You are on page 1of 217

‫الطبعة الثاني�ة‬

El-yuvm el-nebevi©
ISBN: 978-605-71319-5-9

www.altriri.net
altriri@gmail.com
/altriri
@Abdulwahab.altriri
/c/AbdulwahabAltorairy
t.me/altriri
abdulwahabaltriri
+905467723779

‫ﺟﻤﻴﻊ ا��ﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‬


All Rights Reserved
‫أو‬/‫أو إﻋﺎدة ﺻﻒ و�ﺧﺮاج هﺬا اﻟﻜﺘﺎب أو أي ﺟﺰء ﻣﻨﮫ و‬/‫أو ﺗﺮﺟﻤﺔ و‬/‫أو ﺗﺼﻮ�ﺮ و‬/‫أو ﻃﺒﻊ و‬/‫ﻳﺤﻈﺮ ��� و‬
‫أو‬/‫أو اﻷﻗﺮاص اﳌﺪﻣﺠﺔ أو اﳌﻤﻐﻨﻄﺔ و‬/‫أو وﺳﺎﺋﻞ ﺗﺤﻤﻴﻞ اﻟﺼﻮت أو اﻟﺼﻮرة و‬/‫���ﻴﻠﮫ ﻋ�� اﻷﺷﺮﻃﺔ و‬
‫أو اﺳﺘﻐﻼﻟﮫ ﺑﺄي ﺷ�ﻞ ﻣﻦ اﻷﺷ�ﺎل إﻻ ﺑﻤﻮاﻓﻘﺔ ﺧﻄﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺷﺮ‬/‫إدﺧﺎﻟﮫ ﻋ�� اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ أو ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت و‬
No part of this publication may be reproduced or distributed in any form or by any means, or
.stored in a database or retrieval system, without the prior written permission of the publisher

‫اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ‬
‫ م‬2022 - ‫هـ‬1444
‫الطبعة الثاني�ة‬
$
‫‪5‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫مقدمة الطبعة الثاني�ة‬

‫الحمد هلل على فضله وإنعامه‪ ،‬وتيسيره وإتمامه‪ ،‬وبعدُ ‪..‬‬


‫فقد ُطبع هذا الكتاب قبل أكثر من عشر سنين‪ ،‬وخالل هذه المدة تلقيت‬
‫اقتراحات ومالحظات من أفاضل اطلعوا عليه‪ ،‬ثم إني خالل هذه المدة أكملت‬
‫العمل في موسوعة «الحياة النبوية»‪ ،‬والتي صدرت في جزئين تتبعت فيها حياة‬
‫في أحوالها المتنوعة‪ ،‬وهديه في كل ٍ‬
‫حال منها‪.‬‬ ‫النبي‬
‫فاجتمع لدي حصيلة إضافية تناسب هذا الكتاب ألحقتها به في مواضعها‪،‬‬
‫أفقي للبرنامج‬
‫ٌ‬ ‫وإن كان لكل منهما خصوصيته؛ فكتاب «اليوم النبوي» مقطع‬
‫عمودي المتداد المساحة العمرية‬
‫ٌ‬ ‫مقطع‬
‫ٌ‬ ‫اليومي النبوي‪ ،‬وكتاب «الحياة النبوية»‬
‫‪ ،‬ولكن ثمة مساحة مشتركة بينهما أفدت منها في هذه الطبعة‪.‬‬ ‫لنبينا‬
‫‪ ،‬كيوم‬ ‫وأضفت إلى هذه الطبعة وصف ًا أليام خاصة من حياة النبي‬
‫‪.‬‬ ‫عد يوم في حياته‬ ‫الجمعة‪ ،‬ويوم العيد‪ ،‬وأيام رمضان‪ ،‬وأشدِّ يوم‪ ،‬وأس ِ‬
‫ْ‬
‫كما ألحقت بها رسوم ًا وصور ًا توضح البيئة النبوية بنا ًء وطعام ًا وآني ًة‪.‬‬
‫واختصرت مصادر تخريج الحديث التي أعزو إليها تجنب ًا لإلطالة‪.‬‬
‫واستفدت في هذه الطبعة من كتاب «فقه عمل اليوم والليلة» ألخي الشيخ‬
‫عبد اهلل بن مانع الروقي وفقه اهلل‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪6‬‬

‫واهللَ أسأل أن يجعل ما جمعته في هذا الكتاب من العلم الذي ينفع الناس‬
‫ويمكث في األرض‪ ،‬وأن يتقبله ربي بقبول حسن‪ ،‬والحمد هلل أوالً وآخر ًا‪،‬‬
‫وظاهر ًا وباطن ًا‪ ،‬وصلواته وسالمه وبركاته على نبينا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫عبد الوهاب الطريري أبا الخيل‬


‫إسطنبول – أغوا‬
‫‪ 1444/1/21‬هـ‬

‫‪n: +905467723779‬‬
‫‪n: +966504455117‬‬
‫‪]: altriri@gmail.com‬‬

‫)‬
‫‪7‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫اإلهــــداء‬

‫عبرت حياته حياتي‪ ..‬كنَ ْفحة عطر أو َو ْمضة ضياء‪..‬‬


‫ْ‬ ‫إلى َمن‬
‫رحل عن دنياي‪ ..‬واستوطن فِجاج قلبي و ُأفق عيني‪..‬‬ ‫إلى َمن َ‬
‫إلي بفكرة هذا العمل‪ ،‬وقادني فيه إلى نقطة البدء‪..‬‬
‫إلى َمن أوحى َّ‬
‫إلى أخي عبد العزيز بن محمد الماجد رحمه اهلل‪..‬‬
‫وإلى ابنه أسامة‪..‬‬
‫وإلى بناته‪ :‬أمل وسارة وعفاف‪..‬‬
‫ففي أعمارهم بقي ٌة من عمره‪..‬‬
‫وفي أنفاسهم بقي ٌة من حياته‪..‬‬
‫فاجعل لنا أحسن ال ُع ْقبى في آخرة‬‫ْ‬ ‫اللهم‬
‫َّ‬ ‫ر َّباه! قد َق ُص َر لقاؤنا في دنيا حياتنا‪..‬‬
‫المقامة من فضلك‪ ،‬إخوان ًا على ُس ُر ٍر متقابلين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حياتنا وخالد أعمارنا‪َ ..‬أح َّلنا َ‬
‫دار ُ‬

‫)‬
‫‪9‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫شكر وعرفان‬

‫بين يدي الكتاب أقدِّ م الشكر أخلصه وأوفاه إلى‪:‬‬


‫معايل الشيخ عبد اهلل بن الشيخ املحفوظ بن ب َّيه‪ ،‬ومعايل الشيخ د‪ .‬عبد الوهاب‬
‫ابن إبراهيم أبو سليمان‪ ،‬ود‪ .‬أحمد البراء األميري‪ ،‬ود‪ .‬عبد اهلل بن محمد‬
‫الغذامي‪ ،‬ود‪ .‬سعد بن عطية الغامدي‪ ،‬ود‪ .‬عبد اهلل بن ناصر الصبيح‪ ،‬ود‪.‬‬
‫عبد اهلل بن حمد السكاكر‪ ،‬واألستاذ جميل محمد علي فارسي؛ فقد عبر هذا‬
‫فأفدت‬
‫ُ‬ ‫وشجعوا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الكتاب أمام عيونهم في َط ْور تشكُّله األول‪ ،‬فسدَّ دوا وأرشدوا‬
‫وأكملت؛ فهم شركاء فيما هو مسطور بين يديك‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وزدت‬
‫ُ‬ ‫دت‬
‫من ذلك‪ ،‬وسدَّ ُ‬
‫فلهم أصدق الشكر‪ ،‬وأخلص الدعاء‪.‬‬

‫)‬
‫‪11‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫ِّ‬
‫مقدمة‬

‫في مدينة الن ِ‬


‫َّخيل‪ ..‬مدينة القلوب الن َِّضرة‪ ..‬يسكن قلبه‪ ..‬وت ُْو ِر ُق عيناه‪ ..‬فهذا‬
‫دخل المدين َة فأضا َء منها ُّ‬
‫كل‬ ‫واألهل أه ُله‪َ ..‬‬
‫ُ‬ ‫المكان مكانُه‪ ..‬والمدين ُة مدينتُه‪..‬‬
‫ُ‬
‫الحب‪..‬‬
‫َّ‬ ‫جبل يح ُّبه ويبادله‬ ‫ومظاهر الطبيعة فيها؛ فهذا ُ‬
‫«أ ُحدٌ » ٌ‬ ‫ُ‬ ‫شيء‪ ،‬وأح َّبه أه ُلها‬
‫هذه األز َّقة ستعرف خطواته‪ ..‬هذا المسجد وتلك الغرفات الصغيرة على‬
‫جانبه‪ ..‬هؤالء الرجال األوفياء يلت ُّفون حو َله‪ ..‬يحيطون به‪ ..‬يح ُّبهم ويح ُّبونه‪..‬‬
‫يلتقي بهم‪ ،‬وينفرد مع اهلل‪..‬‬
‫‪ ،‬وكأنَّا نعيش معه‬ ‫نترحل مع ساعات يوم النبي‬
‫في هذه السيرة اليومية َّ‬
‫وع ْفوية الحياة الجادة‪ ،‬والتوازن بين مناشط الحياة‪،‬‬
‫بساطة الحياة العظيمة‪َ ،‬‬
‫والتكامل الستيفاء االحتياجات‪.‬‬
‫ترى حيوية الحياة وتد ُّفقها في تدافع ساعات هذا اليوم‪ ،‬اللحظات في حياته‬
‫ال تمر عابرة دون استثمار‪.‬‬
‫كان َي ْع ِقد صفقاته مع الحياة في كل ثانية في بيته‪ ،‬ومسجده‪ ،‬وفي أز َّقة مدينته‪،‬‬
‫وس ْفرة طعامه‪ ،‬وفراش نومه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وبيوت أصحابه‪ ،‬وعلى َحصير جلوسه‪ُ ،‬‬
‫كانت عيون َمن حوله راصد ًة شديد َة الدِّ َّقة والمالحظة‪ ،‬حتى الظالم لم يكن‬
‫القلوب التي عشقت هذا النبي‪ ،‬وأرادت أن تعرف كيف كان يقضي ليله‪،‬‬
‫َ‬ ‫ساتر ًا‬
‫وحتى الحيطان لم تكن طويلة لتحجب حياته الخاصة‪ ،‬كانت القلوب والعيون‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪12‬‬

‫داخلة معه حتى يأوي إلى فراشه‪ ،‬ترمقه في استغراق نومه‪ ،‬وفي وثوب استيقاظه‪.‬‬
‫لم يكن يوم ًا عاد ّي ًا يبدأ من الصباح ويضمر في المساء‪ ،‬بل تشعر لفرط نشاطه أن‬
‫ُ‬
‫ورجل اللحظة‪ .‬يفهم بفطرة النبي‬ ‫رجل ا ْقتِ ِ‬
‫ناص الفرص‬ ‫كل لحظة هي بداية له‪ ،‬هو ُ‬
‫الرسول أن الدقيقة محسوبة ولها إنجازها‪ ..‬والساعة محسوبة ولها إنجازها‪...‬‬
‫واليوم محسوب وله إنجازه‪ ...‬واألجل ينصب خيامه على مشارف العمر‪.‬‬
‫في صباحه ومسائه‪ ،‬نمشي‬ ‫في هذه الصفحات نعيش مع رسول اهلل‬
‫معه في أسواق المدينة‪ ،‬نأكل من كفافه‪ ،‬نسمع صوته الحاني مع ِّلم ًا‪ ،‬وصوته‬
‫خبِت مص ِّلي ًا‪ ،‬نجلس على َح ِصيره الذي كان يجلس عليه‪ ،‬ونأكل من طعامه‬ ‫الم ْ‬
‫ُ‬
‫القليل الذي ُي ْؤثِر‪.‬‬
‫يمكنك أن تدخل بيته من وصف صحابته له‪ ..‬ويمكنك أن ترى سكينته نائم ًا‪،‬‬
‫رأيت في ِحجره رضيع ًا‪ ،‬أو على ظهره طف ً‬
‫ال‬ ‫َ‬ ‫وأن ترى حيو َّيته جالس ًا‪ ،‬وربما‬
‫يحظى بدفئه وبركته‪.‬‬
‫إذن كيف كان يتعامل هذا اإلنسان العظيم النبي الكريم مع طبيعته البشرية‬
‫الرسالي؟!‬
‫ومشروعه ِّ‬
‫كيف كان يتعامل مع دورة الزمن اليومية؟!‬
‫كيف كان يقضيها؟!‬
‫الص ِديق‪ ..‬هذا‬
‫هذا يوم‪ :‬النبي‪ ،‬الرسول‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬المسؤول‪ ،‬األب‪ ،‬الزوج‪َّ ،‬‬
‫«اليوم النبوي»‪ ،‬وهذا الكتاب بين يديك‪..‬‬

‫عبد الوهاب بن ناصر الطريري‬


‫مكة المكرمة‪ ،‬الجمعة‬
‫‪1431/7/20‬هـ‬
‫‪13‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫أنوار الفجر‬

‫َ‬
‫سكون المدينة‪،‬‬ ‫أذان بالل ‪‬‬
‫ُ‬ ‫نور الفجر ظلم َة الليل‪ ،‬ويصدَ ُع‬
‫يصدَ ُع ُ‬
‫نائم ًا يستريح البدن الشريف ساعة َّ‬
‫الس َحر بعد‬ ‫(‪)1‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ويوافي ذلك‬
‫َس ْبح طويل من قيام الليل‪.‬‬
‫وأول شيء يفعله أن يتناول‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫بالل ‪ ‬استيقظ‬ ‫فإذا َأ َّذ َن ٌ‬
‫سواكه فيستاك به(‪ ،)2‬ثم يقول‪« :‬ا ْل َح ْمدُ ِلِ ا َّل ِذي َأ ْح َيانَا َب ْعدَ َما َأ َما َتنَا‪َ ،‬وإِ َل ْي ِه‬
‫ور»(‪.)3‬‬ ‫الن ُُّش ُ‬
‫أكبر‬
‫أكبر‪ .‬قال‪« :‬اهللُ ُ‬ ‫أكبر اهللُ ُ‬ ‫ثم يجيب المؤ ِّذ َن بمثل ما يقول‪ ،‬فإذا قال‪ :‬اهللُ ُ‬
‫أكبر»‪ .‬وإذا قال‪ :‬أشهدُ أن ال إله إِ َّل اهللُ‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫«و َأنَا َأ ْش َهدُ َأ ْن َل إِ َل َه إِ َّل اهللُ»‪.‬‬ ‫اهللُ ُ‬
‫ول اهللِ»‪.‬‬‫«و َأنَا َأ ْش َهدُ َأ َّن ُم َح َّمد ًا َر ُس ُ‬ ‫رسول اهلل‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫أن محمد ًا‬
‫وإذا قال‪ :‬أشهدُ َّ‬
‫حي على‬ ‫هلل»‪ .‬وإذا قال‪َّ :‬‬ ‫«ل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة إِ َّل بِا ِ‬
‫حي على الصالة‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫وإذا قال‪َّ :‬‬
‫أكبر‪ .‬قال‪« :‬اهللُ‬ ‫«ل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة إِ َّل بِاهللِ»‪ .‬وإذا قال‪ :‬اهللُ ُ‬
‫أكبر اهللُ ُ‬ ‫الفالح‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫َأ ْك َب ُر اهللُ َأ ْك َب ُر»‪ .‬وإذا قال‪ :‬ال إله إِ َّل اهللُ‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫«ل إِ َل َه إِ َّل اهللُ»(‪.)4‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1133‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)742‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)716‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1136 ،889 ،245‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)746 ،255‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6312‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2711‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)16828‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)914‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)526‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪14‬‬

‫آت ُم َح َّمد ًا ا ْل َو ِسي َل َة‬


‫ثم يقول‪« :‬ال َّلهم رب ه ِذ ِه الدَّ عو ِة التَّام ِة‪ ،‬والص َل ِة ا ْل َقائِم ِة‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫َّ َ َّ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َّ َ َّ َ‬
‫َوا ْل َف ِضي َل َة‪َ ،‬وا ْب َع ْث ُه َم َقام ًا َم ْح ُمود ًا ا َّل ِذي َو َعدْ َت ُه»(‪.)1‬‬
‫‪ ،‬فإن كان به حاجة إلى ال ُغسل اغتسل‪ ،‬وإن كان به‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬ ‫ثم ينبعث‬
‫توضأ‪.‬‬
‫الوضوء َّ‬
‫حاجة إلى ُ‬
‫َاي‪،‬‬
‫وربما قام إلى الصالة من غير ُوضوء‪ ،‬فيقال له في ذلك‪ ،‬فيقول‪َ « :‬تنَا ُم َع ْين َ‬
‫َو َل َينَا ُم َق ْلبِي»(‪.)2‬‬
‫ال إال هاتين الركعتين؛‬ ‫ثم يص ِّلي ركعتي الفجر‪ ،‬ولم يكن يص ِّلي بعد الفجر نف ً‬
‫القائل‪ :‬هل قر َأ فيها بأ ِّم الكتاب(‪)3‬؟ لشدة ما يخ ِّففها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فيص ِّلي صال ًة خفيفة‪ ،‬حتى يقول‬
‫وكما كان يفتتح صالة الليل بركعتين خفيفتين كان يفتتح صالة النهار بركعتين‬
‫خفيفتين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ َ‬
‫وكان يقرأ فيها بعد الفاتحة في الركعة األولى‪﴿ :‬قل يَـٰٓأ ُّي َها ٱلكٰفِ ُرون﴾‪ ،‬وفي‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ ُ َّ ُ َ‬
‫الركعة الثانية‪﴿ :‬قل ه َو ٱلل أحد﴾‪.‬‬
‫َّ َ َ ٓ ُ َ َ‬ ‫ُ ُ ٓ ْ َ َ َّ‬
‫نزل إ ِ ۡل َنا‪ ،﴾...‬وفي‬ ‫وأحيانا يقرأ في الركعة األولى‪﴿ :‬قولوا ءامنا بِٱللِ وما أ ِ‬
‫ۡ‬ ‫ُ ۡ َ ٰٓ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َ ۡ ْ َ ٰ َ َ َ َ ٓ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ ُ‬
‫ب تعالوا إِل ك ِمةٖ سواء ِۢ بيننا وبينكم‪ ،﴾...‬وربما قرأ‪:‬‬ ‫الثانية‪﴿ :‬قل يـأهل ٱلكِت ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫َّ َ َ َ َ ُّ َ ۡ‬
‫ن ُن أ َ‬
‫نص ُ‬ ‫َ‬ ‫نصار ٓ‬ ‫َ‬
‫ك ۡف َر قَ َال َم ۡن أ َ‬ ‫َ ٰ ُۡ ُ ۡ ُ‬ ‫﴿فَلَ َّما ٓ أَ َح َّ‬
‫ار‬ ‫ي إِل ٱللِۖ قال ٱلوارِيون‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ِيس‬ ‫ع‬ ‫س‬
‫َّ َ َّ َّ ۡ َ ۡ َ‬
‫َّ ُ ۡ ُ َ (‪)4‬‬
‫ٱللِ َءامنا بِٱللِ َوٱشهد بِأنا مسل ِمون﴾ ‪.‬‬
‫شيء من النوافل أشدَّ معاهد ًة منه على هاتين الركعتين قبل‬ ‫ٍ‬ ‫ولم يكن على‬
‫ب إِ َل َّي ِم َن الدُّ ْن َيا َو َما فِ َيها»(‪.)5‬‬
‫الصبح‪ ،‬وكان يقول‪َ « :‬ل ُه َما َأ َح ُّ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)614‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)529‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)211‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3569‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)738‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1341‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)618‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)723‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1255‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)727 ،726‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1260 ،1256‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1169‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)725 ،724‬وغيرها‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫�أنوار الفجر‬

‫ويا هلل إذا كانت هذه سنة الفجر‪ ،‬فكيف بصالة الفجر! ثم انظر إلى هذه‬
‫المعيارية‪ :‬ركعتا سنة في يو ٍم خير من الدنيا وما فيها‪ ،‬إن هذا المقياس لمن يعيش‬
‫في الدنيا ونظره ممدود إلى اآلخرة‪ ،‬هنا تأخذ الدنيا حجمها الحقيقي‪ ،‬ويتضح‬
‫أن أثمن ما فيها هو ما يقدم لآلخرة‪ ،‬وكان يأمر بهما ويؤكد عليهما بقوله‪َ :‬‬
‫«ل‬
‫تَدَ ُعوا َر ْك َعت َِي ا ْل َف ْج ِر‪َ ،‬وإِ ْن‌ َط َر َد ْتك ُُم‌ا ْل َخ ْي ُل»(‪.)1‬‬
‫فإذا فرغ من صالته؛ فإن كانت زوجته مستيقظة تحدَّ ث معها حديث المؤانسة‬
‫واإلسعاد‪ ،‬فما ظنك بزوجة ُمح َّبة تستفتح أنوار يومها بحديث المودة من زوجها؟!‬
‫وإن كانت نائمة اضطجع على ش ِّقه األيمن حتى يحين موعد إقامة الصالة(‪.)2‬‬
‫الناس قد اجتمعوا في المسجد أتى إلى رسول اهلل‬
‫َ‬ ‫بالل ‪ ‬أن‬
‫فإذا رأى ٌ‬
‫إليهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فيخرج‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل(‪،)3‬‬ ‫‪ ،‬فنادى‪ :‬الصال َة يا‬
‫اغ ِف ْر لِي‬ ‫فإذا دخل المسجدَ قال‪« :‬بِاس ِم اهللِ‪َ ،‬والس َلم َع َلى رس ِ‬
‫ول اهللِ‪ ،‬ال َّل ُه َّم ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ْ‬
‫طانِ ِه‬ ‫اب َر ْح َمتِ َ‬
‫ك‪َ ،‬أ ُعو ُذ بِاهللِ ا ْل َعظِيمِ‪َ ،‬وبِ َو ْج ِه ِه ا ْلك َِريمِ‪َ ،‬و ُس ْل َ‬ ‫ِ‬
‫ُذنُوبِي‪َ ،‬وا ْفت َْح لي َأ ْب َو َ‬
‫الر ِجيمِ»(‪.)4‬‬ ‫ط ِ‬
‫ان َّ‬ ‫ا ْل َق ِديمِ‪ِ ،‬م َن َّ‬
‫الش ْي َ‬
‫بمن كان عياذه ولياذه باهلل ذي العظمة‬
‫ماذا يصنع كيد الشيطان الضعيف َ‬
‫َّ ُ‬
‫َ َ َُ َ ٰ َّ ۡ َََ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫والعزة والجبروت؟ ﴿إِن ُهۥ ل ۡي َس ُلۥ ُسل َطٰ ٌن ع ٱلِين ءامنوا وع رب ِ ِهم يتوك‬
‫فإذا رآه ٌ‬
‫بالل داخ ً‬
‫ال المسجدَ أقام الصال َة(‪ ،)5‬وإذا رآه أصحا ُبه قاموا إلى الصالة‪،‬‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)9258‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1258‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)994 ،626‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)743 ،736‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2572‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1364‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)26417‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)466‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)314‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)606‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)537‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)202‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪16‬‬

‫وموا َحتَّى ت ََر ْونِي»(‪ ،)1‬حتى ال يشق‬


‫‌الص َلةُ‪َ ‌ ،‬ف َل ‌ َت ُق ُ‬
‫وكان يقول لهم‪« :‬إِ َذا ُ‌أ ِق ِ‬
‫يمت َّ‬ ‫َ‬
‫على الناس انتظاره قيام ًا(‪.)2‬‬
‫ورأسه َي ْق ُط ُر ما ًء من أثر ال ُغسل‪ ،‬وخرج مرة ُ‬
‫فأقيمت الصالة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويخرج أحيان ًا‬
‫ُب ولم يغتسل‪ ،‬فأومأ‬ ‫َّ‬
‫مصله‪ ،‬ثم تذكَّر أنه ُجن ٌ‬ ‫وعدِّ لت الصفوف‪ ،‬ووقف في‬
‫ُ‬
‫«مكا َنكُم»‪ .‬ثم رجع إلى بيته فاغتسل‪ ،‬ومكث أصحابه‬
‫إليهم بيده وقال لهم‪َ :‬‬
‫على هيئتهم ينتظرونه قيام ًا حتى خرج إليهم ورأسه َي ْق ُط ُر ما ًء‪َ ،‬ف َل َّما َق َضى َّ‬
‫الص َل َة‬
‫الص َل ِة»(‪،)3‬‬ ‫يت حتَّى ُقم ُ ِ‬
‫ت في َّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫‌جنُب ًا‪َ ،‬وإِنِّي نَس ُ َ‬ ‫َق َال‪‌« :‬إِن ََّما َ‌أنَا ‌ َب َش ٌر‪َ ،‬وإِنِّي ‌ ُكن ُ‬
‫ْت ُ‬
‫عنهم الحيرة‪ ،‬وأجاب عن التساؤل الذي يبادر إلى أذهان‬ ‫وبذلك أزال‬
‫َّ‬
‫مصله‪.‬‬ ‫كثير منهم‪ ،‬حين رأوه رجع إلى بيته بعد أن قام في‬
‫ويتحرجها‪ ،‬وإنما كان بشر ًا من البشر‪ ،‬يرى‬
‫َّ‬ ‫يتكتَّم هذه األمور‬ ‫فلم يكن‬
‫ٗ‬ ‫َ ٗ َّ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ل َعل َنٰ ُه َر ُجل﴾‪.‬‬
‫وقائع حياتهم‪َ ﴿ ،‬ول ۡو َج َعل َنٰ ُه َملك َ‬
‫َ‬ ‫الناس في حياته‬
‫ُ‬
‫«است َُووا‪،‬‬ ‫مصله أقبل على أصحابه بوجهه‪ ،‬قبل أن يكبر وقال‪ْ :‬‬ ‫َّ‬ ‫فإذا قام في‬
‫يم َّن ُص ُفو َفك ُْم َأ ْو‬ ‫ِ‬ ‫استَووا‪ ،‬استَووا‪ ،‬سووا ص ُفو َفكُم‪ ،‬وتَراصوا و ِ‬
‫اعتَد ُلوا؛ َواهللِ َلتُق ُ‬ ‫ْ َ َ ُّ َ ْ‬ ‫َ ُّ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫الص َل ِة»(‪.)4‬‬ ‫ِ ِ‬
‫الص ُفوف م ْن ت ََما ِم َّ‬
‫ِ‬
‫َل ُي َخال َف َّن اهللُ َب ْي َن ُق ُلوبِك ُْم‪َ ،‬فإِ َّن ت َْس ِو َي َة ُّ‬
‫ب‪ ،‬ت ََو َّس ُطوا ْ ِ‬
‫ال َما َم‪َ ،‬و ُسدُّ وا‬ ‫وف‪َ ،‬و َحا ُذوا َب ْي َن ا ْل َمنَاكِ ِ‬ ‫الص ُف َ‬ ‫يموا ُّ‬
‫ويقول أحيان ًا‪ِ َ :‬‬
‫«أق ُ‬
‫الش ْي َط ِ‬
‫ان‪َ ،‬و َم ْن َو َص َل َص ّف ًا َو َص َل ُه‬ ‫ات َّ‬ ‫ا ْلخَ َل َل‪ ،‬ولِينُوا بِ َأي ِدي إِ ْخوانِكُم‪ ،‬و َل ت ََذروا ُفرج ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اهللُ‪َ ،‬و َم ْن َق َط َع َص ّف ًا َق َ‬
‫ط َع ُه اهللُ»(‪ .)5‬ويزيد أحيان ًا عبارات أخرى تؤكد هذا وتحض عليه‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)637‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)604‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (‪.)556/2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)275‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)605‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)1220‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)723 ،719‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)433‬و«سنن أبي داود» (‪.)670‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)5724‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)666‬وغيرها‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫�أنوار الفجر‬

‫يسوي صفوفهم بيده‪ ،‬ويقيمهم في أماكنهم واحد ًا واحد ًا حتى عقلوه‬ ‫ِّ‬ ‫وكان‬
‫الصال َِة َأ َخ َذ بِ َي ِمينِ ِه‪ُ ،‬ث َّم ا ْل َت َف َت َف َق َال‪:‬‬
‫مصله‪ ،‬فإذا َقا َم إِ َلى َّ‬ ‫يسويهم وهو في َّ‬ ‫عنه‪ ،‬ثم صار ِّ‬
‫ار ِه‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪« :‬ا ْعت َِد ُلوا َس ُّووا ُص ُفو َفك ُْم»(‪.)1‬‬ ‫«ا ْعت َِد ُلوا َس ُّووا ُص ُفو َفك ُْم»‪ُ .‬ث َّم َأ َخ َذ بِ َي َس ِ‬

‫ُي َس ِّوي ُص ُفو َفنا‪ ،‬إذا ُقمنا للصالة‪ ،‬حتَّى كأنما‬ ‫ول اهللِ‬ ‫قال أنس ‪ :‬ك َ‬
‫َان َر ُس ُ‬
‫اح(‪ ،)2‬حتى رأى أنَّا قد ع َق ْلنا عنه‪ ،‬ثم خرج يوم ًا‪ ،‬فقام حتى كاد أن يك ِّب َر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫سوي بها القدَ َ‬ ‫ُي ِّ‬
‫بادي ًا َصدْ ُر ُه‪ ،‬فقال‪ِ « :‬ع َبا َد اهللِ‪َ ،‬لت َُس ُّو َّن ُص ُفو َفك ُْم‪َ ،‬أ ْو َل ُي َخالِ َف َّن اهللُ َب ْي َن‬ ‫ال ِ‬ ‫فرأى رج ً‬
‫احبِ ِه‪َ ،‬و َقدَ َم ُه بِ َقدَ ِم ِه(‪.)4‬‬
‫بص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وج ِ‬
‫َان َأ َحدُ نَا ُي ْل ِز ُق َمنْك َب ُه بِ َمنْك ِ َ‬
‫وهك ُْم»(‪َ .)3‬فك َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ْك َبيه‪ ،‬ويضع يده اليمنى على‬ ‫ثم يكبر تكبيرة اإلحرام‪ ،‬ويرفع يديه ح ْذو من ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ِّ‬
‫اي‬
‫طا َي َ‬ ‫اعدْ َب ْينِي َو َب ْي َن َخ َ‬ ‫اليسرى(‪ ،)5‬ويسكت إسكاتة بقدر ما يقول‪« :‬ال َّلهم ب ِ‬
‫ُ َّ َ‬
‫طا َيا ك ََما ُينَ َّقى ال َّث ْو ُب‬ ‫ب‪ ،‬ال َّل ُه َّم َن ِّقنِي ِم َن ا ْل َخ َ‬‫ت َب ْي َن ا ْل َم ْش ِر ِق َوا ْل َمغ ِْر ِ‬ ‫اعدْ َ‬‫ك ََما َب َ‬
‫ِ (‪)6‬‬ ‫ِ‬ ‫اغ ِس ْل َخ َ‬ ‫ْالَ ْب َي ُض ِم َن الدَّ ن ِ‬
‫اي بِا ْل َماء َوال َّث ْل ِج َوا ْل َب َرد» ‪ُ .‬‬
‫ورويت عنه‬ ‫طا َي َ‬ ‫َس‪ ،‬ال َّل ُه َّم ْ‬
‫استفتاحات أخرى(‪.)7‬‬
‫مترسلة‪ُ ،‬ي َق ِّطع‬
‫ِّ‬ ‫مفصلة‬
‫ثم يستعيذ ويبسمل‪ ،‬ثم يجهر بالفاتحة‪ ،‬فيقرأ قراءة َّ‬
‫ٱلرِنَٰمۡح َّ‬ ‫ٱل ۡم ُد ِ َّلِ َر ّب ٱل َعٰلم َ‬
‫ني﴾ ثم يقف‪َّ ﴿ ..‬‬ ‫ۡ َ‬
‫قراءته آي ًة آي ًة‪َ ﴿ :‬‬ ‫ۡ‬
‫ٱلرحِي ِم﴾‪ .‬ثم يقف‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ٱلرِنَٰمۡح﴾‪ ،‬ويمدُّ ﴿ َّ‬ ‫ِك يَ ۡو ِم ّ‬
‫ٱدلِين﴾‪ .‬وكانت قراءتُه مدّ ًا‪ ،‬يمدُّ ﴿ َّ‬ ‫َ‬
‫ٱلرحِي ِم﴾(‪،)8‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿مٰل ِ‬
‫((( «صحيح ابن حبان» (‪.)2168‬‬
‫((( القداح‪ :‬هي أعواد السهام حين تنحت وتبرى‪ ،‬ومعناه‪ :‬يبالغ في تسوية الصفوف حتى كأنما يقوم بها السهام‬
‫لشدة استوائها واعتدالها‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على مسلم» (‪.)157/4‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)717‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)436‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)725‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)740 ،735‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)391 ،390‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)744‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)598‬وغيرها‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مسند أحمد» (‪ ،)11657‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)776‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)243‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5046 ،5045‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1465 ،4001‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2927‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪18‬‬

‫قرآن الفجر‪ ،‬ويطيل القراءة في الركعة األُولى‪ ،‬و ُي ِّ‬


‫قصر في الثانية‪ ،‬ويقرأ‬ ‫َ‬ ‫ويقر ُأ‬
‫في صالته ما بين الستين إلى مئة آية(‪.)1‬‬
‫هنيئ ًا ألولئك الذين تتع َّطر أذانهم مع أول لحظات يومهم بآي القرآن‪ ،‬يسمعونها من‬
‫‪ ،‬كيف كان سماعهم للقرآن يتلوه من ُأنزل عليه القرآن؟ يشهدونه مع‬ ‫رسول اهلل‬
‫َ ُ ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َۡ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ َۡ‬ ‫ُ‬
‫ودا﴾‪.‬‬‫رسول اهلل وتشهده معهم المالئكة‪َ ﴿ ،‬وق ۡر َءان ٱلف ۡج ِرۖ إِن ق ۡر َءان ٱلف ۡج ِر كن مشه‬
‫ويقنت أحيان ًا بعد الركوع من الركعة الثانية في النوازل تنزل بالمسلمين‪،‬‬
‫النصر(‪ ،)2‬ويدعو للمستضعفين من المؤمنين‪.‬‬
‫َ‬ ‫الفرج و‬
‫َ‬ ‫فيدعو ويستنزل‬
‫قال عبدُ اهلل بن َرواحة ‪ِّ ‬‬
‫يصور هذا المشهد وهذه القراءة‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ساطع‬
‫ُ‬ ‫معروف من الفجر‬ ‫ٌ‬ ‫إذا ان َْش َّق‬ ‫رســول اهلل يتــ ُلو كتـــا َبه‬
‫ُ‬ ‫وفيــنا‬
‫تغفر‬ ‫القبلة‪َ :‬‬ ‫فإذا أتم صالته وس َّلم منها قال وهو في مكانه ووجهه تِ ْلقاء ِ‬
‫«أ ْس ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫تغفر اهللَ‪ ،‬ال َّل ُه َّم َأن َ‬
‫ْت َيا َذا‬‫الس َل ُم‪َ ،‬ت َب َارك َ‬
‫ْك َّ‬ ‫الس َل ُم‪َ ،‬ومن َ‬
‫ْت َّ‬ ‫تغفر اهللَ‪َ ،‬أ ْس ُ‬‫اهللَ‪َ ،‬أ ْس ُ‬
‫ا ْل َج َل ِل َو ْ ِ‬
‫الك َْرامِ»(‪.)4‬‬
‫يسمع منه أصحا ُبه‬ ‫ُ‬ ‫ثم ينصرف عن يمينه‪ ،‬وربما انصرف عن يساره‪ ،‬فأول ما‬
‫ث ِع َبا َد َك»(‪.)5‬‬ ‫ك َي ْو َم َت ْب َع ُ‬ ‫«ر ِّب ِقنِي َع َذا َب َ‬
‫إذا أقبل عليهم بوجهه قوله‪َ :‬‬
‫ك َو َل ُه ا ْل َح ْمدُ َو ُه َو َع َلى‬
‫يك َل ُه‪َ ،‬ل ُه ا ْل ُم ْل ُ‬ ‫«ل إِ َل َه إِ َّل ا ُ‬
‫هلل َو ْحدَ ُه َل َش ِر َ‬ ‫ثم يقول‪َ :‬‬
‫ك ُِّل َش ْي ٍء َق ِد ٌير‪َ .‬ل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة إِ َّل بِاهللِ‪َ ،‬ل إِ َل َه إِ َّل ا ُ‬
‫هلل َو َل َن ْع ُبدُ إِ َّل إِ َّيا ُه‪َ ،‬ل ُه‬
‫ِ ِ‬
‫ين َو َل ْو ك َِر َه‬ ‫ين َل ُه الدِّ َ‬ ‫َاء ا ْل َح َس ُن‪َ .‬ل إِ َل َه إِ َّل اهللُ ُم ْخلص َ‬ ‫النِّ ْع َم ُة َو َل ُه ا ْل َف ْض ُل َو َل ُه ال َّثن ُ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)779 ،759 ،541‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)647 ،461‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6394 ،4560‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)678 ،677‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15737‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)6151 ،1155‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)591‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1512‬و«جامع الترمذي» (‪.)300-298‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مسند أحمد» (‪ ،)18553‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)852‬و«صحيح مسلم» (‪.)709‬‬
‫‪19‬‬ ‫�أنوار الفجر‬

‫ت‪َ ،‬و َل َينْ َف ُع َذا ا ْل َجدِّ‬ ‫ت‪َ ،‬و َل ُم ْعطِ َي لِ َما َمنَ ْع َ‬ ‫ون‪ ،‬ال َّل ُه َّم َل َمانِ َع لِ َما َأ ْع َ‬
‫ط ْي َ‬ ‫ا ْلكَافِ ُر َ‬
‫ْك ا ْل َجدُّ »(‪.)1‬‬‫ِمن َ‬
‫ْت‪َ ،‬و َما‬ ‫ت َو َما َأ َّخ ْر ُت‪َ ،‬و َما َأ ْس َر ْر ُت َو َما َأ ْع َلن ُ‬ ‫ويقول‪« :‬ال َّل ُه َّم ا ْغ ِف ْر لِي َما َقدَّ ْم ُ‬
‫ْت»(‪ ،)2‬ثم‬ ‫ْت ا ْل ُم َؤ ِّخ ُر‪َ ،‬ل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬
‫ْت ا ْل ُم َقدِّ ُم َو َأن َ‬ ‫ْت َأ ْع َل ُم بِ ِه ِمنِّي‪َ ،‬أن َ‬
‫ت‪َ ،‬و َما َأن َ‬ ‫َأ ْس َر ْف ُ‬
‫يس ِّبح اهللَ‪ ،‬ويحمده‪ ،‬ويك ِّبره‪ ،‬يعدّ هن ويعقدهن بيمينه‪.)3(...‬‬
‫الذكر‪ ،‬التي يستقبل بها صباح يومه‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫ثم يذكر اهلل بجوامع ِّ‬
‫يك َل ُه‪،‬‬‫ك ِلِ‪َ ،‬وا ْل َح ْمدُ ِلِ‪َ ،‬و َل إِ َل َه إِ َّل اهللُ‪َ ،‬و ْحدَ ُه َل َش ِر َ‬ ‫«أ ْص َب ْحنَا َو َأ ْص َب َح ا ْل ُم ْل ُ‬ ‫• َ‬
‫ك ِم ْن َخ ْي ِر َه َذا‬ ‫ك َو َل ُه ا ْل َح ْمدُ َو ُه َو َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء َق ِد ٌير‪ ،‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ‬ ‫َل ُه ا ْل ُم ْل ُ‬
‫ك ِم ْن َش ِّر َما فِي َه َذا ا ْل َي ْو ِم َو َش ِّر َما‬ ‫يه‪َ ،‬و َخ ْي ِر َما َب ْعدَ ُه‪َ ،‬أ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ا ْليومِ‪ ،‬و َخي ِر ما فِ ِ‬
‫َْ َ ْ َ‬
‫اب فِي الن ِ‬
‫َّار‬ ‫ك ِم ْن َع َذ ٍ‬ ‫وء ا ْلكِ َب ِر‪َ ،‬ر ِّب َأ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ك ِمن ا ْلكَس ِل وس ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫َب ْعدَ ُه‪َ ،‬ر ِّب َأ ُعو ُذ بِ َ َ‬
‫ك ِل ِ‪.)4(»...‬‬ ‫«أ ْم َس ْينَا َو َأ ْم َسى ا ْل ُم ْل ُ‬‫اب فِي ا ْل َق ْب ِر»‪ .‬وإذا أمسى قالها أيض ًا‪َ :‬‬ ‫َو َع َذ ٍ‬
‫ك ا ْل َع ْف َو َوا ْل َعافِ َي َة‬ ‫ك ا ْل َعافِ َي َة فِي الدُّ ْن َيا َو ْال ِخ َر ِة‪ .‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ‬
‫• «ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ‬
‫آم ْن َر ْو َعاتِي‪ ،‬ال َّل ُه َّم‬
‫فِي ِدينِي‪ ،‬ود ْنياي‪ ،‬و َأهلِي‪ ،‬ومالِي‪ .‬ال َّلهم استُر عوراتِي‪ ،‬و ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َّ ْ ْ َ ْ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُ َ َ َ ْ‬
‫ي‪َ ،‬و ِم ْن َخ ْل ِفي‪َ ،‬و َع ْن َي ِمينِي‪َ ،‬و َع ْن ِش َمالِي‪َ ،‬و ِم ْن‬ ‫اح َف ْ ِ ِ‬
‫ظني م ْن َب ْي ِن َيدَ َّ‬ ‫ْ‬
‫َحتِي»‪ .‬ولم يكن يدَ عها حين يصبح‬ ‫ِ‬
‫ك َأ ْن ُأ ْغت ََال م ْن ت ْ‬ ‫ظ َمتِ َ‬
‫َف ْو ِقي‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ بِ َع َ‬
‫وحين ُيمسي(‪.)5‬‬

‫والجدُّ ‪ :‬الحظ والسعادة والغنى‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية»‬


‫َ‬ ‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)844‬و«صحيح مسلم» (‪.)594 ،593‬‬
‫البن األثير (‪.)244/1‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪« ،)729‬صحيح مسلم» (‪ ،)771‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1509‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6329 ،843‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)597-595‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)2723‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5071‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3390‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪« ،)4785‬سنن أبي داود» (‪ ،)5074‬و«سنن النسائي» (‪ ،)10325‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪20‬‬

‫• «ال َّل ُه َّم َعافِنِي فِي َبدَ نِي‪ ،‬ال َّل ُه َّم َعافِنِي فِي َس ْم ِعي‪ ،‬ال َّل ُه َّم َعافِنِي فِي َب َص ِري‪َ ،‬ل إِ َل َه‬
‫اب‬ ‫ك ِم ْن َع َذ ِ‬ ‫ك ِم َن ا ْل ُك ْف ِر َوا ْل َف ْق ِر‪ ،‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ُعو ُذ بِ َ‬
‫ْت‪ ،‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ُعو ُذ بِ َ‬
‫إِ َّل َأن َ‬
‫ا ْل َق ْب ِر‪َ ،‬ل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬
‫ْت»‪ .‬يعيدها َثالث ًا إذا أصبح وإذا أمسى(‪.)1‬‬
‫يتبركون بوضع‬‫ويأتي في أثناء ذلك خد ُم المدينة‪ ،‬بأيديهم األقداح فيها الماء؛ َّ‬
‫غمس فيه يده‪ ،‬وربما‬
‫َ‬ ‫يده المباركة في آنيتهم‪ ،‬فما ُيؤتى بإناء إِ َّل‬ ‫رسول اهلل‬
‫أتوا إليه في اليوم الشديد البرد‪ ،‬فيضع يده في آنيتهم(‪.)2‬‬
‫المنور بنور النُّبوة‪ ،‬تتدافع‬
‫َّ‬ ‫أبهج هذا المنظر الصباحي؛ حيث النبي‬
‫ما َ‬
‫ترشف من يمينه المباركة بركتها و ُطهرها‪ ،‬وعيون‬ ‫ُف بآنيتها‪ُ ،‬‬ ‫بين يديه األَك ُّ‬
‫ِ‬
‫الوامقة(‪ )3‬تر ُمق المشهدَ ال َب ِهيج‪ ،‬كأنك ترى المشهد رأي عين‪ ،‬ونبيك‬ ‫أهليهم‬
‫ويغمر حبه في قلوبهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يغمر يده في آنيتهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫تستفتح ضيا َء النهار برؤية وجه نبيها األَن َْور‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أفلحت وجو ٌه كانت‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)20430‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5090‬و«سنن النسائي» (‪ ،)10332‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12401‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2324‬وغيرها‪.‬‬
‫الم ِح َّبة‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)484/26‬‬
‫((( أي‪ُ :‬‬
‫‪21‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫رسم تخيلي للمسجد النبوي‬


‫‪23‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫الصباح النبوي‬

‫به وهو جالس‬ ‫أصحاب رسول اهلل‬


‫ُ‬ ‫ثم تتقارب أطراف الصفوف‪ ،‬ف ُيطيف‬
‫‪،‬‬ ‫مقبل إليهم‪ ،‬ف ُي ْس ِف ُر لهم ضو ُء الصباح عن ضياء وجه رسول اهلل‬
‫مصله‪ٌ ،‬‬
‫في َّ‬
‫بشائر‬
‫َ‬ ‫الناظر في ُمح َّياه‬
‫ُ‬ ‫كأن الشمس تجري في وجهه‪ ،‬يرى‬ ‫أبيض وضيئ ًا‪َّ ،‬‬
‫وكان َ‬
‫وجه ُه ليس‬
‫أن َ‬‫عرفت َّ‬
‫ُ‬ ‫وجه ُه‪،‬‬
‫ْت َ‬ ‫سلم ‪َّ :‬‬
‫لما تب َّين ُ‬ ‫الصدق‪ ،‬كما قال عبد اهلل بن َ‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫بوجه َّ‬
‫كذاب(‪.)1‬‬
‫العرباض بن َسارية ‪ ‬قال‪َ :‬ص َّلى بِنَا‬ ‫فربما بدأهم بموعظة‪ ،‬كما في حديث ِ‬

‫‌ع َل ْينَا ‌بِ َو ْج ِه ِه‪َ ‌ ،‬ف َو َع َظنَا ‌ َم ْو ِع َظ ًة‬


‫ات َي ْو ٍم‪ُ ،‬ث َّم َأ ْق َب َل َ‬ ‫الص ْب ِح َذ َ‬ ‫َص َل َة ُّ‬ ‫ول اهللِ‬‫َر ُس ُ‬
‫ول اهلل ِ‪َ ،‬و َع ْظ َتنَا‬ ‫ون‪َ ،‬ف ُق ْلنَا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ت ِمن َْها ا ْل ُع ُي ُ‬ ‫وب‪َ ،‬و َذ َر َف ْ‬ ‫ب ِلي َغ ًة و ِج َل ْ ِ‬
‫ت من َْها ا ْل ُق ُل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اع ِة‪،‬‬ ‫ط َ‬ ‫والس ْم ِع َوال َّ‬ ‫«أوصيك ُْم بِ َت ْق َوى اهلل ِ‪َّ ،‬‬
‫مو ِع َظ َة مود ٍع َفما َذا َتعهدُ إِ َلينَا؟ َق َال‪ِ ُ :‬‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ ِّ َ‬ ‫َْ‬
‫ار َها‪،‬‬ ‫وإِ ْن تأمر ع َليكُم عبدٌ حب ِشي مجدَّ ع(‪ ،)2‬و َقدْ تَر ْك ُتكُم ع َلى ا ْلبي َض ِ‬
‫اء َل ْي ُل َها َكن ََه ِ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ٌّ ُ َ ٌ‬ ‫َ‬
‫اختِ َلف ًا كَثِير ًا‪،‬‬ ‫ك‪َ ،‬و َم ْن َي ِع ْش ِم ْنك ُْم َب ْع ِدي َف َس َي َرى ْ‬ ‫َل َي ِزيغُ َعن َْها َب ْع ِدي إِ َّل َهالِ ٌ‬
‫ين‪ ،‬فت ََم َّسكُوا بِ َها‪َ ،‬و َع ُّضوا َع َل ْي َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ا ْل َم ْهد ِّي َ‬ ‫الراشد َ‬ ‫َف َع َل ْيك ُْم بِ ُسنَّتي‪َ ،‬و ُسنَّة ا ْل ُخ َل َفاء َّ‬
‫ور َفإِ َّن ك َُّل ُم ْحدَ َث ٍة بِدْ َع ٌة‪َ ،‬وك َُّل بِدْ َع ٍة َض َل َل ٌة»(‪.)3‬‬ ‫ات ْالُ ُم ِ‬ ‫اج ِذ‪ ،‬وإِياكُم ومحدَ َث ِ‬
‫بِالن ََّو ِ َ َّ ْ َ ُ ْ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23784‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2485‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)1334‬وغيرها‪.‬‬


‫((( ُم َجدَّ ع األطراف‪ُ :‬م َق َّط ُع األعضاء‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)247/1‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)4607‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2676‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)42‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪24‬‬

‫يتخولهم بها ويتعاهدهم‬ ‫يكثر عليهم هذه ِ‬


‫العظات‪ ،‬وإنما كان‬ ‫ولم يكن‬
‫َّ‬
‫من غير إمالل‪ ،‬خشية السآمة عليهم(‪.)1‬‬
‫«ه ْل فِيك ُْم َم ِر ٌ‬
‫يض َأعو ُد ُه؟»‪ .‬فإن قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ويسألهم إذا اجتمعوا حوله‪َ :‬‬
‫« َف َه ْل فِيك ُْم ِجنازة َأ ْت َب ُعها؟»(‪.)2‬‬
‫عمن َف َقدَ من أصحابه؛ َف َقدْ سأل عن المرأة السوداء التي كانت َت ُق ُّم‬ ‫ويسأل َّ‬
‫«أ َف َل ُكنْت ُْم آ َذ ْنت ُُمونِي؟»‪ .‬فكأنهم ص َّغروا أمرها‬
‫المسجدَ (‪ ،)3‬فقالوا‪ :‬ماتت‪ .‬فقال‪َ :‬‬
‫‪:‬‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬ماتت من الليل و ُدفنت‪ ،‬فكرهنا أن نوقظك‪ .‬فقال‬‫َ‬ ‫وقالوا‪ :‬يا‬
‫ِ‬
‫« ُد ُّلوني َع َلى َق ْب ِر َها»‪ .‬ثم أتى َ‬
‫قبرها فص َّلى عليها ودعا لها(‪.)4‬‬
‫ثابت بن قيس بن شماس ‪ ‬سأل عنه‪ ،‬وقال‪‌« :‬ما َ‌ش ْأ ُن ‌ َثابِ ِ‬
‫ت‬ ‫ولما فقد َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫علمت‬
‫ُ‬ ‫بن معاذ‪ :‬إنه لجاري‪ ،‬وما‬ ‫س َ‌ل ‌ ُي َرى؟ َأ ْش َتكَى؟(‪ .»)5‬فقال سعدُ ُ‬
‫ا‌ ْب ِن ‌ َق ْي ٍ‬
‫بشكوى‪ .‬فأتاه سعدٌ ‪ ،‬فإذا هو قد دخل بيته وأغلق عليه بابه يبكي‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫َ‬ ‫له‬
‫ْ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ما شأنُك؟ فقال‪ :‬شر؛ إن اهلل يقول‪﴿ :‬يَـٰٓأ ُّي َها َّٱل َ‬
‫ِين َء َام ُنوا ل ت ۡرف ُع ٓوا أ ۡص َوٰتك ۡم ف ۡوق‬ ‫ٌّ‬
‫ُ ۡ َۡ َ َََۡ َ ۡ َ ُ ُ ۡ ََ ُ ۡ َ‬ ‫َ ۡ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ّ َ َ ۡ‬ ‫َ‬
‫ضكم لِ ع ٍض أن تبط أعمٰلكم وأنتم ل‬ ‫ب َول ت َه ُروا ُلۥ بِٱلق ۡو ِل كجه ِر َبع ِ‬ ‫ص ۡو ِ‬
‫ت ٱنل ِ ِ‬
‫ون﴾‪ ،‬وأنا ٌ‬ ‫َۡ ُُ َ‬
‫رجل شديد الصوت‪ ،‬أخاف أن يكون قد حبط عملي‪ ،‬فأنا من‬ ‫تشعر‬
‫وت بِ َخ ْي ٍر‪،‬‬ ‫ت ِمن ُْه ْم‪َ ،‬ب ْل ت َِع ُ‬
‫يش بِ َخ ْي ٍر‪َ ،‬وت َُم ُ‬ ‫‪َ « :‬ل ْس َ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫أهل النار‪ .‬فقال‬
‫ْت ِ‌م ْن َ‌أ ْه ِل‌ا ْل َجن َِّة»(‪.)6‬‬
‫َ‌أن َ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)68‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2821‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2855‬وغيرها‪.‬‬


‫تفرد به ابن عساكر فيما‬
‫((( ينظر‪« :‬تاريخ دمشق» (‪ .)114/39‬وهذا الحديث وإن كان ضعيف اإلسناد‪ ،‬ومما َّ‬
‫يدل على هذه الحال‪.‬‬ ‫نعلم‪ ،‬إِ َّل أن مجمل حياة النبي‬
‫((( َت ُق ُّم المسجد‪َ :‬ت ْكن ُُسه وتنَ ِّظفه‪ .‬ينظر‪« :‬اإلفصاح عن معاني الصحاح» (‪.)187 /7‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1337 ،458‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)956‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬هل مرض؟‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4846 ،3613‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)119‬وغيرها‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫ال�صباح النبوي‬

‫ِّ‬
‫فلكل‬ ‫وهكذا تراه يتف َّقد أصحابه‪ ،‬ال ُ‬
‫يعزب عن باله وال يسقط من عينه أحدٌ ؛‬
‫ولمن غاب حظه من االهتمام والتف ُّقد‪،‬‬ ‫والرعاية‪َ ،‬‬
‫َمن حضر حظه من الحفاوة ِّ‬
‫وفي ذلك تقوية ل ِ ُلحمة المجتمع‪ ،‬وتعميق لالنتماء إلى الجماعة‪.‬‬
‫«م ْن َر َأى ِمنْك ُْم ُرؤْ َيا‬
‫ويسألهم في مجلسه الصباحي هذا عن رؤاهم بقوله‪َ :‬‬
‫فيقصون عليه ُرؤاهم‪ ،‬ف َي ْع ُب ُرها لهم‪ ،‬أو يقول لهم ما‬‫ُّ‬ ‫َف ْل َي ُق َّص َها َأ ْع ُب ْر َها َل ُه»(‪.)1‬‬
‫شاء اهلل أن يقول‪.‬‬
‫الرؤى في هذا الوقت أنهم صلوا صالة قد قاموا قبلها من‬
‫ومناسبة السؤال عن ُّ‬
‫يتلقى قلقهم‪،‬‬ ‫نومهم‪ ،‬و َث َّم رؤاهم التي رأوها وال زالت تشغلهم‪ ،‬ولذا كان‬
‫بسؤالهم عن ما رأوا‪.‬‬
‫ت ُر ْؤ َيا َع َلى َع ْه ِد‬ ‫سلم ‪ ‬قال‪َ :‬ر َأ ْي ُ‬ ‫ومما ورد من ذلك‪ :‬حديث عبد اهلل بن َ‬
‫ت ك ََأنِّي فِي َر ْو َض ٍة ــ َذك ََر ِم ْن َس َعتِ َها َو ُخ ْض َرتِ َها ــ‬ ‫َف َق َص ْصت َُها َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َر َأ ْي ُ‬ ‫النَّبِ ِّي‬
‫اء‪ ،‬فِي َأ ْع َل ُه ُع ْر َوةٌ‪،‬‬ ‫ض‪ ،‬و َأع َله فِي السم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َو ْس َط َها َع ُمو ٌد م ْن َحديد‪َ ،‬أ ْس َف ُل ُه في األَ ْر ِ َ ْ ُ‬
‫يت َحتَّى‬ ‫صيف َف َر َف َع ثِ َيابِي ِم ْن َخ ْل ِفي‪َ ،‬ف َر ِق ُ‬‫ٌ‬ ‫يع‪َ ،‬ف َأتَانِي َو‬ ‫ِ‬
‫َفق َيل لي‪ْ :‬ار َق‪ُ ،‬ق ْل ُت‪َ :‬ل َأ ْستَط ُ‬
‫ِ ِ‬

‫اس َت ْي َق ْظ ُت‪َ ،‬وإِن ََّها‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُكن ُْت فِي َأ ْع َل َها‪َ ،‬ف َأ َخ ْذ ُ‬
‫است َْمس ْك بالعروة‪َ ،‬ف ْ‬ ‫ت بِال ُع ْر َوة‪َ ،‬فق َيل َل ُه‪ْ :‬‬
‫ك ال َع ُمو ُد‬ ‫إل ْس َل ُم‪َ ،‬و َذلِ َ‬ ‫الر ْو َض ُة ا ِ‬
‫ك َّ‬ ‫‪َ ،‬ق َال‪« :‬تِ ْل َ‬ ‫َل ِفي َي ِدي‪َ ،‬ف َق َص ْصت َُها َع َلى النَّبِ ِّي‬
‫وت»(‪.)2‬‬ ‫إل ْس َل ِم َحتَّى ت َُم َ‬ ‫ْت َع َلى ا ِ‬ ‫الو ْث َقى‪َ ،‬ف َأن َ‬
‫ك‌ال ُع ْر َو ُة ُع ْر َو ُة ُ‬ ‫إل ْس َلمِ‪‌َ ،‬وتِ ْل َ‬‫َع ُمو ُد ا ِ‬
‫سلم ‪ ‬ــ والذي كان َح ْبر ًا يهود ّي ًا فأسلم ــ بعد وفاة‬
‫ولقد عاش عبدُ اهلل بن َ‬
‫نحو ًا من خمس وثالثين سنة‪َ ،‬ع َب َرت فيها أحداث ِّ‬
‫الر َّدة وحروب‬ ‫النبي‬
‫سلم ثابت ًا على اإلسالم مستمسك ًا بال ُعروة ُ‬
‫الوثقى‬ ‫المرتدين‪ ،‬وبقي عبد اهلل بن َ‬
‫يوم َع َب َر رؤياه تلك‪.‬‬ ‫حتى مات‪ ،‬كما أخبره نبيه‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2269‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7014 ،7010 ،3813‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2484‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪26‬‬

‫أن سيكون ردة يرتدُّ فيها فِئا ٌم من‬


‫لهذه الرؤيا إشارة ْ‬ ‫وكأن تعبير النبي‬
‫سلم لن يكون منهم‪ ،‬وهكذا كان ‪.‬‬
‫الناس‪ ،‬ولكن عبد اهلل بن َ‬
‫‪.‬‬ ‫وفي ذلك داللة من دالالت نبوته‬
‫«م ْن َر َأى ِمنْك ُُم رؤيا َف ْل َي ُق َّصها؛ َأ ْع ُب ْرها َل ُه»‪ .‬قال ٌ‬
‫رجل‪:‬‬ ‫مر ًة ألصحابه‪َ :‬‬
‫ولما قال َّ‬‫َّ‬
‫َ‬
‫والعسل‪ ،‬ورأيت‬ ‫السمن‬
‫َ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ف‬ ‫رأيت الليلة في المنام ُظ َّل ًة َتنْطِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬إني‬ ‫يا‬
‫ِ‬
‫والمستق ُّل‪ ،‬و َأ َرى َس َبب ًا(‪ )3‬واص ً‬
‫ال من‬ ‫فون(‪ )2‬منها بأيديهم‪ ،‬فالمستكثِ ُر‬‫الناس يت َك َّف َ‬
‫َ‬
‫أخذ به ٌ‬
‫رجل من‬ ‫فعلوت فأعالك اهلل‪ ،‬ثم َ‬ ‫َ‬ ‫أخذت به‬
‫َ‬ ‫السماء إلى األرض‪َ ،‬‬
‫فأ َراك‬
‫آخر من بعدكما فأخذ به َف َع َل فأعاله اهللُ‪ ،‬ثم‬ ‫رجل ُ‬‫أخذ به ٌ‬
‫بعدك َف َع َل فأعاله اهللُ‪ ،‬ثم َ‬
‫آخر من بعدكم فانقطع به‪ ،‬ثم ُو ِصل له َف َع َل فأعاله اهللُ‪.‬‬
‫رجل ُ‬‫أخذ به ٌ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬بأبي أنت‪ ،‬واهلل َلتَدَ َعنِّي َف َ َ‬
‫ل ْع ُب َرنَّها‪ .‬قال‬ ‫َ‬ ‫قال أبو بكر‪ :‬يا‬
‫ف‬‫«اع ُب ْر َها»‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أما ال ُّظ َّل ُة‪ ،‬ف ُّظ َّل ُة اإلسالم‪ ،‬وأما الذي َينْطِ ُ‬ ‫‪ْ :‬‬
‫الناس من ذلك‪،‬‬‫ُ‬ ‫ف‬ ‫من السمن والعسل‪ ،‬فالقرآن‪ ،‬حالوتُه ولينُه‪ ،‬وأما ما َي َت َك َّف ُ‬
‫ِ‬
‫السبب الواصل من السماء إلى األرض‪،‬‬ ‫فالمستكثر من القرآن والمستَق ُّل‪ ،‬وأما َّ‬
‫ُ‬
‫رجل من بعدك‪ ،‬فيعلو‬ ‫يأخذ به ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فالحق الذي أنت عليه‪ ،‬تأخذ به ف ُي ْع َ‬
‫ليك اهللُ به‪ ،‬ثم‬ ‫ُّ‬
‫آخر فينقطع به‪ ،‬ثم يوصل‬
‫رجل ُ‬‫يأخذ به ٌ‬
‫ُ‬ ‫آخر فيعلو به‪ ،‬ثم‬
‫رجل ُ‬ ‫يأخذ به ٌ‬ ‫ُ‬ ‫به‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫أخطأت؟ قال‬
‫ُ‬ ‫أصبت أم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل بأبي أنت‪،‬‬ ‫فأ ْخبِ ْرني يا‬
‫له فيعلو به‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬لت َُحدِّ َثنِّي ما‬ ‫ط ْأ َ‬
‫ت َب ْعض ًا»‪ .‬قال‪ :‬فواهلل يا‬ ‫ت َب ْعض ًا‪َ ،‬و َأ ْخ َ‬ ‫‪َ :‬‬
‫«أ َص ْب َ‬
‫ُقسم»(‪.)4‬‬
‫أخطأت؟ قال‪« :‬ال ت ْ‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫((( أي‪ :‬سحابة تقطر‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)75/5‬‬
‫((( أي‪ :‬يتلقفونه بأك ِّفهم‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)190/4‬‬
‫((( أي‪ً :‬‬
‫حبال‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)329/2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7046‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2269‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4632‬وغيرها‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫ال�صباح النبوي‬

‫يقصونها على النبي‬


‫التي كانوا ُّ‬ ‫ويالحظ أن ُرؤى الصحابة ‪‬‬
‫بهمهم األكبر وقضيتهم األولى‪ ،‬وهو دينهم ونبيهم‪ ،‬فهم يعيشونه جهد ًا‬‫تفيض ِّ‬ ‫ُ‬
‫يف‬ ‫ورؤى في منامهم‪ ،‬فيا هلل! أي نفوس تلك التي كانت تُطِ ُ‬
‫ً‬ ‫وجهاد ًا في يقظتهم‪،‬‬
‫همها به من يقظتها إلى منامها وأحالمها!‬
‫‪ ،‬فيمتد ُّ‬ ‫برسول اهلل‬
‫فيقصها عليهم و َي ْع ُبرها لهم؛ كما في‬ ‫ُّ‬ ‫برؤيا رآها هو‪،‬‬ ‫ويحدَّ ثهم‬
‫«ه ْل َر َأى َأ َحدٌ‬ ‫يوم ًا‪ ،‬فقال‪َ :‬‬ ‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫حديث سمرة ‪ ‬قال‪َ :‬س َأ َلنا‬
‫ِ‬ ‫ِمنْك ُْم ُرؤْ َيا؟»‪ .‬قلنا‪ :‬ال‪ .‬قال‪َ « :‬لكِنِّي َر َأ ْي ُ‬
‫ي‪،‬‬ ‫ت ال َّل ْي َل َة َر ُج َل ْي ِن َأ َت َياني َف َأ َخ َذا بِ َيدَ َّ‬
‫ِ‬ ‫َف َأ ْخ َر َجانِي إِ َلى ْالَ ْر ِ‬
‫الرؤيا الطويل‪ ،‬وفيه ذكر‬ ‫ض ا ْل ُم َقدَّ َسة‪ .»...‬ثم ذكر حديث ُّ‬
‫يعذ َ‬
‫بون عليه‪ ،‬وذكر الجنة ومنازلها وبعض‬ ‫بين في النار‪ ،‬وما َّ‬ ‫َّ‬
‫المعذ َ‬ ‫بعض أحوال‬
‫أحوال اآلخرة(‪.)1‬‬
‫وكما كانوا يقصون عليه رؤاهم الحسنة فيعبرها‪ ،‬فقد كان يوجههم إذا رأوا في منامهم‬
‫ول ا ِ‬
‫هلل َر َأ ْي ُت فِي ا ْل َمنَا ِم ‌ك ََأ َّن َ‌ر ْأ ِسي ‌ ُقطِ َع‪َ ،‬ف َض ِح َك‬ ‫ما يكرهون؛ فهذا رجل يقول‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َو َق َال‪« :‬إِ َذا َل ِع َب َّ‬
‫َّاس»(‪.)2‬‬ ‫ان بِ َأ َحدك ُْم في َمنَامه‪َ ،‬ف َل ُي َحدِّ ْث بِه الن َ‬ ‫الش ْي َط ُ‬ ‫النَّبِ ُّي‬
‫‌الر ْؤ َيا ‌ َفت ُْم ِر ُضنِي‪َ ،‬حتَّى َس ِم ْع ُت النَّبِ َّي‬ ‫ويقول رجل آخر‪َ :‬ل َقدْ ‌ ُكن ُْت ‌ َأ َرى ُّ‬
‫ِ‬ ‫حب َف َل يحدِّ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ث بِه إِ َّل َم ْن ُيح ُّ‬ ‫ُ َ‬ ‫الح َسنَ ُة م َن اهللِ‪َ ،‬فإِ َذا َر َأى َأ َحدُ ك ُْم َما ُي ُّ‬ ‫«الرؤْ َيا َ‬ ‫ول‪ُّ :‬‬ ‫َي ُق ُ‬
‫ث‬‫ان‪َ ،‬و ْل َيت ِْف ْل َث َلث ًا‪َ ،‬و َل ُي َحدِّ ْ‬
‫الش ْي َط ِ‬ ‫َوإِ َذا َر َأى َما َيك َْر ُه َف ْل َي َت َع َّو ْذ بِاهللِ ِم ْن َش ِّر َها‪َ ،‬و ِم ْن َش ِّر َّ‬
‫بِ َها َأ َحد ًا‪َ ،‬فإِن ََّها َل ْن ت َُض َّر ُه»(‪.)3‬‬
‫يصمت في مجلسه صمت استماع ال صمت وجوم وتواقر‪ ،‬يستطعم‬ ‫وكان‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1386‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2275‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2294‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2268‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)7044‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪28‬‬

‫به من أصحابه حديثهم‪ ،‬فكانوا يتناشدون األشعار ويتحدثون في أمر الجاهلية‪،‬‬


‫الحديث واالستماع‪ ،‬فربما تحدَّ ثوا عن حياتهم في الجاهلية‪ ،‬وما‬ ‫َ‬ ‫فيشاركهم‬
‫كانوا يقعون فيه من ُأ ْح ُموقات الجاهلية التي َت َبدَّ ى لهم َع َو ُارها بعد َأ ْن َم َّن اهللُ‬
‫ويتبسم‬
‫َّ‬ ‫عليهم باإلسالم‪ ،‬فإذا ذكروها ضحكوا من جهلهم في الجاهلية‪،‬‬
‫تبسم ًا(‪.)1‬‬
‫‪ ،‬وهو الذي كان ضحكه ُّ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫ومما ُيروى عنهم من أحاديث الجاهلية قول أحدهم‪َ :‬ما َن َف َع َأ َحد ًا َصن َُم ُه‬
‫ط‪،‬‬ ‫س(‪َ ،)2‬ف َجا َء ا ْل َق ْح ُ‬ ‫ف َ‌ه َذا؟ َق َال‪َ :‬صنَ ْع ُت ُه ِم َن ا ْل َح ْي ِ‬ ‫ِ‌م ْث َل ‌ َما ‌ َن َف َعنِي‪َ ‌ .‬قا ُلوا‪َ ‌ :‬ك ْي َ‬
‫س َصن ٍَم‬ ‫ت َث ْع َل َب ْي ِن َجا َءا َو َص ِعدَ ا َف ْو َق َر ْأ ِ‬
‫آخ ُر‪َ :‬ر َأ ْي ُ‬‫ْت آ ُك ُل ُه َي ْوم ًا َف َي ْوم ًا‪َ .‬و َق َال َ‬ ‫َف ُكن ُ‬
‫ت‪:‬‬ ‫لِي َو َب َال َع َل ْي ِه َف ُق ْل ُ‬
‫ت َع َليه ال َث َعالِب‬ ‫َل َقدْ َذل َم ْن َبا َل ْ‬ ‫ــان بِر ْأ ِس ِ‬
‫ــــه‬ ‫َ‬
‫ــــــول ال َّثع َلب ِ‬
‫ُ ْ َ‬ ‫َأ َر ٌّ‬
‫ب َي ُب‬

‫ت(‪.)3‬‬ ‫ول اهللِ‪َ ،‬و َأ ْس َل ْم ُ‬


‫ج ْئت َُك َيا َر ُس َ‬ ‫َف ِ‬

‫الص ْب َح َحتَّى َت ْط ُل َع َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫الش ْم ُس‬ ‫َي ُقو ُم م ْن ُم َص َّل ُه ا َّلذي ُي َص ِّلي فيه ُّ‬ ‫ولم يكن‬
‫إلى ُحجر نسائه‪ ،‬فإذا‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫حسناء‪َ ،‬فإِ َذا َط َل َع ْت الشمس ساطعة َقام‬
‫اغ ِف ْر لِي‬ ‫خر َج من المسجد قال‪« :‬بِاس ِم اهللِ‪َ ،‬والس َلم َع َلى رس ِ‬
‫ول اهللِ‪ .‬ال َّل ُه َّم ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك»(‪.)4‬‬ ‫اب َف ْضل َ‬ ‫ُذنُوبِي‪َ ،‬وا ْفت َْح لي َأ ْب َو َ‬
‫ولم تكن الشمس تشرق عليهم وهم نيام‪ ،‬وإنما كان ما بعد الفجر وقت استئناف‬
‫الحياة وتلقي صحوة الكون بحيوية ونشاط‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)20810‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)670‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2850‬وغيرها‪.‬‬
‫الح ْيس‪ :‬طعام تتخذه العرب من َاأل ِقط والتمر والسمن‪ ،‬تُخلط جميع ًا‪ ،‬وهو من طعام السفر غالب ًا لسهولة‬
‫((( َ‬
‫إعداده‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪ .)199/1‬واألقط‪ :‬هو لبن يطبخ حتى يذهب ماؤه‪ ،‬ثم يجفف‪ ،‬ولم تكن العرب‬
‫تعرف الجبن وإنما األقط هو جبن العرب‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)257/7‬‬
‫((( ينظر‪« :‬مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (‪.)2993/7‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)6417‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)771‬وغيرها‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫ال�صباح النبوي‬

‫وأصحابه‪ ،‬وهي حال المجتمع عامة‪،‬‬ ‫وكانت هذه طبيعة حياة النبي‬
‫فبعد الفجر يبدأ َمن له عمل بعمله‪ ،‬و َمن اتسع وقته تفرغ للذكر والدعاء‪ ،‬وورد‬
‫عن عائشة ‪ ‬أنها ما كانت تنام نومة الضحى إال بعد طلوع الشمس(‪.)1‬‬
‫وعن أبي وائل قال‪َ :‬غدَ ونَا َع َلى َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ‬
‫ود َي ْوم ًا َب ْعدَ َما َص َّل ْينَا ا ْل َغدَ اةَ‪،‬‬ ‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت‪َ :‬أ َل‬ ‫ت ا ْل َج ِ‬
‫ار َي ُة‪َ ،‬ف َقا َل ْ‬ ‫خرج ِ‬ ‫اب‪َ ،‬ف َأ ِذ َن َلنَا‪َ ،‬ف َم َك ْثنَا بِا ْل َب ِ‬
‫َف َس َّل ْمنَا بِا ْل َب ِ‬
‫اب ُهنَ َّي ًة‪َ ،‬ف َ َ َ‬
‫ون‪َ ،‬فدَ َخ ْلنَا‪َ ،‬فإِ َذا ُه َو َجال ِ ٌس ُي َس ِّب ُح‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬ما َمنَ َعك ُْم َأ ْن تَدْ ُخ ُلوا َو َقدْ ُأ ِذ َن‬ ‫تَدْ ُخ ُل َ‬
‫آل ا ْب ِن ُأ ِّم َع ْب ٍد‬‫ت ن َِائم‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ظنَنْتُم بِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫َلكُم؟ َف ُق ْلنَا‪َ :‬ل‪ ،‬إِ َّل َأنَّا َظنَنَّا َأ َّن بع َض َأه ِل ا ْلبي ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫ار َي ُة ا ْن ُظ ِري‬ ‫ت‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬يا َج ِ‬ ‫الش ْم َس َقدْ َط َل َع ْ‬ ‫َغ ْف َل ًة‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ث َّم َأ ْق َب َل ُي َس ِّب ُح َحتَّى َظ َّن َأ َّن َّ‬
‫الش ْم َس‬ ‫ت َفإِ َذا ِه َي َل ْم َت ْط ُل ْع‪َ ،‬ف َأ ْق َب َل ُي َس ِّب ُح َحتَّى إِ َذا َظ َّن َأ َّن َّ‬
‫ت؟ َق َال‪َ :‬فنَ َظ َر ْ‬ ‫َه ْل َط َل َع ْ‬
‫ت‪َ ،‬ف َق َال‪:‬‬ ‫ت‪َ ،‬فإِ َذا ِه َي َقدْ َط َل َع ْ‬ ‫ت؟ َفنَ َظ َر ْ‬ ‫ت‪َ ،‬ق َال‪َ :‬يا َج ِ‬
‫ار َي ُة ا ْن ُظ ِري َه ْل َط َل َع ْ‬ ‫َقدْ َط َل َع ْ‬
‫‌ا ْل َح ْمدُ هللِ‌ا َّل ِذي‌ َأ َقا َلنَا(‪َ )2‬ي ْو َمنَا َه َذا َو َل ْم ُي ْه ِل ْكنَا بِ ُذنُوبِنَا(‪.)3‬‬
‫السواك(‪ ،)4‬يط ِّيب به فمه المط َّيب‪،‬‬ ‫بيته كان أول شيء يبدأ به ِّ‬ ‫فإذا دخل‬
‫ف َأ ْنتُم يا َأه َل ا ْلبي ِ‬
‫ت؟»(‪.)5‬‬ ‫َْ‬ ‫«س َل ٌم َع َل ْيك ُْم‪َ ،‬ك ْي َ ْ َ ْ‬
‫ويس ِّلم على أهله قائالً‪َ :‬‬
‫عليهن ويدعو‬
‫َّ‬ ‫ويطوف على نسائه‪ ،‬يدخل على كل واحدة في ُحجرتها‪ ،‬يس ِّلم‬
‫المكث(‪ ،)6‬وقد كانت حجراتهن متقاربة‪ ،‬تقع شرقي المسجد‪ ،‬فكان‬
‫لهن‪ ،‬وال يطيل ُ‬
‫َّ‬
‫ييسر هذا المرور السريع‪.‬‬
‫ذلك ِّ‬
‫((( «مصنف ابن أبي شيبة» (‪.)25451‬‬
‫((( ‌أقالنا‪ :‬أي عفا عنا‪ ،‬ووهب لنا‪ ،‬ولم يعاقبنا‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)306/30‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)822‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)253‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)51‬و«سنن ابن ماجه» وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1365‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13025‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)4794‬و«صحيح مسلم» (‪.)1428‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪30‬‬

‫مصلها وخرج وهي على حالها‪ ،‬كما‬ ‫َّ‬ ‫فربما دخل على إحداهن وهي في‬
‫َّ‬
‫مصلها تذكر اهلل‪ ،‬وخرج وهي على حالها من‬ ‫دخل على ُج َو ْي ِري َة ‪ ‬وهي في‬
‫الذكر(‪.)1‬‬
‫ومن أثر هذه الزيارة الصباحية على زوجاته حضوره في حياتهن وتعاهدهن‪ ،‬بحيث‬
‫يتكرر اللقاء اليومي بهن‪ ،‬وهي رسالة واضحة إلى كل واحدة منهن عن أهميتها في‬
‫حياته‪ ،‬وحضورها في نفسه‪ ،‬وأنه يذكرها ويشتاق لها‪.‬‬
‫«ه ْل ِعنْدَ ك ُْم َش ْي ٌء؟»‪ .‬فإن كان ثم َة طعام ُق ِّرب‬
‫وقد يسأل عن الطعام‪ ،‬فيقول‪َ :‬‬
‫والح ْيس واألَ ِقط(‪ ،)2‬أو شراب ًا‪ ،‬كال َّل َبن‬
‫َ‬ ‫إليه‪ ،‬وغالب ًا ما يكون طعام ًا خفيف ًا‪ ،‬كالتمر‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬ما عندنا شيء‪.‬‬ ‫أو النَّبيذ(‪ ،)3‬ونحو ذلك‪ ،‬وربما سأل فيقولون‪ :‬يا‬
‫فيقول‪َ « :‬فإِنِّي إِ َذ ْن َصائِ ٌم»(‪.)4‬‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2334‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2726‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1503‬وغيرها‪.‬‬


‫((( سبق شرحه‪.‬‬
‫((( النبيذ‪ :‬ماء ُينْ َقع فيه تمر أو زبيب أو عسل أو غيره‪ ،‬يذهب ملوحة الماء‪ ،‬وكانت مياه المدينة مالحة‪ ،‬فينبذون فيها‬
‫التمر والزبيب حتى يحلو الماء‪ ،‬وليس هو النبيذ المسكر‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)511/3‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1494‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1154 ،1076‬وغيرها‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫ماؤه‪،‬ثمثمجيفف‬
‫يجفف‬ ‫يذهبماؤه‪،‬‬
‫حتىيذهب‬
‫يطبخحتى‬
‫لبنيطبخ‬
‫وهولبن‬
‫لألقط‪،‬وهو‬
‫صورة لألقط‪،‬‬
‫صورة‬
‫صورة لألقط‪ ،‬وهو لبن يطبخ حتى يذهب ماؤه‪ ،‬ثم جيفف‬

‫ُخلطمجيعا‬
‫جميع ًا‬ ‫والسمن‪ ،‬تختلط‬ ‫ألقهِقط‬
‫ط والسمن‪،‬‬ ‫التمر ووااْلََ‬
‫من التمر‬
‫يتخذ من‬
‫طعاميتخذ‬
‫وهوطعام‬
‫للحيس‪،‬وهو‬
‫صورة للحيس‪،‬‬
‫صورة‬

‫صورة للحيس‪ ،‬وهو طعام يتخذ من التمر واْلَقهط والسمن‪ ،‬ختلط مجيعا‬
‫‪33‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫المجلس النبوي‬

‫طوا َفه على نسائه عاد إلى المسجد‪ ،‬فإذا دخله ص َّلى تحية‬ ‫فإذا أتم‬
‫تسمى‪ :‬سارية المهاجرين‪ ،‬وهي متوسطة في الروضة‬
‫َّ‬ ‫المسجد عند سارية‬
‫يتحرى الصالة عندها(‪.)1‬‬
‫الشريفة‪ ،‬وكان َّ‬
‫ثم يجلس شرقي المسجد في الروضة الشريفة‪ ،‬مستند ًا إلى ُحجرة عائشة ‪،‬‬
‫النبي‬
‫َّ‬ ‫ويجتمع إليه أصحابه‪ ،‬وكان هذا اللقاء معهود ًا‪ ،‬بحيث أن َمن أراد‬
‫يقل الصحاب ُة حو َله أو يكثرون‪،‬‬ ‫في هذا الوقت‪ ،‬فإنه يأتي إليه في المسجد‪ ،‬وقد ُّ‬
‫ال تح َّلقوا حوله‪ ،‬وإن كانوا كثير ًا‬
‫بحسب فراغهم وظروف حياتهم‪ ،‬فإن كانوا قلي ً‬
‫جلسوا َص َّف ْين عن يمينه ويساره‪ ،‬حتى يصل إليه الوافد‪ ،‬ويدنو منه السائل(‪.)2‬‬
‫وكانوا يحفون به عن يمينه ويساره‪ ،‬فإذا ُأعطِي شراب ًا شرب منه ثم أعطاه‬
‫الذي عن يمينه‪ ،‬وإن كان صغير ًا أو غريب ًا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ب‬ ‫اب‪َ ،‬ف َش ِر َ‬ ‫ُأتِ َي بِ َش َر ٍ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫اع ِد ِّي ‪َ ،‬أ َّن َر ُس َ‬ ‫َعن سه ِل ب ِن سع ٍد الس ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ َ ْ ْ َ ْ‬
‫«أت َْأ َذ ُن لِي َأ ْن ُأ ْعطِ َي‬
‫اخ‪َ ،‬ف َق َال ل ِ ْل ُغ َل ِم‪َ :‬‬
‫ار ِه ‌األَ ْش َي ُ‬
‫ِمنْ ُه َو َع ْن َي ِمين ِ ِه ُغ َل ٌم َ‌و َع ْن ‌ َي َس ِ‬
‫ول اهلل ِ‪َ ،‬ل ُأوثِ ُر بِن َِصيبِي ِمن َْك َأ َحد ًا‪َ .‬ق َال‪:‬‬ ‫َه ُؤ َل ِء؟»‪َ .‬ف َق َال ال ُغ َل ُم‪َ :‬ل َواهلل ِ َيا َر ُس َ‬
‫فِي َي ِد ِه(‪.)3‬‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َف َت َّل ُه َر ُس ُ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)502‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)509‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)1430‬وغيرها‪.‬‬


‫بين أصحابه كأحدهم‪.‬‬ ‫((( ينظر‪« :‬سنن أبي داود» (‪ ،)4698‬وما سيأتي قريب ًا في جلوسه‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ .)2451‬و َت َّله بيده‪ :‬ألقاه‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)195/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪34‬‬

‫ِ‬ ‫َشا ٌة َد ِ‬ ‫ت لِرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬


‫يب‬
‫اج ٌن‪َ ،‬وش َ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َس ْب ِن َمالك ‪ُ :‬حل َب ْ َ ُ‬ ‫وع ْن َأن ِ‬ ‫َ‬
‫(‪)1‬‬

‫ب ِمنْ ُه َحتَّى إِ َذا ن ََز َع ال َقدَ َح ِم ْن‬ ‫َلبنُها بِم ٍ‬


‫ال َقدَ َح‪َ ،‬ف َش ِر َ‬ ‫اء‪َ ،‬ف َأ ْع َطى َر ُس َ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َ َ َ‬
‫اف َأ ْن ُي ْعطِ َي ُه‬
‫‌ع َم ُر‪ :‬ــ َو َخ َ‬ ‫ار ِه َأ ُبو َبك ٍْر‪َ ،‬و َع ْن َي ِمين ِ ِه ‌ َأ ْع َرابِ ٌّي‪َ ،‬ف َق َال ُ‬ ‫يه‪َ ،‬و َع َلى َي َس ِ‬ ‫فِ ِ‬

‫ول اهللِ ِعنْدَ َك‪َ ،‬ف َأ ْع َطا ُه األَ ْع َرابِ َّي ا َّل ِذي َع َلى َي ِمين ِ ِه‪،‬‬ ‫ط َأ َبا َبك ٍْر َيا َر ُس َ‬ ‫األَ ْعرابِي ــ َأ ْع ِ‬
‫َ َّ‬
‫ُث َّم َق َال‪‌« :‬األَ ْي َم َن‌ َفاألَ ْي َم َن»(‪.)2‬‬
‫حدّ ون النظر إليه‪ ،‬ولكن يلحظونه بأعينهم‬ ‫وكان الصحابة إذا جلسوا عنده ال ي ِ‬
‫ُ‬
‫ت َأ ْن‬ ‫لحظ ًا؛ لمزيد تعظيمهم ومهابتهم له‪ ،‬كما قال عمرو بن العاص‪َ :‬ل ْو ُس ِئ ْل ُ‬
‫‌ع ْين ََّي ِمنْ ُه(‪.)3‬‬ ‫‌ َأ ِص َفه ما َأ َط ْق ُ ِ‬
‫ل َ‬ ‫ت؛ لَنِّي َل ْم َأك ْ‬
‫ُن َأ ْم َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫وكما كانوا يغضون أبصارهم حيا ًء فقد كانوا يغضون أصواتهم تأدب ًا‪ ،‬وعم ً‬
‫ال‬
‫َّ ّ َ‬ ‫ك ۡم فَ ۡو َق َص ۡ‬‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ َ ُ ٓ ْ َ ۡ َ ٰ َ ُ‬
‫ب َول‬
‫ِِ‬ ‫ٱنل‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫بقول اهلل عز وجل‪﴿ :‬يـأيها ٱلِين ءامنوا ل ترفعوا أصوت‬
‫َ‬ ‫َ َۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ لِ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ٰ ُ ُ‬ ‫َ َ ۡ ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ ْ َ‬
‫ك ۡم َوأ ُنت ۡم ل تش ُع ُرون﴾‪.‬‬ ‫ضكم ع ٍض أن تبط أعمل‬ ‫ت َه ُروا ُلۥ بِٱلق ۡو ِل كجه ِر َبع ِ‬
‫خفض صوته كأنه‬ ‫الج ْهوري الصوت إذا كلم النبي‬
‫ولذا كان عمر وهو َ‬
‫قو َله حتى يستفهمه(‪ ،)4‬رعاية منه لألدب مع‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫ُي ِس ُّر إليه‪ ،‬وال يستبين‬
‫‪.‬‬ ‫مقامه‬
‫ولم يكن في المجلس النبوي فرش يجلسون عليها‪ ،‬وال أرائك يتكئون عليها‪،‬‬
‫وإنما فراشهم َح ْصباء المسجد‪ ،‬فهي مصالهم ومجلسهم‪.‬‬
‫يجلس في هذا المجلس مع أصحابه كأحدهم‪ ،‬ليس‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫وكان‬
‫ابن‬
‫الغريب فال يعرفه من بينهم‪ ،‬وربما سأل‪ :‬أيكم ُ‬
‫ُ‬ ‫له َشارة تم ِّيزه عنهم‪ ،‬فيجيء‬

‫((( شيب‪ُ :‬خ ِلط‪ .‬ينظر‪« :‬عمدة القاري» للعيني (‪.)192/12‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪« .)2352‬صحيح مسلم» (‪.)2029‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)121‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)7302‬‬
‫‪35‬‬ ‫المجل�س النبوي‬

‫‪ ،‬إِ َّل َوضاءته وبهاءه‪،‬‬ ‫َ‬


‫رسول اهلل‬ ‫عبد المطلب؟ فال يجدون ما يم ِّيزون به‬
‫المتَّكئ‪ .‬فلما رأى الصحابة ذلك‪ ،‬أشاروا على النبي‬
‫فيقولون‪ :‬هو هذا األبيض ُ‬
‫أن يعملوا له َد َّك ًة من الطين؛ حتى يعرفه القادم‪ ،‬فأذن لهم‪ ،‬وكان ذلك في‬
‫آخر حياته‪ ،‬عام الوفود‪ ،‬سنة تسع(‪.)1‬‬
‫وكان الصحابة ‪ ‬يتناوبون الحضور في هذا المجلس النبوي‪ ،‬كما في‬
‫وجار لي من األنصار في عوالي المدينة‪ ،‬وكنا‬
‫ٌ‬ ‫حديث عمر ‪ ‬قال‪ُ :‬‬
‫كنت أنا‬
‫نزلت جئتُه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأنزل يوم ًا‪ ،‬فإذا‬ ‫‪ُ ،‬‬
‫ينزل يوم ًا‬ ‫َ‬
‫النزول على رسول اهلل‬ ‫نتناوب‬
‫ُ‬
‫بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره‪ ،‬وإذا نزل فعل مثل ذلك(‪.)2‬‬
‫إلى أصحابه تحدَّ ث إليهم‪ ،‬وكان أفصح خلق اهلل كالم ًا‪،‬‬ ‫فإذا جلس‬
‫هذ ًا مسرع ًا‪ ،‬وال بطيئ ًا متق ِّطع ًا‪ ،‬وإنما‬ ‫وأعذبهم حديث ًا‪ ،‬وأبينهم أدا ًء‪ ،‬ليس كالمه ّ‬
‫هو َف ْص ٌل َب ِّي ٌن‪ ،‬لو شاء العا ُّد أن َي ُعدَّ ه ألَ ْح َصاه‪ ،‬كما قالت عائش ُة ‪َ :‬ل ْم َيك ْ‬
‫ُن‬
‫ٍ‬ ‫َان َي َت َك َّل ُم بِك ََل ٍم َب ِّي ٍن‬ ‫يث‌كَسر ِدكُم هذا‪ ،‬و َل ِ‬ ‫ِ‬
‫فصل‪،‬‬ ‫كنَّ ُه ك َ‬ ‫َ‬ ‫‌ َي ْس ُر ُد‌ا ْل َحد َ َ ْ ْ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫وب‪ ،‬و َي ْح َف ُظ ُه َم ْن َج َل َس إِ َل ْي ِه‪ ،‬و َل ْو َشا َء ا ْل َعا ُّد َأ ْن ُي ْح ِص َي ُه َأ ْح َصا ُه(‪.)3‬‬
‫‌ َت ْف َه ُم ُه‌ا ْل ُق ُل ُ‬
‫وغالب ًا ما يأخذ حديثه طابع الحوار المبدوء بالتساؤل‪ :‬فربما ابتدأهم بالسؤال‬
‫ليسألوه‪ ،‬كقوله‪‌َ « :‬أ َل ُ‌أ َن ِّب ُئك ُْم ‌بِ َأ ْك َب ِر ‌ال َك َبائِ ِر؟» َث َلث ًا‪ ،‬قالوا‪َ :‬ب َلى َيا َر ُس َ‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬ق َال‪:‬‬
‫«أ َل َو َق ْو ُل الزُّ ِ‬ ‫َان مت ِ‬
‫َّكئ ًا َف َج َل َس َف َق َال‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫«ا ِ‬
‫ور‪،‬‬ ‫الوالدَ ْي ِن»‪َ .‬وك َ ُ‬ ‫وق َ‬ ‫إل ْش َر ُ‬
‫اك بِاهلل ِ‪َ ،‬و ُع ُق ُ‬
‫ور»‪َ .‬ف َما َز َال ُيك َِّر ُرها‪َ ،‬حتَّى قالوا‪:‬‬ ‫ور‪َ ،‬و َش َها َد ُة الزُّ ِ‬
‫ور‪َ ،‬أ َل َو َق ْو ُل الزُّ ِ‬
‫َو َش َها َد ُة الزُّ ِ‬
‫َل ْي َت ُه َسك َ‬
‫َت(‪ ،)4‬شفقة عليه لما رأوا من تأثره‪.‬‬

‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)4698‬و«سنن النسائي» (‪ ،)5006‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)89‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1479‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3568‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2493‬و«الشمائل المحمدية» للترمذي (ص‪ ،)134‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5976 ،2654‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)87‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪36‬‬

‫وربما سألهم ل َي ْل ِف َت أبصارهم إلى معنى أعظم من المتبادر لهم‪ ،‬كقوله‪َ « :‬أتَدْ ُر َ‬
‫ون‬
‫َاع‪َ .‬ف َق َال‪« :‬إِ َّن ا ْل ُم ْفلِ َس‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َم ِن ا ْل ُم ْفل ُس؟»‪َ .‬قا ُلوا‪ :‬ا ْل ُم ْفل ُس فينَا َم ْن َل د ْر َه َم َل ُه َو َل َمت َ‬
‫ِ‬

‫ف َه َذا‪،‬‬ ‫َاة‪َ ،‬و َي ْأتِي َو َقدْ َشت ََم َه َذا‪َ ،‬و َق َذ َ‬ ‫ِمن ُأمتِي ي ْأتِي يوم ا ْل ِقيام ِة بِص َل ٍة و ِصيا ٍم وزَ ك ٍ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ َّ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫طى َه َذا ِم ْن َح َسنَاتِ ِه‪َ ،‬و َه َذا ِم ْن‬ ‫ك َد َم َه َذا‪َ ،‬و َض َر َب َه َذا‪َ ،‬ف ُي ْع َ‬ ‫َو َأك ََل َم َال َه َذا‪َ ،‬و َس َف َ‬
‫اه ْم‬ ‫طا َيا ُأ ِخ َذ ِم ْن َخ َ‬
‫طا َي ُ‬ ‫ت َح َسنَا ُت ُه َق ْب َل َأ ْن ُي ْق َضى َما َع َل ْي ِه ِم َن ا ْل َخ َ‬ ‫َح َسنَاتِ ِه‪َ ،‬فإِ ْن َفن ِ َي ْ‬
‫َّار»(‪.)1‬‬‫ت َع َل ْي ِه‪ُ ،‬ث َّم ُط ِر َح فِي الن ِ‬ ‫ط ِر َح ْ‬‫َف ُ‬
‫استثار أذهانهم بالسؤال ل ُيجيبوه‪ ،‬كما بدأهم مر ًة بالسؤال‪ ،‬وقد ُأتي إليه‬ ‫َ‬ ‫وربما‬
‫الر ُج َل ا ْل ُم ْسلِ َم‪َ ،‬ل َيت ََح ُّ‬
‫ات َو َر ُق َها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫«أ ْخبِ ُروني بِ َش َج َرة ت ُْشبِ ُه َّ‬‫َخل(‪ ،)2‬فقال‪َ :‬‬ ‫بج َّمار ن ْ‬‫ُ‬
‫ك‪َ ،‬ف َحدِّ ُثونِي َما ِه َي؟»‪.‬‬ ‫ت ِمن َْها ِم ْن َش ْي ٍء َن َف َع َ‬ ‫ت ُْؤتِي ُأ ُك َل َها ك َُّل ِح ٍ‬
‫ين‪َ ،‬ما َأ َخ ْذ َ‬
‫كل‪« :‬ال‪ ..‬ال»‪ .‬ووقع‬ ‫يقول في ٍّ‬ ‫فوقعوا في شجر ال َبوادي‪َ ،‬ي ُعدُّ ونها عليه‪ ،‬وهو ُ‬
‫في نفس عبد اهلل بن عمر بن الخطاب ‪ ‬ــ وكان عاشر عشرة هو أصغرهم‬
‫سنّ ًا ــ أنها النخلة‪ ،‬فنظر‪ ،‬فإذا في المجلس أبو بكر وعمر ال يتكلمان‪ ،‬فاستحيى‬
‫ت لِ ُع َم َر‪:‬‬‫«ه َي الن َّْخ َل ُة»‪ .‬قال عبد اهللِ‪َ :‬ف َل َّما ُق ْمنَا ُق ْل ُ‬ ‫‪ِ :‬‬ ‫النبي‬
‫أن يقولها‪ ،‬فقال ُّ‬
‫َان َ‌و َق َع ‌فِي ‌ َن ْف ِسي َأن ََّها ‌الن ْ‬
‫َّخ َل ُة‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬ما َمنَ َع َك َأ ْن َت َك َّل َم؟ َق َال‪:‬‬ ‫َيا َأ َبتَا ُه‪َ ،‬واهللِ َل َقدْ ك َ‬
‫ول َش ْيئ ًا‪َ ،‬ق َال ُع َم ُر‪َ :‬لَ ْن َتك َ‬
‫ُون ُق ْلت ََها‪،‬‬ ‫ون‪َ ،‬فك َِر ْه ُ‬
‫ت َأ ْن َأ َت َك َّل َم َأ ْو َأ ُق َ‬ ‫َل ْم َأ َرك ُْم َت َك َّل ُم َ‬
‫ب إِ َل َّي ِم ْن ك ََذا َوك ََذا(‪.)3‬‬
‫َأ َح ُّ‬
‫وربما بدأهم بسؤال مفاجئ؛ لينتهي بهم إلى نتيجة مفاجئة‪ ،‬كما بدأهم قائالً‪:‬‬
‫«م ْن َأ ْص َب َح ِمنْك ُُم ا ْل َي ْو َم َصائِم ًا؟»‪ .‬ففجأهم السؤال؛ إذ لم يستعدوا له‪ ،‬ولو‬
‫َ‬
‫علموا أنه سيسألهم لصاموا كلهم‪ ،‬فسكتوا جميع ًا‪ ،‬وأجاب أبو بكر قائالً‪ :‬أنا‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)8029‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2581‬و«جامع الترمذي» (‪.)2318‬‬
‫لب أبيض في قلب النخلة إذا ُف ِلقت‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)249/1‬‬
‫((( هو ٌ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4698 ،61‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2811‬وغيرها‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫المجل�س النبوي‬

‫«م ْن َعا َد ِمنْك ُُم ا ْل َي ْو َم َم ِريض ًا؟»‪ .‬فسكتوا‪ ،‬وأجاب أبو بكر‬ ‫رسول اهلل‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫«م ْن َتبِ َع ِمنْك ُُم ا ْل َي ْو َم َجنَازَ ةً؟»‪ .‬فسكتوا‪ ،‬وقال‬ ‫رسول اهلل‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫قائالً‪ :‬أنا يا‬
‫«م ْن َأ ْط َع َم ِم ْنك ُُم ا ْل َي ْو َم ِم ْسكِين ًا؟»‪ .‬فسكتوا‪ ،‬وقال‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫أبو بكر‪ :‬أنا يا‬
‫خ َص ُال فِي ْام ِر ٍئ فِي َي ْو ٍم إِ َّل‬
‫ت ه ِذ ِه ا ْل ِ‬
‫اجت ََم َع ْ َ‬
‫«ما ْ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫أبو بكر‪ :‬أنا يا‬
‫َد َخ َل ا ْل َجنَّ َة»(‪.)1‬‬
‫ويستخدم أحيان ًا وسيلة اإليضاح وهو يتحدَّ ث‪ ،‬كما حدَّ ث مرة عن رفع األمانة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ْت(‪ُ ،)2‬ث َّم َينَا ُم‬ ‫«ينَام الرج ُل النَّوم َة َف ُت ْقب ُض ْالَما َن ُة ِمن َق ْلبِ ِه‪َ ،‬فيب َقى َأ َثرها ِم ْث َل َأ َث ِر ا ْلوك ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ َّ ُ‬
‫َج ْم ٍر َد ْح َر ْج َت ُه َع َلى ِر ْج ِل َك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الن َّْو َم َة َف ُت ْق َب ُض ْالَ َما َن ُة م ْن َق ْلبِه‪َ ،‬ف َي َظ ُّل َأ َث ُر َها م ْث َل ا ْل َم ْج ِل(‪ ،)3‬ك َ‬
‫َفن َِف َط(‪َ ،)4‬فت ََرا ُه ُمنْتَبِر ًا(‪َ ،)5‬و َل ْي َس فِ ِيه َش ْي ٌء»‪ُ .‬ث َّم َأ َخ َذ َح َصا ًة َفدَ ْح َر َج َها َع َلى ِر ْج ِل ِه(‪.)6‬‬
‫ط َخ ّط ًا‬ ‫خط على األرض َخ ّط ًا ُم َر َّبع ًا‪َ ،‬و َخ َّ‬ ‫ويستعين بالرسم التوضيحي‪ ،‬كما َّ‬
‫ط ِم ْن َجانِبِ ِه‬ ‫ط ُخ َطط ًا ِص َغار ًا إِ َلى ه َذا ا َّل ِذي فِي ا ْلوس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ارج ًا ِمنْ ُه‪َ ،‬و َخ َّ‬‫ط َخ ِ‬ ‫فِي ا ْلوس ِ‬
‫َ َ‬
‫ون َما َه َذا؟»‪َ .‬قا ُلوا‪ :‬اهللُ َو َر ُسو ُل ُه َأ ْع َل ُم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ط‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫«أتَدْ ُر َ‬ ‫ا َّل ِذي فِي ا ْلوس ِ‬
‫َ َ‬
‫اض ــ أي‪:‬‬ ‫وط ا َّلتِي إِ َلى َج ْنبِ ِه ْالَ ْع َر ُ‬
‫ط ُ‬ ‫ان ا ْل َخ ُّط ْالَ ْو َس ُط‪َ ،‬و َه ِذ ِه ا ْل ُخ ُ‬ ‫« َق َال‪َ :‬ه َذا ْ ِ‬
‫الن َْس ُ‬
‫ط َأ ُه َه َذا ن ََه َش ُه َه َذا‪،‬‬ ‫اآلفات التي تعرض لإلنسان ــ َتن َْه ُش ُه ِم ْن ك ُِّل َمك ٍ‬
‫َان‪ ،‬إِ ْن َأ ْخ َ‬
‫يط بِ ِه‪َ ،‬وا ْل َخ ُّط ا ْل َخ ِ‬
‫ار ُج‪َ :‬أ َم ُل ُه‪،‬‬ ‫ح ٌ‬ ‫ط َأه ه َذا نَه َشه ه َذا‪ ،‬وا ْل َخ ُّط ا ْلمربع‪َ :‬أج ُله م ِ‬
‫ُ َ َّ ُ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َوإِ ْن َأ ْخ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫ك»(‪.)7‬‬ ‫ون َذلِ َ‬ ‫واألجل َي ْختَلِ ُج ُه ُد َ‬
‫ُ‬ ‫َي َت َعا َطى ْالَ َم َل‪،‬‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)1028‬و«مسند البزار» (‪ ،)9754‬و«صحيح ابن خزيمة» (‪ ،)2131‬وغيرها‪.‬‬


‫((( أي‪ :‬أثر النار على الجلد‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)218/5‬‬
‫((( المجل‪ :‬يبوسة في الكف من أثر العمل‪ .‬ينظر‪« :‬فتح الباري» البن حجر (‪.)342/11‬‬
‫((( ن َِفط‪ :‬أي ورم وامتأل ماء‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)39/13‬‬
‫نتفخ‪ .‬ينظر‪« :‬تحفة األحوذي» للمباركفوري (‪.)212/3‬‬ ‫((( المنْتَبر‪ :‬الم ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7086‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)143‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2179‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6417‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪38‬‬

‫فانظر كيف اختزل الفكرة واختصرها بأوضح بيان‪ ،‬فكل الموتى ماتوا ولهم آمال‬
‫لم يستتموها‪ ،‬ومساحة األمل أوسع من مساحة العمر‪ ،‬ولذا فال بد من وضع األجل‬
‫َ‬
‫ك ُم ۡٱل َم ِ ُّ‬
‫ان‬
‫َ َ َّ ۡ ُ‬
‫في حساب األمل‪ ،‬وهذا االستغراق في األمل هو األماني الغرارة‪﴿ :‬وغرت‬
‫ٱللِ ۡٱل َغ ُر ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ٓ َ‬
‫ور﴾‪.‬‬ ‫ت َجا َء أ ۡم ُر ٱللِ َوغ َّركم ِب‬
‫َح َّ ٰ‬
‫ومما كان َي ْع ُمر هذا المجلس‪ :‬االستغفار الكثير؛ فقد كان الصحابة ‪ ‬يلحظون‬
‫عن االستغفار والتوبة‪ ،‬وربما عدُّ وا له في المجلس الواحد مئة‬ ‫عدم فتور النبي‬
‫َّك َأن َ‬
‫ُب َع َل َّي إِن َ‬ ‫مرة قبل أن يقوم‪« :‬رب ْ ِ ِ‬
‫اب ا ْل َغ ُف ُ‬
‫ور»(‪.)1‬‬ ‫ْت الت ََّّو ُ‬ ‫اغف ْر لي َوت ْ‬ ‫َ ِّ‬
‫ولم تكن المواعظ وال التعليم تتم بأسلوب إلقائي ُأحادي االتجاه‪ ،‬وإنما‬
‫بأسلوب ِحواري يعتمد إشراك المتع ِّلم في عملية التعليم‪ ،‬ويعتمد الحوار الذي‬
‫يتيح النمو العقلي والفكري للمتع ِّلم‪.‬‬
‫ولم يكن هذا المجلس مجلس علم ووعظ فقط‪ ،‬بل كان مجلس حيوية وتفاعل‬
‫أصحابه ما يتحدثون به‪ ،‬ويتفاعل مع حديثهم‬ ‫مع الحياة‪ ،‬فيشارك النبي‬
‫إِ َذا َذك َْرنَا‬ ‫ول ا ِ‬
‫هلل‬ ‫َان َر ُس ُ‬ ‫وهمومهم وشجون حياتهم كما قال زيد بن ثابت‪ :‬ك َ‬
‫ْال ِخ َر َة َذك ََر َها َم َعنَا‪َ ،‬وإِ َذا َذك َْرنَا الدُّ ْن َيا َذك ََر َها َم َعنَا‪َ ،‬وإِ ْن َذك َْرنَا ال َّط َعا َم َذك ََر ُه َم َعنَا‪،‬‬
‫َوإِ َذا َذك َْرنَا الن َِّسا َء َذك ََر ُه َّن َم َعنَا‪َ ،‬وبِك ُِّل َه َذا ُأ َحدِّ ثكُم َعنْ ُه(‪.)2‬‬

‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)1516‬و«جامع الترمذي» (‪.)3434‬‬


‫((( «المعجم الكبير» للطبراني (‪ ،)4882‬و«السنن الكبرى» للبيهقي (‪ ،)13340‬و«الجامع الكبير» للسيوطي‬
‫(‪.)281/20‬‬
‫‪39‬‬ ‫المجل�س النبوي‬

‫وفي مجلسه ُي ْؤتَى بصبيان المدينة‪ ،‬فيدعو لهم‪ ،‬ويحنِّكهم بتمرة يمضغها في‬
‫ويسميهم‪ ،‬و ُي َب ِّرك عليهم(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫فيه بريقه الطيب المبارك‪ ،‬ثم يضع في أفواههم منها‪،‬‬
‫المنذر إلى‬‫الساعدي ‪َ ‬أتَى بابنه ُ‬ ‫ومن ذلك‪ :‬أن أبا ُأسيد مالك بن َربِيعة َّ‬
‫خذه‪ ،‬وأبو ُأسيد جالس‪،‬‬ ‫على َف ِ‬ ‫النبي‬
‫حين ُولد‪ ،‬فوضعه ُّ‬ ‫رسول اهلل‬
‫فأمر أبو ُأسيد بابنه فاحتُمل من على َف ِ‬
‫خذ‬ ‫بشيء بين يديه‪َ َ َ ،‬‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫فشغل‬
‫فقال‪َ :‬‬
‫«أ ْي َن‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬ ‫َ (‪)2‬‬
‫‪ ،‬ور ُّدوه إلى أهله‪ ،‬فاستفاق‬ ‫رسول اهلل‬
‫ٌ‬
‫فالن‬ ‫اس ُم ُه؟»‪ .‬قال‪:‬‬ ‫«ما ْ‬ ‫رسول اهلل‪ .‬فقال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫الصبِ ُّي؟»‪ .‬فقال أبو ُأسيد‪ :‬أ ْق َل ْبناه(‪ )3‬يا‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫فسماه يومئذ‪ :‬المنذر(‪.)4‬‬ ‫«ل‪َ ،‬و َلك ْن َأ ْسمه‪ :‬ا ْل ُمنْذر»‪َّ .‬‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬قال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫َّخيل؛ حيث كان التمر فاكهة أهل المدينة‬ ‫ويؤتى في مجلسه ببواكير ثمار الن ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪،‬‬ ‫وقوتهم وغذاءهم‪ ،‬فكانوا يفرحون إذا َر َأ ْوا أول الثمرة‪ ،‬ويأتون به إلى ِّ‬
‫النبي‬
‫ار ْك َلنَا فِي‬ ‫ار ْك َلنَا فِي َم ِدينَتِنَا‪َ ،‬و َب ِ‬ ‫ارنَا‪َ ،‬و َب ِ‬ ‫ار ْك َلنَا فِي ثِ َم ِ‬ ‫فإذا أخذه قال‪« :‬ال َّل ُه َّم َب ِ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ك َو َنبِ ُّي َ‬ ‫يم َع ْبدُ َك َو َخلِي ُل َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ار ْك َلنَا في ُمدِّ نَا‪َ ،‬ب َر َك ًة َمع َب َركَة‪ ،‬ال َّل ُه َّم إِ َّن إِ ْب َراه َ‬ ‫اعنَا َو َب ِ‬‫ص ِ‬
‫َ‬
‫اك بِ ِه لِ َم َّك َة‬ ‫وك لِ ْل َم ِدين َِة بِ ِم ْث ِل َما َد َع َ‬
‫اك لِ َم َّك َة‪َ ،‬وإِنِّي َأ ْد ُع َ‬ ‫ك‪َ ،‬وإِ َّن ُه َد َع َ‬ ‫َوإِنِّي َع ْبدُ َك َو َنبِ ُّي َ‬
‫أصغر َمن يحضره من الولدان‪ ،‬فيعطيه ذلك الثمر(‪.)5‬‬ ‫َ‬ ‫َو ِم ْثلِ ِه َم َع ُه»‪ .‬ثم يدعو‬
‫والمزاح الجميل‪ ،‬ولم يكن َوقار‬ ‫ُ‬ ‫وكان في هذا المجلس فسحة لل ُّط ْر َفة‬
‫مما يحجز أصحابه عن عفوية الحياة‪،‬‬ ‫المجلس النبوي وال َمهابة مح َّياه‬
‫رجل من أهل البادية‪ ،‬فقال‪« :‬إِ َذا َد َخ َل َأ ْه ُل‬ ‫يحدِّ ث أصحابه‪ ،‬وعنده ٌ‬ ‫فها هو‬
‫يما‬ ‫ا ْلجن َِّة ا ْلجنَّ َة َقام رج ٌل َف َق َال‪ :‬يا رب‪ ،‬ائ َْذ ْن لِي فِي الزَّ رعِ‪َ ،‬ف َق َال اهلل ُ َله‪َ :‬أ َلس َ ِ‬
‫تف َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ِّ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6198 ،5467 ،5470 ،3909‬و«صحيح مسلم» (‪.)2146-2144‬‬
‫((( أي‪ :‬انتبه من شغله وفكره الذي كان فيه‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)481/3‬‬
‫((( أقلبناه‪َ :‬ر َد ْدناه‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)97/4‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6191‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2149‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)1373‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3454‬و«سنن ابن ماجه» (‪.)3329‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪40‬‬

‫ب َأ ْن َأزْ َر َع‪َ ،‬ف َأ ْس َر َع َو َب َذ َر‪َ ،‬ف َت َبا َد َر ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِشئ َ‬
‫ف َن َبا ُت ُه‬
‫ط ْر َ‬ ‫ْت؟! َف َق َال‪َ :‬ب َلى َيا َر ِّب‪َ ،‬و َلكنِّي ُأح ُّ‬
‫َك‬ ‫ال‪َ ،‬ف َق َال َل ُه َر ُّب ُه َع َّز َو َج َّل‪ُ :‬دون َ‬ ‫ج َب ِ‬ ‫استِ ْح َصا ُد ُه(‪َ )1‬و َتك ِْو ُير ُه‪َ ،‬فك َ‬
‫َان َأ ْم َث َال ا ْل ِ‬ ‫استواؤُ ُه َو ْ‬
‫و ِ‬
‫َ ْ‬
‫من حديثه قال األعرابي‪ :‬يا‬ ‫ك َش ْي ٌء!»‪ .‬فلما فرغ ُّ‬
‫النبي‬ ‫َيا ا ْب َن آ َد َم؛ فِإِ َّن ُه ال ُي ْشبِ ُع َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬واهلل ال تجده إِ َّل قرش ّي ًا أو أنصار ّي ًا؛ فإنهم أصحاب زرع‪ ،‬وأما نحن فلسنا‬ ‫َ‬
‫النبي‬ ‫(‪.)2‬‬
‫بأصحاب زرع‪ ،‬فضحك َمن في المجلس‪ ،‬وضحك ُّ‬
‫طعا ٌم وهو مع أصحابه‪ ،‬فيأكلون جميع ًا‪ ،‬كما في‬ ‫للنبي‬
‫ِّ‬ ‫وربما ُأهدي‬
‫شاةٌ‪ ،‬والطعام يومئذ قليل‪،‬‬ ‫حديث سمرة بن جندب قال‪ُ :‬أهديت للنبي‬
‫الشاةَ‪َ ،‬وا ْن ُظ ُروا إِ َلى َه َذا ا ْلخُ ْب ِز‪َ ،‬فا ْث ُر ُدوا َوا ْغ ِر ُفوا َع َل ْي ِه»‪.‬‬
‫فقال ألهله‪« :‬ا ْط ُبخوا َه ِذ ِه َّ‬
‫َق ْص َع ٌة لها أربع حلق يقال لها‪ :‬ال َغ َّرا ُء‪ .‬يحملها أربعة رجال‪ ،‬فلما‬ ‫وكانت له‬
‫ُ‬
‫رسول‬ ‫أصبحوا وسجدوا الضحى‪ُ ،‬أتي بتلك القصعة‪ ،‬فالت ُّفوا عليها‪ ،‬فلما كثروا َج َثا‬
‫الج ْل َسة؟ قال‪« :‬إِ َّن اهلل َع َّز َو َج َّل‬ ‫على ركبتيه يأكل‪ ،‬فقال أعرابي‪ :‬ما هذه ِ‬
‫ٌّ‬ ‫اهلل‬
‫َج َع َلنِي َع ْبد ًا ك َِريم ًا‪َ ،‬و َل ْم َي ْج َع ْلنِي َج َّبار ًا َعنِيد ًا‪ُ ،‬ك ُلوا ِم ْن َج َوانِبِ َها َو َد ُعوا ِذ ْر َوت ََها‪،‬‬
‫«خ ُذوا َو ُك ُلوا‪َ ،‬ف َوا َّل ِذي َن ْف ُس ُم َح َّم ٍد بِ َي ِد ِه َل ُت ْفت ََح َّن َع َل ْيك ُْم‬ ‫ُي َب َار ْك َلك ُْم فِ َيها»‪ .‬ثم قال‪ُ :‬‬
‫هلل َعزَّ َو َج َّل»(‪.)3‬‬ ‫ام َف َل ُي ْذك َُر ْ‬
‫اس ُم ا ِ‬ ‫الرو ِم َحتَّى َي ْك ُث َر ال َّ‬
‫ط َع ُ‬ ‫َأ ْر ُض َف ِ‬
‫ار َس َو ُّ‬
‫والطعام في هذا الوقت يسمى‪ :‬الغداء‪ ،‬وهو ما ُيؤكل في ال ُغدوة‪ ،‬وهي أول النهار‪،‬‬
‫وهو ما يسمى في وقتنا اإلفطار‪ ،‬والعشاء ما ُيؤكل في العشي‪ ،‬أي بعد العصر أو بعد‬
‫المغرب‪.‬‬
‫المسافرين عاد ًة‬
‫َ‬ ‫وهذا المجلس هو مجلس استقبال القادمين من الوفود؛ فإن‬
‫في هذا المجلس‪.‬‬ ‫ضحى‪ ،‬ف َي ْل َقون َّ‬
‫النبي‬ ‫ً‬ ‫يبيتون خارج المدينة‪ ،‬ثم يدخلونها‬

‫وحصد في طرفة عين‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)34/5‬‬


‫((( أي‪ :‬فنبت واستوى ُ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)10642‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)2348‬و«مسند البزار» (‪ ،)8759‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)3773‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3275 ،3263‬و«سنن البيهقي» (‪.)283/7‬‬
‫‪41‬‬ ‫المجل�س النبوي‬

‫في َصدْ ر النهار‪ ،‬فرأى‬ ‫الم َض ِر ِّيين‪ ،‬وقد َأت َْوا إلى النبي‬
‫ومن ذلك‪ :‬وفد ُ‬
‫الناس بعد صالة‬
‫َ‬ ‫خطب‬
‫َ‬ ‫وجهه َأ َلم ًا لحالهم(‪ ،)1‬ثم‬
‫ما بهم من الفقر والفاقة‪َ ،‬فت ََم َّعر ُ‬
‫َّ‬
‫وحث على الصدقة‪ ،‬حتى اجتمع عنده ك َْومان من طعام وثياب(‪.)2‬‬ ‫الظهر‪،‬‬
‫من األَ ْحساء‪ ،‬ودخلوا عليه ضحى‬ ‫ووفد َع ْبد ال َق ْيس الذين َأت َْوا إليه‬
‫«م ْر َحب ًا بِا ْل َو ْف ِد‪َ ،‬غ ْي َر َخزَ ا َيا َو َل َندَ َامى»(‪.)3‬‬
‫فرحب بهم وقال‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫جبرائيل ‪ ‬في صورة رجل‬
‫ُ‬ ‫ويغلب على الظن أنه المجلس الذي أتى فيه‬
‫أثر السفر‪ ،‬وال يعرفه أحدٌ ‪،‬‬ ‫شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد َّ‬
‫الشعر‪ ،‬ال ُيرى عليه ُ‬
‫فسأل عن اإلسالم واإليمان واإلحسان وأشراط الساعة(‪.)4‬‬
‫َ‬
‫فأناخ جمله في المسجد‪،‬‬ ‫وأنه المجلس الذي أتى فيه ِضما ُم بن َث ْعلبة ‪،‬‬
‫ُك»‪ .‬قال‪ :‬إني سائ ُلك‪،‬‬‫ابن عبد المطلب؟ قال‪َ « :‬قدْ َأ َج ْبت َ‬
‫‪َ :‬‬ ‫ثم قال للنبي‬
‫ك»‪.‬‬ ‫«س ْل َع َّما َبدَ ا َل َ‬‫علي في نفسك‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫فمشدِّ د عليك في المسألة‪ ،‬فال تجد َّ‬ ‫ُ‬
‫ول َم ْن َو َر ِائي‬ ‫ت بِ ِه‪َ ،‬و َأنَا َر ُس ُ‬
‫ْت بِ َما ِج ْئ َ‬
‫فسأله عن أركان اإلسالم‪ ،‬ثم قال‪ :‬آ َمن ُ‬
‫ِم ْن َق ْو ِمي‪َ ،‬و َأنَا ِض َما ُم ْب ُن َث ْع َل َب َة َأ ُخو َبنِي َس ْع ِد ْب ِن َبك ٍْر‪ ،‬والذي بعثك بالحق‪ ،‬ال‬
‫الر ُج ُل‪َ ،‬لئِ ْن َصدَ َق‬ ‫ِ‬
‫‪َ « :‬فق َه َّ‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫أزيدُ عليهن وال َأن ُْق ُ‬
‫ص‪ ،‬فلما و َّلى‪ ،‬قال‬
‫َل َيدْ ُخ َل َّن ا ْل َجنَّة»(‪.)5‬‬
‫وكان هذا المجلس هو مجلس شورى المسلمين فيما يقع لهم‪ ،‬وفيه كانت‬
‫الشورى ثم قرار الخروج ألُحد‪ ،‬وفيه َّ‬
‫تقرر حفر الخندق‪ ،‬ونحو ذلك مما يستجد‬

‫((( أي‪ :‬تغ َّير وجهه وبدا عليه التأ ُّلم لحالهم‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)19174‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1017‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4368 ،53‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)17‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)184‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)4777 ،50‬و«صحيح مسلم» (‪.)10-8‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2380‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)63‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)486‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪42‬‬

‫‪،‬‬ ‫في أمور حياتهم‪ ،‬ولم يكن أحدٌ أكثر مشورة ألصحابه من رسول اهلل‬
‫َۡ‬ ‫َ‬
‫المنزل عليه‪َ ﴿ :‬وشاوِ ۡر ُه ۡم ِف ٱلم ِر﴾؟ ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ۡ‬
‫َّ‬ ‫كيف ال وهو‬
‫وهذا المجلس في هذه الفترة هو المجلس الرئيسي للدعوة‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والتعلم‪،‬‬
‫والمشورة‪ ،‬فهو الثابت في وقته ومكانه‪ ،‬وما سواه من المجالس عارضة ومتنوعة‪.‬‬
‫ِ‬
‫َي ْقس ُم بِ ْش َره وإقبا َله في مجلسه بين أصحابه‪ ،‬حتى َّ‬
‫يتفرقوا عنه‪،‬‬ ‫وكان‬
‫ٌّ‬
‫وكل يظن أنه أكثرهم ُح ْظ َوة عنده(‪.)2‬‬
‫ويقصر‪ ،‬بحسب الحال‪ ،‬وبحسب ما يكون‬
‫ُ‬ ‫ويطول هذا المجلس النبوي‬
‫‪ ،‬ولم يكن يقوم من مجلسه إِ َّل‬ ‫النهار قام‬
‫ُ‬ ‫فيه من شأن‪ ،‬حتى إذا تعا َلى‬
‫وأتوب‬
‫ُ‬ ‫أستغفرك‬
‫ُ‬ ‫أنت‪،‬‬
‫اللهم ربي وبحمدك‪ ،‬أشهدُ أن ال إله إال َ‬
‫َّ‬ ‫قال‪« :‬سبحانك‬
‫ُ‬
‫فيقول‪:‬‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬إن هذا ٌ‬
‫قول ما كنا نسم ُع ُه منك فيما خال؟‬ ‫َ‬ ‫إليك»‪ .‬فقالوا‪ :‬يا‬‫َ‬
‫الم ْجلِ ِ‬
‫س»(‪.)3‬‬ ‫«هو َك َفار ُة ما يك ُ ِ‬
‫ُون في َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ‬
‫تختم بهؤالء الكلمات‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أراك‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪،‬‬ ‫وسألته عائش ُة ‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬
‫مات َطا َبع ًا‬ ‫َان َه ُؤ َل ِء ا ْلكَلِ ُ‬
‫«م ْن َق َال َخ ْير ًا ك َ‬ ‫َك وصالت َ‬
‫َك؟ فقال‪َ :‬‬ ‫مجلس َك وقراءت َ‬ ‫َ‬
‫َع َل ْيه إِ َلى َي ْو ِم ا ْل ِق َي َامة‪ ،‬ــ أي ختم ًا يختم به على ما قال من خير ــ َو َم ْن َق َال َش ّر ًا ك َُّن‬
‫َك َّف َار ًة له»(‪.)4‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4757‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1763‬و«سنن ترمذي» (‪.)1714‬‬


‫((( ينظر‪« :‬طبقات ابن سعد» (‪ ،)365/1‬و«المعرفة والتاريخ» (‪ ،)286/3‬و«الشمائل المحمدية» للترمذي‬
‫(‪ ،)319‬و«المعجم الكبير» للطبراني (‪ ،)414( )155/22‬و«دالئل النبوة» ألبي نعيم (‪ ،)565‬و«دالئل النبوة»‬
‫للبيهقي (‪ ،)290/1‬و«تاريخ دمشق» (‪ ،)350 ،346 ،341/3‬و«البداية والنهاية» (‪ .)450/8‬ويشهد له وقائع‬
‫العامة‪.‬‬ ‫حياته‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)19769‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4859‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3433‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24486‬و«سنن النسائي» (‪ ،)1268‬وغيرها‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫المجل�س النبوي‬

‫وإذا كان ذاك المجلس النبوي الذي ال يقال فيه إال خير ما يقال‪ ،‬وال يفشو فيه إال‬
‫أعف القول وأفضله وأزكاه ُيختم بكفارة المجلس‪ ،‬فإن مجالسنا التي َي ْسرب فيها لغو‬
‫القول نقوله ونسمعه‪ ،‬ينبغي أن يجعلنا أشد تعاهد ًا لتطهيرها بهذا الذكر‪ ،‬كفارة لما‬
‫كان من زلل القول في مجالسنا‪.‬‬
‫من مجلسه حتى يدعو ألصحابه بهذه الدعوات‪« :‬ال َّل ُه َّم‬ ‫وق َّلما يقوم‬
‫ك َما ُت َب ِّل ُغنَا بِ ِه‬ ‫اعتِ َ‬
‫يك‪َ ،‬وم ْن َط َ‬
‫ِ‬ ‫اص َ‬ ‫ول بينَنَا وبين مع ِ‬
‫ك َما ت َُح ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫ا ْق ِس ْم َلنَا ِم ْن َخ ْش َيتِ َ‬
‫اعنَا َو َأ ْب َص ِ‬‫ين ما تُهو ُن ع َلينَا مصائِب الدُّ ْنيا‪ ،‬ال َّلهم َأمتِعنَا بِ َأسم ِ‬ ‫ِ‬ ‫جنَّت َ ِ‬
‫ارنَا‬ ‫ُ َّ ْ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َك‪َ ،‬وم َن ا ْل َيق ِ َ َ ِّ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫اج َع ْل َث ْأ َرنَا َع َلى َم ْن َظ َل َمنَا‪َ ،‬وان ُْص ْرنَا‬ ‫و ُقوتِنَا ما َأحيي َتنَا‪ ،‬واجع ْله ا ْلو ِار َ ِ‬
‫ث منَّا(‪َ ،)1‬و ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ْ‬
‫َع َلى َم ْن َعا َدانَا‪َ ،‬و َل ت َْج َع ْل ُم ِصي َب َتنَا فِي ِدينِنَا‪َ ،‬و َل ت َْج َع ِل الدُّ ْن َيا َأ ْك َب َر َه ِّمنَا‪َ ،‬و َل َم ْب َلغَ‬
‫ِ ِ‬
‫يتفرق الصحاب ُة إلى أعمالهم أو إلى‬ ‫ع ْلمنَا‪َ ،‬و َل ت َُس ِّل ْط َع َل ْينَا َم ْن َل َي ْر َح ُمنَا» ‪ ،‬ثم َّ‬
‫(‪)2‬‬

‫بيوتهم؛ للقيلولة قبل الظهر‪.‬‬


‫إلى بيته؛ لنومة ال َق ْيلولة‪ ،‬وربما تل َّقته أسواق المدينة ماشي ًا فيها؛‬ ‫ويرجع‬
‫مجيب ًا لدعوة‪ ،‬أو قاصد ًا لزيارة‪ ،‬أو ساعي ًا في قضاء حاجة‪.‬‬

‫)‬

‫((( أي‪ :‬أبق هذه القوات صحيحة سليمة إلى الوفاة‪ .‬ينظر‪« :‬تحفة األحوذي» للمباركفوري (‪.)259/4‬‬
‫((( «جامع الترمذي» (‪ ،)3502‬و«سنن النسائي» (‪ ،)10161‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪44‬‬

‫رسم تخيلي للبيت النبوي‬


‫‪45‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫يمشي في األسواق‬

‫كانت المدينة أحياء متفرقة ما بين عاليتها‪ ،‬ك ُق ٍ‬


‫باء وبني سالم بن عوف‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫وسافلتها؛ كبني َس ِلمة وبني حارثة‪ ،‬وكل حي هو تجمع عشائري لقوم من‬
‫األنصار؛ فهنا بنو زريق‪ ،‬وهناك بنو ظفر‪ ،‬وبنو ساعدة‪ ،‬وبنو النجار‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫والبيوت مختلطة بالحوائط والنخيل والبساتين‪ ،‬والطرق هي ما بين الدور في‬
‫الحي‪ ،‬وما بين األحياء في المدينة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يسير في هذه الطرق في زياراته الكثيرة ألحياء المدينة وعشائرها‪،‬‬ ‫وكان‬
‫ولذلك انتشرت مساجده وأماكن صالته في أنحاء المدينة حيث يصلي عند من‬
‫يزورهم في مساجدهم‪.‬‬
‫ت‬‫اس ِم اهللِ‪ ،‬ت ََو َّك ْل ُ‬‫إذا خرج من بيته رفع َط ْرفه إلى السماء‪ ،‬وقال‪« :‬بِ ْ‬ ‫وكان‬
‫َع َلى اهللِ‪ ،‬ال َّل ُه َّم إني أعو ُذ بك َأ ْن َأ ِض َّل أو ُأ َض َّل‪ ،‬أو َأ ِز َّل أو ُأزَ َّل‪ ،‬أو َأ ْظلِ َم َأو ُأ ْظ َل َم‪،‬‬
‫أو َأ ْج َه َل أو ُي ْج َه َل َع َل َّي»(‪.)1‬‬
‫وكان يسير راكب ًا وماشي ًا‪ ،‬ولعل غالب المشي في الشتاء‪ ،‬وغالب الركوب في‬
‫الصيف؛ ألن تراب المدينة في الصيف رمضا ُء الهب ٌة‪ ،‬وحجارتها ٌ‬
‫جمر متّقدٌ ‪.‬‬
‫متواضع ًا في مركبه‪ ،‬ومن تواضعه ركوبه في الطريق على حمار‪،‬‬ ‫وكان‬
‫وأحيان ًا ُي ْر ِدف عليه بعض أصحابه معه(‪.)2‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)26616‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5094‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3427‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1513‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1282‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪46‬‬

‫ومن مركوبه في الطرق حماره ُع َف ْير(‪ ،)1‬وبغلته ُد ْلدُ ُل(‪ ،)2‬وناقته ال َق ْص َواء(‪.)3‬‬
‫وأما المسافات القريبة فيقطعها ماشي ًا كالسير بين الدور أو األنحاء المتقاربة‪.‬‬
‫المدينة اتخذ مسجده الذي بوأه اهلل مكانه‪ ،‬فكان المسجد‬ ‫ولما نزل النبي‬
‫في منازل بني النجار‪ ،‬وهي المنطقة الوسطى بين نواحي المدينة‪ ،‬فالمسجد هو‬
‫المنطقة المركزية‪ ،‬وبقية األحياء تحيط به شرق ًا وغرب ًا‪ ،‬وشماالً وجنوب ًا‪.‬‬
‫إذا مشى في الطريق مشى بقوة وعزم‪ ،‬بعيد ًا عن التَّوا ُقر المتك َّلف‬ ‫وكان‬
‫الذي يتصنَّعه المتعاظمون؛ فينزع رجليه في َخ ْط ِوه كأنما َي َت َق َّلع عن األرض‪،‬‬
‫بعاجز وال كسالن‪ ،‬وإذا‬ ‫ٍ‬ ‫و َي َت َك َّفأ(‪ )4‬كأنما َين َْح ِد ُر من ُع ُل ٍّو‪ ،‬يعرف َمن يراه أنه ليس‬
‫التفت جميع ًا‪ ،‬وكان إذا مشى معه أصحابه َم َش ْوا أمامه وحوله‪ ،‬وتركوا‬ ‫َ‬ ‫التفت‬
‫َ‬
‫ظهره للمالئكة‪ ،‬ولم يكونوا يتبعونه ِمن خلفه‪ ،‬ولم يطأ َع ِق َبه رجالن(‪.)5‬‬
‫َأ َّل يتقدَّ م أصحا َبه ويدعهم يتَّبعونه من خلفه كما يفعل‬ ‫وهذا من تواضعه‬
‫الجبابرة‪ ،‬وال يرضى ألصحابه مظاهر ُّ‬
‫الذل أو االستصغار‪ ،‬بل يمشي فيهم وبينهم‪.‬‬
‫وكان إذا مشى يتوكَّأ على عصا من َس َلم أو َع ِسيب نخل‪ ،‬وربما جعل في‬
‫يده ُعرجون ًا أو ِم ْح َجن ًا(‪ ،)6‬وكانت هذه عادة العرب؛ إذ كثير ًا ما يعرض لهم ما‬
‫يحتاجونها له(‪.)7‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2856‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)30‬وغيرها‪..‬‬


‫((( «التاريخ الكبير» للبخاري (‪.)149/5‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2731‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1218‬وغيرها‪..‬‬
‫((( يتك ّفأ‪ :‬يرفع القدم من األرض‪ ،‬ثم يضعها‪ ،‬وال يمسح قدمه عىل األرض كميش املتبخرت‪ .‬ينظر‪« :‬عون املعبود» (‪.)55/1‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)14556 ،14236 ،8604 ،3033 ،1053 ،684‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2330‬و«سنن أبي‬
‫داود» (‪ ،)4863‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3648 ،1754‬وغيرها‪.‬‬
‫يه َشماريخ ِ‬
‫الع ْذق‪ .‬والمحجن هي العصا المنشعبة في أعالها بحيث يكون‬ ‫((( العرجون هو العود األصفر ا َّل ِذي فِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫رأسها ملتقى غصنين‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)203/3‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)125‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2794‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3141‬وغيرها‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫يم�شي في الأ�سواق‬

‫بن عبد اهلل ‪ :‬ما لقيني‬


‫جرير ُ‬
‫ُ‬ ‫لكل َمن يلقاه في طريقه‪ ،‬قال‬ ‫يتبسم ِّ‬
‫وكان َّ‬
‫تبسم في وجهي(‪.)1‬‬ ‫إِ َّل َّ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫بالو ِّد واالختصاص؛ حتى‬ ‫ِ‬
‫المرحبة‪ ،‬التي تُشعر ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ما أروع هذه االبتسامة المش َّعة‬
‫إنما يفعل ذلك معه وله؛ فوقعت من نفسه هذا الموقع‪،‬‬ ‫جرير ‪ ‬أنه‬
‫ٌ‬ ‫ظن‬
‫َّ‬
‫يفعل ذلك مع الناس كلهم‪ ،‬كما قال عبد اهلل بن الحارث بن َج ْزء‬ ‫مع أنه‬
‫أكثر َت َب ُّسم ًا من رسول اهلل‬
‫(‪.)2‬‬ ‫رأيت أحد ًا كان َ‬
‫ُ‬ ‫‪ :‬ما‬
‫سمر َة ‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫مر بصبيان س َّلم عليهم‪ ،‬ومسح على وجوههم‪ ،‬قال جابر بن ُ‬ ‫وكان إذا َّ‬
‫يمسح َخدَّ ْي أحدهم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فجعل‬ ‫وخرجت معه‪ ،‬فاستقبله ِولدَ ٌ‬
‫ان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫النبي‬
‫خرج ُّ‬
‫فوجدت ليده برد ًا وريح ًا‪ ،‬كأنما أخرجها من‬
‫ُ‬ ‫فمسح َخدِّ ي‪،‬‬
‫َ‬ ‫واحد ًا واحد ًا‪ ،‬وأما أنا‬
‫ِ‬
‫أحسن من الخدِّ اآلخر(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫ُج ْؤنَة ع َّطار ‪ ،‬فكان الخدُّ الذي مسحه ُّ‬
‫النبي‬ ‫(‪)3‬‬

‫َ‬
‫ورون‬ ‫األنصار‪ ،‬فإذا جاء إلى ُدور األنصار جاءه صبيان األنصار‪ ،‬فيدُ‬
‫َ‬ ‫يزور‬
‫وكان ُ‬
‫رؤوسهم‪ ،‬ويس ِّل ُم عليهم(‪.)5‬‬
‫َ‬ ‫ويمسح‬
‫ُ‬ ‫حوله‪ ،‬فيدعو لهم‪،‬‬
‫ومر مر ًة بدُ ور بني الن ََّّجار‪ ،‬فتل َّقاه جواري األنصار‪ ،‬وجعلن يضربن بالدُّ فوف‬
‫َّ‬
‫ويتغنَّين و َي ُق ْل َن‪:‬‬
‫ِ‬
‫جــار‬ ‫يــا ح َّبــذا محمــدٌ مــن‬ ‫ــوار مــن بنــي الن ََّّج ِ‬
‫ــار‬ ‫نحــن َج ٍ‬

‫ار ْك فِ ِ‬
‫يه َّن»(‪.)6‬‬ ‫‪« :‬اهللُ يع َلم َأ َّن َق ْلبِي ي ِ‬
‫ح ُّبك َُّن‪ ،‬ال ّل ُه َّم َب ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫فقال‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3035‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2475‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)159‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)17713 ،17704‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3641‬وغيرها‪.‬‬
‫((( جؤنة العطار‪ :‬سلة صغيرة يحفظ فيها الطيب‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)478/15‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6247‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2329 ،2168‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند البزار» (‪ ،)6872‬و«شرح مشكل اآلثار» (‪ ،)1577‬و«اآلداب» للبيهقي (‪.)470‬‬
‫((( «سنن ابن ماجه» (‪ ،)1899‬و«مسند البزار» (‪ ،)7334‬و«دالئل النبوة» للبيهقي (‪ ،)508/2‬و«البداية والنهاية»‬
‫(‪ ،)494/٤‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪48‬‬

‫س‪َ ،‬ف َقا َم نَبِ ُّي اهللِ‬ ‫َر َأى ِص ْب َيان ًا َونِ َسا ًء ُم ْقبِ ِلي َن ِم ْن ُع ْر ٍ‬ ‫َس‪َ ،‬أ َّن النَّبِ َّي‬
‫و َع ْن َأن ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُم ْمثِ ً‬
‫ب‬ ‫َّاس إِ َل َّي‪ ،‬ال ّل ُه َّم َأ ْنت ُْم م ْن َأ َح ِّ‬ ‫ب الن ِ‬ ‫ال(‪َ ،)1‬ف َق َال‪« :‬ال َّل ُه َّم َأ ْنت ُْم م ْن َأ َح ِّ‬
‫َّاس إِ َل َّي»‪َ .‬ي ْعنِي ْالَن َْص َار(‪.)2‬‬ ‫الن ِ‬
‫‪،‬‬ ‫ول اهللِ‬ ‫ار إِ َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ت ا ْم َر َأ ٌة ِم َن ْالَن َْص ِ‬ ‫وعن َأنَس بن مالِ ٍك‪ ،‬قال‪ :‬جاء ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس إِ َل َّي»‬‫ب الن ِ‬ ‫«وا َّلذي َن ْفسي بِ َيده إِ َّنك ُْم َلَ َح ُّ‬ ‫‪َ ،‬و َق َال‪َ :‬‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َف َخ َل بِ َها َر ُس ُ‬
‫ث مر ٍ‬
‫ات(‪.)3‬‬ ‫َث َل َ َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َع ْن َجابِ ٍر‪َ ،‬ق َال‪َ :‬أتَى َر ُس ُ‬
‫اجت ََم َع‬ ‫ور ُه ْم‪َ ،‬ف َل َّما َر َج َع ْ‬ ‫َبني َسل َم َة َي ُز ُ‬ ‫ول اهللِ‬
‫ون إِ َل ْي ِه َو َي ْت َب ُعو َن ُه‪َ ،‬فا ْل َت َف َت إِ َل ْي ِه ْم‬
‫ان ِم ْن ِص ْب َيانِ ِه ْم‪َ ،‬ونِ َسا ٌء ِم ْن نِ َس ِائ ِه ْم‪َ ،‬ينْ ُظ ُر َ‬ ‫ِص ْب َي ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس إِ َل َّي»(‪.)4‬‬ ‫ب الن ِ‬ ‫«أ َما َواهللِ َلئ ْن َأ ْح َب ْبت ُُموني إِ َّنك ُْم َلَ َح ُّ‬ ‫َف َق َال‪َ :‬‬
‫بالسالم(‪.)6‬‬ ‫ومر في المسجد يوم ًا‪ ،‬وعصب ٌة من النساء ُقعو ٌد‪َ ،‬فأ ْل َوى بيده إليه َّن َّ‬ ‫َّ‬
‫(‪)5‬‬

‫َ‬
‫الرجل من أصحابه بدأه بالسالم وصافحه ودعا له‪ ،‬وكان إذا‬ ‫وكان إذا لقي‬
‫َ‬
‫الرجل‬ ‫ينزع‪ ،‬وإذا لقي‬ ‫صافح أحد ًا ال ُ‬
‫ينزع يده من يده‪ ،‬حتى يكون هو الذي ُ‬
‫ُ‬
‫الرجل هو الذي يصرفه(‪.)7‬‬ ‫فك َّلمه‪ ،‬لم يصرف وجهه‪ ،‬حتى يكون‬
‫لمن يستوقفه في الطريق‪ ،‬وربما استوقفته الجاري ُة والمرأةُ‪ ،‬فيقف‬
‫وكان يقف َ‬
‫ِ‬
‫‪ ،‬فقال‪ :‬بينا أنا‬ ‫لها؛ حدَّ ث َعد ُّي بن َحاتم الطائي ‪ ‬عن أول ُلقياه َّ‬
‫النبي‬
‫فخ َل ْوا به‬ ‫إن َلنا َ‬
‫إليك حاج ًة‪َ .‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪َّ ،‬‬ ‫أمشي معه‪ ،‬إذ نادت ُه امرأ ٌة َوغال ٌم معها‪ :‬يا‬

‫((( َأ ْي ُمنْت َِصب ًا َق ِائم ًا‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)295/4‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2509 ،2508‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6645‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2509‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «جامع معمر بن راشد» (‪.)19916‬‬
‫((( أي‪ :‬أشار‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)14/11‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)27589‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5204‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2697‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)4794‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2490‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3716‬وغيرها‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫يم�شي في الأ�سواق‬

‫قلت في نفسي‪ :‬أشهدُ أنك َب ِري ٌء‬ ‫قائم ًا معهما حتى َأ َو ْي ُت له(‪ )1‬من طول القيام‪ُ ،‬‬
‫من ديني ودين النعمان بن المنذر(‪ ،)2‬وأنك لو َ ِ‬
‫صبي وامرأة‬ ‫كنت َملك ًا لم َي ُق ْم معه ٌّ‬
‫هلل في قلبي له ُح ّب ًا(‪.)3‬‬
‫فا ُ‬ ‫َ‬
‫طول ما أرى‪َ ،‬ف َق َذ َ‬
‫‪ ،‬فتذهب به حيث‬ ‫وكانت الجاري ُة من خدم المدينة‪ ،‬تلقاه فتأخذ بيده‬
‫شاءت من المدينة في حاجتها‪ ،‬فيدور معها في حوائجها‪ ،‬وال ينزع يده من يدها‬
‫حتى ترجع(‪.)4‬‬
‫مرة في طريقه‬ ‫مر َّ‬ ‫وكان يمشي بعفوية وتد ُّفق‪ ،‬وقرب ممن يمر بهم‪ ،‬فقد َّ‬
‫ك؛‬‫الس ْل َخ‪ ،‬فحا َد إليه‪ ،‬فقال له‪َ « :‬تن ََّح َحتَّى ُأ ِر َي َ‬
‫بشاب َي ْس ُل ُخ شاةً‪ ،‬ولم يكن ُيحس ُن َّ‬
‫اك ت ُْح ِس ُن ت َْس َل ُخ»‪ .‬فأدخل يده بين الجلد وال َّلحم‪ ،‬فدَ َح َس بها(‪)5‬حتى‬ ‫َفإِنِّي َل َأ َر َ‬
‫اس َلخ»‪ .‬ثم انط َلق(‪.)6‬‬ ‫«هكَذا َيا ُغال ُم َف ْ‬
‫‪َ :‬‬ ‫توارت إلى ِ‬
‫اإل ْبط‪ ،‬ثم قال‬
‫يقيم جسور التواصل بين األجيال‪ ،‬وذلك باالندماج معهم‬ ‫وبذلك كان‬
‫في أحوالهم‪ ،‬وحضوره في تفاصيل حياتهم‪.‬‬
‫ينغمس معه في‬ ‫وليت شعري! ما شعور هذا الشاب وهو يرى نبيه‬
‫شيء من شأنه الخاص ويعينه عليه؟!‬
‫بالل ‪ ‬يؤذنه بالصالة‪،‬‬ ‫وكان مر ًة مع أصحابه في بيت رجل منهم‪ ،‬فأتاه ٌ‬
‫ت‬ ‫فمر في طريقه برجل قد وضع ُب ْر َمتَه(‪)7‬على النار‪ ،‬فقال له‪َ :‬‬
‫«أ َطا َب ْ‬ ‫فخرج َّ‬
‫رح ْمتُه‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)53/14‬‬ ‫((( أويت له‪ِ :‬‬

‫الح ْي َرة‪ ،‬كان على النصرانية‪ ،‬ثم قتله ِك ْس َرى‪ .‬ينظر‪« :‬المعارف» البن ُقتيبة (ص ‪،)293‬‬
‫((( هو‪ :‬النعمان بن المنذر‪ ،‬ملك ِ‬

‫و«الفتح» (‪.)613/6‬‬
‫((( ينظر‪« :‬األحاديث الطوال» للطبراني (‪.)1‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13256 ،12780‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)4177‬و«مسند البزار» (‪ ،)7437‬وغيرها‪.‬‬
‫ودسها‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)104/2‬‬
‫((( أي‪ :‬أدخلها َّ‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)185‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3179‬و«صحيح ابن حبان» (‪ ،)1163‬وغيرها‪.‬‬
‫((( البرمة‪ِ :‬‬
‫القدْ ر من الحجارة أو الفخار‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)121/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪50‬‬

‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فتناول منها َب ْض َع ًة‪ ،‬فجعل‬ ‫ُب ْر َمتُك؟»‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬بأبي أنت وأمي يا‬
‫يسير‪ ،‬حتى َأ ْح َر َم بالصالة(‪.)2‬‬
‫َي ْع ُلكُها وهو ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫إنها بساطة الحياة‪ ،‬يعيشها مع أصحابه؛ فهو يتناول َب ْضع ًة يسير ًة ويظل‬
‫يمضغها وهو يسير‪ ،‬ما أبعد ذلك عن سنن المتك ِّبرين والج َّبارين‪.‬‬
‫أما صاحب ال ُب ْرمة؛ فكأني به يومه ذلك يحدِّ ث ويتحدَّ ث عن طلب النبي‬
‫ِ‬
‫الموقف وسام العمر له‪.‬‬ ‫َب ْضع ًة من طعامه‪ ،‬ثم أكلها أمامه‪ ،‬حتى لكأن‬
‫يصل إليه بهذه اللفتات َّ‬
‫األخاذة؟!‬ ‫أي عمق في حياة الناس كان‬ ‫ُّ‬
‫وكان تعليمه ودعوته مبثوثة في طرقات سيره إذا القت مناسبتها‪ ،‬وتكون وجيزة‬
‫محدَّ دة تليق بحال عبور الطريق‪ ،‬ومن ذلك ما رواه أبو َط ْل َح َة ‪َ ‬ق َال‪ُ :‬كنَّا ُق ُعود ًا‬
‫س‬ ‫«ما َلك ُْم َولِ َم َجالِ ِ‬‫َف َقا َم َع َل ْينَا‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬‬ ‫ول اهللِ‬ ‫ث‪ ،‬ف َ َجاءَ َر ُس ُ‬ ‫بِ ْالَ ْفنِ َي ِة َنت ََحدَّ ُ‬
‫ول اهللِ َما َلنَا ِم ْن َم َجالِ ِسنَا‬
‫ات»‪َ .‬ف ُق ْلنَا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ات؟ اجتَنِبوا مجالِس الصعدَ ِ‬ ‫الصعدَ ِ‬
‫ْ ُ َ َ َ ُّ ُ‬ ‫ُّ ُ‬
‫ث‪ ،‬إِنَّا َن ْغتَم فِي ا ْلبي ِ‬
‫وت‪َ ،‬فنَ ْب ُر ُز‬ ‫ُبدٌّ ‪َ ،‬وإِن ََّما َق َعدْ نَا لِ َغ ْي ِر َما َب ٍ‬
‫أس‪َ ،‬ق َعدْ نَا َنت ََذاك َُر َو َنت ََحدَّ ُ‬
‫ُُ‬ ‫ُّ‬
‫ث‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬فإِ َذا َأ َب ْيت ُْم إِ َّل ا ْل َم ْجلِ َس‪َ ،‬ف َأ ْع ُطوا ال َّط ِر َيق َح َّق ُه»‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬و َما َح ُّق‬ ‫َفنَت ََحدَّ ُ‬
‫الس َلمِ‪َ ،‬و ُح ْس ُن ا ْلك ََلمِ‪،‬‬ ‫َف ْالَ َذى‪َ ،‬و َر ُّد َّ‬
‫ول اهللِ؟ َق َال‪َ « :‬غ ُّض ا ْل َب َص ِر َوك ُّ‬ ‫ال َّط ِر ِيق َيا َر ُس َ‬
‫وف»(‪.)3‬‬ ‫يل‪َ ،‬وت ُِغي ُثوا ا ْل َم ْل ُه َ‬ ‫ِ‬
‫َو ْالَ ْم ُر بِا ْل َم ْع ُروف‪َ ،‬والن َّْه ُي َع ْن ا ْل ُم ْنك َِر‪َ ،‬وإِ ْر َشا ُد َّ‬
‫السبِ ِ‬
‫وانظر إلى فقه الصحابة في تلقي النهي النبوي حيث فقهوا أنه نهي إرشاد‬
‫وليس نهي تحريم‪ ،‬وأن النهي عن الجلوس ليس مقصود ًا لذاته وإنما لغيره‪،‬‬
‫حتى يستبينوا منه ما عليهم مراعاته‪ ،‬فأرشدهم إلى آداب‬ ‫فراجعوا النبي‬
‫الجلوس في الطرقات والتي سماها لهم‪ :‬حق الطريق‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬يمضغها‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)290/3‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ -17702‬والتعليق عليه»‪ ،‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)193‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)16367‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2161‬و«سنن النسائي» (‪ ،)11298‬و«الفتح» (‪.)113/5‬‬
‫‪51‬‬ ‫يم�شي في الأ�سواق‬

‫وأتى مرة من بعض نواحي المدينة فاختار أن يكون طريقه على السوق‪ ،‬فلما‬
‫‪ ،‬فصاروا‬ ‫كل ما في يده وجاؤوا يتل َّقون النبي‬ ‫ال ترك ٌ‬ ‫رآه أهل السوق مقب ً‬
‫وشوق ًا‬ ‫يعبر من بينهما‪ ،‬إجالالً له‬ ‫في السوق ِسما َط ْين(‪ )1‬والنبي‬
‫أسك(‪ )2‬ميت‪ ،‬ف ُيمسكه بأذنه‬ ‫تيس ّ‬ ‫يتوجه إلى ٍ‬ ‫َّ‬ ‫إلى رؤيته ولقياه‪ ،‬وإذا بالنبي‬
‫الصغيرة‪ ،‬ثم يرفعه في السوق ويبدأ مزاد ًا على هذا التيس الميت‪ ،‬فيقول‪َ :‬‬
‫«أ ُّيك ُْم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تجار؛ كيف ُيقيم مزاد ًا على‬ ‫فتعجب أهل السوق وهم َّ‬ ‫ب َأ َّن َه َذا َل ُه بِد ْر َهمٍ؟»‪َّ .‬‬ ‫ُيح ُّ‬
‫تيس م ِّيت قد هان على أهله حتى تركوه؟! فقالوا‪ :‬يا رسول اهللِ‪َ ،‬واهللِ َل ْو ك َ‬
‫َان َح ّي ًا‬
‫ُيلقيه من يده ويقول‬ ‫ف َو ُه َو َم ِّي ٌت؟! وإذا بالنبي‬‫َان َع ْيب ًا فِ ِيه ألَ َّن ُه َأ َس ُّك َف َك ْي َ‬‫ك َ‬
‫لهم‪َ « :‬ف َواهللِ َللدُّ ْن َيا َأ ْه َو ُن َع َلى اهللِ ِم ْن َه َذا َع َل ْيك ُْم»(‪ )3‬وألقاه ومضى‪.‬‬
‫‪ :‬إن هذه الدنيا ه ِّينة‪ ،‬إنها أهون على اهلل من هذا التيس‬ ‫وكأنما يقول لهم‬
‫ملقى وال أحد منكم رغب فيه من‬ ‫ً‬ ‫الذي ألقيته وألقاه قبلي أهله‪ ،‬وأنتم ترونه‬
‫هوانه عليكم‪« ،‬ف َ َواهللِ َللدُّ ْن َيا َأ ْه َو ُن َع َلى اهللِ ِم ْن َه َذا َع َل ْيك ُْم»‪ .‬وإذا كانت الدنيا كلها‬
‫بهذا الهوان عند اهلل‪ ،‬فهل تستحق سلع ٌة تبيعها أو بضاع ٌة تُن ِّفقها أن تحلف عليها يمين ًا‬
‫كاذبة؟! أو تكسب بها كسب ًا حرام ًا؟! فانظر بالغة الموعظة ومناسبتها للسوق‪.‬‬

‫)‬

‫((( أي‪ :‬صفين متقابلين‪.‬‬


‫((( األسك‪ :‬هو صغير األذن‪ ،‬ويعتبر عيب ًا في خلقته‪ .‬ينظر‪« :‬غريب الحديث» للخطابي (‪.)351/2‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)14930‬و«صحيح مسلم» (‪.)2957‬‬
‫‪53‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫الزيارات النبوية‬

‫في بعض َض َحوات األيام لزيارة َمن يرغب زيارتَه من‬ ‫النبي‬
‫ويذهب ُّ‬
‫قرابته أو أصحابه‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬ذهابه إلى بيت ابنته فاطمة؛ ليلقى ابنه الحس َن بن علي عليهم‬
‫يوم ًا في طائفة من النهار‪،‬‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫السالم‪ ،‬يقول أبو هريرة ‪ :‬خرج‬
‫فانطلقت معه‪ ،‬متَّكئ ًا على َي ِدي‪ ،‬ال يك ِّلمني‬
‫ُ‬ ‫فوجدني في المسجد‪ ،‬فأخذ بيدي‪،‬‬
‫وانصرفت‬
‫ُ‬ ‫وال أك ِّلمه‪ ،‬حتى جئنا سوق بني َق ْينُقاع‪ ،‬فطاف فيه ونظر‪ ،‬ثم انصرف‬
‫«أ ْي َن ُلك َُع(‪َ ،)1‬أ ْي َن‬
‫معه‪ ،‬فجاء إلى فناء بيت فاطمة فجلس‪ ،‬فنادى الحس َن فقال‪َ :‬‬
‫الح َس َن ْب َن َعلِ ّي»‪ .‬فلم يجبه أحدٌ ‪ ،‬فحبسته فاطمة شيئ ًا‪ ،‬فظننا‬
‫ُلك َُع؟ َأ ْي َن ُلك َُع؟ ا ْد ُع َ‬
‫وانصرفت معه‪ ،‬حتى جئنا المسجدَ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تغسله وتلبسه ِسخاب ًا(‪ ،)2‬فانصرف‬ ‫أنها ِّ‬
‫َاع؟ ا ْد ُع لِي َلكَاع ًا»‪ .‬فلم يلبث أن جاء الحس ُن‬ ‫فجلس فاحتبى‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫«أ ْي َن َلك ٌ‬
‫بيده هكذا‪ ،‬ومدَّ ها‪ ،‬فقال الحس ُن‬ ‫النبي‬
‫السخاب‪ ،‬فقال ُّ‬‫يشتدُّ وفي عنقه ِّ‬
‫كل واحد منهما‬ ‫بيده هكذا‪ ،‬حتى وثب في َحبوته‪ ،‬فوقع في ِحجره‪ ،‬فاعتنق ُّ‬
‫‪ ،‬ثم‬ ‫وضم ُه إلى صدره‪ ،‬وأدخل الحس ُن يده في لحية النبي‬ ‫َّ‬ ‫صاحبه‪ ،‬وق َّبله‬
‫يفتح فاه‪ ،‬فوضع فمه على فمه‪ ،‬وقال‪« :‬ال ّل ُه َّم إِنِّي ُأ ِح ُّب ُه‪َ ،‬ف َأ ِح َّب ُه‪،‬‬ ‫النبي‬
‫جعل ُّ‬
‫ٍ‬
‫مرات‪.‬‬ ‫َ‬
‫ثالث‬ ‫و َأحبِب من ي ِ‬
‫ح ُّبه»‪.‬‬ ‫َ ْ ْ َ ْ ُ‬
‫((( لكع‪ :‬الصغير‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)341/4‬‬
‫السخاب‪ :‬قالدة تُتخذ من الخرز ومن أنواع من الطيب‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)130/1‬‬
‫((( ِّ‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪54‬‬

‫قط إِ َّل‬
‫رأيت حسن ًا ُّ‬
‫ُ‬ ‫فكان أبو هرير َة ‪ ‬يتذكَّر هذا المشهد‪ ،‬ويقول‪ :‬ما‬
‫فاضت عيناي دموع ًا(‪.)1‬‬
‫وذهب ذات مرة إلى بيت فاطم َة ‪ ‬في قائلة النهار‪ ،‬فسألها عن زوجها ٍّ‬
‫علي‬
‫ك؟»‪ .‬فقالت‪ :‬كان بيني وبينه شيء‪ ،‬فخرج‪ ،‬فلم َي ِق ْل‬ ‫«أين ابن عم ِ‬
‫‪ ،‬قائالً‪ِّ َ ُ ْ َ ْ َ :‬‬
‫إلنسان‪« :‬ا ْن ُظ ْر َأ ْي َن ُهو؟»‪ .‬فجاء فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬ ‫عندي‪ .‬فقال رسول اهلل‬
‫رداؤه عن‬ ‫هو في المسجد راقد‪َ ،‬فأتَى إليه وهو مضطجع في المسجد‪ ،‬وقد سقط ُ‬
‫يمسح عنه التراب‪ ،‬ويقول‪ُ « :‬ق ْم‬ ‫جنبه‪ ،‬و َع ِل َق به التراب‪ ،‬فجعل رسول اهلل‬
‫َأ َبا الت َُّراب‪ُ ،‬ق ْم َأ َبا الت َُّراب»(‪.)2‬‬
‫وه َّن في بيت الزوجية‪ ،‬وكان النبي‬
‫وهذا من التعاهد النبوي لبناته حتى ُ‬
‫يفعل مع بنته فاطمة وزوجها علي ما ال يفعله مع أزواج بناته اآلخرين كعثمان بن‬
‫فهو كاالبن‬ ‫الربيع‪ ،‬وذلك أن عل ّي ًا نشأ ربيب النبي‬
‫عفان وأبي العاص بن َّ‬
‫له ال يحتشم منه أو إليه‪.‬‬
‫وكان يذهب إلى أم أيمن ‪ ،‬والتي كانت حاضنته في طفولته‪ ،‬فيتعاهدها‬
‫فقربت إليه طعام ًا أو شراب ًا‪ ،‬فإما كان صائم ًا‪ ،‬وإما‬
‫بالزيارة‪ ،‬فذهب إليها مرةً‪َّ ،‬‬
‫تخاصمه وت َْص َخب‬ ‫كان ال يريده‪ ،‬فر َّده ولم يأكل‪ ،‬فأقبلت على رسول اهلل‬
‫وتتذ َّمر عليه َأ َّل يكون َأك ََل(‪.)3‬‬
‫‪ ،‬فهي تتذ َّمر‬ ‫وهذه الجرأة من أ ِّم أيمن ‪ ‬لسابق حضانتها لرسول اهلل‬
‫عليه لشدِّ ة ح ِّبها له‪ ،‬كما تفعل األ ُّم مع ولدها‪ ،‬فص َّلى اهلل ُ على النبي الكريم الذي‬
‫كان يتل َّقى ذلك بكريم الحفاوة ُ‬
‫وحسن التعاهد‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)10891‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5884‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2421‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3703 ،441‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2409‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2453‬‬
‫‪55‬‬ ‫الزيارات النبوية‬

‫وكان يأتي ضعفاء المسلمين‪ ،‬ويزورهم‪ ،‬ويعو ُد مرضاهم‪ ،‬ويجيب دعوتهم‬


‫ِ‬ ‫على المتيسر وإن َق َّل‪ ،‬ويقول‪َ ‌« :‬ل ْو ‌ ُد ِع ُ‬
‫يت ‌إِ َلى ‌ك َُرا ٍع(‪َ )1‬لَ َج ْب ُ‬
‫ت‪َ ،‬و َل ْو ُأ ْهد َ‬
‫ي إِ َل َّي‬
‫اع َل َقبِ ْل ُ‬
‫ت»(‪.)2‬‬ ‫ك َُر ٌ‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬إجابته دعوة ُم َليكة جدَّ ة أنس بن مالك ‪‬؛ فقد دعت‬
‫وموا َف ُأ َص ِّلي َلك ُْم»‪ .‬قال أنس‪ :‬فقمت‬‫لطعام صنعته‪ ،‬فأكل منه‪ ،‬ثم قال‪ُ « :‬ق ُ‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫اسو َّد من ُطول استخدامه‪ ،‬فنضحتُه بماء‪ ،‬فقام عليه‬ ‫ِ‬
‫إلى َحصير لنا قد ْ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫والعجوز من ورائنا‪ ،‬فص َّلى لنا‬
‫ُ‬ ‫وصففت أنا واليتيم وراءه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬
‫ركعتين‪ ،‬ثم انصرف(‪.)3‬‬
‫فذهبت مع رسول‬ ‫ُ‬ ‫اط من الموالي لطعام صنعه‪ ،‬قال أنس‪:‬‬ ‫ودعاه مر ًة خ َّي ٌ‬
‫خبز ًا من َش ِعير و َم َرق ًا‬ ‫فقر َب إلى رسول اهلل‬ ‫إلى ذلك الطعام‪َّ ،‬‬ ‫اهلل‬
‫يأكل من‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فيه ُد َّبا ٌء و َق ِديدٌ (‪ )4‬وأقبل على عمله‪ ،‬قال‪ :‬فجعل‬
‫رأيت ذلك‬ ‫ُ‬ ‫الص ْح َفة‪ ،‬فلما‬
‫ذلك الدُّ َّباء ويعجبه‪ ،‬ورأيته يتت َّبع الدُّ َّباء من حول َ‬
‫أحب‬‫ُّ‬ ‫جعلت ُأ ْل ِقيه إليه وال أط َع ُمه‪ ،‬فجعلت أجمع الدباء بين يديه فلم أزل‬ ‫ُ‬
‫الدُّ َّبا َء من يومئذ(‪.)5‬‬
‫ودعاه يهودي فقدم له خبز شعير وإهالة سنخة(‪.)6‬‬
‫(‪.)7‬‬ ‫وزار سعد بن عبادة فجاءه بخبز وزيت فأكل‬

‫((( الكراع من الدابة‪ :‬ما دون الكعب‪ ،‬وهو ال قيمة له‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)236/5‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5178‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)1338‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)380‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)658‬وغيرها‪.‬‬
‫((( الدباء‪ :‬هو ال َق ْرع‪ .‬وال َق ِديد‪ :‬هو لحم مج َّفف‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5435 ،5420 ،2092‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2041‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ .)2069‬وإهالة سنخة‪ :‬دهن الشحم الذي تغيرت رائحته‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)134/1‬‬
‫((( «مصنف عبد الرزاق» (‪ ،)7907‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)3854‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪56‬‬

‫رسول اهلل‪ ،‬قد َأ ْنك َْر ُت‬


‫َ‬ ‫ودعاه ِع ُ‬
‫تبان بن مالك ليص ِّلي له في بيته‪ ،‬وقال‪ :‬يا‬
‫بصري‪ ،‬وأنا أص ِّلي لقومي‪ ،‬فإذا كانت األمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم‪،‬‬
‫رسول اهلل أنك تأتيني‬ ‫َ‬ ‫ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأص ِّلي بهم‪ِ ،‬‬
‫ووددت يا‬
‫اء اهلل»‪.‬‬‫«س َأ ْف َع ُل إِ ْن َش َ‬
‫‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فتص ِّلي في بيتي‪ ،‬فأتَّخذه مص ّل ًى‪ .‬فقال له‬
‫ضحى‪ ،‬ومعه أبو بكر وعمر وبعض أصحابه‪ ،‬فقال له‪َ :‬‬
‫«أ ْي َن‬ ‫ً‬ ‫فأتى إليه من الغد‬
‫ورش‬ ‫ك؟»‪َ .‬فأ َراه ناحية في بيته‪ ،‬وبسط له فيها َح ِصير ًا‪َّ ،‬‬ ‫ب َأ ْن ُأ َص ِّل َي ِم ْن َب ْيتِ َ‬ ‫ِ‬
‫تُح ُّ‬
‫عتبان؛ ليصيب من خزيرة(‪ )1‬صنعها‬ ‫ُ‬ ‫طرفه بالماء‪ ،‬فص َّلى بهم ركعتين‪ ،‬ثم استبقاه‬
‫له‪ ،‬فجلس و َط ِعم عنده(‪.)2‬‬
‫وكان ُي ْؤنِس َمن يزورهم‪ ،‬ويسعهم جميع ًا ُّبره وحسن خلقه‪ ،‬حتى ِصبيتهم‬
‫أحس َن الناس ُخلق ًا‪ ،‬وكان يغشانا‬ ‫وصغارهم؛ قال أنس ‪ :‬كان ُّ‬
‫النبي‬
‫قال له‪ :‬أبو ُعمير‪ ،‬وكان إذا زارنا يمازحه‬ ‫أخ َفطِيم(‪ُ )3‬ي ُ‬
‫ويخالطنا‪ ،‬وكان لي ٌ‬
‫ويضاحكه‪ ،‬فزارنا ذات يوم فوجده حزين ًا‪ ،‬فقال‪« :‬يا ُأم س َليم‪ ،‬ما لِي َأ ِرى ابن ِ‬
‫َك‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ ُ ْ َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬مات ُن َغ ْي ُره(‪ )5‬الذي كان‬ ‫َ‬ ‫س(‪)4‬؟»‪ .‬قالت‪ :‬يا‬ ‫َأ َبا ُع َمير َح ِزين ًا َخاثِ َر النَّ ْف ِ‬
‫رأسه‪ ،‬ويقول‪َ « :‬يا َأ َبا ُع َمير‪َ ،‬ما َف َع َل ال ُّن َغ ْير؟‬
‫يمسح َ‬‫ُ‬ ‫يلعب به‪ .‬فأقبل عليه‪ ،‬وجعل‬
‫َيا َأ َبا ُع َمير‪َ ،‬ما َف َع َل النُّ َغ ْير؟»(‪.)6‬‬
‫َم َّج ًة َم َّجها(‪ )7‬في‬ ‫عقلت من رسول اهلل‬
‫ُ‬ ‫الربِيع ‪:‬‬
‫وقال محمود بن َّ‬
‫((( الخزيرة‪ :‬لحم يقطع صغار ًا ويصب عليه ماء كثير‪ ،‬فإذا نضج ذر عليه الدقيق‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)28/2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)425 ،424‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)33‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أي الطفل الذي بلغ سن الفطام ودخل الثالثة من عمره‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)454/12‬‬
‫((( أي‪ :‬ثقيل النفس‪ ،‬غير طيب وال نشيط‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)11/2‬‬
‫((( النغير‪ :‬طائر صغير يشبه العصفور‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)86/5‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6203 ،6129‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2150‬وغيرها‪.‬‬
‫مع محمود مداعبة منه‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)207/1‬‬ ‫الم ُّج هو إرسال الماء من الفم‪ .‬وفعله النبي‬
‫((( َ‬
‫‪57‬‬ ‫الزيارات النبوية‬

‫وجهي من َد ْل ٍو من ٍ‬
‫بئر كانت في دارنا‪ ،‬وأنا اب ُن خمس سني َن(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫ب كيف‬ ‫الم ْؤنسة كيف َر َس َخ ْت في وعي محمود‪ ،‬و َت ْع َج ُ‬‫فانظر هذه المداعبة ُ‬
‫هم طفل يسأله عن ُن َغ ْيره‪ ،‬وإلى طفل يمازحه و َي ُم ُّج الماء‬ ‫بهمه إلى ِّ‬
‫ِّ‬ ‫تطامن‬
‫في وجهه‪ ،‬وهذه المجة ال بد أن تكون مسبوقة بمؤانسة ومالطفة حتى يتلقاها‬
‫الصبي ُبأنْس‪.‬‬
‫وأي شيء كان يجده‬
‫؟ ُّ‬ ‫أي قرب يجده هؤالء األطفال من رسول اهلل‬ ‫ُّ‬
‫أصحابه وهم يرون صبيانهم بهذه المكانة من نبيهم؟!‬
‫وكان إذا زار أحد ًا من أصحابه و َط ِعم عنده دعا له وألهله وص َّلى عليهم؛ فقد‬
‫الصائِ ُم َ‬
‫ون‪َ ،‬و َأك ََل‬ ‫ِ‬ ‫زار سعدَ ب َن عبادة ‪ ‬فأكل عنده‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫«أ ْف َط َر عنْدَ ك ُُم َّ‬
‫ت َع َل ْيك ُُم ا ْل َم َلئِ َك ُة»(‪.)2‬‬
‫َط َع َامك ُُم ْالَ ْب َر ُار‪َ ،‬و َص َّل ْ‬
‫فلما دنا من منزله خرج ُب ْس ٌر وزوجته‪ ،‬فتل َّقيا‬ ‫وزار ُب ْس َر ب َن أبي ُب ْسر ‪َّ ،‬‬
‫ورحبا به‪ ،‬ثم وضعوا له قطيف ًة كانت عندهم فقعد عليها‪ ،‬ثم‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬
‫قال ُب ْس ٌر لزوجته‪ :‬هاتي طعامك‪ .‬فجاءت بقصعة فيها َد ِقيق قد عصدته بماء‬
‫وأكلوا معه‪،‬‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬ ‫‪ ،‬فأكل‬ ‫وملح‪ ،‬فوضعته بين يدي رسول اهلل‬
‫ار ْك‬‫«اللهم ا ْغ ِف ْر َل ُه ْم َو ْار َح ْم ُهم‪ ،‬و َب ِ‬
‫َّ‬ ‫‪:‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫وفضل منها فضل ٌة‪ ،‬ثم قال‬
‫يهم في َأرز ِ‬
‫َاق ِهم»(‪.)3‬‬ ‫ع َل ْي ِهم‪َ ،‬و َو ِّس ْع ع َل ِ‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫جابر المرأته‪ :‬إن‬ ‫جابر ب َن عبد اهلل ‪ ‬في بيته‪ ،‬فقال ٌ‬ ‫وزار َ‬
‫رسول اهلل وال تك ِّلميه وال تسأليه‪ .‬ثم ذبح‬ ‫َ‬ ‫يجيء اليوم وسط النهار‪ ،‬فال ت ِ‬
‫ُؤذي‬
‫وقال‪:‬‬ ‫لرسول اهلل َعنَاق ًا سمين ًة عنده‪ ،‬فلما وضعها بين يديه نظر إليه‬
‫َّك َقدْ َعلِ ْم َ‬
‫ت ُح َّبنا ل َّل ْحم؟!»‪ .‬ثم أكل هو و َمن معه‪ ،‬فلما أراد أن‬ ‫« َيا َجابِ ُر‪ ،‬ك ََأن َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)77‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)33‬و«سنن ابن ماجه» وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13086 ،12177‬و«مصنف عبد الرزاق» (‪ ،)7907‬و«سنن أبي داود» (‪.)3854‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)17678‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2042‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)3729‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪58‬‬

‫يخرج من الباب نادته امرأ ُة جابر‪ ،‬وكانت مستترة في ناحية البيت‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬
‫«ص َّلى اهللُ‬
‫‪َ :‬‬ ‫علي وعلى زوجي ص َّلى اهللُ عليك‪ .‬فقال‬‫صل َّ‬ ‫رسول اهلل‪ِّ ،‬‬
‫َ‬
‫جابر بعد ذلك‪ :‬ألم أكن نهيتُك أن تك ِّلمي‬ ‫ٌ‬ ‫ك»‪ .‬فقال لها‬ ‫ك َو َعلى ز َْو ِج َ‬ ‫َع َل ْي َ‬
‫بيتي‪ ،‬ثم‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫أكنت تظ ُّن أن اهلل ُي ِ‬
‫ور ُد‬ ‫َ‬ ‫؟! قالت‪:‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬
‫يخرج؟!(‪.)1‬‬‫َ‬ ‫علي وعلى زوجي قبل أن‬
‫يخرج وال أسأله الصال َة َّ‬
‫ُ‬
‫‌ح َّبنَا‬
‫ت ُ‬‫َّك َقدْ َعلِ ْم َ‬
‫لجابر حين قال له‪« :‬ك ََأن َ‬ ‫فانظر إلى إسعاد النبي‬
‫واستحسانه‪ ،‬وهذا من‬ ‫‌لِ َّل ْحمِ؟»(‪ )2‬ليشعره أن ضيافته القت شهوة النبي‬
‫تلطف الضيف مع المضيف‪.‬‬
‫لهم حتى‬ ‫وإلى فقه زوجة جابر حيث لم ُت َف َّوت فرصة زيارة الرسول‬
‫سألته أن يدعو لهم ويصلي عليهم‪.‬‬
‫‪،‬‬ ‫الصحب الكرام محفوف ًة بصلواته وبركاته ودعواته‬
‫لقد كانت حياة َّ‬
‫ولقد كان فضل اهلل عليهم بنبيه عظيم ًا!‬
‫ُأنس ًا لنفوسهم‪ ،‬وإكرام ًا لكبارهم‪ ،‬وبِ ّر ًا بصغارهم‪،‬‬ ‫وكما كانت زياراته‬
‫وصال ًة وبرك ًة عليهم‪ ،‬فقد كانت عامر ًة بالتعليم والتَّوجيه‪ ،‬وبناء القيم النبوية في‬
‫نفوسهم بذاك األُسلوب التربوي النبوي العظيم في التعليم‪.‬‬
‫صبي‪،‬‬
‫في بيتنا وأنا ٌّ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫يقول عبد اهلل بن عامر بن َربِيعة ‪ :‬أتانا‬
‫تعال ُأ ْعطِ َك‪ .‬فقال لها‬
‫أللعب‪ ،‬فقالت أمي‪ :‬يا عبدَ اهلل‪ ،‬هاك‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫فذهبت أخرج‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ت َأ ْن ُت ْعطِيه؟»‪ .‬قالت‪ :‬أعطيه تمر ًا‪ .‬فقال‬ ‫‪« :‬وما َأرد ِ‬
‫ََ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫ك كِ ْذ َب ٌة»(‪.)3‬‬‫ت ع َلي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪َ :‬‬
‫«أ َّما إِنَّك َل ْو َل ْم َت ْف َعلي كُت َب ْ ْ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15281 ،14245‬و«مسند الدارمي» (‪ ،)46‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1533‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15281‬و«مسند الدارمي» (‪ ،)46‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15702‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4991‬وغيرها‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫الزيارات النبوية‬

‫حفر عميق لقيمة الصدق في ِوجدان الطفل‪ ،‬فانظر‬


‫إن هذا التوجيه لألم‪ ،‬هو ٌ‬
‫كيف وعاها ورواها أل َّمة نبيه بعد ذلك‪ ،‬حتى بلغتني اليوم وإياك؟!‬
‫سعدَ ب َن ُعبادة ‪ ،‬فلما كان في مجلسه قال له َب ِشير بن سعد‬ ‫وزار‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فكيف نص ِّلي عليك؟ فسكت‬ ‫َ‬ ‫‪ :‬أمرنا اهلل أن نص ِّلي عليك يا‬
‫حتى ت ََمن َّْوا أنه لم يسأله‪ ،‬ثم قال‪ُ « :‬قو ُلوا‪ :‬ال َّل ُه َّم َص ِّل َع َلى‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬
‫ار ْك َع َلى ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬و َع َلى‬
‫يم‪َ ،‬و َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َع َلى آل إِ ْب َراه َ‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‪ ،‬ك ََما َص َّل ْي َ‬
‫م َحم ٍد‪َ ،‬و َع َلى ِ‬
‫ُ َّ‬
‫والسال ُم‬
‫جيدٌ ‪َ ،‬‬ ‫َّك َح ِميدٌ َم ِ‬
‫ين‪ ،‬إِن َ‬ ‫ِ‬ ‫اه ِ‬
‫يم في ال َعا َلم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْت َع َلى آل إِ ْب َر َ‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‪ ،‬ك ََما َب َارك َ‬
‫ِ‬
‫ك ََما َقدْ َعلِ ْمتُم»(‪.)1‬‬
‫كل‬ ‫ُبره ًة‪ ،‬ذهبت فيها األذهان َّ‬ ‫ولك أن تعجب من هذا السكوت من النبي‬
‫تشوف ًا‬
‫مذهب‪ ،‬وأصبحت في حال تح ُّفز لترى ما يكون جوابه‪ ،‬فلما أجابهم وافق ُّ‬
‫وتط ُّلع ًا ال ُينسى الجواب بعده‪ ،‬فصلوات اهلل وسالمه على خير مع ِّلم للناس الخير‪.‬‬
‫رجل منهم‪:‬‬ ‫رجال في بيته كثير‪ ،‬فقال ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عتبان ب َن مالك ‪ ‬اجتمع‬ ‫َ‬ ‫وعندما زار‬
‫يحب اهلل‬ ‫ُّ‬ ‫منافق‪ ،‬ال‬ ‫ٌ‬ ‫رجل منهم‪ :‬ذاك‬ ‫ما فعل مالك بن الدُّ ْخ ُشم‪ ،‬ال َأ َرا ُه؟ فقال ٌ‬
‫اك‪َ ،‬أ َل ت ََرا ُه َق َال‪َ :‬ل إِ َل َه إِ َّل اهللُ‪َ ،‬ي ْبت َِغي‬ ‫‪َ :‬‬
‫«ل َت ُق ْل َذ َ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ورسوله‪ .‬فقال‬
‫أعلم‪ ،‬أما نحن فواهلل ال نرى ُو َّد ُه وال حديثه‬ ‫ك َو ْج َه اهللِ؟»‪ .‬فقال‪ :‬اهلل ورسوله ُ‬ ‫بِ َذلِ َ‬
‫‪َ « :‬فإِ َّن اهللَ َقدْ َح َّر َم َع َلى الن ِ‬
‫َّار َم ْن َق َال َل‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫إِ َّل إلى المنافقين! قال‬
‫ك َو ْج َه اهللِ»(‪.)2‬‬ ‫إِ َل َه إِ َّل اهللُ‪َ ،‬ي ْبت َِغي بِ َذلِ َ‬
‫فانظر كيف جعل من هذا المجلس تعليم ًا لحياطة عرض المسلم وحماية‬
‫جنابه في غيبته‪ ،‬ولفت النظر إلى الجوانب اإليجابية في كل شخص‪ ،‬وأهمها‪:‬‬
‫عبور بوابة التوحيد‪َ :‬‬
‫«أ َل ت ََرا ُه َق َال‪َ :‬ل إِ َل َه إِ َّل اهللُ؟»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6357 ،4798 ،3369‬و«صحيح مسلم» (‪.)407 -405‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1185‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)33‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪60‬‬

‫ُخ ِفر فيها غيبة َمن قال‪ :‬ال‬


‫ليت ِشعري! كيف سيكون نقاء مجالسنا لو كنا ال ن ْ‬
‫َ‬
‫إله إال اهلل؟!‬
‫الباب من تلقاء وجهه‪ ،‬ولكن يتجافى‬
‫َ‬ ‫باب قوم لم يستقبل‬
‫إذا أتى َ‬ ‫وكان‬
‫إلى ركنه األيمن أو األيسر؛ فقد كانت الدُّ ور صغيرةً‪ ،‬ولم يكن على أبوابها يومئذ‬
‫ِ‬
‫«الس َل ُم َع َل ْيك َو َر ْح َم ُة اهللِ َو َب َركَا ُت ُه»‪ .‬فإن لم يسمع جواب ًا‪َّ ،‬‬
‫كرر‬ ‫تور‪ ،‬ويقول‪َّ :‬‬ ‫ُس ٌ‬
‫انصرف‪.‬‬
‫َ‬ ‫السال َم ثالث ًا‪ ،‬فإن ُأ ِذ َن له‪ ،‬وإِ َّل‬
‫‪ ،‬فس َّلم عليهم‪،‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬قصته مع سعد بن عبادة ‪ ،‬فقد أتاه‬
‫ك َو َر ْح َم ُة اهللِ َو َب َركَا ُت ُه»‪ .‬فسمع سعدٌ فر َّد على رسول اهلل‬ ‫فقال‪« :‬الس َلم ع َلي ِ‬
‫َّ ُ َ ْ‬
‫ك َو َر ْح َم ُة‬ ‫‪« :‬الس َلم ع َلي ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ُ َ ْ‬ ‫النبي‬
‫َر َّد ُه‪ ،‬فقال ُّ‬ ‫‪ ،‬ولم ُي ْسم ِع َّ‬
‫النبي‬
‫ِ‬
‫النبي‬
‫ثالث مرات‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫اهللِ َو َب َركَا ُت ُه»‪ .‬فر َّد سعدٌ ‪ ،‬ولم ُي ْسم ِع َّ‬
‫النبي‬
‫‪،‬‬ ‫النبي‬
‫فانصرف ُّ‬ ‫َ‬ ‫انصرف‪،‬‬
‫َ‬ ‫ال يزيد فوق ثالث تسليمات‪ ،‬فإن ُأ ِذ َن له‪ ،‬وإِ َّل‬
‫مت تسليم ًة إِ َّل‬ ‫بالحق‪ ،‬ما س َّل َ‬
‫ِّ‬ ‫نبي اهلل‪ ،‬والذي بعثك‬ ‫وجاء سعدٌ مبادر ًا‪ ،‬قال‪ :‬يا َّ‬
‫تكثر علينا من السالم والرحمة(‪.)1‬‬
‫أحببت أن َ‬
‫ُ‬ ‫سمعتُها ورددت َُها عليك‪ ،‬ولكن‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)17694 ،12406‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5186‬و«مسند البزار» (‪ ،)6872‬وغيرها‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫عيادته المرضى‬

‫والمواسي‬
‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫حضوره اآلسي‬
‫ُ‬ ‫ومن زياراته‪ :‬عيادته المرضى‪ ،‬فللمصطفى‬
‫في لحظات األلم‪ ،‬وك َُرب المرض‪.‬‬
‫يعوده‬ ‫ومن ذلك‪ :‬أن سعدَ ب َن عباد َة ‪ ‬اشتكى شكوى‪ ،‬فأتاه ُّ‬
‫النبي‬
‫مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد اهلل بن مسعود ‪ ،‬فلما‬
‫دخل عليه وجده قد ُغ ِشي عليه‪ ،‬وحوله أهله‪ ،‬فقال‪َ « :‬قدْ َق َضى؟»‪ .‬قالوا‪ :‬ال‪،‬‬
‫َبك َْوا‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫النبي‬
‫‪ ،‬فلما رأى القو ُم بكا َء ِّ‬ ‫النبي‬
‫رسول اهلل‪ .‬فبكى ُّ‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫ب‪َ ،‬و َلكِ ْن ُي َع ِّذ ُب بِ َه َذا‬
‫ون‪ ،‬إِ َّن اهللَ َل ُي َع ِّذ ُب بِدَ ْم ِع ا ْل َع ْي ِن‪َ ،‬و َل بِ ُحز ِْن ا ْل َق ْل ِ‬ ‫َ‬
‫«أ َل ت َْس َم ُع َ‬
‫ــ وأشار إلى لسانه ــ َأ ْو َي ْر َح ُم»(‪.)2‬‬
‫الذي تذرف الدمع عيناه؛ ألن أحد أصحابه قد‬ ‫ها هي رحمة نب ِّيك‬
‫أغمي عليه!‬
‫ليت شعري! ماذا كان حال سعد بن عبادة بعد أن أفاق َّ‬
‫وأبل(‪ ،)3‬فعلم أن‬
‫َ‬
‫رسول اهلل قد بكى لحاله تلك؟!‬
‫يتفاعل معهم هذا‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫وما َو ْق ُع ذلك عىل بنيه وقرابته و َمن حوله أن يروا‬
‫التفاعل‪ ،‬ويندمج معهم بشعوره ومشاعره‪ ،‬وكأن آالمهم يف جسده‪ ،‬وأحزانهم في قلبه؟‬

‫((( أي‪ :‬المعالج‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)33/77‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1304‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)924‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬برأ‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)111/28‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪62‬‬

‫الـذي وصفـه خالقـه العليـم بهـا فقـال‪﴿ :‬بٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ‬


‫ِين‬ ‫إنهـا رحمـة النبـي‬
‫ِ‬
‫‪ٞ‬‬
‫َر ُءوف َّرح ‪ٞ‬‬
‫ِيـم﴾‪.‬‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬عيادته جابر بن عبد اهلل ‪ ،‬قال جابر‪َ :‬م ِر ْض ُت فعادني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومعه أبو بكر ماش َي ْين‪ ،‬وأنا في قومي بني َسلمة‪ ،‬فوجدني قد ُأغمي َّ‬
‫علي‪،‬‬
‫فأفقت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫علي من َوضوئه‪،‬‬ ‫‪ ،‬ثم َّ‬
‫رش َّ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فال أعقل شيئ ًا‪ ،‬فتوضأ‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬كيف أصنع في مالي‪ ،‬وإنما يرثني‬ ‫فقلت‪ :‬يا‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فإذا‬
‫علي شيئ ًا‪ ،‬حتى نزلت آية المواريث‪:‬‬
‫كاللة؟ أي‪ :‬ال والد لي وال ولد‪ .‬فلم يرد َّ‬
‫ۡ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ك قل َّ ُ‬ ‫ۡ‬
‫َۡ َ ُ َ َ‬
‫يك ۡم ِف ٱلكلٰلةِ‪.)1(﴾...‬‬‫ٱلل ُيفت ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ يستفتون‬
‫عن قسمة ماله‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫بقي أن تعلم أن جابر ًا ‪ ‬الذي كان يسأل‬
‫إذا تُو ِّفي في مرضه ذلك قد عاش بعد وفاة رسول اهلل نحو ًا من سبعين سنة(‪،)2‬‬
‫وبقي هذا المشهد حاضر ًا في نفسه!‬
‫‪ .‬كأنه ينظر إليه الساعة ويعيش تلك‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فأفقت فإذا‬
‫ُ‬ ‫وتأ َّمل قوله‪:‬‬
‫ال ُفجاءة‪.‬‬
‫ليس شي ٌء أوقع في نفوس الناس من أن تكون قريب ًا منهم لحظة ألمهم‬
‫مع أصحابه‪ ،‬ال يفقدونه ساعة أل ٍم يواسيهم‪،‬‬ ‫وضعفهم‪ ،‬وهكذا كان نبينا‬
‫فح َّل من قلوبهم بواط َن َشغافها‪.‬‬
‫أو ساعة فرح يؤانسهم‪َ ،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬أنه جاء يعود‬‫َ‬ ‫وكانت زياراته وعيادته تعم المسلمين‬
‫غالم ًا يهود ّي ًا كان يخدمه‪ ،‬فلما جلس إليه وجده مدنف ًا قد شارف‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫«أ ْسلِ ْم»‪ .‬فنظر الفتى إلى أبيه ضارع ًا بنظراته إليه‪ ،‬فقال أبوه‪ :‬أطع أبا القاسم‪.‬‬
‫َ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6723 ،5651 ،4577 ،194‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1616‬وغيرها‪.‬‬


‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» (‪ ،)194 -189/3‬و«اإلصابة» (‪.)122-120/2‬‬
‫‪63‬‬ ‫عيادته المر�ضى‬

‫مسرور ًا بإسالمه وهو يقول‪:‬‬ ‫فتشهد شهادة الحق ثم قضى‪ ،‬فخرج النبي‬ ‫َّ‬
‫ل ا َّل ِذي َأ ْن َق َذ ُه بِي ِم َن الن ِ‬
‫َّار»(‪.)1‬‬ ‫«ا ْل َح ْمدُ ِ ِ‬
‫وأصحابه من فتى صغير أسلم ثم مات من‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫نتساءل‪ :‬ماذا أفاد‬
‫ساعته؟ فلن يشهد معهم معركة‪ ،‬ولن ُي َك ِّثر لهم جمع ًا‪ ،‬ولن يحوز لهم ماالً‪ ،‬ولن‬
‫فبأي شيء يكون الفرح؟!‬
‫كما كان يخدمه من قبل‪ِّ ،‬‬ ‫يخدم رسول اهلل‬
‫التي‬ ‫إن هداية الناس واستنقاذهم من دركات النار كانت قضية النبي‬
‫فرحه وحزنُه‪ ،‬غض ُبه ورضاه‪ ،‬ولذا يفرح هذا‬ ‫عاش لها‪ ،‬وارتبطت مشاعره بها؛ ُ‬
‫الفرح‪ ،‬ويحمد ربه على هذه النعمة أن َب َشر ًا قد اهتدى بعد ضالل‪ ،‬ونجا بدعوته‬
‫من النار‪ ،‬وإن كان ذاك فتى أسلم ثم مات بعدُ من ساعته‪.‬‬
‫إن المؤ ِّثرين في دعوتهم هم أولئك الذين ارتبطت دعوتهم بمكامن اإلحساس‬
‫في نفوسهم‪ ،‬وظهر أثر تفاعلهم معها في مشاعرهم ووجدانهم‪ ،‬وهكذا كان‬
‫‪.‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫سمو التواضع‪ ،‬وحسن العهد‪ ،‬ولين‬ ‫أما ما ظهر في عيادة هذا المريض من ِّ‬
‫الجانب‪ ،‬و ُل ْطف التر ُّفق‪ ،‬فبعض مشاهد العظمة األخالقية لذاك النبي الكريم‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َّ َ َ ٰ ُ‬ ‫َ َ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬ ‫﴿ِإَونك لع‬
‫وذهب إلى سعد بن أبي وقاص ‪ ‬يعوده من مرض اشتد به‪ ،‬فلما دخل‬
‫بكى‪ ،‬فقال له‬ ‫عليه وجده وجع ًا قد َأ ْش َفى على الموت ‪ ،‬فلما رأى َّ‬
‫النبي‬ ‫(‪)2‬‬

‫هاجرت‬
‫ُ‬ ‫خشيت أن أموت باألرض التي‬ ‫ُ‬ ‫«ما ُي ْبكِ َ‬
‫يك؟»‪ .‬قال‪:‬‬ ‫‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪،‬‬ ‫«ل إِ ْن َش َ‬
‫اء اهلل»‪ .‬قال‪ :‬يا‬ ‫‪َ :‬‬ ‫منها‪ ،‬كما مات سعدُ ب ُن َخ ْولة‪ .‬فقال‬
‫إنه قد بلغ بي من الوجع ما ترى‪ ،‬وأنا ذو مال‪ ،‬وال يرثني إال ابن ٌة لي‪ ،‬أفأتصدَّ ق‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1356‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)3095‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أشفى على الموت‪ :‬اقترب منه‪ ،‬وصار على شفاه أي على حافته‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)489/2‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪64‬‬

‫فالش ْطر‪.‬‬ ‫«ل»‪ .‬قال‪َّ :‬‬ ‫«ل»‪ .‬قال‪ :‬أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال‪َ :‬‬ ‫بمالي كله؟ قال‪َ :‬‬
‫ث كَثِير؛ َأ ْن تَدَ ع ور َثت َ ِ‬
‫اء َخ ْي ٌر‬ ‫َك َأ ْغن َي َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ٌ‬ ‫ث‪َ ،‬وال ُّث ُل ُ‬ ‫قال‪« :‬ال»‪ .‬قال‪ :‬فالثلث‪ .‬قال‪« :‬ال ُّث ُل ُ‬
‫َّك َل ْن ُتن ِْف َق َن َف َق ًة َت ْبت َِغي بِ َها َو ْج َه اهللِ إِ َّل‬ ‫َّاس‪َ ،‬وإِن َ‬ ‫ون الن َ‬ ‫ِم ْن َأ ْن ت ََذ َر ُه ْم َعا َل ًة َي َت َك َّف ُف َ‬
‫ف بعد‬ ‫رسول اهلل‪ُ ،‬أ َخ َّل ُ‬
‫َ‬ ‫ك»‪ .‬قال‪ :‬يا‬ ‫ُأ ِج ْر َت بِ َها‪َ ،‬حتَّى ال ُّل ْق َم َة ت َْر َف ُع َها إِ َلى فِي ْام َر َأتِ َ‬
‫ال َصالِح ًا‪،‬‬ ‫ف َف َت ْع َم َل َع َم ً‬‫َّك َل ْن تُخَ َّل َ‬ ‫ك‪َ ،‬وإِن َ‬ ‫أصحابي؟ قال‪َ « :‬ع َسى اهللُ َأ ْن َي ْر َف َع َ‬
‫ك‬ ‫ك َأ ْق َوا ٌم‪َ ،‬و ُي َض َّر بِ َ‬ ‫ف َحتَّى َينْت َِف َع بِ َ‬ ‫ك َأ ْن تُخَ َّل َ‬ ‫إِ َّل ا ْز َد ْد َت بِ ِه َد َر َج ًة َو ِر ْف َع ًة‪ُ ،‬ث َّم َل َع َّل َ‬
‫يده على جبهته‪،‬‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬فادع اهلل أن يشفيني‪ .‬فوضع‬ ‫َ‬ ‫ون»‪ .‬قال‪ :‬يا‬‫آخ ُر َ‬‫َ‬
‫ف سعد ًا‪ ،‬ال ّلهم ْاش ِ‬‫ِ‬
‫ف َس ْعد ًا‪،‬‬ ‫ُ َّ‬ ‫ثم مسح وجهه وصدره وبطنه‪ ،‬ثم قال‪« :‬ال َّل ُه َّم ْاش َ ْ‬
‫(‪.)1‬‬ ‫وأت ِْم ْم َل ُه ِه ْج َر َت ُه»‪ .‬قال سعد‪ :‬فما زلت أجد برد يده‬ ‫ال ّلهم ْاش ِ‬
‫ف َس ْعد ًا َ‬ ‫ُ َّ‬
‫فصلوات اهلل وسالمه وبركاته على هذا النبي الكريم الرؤوف الرحيم‪ ،‬كيف‬
‫يرعى أصحابه هذه الرعاية‪ ،‬فيمسح بيده الكريمة آالمهم‪ ،‬ويدعو لمرضاهم‪،‬‬
‫ويسكب من سكينة نفسه في نفوسهم؛ فتهدأ وتهنأ‪.‬‬
‫ك َأ ْن تُخَ َّلف»‪.‬‬
‫قال لسعد ‪َ « :‬ل َع َّل َ‬ ‫ثم أعجب أن الصادق المصدوق‬
‫بعدها بثالثة أشهر! وأن سعد ًا‬ ‫فعاش سعدٌ بعدها نصف قرن‪ ،‬وتو ِّفي هو‬
‫‪ :‬وال يرثني إال ابنة لي‪ ،‬قد ُولد له بعدها أربعة‬ ‫الذي كان يقول للنبي‬
‫وثالثون ابن ًا وبنت ًا(‪.)2‬‬

‫)‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)1440‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5659 ،3936 ،2742‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1628‬و«سنن‬
‫النسائي» (‪.)6284‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الطبقات الكبرى» البن سعد (‪ ،)102/3‬و «سير أعالم النبالء» (‪.)92/1‬‬
‫‪65‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫في بساتين المدين�ة‬

‫ُّ‬
‫ويستظل‬ ‫يذهب إلى بعض بساتين المدينة؛ ُي ِج ُّم نفسه فيها‪،‬‬ ‫وكان‬
‫خاصة أصحابه‪ ،‬فكان يذهب إلى َب ْي ُرحا َء؛ وهي حديق ٌة‬ ‫بظ ِّلها‪ ،‬ويجلس فيها إلى َّ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ويستظل بها‪ ،‬ويشرب من ٍ‬
‫ماء فيها ط ِّي ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ألبي طلحة األنصاري ‪ ،‬فيدخلها‬
‫وكانت مستقبلة المسجد شماالً منه‪ ،‬وقد ُدفنت في زماننا هذا ودخلت اآلن في‬
‫توسعة المسجد النَّبوي الشمالي(‪.)1‬‬
‫ويذهب إلى غيرها من بساتين األنصار‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ ،‬معنا أبو‬ ‫ما حدَّ ث به أبو هرير َة ‪ ‬قال‪ :‬كنا قعود ًا حول رسول اهلل‬
‫من بين أظهرنا‪َ ،‬فأ ْب َط َأ علينا‪ ،‬وخشينا أن‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫بكر وعمر في ٍ‬
‫نفر‪ ،‬فقام‬
‫ُي ْق َت َطع دوننا ــ أي‪ :‬يصاب بمكروه من ٍّ‬
‫عدو أو غيره ــ ويظهر أن قيامه الفجائي‬
‫كان لقضاء حاجة اإلنسان الطبيعية‪ ،‬وكانت البساتين مكان قضاء الحاجة في‬
‫عند حاجته‬ ‫النهار إلمكان االستتار بها‪ ،‬وكان أحب ما يستتر به النبي‬
‫فخرجت‬
‫ُ‬ ‫أول َمن فزع‪،‬‬ ‫فكنت َ‬
‫ُ‬ ‫حائش نخل‪ ،‬قال أبو هريرة‪ :‬وفزعنا‪ ،‬فقمنا‪،‬‬
‫فدرت به‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أتيت حائط ًا لألنصار لبني الن ََّّجار‪،‬‬
‫‪ ،‬حتى ُ‬ ‫رسول اهلل‬ ‫َ‬ ‫أبتغي‬
‫جدول ماء يدخل في جوف الحائط من ٍ‬
‫بئر‬ ‫ُ‬ ‫هل أجد له باب ًا؟ فلم أجد‪ ،‬فإذا‬
‫‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫فدخلت على رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫الثعلب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فاح َت َف ْز ُت(‪ )2‬كما َي ْحت َِف ُز‬ ‫ٍ‬
‫خارجة ْ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12438‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)1461‬و«صحيح ابن حبان» (‪ ،)3340‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬تضاممت ليسعني المدخل‪ .‬ينظر‪« :‬إكمال المعلم» (‪.)263/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪66‬‬

‫ب بِنَ ْع َل َّي‬ ‫رسول اهلل‪ .‬فأعطاني نعليه وقال‪« :‬ا ْذ َه ْ‬ ‫َ‬ ‫فقلت‪ :‬نعم يا‬
‫ُ‬ ‫«أ ُبو ُه َر ْي َرة؟!»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ط َي ْش َهدُ َأ ْن َل إِ َل َه إِ َّل اهللُ ُم ْس َت ْي ِقن ًا بِ َها َق ْل ُب ُه‬
‫اء ه َذا ا ْلحائِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ها َتي ِن‪َ ،‬فمن َل ِق َ ِ‬
‫يت م ْن َو َر َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫َف َب ِّش ْر ُه بِا ْل َجن َِّة»(‪.)1‬‬
‫س؛ وهي بئر تقع غربي مسجد‬ ‫باء ذهب إلى بئر َأ ِر ْي ٍ‬ ‫إذا ذهب إلى ُق ٍ‬ ‫وكان‬
‫في خالفة عثمان ‪ ،‬ولم يمكن‬ ‫باء‪ ،‬وهي التي وقع فيها خاتم النبي‬ ‫ُق ٍ‬

‫إخراجه منها‪ ،‬وقد حفظتها أجيال المسلمين ودول اإلسالم‪ ،‬ثم ُدفنت في زماننا هذا‪.‬‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫األشعري ‪ ‬قال‪ :‬دخل‬ ‫ُّ‬ ‫ومن خبرها‪ :‬ما أخبر به أبو موسى‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫يد‪ ،‬حتى قضى‬ ‫فجلست عند الباب‪ ،‬وبابها من ج ِر ٍ‬
‫ُ‬ ‫بئر َأ ِر ٍ‬
‫يس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وتوسط ُق َّف َها ــ وهي‬
‫َّ‬ ‫جالس على بئر َأ ِر ٍ‬
‫يس‬ ‫ٌ‬ ‫فقمت إليه‪ ،‬فإذا هو‬
‫ُ‬ ‫فتوضأ‪،‬‬
‫حاجتَه َّ‬
‫الدَّ كَّة المرتفعة حول البئر ــ وكشف ركبتيه ود َّلى ساقيه في البئر‪ ،‬وبيده عو ٌد‬
‫فجلست عند الباب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫انصرفت‬
‫ُ‬ ‫مت عليه ثم‬ ‫يضرب به بين الماء وال ِّطين‪ ،‬فس َّل ُ‬ ‫ُ‬
‫بكر ‪‬‬ ‫اليوم‪ ،‬ولم يأ ُم ْرني‪ ،‬فجاء أبو ٍ‬ ‫بواب رسول اهلل‬ ‫َ‬ ‫فقلت‪ :‬ألكون َّن‬
‫ُ‬
‫فحمد اهلل ودخل‪ ،‬وجلس عن‬ ‫‪« :‬ائ َْذ ْن َله‪ ،‬وب ِّشره بِا ْلجنَ َة»‪ِ .‬‬ ‫ُ‬
‫يستأذن‪ ،‬فقال‬
‫ُ ََ ُْ َ‬
‫‪:‬‬ ‫ُ‬
‫يستأذن‪ ،‬فقال‬ ‫عمر ‪‬‬ ‫ف‪ ،‬ثم جاء ُ‬ ‫معه في ال ُق ِّ‬ ‫يمين رسول اهلل‬
‫في‬ ‫فحمد اهلل ودخل‪ ،‬وجلس مع رسول اهلل‬ ‫«ائ َْذ ْن َله‪ ،‬وب ِّشره بِا ْلجنَ َة»‪ِ .‬‬
‫ُ ََ ُْ َ‬
‫‪« :‬ائ َْذ ْن َل ُه‪َ ،‬و َب ِّش ْر ُه‬ ‫ُ‬
‫يستأذن‪ ،‬فقال‬ ‫عثمان ‪‬‬ ‫ُ‬ ‫ف عن يساره‪ ،‬ثم جاء‬ ‫ال ُق ِّ‬
‫رسول اهلل‬‫ُ‬ ‫فقلت له‪ :‬ا ْد ُخل‪َّ ،‬‬
‫وبشرك‬ ‫ُ‬ ‫بِا ْلجنَ َة‪ ،‬ع َلى ب ْلوى ت ِ‬
‫ًصي ُب ُه»‪ .‬فجئتُه‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫اللهم صبر ًا‪.‬‬ ‫فحمد اهلل‪ ،‬ثم قال‪ :‬اهلل المستعان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالجنة‪ ،‬على بلوى تصيبك‪.‬‬
‫َّ‬
‫الش ِّق اآلخر‪ ،‬وسوى رسول اهلل‬ ‫ف قد ُم ِلئ فجلس ِو َج َ‬
‫اه ُهم من ِّ‬ ‫ودخل فوجد ال ُق َّ‬
‫ثيابه‪ ،‬و َغ َّطى ركبتيه(‪.)2‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)31‬و«مسند البزار» (‪ ،)9388‬و«صحيح ابن حبان» (‪ ،)4543‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3695 ،3674‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2403‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4218‬وغيرها‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫في ب�ساتين المدينة‬

‫إلى بساتين المدينة إجما ٌم للنفس واستبراد بظل شجرها‬ ‫وفي ذهابه‬
‫عن حر المدينة الالفح‪ ،‬وتطرية للحياة‪ ،‬وتجديد لوتيرة النشاط اليومي‪ ،‬وإيناس‬
‫يأوي إلى حوائطهم؛ فيصيبها‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ألصحاب هذه البساتين أن يروا‬
‫‪.‬‬ ‫من بركته وطهوره‪ ،‬وهو المبارك حيثما ُو ِجدَ‬

‫)‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪68‬‬

‫صورة قديمة لبئر أريس أو بئر الخاتم قبل إزالتها‬


‫‪69‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫راحة القيلولة‬

‫إذا تعالى الضحى إلى بيت زوجته التي هو عندها‬ ‫ُ‬


‫رسول اهلل‬ ‫يذهب‬
‫ُ‬
‫والسالم‬
‫السواك َّ‬
‫وفي يومها‪ ،‬فإذا دخل بيته كان أول شيء يفعله عند الدخول ِّ‬
‫على أهل البيت(‪ ،)1‬ثم يص ِّلي صالة ُّ‬
‫الضحى أربع ركعات‪ ،‬وربما زاد َّ‬
‫فصلها‬
‫س ّت ًا أو ثماني ًا(‪.)2‬‬
‫وإن صادف طعام ًا أصاب منه‪ ،‬إذا لم يكن َط ِعم في الصباح‪ ،‬وقد ُيعرض عليه‬
‫رسول اهلل‪ُ ،‬أهديت‬
‫َ‬ ‫صائم ف ُيفطر‪ ،‬فقد قالت له عائش ُة ‪ ‬يوم ًا‪ :‬يا‬
‫ٌ‬ ‫الطعام وهو‬
‫«و َما ُهو؟»‪ .‬قالت‪َ :‬ح ْي ٌس(‪.)3‬‬ ‫خبأت لك شيئ ًا‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫زائر‪ ،‬وقد‬ ‫لنا هدي ٌة‪ ،‬أو جاءنا ٌ‬
‫ت َصائِم ًا»(‪.)4‬‬ ‫ْت َأ ْص َب ْح ُ‬‫«هاتِيه»‪ .‬فجاءت به فأكل‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬قدْ ُكن ُ‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫َو ُب ْر َم ٌة َع َلى الن َِّار‪َ ،‬ف ُق ِّر َب إِ َل ْي ِه ُخ ْب ٌز َو ُأ ْد ٌم ِم ْن ُأ ْد ِم‬ ‫ول اهللِ‬‫وقالت‪َ :‬د َخ َل َر ُس ُ‬
‫ْت َل ت َْأك ُُل‬ ‫«أ َل ْم َأ َر ال ُب ْر َم َة؟»‪َ .‬ف ِق َيل‪َ :‬ل ْح ٌم ت ُُصدِّ َق بِ ِه َع َلى َب ِر َيرةَ‪َ ،‬و َأن َ‬ ‫ت‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬‬ ‫البي ِ‬
‫َْ‬
‫‌صدَ َق ٌة‪َ ،‬و َلنَا َه ِد َّي ٌة»(‪.)5‬‬ ‫الصدَ َق َة‪َ ،‬ق َال‪‌ُ « :‬ه َو‌ َع َل ْي َها َ‬
‫َّ‬

‫على نسائه أول النهار في «الصباح النبوي»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في دخوله‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25348 ،24456‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)1176‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)336‬و«الفتح»‬
‫(‪.)54/3‬‬
‫((( سبق شرحه‪.‬‬
‫بيوته أول النهار في «الصباح النبوي»‪.‬‬ ‫((( ينظر ما تقدم في دخوله‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪« ،)5097‬صحيح مسلم» (‪ ،)1075‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪70‬‬

‫ويا هلل ما وقع هذا االستهداء في نفس بريرة وهي الموالة الخادمة في البيت‬
‫يأكل من طعامها‪ ،‬ويتقبله هدية منها‪.‬‬ ‫فإذا رسول اهلل‬
‫تذكر اهلل‪ ،‬وكان قد‬ ‫ُ‬ ‫مصلها‬ ‫َّ‬ ‫وفي دخوله هذا رأى زوجته ُجويرية ‪ ‬في‬
‫ك ا ّلتِي‬ ‫ت على حالِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫«ما ِز ْل َ‬ ‫دخل عليها في الصباح وهي على حالها تلك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫ث مر ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َفار ْقت ِ‬
‫ات‪،‬‬ ‫ت َب ْعدَ ك َأ ْر َب َع كَل َمات َث َل َ َ َّ‬ ‫ُك َع َل ْيها؟»‪ .‬قالت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪َ « :‬ل َقدْ ُق ْل ُ‬ ‫َ‬
‫ان اهللِ َوبِ َح ْم ِد ِه‪َ ،‬عدَ َد َخ ْل ِق ِه‪َ ،‬و ِر َضا‬ ‫َت بِما ُق ْل ِ‬
‫ت ُمن ُْذ ا ْل َي ْو ِم َل َو َز َنت ُْه َّن‪ُ :‬س ْب َح َ‬ ‫َل ْو ُو ِزن ْ َ‬
‫َن ْف ِس ِه‪َ ،‬و ِز َن َة َع ْر ِش ِه‪َ ،‬و ِمدَ ا َد كَلِ َماتِ ِه»(‪.)1‬‬
‫وكانت هذه ساعة خلوته في بيته مع أهله‪.‬‬
‫وألنه في هذا الوقت غالب ًا يكون في بيته وعند أهله تأتيه بعض نساء المؤمنات‬
‫يجر ْؤ َن على السؤال عنه أمام الرجال‪ ،‬ويكون السؤال‬
‫يسألنه عن أمور دينهن‪ ،‬مما ال ُ‬
‫بمحضر أمهات المؤمنين‪ ،‬فحفظن لألمة هذه الفتاوى النبوية في خاصة أمور النساء‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬أن إحدى نساء األنصار أتته عند عائشة ‪ ،‬فسألته عن غسل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫المحيض‪ ،‬فقال‪« :‬ت َْأ ُخ ُذ إِ ْحدَ اك َُّن َم َ‬
‫اء َها َوسدْ َرت ََها‪َ ،‬ف َت َط َّه ُر َفت ُْحس ُن ال ُّط ُه َ‬
‫تَصب ع َلى ر ْأ ِسها َفتَدْ ُل ُكه د ْلك ًا َش ِديد ًا حتَّى َتب ُلغَ ُش ُؤ َ ِ‬
‫ب َع َل ْي َها‬‫ون َر ْأس َها‪ُ ،‬ث َّم ت َُص ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ُّ َ َ َ‬
‫اء‪ُ ،‬ث َّم ت َْأ ُخ ُذ فِ ْر َص ًة ُم َم َّس َك ًة(‪َ )2‬ف َت َط َّه ُر بِ َها»‪ .‬فقالت المرأة‪ :‬وكيف َت َط َّه ُر بها؟‬ ‫ا ْل َم َ‬
‫ين بِ َها»‪ .‬واستحى وأعرض‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬فلما‬ ‫ان اهللِ! َت َط َّه ِر َ‬
‫«س ْب َح َ‬
‫فقال‪ُ :‬‬
‫فقلت‪ :‬تت َّبعي بها أثر الدم‪ ،‬وهو يسمع وال ينكر(‪.)3‬‬
‫ُ‬ ‫إلي‪،‬‬
‫رأيتُه استحى جذبتها َّ‬
‫أرأيت إذا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪،‬‬ ‫وأتته أم ُسليم وهو عند زوجته أم َس َلمة ‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬
‫زوجها يجامعها في المنام‪ ،‬أتغتسل؟ فقالت أم َس َلمة‪ :‬ت َِر َب ْت يداك‬ ‫ِ‬
‫رأت المرأ ُة أن َ‬

‫أول النهار في «الصباح النبوي»‪.‬‬ ‫على جويرية ‪‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في دخوله‬
‫((( أي‪ :‬قطعة قطن تُط َّيب بالمسك‪ .‬ينظر‪« :‬معالم السنن» (‪.)97/1‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)314‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)332‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)314‬وغيرها‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫راحة القيلولة‬

‫! وذلك أن النساء يتظاهرن‬ ‫يا أم سليم‪َ ،‬ف َضح ِ‬


‫ت النسا َء عند رسول اهلل‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫بأن هذا األمر ال يعنيهن‪ .‬فقالت أم ُسليم‪ :‬إن اهلل ال يستحي من الحق‪ ،‬وإنا إن‬
‫خير من أن نكون منه على َع ْم َياء! فقال‬ ‫عما َأ ْشك ََل علينا‪ٌ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫النبي‬
‫َّ‬ ‫نسأل‬
‫اك‪ ،‬إِ َّن َخ ْي َرك َُّن ا َّلتِي‬
‫ت يدَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ألُ ِّم َس َلم َة منتصر ًا أل ِّم ُسلي ٍم‪َ « :‬ب ْل َأنْت ت َِر َب ْ َ‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء»‪ .‬فقالت أم‬ ‫ت َْس َأ ُل َع َّما َي ْعن َيها‪َ ،‬ن َع ْم َيا ُأ َّم ُس َل ْيمٍ‪َ ،‬ع َل ْي َها ا ْلغ ُْس ُل إِ َذا َو َجدَ ت ا ْل َم َ‬
‫‪َ « :‬ف َأنَّى ُي ْشبِ ُه َها َو َلدُ َها؟‬ ‫النبي‬
‫رسول اهلل‪ ،‬وهل للمرأة ماء؟ فقال ُّ‬ ‫َ‬ ‫سلمة‪ :‬يا‬
‫ال»(‪.)1‬‬ ‫ُه َّن َش َقائِ ُق الر َج ِ‬
‫ِّ‬
‫وقد كان لنساء األنصار ‪ ‬جرأة في السؤال واالستيضاح‪ ،‬حتى قالت‬
‫عائشة ‪ :‬نِ ْع َم النسا ُء نسا ُء األنصار؛ لم يمنعه َّن الحيا ُء أن يتفقهن في الدين(‪.)2‬‬
‫في‬ ‫وال تكون هذه الزيارات إال ألمر خاص ال يحسن عرضه على النبي‬
‫مجلسه العام في المسجد‪ ،‬أو ألمر طارئ ال يحتمل التأجيل‪ ،‬وعادة أن من أتى‬
‫لذلك ال يستأنس وال يطيل الجلوس‪.‬‬
‫فحتى وقت راحته وقيلولته وخلوته بأهله هي ساعة تعليم ودعوة وإجابة‬
‫سؤال‪ ،‬إنها حياة أوقفت هلل‪ ،‬فصلى اهلل على هذا النبي الكريم‪.‬‬
‫وربما زاره في هذا الوقت بعض خاصة أصحابه؛ ألمر يعرض لهم‪:‬‬
‫مض َط ِجع ًا على فراشه‪ ،‬البس ًا‬
‫كان في بيته ْ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬أن‬
‫ِم ْرط ًا لعائشة(‪ ،)3‬كاشف ًا عن فخذيه أو ساقيه‪ ،‬فجاء أبو بكر ‪ ،‬فاستأذن‪َ ،‬فأ ِذن‬
‫له‪ ،‬وهو على تلك الحال‪ ،‬ف َق َضى إليه حاجته ثم انصرف‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬وهو‬
‫عمر ‪ ،‬فاستأذن‪َ ،‬فأ ِذن له‪ ،‬وهو على تلك الحال‪،‬‬ ‫ِ‬
‫معي في الم ْرط‪ ،‬ثم جاء ُ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6121 ،6091‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)314-310‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)130‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)332‬وغيرها‪.‬‬
‫((( ِ‬
‫الم ْرط‪ :‬ثوب يلبسه الرجال والنساء‪ ،‬يكون إزار ًا‪ ،‬ويكون ردا ًء‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)319/4‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪72‬‬

‫عثمان ‪ ،‬فاستأذن‪ ،‬فجلس‬


‫ُ‬ ‫ف َق َضى إليه حاجته ثم انصرف‪ ،‬ثم جاء‬
‫‪ ،‬وقضى إليه‬ ‫وسوى عليه ثيابه‪ ،‬ثم َأ ِذن له فدخل‪ ،‬وتحدَّ ث إلى النبي‬
‫َّ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬دخل أبو بكر‪ ،‬فلم َّ‬
‫تهتش‬ ‫َ‬ ‫حاجته‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬فقالت عائشة ‪ :‬يا‬
‫عثمان فجلست‬ ‫ُ‬ ‫عمر فلم ت َْهت ََّش له ولم ُت َبالِ ِه‪ ،‬ثم دخل‬ ‫له ولم ُت َباله‪ ،‬ثم دخل ُ‬
‫ِ‬ ‫(‪)1‬‬

‫َحي ِمن رج ٍل تَست ِ‬ ‫«أ َل َأست ِ‬


‫َحي‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫‪ْ َ :‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫يت عليك ثيابك؟! فقال‬ ‫وسو َ‬ ‫َّ‬
‫ْت َل ُه َع َلى تِ ْل َ‬
‫ك ا ْل َح ِ‬
‫ال‬ ‫يت إِ ْن َأ ِذن ُ‬
‫ان َر ُج ٌل َحيِ ٌّي‪َ ،‬وإِنِّي َخ ِش ُ‬
‫ِمنْ ُه ا ْل َم َلئِ َك ُة؟! إِ َّن ُع ْث َم َ‬
‫اجتِ ِه»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫َأ ْن َل َي ْب ُلغَ إِ َل َّي في َح َ‬
‫َأ َّما إذا خال مع زوجته في بيته‪ ،‬فقد وصفت عائشة ‪ ‬حاله تلك‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ال من رجالكم‪،‬‬ ‫كان إذا خال في بيته مع أهله ألي َن الناس‪ ،‬وأكر َم الناس‪ ،‬كان رج ً‬
‫إِ َّل أنه كان َض َّحاك ًا َب َّسام ًا‪ ،‬وما كان إِ َّل بشر ًا من البشر‪ ،‬كان يكون في ِم ْهنة أهله‬
‫ــ أي‪ :‬خدمة أهله ــ يخصف نع َله‪ ،‬ويخيط ثو َبه‪ ،‬ويح ُلب شاته‪ ،‬ويخدُ م نفسه‪،‬‬
‫ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته(‪.)3‬‬
‫ت َأبِي‬ ‫اة ِمن بي ِ‬ ‫ات َلي َل ٍة ِرج ُل َش ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ومن ذلك‪ :‬ما ذكرته َع ِائ َشة َقا َل ْ‬
‫ْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ت‪ُ :‬أ ْهد َي َلنَا َذ َ ْ‬
‫َو ُه َو َي ُح ُّز َها َأ ْو َأ ْم َسك ََها‬ ‫ول اهللِ‬ ‫هلل إِنِّي َلُم ِسك َُها َع َلى رس ِ‬ ‫ت‪َ :‬وا ِ‬ ‫َبك ٍْر‪َ ،‬قا َل ْ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ت‪:‬‬ ‫اك؟ َقا َل ْ‬ ‫ين‪َ ،‬ع َلى ِم ْص َب ٍ‬
‫اح َذ َ‬ ‫ِِ‬
‫َو َأنَا َأ ُح ُّز َها‪ ،‬فقيل لها‪َ :‬يا ُأ َّم ا ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫ول اهللِ‬‫َر ُس ُ‬
‫الش ْه ُر َما‬‫َّ‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‬
‫َان َل َي ْأتِي َع َلى ِ‬
‫اح َلَ ْك َلنْا ُه‪ ،‬إِ ْن ك َ‬ ‫َان ِعنْدَ نَا ُد ْه ُن ِم ْص َب ٍ‬‫َل ْو ك َ‬
‫ون فِ ِ‬
‫يه(‪.)4‬‬ ‫خ َ‬ ‫يه ُخ ْبز ًا‪َ ،‬و َل َي ْط ُب ُ‬‫ون فِ ِ‬ ‫ختَبِ ُز َ‬‫َي ْ‬
‫((( الهشاشة والبشاشة بمعنى طالقة الوجه وحسن اللقاء‪ ،‬والمراد‪ :‬لم تهتم لدخوله ف ُت َغ ِّير من هيئتك‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫«النهاية» (‪.)264/5‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25339 ،25216 ،514‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2402 ،2401‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند إسحاق بن راهويه» (‪ ،)1750‬و«مسند أحمد» (‪ ،)25341‬و«صحيح البخاري» (‪،)5363 ،676‬‬
‫و«جامع الترمذي» (‪ ،)2489‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «المعجم األوسط» للطبراني (‪.)8872‬‬
‫‪73‬‬ ‫راحة القيلولة‬

‫‪ ،‬فلم يكن في‬ ‫إن هذا مشهد من مشاهد التمازج الزوجي في حياة النبي‬
‫الجدُ ر ما ُي ْح ِو ُج أه َله إلى معونة‪ ،‬حتى يكون‬
‫بيته الذي كان ُغرف ًة واحدة متقاربة ُ‬
‫في ِم ْهنة أهله‪ ،‬ولكنها العظمة األخالقية‪ ،‬حيث يشارك أه َله مهنت َُهم؛ ليشعرهم‬
‫البيت بيتُهم جميع ًا‪ ،‬كما أن الحيا َة حياتُهم جميع ًا‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫كم في هذه اللفتة النبوية من رسائل االهتمام الزوجي والحفاوة بالحياة‬
‫وخير الناس ألهله‪.‬‬
‫َ‬ ‫الزوجية! فص َّلى اهلل على َمن كان َ‬
‫خير الناس للناس‪،‬‬
‫للو ِّد والرحمة‪ ،‬ففيه مساحة‬
‫وكما كان في بيته ومع أهله مساحة واسعة ُ‬
‫واسعة لألنس والبهجة‪ ،‬وعفوية الحياة ولهوها‪ ،‬فها هي َس ْودة تزور عائشة‬
‫رسول اهلل بينها وبين عائشة‪ ،‬ووضع إحدى‬ ‫ُ‬ ‫فجلس‬
‫َ‬ ‫‪ ‬يوم ًا في ُحجرتها‪،‬‬
‫رجليه في ِحجر عائشة ورجله األخرى في ِحجر َس ْودة‪ ،‬وكانت عائش ُة قد‬
‫لس ْودةَ‪ :‬كُلي‪ .‬فأبت وقالت‪ :‬ال أشتهي وال آك ُُل‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫عملت َح ِرير ًة فقالت َ‬
‫(‪)1‬‬

‫لتأكلي أو ألُ َل ِّط َخ َّن وجهك‪ .‬فأبت‪ ،‬فأخذت بك ِّفها شيئ ًا من القصعة‪ ،‬فل َّطخت‬
‫‪ ،‬ورفع رجله من ِح ْجر َس ْودة؛ كي ت َْست َِقيدَ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫به وجهها‪ ،‬فضحك‬
‫خي َو ْج َه َها»‪ .‬فأخذت من القصعة شيئ ًا‪،‬‬ ‫منها(‪ ،)2‬ووضع بيده لها‪ ،‬وقال‪« :‬ا ْل َط ِ‬
‫َ‬
‫يضحك‬ ‫ُ‬
‫ورسول اهلل‬ ‫فل َّطخت به وج َه عائش َة ــ وكانت بينهما مالطفة ــ‬
‫من صنيعهما‪ ،‬وبينما هم يضحكون جميع ًا‪ ،‬وانفعاالت الفرح الصاخب تُدَ ِّوي‬
‫في الحجرة النبوية‪ ،‬إذ سمعوا صوت عمر ‪ ‬ينادي في المسجد‪ :‬يا عبدَ اهلل‬
‫ِ‬
‫وهك َُما؛ َف َل َأ ْح ُ‬
‫سب‬ ‫وما َفا ْغس َل ُو ُج َ‬
‫‪ُ « :‬ق َ‬ ‫ابن عمر‪ ،‬يا عبدَ اهلل بن عمر‪ .‬فقال‬
‫ِ‬
‫النبي ورحم ُة اهلل وبركا ُت ُه‪،‬‬ ‫ُع َم َر إِ َّل َداخالً»‪ .‬فجاء ُ‬
‫عمر فقال‪ :‬السال ُم عليك أيها ُّ‬
‫((( أي‪ :‬حساء الدقيق‪ .‬ينظر‪« :‬غريب الحديث» للخطابي (‪.)53/2‬‬
‫((( أي‪ :‬تنتصر لنفسها منها‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)215/12‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪74‬‬

‫‪« :‬ا ْد ُخ ْل ا ْد ُخ ْل»(‪.)1‬‬ ‫ُ‬


‫رسول اهلل‬ ‫السال ُم عليكم‪َ ،‬أ َأ ْد ُخ ُل؟ فقال‬
‫لقد كان هذا التآنس والتهازل َح َراك ًا في مساحة َّ‬
‫السعة الواسعة التي جعلها‬
‫ميدان ًا للحياة؛ «إِ َّن فِي ِدينِنا ُف ْس َح ًة»(‪.)2‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫ومن اللهو الجميل في بيت النبوة ما حدَّ َث ْت به عائشة ‪ ‬قالت‪َ :‬د َخ َل َع َل َّي‬
‫ار ت َْض ِرب ِ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫َان ِم ْن َج َو ِاري ْالَن َْص ِ‬ ‫اريت ِ‬
‫‌ج ِ َ‬
‫ِ ِ‬
‫نى َوعنْدي َ‬
‫ِ‬
‫في َأ َّيا ِم م ً‬
‫ِ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬
‫او َل ْت بِه ْالَن َْص ُار َي ْو َم ُب َع َ‬ ‫ِ‬
‫ول اهللِ‬‫اض َط َج َع َر ُس ُ‬ ‫اث‪َ ،‬ف ْ‬ ‫بِدُ َّف ْي ِن‪َ ،‬و ُت َغنِّ َيان بِ َما َت َق َ‬
‫اش‪َ ،‬و َح َّو َل َو ْج َه ُه َوت ََس َّجى بِ َث ْوبِ ِه‪َ ،‬فدَ َخ َل َأ ُبو َبك ٍْر َفا ْنت ََه َر ُه َما َو َق َال‪:‬‬ ‫َع َلى ا ْل ِف َر ِ‬
‫ول اهللِ َع ْن َو ْج ِه ِه َو َق َال‪:‬‬ ‫؟ َفك ََشف َر ُس ُ‬ ‫ت رس ِ‬
‫ول اهللِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الش ْي َطان في َب ْي َ ُ‬ ‫َأ َم َز ِام ُير َّ‬
‫يد إِ َّن لِك ُِّل َق ْو ٍم ِعيد ًا‪َ ،‬و َه َذا ِعيدُ نَا»(‪.)3‬‬‫‌ع ٍ‬
‫«دعهما يا َأبا بك ٍْر‪َ ،‬فإِنَّها َأيام ِ‬
‫َ َّ ُ‬ ‫َُْ َ َ َ َ‬
‫وكان ينام ال َق ْيلول َة إلى قريب صالة الظهر‪ ،‬وكانت َق ْي ُلولته في بيوته وعند‬
‫أزواجه‪ ،‬ولم يكن يدخل على أحد من النساء إِ َّل على أزواجه‪ ،‬عدا ُأ َّم ُسليم‬
‫وأختها أم حرام؛ فإنه كان يدخل عليهما و َي ِقيل عندهما‪ ،‬وهما من محارمه(‪،)4‬‬
‫وها َم ِعي»(‪.)5‬‬ ‫ِ‬
‫فقيل له في ذلك عن أم سليم‪ ،‬فقال‪« :‬إِنِّي َأ ْر َح ُم َها؛ ُقت َل َأ ُخ َ‬
‫وربما دخل ونام على فراشها‪ ،‬وليست في بيتها‪ُ ،‬فأتيت يوم ًا‪ ،‬فقيل لها‪ :‬هذا‬
‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫نائم على فراشك‪ .‬فجاءت‪ ،‬وذاك في الصيف‪ ،‬وقد َع ِر َق‬ ‫ٌ‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬
‫((( «مسند أبي يعلى» (‪ ،)4476‬و«سنن النسائي» (‪ ،)8868‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)24855‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)952 ،949‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)892‬وغيرها‪.‬‬
‫‪ ،‬واختلفوا‬ ‫عليهما كان للمحرمية بين أم سليم وأختها ورسول اهلل‬ ‫((( اتفق العلماء على أن دخوله‬
‫‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم»‬ ‫في سبب المحرمية‪ ،‬من نسب أو رضاع‪ ،‬أم هي خصوصية له‬
‫(‪ ،)١٠/١٦( ،)٥٨-٥٧/١٣‬و«الفتح» (‪.)٨٠-٧٨/١١( ،)٢٠٣/٩‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2844‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2455‬و«مسند البزار» (‪ ،)6432‬وغيرها‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫راحة القيلولة‬

‫‪ ،‬حتى استنقع َع َر ُقه على قطعة َأ ِديم(‪ )1‬على الفراش‪ ،‬فجعلت ُتن َِّشف ذلك‬
‫ين َيا ُأ َّم‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫«ما ت َْصنَع َ‬
‫العرق وتعص ُره في قارورة‪ ،‬فاستيقظ وهي تصنع ذلك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫رسول اهلل‪ ،‬عرقك أجعله في طِ ْيبي‪ ،‬وأرجو بركتَه لصبياننا‪،‬‬‫َ‬ ‫ُس َل ْيم؟»‪ .‬قالت‪ :‬يا‬
‫«أصب ِ‬
‫ت»‪ .‬ودعا لها بدعاء حسن(‪.)2‬‬ ‫قال‪ْ َ َ :‬‬
‫ونوم القيلولة لتجديد الراحة والنشاط بقية النهار‪ ،‬ومعونة على قيام الليل‪.‬‬

‫)‬

‫((( األديم هو‪ :‬جلد مدبوغ‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)32/1‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13366 ،13310‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2332 ،2331‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪76‬‬

‫رسم تخيلي آخر للبيت النبوي‪ ،‬يظهر فيه الستر بينه وبين المسجد‬
‫‪77‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫ُ‬
‫باء‬
‫إلى ٍ‬
‫ق‬

‫اء‪ ،‬فيص ِّلي في المسجد‪،‬‬‫وكان يذهب ضحى كل سبت راكب ًا وماشي ًا إلى ُقب ٍ‬
‫َ‬
‫باء ــ وهم بنو عوف بن الحارث ــ فيس ِّلمون عليه وهو‬ ‫أهل ُق ٍ‬
‫وربما أتى إليه ُ‬
‫فيشير إليهم(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫يص ِّلي‪،‬‬
‫‪ ،‬فهو‬ ‫باء وأهل ُق ٍ‬
‫باء هو من حسن العهد منه‬ ‫وهذا التعاهد األسبوعي ل ُق ٍ‬

‫يزور المكان الذي أوى إليه أول ما قدم المدينة‪ ،‬فيزور أول أناس نزل عندهم‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ويصلي في أول مسجد بناه وصلى فيه‪﴿ ،‬ل َم ۡسج ٌد أ ّس َِس ع َّ‬
‫ٱتلق َو ٰى م ِۡن أ َّو ِل يَ ۡو ٍم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫باء فإنه ينام القيلولة عند أم َح َرام بنت ِم ْل َحان أخت أم ُسليم‬ ‫فإذا ذهب إلى ُق ٍ‬

‫(‪.)2‬‬ ‫وزوجة عباد َة بن الصامت ‪ ،‬وهي من محارمه‬


‫فدخل عليها يوم ًا‪ ،‬فأطعمته وجعلت َت ْف ِلي رأسه‪ ،‬وكان أوفى الناس جمة‬
‫وأكثرهم َشعر ًا‪ ،‬وكان أنظف الناس وأبعدهم عن ما يستقذر ولكن لخلطته‬
‫لألعراب ومن يسأله ويدنو منه ربما علق به مما فيهم ما يحتاج إلى تنظيفه بعناية‪،‬‬
‫‪ ،‬ثم استيقظ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ولذلك كانت أم حرام وأم سليم تفليان رأسه‪ .‬فنام‬
‫َاس ِم ْن ُأ َّمتِي ُع ِر ُضوا‬
‫رسول اهلل؟ قال‪« :‬ن ٌ‬ ‫َ‬ ‫وهو يضحك‪ ،‬قالت‪ :‬وما يضحكك يا‬
‫ون َث َب َج َه َذا ا ْل َب ْح ِر(‪ُ )3‬م ُلوك ًا َع َلى ْالَ ِس َّر ِة»‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫َع َل َّي ُغزَا ًة فِي َسبِ ِ‬
‫يل اهللِ َي ْر َك ُب َ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1193‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1399‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)2040 ،927‬وغيرها‪.‬‬
‫في «الزيارات النبوية»‪.‬‬ ‫على أم سليم ‪‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في دخوله‬
‫((( أي‪ :‬وسط البحر‪ ،‬أو ظهر البحر‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)206/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪78‬‬

‫ْت ِمن ُْه ْم»‪ .‬ثم وضع رأسه‪،‬‬ ‫«أن ِ‬‫رسول اهلل‪ ،‬ا ْد ُع اهللَ أن يجع َلني منهم‪ .‬فقال لها‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫َاس ِم ْن‬ ‫رسول اهلل؟ قال‪« :‬ن ٌ‬ ‫َ‬ ‫ثم استيقظ وهو يضحك‪ ،‬فقالت‪ :‬وما يضحكك يا‬
‫رسول اهلل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يل اهللِ»‪ .‬كما قال في األول‪ ،‬قالت‪ :‬يا‬ ‫ُأ َّمتِي ُع ِر ُضوا َع َل َّي ُغزَا ًة فِي َسبِ ِ‬
‫ت‬ ‫ْت ِمن ْالَولِين»‪َ .‬فت ََزوجها ُعباد ُة بن الص ِام ِ‬ ‫«أن ِ‬
‫ا ْد ُع اهللَ أن يجع َلني منهم‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫َب ْعدُ ‪َ ،‬ف َغ َزا في ا ْل َب ْح ِر َف َح َم َل َها معه‪ ،‬فلما قفلت ُق ِّر َب ْت َل َها َب ْغ َل ٌة َف َر ِك َبت َْها َف َص َر َعت َْها‪،‬‬
‫َفانْدَ َّق ْت ُعنُ ُق َها(‪ ،)1‬فتُو ِّفيت شهيدة ‪ ‬في زمان معاوي َة بن أبي سفيان ‪‬‬
‫ودفنت في قبرص(‪.)2‬‬
‫‪ ،‬وهو في ُبليدة في حاشية‬ ‫النبي‬
‫ويا هلل لهذه البشائر النبوية‪ ..‬يلقيها ُّ‬
‫حال من ِ‬
‫الق َّلة وال َع ْيلة‪ ،‬ف ُي َب ِّشر َّ‬
‫بأن أمته ستركب بحر الرو َم (البحر‬ ‫الجزيرة‪ ،‬على ٍ‬
‫األبيض المتوسط)‪ ،‬وهو البحر األبعد عن المدينة‪ ،‬في حال قوة واعتزاز‪،‬‬
‫كالملوك على األَ ِس َّرة‪.‬‬
‫وما كان العرب أهل ركوب للبحر‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن يكونوا من المحاربين فيه!‬
‫مم تعجب‪ :‬أمن هذه ال ُبشرى النبوية التي تجاوزت حدود اإلمكانات‬ ‫ال تدري َّ‬
‫والتوقعات والظروف المحيطة؟! أم من هذا اليقين في تل ِّقي البشرى من أم َح َرام‬
‫‪‬؟! فهي لم تسأل‪ :‬كيف ذلك ونحن كذلك؟ ومتى سيكون ذلك؟ وإنما‬
‫َّ‬
‫وكأن المشهد منها رأي العين‪.‬‬ ‫بادرت قائلة‪ :‬ا ْد ُع اهلل أن يجعلني منهم‪.‬‬

‫)‬
‫((( ينظر‪« :‬مسند أحمد» (‪ ،)13520‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)7001 ،2788‬و«صحيح مسلم» (‪.)1912‬‬
‫((( ينظر‪« :‬معرفة الصحابة» ألبي نعيم (‪.)3479/6‬‬
‫‪79‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫صورة قديمة لمسجد قباء تحفه بساتين النخيل‬

‫صورة حديثة لمسجد قباء بعد تجديده‬


‫‪81‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫ُ‬
‫أمسيات(‪ )1‬الرسول‬

‫من قيلولته إن كان ال يزال‬ ‫بالل للظهر‪ ،‬فيستيقظ‬ ‫فإذا زالت الشمس َأ َّذن ٌ‬
‫ويتوضأ إن كان به حاجة إلى ُوضوء‪ ،‬ثم‬ ‫َّ‬ ‫نائم ًا‪ ،‬و ُيجيب المؤ ِّذ َن بمثل ما يقول(‪،)2‬‬
‫يص ِّلي في بيته أربع ركعات(‪ ،)3‬وكان يقول‪« :‬إِنَّها ساع ٌة ُت ْفتَح فِيها َأبواب السم ِ‬
‫اء‪،‬‬ ‫ُ َ ْ َ ُ َّ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ب َأ ْن َي ْص َعدَ لِي فِ َيها َع َم ٌل َصالِ ٌح»(‪.)4‬‬ ‫ِ‬
‫َو ُأح ُّ‬
‫ثم ينتظر الصال َة في بيته‪ ،‬وربما كان عنده بعض بنيه‪ ،‬كالحسن والحسين‪،‬‬
‫بالل ‪ ‬بالصالة‬ ‫ابني فاطمة‪ ،‬أو ُأمام َة ابنة ابنته زينب؛ فيالعبهم حتى يؤذنَه ٌ‬
‫فيخرج(‪.)5‬‬
‫وربما ق َّبل إحدى زوجاته وهو خارج إلى الصالة(‪ ،)6‬فإذا كان وهو متوضئ‬
‫وخارج للصالة يق ِّبل زوجته فكيف به معها في حال ُأنسه وسعة وقته؟‬
‫بالل ‪ ‬الصالةَ‪ ،‬وقام الصحاب ُة ‪ ‬إذا َر َأ ْو ُه(‪.)7‬‬
‫فإذا خرج أقام ٌ‬
‫((( المساء من بعد الظهر إلى غروب الشمس‪ ،‬وقيل إلى نصف الليل‪ .‬ينظر‪« :‬لسان العرب» (‪.)281/15‬‬
‫بعد الفجر في «أنوار الفجر»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في استيقاظه‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24019‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)730‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1251‬وغيرها‪.‬‬
‫وقد ورد أنه كان يص ِّلي ركعتين‪ ،‬ولم ُيذكر أنه صالهما في بيته‪.‬‬
‫ينظر‪« :‬صحيح البخاري» (‪ ،)1172 ،937‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)729 ،723‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23551‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)478‬وغيرها‪.‬‬
‫((( ينظر‪« :‬قصص نبوية» للمؤ ِّلف (ص‪« /220 - 217‬أمامة»)‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25766‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)179‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)86‬وغيرها‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في صالة الصبح في «أنوار الفجر»‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪82‬‬

‫ال الحسن أو الحسين ‪ ،‬أو حام ً‬


‫ال‬ ‫منظره خارج ًا إليهم حام ً‬
‫أهم ُ‬‫وربما َف َج ُ‬
‫الصبي وص َّلى وهو إلى جانبه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ابنته ُأمام َة على رقبته‪ ،‬وربما وضع‬
‫ومن ذلك‪ :‬أنه خرج مرة‪ ،‬وهو حامل الحسن أو الحسين‪ ،‬فتقدَّ م فوضعه‪،‬‬
‫ثم ك َّبر للصالة‪ ،‬فص َّلى‪ ،‬فسجد في أثناء صالته سجدة أطالها‪ ،‬فرفع شدا ُد بن‬
‫وهو ساجد‪ ،‬فلما قضى‬ ‫الصبي على ظهر رسول اهلل‬ ‫ُّ‬ ‫رأسه‪ ،‬فإذا‬ ‫الهاد ‪َ ‬‬
‫سجدت سجد ًة أطلتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬إنك‬ ‫َ‬ ‫الناس‪ :‬يا‬
‫ُ‬ ‫صالتَه قال‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬
‫ك َل ْم َيك ُْن َو َلكِ َّن‬
‫وحى إليك! قال‪« :‬ك ُُّل َذلِ َ‬ ‫أمر‪ ،‬أو أنه ُي َ‬ ‫حتى ظننا أنه قد حدث ٌ‬
‫ِ‬ ‫ا ْبنِي ْارت ََح َلنِي‪َ ،‬فك َِر ْه ُ‬
‫ت َأ ْن ُأ ْع ِ‬
‫ج َل ُه َحتَّى َي ْقض َي َح َ‬
‫اج َت ُه»(‪.)1‬‬
‫في سجوده ألنه اعتاد ذلك‪ ،‬فلما رأى‬ ‫وإنما صعد الصبي ظهر النبي‬
‫ساجد ًا حسب أن هذه من أحوال اللهو معه فارتحل ظهر أبيه‬ ‫النبي‬
‫وأطال سجوده حتى ال يعجله‪.‬‬ ‫‪ ،‬وثبت له النبي‬ ‫رسول اهلل‬
‫وخرج مرة و ُأمامة ابنة بنته زينب على عاتقه فصلى والطفلة على حالها‪ ،‬إذا‬
‫ركع وضعها‪ ،‬وإذا قام رفعها(‪.)2‬‬
‫بابنه وابنته في صالته جمع لعبادتين في آن واحد‪،‬‬ ‫إن انشغال النبي‬
‫فرحمة العيال عبادة‪ ،‬والصالة عبادة‪ ،‬كما هو تعليم ألمته الرحمة بالطفولة‪،‬‬
‫وإغداق الحب والحنان على الذرية‪.‬‬
‫الظهر في أول وقتها‪ ،‬ويقرأ في الركعتين األُوليين منها في‬
‫َ‬ ‫يص ِّلي‬ ‫وكان‬
‫ويطول الركعة األُولى و ُي ِّ‬
‫قصر في الثانية‪ ،‬ويقرأ في‬ ‫ِّ‬ ‫كل ركعة بنحو ثالثي َن آي ًة‪،‬‬
‫قدر النصف من ذلك(‪.)3‬‬ ‫األُخريين َ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)27647 ،16033‬و«سنن النسائي» (‪ ،)731‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)516‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)543‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)759 ،565‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)618 ،452‬وغيرها‪.‬‬
‫‪83‬‬ ‫�أم�سيات الر�سول‬

‫الذاهب إلى ال َب ِقيع‪ ،‬فيقضي‬


‫ُ‬ ‫فيذهب‬
‫ُ‬ ‫وربما أطالها أحيان ًا حتى إن الصال َة تُقا ُم‪،‬‬
‫في الركعة األولى؛‬ ‫ُ‬
‫ورسول اهلل‬ ‫فيتوضأ‪ ،‬ثم يأتي‬
‫َّ‬ ‫يذهب إلى أهله‬
‫ُ‬ ‫حاجته‪ ،‬ثم‬
‫يطو ُلها(‪ ،)1‬وذلك لما يعلم من نشاط أصحابه ورغبتهم في إطالة الصالة معه‪.‬‬ ‫مما ِّ‬
‫وكان ُي ِس ُّر القراء َة في صالته‪ ،‬ف َيعرفون قراءتَه باضطراب لحيته‪ ،‬وربما سمعوا‬
‫منه اآلي َة واآليتين أحيان ًا(‪.)2‬‬
‫النَّ َغ َم َة فِي ال ُّ‬
‫ظ ْه ِر بِـ‪َ ﴿ :‬س ّبِحِ‬ ‫َس ‪َ ‬ق َال‪ُ :‬كنَّا نَسم ُع ِم ْن رس ِ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َف َع ْن َأن ٍ‬
‫َۡ ََٰ َ َ ُ ۡ‬ ‫َ َۡ َۡ‬
‫ِيث ٱل َغٰشِ َيةِ﴾(‪.)3‬‬
‫ٱس َم َر ّبِك ٱلع﴾‪ ،‬و﴿هل أتىك حد‬ ‫ۡ‬

‫عارض‬
‫ٌ‬ ‫أمر أو َع َر َض‬
‫فإذا فرغ من صالته أقبل على أصحابه‪ ،‬فإن كان قد نزل ٌ‬
‫الناس بعد صالة الظهر؛ ألنها وقت اجتماع الناس ونشاطهم؛ إذ هم قد‬
‫َ‬ ‫خ َط َ‬
‫ب‬
‫نهضوا من قيلولتهم‪ ،‬فاالجتماع فيها أكثر‪ ،‬والنفوس جا َّمة مستريحة واعية لما يقال‪.‬‬
‫الم َضر ِّيين‪ ،‬فرأى ما بهم من الجوع‬ ‫ومن ذلك‪ :‬خطبته عندما قدم عليه وفدُ ُ‬
‫فح ِمدَ اهللَ‪،‬‬
‫والفاقة‪ ،‬فتأثر لحالهم‪ ،‬وصعد المنبر‪ ،‬وخطب بعد صالة الظهر‪َ ،‬‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُ َّ ُ ْ‬
‫«أ َّما َب ْعدُ ‪َ ،‬فإِ َّن اهللَ َأ ْنز ََل فِي كِتَابِ ِه‪﴿ :‬يـأيها ٱنل‬
‫ُ‬
‫اس ٱتقوا َر َّبك ُم‬ ‫وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫َ َ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ َ َّ ۡ ُ َ َ ٗ َ ٗ َ َ ٓ ٗ َ َّ ُ ْ‬ ‫َّ ۡ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َّ‬
‫ٱلِي خلقكم ّمِن نف ٖس وٰحِدة ٖ وخلق مِنها زوجها وبث مِنهما رِجال كثِريا ون ِساء ۚ وٱتقوا‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ۡ َ ۡ َ َ َّ َّ َ َ َ َ َ ۡ ُ‬ ‫َ ٓ ُ َ‬ ‫َّ َ َّ‬
‫ِيبا﴾‪﴿ ،‬يـأيها ٱلِين ءامنوا‬ ‫ك ۡم َرق ٗ‬ ‫ٱلل ٱلِي ت َسا َءلون بِهِۦ وٱلرحام ۚ إِن ٱلل كن علي‬
‫َّ ُ ْ َّ َ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ ‪َ ُ َ ۡ َ َ ۢ ُ َ َ َّ َّ َ َّ ْ ُ َّ َ َ ۡ َ َّ َ َّ ٞ‬‬
‫ون﴾‪ ،‬ت ََصدَّ َق‬ ‫ٱتقوا ٱلل ولنظر نفس ما قدمت ل ِغدٖۖ وٱتقوا ٱللۚ إِن ٱلل خبِري بِما تعمل‬
‫َار ِه‪ِ ،‬م ْن ِد ْر َه ِم ِه‪ِ ،‬م ْن َث ْوبِ ِه‪ِ ،‬م ْن َصا ِع ُب ِّر ِه‪ِ ،‬م ْن َصا ِع ت َْم ِر ِه»‪ .‬حتى قال‪:‬‬
‫َر ُج ٌل ِم ْن ِدين ِ‬
‫الناس على الصدقة ور َّغبهم فيها(‪.)4‬‬ ‫فحث َ‬ ‫َّ‬ ‫«و َل ْو بِ ِش ِّق ت َْم َر ٍة»‪.‬‬
‫َ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)11307‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)454‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)825‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)746‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)451‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)801‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح ابن خزيمة» (‪.)512‬‬
‫بعد صالة الصبح في «المجلس النبوي»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في مجلسه‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪84‬‬

‫وله عليها‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬خطبته يوم قدم عليه ابن ال ُّلتْبِ َّي ِة من ِسعاية كان قد َّ‬
‫فتشهدَ‬
‫َّ‬ ‫الناس بعد صالة الظهر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬هذا لكم‪ ،‬وهذا ُأ ْه ِدي لي‪ .‬فخطب‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫الر ُج َل ِمنْك ُْم‬ ‫ِ‬
‫«أ َّما َب ْعدُ ‪َ ،‬فإِنِّي َأ ْس َت ْعم ُل َّ‬ ‫وح ِمدَ اهلل وأثنى عليه بما هو أهله‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫ت لِي‪َ ،‬أ َف َل‬ ‫ول‪َ :‬ه َذا َما ُلك ُْم َو َه َذا َه ِد َّي ٌة ُأ ْه ِد َي ْ‬ ‫َع َلى ا ْل َع َم ِل ِم َّما َو َّلنِي اهللُ‪َ ،‬ف َي ْأتِي َف َي ُق ُ‬
‫الذي َن ْف ُس ُم َح َّم ٍد بِ َي ِد ِه‪َ ،‬ل َي ْأ ُخ ُذ َأ َحدٌ‬ ‫يه و ُأم ِه حتَّى ت َْأتِيه ه ِدي ُته؟! و ِ‬
‫َ ُ َ َّ ُ َ‬
‫ِ ِ‬
‫َج َل َس في َب ْيت َأبِ َ ِّ َ‬
‫ِ‬

‫ل ْع ِر َف َّن َأ َحد ًا ِمنْك ُْم َل ِق َي اهللَ‬ ‫هلل َي ْح ِم ُل ُه َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪َ ،‬ف َ َ‬


‫ِمنْك ُْم َش ْيئ ًا بِ َغ ْي ِر َح ِّق ِه إِ َّل َل ِق َي ا َ‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬ف َأ ُق ُ‬ ‫ول‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫اء‪َ ،‬أ ْو َب َق َر ًة َل َها ُخ َو ٌار‪َ ،‬أ ْو َشا ًة َت ْي َع ُر(‪َ )1‬ي ُق ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫ول‪:‬‬ ‫َي ْحم ُل َبعير ًا َل ُه ُر َغ ٌ‬
‫غت؟ ال َل ُه َّم‬ ‫بياض إبطيه‪ ،‬يقول‪« :‬ال ّل ُه َّم َه ْل َب َّل ُ‬ ‫ُك»‪ .‬ثم رفع يدَ يه حتى ُرؤي ُ‬ ‫َقدْ َب َّل ْغت َ‬
‫غت؟ ال ّل ُه َّم َه ْل َب َّلغ ُ‬
‫ْت؟»(‪.)2‬‬ ‫َه ْل َب َّل ُ‬
‫مرةً‪ ،‬فلما س َّلم قام على المنبر‪ ،‬فذكر الساع َة‪ ،‬وذكر أن قبلها‬ ‫الظهر َّ‬
‫َ‬ ‫وص َّلى‬
‫ب َأ ْن َي ْس َأ َلنِي َع ْن َش ْي ٍء َف ْل َي ْس َأ ْلنِي َعنْ ُه‪ ،‬ف َ َواهللِ َل‬
‫«م ْن َأ َح َّ‬
‫أمور ًا عظام ًا‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫تَس َأ ُلونَنِي عن َشي ٍء إِ َّل َأ ْخبر ُتكُم بِ ِه ما دم ُ ِ‬
‫الناس البكا َء‪،‬‬‫ت في َم َقامي َه َذا»‪ .‬فأك َث َر ُ‬ ‫َْ ْ َ ُْ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫مي‬ ‫«س ُلوني»‪ .‬فقام عبدُ اهلل ب ُن ُح َذاف َة َّ‬
‫الس ْه ُّ‬ ‫أن يقول‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫وأك َث َر‬
‫رسول اهلل‪َ ،‬من أبي؟ وكان إذا خاصم ُيدعى إلى غير أبيه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫«س ُلونِي»‪.‬‬ ‫وك ُح َذا َف ُة»‪ .‬ثم أكثر أن يقول‪َ :‬‬ ‫«أ ُب َ‬ ‫َ‬
‫فبرك عمر على ركبتيه وقال‪ :‬رضينا باهلل رب ًا‪ ،‬وباإلسالم دين ًا‪ ،‬وبمحمد‬
‫حين قال‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫نبي ًا‪ ،‬نعوذ باهلل من غضب اهلل وغضب رسوله‪ ،‬فسكت‬
‫«أ ْو َلى(‪َ ،)3‬وا َّل ِذي َن ْف ُس ُم َح َّم ٍد بِ َي ِد ِه‪َ ،‬ل َقدْ ُع ِر َض ْ‬
‫ت َع َل َّي ا ْل َجنَّ ُة‬ ‫عمر ذلك‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫((( الرغاء‪ :‬صوت صياح اإلبل‪ .‬والخوار‪ :‬صوت البقر والغنم‪ .‬وتيعر‪ :‬تصيح بشدة‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪،)240/2‬‬
‫(‪.)297/5( ،)87/2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6636 ،2597‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1832‬وغيرها‪.‬‬
‫((( هي كلمة تهديد ووعيد‪ ،‬ومعناها‪ :‬قرب منكم ما تكرهونه‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم»‬
‫(‪.)503-502/15‬‬
‫‪85‬‬ ‫النبوي‬ ‫المجل�س‬
‫الر�سول‬ ‫�أم�سيات‬

‫الش ِّر‪َ ،‬و َل ْو َت ْع َل ُم َ‬


‫ون‬ ‫ط‪َ ،‬ف َل ْم َأ َر كَا ْل َي ْو ِم فِي ا ْل َخ ْي ِر َو َّ‬
‫ض ه َذا ا ْلحائِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫َوالن َُّار آنف ًا في ُع ْر ِ َ‬
‫ال َو َل َب َك ْيت ُْم كَثِير ًا»‪ .‬فما َأتَى على أصحاب رسول اهلل‬ ‫ح ْكت ُْم َقلِي ً‬ ‫ما َأع َلم َل َض ِ‬
‫َ ْ ُ‬
‫رؤوس ُهم ولهم َخنِين(‪.)1‬‬ ‫َ‬ ‫يو ٌم َأ َشدُّ منه‪َ ،‬غ َّط ْوا‬
‫فح ِمدَ‬
‫المنبر‪َ ،‬‬‫َ‬ ‫فص ِعدَ‬ ‫ماعز ‪َ ،‬‬ ‫وخطب بعد الظهر في اليوم الذي ُر ِجم فيه ٌ‬
‫ف َر ُج ٌل فِي ِع َيالِنَا‪،‬‬ ‫«أ َو ُك َّل َما َن َف ْرنَا ُغزَ ا ًة فِي َسبِ ِ‬
‫يل اهللِ ت ََخ َّل َ‬ ‫اهللَ‪ ،‬وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪َ :‬‬
‫س(‪َ ،)2‬ي ْمن َُح إِ ْحدَ ُاه َّن ا ْل ُك ْث َب َة ِم َن ال َّل َبن؟(‪َ ،)3‬واهللِ َواهللِ‪َ ،‬ل ُأوتَى‬ ‫يب ال َّت ْي ِ‬‫يب َكنَبِ ِ‬ ‫َل ُه َنبِ ٌ‬
‫ت بِ ِه»‪ .‬ولم يستغفر له ولم َي ُس َّبه(‪.)4‬‬ ‫ك إِ َّل َن َّك ْل ُ‬ ‫بِ َر ُج ٍل َف َع َل َذلِ َ‬
‫وكأن هذه الخطب في هذا الوقت تكون في األمر العارض والشأن العاجل‬ ‫َّ‬
‫الذي ال يحتمل التأخير إلى يوم الجمعة‪.‬‬
‫إلى بيته‪ ،‬فيص ِّلي ركعتين‪ ،‬هي راتبة الظهر(‪.)5‬‬ ‫ثم يعود‬
‫إلى أصحابه‪ ،‬وربما جلس لهم إلى العصر‪ ،‬كما حبس نفسه‬ ‫ثم يخرج‬
‫لوفد عبد ال َق ْيس من صالة الظهر إلى صالة العصر(‪.)6‬‬
‫وكان هذا الوقت وقت استئناف العمل وليس وقت نوم ألن الحرارة تنكسر‬
‫بعد الزوال‪ ،‬ولذا يذهب أحيان ًا في هذا الوقت لقضاء بعض حاجات المسلمين؛‬
‫ٍ‬
‫شر‪ ،‬وأنهم اقتتلوا‪،‬‬ ‫فقد بلغه مر ًة أن أهل ُقباء؛ بني َعمرو بن عوف كان بينهم ٌّ‬
‫حتى ترا َم ْوا بالحجارة‪ ،‬فص َّلى الظهر‪ ،‬ثم قال ألصحابه‪« :‬ا ْذ َه ُبوا بِنَا َحتّى ن ُْصلِ َح‬
‫ت ص َل ُة ا َلعص ِر و َلم ِ‬
‫آت‪َ ،‬ف ُم ْر َأ َبا َبك ٍْر‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫َب ْين َُه ْم»‪ .‬وقال لبالل ‪« :‬إِ َذا َح َض َر ْ َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7291 ،7089 ،540 ،93 ،92‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2359‬وغيرها‪.‬‬
‫والخنين‪ :‬رفع الصوت بالبكاء والنحيب‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)85/2‬‬
‫((( النبيب‪ :‬صوت التيس عند الجماع‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)4/5‬‬
‫((( أي‪ :‬القليل منه‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)151/4‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)20803‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1694 ،1692‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4422‬وغيرها‪.‬‬
‫»‪.‬‬ ‫أربع ركعات قبل الظهر في «أمسيات الرسول‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في صالته‬
‫ركعتين بعد العصر في «والعصر»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما سيأتي في صالته‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪86‬‬

‫العصر َأ َّذ َن ٌ‬
‫بالل‪ ،‬فلما حانت الصالةُ‪ ،‬ولم يأت‬ ‫ُ‬ ‫َف ْل ُي َص ِّل بِالن ِ‬
‫َّاس»‪ .‬فلما حضرت‬
‫قد ُحبِس‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫جاء إلى أبي بكر‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا بكر‪ ،‬إن‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬
‫شئت‪ .‬فأقام ٌ‬
‫بالل‪ ،‬وتقدَّ م‬ ‫وحانت الصالةُ‪ ،‬فهل لك أن ت َُؤ َّم الناس؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬إن َ‬
‫يمشي في الصفوف‪ ،‬حتى قام‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫الناس‪ ،‬وجاء‬
‫ُ‬ ‫أبو بكر‪ ،‬فك َّبر وك َّبر‬
‫الناس في التصفيق‪ ،‬وكان أبو بكر ال يلتفت في صالته‪ ،‬فلما‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فأخذ‬ ‫الصف‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫في‬
‫يتأخر‪ ،‬فأشار إليه‬‫‪ ،‬فذهب َّ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫التصفيق التفت‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬ ‫الناس‬
‫ُ‬ ‫أكثر‬
‫َ‬
‫فح ِمدَ اهللَ‪،‬‬
‫‪ ،‬أن امكث مكانك‪ ،‬فرفع أبو بكر يديه إلى السماء‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬
‫‪ ،‬ثم استأخر حتى قام في الصف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫وأثنى عليه على ما أمره به‬
‫«ما‬‫‪ ،‬فص َّلى للناس‪ ،‬فلما فرغ أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫فتقدَّ م‬
‫يق لِلنِّس ِ‬ ‫يق‪ ،‬إِن ََّما الت َّْص ِف ُ‬
‫الص َل ِة َأ َخ ْذت ُْم فِي الت َّْص ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‪َ ،‬م ْن‬ ‫َ‬ ‫ين نَا َبك ُْم َش ْي ٌء في َّ‬ ‫َلك ُْم ح َ‬
‫ِ‬ ‫نَا َب ُه َش ْي ٌء فِي َص َلتِ ِه َف ْل َي ُق ْل‪ُ :‬س ْب َح َ‬
‫ان‬
‫ول ُس ْب َح َ‬‫ين َي ُق ُ‬ ‫ان اهللِ‪َ ،‬فإِ َّن ُه َل َي ْس َم ُع ُه َأ َحدٌ ح َ‬
‫ك؟»‪ .‬فقال‬ ‫ت إِ َل ْي َ‬‫ين َأ َش ْر ُ‬ ‫ك َأ ْن تُص ِّلي لِلن ِ ِ‬ ‫ت‪َ .‬يا َأ َبا َبك ٍْر‪َ ،‬ما َمنَ َع َ‬‫اهللِ إِ َّل ا ْل َت َف َ‬
‫َّاس ح َ‬ ‫َ َ‬
‫(‪.)1‬‬ ‫أبو بكر‪ :‬ما كان ينبغي البن أبي ُقحا َف َة أن يص ِّلي بين يدي رسول اهلل‬
‫ِ‬
‫الربيع ‪،‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬ذهابه إلى األَ ْسواف شمال ال َبقيع‪ ،‬عند بنات َسعد بن َّ‬
‫َي ْق ِسم بينهن ميراثهن من أبيهن‪ ،‬و ُك َّن َ‬
‫أول نسوة َو ِرث َن من أبيهن في اإلسالم‪،‬‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ضحى‪ُ ،‬فأتِي ب َغداء من خبز ولحم قد ُصنع له‪ ،‬فأكل‬ ‫ً‬ ‫فذهب إليهم‬
‫وتوضأ القوم معه‪ ،‬ثم ص َّلى بهم الظهر‪،‬‬
‫َّ‬ ‫توضأ للظهر‬
‫وأكل القو ُم معه‪ ،‬ثم َّ‬
‫ثم قعد في ما بقي من قسمته له َّن حتى حضرت صالة العصر وفرغ من أمره‬
‫منهن‪ ،‬فردوا إليه فضل َغدائه من الخبز واللحم‪ ،‬فأكل وأكل القوم معه‪ ،‬ثم نهض‬
‫فص َّلى بهم‪ ،‬ولم يتوضأ‪ ،‬وال أحد من القوم(‪.)2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1218 ،684‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)421‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15020‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)2891‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2092‬وغيرها‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫والعصــر‬

‫وكان إذا ُأ ِّذ َن لصالة العصر‪ ،‬انتظر حتى يجتمع ُ‬


‫الناس لها‪ ،‬فإذا اجتمعوا خرج‬
‫أنس ‪:‬‬
‫والشمس ح َّية‪ ،‬حتى قال ٌ‬
‫ُ‬ ‫العصر‪ ،‬وكان يص ِّليها في أول وقتها‬
‫َ‬ ‫فص َّلى‬
‫(‪ .)1‬وكان يجعل قراءته‬ ‫تعج ً‬
‫ال لصالة العصر من رسول اهلل‬ ‫ما كان أحدٌ أشدَّ ُّ‬
‫فيها على النصف من صالة الظهر(‪.)2‬‬
‫ٌ‬
‫حديث يريد أن‬ ‫ثم‬
‫فإذا فرغ من صالته أقبل على أصحابه‪ ،‬فإن كان َّ‬
‫يحدِّ ثهم حدَّ ثهم‪ ،‬فقد أقبل عليهم مر ًة بعد انصرافه من صالة العصر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬إن كان خير ًا‬ ‫«ما َأ ْد ِري ُأ َحدِّ ُثك ُْم بِ َش ْي ٍء َأ ْو َأ ْسك ُ‬
‫ُت؟!»‪ .‬فقالوا‪ :‬يا‬ ‫َ‬
‫«ما ِم ْن ُم ْسلِ ٍم َي َت َ‬
‫ط َّه ُر‬ ‫هلل ورسو ُله أعلم‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫فحدِّ ثنا‪ ،‬وإن كان غير ذلك‪ ،‬فا ُ‬
‫ات ا ْل َخ ْم َس‪ ،‬إِ َّل كَان ْ‬ ‫طهور ا َّل ِذي كُتِب ع َلي ِه‪َ ،‬فيص ِّلي ه ِذ ِه الص َلو ِ‬ ‫ِ‬
‫َت‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َف ُيت ُّم ال ُّ ُ َ‬
‫ات لِ َما َب ْين ََه َّن»(‪.)3‬‬
‫َك َّفار ٍ‬
‫َ‬
‫ال ومختصر ًا بالنسبة لحديثه‬ ‫وكان حدي ُثه إلى أصحابه بعد صالة العصر قلي ً‬
‫بعد صالة الظهر؛ وذلك لك ََل ِل الناس‪ ،‬وحاجتهم إلى االنصراف إلكمال‬
‫أعمالهم‪ ،‬وإعداد َعشائهم‪.‬‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13482‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)565 ،541‬و«صحيح مسلم» (‪.)647 ،646‬‬
‫»‪.‬‬ ‫في صالة الظهر في «أمسيات الرسول‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في قراءته‬
‫((( «مصنف ابن أبي شيبة» (‪ ،)7648‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)231‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪88‬‬

‫فيطوف عليه َّن جميع ًا‪ ،‬فيدنو‬


‫ُ‬ ‫فإذا انصرف من صالة العصر دخل على نسائه‪،‬‬
‫من كل امرأة منهن في مجلسه‪ ،‬ف ُيق ِّبل ويمس ما دون الوقاع‪ ،‬حتى ينتهي إلى التي‬
‫هو يومها‪ ،‬فيبيت عندها(‪.)1‬‬
‫إذا دخل بيته بعد صالة العصر ص َّلى ركعتين‪ ،‬مع أنه كان َين َْهى عن‬ ‫وكان‬
‫باإلسالم من قومهم‪،‬‬ ‫الصالة بعد العصر‪ ،‬وذلك أن وفد عبد ال َق ْيس َأت َْوا إليه‬
‫فشغلوه عن الركعتين اللتين بعد الظهر‪ ،‬فقضاهما بعد العصر‪ ،‬ثم أثبتهما‪ ،‬وكان‬
‫ب بِ ِه‪َ ،‬ما ت ََرك َُه َما ــ َت ْعنِي‬ ‫ِ‬
‫إذا ص َّلى صال ًة أثبتها‪ ،‬حتى قالت عائشة ‪َ :‬وا َّلذي َذ َه َ‬
‫في َب ْيتِ ِه َو َل‬
‫ُي َص ِّل ِيه َما ِ‬ ‫الر ْك َع َت ْي ِن َب ْعدَ ال َع ْص ِر ــ َحتَّى َل ِق َي اهللَ‪َ ،‬وك َ‬
‫َان النَّبِ ُّي‬ ‫َّ‬
‫ف َعن ُْه ْم(‪.)2‬‬ ‫ب َما ُي َخ ِّف ُ‬ ‫يص ِّل ِيهما فِي ا ْلمس ِج ِد م َخا َف َة َأ ْن ي َث ِّق َل َع َلى ُأمتِ ِه‪ ،‬وك َ ِ‬
‫َان ُيح ُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ َ َ‬
‫وكان يقضي فترة بعد العصر غالب ًا في بيته ومع نسائه‪.‬‬
‫وكان يجري في مجلسه مع زوجاته األُنس الزوجي‪ ،‬وحديث اإلمتاع والسلوة‪،‬‬
‫‪َ ،‬قا َل ْت‪َ ‌:‬ج َل َس‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬حديث أم زرع الذي حدَّ ثت به عائش ُة‬
‫اج ِه َّن َش ْيئ ًا‬ ‫اهدْ َن َو َت َعا َقدْ َن َأ ْن َل َي ْكت ُْم َن ِم ْن َأ ْخ َب ِ‬
‫ار َأ ْز َو ِ‬ ‫‌إِ ْحدَ ى ‌ َع ْش َر َة ‌ا ْم َر َأةً‪َ ‌ ،‬ف َت َع َ‬
‫ــ أي اجتمعن في مجلس نسوي‪ ،‬واتفقن أن يتحدثن عن أزواجهن‪ ،‬فيصفنهم‬
‫مدح ًا أو ذم ًا بأسلوب وصفي بليغ ــ‪.‬‬
‫س َج َب ٍل‪َ :‬ل َس ْه ٍل َف ُي ْر َت َقى َو َل‬ ‫ت األُو َلى‪َ :‬ز ْو ِجي َل ْح ُم َج َم ٍل َغ ٍّث‪َ ،‬ع َلى َر ْأ ِ‬ ‫ف َقا َل ِ‬
‫ين َف ُينْ َت َق ُل(‪.)3‬‬‫َس ِم ٍ‬
‫ت ال َّثانِ َي ُة‪َ :‬ز ْو ِجي َل َأ ُب ُّث َخ َب َر ُه‪ ،‬إِنِّي َأ َخ ُ‬
‫اف َأ ْن َل َأ َذ َر ُه‪ ،‬إِ ْن َأ ْذك ُْر ُه َأ ْذك ُْر ُع َج َر ُه‬ ‫َقا َل ِ‬
‫َو ُب َج َر ُه(‪.)4‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24765‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)2135‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1233 ،593 ،586‬و«صحيح مسلم» (‪.)835 ،834 ،825‬‬
‫((( األولى شكت زوجها بالبخل وشراسة الخلق‪.‬‬
‫((( الثانية شكت زوجها وقالت بأنها ال تريد نشر مساوئه لكثرتها‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫والع�صــر‬

‫ُت ُأ َع َّل ْق(‪.)1‬‬ ‫ت ال َّثالِ َث ُة‪َ :‬ز ْو ِج َي ال َع َشن َُّق‪ ،‬إِ ْن َأنْطِ ْق ُأ َط َّل ْق َوإِ ْن َأ ْسك ْ‬ ‫َقا َل ِ‬

‫الرابِ َع ُة‪َ :‬ز ْو ِجي َك َل ْي ِل تِ َها َم َة‪َ ،‬ل َح ٌّر َو َل ُق ٌّر‪َ ،‬و َل َم َخا َف َة َو َل َسآ َم َة(‪.)2‬‬ ‫َقا َلت َّ‬
‫ِ‬

‫الخ ِام َس ُة‪َ :‬ز ْو ِجي إِ ْن َد َخ َل َف ِهدَ ‪َ ،‬وإِ ْن َخ َر َج َأ ِسدَ ‪َ ،‬و َل َي ْس َأ ُل َع َّما َع ِهدَ (‪.)3‬‬ ‫ت َ‬ ‫َقا َل ِ‬

‫َف‪،‬‬ ‫اض َط َج َع الت َّ‬ ‫َف‪َ ،‬وإِ ِن ْ‬ ‫ف‪َ ،‬وإِ ْن َش ِر َب ْاشت َّ‬ ‫اد َس ُة‪َ :‬ز ْو ِجي إِ ْن َأك ََل َل َّ‬ ‫ت الس ِ‬ ‫َقا َل ِ‬
‫َّ‬
‫َف لِ َي ْع َل َم ال َب َّث(‪.)4‬‬
‫َو َل ُيولِ ُج الك َّ‬
‫السابِ َع ُة‪َ :‬ز ْو ِجي َغ َيا َيا ُء ــ َأ ْو َع َيا َيا ُء ــ َط َبا َقا ُء‪ ،‬ك ُُّل َد ٍاء َل ُه َدا ٌء‪َ ،‬ش َّج ِك َأ ْو‬ ‫َقا َلت َّ‬
‫ِ‬

‫ال َل ِك(‪.)5‬‬ ‫َف َّل ِك َأ ْو َج َم َع ُك ً‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب(‪.)6‬‬ ‫يح َز ْرن ٍ‬ ‫يح ِر ُ‬ ‫الر ُ‬
‫َب‪َ ،‬و ِّ‬ ‫الم ُّس َم ُّس َأ ْرن ٍ‬ ‫َقا َلت ال َّثامنَ ُة‪َ :‬ز ْوجي َ‬
‫اد‪َ ،‬ق ِريب البي ِ‬ ‫اد‪َ ،‬عظِيم الرم ِ‬ ‫اد‪َ ،‬ط ِو ُيل النِّج ِ‬ ‫العم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ُ َْ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫يع َ‬ ‫َقا َلت التَّاس َع ُة‪َ :‬ز ْو ِجي َرف ُ‬
‫ِمن الن ِ‬
‫َّاد(‪.)7‬‬ ‫َ‬
‫ات‬ ‫اش َرةُ‪َ :‬ز ْو ِجي َمالِ ٌك َو َما َمالِ ٌك‪َ ،‬مالِ ٌك َخ ْي ٌر ِم ْن َذلِ ِك‪َ ،‬ل ُه إِبِ ٌل كَثِ َير ُ‬ ‫ت الع ِ‬
‫َ‬
‫َقا َل ِ‬

‫الم ْز َه ِر‪َ ،‬أ ْي َق َّن َأن َُّه َّن َه َوالِ ُك(‪.)8‬‬


‫ار ِح‪ ،‬وإِ َذا س ِمعن صو َت ِ‬
‫الم َس ِ َ َ ْ َ َ ْ‬ ‫ارك‪َ ،‬قل َيل ُت َ‬
‫المب ِ ِ ِ‬
‫ََ‬
‫َاس ِم ْن ُح ِل ٍّي ُأ ُذن ََّي‪،‬‬ ‫الحاد َي َة َع ْش َرةَ‪َ :‬ز ْو ِجي َأ ُبو َز ْرعٍ‪َ ،‬و َما َأ ُبو َز ْرعٍ‪َ ،‬أن َ‬
‫ِ‬
‫َقا َلت َ‬
‫ِ‬

‫ل ِم ْن َش ْح ٍم َع ُضدَ َّي‪َ ،‬و َب َّج َحنِي َف َب ِج َح ْت إِ َل َّي َن ْف ِسي‪َ ،‬و َجدَ نِي فِي َأ ْه ِل ُغنَ ْي َم ٍة‬ ‫َو َم َ َ‬

‫((( الثالثة شكت زوجها بأنه طويل مذموم سيء الخلق‪ ،‬فإذا نطقت بذلك يطلقها‪ ،‬وإن سكتت يع ّلقها‪.‬‬
‫((( الرابعة مدحت زوجها بأن أخالقه كريمة فال تخافه‪ ،‬وال يستثقلها‪ ،‬فعيشتها معه لذيذة كلذة أهل تهامة بليلهم‬
‫المعتدل‪.‬‬
‫((( الخامسة مدحت زوجها بالمسامحة في العشرة والتغافل عن معايب البيت‪ ،‬وكذلك مدحته بالشجاعة‪.‬‬
‫((( السادسة شكت زوجها بأنه يأكل ويشرب وينام كثير ًا‪ ،‬وأنها ال تحظى منه بحق الزوجة‪.‬‬
‫((( السابعة شكت زوجها بالحمق وسوء العشرة والعجز عن قضاء وطرها‪ ،‬وإذا حدّ ثته سبها‪ ،‬وإذا مازحته ّ‬
‫شجها‪.‬‬
‫((( الثامنة مدحت زوجها بحسن خلقه ولين جانبه‪ ،‬ونظافته واستعماله الطيب‪.‬‬
‫((( التاسعة مدحت زوجها بطول قامته وشجاعته وكرمه‪.‬‬
‫((( العاشرة مدحت زوجها مالك بأنه شديد الكرم وله مال كثير‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪90‬‬

‫ول َف َل ُأ َق َّب ُح‪،‬‬ ‫س َو ُمن ٍَّق‪َ ،‬ف ِعنْدَ ُه َأ ُق ُ‬ ‫يط‪َ ،‬و َد ِائ ٍ‬
‫يل و َأطِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫بِش ٍّق‪َ ،‬ف َج َع َلني في َأ ْه ِل َص ِه ٍ َ‬
‫ِ‬

‫اح‪،‬‬ ‫َو َأ ْر ُقدُ َف َأت ََص َّب ُح‪َ ،‬و َأ ْش َر ُب َف َأ َت َقن َُّح‪ُ ،‬أ ُّم َأبِي َز ْرعٍ‪َ ،‬ف َما ُأ ُّم َأبِي َز ْرعٍ؟ ُعكُو ُم َها َر َد ٌ‬
‫اح‪ ،‬ا ْب ُن َأبِي َز ْرعٍ‪َ ،‬ف َما ا ْب ُن َأبِي َز ْرعٍ‪َ ،‬م ْض َج ُع ُه ك ََم َس ِّل َش ْط َب ٍة‪َ ،‬و ُي ْشبِ ُع ُه‬ ‫َو َب ْيت َُها َف َس ٌ‬
‫يها‪َ ،‬و َط ْو ُع ُأ ِّم َها‪َ ،‬و ِم ْل ُء‬ ‫ِ‬
‫الج ْف َرة‪ ،‬بِن ُْت َأبِي َز ْرعٍ‪َ ،‬ف َما بِن ُْت َأبِي َز ْرعٍ؟ َط ْو ُع َأبِ َ‬
‫اع َ‬ ‫ذ َر ُ‬
‫ِ‬

‫ار َي ُة َأبِي َز ْرعٍ؟ َل َت ُب ُّث َح ِدي َثنَا‬ ‫ِك َس ِائ َها‪َ ،‬و َغ ْي ُظ َج َارتِ َها‪َ ،‬ج ِ‬
‫ار َي ُة َأبِي َز ْرعٍ‪َ ،‬ف َما َج ِ‬
‫ل َب ْي َتنَا َت ْع ِشيش ًا(‪.)1‬‬ ‫َت ْبثِيث ًا‪َ ،‬و َل ُتنَ ِّق ُث ِم َير َتنَا َتن ِْقيث ًا‪َ ،‬و َل ت َْم َ ُ‬
‫ان َل َها‬ ‫َقا َل ْت‪َ :‬خرج َأبو َزر ٍع واألَو َطاب تُم َخ ُض‪َ ،‬ف َل ِقي امر َأ ًة معها و َلدَ ِ‬
‫َ َْ َ ََ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ ْ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ان ِمن ت ِ‬ ‫كَال َفهدَ ي ِن‪ ،‬ي ْلعب ِ‬
‫َح ُت َب ْعدَ ُه‬ ‫َح َها‪َ ،‬فنَك ْ‬ ‫َحت َخ ْص ِر َها بِ ُر َّما َن َت ْي ِن‪َ ،‬ف َط َّل َقني َو َنك َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ ْ َ ََ‬
‫اح َع َل َّي َن َعم ًا َث ِري ًا‪َ ،‬و َأ ْع َطانِي ِم ْن ك ُِّل‬ ‫ب َش ِري ًا‪َ ،‬و َأ َخ َذ َخ ِّطي ًا‪َ ،‬و َأ َر َ‬
‫ِ‬
‫ال َس ِري ًا‪َ ،‬رك َ‬‫َر ُج ً‬
‫َر ِائ َح ٍة َز ْوج ًا‪َ ،‬و َق َال‪ :‬ك ُِلي ُأ َّم َز ْر ٍع َو ِم ِيري َأ ْه َل ِك‪َ ،‬قا َل ْت‪َ :‬ف َل ْو َج َم ْع ُت ك َُّل َش ْي ٍء‬
‫َأ ْع َطانِ ِيه‪َ ،‬ما َب َل َغ َأ ْص َغ َر آنِ َي ِة َأبِي َز ْر ٍع(‪.)2‬‬
‫ك ك ََأبِي ز َْر ٍع ِلُ ِّم ز َْرعٍ‪ ،‬إِ َّل َأ َّن َأ َبا‬ ‫ْت َل ِ‬‫‪ُ « :‬كن ُ‬ ‫ول اهللِ‬‫َقا َل ْت َع ِائ َش ُة‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ز َْر ٍع ‌ َط َّل َق‪َ ،‬و َأنَا ‌ َل ‌ ُأ َط ِّل ُق»‪ .‬فقالت عائشة‪ :‬بِأبي َأنْت َوأمي‪ ،‬بل َأنْت ‌خير لي من‬
‫أبي زرع(‪.)3‬‬
‫وحسن االستماع ألقصوصة عائشة‬ ‫وما أعجب هذا اإلنصات من النبي‬
‫وتفاعله معها‪ ،‬وحسن تعليقه عليها‪ ،‬وكيف جعل مع تعليقه األمان المطمئن‪:‬‬
‫«إِ َّل َأ َّن َأ َبا ز َْر ٍع‌ َط َّل َق‪َ ،‬و َأنَا‌ َل‌ ُأ َط ِّل ُق»! ثم ُحس ُن تعليق عائشة وفطنتها حيث بادرت‬
‫قائلة‪ :‬بل أنت خير من أبي زرع‪ ،‬وصدقت وبرت فيما قالت ‪.‬‬
‫((( الحادية عشرة مدحت زوجها أبا زرع بأنه أحسن إليها‪ ،‬وصارت غنية معه‪ ،‬وأنه ال يرد قولها لكرامتها عليه‪.‬‬
‫((( بعد أن طلقها أبو زرع تزوجت من رجل آخر شجا ٍع وكريم‪ ،‬أكر َمها وأهلها‪ ،‬لكنه مع كرمه لم يبلغ شأو زوجها‬
‫السابق أبي زرع‪ .‬ينظر فيما سبق‪« :‬إرشاد الساري» للقسطالني (‪.)91-80/8‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5189‬و«المعجم الكبير للطبراني» (‪ ،)270‬و«عمدة القاري» (‪.)178/20‬‬
‫‪91‬‬ ‫والع�صــر‬

‫ويجتمع أزواجه أحيان ًا بعد العصر في بيت التي هو عندها‪ ،‬وذلك لشوقهن‬
‫تِ ْس ُع نِ ْس َو ٍة‪،‬‬ ‫َان لِلنَّبِ ِّي‬
‫‪ ،‬وللتباعد بين لياليهن منه‪ ،‬قال أنس‪ :‬ك َ‬ ‫إلى النبي‬
‫َان إِ َذا َق َس َم َب ْين َُه َّن‪َ ،‬ل َينْت َِهي إِ َلى ا ْل َم ْر َأ ِة ْالُو َلى إِ َّل فِي تِ ْسعٍ‪َ ،‬ف ُك َّن َي ْجت َِم ْع َن ك َُّل‬ ‫َفك َ‬
‫َب‪َ ،‬ف َمدَّ َيدَ ُه إِ َل ْي َها‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ا َّلتِي ي ْأتِيها‪َ ،‬فك َ ِ‬ ‫َلي َل ٍة فِي بي ِ‬
‫َان في َب ْيت َعائ َش َة‪َ ،‬ف َجا َء ْت َز ْين ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫َخبتَا(‪ ،)1‬و ُأ ِقيم ِ‬ ‫َف النَّبِ ُّي‬ ‫ِ ِ‬
‫ت‬ ‫َ َ‬ ‫است َ َ‬‫او َلتَا َحتَّى ْ‬ ‫َيدَ ُه‪َ ،‬ف َت َق َ‬ ‫َب‪َ ،‬فك َّ‬ ‫َف َقا َل ْت‪‌َ :‬هذه َ‌ز ْين ُ‬
‫ول اهللِ إِ َلى‬ ‫اخ ُر ْج َيا َر ُس َ‬ ‫الص َلةُ‪َ ،‬ف َم َّر َأ ُبو َبك ٍْر َع َلى َذلِ َك‪َ ،‬ف َس ِم َع َأ ْص َوات َُه َما‪َ ،‬ف َق َال‪ْ :‬‬ ‫َّ‬
‫‪َ ،‬ف َقا َل ْت َع ِائ َش ُة‪ْ :‬ال َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اح ُث في َأ ْف َواه ِه َّن الت َُّر َ‬
‫اب‪َ ،‬ف َخ َر َج النَّبِ ُّي‬ ‫الص َلة‪َ ،‬و ْ‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫َص َل َت ُه‪َ ،‬ف َي ِجي ُء َأ ُبو َبك ٍْر َف َي ْف َع ُل بِي َو َي ْف َع ُل‪َ ،‬ف َل َّما َق َضى النَّبِ ُّي‬ ‫َي ْق ِضي النَّبِ ُّي‬
‫َاها َأ ُبو َبك ٍْر‪َ ،‬ف َق َال َل َها َق ْوالً َش ِديد ًا‪َ ،‬و َق َال‪َ :‬أت َْصن َِعي َن َه َذا؟(‪.)2‬‬ ‫َص َل َت ُه‪َ ،‬أت َ‬
‫وكانت تجري في بيت النبوة المذاكرة العلمية واألسئلة واالستشكال‪،‬‬
‫تلق‪.‬‬‫وحسن ٍّ‬‫َبرحابة صدر ُ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ويتل َّقى ذلك‬
‫ب َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ُع ِّذ َب»‪ .‬وكانت‬ ‫ِ‬
‫مر ًة زوجته عائش َة ‪ ‬قائالً‪َ :‬‬
‫«م ْن ُحوس َ‬ ‫فيحدِّ ث َّ‬
‫ال تسمع شيئ ًا ال تعرفه إِ َّل راجعت فيه حتى تعرفه‪ ،‬فأوردت تساؤالً واستشكاالً‬
‫ابا يَس ٗ‬ ‫ب ح َِس ٗ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قائلة‪ :‬أليس قد قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬ف َس ۡوف يَ َ‬
‫اس ُ‬
‫ِريا﴾؟ فقال‪َ « :‬ل ْي َس‬
‫اب َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ُع ِّذ َب»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‪ ،‬إِن ََّما َذاك ا ْل َع ْر ُض‪َ ،‬م ْن نُوق َش ا ْلح َس َ‬
‫ِ ِ‬
‫َذاك ا ْلح َس ُ‬
‫((( أي‪ :‬تراجعتا القول حتى ارتفعت أصواتهما‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)38/10‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)1462‬و«إكمال المعلم بفوائد مسلم» (‪.)646/4‬‬
‫يده إلى زينب يظنها عائشة‪،‬‬ ‫ذهب بعض الشراح إلى أن هذا االجتماع كان في الليل استدالالً بمد النبي‬
‫والذي يظهر ‪ -‬واهلل أعلم‪ -‬أن هذا االجتماع يكون في بعض األيام وبخاصة في أيام الصيف حيث يكون فيها‬
‫ال والليل قصير ًا‪ ،‬وأما الليل فوقت الخصوصية الزوجية التي تستأثر فيه الزوجة بزوجها‪.‬‬
‫العصر طوي ً‬
‫يده إلى زينب يظنها عائشة فإن الداخل من مكان الضوء إلى مكان معتم ال يرى جيد ًا ألول‬ ‫وأما مده‬
‫‪.‬‬ ‫وهلة‪ ،‬ولعل هذا ما جرى له‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)103‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2876‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪92‬‬

‫وحدَّ ث مر ًة زوجته حفص َة ‪ ‬قائالً‪« :‬إِنِّي َلَ ْر ُجو َأ َّل َيدْ ُخ َل الن ََّار َأ َحدٌ إِ ْن َش َ‬
‫اء‬
‫رسول اهلل! فانتهرها! فقالت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫اهللُ َت َعا َلى ِم َّم ْن َش ِهدَ َبدْ ر ًا َوا ْل ُحدَ ْيبِ َي َة»‪ .‬قالت‪ :‬بلى يا‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ِنك ۡم إِل َوار ُد َها ۚ ك َن ٰ‬ ‫َّ‬
‫ع َر ّب ِ َك َح ۡت ٗما َّمق ِض ّيا﴾؟! فقال‬ ‫ِ‬
‫ّ ُ‬
‫أليس قد قال اهلل‪ِ﴿ :‬إَون م‬
‫ٗ‬ ‫ُ َّ ُ َ ّ َّ َ َّ َ ْ َّ َ َ ُ َّ‬
‫ٱلظ ٰـلِم َ‬
‫ني ف َ‬ ‫«أ َل ْم ت َْس َم ِع ِيه َي ُق ُ‬
‫ِيها ِجث ِ ّيا﴾؟!»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ول‪﴿ :‬ثم نن ِج ٱلِين ٱتقوا ونذر‬ ‫‪َ :‬‬

‫وزوجاته ‪َّ ‬‬


‫لتتم لوال أنه‬ ‫وما كانت هذه المراجعة بين المصطفى‬
‫استثار اليقظة العقلية‪ ،‬وفتح آفاق التفكير‪ ،‬وجعل المراجعة والتفاعل العقلي‬
‫طريق القناعة واليقين‪.‬‬
‫بعض أصحابه بعد صالة العصر إلى األمر يح ُّبون أن يشهده‬ ‫وربما دعاه ُ‬
‫رجل من بني َس ِلمة بعد صالة العصر‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫معهم‪ ،‬فيجيبهم لذلك؛ فقد دعاه ٌ‬
‫ونحب أن تحضرها‪ .‬وهذه من مناسبات‬ ‫ُّ‬ ‫ننحر َج ُزور ًا لنا‪،‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬إنا نريد أن َ‬
‫‪َ « :‬ن َع ْم»‪ .‬فانطلق‪ ،‬وانطلق معه بعض‬ ‫السرور؛ لقلة اللحم عندهم‪ ،‬فقال‬
‫ور لم تنحر فنُحرت‪ ،‬ثم ُق ِّطعت‪ ،‬ثم ُطبخ منها‪ ،‬فأكلوا‬
‫الج ُز َ‬
‫أصحابه‪ ،‬فوجدوا َ‬
‫الشمس(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫قبل أن تغيب‬
‫حار إلى منازل بني َس ِلم َة‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬
‫في يو ٍم صائف ٍّ‬ ‫النبي‬
‫يا هلل! أن يذهب ُّ‬
‫في أقصى المدينة شماالً‪ ،‬وأبعدها عن مسجده‪ ،‬وال أحسبه إِ َّل ذهب ماشي ًا؛‬
‫حتى يشاركهم هذه االحتفالية واالبتهاج بنحر َجزور‪ ،‬فيتَّسع سرورهم بحضوره‪،‬‬
‫وليتحول الحدث من نحر َجزور وأكلها إلى حضور‬
‫َّ‬ ‫ويكبر فرحهم بمشاركته‪،‬‬
‫نحر الجزور ومشاركتهم أكلها‪.‬‬ ‫النبي‬
‫كم بقي بنو َس ِلم َة بعد هذا الحدث يتحدَّ ثون عنه؟!‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)27042‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2496‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)4281‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)624‬و«صحيح ابن حبان» (‪ ،)1516‬وغيرها‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫والع�صــر‬

‫َّ‬
‫كل فرصة‬ ‫النبي‬
‫ما أرق هذه النفس‪ ،‬وأشف تلك المشاعر‪ ،‬كأنما يسابق ُّ‬
‫فرح ليزيدها فرح ًا‪ ،‬وكل لحظة بهجة ليزيدها إبهاج ًا!‬
‫في حياة أصحابه!‬ ‫َأ َل ما أعمق حضور هذا النبي‬
‫ويظهر أن ما بعد العصر هو وقت أذكار المساء؛ لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َس ّب ِ ۡح ِبَ ۡم ِد‬
‫وب﴾‪.‬‬ ‫َََۡ ُُۡ‬ ‫ك َق ۡب َل ُطلُ ِ َّ ۡ‬
‫َّ َ‬
‫وع ٱلشم ِس وقبل ٱلغر ِ‬ ‫رب ِ‬
‫فكما يتلقى أنفاس الصباح بذكر اهلل والثناء عليه‪ ،‬يودع آصال النهار بذكر اهلل‬
‫والثناء عليه‪ ،‬فبداية يومه وختامه مناجاة اهلل وذكره‪.‬‬

‫)‬
‫‪95‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫بعد الغروب‬

‫إِ َّل قليالً‪ ،‬ثم يخرج إلى الصالة‪،‬‬ ‫ُ‬


‫رسول اهلل‬ ‫ِ‬
‫للمغرب‪ ،‬لم يلبث‬ ‫فإذا ُأ ِّذ َن‬
‫ويظهر أنه كان يصلي ركعتين خفيفتين قبل المغرب يبدأ بها ليله كما كان يصلي‬
‫ركعتين خفيفتين قبل الفجر يبتدئ بهما نهاره‪ ،‬فإذا خرج وجد أصحا َبه قد‬
‫السواري يص ُّلون ركعتين قبل المغرب؛ حيث كان ير ِّغب فيها ويقول‪:‬‬ ‫ابتدروا َّ‬
‫ب َر ْك َع َت ْي ِن‪َ ،‬ص ُّلوا َق ْب َل ا ْل َمغ ِْر ِ‬
‫ب َر ْك َع َت ْي ِن»‪ .‬ثم قال في الثالثة‪:‬‬ ‫«ص ُّلوا َق ْب َل ا ْل َمغ ِْر ِ‬
‫َ‬
‫اء»‪ .‬وهما ركعتان خفيفتان؛ حيث لم يكن بين أذان المغرب وإقامتها إِ َّل‬ ‫ِ‬
‫«ل َم ْن َش َ‬
‫وقت قليل(‪ ،)1‬وكان الصحابة يحافظون عليها حتى إن الغريب يدخل المسجد‬
‫فيظن أن الصالة قد قضيت‪.‬‬
‫المغرب في‬
‫َ‬ ‫المغرب‪ ،‬وكان يص ِّلي‬
‫َ‬ ‫ُأقيمت الصالة فص َّلى‬ ‫فإذا خرج‬
‫ُ‬
‫الرجل ولو رمى‬ ‫أول وقتها‪ ،‬وينصرف منها قبل حلول الظالم‪ ،‬بحيث يخرج‬
‫لرأى مواقع نبله؛ النتشار الضياء(‪.)2‬‬
‫وكانت صالته وقراءته فيها قصيرة غالب ًا‪ ،‬وربما أطال القراء َة أحيان ًا على‬
‫نُدْ رة؛ فقد قرأ مرةً‪ :‬سورة «األعراف»‪ ،‬وقرأ مرة‪ :‬سورة «الطور»‪ ،‬وكانت صالة‬
‫المغرب هي آخر صالة َّ‬
‫صلها بأصحابه‪ ،‬فقرأ فيها‪ :‬سورة «المرسالت»(‪.)3‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1183 ،625‬و«صحيح مسلم» (‪.)837‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)559‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)637‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)416‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4429 ،765-763‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)463 ،462‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪96‬‬

‫ولم يكن يتحدَّ ث بعدها كما يتحدَّ ث في أعقاب الصلوات؛ وذلك لحاجة‬
‫الناس إلى االنصراف إلى َعشائهم وراحتهم‪.‬‬
‫فإذا ص َّلى المغرب عاد إلى بيته فص َّلى فيه ركعتين‪ ،‬سن َة المغرب(‪ ،)1‬يقرأ فيها‬
‫يتعشى‪ ،‬وهذا‬ ‫بسورتي «الكافرون» و«اإلخالص»‪ ،‬كما يقرأ في سنة الفجر‪ ،‬ثم َّ‬
‫هو وقت ال َعشاء غالب ًا‪ ،‬وهي وجبة المساء‪ ،‬وربما قدَّ موه قبل صالة المغرب إذا‬
‫‪« :‬إِ َذا ُقدِّ َم ا ْل َع َش ُ‬
‫اء‬ ‫كانوا صيام ًا؛ أو عند طول النهار في الصيف‪ ،‬ولذا قال‬
‫ب‪َ ،‬و َل َت ْع َج ُلوا َع ْن َع َشائِك ُْم»(‪.)2‬‬ ‫َفا ْبدَ ُءوا بِ ِه َق ْب َل َأ ْن ت َُص ُّلوا َص َل َة ا ْل َمغ ِْر ِ‬
‫وكان يأمر أصحا َبه أن يأخذوا معهم إلى َعشائهم فقراء المسلمين‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ث‪ ،‬ومن ك َ ِ‬ ‫َان ِعنْدَ ه َطعام ا ْثنَي ِن َف ْلي ْذهب بِ َثالِ ٍ‬
‫ب‬‫َان عنْدَ ُه َط َعا ُم َأ ْر َب َعة َف ْل َي ْذ َه ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُ َ ُ ْ‬ ‫«م ْن ك َ‬ ‫َ‬
‫س‪ ..‬بِس ِ‬ ‫ِ‬
‫س»(‪.)3‬‬ ‫اد ٍ‬ ‫بِخَ ام ٍ َ‬
‫ليتعشى معهم‪ ،‬إذا كان عنده َو ْفر‬
‫َّ‬ ‫عشر ًة فذهب بهم إلى بيته‪،‬‬ ‫وربما أخذ‬
‫مرت به‬ ‫طعام‪ ،‬وربما انقلب إلى بيته فال يجد فيه ما يأكله إِ َّل التمر والماء‪ ،‬وربما َّ‬
‫أيام ال يكون في بيته ما يأكله ذو كبد َر ْطبة(‪.)4‬‬
‫ب(‪ ،)5‬على وجهه شحوب الجوع‪ ،‬و َقتَرة‬ ‫ِ‬ ‫فقد جاءه مر ًة ٌ‬
‫رجل ُمن َْه ٌك ساغ ٌ‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫الج ْهدُ ‪ .‬فأرسل‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أصابني َ‬ ‫اإلعياء‪ ،‬فقال بلسان حاله ومقاله‪ :‬يا‬
‫طعم هذا الضيف‬ ‫من َفوره إلى إحدى نسائه يسألها هل عندها ما ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫المجهود؟ فقالت‪ :‬والذي بعثك بالحق ما عندي إِ َّل ماء‪ .‬فأرسل إلى أخرى‬

‫»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في أربع ركعات قبل الظهر في «أمسيات الرسول‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24246 ،5806‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)672‬و«صحيح مسلم» (‪.)559-557‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3581 ،602‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2057‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5383 ،3097 ،2567‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2975-2972‬و«تاريخ دمشق»‬
‫(‪ ،)346/35‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أي‪ :‬جائع‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)371/2‬‬
‫‪97‬‬ ‫بعد الغروب‬

‫من نسائه‪ ،‬فقالت مثل ذلك؛ حتى أرسل إليهن كلهن؛ فكان حالهن وجوابهن‬
‫على أصحابه‬ ‫واحد ًا‪ :‬والذي بعثك بالحق ما عندنا إِ َّل الماء‪ .‬فأقبل ُّ‬
‫النبي‬
‫يف َه َذا ال َّل ْي َل َة؟ َر ِح َم ُه اهللُ»‪ .‬فقال أبو طلحة األنصاري ‪ :‬أنا يا‬ ‫«م ْن ُي ِض ُ‬ ‫وقال‪َ :‬‬
‫رسول اهلل‪ .‬ثم انطلق به أبو طلحة إلى بيته فأضافه(‪.)1‬‬ ‫َ‬
‫وكان أكله يتفاوت قلة وكثرة‪ ،‬والغالب القلة‪ ،‬ولذا قالت عائشة‪َ :‬ما َ‌شبِ َع ُآل‬
‫(‪.)2‬‬ ‫ِم ْن ُ‌خ ْب ِز َ‌ش ِع ٍير َي ْو َم ْي ِن ُم َتتَابِ َع ْي ِن‪َ ،‬حتَّى ُقبِ َض َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬ ‫ُم َح َّم ٍد‬
‫و َع ْن َأبِي ُه َر ْي َر َة ‪َ ،‬أ َّن ُه َم َّر بِ َق ْو ٍم َب ْي َن ‌ َأ ْي ِد ِيه ْم َ‌شا ٌة ‌ َم ْص ِل َّي ٌة‪َ ،‬فدَ َع ْو ُه‪َ ،‬ف َأ َبى َأ ْن‬
‫الش ِع ِير(‪.)3‬‬ ‫ِم َن الدُّ ْن َيا َو َل ْم َي ْش َب ْع ِم ْن ُخ ْب ِز َّ‬ ‫ول ا ِ‬
‫هلل‬ ‫َي ْأك َُل‪َ ،‬و َق َال‪َ :‬خ َر َج َر ُس ُ‬
‫والغالب أنهم ال يطبخون إال مرة واحدة في اليوم‪ ،‬غداء أو عشاء‪ ،‬وربما‬
‫مرت األيام ال يطبخون فيها‪ ،‬وإنما يتبلغون بالتمر واللبن كما قالت عائشة‪ :‬إِ ْن‬
‫ات‬‫وقدَ ْت فِي َأبي ِ‬ ‫‌اله َل ِل‪َ ،‬ث َل َث َة َأ ِه َّل ٍة فِي َشهري ِن‪ ،‬وما ُأ ِ‬ ‫‌اله َل ِل‪ُ ‌ ،‬ث َّم ِ‬
‫ُكنَّا َلنَنْ ُظ ُر إِ َلى ِ‬
‫َْ‬ ‫َْْ َ َ‬
‫الما ُء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يشك ُْم؟ َقا َل ْت‪ :‬األَ ْس َو َدان‪ :‬الت َّْم ُر َو َ‬ ‫َان ُي ِع ُ‬
‫َار‪ ،‬فقيل لها‪َ :‬ما ك َ‬ ‫ن ٌ‬
‫رس ِ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َ ُ‬
‫َت َل ُه ْم َمن َِائ ُح‪َ ،‬وكَانُوا‬ ‫ان ِم َن األَن َْص ِ‬
‫ار‪ ،‬كَان ْ‬ ‫ِج َير ٌ‬ ‫ول اهللِ‬‫َان لِرس ِ‬
‫إِ َّل َأ َّن ُه َقدْ ك َ َ ُ‬
‫ِم ْن َأ ْل َبانِ ِه ْم‪َ ،‬ف َي ْس ِقينَا(‪.)4‬‬ ‫ون َر ُس َ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َي ْمن َُح َ‬
‫وأهل المدينة بسيطة غير مركبة‪ ،‬أفخرها الثريد؛‬ ‫وكانت أطعمة النبي‬
‫وذلك أن بيئة المدينة ونجد ونحوها همهم من الطعام الشبع منه لقلته وليس التفنن‬
‫ألهل الصفة‪َ « :‬ل ْو َو َجدْ ُت خُ ْبز ًا َو َل ْحم ًا َلَ ْط َع ْم ُتك ُْم»‪.‬‬ ‫في طعمه‪ ،‬ولذا قال‬
‫‌ َأ ْك َل َت ْي ِن‌فِي‌ َي ْو ٍم إِ َّل إِ ْحدَ ُاه َما ت َْم ٌر(‪.)5‬‬ ‫وقالت عائشة‪َ :‬ما َأك ََل ُآل ُم َح َّم ٍد‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4889 ،3798‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2054‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)2970‬و«جامع الترمذي» (‪.)2357‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ )5414‬و «صحيح ابن حبان» (‪.)6346‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)2567‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)6455‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪98‬‬

‫على‬ ‫الس ْفرة‪ ،‬وما أكل‬


‫يوضع على األرض في ُّ‬‫وكان طعا ُمه‬
‫قط(‪.)2‬‬ ‫ِخ ٍ‬
‫وان(‪ُّ )1‬‬
‫وهذا جري ًا على عادة العرب فقد كانوا يأكلون على األرض‪ ،‬فهي عادة عربية‬
‫وليست سنة نبوية‪ ،‬ولذا فإن الصحابة اتخذوا الخوان بعد ذلك‪.‬‬
‫طعام ًا لم يضعوا أيديهم حتى يبدأ‬ ‫وكان الصحابة إذا حضروا مع النبي‬
‫فيضع يده(‪.)3‬‬ ‫رسول اهلل‬
‫فإذا ُق ِّرب إليه طعا ُمه قال‪« :‬بِ ْس ِم اهلل»‪ .‬و َأك ََل مما يليه‪ ،‬ولم َت ْعدُ أصابعه ما بين‬
‫الص ْحفة‪ ،‬وأن تُترك ِذ ْروتها‪،‬‬ ‫يديه‪ ،‬فيأكل بثالثة أصابع‪ ،‬ويأمر باألكل من جوانب َّ‬
‫ويقول‪« :‬إِ َّن ا ْل َبر َك َة فِ َيها»(‪.)4‬‬
‫تيسر‪ ،‬ف َع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللِ‪،‬‬ ‫يتك َّلف في طعامه‪ ،‬وإنما يأكل ما َّ‬ ‫ولم يكن‬
‫ال َدا َم‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬ما ِعنْدَ نَا إِ َّل ا ْل َخ ُّل‪َ ،‬ق َال‪َ :‬فدَ َعا بِ ِه‪،‬‬ ‫َس َأ َل َأ ْه َل ُه ْ ِ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َأ َّن َر ُس َ‬
‫قط؛‬‫ال َدا ُم ا ْلخَ ُّل»‪ .‬وما عاب طعام ًا ُّ‬ ‫ال َدا ُم ا ْلخَ ُّل‪ ،‬نِ ْع َم ْ ِ‬
‫ول‪« :‬نِ ْع َم ْ ِ‬ ‫َف َج َع َل َي ْأك ُُل َو َي ُق ُ‬
‫إن اشتهاه أكله‪ ،‬وإِ َّل تركه(‪.)5‬‬
‫ويتجنب من الطعام ما له رائحة كالبقول والثوم والبصل‪ ،‬وما تعافه نفسه‬
‫ض‌ َق ْو ِمي‪،‬‬
‫ب(‪ ،)6‬فقد ُأكل على مائدته ولم يأكل منه وقال‪« :‬إنه َل ْم‌ َيك ُْن‌بِ َأ ْر ِ‬
‫كالض ِّ‬
‫َّ‬
‫((( والخوان‪ :‬ما ُيؤكل عليه الطعام من منضدة ونحوها‪ ،‬والسفرة‪ :‬ما ُيبسط على األرض‪ ،‬ثم يوضع عليه الطعام‪،‬‬
‫وتكون غالب ًا من سعف النخيل‪ ،‬كالحصير المدور‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)89/2‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12325‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5386‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)1788‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23249‬و«صحيح مسلم» (‪.)2017‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)17678 ،16595‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2035-2031‬و«سنن أبي داود» (‪،)3773‬‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15191‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2064 ،2052‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)3820‬وغيرها‪.‬‬
‫((( هو من الزواحف في صحراء نجد يشبه التمساح الصغير‪ ،‬و َذ َن ُبه ك ََذنَبِه‪ ،‬يصطاده أهل الصحراء ويأكلونه‪ ،‬وينفر‬
‫منه غيرهم‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)227/3‬‬
‫‪99‬‬ ‫بعد الغروب‬

‫اء َأ ْن َيأ ُك َل ُه َف ْل َيأ ُك ْل ُه»‪ .‬وكان َخالِد بن الوليد عنده‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫َف َأ ِجدُ ني َأ َعا ُف ُه‪َ ،‬ف َم ْن َش َ‬
‫َينْ ُظ ُر إِ َل َّي(‪.)1‬‬ ‫اجت ََر ْر ُت ُه َف َأ َك ْل ُت ُه‪َ ،‬و َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َف ْ‬
‫وإذا جلس على الطعام مع أصحابه لم يخل جلوسه من حديث ُيؤنِس به‪ ،‬أو‬
‫ب ُي َر ِّبي‪ ،‬أو ِع ْل ٍم ينشره‪.‬‬ ‫َأ َد ٍ‬
‫ومن ذلك‪ :‬أن ُعمر بن أبي َس َلمة ‪ ‬كان صب ّي ًا يتر َّبى في ِحجر الرسول‬
‫‪ ،‬فكانت‬ ‫؛ فهو ابن زوجته أم سلمة ‪ ،‬وكان يأكل مع رسول اهلل‬
‫‪:‬‬ ‫رسول اهلل‬‫ُ‬ ‫الص ْح َف ِة‪ ،‬فقال له‬ ‫يأخذ من لح ٍم حول َّ‬ ‫الص ْح َفة؛ ُ‬ ‫يده تَطيش في َّ‬
‫ِ‬
‫يك»‪ .‬قال ُعمر ‪ :‬فما زالت تلك‬ ‫ك‪َ ،‬وك ُْل ِم َّما َيلِ َ‬ ‫« َيا ُغ َل ُم‪َ ،‬س ِّم اهللَ‪َ ،‬وك ُْل بِ َي ِمين ِ َ‬
‫طِ ْع َمتي بعدُ (‪.)2‬‬
‫ذى َو ْل َي ْأ ُك ْل َها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ُل ْق َم ُة َأ َحدك ُْم َف ْل َي ْأ ُخ ْذ َها‪َ ،‬ف ْل ُيم ْط ما كان بها من َأ ً‬ ‫وقال‪« :‬إذا َو َق َع ْ‬
‫يل حتى َي ْل َع َق َأ َصابِ َع ُه؛ فإنه َل َيدْ ِري‬ ‫ان‪ ،‬وال َي ْم َس ْح َيدَ ُه بِا ْل ِمن ِْد ِ‬ ‫لش ْي َط ِ‬ ‫وال َيدَ ْع َها لِ َّ‬
‫ي َط َع ِام ِه ا ْل َب َر َك ُة»(‪.)3‬‬ ‫في َأ ِّ‬
‫راع‪،‬‬
‫الذ َ‬ ‫فتناول ِّ‬ ‫َ‬ ‫َق ْص َع ٌة من َث ِريد و َل ْحم‪،‬‬ ‫ووضعت بين يدي رسول اهلل‬ ‫ُ‬
‫َّاس َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة»‪ .‬ثم‬ ‫«أنَا َس ِّيدُ الن ِ‬ ‫الشاة إليه‪ ،‬فن ََه َس ن َْه َس ًة(‪ ،)4‬فقال‪َ :‬‬ ‫أحب َّ‬ ‫َّ‬ ‫وكانت‬
‫َّاس َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة»‪ .‬فلما رأى أصحا َبه ال يسألونه‬ ‫«أنَا َس ِّيدُ الن ِ‬ ‫ن ََه َس أخرى‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫رسول اهلل‪ .‬قال‪َ « :‬ي ْج َم ُع اهللُ َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‬ ‫َ‬ ‫ون ‌ َك ْي َف ْه؟»‪ .‬قالوا‪َ :‬ك ْي َف ْه يا‬ ‫قال‪َ ‌« :‬أ َل ‌ َت ُقو ُل َ‬
‫اعي َو َينْ ُف ُذ ُه ُم ا ْل َب َص ُر‪َ ،‬وتَدْ نُو‬ ‫اح ٍد َفيس ِمعهم الدَّ ِ‬ ‫يد و ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ْالَولِين و ْال ِخ ِر ِ‬
‫ُْ ُُ ُ‬ ‫ين في َصع َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس‬‫الش ْم ُس م ْن ُر ُءوس ِه ْم‪َ ،‬ف َي ْشتَدُّ َع َل ْي ِه ْم َح ُّر َها‪َ ،‬و َي ُش ُّق َع َل ْي ِه ْم ُدن ُُّو َها من ُْه ْم‪َ ،‬ف َي ْب ُلغُ الن َ‬ ‫َّ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2354‬و«صحيح البخاري» (‪« .)5391‬صحيح مسلم» (‪ ،)1945‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5376‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2022‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)14552‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2033‬وغيرها‪.‬‬
‫((( الن َّْهس‪ :‬أخذ اللحم بأطراف األسنان‪ .‬والن َّْهش‪ :‬األخذ بجميعها‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)136/5‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪100‬‬

‫َّاس لِ َب ْع ٍ‬
‫ض‪َ :‬أ َل‬ ‫ول َب ْع ُض الن ِ‬ ‫ون َو َما َل َي ْحت َِم ُل َ‬
‫ون‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬ ‫ب َما َل ُيطِي ُق َ‬ ‫ِم َن ا ْلغ َِّم َوا ْلك َْر ِ‬
‫ت ََر ْو َن َما َأ ْنت ُْم فِ ِيه؟ َأ َل ت ََر ْو َن َما َقدْ َب َل َغك ُْم؟ َأ َل َتنْ ُظ ُر َ‬
‫ون َم ْن َي ْش َف ُع َلك ُْم إِ َلى َر ِّبك ُْم؟‬
‫ض‪ :‬ا ْئتُوا آ َد َم‪ »...‬فذكر حديث الشفاعة الطويل(‪.)1‬‬ ‫َّاس لِ َب ْع ٍ‬‫ول َب ْع ُض الن ِ‬ ‫َف َي ُق ُ‬
‫وقد كان هذا الحديث الطويل بهذه المعاني العظيمة على مائدة الطعام‪،‬‬
‫وكانت اللقمة ال تزال في يده‪ ،‬وذلك أنه وجد في هذا االجتماع فرصة‪ ،‬وأحس‬
‫منهم التشوف للحديث فاسترسل فيه‪ ،‬وفي حفظهم لحديثه دليل على تشوفهم‬
‫له‪ ،‬ووعيهم بما حدثهم وتأثرهم به‪.‬‬
‫الص ْح َفة‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫وكان إذا فرغ من طعامه َل َع َق أصابعه‪ ،‬وكان يأمر ب َل ْعق َّ‬
‫ي َط َع ِامك ُُم ا ْل َب َر َك ُة»(‪.)2‬‬ ‫«إِ َّنكُم َل تَدْ ر َ ِ‬
‫ون في َأ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فإذا ُرفعت مائدتُه قال‪« :‬ا ْل َح ْمدُ ‌هللِ‌ َح ْمد ًا‌كثِير ًا‌ َط ِّيب ًا‌ ُم َب َارك ًا‌فِ ِيه ا ْل َح ْمدُ ‌هللِ‌ا َّل ِذي‬
‫هم إِن َ‬
‫َّك‬ ‫ْنى َعنْ ُه ر َّبنَا‪ ،‬ال َّل َّ‬‫ور‪َ ،‬و َل ُم َو َّدعٍ‪َ ،‬و َل ُم ْس َتغ ً‬ ‫‌ َك َفانَا َو َآوانَا‪َ ،‬غ ْي ُر َمك ِْف ّي‪َ ،‬و َل َم ْك ُف ٍ‬
‫ك ا ْل َح ْمدُ َع َلى‬ ‫ت‪ ،‬ال َّل ُه َّم َف َل َ‬ ‫ت َو َأ ْح َي ْي َ‬ ‫ت‪َ ،‬و َهدَ ْي َ‬ ‫ت َو َأ ْقنَ ْي َ‬
‫ت‪َ ،‬و َأ ْغنَ ْي َ‬ ‫ت َ‬
‫وأ ْس َق ْي َ‬ ‫َأ ْط َع ْم َ‬
‫ت»(‪.)3‬‬ ‫َما َأ ْع َط ْي َ‬
‫«حتَّى ال ُّل ْق َم َة‬
‫بعض زوجاته آنسها على الطعام‪ ،‬فهو القائل‪َ :‬‬ ‫وإن أكل معه ُ‬
‫ك َصدَ َقة»(‪ .)4‬فلم يقل‪ :‬تطعهما امرأتك‪ ،‬وإنما قال‪« :‬ت َْر َف ُعها‬ ‫ت َْر َف ُعها إِ َلى َف ِم ْام َر َأتِ َ‬
‫ك» ليكون اإلشباع وجدان ّي ًا وجسد ّي ًا في آن واحد‪.‬‬ ‫إِ َلى َف ِم ْام َر َأتِ َ‬
‫يدعوني‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬ما أخبرت به عائش ُة ‪ ‬قالت‪ :‬كان‬
‫علي فيه‪َ ،‬فأ ْعت َِر ُق منه‪ ،‬ثم‬ ‫ِ‬
‫حائض‪ ،‬وكان يأخذ ال َع ْر َق(‪ )5‬ف ُي ْقس ُم َّ‬
‫ٌ‬ ‫فآكل معه وأنا‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3340‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)194‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12815‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2034‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)1803‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)18970 ،18071 ،16595‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5459 ،5458‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2742‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1628‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)2864‬وغيرها‪.‬‬
‫((( هو العظم عليه شيء من اللحم‪ .‬ينظر‪« :‬أعالم الحديث» للخطابي (‪.)469/1‬‬
‫‪101‬‬ ‫بعد الغروب‬

‫وضعت فمي من ال َع ْرق‪ ،‬ويد ُعو‬


‫ُ‬ ‫ويضع فمه حيث‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيعترق منه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فيأخذه‬ ‫أضعه‪،‬‬
‫ِ‬
‫بالشراب‪ ،‬ف ُي ْقس ُم َّ‬
‫علي فيه من قبل أن يشرب منه‪ ،‬فآخذه فأشرب منه‪ ،‬ثم أضعه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وضعت فمي من القدَ ح(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫ويضع فمه حيث‬
‫ُ‬ ‫فيشرب منه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فيأخذه‬
‫ويا هلل! كم من رسالة حب معطرة تصل إلى قلب الزوجة المحبوبة من الزوج‬
‫سيتحول الطعام بذلك إلى غذاء‬ ‫الم ْب ِهج؟! وكيف‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ب بمثل هذا اإليناس ُ‬
‫المح ِّ‬
‫ُ‬
‫للقلب‪ ،‬كما هو غذاء للجسد؟!‬
‫وكان يغسل فمه بعد الطعام‪ ،‬وإذا شرب لبن ًا غسل فمه‪ ،‬وقال‪« :‬إِ َّن َل ُه َد َسم ًا»(‪.)2‬‬
‫تعشى شرب على َعشائه من نَبِيذ نُبذ له من الصباح‪ ،‬كما أنه إذا تغدَّ ى‬ ‫وكان إذا َّ‬
‫في الصباح شرب على َغدائه من نَبيذ نُبِ َذ له من ِ‬
‫العشاء(‪.)3‬‬
‫َان ِم َن ال َع ِش ِّي‬ ‫ُغدْ َوةً‪َ ،‬فإِ َذا ك َ‬ ‫َت ‌ َتنْبِ ُذ لِلنَّبِ ِّي‬
‫فعن عائشة ‪َ :‬أن ََّها ‌كَان ْ‬
‫ب َع َلى َع َش ِائ ِه‪َ ،‬وإِ ْن َف َض َل َش ْي ٌء َص َب ْب ُت ُه‪َ ،‬أ ْو َف َّر ْغ ُت ُه‪ُ ،‬ث َّم َتنْبِ ُذ َل ُه‬ ‫َف َت َع َّشى َش ِر َ‬
‫الس َقا ُء ُغدْ َو ًة َو َع ِش َّي ًة‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫ب َع َلى َغدَ ائه‪ُ ،‬ي ْغ َس ُل ِّ‬ ‫بِال َّل ْي ِل َفإِ َذا َأ ْص َب َح َت َغدَّ ى َف َش ِر َ‬
‫َم َّر َت ْي ِن فِي َي ْو ٍم(‪.)4‬‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24954 ،24328‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)300‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)259‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5454 ،211‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)358‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2143 ،2068‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2005 ،2004‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)3712‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪102‬‬

‫رسم تخيلي يبين مكان الصفة شمالي المسجد‬


‫‪103‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫صورة الصحفة وهي صحن خشبي‬

‫صورة للقربة‪ ،‬وهي وعاء من الجلد ُيحفظ و ُيبرد فيها الماء‬


‫‪105‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫العشاء‬
‫صالة ِ‬

‫في بيته إلى أذان ِ‬


‫العشاء‪ ،‬وكان يكره النوم قبل صالة‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ويبقى‬
‫العشاء‪ ،‬وذلك حتى ال يستغرق اإلنسان في نومه فيفوته وقت الصالة‪ ،‬ولم يكن‬
‫يعجل بصالة ِ‬
‫العشاء‪ ،‬وإنما ينتظر؛ فإن رآهم اجتمعوا َع َّجل‪ ،‬وإن رآهم تأخروا‬ ‫ُ َ ِّ‬
‫َأ َّخر‪ ،‬وكان يحب تأخيرها‪ ،‬لوال خوف المشقة على الناس(‪.)1‬‬
‫رسول اهلل‪ ،‬رقد النسا ُء‬ ‫َ‬ ‫عمر ‪ ‬إليه‪ ،‬فناداه‪ :‬يا‬ ‫أخرها مرةً‪ ،‬فجاء ُ‬ ‫وقد َّ‬
‫ت‪،‬‬ ‫يمسح الما َء عن ش ِّقه‪ ،‬ويقول‪« :‬إِ َّن ُه َل ْل َو ْق ُ‬
‫ُ‬ ‫يقطر‪ ،‬وهو‬
‫ورأسه ُ‬ ‫والولدان‪ .‬فخرج ُ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫َل ْو َل َأ ْن َأ ُش َّق َع َلى ُأ َّمتي َلَ َم ْرت ُُه ْم بِ َّ‬
‫الص َلة َهذه َّ‬
‫السا َعة»(‪.)2‬‬
‫إن لي َ‬
‫إليك‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‪َّ ،‬‬ ‫رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬‫ليلة‪ ،‬فقام ٌ‬‫ذات ٍ‬ ‫و ُأقيمت صال ُة العشاء َ‬
‫بعض القوم(‪.)3‬‬
‫ُيناجيه‪ ،‬حتى َن َع َس ُ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫حاج ًة‪ .‬فقا َم معه‬
‫صليت وراء إمام‬
‫ُ‬ ‫أخف الناس صال ًة في ت ََمام‪ ،‬قال أنس ‪ :‬ما‬
‫َّ‬ ‫وكان‬
‫(‪.)4‬‬ ‫أتم صال ًة من رسول اهلل‬ ‫أخف صالةً‪ ،‬وال َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫قط‬
‫َّ‬
‫ط ا ْل ُم َف َّص ِل ﴿ َوٱلش ۡم ِس َو ُض َحى ٰ َها﴾ َو َما‬ ‫وي ْقر ُأ فِي ْالُو َليي ِن ِمن ا ْل ِع َش ِ‬
‫اء ِمن وس ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ََ َ‬
‫َ ّ ۡ َ َّ َ َۡ َۡ‬ ‫َّ‬
‫ُي ْشبِ ُه َها‪ ،‬وقال لمعاذ‪ :‬ا ْق َر ْأ ﴿ َوٱلش ۡم ِس َو ُض َحى ٰ َها﴾ و﴿سبِحِ ٱسم ربِك ٱلع﴾‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)565 ،560‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)646‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)46‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7239‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)639‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12881‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)376‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)201‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12734‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)469‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)237‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪106‬‬

‫وكان يسمع بكاء الصبي مع أمه‪ ،‬وهو في الصالة‪ ،‬فيقرأ بالسورة القصيرة؛‬
‫الص َل ِة ُأ ِريدُ إِ َطا َلت ََها‪َ ،‬ف َأ ْس َم ُع‬ ‫ِ‬
‫يشق على ُأ ِّمه‪ ،‬ويقول‪« :‬إِنِّي َلَ ْد ُخ ُل في َّ‬ ‫كراهية أن َّ‬
‫الص َل ِة؛ ِم َّما َأ ْع َل ُم ِم ْن ِشدَّ ِة َو ْج ِد ُأ ِّم ِه ِم ْن ُبكَائِ ِه»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫الصبِ ِّي َف َأت ََج َّو ُز في َّ‬
‫َاء َّ‬
‫ُبك َ‬
‫العشاء فقلما يتحدَّ ث بعدها إلى أصحابه‪ ،‬فقد كان يكره‬ ‫فإذا قضى صال َة ِ‬

‫الحديث بعدها إال أن كان َث َّم َة عارض يريد أن يحدِّ ثهم به حديث ًا وجيز ًا‪.‬‬
‫العشاء في آخر حياته‪ ،‬فلما س َّلم قام فقال‪:‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬أنه ص َّلى ذات ليلة ِ‬

‫س ِمئ َِة َسن ٍَة ِمن َْها َل َي ْب َقى ِم َّم ْن ُه َو َع َلى َظ ْه ِر‬
‫«أ َر َأ ْي َتك ُْم َل ْي َل َتك ُْم َه ِذ ِه؟ َفإِ َّن َع َلى َر ْأ ِ‬
‫َ‬
‫ض َأ َحدٌ »(‪.)2‬‬ ‫ْالَ ْر ِ‬
‫ذلك خالل‬ ‫أي أنه سيموت كل األحياء الموجودين وقت خطاب النبي‬
‫مئة سنة‪ ،‬وال يشمل ذلك من ُولد بعد تلك الليلة‪ ،‬وهكذا كان‪ ،‬فآخر من مات‬
‫هذه بمئة‬ ‫من الصحابة هو أبو ال ُّطفيل عامر بن واثلة توفي بعد كلمة النبي‬
‫سنة‪ ،‬عام (‪110‬هـ)‪ ،‬وكان يقول‪ :‬ما بقي على وجه األرض أحد يقدر أن يقول‪:‬‬
‫غيري(‪.)3‬‬ ‫إنه رأى رسول اهلل‬
‫العشاء‪ ،‬ثم ص َّلى بأصحابه‪ ،‬ثم خطبهم‪ ،‬فقال‪َ :‬‬ ‫وأخر مر ًة صالة ِ‬
‫«أ َل إِ َّن الن َ‬
‫َّاس‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َقدْ َص َّل ْوا ُث َّم َر َقدُ وا‪َ ،‬وإِ َّنك ُْم َل ْم َتزَا ُلوا في َص َلة َما ا ْن َت َظ ْرت ُُم َّ‬
‫الص َلةَ»(‪.)4‬‬
‫فص َّلى بهم‪،‬‬ ‫خرج‬ ‫الليل(‪ ،)5‬ثم‬ ‫العشاء‪ ،‬حتى ا ْب َه َّار ُ‬ ‫و َأ ْعتَم مرة بصالة ِ‬
‫َ‬
‫لمن حضره‪َ « :‬ع َلى ِر ْسلِك ُْم‪َ ،‬أ ْب ِش ُروا‪ ،‬إِ َّن ِم ْن نِ ْع َم ِة اهللِ‬ ‫فلما قضى صالته قال َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)710-707‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)470‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)564 ،116‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2537‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «معرفة الصحابة» ألبي نعيم (‪ ،)2943/5‬و«مختصر تاريخ دمشق» (‪.)296/11‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)847‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)640‬وغيرها‪.‬‬
‫((( أعتم‪ :‬أي‪ :‬دخل في ظلمة الليل‪ ،‬والمراد أخرها عن وقتها المعتاد‪ .‬وابهار‪ :‬أي انتصف‪ .‬ينظر‪« :‬غريب الحديث»‬
‫البن قتيبة (‪ ،)443/1‬و«النهاية» (‪.)165/1‬‬
‫‪107‬‬ ‫�صالة العِ�شاء‬
‫ِِ‬ ‫َع َل ْيك ُْم‪َ ،‬أ َّن ُه َل ْي َس َأ َحدٌ ِم َن الن ِ‬
‫َّاس ُي َص ِّلي َهذه َّ‬
‫السا َع َة َغ ْي ُرك ُْم»‪ .‬فانقلب أصحا ُبه‬
‫لهم(‪.)1‬‬
‫إلى دورهم فرحين ببشرى رسول اهلل‬
‫وكان حدي ُثه بعد صالة ِ‬
‫العشاء نادر ًا وقصير ًا؛ لتعب الناس وحاجتهم للنوم‪.‬‬
‫وكان إذا س َّلم مكث في مكانه حتى ينصرف النسا ُء‪ ،‬فيدخلن بيوتهن من قبل‬
‫قام الرجال(‪.)2‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫‪ ،‬فإذا قام‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫أن ينصرف‬
‫قال ابن شهاب‪َ :‬ف ُأ َرى َواهللُ َأ ْع َل ُم َأ َّن ُم ْك َث ُه لِك َْي َينْ ُف َذ الن َِّسا ُء َق ْب َل َأ ْن ُيدْ ِرك َُه َّن َم ِن‬
‫ف ِم َن ال َق ْو ِم(‪ .)3‬وذلك حتى ال يزدحم الرجال والنساء في الطريق‪ ،‬وكانت‬ ‫ان َْص َر َ‬
‫طرق المدينة ضيقة‪ ،‬فتُخلى للنساء ين ُف ْذ َن فيها ثم يتبعهن الرجال‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫لمصل‪ ،‬أو مسافر‪ ،‬أو عروس(‪ ،)4‬ومثل‬ ‫وكان ينهى عن السمر إال في ثالث‪،‬‬
‫ذلك السمر لمذاكرة العلم‪ ،‬أو قضاء حوائج المسلمين(‪ ،)5‬كما سيأتي‪.‬‬
‫وكانت عائشة تنهى َمن يتحدَّ ثون بعد العشاء‪ ،‬فعن ُع ْر َو َة بن الزبير َق َال‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الس َم ُر َيا ُع ْر َوةُ؟! َما‬ ‫َسم َعتْني َعائ َش ُة َو َأنَا َأ َت َك َّل ُم َب ْعدَ ا ْلع َشاء‪َ ،‬ف َقا َل ْت‪َ :‬ما َه َذا َّ‬
‫َحدِّ ث ًا ‌ َب ْعدَ َها‪ ،‬إِ َّما ن َِائم ًا َف َي ْس َل ُم‪َ ،‬وإِ َّما‬
‫ن َِائم ًا َقب َلها‪‌ ،‬و َل ‌مت ِ‬
‫ْ َ َ ُ‬ ‫ول ا ِ‬
‫هلل‬ ‫َر َأ ْي ُت َر ُس َ‬
‫ُمص ِّلي ًا َف َي ْغن َُم(‪.)6‬‬

‫)‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)570 ،567‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)641 ،639‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)870 ،850 ،849‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1040‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)837‬‬
‫((( ينظر‪« :‬السنن واألحكام» للضياء المقدسي (‪ ،)268/1‬و«السلسلة الصحيحة» لأللباني (‪.)563/5‬‬
‫((( «شرح معاني اآلثار» للطحاوي (‪.)330/4‬‬
‫((( «مصنف عبد الرزاق» (‪ ،)2137‬و«شعب اإليمان» (‪.)4586‬‬
‫‪109‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫ليالي الرسول‬

‫إلى بيته‪ ،‬فيص ِّلي ركعتين راتبة العشاء(‪ ،)1‬ثم يجلس ُس َو ْي َع ًة‬ ‫ثم يرجع‬
‫يسم ُر عند‬
‫ويسم ُر معهم قبل أن ينام‪ ،‬وربما ذهب ُ‬‫ُ‬ ‫ث مع أهله‪ ،‬يؤانسهم‬ ‫يتحدَّ ُ‬
‫ويسم ُر مع أبي بكر وعمر‬
‫ُ‬ ‫فيسم ُر عند األنصار في بعض الليالي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بعض أصحابه‪،‬‬
‫‪ ‬في بيت أبي بكر‪ ،‬فيتحدَّ ثون في أمر المسلمين‪ ،‬فإذا خرج سارا معه يتمتَّعان‬
‫في الطريق حتى يدخال معه المسجدَ (‪.)2‬‬ ‫بصحبته‬
‫فيقف‬
‫ُ‬ ‫مر في طريقه بقارئ حسن الصوت من أصحابه يقو ُم بالقرآن‪،‬‬ ‫وربما َّ‬
‫مر بأبي موسى األشعري ‪ ‬ليل ًة‪ ،‬فوقف‬ ‫ِ‬
‫مستَمع ًا لهذه القراءة الحسنة‪ ،‬كما َّ‬
‫وسى‪َ ،‬ل ْو َر َأ ْيتَنِي َو َأنَا َأ ْست َِم ُع‬ ‫َيستَمع إليه‪ ،‬فلما أصبح لقيه‪ ،‬فقال له‪َ « :‬يا َأ َبا ُم َ‬
‫ِ‬
‫يت ِمزْمار ًا ِمن مز ِ‬
‫َام ِير(‪ِ )3‬‬ ‫ِ‬ ‫لِ ِق َر َاءتِ َ‬
‫ك ا ْل َب ِ‬
‫آل َد ُاو َد»(‪.)4‬‬ ‫ْ َ‬ ‫ار َح َة! َل َقدْ ُأوت َ َ‬
‫ودخل المسجدَ ليل ًة‪ ،‬فإذا عبد اهلل بن مسعود ‪ ‬قائم يص ِّلي‪ ،‬يرتِّل سور َة‬
‫«م ْن َس َّر ُه َأ ْن‬ ‫ِ‬
‫يستَمع لقراءته‪ ،‬ثم قال ألبي بكر وعمر ‪َ :‬‬ ‫النساء‪ ،‬فقام‬
‫آن َر ْطب ًا ك ََما ُأن ِْز َل َف ْل َي ْق َر ْأ ُه َع َلى ِق َر َاء ِة ا ْب ِن ُأ ِّم َع ْب ٍد»(‪.)5‬‬
‫َي ْق َر َأ ا ْل ُق ْر َ‬
‫»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في أربع ركعات قبل الظهر في «أمسيات الرسول‬
‫((( «مصنف ابن أبي شيبة» (‪ ،)6689‬و«مسند أحمد» (‪ ،)178 ،175‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)4569‬و«صحيح‬
‫مسلم» (‪ ،)763‬وغيرها‪.‬‬
‫((( والمقصود بتشبيه صوته بالمزامير‪ :‬أنه ُأتي صوت ًا حسن ًا كصوت آل داود‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)312/2‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23033‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5048‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)793‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)18457 ،4340 ،175 ،35‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)138‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪110‬‬

‫النائم؛ حيث ال‬ ‫اليقظان‪ ،‬وال ي ِ‬


‫وق ُظ‬ ‫َ‬ ‫فإذا دخل المسجدَ س َّلم تسليم ًا ُي ْس ِم ُع‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يخلو المسجد من فقراء المسلمين الذين ينامون فيه‪ ،‬ثم يص ِّلي في المسجد قبل‬
‫أن يدخل بيته(‪.)1‬‬
‫فإذا دخل بيته‪ ،‬وأراد أن ينام تخ َّفف من ثيابه‪ ،‬فأخذ ِخ ْر َقة توضع عند رأس‬
‫فراشه‪ ،‬فاتَّزر بها‪ ،‬وخلع ثوبيه فع َّلقهما‪ ،‬ثم دخل مع زوجته في لحافها‪ ،‬وكان‬
‫يتوسدها هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فراشه من جلد حشوه ليف‪ ،‬وله وسادة من جلد حشوها ليف َّ‬
‫وزوجته(‪.)2‬‬
‫وكان سريره في زاوية بيته الجنوبية الغربية‪ ،‬وهو مكان قبره المقدس فهذا‬
‫المكان مرقده حي ًا وميت ًا‪.‬‬
‫َ‬
‫استيقظ‪ ،‬وكان ال يرقد‬ ‫َ‬
‫ليستاك به إذا‬ ‫وضع ِسواكه عند رأسه؛‬‫َ‬ ‫فإذا أراد أن ينا َم‬
‫من ليل وال نهار فيستيقظ إِ َّل بدأ ِّ‬
‫بالسواك(‪.)3‬‬
‫وكان إذا استاك َأ ْع َطى سواكه عائش َة ‪ ‬لتغسله‪ ،‬فتبدأ به فتستاك؛ لتصيب‬
‫أثر ريقه الطيب المبارك‪ ،‬ثم تغسله وتدفعه إليه(‪.)4‬‬
‫الم َط َّيب تعاهد ًا شديد ًا‪،‬‬
‫فكان سواكه نظيف ًا وقريب ًا منه‪ ،‬يتعاهد به فمه ال َّط ِّيب ُ‬
‫ِ‬
‫بالسواك(‪ ،)5‬فيبدأ به ك َّلما استيقظ‪،‬‬ ‫حتى َخشي على أسنانه أن تقع لشدة ما َأ ْحفاها ِّ‬
‫ويقربه عند رأسه إذا أراد أن ينام‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يؤانس زوجتَه بالحديث معها ُسويعة‪ ،‬ولك أن تتخ َّيل هذه النجوى بين‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫محب وزوجة ُم ِح َّبة َم ُشو َقة في َهدْ َأة الليل وسكون المدينة الجميل‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫زوج كريم‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23809‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2055‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2719‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)3490 ،2572‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2082 ،1479‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24900 ،5979‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)245‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)255‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)52‬و«سنن البيهقي» (‪ ،)169‬و«شرح السنة» (‪ ،)204‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)22269 ،16007‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)289‬وغيرها‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫ليالي ر�سول اهلل‬

‫إنها عطاء ِوجداني يفيض على النفس بأنواع َ‬


‫الم َس َّرة واإلبهاج‪ ،‬و ُيعطي العالقة‬
‫الزوجية ُع ْمق ًا ِوجدان ّي ًا راسخ ًا في النفس‪.‬‬
‫وكما كان حديثه أول ما تسمعه زوجته عند صحوها فإنه كان آخر ما تسمعه‬
‫قبل إغفائها‪ ،‬وللحديث والنجوى في لحظة القرب الزوجي هذه لذته وذواقه‪،‬‬
‫وأثره في حيوية الحياة الزوجية‪ ،‬فهو أكثر حميمية وخصوصية‪ ،‬فتبقى نشوته‬
‫وذكراه بهج ًة لليوم كله‪ ،‬إنها سويعة الصفو في َك َب ِد الحياة‪.‬‬
‫ولذا كان استثنا ًء من كراهة السمر بعد العشاء‪ ،‬وكانت عائشة أعرف الناس‬
‫بأهميته وأثره في حياة األهل؛ فقد روي عنها أنها رأت قوم ًا يسمرون فقالت‬
‫لهم‪ :‬انصرفوا إلى أهليكم فإن لهم فيكم نصيب ًا(‪.)1‬‬
‫وبعد هذه المناجاة الجميلة‪ ،‬فإن كان به حاجة الرجل إلى زوجته قضى الرغبة‬
‫الزوجية الخاصة‪ ،‬وربما وافق زوجتَه أيام حيضها‪ ،‬فال ينقطع عنها اإلسعاد‬
‫فيصيب منها ما‬
‫ُ‬ ‫الزوجي‪ ،‬فكان يباشر زوجته وهي حائض‪ ،‬ويأمرها أن ت َْأتزر‪،‬‬
‫يصيب الزوج من زوجته‪ ،‬غير الجماع(‪.)2‬‬
‫ُ‬
‫وفي ذلك إشعار بالرغبة في الزوجة‪ ،‬وأن هذا العارض الطبيعي ال يقطع‬
‫ألوان ًا من التواصل الزوجي ال َب ِهيج‪.‬‬
‫في لحافه‪،‬‬ ‫كنت مع رسول اهلل‬ ‫ومن ذلك‪ :‬حديث أم سلمة ‪ ‬قالت‪ُ :‬‬
‫فوجدت ما تجدُ النسا ُء من الحيضة‪ ،‬فان َْس َل ْل ُت من‬ ‫ُ‬ ‫مضطجعة في َخ ِميلة‪،‬‬
‫ك؟‬ ‫‪« :‬ما َل ِ‬ ‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫ثياب ِحيضتي فلبستها فقال لي‬ ‫ال ِّلحاف‪،‬‬
‫َ‬ ‫فأخذت َ‬ ‫ُ‬
‫َات آ َد َم»‪ .‬ثم قال‪َ « :‬ت َعا َل ْي َفا ْد ُخلِي َم ِعي فِي‬
‫ك ما َكتَب اهللُ ع َلى بن ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َأنُف ْست؟ َذل َ َ‬
‫ال ِّلحاف»‪ .‬قالت‪ :‬فأدخلني معه في لحافه(‪.)3‬‬
‫((( «مصنف ابن أبي شيبة» (‪ ،)6697‬و«فتح الباري» البن رجب (‪.)173/5‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)302‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)293‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1929 ،322‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)296‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)637‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪112‬‬

‫توضأ ونام َّ‬


‫وأخر الغسل لحين‬ ‫ُ‬
‫يغتسل من الجنابة قبل أن ينام‪ ،‬وربما َّ‬ ‫وكان‬
‫استيقاظه(‪.)1‬‬
‫وكان يغتسل أحيان ًا هو وزوجته من إناء واحد‪ ،‬تختلف أيديهما فيه‪ ،‬تقول‪:‬‬
‫َد ْع لي‪َ ،‬د ْع لي‪ .‬ويقول‪َ « :‬د ِعي لِي‪َ ،‬د ِعي لِي»(‪ .)2‬وهذا من المؤانسة وامتداد اللهو‬
‫الجميل بين الزوجين‪.‬‬
‫وكان إذا أوى إلى فراشه قال‪« :‬ا ْل َح ْمدُ ِلِ ا َّل ِذي َأ ْط َع َمنَا‪َ ،‬و َس َقانَا‪َ ،‬و َك َفانَا‪،‬‬
‫ي‪ ،‬ا ْل َح ْمدُ ِلِ ا َّل ِذي َم َّن َع َل َّي َف َأ ْف َض َل‪ ،‬ا ْل َح ْمدُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َآوانَا َفك َْم م َّم ْن َل كَاف َي َل ُه‪َ ،‬و َل ُم ْؤ ِو َ‬
‫ك‬ ‫ال‪ ،‬ال َّل ُه َّم َر َّب ك ُِّل َش ْي ٍء‪َ ،‬و َمالِ َ‬ ‫ِلِ ا َّل ِذي َأ ْع َطانِي َف َأ ْجز ََل‪ ،‬ا ْل َحمدُ ِلِ َع َلى ك ُِّل َح ٍ‬
‫ْ‬
‫َّار»(‪.)3‬‬ ‫ك ِم َن الن ِ‬ ‫ك ك ُُّل َش ْي ٍء‪َ ،‬أ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ك ُِّل َش ْي ٍء‪َ ،‬وإِ َل َه ك ُِّل َش ْي ٍء‪َ ،‬ل َ‬
‫ُۡ‬ ‫ُ ۡ ُ َّ ُ َ‬
‫ٱلل أ َح ٌد﴾‪ ،‬و﴿قل‬ ‫ثم يجمع كفيه المباركتين‪ ،‬فين ُفث فيهما‪ ،‬ويقرأ‪﴿ :‬قل ه َو‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ ُ ُ‬ ‫َ ُ ُ َ ّ َۡ َ‬
‫اس﴾‪ ،‬ثم يمسح بهما رأسه ووجهه وما‬ ‫ب ٱلفل ِق﴾‪ ،‬و﴿قل أعوذ بِر ِ‬
‫ب ٱنل ِ‬ ‫أعوذ بِر ِ‬
‫أقبل من جسده ثالث مرات(‪.)4‬‬
‫اضطجع على ِش ِّقه األَيمن‪ ،‬ووضع يده اليمنى تحت َخدِّ ه‬ ‫َ‬ ‫اضطجع‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫ك‬ ‫ك َأ ْح َيا‪ ،‬ال َّل ُه َّم َر ِّب ِقنِي َع َذا َب َ‬
‫اس ِم َ‬
‫وت‪َ ،‬وبِ ْ‬ ‫ك ال َّل ُه َّم َأ ُم ُ‬ ‫اس ِم َ‬
‫األيمن‪ ،‬وقال‪« :‬بِ ْ‬
‫ث ِع َبا َد َك»(‪.)5‬‬‫َي ْو َم َت ْب َع ُ‬
‫ك‬‫اخ َس ْأ َش ْي َطانِي‪َ ،‬و ُف َّ‬‫ت َجنْبِي‪ ،‬ال َّل ُه َّم ا ْغ ِف ْر َذ ْنبِي‪َ ،‬و ْ‬ ‫ويقول‪« :‬بِ ْس ِم اهللِ َو َض ْع ُ‬
‫الرفِيق ْالَ ْع َلى»(‪.)6‬‬ ‫ِ ِ‬
‫اج َع ْلني في َّ‬
‫ِ ِ‬
‫ِر َهاني‪َ ،‬و َث ِّق ْل ميزَاني‪َ ،‬و ْ‬
‫ِ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24453 ،1804‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)307‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)2924‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)261‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)321‬و«سنن النسائي» (‪ ،)236‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)5983‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2715‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5058‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24853‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)5017‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2192‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6315 ،6314‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2711‬و«سنن أبي داود» (‪.)5045‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)5054‬و«شرح مشكل اآلثار» للطحاوي (‪ ،)112‬وغيرها‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫النبوي‬ ‫ليالياليوم‬
‫ر�سول اهلل‬

‫أذكار يقولها عند نومه‪ ،‬فيقول هذه أحيان ًا‪ ،‬وهذه أحيان ًا(‪ ،)1‬ومنها‪:‬‬ ‫وله‬
‫ش ا ْل َعظِيمِ‪ ،‬ر َّبنا َو َر َّب‬ ‫ض‪َ ،‬و َر َّب ا ْل َع ْر ِ‬ ‫الس ْب ِع َو َر َّب ْالَ ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َاوات َّ‬ ‫• «ال َّل ُه َّم َر َّب َّ‬
‫ك ِم ْن َش ِّر‬ ‫يل َوا ْل ُق ْر ِ‬
‫آن‪َ ،‬أ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫ب َوالن ََّوى‪َ ،‬و ُمن ِْز َل الت َّْو َر ِاة َو ْ ِ‬
‫الن ِ‬
‫ْج ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ك ُِّل َش ْيء‪َ ،‬فال َق ا ْل َح ِّ‬
‫ْت ْال ِخ ُر‬ ‫ك َش ْي ٌء‪َ ،‬و َأن َ‬ ‫ْت ْالَ َّو ُل َف َل ْي َس َق ْب َل َ‬ ‫اللهم َأن َ‬
‫َّ‬ ‫َاص َيتِ ِه(‪،)2‬‬ ‫آخ ٌذ بِن ِ‬ ‫ْت ِ‬ ‫ك ُِّل ِذي َش ٍّر َأن َ‬
‫َك‬ ‫ْت ا ْل َباطِ ُن َف َل ْي َس ُدون َ‬ ‫ك َش ْي ٌء‪َ ،‬و َأن َ‬ ‫اه ُر َف َل ْي َس َف ْو َق َ‬ ‫ْت ال َّظ ِ‬ ‫َف َل ْي َس َب ْعدَ َك َش ْي ٌء‪َ ،‬و َأن َ‬
‫ض َعنّا الدَّ ْي َن َو َأ ْغنِنَا ِم َن ا ْل َف ْق ِر»(‪.)3‬‬ ‫َش ْي ٌء‪ ،‬ا ْق ِ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ت َأ ْم ِري إِ َل ْي َ‬ ‫ك‪َ ،‬و َف َّو ْض ُ‬ ‫ت َو ْج ِهي إِ َل ْي َ‬ ‫ك‪َ ،‬و َو َّج ْه ُ‬ ‫ت َن ْف ِسي إِ َل ْي َ‬ ‫• «ال َّل ُه َّم َأ ْس َل ْم ُ‬
‫ْت‬ ‫ك‪َ ،‬آمن ُ‬ ‫ك‪َ ،‬ل َم ْل َج َأ َو َل َمن َْجا ِمن َ‬
‫ْك إِ َّل إِ َل ْي َ‬ ‫ك‪َ ،‬ر ْغ َب ًة َو َر ْه َب ًة إِ َل ْي َ‬ ‫َو َأ ْل َج ْأ ُت َظ ْه ِري إِ َل ْي َ‬
‫ت»(‪.)4‬‬ ‫ك ا َّل ِذي َأ ْر َس ْل َ‬ ‫ت‪َ ،‬وبِنَبِ ِّي َ‬ ‫ك ا َّل ِذي َأ ْن َز ْل َ‬ ‫بِكِتَابِ َ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫زنيل‪ ﴾...‬السجدة‪ ،‬و﴿ت َبٰ َر َك‬ ‫ٓٓ‬
‫ويقرأ سور ًا من القرآن‪ ،‬فيقرأ أحيان ًا‪ ﴿ :‬الم ‪ 1‬ت ِ‬
‫ۡ ۡ‬ ‫َّ‬
‫ٱلِي ب ِ َي ِده ِ ٱل ُمل ُك﴾‪ ،‬وأحيان ًا سورة «الزمر»‪ ،‬و«اإلسراء»(‪.)5‬‬
‫ثم ينام‪ ،‬فإذا نام واستغرق في نومه نفخ ــ وهو صوت َن َفس النائم المرتفع ــ‬
‫احدُ ا ْل َقهار‪ ،‬رب السماو ِ‬ ‫«ل إِ َله إِ َّل اهللُ ا ْلو ِ‬
‫ات‬ ‫َّ ُ َ ُّ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫فإذا تق َّلب في فراشه من الليل قال‪َ َ :‬‬
‫ض َو َما َب ْين َُه َما ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َغ َّف ُار»(‪.)6‬‬‫َو ْالَ ْر ِ‬
‫يك‬‫يقول‪‌َ « :‬م ْن ‌ َت َع َّار ِ‌م َن ‌ال َّل ْي ِل‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬ل إِ َل َه إِ َّل اهللُ َو ْحدَ ُه َل َش ِر َ‬ ‫وكان‬
‫ان اهللِ‪َ ،‬و َل‬ ‫ٍ ِ‬
‫الح ْمدُ هللِ‪َ ،‬و ُس ْب َح َ‬ ‫الح ْمدُ ‪َ ،‬و ُه َو َع َلى ك ُِّل َش ْيء َقد ٌير‪َ ،‬‬ ‫ك َو َل ُه َ‬ ‫الم ْل ُ‬
‫َل ُه‪َ ،‬ل ُه ُ‬
‫((( «شرح صحيح البخاري» البن بطال (‪.)88/10‬‬
‫((( الناصية‪ :‬الشعر في مقدم الرأس‪ .‬والمقصود‪ :‬أعوذ بك من شر كل شيء من المخلوقات؛ ألنها كلها في سلطانه‪،‬‬
‫وهو آخذ بنواصيها‪« .‬شرح النووي على صحيح مسلم» (‪ ،)199/17‬و«تاج العروس» (‪.)90/40‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)2713‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5051‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3873‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6315‬و«سنن النسائي» (‪ ،)10541‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24388 ،14659‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3405 ،2892‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)698‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)763‬و«سنن النسائي» (‪.)7641‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪114‬‬

‫هلل َأ ْك َب ُر‪َ ،‬و َل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة إِ َّل بِاهللِ‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪ :‬ال َّل ُه َّم ا ْغ ِف ْر لِي‪َ ،‬أ ْو َد َعا‪،‬‬‫إِ َل َه إِ َّل اهللُ‪َ ،‬وا ُ‬
‫ت َص َل ُت ُه»(‪.)1‬‬ ‫يب َل ُه‪َ ،‬فإِ ْن ت ََو َّض َأ َو َص َّلى ُقبِ َل ْ‬ ‫ْاست ِ‬
‫ُج َ‬
‫وكان ال يتق َّلب من الليل إِ َّل أجرى السواك على فمه‪ ،‬ثم يعود إلى نومه‪ ،‬إلى‬
‫أن ينتصف ُ‬
‫الليل(‪.)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫ويبدو أن هذه أطول فترة نوم ينامها النبي‬

‫)‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪.)1154‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)5979 ،3541‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)245‬و«صحيح مسلم» (‪.)256 ،255‬‬
‫‪115‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫ناشئة الليل‬

‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫َ‬
‫استيقظ‬ ‫ف ُ‬
‫الليل‪ ،‬أو قبله بقليل أو بعده بقليل‬ ‫انتص َ‬
‫فإذا َ‬
‫َ‬
‫تناول سواكه فدلك به فمه ال َّط ِّيب‬ ‫يمسح النو َم عن وجهه بيده‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ثم جلس‬
‫المبارك(‪ ،)1‬ثم رفع بصره إلى السماء‪ ،‬ينظر بتفكُّر في هدوء الليل وسكونه إلى‬
‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫عظمة اهلل في خلقه‪ ،‬وهو يتلو قوله تعالى‪﴿ :‬إ َّن ف َخ ۡلق َّ َ َ‬
‫ۡرض َوٱختِل ٰ ِف‬ ‫ت َوٱل ِ‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ودا َو َ َ ٰ‬
‫ع ُج ُنوب ِ ِه ۡم‬
‫َّ َ َ ۡ ُ ُ َ َّ َ َ ٰ ٗ َ ُ ُ ٗ‬
‫ب ‪ 190‬ٱلِين يذكرون ٱلل ق ِيما وقع‬ ‫ٰ‬ ‫ٓأَليٰت ّ ِلُ ْول ۡٱلَ ۡل َ‬
‫ب‬
‫َ‬ ‫َّ ۡ َ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ٱل ِل وٱنلهارِ‬
‫ك فَقِ َنا َع َذ َ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ ۡ َ َ ٰ َ َ ٰ ٗ ُ ۡ َ ٰ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ون ف َخ ۡلق َّ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫اب‬ ‫ۡرض ربنا ما خلقت هذا ب ِطل سبحن‬ ‫ت َوٱل ِ‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويتفكر‬
‫ٱنلَّارِ‪ ﴾...‬إلى نهاية اآليات العشر من آخر سورة آل عمران‪ ،‬ثم يقوم إلى ِقربة‬
‫يتوضأ ُوضوء ًا‬
‫َّ‬ ‫مع َّلقة‪ ،‬ف ُيطلق رباطها‪ ،‬ويسكب الما َء منها في َقدَ ٍح عنده‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬
‫مقتصد ًا َسابغ ًا‪ ،‬ثم يلبس إزاره ورداءه ويخلع الخرقة التي كان يتَّزر بها‪ ،‬ثم‬
‫يص ِّلي صال َة الليل(‪.)2‬‬
‫ويلهج لربه بالذكر والتسبيح والتعظيم قبل أن يبدأ صالة التهجد‪ ،‬وكأن‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫ذلك لمزيد الته ُّيؤ واالستفتاح لقيام الليل‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬كان‬
‫ان اهلل ِ َوبِ َح ْم ِد ِه»‬ ‫ِ‬
‫ب م َن ال َّليل‪َ ،‬ك َّب َر عشر ًا‪َ ،‬‬
‫وحمدَ َع ْشر ًا‪ ،‬وقال‪ُ :‬‬
‫«س ْب َح َ‬ ‫إذا َه َّ‬
‫وس» عشر ًا‪ ،‬واستغ َف َر عشر ًا‪ ،‬وه َّل َل عشر ًا‪ ،‬ثم‬ ‫ان ا ْلملِ ِ‬
‫ك ا ْل ُقدُّ ِ‬ ‫«س ْب َح َ َ‬ ‫عشر ًا‪ ،‬وقال‪ُ :‬‬
‫إذا قام من النوم في «أنوار الفجر»‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬ما تقدم في سواك النبي‬
‫إزاره ورداءه‬ ‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)992 ،183‬و«صحيح مسلم» (‪ .)763‬وينظر‪ :‬ما تقدم في خلعه‬
‫»‪.‬‬ ‫ولبسه الخرقة عند النوم‪ ،‬وسواكه كلما قام من الليل في «ليالي الرسول‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪116‬‬

‫يفتتح‬
‫ُ‬ ‫يق َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة» َع ْشر ًا‪ ،‬ثم‬
‫يق الدُّ ْن َيا‪َ ،‬و ِض ِ‬
‫ك ِم ْن ِض ِ‬
‫قال‪« :‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ُعو ُذ بِ َ‬
‫الصال َة(‪.)1‬‬
‫أخف الناس صال ًة إذا‬
‫َّ‬ ‫يبتدئ قيا َمه بركعتين خفيفتين‪ ،‬وكما كان‬
‫ُ‬ ‫وكان‬
‫ص َّلى بالناس‪ ،‬فقد كان أطو َلهم صال ًة إذا ص َّلى لنفسه‪ ،‬فصالتُه في الليل أطول‬
‫َّ َ َّ َ ٗ‬ ‫ُ‬
‫صالته استفتاح ًا وقراءة ودعاء؛ امتثاالً لقول ربه‪﴿ :‬ق ِم ۡ‬
‫ٱلل إِل قل ِيل﴾(‪.)2‬‬ ‫ً‬
‫تهجده‪ ،‬يستشعر أن صالته بالليل صالة مستغرقة‪،‬‬
‫في ُّ‬ ‫والمتأ ِّمل لحاله‬
‫قد اجتمعت فيها كل مشاعره وأحاسيسه ونجواه‪ ،‬وكأنما َع َرجت روحه إلى‬
‫ينظر إلى عرش ربه بارز ًا‪،‬‬
‫المأل األعلى‪ ،‬وغشيته أنوار حجاب النور اإللهي؛ فهو ُ‬
‫ودعاؤه له‬
‫ُ‬ ‫وثناؤه عليه أعظم الثناء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويناجيه خالي ًا به‪َ ،‬‬
‫فح ْمدُ ه لربه أبلغ الحمد‪،‬‬
‫أجمع الدعاء‪ ،‬وال عجب؛ فهو الذي ُأسري به حتى ُخ ِرقت له َّ‬
‫السبع ال ِّطباق‪،‬‬
‫يسمع فيه َص ِريف(‪ )3‬األقالم(‪.)4‬‬
‫ُ‬ ‫مستوى‬
‫ً‬ ‫وارتفع إلى‬
‫فكان أعلم الخلق باهلل‪ ،‬وأكملهم إيمان ًا‪ ،‬وأصدقهم يقين ًا‪ ،‬وقال‪ ،‬وصدَ َق َّ‬
‫وبر‪:‬‬
‫«إِ َّن َأ ْت َقاك ُْم َو َأ ْع َل َمك ُْم بِاهللِ َلَنَا»(‪.)5‬‬
‫والمشتاق‬
‫حب له ُ‬ ‫استفتاح المع ِّظ ِم لربه‪ُ ،‬‬
‫الم ِّ‬ ‫َ‬ ‫فإذا قام إلى صالته استفتحها‬
‫فاستفتاحه جوامع التعظيم والحمد والثناء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إليه‪،‬‬
‫يل‪،‬‬ ‫يل‪َ ،‬و ِميكَائِ َ‬ ‫«الله َّم َر َّب َج ْب َرائِ َ‬
‫ُ‬ ‫فمن فواتح صلواته إذا قام من الليل‪:‬‬
‫ْت ت َْحك ُُم َب ْي َن‬ ‫الش َها َد ِة‪َ ،‬أن َ‬
‫ب َو َّ‬ ‫ض‪َ ،‬عالِ َم ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ات َو ْالَ ْر ِ‬‫يل‪َ ،‬فاطِر السماو ِ‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫َوإِ ْس َرافِ َ‬
‫ك‪ ،‬إِن َ‬
‫َّك‬ ‫ف فِ ِيه ِم َن ا ْل َح ِّق بِإِ ْذنِ َ‬
‫اختُلِ َ‬ ‫ون‪ْ ،‬اه ِدنِي لِ َما ْ‬‫يما كَانُوا فِ ِيه َيخْ تَلِ ُف َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ع َباد َك ف َ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25102‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)5085‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)1356‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)21908 ،7748‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)708‬و«صحيح مسلم» (‪.)765 ،469‬‬
‫((( وصريف األقالم‪ :‬صوتها عند الكتابة بها‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)25/3‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3342 ،349‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)163‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23682‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)20‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)2389‬وغيرها‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫نا�شئة الليل‬

‫اط ُم ْست َِقيمٍ»(‪.)1‬‬ ‫تَه ِدي من ت ََشاء إِ َلى ِصر ٍ‬


‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫يه َّن‪َ ،‬و َل َ‬‫ض َو َم ْن فِ ِ‬
‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫ْت َقيم السمو ِ‬
‫الح ْمدُ َأن َ ِّ ُ َّ َ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ومنها‪« :‬ال َّل ُه َّم َل َ‬
‫ْت نُور السمو ِ‬ ‫ض َو َم ْن فِ ِ‬‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫ك السمو ِ‬
‫ات‬ ‫الح ْمدُ َأن َ ُ َّ َ َ‬ ‫ك َ‬ ‫يه َّن‪َ ،‬و َل َ‬ ‫ك ُم ْل ُ َّ َ َ‬ ‫الح ْمدُ َل َ‬
‫َ‬
‫ض‪َ ،‬و َل َ‬ ‫ك السمو ِ‬
‫ات َواألَ ْر ِ‬ ‫ك الحمدُ َأن َ ِ‬ ‫ض َو َم ْن فِ ِ‬ ‫َواألَ ْر ِ‬
‫الح ْمدُ‬ ‫ك َ‬ ‫ْت َمل ُ َّ َ َ‬ ‫يه َّن‪َ ،‬و َل َ َ ْ‬
‫الجنَّ ُة َح ٌّق‪َ ،‬والن َُّار َح ٌّق‪،‬‬
‫ك َح ٌّق‪َ ،‬و َ‬ ‫الح ُّق‪َ ،‬ولِ َقاؤُ َك َح ٌّق‪َ ،‬و َق ْو ُل َ‬
‫الح ُّق َو َو ْعدُ َك َ‬ ‫ْت َ‬ ‫َأن َ‬
‫ك‬ ‫ت‪َ ،‬وبِ َ‬ ‫ك َأ ْس َل ْم ُ‬ ‫السا َع ُة َح ٌّق‪ ،‬ال َّل ُه َّم َل َ‬ ‫َح ٌّق‪َ ،‬و َّ‬ ‫ون َح ٌّق‪َ ،‬و ُم َح َّمدٌ‬ ‫َوالنَّبِ ُّي َ‬
‫ت‪َ ،‬فا ْغ ِف ْر‬ ‫ك َحاك َْم ُ‬ ‫ت‪َ ،‬وإِ َل ْي َ‬ ‫اص ْم ُ‬ ‫ك َخ َ‬ ‫ت‪َ ،‬وبِ َ‬ ‫ك َأ َن ْب ُ‬ ‫ت‪َ ،‬وإِ َل ْي َ‬ ‫ك ت ََو َّك ْل ُ‬ ‫ْت‪َ ،‬و َع َل ْي َ‬ ‫َآمن ُ‬
‫الم َؤ ِّخ ُر‪،‬‬ ‫ْت ُ‬ ‫الم َقدِّ ُم‪َ ،‬و َأن َ‬ ‫ْت ُ‬ ‫ْت‪َ ،‬أن َ‬ ‫ت َو َما َأ َّخ ْر ُت‪َ ،‬و َما َأ ْس َر ْر ُت َو َما َأ ْع َلن ُ‬ ‫لِي َما َقدَّ ْم ُ‬
‫هلل»(‪.)2‬‬ ‫ْت‪َ ،‬و َل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة إِ َل بِا ِ‬ ‫َل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬
‫ات َو ْالَ ْر َض َحنِيف ًا‪َ ،‬و َما َأنَا ِم َن‬ ‫ت وج ِهي لِ َّل ِذي َف َطر السماو ِ‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫«و َّج ْه ُ َ ْ َ‬ ‫ومنها‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يك‬ ‫ين‪َ ،‬ل َش ِر َ‬ ‫اي‪َ ،‬و َم َماتي ِلِ َر ِّب ا ْل َعا َلم َ‬ ‫ين‪ ،‬إِ َّن َص َلتي‪َ ،‬ون ُُسكي‪َ ،‬و َم ْح َي َ‬ ‫ا ْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ْت َر ِّبي‬ ‫ْت‪َ ،‬أن َ‬ ‫ك َل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬ ‫ْت ا ْل َملِ ُ‬ ‫الله َّم َأن َ‬ ‫ين‪ُ ،‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك ُأم ْر ُت َو َأنَا م َن ا ْل ُم ْسلم َ‬
‫َله‪ ،‬وبِ َذلِ َ ِ‬
‫ُ َ‬
‫ت بِ َذ ْنبِي‪َ ،‬فا ْغ ِف ْر لِي ُذنُوبِي َج ِميع ًا‪ ،‬إِ َّن ُه َل َيغ ِْف ُر‬ ‫ت َن ْف ِسي‪َ ،‬وا ْعت ََر ْف ُ‬ ‫َو َأنَا َع ْبدُ َك‪َ ،‬ظ َل ْم ُ‬
‫ف‬ ‫اص ِر ْ‬ ‫ْت‪َ ،‬و ْ‬ ‫ْت‪َ ،‬و ْاه ِدنِي ِلَ ْح َس ِن ْالَ ْخ َل ِق َل َي ْه ِدي ِلَ ْح َسن ِ َها إِ َّل َأن َ‬ ‫ُوب إِ َّل َأن َ‬ ‫الذن َ‬ ‫ُّ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ك َوا ْلخَ ْي ُر ُك ُّل ُه فِي َيدَ ْي َ‬ ‫ك َو َس ْعدَ ْي َ‬ ‫ْت‪َ ،‬ل َّب ْي َ‬ ‫ف َعنِّي َسـ ِّيئ ََها إِ َّل َأن َ‬ ‫َعنِّي َس ِّيئ ََها َل َي ْص ِر ُ‬
‫ِ‬
‫ك»(‪.)3‬‬ ‫ت‪َ ،‬أ ْس َتغْف ُر َك َو َأت ُ‬
‫ُوب إِ َل ْي َ‬ ‫ْت َو َت َعا َل ْي َ‬ ‫ك‪َ ،‬ت َب َارك َ‬ ‫ك َوإِ َل ْي َ‬‫ك‪َ ،‬أنَا بِ َ‬ ‫الش ُّر َل ْي َس إِ َل ْي َ‬ ‫َو َّ‬
‫يمر بآية رحمة إِ َّل سأل‪ ،‬وال آية‬ ‫مترسلة مرتَّلة‪ ،‬ال ُّ‬ ‫ثم إذا قرأ فإنه يقرأ قراءة ِّ‬
‫عذاب إال استعاذ‪ ،‬وال آية تسبيح إال س َّبح(‪.)4‬‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)770‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)767‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)3420‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7499 ،1120‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)769‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)729‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)771‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)760‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23311‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)772‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)873‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪118‬‬

‫َ َۡ‬
‫ال بقوله عز وجل‪َ ﴿ :‬ول ت َه ۡر‬
‫وكان يرفع صوته بقدر ما يسمع من حوله‪ ،‬عم ً‬
‫ٗ‬ ‫َ َ َ ََ َُ ۡ َ َ َۡ ََۡ َ‬
‫ي ذٰل َِك َسبِيل﴾‪ ،‬فكان يقرأ في داخل البيت فيسمعه‬ ‫بِصلت ِك ول تاف ِت بِها وٱبتغِ ب‬
‫َمن في الحجرة ــ وهي فناء البيت ــ أي أنه ال يرفع صوته كثير ًا‪ ،‬وال ُي ِس ُّره كثير ًا‬
‫بحيث ال يسمعه أحد(‪.)1‬‬
‫صليت مع رسول اهلل‬
‫ُ‬ ‫وكان إذا قام أطال قيامه؛ قال ابن مسعود ‪:‬‬
‫هممت‬
‫ُ‬ ‫هممت به؟ قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫هممت بأمر سوء‪ .‬قيل‪ :‬وما‬
‫ُ‬ ‫ليل ًة‪ ،‬فلم يزل قائم ًا حتى‬
‫(‪.)2‬‬ ‫أن أقعد و َأ َذ َر َّ‬
‫النبي‬
‫يطيل القراءة ويق ِّلل الركعات‪ ،‬وقد يقتصد في القراءة‪ ،‬فيزيد في الركعات‪،‬‬
‫وقد ُ‬
‫ولم تزد صالته بالليل على ثالث عشرة ركعة(‪.)3‬‬
‫وكان يطيل ركوعه‪ ،‬فكان ركوعه قريب ًا من قيامه(‪.)4‬‬
‫ت‪،‬‬ ‫ك َأ ْس َل ْم ُ‬ ‫ْت‪َ ،‬و َل َ‬‫ك َآمن ُ‬ ‫ت‪َ ،‬وبِ َ‬ ‫ك َر َك ْع ُ‬ ‫وكان يقول في ركوعه‪« :‬ال َّل ُه َّم َل َ‬
‫توكلت‪ ،‬أنت ربي‪َ ،‬خ َش َع َس ْم ِعي َو َب َص ِري َو َل ْح ِمي َو َد ِمي َو ُمخِّ ي َو َع ْظ ِمي‬ ‫ُ‬ ‫وعليك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت بِ ِه َقدَ ِمي ِلِ رب ا ْلعا َل ِمين‪ ،‬سبح َ ِ‬ ‫َو َع َصبِي َو َما ْاس َت َق َّل ْ‬
‫اء‬‫ان ذي ا ْل َج َب ُروت َوا ْلك ْب ِر َي َ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫َ ِّ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الروحِ »(‪.)5‬‬ ‫وس َر ُّب ا ْل َم َلئكَة َو ُّ‬ ‫وح ُقدُّ ٌ‬ ‫َوا َل َع َظ َمة‪ُ ،‬س ُّب ٌ‬
‫َك ال َّل ُه َّم‬ ‫«س ْب َحان َ‬ ‫يقول في آخر حياته في ركوعه وسجوده‪ُ :‬‬ ‫يكثر أن َ‬ ‫وكان ُ‬
‫َر َّبنَا َوبِ َح ْم ِد َك‪ ،‬ال َّل ُه َّم ا ْغ ِف ْر لِي»‪ .‬فسألته عائشة ‪ ‬عن ذلك؟ فقال‪َ ‌« :‬أ ْخ َب َرنِي‬
‫ان اهللِ َوبِ َح ْم ِد ِه‬ ‫الم ًة ‌في ‌ ُأ َّمتِي َفإِ َذا َر َأيت َُها َأ ْك َث ْر ُت ِم ْن َق ْو ِل‪ُ :‬س ْب َح َ‬
‫‌ َر ِّبي ‌ َأنِّي ‌ َس َأ َرى ‌ َع َ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2446‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1327‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1135‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)773‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1170‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)738 ،737‬و«الفتح» (‪.)21/3‬‬
‫مترسلة مرتَّلة في «أنوار الفجر»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23367‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)772‬وما تقدم في قراءته‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24063 ،960‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)771 ،487‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)873‬وغيرها‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫نا�شئةالنبوي‬
‫الليل‬ ‫اليوم‬

‫ٱللِ َو ۡٱل َف ۡت ُح ‪َ 1‬و َر َأيۡ َ‬


‫ت ٱنلَّ َ‬ ‫َ َ ٓ َ َ ۡ ُ َّ‬ ‫َأس َتغ ِْفر اهللَ و َأتُوب إِ َل ِ‬
‫يه‪َ ،‬ف َقدْ َر َأيت َُها‪ ﴿ :‬إِذا جاء نص‬
‫اس‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ ّۡ َۡ َّ َ َ ۡ ۡ‬ ‫َ‬
‫ٱللِ أ ۡف َو ٗ‬ ‫َۡ ُ ُ َ‬
‫ٱس َتغفِ ۡرهُۚ إِنَّ ُهۥ ك َن تَ َّوابَۢا﴾»(‪ .)1‬وكان‬‫اجا ‪ 2‬فسبِح ِبم ِد ربِك و‬
‫َّ‬
‫ِين‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ون‬ ‫يدخل‬
‫بالرفيق األَ ْع َلى‪.‬‬
‫هذا إيذان ًا بدنو أجله‪ ،‬وقرب لحوقه َّ‬
‫وكان يطيل سجوده قريب ًا من ركوعه‪ ،‬ويبتهل فيه إلى ربه بأنواع المسألة‪ ،‬فهو‬
‫ِ‬ ‫ُون ا ْل َع ْبدُ ِم ْن َر ِّب ِه َو ُه َو َس ِ‬
‫اجدٌ ‪َ ،‬ف َأكْث ُروا الدُّ َع َ‬
‫اء»(‪.)2‬‬ ‫الذي قال‪َ :‬‬
‫«أ ْق َر ُب َما َيك ُ‬
‫ت‪،‬‬ ‫ك َأ ْس َل ْم ُ‬ ‫ْت‪َ ،‬و َل َ‬ ‫ك َآمن ُ‬ ‫ك ‌ َس َجدْ ُت‪َ ،‬وبِ َ‬ ‫«الله َّم ‌ َل َ‬
‫ُ‬ ‫وكان يقول في سجوده‪:‬‬
‫ار َك اهلل ُ َأ ْح َس ُن‬ ‫ِ ِ‬
‫‌ َس َجدَ ‌ َو ْج ِهي ل َّلذي َخ َل َق ُه‪َ ،‬و َص َّو َر ُه‪َ ،‬و َش َّق َس ْم َع ُه َو َب َص َر ُه‪َ ،‬ت َب َ‬
‫وآخ َره‪َ ،‬و َعالنِ َيتِ ِه‬ ‫ا ْل َخالِ ِقين‪ ،‬اللهم اغفر لي ِذنْبي ُك ِّل ِه‪ِ ،‬د َّقه و ِج َّله‪ ،‬و َأوله ِ‬
‫َ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ك‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ‬ ‫ك ِم ْن ُع ُقو َبتِ َ‬ ‫ك‪َ ،‬وبِ ُم َعا َفاتِ َ‬ ‫اك ِم ْن َس َخطِ َ‬ ‫الله َّم َأ ُعو ُذ بِ ِر َض َ‬
‫َوس َّره‪ُ ،‬‬
‫ِ‬

‫وس‪،‬‬ ‫وح قدُّ ٌ‬ ‫ك‪ُ ،‬س ُّب ٌ‬ ‫ت َع َلى َن ْف ِس َ‬ ‫ْت ك ََما َأ ْثنَ ْي َ‬ ‫ك َأن َ‬ ‫ِ‬
‫ْك َل ُأ ْحصي َثن ً‬
‫َاء َع َل ْي َ‬ ‫ك ِمن َ‬ ‫بِ َ‬
‫الروح»(‪.)3‬‬ ‫ِ ِ‬
‫رب المالئكَة َو ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ويا هلل لهذا النبي الكريم وهو يخافت ربه في سكون الليل بهذه النجوى‪،‬‬
‫ويذكر ربه هذا الذكر المفعم بالتقديس والتعظيم والتأ ُّله واالستكانة‪ ،‬أي أفق‬
‫وتسمو إليه أشواقه وهو يذكر هذا الذكر ويتبتَّل‬ ‫ُ‬ ‫تعرج إليه روح هذا النبي‬
‫علوي ُ‬
‫لربه هذا التبتُّل؟! لكأن جبال األرض ت ُْص ِغي إليه‪ ،‬ونجوم السماء تومض له‪ ،‬ثم‬
‫ٗ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ٱذ ُكر ۡ‬
‫َ ۡ‬
‫ٱس َم َر ّب ِ َك َوتَبَ َّتل إ ِ ۡلهِ تَ ۡبتِيل﴾‪.‬‬ ‫تتناجى وتقول‪ :‬هذا الذي أنزل عليه‪﴿ :‬و ِ‬
‫ٍ‬
‫ومسألة ضارعة‬ ‫قراءة خاشعة‬ ‫ٍ‬ ‫يقطع آناء الليل بين‬ ‫وال يزال نب ُّيك‬
‫ٍ‬
‫وتسبيح قدسي‪ ،‬إلى أن يبقى سدس الليل‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)817‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)484‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)9461‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)482‬و«سنن النسائي» (‪ ،)722‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)771 ،487 ،486 ،483‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3841 ،1054‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪120‬‬

‫المضاجع‬ ‫إذا استثق َل ْت بالمشركي َن‬ ‫يبيـــت يجافـــي جنبـــه عـــن فِر ِ‬
‫اشـــه‬ ‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫فإذا أتم قيامه وأراد أن ُيوتر أيقظ زوجته لتُوتر معه(‪ ،)2‬وهذا من رفقه بهن‬
‫وحسن تعليمه لهن‪ ،‬فعائشة فتاة حديثة السن ال تطيق ما يطيق من طول القيام‪،‬‬
‫فيعرض عليها ما تطيقه‪ ،‬وتدرك به بركة الصالة معه‪ ،‬وهو الوتر آخر الليل‪.‬‬
‫َۡ َۡ‬
‫ٱس َم َر ّب ِ َك ٱلع﴾‪ ،‬وفي‬
‫وكان يوتر بثالث ركعات‪ ،‬يقرأ في األولى‪َ ﴿ :‬س ّبحِ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُۡ‬
‫ٰ ُ َ‬
‫ون﴾‪ ،‬وفي الثالثة‪﴿ :‬قل ُه َو َّ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ‬
‫ٱلل أ َح ٌد﴾‪ .‬وكان يضيف‬ ‫الثانية‪﴿ :‬قل يَـٰٓأ ُّي َها ٱلكفِر‬
‫َ ّ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫ۡ َ‬
‫َ ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ُۡ َ‬
‫اس﴾(‪.)3‬‬ ‫ب ٱنلَّ ِ‬ ‫ب ٱلفل ِق﴾‪ ،‬و﴿قل أعوذ بِر ِ‬ ‫إليها أحيان ًا‪ ﴿ :‬قل أعوذ بِر ِ‬
‫ك‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ‬ ‫اك ِم ْن َسخَ طِ َ‬ ‫«الله َّم إِنِّي َأ ُعو ُذ بِ ِر َض َ‬
‫ُ‬ ‫وكان يقول في آخر وتره‪:‬‬
‫ْت‬ ‫ك‪َ ،‬أن َ‬ ‫ْك‪َ ،‬ل ُأ ْح ِصي نِ َع َم َ‬
‫ك َو َل َثن ً‬
‫َاء َع َل ْي َ‬ ‫ك ِمن َ‬ ‫ك‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ بِ َ‬‫ك ِم ْن ُع ُقو َبتِ َ‬ ‫بِ ُم َعا َفاتِ َ‬
‫ك»(‪.)4‬‬ ‫ت َع َلى َن ْف ِس َ‬ ‫ك ََما َأ ْثنَ ْي َ‬
‫وس‪،‬‬ ‫ك ا ْل ُقدُّ ِ‬ ‫ان ا ْلملِ ِ‬ ‫ان ا ْلملِ ِ‬
‫ك ا ْل ُقدُّ ِ‬
‫وس‪ُ ،‬س ْب َح َ َ‬ ‫«س ْب َح َ َ‬ ‫فإذا فرغ من وتره قال‪ُ :‬‬
‫يطيل الثالث َة ويمد بها صوته(‪.)5‬‬ ‫وس»‪ُ .‬‬ ‫ك ا ْل ُقدُّ ِ‬ ‫ان ا ْلملِ ِ‬
‫ُس ْب َح َ َ‬
‫وقد كان يقوم في صالته قيام ًا طوي ً‬
‫ال حتى تفطرت قدماه‪ ،‬وذلك أن بيئة‬
‫المدينة الجافة تتشقق أقدام الناس فيها وبخاصة في فصل الشتاء‪ ،‬ويكثر ذلك‬
‫لدى أصحاب األعمال التي تحتاج إلى طول قيام كالفالحين والبنائين‪.‬‬
‫الذي تفطرت منه قدماه طول قيامه في صالة الليل‪.‬‬ ‫وكان عمل النبي‬
‫َي ُقو ُم ِم َن ال َّل ْي ِل َحتَّى َت َت َف َّط َر َقدَ َما ُه‪ ،‬فقلت‪:‬‬ ‫قالت عائشة ‪ :‬كان النَبِ ُّي‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)1155‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)997 ،512‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)744 ،512‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)2720‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1423‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)462‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند الطيالسي» (‪ ،)125‬و«مسند أحمد» (‪ ،)957 ،751‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)1427‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)15362-15354‬و«سنن النسائي» (‪ ،)1433‬وغيرها‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫نا�شئةالنبوي‬
‫الليل‬ ‫اليوم‬

‫ول اهللِ‪َ ،‬و َقدْ َغ َف َر اهللُ َل َك َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ َك َو َما ت ََأ َّخ َر؟ َق َال‪:‬‬
‫لِ َم ت َْصن َُع َه َذا َيا َر ُس َ‬
‫«أ َف َل َأك ُ‬
‫ُون‌ َع ْبد ًا َ‌شكُور ًا؟»(‪.)1‬‬ ‫َ‬
‫في آخر عمره و َبدَّ ن جسمه لم يعد يطيق من القيام ما كان‬ ‫وعندما َث ُقل‬
‫ول ا ِ‬
‫هلل‬ ‫يطيق‪ ،‬فكان يصلي قيام الليل جالس ًا كما أخبرت عائشة‪َ :‬أن ََّها َل ْم ت ََر َر ُس َ‬
‫اعد ًا‪َ ،‬حتَّى إِ َذا َأ َرا َد َأ ْن‬ ‫َان ي ْقر ُأ َق ِ‬ ‫ِ‬
‫ُي َص ِّلي َص َل َة ال َّل ْي ِل َقاعد ًا َق ُّط َحتَّى َأ َس َّن‪َ ،‬فك َ َ َ‬
‫َي ْرك ََع َقا َم‪َ ،‬ف َق َر َأ ن َْحو ًا ِم ْن‌ َث َلثِي َن‌آ َي ًة ــ َأ ْو َأ ْر َب ِعي َن آ َي ًة ــ ُث َّم َرك ََع(‪.)2‬‬
‫‌جالِس ًا(‪.)3‬‬ ‫ِِ‬
‫‌ص َلته َ‬ ‫َان‌ َأ ْك َث ُر َ‬
‫‪َ ،‬و َث ُق َل‪ ،‬ك َ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫وعنها َقا َل ْت‪َ :‬ل َّما َبدَّ َن َر ُس ُ‬
‫‌جالِس ًا(‪.)4‬‬ ‫ِِ‬
‫‌ص َلته َ‬ ‫َان‌ َأ ْك َث َر َ‬
‫َحتَّى ك َ‬ ‫ول اهلل ِ‬ ‫وعن ُأ ِّم َس َل َم َة َقا َل ْت‪َ :‬ما ُقبِ َض َر ُس ُ‬
‫يص ِّلي في حجرته التي زوى عنها ترف العيش ون َِعيم‬ ‫وقد كان نب ُّيك‬
‫الخ ْمرة‪ ،‬وهي َح ِصير صغير بقدر ما يسجد عليه‪َ ،‬قا َل ْت‬ ‫الدنيا‪ ،‬فر َّبما ص َّلى على ُ‬
‫ُي َص ِّلي َع َلى ا ْل ُخ ْم َر ِة‪َ ،‬ف َي ْس ُجدُ ‪َ ،‬ف ُي ِصي ُبنِي َث ْو ُب ُه‬ ‫ول اهللِ‬‫َان َر ُس ُ‬ ‫َم ْي ُمو َن َة ‪ :‬ك َ‬
‫َو َأنَا إِ َلى َجنْبِ ِه َو َأنَا َح ِائ ٌض(‪ ،)5‬وقد ص َّلى وال فراش له إِ َّل فراش زوجته التي تنام‬
‫عليه‪ ،‬فيص ِّلي وهي معترضة أمامه‪ ،‬ولم يكن في بيوتهم مصابيح‪ ،‬فإذا أراد أن‬
‫يسجد غمزها‪ ،‬فتكف رجليها عن موضع سجوده‪ ،‬فإذا قام بسطتها(‪.)6‬‬
‫ويخرج أحيان ًا فيص َّلى في المسجد‪ ،‬وكأنما يفعل ذلك ألمر عارض‪ ،‬أحسبه‬
‫خشية أن يوقظ زوجته بصالته إذا ص َّلى عندها وهي نائمة‪ ،‬فيص ِّلي في المسجد‪،‬‬
‫فوقعت‬
‫ْ‬ ‫ليل ًة في الفراش‪ ،‬فالتمستُه‪،‬‬ ‫النبي‬
‫فقدت َّ‬
‫ُ‬ ‫فقد قالت عائشة ‪:‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4837‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2820‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)1118‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)732‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)26544‬و«سنن ابن ماجه» (‪.)1225‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)26808‬و«صحيح البخاري» (‪.)379‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1209 ،382 ،381‬و«صحيح مسلم» (‪.)512‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪122‬‬

‫«الله َّم َأ ُعو ُذ‬


‫ُ‬ ‫يدي على بطن قدميه وهما منصوبتان في المسجد‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ك ِمن َ‬ ‫ك ِم ْن ُع ُقو َبتِ َ‬ ‫ك‪َ ،‬وبِ ُم َعا َفاتِ َ‬ ‫اك ِم ْن َسخَ طِ َ‬
‫ْك َل ُأ ْحصي َثن ً‬
‫َاء‬ ‫ك‪َ ،‬و َأ ُعو ُذ بِ َ‬ ‫بِ ِر َض َ‬
‫ك»(‪.)1‬‬ ‫ت َع َلى َن ْف ِس َ‬ ‫ْت ك ََما َأ ْثنَ ْي َ‬
‫ك‪َ ،‬أن َ‬‫َع َل ْي َ‬
‫ست‪،‬‬ ‫فتحس ُ‬ ‫فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذات ٍ‬
‫ليلة‪،‬‬ ‫وقالت أيض ًا‪ :‬فقدتُه َ‬
‫َّ‬
‫ْت»‪.‬‬ ‫َك َوبِ َح ْم ِد َك َل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬‫«س ْب َحان َ‬
‫رجعت‪ ،‬فإذا هو راكع أو ساجد‪ ،‬يقول‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أنا في شأن‪ ،‬وأنت في شأن‬ ‫فقلت في نفسي‪ :‬بأبي أنت وأمي يا‬
‫ُ‬ ‫قالت‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫آخر!‬
‫إن هذه المناجاة الخفية تبين كيف يتلذذ هذا النبي بمناجاته ربه‪ ،‬ويستغرق في‬
‫خلوته بصالته حتى لم تشعر به زوجته حين قام‪ ،‬ولم يشعر بها حين أتت‪.‬‬
‫وتحسست‬
‫َّ‬ ‫كما أن صالته الخفية التي لم تعلم بها زوجته إال بعد أن بحثت عنه‬
‫مكانه لتسمع هذه المناجاة النبوية تعد من دالئل نبوته‪ ،‬فعبادة السر ال تكون إال‬
‫من إيمان عميق‪ ،‬ويقين راسخ‪ ،‬وال يمكن أن يتك َّلفها مدَّ ٍع وال متقول‪.‬‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25655‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)486‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)879‬وغيرها‪.‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25178‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)485‬و«سنن النسائي» (‪ ،)8859‬وغيرها‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫صورة للحصير‪ ،‬وهو فراش ينسج من سعف النخل‬


‫فإن كان صغير ًا بقدر سجادة الصالة ُسمي‪ُ :‬خمرة‬
‫‪125‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫خطوات في سكون الليل‬

‫ويخرج أحيان ًا في آخر الليل وقت التهجد إلى بيت ابنته فاطمة وزوجها‬
‫ان ‌ َفت َُص ِّل َي ِ‬
‫وم ِ‬ ‫ِ‬
‫ان؟»‪.‬‬ ‫علي ‪ ،‬وكان بيتها ل ْص َق بيته فيطرقهما ويناديهما‪َ ‌« :‬أ َل ‌ َت ُق َ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬واهلل ما نص ِّلي إِ َّل ما كُتب لنا‪ ،‬إنما أنفسنا‬ ‫َ‬ ‫فقلت‪ :‬يا‬
‫ُ‬ ‫علي ‪:‬‬
‫قال ٌّ‬
‫قلت له ذلك‪،‬‬ ‫حين ُ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫بيد اهلل‪ ،‬فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا‪ .‬فانصرف‬
‫إلي شيئ ًا‪ ،‬ثم سمعتُه وهو ُمدْ بِر يضرب على فخذه‪ ،‬ويقول‪َ ‌« :‬ما‌ن َُص ِّلي‬ ‫ِ‬
‫ولم َي ْرجع َّ‬
‫ٗ‬ ‫ث َ ۡ‬ ‫كََ‬ ‫ََ َ ۡ َٰ ُ َ ۡ‬ ‫ِ‬
‫شءٖ َج َدل﴾»(‪.)1‬‬ ‫ٱلنسن أ‬ ‫ب‌ َلنَا! ﴿وكن ِ‬ ‫‌إِ َّل‌ َما‌كُت َ‬
‫وهنا نالحظ الرفق في الموعظة‪ ..‬فقد جاءت على طريقة العرض واإلغراء‪،‬‬
‫ان؟!»‪ .‬ثم نلحظ ترك اإللحاح في ذلك‪،‬‬ ‫ان ‌ َفت َُص ِّل َي ِ‬
‫وم ِ‬
‫ال األمر المباشر‪َ ‌« :‬أ َل ‌ َت ُق َ‬
‫علي وفاطمة‪ ،‬وهذا من حكمة الدعوة وحسن‬
‫مراعاة لحال الشباب‪ ،‬وهي حال ٍّ‬
‫رغائب الشباب وظروفهم‪ ،‬فعلي وفاطمة‬ ‫الموعظة‪ ،‬حيث َت َف َّه َم النبي‬
‫ولم يجادل‪،‬‬
‫فيما قال علي َ‬ ‫َش َب َب ٌة حديثو عهد بعرس ولذا لم يراجعهم النبي‬
‫ََ َ ۡ‬
‫ٱل َ ٰ‬
‫نس ُن‬ ‫وإنما اكتفى باإليقاظ‪ ،‬وانصرف مرس ً‬
‫ال هذا العتاب اللطيف‪﴿ :‬وكن ِ‬
‫ٗ‬ ‫ث َ ۡ‬ ‫َ ۡ‬
‫كََ‬
‫شءٖ َج َدل﴾‪.‬‬ ‫أ‬
‫وكان في آخر حياته يخرج في الليل إلى ال َب ِقيع‪ ،‬فيدعو لهم‪ ،‬وكان أول ذلك‬
‫فيها‬ ‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫ما أخبرت به عائش ُة ‪ ‬قالت‪ :‬لما كانت ليلتي التي كان‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)7347 ،1127‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)775‬وغيرها‪.‬‬


‫اليوم النبوي‬ ‫‪126‬‬

‫فوضع ردا َءه‪ ،‬وخلع نعليه فوض َع ُهما عند رجليه‪ ،‬و َب َس َط َط َرف‬
‫َ‬ ‫انقلب‬
‫َ‬ ‫عندي‪،‬‬
‫رقدت‪ ،‬فأخذ ردا َءه‬
‫ُ‬ ‫يلبث إال َر ْي َثما ظ َّن أن قد‬
‫إزاره على فراشه فاضطجع‪ ،‬فلم ْ‬
‫فجعلت ِد ْر ِعي في‬
‫ُ‬ ‫ُرويد ًا‪ ،‬وانتعل ُرويد ًا‪ ،‬وفتح الباب فخرج‪ ،‬ثم َأ َجا َفه ُرويد ًا(‪،)1‬‬
‫انطلقت على إِ ْث ِره‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّعت إزاري(‪ ،)2‬ثم‬ ‫واختمرت وتقن ُ‬ ‫ُ‬ ‫رأسي‪،‬‬
‫مرات‪ ،‬ثم انحرف‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ثالث‬ ‫فأطال القيا َم‪ ،‬ثم رفع يديه‬ ‫َ‬ ‫يع‪ ،‬فقام‬ ‫ِ‬
‫حتى جاء ال َبق َ‬
‫فه ْر َو ْل ُت‪َ ،‬فأ ْح َض َر َف َأ ْح َض ْر ُت(‪ ،)3‬فسبقتُه‬ ‫فه ْر َو َل َ‬‫فأسرعت‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫فأسرع‬
‫َ‬ ‫فانحرفت‪،‬‬
‫ُ‬
‫ك ‌ َيا ‌ َعائِ ُش؟ ‌ َح ْش َيا‬ ‫اضطجعت فدخل‪ ،‬فقال‪‌« :‬ما ‌ َل ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فدخلت‪ ،‬فليس إال أن‬ ‫ُ‬
‫يف ا ْلخَ بِ ُير»‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬ال شيء‪ .‬قال‪َ « :‬لتُخْ بِ ِرينِي‪َ ،‬أ ْو َل ُيخْ بِ َرنِّي ال َّلطِ ُ‬ ‫‌ َرابِ َي ًة(‪)4‬؟»‪ .‬قالت‪ُ :‬‬
‫الس َوا ُد ا َّل ِذي‬ ‫ِ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬بأبي أنت وأمي‪ ..‬فأخبرتُه‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َأنْت َّ‬ ‫َ‬ ‫قلت‪ :‬يا‬
‫قالت‪ُ :‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ .‬ف َل َهدَ ني في صدري لهد ًة أوجعتني(‪ ،)5‬ثم قال‪:‬‬ ‫ت َأ َم ِامي؟»‪ُ .‬‬ ‫َر َأ ْي ُ‬
‫الناس يع َل ْمه اهللُ‪،‬‬ ‫ك َو َر ُسو ُل ُه؟»‪ .‬قالت‪َ :‬م ْهما يك ُت ِم‬ ‫يف(‪ )6‬اهللُ ع َلي ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْت َأ ْن ي ِ‬ ‫«أ َظنَن ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ْك‪َ ،‬ف َأ َج ْب ُت ُه َف َأ ْخ َف ْي ُت ُه‬‫ت َفنَادانِي‪َ ،‬ف َأ ْخ َفاه ِمن ِ‬ ‫يل َأتَانِي ِحين ر َأي ِ‬ ‫نعم‪ .‬قال‪َ « :‬فإِ َّن ِج ْب ِر َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ت‪َ ،‬فك َِر ْه ُ‬ ‫ْت َأ ْن َقدْ ر َقدْ ِ‬ ‫ك َو َظنَن ُ‬ ‫ت ثِياب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫منْك‪َ ،‬و َل ْم َيك ُْن َيدْ ُخ ُل َع َل ْيك‪َ ،‬و َقدْ َو َض ْع َ َ‬
‫ك َي ْأ ُم ُر َك َأ ْن ت َْأتِ َي َأ ْه َل ا ْل َب ِقيعِ‪،‬‬ ‫يت َأ ْن ت َْست َْو ِح ِشي‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِ َّن َر َّب َ‬ ‫ك َو َخ ِش ُ‬ ‫وق َظ ِ‬ ‫َأ ْن ُأ ِ‬

‫َفت َْس َتغ ِْف َر َل ُه ْم»‪.‬‬

‫((( أي‪ :‬أغلقه برفق‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)276/2( )317/1‬‬


‫((( أي‪ :‬لبسته‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)37/7‬‬
‫((( الهرولة بين المشي والعدْ و‪ ،‬وهي فوق اإلسراع‪ .‬واإلحضار فوق الهرولة‪ .‬ينظر‪« :‬إكمال المعلم» للقاضي‬
‫عياض (‪.)449/3‬‬
‫((( أي‪ :‬ثائرة النَّ َفس‪ .‬ينظر‪« :‬المعلم بفوائد مسلم» (‪.)493/1‬‬
‫((( ال َّل ْهد‪ :‬الدفع الشديد في الصدر‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)38/7‬‬
‫((( الحيف‪ :‬الجور والظلم‪ .‬ينظر‪« :‬المفهم» للقرطبي (‪.)635/2‬‬
‫‪127‬‬ ‫خطوات في �سكون الليل‬

‫الس َل ُم َع َلى َأ ْه ِل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫قلت‪ :‬كيف ُ‬


‫رسول اهلل؟ قال‪ُ « :‬قولي َّ‬ ‫أقول لهم يا‬ ‫قالت‪ُ :‬‬
‫ِ‬ ‫ار ِمن ا ْلم ْؤ ِمنِين‪ ،‬وا ْلمسلِ ِمين ويرحم اهللُ ا ْلمس َت ْق ِد ِم ِ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ين منَّا‪َ ،‬وا ْل ُم ْست َْأخ ِر َ‬‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ ََْ َ ُ‬ ‫َ َ ُ ْ‬ ‫الدِّ َي ِ َ ُ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫اء اهللُ بِك ُْم َل َل ِح ُق َ‬ ‫َوإِنَّا إِ ْن َش َ‬
‫ثم كان بعد ذلك يخرج كل ليلة من آخر الليل إلى ال َب ِقيع‪ ،‬قالت عائشة ‪:‬‬
‫من آخر الليل إلى البقيع‬ ‫كان يخرج‬ ‫كلما كانت ليلتها من رسول اهلل‬
‫ين‪‌َ ،‬و َأتَانَا َ‌وإِ َّياك ُْم َ‌ما‌تُو َعدُ َ‬ ‫ِِ‬
‫ون‪،‬‬‫ون َغد ًا ُم َؤ َّج ُل َ‬ ‫‌الس َل ُم‌ َع َل ْيك ُْم‌ َد َار‌ َق ْو ٍم ُ‌م ْؤمن َ‬
‫فيقول‪َّ « :‬‬
‫الله َّم ا ْغ ِف ْر ألَ ْه ِل َب ِقي ِع ا ْلغ َْر َق ِد»(‪.)1‬‬
‫ون‪ُ ،‬‬ ‫اء اهللُ بِك ُْم َل ِح ُق َ‬ ‫َوإِنَّا إِ ْن َش َ‬
‫النبي الذي َي ْس ُر ُب في سكون الليل ليقف أما َم قبور أصحابه الذين‬
‫ويا هلل لهذا ِّ‬
‫َ‬
‫ودخول األفواج في دين اهلل‪َ ،‬م َض ْوا‬ ‫َق َض ْوا نحبهم قبل أن يروا َ‬
‫نصر اهلل والفتح‬
‫والل َو ِاء والمصابرة‪َ ،‬فأ ْف َضوا إلى ربهم‪،‬‬
‫والشدَّ ة والصبر َّ ْ‬ ‫إلى ربهم في وقت ِ‬
‫الق َّلة ِّ‬
‫يتعجلوا شيئ ًا من أجورهم‪.‬‬
‫ولم َّ‬
‫ُ‬
‫مشاغل انفساح ُرقعة‬ ‫أفواج الوافدين عليه‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫لم تشغله‬ ‫ثم ها هو‬
‫اإلسالم بين يديه‪ ،‬فإذا هو يقتص من وقت راحته وسكونه وقت ًا يقف فيه أمام‬
‫موقف دعاء ووفاء‪.‬‬ ‫قبورهم‪ ،‬يستعيد ِذكْرى أطيافهم المباركة‪ ،‬باسط ًا يديه في ِ‬

‫األموات واألحيا َء قبل أن‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫فجعل يو ِّد ُع‬ ‫ُي ُ‬
‫وشك أن يو ِّد َع الدنيا‪،‬‬ ‫كان‬
‫والم َح ِّل األَ ْسنَى‪.‬‬
‫بالرفيق األعلى َ‬
‫يلحق َّ‬

‫)‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)25855 ،24801 ،8878‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)974‬و«سنن أبي داود» (‪،)3237‬‬
‫و«صحيح ابن حبان» (‪.)4523 ،3172‬‬
‫‪129‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫الس َحر‬
‫إغفاءة َّ‬

‫األخير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وسدُ ُسه‬
‫يبق منه إال ُصبا َبتُه األخيرةُ‪ُ ،‬‬
‫ساعات الليل‪ ،‬ولم َ‬
‫ُ‬ ‫فإذا تدافعت‬
‫ٍ‬
‫طويل؛‬ ‫الشريف بعد َس ْب ِح ٍ‬
‫ليل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫البدن‬ ‫إلى فراشه؛ ليريح‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫َأ َوى‬
‫ِذكْر ًا وصال ًة ودعا ًء وتعاهد ًا لألقارب األحياء‪ ،‬ولألصحاب األموات‪ ،‬ف َي ْه َج ُع‬
‫هجع ًة ُي ِج ُّم بها بدَ نَه بعد القيام‪ ،‬ويه ِّيئه الستقبال صالة الصبح وعمل النهار‬
‫مستغرق في نومه‪ُ ،‬‬
‫تقول‬ ‫فتتقصف ُسويع ُة َّ‬
‫الس َحر ونب ُّيك‬ ‫َّ‬ ‫بنشاط وإقبال‪،‬‬
‫الس َحر عندي إال نائم ًا(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُأ ُّمنا عائش ُة ‪ :‬ما َأ ْل َفى‬
‫نور الفجر ظلم َة الليل؛ و َي ْصدَ َع ُ‬
‫أذان‬ ‫في نومته تلك حتى َي ْصدَ َع ُ‬ ‫ُّ‬
‫ويظل‬
‫نبوي جديدٌ ‪ ،‬مع َّط ٌر‬
‫ويبتدئ يو ٌم ٌّ‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‬ ‫ُ‬
‫فيستيقظ‬ ‫َ‬
‫سكون المدينة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بالل‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫النبوة‪ُ ،‬من ََّور بأنوار ِّ‬
‫بأنفاس َّ‬

‫)‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1133‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)742‬وغيرها‪.‬‬


‫‪131‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫أيام األسبوع‬

‫لبعض أيام األسبوع خصوصية في الفضل‪ ،‬واختصاص بصالح العمل‪،‬‬


‫وسنَنُه‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫فيها هديه ُ‬ ‫وبأحكام ليست في غيرها من األيام‪ ،‬وللنبي‬

‫يوم الجمعة‬
‫حفاوة بيوم الجمعة وتعظيم له‪ ،‬فكان يذكر فضل اهلل به على‬ ‫كان للنبي‬
‫«أ َض َّل اهللُ َع ِن‬ ‫‪َ :‬‬ ‫أمته وهدايتهم له‪ ،‬وتميزهم به على غيرهم من األمم‪ ،‬فقال‬
‫ِ‬ ‫ت‪ ،‬و ك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َان َقب َلنَا‪َ ،‬فك َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َان للن ََّص َارى َي ْو ُم ْالَ َحد‪َ ،‬ف َج َ‬
‫اء‬ ‫الس ْب َ‬ ‫َان ل ْل َي ُهود َي ْو ُم َّ‬ ‫ا ْل ُج ُم َعة َم ْن ك َ ْ‬
‫ك ُه ْم َت َب ٌع‬ ‫ت َو ْالَ َحدَ ‪َ ،‬وك ََذلِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهللُ بِنَا َف َهدَ انَا اهللُ ل َي ْو ِم ا ْل ُج ُم َعة‪َ ،‬ف َج َع َل ا ْل ُج ُم َع َة َو َّ‬
‫الس ْب َ‬
‫ون َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪ ،‬ا ْل َم ْق ِض ُّي َل ُه ْم‬
‫ون ِم ْن َأ ْه ِل الدُّ ْن َيا َو ْالَ َّو ُل َ‬‫َلنَا َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪ ،‬ن َْح ُن ْال ِخ ُر َ‬
‫َق ْب َل ا ْلخَ َلئِ ِق»(‪.)1‬‬
‫ويذكر ما فيه من الخير‪ ،‬وما قدر اهلل فيه من أحداث الكون فيقول‪« :‬خَ ْي ُر َي ْو ٍم َط َل َع ْت‬
‫الش ْم ُس َي ْو ُم ا ْل ُج ُم َع ِة‪ ،‬فِ ِيه خُ لِ َق آ َد ُم‪َ ،‬وفِ ِيه ُأ ْد ِخ َل ا ْل َجنَّ َة‪َ ،‬وفِ ِيه ُأخْ ِر َج ِمن َْها»(‪.)2‬‬ ‫َع َل ْي ِه َّ‬
‫وهو عيد األسبوع؛ فله بهاؤه وزينته‪ ،‬واجتماعه وهيئته‪ ،‬ولذا نهى عن صيامه‬
‫يدك ُْم َي ْو َم ِص َي ِامك ُْم»(‪ ،)3‬وقال‪:‬‬ ‫يد‪َ ،‬ف َل تَجع ُلوا يوم ِع ِ‬
‫ْ َ ََْ‬
‫فقال‪« :‬إِ َّن يوم ا ْلجمع ِة يوم ِع ٍ‬
‫ََْ ُ ُ َ َُْ‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)856‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)854‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)8140‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪132‬‬

‫وم َّن َأ َحدُ ك ُْم َي ْو َم ا ْل ُج ُم َع ِة إِ َّل َي ْوم ًا َق ْب َل ُه َأ ْو َب ْعدَ ُه»(‪ .)1‬وهو بهذا يشبه يوم‬ ‫َ‬
‫«ل َي ُص َ‬
‫العيد الذي يحرم صيامه‪ ،‬وذلك أن تخصيصه بالصيام يضعف اإلنسان عما فيه‬
‫من الشعائر‪ ،‬وال يناسب صيامه مع حال الزينة واالجتماع فيه‪.‬‬
‫يع ِّظم هذا اليوم ويخصه بعبادات فيه دون غيره من األيام؛ فمن ذلك‬ ‫وكان‬
‫أنه كان يقرأ في فجر الجمعة سورتي «السجدة» و«اإلنسان»؛ لما اشتملت عليه هاتان‬
‫السورتان مما كان ويكون في ذلك اليوم‪ ،‬فإنهما اشتملتا على ذكر َخ ْلق آدم‪ ،‬وذكر‬
‫المعاد وحشر العباد‪ ،‬وذلك يكون يوم الجمعة‪ ،‬وفيهما تذكير بأحوال اآلخرة‪ ،‬وحال‬
‫أهل الجنة ونعيمهم‪ ،‬وحال أهل النار وعذابهم‪ ،‬ففيهما موعظة وذكرى‪.‬‬
‫و َأمر بالتهيؤ لصالة الجمعة واالستعداد لحضورها بالنظافة وجمال الملبس‬
‫وطيب الرائحة‪ ،‬وحسن األدب في المسجد‪.‬‬
‫ب َع َلى ك ُِّل‬ ‫اج ٌ‬ ‫فأمر باالغتسال لحضورها فقال‪« :‬ا ْلغ ُْس ُل َي ْو َم ا ْل ُج ُم َع ِة َو ِ‬
‫َق َال‪:‬‬ ‫اس‪َ :‬ذك َُروا َأ َّن النَّبِ َّي‬ ‫اوس قال‪ُ :‬ق ْل ُت ِل ْب ِن َع َّب ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْحتَلمٍ»(‪ ،)2‬وعن َط ُ‬
‫وسك ُْم‪َ ،‬وإِ ْن َل ْم َتكُونُوا ُجنُب ًا‪َ ،‬و َأ ِصي ُبوا ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«ا ْغتَسـ ُلوا َي ْو َم ا ْل ُج ُم َعة‪َ ،‬وا ْغس ُلوا ُرؤُ َ‬
‫يب َف َل َأ ْد ِري(‪.)3‬‬ ‫اس‪َ :‬أ َّما ا ْل ُغ ْس ُل َفنَ َع ْم‪َ ،‬و َأ َّما ال ِّط ُ‬
‫ال ِّطيب»‪َ .‬ق َال ا ْب ُن َع َّب ٍ‬
‫يقول وهو على المنبر يوم‬ ‫سلم أنه سمع رسول اهلل‬ ‫وعن عبد اهلل بن َ‬
‫«ما َع َلى َأ َح ِدك ُْم َل ِو ْاشت ََرى َث ْو َب ْي ِن لِ َي ْو ِم ا ْل ُج ُم َع ِة ِس َوى َث ْو َب ْي ِم ْهنَتِ ِه؟»(‪.)4‬‬
‫الجمعة‪َ :‬‬
‫يلبس ليوم الجمعة أجمل ثيابه‪ ،‬وهذا من الحفاوة بالشعيرة‬ ‫وكان‬
‫وباجتماع الناس لها‪ ،‬ويدل على ذلك حديث عمر ‪ ‬لما َر َأى ُع َط ِ‬
‫ارد ًا(‪َ )5‬يبِ ُ‬
‫يع‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1985‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1144‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)858‬و«صحيح مسلم» (‪.)846‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)884‬و«صحيح مسلم» (‪.)848‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)1078‬‬
‫((( عطارد هو صاحب الحلة‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)435/2‬‬
‫‪133‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫ارد ًا َيبِ ُ‬
‫يع‬ ‫ول اهللِ‪ ،‬إِنِّي َر َأ ْي ُت ُع َط ِ‬ ‫َف َق َال‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ول اهللِ‬‫اج‪َ ،‬ف َأتَى َر ُس َ‬ ‫ُح َّل ًة ِم ْن ِدي َب ٍ‬
‫يد َولِ ْل ُج ُم َع ِة‪َ ،‬ف َق َال‪« :‬إِن ََّما َي ْل َب ُس‬
‫ود ولِ ْل ِع ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُح َّل ًة ِم ْن ِدي َب ٍ‬
‫اج‪َ ،‬ف َل ِو ْاشت ََر ْيت ََها َف َلبِ ْست ََها ل ْل ُو ُف َ‬
‫ا ْل َح ِر َير َم ْن َل َخ َل َق َل ُه فِي ْال ِخ َر ِة»(‪.)1‬‬
‫وإنما قال عمر‪ :‬لو اشتريتها فلبستها للوفود وللعيد وللجمعة؛ لِما علم من‬
‫في التجمل باللباس للعيد والجمعة‪.‬‬ ‫عادته‬
‫ومن كمال االحتفاء بيوم الجمعة التطيب له بما يجد اإلنسان من الطيب حتى‬
‫على التطيب‬ ‫يكون الجتماع الناس في المسجد عبق ورائحة زكية‪ ،‬ولذا حث‬
‫اع ِم ْن ُط ْه ٍر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لشهود الجمعة فقال‪«َ :‬ل َي ْغتَس ُل َر ُج ٌل َي ْو َم ا ْل ُج ُم َعة‪َ ،‬و َي َت َط َّه ُر َما ْاس َت َط َ‬
‫يب َب ْيتِ ِه‪ُ ،‬ث َّم َيخْ ُر ُج َف َل ُي َف ِّر ُق َب ْي َن ا ْث َن ْي ِن‪ُ ،‬ث َّم ُي َص ِّلي‬
‫َو َيدَّ ِه ُن ِم ْن ُد ْهن ِ ِه‪َ ،‬أ ْو َي َم ُّس ِم ْن طِ ِ‬
‫ال َما ُم‪ ،‬إِ َّل ُغ ِف َر َل ُه َما َب ْينَ ُه َو َب ْي َن ا ْل ُج ُم َع ِة ْالُ ْخ َرى»(‪.)2‬‬
‫َما كُتِ َب َل ُه‪ُ ،‬ث َّم ُين ِْص ُت إِ َذا َت َك َّل َم ْ ِ‬
‫بخرون المسجد بروائح‬ ‫وسع اهللُ عليهم ُي ِّ‬‫ومن َث َّم كان الصحابة بعد أن َّ‬
‫الم ْج ِمر‪ ،‬أن عمر بن‬
‫البخور الزكية يوم الجمعة قبل الصالة‪ ،‬فعن نُعيم بن عبد اهلل ُ‬
‫الخطاب ‪ ‬أمر أن يبخر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار‪ ،‬وكان‬
‫نُعيم بن عبد اهلل هو الذي يتو َّلى ذلك فيه ِّيئ الجمر للبخور ويبخر به المسجد‬
‫الم ْج ِمر(‪.)3‬‬
‫فس ِّمي‪ :‬نُعيم ُ‬
‫ُ‬
‫وأمر أصحابه بها السكينة حين‬ ‫ومن آداب يوم الجمعة التي أكد عليها‬
‫السعي إليها‪ ،‬والنهي عن أذية الناس بتخطي رقابهم‪ ،‬واإلنصات للخطيب حين‬
‫«م ِن‬
‫‪َ :‬‬ ‫يخطب فال يعبث وال يتكلم مع أحد‪ ،‬وقد جمع هذه اآلداب في قوله‬
‫َان ِعنْدَ ُه‪َ ،‬و َلبِ َس ِم ْن َأ ْح َس ِن ثِ َيابِ ِه‪ُ ،‬ث َّم َخ َر َج‬ ‫ا ْغت ََس َل َي ْو َم ا ْل ُج ُم َع ِة َو َم َّس ِم ْن طِ ٍ‬
‫يب إِ ْن ك َ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)6450‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)883‬‬
‫((( ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي (‪ ،)227/5‬و«تهذيب الكمال» للمزي (‪.)1421/3‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪134‬‬

‫جدَ َف َي ْرك ََع إِ ْن َبدَ ا َل ُه‪َ ،‬و َل ْم ُي ْؤ ِذ َأ َحد ًا‪ُ ،‬ث َّم َأن َْص َ‬
‫ت إِ َذا‬ ‫السكِينَ ُة َحتَّى َي ْأتِ َي ا ْل َم ْس ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َع َل ْيه َّ‬
‫َت َك َّف َار ًة لِ َما َب ْين ََها َو َب ْي َن ا ْل ُج ُم َع ِة ْالُ ْخ َرى»(‪.)1‬‬ ‫َخ َر َج إِ َم ُام ُه َحتَّى ُي َص ِّل َي‪ ،‬كَان ْ‬
‫وفي هذه اآلداب من النظافة‪ ،‬وحسن الهيئة‪ ،‬وطيب الرائحة‪ ،‬وأدب المعاشرة‪،‬‬
‫تعظيم للشعيرة ولليوم المبارك‪ ،‬كما أنها تربية للناس على آداب السلوك في‬
‫ٌ‬
‫المجامع العامة‪.‬‬
‫وقد كان ذلك في بيئة فقيرة صحراوية لم تكن تتعاهد ذلك أو توليه هذه‬
‫ٌ‬
‫تأهيل لألمة لرعاية الذوق العام في الهيئة‬ ‫العناية‪ ،‬فكان في هذا األدب النبوي‬
‫والتعامل‪.‬‬
‫ويشهدون معه الجمعة‪،‬‬ ‫وكان أهل المدينة يقصدون مسجد النبي‬
‫فيأتون من نواحي المدينة المتفرقة عاليتها وسافلتها فكان يوم الجمعة يوم‬
‫اجتماع أهل المدينة من أحيائهم المتفرقة المتباعدة ليلتقوا بالنبي‬
‫ويستمعوا إليه‪ ،‬و َي ْلقى بعضهم بعض ًا‪ ،‬فهي الجمعة الجامعة‪.‬‬
‫بعد الزوال مباشرة فإذا دخل‬ ‫فإذا اجتمع الناس وزالت الشمس خرج‬
‫المسجد س َّلم عليهم‪ ،‬ثم يصعد المنبر ويستقبل الناس بوجهه ويس ِّلم عليهم‬
‫فخطب خطبتين يجلس‬ ‫ثم يجلس‪ ،‬فيأخذ بالل في األذان‪ ،‬فإذا فرغ قام‬
‫بينهما جلسة خفيفة‪.‬‬
‫وكان منبره ثالث درجات‪ ،‬يقف على الثانية ويجلس على الثالثة‪ ،‬وكان غربي‬
‫المسجد وهو مكان المنبر اليوم‪.‬‬
‫وكان قبل اتخاذ المنبر يخطب مستند ًا إلى جذع في قبلة المسجد‪ ،‬فلما وضع‬
‫العشار(‪ )2‬حتى سمع صوتَه‬‫المنبر وقام عليه أول مرة حن الجذع حنين ًا كصوت ِ‬

‫((( «مسند أحمد» (‪.)24055‬‬


‫((( ِ‬
‫العشار‪ :‬جمع عُ َشراء وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر‪ .‬وال يزال ذلك اسمها إلى أن تلد‪ ،‬م ّثل‬
‫صوت الجذع بحنين العشار عند فراق أوالدها‪ .‬ينظر‪« :‬عمدة القاري» (‪.)217/6‬‬
‫‪135‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫فس ِمع صوتُه كالصبي الذي ُيسكَّت حتى‬ ‫وضمه ُ‬ ‫أهل المسجد‪ ،‬فنزل‬ ‫ُ‬
‫َّت إِ َلى َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة»(‪.)1‬‬
‫«وا َّل ِذي َن ْف ِسي بِ َي ِد ِه‪َ ،‬ل ْو ت ََر ْكت َُها َل َحن ْ‬
‫‪َ :‬‬ ‫سكت‪َ ،‬ف َق َال‬
‫إذا خطب أقبل على الصحابة بوجهه وأقبلوا إليه بوجوههم‪،‬‬ ‫وكان‬
‫وكان يأمرهم بالدنو منه واإلنصات له‪ ،‬ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه‪:‬‬
‫أنصت‪ ،‬فقد لغا‪ ،‬وإذا مس الحصا فقد لغا‪ ،‬و َمن لغا فال جمعة له(‪.)2‬‬
‫تجمع صدق اللهجة‪ ،‬وحرارة االنفعال‪ ،‬وقوة‬ ‫وكانت ُخطب النبي‬
‫التأثير‪ ،‬مع وجازة الخطاب‪.‬‬
‫«أن َْذ ْر ُتك ُْم الن ََّار‪َ ،‬أن َْذ ْر ُتك ُْم الن ََّار‪،‬‬
‫يوم ًا خطيب ًا فجعل يقول في خطبته‪َ :‬‬ ‫قام‬
‫َأن َْذ ْر ُتك ُْم الن ََّار»‪ .‬حتى عال صوته‪ ،‬فسمعه َمن في السوق‪ ،‬وحتى سقطت بردة‬
‫كانت على عاتقه عند رجليه(‪.)3‬‬
‫ذلك يبين مدى االنفعال والتفاعل منه‬ ‫إن هذا المشهد في مقام النبي‬
‫في خطبه مع ما يقول‪ ،‬وهذا االنفعال دليل من دالئل النبوة‪ ،‬فإنه يبين‬
‫تشبعه بما يقول‪ ،‬وعظيم يقينه به‪ ،‬حتى يظهر منه هذا التأثر واالنفعال‪.‬‬
‫وقد الحظ الصحابة هذا التأثر منه في ُخ َط ِبه فوصفوه بأنه كان إذا خطب عال صوته‪،‬‬
‫«ص َّب َحك ُْم َو َم َّساك ُْم»(‪.)4‬‬
‫واحمرت عيناه‪ ،‬واشتد غضبه‪ ،‬كأنه منذر جيش يقول‪َ :‬‬
‫وكما يدل ذلك على خطر األمر الذي يتكلم فيه‪ ،‬حتى تأثر هذا التأثر وانفعل‬
‫هذا االنفعال‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪.)3584‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)719‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)934‬و«صحيح مسلم» (‪.)851‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)18398‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)867‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪136‬‬

‫(‪)1‬‬ ‫تعــرو الن ِ‬


‫َّــد َّي وللقلــوب بــكاء‬ ‫وإذا خطبــت فللمنابــر هــزة‬
‫وكان من عادته إذا خطب أن يعتمد على عصا(‪ )2‬أو قوس(‪ ،)3‬واعتماد الخطيب‬
‫على عادة قومه(‪ ،)4‬كما كان‬ ‫على قوس أو عصا عادة عربية جرى فيها النبي‬
‫من عادته أن يحمل في يده عصا أو عسيب نخل يتوكأ عليه إذا مشى(‪ )5‬على عادة‬
‫العرب في ذلك‪ ،‬ولذا فإن حمل العصا في الخطبة من سنن العادة ال العبادة(‪.)6‬‬
‫إذا خطب بدأ بحمد اهلل والثناء عليه بما هو أهله‪ ،‬ثم يتشهد‬ ‫وكان‬
‫الشهادتين‪ ،‬وكان يقول‪« :‬ك ُُّل ُخ ْطب ٍة َليس فِيها ت ََشهدٌ َف ِهي كَا ْلي ِد ا ْلج ْذم ِ‬
‫اء»(‪.)7‬‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫وكان كثير ًا ما يخطب بآيات القرآن‪ ،‬وسوره الواعظة‪ ،‬قال جابر بن سمرة‪ :‬كان‬
‫يخطب قائم ًا(‪ ...)8‬ويقرأ آيات من القرآن ويذكُر اهلل‪ ،‬وقالت أم‬ ‫رسول اهلل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َُۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬
‫ان ٱلم ِجي ِد﴾ إال من ِّ‬
‫في‬ ‫هشام بنت الحارث بن النعمان‪ :‬ما أخذت ﴿قۚ وٱلقرء ِ‬
‫يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس(‪.)9‬‬ ‫رسول اهلل‬
‫وذلك لما في سورة «ق» من المواعظ والتذكير بالموت والبعث وأحوال اآلخرة‪.‬‬
‫وكانت ُخ َطبه في الجمعة مواعظ يؤكد فيها على قضايا الدين الكبرى‪ ،‬وتقرير‬
‫أصول اإليمان‪ ،‬وذكر الجنة والنار‪ ،‬وما أعد اهلل ألوليائه وأهل طاعته‪ ،‬وما توعد‬
‫به أعداءه وأهل معصيته‪.‬‬
‫((( من قصيدة الهمزية النبوية لشوقي‪« .‬الشوقيات» (ص‪.)42 :‬‬
‫((( «مصنف عبد الرزاق» (‪.)5400‬‬
‫((( «مصنف عبد الرزاق» (‪.)5330‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البيان والتبيين» (‪ ،)80/3‬و«تاريخ األدب العربي» لشوقي ضيف (‪.)416‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4721‬و«صحيح مسلم» (‪.)2794‬‬
‫((( ينظر‪« :‬السلسلة الصحيحة» (‪.)20/2‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)8018‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)862‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)873‬‬
‫‪137‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫فيمأل القلوب إيمان ًا باهلل وتعظيم ًا وإجالالً له‪ ،‬ومهابة للقائه والمنقلب إليه‪،‬‬
‫حتى كأنما الجنة والنار رأي عين‪ ،‬فتوجل القلوب وتذرف العيون‪ ،‬حتى ُيكب‬
‫الصحابة رؤوسهم ولهم خنين من البكاء‪.‬‬
‫في‬ ‫ولعل هذا هو ما يفسر عدم نقل خطب الجمعة التي خطبها النبي‬
‫المدينة مع أنها نحو من خمسمئة خطبة‪ ،‬وذلك ألنها مواعظ عامة تؤكد على‬
‫‪.‬‬ ‫قضايا كبرى تكررت مضامينها في آيات القرآن وأحاديث الرسول‬
‫الر ُج ِل‪َ ،‬و ِق َص َر‬ ‫ِ‬
‫ول َص َلة َّ‬ ‫وكان يوجز الخطبة ويطيل الصالة ويقول‪« :‬إِ َّن ُط َ‬
‫ان ِس ْحر ًا»(‪.)1‬‬ ‫الص َل َة َوا ْق ُص ُروا ا ْلخُ ْط َب َة‪َ ،‬وإِ َّن ِم َن ا ْل َب َي ِ‬ ‫ِِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ُخ ْط َبته‪َ ،‬مئنَّ ٌة م ْن ف ْق ِهه‪َ .‬ف َأطي ُلوا َّ‬
‫ومع إقباله على خطبته‪ ،‬وإقبال الناس عليه فيها فإنه لم يكن صارم ًا في‬
‫خطبته إلى حد الزماتة والوقار الشديد المتكلف‪ ،‬ولم تكن مهابته تمنع أحد ًا‬
‫أن يكلمه وهو يخطب‪ ،‬ولم يكن وقاره يمنعه أن يكلم أحد ًا وهو يخطب‪ ،‬أو‬
‫يخطب يوم‬ ‫يقطع خطبته لعارض يعرض له ثم يرجع فيتمها‪ ،‬فقد كان‬
‫ك ُق ْم َف ْارك َْع َر ْك َع َت ْي ِن‬‫الجمعة فجاء ُسليك ال َغ َطفاني فجلس فقال له‪َ « :‬يا ُس َل ْي ُ‬
‫يه َما»(‪ ،)2‬وكان يخطب يوم ًا على المنبر‪ ،‬فدخل الحسن والحسين‬ ‫َوت ََج َّو ْز فِ ِ‬
‫فأخذهما فصعد بهما‬ ‫وعليهما قميصان أحمران‪ ،‬يمشيان ويعثران‪ ،‬فنزل‬
‫َّ َ ٓ َ ۡ َ ٰ ُ ُ ۡ َ َ ۡ َ ٰ ُ ُ ۡ ۡ َ ‪ٞ‬‬
‫ت إِ َلى َه َذ ْي ِن‬ ‫ر‬
‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ظ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫﴾‪،‬‬ ‫المنبر‪ ،‬ثم قال‪« :‬صدق اهلل ﴿إِنما أمولكم وأولدكم ف ِتنة‬
‫ت َح ِديثِي َو َر َف ْعت ُُه َما»(‪ .)3‬ثم أخذ‬ ‫الصبِ َّي ْي ِن َي ْم ِش َي ِ‬
‫ان َو َي ْع ُث َر ِ‬
‫ان َف َل ْم َأ ْصبِ ْر َحتَّى َق َط ْع ُ‬ ‫َّ‬
‫في خطبته فأتمها‪.‬‬
‫يخطب مرة يوم الجمعة فدخل أعرابي فاستقبل رسول اهلل‬ ‫وكان‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)869‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)875‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)1109‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪138‬‬

‫قائم ًا ثم قال‪ :‬يا رسول اهلل هلكت األموال‪ ،‬وجاع العيال‪ ،‬وانقطعت السبل‪،‬‬
‫فادع اهلل تعالى أن يسقينا‪.‬‬
‫وهو يسمع هذا األعرابي الذي لم يجلس‬ ‫وبأبي وأمي رسول اهلل‬
‫بعد أن ينهي خطبته وصالته‪ ،‬وإنما بادر بحاجته‬ ‫فيستمع ثم يكلم النبي‬
‫وال َأ ْح َف َظ ُه وإنما‬ ‫خطبته‪ ،‬فما أغضب ذلك النبي‬ ‫وقطع على النبي‬
‫بادر باالستجابة لهذا األعرابي‪ ،‬واستشعر حاجته التي ألجأته لذلك‪ ،‬ورفع يديه‬
‫(‪.)1‬‬ ‫يدعو ويستغيث حتى نزل المطر قبل أن ينزل هو عن منبره‬
‫يخطب فتوجه إليه وقال‪ :‬يا‬ ‫ودخل ت َِميم بن َأ َسد المسجد ورسول اهلل‬
‫رسول اهلل رجل غريب يسأل عن دينه وال يدري ما دينه‪ ،‬فأقبل عليه رسول اهلل‬
‫وترك خطبته حتى انتهى إليه‪ُ ،‬فأتي بكرسي قوائمه من حديد‪ ،‬فقعد عليه‬
‫وجعل يعلمه مما علمه اهلل‪ ،‬فلما فرغ أتى خطبته فأتم آخرها(‪.)2‬‬
‫إن أشق شيء على الخطيب أن يقاطعه أحد أو يقطع عليه خطبته‪ ،‬ولكن‬
‫يتلقى هذا السائل الغريب بهذا االهتمام والحفاوة‪ ،‬فيقطع الخطبة‬ ‫نبينا‬
‫ويأتي هو إليه ولم يستدعه نحوه‪ ،‬ثم يجلس على كرسي حتى يسمع الناس‬
‫حوله حوارهما فيتعلموا جميع ًا‪ ،‬فيستمع إليه ويعلمه حتى إذا فرغ عاد إلى‬
‫خطبته فأتمها‪.‬‬
‫‪ ،‬وعظيم رأفته ورحمته بالمؤمنين‪.‬‬ ‫عظمة ُخ ِ‬
‫لقه‬ ‫ِ‬ ‫إنه مشهد من مشاهد‬
‫إن هذا النبي الكريم لم يكن يخطب كما يخطب الجبارون والمتكبرون‪،‬‬
‫والذين يهمهم الحفاظ على رسومهم ومراسم هيبتهم‪ ،‬ولكنه كان يخطب داعي ًا‬
‫وهادي ًا‪ ،‬حتى في هذا المقام َي ْظهر حس ُن تعامله وتواض ُعه ولي ُن جانبه واستيعاب ُه‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1013‬و«صحيح مسلم» (‪.)897‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)876‬‬
‫‪139‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫وتفهمه لظروفهم وطبائعهم‪ ،‬ولذا يقطع الخطبة لعثرات صبي‬


‫ُ‬ ‫لحاجات الناس‬
‫جاء يمشي إليه‪ ،‬ولغريب جاء يسأله‪ ،‬ولمجهود جاء يطلب دعاءه‪ ..‬فيسعهم‬
‫كان يخطب أصحابه يوم جمعة فجاءت قافلة‬ ‫جميع ًا خلقه وبره‪ ،‬بل إنه‬
‫إال اثنا‬ ‫من الشام تحمل طعام ًا فانفض الناس إليها حتى ما بقي مع النبي‬
‫َٓ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ل َها َوتَ َرك َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َ ۡ ًََٰ ۡ ًۡ َ‬
‫ٱنف ُّض ٓوا إ ِ ۡ‬
‫وك قائ ِ ٗما﴾(‪.)1‬‬ ‫عشر رجالً‪ :‬فنزلت‪ِ﴿ :‬إَوذا رأوا ت ِجرة أو لهوا‬
‫عاتبهم أو المهم أو دعا أحد ًا منهم فساءله‬ ‫ومع ذلك لم ينقل أن النبي‬
‫َّ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُۡ‬
‫ِند ٱللِ خ ۡي‪ّ ٞ‬م َِن ٱلل ۡه ِو‬
‫أو وبخه‪ ،‬وإنما اكتفى بالعتاب القرآني اللطيف‪﴿ :‬قل َما ع‬
‫ٱلل َخ ۡ ُ‬
‫ي َّ‬
‫ٱلرٰزق َ‬ ‫ٱتل َِجٰ َرة ِ َو َّ ُ‬
‫ِني﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َوم َِن ّ ۚ‬
‫الداعية الذي يحمل في قلبه محبة الخلق‪ ،‬والرحمة بهم‪ ،‬والحرص‬ ‫إنه‬
‫وتفهم ما يعرض للنفوس البشرية من ضعف ونقص يسدد بالتربية‬
‫على هدايتهم‪ّ ،‬‬
‫الحكيمة والتوجيه الهادي الرفيق‪.‬‬
‫بالناس‪ ،‬وكان يقرأ‬ ‫فإذا فرغ من خطبته الثانية أقام بالل الصالة فصلى‬
‫َۡ َۡ‬
‫ٱس َم َر ّب ِ َك ٱلع﴾ و«الغاشية»‪ ،‬وتار ًة بسورة «الجمعة»؛ لما‬
‫في الجمعة بـ ﴿ َس ّبحِ ۡ‬
‫ِ‬
‫تضمنته من ‌األمر ‌بهذه ‌الصالة ‌وإيجاب ‌السعي ‌إليها‪ ،‬وترك العمل العائق عنها‪.‬‬
‫َّ‬
‫َ َ َ َُ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫ويقرأ في الثانية بسورة ﴿إِذا جاءك ٱلمنٰفِقون﴾؛ تحذير ًا لألمة من النفاق ُ‬
‫الم ْردي‪،‬‬
‫وتحذير ًا لهم أن تشغلهم أموالهم وأوالدهم عن صالة الجمعة وعن ذكر اهلل‬
‫عزوجل‪ ،‬وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا وال بدَّ ‪ ،‬وحض ًا لهم على اإلنفاق الذي‬
‫ٍ‬
‫حالة‬ ‫هو من أكبر أسباب سعادتهم‪ ،‬وتحذير ًا لهم من هجوم الموت وهم على‬
‫الرجعة فال ُيجابون إليها(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫يطلبون اإلقالة ويتمنَّون َّ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4899‬و«صحيح مسلم» (‪.)863‬‬
‫((( «زاد المعاد» البن القيم (‪.)530-529/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪140‬‬

‫وكان إذا ص َّلى الجمعة دخل إلى منزله فص َّلى سنتها ركعتين‪ ،‬فعن ابن عمر‬
‫كان يص ِّلي بعد الجمعة ركعتين في بيته(‪.)1‬‬ ‫أن النبي‬
‫وأمر َمن ص َّلى الجمعة أن يص ِّلي بعدها أربع ركعات فقال‪‌« :‬إِ َذا‌ َص َّلى‌ َأ َحدُ ك ُُم‬
‫‌ا ْلجمع َة‪َ ‌،‬ف ْليص ِّل‌بعدَ ها‌ َأربع‌ر َكع ٍ‬
‫ات»(‪.)2‬‬ ‫ُ َ َْ َ ََْ َ َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫صلها أربع ًا و َمن‬ ‫صلها في المسجد َّ‬ ‫وجمع بعض العلماء بينها أن َمن َّ‬
‫صلها ركعتين(‪.)3‬‬ ‫صلها في بيته َّ‬ ‫َّ‬
‫يبادر إلى صالة الجمعة في أول وقتها فينصرف الناس منها‬ ‫وكان‬
‫إذا زالت‬ ‫يتتبعون الظل‪ .‬قال سلمة بن األكوع‪ :‬كنا ن َُج ِّمع مع رسول اهلل‬
‫الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء(‪ ،)4‬أي‪ :‬نتتبعه لقلته حيث لم يمتد بعد‪ .‬وفي رواية‪:‬‬
‫وليس للحيطان ظل يستظل به(‪ .)5‬أي‪ :‬ليس ظ ً‬
‫ال‬ ‫كنا نصلي مع رسول اهلل‬
‫واسع ًا ُيستظل به‪ ،‬وإنما ظل قليل‪ ،‬ولذا فهم يتتبعونه‪.‬‬
‫وينشغل الناس معه باالستعداد للصالة‬ ‫وفي يوم الجمعة ينشغل‬
‫وشهود الجمعة‪ ،‬ولذا يتغير نظام اليوم عن بقية األيام بسبب ذلك‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫تأخيرهم للغداء وهو الطعام الذي يؤكل ُغدو ًة في أول النهار فيؤخرونه بعد‬
‫الجمعة النشغالهم قبلها باالستعداد لها والسعي إليها‪ ،‬وكذا يؤخرون القيلولة‬
‫وهي النوم قبل الظهر فيجعلونها بعد الجمعة النشغالهم قبلها‪ .‬قال سهل بن‬
‫إال بعد الجمعة(‪،)6‬‬ ‫سعد‪ :‬ما كنا نقيل وال نتغدَّ ى في عهد رسول اهلل‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)937‬و«صحيح مسلم» (‪.)882‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)881‬‬
‫((( ينظر‪« :‬زاد المعاد» (‪.)552/1‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)860‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4168‬و«صحيح مسلم» (‪.)860‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)939‬و«صحيح مسلم» (‪.)859‬‬
‫‪141‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫أي أنهم ينشغلون عن الغداء والقيلولة بالتهيؤ للجمعة‪ ،‬ثم يتداركون طعامهم‬
‫ثم نرجع‬ ‫ونومهم وراحتهم بعدها‪ ،‬وقال جابر‪ :‬كنا نصلي مع رسول اهلل‬
‫إلى نواضحنا فنريحها(‪ ،)1‬أي أنهم يريحون جمالهم التي يستقون عليها بعد‬
‫صالة الجمعة ألنهم سيتغدون وينامون بعد الصالة‪.‬‬
‫من فضائل يوم الجمعة وخصائصه أن فيه ساعة ال يوافقها‬ ‫ومما ذكره‬
‫عبد يسأل اهلل شيئ ًا من خيري الدنيا واآلخرة إال أعطاه إياه‪ .‬فعن أبي هريرة ‪،‬‬
‫ذكر يوم الجمعة فقال‪‌« :‬فِ َيها‌ َسا َع ٌة‌ال‌ ُي َوافِ ُق َها‌ َع ْبدٌ ‌ ُم ْسلِ ٌم‌ َو ْه َو‬ ‫أن رسول اهلل‬
‫‌ َقائِ ٌم‌ ُي َص ِّلي‪َ ‌،‬ي ْس َأ ُل‌اهللَ‌ َت َعا َلى‌ َش ْيئ ًا‌إِ َّل‌ َأ ْع َطا ُه‌إِ َّيا ُه»‪ .‬وأشار بيده يق ِّللها(‪.)2‬‬
‫وقد اخت ُِلف في تحديد وقتها‪ ،‬وأقرب األقوال في ذلك أنها في صالة الجمعة‬
‫في مواطن الدعاء منها كالسجود ودبر الصالة‪ ،‬لحديث‪‌« :‬ال ‌ ُي َوافِ ُق َها ‌ َع ْبدٌ ‌ ُم ْسلِ ٌم‬
‫‌ َو ْه َو‌ َقائِ ٌم‌ ُي َص ِّلي‌ َي ْس َأ ُل‌اهللَ‌ َت َعا َلى‌ َش ْيئ ًا‌إِ َّل‌ َأ ْع َطا ُه‌إِ َّيا ُه»‪ .‬وأفضل الصالة يوم الجمعة‬
‫صالة الجمعة‪ ،‬ولحديث أبي موسى قال عن ساعة الجمعة‪ :‬سمعت رسول اهلل‬
‫الص َلةُ»(‪.)3‬‬ ‫يقول‪ِ ‌« :‬ه َي‌ َما‌ َب ْي َن‌ َأ ْن‌ َي ْجلِ َس‌ ْ ِ‬
‫ال َما ُم‌إِ َلى‌ َأ ْن‌ ُت ْق َضى‌ َّ‬
‫كان يخص عشية الجمعة‬ ‫ولم أقف في األحاديث على ما يدل أن النبي‬
‫بعمل خاص‪ ،‬وال أن نمط حياته يتغير آخر يوم الجمعة عن بقية األيام‪ ،‬ولم أجد‬
‫فيما روي عن الصحابة ‪ ‬ما يدل على ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)858‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)935‬و«صحيح مسلم» (‪ .)852‬وقد ذكر ابن القيم من خصائص يوم الجمعة ثالث ًا‬
‫وثالثين‪ ،‬ثم أوصلها السيوطي إلى مئة‪ .‬ينظر‪« :‬زاد المعاد» (‪ ،)425-363/1‬و«نور اللمعة في خصائص‬
‫الجمعة» للسيوطي‪.‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)853‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪142‬‬

‫رسم تخيلي للمنبر النبوي‬


‫صنع من أشجار غابة المدينة‪ ،‬وكان بسيط ًا وصغير ًا بقدر الحاجة‪ ،‬وارتفاع‬
‫(متر تقريباً)‪ ،‬وله درجتان‪،‬‬ ‫المنبر من األرض إلى مكان جلوس النبي‬
‫وكل درجة عرضها (ربع متر تقريبا) وارتفاعها مثل ذلك‪ ،‬ودرجة ثالثة‬
‫وهي الدرجة العليا من‬ ‫هي البسطة التي كان يجلس عليها النبي‬
‫المنبر عرضها (نصف متر في نصف متر)‪ ،‬وقد بقي المنبر في المسجد‬
‫النبوي إلى أن احترق المسجد سنة (‪654‬هــ)‪« .‬وفاء الوفاء» (‪.)12/2‬‬
‫‪143‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫يوم االثنين‬

‫تعظيم ليوم االثنين بالصيام‪ ،‬وحفاوة بما فيه من ذكريات‪،‬‬ ‫كان للنبي‬
‫وما جرى فيه من الخير والفضل‪.‬‬
‫ُسئل عن صوم يوم االثنين فقال‪:‬‬ ‫فعن أبي قتادة ‪ ‬أن رسول اهلل‬
‫ت فِ ِيه»(‪.)1‬‬
‫اك‌ َي ْو ٌم‌ ُولِدْ ُت‌فِ ِيه‪َ ،‬و َي ْو ٌم ُب ِع ْث ُ‬
‫« َذ َ‬
‫يوم االثنين‪ ،‬و ُن ّبئ يوم االثنين‪ ،‬وخرج من مكة يوم‬ ‫وقد ُولد رسول اهلل‬
‫اإلثنين‪ ،‬ودخل المدينة يوم االثنين‪ ،‬وفتح مكة يوم اإلثنين‪‌،‬وتوفي يوم االثنين(‪.)2‬‬

‫)‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1162‬‬


‫((( «دالئل النبوة» للبيهقي (‪ ،)233/7‬و«التمهيد» البن عبد البر (‪.)263/21‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪144‬‬

‫يوم الخميس‬

‫يعظم يوم الخميس بالصيام‪ ،‬ويذكر ما يشترك فيه مع يوم االثنين‬ ‫وكان‬
‫ض األعمال على اهلل عز‬ ‫وعر ِ‬
‫من الفضائل‪ ،‬وما يتكرر فيه من مواسم الفضل‪ْ ،‬‬
‫وجل‪ ،‬وأنهما يومان يغفر اهلل فيهما ذنوب عباده‪ ،‬وتُفتح فيهما أبواب الجنة‪.‬‬
‫يس(‪.)1‬‬ ‫الخ ِم ِ‬ ‫ال ْثنَ ْي ِن َو َ‬ ‫يتَحرى‌صوم‌ ِ‬
‫َ َ َّ َ ْ َ‬ ‫َان النَّبِ ُّي‬
‫فعن عائشة ‪ ‬قالت‪ :‬ك َ‬
‫‪ُ ‌« :‬ت ْع َر ُض‌األَ ْع َم ُال‌ َي ْو َم‌ ِال ْثنَ ْي ِن‬ ‫وعن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫ب َأ ْن ُي ْع َر َض َع َملِي َو َأنَا َصائِ ٌم»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫‌ َوالخَ ِم ِ‬
‫يس‪َ ،‬ف ُأح ُّ‬
‫ول اهللِ‪ ،‬إِن ََّك ت َُصو ُم َحتَّى َل َتكَا َد‬ ‫وعن أسامة بن زيد ‪ ‬قال‪ :‬قلت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ام َك َوإِ َّل‬ ‫ُت ْفطِر‪ ،‬و ُت ْفطِر حتَّى َل َتكَاد َأ ْن تَصوم‪ ،‬إِ َّل يومي ِن إِ ْن د َخ َل فِي ِصي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ َ‬
‫ك‬ ‫يس‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ذانِ َ‬ ‫خ ِم ِ‬ ‫ال ْثنَ ْي ِن َو َي ْو َم ا ْل َ‬‫ت‪ :‬يوم ِ‬
‫ي َي ْو َم ْي ِن؟»‪ُ .‬ق ْل ُ َ ْ َ‬ ‫«أ ُّ‬‫ُص ْمت َُه َما‪َ ،‬ق َال‪َ :‬‬
‫ب َأ ْن ُي ْع َر َض َع َملِي‬ ‫ِ‬
‫ين‪َ ،‬ف ُأح ُّ‬
‫ِ‬
‫يه َما ْالَ ْع َم ُال َع َلى َر ِّب ا ْل َعا َلم َ‬ ‫ان ُت ْع َر ُض فِ ِ‬ ‫َي ْو َم ِ‬
‫َو َأنَا َصائِ ٌم»(‪.)3‬‬
‫اب ‌ا ْل َجن َِّة ‌ َي ْو َم ِال ْثنَ ْي ِن‬
‫قال‪ُ ‌« :‬ت ْفت َُح ‌ َأ ْب َو ُ‬ ‫وعن أبي هريرة‪ ،‬أن رسول اهلل‬
‫َت َب ْينَ ُه َو َب ْي َن‬ ‫ال كَان ْ‬ ‫يس‪َ ،‬ف ُي ْغ َف ُر لِك ُِّل َع ْب ٍد َل ُي ْش ِر ُك بِاهللِ َش ْيئ ًا‪ ،‬إِ َّل َر ُج ً‬ ‫َو َي ْو َم ا ْلخَ ِم ِ‬
‫َاء‪َ ،‬ف ُي َق ُال‪َ :‬أنْظِ ُروا َه َذ ْي ِن َحتَّى َي ْص َطلِ َحا‪َ ،‬أنْظِ ُروا َه َذ ْي ِن َحتَّى َي ْص َطلِ َحا‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫َأخيه َش ْحن ُ‬
‫َأنْظِ ُروا َه َذ ْي ِن َحتَّى َي ْص َطلِ َحا»(‪.)4‬‬
‫((( «جامع الترمذي» (‪ ،)745‬و«سنن النسائي» (‪ ،)2359‬و«سنن ابن ماجه» (‪.)1729‬‬
‫((( «جامع الترمذي» (‪.)747‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪« ،)2436‬سنن النسائي» (‪.)2358‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪ ،)2565‬و«سنن ابن ماجه» (‪.)1740‬‬
‫‪145‬‬ ‫�أيام الأ�سبوع‬

‫ٌ‬
‫محمول على ظاهره‪ ،‬ويكون فتحها‬ ‫وفت ُْح أبواب الجنة في هذين اليومين‬
‫ال وانتظار ًا من الخزنة لروح من يموت في ذينك اليومين ممن غفرت‬ ‫تأه ً‬
‫ذنوبه‪ ،‬أو يكون فتحها عالمة للمالئكة على أن اهلل تعالى غفر في ذينك اليومين‬
‫للموحدين‪ ،‬واهلل تعالى أعلم(‪.)1‬‬

‫)‬

‫((( «المفهم» للقرطبي (‪.)540/6‬‬


‫‪147‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫أيام العام‬

‫لبعض أيام العام خصوصية في الفضل‪ ،‬واختصاص بصالح العمل‪ ،‬وبأحكام‬


‫وسنَنُه‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫فيها هديه ُ‬ ‫ليست في غيرها من األيام‪ ،‬وللنبي‬

‫يوم العيد‬
‫المدينة ولهم يوما عيد يلعبون فيهما‪ ،‬وكانت أعياد ًا وثنية جاهلية‪،‬‬ ‫قدم‬
‫فأبدلهما بهما يومين شريفين عظيمين مرتبطين بشعيرتين هما من أركان اإلسالم‪،‬‬
‫فعيد الفطر َفر ٌح بإكمال العدَّ ة وإتمام صوم شهر رمضان‪ ،‬وعيد األضحى َفر ٌح‬
‫بإكمال شعائر الحج للحجاج‪ ،‬وأعمال العشر لغيرهم‪ ،‬وليس ألهل اإلسالم‬
‫أعياد دينية غير هذين العيدين‪.‬‬
‫شعائر ومظاهر تدل على الفرح بفضل اهلل ورحمته‪،‬‬ ‫وكان للعيد مع النبي‬
‫وتعظيمه واالمتنان له‪ ،‬وذلك في االجتماع الحاشد‪ ،‬والمظهر الجميل‪ ،‬والفرح‬
‫المعلن‪.‬‬
‫يلبس للخروج إلى العيدين أجمل ثيابه‪ ،‬وكان له حل ٌة جميلة‬ ‫فكان‬
‫يلبسها للعيدين والجمعة‪ ،‬ومر ًة يلبس ُبردين أخضرين(‪ ،)1‬ومر ًة ُبرد ًا أحمر(‪.)2‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)3021‬‬
‫((( «الطبقات الكبرى» البن سعد (‪.)388/1‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪148‬‬
‫ٍ‬
‫تمرات‪ ،‬ويأكلهن وتر ًا(‪ ،)1‬وأما في عيد‬ ‫وكان يأكل قبل خروجه لعيد الفطر‬
‫األضحى فكان ال يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته(‪.)2‬‬
‫وكان يغتسل للعيدين‪ ،‬ويدل على ذلك ثبوته عن الصحابة(‪ ،)3‬وألنه مشهد‬
‫عام كمشهد الجمعة‪.‬‬
‫ويتط َّيب لخروجه‪ ،‬ويدل عليه ثبوته عن بعض الصحابة(‪ ،)4‬ولثبوت األمر به‬
‫لمشهد الجمعة‪.‬‬
‫وفي هذا تعظيم للشعيرة‪ ،‬وتجاوب مع ما في الفطرة السوية من حب الزينة‬
‫والجمال‪ ،‬وحسن المظهر في المجامع العامة‪.‬‬
‫هو موضع مسجد‬ ‫ومكان مص َّلى العيد واالستسقاء في عهد النبي‬
‫الغمامة اآلن‪ ،‬ويبعد اليوم عن المسجد النبوي نحو خمسمئة ٍ‬
‫متر في الجهة‬
‫الجنوبية الغربية منه‪­­.‬‬
‫مسجد ًا‪ ،‬بل كان فضا ًء خارج المدينة‬ ‫ولم يكن المص َّلى في حياة النبي‬
‫ال بناء فيه‪ ،‬والمسجد اليوم إنما هو في بعضه‪ ،‬وهو المحل الذي كان يقوم فيه‬
‫‪ ،‬فكان يخرج بالناس‪ ،‬فيص ِّلي بهم صالة العيد في هذا الفضاء؛ ألن‬ ‫النبي‬
‫ال يتسع ألهل المدينة إذا اجتمعوا كلهم في صالة العيد‪،‬‬ ‫مسجد النبي‬
‫فإن صالة العيد يهبط إليها أهل العوالي والنواحي المتباعدة عن الحرم‪ ،‬ومعهم‬
‫عليهن الخروج إلى صالة العيد‪ ،‬قالت أم عطية ‪:‬‬ ‫النساء حيث أكد‬
‫ُأمرنا أن نُخرج ُ‬
‫الح َّيض يوم العيدين وذوات الخدور‪ ،‬فيشهدن جماعة المسلمين‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪.)953‬‬


‫((( «مسند أحمد» (‪.)22984‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البدر المنير» البن الملقن (‪.)41/5‬‬
‫((( ينظر‪« :‬البدر المنير» (‪.)45/5‬‬
‫‪149‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫الح َّيض عن مصالهن‪ ،‬قالت امرأةٌ‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إحدانا ليس‬ ‫ودعوتهم‪ ،‬ويعتزل ُ‬
‫اح َبت َُها‌ ِم ْن‌ ِج ْل َبابِ َها»(‪.)1‬‬
‫لها جلباب؟! قال‪‌« :‬لِ ُت ْلبِسها‌ص ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ٌ‬
‫وهذا االجتماع الحاشد الذي يجتمع فيه أهل النواحي المتباعدة في مكان‬
‫فضاء يستوعبهم رجاالً ونساء هو نوع من تعميق االنتماء إلى الجماعة وتقوية‬
‫لحمتها‪ ،‬فبعد االجتماع اليومي في األحياء لصالة الجماعة‪ ،‬واالجتماع األسبوعي‬
‫لصالة الجمعة‪ ،‬يأتي هذا االجتماع السنوي الحاشد ليجمع من لم يجتمعوا لتفرق‬
‫النساء أن يخرجن لصالة العيد وقال‪َ « :‬ي ْش َهدْ َن‬ ‫نواحيهم وتباعدها‪ ،‬ولذا أمر‬
‫ِِ‬
‫الجامع لهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ين»‪ .‬فهو اجتماع جماعة المسلمين‬ ‫‌ َج َما َع َة‌ ُ‬
‫الم ْسلم َ‬
‫ُحملت العنَزة(‪ )2‬بين يديه حتى تنصب أمامه؛ ألنه يصلي في‬ ‫فإذا خرج‬
‫الفضاء إلى غير سترة‪ ،‬فتكون سترة له‪ ،‬وهذه العنَزة كانت للزبير ‪ ،‬أعطاها‬
‫فكان يخرج بها بين يديه يوم العيد(‪.)3‬‬ ‫إياه النجاشي‪ ،‬فوهبها للنبي‬
‫كان َي ْجهر ويكثر من التكبير في الطريق‬ ‫ويظهر من فعل الصحابة أنه‬
‫ك ُّبوا ْ َّ َ‬
‫َ ُ ۡ ُ ْ ۡ َّ َ َ ُ َ‬
‫ً‬
‫ٱلل‬ ‫امتثاال وإشهار ًا لقوله تعالى‪﴿ :‬ولِ ك ِملوا ٱلعِدة ولِ ِ‬ ‫إلى صالة العيد(‪،)4‬‬
‫َ َ ٰ َ َ َ ٰ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ع ما هدىكم ولعلكم تشكر‬
‫(‪)5‬‬
‫فإذا وصل إلى المص َّلى بدأ بالصالة قبل الخطبة من غير أذان وال إقامة‬
‫ٍ‬
‫متوالية بتكبيرة االفتتاح(‪،)6‬‬ ‫ٍ‬
‫تكبيرات‬ ‫فيص ِّلي ركعتين‪ ،‬يك ِّبر في األولى سبع‬
‫يسكت بين كل تكبيرتين سكت ًة يسيرةً‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)324‬و«صحيح مسلم» (‪.)890‬‬
‫((( العنَزة‪ :‬هي الرمح القصير‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)308/3‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)973‬و«صحيح مسلم» (‪.)501‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)971‬و«صحيح مسلم» (‪.)890‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)1146‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)1149‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪150‬‬

‫ٓ َ ُۡ َۡ‬
‫فإذا أتم التكبير أخذ في القراءة‪ ،‬فقرأ فاتحة الكتاب‪ ،‬ثم قرأ بعدها‪﴿ :‬قۚ وٱلقرء ِ‬
‫ان‬
‫َّ َ ُ َ َ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ٱنش َّق ٱل َق َم ُر﴾(‪.)1‬‬ ‫ٱق َ َ‬
‫ت َب ِ‬
‫ت ٱلساعة و‬ ‫ٱل َم ِجي ِد﴾ في إحدى الركعتين‪ ،‬وفي األخرى‪﴿ :‬‬
‫ُ‬ ‫َۡ ََ َ‬ ‫َ َۡ َۡ‬
‫ٱس َم َر ّبِك ٱلع﴾ وفي األخرى‪﴿ :‬هل أتىٰك َحدِيث‬ ‫وربما قرأ فيهما‪َ ﴿ :‬س ّبحِ ۡ‬
‫ِ‬
‫ۡ‬
‫ٱل َغٰشِ َيةِ﴾(‪.)2‬‬
‫فإذا فرغ من القراءة كبر وركع‪ ،‬ثم إذا أكمل الركعة وقام من السجود كبر‬
‫خمس ًا متوالي ًة‪ ،‬فإذا أكمل التكبير أخذ في القراءة‪.‬‬
‫جلوس على صفوفهم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فإذا أكمل الصالة انصرف فقام مقابل الناس‪ ،‬والناس‬
‫منبر يرقى عليه‪ ،‬وإنما كان يخطبهم قائم ًا على األرض‪ ،‬وكان يفتتح‬ ‫ولم يكن هناك ٌ‬
‫خطبته بالحمد هلل‪ ،‬ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة‪ ،‬ويعظ الناس ويذكرهم‪.‬‬
‫الف ْط ِر َواألَ ْض َحى إِ َلى‬ ‫ي ْخرج يوم ِ‬ ‫ول اهلل‬‫َان َر ُس ُ‬‫سعيد الخدري‪ :‬ك َ‬ ‫ٍ‬ ‫قال أبو‬
‫َ ُ ُ َْ َ‬
‫ف‪َ ،‬ف َي ُقو ُم ُم َقابِ َل الن ِ‬ ‫الةُ‪ُ ،‬ث َّم َين َْص ِر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّاس‬‫َّاس‪َ ،‬والن ُ‬ ‫الص َ‬‫الم َص َّلى‪َ ،‬ف َأ َّو ُل َش ْيء َي ْبدَ ُأ بِه َّ‬ ‫ُ‬
‫وص ِيه ْم‪َ ،‬و َي ْأ ُم ُر ُه ْم‪َ ،‬فإِ ْن ك َ‬
‫َان ُي ِريدُ َأ ْن َي ْق َط َع َب ْعث ًا‬ ‫ج ُلوس َع َلى ص ُفوفِ ِهم َفي ِع ُظهم‪ ،‬وي ِ‬
‫ْ َ ُ ْ َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٌ‬
‫ف(‪.)3‬‬ ‫َق َط َع ُه‪َ ،‬أ ْو َي ْأ ُم َر بِ َش ْي ٍء َأ َم َر بِ ِه‪ُ ،‬ث َّم َين َْص ِر ُ‬
‫لصلى قبل الخطبة ثم‬ ‫ٍ‬
‫عباس ‪ :‬أشهد على رسول اهلل‬ ‫وقال ابن‬
‫خطب فرأى أنه لم يسمع النساء‪ ،‬فأتاهن فذكرهن ووعظهن‪ ،‬وأمرهن بالصدقة‪،‬‬
‫وبالل ٌ‬
‫قائل(‪ )4‬بثوبه‪ ،‬فجعلت المرأة تلقى الخاتم والخرص والشيء(‪.)5‬‬ ‫ٌ‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)891‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)878‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)956‬‬
‫((( أي‪ :‬فاتح ثوبه لألخذ فيه‪ ،‬وفي الرواية األخرى‪« :‬وبالل باسط ثوبه»‪ ،‬معناه أنه بسطه ليجمع الصدقة فيه‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫«شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)481/6‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص الح ْلقة َّ‬
‫الصغ َير ُة م َن الحلى‪َ ،‬و ُه َو م ْن حلى‬ ‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1431‬و«صحيح مسلم» (‪ .)884‬وا ْلخ ْر ُ‬
‫األ ُذن‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)22/2‬‬
‫‪151‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫الصالة يوم العيد‪،‬‬ ‫وقال جابر بن عبد اهلل ‪ :‬شهدت مع رسول اهلل‬
‫بالل‪ ،‬فأمر‬ ‫إقامة‪ ،‬ثم قام متوكئ ًا على ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أذان وال‬ ‫فبدأ بالصالة قبل الخطبة‪ ،‬بغير ٍ‬
‫بتقوى اهلل‪ ،‬وحث على طاعته‪ ،‬ووعظ الناس وذكرهم‪ ،‬ثم مضى حتى أتى‬
‫ب‌ َج َهن ََّم»‪ .‬فقامت‬ ‫النساء‪ ،‬فوعظهن وذكرهن‪ ،‬فقال‪‌« :‬ت ََصدَّ ْق َن‪َ ‌،‬فإِ َّن‌ َأ ْك َث َرك َُّن‌ َح َط ُ‬
‫امرأ ٌة من ِسطة النساء سفعاء الخدين‪ ،‬فقالت‪ :‬لم يا رسول اهلل؟ قال‪ِ :‬‬
‫«لَ َّنك َُّن‬ ‫َ‬
‫الشكَاةَ‪َ ،‬و َت ْك ُف ْر َن ا ْل َع ِش َير»‪ .‬قال‪ :‬فجعلن يتصدقن من حليهن‪ ،‬يلقين في‬ ‫ُتكْثِ ْر َن َّ‬
‫بالل من أقرطتهن وخواتمهن(‪.)1‬‬ ‫ثوب ٍ‬
‫وأما في عيد األضحى فإنه يذكر لهم في خطبته بعض أحكام األضاحي في‬
‫يوم األضحى‬ ‫خطبته‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬ما رواه البراء بن عازب قال‪ :‬خطبنا النبي‬
‫بعد الصالة فقال‪« :‬إِ َّن َأ َّو َل َما َن ْبدَ ُأ بِ ِه فِي َي ْو ِمنَا َه َذا َأ ْن ن َُص ِّلي‪ُ ،‬ث َّم ن َْر ِج ُع َفنَن َْح ُر‪َ ،‬م ْن‬
‫اب ُسنَّ َتنَا‪َ ،‬و َم ْن َذ َب َح َق ْب ُل َفإِن ََّما ُه َو َل ْح ٌم َقدَّ َم ُه ِلَ ْهلِ ِه َل ْي َس ِم َن الن ُُّس ِك‬ ‫َف َع َل ُه َف َقدْ َأ َص َ‬
‫ْت َق ْب َل َأ ْن َأ ْخ ُر َج‬
‫ول اهللِ‪َ ،‬واهللِ َل َقدْ ن ََسك ُ‬ ‫فِي َش ْي ٍء»‪َ .‬ف َقا َم َأ ُبو ُب ْر َد َة ْب ُن نِ َي ٍار َف َق َال‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ب‪َ ،‬ف َت َع َّج ْل ُت َو َأ َك ْل ُت‪َ ،‬و َأ ْط َع ْم ُت َأ ْه ِلي‬ ‫ْل َو ُش ْر ٍ‬ ‫الص َل ِة‪َ ،‬و َع َر ْف ُت َأ َّن ا ْل َي ْو َم َي ْو ُم َأك ٍ‬‫إِ َلى َّ‬
‫ناق َل َب ٍن َج َذ ٌع ِه َي َخ ْي ٌر‬ ‫‪« :‬تِ ْل َك َشا ُة َل ْحمٍ»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ع ُ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َو ِج َيرانِي‪َ .‬ف َق َال َر ُس ُ‬
‫ِم ْن َشات َْي َل ْح ٍم‪ ،‬آ ْذ َب ُح َها؟ َق َال‪َ « :‬ن َع ْم‪َ ،‬و َل ْن ت ُْج ِزئَ َع ْن َأ َح ٍد َب ْعدَ َك»(‪.)2‬‬
‫‪َ ،‬و َأ َش َار بِ َأ َصابِ ِع ِه‪َ ،‬و َأ َصابِ ِعي َأ ْق َص ُر ِم ْن‬ ‫ول اهللِ‬ ‫وعنه قال‪َ :‬قا َم فِينَا َر ُس ُ‬
‫«أ ْر َب ٌع َل ت َُجو ُز فِي‬ ‫ول‪َ :‬‬ ‫َام ِل ِه‪ ،‬ف ُي ِش ُير بِ ُأ ْص ُب ِع ِه َي ُق ُ‬ ‫َام ِلي َأ ْقصر ِمن َأن ِ‬
‫َ ُ ْ‬
‫َأصابِ ِع ِه‪ ،‬و َأن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)304‬و«صحيح مسلم» (‪ .)885‬وامرأة من ِسطة النساء‪ :‬أي من أوساطهن حسب ًا ونسب ًا‪،‬‬
‫اد َل ْي َس بِا ْلكَثِ ِير‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)374 ،366/2‬‬
‫وسفعاء الخدين؛ الس ْفع ُة‪ :‬نوع ِمن السو ِ‬
‫ٌ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6673 ،5563 ،983‬و«صحيح مسلم» (‪.)1961‬‬
‫ُج ِز َئ عَ ْن َأ َح ٍد َب ْعدَ َك»‪ ،‬ألن ا ْلجذع من ا ْلمعز ال يجزئ إال إذا تمت َل ُه سنة‪ ،‬وعناق أبي بردة عناق‬
‫«و َل ْن ت ْ‬
‫وقوله‪َ :‬‬
‫َل َب ٍن أصغر من ذلك‪ ،‬ولذا أجزأت عنه وال تُجزئ عن غيره‪ ،‬وهذا من خصائصه ‪ .‬ينظر‪« :‬عمدة القاري»‬
‫(‪ )278/6‬و(‪.)145/21‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪152‬‬

‫اء َب ِّي ٌن َظ ْل ُع َها‪،‬‬ ‫ْالَ َض ِ‬


‫اح ِّي‪ :‬ا ْل َع ْو َر ُاء َب ِّي ٌن َع َو ُر َها‪َ ،‬وا ْل َم ِر َ‬
‫يض ُة َب ِّي ٌن َم َر ُض َها‪َ ،‬وا ْل َع ْر َج ُ‬
‫َوا ْلك َِس ُير ا َّلتِي َل َتنْ َقى»(‪.)1‬‬
‫يذبح أضحيته أحيان ًا بالمص َّلى‪ ،‬وذلك إلشهار هذه الشعيرة‬ ‫وكان‬
‫وإعالنها‪ ،‬بحيث يشهده الناس وهو يذبح فتقتدي به أمته‪ ،‬فعن جابر قال‪:‬‬
‫ْالَ ْض َحى فِي ا ْل ُم َص َّلى‪َ ،‬ف َل َّما َق َضى ُخ ْط َب َت ُه ن ََز َل ِم ْن‬ ‫ول اهللِ‬‫َش ِهدْ ُت م َع رس ِ‬
‫َ َ ُ‬
‫اس ِم اهللِ َواهللُ َأ ْك َب ُر‪َ ،‬ه َذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِمنْ َب ِر ِه‪َ ،‬و ُأتِ َي بِ َك ْب ٍ‬
‫بِ َيده‪َ ،‬و َق َال‪« :‬بِ ْ‬ ‫ول اهللِ‬‫ش َف َذ َب َح ُه َر ُس ُ‬
‫َعنِّي َو َع َّم ْن َل ْم ُي َض ِّح ِم ْن ُأ َّمتِي»(‪.)2‬‬
‫َي ْذ َب ُح َو َين َْح ُر بِا ْل ُم َص َّلى(‪.)3‬‬ ‫َان َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬ ‫وقال ابن عمر‪ :‬ك َ‬
‫ش‬ ‫َأ َم َر بِ َك ْب ٍ‬ ‫ويذبح أحيان ًا قريب ًا من بيته كما أخبرت عائشة أن رسول اهلل‬
‫اد(‪َ ،)4‬ف ُأتِ َي بِ ِه لِ ُي َض ِّح َي بِ ِه‪،‬‬ ‫اد‪ ،‬وينْ ُظر فِي سو ٍ‬
‫َ َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َأ ْق َر َن‪َ ،‬ي َط ُأ في َس َواد‪َ ،‬و َي ْب ُر ُك في َس َو َ َ ُ‬
‫«اش َح ِذ َيها بِ َح َج ٍر»‪َ .‬ف َف َعلت‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫َف َق َال َل َها‪َ « :‬يا َعائِ َش ُة‪َ ،‬ه ُل ِّمي ا ْل ُمدْ َي َة»‪ُ .‬ث َّم َق َال‪ْ :‬‬
‫اس ِم اهللِ‪ ،‬ال َّل ُه َّم َت َق َّب ْل ِم ْن‬ ‫َأ َخ َذ َها َو َأ َخ َذ ا ْل َك ْب َش َف َأ ْض َج َع ُه ُث َّم َذ َب َح ُه ُث َّم َق َال‪« :‬بِ ْ‬
‫آل ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬و ِم ْن ُأ َّم ِة ُم َح َّم ٍد»‪ُ .‬ث َّم َض َّحى بِ ِه(‪.)5‬‬‫م َحم ٍد‪َ ،‬و ِ‬
‫ُ َّ‬
‫بِ َك ْب َش ْي ِن َأ ْم َل َح ْي ِن َأ ْق َر َن ْي ِن‪َ ،‬ذ َب َح ُه َما بِ َي ِد ِه‬ ‫وعن أنس قال‪َ :‬ض َّحى النَّبِ ُّي‬
‫اح ِه َما(‪.)6‬‬‫وسمى و َكبر‪ ،‬وو َضع ِرج َله َع َلى ِص َف ِ‬
‫َ َ َّ َ َّ َ َ َ َ ْ ُ‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)2802‬و«جامع الترمذي» (‪ ،)1497‬و«سنن النسائي» (‪.)4383‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العرج‪َ .‬وا ْلكَس ُير ا َّلتي َل َتنْ َقى‪ :‬المهزولة التي ال مخ في عظامها بسبب َ‬
‫العجف‪.‬‬ ‫وا ْل َع ْر َجا ُء َب ِّي ٌن َظ ْل ُع َها‪ :‬الظلع هو َ‬
‫ينظر‪« :‬النهاية» (‪ ،)158/3‬و«تحفة األحوذي» للمباركفوري (‪.)354/2‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪ ،)2810‬و«جامع الترمذي» (‪،)1521‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)5552‬‬
‫اد‪َ ،‬و َي ْب ُر ُك فِي َس َواد‪َ ،‬و َينْ ُظ ُر في َس َواد؛ أي‪ :‬في رجليه سواد‪ ،‬وفي بطنه سواد‪ ،‬وحول عينيه سواد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫((( ي َط ُأ فِي سو ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)419/2‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1967‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5565‬و«صحيح مسلم» (‪ِّ .)1966‬‬
‫والصفاح‪ :‬الجوانب‪ ،‬والمراد الجانب الواحد من =‬
‫‪153‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫وكان يختار أضحيته من خيار الضأن وأوفاه ِخ ْلقة وهيئة؛ فعن أبي هريرة‪ ،‬أن‬
‫يم ْي ِن َس ِمينَ ْي ِن َأ ْق َر َن ْي ِن‬ ‫ِ‬
‫َان إِ َذا َأ َرا َد َأ ْن ُي َض ِّح َي ْاشت ََرى َك ْب َش ْي ِن َعظ َ‬
‫ك َ‬ ‫رسول اهلل‬
‫يد‪َ ،‬و َش ِهدَ َل ُه‬ ‫له بِالتَّو ِح ِ‬
‫َأم َلحي ِن موجو َأي ِن(‪َ ،)1‬ف َذبح َأحدَ هما َعن ُأمتِ ِه‪ ،‬لِمن َش ِهدَ لِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ َ ُ َ ْ َّ‬ ‫ْ َْ َْ ُ ْ‬
‫(‪.)2‬‬ ‫آل ُم َح َّم ٍد‬
‫بِا ْل َب َلغِ‪َ ،‬و َذ َب َح ْال َخر َع ْن م َحم ٍد َو َع ْن ِ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ‬
‫وهذا التنوع في صفة أضحيته وعددها ومكان ذبحها لتعدد الوقائع؛ فإن النبي‬
‫ضحى في المدينة سنين عديدة‪ ،‬فمرة ذبح في المصلى‪ ،‬ومرة قرب بيته‪،‬‬
‫ومرة ضحى بكبش‪ ،‬ومرة بكبشين‪ ،‬فروى ٌّ‬
‫كل ما رأى‪ ،‬وفي ذلك فسح ٌة وسعة‪.‬‬
‫لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة‪ ،‬وأن يذهب‪ ،‬ورخص لهم‬ ‫ورخص‬
‫إذا وقع العيد يوم الجمعة أن يجتزئوا بصالة العيد عن حضور الجمعة(‪.)3‬‬
‫وهذا من تيسير الشعائر على الناس ألن اجتماعهم للصالة من النواحي‬
‫المتباعدة ثم انشغالهم بأعمال يوم العيد قد يعوق بعضهم عن الجلوس الطويل‪،‬‬
‫أو الرجوع لصالة الجمعة فكان ذلك من يسر التشريع وتيسير الشعيرة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طريق‪ ،‬ويرجع من آخر(‪،)4‬‬ ‫يخالف الطريق يوم العيد‪ ،‬فيذهب في‬ ‫وكان‬
‫فقيل‪ :‬لينال بركته َم ْن في الطريقين‪ ،‬وألن في ذلك إيناس ألهل األحياء والدور‬
‫الذين هم في طريقه ذهاب ًا وإياب ًا(‪.)5‬‬
‫وقد ذهبت تلك الطرق كلها‪ ،‬وصار المص َّلى بارز ًا‪ ،‬وما بينه وبين المسجد‬
‫النبوي ساحة واسعة‪.‬‬
‫= وجه األضحية‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)21/10‬‬
‫((( الموجوء‪ :‬منزوع ُاألن َث َي ْين‪ِ ،‬‬
‫والوجاء الخصاء‪ ،‬وهو يفيد اللحم طيب ًا‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)10/10‬‬
‫((( «سنن ابن ماجه» (‪.)3122‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)1070‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)986‬‬
‫((( ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)472/2‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪154‬‬

‫ويرتبط العيد بشعيرة اجتماعية عظيمة وهي الصدقة واإلحسان‪ ،‬ففي عيد‬
‫الفطر شرعت صدقة الفطر طعمة للمساكين تغنيهم عن السؤال‪ ،‬وفي عيد‬
‫األضحى شرعت األضاحي يتهادى الناس من لحمها ويتصدقون‪ ،‬ف َيطعم اللحم‬
‫من لم يكن َيطعمه من فقراء المسلمين‪.‬‬
‫وللعيد فرحته بإكمال عدة رمضان‪ ،‬وإتمام نسك الحج للحاج‪ ،‬والعمل الصالح‬
‫َّ‬ ‫ُۡ َ ۡ‬
‫في أيام عشر ذي الحجة‪ ،‬فهو موسم الفضل والرحمة اإللهية؛ ﴿قل بِفض ِل ٱللِ‬
‫َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ۡ ‪َ ُ َ ۡ َ َّ ّ ٞ‬‬ ‫َوب َر ۡ َ‬
‫ون﴾‪ ،‬ولذا يعلن الفرح ويظهر السرور في‬ ‫حتِهِۦ فبِذل ِك فليفرحوا هو خي مِما يمع‬ ‫ِ‬
‫المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما‪،‬‬ ‫األعياد‪ ،‬قال أنس ‪ :‬قدم رسول اهلل‬
‫فقال‪« :‬إن اهلل َأ ْبدَ َلك ُُم بِ ِه َما َخ ْير ًا ِمن ُْه َما‪َ :‬ي ْو َم ْالَ ْض َحى َو َي ْو َم ا ْل ِف ْ‬
‫ط ِر»(‪.)1‬‬
‫ففيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب‪ ،‬وأن ذلك من الشريعة‬
‫التي شرعها اهلل لعباده؛ إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين داللة‬
‫على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما يفعله أهل الجاهلية في أعيادهم من‬
‫إنما خالفهم في تعيين الوقتين‪.‬‬ ‫اللعب مما ليس بمحظور؛ ألن النبي‬
‫كان ينهى عن صيام العيدين‪ ،‬فعن عمر ‪ ‬أنه‬ ‫ومما يؤكد ذلك أنه‬
‫َقدْ ن ََهاك ُْم َع ْن ِص َيا ِم‬ ‫َّاس‪ ،‬إِ َّن َر ُس َ‬
‫ول اهلل‬ ‫خطب يوم النحر فقال‪َ :‬يا َأ ُّي َها الن ُ‬
‫ون‬‫اآلخ ُر َف َي ْو ٌم ت َْأ ُك ُل َ‬
‫امك ُْم‪َ ،‬و َأ َّما َ‬‫العيدَ ي ِن‪َ ،‬أما َأحدُ هما َفيوم فِ ْط ِركُم ِمن ِصي ِ‬ ‫ه َذي ِن ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫َّ َ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ِمن نُس ِ‬
‫كك ُْم(‪.)2‬‬ ‫ْ ُ‬
‫وذلك أن حال الصيام ال توافق حال الفرح بالعيد والتمتع بنعمة اهلل وما أباح‬
‫يق‬ ‫‪َ « :‬ي ْو ُم َع َر َف َة‪َ ،‬و َي ْو ُم الن َّْح ِر‪َ ،‬و َأ َّي ُ‬
‫ام الت َّْش ِر ِ‬ ‫لعباده وتفضل به عليهم‪ ،‬ولذا قال‬
‫ب»(‪.)3‬‬ ‫ال ْس َلمِ‪َ ،‬و ِه َي َأ َّيا ُم َأك ٍ‬
‫ْل َو ُش ْر ٍ‬ ‫ِعيدُ نَا َأ ْه َل ْ ِ‬

‫((( «سنن النسائي» (‪.)1556‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5571‬و«صحيح مسلم» (‪)1137‬‬
‫((( «سنن أبي داود» (‪.)2419‬‬
‫‪155‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫وعندي‬ ‫ويبين هذا أيض ًا خبر عائشة ‪ ‬قالت‪ :‬دخل علي رسول اهلل‬
‫جاريتان تغنيان بدفين بغناء بعاث‪ ،‬فاضطجع على الفراش‪ ،‬وت ََس ّجى(‪ )1‬بثوبه‪،‬‬
‫وحول وجهه إلى الجدار‪ ،‬وجاء أبو بكر فانتهرهما‪ ،‬وقال‪ :‬مزمارة الشيطان عند‬ ‫ّ‬
‫؟! فكشف النبي وجهه‪ ،‬وأقبل على أبي بكر‪ ،‬وقال‪َ ‌« :‬د ْع ُه َما ‌ َيا‌ َأ َبا‬ ‫النبي‬
‫‌ َبك ٍْر‪‌،‬إِ َّن‌لِك ُِّل‌ َق ْو ٍم‌ ِعيد ًا‪َ ،‬و َه َذا ِعيدُ نَا»(‪.)2‬‬
‫ما فعله الحبشة‪ ،‬حيث‬ ‫ومن مشاهد السرور بالعيد بين يدي النبي‬
‫اجتمعوا في المسجد يرقصون بالدَّ َرق(‪ )3‬والحراب‪ ،‬واجتمع معهم الصبيان حتى‬
‫فنظر إليهم‪ ،‬ثم قال لعائشة‪َ ‌« :‬يا‌ ُح َم ْي َر ُاء‬ ‫علت أصواتهم‪ ،‬فسمعهم النبي‬
‫ين ‌ َأ ْن ‌ َتنْ ُظ ِري ‌إِ َل ْي ِه ْم؟»‪ .‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأقامها‬ ‫ِ‬
‫وراءه خدها على خده‬ ‫‌ َأتُح ِّب َ‬
‫يغريهم‪ ،‬ويقول‪ُ ‌« :‬دو َنك ُْم‌ َيا‌ َبنِي‬ ‫يسترها بردائه‪ ،‬وهي تنظر إليهم‪ ،‬والرسول‬
‫مح ِة»(‪.)4‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫أن‌في‌ ِديننا‌ ُف ْس َح ًة‪ ،‬إني ُب ِع ْث ُ‬
‫ت بِا ْل َحنيف َّية َّ‬
‫الس َ‬ ‫‌ َأ ْرفِدَ ةَ‪‌،‬لِتَع َل َم‌يهو ُد‌ َّ‬
‫فهذه مشاهد الفرح بالعيد ومظاهر السرور والبهجة تقام بين يدي النبي‬
‫فيقرها ويحتفي بها‪ ،‬ولذا قال العلماء إظهار السرور في األعياد من شعار الدين‪.‬‬
‫إال وقد‬ ‫قال قيس بن سعد ‪ :‬ما كان شيء على عهد رسول اهلل‬
‫كان ُي َق َّلس(‪ )5‬له يوم الفطر(‪.)6‬‬ ‫رأيته‪ ،‬إال شيء واحد‪ ،‬فإن رسول اهلل‬
‫وعن عياض األشعري أنه شهد عيد ًا باألنبار فقال‪ :‬ما لي ال أراكم تق ِّلسون؟!‬

‫((( ت ََس َّجى‪َ :‬ت َغ ّطى‪ .‬ينظر‪« :‬النهاية» (‪.)344/2‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2906‬و«صحيح مسلم» (‪.)892‬‬
‫((( الدرق‪ :‬جمع َد َرقة َو ِهي الترس ا َّل ِذي يتَّخذ من ا ْل ُج ُلود‪ ،‬ينظر‪« :‬عمدة القاري» (‪.)267/6‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)988‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)892‬و«سنن النسائي» (‪.)8902‬‬
‫((( التقليس‪ :‬اللعب واللهو‪ .‬ينظر‪« :‬شرح مشكل اآلثار» للطحاوي (‪.)131/4‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪.)15479‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪156‬‬

‫يفعلونه‪ ،‬في رواية‪َ :‬ما لِ َي َل َأ َر ُاه ْم ُي ْق ِل ُس َ‬


‫ون ك ََما‬ ‫كانوا في زمان رسول اهلل‬
‫َي ْف َع ُل َأ ْو َي ْصن َُع؟!(‪.)1‬‬ ‫َان َر ُس ُ‬
‫ول اهلل‬ ‫ك َ‬
‫ال عفوي ًا يفعله كل‬
‫ونالحظ أن إظهار الفرح والتفاعل مع بهجة العيد كان فع ً‬
‫قوم حسب ثقافتهم وموروثهم التقليدي‪ ،‬فالحبشة احتفلوا على طريقة قومهم‬
‫األحباش بالدَّ َرق والحراب والرقص في المسجد‪.‬‬
‫والجاريتان عند عائشة غنتا بتراث قومهم من الدفوف والغناء وأنشدوا‬
‫قصائدهم في الجاهلية أيام بعاث(‪.)2‬‬
‫ولكل قوم وزمان وسائلهم وطرائقهم في اللعب واللهو التي تستوعبها‬
‫مساحة اإلباحة الواسعة في الدين‪.‬‬
‫إن في ديننا فسحة‪ ،‬إن نبينا بعث بالحنيفية السمحة‪.‬‬

‫)‬

‫((( «سنن ابن ماجه» (‪ .)1302‬وينظر‪« :‬العلل» البن أبي حاتم (‪.)575/2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2906‬و«صحيح مسلم» (‪.)892‬‬
‫‪157‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫\‬

‫صورة قديمة لمسجد الغمامة قبل التوسعة‪ ،‬وهو مكان مصلَّى العيد في‬
‫‪ ،‬ويبعد عن المسجد النبوي (‪ 500‬متر) تقريب ًا‬ ‫عهد النبي‬

‫صورة حديثة لمسجد الغمامة بعد توسعة المسجد النبوي‬


‫اليوم النبوي‬ ‫‪158‬‬

‫يوم عاشوراء‬

‫يواظب على صيام عاشوراء وكان يصومه بمكة‪ ،‬وكانت قريش‬ ‫كان‬
‫المدينة صامه‬ ‫تعظمه في الجاهلية‪ ،‬وكان يوم ًا تستر فيه الكعبة‪ ،‬فلما قدم‬
‫وأمر الناس بصيامه‪ ،‬فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فلم يأمر به أمر إلزام‪،‬‬
‫اء َأ ْن َيت ُْر َك ُه َف ْل َيت ُْر ْك ُه»(‪ ،)1‬وهكذا استقر‬ ‫اء‌ َأ ْن‌ َي ُص َ‬
‫وم ُه َف ْل َي ُص ْم ُه‪َ ،‬و َم ْن َش َ‬ ‫وقال‪َ ‌« :‬م ْن‌ َش َ‬
‫األمر على استحباب صومه‪ ،‬وصار األمر بصيامه أمر ترغيب‪.‬‬
‫ورا َء‪،‬‬
‫اش َ‬ ‫الم ِدينَ َة َف َر َأى ال َي ُهو َد ت َُصو ُم َي ْو َم َع ُ‬
‫َ‬ ‫فعن ابن عباس قال‪َ :‬ق ِد َم النَّبِ ُّي‬
‫«ما َه َذا؟»‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬ه َذا َي ْو ٌم َصالِ ٌح‪َ ،‬ه َذا َي ْو ٌم ن ََّجى اهللُ َبنِي إِ ْس َر ِائ َيل ِم ْن‬ ‫َف َق َال‪َ :‬‬
‫وسى‌ ِمنْك ُْم»‪َ .‬ف َصا َم ُه‪َ ،‬و َأ َم َر بِ ِص َي ِام ِه(‪.)2‬‬ ‫وسى‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ف َأنَا‌ َأ َح ُّق‌بِ ُم َ‬
‫ِ‬
‫عَدُ ِّوه ْم‪َ ،‬ف َصا َم ُه ُم َ‬
‫يصوم عاشوراء مفرد ًا‪ ،‬وكان حين قدم المدينة يتحرى‬ ‫واستمر النبي‬
‫موافقة يهود يتألفهم بذلك‪ ،‬ثم صار يخالفهم فعزم بعد على أن يصوم مع‬
‫عاشوراء يوم ًا ليخالف طريقهم‪.‬‬
‫ورا َء َو َأ َم َر‬
‫اش َ‬‫َي ْو َم َع ُ‬ ‫ول اهللِ‬‫فعن ابن عباس ‪ ‬قال‪ِ :‬حي َن َصا َم َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬ ‫بِ ِص َي ِام ِه َقا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫ول اهللِ إِ َّن ُه َي ْو ٌم ُت َع ِّظ ُم ُه ا ْل َي ُهو ُد َوالن ََّص َارى َف َق َال َر ُس ُ‬
‫َّاسع»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َلم ي ْأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ْ َ‬ ‫اء اهللُ ُص ْمنَا ا ْل َي ْو َم الت َ‬ ‫َان ا ْل َعا ُم ا ْل ُم ْقبِ ُل إِ ْن َش َ‬
‫‪َ « :‬فإِ َذا ك َ‬
‫(‪.)3‬‬ ‫ا ْل َعا ُم ا ْل ُم ْقـبِ ُل‪َ ،‬حتَّى ت ُُو ِّف َي َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1592‬و«صحيح مسلم» (‪.)1125‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪.)2004‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1134‬‬
‫‪159‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫يحافظ على صيامه حتى قال ابن عباس‪َ :‬ما َر َأ ْي ُت النَّبِ َّي‬ ‫وقد كان‬
‫الش ْه َر َي ْعنِي‬
‫ورا َء‪َ ،‬و َه َذا َّ‬ ‫‌ َيت ََح َّرى‌ ِص َيا َم َي ْو ٍم َف َّض َل ُه َع َلى َغ ْي ِر ِه إِ َّل َه َذا ال َي ْو َم‪َ ،‬ي ْو َم َع ُ‬
‫اش َ‬
‫َش ْه َر َر َم َض َ‬
‫ان(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫وكان ير ِّغب في صيامه ويذكر فض َله فيقول‪ِ :‬‬
‫ور َاء‪َ ،‬أ ْحتَس ُ‬
‫ب‬ ‫«ص َيا ُم َي ْو ِم ‌ َع ُ‬
‫اش َ‬
‫الس َن َة ا َّلتِي َق ْب َل ُه»(‪.)2‬‬
‫َع َلى اهللِ َأ ْن‌ ُي َك ِّف َر َّ‬

‫)‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2006‬و«صحيح مسلم» (‪.)1130‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1162‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪160‬‬

‫يوم عرفة‬

‫أنه كان يصوم يوم عرفة بالمدينة لما صح عنه من‬ ‫الذي يظهر من حاله‬
‫ب َع َلى اهللِ َأ ْن‌ ُي َك ِّف َر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪‌« :‬ص َيا ُم َي ْو ِم َع َر َف َة‪َ ،‬أ ْحتَس ُ‬ ‫الترغيب في صيامه‪ ،‬فقد قال‬
‫السنَ َة ا َّلتِي َب ْعدَ ُه»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫السنَ َة ا َّلتي َق ْب َل ُه‪َ ،‬و َّ‬
‫َّ‬
‫ولم يرد هذا الثواب في صيام نفل غيره‪ ،‬وذلك لمزيته وعظيم فضله‪ ،‬أما‬
‫ليتقوى على العبادة‬
‫َّ‬ ‫حجة الوداع فقد كان مفطر ًا يوم عرفة‬ ‫عندما حج‬
‫والذكر والدعاء‪.‬‬
‫اخ َت َل ُفوا ِعنْدَ َها َي ْو َم َع َر َف َة فِي َص ْو ِم النَّبِ ِّي‬ ‫فعن أم الفضل بنت الحارث‪َ ،‬أ َّن‌نَاس ًا‌ ْ‬
‫َف َق َال َب ْع ُض ُه ْم‪ُ :‬ه َو َص ِائ ٌم‪َ ،‬و َق َال َب ْع ُض ُه ْم‪َ :‬ل ْي َس بِ َص ِائ ٍم‪َ ،‬ف َأ ْر َس ْل ُت إِ َل ْي ِه بِ َقدَ ِح‬
‫ف َع َلى َب ِع ِير ِه‪َ ،‬ف َش ِر َب ُه(‪.)2‬‬
‫َل َب ٍن َو ُه َو َو ِاق ٌ‬
‫َي ْو َم َع َر َف َة‪َ ،‬ف َأ ْر َس َل ْت‬ ‫َّاس َشكُّوا فِي ِص َيا ِم النَّبِ ِّي‬ ‫وعن ميمونة ‪َ ،‬أ َّن الن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب(‪ )3‬وهو و ِاق ٌ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون(‪.)4‬‬‫َّاس َينْ ُظ ُر َ‬ ‫الم ْوقف َف َش ِر َب منْ ُه َوالن ُ‬ ‫ف في َ‬ ‫إِ َل ْيه‌بِح َل ٍ َ ُ َ َ‬
‫وعن ابن عمر ‪ ‬أنه ُسئل عن صوم يوم عرفة بعرفة فقال‪َ :‬ح َج ْج ُ‬
‫ت ‌ َم َع‬
‫ت َم َع‬ ‫ت َم َع َأبِي َبك ٍْر ‌ َف َل ْم ‌ َي ُص ْم ُه‪َ ،‬و َح َج ْج ُ‬
‫‌ َف َل ْم ‌ َي ُص ْم ُه‪َ ،‬و َح َج ْج ُ‬ ‫النَّبِ ِّي‬

‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1162‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪« .)1661‬صحيح مسلم» (‪.)1123‬‬
‫((( ِ‬
‫الحالب‪ :‬اإلناء الذي يجعل فيه اللبن‪ .‬ينظر‪« :‬الفتح» (‪.)279/4‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ .)1989‬و«صحيح مسلم» (‪.)1124‬‬
‫‪161‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫ان ‌ َف َل ْم ‌ َي ُص ْم ُه‪َ ،‬و َأنَا َل َأ ُصو ُم ُه َو َل آ ُم ُر بِ ِه‬ ‫ُع َم َر ‌ َف َل ْم ‌ َي ُص ْم ُه‪َ ،‬و َح َج ْج ُ‬


‫ت َم َع ُع ْث َم َ‬
‫َو َل َأن َْهى َعنْ ُه(‪.)1‬‬
‫في يوم عرفة حين حج حجة الوداع فقد ذكرته مفص ً‬
‫ال‬ ‫وأما برنامجه‬
‫من طلوع الشمس إلى غروبها في كتاب «كأنك معه»(‪ ،)2‬ولذا تركت ذكره هنا‬
‫اختصار ًا‪.‬‬

‫)‬

‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)5080‬و«جامع الترمذي» (‪.)751‬‬


‫‪ ،‬كأنك معه» للمؤلف (‪.)106-81‬‬ ‫((( ينظر‪« :‬صفة حجة النبي‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪162‬‬

‫شهر رمضان‬

‫شهر رمضان هو موعد اللقاء األول مع تنزل القرآن‪ ،‬واللقاء األول مع روح‬
‫وهو في غار حراء‪.‬‬ ‫القدس يوم نزلت أول آيات القرآن على رسول اهلل‬
‫َ‬
‫عرف اهلل َع َّز َو َج َّل شهر رمضان بأنه‪﴿ :‬ش ۡه ُر‬
‫وكان هذا في شهر رمضان‪ ،‬ولذا َّ‬
‫َ َّ َٰ ّ َ ُۡ َ ٰ َ ُۡ ۡ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُۡ َۡ ُ ُٗ ّ‬ ‫َ َ َ َ َّ ٓ ُ َ‬
‫ان﴾‪.‬‬
‫ت مِن ٱلهدى وٱلفرق ِ‬ ‫رمضان ٱلِي أنزِل فِيهِ ٱلقرءان هدى ل ِلن ِ‬
‫اس وبيِن ٖ‬
‫ولذا جعله اهلل َع َّز َو َج َّل موعد المدارسة القرآنية السنوية بين جبرائيل ومحمد‬
‫كل رمضان‪ ،‬فيتدارس هو‬ ‫عليهما السالم‪ ،‬فصار جبرائيل ينزل على نبينا‬
‫وإياه ما نزل من القرآن إلى حين نزوله‪ ،‬وفي كل رمضان يزداد القدر الذي‬
‫يتدارسانه‪ ،‬واستمر هذا اللقاء إلى شهر رمضان من السنة العاشرة‪ ،‬وفيها دارسه‬
‫من تكرار‬ ‫جبرائيل القرآن مرتين(‪ ،)1‬بعد ثالث وعشرين سنة‪ ،‬فعرف النبي‬
‫المدارسة في هذا الشهر أن القرآن قد اكتمل نزوله‪ ،‬فما نزل بعد ذلك إال آيات‬
‫على األرض قد اكتملت وعليه‬ ‫معدودة‪ ،‬وهي إشارة إلى أن مهمة النبي‬
‫أن يته َّيأ للحاق بالرفيق األعلى والمحل األسنى‪.‬‬
‫و ُيحدثنا ابن عباس ‪ ‬عن هذا اللقاء الرمضاني القرآني‪ ،‬بين روح القدس‬
‫بهذا اللقاء الذي يجدد ذكرى اللقاء‬ ‫‪ ،‬وكيف يكون تأثر النبي‬ ‫ونبينا‬
‫ُون فِي‬
‫َان َأ ْج َو ُد َما َيك ُ‬ ‫َّاس‪َ ،‬وك َ‬ ‫َأ ْج َو َد الن ِ‬ ‫َان َر ُس ُ‬
‫ول اهلل‬ ‫األول‪ ،‬فيقول‪ :‬ك َ‬
‫َان َي ْل َقا ُه فِي ك ُِّل َل ْي َل ٍة ِم ْن َر َم َض َ‬
‫ان َف ُيدَ ِار ُس ُه ا ْل ُق ْر َ‬
‫آن‪،‬‬ ‫ان ِحي َن َي ْل َقا ُه ِج ْب ِر ُيل‪َ ،‬وك َ‬
‫َر َم َض َ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪.)4998‬‬


‫‪163‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫يح ا ْل ُم ْر َس َل ِة؛ ما ُسئل شيئ ًا إال أعطاه(‪.)1‬‬


‫الر ِ‬ ‫ِ‬
‫َأ ْج َو ُد بِا ْل َخ ْي ِر م َن ِّ‬ ‫َف َل َر ُس ُ‬
‫ول اهلل‬
‫إن ابن عباس يصور لنا في هذا الحديث النشوة النفسية التي يعيشها النبي‬
‫في رمضان حين تتجدد ذكرى اللقاء األول بجبرائيل ‪ ‬وتتم مدارسة‬
‫القرآن بينهما في هذا الشهر‪ ،‬فيغمر الفرح واألنس قلبه‪ ،‬ويظهر أثر ذلك في‬
‫هذه‪،‬‬ ‫أريحية نفسه وطيبها‪ ،‬وقد وصف ابن عباس أحد مظاهر حالة النبي‬
‫ليس طارئ ًا في رمضان فهو أجود الناس‪،‬‬ ‫َضاعف جوده‪ ،‬فجود النبي‬
‫ُ‬ ‫وهي ت‬
‫ولكنه جود متضاعف لصلة النبي في رمضان بالمأل األعلى وهي مدارسة كالم‬
‫اهلل المنزل عليه مع من نزل به أول مرة‪.‬‬
‫ويا هلل إذا كان هذا جود الرسول فكيف بجود الم ِ‬
‫رسل؟ وإذا كان هذا جود‬ ‫ُ‬
‫المخلوق فكيف بجود الخالق؟!‬
‫ليلة القدر في العشر األواخر منه‪.‬‬ ‫وفي رمضان يتط َّلب النبي‬
‫في العشر األواخر من رمضان نجد أنها‬ ‫وعندما ننظر إلى حياة النبي‬
‫كانت استنفار ًا في طاعة اهلل َع َّز َو َج َّل‪ ،‬واحتشاد ًا للعبادة وتفرغ ًا لها‪.‬‬
‫أنه كان يخلط رمضان بقيام ونوم فإذا دخل العشر األواخر‬ ‫روي عنه‬
‫أحيا ليله‪ ،‬وجعل الليل مفرغ ًا ك َّله للعبادة‪ ،‬من مدارسة القرآن مع جبرائيل‪،‬‬
‫والتهجد‪ ،‬والمناجاة في السحر‪ ،‬فيكون في الليل كله حي ًا‪ ،‬ومن أجمل وأجمع‬
‫في عشر رمضان ما اختصرته لنا أمنا عائشة عندما‬ ‫وصف لحال النبي‬
‫إِ َذا‬ ‫َان َر ُس ُ‬
‫ول اهلل‬ ‫وصفت برنامجه في ليالي العشر من رمضان َقا َل ْت‪ :‬ك َ‬
‫َد َخ َل ا ْل َع ْش ُر َأ ْح َيا ال َّل ْي َل‪َ ،‬و َجدَّ َو َشدَّ ا ْل ِم ْئ َز َر‪َ ،‬و َأ ْي َق َظ َأ ْه َل ُه(‪.)2‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6‬و«صحيح مسلم» (‪.)2308‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2024‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1174‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪164‬‬

‫المعتاد أن يقوم ثلث الليل ثم ينام سدسه‪ ،‬ولكنه في‬ ‫لقد كان شأن النبي‬
‫العشر يحيي الليل كله بالصالة وقراءة القرآن والدعاء والمناجاة إلى أن يوافيه‬
‫وقت السحور إن كان سيتسحر وإال واصل قيامه ودعاءه وذكره إلى الفجر‬
‫وكأنما َي ِض ُّن بهذا الوقت أن يصرف في غير القيام‪.‬‬
‫يخص العشر األواخر من رمضان بعبادات ال يفعلها في غيرها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫ومنها االعتكاف‪ ،‬وهو االنقطاع عن شواغل الدنيا والتفرغ للخلوة باهلل والتعبد‬
‫يعتكف في مسجده في الزاوية الشرقية‬ ‫له في بيت من بيوته‪ ،‬وكان النبي‬
‫الجنوبية؛ ألنها هي التي تفتح على بيته‪ ،‬ويرفع له حصير يحجبه عن الناس‪ ،‬ومرة‬
‫في المسجد معناه االنقطاع عن‬ ‫اعتكف في قبة تركية‪ ،‬واعتكاف النبي‬
‫خلطة الناس‪ ،‬فالصائم يدع الطعام والشراب والمعاشرة الزوجية‪ ،‬والمعتكف‬
‫يدع مع ذلك فضول خلطة الناس ليتفرغ للخلوة بربه‪.‬‬
‫في المسجد‪ ،‬وليس في كهف وال مغارة وال‬ ‫وكان اعتكاف النبي‬
‫تفاعل مع الحياة وليست اعتزاالً للحياة‪،‬‬ ‫صحراء؛ ألن رسالة النبي‬
‫ُ‬
‫َ َ ُ ۡ َ ۡ ُ‬ ‫َ‬‫ٱس َت ُ َّ َ َّ ُ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِين َء َام ُنوا ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫يك ۡم﴾‪.‬‬ ‫﴿يَـٰٓأ ُّي َها ٱل َ‬
‫جيبوا ِلِ ول ِلرسو ِل إِذا دعكم ل ِما يي ِ‬
‫ِ‬
‫يفعلها في العشر مواصلة الصيام‪ ،‬فكان‬ ‫ومن العبادات التي كان النبي‬
‫يواصل اليومين والثالثة بدون إفطار وال سحور‪ ،‬فعجب الصحابة من هذا‬
‫عن األكل للعبادة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬ ‫االنقطاع عن الطعام‪ ،‬وتفرغ النبي‬
‫يت ُي ْط ِع ُمنِي َر ّبي َو َي ْس ِق ِ‬
‫ين»(‪،)1‬‬ ‫«ل‪َ ،‬ل ْست ُْم ِم ْثلِي؛ إِنِّي َأبِ ُ‬
‫نريد أن نواصل مثلك‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫ال يشركه‬ ‫ألن حال اليقين التي كان فيها النبي‬ ‫وهذه خصوصية للنبي‬
‫ورفع إلى مستوى يسمع فيه‬‫فيها أحد‪ ،‬فهو الذي قد ُخرقت له السبع الطباق‪ُ ،‬‬
‫صريف األقالم عند سدرة المنتهى‪ ،‬وك َّلمه ربه في المأل األعلى‪ ،‬ورأى الجنة‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1961‬و«صحيح مسلم» (‪.)1103‬‬
‫‪165‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫وتلذذه بالعبادة ليس‬ ‫رأي عين‪ ،‬ورأى النار رأي عين‪ ،‬ولذلك فأشواقه‬
‫كغيره‪ ،‬ولذلك يكتفي عن األكل والشرب باالستغراق في العبادة‪.‬‬
‫الــز ِ‬ ‫يث ِم ْن ِذك َْر َ‬ ‫َلها َأح ِ‬
‫اد‬ ‫ــن ّ‬‫يهــا َع ْ‬‫اب َو ُت ْل ِه َ‬
‫ــر ِ‬ ‫ــن ّ‬
‫الش َ‬ ‫َع ْ‬ ‫اك ت َْش َغ ُل َها‬ ‫اد ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫و ِمــن ح ِديثِــك فِــي َأ ْع َقابِهــا ح ِ‬ ‫ُور ت َْست َِضي ُء بِ ِه‬
‫ــادي‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َل َها بِ َو ْج ِه َك ن ٌ‬
‫(‪)1‬‬
‫ُر ْو ُح ا ْل ُقــدُ و ِم َفت َْح َيــا ِعنْــدَ ِمي َعــاد‬ ‫الس ْي ِر َأ ْوعَدَ َها‬ ‫ِ‬ ‫إ َذا َشك ْ ِ‬
‫َت م ْن كَالل ّ‬
‫ومن هديه في العشر األواخر من رمضان إيقاظ أهله للصالة‪ ،‬مع أنه كان‬
‫يوقظهم في األحايين أثناء العام ليصلوا ما يطيقون‪ ،‬لكنه في هذه المناسبة‬
‫يحضهم على المشاركة في القيام واغتنام الليالي الفاضلة‪ ،‬قال َع ِل ُّي ْب ُن َأبِي‬
‫اخ ِر ِم ْن َش ْه ِر‬ ‫وق ُظ َأه َله فِي ا ْلع ْش ِر ْالَو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ول اهلل‬ ‫َان َر ُس ُ‬ ‫ب ‪ :‬ك َ‬ ‫َطالِ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‪َ ،‬وك َُّل َصغ ٍير َوكَبِ ٍير‌ ُيط ُيق‌ َّ‬
‫الص َل َة(‪.)2‬‬ ‫َر َم َض َ‬
‫َّ َ ٰ ِ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ُ َ‬ ‫َُۡ ۡ َ ۡ َ َ‬
‫ب َعل ۡي َهاۖ ل ن ۡس َـٔلك‬
‫ويتحرى في ذلك تحقيق أمر اهلل‪﴿ :‬وأمر أهلك بِٱلصلوة وٱصط ِ‬
‫ُ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ٗ َّ ۡ‬
‫ن ُن نَ ۡر ُزق َك ۗ َوٱل َعٰقِ َبة ل َِّلتق َو ٰى﴾‪ ،‬ولذا نقلت زوجاته لنا غالب هديه في رمضان‬ ‫رِزقاۖ‬
‫ألنهن كن يشاركنه فيه‪.‬‬
‫في عشر رمضان في العبادة وانقطاعه لها إال أنه‬ ‫ومع استغراق النبي‬
‫ال بالبر واإليناس مع أهله غير منقطع عنهم‪ ،‬تقول عائشة ‪ :‬ك َ‬
‫َان‬ ‫كان متواص ً‬
‫َان َل‬
‫ف‪َ ،‬وك َ‬ ‫يدْ نِي إِ َلي ر ْأسه‪َ ،‬ف ُأرج ُله و َأنَا ح ِائ ٌض‪ ،‬وهو معت ِ‬
‫َك ٌ‬ ‫ول اهلل‬ ‫َر ُس ُ‬
‫َ ُ َ ُْ‬ ‫َّ َ َ ُ َ ِّ ُ َ َ‬ ‫ُ‬
‫النْس ِ‬ ‫يدْ ُخ ُل ا ْلبي َت إِ َّل لِح ِ‬
‫ان(‪.)3‬‬ ‫اجة ْ ِ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ويقيني أن تسريح النبي لشعره ما كان فقط احتياجه هو‪ ،‬وإنما كان ُيلبي فيه‬

‫((( «زاد المعاد» (‪.)31/2‬‬


‫((( «المعجم األوسط» للطبراني (‪.)7425‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2029‬و«صحيح مسلم» (‪.)297‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪166‬‬

‫ُسرح شعر زوجها تسعد بذلك‪ ،‬فمن‬


‫حاجة مشاعر زوجته؛ ألن المرأة وهي ت ِّ‬
‫أن ُيسعد زوجته ف ُيخرج‬ ‫أجمل لحظات القرب هذه اللحظة‪ ،‬فأراد النبي‬
‫ُسرح شعره وتبادله‬
‫إليها رأسه لترجله‪ ،‬ولك أن تتخيل شعور عائشة وهي ت ِّ‬
‫يجمع عبادتين‬ ‫الحديث مع أنه في حال اعتكاف‪ ،‬وهذا الفعل من النبي‬
‫في وقت واحد؛ االعتكاف‪ ،‬واإلحسان إلى األهل والخيرية معهم‪.‬‬
‫وكان زوجاته يجتمعن عنده في الليل وهو معتكف‪ ،‬فما جعل‬
‫االعتكاف انقطاع ًا عن الحياة‪ ،‬فتأتي إليه زوجاته في الليل مع أنه ممنوع من‬
‫المباشرة‪ ،‬ولكن هناك حاجة نفسية بين الزوجين وهي الحديث والتخاطب‬
‫والمؤانسة؛ فيجتمعن عنده ويتحدثن إليه ثم يذهبن واحدة إثر أخرى‪.‬‬
‫وفي إحدى الليالي ولعلها كانت ليلة صفية ‪ ‬أطالت الجلسة عنده حتى‬
‫فلما أرادت أن ترجع إلى بيتها وكان بيتها خارج‬ ‫ذهبت كل نساء النبي‬
‫يماشيها ويؤانسها في الطريق إلى أن تصل‬ ‫المسجد قا َم َم َع َها النَّبِ ُّي‬
‫اب ا ْل َم ْس ِج ِد َم َّر بِ ِه َما َر ُجال َِن ِم َن األَن َْص ِ‬
‫ار َف َس َّل َما‬ ‫إلى بيتها‪َ ،‬حتَّى إِ َذا َب َل َغ ْت َب َ‬
‫ومعه امرأة‪َ ،‬ف َق َال َل ُه َما‬ ‫ُث َّم أسرعا لما رأيا النبي‬ ‫َع َلى رس ِ‬
‫ول اهلل‬ ‫َ ُ‬
‫ْت ُح َي ٍّي»‪َ .‬قاالَ‪ُ :‬س ْب َح َ‬
‫ان اهلل‬ ‫‪َ « :‬ع َلى ِر ْسلِك َُما‪ ،‬إِن ََّما ِه َي َص ِف َّي ُة بِن ُ‬ ‫ول اهلل‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ول اهلل‪َ ،‬و َك ُب َر َع َل ْي ِه َما‪ .‬يعني‪ :‬هل يمكن أن نظن بك سوء ًا؟! ف َق َال‬ ‫َيا َر ُس َ‬
‫ف‬‫يت َأ ْن َي ْق ِذ َ‬
‫ان َي ْج ِري ِم ِن ا ْب ِن آ َد َم َم ْب َلغَ الدَّ مِ‪َ ،‬وإِنِّي َخ ِش ُ‬ ‫الرحيم بأمته‪« :‬إِ َّن َّ‬
‫الش ْي َط َ‬
‫فِي ُق ُلوبِك َُما َش ّر ًا»(‪.)1‬‬
‫وسيئ الظن في قلب هذا المسلم‬ ‫َ‬ ‫إنه مشهد قد يستغله الشيطان فيقذف الشر‬
‫أن ُيطهر قلوبهما حتى ال يتسلل إليها كيد الشيطان ووسوسته‪.‬‬ ‫الخ ِّير‪ ،‬فأراد النبي‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)2038‬و«صحيح مسلم» (‪.)2175‬‬


‫‪167‬‬ ‫�أيام العــام‬

‫يخرج من معتكفه حتى يوصل زوجته إلى‬ ‫فيا ترى ما الذي يجعل النبي‬
‫بيتها ويشعر أنه ال زال معتكف ًا‪ ،‬وأن اعتكافه لم ينقطع؟‬
‫إن إيصال زوجته إلى بيتها ومؤانستها في الطريق في ظالم الليل هي عبادة‬
‫أخرى مع االعتكاف‪ ،‬فإذا كان هذا هو ود النبي مع أهله‪ ،‬وإيناسه لهم وخيريته‬
‫معهم‪ ،‬مع كمال استغراقه تلك األيام في العبادة‪ ،‬فما ظنك بحاله مع أهله في‬
‫سعة الوقت وأنس الحياة؟!‬
‫ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ َ َ ۡ َ َ ّ ُ ْ َ‬
‫﴿يـأيها ٱلِين ءامنوا صلوا عليهِ وسل ِموا تسل ِيما﴾‪.‬‬

‫)‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪168‬‬

‫إحياء ليال خاصة من العام‬

‫يخص شيئ ًا من الليالي بقيام خاص غير ما كان من حاله في‬ ‫ولم يكن‬
‫ليالي العشر األخيرة من رمضان‪.‬‬
‫وأما غيرها من ليالي األسبوع أو ليالي العام كصالة أول رجب‪ ،‬ونصف‬
‫شعبان‪ ،‬والصالة التي في أول ليلة جمعة من رجب‪ ،‬وصالة ليلتي العيدين‪،‬‬
‫فإنها غير‬ ‫وصالة ليلة عاشوراء‪ ،‬وما يروى فيها من أحاديث عن النبي‬
‫؛ قال ابن تيمية‪ :‬هي أحاديث مكذوبة(‪ ،)1‬ولذا‬ ‫صحيحة‪ ،‬ولم تثبت عنه‬
‫فال يشرع تحري ٍ‬
‫ليلة وتخصيصها بقيام غير ما ورد الشرع به‪ ،‬ومن نشط في‬
‫بعض الليالي فزاد في صالته أو أطالها من غير تحر وال تخصيص فقد فعل خير ًا‬
‫‪.‬‬ ‫وأصاب خير ًا‪ ،‬وخير الهدي هدي محمد‬

‫)‬

‫((( ينظر‪« :‬الفتاوى الكبرى» البن تيمية (‪.)358/2‬‬


‫‪169‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫اليومية‬ ‫عبادات الرسول‬

‫في العبادة الديمومة وثبات العمل‪ ،‬فعن‬ ‫مما يتميز به برنامج النبي‬
‫َان َع َم ُل‬ ‫فك َ‬ ‫َع ْلقم َة قال‪َ :‬س َأ ْل ُت ُأ َّم ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن َع ِائ َش َة ُق ْل ُت‪َ :‬يا ُأ َّم ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫يم ًة‪َ ،‬و َأ ُّيك ُْم‬ ‫ِ‬ ‫ص َش ْيئ ًا ِم َن ْالَ َّيا ِم؟ َقا َل ْت‪َ :‬‬ ‫النَّبِ ِّي‬
‫َان َع َم ُل ُه د َ‬
‫«ل‪ ،‬ك َ‬ ‫َان َي ُخ ُّ‬ ‫؟ َه ْل ك َ‬
‫يع؟»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫َان النَّبِ ُّي‬
‫يع َما ك َ‬ ‫ِ‬
‫َي ْستَط ُ‬ ‫َي ْستَط ُ‬
‫وذلك أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع‪ ،‬ولذا َقا َل ْت َع ِائ َش ُة‪ :‬ك َ‬
‫َان‬
‫إِ َذا َع ِم َل َع َم ً‬
‫ال َأ ْث َب َت ُه(‪ ،)2‬أي‪ :‬استمر عليه وداوم‪ ،‬وذلك أن تراكم‬ ‫َر ُس ُ‬
‫ول اهللِ‬
‫القليل المستمر أكثر من الكثير المنقطع‪.‬‬
‫الز ِم االستمرار ال ُي ْس ُر؛ فإن العمل الشاق ال يمكن االستمرار عليه‪،‬‬ ‫ومن ِ‬ ‫ِ‬

‫ال َما تُطِي ُق َ‬


‫ون‪َ ،‬فإِ َّن اهللَ َل َي َم ُّل‬ ‫َّاس ُخ ُذوا ِم َن ْالَ ْعم ِ‬
‫َ‬ ‫‪َ « :‬يا َأ ُّي َها الن ُ‬ ‫ولذا قال‬
‫َحتَّى ت ََم ُّلوا»(‪.)3‬‬
‫يسألون عن عبادته فكأنهم‬ ‫ولما جاء ثالثة من الشباب إلى بيوت النبي‬
‫اج النَّبِ ِّي‬
‫وت َأ ْز َو ِ‬‫ط إِ َلى بي ِ‬ ‫َس بن مالِ ٍك ‪ ‬قال‪ :‬جاء َث َل َث ُة ره ٍ‬
‫ُُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫تقالوها‪ ،‬فعن َأن ِ ْ َ َ‬
‫‪َ ،‬ف َل َّما ُأ ْخبِ ُروا ك ََأن َُّه ْم َت َقا ُّل َ‬
‫وها‪َ ،‬ف َقا ُلوا‪َ :‬و َأ ْي َن‬ ‫ون َع ْن ِع َبا َد ِة النَّبِ ِّي‬
‫‪َ ،‬ي ْس َأ ُل َ‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6466‬و«صحيح مسلم» (‪.)783‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)746‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5861‬و«صحيح مسلم» (‪.)782‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪170‬‬

‫َقدْ ُغ ِف َر َل ُه َما َت َقدَّ َم ِم ْن َذنْبِ ِه َو َما ت ََأ َّخ َر؟! َق َال َأ َحدُ ُه ْم‪َ :‬أ َّما‬ ‫َح ُن ِم َن النَّبِ ِّي‬‫ن ْ‬
‫آخ ُر‪:‬‬ ‫آخ ُر‪َ :‬أنَا َأ ُصو ُم الدَّ ْه َر َو َل ُأ ْفطِ ُر‪َ ،‬و َق َال َ‬ ‫َأنَا َفإِنِّي ُأ َص ِّلي ال َّل ْي َل َأ َبد ًا‪َ ،‬و َق َال َ‬
‫‪َ ،‬ف َح ِمدَ اهللَ َو َأ ْثنَى‬ ‫ول اهللِ‬‫َأنَا َأ ْعت َِز ُل الن َِّسا َء َف َل َأت ََز َّو ُج َأ َبد ًا‪َ ،‬ف َب َل َغ َذلِ َك َر ُس َ‬
‫ون ك ََذا َوك ََذا؟ َأ َما َواهللِ إِنِّي َلَ ْخ َشاك ُْم ِلِ‬ ‫«ما َب ُال َأ ْق َوا ٍم َي ُقو ُل َ‬ ‫ِ‬
‫َع َل ْيه‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫اء‪َ ،‬ف َم ْن َرغ َ‬ ‫َو َأ ْت َقاك ُْم َل ُه‪َ ،‬لكنِّي َأ ُصو ُم َو ُأ ْفط ُر‪َ ،‬و ُأ َص ِّلي َو َأ ْر ُقدُ ‪َ ،‬و َأت َّ‬
‫َزَو ُج الن َِّس َ‬
‫َع ْن ُسنَّتِي َف َل ْي َس ِمنِّي»(‪.)1‬‬
‫وإنما تقالوها ألنهم سألوا عن عبادات معينة وهي القيام والصيام‪ ،‬فتقالوا‬
‫بالنسبة لما يريدون أن يتفرغوا له من عملها‪.‬‬ ‫عمل النبي‬
‫مشغول‬ ‫عامر ك ُّله بالعبادة‪ ،‬حيث إنه‬ ‫ٌ‬ ‫وفاتهم ‪ ‬أن وقت النبي‬
‫بعبادات أخرى هي أفضل من مجرد الصيام والقيام‪ ،‬وهي القيام بشأن أمته دعو ًة‬
‫وهداي ًة‪ ،‬ومتابع ًة ورعاي ًة‪.‬‬
‫ال صالح ًا من‬‫مثل أجر كل من عمل عم ً‬ ‫ُ‬ ‫كما فاتهم ‪ ‬أن للنبي‬
‫البشرية عليه‪ ،‬فانشغاله بتعليم أمته ودعوتهم‬ ‫أمته إلى قيام الساعة لداللته‬
‫‪.‬‬ ‫انشغال باألهم واألفضل في حقه‬
‫ٍ‬
‫شباب تعقبها َفتْرة‪ ،‬وإنما‬ ‫ديمة‪ ،‬وليس ِش َر َة‬ ‫وفاتهم ‪ ‬أن عمل النبي‬
‫عمل يثبته في برنامج حياته ونظام يومه‪ ،‬حتى إنه إذا كسل عن أدائه في وقته‬
‫الص َل ُة ِم َن ال َّل ْي ِل‬
‫َان إِ َذا َفا َت ْت ُه َّ‬
‫ك َ‬ ‫ول اهللِ‬‫يفوته‪ ،‬فعن عائش َة‪َ :‬أ َّن َر ُس َ‬ ‫قضاه ولم ِّ‬
‫ار ثِنْت َْي َع ْش َر َة َر ْك َع ًة(‪.)2‬‬
‫ِم ْن َو َج ٍع َأ ْو َغ ْي ِر ِه َص َّلى ِم َن الن ََّه ِ‬
‫ال فاض ً‬
‫ال فذلك النشغاله بما هو في‬ ‫إذا ترك عم ً‬ ‫وفاتهم ‪ ‬أن النبي‬
‫حقه أفضل منه وأهم وأدوم‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5063‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)1401‬و«سنن النسائي» (‪.)3217‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)746‬‬
‫‪171‬‬ ‫اليومية‬ ‫عبادات الر�سول‬

‫ولذا كان ‪ ‬يصلي من الليل كصالة داود ‪ :‬ينام نصف الليل ويقوم ثلثه‬
‫وينام سدسه(‪.)1‬‬
‫أن أفضل الصيام صيام نبي اهلل داود ‪ ‬كان يصوم يوم ًا‬ ‫وأخبر‬
‫عن صيام يوم‬ ‫لم يكن يصومه‪ ،‬وعندما سئل‬ ‫ويفطر يوم ًا‪ ،‬ولكنه‬
‫منشغل عن‬ ‫ت َأ َّن اهللَ َق َّوانَا لِ َذلِ َ‬
‫ك»(‪ ،)2‬وذلك ألنه‬ ‫وإفطار يومين قال‪َ « :‬ل ْي َ‬
‫الصيام الداودي بعبادات كثيرة متعدية النفع باقية األثر‪ ،‬وهي انشغاله بهداية أمته‬
‫‪.‬‬ ‫ورعايتها‬
‫وهكذا الشأن في أمته من بعده؛ فالعمل الذي يناسب شيخ ًا ك ُبر سنُّه‪ ،‬وتقاعد‬
‫من عمله فيتفرغ للصيام والقيام والذكر ليس هو األفضل لعالم يجلس للناس‬
‫منشغل بالعمل الخيري وتسليط‬ ‫ٍ‬ ‫غني ٍ‬
‫منفق‬ ‫مفتي ًا ومعلم ًا‪ ،‬وداعي ًا وواعظ ًا‪ ،‬أو ٍ‬
‫المال على هلكته في الحق‪.‬‬
‫الر ْح َم ِن ْبن َي ِزيد‪ :‬ك َ‬
‫َان‬ ‫ولذا كان ابن مسعود ‪ُ ‬يق ُّل صوم النفل‪ ،‬قال َع ْبد َّ‬
‫الص َيا َم‪َ ،‬ق َال‪ :‬إِنِّي إِ َذا ُص ْم ُت َض ُع ْف ُت َع ِن‬ ‫َ ِ‬ ‫َعبدُ ا ِ ِ‬
‫الص َيا َم‪َ ،‬ف ُق ْلنَا َل ُه‪ :‬إِ َّن َك تُق ُّل ِّ‬
‫هلل ُيق ُّل ِّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الص َيا ِم‪ ،‬وكذلك النشغاله بالتعليم في الكوفة‬ ‫ب إِ َل َّي م َن ِّ‬ ‫الص َل ُة َأ َح ُّ‬
‫الص َلة‪َ ،‬و َّ‬
‫َّ‬
‫حتى جعل تلك المدينة جامعة علمية‪.‬‬
‫وأدركت حال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه اهلل فرأيت من بذل‬
‫وقته ونفسه في تعليم الناس وقضاء حاجاتهم والقيام بأمورهم ما ال ينقضي منه‬
‫العجب‪ ،‬وكان يقوم بأعمال كثيرة تنوء بالعصبة أولي القوة‪ ،‬وما خلت مائدته‬
‫يوم ًا من أضياف زائرين‪ ،‬وضعفة معتفين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بقليل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بقليل‪ ،‬أو َبعدَ ه‬ ‫انتصف ال َّل ُيل‪ ،‬أو َق ْبله‬
‫((( يدل على هذا حديث ابن عباس في صفة قيام النبي حيث قال‪ :‬حتى َ‬
‫‪ ،‬ثم قال‪ :‬ثم اضطجع حتَّى جا َءه المؤ ِّذ ُن‪ ،‬فقام فص َّلى‬ ‫‪ ،‬وذكر تفاصيل قيام النبي‬ ‫ُ‬
‫رسول ا ِ‬
‫هلل‬ ‫َ‬
‫استيقظ‬ ‫ثم‬
‫بح‪ .‬ينظر‪« :‬صحيح البخاري» (‪ ،)1198‬و«صحيح مسلم» (‪.)763‬‬ ‫خرج فص َّلى ُّ‬
‫الص َ‬ ‫ِ‬
‫خفيفتين‪ ،‬ثم َ‬ ‫ِ‬
‫ركعتين‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)1162‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪172‬‬

‫وحتى يتفرغ لذلك وينشط له ما كان يصوم شيئ ًا من النفل غير عاشوراء؛‬
‫النشغاله بالعمل العام‪.‬‬
‫ولما كتب عبد اهلل بن عبد العزيز العمري العابد إلى اإلمام مالك يحضه على‬
‫االنفراد عن الناس‪ ،‬ويحثه على التفرغ للعبادة والعمل‪ ،‬ويرغب به عن االجتماع‬
‫إليه في العلم‪ ،‬كتب إليه اإلمام مالك‪ :‬إن اهلل عز وجل ‌ َق َّس َم ‌األعمال كما َق َّس َم‬
‫األرزاق‪ُ ،‬فر َّب رجل ُفتح له في الصالة ولم ُيفتح له في الصوم‪ ،‬وآخر ُفتح له‬
‫في الصدقة ولم ُيفتح له في الصيام‪ ،‬وآخر ُفتح له في الجهاد ولم ُيفتح له في‬
‫الصالة‪ ،‬ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر‪ ،‬وقد رضيت بما َفتَح اهلل لي‬
‫فيه من ذلك‪ ،‬وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه‪ ،‬وأرجو أن يكون كالنا على‬
‫خير‪ ،‬ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما ُق ِسم له‪ ،‬والسالم(‪.)1‬‬
‫ولشيخ اإلسالم ابن تيمية كالم رائع يالقي هذا المعنى‪ ،‬قال رحمه اهلل‪:‬‬
‫واألفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس؛ فمن األعمال ما يكون جنسه أفضل‪ ،‬ثم‬
‫يكون تارة مرجوح ًا أو منهي ًا عنه‪ ،‬كالصالة؛ فإنها أفضل من قراءة القرآن‪ ،‬وقراءة‬
‫القرآن أفضل من الذكر‪ ،‬والذكر أفضل من الدعاء‪ ،‬ثم الصالة في أوقات النهي‬
‫ــ كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة ــ منهي عنها‪ ،‬واالشتغال حينئذ إما‬
‫بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك‪ ،‬وكذلك قراءة القرآن أفضل من‬
‫الذكر‪ ،‬ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع‪ ،‬دون قراءة القرآن‪ ،‬وكذلك‬
‫الدعاء في آخر الصالة هو المشروع دون القراءة والذكر‪.‬‬
‫وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون األفضل‪ ،‬فيكون‬
‫أفضل في حقه‪ ،‬كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد‪.‬‬
‫((( «التمهيد» (‪.)185/7‬‬
‫‪173‬‬ ‫اليومية‬ ‫عبادات الر�سول‬

‫ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصالة‪ ،‬ومنهم من يكون الذكر أنفع‬
‫له من القراءة‪ ،‬ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من‬
‫ذكر هو فيه غافل‪.‬‬
‫والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له‪ ،‬وتارة هذا أفضل له‪.‬‬
‫ومعرفة حال كل شخص‪ ،‬وبيان األفضل له ال يمكن ذكره في كتاب‪ ،‬بل ال بد‬
‫من هداية يهدي اهلل بها عبده إلى ما هو أصلح‪ ،‬وما صدق اهللَ عبدٌ إال صنع له‪.‬‬
‫«الله َّم َر َّب‬‫ُ‬ ‫كان إذا قام من الليل يقول‪:‬‬ ‫وفي الصحيح‪ :‬أن النبي‬
‫ب‬ ‫ض‪َ ،‬عالِ َم ا ْل َغ ْي ِ‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫يل‪َ ،‬فاطِر السماو ِ‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫يل‪َ ،‬وإِ ْس َرافِ َ‬ ‫يل‪َ ،‬و ِميكَائِ َ‬ ‫َج ْب َرائِ َ‬
‫ف فِ ِيه‬ ‫اختُلِ َ‬‫ون‪ْ ،‬اه ِدنِي لِ َما ْ‬
‫يما كَانُوا فِ ِيه َيخْ تَلِ ُف َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ْت ت َْحك ُُم َب ْي َن ع َباد َك ف َ‬‫الش َها َد ِة‪َ ،‬أن َ‬‫َو َّ‬
‫اط‌ ُم ْست َِقيمٍ»(‪.)1‬‬
‫َّك‌تَه ِدي‌من‌ت ََشاء‌إِ َلى‌ ِصر ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ك‪ ،‬إِن َ ْ‬ ‫ِم َن ا ْل َح ِّق بِإِ ْذنِ َ‬

‫)‬

‫((( «مجموع الفتاوي» البن تيمية (‪ .)308/22‬والحديث أخرجه مسلم (‪.)770‬‬


‫‪175‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أشد يوم‬

‫‪ ،‬وكان لكل مرحلة من حياته شدائدها‪ ،‬حتى‬ ‫عبرت الشدائدُ حيا َة النبي‬
‫ال تدري أيها أشدُّ ها؟ هل معاناته في حصار ِّ‬
‫الش ْعب‪ ،‬أو فجيعته عام الحزن‪ ،‬أو‬
‫تركه لبلده وهجرته عنها‪ ،‬أو ما أصابه في أحد‪ ،‬أو حصار الخندق يوم األحزاب‪،‬‬
‫أو فجيعته بأصحابه القراء في بئر معونة؟‬
‫فقالت‪:‬‬ ‫لكن عائشة ‪َ ،‬ج َّلت لنا األمر حين سألت رسول اهلل‬
‫َان َأ َشدَّ ِم ْن َي ْو ِم ُأ ُح ٍد؟‪ ،‬فقد كان يوم أحد أشد‬
‫يا رسول اهلل‪َ :‬ه ْل َأتَى َع َل ْي َك َي ْو ٌم ك َ‬
‫‪ ،‬فقد ُقتل فيه أصحابه‪ ،‬وشهد مصرع عمه‬ ‫يوم أدركه وعيها على النبي‬
‫ُ‬‫ووقف على جثمانه وقد ُم ِّث َل به‪ ،‬وأصيب‬
‫فش َّج جبينه وكُسرت َرباعيته(‪،)2‬‬
‫وغاصت حلقتان من ِح َلق ِ‬
‫الم ْغ َفر في وجنته‪ ،‬ونزف الدم على وجهه المقدس‪،‬‬
‫َان َأ َشدَّ‬
‫يت‪َ ،‬وك َ‬ ‫ك َما َل ِق ُ‬ ‫يت ِمن َقو ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫فهل أتى عليه يوم أشد منه؟ فقال لها‪َ « :‬ل َقدْ َلق ُ ْ ْ‬
‫يل ْب ِن َع ْب ِد ُكال ٍَل‪،‬‬ ‫يت ِمن ُْه ْم َي ْو َم ال َع َق َب ِة(‪ ،)3‬إِ ْذ َع َر ْض ُ‬
‫ت َن ْف ِسي َع َلى ا ْب ِن َع ْب ِد َيالِ َ‬ ‫َما َل ِق ُ‬
‫والشدائد»‪.‬‬
‫((( باختصار من «الحياة النبوية» فصل «الرسول‬
‫((( رب ِ‬
‫اع َي ُت ُه‪ :‬هي السن التي تلي الثنية من كل جانب‪ ،‬ولإلنسان ‌أربع ‌رباعيات‪ .‬ينظر‪« :‬شرح النووي على صحيح‬ ‫ََ‬
‫مسلم» (‪.)148/12‬‬
‫((( اختلف في تحديد العقبة‪ ،‬فذهب كثيرون إلى أنها عقبة منى في مكة‪ ،‬وقيل هي العقبة التي في قرن المنازل بين‬
‫عليهم اإلسالم في منى فلم يستجيبوا‬ ‫مكة والطائف‪ ،‬ولعل هذا هو األرجح؛ ألن الذين عرض النبي‬
‫أو يغمه‪ ،‬ولكن الذي أكربه أن يذهب إلى الطائف يعرض عليهم‬ ‫كثيرون‪ ،‬وما كان ذاك يكرب النبي‬
‫دعوتهم فلم يجيبوه وسيعود إلى مكة فيشمتوا به ويزدادوا جراء ًة عليه‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪176‬‬

‫ج ْبنِي إِ َلى َما َأ َر ْد ُت»(‪ ،)1‬وذلك حين ذهب إلى الطائف وعرض دعوته‬
‫َف َل ْم ُي ِ‬
‫عليهم وقابل كبراءهم فلم يجيبوه إلى ما أراد لهم‪ ،‬فاغتم لذلك حيث سيرجع‬
‫إلى قريش والتي زادت جراءتها عليه وأذاها له بعد وفاة عمه أبي طالب‪ ،‬فك ُِرب‬
‫من إعراض أهل الطائف حين دعاهم‪ ،‬ومن شماتة أهل مكة وجراءتهم إذا‬
‫ف ُق َّوتِي‪َ ،‬و ِق َّل َة‬ ‫ك َأ ْشكُو َض ْع َ‬ ‫هم إ َل ْي َ‬
‫رجع إليهم‪ ،‬ودعا ربه بالدعاء المشهور‪« :‬ال َّل ّ‬
‫ين‪َ ،‬و َأن َ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪َ ،‬أن َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِحي َلتِي‪َ ،‬و َه َوانِي َع َلى الن ِ‬
‫ْت‬ ‫ْت َر ُّب ا ْل ُم ْست َْض َعف َ‬ ‫الراحم َ‬ ‫َّاس‪َ ،‬يا َأ ْر َح َم َّ‬
‫إن َل ْم َيك ُْن‬ ‫يد َيت ََج َّه ُمنِي؟ َأ ْم إ َلى َعدُ ٍّو َم َّل ْك َت ُه َأ ْم ِري؟ ْ‬ ‫ربي‪ ،‬إ َلى من تَكِ ُلنِي؟ إ َلى ب ِع ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ِّ‬
‫ك ا َّل ِذي‬ ‫َك ِه َي َأ ْو َس ُع لِي‪َ ،‬أ ُعو ُذ بِن ِ‬
‫ُور َو ْج ِه َ‬ ‫ب َف َل ُأ َبالِي‪َ ،‬و َلكِ َّن َعافِ َيت َ‬ ‫ك َع َل َّي َغ َض ٌ‬ ‫بِ َ‬
‫ك‪َ ،‬أ ْو‬ ‫ات‪َ ،‬و َص ُل َح َع َل ْي ِه َأ ْم ُر الدُّ ْن َيا َو ْال ِخ َر ِة ِم ْن َأ ْن ُتن ِْز َل بِي َغ َض َب َ‬ ‫َأ ْش َر َق ْ‬
‫ت َل ُه ال ُّظ ُل َم ُ‬
‫ك»(‪.)2‬‬ ‫ك ا ْل ُع ْت َبى َحتَّى ت َْر َضى‪َ ،‬و َل َح ْو َل َو َل ُق َّو َة َّإل بِ َ‬ ‫ك‪َ ،‬ل َ‬‫ح َّل َع َل َّي ُسخْ ُط َ‬ ‫ي ِ‬
‫َ‬
‫في حال من الكرب حين عاد إلى مكة‪ ،‬يسير مستغرق ًا ال يشعر بما‬ ‫وكان‬
‫ت َو َأنَا َم ْه ُمو ٌم َع َلى َو ْج ِهي‪َ ،‬ف َل ْم َأ ْست َِف ْق إِ َّل َو َأنَا بِ َق ْر ِن‬ ‫‪َ « :‬فا ْن َط َل ْق ُ‬ ‫حوله قال‬
‫يل‪،‬‬ ‫ت َر ْأ ِسي‪َ ،‬فإِ َذا َأنَا بِ َس َحا َب ٍة َقدْ َأ َظ َّلتْنِي‪َ ،‬فنَ َظ ْر ُت َفإِ َذا فِ َيها ِج ْب ِر ُ‬ ‫ب َف َر َف ْع ُ‬‫ال َّث َعالِ ِ‬
‫ك‬ ‫ث إِ َل ْي َ‬‫ك‪َ ،‬و َقدْ َب َع َ‬ ‫ك‪َ ،‬و َما َر ُّدوا َع َل ْي َ‬ ‫ك َل َ‬ ‫َفنَا َدانِي َف َق َال‪ :‬إِ َّن اهللَ َقدْ َس ِم َع َق ْو َل َق ْو ِم َ‬
‫ال َف َس َّل َم َع َل َّي‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪:‬‬ ‫الج َب ِ‬
‫ك ِ‬ ‫يه ْم‪َ ،‬فنَا َدانِي َم َل ُ‬‫ْت فِ ِ‬ ‫ال لِت َْأ ُم َر ُه بِ َما ِشئ َ‬
‫الج َب ِ‬‫ك ِ‬ ‫َم َل َ‬
‫ْت َأ ْن ُأ ْطبِ َق َع َل ْي ِه ُم األَ ْخ َش َب ْي ِن»(‪ .)3‬يا هلل‬ ‫ْت‪ ،‬إِ ْن ِشئ َ‬ ‫يما ِشئ َ‬ ‫كف َ‬
‫يا محمدُ ‪َ ،‬ف َق َال‪َ ،‬ذلِ َ ِ‬
‫َ ُ َ َّ‬
‫لهذا النبي يأتيه هذا المدد وهو في ساعة كرب وشدة ومعاناة نفسية هائلة مما‬
‫يتوقعه من جراءة قومه وشماتتهم به‪ ،‬فيأتيه الخيار من ملك الجبال كأنما يقول‬
‫له‪ :‬يا محمد هل يكربك أن يشمتوا بك أو يجترئوا عليك؟ مرني بما شئت‪ ،‬فإن‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3231‬و«صحيح مسلم» (‪.)1795‬‬
‫((( «سيرة ابن هشام» (‪.)420/1‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3231‬و«صحيح مسلم» (‪.)1795‬‬
‫‪177‬‬ ‫�أ�شد يوم‬

‫شئت أطبقت على أهل مكة جبالها‪ ،‬ودفنتهم تحت أحجارها‪ ،‬وكان مصير أهل‬
‫لم يفكر ولم‬ ‫‪ ،‬لو أراد ذلك‪ ،‬ولكنه‬ ‫مكة ساعتها بين شفتي النبي‬
‫‪َ « :‬ب ْل َأ ْر ُجو َأ ْن ُيخْ ِر َج اهللُ ِم ْن‬ ‫ينتظر‪ ،‬وإنما جاء جوابه سريع ًا حاسم ًا فقال‬
‫البِ ِه ْم َم ْن َي ْع ُبدُ اهللَ َو ْحدَ ُه‪ ،‬الَ ُي ْش ِر ُك بِ ِه َش ْيئ ًا»(‪.)1‬‬
‫َأ ْص َ‬
‫الصبر والتحمل واالنتظار‪ ،‬ومكابدة الدعوة‪ ،‬واحتمال‬ ‫لقد اختار‬
‫األذى وانتظار الفرج‪ ،‬ولم يستجب لشهوة االنتقام والتشفي‪ ،‬وإنما كان الذي‬
‫يقوده هد ُفه األكبر وهو هداية أمته واستنقاذها‪ ،‬ولم يكن يحرفه عن هذا الهدف‬
‫ردات الفعل وال شهوات االنتقام‪ ،‬وإن لقى ما لقى وصبر ما صبر‪ ،‬وهل أشد‬
‫من أنه وهو عائد إلى مكة التي كان جده قصي حاكمها‪ ،‬وجده هاشم مطعمها‪،‬‬
‫وجده عبد المطلب سيدها‪ ،‬ثم يقف خارجها ال يدخلها حتى يجيره أحد سادتها‪،‬‬
‫فيدخل مكة بجوار المطعم بن عدي ليكف عنه جراءة قريش؟ أي معاناة نفسية‬
‫احتملها حينئذ حين يفقد أمانه في البلد التي ولد فيها وكان آباؤه سادتها وقادتها‬
‫فال يدخلها إال بحماية وجوار؟ كيف احتمل هذه المعاناة وصبر هذا الصبر‪،‬‬
‫واستدفع الهالك عن مكة وأهلها‪ ،‬وانتظر األجيال القادمة التي يرجو هدايتها‬
‫وإيمانها؟‬
‫وقد أقر اهلل عينه فشهد مصرع أئمة الكفر في بدر‪ ،‬وشهد إسالم أبنائهم الذين‬
‫كان يرجو إيمانهم‪ ،‬ف ُقتل أبو جهل وأسلم ابنه عكرمة‪ ،‬و ُقتل أمية بن خلف وأسلم‬
‫ابنه صفوان‪ ،‬و ُقتل عتبة بن ربيعة وأسلم ابنه أبو حذيفة وبنته هند‪ ،‬و ُقتل عقبة ابن‬
‫أبي معيط وأسلمت بنته أم كلثوم‪ ،‬وهلك الوليد بن المغيرة وأسلم أبناؤه الوليد‬
‫وخالد‪ ،‬وجاء نصر اهلل والفتح‪ ،‬ودخل الناس في دين اهلل أفواج ًا‪ ،‬وحج حجة‬
‫الوداع ومعه أكثر من مئة ألف جاؤوا من نواحي الجزيرة كلها‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3231‬و«صحيح مسلم» (‪.)1795‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪178‬‬

‫في الشدة ال يفقد أمله ويقينه‪ ،‬فهو في الشدائد متفائل‬ ‫وهكذا كان‬
‫ومستبشر‪ ،‬ويظهر أم ُله في موقفه مع ملك الجبال حين قال له‪َ « :‬ب ْل َأ ْر ُجو َأ ْن‬
‫هلل َو ْحدَ ُه‪ ،‬الَ ُي ْش ِر ُك بِ ِه َش ْيئ ًا»(‪ .)1‬فأمله ممتد إلى‬ ‫ُيخْ ِر َج اهللُ ِم ْن َأ ْص َ‬
‫البِ ِه ْم َم ْن َي ْع ُبدُ ا َ‬
‫لج المأل في غلوائهم‪.‬‬ ‫األجيال القادمة وإن ّ‬
‫وكذا حين لحقه سراقة في طريق الهجرة وقد ن َِذ َرت به القبائل‪ ،‬فكان يسير‬
‫والرصد أمامه‪ ،‬والطلب خلفه‪ ،‬فلما ساخت قوائم فرس سراقة وعلم عجزه‬
‫في غاية التفاؤل يبشره‬ ‫طلب أن يكلمهم‪ ،‬فلما وصل إليهم وجد النبي‬
‫بسواري كسرى‪ ،‬وكانت مفاجأة أخرى لسراقة فقال‪ :‬كسرى أنو شروان؟ قال‪:‬‬
‫«نعم»‪ .‬فخاف سراقة أن هذا الذي سيبلغ ملكه ملك كسرى سيطلبه وينتقم‬
‫منه بعد ذلك‪ ،‬فطلب منه كتاب أمان هو أعجب كتاب أمان في التاريخ‪ ،‬يمنحه‬
‫المطلوب للطالب‪ ،‬فكتبه له أبو بكر وأعطاه إياه(‪ ،)2‬ومثله استبشاره يوم الخندق‬
‫بفتوح الشام وفارس واليمن مع ما كان فيه المسلمون من شدة الحصار‪ ،‬وجهد‬
‫الجوع‪ ،‬وكرب الخوف‪.‬‬
‫وهكذا هو في ذروة األزمات والشدائد ُي ِّ‬
‫بشر بتفاؤل‪ ،‬وينظر إلى موعود اهلل‬
‫بيقين وكأنه رأي عين‪.‬‬
‫يستصحب ذكريات الشدائد وآالمها بعد تجاوزها‪ ،‬وفي هذا‬ ‫ولم يكن‬
‫عن أشد ما‬ ‫الحديث مشهد واضح من ذلك‪ ،‬فإن عائشة لو لم تسأل النبي‬
‫لقي مما هو أشد من ُأحد لما علمنا بذلك‪ ،‬وال يوجد الخبر عن هذا الكرب في‬
‫غير هذا الحديث‪.‬‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3231‬و«صحيح مسلم» (‪.)1795‬‬


‫((( «االستيعاب» البن عبد البر (‪.)148/2‬‬
‫‪179‬‬ ‫�أ�شد يوم‬

‫لم يكن يتحدث به‪ ،‬وال يجدد ذكراه‪ ،‬وإنما تجاوزه كما‬ ‫وذلك أن النبي‬
‫تجاوز أحزان ًا وشدائد كثيرة‪.‬‬
‫ومثل ذلك مصيبته في ُأحد لم يجعلها مأتم ًا يتذكره ويجدد أحزانه‪ ،‬بل قال‬
‫حبنَا ون ِ‬
‫ِ‬
‫ُح ُّب ُه»(‪ ،)1‬ومع‬ ‫«ه َذا ُأ ُحدٌ َج َب ٌل ُي ُّ َ‬
‫عن جبل ُأحد الذي وقعت عنده المصيبة‪َ :‬‬
‫شدة حبه لخديجة إال أنه كان يذكر حبها وال يذكر حزنه بفقدها فيقول‪‌« :‬إِن ََّها‬
‫َت‪َ ،‬و‌إِنِّي‌ ُر ِز ْق ُ‬
‫ت‌ ُح َّب َها»(‪.)2‬‬ ‫َت‌ َوكَان ْ‬
‫‌كَان ْ‬
‫القدرة على استئناف الحياة‪ ،‬وتجديد العزيمة‪ ،‬فال يتجاوز‬ ‫وكان عنده‬
‫شدة إال وهو أقوى عزم ًا و َأشدَّ مضاء‪ ،‬يستقبل أمله وال يجتر ألمه‪ ،‬ولذا لما‬
‫هاجر إلى المدينة من بلده مكة التي هي أحب البالد إلى اهلل وإليه‪ ،‬لم يجعل‬
‫تذكُّر منازله ومرابعه وذكرياته فيها حدي َثه وشاغ َله‪ ،‬وإنما استأنف الحياة وكأنه‬
‫انفصل عن ذلك الماضي تمام ًا وتوجه إلى المستقبل ُقدُ م ًا‪ ،‬وسرى ذلك إلى بقية‬
‫المهاجرين فال تجد مشاريعهم متوقفة‪ ،‬وال نفوسهم متطلعة للعودة إلى بلدتهم‬
‫ودورهم‪ ،‬بل كان من حكمة الشارع أن حرم عليهم العودة إلى مكة أو اإلقامة‬
‫بها فوق ثالث‪.‬‬
‫وعندما عاد إلى مكة فاتح ًا نزل األبطح ولم يسأل عن بيوته ورباعه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫يل ِم ْن َمن ِْز ٍل؟»(‪.)3‬‬
‫«و َه ْل ت ََر َك َلنَا َع ِق ٌ‬
‫َ‬
‫وهكذا فقه الصحابة منه هذه الروح؛ فما إن نفضوا أيديهم من تراب قبره‬
‫بعد مصيبتهم بوفاته والتي هي أعظم المصائب في حياتهم حتى استأنفوا‬
‫حياتهم‪ ،‬وانطلقوا في مشروعهم‪ ،‬وهو نشر رسالة نبيهم‪ ،‬وساحت جيوشهم‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ .)4422‬و«صحيح مسلم» (‪.)1392‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3818‬و«صحيح مسلم» (‪.)2435‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4282‬و«صحيح مسلم» (‪.)1351‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪180‬‬

‫إلى البشرية ولكن لتبشر بدينه ورسالته‪،‬‬ ‫في األرض ال لت ِ‬


‫َنعي رسول اهلل‬
‫تجاه‬ ‫واستأنفوا مسيرة البالغ والدعوة‪ ،‬وتحملوا مسؤولية ما بعث به‬
‫البشرية‪ ،‬وتناثرت قبورهم بين القارات الثالث رس ً‬
‫ال لرسول اهلل ومبعوثين بما‬
‫بعث به‪.‬‬
‫فيتل َّقاها بالرضا والتسليم‪،‬‬ ‫وهكذا كانت الشدائد تعبر حياة النبي‬
‫ويتحملها بالصبر الجميل‪ ،‬ويحتسب شدتها وألواءها‪ ،‬وال يفقد عندها أمله‬
‫واستبشاره‪ ،‬ويستأنف الحياة بعد كل شدة أقوى عزيمة وأمضى عزم ًا‪.‬‬

‫)‬
‫‪181‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫قرن الثعالب‪ ،‬ويسمى قرن المنازل بين مكة والطائف‪،‬‬


‫يبعد عن الطائف (‪45‬كم) تقريب ًا‬
‫‪183‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أسعد يوم‬

‫هل هو يوم بدر؟ أو يوم فتح مكة؟‬ ‫تفكرت في أسعد يوم مر على النبي‬
‫ََۡۡ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ‬
‫كمۡ‬ ‫أو يوم عرفة في حجة الوداع حين أنزل اهلل عليه‪﴿ :‬ٱلوم أكملت لكم دِين‬
‫ُ َ ُ ُ ۡ َ‬ ‫ََۡ َ ۡ ُ َ َۡ ُ‬
‫ٱل ۡسل ٰ َم د ِٗينا﴾‪ ،‬فأيها يا ترى هو األسعد منها‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫يت‬‫ض‬‫ِ‬ ‫ك ۡم ن ِۡع َمت َو َ‬
‫ر‬ ‫ِ‬ ‫وأتممت علي‬
‫؟‬ ‫لرسول اهلل‬
‫لقد كانت كلها من مشاهد الفرح بفضل اهلل ورحمته‪ ،‬ولكل منها فرحته‬
‫وسعادته‪ ،‬ولكن الذي يظهر ــ واهلل أعلم ــ أن أسعد يوم في حياة النبي‬
‫‪:‬‬ ‫هو يوم لقائه ربه‪ ،‬وأن فرحه به أعظم من كل فرح‪ ،‬ومما يبين ذلك قوله‬
‫الم ْؤ ِم َن‬
‫اء ُه‪َ ..‬فإِ َّن ُ‬
‫ِ‬
‫اء اهللِ ك َِر َه اهللُ ل َق َ‬
‫ِ‬
‫اء ُه‪َ ،‬و َم ْن ك َِر َه ل َق َ‬
‫ِ‬
‫ب اهللُ ل َق َ‬ ‫هلل َأ َح َّ‬
‫اء ا ِ‬ ‫«من َأح ِ‬
‫ب ل َق َ‬‫َ ْ َ َّ‬
‫ب إِ َل ْي ِه ِم َّما َأ َم َام ُه‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫ان اهللِ َوك ََر َامته‪َ ،‬ف َل ْي َس َش ْي ٌء َأ َح َّ‬ ‫الم ْو ُت ُب ِّش َر بِ ِر ْض َو ِ‬‫إِ َذا َح َض َر ُه َ‬
‫ِ‬ ‫َف َأح ِ‬
‫اء ُه»(‪ ،)2‬فإذا كان المؤمن يفرح عند االحتضار بلقاء‬ ‫ب اهللُ ل َق َ‬ ‫اء اهللِ َو َأ َح َّ‬
‫ب ل َق َ‬‫َ َّ‬
‫اهلل لتلقيه البشائر عند نزع روحه‪ ،‬فكيف بمن تلقى البشرى في حياته ورأى‬
‫خبر رؤياه‬ ‫منازله في الجنة‪ ،‬وعلم موعود اهلل له في اآلخرة؟ فقد ذكر‬
‫الطويل وفيه أنه دخل الجنة مع جبرائيل وميكائيل‪ ،‬ورأى فيها منازل الشهداء‪،‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ك‪ ،‬قال‪َ :‬فر َفع ُ ِ‬
‫اب‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ت َر ْأسي‪َ ،‬فإِ َذا َف ْوقي م ْث ُل َّ‬
‫الس َح ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫«ار َف ْع َر ْأ َس َ‬
‫ثم قاال له‪ْ :‬‬
‫((( باختصار من كتاب «القبر المقدس»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6507‬و«صحيح مسلم» (‪.)2683‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪184‬‬

‫ك ُع ُم ٌر َل ْم ت َْس َتك ِْم ْل ُه‪َ ،‬ف َل ِو‬


‫ت‪َ :‬د َعانِي َأ ْد ُخ ْل َمن ِْزلِي‪َ ،‬ق َال‪ :‬إِ َّن ُه َب ِق َي َل َ‬ ‫ك‪ُ ،‬ق ْل ُ‬ ‫اك َمن ِْز ُل َ‬
‫َذ َ‬
‫ك»(‪.)1‬‬ ‫ت َمن ِْز َل َ‬ ‫ت َأ َت ْي َ‬‫ْاس َتك َْم ْل َ‬
‫فما ظنك بأشواقه إلى ربه وقد ُرفع إلى سدرة المنتهى‪ ،‬ورأى حجاب النور‬
‫«ر َأ ْي ُ‬
‫ت نُور ًا»(‪.)2‬‬ ‫اإللهي‪ ،‬ولما سئل‪ :‬هل رأيت ربك؟ قال‪َ :‬‬
‫فلم يكن بينه وبين لقاء ربه ودخول قصره في الجنة إال أن يستتم عمره في‬
‫الدنيا‪ ،‬ولذا عاش عمره في حال انتظار وتشوق لهذه الساعة التي يستتم فيها‬
‫عمره‪ ،‬وينقلب فيها إلى موعود ربه‪ ،‬وكان وهو في الدنيا يتطلع إلى اآلخرة؛‬
‫ففيها أشواقه ومرادات نفسه‪ ،‬ولذا عاش في الدنيا متبلغ ًا منها بالغ العابر‪ ،‬ال‬
‫«ما َأنَا فِي الدُّ ْن َيا إِ َّل ك ََراكِ ٍ‬
‫ب ْاس َت َظ َّل‬ ‫ال وال مستكثر ًا‪ ،‬ووصف حاله فيها فقال‪َ :‬‬ ‫متأث ً‬
‫ٍ‬
‫اح َوت ََرك ََها»(‪ .)3‬وهكذا كانت الدنيا في نظره‪ ،‬بالغ يسير‪ ،‬وقنطرة‬ ‫ت َش َج َرة ُث َّم َر َ‬‫ت َْح َ‬
‫َ‬
‫ق﴾‪.‬‬ ‫ٱللِ َخ ۡي‪َ ٞ‬وأ ۡب َ ٰ‬
‫َ َّ‬
‫عبور إلى ما عند اهلل‪َ ﴿ ،‬و َما عِند‬

‫وقد هيأه اهلل لهذه النُّقلة‪ ،‬وجاءته البشائر تخبره بأمارات اللحاق بالرفيق‬
‫َ َ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ‬ ‫َ َ ٓ َ َ ۡ ُ َّ َ ۡ َ ۡ ُ‬
‫ِين‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ف‬‫األعلى‪ ،‬فأنزل اهلل عليه‪﴿ :‬إِذا جاء نص ٱللِ وٱلفتح ‪ 1‬ورأيت ٱنلاس يدخل ِ‬
‫ون‬
‫َ‬
‫ٱس َتغفِ ۡرهُۚ إِنَّ ُهۥ ك َن تَ َّوابَۢا﴾‪ ،‬قال ابن عباس‪ُ :‬ه َو َأ َج ُل‬
‫َ َ ّۡ َۡ َّ َ َ ۡ ۡ‬
‫اجا ‪ 2‬فسبِح ِبم ِد ربِك و‬ ‫ٱللِ أَ ۡف َو ٗ‬
‫َّ‬
‫َ َ ٓ َ َ ۡ ُ َّ ۡ‬
‫ال َم ُة‬
‫اك َع َ‬‫ٱللِ َوٱل َف ۡت ُح﴾ َفت ُْح َم َّك َة‪َ ،‬ف َذ َ‬ ‫َأ ْع َل َم ُه اهللُ َل ُه‪ ﴿ :‬إِذا جاء نص‬ ‫رس ِ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ ّۡ َۡ َّ َ َ ۡ ۡ‬
‫ٱس َتغفِ ۡرهُۚ إِنَّ ُهۥ ك َن تَ َّوابَۢا﴾(‪.)4‬‬ ‫ك‪﴿ :‬فسبِح ِبم ِد ربِك و‬ ‫َأ َج ِل َ‬
‫َ َ ٓ َ َ ۡ ُ َّ‬
‫ص ٱللِ‬ ‫ت َع َل ْي ِه‪﴿ :‬إِذا جاء ن‬ ‫ال ًة َب ْعدَ َأ ْن ن ََز َل ْ‬
‫َص َ‬ ‫قالت عائشة‪َ :‬ما َص َّلى النَّبِ ُّي‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪.)1386‬‬


‫((( «صحيح مسلم» (‪.)178‬‬
‫((( «جامع الترمذي» (‪.)2377‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪.)4294‬‬
‫‪185‬‬ ‫�أ�سعد يوم‬

‫َك َر َّبنَا َوبِ َح ْم ِد َك ال َّل ُه َّم ا ْغ ِف ْر لِي»(‪.)1‬‬


‫«س ْب َحان َ‬ ‫َو ۡٱل َف ۡت ُح﴾ إِ َّل ي ُق ُ ِ‬
‫ول ف َيها‪ُ :‬‬ ‫َ‬
‫لقد كان فتح مكة ودخول الناس في دين اهلل أفواج ًا إحدى عالمات قرب‬
‫األجل؛ لداللتها على اكتمال المهمة وحصول البالغ‪ ،‬ولذا ُأمر أن يتهيأ للقاء‬
‫اهلل بكثرة التسبيح واالستغفار‪ ،‬فهو ختام هذه العبادة العظيمة وهي بالغ‬
‫رساالت اهلل‪ ،‬كما تختم عبادة الصالة باالستغفار هلل وذكره‪.‬‬
‫وفي شهر رمضان من سنة عشر دارسه جبرائيل القرآن مرتين‪ ،‬وكان يدارسه‬
‫قبل ذلك في كل سنة مرة‪ ،‬فعلم أن ذلك لقرب أجله‪ ،‬ألنه إشارة إلى أن القرآن‬
‫في البالغ قد انتهت‪ ،‬وأن عليه أن يته َّيأ‬ ‫قد اكتمل نزوله‪ ،‬وأن مهمة النبي‬
‫للحاق بالرفيق األعلى والمحل األسنى‪.‬‬
‫َاس َكك ُْم‪ ،‬لِ َع ِّلي َل‬
‫«خ ُذوا عني من ِ‬
‫َ‬ ‫حج حجة الوداع و َّدع الناس وقال‪ُ :‬‬ ‫فلما َّ‬
‫َأ ْل َقاك ُْم َب ْعدَ َع ِامي َه َذا»(‪.)2‬‬
‫ك إِ َّن ا ْل َع ْي َش َع ْي ُش ْال ِخ َر ِة»(‪ ،)3‬وكأنما‬
‫وسمع يوم عرفة وهو يقول‪َ « :‬ل َّب ْي َ‬ ‫ُ‬
‫جاشت أشواقه إلى اآلخرة ففيها العيش الطيب‪ ،‬والحياة الحقيقة‪.‬‬
‫أسر إلى ابنته فاطمة أن أجله قد اقترب‪ ،‬وأنه‬ ‫ولما مرض مرضه األخير َّ‬
‫َان َأ ْش َب َه ك ََلم ًا‬ ‫مقبوض في وجعه ذلك‪ ،‬ف َع ْن َع ِائ َش َة َقا َل ْت‪َ :‬ما َر َأ ْي ُت َأ َحد ًا‪ ،‬ك َ‬
‫َت إِ َذا َد َخ َل ْت َع َل ْي ِه‪َ ،‬قا َم إِ َل ْي َها َو َق َّب َل َها‪،‬‬
‫ِم ْن َفاطِ َم َة‪َ ،‬وكَان ْ‬ ‫َو َح ِديث ًا بِرس ِ‬
‫ول اهللِ‬ ‫َ ُ‬
‫َت ِه َي إِ َذا َد َخ َل َع َل ْي َها َقا َم ْت‬ ‫ب بِ َها‪َ ،‬و َأ َخ َذ بِ َي ِد َها َو َأ ْج َل َس َها فِي َم ْج ِل ِس ِه‪َ ،‬وكَان ْ‬ ‫َو َر َّح َ‬
‫إِ َل ْي ِه َف َق َّب َل ْت ُه َو َأ َخ َذ ْت بِ َي ِد ِه‪َ ،‬فدَ َخ َل ْت َع َل ْي ِه فِي َم َر ِض ِه ا َّل ِذي ت ُُو ِّف َي فِ ِيه‪َ ،‬ف َأ َس َّر إِ َل ْي َها‪،‬‬
‫َس َأ ْلت َُها َع ْن َذلِ َك‪،‬‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َت‪ُ ،‬ث َّم َأ َس َّر إِ َل ْي َها‪َ ،‬ف َض ِحك ْ‬
‫َت‪َ ،‬ف َل َّما ت ُُو ِّف َي َر ُس ُ‬ ‫َف َبك ْ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)817‬و«صحيح مسلم» (‪.)484‬‬
‫((( «السنن الكبرى للنسائي» (‪.)4002‬‬
‫((( «السنن الكبرى» للبيهقي (‪.)9035‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪186‬‬

‫َف َقا َل ْت‪َ :‬أ َس َّر إِ َل َّي َأ َّن ُه َم ِّي ٌت‪َ ،‬ف َب َك ْي ُت‪ُ ،‬ث َّم َأ َس َّر إِ َل َّي َف َأ ْخ َب َرنِي َأنِّي َأ َّو ُل َأ ْه ِل ِه ُل ُحوق ًا بِ ِه‬
‫َت سرور ًا بسرعة لحاقها به(‪.)1‬‬ ‫ْت‪ ،‬وقد ضحك ْ‬ ‫َف َض ِحك ُ‬
‫وهو يخبر فاطمة‪ ،‬لقد أخبرها عن نفسه أنه ميت‪،‬‬ ‫وانظر إلى تعبير النبي‬
‫أما فاطمة فأخبرها أنها أول أهله لحوق ًا به‪ ،‬ولم يقل‪ِ :‬‬
‫أنت أول أهلي موت ًا‪ ،‬ولذا‬
‫تسرها وتضحكها‪ ،‬فهي ستلحق بأبيها الذي سبقها‪.‬‬
‫صار نعي نفسها إليها بشرى ُّ‬
‫باللحاق‬ ‫وإذا كان هذا فرح فاطمة باللحاق بأبيها؛ فكيف بفرح النبي‬
‫(‪)2‬‬
‫بربه وخليله؟‬
‫إلى الناس في شدة مرضه متوكئ ًا على الفضل بن العباس‬ ‫ثم خرج‬
‫عاصب ًا رأسه بعصابة دسماء‪ ،‬وعليه ملحفة متعطف ًا بها على منكبيه‪ ،‬فصعد المنبر‬
‫ولم يصعده بعد ذلك اليوم‪ ،‬ثم جلس والناس مجتمعون حوله‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى‬
‫اء‪َ ،‬و َب ْي َن َما ِعنْدَ ُه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫عليه ثم قال‪« :‬إِ َّن َع ْبد ًا َخ َّي َر ُه اهللُ َب ْي َن َأ ْن ُي ْؤت َي ُه م ْن ز َْه َرة الدُّ ْن َيا َما َش َ‬
‫َاك بِآ َب ِائنَا َو ُأ َّم َهاتِنَا‪ ،‬فعجب الصحابة‬ ‫اخت ََار َما ِعنْدَ ُه»‪َ .‬ف َبكَى َأ ُبو َبك ٍْر َو َق َال‪َ :‬فدَ ْين َ‬ ‫َف ْ‬
‫الش ْي ِخ‪ ،‬إن يكن اهلل َخ َّير عبد ًا َب ْي َن َأ ْن ُي ْؤتِ َي ُه ِم ْن َز ْه َر ِة‬ ‫‪ ‬وقالوا‪ :‬ما ُيبكي َه َذا َّ‬
‫ُه َو‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َان َر ُس ُ‬ ‫الدُّ ْن َيا‪َ ،‬و َب ْي َن َما ِعنْدَ ُه‪ ،‬فاختار ما عنده؟ قال أبو سعيد‪َ :‬فك َ‬
‫ْت مت ِ‬ ‫َان َأ ُبو َبك ٍْر ُه َو َأ ْع َل َمنَا بِ ِه‪َ ،‬و َق َال َر ُس ُ‬
‫َّخذ ًا‬ ‫‪َ « :‬ل ْو ُكن ُ ُ‬ ‫ول اهللِ‬ ‫الم َخ َّي َر‪َ ،‬وك َ‬
‫ُ‬
‫يل‬ ‫اح ُبك ُْم َخلِ ُ‬ ‫ت ابن َأبِي ُقحا َف َة َخلِيالً‪ ،‬و َلكِن ص ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ال َلتَّخَ ْذ ُ ْ َ‬ ‫ض َخلِي ً‬ ‫ِم ْن َأ ْه ِل ْالَ ْر ِ‬
‫اهللِ»(‪ .)3‬فما ظنك بشوق الخليل إلى خليله‪ ،‬ومحبته للقائه؟ وياهلل لهذا النبي‬
‫وهو يذكر خلته لربه وغناه بحبه‪ ،‬وقد عرف قرب أجله فما كان ثم إال أيام قالئل‬
‫فيلحق الخليل بخليله‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3623‬و«صحيح مسلم» (‪ ،)2450‬و«صحيح ابن حبان» (‪.)6953‬‬
‫((( «شرح النووي على صحيح مسلم» (‪.)7/16‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)467‬و«صحيح مسلم» (‪.)2383 ،2382‬‬
‫‪187‬‬ ‫�أ�سعد يوم‬

‫أما يوم السعادة بلقاء اهلل فكان يوم االثنين‪ ،‬وقد عادت إليه عافيته‪ ،‬وال‬
‫أحسبها إال نشوة الفرح بقرب اللقاء‪ ،‬وإذا الجسد الذي أنهكه المرض يستجمع‬
‫قوته‪ ،‬وهو الذي ما كان يقوم وال يمشي إال محموالً بين رجلين يخطان برجليه‬
‫األرض‪ ،‬فاستقبل أول أنفاس الصباح قائم ًا يمشي إلى باب حجرته وينتصب‬
‫واقف ًا أمام أصحابه‪ ،‬وقد عادت إلى وجهه نضرته وبهاؤه‪ ،‬فأشرق لهم وجهه‬
‫الكريم المبارك‪ ،‬بعد أن غاب عنهم خمسة أيام‪ ،‬خيم عليهم فيها الوجوم والحزن؛‬
‫عن محرابه الذي طالما وقف فيه‪ ،‬ففقدوا تكبيره وقرآنه‪،‬‬ ‫لغياب رسول اهلل‬
‫وإشراق مح َّياه أيام ًا‪ ،‬وكان الشيخ المبارك أبو بكر الصديق ‪ ‬يصلي بهم صالة‬
‫ستر حجرته ُيرفع‪،‬‬ ‫الفجر‪ ،‬وهو األسيف الذي ُي َق ِّطع القرآن ببكائه‪ ،‬فما فجأهم إال ُ‬
‫قائم بالباب ينظر إليهم يضحك‪ ،‬وهو يراهم وقوف ًا كما ع َّلمهم‪،‬‬ ‫وإذا هو‬
‫خشوع ًا كما أ َّدبهم‪ ،‬فطفح السرور على وجهه الكريم‪ ،‬فما رأى الصحابة منظر ًا‬
‫وهو ينظر إليهم يضحك‪ ،‬كأن وجهه‬ ‫أعجب إليهم من وجه رسول اهلل‬
‫ورقة مصحف؛ حتى كادوا أن يفتتنوا في صالتهم من الفرح برؤيته‪ ،‬ثم أرخى ستر‬
‫حجرته‪ ،‬فكانت هذه آخر نظرة نظرها إليهم‪ ،‬وآخر نظرة نظروها إليه(‪.)1‬‬
‫ُيو ِّدع الدنيا ويذرف آخر أنفاس الحياة‪،‬‬ ‫فلما تعالى النهار إذا بالنبي‬
‫ويختار لقاء اهلل‪ ،‬وكان بين يدَ ي ِه ركْو ٌة(‪ )2‬فِيها ماء‪َ ،‬فجع َل يدْ ِخ ُل يدَ ي ِه فِي الم ِ‬
‫اء‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ ٌ َ َ ُ‬ ‫َْ َ َ ْ َ َ‬
‫الله َم َأ ِعني َعلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول‪« :‬الَ إِ َل َه إِ َّل اهللُ‪ ،‬إِ َّن ل ْل َم ْوت َسك ََرات‪ُ ،‬‬ ‫َف َي ْم َس ُح بِ ِه َما َو ْج َه ُه‪َ ،‬ي ُق ُ‬
‫وت»(‪.)3‬‬ ‫َرات الم ِ‬ ‫سك ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قالت عائشة‪ :‬وكان رسول اهلل وهو صحيح يقول‪« :‬إِ َّن ُه َل ْم ُي ْق َب ْض َنبِ ٌّي َق ُّط‬
‫الجن َِّة‪ُ ،‬ثم ُيخَ َّي َر»‪َ .‬ف َل َّما ْاش َتكَى َو َح َض َر ُه ال َق ْب ُض َو َر ْأ ُس ُه َع َلى‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى َي َرى َم ْق َعدَ ُه م َن َ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)680‬و«صحيح مسلم» (‪.)419‬‬
‫((( الركوة‪ :‬إنَاء صغير ِمن ج ْل ٍد ي ْشرب فِ ِ‬
‫يه الما ُء‪ ،‬يشبه الدلو الصغير‪ .‬ينظر‪« :‬تاج العروس» (‪.)178/38‬‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ٌ َ ٌ‬
‫((( «سنن ابن ماجة» (‪.)1623‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪188‬‬
‫ف البي ِ‬
‫ت‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪« :‬ال َّل ُه َّم‬ ‫اق َش َخص بصره نَحو س ْق ِ‬ ‫خ ِذي ُغ ِش َي َع َل ْي ِه‪َ ،‬ف َل َّما َأ َف َ‬ ‫َف ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ ُُ ْ َ َ‬
‫يق األَ ْع َلى»‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َذ ْن الَ َي ْخت َُارنَا‪َ ،‬ف َع َر ْف ُت َأ َّن ُه َح ِدي ُث ُه ا َّل ِذي ك َ‬
‫َان ُي َحدِّ ُثنَا‬ ‫الرفِ ِ‬
‫في َّ‬
‫ِ‬
‫يح(‪ ،)1‬وانظر إلى فقه عائشة حيث علمت أنه إذا ُخير فسيختار لقاء اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َو ُه َو َصح ٌ‬
‫فأشواقه وسروره ودار كرامته‪ ،‬وكريم جزائه هناك عند ربه‪ ،‬فما هو إال أن تفارق‬
‫ب َيدَ ُه‪َ ،‬ف َج َع َل‬
‫الروح الجسد حتى يلحق بأكرم جوار وأفضل موعود‪ُ .‬ث َّم ن ََص َ‬
‫الرفِ ِ‬
‫يق األَ ْع َلى»‪َ .‬و َما َل ْت َيدُ ُه(‪.)2‬‬ ‫ي ُق ُ ِ‬
‫ول‪« :‬في َّ‬ ‫َ‬
‫يق ْالَ ْع َلى»‪َ .‬قا َل ْت‪:‬‬‫الرفِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اج َع ْلني َم َع َّ‬
‫ِ ِ‬
‫«الله َّم ا ْغف ْر لي َو ْ‬
‫وكان آخر ما تكلم به‪ُ :‬‬
‫وهو بين يدي عائشة ‪،‬‬ ‫َف َذ َه ْب ُت َأ ْن ُظ ُر‪َ ،‬فإِ َذا ُه َو َقدْ َق َضى(‪ .)3‬وتوفي‬
‫مستند ًا إلى صدرها‪.‬‬
‫َو َر ْأ ُس ُه َب ْي َن َس ْح ِري(‪َ )4‬ون َْح ِري‪َ ،‬ف َل َّما‬ ‫ول اهللِ‬ ‫َقا َل ْت ‪ُ :‬قبِ َض َر ُس ُ‬
‫ب ِمن َْها(‪.)5‬‬
‫َخ َر َج ْت َن ْف ُس ُه‪َ ،‬ل ْم َأ ِجدْ ِريح ًا َق ُّط َأ ْط َي َ‬
‫وفاضت أطهر روح في الدنيا من جسدها‪ ،‬وصعدت إلى بارئها راضية‬
‫مرضية‪ ،‬وخرج أكرم إنسان على اهلل تعالى في هذا الوجود من الدنيا كما جاء‬
‫إليها‪ ،‬ولم يترك ماالً وال متاع ًا‪ ،‬وال ولد ًا إال فاطمة عليها السالم‪ ،‬وإنما ترك‬
‫هداية وإيمان ًا‪ ،‬وشريعة عامة خالدة‪ ،‬وميراث ًا نوراني ًا عظيم ًا(‪.)6‬‬
‫واألكــم‬
‫ُ‬ ‫فطــاب مــن طيبهــن القــاع‬ ‫يا خير من ُدفنت بالقاع أعظمه‬
‫فيــه العفــاف وفيــه الجــود والكــر ُم‬ ‫نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4463‬و«صحيح مسلم» (‪.)2444‬‬


‫((( «صحيح البخاري» (‪.)4449‬‬
‫((( «صحيح مسلم» (‪.)2191‬‬
‫((( السحر‪ :‬موضع الرئة‪ ،‬ويراد به هنا الصدر‪ .‬ينظر‪« :‬عمدة القاري» (‪.)70/18‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)24905‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)1389‬و«صحيح مسلم» (‪.)2443‬‬
‫((( باختصار من «السيرة النبوية الصحيحة في ضوء القرآن والسنة» للدكتور محمد أبي شهبة رحمه اهلل (‪.)594/2‬‬
‫‪189‬‬ ‫�أ�سعد يوم‬

‫(‪)1‬‬
‫عنــد الصــراط إذا مــا زلــت القــدم‬ ‫أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته‬
‫انقطع الوحي من السماء‪ ،‬وأظلم من المدينة كل شيء‪ ،‬وكانت‬ ‫وبوفاته‬
‫‪َ « :‬فإِ َّن َأ َحد ًا ِم ْن ُأ َّمتِي َل ْن‬ ‫المصيبة به أعظم المصائب على األمة كما قال‬
‫اب بِ ُم ِصي َب ٍة َب ْع ِدي َأ َشدَّ َع َل ْي ِه ِم ْن ُم ِصي َبتِي»(‪.)2‬‬
‫ُي َص َ‬
‫فهو الذي لم يوجد مثله يوم ُوجد‪ ،‬ولن ُيفقد مثله يوم ُفقد‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وال مثلــه حتــى القيامــة يفقــد‬ ‫وما َف َقدَ الماضون مثل محمد‬
‫ذهب الرسول وبقيت الرسالة‪ ،‬وتوفي الداعي وبقيت الدعوة‪ ،‬ومات النبي‬
‫وبقيت األمة‪.‬‬
‫بعد أن أكمل اهلل به الدين‪ ،‬وأتم النعمة‪ ،‬ورضي اإلسالم دين ًا‪،‬‬ ‫توفي‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ ۡ َ ُ ۡ َ َۡ ُ َ ۡ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ََۡ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱل ۡسل ٰ َم د ِٗينا﴾‪.‬‬ ‫ك ۡم ن ِۡع َمت َو َر ِ ُ‬
‫ضيت لكم ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َمل ُ‬
‫ت لكم دِينكم وأتممت علي‬ ‫﴿ٱلوم أ‬
‫بعد أن ب َّلغ الرسالة‪ ،‬وأدى األمانة‪ ،‬وترك أمته على المحجة‬ ‫توفي‬
‫البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها إال هالك‪.‬‬
‫ثاويــا‬ ‫وال تَنــس َقبــر ًا بِالمدين ِ‬
‫َــة ِ‬ ‫كان ِ‬
‫باكيا‬ ‫َ‬ ‫سول اهللِ َمن‬‫بك َر َ‬ ‫لِي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ا و ِ‬ ‫َجزى اهللُ َعنّا ك َُّل َخ ٍير ُم َح َّمدا‬
‫هاديــا‬ ‫كان َمهد ّيــ ًا َدليــ ً َ‬
‫َ‬ ‫َف َقــد‬
‫ين كَمــا ِهيــا‬ ‫َوآثــار ُه بِالم ِ‬
‫ســجدَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فض َل َمن َمشى‬ ‫سول اهللِ َأ َ‬
‫َأتَنسى َر َ‬
‫و َأكرمهــم بيتــ ًا و ِشــعب ًا و ِ‬
‫واديــا‬ ‫الناس ُك ِّل ِهم‬
‫ِ‬ ‫الناس بِ‬
‫ِ‬ ‫كان َأ َب َّر‬
‫َو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُ‬
‫ِ (‪)4‬‬ ‫ِ‬ ‫َفكَم ِمن َم ٍ‬
‫َومــن َع َل ـ ٍم َأمســى َو َأص َبـ َ‬
‫ـح عافيــا‬ ‫وض َح ُه َلنا‬‫كان َأ َ‬‫َ‬ ‫نار‬

‫((( «الفتوحات الربانية» للصديقي (‪.)28/3‬‬


‫((( «سنن ابن ماجه» (‪.)1599‬‬
‫((( «سيرة ابن هشام» (‪.)668/2‬‬
‫((( «لطائف المعارف» البن رجب (ص‪.)112-111‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪190‬‬

‫وصاحبيه داخل البيت النبوي‬ ‫رسم تخيلي لقبر النبي‬


‫والقبر النبوي إلى األمام على اليمين وخلفه قبر الصديق‪ ،‬رأسه عند كتف النبي‬
‫وعلى اليسار قبر الفاروق‪ ،‬رأسه عند قدمي النبي‬
‫‪191‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫‪AB‬‬
‫قراءة لليوم النبوي‬

‫النبوي يشكِّل َم ْق َطع ًا ُأفق ّي ًا للحياة النبوية العريضة‪ ،‬يتج َّلى لنا من خالله‬
‫ُّ‬ ‫اليو ُم‬
‫باقة من الدِّ الالت العميقة‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ أن هذا اليوم النبوي هو الوعاء الزماني لإلنجازات الكبرى التي تح َّققت‬
‫‪ ،‬فلم ي ِ‬
‫عرف التاريخ إنجاز ًا تح َّقق على يد بشر كاإلنجاز‬ ‫على يد النبي‬
‫َ‬
‫‪.‬‬ ‫الذي تح َّقق على يد هذا الرسول الكريم العظيم‬
‫السطوع في حياته‬
‫نظرك شدَّ ُة الوضوح إلى درجة ُّ‬
‫يلفت َ‬
‫ْ‬ ‫‪ 2‬ــ ألم‬
‫اليومية؟ فليس في حياته زوايا مظلمة أو حلقات مفقودة‪ ،‬بل كل حاله َج ِل ٌّي‬
‫ظاهر باهر‪ ،‬حتى إنا نعلم حاله في بيته إذا أغلق بابه‪ ،‬وحاله على فراشه إذا نام مع‬
‫أهله‪ ،‬وصوت َن َف ِسه إذا نام‪ ،‬وأول ما يقول إذا استيقظ!‬
‫أكثر مما‬ ‫أعرف عن نبيي‬
‫ُ‬ ‫شعرت وأنا أتت َّبع برنامج اليوم النبوي أني‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫ُم ْش َر َق‬ ‫ففدى له نفسي وأمي وأبي؛ فقد كان‬ ‫ً‬ ‫أعرف عن أبي الذي ولدني‪،‬‬
‫الحياة‪ ،‬كان نب ّي ًا يمشي تحت الشمس‪.‬‬
‫الص َل ِة»(‪.)1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪َ ‌« :‬و ُج ِع َل ْ‬
‫ت‌ ُق َّر ُة‌ َع ْيني‌في‌ َّ‬ ‫‪ 3‬ــ ترى في هذا اليوم تحقيق قوله‬
‫وسنن ًا وقيا َم ليل‪ ،‬فهي منازل‬ ‫فرائض ُ‬ ‫َ‬ ‫فالصلوات منتشرة في مساحة يومه؛‬
‫االستراحة النفسية في مسيرة اليوم‪ ،‬وكأنما يتل َّقى في صالته تلك َمدَ َد‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)12293‬و«سنن النسائي» (‪ ،)8836‬وغيرها‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪192‬‬

‫ربه وفتوحه عليه؛ ليتجدَّ د له بعد كل صالة‪ :‬قوة وعزم و َمضاء‪ ،‬لقد كانت‬
‫الصالة ُق َّرة عينه وراحة نفسه‪ ،‬حتى كأنما يستبطئ الصال َة وقد حان وقتها‪،‬‬
‫فيقول من شدَّ ة شوقه إليها‪َ ‌« :‬أ ِر ْحنَا ‌بِ َها ‌ َيا ‌بِ َل ُل»(‪ .)1‬وال أفصح وال َّ‬
‫أدق في‬
‫تصوير أشواق روحه العالية من قوله‪َ ‌« :‬أ ِر ْحنَا ‌بِ َها»‪ .‬فهذا كمال االتصال بينه‬
‫وبين خالقه(‪.)2‬‬
‫أربعون ركع ًة‪،‬‬
‫َ‬ ‫الراتب بالليل والنهار‬
‫َّ‬ ‫وذكر ابن القيم أن مجموع ِو ْرده‬
‫وعشر ركعات أو ثنتا عشر َة ُسنَّ ًة‬
‫ُ‬ ‫يحافظ عليها دائم ًا؛ سبع َة َع َش َر فرض ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫أربعون‬ ‫ثالث عشر َة ركع ًة قيامه بالليل‪ ،‬والمجموع‬
‫َ‬ ‫راتب ًة‪ ،‬وإحدى عشر َة أو‬
‫فعارض غير راتب‪ ،‬كصالة الضحى‪ ،‬وصالته عند َمن‬
‫ٌ‬ ‫ركعة‪ ،‬وما زاد على ذلك‬
‫يزوره‪ ،‬وتحية المسجد ونحو ذلك‪ ،‬فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد‬
‫لمن َي ْق َر ُع ُه َّ‬
‫كل يوم‬ ‫َ‬
‫وأعجل فت َْح الباب َ‬ ‫أسرع اإلجاب َة‬
‫َ‬ ‫دائم ًا إلى الممات‪ ،‬فما‬
‫مر ًة(‪.)3‬‬
‫وليلة أربعي َن َّ‬
‫وتلذذ ًا بالمناجاة؛ بل‬
‫‪ 4‬ــ صالته بالليل هي أعمق صالته حضور ًا واستغراق ًا ُّ‬
‫هي حالة من حاالت التج ِّلي الروحي واالستغراق التع ُّبدي‪.‬‬
‫النبي الذي تل َّقى بشائر اهلل له أنه قد‬ ‫‪ 5‬ــ يلفت َ‬
‫نظرك إلى حد اإلدهاش‪ ،‬أن هذا َّ‬
‫أكثر الناس استغفار ًا؛ فهو َيستقبل َصبِيح َة‬ ‫ُغ ِف َر له ما تقدَّ م من ذنبه وما َّ‬
‫تأخر‪ ،‬هو ُ‬
‫كل يوم باالستغفار مئة مرة‪ ،‬و ُي َعدُّ له في المجلس الواحد أكثر من مئة مرة‪َ ‌« :‬ر ِّب‬
‫َّك‌ َأن َ‬
‫ُب‌ َع َل َّي‪‌،‬إِن َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ور»(‪ .)4‬ثم يستغفر ر َّبه بضراعة وخشوع‬‫اب‌ا ْل َغ ُف ُ‬
‫ْت‌الت ََّّو ُ‬ ‫‌ا ْغف ْر‌لي‌ َوت ْ‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)23154 ،23088‬و«سنن أبي داود» (‪ ،)4986 ،4985‬وغيرها‪.‬‬
‫((( «سيرة ابن هشام» (‪.)668/2‬‬
‫((( ينظر‪« :‬زاد المعاد» (‪.)327/1‬‬
‫((( تقدم في «المجلس النبوي»‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫ت‌ َو َما‌ َأ َّخ ْر ُت‪َ ‌،‬و َما‌ َأ ْس َر ْر ُت‌ َو َما‌ َأ ْع َلن ُ‬


‫ْت‪،‬‬ ‫في صالته الليلية‪‌« :‬ال َّل ُه َّم‌ا ْغ ِف ْر‌لِي‌ َما‌ َقدَّ ْم ُ‬
‫ْت»(‪.)1‬‬ ‫ْت َأ ْع َل ُم بِ ِه ِمنِّي‪َ ،‬أن َ‬
‫ْت ا ْل ُم َقدِّ ُم َوا ْل ُم َؤ ِّخ ُر‪َ ،‬ل إِ َل َه إِ َّل َأن َ‬ ‫َو َما َأن َ‬
‫تأخر‪ ،‬وهو‬ ‫يستغفر هذا االستغفار‪ ،‬وهو الذي ُغ ِف َر له ما تقدَّ م من ذنبه وما َّ‬ ‫ُ‬
‫المعصوم أن يقارف ذنب ًا أو يكسب إثم ًا‪ ،‬ماذا نقول نحن‪ ،‬وأوقات حياتنا ال تكاد‬
‫اللهم َغ ْفر ًا!‬
‫َّ‬ ‫تفلت من وقوع في خطأ‪ ،‬أو مقارفة لخطيئة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بالذكر؛ بحيث تستشعر أن هذا النبي الكريم يعيش حالة‬ ‫‪ 6‬ــ َل َه ُج ِّ‬
‫النبي‬
‫َ‬
‫جالل ربه‪ ،‬فال يفتُر لسانه‬ ‫من الحب والشوق هلل عز وجل‪ ،‬وكأنه يتراءى‬
‫تتحرك به شفتاه إذا‬‫َّ‬ ‫عن ذكره‪ ،‬فهو أول ما ينطق به إذا استيقظ‪ ،‬وآخر ما‬
‫طب ًا‬
‫نام‪ ،‬يستقبل بالذكر َص َباحات نهاره‪ ،‬و َم َساءات ليله‪ ،‬وال يزال لسانه َر ْ‬
‫بذكر اهلل فيما بين ذلك كله‪ ،‬إنه االستحضار العميق لمعاني العبودية والحب‬
‫واإلجالل هلل عز وجل‪.‬‬
‫إلى أداء الصلوات في أول وقتها‪ ،‬إِ َّل ِ‬
‫العشاء‪ ،‬فربما‬ ‫‪ 7‬ــ تبكير النبي‬
‫تراخى فيها قليالً‪.‬‬
‫إلى أصحابه يكون عقب الصلوات‪ ،‬فكثير ًا ما يكون‬ ‫النبي‬
‫حديث ِّ‬‫ُ‬ ‫‪ 8‬ــ‬
‫الناس في حال نشاط وراحة‪ ،‬فهاتان الصالتان مسبوقتان‬
‫بعد الفجر والظهر؛ ألن َ‬
‫ِ‬
‫بنوم الليل وقيلولة الضحى‪ ،‬ويتحدَّ ث نادر ًا بعد العصر والعشاء؛ ألن َ‬
‫الناس في‬
‫حال كالل وحاجة إلى الراحة‪ ،‬ولم ُينقل أنه تحدَّ ث بعد المغرب؛ ألن الناس‬
‫بعدها بحاجة إلى َعشائهم؛ فلذا يبادر بها في أول وقتها‪ ،‬وال يطيل القراءة فيها‪،‬‬
‫وال يتحدَّ ث بعدها‪.‬‬
‫‪ 9‬ــ التوازن في أداء الحقوق‪ ،‬والتوازن في استيعاب مناشط الحياة؛ فأداؤه‬
‫لعباداته‪ ،‬وبالغه لرساالته‪ ،‬وقيامه بحقوق أهله‪ ،‬وعشرته ألصحابه‪ ،‬ومراعاة‬
‫((( تقدم في «ناشئة الليل»‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪194‬‬

‫حق نفسه‪ ،‬وغير ذلك من متطلباته؛ كل ذلك يسير متوازي ًا متوازن ًا‪ ،‬من غير أن‬
‫حق أو إخالالً بواجب‪ ،‬وإنما االستيعاب المتوازن للحقوق‬ ‫ت ََرى تقصير ًا في ٍّ‬
‫الخاصة والعامة‪ ،‬بحيث ترى في حياته التطبيق العملي ُلوصاته يوم قال‪‌« :‬إِ َّن‬
‫ك َحق ًا‪َ ،‬وإِ َّن‬
‫ك َع َل ْي َ‬ ‫ك ‌ َحق ًا‪َ ،‬وإِ َّن لِز َْو ِج َ‬ ‫ك ‌ َحق ًا‪َ ‌ ،‬وإِ َّن ‌لِ َع ْين ِ َ‬
‫ك ‌ َع َل ْي َ‬ ‫‌لِ َج َس ِد َك ‌ َع َل ْي َ‬
‫ك ‌ح ّق ًا‪‌ ،‬وإِ َّن ‌لِص ِد ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك ‌ َح ّق ًا»(‪ .)1‬وقد‬ ‫ك ‌ َع َل ْي َ‬‫يق َ‬ ‫َ‬ ‫ك َحق ًا‪َ ‌ ،‬وإِ َّن ‌ل َو َلد َك ‌ َع َل ْي َ َ َ‬ ‫يفك َع َل ْي َ‬ ‫لض َ‬ ‫َ‬
‫حق ح َّقه‪.‬‬ ‫كل ذي ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫َأعطى‬
‫مزدحمة وحافلة‪ ،‬ولكنها ليست متوتِّرة وال مرتبكة؛ فبرغم‬ ‫‪10‬ــ حياته‬
‫كثرة المشاغل وازدحامها‪ ،‬فإن ن ْف َسه هادئة مسترخية‪ ،‬فال تجد اضطراب ًا وال‬
‫ظننت أن ليس له عمل قبلها وال بعدها‪ ،‬فحاله‬
‫َ‬ ‫توتُّر ًا‪ ،‬وإذا نظرت إليه في ٍ‬
‫حال‬
‫في بيته ال تدل على أن أعباء الحياة ومشاغلها تنتظره في الخارج‪ ،‬وجلوسه مع‬
‫أصحابه ال َيدُ ُّل َك على أنه في حال تح ُّفز أو قلق لعمل آخر ينتظره؛ فهو مقبل‬
‫عليهم بك ِّله‪ ،‬مسترخٍ بنفسه معهم‪َ ،‬ي َس ُع ُهم جميع ًا حس ُن خلقه‪ ،‬وكأن عمله‬
‫الوحيد هو هذا المجلس الذي هو فيه‪ ،‬إن هذه حالة استواء نفسي تستوعب‬
‫األعمال دون أن تتوتَّر أو ترتبك‪.‬‬
‫حياة ُم َرتَّبة وليست َرتِيبة‪ ،‬فهي مرتَّبة‪ ،‬ولكنها أيض ًا َم ِرنَة‪،‬‬ ‫‪11‬ــ حياته‬
‫بالتموج تبع ًا لمقتضيات الحال؛ فليس في حياته فوضى أو‬
‫ُّ‬ ‫بحيث تسمح‬
‫وص َرامة‪ ،‬ولكن ترتيب ومرونة؛ فوقت الصلوات‬
‫ارتباك‪ ،‬وليس في حياته َرتَابة َ‬
‫ويقصر‪ ،‬بحسب‬
‫ُ‬ ‫يمكن أن يطول‬ ‫ومجلسه‬
‫ُ‬ ‫وقت محدَّ د يرتِّب ما بينها‪،‬‬
‫مستجدات األحوال‪ ،‬وبذلك تح َّققت في حياته إيجابيات التنظيم‪ ،‬وتخ َّلص من‬
‫وحدِّ َّية الصرامة‪.‬‬
‫الرتَابة َ‬
‫سلبيات َّ‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)6139 ،1975 ،1974 ،1968‬و«صحيح مسلم» (‪.)1159‬‬
‫‪195‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫بعيدة عن التواقر‬ ‫َع ْفوية الحياة وبساطتها‪ ،‬فحياته‬ ‫‪12‬ــ في حياته‬


‫المتك َّلف ِ‬
‫والجد َّية الصارمة‪.‬‬
‫ولكن لل َع ْفوية والبساطة حضورها‪ ،‬فهو الذي يبتهج مع البهجة‪ ،‬ويأنس مع‬
‫األُنس‪ ،‬ويتو َّثب في نشوة الفرح‪ ،‬حتى يسقط رداؤه ليتل َّقى حبيب ًا جاء بعد طول‬
‫غياب(‪ ،)1‬ويسير في طريقه ثم يحيد إلى شاب يسلخ شاة‪ ،‬ف َي ْح ِس ُر عن ذراعه؛‬
‫ويمر برجل يطبخ لحم ًا في ُب ْرمة‪ ،‬فيقول‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫ت‬‫«أ َطا َب ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ل ُي ِر َيه كيف ُي ْحس ُن َّ‬
‫الس ْلخ‪،‬‬
‫ُب ْر َمتُك؟»‪ .‬ثم يتناول منها َب ْض َع ًة فيأكلها(‪.)2‬‬
‫إن هذه ال َع ْفو َّية في التعامل مع الناس َح َّطمت كل الحواجز؛ بحيث أفضى إليهم‬
‫أبنا ٌء مع ٍ‬
‫أب لهم‪.‬‬ ‫بقلبه‪ ،‬و َأ ْف َض ْوا بقلوبهم إليه‪ ،‬وشعروا أنهم مع النبي‬
‫‪ 13‬ــ األُنْس والبهجة حاضر ٌة في بيته؛ فقد كان في بيته َض ُحوك ًا َب َّسام ًا‪،‬‬
‫الم ْؤنِسة‪،‬‬ ‫حاضر ٌة في مجلسه؛ ففيه ُفسحة لل ُّط ْر َفة الجميلة والمداعبة ُ‬
‫وحاضر ٌة في حياته؛ فهو الذي يخرج وينظر إلى الحبشة وهم يلعبون في‬
‫المسجد‪ ،‬فيستمتع بمنظر لهوهم‪ ،‬ويدعو زوجته لتشاركه ُأنْس المنظر‪ ،‬ثم‬
‫الهدْ ي‪« :‬ا ْل َع ُبوا َبنِي َأ ْرفِدة؛‌ َحتَّى‌ َت ْع َل َم‌ا ْل َي ُهو ُد‌ َوالن ََّص َارى‌ َأ َّن‬ ‫ال لهذا َ‬ ‫مؤص ً‬‫يقول ِّ‬
‫ت ‌بِ َحن ِ ِيف َّي ٍة ‌ َس ْم َح ٍة»(‪ .)3‬لقد كان في دينه َسعة‪ ،‬وفي‬ ‫‌فِي ‌ ِدينِنَا ‌ ُف ْس َح ًة‪‌ ،‬إِنِّي ‌ ُأ ْر ِس ْل ُ‬
‫ألنْس والبهجة‪.‬‬ ‫حياته َسعة ل ُ‬

‫((( «مصنف عبد الرزاق» (‪ ،)12646‬و«مصنف ابن أبي شيبة» (‪ ،)36643 ،33682 ،32206‬و«جامع الترمذي»‬
‫(‪ ،)2732‬و«اآلحاد والمثاني» (‪ ،)363‬و«شرح معاني اآلثار» (‪ ،)281/4‬و«شرح مشكل اآلثار» (‪،)1384‬‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫((( تقدم في «يمشي في األسواق»‪.‬‬
‫((( «مسند الحميدي» (‪ ،)256‬و«مسند أحمد» (‪ ،)24855‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)2907‬و«صحيح مسلم»‬
‫(‪.)892‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪196‬‬

‫‪14‬ــ قوة العالقة العاطفية الزوجية‪ ،‬وإشباع هذه العاطفة‪ ،‬التي تظهر في‬
‫مناولة قدح الماء‪ ،‬ومناولة لقمة الطعام‪ ،‬والمؤانسة في الحديث الليلي‪ ،‬والتعاهد‬
‫بالزيارة النهارية‪ ،‬والمشاركة في ِم ْهنة البيت‪ ،‬والتواصل الزوجي الحميم على‬
‫فراش الزوجية وتحت لحافها‪.‬‬
‫تفهمه ِلف َطر الناس وحاجاتهم ومشاغلهم‪ ،‬حتى في أدائه للعبادة‪ ،‬فكان‬ ‫‪15‬ــ ُّ‬
‫أقصر الناس صالة إذا ص َّلى بالناس‪ ،‬مع أنه كان أطولهم صالة إذا ص َّلى لنفسه‪،‬‬
‫الصبي فيخ ِّففها؛ لِ َما يعلم‬
‫ِّ‬ ‫وكان يدخل الصالة وهو يريد إطالتها‪ ،‬فيسمع بكاء‬
‫من َو ْج ِد ُأ ِّمه(‪.)1‬‬
‫وأكثرها استغراق ًا‪ ،‬هي‬ ‫‪16‬ــ يتَّضح من هذا اليوم أن أعمق عباداته‬
‫عبادات السر التي كان يفعلها في بيته وفي سكون الليل‪ ،‬والتي لزمها وداوم‬
‫عليها حتى لقي ربه‪.‬‬
‫وتلك داللة من دالالت النبوة؛ إذ ال يمكن أن يكون هذا التبتُّل المستغرق‬
‫تقو ٍل ــ وحاشاه‬ ‫المنتظم‪ ،‬والذي استمر عليه عمره كله‪ ،‬صنيع ًا ُ‬
‫لمدَّ ٍع وال ُم ِّ‬
‫ويب ِّلغه‪.‬‬ ‫ــ لكنه داللة على يقين صادق وإيمان عميق بما يقوله‬
‫إلى ثالثة أوقات‪:‬‬ ‫‪17‬ــ يمكن تقسيم فترات نشاطه‬
‫• فترة النشاط والحيوية والصفاء في قيام الليل؛ ألن قيامه للتهجد هو بعد أطول‬
‫فترة نوم ينامها في نصف الليل األول‪ ،‬فكأنما كان يستجمع صفو نشاطه لهذا‬
‫الحال؛ إذ صالته هي راحته و ُق َّرة عينه‪.‬‬
‫الس َحر‪ ،‬فيص ِّلي الفجر ويذكر ربه‪ ،‬ثم يجلس‬
‫• ثم بعد الفجر؛ إذ هي تَعقب إغفاءة َّ‬
‫ألصحابه وعظ ًا وتعليم ًا وتربية‪.‬‬
‫((( تقدم في «صالة ِ‬
‫العشاء»‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫• ثم بعد صالة الظهر؛ إذ هي تعقب القيلولة‪ ،‬فيص ِّلي الظهر ويخطب إن كان قد‬
‫حدث أمر‪ ،‬أو يجلس ألصحابه يحدِّ ثهم ويقضي حوائجهم‪.‬‬
‫‪18‬ــ يالحظ أن الصلوات هي فواصل األوقات‪ ،‬فالوقت َّ‬
‫يقسم إلى وحدات‬
‫زمنية تفصلها الصلوات‪.‬‬
‫ويمكن تقسيم برنامج اليوم النبوي تقسيم ًا تقريب ّي ًا على النحو التالي‪:‬‬
‫الس َحر‪ ،‬فيص ِّلي الفجر‪ ،‬ويمكث في‬
‫أ ــ الفجر‪ :‬يستيقظ لصالة الفجر بعد نومة َّ‬
‫مصله مع أصحابه إلى طلوع الشمس‪ ،‬ثم يقوم بجولة صباحية على زوجاته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ثم يجلس في أول الضحى مع أصحابه في المسجد‪ ،‬وهذا مجلس ذكر وعلم‬
‫وتربية‪ ،‬ثم يقوم أحيان ًا بزيارات بعد هذا المجلس‪ ،‬فربما زار ُبنَ َّياته‪ ،‬أو زار بعض‬
‫أصحابه‪ ،‬وربما ذهب لقضاء بعض شأنه الخاص‪.‬‬
‫فإذا تعالى الضحى‪ ،‬فإنه وقت النوم والقيلولة‪ ،‬ف َي ِقيل قبل صالة الظهر‪ ،‬وهذه‬
‫النومة إراحة للبدن‪ ،‬و َمدَ د لقيام الليل‪.‬‬
‫ب‬‫أمر َخ َط َ‬
‫ث ٌ‬ ‫الظهر‪ ،‬فإن كان حدَ َ‬
‫َ‬ ‫ب ــ الظهر‪ :‬يستيقظ لصالة الظهر‪ ،‬فيص ِّلي‬
‫وأكثر خطبِه في هذا الوقت‪ ،‬ثم يعود إلى بيته فيص ِّلي ُّ‬
‫السنة‬ ‫ُ‬ ‫بعد صالة الظهر‪،‬‬
‫الراتبة‪ ،‬ثم يخرج فيجلس إلى أصحابه‪ ،‬أو يذهب لقضاء بعض شأنه‪ ،‬فقد كان ما‬
‫بين الظهر والعصر وقت عمل وقضاء حاجات‪.‬‬
‫ج ــ العصر‪ :‬يص ِّلي العصر في أول وقتها‪ ،‬ثم يقوم بعد صالة العصر بجولة‬
‫مسائية على زوجاته‪ ،‬وربما اجتمعن له في بيت التي هو عندها‪ ،‬وكأنما ما بين‬
‫العصر والمغرب وقت استرخاء ُأ َسري في الغالب‪.‬‬
‫د ــ المغرب‪ :‬يص ِّلي المغرب في أول وقتها‪ ،‬ثم َّ‬
‫يتعشى‪ ،‬ويبقى في بيته‪ ،‬وهذا‬
‫هو وقت تناول الوجبة الرئيسة‪ ،‬وهي وجبة ال َعشاء‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪198‬‬

‫ذهب‬ ‫فيسمر مع أهله‪ ،‬وربما‬ ‫العشاء‪ ،‬ثم يعو ُد إلى بيته‪،‬‬ ‫هـ ــ ِ‬
‫العشاء‪ :‬يص ِّلي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وعمر في بيت أبي بكر ‪‬؛‬
‫َ‬ ‫في زيارات لبعض األنصار‪ ،‬أو َس َمر مع أبي بكر‬
‫للتشاور في شؤون الدولة وقضايا المسلمين‪ ،‬ثم يعود بعد سمره إلى بيته‪ ،‬فينام‬
‫إلى منتصف الليل‪ ،‬ويستيقظ إذا انتصف الليل ليص ِّلي صالة الليل‪ ،‬وهو في ِذروة‬
‫نشاطه بعد أطول نومة‪ ،‬فيستمر في حاله هذه من الصالة والمناجاة بقدر ثلث‬
‫الليل‪ ،‬حتى إذا لم يبق إِ َّل سدس الليل عاد إلى فراشه؛ ليستريح ويغفي إغفاءة‬
‫الس َحر إلى صالة الفجر‪.‬‬
‫َّ‬
‫اليومية مشهد ًا من مشاهد دالئل نبوته‪ ،‬ال يمكن‬ ‫‪19‬ــ كانت وقائع حياته‬
‫يتنزل عليه وحيه‪ ،‬ليس‬ ‫ٍ‬
‫مرسل من اهلل‪َّ ،‬‬ ‫أن يراها أحدٌ إِ َّل علم أن هذا حال ٍّ‬
‫نبي‬
‫حظ لنفسه‪ ،‬وهذا ما أدركه ُثمامة بن ُأثال الذي ُأتي‬
‫بمتقول في دعواه‪ ،‬وال طالب ٍّ‬‫ِّ‬
‫النبي‬
‫‪ ،‬فأمر ُّ‬ ‫به إلى المدينة أسير ًا‪ ،‬وما أحدٌ أبغض إليه من رسول اهلل‬
‫في‬ ‫أن ُيربط إلى سارية من سواري المسجد‪ ،‬فلما رأى ثمام ُة َ‬
‫حال النبي‬
‫نبي‬‫يومه وليلته‪ ،‬ورأى مدخله ومخرجه‪ ،‬وحاله مع الناس حوله؛ علم أن هذا ٌّ‬
‫بإطالقه‪ ،‬انطلق فاغتسل‪،‬‬ ‫النبي‬ ‫مرسل‪ ،‬وليس ِ‬‫ٌ‬
‫بملك وال ج َّبار‪ ،‬فلما أمر ُّ‬ ‫َ‬
‫فقال‪ :‬أشهدُ أن ال إله إِ َّل اهلل‪ ،‬وأشهدُ َّ‬
‫أن محمد ًا‬ ‫ثم عاد إلى رسول اهلل‬
‫وجهك‪،‬‬‫َ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬يا محمدُ ‪ ،‬واهلل ما كان على األرض وج ٌه أب َغ َض َّ‬
‫إلي من‬ ‫ُ‬
‫إلي من َ‬
‫دينك‪،‬‬ ‫أبغض َّ‬
‫إلي‪ ،‬واهلل ما كان من دين َ‬ ‫وجه َك َّ‬
‫أحب الوجوه َّ‬ ‫فقد أصبح ُ‬
‫فأصبح‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بلدك‪،‬‬ ‫إلي من‬
‫أبغض َّ‬
‫إلي‪ ،‬واهلل ما كان من بلد ُ‬ ‫فأصبح دين َُك َّ‬
‫أحب الدِّ ين َّ‬
‫إلي(‪.)1‬‬ ‫بلدُ َك َّ‬
‫أحب البالد َّ‬
‫وهو على نصرانيته‪،‬‬ ‫النبي‬
‫وكذلك كان حال عدي بن حاتم لما أتى َّ‬
‫‪،‬‬ ‫في الطريق‪ ،‬فاستوقفته امرأ ٌة معها غال ٌم‪ ،‬فوقف لهما‬ ‫فسار مع النبي‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)4372‬و«صحيح مسلم» (‪.)1764‬‬
‫‪199‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫قلت في نفسي‪:‬‬ ‫عدي‪ُ :‬‬


‫ٌّ‬ ‫عدي‪ :‬حتى َأ َو ْي ُت له من طول القيام‪ .‬ثم قال‬
‫ٌّ‬ ‫حتى قال‬
‫كنت َم ِلك ًا‪ ،‬لم َي ُق ْم‬
‫أشهدُ أنك َب ِري ٌء من ديني ودين النعمان بن المنذر‪ ،‬وأنك لو َ‬
‫عدي بعد‬
‫ٌّ‬ ‫ف اهللُ في قلبي له ُح ّب ًا‪ .‬ثم أسلم‬ ‫صبي وامرأة َ‬
‫طول ما أرى‪َ .‬ف َق َذ َ‬ ‫ٌّ‬ ‫معه‬
‫ذلك المشهد(‪.)1‬‬
‫كان يعيش حياة طيبة‬ ‫‪20‬ــ يظهر من هذا البرنامج اليومي أن المصطفى‬
‫سعيدة‪.‬‬
‫عال لم يصل إليه بشر قبله؛ فهو أعرف الخلق باهلل‬ ‫أما سعادته اإليمانية؛ ُفأ ُف ٌق ٍ‬
‫وأعظمهم إيمان ًا وأصدقهم يقين ًا‪.‬‬
‫السبع ال ِّطباق إلى مستوى يسمع فيه َص ِريف األقالم‪،‬‬ ‫بمن ُرفع فوق َّ‬ ‫وما ظنُّك َ‬
‫الكوثر الذي أعطاه‬ ‫َ‬ ‫ورأى الجن َة رأي عين‪ ،‬حتى َه َّم أن يتناول منها ِق ْطف ًا‪ ،‬ورأى‬
‫اض ُه ال ُّل ْؤ ُل ُؤ؟(‪.)2‬‬ ‫ر ُّبه‪ ،‬فإذا طينُه المسك األَ ْذ َف ُر‪ ،‬وإذا َر ْض َر ُ‬
‫ورفِع إلى تلك المنزلة حينما يناجي‬ ‫كيف سيكون حال نبي ُق ِّرب هذا القرب ُ‬
‫ويمجده و ُيثني عليه؟!‪‌« :‬إِنِّي‌ َأ َظ ُّل‌ ِعنْدَ ‌ َر ِّبي‌ ُي ْط ِع ُمنِي‌ َو َي ْس ِقينِي»(‪.)3‬‬‫ِّ‬ ‫ر َّبه ويدعوه‬
‫يصوره مقارنته‬
‫يقربه أو ِّ‬
‫إن تلذذه بالعبادة وتذوقه لحالوة اإليمان ال يمكن أن ِّ‬
‫بأي لذة من لذائذ الحياة الدنيا‪.‬‬
‫وهو أيض ًا سعيد في حياته الدنيوية‪ ،‬وهذه السعادة تجدها في لفتات حياته‬
‫كلها‪ ،‬وتستشعر تذوقه لهذه السعادة وعميق امتنانه لربه بها؛ فقد أجاره ربه من‬
‫الهم والحزن‪ ،‬وأعاذه من س ِّيئ األَ ْسقام‪ ،‬فعاش في عافية بدنية وعافية نفسية‬
‫وعافية ُأسرية‪ ،‬عاش في عفو وعافية ومعافاة دائمة‪.‬‬
‫((( تقدم في «يمشي في األسواق»‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)13425 ،12675‬و«صحيح البخاري» (‪ ،)1212‬و«صحيح مسلم» (‪.)901‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)1967 -1961‬و«صحيح مسلم» (‪.)1105 -1102‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪200‬‬

‫الو ِضيئة التي يحبها وتحبه‪ ،‬يقاسمها أجمل عواطف المودة‬


‫الزوجة َ‬ ‫فله‬
‫والحب‪.‬‬
‫وله االبنة الطاهرة وابناها ريحانتا دنياه‪ُ ،‬ي ْغ ِد ُق عليهم أعذب مشاعر األُ َّبوة‪.‬‬
‫وله األصدقاء الصادقون‪ :‬أبو بكر وعمر ‪ ،‬يقاسمهما أعباء الحياة‪ ،‬ف ُيسمع‬
‫ت‬‫ت َأنَا َو َأ ُبو َبك ٍْر َو ُع َم ُر‪َ ،‬و َذ َه ْب ُ‬
‫ت ‌ َأنَا ‌ َو َأ ُبو ‌ َبك ٍْر ‌ َو ُع َم ُر‪َ ،‬و َخ َر ْج ُ‬
‫كثير ًا يقول‪َ ‌« :‬د َخ ْل ُ‬
‫َأنَا َو َأ ُبو َبك ٍْر َو ُع َم ُر»(‪.)1‬‬
‫الصهر والنَّسيب القريب في نسبه وداره الذي يحبه ويعلم أن اهلل في ملئه‬
‫وله ِّ‬
‫األعلى يحبه‪ :‬أبو الحسن علي بن أبي طالب ‪.‬‬
‫فو َف ْوا له‪ :‬عثمان بن عفان وأبو‬
‫فصدَ قوه ووعدوه َ‬
‫أصهار ٍّبر ووفاء‪ ،‬حدَّ ثوه َ‬
‫ُ‬ ‫وله‬
‫الربِيع ‪.‬‬ ‫العاص بن َّ‬
‫وله األصحاب المرض ُّيون الذي ينزل عليه وحي ربه في تزكية سرائرهم وما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬
‫ِينة َعل ۡي ِه ۡم﴾‪.‬‬
‫ٱلسك َ‬ ‫في قلوبهم‪﴿ :‬ف َعل َِم َما ف قلوبه ۡم فأ َ‬
‫نزل َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫فكان سعيد ًا َ‬
‫بمن حوله و َمن معه‪.‬‬
‫ثم عاش حيا ًة تتدافع اإلنجازات الكبار فيها‪ ،‬وأعظم السعادات في الحياة‬
‫تحقيق اإلنجازات‪ ،‬ثم تحقيق الهدف األكبر له في الحياة‪ ،‬وهو بالغ رساالت‬
‫اهلل‪ ،‬ودخول الناس في دين اهلل أفواج ًا‪.‬‬
‫وهو يرى هذه‬ ‫ال أستطيع أن أتخ َّيل تلك السعادات على قلب الرسول‬
‫الجموع في مسجده تكثر‪ ،‬ومساحة اإلسالم تتَّسع‪ ،‬والناس يدخلون في دين اهلل‬
‫أفواج ًا‪.‬‬
‫‪ ،‬وهو في َح َّجة‬ ‫بل ال أستطيع أن ُأ ِّ‬
‫صور مشاعري لمجرد تخيل مشاعره‬

‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)3685‬و«صحيح مسلم» (‪.)2389‬‬


‫‪201‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫الوداع يسمع تلك الجموع حوله من كل أنحاء الجزيرة‪ ،‬تقول بفم واحد‪ :‬نشهد‬
‫أنك قد ب َّلغت ونصحت وأ َّديت الذي عليك‪.‬‬
‫َ‬
‫كف َ ۡ‬
‫ت ٰٓ‬ ‫َ‬
‫َ َ ۡ ُ ۡ َ َ ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض﴾‪.‬‬ ‫إن هذا كله بعض عطاء اهلل الغامر له يوم قال‪﴿ :‬ولسوف يع ِطيك رب‬
‫تذوق لذائذ الحياة‪ ،‬واستشعار جمال ما يرى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪ 21‬ــ تجد في حياته‬
‫الشربة يشربها وال ُّلقمة‬ ‫يتذوق‪ ،‬واالمتنان هلل بالنعمة عليه بذلك‪ ،‬ففي َّ‬ ‫ولذة ما َّ‬
‫لذة ذلك بامتنان عظيم هلل‪« :‬الحمدُ هللِ‪ ،‬حمد ًا كثير ًا ط ِّيب ًا مبارك ًا فيه‪،‬‬ ‫يأكلها يتذوق َّ‬
‫ْنى‬
‫ور‪ ،‬وال ُم َو َّدعٍ‪ ،‬وال ُم ْس َتغ ً‬ ‫غير َمك ِْف ٍّي‪ ،‬وال َم ْك ُف ٍ‬ ‫ِ‬
‫الحمدُ هللِ ا َلذ ِي َك َفانَا َو َأ ْر َوانا‪َ ،‬‬
‫ييت‪،‬‬
‫وأ ْح َ‬ ‫ت َ‬ ‫وهدَ ْي َ‬ ‫َيت‪َ ،‬‬ ‫نيت َ‬
‫وأ ْقن َ‬ ‫قيت‪َ ،‬‬
‫وأ ْغ َ‬ ‫وأ ْس َ‬ ‫ت َ‬
‫اللهم إنك َأ ْط َع ْم َ‬ ‫َّ‬ ‫عنه ر َّبنَا‪،‬‬
‫أعطيت»(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫اللهم فلك الحمدُ على ما‬
‫َّ‬
‫ؤرقة‪ ،‬ثم‬ ‫في يقظته من نومه يستشعر فضل اهلل عليه بنومة تتمنَّاها عيون ُم َّ‬
‫استيقاظه بعافية وحيو َّية‪ ،‬فيتذكَّر فضل واهب الفضل‪‌« :‬ا ْل َح ْمدُ هللِ ‌ا َّل ِذي ‌ َأ ْح َيانَا‬
‫ِ‬
‫‌ َب ْعدَ َما‌ َأ َما َتنَا‌ َوإِ َل ْيه‌الن ُُّش ُ‬
‫ور»(‪.)2‬‬
‫إذا كان هذا في األَكْلة المعتادة والنومة المعتادة التي يذهب االعتياد استشعار‬
‫نعيمها‪ ،‬فكيف بالنعم المتجدِّ دة واألَفضال المتتابعة؟ إنك تستشعر أنه يقف عند‬
‫كل نعمة‪ ،‬فيتذوقها كاملة‪ ،‬ثم يستشعر فضل اهلل عليه بها‪ ،‬حتى لكأنك تسمعه‬ ‫ِّ‬
‫يهاتف ربه قائالً‪‌« :‬ا ْل َح ْمدُ هللِ ‌ا َّل ِذي ‌ َم َّن ‌ َع َل َّي ‌ َف َأ ْف َض َل‪‌ ،‬ا ْل َح ْمدُ هللِ ‌ا َّل ِذي ‌ َأ ْع َطانِي‬
‫ال»(‪.)3‬‬ ‫‌ َف َأ ْجز ََل‪ ،‬ا ْل َحمدُ هللِ َع َلى ك ُِّل َح ٍ‬
‫ْ‬
‫يلفت أبصار بصائرنا إلى ما نألفه حتى ال نكاد نحس به؛‬ ‫وإذا كان‬
‫المبيت اآلمن‪ ،‬مع طعام ليلة وعافية بدن‪ ،‬فيقول‪َ ‌« :‬م ْن ‌ َأ ْص َب َح ‌ ِآمن ًا ‌فِي ‌ ِس ْربِ ِه‪،‬‬

‫((( تقدم في «بعد الغروب»‪.‬‬


‫((( تقدم في «أنوار الفجر»‪.‬‬
‫((( تقدم في «بعد الغروب»‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪202‬‬

‫افى‌فِي‌ َج َس ِد ِه‪ِ ،‬عنْدَ ُه َط َعا ُم َي ْو ِم ِه‪َ ،‬فك ََأن ََّما ِحيز ْ‬


‫َت َل ُه الدُّ ْن َيا»(‪.)1‬‬ ‫‌ ُم َع ً‬
‫لذلك وما هو أكثر من ذلك؟!‬ ‫فكيف كان تذوقه هو‬
‫إن استشعار النعم وتذوقها وتعظيمها في النفس يزيد مساحة السعادة بها‪،‬‬
‫أعظم ما تكون سكينة ورض ًا‬
‫َ‬ ‫النفس‬
‫َ‬ ‫وروا ًء‪ ،‬ويجعل‬
‫ويجعل الحياة أكثر بهجة ُ‬
‫للوهاب الذي هذه هبته‪ ،‬والكريم الذي هذا فضله‪ ،‬فتثمر النعمة نعم ًا‪،‬‬
‫وامتنان ًا َّ‬
‫وتوهج ًا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وتزداد الحياة اتِّساع ًا وتجدُّ د ًا‬
‫‪22‬ــ عندما ترى من خالل هذا اليوم هذه الحياة النبوية الحافلة‪ ،‬وهذا التفاعل‬
‫في حياته ثم‬ ‫الحي مع الحياة‪َ ،‬فت ََذكَّر ك ََّم اآلالم واألحزان التي استقبلها ُّ‬
‫النبي‬
‫المتكرر في الطفولة‪ ،‬ثم األَ َذى‬
‫ِّ‬ ‫تجاوزها‪ ،‬لقد تل َّقاه في أول إقباله على الحياة؛ ال ُيتم‬
‫البالغ بعد البعثة‪ ،‬وفجيعته بزوجته َخ ِديجة أحب الناس إليه‪ ،‬ثم ثكله ببنيه وبناته‬
‫في حياته‪ ،‬وفراق بلده التي هي أحب البالد إليه‪ ،‬ومهاجره عنها‪ ،‬ومصابه في قرابته‬
‫وأصحابه في ُأ ُحد‪ ،‬وآالم حادثة اإلفك‪ ،‬وغير ذلك من أوصاب حياته وبالءاتها‪.‬‬
‫ولكنه مع ذلك كله كان يتمتَّع بقدرة عظيمة عجيبة على تجاوز المشاعر‬
‫السلبية‪ ،‬ولياقة فائقة على استئناف الحياة‪ ،‬والتفاعل اإليجابي مع كل لحظاتها!‬
‫الز َخم العظيم في كل يوم من أيام حياته‪ ،‬لتكاد تقول‪:‬‬ ‫إنك وأنت ترى هذا َّ‬
‫قط‪ ،‬ولم َي ْع ِرض له بال ٌء ُّ‬
‫قط‪.‬‬ ‫هذه سيرة َمن لم تمر به شدَّ ٌة ُّ‬
‫وما كان بأبي هو وأمي كذلك‪ ،‬ولكنه يتجاوز هذه اآلالم وال يستصحب‬
‫آالمها‪ ،‬فلكل لحظة في عمره مشروعها وإنجازها وبهجتها؛ إنها الحياة المتد ِّفقة‬
‫المتجدِّ دة‪ ،‬إنها الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة‪.‬‬
‫في حياة أصحابه‪،‬‬ ‫تعجب لهذا الحضور ال َع ِميق لحياة رسول اهلل‬
‫ُ‬ ‫‪23‬ــ‬
‫((( «جامع الترمذي» (‪ ،)2346‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)4141‬وغيرها‪.‬‬
‫‪203‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫ف أو‬ ‫وتفاعله بحيوية معهم‪ ،‬حتى لتكاد تجزم أن لكل واحد منهم معه ِ‬
‫موق ٌ‬ ‫َّ‬
‫حدث أو قص ٌة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ون في ِحجره‪ُ ،‬‬
‫ويرش َ‬
‫فون أول ما‬ ‫يستقبل أطفالهم في أول طريق الحياة‪ ،‬فيتد َّل َ‬
‫يرش َ‬
‫فون ريقته وبركته(‪.)1‬‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫مصله مع أول أنوار الصباح‪ ،‬فيغمس يده المباركة في‬ ‫ويتزاحم خد ُمهم في‬
‫آنيتهم(‪.)2‬‬
‫الحب لهم(‪.)3‬‬
‫َّ‬ ‫ويتل َّقاه صبيتهم و ُبن َّياتهم في الطريق‪ ،‬فيمسح وجوههم ويعلن‬
‫َي ُم ُّج الماء في وجه صبي(‪ ،)4‬و ُي ْلبِس طفل ًة الكسا َء بيديه(‪ ،)5‬ويضيء حياة ٍّ‬
‫كل‬
‫منهم بذكرى مبهجة جميلة‪.‬‬
‫إذا لقوه تشرق لهم ابتسامته‪ ،‬وتتل َّقى أيديهم بركة يده وطِيبها(‪.)6‬‬
‫خطواته د َّفت إلى بيوتهم‪ ،‬ويده شركتهم في طعامهم(‪.)7‬‬
‫بح ُبوره وحضوره‪.‬‬
‫عاش أفراحهم‪ ،‬فكبرت أفراحهم الصغيرة ُ‬
‫يدعونه ليشركهم الفرحة بذبح جزور‪ ،‬فيأتي وينظر معهم وينتظر(‪.)8‬‬
‫يشرف إلى لهو الحبشة وهم يرقصون في المسجد‪ ،‬فيمد ابتهاجهم ببهجته‪:‬‬
‫«ا ْل َع ُبوا َبنِي َأ ْرفِدة»(‪.)9‬‬

‫((( تقدم في «المجلس النبوي»‪.‬‬


‫((( تقدم في «أنوار الفجر»‪.‬‬
‫((( تقدم في «يمشي في األسواق»‪.‬‬
‫((( تقدم في «الزيارات النبوية»‪.‬‬
‫((( «صحيح البخاري» (‪ ،)5823 ،3071‬و«قصص نبوية» للمؤ ِّلف (ص‪«/164 -159‬أم خالد»)‪.‬‬
‫((( تقدم في «يمشي في األسواق»‪.‬‬
‫((( تقدم في «الزيارات النبوية»‪.‬‬
‫((( تقدم في «والعصر»‪.‬‬
‫((( تقدم قريب ًا‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪204‬‬

‫عاد مرضاهم‪ ،‬فإذا أفاقوا إذا هو ينظر إليهم‪ ،‬وإذا َب ْر ُد يده يمسح آالمهم(‪.)1‬‬
‫صحب جنائزهم‪ ،‬ووقف عىل قبور أهليهم وأحبائهم‪ ،‬وذرف الدمع يف أحزاهنم‪.‬‬
‫وإذا غابوا عنه‪ ،‬بلغهم سؤاله عنهم وتف ُّقده لحالهم‪َّ ،‬‬
‫فتفرقت حياته في حياتهم‪،‬‬
‫وتنورت حياتهم بحياته بحضور َع ِميق وتفاعل َع ِجيب‪.‬‬‫َّ‬
‫‪ ،‬وبقي ح ّي ًا في نفوسهم‪ ،‬حاضر ًا في قلوبهم‪ُ ،‬م ْش ِرق ًا في‬ ‫ثم تُو ِّفي‬
‫عيونهم؛ فلكل واحد منهم معه ذكرى ال ت ُْم َحى وال ُتن َْسى‪ ،‬فإذا تحدَّ ثوا عنه‬
‫فكأنما ال يزال يتراءى طي ُفه لهم‪ ،‬وال تزال تنظر إليه عيونُهم‪:‬‬
‫أنظر إلى َوبِيص سا َق ْيه‪...‬‬
‫كأنِّي ُ‬
‫أنظر إلى َوبِيص خاتمه‪...‬‬
‫كأنِّي ُ‬
‫أنظر إلى َوبِيص ال ِّطيب في َم ْف ِرق رأسه‪...‬‬
‫كأنِّي ُ‬
‫زلت أجد برد يده‪...‬‬
‫ما ُ‬
‫فإذا يده أبرد من الثلج‪ ،‬وأطيب من المسك‪...‬‬
‫إلي الساعة أني أجد َب ْر َد قدمه على ك ِّفي‪..)2(..‬‬
‫يخيل َّ‬
‫في يومه النبوي مد ٌد لحبه العظيم في‬ ‫‪ 24‬ــ الرحلة مع المصطفى‬
‫َ‬
‫وأكمل الخلق له‬ ‫أشدَّ الناس له ح ّب ًا‬ ‫قلوبنا؛ ولذا كان صحابة رسول اهلل‬
‫تعظيم ًا؛ ألن كل ما يرونه من لفتات حياته َيت َْر ُع قلوبهم ح ّب ًا له وتعظيم ًا‪ ،‬فحياته‬
‫نعلم‬
‫بكل تفاصيلها حياة جاذبة‪ ،‬ولئن فاتنا أن نرى ما رأوه‪ ،‬فلن يفوتنا أن َ‬
‫وما سمعوه‪،‬‬ ‫تتروى مما رآه الصحابة من رسول اهلل‬ ‫به ونتع َّلمه‪ ،‬وال ت ََزال َّ‬
‫في تفاصيل‬ ‫يعم َر قل َبك من ُح ِّبه ما َع َم َر قلو َبهم‪ ،‬وإن صحب َة النبي‬
‫حتى ُ‬
‫((( تقدم في «عيادته المرضى»‪.‬‬
‫((( «مسند أحمد» (‪ ،)18767 ،12880‬و«صحيح البخاري» (‪،)5918 ،5659 ،3566 ،3553 ،572 ،271‬‬
‫و«صحيح مسلم» (‪ ،)1190 ،640 ،503‬و«سنن النسائي» (‪.)6284‬‬
‫‪205‬‬ ‫قراءة لليوم النبوي‬

‫يومه الكامل مد ٌد ِوجداني لخزائن الحب النبوي في قلوبنا؛ فهو الذي كلما‬
‫ازددت به معرفة ازددت له ح ّب ًا‪ ،‬وكلما ازددت صحب ًة لخبره ازددت شوق ًا‬
‫إلى رؤيته‪.‬‬
‫الخبر رأي‬ ‫َ‬ ‫أخبار َأت ََر َّواها‪ ،‬حتى لكأني ُ‬
‫أعيش‬ ‫ٌ‬ ‫ويا َلك َْم طوت لي ُح ُج َ‬
‫ب الزمن‬
‫أنغمر في أنواره‪ ،‬وأستنشق عطر أنفاسه‪ ،‬و َأ ُه ُّم‬ ‫ُ‬ ‫عين‪ ،‬فأستشعر الدُّ نو إليه‪ ،‬وأكاد‬
‫أن أدنو منه َأ ْل َث ُم يديه وأجد َب ْر َد ك َّفيه‪ ،‬وأهتف في مسامعه من كل قلبي‪ :‬واهلل يا‬
‫إلي من نفسي‪.‬‬ ‫ب َّ‬ ‫رسول اهلل‪َ ،‬لَن َ‬
‫ْت َأ َح ُّ‬ ‫َ‬
‫اللهم فال‬
‫َّ‬ ‫‪ ،‬وأحببناه واتَّبعناه وما رأيناه‪،‬‬ ‫اللهم إنَّا آمنا بنبيك محمد‬
‫َّ‬
‫تحرمنا رؤيته يوم القيامة‪ ،‬واحشرنا في زمرته‪ ،‬وأنلنا شفاعته‪ ،‬وأوردنا حوضه‪،‬‬
‫أنعمت عليهم من النبيين‬
‫َ‬ ‫وارزقنا مرافقته في جنات الفردوس األعلى مع الذين‬
‫وح ُس َن أولئك رفيق ًا‪.‬‬
‫والصدِّ يقين والشهداء والصالحين‪َ ،‬‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫َ َ ْ‬‫نزلت َو َّات َب ْع َنا َّ‬
‫الر ُسول فاك ُتبْ َنا َم َع الشاهِد َ‬ ‫َٓ ۡ‬ ‫ٓ‬
‫﴿ َر َّب َنا َء َام َّنا ب َما أ َ‬
‫ِين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫صليت على إبراهيم وعلى آل‬
‫َ‬ ‫اللهم ِّ‬
‫صل على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما‬ ‫َّ‬
‫إبراهيم‪ ،‬وبارك على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما باركت على إبراهيم وعلى آل‬
‫إبراهيم‪ ،‬إنك حميد مجيد‪.‬‬

‫)‬
‫‪207‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫تكوين الكتاب‬

‫‪ -1‬بدأت فكرة هذا الكتاب عام‪1415( :‬هـ) تقريب ًا‪ ،‬في حديث عابر بيني‬
‫وبين أخي عبد العزيز الماجد رحمه اهلل‪ ،‬وكانت الفكرة فكرته‪ ،‬أذكر منها كلمة‪:‬‬
‫‪ ،‬وإشارة يده وهو يذكر مجيء خدم المدينة بالماء‪،‬‬ ‫اليوم الكامل لرسول اهلل‬
‫فيه يده‪ ،‬وبقي هذا المشهد وتلك الكلمات حاضر ًة في‬ ‫فيضع المصطفى‬
‫ذهني‪ ،‬حتى إني ألذكر زمانها ومكانها كأنها الساعة‪ ،‬جعل اهلل ذلك له من العلم‬
‫الذي ُينتفع به بعدَ ه‪ ،‬وجزاه عني خير ما جزى أخ ًا عن أخيه‪.‬‬
‫‪ -2‬ظ َّلت الفكرة تنمو في ذهني هذه المدة‪ ،‬وأنا ألتقط مفرداتها وشواهدها‪،‬‬
‫وأجتهد في رصفها وإلحاقها َبأ ْو َلى المواضع بها‪ ،‬ثم ُ‬
‫كتبت منها سياق ًة مختصر ًة‬
‫ودفعت بها إلى مشايخي وإخوتي الذين ذكرتهم بالشكر في‬
‫ُ‬ ‫لـ«اليوم النبوي»‪،‬‬
‫استفدت من تسديدهم ومشورتهم ومالحظتهم‪ ،‬وكل ما‬‫ُ‬ ‫مقدِّ مة الكتاب‪ ،‬وكم‬
‫أفادوا به فهو مبثوث في مساحة هذا الكتاب‪ ،‬تو َّلى اهلل عني كفاءهم وحسن‬
‫جزائهم‪.‬‬
‫‪ -3‬الهدف من هذا الكتاب‪ :‬تقديم مشهد متكامل ليوميات الحياة النبوية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َ َ َ ُ‬
‫التأسي واالقتداء‪﴿ :‬لق ۡد كن لك ۡم ِف َر ُسو ِل ٱللِ‬
‫مواقع ِّ‬
‫َ‬ ‫نتت َّبع في إيقاعها اليومي‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ُ‬
‫أ ۡس َوةٌ َح َس َنة﴾‪ ،‬فنأخذ من حياته ما نُص ِلح به حياتنا‪.‬‬
‫ْ‬
‫وسوف نجد في مسار هذا اليوم وأحداث هذه الحياة ما يأتلف مع التجربة‬
‫البشرية في ُأفقها الواسع ومشتركها الجامع؛ ليرى فيه البشر‪ ،‬كل البشر‪ ،‬النموذج‬
‫نت إ َّل ب َ َ ٗ‬
‫شا‬ ‫ان َر ّب َه ۡل ُك ُ‬
‫ُۡ ُ ۡ َ َ‬
‫األعلى في ُس ُم ِّوه‪ ،‬واألقرب بواقعيته وبشريته‪﴿ :‬قل سبح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٗ‬
‫َّر ُسول﴾‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪208‬‬

‫‪ -4‬تعتني أكثر كتب السيرة بعرضها حسب المسار التاريخي‪ ،‬فتقدمها تاريخ‬
‫حياة‪ ،‬وأحسب أن هذا العمل عرض للسيرة النبوية من زاوية أخرى‪ ،‬وهي زاوية‬
‫الممارسة اليومية‪ ،‬فيقدِّ مها ممارسة حياة‪ ،‬ونحن بحاجة إلى هذه وتلك‪ ،‬وإلى‬
‫نظرات أخرى من زوايا أخرى‪ ،‬ففي رحابة الحياة النبوية وضخامة إنجازها ما‬
‫يتسع لذلك وأكثر من ذلك‪.‬‬
‫(‪)1‬‬‫لا َف ُق ِ‬
‫ـل‬ ‫وجـدت لسـان ًا قائ ً‬
‫َ‬ ‫فـإن‬ ‫وجدت مجال القول ذا س ٍ‬
‫عة‬ ‫َ‬ ‫وقد‬
‫َ‬
‫‪ -5‬هذه المشاهد لم تقع في يوم واحد‪ ،‬وما جرى في يوم ال يجري في كل‬
‫‪.‬‬ ‫يوم‪ ،‬ولكن مجموعها يقدِّ م الصورة األقرب لما يجري في يومه‬
‫‪ -6‬بعض ما في هذا البرنامج اليومي جاء في الروايات ما يدل يقين ًا على أن‬
‫هذا وقته من اليوم‪ ،‬وبعضها كان إدراجه في الوقت لدالالت د َّلت على ذلك‪،‬‬
‫وتحر‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫وتختلف هذه الدالالت قو ًة وضعف ًا وظهور ًا وخفا ًء‪ ،‬فهي محل اجتهاد‬
‫اجتهدت أن يكون كل خبر في ح ِّيزه الزماني‪ ،‬بحسب ما يدل عليه سياقه‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫يقصر‪ ،‬واالجتهاد قد يخطئ‪،‬‬
‫ومجموع رواياته ومقارنته بنظائره‪ ،‬ولكن الجهد قد ُ‬
‫اجتهدت وما َأ َل ْو ُ‬
‫ت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكن حسبي أني‬
‫ٍ‬
‫روايات‬ ‫اجتهدت في اختيار النصوص الصحيحة ما أمكن‪ ،‬وقد ُأورد‬
‫ُ‬ ‫‪-7‬‬
‫كالتتمة لما في األخبار الصحيحة‪ ،‬إذا‬
‫َّ‬ ‫وأخبار ًا في سندها بعض الضعف‪ ،‬هي‬
‫لم يكن في متنها نكارة ظاهرة؛ وذلك أن جمع األخبار إلى بعضها يكشف عما‬
‫ُيستنكر وال يأتلف مع جملة ما صح منها‪ ،‬كما أنه َيجبر ‪-‬أحيان ًا أخرى‪ -‬ضعف‬
‫بعض ما ورد بإسناد فيه مقال؛ لوجود شواهد لمعناه‪ ،‬أو ألن سياق األخبار‬
‫يقتضيه‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫((( «شرح ديوان المتنبي» للواحدي (ص‪.)246‬‬
‫‪209‬‬ ‫تكوين النبوي‬
‫الكتاب‬ ‫اليوم‬

‫‪ -8‬عندما أسوق خبر ًا‪ ،‬فإني ال ألتزم رواي ًة من رواياته‪ ،‬ولكن أختار من‬
‫مجموع الروايات صياغة هي األقرب إلى التكامل؛ ولذا فإن العزو في كل فقرة‬
‫متحص ً‬
‫ال من‬ ‫ِّ‬ ‫إلى مجموعة من المصادر الحديثية‪ ،‬هو للنص الذي يكون سياقه‬
‫مفرق ًا بينها‪.‬‬
‫مجموعها‪ ،‬وإن كان َّ‬
‫أتحراه ما‬ ‫‪ -9‬ال ألتزم لفظ الصحابي في روايته للحدث والواقعة‪ ،‬وإن ُ‬
‫كنت َّ‬
‫أتصرف باللفظ بحدود ما يلزم به ربطه بالنصوص األخرى‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أمكن‪ ،‬ولكن قد‬
‫ودمجه مع مساق األحداث‪.‬‬
‫أتصرف فيه‪ ،‬إِ َّل على سبيل االختيار من‬
‫َّ‬ ‫أما اللفظ النبوي‪ ،‬فهو ما ألتزمه‪ ،‬وال‬
‫ليتحصل من مجموعها أوفى النصوص وأكملها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الروايات‪ ،‬أو الجمع بينها؛‬
‫‪ -10‬وكنت في الطبعة األولى استقصي في تخريج الحديث من مصادره‪،‬‬
‫وأذكر كل من أخرجه ما أمكن‪ ،‬ألن اللفظ الذي أسوقه يكون مجموع ًا من عدة‬
‫روايات‪ ،‬ونتج عن ذلك طول في الكتاب‪ ،‬وكثرة في المراجع‪ ،‬مع أن هذا العمل‬
‫ال يهتم به إال خاصة الخاصة من المعتنين بعلم الحديث‪.‬‬
‫توجهت في هذه الطبعة إلى اختصار مصادر التخريج واالكتفاء ببعض‬
‫ولذا َّ‬
‫من أخرج أصل الحديث من أصحاب كتب السنة المشهورة كالصحيحين‪،‬‬
‫والسنن‪ ،‬وإن كان في الحديث ألفاظ هي في مصادر أخرى كالمسانيد والمعاجم‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫ومن أراد تتبع مصادر ألفاظ الحديث وجدها في الكتب الجامعة للروايات‪،‬‬
‫كـ«المسند الجامع المعلل» للدكتور بشار عواد معروف‪ ،‬و«الجامع الصحيح‬
‫للسنن والمسانيد»‪ ،‬لصهيب عبد الجبار‪.‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪210‬‬

‫تكرم فأرسل‬ ‫‪ -11‬وبعدُ ؛ فإني أشكر وأدعو لكل َمن ا َّطلع على هذا الكتاب‪ ،‬ثم َّ‬
‫خطأ؛ فالعلم َر ِح ٌم بين أهله‪،‬‬‫يصحح ً‬‫ِّ‬ ‫يكمل نقص ًا‪ ،‬أو َي ُسدُّ خلالً‪ ،‬أو‬ ‫لي تنبيه ًا ِّ‬
‫كثير بإخوانه‪ ،‬وال يزال كل علم َي ِجدُّ لنا يذك ُِّرنا بقول‬ ‫قليل بنفسه ٌ‬ ‫والمرء ٌ‬
‫ۡ ۡ َّ َ ٗ‬ ‫ُٓ‬
‫خالقنا‪َ ﴿ :‬و َما أوت ُِيتم ّم َِن ٱلعِل ِم إِل قل ِيل﴾‪.‬‬

‫وكتبه‪:‬‬
‫عبد الوهاب بن ناصر الطريري أبا الخيل‬

‫)‬
‫كتب للمؤلف‬

.‫ قصص نبوية‬1.
.‫ الحياة النبوية‬2.
.‫ أماكن نبوية‬3.
.‫ اآلثار النبوية‬4.
.‫ كأنك معه‬5.
.‫ حديث الغدير‬6.
.‫ سماء الذاكرة‬7.
.‫ القبر المقدس‬8.
.‫ سنام اإلسالم‬9.

www.altriri.net
]: altriri@gmail.com
t: /altriri
f: @Abdulwahab.altriri
y: /c/AbdulwahabAltorairy
d: t.me/altriri
: abdulwahabaltriri
n: +905467723779
‫‪213‬‬ ‫اليوم النبوي‬

‫فهرس الموضوعات‬

‫مقدمة الطبعة الثانية‪5..............................................................‬‬


‫اإلهداء ‪7.........................................................................‬‬
‫شكر وعرفان‪9....................................................................‬‬
‫مقدمة‪11..........................................................................‬‬
‫أنوار الفجر ‪13....................................................................‬‬
‫الصباح النبوي ‪23.................................................................‬‬
‫المجلس النبوي‪33................................................................‬‬
‫يمشي في األسواق ‪45.............................................................‬‬
‫الزيارات النبوية ‪53................................................................‬‬
‫عيادته المرضى‪61.................................................................‬‬
‫في بساتين المدينة‪65..............................................................‬‬
‫راحة القيلولة‪69...................................................................‬‬
‫إلى قُبا ٍء ‪77........................................................................‬‬
‫‪81..........................................................‬‬ ‫أُمسيات الرسول‬
‫والعصر ‪87........................................................................‬‬
‫بعد الغروب‪95....................................................................‬‬
‫صالة ال ِعشاء ‪105.................................................................‬‬
‫‪109...........................................................‬‬ ‫ليالي الرسول‬
‫ناشئة الليل ‪115...................................................................‬‬
‫خطوات في سكون الليل ‪125.....................................................‬‬
‫اليوم النبوي‬ ‫‪214‬‬

‫حر ‪129................................................................‬‬
‫الس َ‬
‫إغفاءة َّ‬
‫أيام األسبوع ‪131.................................................................‬‬
‫يوم الجمعة‪131................................................................‬‬
‫يوم االثنين ‪143................................................................‬‬
‫يوم الخميس ‪144..............................................................‬‬
‫أيام العام ‪147.....................................................................‬‬
‫يوم العيد ‪147..................................................................‬‬
‫يوم عاشوراء ‪158..............................................................‬‬
‫يوم عرفة ‪160..................................................................‬‬
‫شهر رمضان‪162...............................................................‬‬
‫إحياء ليال خاصة من العام‪168.................................................‬‬
‫اليومية‪169.................................................‬‬ ‫عبادات الرسول‬
‫أشد يوم‪175......................................................................‬‬
‫أسعد يوم ‪183....................................................................‬‬
‫قراءة لليوم النبوي‪191............................................................‬‬
‫تكوين الكتاب ‪207...............................................................‬‬
‫فهرس الموضوعات ‪213.........................................................‬‬

‫)‬

‫اليـوم النبوي‬
‫لم يكن يوماً عاديّاً يبدأ من الصباح ويضمر في‬
‫المساء‪ ،‬بل تشعر لفرط نشاطه أن كل لحظة هي‬
‫ناص الفرص ورج ُل اللحظة‪.‬‬ ‫بداية له‪ ،‬هو رج ُل اقْتِ ِ‬
‫يفهم بفطرة النبي الرسول أن الدقيقة محسوبة ولها‬
‫إنجازها‪ ..‬والساعة محسوبة ولها إنجازها‪ ...‬واليوم‬
‫محسوب وله إنجازه‪ ...‬واألجل ينصب خيامه على‬
‫مشارف العمر‪.‬‬
‫في‬ ‫في هذه الصفحات نعيش مع رسول اهلل‬
‫صباحه ومسائه‪ ،‬نمشي معه في أسواق المدينة‪،‬‬
‫نأكل من كفافه‪ ،‬نسمع صوته الحاني معلِّماً‪ ،‬وصوته‬
‫خبِت مصلِّياً‪ ،‬نجلس على َح ِصيره الذي كان‬ ‫ال ُم ْ‬
‫يجلس عليه‪ ،‬ونأكل من طعامه القليل الذي يُ ْؤثِر به‪.‬‬
‫يمكنك أن تدخل بيته من وصف صحابته له‪..‬‬
‫ويمكنك أن ترى سكينته نائماً‪ ،‬وأن ترى حيويَّته‬
‫رأيت في ِحجره رضيعاً‪ ،‬أو على‬ ‫َ‬ ‫جالساً‪ ،‬وربما‬
‫ظهره طفالً يحظى بدفئه وبركته‪.‬‬
‫إذن كيف كان يتعامل هذا اإلنسان العظيم النبي‬
‫الرسالي؟!‬ ‫الكريم مع طبيعته البشرية ومشروعه ِّ‬
‫كيف كان يتعامل مع دورة الزمن اليومية؟!‬
‫كيف كان يقضيها؟!‬
‫هذا يوم‪ :‬النبي‪ ،‬الرسول‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬المسؤول‪ ،‬األب‪،‬‬
‫الص ِديق‪ ..‬هذا «اليوم النبوي»‪ ،‬وهذا الكتاب‬ ‫الزوج‪َّ ،‬‬
‫بين يديك‪..‬‬
‫عبد الوهاب بن ناصر الطريري‬

You might also like