You are on page 1of 7

‫الفلسفة السنة اولى باكلوريا الــمجتـمـع‬

‫تقديم‪:‬‬

‫يطلق مفهوم المجتمع على مجمــوع األفـراد‪ ،‬القـاطنين في رقعـة جغرافيـة محــددة‪ ،‬والـذين تجمـع بينهم‬
‫روابط معينة‪ ،‬تثبتها قواعد وضوابط ومؤسسات اجتماعية‪ ،‬ويكفلها القانون‪.‬‬

‫ال يستطيع الفرد‪ ،‬داخل المجتمع أن يخالف القواعد العامـة للتعـايش المشـترك‪ ،‬أو ينحـرف عنهـا‪ ،‬ألنــه‬
‫إن فعل ذلك‪ ،‬يعرض نفسه للعقاب‪ ،‬أو السخط أو اللوم‪ .‬وهكذا تمارس القواعد االجتماعية سلطة على‬
‫األفــراد تتجلى في القواعــد اإللزاميــة المفروضــة عليهم ‪ ،‬وتســمى هــذه الســلطة بــالقهر االجتمــاعي‪ .‬و‬
‫يخضع المجتمع لمنطق الوعي الجماعي المستقل عن مجوع وعي األفراد على حدة‪.‬‬

‫يرتبط ظهور المجتمعــات البدائيــة بــالنمو الــديموغرافي للمجموعــات البشــرية بــدءا باألســرة مــرورا إلى‬
‫العشيرة والقبيلة ثم المجتمعات البسيطة وانتهاء بالمجتمعات المركبة‪.‬‬

‫فما هو أساس االجتماع البشري‪ :‬الطبيعة أم التعاقد؟‬ ‫‪‬‬

‫وما داللة الفرد؟ وما عالقته بالمجتمع؟‬ ‫‪‬‬

‫ثم كيف يمارس المجتمع سلطته على األفراد؟‬ ‫‪‬‬

‫أساس االجتماع البشري‬

‫كيف نشأ المجتمع؟ وعلى أي أساس؟‬

‫بالنســبة ألولئــك الــذين يؤكــدون على أولويــة الجماعــة البشــرية على الفــرد مثــل أرســطو‪ ،‬وابن خلــدون‬
‫وهيجل‪ ،...‬يعتبر المجتمع البشري نتيجة طبيعيــة أملتهــا الضــرورة على اإلنســان بوصــفه كائنــا يحتــاج‬
‫إلى اآلخرين من بني جنسه لتحقيق حاجاته‪.‬‬

‫يرى ابن خلدون‪ ،‬في تصوره المبــدئي للعمــران‪ ،‬أن المجتمــع اإلنســاني ضــروري ‪ ،‬وهــو يقتبس القــول‬
‫المشهور الــذي يجــري على ألسـنة الحكمـاء (القــول األرسـطي) بترديــدهم أن اإلنسـان مـدني بـالطبع أي‬
‫البد له من االجتماع‪ ،‬ويلتفت ابن خلدون إلى الحقيقـةـ األزليــة الــتي تتلخص في أن بقــاء اإلنســان على‬
‫قيد الحياة مرهون بأمرين أساسيين هما‪:‬‬

‫· القوت أو الطعام الذي يحتاجه جسمه لكي يعيش وينمو‪،‬‬

‫· والدفاع الذي يقيه غائلة العدوان‬


‫وإ ن كال من تحصــيل القــوت والــدفاع يقتضــي التجمــع أو االجتمــاع‪ ،‬واالجتمــاع يكــون بين المــرء وبــني‬
‫جنسه‪ ،‬ومن ثم كان طبيعياً أن يعرف بالمجتمع اإلنساني‪.‬‬

‫وعلى نهجــه في التوضــيح والتفصــيل والتحليــل‪ ،‬يقــرر ابن خلــدون أن قــدرة الواحــد من البشــر قاصــرة‬
‫عن تحصــيل حاجتــه من الغــذاء الــذي يفــترض أنــه أقــل قــدر من الحنطــة‪ ،‬وأن هــذا القــدر من الحنطــة‬
‫يحت ــاج إلى زرع وطحن وعجن وطبخ ‪ ،‬وأن الزراع ــة محتاجـــة إلى حصـــاد ودرس‪ ،‬والطحن والعجن‬
‫والطبخ ومحتاج إلى مواعين وآالت ال تتم إال بصناعات متعددة من حداد ونجار وفــاخوري‪ ،‬ويســتحيل‬
‫أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد‪ ،‬فالبد من اجتماع القــدرات الكثــيرة من أبنــاء الجنس الواحــد‪،‬‬
‫والبد من التعاون بينهم لتحصيل الكفاية من الطعام‪.‬‬

‫ويخلص ابن خلــدون إلى ضــرورة المجتمــع اإلنســاني لتحقيــق الحصــول إلى القــدر الكــافي من الطعام‪،‬‬
‫وصــناعة األدوات الــتي تســتعمل في الــدفاع من رمــاح وســيوف‪ ،...‬فاإلنســان وحــده عــاجز عن مدافعــة‬
‫الوحوش فالبد له من التعاون مع أبناء جنسه ليكـون الـدفاع مؤتيـا ثمـاره‪ .‬يقـول ابن خلـدون‪" :‬ومـا لم‬
‫يكن هـذا التعـاون فال يحصـل لـه – أي اإلنسـان – قـوت وال غـــذاء‪ ،‬وال تتم حياتـه لمـا ركبـه اهلل تعـالى‬
‫عليـه من الحاجــة إلى الغــذاء في حياتـه‪ ،‬وال يحصــل لـه أيضــا دفـاع عن نفسـه لفقــدان السـالح‪ ،‬فيكـون‬
‫فريسة للحيوانات ‪ ،‬ويعالجه الهالك عن مدى حياته ويبطــل نـوع البشـر " ‪ ،‬هكــذا وبتفكـير ســهل أقـرب‬
‫إلى العفويــة ‪ ،‬وأســلوب ســلس يربــط ابن خلــدون بين التعــاون اإلنســاني في نطــاق التجمــع وبين فنــاء‬
‫النوع البشري إذا حاد عن هذا السبيل‪ .‬ولكن ابن خلــدون يريــد أن يصــل إلى معــنى العمــران في نطــاق‬
‫من القول والفكر األكثر تحديداً فيقول مستطرداً‪ " :‬وإ ذا كان التعاون حصل له – أي لإلنســان – القــوت‬
‫للغــذاء ‪ ،‬والســالح للمدافعــة‪ ،‬وتمت حكمــة اهلل في بقائــه وحفــظ نوعــه ‪ ،‬فــإذن هــذا المجتمــع ضــروري‬
‫للنوع اإلنساني‪ ،‬وإ ال لم يكمل وجودهم وما أراد اهلل من اعتمار العالم بهم واستخالفه إياهم‪ ،‬وهذا هــو‬
‫معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم " ‪.‬‬

‫أما بالنسبة ألولئك الذين يعتبرون أن المجتمع (الكل) هو مجموع األفراد (مجمــوع األجــزاء)‬

‫مثــل روســو‪ ،‬لــوك‪ ،‬هــوبز‪ ...‬فمنشــأ المجتمــع عنــدهم يرجــع إلى االتفــاق بين األفــراد‪ ،‬أو مــا‬

‫يسمى التعاقد االجتماعي‪.‬‬

‫يرى روسو إن اإلنسان قبل قيام المجتمع "المدني" كان يعيش في حرية كاملة واستقالل تام‪ ،‬ويفترض‬
‫روسـو إن اإلنسـان كـان متوحشـاً في الغـالب ال يعـرف أهلـه‪ ،‬ولعلـه لم يكن يعـرف أوالده‪ ،‬وال لغـة لـه‪،‬‬
‫وال صناعة‪ ،‬وال فضيلة‪ ،‬وال رذيلة من حيث أنه لم يكن له مــع أفــراد نوعــه أي عالقــة يمكن أن تكــون‬
‫عالقــة خلقيــة كــان حاصــال بســهولة على وســائل إرضــاء حاجاتــه الطبيعيــة ولم يصــب إال بالقليــل من‬
‫األم ــراض قلم ــا ك ــان يحت ــاج إلى األدوي ــة ألن الص ــحة إنم ــا تعت ــل باإلس ــراف في المعيش ــة وب ــالميول‬
‫المصطنعة وما ينتج عنها من إجهــاد جســمي وعقلي‪ .‬يــرى روســو أن الحريــة هي الــتي تمــيز اإلنســان‬
‫أكثر من الفهم‪ .‬كيف خرج اإلنسان من هذه الحالة؟‬

‫اضــطرت الظــروف اإلنســان إلى التعــاون مـع غـيره من أبنــاء نوعــه‪ ...‬تعاونـاً موقتـاً كــان الغــرض منــه‬
‫صــيد الحيــوان‪ ...‬ثم اضــطرتهم الفيضــانات والــزالزل إلى االجتمــاع بصــفة مســتديمة فــاخترعت اللغــة‬
‫وتغير السلوك وبرز الحسد‪.‬‬

‫إن هذا االجتماع يمثل‪ ،‬في رأي روسو‪ ،‬حالة الطبيعة الخالية من القــوانين والــردع‪ .‬ولكن تطــور حيــاة‬
‫اإلنسان واتســاع ضـروراتها أدى إلى نشــوء حالــة مدنيــة منظمــة بــالقوانين تثبت الملكيــة ويتوطــد فيهــا‬
‫التفــاوت بين النــاس‪ .‬وهكــذا يتحــول اإلنســان الطيب بــالطبع إلى شــرير باالجتمــاع‪.‬لقــد أصــبح االجتمــاع‬
‫ضروريا ومن العبث العــودة إلى حالــة الطبيعــة‪ .‬وأصــبح من الضــرورة إصــالح مفاســده بإقامــة حكومــة‬
‫الصالحة وتربية المواطنين الصالحين‪ .‬وذلـك عن طريـق إيجــاد مؤسسـة تحمى بقــوة المجتمـع وتسـمح‬
‫بأن ال يخضع إال لنفسه‪ ،‬وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل‪.‬‬

‫لم تكن ملكية األرض مضمونة بما فيه الكفاية‪ .‬وكان البد من إيجاد وسائل جديــدة لحمايتهــا‪ .‬وقــد لجــأ‬
‫األغنياء إلى الحيلة لإليقاع بـالفقراء وقـد ابتكـروا‪ ،‬كمـا يقـول روسـو‪ ،‬أذكى خطـة عنـدما قـالوا للفقـراء‬
‫نتحد لكي نحمي الضعفاء من الظلم والجــور‪ ،‬ونضــع قــوانين العــدل والســلم وبــدالً من أن نســتنفذ قوانــا‬
‫في االقتتال نوحد أنفسنا في سلطة عليا وفق الشرائع الحكيمة‪ ...‬وهكذا قاد تأســيس الملكيــة األرضــية‬
‫البش ــر إلى العق ــد االجتم ــاعي‪ .‬ك ــانت الق ــوانين في البداي ــة‪ ،‬على ح ــد ق ــول روس ــو‪ ،‬تفتق ــر إلى بعض‬
‫الضوابط والمعايير الملزمة لألفراد وكــان المجتمــع بأســره يضــمن احترامهــا والتقيــد بهــا‪ .‬لكن ســرعان‬
‫ما أوحى ضعف شـكل الحكم هـذا فكـرة (توكيـل أفـراد معيـنين على الوديعـة الخطـيرة‪ ،‬السـلطة العامـة)‪.‬‬
‫هك ــذا ظه ــر ال ــوالة المنتخب ــون‪ ،‬بم ــا أن الش ــعب وحَّد إرادت ــه جمع ــاء في مش ــيئة واح ــدة‪ ،‬فيم ــا يتص ــل‬
‫بالعالقــات االجتماعيــة‪ ،‬فــإن كــل مــا وضــع موضــوعاً لهــذه المشــيئة صــار قانونـاً أساســياً ملزمـاً لجميــع‬
‫أعضــاء الدولــة بــدون اســتثناء‪ .‬وهكــذا نجــد أن العقــد االجتمــاعي ال يتمخض‪ ،‬من منظــور روســو عن‬
‫تكوين المجتمع كتنظيم سياســي فحســب‪ ،‬وإ نمــا يحــدد أيضـاً العالقــات المتبادلــة بين الشــعب وبين الــذين‬
‫انتخبهم لكي يحكموه‪.‬‬

‫لقد كان العقــد االجتمــاعي أداة إراديــة تنـازل بموجبهــا األفـراد عن حــريتهم الطبيعيـة لصــالح فـرد آخـر‪،‬‬
‫وأذابواـ إرادتهم الفردية في إرادة عامة مشتركة واتفقوا على قبول أحكامـ هذه (اإلرادة العامة) كأحكــام‬
‫نهائيــة قاطعــة‪ ،‬وكــانت هــذه اإلرادة العامــة هي الســلطة صــاحبة الســيادة‪ .‬إن مــا يخســره اإلنســان من‬
‫جراء العقد هو حريته الطبيعية الالمحدودة‪ ،‬وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية وهو تملكه لكل ما‬
‫ملكته يده‪.‬‬

‫على هذا األساس يكون المجتمـع "المـدني" ثمـرة للتعاقـد االجتمـاعي‪ ،‬مثلمـا أن المجتمـع الطـبيعي ثمـرة‬
‫للضرورات البيولوجية‪.‬‬
‫الـفـرد والـمـجـتـمـعـ‬

‫ساهمت أراء روسو‪ ،‬و لوك‪ ،‬وهوبز‪ ،‬ومونتيسكيو‪ ،‬حول العقد االجتماعي‪ ،‬بلورة مفهوم الفــرد‪ .‬ظهــر‬
‫مفهومـ الفرد‪ ،‬كقيمـة اجتماعيـة‪ ،‬أبـان عصـر النهضـة بعـد انهيـار اإلقطـاع‪ ،‬ونشـوء الطبقـة البرجوازيـة‬
‫ابتداءا القرن ‪15‬م‪ .‬وتبلــور مفهـومـ النزعـة الفرديـة من خالل األطروحـات الفلسـفية‪ ،‬الـتي بـدأت تبتعـد‬
‫عن األفكار التقليدية التي يمثلها المجتمع التقليدي‪ ،‬الممثل لنظام فكري وسياسي واجتمــاعي إقطــاعي‪.‬‬
‫وما عزز هــذا الــنزوع نحــو الحريــة الفرديــة في أوروبــا هــو نشــوء الليبراليــة والــديموقراطيات الحديثــة‬
‫بعد الثورتين الفرنسية واإلنجليزية‪.‬‬

‫و في ه ــذا الس ــياق‪ ،‬يعت ــبر طوكفي ــل‪ ،‬وح ــتى م ــاركس‪ ،‬أن النزع ــة الفردي ــة أو الفرداني ــة فك ــرة حديث ــة‬
‫المنشــأ‪ ،‬و مرتبطــة بالديموقراطيــة عنــد طوكفيــل‪ ،‬وبــالمجتمع البورجــوازي عنــد مــاركس‪ .‬وقــد أتــاحت‬
‫الفردانية للمواطنين االنعزال عن المجتمع (ما يسميه طوكفيل "كتلة األشباه")‪ ،‬وبالتــالي تأســيس العــالم‬
‫األصغر الخاص بالفرد بعيدا عن إكراهات األسرة أو العشير أو الطائفة أو القبيلــة كمــا كــان الحــال قبــل‬
‫ظهور اللبيرالية‪ .‬إن ما يميز النزعة الفردية‪ ،‬حسب طوكفيل هو‪:‬‬

‫· النظرة االنعزالية للذات واالنغالق التام خل العزلة الخاصة‬

‫· االعتقاد في القدرة في التحكم في المصير‬

‫· االنفصال عن العالقات العائلية والدموية والقرابية‪.‬‬

‫ينظ ــر دوركهــايم لعالق ــة الف ــرد ب ــالمجتمع من زاوي ــتين مختلفــتين‪ .‬فهــو يــرى يمــيز بين ش ــكلين من‬
‫المجتمعات‪:‬‬
‫· مجتمعات تخضع للتضامن الميكانيكي‬
‫· مجتمعات تخضع للتضامن العضوي‬
‫تتسم المجتمعات الخاضعة التضامن الميكانيكى بما يلى‪:‬‬
‫· حجم وكثافة سكانية ضعيفة‬
‫· تنظيم اجتماعي غير متمايز (تشابه بين األفراد)‬
‫· قانون قمعي‬
‫· وعي جماعي يدمج الفرد جيدا في المجتمع‬
‫بينما مجتمعات التضامن العضوي تتصف باالتي ‪:‬‬
‫· حجم وكثافة سكانية عالية‬
‫· وظائف اجتماعية مختلفة جدا‬
‫· قانون تعاوني‬
‫· أفراد متحررين‬
‫يخض ــع األف ــراد في المجتمع ــات م ــا قب ــل الص ــناعية لمب ــدأ االرتب ــاط ال ــداخلي‪ ،‬حيث يس ــود التض ــامن‬
‫الميكانيكي الذي يربط الفرد بالجماعة ويشترط تحقبق إنسانسيته داخلها على اعتبار أن المجتمع أو‬
‫الجماعة هما الغاية والمنتهى الطبيعي لإلنسان‪ .‬في المقابل‪ ،‬يخضع ألفراد داخل المجتمعات الحديثــة‬
‫لمبــدأ التمــيز الــوظيفي‪ ،‬حيث يتحــدد كــل فــر د وفــق انتمائــه‪ ،‬ليس العــرقي أو الــديني أو الــدموي أو‬
‫القبلي‪ ،...‬وإ نمــا‪ ،‬السوســيو‪-‬مهــني أو السوســيو‪-‬اقتصــادي‪ ،‬وذلــك انســجاما مــع مقتضــيات الحيــاة‬
‫االجتماعية وأنماط تقسيم العمل‪.‬‬

‫الـمـجـتـمـع و الــســلـطـةـ‬

‫لكــل مجتمــع أســس‪ ،‬وقواعــد‪ ،‬ونظم‪ ،‬وضــوابط يقــوم عليهــا‪ ..‬تســهر على حفظهــا وضــمانها وصــيانة‬
‫اس ــتمراريتها مؤسس ــات‪ .‬وه ــذه المؤسس ــات نوع ــان‪ :‬مؤسســـات إيديولوجي ــة ( المدرســـة‪ ،‬وســـائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬التقاليد‪ ،‬األعراف‪ )...‬ومؤسسات قمعية (الدولة‪،‬الجيش‪ ،‬البوليس‪ .)... ،‬والمؤسسات‪ ،‬كمــا‬
‫يــدل عليهــا اســمها‪ ،‬هي كيانــات أسســها النــاس لتــدبير الخالفــات داخــل المجتمــع ولفــرض الســلطة‬
‫المجتمعية‪.‬‬
‫يرى فرويد أن معظم الناس ينصاعون لسلطة المجتمع تحت ضغط اإلكراه الخارجي وحده‪ ،‬وبالتــالي‬
‫كلمــا كــان هــذا اإلكــراه محسوســا إال و فــرض نفســه‪ .‬فاألنــا األعلى هــو معطى خــارجي يفــرض نفســه‬
‫على الغرائز‪ .‬إن التحليل النفسي هو تعبير عن الوعي بالقمع االجتماعي للجنس‪.‬‬

‫يذهب فرويد إلى أن الدوافع اللطيفة الب ّناءة و المليئة بالحب لدى اإلنسان ليست أوليــة‪ ،‬بــل نشــأت‬
‫بصورة ثانوية من ضرورة كبت دوافعه الخبيثة األصلية و يرى أن الحضارة ما هي إال نتيجة هذا‬
‫النــوع من الكبت إذ يعتقــد أن اإلنســان تتحكم فيــه باألصــل دوافــع شــريرة و كلمــا نمــا المجتمــع و‬
‫تطور‪ ،‬إال ومضى في إكراه اإلنسان على أن يقمع و يكبت هذه الدوافع‪ .‬يقول فرويد " إن كــل فــرد‬
‫هو ‪ ...‬عدو للحضارة التي هي باألساس لصالح البشرية قاطبة بوجه عـام‪ ،‬و إنـه ممـا يبعث على‬
‫االســتغراب أن بــني اإلنســان الــذين ال يحســنون الحيــاة في عزلــة وعلى إنفــراد يشــعرون مــع ذلــك‬
‫بوطأة اضطهاد ثقيلة بحكم التضحيات التي تنتظرهــا منهم الحضــارة حــتى تجعــل حيــاتهم المشــتركة‬
‫ممكن ــة"‪ .‬فالحض ــارة عن ــد فروي ــد ق ــامت بش ــكل أساس ــي على مفهـــوم الكبت الجنســـي‪ .‬و ال يكفي‬
‫للمحافظة عليها االهتمام بالعمل التضامني لكــون األهــواء الغريزيــة أقــوى من االهتمامــات العقليــة‪،‬‬
‫لذلك على الحضارة أن تٌج ّند كل ما في متناولهـا لكي تحـد من العدوانيـة البشـرية عن طريـق ردود‬
‫أفعال ذات طابع أخالقي إلزامي‪.‬‬

‫يقول فرويد " إذا كانت الحضارة تفـرض مثـل هـذه التضـحيات الباهظـة ال على الغريـزة الجنسـية و‬
‫حسب بل و على العدوانيةـ أيضاً ‪ ،‬فإننا نفهم في هذه الحال فهماً أحسن لماذا يعســر على اإلنســان‬
‫غاية العسر أن يجد في ظلها سعادته " فكــل حضــارة ٌملزمـة بـأن تشــيد نفســها على اإلكـراه و على‬
‫نكران الغرائز‪ .‬إن الحرمان هو نــوع من القســر الــذي تمارســه الثقافــة لمنــع الغرائــز اإلنســانية من‬
‫الظهــور و لبقــاء اإلنســان فــوق الواقــع الحيــواني البــدائي الــذي كــان يعيش فيــه‪ ،‬فــاألخالق يعيشــها‬
‫الف ــرد عن ــد فروي ــد أوالً على ص ــورة تض ــحية أو ع ــذاب‪ .‬ل ــذلك نج ــد ب ــأن معظم الن ــاس ينص ــاعون‬
‫للنــواهي الثقافيــة المتعلقــة بكبت و قمــع المتطلبــات الغريزي ــة العدواني ــة و الجنســية تحت اإلك ــراه‬
‫الخارجي والعقاب‪ ،‬لكن كيف يكون العقاب؟‬

‫حسب فرويد العقاب مزدوج‪ :‬خارجي ممثل بالسلطة االجتماعية و داخلي ممثــل بالتربيــة الصــارمة‬
‫االجتماعية التي يمثلها األنا األعلى‪ .‬فاإلنسان منقسـم بين قـواه النفسـية الـتي تعــبر عن نفســها في‬
‫داخــل الفــرد و من خالل عالقاتــه مــع المحيــط ‪ .‬و من هــذا الجــانب نالحــظ اغــتراب األنــا وضــياعه‬
‫حيث يتعين عليــه أن يخــدم ســادة ثالثــة متنــازعين وأن يعيش تبع ـاً لــذلك تحت تهديــد خطــر ثالثي‬
‫يتمثل جـانب منـه من العــالم الخـارجي‪ ،‬وجــانب آخـر من ليبيـدو الهـو و غرائــزه‪ ،‬وجـانب ثـالث من‬
‫صــرامة األنــا األعلى‪ ،‬و مــا ينشــأ عن ذلــك من حصــر و قلــق عمــاده االنســحاب أمــام الخطر‪ .‬لــذلك‬
‫يرى فرويد أن حياتنا كما هي مفروضة علينا ثقيلة الوطء و تغل أعناقنا بكثرة كثــيرة من المشــاق‬
‫و الخيبات‪.‬‬

‫ما هي نتائج اإلكراه االجتماعي؟‬

‫إن اإلكراه االجتماعي‪ ،‬حسب فرود يؤدي إلى‪:‬‬

‫‪ -‬التحــوا من األنانيــة إلى الغيريــة أي من االنغالق النرجســي إلى قبــول الغــير وخلــق عالقــات‬
‫معه‪.‬‬
‫‪ -‬طاعة أكبر عدد من األفراد للمجتمع وخضوعهم له‬
‫‪ -‬القمع المتواصل لغرائز األفراد‪ ،‬وما يصاحبه من ردود أفعال متوترة‪.‬‬
‫‪ -‬تشــوهات في شخصــيات األفــراد واســتعدادهـ الــدائم إلطالق العنــان لمكبوتــاتهم في أيــة لحظــة‬
‫تغيب فيها الرقابة والسلطة المجتمعية‪.‬‬

‫إذا كان فرويد يرى أن المجتمع و الحضــارة يقمعــان الغرائــز‪ ،‬فــإن رالــف لنتــون يعتقــد‪ ،‬في المقابــل أن‬

‫المجتمع يعمل على االســتجابة لحاجيــات األفــراد‪ ،‬ويعمــل كــذلك على ترســيخ النمــاذج الثقافيــة من خالل‬

‫عملية التنشئة االجتماعية‪.‬‬

‫ويقصد بالتنشئة االجتماعية مجموع عمليات التعلم التي عن طريقهــا يكتســب ويســتدمج الفــرد العــادات‬
‫والتقاليــد والقيم واالتجاهــات الســائدة فى بيئتــه‪ .‬وتتم من خالل األســاليب والطــرق الــتي يتلقاهــا األفــراد‬
‫منــذ طفــولتهم المبكــرة في األســرة والمدرســة ومــع الجماعــات‪ .‬تلــك األســاليب الــتي تتفــق مــع الثقافــة‬
‫السائدة في المجتمع‪.‬‬

‫بعت ــبر رال ــف لنت ــون أن عملي ــة التنش ــئة ب ــالمعنى الس ــابق تتم ع ــبر "طعمـ اإلش ــباع"‪ .‬فالمش ــرفون على‬
‫التنشئة االجتماعية يقــدمون للفــرد إشــباعا مباشــرا لغرائــزه وحاجاتــه‪ ،‬وفي الــوقت نفســه‪ ،‬يمــررون لــه‬
‫العادات والسوكات والمعتقدات‪ ...‬فالفرد يشبع جوعه عندما يقبل على األكل لكنه يتعلم أسليب وطــرق‬
‫األكل ممن هم أكبر منه‪.‬‬

‫إن المجتمــع ليس اضــطهادا وتعســفا‪ ،‬بــل هــو مؤسســة ظهــرت لتحــل المشــاكل الــتي عصــفت باإلنســان‬
‫عندما كان يعيش وحشــيته في حالــة الطبيعــة‪ .‬لقــد فقــد اإلنســان حريتــه المطلقــة عنــدما دخــل المجتمــع‪،‬‬
‫لكنــه ربح األمن واالســتقرار والحضــارة والتقــدمـ والــرقي‪ .‬ولكن مــا كــان للمجتمعــات البشــرية أن تصــل‬
‫إلى ما وصلت إليه لو لم يكن المجتمع ساحة للصراع والتفاعل التاريخي بين مختلف مكوناته‪.‬‬

You might also like