You are on page 1of 23

37

((7(*
Azzam Amin | ‫عزام أمين‬

‫علم النفس عبر الثقافي‬


:‫وعلم نفس المثاقفة‬
‫تحليلية في الهو ّية والتثاقف‬
ّ ‫دراسة‬
Cross-cultural Psychology
and Psychology of Acculturation:
Analytical Study of Identity and Acculturation

.‫ تهدف هذه الدراسة النظرية إلى إلقاء الضوء على علم النفس عبر الثقافي بصورة عامة‬:‫ملخص‬
‫ وعلم‬،‫ ونشأة علم النفس عبر الثقافي‬،‫موجزا عن عالقة علم النفس بالثقافة‬ ً ‫تاريخيا‬
ً ‫عرضا‬ً ‫وتقدم‬
‫ وأهمية هذا الحقل األكاديمي في دراسة الظواهر النفسية واالجتماعية‬،‫نفس المثاقفة وأهدافه‬
‫ وتعرض قــراءة تحليلية مقارنة لنظريتي إستراتيجيات الهوية‬.‫في المجتمعات التعددية الثقافية‬
‫وإسـتــراتـيـجـيــة الـتـثــاقــف وتـقـتــرح الـجـمــع بـيـنـهـمــا فــي مـنـحــى تــوفـيـقــي يــربــط بـيــن الـمـسـتــوى الـفــردي‬
.‫ فــي التحليل والتعميم‬Macro ‫ والمستوى االجتماعي السوسيولوجي‬Micro ‫السيكولوجي‬
‫فهم‬
ٍ ‫ ونزعة الرد السيكولوجية الضيقة نحو‬،‫وتهدف هذه الرؤية التجسيرية إلى تجاوز الجزئيات‬
.‫أكثر شمولية لسلوك الفرد في المجتمعات التعددية‬
.‫ هوية‬،‫ تثاقف‬،‫ إستراتيجيات‬،‫ علم النفس عبر الثقافي‬:‫كلمات مفتاحية‬
Abstract: This theoretical paper aims to cast light on cross–cultural psychology in
general. It provides a brief historical overview of the relationship of psychology
to culture and the emergence of cross–cultural psychology and psychology of
acculturation and its aims, indicating the importance of this academic field in
studying psychological and sociological phenomena in multicultural societies. The
study presents a comparative analytical reading of the theories of identity strategies
and acculturation strategies, and proposes combining and reconciling them in a
way that connects the individual (micro) psychological level and the collective
sociological (macro) level in analysis and generalization. This vision aims to
transcend specifics and the trend of narrow psychological responses towards more
comprehensive understanding of individuals’ behavior within pluralist societies.
Keywords: Cross–cultural Psychology, Acculturation, Strategies, Identity.

.‫* أستاذ مساعد في علم النفس االجتماعي في كلية علم النفس والعمل االجتماعي في معهد الدوحة للدراسات العليا‬
Assistant professor in psychology at the College of Psychology and Social Work, Doha Centre for Graduate Studies.
‫‪38‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫مقدمة‬
‫يجد المتتبع للعالقات بين الثقافات‪ ،‬منذ القدم حتى اآلن‪ ،‬أنها تجلت في صور متعددة‬
‫ومتنوعة راوحت بين االنغالق والعزلة والالمباالة‪ ،‬وبين االنفتاح والتعاون والتبادل والتفاهم‪،‬‬
‫وبين التنافس والصراع والحرب والتدمير المتبادل‪ .‬وإن كانت هذه العالقات محدودة في زمن فات‪،‬‬
‫رئيسا يتشكّل منه واقعنا الذي نعيشه‪ ،‬ال سيما في ظل العولمة وزوال الحدود‬ ‫فإنها قد غدت مكونًا ً‬
‫الجغرافية التي كانت تفصل البلدان بعضها عن بعض‪ ،‬وكذلك بفعل موجات الهجرة التي أخذت في‬
‫االزدياد التدريجي في العقود القليلة الماضية؛ ما جعلها رك ًنا أساس ًيا مما يدعوه عالم النفس الفرنسي‬
‫كارمل كاميليري (‪ )1997–1922‬عملية التكامل العالمي(((‪ .‬هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة التي‬
‫تختلف أسبابها ووجهاتها‪ ،‬بفعل عوامل متعددة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية‪ ،‬واآلخذة بالتزايد‪،‬‬
‫ولدت حال ًة من التعددية الثقافية‪ ،‬مرتكز ًة على التنوع اإلثني‪ ،‬بتنا نراها في جل المجتمعات؛ ما حدا‬
‫بمجموعة من ال ُمختصين في علم االجتماع إلى التعريف بعصرنا الحالي على أنه «عصر الهجرة»(((‪.‬‬

‫وتنبّه علماء االجتماع إلى ظاهرة التواصل بين هذه الثقافات ‪ ،Contact de cultures‬وشرعوا في دراسة‬
‫تأثيراتها‪ ،‬سواء في المجتمعات ال ُمضيفة أو في المهاجرين‪ ،‬وذلك اعتبا ًرا من نهاية القرن التاسع عشر‬
‫ومطلع القرن العشرين؛ إذ شهدت هذه الفترة الزمنية موجات هجرة وصلت إلى قارة أميركا الشمالية‪،‬‬
‫وكذلك إلى أوروبا‪ ،‬عقب الحرب العالمية الثانية‪ .‬ولم تقتصر الدراسات على علم االجتماع‪ ،‬بل شملت‬
‫علم النفس‪ ،‬فتركزت األبحاث على ظاهرة االتصال الثقافي وعالقة السلوك بالثقافة‪ ،‬كما اهتمت على‬
‫نحو الفت بآليات االندماج والتكيف النفسي في ظل المجتمعات التعددية‪ .‬أفرزت هذه الدراسات‬
‫ستقل في علم النفس ما زال آخذًا في التطور‪ُ ،‬عرف بـ «علم النفس عبر الثقافي»‬ ‫ً‬ ‫حقل معرف ًيا ُم‬
‫ً‬
‫‪.Cross Cultural Psychology‬‬

‫ونسعى من خالل هذه الدراسة النظرية إلى تعريف هذا الفرع الجديد من علم النفس‪ ،‬من خالل تقديم‬
‫لمحة تاريخية تُوجز عالقة علم النفس بالثقافة‪ ،‬والتعريف بكل من علم النفس عبر الثقافي‪ ،‬وعلم‬
‫نفس المثاقفة‪ .‬وذلك لكون هذا العلم فضا ًء مه ًما ومفصليًا في علم النفس ال ُمعاصر حول العالم‪ ،‬منذ‬
‫خمسينيات القرن العشرين‪ ،‬ولم يُولِه الباحثون العرب االهتما َم الالزم ميدان ًيا ونظريًا حتى اآلن؛ فال‬
‫نكاد نرى في المكتبة العربية ما يساعد الباحثين والقراء على التعرف إليه وتناوله بالدراسة‪.‬‬

‫كما نسعى أيضً ا من خالل هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية مقارنة لنظريتي‪ :‬إستراتيجيات‬
‫الهوية ‪ Stratégies identitaires‬التي بلورها كارمل كاميليري في أبحاثه(((‪ ،‬وأثرت في أعمال‬
‫كثيرين من الباحثين الفرنكوفونيين في علم النفس عبر الثقافي‪ ،‬ونظرية إستراتيجيات ال ُمثاقفة‬

‫‪(1) Carmel Camilleri, «Le champ et les concepts de la psychologie culturelle,» in: C. Camilleri & G. Vinsonneau (dir.),‬‬
‫‪Psychologie et culture: Concepts et méthode (Paris: Armand Colin, 1996), p. 9.‬‬
‫((( أنتوني ِغدنز‪ ،‬علم االجتماع‪ ،‬ترجمة فايز الصياغ (بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،)2005 ،‬ص ‪.331‬‬
‫‪(3) Carmel Camilleri, «Identité et gestion de la disparité culturelle: Essai d’une typologie,» in: Carmel Camilleri et al.‬‬
‫‪(dir.), Stratégies Identitaires (Paris: PUF, 1990), pp. 85–110.‬‬
‫‪39‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫‪ Stratégies d’acculturation‬للعالم الكندي جون بيري(((‪ ،‬التي كان لها انتشا ٌر أوسع بين الباحثين‬
‫الفت في بحث ديناميات‬‫ٍ‬ ‫الناطقين باإلنكليزية‪ .‬إذ يمكننا القول إن هاتين النظريتين أسهمتا على نحو‬
‫االتصال الثقافي وآليات التكيف النفسي في المجتمعات التعددية‪.‬‬

‫أخي ًرا‪ ،‬لن نتطرق إلى جميع نظريات علم نفس المثاقفة وتطبيقاتها المهمة كنظرية «إستراتيجيات‬
‫المثاقفة التفاعلية» ‪ Stratégies d’acculturation Interactive‬للباحث ريتشارد بوريس(((‪ ،‬ونظرية‬
‫أميو وسابلونيير «نموذج المعرفي – النمو» ‪ ،Modèle cognitivo–développemental‬و«نموذج ثنائية‬
‫الثقافة» ‪ Le modèle Bicultural‬للباحثتين جانا هاريتاتوس وفيرونيكا بنيت – مارتينيز(((‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال ال الحصر‪ ،‬فهذا األمر يمكن أن يجده بسهول ٍة أي ُمتقنٍ للغتين اإلنكليزية أو الفرنسية في المراجع‬
‫وال ُملخصات المنشورة في أوروبا(((‪ .‬فالهدف في هذه الدراسة هو التركيز على نظريتين أساسيتين في‬
‫علم النفس عبر الثقافي وعقد مقارنة بينهما‪ ،‬وذلك سعيًا منا إلى اقتراح منحى توفيقي مؤسس لنظرية‬
‫تكاملية جديدة عن التكيف النفسي واالجتماعي في المجتمعات التعددية‪.‬‬

‫ونأمل من خالل هذه الدراسة تقديم مرجع نظري معرفي للمختصين في علم النفس عبر الثقافي باللغة‬
‫العربية‪ ،‬يستفيد منه الباحثون والمختصون في هذا المجال؛ لعلمنا بافتقار المكتبة العربية ألي ترجمة‬
‫كاملة لهما‪ ،‬وذلك على الرغم من أهميتهما ودورهما في تحليل مسألة التكيف النفسي وأزمة الهوية‬
‫ضمن المجتمعات التعددية‪ .‬أما من الناحية التطبيقية‪ ،‬فإن الدراسة الحالية تسمح بالبدء في إجراء‬
‫بحوث ميدانية تشمل المهاجرين العرب في أوروبا‪ ،‬ال سيما بعد أن تزايد عددهم على نحو ملحوظ بعد‬
‫ثورات الربيع العربي التي تح ّول قسم منها إلى حروب ونزاعات مسلحة‪ .‬فلقد بات لزا ًما على الباحثين‬
‫العرب ومراكز األبحاث العربية دراسة أزمات هؤالء المهاجرين داخل المجتمعات ال ُمضيفة‪ ،‬والبحث‬
‫في كيفية تكيّفهم معها‪ ،‬ومدى نجاحهم في المجتمعات الجديدة‪ .‬ومن هنا فإن الدراسة الحالية تسعى‪،‬‬
‫ضمن حدودها‪ ،‬إلى تقديم جهد متواضع في هذا المجال‪.‬‬

‫واعتمدنا في هذه الدراسة األسلوب الوصفي النظري لدراسة المفاهيم والحقائق؛ بهدف بناء منظومة‬
‫معرفية متكاملة تُعالج اإلشكالية التي قامت عليها الدراسة وخلفياتها وأهميتها وأهدافها‪ُ ،‬مستندين إلى‬
‫تحليل مقاالت بحثية ودراسات ميدانية منشورة في دوريات متخصصة عالمية‪.‬‬

‫تشخيصا «وصف ًيا مكتب ًيا»‪ ،‬القتصاره على الجانب النظري‪،‬‬


‫ً‬ ‫ويمكن أن نعتبر هذه الدراسة بحثًا أو‬
‫وافتقاره إلى التحقيق الميداني‪ ،‬إال أن هذا اإلطار النظري الذي نُقدمه يُمثل مقدمة نظرية ال ب ّد منها‬

‫‪(4) John W. Berry & David Sam, «Acculturation and Adaptation,» in: John W. Berry, Marshall H. Segall & Cigdem‬‬
‫‪Kagitçibasi (dir.), Handbook of Cross–Cultural Psychology, vol. 3 (Boston: Allyn & Bacon, 1997), pp. 291–326.‬‬
‫»‪(5) Richard Y. Bourhis et al., «Towards An Interactive Acculturation Model: A Social Psychological Approach,‬‬
‫‪International Journal of Psychology, vol. 32, no. 6 (1997).‬‬
‫‪(6) Roxane De la Sablonière, Regine Debrose & Sophie Benoit, «Comparaison de trois conceptualisations de‬‬
‫‪l’intégration identitaire: Une étude auprès d’immigrants québécois,» Les Cahiers Internationaux de Psychologie Sociale,‬‬
‫‪vol. 88, no. 4 (2010), pp. 661–682.‬‬
‫((( كما أن حدود هذه المقالة وأهدافها ال تسمح بهذا األمر على الرغم من أهميته‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫ألي دراسة ميدانية في هذا المجال‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬فقد حرصنا في انتقائنا المراجع التي استندنا إليها‬
‫في العمل على أن تكون ذات قيمة عالية‪ ،‬لعلماء نفس معروفين بقيمتهم العلمية على مستوى العالم‪،‬‬
‫ومنشورة أبحاثهم في مراكز األبحاث ال ُمعترف بها دول ًيا‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬إطار نظري عام‬
‫ليس في وسعنا الحديث عن علم النفس عبر الثقافي‪ ،‬من دون المرور على مفهوم الثقافة ‪Culture‬‬
‫ذاته‪ .‬ويُعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم إثار ًة للجدل في العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬وهي من‬
‫المكونات األساسية لهوية اإلنسان باختالف المجتمعات‪ ،‬وتظهر تأثيراتها في جميع نواحي حياته‪،‬‬
‫وغال ًبا بطريقة الشعورية‪ .‬كما يُثير مفهوم الثقافة جمل ًة من اإلشكاليات‪ ،‬ترتبط باعتبارات سياسية‬
‫فضل عن كون الثقافة ت ُبنى على‬
‫ً‬ ‫وأيديولوجية وتتأثر بتنوع المعاني التي يحملها المفهوم في حد ذاته‪،‬‬
‫نحو مستمر وترتبط من خالل تأثيرها أو تأثرها بمسائل أخرى تتعلق بالحرية واالستبداد والديمقراطية‬
‫والتعددية واالختالف والتطور واإلبداع(((‪.‬‬

‫ولن يكون في اعتبارنا خالل هذه الدراسة مناقشة جميع تعريفات مفهوم الثقافة وارتباطه باألنثروبولوجيا‬
‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬فهذا ليس من صلب موضوعنا هنا(((‪ .‬ونكتفي بالقول إنجميع التعريفات والمدارس‬
‫الفكرية القديمة والمعاصرة اجتمعت على أن الثقافة هي «جميع المعاني والمنظومات الرمزية المشتركة‬
‫بين أعضاء مجموعة معينة‪ ،‬وهذه المعاني والرموز تنتظم ضمن جملة أنساق من القيم والعادات والتقاليد‬
‫والقوانين والضوابط والتصورات االجتماعية‪ ،‬وكذلك السلوكيات المشتركة والمعارف والفن‪ ،‬ويجري‬
‫تناقلها من جيل إلى آخر في مجتمع معين عبر مسارات ووسائط غير وراثية – جينية»(‪.((1‬‬

‫ويمكن للمهتم بتطور األبحاث العلمية حول ظاهرة الثقافة وتأثيرها في السلوك اإلنساني أن يستنتج‬
‫أمرين‪ :‬األول هو أنه في المراحل األولى لهذه األبحاث لم يكن هناك اهتمام بظاهرة االتصال بين‬
‫الثقافات وتأثيرها في المجتمعات واألفراد‪ .‬فقد بدأت هذه األبحاث عبر الثقافية في القرن التاسع عشر‬
‫وتنامى االهتمام بها في مطلع القرن العشرين‪ .‬األمر الثاني هو أن الثقافة لم تكن من المفاهيم التي‬
‫أعارها علم النفس اهتما ًما كبي ًرا خالل النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬وذلك على الرغم من أن‬
‫عالقة علم النفس بالثقافة قديمة ج ًدا‪ ،‬غير أنها كانت تمر عبر الدوام من نافذة األنثروبولوجيا الثقافية‪،‬‬
‫ُمتأثر ًة باألعمال األولى ألنثروبولوجيين شهيرين من أمثال فرانز بواس‪ ،‬ومارغريت ميد‪ ،‬وروث بندكت‬
‫وغيرهم من باحثين سبق أن أشرنا إليهم(‪.((1‬‬

‫((( عبد الرزاق الداوي‪ ،‬في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة (الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز‬
‫العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2013 ،‬ص ‪.16 ،15‬‬
‫((( انظر‪ :‬المرجع نفسه‪.‬‬
‫–‪(10) Carmel Camilleri, «La culture et l’identité: Champ notionnel et devenir,» in: Carmel Camilleri & Margalit Cohen‬‬
‫‪Emerique (dir.), Choc de cultures: Concepts et enjeux pratiques de l’interculturel (Paris: L’Harmattan, 1989), p. 27.‬‬
‫(‪ ((1‬عـبــد الناصر السباعي‪ ،‬علم النفس عبر الـثـقــافــي‪ ،‬سلسلة الكتاب العربي للعلوم النفسية ‪[( 27‬د‪.‬م‪ :].‬إصــدارات شبكة العلوم‬
‫النفسية العربية‪ ،)2013 ،‬ص ‪.19–18‬‬
‫‪41‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫ولقد انطلقت باكورة األبحاث عبر الثقافية(‪ Cross–cultural ((1‬في مجال علم النفس عام ‪ 1957‬فعل ًيا‪،‬‬
‫ويعود الفضل في ذلك إلى مجلة علم النفس االجتماعي األميركية‪ ،‬التي أولت هذا النمط من األبحاث‬
‫أهمي ًة كبيرة‪ .‬وفي الفترة ذاتها‪ ،‬راح علماء النفس يلفتون النظر إلى دور الثقافة في السلوك البشري‪،‬‬
‫جل نظريات علم النفس ما هي إال خالصة ونتاج ألبحاث أجراها باحثون غربيون على‬ ‫ُمشيرين إلى أن ّ‬
‫مجتمعاتهم‪ ،‬وانطالقًا من هذه النقطة يجب أن نتساءل عن مدى عالمية هذه النظريات‪ .‬وهكذا ظهرت‬
‫عام ‪ 1966‬المجلة الدولية لعلم النفس ‪ ،The International Journal of Psychology‬المتخصصة‬
‫في األبحاث النفسية «عبر الثقافية»‪ .‬وبعد مرور أربعة أعوام على ذلك ظهرت أول مرة مجلة تحمل‬
‫االسم الصريح علم النفس عبر الثقافي ‪ ،Journal of Cross Cultural Psychology, JCCP‬بينما‬
‫تأسست أول جمعية لعلماء النفس عبر الثقافيين عام ‪The International Association for 1972‬‬
‫‪ .Cross–Cultural Psychology, IACCP‬وهي جمعية ناطقة باإلنكليزية‪ ،‬ويدخل في عضويتها ما‬
‫يزيد على ‪ 800‬عضو من أكثر من ستين بل ًدا‪ ،‬وعقدت هذه الجمعية مؤتمرها األول في مدينة هونغ‬
‫كونغ في عام تأسيسها األول‪ ،‬كما عقدت مؤتمرها الثالث والعشرين في مدينة نغاواي في اليابان في‬
‫الفترة ‪ 30‬حزيران‪ /‬يونيو–‪ 3‬آب‪ /‬أغسطس ‪ .2016‬وباتت هذه الجمعية منذ تأسيسها المسؤولة عن مجلة‬
‫علم النفس عبر الثقافي‪ .‬وفي مقابل ذلك قام باحثون فرنكوفونيون بإنشاء الجمعية الدولية للبحث‬
‫عبر الثقافي ‪ ،L’Association internationale pour la Recherche Inter–Culturelle, ARIC‬عام‬
‫‪ ،1984‬وعقدت هذه الجمعية مؤتمرها السادس عشر في مدينة أنتاناناريفو عاصمة مدغشقر خالل‬
‫الفترة ‪ 27–23‬أيار‪ /‬مايو ‪.2017‬‬

‫ورغم أنه يمكننا مالحظة التطابق التقريبي بين أهداف الجمعيتين‪ ،‬فإنهما تختلفان في نقطتين‪ :‬األولى‬
‫تتعلق بلغة العمل والبحث الرسمية ال ُمعتمدة من جانب كل جمعية (فرنسية‪ /‬إنكليزية)‪ ،‬والثانية هي أن‬
‫الجمعية الفرنكوفونية عابرة لالختصاصات‪ ،‬إذ تضم بين أعضائها باحثين وعلماء من منابع شتى «علماء‬
‫اجتماع‪ ،‬علماء نفس‪ ،‬ولغويون‪ ،‬وتربويون‪ ،‬وأنثروبولوجيون»‪ ،‬بينما تخصصت الجمعية الناطقة باللغة‬
‫اإلنكليزية في علم النفس فقط‪.‬‬

‫أما أول المراجع ال ُمتخصصة في علم النفس عبر الثقافي فقد نُشر عام ‪ 1980‬في ستة أجزاء‪ ،‬تحت‬
‫إشراف هاري تريانديس ‪ .Harry Triandis‬وجاء في الجزء األول من الكتاب في طبعته األولى أن‬
‫علم النفس عبر الثقافي يهتم بدراسة «كيف» و«لماذا» تختلف الظاهرة النفسية وفقًا الختالف العوامل‬
‫الثقافية والبيئية(‪ .((1‬وبتفصيل أكثر «علم النفس عبر الثقافي هو الدراسة العلمية للسلوك البشري‬
‫وللعمليات الذهنية وللنمو وعالقتهم بالمحيط الثقافي»‪ .‬ويمكن تقسيم الدراسات عبر الثقافية إلى‬
‫ثالثة تخصصات فرعية‪:‬‬

‫ويفضل آخــرون «بين الثقافي»؛ وهي ترجمة المصطلح‬


‫ّ‬ ‫(‪ُ ((1‬يترجم بعضهم مصطلح ‪ Cross Cultural‬إلى العربية بـ «عبر الثقافي»‬
‫تقريبا الداللة نفسها‪.‬‬
‫ً‬ ‫لهما‬ ‫المصطلحين‬ ‫أن‬ ‫ونرى‬ ‫المصطلحات‪،‬‬ ‫الفرنسي ‪ .Intercultrel‬لن ندخل في متاهات الترجمة وغموض‬
‫‪(13) John W. Berry et al. (dir.), Cross–Cultural Psychology: Researches and Applications (Cambridge: Cambridge‬‬
‫‪University Press, 2002), p. 67.‬‬
‫‪42‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫• علم النفس الثقافي ‪Psychologie Culturelle‬؛ إذ يحاول بعض الباحثين فهم العالقة بين سلوك‬
‫الفرد وثقافته التي عاش ضمنها‪.‬‬

‫ينصب عمل‬
‫ّ‬ ‫• علم النفس الثقافي المقارن ‪Psychologie Transculturelle‬؛ في هذا االختصاص‬
‫الباحثين على إجراء ُمقارنات بين الثقافات في مجتمعات مختلفة‪.‬‬

‫• علم نفس المثاقفة ‪Psychologie D’acculturation‬؛ ويهدف إلى دراسة تأثير االتصال والتبادل‬
‫الثقافي ضمن حدود المجتمع الواحد واآلثار التي يعود بها على الفرد‪ .‬وهذا العلم يركّ ز اهتمامه على‬
‫المضيفة لهم(‪.((1‬‬
‫المهاجرين ومشكالت عملية التكيف التي يعانونها ضمن المجتمعات الجديدة ُ‬
‫أما الطبعة الثانية من تلك المراجع‪ ،‬فقد صدرت تحت إشراف العالم الكندي جون بيري في ثالثة أجزاء‬
‫عام ‪ ،1997‬وأشار بيري وزمالؤه(‪ ((1‬فيها إلى أن لعلم النفس عبر الثقافي ثالثة أهداف رئيسة‪ :‬األول هو‬
‫دراسة مدى عالمية نظريات علم النفس من خالل اإلجابة عن السؤال التالي‪ :‬هل نظريات علم النفس‬
‫تنطبق على جميع البشر مهما كانت ثقافتهم؟ بينما الهدف الثاني هو‪ ،‬دائ ًما بحسب بيري وزمالئه‪،‬‬
‫اكتشاف الحاجات والسمات النفسية الخاصة بكل ثقافة‪ .‬وبتحقيق الهدفين األول والثاني نستطيع‬
‫بغض النظر‬
‫الوصول إلى معرفة في علم النفس تعتمد على قوانين سيكولوجية عالمية مشتركة بين البشر ّ‬
‫عن انتمائهم الثقافي‪ ،‬وهو ما يمثل الهدف الثالث‪.‬‬

‫ويمكن القول إن هناك ثالثة توجهات أو مقاربات نظرية في دراسة السلوك البشري وعالقته بالثقافة‬
‫بغض‬
‫ّ‬ ‫في علم النفس‪ :‬مقاربة إطالقوية ‪ Absolutism‬تعتبر السلوك البشري واح ًدا عند جميع البشر‬
‫النظر عن الثقافات‪ ،‬وعلى الطرف النقيض هناك مقاربة نسبوية ‪ Relativism‬ترى أن السلوك البشري‬
‫والعمليات العقلية والحاجات النفسية حت ًما ثقافية؛ وبنا ًء عليه‪ ،‬تختلف باختالف الثقافات‪ .‬وبين هاتين‬
‫المقاربتين الراديكاليتين‪ ،‬إذ األولى تلغي دور الثقافة تما ًما في السلوك‪ ،‬والثانية تعتبرها األساس في‬
‫سلوك األفراد‪ ،‬هناك وجهة نظر معتدلة وهي المقاربة الكلية العالمية ‪ Universalism‬التي تعتبر أن‬
‫العمليات والحاجات النفسية واحدة عند أبناء البشر‪ ،‬ولكن طريقة التعبير عنها وإشباعها يخضعان‬
‫لمتغير الثقافة(‪.((1‬‬

‫أما أول كتاب باللغة العربية(‪ ((1‬في علم النفس عبر الثقافي فقد صدر عام ‪ 1988‬لمحمود السيد أبو‬
‫النيل‪ ،‬وعلى الرغم من أنه اعتمد كلمة «حضاري» في ترجمة الكلمة اإلنكليزية ‪ Cultural‬فكان‬
‫عنوان كتابه علم النفس عبر الحضاري‪ ،‬فإننا نبقي على كلمة «ثقافي» التي اعتمدها جميع الباحثين‬
‫العرب في هذا المجال‪ .‬وتناولت ستة فصول من هذا الكتاب‪ ،‬من الخامس حتى العاشر‪ ،‬مناهج‬
‫البحث في علم النفس عبر الثقافي‪ ،‬وجاء فيها أن له منهجية بحث خاصة به تميزه من غيره من‬

‫‪(14) Berry, Segall & Kagitçibasi (dir.), p. X.‬‬


‫‪(15) Ibid., p. 3.‬‬
‫‪(16) Ibid., pp. 4–5.‬‬
‫(‪ ((1‬لم يجد الباحث سوى ثالثة كتب باللغة العربية‪ ،‬أحدها مترجم‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫العلوم‪ ،‬على الرغم من أن هذا التخصص اعتمد على الكثير من األطر النظرية لتنظيم المعلومات‬
‫التي ُجمعت في شتى الميادين وتحليلها‪ ،‬وكذلك استخدم الكثير من نظريات علم نفس النمو‬
‫والعيادي واالجتماعي(‪.((1‬‬

‫والمبدأ الرئيس في هذه المنهجية البحثية هو التمييز بين البعد الموضوعي في وصف الظاهرة النفسية‬
‫‪ Etic‬والبعد الذاتي ‪ Emic‬فيها(‪ .((1‬وهذا التفريق يساعدنا على بناء مقاييس نفسية عالمية تصلح لكل‬
‫الثقافات‪ ،‬ومقاييس نفسية خاصة بكل ثقافة‪ .‬تجنبنا هذه القاعدة الوقوع في مطبات التعميم الخاطئ‬
‫على سلوك البشر لمعطيات تم الحصول عليها في ثقافات معينة‪ .‬وفي هذا الصدد‪ ،‬يقول بيير دازن‬
‫منتق ًدا المناهج التقليدية في علم النفس العام «إن هذا العلم ُولِد في أوروبا‪ ،‬ونشأ في أميركا‪ ،‬ويدعي‬
‫أن هدفه الوصول إلى القوانين النفسية العالمية‪ ،‬في حين أن أسسه التجريبية تعتمد على عينات خاصة‬
‫من تلك المجتمعات نفسها»(‪ .((2‬وللتخلص من تلك المركزية اإلثنية ‪ Ethnocentrism‬في علم النفس‪،‬‬
‫أساسا على الدراسات المقارنة في بحوثهم؛‬ ‫ً‬ ‫يضيف دازن على علماء النفس عبر الثقافيين االعتماد‬
‫لتحديد ما هو عام مشترك بين الثقافات وما هو خاص في كل ثقافة(‪.((2‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬إستراتيجيات الهوية وإستراتيجيات المثاقفة‬


‫تشير الدراسات الحديثة إلى أنه ال يوجد مجتمع في الوقت الحالي ذو ثقافة واحدة‪ ،‬وديانة واحدة‪،‬‬
‫ولغة واحدة‪ ،‬وقومية واحدة‪ ،‬فلقد أصبحت التعددية الثقافية ‪ Multiculturalism‬سمة من سمات‬
‫المجتمعات الحالية‪ ،‬بال استثناء تقري ًبا‪ .‬والمشكلة لم تكن يو ًما في التعددية الثقافية‪ ،‬وإنما في إدارة‬
‫هذه التعددية على الصعيد الفردي واالجتماعي والسياسي‪.‬‬

‫تُعتبر نظريتا «إستراتيجيات الهوية» لكارمل كاميليري‪ ،‬و«إستراتيجيات المثاقفة» لجون بيري‪ ،‬من أشهر‬
‫النظريات التي سعت إلى دراسة التعددية الثقافية وتأثيرها في السلوك‪ .‬وسنحاول من خالل القسم‬
‫حى‬‫التالي إيراد عرض تفصيلي للنظريتين‪ ،‬وتحديد أوجه االلتقاء واالفتراق بينهما‪ ،‬وأخي ًرا سنقترح من ً‬
‫توفيق ًيا يحاول تحقيق التكامل بينهما‪.‬‬

‫(‪ ((1‬محمود السيد أبو النيل‪ ،‬علم النفس عبر الحضاري (القاهرة‪ :‬دار النهضة العربية‪ ،)1988 ،‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ ((1‬أول من استخدم مصطلحي ‪ Etic‬و‪ Emic‬هو عالم اللسانيات األنثروبولوجي األميركي كينيث لي بايك ‪،Kenneth Lee Pike‬‬
‫فـ ‪ Etic‬هي الجزء األخير من كلمة ‪ Phonetic‬التي تشير إلى الجوانب العامة المشتركة لألصوات‪ ،‬وفي علم النفس عبر الثقافي تعني‬
‫مقاربة الجماعة من خارجها‪ ،‬و‪ Emic‬جــزء من كلمة ‪ Phonemic‬التي تعني األصــوات الخاصة في لغة معينة‪ ،‬وفــي علم النفس عبر‬
‫الثقافي تشير إلى مقاربة الجماعة من داخلها لمحاولة فهمها‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Berry et al., pp. 291–292.‬‬
‫‪(20) Pierre R. Dasen, «La contribution de la psychologie interculturelle à la formation des enseignants pour une‬‬
‫‪éducation interculturelle,» in: M. Lavallée, F. Ouellet & F. Larose (eds.), Identité, culture et changement social (Paris:‬‬
‫‪L’Harmattan, 1991), p. 225.‬‬
‫‪(21) Pierre R. Dasen, «L’ethnocentrisme de la psychologie,» in: Micheline Rey–von Allmen (ed.), Psychologie clinique‬‬
‫‪et interrogations culturelles (Paris: L’Harmattan, 1993), p. 170.‬‬
‫‪44‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫‪ .1‬نظرية إستراتيجيات الهوية لكارمل كاميليري‬


‫تع ّد نظرية إستراتيجيات الهوية(‪ ((2‬من أهم المراجع التي يمكن من خاللها تحليل اإلشكاليات التي‬
‫يتعرض لها المهاجرون في المجتمعات ال ُمضيفة‪ .‬وسنعرض فيما يلي خالصة ما ذهب إليه كارمل‬
‫كاميليري في نظريته هذه‪ ،‬ابتدا ًء من تعريفه مفهوم ال ُهوية‪.‬‬

‫الهوية عند كاميليري‬


‫أ‪ .‬مفهوم ُ‬
‫بالنسبة إلى كاميليري‪ ،‬فإن ُهوية الفرد عبارة عن منظومة متكاملة ومترابطة من معطيات مادية ونفسية‬
‫ومعنوية واجتماعية‪ ،‬تشتمل على خاصية اإلحساس بال ُهوية والشعور بها‪ ،‬بوصفها وحدة داخلية‬
‫متناغمة متمثلة في الشعور باالستمرارية والكلية والتمايز والديمومة‪ .‬وللهوية بحسب كاميليري ثالثة‬
‫جوانب يختص كل منها بوظيفة ُمحددة(‪ .((2‬فهناك الجانب األنطولوجي وهو يلبي الوظيفة المعنوية‪،‬‬
‫فالهوية تؤدي دو ًرا مه ًما في عملية إنتاج الذات الفردية والجماعية وتأكيد جوهرها وخواصها األساسية‬
‫واتساقها وإعطاء معنى لها من خالل تمثّل الفرد للقيم والمبادئ التي نشأ وتربّى عليها‪ ،‬وهو ما‬
‫يمكن تسميته ال ُهوية الوجودية‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬الجانب ال ِقيمي وهو يلبي حاجة تقدير الذات‪ ،‬فعمو ًما يحتاج‬
‫الفرد إلى اإلحساس بأن لجماعته التي ينحدر منها‪ ،‬وله على نحو شخصي‪ ،‬قيمة إيجابية يسعى إلى‬
‫تقديمها والتعبير عنها أمام اآلخرين؛ وهو ما يجوز تسميته ال ُهوية المثالية أو الظاهرية‪ .‬وأخي ًرا‪ ،‬الجانب‬
‫البراغماتي من ال ُهوية وهو يؤدي دور الوظيفة اإلدماجية‪ .‬فالمحيط الذي يعيش فيه أي فرد مملوء‬
‫بالتناقضات واالختالفات‪ ،‬وال يتسم باالنسجام والتوافق بين المكونات التي ت ُشكّله دائ ًما‪ ،‬لذلك يبرز‬
‫تهديد يتعلق بوحدة ال ُهوية وانسجامها لدى الفرد‪ ،‬ويسعى الفرد من خالل الجانب البراغماتي من هويته‬
‫إلى التكيف واالندماج مع محيطه على نحو متواصل؛ وهو ما يضمن له تغيير سلوكه وتعديله‪ ،‬بهدف‬
‫مواءمته مع الواقع الذي يعيشه‪ ،‬وهذا ما يُسمى ال ُهوية الواقعية‪.‬‬
‫وبالنسبة إلى كاميليري‪ ،‬فإن ُهوية الفرد هي محصلة عالقة دينامية وتفاعلية جدلية بين هذه الوظائف‬
‫األنطولوجية وتقدير الذات واإلدماجية‪ .‬وتتلخص هذه الوظائف في ثالثة أسئلة وجودية يطرحها كل‬
‫فعل؟‬
‫فرد بوعي أو بطريقة الواعية‪ ،‬وهي‪ :‬كيف أحب أن أكون؟ كيف يراني اآلخرون؟ َم ْن أنا ً‬
‫إن فهم الفرد معايير ثقافته وقيمها وقدرته على إدارة تلك العالقة الدينامية التفاعلية بين وظائف الهوية‬
‫عامل حاس ًما في تكيفه مع نفسه ومع اآلخرين‪ .‬وفي هذا اإلطار يطرح كاميليري التساؤل‬ ‫ً‬ ‫تشكالن‬
‫التالي‪ :‬ماذا يحدث حين يعيش الفرد ضمن مجتمع آخر مختلف عن المجتمع الذي ينتمي إليه‪ ،‬أي‬
‫في إطار ثقاف ٍة أخرى ال يعرفها كما هو الحال بالنسبة إلى المهاجرين الذين ينتقلون للعيش ضمن‬
‫بكلمات أُخرى‪ ،‬ما الميكانيزمات النفسية التي يلجأ‬
‫ٍ‬ ‫مجتمعات أخرى مختلفة عن مجتمعاتهم األم؟‬
‫إليها المهاجر بعد أن بات بعي ًدا عن مجتمعه وقيمه وعن المعايير وال ُمثل العليا التي نشأ وتربى عليها‬
‫ودالالت وتصورات‪ ،‬وذلك عندما يقف أمام مجتمع جديد يعيش ضمن إطار ثقافي مختلف عن‬ ‫ٍ‬ ‫سلوكًا‬
‫ذاك الذي يُشبهه وتكونت شخصيته على أساسه؟‬

‫‪(22) Camilleri, «Identité et gestion de la disparité culturelle,» pp. 85–110.‬‬


‫‪(23) Ibid., p. 85.‬‬
‫‪45‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫الهوية‬
‫ب‪ .‬إستراتيجيات ُ‬
‫يرى كاميليري(‪ ((2‬في معرض اإلجابة عن السؤال السابق أن ثقافة المهاجر غير متجانسة مع ثقافة‬
‫المجتمع المضيف‪ ،‬وهذا يؤدي إلى حالة من الصراع الثقافي بين قيم ومعايير يحملها ويؤمن بها‪،‬‬
‫كان قد تش ّربها من ثقافته األصلية‪ ،‬ومعايير وقيم ُمغايرة هي السائدة في المجتمع ال ُمضيف‪ .‬هذا‬
‫التضارب بين مجموعتين من القيم يؤدي إلى خلل في التوازن واالنسجام (االتساق والترابط)‬
‫بين وظائف ال ُهوية الثالث‪ :‬األنطولوجية والبراغماتية وتقدير الذات‪ .‬ومن البديهي‪ ،‬بالنسبة إلى‬
‫كاميليري‪ ،‬أن يولّد هذا الصراع ضغوطًا نفسية كبيرة يواجهها المهاجر‪ .‬وللتخلص من هذه الضغوط‬
‫يسعى إلى إعادة بناء االتساق والتوازن الهوياتي‪ ،‬عن طريق ابتكار خيارات سلوكية وقيمية والوصول‬
‫إلى توافقات ثقافية تشعره بنوع من االنسجام والتوازن‪ .‬جملة الخيارات التي يصل إليها الفرد من‬
‫خالل هذه العملية هو ما يسميه كاميليري «إستراتيجيات ال ُهوية من أجل تج ّنب الصراع الثقافي‬
‫وإعادة الترابط واالنسجام»(‪.((2‬‬

‫ولكن‪ ،‬دائ ًما بحسب كاميليري‪ ،‬ال تقتصر معاناة ال ُمهاجر على الصراع بين ثقافتين‪ :‬واحدة يحملها من‬
‫مجتمعه األصلي وأخرى يواجهها ويعيش داخلها في المجتمع المضيف‪ ،‬إنما يعاني أيضً ا من تدنّي‬
‫اعتبار الذات‪ ،‬ويعود ذلك إلى طبيعة العالقة غير المتكافئة بالمجتمع المضيف‪ ،‬وهذه العالقة هي‬
‫وليدة جملة من األفكار النمطية ونظرة فوقية استعالئية تجاه ال ُمهاجر‪ ،‬كما تتسم العالقة بالمجتمع‬
‫المضيف بالهيمنة والتبعية؛ لذلك تتعرض نظرته إلى ذاته بالتدني والتبخيس‪ ،‬وهذا يُشكّل ضغطًا كبي ًرا‬
‫عليه‪ .‬ومن أجل التخلص من هذا الضغط يلجأ المهاجر إلى تب ّني جملة من اإلستراتيجيات ال ُهوياتية‪،‬‬
‫يُطلق عليها كاميليري «إستراتيجيات ال ُهوية من أجل إعادة االعتبار»‪.‬‬

‫فيما يلي‪ ،‬سنشرح بالتفصيل هذين النوعين من اإلستراتيجيات الهوياتية‪.‬‬

‫• إستراتيجيات ال ُهوية من أجل تجنب الصراع الثقافي‬

‫بالنسبة إلى كاميليري‪ ،‬إما أن يتم تجنب الصراع عن طريق االنسجام البسيط أو المركب أو ال ُمخفف‪،‬‬
‫وذلك وفق األولوية التي يعيرها الفرد المهاجر للجانب األنطولوجي أو البراغماتي من هويته‪.‬‬

‫– إسرتاتيجيات جتنّب الرصاع عن طريق االنسجام البسيط‬

‫ٍ‬
‫واحد من مكونات هويته الخاصة‪،‬‬ ‫وهي اإلستراتيجيات التي يلجأ إليها المهاجر حين يتخلي عن‬
‫األنطولوجي أو البراغماتي‪ ،‬واإلبقاء على المكون أو الجانب اآلخر‪ .‬وفي هذه الحالة إما أن يتمسك‬
‫المهاجر بثقافته األم ويرفض ثقافة المجتمع المضيف إذا كان متشبثًا بالجانب األنطولوجي من هويته‪،‬‬

‫‪(24) Ibid., p. 88.‬‬


‫‪(25) Pierre Dasen & Tania Ogay, «Pertinence d’une approche comparative pour la théorie des stratégies identitaires,» in:‬‬
‫‪Jacqueline Costa–Lascoux, Marie–Antoinette Hily & Geneviève Vermès (dir.), Pluralité des cultures et dynamiques‬‬
‫‪identitaires: Hommage à Carmel Camilleri (Paris: L’Harmattan, 2000), p. 58.‬‬
‫‪46‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫وإما أن يتخلى عن ثقافته األم ويندمج تما ًما في المجتمع المضيف‪ ،‬إذا كان اهتمامه منص ًّبا على‬
‫الجانب البراغماتي من هويته وأهمل الجانب األنطولوجي‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬بحسب كاميليري دائ ًما‪ ،‬ال يستطيع المهاجر التخلّي تما ًما عن الجانب البراغماتي من هويته‪،‬‬
‫وال يستطيع أن يرفض تما ًما المجتمع المضيف؛ فهو ُمضطر إلى التعامل معه بحكم وجوده فيه‪ ،‬ولو‬
‫كان هذا التعامل محدو ًدا و ُمقتص ًرا على الجوانب األكثر أساسي ًة من الحياة اليومية‪ ،‬إال أنه ما من‬
‫سبيل إلى تج ّنب هذا التعامل‪ .‬وفي الحقيقة هذا النوع من السلوك الهوياتي يمثل حال مجموعة من‬
‫ال ُمحافظين أو السلفيين الذين يرفضون التعامل مع المجتمعات التي هاجروا إليها؛ حيث هم يعيشون‬
‫فيها ويرفضون االختالط بأفرادها‪ .‬الحالة األخرى المغايرة وال ُمناقضة تتمثل في اإلبقاء والتركيز على‬
‫الجانب البراغماتي اإلدماجي من الهوية‪ ،‬والتخلي تما ًما عن الجانب األنطولوجي‪ ،‬وينتج من ذلك تب ٍّن‬
‫ُمطلق لقيم المجتمع المضيف ومعاييره وسلوكه‪ ،‬فيندفع ال ُمهاجر إلى االنسالخ عن مجتمعه الذي جاء‬
‫منه‪ ،‬ويتماهى مع المجتمع المضيف متب ّنيًا سلوكًا مختلفًا كليًا عن قيمه وثقافته‪ .‬وهناك شكل آخر من‬
‫التعامل يُميز مجموعة من المهاجرين؛ إذ هم يتعاملون مع ثقافتهم األم وثقافة المجتمع المضيف على‬
‫نح ٍو متناوب ‪ ،Alternance conjoncturelle des codes‬فهم يتب ّنون قيم المجتمع ال ُمضيف وثقافته في‬
‫مثل‪.‬‬
‫العمل وبين األصدقاء‪ ،‬بينما يلجؤون إلى قيم ثقافتهم األم ومعاييرها في البيت مع أفراد العائلة ً‬
‫الم ّ‬
‫ركب من أجل تج ّنب الصراع‬ ‫– إستراتيجيات االنسجام ُ‬
‫يسعى بعض المهاجرين إلى االندماج في مجتمعاتهم الجديدة التي وصلوا إليها‪ ،‬غير أنهم على الرغم‬
‫من ذلك يحاولون اإلبقاء على جزء من ثقافتهم األصلية بما فيها من قيم وتقاليد‪ ،‬وذلك يعتمد على توليفة‬
‫يجري فيها التوفيق بين كال الوظيفتين األنطولوجية والبراغماتية من هوياتهم‪ .‬وبذلك يحققون حالة من‬
‫االنسجام إما وفق منطق عاطفي ‪ ،Logique Affective‬إذ يعيدون تفسير قيم المجتمعات ال ُمضيفة لهم‬
‫ومعاييرها‪ ،‬وتلك التي يحملونها من مجتمعاتهم األصلية ويقربون فيما بينها‪ ،‬أو وفق منطق عقالني‬
‫‪ ،Logique Rationnelle‬إذ يقوم الفرد ال ُمهاجر بعملية إعادة تفسير وتقييم للقيم والمعايير‪ ،‬ويسعى‬
‫للتوفيق بينها عبر عمليات معرفية على درجة أعلى من التعقيد‪ ،‬ويتم ذلك من خالل عمليات تحليل‬
‫بال للقوالب‬
‫وتفسير للقيم القديمة من خالل معارف جديدة تركز على المحتوى والمضمون وال ت ُلقي ً‬
‫الثابتة والتفسير النصي التقليدي لألمور‪ ،‬أي إعادة التعامل مع الثقافة القديمة وقيمها من خالل منظور‬
‫جديد يُعيد صياغتها ويطرح منها جملة من األمور‪ .‬وهذا النوع بالتحديد من اإلستراتيجيات القائمة‬
‫على عقلنة التعامل مع القيم والمعايير ال يجريه سوى من يتمتعون بدرجة عالية من النضوج الفكري‬
‫والثقافة المتق ّبلة للجديد والقابلة لالنفتاح على اآلخر المختلف والتبادل معه واألخذ من تجاربه‪.‬‬
‫– إستراتيجيات تخفيف الصراع الثقافي‬
‫ال ينجح بعض المهاجرين في تج ّنب الصراع الثقافي؛ نتيجة ظرفهم االقتصادي والسياسي وبنيتهم‬
‫النفسية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬ال من خالل االنسجام البسيط (حذف إحدى الثقافتين) وال عبر‬
‫االنسجام المركب (التوليف والتركيب بين الثقافتين) فيفضلون اللجوء إلى تخفيف هذا الصراع‬
‫قدر اإلمكان‪ .‬ويجري ذلك من خالل عملية تفاضلية بين قيم الثقافة األصلية‪ ،‬بحيث ت ُعطى‬
‫‪47‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫أهمية كبرى لتلك التي تتوافق مع المجتمع ال ُمضيف‪ ،‬مقابل أهمية قليلة لتلك التي ال تنسجم مع‬
‫المجتمع ال ُمضيف ‪ .Pondération différentielle des valeurs‬وباآللية نفسها يتم التعامل مع‬
‫قيم المجتمع ال ُمضيف ومعاييره‪ ،‬إذ يجري تخفيف تلك التي تتعارض مع ثقافة المجتمع األصلي‬
‫‪ .((2(Les limitations de l’itèm perçu comme pénible‬والفرق بين هذا النوع من إستراتيجيات ال ُهوية‬
‫وإستراتيجيات تج ّنب الصراع عن طريق االنسجام المركب أو االنسجام البسيط يتركز في أن الصراع‬
‫ال ُهوياتي يبقى موجو ًدا وال يزول أب ًدا‪ ،‬ولكن الفرد يحاول التأقلم معه والتخفيف منه قدر اإلمكان‪.‬‬

‫• إستراتيجيات ال ُهوية من أجل إعادة االعتبار للذات‬

‫انطلق كاميليري من نظرية ال ُهوية االجتماعية لتاجفل وتورنر(‪ ((2‬من أجل دراسة سلوك المهاجرين‪.‬‬
‫وتقوم هذه النظرية على مبادئ أساسية في استطاعتنا تلخيصها في ثالث نقاط‪:‬‬

‫إيجابية عن نفسه ‪ Estime de Soi, Self–esteem‬ويتألف مفهوم‬‫ٍ‬ ‫– كل شخص يحتاج إلى صورةٍ‬
‫والهوية االجتماعية ‪Identité‬‬
‫الهوية الشخصية (خصائص فردية)‪ُ ،‬‬ ‫الذات عند الفرد من مكونين‪ ،‬هما‪ُ :‬‬
‫الهوية االجتماعية ً‬
‫شرطا‬ ‫يتوحد معها الفرد)‪ ،‬وتُعتبر ُ‬
‫‪( Sociale‬الجماعات والتصنيفات االجتماعية التي ّ‬
‫أساسيا لتحقيق مفهو ٍم إيجابي عن الذات‪.‬‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫ظروف معينة‪ ،‬إلى إضفاء‬ ‫– من أجل تحقيق مفهوم إيجابي عن ذواتهم‪ ،‬يسعى األفراد‪ ،‬وفي إطار‬
‫ٍ‬
‫صفات إيجابية على الجماعات التي يشعرون باالنتماء إليها‪ ،‬ويجري ذلك بواسطة ميكانيزمات نفسية؛‬
‫والتوحد والمقايسة االجتماعية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كالتصنيف االجتماعي‬

‫لظرف موضوعي ما) إلى اإلحساس بالخطر‬‫ٍ‬ ‫(تبعا‬


‫– في حال أدى التصنيف االجتماعي والمقايسة ً‬
‫وعدم تحقيق الذات‪ ،‬سيسعى األفراد إلى تغيير هذه الحالة عبر مجموعة من اإلستراتيجيات‪ ،‬منها‬
‫الفردي‪ ،‬ومنها الجماعي‪.‬‬

‫فيما يتعلق بالمهاجرين واندماجهم‪ ،‬يقول كاميليري(‪« :((2‬إن العالقة غير المتكافئة بين ال ُمهاجر وثقافته من‬
‫زاوية‪ ،‬والمجتمع ال ُمضيف وثقافته من زاوي ٍة ثانية‪ ،‬تلقي بآثا ٍر سلبية على صورة الذات‪ ،‬وتؤدي إلى زعزعة‬
‫ثقة ال ُمهاجر بنفسه‪ ،‬وكذلك إلى عدم الوصول إلى ُهوية اجتماعية إيجابية‪ .‬فيلجأ هذا ال ُمهاجر إلى عدة‬
‫إستراتيجيات من أجل إعادة االعتبار لذاته المجروحة»‪ .‬ويمكن تصنيف هذه اإلستراتيجيات كاآلتي‪:‬‬

‫الهويات التابعة‬
‫– إستراتيجيات ُ‬
‫وتُسمى ال ُهويات التابعة؛ ألنها تنجم عن ردة فعلٍ مباشر ٍة على األفكار النمطية السلبية التي يعكسها‬
‫المجتمع ال ُمضيف‪ .‬إذ يتقبّل بعض المهاجرين هذه األفكار‪ ،‬ويقوم بتمثّلها عن طريق الالوعي‪ ،‬وبنا ًء‬

‫‪(26) Ibid., pp. 107–108.‬‬


‫& ‪(27) Henri Tajfel & John C. Turner, «The Social Identity Theory of Intergroup Behavior,» in: Stephen Worchel‬‬
‫‪William G. Austin (eds.), Psychology of Intergroup Relations (Chicago: MI Nelson–Hall, 1986), pp. 7–24.‬‬
‫‪(28) Camilleri, «Identité et gestion de la disparité culturelle,» p. 88.‬‬
‫‪48‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫عليه يتصرف تب ًعا لهذه األفكار‪ ،‬وهذا ما يسميه كاميليري «ال ُهوية السلبية» ‪ .Identité Négative‬هذه‬
‫اإلستراتيجية غالبًا ما نالحظها بكثافة بين أبناء الجيلين األول والثاني من المهاجرين‪ ،‬إذ يتعاملون‬
‫بردات فعل سلبية وأحيانًا عنيفة‪ ،‬الشعورية‪ ،‬مع األفكار النمطية تجاههم‪.‬‬

‫ال يجد بعض المهاجرين مف ًّرا من هذه األفكار النمطية عن الجماعة التي ينتمون إليها فيتقبلونها‪،‬‬
‫وللهروب منها يلجؤون إلى التماهي مع المجتمع ال ُمضيف‪ ،‬ويتناولون جماعتهم األصلية في كالمهم‬
‫وفق األفكار النمطية نفسها‪ ،‬كما لو كانوا ال ينتمون إلى هذه الجماعة‪ .‬وهذا ما يُسمى «إستراتيجية‬
‫اإلزاحة»‪ ،‬أي التهرب من األفكار النمطية من خالل التماهي مع ال ُمجتمع ال ُمضيف واتهام ال ُمهاجرين‬
‫اآلخرين بهذه األفكار «ال ُهوية السلبية ال ُمزاحة» ‪ .Identité Négative Déplacée‬ولكن يرفض بعض‬
‫المهاجرين التماهي مع المجتمع المضيف‪ ،‬وفي الوقت نفسه يتقبّلون األفكار النمطية عن جماعتهم‪،‬‬
‫ولكنهم ال يتقبلونها عنهم بوصفهم أفرا ًدا‪ ،‬ويعتبرون أنفسهم مميزين‪ .‬وهذا ما يُطلق عليه كاميليري‬
‫إستراتيجية «ال ُهوية بالتمايز»(‪.Identité par Distinction ((2‬‬

‫الهوية التفاعلية‬
‫– إستراتيجيات ُ‬
‫في بعض األحيان‪ ،‬يلجأ بعض المهاجرين إلى إستراتيجيات دفاعية لرفض األفكار النمطية والنظرة الدونية‬
‫فمثل يتمسك قس ٌم منهم بثقافة مجتمعه األصل رافضً ا األفكار السلبية عنها ورافضً ا أيضً ا‬ ‫ً‬ ‫الموجهة إليهم‪.‬‬
‫ُهوية المجتمع ال ُمضيف‪ .‬ويعتبر هذا الرفض بالنسبة إليهم نو ًعا من االعتزاز بأصولهم‪ ،‬وهو طريق ٌة غير‬
‫مباشر ٍة لحماية ذواتهم ال ُمه َّددة‪ ،‬لذلك تسمى هذه ال ُهوية «ال ُهوية الدفاعية»(‪.Identité Défense ((3‬‬

‫ويذهب قسم آخر‪ ،‬وخاصة من فئة الشباب من أبناء الجيل الثالث‪ ،‬إلى المزايدة في إبراز إيجابيات‬
‫مجتمعات أبائهم األصلية‪ ،‬وبطريق ٍة مبالغٍ فيها ‪ .Surenchère Culturelle‬وأحيانًا يتم ذلك عن طريق‬
‫الدخول في عالق ٍة صدامي ٍة مع المجتمع ال ُمضيف‪ُ « ،‬هوية إشكالية» ‪ .Identité Polémique‬ولكن‬
‫الحظ علماء النفس أن أغلب هؤالء الشباب ال ينتمون سوى باالسم إلى ثقافتهم األم‪ ،‬وهذا ما اصطلح‬
‫عليه كاميليري «ال ُهوية المبدأ» ‪Identité par Principe‬؛ إذ يبدو جل ًيا الفصل بين ما يُص ّرح به الشخص‬
‫عن ثقافته األم وانتمائه إليها وسلوكه في الحياة اليومية‪.‬‬

‫ال يمكننا استعراض جميع إستراتيجيات الهوية في دراسة واحدة؛ فهذه اإلستراتيجيات متعددة ومتنوعة‬
‫ٌ‬
‫أشكال من اإلجابات التي يبتكرها ال ُمهاجر وفقًا لجملة المواقف والوضعيات‬ ‫ومتجددة دائ ًما‪ ،‬فهي‬
‫التي يتعرض لها أثناء عملية التثاقف‪ .‬وتختلف هذه اإلجابات‪ ،‬بحسب الفرد والجماعة والمجتمع‬
‫األصلي والمضيف‪ ،‬أي بحسب الظروف االقتصادية واالجتماعية والثقافية والنفسية‪.‬‬

‫نقتبس الجدول (‪ )1‬من دراسة مهمة للباحثين بيير دازن وتانيا أوغاي لتلخيص المبادئ األساسية لنظرية‬
‫إستراتيجيات الهوية لكارمل كاميليري‪.‬‬

‫‪(29) Ibid., p. 90.‬‬


‫‪(30) Ibid.‬‬
‫‪49‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫الجدول (‪)1‬‬
‫إستراتيجيات الهوية بحسب نظرية كاميليري‬

‫المهاجر يُعاني صورة سلبية عن الذات وعدم انسجام بين ثقافته وثقافة المجتمع المضيف‬

‫إستراتيجيات ال ُهوية من أجل إعادة الترابط‬


‫إستراتيجيات ال ُهوية من أجل إعادة االعتبار للذات‬
‫واالنسجام‬
‫ال ُهوية السلبية‪:‬‬ ‫التمسك بالجانب‬
‫اله ُ ــويات التابعـ ــة‬

‫تقبّل األفكار السلبية عن الثقافة األم‬ ‫األنطولوجي والتخلي تما ًما‬


‫وتمثّلها على نحو الواعي والتصرف وفق‬ ‫عن الجانب البراغماتي‪:‬‬
‫هذه األفكار‪.‬‬ ‫التمسك بالثقافة األم والعيش‬
‫وفق معايير هذه الثقافة‬
‫وقيمها تما ًما‪.‬‬
‫حال المهاجرين المحافظين‬
‫أو السلفيين الذين يرفضون‬
‫االختالط بالمجتمع‬
‫المضيف‪.‬‬
‫ال ُهوية السلبية المزاحة‪:‬‬ ‫التناوب بين الجانب‬
‫إستراتيجيات‬
‫تقبّل األفكار السلبية عن الجماعة‬ ‫األنطولوجي والجانب‬
‫تجنب الصراع‬
‫والتهرب منها عن طريق التماهي مع‬ ‫البراغماتي‪:‬‬
‫عن طريق‬
‫المجتمع ال ُمضيف واتهام اآلخرين بها‪.‬‬ ‫تب ّني ثقافة المجتمع‬
‫االنسجام البسيط‬
‫ال ُمضيف أو الثقافة األصلية‬
‫بحسب المكان (بيت‪ ،‬عمل‪،‬‬
‫عائلة‪ ،‬أصدقاء)‪.‬‬
‫ال ُهوية بالتمايز‪:‬‬ ‫التمسك بالجانب البراغماتي‬
‫تق ّبل األفكار السلبية عن الثقافة األم‬ ‫والتخلي تما ًما عن الجانب‬
‫ورفضها فر ًدا ولكن رفض التماهي أيضً ا‬ ‫األنطولوجي‪:‬‬
‫مع المجتمع ال ُمضيف‪« .‬هم كذلك‬ ‫سلوك منسجم تما ًما مع قيم‬
‫ولكن أنا غيرهم»‪.‬‬ ‫ثقافة المجتمع ال ُمضيف‬
‫ومعاييره‪.‬‬
‫حال المهاجرين الذين‬
‫يتماهون حتى االنسالخ عن‬
‫أصولهم الثقافية‪.‬‬
‫يتبع‬
‫‪50‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫تابع‬

‫ال ُهوية الدفاعية‪:‬‬ ‫التعامل مع الثقافتين وفق‬

‫الهُ ــويات التفاعليـ ــة‬


‫رفض الواقع ومقاومته ورفض ثقافة‬ ‫منطق عقالني‪:‬‬
‫المجتمع ال ُمضيف واالعتزاز بالثقافة‬ ‫إعادة تفسير القيم والمعايير‬
‫األصلية‬ ‫والتقريب بينها عن طريق‬
‫إستراتيجيات‬
‫عمليات معرفية معقدة‪.‬‬
‫ال ُهوية اإلشكالية‪:‬‬ ‫تج ّنب الصراع‬
‫أو‬
‫الدخول بعالقة صدامية مع المجتمع‬ ‫عن طريق‬
‫التعامل مع الثقافتين وفق‬
‫ال ُمضيف والمزاودة في إظهار إيجابيات‬ ‫االنسجام‬
‫منطق عاطفي‪:‬‬
‫الثقافة األم‪.‬‬ ‫المركب‬
‫إعادة تفسير القيم والمعايير‬
‫والتقريب بينها بطريقة ذاتية‬
‫خاضعة ألهواء ورغبات‬
‫ومصالح المهاجر الفردية‪.‬‬
‫ال ُهوية المبدأ‪:‬‬ ‫بقاء الصراع والتأقلم معه عن‬
‫التصريح بالتمسك بالثقافة األم والسلوك‬ ‫طريق تخفيفه‪:‬‬
‫وفق معايير الثقافة ال ُمضيفة «تناقض بين‬ ‫عملية تفاضلية بين القيم‬
‫القول والفعل‪ ،‬بين الموقف والسلوك»‪.‬‬ ‫وإعطاء أهمية كبرى لتلك‬
‫إستراتيجيات‬
‫التي تتوافق مع المجتمع‬
‫تخفيف الصراع‬
‫ال ُمضيف‪ ،‬وأهمية قليلة‬
‫الثقافي‬
‫لتلك التي ال تنسجم معه‪.‬‬
‫أو التخفيف من أهمية قيم‬
‫المجتمع ال ُمضيف التي‬
‫تتعارض مع الثقافة األصلية‪.‬‬
‫المصدر‪:‬‬
‫‪Pierre Dasen & Tania Ogay, «Pertinence d’une approche comparative pour la théorie des stratégies identitaires,» in:‬‬
‫‪Jacqueline Costa–Lascoux, Marie–Antoinette Hily & Geneviève Vermès (dir.), Pluralité des cultures et dynamiques‬‬
‫‪iidentitaires: Hommage à Carmel Camilleri (Paris: L’Harmattan, 2000), p. 58.‬‬

‫‪ .2‬نظرية جون بيري في إستراتيجيات المثاقفة‬


‫يرى جون بيري في نظريته(‪ ((3‬أن المهاجرين وأوالدهم غال ًبا ما يلجؤون‪ ،‬من أجل التكيف النفسي‬
‫واالجتماعي‪ ،‬إلى مجموعة من اإلستراتيجيات التثاقفية‪ .‬وتتحدد هذه اإلستراتيجيات في ثالثة أبعاد‪:‬‬
‫أول‪ ،‬البعد السلوكي أي التغييرات السلوكية التي تحصل في عادات ال ُمهاجر وتصرفاته في مجتمعه‬ ‫ً‬
‫الجديد‪ .‬ثانيًا‪ ،‬البُعد النفسي وهو ما يُسميه بيري «قلق التثاقف» ‪ ،((3(Acculturative Stress‬وهذا‬

‫‪(31) Berry & Sam, pp. 291–326.‬‬


‫‪(32) Berry et al., p. 285.‬‬
‫‪51‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫القلق مرتبط بجملة من المشكالت النفسية واالجتماعية التي يتعرض لها ال ُمهاجر في المجتمع‬
‫مثل‪ .‬أخي ًرا‪،‬‬
‫ال ُمضيف‪ ،‬وفي أحيان كثيرة تكون هذه المشكالت خارجة عن إرادته كتعلم اللغة ً‬
‫المستوى الموقفي ‪ ،Attitudinale‬ويُع ّد هذا المستوى على درجة عالية من األهمية؛ فهو الذي يُحدد‬
‫«اتجاهات التثاقف»‪ ،‬إذ ال شك في أن اختيار الفرد أو اعتماده على واحدة من إستراتيجيات التثاقف‬
‫من أجل حل مشكلة الهوية والقيم والمعايير الثقافية تعتمد على موقفه من ثقافته األم وموقفه من‬
‫ثقافة المجتمع ال ُمضيف(‪.((3‬‬

‫المثاقفة‬
‫أ‪ .‬مفهوم ُ‬
‫يُع ّد هذا المفهوم من المفاهيم اإلشكالية أيضً ا‪ ،‬وله العديد من المعاني‪ ،‬وهو ينطوي على مفهوم‬
‫التأثير الثقافي المتبادل والمتكافئ‪ .‬وأول التعريفات العلمية لهذا المفهوم طرحته مجموعة من‬
‫الباحثين األنثروبولوجيين األميركيين‪ ،‬في عام ‪ ،1936‬وبحسب هؤالء فإن مصطلح «ال ُمثاقفة»‬
‫ٍ‬
‫مجموعات‬ ‫ٍ‬
‫واحتكاك متواصل ومباشر بين‬ ‫‪ Acculturation‬يدل على الظواهر الناجمة عن تواصلٍ‬
‫ٍ‬
‫تغيرات في األنماط الثقافية لهذه‬ ‫ٍ‬
‫ثقافات متنوعة‪ ،‬ويؤدي هذا التواصل إلى‬ ‫من األفراد المنتمين إلى‬
‫المجموعات(‪.((3‬‬

‫وكما أشرنا إليه سابقًا‪ ،‬يدل مصطلح ال ُمثاقفة على تفاعل فكري وثقافي متكافئ األطراف‪ ،‬أي بين‬
‫مجموعات متساوية في الحقوق والواجبات‪ .‬ومن مبادئ المثاقفة التي ركّز عليها األنثربولوجيون‬
‫األوائل هو االعتراف والتعاون المتبادل‪ ،‬ولكن الواقع أثبت أنه من النادر أن تكون عملية المثاقفة بين‬
‫جماعات متساوية ومتكافئة‪ ،‬وغالبًا ما تُوجد مجموع ٌة ُمسيطرة أو مهيمنة (مجموعة ُمثا ِقفة)‪ ،‬ت ُصدر‬
‫ثقافتها «المتفوقة» وقيمها إلى المجموعة األخرى (مجموعة تثاقف)(‪ ((3‬التي تنفذ الجزء األكبر من‬
‫مثل)‪ ،‬وهي التي تتعرض أكثر للتغيرات الثقافية الناجمة عن عملية التواصل‬ ‫عملية ال ُمثاقفة (المهاجرون ً‬
‫الثقافي(‪ .((3‬لهذا السبب نستخدم أحيانًا في دراستنا هذه مصطلح «تثاقف» ً‬
‫بدل من « ُمثاقفة»‪ ،‬وذلك إنما‬
‫لالستدالل على هذه العالقة غير المتكافئة بالنسبة إلى المهاجرين‪.‬‬

‫وبحسب جون بيري يجب أن تؤخذ األبعاد الشخصية والنفسية والتباينات والفروق الفردية في‬
‫االعتبار في دراسة عملية المثاقفة؛ فدرجة تقبّل االختالف الثقافي واستيعابه‪ ،‬وقبول التغير‪ ،‬تختلف‬
‫ٍ‬
‫شخص إلى آخر(‪.((3‬‬ ‫من‬

‫‪(33) Collette Sabatier & John W. Berry, «Immigration et acculturation,» in: Richard Y. Bourhis & Jaques Philippe‬‬
‫‪Leyens (eds.), Stéréotypes, discrimination et relation intergroupes (Bruxelles: Mardaga, 1994), p. 288.‬‬
‫‪(34) Robert Redfield, Ralph Linton & Melville Herskovits, «Memorandum on the Study of Acculturation,» American‬‬
‫‪Anthropologist, vol. 38, no. 1 (1936), p. 149.‬‬
‫(‪ ((3‬في دراستنا النظرية هذه ال نركّ ز على هذه المجموعة‪ ،‬لذلك نستخدم مصطلح تثاقف ً‬
‫بدل من مصطلح مثاقفة‪.‬‬
‫‪(36) Berry & Sam, pp. 291–326.‬‬
‫‪(37) John W. Berry, «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures,» International Journal of Intercultural‬‬
‫‪Relations, vol. 29, no. 6 (2005), pp. 701–702.‬‬
‫‪52‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫ب‪ .‬إستراتيجيات التثاقف‬


‫بحسب بيري‪ ،‬يلجأ المهاجر إلى عدة إستراتيجيات هوياتية من أجل التكيف النفسي واالجتماعي؛‬
‫وذلك يعتمد على موقفه من ثقافته األصلية (األم) وموقفه من ثقافة المجتمع ال ُمضيف‪ ،‬فإما‪ /‬وأن‬
‫يكون لدى المهاجر رغبة في ال ُمحافظة على ال ُهوية الثقافية األصلية‪ ،‬أو الرغبة في االختالط بال ُمجتمع‬
‫ال ُمضيف وتب ّني ثقافته وقيمه‪ .‬فكل مهاجر يطرح‪ ،‬على نحو وا ٍع أو غير واعٍ‪ ،‬على نفسه سؤالين‪:‬‬

‫الهوية الثقافية األصلية؟‬


‫• هل يجب الحفاظ على ُ‬
‫المضيف والمشاركة معهم في الحياة االجتماعية؟‬
‫• هل يجب االختالط بأفراد المجتمع ُ‬
‫كيفية إجابة المهاجر عن هذين السؤالين تسمح لنا بتحديد اإلستراتيجية التي يتب ّناها‪ :‬االندماج أو‬
‫التماهي أو االنعزال أو التهميش‪ ،‬كما هو موضح في الجدول (‪:)2‬‬

‫الجدول (‪)2‬‬
‫إستراتيجيات التثاقف بحسب نظرية بيري‬

‫‪ .1‬هل يجب الحفاظ على ال ُهوية الثقافية األصلية؟‬


‫ال‬ ‫نعم‬
‫تما ٍه‬ ‫‪ .2‬هل يجب االختالط بأفراد المجتمع نعم اندماج‬
‫ال ُمستضيف والمشاركة معهم في الحياة‬
‫االجتماعية؟‬
‫تهميش‬ ‫ال انعزال‬
‫المصدر‪:‬‬
‫‪John W. Berry & David Sam, «Acculturation and Adaptation,» in: John W. Berry, Marshall H. Segall & Cigdem‬‬
‫‪Kagitçibasi (dir.), Handbook of Cross–Cultural Psychology, vol. 3 (Boston: Allyn & Bacon, 1997), p. 296.‬‬

‫االندماج ‪( :Intégration‬اإلجابات‪ :‬نعم للسؤال األول‪ /‬نعم للسؤال الثاني)‪ ،‬وهي حالة ال ُمهاجر‬
‫الراغب في الحفاظ على خصائص ُهويته وثقافته األم‪ ،‬كاللغة والديانة والعادات والتقاليد‪ ،‬وفي الوقت‬
‫نفسه يرغب في التواصل مع المجتمع ال ُمضيف وتب ّني خصائصه الثقافية‪ .‬ويرى بيري أن االندماج يُمثل‬
‫الجانب اإليجابي في عملية التثاقف‪ ،‬فهو يع ّبر عن محاولة التوفيق بين الثقافتين‪.‬‬

‫التماهي ‪ :Assimilation‬ويمكن تعريفه بأنه الرغبة في التخلي عن الثقافة وال ُهوية األصليتين‬
‫(ال للسؤال األول)‪ ،‬لصالح ثقافة المجتمع ال ُمضيف و ُهويته (نعم للسؤال الثاني)‪ .‬وفي هذه الحالة‪،‬‬
‫يتمثل المهاجر قيم المجتمع المضيف ومعاييره ويتنصل تما ًما من ثقافته األم‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬تختلف‬
‫شخصية ال ُمهاجر ال ُمتماهي مع المجتمع ال ُمضيف قبل الهجرة عن شخصيته بعد الهجرة كليًا‪.‬‬

‫االنعزال أو التقوقع الثقافي ‪ :Repli communautaire‬في هذه اإلستراتيجية يبدي المهاجرون رغبتهم‬
‫في عدم التعامل أو االختالط بالمجتمع ال ُمضيف وأفراده‪ ،‬وال يسعون إلى صوغ أي عالقة تجمعهم‬
‫‪53‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫بالثقافة الجديدة (ال للسؤال الثاني)‪ ،‬ويحاولون بشتى الوسائل اإلبقاء على هويتهم وثقافتهم األم‬
‫واالحتفاظ بها (نعم للسؤال األول)‪ ،‬وهنا ال نتحدث عن عملية تثاقف بقدر ما نتحدث عن إستراتيجية‬
‫ضد تثاقفية‪ ،‬تتمثل في االنطواء على الذات واالبتعاد قدر ال ُمستطاع عن أفراد المجتمع ال ُمضيف‪.‬‬
‫ويمكن مالحظة أن األفراد المهاجرين ال ُمتبعين لهذه اإلستراتيجية غالبًا ما يتسمون بقد ٍر عا ٍل من‬
‫التصلب في الرأي والتحجر أمام اآلخرين وثقافاتهم وتجاربهم وآرائهم(‪.((3‬‬

‫التهميش ‪ :Marginalisation‬ال يمكن اعتبار هذه الحالة إستراتيجية يتخذها الفرد ال ُمهاجر‪ ،‬إنما يمكن‬
‫الحديث هنا عن حالة من االغتراب النفسي والضياع والتشتت‪ .‬وهي ردة فعل نجدها لدى المهاجرين‬
‫الذين يفقدون خصائص ُهويتهم وثقافتهم األصلية‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال يكون في مقدورهم االندماج‬
‫ضمن األطر الثقافية الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها ضمن المجتمع ال ُمضيف‪ ،‬والسبب الرئيس في‬
‫ذلك ناجم عما يواجهونه من تهميش وعنصرية وازدراء من أفراد المجتمع المضيف‪.‬‬

‫‪ .3‬أوجه االختالف بين النظريتين‬


‫تثير القراءة التحليلية المقارنة لنظرية إستراتيجيات ال ُهوية ونظرية إستراتيجيات التثاقف عدة أسئلة‬
‫متعلقة بمقاربتهما لظاهرة «اتصال الثقافات»‪ ،‬وبدور العمليات النفسية الفردية في التكيف النفسي‪،‬‬
‫وبالمنهجية البحثية الخاصة بكل منهما‪.‬‬

‫فنظرية إستراتيجيات ال ُهوية ت َعتَبر أن االتصال الثقافي يُفضي حت ًما إلى صراع ثقافي يعيشه الفرد على‬
‫المستوى النفسي؛ وذلك بسبب االختالف بين معايير ثقافته األم ومعايير ثقافة المجتمع ال ُمضيف‪،‬‬
‫وتدفعه هذه الحالة إلى استخدام مجموعة من اإلستراتيجيات ال ُهوياتية للتغلب على هذا الصراع أو‬
‫للتخفيف منه‪ .‬كما أن المجتمع ال ُمضيف سيعكس حت ًما‪ ،‬من وجهة نظر كاميليري‪ ،‬لل ُمهاجر صورة‬
‫سلبية عن ذاته؛ وهو ما يدفعه‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬إلى بناء مجموعة من إستراتيجيات ال ُهوية التي تهدف إلى إعادة‬
‫االعتبار الذاتي‪.‬‬

‫هذه الرؤية ذات الصبغة السلبية لظاهرة اتصال الثقافات (الصراع الثقافي الحتمي والصورة السلبية‬
‫لل ُمهاجر) ال نجدها في نظرية إستراتيجيات التثاقف لبيري التي تعتبر «االتصال الثقافي» حالة إيجابية‬
‫يعيشها الفرد‪ ،‬وإذ هو يسعى إلى التكيف النفسي فهذا ليس هروبًا من حالة الصراع بين ثقافتين وإنما‬
‫باعتبارها حالة تعايش غنية‪ .‬وفي الواقع فإن العديد من الباحثين ال يتفقون مع الرؤية السلبية لالتصال‬
‫الثقافي التي يمكن أن نالحظها في نظرية كاميليري(‪ .((3‬وربما يعود هذا االختالف في مقاربة ظاهرة‬
‫االتصال الثقافي إلى االختالف بين بل َدي منشأ كل نظرية‪.‬‬

‫في كندا‪ ،‬وهي البلد التي نشأت فيه نظرية إستراتيجيات التثاقف‪ ،‬ترتكز سياسات الهجرة على تقوية‬
‫إستراتيجية االندماج لدى ال ُمهاجرين وتشجيعها‪ ،‬وتعتبر المجتمع الكندي بطبيعته تعدديًا في ثقافته‪.‬‬

‫‪(38) Berry & Sam, pp. 297–298.‬‬


‫‪(39) Dasen & Ogay, p. 66.‬‬
‫‪54‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫ط فخر واعتزاز لدى الكنديين ويُثري الهوية الوطنية ويعطيها نو ًعا من التكامل‪،‬‬ ‫وهذا التنوع الثقافي مح ّ‬
‫وهذا التنوع يُسهم في إثراء الهوية الكندية األم الجامعة لهذه التنوعات‪ ،‬وهذا ما يُسمى «سياسة‬
‫التعددية» ‪ ،Politique de Multiculturalisme‬تؤمن هذه السياسة باالختالف والتنوع بصفتها طبيعة‬
‫بشرية يجب تعزيزها؛ لكون الطبيعة اإلنسانية متنوعة وتتكامل عن طريق االختالف بين الثقافات التي‬
‫يحملها كل فرد ويتواصل بها مع اآلخر‪ .‬بينما في فرنسا‪ ،‬البلد الذي ولدت فيه نظرية إستراتيجيات‬
‫الهوية‪ ،‬ال نجد السياسة نفسها‪ ،‬وهي تعتمد على نموذج ُمغاير قائم على سياسة االنصهار ‪Politique‬‬
‫‪d’Assimilation‬؛ وذلك من خالل تذويب ثقافات ال ُمهاجرين التي يحملونها من مجتعاتهم األصلية‬
‫وثقافات أبنائهم وصهرها ضمن الثقافة الفرنسية‪ .‬إذًا‪ ،‬فرنسا ت ُطبّق سياسة التماهي مع الثقافة الفرنسية‬
‫على المهاجرين إليها(‪ .((4‬ويرفض هذا النموذج التعدد الثقافي الموجود في الحالة الكندية‪ ،‬وال يقبل‬
‫سوى بهوية ثقافية واحدة هي الفرنسية‪ ،‬ويتعامل بطريقة سلبية مع عدم تماهي ال ُمهاجر مع الثقافة‬
‫الفرنسية‪ ،‬معتب ًرا ذلك خط ًرا على الهوية الثقافية للبالد؛ فالفرنسيون أمة واحدة لها ثقافتها الواحدة‪،‬‬
‫وذلك أساس تقوم عليه الهوية الوطنية(‪.((4‬‬

‫أما بالنسبة إلى العمليات النفسية الفردية ودورها في تكيف الفرد‪ ،‬فيمكننا أن نالحظ أن نظرية‬
‫إستراتيجيات ال ُهوية هي مقاربة نفسية فردية ‪ Approche Psychologique Individualisante‬إلدارة‬
‫فاعل نشطًا مبد ًعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫التعددية الثقافية والصراع الناتج منها‪ .‬ففي أعمال كاميليري وزمالئه يظهر الفرد‬
‫يفاوض ويقرر ويتالعب ويقارن ويفاضل بين المعايير الثقافية من أجل الوصول إلى مرحلة التكيف‬
‫النفسي وتحقيق المكتسبات االجتماعية‪ .‬لقد تعاملت نظرية إستراتيجيات ال ُهوية مع ظاهرة االتصال‬
‫الثقافي في مستوى قصير المدى ‪ ،Micro‬وحصرتها في عالقات ضيقة وتفاعالت فردية محدودة‪،‬‬
‫وردود سيكولوجية‪ .‬ولكنها تجاهلت‪ ،‬نو ًعا ما‪ ،‬المستوى البعيد المدى ‪ Macro‬في التحليل؛ أي دور‬
‫قليل‬
‫العالقات بين الجماعات من جهة‪ ،‬ودور المجتمع ال ُمضيف من جهة أخرى‪ ،‬الذي لم يُذكر إال ً‬
‫من خالل دوره السلبي في إعطاء صورة سلبية عن الذات للفرد ال ُمهاجر‪ .‬هذه النقطة‪ ،‬أي نزعة الرد‬
‫السيكولوجية وغياب دور المجتمع ال ُمضيف‪ ،‬أقل حدة في نظرية إستراتيجيات التثاقف؛ فعلى الرغم‬
‫من أن بيري يتحدث عن عملية اختيار ‪ Choix‬يقوم بها الفرد بين إستراتيجيات التماهي أو االندماج‬
‫أو التقوقع الثقافي واالنعزال‪ ،‬فإنه ال يغفل جملة من العوامل التي تُحدد كل إستراتيجية ومتى يتم‬
‫اللجوء إليها(‪ ،((4‬وهذا يتحدد على سبيل المثال بمدى قدرة ال ُمهاجر على التحدث والتواصل من‬
‫خالل اللغة مع ال ُمجتمع ال ُمضيف‪ ،‬وخصائص ذاتية أُخرى تعود إلى شخصية كل ُمهاجر‪ ،‬والطريقة‬
‫جانب منها‪ ،‬وإلى‬
‫ٍ‬ ‫التي يتعامل فيها مع ثقافته األم‪ ،‬ومدى ارتباطه بها وقدرته على التخلي عنها أو عن‬

‫(‪ ((4‬لـلـتــوســع فــي نـقــاش مـســألـ َتــي سـيــاســة االنــدمــاج وسـيــاســة االنـصـهــار وتــأثـيــرهـمــا فــي الـمـهــاجــريــن‪ ،‬يمكن الــرجــوع إلــى أعـمــال عالم‬
‫االجتماع عبد المالك صياد وأهمها كتاب «الغياب الـمــزدوج‪ :‬من أوهــام المهاجر إلــى معاناة المغترب» ‪La double absence: Des‬‬
‫‪ illusions de l’émigré aux souffrances de l’immigré‬الذي نُشر باللغة الفرنسية وكتب مقدمته بيير بورديو‪.‬‬
‫‪(41) Serge Guimond, Psychologie sociale: Perspective multiculturelle (Bruxelles: Mardaga, 2010), pp. 206–207, 210,‬‬
‫‪216–217.‬‬
‫‪(42) Berry, «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures,» pp. 702–705.‬‬
‫‪55‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫أي حد هو ُمنفتح على تجارب جديدة وتشكيل عالقات إنسانية مع المجتمع المضيف‪ ،‬ومدى تسامحه‬
‫وتقبّله لآلخر ال ُمختلف ثقافيًا‪ ،‬وهو ما درج علماء النفس على تسميته االستعداد البين ثقافي ‪Aptitude‬‬
‫‪ .Interculturelle‬ويتحدد أيضً ا اختيار المهاجر إلحدى إستراتيجيات التثاقف بخصائص المجتمع‬
‫المضيف‪ ،‬ومدى تقبّله لثقافات أُخرى جديدة و ُمختلفة‪ ،‬وقدرته على االنفتاح على الثقافات األجنبية‬
‫وأفرادها والتعامل معهم أو االحتكاك بهم؛ فهي تؤدي دو ًرا مه ًما‪ ،‬بحسب بيري‪ ،‬في عملية التثاقف ال‬
‫تقل أهمية عن الخصائص ال ُمتعلقة بالمهاجر نفسه‪.‬‬

‫أخي ًرا‪ ،‬يوجد فرق جوهري بين النظريتين بالنسبة إلى المنهج البحثي المعتمد في كل منهما‪ ،‬ويعكس هذا‬
‫الفرق وجهتَي نظر مختلفتين بين الباحثين عبر الثقافيين الناطقين باللغة الفرنسية أو باللغة اإلنكليزية‪.‬‬
‫فبينما يعتمد معظم الباحثين في الجمعية الدولية للبحث عبر الثقافي ‪ ARIC‬الناطقة باللغة الفرنسية‬
‫أساسا فقط على‬‫ً‬ ‫المنهج النوعي ‪ ،Qualitative‬وهو حال نظرية إستراتيجيات ال ُهوية التي اعتمدت‬
‫المقابالت البحثية مع عينات من المهاجرين من أصول مغاربية عربية فقط في فرنسا‪ ،‬وهذا ما يثير‬
‫تساؤالت كثيرة حول إمكانية تعميمها(‪ ،((4‬يتب ّنى الباحثون في الجمعية الدولية لعلم النفس عبر الثقافي‬
‫الناطقة باللغة اإلنكليزية ‪ IACCP‬في بحوثهم المنهج الكمي ‪ Quantitative‬والدراسات المقارنة‪،‬‬
‫(‪((4‬‬
‫مثل‪ ،‬بحوث مقارنة على إستراتيجيات التثاقف في الكثير من دول العالم‬ ‫أساسا‪ .‬فلقد أجريت‪ً ،‬‬‫ً‬
‫(أستراليا‪ ،‬وكندا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وسويسرا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬والهند ‪ ...‬إلخ) وعلى عدة مجموعات ثقافية مختلفة‬
‫(مهاجرون من أصول إيطالية ومغاربية وتركية وكورية وإسبانية وبرتغالية ‪ ...‬إلخ) ما أعطى صدقية أكبر‬
‫لمسألة تعميم هذه النظرية‪.‬‬

‫‪ .4‬نحو نموذج توفيقي‬


‫على الرغم من نقاط االختالف الرئيسة التي أشرنا إليها بين النظريتين‪ ،‬فإن هناك نقاط تالقٍ وتشابه عديدة‬
‫بينهما؛ ما يجعل الجمع بينهما في منحى توفيقي‪ ،‬ممك ًنا‪ ،‬إلنتاج أدا ٍة علمية متكاملة ألجل فهم وتحليل‬
‫إلشكاليات التكيف النفسي واالجتماعي التي يواجهها األفراد في المجتمعات التعددية‪ .‬وفي هذا الصدد‪،‬‬
‫يقول كارمل كاميليري‪« :‬إن مفهوم اإلستراتيجية المستخدم في نظرية جون بيري يبقى عا ًما‪ ،‬وال يعتمد على‬
‫تحليل تفصيلي معمق‪ ،‬كما هو الحال المتبع من الباحثين الناطقين باللغة الفرنسية»(‪ .((4‬ولكنه يضيف‪ ،‬في‬
‫لقاء حصل بين الباحثين‪ ،‬كاميليري وبيري‪ ،‬في المحاضرة االفتتاحية للمؤتمر السادس للجمعية الدولية‬
‫للبحث عبر الثقافي الذي عقد في مونتريال عام ‪ ،1996‬أن إستراتيجيات الهوية مرتبطة بإستراتيجيات‬
‫التثاقف(‪ .((4‬وهو هنا يشير صراح ًة ليس فقط إلى إمكانية الجمع بين النظريتين‪ ،‬وإنما إلى ضرورة ذلك‪.‬‬

‫‪(43) Dasen & Ogay, p. 67.‬‬


‫‪(44) John W. Berry et al., «Immigrant youth: Acculturation, Identity, and Adaptation,» Applied Psycholgy: An‬‬
‫‪International Review, vol. 55, no. 3 (2006), pp. 303–332.‬‬
‫‪(45) Carmel Camilleri, «La psychologie interculturelle,» in: Claude Tapia (ed.), Introduction à la psychologie sociale‬‬
‫‪(Paris: Les Ed. d’Organisation, 1996), p. 98.‬‬
‫‪(46) Fasal Kanouté, «Profils d’acculturation d’élèves issus de l’immigration récente à Montréal,» Revue des Sciences de‬‬
‫‪l’Éducation, vol. 28, no. 1 (2002), p. 181.‬‬
‫‪56‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫فالنظريتان تتفقان على أن الفرد فاعل في بناء ُهويته وسلوكه‪ ،‬ولذلك تستخدمان مفهوم «اإلستراتيجية»‬
‫في دراسة ديناميات االتصال الثقافي وآليات التكيف النفسي لألفراد في المجتمعات التعددية‪ .‬وت ُعرف‬
‫اإلستراتيجية في كلتا النظريتين بأنها اإلجراءات التي يستخدمها‪ ،‬على نحو وا ٍع أو غير واعٍ‪ ،‬فرد أو جماعة‬
‫ألجل الوصول إلى هدف معين صريح أو متموضع في مستوى الالوعي‪ ،‬وتتبلور هذه اإلستراتيجيات‬
‫وفقًا لحالة التفاعل بين الفرد والمجتمع في سياق محدد (ثقافي‪ ،‬واجتماعي‪ ،‬وتاريخي‪ ،‬ونفسي)(‪.((4‬‬

‫وتتمثل نقطة التشابه المهمة‪ ،‬األُخرى‪ ،‬التي يجب أن نلفت االنتباه إليها‪ ،‬في أن نظريتي بيري وكاميليري‬
‫تستندان إلى األبعاد نفسها ‪ Multidimentionelle‬والمتغيرات‪ ،‬في تحديد اإلستراتيجيات التي يلجأ‬
‫إليها األفراد في المجتمعات التعددية‪ .‬فإستراتيجيات التثاقف تستند إلى تقاطع بُع َدين‪ :‬األول‪ ،‬الرغبة في‬
‫الحفاظ على ال ُهوية الثقافية األصلية (األم) ويقابلها في نظرية إستراتيجيات ال ُهوية الجانب األنطولوجي‬
‫الذي يلبّي الوظيفة المعنوية‪ ،‬والثاني الرغبة في االختالط بال ُمجتمع ال ُمضيف وتب ّني ثقافته وقيمه وهو ما‬
‫يمثل الجانب البراغماتي من ال ُهوية الذي يؤدي دور الوظيفة اإلدماجية في نظرية إستراتيجيات ال ُهوية‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬إن إستراتيجيات التثاقف هي عبارة عن اتجاهات ‪ Attitudes‬تحدد موقف الفرد من ثقافته‬
‫األصلية وثقافة المجتمع ال ُمضيف‪ .‬إنها طريقة الحياة األمثل ‪ Ideal Type‬التي يرغب فيها الفرد بالنسبة‬
‫إلى موقفه بين ثقافة المجتمع ال ُمضيف وثقافة مجتمعة األصلي (االندماج‪ ،‬والتماهي‪ ،‬والتهميش‪،‬‬
‫والتقوقع الثقافي)‪ ،‬أما إستراتيجيات ال ُهوية فهي السلوكيات ‪ Comportements‬التي تنسجم مع تلك‬
‫االتجاهات أو المواقف والتفضيالت‪ ،‬وبتعبير أدق‪ ،‬كما أشار كاميليري نفسه‪« ،‬إن إستراتيجيات ال ُهوية‬
‫هي التعبيرات السلوكية إلستراتيجيات التثاقف»(‪((4‬؛ أي إن إستراتيجيات ال ُهوية هي انعكاسات حقائق‬
‫الواقع االجتماعي في وعي الفرد‪ .‬إذًا‪ ،‬وبنا ًء على ما سبق‪ ،‬من الضروري الربط بين النظريتين في‬
‫شمولي لسلوك الفرد‪ ،‬يتجاوز الجزئيات‪ ،‬ونزعة الرد السيكولوجية الضيقة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫منحى توفيقي من أجل فهمٍ‬
‫ويأخذ في االعتبار إستراتيجيات التثاقف المحدودة من جهة‪ ،‬وإستراتيجيات اله ُوية الغنية والمتنوعة‬
‫والمتعددة التي اقترحها كاميليري من جهة أخرى‪ ،‬كما هو موضح في الجدول (‪:)3‬‬

‫الجدول (‪)3‬‬
‫نموذج توفيقي يجمع بين إستراتيجيات التثاقف وإستراتيجيات الهوية‬
‫إستراتيجيات التثاقف‪ :‬الرغبة في الحفاظ على الثقافة األصلية‬
‫إستراتيجيات ال ُهوية‪ :‬الجانب األنطولوجي من ال ُهوية‪،‬‬
‫(هل يجب الحفاظ على ال ُهوية الثقافية األصلية؟)‬
‫ال‬ ‫نعم‬
‫يتبع‬

‫‪(47) Edmond Marc Lipiansky, Isabelle Taboada–Léonetti & Ana Vasquez, «Introduction à la problématique de‬‬
‫‪l’identité,» in: Camilleri et al. (dir.), p. 24.‬‬
‫‪(48) Camilleri, «Le champ et les concepts de la psychologie culturelle,» p. 33.‬‬
‫‪57‬‬ ‫تاساردلا‬
‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد ‪:‬ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬

‫تابع‬

‫تما ٍه‬ ‫اندماج‬ ‫إستراتيجيات التثاقف‪:‬‬


‫إستراتيجيات ال ُهوية من أجل‬ ‫نعم إستراتيجيات ال ُهوية من‬ ‫الرغبة في االختالط‬
‫إعادة الترابط عن طريق االنسجام‬ ‫أجل إعادة الترابط عن طريق‬ ‫بال ُمجتمع ال ُمضيف‬
‫االنسجام المركب‪ :‬التعامل مع البسيط‪ :‬التمسك بالجانب‬ ‫وتب ّني ثقافته وقيمه‬
‫البراغماتي والتخلي تما ًما عن‬ ‫الثقافتين وفق منطق عقالني‬ ‫إستراتيجيات ال ُهوية‪:‬‬
‫يفضي إلى إعادة تفسير القيم الجانب األنطولوجي؛ ما يفضي‬ ‫الجانب البراغماتي من‬
‫والمعايير والسلوك والتقريب إلى سلوك منسجم تما ًما مع‬ ‫ال ُهوية‪،‬‬
‫بينها عن طريق عمليات معرفية قيم ثقافة المجتمع ال ُمضيف‬ ‫(هل يجب تبني ثقافة‬
‫ومعاييره‪.‬‬ ‫معقدة‪.‬‬ ‫المجتمع ال ُمضيف؟)‬
‫حال المهاجرين المتصالحين حال المهاجرين الذين يتماهون‬
‫حتى االنسالخ عن أصولهم‪.‬‬ ‫مع الثقافتين‬
‫تهميش‬ ‫انعزال‬
‫ليست إستراتيجية وإنما حالة ال‬ ‫إستراتيجيات ال ُهوية من‬ ‫ال‬
‫تسمح بتجنب الصراع الثقافي‬ ‫أجل إعادة الترابط عن طريق‬
‫وإعادة الترابط واالنسجام‬ ‫االنسجام البسيط‪ :‬التمسك‬
‫ال ُهوياتي‪ :‬تفضي هذه الحالة‬ ‫بالجانب األنطولوجي والتخلي‬
‫إلى نوع من االغتراب النفسي‬ ‫تما ًما عن الجانب البراغماتي؛‬
‫والضياع وفقدان المعايير والقيم‬ ‫ما يفضي إلى التمسك بالثقافة‬
‫الثقافية األصلية وعدم القدرة على‬ ‫األم والعيش وفق معايير هذه‬
‫تب ّني ثقافة المجتمع ال ُمضيف‪.‬‬ ‫الثقافة وقيمها تما ًما‪.‬‬
‫حاالت التشتت واالنحراف‪،‬‬ ‫حال المهاجرين المحافظين‬
‫والعنف والعدوان‪ ،‬والتشرد‪،‬‬ ‫أو السلفيين الذين يرفضون‬
‫واالنعزال وتعاطي المخدرات‬ ‫االختالط بالمجتمع ال ُمضيف‪.‬‬
‫واإلدمان الكحولي‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬من إعداد الباحث‪.‬‬

‫إن المبدأ الذي ينطلق منه هذا المنحى التوفيقي هو أن ظاهرة االتصال الثقافي والتعددية الثقافية في‬
‫المجتمعات وتأثيرها في السلوك ال يمكن أن تدرس فقط من خالل إحدى جزئياتها أو عناصرها‪ ،‬ولكن‬
‫من خالل تركيب جميع العناصر التي تُشكّلها؛ ما يمنح المسألة قيمتها الحقيقية‪ ،‬ويوفر فرصة أدق‬
‫وأشمل لفهمها على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫ق ّدمت هذه الدراسة لمحة شاملة ومختصرة عن علم النفس عبر الثقافي وعلم نفس المثاقفة‪ ،‬كما‬
‫استعرضت وضمن إطار حدودها نظرية إستراتيجيات ال ُهوية ونظرية إستراتيجيات التثاقف‪ ،‬وأشارت‬
‫إلى نقاط االختالف والتشابه بينهما‪ ،‬وأكدت ضرورة الجمع بينهما في منحى توفيقي يأخذ في االعتبار‬
‫تعقيدات ال ُهوية واالتصال الثقافي والتكيف النفسي ودينامياتها‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫العدد ‪Issue 7 / 26‬‬
‫خريف  ‪Autumn 2018‬‬

‫وأكدت أن هذا المنحى التوفيقي يتب ّني رؤية تجسيرية تربط بين المستوى الفردي السيكولوجي‬
‫والمستوى االجتماعي السوسيولوجي في التحليل والتعميم‪ ،‬فهو ال ينكر دور الفرد الرئيس في بناء‬
‫هويته استجاب ًة للتعددية الثقافية‪ ،‬ولكنه‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬يأخذ في االعتبار دور المجتمع والبيئة‬
‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية في ذلك‪ .‬وهذا الجمع بين النظريتين يسعى إلى إعادة طرح السؤال‪،‬‬
‫الذي طالما طرحه الباحثون في العلوم االجتماعية‪ ،‬عن العالقة الديالكتيكية بين الفرد والمجتمع‪ ،‬بين‬
‫الفردي والجماعي‪ ،‬بين االجتماعي والشخصي‪ ،‬ودور كل منهما في تحديد سلوك اإلنسان‪.‬‬

‫أخي ًرا‪ ،‬لم تق ّدم هذه الدراسة النظرية سوى عرض موجز مقتطف عن علم النفس عبر الثقافي وموضوعاته‪،‬‬
‫شامل ووافيًا عن األمر؛ فهذا ال يمكن تحقيقه أب ًدا في حدود هذه‬
‫ً‬ ‫والهدف منه لم يكن أب ًدا عرضً ا‬
‫الدراسة‪ ،‬ولكنها لفتت النظر إلى ندرة الدراسات العربية في مجال علم النفس عبر الثقافي ولزوم إنتاج‬
‫مراجع باللغة العربية في هذا المجال‪.‬‬

‫‪References‬‬ ‫المراجع‬

‫العربية‬
‫أبو النيل‪ ،‬محمود السيد‪ .‬علم النفس عبر الحضاري‪ .‬القاهرة‪ :‬دار النهضة العربية‪.1988 ،‬‬

‫الداوي‪ ،‬عبد الرزاق‪ .‬في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة‪.‬‬
‫الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪.2013 ،‬‬

‫السباعي‪ ،‬عبد الناصر‪ .‬علم النفس عبر الثقافي‪ .‬سلسلة الكتاب العربي للعلوم النفسية ‪[ .27‬د‪.‬م‪:].‬‬
‫إصدارات شبكة العلوم النفسية العربية‪.2013 ،‬‬

‫ِغدنز‪ ،‬أنتوني‪ .‬علم االجتماع‪ .‬ترجمة فايز الصياغ‪ .‬بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪.2005 ،‬‬

‫األجنبية‬
‫‪Berry, John W. «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures.» International‬‬
‫‪Journal of Intercultural Relations. vol. 29. no. 6 (2005).‬‬
‫‪Berry, John W. et al. Cross–Cultural Psychology: Research and Applications.‬‬
‫‪Cambridge: Cambridge University Press, 2002.‬‬
‫»‪Berry, John W. et al. «Immigrant youth: Acculturation, Identity, and Adaptation.‬‬
‫‪Applied Psycholgy: An International Review. vol. 55. no. 3 (2006).‬‬
‫–‪Berry, John W., Marshall H. Segall & Cigdem Kagitçibasi (dir.). Handbook of Cross‬‬
‫‪Cultural Psychology. vol. 3. Boston: Allyn & Bacon, 1997.‬‬
‫‪Bourhis, Richard Y. et al. «Towards an Interactive Acculturation Model: A Social‬‬
‫‪Psychological Approach.» International Journal of Psychology. vol. 32. no. 6 (1997).‬‬
59 ‫تاساردلا‬
‫ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع‬: ‫فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد‬

Bourhis, Richard Y. & Jaques Philippe Leyens (eds.). Stéréotypes, discrimination et


relation intergroupes. Bruxelles: Mardaga, 1994.
Camilleri, Carmel & G. Vinsonneau (dir.). Psychologie et culture: Concepts et méthode.
Paris: Armand Colin, 1996.
Camilleri, Carmel & Margalit Cohen–Emerique (dir.). Choc de cultures: Concepts et
enjeux pratiques de l’interculturel. Paris: L’Harmattan, 1989.
Camilleri, Carmel et al, (dir.). Stratégies Identitaires. Paris: PUF, 1990.
Costa–Lascoux, Jacqueline, Marie–Antoinette Hily & Geneviève Vermès (dir.).
Pluralité des cultures et dynamiques identitaires: Hommage à Carmel Camilleri. Paris:
L’Harmattan, 2000.
De la Sablonière, Roxane, Regine Debrose & Sophie Benoit. «Comparaison de
trois conceptualisations de l’intégration identitaire: Une étude auprès d’immigrants
québécois.» Les Cahiers Internationaux de Psychologie Sociale. vol. 88. no. 4 (2010).
Guimond, Serge. Psychologie sociale: Perspective multiculturelle. Bruxelles: Mardaga,
2010.
Kanouté, Fasal. «Profils d’acculturation d’élèves issus de l’immigration récente à
Montréal.» Revue des Sciences de l’Éducation. vol. 28. no. 1 (2002).
Lavallée, M., F. Ouellet & F. Larose (eds.). Identité, culture et changement social.
Paris: L’Harmattan, 1991.
Redfield, Robert, Ralph Linton & Melville Herskovits. «Memorandum on the study of
acculturation.» American Anthropologist. vol. 38. no. 1 (1936).
Rey–von Allmen, Micheline (ed.). Psychologie clinique et interrogations culturelles.
Paris: L’Harmattan, 1993.
Tapia, Claude (ed.). Introduction à la psychologie sociale. Paris: Les Ed. d’Organisation,
1996.
Worchel, Stephen & William G. Austin (eds.). Psychology of Intergroup Relations.
Chicago: MI Nelson–Hall, 1986.

You might also like