ ..‬عن‬ ‫مرت ب�ضعة �أ�شهر حين قال لها‪( :‬ا�شتقت‬
‫هاتفه القديم‪ ..‬هاتفت من كانت تعرف‬ ‫�إلى �أبي‪ ..‬ا�شتقت �إليه كثيراً‪ .‬لقد كان �إن�سان ًا‬
‫م��ن �أ���س��رت��ه‪ ..‬ا�ستطاعت ال��ع��ث��ور عليه‪.‬‬ ‫طيب ًا معنا‪ ..‬وكان يحبني كثيراً)‪� .‬أ�سقط في‬
‫مبارك �أباعزي‬
‫وه��ا هما يقابالن بع�ضهما بعد خم�س‬ ‫يدها‪ ..‬بعد كل هذه ال�سنوات لم ي�أت على‬
‫وع�شرين �سنة من ال��ف��راق‪ ..‬ينظران �إلى‬ ‫ذك��ره‪ ،‬حين ا�شتد ع��وده وتقو�س ظهرها‬
‫بع�ضهما بع�ض ًا‪ ،‬ويعانقان بع�ضهما‬ ‫بد�أ في تذكره‪ .‬لم تجبه‪ ،‬ولم يفاتحها في‬ ‫�ضبطت المنبه على منوال غ�ضبها‪ ،‬ونامت‬
‫بع�ض ًا‪ ،‬دون �أن ي��دري��ا م��غ��زى العناق‬ ‫المو�ضوع من جديد‪ .‬لقد �أدرك �أنها قد دفنته‬ ‫على �آخ��ر قراراتها جنون ًا‪ ،‬وقبل �أن تنفتح‬
‫وجدواه بعد كل هذه ال�سنين‪ .‬يكت�شفان ما‬ ‫منذ تلك الليلة حين رفع يده بنية �صفعها‪،‬‬ ‫عيون ال�شم�س على الحقول الدامعة‪ ،‬فتحت‬
‫فعله الزمن بن�ضارة ب�شرتيهما‪ ،‬ويدققان‬ ‫لكن �شيئ ًا ما جمدها في الأعلى‪ ،‬بينما ظلت‬ ‫عينيها‪ ،‬وهم�ست في �أذن وحيدها‪( :‬دواء‪..‬‬
‫في تجاعيد وجهيهما‪ ،‬وتقول عيونهما‬ ‫هي ترمقه بعينين ممتلئتين بالتحدي‪.‬‬ ‫ا�صح‪� ..‬أ�سرع)‪ .‬هب دواء واقف ًا‪ ،‬م�سح �أطراف‬
‫الكثير‪ ،‬مما لم يعد يقوى ل�سانهما على‬ ‫حين غادر ذات �صباح‪ ،‬عانق �أمه العناق‬ ‫عينيه بكم قمي�صه‪ ،‬وحمل �صرة ثيابه وم�شى‬
‫نطقه‪ ..‬وينتظران‪ ..‬ينتظران‪ ،‬لعله في‬ ‫ما�ض �إل��ى حتفه‬‫ٍ‬ ‫الأخير‪ ،‬وك�أنه يعلم �أن��ه‬ ‫خلفها‪.‬‬
‫لحظة ما‪ ..‬في لحظة مباركة ما‪ ..‬يدمر‬ ‫الأخير‪ .‬قبل جبهتها وم�شى غير واث��ق من‬ ‫‪� -‬س�أتعب‪� ..‬س�أموت من �أجله‪ ،‬و�سترى‪.‬‬
‫التابوت الخ�شبي بركبتيه‪ ،‬ويرفع التراب‬ ‫خطواته‪ .‬وفي تلك الليلة �أخبروها �أن ابنها‬ ‫هذا ما قالته �صيحة تلك الليلة لزوجها‪.‬‬
‫�إلى �أعلى‪ ..‬وي�أتي‪ .‬ومازاال ينتظران‪.‬‬ ‫كان في نزهة جوية مع زمالئه‪ ،‬و�سقطت‪..‬‬ ‫وها هي الآن ت�سير واثقة من قرارها‪ .‬ابن ذكي‬
‫في العا�شرة من عمره ي�ستحق العناء‪ ،‬ب�سبب‬
‫م��اذا؟ قالت له‪� :‬أنت بخيل‪� ..‬أنت �شحيح‪ ،‬وال‬
‫تفكر �إال في الآتي‪.‬‬
‫طالما �أق�سم هو �أال يم�س ع�شر �أجرته ب�سوء‪.‬‬
‫ثالثمئة درهم في ال�شهر تح�سب ًا لليوم الأ�سود‪،‬‬
‫حين تتكالب الأمرا�ض على �أ�سرته‪� ،‬أو حين‬
‫ُي�سرح من عمله‪ ..‬فاهلل وحده يعلم �أيام الأمان‬
‫من �أيام الآالم‪ .‬لكنها قالت‪� :‬أنت بخيل‪� ..‬أنت‬
‫�شحيح‪ ..‬وال تفكر �إال في الآتي‪.‬‬
‫كتم غيظه في نف�سه‪ ،‬وكبت �ألمه �إلى اليوم‬
‫الموعود‪ ،‬يوم ي�سر �أ�سرته بخبر �سعيد‪ ،‬يوم‬
‫يقول‪ :‬ال تخافي يا حبيبتي‪ ..‬لدي المال الكافي‬
‫للعالج‪.‬‬
‫غير �أن اليوم الموعود لم ي� ِأت‪ ..‬ولن ي�أتي‬
‫�أبداً‪ .‬لقد حملت حقيبتها‪ ،‬وحمل دواء �صرته‪،‬‬
‫وم�ضيا �إلى المجهول‪.‬‬
‫ط��وال �سنوات لم تتوقف عن العمل‪ ،‬ولم‬
‫ت�سمح لجهدها بالذبول‪ .‬ذبل ج�سدها و�ضمر‬
‫كثيراً‪ ،‬ونت�أت عظام وجهها‪ ،‬لكن العزيمة في‬
‫داخلها لم تتوقف ولو للحظة‪ ،‬حتى جاءها‬
‫الخبر ال�سعيد‪ :‬لقد ح�صلت على الدبلوم‪..‬‬
‫�صناعة الطائرات مجال مربح جداً‪ ..‬ح�صلت‬
‫على خم�سة ع��رو���ض حتى الآن‪ ،‬عليك �أن‬
‫ترتاحي الآن‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪44‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫الحجر الأخطر‬
‫وقفت على العتبة �أ�ضحك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أ�سرعت �أكثر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ف�‬ ‫�سينبت له طوال حياته‪ .‬بد�أ يخافني‬ ‫�أكثر مما ُ‬
‫ذنب‪ ،‬ال تفعلي)‬
‫ٌ‬ ‫هذا‬ ‫‪،‬‬‫ر‬ ‫ِ‬
‫ط‬
‫َ ٌ‬ ‫خ‬ ‫(هذا‬ ‫‪:‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫باكي‬ ‫ف�صاح‬ ‫هددني‪ ،‬ينقفني‬ ‫وي‬
‫ُ ِّ‬ ‫يتحا�شاني‬ ‫ويخيفني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ميري مخلوف‬
‫وقفزت لحريتي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قدمي‬ ‫أخرجت‬
‫ُ‬ ‫فعل ُتها‪� .‬‬ ‫لمرا�ضاتي و�سحبي‪ ،‬قبل‬ ‫وي�سرِع ُ‬ ‫جدداً ُ‬ ‫ُم َّ‬
‫تهدم على‬
‫وك��ل ما في المنزل قد َّ‬ ‫قفزت ُ‬‫ُ‬ ‫تجاوز عتبة المنزل‪ ،‬لكنني قررت تجاوزها‪،‬‬
‫ر�أ�سه!‬ ‫و�أعلنت له ا�ست�سالمي بكامل قوت)لم � ُأعد‬
‫لم ُيخبِرني الحقيقة‪ ،‬لم ُيخبِرني �أنني‬ ‫أريد هديتي)‬‫أريد هديتي)‪(.‬لم � ُأعد � ُ‬ ‫أر�ض �صغيرة � ُ‬ ‫أم�س َك بي و�ساقني نحو � ٍ‬ ‫� َ‬
‫�أحمل المنزل على ج�سدي‪.‬‬ ‫�رخ ب��ي ف��رك�����ض� ُ�ت‪ ،‬رك���� َ�ض ورائ��ي‬
‫َ‬ ‫�‬ ‫�ص‬
‫�‬ ‫�‬ ‫وقام‬ ‫بالو�سط‬ ‫الوقوف‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫خالية‪ِّ َ ،‬‬
‫م‬ ‫طلب‬
‫�سيبنى منزلنا‪،‬‬ ‫بتثبيتي‪� ،‬أخبرني �أ َّنه هنا ُ‬
‫هنا �سيبني عالم ًا لأجلي‪ ،‬لأن��ه يحبني‪،‬‬
‫علي فعله هو الوقوف‬ ‫هذه هديتي‪ ،‬كل ما ّ‬
‫والثبات في المنت�صف ليبد�أ عمله‪.‬‬
‫تم ّر من خاللي‬ ‫جميع الحجارة كانت ُ‬
‫يمرر لي حجراً تلو الآخ��ر‪،‬‬ ‫وف��وق ر�أ���س��ي‪ّ ،‬‬
‫المنت�صف‪ُ .‬ك َّلما‬ ‫�أ�ضعه في مكانه و�أعود �إلى ُ‬
‫�صرح بها‬ ‫بنينا عموداً ازدادت م�ساحتي ُ َّ‬
‫الم‬
‫للتحرك‪ ،‬وب��د�أن��ا بطالء ال��ج��دران وترتيب‬ ‫ُّ‬
‫وك َّلما �أنجزنا عم ًال كانت تزداد‬ ‫الأث��اث‪ُ ،‬‬
‫مهامي وت� ِق� ُّ�ل مهامه‪� ،‬ألي�س ه��ذا العالم‬
‫لأجلي؟‬
‫�إنه هديتي‪.‬‬
‫م� َّ�رت الأي��ام وب��د�أ بيننا ال�شجار‪ ،‬بد�أ‬
‫بكتابة ا�سمه على جميع الأ�شياء‪ ،‬يكتب‬
‫ويكبلني‬ ‫ّ‬ ‫ا�سمه ويمحو ا�سمي‪ ،‬يمحو ظلي‬
‫بظله‪ .‬ي�صرخ بي وي�ؤنبني على هم�سي‪،‬‬
‫ويعيدني‬ ‫ينقفني ب�إ�صبعه حين يغ�ضب ُ‬
‫لكن هذا‬ ‫�أدراجي قبل �أن �أتدحرج للخارج‪َّ ،‬‬
‫العالم لأجلي‪� ..‬إنه هديتي‪.‬‬
‫يكبر‬
‫�شجار تلو الآخ ��ر وب ��د�أ حجمي ُ‬ ‫ٌ‬
‫كحجمه‪� ،‬صار �صوت �صراخي �أعلى من‬
‫�صوت �صراخه‪ ،‬لم ي�ستطع �أن ُي�س ِكتني‪ ،‬بد�أ‬
‫تحو َلت‬‫الري�ش يظهر �أعلى ظهري و�أقدامي َّ‬
‫�شجرة ُمق َتلع‪ ،‬ر�أي� ُ�ت ج��ذوراً قديمة‬ ‫ٍ‬ ‫لجذع‬
‫وع ِفنة ت�سير على الأر�ض‪ ،‬لم ت ُكن �أقدام ًا!‬ ‫َ‬
‫أ�صبحت‬
‫ُ‬ ‫نظرت للمر�آة ف�أخافني �شكلي‪� ،‬‬ ‫ُ‬
‫�أ�شبهه �أكثر مما ي�شبه نف�سه‪� ،‬أ�صبحت هو‬
‫�أكثر منه‪ ،‬وكان الري�ش حينها على ظهري‪،‬‬

‫‪45‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ق�صة مترجمة‬

‫التلميذ‬
‫أفهم‪،‬‬
‫تابعت‪ ،‬دون �أن � َ‬‫ُ‬ ‫الكاريكاتير ال�شنيع)‪.‬‬ ‫و�شعر هو نف�سه بالرغبة بالر�سم‪ .‬كان يقول‪:‬‬
‫البهي الخالي من الأ�سرار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ت� ّأملي لذلك الوجه‬ ‫(يعرف �ساالينو كيف ي�ضحك ولم يقع في‬
‫الر�سم ن�صفين‪ ،‬ورمى‬ ‫َ‬ ‫المعلم‬ ‫فج�أة‪ ،‬م� ّزق‬ ‫إلي‪�( :‬أنت التزال‬ ‫ثم قال ُم َو ّجه ًا كالمه � َّ‬ ‫الفخ)‪ّ .‬‬
‫مكثت جامداً من‬ ‫ُ‬ ‫بالمزق في نار المدخنة‪.‬‬ ‫جداً‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫غالي‬ ‫الثمن‬ ‫�ستدفع‬ ‫بالجمال‪.‬‬ ‫ت�ؤمن‬ ‫ترجمة‪:‬رفعت عطفة‬
‫الذهول‪ ،‬وعندها قام هو بحركة لن �أ�ستطيع‬ ‫لكن خطوط ًا كثيرة‬ ‫يه �أ ِّريوال *‬ ‫ت�أليف الكاتب‪:‬خوان ِ‬
‫خو�س ْ‬
‫خط واحد‪ّ ،‬‬ ‫ر�سم َك ٌّ‬
‫ينق�ص َ‬
‫�أن �أن�ساها �أو �أغفرها له �أبداً‪ ،‬انفجر �ضاحك ًا‬ ‫تفي�ض عنه‪ .‬ائتوني بقطع ِة كرتون‪� .‬سوف‬
‫(هيا‪� ،‬أ�سرع‪� ،‬أنقذ‬ ‫�ضحكة كراهية وجنون‪ّ .‬‬ ‫�أُ َع ّلمكم كيف ُيو ّزع الجمال)‪.‬‬ ‫كانت ُك ّمة (�أندرِ�س �ساالينو) الم�صنوعة‬
‫�سيدتك من النار!) و�أخذني من يدي اليمنى‬ ‫ّ‬ ‫إجمالي‬ ‫الر�سم ال‬
‫َ‬ ‫ر�صا�ص‬
‫ٍ‬ ‫وخ� َّ�ط بقل ِم‬ ‫من الأطل�س الأ�سود المو�شى بزخارف �سميكة‬
‫ّ‬
‫أيت لآخر‬ ‫وحرك بها رماد ورق الكرتون‪ ،‬فر� ُ‬ ‫ّ‬ ‫وربما وجه امر�أة‬ ‫ّ‬ ‫مالك‪،‬‬ ‫وجه‬ ‫ل�صورة جميلة‪:‬‬ ‫من الف�ضة والأبنو�س �أجمل كمة ر�أي ُتها في‬
‫مرة وج َه غيويا يبت�سم بين اللهب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ح�سناء‪ .‬ق��ال لنا‪( :‬ان��ظ��روا‪ ،‬هو ذا الجمال‬ ‫حياتي‪ .‬كان المع ّلم قد ا�شتراها من تاجر من‬
‫بكيت ب�صمت‪ ،‬بينما‬ ‫ُ‬ ‫وبيدي المرفوعة‬ ‫يولد هنا‪ .‬هاتان الفجوتان الداكنتان هما‬ ‫البندقية‪ ،‬والحقيقة �أ ّنها كانت جديرة ب�أمير‪.‬‬
‫ب�صخب بمزح ِة المع ّلم‬ ‫ٍ‬ ‫(�ساالينو) يحتفل‬ ‫الفم‪.‬‬
‫در َكة‪ُ ،‬‬ ‫العينان؛ هذه الخطوط غير ال ُُم َ‬ ‫مر بال�سوق‬ ‫ولكيال يهينني‪ ،‬تو ّقف عندما ّ‬
‫الثقيلة‪.‬‬ ‫الوجه بكامله يخلو من خطوط محيط الوجه‪.‬‬ ‫العتيق‪ ،‬واخ��ت��ار قلن�سوة اللباد الرمادية‬
‫لك ّنني مازلت �أ�ؤمن بالجمال‪ .‬لن �أ�صير‬ ‫ثم وبغمزة قال‪( :‬لننتهي‬ ‫هذا هو الجمال)‪ّ .‬‬ ‫يد�شنهما عر�ض لنا‬ ‫هذه‪ .‬بعدها وقد �أراد �أن ّ‬
‫ن�سيت ف��ي (�سان‬ ‫ُ‬ ‫ر�سام ًا عظيم ًا‪ ،‬وعبث ًا‬ ‫منه)‪ .‬وعمل عن ظهر قلب في وقت ق�صير‬ ‫االثنتين‪.‬‬
‫ِ�سبولكرو) �أدوات وال��دي‪ .‬لن �أ�صبح ر�سام ًا‬ ‫م�سقط ًا خطوط ًا فوق �أخرى‪ ،‬من�شئ ًا ف�ضاءات‬ ‫�سيطرت على انزعاجي‪ ،‬ر� َأ�س‬
‫ُ‬ ‫وقد‬ ‫‪،‬‬‫ر�سمت‬
‫ُ‬
‫�ستتزوج ابن تاجر‪ .‬لك ّنني ما‬ ‫ّ‬ ‫عظيم ًا وغيويا‬ ‫من نور وظالل‪ ،‬عمل �صور ًة وجهية ِلغيويا‬ ‫�دي‪ .‬يظهر‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫خرج‬ ‫ما‬ ‫أف�ضل‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫�ساالينو‪،‬‬
‫�أزال �أ�ؤمن بالجمال‪.‬‬ ‫�أمام عيني المنده�شتين‪ .‬العينان الداكنتان‬ ‫كمته الجميلة‪ ،‬وهو يتن ّزه‬ ‫ً ّ‬ ‫ا‬ ‫معتمر‬ ‫�أندرِ�س‬
‫م�شو�ش ًا من الور�شة‪ ،‬و�أهيم على‬ ‫�رج ّ‬ ‫�أخ� ُ‬ ‫ذاتهما‪ ،‬الوجه البي�ضوي ذاته واالبت�سامة‬ ‫بحركة اختيال في �شوارع البندقية‪ ،‬معتقداً‪،‬‬
‫وجهي في ال�شوارع‪ ،‬تمطر ذهب ًا وزرق ًة فوق‬ ‫غير المدركة ذاتها‪.‬‬ ‫وهو في الثامنة ع�شرة من عمره‪� ،‬أ ّنه مع ّلم‬
‫البندقية‪� ...‬أراها في عيني غيويا الداكنتين‪،‬‬ ‫�صرت �أكثر ذه��و ًال قطع المع ّلم‬ ‫ُ‬ ‫حين‬ ‫الر�سم‪ .‬وكان (�ساالينو) قد ر�سمني بالقلن�سوة‬
‫وفي مظهر (�ساالينو) المتعجرف‪ ،‬المعتمر‬ ‫عمله‪ ،‬وب��د�أ ي�ضحك بطريقة غريبة‪( .‬لقد‬ ‫تواً من‬ ‫الم�ضحكة وبمالمح الريفي الوا�صل ّ‬
‫قبعته الخرزية‪ .‬و�أتو ّقف على �ضفاف النهر‬ ‫ق�ضينا على الجمال)‪ ،‬قال‪( :‬لم يبق غير هذا‬ ‫�سان ِ�سبولكرو‪ .‬احتفل المع ّلم بعملنا بفرح‪،‬‬
‫يدي العاجزتين‪.‬‬ ‫لأت�أمل ّ‬
‫ي�سطع ال�����ض��وء �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬وب��رج‬
‫النواقي�س يقطع على خلفية ال�سماء جانبه‬
‫المتجهم‪ .‬منظر البندقية البانورامي يعتم‬ ‫ّ‬
‫�شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬مثل ر�سم تتراكم فوقه خطوط‬
‫�أكثر من ال�لازم‪ ...‬ناقو�س يترك بداية الليل‬
‫تهبط‪.‬‬
‫أتلم�س ج�سدي و�أم�ضي راك�ض ًا ‪،‬‬ ‫خائف ًا � ّ‬
‫خائف ًا من �أن �أذوب في الغروب‪� .‬أعتقد �أ ّنني‬
‫زت في ال�سحائب الأخيرة ابت�سام َة المع ّلم‬ ‫مي ُ‬ ‫ّ‬
‫جمدت قلبي‪ ،‬و�أعود‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫والفاترة‬ ‫الباردة‬
‫خاف�ض ال��ر�أ���س في �شوارع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لأ�سير ببطء‬
‫مرة �أكثر جهامة‪ ،‬واثق ًا ب�أ ّنني‬ ‫هي في ك ّل ّ‬
‫�س�أ�ضيع في ن�سيان الب�شر‪.‬‬

‫*خوان خو�سيه �أريوال (‪2001-1918‬م)‬


‫كاتب مك�سيكي كتب الرواية والم�سرح والق�صة‪،‬‬
‫من �أعماله الأدبية (�إبداع متنوع‪ ،‬م�سارات كاملة‪،‬‬
‫�ساعة الجميع)‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪46‬‬


‫أدب وأدباء‬
‫قلعة �أرواد‬

‫¯ نور الدين الها�شمي‪ ..‬وتوظيف ال�سخرية �أدبي ًا‬


‫¯ نجيب محفوظ و�إ�شكالية النقد ال�سينمائي‬
‫¯ «�إيلينا فيرانتي» مازالت تختبئ وراء ا�سمها الم�ستعار‬
‫¯ بائع الكتب القديمة والقا�ص محمد جابر غريب‬
‫¯ علي جعفر العالق‪ ..‬جمع بين ال�شعر والنقد‬
‫¯ �أحمد بوزفور‪ ..‬والق�صة المغربية‬

‫‪47‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫فت�شت في كبدي‬ ‫َ‬ ‫الحي هل‬
‫ِّ‬ ‫آ�سي‬
‫يا � َ‬
‫وه��ل تبينت دا ًء ف��ي زواي��اه��ا‬
‫��رقٍ � ْأو َدت ب�أكثرها‬‫� َّأوا ُه من ُح َ‬
‫تتم�شى في بقاياها‬ ‫ّ‬ ‫ول��م ت��زل‬
‫يا �شوق رفق ًا ب�أ�ضالع فتكت بها‬
‫حاتم ال�سروي‬
‫فالقلب يخفق ذعراً في حناياها‬
‫م���ن ت����راه ق��ائ��ل ه���ذه الأب���ي���ات ال��رق��ي��ق��ة؟ ك��ث��ي��رون‬
‫ال ي��ع��رف��ون م���ن ه���و �إ���س��م��اع��ي��ل ���ص��ب��ري م���ع الأ����س���ف‪،‬‬
‫وك��ث��ي��رون م��م��ن ي��ع��رف��ون ال ي��ق��ف��ون ع��ن��ده �إال ل��م��ام��اً‪.‬‬

‫�شاعر الوجدان وال�شفافية‬

‫�إ�سماعيل �صبري‪..‬‬
‫معلم ال�شعراء و�أميرهم‬

‫حالي ًا‪ ،‬وفي عام (‪1907‬م) طلب �إحالته‬ ‫تلك الأيام‪ ،‬وفي عام (‪1874‬م) وكان في‬ ‫يعتبر من �أقطاب المدر�سة الإحيائية‪،‬‬
‫�إل��ى المعا�ش فكان له ما �أراد‪ ،‬وق��رر �أن‬ ‫الع�شرين من عمره تخرج فيها فتم �إر�ساله‬ ‫بل �إنه الذي ع ّلم �شوقي وحافظ باعترافهما‪،‬‬
‫يخل�ص ل�شعره وفنه؛ ف�أخرج لنا �أزهاراً من‬ ‫فوراً في ٍ‬
‫بعثة �إلى فرن�سا‪ ،‬وهناك وبعد �أربع‬ ‫�إنه ال�شاعر �إ�سماعيل �صبري‪.‬‬
‫الق�صائد والأغنيات �ألفت جميعها رو�ض ًة‬ ‫�سنوات نال �شهادة اللي�سان�س في الحقوق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫م�صرية �صميمة‬ ‫ول��د �صبري لأ���س� ٍ‬
‫�رة‬
‫من ال�شعر ال�سهل الرقيق؛ فك�أنه كان يغني‬ ‫من كلية (�إك�س)‪.‬‬ ‫عام (‪1854‬م)‪ ،‬وكانت �أ�سرته من الطبقة‬
‫�شعره وهو يكتبه‪� ،‬أو ك�أنما �صاغه لي�سقينا‬ ‫وهذه ال�شهادة العليا هي التي فتحت‬ ‫المتو�سطة‪ ،‬وهو قاهري المولد والمن�ش�أ‬
‫به من عذب القوافي ونمير الكلمات‪.‬‬ ‫له �أب��واب الخير كله؛ فر�أيناه يترقى في‬ ‫وال�سكن والطباع‪ ،‬وه��ذا ما تطلعنا عليه‬
‫ولأن �إ�سماعيل �صبري ك��ان �شاعراً‬ ‫وظائف ال�سلك الق�ضائي‪ ،‬ثم �أ�صبح من‬ ‫�سيرته وما �سوف نزيده تو�ضيح ًا فيما بعد‪.‬‬
‫ورجل قانون ومن �أع�ضاء النخبة الم�صرية؛‬ ‫خ�لا���ص��ة علية ال��ق��وم ح��ي��ن ت��م تعيينه‬ ‫وف��ي ع��ام (‪1866‬م) التحق بمدر�سة‬
‫فقد عرف الزعيم الوطني م�صطفى كامل‬ ‫محافظ ًا للإ�سكندرية عام (‪1896‬م)‪ ،‬وظل‬ ‫(الم ْب َت َديان)‪ ،‬ومنها �إلى التجهيزية وهي‬
‫ُ‬
‫و�أ�صبحا �أ�صدقاء‪ ،‬كما كان �صبري يرف�ض‬ ‫ي�شغل ذلك المن�صب ثالثة �أعوام‪ ،‬ثم انتقل‬ ‫تعادل الثانوية الآن‪ ،‬ثم �أ�صبح من طالب‬
‫زيارة المندوب البريطاني‪ ،‬على ما جرت‬ ‫منه �إلى وكالة وزارة الحقانية‪ ،‬وهي العدل‬ ‫مدر�سة الإدارة �أو كلية الحقوق بم�سمى‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪48‬‬


‫�أعالم‬

‫به ع��ادة كبار الموظفين �آن ��ذاك‪ ،‬وي��رى في‬


‫ذلك و�صمة العار والمذلة‪ ،‬وظل وفي ًا ل�صديقه‬
‫الزعيم ال�شاب �صاحب اللواء م�صطفى كامل‬
‫حتى مات‪ ،‬ويومها كان حزنه كبيراً حتى �إنه‬
‫وقف على قبره يندبه ويقول‪:‬‬
‫�أداعي الأ�سى في م�صر ويحك داعيا‪ ...‬ه َددت‬
‫القوى �إذ قمت بالأم�س ناعيا‬
‫وال نعدو الحقيقة �أو نقع في المبالغة‪،‬‬
‫لو قلنا �إن �صبري كانت نف�سه كبيرة‪ ،‬وكان‬
‫م�صطفى كامل‬ ‫البهاء زهير‬ ‫�أحمد �شوقي‬ ‫كريم ًا وعنده كرامة‪ ..‬حتى �إن �شوقي ‪ -‬الذي‬
‫منحه ال�شعراء �سنة (‪1927‬م) �إمارة ال�شعر‪-‬‬
‫�أن ينالوه ب�سوء‪� ،‬أ�ضف �إلى ذلك �أنه لم يكن‬ ‫اعترف بف�ضل �صبري عليه‪ ،‬وذك��ر �أن��ه كان‬
‫يحارب من �أجل حيازة لقب (ال�شاعر الكبير)‪،‬‬ ‫يتعلم ال�شعر منه‪ ،‬وفي هذا يقول في مرثيته‬
‫أث���ر ال يقل‬ ‫وك ��ان لتعليمه ف��ي فرن�سا � ٌ‬ ‫لأ�ستاذه‪:‬‬
‫من �أقطاب المدر�سة‬ ‫و���ض��وح� ًا؛ حيث �أ���ض��اف اط�لاع��ه على �أدب‬ ‫المهار على‬ ‫أمرح في غبارك نا�شئ ًا‪َ ...‬ن ْه َج ِ‬
‫أيام � ُ‬
‫� َ‬
‫الإحيائية وقد‬ ‫الفرن�سيين �شيئ ًا جديداً �إلى �شاعريته‪ ،‬وفي‬ ‫ُغبار ِخ ِ‬
‫�صاف‬
‫ع ّلم �شوقي وحافظ‬ ‫دي��وان��ه نلمح بع�ض الأم ��ث ��ال وال��ع��ب��ارات‬ ‫�أتعلم الغايات كيف ُترام في‪ ..‬م�ضمار ف�ضلٍ �أو‬
‫الفرن�سية‪ ،‬التي ا�ستلهمها وا�ستوحاها‪ ،‬على‬ ‫ِ‬
‫قواف‬ ‫مجالِ‬
‫باعترافهما‬
‫�أن ارتياده لل�صالونات الأدبية التي كانت‬ ‫وح��اف��ظ �إب��راه��ي��م �أي�����ض � ًا ال يخجل من‬
‫تعقدها بع�ض �سيدات ال�شريحة الأر�ستقراطية‬ ‫االعتراف بف�ضل �صبري عليه فيقول‪:‬‬
‫على الطريقة الفرن�سية‪ ،‬هو الذي �أثر فيه ب�شكل‬ ‫لقد كنت �أغ�شاه في دار ِه‪ ..‬وناديه فيها زها‬
‫�أكبر من حيث الرقة التي عرفناها عنه‪.‬‬ ‫وازدهر‬
‫�أما عن ت�أثره بالبهاء زهير وابن الفار�ض‬ ‫ٍ‬
‫لطيف يح�س ُن ُب َّو‬ ‫م�سمع‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫على‬ ‫�شعري‬ ‫أعر�ض‬ ‫و�‬
‫– وكالهما من بني وطنه‪ -‬فحدث وال حرج‪،‬‬ ‫الوتر‬
‫عا�ش مي�سوراً لذا‬ ‫وتف�صيل ذلك‪� ،‬أن �صبري كان قد بد�أ في نظم‬ ‫والحقيقة �أن معا�صريه كلهم فيما بلغنا‬
‫كان �شعره �سه ً‬ ‫ال�شعر مبكراً وقبل ذهابه �إل��ى فرن�سا؛ حيث‬ ‫يجمعون على وداعته ودماثة خلقه وخفة ظله‬
‫ال مثل‬
‫كانت مجلة (رو�ضة المدار�س) تن�شر له بع�ض‬ ‫وطبعه الرقيق؛ ولهذا ا�ستولى على قلوبهم‪،‬‬
‫حياته و�شخ�صيته‬ ‫الق�صائد‪.‬‬ ‫حتى �إنه خرج من معارك نقاد زمانه من دون‬
‫وربما يبدو لنا ذلك في غزلياته؛ ف�شعره‬
‫فيها وجداني‪ ،‬وهو من ال�صفاء بحيث ال يخفي‬
‫م�شاعره النبيلة‪ ،‬بل يتركها تظهر في � ٍ‬
‫أناقة‬
‫وجمال‪ ،‬فهو يترفع عن الح�سيات‪ ،‬ويجعل‬
‫م�صاف المالئكة‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫مع�شوقته روحاني ًة في‬
‫�أنت روحاني ٌة ال ت َّد ِعي‪� ..‬أن هذا الح�سن من طينٍ‬
‫وماء‬
‫قامت �صداقة‬ ‫وانزعي عن ج�سمك الثوب َيبِن‪ ..‬للمال تكوين‬
‫�سكان ال�سماء‬
‫بينه وبين الزعيم‬ ‫م�صوغ‬ ‫تمثالٍ‬ ‫خلف‬ ‫‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ْ ََ‬‫جناحي‬ ‫و�أري الدنيا‬
‫ٍ‬
‫م�صطفى كامل وظل‬ ‫من �ضياء‬
‫وفي ًا لوطنيته‬ ‫�أما عن ت�أثره بابن الفار�ض؛ ف�إن �صبري‬
‫لم يكن �صوفي ًا من �أبناء الطرق‪ ،‬بل كان بداخله‬
‫روح الت�صوف الحقيقي؛ بمعنى �أنه كان يحب‬
‫اهلل ب�صدق‪ ،‬وي�سلم قلبه لمواله‪ ،‬وي�ؤثره على‬
‫الدنيا التي و�إن كانت في يده لكنها لم تكن‬
‫في قلبه‪.‬‬ ‫من دواوينه‬

‫‪49‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫تاريخ ق�صيدة‬
‫النثر وم�صائرها‬
‫�أحمد يو�سف داوود‬

‫المقاهي �أو في �سواها‪ ..‬وك��ان �أن �أطلق هو‬ ‫كيف ول��دت ق�صيدة النثر في فرن�سا‪ ،‬ثم‬
‫نف�سه ا�سم (الحداثة) على الحال الجديدة بكل‬ ‫�شاعت في بقية �أوروبا والعالم؟‬
‫ما حوت من هجنة في اللغات‪ ،‬ومن فقدانٍ لأي ِة‬ ‫تلك ق�ضية تتعلق بالتطور العام والجذري‬
‫حميمي ٍة في العالقات بينه وبين من يمر بهم �أو‬ ‫ّ‬ ‫الذي �شهدته تلك القارة التي �صارت الآن (قارة‬
‫من يلتقيهم في �إطار ذلك الن�سيج من التجمع‬ ‫عجوزاً) خالل النقلة الح�ضارية الكبرى‪ ،‬حيث‬
‫الب�شري الغريب‪ ..‬وهكذا كان �أن كتب الن�صو�ص‬ ‫تم االنتقال من ع�صر الم�شاغل ال�صغيرة‪� ،‬أو‬
‫الأولى لما �سوف ُي�سميه �سريع ًا (ق�صيدة النثر)‪..‬‬ ‫ما ُ�س ّمي ع�صر (المانيفكتورا)‪� ،‬إلى ع�صر جديد‬
‫وراح يحاول بعد وق��ت ق�صير �أن يعمل على‬ ‫�صار ا�سمه ع�صر (الم�صنع ال�ضخم)‪ ،‬مع ما‬
‫تطوير ذلك النمط من الق�صيدة‪ ،‬ولكن القدر‬ ‫رافقه من تطورات فكرية وعلمية وفل�سفية‬
‫عاجله بالموت‪ ..‬غير �أن ق�صيدة النثر �أخذت‬ ‫وتقنية و�سيا�سية واجتماعية وع�سكرية‪ ،‬ومن‬
‫بودلير ال�شاعر‬ ‫حظها م��ن اهتمام نف ٍر م��ن كبار م��ن كانوا‬ ‫تو�سع في اال�ستعمار وات�ساع في الحروب داخل‬
‫ال�شهير �شعر‬ ‫ي�شتغلون في نقد ال�شعر �أو �إنتاجه‪ .‬وب�سرعة‬ ‫�أوروب��ا ذاتها دامت زمن ًا لي�س بالق�صير‪� ..‬إلى‬
‫بالغربة وهو يرى‬ ‫كبيرة جرى انت�شار ذلك النمط ال�شعري الجديد‬ ‫�آخر ما يمكن تعداده من �أحوال ونتائج و�أ�سباب‪.‬‬
‫تلك التحوالت‬ ‫من فرن�سا �إلى بقية �أوروبا‪.‬‬ ‫وكان �أمراً طبيعي ًا �أن يكبر زحف الريفيين‬
‫لكن ان��دالع الحرب العالمية الأول��ى عام‬ ‫نحو �أماكن وجود الم�صانع طلب ًا للرزق والعمل‬
‫والمتغيرات العا�صفة‬ ‫(‪� ،)1914‬سرعان ما و ّلد الدادائية بعد عامين‬ ‫من �أجل تح�سين �أحوال العي�ش‪ ..‬و�إ�ضافة �إلى‬
‫في المجتمع‬ ‫في �سوي�سرا‪ ،‬وكانت حركة عبثية تريد تحطيم‬ ‫ذل��ك‪ ،‬ت� ّ�م جلب �أع ��داد كبيرة من ال�سكان من‬
‫الأوروبي وهو‬ ‫كل ما في الفنون القولية والب�صرية من قواعد‬ ‫مختلف م�ستعمرات كل دولة ليعملوا في تلك‬
‫وجماليات‪ ،‬ولهذا لم تع�ش طوي ًال‪ ،‬بل ورثتها‬ ‫الم�صانع‪ ،‬فن�ش�أت المدن الكبرى وتو�سعت كثيراً‬
‫�أول من �أطلق لفظ‬
‫(ال�سوريالية)‪ ،‬لي�س في ال�شعر وح��ده‪ ،‬بل في‬ ‫وتطورت العوا�صم تطوراً مذه ًال في ات�ساعها‬
‫الحداثة‬ ‫قطاعات الفنون المختلفة‪ ،‬حتى في قطاع‬ ‫وزخ��م الحركة فيها‪ ،‬وفي تطورها ال�سكاني‬
‫ال�سينما والمو�سيقا‪ .‬وكان ال�سوريالي الم�شهور‬ ‫والعمراني‪.‬‬
‫�أن��دري��ه برايتون من �أق��ط��اب ال��دادائ��ي��ة‪ ،‬وهو‬ ‫وف��ي �أوا���س��ط القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬كانت‬
‫فرن�سي‪ ،‬وما لبث �أن انتقل �إلى ت�أ�سي�س هذه‬ ‫باري�س �إحدى �أبرز تلك العوا�صم العجيبة‪ ،‬وكان‬
‫المدر�سة الجديدة هو و�سيلفادور دالي الإ�سباني‪،‬‬ ‫ال�شاعر ال�شهير بودلير حي ًا‪ ،‬لكنه كان فريد‬
‫وجعالها تعني (ما فوق الواقعية) ‪،‬وتعتمد على‬ ‫الإح�سا�س بغربته وهو يرى خليط الب�شر الذين‬
‫تداعيات العقل الباطن لل�شاعر بت�أثير من علم‬ ‫���ص��اروا يعي�شون في باري�س‪ ،‬وي�سمع خليط‬
‫النف�س الذي �أ�س�سه فرويد‪ ،‬ولكن من دون عمق‬ ‫رطناتهم بالفرن�سية‪ .‬وراحت ته ّز روحه م�شاعر‬
‫لل�صلة بذلك العلم كعلم‪ ..‬وهذا ما �أثار حفيظة‬ ‫الغربة و�أحا�سي�س العزلة �أمام كل ما يرى وما‬
‫فرويد ودفعه �إلى مهاجمتها هي و�أتباعها؛ �إذ‬ ‫ي�سمع‪ ،‬و�أمام من يلتقي بهم في الطرق �أو في‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪50‬‬


‫متون‬

‫�أي �أنهم التزموا بما كانوا يرونه ويكابدونه‬ ‫كان التداعي الحر فيها ال ي�ستند �إلى مبادئ‬
‫من معاناة ذاتية في �سياق المعاناة الجمعية‬ ‫ناظمة لفهم الهدف ال��ذي يق�صده القائل �أو‬
‫داخل المجتمعات العربية عموم ًا‪ ..‬والكل كانوا‬ ‫ال�شاعر �أو الفنان‪ .‬وقد بقيت ال�سوريالية حية في‬
‫مثقفين ثقافة كافية لذلك‪.‬‬ ‫الغرب حتى الحرب العالمية الثانية‪� ،‬أو حتى‬
‫وبالعودة �إلى �أدوني�س؛ ف�إن ثراء ثقافته‬ ‫بعد بدئها بقليل‪ .‬فما هي ال�سوريالية؟ وما هي‬
‫ظهرت ق�صيدة النثر‬ ‫وتنوع م�صادرها‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى غنى تجربته‬ ‫خ�صائ�صها؟ يقول �أحدهم‪:‬‬
‫ال�شعرية الطويلة‪ ،‬كل ذلك يجعل نتاجه ال�شعري‬ ‫(تنبني �أف��ك��ار ال�سوريالية على جوهر‬
‫مع القفزة التي نقلت‬ ‫�أكبر و�أكثر بعداً عن �إمكانية ح�صر هذا النتاج‬ ‫فل�سفتها‪ ،‬القائمة على مقولتين‪ :‬الأول��ى كما‬
‫�أوروبا �إلى ع�صر‬ ‫بجعله تابع ًا ل ّأية حركة في ال�شعر الأوروب��ي‪،‬‬ ‫�سماها بريتون «النقطة العليا»‪ ،‬وهي االعتقاد‬
‫الم�صنع ال�ضخم‬ ‫مع عدم ا�ستبعاد الت�أثر هنا وهناك بالمدار�س‬ ‫ب��وج��ود نقطة ف��ي الفكر ينعدم فيها �إدراك‬
‫ال�شعرية الغربية‪ ،‬وبال�سوريالية منها خ�صو�ص ًا‬ ‫التناق�ض بين المتناق�ضات كالحياة والموت‪،‬‬
‫في مرحلة تطوره ال�شعري الأولى‪.‬‬ ‫�أو الواقع والخيال‪ ،‬والما�ضي والم�ستقبل‪ ،‬وما‬
‫وال بد لنا هنا ختام ًا‪ ،‬من �أن نعود �إلى‬ ‫يقبل التوا�صل وما ال يقبله‪ ،‬وما يقبل المنطق‬
‫ق�صيدة النثر عندنا في ظل �شيوع الإنترنت‪،‬‬ ‫وما ال يقبل المنطق‪ .‬واالهتمام بالبحث عن‬
‫حيث يبدو لمت�صفح �صفحات (في�سبوك) �أن‬ ‫المت�ضادات و�إي��ج��اد ال��رواب��ط الخفية بينها‬
‫�أغلبية العرب قد �صاروا �شعراء و�شاعرات �ضمن‬ ‫ونقاط االلتقاء‪ ،‬هو هدف الأديب ال�سوريالي؛‬
‫هذا النمط بال تحفظ وبال �أ�سا�س‪.‬‬ ‫فر�ؤيته الن��ع��دام التناق�ضات تلغي الروابط‬
‫حق ًا �إن اللغة العربية‪ ،‬بما لها من تاريخ‬ ‫الزمانية منها والمكانية الواقعية لينتقل بعدها‬
‫باري�س كانت �أبرز‬ ‫طويل‪ ،‬قد �أ�صبح لها �إي��ق��اع داخلي جمالي‬ ‫مبا�شرة �إلى عالم الفكر وال�شعور‪.‬‬
‫تلك العوا�صم‬ ‫المتقن‪ ،‬ما ال‬ ‫ومتميز‪ ،‬في نطاق ا�ستعمالها ُ‬ ‫�أم��ا المقولة الثانية؛ فهي «الم�صادفة‬
‫الجديدة والعجيبة‬ ‫يحول دون اعتبار الن�ص الذي يحوز ذلك الإتقان‬ ‫المو�ضوعية»‪ ،‬وت�سعى �إل��ى ك�شف ال��رواب��ط‬
‫ٍ‬
‫ب�شروط‬ ‫ولكن ذلك ال يتح ّقق �إال‬
‫ّ‬ ‫ن�ص ًا �شعري ًا‪..‬‬ ‫الطبيعية بين الآلية الذاتية ال�شخ�صية والآلية‬
‫التي ت�أثرت فكري ًا‬ ‫بنائية معينة تمنحه �صيغة التكامل الإيحائي‬ ‫الكلية‪� ،‬أو بين ال�لاوع��ي ال��ف��ردي وال�لاوع��ي‬
‫وعلمي ًا و�أدبي ًا‬ ‫بما يرمي �إليه كاتبه خالل بنائه‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬ ‫الجمعي والالوعي الكوني‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬ف�إن كل‬
‫�سال�سة الإيقاع البنائي المتكامل المت�سق في‬ ‫منتم �إلى ال�سوريالية‪ ،‬ينتهج في �أدبه نهجها‬ ‫ٍ‬
‫المبنى والمعنى ب�صورة ت�صاعدية تقود �إلى‬ ‫النابع من فل�سفتها‪ ،‬ويتكئ على �أفكارها التي‬
‫النهايات الإيحائية المطلوبة‪ ،‬فال يكون الن�ص‬ ‫تكون منارة ال تتبنى �أفكاراً‪ ،‬واالهتمام بالبحث‬
‫نوع ًا من البوح (الذاتاني) الذي يفتقر �إلى مقدرة‬ ‫عن المت�ضادات و�إيجاد الروابط الخفية بينها‬
‫�إثارة م�شاعر المتل ّقين من جهة‪ ،‬وال يتكئ على‬ ‫ونقاط االلتقاء‪ ،‬هي هدف الأديب ال�سوريالي)‪.‬‬
‫�إ�سنادات عرجاء في الو�صل داخ��ل ال�صورة‬ ‫وقد جرى عندنا �أن نقلنا ق�صيدة النثر منذ‬
‫الواحدة بين ما لي�س لأطرافها �صلة ببع�ضها‬ ‫ت�أ�سي�س (مجلة �شعر) في خم�سينيات القرن‬
‫�أندريه برايتون‬ ‫بع�ض ًا في عمقها الترميزي من جهة �أخرى‪� .‬إن‬ ‫حد �أن ت�صل‬ ‫الما�ضي‪ ،‬و�شهد تطورها ال�سريع َّ‬
‫ومن معه �أ�س�سوا لما‬ ‫البدء بتف�صيل �شعري في الن�ص الواحد‪ ،‬يجب �أن‬ ‫�إلى ا�ستبدال الف�صحى بالعامية اللبنانية بدفع‬
‫ت�صاعدي ًا وب�إحكام �إلى داللة �أو مجموعة‬‫ّ‬ ‫يقود‬ ‫من ال�شاعر اللبناني �سعيد عقل‪ .‬كما �صار من‬
‫ي�سمى الدادائية �أي‬ ‫تمحل‪ ،‬و�إال‬ ‫�شعرائها من هم �صحافيون �أ�ص ًال‪ ،‬و�أبرزهم‬
‫من الدالالت العليا دون ق�سر ودون ُّ‬
‫ما فوق الواقع‬ ‫ف�إن الن�ص المكتوب يفقد ال�شعرية وي�صير َه ْرف ًا‬ ‫�أن�سي الحاج‪ ..‬وغادر المجلة ال�شاعر �أدوني�س‬
‫بال طائ ْل! وهكذا‪ ،‬ف �� ّإن ق�صيدة النثر يجري‬ ‫و�أ�صدر مجلته الخا�صة (مواقف) لأنه كان في‬
‫�إيقاعها عندنا في ورطة مادام �أ�شباه الأميين‬ ‫الأ�سا�س ممن ت�أثروا عميق ًا بال�سوريالية‪ ،‬وقد‬
‫والن�صابون من مانحي (الأو���س��م��ة) قادرين‬ ‫و�صف نف�سه بالرائي‪ ،‬ناق ًال م�صطلح الر�ؤيا‬
‫على منح �أو�سمتهم لأ�شباه الأميات والأميين‬ ‫عن المت�صوفة‪� ..‬أما محمد الماغوط؛ ف�إنه هو‬
‫ولأ�سباب ال عالقة لها (بالقول ال�شعري) في‬ ‫وزوجته �سنية �صالح و�شعراء �آخرون قد حافظوا‬
‫الحقيقة والأ�صل‪.‬‬ ‫على ما يكاد ي�شابه دواف��ع بودلير لكتابتها‪،‬‬

‫‪51‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫جمع بين عمله الدبلوما�سي وال�سيا�سي‬

‫�شاكر الفحام‪:‬‬
‫اللغة العربية رهان الأمة وم�ستقبلها‬
‫فحين ت�ضيق الم�سافة بين الكائن‬
‫واللغة‪ ،‬تت�سع المعاني‪ ،‬ويتوحد �إيقاع روحه‬
‫ع�شق اللغة العربية ف�أخذته �إليها لي�ستغرق فيها‪ ،‬وك�أنها‬
‫مع �إيقاع الكون‪ ،‬بهذا المعنى �أدرك �سر تلك‬ ‫ع�شقه الأب��دي ال��ذي لم يفارقه حتى �آخ��ر �أي��ام��ه‪ ،‬ما‬
‫العالقة بينه وبين اللغة‪ ،‬فكانت وجوده‪،‬‬ ‫�أف�سح له مقام ًا بين الأ�سماء الخالدة‪ ،‬فاللغة رهانه الذي‬
‫وذاك��رت��ه‪ ،‬ور�ؤي��ت��ه وحا�ضره وم�ستقبله‪،‬‬ ‫ال يخيب‪ ،‬ودليله الذي ال ي�ضل‪ ،‬وب�صيرته التي تلهمه‬
‫ومر�آته التي يقر أ� فيها ذاته في ذات الأمة‪،‬‬ ‫الك�شف والر�ؤيا‪ ،‬لذلك كان �إيمانه بقدرتها على مواكبة‬
‫ويرى فيها �صورة العالم في ذاته‪.‬‬ ‫د‪ .‬بهيجة �إدلبي‬
‫و�إذا كانت اللغة مقوم ًا �أ�سا�سي ًا من‬
‫الع�صر �إيمان ًا را�سخ ًا في ذاته و�ضميره وعقله وقلبه‪،‬‬
‫ولم يخالجه الي�أ�س �أب��د ًا بم�ستقبلها الم�شرق‪ ،‬برغم كل التحديات التي مقومات الأمة‪ ،‬فال بد من نهو�ض الم�ؤ�س�سات‬
‫تواجهها‪ ،‬وتواجه الأمة‪ ،‬كل ذلك كان وراء دعوته لإعادة بعثها‪ ،‬وا�ستعادة الثقافية جميعها بتبعاتها لتكون اللغة‬
‫مقامها في الوجود‪ ،‬ودورها في جمع الأمة على ل�سان واحد وقلب واحد‪ ،‬العربية ال�سليمة الف�صيحة هي اللغة ال�سائدة‬
‫في و�سائل الإعالم والثقافة‪ ،‬لأن ال�ضعف‬ ‫وبالتالي على م�صير واحد ور�ؤية واحدة‪.‬‬
‫اللغوي كما يرى‪ ،‬واقع نعانيه‪ ،‬وقد ت�ضافرت‬
‫جملة �أ�سباب �أدت �إلى انح�سار اللغة ال�سليمة‬
‫الف�صيحة �أمام هجمات اللهجات المحكية‬
‫التي �أ�صبحت النا�شئة ت�سمعها في �أجهزة‬
‫الإع�ل�ام والم�سارح وال�سينما‪ ،‬ب��ل وفي‬
‫قاعات التدري�س‪ ،‬وتميل �إل��ى محاكاتها‪.‬‬
‫ومن هنا ف�إن �أبرز مهمات المجامع اللغوية‪:‬‬
‫المحافظة على �سالمة اللغة‪ ،‬وجعلها‬
‫وافية بمطالب الآداب والعلوم والفنون‪،‬‬
‫ت�ستجيب لحاجات الحياة المتطورة‪ ،‬ثم‬
‫العناية بو�ضع الم�صطلحات العلمية والفنية‬
‫والأدبية والح�ضارية‪ ،‬واالهتمام ب�إحياء‬
‫تراث العرب في العلوم والفنون والآداب‪.‬‬
‫فهو يرى �أن تطور مناهج التربية العربية‬
‫م�شروط بربطها بخطط التنمية‪ ،‬وبالتالي‬
‫ا�ستطاع �أن ين�شئ جي ًال ي�ؤمن باللغة العربية‬
‫ويعي�شها بقلبه ووجدانه وم�شاعره قبل �أن‬
‫يحفظها جم ًال وكلمات‪.‬‏‬
‫الأ�ستاذ‪ ،‬والمح ِّقق‪ ،‬والوزير‪ ،‬والإداري‪،‬‬
‫وال�سفير د‪�.‬شاكر الفحام‪ ،‬الذي تلقى العلم‬
‫والمعرفة على يد طه ح�سين‪ ،‬و�شوقي �ضيف‪،‬‬
‫وعبدالوهاب ع��زام‪ ،‬و�أح��م��د �أم��ي��ن‪ ..‬وازن‬
‫بين العمل ال�سيا�سي والدبلوما�سي‪ ،‬وبين‬
‫�شغفه العلمي والمعرفي في رفد المكتبة‬
‫العربية بم�ؤلفات وتحقيقات كان لها دور‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪52‬‬


‫�ضفاف‬

‫في ت�أ�صيل الثقافة العربية والتراث العربي‪.‬‬


‫فقد عرف بمنهجه النقدي الو�صفي والتحليلي‬
‫في قراءة ال�شعر العربي الذي (تتمثل فيه روح‬
‫الأمة وحياتها العاطفية والفنية) وبالتالي ف�إن‬
‫توجهه لقراءة ال�شعر العربي الأ�صيل‪ ،‬تر�سيخ‬
‫لأ�صالة الإح�سا�س في ال�شعر المعا�صر‪( ،‬فلن‬
‫يقوى �شعرا�ؤنا على التحليق في �سماء ال�شعر‬
‫وخلق روائعه �إال �إذا ا�ستمدوا من �شعر الفطرة‬
‫في ينابيعه الأ�صيلة ما يحيي في نفو�سهم‬
‫روح ال�شعر المبدع ويفتح عيونهم وقلوبهم‬
‫على �أ�سرار الجمال)‪ ..‬بهذه الر�ؤية لأ�صالة ال�شعر‬
‫العربي‪� ،‬شعر الفطرة الأولى‪ ،‬قر أ� ال�شعر الأموي‬
‫�شاكر الفحام‬ ‫والعبا�سي‪ ،‬كما في كتابه عن الفرزدق‪ ،‬الذي‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫يعد من �أكثر الكتب عمق ًا في ا�ستجالء روح‬
‫توافيهم به حركة التقدم العلمي من �أ�شياء لم‬ ‫الجمال في �شعر الفرزدق وروح ال�شعرية في‬
‫تكن منظورة‪ ،‬فتتحقق للمناهج بذلك مواكبة‬ ‫ذات��ه‪ ،‬وكذلك كتابه (نظرات في دي��وان ب�شار‬
‫الع�صر والتهيئة للم�ستقبل مع ًا‪.‬‬ ‫بن برد)‪ ،‬كما كتب عن �أبي نوا�س و�أبي الفتح‬
‫ومن هنا؛ فال يمكن �أن نقر�أ الدكتور الفحام‬ ‫الب�ستي واب��ن ال��روم��ي والمتنبي‪ ،‬وغيرهم‪..‬‬
‫�إال على خلفية ه��ذه ال��ر�ؤي��ة المتكاملة‪ ،‬بين‬ ‫وقدم (مختارات من �شعر الأندل�س) بمنهج نقدي‬
‫�شغفه باللغة العربية والبحث العلمي وت�أ�صيل‬ ‫يجمع بين ال�سيرة والن�ص والع�صر‪ ،‬فهو ال يعزل‬
‫ال��ت��راث ف��ي الثقافة العربية‪( ،‬لأن ال��ت��راث‬ ‫الن�ص ال�شعري عن مبدعه وال عن ع�صره‪ ،‬و�إنما‬
‫عرف بمنهجه‬ ‫يع�صمها �أن ت�ضل طريقها)‪ ،‬وبين �إيمانه ب�أن‬ ‫يقر�أ الن�ص في مر�آة ال�شاعر وال�شاعر في مر�آة‬
‫وحدة الأم��ة هي مالذها الآم��ن وطريقها �إلى‬ ‫الع�صر‪ ،‬والما�ضي في مر�آة الحا�ضر‪.‬‬
‫النقدي التحليلي‬ ‫التقدم واالزدهار‪ ،‬وو�سيلتها الناجحة لعودتها‬ ‫كذلك ي�صدر في تحقيقاته لكتب التراث‬
‫و�سعيه �إلى ت�أ�صيل‬ ‫�إل��ى خ�ضم التاريخ ت�شارك الأم ��م م�شاركة‬ ‫ع��ن ر�ؤي���ة علمية ومنهج عميق ف��ي تقديم‬
‫اللغة العربية و�إحياء‬ ‫فعالة في ت�شييد ح�ضارة الإن�سان‪ ،‬لأن الأمة‬ ‫التراث للقارئ المعا�صر‪ ،‬وهذا ما ن�ستجليه في‬
‫العلوم‬ ‫العربية‪ ،‬كما يرى‪ ،‬بموقعها الفريد‪ ،‬وطاقاتها‬ ‫تحقيقه (كتاب‪ :‬الالمـات‪ ،‬لأبي الح�سين �أحمد‬
‫الب�شرية‪ ،‬وثرواتها الغنية‪ ،‬ور�سالتها الإن�سانية‬ ‫بن فار�س‪ ،‬وكتاب الدالئل في غريب الحديث‬
‫وح�ضارتها العريقة‪ ،‬م�ؤهلة لتحتل مكانة‬ ‫لقا�سم بن ثابت ال�سرق�سطي)‪� ،‬إ�ضافة �إلى العديد‬
‫�سامية في الركب العالمي‪ ،‬وتكون عن�صراً م�ؤثراً‬ ‫من المقاالت والدرا�سات التي ر�سخت �شغفه‬
‫في �صنع ح�ضارة الم�ستقبل‪ ،‬ح�ضارة تقوم على‬ ‫المعرفي والعلمي والبحثي العميق‪ ،‬وما ي�ؤكد‬
‫الإخ��اء والتعاون بين الأم��م‪ ،‬وال�سعي لينعم‬ ‫هذا ال�شغف؛ دعوته �إلى �إيجاد المناخ العلمي‬
‫الب�شر بالرخاء والخير‪ ،‬ترفرف عليهم رايات‬ ‫بكل متطلباته‪ ،‬الذي يف�سح للعلماء �أن يبحثوا‬
‫المحبة وال�سالم‪..‬‬ ‫ويطوروا‪ ،‬لأن البحث العلمي‪ ،‬كما يرى الدكتور‬
‫قدم عبر تحقيقاته‬ ‫بهذا المعنى‪ ،‬كان د‪.‬الفحام ي�ضع نف�سه في‬ ‫رهن بما‬
‫الفحام‪ ،‬هو �شعار الع�صر‪ ،‬وتقدم الأمم ٌ‬
‫وم�ؤلفاته التراث‬ ‫مر�آة الجيل‪ ،‬لذلك لم يكن يف�ضل الحديث عن‬ ‫تحققه في ميدان البحث العلمي‪ ،‬وبالتالي من‬
‫للقارئ العربي‬ ‫نف�سه في �أي لقاء كان‪ ،‬خا�صة في الق�ضايا‬ ‫ال�شروط الأولى لنمو البحث العلمي‪ ،‬ا�ستخدام‬
‫القومية التي تتناول ق�صة الكفاح العربي‪،‬‬ ‫�أح���دث و���س��ائ��ل االت�����ص��ال ال��ت��ي وف��رت��ه��ا لنا‬
‫المعا�صر‬ ‫فذاته ال تدرك كينونتها �إال �إذا ذابت في ذات‬ ‫التقنيات الحديثة لت�سهيل االطالع على حركة‬
‫الأمة‪ ،‬ور�ؤيته ال تنجلي �آفاقها �إال �إذا ارتهنت‬ ‫البحث العلمي في البالد المتقدمة‪ ،‬كما كانت‬
‫�إل��ى �ضمير الأم ��ة ف��ي ما�ضيها وحا�ضرها‬ ‫دعوته �إلى رجال التربية �أن يتبينوا حاجات‬
‫وم�ستقبلها‪ ،‬لأن��ه ي��رى بعين الأم���ة‪ ،‬ويقر�أ‬ ‫المجتمع‪ ،‬ويت�صوروا ما يمكن �أن تف�ضي �إليه‬
‫بل�سانها‪ ،‬ويفكر بعقلها الجامع‪ ،‬وي�ؤول حلمه‬ ‫حركة التطور المت�سارعة‪ ،‬لت�أتي مناهجهم‬
‫ف��ي دالئ��ل حلمها‪ ،‬وكينونته ف��ي كينونتها‬ ‫ملبية لهذه الحاجات والتطورات‪ ،‬و�أن يبادروا‬
‫الخالدة‪.‬‬ ‫�إلى تعديل خططهم ومناهجهم بما يوائم ما‬

‫‪53‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫ّ‬
‫ال�شعر‪ ..‬ذلك المهر‬
‫الجامح المجهول‬ ‫يو�سف عبد العزيز‬

‫يدل على معنى)‪.‬‬ ‫(ال�شعر كالم موزون ومق ّفى‪ّ ،‬‬ ‫منذ �أن خط ال�شاعر ال ّأول ق�صيدته الأولى‬
‫وهكذا نالحظ � ّأن تلك التعريفات كانت‬ ‫ال�شعر‬‫في التاريخ‪ ،‬حتى ه��ذه اللحظة‪ ،‬ظ� ّل ّ‬
‫ال�شعر‪ ،‬وعن و�صف‬ ‫ماهية ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعريفات بعيدة عن‬ ‫محدد‬‫مجهو ًال وغريب ًا ونائي ًا‪ ،‬ولي�س له تعريف ّ‬
‫ودويه و�صمته‪ ،‬و�أنفا�سه العا�صفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫جموحه‬ ‫ووا�ضح‪ .‬وعدم وجود مثل هذا التعريف جعل‬
‫ال�شعرية‬ ‫وعية التي حدثت في ّ‬ ‫ال ّنقلة ال ّن ّ‬ ‫ال�شعر دون �سقف‪ ،‬وهذا ما � ّأدى �إلى ابتكارات‬ ‫ّ‬
‫المت�صوفة‬
‫ّ‬ ‫ال�شعراء‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫العربية‪ ،‬كانت‬ ‫ال�شعراء عبر‬ ‫ّ‬ ‫قبل‬ ‫من‬ ‫قة‬ ‫ال‬
‫ّ‬ ‫وخ‬ ‫جديدة‬ ‫جمالية‬
‫ال�شعر ببعده الديني والكوني‬ ‫الذين ربطوا ّ‬ ‫الع�صور‪ .‬وعلى عك�س ذلك لو كان هناك مفهوم‬
‫الوا�سع‪ ،‬كما ربطوا الحب بمفهومه الإلهي‪ .‬ا ّتك�أ‬ ‫�شعري ًا كا�سح ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫محدد لل�شعر لوجدنا ُه��زا ًال‬
‫ال�شعر ال�صوفي على ال ّتراث ال�شعري العربي‬ ‫ّ‬ ‫خزفيات في متحف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مجرد‬
‫ولتحول ال�شعر �إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�شعراء العذريين‪ ،‬ث� ّ�م ط� ّ�وروا‬ ‫خا�ص ًة ت��راث ّ‬ ‫ّ‬ ‫عندما قامت الح�ضارة العربية الأموية‬
‫ن�صو�صهم ال�شعرية با ّتجاه كتابة ِعرفانية‪،‬‬ ‫العبا�سية‪ ،‬ق��ام العرب‬ ‫ّ‬ ‫وبعدها الح�ضارة‬
‫في الع�صرين الأموي‬ ‫حرر من ربقة الج�سد‪ ،‬تمهيداً للو�صول‬ ‫هدفها ال ّت ّ‬ ‫مهمة لعدد كبير من كتب الفل�سفة‬ ‫بترجمات ّ‬
‫�إلى لحظة الإ�شراق بالفناء في �أنوار الح�ضرة‬ ‫والعلوم والتاريخ التي �أنجزتها الح�ضارة‬
‫والعبا�سي قام العرب‬ ‫المت�صوفة تراث ًا‬ ‫الإلهية‪ .‬لقد ت��رك ال�شعراء‬ ‫اليونانية والفار�سية‪ .‬لقد ترجم العرب ك ّل �شيء‪،‬‬
‫ّ‬
‫بترجمات مهمة في‬ ‫ومتميزاً من ال�شعر‪ ،‬ومن �أه��م ه�ؤالء‬ ‫ّ‬ ‫عظيم ًا‬ ‫ال�شعر‪ .‬كان العرب يعتبرون‬ ‫ولكنهم لم يترجموا ّ‬
‫ال�شعراء‪ :‬محيي الدين بن عربي‪ ،‬ابن الفار�ض‪،‬‬ ‫ال�شعر بال منازع‪ ،‬ولذلك فقد نظروا‬ ‫�أنف�سهم � ّأمة ّ‬
‫العلوم والفل�سفة‬ ‫الحالج‪ ،‬الغزالي‪ ،‬رابعة العدوية‪ ،‬جالل الدين‬ ‫بال مباالة �إلى �شعر الأمم الأخرى‪ .‬فيما بعد قام‬
‫والتاريخ‬ ‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫وال�سهروردي‪ .‬من الإ�ضافات‬ ‫الرومي‪ّ ،‬‬ ‫الفيل�سوف العربي الأندل�سي (ابن ر�شد) بترجمة‬
‫الر�ؤية‬ ‫�صوف تطوير ّ‬ ‫التي �أنجزها �شعراء ال ّت ّ‬ ‫ولكن تلك الترجمة‬ ‫ال�شعر)‪ّ .‬‬ ‫(فن ّ‬‫كتاب (�أر�سطو)‪ّ :‬‬
‫ال�شعرية‪ .‬لنقر�أ‬ ‫ّ‬ ‫الكتابة‬ ‫ال�شعرية التي هي �أ�سا�س‬ ‫ال�شعراء ب�سبب‬ ‫ّ‬ ‫أذهان‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫ثقيلة‬ ‫كانت ترجمة‬
‫هذه الأبيات لل�شاعر محيي الدين بن عربي‬ ‫تم‬
‫عالقتها بالتحليل الفل�سفي‪ ،‬ولذلك فقد ّ‬
‫ال��ر�ؤي ال�شمولية والكونية التي‬ ‫التي‪ ،‬ت� ّؤكد ّ‬ ‫�إهمالها من قبل ال�شعراء وال ّن ّقاد العرب على‬
‫ات�صفت بها لغته ال�شعرية‪:‬‬ ‫حد �سواء‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫لقد كنت قبل اليو ِم �أُن ِك ُر �صاحبي‬ ‫فيما بعد اجتهد عدد من ال ّن ّقاد القدامى‬
‫�إذا لم يكن ديني �إل��ى دي ِن ِه دانِ‬ ‫لل�شعر‪،‬‬‫والفال�سفة العرب في و�ضع تعريفات ّ‬
‫ٍ‬
‫�صورة‬ ‫وق��د �صار قلبي قاب ًال ك��لّ‬ ‫منهم الفارابي ال��ذي ت�أ ّثر ب�أر�سطو‪ ،‬فاعتبر‬
‫���ر لرهبانِ‬‫فمرعى ل��غ��زالنٍ ‪ ،‬ودي ٌ‬ ‫ال�شعر �ضرب ًا من �ضروب المحاكاة‪ .‬ومنهم‬ ‫ّ‬
‫توج َهت‬
‫��ب �أنّ���ي ّ‬ ‫���ن بدين ال��ح ّ‬ ‫�أدي ُ‬ ‫ال�شعر ب�أنه (كالم ُم َخ َّيل‬ ‫ّ‬ ‫و�صف‬ ‫الذي‬ ‫�سينا‬ ‫ابن‬
‫فالحب ديني و�إيماني‬ ‫ُّ‬ ‫رك��ائ�� ُب��هُ ‪،‬‬ ‫م ��ؤ ّل��ف م��ن �أق���وال م��وزون��ة مت�ساوية وعند‬
‫�صوف الباب لدخول البعد‬ ‫فيما بعد فتح ال ّت ّ‬ ‫العرب مق ّفاة)‪ .‬من التعريفات التي ح ّنطت‬
‫ال�شعر‪ ،‬فكان ال�شاعر �أبو العالء‬ ‫الفل�سفي في ّ‬ ‫ال�شعر تعريف ُق��دام��ة ب��ن جعفر ال��ذي ق��ال‪:‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪54‬‬


‫ف�صول‬

‫تورط ال�شاعر في �أ�شياء لم يكن في باله‬ ‫�أي�ض ًا ّ‬ ‫ال�شعر‬‫المعري �صاحب ال ّتجربة الأهم في ربط ّ‬ ‫ِ‬
‫تتكون لديه �أبيات فائ�ضة في‬ ‫كتابتها‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫بالفل�سفة و�أ�سئلة الوجود‪ ،‬يقول �أبو العالء‪:‬‬
‫�ص ف�إ ّننا‬
‫ّ ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫بتلخي�ص‬ ‫قمنا‬ ‫الق�صيدة‪ .‬ف�إذا ما‬ ‫نمر ِ���س��راع�� ًا بين ُعدمينِ م��ا لنا‬ ‫ُّ‬
‫ن�ستغني بب�ساطة عن عدد كبير من الأبيات‪.‬‬ ‫��رون على جِ �سرِ‬ ‫��ات ك���أنّ��ا ع��اب َ‬ ‫ثَ��ب ٌ‬
‫الطابع‬ ‫ما�سة لك�سر ّ‬ ‫من هنا باتت الحاجة ّ‬ ‫ويقول في ٍ‬
‫بيت �آخر‪:‬‬
‫اجتهد النقاد‬ ‫الغنائي في الق�صيدة العربية‪ ،‬وتطعيم الق�صيدة‬ ‫�أ ّم�����ا ال��ي��ق��ي ُ��ن ف�ل�ا ي��ق��ي َ��ن و�إنّ���م���ا‬
‫القدامى والمفكرون‬ ‫بو�سائل و�إ�ضافات جديدة‪ .‬و�أهم هذه الو�سائل‬ ‫ِ‬
‫�أق�صى اجتهادي �أن �أظُ َّن و�أحد�سا‬
‫اال�ستفادة م��ن المرجعيات الب�صرية مثل‪:‬‬ ‫متداولة في ال�شعر‬ ‫َ‬ ‫مثل هذه اللغة لم تكن‬
‫العرب في و�ضع‬
‫وال�سرد‪.‬‬
‫الفن الت�شكيلي‪ّ ،‬‬ ‫ال�سينما‪ ،‬الم�سرح‪ّ ،‬‬ ‫العربي بك ّل هذه الأبعاد الفل�سفية العميقة‪.‬‬
‫تعريفات لل�شعر‬ ‫تعتبر ال�سينما � ّأم ًا حديث ًة للفنون‪ ،‬وذلك لما‬ ‫لكن ينبغي الإ���ش��ارة �إل ��ى مالحظة في‬
‫تحتوية من عدد كبير من هذه الفنون‪ ،‬حيث‬ ‫منتهى الأهمية في عالقة ال�شعر بالفل�سفة‪،‬‬
‫يمكن لنا �أن نرى التمثيل وحركة الج�سد‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫هذه الإ�شارة تتع ّلق بان�صهار الفكرة الفل�سفية‬
‫�إلى الت�صوير‪ ،‬والإ�ضاءة وعن�صر ال�صوت بما‬ ‫�ص ال�شعري‪ ،‬بحيث يبقى‬ ‫وذوبانها في ماء ال ّن ّ‬
‫فيه من �صوت و�صمت ومو�سيقا‪ ،‬ولذلك يمكن‬ ‫لل�شعر �إمتاعه وفتنته الطاغية عند قراءته من‬
‫لل�شعراء الإفادة من ال�سينما في كتابة ق�صيدة‬ ‫قبل المتل ّقي‪ّ � .‬أم��ا �أن تظل الأفكار الفل�سفية‬
‫مهمة‬‫م�شهدية‪ ،‬كذلك الدراما الم�سرحية بدورها ّ‬ ‫بهيئتها الجامدة في ال ّن�ص‪ ،‬فهذا مما يف�سد‬
‫�أي�ض ًا لل�شعراء في هذه الكتابة الجديدة‪ ،‬ويبدوا‬ ‫وتتحول الق�صيدة عند‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعر‪ ،‬ويطيح بالجمال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫جلي ًا باالنتقال من �صورة �شعرية �إلى‬ ‫�أثرها ّ‬ ‫مجرد مقالة فل�سفية موزونة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫�‬ ‫ذلك‬
‫�أخرى في الق�صيدة‪ ،‬بحيث ت�صنع هذه التوليفة‬ ‫�شعرية‬
‫ّ‬ ‫تجارب‬ ‫هناك‬ ‫الحديث‬ ‫الع�صر‬ ‫في‬
‫تمتاز ال�شعرية‬ ‫�شعري ًا متكام ًال‪ّ � .‬أما الفن‬ ‫في النهاية م�شهداً‬ ‫عربية ا�ستطاعت �أن توائم ما بين الفل�سفة‬
‫ّ‬
‫العربية بالغنائية‬ ‫الت�شكيلي فهو في الواقع يتبادل المواقع مع‬ ‫ال�شعراء الذين برعوا في‬ ‫وال�شعر‪ ،‬ومن ه�ؤالء ّ‬
‫ال�شعر‪ ،‬فالق�صيدة ما هي �إال ر�سم بالكلمات على‬ ‫الوهاب‬ ‫ّ‬ ‫وعبد‬ ‫اب‬ ‫ال�سي‬
‫هذا المجال‪ :‬بدر �شاكر ّ‬
‫برغم �أنها تت�سبب‬ ‫حد تعبير ال�شاعر نزار قباني‪ّ � ،‬أما اللوحة فهي‬ ‫البياتي و�أدون��ي�����س‪ .‬ه���ؤالء ال�شعراء حاولوا‬
‫ّ‬
‫بالعديد من المزالق‬ ‫ال�سرد �أي�ض ًا‬
‫ّ‬ ‫مر�سومة‪.‬‬ ‫�شعرية‬ ‫�صور‬ ‫عن‬ ‫عبارة‬ ‫الخروج على تعاليم (القبيلة ال�شعرية)‪ ،‬با ّتجاه‬
‫ي�ضبط ال ّن�ص ال�شعري‪ ،‬بحيث تبد�أ الق�صيدة من‬ ‫وربما يعود‬ ‫ق�صيدة تنهل من ماء الفل�سفة‪ّ .‬‬
‫نقطة محددة‪ ،‬وتنتهي في نقطة محددة‪ ،‬وهذا‬ ‫ال�سبب في ذلك �إل��ى ثقافتهم الوا�سعة‪ ،‬التي‬
‫�ص ال�شعري متما�سك ًا من دون‬ ‫ما يجعل ال ّن ّ‬ ‫در�سوا من خاللها التراث الفل�سفي وال�شعري‬
‫�ص‪.‬‬ ‫وجود ح�شو و�أبيات فائ�ضة عن ال ّن ّ‬ ‫العربي‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى ال�شعر والفكر الفل�سفي‬
‫من ال�شعراء الكبار في العالم‪ ،‬الذين كانوا‬ ‫الغربيين‪ .‬وبهذا يمكن القول � ّإن ق�صيدة ه�ؤالء‬ ‫َّ‬
‫� ّأول من ا�ستفاد من هذه المرجعيات الب�صرية‬ ‫ال�شعراء خرجت على ال�سائد ال�شعري العربي‬
‫ال�شاعر الفرن�سي (جاك بريفير)‪ ،‬حيث ا�ستطاع‬ ‫نحو لغة طقو�سية م ّتكئة ب�شكل �أ�سا�سي على‬
‫�أن يكتب ق�صيدة الم�شهد بما فيها من جماليات‬ ‫الفل�سفة‪.‬‬
‫ومرجعيات ب�صرية‪ ،‬وقد ا�شتغل هذا ال�شاعر‬ ‫لي�س اللجوء �إلى الفل�سفة هو الح ّل الوحيد‬
‫ا�ستعادة ال�شعرية‬ ‫في حقل ال�سينما فكتب ال�سيناريو لعدد كبير‬ ‫الذي يمكن من خالله تطوير ال�شعرية العربية‪،‬‬
‫العربية من‬ ‫من الأف�ل�ام‪ .‬في ال�شعر العربي تبرز تجربة‬ ‫فهناك ط��رائ��ق كثيرة يمكن �أن ي�ستخدمها‬
‫المرجعيات الب�صرية‬ ‫ال�شاعر العراقي ح�سب ال�شيخ جعفر‪ ،‬كواحدة‬ ‫ال�شعراء م��ن �أج��ل كتابة ن�صو�ص معافاة‬
‫من التجارب ال�شعرية المهمة التي ا�ستفادت‬ ‫ومبتكرة‪.‬‬
‫مثل ال�سينما‬ ‫من الفنون الب�صرية‪ ،‬ومنها ال�سينما على وجه‬ ‫تمتاز ال�شعرية العربية بالغنائية كعن�صر‬
‫والم�سرح والفن‬ ‫التحديد‪ .‬وعلى ك ّل حال يبقى الم�شروع ال�شعري‬ ‫مهم في هذه ال�شعرية‪ .‬الغنائية تلك التي يعزف‬ ‫ّ‬
‫بال�شعراء �أنف�سهم‪،‬‬ ‫مرتبط ًا في الدرجة الأولى ّ‬ ‫ال�شاعر من خاللها على وتر الذات ليبث م�شاعره‬
‫الت�شكيلي‬
‫حيث الباب م�شرع على �آخ��ره لكتابة �شعرية‬ ‫مهمة‪،‬‬‫و�أ�شواقه‪ .‬الغنائية هنا لها قيمة �شعرية ّ‬
‫جديدة ومختلفة‪ .‬ذلك � ّأن ال�شعر ح�صان نافر‬ ‫تت�سبب لل�شاعر بعدد كبير من المزالق‪،‬‬ ‫غير �أنها ّ‬
‫ال ي�ست�أن�س بما هو عادي وم�ألوف‪ ،‬ولذلك فهو‬ ‫منها ت�شابه التجارب ال�شعرية‪ ،‬حتى لدى‬
‫دائم الطيران والتحليق في الف�ضاءات الجديدة‬ ‫ن�صين‬ ‫المكر�سين‪� ،‬إذ �إ ّننا كثيراً ما نقر�أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعراء‬
‫والأمداء المخاتلة‪.‬‬ ‫مت�شابهين ل�شاعرين مختلفين‪ ،‬فالغنائية‬

‫‪55‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫يعد �أم��ي��ن يو�سف غ ��راب‪ ،‬م��ن �أ�شهر‬
‫الروائيين وك� ّت��اب الق�صة‪ ،‬فهو �صاحب‬
‫�أ�سلوب �أدب��ي مبهر وج��ذاب‪ ،‬ولغة عربية‬
‫تجمع بين ال�سال�سة وال�سهولة والإب��داع‪،‬‬
‫كما تميز بكتاباته التي ناق�شت العالقة‬
‫بين الرجل والمر�أة بجر�أة �شديدة‪ ،‬و�أ�شاد به‬
‫الدكتور طه ح�سين‪ ،‬وو�صفه ب�أنه من �أهم‬
‫الأدباء الذين يمتلكون �أدوات كتابة الق�صة‬
‫باحتراف‪.‬‬
‫وكعادة �أغلبية النا�س في ع�شرينيات‬
‫القرن الما�ضي‪ ،‬لم يدخل �أمين يو�سف غراب‬
‫المدار�س‪ ،‬ولم يعرف التعليم النظامي‪ ،‬ولم‬
‫يقر�أ حرف ًا واحداً حتى بلغ عمره (‪ )17‬عام ًا‬
‫برغم ن�ش�أته في �أ�سرة مي�سورة الحال‪ ،‬ولأنه‬
‫ول��د وحيداً بعد خلفة بنات‪ ،‬ن�ش�أ مرفه ًا‬
‫ومدل ًال‪ ،‬ولم يكن ُيعاقب من �أبويه عندما‬
‫يخطئ‪ ،‬و�أغدقا عليه الكثير من الحنان‪،‬‬
‫لدرجة �أن الكثير من �أقارب الأ�سرة‪ ،‬كانوا‬
‫يعيبون على تربيته‪ ،‬وظنوا ب�أنه من الف�شلة‪،‬‬
‫ول��م تظهر عليه �أي عالمة م��ن عالمات‬
‫النبوغ ب�شكل عام‪ ،‬برغم عمره الذي كان‬
‫يزحف نحو الع�شرين‪.‬‬
‫ب��د�أ �أمين يو�سف غ��راب على االطالع‬
‫والمعرفة‪ ،‬بعد تعر�ض والده التاجر لأزمة‬
‫مالية في تجارته‪ ،‬و�صلت �إل��ى �إ�صابته‬
‫بالمر�ض ثم الموت فج�أة‪ ،‬فراح يقر�أ كل ما‬ ‫�أقر طه ح�سين ب�أنه �أهم ك ّتاب الرواية‬
‫يقع تحت يده من �أدب عربي و�أدب غربي‬
‫مترجم‪ ،‬والتحق بوظيفة حكومية متوا�ضعة‬
‫في ق�سم الأر�شيف ببلدية دمنهور‪ ،‬وب�سبب‬
‫�أمين يو�سف غراب‪..‬‬
‫خالف بينه وبين رئي�سه في العمل‪ ،‬تم نقله‬
‫�إل��ى وظيفة م�ساعد �أمين مكتبة دمنهور‬
‫عالمة فارقة في تاريخ‬
‫ك��ع��ق��اب ل ��ه‪ ،‬وك��ان��ت ال��ب��داي��ة ف��ي طريق‬
‫العبقرية والنبوغ‪ ،‬فحينما وقع ب�صره على‬
‫الأدب وال�سينما‬
‫�أرفف المكتبة‪ ،‬و�شاهد ما عليها من كتب‪،‬‬
‫ب��د�أ يق�ضي وقته كله في ال��ق��راءة‪ ،‬فع�شق‬ ‫م��ازال ال��روائ��ي الم�صري �أمين يو�سف غ��راب (‪-1912‬‬
‫قراءة الق�ص�ص والروايات‪ ،‬ومع الوقت بد�أ‬ ‫‪1970‬م)‪ -‬ال����ذي ول���د ب����إح���دى ق���رى م��ح��اف��ظ��ة كفر‬
‫�أولى محاوالته في الكتابة كمحاكاة لما‬ ‫ال�شيخ‪ ،‬وت��رب��ى ف��ي ري��ف محافظة ال��ب��ح��ي��رة‪ ،‬ودخ��ل‬
‫يقوم بقراءته‪ .‬وخطوة خطوة‪ ،‬ب��د�أ ين�شر‬
‫القاهرة و�سكنها وعمره يقترب من الأربعين‪ -‬يحظى‬
‫كتاباته في مدينة دمنهور على نطاق �ضيق‬
‫و�سط الأ�صدقاء‪.‬‬ ‫ب�شعبية ك��ب��ي��رة ب��ي��ن ال���ق���راء‪ ،‬وي��ت��م اال���س��ت�����ش��ه��اد به‬
‫محمد هجر�س‬
‫وبعدها ب��د�أ يكت�شف في نف�سه بذرة‬ ‫وب�أعماله بين الأكاديميين ودار�سي الأدب وال�سينما‪،‬‬
‫ب�سبب �أعماله الق�ص�صية والروائية‪ ،‬التي باتت من العالمات المميزة في الأدي���ب‪ ،‬فكتب الق�صة الق�صيرة �أول ما‬
‫تاريخ الرواية العربية‪ ،‬والتي تحولت لأعمال �سينمائية باتت من �أهم كتب‪ ،‬وكان عمره (‪� )27‬سنة‪ ،‬وعندما �أعلنت‬
‫مجلة ال�صباح عن م�سابقة للق�صة الق�صيرة‪،‬‬
‫كال�سيكيات ال�سينما حتى الآن‪� ،‬أهمها (�شباب امر�أة)‪ ،‬و(الأبواب المغلقة)‪.‬‬
‫ا�شترك فيها �أديبنا النا�شئ ففاز بالمركز‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪56‬‬


‫�سيرة‬

‫�أي�ض ًا من �أج��ود ق�ص�صه‬


‫على الم�ستوى الفني كما‬
‫اتفق النقاد والقراء‪.‬‬
‫تميز ب�أ�سلوبه‬ ‫ف�����ور ن����زول����ه �إل����ى‬
‫الجذاب ولغته‬ ‫ال��ق��اه��رة‪ ،‬عمل ف��ي عدة‬
‫العربية التي تجمع‬ ‫وظائف‪ ،‬وكانت �أول تلك‬
‫بين ال�سال�سة‬ ‫الوظائف‪ ،‬وظيفة كاتب‬
‫ب�سيط في مطابع ال�سكة‬
‫والإلمام العميق‬
‫ال��ح��دي��د‪ ،‬ث ��م ���س��ك��رت��ي��راً‬
‫لم�صلحة ال�سكة الحديد‪،‬‬
‫�إل����ى �أن ان��ت��ق��ل للعمل‬
‫م��دي��راً للعالقات العامة‬
‫بالمجل�س الأعلى لرعاية‬
‫غرف من �أمهات‬ ‫الفنون والآداب والعلوم‬
‫الكتب الأدبية‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ال��ذي تغير‬
‫والمعرفية قبل �أن‬ ‫ا�سمه �إلى المجل�س الأعلى‬
‫يتجه نحو الكتابة‬ ‫للثقافة حالي ًا منذ عام‬
‫(‪1956‬م)‪ ،‬وبقي في تلك‬
‫والإبداع‬ ‫الوظيفة حتى يوم رحيله‪.‬‬
‫ح�صل ع��ل��ى ج��ائ��زة‬
‫ال ��دول ��ة ال��ت��ق��دي��ري��ة في‬
‫الق�صة الق�صيرة �سنة‬
‫من �أعماله (‪1964‬م)‪ ،‬ومن �أعماله‪:‬‬
‫برع في ت�صوير‬ ‫(الأب ��واب المغلقـة‪ ،‬ويوم‬
‫الثالثـاء‪ ،‬و�آث��ار على ال�شفـاه)‪ ،‬ومن رواياته‪:‬‬ ‫الأول عن ق�صة (بائعة اللبن) وكان ذلك عام‬
‫الحياة وال�شخ�صية‬
‫(�شباب ام ��ر�أة‪ -‬التي تم تحويلها �إل��ى فيلم‬ ‫(‪1940‬م)‪.‬‬
‫الريفية وغا�ص في‬ ‫�سينمائي‪ ،‬من بطولة �شكري �سرحان وتحية‬ ‫وفي �سنة (‪1942‬م) قرر احتراف الأدب بعد‬
‫التفا�صيل الدقيقة‬ ‫كاريوكا‪ -‬وال�ضباب‪ ،‬وامر�أة العزيز‪ ،‬ون�ساء في‬ ‫�أن ن�شر له الأ�ستاذ محمد التابعي رئي�س تحرير‬
‫للحياة‬ ‫حياتي‪ ،‬ويحدث في الليل فقط‪ ،‬و�سنوات الحب‪،‬‬ ‫مجلة �آخر �ساعة‪ ،‬ق�صة (في البيت) بالمجلة‪،‬‬
‫والأبواب المغلقة‪ ،‬وم�سرحية الزواج المحرم)‪..‬‬ ‫بعد �أن �أعجب بها �إعجاب ًا كبيراً‪ ،‬وطلب منه‬
‫�أن يكتب ق�صة العدد في المجلة كل �أ�سبوع‪،‬‬
‫ول�سنوات طويلة كان خاللها يقيم في قريته‬
‫حتى اقترب عمره من الأربعين عام ًا‪ ،‬ولم‬
‫ينتقل �إلى القاهرة �إال في عام (‪1949‬م)‪ ،‬بعد‬
‫�أن ت�شبع بحياة الريف وقيمه ومثله وعاداته‬
‫وتقاليده‪ ،‬فحمل معه �إل��ى القاهرة تجاربه‬
‫الأول ��ى في ال��ري��ف‪ ،‬وه��و ما يف�سر �أن معظم‬
‫�شخ�صيات ق�ص�صه ت�أتي من �أعماق الريف‪.‬‬
‫وب��رع غ��راب في ت�صوير الحياة الريفية‪،‬‬
‫وب��رع �أي�ض ًا في ت�صوير ال�شخ�صية الريفية‪،‬‬
‫وغا�ص في �أعماق تلك ال�شخ�صيات‪ ،‬وعر�ض‬
‫التفا�صيل الدقيقة الخا�صة بالحياة بالريف‪،‬‬
‫نتيجة ن�ش�أته الريفية‪ ،‬مثل ق�ص�ص‪( :‬رمان‬
‫الجناين‪ ،‬وال�شيخة غزال‪ ،‬ومئة دجاجة وديك‬
‫�أحمر‪ ،‬وزوجة رجل �آخر) وغيرها‪ ..‬وجميعها‬
‫�أمين يو�سف غراب‬

‫‪57‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫عبدالرحمن بوعلي‬
‫البحث في ت�شكيل الرواية العربية‬
‫د‪ .‬يحيى عمارة‬

‫الم ْد َخ ُل لكي ت�صبح الرواية العربية‬


‫وهي الفكرة َ‬ ‫لي�س من المغامرة الأدبية القول �إن ال�شاعر‬
‫عا َلم ًا �إبداعي ًا م�ستق ًال مماث ًال لعالم الرواية‬ ‫والناقد العربي عبدالرحمن بوعلي من النقاد‬
‫وبناءها الذاتي‬
‫َ‬ ‫الغربية‪ ،‬و ِل َت ْم ِلك ر�ؤيتها الذاتية‪،‬‬ ‫الذين تمكنوا من التوفيق بين االهتمام ال�شعري‬
‫الخا�ص‪� .‬إ�ضافة �إل��ى �أن��ه يدعو �إل��ى �ضرورة‬ ‫واالهتمام ال�سردي العربيين‪ ،‬ب�شغف معرفي‪،‬‬
‫درا�سة كل الأ�شكال الكال�سيكية‪ ،‬والتجريبية في‬ ‫ومحبة ذوقية‪ ،‬وتميز نقدي ذي �أفق جديد؛ وبين‬
‫ّ‬
‫وفق بين االهتمام‬ ‫الرواية العربية؛ من �أجل ا�ستنباط الخ�صائ�ص‬ ‫الإبداعي والنقدي ب�صفة عامة في الم�شروع‬
‫ال�شعري وال�سردي‬ ‫المميزة لها‪ ،‬عبر قراءة الن�صو�ص ال غير‪ ،‬مع‬ ‫الأدب��ي الخا�ص ال��ذي ينفتح على مرجعيات‬
‫العربيين ب�شغف‬ ‫تمحي�ص النظر في تلك الن�صو�ص بو�صفها مر�آة‬ ‫نقدية متنوعة‪ .‬ف ��إن كان الم�شهور عليه �أنه‬
‫تعك�س الخيال والواقع العربيين من كل الجوانب‬ ‫�شاعر عربي معا�صر بالمغرب‪ ،‬فالمن�سي عند‬
‫معرفي‬ ‫المعرفية‪ ،‬والجمالية‪ ،‬والح�ضارية‪ ،‬والتاريخية‪.‬‬ ‫المهتمين والمتتبعين لم�شروعه الأدبي النقدي‪،‬‬
‫ولعل درا�ستيه المتميزتين‪( :‬الرواية العربية‬ ‫�أن��ه من ال�شعراء النقاد الذين ا�ستطاعوا �أن‬
‫الجديدة)‪ ،‬و(المغامرة الروائية) من الدرا�سات‬ ‫يقدموا ر�ؤية نقدية عميقة في الرواية العربية‪،‬‬
‫النقدية التي كان لها ال�سبق في الوقوف على‬ ‫�إذ هو من النقاد الجامعيين المغاربة الذين‬
‫مجموعة من الأ�سئلة الجديدة التي لم تكن‬ ‫عملوا‪ ،‬وم��ازال��وا يعملون على تر�سيخ فكرة‬
‫متداولة �إال عند ثلة من رواد النقد العربي‬ ‫االعتناء بالن�ص الروائي العربي‪ ،‬منذ بداية‬
‫الجديد‪ ،‬من �أهمها �س�ؤال‪( :‬ن�ش�أة الرواية العربية‬ ‫ت�أ�سي�س م�شروعهم في �سنوات الثمانينيات من‬
‫بتكون المجتمع العربي‬ ‫وتطورها)‪ ،‬وعالقة ذلك ُّ‬ ‫القرن الما�ضي �إلى الآن‪ .‬وبذلك‪ ،‬لم يكن �شبيه ًا‬
‫�إبان ع�صر النه�ضة‪ ،‬و�س�ؤال الدرا�سة ال�سردية‬ ‫ببع�ض ال�شعراء العرب الذين لم يلتفتوا �إلى‬
‫المقارنة بين ال�سرد الغربي وال�سرد العربي‪،‬‬ ‫جن�س الرواية بتات ًا‪ ،‬م�ؤكدين ذلك في حواراتهم‬
‫وكذلك �س�ؤال �إثبات هوية الرواية العربية‪.‬‬ ‫و�أب��ح��اث��ه��م‪ ،‬وكما يبرز ذل��ك ف��ي درا�ساتهم‬
‫تمكن من المناهج‬ ‫يقول م ��ؤك��داً ب��واع��ث البحث ف��ي ت�شكيل‬ ‫الأكاديمية التي لم ُت ِ�ش ْر من قريب �أو بعيد �إلى‬
‫النقدية الغربية‬ ‫الرواية العربية‪ ،‬الذي يعود �سياقه �إلى مرحلة‬ ‫عالم الرواية والروائيين‪ .‬و ُت َ�ش ِّكل هذه الظاهرة‬
‫التي �أ�س�ست مفهوم‬ ‫بداية ت�شكل الر�ؤية النقدية لديه‪ ..( :‬وقد دفعتني‬ ‫ثغر ًة من ثغرات الثقافة الأدبية التي تحتاج‬
‫ال�سرد الحديث‬ ‫قراءاتي للن�صو�ص الروائية العربية في البداية‬ ‫دوم ًا �إلى االنفتاح على الأجنا�س الأدبية‪ ،‬نظراً‬
‫�إلى �أن �أطرح هذا ال�س�ؤال‪ :‬هل يجوز �أن نقارن‬ ‫للترابط المتين بينها‪ ،‬والتي جعلت ناقدنا يتميز‬
‫بين و�ضع ال��رواي��ة العربية وو���ض��ع ال��رواي��ة‬ ‫عن بع�ض مجايليه‪.‬‬
‫الأوروب��ي��ة ومثيالتها في رو�سيا و�أمريكا؟‬ ‫ففي درا�ساته النقدية الجامعية‪ ،‬يالحظ‬
‫وكان هذا ال�س�ؤال يفر�ض علي في الكثير من‬ ‫القارئ �أن ناقدنا مت�شبث بالفكرة القائلة‪� :‬إن‬
‫الأحيان‪ ،‬وبالأخ�ص عندما �أجد �أن الن�صو�ص‬ ‫الرواية العربية في حاجة ما�سة �إلى وقفات‬
‫الروائية العربية لم تكن ب�صفة عامة ت�صل �إلى‬ ‫تاريخية‪ ،‬وجمالية‪ ،‬ومعرفية ت�سترعي �شروط‬
‫ما و�صلت �إليه الن�صو�ص في �أوروب��ا ورو�سيا‬ ‫التطور‪ ،‬ومكوناته المنت�شرة في الأدب العالمي‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪58‬‬


‫�سطور‬

‫ويناق�ش فيها كل الأفكار النظرية‪ ،‬والمعرفية‪،‬‬ ‫و�أمريكا‪ ،‬ال�شيء الذي كان م�صدراً للت�سا�ؤل‪� :‬أال‬
‫والمنهجية تقريب ًا‪ ،‬التي تت�أ�س�س عليها الطرائق‬ ‫يجوز �أن تكون النظرة التي ننظر بها �إلى الرواية‬
‫النقدية ال�سو�سيولوجية‪ ،‬التي يق�سمها �إلى‬ ‫العربية الآن هي نف�س النظرة التي كان ينظر‬
‫نوعين‪ ،‬قائ ًال (ن�ستطيع �أن نميز بين طريقتين‬ ‫بها الأوروبيون �إلى ما كان ي�سمى عندهم بفن‬
‫�أ�سا�سيتين في النقد ال�سو�سيولوجي هما‪ :‬طريقة‬ ‫الرومان�س؟)‪� .‬سياق الحديث يعود �إلى �سنوات‪..‬‬
‫ال�سو�سيولوجيا التجريبية التي تدر�س العنا�صر‬ ‫فالتجربة النقدية المرتبطة بالعالم الروائي‬
‫الخارجية عن الن�ص الأدبي‪ ،‬مثل درا�سة القراء‬ ‫لل�شاعر الناقد‪ ،‬تحيل �إلى مجموعة من �إ�شكاليات‬
‫والك ّتاب والنا�شرين‪ ،‬وطريقة ال�سو�سيولوجيا‬ ‫النقد الروائي العربي المعا�صر‪ ،‬من بينها الإ�شارة‬
‫الجدلية التي �أطلق عليها لو�سيان غولدمان‪:‬‬ ‫�إلى ظاهرة ال�شعراء النقاد الذين در�سوا جن�س ًا‬
‫يعتبر من ال�شعراء‬
‫البنيوية التكوينية فيما بعد)‪ .‬ومن المن�شغلين‬ ‫�أدبي ًا �آخر ال ينتمي �إلى تجربتهم ال�شعرية‪ ،‬التي‬
‫النقاد الذين‬ ‫بت�صورات الناقد البنيوي الفرن�سي روالن‬ ‫برزت ب�شكل ملحوظ في الإبداع العربي الحديث‬
‫ا�ستطاعوا �أن يقدموا‬ ‫ب��ارت‪ ،‬حيث ترجم له مجموعة من ن�صو�صه‬ ‫والمعا�صر‪ ،‬وف��ي تقديرنا �أن ه��ذه الإ�شكالية‬
‫ر�ؤية نقدية عميقة‬ ‫ف��ي كتاب (ف��ي الكتابة والأدب وال��رواي��ة)‪،‬‬ ‫م��ات��زال تطرح نف�سها حتى ال��ي��وم‪ ،‬وت�ستحق‬
‫في الرواية العربية‬ ‫وبالم َن ِّظرِين الم�ؤ�س�سين للمنهج ال�سيميولوجي‪/‬‬
‫ُ‬ ‫الت�أمل والدرا�سة‪ ،‬و�إلى الأدوار الطالئعية التي‬
‫ال�سميوطيقي‪ ،‬فقد كان من ال�سباقين في التعرف‬ ‫قام بها الناقد الجامعي في التعريف بالن�ص‬
‫�إلى �أهم م�ؤ�س�سي ال�سيميوطيقا‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم‬ ‫الروائي العربي من ع�صر النه�ضة �إلى التجريب‪،‬‬
‫الم َن ِّظر الأمريكي �شارل �سندر�س بير�س‪ ،‬في‬ ‫ُ‬ ‫مع الإتيان بالمناهج الغربية‪ ،‬لكن لي�س ب�شكل‬
‫ترجمته لكتاب جيرار دولودال (ال�سيميائيات‬ ‫متهافت على كل نظرياتها‪ ،‬و�أفكار طروحاتها‪،‬‬
‫�أو نظرية العالمات)‪ ،‬وهو الكتاب الذي يدافع‬ ‫كما وقع عند ثلة من النقاد والدار�سين‪ ،‬و�إلى �أن‬
‫في مقدمته عن ال�سيميولوجيا بو�صفها منهج ًا‬ ‫المعرفة النقدية التي انطلق منها في درا�ساته‬
‫ناجع ًا في المقاربات التحليلية النقدية‪.‬‬ ‫ومقاالته وترجماته‪ ،‬والمعتمدة على المنهج‬
‫وبذلك‪ ،‬ي�ستنتج القارئ لدرا�سات الرجل‬ ‫االجتماعي والجدلي والبنيوي التكويني‪ ،‬ونظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ح�ضور م َل َكة الوعي النقدي عنده‪ ،‬وذلك‬ ‫ال�شكالنيين الغربيين‪ ،‬خا�صة الرو�س‪ ،‬والخطاب‬
‫بتركه لكل ما ال يالئم المتن الروائي العربي‪،‬‬ ‫الروائي عند ميخائيل باختين‪ ،‬تطرح �إ�شكالية‬
‫وغر َبلة المعرفة النقدية الغربية بالتغلب على‬ ‫ْ‬ ‫ال��وق��وف عند انت�شار المفاهيم الجديدة في‬
‫�إغراءات المثاقفة الم�ستلبة وما �شابهها؛ لي�صبح‬ ‫الدرا�سات النقدية العربية بالمغرب‪ ،‬معلنة بذلك‬
‫بذلك‪� ،‬أنموذج ًا متفوق ًا في تقويم الن�صو�ص‬ ‫عن بداية مرحلة انتقالية حاولت (�إقامة �صرح‬
‫ر�أى �أن الرواية‬ ‫ال�سردية العربية التي تراعي الن�سق التاريخي‪،‬‬ ‫نظرية روائية حديثة‪ ،‬مقابل النظرية الواقعية‬
‫العربية في حاجة‬ ‫والمعرفي‪ ،‬والجمالي؛ ببحثها وتقديرها‪،‬‬ ‫التي و�صفها بع�ضهم بالكال�سيكية) على حد‬
‫ما�سة �إلى وقفات‬ ‫(واحترام الخ�صو�صية الأدبية التي ير�ضى الفكر‬ ‫تعبير الباحثة العربية فاطمة الزهراء �أزرويل في‬
‫تاريخية وجمالية‬ ‫النقدي عن �إغفالها‪ ،‬وال يرتاح �إال بالخو�ض‬ ‫القيم (مفاهيم نقد الرواية بالمغرب)‪.‬‬
‫كتابها ِّ‬
‫تبين طبيعتها ومقوماتها)‪.‬‬ ‫فيها ومحاولة ُّ‬ ‫وه��ن��ا ال ب��د �أن ن�شير �إل���ى �أن ناقدنا‬
‫ومعرفية متطورة‬ ‫ليبقى في الأخير ا�شتغال ال�شاعر الناقد‬ ‫من ال��ق��راء المتمكنين من المناهج النقدية‬
‫على الن�ص الروائي‪� -‬إبداع ًا ونقداً‪ -‬خا�صي َة‬ ‫الغربية‪ ،‬التي �أ�س�ست مفهوم ال�سرد الحديث‪،‬‬
‫تمي ٍز جعلت م�شروعه الأدبي والنقدي من�سجم ًا‬ ‫ُّ‬ ‫حيث ق��ام ب��االط�لاع على المنهج البنيوي‬
‫ومتما�سك ًا مع ر�ؤيته القائمة �أ�سا�س ًا على عن�صر‬ ‫التكويني‪ ،‬عبر اهتمامه بكل رواده من �أمثال‪:‬‬
‫الحر�ص المعرفي والخيط المق�صدي‪ ،‬الرابط بين‬ ‫لو�سيان غولدمان‪ ،‬وج��اك دوب ��وا‪ ،‬ومي�شيل‬
‫ر�سالة الإبداع ومنطق الخطاب النقدي‪ ،‬اللذين‬ ‫زيرافا‪ ،‬وج��اك لينهارد‪ ،‬وروبير �إ�سكاربيت‪.‬‬
‫يلتقيان في نقطة ط��رح �أ�سئلة �أدبية عربية‬ ‫ويظهر ذلك في م�ؤلفاته النقدية والمترجمة‬
‫جديدة‪ ،‬تبحث عن تقديم �أجوبة مقنعة تكون‬ ‫مثل‪( :‬في نقد المناهج المعا�صرة‪ :‬البنيوية‬
‫عام ًال مهم ًا من عوامل انتقال الثقافة العربية‬ ‫التكوينية)‪ ،‬و(مدخل �إلى �سو�سيولوجية الأدب‬
‫من عملية االجترار المعرفي والمنهجي �إلى‬ ‫والرواية)‪ ،‬ثم (نظريات القراءة من البنيوية �إلى‬
‫عملية الإبداع النقدي‪.‬‬ ‫جمالية التلقي)‪ ،‬وهي الم�ؤلفات التي يدر�س‬

‫‪59‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ال تتذكر �إال ما تريد �أن تن�ساه!‬

‫ماركيز‬
‫يفرق بين العي�ش والحياة‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪60‬‬


‫كلمات‬

‫(الحياة لي�ست ما يعي�شه �أحدنا ‪ ..‬و�إنما هي ما يتذكره‪ ،‬وكيف‬


‫يتذكره؛ ليرويه)‪ .‬بهذه الكلمات الموجزة بالغة الداللة‪ ،‬افتتح‬
‫(ع�شت لأروي)‬
‫ُ‬ ‫الروائي الأ�شهر غابرييل غار�سيا ماركيز �سيرته‬
‫التي نقلها �إلى العربية المترجم الراحل �صالح علماني‪ .‬وقد‬
‫في كتابه (ع�شت‬ ‫انطوت تلك الكلمات على قيم م�ضافة �إلى كتابة ال�سيرة الذاتية‬
‫لأروي) يبين �أنه ركز‬ ‫د‪ .‬حاتم ال�صكَر‬
‫تتعلق بما ي�صلح ليكون مفردة (�سيرذاتية) من بين ما نعي�شه‪.‬‬
‫على ال�سردية لل�سيرة‬
‫الذاتية حتى ال يقع‬ ‫وي�سمي (ماركيز) ب�صراحة مده�شة م�صادر‬ ‫فلي�س كلها �صالح ًا لل�سرد ال�سيري‪ ،‬مثلما‬
‫بع�ض �أعماله‪ ،‬مما التقطه من حياته تلك بالقول‬ ‫� َّأن ما يظل خارج التذكر ال ُيعد حياة ت�ستحق‬
‫في التوثيق‬ ‫(غ��رائ��ب كثيرة ف��ي كتبي م�صدرها تمارين‬ ‫الكتابة‪ ،‬مفرق ًا بين العي�ش والحياة‪(.‬العي�ش)‬
‫قراءتها)‪ .‬مثل �شبح المر�أة التي تظهر متجولة‬ ‫كو�سيلة عادية‪ ،‬ي�شترك فيها الأحياء جميع ًا‬
‫في غرف البيت الذي �ستهجره الأ�سرة‪ ،‬وكذلك‬ ‫ب�شراً وغيرهم‪ ،‬وبين (الحياة) كفعل �إ�ضافي‬
‫بع�ض الت�شبيهات التي يتلقفها كما يقول من‬ ‫يقوم به الإن�سان �ضمن اختياراته و�أفعاله‪ ،‬وهي‬
‫لي�ضمنها روايته‪ .‬ويتحدث عن‬ ‫ِّ‬ ‫الحياة الواقعية‪،‬‬ ‫التي تكون مادة للتذكر واال�ستعادة ال�سيرية‪،‬‬
‫المن�شورات التي ال يعرف النا�س كاتبها‪ ،‬والتي‬ ‫فتغدو تلك التذكرات هي الحياة التي نتحدث‬
‫يرى �أن عمل‬ ‫تنت�شر في القرية التي ت�سكنها الأ�سرة‪ ،‬ثم ت�صبح‬ ‫عن �سردها‪ ،‬ثم تركيزه على (التذكر) كمهيمنة‬
‫المخيلة يكمن في‬ ‫ثيمة في روايته (في �ساعة نح�س)‪.‬‬ ‫ن�صية ومن �أهم ما يعمل في بنية ال�سيرة الذاتية‬ ‫ّ‬
‫القدرة على التمثيل‬ ‫وتت�سلل المخيلة من الكتابة الروائية �إلى‬ ‫عد (ماركيز) التذكر رديف ًا للحياة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فقد‬ ‫و�شعريتها‪،‬‬
‫ال�سيرة‪ ،‬حين يتذكر (ماركيز) جرح رجلين في‬ ‫ثم يقرر حقيقة �أخ��رى بتنبيهه على (الكيفية)‬
‫والت�صوير الفني‬ ‫القرية تبارزا تحدي ًا ول��م يموتا‪ ،‬فتالقيا في‬ ‫التي يتم بها التذكر مالم�س ًا ال�ضرورة الفنية له‪،‬‬
‫والتقاط التفا�صيل‬ ‫�سريرين في الم�ست�شفى وهما يحت�ضران‪( ،‬وبعد‬ ‫واحتوائه �أي التذكر على ال�سمات التي تجعله‬
‫من ازدحام الحياة‬ ‫�أرب ��ع وع�شرين �ساعة م��ن االحت�ضار‪ُ ،‬قرعت‬ ‫ن�صً�أ‪ ،‬وه��ي التي يمكن للن�ص ال�سيرذاتي �أن‬ ‫ّ‬
‫لتوها‪.‬‬
‫�أجرا�س الكني�سة‪ ،‬حداداً على امر�أة ماتت ّ‬ ‫يحقق تميزه من خاللها‪ ،‬وال يظل رهين الحدث‬
‫وظن كل منهما في‬ ‫�سمع المحت�ضران الأجرا�س‪َّ ،‬‬ ‫�أو التعليق على ما جرى في الحياة ال�شخ�صية �أو‬
‫�سريره �أنها ُتقرع لموت الآخر)‪ .‬في جملة �صغيرة‬ ‫التوثيق التقريري لها‪ .‬ويختم بالربط بين التذكر‬
‫تت�سلل المخيلة لتعمل بغرائبية ماركيز المعروفة‪،‬‬ ‫و�سرد ما نتذكر و(روايته) كي يكون مادة �سردية‬
‫�إذ كيف �أمكنه �أن يعلم وهو ي�سرد كتابة �سيرية �أن‬ ‫يقرنها بالرواية‪ ،‬لت�أكيد الجانب الخيالي المرافق‬
‫عثر على ا�سم‬ ‫ك ًال من الرجلين ظن �أن الآخر قد مات؟ و�أن ك ًال‬ ‫لال�ستذكار‪ ...‬ولكي ي�ؤكد قناعته بالهوية ال�سردية‬
‫(ماكوندو) م�صادفة‬ ‫منهما حزن لموت الآخر؟‬ ‫ن�صو�صها الوقوع في‬‫َ‬ ‫لل�سيرة الذاتية‪ ،‬ويج ِّنب‬
‫ك��ان ماركيز منذ �صغره‪ ،‬كما ي�صرح في‬ ‫�إغراء التوثيق والنزعة المقالية التي ال ترقى �إلى‬
‫عندما توقف القطار‬ ‫�سيرته‪ ،‬قد قرر �أن يكون كاتب ًا‪ .‬لم ُتج ِد تو�سالت‬ ‫طبيعة الق�ص في الن�صو�ص ال�سيرذاتية ‪.‬‬
‫في محطة فج�أة!‬ ‫الأ�سرة وتمنيات الوالدين وطلبهما الملح �أن‬ ‫ال يكف (م��ارك��ي��ز) ع��ن ت�ضمين ال��درو���س‬
‫يكون محامي َا مث ًال �أو موظف ًا مهم ًا ويكمل‬ ‫العميقة ب�صدد الكتابة اال�سترجاعية �أو التذكرات‬
‫درا�ساته لأجل ذلك‪ ،‬لكنه يعلن لكل من يعرفه‬ ‫ال�سيرية‪ .‬ها هو مث ًال يعزز دور المخيلة في‬
‫برغبته في �أن ي�صبح كاتب ًا‪� .‬أمه التي لها تميز‬ ‫كتابتها‪ ،‬فيقول (الحياة مع الأ�سرة بكاملها وفي‬
‫ظروف يتحكم بها القدر‪ ،‬لي�س مجالها الذاكرة‪،‬‬
‫و�إن��م��ا المخيلة)‪� .‬إن عمل المخيلة‪ ،‬يكمن في‬
‫القدرة على التمثيل والت�صوير الفني‪ ،‬والتقاط‬
‫ال�سيري بين ازدحام تفا�صيل الحياة وعادياتها‪،‬‬
‫ولي�س في اختراع �أح��داث منزوعة ال�صدقية �أو‬
‫اختراع حدوثها‪ ،‬وهو بالمنا�سبة ما تعانيه عديد‬
‫ال�سير‪ ،‬لأن كتابتها خ�ضعت للت�شذيب والحيل‬
‫الال�شعورية والن�سيان �أو التنا�سي‪ ،‬وت�س ُّلط الزمن‬
‫الحا�ضر على زمنها الما�ضي‪ ،‬والوعي القائم‬
‫على الوعي في مرحلة حدوثها‪.‬‬
‫وليام فوغنر‬ ‫جيم�س جوي�س‬ ‫همنغواي‬

‫‪61‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫كلمات‬

‫في حياته كما تقدمها �سيرته‪ ،‬والتي ظلت تطالبه‬


‫ب�أن ي�ستكمل درا�سته دون جدوى‪ ،‬فقد ظل حلم‬
‫�أن يكون كاتب ًا م�سيطراً عليه‪ ،‬وفي �أحد النقا�شات‬
‫المحتدمة معها يقول لها ما لن يتراجع عنه من‬
‫بعد (لن �أكون �شيئ ًا‪� .‬إنني �أرف�ض �أن تجعلوا مني‬
‫بالإكراه‪ ،‬ما ال �أريد �أن �أكونه‪ ،‬و�أرف�ض �أن �أكون‬
‫مثلما تريدون �أنتم �أن �أكون‪ .‬و�أقل من ذلك‪ ،‬مثلما‬
‫تريد الحكومة)‪.‬‬
‫كيف تنبه (ماركيز) �إل��ى (ماكوندو) ا�سم ًا‬
‫لقرية متخيلة في ثالث من رواياته؟ ي�سرد هنا‬
‫�أمثولة الغتراف ما هو حياتي ليغدو �أدبي ًا عبر‬
‫الكتابة‪ ،‬وخلقه مجدداً كمكان �سردي فيه من‬
‫المخيلة ما ي�ضعه في �سياق جديد‪.‬‬
‫م�صادفة �سعيدة �ستجعله يعثر على ا�سم‬
‫(ماكوندو)‪ ،‬فقد توقف القطار في محطة دون‬
‫ق��ري��ة‪ ،‬ث��م بمزرعة م��وز ق ��ر�أ (م��ارك��ي��ز) الفتة‬
‫ي�ضم ا�سمها‪ :‬ماكوندو‪ .‬لقد كان ا�سمها ال�شعري‬
‫من �أعماله‬
‫يروقني‪ ،‬كما يقول‪ ،‬دون �أن يفكر في معناه �إال‬
‫جوي�س وروايته (�أولي�سي�س) التي وهبته كما‬ ‫بعد �سنين‪ ،‬حين عثر على المعنى م�صادف ًة في‬
‫يقول (م�ساعدة تقنية ال ُتقدر بثمن‪ ،‬في حرية‬ ‫مو�سوعة‪ ،‬فوجد �أنه ا�سم ل�شجرة ا�ستوائية ال تثمر‬
‫اللغة‪ ،‬والأف�ضل في لعبة الزمن والبناء لكتبي)‪.‬‬ ‫و ُتتخد �أخ�شابها ل�صنع زوارق الكانو‪.‬‬
‫وعن م�سخ (كافكا)‪ ،‬وال�صخب والعنف لفوغنر‬ ‫وفي ا�ستطرادات ت�شبع ف�ضول قرائه‪ ،‬يك�شف‬
‫وكتاب الكاريبي‪ .‬ويتوقف عند ر�ؤية همنغواي‬ ‫(ماركيز) كثيراً من م�صادر رواياته وق�ص�صه‪،‬‬
‫ي�ؤكد �أن ال�سيرة‬ ‫للواقعية ويقتب�س قوله المهم حين ُ�سئل في‬ ‫وي�سرد ما ح�صل عليها من تعديل‪ .‬وتكاد ال�سيرة �أن‬
‫الذاتية تعاني‬ ‫مقابلة عن عملية تحويل �شخ�صية واقعية �إلى‬ ‫تكون مدونة تحكي ما جرى لأعماله‪ ،‬وماعمل في‬
‫الت�شذيب والحيل‬ ‫�شرحت‬
‫ُ‬ ‫فرد همنغواي (�إذا ما‬ ‫�شخ�صية روائية‪ّ ،‬‬ ‫بنيتها من �سرد وقائع وخياالت‪ .‬ماريا التي قتلت‬
‫كيف �أفعل ذلك‪ ،‬ف�سوف �أتحول في �أحد الأيام �إلى‬ ‫ل�ص ًا حاول فتح باب بيتها لي ًال فقتلته بر�صا�صة‬
‫الال�شعورية �أو‬ ‫مرجع للمحامين المتخ�ص�صين في ق�ضايا القدح‬ ‫وهي مذعورة‪ ،‬ثم تظهر في م�شهد درامي �أم الل�ص‬
‫التنا�سي‬ ‫والت�شهير)‪.‬‬ ‫ومعها طفلة في الثانية ع�شرة بمالب�س الحداد‬
‫كثير من المرائي لم تفارق ذاك��رت��ه رغم‬ ‫ت�سيران‪ ،‬لكي ت�ضعا ورداً على قبر الل�ص الذي كان‬
‫ق�سوتها �أو ندمه عليها‪ :‬جثة �أول رجل ميت ر�آه‪،‬‬ ‫�أول ميت يرى ماركيز جثته‪ .‬ظلت تلك ال�صورة في‬
‫�أول والدة طفل تل�ص�ص عليها �صغيراً‪� ،‬أول ر�ؤية‬ ‫ذاكرته وكان عليه �أن يتخل�ص من عبء الحزن‬
‫للبحر و�س�ؤاله البريء عن فقدانه �ضفته الأخرى‪،‬‬ ‫�ضمنها في ق�صة ق�صيرة‪ .‬وا�ستطاع‬ ‫والت�أثر‪ ،‬ب�أن َّ‬
‫�أول امر�أة قابلها خارج �أ�سرته‪.‬‬ ‫بذلك (�أن يتطهر منها) كما يقول‪.‬‬
‫ورغ��م ه��ذا الغنى الحدثي وم��ا عا�شه من‬ ‫ولماركيز ق�ص�ص مع عناوين كتبه؛ فقد تغير‬
‫�أ�صر منذ �صغره على‬ ‫حياة‪ ،‬ي�صر (ماركيز) على القول (�إن �أف�ضل‬ ‫عنوان (�ساعة نح�س) الأ�صلي (قرية البراز تلك)‪،‬‬
‫ذكرياتي عن تلك الأيام لم يكن ما فعلته‪ ،‬و�إنما‬ ‫لأن الأب فيليك�س رئي�س الأكاديمية الكولومبية‬
‫�أن يكون كاتب ًا برغم‬
‫ما كنت على و�شك �أن �أفعله‪ ،‬وتعلمت ما لن �أن�ساه‬ ‫للغة‪ ،‬كان رئي�س لجنة التحكيم في الم�سابقة‬
‫�إلحاح والديه ب�أن‬ ‫�أبداً‪ ،‬ب�أنه في جوهر كل واحد منا‪ ،‬توجد البالد‬ ‫يرق له عنوانها ال�صادم‪،‬‬ ‫التي فاز بها عمله‪ .‬ولم ْ‬
‫ي�صبح محامي ًا‬ ‫ب�أ�سرها)‪.‬‬ ‫فطلب تغييره‪.‬‬
‫�أو موظف ًا مهم ًا‬ ‫�سوف يكون ل�سيرة (ماركيز) جدلها الحر‬ ‫ح�سمت �أم��ري‬
‫ُ‬ ‫(وب��ع��د ت ��داول م��ط� ّ�ول معه‪،‬‬
‫وتنقلها بين ما ر�أى وعا�ش وما كتب‪ ،‬ثم ما‬ ‫بعنوان ربما لي�س له عالقة كبيرة بالدراما‪ ،‬ولكنه‬
‫تذكر من حياة‪ ..‬ملخ�ص ًا مهمته بمعرفته �أنه‬ ‫غير‬‫كراية‪ ،‬لتبحر في بحار النفاق)‪ .‬كما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ينفعها‬
‫قا�ص ًا‪ ،‬لي�س لأن هيمنة ال�شعر عند‬ ‫لن يكون �إال ّ‬ ‫عنوان روايته (عا�صفة الأوراق) الأ�صلي‪ ،‬حيث‬
‫ن�ش�أته كانت �سائدة‪ ،‬ولكن لأنه يرى في ال�سرد‬ ‫كان (البيت) �أو ًال لما ي�ضم من �شخ�صيات‪ :‬الجد‬
‫تلك الحياة‪ ،‬التي قال �إنه عا�شها وو�ضعها عنوان ًا‬ ‫والأم والطفل‪..‬‬
‫ل�سيرته‪ ،‬التي ُتقر�أ كمتن �سردي‪ ،‬على رغم �أنها‬ ‫�سيتعرف ال��ق��ارئ �إل���ى ق����راءات ماركيز‬
‫ُكتبت حا�شي ًة تذكري ًة على متن �أكبر‪.‬‬ ‫المبكرة وت�أثيرها في كتبه‪ .‬هنا �سيرد جيم�س‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪62‬‬


‫مقاالت‬
‫ن�سيم‬

‫الأ�شجار تقيم ِ�صالت فيما بينها‬


‫وتعي�ش مثل العائالت‬
‫التدخل في حياة الغابة‪ ،‬ترك لل�شجر‬ ‫ّ‬ ‫بيتر عن‬ ‫يقر نا�شرون كثر‪� ،‬أنهم يجهلون تمام ًا‬ ‫ّ‬
‫�أن ينمو بكل حرية وب�شكل ب� ّ�ري‪ ،‬وما هي‬ ‫الأ�سباب التي تدفع كتاب ًا �إل��ى ال�صدارة‪،‬‬
‫حيويتها‬
‫ّ‬ ‫�إال �سنتان‪ ،‬حتى ا�ستعادت الغابة‬ ‫وتبوء المرتبة الأولى في قوائم �أف�ضل الكتب‬ ‫ُّ‬
‫وطاقتها كاملتين‪.‬‬ ‫مبيع ًا‪ ،‬مع �شراء مئات �آالف الن�سخ منه‪ ،‬و�آخر‬
‫الكاتب عن ال�سبب الذي يجعل‬ ‫ُ‬ ‫و�إذ �سئل‬ ‫�إل��ى الركود والمراوحة والتع ّثر في بلوغ‬
‫نجوى بركات‬ ‫النا�س يولعون بحياة الأ�شجار‪� ،‬أكثر من‬ ‫مما فيه‬ ‫القراء و�إثارة اهتمامهم‪ ،‬على الرغم ّ‬ ‫ّ‬
‫رد‬
‫حما�ستهم ال�ستك�شاف عالم الحيوان‪ّ ،‬‬ ‫من عمق ومزايا وح�سنات‪.‬‬
‫هي تريد خيرها وخير الغابة كلها‪ ،‬لذا تعمد‬ ‫قائ ًال‪( :‬اللغة العلمية الجافة تقتل الم�شاعر‪،‬‬ ‫ال�سرية للأ�شجار) لم�ؤ ّلفه‬ ‫كتاب (الحياة ّ‬
‫النمو‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�إل��ى تقنين ال�ضوء وت�أخير عملية‬ ‫والنا�س عامة ال يفهمونها‪� .‬أنا �أ�ستخدم لغة‬ ‫رجي (بيتر وِ يلليبين)‪ ،‬الذي‬ ‫الح ّ‬
‫الألماني‪َ ،‬‬
‫والبحوث العلمية الأخيرة تعطيها في ذلك‬ ‫�إن�سانية‪ ،‬فحين نعلم �أن ال�شجرة ح�سا�سة‬ ‫�صدر في �ألمانيا عام (‪ ،)2015‬ثم ترجم �إلى‬
‫كل الحق‪.‬‬ ‫حيال الأل��م‪ ،‬و�أنها تملك ذاك��ر َة �أن ال�شجر‬ ‫الفرن�سية عام (‪ ،)2017‬والحق ًا �إلى لغات‬
‫� ّإن النمو البطيء خالل ال�سنوات الأولى‬ ‫(الأه ��ل) يعي�ش مع �أوالده‪ ،‬و�أن الأ�شجار‬ ‫عديدة �أخ��رى ح��ول العالم‪ ،‬هو من النوع‬
‫من عمر ال�شجرة‪ ،‬مفيد و�ضروري لكي تبلغ‬ ‫ر�ضع �أطفا َلها‪ ،‬ال يعود ب�إمكاننا قطعها‬ ‫ُت ِ‬ ‫الأول‪ ،‬وقد بلغت مبيعاته عالمي ًا ما يزيد‬
‫علم الغابات الحديث‬ ‫متقدمة‪ُ .‬‬ ‫ّ‬ ‫من ثم �س ّن ًا‬ ‫وتدمير بيئتها بالآليات والجرافات من‬ ‫وتم ا�ستلهامه ل�صنع فيلم‬ ‫على مليون ن�سخة‪ّ ،‬‬
‫يحكي ع��ن ���ض��رورة بلوغ ال�شجر �أع��م��اراً‬ ‫دون تفكير)‪ .‬هذا ما ي� ّؤكده خبير الأح��راج‬ ‫�سينمائي بعنوان (ذك��اء الأ�شجار)‪ ،‬عرف‬
‫تتراوح ما بين (‪� 80‬إلى ‪ )120‬عام ًا‪ ،‬لكي‬ ‫مدعم ًا �أقواله ببراهين ونظريات علمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هو الآخ��ر لدى عر�ضه‪ ،‬الحما�س والنجاح‬
‫يح ّل قطعها وا�ستثمار خ�شبها‪ .‬فحين يكون‬ ‫وم�ستنداً �إلى خبرته و�أبحاثه الطويلة في‬ ‫نف�سيهما‪ .‬الكتاب‪ ،‬كما الفيلم‪� ،‬أث��ارا ردود‬
‫الجذع �صغيراً ومر�صو�ص ًا ال تتخلله كريات‬ ‫هذا الم�ضمار‪( :‬الأ�شجار تعي�ش في عائالت‬ ‫فعل متناق�ضة؛ منها الم�ؤيد والإيجابي لدى‬
‫الهواء‪ ،‬يكون �أكثر مقدرة على مقاومة الريح‬ ‫تقيم �صالت في ما بينها‪� .‬إنها تت�ساعد وتقيم‬ ‫الجمهور العري�ض الذي قر�أ الكتاب كحكاية‬
‫والفطريات‪ ،‬التي تغزوه ب�صعوبة‪ ،‬وعلى‬ ‫بع�ضها‬
‫يقرر ُ‬ ‫عالقات �صداقة قوية �إلى درجة ّ‬ ‫�شعرية عن حياة الغابة وما يعي�ش فيها‬
‫تطبب جروحه قبل �أن ي�سوء‬ ‫�صنع ق�شرة ّ‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬الموت مع ًا)‪ .‬ويقول بيتر ويلليبين‬ ‫وال�سلبي ال�صادر‬
‫ّ‬ ‫من مخلوقات‪ ،‬والمنت ِقد‬
‫حالها‪ .‬و�إذ يحين موعد موت الأمهات‪� ،‬أو‬ ‫م�ضيف ًا‪�( :‬إن الأ�شجار كائنات اجتماعية‬ ‫عن بع�ض رجال العلم الذين �ش ّككوا ب�صحة‬
‫حين تتك�سر خالل عا�صفة لأن جذوعها ما‬ ‫وتعد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتتذكر‬
‫ّ‬ ‫ج��داً‪ ،‬بمقدورها �أن تتع ّلم‬ ‫النظريات التي يطرحها (ويلليبين)‪ ،‬مع‬
‫عادت تحتمل وزنها البالغ �أطنان ًا‪ ،‬ي�أتي‬ ‫وهي قادرة حتى على التمري�ض‪ ،‬حين يقع‬ ‫التركيز على خ��ط��ورة م��ق��ارن��ة الأ���ش��ج��ار‬
‫نموهم‪،‬‬‫دور ال�صغار كي يبا�شروا �أق�صى ّ‬ ‫�أحد جيرانها معت ًال‪� .‬إنها تتوا�صل �إذاً‪ ،‬وقد‬ ‫حية ينبغي تركها تعي�ش ب�سالم‪.‬‬ ‫بكائنات ّ‬
‫فتت�شبع الأوراق ب�أ�شعة ال�شم�س وتقوى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تر�سل �إن��ذاراً للآخرين عندما ت�شعر بقدوم‬ ‫لقد در�س بيتر عالم ال�شجر والغابات في‬
‫وتدوم عملية النمو هذه نحو ثالث �سنوات‪،‬‬ ‫خطر داهم‪ ،‬من خالل �شبكة وا�سعة من �أنواع‬ ‫الجامعة‪ ،‬قبل �أن ينتقل �إلى العمل في �إدارة‬
‫قبل �أن ت��ب��د�أ المناف�سة بين ال��ج��دد ومن‬ ‫الفطر النامي عند �أقدامها‪ ،‬والمتوا�صل مع‬ ‫الأحراج وحرا�ستها‪ ،‬حين ُع ّين م�س�ؤو ًال عن‬
‫�سيبلغ منها ال�سماء‪( ..‬ال ي�صبح الجذع �صلب ًا‬ ‫جذورها‪ ،‬القادرة �أن تحيا �أكثر من �أربعة‬ ‫غابة في �ألمانيا‪ ،‬تبلغ م�ساحتها ثالثة �آالف‬
‫متقدم‪ ،‬لأن فبركة‬ ‫ّ‬ ‫وم�ستقيم ًا �إال في عمر‬ ‫�آالف عام‪� .‬أي�ض ًا‪ ،‬يعمل ال�شجر على م�ساعدة‬ ‫هكتار‪ ..‬هناك‪ ،‬قام بقطع مئات الأ�شجار‪،‬‬
‫الخ�شب تحتاج �إلى كميات هائلة من الطاقة‪.‬‬ ‫الأ�شجار المقطوعة ولو منذ قرون‪ ،‬من خالل‬ ‫ور�ش هكتارات �شا�سعة بالمواد الكيميائية‬ ‫ِّ‬
‫لكي ت�صل �شجرة «الزان» مث ًال �إلى حجمها‬ ‫تغذية ج��ذوره��ا بمحلولٍ �س ّكري ُيبقيها‬ ‫والمبيدات الم�ؤذية‪ ،‬وه��و ما يفعله عادة‬
‫البالغ‪ ،‬تحتاج من ال�سكر وال�سيليلوز ما‬ ‫م�ستمرة في الحياة)‪.‬‬ ‫الم�س�ؤولون عن كل الغابات حول العالم‪.‬‬
‫يوازي هكتاراً من القمح‪ .‬لذا؛ فمن المنطقي‬ ‫(ال�شجر يع ّلمنا ال��ك��ث��ي��ر)‪ ..‬الأ���ش��ج��ار‬ ‫رجي‪ ،‬راح ي�شعر بال�سوء حيال‬ ‫الح ّ‬
‫�إال �أن َ‬
‫�أن تحتاج �إلى (‪ )150‬عام ًا كي تكبر وتنمو)‪.‬‬ ‫ال�صغيرة تنمو ب�سرعة‪ ،‬بنحو (‪� 45‬سم)‬ ‫ممار�ساته هذه‪ ،‬و�أ ّنبه �ضميره المهني على‬
‫وي��دع��و ال��ك��ات��ب ال��ن��ا���س �إل ��ى معاملة‬ ‫في كل ف�صل‪ .‬غير �أن �أمهاتها تقف لها‬ ‫�أفعاله‪� ،‬إلى �أن قرر الإ�صغاء �إلى �صوت قلبه‪،‬‬
‫الأ���ش��ج��ار ك��م��ا ي��ع��ام��ل��ون ال��ح��ي��وان‪ ،‬فال‬ ‫نموها ال�سريع‪ .‬فمن خالل‬ ‫بالمر�صاد مانعة ّ‬ ‫مبا�شراً البحث عن و�سائل بديلة تم ّكنه من‬ ‫ِ‬
‫يخ�ضعونها لعذابات مجانية‪ ،‬وهذا معناه‬ ‫التكاتف ف��ي م��ا بينها‪ ،‬وت�شابك قممها‪،‬‬ ‫التعاطي بطريقة مختلفة مع الأ�شجار‪ .‬توقف‬
‫التوقف عن قطعها كيفما اتفق‪ ،‬وال�سماح لها‬ ‫نور ال�شم�س بكثافة‪ ،‬فال‬ ‫تحجب (الأمهات) َ‬
‫�أن (ت�شبع حاجتها �إلى التوا�صل والتبادل‪،‬‬ ‫يعبر �إلى ال�شجيرات �أكثر من (‪ )3‬بالمئة من‬ ‫الكتاب ترجم �إلى عدة‬
‫ونقل معارفها �إلى الأجيال القادمة‪ .‬لهذا‬ ‫ال�ضوء‪ ،‬وهو ما يكفي بالكاد لبقائها على‬
‫لم تفعل الأمهات‪ /‬ال�شجر‬ ‫لغات عالمية وفاقت‬
‫كله‪ ،‬يجب على الأق��ل لجزء منها �أن يهرم‬ ‫قيد الحياة‪ .‬لكن‪َ ،‬‬
‫بكرامة‪ ،‬ويموت من ثم ميتة طبيعية)‪.‬‬ ‫ذلك؟ وهل تريد بهذا قت َل �صغارها؟ ال �أبداً‪،‬‬ ‫مبيعاته المليون ن�سخة‬

‫‪63‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ك��ان لإتاحة ال�صحافة للق�صة فر�ص ًا‬ ‫رحيل كبير الحكائين العرب‬
‫و�أب��واب � ًا مفتوحة للن�شر‪ ،‬دور في انتعا�ش‬
‫الفن الق�ص�صي واجتذابه لكثير من ك ّتاب‬
‫ه��ذا الجيل‪ ،‬نحو ه��ذا النوع ال�سردي‪ ،‬لكن‬
‫ه�ؤالء الكتاب واجهوا م�شكلتين �أ�سا�سيتين‬
‫�سعيد الكفراوي‪..‬‬
‫في م�ستهل رحلتهم الإبداعية‪ :‬الأول��ى �أن‬
‫يوجدوا لأنف�سهم ولكتابتهم مكان ًا في ظل‬
‫�إح�سا�س رومان�سي في ر�ؤية العالم‬
‫وجود عمالقة‪ ،‬يمار�سون الكتابة الق�ص�صية‬
‫من �أج��ي��ال‪ ،‬وموجة كتابية �سابقة‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫يعد �سعيد الكفراوي �أحد الأ�سماء الم�صرية المنتمية‬
‫نجيب محفوظ ويحيى حقي ويو�سف �إدري�س‬
‫لجيل ال�ستينيات ف��ي كتابة الق�صة الق�صيرة‪ ،‬هذا‬
‫ويو�سف ال�شاروني وغيرهم‪ ..‬والثانية تتعلق‬
‫بالواقع ال��م ��أزوم‪ ،‬ال��ذي خ��رج �إليه ه��ؤالء‬ ‫الجيل ال��ذي يمثل الموجة الثالثة م��ن ك��تّ��اب الق�صة‬
‫الكتاب في �ستينيات القرن الع�شرين‪ ،‬خا�صة‬ ‫الق�صيرة الم�صرية والعربية‪ ،‬ال��ذي �ضم كتاب ًا ب��د�أ‬
‫بعد انتكا�سة م�صر والعرب في حرب يونيو‪/‬‬ ‫ن�شر ق�ص�صهم ف��ي ال�صحافة ف��ي ال�ستينيات �أو في‬
‫ح��زي��ران (‪ ،)1967‬ما جعل ال��واق��ع نف�سه‬ ‫كتب (م��ج��م��وع��ات ق�ص�صية) ف��ي ال�ستينيات �أو على‬
‫د‪ .‬ر�ضا عطية‬
‫اختباراً �صعب ًا �أمام ه�ؤالء الك ّتاب في التعبير‬
‫عنه وعن م�آ�سيه و�أزماته‪.‬‬
‫م�����ش��ارف ال�سبعينيات وب��داي��ات��ه��ا‪ ،‬مثل مجيد طوبيا‬
‫كان للن�ش�أة القروية والتكوين الريفي‬ ‫وبهاء طاهر و�إبراهيم �أ�صالن ويو�سف القعيد ومحمد الب�ساطي وغيرهم‪.‬‬
‫ل�سعيد الكفراوي �أثره في ر�ؤاه للعالم وطريقة‬
‫كتابته للق�صة‪ ،‬التي اختارها فن ًا �أوحد له‪،‬‬
‫لم ي�شرك به نوع ًا �آخر كما فعل رفاقه من‬
‫الك ّتاب بالتنويع بين كتابة الق�صة والرواية‪.‬‬
‫تبرز الآثار الريفية في ق�ص �سعيد الكفراوي‬
‫في ما تبدى من تمثيل عوالم الريف ال�شجية‬
‫والمليئة بحكايات ال��وج��ود‪ ،‬وم��ا فيها‬
‫م��ن معتقدات وت�����ص��ورات تخلط الواقعي‬
‫ب��الأ���س��ط��وري‪ ،‬ور�ؤى ت��م��زج المو�ضوعي‬
‫بالخرافي‪.‬‬
‫ت�شغل عالقة الذات بالعالم وتفاعلها مع‬
‫�أ�شيائه وا�شتباكها بعنا�صر الوجود‪ ،‬حيزاً‬
‫ف�سيح ًا من ف�ضاء �سعيد الكفراوي الق�ص�صي‪،‬‬
‫حيث تتزايد رغبة الذات في �سبر �أغوار هذا‬
‫العالم‪ ،‬وفك �شيفراته الوجودية‪ ،‬مثلما حال‬
‫بطل ق�صة (الجمعة اليتيمة)‪:‬‬
‫ما ال��ذي يبرر وج��ودي في الجبل هذا‬
‫النهار المخاتل‪ ،‬ال��ب��ارد؟ هو �إذن �صهيل‬
‫علي �أن �أقبل ما‬‫ح�سن‪ ..‬ليكن‪َّ ..‬‬‫ٌ‬ ‫ال��ج��واد‪..‬‬
‫و�ضعت فيه و�أنتزع من قلبي �شغفي بما هو‬
‫�آت‪.‬‬
‫ت�صطدم موجات هواء ال�شتاء بالقباب‬
‫الأيوبية‪ ..‬هي �إذن روائح الأزمنة القديمة‪..‬‬
‫تخ�ش الليل‪ .‬ت�ستطيع‬‫َ‬ ‫ح�سن‪ ..‬مد قدميك وال‬ ‫ٌ‬
‫ارف�س كومة‬
‫ْ‬ ‫بالطبع‪-‬‬ ‫خائف‬ ‫أنت‬ ‫�‬ ‫خوف‪-‬‬ ‫بال‬
‫ال��ق��اذورات‪ ،‬لترى �شعاع البرق من نافذة‬
‫الحديد‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪64‬‬


‫�شخ�صيات‬

‫(ل����م ي��ك��ن ذل��ك‬ ‫يغلب على ق�ص �سعيد الكفراوي‪ ،‬الطابع‬


‫ال����ن����ه����ار م��ف��ع��م � ًا‬ ‫الغنائي المتبدي في غناء ال��ذات م�شاعرها‪،‬‬
‫ب��ال��ح��ن��ي��ن‪ ،‬ب��ال��ق��در‬ ‫وبث مواجدها‪ ،‬وطرح هواج�سها‪ ،‬وبث �أحالمها‬
‫الذي �ألفه‪ ،‬حيث مرت‬ ‫ومخاوفها‪ .‬تت�أ�س�س ر�ؤي���ة العالم ف��ي ق�ص‬
‫�أي��ام��ه ال��ت��ي خ��ل��ت‪..‬‬ ‫ال��ك��ف��راوي‪ ،‬على مركزية ال���ذات‪ ،‬ف��ال��ذات هي‬
‫ك��ان��ت ���ش��م�����س �آخ ��ر‬ ‫محور الحدث وتطوراته ومجلى تحوالت العالم‬
‫النهار تبدو له وهي‬ ‫و�صيرورته‪ .‬في البنية الزمكانية لحكي الكفراوي‬
‫تغيب كعين معتمة‬ ‫تمدد وتمازج‪ ،‬فالجبل بما يرمز �إليه كمكان‬
‫ف���ي ع��م��ق ج��ف��ن��ات‬ ‫مختلف‪ ،‬ب��ارز و�شاهق‪ ،‬وق��د يرمز �إل��ى م�شقة‬
‫العرافين‪ ..‬خاف الليل‬ ‫ّ‬ ‫الخو�ض‪ ،‬وكذلك �إل��ى التطلعات الباذخة التي‬
‫وخاف ع�صف الهواء‬ ‫زماني ًا النهار‬
‫ّ‬ ‫تحتاج مجهوداً م�ضاعف ًا يكتفه‬
‫وخ����اف م ��ن ���ص��وت‬ ‫المخاتل البارد‪ ،‬فيما يبدو ك أ� ّنه عائق �آخر‪� ،‬أو‬
‫البحر ال��ذي مايزال‬ ‫تحد �أمام الذات‪ ،‬كذلك ثمة �صدام �آخر بين هواء‬ ‫ٍّ‬
‫قائم ًا‪.‬‬ ‫ال�شتاء‪� ،‬أي التمظهر المادي للعن�صر الزمني‬
‫�أ�شعل �سيجارته‬ ‫�شبع‬‫الم َ‬
‫بالقباب الأيوبية‪� ،‬أي العن�صر المكاني ُ‬
‫و�أخ����ذ م��ن��ه��ا نف�س ًا‬ ‫بتكوين زمني‪ ،‬فتكت�سب هذه الروائح الناجمة عن‬
‫ع��م��ي��ق � ًا ط�����رده من‬ ‫ا�صطدام الرياح بالمكان‪ ،‬بعداً تاريخي ًا منتمي ًا‬
‫�صدره فاختط م�ساراً‬ ‫�إلى الأزمنة القديمة‪ ،‬غير � ّأن المكان ال يخلو وال‬
‫جلي ًال كخيط مهاجر)‪.‬‬ ‫ي�صفو من بع�ض عوائق‪� ،‬أمام الذات في ا�ستيعابه‬
‫(وكنت من زمن‬ ‫وا�ستك�شافه‪ ،‬ككومة ال��ق��اذورات‪ ،‬التي ت�ستحث‬
‫ل��ي�����س ب��ب��ع��ي��د‪� ،‬أق��ف‬ ‫الذات نف�سها لإزاحتها ورف�سها لترى �شعاع البرق‪،‬‬
‫ب��ال��ق��رب م��ن ال�سور‬ ‫من النافذة‪ ،‬بما يرمز �إليه ال�شعاع كج�سر ي�صل‬
‫�أنظر �إلى البحر حيث‬ ‫الذات المتمو�ضعة في الداخل المحدود بالخارح‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته‬
‫تتدافع موجاته �إلى‬ ‫والأفق غير المحدود واالنفتاح على الالنهائي‪،‬‬
‫ال�شاطئ ف��وارة بما تحمله من زب��د‪ ،‬ول��م �أكن‬ ‫فيبدو � ّأن لهذا الم�شهد رمزيته الدالة على ترددات‬
‫�أعي�ش ف�صول ال�سنة بتتابع دورات الأيام‪ ،‬وفي‬ ‫الذات في موقفها الوجودي‪ .‬وثمة ح�ضور خا�ص‬
‫لحظة �سقوط �ضوء ال�شم�س على الحديقة بطول‬ ‫للحيوان‪ ،‬ف�صهيل الجواد‪ ،‬هو المبرر لوجود الذات‬
‫ال�سور‪ ،‬كنت �أقود نف�سي المتعبة �صاعداً درجات‬ ‫في هذا المكان المختلف‪ ،‬بما يرمز �إليه الجواد‬
‫المنزل حتى �أ�صل �إلى ال�سطح‪ ،‬وكنت �أرى في ما‬ ‫من كونه و�سيلة لالنطالق المارق واالجتياز‬
‫�أرى؛ �سيدة تلب�س ال�سواد تهبط المنحدر وتظل‬ ‫والعبور ال�سريع‪ ،‬كذلك تك�شف النقلة بااللتفات‬
‫تنظر عبر البحر وك�أ ّنها تنتظر �شخ�ص ًا ما ربما‬ ‫ال�ضمائري من �ضمير المتكلِّم في م�ستهل المقطع‬
‫ي�أتي به)‪.‬‬ ‫�إلى �ضمير المخاطب‪ ،‬عن الجدل الداخلي المعتمل‬
‫نتلم�س في ق�ص‬ ‫(�سمع دق��ات ال�ساعة الخ�شبية في المنزل‬ ‫داخلي ًا ي�ستحث‬
‫ّ‬ ‫في �أعماق الذات‪ ،‬وك� ّأن ثمة �صوت ًا‬
‫الكفراوي حكايات‬ ‫الخالي‪ ..‬خم�س دقات روعته ونظر �إلى العقرب‬ ‫ال��ذات‪ ،‬وي�شجعها على التجا�سر على مواجهة‬
‫المنفرج‪ ،‬ول��م تهب من حديقة ال��دار العتيقة‬ ‫المكان الجبلي والزمان الليلي‪ ،‬هو �صوت الذات‬
‫يمتزج فيها الواقعي‬ ‫رائحة الورد وال فارقته ظالل الجدران)‪.‬‬ ‫الحما�سية‪ ،‬ي�ستنه�ض الذات الخائفة �أو المترددة‬
‫بالأ�سطوري‬ ‫(بيت منعزل يحوطه �سور من حديد مدبب‪..‬‬ ‫في تمثيلٍ لالن�شطار الذاتي‪.‬‬
‫والمو�ضوعي‬ ‫لل�سور بوابة ب�ألوان وزه��ور‪ ..‬للبيت �سقف من‬ ‫تبدو ق�ص�ص �سعيد الكفراوي كابنة للح�س‬
‫بالخرافي‬ ‫قرميد �أحمر يتحدث في ليالي المطر وحجرة‬ ‫الرومان�سي في ر�ؤية العالم‪ ،‬حيث النبرة الحزينة‬
‫ا�ستقبال وا�سعة وغرف معتمة عديدة‪ ..‬في �آخر‬ ‫والوعي الم�أ�ساوي واالحتدام العاطفي والت�أجج‬
‫الحديقة يوجد الملحق القديم)‪.‬‬ ‫ال�شعوري‪ ،‬وكذلك اقتران هذا كله ب�أ�شياء العالم‬
‫ينعك�س الح�س الرومان�سي في ق�ص �سعيد‬ ‫المنعك�سة على مرايا الوجدان ال�شخ�صي‪ ،‬كما‬
‫الكفراوي‪ ،‬في التمثيل الوجداني لأ�شياء العالم‬ ‫في ق�صة (مدينة الموت الجميل) التي تتجلى من‬
‫و�أحداثه‪ ،‬ف�إذا كان ال�صوت ال�سارد يختار �ساعة‬ ‫عنوانها ال�صبغة الرومان�سية في ا�ستعذاب الألم‬
‫الغروب‪ ،‬ف� َّإن التم ُّثل الت�صويري لـ(�شم�س �آخر‬ ‫والموت‪:‬‬

‫‪65‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�شخ�صيات‬

‫المقابر‪ ..‬العجيزة تهتز و�أن��ا �أراه��ا حيث �أبدو‬ ‫النهار) عند المغيب (كعين معتمة في عمق‬
‫متحجراً من الخوف‪.‬‬ ‫العرافين)‪ ،‬يعك�س الفعل التخييلي في‬ ‫جفنات ّ‬
‫�صاح ب��ه ال��رج��ل ال��ذي ينتعل ال��ح��ذاء ذا‬ ‫تذويت الوجود من ناحية‪ ،‬وال�صباغة النف�سية له‬
‫الرقبة ويرتدي البالطو الوا�سع الأكمام وقال‬ ‫من خالل وعي الذات به من ناحية �أخرى‪ ،‬فبدت‬
‫له‪( :‬ب�س) وخبط الأر�ض بقدمه الي�سرى‪ ..‬توقف‬ ‫ال�شم�س كعين معتمة‪ ،‬والوجود �أو كبد ال�سماء‬
‫يغلب على ق�ص�صه‬ ‫القط الأ�سود ومال بر�أ�سه ناحية الرجل الذي‬ ‫مثل جفنات العرافين‪ ،‬م��ا ي�شي بالغمو�ض‬
‫الطابع الغنائي‬ ‫ينتعل الحذاء ذا الرقبة ويرتدي البالطو الوا�سع‬ ‫والرهبة‪ .‬كذلك في تم ُّثل زفرة الدخان (كخيط‬
‫الأكمام‪ ،‬وحدقه‪ ،‬وماء بوح�شية‪ ،‬ولما خاف‬ ‫مهاجر) انعكا�س لح�س اغترابي‪ ،‬و�شعور بعدم‬
‫المتبدي في غناء‬
‫الرجل وا�ستند للجدار‪ ،‬اهتزت عجيزته و�سار‬ ‫اال�ستقرار في المكان‪.‬‬
‫الذات م�شاعرها‬ ‫على �أر�ض الممر)‪.‬‬ ‫في ق�ص �سعيد الكفراوي‪ ،‬تح�ضر ثيمة العزلة‬
‫وهواج�سها و�أحالمها‬ ‫وللقط ح�ضور ممتد‪��� ،‬س��واء ف��ي الوعي‬ ‫فيقدم �شخو�ص ًا‬‫ِّ‬ ‫واالغ��ت��راب لأبطال ق�ص�صه‪،‬‬
‫الأ�سطوري القديم �أو في الوعي ال�شعبي؛ وفي‬ ‫�إ�شكاليين يعانون حالة من الالتوافق مع الآخر‬
‫الثقافة الفرعونية له مكانة خا�صة‪ .‬كذلك‬ ‫وم��ع العالم‪ ،‬ما ُيف�ضي بهم �إل��ى ان�سحاب �أو‬
‫فللقط ح�ضور في الثقافة العربية‪ ،‬فالعرب‬ ‫�إحجام عن االندماج في هذا العالم ولو لبع�ض‬
‫اعتقدوا في قدراته الطبية وفاعليته ال�سحرية‪،‬‬ ‫الوقت‪ .‬وثمة �أزمة ما في عالقات الذوات بالزمن‪،‬‬
‫كذلك اعتقدت بع�ض الر�ؤى الأ�سطورية العربية‪،‬‬ ‫كما يتبدى في ترويع دقات ال�ساعة الخ�شبية‬
‫وف��ي ه��ذه الق�صة ترمز حركة القط للبط�ش‬ ‫لبطل هذه الق�صة‪ ،‬ونظرته �إلى العقرب المنفرج‪،‬‬
‫والإرهاب‪ ،‬ما يجعل �شعوراً حاداً بالرعب يطبق‬ ‫في ت�شعير للأ�شياء‪ ،‬حيث تلعب الأ�شياء ونثريات‬
‫الذات عنده محور‬
‫على الذات الب�شرية‪ ،‬ما يجمد العقل ويعجزه عن‬ ‫الم�شهد دوراً فاع ًال في بنية الق�ص‪ ،‬فتبدو ك�أ َّنها‬
‫الحدث وتطوراته‬ ‫الت�صرف الحر ب�أريحته المعتادة‪ ،‬غير � ّأن حالة‬ ‫محفزات درامية لجالء �أحوال ال�شخو�ص‪ ،‬و�سبر‬
‫وتحوالت العالم‬ ‫القيد التي �شملت الذات تعمل على فتح �آفاق‬ ‫�أغوارهم النف�سية وا�ستبطان دواخلهم ال�شعورية‪.‬‬
‫و�صيرورته في‬ ‫الحلم‪ ،‬وتن�شيط الذاكرة ا�سترجاع ًا للذكريات‪،‬‬ ‫للريف وت��خ��وم المدينة ح�ضور خا�ص‬
‫البنية الزمكانية‬ ‫فالح�صار ال�����ش��ع��وري والإغ��ل�اق المكاني‪،‬‬ ‫ل��دى �سعيد ال��ك��ف��راوي‪ ،‬ال ��ذي يعمل ق�ص�صه‬
‫يفتحان مدى الن�شاط العقلي‪ ،‬ويو�سعان من‬ ‫على ت�شكيل عوالم الريف والبقاع النائية عن‬
‫حركة الخيال مواجهة لذلك الح�صار‪.‬‬ ‫المدينة‪ ،‬ت�شكي ًال خا�ص ًا يمزج فيها بين ح�ضور‬
‫الإن�ساني وح�ضور الحيواني‪ ،‬مزج ًا ي�ستند �إلى‬
‫خلفيات �أ�سطورية‪ ،‬تجتر ما في كوامن الوعي‬
‫ال�شعبي التراثي ل�شخو�ص عالم �سعيد الكفراوي‬
‫الق�ص�صية‪.‬‬
‫فعالقة الإن�����س��ان بالحيوان والطير عبر‬
‫�سرد �سعيد الكفراوي‪ ،‬لي�ست عالقة اال�ستخدام‬
‫الآلي لق�ضاء حاجات الإن�سان المعي�شية و�أداء‬
‫الأغرا�ض الحياتية‪ ،‬فثمة عالقة تفاعل نف�ساني‬
‫بين الإن�سان والحيوان والطير‪ ،‬فح�ضور تلك‬
‫الكائنات الحيوانية‪� ،‬إنما هو تج�سيد مادي‬
‫محمد الب�ساطي‬ ‫مجيد طوبيا‬ ‫�إبراهيم �أ�صالن‬
‫لحموالت �أ�سطورية‪ ،‬ومعتقدات �شعبية متوارثة‬
‫في بنية الوعي ال�شعبي الجماعي لأفراد ق�ص�ص‬
‫الكفراوي‪.‬‬
‫ففي ق�صة (الجمعة اليتيمة)؛ يكون ح�ضور‬
‫(ال��ق��ط) محم ًال ب��ط��اق��ات �أ���س��ط��وري��ة ومظل ًال‬
‫بخلفيات من تمثل الوعي ال�شعبي للقط‪( :‬هو قط‬
‫الممرات الأ�سود ذو العينين ال�صفراوين‪� ،‬ساكن‬
‫الأقبية وال�سطوح‪ ..‬يهبط و درجات ال�سلم العلوي‬
‫�شاحذاً �أظافره‪ ،‬تجول عيناه ال�صفراوان بالممر‬
‫ال�صخري‪ ،‬تلتهم الأب���واب المحنية‪ ،‬فوهات‬
‫يو�سف �إدري�س‬ ‫نجيب محفوظ‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪66‬‬


‫مقاالت‬
‫كنوز‬

‫الهروب‬
‫�إلى الزمن الجميل‬
‫ال�سريع الذي نعي�شه فر�ض على الجميع �أن‬ ‫قد ال تحظى الأجيال الحالية من ال�شباب‬
‫ين�سحب من تبعات وموروثات الآباء الذي‬ ‫العربي بذاكرة م�شبعة بحكايات التراث‬
‫ي�صفونه بالزمن الجميل‪ ،‬الذي تحول �إلى‬ ‫و�أ�ساطير الآباء والأجداد‪ ،‬التي كانت تخفي‬
‫ذكرى م�صورة ت�أخذ �ألوانها ومالمحها من‬ ‫ما تخفيه في طياتها ال�سرية و�أن�ساقها‬
‫�أني�سة عبود‬ ‫حكايات التراث‪� ،‬أو عن طريق ا�ستعادة هذا‬ ‫الم�ضمرة ك��ث��ي��راً م��ن ال��ق��ي��م الأخ�لاق��ي��ة‬
‫الزمن بوا�سطة الدراما العربية التي ت�ضيف‬ ‫الم�ستترة والمبادئ الأ�سا�سية‪ ،‬التي تعمل‬
‫لم يكن الفقر عيب ًا‪ ،‬ول��م يكن ال�شباب‬ ‫�إليه الكثير من محر�ضات الخيال والجمال‪،‬‬ ‫�شد �أوا�صر‬‫في ت�أويالتها ورم��وزه��ا على ّ‬
‫ي�ستخدم النفاق والكذب ل�ستر عوزهم �أمام‬ ‫فتمجده �أحيان ًا وتن ّفر منه في �أحايين كثيرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المحبة والأخ ��وة والت�سامح في المجتمع‬
‫الفتيات المحبوبات‪ ،‬فالجهل والبخل والرياء‬ ‫وهنا ال بد من العودة �إلى قلب المو�ضوع‬ ‫العربي‪ ،‬الذي كان مجتمع ًا تغلب على بنيته‬
‫هو العيب ال��ذي يمكن للمر�أة �أن يدفعها‬ ‫الذي بد�أناه حول ا�ستمرارية الما�ضي وقيمه‬ ‫المجتمعية الريفية عادات وتقاليد البداوة‬
‫لرف�ض ال�شاب‪ ،‬حيث كان �سكان القرية �أو‬ ‫من خالل ال�سرديات اليومية التي تتوزع‬ ‫والب�ساطة والإي��ث��ار‪ ،‬ف�ض ًال عن تطلعه �إلى‬
‫الحارة‪ ،‬يعرفون تاريخ بع�ضهم ويعرفون‬ ‫في التفا�صيل ال�صغيرة للعائلة �أو الحارة �أو‬ ‫المدينية التي بد�أت تتغلغل عن طريق الطبقة‬
‫�أن�سابهم و�أل��ق��اب��ه��م‪ ،‬وم ��اذا يف�ضلون من‬ ‫القرية‪ .‬ومن هذه ال�سرديات التي ال يمكن �أن‬ ‫المثقفة والمتعلمة‪� ،‬إ�ضافة �إلى المثاقفة مع‬
‫الطعام‪ ،‬وكيف ي�أكلون وهل لديهم طاولة‬ ‫تزول من ذاكرة الحارة وقيمها هي تبادل‬ ‫ال�شعوب المتمدنة بعيداً عن هيمنة التقاليد‬
‫للطعام �أم (يبركون على الأر�ض حول طبق‬ ‫الجيران لطبق الطعام اليومي الذي تطبخه‬ ‫ال�سائدة‪.‬‬
‫الطعام)‪.‬‬ ‫الأم‪ ،‬وتحر�ص على �أن توزع منه لعدد من‬ ‫وم��ن الطبيعي �أن تتوق المجتمعات‬
‫وك��ان الأط��ف��ال يتبارون ويت�سابقون‬ ‫الجيران مهما كان هذا الطبق ب�سيط ًا وفقيراً‪،‬‬ ‫الريفية العربية �إل��ى التغيير والتحديث‬
‫في حمل �أطباق الطعام �إلى الجيران‪ ،‬حيث‬ ‫فتكون الم�شاركة مادية وعاطفية و�إن�سانية‬ ‫عن طريق خلع عباءة الريف �أو ال��ب��داوة‪،‬‬
‫ال�سر الذي‬
‫كان الباب ال��ذي ينفتح بمثابة ّ‬ ‫ما ي�ؤ�س�س لعالقة الجوار والأخوة والمحبة‪،‬‬ ‫واالنخراط في العالم الجديد الذي ت�سوده‬
‫ينك�شف �أمام �أطفال تده�شهم نوعية الأطباق‬ ‫وبالتالي ي�صبح الجار على مقربة روحية‬ ‫�سلوكيات جديدة وقيم مختلفة بحكم الواقع‬
‫وزخ��ارف��ه��ا‪ ،‬فبع�ضهم ير�سلون الطعام‬ ‫من جاره الذي يعرف عنه وعن مدونة حياته‬ ‫المعي�شي وال�سكني‪ ،‬وتحول المنزل المنب�سط‬
‫ب�أطباق من �ألمنيوم‪ ،‬و�آخ���رون ير�سلونه‬ ‫كل التفا�صيل‪ ،‬ب��دءاً من طعام الغداء حتى‬ ‫على جهات مت�صلة مع الآخر‪ ،‬ومع ال�سماء‬
‫ب�أطباق من نحا�س �أو من ال�صيني‪ ،‬وهذا‬ ‫طعام الع�شاء والأعياد والمنا�سبات‪ ،‬وهذا لم‬ ‫والأر� ��ض‪� ،‬إل��ى �شقة في ب��رج �أو طابق في‬
‫كان م�ؤ�شر �آخر على و�ضع العائلة المادي‬ ‫يكن مجرد تقليد يمر مرور الكرام على �أبناء‬ ‫بناية معروف بابها ورقم م�صعدها‪ ،‬ولي�س‬
‫وم�ستواها المعي�شي‪.‬‬ ‫الحي‪ ..‬لقد كان �صحن الطعام‪ ،‬الذي ير�سل‬ ‫معروف ًا من ي�سكنها �أو ي�صعد �أدراجها‪ .‬لقد‬
‫غير �أن اختالف الزمان واختالف الأيام‪،‬‬ ‫�إلى الجيران هو المر�سال الحقيقي لو�ضع‬ ‫بات التوا�صل �شبه معدوم وتفا�صيل ال�سكان‬
‫وتغير ال��ح��ارة وتحولها �إل��ى علب كبريت‬ ‫العائلة وهو الذي يعطي الفكرة الأ�صدق عن‬ ‫غائبة‪ ،‬والهويات المكانية والزمانية وحتى‬
‫معزولة ومف�صولة ب�أرقام وم�صاعد‪ ،‬جعل‬ ‫و�ضعها‪ ..‬ما يجعل �أه��ل الحي المي�سورين‬ ‫الإثنية لي�ست ب��ذات معنى‪ ،‬ما قطع روابط‬
‫كل تلك الحياة الأليفة العاطفية والإن�سانية‬ ‫يعمدون �سراً �إلى �إر�سال اللحوم �أو الحلوى‬ ‫الما�ضي مع الحا�ضر ال��ذي �سيطرت عليه‬
‫تتال�شى‪ ،‬ليظهر من خلفها ج��دران عالية‬ ‫�إل��ى ه��ذه العائالت الفقيرة‪ ..‬وخا�صة في‬ ‫ال��م��ادة والمنفعة والم�صالح ال�شخ�صية‪،‬‬
‫للغربة واالغتراب‪ ،‬بحيث ي�شعر المرء ب�أنه‬ ‫المنا�سبات وفي الأعياد التي تتحول الحارة‬ ‫واالبتعاد عن الذاكرة التي ت�ؤرقه وتعيده‬
‫يعي�ش في �صحراء نائية معزولة‪ ،‬ولي�س‬ ‫فيها �إل��ى عائلة واح��دة ت�أكل الطعام ذاته‬ ‫�إلى قيم الآب��اء والأج��داد التي تربى عليها‬
‫�أمامه �إال البحث عن مقهى �أو (كافتيريا)‬ ‫وترتدي اللبا�س الجديد تقريب ًا ذات��ه‪ ،‬مع‬ ‫باعتبارها ال تتما�شى والحياة الع�صرية‬
‫ي�ؤن�س فيها وحدته وغربته ويبطئ قلي ًال من‬ ‫�إزال��ة الفوارق الطبقية والمادية بين الأ�سر‬ ‫المنبثقة من عالم رقمي تكنولوجي‪ ،‬وثورة‬
‫عجلة ال�سرعة للحياة الع�صرية التي ال يجزم‬ ‫المتجاورة‪.‬‬ ‫معلوماتية طاحنة لكل الما�ضي‪ ..‬لأن الزمن‬
‫�أي �إن�سان �إلى �أين ت�سير‪ ،‬وكيف و�إلى متى‬ ‫بتوفر النية ال�صادقة للعطاء والم�شاركة‬
‫ي�ستمر هذا التدهور العاطفي واالجتماعي‬ ‫والإح�سا�س بالآخر‪ ،‬والحر�ص على م�شاعره‬
‫واحترام تفا�صيل حياته التي ال تتقرر عن‬
‫مجتمعنا العربي تغلب‬
‫واالغ��ت��راب والتح�سر على زم��ن الب�ساطة‬
‫والمحبة والتعا�ضد الإن�ساني‪ ،‬ال��ذي بد�أت‬ ‫طريق المادة التي يملكها‪ ،‬بل كانت تتقرر عن‬ ‫عليه جمالية العادات‬
‫�آثاره الفتاكة تظهر في �أب�شع �صورها في هذا‬ ‫طريق ما يمكن تقديمه للآخر‪ ،‬مع االحترام‬ ‫والتقاليد والأعراف‬
‫الزمن‪ ،‬زمن (الكورونا) المخيف‪.‬‬ ‫لكفاءاته وو�ضعه المادي والمعنوي‪.‬‬ ‫الجميلة‬

‫‪67‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫يوظف ال�سخرية في كتابته الق�ص�صية والدرامية‬

‫نور الدين الها�شمي‪:‬‬


‫الأدب ال�ساخر نقد لل�سلبيات دون تجريح‬
‫الأديب وال�سيناري�ست المعروف نور الدين الها�شمي‪ ،‬من القلة‬
‫الذين ا�شتغلوا في مجال الأدب ال�ساخر‪ ،‬على �صعيد كتابة‬
‫الق�ص�ص الق�صيرة وال�سيناريو التلفزيوني‪ ،‬وتتميز �أعماله‬
‫الأ�سلوب ال�ساخر‬ ‫بنقدها الجاد لل�سلبيات المنت�شرة في المجتمع‪� ،‬ضمن قالب‬
‫لي�س متعة بقدر‬ ‫كوميدي ي�شير �إلى الخط�أ بطريقة ذكية‪ ،‬دون �سخرية جارحة‪،‬‬
‫�سامر �أنور ال�شمالي‬
‫ما هو رد ذكي على‬ ‫لهذا ي�صنع ال�ضحكة غير المجانية‪ ،‬ويبث في نف�س المتلقي‬
‫ال�سلبيات‬ ‫ال�سرور‪ ،‬دون �إهمال الر�سالة ال�ضمنية التي تحاول �إ�سقاط �أقنعة الزيف والخداع‬
‫و�إبراز الحقيقة‪ ،‬التي قد يغفل �أو يتغافل عنها الكثيرون‪ ،‬وبذلك يقبل المتلقي‬
‫النقد بطيب خاطر‪ ،‬و�إن كان موجه ًا �ضده‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪68‬‬


‫حوار‬

‫وطمع وجمود‪ ..‬وهذه‬ ‫كانت لنا وقفة مع (الها�شمي) تناولنا فيها‬


‫ال�صفات م��ن طبيعة‬ ‫تجربته الأدبية في الأدب ال�ساخر‪ ،‬وا�شتغاله‬
‫الب�شر �ضمن م�ستويات‬ ‫في مجال الكوميديا التلفزيونية‪ ،‬ولعلها وقفة‬
‫م��خ��ت��ل��ف��ة‪ ..‬ح��ت��ى قد‬ ‫موفقة تبهج الوجدان‪ ،‬وتفيد العقول‪..‬‬
‫ي��ك��ون بع�ضها ل��دى‬
‫الأدي����ب نف�سه‪ ،‬لأن��ه‬
‫¯ قلة من يكتبون في مجال الأدب ال�ساخر‪،‬‬
‫من طينة الب�شر �أي�ض ًا‪،‬‬
‫برغم ات�ساع جمهوره‪ ،‬لهذا يبدو في الأمر‬
‫ف��ي��ك��ون رد الأدي����ب‬ ‫مفارقة ما‪ .‬كيف تف�سر الأمر؟‬
‫‪ -‬الأدب ال�ساخر يحتاج �إل��ى فطرة في‬
‫بال�سخرية ال��م��ري��رة‬
‫على هذا الواقع حتى‬ ‫الأ�سا�س تتعلق بطبيعة الأدي��ب نف�سه‪ ،‬وحين‬
‫ينظر �إلى الحياة بمنظار خا�ص به يدرك فيه‬
‫من ذاته �أحيان ًا‪ .‬وهذا‬
‫بذكاء فطري تناق�ضات الحياة المذهلة‪ ،‬التي‬
‫م��ا ن��ج��ده ف��ي تاريخ‬
‫�أدبنا عند (الحطيئة)‬‫ت�صيب الإن�سان العادي بالي�أ�س وال��م��رارة‪،‬‬
‫لا‪.‬‬ ‫والرد على ذلك من قبل الإن�سان ال�ساخر‪ ،‬يكون‬
‫و(ال���ج���اح���ظ) م��ث� ً‬
‫من �أغلفة ق�ص�صه‬
‫وحين ي�صل الإن�سان �إلى ال�سخرية من نف�سه‪،‬‬ ‫بال�سخرية من هذه الحياة التي ال ت�ستحق كل‬
‫يكون قد بلغ �أق�صى درجات المرارة‪ ،‬وتجاوز‬ ‫هذا العناء والتعب‪ .‬و�أعتقد �أن قلة من النا�س من‬
‫عقدة الأنا التي هي م�صدر كل ال�شرور‪.‬‬‫يمتلكون هذه الفطرة‪ ،‬والقادرون على التعبير‬
‫عنها ب�شكل من �أ�شكال الأدب‪ .‬وت�أتي المعرفة‬
‫لتزيد من �إح�سا�س الأديب �أو الفنان ال�ساخر من ¯ هل ي�ستطيع الأدب ال�ساخر الت�أثير في‬
‫ت�أثير ال�سخرية‬ ‫تناق�ضات هذه الحياة‪ ،‬كما تمكنه القدرة على المجتمع بالفعل؟ وهل له دور في ت�صحيح‬
‫قد ال يكون مبا�شراً‬ ‫وت�صويب �سلوك المتلقي؟‬ ‫التعبير من ال�سيطرة على و�سائل الفن‪.‬‬
‫ويزداد فعله مع‬ ‫‪ -‬من الطبيعي �أن ي�ؤثر الأدي��ب ال�ساخر‬
‫¯ يعتمد الأدب ال�ساخر على �إظهار عيوب في المجتمع‪ ،‬لأن الإن�سان مهما كان من�صبه‬
‫الزمن‬ ‫الأف��راد والمجتمع بطريقة فيها الكثير من وجبروته‪ ،‬ف�إنه يخاف من النقد وانك�شاف‬
‫المبالغة‪ .‬لماذا الإن�سان ي�ستمتع باكت�شاف ال��ع��ي��وب‪ ،‬التي يغطيها بقوة بالمن�صب �أو‬
‫المال �أو التجاهل‪ .‬فالنقد الذكي العميق يزيل‬ ‫عيوبه �أو عيوب الآخرين بهذه الطريقة؟‬
‫‪ -‬ال�سخرية لي�ست متعة‪ ،‬بقدر ما هي رد القد�سية والمهابة‪ ،‬وه��ذا ما يخ�شاه ك ّل من‬
‫ذكي على ال�سلبيات من تفاهة وغرور و�سطحية يحيط نف�سه ب�سور من المال �أو المن�صب �أو‬

‫من م�سرحياته‬

‫‪69‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫حوار‬

‫قد�سية مزيفة‪ .‬وفي رواية ا�سم الوردة للكاتب‬


‫(�أمبرتو �إيكو) نرى �أن الكتاب الذي كان يرعب‬
‫ويتعر�ض من‬
‫ّ‬ ‫الكهنة المتغطر�سين المتع�صبين‪،‬‬
‫يقر�ؤه للقتل‪ ،‬هو كتاب (فن ال�شعر) للفيل�سوف‬
‫اليوناني (�أر���س��ط��و) ال��ذي يتعر�ض فيه لفن‬
‫الكوميديا‪ .‬قد ال يكون لل�سخرية ت�أثير مبا�شر‪،‬‬
‫لكنها كالخميرة تفعل فعلها مع الزمن‪ ،‬وت�ؤثر‬
‫في �سلوك النا�س‪ ،‬لأن �أي �إن�سان يحاول �أن‬
‫يظهر بمظهر الكمال واالبتعاد عن العيوب‪،‬‬
‫وال�سخرية تعري هذا الكمال الم�صطنع‪ ،‬وتدفع‬
‫�إلى تجاوز وتجنب العيوب الب�شرية‪ ،‬وال�سعي‬
‫نور الدين الها�شمي مع يا�سر العظمة‬
‫وات�����ص��ال دائ��م حتى الآن‪ ،‬وق��د م�ضى على‬ ‫نحو المثل العليا من حق وخير وجمال‪.‬‬
‫�صداقتنا ربع قرن‪.‬‬
‫¯ تكتب‪� ،‬إلى جانب الق�صة الق�صيرة ال�ساخرة‪،‬‬
‫ال�سيناريو التلفزيوني الكوميدي‪ .‬ما الفرق بين ¯ في ع�صرنا‪ ..‬هل �أ�صبحت �شا�شة التلفزيون �أو‬
‫قلة من يكتبون‬ ‫الق�صة التي تكتب للقراءة؟ وال�سيناريو الذي ال�سينما بدي ًال من �صفحات الكتب؟‬
‫الأدب ال�ساخر‬ ‫‪ -‬طبع ًا ال‪� ..‬أعتقد �أن ق�ضية القراءة تتعلق‬ ‫يكتب للم�شاهدة؟‬
‫‪ -‬ه��ن��اك ف���روق���ات ك��ب��ي��رة ب��ال��ط��ب��ع‪ ..‬بطبيعة التربية‪ ،‬التي يتلقاها الإن�سان في‬
‫ويجيدون التعبير‬
‫فال�سيناريو عماده الحدث وتطوره مع نمو البيت والمدر�سة والمجتمع‪ ،‬ومقدار الوعي‬
‫عن �سخرية الحياة‬ ‫وانك�شاف ال�شخ�صيات‪� ،‬ضمن تقطيع معين الذي يمتلكه هذا المجتمع تجاه الكتاب‪ .‬ومن‬
‫للم�شاهد‪ ،‬مدرو�س ومعروف عالمي ًا‪ ،‬والحوار الطبيعي �أن مجتمع ًا ما يعاني الب�ؤ�س والفقر‬
‫ال��ذي يجري بين ال�شخ�صيات‪� ،‬ضمن هدف �أو التجهيل‪ ،‬فلن يكون الكتاب �أح��د �أهدافه‬
‫رئي�سي هو دفع الأحداث للأمام حتى التعقيد‪� ،‬أو مطامعه‪ ،‬والدليل على ذل��ك �أن الكتاب‬
‫ثم الحل‪� .‬أم��ا الو�صف والبيئة التي تجري مازال يطبع في الأمم المتقدمة بع�شرات‪ ،‬بل‬
‫فيها الق�صة؛ فهذه من مهمة الكاميرا التي مئات �آالف الن�سخ �أحيان ًا‪ ،‬ويتهافت القراء‬
‫وظفت �أ�سلوبي‬ ‫تلتقط الم�شاهد التي يقترحها �أو يوحي بها على اقتنائه‪ .‬فللكتاب متعة خا�صة يعرفها‬
‫ال�ساخر في الأعمال‬ ‫كاتب ال�سيناريو‪� .‬أما الق�صة الأدبية؛ ففيها المدمنون على ال��ق��راءة‪ ،‬فهم ال ي�ستمتعون‬
‫التلفزيونية التي‬ ‫الحدث والمونولوج الداخلي والترميز‪ ،‬و�إذا بالقراءة في و�سائل التوا�صل الإلكترونية‬
‫كانت الكلمة عماد الق�صة‪ ،‬فال�صورة عماد ب�سبب العالقة الحميمية بين القارئ والكتاب‪.‬‬
‫كتبتها‬ ‫ال�سيناريو‪.‬‬
‫¯ �أنت من مدينة حم�ص التي ي�شتهر �أهلها‬
‫¯ �أغلب �أعمالك في مجال ال�سيناريو كان ب�صناعة الطرائف‪ ،‬والتي و�صلت �إلى خارج‬
‫للم�سل�سل ال�شهير (مرايا) مع النجم المعروف حدود المدينة‪ ،‬فهل كان لهذه البيئة دور في‬
‫(يا�سر العظمة) حدثنا عن ه��ذه التجربة اتجاهك للأدب ال�ساخر؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد �أ�سهم هذا في ن�سج �شخ�صيتي‪،‬‬ ‫المميزة عربي ًا؟‬
‫‪ -‬بد�أت عالقتي مع الفنان يا�سر العظمة فهذه المدينة‪ ،‬يت�صف �أهلها ب�إبداع النكتة‬
‫منذ عام (‪ ،)1999‬وقد كتبت له �أكثر من مئتي حتى عن �أنف�سهم‪ ،‬وه��ذا فيه �أعلى م�ستوى‬
‫لوحة في هذه ال�سل�سلة‪ ،‬من �سيا�سي واجتماعي لقوة ال�شخ�صية واكتمالها‪ .‬ف�أنت تعي�ش في‬
‫كوميدي‪ .‬و�أن ��ا �أع��ت��ز � ّأن بع�ض لوحاتي قد بيئة تحت�ضن النادرة والنكتة‪ ،‬وترويها في‬
‫�شاهدها ال��م�لاي��ي��ن‪ ،‬ففي ل��وح��ة (بتعرفوا المجال�س بجر�أة وفطرة‪ ،‬حتى عن نف�سها‪..‬‬
‫ومنعرف) على �سبيل المثال‪ ،‬تمت م�شاهدتها حتى �إن ق�صتي (يوم بكى ال�شيطان) �سمعتها‬
‫على اليوتيوب من قبل �أكثر من ثالثة ماليين كنكتة ذكية عميقة من �أحد (الحمام�صة) في‬
‫�إن�سان‪ .‬و�أ�صارحك القول‪� ،‬إن العمل مع الفنان �إحدى ال�سهرات‪ ،‬وا�ستفدت منها في مجموعتي‬
‫يا�سر العظمة‪� ،‬صعب وممتع في الوقت نف�سه‪ ،‬الق�ص�صية‪ ،‬التي تحمل اال���س��م نف�سه‪ ،‬كما‬
‫�أمبرتو �إيكو‬
‫فهو يريد الأف�ضل دائم ًا‪ .‬ومازلنا في تعاون حولتها بعدها �إلى لوحة في «مرايا»‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪70‬‬


‫مقاالت‬
‫وم�ضات‬

‫المنتديات الأدبية‬
‫ال�صالون الأدب��ي و�سيلة مهمة للقراءة‬ ‫تقوم فكرة ال�صالون‪�،‬أو المنتدى الأدبي‪،‬‬
‫والحوار بين الأدب��اء‪ ،‬وانعقاد ال�صالونات‬ ‫على اجتماع مجموعة من الأدب ��اء ب�شكل‬
‫الأدبية تحت عنوان الإبداع‪ ،‬يعني الكثير‪ ،‬ال‬ ‫دوري‪ ،‬قد يكون �أ�سبوعي ًا �أو �شهري ًا‪ ،‬ح�سب ما‬
‫�سيما �أن الأدباء لديهم ر�سالة للمجتمع‪ ،‬ولذلك‬ ‫ت�سمح لهم ظروفهم‪ ،‬وتوظف هذه الجل�سات‬
‫ي�شكل الأدب��اء القا�سم الم�شترك بح�ضورهم‪،‬‬ ‫لمناق�شة ق�ضايا الأدب والحياة وتبادل الآراء‬
‫�سواء في ال�صالون الأدب��ي ب�شكله القديم‪،‬‬ ‫حول الق�ضايا المطروحة‪.‬‬
‫�سلوى عبا�س‬ ‫وال�صالون الأدبي المعا�صر‪� ،‬أما الإبداع فقد‬ ‫ويختلف الباحثون حول �أق��دم �صالون‬
‫كان ال�سمة الأ�سا�سية لل�صالون القديم‪ ،‬بينما‬ ‫�أدب��ي في التاريخ‪ ،‬تبع ًا لتحديد المفهوم‬
‫كان الثقافة والأدب‪ ،‬لكن يبدو �أن لكل ع�صر‬ ‫في ال�صالون المعا�صر لم يبق الإب��داع هو‬ ‫وخ�صائ�صه‪ ،‬الذي يحدده كل باحث‪ ،‬فكان‬
‫معطياته الثقافية والفكرية التي تختلف‬ ‫الأ�سا�س في �إن�شاء ال�صالون‪ ،‬بل �أخذ حالة‬ ‫(�سوق عكاظ)‪� ،‬إح��دى العالمات التاريخية‬
‫م��ن ع�صر لآخ���ر‪ .‬وف��ي يومنا ه ��ذا‪ ،‬تحول‬ ‫من (البري�ستيج) االجتماعي‪.‬‬ ‫ال��ب��ارزة في ه��ذا المجال‪ ،‬وهناك من يرى‬
‫�شكل ال�صالون الأدبي وطبيعته‪� ،‬إذ ت�شكلت‬ ‫وت��ب��اي��ن��ت الآراء ح���ول ال��م��ن��ت��دي��ات‬ ‫�أن �صالون (عمرة) تلك المر�أة التي عرفت‬
‫�صالونات �أدبية افترا�ضية تعتمد على الف�ضاء‬ ‫وال�صالونات الأدب��ي��ة‪ ،‬و�أهميتها كظاهرة‬ ‫بفكرها النير ور�أيها ال�سديد‪ ،‬هذا ال�صالون‬
‫الرقمي والبرامج االجتماعية‪ ،‬و(ال�سو�شيال‬ ‫اي��ج��اب��ي��ة و�����ض����رورة ح��ق��ي��ق��ي��ة ف���ي كل‬ ‫الذي يعود �إلى القرن الأول للهجرة‪ ،‬بينما ر�أى‬
‫ميديا)‪ ،‬مثل (الوات�ساب‪ ،‬والفي�سبوك) وغرف‬ ‫زم��ان وم��ك��ان‪ ،‬كانت ال��ظ��روف ال�سيا�سية‬ ‫بع�ضهم‪� ،‬أن �صالون (�سكينة بنت الح�سين)‪،‬‬
‫الدرد�شة المتنوعة‪ ،‬يتم عبرها تداول الآراء‬ ‫واالج��ت��م��اع��ي��ة �سبب ًا رئي�سي ًا لظهورها‪،‬‬ ‫كان الأهم والأ�شهر في ع�صرها‪ ،‬فكان لها‬
‫والأفكار غيابي ًا‪ ،‬خ�صو�ص ًا في زمن الكورونا‬ ‫فكانت المتنف�س الحيوي الذي يثمر على مر‬ ‫دور ب��ارز في خلق حالة �إب��داع��ي��ة‪� ،‬ضمت‬
‫حد كثيراً من الفعاليات والن�شاطات‪،‬‬ ‫الذي ّ‬ ‫التاريخ �أدب ًا راقي ًا‪ .‬وهناك ر�أي �آخر يرى �أن‬ ‫ع��دداً من رموز ال�شعر في تلك الفترة‪ .‬وفي‬
‫فال�صالونات الأدب��ي��ة ظاهرة �صحية في‬ ‫ال�صالونات الأدبية‪ ،‬ج��اءت كبديل معادل‬ ‫الع�صر الأندل�سي يتفق الباحثون على اعتبار‬
‫المناخ الم�ضطرب الذي �أفرزته الحروب بكل‬ ‫ل�ل�أ���س��واق الأدب��ي��ة العربية‪ ،‬مثل (ع��ك��اظ‪،‬‬ ‫الم�س َتكفي)‬
‫�صالون ال�شاعرة (والدة بنت ُ‬
‫�ألوانها‪ ،‬ويبقى الأدب الحاجة العليا التي‬ ‫والمربد) وغيرهما‪ ،‬فهناك �صالونات ثقافية‪.‬‬ ‫والتي توفيت عام (‪1078‬م) �أهم �صالونات‬
‫ترتقي بالإن�سانية‪.‬‬ ‫وامتد دور الكاتبات في �إقامة �صالونات‬ ‫الأندل�س في ذلك الوقت‪ ،‬وفي الع�صر الحديث‬
‫ت��ل��ك الملتقيات ال��خ��ارج��ة ع��ن �إط ��ار‬ ‫تحمل �أ�سماءهن‪ ،‬وتوا�صل ه��ذا ال��دور �إلى‬ ‫ظهر �صالون (مي زيادة) التي عرفت ب�أدبها‬
‫الو�صاية الثقافية الر�سمية‪� ،‬أو �أي جهة‬ ‫�أيامنا هذه‪ ،‬وال بد هنا من �إظهار دور المر�أة‬ ‫وثقافتها وحديثها وقوة حجتها‪� ،‬إذ كانت‬
‫�أخرى حاولت بجهود القائمين عليها �إي�صال‬ ‫ال��ري��ادي‪ ،‬لما لها من ق��درة على االحتواء‬ ‫تناق�ش وتهتم بتحرير ال��م��ر�أة و�إعطائها‬
‫ر�سالة ثقافية ومجتمعية‪ُ ،‬تعنى بمفاهيم‬ ‫والقيام ب�أعباء كبيرة‪ ،‬ويحدثنا تاريخ �أدبنا‬ ‫حقوقها‪ ،‬وكان �صالونها ي�ضم �أبرز الأدباء‬
‫جديدة للإلقاء‪ ،‬والتلقي بعيداً عن المنابر‬ ‫العربي عن ه��ذه ال�صالونات والمنتديات‬ ‫والمفكرين لعل �أهمهم‪ :‬عبا�س محمود العقاد‪،‬‬
‫الكال�سيكية‪ ،‬وا�ستقطاب طاقات �شابة جديدة‬ ‫ب�أ�صالة ور�سوخ‪ ،‬عبر ح�ضور وم�شاركة كبار‬ ‫وطه ح�سين‪ ،‬وعدد من كبار الأدباء‪ .‬وهناك‬
‫في الو�سط الثقافي اليوم‪ .‬وقد تفاءلنا بهذه‬ ‫الأدباء ورجال الفكر والتنوير كل في ع�صره‪،‬‬ ‫�أي�ض ًا عدد من ال�صالونات التي �أن�ش�أها �أدباء‬
‫الملتقيات انطالق ًا من فكرة �أن يكون هناك‬ ‫وا�ستمر الحال حتى التاريخ المعا�صر‪� ،‬إذ نجد‬ ‫رج��ال في م�صر ك�صالون (عبا�س محمود‬
‫ينظرون للثقافة بر�ؤية‬ ‫�صدى �آخر ل�شباب ّ‬ ‫مث ًال �صالونات ب�أ�سماء �سيدات �سوريات‪،‬‬ ‫العقاد و�أحمد �شوقي)‪ ،‬و�صو ًال �إلى �صالون‬
‫مختلفة عن ال�سائد‪� ،‬إ�ضافة �إلى �أن ال�صوت‬ ‫كان لهن ح�ضورهن الأدب��ي والفكري عبر‬ ‫(الأه����رام الثقافي) ب � ��إدارة الأدي���ب جابر‬
‫الواحد ال يمكن �أن ينتج �إبداع ًا‪ ،‬وال بد من‬ ‫ال�صالونات التي �أن�ش�أنها كـ (مريانا مرا�ش‪،‬‬ ‫ع�صفور وغيرها من ال�صالونات‪ ،‬التي لعبت‬
‫تعدد الأ�صوات‪ ،‬من هنا كان الت�شجيع‪� ،‬أن‬ ‫وماري عجمي‪ ،‬ونازك العابد‪ ،‬وحنان نجمة‪،‬‬ ‫دوراً مهم ًا في خدمة الأدب والفن في لبنان‬
‫يكون ثمة ملتقيات �أدبية ثقافية فاعلة في‬ ‫وغيرهن) من �سيدات ال�صالونات التي �شكلت‬ ‫و�سوريا والعراق وغيرها‪.‬‬
‫الحراك الثقافي امتد لي�شمل م�شاركات عربية‬ ‫ح�ضوراً �أدب��ي� ًا م��ازال ماث ًال في الوجدان‪،‬‬
‫عبر و�سائل التوا�صل‪،‬و لكن هذه الملتقيات‬ ‫ويمثل بو�صلة لنا ف��ي �سبر �أغ���وار الأدب‬
‫توقفت ولم ت�ستطع اال�ستمرار لأ�سباب عدة‬ ‫والثقافة على مر التاريخ‪.‬‬ ‫يختلف الباحثون حول‬
‫ربما �أهمها‪ :‬عدم توافر التمويل المادي‪ ،‬كون‬ ‫هذه ال�صالونات ب�شكلها التقليدي توقفت‬ ‫�أقدم �صالون �أدبي في‬
‫�أغلبها يعتمد على تمويل �شخ�صي من �أع�ضاء‬ ‫في �أواخر ت�سعينيات القرن الما�ضي‪ ،‬لتن�ش�أ‬ ‫التاريخ �إال �أن �سوق‬
‫الملتقى‪ ،‬وكذلك ع��دم و�ضع برنامج عمل‬ ‫ب ��د ًال منها �صالونات وملتقيات ثقافية‬
‫ينظم عمل هذه الملتقيات من قبل القائمين‬ ‫تختلف بطابعها العام عن ال�صالونات التي‬
‫(عكاظ) ي�أتي كعالمة‬
‫عليها‪.‬‬ ‫عرفناها عبر الزمن ولو �أن طابعها الأ�سا�سي‬ ‫بارزة في هذا ال�ش�أن‬

‫‪71‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫النقد الأدبي‬
‫بين ال�صحافة والبحث الأكاديمي‬

‫وي��رى د‪.‬عبداهلل الغذامي �أن��ه‪( :‬منظومة‬


‫معرفية فل�سفية تتكئ على الن�صو�ص‪ ،‬ولي�س‬
‫ال يخفى على �أحد من المهتمين بالإبداع الأدبي وال�ش�أن‬
‫بال�ضرورة خادمة للن�صو�ص)‪.‬‬ ‫الثقافي‪� ،‬أن هناك �ضبابية في الوقت ال��راه��ن حول‬
‫�أما الناقد عابد خزاندار‪ ،‬فيرى �أن النقد‬ ‫مفهوم النقد الحقيقي‪ ،‬وال���دور ال��ذي م��ن المفتر�ض‬
‫لي�س �شرح ًا‪� ،‬إنما �إعادة خلق للن�ص المدرو�س‪،‬‬ ‫�أن ي�ؤديه في ال�ساحة المعرفية‪ ،‬وخا�صة الثقافية‪.‬‬
‫بحيث يكون ن�ص المبدع قادراً على البث �أو‬
‫فالنقد الأدب���ي ال��ع��رب��ي‪� ،‬أ�صبح يعي�ش ف��ي عزلة عن‬
‫التحدث من خالل المقاربة النقدية‪.‬‬ ‫د‪ .‬بديعة الها�شمي‬
‫وبح�سب ر�ؤي��ة د‪� .‬سعيد ال�سريحي‪ ،‬ف�إن‬ ‫المتلقين‪��� ،‬س��واء ال��ق��راء �أو ال��م��ب��دع��ي��ن وال��ك��ت��اب‪.‬‬
‫(النقد يحرر الن�صو�ص من روح ال�ضرورة‬
‫ويطلقها وراء حدود الإمكان‪ ،‬فمهمة الناقد‬ ‫والمالحظات واالنطباعات ب�ش�أن العمل‬ ‫لقد تراجع كثيراً مفهوم النقد الحقيقي‪،‬‬
‫هي ا�ستنطاق اللغة الجديدة‪ ،‬والك�شف الواعي‬ ‫الإب��داع��ي؟ �أم ه��و تحليل وتف�سير وتقويم‬ ‫بعد �أن كان مت�صدراً للم�شهد الثقافي في‬
‫عما فجره ال�شاعر من �أبعاد تت�ضمن ر�ؤيته‬ ‫وتقييم ل��ه؟ �أم حكم ب��ال��ج��ودة وال����رداءة‪،‬‬ ‫خم�سينيات و�ستينيات القرن الما�ضي‪ ،‬على‬
‫للعالم والأ�شياء)‪.‬‬ ‫ال�سطحية والعمق؟ �أم هو كالم على كالم‪،‬‬ ‫ت�سيدوا‬
‫يد نخبة من النقاد والمفكرين‪ ،‬الذين ّ‬
‫�إن �أول من ف ّكر في ت�أ�سي�س المعاهد‬ ‫وكتابة على كتابة‪ ،‬و�إبداع على �إبداع؟‬ ‫الموقف �آن��ذاك‪ ،‬وتركوا ب�صماتهم الخالدة‪،‬‬
‫الأك��ادي��م��ي��ة‪ ،‬ه��و ال��ف��ي��ل�����س��وف ال��ي��ون��ان��ي‬ ‫�إن النقد‪ ،‬في حقيقة الأمر‪ ،‬هو كل ذلك‪.‬‬ ‫التي مازالت ت�شهد على جهودهم حتى يومنا‬
‫�أف�ل�اط ��ون ع ��ام (‪ 387‬ق‪.‬م)‪ ،‬وات��خ��ذ مقر‬ ‫فالنقد (فعالية بينية و�سطية) بين الن�ص‬ ‫هذا‪� ،‬أمثال‪ :‬عميد الأدب طه ح�سين‪ ،‬وعبا�س‬
‫�أكاديميته بقرب حديقة ف��ي �أثينا كانت‬ ‫عبا�س‪ ،‬وهو‬ ‫ومتلقيه‪ ،‬كما يقول د‪� .‬إح�سان ّ‬ ‫محمود الع ّقاد‪ ،‬ومحمد م��ن��دور‪ ،‬و�إح�سان‬
‫ت�سمى (حدائق �أكاديمو�س)‪ ،‬وقام بتدري�س‬ ‫(فن التمييز بين الأ�ساليب) كما ي�شير د‪.‬محمد‬ ‫عبا�س‪ ،‬وعزالدين �إ�سماعيل‪ ،‬وغيرهم‪..‬‬
‫الفل�سفة والريا�ضيات فيها‪ ،‬وقد �أُطلق لقب‬ ‫مندور‪.‬‬ ‫ي��ت�����س��اءل ال��ي��وم ال��م��ه��ت��م��ون ب����الأدب‬
‫(الأكاديمي) على كل من �أع�ضاء هذه المدر�سة‬ ‫وبح�سب تعريف د‪.‬عبدالقادر القط هو‪:‬‬ ‫وق�ضاياه‪ ،‬عن �سبب غياب دور النقد الأدبي‬
‫الفل�سفية‪ .‬ويعني م�صطلح (�أكاديمي) �أو (عالم‬ ‫(حكم على الأعمال الأدبية بمقدار ما في‬ ‫عن ال�ساحة الثقافية‪ ،‬حتى �أ�صبح مفهومه‬
‫�أكاديمي) اليوم‪ :‬العا ِلم بالعلوم ح�سب منهج‬ ‫�صياغتها من فن‪ ،‬ومقدار ما في م�ضمونها‬ ‫�ضبابي ًا و�شائك ًا‪ ،‬في ظل غياب دوره المن�شود‪.‬‬
‫علمي دقيق‪ ،‬والمنتمي �إلى م�ؤ�س�سة �أكاديمية‪.‬‬ ‫من قيم)‪.‬‬ ‫فهل يعني النقد الأدب ��ي‪ :‬تقديم الآراء‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪72‬‬


‫مداخلة‬

‫وال��ت��ج��دي��د واالل ��ت ��زام ب��ال��م��وروث‪ ،‬وال��م��ع��ارك‬ ‫وحينما تقترن �صفة (الأكاديمية) بالنقد‬
‫المتعلقة بالمذاهب الأدب��ي��ة‪ ،‬وت��أري��خ الأدب‪،‬‬ ‫الأدبي‪ ،‬ف�إنها �ست�ضفي عليه �سمات مخ�صو�صة‬
‫وم�ستقبل الثقافة‪ ،‬ومعركة الفن للفن �أو الفن‬ ‫مثل‪ :‬العلمية‪ ،‬والمنهجية‪ ،‬والجدية‪ ،‬والمتابعة‬
‫للمجتمع‪.‬‬ ‫المنظمة‪ ،‬والتوثيق‪ ،‬والت�أ�صيل‪ ،‬والتخ�صي�ص في‬
‫وب��ن��اء على ذل ��ك‪ ،‬ف ��إن��ه ال يمكن �إغ��ف��ال‬ ‫�إطار الم�ؤ�س�سة الجامعية‪ .‬فـ(النقد الأكاديمي)‬
‫�أهمية النقد ال�صحافي في رفد النقد الأكاديمي‬ ‫يعتمد في الأ�سا�س على ا�ستثمار الح�صيلة النقدية‬
‫المتخ�ص�ص‪ .‬فهذا النقد ال يقت�صر �إنتاجه على‬ ‫في ا�ستك�شاف ال�سمات الخا�صة للتطور الأدبي‬
‫ت�صدر النقد الم�شهد‬ ‫المثقفين الهواة من ال�صحافيين الموهوبين‬ ‫في مراحله المختلفة‪ ،‬واالهتمام بق�ضية الن�ش�أة‬
‫الثقافي العربي‬ ‫فقط‪ ،‬بل بمقدور الأكاديميين �أن يتعاملوا معه‬ ‫والتطور فيما يتعلق بالحركة الأدبية‪ ،‬واالعتماد‬‫ّ‬
‫من موقعهم في الم�ؤ�س�سات الأكاديمية‪ ،‬فت�صبح‬ ‫العلمية‪ ،‬ولغة التخ�ص�ص‬ ‫ّ‬ ‫الم�صطلحات‬ ‫على‬
‫في خم�سينيات‬ ‫ال�صفة للإنتاج ولي�س للكاتب‪ .‬وبالتالي ينتفي‬ ‫والتوثيق والت�أ�صيل والتنظير‪ ،‬ودرا�سة الظواهر‬
‫و�ستينيات القرن‬ ‫التق�سيم المفتعل بين الناقد ال�صحافي والناقد‬ ‫أدبية في الأجنا�س الأدبية المختلفة‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫الفائت‬ ‫الأكاديمي‪.‬‬ ‫وف��ي المقابل ارت��ب��ط (ال��ن��ق��د ال�صحافي)‬
‫يطلق بع�ض النقاد والدار�سين �أحكام ًا ت�صف‬ ‫بالتداول ال�سريع نتيجة الرتباطه بال�صحافة‪،‬‬
‫الراهن النقدي الأدبي في الوطن العربي ب�صفات‬ ‫التي تت�سم ب�سرعة االنت�شار‪ .‬ل��ذا ف�إنه يت�سم‬
‫مثل‪�( :‬أزم��ة النقد الأدب��ي‪ ،‬و�إ�شكالية الم�صطلح‬ ‫واالنطباعية‪ ،‬وتغليب الجانب الذوقي‬
‫ّ‬ ‫بالب�ساطة‬
‫النقدي‪ ،‬والبحث عن منهج نقدي جديد‪ ،‬ونحو‬ ‫والتخ ّفف من �أعباء الم�صطلحات العلمية‪ .‬ولي�س‬
‫بديل نقدي‪ ،‬وق ��راءة جديدة للنقد‪ ،‬والخطاب‬ ‫ذلك نقي�ض ًا للجدية بكل ت�أكيد‪.‬‬
‫النقدي الم�أزوم‪ ،‬والتحديث النقدي المطلوب)‪..‬‬ ‫على ال�صعيد العالمي‪ ،‬كانت ال�صحافة‬
‫وغير ذل��ك م��ن العناوين التي تعك�س �صورة‬ ‫حا�ضنة للنقد بكافة اتجاهاته منذ البداية‪،‬‬
‫الخطاب النقدي والتحديات التي تواجه الناقد‬ ‫وكانت الو�سيلة التي ي�صبح بوا�سطتها المذهب‬
‫نخبة من النقاد‬ ‫الأكاديمي‪ ،‬ما يجعل المهتمين بالم�شهد الثقافي‬ ‫النقدي را�سخ ًا في �أو�ساط المثقفين والمخت�صين‪،‬‬
‫والأدبي يبحثون في حقيقة الإ�شكال وم�سبباته‪،‬‬ ‫وتحديداً المجالت المتخ�ص�صة‪ .‬وق��د حر�ص‬
‫والمفكرين ت�سيدوا‬
‫لو�ضع �أيديهم على نقاط ال�ضعف وموا�ضع‬ ‫الأدباء وم�شاهير النقاد في العالم على �أن يطلوا‬
‫الموقف الأدبي‬ ‫الخلل‪ ،‬للخروج من تلك الأزمة‪.‬‬ ‫ب�آرائهم ومذاهبهم عبر منابر �صحافية خا�صة‬
‫وقتذاك‬ ‫يذكر الناقد د‪.‬ج��اب��ر ع�صفور ف��ي كتابه‬ ‫بهم‪ ،‬مثل‪ :‬دانيال ديفو‪ ،‬وهازلت‪ ،‬وبلزاك‪ ،‬و�سانت‬
‫(تحديات الناقد المعا�صر) �أربعة من التحديات‬ ‫بيف‪ ،‬وهيجو‪ ،‬وتين‪ ،‬وبرونتير‪ ،‬و�سارتر‪ ،‬وت‪�.‬س‪.‬‬
‫التي تواجه الناقد العربي ب�شكل خا�ص‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫�إليوت‪ ..‬وغيرهم‪.‬‬
‫الن�صي‪ ،‬والتحدي المنهجي‪ ،‬والتحدي‬ ‫ّ‬ ‫التحدي‬ ‫�أما على الم�ستوى العربي؛ فقد كان للمجالت‬
‫االجتماعي وال�سيا�سي‪ ،‬وال��ت��ح��دي الثقافي‪.‬‬ ‫الأدبية �ش�أن ال يقل �أهمية عن المجالت العالمية‪،‬‬
‫و�س�أ�سلط ال�ضوء في هذه المقالة على التحديين‬ ‫مثل‪ :‬مجلة الم�ستقبل‪ ،‬والمجلة الجديدة‪ ،‬ومجلة‬
‫الأول والثاني‪.‬‬ ‫الر�سالة‪ ،‬ومجلة الكتاب الم�صري التي كان‬
‫الن�صي (�إ�شكالية الم�صطلحات)‬ ‫ّ‬ ‫التحدي‬ ‫�أو ًال‪:‬‬ ‫ي�شرف على تحريرها عميد الأدب العربي طه‬
‫يتعلق هذا التحدي بالن�ص الأدبي الذي هو‬ ‫ح�سين‪ .‬فمن خالل تلك المجالت وغيرها‪ ،‬ظهر‬
‫تيار النقد العربي الحديث ودرا���س��ات الأدب‬
‫المقارن‪ ،‬ككتابات‪ :‬لوي�س عو�ض‪ ،‬ور�شاد ر�شدي‪،‬‬
‫وعبدالرحمن ب��دوي‪ ،‬كما كتب فيها العديد من‬
‫النقاد والأدباء‪.‬‬
‫والمت�صفح لكتاب (المعارك الأدبية) لأنور‬
‫الجندي يدرك حجم الدور الذي قامت به ال�صحافة‬
‫في خدمة النقد الأدبي وق�ضايا الثقافة العربية‬
‫ومعطياتها‪ ،‬والدالة على ن�شاط الحركة النقدية‬
‫�آنذاك‪ ،‬على �أيدي كبار النقاد العرب‪� ،‬أمثال‪ :‬طه‬
‫ح�سين‪ ،‬والعقاد‪ ،‬وزكي مبارك‪ ،‬و�شكيب �أر�سالن‪،‬‬
‫و�أحمد �أمين‪ ،‬و�أمين الخولي‪ ،‬والرافعي‪ ،‬وغيرهم‪..‬‬
‫محا�ضرة جامعية‬ ‫ومن تلك الق�ضايا‪ :‬ق�ضية ال�شكل والم�ضمون‪،‬‬

‫‪73‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ال�سابق على ت�شكله والعالم الالحق على ت�شكله‪.‬‬ ‫مجال الممار�سة النقدية‪ ،‬فالناقد الأكاديمي‬
‫وتيار �آخ��ر يفهم �أن الن�ص بو�صفه ر�سالة‬ ‫يقف �أمام تيارات ومدار�س نقدية عديدة اختلفت‬
‫موجهة من مر�سل �إلى م�ستقبِل �أو متلقٍ ‪ ،‬لكن مع‬ ‫�أ�سا�س ًا في فهم الن�ص ذات��ه وعالقته بالعالم‪.‬‬
‫تتبع تغير �أحوال اال�ستقبال وال�سياقات المتغيرة‬ ‫فمدر�سة كال�سيكية ترى الإنتاج الأدب��ي ن�ص ًا‬
‫التي تتم فيها‪ ،‬بما ي���ؤدي �إل��ى تولد م�ؤثرات‬ ‫لي�س م�ستق ًال بنف�سه‪ ،‬وال مكتفي ًا بذاته؛ فهو ن�ص‬
‫المالحظ الآن غياب‬ ‫تترك �أثرها في فهم القارئ دالالت بع�ض الذي‬ ‫متو ّلد من كاتب ينت�سب �إلى طبقة اجتماعية ال‬
‫دور النقد الأدبي‬ ‫ي�ستقبله‪.‬‬ ‫يعبر عنها ويعك�س همومها في الواقع‬ ‫بد �أن ّ‬ ‫ّ‬
‫لي�أتي بعد ذلك النقد الثقافي‪ ،‬الذي �أ�صبح‬ ‫الذي تعي�شه والزمن الذي تمثله‪ .‬فالعمل الأدبي‬
‫المن�شود عن ال�ساحة‬ ‫ٍ‬
‫مكتف بذاته �أو‬ ‫ال ينظر �إلى الن�ص الأدبي ب�أنه‬ ‫مر�آة ينعك�س عليها كل ما �أدى �إليها‪ .‬ومدر�سة‬
‫الثقافية‬ ‫مفتوح على العالم‪ ،‬بل ب�أنه منتج ثقافي �صاغته‬ ‫رومان�سية ت��رى �أن الن�ص الأدب ��ي تعبير عن‬
‫ثقافة المجتمع ال��ذي �أنتجه من خ�لال �أدي��ب‬ ‫وجدان �صاحبه‪ ،‬و�أنه يتدفق من هذا الوجدان كما‬
‫تحيزاته الثقافية في‬ ‫متفرد‪ ،‬لذلك هو يعبر عن ّ‬ ‫يتدفق الماء من النبع‪.‬‬
‫حالتي الدفاع عنها �أو الهجوم عليها‪.‬‬ ‫�أما مدر�سة النقد الجديد (البنيوية) فترى �أن‬
‫ثاني ًا‪ :‬التحدي المنهجي (المناهج النقدية‬ ‫مكتف بنف�سه ال يحتاج في‬ ‫ٍ‬ ‫الن�ص قائم بذاته‪،‬‬
‫الحديثة)‬ ‫تحليله �إلى �أي �شيء من خارجه‪ ،‬فيكفي الناقد‬
‫ك��ل تلك ال��ت��ي��ارات المختلفة ف��ي تحديد‬ ‫�أن يت�أمل الن�ص ونوعه فيعثر على مفاتيح‬
‫مفهوم الن�ص‪ ،‬والمتغايرة بتغاير المداخل التي‬ ‫تحليله وتف�سيره وتقييمه‪ ،‬فالعمل الأدبي كائن‬
‫يولَج منها �إليه‪ ،‬وتعدد العد�سات التي ُيتطلع‬ ‫جديد مخلوق ال عالقة له ب�أ�صله �أو دوافعه‪� ،‬أو‬
‫تحد �آخر هو‬
‫من خاللها �إلى الن�ص‪ ،‬قادت �إلى ٍّ‬ ‫حتى ما ي�أتي بعده‪� ،‬أو ما يمكن �أن يترتب عليه‪.‬‬
‫بد�أ الت�أ�سي�س‬ ‫(التحدي المنهجي)‪ ،‬القائم على اختيار المنهج‬ ‫ولذلك ف ��إن ه��ذه المدر�سة ترف�ض االتجاهين‬
‫المنا�سب‪ ،‬الذي يمكن �أن يختاره الناقد‪ ،‬ويرى‬ ‫ال�سابقين على ال�سواء؛ لأنهما يريان �أن الن�ص‬
‫الأكاديمي مع‬ ‫فيه خير طريق يقوده �إلى روح الن�ص‪ ،‬ويك�شف‬ ‫الأدبي يحاكي دائم ًا ما في خارج الن�ص‪� ،‬سواء‬
‫مدر�سة �أفالطون‬ ‫عن �أ�سراره �أو كنوزه‪.‬‬ ‫الواقع في الخارج كما ذهب الكال�سيكيون‪� ،‬أو في‬
‫وا�ستمر �إبداع ًا نظري ًا‬ ‫ي�ضاف �إل ��ى ذل��ك �أن ك��ل تلك النظريات‬ ‫الداخل كما فعل الرومان�سيون الذين فهموا الن�ص‬
‫وتطبيقي ًا‬ ‫والمناهج النقدية في الأ�سا�س‪��� ،‬ص��ادرة عن‬ ‫بو�صفه محاكاة داخلية‪� ،‬أو تعبيراً يخرج ما في‬
‫ثقافة غربية‪ ،‬وتعبر عن مرجعياتها الفكرية‬ ‫داخل المبدع للخارج ق�صة �أم ق�صيدة‪.‬‬
‫التي �أنتجتها‪ .‬فالناقد العربي م�ستورد وم�ستهلك‬ ‫وت�أتي بعدها النظرية التفكيكية‪ :‬التي ترى‬
‫لها‪ ،‬يتنقل من نظرية �إل��ى �أخ��رى‪ ،‬دون تعديل‬ ‫�أن الن�ص لي�س منغلق ًا على نف�سه بل منفتح‬
‫�أو تمحي�ص �أو م�ساءلة �أو �إع��ادة �صياغة بما‬ ‫من خ�لال عالقات التنا�ص‪ ،‬فهو ك��ون �صغير‬
‫يتنا�سب مع خ�صو�صيات الأدب العربي‪.‬‬ ‫ينفتح على الكون الالنهائي من الن�صو�ص‪،‬‬
‫ولن يتم تحديث الخطاب النقدي العربي‬ ‫فكل ن�ص متنا�ص بال�ضرورة‪ ،‬ك�أنه كتابة على‬
‫بم�صداقية‪� ،‬إال حين تكون �أ�سئلته منبثقة من‬ ‫كتابة‪ ،‬وي�ستعيد الن�صو�ص الالنهائية ال�سابقة‬
‫واقع �أدب��ه وثقافته‪ ،‬حينها �ستو�ضع مفاهيمه‬ ‫والمعا�صرة له‪ ،‬ويعيد كتابتها على نحو يبرز‬
‫وم�صطلحاته ولغته ال�صحيحة المنا�سبة لإنتاجه‬ ‫موهبة �صاحبها بالقيا�س �إل��ى معا�صريه �أو‬
‫حمال‬ ‫�سابقيه‪ .‬كما ترى هذه النظرية �أن الن�ص ّ‬
‫�أوج��ه �إل��ى ما ال نهاية‪ ،‬فالدال لي�س له مدلول‬
‫محدد؛ لأن الدال نف�سه حائم‪ ،‬فيندفع عبر �أمواج‬
‫من الدالالت والمدلوالت‪ .‬فالن�ص لذلك ال ينغلق‬
‫على نف�سه وال يقبل تف�سيراً واحداً �أبداً‪ ،‬بل ينطوي‬
‫على تعار�ضات وتناق�ضات‪ ،‬ومعانٍ مت�صارعة‬
‫مت�ضادة‪.‬‬
‫�أما نظريات الخطاب فترتئي (االنطالق من‬
‫الداخل �إلى الخارج)‪ :‬فالن�ص بو�صفه ت�شكالت‬
‫لغوية اجتماعية‪ ،‬ف�إنه ال يمكن الف�صل فيه‬
‫بين الخطاب وفاعله وم�ستقبله على ال�سواء‪.‬‬
‫والنتيجة هي فتح الن�ص المغلق على العالم‬
‫ندوات معر�ض ال�شارقة الدولي للكتاب ‪2018‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪74‬‬


‫مداخلة‬

‫عبدالقادر القط‬ ‫�إح�سان عبا�س‬ ‫ت‪� .‬أ�س‪ .‬اليوت‬ ‫جابر ع�صفور‬ ‫محمد مندور‬

‫�أنور الجندي‬ ‫طه ح�سين‬ ‫بلزاك‬ ‫�سعيد ال�سريحي‬ ‫فكتور هيجو‬

‫ف��ي ت�أ�سي�س النظريات المنهجية و�أ�صولها‬ ‫الإبداعي‪ .‬وال يعني ذلك �أن ُي�صرف النظر عن‬
‫المعرفية ومعاييرها و�أدواتها‪ ،‬وهي �ضرورية‬ ‫المنجزات المنهجية للنقد الغربي‪ ،‬بل يجب‬
‫في ت�أ�سي�س المعرفة الأولى لدى المتخ�ص�ص‪� ،‬إال‬ ‫�أن تتم م�ساءلتها‪ ،‬واال�ستفادة مما يتوافق مع‬
‫�أن المو�ضوع‪ ،‬قد يقف عنده في بع�ض الأحيان‬ ‫الثقافة العربية وهويتها‪.‬‬
‫في كلياتنا وجامعاتنا دون الممار�سة التطبيقية‬ ‫ثالث ًا‪( :‬النقد الأكاديمي والمبدع‪ /‬القارئ)‬
‫الحكم على الأعمال‬ ‫لتلك النظريات‪ ،‬فيغلب الجانب النظري على‬ ‫تحد في غاية الأهمية يواجه النقد‬ ‫هناك ٍّ‬
‫الأدبية بمقدار ما‬ ‫الجانب التطبيقي الذي يم ّكن الطالب من مواجهة‬ ‫الأكاديمي‪ ،‬وربما �أع��اق ر�سالته المعرفية من‬
‫في �صياغتها من فن‬ ‫الن�ص واختباره في مراحل ت�أ�سي�سه النقدي‪.‬‬ ‫الهوة‬
‫ّ‬ ‫الو�صول بال�شكل المطلوب‪ ،‬وه��و تلك‬
‫�صحيح �أن تر�سيخ المفاهيم والم�صطلحات‬ ‫التي تف�صل بينه وبين الكاتب �أو القارئ غير‬
‫وم�ضمون‬ ‫العلمية والنظريات الأدبية‪ ،‬مهم جداً في ت�أ�سي�س‬ ‫المتخ�ص�ص‪ ،‬فتجعله بعيداً عن الك ّتاب و�أ�صحاب‬
‫المعارف النقدية بالن�سبة �إلى الناقد والباحث‬ ‫الإب��داع‪ ،‬حبي�س ًا على رفوف المكتبات و�أغلفة‬
‫الجامعي‪ ،‬لكنها تبقى قا�صرة‪� ،‬إن لم تقترن‬ ‫الر�سائل الجامعية‪ .‬وتخلق حاجزاً بينه وبين‬
‫بالتطبيق العملي على الن�صو�ص ومواجهتها‬ ‫ال��ق��ارئ العربي ف��ي تلقيه للنقد الأك��ادي��م��ي‪.‬‬
‫وم�ساءلتها‪� ،‬سواء القديمة منها �أم الحديثة‬ ‫قد تكمن هذه الإ�شكالية في الطبيعة اللغوية‬
‫والمعا�صرة‪.‬‬ ‫للخطاب النقدي المعا�صر‪ ،‬ال��ذي ُي�ؤخذ عليه‬
‫خام�س ًا‪( :‬النقد الأكاديمي والإنتاج الإبداعي‬ ‫�أحيان ًا ب�أنه مثقل بالم�صطلحات والمفاهيم‪،‬‬
‫المتزايد)‬ ‫ما يجعل المتلقين من غير المخت�صين يتهمونه‬
‫يت�سم النقد‬ ‫ال تخفى على الجميع ظ��اه��رة الإن��ت��اج‬ ‫بالغمو�ض‪ ،‬والمنهجية ال�صارمة‪.‬‬
‫ال�صحافي ب�سرعة‬ ‫الأدبي المت�سارع هذه الأيام‪ ،‬في ظل الت�سهيالت‬ ‫وكردة فعل لذلك‪ ،‬وجدنا بع�ض القراء‪ ،‬ال�شباب‬
‫المقدمة للك ّتاب في الن�شر‪ ،‬وطباعة الكتب‪ ،‬ودعم‬ ‫منهم خا�صة‪ ،‬ي�ستحدث نوع ًا جديداً من الخطاب‬
‫االنت�شار واالتكاء‬ ‫الإنتاجات الجديدة‪ .‬وهذا الأم��ر له �إيجابياته‬ ‫النقدي‪� ،‬أطلق عليه ا�سم (النقد االفترا�ضي)‪ ،‬وهو‬
‫على الجانب الذوقي‬ ‫و�سلبياته في الآن نف�سه‪ .‬وال�شك �أن متابعة كل‬ ‫(تيار نقدي يمار�س نقداً من نوع مختلف‪ ،‬عبر‬
‫واالنطباعي‬ ‫ما ي�صدر وينتج في ال�ساحة الأدبية‪� ،‬أمر ي�شكل‬ ‫من�صات افترا�ضية �أنجبتها الثورة الهائلة في‬
‫تحدي ًا للنقد الأكاديمي‪ ،‬ال��ذي تتطلب طبيعته‬ ‫يعرفه محمد‬ ‫مجال االت�صاالت والتقنية)‪ ،‬كما ّ‬
‫العلمية والجدية والمتابعة المنظمة‪ ،‬والتوثيق‪،‬‬ ‫المرزوقي‪ ،‬في كتابه (هكذا تك ّلم القارئ)‪.‬‬
‫والتي ت�ستوجب �أن يكون الناقد الأكاديمي‬ ‫راب��ع�� ًا‪( :‬ال��ن��ق��د الأك��ادي��م��ي بين النظرية‬
‫مت�أني ًا في خطاه‪ ،‬متفح�ص ًا بدقة لما يتناوله‬ ‫والتطبيق)‬
‫ويحلله‪ ،‬ويدر�سه بروية ووقت �أطول مما يتطلبه‬ ‫�إن النقد‪ ،‬كما هو معروف‪ ،‬ذو م�ستويين‪:‬‬
‫النقد ال�صحافي‪.‬‬ ‫نظري وتطبيقي‪ ،‬وقد كان للنقد النظري‪� ،‬أثره‬

‫‪75‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫نجيب محفوظ‬
‫و�إ�شكالية النقد ال�سينمائي‬
‫د‪� .‬أمل الجمل‬

‫وبرغم و�صفه لفيلم «بداية ونهاية»‬ ‫رواياته لل�سينما‪ ،‬و�إعالنه م��راراً وتكراراً‬ ‫ُ(ي�ؤ�سفني �أن �أق��ول �إنه لي�س للنقد �أي‬
‫ب�أنه «فيلم ممتاز‪ ،‬قال كل ما �أردته»‪ ،‬لكنه‬ ‫بعدم تحمله م�س�ؤولية العمل ال�سينمائي‬ ‫وزن في عالم ال�سينما‪ ،‬و�أنا �أتذكر الأفالم‬
‫ينفي �أن تكون نهاية الفيلم ُمطابقة لنهاية‬ ‫ورف�ض تقييمه �أو �إدانته‪ ،‬م�ؤكدا �أنه م�س�ؤول‬ ‫التي روج لها النقد‪ ،‬حتى بلغ الترويج‬
‫ال��رواي��ة‪ ،‬لأن ح�سنين بالرواية لم ينتحر‬ ‫فقط عن الن�ص الأدبي‪ ،‬بل و�إ�شادته ب�أغلب‬ ‫عنان ال�سماء‪ ،‬وكانت هذه الأفالم تغو�ص‬
‫ليلحق ب�أخته نفي�سة‪ ،‬و�إنما كان انتحاره‬ ‫هذه الأعمال الفيلمية‪.‬‬ ‫ف��ي ال�سقوط‪� ،‬أو هجوم النقاد الوح�شي‬
‫نف�سي ًا‪ ،‬و�أخالقي ًا‪.‬‬ ‫�إال �أننا ُندرك ‪ -‬بو�ضوح ‪ -‬عدم ر�ضاه‬ ‫على �أفالم �أحبها الجمهور‪ ،‬ويندر �أن يتفق‬
‫ثم ُيبرر نهاية «ال�سمان والخريف» ب�أنها‬ ‫عنها‪ ،‬واخ��ت�لاف��ه م��ع �صناعها‪� ،‬أو على‬ ‫النقاد مع الجمهور‪ ..‬هناك انف�صال تام بين‬
‫�أعجبت النا�س‪ ،‬فحين ي�س�أله ال�صحافي‪:‬‬ ‫الأقل تحفظه على التغيرات التي �أجروها‬ ‫االثنين‪ ،‬حتى �إن الجمهور يرتاب في الفيلم‬
‫«رجوع الأم وابنها �إلى عي�سى الدباغ‪ ،‬رغم‬ ‫للن�ص الأدبي؛ فمث ًال ُيعبر عن �صدمته بعد‬ ‫الذي ُيثني عليه النقاد �أو ي�شنون هجومهم‬
‫�أن النهاية بالكتاب هي انتماء الدباغ �إلى‬ ‫م�شاهدة فيلم «زقاق المدق»‪ ،‬لأنه كان قد‬ ‫عليه‪ ..‬والنقاد لدينا ثالثة �أن ��واع‪ ..‬فريق‬
‫عالم ال�ضياع بعد �أن نبذه المجتمع‪� .‬إن هذه‬ ‫قر�أ ال�سيناريو و�أعجبه‪ ،‬م�ؤكداً �أن‪« :‬الفيلم‬ ‫لي�س على م�ستوى النقد‪ ..‬وفريق ال يترفق‬
‫النهاية ال�سعيدة �أفقدت الق�صة الأ�سا�سية‬ ‫�أخذ من الرواية �شخ�صية حميدة فقط‪ ،‬وكان‬ ‫بالجمهور في تعبيراته‪ ..‬وفريق ثالث ي�سب‬
‫ذل��ك الم�ضمون ال��ذي �أردت ��ه �أن��ت ككاتب‬ ‫من الأف�ضل �أن يقول ُ�صناعه �إنه مقتب�س‬ ‫�أف�لام الجمهور المف�ضلة‪ ..‬وكل هذا جعل‬
‫روائ��ي»‪ ،‬فيرد نجيب محفوظ‪« :‬الجمهور‬ ‫ع��ن»‪ ،‬فكلمة «ع��ن» كانت �ست�صد الهجوم‬ ‫النقد في طريق والجمهور في طريق‪ ..‬وحتى‬
‫ا�ستريح لنهاية الفيلم‪ ،‬لأن��ه جمهور لم‬ ‫على الفيلم‪.‬‬ ‫يكون لدينا نقد �سليم‪ ،‬فنحن في انتظاره‬
‫يقر�أ الكتاب‪ ،‬والنا�س لو كانت خرجت من‬ ‫�أما الجزء الأول من الثالثية‪ ،‬الذي حقق‬ ‫كما انتظر بطل بيكيت «جودو»)‪.‬‬
‫ال�سينما‪ ،‬دون �أن ترجع الأم وابنتها‪� ،‬إلى‬ ‫نجاح ًا جماهيري ًا كبيراً‪ ،‬فيقول عنه نجيب‬ ‫الكلمات ال�سابقة من�سوبة ل�ل�أدي��ب‬
‫عي�سى الدباغ كانت زعلت وح�ست ب�إح�سا�س‬ ‫محفوظ («بين الق�صرين» �أُ�سميه فيلم ًا‬ ‫الم�صري نجيب محفوظ‪ ،‬فهل حق ًا اقت�صر‬
‫مو�ش كوي�س»‪.‬‬ ‫ناجح ًا‪ .‬فيه من الكتاب مواقف و�أفكار‬ ‫الأمر‪� ،‬آنذاك‪ ،‬على تلك الأنواع الثالثة التي‬
‫الالفت �أن نجيب محفوظ كان يتحدث‬ ‫ال ُتنكر‪ ،‬لكن لي�س فيه تعادل بين نجاحه‬ ‫�أ���ش��ار �إليها �أدي��ب نوبل؟ وه��ل حق ًا كان‬
‫بذكاء وحر�ص بالغ‪ ،‬ربما لئال ُيورط نف�سه‬ ‫الجماهيري ونجاحه الفني‪ ،‬لأن الفيلم لم‬ ‫وجود «النقد ال�سينمائي ال�سليم» حينها مثل‬
‫ف��ي م�شاكل وم��ع��ارك بينه وبين ُ�صناع‬ ‫يعك�س كل ما �أردت �أن �أق��ول‪ ،‬بينما فيلم‬ ‫ال�سراب؟! �أو �أ�شبه «بانتظار جودو»؟! و ُترى‬
‫هذه الأف�لام‪ ،‬فكان ُيغلق باب النقا�ش مع‬ ‫«الطريق» فيه مالمح من الرواية‪ ،‬ولي�س كل‬ ‫ماذا كان يق�صد بم�صطلح «النقد ال�سليم»؟!‬
‫البع�ض ب�أ�سلوب مهذب دم��ث‪ .‬ورغ��م ذلك‬ ‫ما في الرواية‪ ..‬وال �أوافق على الإ�ضافات‪.‬‬ ‫يبدو ل��ي الحكم ال�سابق مثيراً للده�شة‪،‬‬
‫يمكن معرفة ر�أيه في الأعمال ال�سينمائية‬ ‫لكن «الل�ص والكالب» فيلم جيد ج��داً‪ ..‬ما‬ ‫لق�سوته‪� ،‬إذ لم ي�ستثني نجيب محفوظ �أحداً‪،‬‬
‫المقتب�سة عن روايته من خالل حكم �آخر‬ ‫�أهمل التعبير عنه في الكتاب يعتبر في‬ ‫ولتناق�ضه مع �آراء �سابقة والحقة تخ�ص‬
‫يقول‪�« :‬شاهدت الجريمة والعقاب‪ ،‬والأخوة‬ ‫نظري �ضرورة �أوافق عليها)‪.‬‬ ‫ال�سينما والنقد‪ ،‬وبع�ضها يتعلق بتحويل‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪76‬‬


‫مدارات‬

‫كذلك بحوار ثالث مع عبدالفتاح الفي�شاوي‬ ‫ك��رام��ازوف‪ ،‬وم��دام بوفاري‪ ،‬والأف�لام كانت‬
‫عام (‪١٩٦٦‬م) يعترف قائ ًال‪( :‬كنت �أتوق للهرب‬ ‫جيدة في ذات��ه��ا‪ ..‬لكنها ال ُتقا�س بحال من‬
‫من الكتابة لل�سينما �إلى الكتابة الروائية‪ ..‬لأنها‬ ‫الأح ��وال بالأ�صل نف�سه‪ ..‬ر�أي��ي �أن الفيلم ال‬
‫الأحكام النقدية‬ ‫في ذلك الوقت ‪ -‬يق�صد �أثناء ممار�سة الكتابة‬ ‫يرتفع �إلى م�ستوى الكتاب �إال �إذا كان الكتاب‬
‫لنجيب محفوظ لم‬ ‫لل�سينما منذ (‪ ١٩٤٦‬وحتى ‪١٩٥٩‬م) ‪ -‬لم تكن‬ ‫عادي ًا‪ .‬ولي�س من كتب القمم‪ ،‬ذلك �أن الأعمال‬
‫ت�ستثن �أحداً حول‬
‫ِ‬ ‫تمنح الكاتب حريته‪ ،‬وال ت�ؤكد كرامته‪ ،‬ولما‬ ‫الأدبية القيمة يغلب عليها العمق وال�شمول‪،‬‬
‫عانيته من المنتج الذي يفر�ض الأفكار الفجة‪،‬‬ ‫وفيها فكر وفل�سفة‪ ،‬ونقد جدي للحياة‪ ،‬و�إذا‬
‫تحويل رواياته‬ ‫والم�شاهد المبتذلة‪ ..‬ولما عانيته من البطلة‪،‬‬ ‫حمل فيلم بكافة هذه القيم‪ ،‬ثقل على الجمهور‪،‬‬
‫لل�سينما‬ ‫التي كانت ُت�صر على �أن يكون دورها ح�سب‬ ‫لدرجة تطيح به‪ ،‬ولم تنجح تجربة واحدة في‬
‫هواها)‪.‬‬ ‫ال�سينما بهذا ال�شكل حتى الآن‪.»..‬‬
‫ثم‪ ،‬يلتم�س العذر �أحيان ًا للنقاد‪ ،‬فيبرر‬ ‫لماذا �أده�شني �أي�ض ًا الحكم الذي �أ�صدره‬
‫هجومهم على الأفالم المقتب�سة من رواياته‪،‬‬ ‫محفوظ على النقاد؟ لأن مقا ًال مهم ًا وبليغ ًا‬
‫�إذ يقول في حواره مع مفيد فوزي‪( :‬الم�شكلة‬ ‫له بعنوان «هل ق�ضت ال�سينما على الم�سرح»‪..‬‬
‫كانت له تحفظات‬ ‫�إن النا�س ت��روح تتفرج على فيلم مكتوب‬ ‫يقول فيه �إن (ال�سينما ُخلقت في �أح�ضان‬
‫�أو�ضحت عدم‬ ‫عليه ق�صة نجيب محفوظ‪ ،‬م��ع �إن��ه ممكن‬ ‫الت�سلية بينما خلق الم�سرح ف��ي �أح�ضان‬
‫يتقال «عن ق�صة نجيب محفوظ» وهذا مباح‬ ‫المعابد‪ ..‬وخ�ضوع ال�سينما دائم ًا للجمهور‬
‫ر�ضاه مع مخرجيها‬ ‫و�شرعي‪ ،‬ده يح�صل في �أوروبا‪ ..‬الفيلم يمكن‬ ‫يجعلها ت�ضحي بالفن ف��ي �سبيل النجاح‪.‬‬
‫ومنتجيها و�ص ّناعها‬ ‫ا�سمه «الزوبعة ال�سوداء»‪ ،‬وم�أخوذ عن رواية‬ ‫تاريخي ًا الم�سرح �أع ��رق م��ن ال�سينما‪ ،‬لكن‬
‫ا�سمها «البحر الهائج»‪ ..‬فالناقد معذور‪..‬‬ ‫�إغ��راق ال�سينما بالأفالم �صرف الجمهور عن‬
‫طبعا المخرج بيقول‪� :‬أنا حاديك كتاب فالن‪..‬‬ ‫الم�سرح الذي هو بطبعه جمهور محدود مقارنة‬
‫تروح ت�شوف الفيلم ما تلقهو�ش كتاب فالن‪،‬‬ ‫بجمهور ال�سينما‪� .‬أي�ض ًا راعت ال�سينما المبادئ‬
‫والمخرج هنا غلطان‪ ،‬لأنه المفرو�ض‪� ،‬أنه قر�أ‬ ‫الأ�سا�سية في نجاح الم�سرح فلج�أت �إلى �ألوان‬
‫ر�أى الفرق بين‬ ‫كتاب فالن‪ ،‬وبعدين اجتهد اجتهاداً خا�ص ًا‬ ‫من الميلودراما‪ ،‬ولج�ؤوا للم�سرحيات الغنائية‬
‫ال�سينما والم�سرح‬ ‫في التعبير عنه‪� ،‬أن��ا هنا كناقد‪� ،‬أحا�سبه‬ ‫والراق�صة‪ ،‬و�أ�صبح الرق�ص �سمة �أ�سا�سية‬
‫في �أن الأولى وجدت‬ ‫على اجتهاده‪� .‬أيوه المخرج هنا م�ؤلف جديد‬ ‫في نجاح ال�سينما‪ ،‬وحر�ص المنتجون على‬
‫خ َّالق‪ .‬يعني باخت�صار كلمة «عن» ت�صد عن‬ ‫اال�ستعانة ب�أ�شهر الراق�صات ل�ضمان �إنتاجهم‬
‫في �أح�ضان الت�سلية‪،‬‬ ‫المخرج بالوي كثيرة)‪.‬‬ ‫ال�سينمائي)‪.‬‬
‫بينما الم�سرح في‬ ‫�إذاً‪ ،‬نجيب محفوظ الأدي����ب الم�صري‬ ‫�إ�ضافة �إل��ى ر�أي �آخ��ر يقدم فيه محفوظ‬
‫�أح�ضان المعابد‬ ‫الحائز نوبل ‪ -‬ال��ذي و�صفه �صالح جاهين‬ ‫مالحظاته النقدية على الحوار ال�سينمائي‬
‫ب�أنه‪�« :‬ضمير م�صر‪ ..‬ووجدانها» ‪�َ -‬ش َّخ�ص‬ ‫قائ ًال‪�( :‬أعلن بال مواربة �أن الحوار بهذه الأفالم‬
‫بو�ضوح بع�ض جوانب �أزم��ة ال�سينما بم�صر‪،‬‬ ‫الم�صرية لي�س �سينمائي ًا‪ .‬هناك حقيقة تقول �إن‬
‫بانتقاده للفن ال�سينمائي ع��ام (‪١٩٥٩‬م)‪،‬‬ ‫الحوار �شيء‪ ..‬والكالم �شيء �آخر‪ ..‬الحوار ال بد‬
‫وحتى منت�صف ال�ستينيات‪ ،‬لكنه يعود فينتقد‬ ‫�أن يكون ُمركزاً‪ ..‬يقوم بوظيفة درامية محددة‪،‬‬
‫بذكاء حر�ص على �أن‬ ‫بق�سوة �أحكام و�آراء النقاد ب�ش�أن الأف�لام في‬ ‫الكلمة في الحوار ُتو�ضع في الفيلم‪ ،‬حيث تعجز‬
‫ال�سبعينيات‪ ،‬فهل حدثت طفرة �سينمائية في‬ ‫جميع الو�سائل ال�سينمائية عن التعبير‪� ..‬أما‬
‫يحافظ على الم�سافة‬ ‫ذلك العقد‪ ،‬جعلت �أديبنا ُيبدل ر�أي��ه وينحاز‬ ‫ح��وار �أفالمنا �أو معظمه‪ ،‬فهو (رغ��ي رغ��ي)‪..‬‬
‫بينه وبين �صناع‬ ‫لل�سينما والجمهور �ضد النقاد؟! هل النقد‬ ‫ده �ساعات تلقى فيه حوار عل�شان يهربوا من‬
‫�أفالمه فكان نقده‬ ‫ال�سينمائي خالل ذلك العقد كان يمر ب�أزمة‬ ‫المناظر �أو اال�ستعانة بالكاميرا‪ ..‬عجز طبع ًا‪.‬‬
‫حقيقية؟ �أم �أن��ه التحيز الإيديولوجي وعدم‬ ‫�أم��ا نقطة �ضعف ال�سينما الم�صرية فتتمثل‬
‫مهذب ًا‬ ‫التفريق بين الفن وال�سيا�سة؟! ت�سا�ؤالت تحتاج‬ ‫في افتقادها للم�ؤلف ال�سينمائي‪ ،‬الذي يكتب‬
‫�إلى درا�سات عديدة لتقديم �إجابات �شافية‪.‬‬ ‫الق�صة ال�سينمائية الخال�صة لل�سينما)‪.‬‬

‫‪77‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫روائية مجهولة ت�شغل العالم‬

‫«�إيلينا فيرانتي»‬
‫مازالت تختبئ وراء ا�سمها الم�ستعار‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪78‬‬


‫�أ�ضواء‬

‫ما زالت الروائية الإيطالية (�إيلينا فيرانتي) ت�شغل الإعالم‬


‫في �إيطاليا والعالم‪ ،‬وت�ضع ال�صحافيين والنقاد‪ ،‬وماليين‬
‫القراء في �أكثر من �أربعين لغة ترجمت �أعمالها �إليها‪� ،‬أمام‬
‫م�س�ألة هويتها الحقيقية بعدما قررت االختباء وراء اال�سم‬
‫روايتان جديدتان‬ ‫الم�ستعار(�إيلينا فيرانتي)‪ .‬وي�شعر ال�صحافيون بحال من‬
‫ترجمتا �إلى العربية‬ ‫عبده وازن‬
‫الحرج‪ ،‬كلما كتبوا عنها وعن رواياتها‪ ،‬ب�سبب عدم وجود �أي‬
‫بعد رباعيتها عن‬ ‫�صورة �شخ�صية لها �أو بورتريه‪ ،‬فهي مجهولة تماماً‪ ،‬وتمكنت من الحفاظ على هذه‬
‫مدينتها المف�ضلة‬ ‫ال�سرية التامة في زمن ت�سوده الثقافة الب�صرية وتهيمن عليه �سطوة ال�صورة‪.‬‬
‫(نابولي)‬
‫عنوان ًا عام ًا هو (�صديقتي المذهلة)‪ ،‬وهو عنوان‬ ‫وبعد �أكثر من ع�شر رواي��ات حققت نجاح ًا‬
‫الجزء الأول‪ ،‬وتاله الجزء الثاني (حكاية اال�سم‬ ‫عالمي ًا باهراً‪ ،‬وبلغت �أرقام مبيعات هائلة في‬
‫الجديد)‪ ،‬والثالث (الهاربون والباقون)‪ ،‬والرابع‬ ‫اللغات التي ترجمت �إليها‪ ،‬ت�صر هذه الروائية‬
‫(حكاية الطفلة ال�ضائعة)‪ .‬ولئن كانت دار الآداب‬ ‫الإيطالية‪ ،‬ابنة مدينة نابولي‪ ،‬التي يقول نا�شرها‬
‫ح�صلت على حقوق ترجمة �أعمال (فيرانتي) �إلى‬ ‫الإيطالي �إنها من مواليد (‪1943‬م)‪ ،‬على العي�ش‬
‫العربية‪ ،‬ف�إن (دار كلمة) التابعة لهيئة �أبوظبي‬ ‫في الظل وع��دم ك�شف ا�سمها‪ .‬وكانت �صحيفة‬
‫لل�سياحة والثقافة‪ ،‬كانت قد �أ�صدرت لفيرانتي‬ ‫(التايمز) الأمريكية �أدرج��ت ا�سمها في قائمة‬
‫رواي��ة (االبنة الغام�ضة) عام (‪2016‬م)‪ ،‬وقد‬ ‫المئة �شخ�صية الأكثر ت�أثيراً في العالم للعام‬
‫ال توجد �أي �صورة‬ ‫�أن��ج��زت الترجمة �شيرين ح��ي��در‪ ،‬وال�لاف��ت �أن‬ ‫(‪2016‬م)‪ ،‬مما يعني �أنها ا�ستطاعت من وراء‬
‫فيرانتي باتت مقروءة جداً في الوطن العربي‪،‬‬ ‫قناعها‪� ،‬أن ت�ؤثر في القراء وفي ذائقتهم‪.‬‬
‫�شخ�صية لها �أو‬ ‫وبات القراء ينتظرون �صدور �أعمالها المترجمة‪.‬‬ ‫قد يكون ال�س�ؤال عن هوية (�إيلينا فيرانتي)‪،‬‬
‫(بورتريه) وال �أحد‬ ‫تدور رواية (حياة البالغين الكاذبة) في مدينة‬ ‫فيرانتي) المجهولة خير مدخل للكالم‬ ‫و(�إيلينا ّ‬
‫يفك �سر �إخفائها‬ ‫نابولي مثل كل روايات فيرانتي‪ ،‬وبطلتها تدعى‬ ‫عن روايتيها الجديدتين ال�صادرين حديث ًا في‬
‫ل�شخ�صيتها الحقيقية‬ ‫مدر�سان‪.‬‬‫جوفانا‪ ،‬وهي ابنة وحيدة لأب و�أم هما ّ‬ ‫ترجمة عربية عن دار الآداب‪ ،‬وهما‪( :‬حياة‬
‫تعي�ش جوفانا طفولة �سعيدة في الأحياء الراقية‬ ‫البالغين الكاذبة) (ترجمة معاوية عبدالمجيد)‪،‬‬
‫العليا‪ ،‬لكنها ُت�صعق ذات يوم عندما‬‫من نابولي ُ‬ ‫و(�أيام الهجران) (ترجمة �شيرين حيدر)‪ .‬وهاتان‬
‫ت�سمع حديث ًا بين والديها‪ ،‬وفيه يقارنها والدها‬ ‫الروايتان تكمالن �أعمال (فيرانتي) بعد ترجمة‬
‫بعمتها القبيحة وال�سيئة التي تدعى فيتوريا‪.‬‬ ‫رباعيتها ال�شهيرة بالعربية‪ ،‬التي تو�صف‬
‫وما �إن تكبر جوفانا حتى تبد�أ في البحث عن‬ ‫بـ(رباعية نابولي) هذه الرباعية التي ت�ضاف‬
‫العمة فيتوريا في �شوارع نابولي ال�سفلى‪ ،‬التي‬ ‫�إلى م�سار الرباعيات الروائية في الأدب العالمي‪،‬‬
‫ي�سكنها �أنا�س دني�ؤون ومبتذلون و�أ�شرار‪ .‬وهكذا‬ ‫ومنها (رباعية الإ�سكندرية) للروائي البريطاني‬
‫وف��ي عالم من ال�صراعات النف�سية والعائلية‬ ‫�ألك�سندر داريل‪� .‬أما الروايات الأربع فهي حملت‬
‫واالجتماعية‪ ،‬يبرز‬
‫حققت نجاح ًا عالمي ًا‬ ‫ه��اج�����س ال��ب��ح��ث عن‬
‫الهوية واالنتماء‪ ،‬بل‬
‫باهراً بعد ع�شر‬ ‫ع��ن ال��ب��و���ص��ل��ة التي‬
‫روايات و�أدرج ا�سمها‬ ‫تر�شد البطلة ال�صغيرة‬
‫�ضمن قائمة المئة‬ ‫اب ��ن ��ة االث ��ن ��ي ع�شر‬
‫�شخ�صية الأكثر‬ ‫ع��ام�� ًا‪� ،‬إل���ى عمتها‪،‬‬
‫ف��ي��م��ا ه���ي ت��ع��ان��ي‬
‫ت�أثيراً في العالم‬ ‫ي�صعوبة االن��ت��ق��ال‬
‫من عمر الطفولة �إلى‬
‫ال ��م ��راه ��ق ��ة‪ .‬فطيف‬
‫العمة ي�سكن مخيلتها‬
‫م���ن���ذ �أن ���س��م��ع��ت‬
‫من م�ؤلفاتها‬

‫‪79‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫لورن�س داريل‬ ‫معاوية عبد المجيد‬ ‫فلوبير‬
‫والتخيل‪ ،‬وبع�ضها خارجي عماده الحركة‬ ‫ّ‬ ‫التذكر‬
‫ّ‬ ‫حوار والديها عنها في طفولتها‪ .‬وبين حالتين‬
‫وال�سير وم�شاهدة التلفزيون وكتابة الر�سائل �إلى‬ ‫نف�سيتين متناق�ضتين‪ ،‬تت�أرجح جوفانا‪ ،‬فت�سقط‬
‫الزوج‪ ،‬و�أملها �أن تتمكن من ا�ستعادته و�إعادته‬ ‫تارة في دوامة ال�ضياع وتنه�ض طوراً‪ ،‬لتكت�شف‬
‫الى الحياة الزوجية‪.‬‬ ‫حيا َة البالغين الكاذبة‪ ،‬الهثة وراء �أجوبة تدلها‬
‫ت�شكل (�إيلينا فيرانتي) ظاهرة فريدة في‬ ‫�إل��ى الطريق ال��ذي يو�صلها ال��ى الحقيقة‪� .‬أما‬
‫تف�ضل العي�ش في‬ ‫الأدب الإيطالي والعالمي‪ ،‬لي�س الختفائها و�إخفاء‬ ‫فيتوريا العمة الفظة والقا�سية والحادة الطباع‬
‫ا�سمها و�صورة وجهها فح�سب‪ ،‬بل في تناولها‬ ‫والكالم‪ ،‬فهي ام��ر�أة عادية ج��داً‪ ،‬غير متعلمة‪،‬‬
‫الظل على رغم �أنها‬ ‫الروائي ال�شامل لمدينة تاريخية هي نابولي‪.‬‬ ‫وبعيدة عن الحياة االجتماعية الالئقة‪ .‬فيتوريا‬
‫ظاهرة فريدة في‬ ‫وتكاد هذه المدينة التي د�أبت الروائية على ك�شف‬ ‫هي العمة التي يجب �أن تنزل جوفانا �إلى نابولي‬
‫الأدب الإيطالي‬ ‫�أ�سرارها و�أ�سرار نا�سها وطبقاتها و�أمكنتها‪� ،‬أن‬ ‫(ال�سفلى) للبحث عنها ولقائها‪ ،‬وهنا تبدو نابولي‬
‫والعالمي‬ ‫تكون بطلة من البطالت في كل الروايات‪ .‬وت�ؤثر‬ ‫ال�سفلى �أو نابولي العمة مدينة فقيرة طافحة‬
‫فيرانتي �أن تف�صل بين حياتها وكتبها‪ ،‬معتبرة‬ ‫بالروائح الكريهة وال�ضجيج والكالم البذيء‬
‫� ّأن على الكلمات‪� ،‬أن تخو�ض رحلتها بمفردها‬ ‫الذي يطلقه النا�س في ال�شارع‪ .‬هذا المكان الذي‬
‫من دون �أن يرافقها كاتبها‪ ،‬فال �ضرورة للك�شف‬ ‫تجهله البطلة ال�صغيرة ي�صبح حافزاً على رحلة‬
‫اليومية وظروفها‬
‫ّ‬ ‫هويتها وتفا�صيل حياتها‬ ‫عن ّ‬ ‫الكت�شاف الذات‪ ،‬تتحقق خاللها القفزة من براءة‬
‫المعي�شية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطفولة �إلى مرحلة الن�ضج‪ ،‬ومن الوعي البريء‬
‫ح�����اول�����ت م ��ج�ل�ات‬ ‫�إلى اكت�شاف الالوعي المجهول‪.‬‬
‫و�صحف عالمية �إق��ام��ة‬ ‫�أما رواية (�أيام الهجران) فتنطلق من اللحظة‬
‫ح�������وارات م���ع (�إي��ل��ي��ن��ا‬ ‫يقرر فيها (م��اري��و) فج�أة هجر زوجته‬ ‫التي ِّ‬
‫فيرانتي) ولكن من بعيد‪،‬‬ ‫�أولغا‪ ،‬مع طفلين وكلب‪ ،‬بعد خم�سة ع�شر عام ًا‬
‫�أي عبر الإنترنت‪ ،‬لكن قلة‬ ‫من الزواج‪ .‬حينذاك تقرر �أولغا القيام برحلة �إلى‬
‫قليلة منها تمكنت من‬ ‫عالمها الداخلي و�أ�سرارها ونوازعها النف�سية‪،‬‬
‫�إج��راء حوار‪ ،‬ومنها مجلة‬ ‫كا�شفة ه�شا�شتها‪ ،‬وعجزها عن التعامل مع‬
‫مجلة «لوب�س» الأ�سبوعية‬ ‫طفليها ومع المجتمع والعالم عموم ًا‪ .‬ولئن ك�شف‬
‫الفرن�سية ال�شهيرة العام‬ ‫القرار المفاجئ للزوج بالهجر‪� ،‬شخ�صيته المتق ّلبة‬
‫(‪2018‬م)‪ ،‬واعتبر الحوار‬ ‫والم�ضطربة وغير المتوازنة‪ ،‬نتيجة الق�سوة التي‬
‫ح��دث� ًا كبيراً‪� ،‬أو«خبطة»‬ ‫واجهها في طفولته وراهقته وحتى في �شبابه‪،‬‬
‫�صحافية‪ ،‬فالحوار كان‬ ‫ف�إن الزوجة تحاول �أن ت�ستوعب حقيقة �شخ�صيته‬
‫طوي ًال وتم عبر الإنترنت‬ ‫بهدوء‪ ،‬فتحكم ت�صرفها‪ ،‬متفهمة الموقف ال�صعب‬
‫طبع ًا‪ ،‬ومن خالل النا�شر‬ ‫والمعقد‪ ،‬وتقنع نف�سها بحجج ممكنة‪ ،‬وهمها‬
‫الإي ��ط ��ال ��ي‪ ،‬ال����ذي يملك‬ ‫الأول هو ا�ستعادة الزوج‪ .‬تعتمد الزوجة �أ�ساليب‬
‫مفتاح �أ�سرارها‪ .‬وتميز هذا‬ ‫عدة بغية المواجهة‪ ،‬بع�ضها نف�سي قائم على‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪80‬‬


‫�أ�ضواء‬

‫ك�شفت �أ�سرار مدينتها‬


‫(نابولي) وطبيعة‬
‫حياة النا�س فيها‬
‫�إجتماعي ًا وثقافي ًا‬
‫ومادي ًا‬
‫الرباعية ومن �ضمنها (حكاية اال�سم الجديد)‬ ‫الحوار‪ ،‬في كونه رافق نهاية الرباعية الروائية‬
‫(الجزء الثاني)‪ ،‬و(الهاربون والباقون) (الجزء‬ ‫التي ت�سمى «رباعية نابولي» مع �صدور ترجمة‬
‫الثالث)‪ ،‬هي رباعية هاتين ال�صديقتين في ما‬ ‫الجزء الأخير منها وعنوانه «الفتاة ال�ضائعة»‪.‬‬
‫عا�شتا وعانتا وواجهتا من �أزمات و�أحداث‪ ،‬فهي‬ ‫وردت فيرانتي بحزم على �س�ؤال حول �إمكان‬
‫�أي�ض ًا وكما �أ�شرت �سابق ًا‪ ،‬رباعية مدينة نابولي‬ ‫كتابة جزء خام�س‪ ،‬مما يجعل الرباعية خما�سية‬
‫الإي��ط��ال��ي��ة‪ .‬تح�ضر هنا مدينة (ن��اب��ول��ي) في‬ ‫وق��ال��ت‪( :‬انتهت حكاية ليال ولينا)‪ .‬وهاتان‬
‫�أماكنها و�أحيائها وحاراتها و�أبنيتها و�شاطئها‬ ‫ال�شخ�صيتان هما اللتان �شغلتا ماليين القراء في‬
‫وبحرها‪ ،‬وبنا�سها و�شخ�صياتها‪ ،‬بفقرها وعنفها‬ ‫العالم‪ ،‬وجعلتهم يقبلون على انتظار الجزء تلو‬
‫�أجرت حواراً واحداً‬ ‫و�صراعها الطبقي واالجتماعي وال�سيا�سي‪،‬‬ ‫الجزء من هذه الرباعية الروائية الفريدة‪ .‬وكان‬
‫ان��ط�لاق� ًا م��ن الخم�سينيات‪ .‬ل��م تكن نابولي‬ ‫�صدور الجزء الأول من الرباعية العام (‪2011‬م)‬
‫عن بعد مع مجلة‬
‫مجرد خلفية للرباعية �أو جدارية ت�ضم الوقائع‬ ‫وعنوانه «�صديقتي المذهلة» فاتحة ال�شهرة‬
‫(لوي�س) اعترفت‬ ‫والأحداث‪ ،‬بمقدار ما كانت �شخ�صية رئي�سية �أو‬ ‫الرهيبة التي تتمتع بها هذه الكاتبة المجهولة‬
‫فيه بت�أثرها‬ ‫بطلة‪ .‬وتقول (فيرانتي) في حوارها‪�( :‬أ�شعر اليوم‬ ‫وما جلبت لها من ثروة و«مجد» و�سطوة‪ ،‬وهي‬
‫بالكاتبة �إلي�سا‬ ‫�أن العالم كله هو نابولي)‪.‬‬ ‫قدر لها يوم ًا �أن‬‫حتم ًا لن تقدر على تحملها لو ّ‬
‫في ال��ح��وار ال�صحافي مع مجلة (لوب�س)‬ ‫تخرج �إلى العلن وت�شهر هويتها الحقيقية‪ .‬هذه‬
‫مورانتي‬
‫والذي يعد مرجع ًا لفهم عالم الروائية‪ ،‬تحدثت‬ ‫ال�شهرة �ستكون عبئ ًا كبيراً على (�إيلينا فيرانتي)‬
‫(�إيلينا فيرانتي) عن تفا�صيل رباعيتها وكيف‬ ‫�إذا هي قررت يوم ًا �أن ت�سقط القناع عن وجهها‪.‬‬
‫خطرت لها فكرة كتابتها وموا�صلة �أجزائها‬ ‫هذا الوجه الذي تخفيه الكاتبة جعلت بطلتها‬
‫والمعاناة التي كابدتها خالل الكتابة‪ ،‬وعن‬ ‫ال�شهيرة (ليال) تخفيه �أي�ض ًا‪ ،‬ولكن بعدما �أنجزت‬
‫�شخ�صيتيها الرئي�سيتين (لينا ول��ي�لا) وعن‬ ‫ما طمحت �إليه من حياة �صاخبة وغريبة الأطوار‪.‬‬
‫ال��روائ��ي��ات وال��روائ��ي��ي��ن ال��ذي��ن ت ��أث��رت بهم‪،‬‬ ‫هل تقلد البطلة الكاتبة �صاحبتها �أو �أبدعها‪� ،‬أم‬
‫واعترفت ب�أن في مقدمهم مواطنتها الروائية‬ ‫�أن الكاتبة لج�أت �إلى جعل هذه البطلة �شبيهة لها‬
‫الكبيرة �إلي�سا مورانتي‪ ،‬ثم (فلوبير) وخ�صو�ص ًا‬ ‫في �إخفاء وجهها وق�ص مالمحه من كل ال�صور‪،‬‬
‫في (مدام بوفاري) ومارغريت دورا���س‪ ،‬وتحب‬ ‫التي تركتها في البيت ع�شية اختفائها ال�سري‪.‬‬
‫كثيراً �شخ�صي َتي �آنا كارنينا وجاين �آير‪ ...‬وعن‬ ‫ه��ذه الخاتمة ت�ستهل بها فيرانتي �أول‬
‫طق�س الكتابة لديها قالت‪�( :‬أكتب حيث ما �أكون‪،‬‬ ‫الرباعية‪� ،‬أي (�صديقتي المذهلة)‪ ،‬عبر ل�سان‬
‫ال مكان خا�ص ًا لي‪� .‬إنني �أميل �إلى الكتابة في‬ ‫الراوية التي لي�ست �إال ال�صديقة الأخ��رى لينا‪،‬‬
‫غرفة فارغة ذات جدران بي�ضاء �أو عارية‪ .‬عندما‬ ‫لا ثنائي ًا ف��ري��داً ف��ي تاريخ‬
‫وه��م��ا �شكلتا ف��ع� ً‬
‫�أكتب ال �أتوانى عن ن�سيان المكان الذي �أنا فيه)‪.‬‬ ‫الثنائيات الروائية‪ .‬تتبخر ليال فج�أة �آخذة معها‬
‫ومن �أجمل ما قالت‪ ،‬هي الكاتبة الأكثر �شهرة‬ ‫كل �آث��اره��ا بل كل ما ي��دل عليها ويثبت �أنها‬
‫في العالم‪( :‬خ�شيتي الكبيرة هي �أن �أ�شعر يوم ًا‬ ‫كانت هنا‪ .‬ومنذ تلك اللحظة‪ ،‬لحظة االختفاء‪،‬‬
‫وفج�أة‪ ،‬ب�أن تكري�س حياتي للكتابة ال معنى له‬ ‫تبد�أ لينا �سرد حكاية هذا الثنائي الذي �شكلته‬
‫بتات ًا‪ .‬لطالما خامرني هذا ال�شعور‪ ،‬و�أخاف من‬ ‫مع ليال التي كانت مختلفة كل االختالف عنها‪،‬‬
‫�إلي�سا مورانتي‬ ‫�أن يعاودني من جديد»‪.‬‬ ‫وك�أن الواحدة منهما تكمل الأخرى‪ .‬و�إن كانت‬

‫‪81‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫�أ�سئلة ال�شعر اليوم‬


‫د‪ .‬حاتم الفطنا�سي‬

‫�سببي ًا‪ ،‬متالزمين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مقترنين اقتران ًا ع ّلي ًا‬ ‫ناحية �أخرى؟ ما هي عالقته بــ(�أيب�ستيمي)‬ ‫لي�س ث� ّ�م��ة ك ��الإب ��داع‪ ،‬ك��ال��ف� ّ�ن‪ ،‬مثار‬
‫ال غنى ل�ل� ّأول عن الثاني وال للثاني عن‬ ‫بالمتقبل‬‫ّ‬ ‫الحداثة و�أ�سئلتها؟ ما هي عالقته‬ ‫للجدل وال ّتباين في المقاربات لمفهومه‬
‫والكونية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الخ�صو�صية‬
‫ّ‬ ‫ال ّأول‪ ،‬نق�صد‬ ‫تغير‬‫ّ‬ ‫دة‬ ‫متجد‬
‫ّ‬ ‫ال�شعر‪� ،‬أ�سئلة‬
‫(الجديد)؟ �أ�سئلة ّ‬ ‫تكونه وم�سارب دالالته‬ ‫وبنيته وهيئات ّ‬
‫الخ�صو�صية تح ّتمها ال�ضرور ُة‬ ‫ّ‬ ‫ق�ضايا‬ ‫�إهابها وتراوح بين القدامة والحداثة‪ ،‬وهي‬ ‫الفن‪،‬‬
‫ثمة كال�شعر‪ ،‬في ّ‬ ‫ومقا�صده‪ ،‬ولي�س ّ‬
‫أ�صل الأ�شياء و�إكراهات الواقع وال ّتاريخ‬ ‫و� ُ‬ ‫الوجود ف ّن ًا و�إبداع ًا‬
‫ُ‬ ‫يتع�سر بها‬
‫م�شكلة �أخرى ّ‬ ‫بتغير‬
‫وتغير الفهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫الر�ؤى‬ ‫مجال الختالف ّ‬
‫مقوالت‬‫ُ‬ ‫حددها‬ ‫الح�ضاري‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمح�ضن‬ ‫ومجتمع ًا وتفكيراً‪ ،‬بما ُتثيره من ردود‬ ‫�آلة الفهم وال ّت�شريح؛ � ّأي �آلة ال ّنقد‪ ،‬بدءاً من‬
‫والوجودي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثقافي‬ ‫ثقلها‬ ‫ل‬
‫االنتماء‪ّ ،‬‬
‫بك‬ ‫ردد لمقوالتها‪� ،‬إلى مت� ّأمل‬ ‫ومواقف‪ ،‬من ُم ِّ‬ ‫ال�شعر قديم ًا بالكيمياء‪ ،‬كناية عن‬ ‫ت�شبيه ّ‬
‫الكونية فتح ّتمها منزل ُة‬ ‫ّ‬ ‫� ّأم���ا ق�ضايا‬ ‫إحداثياتها‪ ،‬ناقد لم�آزقها‪ ،‬مف ّكك لبنيتها‬ ‫ّ‬ ‫في �‬ ‫وتنوع‬ ‫ّ‬ ‫ماهيته وخفاء م�صادره‬ ‫ّ‬ ‫(زئبقية)‬
‫ّ‬
‫الإن�سان و�آفاق المبدع والواقع المفرو�ض‪،‬‬ ‫مفرق بين حداثة و�أخرى‪ ،‬م�ؤمن‬ ‫و�إبداالتها‪ّ ،‬‬ ‫ُممكناته واخ��ت�لاف ينابيعه وملهماته‪،‬‬
‫�ادي ��ة وك��ون‬ ‫ف��ي ح��ي��اة اج��ت��م��اع� ّ�ي��ة وم � ّ‬ ‫ب�أ ّننا �إزاء (حداثات)‪ ،‬و�صو ًال �إلى َم ْن و َقع‬ ‫ال�سعي المحموم �إلى‬ ‫م��روراً بك ّل مراحل ّ‬
‫قيمي محكوم بمنجزات الحداثة‬ ‫ّ‬ ‫إبداعي‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫في الوهم‪ ،‬وهم الحداثة‪ ،‬انتهاء بمن ي�ؤمن‬ ‫(ع ْل َم َن ِته)‪ ،‬لم يت� ّأت ذلك ولن يت�أ ّتى‪ ،‬فقد‬ ‫َ‬
‫تنم َط العا َل ُم بفعل العولمة‬ ‫ومقوالتها‪ّ ،‬‬ ‫أدق‪� ،‬أ ّنها هي‬ ‫ب� ّأن الحداثة في مفهومها ال ّ‬ ‫ارتدت كثير من المحاوالت على �أعقابها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الجغرافيات‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬ ‫الحدود وغامت‬ ‫ُ‬ ‫وزالت‬ ‫ت�ضايف للأ�شكال‬ ‫ٌ‬ ‫حداثة االختالف‪ ،‬هي‬ ‫دوارة‪ ،‬هي‬ ‫ّ ّ‬ ‫ة‬‫ٌ‬ ‫كوني‬ ‫ة‬‫ٌ‬ ‫ا�ستعار‬ ‫ه‬‫ن‬‫ّ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫أقر‬
‫ف� ّ‬
‫�أ���ص��ب��ح ق��ري��ة �صغيرة واح���دة‪ ،‬اختلطت‬ ‫وتحاورها‪ ،‬عالم ًة على‬ ‫ُ‬ ‫وتجاورها‬ ‫ُ‬ ‫والر�ؤى‬
‫ّ‬ ‫ال�سبيل �إل��ى الإع�لان عن الوجود بما هو‬ ‫ّ‬
‫ال�سلوكات‪ ،‬وتماثلت‬ ‫القيم وت�شابهت ّ‬ ‫فيها ّ‬ ‫الحياة والحركة‪ ،‬بعيداً عن �أيديولوجيا‬ ‫موجود‪ ،‬عن عالم ال � ّذات حميم ًا مده�ش ًا‪،‬‬
‫مزية وطرائق الكتابة‪ ،‬ف��إذا‬ ‫الر ّ‬ ‫العوالم ّ‬ ‫الحداثة بوجهها (الما�سخ)‪� ،‬أو بوجهها‬ ‫لل ّتعبير عن حالة �أو موقف �أو �أطروحة �أو‬
‫�سحرها‬ ‫َ‬ ‫بالعولمة ِم ْ�س َط َر ًة لل ّتنميط تمار�س‬ ‫الآخر (ال ّنا�سخ)‪ .‬هكذا ينت�صب ال�س�ؤال �سبي ًال‬ ‫فكر‪ ،‬رموزه ت�ساعد على التج ّلي من ناحية‪،‬‬
‫الخ�صو�صيات‬
‫ُ‬ ‫ون��ف��و َذه��ا‪ ،‬حتى ت��ه� ّ�ددت‬ ‫الن�ص‪ ،‬وفهم ماهيته وطرائق‬ ‫ّ‬ ‫�إلى (تع ّقل)‬ ‫وعلى االحتجاب والتك ُّت ِم من ناحية ثانية‪،‬‬
‫خييلية لل ّأمم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ت‬
‫الثقافية والإبداعية وال ّ‬ ‫التكوينية و(مباهجه)‬ ‫ّ‬ ‫ولبناته‬ ‫ت�شكيله‬ ‫ويغلق‪ ،‬م�شدوداً �إل��ى وجهين‪:‬‬ ‫ب��اب ُيفتح ُ‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫بين هذين القطبين يعي�ش ال�شعر‬ ‫العملية‪ .‬وهو‬‫ّ‬ ‫المادية‬
‫ّ‬ ‫خييلية ومعيقاته‬ ‫ّ‬ ‫ال ّت‬ ‫أحدهما على‬ ‫(النافع)‪ ،‬و(الجميل)‪ُ ،‬يغ َّل ُب � ُ‬
‫م�أزق ًا بل م�آزق‪ .‬كيف له �أن يحافظ على‬ ‫�سوغ لنا ت�صنيف هذه الأ�سئلة وتنميطها‬ ‫ما ّ‬ ‫الآخ��ر‪ ،‬في ت��راوح عجيب‪ ،‬كثيراً ما يرتبط‬
‫(هويته) وهي ن�سغ وجوده؟ كيف يح�ضن‬ ‫ّ‬ ‫ع ّلها تكون (مفاتيح) لل ّناقد من ناحية‪،‬‬ ‫الح�ضاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وبال�سياق‬ ‫ّ‬ ‫رفية التاريخية‬ ‫بالظ ّ‬ ‫ّ‬
‫م�شاغل مجتمعه والعقل الذي �إليه ينتمي‪،‬‬ ‫وللمبدع من ناحية �أخ��رى‪ ،‬خم�سة �أ�سئلة‬ ‫أه����م �أ���س��ئ��ل��ة ال�شعر ال��ي��وم؟‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫�ي‬ ‫�‬ ‫ه‬ ‫�ا‬ ‫�‬ ‫م‬
‫في ك ّل الميادين‪ ،‬من جهة؟ وكيف يرتقي‬ ‫نقترحها‪ ،‬خم�سة مفاتيح‪:‬‬ ‫والمعرفية‬
‫ّ‬ ‫�ة‬‫�‬ ‫�ي‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫�دان‬‫�‬ ‫�وج‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫م��ا ه��ي وظائفه‬
‫�إل ��ى مرتبة ال��ك��ون� ّ�ي��ة بكل �إح��داث� ّ�ي��ات��ه��ا‬ ‫إ�شكالية‬
‫ّ‬ ‫الكونية‪ ..‬تنت�صب هذه ال‬ ‫ّ‬ ‫�س�ؤال‬ ‫يكولوجية؟ ما هي‬ ‫ّ‬ ‫وال�س‬
‫ّ‬ ‫و�سيولوجية‬
‫ّ‬ ‫وال�س‬
‫ّ‬
‫إيجابياتها؟ بك ّل وعودها‬ ‫ّ‬ ‫وتط ّلعاتها و�‬ ‫ئي�سية عموم ًا‪ ،‬م�شدودة �إلى طرفي جذب‪،‬‬ ‫الر ّ‬ ‫ّ‬ ‫حجر من‬ ‫ّ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫وبال‬ ‫ناحية‪،‬‬ ‫من‬ ‫بالمرونة‬ ‫عالقته‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪82‬‬


‫تجارب‬

‫ال�شعر‪ ،‬ف ّن ًا و�إنتاج ًا‬ ‫�شك � ّأن ّ‬ ‫�س�ؤال ال َّن ْ�شرِ‪ ..‬ال ّ‬ ‫و(ادعاتها) من جهة ثانية؟ �أين تظهر معالم‬ ‫ّ‬
‫وجد متعالي ًا ُع ْف ًال دون‬ ‫و�صناعة‪ ،‬ال يمكن �أن ُي َ‬ ‫(الكونية)‪ ،‬في الأ�شكال �أم في ال ّتقنيات �أم‬ ‫ّ‬
‫بالمتقبل‪ ،‬دون‬ ‫ّ‬ ‫م�شروط في وجوده‬ ‫ٌ‬ ‫تقبل‪ .‬هو‬ ‫ّ‬ ‫الح�ضارية‪� ،‬أم فيها‬ ‫ّ‬ ‫والهموم‬ ‫الق�ضايا‬ ‫في‬
‫�أ�سئلة ال�شعر تظل‬ ‫م�شروعية الوجود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يكت�سب‬ ‫به‬ ‫موقفه‪،‬‬ ‫اعتبار‬ ‫ال�سبيل �إلى (�أق��وم الم�سالك)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كيف‬ ‫؟‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫جميع‬
‫المنطقي‬
‫ّ‬ ‫كثير من ال�شعراء ارتباطهم‬ ‫و�إن رف�ض ٌ‬ ‫كيف يمكن ال ّتوفيق دون الوقوع في ال ّتلفيق‪،‬‬
‫ملحة تطرح �إ�شكالية‬ ‫فاوت بين الح�ضارات‬
‫عملية ال ّن�شر وال ّترويج‪،‬‬ ‫به‪ّ � ،‬أي هو في حاجة �إلى ّ‬ ‫في ع�صر مازال فيه ال ّت ُ‬
‫الجدل والتباين لأنه‬ ‫كك ّل منتوج‪ .‬فما هو َدور ُدور ال ّن�شر وال ّتوزيع؟‬ ‫والثقافات‪ ،‬برغم وع��ود العولمة وتهليلها‬
‫فن و�إبداع‬ ‫ما هي منجزاتها وتجديداتها لتي�سير �إقبال‬ ‫للندية والعدالة المزعومتين؟ هل يتم ّكن‬ ‫ّ‬
‫ال�شعر‪،‬‬ ‫المتلقي‪ /‬قارئ الكتاب على �شراء ُك ُت ِب ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬في ك ّل‬ ‫ّ‬ ‫اللغة‬ ‫ة‬ ‫ثم‬
‫ّ‬ ‫ومن‬ ‫العربي‬ ‫عر‬ ‫ال�ش‬
‫ّ‬
‫باعتبارها �سلع ًة ت َتداول � ّأو ًال‪ ،‬وباعتبارها‬ ‫مزي‪ ،‬من تحقيق‬ ‫ّ ّ‬ ‫الر‬ ‫إنتاجهما‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫تمظهراتهما‬
‫إن�سانية ال يخبو بري ُقها وال‬ ‫ّ‬ ‫فني ًا وتعبيرة �‬ ‫حق ًال ّ‬ ‫ثنائيات‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫ظ‬ ‫ه��ذه ال� ّ�ره��ان��ات الكبرى‪ ،‬ف��ي‬
‫أهمي ُتها للفرد والمجموعة‪ ،‬بل للكائن‬ ‫تت�ضاءل ّ‬
‫�‬ ‫أهمها‪ :‬االختالف وال ّتماثل‪� ،‬أو العالقة بين‬ ‫� ّ‬
‫الن�ص‬‫ّ‬ ‫ب�صفة �أع� ّ�م‪ .‬لماذا العزوف‪ ،‬على ن�شر‬ ‫الكوني؟‬
‫ّ‬ ‫الخا�ص والم�شترك‬ ‫ّ‬
‫تتمحور هذه الأ�سئلة‬ ‫عري؟ لماذا يلج�أ ال�شعراء �إلى ال ّن�شر في‬ ‫ال�ش ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعر‪ ،‬يوم ًا‪،‬‬ ‫النوعي‪ ..‬لم يكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫قاء‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ؤال‬ ‫س�‬ ‫�‬
‫م�صداقيتها‬‫ّ‬ ‫و�سائل ال ّتوا�صل الحديثة؟ ما مدى‬ ‫لغوي ًا ملغزاً �سليل الثقافة‪ ،‬التي‬ ‫ن�ص ًا ّ‬ ‫باعتباره ّ‬
‫حول ما هي وظائفه‬ ‫للن�ص وفي قراءة‬ ‫المعرفية‪ ،‬جن�س ًا‬ ‫وحقولها‬ ‫لبناتها‬ ‫تفرزه بك ّل‬
‫المتقبل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهليتها) في تقييم‬ ‫و(� ّ‬ ‫ّ‬
‫الوجدانية المعرفية‬ ‫قنية؟‬‫الفنية وال ّت ّ‬ ‫المخت�ص ومقاربته ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتلقي‬
‫ّ‬ ‫مما قد ُيخالطه من‬ ‫(نقي ًا)‪� ،‬أو جن�س ًا خال�ص ًا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وعالقته بالحداثة‬ ‫ما هي الإكراهات وفيم تتم ّثل الحلول؟‬ ‫فن‪.‬‬ ‫(�أجنا�س) �أو فنون �أخ��رى‪ .‬كذلك َق� َ�د ُر ك ّل ّ‬
‫���س ��ؤال ال ّترجمة‪ ..‬منذ القديم‪ ،‬وف��ي ك ّل‬ ‫فن ال يتخالط �أو يترا�شح بالفنون الأخرى‪.‬‬ ‫فال ّ‬
‫والمتق ّبل الجديد‬
‫ُ‬ ‫ال�شعر جمل ًة‬ ‫�سم‬ ‫الر‬ ‫ي�ستدعي‬ ‫لها‪،‬‬ ‫�د‬ ‫�‬ ‫ح‬ ‫ال‬ ‫ال�شعر‬ ‫)‬ ‫(�أخ�ل�اطُ‬
‫الثقافات‪ ،‬طرحت م�شكل ُة ترجمة ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ‬
‫الن�ص‬ ‫بع�ضها ب�إتقان لغة ّ‬ ‫من الإ�شكاالت‪ ،‬يتع ّلق ُ‬ ‫والق�ص والعمار َة والمو�سيقا وغيرها �إلى‬ ‫َّ‬
‫بع�ضها الآخر �إلى‬ ‫المترجم �إليها‪ ،‬ويعود ُ‬ ‫َ‬ ‫وال ّلغة‬ ‫ويكو ُن‬ ‫ّ‬ ‫وتترا�شح‬
‫ُ‬ ‫فتنت�سج‬
‫ُ‬ ‫ين�سجها‬ ‫مح�ضنه‪،‬‬
‫ال ّتباين بين العالمين (�أنثروبولوجي ًا)‪ ،‬بك ّل‬ ‫يغيم‬
‫ُ‬ ‫)‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ع‬ ‫(جم‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫�د‬
‫�‬ ‫واح‬ ‫ن�ص ًا من�سجم ًا‬ ‫المختلف ّ‬ ‫ُ‬
‫الطبيعة والمعتقدات‬ ‫معاني االختالف‪ ،‬في ّ‬ ‫ك�شف �أ�سرار‬ ‫ُ‬ ‫وي�ستع�صي‬ ‫ناته‬ ‫مكو‬
‫�سداه و َ ُ ّ‬
‫ِين‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ُ‬
‫من �أهمها �س�ؤال‬ ‫وط��رائ��ق العي�ش و�آف���اق ال ّتفكير وال ّتخييل‬ ‫عجيب‬ ‫ٍ‬ ‫�إن�شائه‪ ،‬يعلن عن نف�سه‪ ،‬على نح ٍو‬
‫الكونية والنقاء‬ ‫وال ّتعبير‪ ،‬يعود �إلى اال�ستعارات التي يحيا بها‬ ‫أهليته وكفاءته‬ ‫ويوهم ب�أ ّنه هو فقط‪ .‬فما هي � ّ‬
‫أهم من ك ّل ذلك جميع ًا‪ ،‬هو‬ ‫الإن�سان‪ .‬ولع ّل ال ّ‬ ‫ثمة ما‬ ‫رد االختالف �إلى االئتالف؟ وهل ّ‬ ‫في ّ‬
‫النوعي والتحوالت‬ ‫الن�ص الملغز‬ ‫هذا‬ ‫بطبيعة‬ ‫الإ�شكال المرتبط‬ ‫يجمع بين الفنون؟‬
‫ّ‬
‫والن�شر والترجمة‬ ‫الم�ستع�صي‪ ،‬ال ُت ْه َت ُك �أ�سراره وال ُت َف ُّك �شيفرا ُته‬ ‫التطورات‬ ‫ّ‬ ‫�س�ؤال ال��ت��ح� ّ�والت‪ ..‬لقد �أث��ارت‬
‫مما يجعل‬ ‫�إ ّال بمح�ض ال��ت �� ُّأول واالج��ت��ه��اد‪ّ ،‬‬ ‫العربي‬
‫ّ‬ ‫والم�ضمونية‪ ،‬التي عا�شها ال�شعر‬ ‫ّ‬ ‫الفنية‬
‫ّ‬
‫فردي ًا ال يعدو‬ ‫ّ‬ ‫ال ّترجمة (محاول ًة) بل جهداً‬ ‫نقدية متباينة‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫مواقف‬ ‫الع�صور‬ ‫�ر‬
‫على ّ‬
‫�‬ ‫م‬
‫�أن يكون �إ ّال واح��داً من بين ترجمات �أخرى‬ ‫أيب�ستيمي‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫بالتطو‬
‫ّ‬ ‫مرتبطة‬ ‫ها‬ ‫�شك �أ ّن‬ ‫ّ‬
‫الن�ص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيتحول‬
‫ّ‬ ‫ممكنة‪ّ � ،‬أي ت�أويالت �أخ��رى‪.‬‬ ‫ت�شهدها منظوم ُة المعرفة‪ ،‬عند العرب وعند‬
‫حرفية �إلى قراءة‬ ‫ّ‬ ‫الذي ال مكان فيه لترجمة‬ ‫غيرهم‪ ،‬م�شدودة �إلى البيئة التي يتخ ّلق فيها‬
‫تكمن �إ�شكالية هذه‬ ‫ومقاربة‪ .‬وك ّل قراءة �أو مقاربة قد تكون َم ْدعا ًة‬ ‫ال�شعري‪ ،‬لك ّنها مدقوق ٌة في ال ّذاكرة‬ ‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬
‫الأ�سئلة في �أنها‬ ‫(الن�سبية)‪ ،‬وهو مبد�أ قد ي� ّؤدي‬ ‫ّ‬ ‫�إلى القول بمبد�أ‬ ‫الجمعية ونمو َذجِ ها ال ْأو َف��ى‪ ،‬مرتبطة بالجدل‬ ‫ّ‬
‫ي�سه‪.‬‬ ‫ي�سه �أو َت ْق ِد ِ‬ ‫الن�ص المترجم‪َ ،‬ت ْب ِخ ِ‬ ‫�إلى تغيير ّ‬ ‫بين م��ق��والت ال��ح��داث��ة وم��ق��والت ال��ق��دام��ة‪،‬‬
‫متجددة تغ ِّير �إهابها‬
‫ال�شعر؟ وكيف‬ ‫أهم العقبات في ترجمة ّ‬ ‫فما هي � ّ‬ ‫ففيم تتم ّثل هذه‬ ‫والعالقة بين (الأنا والآخر)‪َ .‬‬
‫وتراوح بين القدامة‬ ‫ال�صيغ و�أقربها �إلى مناخ‬ ‫ال�سبيل �إلى �أف�ضل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال��ت��ح� ّ�والت؟ وم��ا ه��ي م�ستوياتها؟ وم��ا هي‬
‫والحداثة‬ ‫أ�صلي؟ وهل ما يترجمه العرب من‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫�أه� ّ�م مراحل �سيرورتها؟ وكيف نحكم لها �أو‬
‫عملية ال ّترجمة تبقى‬ ‫ّ‬ ‫�اف؟ �أم � ّأن‬ ‫�شعرهم ك� ٍ‬ ‫فتتغير‬ ‫ّ‬ ‫غير �إهابه ك ّل هنيهة‪،‬‬ ‫عليها في عالم ُي ّ‬
‫مولع �أبداً‬ ‫ٌ‬ ‫(المغلوب‬
‫ُ‬ ‫الخلدونية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أ�سير َة المقول ِة‬ ‫� َ‬ ‫وق َيم ُه‬ ‫وتتغير من َث َّم رهانا ُت ُه ِ‬ ‫ّ‬ ‫و�سائل تعبيره‬ ‫ُ‬
‫باالقتداء بالغالب)؟‬ ‫الجمالية؟‬
‫ّ‬

‫‪83‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫فك �شيفرة جوي�س وترجمه �إلى العربية‬

‫د‪ .‬طه محمود طه‪:‬‬


‫جوي�س مبدع �شامل كتب بلغة جديدة‬

‫�أكتب اليوم عن مترجم كبير �أم�ضى ُجل عمره في عالم‬


‫ال��ك��ات��ب الأي��رل��ن��دي ال�شهير (جيم�س ج��وي�����س) يفك‬
‫�شيفرته‪ ،‬ثم ينقله �إل��ى العربية في ترجمات �ستخلد‬
‫مع الأزم��ان‪� ،‬أكتب عن الدكتور طه محمود طه‪� ،‬صاحب‬
‫(مو�سوعة جيم�س جوي�س)‪ ،‬ال�صادرة عن جامعة الكويت‬
‫م�صطفى عبداهلل‬
‫(‪1975‬م)‪ ،‬وم��ت��رج��م رواي���ة (عولي�س) ال��ت��ي �صدرت‬
‫عن (المركز العربي للبحث والن�شر) بالقاهرة في مجلدين (‪1982‬م)‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪84‬‬


‫وجوه‬

‫تقع في �أربعة وع�شرين مجلداً‪ ،‬و�أما الثالث فهو‬ ‫والدكتور طه محمود طه ال��ذي عرفته عن‬
‫جيم�س جوي�س ال��ذي �أخ��رج مجموعة ق�ص�ص‬ ‫قرب في �أواخ��ر ال�سبعينيات من القرن الفائت‬
‫ت�سمى (�أه ��ل دب��ل��ن) �أو (الدبلنيون) – ح�سب‬ ‫من مواليد ع����ام(‪1929‬م)‪ ،‬وق��د رح��ل عنا في‬
‫�أهم عمل في حياته‬ ‫الترجمة – ثم هذه الرواية (‪ )Ulysses‬التي‬ ‫عام (‪2002‬م)‪ ،‬كان �أ�ستاذاً للأدب الإنجليزي‬
‫اختار �أن يترجمها طه محمود طه �إلى العربية‪:‬‬ ‫في جامعة عين �شم�س بالقاهرة‪ ،‬وح�صل منها‬
‫كتابه (الرواية‬ ‫(عولي�س)‪..‬‬ ‫على درجة الماج�ستير‪ ،‬ثم �أتيحت له فر�صة ال�سفر‬
‫الإنجليزية من‬ ‫و�أهمية جيم�س جوي�س الأدبية يعرفها جيداً‬ ‫في بعثة �إلى �أيرلندا‪ ،‬فق�صد (دبلن) لجمع مادة‬
‫بيولف �إلى �ألدو�س‬ ‫َم ْن يدر�سون النقد الأدبي والأدب الحديث‪ ،‬فهو‬ ‫ر�سالته عن الأديب �ألدو�س هك�سلي‪ ،‬وعاد منها‬
‫هك�سلي)‬ ‫الذي و�ضع حجر الأ�سا�س لما يطلق عليه (الرواية‬ ‫لم�صر عام (‪1961‬م) للعمل في جامعته‪ ،‬لكنه‬
‫الحديثة)‪ ،‬وهي الرواية التي ا�ستغنت تمام ًا عن‬ ‫ترك الخدمة في عام (‪1966‬م) للتفرغ للترجمة‪،‬‬
‫ت�صوير العالم الخارجي لل�شخ�صيات وا�ستبدلته‬ ‫وبعد ذلك �سافر للعمل في جامعة الكويت و�أم�ضى‬
‫بما ُيعرف بالعالم الداخلي لها‪ .‬ويرى البع�ض �أن‬ ‫فيها ثمانية ع�شر عام ًا‪� ،‬أتاحت له فر�صة �إنجاز‬
‫هذا حدث ب�سبب م�ؤثرات كثيرة من بينها ظهور‬ ‫�أهم عمل في حياته‪ ،‬وهو ترجمة رواية (عولي�س)‬
‫نظريات فرويد في علم النف�س‪ ،‬ونظرية الفيزياء‬ ‫لجوي�س‪ ،‬وله م�ؤلفات ومترجمات �أخ��رى نذكر‬
‫تعد ترجمة‬ ‫الحديثة على ي��د (ماك�س ب�لان��ك)‪ .‬وبالن�سبة‬ ‫منها كتابه المهم عن (الرواية الإنجليزية من‬
‫(مو�سوعة جيم�س‬ ‫للرواية‪ ،‬فقد خلت من المو�ضوع المت�سل�سل من‬ ‫بيولف �إلى �ألدو�س هك�سلي)‪ .‬و�أهم منجز له بعد‬
‫جوي�س) مدخ ً‬
‫ال‬ ‫بداية �إل��ى و�سط �إل��ى نهاية‪ ،‬و�أ�صبح هناك ما‬ ‫ترجمة (عولي�س) الكتاب الذي �أ�صدره بعنوان‬
‫ي�سمى بالك�شف عما يدور في ال وعي ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫(مو�سوعة جيم�س جوي�س) التي و�ضع فيها عالم‬
‫لفهم ن�صو�ص الم�ؤلف‬ ‫و�أذكر �أنه بمنا�سبة مرور مئة عام على مولد‬ ‫جيم�س جوي�س الحافل بالم�صطلحات ال�صعبة‬
‫ال�سردية الغام�ضة‬ ‫جيم�س جوي�س‪� ،‬أ�صدر طه محمود طه الترجمة‬ ‫والمفردات المركبة‪ ،‬والت�ضمينات الم�أخوذة عن‬
‫على القارئ العربي‬ ‫العربية لـ(عولي�س)‪ ،‬يقول في مقدمتها‪( :‬هذه‬ ‫عديد من اللغات والثقافات‪ ،‬وتعد هذه المو�سوعة‬
‫لي�ست ق�صة �أو رواية �أو ملحمة �أو م�سرحية �أو‬ ‫مدخل �أي ق��ارئ عربي لفهم عالم هذا الكاتب‬
‫ق�صيدة �أو �أغنية‪ ..‬هذا عالم ب�أكمله‪ ..‬تبد�أ من‬ ‫الأيرلندي الفذ‪ ،‬بل والمعين على فهم الغوام�ض‬
‫الأزم��ن��ة ال�ساحقة‬ ‫التي ُتعجز بع�ض القراء عن اال�ستمرار في مطالعة‬
‫وال ت��ن��ت��ه��ي �إل ��ى‬ ‫ن�صو�صه ال�سردية ال�ضخمة‪.‬‬
‫� ��ش ��يء‪� ،‬أو رب��م��ا‬ ‫وال�س�ؤال الذي يتبادر �إلى ذهن البع�ض هو‪:‬‬
‫ت����ق����ودن����ا �إل�����ى‬ ‫لماذا اهتم الدكتور طه محمود طه بجيم�س‬
‫ال���ق���رن ال ��ح ��ادي‬ ‫جوي�س؟ وكيف حدث ذلك اللقاء الأول بينه وبين‬
‫وال���ع�������ش���ري���ن)‪.‬‬ ‫�أدب��ه؟ وهنا �أحيلهم مبا�شرة �إلى قول الدكتور‬
‫ه� ��ذه ه ��ي ع��وال��م‬ ‫طه محمود نف�سه �إنه لكي يترجم جيم�س جوي�س‬
‫الرواية كما يراها‬ ‫طلب منه المجل�س الثقافي البريطاني �أن يتقدم‬
‫مترجمها‪.‬‬ ‫ب�سيرته الذاتية العلمية �شريطة ال�سماح له بترجمة‬
‫ي�����ذك�����ر �أن‬ ‫عمل لهذا الكاتب الأيرلندي العظيم‪ ،‬فناق�شوه‬
‫جيم�س جوي�س‬ ‫�ألدو�س هك�سلي‬ ‫(ع���ول���ي�������س) ه��و‬ ‫ثم �سمحوا له بترجمة �آثار جيم�س جوي�س �إلى‬
‫ب����ط����ل م��ل��ح��م��ة‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬وبعد �سنوات �سبع قدم لهم م�سودة‬
‫(ه���وم���ي���رو����س)‪،‬‬ ‫ترجمته لـ(عولي�س) ف�أثنوا عليها وعلقوا ب�أنها‬
‫ويقال �إن جيم�س‬ ‫ُ‬ ‫تعتبر من �أعظم الترجمات التي نقلت هذه الرواية‬
‫جوي�س بنى روايته‬ ‫�إلى لغة غير لغة كاتبها‪.‬‬
‫ع��ل��ى ن��م��ط البناء‬ ‫ويبقى ال�س�ؤال‪ :‬ولكن لماذا ُترجم جوي�س؟‬
‫(ال��ه��وم��ري) ال��ذي‬ ‫وما قيمته الأدبية؟‬
‫بنى به هوميرو�س‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أق��ول �إن كل من يدر�س الأدب‬
‫ملحمتيه‪( :‬الإلياذة‬ ‫يعرف �أن الع�صر الحديث ُي� ّؤرخ له بثالثة �أ�سماء‬
‫والأودي�سة)‪ ،‬وهذه‬ ‫وث�لاث��ة �أع��م��ال‪ :‬مار�سيل برو�ست ف��ي فرن�سا‬
‫ال�����رواي�����ة ف��ي��ه��ا‬ ‫وكتابه (البحث عن الزمن المفقود)‪ ،‬ودوروثي‬
‫طه محمود طه‬ ‫مار�سيل برو�ست‬ ‫���ص��ع��وب��ة ك��ث��ي��رة‪،‬‬ ‫(الحج) التي‬
‫ّ‬ ‫ريت�شارد�سون البريطانية وروايتها‬

‫‪85‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وجوه‬

‫لي�س في ترجمتها العربية‪ ،‬ولكن في �أ�صلها‬


‫الإنجليزي‪.‬‬
‫وجيم�س جوي�س عندما انتهى من كتابة‬
‫هذه الرواية ف�شل في العثور على نا�شر لها في‬
‫بريطانيا‪ ،‬ولعل ال�سبب في ذلك يرجع �إلى �أن‬
‫جوي�س كتب بلغة جديدة وا�ستخدم �ألفاظ ًا جديدة‬
‫تمام ًا على مفردات اللغة الإنجليزية‪ ،‬و�ألفاظ ًا من‬
‫لغات كثيرة �إلى معجم اللغة الإنجليزية‪ ،‬كما دمج‬
‫بع�ض المفردات الإنجليزية لت�صبح مفردة واحدة‬
‫كما نقول في اللغة العربية (تركيب ًا مزجي ًا‪ ،‬ومن‬
‫هنا جاء �أ�سلوب كتابة جوي�س مجهداً لقارئ اللغة‬
‫الإنجليزية‪ ،‬فلم يجد من يتعاطف معه‪ ،‬وظل على‬
‫م�شهد من �أحياء دبلن‬
‫في غاية الأهمية‪ ،‬وهي تحاول �أن تكتب ما يدور‬ ‫امتداد �سنوات �ست يبحث عن نا�شر �إلى �أن �صنعت‬
‫في ذهنها وتعجز عن ذلك من �شدة هطول الأفكار‬ ‫لقاء تاريخي ًا بينه وبين �سائحة �أمريكية‬‫ال�صدفة ً‬
‫على ذهنها‪ ،‬وبطء القدرة على مالحقة الكلمات‬ ‫تحدث �إليها عن م�شروعه‪ ،‬فقررت �أن ت�ساعده‬
‫التي تدون هذه الأفكار‪�( :‬أتمنى �أن ُيخترع جهاز‬ ‫على ن�شر روايته‪ ،‬وتكون هذه �أول مرة ين�شر فيها‬
‫ترجم الدكتور طه‬ ‫يمكنني من �أن �أ�سجل ما يدور في ذهني بال�سرعة‬ ‫كتاب جوي�س بم�ساعدة هذه ال�سيدة الأمريكية‬
‫محمود طه رواية‬ ‫علي)‪.‬‬
‫نف�سها التي ينهمر بها ّ‬ ‫التي قادتها له الأقدار‪.‬‬
‫جيم�س جوي�س‬ ‫قيمة جيم�س جوي�س في الرواية تماثل قيمة‬ ‫وا�ستمر الحال في تلقي �إبداع جوي�س على‬
‫(عولي�س) احتفاء‬ ‫ويليام �شك�سبير في الم�سرح‪ ،‬ول��ذا �أعجب طه‬ ‫ما هو عليه‪� ،‬إلى �أن بد�أ النقاد ينتبهون �إليه حتى‬
‫محمود طه بهذا الرجل �إعجاب ًا �شديداً‪ ،‬لدرجة‬ ‫تحول الو�ضع تمام ًا‪ ،‬و�أ�صبح من النادر �أن نجد‬
‫بمرور مئة عام على‬ ‫�أنني الحظت �أنه تقم�ص �شخ�صيته في �سنواته‬ ‫كتاب ًا �إنجليزي ًا في النقد ال يتحدث با�ستفا�ضة‬
‫مولده‬ ‫الأخيرة‪ ،‬وهذا يرجع �إلى �إدراكه �أن جوي�س مبدع‬ ‫عن جيم�س جوي�س وروايته‪ ،‬التي �أ�صبحت قا�سم ًا‬
‫فذ �شامل‪ ،‬ثري بلغته‪ ،‬حافل بالمتناق�ضات لأنه‬ ‫م�شترك ًا فيما بد�أ ُيعرف بالرواية الحديثة‪ ،‬حتى‬
‫الكون ب�أكمله‪ ..‬يقتحم كل باب وي�ستدرجنا ثم‬ ‫خط ًا بين الرواية‬‫�إن النقاد قالوا �إن جوي�س و�ضع ً‬
‫يو�صده في وجوهنا‪ ،‬ومع ذلك يوا�صل جذبنا‬ ‫التقليدية والرواية الحديثة‪ .‬ولكن �إذا كان جوي�س‬
‫و�إل��ق��اء الطعم �إلينا في‬ ‫قد فعل ذلك في بريطانيا‪ ،‬وهو الأيرلندي الذي‬
‫طريقه المتعرج ليقودنا‬ ‫عا�ش في �سوي�سرا‪ ،‬فكيف حدث الأم��ر ذاته في‬
‫�إل����ى م��ا ننتهي �إل��ي��ه‪..‬‬ ‫فرن�سا مع مار�سيل برو�ست؟‬
‫وعندما ُيخيل �إلينا �أننا‬ ‫�إن هذا يدلنا على �أن هذا االتجاه الأدبي �إنما‬
‫و�صلنا �إلى نهاية المطاف‬ ‫هو نتيجة تغير �أب�ستمولوجي �أو تغير معرفي‪ ،‬و�أن‬
‫ندرك معه �أنه كان ي�ضللنا‬ ‫هناك عنا�صر جديدة دخلت �إلى الفكر الإن�ساني‪،‬‬
‫طوال الوقت‪ ،‬وي�سخر منا‬ ‫و�إل��ى المعرفة الإن�سانية �أدت �إل��ى تغير نظرة‬
‫وم��ن عقولنا المحدودة‪،‬‬ ‫الإن�سان �إلى نف�سه‪ ،‬بل �إلى العالم‪ ،‬و�إلى الكون‬
‫ولكنه في النهاية يغرينا‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬وهذا يدل على �أن اتجاه الرواية الحديثة‬
‫ويحثنا ع��ل��ى موا�صلة‬ ‫هو النتيجة الطبيعية لتطور المعرفة الإن�سانية‪.‬‬
‫الم�سيرة معه ب�إغواء �آخر‪،‬‬ ‫وعندما �سئل جوي�س‪ :‬كيف ا�ستخدمت هذا‬
‫فنجد �أنف�سنا نلهث خلفه‪،‬‬ ‫التكنيك الجديد‪ ..‬تكنيك التداعي‪� ،‬أج��اب‪( :‬لقد‬
‫ن��ري��د ال��ل��ح��اق ب��ه وف��ي‬ ‫تعلمته م��ن �أح ��د الكتاب المجهولين)‪ ،‬وفي‬
‫النهاية نلقي بالكتاب‬ ‫تقديري �أن هذا ربما يكون حقيقة‪ ،‬كما �أنه ربما‬
‫جانب ًا‪ ،‬لنعود بعد �أي��ام‬ ‫يكون نوع ًا من التوا�ضع‪ ،‬فهذا التكنيك �إنما هو‬
‫�أو �أ�سابيع �أو �سنوات �إلى‬ ‫نتيجة طبيعية لطريقة التفكير التي افتقرت‬
‫الكتاب ذاته‪ ،‬فنجد �أننا لم‬ ‫�إل��ى المنطق الت�سل�سلي‪ ،‬ودخلت فيما يعرف‬
‫نلم بعد بكل ما فيه‪ ،‬و�أنه‬ ‫ّ‬ ‫المتبادلة على الإن�سان‪ ،‬وبالمنا�سبة‬ ‫بالت�أثيرات ُ‬
‫كان يداعبنا طوال الوقت‪.‬‬ ‫قالت الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف كالم ًا‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪86‬‬


‫مقاالت‬
‫م�سارات‬

‫ال�صداقة‪..‬‬
‫الكنز الذي ال يفنى‬
‫ما‪ ،‬ولم تكن تن�ضوي في �إطار ال�صداقة �أو‬ ‫والحب ال ينبغي �أن‬ ‫كال�شعر ُ‬
‫ّ‬ ‫ال�صداقة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ال�صور‪ ،‬بل يجب‬ ‫َ‬ ‫تعبر عنها في �صورة من‬ ‫ّ‬ ‫ع�صية على ك ّل‬ ‫ّ‬ ‫فهي‬ ‫تعريف‪،‬‬ ‫عن‬ ‫لها‬ ‫نبحث‬
‫عمر �شبانة‬ ‫البحث عن ت�سمية لهذا الإطار غير ال�صداقة‪.‬‬ ‫تعريف‪� ،‬شاهقة ال ُتطال‪ ،‬ولي�س ك ّل �شخ�ص‬
‫وثمة من يرى في ال�صداقة ما هو �أعمق‬ ‫ّ‬ ‫قادراً على �إقامة �صداقة‪ ،‬والحفاظ عليها‬
‫وطفولتها وبراءتها و�صخبها‪ ،‬وتع ّلمني‬ ‫�دم‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫�اك‬ ‫�‬ ‫أخ‬ ‫�‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫إذ‬ ‫�‬ ‫ة‪،‬‬ ‫أخ���و‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫أبعد‬ ‫و�‬ ‫و�إغنائها بالمواقف الإن�سانية العظيمة‬
‫العودة �إلى طفولتي وبراءتي‪.‬‬ ‫�شخ�ص مفرو�ض عليك‪ ،‬ومفرو�ض التعامل‬ ‫والنبيلة ال��ت��ي ي��ق��وم بها �صديق حيال‬
‫و�أخيراً ها هو �صديقي ال�شاعر زهير �أبو‬ ‫معه مهما كانت �صورته �أو �أخالقه‪ ،‬وقد‬ ‫مادي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�صديقه‪ .‬قد تكون مواقف ذات طابع‬
‫�شايب‪ ،‬من (�أعتق) �أ�صدقائي‪ ،‬يقول لي في‬ ‫يكون �صديق ًا �أو ال يكون‪ ،‬لك ّنك �أن��ت من‬ ‫�أو ذات �أبعاد روحانية ووجدانية ومعنوية‪،‬‬
‫وبحب كبير‪:‬‬
‫ّ‬ ‫�إحدى ق�صائده‪،‬‬ ‫يختار ال�صديق ب�إرادتك‪ ،‬وبح�سب معايير‬ ‫لكن من �ش�أنها تعزيز هذه العالقة الفريدة‬ ‫ّ‬
‫�آه يا �صاحبي‬ ‫و�شروط دقيقة‪ ،‬محاو ًال �أن يكون ال�شخ�ص‬ ‫في حياة الب�شر‪ .‬لذا ف�إنه ل�شيء عظيم �أن‬
‫الثقيل‬
‫ْ‬ ‫�آه يا �سقف روحي‬ ‫الذي ُيخ ِل�ص لك وال يخونك �أو يخذلك‪.‬‬ ‫تحظى ب�صديق له هذه الموا�صفات‪.‬‬
‫حجراً حجراً ُ�ش ّدني‬ ‫�إ ّننا بالحديث عن ال�صديق‪� ،‬إنما نتحدث‬ ‫ول ّأن ال�صداقة منحوتة م��ن ال�صدق‬
‫وجداراً جداراً لكيال � ْ‬
‫أهيل‬ ‫المقد�س‬ ‫ّ‬ ‫المقد�س في حياتنا‪ ،‬لي�س‬ ‫ّ‬ ‫عن‬ ‫�أ���س��ا���س� ًا‪ ،‬ف���إن ال�صدق ه��و �أه � ّ�م �أعمدتها‬
‫ومع � ّأن ال�صاحب ال يعني ال�صديق‪� ،‬إال‬ ‫والب�شري وما‬ ‫ّ‬ ‫الديني بالطبع‪ ،‬بل الإن�ساني‬ ‫�صدقك)‪.‬‬ ‫و�أ�سا�ساتها‪ ،‬لذا ُيقال (�صديقك من َ‬
‫�أنني في هذا المقطع ال�شعري‪� ،‬شعرت ب�أنه‬ ‫الب�شري‪ ،‬لأنه يتع ّلق بالت�ضحية‬ ‫ّ‬ ‫ي�سمو فوق‬ ‫�دق مطلوب طبع ًا ف��ي العالقات‬ ‫وال�����ص� ُ‬
‫�أعمق من ال�صديق‪ ،‬وللمرة الأول��ى �أ�شعر‬ ‫تخطي‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬فهو الإن�سان القادر على‬ ‫إن�سانية ك ّلها‪ ،‬لكن ال �صداقة بال �صدق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫بهذا ال�شعور؛ فال�صاحب كما نعلم هو من‬ ‫ذاته في مثل هذه الت�ضحية من �أجلك‪ ،‬وفي‬ ‫وربما ك��ان �صحيح ًا �أي�ض ًا القول �إن��ه ال‬ ‫ّ‬
‫�صاحبك في طريق‪ ،‬لكنه هنا �أعمق مما‬ ‫المقابل ما ت�ستطيع مقابلته به من ت�ضحية‬ ‫�ب متبادل‪ ،‬وال �صداقة بال‬ ‫�‬
‫ُ ّ‬‫ح‬ ‫بال‬ ‫�صداقة‬
‫ثمة من يتكئ على الآخر‬ ‫تعودنا عليه‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ينبغي �أن يكون بال ح��دود‪ ،‬وب�لا انتظار‬ ‫طر َفيها‪ ،‬و�أق�صد العطاء والبذل‬ ‫عطاء من َ‬
‫كل منهما‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫الحقيقة‬ ‫وفي‬ ‫يهيل‪،‬‬ ‫لكيال‬ ‫للمقابل‪.‬‬ ‫المتباد َلين على �صعد الحياة ك ّلها‪ ،‬ومن‬
‫يميل على الآخر‪ ،‬وكالهما يخ�شى �أن يهيل‬ ‫وال�صديق ق��د يكون نقي�ضك �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫�سم العالقة بين الأط��راف اال�سم‬ ‫دون ذلك ِّ‬
‫وي�سقط‪ ،‬فكرة عميقة ووجودية في مدى‬ ‫نقي�ض ًا لك في الكثير من الأمور‪ ،‬وال�صداقة‬ ‫الذي تريد‪ ،‬لكنها لي�ست هي ال�صداقة‪ ،‬كما‬
‫االلت�صاق والتقارب وااللتحام‪.‬‬ ‫هنا ه��ي اح��ت��رام التناق�ض‪��� ،‬س��واء كان‬ ‫ال�ضيق) هي من‬ ‫� ّأن مقولة (ال�صديق عند ّ‬
‫ال�����ص��داق��ة ه��ي الكنز ال ��ذي ال يفنى‪،‬‬ ‫إيديولوجي ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فكري ًا‪� /‬‬
‫�سيا�سي ًا �أو ّ‬
‫ّ‬ ‫�أق ��وى المقوالت و�أ�صدقها ف��ي حياتنا‪،‬‬
‫وعندما �أكون في �ضيق‪� ،‬ألج�أ �إلى �صديق‪/‬‬ ‫�صديقتي الأج��م��ل هي حفيدتي‪ ،‬منذ‬ ‫والحب‬
‫ّ‬ ‫�أقول ذلك بعد تجارب في ال�صداقة‬
‫�صديقة �أكثر من �أي �شخ�ص �آخ��ر‪� ،‬إال �إذا‬ ‫�شهورها الأول ��ى ب��د�أت �صداقتنا‪ ،‬ن�سمع‬ ‫ممتدة منذ‬ ‫ّ‬ ‫وال ّزمالة والمعارف خالل حياة‬
‫أ�شد حاجة‬ ‫كانت الزوجة �صديقة‪ ،‬ولع ّلني � ُّ‬ ‫وال�شعر‪� ،‬أتابعها تر�سم‬ ‫ِّ‬ ‫الغناء والمو�سيقا‬ ‫اثنين و�س ّتين عام ًا من المتناق�ضات‪ّ � ،‬أو ُلها‬
‫المتوح�ش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�إلى �أبنائي وحفيدتي وحفيدي‬ ‫وتح�ضر الم�سل�سالت‪ ،‬نناق�ش مع ًا ك َّل ما‬ ‫وال�شر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخير‬
‫�أكثر من �أي �شخ�ص �آخ��ر‪ .‬وفي اخت�صار‪،‬‬ ‫يخطر في بالها وبالي من �أفكار‪ ،‬تختلق‬ ‫وكما ُيقال �أي�ض ًا‪ ،‬ف�إن العالقات التي‬
‫الحب والع�شق‬ ‫ّ‬ ‫عرفت �ألوان ًا و�صوراً من‬‫ُ‬ ‫لقد‬ ‫الحكايات والق�ص�ص م��ن ثقافتها عبر‬ ‫�صدعها‪ ،‬هي‬ ‫بال�صدام‪� ،‬أو ب�شرخ ُي ّ‬‫ِّ‬ ‫تنتهي‬
‫انتهت ك ّلها �إلى هباء‪ ،‬وبع�ضها �إلى عداوات‪،‬‬ ‫تي�سر من‬ ‫الإنترنت والتلفزة‪ ،‬و�أق��ر�أ لها ما ّ‬ ‫عالقات لم تكن تنطوي على �صداقة في يوم‬
‫كونتها خالل‬ ‫�أما ال�صداقات القليلة التي ّ‬ ‫ق�ص�ص ورواي� ��ات‪ ،‬طفلة الت ��زال ل��م تبلغ‬
‫العمر‪ ،‬فهي ما يحميني من ال�سقوط‬ ‫هذا ُ‬ ‫ال�سابعة‪ ،‬لكنها تخطو حثيث ًا نحوها‪ ،‬وتبدو‬ ‫ال�صداقة‪ ..‬كال�شعر والحب‬
‫في الهاوية‪ ،‬في النهاية العبثية للعالم‬ ‫�أكبر من �س ّنها‪ ،‬تجعلني �أكبر‪ ،‬وتجعلني‬ ‫ال ينبغي �أن نبحث لها عن‬
‫والأ�شياء‪.‬‬ ‫�ب‪ .‬لها عالمها‬ ‫مما �أح� ّ‬ ‫�أخ�شى منها الكثير ّ‬ ‫تعريف‬

‫‪87‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫«�سوينكا» الحائز «نوبل» �أ�شاد بكتابته الق�ص�صية‬
‫بائع الكتب القديمة والقــا�ص‬
‫محمـد جـابـر غريـب‬
‫الجنة)‪ .‬وح��ول رحلته مع كتابة الق�صة‬ ‫محمد جابر غريب‪ ،‬قا�ص مبدع‪ ،‬مواليد حي الحلمية‬
‫الق�صيرة‪ ،‬ح��اوره مرا�سل مجلة (ال�شارقة‬ ‫خليل الجيزاوي‬
‫و�سط القاهرة عام (‪ ،)1945‬لم يتلق تعليم ًا نظامياً‪،‬‬
‫الثقافية) على ر�صيف مكتبته بحي ال�سيدة‬
‫لكنه �أحب وع�شق القراءة منذ �صغره‪ ،‬واحترف كتابة الق�صة الق�صيرة‪ ،‬زينب و�سط القاهرة‪ ،‬وكان هذا الحوار‪..‬‬
‫لفت الأنظار �إليه بقوة عندما ن�شرت له مجلة الهالل ق�صة بعنوان‪�( :‬سي‬
‫¯ ماذا عن الن�ش�أة في حي الحلمية و�سط‬ ‫ال�سيد الديك)‪ ،‬بمقدمة للدكتور يو�سف �إدري�س قائالً‪( :‬برافو يا ولد)‪.‬‬
‫القاهرة ووفاة الأم مبكراً؟‬
‫‪ -‬ولدت يوم (‪� 8‬أبريل عام‪ )1945‬في‬ ‫جديد)‪ ،‬الهيئة الم�صرية للكتاب (‪،)2002‬‬ ‫و�صدرت مجموعته الق�ص�صية الأولى‬
‫غرفة بالدور الأر�ضي بحي الحلمية‪ ،‬القريبة‬ ‫(�إ�شراقات الحب والغ�ضب)‪ ،‬اتحاد ك ّتاب‬ ‫(�سي ال�سيد الديك) عام (‪ ،)1991‬وا�شتهر‬
‫من حي المغربلين‪ ،‬المجاور لحي الح�سين‪،‬‬ ‫م�صر (‪ ،)2003‬و�أزرار البلوزة و�أ�شياء‬ ‫بها‪ ،‬وتوالى �صدور مجموعاته الق�ص�صية‪:‬‬
‫وفي الأحياء ال�شعبية تجد البيوت فاتحة‬ ‫�أخرى‪ ،‬الهيئة الم�صرية للكتاب (‪،)2010‬‬ ‫(اغتيال �أبو المحا�سن ‪( ،)1992‬عذابات‬
‫على بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬و�أه��ل ال�شارع كلهم‬ ‫وله تحت الطبع رواي��ة (�أح�لام تهبط من‬ ‫ال�سيدة الجميلة ‪ ،)1995‬و(�أغنية لزفاف‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪88‬‬


‫مقابلة‬

‫م�سجد ال�سلطان ح�سن و�إطاللة‬


‫على حي الحلمية في القاهرة‬ ‫و�أحلق بخيالي و�أطير مع �أبطال الحكايات‪،‬‬ ‫عائلة واح��دة‪ ،‬ويتميزون بالطيبة والحنان‬
‫كانت الحكايات المده�شة بداية الخيط لكتابة‬ ‫والحب وال��ت ��آزر‪� ،‬أم��ي ماتت وعمري خم�س‬
‫الق�ص�ص‪ ،‬هذا الع�شق ل�سماع حكايات الجارات‪،‬‬ ‫�سنوات‪ ،‬لكني وجدت �أكثر من �أم في ال�شارع‪،‬‬
‫هو ال��ذي �أطلق العنان لخيالي ككاتب فيما‬ ‫وج���دت مجموعة م��ن الأم ��ه ��ات والأق����ارب‬
‫بعد‪ ،‬وجعلني �أت�صور �أحداثها و�شخو�صها‪ ،‬بل‬ ‫والجيران تعهدوني بالتربية الجميلة‪ ،‬وكانوا‬
‫ولدت في حي‬ ‫�أعي�شها لحظة بلحظة على �أر�ض الواقع؛ لأ�سرد‬ ‫يحبونني حب ًا ك��ب��ي��راً؛ لذلك كبرت عا�شق ًا‬
‫الحلمية وتعلمت فن‬ ‫�أحداثها في ق�ص�ص ق�صيرة‪� ،‬أ�شاد بها الكثير‬ ‫لل�سيدات‪ ،‬والجيران كانوا يحبونني ك�أني‬
‫الحكي من الجارات‬ ‫من كبار الأدباء‪ ،‬مثل الدكتور يو�سف �إدري�س‪،‬‬ ‫ابنهم‪ ،‬لدرجة �أن �صاحب عربة الفول بال�شارع‬
‫الطيبات‬ ‫الذي �أدين له بالف�ضل في رحلتي مع الكتابة‬ ‫�أجل�سني داخل �صندوق عربة الفول حتى ال �أرى‬
‫الأدبية‪.‬‬ ‫جنازة �أم��ي‪ ،‬وانهار من البكاء عليها‪ ،‬وكنت‬
‫�أ�سمع الجارات‪( :‬خلوا بالكم من ابن عطيات)‪،‬‬
‫¯ وم��اذا عن التعليم ب ُك ّتاب تحفيظ القر�آن‬ ‫وعطيات �أمي كانت �سيدة طيبة ومحبوبة و�سط‬
‫الكريم ومكتبة والدك؟‬ ‫الجيران؛ لهذا ع�شت �سنوات طويلة ك�أني ابنهم‪،‬‬
‫‪ -‬كان عمري خم�س �سنوات عندما �ألحقني‬ ‫وعمري ما �شعرت باليتم و�سطهم‪ ،‬كانت لنا‬
‫�أعمل حالي ًا بائع‬ ‫والدي ب ُك ّتاب تحفيظ القر�آن الكريم‪ ،‬مع �أوالد‬ ‫جارة ا�سمها (�أبلة نعيمة)‪ ،‬وجارة ثانية ا�سمها‬
‫كتب في مكتبة‬ ‫وبنات الجارات الطيبات و�أطفال ال�شارع؛ لأن‬ ‫(�أبلة عزيزة)‪ ،‬وجارة ثالثة ا�سمها (�أبلة خيرية)‪،‬‬
‫وال��دي كان حا�ص ًال على الثانوية الأزهرية‪،‬‬ ‫ه�ؤالء الجارات كن �أمهاتي الحقيقيات‪ ،‬يغ�سلن‬
‫(قنديل �أم ها�شم)‬ ‫وعنده حب و�شغف كبيران بعلوم اللغة العربية‬ ‫مالب�سنا ويطبخن لنا‪ ،‬ويعملن لنا كل حاجة‪،‬‬
‫تحية للراحل‬ ‫والفقه وال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬وتمنى �أن �ألتحق‬ ‫حتى تنظيف الغرفة‪ ،‬وكنت و�أخي ن�أكل ون�شرب‬
‫يحيى حقي‬ ‫بالتعليم الأزه��ري بعد حفظ القر�آن الكريم‪،‬‬ ‫مع �أوالده��ن‪ ،‬ون�أخذ الم�صروف مثل �أوالدهم‬
‫وحدثني وال��دي كثيراً عن �أ�ستاذه بالمرحلة‬ ‫تمام ًا؛ لأن وال��دي ظل ع�شرين �سنة راف�ض ًا‬
‫الثانوية الأزهرية ال�شيخ محمد الفحام الذي‬ ‫الزواج بعد وفاة �أمي‪ ،‬رحمها اهلل‪.‬‬
‫تولى م�شيخة الأزهر ال�شريف فيما بعد‪.‬‬
‫¯ هل لعبت الجارات الطيبات دور الأم البديلة؟‬
‫‪ -‬ن��ع��م؛ لقد عو�ضني اهلل ح��ن��ان �أم��ي‪،‬‬
‫بوجود ه�ؤالء الجارات الطيبات الالئي �أغدقن‬
‫علي وعلى �أخي الأ�صغر محبة كبيرة‪ ،‬وطوال‬ ‫ّ‬
‫ليالي ال�شتاء الباردة كنا نجتمع حول الجارات‬
‫الطيبات من الجيران في بيتنا‪ ،‬ليحكين لنا‬
‫حكايات جميلة مده�شة‪ ،‬مثل‪� :‬ست الح�سن‬
‫والجمال‪ ،‬وال�شاطر ح�سن‪ ..‬وفي ليالٍ كثيرة‬
‫كنت �أنام عند الجارات و�سط �أوالدهن‪ ،‬و�أ�سمع‬
‫الحكايات ب�شغف طفولي لدرجة االنبهار‪،‬‬
‫رجاء النقا�ش‬ ‫�سوينكا‬ ‫يحيى حقي‬

‫‪89‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وك��ان يو�سف �إدري�����س‪ ،‬ي�سكن �شارع خيرت‬ ‫نعم‪ ،‬لم �ألتحق ب�أية مدر�سة‪ ،‬لكني تخرجت‬
‫بال�سيدة زينب‪ ،‬والق�ص�ص تر�سل على عنوانه‪،‬‬ ‫ف��ي جامعة الحياة حافظ ًا ل��ل��ق��ر�آن الكريم‬
‫فيقر�أ ويختار الجيد منها‪ ،‬ويقدمها بكلمة‬ ‫والحكايات‪ ،‬ب��د�أت ق��راءة الكتب في مكتبة‬
‫نقدية ق�صيرة للقراء‪ ،‬وذات �صباح كنت �أت�صفح‬ ‫والدي التي تحتوي مئات الكتب في �شتى �أنواع‬
‫مجلة الهالل فوجدت ق�صتي (�سي ال�سيد الديك)‪،‬‬ ‫المعرفة‪ ،‬مثل كتب‪ :‬التف�سير‪ ،‬والفقه‪ ،‬والنحو‪،‬‬
‫لم �ألتحق ب�أية‬ ‫التي كنت �أر�سلتها للن�شر بالمجلة من�شورة‬ ‫وال��ت��اري��خ الإ���س�لام��ي‪ ،‬والأدب‪ ..‬ق ��ر�أت بحب‬
‫مدر�سة وتخرجت في‬ ‫وقدمها دكتور يو�سف �إدري�����س قائ ًال‪( :‬هذه‬ ‫و�شغف حتى �أنهيت ق��راءة كل كتب المكتبة‪،‬‬
‫جامعة الحياة بعد �أن‬ ‫الق�صة قد ا�ستوت ون�ضجت في عقل كاتبها‬ ‫نعم ل��م �أدخ ��ل جامعة مثل بيرم التون�سي‬
‫الواعي والباطن مع ًا‪ ،‬حتى جاءت تحفة بكل‬ ‫ومك�سيم جوركي و�سعاد ح�سني‪ ،‬الذين لم‬
‫قر�أت �آالف الكتب‬ ‫المقايي�س)‪ ،‬ثم ختم �إدري�س تعليقه على الق�صة‬ ‫يلتحقوا بالجامعة‪ ،‬وال كان لنا حظ بالتعليم‬
‫قائ ًال‪( :‬برافو يا ولد)‪.‬‬ ‫الثانوي؛ لكنني ق��ر�أت �آالف الكتب‪ ،‬وتعلمت‬
‫كانت مفاج�أة جميلة جداً و�سارة‪ ،‬بل فرحة‬ ‫درو�س المو�سيقا على يد عازف الكمنجة عزت‬
‫كبيرة �أن يكتب كاتب في قيمة وقامة دكتور‬ ‫م�صطفى ال��ذي ك��ان ي�سكن بالبيت المجاور‬
‫يو�سف �إدري�س عن ق�صتي بهذا ال�شكل الطيب‬ ‫لبيتنا‪ ،‬وكان يعزف المو�سيقا حتى منت�صف‬
‫الحميم‪ .‬وكانت بداية انطالقتي الحقيقية نحو‬ ‫الليل‪.‬‬
‫الكتابة‪ ،‬وزادت �سعادتي �أكثر و�أكثر عندما‬
‫كتب الناقد الدكتور �سيد حامد الن�ساج عن‬ ‫¯ متى بد�أت عالقتك ببيع الكتب القديمة؟‬
‫ُقدمت ق�ص�صي في‬ ‫�إحدى ق�ص�صي قائ ًال‪( :‬هذه الق�صة تلخ�ص كل‬ ‫‪ -‬ك��ان ال�شيخ علي خ��رب��و���ش‪� ،‬صديق ًا‬
‫�أفالم ت�سجيلية‬ ‫المالمح الفنية الق�ص�صية لدى الكاتب محمد‬ ‫لوالدي‪� ،‬صاحب مكتبة لبيع الكتب القديمة‬
‫و�سهرات تلفزيونية‬ ‫جابر غريب‪ ،‬فهي ق�صة بديعة رفيعة الم�ستوى)‪.‬‬ ‫في (درب الجماميز) بمنطقة الجمالية التي‬
‫في قنوات م�صرية‬ ‫هذه باخت�صار بداية مجموعتي الق�ص�صية‬ ‫ولد وعا�ش فيها نجيب محفوظ �سنوات طويلة‪،‬‬
‫الأولى‪ ،‬التي ن�شرت بعنوان‪�( :‬سي ال�سيد الديك)‪،‬‬ ‫ب��د�أت �أت��ردد عليه في المكتبة‪ ،‬وتكلمت معه‬
‫و�أ�صبحت معروف ًا وم�شهوراً بها؛ لأنها طبعت‬ ‫كالم ًا كثيراً‪ ،‬وعندما ت�أكد من حبي للكتب‪،‬‬
‫ثالث طبعات‪� ،‬آخرها ب�سل�سلة مكتبة الأ�سرة‪،‬‬ ‫فقد كان يتركني بع�ض الوقت ويذهب لل�صالة‬
‫التي ت�صدرها الهيئة الم�صرية للكتاب‪ ،‬ثم‬ ‫في الجامع‪� ،‬أو يذهب لتجهيز بع�ض الطعام‬
‫لن�أكله‪ ،‬وعندما يرجع ي��ران��ي �أت��ع��ام��ل مع‬
‫الزبائن بلطف و�أعاملهم معاملة جيدة‪ ،‬و�أظل‬
‫�أقلب معهم الكتب و�أقنعهم ب�شراء بع�ضها‪،‬‬
‫ف�أعجب بطريقتي في البيع‪ ،‬وعر�ض العمل‬
‫معه بائع ًا للكتب‪ ،‬وعلمني مهنة بيع الكتب‬
‫القديمة‪ ،‬وجعلني �أحب مهنة بيع الكتب كر�سالة‬
‫ثقافية‪ ،‬ثم فتحت مكتبتي الخا�صة‪ ،‬في �أول‬
‫�شارع بور�سعيد و�سط ميدان ال�سيدة زينب‪،‬‬
‫لكن �صدر قرار محافظ القاهرة بنقل مكتبات‬
‫ال�سيدة زينب‪� ،‬إلى مكتبات جاهزة تحت كوبري‬
‫�أبو الري�ش‪ ،‬وعندما ت�سلمت مكتبتي من رئي�س‬
‫حي ال�سيدة زينب‪ ،‬كتبت عليها ا�سم (مكتبة‬
‫قنديل �أم ها�شم)‪ ،‬محبة في الكاتب يحيى حقي‬
‫ابن ال�سيدة زينب وروايته الخالدة‪.‬‬

‫¯ كيف تعرفت �إلى الدكتور يو�سف �إدري�س؟‬


‫‪ -‬بد�أت التردد على مجلة الهالل ب�شارع‬
‫المبتديان بال�سيدة زي��ن��ب‪ ،‬وك ��ان الكاتب‬
‫م�صطفى نبيل‪ ،‬رئي�س تحريرها‪ ،‬وقد �أن�ش�أ باب ًا‬
‫جديداً بالمجلة بعنوان‪ :‬ور�شة يو�سف �إدري�س‪،‬‬
‫من كتبه‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪90‬‬


‫مقابلة‬

‫محمد جابر غريب �أثناء حواره‬


‫مع الزميل الجيزاوي‬ ‫تحولت �إل��ى �سهرة تلفزيونية لقناة النيل محفوظ‪ ،‬وغياب الدور الحقيقي الذي قام به‬
‫للدراما‪ ،‬بطولة‪� :‬سلوى محمد على‪ ،‬وفتحي الكاتبان يحيى حقي وعبدالفتاح الجمل‪ ،‬في‬
‫تقديم الأجيال الجديدة بعد وفاتهما‪.‬‬ ‫عبدالوهاب‪ ،‬و�إخراج ال�سيد �إبراهيم عي�سوي‪.‬‬

‫¯ �أخيراً‪ ..‬هل �أن�صفتك الحركة النقدية؟‬ ‫¯ ما �أثر الندوات الأدبية في رحلتك مع الكتابة؟‬
‫‪ -‬كتب عن ق�ص�صي كبار الأدباء والنقاد‬ ‫‪ -‬بداية رحلتي مع الكتابة‪ ،‬تعرفت �إلى‬
‫مقاالت ودرا�سات نقدية كتابة �أعتز بها طوال‬ ‫مجموعة م��ن الأ���ص��دق��اء م��ن ال�سيدة زينب‪،‬‬
‫حياتي‪ ،‬في مقدمتهم د‪.‬يو�سف �إدري�س‪ ،‬ورجاء‬ ‫جمعنا حب ال��ق��راءة والكتابة‪ ،‬مثل‪ :‬الكاتب‬
‫كتب يو�سف �إدري�س‬ ‫النقا�ش‪ ،‬ود‪�.‬سيد حامد الن�ساج‪ ،‬وال��روائ��ي‬ ‫م�صطفى عبدالوهاب رحمه اهلل‪ ،‬و�شقيقه الناقد‬
‫�شهادة ميالدي‬ ‫ال�شاعر النيجيري (�سوينكا) الحائز جائزة نوبل‬ ‫محمود عبدالوهاب‪ ،‬كنا نتبادل قراءة الكتب‪،‬‬
‫ل�ل�آداب في عام (‪ ،)1986‬ود‪�.‬سامية حبيب‪،‬‬ ‫ونتردد مع ًا على معظم الندوات الأدبية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫الأدبية و�أن�صفني‬
‫ود‪.‬رم�ضان ب�سطاوي�سي‪ ،‬وغيرهم الكثير‪ ..‬وتم‬ ‫ح�سين القباني‪ ،‬و�صبحي الجيار‪ ،‬ون��ادي‬
‫الناقدان رجاء‬ ‫�إعداد ثالثة �أفالم ت�سجيلية للتلفزيون الم�صري‬ ‫الق�صة‪ ،‬ودار الأدباء‪ .‬ون�شر عبدالفتاح الجمل‬
‫النقا�ش وحامد‬ ‫عن رحلتي مع الكتابة‪ ،‬الأول‪ :‬على ر�صيف �أم‬ ‫ق�ص�صي بجريدة الم�ساء‪ ،‬و�شاركت بت�أ�سي�س‬
‫الن�ساخ‬ ‫ها�شم‪� ،‬سيناريو وحوار محمد م�سعد‪ ،‬و�إخراج‬ ‫ندوة جماعة الفجر الأدبية مع ال�شاعر الدكتور‬
‫عزالدين �سعيد‪ ،‬و�إنتاج قناة النيل الثقافية‪.‬‬ ‫ي�سري العزب‪ ،‬وكانت المحطة الأخيرة ت�أ�سي�س‬
‫والثاني‪ :‬بالتوه ال�شارع الم�صري‪� ،‬سيناريو‬ ‫ندوة خا�صة بي تعقد ع�صر الأحد من كل �أ�سبوع‬
‫وح��وار و�إخ ��راج محمود عبدال�سالم‪ ،‬و�إنتاج‬ ‫هنا �أمام هذه المكتبة عام (‪ ،)2004‬وكان من‬
‫الف�ضائية الم�صرية الثانية‪ .‬والثالث‪ :‬عا�شق‬ ‫�أحالمنا �إ�صدار مجلة غير دوري��ة تحمل ا�سم‬
‫ال�سيدة زينب‪� ،‬سيناريو وحوار عابد عبدالعزيز‪،‬‬ ‫(�إ�صدارات ندوة قنديل �أم ها�شم)‪ ،‬وكان الهدف‬
‫و�إخ��راج ح�سن ال�شنتوري‪ ،‬و�إنتاج الف�ضائية‬ ‫من �إقامة الندوة والمجلة تقديم جيل جديد من‬
‫الم�صرية الثانية‪.‬‬ ‫ُك ّتاب الق�صة والرواية‪ ،‬بعد اختفاء ندوة نجيب‬

‫‪91‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫ال�سرد‪..‬‬
‫فن عابر للأجنا�س الأدبية‬ ‫�ضياء الجنابي‬

‫بالكيان البنيوي لكل جن�س‪� ،‬أي �إلى خ�صائ�ص‬ ‫في مقال �سابق؛ قمت بت�سليط ح��زم من‬
‫ا�ستداللية‪� ،‬أو �أن��ه��ا تنحدر م��ن ممار�سات‬ ‫ال�ضوء على �إ�شكالية التجديد في الأجنا�س‬
‫ملحوظة في تاريخ الأدب‪ ،‬تتيح لها �أن ت�صبح‬ ‫الأدبية‪ ،‬وذكرت فيه �أن الكثير من المبدعين‬
‫ظواهر تاريخية)‪ .‬وبرغم ه��ذه التعريفات‪،‬‬ ‫العرب يحاولون �شرعنة تجاوز ق�ضية الأجنا�س‬
‫ف�إنه باعتقادي ال يمكن �إيجاد تعريف جامع‬ ‫الأدب��ي��ة و�إي��ج��اد غطاء نظري لها‪ ،‬يتلخ�ص‬
‫�أر�سطو �أول من و�ضع‬ ‫و�ضابط للجن�س الأدب��ي‪ ،‬وذلك لأن الأجنا�س‬ ‫بالدعوة �إل��ى التحرر من القوالب الجاهزة‬
‫تعريف ًا للأجنا�س‬ ‫الأدبية ت�شترك في بع�ض المعايير وال�سمات‬ ‫والتجديد في الم�سارب الإبداعية‪ ،‬وهذه الدعوة‬
‫تارة‪ ،‬وتختلف مع بع�ضها الآخر تارة �أخرى‪،‬‬ ‫ال غبار عليها‪ ،‬فيما �إذا حافظنا على الجينات‬
‫الأدبية في كتابه‬ ‫بيد �أن هذا االختالف حتى و�إن لم يكن اختالف ًا‬ ‫النقية لكل جن�س من �أجنا�س الكتابة الأدبية‬
‫(فن ال�شعر)‬ ‫�شام ًال‪ ،‬لكنه هو الذي �أف�ضى ب��دوره بحقيقة‬ ‫وعدم �إتالفها تحت الفتة التجديد‪.‬‬
‫الحال �إلى ظهور م�صطلح الأجنا�س الأدبية‪،‬‬ ‫ومن المفيد بمكان‪� ،‬أن نعرج على مفهوم‬
‫في جميع لغات و�آداب الأمم‪ ،‬بما في ذلك لغتنا‬ ‫الأجنا�س الأدبية‪ ،‬حيث ي�ضع �أر�سطو طالي�س‬
‫العربية و�أدبنا العربي‪.‬‬ ‫ف��ي كتابه (ف��ن ال�شعر) تعريف ًا للأجنا�س‬
‫هناك بع�ض الت�صنيفات للأجنا�س الأدبية‪،‬‬ ‫الأدبية ب�أنها‪�( :‬صيغة فنية عامة لها مميزاتها‬
‫ولكن �إذا عرجنا على �أ�شهرها‪� ،‬سواء في اللغة‬ ‫و�سماتها وقوانينها الخا�صة والعامة الم�شتركة‬
‫العربية �أو غيرها من اللغات‪� ،‬سيقف �أمامنا‬ ‫بينها‪ ،‬وه��ي تحتوي على م�ضمون و�شكل‬
‫من الوا�ضح �أن‬ ‫ما ي�صطلح عليه بـ(الت�صنيف الثنائي) الذي‬ ‫عام وخارجي معين‪ ،‬ينتظم خاللها الإنتاج‬
‫يخت�صر الأدب برمته بحقلين �إبداعيين‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫الفكري للق�ضايا الخا�صة بالفرد بوجه خا�ص‪،‬‬
‫الأجنا�س الأدبية‬ ‫ال�شعر والنثر‪ ،‬وهو ت�صنيف قديم ولكن ُبثت‬ ‫وبالمجتمع بوجه عام)‪ .‬ولم يقت�صر الأمر على‬
‫جميعها ت�شترك‬ ‫فيه روح ج��دي��دة‪ ،‬ال �سيما بعدما ا�شتهرت‬ ‫الفيل�سوف الإغريقي ال�شهير‪ ،‬بل �إن المفكرين‬
‫في بع�ض المعايير‬ ‫الكتابة الروائية في الأدب المعا�صر‪ .‬وهناك‬ ‫المعا�صرين قد �أدلوا بدلوهم في هذا الم�ضمار‪،‬‬
‫ت�صنيف �آخ��ر يجن�س الأدب �إل��ى �أدب غنائي‬ ‫فعلى �سبيل ال��م��ث��ال؛ ي��ق��دم لنا الفيل�سوف‬
‫وال�سمات وتختلف‬
‫و�أدب ملحمي و�أدب درامي‪ ،‬والأخير هو الأدب‬ ‫الفرن�سي من �أ�صل بلغاري تزفيتان تودوروف‪،‬‬
‫مع بع�ضها الآخر‬ ‫المت�صل بكتابة الأعمال الدرامية‪ ،‬مثل كتابة‬ ‫المتوفى عام (‪2016‬م)‪ ،‬في كتابه المو�سوم‬
‫الم�سرحيات والأعمال الدرامية‪ ،‬كالتمثيليات‬ ‫بـ(نظرية الأج��ن��ا���س الأدب��ي��ة‪ ،‬درا���س��ات في‬
‫والم�سل�سالت التي تكتب لل�شا�شة الف�ضية‪،‬‬ ‫التنا�ص والكتابة والنقد) تعريف ًا �آخر للجن�س‬
‫�إ�ضافة �إلى �سيناريوهات الأفالم‪ .‬كما �أن هناك‬ ‫الأدبي ب�أنه‪( :‬مجموعة من الخ�صائ�ص تت�صل‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪92‬‬


‫�أفكار‬

‫الوجداني المحمل بالدالالت الفكرية والر�ؤيوية‬ ‫ت�صنيف ًا �آخر ُيرجع جميع الأعمال الإبداعية‬
‫النافذة‪.‬‬ ‫�إل��ى المقابلة بين التراجيديا والكوميديا‪.‬‬
‫ال�سرد كفن قائم‬ ‫كما �أن من �أبرز ما يميز ال�سرد كفن وفعل‬ ‫وباخت�صار �شديد؛ يمكن تحديد الأجنا�س‬
‫�إبداعي عابر للأجنا�س الأدب��ي��ة‪ ،‬هو القدرة‬ ‫الأدب��ي��ة ف��ي اللغة العربية وف��ق الت�صنيف‬
‫يمكن تعريفه ب�أنه‬ ‫اال�ستثنائية على �صهر الحقب والع�صور‬ ‫الثنائي ب�أنها‪ :‬ال�شعر بكل �أ�شكاله الكال�سيكية‬
‫يقوم على تحويل‬ ‫والأزم���ان المتعددة والمتراكبة في بوتقة‬ ‫وال��ح��داث��وي��ة‪ ،‬ب��م��ا ف��ي ذل ��ك ق�صيدة النثر‬
‫مجموعة مت�سل�سلة‬ ‫�أفعال و�أح��داث مترابطة ومتوا�شجة زمني ًا‪،‬‬ ‫باعتبارها �شعراً‪ ،‬وال�صنف الثاني هو النثر‬
‫وكذلك قدرته على �إع��ادة �صياغة الأح��داث‬ ‫الذي ي�شتمل على الأعمال الق�ص�صية وال�سردية‪،‬‬
‫من الأحداث‬ ‫و�إع��ادة �صيرورتها ب�أ�سلوب جميل يتما�شى‬ ‫بدءاً من الق�صة الق�صيرة جداً‪ ،‬مروراً بالق�صة‬
‫والوقائع �إلى ن�ص‬ ‫مع الذائقة العامة من خالل التقاط الأحداث‬ ‫الق�صيرة والأق�صو�صة والق�صة الطويلة‪� ،‬صعوداً‬
‫مدون يخدم فكرته‬ ‫الالفتة من التجربة الإن�سانية الوجودية‪،‬‬ ‫�إل��ى الرواية‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى الكتابة الم�سرحية‬
‫و�إي�صال الحقائق �إلى نقطة‪ ،‬ما مع المحافظة‬ ‫أدبية‬
‫وفن كتابة ال�سيرة‪ .‬كما توجد �أجنا�س � ّ‬
‫على تراتبية الوقائع‪ ،‬وكل ذلك يتم عبر عالقة‬ ‫م��ح��دودة االنت�شار وغير �شائعة‪ ،‬من بينها‬
‫تبادلية �إذا جاز التعبير‪ ،‬بين الكاتب والمتلقي‪،‬‬ ‫ال�شفهي‪ ،‬وهو كل ما يتم تقديمه �شفهي ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الأدب‬
‫ولذلك نجد �أن فكرة ال�سرد قد تطورت وتبلورت‬ ‫وكذلك يمكن اعتبار الأ�ساطير والخرافات التي‬
‫مفاهيمه وم��دار���س��ه ب�شكل تكاملي‪ ،‬منذ‬ ‫تناقلتها الأجيال جن�س ًا �أدبي ًا بحد ما‪� ،‬إ�ضافة‬
‫ال�سرد فن وفعل‬
‫�أر�سطو طالي�س (‪ 322‬ق‪.‬م)‪ ،‬مروراً بغو�ستاف‬ ‫�إل��ى الحكايات والق�ص�ص ال�شعبية والكتابة‬
‫�إبداعي عابر‬ ‫فلوبير (‪1880‬م)‪ ،‬و�صو ًال �إلى هنري جيم�س‬ ‫ال�صحافية والكتابة التاريخية‪.‬‬
‫للأجنا�س الأدبية‬ ‫(‪1916‬م) وم��ن ج��اء بعده‪ ،‬وهكذا تكاملت‬ ‫�أما ال�سرد كفن قائم بذاته؛ فيمكن تعريفه‬
‫بقدرته اال�ستثنائية‬ ‫�أنماط الق�ص وال�سرد الأدبي وتر�سخت و�سائله‬ ‫ب�أنه فن يقوم على تحويل مجموعة مت�سل�سلة‬
‫التنفيذية‪.‬‬ ‫من الأحداث والوقائع المترابطة فيما بينها‪،‬‬
‫على �صهر الحقب‬ ‫�إن قدرات ال�سرد العابرة لحدود الأجنا�س‬ ‫وال��ق��ادرة على التطور والت�صعيد �إل��ى ن�ص‬
‫والع�صور في بوتقة‬ ‫الأدبية والفنية‪ ،‬ال تقف عند ح��دود الكتابة‬ ‫نثري مدون‪ ،‬يخدم فكرة �أو ثيمة معينة‪ ،‬وبذلك‬
‫�أفعال مترابطة زمني ًا‬ ‫الأدب ��ي ��ة ال��م��ح�����ض��ة‪� ،‬أو م��ا ي�صطلح عليه‬ ‫ف�إن ال�سرد كجن�س �أدبي نجده يتفرد من بين‬
‫بالن�صو�ص الكتابية‪ ،‬فهناك ن�صو�ص ب�صرية‪،‬‬ ‫الفنون الإبداعية والكتابية الأخرى‪ ،‬ب�أنه نافر‬
‫�إذا جاز التعبير‪ ،‬تتج�سد بالفن الت�شكيلي بكل‬ ‫عن القاعدة العامة‪ ،‬وعابر لحدود الأجنا�س‬
‫�أنواعه‪ ،‬وال�سينوغرافيا والفن الفوتوغرافي‪،‬‬ ‫الأدبية بطبيعته‪ ،‬لأن التجني�س ال يعتبر معياراً‬
‫�إ�ضافة �إل��ى الفن الم�سرحي وال�سينمائي �أو‬ ‫لل�سردية‪ ،‬وذلك لأن المعيار الأ�سا�سي لها هو‬
‫المرئي عموم ًا‪ ،‬كما �أن هناك ن�صو�ص ًا �سماعية‬ ‫ح�سن التعامل مع اللغة والقدرة على ابتكار‬
‫تتج�سد بالفن المو�سيقي والغنائي بكل �أبعاده‬ ‫التراكيب غير المطروقة‪ ،‬والمعاني الم�ؤثرة في‬
‫الن�صو�ص الب�صرية‬
‫و�أن��واع��ه‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى ال��م ��ؤث��رات ال�صوتية‬ ‫النف�س الإن�سانية والفاعلة في الواقع على حد‬
‫ت�سهم في جعل‬ ‫الأخرى‪ ،‬وجميع هذه الفنون متوائمة متوا�شجة‬ ‫�سواء من خالل الدالالت العميقة والمكا�شفات‬
‫ال�سرد منجزاً‬ ‫فيما بينها‪ ،‬لذلك ف�إن من العوامل الأ�سا�سية‬ ‫االجتماعية الوا�ضحة‪ ،‬والتي تتجلى من خالل‬
‫�سواء بالت�شكيل �أو‬ ‫في االرتقاء بم�ستوى ال�سرد‪ ،‬هي حالة التوا�شج‬ ‫القدرات التعبيرية الخا�صة بكل �سارد‪ ،‬وهذا‬
‫والتالقح بين هذه الفنون جميعها من خالل‬ ‫ما ا�ستدعى ال�سرد ال�ستبطان كل �أنواع الكالم‬
‫الت�صوير �أو الم�سرح‬ ‫الذائقة الفنية الراقية والوعي المعرفي العميق‬ ‫وا�ستيعاب جميع الموا�ضيع؛ من كتابة ال�سيرة‬
‫�أو ال�سينما‬ ‫لهذه الفنون مجتمعة‪ ،‬وهذا الأمر ال مندوحة‬ ‫الذاتية �أو الت�سجيل الوقائعي لل�شخ�صيات‬
‫منه لكل المبدعين‪ ،‬فالمو�سيقي ينبغي �أن يكون‬ ‫والأحداث‪ ،‬و�إعادة كتابة التاريخ ومكا�شفاته‬
‫على �صلة حميمة بالأدب وفنونه‪ ،‬والت�شكيلي‬ ‫بر�ؤية عميقة واعية‪� ،‬إ�ضافة �إلى اال�ستخدام‬
‫ينبغي �أن يكون على �صلة بجميع �أنواع الفنون‬ ‫والم�صعد للغة لحد االق��ت��راب من‬
‫ّ‬ ‫الممو�سق‬
‫الأخرى الب�صرية وال�سماعية والكتابية‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫لغة ال�شعر‪ ،‬ويت�أتى ذلك كله من خالل الإن�شاء‬

‫‪93‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫بين غواية ال�سرد و�شغف القارئ‬
‫�إليف �شافاق في روايتها‬
‫‪ ٣٨‬ثانية)‬
‫‪ ١٠‬دقائق وو‪٣٨‬‬
‫((‪١٠‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪94‬‬


‫قراءة‬

‫(�إذا لم يوجد ال�شغف بين الكاتب وق�صته‪ ،‬فالغالب لن يوجد‬


‫�شغف بين ال��ق��ارئ والق�صة‪ ،‬فالعالقة تبادلية)‪ ،‬م��ن هذا‬
‫القول للكاتبة (�إليف �شافاق) (‪ ،)Elif Schfak‬وال��ذي ُيدرج‬
‫في خانة (‪ )11‬ن�صيحة في الكتابة‪ ،‬نبد�أ فل�سفة هذا المقال‬
‫حاولت �إظهار الوجه‬ ‫الذي يعاين �أحدث روايات للكاتبة‪ ،‬والتي اختارت لها عنوان‬
‫الآخر للمجتمع‬ ‫د‪ .‬يو�سف رحايمي‬
‫(‪ 10‬دقائق و‪ 38‬ثانية في ه��ذا العالم الغريب) تحت �أفق‬
‫من خالل هند�ستها‬ ‫(عالقة تبادلية) بين قارئ لن�ص متلهف للنقد‪ ،‬وكاتبة تحاول با�ستمرار بناء‬
‫لمعمار الرواية‬ ‫ن�سق روائي خا�ص بها‪ ،‬بدء ًا من روايتها (قواعد الع�شق الأربعون)‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬
‫وتوزيع الأحداث‬ ‫هذا المنجز الروائي الذي فتح عوالم �أخرى �أثبتت فيه (�شافاق) دور الكتابة‬
‫وتنوع ال�شخ�صيات‬ ‫في تغيير الواقع وقدرتها على التجول في مناطق محرمة �إن �صح التو�صيف‪.‬‬
‫الرجة النف�سية التي تدعوه بالقوة �إلى القراءة‪،‬‬ ‫�صدرت رواية (‪ 10‬دقائق و‪ 38‬ثانية في‬
‫ولهذا اعتنت به مدار�س ال�سرد وال�سيميوطيقا‪،‬‬ ‫هذا العالم الغريب) في ن�سختها الإنجليزية‬
‫و�أعطاه الباحثون قيمة كبرى بو�صفه طريقة‬ ‫�سنة (‪ ،)2019‬والتي ُر�شحت للقائمة الق�صيرة‬
‫من طرائق الت�أثير بالقول‪ ،‬وعتبة �أولية ُتهدي‬ ‫للمان بوكر البريطانية العام الما�ضي‪ ،‬وقد‬
‫القارئ مفاتيح التفكيك والت�أويل‪ .‬ولعل الكاتبة‬ ‫ترجمت �إل��ى العربية في �سنة (‪ )2020‬عن‬
‫وظفت فتنة العنوان‬ ‫(�شافاق) �إح��دى ه ��ؤالء الكتاب الذين اعتنوا‬ ‫دار الآداب ترجمة محمد دروي�ش‪ .‬تحكي فيها‬
‫الذي ي�شي بماهيته‬ ‫بالعناوين في رواياتهم �أو كتبهم‪ .‬ويكفي �أن‬ ‫الكاتبة حياة بطلتها (ليلى تيكيال) المر�أة التي‬
‫ويلقي بظالله على‬ ‫ن�شير �إلى عنوان هذه الرواية‪ ،‬التي هي مدار‬ ‫دفعتها الحياة �إلى �أن تكون غازية في مدينة‬
‫حديثنا في هذا المقال‪.‬‬ ‫�إ�سطنبول‪ ،‬والتي ُقتلت و�أُلقي بجثتها في م�صب‬
‫ما �سيقال في المتن‬
‫تبد�أ غواية ال�سرد من لعبة العنوان‪ ،‬الذي‬ ‫قمامة لتبد�أ من ذلك المكان �سرد حياة كاملة‬
‫يظل في اعتقادي عربون وفاء‪ ،‬تقدمه الكاتبة‬ ‫بكل تفا�صيلها‪ .‬وكما عهدنا �شافاق؛ تنتقل‬
‫للقارئ قبل �أن يقر�أ الرواية‪ ،‬فعنوان من قبيل‬ ‫عد�سة الق�ص عندها �إل��ى ما هو غير متوقع‬
‫(‪ 10‬دقائق و‪ 38‬ثانية في هذا العالم الغريب)‬ ‫بالن�سبة �إلى القارئ‪ ،‬حيث نتفطن �إلى �أن عقل‬
‫ليلى مايزال ي�شتغل بعد توقف قلبها‪ ،‬وهي‬
‫غمزة �أدبية بنتها �شافاق على فر�ضية علمية‬
‫المخ ي�ستمر في العمل لب�ضع دقائق‬ ‫تقول ب�أن ّ‬
‫بعد الوفاة‪ ،‬وت�صل هذه المدة ك�أق�صى تقدير‬
‫�إلى ما يقارب (‪ )12‬دقيقة‪ .‬في تلك الدقائق‬
‫تبد�أ بطلة الرواية (ليلى تيكيال) با�سترجاع‬
‫لحظات حياتها من البدء‪ ،‬و�صو ًال �إلى ما هي‬
‫عليه‪ ،‬ومعها يبد�أ قلم (�شافاق) يمرر الق�ضايا‬
‫والت�صورات‪ ،‬التي تتعلق بالواقع ال�سيا�سي‬
‫واالجتماعي والثقافي‪ ،‬و�إظهار الوجه الآخر‬
‫لتركيا‪� ،‬أو ن�صف القمر المظلم كما �أ�سمته‪ ،‬حيث‬
‫تنك�شف لنا عذابات النا�س والالجئين هناك‪،‬‬
‫وتبث �أمامنا م�شاهد حية لليل �إ�سطنبول الظالم‪.‬‬
‫حيث ُي��ق��ال ف��ي محافل النقد الأدب���ي‪،‬‬
‫علوان يعلو الن�ص‪ ،‬ويك�شف عن‬ ‫ٌ‬ ‫�إن العنوان‬
‫ماهيته‪� ،‬إذ ُيلقي بظالله عما �سيقال في المتن‪،‬‬
‫فهو لم يعد مجرد زخ��رف من اللغة يزين به‬
‫الكاتب مداخل معماره الكتابي‪ ،‬و�إنما بات‬
‫فل�سف ًة ت�شد ذائقة القارئ‪ ،‬و ُتح ِدث فيه نوع ًا من‬

‫‪95‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءة‬

‫داخل ق�سم العقل‪ ،‬يحدث �أن يبد�أ �سرد الرواية‬ ‫م�ستفز كعتبة �أولية‪� ،‬أ�ضف �أن��ه ُيقحمك منذ‬
‫من مكب قمامة‪ ،‬ويحدث �أن يكون ال�سارد جثة‬ ‫البداية في م�سارح الت�أويل‪ .‬و�إن �أنت اخترت‬
‫هامدة توقف قلبها عن الخفقان‪ ،‬ويحدث �أن‬ ‫الذهاب بعيداً مع الكاتبة‪ ،‬التي بنت عنوان‬
‫نائب فاعلٍ في فعل الحكي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يتموقع العقل‬ ‫روايتها وفق فر�ضية علمية‪ ،‬كما �أ�شرنا في‬
‫فيق�صي القلب للحظات بعد �أن �سيطر على‬ ‫العنوان‪ ،‬ف�إنك �ستجد نف�سك �أمام مفارقة عجيبة‪،‬‬
‫�أبجديات الإبداع الأدبي لفترات‪ .‬هنا �ستتجه‬ ‫فكيف لرواية تمتد على م�ساحة (‪ )1000‬كلمة‪،‬‬
‫عد�سة الق�ص �إلى حياة البطلة (ليلى تيكيال)‬ ‫�أن ُت�سرد في لحظات معدودة اختزلتها الكاتبة‬
‫عن بدايات ولعها الأول��ى طفلة ابنة لهارون‬ ‫في ‪ 10‬دقائق و‪ 38‬ثانية؟ ولعل هذه المفارقة‬
‫من زوجة ثانية‪ ،‬التي ترف�ض تقريب ًا االعتناء‬ ‫العجيبة هي التي تجعل العنوان‪ ،‬وعلى خالف‬
‫بها لتربيها امر�أة ثانية‪ ،‬وفي ذلك الجو تهرب‬ ‫بنائه العلمي‪ ،‬ي�شد ذائقة القارئ‪ ،‬ال �سيما حين‬
‫�إلى �إ�سطنبول لتجد نف�سها هناك �أمام معاناة‬ ‫يكت�شف تباع ًا �أنه ي�سيطر على هند�سة الرواية‪،‬‬
‫�أخرى‪ ،‬حيث يقع بيعها وتتعرف �إلى �أ�صدقاء‬ ‫حيث �ستجدها موزعة وف��ق الدقائق في عد‬
‫ُجدد هم (�سنان) (ناالن نو�ستالجيا)‪( ،‬زينب‬ ‫تنازلي‪ ،‬تت�سارع في الأح��داث وتختزل فيه‬
‫‪( ،)122‬جميلة)‪( ،‬هيميرا)‪ ،‬وه���ؤالء هم من‬ ‫حياة امر�أة ب�أكملها‪.‬‬
‫�إليف �شافاق‬ ‫�سيبحثون عن جثمان ليلى في مقبرة المن�سيين‬ ‫�اء على ذل��ك‪ ،‬ف ��إن العنوان في هذه‬ ‫وب��ن� ً‬
‫ودفنها ب�شكل يليق بها‪ .‬هذا الق�سم احتوى كل‬ ‫الرواية فتنة تهم بالقارئ‪ ،‬وتقفل عليه �أبوابها‪،‬‬
‫الدقائق التي كانت تتعلق بليلى‪ ،‬والطريف هنا‬ ‫وهو اليزال يالم�س ورقاتها الأولى‪ ،‬وهو كذلك‬
‫ن�شط‬
‫�أن عقلها الذي ي�شتغل في دقائقه الأخيرة ٌ‬ ‫يك�شف عن الوجه الإبداعي للكاتبة‪ ،‬فهي التي‬
‫ي�ستح�ضر كل التفا�صيل‪� .‬أما الق�سم الثاني من‬ ‫تمتلك ح�س ًا عميق ًا في ن�سج عوالم روايتها‪ ،‬وقد‬
‫تبني روايتها على‬ ‫الرواية؛ فهو بعنوان الج�سد‪ ،‬الذي اعتنت به‬ ‫�ألفنا منها ذلك في (قواعد الع�شق الأربعون)‪،‬‬
‫فر�ضية علمية ت�شير‬ ‫�شافاق بما بذله �أ�صدقاء ليلى في �سبيل دفنها‪،‬‬ ‫وه��ذا في نظري مهم ج��داً في م�سائل النقد‬
‫�إلى �أن المخ ي�ستمر‬ ‫وهنا طرحت الكاتبة فكرة ال�صداقة الحقيقية‪،‬‬ ‫الأدبي‪ ،‬فكلما كانت العناية بالعنوان �شديدة‪،‬‬
‫في حين يبقى ق�سم ال��روح امتحان ًا للقارئ‬ ‫كانت ن�سبة نجاحها كبيرة‪ .‬ففي مقالة لها‪،‬‬
‫في العمل لب�ضع‬ ‫الذي ال بد له �أن يتم الورقات الأخيرة‪ ،‬حتى‬ ‫ُن�شرت في �صحيفة (تليغراف) البريطانية‪،‬‬
‫دقائق بعد الوفاة‬ ‫يعثر على مبتغى الق�ص الذي ال نريد �إعدامه في‬ ‫كتبت �إليف �شافاق (‪ )11‬جملة من الن�صائح‬
‫هذا ال�سياق‪.‬‬ ‫في طرائق الكتابة‪ ،‬ولعل من بين ما �شدني‬
‫عرت (�شافاق) في هذه الرواية‬ ‫ّ‬ ‫لقد‬ ‫في هذه الن�صائح قولها (الطريقة الوحيدة‬
‫الوجه الآخر لتركيا‪ ،‬حيث ر�سمت لنا‬ ‫لتعلم الكتابة هي �أن تكتب)‪ ،‬و�أظن‬
‫اجتماع �أ�صدقاء جمعتهم الم�أ�ساة‬ ‫�أن �شافاق لديها موهبة‬
‫الواحدة‪ ،‬م�أ�ساة المجتمع القا�سي‪.‬‬ ‫عالية في اقتنا�ص‬
‫وقد ك�شفت لنا حياة الأقليات‬ ‫الم�سائل وبناء ن�سق‬
‫الم�ضطهدة‪ ،‬و�سلطت ال�ضوء‬ ‫روائ����ي‪ ،‬ع��ل��ى فكرة‬
‫ع��ل��ى ال��ن��ا���س ال��ف��اري��ن من‬ ‫طريفة‪.‬‬
‫في هذه الدقائق‬ ‫�أوطانهم‪ ،‬مثل �صديقتها‬ ‫�أم��ا �إن عرجنا �إلى‬
‫الـ(‪ )١٠‬تبد�أ بطلة‬ ‫الإفريقية‪ ،‬طمع ًا في حياة‬ ‫معمار الرواية‪ ،‬فنقول �إنه‬
‫الرواية ا�سترجاع‬ ‫�آمنة في �إ�سطنبول‪ ،‬التي‬ ‫ال �شك في �أن �أولى الم�سائل‬
‫كل لحظات حياتها‬ ‫لم تكن �إال جهنم على‬ ‫التي ُيوليها القارئ عناية‬
‫الأر������ض بالن�سبة‬ ‫بعد ال��ع��ن��وان‪ ،‬ه��ي هند�ستها‬
‫ال�سابقة‬ ‫�إليها‪ .‬في الرواية‬ ‫وكيفية توزيع الم�سائل فيها عبر‬
‫�ستجد ن�صيب ًا من‬ ‫ف�صول تحكي الوقائع والأحداث‪.‬‬
‫الأح��داث ال�سيا�سية بعيدة‬ ‫�أم��ا عن روايتنا ه��ذه؛ فنحن �أمام‬
‫الزمن‪ ،‬تعود �إلى فترة ال�ستينيات‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫معمار طريف هند�سته الكاتبة وفق‬
‫عن ق�ضايا تتعلق بالمر�أة‪ ،‬ي�ضيق بها المقام‬ ‫�أق�سام ثالثة تقريب ًا (العقل‪ ،‬الج�سد‪،‬‬
‫ل�سردها كلها‪ ،‬وتبقى في الأخير الكتابة وحدها‬ ‫الروح) وهو توزيع في الم�سائل يخفي وراءه‬
‫التي ت�ستطيع ت�سليط ال�ضوء على هذه الأ�شياء‪.‬‬ ‫عق ًال ذا بعد فل�سفي في قراءة الم�سائل‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪96‬‬


‫مقاالت‬
‫ر�أي‬

‫حول ظاهرة‬
‫غياب النقد‬
‫والمهتمين بدرا�سة الأدب‪ ،‬وهي القاعدة‬ ‫تزخر الفعاليات في مختلف الأحداث‬
‫الأكبر‪ .‬فالقراء يهتمون دائم ًا بمتابعة الآراء‬ ‫الثقافية بحلقات ن��ق��ا���ش ح ��ول الأدب‬
‫النقدية‪ ،‬حتى يقرروا مدى �أحقية العمل‬ ‫والإب���داع ب��أل��وان��ه‪ ،‬كما تدعو دور الن�شر‬
‫د‪ .‬وائل �إبراهيم الد�سوقي‬ ‫بالقراءة واالقتناء‪ ،‬كذلك معرفة الجوانب‬ ‫يومي ًا �إلى حفالت توقيع لأنواع �شتى من‬
‫التي غابت عنهم �أثناء القراءة‪ ،‬ي�ستوي في‬ ‫الكتابات الأدب��ي��ة وغيرها‪ .‬وكنت دائ��م‬
‫الأمريكية‪ ،‬ثم انتقل �إلى �أوروبا ومنها �إلى‬ ‫ذلك النا�شر نف�سه‪ ،‬الذي يجب �أن يفيد من‬ ‫المتابعة بالح�ضور والم�شاركة‪ ،‬حتى‬
‫الوطن العربي بعد عودة معظم المبتعثين‬ ‫المالحظات لتنمية فنه واختياراته‪.‬‬ ‫�أغ�ضبني �أحد الكتاب �شاركت في نقا�ش �أحد‬
‫�إلى بالدهم‪ ،‬وقد اتجه النقد على �أيديهم �إلى‬ ‫�أت���ذك���ر م�لاح��ظ��ة م��ه��م��ة ل��ل��دك��ت��ور‬ ‫م�ؤلفاته الأدبية منذ �سنوات‪ ،‬حيث فقال‬
‫طريق مختلف يرتبط بتقاليد اللغة العربية‬ ‫محمد ب��ن مري�سي ف��ي مجلة (�أب��ع��اد)‬ ‫غا�ضب ًا و�سط الح�ضور (لماذا لبيت الدعوة‬
‫و�آداب��ه��ا‪ ،‬فظهرت االختالفات وتعمقت‪،‬‬ ‫ال�سعودية منذ ع��دة �سنوات‪ ،‬و�صف بها‬ ‫للمناق�شة و�أن��ت غير را���ض عن كتابي؟)‪.‬‬
‫و�أ�صبح النقد في البالد العربية ال يملك‬ ‫الناقد ب�أنه يعد من جمهور القراء‪ ،‬لكنه‬ ‫تكرر ذلك حينما حطم �أح��د الأ�ستاذة كل‬
‫ر�ؤية واحدة �أو يتبع مدر�سة محددة‪ ،‬فكان‬ ‫ي�سجل انطباعاته حول العمل الأدبي‪ ،‬حتى‬ ‫التقاليد الجامعية‪ ،‬و�سمح للح�ضور في‬
‫تياراً نقدي ًا جمع ر�ؤى مختلفة ومتعددة‪.‬‬ ‫و�إن ت�ضمنت �شيئ ًا من الحدة‪ ،‬خا�صة عند‬ ‫�إحدى المناق�شات العلمية لطالب ماج�ستير‪،‬‬
‫وبمرور الزمن ومع بداية ت�سعينيات القرن‬ ‫الناقد الب�صير‪ ،‬الذي يمتلك دقة المالحظة‬ ‫ب�أن يوجهوا مالحظاتهم له‪ ،‬فقمت ب�إبداء‬
‫الفائت‪ ،‬لم يعد النقد العلمي للأعمال الأدبية‬ ‫في �إدراك طبيعة العالقات القائمة بين‬ ‫ق�صر فيها‪،‬‬‫ر�أي��ي في بع�ض النقاط التي ّ‬
‫مهنة يلتفت �إليها الكاتب والنا�شر‪ ،‬بقدر ما‬ ‫بنيات العمل الإب��داع��ي‪ ،‬وتنبه �إل��ى بع�ض‬ ‫فقام الطالب بعد ذلك بتوبيخي قائ ًال (لكن‬
‫اعتبراها الزم��ة لإتمام عملية الت�سويق‪،‬‬ ‫العنا�صر المفقودة في الن�ص‪ .‬وعندما يبرز‬ ‫لماذا ح�ضرت و�أنا ال �أعجبك؟)‪.‬‬
‫ف�أ�صبح النقد الفعلي مح�صوراً داخ��ل‬ ‫الناقد المو�ضوعي بع�ض الم�آخذ على العمل‬ ‫الحقيقة �أن مهنة الناقد‪ ،‬تحولت تحو ًال‬
‫المنظومة الأكاديمية بنظرياته الجامدة‪،‬‬ ‫الأدب��ي‪ ،‬ف�إنه ال ينطلق من موقف عدائي‬ ‫نوعي ًا خ�لال العقود الأخ��ي��رة‪ ،‬من مهنة‬
‫التي ال تجد انعكا�س ًا في الممار�سة العملية‬ ‫للعمل �أو منتجه‪ ،‬و�إن��م��ا من وع��ي فكري‬ ‫مهمتها الأول��ى تقييم وتحليل المحتوى‬
‫على �أر���ض ال��واق��ع‪� ،‬سواء على �صفحات‬ ‫وذوق حر؛ والحرية هنا ال تعني �أن يقول‬ ‫و�إي�ضاح ما به من ق�صور‪ ،‬و�إبراز جمالياته‪،‬‬
‫ال�صحف والمجالت‪� ،‬أو �أثناء الفعاليات‬ ‫�أي �شيء‪ ،‬فالناقد يدرك تمام ًا �أن مهمته‬ ‫�إلى مهنة تجامل ك ًال من الم�ؤلف والنا�شر‪،‬‬
‫الثقافية المختلفة‪.‬‬ ‫البناء ولي�س الهدم‪ ،‬وهكذا فب�إمكانه �أن‬ ‫وت�شاركهما في ت�سويق الكتاب و�صاحبه‪.‬‬
‫نحن ال ننادي ب�ضرورة ممار�سة الق�سوة‬ ‫يخلق �أدب ًا مثيراً‪ ،‬مثلما كان ب�إمكانه الغ�ض‬ ‫و�أ�صبح الناقد ذا ح�ضور �شكلي في معظم‬
‫في النقد‪ ،‬كما فعل عبا�س محمود العقاد‬ ‫من جماليات الأدب‪ .‬فالأدب والنقد وجهان‬ ‫الفعاليات‪ ،‬و�أ�صبحت منظومة الم�ؤلف‬
‫في (قمبيز في الميزان)‪� ،‬أو م�صطفى �صادق‬ ‫لعملة واحدة‪.‬‬ ‫والنا�شر والناقد محكومة ب�شبكة عالقات‬
‫الرافعي في (على ال�سفود) وغيرهما‪ .‬لكننا‬ ‫وقد تطورت مهنة الناقد تطوراً ملحوظ ًا‬ ‫ذات منافع متبادلة‪ ،‬على الرغم من �أن‬
‫نرغب في �إيجاد حالة من النقد المتوازن‪،‬‬ ‫خ�لال القرن الع�شرين‪ ،‬وظهر تيار نقدي‬ ‫النقد ظاهرة �أدبية اجتماعية‪ ،‬توجه عملها‬
‫تعطي الكاتب حقه والأدب والقارئ الحق‬ ‫جديد في بداياته عرف با�سم (النقد الجديد)‪،‬‬ ‫في الأ�سا�س �إل��ى قاعدة كبيرة من القراء‬
‫نف�سه‪ ،‬وف��ي الوقت ذات��ه يجب �أن نو�ضح‬ ‫على يد الأمريكي جيم�س �سبينجارن‪ ،‬والذي‬
‫�أن هناك بع�ض النقاد في وطننا العربي‪،‬‬ ‫ا�ستخدم فيه و�سائل جديدة تحدد بدقة ما‬ ‫تحولت مهمة الناقد من‬
‫يتمتعون بالفعل بقدر من المهنية‪ ،‬التي‬ ‫يق�صده الناقد‪ ،‬اختلفت تمام ًا عن و�سائل‬
‫تمكنهم من تحقيق الهدف من النقد‪ ،‬لكنهم‬ ‫م��دار���س النقد ف��ي ال��ق��رن التا�سع ع�شر‪،‬‬ ‫تحليل و�إبراز جماليات‬
‫غير مطلوبين وال يتم ت�سليط ال�ضوء عليهم‪،‬‬ ‫كاالنطباعية والواقعية‪ ،‬وغيرهما‪ .‬وكانت‬ ‫العمل الإبداعي �إلى‬
‫لأنهم ال يحققون الهدف التجاري للنا�شر‪� ،‬أو‬ ‫الأغلبية العظمى من النقاد الذين انت�سبوا‬ ‫عالقات عامة ومجاملة‬
‫�أهداف الم�ؤلف الذاتية‪.‬‬ ‫�إل��ى ذل��ك التيار ف��ي بداياته م��ن القارة‬
‫للم�ؤلف والنا�شر‬

‫‪97‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫يجمع بين ال�شعر والنقد‬

‫علي جعفر العالق‪:‬‬


‫ق�صائدي ال تت�شابه ولكل منها �شخ�صيتها‬
‫عمل �أ�ستاذاً للأدب والنقد في (جامعة‬
‫�صنعاء)‪ .‬انتقل بعدها للعمل �أ�ستاذاً للأدب‬ ‫���ش��اع��ر‪ ،‬ون��اق��د‪ ،‬و�أك��ادي��م��ي ع��رب��ي ك��ب��ي��ر‪ ..‬ن�ش�أ‬
‫الحديث‪ ،‬والنقد بجامعة الإم��ارات‪ ،‬وهو‬ ‫بمحافظة (وا���س��ط) ف��ي جنوبي ال��ع��راق؛ فر�ضع‬
‫يقيم بمدينة (العين)‪ ،‬و�أ�سهم في تقديم‬ ‫فنون ال�شعر‪ ،‬وحلو الكالم‪ ،‬من �أر�ضه التي يرقد‬
‫العديد من الأ�سماء ال�شعرية‪ ،‬والق�ص�صية‪،‬‬
‫من خ�لال �إ�شرافه على الن�شاط الأدب��ي‬
‫ال�شعر فيها تحت كل حجر‪ ،‬وبين �أفياء النخيل‪،‬‬
‫ف��ي ن��ادي الإب���داع بجامعة الإم���ارات‪.‬‬ ‫وك��ح��ل ال��ع��ي��ون‪ .‬ح�صل على الإج����ازة ف��ي اللغة‬
‫محمد زين العابدين‬
‫عمل رئي�س ًا لتحرير مجلة (الأقالم) �أ�شهر‬ ‫العربية من (الجامعة الم�ستن�صرية) ببغداد عام‬
‫المجالت الأدب��ي��ة العراقية (‪-1984‬‬ ‫(‪ ،)1973‬ثم الدكتوراه من جامعة (�إك�ستر) البريطانية عام (‪.)1993‬‬
‫‪� .)1990‬أ���ص��در دي��وان��ه الأول (ال �شيء‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪98‬‬


‫محاورة‬

‫الجماعي عن‬
‫ّ‬ ‫الريفية‪ ،‬وما ي�صاحب تعبيرهم‬ ‫يحدث‪ .‬ال �أحد يجيء) في �سنة تخرجه (‪،)1973‬‬
‫الفرح من �أ���ص��وات‪ ،‬و�شعر‪ ،‬وح��رك��ات مفعمة‬ ‫و�أهداه �إلى �أبيه‪ ،‬معلمه الأول في ال�شعر‪ .‬وبعدها‬
‫الرجولي‪ ،‬وم�شاعر الحب الخالية من‬
‫ّ‬ ‫بالفرح‬ ‫توالت �إ�صداراته ال�شعرية؛ ومنها‪( :‬وطن لطيور‬
‫االبتذال‪.‬‬ ‫الماء)‪( ،‬فاكهة الما�ضي)‪( ،‬نداء البدايات)‪( ،‬هكذا‬
‫قلت للريح)‪( ،‬حياة في الق�صيدة)‪ .‬كما �أ�صدر‬
‫¯ في ق�صيدتك (نبيذ الكالم) قدمت المر�أة‬ ‫عدداً من الم�ؤلفات‪ ،‬والدرا�سات النقدية؛ منها‪:‬‬
‫اللغة ال�شعرية لي�ست‬ ‫واحتفيت بها؟‬ ‫(ال�شعر‪ ،‬والت ّلقي)‪( ،‬في حداثة الن�ص ال�شعري)‪،‬‬
‫خادمة للمعنى‬ ‫‪ -‬المر�أة في �شعري تتمدد على �سرير من‬ ‫(ال��دالل��ة المرئية)‪( ،‬م��ن ن�ص الأ�سطورة‪� ،‬إلى‬
‫اللغوي‪ ،‬واالحتفاء الذي يكاد يرتقي �إلى‬ ‫الترف‬ ‫�أ�سطورة الن�ص)‪ .‬فاز بعدة جوائز مرموقة‪ ،‬من‬
‫ح�صراً وال و�سيلة‬ ‫ّ‬
‫التقدي�س �أحيان ًا‪� ،‬أعني تقدي�س الأنثى‪ ،‬الجديرة‬ ‫�أبرزها‪( :‬جائزة الملك في�صل)‪( ،‬جائزة ال�شيخ‬
‫مجردة لإي�صاله‬ ‫بالمحبة المهلكة‪ ،‬والبطولة البي�ضاء‪ ،‬والغواية‬ ‫زاي��د للكتاب)‪( ،‬ج��ائ��زة ال�شارقة ل�ل�إب��داع)‪،‬‬
‫الرفيعة‪ .‬وهذه الأنثى تبد�أ‪ ،‬ربما من ح�ضور الأم‪،‬‬ ‫(جائزة�سلطان العوي�س)‪( ،‬ج��ائ��زة البابطين‬
‫مروراً بكل �صور المر�أة‪ ،‬الملهمة‪ ،‬وال�شريكة في‬ ‫للإبداع ال�شعري)‪ .‬وقد كان لي معه هذا الحوار‪،‬‬
‫الوعي‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والعذاب‪ .‬كانت �أمي‪ ،‬ك�أي � ٍّأم‬ ‫خالل �إحدى زياراته للقاهرة‪:‬‬
‫مجبولة على العطاء‪ ،‬والت�ضحيات التي كانت‬
‫¯ نريد �أو ًال التعرف �إلى المنابع التي �شكلت تتجاوز وعيها الب�سيط �آن��ذاك‪ ،‬لكنها تن�سجم‬
‫وجدانك‪ ،‬والظروف التي جمعتك بعالقة مع مع تلقائيتها في الحب‪ ،‬وال�صفح الأم��وم� ّ�ي‪،‬‬
‫والت�ضحية‪.‬‬ ‫ال�شعر؟‬
‫أتلمـ�س في‬
‫ً ّ‬‫�‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫تمام‬ ‫البداية‬ ‫في‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫كنت‬ ‫‪-‬‬
‫ق�صائدي تفتح على‬ ‫نف�سي مي ًال غام�ض ًا �إلى �سماع الكالم الالفت ¯ في ق�صيدتك (طائر يتعثر بال�ضوء) تقول‪( :‬ذي‬
‫ا�ستثمار الف�ضاءات‬ ‫أح��ب �سماعه‪ ،‬لغتي‪� ..‬شريكتي في ابتكار الوهم‪� ،‬أرهقها بما‬ ‫لالنتباه‪ .‬كنت �أحفظ ال�شعر‪ ،‬و� ّ‬
‫الب�صرية وتموج‬ ‫أحملها من وح�شتي)‪ ،‬ما الذي تمثله لك اللغة‬ ‫وكان ما يحفظه �أبي من ال�شعر‪� ،‬أو النوادر‪� ،‬أو � ّ‬
‫كالم الأج��داد؛ هو خميرة التذوق الأول‪ .‬كان ك�شاعر؟‬
‫الدوافع الجمالية‬ ‫�شيء يحدث‪..‬‬ ‫ذل��ك الأب‪ ،‬ه��و �أ�سطورتي ال�صغيرة الأول ��ى‪،‬‬
‫‪ -‬كانت مجموعتي الأولى (ال َ‬
‫والداللية‬ ‫أحد يجيء) قد بدت للكثيرين وك�أنها تمارين‬ ‫الم�شوبة بالكثير من البعد عن الم�ألوف‪ .‬كان ال � َ‬
‫من النادر تمام ًا‪ ،‬في تلك القرى الريفية البعيدة‪ ،‬لغوية‪ ،‬ال ت�ضع المعنى في ال�صدارة من عنايتها‬
‫وفي مجتمع �إقطاعي �شديد الق�سوة؛ �أن تجد دائم ًا‪ ،‬بل تجنح �أحيان ًا �إلى ال�صورة‪ ،‬والتعبير‬
‫فالح ًا ب�سيط ًا يعرف القراءة‪ ،‬والكتابة‪ ،‬و�أ�شياء الملتب�س‪ ،‬والجملة المفتونة بذاتها‪ ،‬بعيداً عن‬
‫�أخرى تقع على مقربة منها؛ وله منزلة كبيرة‪ ،‬تكري�س المعنى‪� ،‬أو مو�ضوع الق�صيدة‪ .‬باخت�صار‪:‬‬
‫حتى لدى �شيوخ القبائل‪ ،‬ومالكي الإقطاعيات‬
‫الكبيرة‪ .‬كان �أبي هو ذلك الفالح‪ .‬كان ينحدر‬
‫باحترام خا�ص في جنوبي‬ ‫ٍ‬ ‫من �ساللة تحظى‬
‫العراق‪ .‬وقد �ضمن له ذلك كله‪ ،‬مكانة خا�صة‪.‬‬
‫تعلمت على يديه القراءة‪ ،‬والكتابة‪ ،‬واحتراف‬
‫الكالم الجميل �أحيان ًا‪ .‬وكانت �أمي هي ال�شريك‬
‫المهم لوالدي‪ ،‬في دفعي �إلى هذا االتجاه المثير‬
‫الجواهري‬ ‫بلند الحيدري‬ ‫ت�شارلز ديكنز‬ ‫للف�ضول‪ .‬كانت تحفظ ال�شعر العامي‪ ،‬وتن�شده‬
‫ب�صوت م�ؤثر في المنا�سبات ال�شجية‪ .‬وكنت‬ ‫ٍ‬
‫�أحر�ص على �سماعها ب�شغف‪ ،‬يدفعني �إلى البكاء‬
‫�أحيان ًا‪ .‬ومن �أعظم م�آثرها؛ �أنها كانت �سبب ًا في‬
‫�إقناع والدي للهجرة من قريتنا في محافظة‬
‫وا�سط �إلى بغداد‪ .‬وعالوة على ذلك‪ ،‬لم يكن مزاج‬
‫ذلك الطفل‪ ،‬الذي كنته؛ يت�شكل في معزل عما‬
‫كنت �أ�سمعه في تفا�صيل الحياة اليومية‪ ،‬من‬
‫�صالح نيازي‬ ‫�سركون بول�ص‬ ‫جين �أو�ستن‬
‫�أغاني الأمهات‪ ،‬و�أهازيج الفالحين‪ ،‬و�أغانيهم‬

‫‪99‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫¯ هل تكتب ب�سهولة �أم ت�أخذ وقتك في الكتابة؟‬ ‫كان اهتمامي باللغة يتجاوز ربما الكثير من‬
‫وماذا تمثل لك لحظة الكتابة ال�شعرية؟‬ ‫�أبناء جيلي‪ ،‬وكانت ق�صيدتي‪ ،‬وماتزال‪ ،‬ال ت�ضع‬
‫‪ -‬تمثل لي مزيج ًا مده�ش ًا من الم�شقة‪،‬‬ ‫اللغة في خدمة مو�ضوع ما؛ فاللغة ال�شعرية‬
‫والبهجة‪ ،‬كما �أنها تجربة ال تكون نتائجها‬ ‫لي�ست خادمة للمعنى ح�صراً‪ ،‬ولي�ست و�سيلة‬
‫م�ضمونة دائم ًا‪ .‬وتكاد تكون بداية الق�صيدة‬ ‫مجردة لإي�صاله؛ بل هي المعنى الملمو�س‪� ،‬أو‬
‫�أ�صعب مفا�صلها‪ ،‬وربما ال يرتقي �إليها في‬ ‫المرئي‪.‬‬
‫ال�صعوبة �إال خاتمتها‪ ،‬التي قد تف�ضي �إلى‬
‫ال�شعرية العراقية‬ ‫والوجداني‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫والنف�سي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجمالي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الر�ضا‬ ‫¯ كيف ا�ستفدت من تكاملية الفنون في �شعرك؟‬
‫قدمت لل�شعر العربي‬ ‫تف�شل ف��ي ذل��ك‪ .‬ويمكنني ال��ق��ول؛ �إن انتهاء‬ ‫‪ -‬في الكثير من ق�صائدي‪ ،‬تنفتح الن�صو�ص‬
‫الق�صيدة‪ ،‬كان ومايزال فرحي الخا�ص‪ ،‬الذي قد‬ ‫على ا�ستثمار الف�ضاءات الب�صرية‪ ،‬وما ي�ضفيه‬
‫دائم ًا اقتراحاتها‬
‫يفوق �أفراح القلب جميع ًا‪ .‬وق�صائدي ال تت�شابه‬ ‫الن�ص على ال��ورق��ة‪ ،‬ب��دواف��ع جمالية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تموج‬
‫ّ‬
‫الجمالية والفكرية‬ ‫في ظروف كتابتها دائم ًا؛ فقد يكون لكل ق�صيدة‬ ‫ٍ‬
‫تفاوت‬ ‫ٍ‬
‫بعثرة لج�سد الكلمة‪� ،‬أو‬ ‫وداللية‪ ،‬من‬
‫�شخ�صيتها الخا�صة‪ ،‬وزمنها الخا�ص الذي‬ ‫الن�ص‪� ،‬أو تناميه‪ ،‬وجدل‬ ‫ٍ‬
‫وتوظيف لت�آكل ّ‬ ‫لوني‪،‬‬
‫ّ‬
‫ت�ستغرقه‪ .‬بع�ضها ي�أخذ وقت ًا طوي ًال‪ ،‬بينما قد‬ ‫الكتلة‪ ،‬والفراغ‪� ،‬أو النثر‪ ،‬وق�صيدة التفعيلة‪.‬‬
‫تكتمل ق�صيدة �أخرى في يوم واحد‪� ،‬أو ب�ضعة‬
‫�أيام‪ .‬وربما بقيت بداية �إحدى الق�صائد تنتظر‬ ‫¯ تتذكر مهرجان المربد ال�شعري القديم‬
‫�شهوراً‪ ،‬قبل �أن ت�ستيقظ الرغبة في �إكمالها‪،‬‬ ‫بالعراق‪ ،‬عندما كنت ع�ضواً في هيئته العليا؟‬
‫و�إك�سابها �شكلها النهائي‪.‬‬ ‫‪ -‬ك��ان (ال��م��رب��د ال�شعري) ب��داي��ة مب�شرة‬
‫بالجمال‪ ،‬واالنفتاح‪� .‬شهدنا فيها عودة �أ�صوات‬
‫¯ لك كتاب �صدر �سنة (‪ ،)2001‬بعنوان (�أفق‬ ‫�شعرية عالية‪ ،‬كانت ت�ضيء وحيدة في المنفى‪،‬‬
‫التحوالت في ال�شعر العربي)‪ ،‬كيف تر�صد‬ ‫كالجواهري‪ ،‬وبلند الحيدري‪ ،‬و�سعدي يو�سف‪،‬‬
‫معادلة �صعبة �أن‬ ‫التحوالت التي حدثت لل�شعر العربي بعد فترة‬ ‫و�صالح ن��ي��ازي‪ ،‬و�سركون بول�ص‪ ،‬و�آخ��ري��ن‪.‬‬
‫تجمع بين ال�شعر‬ ‫ت�أليف هذا الكتاب؟ وكيف ترى التحاور بين‬ ‫وا�ستمعنا �إل��ى معظم الأ���ص��وات العربية في‬
‫والنقد وهما ملكتان‬ ‫الأ�شكال ال�شعرية المختلفة حالي ًا؟‬ ‫ال�شعر‪ ،‬والنقد‪ ،‬والرواية‪ .‬كان المربد‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫‪ -‬ي�ضم هذا الكتاب �إحدى درا�ساتي النقدية‬ ‫في بداياته‪ ،‬حدث ًا �شعري ًا فريداً‪� ،‬سرعان ما تم‬
‫متناق�ضتان‬ ‫المبكرة‪ .‬وم��ن��ذ تلك ال��ف��ت��رة‪ ،‬وح��ت��ى اللحظة‬ ‫ا�ستن�ساخه في عدد من المهرجانات العربية‬
‫ال�شعري‪ ،‬يمور بالكثير‬
‫ّ‬ ‫الراهنة؛ مايزال الم�شهد‬ ‫الالحقة‪ .‬لكن ذلك لم يدم طوي ًال؛ فقد �أثقله بعد‬
‫من عنا�صر التفاعل‪� ،‬أو االنفعال‪ .‬بل ربما‬ ‫ذلك ما مر به البلد من ظروف ا�ستثنائية �شديدة‬
‫و�صلت العالقة بين مكوناته حد ال�صدام �أحيان ًا‪.‬‬ ‫الوط�أة؛ كالتعبئة ال�سيا�سية في �سنوات الحروب‪،‬‬
‫ولذلك ف�إنني �أرى في ما يحدث من تما�س خ�شن‬ ‫والح�صار الوح�شي للعراق‪ ،‬الأم��ر ال��ذي �أدى‪،‬‬
‫بين الأ�شكال ال�شعرية؛ �ضجيج ًا يقع خارج‬ ‫ربما‪� ،‬إلى طغيان المنبرية‪ ،‬و�شعراء المنا�سبات‪.‬‬
‫الق�صيدة‪ ،‬وال يخدم في �أحيان كثيرة‪ ،‬ما تحتاج‬
‫¯ وماذا عن فترة الح�صول على الدكتوراه من �إليه بيئة الكتـابة ال�شعرية‪ ،‬من نقاء‪ ،‬و�أريحية‪،‬‬
‫واحتفاء كريم بالجمال‪.‬‬ ‫�إنجلترا؟‬
‫‪ -‬ما �أحمله من ذكريات عن مدينة (�إك�ستر)‬
‫البريطانية؛ مايزال ندي ًا‪ ،‬وك� ّأن انتقالي �إليها‪،‬‬
‫انتقالة في زمان ومكان �أ�سطوريين؛ فماتزال‬
‫تتردد في �أرجائها �أنفا�س (ت�شارلز ديكنز‪ ،‬و(جين‬
‫ت�شكلت فيها‬
‫ْ‬ ‫�أو�ستن)‪ ،‬و(�أجاثا كري�ستي)‪ .‬مدينة‬
‫عالقتي الأولى بالثقافة البريطانية‪ ،‬ومنحتني‬
‫على الم�ستوى الإن�ساني‪ ،‬الكثير من الرفاه‬
‫الروحي‪ ،‬والتفاعل مع طباع الآخر‪ ،‬ولي معها‬ ‫ّ‬
‫من الذكريات ما يجعلني دائم االلتفات �إليها‪.‬‬
‫وربما كانت ق�صيدتاي‪�( :‬إك�ستر)‪ ،‬و(عا�شقان)‪،‬‬
‫�أكثر ق�صائدي ارتباط ًا وجداني ًا بها‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪100‬‬


‫محاورة‬

‫علي جعفر العالق مع عدنان ال�صائغ‬

‫ومع خالد علي م�صطفى‬ ‫ومع جعفر �أحمد حمدي‬


‫الذي �آل �إليه بع�ض نقادنا العرب‪ ،‬وهم نوعان‪:‬‬ ‫¯ هل عانيت ح�سا�سي ًة من جمعك بين الإبداع‬
‫الذين قذفت بهم هذه التجربة ال�صعبة خارج‬ ‫والنقد؟‬
‫ال�شعري يبعث‬
‫ّ‬ ‫ال�شعر تمام ًا‪ ،‬ولم يعد ما�ضيهم‬ ‫‪� -‬إنها معادلة �صعبة حق ًا �أن تجمع بين‬
‫فيهم �إال الحنين �إلى ذلك الوهم القديم‪� .‬أو الذين‬ ‫ملكتين متناق�ضتين‪ .‬الإبداع خلق من ال�شتات‪،‬‬
‫�أ�صروا على موا�صلة الكتابة ال�شعرية‪ ،‬دون �سن ٍد‬ ‫والوجود المت�شظي‪� .‬أما النقد؛ فهو ذهاب في‬
‫ٍ‬
‫مرهف باللغة‪.‬‬ ‫إح�سا�س‬
‫ٍ‬ ‫من خيالٍ ‪� ،‬أو �‬ ‫االتجاه الم�ضاد‪ ،‬لأنه يف ّكك‪ ،‬ويج ّزئ الأبنية‪،‬‬
‫الداخلي‬
‫ّ‬ ‫ويعيد تركيبها‪ ،‬بحث ًا عن منطقها‬
‫¯ بحكم �إقامتك الطويلة في دول��ة الإم��ارات‬ ‫الخفي‪ ،‬ال��ذي يقف وراء ه��ذا النظام الالفت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫العربية المتحدة‪ ،‬واحتكاكك بالحياة الثقافية‬ ‫وال��ب��اع��ث على البهجة‪ .‬وه��ات��ان الملكتان‬
‫والأدبية فيها؛ ما تقييمك لها؟‬ ‫مقلقتان للمبدع ال��ذي اختار‪� ،‬أو ا�ضطر �إلى‬
‫الم�شهد الثقافي في‬ ‫الثقافي والأدب� ّ�ي في الإم��ارات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الم�شهد‬ ‫الجمع بينهما‪ .‬وثمة خطورة ممكنة‪ ،‬حين تميل‬
‫الإمارات على درجة‬ ‫على درجة عالية من الحيوية‪ ،‬والتنوع‪ ،‬وهو‬ ‫الكفة لم�صلحة واحدة دون الأخرى‪� ،‬إلى درجة‬
‫أدبي وحده؛ بل ت�سهم‬ ‫الن�ص ال ّ‬
‫م�شهد ال ي�صنعه ّ‬ ‫والمعرفي‬
‫ّ‬ ‫الجمالي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتخلخل فيها ال��ت��وازن‬
‫عالية من الحيوية‬ ‫في �صنعه حركة ثقافية ن�شيطة‪ .‬هناك معر�ضان‬ ‫بينهما؛ لينتهي الأمر �إلى نتيجة من اثنتين‪ :‬نقد‬
‫والتنوع‬ ‫دوليان �سنويان للكتاب‪ ،‬في �أبوظبي‪ ،‬وال�شارقة‪،‬‬ ‫مجاني بالن�صو�ص‪� ،‬أو �شعر‬ ‫يتحول �إلى غزل‬
‫ّ‬
‫وبيوت لل�شعر‪ ،‬وموا�سم ثقافية‪� .‬إ�ضافة �إلى‬ ‫تجف فيه عروق الجمال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الجوائز الكبرى‪ ،‬وما تخلقه من �أن�شطة ثقافية‬
‫م�صاحبة لدوراتها‪ ،‬كجائزة ال�شيخ زايد للكتاب‪،‬‬ ‫¯ وكيف ي�ستطيع المبدع الناقد تحقيق هذه‬
‫وجائزة العوي�س الثقافية‪ ،‬بفروعها المختلفة‪،‬‬ ‫المعادلة ال�صعبة؟‬
‫وم��ا تقدمه دائ ��رة الثقافة ف��ي ال�شارقة من‬ ‫‪ -‬طالما �سـئلت‪ ،‬وربما ت�ساءلت‪ ،‬عن هذه‬
‫�إ�صدارات‪ ،‬وما تنظمه من مهرجانات لل�شعر‪،‬‬ ‫الم�شكلة المزدوجة‪ ،‬فني ًا‪ ،‬ومعرفي ًا‪ ..‬وطالما‬
‫وملتقيات للم�سرح‪ ،‬والتراث‪ ،‬والفنون الت�شكيلية‪،‬‬ ‫معافى‪� ،‬شاعراً‪،‬‬
‫ً‬ ‫�أرقتني ق�ضية الخروج منها‬
‫�إ�ضافة �إل��ى �أن�شطة (هيئة �أبوظبي للثقافة‬ ‫وناقداً على حد �سواء‪ .‬وكثيراً ما كررت القول‬
‫والتراث)‪ ،‬وم�شروع (كلمة) للترجمة‪.‬‬ ‫�إنني كنت �أتعظ‪ ،‬منذ خطواتي الأولى؛ بالم�صير‬

‫‪101‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫«مثلث الغواية»‬
‫روايـة «بوليـفـونيـة»‬
‫لإياد جميل محفوظ‬ ‫عزّ ت عمر‬

‫طيب ًا يتم ّتع بقدر‬ ‫ل�صديقها نبيل‪( :‬فقد بدا �شاب ًا ّ‬ ‫�إي��اد جميل محفوظ‪ ،‬لمن ال يعرفه‪ ،‬هو‬
‫الطرية التي تغري �أحيان ًا‬ ‫ّ‬ ‫وافر من الم�شاعر‬ ‫الع��ب فريق ن��ادي االت��ح��اد الحلبي وفريق‬
‫يتميز بنوع من الحياء‬ ‫ّ‬ ‫حر�ش بها‪ ،‬كما‬ ‫بال ّت ّ‬ ‫منتخب �سوريا لكرة ال�س ّلة �أيام ع ّز كرة ال�س ّلة‬
‫والخجل الفريدين‪ ،‬حتى � ّإن وجنتيه كانتا‬ ‫ال�سورية‪ ،‬وهو قادم من الهند�سة المدنية وعالم‬
‫ت�ضجان بطيف من الألوان القانية المتدرجة‬ ‫ّ‬ ‫قدم‬ ‫الأعمال �إلى الأدب والإب��داع ال�سردي‪� ،‬إذ ّ‬
‫�سواء �صدرت عن‬ ‫ٌ‬ ‫�إزاء �أدن��ى مداعبة بريئة‪،‬‬ ‫عدة مجموعات ق�ص�صية‪ ،‬وع��دداً من الكتب‬
‫غالب‪� ،‬أو بدرت مني)‪ .‬ونعني في هذا ال�صدد �أن‬ ‫البحثية في مجال الإنا�سة الثقافية لمدينة‬
‫الرواية في النهاية لي�ست حكايتها و�أحداثها‬ ‫حلب ومجتمعها‪ ،‬وفيما يبدو من �سيرته �أنه عقد‬
‫الروائي من تقنيات‬ ‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬و�إنما ما يجترحه‬ ‫حلف َا مع النجاح في ريا�ضته وعمله الهند�سي‬
‫ينتمي ال�سرد‬ ‫ومهارات �سردية تبتعد عن الم�ألوف‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫الروائي ال ّأول‬
‫ّ‬ ‫وفي �إبداعه الق�ص�صي وفي عمله‬
‫عن �إدارة الأح ��داث بمهارة وحرفية تتم ّكن‬ ‫ال�صادر حديث ًا بعنوان (مثلث الغواية) عن دار‬
‫في رواية (مثلث‬ ‫�زج��ه في خ�ضمها‪ .‬ولعل هذا‬ ‫من ال��ق��ارئ وت� ّ‬ ‫الحوار (‪2019‬م)‪.‬‬
‫الغواية) �إلى النمط‬ ‫ما لم�سناه في اال�ستهالل المباغت الذي جاء‬ ‫تمتاز كتابة �إي��اد جميل محفوظ ببراعة‬
‫(البوليفوني)‬ ‫(�صحيح �أن حبيبي‬
‫ٌ‬ ‫على ل�سان ال�ساردة لمي�س‪:‬‬ ‫البناء ال�سردي القائم على مجموعة كبيرة‬
‫ا�ستطاع في غفلة من دهائي وتدبيري‪ ،‬توجيه‬ ‫من المقاطع ال�سردية‪ ،‬تراوح �أطوالها ما بين‬
‫القائم على التراكم‬ ‫مقدرات‬‫د ّفة قاربي ال�صغير وم�صايرِه نحو ّ‬ ‫�صفحتين �إلى خم�س �صفحات‪ ،‬وبلغ عددها‬
‫الإخباري وتعدد‬ ‫�ض ّفة مجهولة‪ ،‬ق��د تبدو لأ�صحاب القلوب‬ ‫�سيت�ضح للقارئ ُبعيد قراءتها‬
‫ّ‬ ‫نحو (‪ )40‬مقطع ًا‬
‫الأ�صوات والخال�ص‬ ‫و�صحيح �أ ّنه عمد‬
‫ٌ‬ ‫وم�ستقرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوادعة �أ ّنها �آمنة‬ ‫�أنها تجمع خ�صي�صتين �أ�سا�سيتين‪ :‬مهارات‬
‫بمفرده �إلى كتابة �آخر �سطور حكايتنا‪ ،‬ف� ّإن‬ ‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬وتقنية تنقيط الحدث و�سط‬ ‫ّ‬
‫من هيمنة الم�ؤلف‬ ‫ذلك لم يح ْل دون �أن �أب��ادر �إل��ى وداع��ه على‬ ‫مجموعة من الم�شهديات الب�صرية يتحرى من‬
‫نحو يليق بعالقتنا‪ ،‬التي �أنهت م�ؤخراً العام‬ ‫خاللها بالغة لغوية فائ�ضة بالمجاز والإيحاء‪،‬‬
‫ال�ساد�س من عمرها)‪.‬‬ ‫يعززهما الت�شبيه واال���س��ت��ع��ارة‪ ،‬ف�ض ًال عن‬
‫ولع ّل العبارة المفتاحية في هذا المجتز�أ‬ ‫الو�صف المتق�صي الذي �سيغدو �أ�شبه بكاميرا‬
‫تتكاثف حول العالقة مع الحبيب وانقطاعها‪،‬‬ ‫متن ّقلة في الذات ال�ساردة قبل المكان‪ ،‬وهذه‬
‫وه��ذا يقت�ضي بال�ضرورة ا�سترجاع حكاية‬ ‫تعبر عن ثقافة ب�صرية وعن ح�سا�سية‬ ‫مزية ّ‬
‫و�ضح الم�ؤ ّلف في تقديمه للرواية‬ ‫الأم�س كما ّ‬ ‫مهم ًا‬
‫خا�صة تجاه التفا�صيل باعتبارها جزءاً ّ‬
‫ب�أن الأ�صدقاء الثالثة‪ :‬لمي�س‪ ،‬نبيل‪ ،‬وغالب‪،‬‬ ‫من روائية الرواية‪ ،‬ومن ذلك على �سبيل المثال‬
‫ثم اتفقوا على كتابتها ك ّل‬ ‫حب‪ّ ،‬‬ ‫عا�شوا تجربة ّ‬ ‫قدمته ال�ساردة لمي�س‬ ‫هذا الو�صف الأنيق الذي ّ‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪102‬‬


‫�أفق‬

‫�شخ�صيات الرواية ور�أيها فيهم‪ ،‬وتك�شف في‬ ‫من وجهة نظره وزاوي��ة ر�ؤيته لهذه العالقة‪،‬‬
‫الوقت نف�سه عن جانب من حياة جيل ال�شباب‬ ‫التي �أ�سفرت �أخيراً عن كتابة رواية اعترافات‬
‫تميز الكاتب ببراعة‬ ‫الجديد في مدينة حلب وانفتاح العالقات‬ ‫م�شتركة ا�سمها (مثلث الرغبة) ب�أ�ضالعه �أو‬
‫االجتماعية والثقافية في �سبعينيات ومطالع‬ ‫زواي ��اه الثالث وبتعبيره‪( :‬وق��د ارت�أينا �أن‬
‫البناء ال�سردي القائم‬ ‫ثمانينيات القرن الع�شرين‪ ،‬بما يعني زمان‬ ‫نتبادل الأدوار في رواي��ة تفا�صيل حكايتنا‬
‫على مقاطع طويلة‬ ‫�شباب الكاتب نف�سه‪ ،‬باعتباره مرجعية و�شاهداً‬ ‫و�أحداثها)‪.‬‬
‫وغنية بالم�شهديات‬ ‫وم�شارك ًا في �صياغة العمل‪ ،‬وقد تج ّلى ح�ضوره‬ ‫وبذلك ف ��إن فكرة كتابة رواي��ة م�شتركة‬
‫جلي ًا في لغة وبالغة ال�شخ�صيات الثالث‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫تتعدد فيها الأ�صوات كانت حا�ضرة في بال‬
‫الب�صرية‬ ‫الم�ستوى البالغي المتقارب في �سرد الأحداث‬ ‫الروائي �أثناء ال�شروع في ت�أليفها‪.‬‬
‫واتباع �سيا�سة تنقيط الإخبار عن مجريات‬ ‫رواية تعدد الأ�صوات تنه�ض على التراكم‬
‫وتطوره تبع ًا لما اعتمده من‬ ‫ّ‬ ‫الحدث الم�سرود‬ ‫الإخ��ب��اري ال��ذي يقدمه الأ���ص��دق��اء الثالثة‪،‬‬
‫لمط �شريط ال�سرد‬ ‫ّ‬ ‫والبالغي‪،‬‬ ‫اللغوي‬ ‫نهج الزخم‬ ‫مع ح�ضور طفيف ل�سارد الحكاية الأ�سا�سي‬
‫�إل��ى غايته‪ ،‬فقد يقر�أ المتل ّقي مقطع ًا كام ًال‬ ‫و�ضمير الم�ؤ ّلف‪ ،‬و�سيعمل ه��ؤالء على كتابة‬
‫ح�صيلته من الأحداث نقطة �أو نقطتان في نهر‬ ‫الرواية منطلقين من حدث تنامى منذ �أيام‬
‫اللغة وال�صور البالغية المتالحقة‪ ،‬وهذا نموذج‬ ‫حب �أيام ال�شباب‪.‬‬ ‫الطفولة البريئة لينعطف �إلى ّ‬
‫ا�ستخدم الكاتب‬ ‫من �سردية غالب تعك�س تقنية التنقيط‬ ‫وتعدد الأ�صوات تقنية ذات خ�صو�صية تتطلب‬
‫المعتمدة‪( :‬د�أب م��زاج��ي على ال� ّ�ط��واف‬ ‫مهارات �إ�ضافية للخال�ص من هيمنة الم�ؤلف‬
‫تقنيات ومهارات‬ ‫ح��ول طيف لمي�س في �إج��ازات��ي المتكررة‪،‬‬ ‫على ال�سرد وم��ن ا�شتراطاته الم�سبقة‪ ،‬بما‬
‫�سردية غير معتادة‬ ‫بالح ْيرة‬
‫َ‬ ‫على � ّأن ه��ذا ال�شغف ك��ان مترع ًا‬ ‫يقترب من الفرجة الم�سرحية‪ ،‬حيث يتبادل‬
‫و�أدار �أحداث الرواية‬ ‫وال ّترنح واالرتيابات‪ ،‬مما جعله ينتهي في‬ ‫عدد من ال�شخ�صيات تقديم حكاياتهم كل من‬
‫�أغلب الأحيان �إلى االن�سالخ من توقه �إليها‪،‬‬ ‫خالل وجهة نظره �أو قراءته للواقع والحدث‬
‫بمهارة وحرفية‬
‫إرادي‪ ،‬ليح ّلق‬
‫وان�شغاله بها‪ ،‬على نحو نزق ال � ّ‬ ‫وزمانه ومكانه‪.‬‬
‫تمكنت من زج القارئ‬ ‫م�سرات‪،‬‬‫بعيداً في ف�ضا ٍء ال ه��د�أة فيها وال ّ‬ ‫ه ��ذا ال��ن��م��ط م��ن ال�����س��رد (ال��ب��ول��ي��ف��ون��ي)‬
‫في �أحداثها‬ ‫ويتوارى خلف غيمة �أرهقها القلق والذهول‪،‬‬ ‫�شائع في الرواية العالمية والعربية‪ ،‬وكان‬
‫يحط ثانية في ال�سنة التالية‬ ‫ثم ال يلبث �أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنظر الرو�سي ميخائيل باختين � ّأول من‬ ‫ّ‬
‫على �أط��راف �إ�شراقتها المتجددة‪ ،‬لي�صطدم‬ ‫�أوج��د م�صطلحه لدى تناوله �أعمال الروائي‬
‫ب�سلوكها العبثي المقيم‪ ،‬فيرفرف من جديد‬ ‫ال��رو���س��ي ف��ي��دور دو�ستويف�سكي ف��ي كتابه‬
‫في �سما ٍء مظلمة‪ ،‬ويختفي وراء نيزك هارب‪،‬‬ ‫�سيما في (الأخوة‬ ‫(�شعرية دو�ستويف�سكي)‪ ،‬ال ّ‬
‫كما لو � ّأن مزاجي بات طيراً من طيو ِر ال�سنونو‪،‬‬ ‫ك��رام��ازوف)‪ ،‬و(الأب��ل��ه)‪ ،‬و�سرعان ما انتبه‬
‫أدمنت الغياب عن موطنها والعودة �إليه‬ ‫التي � ْ‬ ‫الروائيون �إل��ى هذا النمط الجديد من ال�سرد‪،‬‬
‫تحدثت الرواية‬ ‫في كل َح��ولٍ ‪ ،‬على نحو متواتر ال لب�س فيه‪،‬‬ ‫(ال�سيدة‬ ‫مقدمتهم فيرجينيا وول��ف في‬ ‫وفي ّ‬
‫ّ‬
‫عن (حلب)‬ ‫وال ف�صال)‪.‬‬ ‫دون��اواي) وباولو كويلو في (�ساحرة بورتو‬
‫بو�صفها مدينة‬ ‫ت ��م ��ت ��از ال�����رواي�����ة �إل������ى ج���ان���ب ذل ��ك‬ ‫بد من الإ�شارة‬ ‫بيللو)‪ ،‬ومن الأدب العربي ال ّ‬
‫بتناولها مدينة حلب العا�صمة ال�صناعية‬ ‫القبة)‬
‫ّ‬ ‫�راح‬ ‫�‬ ‫أف‬ ‫�‬ ‫�إلى �أعمال نجيب محفوظ في (‬
‫(كوزموبوليتية)‬ ‫والكوزموبوليتية ك�أحد المراكز التجارية‬ ‫و(ميرامار)‪ ،‬و�إل��ى يو�سف القعيد (الحرب في‬
‫بانفتاحها على‬ ‫المهمة على طريق الحرير‪ ،‬وقد �ساعدتها هذه‬ ‫ّ‬ ‫بر م�صر)‪ ،‬و(الزيني بركات) لجمال الغيطاني‬ ‫ّ‬
‫العالم وتعاي�ش‬ ‫المكانة على تجاوز الم�شكالت الناجمة عن‬ ‫وغيرهم‪.‬‬
‫انفتاحها على العالم و�إمكانية العي�ش لعدد‬ ‫انطلق الأ�صدقاء في �سردياتهم من نهاية‬
‫مختلف الجن�سيات‬ ‫إن�ساني‬ ‫من الجن�سيات والثقافات في م�شترك �‬ ‫�أحداث الرواية‪ ،‬فت�شابهوا في ذلك مع الراوي‬
‫ّ‬
‫في م�شترك �إن�ساني‬ ‫واحد‪ ،‬فال يلتم�س الباحث في حلب العن�صرية‬ ‫العليم العارف بمجريات الأح��داث ومواقف‬
‫واحد‬ ‫والتطور‬
‫ّ‬ ‫البغي�ضة التي ت�سمم عالقات التثاقف‬ ‫�سيما لمي�س‬ ‫ال�شخ�صيات م��ن يع�ضها‪ ،‬وال ّ‬
‫الم�ستمر‪.‬‬ ‫باعتبارها ال�شخ�صية المحورية التي جمعت‬

‫‪103‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الق�صة بالن�سبة �إليه ل�سان الحياة الحديثة‬
‫�أحمد بوزفور‪ ..‬ي�ستحيل تجاوز تجربته‬
‫عند الحديث عن الق�صة المغربية‬
‫وف��ي ه��ذا تعبير ع��ن م�سارات التحول‬
‫والتبدل‪ ،‬التي �شقتها الق�صة المغربية‪ ،‬من‬ ‫�أح��م��د ب���وزف���ور‪ ،‬واح���د م��ن �أب����رز الق�صا�صين ال��ذي��ن‬
‫خ�لال الميل ف��ي ات��ج��اه تك�سير المنوالية‬ ‫ن���ذروا حياتهم الإب��داع��ي��ة للق�صة الق�صيرة‪ ،‬و�سلك‬
‫الم�ألوفة وال�����س��ائ��دة‪ ،‬بخلق ق�صة تن�صت‬ ‫فيها م�سالك ���ش��ت��ى‪ ،‬ت��م��ي��زت ب��ال��ف��رادة وال��م��خ��ال��ف��ة‪،‬‬
‫للواقع‪ ،‬وتبتعد عن محاكاته‪ ،‬في الوقت الذي‬ ‫���س��واء على م�ستوى المو�ضوعات �أو البنى الن�صية‪،‬‬
‫ت�صوغ متخيلها الن�صي ‪ ،‬ومن ثم خطابها‬
‫ه��ذه الأخ��ي��رة لم تكن �صدى للبنية التقليدية‪ ،‬بقدر‬
‫الق�ص�صي المو�سوم بالجدة‪ ،‬والجدير بمحبة‬ ‫�صالح لبريني‬
‫القراءة‪ .‬فالقراءة من دون المحبة لن تنتج‬ ‫م��ا تمكنت م��ن خلق بنيتها الق�ص�صية م��ن ال��داخ��ل‪.‬‬
‫معرفة حقيقية قمينة باال�ستمرارية‪.‬‬
‫فالق�صة عند ب��وزف��ور‪ ،‬ال تقول العالم؛‬
‫و�إنما تبنيه وفق ر�ؤية �إبداعية وت�صور عميق‬
‫للكتابة‪ .‬فجاءت تجربته الق�ص�صية م�ستفزة‬
‫لكهنة الإب����داع ال��ذي��ن ي��ؤم��ن��ون بالقوالب‬
‫الجاهزة؛ ويرف�ضون �سيرورة التحول والتغير‬
‫على م�ستوى الكتابة الإبداعية‪ ،‬لأن عقيدة‬
‫الكاتب الإبداعية‪ ،‬كانت الأقوى والقادرة على‬
‫ك�شف واكت�شاف مناطق ال�سرد المجهولة‪،‬‬
‫بلغة ق�ص�صية تثير‬ ‫باختراق الكائن ال�سردي ٍ‬
‫اال�ستغراب والده�شة‪ ،‬وتحدث �صدمة بالن�سبة‬
‫�إلى الذائقة المتعودة على ثبوتية ال�شكل‪ ،‬لهذا‬
‫انمازت الق�صة الق�صيرة عند بوزفور‪ ،‬بالتغنج‬
‫والدالل‪ ،‬والع�صيان على التروي�ض القرائي‪،‬‬
‫�إن �صح التعبير‪ ،‬تمار�س غوايتها على القارئ‬
‫ب�شكل �سردي مك�سر لأفق االنتظار‪ ،‬ومحقق ًا‬
‫الم�سافة الجمالية التي ت�ستثير المتلقي‬
‫لموا�صلة الحفر وال��ت ��أم��ل‪ ،‬وول ��وج عوالم‬
‫ق�ص�صية متخيلة ذات ن َف ٍ�س تجديدي وروح‬
‫جديدة‪ ،‬ت�سري في �شرايين الن�ص الق�ص�صي‪،‬‬
‫لكونها تجاوزت التنميط على م�ستوى ال�سرد‪،‬‬
‫بخرق القواعد الق�ص�صية المتكل�سة‪ .‬لذا؛ فهي‬
‫تحفز وتحر�ض على مطاردتها ومناو�شتها‪،‬‬
‫من خ�لال ال��ق��راءة الفاح�صة والحافرة في‬
‫طبقات الحكاية‪ .‬على اعتبار �أن الق�صة‪،‬‬
‫عند بوزفور‪ ،‬ذات بنية �سردية مت�ساوقة مع‬
‫الإب��داالت‪ ،‬التي م�ست البنى الفوقية والبنى‬
‫التحتية للمجتمع المغربي‪.‬‬
‫والإب����داع‪ ،‬كيفما ك��ان ل��ون��ه‪ ،‬ال ب��د �أن‬
‫يت�أثر بهذه الإبداالت االجتماعية وال�سيا�سية‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪104‬‬


‫حالة‬

‫واالقت�صادية والثقافية‪ ،‬التي تف�ضي حتم ًا �إلى‬


‫نهج طرائق في التعبير‪ ،‬تلعب دوراً مهم ًا في‬
‫كتابة ق�ص�صية ال تعبر �إال عن كينونتها ال�سردية؛‬
‫متخذة م�سافة من الواقع والوعي بتحوالته‪.‬‬
‫وي�شكل �أحمد بوزفور رائد الكتابة التجريبية‪،‬‬
‫وم��ن �أب��رز الأ���ص��وات الق�ص�صية الممثلة لهذا‬
‫التيار التجريبي في المغرب‪ ،‬نظراً لما تميز به‬
‫المنجز الق�ص�صي بهذا الملمح المتجلي في ابتكار‬
‫�أ�ساليب �سردية مفارقة ذات منحى تجريبي‬
‫مغاير‪ .‬والتجريب ال يدل على الإبهام وااللتبا�س‪،‬‬
‫ولكنه يثير الغمو�ض اللذيذ والممتع‪ ،‬الذي ي�ضفي‬
‫على المتن بعداً جمالي ًا يمنح للق�صة هويتها‬
‫الإبداعية‪ ،‬المعتمدة على الرمز والإيحاء‪ ،‬ومن ثم‬
‫فالق�صة التجريبية تعتني بالدال الق�ص�صي الذي‬
‫(لم يعد مجرد وعاء مهمته �إبالغ مدلول معين‪ ،‬وال‬
‫مجرد نا�سخ يوهم بنقل كل الواقع وكل الحقيقة‪،‬‬
‫وال مجرد حامل لر�سالة اجتماعية انتقادية‪ ،‬بل‬
‫�صار الدال هو الغاية نف�سها‪� ،‬صار المهيمن بعد‬
‫�أن خلع المدلول عن عر�شه و�أوجد لذاته مفهوم ًا‬
‫جديداً) كما يقول الناقد ح�سن الم�ؤذن‪ .‬وفي هذا‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫ت�أكيد �أن ال�سرد اال�ستعاري مقوم من مقومات‬
‫فجاءت مالمح الخطاب تزخر بال�سمات الدرامية‬ ‫الكتابة الق�ص�صية لدى بوزفور‪ ،‬يعتبر التخييل‬
‫العاك�سة لم�أ�ساوية ال�شخو�ص ومفارقات‬ ‫�أ�سا�س وجودها‪ .‬وللإ�شارة؛ فبوزفور لم تغره‬
‫المجتمع المغربي‪ ،‬والكا�شفة عن كون العنف‬ ‫الرواية‪ ،‬بل ظل مخل�ص ًا للق�صة‪ ،‬لهذا فهو �شبيه‬
‫مظهراً من مظاهر و�ضع اجتماعي م�أزوم‪ .‬لكن‬ ‫(�إدغ��ار �أالن بو) الأمريكي‪ ،‬الذي التزم بعقيدة‬
‫الق�صة عند بوزفور‬ ‫الق�صة عنده‪� ،‬ستن�سلخ من هذا الملمح الواقعي‪،‬‬ ‫الق�صة الق�صيرة لإيمانه الرا�سخ بكونها ل�سان‬
‫مع الثمانينيات في المجموعة الثانية‪ ،‬حيث‬ ‫الحياة الحديثة‪ ،‬والمعبرة عن تغيرات الع�صر‬
‫ال تقول العالم و�إنما‬
‫غدا االنكباب عن ق�ضايا بعيدة عن االن�شغاالت‬ ‫و�إ�شكاالته‪.‬‬
‫تبنيه وفق ر�ؤية‬ ‫ال�سيا�سية والإي��دي��ول��وج��ي��ة‪� ،‬إل��ى ق�ضايا �أ�شد‬ ‫�إن المتن الق�ص�صي الذي خلفه القا�ص �أحمد‬
‫�إبداعية وت�صور‬ ‫ارتباط ًا بكل ما له عالقة بالكتابة والإبداع‪ ،‬مع‬ ‫بوزفور‪ ،‬بد�أ من (النظر في الوجه العزيز)‪ ،‬مروراً‬
‫عميق للكتابة‬ ‫مالحظة ا�ستمرارية �آثار بع�ض التجليات ال�سابقة‬ ‫بـ(الغابر الظاهر)‪ ،‬وقوف ًا عند (�صياد النعام)‪،‬‬
‫للمرحلة الواقعية‪ ،‬ويمكن و�صفها بالكتابة‬ ‫و�آخ��ر يتمثل في (ققن�س)‪ .‬وفي النقد ن�شير �إلى‬
‫المت�أثرة ب�صدى الخارج الن�صي وحرارة المرحلة‬ ‫�أعماله النقدية المتميزة‪ ،‬منها‪( :‬الزرافة الم�شتعلة‪:‬‬
‫التاريخية وال�سيا�سية‪ ،‬ال��ت��ي دم��غ��ت عالقة‬ ‫قراءات في الق�صة المغربية الحديثة) دون ن�سيان‬
‫ال�سلطة بالمثقف‪ ،‬وهي عالقة التوتر وال�صراع‪.‬‬ ‫�أطروحته (ت�أبط �شعراً) التي تناول فيها ال�شعر‬
‫لكن المجموعة الثالثة (�صياد النعام) �ستحمل‬ ‫القديم بر�ؤية تت�سم بالجدة في المقاربة والعمق‬
‫تغيرات على م�ستوى المو�ضوعات‪� ،‬إذ نلمح‬ ‫في الق�ضايا المطروحة‪ .‬من ه��ذه المعطيات؛‬
‫تجربته الق�ص�صية‬
‫كل مظاهر االحتفاء بتجربة الكتابة الإبداعية‬ ‫ف�أحمد بوزفور متعدد‪ ،‬وف��ي ه��ذا التعدد نجد‬
‫م�ستفزة وال ي�ؤمن‬ ‫ور�ؤيته الفكرية العميقة‪ ،‬تجاه الحياة والمجتمع‪،‬‬ ‫االخ��ت�لاف المثمر والبناء‪ .‬وم��ا يميز تجربته‬
‫بالقوالب الفنية‬ ‫وهي ر�ؤية معبرة عن عوالم الإحباط وال�شعور‬ ‫تعبر عن مراحل تطور الن�ص‬ ‫الق�ص�صية كونها ّ‬
‫الجاهزة‬ ‫بالخيبات‪ .‬وبالتالي ف�شخ�صيات ب��وزف��ور‪،‬‬ ‫الق�ص�صي بالمغرب‪ ،‬ذل��ك �أنها تج�سد التجلي‬
‫�شخ�صيات تختار العزلة م�لاذاً‪ ،‬وال�صمت عن‬ ‫التاريخي والنف�سي والإيديولوجي‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫الكالم موقف ًا‪ ،‬وتن�شد الوحدة باحثة عن معنى‬ ‫المجموعة الأول��ى التي كانت تقول الواقع �أو‬
‫وجودها‪ ،‬وعن معنى الحكاية با�ستثمار جمل‬ ‫المدلول‪ ،‬حيث نجد مظاهر الظلم متجلية عبر‬
‫�سردية نقية من كل ما ي�شوبها من عوالق‪ ،‬هذا‬ ‫ثيمات العنف واالنحراف والقمع واال�ستبداد‪،‬‬

‫‪105‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫حالة‬

‫�أحمد بوزفور في مهرجان م�شرع بلق�صيري الوطني للق�صة الق�صيرة‬

‫في ظهور كتابة تغازل الدال‪ ،‬وت�شاك�سه وت�شغله‬ ‫دون الت�ضحية بالحكاية‪ .‬فهذه الأخيرة كانت‬
‫وت�ستثمر كل قوته‪ ،‬كتابة ذات رهانات جديدة‬ ‫هاج�سه وان�شغاله في جل متونه الق�ص�صية‪.‬‬
‫واقت�صاديات نوعية‪ ،‬مغايرة وظيفتها) على‬ ‫وهذه ال�سمات في الكتابة الق�ص�صية لدى بوزفور‪،‬‬
‫يلج بعمق �إلى مناطق‬ ‫حد قول الناقد ح�سن الم�ؤذن‪ .‬ومن ثم؛ فالق�صة‬ ‫ا�ستجابة منطقية للإبداالت العميقة‪ ،‬التي �أحدثت‬
‫ال�سرد المجهولة‬ ‫الق�صيرة عند ب��وزف��ور تخل�صت م��ن الخارج‬ ‫حلحلة في الت�صورات المهيمنة في كتابة الق�صة‬
‫بلغة ق�ص�صية تثير‬ ‫الن�صي بالعناية بالداخل الن�صي‪ ،‬والذوبان في‬ ‫الق�صيرة‪ ،‬وتغيير المواقف من وظيفة الإب��داع‬
‫اال�ستغراب والده�شة‬ ‫م�ساربه ال�سردية ومتخيله الق�ص�صي‪ ،‬ومنفتحة‬ ‫ب�صفة عامة‪.‬‬
‫على كل الأ�شكال التعبيرية الأخرى‪ ،‬كالأ�سطورة‬ ‫والالفت لالنتباه في تجربة بوزفور‪� ،‬أنه‬
‫والحكاية الخرافية‪ ،‬وال�شعر وال�سرد ال�شعبي‪ ،‬وهذا‬ ‫خل�ص �إلى و�ضع نظرية مرتبطة بالق�صة‪� ،‬أطلق‬
‫ما يتج�سد في الكثير من ق�ص�صه‪.‬‬ ‫عليها نظرية التلويث الق�ص�صي‪ ،‬معتبراً �أن الق�صة‬
‫وال يفوتنا �أن ن�شير �إل��ى �أن القا�ص �أحمد‬ ‫الق�صيرة �ضد ال ��دالالت المدركة والمفهومة‪،‬‬
‫بوزفور‪ ،‬من الأ�صوات الق�ص�صية التي ي�ستحيل‬ ‫عمودها الأ�سا�س ال�شك في القيم المناق�ضة‬
‫تجاوزها �أثناء الحديث عن منعطفات الق�صة‬ ‫والمناه�ضة‪ ،‬ت�صيب القارئ بالجراثيم الحقيقية‪،‬‬
‫يحقق بعوالمه‬ ‫الق�صيرة بالمغرب‪ ،‬نظراً لب�صمته الإبداعية‬ ‫و�ضد �أن تكون اللغة و�سيلة لال�ستالب‪ ،‬وال تتغيى‬
‫الق�ص�صية م�سافة‬ ‫في هذا الجن�س ال�سردي‪ ،‬وثاني ًا لعمق تجربته‬ ‫الو�ضوح والب�ساطة‪ ،‬ومق�صديتها ال تنح�صر في‬
‫جمالية تثير الت�أمل‬ ‫الق�ص�صية المو�سومة بالثراء والغنى‪� ،‬سواء على‬ ‫الفهم والإفهام‪ .‬وال تركن �إلى اليقينية والإيمان‬
‫م�ستوى الر�ؤى والت�صورات التي ت�شكل لديه خلفي ًة‬ ‫القطعي‪ ،‬وال تحمل ر�سالة ظ��اه��رة‪ ،‬ه��ذه هي‬
‫وتحفز المتلقي‬ ‫معرفي ًة للكتابة‪ .‬الأمر الذي يدعونا �إلى م�صاحبة‬ ‫ثوابت الكتابة الق�ص�صية لدى �أحمد بوزفور‪،‬‬
‫هذه التجربة ومناو�شتها نقداً وت�سا�ؤالت‪ ،‬والتي‬ ‫وعبرها يبين (�أهمية هذه الأ�شكال وفاعليتها‬
‫ب�إمكانها �إ�ضاءة عوالم الق�صة‬
‫الق�صيرة واكت�شافها‪ .‬لهذا؛ فهي‬
‫تحتاج �إل��ى �أكثر من وقفات‬
‫ي�شكل من خالل‬ ‫قرائية للك�شف عن �إبداعيتها‪،‬‬
‫كتاباته تياراً‬ ‫وع���ن ع��م��ق��ه��ا ف ��ي معالجة‬
‫تجريبي ًا بعيداً عن‬ ‫الثيمات والمواقف داخل ن�سيج‬
‫الخطاب الق�ص�صي‪ ،‬وما تزخر‬
‫الإبهام وااللتبا�س‬ ‫به بما يمكن و�صفه بالكتابة‬
‫على الكتابة‪ ،‬وتلك ق�ضية في‬
‫حاجة �إلى المدار�سة الهادئة‬
‫والر�صينة‪.‬‬ ‫د‪ .‬ح�سن الم�ؤذن‬ ‫�إدغار �أالن بو‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪106‬‬


‫مقاالت‬
‫لـون‬

‫حين تطم�س الكمامة مالمح الكائنات‪..‬‬


‫هل نك�شف الوجوه مع نهاية الجائحة‬
‫وج���زءاً محوري ًا و�أ�سا�سي ًا ل�صورة الكائن‬ ‫لم يتخل الفن تاريخي ًا عن التفاعل مع‬
‫الإن�ساني‪ .‬ك�أننا نعود �إلى ع�صر ال�سحرة‪ ،‬الذين‬ ‫الأح���داث الكارثية في العالم �أج��م��ع‪ ،‬فبات‬
‫يغطون وجوههم ب�أغطية طقو�سية و�سحرية‬ ‫ي�سجل ويتخيل م��ن��اخ��ات وت��داع��ي��ات تلك‬
‫لقيادة الطق�س ال�سحري‪ ،‬وت�ضليل الجمهور‬ ‫الأح��داث بطرائق عديدة‪ ،‬كان (كورونا) �أحد‬
‫بحركات خادعة ك�صورة من �صور التقم�ص‬ ‫تلك الكوارث البائنة‪ ،‬وم��ازال يح�صد �أرواح‬
‫محمد العامري‬ ‫لطرد ال�شر‪.‬‬ ‫الكائنات و�أح�لام��ه��ا‪ ،‬برغم �صحوة العالم‬
‫ولم يتوقف الفنان المعا�صر عن ا�ستنها�ض‬ ‫الفائقة لمواجهته بعدة �صور وطرق‪ ،‬بدءاً من‬
‫مخيلته ف��ي اق��ت��راح مجموعة م��ن الأقنعة ما كانت ت�ستخدم الأقنعة لأغرا�ض بحد ذاتها‪،‬‬ ‫الكمامة وطبيعة الغذاء‪ ،‬والعمل على �إيجاد‬
‫والكمامات لمواجهة الجائحة‪ ،‬ك�صورة �أخرى مثل الحرب والم�صانع والطقو�س ال�سحرية‪،‬‬ ‫م�صل‪ ،‬يق�ضي على تلك الكرة التيجانية التي‬
‫النت�صار الفن على الكارثة‪ ،‬ومقاومتها ب�صورة وهي حالة ت�شي بم�سح المالمح ب�شكل �إجباري‪،‬‬ ‫�سجلت �أهداف ًا �صائبة في رحم الحياة‪.‬‬
‫م�سالمة‪ ،‬بل وت�سجيلها لت�صبح �أث��راً تاريخي ًا ولي�س للإن�سان الخيار في ذلك‪ ،‬وتقود في كثير‬ ‫قناع (الكورونا)‪ ،‬يذكرنا ب�أبعاد �إن�سانية‬
‫دا ًال على حقبة وبائية ما‪ ،‬فقد كان الر�سام من الأحايين �إلى اكتئاب هو�سي)‪.‬‬ ‫غائرة في القدم‪ ،‬فقد وجدت تلك ال�صور في ما‬
‫ه��ذا الأم��ر ي��ؤك��د‪� ،‬أن ال�سوريالية جاءت‬ ‫البلجيكي رينيه فران�سوا ماغريت عام (‪)1898‬‬ ‫يخ�ص المقاتلين‪ ،‬حيث كان القناع المعدني‬
‫�صاحب تنب�ؤات في ما يخ�ص القناع‪ ،‬فمجموعة كمدر�سة (نف�سانية) تعتمد على ما ذهب �إليه‬ ‫و�سيلة لحماية الوجه من الرماح وال�سيوف‬
‫�أعماله التي اختفى فيها الوجه تحديداً‪ ،‬تنم عن �سيغموند فرويد‪ ،‬وهي انعكا�سات ميتافيزيقية‬ ‫الباترة‪ .‬لقد تغيرت �صورة القناع‪ ،‬وما تتوالد‬
‫متحابين‪ ،‬للنف�س الب�شرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�صيغة المنح والحاجز بين كائنين‬ ‫منه من كمامات ولثام وتخفيات متنوعة‬
‫لقد كان لكورونا الأث��ر الأكبر في تغيير‬ ‫فالقناع لدى ماغريت ي�شمل الوجه كله‪ ،‬حيث‬ ‫في الم�سرح ال�صيني والياباني‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬
‫ُم�سحت المالمح ولم يظهر �سوى الغطاء الذي منظومة ال�سلوك الإن�ساني‪ ،‬من حيث طبيعة‬ ‫الل�صو�ص‪ ،‬الذين كانوا يعملون جاهدين على‬
‫يغطي الوجوه‪� ،‬إذ �إن المبتغى من �أعمال (رينيه العالقات التي تحولت من عالقات حميمة‬ ‫�إخفاء مالمحهم بغية التمويه والت�ضليل‪ ،‬فهو‬
‫ماغريت) الفنية لم يكن النت�شار الوباء‪ ،‬لكنها �إل ��ى ع�لاق��ات مليئة ب��ال��ح��ذر وال��خ��وف من‬ ‫يمتلك �أ���ص��و ًال ميثولوجية و�أنثروبولوجية‬
‫ت�شير �إلى رمزية غطاء الوجه و�صورة محوه الآخ��ر‪ ،‬ف�صارت الم�صافحة ب��اردة ج��داً‪ ،‬من‬ ‫تمظهرت في الأث��ر الذي تركه الأقدمون‪ ،‬فقد‬
‫وغياب المالمح‪ ،‬ومنع المتحابين من ر�ؤية خالل ر�ؤو�س الأطراف غير القابلة لال�ستعمال‬ ‫ت��رك الإن�سان الأول مجموعة من العالمات‬
‫بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬وهي �صورة مهمة تنبئنا بما اليومي‪ ،‬كقب�ضة اليد �أو الكوع �أو االكتفاء‬ ‫ال�سيميائية‪ ،‬التي ت��دل عليه وعلى طبائعه‬
‫فعلته الكمامة في زمن الجائحة‪ ،‬حيث عادت بال�سالم عبر ال�����ص��وت ف��ق��ط‪ ،‬وه ��ذا ال�سلوك‬ ‫في التعامل مع الأمكنة الموح�شة‪ ،‬كالأو�شام‬
‫تلك اللوحات التي ر�سمها ماغريت في �أوائل الجبري‪� ،‬صار �سلوك ًا �سائراً بين الكائنات‬ ‫والأقنعة والر�سومات التي ترقد على وجهه‬
‫القرن الفائت �إلى الظهور والتفاعل الهائل معها ك�صورة جديدة من ال�سلوك اليومي‪ ،‬ما و�ضعنا‬ ‫من زخ��ارف وخطوط وعالمات لها داللتها‬
‫في زمن كورونا‪ ،‬ما ي�شير �إل��ى قوة الت�أويل �أمام منظومة اجتماعية لها مالمحها الجديدة‬ ‫الإن�سانية في تلك الحقبة‪ ،‬والتي ت�شير �إلى‬
‫والرمزية التي تحملها تلك الأعمال من داللة و�سياقاتها الباردة‪ ،‬والحذرة والخائفة‪ ،‬ناهيك‬ ‫تخفياته اتجاه الطرائد متقم�ص ًا �صوراً مواربة‬
‫تنطبق بل تتطابق مع واقعنا الوبائي الآن‪ ،‬عن الخوف العامر بالذات‪ ،‬والذي قاد الكائنات‬ ‫للخداع‪.‬‬
‫بل ا�شتعلت مواقع التوا�صل االجتماعي بتلك �إلى فوبيا جديدة (فوبيا االحتكاك والمالم�سة)‬ ‫�أما الآن؛ فقد �أ�صبحت الكمامة �صورة من‬
‫الأعمال كما لو �أنها ر�سمت لكورونا وتنب�ش والتي قادت الخطوات �إلى التوقف والتباعد‬ ‫�صور التقم�ص الموارب لخدعة الفيرو�س ودرء‬
‫تعود‬
‫واقع ًا جديداً نبه النا�س لتجربة رينيه ماغريت الج�سدي‪ ،‬فهي مخرجات مدمرة لإن�سان ّ‬ ‫�أخطاره القاتلة‪� .‬أعتقد �أن االنت�صار للحياة هو‬
‫ال�صافحة والتعبير عن حرارة عواطفه اتجاه‬ ‫ب�صورة مغايرة‪.‬‬ ‫ال�صورة المثلى لظهور تلك الكمامة ب�أ�شكالها‬
‫و�إذا رجعنا �إلى الأ�صول المخفية لـ(كمامة الآخ���ر‪ ،‬حيث التب�ست الم�شاعر باختالطها‬ ‫العديدة‪ ،‬بل �أ�صبحت فيما بعد �صورة �أخرى‬
‫ال��ك��ورون��ا) وت�صاميمها ال��ع��دي��دة‪� ،‬سنجدها بالخوف القابع في النف�س الب�شرية‪ ،‬بل �أ�صبح‬ ‫للتبرج عند الن�ساء بالتحديد‪ ،‬ولدى الرجال‬
‫تتحرك ف��ي مخيلة م��اغ��ري��ت ب�����ص��ورة غير �سلوك ًا مدمراً يمار�س ب�شكل يومي‪ ،‬فهل �ستحمل‬ ‫ب�����ص��ورة ع��ام��ة‪ ،‬ح��ي��ث ت�سابقت ال�شركات‬
‫مبا�شرة‪ .‬وهي �أفعال تنم عنها تلك الأعمال عبر نهاية (‪ )2020‬مفتتح ًا جديداً لنهاية الوباء؟‬ ‫وبيوتات الأزياء �إلى �إيجاد مقترحات �شكلية‬
‫الإيحاء للفيرو�س‪ ،‬و�إ�سقاطاته على المجموعة وم��ا هي ال�صورة المرجوة لرجوع العاطفة‬ ‫وجمالية للكمامة‪ ،‬التي �صارت �شك ًال يومي ًا‬
‫التي �أوح��ت لي بمعالجة هذا المو�ضوع‪ ،‬مع الحارة والخ�شنة اتجاه الأ�شياء؟ هل �ستعود اليد‬
‫�إ�سقاطاته على لوحاته كمعادل مو�ضوعي لتح�س�س درابزين الدرج والتلذذ بفتح النافذة؟‬ ‫تفاعل تاريخ الفن‬
‫لأقنعة كورونا (التي انت�شرت بماليين الأ�شكال �أم �أن الخوف �سيبقى مادة �أ�سا�سية في �ضمير‬
‫والأل��وان في العالم كله‪ ،‬و�شكلت حالة عامة الكائن حتى بعد انتهاء الوباء؟ �أ�سئلة �سيجيب‬ ‫با�ستمرار مع المتغيرات‬
‫لمالمح جديدة للكائن الإن�ساني‪ ،‬على عك�س عنها علماء النف�س‪.‬‬ ‫والتحوالت في العالم‬

‫‪107‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫(‪1953‬م) ف��ي مدينة ���س��وه��اج بم�صر‪،‬‬ ‫جميع �أفراد عائلته من ال�شعراء‬
‫تخرج في كلية دار العلوم عام (‪،)1984‬‬
‫�صدرت له مجموعات �شعرية هي‪( :‬رايات‬
‫ال�سالم‪ ،‬و�شارات المجد المنطفئة‪ ،‬وعودة‬ ‫فوالذ عبداهلل الأنور‪:‬‬
‫الأحالم الغائبة‪ ،‬و�سيدة الأطالل ال�شمالية‪،‬‬
‫واع��ق��دي حاجبيك‪ ،‬وروائ����ح م��ن ع�شب‬
‫مار�س‪ ،‬وعلى نا�صية ال�شم�س‪ ،‬وق�صائد‬
‫االبتكار مطلوب في الق�صيدة‬
‫ح��ب �إل��ى مي�سون‪ ،‬وانتظريني م��ط��راً ال‬
‫مو�سمي ًا‪ ،‬ورثاء الممالك البائدة‪ ،‬وانطلق‬
‫العمودية والحديثة‬
‫�أيها الجواد)‪� ،‬إ�ضافة �إلى (درا�سات �أدبية)‪.‬‬ ‫العائالت الأدبية ظاهرة وجدت في التاريخ الأدبي‬
‫¯ �أنت (درعمي)؛ �أي خريج كلية دار العلوم‬
‫ال��ق��دي��م وال��م��ع��ا���ص��ر‪ ،‬وف��ي��ه��ا ي��م��ار���س معظم �أف���راد‬
‫التي �أنجبت العديد من ال�شعراء‪ ،‬كيف كان‬ ‫العائلة فنون الأدب‪ ،‬كال�شعر والق�صة وال��رواي��ة‪،‬‬
‫دور الكلية في تكوين �شخ�صيتكم ال�شاعرة؟‬ ‫وم��ن ال��م���ؤك��د �أن البيئة الثقافية تلعب دور ًا في‬
‫‪ -‬كان لدار العلوم دورها الأ�صيل في‬ ‫ذل����ك‪ ،‬و م��ن ال�����ش��ع��راء ال��ذي��ن ول����دوا ف��ي ع��ائ�لات‬
‫دع��م تجربتي ال�شعرية‪ ،‬لي�س من ناحية‬ ‫الأمير كمال فرج‬
‫�أدب��ي��ة ال�شاعر الجنوبي ف���والذ ع��ب��داهلل الأن���ور‪.‬‬
‫كونها معق ًال للدرا�سات العربية والعلوم‬
‫الإ�سالمية فح�سب‪ ،‬بل من ناحية العمل‬
‫الميداني‪ ،‬وقت �أن كنت طالب ًا بها‪ ،‬حيث‬ ‫ال�سماح عبداهلل‪ ،‬والراحل الدكتور م�شهور‬ ‫ينحدر فوالذ من عائلة من ال�شعراء‪،‬‬
‫ال��ن��دوات والمهرجانات ال�شعرية التي ال‬ ‫فواز كان �أحد �شعراء ال�سبعينيات‪ ،‬والأخ‬ ‫ف ��الأب �شاعر والإخ����وة والأب��ن��اء جلهم‬
‫تنقطع‪ ،‬وحيث كنت مقرراً لجماعة ال�شعر‪،‬‬ ‫ال��راب��ع هو ال�شاعر �أوف��ى عبداهلل الأن��ور‬ ‫�شعراء‪ ،‬ف�أبوهم ال�شاعر عبداهلل الأن��ور‬
‫التي كان يتولى ريادتها الأ�ستاذ الدكتور‬ ‫�أحد �شعراء الثمانينيات‪ .‬ولد فوالذ عام‬ ‫فواز �أحد �شعراء ق�صيدة التفعيلة‪ ،‬و�أخوه‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪108‬‬


‫�إبداع‬

‫و�إذاع��ي� ًا‪ ،‬و�إن�سان ًا من‬ ‫محمد �أبو الأن��وار‪ ،‬كنا ن�ست�ضيف كبار �شعراء‬
‫الطراز الرفيع‪ ،‬يحتذى‬ ‫م�صر في ذل��ك الوقت مثل طاهر �أبوفا�شا‪،‬‬
‫ب��ه ك��م��ث��ال ون��م��وذج‬ ‫ومحمد التهامي‪ ،‬و�أحمد مخيمر‪ ،‬وعبدالعليم‬
‫وق��دوة‪ ،‬وظل يربطني‬ ‫عي�سى‪ ،‬وفاروق �شو�شة‪ ،‬ومحمد �إبراهيم �أبو�سنة‪،‬‬
‫ب���ه م��ج��ال��ي ال�����ش��ع��ر‬ ‫و�أمل دنقل‪ ،‬وملك عبدالعزيز‪ ،‬وال �شك في �أن هذا‬
‫والعمل الإذاع��ي‪ ،‬حين‬ ‫االحتكاك الثقافي المبكر كان من �أهم عوامل‬
‫ع��م��ل��ت ب����الإذاع����ات‬ ‫ازدهار التجربة ال�شعرية‪ ،‬لي�س عندي فح�سب‪ ،‬بل‬
‫عدا للبرامج‬ ‫الم�صرية ُم ّ‬ ‫(الدرعميين) �أي�ض ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عند �أبناء جيلي من ال�شعراء‬
‫الأدبية والثقافية في‬
‫الفترة من (‪1975‬م)‬ ‫¯ تكتب ال�شكلين العمودي والحديث‪ ،‬وبالنظر‬
‫�إلى (‪1987‬م)‪ ،‬وظلت‬ ‫�إلى ال�صراع بين الجديد والقديم‪ ،‬كيف ح�سمت‬
‫عالقتنا وطيدة حتى‬ ‫موقفك من ق�ضية ال�شكل؟‬
‫وفاته عام (‪2016‬م)‪،‬‬ ‫‪ -‬لم تعد هناك م�شكلة في �شكل الق�صيدة‬
‫وف��اروق �شو�شة �شاعر‬ ‫خليلي ًا ك ��ان �أو ح��داث��ي � ًا‪ ،‬وال�����ص��راع بين‬
‫كبير‪ ،‬لم ي��� ِأت الوقت‬ ‫الأجنا�س الأدب��ي��ة مفتعل‪ ،‬بالن�سبة لي ف�إن‬
‫بعد الكت�شاف دوره‬ ‫علي �أحد ال�شكلين‪،‬‬ ‫التجربة هي التي تفر�ض ّ‬
‫ال����رائ����د ف����ي ح��رك��ة‬ ‫�شريطة م��راع��اة التجديد وال��ت��ج��وي��د مع ًا‪،‬‬
‫ال�����ش��ع��ر ال��م��ع��ا���ص��ر‬ ‫االبتكار والأ�صالة مطلوبان في ِكال ال�شكلين‪.‬‬
‫ع ��ل ��ى ال��م�����س��ت��وي��ي��ن‬
‫ال ��ق ��وم ��ي وال� ��دول� ��ي‪.‬‬ ‫¯ ربطتكم عالقة وثيقة بال�شاعر الراحل فاروق‬
‫�شو�شة‪ ،‬كيف كانت عالقتك‪ ،‬وكيف كان ت�أثيره‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫¯ عائلة الأن��ور ُتعرف‬ ‫الثقافي فيك؟‬
‫ب�أنها عائلة ال�شعراء‪� ،‬إ�ضافة �إلى هناك �شقيقك‬ ‫‪ -‬لفاروق �شو�شة ف�ضل في ذيوع ق�صائدي‬
‫ال�شاعر �سماح عبداهلل الأنور‪ ،‬و�شقيقك الراحل‬ ‫الأول��ى‪ ،‬و�أنا طالب في الثانوية‪ ،‬فقد �سبقني‬
‫ال�شاعر م�شهور عبداهلل الأن��ور‪ ،‬وهناك �أي�ض ًا‬ ‫ا�سمي �إلى القاهرة قبل �أن �أفد �إليها طلب ًا للعلم‬
‫بيئتي ودرا�ستي في‬ ‫�أوفى عبداهلل الأنور‪ ،‬ماهي الجذور التي �أدت‬ ‫في كلية دار العلوم جامعة القاهرة‪ ،‬من خالل‬
‫كلية العلوم لهما‬ ‫�إلى ذلك؟‬ ‫برنامج (كلمات على الطريق) الذي كان يبثه‬
‫‪� -‬أنتمي �إلى عائلة رموزها من الفقهاء‬ ‫الراحل من الإذاعة الم�صرية‪ ،‬مع ما كان ين�شره‬
‫الأثر الأكبر في‬
‫والعلماء‪ ،‬فجدي لأب��ي �شيخ قرية الع�سيرات‬ ‫لي في ذلك الوقت �أي�ض ًا ال�شاعر مح�سن الخياط‬
‫ثقافتي وتجربتي‬ ‫�أوالد حمزة ناحية �سوهاج ب�صعيد م�صر‪ ،‬عالم‬ ‫في �صحيفة (الجمهورية)‪.‬‬
‫ال�شعرية‬ ‫وفقيه كان مق�صد طالب العلم وطالبي الفتيا‪،‬‬ ‫وف ��ي ع ��ام (‪1973‬م) �أث ��ن ��اء ال��درا���س��ة‬
‫وكانت الع�سيرات تحفل بمجال�س العلم والفكر‬ ‫الجامعية‪ ،‬عرفت فاروق �شو�شة عن قرب �شاعراً‬

‫فاروق �شو�شة رائد‬


‫من رواد ال�شعر‬
‫العربي المعا�صر‬
‫ونموذج يحتذى به‬
‫�شعري ًا و�إن�ساني ًا‬

‫كلية دار العلوم‬

‫‪109‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�إبداع‬

‫التوا�صل االجتماعي‪،‬‬
‫ف��ق��د ه� ّ�م�����ش��ت التقنية‬
‫دور ال��ك��ت��اب ال��ورق��ي‬
‫‪ -‬ول���و بن�سبة م ��ا ‪-‬‬
‫على فنون ال ينا�سبها‬
‫�أنتمي �إلى عائلة‬ ‫غير الأوراق والأق�ل�ام‬
‫رموزها من الفقهاء‬ ‫كالإمالء والخط العربي‬
‫والعلماء وال�شعراء‬ ‫واللغة (النحو)‪ ،‬بوجه‬ ‫محمد �أبو �سنة‬ ‫�أحمد مخيمر‬
‫ع��ام ال�سرعة المذهلة‬
‫ف��ي جمع المعلومات‪،‬‬
‫�أ���ص��ب��ح ل��ه��ا ال�����ص��دارة‬
‫مقابل تراجع ملمو�س‬
‫ل��ل��ث��ق��اف��ة الأ���ص��ي��ل��ة‪.‬‬

‫¯ م��ا ه��و ال���دور ال��ذي‬


‫يمكن �أن تقدمه الثقافة‬
‫الإذاع��ي��ة في التطوير‬ ‫فاروق �شو�شة‬ ‫�أمل دنقل‬
‫الثقافي؟‬
‫الذهبي‬
‫ّ‬ ‫ع�صرها‬ ‫‪ -‬للأ�سف الإذاعة �أخذت‬ ‫والأدب التي يح�ضرها من القاهرة علماء‬
‫الزعم ب�أن الرواية‬ ‫معها وم�ضت‪ ،‬هذه حقيقة‪ ،‬كيف يمكن لها �أن‬ ‫الأزه ��ر ال�شريف �أ�صدقاء ج��دي و�أب ��ي‪ ،‬وفي‬
‫�أ�صبحت ديوان العرب‬ ‫ت�سترد مكانها في ظل البدائل الحديثة التي‬ ‫طليعتهم ال�شيخ محمد ح�سنين مخلوف‪ ،‬وال�شيخ‬
‫يحتاج �إلى مناق�شة‬ ‫تعتمد على ال�صورة والحركة‪ ،‬وت�صل �إلى المتلقي‬ ‫محمود �شلتوت‪ ،‬وال�شيخ �صالح �أبو �إ�سماعيل‪.‬‬
‫جدية‬ ‫في لمح الب�صر من �أق�صى القارات �إلى �أق�صاها‪.‬‬ ‫�أم��ا ج��دي لأم��ي فهو عبداهلل �أحمد فواز‬
‫¯ م��ا ه��ي الفيرو�سات التي تهدد الحياة‬ ‫رئي�س تحرير جريدة (كوكب ال�شرق)‪ ،‬وهو �أديب‬
‫الثقافية؟ ومتى نعلن الحجر الثقافي؟‬ ‫وكاتب �سيا�سي ب��ارز توفي عام (‪1934‬م)‪،‬‬
‫‪ -‬التحديات كثيرة‪ ،‬منها التطور المذهل‬ ‫وجدتي لأمي هي �أمينة هانم بنت ال�شاعر ولي‬
‫في التقنية الحديثة‪ ،‬واندالع ثورة المعلومات‬ ‫الدين يكن‪.‬‬
‫الفورية بين �أنحاء الأر���ض‪ ،‬وعوامل �أخرى‬ ‫و�أبي العالم ال�شاعر عبداهلل الأنور فواز‪ ،‬له‬
‫متعلقة بالتعليم‪ ،‬والخطاب الديني‪ ،‬وب��دور‬ ‫ديوانان مطبوعان‪( :‬جحيم ال�صبابة)‪ ،‬و(فجر‬
‫الم�ؤ�س�سات الثقافية الر�سمية‪ ،‬وعجزها عن‬ ‫الحياة) و�أخ��رى لم تطبع بعد‪ ،‬ن�شر ق�صائده‬
‫مقاومة التوجه النفعي‪ ،‬وغير ذلك من العوامل‬ ‫في �صحف م�صرية وعربية منها (الأه��رام)‪،‬‬
‫الأخرى المعروفة لدى المتلقي والمبدع مع ًا‪.‬‬ ‫و(ال��ه�لال) في م�صر‪ ،‬و�صحيفة (ال��ع��راق) في‬
‫�أما عن تعبيركم الجديد الجميل (الحجر‬ ‫العراق‪.‬‬
‫ال�صراع بين‬ ‫الثقافي) فهو قائم على الأق��ل بالن�سبة لي‪،‬‬ ‫�أم ��ا بالن�سبة لأ�سرتنا ال�صغيرة ف�أنا‬
‫الأجنا�س مفتعل‬ ‫حيث �أجنح �إلى التر ّفع عن مزاحمة المتهافتين‬ ‫و�أ���ش � ّق��ائ��ي‪ ،‬ال��دك��ت��ور م�شهور ف���واز‪ ،‬و�أوف ��ى‬
‫والمهم الأ�صالة‬ ‫على �أب��واب الم�ؤ�س�سات والهيئات الثقافية‪.‬‬ ‫عبداهلل الأنور‪ ،‬وال�سماح عبداهلل توجهنا لل�شعر‬
‫واالبتكار‬ ‫والنقد والأدب منذ نعومة �أظفارنا‪ ،‬ولكلٍ منا‬
‫¯ هل انتزعت الرواية لقب (ديوان العرب)؟‬ ‫تجربته الخا�صة في ال�شعر‪ ،‬ومنهجه الذي‬
‫ـ الزعم ب�أن الرواية �أ�صبحت ديوان العرب‬ ‫يختلف عن منهج �أ�شقائه في الر�ؤية والأداة‪.‬‬
‫ُهراء‪� ،‬أما القول ب�أن ع�صرنا ع�صر الرواية‪ ،‬فهذا‬
‫¯ العزوف عن الثقافة م�شكلة مزمنة‪ ،‬فما �أبرز يجب �أن يخ�ضع للمناق�شة وا�ستق�صاء العوامل‪،‬‬
‫والآراء النقدية الم�ؤيدة والراف�ضة‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬ ‫التحديات التي تواجه ال�شعر العربي الآن؟‬
‫‪ -‬ي�أتي في طليعة هذه التحديات التقدم النتائج الحا�سمة والقول الفي�صل في هذه‬
‫المذهل في و�سائل التقنية الحديثة ومواقع الم�شكلة‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪-‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪110‬‬


‫فن‪.‬وتر ‪.‬ريشة‬
‫من �أ�سواق �أرواد‬

‫¯ فريدة قا�سمي‪ ..‬فتنة الت�شكيل وبهجة الأناقة‬


‫¯ الم�سرح والفنون الجديدة‬
‫¯ فيلم «حياة باي» يمزج بين الخيال والواقع‬
‫¯ «موت ال�سيد الزار�سكو» والتفا�صيل ال�صغيرة‬

‫‪111‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫ي�صور زمن البراءة بالري�شة والألوان‬

‫�ضياء مكين‪ ..‬انحاز للفن ال�شعبي‬


‫متحرر ًا من �أي قيود‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪112‬‬


‫ت�شكيل‬

‫�شهدت ال��ق��اه��رة م���ؤخ��ر ًا �إق��ام��ة المعر�ض الفني الجديد‬


‫للفنان الت�شكيلي الم�صري �ضياء مكين‪ ،‬وال��ذي ج��اء تحت‬
‫عنوان (زم��ن ال��ب��راءة)‪ ،‬وفيه ا�ستطاع هذا الفنان‪ ،‬من خالل‬
‫ثالثين لوحة‪ ،‬ت�صوير ع�صر ال��ب��راءة بالري�شة والأل���وان‪،‬‬
‫تلتقط لوحته‬ ‫ب�شكل ينقل الم�شاهد بهذه الإب��داع��ات الت�شكيلية �إل��ى تلك‬
‫لحظات طفولية‬ ‫�أحمد �أبو زيد‬
‫الفترة البريئة‪ ،‬فترة الطفولة التي يحن �إليها كل �إن�سان‪..‬‬
‫تعبر عن ذكريات‬ ‫�إذ تلتقط ال��ل��وح��ات لحظات طفولية معبرة‪ ،‬وذك��ري��ات تج�سد ال��ب��راءة في‬
‫تج�سد البراءة في‬ ‫�أروع �صورها‪ ،‬من خ�لال نهج مليء بالحرية الإبداعية والعفوية الإيقاعية‬
‫�أروع �صورها‬ ‫المتناغمة مع عالم ال��ب��راءة ال�صبيانية النقية‪ ،‬وكلها تتجلى في الخطوط‬
‫والأل���وان والم�ساحة والملم�س‪ ،‬مع ا�ستخدام الأل���وان الزيتية والأكريلك‪.‬‬

‫والقباب في م�سجد ال�صالح ب�صنعاء‪ ،‬وهو �أكبر‬ ‫�ضياء مكين‪ ،‬واحد من المبدعين رواد الفن‬
‫و�أحدث م�سجد في اليمن‪� ،‬إذ ي�ضم �أعلى قبة في‬ ‫الت�شكيلي المعا�صر‪ ،‬فهو ع�ضو نقابة الفنانين‬
‫العالم ويعتبر تحفة معمارية تتجان�س في فن‬ ‫الت�شكيليين‪ ،‬وع�ضو جماعة الك ّتاب والفنانين‬
‫العمارة الإ�سالمية والعربية‪.‬‬ ‫ب�أتيلييه القاهرة‪ ،‬تخرج في كلية الفنون الجميلة‬
‫ول��ه العديد من المعار�ض الفنية الفردية‬ ‫بالقاهرة‪ ،‬ق�سم الديكور والعمارة الداخلية‪،‬‬
‫م�صمم ديكور عالمي‬ ‫والجماعية التي �أقامها بلندن والقاهرة‪ ،‬خالل‬ ‫(‪1976‬م)‪ ..‬وهو لي�س فنان ًا ت�شكيلي ًا فح�سب‪ ،‬بل‬
‫�أبدع �أعما ً‬ ‫الفترة من عام (‪1977‬م) وحتى اليوم‪ ،‬والتي‬ ‫مهند�س معماري وم�صمم ديكور عالمي‪ ،‬ا�شترك‬
‫ال معمارية‬
‫تزيد على (‪ )35‬معر�ض ًا‪ ،‬وهو �صاحب ر�صيد كبير‬ ‫في العديد من الم�شروعات المتميزة بمختلف‬
‫متميزة في مختلف‬ ‫من اللوحات والمقتنيات الفنية بم�صر والخارج‪،‬‬ ‫دول العالم‪ ،‬وقام بالت�صميم والإ�شراف و�إدارة‬
‫دول العالم‬ ‫ويعد �أول فنان عربي يعر�ض �أعماله الت�شكيلية‬ ‫الم�شروعات للعديد م��ن الأع��م��ال المعمارية‬
‫في محالت هارودز ال�شهيرة بالمملكة المتحدة‪.‬‬ ‫المتميزة والم�شروعات ال�سياحية والتراثية‬
‫وقد ا�شتهر مكين برحالته الفنية �إلى �أوروبا‪،‬‬ ‫والمعمارية والقرى والحدائق الترفيهية‪.‬‬
‫حيث �أقام في لندن ثالثة معار�ض فردية عام‬ ‫فهو من �صمم الم�سجد الزجاجي ال�شهير في‬
‫(‪1989‬م)‪ ،‬الأول بالمركز الثقافي الم�صري‪،‬‬ ‫كواال ترينجانو بماليزيا (كري�ستال م�سجد)‪ ،‬وهو‬
‫والثاني بال�سفارة الم�صرية بمنا�سبة احتفاالت‬ ‫الم�سجد الوحيد والأول من نوعه في العالم‪ .‬كما‬
‫�أكتوبر‪ ،‬والثالث بجاليري هارودز‪ ،‬وا�شترك في‬ ‫قام بتلوين الزخارف الداخلية للجدران والأعمدة‬

‫الفنان الت�شكيلي �ضياء مكين‬ ‫من لوحات مكين‬

‫‪113‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫واالغتراب‪� ،‬سيبقى االنتماء للجذور هو الأبقى‪،‬‬ ‫معر�ض جماعي للر�سوم المعمارية بلندن عام‬
‫وهو ال��ذي من خالله يمكن الو�صول للعالمية‬ ‫(‪1988‬م)‪.‬‬
‫وتحقيق ما فوق الأحالم‪.‬‬ ‫ثم ع��اد ه��ذا الفنان بعد رحلته الفنية في‬
‫وج ��اء معر�ضه ال��ث��ان��ي ب��ال��ق��اه��رة خالل‬ ‫�أوروب ��ا م��رت��داً �إل��ى ال��ج��ذور‪ ،‬فغرق من �أعماق‬
‫نوفمبر (‪2008‬م)‪ ،‬والذي حمل عنوان (�إيقاعات‬ ‫التراث الم�صري ليحرك فينا‪ ،‬بلوحاته الفنية‪،‬‬
‫الح�ضارة ال�شعبية)‪ ،‬لكي ي�ؤكد �أ�صالة هذا الفنان‪،‬‬ ‫الما�ضي ال��ذي نحمله في �أعماقنا‪ ،‬وك�أنه لم‬
‫ورغبته ال�صادقة في التوا�صل مع تيار �أ�صيل‬ ‫يغادرنا لحظة‪.‬‬
‫تميز بنهج مليء‬ ‫في الحركة الفنية المعا�صرة بم�صر‪ ،‬مدرك ًا �أن‬ ‫ول ��م ي�ستطع ب��ري��ق ات��ج��اه��ات ال��ح��داث��ة‬
‫بالحرية الإبداعية‬ ‫هذا التيار هو �سنده وانتما�ؤه‪ ،‬ومدرك ًا كذلك‬ ‫الأوروبية �أن ي�سلب لبه نحو محاكاتها‪ ،‬فظل‬
‫والعفوية والإيقاعات‬ ‫متطلبات اللغة الت�شكيلية في �ضرورة ال�سيطرة‬ ‫م�ستم�سك ًا بعنا�صره المعمارية الم�ستوحاة‬
‫على بالغتها الجمالية‪.‬‬ ‫من طرز النوبة والواحات‪ ،‬وعنا�صره النباتية‬
‫المتناغمة‬ ‫وال��ح�����ض��ارة ال�شعبية ه��ي ج���دار �سميك‬ ‫والزخرفية الم�ستوحاة من الفن الم�صري القديم‪،‬‬
‫ت�صل �سماكته �إل��ى �أكثر من ع�شرة �آالف عام‪،‬‬ ‫وعنا�صره اللونية والملم�سية الم�ستوحاة من‬
‫ويحوي داخله جميع الح�ضارات التي كونت‬ ‫ال�ضوء ال�صحراوي ومالم�س الجدران الحجرية‬
‫تربة هذا الوطن‪ ،‬بدءاً من الح�ضارة الفرعونية‬ ‫والطينية‪.‬‬
‫والهيليني�ستية والقبطية والإ�سالمية التي تمثل‬ ‫وبعد عودته‪� ،‬أقام معر�ضه الأول في القاهرة‬
‫كينونة الإن�سان وموروث الفن ال�شعبي‪.‬‬ ‫عام (‪1994‬م)‪ ،‬والذي �أكد من خالله �أنه برغم‬
‫ولوحاته في هذا المعر�ض هي ا�ستلهامات‬ ‫تزاحم الأ���ض��واء والكوابي�س وعالم الفو�ضى‬

‫�أعمال م�ستوحاة من البيئة‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪114‬‬


‫ت�شكيل‬

‫لتلك العنا�صر والإيقاعات التي �شكلت الح�ضارة‬


‫ال�شعبية‪ ،‬وك�أنها كائنات حية تعك�س تاريخ ًا‬
‫ح�ضاري ًا ع��ري��ق� ًا لب�صمات ال��ف��ن��ان ال�شعبي‬
‫الم�صري‪ ،‬بل كثيراً ما تتناغم ه��ذه العنا�صر‬
‫وتتحول �إلى �إيقاعات متنا�سقة‪.‬‬
‫وتوالت بعد ذلك معار�ضه الت�شكيلية‪ ،‬وفيها‬
‫عبر الفنان عن المباني والبيوت الطينية ال�شعبية‬
‫القديمة‪ ،‬كبيوت النوبة وال��ري��ف التي ب��د�أت‬
‫باالندثار وحل محلها الطوب الأحمر‪ .‬وتناول‬
‫الم�صوغات ال�شعبية في لوحاته‪ ،‬كالخالخيل‬
‫والأق�����راط وال ��ك ��ردان وغ��ي��ره��ا‪ ،‬وال��ت��ي تحمل‬
‫من معار�ضه‬ ‫ف�صو�ص ًا ذات ت�صميمات هائلة‪ .‬كما عبر عن‬
‫�أبراج الحمام الم�صرية التي تختلف عن �أبراج‬
‫الدول الأخرى‪.‬‬
‫وفي نهاية (‪2012‬م)‪� ،‬شهدت القاهرة �إقامة‬
‫معر�ضه (حلوة يا بلدي)‪ ،‬وهو المعر�ض الخام�س‬
‫والثالثون لمكين‪ ،‬حيث �شارك قبله في (‪)34‬‬
‫معر�ض ًا فردي ًا وجماعي ًا بم�صر والخارج‪ ،‬وفي هذا‬
‫المعر�ض قدم ما يربو على (‪ )35‬لوحة‪� ،‬صاغتها‬
‫�أنامله وفق معايير مختلفة‪ ،‬م�ستخدم ًا العديد من‬
‫الخامات والأدوات الفنية‪ ،‬في ا�ستعرا�ض يعك�س‬
‫ر�ؤية فنية جديدة‪ ،‬ت�ستهدف ت�سليط ال�ضوء على‬
‫مناظر م�صر الطبيعية وجماليات الطبيعة‪ ،‬على‬
‫م�سجد ماليزيا الزجاجي‬
‫فمثل هناك لوحات يغلب عليها الطابع‬ ‫يحدده‪ً ،‬‬ ‫امتداد الريف الم�صري بنجوعه وكفوره التي‬
‫التجريدي‪ ،‬و�أخرى يغلب عليها الطابع التعبيري‪.‬‬ ‫تحمل موروث ًا تراثي ًا ثري ًا‪.‬‬
‫م�ضي ًفا �أنه كان في هذا المعر�ض بالذات‪ ،‬متمرداً‬ ‫�أما معر�ضه الأخير حول زمن البراءة‪ ،‬والذي‬
‫على القواعد الفنية الأكاديمية من حيث الأ�شكال‬ ‫�أقيم في جاليري جرانت بالقاهرة؛ فقد �ضم‬
‫والن�سب المتعارف عليها‪ ،‬فنجده يقول‪( :‬كنت‬ ‫ثالثين لوحة‪ ،‬وهي‪ ،‬كما ي�ؤكد مكين‪ ،‬ت�أتي في‬
‫متحرراً من �أي قيود تعيق حركة الفر�شاة ومزج‬ ‫�إطار عالم خا�ص من الألوان والخيال يعود �إلى‬
‫الألوان وتكوين الأ�شكال)‪.‬‬ ‫زمن م�ضى ال�ستعادة هذه الفترة من خالل تلك‬
‫وه��ك��ذا يتعمق مكين‪ ،‬م��ن خ�لال لوحاته‬ ‫اللوحات‪ ،‬فيما ي�شبه الت�أريخ من خالل الفر�شاة‬
‫ومعار�ضه‪ ،‬في �سراديب الفن ال�شعبي الذي يعد‬ ‫والألوان‪.‬‬
‫في �أي مجتمع مظهر من مظاهر ثقافته‪ ،‬ولغة‬ ‫�أم��ا بالن�سبة �إل��ى النهج المتبع ف��ي هذا‬
‫قام بت�صميم الم�سجد‬ ‫تفهمها كل ال�شعوب وتت�أثر بها‪ ،‬ولها دور �أ�سا�سي‬ ‫العمل؛ فيقول‪� :‬إن مو�ضوع اللوحة هو الذي‬
‫الزجاجي في ماليزيا‬ ‫وح��ت��م��ي ف ��ي ب��ن��اء ح�����ض��ارة‬
‫وهو الأول من نوعه‬ ‫المجتمعات الإن�����س��ان��ي��ة‪ ،‬من‬
‫خ�لال الحركة والخط وال�شكل‬
‫والم�سطح اللوني‪ ،‬و�إي��ح��اءات‬
‫الكلمات الم�صوغة في حكايات‬
‫و�أمثال و�أ�شعار و�أغانٍ و�ألحان‬
‫ومعتقدات وتقاليد‪ ،‬وه��ي في‬
‫حقيقتها ن�سيج واح ��د وبناء‬
‫تجمعه وح��دة ع�ضوية واح��دة‬
‫هي الإن�سان وق��درات��ه الثالث‪:‬‬
‫فكره وح�سه ووجدانه‪.‬‬
‫�ضياء مكين مع لوحاته‬

‫‪115‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫فتنة الت�شكيل وبهجة الأناقة‬


‫الفنانة الجزائرية فريدة قا�سمي‬
‫محمد ح�سين طلبي‬

‫�أُخرى من هواة المدينة‪ ،‬وهي التي انت�سبت ذات‬ ‫ال�شهيرة بمناخ الهدوء والرخاء والعطاءات‬ ‫ككل ال�صبايا الجزائريات و(العربيات)‬
‫يوم �إلى الجامعة الم�ستقلة المتخ�ص�صة هناك‪،‬‬ ‫الإبداعية لتغدو (�أي المدينة) كوكبها الفني‬ ‫ب�شكل عام ن�ش�أت فريدة قا�سمي‪ ،‬على جملة‬
‫لال�ستزادة من تقنيات العمل‪ ،‬ال��ذي ال حدود‬ ‫الم�ستقبلي‪ ،‬ال��ذي تندمج فيه بن�شاطات ال‬ ‫م��ن ال��ث��واب��ت االج��ت��م��اع��ي��ة ف��ي ت��ل��ك البيئة‬
‫له‪ ،‬حتى لو اختلفت في الت�سميات وتعددت‬ ‫م��ح��دودة‪ ،‬وك� ��أن �ضالتها كانت هناك في‬ ‫المحافظة‪ ،‬مثل تعلم و�إتقان الحرف المنزلية‪،‬‬
‫في الأ�شكال‪ ،‬وبالأخ�ص تلك المتعلقة بالر�سم‬ ‫االنتظار‪ ،‬من �أجل الت�أقلم الجميل ومبا�شرة‬ ‫والتناف�س فيها‪ ،‬لي�س فقط لمقاومة الظروف‬
‫وبزينة المر�أة في �أي مكان و�أية منا�سبة‪.‬‬ ‫االحتكاك والتعلم (�أكثر)؛ لأن مخزون ًا ثري ًا‬ ‫وم�ساعدة الأه��ل‪ ،‬بل لتجهيز ذواتهن كحرائر‬
‫وه��ذه التجربة المهمة في الر�سم والتي‬ ‫كان يرافقها عند مغادرة الجزائر‪ ،‬لم تحظ به‬ ‫رف تتجاوز الحياكة‬ ‫للم�ستقبل القادم كذلك‪ِ ..‬ح ٌ‬
‫بد�أتها قبل ثالثين �سنة ب�أ�شكال تو�ضيحية‬ ‫ربما في الوطن الم�ضطرب والمنهك‪ ،‬من جراء‬ ‫والتطريز و�صنع �أدوات الطبخ الطينية‪ ،‬كالقدور‬
‫(لموتيفات) مرافقة لبع�ض القطع الزخرفية‪،‬‬‫ٍ‬ ‫تطاحن �أهله فيما ُ�سمي وقتها بـ(الع�شرية‬ ‫و(طواجين) (ال ِك�سرة) و�أدوات الق�ش المعروفة‬
‫التي �سبق و�أبدعتها قبل �أن تبلورها في‬ ‫ال�سوداء)‪ ،‬ما ي�شجع على تطويره والتو�سع فيه‪.‬‬ ‫وغيرها من ال�ضروريات �أو حتى الكماليات‪،‬‬
‫المعار�ض المختلفة‪ ،‬ث��م ت��ط��ورت ف��ي �شتى‬ ‫نعم ف��ي فرن�سا‪ ،‬بلد ال��ب��ه��اء والإب����داع‬ ‫�إل��ى مهن �ستغدو مع الوقت ثابتة لبع�ضهن‪،‬‬
‫المعار�ض‪� ،‬إلى �أن تعمقت فيها فيما بعد‪ ،‬في‬ ‫والحرية‪ ،‬حيث تقترب هذه الفنانة المنطلقة في‬ ‫وبالأخ�ص في المناطق النائية عن الأ�سواق‪،‬‬
‫التب�سيطات التجريدية الكثيرة‪ ،‬التي ُعرفت‬ ‫�شتى المدار�س الفنية‪ ،‬بداي ًة من الفن الت�شكيلي‬ ‫وهكذا تخرج �إلى الدنيا �صبية تحمل في كل‬
‫بها مثل الرموز والوجوه والمناظر الطبيعية‬ ‫وفنون الخياطة‪ ،‬وم��ن بعدهما الحلي (وما‬ ‫�إ�صبع مهنة تتباهى بها كما يقال‪.‬‬
‫الخالبة وخالفها‪ ،‬م�ستخدمة الأل��وان المائية‬ ‫�أدراك ما الحلي) ثم �إك�س�سوارات زينة المنازل‪،‬‬ ‫م��ن ه��ذا المحيط ال��ث��ري ت��غ��دو �ضيفتنا‬
‫والإكريليك وقلم الر�صا�ص‪� ،‬إل��ى �أن و�صلت‬ ‫مثل الحفر على الزجاج ب�شقيه اليدوي والآلي‪،‬‬ ‫(معلمة اللغة العربية) القادمة من �سوق �أهرا�س‬
‫بتلك الطاقات الإبداعية الجمالية‪ ،‬و�إلى حالة‬ ‫واللوحات الزيتية وما يلحقها‪ ،‬وكذلك �صناعة‬ ‫ب�أق�صى ال�شرق الجزائري‪ ،‬المدينة الحاملة‬
‫�أكثر خ�صب ًا وتمكن ًا تخاطب فيها الوجدان‬ ‫�شتى الكماليات الدارجة وقتها‪ ،‬وكلها هوايات‬ ‫لموروثات التاريخ وجمال الطبيعة وعنفوان‬
‫والعاطفة‪..‬‬ ‫ت�شكل فيما بينها ح��واري��ة جميلة وفاعلة‪،‬‬ ‫النا�س‪ ،‬لتندمج في مجتمع مدينة (عنابة) غير‬
‫ولوحات فريدة قا�سمي بفتنتها و�إن كانت‬ ‫عندما تعر�ض في الم�ساحات والف�ضاءات‬ ‫البعيدة‪ ،‬والأكثر انفتاح ًا قلي ًال فتجد ال�ساحة‬
‫�صغيرة الم�ساحة �إال �أننا نجد ب ��أن الفنانة‬ ‫المنت�شرة في المدينة‪ ،‬وبالأخ�ص �إذا كانت‬ ‫�أك��ث��ر رح��اب��ة‪ ،‬رب��م��ا م��ا يتيح لها االن��دم��اج‬
‫تحملها الن�ص الجمالي متكام ًال‪ ،‬والجميل �أننا‬ ‫ح�صلة لعمل جماعي‪ ،‬ي�ضم نخبة مهمة‬ ‫ٍ‬ ‫�ضمن ُم‬ ‫وتطلع في محيطها الجديد بما‬ ‫ٍ‬ ‫بفائ�ض ٍ‬
‫�شغف‪،‬‬
‫عندما ن�س�ألها عن �إمكانية تكبير تلك الأعمال‪،‬‬ ‫من �سيدات (في�شي) والقادمات �إليها من �شتى‬ ‫في ذلك هواية التمثيل في المدر�سة حيث تعمل‪،‬‬
‫تجيب ب�أنها تف�ضلها دائم ًا بالحجم ال�صغير‪،‬‬ ‫البالد والجن�سيات القريبة �أو البعيدة (برتغالية‪،‬‬ ‫وما ي�صحبها من ن�شاطات متاحة كالريا�ضة‬
‫حتى تكون في متناول الجميع من �أجل ن�شر‬ ‫هولندية‪ ،‬يابانية‪ ،‬جزائرية‪ ،‬وفرن�سية بطبيعة‬ ‫وطموح‬
‫ٍ‬ ‫لعط�ش‬
‫ٍ‬ ‫إرواء‬
‫وال��رح�لات والحفالت � ً‬
‫الفن‪ ،‬وك�سب �أكبر عدد من ُع�شاقه‪.‬‬ ‫الحال)‪ ،‬يجتمعن دائم ًا لت�شكيل وحدة ثقافية‬ ‫وتطلع �إلى غد �أجمل‪ ،‬عله يعو�ض قدر الإمكان‬
‫نعم لقد وجدت الفنانة فريدة قا�سمي‪ ،‬في‬ ‫متكاملة ف��ي طموحاتها‪ ،‬وق��د انغم�ست كل‬ ‫حرمان ًا‪ ،‬تر�سخ �إبان مرحلة اال�ستعمار البائ�سة‬
‫الألوان المائية والزيتية بكل ما تتميز به كل‬ ‫منها في العمل الجميل‪� ،‬ضمن ور�شات منظمة‬ ‫في وطنها ككل‪.‬‬
‫منها‪ ،‬من خ�صائ�ص ب�صرية وجمالية‪ ،‬و�سيلة‬ ‫ترعاها المدينة‪ ،‬المتطلعة دائم ًا �إلى الإ�شعاع‬ ‫وت��ظ��ل المعلمة الن�شيطة م��دم��ن��ة على‬
‫موفقة لإنجاز لوحاتها‪ ،‬فكانت بطبيعة الحال‬ ‫والتفوق والفوز بالألقاب العمرانية والخدمية‬ ‫التفا�ؤل والفرح‪ ،‬كلما اقتربت والت�صقت بهواية‬
‫الأل��وان ال�صريحة النقية لديها هي الغالبة‪،‬‬ ‫وال�سياحية‪.‬‬ ‫جديدة‪ ،‬من الممكن �أن ت�ضيف �إلى طموحاتها‬
‫لأنها كما تقول‪� :‬إنها ت�سمح دائم ًا بانبعاث‬ ‫نعم هنا تتميز (فريدة قا�سمي) من بينهن‬ ‫مزيداً من ال�سعادة والعطاء‪� ،‬إل��ى �أن تغادر‬
‫ال�ضوء‪ ،‬خالف تلك المخلوطة �أو المركبة‪.‬‬ ‫بفائ�ض الحما�س والتفاني في تطوعها‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫عام (‪1992‬م) بعد ال��زواج والتقاعد الجزئي‬
‫�إن فنون الر�سم بالن�سبة لفريدة قا�سمي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لمجموعة �إثر‬ ‫�إلى ذلك لتقديم الدرو�س التقنية‬ ‫من التدري�س باتجاه مدينة (في�شي) الفرن�سية‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪116‬‬


‫�أخيلة‬

‫الت�شكيلية ب�شكل عام ولكن كيفية ت�شكيل رمزية‬ ‫ه��ي ح��اج��ة ي��وم��ي��ة تعتمد عليها دائ ��م�� ًا‪ ،‬كي‬
‫وعمق ال��دالالت‪ ،‬التي تحملها وتقدمها للم�شاهد‪،‬‬ ‫ت�ستطيع ر�ؤية الألوان‪ ،‬وهي تزهو بكل ف�صاحتها‬
‫وم��دى مهارة الفنان على القول والإف�ضاء من‬ ‫وبوحها‪ ،‬وعليه كذلك اعتمدنا نحن (من اقتربنا)‬
‫خاللها باللغة الب�صرية‪ ،‬وب�شكل يجعل من تعدد‬ ‫من لوحاتها حتى ن�شاهد تلك الإبداعات‪� ،‬ضمن‬
‫انطلقت كمعلمة للغة‬ ‫قراءات اللوحة �أمراً جوهري ًا فاع ًال‪.‬‬ ‫مناخ متحرر كما يقت�ضي الح�س‪ ،‬برغم فو�ضى‬
‫العربية وتحولت‬ ‫ولدت الفنانة فريدة قا�سمي في مدينة �سوق‬ ‫التنوع في تلك اللوحات‪� ،‬سواء الزيتية �أو المائية‬
‫�أهرا�س‪ ،‬وحتى و�إن كانت قد انطلقت مت�أخرة بعد‬ ‫�أو غيرهما‪ ،‬من ت�شكيالتها الم�شغولة بمختلف‬
‫�إلى فنانة ت�شكيلية‬ ‫ا�ستقرارها في مدينة (في�شي) الفرن�سية بت�أثير‬ ‫التقنيات‪ ،‬والتي ال ت�شعرك �أبداً‪ ،‬عندما تطيل الت�أمل‬
‫�شاملة‬ ‫جملة من المحر�ضات والدوافع‪� ،‬أهمها الموهبة‬ ‫فيها ب�أي ملل‪� ،‬إذ �إنها تت�سع لق�ضاء ال�ساعات مع‬
‫الأ�صيلة التي امتلكتها و�أخ���ذت طريقها �إل��ى‬ ‫محتوياتها (الطبيعية مث ًال) من طيور �أو �أ�شجار‬
‫الإدم��ان‪� ،‬إال �أنها‪ ،‬وعلى الرغم من هذه التجربة‬ ‫�أو �أنهار �أو جبال �أو ثلج �أو �أمطار‪ ،‬من �أ�سا�سيات‬
‫تلق ما ت�ستحق من درا�سة واهتمام‪،‬‬ ‫الغنية‪ ،‬لم َ‬ ‫الطبيعة الفاتنة‪ ،‬والتي ت�أخذك بدورها �أحيان ًا‬
‫من قبل النقاد الجزائريين �أو غيرهم من العرب‪،‬‬ ‫�إلى التجريد المركب الذي يبعد العين �أحيان ًا عن‬
‫و�إنما ظل االحتفاء بها منح�صراً في محيط مدينة‬ ‫التب�سيط العفوي الطفولي‪.‬‬
‫وجدت في مدينة‬ ‫(في�شي) وحدها الأمر الذي يدعونا �إلى االنتباه �إلى‬ ‫لقد وجدت فريدة قا�سمي‪ ،‬في مدينة في�شي‬
‫(في�شي) الفرن�سية ما‬ ‫ذلك واالقتراب من هذا الغزل‪ ،‬وهذه الت�شكيلة من‬ ‫مدر�سة كبيرة ل�شتى الفنون‪ ،‬فف�ضلت اال�ستقرار‬
‫الأجنا�س الفنية التي تقدمها منذ �أكثر من ثالثين‬ ‫بها منذ زمن طويل والت��زال برفقة زوجها الذي‬
‫تحتاج �إليه من �أجواء‬ ‫�سنة على حواف الثراء والتنوع‪..‬‬ ‫منحها الأم��ان والم�ساندة‪ ،‬ولم يكن دفتر الر�سم‬
‫تتالءم مع �شخ�صيتها‬ ‫نالحظ �أن فريدة قا�سمي هي من المبدعات‬ ‫يفارقها حتى في ترددها الم�ستمر على بلدها‬
‫كفنانة‬ ‫الالئي يعملن كثيراً وال يتحدثن �إال قلي ًال‪ ،‬كما‬ ‫الجزائر في المنا�سبات المختلفة‪ ،‬لذلك فهي �إما‬
‫فهمنا من تلميحاتها المتوا�ضعة‪ ،‬عندما تجيب‬ ‫�أن تر�سم �أو ت�صنع الكماليات‪ ،‬حتى تراكم لديها‬
‫عن ت�سا�ؤالتنا‪ ،‬حول هذا البذخ والعطاء دون �أن‬ ‫ع�شرات الدفاتر المزدحمة والأعمال التي نفذتها‪،‬‬
‫ي�صاحب ذلك �إ�شهار �أو تعريف �إعالمي على الأقل‪،‬‬ ‫�سواء في المقاهي �أو الحدائق �أو ور�ش الن�شاط التي‬
‫ومازالت تعتبر ذلك مجرد هواية لتم�ضية الوقت‬ ‫ترتادها حيثما تكون‪ ،‬ونعتقد �أنها في ُجملة ما‬
‫و�إراحة النف�س فقط‪.‬‬ ‫تبدع‪ ،‬ال تميل �إلى نوع معين من الفل�سفة‪� ،‬سواء‬
‫من الفنانات اللواتي‬ ‫عندما �سافرت ه��ذه المبدعة الكبيرة �إل��ى‬ ‫في الر�سم �أو غيره من الفنون‪ ،‬بل هي تميل �أكثر‬
‫يعملن كثيراً وبجهد‬ ‫مدينة (في�شي) الفرن�سية كانت محملة بالأحالم‬ ‫�إلى الأعمال ال�سريعة والمتكاملة‪ ..‬فهي مث ًال تتمنى‬
‫والطموحات والم�شاريع والمزيد من الذكاء الذي‬ ‫�أن يكلفها �أحدهم ذات يوم ب�أن تنجز له في بيته‬
‫ويف�ضلن البعد عن‬ ‫كان �ساعدها الأيمن في االختيار واتخاذ قرار‬ ‫جملة الديكورات واللوحات والزخارف ال�صغيرة‬
‫الأ�ضواء‬ ‫الولوج �إلى هذا الميدان‪..‬‬ ‫والكبيرة‪ ،‬وتن�سيقها مع الجدران والزوايا والمداخل‬
‫وكانت تحمل �إ�ضافة �إل��ى ذلك القرار‪ ..‬روح‬ ‫وبقية الم�ساحات‪ ،‬هكذا هو الفن بالن�سبة لهذه‬
‫طفلة ت�سمو �أح�ل�ام اليقظة عندها حتى تبلغ‬ ‫الفنانة بعيداً �إلى حد ما عن الت�أثيرات والتعبيرات‬
‫درجة ال�شغف‪ ،‬وبالأخ�ص عندما تجد على حواف‬ ‫التي تذهب في التفكير نحو المدار�س المعقدة‬
‫ه��ذه المدينة اال�ستثنائية وحدائقها ودروبها‬ ‫وفل�سفاتها‪ ،‬ولكن قريب ًا دائم ًا من التقنيات والتنوع‬
‫وطبيعة النا�س الحالمين (مثلها) ما ُيلبي رغبات‬ ‫وفي المواد كعوالم ال حدود لها‪.‬‬
‫على رغم كل ما حققته‬ ‫كل م�شاعرها وحوا�سها ال��واح��دة تلو الأخ��رى‪،‬‬ ‫تر�سم ف��ري��دة قا�سمي‪� ،‬أو تنفذ الديكورات‬
‫فالموقع المتفرد لـ (في�شي) كان يوحي لها دائم ًا‬ ‫بمرافقة �صوت الفنانة الملهمة فيروز‪ ،‬دائم ًا حتى‬
‫من نجاحات لفتت انتباه‬ ‫باال�ستعارات ال�شكلية واللونية والروحية‪ ،‬كذلك‬ ‫ترى كما تقول الأل��وان والأ�شكال بو�ضوح �أكثر‪،‬‬
‫الفنانين والنقاد في‬ ‫المح�صلة الخا�صة‬
‫ِّ‬ ‫للو�صول بعالمها �إل��ى تلك‬ ‫وك�أنها تقول عن الفنان‪ ،‬الذي ال ير�سم �أو يعمل‬
‫بالتعبير البليغ‪ ،‬الذي تتمناه لأعمالها والو�صول‬ ‫بم�صاحبة المو�سيقا و�إلهامها هو عديم الإح�سا�س‪..‬‬
‫الغرب التزال تعتبر‬
‫بها �إلى الأ�ساطير‪.‬‬ ‫وككل فناني عالم ال��ي��وم‪ ،‬ل��م تعد ت��رى �أن‬
‫نف�سها هاوية‬ ‫هذه هي فريدة قا�سمي‪ ،‬الفنانة التي ت�صر‬ ‫اال�صطفاف‬‫الإ�شكالية النقدية اليوم ظلت تتمثل في ْ‬
‫على التوا�ضع‪ ،‬كلما اقتربنا بها من ال�سيرة الذاتية‬ ‫اللوني‪� ،‬أو في �صنع هارمونات لونية محددة �أو‬
‫الثرية التي تخجل من �سبر �أغوارها بال�ضبط‪ ،‬كما‬ ‫غير محددة‪� ،‬أو في ا�ستخدام الخامات المختلفة‬
‫حقول (البوقرعون) في مدينتها �سوق �أهرا�س‪،‬‬ ‫ال�سمات التي يتم اللجوء �إليها‬ ‫والمتنوعة‪ ،‬وهي ِّ‬
‫عندما تزهر قانية �شامخة‪ ،‬ولكن في خفر مهيب‪.‬‬ ‫�أو �إلى تو�صيفها عادة في القراءات الجادة للفنون‬

‫‪117‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫لوحاته ذات طابع �ساحر وفريد‬

‫جوليو روزاتي‪..‬‬
‫ع�شق ال�شرق و�ص ّوره‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪118‬‬


‫ا�ست�شراق‬

‫لقد كان ال�شرق المنهل والمنبع ال��ذي �أعجب به الم�صورون‬


‫والم�ست�شرقون الغربيون‪ ،‬و�سحروا بما �سمعوا من زائريه‬
‫وم��ا ق����ر�ؤوه ف��ي الكتب ال��ت��ي كتبت ع��ن��ه‪ ،‬وع��ب��روا ع��ن ذلك‬
‫ف���ي ل��وح��ات��ه��م وك��ت��اب��ات��ه��م‪ ،‬ون��ق��ل��وا ل��ن��ا ب�����ص��دق مختلف‬
‫ج��وان��ب الحياة؛ المعمارية واالجتماعية التي ك��ان عليها‬
‫�إعجابه بفنون‬ ‫محمد �أحمد عنب‬
‫ال�����ش��رق‪ ،‬وم��ن �أ���ش��ه��ر ه����ؤالء الم�صورين؛ ال��ر���س��ام والم�صور‬
‫ال�شرق �أتى من‬ ‫الإيطالي جوليو روزات���ي‪ ،‬ال��ذي ك��ان مغرم ًا بال�شرق وفنونه‪ ،‬وعبر عن ذلك‬
‫محاولته البحث عن‬ ‫في لوحاته الفنية التي كان لها طابع �ساحر وفريد؛ حيث تتميز بالواقعية‬
‫�آفاق ور�ؤى ح�ضارية‬ ‫ال�شديدة و���ص��دق التعبير وال��دق��ة ف��ي تنفيذ ال��زخ��ارف واخ��ت��ي��ار الأل����وان‪.‬‬
‫جديدة‬
‫الرومان�سية‪ ،‬وكان �شعارها تمثيل الأ�شياء كما هي‪،‬‬ ‫ولد الر�سام جوليو روزاني عام (‪1858‬م) في‬
‫وقد القت هذه الحركة �إعجاب وا�ستح�سان الكثير‪.‬‬ ‫روم��ا‪ ،‬ودر���س الر�سم في �أكاديمية القدي�س لوقا‬
‫والحقيقة �أن �إعجاب الفنانين والم�صورين‬ ‫للفنون الجميلة في �سان لوكادي‪ ،‬تحت �إ�شراف‬
‫الغربيين بفنون ال�شرق‪ ،‬جاء في محاولة منهم‬ ‫الفنانين البارزين داري��و كور�سي وفران�شي�سكو‬
‫للبحث عن �آفاق ور�ؤى جديدة للو�صول بالفن �إلى‬ ‫بود�ستي‪ ،‬ب��د�أ حياته في ر�سم اللوحات الفنية‬
‫طريق الخال�ص‪ ،‬ذلك �أن مفكري الغرب وفال�سفته‬ ‫با�ستخدام الأل��وان المائية و�أحيان ًا بالزيت‪ ،‬ثم‬
‫ونقاده �أدرك��وا �أن الح�ضارة المادية والمتمثلة‬ ‫تخ�ص�ص في الر�سم اال�ست�شراقي‪ ،‬ورك��ز معظم‬
‫في فنونهم لي�ست هي ال�شيء الوحيد في البناء‬ ‫حياته المهنية على الفن اال�ست�شراقي؛ فقد جاءت‬
‫ركز في ر�سوماته‬ ‫الإن�ساني‪ ،‬و�أن روحانية ال�شرق هي الجانب المكمل‬ ‫معظم لوحاته م�أخوذة من م�شاهد الحياة ال�شرقية‪،‬‬
‫لح�ضارة الغرب المادية‪ ،‬و�أن ال�شرق نبع ح�ضاري‬ ‫وخا�صة في بلدان المغرب العربي والجزائر وتون�س‬
‫على الحياة‬ ‫ال ين�ضب في كل مجاالت الفكر والعلم والفل�سفة‬ ‫التي قام بزيارتها‪ ،‬ويعتبر روزاتي من الر�سامين‬
‫االجتماعية في بالد‬ ‫والفن‪ ،‬وفي هذا يقول دوجاردان ؛ (�إنني ال �أتوقع‬ ‫الم�ست�شرقين المتميزين في �أواخر القرن التا�سع‬
‫المغرب العربي‬ ‫الآن �أن ت�أتي ح�ضارتنا بال�شيء الجديد‪ ،‬ولكن �إذا‬ ‫ع�شر وبداية القرن الع�شرين‪ ،‬و�أ�صبحت لوحاته‬
‫�أمكن �أن �أكون �أكثر تفا�ؤ ًال‪ ،‬ف�إنني ال �أ�ستطيع �أن‬ ‫ذات �شعبية متزايدة‪ ،‬و�شارك روزات��ي عدة مرات‬
‫�أت�صور �إمكان حدوث ذلك �إال من خالل الن�سمات‬ ‫في العديد من المعار�ض الفنية العالمية؛ حيث تم‬
‫التي تهب علينا من ال�شرق)‪.‬‬ ‫عر�ض لوحاته الفنية في الق�سم ال�شرقي في معر�ض‬
‫وكان جوليو روزات��ي مت�شبع ًا بثقافة ال�شرق‬ ‫بيل �آرت في روما عام (‪1900‬م)‪ .‬توفي جوليو‬
‫و�شغوف ًا بها؛ لذا جاءت �أعماله ولوحاته الفنية‬ ‫روزات��ي عام (‪1917‬م) في م�سقط ر�أ�سه بروما‪،‬‬
‫م�ستوحاة من نمط الحياة في ال�شرق‪ ،‬فقد تخ�ص�ص‬ ‫وكان ابنه �ألبرتو روزاتي (‪1971-1893‬م) �أي�ض ًا‬
‫في الأزياء التي تعود �إلى القرن الثامن ع�شر؛ وتظهر‬ ‫ر�سام ًا م�ست�شرق ًا‪.‬‬
‫لوحات جوليو روزات��ي‬ ‫ات�سم الأ�سلوب الفني الر�سام الإيطالي جوليو‬
‫حب ًا واهتمام ًا بالألوان‬ ‫روزات���ي‪ ،‬بالواقعية ال�شديدة وال��دق��ة ف��ي �إب��راز‬
‫ال ��زاه ��ي ��ة ال��م��ت��ع��ددة‪،‬‬ ‫التفا�صيل؛ حيث ج��اءت ر�سوماته ك�أنها �صور‬
‫وال��دق��ة والواقعية في‬ ‫فوتوغرافية‪ ،‬وقد تنوعت مو�ضوعاته عن ال�شرق؛‬
‫ر�سم المالب�س المزخرفة‬ ‫فكان حري�ص ًا على التعبير ع��ن �أ�سلوب ونمط‬
‫ب ��أن��واع��ه��ا المختلفة‬ ‫الحياة ال�شرقية؛ وركز في ر�سوماته على الحياة‬
‫وخ��ام��ات��ه��ا المتعددة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬خ�صو�ص ًا في بالد المغرب العربي‬
‫ور�����س����وم ال ��ع ��ب ��اءات‬ ‫كما نجح في �إبراز التحف والفنون ال�شرقية و�إظهار‬
‫والعمائم وغيرها‪ ،‬كذلك‬ ‫المالمح المعمارية؛ وامتازت ر�سومه بالواقعية‬
‫اه��ت��م ب��ت�����ص��وي��ر �شكل‬ ‫والدقة ال�شديدة ك�أنها ن�سخ طبق الأ�صل‪.‬‬
‫العالقات االجتماعية‬ ‫وقد ظهرت المدر�سة الواقعية في الت�صوير‬
‫وحركة البيع وال�شراء‬ ‫منت�صف القرن التا�سع ع�شر الميالدي كرد فعل‬
‫ف��ي الأ� ��س ��واق‪ ،‬وبر�سم‬ ‫على المذهب الرومان�سي‪ ،‬الذي ناه�ض المذهب‬
‫العنا�صر المعمارية‪،‬‬ ‫النيوكال�سيكي‪ ،‬ولقد تجنبت الحركة الواقعية‬
‫خ��ا���ص��ة ذات ال��ط��راز‬ ‫الخيال في مو�ضوعاتها‪ ،‬كما ابتعدت عن التعبيرات‬
‫جوليو روزاتي في مر�سمه‬

‫‪119‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ا�ست�شراق‬

‫�ألوان مر�سومة ب�أ�سلوب واقعي‬


‫كذلك لوحة تمثل (لعبة الطاولة �أو النرد)‪،‬‬ ‫المغربي والأندل�سي؛ كر�سم العقود مثل العقد‬
‫حيث يظهر �شخ�صان جال�سان على �أريكة في غرفة‬ ‫المعروف بالحدوي‪� ،‬أو عقد حدوة الفر�س ال�شائع‬
‫يلعبان لعبة الطاولة‪ ،‬وتت�ضح الدقة في التعبير‬ ‫ف��ي ب�لاد المغرب‪ ،‬وك��ذل��ك اهتم بر�سم عنا�صر‬
‫عن زخرفة الغرفة؛ حيث تك�سو جدران الغرفة من‬ ‫من الفنون التطبيقية ال�شرقية‪ ،‬ور�سم الزخارف‬
‫�أ�سفل البالطات الخزفية؛ والتي تعرف بالزليج‬ ‫والكتابات العربية المتنوعة‪.‬‬
‫جاءت �أعماله‬
‫المغربي‪ ،‬وتعلو هذه البالطات وزرة كتابية م�سجل‬ ‫تمثل لوحة (بائع ال�سجاد) في بالد المغرب‬
‫ولوحاته الفنية‬ ‫عليها كتابات بالخط الثلث لعبارة (وال غالب �إال‬ ‫داخل محله‪ ،‬ويظهر �أحد الأ�شخا�ص وهو جال�س‬
‫م�ستوحاة من نمط‬ ‫اهلل)؛ �شعار دولة بني ن�صر الم�شهور بغرناطة؛ وقد‬ ‫يرجح �أن��ه هو �صاحب ه��ذا المحل‪ ،‬بينما تظهر‬
‫الحياة لت�شبعه‬ ‫و�ضعت ب�شكل مكرر‪.‬‬ ‫ر�سوم ل�شخ�صين في و�ضع الوقوف‪ ،‬ويت�ضح من‬
‫وتظهر هذه اللوحة الفنية �أ�سلوب الفنان‬ ‫هيئة �أحدهما �أنه يعاين قطعة ال�سجاد‪ ،‬التي ينوي‬
‫و�شغفه بثقافة‬ ‫جوليو روزات����ي؛ م��ن حيث ال��دق��ة والواقعية‬ ‫�شراءها‪ ،‬ويعر�ض �صاحب المحل قطع ال�سجاد‬
‫ال�شرق‬ ‫ال�شديدة وااله��ت��م��ام ب�أ�شكال المالب�س التي‬ ‫المختلفة والمتنوعة الأ�شكال والألوان والمر�سومة‬
‫يرتديها الأ�شخا�ص؛ وتتميز بتنوعها وب�ألوانها‬ ‫ب�أ�سلوب واقعي‪.‬‬
‫والتنوع في �أغطية الر�أ�س‪ ،‬كما يتجلى الإبداع‬ ‫وتعك�س ه��ذه اللوحة الفنية ب�صدق �أ�سلوب‬
‫الفني في المحافظة على العمق في اللوحة؛‬ ‫الر�سام جوليو روزات��ي؛ من حيث الدقة والواقعية‬
‫م��ن حيث م��راع��ات��ه ل��ق��واع��د المنظور والبعد‬ ‫ال�شديدة في ر�سم الأ�شخا�ص ب�أ�سلوب فني رائع‪،‬‬
‫الثالث‪ ،‬ومراعاته لقواعد الظل والنور‪ ،‬وتنا�سق‬ ‫يت�سم بالتعبيرية والواقعية ال�شديدة‪ ،‬واالهتمام‬
‫من �أ�شهر �أعماله‬ ‫وان�سجام الأل��وان بين �أجزاء اللوحة المختلفة‪،‬‬ ‫ب�أ�شكال المالب�س التي يرتدونها؛ والتي تتميز‬
‫لوحتا (بائع ال�سجاد)‬ ‫ولم يغفل الر�سام التركيز على بع�ض التحف‬ ‫بتنوعها و�ألوانها الزاهية‪ ،‬وتتميز اللوحة بالتعبيرية‬
‫و(العب النرد) حيث‬ ‫ال�شرقية والدقة في ر�سمها؛ فر�سم �سجادة على‬ ‫في مالمح الوجه؛ والتنوع في �أغطية الر�أ�س‪ ،‬كما‬
‫الأر�ضية تتميز بتنوع وتنا�سق �ألوانها‪ ،‬كما‬ ‫يتجلى الإبداع الفني في المحافظة على العمق في‬
‫تظهران الواقعية‬ ‫ر�سم النرجيلة التي يقوم ال�شخ�ص الجال�س على‬ ‫اللوحة؛ من حيث مراعاته لقواعد المنظور والبعد‬
‫ال�شديدة التي‬ ‫الي�سار ويتناولها بيده الي�سرى‪ ،‬كما قام بر�سم‬ ‫الثالث‪ ،‬وحر�صه على التناغم ال�شديد في توزيع‬
‫ات�سم بها‬ ‫�إح��دى و�سائل الإ���ض��اءة لثرية معدنية معلقة‪،‬‬ ‫عنا�صره الفنية في اللوحة‪ ،‬ومراعاته لقواعد الظل‬
‫ويظهر توقيع الر�سام جوليو روزاتي في �أق�صى‬ ‫والنور‪ ،‬ويظهر توقيع الر�سام جوليو روزات��ي في‬
‫ي�سار اللوحة من �أعلى‪.‬‬ ‫�أق�صى يمين اللوحة من �أ�سفل‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪120‬‬


‫مقاالت‬
‫مقاربـات‬

‫المثالية الت�شكيلية وخلخلة القوالب‬


‫ال تطلق المح�صالت التي يريدها العمل‪ ،‬بل قد‬ ‫ال تحمل ال�سيدة ماتي�س مالمح جميلة‬
‫ت�سبب ا�ضطراب ًا وت�شوي�ش ًا على المتلقي وتقع‬ ‫تجذب بها رواد ال��ل��ون والمعايير الجمالية‬
‫بالتالي توابعه على عاتق الفنان الرا�سم‪ ،‬وهنا‬ ‫المتعارف عليها‪ ،‬ل��ذا فقد نك�س الم�شاهدون‬
‫�صعدت الحركات بالأداء الفني‪ ،‬و�صو ًال لأعلى‬ ‫ر�ؤو�سهم بعد هذه الخطوط التي �أطلقها ماتي�س‬
‫نقاط المفاهيمية‪ ،‬وب��رزت �إ�شكاليات مثلثة‬ ‫بال هندام �أو عواطف‪ ،‬فالألوان قا�سية والأ�سطح‬
‫حملها جيريكو على الظالل والأحجام والمثل‬ ‫خ�شنة وطريقة جريان الفر�شاة غير متنا�سقة‬
‫واالت��زان وكل ما من �ش�أنه �أن يكون �أعراف ًا �أو‬ ‫وفقيرة في العر�ض‪� ،‬شعور واحد قد ي�ساور الرائي‬
‫نجوى المغربي‬ ‫قوانين للوحة وال�شكل‪ ،‬وهو ما خل�ص (الميدوزا)‬ ‫حين يرى ال�صورة كيف يتخل�ص منها‪ ،‬ب�إلقائها‬
‫من تف�سير الهلع المبا�شر واال�ضطراب بالمعنى‬ ‫بعيداً �أو قلبها الجهة الأخرى وعلى الأقل �إ�شاحة‬
‫الحقيقية من كل الجوانب‪ ،‬ووجب علينا التخلي‬ ‫الب�سيط وعال بها �إلى الر�صانة و�سمو المعاني‬ ‫وجهه عنها‪ ،‬ظل ماتي�س يجادل في اللوحة لون ًا‬
‫عن مفهوم التكاثر الم�شوه المتالحق بال معنى‬ ‫اعتماداً على المبالغة والتناغم ال��ذي اعتلى‬ ‫وفكرة و�أداء حتى و�صل �إلى ال�شخ�صية العميقة‬
‫�أو هدف وغاية‪ ،‬فعدم التمكن من �إيقاف حركات‬ ‫جو الأح��داث بواقعية جديدة هي ذاتها كانت‬ ‫الم�ستخل�صة من الج�سد – �آخ��ر ما يحوي من‬
‫ال�سكون عند بوت�شيوني يعد بعداً رابع ًا ينفذه‬ ‫اعتماداً جوهري ًا في الت�صوير بالخروج على‬ ‫العنا�صر‪ -‬ف�أين ال��ذات ال�سرية التي لمح لها‬
‫فنان بعد �أن ي��راه �ضروري ًا لحياة تقف عند‬ ‫القواعد الجامدة للتجان�س الجمالي‪ ،‬ومع كون‬ ‫الفنان والتي ان�سابت تفا�صيلها مع نهايات‬
‫�أبعادها الثالثة‪ ،‬وتنتظر التطور الذي يلتقطه‬ ‫ال�سياق الفني له �أهمية بالغة عند �صانع اللوحة‪،‬‬ ‫كل لون وهو ي�سطو على الآخ��ر‪ ،‬ق�ضية الفنان‬
‫بفطنته وحد�سه المتمرد الموعود للتطور فى‬ ‫�إال �أنها قد تختلف ح�سب الوقت الم�سجلة فيه‬ ‫للدالئل الب�صرية الأخرى‪� ،‬إن الأ�شياء ال�ساكنة‬
‫دو�شامب‪ ،‬يعلم الرا�سم بثقافته �أن ال ثبات في‬ ‫ال�صورة الالفتة النتباه الفنان‪ ،‬وذل��ك ح�سب‬ ‫كثيراً م��ا تتبنى �إي��ق��اع� ًا م��ط��و ًال م��ع انحراف‬
‫الطبيعة �أو ما وراءها فينقل هذا مطابق ًا للحالة‪،‬‬ ‫االت��ج��اه الت�أثيري والقالب المو�ضوعة فيه‪،‬‬ ‫اللون ومرونته عند بوك�شيوني وب��راك ومعهم‬
‫فال تح�سم اللوحة �شك ًال �أو فكرة‪ ،‬بل تفجرها‬ ‫و�صو ًال �إل��ى الأفكار المجردة للأ�شياء‪ ،‬فلي�س‬ ‫�أ�صحاب ال�ضوئيات الفاتحة‪ ،‬فكل فر�شاة تحتاج‬
‫وتبحث فيما وراءها من �صيروريات‪ ،‬لذا كانت‬ ‫هناك ما يوازي احتياج ال�صورة �إلى الظواهر‬ ‫�إلى ترجمة من المتلقي تعادل وت��وازي تحرك‬
‫�أعمال دالي فيزياء بذاتها اعتمدت فكرة تق�سيم‬ ‫الخارجية ليتي�سر لها االن��ط�لاق �إل��ى الفكرة‬ ‫ع�ضلة الفنان نف�سها مع �إيقاع �أداة الر�سم فمرنة‬
‫العينات و�أ�صولها‪ .‬وبعيداً عن ت�صنيفها كهذيان‬ ‫وال��ل��ون كفعل – الموعظة– وات��ب��اع جوجان‬ ‫ت�أتيك تفا�صيلها بعد مغادرتك ر�ؤيتها‪ ،‬ربما‬
‫�صادق بعيد عن الت�صوير والتجميل‪ ،‬ف�إن لها‬ ‫لفكرة الأ�سطورة الرمز المتج�سدة ب�إ�سقاطاتها‬ ‫في ا�سترجاع عقلك لها �أو في ربط اللوحة مع‬
‫دوراً خا�ص ًا على مرار حقب التاريخ‪ ،‬ينتخب‬ ‫الوجدانية والمتجان�سة م��ع كثافة التعبير‬ ‫قيام عا�صفة‪ ،‬و�أحيان ًا كلما �سكنتك فو�ضى في‬
‫التمرد على كل �أ�شكال ال تحقق الكمال والدقة‬ ‫والنف�س الداخلية‪ ،‬ك�أقرب ما يكون من اللون‬ ‫ال�شعور‪� ،‬إن طائفة من الفنانين ر�أوا �أنه ال داعي‬
‫المطابقة للنموذج‪ ،‬فالتفا�صيل المبكرة للون‬ ‫ال�شمولي النافذ �إلى ذاتية معاني الأ�شياء من‬ ‫العتماد الجمال التقليدي قرين ًا للوحة‪ ،‬ف�سعوا‬
‫والخط واالرتجال في �أحداث الماء ومزج الفكرة‬ ‫خالل كير�شنر وارتباط حالة النموذج بالبدائية‬ ‫�إل��ى المنطق في ر�سم ال�شخو�ص كما �صرحة‬
‫وا�ستخال�ص �أعمدة الحقائق وان�سجام اال�ستقرار‬ ‫الأولى الوجودية‪ ،‬وكيف تم ف�صل حاالت اللون‬ ‫غرق ميدوزا التي �أطلقت في تح ٍد �صرخاتها‬
‫مع الثبات كعائلة تنتمي لجذور واحدة‪ ،‬وترتفع‬ ‫ب�شكل من ت�شريع فني �صارم يخ�ضع �أو ًال و�آخراً‬ ‫اليائ�سة و(�أطلق) فيها جريكو غ�ضباته الكثيرة‬
‫في لغة �شاملة لتبحث في �أ�صل الوجود كقوى‬ ‫لأطوار الحرية في التعبير واالنفعاالت الداخلية‬ ‫بداية ب�أغرا�ض رحلة الموت‪ ،‬وم��روراً بغطر�سة‬
‫فاعلة �أ�شكال من تكرار الم�ستمر والم�ستديم‬ ‫ومحاكاة الواقع ال�سهل ب�آخر درج��ات المعقد‬ ‫ربانها وانتهاك �آدمية الب�شر و�إخفاء الحقائق‪،‬‬
‫الذي يحول الباطن على قما�ش اللوحة بمواد‬ ‫الب�سيط‪ ،‬و�إن تخلى الم�ضمون عن نف�سه �شيئ ًا‬ ‫ول��ذا فقد تحملت المر�سومة �أفعا ًال كثيرة من‬
‫اللون المختلفة الخامات‪ ،‬وعبر �ضربات فر�شاة‬ ‫ف�شيئ ًا و�صار ال يمكننا التعرف �إليه بو�ضوح‪،‬‬ ‫الجبن واالختالف والخوف واالنق�سام والمعاناة‬
‫متفاوتة القوة والت�ضمين الروحي ومو�سيقا‬ ‫فلم يعد مخل�ص ًا لتعبيره وه��دف��ه المبا�شر‪،‬‬ ‫والغ�ضب والتجاهل والجهل واالتهام وال�صراخ‪،‬‬
‫الكون ككتاب متاح ومفتوح – م��ون دري��ان‬ ‫و�أ�صبح �أقرب ما يكون بمب�شر �أخل�ص لطريقته‬ ‫و�أخ��ي��راً ال��م��وت‪ ،‬ناهيك ع��ن تفاعل الأدوات‬
‫�صاحب الإدراك الدائم �إلى الداخل‪ ،‬فخطوط لونه‬ ‫ف�أبدع ف�سكنت غايته نتائجها عن طريق اللعب‬ ‫الأخرى مع �شخو�ص الحدث الأبطال الرئي�سيين‬
‫غائرة مهما بدت �أنها فقط مر�سومة �أو م�صبوغة‪،‬‬ ‫بالت�أثير المبا�شر وغير المبا�شر على الم�شاهد‬ ‫من �أم��واج و�سفينة وب�شر و�سحب‪� .‬إن االبتعاد‬
‫�أما كاندين�سكي دائم التخل�ص من الق�صدية بغية‬ ‫المتلقي‪ ،‬من خالل �أيقونات وتابوهات وخطوط‬ ‫عن التفا�صيل المح�سو�سة التي تغذي العين لم‬
‫درجات ودرجات من تعبيرية �أعلى و�أكثر تحرراً‬ ‫بين الق�صر وال��ط��ول وال��ح��االت الحلزونية‬ ‫يعد هدف ًا �أولي ًا يرى الح�سيات المبا�شرة نماذج‬
‫ولدى كيلي كل الأ�شياء ال ترد �إلى الخارج مهما‬ ‫والأ�شكال الكونية كحالة تكعيبية للعالم؛ فال‬
‫بدت الوحدات م�صورة‪ ،‬فال �شجرة تين وال طيور‬ ‫وجود للعالم بدون بقع لونية وال يمكن التخل�ص‬
‫ب�أ�شكالها ال�سابحة بل ربما هموم و�أ�شباح �أو‬ ‫م��ن ميتافيزيقيا �إع��ج��ازي��ة‪� ،‬إن ك��ل بناء ب��د�أ‬ ‫لي�س هناك ما يوازي‬
‫نغمات مبعثرة �أراده��ا للرائي مع�صوب القلب‬ ‫بم�شروع ر�ؤية ب�صرية‪ ،‬ف�إذا ما انتقلت الأ�شباح‬ ‫احتياج ال�صورة �إلى‬
‫حتى تزال غ�شاوته‪ ،‬ولعل كارا كان محق ًا حين‬ ‫الكونية �إلى اللوحة و�صارت مر�آة عاك�سة لإدراك‬ ‫الظواهر الخارجية‬
‫ر�أى �أهمية بناء �إمبراطورية خا�صة بالفن تبتلع‬ ‫الحقائق المجردة – �صار بيكا�سو وجوخ وبراك‬
‫في �أكاديميتها كل الواقع الفو�ضوي‪.‬‬ ‫وماتي�س المتهمين الأوائ��ل المهتمين بالر�ؤية‬ ‫لالنطالق �إلى الفكر واللون‬

‫‪121‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الأدب��ي��ة الم�سرحية؛ فقبل �إب�����س��ن كانت‬
‫الأعمال الم�سرحية تعتمد على تقديم النف�س‬
‫من �أهم ك ّتاب الم�سرح عبر التاريخ‬
‫الب�شرية بال رتو�ش‪ ،‬وت�سيطر عليها الغريزة‬
‫على ح�ساب القيم والأخ�لاق‪ ،‬ثم جاء �إب�سن‬
‫بالفكرة �أو الم�شكلة االجتماعية وجعلهما‬
‫هنريك �إب�سن‪..‬‬
‫البطل الحقيقي للعمل الم�سرحي‪.‬‬
‫عانى �إب�سن في بداية حياته كثيراً‪ ،‬وقد‬ ‫رائد الواقعية الم�سرحية‬
‫ا�ضطر للعمل في �صيدلية‪ ،‬كما كان ي�ستغل‬
‫وقت الفراغ لقراءة �أعمال عمالقة الأدب‬ ‫يعد النرويجي هنريك �إب�سن (‪1906-1828‬م) الكاتب‬
‫�شك�سبير وموليير والم��ارت��ي��ن وغيرهم‪،‬‬ ‫الم�سرحي الذي يلقب ب�أبي الم�سرح الحديث‪ ،‬هو الرائد‬
‫ثم ق��ام في ع��ام (‪1850‬م) بكتابة �أول��ى‬ ‫الحقيقي للواقعية الم�سرحية ومن �أهم كتاب الم�سرح على‬
‫م�سرحياته (كاتالينا)؛ وه��ي م�سرحية‬
‫مر التاريخ‪ ،‬حيث انتهج المنعطف الواقعي في �أعماله منذ‬
‫�شعرية ا�ستوحاها م��ن ت��اري��خ النرويج‪.‬‬
‫عمل �إب�سن في عام (‪1851‬م) م�ساعداً في‬ ‫تطرق �إلى ق�ضايا واقعية‪ ،‬وقام ب�إبراز عيوب مجتمعه‪ ،‬كما‬
‫وليد رم�ضان‬
‫م�سرح ال�شمال في بيرجين‪ ،‬ثم �أ�صبح مديراً‬ ‫تناول قلمه الجريء ق�ضايا �إن�سانية خالدة ت�شغل الإن�سان‬
‫لم�سرح كري�ستيانا العا�صمة النرويجية‬ ‫عبر الع�صور‪ ،‬مثل ق�ضايا النفاق االجتماعي والف�ساد والتقاليد البالية وغيرها‪.‬‬
‫(�أو�سلو حالي ًا)‪ ،‬ثم �سافر ال��ى الدنمارك‬
‫و�ألمانيا لدرا�سة التكنيك الم�سرحي‪ ،‬وفي‬ ‫ف�إن �إب�سن في ر�أي النقاد هو �أعظم الكتاب‬ ‫�إذا كان �شك�سبير (‪1616 – 1564‬م)‬
‫ع��ام (‪1854‬م) كتب م�سرحية (ال�سيدة‬ ‫الم�سرحيين في �أوروب��ا بعد �شك�سبير‪ ،‬لأنه‬ ‫هو �أعظم الكتاب الم�سرحيين في الأدب‬
‫م��ن ال��ب��ح��ر)‪ ،‬وف��ي ع��ام (‪1855‬م)‪ ،‬كتب‬ ‫ظل محتفظ ًا بقيمة قلمه في الوقت الذي‬ ‫الأوروبي‪ ،‬وموليير (‪1673 – 1622‬م) �أول‬
‫م�سرحية (الملك الجليل)‪ ،‬وتجري �أحداثها‬ ‫كان المذهب الطبيعي م�سيطراً على الحياة‬ ‫من و�ضع اللبنة الأولى في م�سرح الواقعية‪،‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪122‬‬


‫�أبو الفنون‬

‫‪1882‬م)‪ ،‬و(البطة البرية ‪،)1884‬‬


‫‪(,‬بيت روم��رز ‪1886‬م)‪ ،‬و(ال�سيدة‬
‫من البحر ‪1888‬م)‪ ،‬و(هيدا جابلر‬
‫‪1890‬م)‪ ،‬و(�شيخ البنائين ‪1892‬م)‪،‬‬
‫تناول في م�سرحياته‬ ‫و(�إيلوف ال�صغير ‪1894‬م)‪ ،‬و(جون‬
‫ق�ضايا �إن�سانية‬ ‫جابريل بوركمان ‪1896‬م)‪ ،‬و(عندما‬
‫ن�ستيقظ نحن الموتى ‪1899‬م)‪ .‬وقدم‬
‫خالدة ت�شغل الوجود‬
‫�إب�سن بجانب م�سرحياته ال�شعرية‬
‫الإن�ساني‬ ‫م�سرحيات تاريخية تمتاز بالتحليل‬
‫�شك�سبير‬ ‫موليير‬
‫النف�سي وال�شاعرية‪ ،‬كما كان �أدبه‬
‫زاخراً بالم�سرحيات التي تفي�ض فكراً و�إبداع ًا؛‬ ‫في الع�صور الو�سطى �أي�ض ًا ولكن بطريقة‬
‫ففي م�سرحية (بيت الدمية) تعر�ض �إب�سن للنقد‬ ‫رومان�سية �شاعرية مليئة بالحديث عن �أمجاد‬
‫القا�سي وهاجم الجمهور الممثلين بق�سوة‪ .‬في‬ ‫النرويج ال�سابقة ‪.‬‬
‫عام (‪1891‬م) عاد �إب�سن �إلى النرويج‪ ،‬فتم‬ ‫ب��د�أت الأنظار تتجه �إل��ى �إب�سن لأن��ه �أنتج‬
‫جاء �إب�سن‬ ‫ا�ستقباله بحفاوة كبيرة‪ ،‬وفي عام (‪1898‬م)‬ ‫�أ�سلوب ًا جديداً في معالجة ق�ضايا المجتمع‪،‬‬
‫بالفكرة والم�شكلة‬ ‫�أق��ي��م حفل على �شرفه لالحتفال بميالده‬ ‫ف�أ�س�س مدر�سة خا�صة كانت تعتمد على تقديم‬
‫االجتماعية‬ ‫ال�سبعين‪ ،‬ثم ا�ستعرا�ض �أعماله الم�سرحية‬ ‫مو�ضوعات اجتماعية ت�ؤرق وتف�سد المجتمع‬
‫التي بلغت (‪ )26‬م�سرحية‪ ،‬وفي عام (‪1900‬م)‬ ‫الأوروبي‪ ،‬وا�ستخدم قلمه الجريء في مواجهة‬
‫وجعلهما البطل‬
‫تعر�ض �إب�سن لعدد من ال�سكتات القلبية جعلته‬ ‫مظاهر الف�ساد والظلم‪ ،‬فم�سرحياته قامت‬
‫الحقيقي للعمل‬ ‫غير قادر على الكتابة‪ ،‬بل �أ�صبح غائب ًا عن‬ ‫ب�إيقاظ المجتمع الأوروبي من غفوته‪ ،‬بل �إن ما‬
‫الم�سرحي‬ ‫الوعي معظم الوقت‪ ،‬ليرحل في يوم (‪ 23‬مايو‬ ‫قام به �إب�سن يعد ثورة �إن�سانية لم يقدم عليها‬
‫‪1906‬م)‪ ،‬ف�أقامت له الحكومة النرويجية‬ ‫كاتب غيره حتى اليوم‪.‬‬
‫جنازة مهيبة‪.‬‬ ‫ق��دم �إب�سن �شخ�صيات تنب�ض بالحياة‬
‫كتب �إب�سن �أي�ض ًا نحو (‪ )300‬ق�صيدة و(‪)26‬‬ ‫والثورة والواقعية‪� ..‬شخ�صيات نراها كل يوم‬
‫م�سرحية‪ ،‬كما كتب المقاالت ال�صحافية وهو‬ ‫ونتفاعل معها‪ ..‬نحبها ونكرهها‪ ،‬وكان عبقري ًا‬
‫ح�سب الكاتب الإيرلندي برنارد�شو (‪-1856‬‬ ‫في تقديم �صورة �شديدة الواقعية ت�صل �إلى حد‬
‫نهل من تراث‬ ‫‪1950‬م) من�شئ م�سرح الق�ضية االجتماعية‪،‬‬ ‫المرارة في ت�صوير ال�صراع بين الخير وال�شر‪،‬‬
‫�شك�سبير وموليير‬ ‫وق��د �سار على نهج �إب�سن كل من برنارد�شو‬ ‫وعر�ض الم�شكلة من نهايتها دون تقديم حل‬
‫والفرن�سي بربيه والألماني هوبتمان‪ ،‬ويرى‬ ‫للم�شكلة تارك ًا المتلقي يفكر ويختار الحل‬
‫والمارتين قبل �أن‬
‫النقاد �أن �إب�سن تفوق على كل من �سبقوه‪،‬‬ ‫ح�سب ر�ؤيته و�ضميره‪ .‬لأنها تعتمد على الحبكة‬
‫يخط �أول م�سرحية‬ ‫با�ستثناء �شك�سبير‪ ،‬في قدرته على ا�ستخدام‬ ‫والإث ��ارة وخبرة الممثلين والحوار التقليدي‬
‫له (كاتالينا)‬ ‫الحبكة والحيل الم�سرحية والت�شويق‪ ،‬دون �أن‬ ‫المبني على المثالية والجمل المحفوظة‪ ،‬فجاء‬
‫يفقد العمل الم�سرحي قيمته واتزانه‪� ،‬أو يبتعد‬ ‫�إب�سن وقام بتحطيم كل هذه القوالب الجامدة‬
‫عن الهدف الأ�سا�سي‪.‬‬ ‫وقدم ر�ؤيته و�أفكاره ومنهجه‪.‬‬
‫ح�صل �إب�سن بعد ظهور م�سرحية (براند‬
‫عام ‪1860‬م) على راتب ثابت من الدولة � ّأمن‬
‫له م�ستقبله‪ ،‬ثم كتب م�سرحية (ملهاة الحب)‪،‬‬
‫وهي م�سرحية �ساخرة �أثارت عا�صفة من النقد‪،‬‬
‫وتالها بالم�سرحية التاريخية (الأدعياء عام‬
‫‪1864‬م)‪.‬‬
‫وكتب �إب�سن خ�لال وج��وده ف��ي �ألمانيا‬
‫م�سرحيات واقعية اجتماعية رائ��ع��ة‪� ،‬صور‬
‫فيها �صراع الفرد مع المجتمع ال��ذي يعي�ش‬
‫ف��ي��ه وم��ن��ه��ا م�سرحيات (�أع��م��دة المجتمع‬
‫ع��ام ‪1877‬م)‪ ،‬و(بيرجنت ع��ام ‪1879‬م)‪،‬‬
‫من �أغلفة رواياته‬ ‫و(الأ���ش��ب��اح ع��ام ‪1881‬م)‪ ،‬و(ع ��دو ال�شعب‬

‫‪123‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫الم�سرح والفنون الجديدة‬


‫فرحان بلبل‬

‫وبالو�صول �إلى تكامل العر�ض الم�سرحي‪ ،‬بد�أ‬ ‫ط��وال ق��رون ك��ان الم�سرح ه��و الحكواتي‬
‫الم�سرح يطور نف�سه من خالل �أداتيه الرئي�سيتين‬ ‫الوحيد للنا�س في �سهراتهم‪ ،‬لكن في �أول القرن‬
‫وهما‪ :‬الممثل والكلمة‪ .‬فبد�أت تظهر �أ�ساليب‬ ‫الع�شرين اخترعت الب�شرية فن ًا جديداً �شكل خطراً‬
‫جديدة في التمثيل لتزيد من براعة الممثلين‪،‬‬ ‫كبيراً على الم�سرح وهو ال�سينما‪ ،‬وهي فن يقدم‬
‫وال ُكتاب �أ�صحاب الكلمة في الم�سرح �أخ��ذوا‬ ‫كل ما يقدمه الم�سرح لكن ب�شكل �أمتع و�أكثر‬
‫حمل‬ ‫يجدون �سب ًال جديدة في الكتابة لكي ُت َ‬ ‫�إبهاراً؛ ففيها الحكاية وتمثيلها والفكر والجمال‪،‬‬
‫أكثر �شحذاً للفكر والمخيلة‬
‫كلمتهم على �أجنحة � َ‬ ‫وهي فن جمعي يح�شد مئات النا�س في المكان‬
‫والجمال‪ .‬وك��ان ذل��ك �أي�ض ًا وجه ًا من وجوه‬ ‫الواحد كما يفعل الم�سرح‪ ،‬ف�سرقت منه الجمهور‬
‫الوقوف �أمام طغيان ال�سينما‪� .‬أما الإخراج الذي‬ ‫ال��ذي ظل ط��وال ق��رون ال يجد فن ًا جامع ًا غير‬
‫ينظم الممثل والكلمة ف�صار ُيبرز التجديد الذي‬ ‫ِّ‬ ‫الم�سرح‪ .‬وهنا �أخذ الم�سرح يعيد النظر في و�سائله‬
‫أبطال فن التمثيل‪ .‬ومن‬‫كتاب الكلمة و� ُ‬
‫ُ‬ ‫فيه‬ ‫�سار‬ ‫و�أدواته‪ ،‬وكان في ذلك خير كثير و�شر كثير‪.‬‬
‫هنا ظهر ما ي�سمى بــ(الر�ؤية الإخراجية)‪ .‬ولعل‬ ‫و�أول مظاهر الخير والدة المخرج الذي �أعاد‬
‫في بدايات القرن‬ ‫�أو�ضح مثال على ذلك �أن ن�ص ًا ما يتناوله عدد‬ ‫النظر في ترتيب عنا�صر العر�ض الم�سرحي‪،‬‬
‫من المخرجين‪ ،‬فتجد عند كل واحد منهم �أ�شكا ًال‬ ‫لتقديم �شكل �أبهى ي�ستطيع ال�صمود في وجه‬
‫الع�شرين ابتكرت‬ ‫في الأداء وتقديم ال��ر�ؤي��ة تفتنك حتى ك�أنك‬ ‫الوح�ش المفتر�س الجديد‪� .‬أما �أول مظاهر ال�شر‬
‫الب�شرية فن ًا جديداً‬ ‫ت�شاهد الن�ص لأول مرة‪ ،‬و�إذا بالم�سرح يرتقي‬ ‫فهو �أن الم�سرح حاول �أن ي�ستعير بع�ض �أدوات‬
‫�شكل خطراً على‬ ‫ليعمق جانبه الفكري والجمالي‪ .‬ولأن‬ ‫ِّ‬ ‫بنف�سه‬ ‫ال�سينما لكي يتغلب عليها‪ .‬و�ساعده اكت�شاف‬
‫الم�سرح �أال وهو‬ ‫الم�سرح ا�ستفاد من التقنيات التي يقدمها التقدم‬ ‫الكهرباء على تغيير جذري في �أ�سلوب العر�ض‬
‫الفن الم�سيطر على حفالت ال�سمر‬‫العلمي‪ ،‬فقد ظل َّ‬ ‫الم�سرحي‪ ،‬ومع �أن الكهرباء جعلته �أكثر جما ًال‪،‬‬
‫فن ال�سينما‬
‫برغم �صاالت ال�سينما التي تملأ كل �أحياء المدن‪.‬‬ ‫�إال �أن الخطر جاء من تخلي الم�سرح في كثير‬
‫فلل�سينما متع ُتها‪ ،‬وللم�سرح متع ُته وهما نوعان‬ ‫من الأحيان عن االعتماد على ركنيه الأ�سا�سيين‬
‫من المتعة يتجاوران وال يتناف�سان‪.‬‬ ‫وهما (الممثل والكلمة)‪ .‬وكاد الإ�سراف في هذا‬
‫لكن ف��ي منت�صف ال��ق��رن الع�شرين جاء‬ ‫التخلي يق�ضي على خ�صو�صية الم�سرح في �أنه‬
‫مناف�س �شديد الخطورة للم�سرح وال�سينما مع ًا‬ ‫�صلة حية بين فريق �إن�ساني وفريق �إن�ساني‬
‫وه��و التلفزيون؛ وه��ذا الوح�ش الكا�سر �سرق‬ ‫�آخ��ر ب�شكل مبا�شر‪ .‬وه��ذا ال�شيء ال ت�ستطيعه‬
‫النا�س الذين كانت ال�سينما قد �سرقتهم من‬ ‫ال�سينما‪ .‬فباءت كل م��ح��اوالت �سرقة �أدوات‬
‫قبل‪ ،‬خا�صة �أنه متوفر في البيت‪ .‬فكان طبيعي ًا‬ ‫ال�سينما ال�سترجاع الجمهور بالف�شل‪ ،‬ولهذا عاد‬
‫�أن يرتعد الم�سرح خوف ًا من هذا العدو الجديد‪،‬‬ ‫الم�سرح �إلى طبيعته الأول��ى في االعتماد على‬
‫وكان خوفه �أكبر بكثير من خوفه من ال�سينما‪.‬‬ ‫الممثل والكلمة لكن ب�شكل جديد‪ ،‬جاء نتيجة‬
‫وال ُين َكر �أن ال�سينما والتلفزيون قدما بع�ض‬ ‫والدة المخرج‪ .‬وهو ما ُ�س ِّم َي (تكامل العر�ض‬
‫الن�صو�ص الم�سرحية‪ .‬و�أ�ضاف التلفزيون �إلى‬ ‫الم�سرحي)‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪124‬‬


‫تفاعل‬

‫�إلى ابتكار نوع جديد من الأفالم هو (الأك�شن)‪،‬‬ ‫الم�سرح �إعالم ًا لم يكن متي�سراً له من قبل‪ ،‬فهو‬
‫ف�إن الم�سرح ركب ال�سينوغرافيا الب�صرية التي‬ ‫منبر للدعاية الإعالنية‪ ،‬وهو ي�ست�ضيف العاملين‬
‫هم الم�سرحيين في العالم‪ ،‬وهذا االتجاه‬ ‫�صارت َّ‬ ‫في الو�سط الم�سرحي ويتيح �أحيان ًا للم�سرحيين‬
‫�أ�سهم بروز فن‬ ‫الذي �أ�صبح هو�س الم�سرحيين يقوم في الدرجة‬ ‫بع�ض النجومية التي يح�سدون التلفزيونيين‬
‫الأولى على مادة ن�صية ولي�س على ن�ص م�سرحي‬ ‫على نيلهم الكثير منها‪ ،‬وقام التلفزيون بت�صوير‬
‫ال�سينما في الت�أثير‬ ‫قوي‪ ،‬لأن هذا الن�ص يجبر المخرج على تقديم‬ ‫وعر�ض كثير من الم�سرحيات من مختلف �أنحاء‬
‫في الم�سرحيين‬ ‫الحوار ب�شكل عميق يقوم على �أداء الممثل‪ ،‬ولن‬ ‫العالم‪ ،‬ف�صار المرء بوا�سطته ي�شاهد م�سرحيات‬
‫و�سعيهم �إلى �إعادة‬ ‫يتحقق للممثل �أن ي�ؤدي حوار الن�ص الم�سرحي‬ ‫لم يكن يحلم يوم ًا �أن يراها �إال �إذا قطع الم�سافات‬
‫النظر في م�سرحهم‬ ‫العميق �إال �إذا كانت الو�سائل الب�صرية في‬ ‫ال�شا�سعة لر�ؤيتها‪ ،‬لكن هذه الخدمات الرفيعة‬
‫العر�ض الم�سرحي في خدمة دوره‪ ،‬مما ُيخرجها‬ ‫ال��ت��ي قدمها التلفزيون ك��ان يقابلها �سرقة‬
‫و�أدواته‬
‫من دائ��رة ال�شكالنية والإبهار الب�صري‪ ،‬وهذه‬ ‫الجمهور من الم�سرح‪ ،‬وهكذا ب��د�أ الم�سرحيون‬
‫المادة الن�صية ُتك َتب ب�شكل (�سيناريو) مهمتها �أن‬ ‫يبحثون ب�شكل محموم عن و�سائل تعيد �إليهم‬
‫تتيح للمخرج �أن يقدم الإبهار الب�صري قبل �أن‬ ‫بع�ض ما ُ�سرِق منهم‪ ...‬فهل انت�صر الم�سرح في‬ ‫َ‬
‫يقدم �أدب ًا م�سرحي ًا كما كان الحال من قبل‪ ،‬وقبل‬ ‫معركته؟‬
‫�أن يقدم ممث ًال يجيد �أداء الدور الم�سرحي‪ ،‬و�إذا‬ ‫لقد نجح الم�سرح ف��ي ال��وق��وف ف��ي وجه‬
‫بالعن�صرين الأ�سا�سيين اللذين قام عليهما فن‬ ‫ال�سينما عندما عاد �إلى �صقل �أداتيه الرئي�سيتين‪،‬‬
‫الم�سرح وهما (الكلمة والممثل) يختفيان تحت‬ ‫فتو�صل �إل ��ى العر�ض الم�سرحي المتكامل‪،‬‬
‫�أطباق حوار غير درامي‪ ،‬وتحت �أطباق المكياج‬ ‫لكنه خ�سر معركته مع التلفزيون عندما بد�أ‬
‫في منت�صف القرن‬ ‫والإ�ضاءة وتحت ركام ال�سينوغرافيا‪ .‬وبذلك غاب‬ ‫الم�سرحيون البحث عن الو�سائل التي تعيد �إليهم‬
‫الع�شرين ظهر‬ ‫�أو �ضعف الن�ص الم�سرحي‪ ،‬وبدا الم�سرح وك�أنه‬ ‫جمهورهم الم�سروق منهم والمكانة التي ان ُتزِعت‬
‫المناف�س الأكبر‬ ‫يدير ظهره لكل ما تعلمه من �إت��ق��ان العر�ض‬ ‫تو�صلوا �إلى‬
‫منهم‪ .‬ولكي يحققوا االنت�صار عليه‪َّ ،‬‬
‫للم�سرح وهو‬ ‫الم�سرحي المتكامل‪ ،‬و�إتقان الكتابة الم�سرحية‬ ‫�أخطر �أ�سلوب وهو �أن ي�سرقوا من التلفزيون بع�ض‬
‫ليقدم عر�ض ًا متقن ال�شكل ف��ارغ الم�ضمون‪.‬‬ ‫�أدوات ��ه و�أ�شكاله‪ ،‬لعل الم�سرح يفتن جمهوره‬
‫التلفزيون‬ ‫لقد �أعلن الم�سرحيون موت الكاتب الم�سرحي‪،‬‬ ‫كما يفتن التلفزيون متفرجيه؛ فقد ا�ستخدموا‬
‫و�أعلن لهم الم�سرح نف�سه عن موت الممثل لأنهم‬ ‫الإمكانيات الآلية مثل ا�ستخدام �شا�شات ال�سينما‬
‫عن�صري الم�سرح‬
‫َ‬ ‫ا�ستبدلوه بالبهلوان‪ ،‬فقتلوا‬ ‫للعر�ض الخلفي �أثناء التمثيل على الخ�شبة مث ًال‪،‬‬
‫اللذين ي�شكالن جوهره‪.‬‬ ‫ما يعني �إيجاد �إمكانيات تكتيكية متقدمة ت�سمح‬
‫بعد �أك��ث��ر م��ن ع�شرين ع��ام� ًا – وه��و عمر‬ ‫بقدر �أكبر من الحركة والحيوية‪ .‬وفي حالة وجود‬
‫الم�سرح التجريبي الدولي في القاهرة ‪ -‬من‬ ‫خ�شبة م�سرح �أو �صالة متحركة �آلي ًا‪ ،‬يمكن تغيير‬
‫ه��ذه المحاولة اليائ�سة‪ ،‬ب��د�أ الم�سرحيون في‬ ‫المنظر والمنظور ب�شكل م�ستمر‪ ،‬ول��ج��ؤوا �إلى‬
‫العالم يكت�شفون �أن اللهاث وراء تقليد التلفزيون‬ ‫تقنيات الإ�ضاءة وما يتفرع عنها من تقنيات‬
‫�أو�صل م�سرحهم �إلى الباب الم�سدود‪ ،‬واكت�شف‬ ‫الأقنعة وغير ذل��ك مما ي�ستخدمه التلفزيون‬
‫لج�أ الم�سرح �إلى‬ ‫النقاد والجمهور �أن الم�سرح ي��ح��ارب نف�سه‬ ‫ب�سهولة‪ .‬لكن الم�سرحيين بهذا ال�شكل اقترفوا �أكبر‬
‫التقنيات الجديدة‬ ‫ويخ�سر �أ�سلحته في معركته في مواجهة ذلك‬ ‫خط�أ يمكن �أن يحاربوا به �أنف�سهم وم�سرحهم‪،‬‬
‫الوح�ش ال�صغير الحجم الكبير الت�أثير القابع‬ ‫لأنهم �أخ��ذوا يناف�سون التلفزيون بو�سائله ال‬
‫واعتمد الفنون‬
‫في زوايا البيوت كالتعويذة ال�سحرية‪ .‬ومع �أن‬ ‫بو�سائلهم‪ .‬وب��د�أت هذه المناف�سة ت�أخذ �شكلها‬
‫الب�صرية وتقوية‬ ‫هذا االكت�شاف �أ�صبح وا�ضح ًا كما �صار ابتعاد‬ ‫ال�سافر في العقد الأخير من القرن الع�شرين حتى‬
‫الممثل‬ ‫الجمهور عن الم�سرح �أم ��راً ال يمكن تجاهله‪،‬‬ ‫اليوم‪ .‬وهكذا دخل الم�سرح في نفق ال�شكالنية؛‬
‫ف�إن الم�سرحيين في العالم مازالوا يلهثون وراء‬ ‫هذه ال�شكالنية هي التي �أدخلت الم�سرح �إلى‬
‫تفرع عنها من هجر الن�صو�ص‬ ‫ال�شكالنية وما َّ‬ ‫ترد‬
‫تقليد التلفزيون‪ ،‬لعل لعبة التلفزيون الفاتنة ُّ‬
‫القوية التي ال يمكن ت�أديتها �إال �ضمن �شروط‬ ‫�إليه الجمهور الذي قبع في البيوت �أمام الجهاز‬
‫العر�ض الم�سرحي المتكامل‪ .‬وه��ذا هو الحال‬ ‫ال�صغير‪ .‬و�إذا كانت ال�سينما قد زادت من جرعة‬
‫الذي و�صل �إليه الم�سرح في العالم وفي الوطن‬ ‫الإث��ارة با�ستخدام الكمبيوتر لتتغلب على فتنة‬
‫العربي‪.‬‬ ‫التلفزيون‪ ،‬وتحولت �إلى �أفالم تلفزيونية و�صلت‬

‫‪125‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫¯ كتبت الم�سرح التعليمي للمدار�س‪ ،‬وم�سرح‬
‫الطفل‪ ،‬وم�سرح الكبار وم�سرح الدمى‪ ،‬فهل‬
‫وجدت في هذه الأنماط المتعددة من ت�شابه‬
‫�أو ت�ضاد؟‬
‫ن�ص كتب ُته‪ ،‬وبغير‬
‫ِّ‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫موجود‬ ‫‪�-‬أنا‬
‫ذل��ك �س�أجد نف�سي غريب ًا عن ال�شخو�ص‬
‫والأحداث‪� ،‬صدق ًا �أقول �إن ال�شخو�ص تعي�ش‬
‫معي �أثناء الكتابة‪ ،‬وال تغادرني �أبداً‪ ،‬وكم‬
‫يطيب لي �أن �أراه ��ا على خ�شبة الم�سرح‬
‫بكل نب�ض الحياة فيها‪� ،‬أنظر �إليها ف�أراها‬
‫تعرفني‪ ،‬وتبت�سم لي‪.‬‬

‫¯ كتبت الم�سرح الإيمائي (بانتو مايم)‬


‫لل�صم‪ ،‬وكتبت الم�سرح ال�سمعي كما ت�سميه‬
‫�أنت للمكفوفين‪ ،‬فهل لك �أن تحدثنا عن‬
‫هاتين التجربتين؟‬
‫‪-‬في عام (‪1976‬م)‪ ،‬افتتحت وزارة‬
‫التنمية االجتماعية مدر�سة مختلطة لتعليم‬
‫ال�صم في �إربد القراءة والكتابة‪ ،‬والطالب‬ ‫ّ‬
‫دون �سن الخام�سة ع�شرة‪ ،‬فزرتها في‬
‫ذات ال�سنة �أنا والمخرج الم�سرحي با�سم‬
‫دلقموني الذي �أعتبره من �أف�ضل خم�سة‬
‫مخرجين م�سرحيين في الأردن‪ ،‬وكان‬
‫نقدم لهذه الفئة ما ن�ستطيعه من‬ ‫هدفنا �أن ّ‬
‫�شاعر وكاتب دراما م�سرحية‬
‫فنون م�سرح (البانتومايم) لكننا فوجئنا‬
‫�أن هذه الفئة قادرة على التمثيل الم�سرحي‬ ‫ح�سن ناجي‪:‬كتاباتي الم�سرحية‬
‫فت�شجعنا لكتابة و�إخراج م�سرحية �أبطالها‬
‫من المدر�سة ذاتها‪ ،‬فتعلمت لغة الإ�شارة‬ ‫تزاوج بين النثر وال�شعر‬
‫م��ن المعلمات وال��ط�لاب خ�لال �أ�سبوع‬
‫ن�ص ًا م�سرحي ًا قاموا ب�أدائه‬
‫فقط‪ ،‬وكتبت ّ‬ ‫ح�سن ن��اج��ي‪� ،‬شاعر وك��ات��ب درام���ا م�سرحية و�إذاع��ي��ة‬
‫مع المخرج با�سم وترجمتي بالإ�شارة‬
‫تعرفت من خ�لال �أهالي‬
‫وتلفزيونية‪ ،‬كتب ل�ل�إذاع��ة الأردن��ي��ة �أك��ث��ر م��ن �أل��ف‬
‫لتعليماته‪ ،‬ثم ّ‬
‫الطالب �إلى مجموعة من ال�شباب وال�شابات‬ ‫حلقة درام��ي��ة‪ ،‬وللتلفزيون الأردن���ي (‪� )60‬ساعة‪� ،‬أما‬
‫ال�صم‪ ،‬وبد�أنا معهم م�شوار الم�سرح؛ �أنا‬ ‫للم�سرح فقد ُعر�ض له �أكثر من (‪ )80‬عم ًال م�سرحي ًا‬
‫�أق��وم بالكتابة والإخ��راج �أكثر الأحيان‪،‬‬ ‫(م�سرح مدر�سي‪ ،‬م�سرح �أط��ف��ال‪ ،‬م�سرح ك��ب��ار)‪� ،‬شارك‬
‫وي�ساعدني المخرج با�سم في �إخراج بع�ض‬ ‫انت�صار عبا�س‬
‫ف��ي خم�سة ع�شر مهرجان ًا م�سرحي ًا محلي ًا وعربياً‪،‬‬
‫الم�سرحيات‪ ،‬فقد و�صل عدد الم�سرحيات‬
‫�إلى ثماني ع�شرة م�سرحية‪ ،‬كتب بع�ضها‬
‫وف���ازت م�سرحيته ال�شعرية ل�ل�أط��ف��ال (ال��ك��ن��ز) ف��ي مهرجان ال�سوي�س‬
‫ال�شباب ال�صم و�أحدهم �أخرج م�سرحيتين‬ ‫ع��ام (‪1988‬م) بالجائزة الأول���ى‪ ،‬كما �أ���ص��در ثالثين كتاب ًا في الم�سرح‬
‫تحت �إ���ش��راف��ي‪ ،‬ث��م فكرت بت�أ�سي�س ن� ٍ‬
‫�اد‬ ‫وال�شعر وال��زج��ل ال�شعبي‪ ،‬وال��درا���س��ات الأدب���ي���ة؛ خا�صة ال��درام��ي��ة‪.‬‬
‫خا�ص لهذه الفئة‪ ،‬وبالفعل تم ت�أ�سي�س‬
‫النادي في (‪1980‬م)‪ ،‬وهو موجود حتى‬ ‫¯ ح�سن ناجي �أي��ن يجد نف�سه بين هذه �إن�سان ًا يع�شق الحركة ويرف�ض ال�سكون‪،‬‬
‫اليوم يمار�س ن�شاطاته‪.‬‬ ‫فالحركة ح��ي��اة وال�����س��ك��ون م ��وت‪ ،‬كان‬ ‫الفنون التي كتبها؟‬
‫� ّأما الم�سرح ال�سمعي‪ ،‬وهكذا اخترت له‬ ‫‪�-‬أج��د نف�سي في الم�سرح‪ ،‬فهو بوابة يريدني حي ًا لأكتبه‪ ،‬و�أري��ده ن�ص ًا لأبقى‬
‫اال�سم الخا�ص بالمكفوفين فالف�ضل فيه‬ ‫الفنون فكتبته نثراً و�شعراً وزج ًال‪ ،‬وكتبني على قيد الحياة‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪126‬‬


‫م�سرح‬

‫للفنانة المخرجة الم�سرحية الكفيفة روان‬


‫ب��رك��ات‪ ،‬وه��ي التي تخرجت ف��ي الجامعة‬
‫الأردن��ي��ة ق�سم الفنون �إخ��راج م�سرحي‪ ،‬فقد‬
‫طلبت م��ن��ي ال��ت��ع��اون لكتابة م�سرحيات‬
‫للمكفوفين فكتبت اثنين وع�شرين ن�ص ًا‬
‫م�سرحي ًا‪ ،‬وهو ي�شبه الم�سرح الإذاع��ي وقام‬
‫بالتمثيل كبار ممثلي الأردن منهم داوود‬
‫جالجل‪ ،‬وعبد الكريم قوا�سمة‪ ،‬وزيد خليل‪،‬‬
‫و�سهير ف��ه��د‪ ،‬وم��ن ال��م��ع��روف �أن الم�سرح‬
‫ال�سمعي �سماعي فقط مع مو�سيقا دون ديكور‪،‬‬
‫وق��د نجحت ه��ذه التجربة‪ ،‬وم��ا زال��ت روان‬
‫تقوم بن�شاطات لهذه الفئة من المعاقين‪.‬‬

‫¯ �أع��رف �أن م�سرحياتك التي �شاركت بها‬


‫في المهرجانات قد ح�صلت على جوائز‪ ،‬هل‬
‫تحدثنا عن ذلك؟‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬لقد ف��ازت لي �أكثر من م�سرحية‬
‫في المهرجانات وه��ي‪ :‬م�سرحية الكنز في‬
‫م�صر‪ /‬ال�سوي�س‪ ،‬حكايات ثعلوب عمان‪/‬‬
‫الأردن‪ ،‬وم�سرحية دال��ي��ا �سو�سة‪/‬تون�س‬
‫و عمان‪ /‬الأردن‪ ،‬وم�سرحية المنجم عمان‪/‬‬
‫الأردن‪ ،‬وم�سرحية دف��ات��ر الثلج ع��م��ان ‪/‬‬
‫مهرجانات م�سرحية من الأردن‬
‫الأردن‪ ،‬وم�سرحية ع�سل الدبابير عمان ‪ ¯ /‬وماذا بعد �أيها ال�شاعر والم�سرحي؟‬
‫أود �أن �أقول لكل فنان اترك بعدك ب�صمة‬ ‫‪ّ �-‬‬ ‫الأردن‪ ،‬ومن المعروف �أن الم�سرحية تتوزع‬
‫تدل عليك‪ ،‬وتكون بو�صلة لمن �أراد الو�صول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جوائزها على الم�ؤلف والممثلين والمخرج‬
‫والملحن والديكور وغيره‪ ،‬ومجموع ما فازت و�أنا �أران��ي في كل ما كتبت‪ ،‬وبو�صلتي �أنني‬
‫وجدت نف�سي في‬ ‫به هذه الم�سرحيات خم�س وع�شرون جائزة‪ .‬في (‪1986‬م)‪� ،‬أ�س�ست مع زمالئي فرقة فنية‬
‫الم�سرح فكتبته نثراً‬ ‫م�سرحية كانت �أول فرقة في الأردن ا�سمها‬
‫و�شعراً وكتبني �إن�سان ًا‬ ‫¯ كيف وج��دت نف�سك كاتب ًا م�سرحي ًا‪ ،‬نثراً (فرقة م�سرح الفن)‪� ،‬إربد‪ ،‬وقدمت هذه الفرقة‬
‫اثني ع�شر مهرجان ًا م�سرحي ًا محلي ًا بالتعاون‬ ‫و�شعراً وزجالً؟‬
‫لأبقى على قيد‬ ‫‪-‬لقد بد�أت قارئ ًا للق�ص�ص ال�شعبية ومازلت م��ع وزارة ال��ث��ق��اف��ة‪ ،‬و���ش��ارك��ت ف��ي ع�شرة‬
‫الحياة‬ ‫‪،‬خا�صة الزير �سالم وعنترة و �سيف بن ذي يزن مهرجانات‪ ،‬وح�صلت على جوائز كثيرة‪ ،‬وقد‬
‫و�أبو زيد الهاللي‪ ،‬و�أنت تعرفين �أن هذه الق�ص�ص وكانت الفرقة بو�صلتي لأنني �أ�ؤم��ن بالعمل‬
‫يتخللها النثر وال�شعر الف�صيح والزجل‪ ،‬وقد الجماعي‪.‬‬
‫ت�أثرت بهذا الأ�سلوب وبد�أت محاوالتي الأولى‬
‫في المرحلة الثانوية‪ ،‬ونجحت مع �أحد زمالئي‬
‫بتقديم تمثيليات ق�صيرة في المدر�سة‪ ،‬في‬
‫مرحلة التوجيهي انت�سبت �إلى النادي العربي في‬
‫�إربد‪ ،‬وبد�أت بتقديم م�سرحيات بت�أليف م�شترك‬
‫بيننا‪ ،‬ثم �أخ��ذ كل منا منحى خا�ص ًا به في‬
‫الكتابة الم�سرحية‪ ،‬وا�ستمرت كتاباتي الم�سرحية‬
‫مزاوجة بين النثر وال�شعر والزجل‪ ،‬حتى �إنني‬
‫قدمت للإذاعة الأردنية برنامج ًا درامي ًا زجلي ًا‬ ‫ّ‬
‫من �ستين حلقة بعنوان (و ّقف نحكي)‪.‬‬
‫من �أعماله‬

‫‪127‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫الأكاديمي الم�سرحي‬
‫ح�سن المنيعي‬
‫�أنور محمد‬
‫من الرموز الثقافية التنويرية‬

‫حياته ي� ِّؤ�صل فيه لهذا الفعل ال�سامي؛ الفعل‬ ‫د‪ .‬ح�سن المنيعي‪ ،‬الناقد والمف ِّكر والباحث‬
‫الم�سرحي في �سياقه االجتماعي‪.‬‬ ‫والأ�ستاذ الجامعي الذي رحل منذ �أيام‪ ،‬والذي‬
‫ح�سن المنيعي في بحثه؛ في م�شروعه‬ ‫ا ّت�سم فكره النقدي بالغيرة على ال�شخ�صية‬
‫لم يكن ُي�ص ِّنع نقداً وم�سرح ًا مغربي ًا‪ .‬ففي‬ ‫اتجاه ًا فل�سفي ًا‬
‫المغربية والعربية‪ّ � ،‬أ�س�س ّ‬
‫حفرياته ع��ن ب��داي��ات الم�سرح المغربي‪،‬‬ ‫في النقد الم�سرحي العربي‪ ،‬خا�ض من �أجله‬
‫كان يبحث عن الهوية الفردية والجماعية‬ ‫�صراع ًا (دارويني ًا) للبقاء ك�أُ ّمة �صاحبة (عقل)‬
‫�أ�س�س اتجاه ًا جديداً‬ ‫لل�شخ�صية المغربية بما فيها م��ن رم��وز‬ ‫يدعي‬ ‫نقدي وهوية ثقافية‪ .‬وه��و بذلك ال ّ‬
‫في النقد الم�سرحي‬ ‫ثقافية‪ ،‬ووم�ضات تنويرية‪ .‬كان يقر�أ الدوافع‬ ‫امتالك حقائق النقد‪� ،‬أو علم النقد‪ .‬هو بحث‬
‫العاطفية لم� ِّؤ�س�سي الفعل‪/‬الحراك الم�سرحي‪،‬‬ ‫في الوجدان الوطني والقومي بعقلية المث ّقف‬
‫العربي‬ ‫ومكنوناتهم الروحية ومعاناتهم التراجيدية‪،‬‬ ‫(الع�ضوي) ولي�س بعقلية ال�سلطة‪ .‬بالت�أكيد‬
‫كان يقر�أ الفكر االجتماعي ال��ذي بنوا على‬ ‫ممن ي�شتغلون‬ ‫وربما كثيرون ّ‬
‫�سيختلف بع�ض‪ّ ،‬‬
‫�أ�سا�سه م�سرحهم بب�ساطته‪ ،‬و�أحيان ًا �سذاجته‪،‬‬ ‫في الم�سرح مع �آرائه‪ ،‬وقد ي�ضعونه في مو�ضع‬
‫فالحياة حرك ٌة عملي ٌة تاريخية فكرية‪� ،‬إنما‬ ‫ال�شبهة ب�صفته �صاحب ر�أي ُمعار�ض‪.‬‬
‫تعي�ش معنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لتتحول �إلى �أفعال‪� ،‬إلى �صورٍ‬ ‫ح�سن المنيعي مار�س التفكير النقدي‬
‫أفعال ل�شخ�صيات‬‫فتقلقنا وتثيرنا وت�ؤ ِّثر فينا‪ٌ � .‬‬ ‫بحرية المث ّقف ال��ذي يخ�شى على �شخ�صية‬ ‫ّ‬
‫برغم موتها في مرحلتها التاريخية‪� ،‬إ ّنما‬ ‫ال ّأمة من �أن ت�ضيع في الحداثة وما قبل وما‬
‫ما تزال تحيا‪ ،‬تعي�ش‪ ،‬ت�ؤ ِّثر فينا وتبعث تلك‬ ‫بعد الحداثة‪ .‬وكما ا�شتغل على التراث فهو لم‬
‫الن�شوة ونحن ن�شوفها على خ�شبة الم�سرح‬ ‫يبرئه‪ ،‬فمن ي�شتغلون التراث نظري ًا وعملي ًا‬ ‫ِّ‬
‫فته ّزنا‪ ،‬ونتعاطف م��ع م�صائرها نف�سي ًا‬ ‫مبرئين من تزوير ودف��ن قيم الحق‬ ‫لي�سوا ّ‬
‫مار�س التفكير‬
‫وروحي ًا‪ .‬هذه ال�شخ�صيات هي التي كان يبحث‬ ‫والجمال والأخ�لاق‪ .‬طبع ًا هو في درا�ساته‬
‫النقدي بحرية‬ ‫عنها ح�سن المنيعي في حفرياته النقدية؛‬ ‫لم يقطع‪ ،‬ولم يبتر العالقة مع التراث‪ ،‬بل‬
‫المثقف الحري�ص‬ ‫يرد‪ ،‬ي�صفع‬ ‫لقد كان مثل (بروميثيو�س) وهو ُّ‬ ‫كان ي�أخذ ما يراه حقيقة وهو ي�ش ِّغل مب�ضعه‬
‫على �أمته‬ ‫(زيو�س) بم�ساندته للإن�سان كي يح�صل على‬ ‫العلمي في البحث والنقد المادي العقالني‪.‬‬
‫النار فيحيا‪ /‬يعي�ش‪ ،‬ولو دفع حياته ثمن ًا‬ ‫وكما الم�سرح حقل وميدان �صراع الأفكار عبر‬
‫لمبادئه‪.‬‬ ‫تج�سيدها فع ًال؛ حركة على الخ�شبة‪ /‬الركح‪،‬‬
‫الم�سرح العربي ال يحتاج �إلى نظريات‬ ‫ف �� ّإن الت�أريخ والتاريخ مليئان بالتوترات‬
‫منطقية‪ /‬ريا�ضية؛ و� ْإن احتاج‪ ،‬فهو يحتاج‬ ‫القوة المادية‬‫الدرامية التي تت�ش ّكل منها تلك ّ‬
‫�إل��ى مفكرين عملياتيين‪� ،‬أبحاثهم تبد�أ من‬ ‫للحياة؛ حياة ذاك الم�سرح ال��ذي �أم�ضى‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪128‬‬


‫�أ�صوات‬

‫وال��ت��ي ح��اول �أن يترجمها ف��ي اجتهاداته‬ ‫تتحرى �سبب‬


‫ّ‬ ‫العيادة مروراً بالمختبر‪ ،‬وهي‬
‫النظرية والعملية فع ًال نقدي ًا‪ ،‬ل ّأن عملية‬ ‫�سقوط م�شروع النه�ضة العربية‪ .‬ح�سن المنيعي‬
‫المعرفة تتحرك بوا�سطة الفنون‪ ،‬كما العلوم‬ ‫كان من ه�ؤالء المفكرين الذين يبلورون نقداً‬
‫والآداب‪ ،‬التي يمكنها وفي الم�سرح ا�ستقراء‬ ‫م�سرحي ًا بد ّق ٍة علمية ذات فعالية اجتماعية‪،‬‬
‫بحث عن الهوية‬ ‫واقع التفكير الفل�سفي في المجتمع المغربي‬ ‫� ْإن في الدر�س التعليمي االبتدائي‪� ،‬أو الجامعي‪،‬‬
‫وتطوره‪ .‬لنقر�أ (هيراقليط�س) ودعوته للتطور‬ ‫�أو ال��ذي على خ�شبة الم�سرح‪ .‬فهو كان في‬
‫الفردية والجمعية‬ ‫و�إ���ش��اع��ة الديمقراطية‪ ،‬و(ه��ي��ج��ل) وفهمه‬ ‫م�شروعه ي�ستجلي فل�سفته للم�سرح حتى ال‬
‫لل�شخ�صية المغربية‬ ‫للتطور‪ ،‬و(مارك�س) وقراءته لتطور الواقع‬ ‫يعي�ش الإن�سان في عزلة نظرية وعملية‪،‬‬
‫وتناق�ضاته‪ .‬ح�سن المنيعي ف��ي م�سيرته‬ ‫فل�سفة ذات �صلة بالممار�سة وبالتقنية؛ ذلك‬
‫التطور‪ ،‬فيك�شف عن‬‫ُّ‬ ‫الفكرية‪ ،‬كان ُيح ِّفز على‬ ‫لتقديم العالج وفق منهج جدلي‪ .‬فدرا�ساته‪،‬‬
‫تفكيره الفل�سفي؛ عن تفكيره النقدي في النفاذ‬ ‫مثل‪�( :‬أبحاث في الم�سرح المغربي‪ ،‬التراجيديا‬
‫�إل��ى �أعماق الواقع لتغييره‪ ،‬وهو الناقد ذو‬ ‫ك��ن��م��وذج‪ ،‬هنا الم�سرح ال��ع��رب��ي‪ ،‬الم�سرح‬
‫الفكر العقالني العلماني‪.‬‬ ‫واالرتجال‪ ،‬الم�سرح المغربي‪ -‬من الت�أ�سي�س‬
‫ه��ي الثقافة ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬الثقافة التي‬ ‫�إلى �صناعة الفرجة‪ ،‬الم�سرح وال�سيميولوجيا‪،‬‬
‫تقوم على النقد الجدلي‪ ،‬فيكون مو�ضوعها‬ ‫قراءة في م�سارات الم�سرح المغربي‪ ،‬الم�سرح‬
‫المعرفة والعلم‪ ،‬ب�إعمال العقل‪ ،‬منهج �إعمال‬ ‫الحديث‪� :‬إ�شراقات واختيارات‪ ،‬الج�سد في‬
‫ر�أى �أن الم�سرح‬ ‫العقل والبحث النقدي ال��ذي ا�ستغرق تفكير‬ ‫الم�سرح‪ ،‬حركية الفرجة في الم�سرح‪ -‬الواقع‬
‫ح�سن المنيعي‪ ،‬وال��ذي �شغلته حركة التطور‬ ‫والتطلعات‪ ،‬عن الم�سرح المغربي‪ :‬الم�سار‬
‫العربي ال يحتاج �إلى‬ ‫االجتماعي والثقافي‪ ،‬باعتبارها حركة‬ ‫والهوية‪� ،‬شعرية ال��درام��ا المعا�صرة‪ ،‬وهو‬
‫نظريات منطقية‬ ‫جدلية بين الفكر وال��وج��ود‪ ،‬ل�صنع لحظة‪،‬‬ ‫�إع��داد وترجمة) وغيرها‪ ..‬والم�شبعة تفكيراً‬
‫ريا�ضية بل �إلى‬ ‫ل�صنع حياة م�ستقبلية تليق بكرامة الإن�سان‬ ‫اللعلم الم�سرحي �إلى‬ ‫ثوري ًا وهو يبد�أ من ّ‬
‫كون الفكر الجدلي فكراً م�ستقبلي ًا يدفع �إلى‬ ‫العلم الم�سرحي‪ ،‬و�إ ِْن ا�ستفاد من نظريات‬
‫مفكرين عملياتيين‬ ‫ويرغم ال�سيا�سة على الوقوف‬ ‫التطور الثقافي‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫العلوم والفنون الأوروبية‪ -‬وهذه ُي�شير �إليها‬
‫دم‬ ‫ع‬
‫ُْ ُ‬ ‫في‬ ‫والعلم؛‬ ‫العقل‬ ‫على‬ ‫بعيداً‪ ،‬فال تعتدي‬ ‫كمرتكز؛ كم�صدر ومرجع ال�شتغاله في النقد‬
‫وي ْنفى (ابن ر�شد)‪.‬‬
‫(�سقراط) ُ‬ ‫الم�سرحي بكل توا�ضع المف ِّكرين‪ّ � -‬أ�س�ست لهذه‬
‫النقد كما العلم‪� ،‬أ�سا�سه العقل‪ ،‬كونه �أداة‬ ‫ُ‬ ‫للم�سرحين المغاربي‬
‫ْ‬ ‫العمارة الفنية والفكرية‬
‫يغير ويتجاوز‬ ‫ّ‬ ‫الثقافة‪،‬‬ ‫جهة‬ ‫ر‬ ‫يغي‬
‫تطوي ٍر ّ‬ ‫تعر�ض م�شروعه لأذى الذئاب‬ ‫والعربي‪ .‬وقد ّ‬
‫المطلق �إلى التاريخي‪ ،‬و�سط هذا االنحطاط‬ ‫وال�ضواري الب�شرية‪ ،‬فلقد �ش ّنت عليه حروبها‬
‫والبنى الزائفة والمهزوزة‪ .‬فها‬ ‫وال��خ��راب‪ُ ،‬‬ ‫كي ال ي�ستمر‪ ،‬ويلقى حتفه ككل مف ّكر نه�ضوي‬
‫ه��ي الحداثة وم��ا بعد ال��ح��داث��ة‪ ،‬والعولمة‬ ‫في النظم ال�شمولية‪ .‬ح�سن المنيعي؛ كان مع‬
‫وم��ا بعد العولمة‪ ،‬تقذف حمم ًا من الرعب‬ ‫(جه ّنم) الحق الم�سرحي لكل �إن�سان في �أن‬
‫النقد �أداة تطوير‬ ‫والأهوال‪� ،‬آخرها (كورونا) وما بعد كورونا‪،‬‬ ‫يمار�س حريته في التفكير والنقد‪ ،‬وال �أن‬
‫يغير جهة الثقافة‬ ‫حولتنا �إلى قطعان و� ْإن من الب�شر‪ ،‬لك ّنها‬ ‫وقد ّ‬ ‫يعي�ش في (ج ّنة) الف�ساد الثقافي واالقت�صادي‬
‫قطعان �صارت م�سعورة‪ ،‬ال تعرف كيف تنجو‬ ‫وال�سيا�سي للدولة �أو للم� ّؤ�س�سات المافيوية‪.‬‬
‫ويتجاوز المطلق �إلى‬ ‫بروحها �أو تنحر نف�سها‪ .‬عولمة تتن ّكر للفن‬ ‫د‪.‬ح�سن المنيعي كان يقر�أ‪� ،‬أو لنقل‪ :‬قر�أ‬
‫التاريخي‬ ‫والعلم والنقد‪ ،‬وه��ذا ما كان ي �� ّؤرق المفكر‬ ‫حركة الأفكار االجتماعية وال�سيا�سية في‬
‫الم�سرحي ح�سن المنيعي‪ .‬فكل لحظة نحن‬ ‫المغرب في بدايات الم�سرح‪ ،‬وتابع تغيرها‪،‬‬
‫مهددون بكوارث و�أهوال لم تكن تخطر على‬ ‫ّ‬ ‫و�أ�سهم في تطويرها في �أبحاثه‪ .‬فالم�سرح‬
‫بال‪ ،‬كي تنهار قيم الثقافة والجمال التي‬ ‫وح��ده من بين الفنون ي�شتغل على تطوير‬
‫تعلو خ�شبة الم�سرح‪ ،‬ونموت في هذه البراري‬ ‫الحياة العقلية للنا�س‪ ،‬وه��ذه كانت ال�شغل‬
‫الموح�شة‪.‬‬ ‫ال�شاغل للناقد والمف ّكر ح�سن المنيعي‪،‬‬

‫‪129‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫ح�صد �أربع جوائز �أو�سكار‬
‫فيلم «حياة باي»‬
‫يمزج بين الخيال والواقع‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪130‬‬


‫�أفالم‬

‫فيلم (حياة باي ‪ )Life of Pi‬من �أفالم المغامرات الأمريكية‪،‬‬


‫التي يمتزج فيها الخيال بالواقع‪ ،‬وقد حقق نجاح ًا كبير ًا‬
‫لدى عر�ضه في دور ال�سينما الأمريكية‪ .‬الفيلم من �إخراج‬
‫�آنج لي‪ ،‬و�سيناريو ديفيد ماجي‪ ،‬ومن بطولة كل من‪� :‬سراج‬
‫�شارما‪ ،‬عرفان خان‪ ،‬تابو‪ ،‬عادل ح�سين‪ ،‬رافي �سبال‪ ،‬جيرارد‬
‫الفيلم م�أخوذ عن‬ ‫�سو�سن محمد كامل‬ ‫ديبارديو‪ ،‬وتم �إنتاجه في العام (‪2012‬م)‪.‬‬
‫رواية الكاتب الكندي‬
‫«يان مارتل»‬ ‫وكان اخت�صارها (ب��اي)‪� .‬أن�ش�أ وال��ده حديقة‬ ‫الفيلم م�أخوذ من رواي��ة الكاتب الكندي‬
‫حيوانات بالجانب الفرن�سي من الهند‪ ،‬وعا�ش‬ ‫يان مارتل بعنوان (حياة باي) الحائزة جائزة‬
‫(باي) في الحديقة و�سط الحيوانات‪ ،‬وقد ربطته‬ ‫البوكر ال�شهيرة‪ ،‬حيث مزجت الرواية (الفيلم)‬
‫عالقة خا�صة بالنمر (ريت�شارد باركر)‪ ،‬على‬ ‫بين الأ�سطورة والروح‪ ،‬وال�صدام بين الحقيقة‬
‫الرغم من �أن والده حذره من االقتراب منه‪.‬‬ ‫والخيال‪ .‬والفيلم تقريب ًا بال حوار وبال مو�سيقا‬
‫وعندما بلغ ال�ساد�سة ع�شرة من عمره‪ ،‬قرر‬ ‫ت�صويرية‪� ،‬إال من �صوت تالطم �أمواج المحيط‪،‬‬
‫�أب��وه الهجرة من الهند �إلى كندا‪ ،‬حيث هناك‬ ‫�إ�ضافة �إلى عنا�صر �أخرى للت�شويق‪ ،‬منها لغة‬
‫يمكنه بيع الحيوانات بمبلغ كبير‪ ،‬وااللتحاق‬ ‫ال�سرد ال�ساحرة المفعمة بالتفا�صيل الدقيقة‪،‬‬
‫بعمل �آخ ��ر‪ ،‬وبالفعل �سافرت الأ���س��رة رفقة‬ ‫والعمق الفكري الفل�سفي‪ ،‬والأبعاد الروحية‬
‫الفيلم قليل الحوار‬ ‫حيواناتها على متن �سفينة �شحن يابانية‪،‬‬ ‫والإن�سانية التي توافرت فيه‪ .‬تدور �أحداث الفيلم‬
‫وبال مو�سيقا‬ ‫ومن هنا تبد�أ رحلة (باي) البحرية التي تدور‬ ‫حول روائي كندي‪ ،‬زار الهند باحث ًا عن فكرة‬
‫ت�صويرية و ي�شي‬ ‫حولها �أح��داث الفيلم‪ .‬خالل �إبحار ال�سفينة‪،‬‬ ‫لق�صة جديدة‪ ،‬و�أثناء جلو�سه في �أحد المقاهي‪،‬‬
‫بالأبعاد الإن�سانية‬ ‫هبت عا�صفة قوية ت�سببت في �إغراق المركب‬ ‫�أخبره �صديقه عن �شخ�ص يدعى (باي) حدثت‬
‫وعمق الفكرة‬ ‫وجميع من فيه‪ ،‬فتع ّلق (ب��اي) ب��زورق نجاة‬ ‫معه ق�صة عجيبة �ستزيد من �إيمانه باهلل‪ ،‬فقرر‬
‫�شاركه فيه حمار وح�شي وقرد ونمر متوح�ش‪،‬‬ ‫زيارته ليعرف الق�صة‪ ،‬وبالفعل ذهب �إلى منزله‬
‫افتر�س النمر جميع الحيوانات وبقي هو وباي‬ ‫وب��د�أ ي�ستمع �إلى روايته‪ .‬حكى له (ب��اي) عن‬
‫على ظهر القارب في و�سط المحيط‪.‬‬ ‫طفولته حيث كان والده رجل �أعمال ووالدته‬
‫ي��ق��ول م ��ؤل��ف ال��رواي��ة‪/‬ال��ف��ي��ل��م‪( :‬وح ��ده‬ ‫عالمة نباتات‪ ،‬وق��د �أ�سماه وال��ده على ا�سم‬
‫الخوف يمكن �أن يهزم الحياة)‪ ...‬ففي بداية‬ ‫م�سبح فرن�سي �شهير يدعى (بي�سين مولتيير)‬

‫م�شهد من الفيلم‬

‫‪131‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫فظن �أن ب�إمكانه اال�ستمرار بقية حياته على‬
‫تلك الجزيرة‪ ،‬ولكن بحلول الم�ساء‪ ،‬حدثت �أمور‬
‫غريبة؛ ف�أثناء تناوله �إحدى ثمار الفاكهة‪ ،‬وجد‬
‫بداخلها �سن �إن�سان‪ ،‬والحظ �أن جميع الحيوانات‬
‫على الجزيرة تهرب وتختبئ فوق الأ�شجار‪ ،‬و�أن‬
‫تميز الفيلم ب�أبعاده‬ ‫المياه في الجزيرة تتحول �إلى �سائل حم�ضي‪،‬‬
‫الروحية والإن�سانية‬ ‫ذي لون بديع يذيب �أي �شيء بداخله‪ ،‬ف�أدرك‬
‫�أن هذه الجزيرة تغدو متوح�شة في مثل هذا‬
‫وبعمقه الفكري‬
‫الوقت من اليوم‪ ،‬حينها قرر (ب��اي) مغادرة‬
‫والفل�سفي‬ ‫الجزيرة فوراً بعد جمع كل ما ي�ستطيع جمعه‬
‫من الثمار‪ ،‬فركب القارب مع النمر (ريت�شارد‬
‫باركر)‪ ،‬وظال فيه ي�صارعان �أم��واج المحيط‪،‬‬
‫حتى و�صال �إلى �أحد �شواطئ المك�سيك‪ ،‬وهناك‬
‫الفيلم يحكي ق�صة‬ ‫غ��ادر النمر المركب‪ ،‬بعد �أن تبادل االثنان‬
‫لي�ست و�صف ًا لعالم‬ ‫نظرات مبهمة مليئة بم�شاعر �إن�سانية‪ ،‬واختفى‬ ‫بو�ستر الفيلم‬
‫بين �أ�شجار غابات ال�شاطئ‪ ،‬وبعد �ساعتين‬ ‫الفيلم �شعر (ب ��اي) بي�أ�س وخ��وف �شديدين‬
‫واقعي بل هي و�صف‬ ‫ر�أى بع�ض المارة (باي) منهك ًا على ال�شاطئ‪،‬‬ ‫من وجوده في قارب �صغير‪ ،‬تتقاذفه �أمواج‬
‫مواز‬
‫لعالم ٍ‬ ‫فحملوه �إل��ى �أح��د الم�ست�شفيات بالمك�سيك‪،‬‬ ‫المحيط العاتية‪ ،‬مع نمر جائع يترقب اللحظة‬
‫وحين مكوثه في الم�ست�شفى �أر�سلت �إليه �شركة‬ ‫اللتهامه‪ .‬تغلب (باي) على تلك الم�شاعر‪ ،‬من‬
‫ال�شحن اليابانية مندوبين‪ ،‬ليعرفا �سبب غرق‬ ‫خالل ا�سترجاع كل ما قر�أه وتعلمه‪ ،‬ما قوى‬
‫ال�سفينة‪ ،‬فلما �أخبرهما ق�صته الحقيقية‪،‬‬ ‫�إيمانه و�شحذ عزيمته للحياة‪ ،‬وبد�أ باالن�شغال‬
‫وتخطي العط�ش و�إطعام‬‫ّ‬ ‫بالتفا�صيل كال�صيد‬
‫النمر وتروي�ضه؛ ولج�أ �إلى ا�ستخدام المنطق‬
‫والعلم للبحث عن الطعام‪ ،‬وقد �ساعده على‬
‫ذلك كتيب يحمل �إر�شادات للنجاة من الموت‪،‬‬
‫و�سط محيط �شا�سع‪ ،‬ومواجهة �أح��وال طق�س‬
‫وجغرافية مرعبة ال يمكن للمرء �أن يتجاوزها‬
‫دون �أن يفارق الحياة‪ ،‬فالروتين اليومي‬
‫و�إيمانه القوي بوجود الخالق هما ما �أبقيا‬
‫(باي) عاق ًال‪ ،‬وهناك في عر�ض المحيط وحيداً‪،‬‬
‫حيث ال توجد غير ال�سماء والنجوم المتلألئة‪،‬‬
‫�شعر باي بوجود اهلل حوله وظهرت له معجزات‬
‫قوت من �إيمانه‪ ،‬كارتطام �سرب من الأ�سماك‬ ‫ّ‬
‫الطائرة بقاربه فكان وليمة طازجة له وللنمر‪،‬‬
‫كما �شعر باالنبهار وهو ي�شهد �صاعقة ي�صفها‬
‫بالمعجزة‪ ،‬كانت �سبب ًا في �إخماد قلق النمر‬
‫المترب�ص به ال��ذي ي�شاركه ال��ق��ارب‪ ،‬فكان‬
‫(ب��اي) يرقبه بعين‪ ،‬ويرقب بالعين الأخ��رى‬
‫النجوم‪ ،‬وي�شهد عظمة �صور الطبيعة‪ ،‬ما يزيد‬
‫من تعمقه الروحي‪.‬‬
‫جرفت �أم��واج المحيط الهادي المركب‪،‬‬
‫فوجد (باي) نف�سه في جزيرة مليئة ب�أ�شجار‬
‫الفاكهة العمالقة‪ ،‬ومئات من حيوان ال�سرقاط‪،‬‬
‫م�شاهد من الفيلم‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪132‬‬


‫�أفالم‬

‫عادل ح�سين‬ ‫جيرارد ديبارديو‬ ‫المخرج �أنج لي‬

‫يدعو الفيلم في‬


‫م�ضمونه �إلى الإخاء‬
‫ومعاني الإيمان‬
‫الحقيقي‬

‫عرفان خان‬ ‫�سيناريو ديفيد ماجي‬ ‫الكاتب الكندي يان مارتل‬

‫كما نرى في رحلة (ب��اي) الكثير من معاني‬ ‫لم ي�صدقاها‪ ،‬ف�ألف لهما ق�صة �أخرى من خياله‪.‬‬
‫الإن�سانية وال�صداقة بينه وبين النمر‪ ،‬منها‬ ‫في رواي��ات البحر ع��ادة ما يكون البطل‬
‫ا�صطياده لل�سمك و�إطعامه للنمر الجائع‪ ،‬وحزن‬ ‫عن�صراً كافي ًا للت�شويق‪ ،‬خا�صة عندما ت�ضعه‬
‫ج�سد الفيلم ال�صدام‬ ‫(باي) ال�شديد عند رحيل النمر (ريت�شارد باركر)‬ ‫في جزيرة غير م�أهولة‪ ،‬كما في فيلمي (‪Cast‬‬
‫دون �أن يودعه‪.‬‬ ‫‪)away‬و(‪ ..)All is lost‬و�أول مالحظة يمكن‬
‫بين ما هو حقيقي وما‬ ‫ح�صد الفيلم �أربع جوائز �أو�سكار‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ت�سجيلها عن الرواية‪/‬الفيلم‪ ،‬هو ال�صدام بين‬
‫هو خيالي‬ ‫جائزة �أف�ضل مخرج‪ ،‬وجائزة �أف�ضل مو�سيقا‬ ‫ما هو حقيقي وما هو خيالي‪� ،‬أحدهما على قدر‬
‫ت�صويرية‪ ،‬وجائزة �أف�ضل ت�صوير‪ ،‬وجائزة‬ ‫من المعقولية والآخر على قدر �أكبر من الخيال‬
‫ور�شح كذلك لثالث‬ ‫�أف�ضل ت�أثيرات ب�صرية‪ُ .‬‬ ‫الجامح‪ .‬وهو مزيج يبقي قدراً من المعقولية‬
‫جوائز غولدن غلوب‪ ،‬وقد �صور الفيلم بتقنية‬ ‫على الأحداث الخيالية في الفيلم‪ ،‬لي�س بمعناها‬
‫الـ(‪ .)3d‬وبلغت �إيراداته �أكثر من ن�صف مليار‬ ‫الحرفي الواقعي‪ ،‬ولكن بمعناها الأدبي‪ ،‬الذي‬
‫دوالر‪.‬‬ ‫يرى �أن الرواية لي�ست و�صف ًا لعالم واقعي‪ ،‬بل‬
‫هي و�صف لعالم موازٍ ‪.‬‬
‫في الفيلم دعوة للإيمان والت�سامح‬
‫والإخاء بين الأديان‪ ،‬نراها من خالل‬
‫مناجاة (باي) ربه‪ .‬كان (باي) ي�شعر‬
‫مقد�سة‪،‬‬
‫ب�أنه يتحرك داخل رحم كونية ّ‬
‫ي�صاحب ذلك �إح�سا�سه الدائم بال�سمو‬
‫واالبتهاج والفرح‪ .‬كما ورد في الفيلم‬
‫الكثير من العبارات التي ت�ؤكد فكرة‬
‫الت�سامح‪ ،‬ومنها قول (ب��اي) في �أحد‬
‫م�شاهد الفيلم‪�( :‬إن الإيمان منزل به‬
‫الكثير من ال��غ��رف)؛ فجميع الأدي��ان‬
‫ت��ح��ث ع��ل��ى ال��ح��ب وال��ت��ع��اي�����ش بين‬
‫النا�س‪ ،‬وتوحيد قلوبهم على محبة اهلل‪.‬‬

‫‪133‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫من �أبرز الأفالم ال�سينمائية في رومانيا‬

‫«موت ال�سيد الزار�سكو»‬


‫والتفا�صيل ال�صغيرة‬

‫برزت �سينما الموجة الجديدة الرومانية منذ العام (‪2005‬م)‬


‫طرح المخرج‬ ‫لتح�صد �ست جوائز في مهرجان كان ال�سينمائي‪ ،‬وتلفت �أنظار‬
‫�أفكاره بطرق فنية‬ ‫النقاد ب�أفالم (م��وت ال�سيد الزار�سكو‪� 4 ،‬أ�شهر و‪� 3‬أ�سابيع‬
‫ب�سيطة بعيداً عن‬ ‫ويومان‪ ،‬وبكالوريا للمخرجين؛ كري�ستيان بيو‪ ،‬وكري�ستيان‬
‫مونجيو وكري�ستان نيمن�سكو‪ ،‬و�أفالم �أخرى لمخرجين �شباب‬
‫الحيل التكنولوجية‬ ‫محمد �سيد م�صطفى‬ ‫هم تودور جورجيو‪ ،‬وماريان كري�ستيان‪ ،‬وكاتلين ميتولي�سكو‪،‬‬
‫والديكورات الفخمة‬
‫وفلورين �سيريان‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪134‬‬


‫�سينما‬

‫تميزت موجة ال�سينما الجديدة الرومانية‬


‫بالواقعية االجتماعية والب�ساطة واالقتراب‬
‫من حياة النا�س اليومية‪ ،‬ولم تقع فى رد فعل‬
‫ايديولوجي بل اهتمت بفنيات وجماليات‬
‫الفيلم ال�سينمائي‪ ،‬واعتمدت على التمويل‬
‫الذاتي عبر �شركات �إنتاج �صغيرة ومن �أهم‬
‫�أفالمها فيلم (موت ال�سيد الزار�سكو) من �إخراج‬
‫كري�ستيان بيبو �أن��ت��ج ف��ي ع��ام (‪2005‬م)‪،‬‬
‫يحكي عن الزار�سكو رجل فى ال�سبعين من‬
‫عمره من الطبقة المتو�سطة يعي�ش وحيداً‬
‫بين مجموعة من القطط و�سط ق��ذارة وغبار‬
‫بعد م��وت زوج��ت��ه ورح��ي��ل ابنته �إل��ى كندا‪،‬‬
‫ووج��ود �أخته في مدينة تيمي�شوارا البعيدة‬
‫عن �إقامته في بخار�ست‪ .‬يدمن على ال�شراب‪،‬‬
‫م�شهد من الفيلم‬ ‫الفنية)‪ ،‬فهو لم ي�ستعر�ض حي ًال �إخراجية‬ ‫في�صاب بقيء وتقرحات في معدته وي�سقطه‪،‬‬
‫�أو تكنولوجية‪ ،‬ولم ي�شيد ديكورات �ضخمة‬ ‫فيلج�أ �إلى جاره وزوجته اللذين يهبان �إلى‬
‫وارتدى الممثلون مالب�سهم االعتيادية؛ ال�سيد‬ ‫نجدته و�إع��ط��ائ��ه الأدوي����ة‪ ،‬ويتم االت�صال‬
‫بمالب�سه المنزلية‪ ،‬والأط��ب��اء والممر�ضات‬ ‫بالإ�سعاف الذي يح�ضر بعد ثالث محاوالت‬
‫ب ��أزي��اء العمل م��ع اختفاء المكياج‪� ..‬سحر‬ ‫لتبد�أ رحلته �إل��ى م�ست�شفى يجري له بع�ض‬
‫الفيلم يكمن في تناول ق�صة واقعية بب�ساطة‬ ‫الإ�سعافات‪ ،‬وب�سبب نق�ص معدات الم�ست�شفى‬
‫تميز الفيلم‬ ‫و�شفافية‪ ،‬بحوارات يومية اعتيادية تقترب‬ ‫تنقله الممر�ضة �إلى م�ست�شفى �آخر يجري له‬
‫بالواقعية‬ ‫من الثرثرة التي تذكرنا بحوارات م�سرحيات‬ ‫بع�ض الفحو�صات فيكت�شف �إ�صابته بمر�ض‬
‫االجتماعية‬ ‫�أنطون ت�شيخوف‪ ،‬فالحياة االجتماعية في‬ ‫ال�سرطان ثم يحول �إلى م�ست�شفى �أخير تنتهي‬
‫وت�صوير حياة النا�س‬ ‫الفيلم تقارب حياة الأ���س��ر في المجتمعات‬ ‫حياته فيه بعد ليلة طويلة �صاحبته فيها‬
‫ال�شرقية والعربية‪ ،‬حيث التوا�صل والأحاديث‬ ‫ممر�ضة مخل�صة في عملها‪.‬‬
‫العاديين وفق فنيات‬
‫الحميمية وااله��ت��م��ام الإن�����س��ان��ي؛ فالجار‬ ‫التحدي الأول للمخرج كري�ستيان في‬
‫وجماليات الفن‬ ‫حري�ص على ال��وق��وف م��ع ج��اره المري�ض‪،‬‬ ‫الفيلم كان مدة الفيلم والتي ال تتعدى الليلة‬
‫ال�سابع‬ ‫وال��زوج��ة تح�ضر له الطعام وتتعاطف معه‬ ‫الواحدة‪ ،‬وبعنوان يفقد المتفرج ده�شة التوقع؛‬
‫وتحدثه عن ابنته البعيدة‪ ،‬والتي يغفل المخرج‬ ‫فال�سيد الزار���س��ك��و �سوف يموت ف��ي نهاية‬
‫الإ���ش��ارة على ابتعادها‪ ،‬و�إن ج��اءت بع�ض‬ ‫الأحداث كما ي�شي العنوان‪ ،‬وفي �أماكن ت�صوير‬
‫ظالل بعدها هذا فى حياة ال�سيد الزار�سكو‬ ‫مغلقة ومحدودة‪ ،‬وهي �شقة الزار�سكو وداخل‬
‫وحيداً مع معاناة المر�ض‪ ،‬فالأخت عادة ما‬ ‫�سيارة الإ�سعاف وثالثة م�ست�شفيات‪ ،‬وكما قال‬
‫تحر�ص على الح�ضور والوقوف مع �شقيقها‬ ‫المخرج ( �أحاول �أن �أطرح �أفكاراً ب�أب�سط الطرق‬
‫ارتدى الممثلون‬ ‫في المر�ض‪ ،‬والممر�ضة‬
‫مالب�سهم اليومية‬ ‫ال تكتفي ب��أداء واجباتها‬
‫من دون �أي مكياج‬ ‫ال��م��ه��ن��ي��ة ب���ل ت�ستنفر‬
‫�أو �إك�س�سوارات في‬ ‫ع��اط��ف��ت��ه��ا الإن�����س��ان��ي��ة‪،‬‬
‫وت��ح��ر���ص ع��ل��ى التنقل‬
‫لقطات ق�صيرة‬ ‫ط���وال ال��ل��ي��ل ب��ي��ن ثالثة‬
‫وحوارات خلت من‬ ‫م�����س��ت�����ش��ف��ي��ات‪ ،‬وتتحمل‬
‫�أية عنا�صر �إثارة‬ ‫�سخرية ممر�ضات في عمر‬
‫ابنتها‪ ،‬و�أطباء في حاالت‬
‫م ��ن ال��ت��ذم��ر والأن��ان��ي��ة‬
‫والملل‪ ،‬ومر�ضى ب�آالمهم‬
‫و�أناتهم و�شكواهم‪.‬‬
‫ايون في�سكوتينو‬ ‫المخرج كري�ستيان بيو‬

‫‪135‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫�سينما‬

‫م�شهد من رومانيا‬
‫تنح�صر وظيفتها فى طابع اال�ستخدام‪ ،‬و�إن‬ ‫ال�شخ�صيات الرومانية في الفيلم كما في‬
‫�أنتجت جماليتها الخا�صة من دون اال�ستعانة‬ ‫الحياة يتبادلون الأحاديث ب�سرعة مع الغرباء‬
‫بم�ؤثرات �صوتية ومو�سيقية كثيرة‪ ،‬وب��أداء‬ ‫عن زوجاتهم و�أبنائهم وهمومهم العائلية‪.‬‬
‫طبيعي تلقائي‪ ،‬لم تخرج الكاميرا على معالم‬ ‫وجاء �أداء الممثل فى دور ال�سيد الزار�سكو‪،‬‬
‫يدين الفيلم‬
‫مدينة بخار�ست الجميلة‪ ...‬ي�شابه الفيلم‬ ‫والممثلة فى دور الممر�ضة تلقائي ًا �سل�س ًا‬
‫التعقيدات الإدارية‬ ‫�أ�ساليب ومو�ضوعات ال�سينما الرومانية‬ ‫بمالب�سهما اليومية ومن دون �أي مكياج �أو‬
‫وي�سلط ال�ضوء على‬ ‫التي تدين المرحلة ال�سابقة برفق وبحرفية‬ ‫�إك�س�سوارات‪ .‬كذلك منح المخرج الفيلم بع�ض‬
‫تردي الو�ضع ال�صحي‬ ‫فنية عالية‪ ..‬كذلك يدين الفيلم اليبروقراطية‬ ‫لحظات الكوميديا‪ ،‬على ال��رغ��م م��ن قتامة‬
‫الإداري�����ة والإج�����راءات الكتابية المعقدة‪،‬‬ ‫المواقف من خ�لال �إ���ص��رار ال�سيد الزار�سكو‬
‫والأحوال ال�صحية المتردية‪ ،‬وتقاع�س الأطباء‬ ‫على نفي المر�ض‪ ،‬وال�سخرية من الطبيب الذى‬
‫ونق�ص المعدات وك�سل الممر�ضات‪.‬‬ ‫ن�صحه بالتوقف عن الإدمان‪ ،‬مردداً‪ :‬انا �أدمن‬
‫من حر مالي وال �أدخ��ل يدي في جيب �أحد‪..‬‬
‫وعندما قال له الجار يجب �أن تتخل�ص من‬
‫القطط؟‬
‫رد عليه‪ :‬ولماذا ال تتخل�ص �أنت من ميكي‪..‬‬
‫�أتق�صد زوجتي‪..‬؟ نعم زوجتك‪.‬‬
‫في فنيات الإخ ��راج ال�سينمائي‪ ،‬اعتمد‬
‫المخرج على التقطيع ال��ن��اع��م‪ ،‬واالنتقال‬
‫ال�سل�س بحركة كاميرا هادئة مف�ض ًال اللقطات‬
‫المتو�سطة في �أغلب م�شاهد الفيلم‪ ،‬والكاميرا ال‬
‫تتبع حركة الممثلين فقط بل تتيح لهم الحركة‬
‫داخل �إطارها بحرية؛ يدخلون ويخرجون وهم‬
‫ي��رددون ال��ح��وارات والكلمات العابرة و�سط‬
‫�إ�ضاءة ب�سيطة من م�صادر �ضوء غير معقدة‬
‫من �أحداث الفيلم‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬ ‫‪136‬‬


‫تحت دائرة الضوء‬
‫منتجع �سياحي في طرطو�س‬
‫قراءات ‪�-‬إ�صدارات ‪ -‬متابعات‬

‫¯ ال�شعر وتحوالت البناء للدكتور �أحمد كُ ريم بالل‬


‫¯ «المعقول والالمعقول في تراثنا الفكري»‬
‫¯ وليد عثمان ير�صد تاريخ م�صر المعا�صر‬
‫¯ توظيف ال�سرد في ال�شعر الإماراتي المعا�صر‬

‫‪137‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- 2021‬‬


‫قراءات‬

‫كتابية ال�شعر وتحوالت البناء‬


‫في ال�شعر للدكتور �أحمد كُ ريم بالل‬
‫من المتخ�ص�صين في النقد حالوتها‪ ،‬وكان هذا‬ ‫ك��ت��اب��ي��ة ال�����ش��ع��ر‬
‫الكتاب �أحدث منتج نقدي له‪.‬‬ ‫وت�����ح�����والت ال��ب��ن��اء‬
‫عن دار النابغة بالقاهرة‪� ،‬أ�صدر الدكتور‬ ‫ال��ن��ق��دي ف ��ي ال�شعر‬
‫�أحمد ُكريم بالل كتابه النقدي العا�شر (كتابية‬ ‫الحديث‪ ،‬ر�ؤي��ة نقدية‬
‫ال�شعر وت��ح��والت البناء‪ -‬درا���س��ة نقدية في‬ ‫ح��دي��ث��ة وم ��غ ��اي ��رة‪،‬‬
‫د‪� .‬أحمد كريم بالل‬
‫الت�شكيل الب�صري الكتابي لق�صيدة التفعيلة)‪،‬‬ ‫يطرحها الدكتور �أحمد‬
‫و�أ���ش��ك��ال غريبة مل�صقة ف��ي ن�ص الق�صيدة‬ ‫يتناول الكتاب ق�ضية (كتابية ال�شعر) التي‬ ‫ك��ري��م ب�ل�ال ل��دار���س��ي‬ ‫محمد المغربي‬
‫ولي�ست من جن�سها‪ ،‬وهو ما كان يعرف با�سم فن‬ ‫تتجلى في �إيمان ال�شاعر‪ ،‬ب�أن متلقيه الأول هو‬ ‫وقرائه‬
‫ال�شعر والأدب ّ‬
‫الكوالج ‪ collage‬في الفن الت�شكيلي‪ ،‬وهو ثمرة‬ ‫متلق قارئ ال �سامع‪ ،‬ومن ثم معالجة ا�ستقبال‬ ‫ٍّ‬ ‫قدمها‬ ‫ومتذوقيه من المثقفين‪ .‬الكتاب �أطروحة ّ‬
‫من ثمرات التالقح بين ال�شعر والفنون‪.‬‬ ‫الن�ص ال�شعري مكتوب ًا‪ ،‬الأم��ر ال��ذي �أدى �إلى‬ ‫الكاتب كر�سالة للماج�ستير �سنة (‪ ،)2003‬وكان‬
‫وفي الف�صل الرابع‪ ،‬تناول الم�ؤلف‪ :‬البناء‬ ‫ا�ستغالل معطيات الطباعة وتقنياتها‪ ،‬التي‬ ‫هذا المو�ضوع وقتها جديداً‪ ،‬وبعد �سنوات طويلة‬
‫المقطعي‪ ،‬باعتبار تق�سيم الق�صيدة �إلى مقاطع‬ ‫جعلها ال�شعراء من �أدوات �إنتاج المعنى‪ ،‬وهي‬ ‫قرر الكاتب تحويل الر�سالة لكتاب من�شور‪ ،‬بعد‬
‫مظهراً من مظاهر كتابية ال�شعر‪ ،‬وق��د در�س‬ ‫ما ي�سميه الم�ؤلف‪( :‬الت�شكيل الب�صري الكتابي)‪،‬‬ ‫�إعادة النظر وتنقيح بع�ض محتوياته‪.‬‬
‫الم�ؤلف العالقات بين المقاطع ال�شعرية في‬ ‫وهو يتجلى في مظاهر عديدة ر�صدها الم�ؤلف‬ ‫فمن خالل متابعتي ال�صحافية لإ�صدارات‬
‫الق�صيدة‪ ،‬ور�صد خم�سة �أن ��واع منها‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫في كتابه‪.‬‬ ‫الأدب����اء وال��ن��ق��اد ال��ج��دي��دة م��ن كتب نقدية‪،‬‬
‫(البناء المقطعي المتدرج‪ ،‬البناء المقطعي‬ ‫بد�أ الم�ؤلف كتابه بتمهيد تاريخي‪ ،‬ر�صد‬ ‫ا�ستوقفني عنوانه المثير‪ ،‬فوقفت على عتباته‬
‫الحلزوني‪ ،‬البناء المقطعي المتناق�ض‪ ،‬البناء‬ ‫فيه المظاهر الكتابية القديمة‪ ،‬التي كان ال�شعراء‬ ‫مت�أم ًال‪ ،‬فوجدته يقدم ر�ؤى جديدة في الحقل‬
‫المقطعي المتوازي‪ ،‬البناء المقطعي المتفكك)‪،‬‬ ‫يوظفون فيها الت�شكيل الب�صري الكتابي لخدمة‬ ‫النقدي‪ ،‬هذه الر�ؤى كان ال بد من الك�شف عنها‪،‬‬
‫ثم در���س العنونة الداخلية للمقاطع ال�شعرية‬ ‫المعنى‪ ،‬وهي‪ ،‬على حد قول الم�ؤلف‪ ،‬كانت في‬ ‫وعر�ضها على المتخ�ص�صين من النقاد‪ ،‬وعلى‬
‫داخل الق�صيدة الواحدة‪ .‬وفي الف�صل الخام�س‬ ‫ومت َك َّلفة‪.‬‬
‫�أغلب نماذجها ُمفتعل ًة ُ‬ ‫المثقفين وال�شعراء والمهتمين بال�شعر‪ ،‬الكتاب‬
‫والأخير‪ ،‬الذي اختار الم�ؤلف له عنوان (ال�شعر‬ ‫وتناول الكاتب في الف�صل الأول‪ :‬التن�سيق‬ ‫ا�سمه (كتابية ال�شعر وتحوالت البناء‪ -‬درا�سة‬
‫المـُج�سد)‪ ،‬يقدم ال�شاعر نوع ًا من �أنواع التجاوز‬ ‫الكتابي للق�صيدة‪ ،‬من حيث تنامي الأ�سطر‬ ‫نقدية في الت�شكيل الب�صري الكتابي لق�صيدة‬
‫الحاد غير الم�ألوف في فن ال�شعر‪� ،‬إذ تنظم‬ ‫ال�شعرية وتقل�صها‪ ،‬وطريقة تفاعلها مع الفراغ‬ ‫التفعيلة)‬
‫الكلمات ال�شعرية لتكون على هيئة لوحة‬ ‫ومعبراً)‪ ،‬وكذا تناول‬ ‫(الذي �أ�صبح بدوره دا ًال ُ‬ ‫الكتاب ثمرة جديدة يطرحها لنا الكاتب من‬
‫مر�سومة‪ ،‬بع�ض النقاد ي�سمونها‪( :‬ق�صيدة‬ ‫الم�ؤلف بع�ض المظاهر الجديدة في كتابة‬ ‫�شجرته النقدية‪ ،‬والتي �أثمرت ثماراً ذاق الكثير‬
‫اللوحة)‪ ،‬وقد قدم الم�ؤلف نماذج �شعرية متعددة‬ ‫الن�ص ال�شعري‪ ،‬مثل تفريع الق�صيدة لتتحول‬
‫من التراث‪� ،‬سبقت �إلى هذه التقنية‪ ،‬كما قدم‬ ‫�إلى م�سارين كتابيين مما ي�سميه‪( :‬الق�صيدة ذات‬
‫نماذج معا�صرة ل�شعراء من المغرب والعراق‪،‬‬ ‫الم�سارين)‪ ،‬ف�ض ًال عن ت�شذير الكلمات وتوزيعها‬
‫وانتهى في هذا الأم��ر �إلى �أن ال�شعر المكتوب‬ ‫في الفراغ‪ ،‬والمزج بين كتابة ال�شعر التفعيلي‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬توظف فيه الكلمات لخدمة الر�سم‬ ‫والعمودي‪ ،‬والكتابة بخط اليد التي تقود �إلى‬
‫ال العك�س‪ ،‬ومن ثم يمكن �أن يتحول فيه ال�شعر‬ ‫الب�صرية)‪ ،‬وكذلك‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ما ي�سميه الكاتب‪( :‬المفارقة‬
‫(وهو فن لغوي في الأ�سا�س) �إلى نوع فني جديد‪.‬‬ ‫الكتابة ال�شعرية الممتدة التي تكت�سح الفراغ‬
‫و�أخيراً؛ قدم الم�ؤلف ملحق ًا تعريفي ًا يوقف‬ ‫تمام ًا‪ .‬والم�ؤلف‪ ،‬في كل هذه العنا�صر‪ ،‬يحاول‬
‫القارئ فيه على الم�صطلحات الجديدة التي‬ ‫جاهداً التما�س دالالت فنية‪ ،‬يمكن ا�ستنباطها‬
‫و�ضعها‪� ،‬أو ا�ستعارها من غيره مما يرتبط بهذه‬ ‫من طريقة الكتابة نف�سها‪.‬‬
‫الظاهرة الفنية الجديدة‪ ..‬كما نود الإ�شارة �إلى �أن‬ ‫وفي الف�صل الثاني‪ ،‬تناول الكاتب توظيف‬
‫الم�ؤلف من النقاد الم�شهود لهم بغزارة الإنتاج‪،‬‬ ‫ال�شعراء للعالمات غير الملفوظة في ق�صائدهم‪،‬‬
‫وله العديد من الكتب النقدية في مجال ال�شعر‬ ‫مثل عالمات الترقيم‪ ،‬التي �أ�صبحت ذات �أبعاد‬
‫والرواية‪ ،‬وقد ح�صل على جوائز نقدية متعددة‬ ‫داللية وبنائية و�أ�سلوبية‪ ،‬وكذلك العالمات‬
‫من �أهمها‪( :‬جائزة الطيب �صالح العالمية)‬ ‫الريا�ضية‪ ،‬والت�أطير‪ ،‬وه��و �إحاطة مجموعة‬
‫من ال�سودان (‪2011‬م)‪ ،‬و(جائزة مجمع اللغة‬ ‫من الأبيات ب�إطار يجعلها متميزة من �أبيات‬
‫العربية) بالقاهرة �سنة (‪2013‬م)‪ ،‬و�أخ��ي��راً‬ ‫الق�صيدة‪ .‬وفي الف�صل الثالث‪ ،‬تناول الم�ؤلف‪:‬‬
‫جائزة (كتارا) في النقد الروائي �سنة (‪2019‬م)‪.‬‬ ‫(الإل�صاق)‪ ،‬والمق�صود به �إدخال كلمات ور�سوم‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪138‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫«المعقول والالمعقول‬
‫في تراثنا الفكري»‬
‫لـ زكي نجيب محمود‬
‫ومازلنا �إلى يومنا هذا نرقد �إلى حكمتهم‬ ‫ب�����داي�����ة‪ ،‬ي���رى‬
‫هذه‪ ،‬فترد على �أل�سنتنا روائع ما قالوه في‬ ‫ال ��ك ��ات ��ب � ��ض ��رورة‬
‫ذلك �شعراً ونثراً‪ ،‬وك�أننا كلما نطقنا برائعة‬ ‫م��ع��اي�����ش��ة ثقافتنا‬
‫من تلك الروائع قد اتجهنا لدعم نظرتهم‬ ‫ال��ع�����ص��ري��ة بحيث‬
‫للحياة في وجداننا‪ ،‬بيد �أن هذا ال ينفي‬ ‫ت��ج��ت��م��ع ث��ق��اف��ت��ن��ا‬
‫نزوعنا �إلى التحديث الثقافي‪.‬‬ ‫الموروثة مع ثقافة‬ ‫نجالء م�أمون‬
‫كما ي�ؤكد الكاتب �أن التراث العربي‬ ‫ه���ذا ال��ع�����ص��ر ال ��ذي‬
‫زكي نجيب محمود‬ ‫�أو�سع من المحيط‪ ،‬و�أن طريق العقل في‬ ‫نحياه‪� ،‬شريطة �أال ي�أتي هذا االجتماع بين‬
‫ثقافة عري�ضة طويلة كالثقافة العربية ال‬ ‫الثقافتين تجاوراً بين متنافرين‪ ،‬بل ي�أتي‬
‫كما ي�ضيف الكاتب‪� ،‬أن��ه �إذا التم�سنا‬ ‫يكون قائم ًا وح��ده‪ ،‬بحيث ال يجد ال�سائر‬ ‫ت�ضافراً ين�سج بين خيوط ال��م��وروث مع‬
‫طريق العقل في الثقافة العربية‪ ،‬فمعنى ذلك‬ ‫طريق ًا �سواه‪ ،‬بل ال بد �أن يخالطه كل ما‬ ‫خيوط الع�صر ن�سج اللحمة وال�سدى‪ ،‬كما‬
‫�أننا نبحث عن خيوط اللحمة في ن�سيج‪ ،‬دون‬ ‫يخالط الطبيعة الب�شرية من جوانب �أخرى‬ ‫يذهب �إلى �أن النظرة العقلية برغم اختالطها‬
‫خيوط ال�سدى‪ ،‬عالمين ب�أن اللحمة وال�سدى‬ ‫غير جانب العقل‪ ،‬فالإن�سان كائن ًا ما‬ ‫بكثير ج��داً من عنا�صر الالعقل‪ ،‬كان لها‬
‫معا م�شتركان في ن�سيج واح��د‪ ،‬م�ؤكداً �أن‬ ‫كان ال يتحرك في حياته مهتدي ًا ببو�صلة‬ ‫�شيء من الظهور منذ �آبائنا من العرب‬
‫لديه عقيدة �أ�سا�سية م�ؤداها انه �إذا ما �أراد‬ ‫واحدة‪ ،‬بل �إن طبيعته لتنطوي على منازع‬ ‫الأق��دم��ي��ن‪ ،‬بمعنى �أنهم كلما �صادفتهم‬
‫الخلف ‪ -‬وه��و الجيل العربي في ع�صره‬ ‫متعار�ضة �أحيان ًا �أ�شد التعار�ض‪ ،‬فقد يحدد‬ ‫م�شكلة جماعية التم�سوا لحلها طريقة‬
‫القائم ‪� -‬أن يجيء امتداداً لل�سلف فلن يكون‬ ‫له العقل هدف ًا بعينه وبذلك ير�سم �أمامه‬ ‫المنطق العقلي للو�صول �إلى النتائج‪ ،‬وكادت‬
‫ذلك �إال عن طريق الجانب العاقل من حياة‬ ‫الطرق الم�ؤدية �إلى ذلك الهدف ‪،‬ثم تجذبه‬ ‫النزعة الالعقلية العاطفية عندهم تقت�صر‬
‫ال�سلف‪ ،‬لأن الجانب الالعاقل من حياة هذا‬ ‫العاطفة نحو هدف �آخر وطريق �آخ��ر‪ ،‬فلو‬ ‫على الم�سارات الخا�صة للأفراد‪ ،‬فلقد كانت‬
‫ال�سلف‪ ،‬ربما تعلق ب�أ�شياء لم تعد ذات �ش�أن‬ ‫و�صفنا فرداً �أو مجتمع ًا من النا�س‪� ،‬أو ع�صر‬ ‫لهم في طرائق العي�ش االجتماعي (حكمة)‪،‬‬
‫في حياتنا‪ ،‬وبالتالي ف�إنها لم تعد ت�ستحق‬ ‫من الع�صور‪ ،‬ب�صفة العقالنية‪ ،‬ف�إنما يفعل‬ ‫والحكمة �إن��م��ا ه��ي نظرة عقلية مكثفة‪،‬‬
‫�أن ن�سكب عليها هوى العاطفة دفاع ًا عنها‬ ‫ذلك على �سبيل التغليب والترجيح‪ ،‬ال �سبيل‬
‫وحفاظ ًا عليها‪.‬‬ ‫الح�صر والقطع والتحديد‪.‬‬
‫�أخ��ي��راً‪ ..‬ي�شير الكاتب �إل��ى �أن جوهر‬ ‫ويرى الكاتب �أن خط�أ �سقراط في �أنه‬
‫المعرفة يتبدى للإن�سانية في الآية القر�آنية‬ ‫قا�س النا�س على نف�سه‪ ،‬لأن الفرد مركب‬
‫الكريمة (اهلل نور ال�سموات والأر���ض مثل‬ ‫من العقل والعاطفة‪ ،‬ف�إذا اتفقا على الهدف‬
‫نوره كم�شكاة‪ )..‬فالنور هنا هو قوة الإدراك‬ ‫والطريق‪ ،‬وكثيراً ما يتفقان كان خيراً‪ ،‬و�إال‬
‫وفي الغفلة ظ�لام‪ ،‬و�أن �أ�سماء اهلل تعالى‬ ‫فهما قد يختلفان بحيث يكون لكل منهما‬
‫تحتوي على عدد كبير من المعاني التي تدل‬ ‫هدفه بطريقته‪ ،‬وعندئ ٍذ يحدث ال�صراع‬
‫على �إدراكه لكل دقائق خلقه‪.‬‬ ‫الم�ألوف في حياتنا بين �إمالء العقل وميل‬
‫العاطفة‪ ،‬وعندئ ٍذ �أي�ضا تكون ق�سمتنا للنا�س‬
‫الكتاب‪«:‬المعقول والالمعقول‬ ‫�إلى من تغلب عليهم �صفة العقالنية‪ ،‬ومن‬
‫في تراثنا الفكري»‬ ‫تغلب عليهم دفعة العواطف‪ ،‬ومن تمتزج‬
‫الكاتب‪ :‬زكي نجيب محمود‬ ‫لديه ال�صفتان‪ ،‬ويتكون المجتمع الإن�ساني‬
‫النا�شر‪ :‬هنداوي وند�سور ــ‪ 2017‬م‬
‫به�ؤالء الأفراد في معظم حاالته‪.‬‬

‫‪139‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءات‬

‫الت�أثيرات الثقافية والفكرية‬


‫في رواية «�ستيمر بوينت»‬
‫الثالث‪ ،‬فيراه دوجال�س ب�أنه درا�سة ثقافة �أمة‬ ‫م��������������ا ب�����ع�����د‬
‫من الأمم من حيث عالقات القوة التي تربطها‬ ‫الكولونيالية نظرية‬
‫ب�سواها من الثقافات‪.‬‬ ‫ت� ��ح � � ّل� ��ل ال���خ���ط���اب‬
‫وي��رك��ز التعريف الأول على الت�أثيرات‬ ‫اال���س��ت��ع��م��اري وتعيد‬
‫الثقافية وال�سيا�سية والفكرية التي تركتها‬ ‫ق�����راءة ال��ت��اري��خ من‬
‫�أحمد زين‬
‫ال��دول اال�ستعمارية على ال��دول الم�ستعمرة‪،‬‬ ‫الم�ستعمر‪،‬‬
‫َ‬ ‫وجهة نظر‬
‫وربما التعريف الأول �أكثر ان�ضباط ًا نقدي ًا‪،‬‬ ‫ت�أ�س�ست على يد �إدوارد‬ ‫د‪ .‬هويدا �صالح‬
‫وبرغم �أن انطالق ال�سرد يبد�أ من محاولة‬ ‫لأن مجال ا�شتغاله محدد زمني ًا‪ّ � .‬أما التعريف‬ ‫�سعيد وه��وم��ي بابا‬
‫التاجر الفرن�سي ال��ف��رار من ع��دن خوف ًا من‬ ‫الثاني فيتتبع �آليات اال�ستعمار في فر�ض‬ ‫ويعتبر كتاب (اال�ست�شراق) لإدوارد‬ ‫وغاياتري‪ُ .‬‬
‫ثوارها‪ ،‬ف�إن الكاتب ي�ستخدم تقنية (الفال�ش‬ ‫هيمنته الع�سكرية وال�سيا�سية والثقافية على‬ ‫�سعيد كتاب ًا م�ؤ�س�س ًا في ه��ذه النظرية التي‬
‫باك)؛ ليروي �شذرات من الحرب العالمية الثانية‬ ‫الأمم الم�ستعمرة‪ ،‬ومحاوالته الم�ستمرة طم�س‬ ‫انتقلت من حقل الدرا�سات الفل�سفية والفكرية‬
‫والغارات الإيطالية على عدن‪ ،‬وعالقة الإنجليز‬ ‫الخطاب الهوياتي لدى هذه الأمم‪ .‬والتعريف‬ ‫�إل��ى حقل الدرا�سات الأدب��ي��ة‪ ،‬لي�صبح مجال‬
‫والأمريكان بدول المحور‪ ،‬ونظرتهم للنازية‪.‬‬ ‫الثالث يدر�س تاريخ اال�ستعمار كما يدر�س‬ ‫ا�شتغاله الرواية باعتبارها واحدة من �أجنا�س‬
‫كما تبرز الرواية الفترة الزمنية التي �سبقت‬ ‫مقاومة الأمم لهذا التاريخ الكولونيالي‪.‬‬ ‫الكالم‪ ،‬التي يمكن �أن تحمل خطاب ًا ثقافي ًا‬
‫اال�ستقالل‪ ،‬وفرار الأوروبيين واليهود‪ ،‬وكيف‬ ‫ولعل هذه التعريفات مجتمعة تتجلى في‬ ‫وجمالي ًا �إلى جانب خطابها الجمالي‪.‬‬
‫ينظر ال�شاب اليمني �سمير والتاجر الفرن�سي‬ ‫رواية (�ستيمر بوينت) للكاتب اليمني �أحمد زين‬ ‫وقد و�ضع دوجال�س روبن�سون في كتابه‬
‫العجوز �إلى الأمر‪ ،‬فالعجوز ي�شعر بالرعب على‬ ‫والتي �صدرت عن �سل�سلة (الإبداع العربي) عن‬ ‫ال�شهير (الترجمة والإمبراطورية‪ :‬الدرا�سات‬
‫مملكته االقت�صادية التي بناها و�أنها معر�ضة‬ ‫الهيئة الم�صرية العامة للكتاب‪ ،‬حيث تحكي‬ ‫ما بعد الكولونيالية‪ ،‬درا�سات الترجمة) ثالثة‬
‫للتدمير‪ ،‬وال�شاب خائف من انتقام المقاومة‬ ‫فترة مف�صلية من تاريخ اليمن واال�ستعمار‬ ‫تعريفات لما بعد الكولونيالية‪ ،‬حيث يرى �أن‬
‫ِ‬
‫بالم�ستعمر‪.‬‬ ‫اليمنية الجنوبية منه لأنه معجب‬ ‫الإنجليزي لعدن‪ ،‬المدينة الكوزموبوليتانية‬ ‫�أول تعريف لها هو درا�سة الم�ستعمرات التي‬
‫�سمير م�سكون بموقف ملتب�س �شديد‬ ‫التي كانت �أهم ميناء في العالم بعد نيويورك‬ ‫تحررت من هيمنة �أوروبا لها‪� ،‬أي فترة ما بعد‬
‫التعقيد‪ ،‬حيث يقوده الولع بعدن �إل��ى تمني‬ ‫وليفربول‪.‬‬ ‫التحرر‪ ،‬وت�أثير الإرث الثقافي الكولونيالي‪،‬‬
‫بقائها مدينة مفتوحة للجميع والخ�شية من‬ ‫تطرح الرواية جدلية ال�شرق والغرب‪ ،‬كما‬ ‫تكيف معه �سكان ه��ذه الم�ستعمرات‪.‬‬ ‫وكيف ّ‬
‫تحويلها �إلى مدينة مغلقة على نف�سها‪ ،‬وال �سيما‬ ‫تناق�ش الخطاب الكولونيالي‪ ،‬حيث تبرز عالقة‬ ‫�أم��ا التعريف الثاني‪ ،‬فهو يركز على درا�سة‬
‫بعد بروز الت�صفيات واالنتقامات والأحقاد من‬ ‫والم�ستعمر‪ ،‬لكن من وجهة نظر‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم�ستعمر‬ ‫بين‬ ‫م�ستعمرات �أوروبا ال�سابقة منذ ا�ستعمارها؛ �أي‬
‫قبل الثوار‪ .‬في نهاية الرواية ترحل �آيري�س عن‬ ‫ِ‬
‫الم�ستعمر‬ ‫مغايرة‪ ،‬وجهة نظر الوقوع في غرام‬ ‫الكيفية التي ا�ستجابت بها لإرث الكولونيالية‬
‫عدن‪ ،‬لكنها تطلب من مرافقها �أن يحقق لها‬ ‫من ناحية‪� ،‬إذ نجد (�سمير) ال�شاب اليمني‪،‬‬ ‫تكيفت معه‪� ،‬أو قاومته‪� ،‬أو تغ ّلبت‬ ‫الثقافي‪� ،‬أو ّ‬
‫�أمنيتين‪ ،‬الأولى �أن ت�سير و�سط العامة وتختلط‬ ‫الذي يعمل م�شرف ًا على الم�ستخدمين في ق�صر‬ ‫عليه منذ بداية الكولونيالية‪� .‬أم��ا التعريف‬
‫بهم‪ ،‬وتعرق مثلهم‪ ،‬وت�شم رائحة عرقهم‪ ،‬الثانية‬ ‫تاجر فرن�سي عجوز‪ ،‬منبهراً بح�ضارة الغرب‪،‬‬
‫�أن تح�ضر عر�سا عدني ًا تحتفظ منه بروائح‬ ‫ومعجب ًا بما فعله الإنجليز في مدينة عدن‪،‬‬
‫العدنيين تحت جلدها‪ ،‬حتى تبدو وك�أنها تحمل‬ ‫حولوها �إلى (قطعة من الجنة) ح�سب‬ ‫وكيف ّ‬
‫عدن معها‪ .‬وتح�ضر بالفعل العر�س وترق�ص‬ ‫تعبيره خا�ص ًة �أنه قادم من مناطق ال�شمال‬
‫على دق��ات الطبول‪ ،‬وتملأ روحها بم�شاهد‬ ‫التي كانت متخلفة في ذلك الوقت‪ ،‬لكننا نجد‬
‫ووجوه اليمنيين وروائحهم في عمق روحها‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا �شخ�صيات تناه�ض اال�ستعمار‪ ،‬وتقاومه‪،‬‬
‫ويبرز زين �أن عدن كانت ملتقى للح�ضارات‬ ‫مثل‪(:‬نجيب)‪ ،‬الذي يحلم �أحالم ًا كبيرة‪ ،‬متطلع ًا‬
‫والقوافل‪ ،‬ال ملتقى للبواخر فقط‪ ،‬يق�صدها‬ ‫�إلى �إلغاء الطبقية وطرد المحتل‪ ،‬و�أي�ض ًا (�سعاد)‬
‫التجار من مختلف الأرج��اء‪ ،‬يمرون بها وقد‬ ‫التي يحبها (�سمير) وتن�ش�أ بينهما نقا�شات‬
‫يختارونها مقام ًا م�ؤقت ًا �أو دائم ًا‪ ،‬ويتعلقون‬ ‫ح��ادة ح��ول ه��ذا المو�ضوع‪ ،‬كما نجد على‬
‫بها ب��رغ��م طبيعتها القا�سية‪ ،‬وه��ي تمتاز‬ ‫الجانب الآخر �أن الم�ستعمر قد ي�شغف بالمدن‬
‫بقدرتها على تكييف زائريها تبع ًا لمزاجها‬ ‫التي ا�ستعمرها‪ ،‬ف�شخ�صية (�آيري�س) الإنجليزية‬
‫ال�صحراوي وموقعها اال�ستثنائي الفريد‪ ،‬فتظل‬ ‫المتعلقة بعدن و�أهلها‪ ،‬والتي تكره تعا ِلي قومها‬
‫الملت َقى المبتغى والمن�شود‪ ،‬وواحة من التعاي�ش‬ ‫على ال�سكان المحليين‪ ،‬تكتب عن حياتهم في‬
‫في محيط من ال�صراعات والحروب الم�شتعلة‪.‬‬ ‫مدينتهم التي يعاملون فيها كغرباء‪ ،‬وي�صدمها‬
‫�إن��ه خطاب ما بعد كولونيالي بامتياز‬ ‫موقف (�سمير) و�إعجابه بهم‪.‬‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪140‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫وليد عثمان ير�صد تاريخ م�صر المعا�صر‬ ‫يفكك ثقافة الم�ستعمر التي حاول فر�ضها على‬
‫ال�شعوب التي قام با�ستعمارها‪ ،‬يدينها �أحيان ًا‪،‬‬

‫في روايته (جمر)‬ ‫ويتقبلها �أحيان ًا �أخ ��رى‪ ،‬من خ�لال مواقف‬
‫ال�شخ�صيات المختلفة‪� :‬سمير و�آير�س ونجيب‬
‫وقا�سم وغيرهم‪.‬‬
‫���ص��درت حديث ًا‬ ‫جاء عنوان الرواية (�ستيمر بوينت) كا�شف ًا‪،‬‬
‫ل��ل��ك��ات��ب الم�صري‬ ‫حيث يو�ضح �أ�سباب الت�سمية‪ ،‬فهو ا�سم كان‬
‫وليد عثمان‪ ،‬رواية‬ ‫يطلق على ال��ح��ي الأورب����ي ف��ي ع��دن خالل‬
‫(ج����م����ر) ع����ن دار‬
‫حقبة اال�ستعمار‪ ،‬ويعني (نقطة التقاء القوافل‬
‫�صف�صافة للن�شر‬
‫�أو ملتقى ال�سفن)‪ .‬وق��د مثل العنوان ببنيته‬
‫وال��ت��وزي��ع‪ .‬ال��رواي��ة‬
‫اللغوية الإنجليزية ك�شف ًا للخطاب الكولونيالي‬
‫ج�����اءت ف���ي ‪252‬‬
‫�صفحة‪ ،‬من القطع‬
‫زمزم ال�سيد‬ ‫ال��ذي ح��اول فر�ض هيمنة �سلطات االحتالل‬
‫المتو�سط‪ .‬وق��د ت�ضمنت ال��رواي��ة الأول ��ى‬ ‫الإنجليزي‪ ،‬ولم تكن الهيمنة هيمنة �سيا�سية‬
‫لعثمان‪ ،‬عدة ثنائيات متناق�ضة‪ ،‬مثل‪ :‬الريف‬ ‫فقط‪ ،‬بل كانت هيمنة ثقافية ب�أن تحل المفردة‬
‫والمدينة‪ ،‬الحب والخذالن‪ ،‬الحب والخيبة‪..‬‬ ‫الأجنبية محل المفردة العربية التي هي ابنة‬
‫فهي مقطع من �سيرة جيل جزء منه �ضاع‪،‬‬ ‫الثقافة الأم لليمن‪.‬‬
‫وليد عثمان‬
‫و�آخر تبددت �أحالمه‪ ،‬حتى العاطفية منها‪،‬‬ ‫ثمة خطان دراميان في الن�ص‪ ،‬الخط الأول‬
‫على كل فرد �أن ي�ؤ�س�س منظومته القيمية‬ ‫نتيجة تحالفات غير م�شروعة وغياب الأمل‬ ‫هو ال�سردية التي تجمع كل من �سمير والتاجر‬
‫الخا�صة‪ ،‬و�سط �صراعات يومية تفتقد الحد‬ ‫و�ضياع البو�صلة‪.‬‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬وتدور �أحداثه قبيل رحيل الم�ستعمر‬
‫الأدنى من المبادئ‪.‬‬ ‫ا�ستغرقت كتابة ال��رواي��ة ما يقرب من‬ ‫في (‪ 28‬نوفمبر عام ‪1967‬م)‪ .‬والخط الدرامي‬
‫ويقودنا بطل الرواية الرئي�س في رحلة‬ ‫(‪� )4‬سنوات‪ ،‬ر�صد فيها الم�ؤلف من كوالي�س‬ ‫الثاني هو الفال�ش باك الذي يجمع ال�شخ�صيات‬
‫من قريته �إلى قنوات التلفزيون بالعا�صمة‪،‬‬ ‫الإعالم‪ ،‬وتاريخ م�صر المعا�صر؛ عن ال�سنوات‬ ‫الأورب���ي���ة وال��ي��ه��ودي��ة ال��ت��ي �سكنت ع��دن‬
‫وير�سم لنا بري�شة ح��ادة كالم�شرط‪ ،‬كيف‬ ‫ال�ساخنة التي م��رت بها م�صر والمنطقة‬ ‫وت�صارعت على �أر�ضها‪ ،‬حيث يعود الكاتب عبر‬
‫ت�أكل ماكينة الف�ساد �أرواح و�أج�ساد جيله‪.‬‬ ‫العربية‪� ،‬إال �أن (جمر) لي�ست رواية �سيا�سية‪،‬‬ ‫الفال�ش باك �إلى فترة الأربعينيات من القرن‬
‫وتم�ضي �أح��داث الرواية بين رهانات كلها‬ ‫بل هي رواية عن الأمل والألم؛ وعن تطلعات‬ ‫الما�ضي كما �أ�سفلنا بغر�ض ت�صوير المقاومة‬
‫خائبة‪ ،‬وم�صائر �شتى �صادمة‪ ،‬والأح��داث‬ ‫جيل نحو م�ستقبل �أف�ضل‪ ،‬وخيبات نف�س‬ ‫اليمنية �ضد الم�ستعمر‪ ،‬والدور الذي قامت به‬
‫تلتقي ف��ي �أك��ث��ر م��ن منعطف ن��ه��اي��ات ال‬ ‫الجيل‪ ،‬بعد ا�صطدامه بواقع تحكمه الأكاذيب‪.‬‬ ‫في مقاومة الإنجليز‪ .‬كما تتعدد الأ�صوات في‬
‫تت�شابه �إال في ب�ؤ�سها‪.‬‬ ‫يت�صدر الرواية ثالثة �شبان تفتح وعيهم‬ ‫الرواية بتعدد وجهات النظر وزواي��ا الر�ؤية‪،‬‬
‫الخيبات في (جمر)‪ ،‬و�إن بدت فردية‪،‬‬ ‫في بداية الت�سعينيات من القرن الما�ضي‪ ،‬تلك‬ ‫فثمة �أ�صوات �سردية تتناوب ال�سرد‪� ،‬سواء �صوت‬
‫محيط �أكبر تحترق‬ ‫ٍ‬ ‫تلخ�ص مرحلة ما من‬ ‫الفترة الحرجة من تاريخ المنطقة العربية‬ ‫العجوز الفرن�سي الذي يرى �أن عدن باعته بعد‬
‫فيه �أحالم وت�ضيق الجغرافيا‪ ،‬على ات�ساعها‪،‬‬ ‫�إب��ان غزو العراق وانهيار منظومة كاملة‬ ‫كل ما قدم لها‪� ،‬أو �صوت �سمير الواقع في هوى‬
‫ب�أهلها‪ ،‬في�سكنون غربة �أبدية‪.‬‬ ‫من الأفكار والقيم‪ ،‬التي تربت عليها �أجيال‬ ‫المحتل‪� ،‬أو نجيب الذي ينت�صر للمقاومة‪.‬‬
‫وقد �أجاد وليد عثمان‪ ،‬في لغة �شائقة‪،‬‬ ‫بديل‪ ،‬فكان‬‫�سابقة‪ ،‬دون �أن يقدم لهم الواقع ً‬ ‫�أفاد الكاتب فيها من البنية الدائرية‪ ،‬حيث‬
‫و�صف الريف الم�صري بكل تفا�صيله‪ ،‬خا�صة‬ ‫تبد�أ الرواية وتنتهي بلحظة زمنية واحدة هي‬
‫منطقة الدلتا في �شمالي م�صر‪ ،‬ذلك الريف‬ ‫ال�ساعات التي �سبقت اال�ستقالل‪ ،‬فقد ب��د�أت‬
‫الذي ن�ش�أ فيه عثمان‪ ،‬وخرج منه �إلى المدينة‬ ‫الرواية ب�سردية تجمع �سمير والتاجر الفرن�سي‬
‫(القاهرة)‪ .‬ونالحظ من خالل ت�سل�سل �أحداث‬
‫والعالقة بينهما‪ ،‬وتنتهي بذات اللحظة‪ ،‬وما‬
‫الرواية‪� ،‬أن لغة الن�ص وا�ضحة غير معقدة‪،‬‬
‫بينهما رجوع بالزمن؛ مما ي�شير �إلى الخبرة‬
‫وهذا يدل على �أن الم�ؤلف يمتاز بامتالكه‬
‫الجمالية التي و�ضحت في الت�شكيل الجمالي‬
‫بنية لغوية متعددة الطبقات‪ ،‬تمنح القارئ‬
‫دالالت ثنائية‪ ،‬لت�شكل عوالم �شفيفة من‬ ‫لل�سرد وبناء ال�شخ�صيات‪ ،‬كذلك كانت اللغة في‬
‫المعاني والدالالت التي ب�سطها ال�سارد هنا‬ ‫الن�ص م�شهدية ا�ستفادت من فنيات الت�شكيل‬
‫وهناك‪ ،‬لتبدو جلية ت��ارة‪ ،‬ومتوارية تارة‬ ‫ال�سردي‪ ،‬والحوار جاء مكثف ًا كا�شف ًا لدواخل‬
‫�أخ��رى‪ .‬وي�شار �إل��ى �أن وليد عثمان‪ ،‬كاتب‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬ت�صور الرواية لحظة المواجهة مع‬
‫و�صحافي م�صري‪ ،‬يعمل حالي ًا رئي�س ًا لق�سم‬ ‫الذات‪ ،‬والمرحلة التي ُت�ش ِّكل عالمة فارقة في‬
‫المنوعات في جريدة الخليج الإماراتية‪،‬‬ ‫تاريخ اليمن بين اال�ستعمار واال�ستقالل‪ ،‬وبين‬
‫وحا�صل على بكالوريو�س �إع�لام جامعة‬ ‫التحرر من �سطوة الم�ستعمر والبحث عن الذات‬
‫ال��ق��اه��رة (‪1993‬م)‪ ،‬وع��م��ل ف��ي ال�صحف‬ ‫في بحر من ال�صراعات والتناق�ضات‪ ،‬وواجب‬
‫الم�صرية والعربية نحو (‪ )30‬عام ًا‪.‬‬ ‫البدء ببناء ال�شخ�صية العدنية الم�ستقلة‪.‬‬

‫‪141‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫علم النف�س والثقافة‬


‫د‪ .‬ممدوح مختار‬

‫قبو ًال بين مختلف فئات المثقفين ورجال‬ ‫التخوف من الت�أثير الثقافي الطاغي من‬ ‫يعتبر مو�ضوع الهوية الثقافية‪ ،‬من‬
‫العلم حول العالم‪ ،‬حيث يعرف الثقافة على‬ ‫الخارج‪ ،‬هو الذي �أدى �إلى ظهور تعبيرات‬ ‫�أكثر المو�ضوعات �إثارة للقلق والجدل‪ ،‬في‬
‫�أنها‪ :‬هي ذل��ك الكل المركب ال��ذي ي�شمل‬ ‫مثل (الغزو الثقافي) ال��ذي � ّأدى بالتالي‬ ‫معظم مجتمعات العالم في الوقت الراهن‪،‬‬
‫المعرفة والفن والأدب والأخالق والتعاون‬ ‫�إل��ى ظهور نزعات االنطواء الثقافي على‬ ‫نظراً لما تتعر�ض له الثقافات الفرعية‬
‫والعرف وكل المقدرات والعادات الأخرى‪،‬‬ ‫الذات كو�سيلة نف�سية للمحافظة على الهوية‬ ‫المحلية المختلفة م��ن ع��وام��ل الت�أثير‬
‫التي يكت�سبها الإن�سان من حيث هو ع�ضو‬ ‫الثقافية‪ ،‬وهذا ما حدا ببع�ض المثقفين �إلى‬ ‫والتغيير والتبديل‪ ،‬ب��ل وم�سح المالمح‬
‫في مجتمع‪.‬‬ ‫�ضرورة تناول المو�ضوع برمته‪ ،‬بقدر من‬ ‫الأ�سا�سية المميزة نتيجة ازدياد االت�صال‬
‫وقد ن�شط علم النف�س خالل الفترة ما‬ ‫العلمية الم�ستندة �إلى حقائق مناهج البحث‬ ‫والتبادل الناجمين عن الثورة الإلكترونية‬
‫بين الحربين العالميين الأول��ى والثانية‬ ‫في العلوم الإن�سانية واالجتماعية‪.‬‬ ‫والتكنولوجية الحديثة‪ ،‬وما ترتب عليها‬
‫وب���د�أت‪ ،‬معظم �إن ل��م يكن ك��ل جامعات‬ ‫وتدل القراءات التاريخية‪� ،‬أنه لم يختلف‬ ‫من تدفق المعلومات‪ ،‬واختفاء الفوا�صل‬
‫�أوروب ��ا و�أمريكا وبع�ض ال��دول العربية‪،‬‬ ‫علماء الأنثروبولوجيا حول م�صطلح من‬ ‫وال��ح��دود بين ال�شعوب والمجتمعات‪،‬‬
‫تهتم بالدرا�سة النف�سية و�أثرها في ال�سلوك‬ ‫الم�صطلحات قدر اختالفهم حول مفهوم‬ ‫وبالتالي الثقافات‪ ،‬وهيمنة الثقافات‪ ،‬التي‬
‫الثقافي‪� ،‬إلى �أن �أ�صدرت الجمعية الأمريكية‬ ‫الثقافة‪ ،‬فعلى الرغم من �شيوع الم�صطلح في‬ ‫تملك من و�سائل االنت�شار التي ت�ساعدها‬
‫لعلم النف�س (‪1965‬م) ن�شرة تو�ضح فيها‬ ‫الكتابات ال�سو�سيولوجية والأنثروبولوجية‬ ‫على ال�سيطرة على الثقافات‪ ،‬التي ال ي�ؤهلها‬
‫�أنها ب�صدد دعوة علماء النف�س �إلى تخ�ص�ص‬ ‫وال�سيكولوجية‪ ،‬وتداوله بكثرة في الحياة‬ ‫و�ضعها ال�سيا�سي واالقت�صادي والعلمي‬
‫جديد هو علم النف�س الثقافي‪ ،‬ومن ثم جاءت‬ ‫اليومية ف�إن كثيراً من الغمو�ض والإبهام‬ ‫المتالك الأ�ساليب والو�سائل التكنولوجية‬
‫م�ساهمات جمعية علم النف�س الم�صرية‬ ‫اليزال يحيط به‪� ،‬إلى �أن جاء كل من (كروبر‬ ‫ال��م��ع��ق��دة‪ ،‬ال��ت��ي تكفل ل��ه��ا ال��ق��درة على‬
‫(‪1967‬م) في هذا االتجاه لتعلن عن علم‬ ‫وكلكهوهن) الأمريكيين في درا�سة نقدية‬ ‫الت�صدي لهذه الم�ؤثرات الخارجية‪ ،‬ف�ض ًال‬
‫جديد ي�سمى علم النف�س الثقافي‪ ،‬و�أعطيت‬ ‫(‪1952‬م)‪ ،‬ليعلنا �أن هناك ما ال يقل عن‬ ‫عن مناو�أتها و�إبطال فاعليتها واالحتفاظ‬
‫المنح الدرا�سية من الجامعات الوطنية‬ ‫مئة وخم�سين تعريف ًا مختلف ًا للثقافة‪ ،‬ولي�س‬ ‫بالتالي بهذه المالمح والمقومات الأ�صلية‪،‬‬
‫للتخ�ص�ص في هذا الميدان الجديد‪ ،‬الذي‬ ‫من �شك في �أن هذا الرقم قد ت�ضاعف عدة‬ ‫التي تميزها عن غيرها من الثقافات‪.‬‬
‫هو ثمرة التعاون بين ق�سمي علم النف�س‬ ‫مرات منذ ذلك الحين نظراً الت�ساع مجاالت‬ ‫ولي�س ثمة م��ا يمنع بطبيعة الحال‬
‫والأنثروبولوجيا الثقافية االجتماعية في‬ ‫ا�ستخدام المفهوم وتنوعها وكثرة الكتابات‬ ‫م��ن ات�صال الثقافات بع�ضها ببع�ض‪،‬‬
‫معظم الجامعات الم�صرية‪.‬‬ ‫والدرا�سات والبحوث‪� ،‬إال �أننا وجدنا �أن‬ ‫ومن اال�ستعارات المتبادلة بين الثقافات‬
‫وف��ي البداية الب��د م��ن التركيز‪ ،‬على‬ ‫هناك تعريف ًا قدمه عالم الأنثروبولوجيا‬ ‫المختلفة‪ ،‬ولكن الخوف كل الخوف من‬
‫�أن هناك ع��دة ف��روق بين م�صطلحي علم‬ ‫البريطاني (‪1913‬م) ال�شهير (�سيراد وارد‬ ‫عر�ض �أ�ساليب ونزعات الهيمنة التي ترمي‬
‫النف�س الثقافي‪ ،‬وعلم النف�س عبر الثقافة‪،‬‬ ‫تايلور) في كتابه (الثقافة البدائية) يمكن‬ ‫عمداً �إل��ى م�سخ وت�شويه معالم الثقافات‬
‫ويجدر بنا قبل الولوج في بيان �أوجه ال�شبه‬ ‫اعتباره التعريف الأكثر انت�شاراً والأكثر‬ ‫الأخ��رى �أو الق�ضاء عليها �إن �أمكن‪ ،‬وهذا‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪142‬‬


‫علوم‬

‫بين جانبين‪� ،‬أو حتى بين نوعين من الثقافة‬ ‫واالختالف بين الم�صطلحين �أن نقوم بتعريف‬
‫هما‪ :‬الثقافة المادية والثقافة الالمادية‪،‬‬ ‫كل منهما على حدة‪ ،‬فيعرف علم النف�س الثقافي‬
‫فالمادية هي كل ما ي�صنعه المرء في حياته‬ ‫على �أنه‪ :‬مجال علم النف�س‪ ،‬الذي يفتر�ض فكرة‬
‫يعود الف�ضل �إلى‬ ‫العامة وم��ا ينتجه من �أ�شياء (�سلع) ثقافة‬ ‫�أن الثقافة والعقل ال ينف�صالن‪ ،‬و�أن��ه ربما‬
‫مح�سو�سة ملمو�سة‪ ،‬وما يح�صل عليه عن طريق‬ ‫تكون النظريات النف�سية المت�أ�صلة في الثقافة‬
‫(�إدوارد تايلور) في‬ ‫ا�ستخدام الفنون التكنولوجية‪� ،‬أما الالمادية‬ ‫واحدة محددة في قابليتها للتطبيق وذلك عند‬
‫تعريف الثقافة بما‬ ‫فهي عبارة عن المظاهر ال�سلوكية‪ ،‬من عادات‬ ‫تطبيقها على ثقافة مختلفة‪� .‬أما علم النف�س‬
‫ت�شمله من معرفة‬ ‫وتقاليد‪ ،‬وم��ا يكمن وراءه ��ا من مثل وقيم‬ ‫بين الثقافات �أو عبر الثقافات‪ ،‬فهو العلم الذي‬
‫و�أفكار ومعتقدات وطقو�س و�شعائر و�أ�ساطير‪.‬‬ ‫ي�ستخدم الثقافة ب�شكل عام كو�سيلة الختبار‬
‫وفن و�أدب وعرف‬ ‫ولي�س ثمة ما يدعو �إلى الحديث �أكثر من ذلك‬ ‫عالمية العمليات النف�سية (كالإدراك وال�شعور‬
‫وعادات‬ ‫عن مفهوم الثقافة‪ ،‬فالذي يهمنا من هذا كله‪،‬‬ ‫والمعرفة والعاطفة وت��ك��وي��ن االت��ج��اه��ات‬
‫هو �أن لكل ثقافة من الثقافات (خ�صو�صية)‬ ‫وال�سلوك)‪.‬‬
‫معينة تمثل في المعوقات والخوا�ص الذاتية‪،‬‬ ‫�إذاً �أهم �أوجه االختالف بين م�صطلح علم‬
‫التي تميزها عن غيرها من الثقافات وهذه‬ ‫النف�س الثقافي وعلم النف�س عبر الثقافات‪،‬‬
‫المقومات هي التي تجعلنا نتكلم عن الثقافة‬ ‫�أن الأول ي�سعى �إل��ى تحديد كيفية ت�شكيل‬
‫العربية (ك�شيء) متميز عن الثقافة الفرن�سية‬ ‫الممار�سات الثقافية المحلية للعمليات‬
‫مث ًال �أو الثقافة الهندية‪� ،‬أو ما �إلى ذلك‪ ،‬ولكن‬ ‫النف�سية‪ ،‬ف��ي حين ي��ه��دف علم نف�س عبر‬
‫بين الحربين الأولى‬ ‫ه��ذه الخ�صو�صية الثقافية‪ ،‬ال تمنع من �أن‬ ‫الثقافات �إل��ى �أن ي�ؤ�س�س لعلم نف�س يعبر‬
‫والثانية ن�شط علم‬ ‫يكون لكل ثقافة جانب �إن�ساني عام لأن وظيفة‬ ‫الثقافات الفرعية المحلية ليكون وعي ًا و�ضميراً‬
‫الثقافة ‪� -‬أي ثقافة ‪ -‬هي في �آخر الأمر وظيفة‬ ‫عالمي ًا‪ ،‬تجاه الحدث الثقافي‪ ،‬وهذا ما يمكن‬
‫النف�س في درا�سة‬ ‫ان�سانية عامة‪ ،‬وهذا ما يت�ضمنه بطبيعة الحال‬ ‫�أن ن�سميه بالم�صطلحات الجديدة (عولمة‬
‫النف�سية و�أثرها في‬ ‫علم النف�س عبر الثقافات‪ ،‬هذه الخ�صو�صة هي‬ ‫الثقافة)‪ ،‬والتي تهدف �أي�ض ًا �إلى تجريد التجربة‬
‫ال�سلوك الثقافي‬ ‫المعيار الحقيقي لما ن�سميه بالأ�صالة‪ ،‬وهي‬ ‫الثقافية المحلية بكل خ�صو�صيتها لتعبر �إلى‬
‫�أحد متطلبات الإب��داع‪ ،‬كما �أنها هي العامل‬ ‫العالمية‪� ،‬أي االنتقال من المحلي المح�ض �إلى‬
‫الأ�سا�سي في تحديد الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫�آفاق العالمية غير محددة المعالم والهوية‪.‬‬
‫ومثال على ذل��ك �أن اللغة من مقومات‬ ‫و�إذا ماعدنا �إلى تعريف الثقافة لـ (تايلور)‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬لي�س من حيث �إن لها بناءها‬ ‫نجد �أن��ه مع ب�ساطة تعريفه للثقافة �إال �أننا‬
‫وقواعدها ومفرداتها الخا�صة فقط‪ ،‬بل من‬ ‫ن�ستخل�ص منه عدداً من الأمور المهمة‪ :‬الأمر‬
‫حيث هي عامل تما�سك ووح��دة وتوحيد بين‬ ‫الأول هو �أن الثقافة (كل مركب) يت�ألف من‬
‫مختلف الأفكار وال�شعوب‪ ،‬التي تنطق بهذه‬ ‫عدد من المكونات التي قد تختلف في طبيعتها‬
‫�أعلن عام (‪١٩٦٥‬م)‬ ‫اللغة وتتخذها �أداة للتفكير والتعبير وو�سيلة‬ ‫ولكنها تندمج كلها مع ًا في وح��دة ع�ضوية‬
‫للتوا�صل ونقل الأفكار‪ ،‬فاللغة العربية تعتبر‬ ‫متما�سكة ومتكاملة‪ .‬والأم��ر الثاني‪ :‬هو �أن‬
‫عن علم جديد‬ ‫على هذا الأ�سا�س �أداة للفهم والتفهم والتقارب‬ ‫الثقافة �أو�سع و�أ�شمل من مجرد الإنتاج �أو‬
‫ي�سمى علم النف�س‬ ‫بين �شعوب الوطن العربي‪ ،‬على ات�ساعه وعلى‬ ‫الإب ��داع ال��ذي يتمثل في (العلوم والمعارف‬
‫الثقافي الذي يختلف‬ ‫تنوع ه��ذه ال�شعوب واختالفها ف��ي الأ�صل‬ ‫وال��ف��ن��ون والآداب) ال��ت��ي ت ��ؤل��ف ح�سب هذا‬
‫ال�ساللي �أو العرقي‪ ،‬وفي اللون وفي التنظيم‬ ‫التعريف مجرد جزء من الثقافة‪ .‬بينما الأمر‬
‫عن علم النف�س عبر‬ ‫االجتماعي واالقت�صادي وال�سيا�سي‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬هو تمايز الثقافة وا�ستقاللها عن‬
‫الثقافة‬ ‫وهو ما ي�ؤكد �أن علم النف�س الثقافي يعد‬ ‫الأف���راد ال��ذي��ن يحملونها ويمار�سونها في‬
‫علم ًا واع ��داً ول��ه ا�ستراتيجيته‪ ،‬التي يمكن‬ ‫حياتهم اليومية‪ ،‬فعنا�صر الثقافة ومكوناتها‬
‫�أن تنهل منها الثقافة العربية‪ ،‬لتر�سم �أفق‬ ‫كلها �أمور يكت�سبها االن�سان بالتعليم والتعلم‪،‬‬
‫الم�ستقبل يكون قادراً على مواجهة التحديات‪،‬‬ ‫ومن خالل عمليات التن�شئة االجتماعية من‬
‫و�إع�لاء قيم المجتمع ورفع م�ستويات �إدراكه‬ ‫المجتمع الذي يعي�ش فيه‪.‬‬
‫العام‪.‬‬ ‫والأمر الرابع‪ :‬هو �إمكان التميز في الثقافة‬

‫‪143‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءات‬

‫توظيف ال�سرد‬
‫في ال�شعر الإماراتي المعا�صر‬
‫يكتف بتوظيف عنا�صر البنية ال�شعرية في‬ ‫ِ‬ ‫وفيه مبحثان‪ ،‬الأول بعنوان‪( :‬تجليات ال�سرد‬ ‫(ت��وظ��ي��ف ال�سرد‬
‫خطابه؛ بل فتح الباب م�شرع ًا ال�ستثمار عنا�صر‬ ‫م��ن خ�لال الت�صوير وال ��ح ��وار)‪ ،‬حيث ظهر‬ ‫في ال�شعر الإم��ارات��ي‬
‫ال�سرد في ذلك الخطاب؛ لخلق دالالت �أعمق‪،‬‬ ‫الت�صوير جلي ًا في ال�شعر الإم��ارات��ي متمث ًال‬ ‫�اب‬
‫ال��م��ع��ا���ص��ر)‪ ،‬ك��ت� ٌ‬
‫وقد بينت �أوج��ه هذا التفاعل في �شعر مانع‬ ‫في ت�صوير ال�شخ�صيات والمكان‪ ،‬وح��اول‬ ‫����ص���ادر ع���ن دائ����رة‬
‫ٌ‬
‫�سعيد العتيبة‪ ،‬و�سلطان العوي�س‪ ،‬وغيرهما‪...‬‬ ‫ال�شاعر الإماراتي ت�صوير ال�شخ�صية من خالل‬ ‫الثقافة بال�شارقة‪،‬‬
‫وتو�صلت الباحثة �إلى �أن ال�شعر العمودي‬ ‫الت�صوير التج�سيدي‪ ،‬والتجريدي‪ ،‬كما فعل‬ ‫�ضمن �سل�سلة ر�سائل‬
‫القائم على ال�سرد ك��ان ل��ه بالغ الأث ��ر في‬ ‫ال�شاعر كريم معتوق‪ ،‬كما ُوظفت ال�صورة‬ ‫ج��ام��ع��ي��ة‪ ،‬للباحثة‬ ‫�أبرار الأغا‬
‫ا�ستكمال الم�ستوى الداللي وال�سردي‪ ،‬كما‬ ‫المكانية في ال�شعر الإماراتي لتكون جمالية‪،‬‬ ‫د‪� .‬سعاد را�شد �أحمد؛ �إذ‬
‫وظف ال�شاعر الإماراتي ال��وزن والقافية في‬ ‫�أو ت�أويلية‪� ،‬أو تخييلية‪ ،‬وا�س ُتخدم كذلك الحوار‬ ‫ت�سعى من خالله �إلى معالجة �إ�شكالية التفاعل‬
‫�شعر التفعيلة‪� ،‬إلى جانب التدوير والت�ضمين‬ ‫الخارجي والداخلي كما ظهر في �شعر �إبراهيم‬ ‫والتالقي بين ال�سرد وال�شعر في الخطاب‬
‫والوقفة ال�ستكمال بنية الخطاب ال�سردية‬ ‫محمد �إب��راه��ي��م‪� .‬أم��ا المبحث الثاني فكان‬ ‫ال�شعري الإم��ارات��ي المعا�صر‪ ،‬خالل الفترة‬
‫والداللية‪ ،‬كذلك �سجلت ق�صيدة النثر ح�ضوراً‬ ‫بعنوان‪�( :‬أنواع ال�سرد من حيث ح�ضور الراوي)‪،‬‬ ‫الزمنية الممتدة من (‪ 1980‬وحتى‪2015‬م)‪،‬‬
‫في مجال الكتابة ال�سردية‪ ،‬وقد بدا ال�سرد في‬ ‫وقد تمظهر ح�ضور الرواي في الخطاب ال�شعري‬ ‫تلك الفترة التي �شهدت تحو ًال وت��ط��وراً في‬
‫ق�صيدة النثر طوي ًال مقارنة بق�صيدة التفعيلة‬ ‫الإماراتي ب�أ�شكال عدة‪ ،‬منها‪ :‬الراوي العليم‪،‬‬ ‫الحركة ال�شعرية الإماراتية‪ ،‬وذلك بدرا�سة عينة‬
‫التي يرد فيها ال�سرد متو�سط الطول‪ ،‬وقد تباين‬ ‫والم�شارك‪ ،‬فوظف كريم معتوق �ضميري‬ ‫من ال�شعر العمودي‪ ،‬والتفعيلة‪ ،‬وق�صيدة النثر‪.‬‬
‫ال�شعراء في توظيف ال�شعر العمودي لل�سرد �إما‬ ‫المتكلم والغائب في خطابه‪.‬‬ ‫اقترن توظيف ال�سرد في الخطاب ال�شعري‬
‫لتخليد موقف ما‪ ،‬و�إما لمحاكاة الواقع‪� ،‬أما‬ ‫�أم��ا الف�صل الثاني‪ ،‬فجاء بعنوان‪�( :‬أث��ر‬ ‫بالأ�ساليب الفنية التجديدية؛ وما �صاحبه‬
‫�شعر التفعيلة فقد وظف ال�سرد لت�سجيل ر�ؤى‬ ‫اللغة ال�شعرية في ال�سرد)‪ ،‬وفيه مبحثان‪،‬‬ ‫من ان�صهار الحدود بين الأجنا�س الأدبية؛‬
‫ال�شاعر وعالقته بالعالم من حوله‪ ،‬بينما‬ ‫الأول‪�( :‬أ�شكال البناء التراكيبي للعبارات‬ ‫لت�صبح ال�صورة ال�سردية �شك ًال من �أ�شكال‬
‫لم يكن وا�ضح ًا في ق�صيدة النثر؛ العتماد‬ ‫ال�شعرية)‪ ،‬والثاني‪( :‬التنا�ص)‪ ،‬وت�ؤكد الباحثة‬ ‫الخطاب ال�شعري‪ .‬وقد ت�أثر ال�شاعر الإماراتي‬
‫�شعرائها على الغمو�ض‪.‬‬ ‫�أن ال�شاعر الإماراتي جعل من تركيب العبارة‬ ‫بتيار الحداثة‪ ،‬وا�ستطاع خو�ض غماره‪ .‬وترى‬
‫وجاء الف�صل الرابع والأخير بعنوان‪�( :‬أثر‬ ‫ال�شعرية وتنوعها بين ا�سمية وفعلية وظرفية‬ ‫الباحثة �أن ال�شاعر الإماراتي المعا�صر ا�ستطاع‬
‫ال�صورة ال�شعرية في ال�سرد)‪ ،‬وقد �ألقت الباحثة‬ ‫حق ًال لتوليف �شعره‪ ،‬م�شير ًة �إلى �أن الأ�سلوب‬ ‫�أن يخلق لخطابه بالغة �شعرية جديدة عبر‬
‫ال�ضوء في هذا الف�صل على التفاعل بين ال�سرد‬ ‫الطلبي يعد من ال�صيغ البالغية التي �أغنت‬ ‫ا�ستثمار �أ�ساليب فنية جديدة كال�سرد‪ ،‬ف�أخرجت‬
‫وال�صورة ال�شعرية‪ ،‬من خالل مبحثين‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫�شعرية الن�ص‪ ،‬كما لم يغفل ال�شاعر الإماراتي‬ ‫ال�شعر من �سيطرة الطابع الغنائي‪.‬‬
‫(�أثر ال�صورة الجزئية في ال�سرد)‪ ،‬و(�أثر ال�صورة‬ ‫عن توظيف �آلية التنا�ص في عبارته ال�شعرية؛‬ ‫جاء الف�صل الأول‪ ،‬بعنوان‪( :‬تجليات ال�سرد‬
‫الكلية في ال�سرد)‪� ،‬إذ تعد ال�صورة من �أهم‬ ‫لإث��راء نتاجه وتحقيق التفاعل الخالق بين‬ ‫و�أن��واع��ه في الخطاب ال�شعري الإم��ارات��ي)‪،‬‬
‫الأدوات ال�شعرية التي ي�ستخدمها ال�شاعر في‬ ‫الما�ضي والحا�ضر‪ ،‬حيث كان القر�آن الكريم‪،‬‬
‫ت�شكيل خطابه‪ ،‬و�إما تكون جزئية تعتمد على‬ ‫والحديث النبوي ال�شريف‪ ،‬وال�شعر من �أهم‬
‫الت�شبيه �أو اال�ستعارة �أو الكناية‪ ،‬و�إما �صورة‬ ‫م�صادر التنا�ص التي اعتمد عليها ال�شاعر‬
‫كلية ير�سم ال�شاعر من خاللها �صورة مركبة‪.‬‬ ‫الإماراتي‪.‬‬
‫وت��رى الباحثة �أن ال�شاعر الإم��ارات��ي‬ ‫بينما جاء الف�صل الثالث بعنوان‪�( :‬أثر‬
‫المعا�صر لج�أ �إلى التعبير عن تجاربه وحاالته‬ ‫الإيقاع في ال�سرد)‪ ،‬وفيه ثالثة مباحث‪ ،‬هي‪:‬‬
‫الفكرية بالغة التعقيد ب�أ�سلوب غير م�ألوف؛‬ ‫(�أثر �إيقاع ال�شعر العمودي في ال�سرد)‪ ،‬و(�أثر‬
‫مما حدا به �إلى توظيف ال�صورة الرمزية‪� ،‬سواء‬ ‫�إيقاع �شعر التفعيلة في ال�سرد)‪ ،‬و(�أث��ر �إيقاع‬
‫التراثية �أو اال�ستعارة الطبيعية‪ ،‬وذلك بخلق‬ ‫ق�صيدة التفعيلة في ال�سرد)‪ ،‬و�أجرت الباحثة‬
‫�صورة رمزية عميقة تحيل للواقع بالتلميح‪،‬‬ ‫مقاربة عبر الن�صو�ص ال�شعرية من خالل‬
‫وتفتح الخطاب على الكثير من الت�أويالت‪،‬‬ ‫ا�ستقراء عنا�صر الإيقاع الخارجي والداخلي‪،‬‬
‫في حين لم ي�ستفد ال�شاعر الإم��ارات��ي كثيراً‬ ‫و�أث��ر ال�سرد في ت�شكيل �إيقاع الخطاب‪ ،‬و�أثر‬
‫من ظاهرة ترا�سل الحوا�س في تعميق الأثر‬ ‫الإيقاع في حركة الخطاب و�إنتاج الداللة‪،‬‬
‫الجمالي والفني ل�صوره ال�شعرية‪.‬‬ ‫وت�شير الباحثة �إلى �أن ال�شاعر الإماراتي لم‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪144‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫�أحدث �إ�صدارات معهد �إفريقيا‪..‬‬


‫الدر�س الإفريقي‪ ..‬الم�سرح بين‬
‫الممار�سات المحلية والقالب الأوروبي‬
‫فهو من وجهة نظره (انعكا�س الحتياجات‬ ‫ا���س��ت��ه��ل معهد‬
‫مجتمعية وتعبير عنها)‪ .‬كما تناول الكتاب‬ ‫�إفريقيا في ال�شارقة‬
‫ابتداء من �إ�سهامات‬ ‫ً‬ ‫هذه الق�ضية ال�شائكة‬ ‫�سل�سلة كتابات �إفريقية‪ ،‬ب�إ�صدار كتيب‬
‫رواد مدر�سة (الزنوجة)‪ ،‬من خالل كتابات‬ ‫(الدر�س الإفريقي‪ ..‬الم�سرح بين الممار�سات‬
‫و�أعمال ال�شاعر المارتينيكي (�إيمي �سيزير)‪،‬‬ ‫المحلية وال��ق��ال��ب الأوروب�����ي) للباحث‬
‫وال�شاعر ال�سنغالي (ليو بولد �سيدار �سنغور)‪،‬‬ ‫والكاتب ال�سوداني د‪ .‬يو�سف عيدابي‪.‬‬
‫وتجاربهما في الم�سرح الإفريقي‪.‬‬ ‫وكتابات �إفريقية �سل�سلة تهدف �إلى‬
‫د‪ .‬يو�سف عيدابي‬ ‫وق��د ت��ط��رق ال��دك��ت��ور يو�سف عيدابي‬ ‫تعريف ال��ق��ارئ بالمجتمعات الإفريقية‬
‫لتجارب الم�سرح في الوطن العربي‪ ،‬وما‬ ‫على مدى القارة الأم‪ ،‬و�شتات �أهلها في كل‬
‫بوا�سطة مجموعة من الم�صوريين لم�شاهد‬ ‫�أ�صبح يعرف بم�سرح (العالم الثالث) في‬ ‫�أرجاء المعمورة‪ ،‬ب�سبب الهجرات ب�أنواعها‪،‬‬
‫من الم�سرحية الأوبرالية (بنتو واري‪� :‬أوبرا‬ ‫ال�ستينيات وال�سبعينيات من القرن الما�ضي‪،‬‬ ‫ي�صدرها معهد �إفريقيا وال��ذي يتخذ من‬
‫تم عر�ضها في �أم�ستردام‬ ‫ال�ساحل)‪ ،‬عندما ّ‬ ‫في �إطار محاولة بناء م�سرح وطني حداثي‬ ‫�إمارة ال�شارقة مقراً له‪ ،‬ويهدف �إلى التعريف‬
‫وب��اري�����س وب��ام��اك��و‪ ،‬وك��ان الغر�ض من‬ ‫ال�شكل والم�ضمون‪ ،‬في خ�ضم تناق�ضات ما‬ ‫ب�إفريقيا و�شعوبها‪ ،‬وتراثها االجتماعي‬
‫ت�ضمين ه��ذه ال�صور في الكتاب هو �أن‬ ‫بعد اال�ستقالل كف�صل الثقافات الإفريقية‬ ‫وال��ث��ق��اف��ي وال��ف��ك��ري‪ ،‬وم�ساهمتهم في‬
‫الم�سرحية تج�سيد للفكرة الأ�سا�سية‬ ‫الحديثة‪ ،‬عن الت�أثيرات الغربية �أ�صبح‬ ‫الح�ضارة الإن�سانية ب�شكل عام‪.‬‬
‫لدرا�سة عيدابي‪ ،‬كمثال لعمل يتداخل فيه‬ ‫م�ستحي ًال‪ ،‬نظراً النت�شار اللغات الأوروبية‬ ‫واب��ت��د�أ عيدابي درا�سته بقناعة تامة‬
‫الم�ضمون الإفريقي الذي هو الن�ص‪ ،‬مع‬ ‫في دول �إفريقيا والمهجر الإفريقي‪� ،‬أدى‬ ‫وهي �أن (الم�سرح لي�س خا�صية �أوروبية)‪،‬‬
‫القالب الأوروبي‪ ،‬وهو الأوبرا‪.‬‬ ‫�إل��ى ظهور طبقة وطنية من‬
‫ه��ذا الكتيب‪ ،‬هو ج��زء من ه� ّ�م ثقافي‪،‬‬ ‫المثقفين والأدباء والفنانين‬
‫حمله ع��ي��داب��ي ف��ي وج��دان��ه منذ بدايته‬ ‫تجاذبتهم هذه التناق�ضات‬
‫ككاتب م�سرحي وناقد �أدب��ي‪ ،‬ولقد كانت‬ ‫ال��ن��اب��ع��ة م��ن تلكم الحالة‬
‫ه��ذه الق�ضايا �ضمن م�شروعه الطليعي‬ ‫اال�ستثنائية‪.‬‬
‫ف��ي ال�����س��ودان م�سقط ر�أ���س��ه‪ ،‬قبل �سنوات‬ ‫جاء الكتيب الذي �صدر‬
‫من نزوحه واغترابه عن وطنه ال ّأم‪ ،‬وهو‬ ‫�أخ ��ي ��راً ف��ي (‪� )98‬صفحة‬
‫م�شروع بناء م�سرح �سوداني والذي �سماه‬ ‫م��ن ال��ق��ط��ع ال�����ص��غ��ي��ر‪ ،‬وق��د‬
‫(م�سرح لعموم �أهل ال�سودان) بكل تعددية‬ ‫ق�سم عيدابي درا���س��ت��ه �إل��ى‬
‫�أعراقهم وثقافاتهم‪.‬‬ ‫(‪ )6‬ف�����ص��ول‪ ،‬ت���ارك��� ًا في‬
‫ود‪ .‬يو�سف ع��ي��داب��ي‪ ،‬ه��و الم�ست�شار‬ ‫�أغ��ل��ب ال�صفحات هوام�ش‬
‫الثقافي بدارة �سلطان القا�سمي بال�شارقة‪،‬‬ ‫تو�ضيحية لبع�ض ال�شروحات‬
‫در����س ف��ي ال�����س��ودان وروم��ان��ي��ا‪ ،‬ون��ال‬ ‫ال��واردة في الدرا�سة‪ ،‬ذاك��راً‬
‫درجة الدكتوراه في الدرا�سات الم�سرحية‬ ‫الم�صادر وال��م��راج��ع التي‬
‫وال�سينمائية المقارنة‪ ،‬و�شغل العديد من‬ ‫اع��ت��م��دت عليها ال��درا���س��ة‪.‬‬
‫المنا�صب المهمة في المجال الأكاديمي‪،‬‬ ‫وقد ت�ضمنت المقدمة �شكراً‬
‫والتخطيط الثقافي والإدارة في مجاالت‬ ‫خ��ا���ص � ًا لم�ؤ�س�سة الأم��ي��ر‬
‫التعليم وال�صحافة والن�شر‪ ،‬ول��ه الكثير‬ ‫كالو�س في هولندا‪ ،‬لل�سماح‬
‫من الكتب والمقاالت التي تناولت ال�شعر‬ ‫ب��ا���س��ت��خ��دام م��ج��م��وع��ة من‬
‫وال�سينما والفنون‪.‬‬ ‫ال�صور الفوتوغرافية‪� ،‬أخذت‬

‫‪145‬‬ ‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬
‫كتابات و�أ�شياء‬

‫الق�صة الق�صيرة العربية‬


‫بين الت�ألق والخفوت‬
‫نواف يون�س‬
‫ما نلحظه �أي�ض ًا على الم�ستوى الخليجي‪،‬‬ ‫كما لج�أ بع�ضهم �إلى فن ال�سينما‪ ،‬وتحديداً‬
‫ففي ال�سعودية نجد �أ�سماء مثل �أحمد عطار‬ ‫ال�سيناريو‪ ،‬في محاولة لإبراز البعد الحركي‬ ‫تعرفنا ف��ي وط��ن��ن��ا ال��ع��رب��ي �إل���ى فن‬
‫وجبر المليحان ومحمد علوان‪ ،‬وفي البحرين‬ ‫مع ال�سرد‪ ،‬عبر اللقطات والم�شاهد وال�صور‪،‬‬ ‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬مع بدايات القرن الع�شرين‪،‬‬
‫تطالعنا �أ�سماء �أحمد كمال وعلي �سيار وعبداهلل‬ ‫�إ�ضافة �إلى التركيز على المونولوج الداخلي‬ ‫وبالتالي؛ فظهور فن الق�ص في تلك المرحلة‬
‫خليفة ومحمد عبد الملك‪ ،‬وفي الكويت نجد‬ ‫ل�سبر �أغوار النف�س الب�شرية من الداخل‪ ،‬عو�ض ًا‬ ‫لي�س مت�أخراً كما يظن البع�ض‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫خالد الفرج وفهد الدويري وفرحان الفرحان‬ ‫عن الحوار الواقعي المبا�شر‪.‬‬ ‫�إذا علمنا �أن جن�س الق�صة الق�صيرة‪ ،‬يعتبر‬
‫و�سليمان ال�شطي و�إ�سماعيل فهد �إ�سماعيل‬ ‫من هنا ن�ستطيع �أن نتبين �أن بدايات‬ ‫ف��ن� ًا عالمي ًا ج��دي��داً‪ ،‬ت��م التعرف �إل��ي��ه ما‬
‫وعبد العزيز ال�سريع‪ .‬وما �إن ن�صل �إلى الم�شهد‬ ‫الق�صة الق�صيرة عربي ًا‪ ،‬ال تختلف كثيراً عن‬ ‫بين منت�صف ونهاية القرن التا�سع ع�شر‬
‫الق�ص�صي في الإم ��ارات‪ ،‬حتى نتعرف �إلى‬ ‫مثيالتها في بقية الم�شاهد الثقافية الغربية‪،‬‬ ‫(‪ ،)١٨٩٠ -١٨٥٠‬وذلك عندما ر�صد النقاد‬
‫عبداهلل �صقر و�إبراهيم مبارك و�شيخة الناخي‬ ‫ال فني ًا وال فكري ًا في مواكبتها للمتغيرات‬ ‫تلك الكتابات الجديدة والمختلفة عن الفنون‬
‫ومحمد المر ونا�صر جبران ونا�صر الظاهري‬ ‫والتحوالت‪ ،‬التي كانت تحيط في واقعها‬ ‫الأدبية الأخرى المتعارف عليها‪ ،‬مثل ال�شعر‬
‫وحارب الظاهري ومح�سن �سليمان‪ ،‬وغيرهم‬ ‫المعي�ش‪ ،‬ففي كل م�شهد ثقافي عربي‪ ،‬نجد‬ ‫وال��رواي��ة والم�سرحية‪ ،‬وذل��ك عبر كتابات‬
‫خطوا معالم الق�صة الق�صيرة �إماراتي ًا‪.‬‬
‫ممن ّ‬ ‫الجيل الم�ؤ�س�س في فن الق�صة الق�صيرة‪،‬‬ ‫موبا�سان وت�شيخوف و�إدج��ار �ألن بو‪ ،‬ومن‬
‫وي�ؤكد النقاد المتابعون لم�سيرة الق�صة‬ ‫والذي واكب بدايات الق�ص العالمي والتزم‬ ‫قبلهم �أبو الق�صة الق�صيرة نيكوالي جوجول‪.‬‬
‫الق�صيرة عربي ًا‪� ،‬أن �إ���ص��دارات هذه الأجيال‬ ‫بتقليديته‪ ،‬وما تاله من �أجيال‪� ،‬سعت �إلى‬ ‫وق��د ظلت الق�صة العربية‪� ،‬أق ��رب �إل��ى‬
‫المتعاقبة من الق�صا�صين‪ ،‬وم�شاركاتهم في‬ ‫بلورة ال�شكل الفني للق�صة الق�صيرة‪ ،‬والتي‬ ‫ن��م��اذج ج��وج��ول وت�شيخوف وموبا�سان‪،‬‬
‫الفعاليات والأن�شطة الثقافية من ملتقيات‬ ‫يتجلى فيها عمق الم�ضامين وات�ساق الفكرة‬ ‫منها �إلى الق�صة الحديثة‪ ،‬حتى برزت تلك‬
‫وم��ه��رج��ان��ات‪ ،‬كانت تتبناها الم�ؤ�س�سات‬ ‫�ضمن ال�شكل الفني‪ ،‬وهو ما �أ�سهم وب�شكل‬ ‫القفزة النوعية في فن الق�ص والتي �أبدعها‬
‫الثقافية العربية‪ ،‬على امتداد الوطن الكبير‪،‬‬ ‫فاعل في ازده��ار الق�صة العربية ب�أ�شكالها‬ ‫(�آل���ن روب ج��ري��ي��ه)‪ ،‬و(ن��ات��ال��ي ���س��اروت )‬
‫ف�أ�سهمت في تر�سيخ مفاهيم الق�صة الق�صيرة‬ ‫الجديدة وم�ضامينها الإن�سانية‪.‬‬ ‫ومن لف لفهما من كتاب الق�صة الجدد في‬
‫فني ًا وفكري ًا‪ ،‬وظهور تيارات و�أ�شكال وم�ضامين‬ ‫�إن كل جيل جديد ي�سعى �إلى تطوير �إرثه‬ ‫الغرب‪ ،‬منذ منت�صف الخم�سينيات من القرن‬
‫جديدة تت�صل بالحداثة ن�سبي ًا بين تجارب هنا‬ ‫من الجيل ال�سابق عليه‪ ،‬ويحاول الإ�ضافة‬ ‫الع�شرين‪ ،‬والتي عمدوا فيها �إلى ك�سر ت�سل�سل‬
‫و�أخرى هناك‪ ،‬بل �إن بع�ض الأ�سماء الق�ص�صية‬ ‫ب�إنجاز ما يغنيه‪ ،‬وهو ما نتبينه تمام ًا �إذا‬ ‫الزمن والحدث (بداية‪ -‬حبكة‪ -‬نهاية )‪ ،‬مع‬
‫العربية‪ ،‬تمكنت من �إيجاد تما�س وا�ضح مع‬ ‫ما تابعنا ق�ص�ص الأخوين تيمور‪ ،‬وما �أعقب‬ ‫اال�ستفادة من الفنون القولية كال�شعر‪ ،‬حيث‬
‫الق�صة عالمي ًا بخ�صو�صية عربية ‪.‬‬ ‫ذلك من ت�ألق الق�ص من خالل ق�ص�ص نجيب‬ ‫وظفوا الجملة ال�شعرية الق�صيرة والمكثفة‬
‫بعد هذا الو�صف المكثف لم�سيرة الق�صة‬ ‫محفوظ ويو�سف �إدري�س و �إدوارد خراط ( في‬ ‫والموحية‪ ،‬وا�ستخدموا بع�ض مالمح الفنون‬
‫الق�صيرة عربي ًا‪ ،‬يلم�س المتابع منا لتلك‬ ‫م�صر)‪ ،‬وعبداهلل يوركي وال�سباعي وزكريا‬ ‫غير القولية‪ ،‬مثل الفن الت�شكيلي‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬
‫الم�سيرة ت��راج��ع ه��ذه الفاعلية والت�أثير‬ ‫تامر (في �سوريا)‪ ،‬وعبدالملك نوري وف�ؤاد‬ ‫الألوان في �أبعاد الم�ضامين التي يتناولونها‪،‬‬
‫واالن��ت�����ش��ار للق�صة الق�صيرة ف��ي الم�شهد‬ ‫التكرلي وجميل ال�شبيبي وجمعة الالمي‬
‫الثقافي العربي حالي ًا‪ ،‬لأ�سباب كثيرة تحتاج‬ ‫ومحمد خ�ضير (في العراق)‪ ،‬وخليل بيد�س‬ ‫�إن كل جيل ي�سعى �إلى‬
‫�إلى وقفة مدرو�سة من الم�ؤ�س�سات الثقافية‬ ‫ومحمد �أدي��ب العامري ومحمود �شقير و�أبو‬
‫المعنية وال�صحافة الثقافية‪ ،‬التي يرجع �إليها‬ ‫�شاور وغ�سان كنفاني ومحمود الريماوي‬
‫تطوير �أدواته الق�ص�صية‬
‫الف�ضل فيما و�صلت �إليه الق�صة العربية من‬ ‫(في فل�سطين)‪ ،‬وعبدالمجيد جلون والفا�سي‬ ‫من الجيل ال�سابق ويحاول‬
‫ت�ألق وح�ضور‪ ..‬حتى وقت لي�س ببعيد!‬ ‫والطري�س ومحمد �شكري (في المغرب)‪ ،‬وهو‬ ‫الإ�ضافة‬

‫العدد الواحد والخم�سون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪146‬‬


‫يمكنك االطالع على مجلتك عبر‪:‬‬
‫• منصات التواصل االجتماعي‬
‫• موقعنا اإللكتروني‬

‫‪shj_althaqafiya‬‬
‫‪Alshariqa althaqafiya‬‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬

You might also like