Professional Documents
Culture Documents
Omran26 2018 Azzam Amin
Omran26 2018 Azzam Amin
((7(*
Azzam Amin | عزام أمين
. تهدف هذه الدراسة النظرية إلى إلقاء الضوء على علم النفس عبر الثقافي بصورة عامة:ملخص
وعلم، ونشأة علم النفس عبر الثقافي،موجزا عن عالقة علم النفس بالثقافة ً تاريخيا
ً عرضاً وتقدم
وأهمية هذا الحقل األكاديمي في دراسة الظواهر النفسية واالجتماعية،نفس المثاقفة وأهدافه
وتعرض قــراءة تحليلية مقارنة لنظريتي إستراتيجيات الهوية.في المجتمعات التعددية الثقافية
وإسـتــراتـيـجـيــة الـتـثــاقــف وتـقـتــرح الـجـمــع بـيـنـهـمــا فــي مـنـحــى تــوفـيـقــي يــربــط بـيــن الـمـسـتــوى الـفــردي
. فــي التحليل والتعميمMacro والمستوى االجتماعي السوسيولوجيMicro السيكولوجي
فهم
ٍ ونزعة الرد السيكولوجية الضيقة نحو،وتهدف هذه الرؤية التجسيرية إلى تجاوز الجزئيات
.أكثر شمولية لسلوك الفرد في المجتمعات التعددية
. هوية، تثاقف، إستراتيجيات، علم النفس عبر الثقافي:كلمات مفتاحية
Abstract: This theoretical paper aims to cast light on cross–cultural psychology in
general. It provides a brief historical overview of the relationship of psychology
to culture and the emergence of cross–cultural psychology and psychology of
acculturation and its aims, indicating the importance of this academic field in
studying psychological and sociological phenomena in multicultural societies. The
study presents a comparative analytical reading of the theories of identity strategies
and acculturation strategies, and proposes combining and reconciling them in a
way that connects the individual (micro) psychological level and the collective
sociological (macro) level in analysis and generalization. This vision aims to
transcend specifics and the trend of narrow psychological responses towards more
comprehensive understanding of individuals’ behavior within pluralist societies.
Keywords: Cross–cultural Psychology, Acculturation, Strategies, Identity.
.* أستاذ مساعد في علم النفس االجتماعي في كلية علم النفس والعمل االجتماعي في معهد الدوحة للدراسات العليا
Assistant professor in psychology at the College of Psychology and Social Work, Doha Centre for Graduate Studies.
38
العدد Issue 7 / 26
خريف Autumn 2018
مقدمة
يجد المتتبع للعالقات بين الثقافات ،منذ القدم حتى اآلن ،أنها تجلت في صور متعددة
ومتنوعة راوحت بين االنغالق والعزلة والالمباالة ،وبين االنفتاح والتعاون والتبادل والتفاهم،
وبين التنافس والصراع والحرب والتدمير المتبادل .وإن كانت هذه العالقات محدودة في زمن فات،
رئيسا يتشكّل منه واقعنا الذي نعيشه ،ال سيما في ظل العولمة وزوال الحدود فإنها قد غدت مكونًا ً
الجغرافية التي كانت تفصل البلدان بعضها عن بعض ،وكذلك بفعل موجات الهجرة التي أخذت في
االزدياد التدريجي في العقود القليلة الماضية؛ ما جعلها رك ًنا أساس ًيا مما يدعوه عالم النفس الفرنسي
كارمل كاميليري ( )1997–1922عملية التكامل العالمي((( .هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة التي
تختلف أسبابها ووجهاتها ،بفعل عوامل متعددة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية ،واآلخذة بالتزايد،
ولدت حال ًة من التعددية الثقافية ،مرتكز ًة على التنوع اإلثني ،بتنا نراها في جل المجتمعات؛ ما حدا
بمجموعة من ال ُمختصين في علم االجتماع إلى التعريف بعصرنا الحالي على أنه «عصر الهجرة»(((.
وتنبّه علماء االجتماع إلى ظاهرة التواصل بين هذه الثقافات ،Contact de culturesوشرعوا في دراسة
تأثيراتها ،سواء في المجتمعات ال ُمضيفة أو في المهاجرين ،وذلك اعتبا ًرا من نهاية القرن التاسع عشر
ومطلع القرن العشرين؛ إذ شهدت هذه الفترة الزمنية موجات هجرة وصلت إلى قارة أميركا الشمالية،
وكذلك إلى أوروبا ،عقب الحرب العالمية الثانية .ولم تقتصر الدراسات على علم االجتماع ،بل شملت
علم النفس ،فتركزت األبحاث على ظاهرة االتصال الثقافي وعالقة السلوك بالثقافة ،كما اهتمت على
نحو الفت بآليات االندماج والتكيف النفسي في ظل المجتمعات التعددية .أفرزت هذه الدراسات
ستقل في علم النفس ما زال آخذًا في التطورُ ،عرف بـ «علم النفس عبر الثقافي» ً حقل معرف ًيا ُم
ً
.Cross Cultural Psychology
ونسعى من خالل هذه الدراسة النظرية إلى تعريف هذا الفرع الجديد من علم النفس ،من خالل تقديم
لمحة تاريخية تُوجز عالقة علم النفس بالثقافة ،والتعريف بكل من علم النفس عبر الثقافي ،وعلم
نفس المثاقفة .وذلك لكون هذا العلم فضا ًء مه ًما ومفصليًا في علم النفس ال ُمعاصر حول العالم ،منذ
خمسينيات القرن العشرين ،ولم يُولِه الباحثون العرب االهتما َم الالزم ميدان ًيا ونظريًا حتى اآلن؛ فال
نكاد نرى في المكتبة العربية ما يساعد الباحثين والقراء على التعرف إليه وتناوله بالدراسة.
كما نسعى أيضً ا من خالل هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية مقارنة لنظريتي :إستراتيجيات
الهوية Stratégies identitairesالتي بلورها كارمل كاميليري في أبحاثه((( ،وأثرت في أعمال
كثيرين من الباحثين الفرنكوفونيين في علم النفس عبر الثقافي ،ونظرية إستراتيجيات ال ُمثاقفة
(1) Carmel Camilleri, «Le champ et les concepts de la psychologie culturelle,» in: C. Camilleri & G. Vinsonneau (dir.),
Psychologie et culture: Concepts et méthode (Paris: Armand Colin, 1996), p. 9.
((( أنتوني ِغدنز ،علم االجتماع ،ترجمة فايز الصياغ (بيروت :المنظمة العربية للترجمة ،)2005 ،ص .331
(3) Carmel Camilleri, «Identité et gestion de la disparité culturelle: Essai d’une typologie,» in: Carmel Camilleri et al.
(dir.), Stratégies Identitaires (Paris: PUF, 1990), pp. 85–110.
39 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
Stratégies d’acculturationللعالم الكندي جون بيري((( ،التي كان لها انتشا ٌر أوسع بين الباحثين
الفت في بحث دينامياتٍ الناطقين باإلنكليزية .إذ يمكننا القول إن هاتين النظريتين أسهمتا على نحو
االتصال الثقافي وآليات التكيف النفسي في المجتمعات التعددية.
أخي ًرا ،لن نتطرق إلى جميع نظريات علم نفس المثاقفة وتطبيقاتها المهمة كنظرية «إستراتيجيات
المثاقفة التفاعلية» Stratégies d’acculturation Interactiveللباحث ريتشارد بوريس((( ،ونظرية
أميو وسابلونيير «نموذج المعرفي – النمو» ،Modèle cognitivo–développementalو«نموذج ثنائية
الثقافة» Le modèle Biculturalللباحثتين جانا هاريتاتوس وفيرونيكا بنيت – مارتينيز((( ،على سبيل
المثال ال الحصر ،فهذا األمر يمكن أن يجده بسهول ٍة أي ُمتقنٍ للغتين اإلنكليزية أو الفرنسية في المراجع
وال ُملخصات المنشورة في أوروبا((( .فالهدف في هذه الدراسة هو التركيز على نظريتين أساسيتين في
علم النفس عبر الثقافي وعقد مقارنة بينهما ،وذلك سعيًا منا إلى اقتراح منحى توفيقي مؤسس لنظرية
تكاملية جديدة عن التكيف النفسي واالجتماعي في المجتمعات التعددية.
ونأمل من خالل هذه الدراسة تقديم مرجع نظري معرفي للمختصين في علم النفس عبر الثقافي باللغة
العربية ،يستفيد منه الباحثون والمختصون في هذا المجال؛ لعلمنا بافتقار المكتبة العربية ألي ترجمة
كاملة لهما ،وذلك على الرغم من أهميتهما ودورهما في تحليل مسألة التكيف النفسي وأزمة الهوية
ضمن المجتمعات التعددية .أما من الناحية التطبيقية ،فإن الدراسة الحالية تسمح بالبدء في إجراء
بحوث ميدانية تشمل المهاجرين العرب في أوروبا ،ال سيما بعد أن تزايد عددهم على نحو ملحوظ بعد
ثورات الربيع العربي التي تح ّول قسم منها إلى حروب ونزاعات مسلحة .فلقد بات لزا ًما على الباحثين
العرب ومراكز األبحاث العربية دراسة أزمات هؤالء المهاجرين داخل المجتمعات ال ُمضيفة ،والبحث
في كيفية تكيّفهم معها ،ومدى نجاحهم في المجتمعات الجديدة .ومن هنا فإن الدراسة الحالية تسعى،
ضمن حدودها ،إلى تقديم جهد متواضع في هذا المجال.
واعتمدنا في هذه الدراسة األسلوب الوصفي النظري لدراسة المفاهيم والحقائق؛ بهدف بناء منظومة
معرفية متكاملة تُعالج اإلشكالية التي قامت عليها الدراسة وخلفياتها وأهميتها وأهدافهاُ ،مستندين إلى
تحليل مقاالت بحثية ودراسات ميدانية منشورة في دوريات متخصصة عالمية.
(4) John W. Berry & David Sam, «Acculturation and Adaptation,» in: John W. Berry, Marshall H. Segall & Cigdem
Kagitçibasi (dir.), Handbook of Cross–Cultural Psychology, vol. 3 (Boston: Allyn & Bacon, 1997), pp. 291–326.
»(5) Richard Y. Bourhis et al., «Towards An Interactive Acculturation Model: A Social Psychological Approach,
International Journal of Psychology, vol. 32, no. 6 (1997).
(6) Roxane De la Sablonière, Regine Debrose & Sophie Benoit, «Comparaison de trois conceptualisations de
l’intégration identitaire: Une étude auprès d’immigrants québécois,» Les Cahiers Internationaux de Psychologie Sociale,
vol. 88, no. 4 (2010), pp. 661–682.
((( كما أن حدود هذه المقالة وأهدافها ال تسمح بهذا األمر على الرغم من أهميته.
40
العدد Issue 7 / 26
خريف Autumn 2018
ألي دراسة ميدانية في هذا المجال .ولهذا السبب ،فقد حرصنا في انتقائنا المراجع التي استندنا إليها
في العمل على أن تكون ذات قيمة عالية ،لعلماء نفس معروفين بقيمتهم العلمية على مستوى العالم،
ومنشورة أبحاثهم في مراكز األبحاث ال ُمعترف بها دول ًيا.
ً
أوال :إطار نظري عام
ليس في وسعنا الحديث عن علم النفس عبر الثقافي ،من دون المرور على مفهوم الثقافة Culture
ذاته .ويُعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم إثار ًة للجدل في العلوم االجتماعية واإلنسانية ،وهي من
المكونات األساسية لهوية اإلنسان باختالف المجتمعات ،وتظهر تأثيراتها في جميع نواحي حياته،
وغال ًبا بطريقة الشعورية .كما يُثير مفهوم الثقافة جمل ًة من اإلشكاليات ،ترتبط باعتبارات سياسية
فضل عن كون الثقافة ت ُبنى على
ً وأيديولوجية وتتأثر بتنوع المعاني التي يحملها المفهوم في حد ذاته،
نحو مستمر وترتبط من خالل تأثيرها أو تأثرها بمسائل أخرى تتعلق بالحرية واالستبداد والديمقراطية
والتعددية واالختالف والتطور واإلبداع(((.
ولن يكون في اعتبارنا خالل هذه الدراسة مناقشة جميع تعريفات مفهوم الثقافة وارتباطه باألنثروبولوجيا
االجتماعية والثقافية ،فهذا ليس من صلب موضوعنا هنا((( .ونكتفي بالقول إنجميع التعريفات والمدارس
الفكرية القديمة والمعاصرة اجتمعت على أن الثقافة هي «جميع المعاني والمنظومات الرمزية المشتركة
بين أعضاء مجموعة معينة ،وهذه المعاني والرموز تنتظم ضمن جملة أنساق من القيم والعادات والتقاليد
والقوانين والضوابط والتصورات االجتماعية ،وكذلك السلوكيات المشتركة والمعارف والفن ،ويجري
تناقلها من جيل إلى آخر في مجتمع معين عبر مسارات ووسائط غير وراثية – جينية»(.((1
ويمكن للمهتم بتطور األبحاث العلمية حول ظاهرة الثقافة وتأثيرها في السلوك اإلنساني أن يستنتج
أمرين :األول هو أنه في المراحل األولى لهذه األبحاث لم يكن هناك اهتمام بظاهرة االتصال بين
الثقافات وتأثيرها في المجتمعات واألفراد .فقد بدأت هذه األبحاث عبر الثقافية في القرن التاسع عشر
وتنامى االهتمام بها في مطلع القرن العشرين .األمر الثاني هو أن الثقافة لم تكن من المفاهيم التي
أعارها علم النفس اهتما ًما كبي ًرا خالل النصف األول من القرن العشرين ،وذلك على الرغم من أن
عالقة علم النفس بالثقافة قديمة ج ًدا ،غير أنها كانت تمر عبر الدوام من نافذة األنثروبولوجيا الثقافية،
ُمتأثر ًة باألعمال األولى ألنثروبولوجيين شهيرين من أمثال فرانز بواس ،ومارغريت ميد ،وروث بندكت
وغيرهم من باحثين سبق أن أشرنا إليهم(.((1
((( عبد الرزاق الداوي ،في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات :حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة (الدوحة /بيروت :المركز
العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،)2013 ،ص .16 ،15
((( انظر :المرجع نفسه.
–(10) Carmel Camilleri, «La culture et l’identité: Champ notionnel et devenir,» in: Carmel Camilleri & Margalit Cohen
Emerique (dir.), Choc de cultures: Concepts et enjeux pratiques de l’interculturel (Paris: L’Harmattan, 1989), p. 27.
( ((1عـبــد الناصر السباعي ،علم النفس عبر الـثـقــافــي ،سلسلة الكتاب العربي للعلوم النفسية [( 27د.م :].إصــدارات شبكة العلوم
النفسية العربية ،)2013 ،ص .19–18
41 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
ولقد انطلقت باكورة األبحاث عبر الثقافية( Cross–cultural ((1في مجال علم النفس عام 1957فعل ًيا،
ويعود الفضل في ذلك إلى مجلة علم النفس االجتماعي األميركية ،التي أولت هذا النمط من األبحاث
أهمي ًة كبيرة .وفي الفترة ذاتها ،راح علماء النفس يلفتون النظر إلى دور الثقافة في السلوك البشري،
جل نظريات علم النفس ما هي إال خالصة ونتاج ألبحاث أجراها باحثون غربيون على ُمشيرين إلى أن ّ
مجتمعاتهم ،وانطالقًا من هذه النقطة يجب أن نتساءل عن مدى عالمية هذه النظريات .وهكذا ظهرت
عام 1966المجلة الدولية لعلم النفس ،The International Journal of Psychologyالمتخصصة
في األبحاث النفسية «عبر الثقافية» .وبعد مرور أربعة أعوام على ذلك ظهرت أول مرة مجلة تحمل
االسم الصريح علم النفس عبر الثقافي ،Journal of Cross Cultural Psychology, JCCPبينما
تأسست أول جمعية لعلماء النفس عبر الثقافيين عام The International Association for 1972
.Cross–Cultural Psychology, IACCPوهي جمعية ناطقة باإلنكليزية ،ويدخل في عضويتها ما
يزيد على 800عضو من أكثر من ستين بل ًدا ،وعقدت هذه الجمعية مؤتمرها األول في مدينة هونغ
كونغ في عام تأسيسها األول ،كما عقدت مؤتمرها الثالث والعشرين في مدينة نغاواي في اليابان في
الفترة 30حزيران /يونيو– 3آب /أغسطس .2016وباتت هذه الجمعية منذ تأسيسها المسؤولة عن مجلة
علم النفس عبر الثقافي .وفي مقابل ذلك قام باحثون فرنكوفونيون بإنشاء الجمعية الدولية للبحث
عبر الثقافي ،L’Association internationale pour la Recherche Inter–Culturelle, ARICعام
،1984وعقدت هذه الجمعية مؤتمرها السادس عشر في مدينة أنتاناناريفو عاصمة مدغشقر خالل
الفترة 27–23أيار /مايو .2017
ورغم أنه يمكننا مالحظة التطابق التقريبي بين أهداف الجمعيتين ،فإنهما تختلفان في نقطتين :األولى
تتعلق بلغة العمل والبحث الرسمية ال ُمعتمدة من جانب كل جمعية (فرنسية /إنكليزية) ،والثانية هي أن
الجمعية الفرنكوفونية عابرة لالختصاصات ،إذ تضم بين أعضائها باحثين وعلماء من منابع شتى «علماء
اجتماع ،علماء نفس ،ولغويون ،وتربويون ،وأنثروبولوجيون» ،بينما تخصصت الجمعية الناطقة باللغة
اإلنكليزية في علم النفس فقط.
أما أول المراجع ال ُمتخصصة في علم النفس عبر الثقافي فقد نُشر عام 1980في ستة أجزاء ،تحت
إشراف هاري تريانديس .Harry Triandisوجاء في الجزء األول من الكتاب في طبعته األولى أن
علم النفس عبر الثقافي يهتم بدراسة «كيف» و«لماذا» تختلف الظاهرة النفسية وفقًا الختالف العوامل
الثقافية والبيئية( .((1وبتفصيل أكثر «علم النفس عبر الثقافي هو الدراسة العلمية للسلوك البشري
وللعمليات الذهنية وللنمو وعالقتهم بالمحيط الثقافي» .ويمكن تقسيم الدراسات عبر الثقافية إلى
ثالثة تخصصات فرعية:
• علم النفس الثقافي Psychologie Culturelle؛ إذ يحاول بعض الباحثين فهم العالقة بين سلوك
الفرد وثقافته التي عاش ضمنها.
ينصب عمل
ّ • علم النفس الثقافي المقارن Psychologie Transculturelle؛ في هذا االختصاص
الباحثين على إجراء ُمقارنات بين الثقافات في مجتمعات مختلفة.
• علم نفس المثاقفة Psychologie D’acculturation؛ ويهدف إلى دراسة تأثير االتصال والتبادل
الثقافي ضمن حدود المجتمع الواحد واآلثار التي يعود بها على الفرد .وهذا العلم يركّ ز اهتمامه على
المضيفة لهم(.((1
المهاجرين ومشكالت عملية التكيف التي يعانونها ضمن المجتمعات الجديدة ُ
أما الطبعة الثانية من تلك المراجع ،فقد صدرت تحت إشراف العالم الكندي جون بيري في ثالثة أجزاء
عام ،1997وأشار بيري وزمالؤه( ((1فيها إلى أن لعلم النفس عبر الثقافي ثالثة أهداف رئيسة :األول هو
دراسة مدى عالمية نظريات علم النفس من خالل اإلجابة عن السؤال التالي :هل نظريات علم النفس
تنطبق على جميع البشر مهما كانت ثقافتهم؟ بينما الهدف الثاني هو ،دائ ًما بحسب بيري وزمالئه،
اكتشاف الحاجات والسمات النفسية الخاصة بكل ثقافة .وبتحقيق الهدفين األول والثاني نستطيع
بغض النظر
الوصول إلى معرفة في علم النفس تعتمد على قوانين سيكولوجية عالمية مشتركة بين البشر ّ
عن انتمائهم الثقافي ،وهو ما يمثل الهدف الثالث.
ويمكن القول إن هناك ثالثة توجهات أو مقاربات نظرية في دراسة السلوك البشري وعالقته بالثقافة
بغض
ّ في علم النفس :مقاربة إطالقوية Absolutismتعتبر السلوك البشري واح ًدا عند جميع البشر
النظر عن الثقافات ،وعلى الطرف النقيض هناك مقاربة نسبوية Relativismترى أن السلوك البشري
والعمليات العقلية والحاجات النفسية حت ًما ثقافية؛ وبنا ًء عليه ،تختلف باختالف الثقافات .وبين هاتين
المقاربتين الراديكاليتين ،إذ األولى تلغي دور الثقافة تما ًما في السلوك ،والثانية تعتبرها األساس في
سلوك األفراد ،هناك وجهة نظر معتدلة وهي المقاربة الكلية العالمية Universalismالتي تعتبر أن
العمليات والحاجات النفسية واحدة عند أبناء البشر ،ولكن طريقة التعبير عنها وإشباعها يخضعان
لمتغير الثقافة(.((1
أما أول كتاب باللغة العربية( ((1في علم النفس عبر الثقافي فقد صدر عام 1988لمحمود السيد أبو
النيل ،وعلى الرغم من أنه اعتمد كلمة «حضاري» في ترجمة الكلمة اإلنكليزية Culturalفكان
عنوان كتابه علم النفس عبر الحضاري ،فإننا نبقي على كلمة «ثقافي» التي اعتمدها جميع الباحثين
العرب في هذا المجال .وتناولت ستة فصول من هذا الكتاب ،من الخامس حتى العاشر ،مناهج
البحث في علم النفس عبر الثقافي ،وجاء فيها أن له منهجية بحث خاصة به تميزه من غيره من
العلوم ،على الرغم من أن هذا التخصص اعتمد على الكثير من األطر النظرية لتنظيم المعلومات
التي ُجمعت في شتى الميادين وتحليلها ،وكذلك استخدم الكثير من نظريات علم نفس النمو
والعيادي واالجتماعي(.((1
والمبدأ الرئيس في هذه المنهجية البحثية هو التمييز بين البعد الموضوعي في وصف الظاهرة النفسية
Eticوالبعد الذاتي Emicفيها( .((1وهذا التفريق يساعدنا على بناء مقاييس نفسية عالمية تصلح لكل
الثقافات ،ومقاييس نفسية خاصة بكل ثقافة .تجنبنا هذه القاعدة الوقوع في مطبات التعميم الخاطئ
على سلوك البشر لمعطيات تم الحصول عليها في ثقافات معينة .وفي هذا الصدد ،يقول بيير دازن
منتق ًدا المناهج التقليدية في علم النفس العام «إن هذا العلم ُولِد في أوروبا ،ونشأ في أميركا ،ويدعي
أن هدفه الوصول إلى القوانين النفسية العالمية ،في حين أن أسسه التجريبية تعتمد على عينات خاصة
من تلك المجتمعات نفسها»( .((2وللتخلص من تلك المركزية اإلثنية Ethnocentrismفي علم النفس،
أساسا على الدراسات المقارنة في بحوثهم؛ ً يضيف دازن على علماء النفس عبر الثقافيين االعتماد
لتحديد ما هو عام مشترك بين الثقافات وما هو خاص في كل ثقافة(.((2
تُعتبر نظريتا «إستراتيجيات الهوية» لكارمل كاميليري ،و«إستراتيجيات المثاقفة» لجون بيري ،من أشهر
النظريات التي سعت إلى دراسة التعددية الثقافية وتأثيرها في السلوك .وسنحاول من خالل القسم
حىالتالي إيراد عرض تفصيلي للنظريتين ،وتحديد أوجه االلتقاء واالفتراق بينهما ،وأخي ًرا سنقترح من ً
توفيق ًيا يحاول تحقيق التكامل بينهما.
( ((1محمود السيد أبو النيل ،علم النفس عبر الحضاري (القاهرة :دار النهضة العربية ،)1988 ،ص .18
( ((1أول من استخدم مصطلحي Eticو Emicهو عالم اللسانيات األنثروبولوجي األميركي كينيث لي بايك ،Kenneth Lee Pike
فـ Eticهي الجزء األخير من كلمة Phoneticالتي تشير إلى الجوانب العامة المشتركة لألصوات ،وفي علم النفس عبر الثقافي تعني
مقاربة الجماعة من خارجها ،و Emicجــزء من كلمة Phonemicالتي تعني األصــوات الخاصة في لغة معينة ،وفــي علم النفس عبر
الثقافي تشير إلى مقاربة الجماعة من داخلها لمحاولة فهمها ،انظر:
Berry et al., pp. 291–292.
(20) Pierre R. Dasen, «La contribution de la psychologie interculturelle à la formation des enseignants pour une
éducation interculturelle,» in: M. Lavallée, F. Ouellet & F. Larose (eds.), Identité, culture et changement social (Paris:
L’Harmattan, 1991), p. 225.
(21) Pierre R. Dasen, «L’ethnocentrisme de la psychologie,» in: Micheline Rey–von Allmen (ed.), Psychologie clinique
et interrogations culturelles (Paris: L’Harmattan, 1993), p. 170.
44
العدد Issue 7 / 26
خريف Autumn 2018
الهوية
ب .إستراتيجيات ُ
يرى كاميليري( ((2في معرض اإلجابة عن السؤال السابق أن ثقافة المهاجر غير متجانسة مع ثقافة
المجتمع المضيف ،وهذا يؤدي إلى حالة من الصراع الثقافي بين قيم ومعايير يحملها ويؤمن بها،
كان قد تش ّربها من ثقافته األصلية ،ومعايير وقيم ُمغايرة هي السائدة في المجتمع ال ُمضيف .هذا
التضارب بين مجموعتين من القيم يؤدي إلى خلل في التوازن واالنسجام (االتساق والترابط)
بين وظائف ال ُهوية الثالث :األنطولوجية والبراغماتية وتقدير الذات .ومن البديهي ،بالنسبة إلى
كاميليري ،أن يولّد هذا الصراع ضغوطًا نفسية كبيرة يواجهها المهاجر .وللتخلص من هذه الضغوط
يسعى إلى إعادة بناء االتساق والتوازن الهوياتي ،عن طريق ابتكار خيارات سلوكية وقيمية والوصول
إلى توافقات ثقافية تشعره بنوع من االنسجام والتوازن .جملة الخيارات التي يصل إليها الفرد من
خالل هذه العملية هو ما يسميه كاميليري «إستراتيجيات ال ُهوية من أجل تج ّنب الصراع الثقافي
وإعادة الترابط واالنسجام»(.((2
ولكن ،دائ ًما بحسب كاميليري ،ال تقتصر معاناة ال ُمهاجر على الصراع بين ثقافتين :واحدة يحملها من
مجتمعه األصلي وأخرى يواجهها ويعيش داخلها في المجتمع المضيف ،إنما يعاني أيضً ا من تدنّي
اعتبار الذات ،ويعود ذلك إلى طبيعة العالقة غير المتكافئة بالمجتمع المضيف ،وهذه العالقة هي
وليدة جملة من األفكار النمطية ونظرة فوقية استعالئية تجاه ال ُمهاجر ،كما تتسم العالقة بالمجتمع
المضيف بالهيمنة والتبعية؛ لذلك تتعرض نظرته إلى ذاته بالتدني والتبخيس ،وهذا يُشكّل ضغطًا كبي ًرا
عليه .ومن أجل التخلص من هذا الضغط يلجأ المهاجر إلى تب ّني جملة من اإلستراتيجيات ال ُهوياتية،
يُطلق عليها كاميليري «إستراتيجيات ال ُهوية من أجل إعادة االعتبار».
بالنسبة إلى كاميليري ،إما أن يتم تجنب الصراع عن طريق االنسجام البسيط أو المركب أو ال ُمخفف،
وذلك وفق األولوية التي يعيرها الفرد المهاجر للجانب األنطولوجي أو البراغماتي من هويته.
ٍ
واحد من مكونات هويته الخاصة، وهي اإلستراتيجيات التي يلجأ إليها المهاجر حين يتخلي عن
األنطولوجي أو البراغماتي ،واإلبقاء على المكون أو الجانب اآلخر .وفي هذه الحالة إما أن يتمسك
المهاجر بثقافته األم ويرفض ثقافة المجتمع المضيف إذا كان متشبثًا بالجانب األنطولوجي من هويته،
وإما أن يتخلى عن ثقافته األم ويندمج تما ًما في المجتمع المضيف ،إذا كان اهتمامه منص ًّبا على
الجانب البراغماتي من هويته وأهمل الجانب األنطولوجي.
ولكن ،بحسب كاميليري دائ ًما ،ال يستطيع المهاجر التخلّي تما ًما عن الجانب البراغماتي من هويته،
وال يستطيع أن يرفض تما ًما المجتمع المضيف؛ فهو ُمضطر إلى التعامل معه بحكم وجوده فيه ،ولو
كان هذا التعامل محدو ًدا و ُمقتص ًرا على الجوانب األكثر أساسي ًة من الحياة اليومية ،إال أنه ما من
سبيل إلى تج ّنب هذا التعامل .وفي الحقيقة هذا النوع من السلوك الهوياتي يمثل حال مجموعة من
ال ُمحافظين أو السلفيين الذين يرفضون التعامل مع المجتمعات التي هاجروا إليها؛ حيث هم يعيشون
فيها ويرفضون االختالط بأفرادها .الحالة األخرى المغايرة وال ُمناقضة تتمثل في اإلبقاء والتركيز على
الجانب البراغماتي اإلدماجي من الهوية ،والتخلي تما ًما عن الجانب األنطولوجي ،وينتج من ذلك تب ٍّن
ُمطلق لقيم المجتمع المضيف ومعاييره وسلوكه ،فيندفع ال ُمهاجر إلى االنسالخ عن مجتمعه الذي جاء
منه ،ويتماهى مع المجتمع المضيف متب ّنيًا سلوكًا مختلفًا كليًا عن قيمه وثقافته .وهناك شكل آخر من
التعامل يُميز مجموعة من المهاجرين؛ إذ هم يتعاملون مع ثقافتهم األم وثقافة المجتمع المضيف على
نح ٍو متناوب ،Alternance conjoncturelle des codesفهم يتب ّنون قيم المجتمع ال ُمضيف وثقافته في
مثل.
العمل وبين األصدقاء ،بينما يلجؤون إلى قيم ثقافتهم األم ومعاييرها في البيت مع أفراد العائلة ً
الم ّ
ركب من أجل تج ّنب الصراع – إستراتيجيات االنسجام ُ
يسعى بعض المهاجرين إلى االندماج في مجتمعاتهم الجديدة التي وصلوا إليها ،غير أنهم على الرغم
من ذلك يحاولون اإلبقاء على جزء من ثقافتهم األصلية بما فيها من قيم وتقاليد ،وذلك يعتمد على توليفة
يجري فيها التوفيق بين كال الوظيفتين األنطولوجية والبراغماتية من هوياتهم .وبذلك يحققون حالة من
االنسجام إما وفق منطق عاطفي ،Logique Affectiveإذ يعيدون تفسير قيم المجتمعات ال ُمضيفة لهم
ومعاييرها ،وتلك التي يحملونها من مجتمعاتهم األصلية ويقربون فيما بينها ،أو وفق منطق عقالني
،Logique Rationnelleإذ يقوم الفرد ال ُمهاجر بعملية إعادة تفسير وتقييم للقيم والمعايير ،ويسعى
للتوفيق بينها عبر عمليات معرفية على درجة أعلى من التعقيد ،ويتم ذلك من خالل عمليات تحليل
بال للقوالب
وتفسير للقيم القديمة من خالل معارف جديدة تركز على المحتوى والمضمون وال ت ُلقي ً
الثابتة والتفسير النصي التقليدي لألمور ،أي إعادة التعامل مع الثقافة القديمة وقيمها من خالل منظور
جديد يُعيد صياغتها ويطرح منها جملة من األمور .وهذا النوع بالتحديد من اإلستراتيجيات القائمة
على عقلنة التعامل مع القيم والمعايير ال يجريه سوى من يتمتعون بدرجة عالية من النضوج الفكري
والثقافة المتق ّبلة للجديد والقابلة لالنفتاح على اآلخر المختلف والتبادل معه واألخذ من تجاربه.
– إستراتيجيات تخفيف الصراع الثقافي
ال ينجح بعض المهاجرين في تج ّنب الصراع الثقافي؛ نتيجة ظرفهم االقتصادي والسياسي وبنيتهم
النفسية واالجتماعية والثقافية ،ال من خالل االنسجام البسيط (حذف إحدى الثقافتين) وال عبر
االنسجام المركب (التوليف والتركيب بين الثقافتين) فيفضلون اللجوء إلى تخفيف هذا الصراع
قدر اإلمكان .ويجري ذلك من خالل عملية تفاضلية بين قيم الثقافة األصلية ،بحيث ت ُعطى
47 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
أهمية كبرى لتلك التي تتوافق مع المجتمع ال ُمضيف ،مقابل أهمية قليلة لتلك التي ال تنسجم مع
المجتمع ال ُمضيف .Pondération différentielle des valeursوباآللية نفسها يتم التعامل مع
قيم المجتمع ال ُمضيف ومعاييره ،إذ يجري تخفيف تلك التي تتعارض مع ثقافة المجتمع األصلي
.((2(Les limitations de l’itèm perçu comme pénibleوالفرق بين هذا النوع من إستراتيجيات ال ُهوية
وإستراتيجيات تج ّنب الصراع عن طريق االنسجام المركب أو االنسجام البسيط يتركز في أن الصراع
ال ُهوياتي يبقى موجو ًدا وال يزول أب ًدا ،ولكن الفرد يحاول التأقلم معه والتخفيف منه قدر اإلمكان.
انطلق كاميليري من نظرية ال ُهوية االجتماعية لتاجفل وتورنر( ((2من أجل دراسة سلوك المهاجرين.
وتقوم هذه النظرية على مبادئ أساسية في استطاعتنا تلخيصها في ثالث نقاط:
إيجابية عن نفسه Estime de Soi, Self–esteemويتألف مفهومٍ – كل شخص يحتاج إلى صورةٍ
والهوية االجتماعية Identité
الهوية الشخصية (خصائص فردية)ُ ، الذات عند الفرد من مكونين ،هماُ :
الهوية االجتماعية ً
شرطا يتوحد معها الفرد) ،وتُعتبر ُ
( Socialeالجماعات والتصنيفات االجتماعية التي ّ
أساسيا لتحقيق مفهو ٍم إيجابي عن الذات.
ً
ٍ
ظروف معينة ،إلى إضفاء – من أجل تحقيق مفهوم إيجابي عن ذواتهم ،يسعى األفراد ،وفي إطار
ٍ
صفات إيجابية على الجماعات التي يشعرون باالنتماء إليها ،ويجري ذلك بواسطة ميكانيزمات نفسية؛
والتوحد والمقايسة االجتماعية.
ّ كالتصنيف االجتماعي
فيما يتعلق بالمهاجرين واندماجهم ،يقول كاميليري(« :((2إن العالقة غير المتكافئة بين ال ُمهاجر وثقافته من
زاوية ،والمجتمع ال ُمضيف وثقافته من زاوي ٍة ثانية ،تلقي بآثا ٍر سلبية على صورة الذات ،وتؤدي إلى زعزعة
ثقة ال ُمهاجر بنفسه ،وكذلك إلى عدم الوصول إلى ُهوية اجتماعية إيجابية .فيلجأ هذا ال ُمهاجر إلى عدة
إستراتيجيات من أجل إعادة االعتبار لذاته المجروحة» .ويمكن تصنيف هذه اإلستراتيجيات كاآلتي:
الهويات التابعة
– إستراتيجيات ُ
وتُسمى ال ُهويات التابعة؛ ألنها تنجم عن ردة فعلٍ مباشر ٍة على األفكار النمطية السلبية التي يعكسها
المجتمع ال ُمضيف .إذ يتقبّل بعض المهاجرين هذه األفكار ،ويقوم بتمثّلها عن طريق الالوعي ،وبنا ًء
عليه يتصرف تب ًعا لهذه األفكار ،وهذا ما يسميه كاميليري «ال ُهوية السلبية» .Identité Négativeهذه
اإلستراتيجية غالبًا ما نالحظها بكثافة بين أبناء الجيلين األول والثاني من المهاجرين ،إذ يتعاملون
بردات فعل سلبية وأحيانًا عنيفة ،الشعورية ،مع األفكار النمطية تجاههم.
ال يجد بعض المهاجرين مف ًّرا من هذه األفكار النمطية عن الجماعة التي ينتمون إليها فيتقبلونها،
وللهروب منها يلجؤون إلى التماهي مع المجتمع ال ُمضيف ،ويتناولون جماعتهم األصلية في كالمهم
وفق األفكار النمطية نفسها ،كما لو كانوا ال ينتمون إلى هذه الجماعة .وهذا ما يُسمى «إستراتيجية
اإلزاحة» ،أي التهرب من األفكار النمطية من خالل التماهي مع ال ُمجتمع ال ُمضيف واتهام ال ُمهاجرين
اآلخرين بهذه األفكار «ال ُهوية السلبية ال ُمزاحة» .Identité Négative Déplacéeولكن يرفض بعض
المهاجرين التماهي مع المجتمع المضيف ،وفي الوقت نفسه يتقبّلون األفكار النمطية عن جماعتهم،
ولكنهم ال يتقبلونها عنهم بوصفهم أفرا ًدا ،ويعتبرون أنفسهم مميزين .وهذا ما يُطلق عليه كاميليري
إستراتيجية «ال ُهوية بالتمايز»(.Identité par Distinction ((2
الهوية التفاعلية
– إستراتيجيات ُ
في بعض األحيان ،يلجأ بعض المهاجرين إلى إستراتيجيات دفاعية لرفض األفكار النمطية والنظرة الدونية
فمثل يتمسك قس ٌم منهم بثقافة مجتمعه األصل رافضً ا األفكار السلبية عنها ورافضً ا أيضً ا ً الموجهة إليهم.
ُهوية المجتمع ال ُمضيف .ويعتبر هذا الرفض بالنسبة إليهم نو ًعا من االعتزاز بأصولهم ،وهو طريق ٌة غير
مباشر ٍة لحماية ذواتهم ال ُمه َّددة ،لذلك تسمى هذه ال ُهوية «ال ُهوية الدفاعية»(.Identité Défense ((3
ويذهب قسم آخر ،وخاصة من فئة الشباب من أبناء الجيل الثالث ،إلى المزايدة في إبراز إيجابيات
مجتمعات أبائهم األصلية ،وبطريق ٍة مبالغٍ فيها .Surenchère Culturelleوأحيانًا يتم ذلك عن طريق
الدخول في عالق ٍة صدامي ٍة مع المجتمع ال ُمضيفُ « ،هوية إشكالية» .Identité Polémiqueولكن
الحظ علماء النفس أن أغلب هؤالء الشباب ال ينتمون سوى باالسم إلى ثقافتهم األم ،وهذا ما اصطلح
عليه كاميليري «ال ُهوية المبدأ» Identité par Principe؛ إذ يبدو جل ًيا الفصل بين ما يُص ّرح به الشخص
عن ثقافته األم وانتمائه إليها وسلوكه في الحياة اليومية.
ال يمكننا استعراض جميع إستراتيجيات الهوية في دراسة واحدة؛ فهذه اإلستراتيجيات متعددة ومتنوعة
ٌ
أشكال من اإلجابات التي يبتكرها ال ُمهاجر وفقًا لجملة المواقف والوضعيات ومتجددة دائ ًما ،فهي
التي يتعرض لها أثناء عملية التثاقف .وتختلف هذه اإلجابات ،بحسب الفرد والجماعة والمجتمع
األصلي والمضيف ،أي بحسب الظروف االقتصادية واالجتماعية والثقافية والنفسية.
نقتبس الجدول ( )1من دراسة مهمة للباحثين بيير دازن وتانيا أوغاي لتلخيص المبادئ األساسية لنظرية
إستراتيجيات الهوية لكارمل كاميليري.
الجدول ()1
إستراتيجيات الهوية بحسب نظرية كاميليري
المهاجر يُعاني صورة سلبية عن الذات وعدم انسجام بين ثقافته وثقافة المجتمع المضيف
تابع
القلق مرتبط بجملة من المشكالت النفسية واالجتماعية التي يتعرض لها ال ُمهاجر في المجتمع
مثل .أخي ًرا،
ال ُمضيف ،وفي أحيان كثيرة تكون هذه المشكالت خارجة عن إرادته كتعلم اللغة ً
المستوى الموقفي ،Attitudinaleويُع ّد هذا المستوى على درجة عالية من األهمية؛ فهو الذي يُحدد
«اتجاهات التثاقف» ،إذ ال شك في أن اختيار الفرد أو اعتماده على واحدة من إستراتيجيات التثاقف
من أجل حل مشكلة الهوية والقيم والمعايير الثقافية تعتمد على موقفه من ثقافته األم وموقفه من
ثقافة المجتمع ال ُمضيف(.((3
المثاقفة
أ .مفهوم ُ
يُع ّد هذا المفهوم من المفاهيم اإلشكالية أيضً ا ،وله العديد من المعاني ،وهو ينطوي على مفهوم
التأثير الثقافي المتبادل والمتكافئ .وأول التعريفات العلمية لهذا المفهوم طرحته مجموعة من
الباحثين األنثروبولوجيين األميركيين ،في عام ،1936وبحسب هؤالء فإن مصطلح «ال ُمثاقفة»
ٍ
مجموعات ٍ
واحتكاك متواصل ومباشر بين Acculturationيدل على الظواهر الناجمة عن تواصلٍ
ٍ
تغيرات في األنماط الثقافية لهذه ٍ
ثقافات متنوعة ،ويؤدي هذا التواصل إلى من األفراد المنتمين إلى
المجموعات(.((3
وكما أشرنا إليه سابقًا ،يدل مصطلح ال ُمثاقفة على تفاعل فكري وثقافي متكافئ األطراف ،أي بين
مجموعات متساوية في الحقوق والواجبات .ومن مبادئ المثاقفة التي ركّز عليها األنثربولوجيون
األوائل هو االعتراف والتعاون المتبادل ،ولكن الواقع أثبت أنه من النادر أن تكون عملية المثاقفة بين
جماعات متساوية ومتكافئة ،وغالبًا ما تُوجد مجموع ٌة ُمسيطرة أو مهيمنة (مجموعة ُمثا ِقفة) ،ت ُصدر
ثقافتها «المتفوقة» وقيمها إلى المجموعة األخرى (مجموعة تثاقف)( ((3التي تنفذ الجزء األكبر من
مثل) ،وهي التي تتعرض أكثر للتغيرات الثقافية الناجمة عن عملية التواصل عملية ال ُمثاقفة (المهاجرون ً
الثقافي( .((3لهذا السبب نستخدم أحيانًا في دراستنا هذه مصطلح «تثاقف» ً
بدل من « ُمثاقفة» ،وذلك إنما
لالستدالل على هذه العالقة غير المتكافئة بالنسبة إلى المهاجرين.
وبحسب جون بيري يجب أن تؤخذ األبعاد الشخصية والنفسية والتباينات والفروق الفردية في
االعتبار في دراسة عملية المثاقفة؛ فدرجة تقبّل االختالف الثقافي واستيعابه ،وقبول التغير ،تختلف
ٍ
شخص إلى آخر(.((3 من
(33) Collette Sabatier & John W. Berry, «Immigration et acculturation,» in: Richard Y. Bourhis & Jaques Philippe
Leyens (eds.), Stéréotypes, discrimination et relation intergroupes (Bruxelles: Mardaga, 1994), p. 288.
(34) Robert Redfield, Ralph Linton & Melville Herskovits, «Memorandum on the Study of Acculturation,» American
Anthropologist, vol. 38, no. 1 (1936), p. 149.
( ((3في دراستنا النظرية هذه ال نركّ ز على هذه المجموعة ،لذلك نستخدم مصطلح تثاقف ً
بدل من مصطلح مثاقفة.
(36) Berry & Sam, pp. 291–326.
(37) John W. Berry, «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures,» International Journal of Intercultural
Relations, vol. 29, no. 6 (2005), pp. 701–702.
52
العدد Issue 7 / 26
خريف Autumn 2018
الجدول ()2
إستراتيجيات التثاقف بحسب نظرية بيري
االندماج ( :Intégrationاإلجابات :نعم للسؤال األول /نعم للسؤال الثاني) ،وهي حالة ال ُمهاجر
الراغب في الحفاظ على خصائص ُهويته وثقافته األم ،كاللغة والديانة والعادات والتقاليد ،وفي الوقت
نفسه يرغب في التواصل مع المجتمع ال ُمضيف وتب ّني خصائصه الثقافية .ويرى بيري أن االندماج يُمثل
الجانب اإليجابي في عملية التثاقف ،فهو يع ّبر عن محاولة التوفيق بين الثقافتين.
التماهي :Assimilationويمكن تعريفه بأنه الرغبة في التخلي عن الثقافة وال ُهوية األصليتين
(ال للسؤال األول) ،لصالح ثقافة المجتمع ال ُمضيف و ُهويته (نعم للسؤال الثاني) .وفي هذه الحالة،
يتمثل المهاجر قيم المجتمع المضيف ومعاييره ويتنصل تما ًما من ثقافته األم .وبنا ًء عليه ،تختلف
شخصية ال ُمهاجر ال ُمتماهي مع المجتمع ال ُمضيف قبل الهجرة عن شخصيته بعد الهجرة كليًا.
االنعزال أو التقوقع الثقافي :Repli communautaireفي هذه اإلستراتيجية يبدي المهاجرون رغبتهم
في عدم التعامل أو االختالط بالمجتمع ال ُمضيف وأفراده ،وال يسعون إلى صوغ أي عالقة تجمعهم
53 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
بالثقافة الجديدة (ال للسؤال الثاني) ،ويحاولون بشتى الوسائل اإلبقاء على هويتهم وثقافتهم األم
واالحتفاظ بها (نعم للسؤال األول) ،وهنا ال نتحدث عن عملية تثاقف بقدر ما نتحدث عن إستراتيجية
ضد تثاقفية ،تتمثل في االنطواء على الذات واالبتعاد قدر ال ُمستطاع عن أفراد المجتمع ال ُمضيف.
ويمكن مالحظة أن األفراد المهاجرين ال ُمتبعين لهذه اإلستراتيجية غالبًا ما يتسمون بقد ٍر عا ٍل من
التصلب في الرأي والتحجر أمام اآلخرين وثقافاتهم وتجاربهم وآرائهم(.((3
التهميش :Marginalisationال يمكن اعتبار هذه الحالة إستراتيجية يتخذها الفرد ال ُمهاجر ،إنما يمكن
الحديث هنا عن حالة من االغتراب النفسي والضياع والتشتت .وهي ردة فعل نجدها لدى المهاجرين
الذين يفقدون خصائص ُهويتهم وثقافتهم األصلية ،وفي الوقت نفسه ال يكون في مقدورهم االندماج
ضمن األطر الثقافية الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها ضمن المجتمع ال ُمضيف ،والسبب الرئيس في
ذلك ناجم عما يواجهونه من تهميش وعنصرية وازدراء من أفراد المجتمع المضيف.
فنظرية إستراتيجيات ال ُهوية ت َعتَبر أن االتصال الثقافي يُفضي حت ًما إلى صراع ثقافي يعيشه الفرد على
المستوى النفسي؛ وذلك بسبب االختالف بين معايير ثقافته األم ومعايير ثقافة المجتمع ال ُمضيف،
وتدفعه هذه الحالة إلى استخدام مجموعة من اإلستراتيجيات ال ُهوياتية للتغلب على هذا الصراع أو
للتخفيف منه .كما أن المجتمع ال ُمضيف سيعكس حت ًما ،من وجهة نظر كاميليري ،لل ُمهاجر صورة
سلبية عن ذاته؛ وهو ما يدفعه ،أيضً ا ،إلى بناء مجموعة من إستراتيجيات ال ُهوية التي تهدف إلى إعادة
االعتبار الذاتي.
هذه الرؤية ذات الصبغة السلبية لظاهرة اتصال الثقافات (الصراع الثقافي الحتمي والصورة السلبية
لل ُمهاجر) ال نجدها في نظرية إستراتيجيات التثاقف لبيري التي تعتبر «االتصال الثقافي» حالة إيجابية
يعيشها الفرد ،وإذ هو يسعى إلى التكيف النفسي فهذا ليس هروبًا من حالة الصراع بين ثقافتين وإنما
باعتبارها حالة تعايش غنية .وفي الواقع فإن العديد من الباحثين ال يتفقون مع الرؤية السلبية لالتصال
الثقافي التي يمكن أن نالحظها في نظرية كاميليري( .((3وربما يعود هذا االختالف في مقاربة ظاهرة
االتصال الثقافي إلى االختالف بين بل َدي منشأ كل نظرية.
في كندا ،وهي البلد التي نشأت فيه نظرية إستراتيجيات التثاقف ،ترتكز سياسات الهجرة على تقوية
إستراتيجية االندماج لدى ال ُمهاجرين وتشجيعها ،وتعتبر المجتمع الكندي بطبيعته تعدديًا في ثقافته.
ط فخر واعتزاز لدى الكنديين ويُثري الهوية الوطنية ويعطيها نو ًعا من التكامل، وهذا التنوع الثقافي مح ّ
وهذا التنوع يُسهم في إثراء الهوية الكندية األم الجامعة لهذه التنوعات ،وهذا ما يُسمى «سياسة
التعددية» ،Politique de Multiculturalismeتؤمن هذه السياسة باالختالف والتنوع بصفتها طبيعة
بشرية يجب تعزيزها؛ لكون الطبيعة اإلنسانية متنوعة وتتكامل عن طريق االختالف بين الثقافات التي
يحملها كل فرد ويتواصل بها مع اآلخر .بينما في فرنسا ،البلد الذي ولدت فيه نظرية إستراتيجيات
الهوية ،ال نجد السياسة نفسها ،وهي تعتمد على نموذج ُمغاير قائم على سياسة االنصهار Politique
d’Assimilation؛ وذلك من خالل تذويب ثقافات ال ُمهاجرين التي يحملونها من مجتعاتهم األصلية
وثقافات أبنائهم وصهرها ضمن الثقافة الفرنسية .إذًا ،فرنسا ت ُطبّق سياسة التماهي مع الثقافة الفرنسية
على المهاجرين إليها( .((4ويرفض هذا النموذج التعدد الثقافي الموجود في الحالة الكندية ،وال يقبل
سوى بهوية ثقافية واحدة هي الفرنسية ،ويتعامل بطريقة سلبية مع عدم تماهي ال ُمهاجر مع الثقافة
الفرنسية ،معتب ًرا ذلك خط ًرا على الهوية الثقافية للبالد؛ فالفرنسيون أمة واحدة لها ثقافتها الواحدة،
وذلك أساس تقوم عليه الهوية الوطنية(.((4
أما بالنسبة إلى العمليات النفسية الفردية ودورها في تكيف الفرد ،فيمكننا أن نالحظ أن نظرية
إستراتيجيات ال ُهوية هي مقاربة نفسية فردية Approche Psychologique Individualisanteإلدارة
فاعل نشطًا مبد ًعا،
ً التعددية الثقافية والصراع الناتج منها .ففي أعمال كاميليري وزمالئه يظهر الفرد
يفاوض ويقرر ويتالعب ويقارن ويفاضل بين المعايير الثقافية من أجل الوصول إلى مرحلة التكيف
النفسي وتحقيق المكتسبات االجتماعية .لقد تعاملت نظرية إستراتيجيات ال ُهوية مع ظاهرة االتصال
الثقافي في مستوى قصير المدى ،Microوحصرتها في عالقات ضيقة وتفاعالت فردية محدودة،
وردود سيكولوجية .ولكنها تجاهلت ،نو ًعا ما ،المستوى البعيد المدى Macroفي التحليل؛ أي دور
قليل
العالقات بين الجماعات من جهة ،ودور المجتمع ال ُمضيف من جهة أخرى ،الذي لم يُذكر إال ً
من خالل دوره السلبي في إعطاء صورة سلبية عن الذات للفرد ال ُمهاجر .هذه النقطة ،أي نزعة الرد
السيكولوجية وغياب دور المجتمع ال ُمضيف ،أقل حدة في نظرية إستراتيجيات التثاقف؛ فعلى الرغم
من أن بيري يتحدث عن عملية اختيار Choixيقوم بها الفرد بين إستراتيجيات التماهي أو االندماج
أو التقوقع الثقافي واالنعزال ،فإنه ال يغفل جملة من العوامل التي تُحدد كل إستراتيجية ومتى يتم
اللجوء إليها( ،((4وهذا يتحدد على سبيل المثال بمدى قدرة ال ُمهاجر على التحدث والتواصل من
خالل اللغة مع ال ُمجتمع ال ُمضيف ،وخصائص ذاتية أُخرى تعود إلى شخصية كل ُمهاجر ،والطريقة
جانب منها ،وإلى
ٍ التي يتعامل فيها مع ثقافته األم ،ومدى ارتباطه بها وقدرته على التخلي عنها أو عن
( ((4لـلـتــوســع فــي نـقــاش مـســألـ َتــي سـيــاســة االنــدمــاج وسـيــاســة االنـصـهــار وتــأثـيــرهـمــا فــي الـمـهــاجــريــن ،يمكن الــرجــوع إلــى أعـمــال عالم
االجتماع عبد المالك صياد وأهمها كتاب «الغياب الـمــزدوج :من أوهــام المهاجر إلــى معاناة المغترب» La double absence: Des
illusions de l’émigré aux souffrances de l’immigréالذي نُشر باللغة الفرنسية وكتب مقدمته بيير بورديو.
(41) Serge Guimond, Psychologie sociale: Perspective multiculturelle (Bruxelles: Mardaga, 2010), pp. 206–207, 210,
216–217.
(42) Berry, «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures,» pp. 702–705.
55 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
أي حد هو ُمنفتح على تجارب جديدة وتشكيل عالقات إنسانية مع المجتمع المضيف ،ومدى تسامحه
وتقبّله لآلخر ال ُمختلف ثقافيًا ،وهو ما درج علماء النفس على تسميته االستعداد البين ثقافي Aptitude
.Interculturelleويتحدد أيضً ا اختيار المهاجر إلحدى إستراتيجيات التثاقف بخصائص المجتمع
المضيف ،ومدى تقبّله لثقافات أُخرى جديدة و ُمختلفة ،وقدرته على االنفتاح على الثقافات األجنبية
وأفرادها والتعامل معهم أو االحتكاك بهم؛ فهي تؤدي دو ًرا مه ًما ،بحسب بيري ،في عملية التثاقف ال
تقل أهمية عن الخصائص ال ُمتعلقة بالمهاجر نفسه.
أخي ًرا ،يوجد فرق جوهري بين النظريتين بالنسبة إلى المنهج البحثي المعتمد في كل منهما ،ويعكس هذا
الفرق وجهتَي نظر مختلفتين بين الباحثين عبر الثقافيين الناطقين باللغة الفرنسية أو باللغة اإلنكليزية.
فبينما يعتمد معظم الباحثين في الجمعية الدولية للبحث عبر الثقافي ARICالناطقة باللغة الفرنسية
أساسا فقط علىً المنهج النوعي ،Qualitativeوهو حال نظرية إستراتيجيات ال ُهوية التي اعتمدت
المقابالت البحثية مع عينات من المهاجرين من أصول مغاربية عربية فقط في فرنسا ،وهذا ما يثير
تساؤالت كثيرة حول إمكانية تعميمها( ،((4يتب ّنى الباحثون في الجمعية الدولية لعلم النفس عبر الثقافي
الناطقة باللغة اإلنكليزية IACCPفي بحوثهم المنهج الكمي Quantitativeوالدراسات المقارنة،
(((4
مثل ،بحوث مقارنة على إستراتيجيات التثاقف في الكثير من دول العالم أساسا .فلقد أجريتً ،ً
(أستراليا ،وكندا ،وفرنسا ،وسويسرا ،وألمانيا ،والهند ...إلخ) وعلى عدة مجموعات ثقافية مختلفة
(مهاجرون من أصول إيطالية ومغاربية وتركية وكورية وإسبانية وبرتغالية ...إلخ) ما أعطى صدقية أكبر
لمسألة تعميم هذه النظرية.
فالنظريتان تتفقان على أن الفرد فاعل في بناء ُهويته وسلوكه ،ولذلك تستخدمان مفهوم «اإلستراتيجية»
في دراسة ديناميات االتصال الثقافي وآليات التكيف النفسي لألفراد في المجتمعات التعددية .وت ُعرف
اإلستراتيجية في كلتا النظريتين بأنها اإلجراءات التي يستخدمها ،على نحو وا ٍع أو غير واعٍ ،فرد أو جماعة
ألجل الوصول إلى هدف معين صريح أو متموضع في مستوى الالوعي ،وتتبلور هذه اإلستراتيجيات
وفقًا لحالة التفاعل بين الفرد والمجتمع في سياق محدد (ثقافي ،واجتماعي ،وتاريخي ،ونفسي)(.((4
وتتمثل نقطة التشابه المهمة ،األُخرى ،التي يجب أن نلفت االنتباه إليها ،في أن نظريتي بيري وكاميليري
تستندان إلى األبعاد نفسها Multidimentionelleوالمتغيرات ،في تحديد اإلستراتيجيات التي يلجأ
إليها األفراد في المجتمعات التعددية .فإستراتيجيات التثاقف تستند إلى تقاطع بُع َدين :األول ،الرغبة في
الحفاظ على ال ُهوية الثقافية األصلية (األم) ويقابلها في نظرية إستراتيجيات ال ُهوية الجانب األنطولوجي
الذي يلبّي الوظيفة المعنوية ،والثاني الرغبة في االختالط بال ُمجتمع ال ُمضيف وتب ّني ثقافته وقيمه وهو ما
يمثل الجانب البراغماتي من ال ُهوية الذي يؤدي دور الوظيفة اإلدماجية في نظرية إستراتيجيات ال ُهوية.
في الواقع ،إن إستراتيجيات التثاقف هي عبارة عن اتجاهات Attitudesتحدد موقف الفرد من ثقافته
األصلية وثقافة المجتمع ال ُمضيف .إنها طريقة الحياة األمثل Ideal Typeالتي يرغب فيها الفرد بالنسبة
إلى موقفه بين ثقافة المجتمع ال ُمضيف وثقافة مجتمعة األصلي (االندماج ،والتماهي ،والتهميش،
والتقوقع الثقافي) ،أما إستراتيجيات ال ُهوية فهي السلوكيات Comportementsالتي تنسجم مع تلك
االتجاهات أو المواقف والتفضيالت ،وبتعبير أدق ،كما أشار كاميليري نفسه« ،إن إستراتيجيات ال ُهوية
هي التعبيرات السلوكية إلستراتيجيات التثاقف»(((4؛ أي إن إستراتيجيات ال ُهوية هي انعكاسات حقائق
الواقع االجتماعي في وعي الفرد .إذًا ،وبنا ًء على ما سبق ،من الضروري الربط بين النظريتين في
شمولي لسلوك الفرد ،يتجاوز الجزئيات ،ونزعة الرد السيكولوجية الضيقة، ٍ منحى توفيقي من أجل فهمٍ
ويأخذ في االعتبار إستراتيجيات التثاقف المحدودة من جهة ،وإستراتيجيات اله ُوية الغنية والمتنوعة
والمتعددة التي اقترحها كاميليري من جهة أخرى ،كما هو موضح في الجدول (:)3
الجدول ()3
نموذج توفيقي يجمع بين إستراتيجيات التثاقف وإستراتيجيات الهوية
إستراتيجيات التثاقف :الرغبة في الحفاظ على الثقافة األصلية
إستراتيجيات ال ُهوية :الجانب األنطولوجي من ال ُهوية،
(هل يجب الحفاظ على ال ُهوية الثقافية األصلية؟)
ال نعم
يتبع
(47) Edmond Marc Lipiansky, Isabelle Taboada–Léonetti & Ana Vasquez, «Introduction à la problématique de
l’identité,» in: Camilleri et al. (dir.), p. 24.
(48) Camilleri, «Le champ et les concepts de la psychologie culturelle,» p. 33.
57 تاساردلا
فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد :ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع
تابع
إن المبدأ الذي ينطلق منه هذا المنحى التوفيقي هو أن ظاهرة االتصال الثقافي والتعددية الثقافية في
المجتمعات وتأثيرها في السلوك ال يمكن أن تدرس فقط من خالل إحدى جزئياتها أو عناصرها ،ولكن
من خالل تركيب جميع العناصر التي تُشكّلها؛ ما يمنح المسألة قيمتها الحقيقية ،ويوفر فرصة أدق
وأشمل لفهمها على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع.
خاتمة
ق ّدمت هذه الدراسة لمحة شاملة ومختصرة عن علم النفس عبر الثقافي وعلم نفس المثاقفة ،كما
استعرضت وضمن إطار حدودها نظرية إستراتيجيات ال ُهوية ونظرية إستراتيجيات التثاقف ،وأشارت
إلى نقاط االختالف والتشابه بينهما ،وأكدت ضرورة الجمع بينهما في منحى توفيقي يأخذ في االعتبار
تعقيدات ال ُهوية واالتصال الثقافي والتكيف النفسي ودينامياتها.
58
العدد Issue 7 / 26
خريف Autumn 2018
وأكدت أن هذا المنحى التوفيقي يتب ّني رؤية تجسيرية تربط بين المستوى الفردي السيكولوجي
والمستوى االجتماعي السوسيولوجي في التحليل والتعميم ،فهو ال ينكر دور الفرد الرئيس في بناء
هويته استجاب ًة للتعددية الثقافية ،ولكنه ،وفي الوقت نفسه ،يأخذ في االعتبار دور المجتمع والبيئة
االجتماعية واالقتصادية والسياسية في ذلك .وهذا الجمع بين النظريتين يسعى إلى إعادة طرح السؤال،
الذي طالما طرحه الباحثون في العلوم االجتماعية ،عن العالقة الديالكتيكية بين الفرد والمجتمع ،بين
الفردي والجماعي ،بين االجتماعي والشخصي ،ودور كل منهما في تحديد سلوك اإلنسان.
أخي ًرا ،لم تق ّدم هذه الدراسة النظرية سوى عرض موجز مقتطف عن علم النفس عبر الثقافي وموضوعاته،
شامل ووافيًا عن األمر؛ فهذا ال يمكن تحقيقه أب ًدا في حدود هذه
ً والهدف منه لم يكن أب ًدا عرضً ا
الدراسة ،ولكنها لفتت النظر إلى ندرة الدراسات العربية في مجال علم النفس عبر الثقافي ولزوم إنتاج
مراجع باللغة العربية في هذا المجال.
References المراجع
العربية
أبو النيل ،محمود السيد .علم النفس عبر الحضاري .القاهرة :دار النهضة العربية.1988 ،
الداوي ،عبد الرزاق .في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات :حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة.
الدوحة /بيروت :المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات.2013 ،
السباعي ،عبد الناصر .علم النفس عبر الثقافي .سلسلة الكتاب العربي للعلوم النفسية [ .27د.م:].
إصدارات شبكة العلوم النفسية العربية.2013 ،
ِغدنز ،أنتوني .علم االجتماع .ترجمة فايز الصياغ .بيروت :المنظمة العربية للترجمة.2005 ،
األجنبية
Berry, John W. «Acculturation: Living Successfully in Two Cultures.» International
Journal of Intercultural Relations. vol. 29. no. 6 (2005).
Berry, John W. et al. Cross–Cultural Psychology: Research and Applications.
Cambridge: Cambridge University Press, 2002.
»Berry, John W. et al. «Immigrant youth: Acculturation, Identity, and Adaptation.
Applied Psycholgy: An International Review. vol. 55. no. 3 (2006).
–Berry, John W., Marshall H. Segall & Cigdem Kagitçibasi (dir.). Handbook of Cross
Cultural Psychology. vol. 3. Boston: Allyn & Bacon, 1997.
Bourhis, Richard Y. et al. «Towards an Interactive Acculturation Model: A Social
Psychological Approach.» International Journal of Psychology. vol. 32. no. 6 (1997).
59 تاساردلا
ةفقاثملا سفن ملعو يفاقثلا ربع سفنلا ملع: فقاثتلاو ةّيوهلا يف ةّيليلحت ةسارد