You are on page 1of 13

‫«ثالثية كوكر»‪ :‬قصيدة «كيارستمي» عن الحرية والنجاة والحب‬

‫‪/ida2at.com/the-koker-trilogy-overview-abbas-kiarostami‬‬

‫‪ 29‬أغسطس ‪2023‬‬

‫الحظت أننا لكي ننظر إلى الجمال الماثل أمامنا‪ ،‬ال بد أن نحبسه في إطار كادر ولقطة‪.‬‬

‫—كيارستمي‬

‫تبدو سينما المخرج اإليراني الشهير «عباس كيارستامي» في ُك ليتها‪ ،‬اضطرار شاعر إلى اللجوء للكاميرا لحبس الجمال‪ ،‬لتوثيق‬
‫المسحة الشعرية التي تكسو اليومي والُمعتاد‪ ،‬الكاميرا ُتشبه شبكة لصيد األحالم‪ ،‬أداة اضطرارية إلجبارنا على النظر لجمال‬
‫كامن ينتظرنا على جانبي الطريق‪ .‬ال بد من ُمحاصرته الستنطاقه ورؤيته‪.‬‬

‫فيما بين أعوام ‪ 1987‬و‪ 1994‬قدم كيارستمي «ثالثية كوكر» الشهيرة‪ ،‬التي ُتعد قصيدة شعرية تتوسل قالب السينما‪ ،‬ثالثية كل‬
‫جمال فيها يحتوي بداخله جمااًل آخر‪ .‬يفقد فيها الُمخرج ُس لطته‪ ،‬وتماسك الحبكة التي يرويها‪ ،‬ليقودنا عبر الكاميرا لقصة مكان‪،‬‬
‫استضاف حكاية بسيطة‪ ،‬ثم هلك‪ ،‬ثم ُبعث من جديد‪ .‬وال شاهد على هذا سوى شريط السينما‪.‬‬

‫‪1/13‬‬
‫من ثالثية كوكر – إخراج عباس كيارستمي‬

‫الحرية‪ :‬أين منزل صديقي؟ ‪1987‬‬

‫األطفال شخصيات ُمستقلة وُح رة‪ُ ،‬يمكنها أن تمنحك تمثياًل يفوق مارلون براندو‪ ،‬ألنه يصعب أن توجههم لفعل‬
‫شيء‪ ،‬فقط تسير خلفهم‪.‬‬

‫—كيارستمي‬

‫اقتبس «كيارستمي» اسم الفيلم من عنوان قصيدة شعرية لسهراب سبهري‪ ،‬ولم ُيقدم العنوان شعريته وحسب بل سرت تلك‬
‫اللمسة الشعرية في سينما الفيلم كلها‪ ،‬فقد جاء فيلمه مثل مقطوعة شعرية رقيقة‪ .‬من دون قطعات كثيرة‪ ،‬من دون مونتاج حاد‪،‬‬
‫رغم ُمدة الفيلم القصيرة إال إنه ال يوجد به مشهد واحد غير ُمتمهل‪ ،‬ال يتخلله فترات انتظار وصمت وإلتقاط أنفاس‪.‬‬

‫تلك السمة األولى الملحوظة عن كيارستامي‪ ،‬أنه ُمخرج‪ُ /‬متفرج‪ ،‬يتابع إيقاع اللقطة ويكره إفسادها بلفظة (‪ )Cut‬التي تفسد‬
‫التدفق‪ ،‬هذا ما يضفي لمسة الشعرية أو التداعي على مشاهده مثل جدول أو نهر يسري ببطء عبر شقوق وتالل‪ ،‬قد تجده بطيًئا‬
‫أو ُمماًل ‪ ،‬لكنه يراه سيرورة وشالاًل تتفتت جماليته بتعطيله ووضع السدود أمام تياره‪ .‬كمال المشهد لديه هو أال تشعر بحضور‬

‫‪2/13‬‬
‫السينمائي صانعه‪ ،‬لذا ال يستخدم الموسيقى والمؤثرات بإفراط وال يحرك الكاميرا كثيًر ا‪ ،‬المشاهد لديه في حالة حلم وتماه‪ ،‬أي‬
‫عنف إخراجي سيوقظه من الحلم‪.‬‬

‫يدور الفيلم حول الصديقان «أحمد» و«ُمحمد»‪ ،‬يتوعد الُمعلم «محمد» بالعقاب والطرد من المدرسة ألنه ال يكتب واجباته في‬
‫الدفتر كل مرة‪ ،‬ينتهي اليوم الدراسي ويتعثر الصديقان في طريقهما وبينما يجمعا أشيائهما ينسى «محمد» دفتره مع صديقه‬
‫«أحمد»‪ ،‬يرتاع «أحمد» عندما ُيدرك األمر لدى عودته لمنزله ويعلم أن صديقه لو جاء غًد ا من دون دفتره سيتم رفده لذا ُيقرر‬
‫الذهاب لمنحه دفتره في القرية الُمجاورة التي لم يزرها أبًد ا وال يعرف منزل صديقه فيها‪.‬‬

‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫تقع أحداث الفيلم في قرية «كوكر» وهي قرية صغيرة المساحة ومنسية في الشمال اإليراني على ساحل بحر «قزوين»‪ ،‬لكن‬
‫ألن الفيلم من منظور صبي صغير‪ ،‬كان منظور المكان عمالًقا بينما الصبي ُنقطة صغيرة تسير صعوًد ا وهبوًط ا في ُمنحنيات‬
‫تضاريسه‪.‬‬

‫‪3/13‬‬
‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫بينما يبدو المكان عمالًقا عكس حقيقته‪ ،‬يبدو الكبار أو رموز ُس لطة المنح والعقاب في الفيلم‪ ،‬جبااًل رواسخ في كادر المكان‪ ،‬ال‬
‫يتحركون‪ ،‬هم جزء من جمادات اللقطة مثل لوحة‪ ،‬الجدود والرجال جالسين على النواصي والنسوة ُمنهمكات في أعمالهن‬
‫اليومية‪ ،‬ستعتمد الكاميرا طوال الفيلم في انتقاالت وخفتها على الطفل «أحمد» الذي يتحرك بين الكبار‪ ،‬يتلقى أوامرهم بطاعة‬
‫تامة ال تشي أبًد ا أنه سيكون بطل مغامرة تمرد قادمة‪ُ ،‬تخبره أمه أن يجلس ليؤدي واجباته ثم خالل ذلك ُتمطره بتعليمات شتى‬
‫تقطع جلسته‪ُ ،‬يلبيها أحمد جميًعا‪.‬‬

‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫أحمد خفة ُمتنقلة والكبار ثقل مشدود لمهمة يومية رتيبة وإيقاع ال بد من المحافظة عليه‪ ،‬هم جزء من المكان لو جمدت اللقطة في‬
‫أي وقت بالمشاهدة ستجدهم مطبوعين بحركتهم مع الجدران وُمنحنيات الطريق والجبل‪.‬‬
‫اًل‬
‫‪4/13‬‬
‫في كل كادرات «كيارستامي» يبدو الطفل دخياًل ‪ُ ،‬مفسًد ا التزان ما‪ ،‬لذا كلما خاطب أحد الكبار‪ ،‬ال يسمعونه وإن سمعوه ُيقاطعوه‬
‫ويخبروه أن يذهب ألداء واجباته وال ُيفسد تركيزهم فيما يفعلونه‪.‬‬

‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫لذا عندما يفشل في نيل إذن أمه بالذهاب‪ ،‬يبدأ «أحمد» أخيًر ا في التحرك وفق إرادته الخاصة بالتسلل خارًج ا للقرية الُمجاورة‬
‫ليجد صديقه‪ ،‬عندها يتدخل «كيارستامي» ألول مرة بعنصر الموسيقى‪ ،‬موسيقى نقر ُمثيرة‪ُ ،‬تخبرك أن إيقاع الحكاية الهاديء‬
‫المحكوم أفسده الطفل بالحركة وبدء الُمغامرة‪.‬‬

‫خالل الرحلة ينتقل «أحمد» ذهاًبا وإياًبا عبر مساحة صغيرة جًد ا لكنها تبدو بحركته الطفولية شاسعة‪ ،‬لم ُيساعده من الكبار سوى‬
‫رجل عجوز بطيء الحركة‪ ،‬يتوقف في ذروة المسعى ليلتقط أنفاسه ويغسل وجهه ويقطف وردة من أحد الينابيع ويمنحها ألحمد‬
‫ليضعها في دفتره‪ ،‬يتأخر الوقت وُيخبر «أحمد» العجوز أنه ُيبطيء مسعاه وأن عليه العودة‪ ،‬يعود أحمد للمنزل خائب األمل‪ ،‬ال‬
‫يبدو على الكبار ُمالحظة مغامرته أو مسعاه وُمهمته‪.‬‬

‫في المشهد األخير نعود للفصل المدرسي حيث بدأت الحكاية نجد مالمح الرعب على وجه «محمد» الُممتقع من الُمعلم الذي‬
‫يقترب منه وهو ال يملك دفتره‪ ،‬لكن أخيًر ا يدخل «أحمد» وقد أدى الواجب له ولصديقه‪ ،‬يمنحه دفتره خلسة‪ ،‬يصححه المعلم‬
‫باستحسان دون أن يالحظ األمر‪ ،‬وتلتقط كاميرا «كيارستامي» وردة ينابيع محفوظة في الدفتر جوار الواجب المكتوب‪ ،‬شاهد‬
‫صغير ووحيد على ُمغامرة الصديق التي انفلتت من عوالم الكبار الثقيلة‪ .‬وتوج بها «أحمد» كذبته األولى النبيلة في هذا العالم‬
‫وفعل التمرد الصغير في عالم قرية هادئة كبارها راسخون كالرواسي‪.‬‬

‫‪5/13‬‬
‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫تلك هي شعرية «كيارستمي»‪ ،‬أن الفيلم بأكمله يدور حول ُع نصر يمثل الحرية‪ ،‬عنصر غير ُمدجن ُمنفلت من لوحة جامدة كل‬
‫عناصرها ثقيلة‪« ،‬أحمد» طفل ُمطيع لألوامر كافة‪ ،‬وللكبار كلهم‪ ،‬لذا لم يفكر من البداية في التحايل بأن يكتب الواجب لصديقه‬
‫ببساطة ألن ذلك غش‪ ،‬وبدأ ُمغامرته كلها لكيال يلجأ لذلك‪ ،‬لكن أحًد ا من الُك بار لم يهتم بمساعدته أو مالحظة أنه يطرح مطلًبا‬
‫أخالقًيا بريًئا لكنه ُيخالف الروتين اليومي‪.‬‬

‫بعيون األطفال يبدو وعيد الُمعلم وحشًيا‪ ،‬بالنسبة لنا الواجب لن ُيسلم غًد ا وبالنسبة ألحمد العالم سينتهي غًد ا‪ ،‬لذا من منظور‬
‫الطفل ال تقل الُمغامرة في خطورتها عن مسعى بطولي لبطل في خوض المجهول‪.‬‬

‫من فيلم أين منزل صديقي؟ – إخراج كيارستمي‬

‫‪6/13‬‬
‫ُيخبرنا عجوز في الفيلم أنه ال يمكنك أن تمنح الطفل الفرصة ليرد‪ ،‬ال بد أن يصدع باألوامر‪ ،‬وال بد من اختالق األعذار دوًما‬
‫لُمعاقبته حتى لو لم ُيخطئ‪ ،‬هذا يصنع طفاًل ُمنضبًط ا يفعل الُمستحيل ليأمن العقاب‪ ،‬ألنه ألقل هفوة ولو ُمفتعلة سُيعاقب‪ ،‬فلسفة‬
‫التربية تلك ميزت مأزق الطفل «أحمد» هو ابن عالم الكبار ذاك إذ يفعل الُمستحيل ليأمن عقاب الُمعلم لصديقه‪ ،‬لكنه لكي يأمن‬
‫عقاب ُس لطة الُمعلم ال بد أن ينفلت من ُس لطة الكبار‪ ،‬األطفال نقاط عالقة في ُس لطات ُمتعارضة‪ ،‬فاألم واألب يخبروا الطفل بأن‬
‫يساعدهم بالمنزل واألرض والُمعلم يخبر الطفل أال يساعد أهله إال بأداء واجباته المدرسية‪ .‬وخلف هؤالء األطفال الذين لم يفقدوا‬
‫براءتهم بعد يهرع كيارستامي بالكاميرا مسجاًل حكايتهم بين إمالءات الخارج وُنبل الداخل‪.‬‬

‫ال يورد كيارستمي كل تلك الصراعات برطانة أو بمباشرة فلسفية‪ ،‬السلطة هنا ُمعلم وأب وكبار‪ ،‬وبطله هنا هو طفل‪ ،‬لماذا؟‬

‫ألن الطفل أداة أثيرة لدى كيارستمي لتوليد الدهشة والتساؤل في سردياته السينمائية‪ ،‬لذا ال يثور الطفل أو يغضب‪ ،‬فقط يتعلم‬
‫كيف يأمن غضب سلطة ما بااللتفاف حول سلطة أخرى‪ ،‬ينقذ صديقه وتتبقى الوردة شاهًد ا على تلك المغامرة الساقطة من كادر‬
‫جامد في قرية منسية بدت بعيون طفل ككون شاسع‪.‬‬

‫النجاة‪ :‬وتستمر الحياة ‪1992‬‬

‫أن تستمر الحياة هو أيًض ا نوع من الفنون‪ ،‬بل هو أسمى الفنون‪.‬‬

‫—كيارستمي‬

‫يخطو «كيارستمي» هنا خطوة أكبر نحو الشعرية‪ ،‬هذا فيلم أقل إحكاًما وتماسًك ا في حبكته وأكثر سيولة‪ ،‬مزيج من التداعي الحر‬
‫والوثائقية التي تترك المشهد بأكمله لشهود العيان‪ ،‬ربما ألنه لم يكن فيلًما ُمخطًط ا له!‬

‫«كوكر» القرية المنسية التي استضافت فيلم كيارستامي البسيط تحولت لحطام على يد زلزال إيران الشهير عام ‪ 1990‬الذي‬
‫حصد أكثر من ‪ 50‬ألف ضحية‪ ،‬لم يدر كيارستامي أن المكان الذي اختاره كخلفية لُمغامرة شعرية لطفل منذ سنوات قليلة‬
‫سيزول وستصير سينما ذلك الفيلم هي الشاهد األخير على «كوكر» قبل الزلزال‪ ،‬وستصير لقطاته األثيرة هي كل ما يعرفه‬
‫العالم عن «كوكر» قبل أن تصير ُح طام‪.‬‬

‫الزلزال حدث واقعي فج تدخل ومنح الخلود الحزين لخيال سينمائي قديم هو فيلم «أين منزل صديقي»‪ ،‬يدرك كيارستامي أن‬
‫فيلمه الجديد سيكون الُمعادلة ذاتها لكن مقلوبة‪ ،‬سيتدخل كيارستمي بخيال سينمائي جديد ليمنح الخلود لواقع كوكر وُس كانها بعد‬
‫الُح طام لكنه خلود أقل حزًنا وأكثر جمااًل ‪.‬‬

‫كان جمال كوكر الذي صوره كيارستمي كخلفية لحكايته‪ ،‬جمااًل غير مقصود‪ ،‬أثر جانبي لحكاية رواها‪ ،‬اآلن سيستعيد كوكر لكن‬
‫بجعل البطولة للمكان‪ ،‬وبجعل الكاميرا خاصته شاهًد ا صامًتا ال ُيفسد التداعي والشعرية بالتدخل بحبكة وبداية ونهاية وقصة‪.‬‬

‫يبدأ الفيلم بشخصية كيارستمي ذاتها يؤديها الُممثل «فرهاد خيردماند»‪ ،‬المخرج الذي صور فيلم في كوكر قبل سنوات جاء‬
‫ليتتبع الطفل بطل فيلمه السابق ليعلم هل قتله الزلزال أم ال؟‬

‫‪7/13‬‬
‫من فيلم وتستمر الحياة – إخراج كيارستمي‬

‫يختار «كيارستمي» وسيًط ا سيحضر بكثرة في أفالمه وهو الراكب في سيارة‪ ،‬المار على طريق‪ ،‬معظم الفيلم سنتابعه من سيارة‬
‫المخرج وهو يقود عبر القرى ليصل إلى كوكر‪ُ ،‬نتابع بالكاميرا الحطام وعمال اإلغاثة والسكان وهم يجرفون األنقاض‪ ،‬الُمخرج‬
‫والسيارة عين خارجية راصدة ومتحركة تسمح لنا بالتقاط المأساة بحس وثائقي والتقاط قيمة ُمهمة بحس شعري وهي استمرارية‬
‫اإلنسان في العيش وسط الموت والمأساة‪.‬‬

‫من فيلم وتستمر الحياة – إخراج كيارستمي‬

‫‪8/13‬‬
‫كعادة كيارستمي‪ ،‬ال توجد ذرة ُمبالغة أو ميلودراما‪ ،‬الفيلم قصيدة شعرية ُمرهفة ولو غلفت مأساة مثل زلزال‪ ،‬ترتسم على مالمح‬
‫األبطال لمسة قبول قدرية ُمستسلمة‪ ،‬مسحة ُح زن شيعية من دون عويل أو بكاء‪ ،‬مثلما يمر البطل بسيارته ببطء وسط الشقوق‬
‫والتصدعات‪ ،‬تمر الحياة ببطء وسط ركام وُح طام المأساة‪.‬‬

‫من فيلم وتستمر الحياة – إخراج كيارستمي‬

‫ُيقابل الُمخرج رجاًل تزوج في صبيحة الزلزال‪ُ ،‬يخبره ببساطة أن الكبار سيخبرونه أن ينتظر أسبوًع ا فأربعين يوًما فسنة‪ ،‬تزوج‬
‫في حظيرة بالستيك يدوية‪ ،‬ووليمة العرس كانت ثمار طماطم ناضجة من سيارة إغاثة‪ ،‬وأثاثه كان ما نجا من حطام بيت والده‪،‬‬
‫صحًنا‪ ،‬ملعقتين‪ُ ،‬يخبره العريس ببساطة‪:‬‬

‫لم االنتظار؟ ربما سنموت في الزلزال التالي‪.‬‬

‫ُيقابل رجل يضبط الهوائي وسط الُح طام اللتقاط ُمباراة كأس العالم ويسأله‪:‬‬

‫– كيف تشاهد التلفاز وسط كل ذلك؟‬


‫– لقد فقدت أختي الصغيرة وثالثة من أبناء أخي وأختي‪ ،‬لكن ماذا سنفعل؟ كأس العالم تأتي مرة كل أربعة أعوام‬
‫والزلزال يأتي مرة كل أربعين عاًما‪ ،‬تستمر الحياة‪.‬‬

‫البطل هو دهشة كيارستامي إزاء قدرة البشر على النجاة واالستمرار‪ ،‬لم ُيرد كيارستامي أن يوثق الدمار بعين حزينة وال بعين‬
‫هوليوودية ُمحتفلة بملحمية‪ ،‬الملحمة غير إنسانية في سينما كيارستامي إنما القبول القدري الُمفعم بالمحاولة البسيطة من جديد مثل‬
‫مياه تنحت بصبر ممرها في جبل‪ ،‬تلك هي اإلنسانية التي ُتدهشه‪ ،‬لذا احتضنت قيمة الحياة لديه قرية كوكر المنسية في الجبل‬
‫وسكانها وليس «طهران» العاصمة الكبرى المزدحمة‪.‬‬

‫خالل الفيلم سنقابل ممثلين ظهروا في الفيلم األول‪ ،‬سنقابل الرجل العجوز الذي سيسخر من تعليمات كيارستامي القديمة له في‬
‫الفيلم أن يبدو ُمحدوًد ا وأكثر عجًز ا‪ ،‬سخرية يكاد يغيب معها شهودك للفيلم كأنه فيلم ذو حبكة تحاول إقناعك بتصديقها‪ ،‬أنت تسير‬
‫في القرية في فيلم طريق‪ ،‬تقابل حكاية تلو أخرى حتى تنسى ما كنت تبحث عنه من األساس‪.‬‬

‫كمال الحضور السينمائي لكيارستامي هو غياب شهوده لنفسه كفاعل عمدي في الحكاية ودخيل‪ .‬حتى لو كان هو بطل الفيلم‬
‫بشخصية المخرج فهو مرآة لتجلي الحكايات عليها ال أكثر‪.‬‬

‫‪9/13‬‬
‫من فيلم وتستمر الحياة – إخراج كيارستمي‬

‫في النهاية نعلم أن البطل الطفل حًيا‪ ،‬وتستمر السيارة في رحلتها له وال نعلم أكثر من ذلك‪ ،‬خالل رحلة البطل يستمع للحكايات‬
‫حتى تفقد الحكاية التي يبحث عنها خصوصيتها‪ ،‬البطل «أحمد» تحول لحكاية من الحكايات‪ ،‬وفرد من مئات األفراد في كوكر‪.‬‬
‫لن يكون في حكايته أهمية أكبر أو جديد أكثر من كل ما مر به البطل في رحلته‪.‬‬

‫كما منحه فيلمه األول بحكم الصدفة خلود مدينة قبل إبادتها‪ ،‬يمنح كيارستامي عن عمد الخلود السينمائي لمحاوالت اإلنسان‬
‫البطيئة‪ ،‬في االنبعاث من رماد الُح طام‪.‬‬

‫الُح ب‪ :‬بين أشجار الزيتون ‪1994‬‬

‫ُتعلمنا خبرة الحياة‪ ،‬أن الشخص الواقع في الُح ب يكون في أكثر حاالت العيش صدًقا‪ ،‬ألن األفق أمامه وال شيء‬
‫في قصته مؤكد‪.‬‬

‫—كيارستمي‬

‫ُيقدم لنا «كيارستمي» فيلمه األخير في ُثالثية كوكر‪ ،‬يشبه األمر لعبة «الماتريوشكا» الروسية‪ ،‬حيث تجد عروًس ا بداخلها‬
‫عروس أصغر بداخلها عروس أصغر‪ُ ،‬يخبرنا أن نسيج الحياة هو تنويع عن تلك الماتريوشكا‪ ،‬وبينما أنت تنهمك في تأمل‬
‫عروس واحدة ال تدري أنها حبلى بعرائس كثيرة بداخلها‪ ،‬ومثلما انهمك كيارستامي في ُمعالجة حكاية واحدة ُيخبرك أن حكايات‬
‫أجمل يمكن أن تحويها حكايته‪.‬‬

‫في مزاوجته الشعرية بين الواقع والخيال‪ ،‬يبدأ الفيلم بالممثل «محمد على كيشفراز» الذي يلعب دور كيارستامي نفسه‪ ،‬الفيلم هو‬
‫كواليس تصوير الفيلم السابق «وتستمر الحياة»‪ُ ،‬يخبرنا عبره كيارستامي عن قصة حب بين فتى وفتاة‪ ،‬ظهروا ككومبارس في‬
‫الفيلم السابق في مشهد عابر ُمدته دقيقتان‪.‬‬

‫‪10/13‬‬
‫هذا الفيلم الجديد بأكمله هو خلفية وحكاية الشاب والفتاة التي جعلت هذا المشهد ُيعاد تصويره مراًر ا ليظفر في النهاية الُمخرج‬
‫بدقيقتين ونظفر نحن بحكاية جانبية لم ندر عنها شيًئا ونحن نشاهد فيلمه السابق‪ .‬يفتح كيارستامي فيلمه السابق مثل الماتريوشكا‬
‫لنرى العروس أو الحكاية الجميلة عن الحب القابعة فيه‪.‬‬

‫من فيلم بين أشجار الزيتون – إخراج كيارستمي‬

‫بطل الحكاية هو «حسين» عامل البناء اُألمي الذي يتمنى الزواج من «طاهرة» الُمتعلمة‪ُ ،‬يرفض حسين ألنه أمي وال يملك بيًتا‪،‬‬
‫ثم يأتي زلزال ‪ 1990‬ليحصد عائلة طاهرة ويجعلها بال بيت أيًض ا بينما تعولها جدتها العجوز التي تستمر بإصرار في رفض‬
‫زواج طاهرة من حسين‪ ،‬طوال الفيلم ُيحاول «حسين» التودد لطاهرة ليعلم هل تقبل ُح به أم ال؟ لو قبلت ُيمكنه أن يواجه الجدة‬
‫والعالم ألجلها‪ ،‬لكن ليظفر باإلجابة ال توجد أي فرصة أمامه سوى مشهد مدته دقيقتان لُمخرج غريب قادم من طهران‪ ،‬عليه في‬
‫كواليس تلك اللقطة التي يظهر فيها كزوج غضوب يسأل زوجته عن الجوارب‪ ،‬أن يعلم مشاعر طاهرة نحوه‪ .‬يقول حسين‪:‬‬

‫لست هذا الشخص الذي يسأل عن جواربه طوال الوقت‪ ،‬هذا ما يريده المخرج‪ ،‬لو تزوجت سأملك البراعة الكافية‬
‫ألضعها جانًبا مع مالبسي وأغراضي‪ ،‬أريد أن أتزوج ألكون سعيًد ا‪ ،‬ال لتطبخي لي‪ ،‬وال لتعتني بمالبسي‪ ،‬أريدك أن‬
‫تكملي دراستك‪ ،‬وأنا اعمل وآكل من السوق‪ ،‬الشيء الوحيد الذي أريده أن تكوني سعيدة‪ ،‬هل قلبك معي؟ أخبريني‪.‬‬

‫يتابع الُمخرج الممثل لشخصية كيارستامي قصة الُح ب تلك‪ ،‬ويحاور حسين طوال الوقت‪ ،‬تظهر شخصية المخرجة المساعدة‬
‫الصارمة التي ُتحافظ على جدول المشاهد وتكرارها وتنصحه بأن يطرد إما حسين أو طاهرة ليكتمل المشهد الذي يستمروا‬
‫بإعادته‪ ،‬لكن الُمخرج يرفض وُيصر عليهما‪ ،‬صبر كيارستامي أو شخصيته هنا صبر غير عابئ بسينماه أو الفيلم ذاته‪.‬‬

‫‪11/13‬‬
‫من فيلم بين أشجار الزيتون – إخراج كيارستمي‬

‫يبدو كيارستامي في الثالثية بأكملها غير عابئ بالسينما خاصته‪ ،‬فيسمح لممثليه بالظهور النتقاد أفالمه السابقة وأدوارهم فيها‪،‬‬
‫وفي هذا الفيلم تظهر الفتيات الالئي يختار بينهن بطلة مشهده وهن يسخرن من فيلمه السابق الذي لم ينجح كثيًر ا‪ ،‬وبينما تبدو‬
‫المخرجة المساعدة أكثر حرًص ا على إيقاع الفيلم يغرق كيارستامي بشخصية ُممثله في تفاصيل قصة الحب الجانبية ويستديم‬
‫مشهده ليصارح حسين طاهرة‪.‬‬

‫من فيلم بين أشجار الزيتون ‪ -‬إخراج كيارستمي‬


‫من فيلم بين أشجار الزيتون – إخراج كيارستمي‬

‫هذا ما ُيريده كيارستامي من السينما‪ ،‬أن ُيخبرك أن الحياة فيض من تفاصيل شعرية أكثر أهمية وجمااًل بكثير من سجن الحبكة‬
‫التي يصطنعها المخرج بالممثلين والكاميرا‪ ،‬لذا يمنح حكايته األخيرة في الثالثية لكومبارس في فيلمه وأبطال في الحياة‪ ،‬ينتهي‬
‫الفيلم بحسين وهو يطارد طاهرة والكاميرا تبتعد‪ ،‬ال ندري هل قبلت طاهرة ُح به وقلبه أم ال؟ فقد نراه يعود بحركات حماسية‬
‫سريعة وكل ما نأمله أن تكون طاهرة قد منحته قلبها‪.‬‬

‫ُيخبرنا كيارستمي‪:‬‬

‫من الُمالحظ بحزن أننا ال نستطيع النظر لجوهر ما تحمله الحياة أمامنا‪ ،‬إال لو حبسناه في كادر لقطة‪.‬‬

‫وهذا ما أراده بسينماه ال حبس الواقع إنما التقاط جمالياته الُمنفلتة‪.‬‬

‫ُيخبرنا كيارستامي بثالثية عن قرية منسية طواها زلزال مأساوي‪ ،‬جوار سينماه يكتب كيارستامي الشعر‪ ،‬وفي سينماه ُيحاول‬
‫التقاط هذا الشعر من ثنايا العالم اليومي وأحداثه‪ ،‬مقدًما وعده عبر أشعاره وأفالمه أن الجمال حاضًر ا بصيغته الشعرية في صور‬
‫مثل الُح رية والُح ب والنجاة‪ ،‬عليك فقط أن ُترهف حواسك لتراه‪:‬‬
‫ُظ‬
‫‪12/13‬‬
‫في الُظ لمة الكاملة‬
‫مازال الشعر هنا‬
‫مازال ينتظرك أنت‬
‫ألجل أن تراه‬

‫‪13/13‬‬

You might also like