You are on page 1of 106

‫أسرار حي أول‬

‫أسرار حي أول‬
ƾƫƹǃřŠƘŞƐƫř
ºƷŠ1440
ƾƫƹǃř 1438
ƘŞƐƫř
ƭ 2018
ºƷ 1438
2017
ƭ 2017 ‫أرسار حي أول‬ :‫اسم الكتاب‬
jgl™H+ 7+
”«H'glH+
‫ رامي قطب‬.‫ د‬jgl™H+ :‫التأليف‬ 7+ :¨I
jgl™H+¨
‫ رواية‬:‫الكتاب‬ ”«H' g ‫موضوع‬
lH+
ƾƫƹǃřŠƘŞƐƫř kN¨œH+k0+}ŸH+
ºƷ 1438 ‫صفحات‬ 104 :‫الصفحات‬
jgl™H+¨
¬œ2+bH+t+}2) ‫عدد‬
:¨I ¢lH+
¹+L—«
ƭ 2017 ‫ملزمة‬kN¨œH+k0+}ŸH+
6.5 ngu“ :‫املالزم‬ ‫عدد‬
ƒH+3b=
¬œ2+bH+t+}2)
7+ 14x20 ¹+L—« ¢lH+
jgl™H+
:‫الكتاب‬
¡6ҟH+3b= ‫مقاس‬
”«H'glH+
ngu“ ƒH+3b=
jgl™H+¨‫األوىل‬
:¨I ‫ الطبعة‬jgl™H+†7g–I
:‫عدد الطبعات‬
kN¨œH+k0+}ŸH+ ¡6ҟH+3b=
ngh‡H+3b=
2018/26630jgl™H+†7g–I
¬œ2+bH+t+}2)¹+L—« ¢lH+ :‫رقم اإليداع‬
ngu“ ƒH+3b=
+bN)¹+ F5
278 - 625 - 1ngh‡H+3b=
978 - 977 -jgl™H+†7g–I
¡6ҟH+3b= :‫الرتقيم الدويل‬
©HLbH+ «F}lH+
ngh‡H+3b= +bN)¹+ F5
+bN)¹+ F5
©HLbH+ «F}lH+
©HLbH+ «F}lH+

ĎĘňĿíōĪœďŎøĿí ĎĘňĿíōĪœďŎøĿí
ĎĘňĿíōĪœďŎøĿí
ñȲº úùõ (ÏÄ J* /¸¿ðɎ. .Íû â»Ý âùöĀ darelbasheer@hotmail.com
 ¼öÄοò.J ñíùò.J ÎɋýØ¿ò.J â»Þò.DÎÝ darelbasheeralla@gmail.com
ñȲº‫بكل‬úùõ (ÏÄ
‫ جزء‬J*
‫ منه‬ȒýѸÈò.J ‫ أو‬/¸¿ðɎ.
ȗÎöò. .Íû
‫الكتاب‬
@ýöÒöò.J ‫هذا‬ â»Ý‫يمنع‬
‫طبع‬
ñāÅÒɁò.J âùöĀ :ȝ darelbasheer@hotmail.com
01152806533
÷õÿÞÊH7´ºĈ,DýíÈò.÷õ¸ûÎāæJ
 ¼öÄοò.J
ñȲº ،‫والرتمجة‬ ñíùò.J
úùõ (ÏÄ،‫والنقل‬ ÎɋýØ¿ò.J
،‫والتصوير‬
J* /¸¿ðɎ. â»Þò.DÎÝ
،‫الطبع‬
.Íû â»Ý ‫ طرق‬01012355714
âùöĀ darelbasheeralla@gmail.com
darelbasheer@hotmail.com
 ȒýѸÈò.J @ýöÒöò.J ȗÎöò. ñāÅÒɁò.J :ȝ
elbasheer.marketing@gmail.com
،‫واحلاسويب‬
 ¼öÄοò.J ñíùò.J ‫واملسموع‬
ÎɋýØ¿ò.J ‫املرئي‬ ‫ والتسجيل‬darelbasheeralla@gmail.com
â»Þò.DÎÝ elbasheernashr@gmail.com
÷õÿÞÊH7´ºĈ,DýíÈò.÷õ¸ûÎāæJ
.‫الدار‬
 ȒýѸÈò.J ‫@من‬ýöÒöò.J
‫ بإذن خطي‬ȗÎöò.
‫احلقوق إال‬ ‫وغريها من‬
ñāÅÒɁò.J :ȝ
01152806533
01152806533 - 01012355714
01012355714
01152806533
÷õÿÞÊH7´ºĈ,DýíÈò.÷õ¸ûÎāæJ
01012355714
‫أول‬ ‫حي‬
ƾƫƹǃřŠƘŞƐƫř
ºƷ 1438
‫أسرار‬
ƭ ّ
2017 ‫قصصية‬ ‫مجموعة‬
jgl™H+ 7+
”«H'glH+
‫تأليف‬jgl™H+¨ :¨I
kN¨œH+k0+}ŸH+

‫ رامي قطب‬.‫د‬
¬œ2+bH+t+}2)¹+L—« ¢lH+
ngu“ ƒH+3b=
¡6ҟH+3b=
jgl™H+†7g–I
ngh‡H+3b=
+bN)¹+ F5
©HLbH+ «F}lH+

ĎĘňĿíōĪœďŎøĿí

ñȲº úùõ (ÏÄ J* /¸¿ðɎ. .Íû â»Ý âùöĀ darelbasheer@hotmail.com


 ¼öÄοò.J ñíùò.J ÎɋýØ¿ò.J â»Þò.DÎÝ darelbasheeralla@gmail.com

 ȒýѸÈò.J @ýöÒöò.J ȗÎöò. ñāÅÒɁò.J :ȝ


01152806533
÷õÿÞÊH7´ºĈ,DýíÈò.÷õ¸ûÎāæJ
01012355714
‫‪5‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(إهداء)‬

‫حسه‬
‫حمافظا عىل ّ‬ ‫ً‬ ‫الرجل الذي كان يكتب كام يتك ّلم‪ ،‬ويتك ّلم كام يكتب‪،‬‬ ‫إىل ّ‬
‫اً‬
‫كامل من‬ ‫الرجل املتواضع الذي أهلم اً‬
‫جيل‬ ‫الساخر وخواطره الذكية‪ّ ،‬‬
‫روحيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫الك ّتاب‪ ،‬وينفي عن نفسه الفضل‪ ،‬الرجل الذي اعتربه قراؤه أ ًبا‬
‫ناصحا‪..‬‬
‫ً‬ ‫حقيقيا عطو ًفا داعماً‬
‫ًّ‬ ‫املقربون منه أ ًبا‬
‫واعتربه ّ‬
‫املفضل‪ :‬د‪ /‬أمحد خالد توفيق‪ -‬رمحه اهلل‪.-‬‬ ‫إىل كاتبي ّ‬
‫‪7‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(مق ّدمة)‬

‫قمة االستعداد ك ّلها ّ‬


‫ترتصد آخر حلظات احلياة‪ ،‬نيزك‬ ‫وكاالت األخبار يف ّ‬
‫ُ‬
‫متوجه متا ًما إىل كوكب األرض ليد ّمره‪ ،‬وينهي حيوات‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫برسعة جنونية‬ ‫قادم‬
‫ٌ‬
‫وحضارات قد ازدهرت عليه ملاليني السنني‪.‬‬
‫حمبيهم‬ ‫اختبأ ال ّناس بالبيوت‪ ،‬اتّصلوا بعائالهتم ليو ّدعوهم‪ ،‬واحتضنوا ّ‬
‫جها إىل مرص‪،‬‬ ‫للحظات األخرية‪ ،‬ها هو ذا ال ّنيزك يقرتب‪ -‬يا سادة‪ -‬م ّت ً‬
‫جزء منه حتى تق ّلص‪ ،‬فلماّ‬
‫وحتديدً ا نحو مدينة طنطا‪ ،‬ك ّلام يقرتب ينفصل ٌ‬
‫النظر‪ ،‬فإذا بام تب ّقى منه ليس‬
‫َ‬ ‫كاد يدخل الغالف اجلوي لألرض د ّقق العلامء‬
‫قادم برسعة خارقة‪ ،‬هذا عجيب‪ ..‬هل‬ ‫ً‬
‫نيزكا ح ًّقا‪ ،‬ولك ّنه قالب طوب فضائي ٌ‬
‫ثمة أمل إ ًذا‪.‬‬
‫طوب أن ينهي احلياة عىل كوكب األرض؟! ربام ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن لقالب‬
‫قالب الطوب بشقّ أريض بسيط يف شارع (البحر)‪ ،‬كان جملس‬ ‫يصطدم ُ‬
‫غاص‬ ‫املدينة قد أمهله‪ ،‬ويبدو أنّه قد امتدّ عمي ًقا يف األرض ّ‬
‫ألن قالب الطوب َ‬
‫حي ّأول طنطا بأكمله لينقلب إىل أعىل‪،‬‬‫وحي ثان؛ فاقتلع ّ‬ ‫ّ‬ ‫حي ّأول‬
‫بني ّ‬
‫ّ‬
‫وتتحطم األرض كام كانوا خيشون من‬ ‫وتو ّقع املتابعون أنه سيطري إىل الفضاء‬
‫تدرجييا‬
‫ًّ‬ ‫البداية‪ ،‬ولك ّنه مل يكدْ ينفصل اً‬
‫قليل يف اهلواء حتى تباطأت رسع ُته‬
‫ثبت عىل ُبعد‬‫ثم اقرتب من األرض ببطء حتى َ‬ ‫نتيج ًة للجاذبية األرضية‪ّ ،‬‬
‫بعضهم البعض‪.‬‬ ‫معينّ ‪ ،‬بحيث يرى الناس َ‬
‫إن ذلك قد حدث نتيج ًة ألن‬
‫العلامء يف تفسري ذلك؛ فقال بعضهم ّ‬
‫ُ‬ ‫اختلف‬
‫أخذ معه جز ًءا من ِ‬
‫نواة الكوكب التي حتتوي عىل‬ ‫حي ّأول َ‬
‫الشطر الذي حيمل ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪8‬‬

‫تنافر بينه وبني األرض‪ ،‬لك ّنه بشكلٍ‬


‫رس اجلاذبية األرضية‪ ،‬وبالتايل حدث ٌ‬
‫ّ‬
‫خاضعا للجاذبية األصلية بحيث مل يبتعد متا ًما ومل يقرتب متا ًما ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عام كان‬
‫ريا من العلامء مل يطمئن هلذا القول النظري؛ ّ‬
‫ألن اجلاذبية األرضية يف‬ ‫لكن كث ً‬
‫ّ‬
‫احلقيقة أعقد ِمن هذا‪.‬‬
‫قرر العلامء ّ‬
‫أن هذا‬ ‫حي ّأول؟ ّ‬ ‫إ ًذا‪ ..‬فام هو ُ‬
‫سبب ال ّتنافر؟ وملاذا مل يسقط ّ‬
‫األمر حيتاج الكثري من الدراسة؛ ّ‬
‫ألن هذه ظاهرة فريدة مل يسبقْ هلا مثيل عىل‬
‫أي كوكب عىل حدّ علم البرش احلايل!‬
‫ّ‬
‫حي أول‪ ،‬حفر ٌة كبرية بعيدة القرار‪ ،‬ومن‬ ‫َ‬
‫مكان ّ‬ ‫اآلن هناك فجو ٌة هائلة‬
‫حي ثان‪ ،‬وليس فوق احلفرة‪،‬‬ ‫استقر متا ًما فوق ّ‬
‫ّ‬ ‫أول قد‬
‫حي ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫ُحسن ّ‬
‫احلظ ّ‬
‫األمر خمي ًفا‪ ،‬والليايل األوىل كانت‬
‫ُ‬ ‫وإلاّ فام ندري العواقب‪ .‬بالطبع كان‬
‫السكان خارج البلدة يبيتون يف الشّ وارع خشية أن َ‬
‫يقع‬ ‫ُمرعبة‪ ،‬خرج أغلب ّ‬
‫استقر‪ ،‬وخرج العلامء يف ال ّتلفاز‬
‫ّ‬ ‫ثم ملّا رأوا ّ‬
‫أن األمر قد‬ ‫حي ّأول عليهم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫اضطر‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى ليعيشوا تلك ال ّتجربة الفريدة؛‬‫بالرجوع ّ‬
‫يطمئنون اجلميع ّ‬
‫يطمئن عىل أقربائه يف‬
‫ّ‬ ‫كل منهم‬ ‫َ‬
‫وأخذ ٌّ‬ ‫مرة أخرى إىل منازهلم‬
‫الناس للعودة ّ‬
‫احلي اآلخر‪.‬‬
‫ّ‬
‫حي ثان‪ ،‬كان‬
‫ريا عن ّ‬
‫حي ّأول مل يرتفع كث ً‬ ‫من ُحسن احلظ كذلك ّ‬
‫أن ّ‬
‫حي ّأول خائفني مثل أهلِ ّ‬
‫حي ثان متا ًما‪ ،‬بل أكثر؛‬ ‫األصدقاء واجلريان يف ّ‬
‫وقت‬
‫َ‬ ‫فإنم الذين قد طاروا إىل الفضاء‪ ،‬وقد كانوا مخُ تبئني يف املنازل‬
‫هّ‬
‫استقر األمر؛ خرجوا لريوا ما حدث‪ ،‬مل يفهموا يف‬
‫ّ‬ ‫ثم ملّا‬
‫االصطدام كاجلميع‪ّ ،‬‬
‫حي ثان ُه ُم الذين انقلبوا‪ ،‬لك ّنهم حني‬ ‫البداية هّأنم انقلبوا‪ ،‬فقد ظ ّنوا ّ‬
‫أن أهل ّ‬
‫‪9‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫أي يشء يذهب إىل هناك‬ ‫احلي مبتورة‪ّ ،‬‬


‫وأن ّ‬ ‫خرجوا من بيوهتم رأوا ّ‬
‫أن حدود ّ‬
‫يقع إىل أعىل ويتهشّ م متا ًما‪.‬‬
‫ُ‬
‫كل منهم إىل احلافة‬‫احلل؛ فليذهب ّ‬ ‫أن هذا هو ّ‬ ‫املتحمسني ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فكر بعض‬
‫حي ثان‪ -‬ليلتقطوه من‬ ‫ويرمي نفسه إىل أعىل‪ -‬الذي هو األسفل بالنسبة إىل ّ‬
‫لكن املسافة كانت شاهقة‪ ،‬ومل يرغب أحدٌ يف املخاطرة‪.‬‬‫عندهم‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫كجزء من محلتها‬ ‫عرضت إحدى رشكات املياه الغازية أن تنفقَ أموالاً‬
‫اإلعالنية لعمل مواصالت عىل شكلِ أنبوب أو أكثر ّ‬
‫بقوة الشّ فط يصل بني‬
‫رحب اجلميع بالفكرة‪،‬‬ ‫حي ثان‪ّ ،‬‬ ‫وآخره يف ّ‬
‫ُ‬ ‫حي ّأول‬
‫احليني؛ يكون ّأوله يف ّ‬
‫ّ‬
‫تسجل ما‬
‫وكل وكاالت األنباء العاملية ّ‬ ‫تم تنفيذها يف أرسع وقت‪ّ ،‬‬ ‫وبالفعل ّ‬
‫حيدث حلظة بلحظة‪ ،‬وجاء ٌ‬
‫فريق من مدينة اإلنتاج اإلعالمي ملعاينة املوقع‪،‬‬
‫وآخر باألسفل لتكوين موقع تصوي ٍر متكامل‬ ‫َ‬ ‫متميزا باألعىل‬
‫ً‬ ‫موقعا‬
‫واختاروا ً‬
‫ّ‬
‫ستستغل الظاهرة‬ ‫لتأجريه لتصوير عدّ ة أفالم ملوسم عيد ْ‬
‫الفطر القادم التي‬
‫التي حدثت يف إطا ٍر درامي‪.‬‬
‫بعض قنوات االتّصال بني‬ ‫يف تلك األثناء‪ ،‬كان العبو الكرة قد وجدوا َ‬
‫حي ثان‪ ،‬بينام كان‬‫ألن بعض أعضاء فريق نادي طنطا كانوا يسكنون ّ‬ ‫اجلانبني ّ‬
‫معا‪ ،‬وأحيا ًنا يتامزحون‬ ‫ال ّنادي يف حي ّأول‪ ،‬لذلك كانوا يتابعون تدريبهم ً‬
‫َ‬
‫تدخل‬ ‫ثم ال تلبث أن‬ ‫تدرجييا‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬ ‫بقوة جتاه األعىل ّ‬
‫فتقل رسعتها‬ ‫برضب الكرة ّ‬
‫مرة أخرى إىل أن تصل إىل اجلانب اآلخر‪.‬‬ ‫جمال اجلاذبية اآلخر فتزيد رسع ُتها ّ‬
‫األنبوبية‪ ،‬كان الزحام رهي ًبا يف البداية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وحينام انتهى ُ‬
‫عمل املواصالت‬
‫فكل شخص يريد أن يذهب إىل اجلهة األخرى؛ الذين يف‬ ‫ثم انتظم فيام بعد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫املنظر من أعىل‪ ،‬واجلريان فوق يريدون‬ ‫ُ‬ ‫أن يروا كيف يبدو‬‫األسفل يريدون ْ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪10‬‬

‫مرة‬
‫جيربوا احلياة الطبيعية ثانية‪ ،‬باإلضافة إىل رؤية األصدقاء واألقارب ّ‬
‫أن ّ‬‫ْ‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ِ‬
‫شبكات تقوية عىل اجلانبني‬ ‫رشكات االتصاالت بعمل‬
‫ُ‬ ‫وعىل الفور‪ ،‬قامت‬
‫اخلاصة بتوفري بدائل ّ‬
‫للطاقة للجزء املفصول‬ ‫ّ‬ ‫لتقوية االتّصال‪ ،‬وقامت الشرّ كات‬
‫األجانب الذين جاءوا للدّ راسة أو السياحة والتصوير‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كثر‬
‫عن األرض‪ ،‬كام َ‬
‫تم توصيل‬ ‫السلع مثل ّ‬
‫النظارات املكبرّ ة وأصابع الليزر‪ ،‬كام ّ‬ ‫راجت ُ‬
‫بعض ّ‬
‫حبال غسيلٍ طويلة جدًّ ا بني بعض البنايات يف اجلانبني مستند ًة إىل بكرة‬
‫بحيث يمكن لأل ّمهات يف الشرّ فات تبادل األشياء بربطها إىل احلبل وتدوير‬
‫ال َب َكرة بموتور صغري حتى تصل إىل اجلانب اآلخر‪.‬‬
‫غسيلهن‬
‫ّ‬ ‫يقطن يف األدوار العلوية ّ‬
‫يغطني‬ ‫ّ‬ ‫السيدات الاليت‬
‫صارت بعض ّ‬‫ْ‬
‫املنشور غري ُم ْقتنعات ّ‬
‫بأن قطرات غسيل ال ّناس الذين يف األعىل من املستحيل‬
‫اخلاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫غسيلهن ّ‬
‫ألن هلم جاذبيتهم‬ ‫ّ‬ ‫أن تؤذي‬
‫وبالطبع‪ ،‬صار املجتمع مكشو ًفا بشكلٍ غري مسبوق‪ ،‬فباستخدام املناظري‬
‫وأنت عىل سطح بيتك‪ ،‬بل يف غرفتك‬ ‫َ‬ ‫أي ٍ‬
‫أحد أن يراك‬ ‫املكبرّ ة صار بإمكان ّ‬
‫أكثر انغال ًقا‬
‫أغلب الناس نتيج ًة لذلك َ‬
‫ُ‬ ‫إن تركت ال ّنافذ َة مفتوحة‪ ،‬فبينام صار‬ ‫ْ‬
‫أكثر جرأ ًة ّ‬
‫وأقل‬ ‫ُ‬
‫البعض اآلخر َ‬ ‫والتزا ًما باآلداب العا ّمة داخل بيوهتم؛ صار‬
‫وليكن ما يكون‪.‬‬
‫ْ‬ ‫بمن يراقبهم‬ ‫اكرتا ًثا َ‬
‫بعض األحداث واحلوادث ُنق ُّ‬
‫ص‬ ‫يف ّ‬
‫ظل هذه األحوال اجلديدة‪ ،‬وقعت ُ‬
‫َ‬
‫بعضها يف الصفحات اآلتية‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(ثق بقلبك)‬
‫ْ‬
‫رأسه ونظر إىل أصحابه وقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫حك (جاك) َ‬
‫‪ -‬ماذا سنفعل اآلن؟‬
‫قال (روكي)‪:‬‬
‫اً‬
‫طويل‪ ،‬أنا مل أعدْ أفهم‪.‬‬ ‫‪ -‬لقد انتظرنا‬
‫كانت (ماجي) متدّ د جسمها عىل األرض باكي ًة منذ الصباح‪ ،‬تساءلت‪:‬‬
‫أن شيئًا غري ًبا سيحدث‪ ،‬كان‬ ‫يكن ينبغي ع ّ‬
‫يل أن أتركها‪ ،‬كنت أشعر ّ‬ ‫‪ -‬مل ْ‬
‫مهام حدث‪ ،‬اآلن ال أدري أين هي! ولع ّلها غاضبة م ّني‪،‬‬ ‫ع ّ‬
‫يل أن ّ‬
‫أظل معها ْ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫وال تريدين ّ‬
‫مرة أخرى‪:‬‬
‫تدخل (جاك) ّ‬
‫ّ‬
‫كالب يف نظرهم‪ ،‬ولك ّنها احلقيقة‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫كفاك بكا ًء يا (ماجي)‪ ،‬فام نحن إلاّ‬ ‫‪-‬‬
‫نترصف بغرائزنا ُ‬
‫ونثق بقلوبنا‪.‬‬ ‫جمرد كالب‪ ،‬لذلك ّ‬ ‫أيضا نحن ّ‬‫ً‬
‫أول جتتمع ّ‬
‫كل يوم منذ حصل االنقالب‬ ‫حي ّ‬
‫الكالب املوجودة يف ّ‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ُ‬
‫رائحة أصحاهبم‪ ،‬فال يدرون كيف يعودون‬ ‫احلي؛ حيث انقطعت‬ ‫عىل أطراف ّ‬
‫إليهم‪ ،‬وال يفهمون شيئًا ممّا حدث‪.‬‬
‫مرة أخرى كام‬ ‫كانوا‪ -‬حينئذ‪ -‬قراب َة الثالثني مجُ تمعني ّ‬
‫لعل األرض ترجع ّ‬
‫كانت فيعودوا ألصحاهبم!‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪12‬‬

‫اهلوة التي تيل األرض التي يقفون‬


‫تنظر لألسفل يف ّ‬
‫قالت (صويف) وهي ُ‬
‫ْ‬
‫عليها‪:‬‬

‫رصنا إذا نظرنا إىل‬


‫للسامء‪ ،‬أعني انظروا كيف ْ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫لعل أصحابنا قد ذهبوا ّ‬
‫األسفل نجدُ ّ‬
‫السامء!‬

‫قال (هنري) بعصبية‪:‬‬

‫السامء ال تكون يف األسفل أبدً ا‪ ،‬بل يف األعىل‪.‬‬


‫‪ّ -‬‬
‫ر ّدت (صويف) يف عناد‪:‬‬

‫َ‬
‫األرض وبيو ًتا عادية؟‬ ‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬ملاذا حني ُ‬
‫أنظر إىل أعىل أرى‬

‫ر ّد (هنري)‪:‬‬

‫أكن ألقف معكم هنا‪،‬‬ ‫ُ‬


‫أعرف اإلجابة مل ْ‬ ‫ٌ‬
‫سؤال غبي مثلك‪ ،‬لو كنت‬ ‫‪-‬‬
‫السامء كام تقولني؛ هناك يشء غري منطقي يف‬
‫لك ّنهم بالتأكيد مل يصعدوا إىل ّ‬
‫ّ‬
‫كل هذا‪.‬‬

‫وهم بيشء‪ ،‬فن ََهره (جاك) وهو يقول‪:‬‬


‫رفع (ماكس) قد َمه اخللفية ّ‬
‫‪ -‬إ ّياك أن تفعل! يا أخي‪ ،‬احرتم هؤالء املوجودين‪.‬‬
‫ُ‬
‫ينرصف ببطء‪:‬‬ ‫فنبح (ماكس) يف ضيق‪ ،‬وقال وهو‬
‫َ‬
‫‪ -‬ال بأس‪ ،‬سأفعلها بعيدً ا‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫فالتفت (جاك) إىل (هنري) اً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫َ‬
‫ريا‪،‬‬
‫ريا كث ً‬ ‫ً‬
‫صاحلا يعمل خ ً‬ ‫‪ -‬ر ّبام تكون (صويف) حم ّقة! فصاحبي كان اً‬
‫رجل‬
‫ريا عىل هذا العمل العظيم‪ ،‬ليتَه أخذين معه‪ ،‬سأكون‬
‫ال بدّ أنه قد كوفئ أخ ً‬
‫السامء‪.‬‬
‫كل َبه الويف حتى يف ّ‬
‫غضب (هنري)‪:‬‬
‫رجل ً‬
‫فظا‬ ‫السامء بينام كان اً‬‫يذهب صاحبي مع صاحبك إىل ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬وملاذا إذن‬
‫يكن يحُ سن إلاّ إ ّيل ألنيّ كنت أمحيه من‬ ‫ّ‬
‫والكل يكرهه‪ ،‬مل ْ‬ ‫ييسء إىل اجلميع‪،‬‬
‫أعدائه؟‬
‫رأسه بقدمه وسكت‪.‬‬
‫حيك َ‬ ‫َ‬
‫أخذ جاك ّ‬

‫تقدّ مت (جيسيكا) ببطء إىل احلا ّفة‪ ،‬وجلست مقعي ًة وقد أدلت برأسها‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫السامء ّ‬ ‫اً‬
‫قليل لرتى ّ‬
‫‪ -‬أعتقدُ أنّنا ينبغي علينا ّ‬
‫الذهاب إليهم أينام كانوا!‬
‫‪ -‬لك ّننا ال نعرف أين ذهبوا‪ ،‬رائح ُتهم قد انقطعت متا ًما عند هذه األطراف‬
‫املهجورة‪.‬‬
‫السامء مثلهم‪.‬‬
‫‪ -‬أعني أن نذهب إىل ّ‬
‫صاحت (صويف) فرحة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬فأنت تعتقدين ذلك ً‬
‫أيضا؟‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪14‬‬

‫‪ -‬ال أعرف‪ ،‬ر ّبام‪ ،‬أعني هّأنم بالتأكيد كانوا يف ذلك االتجّ اه‪ ،‬ر ّبام ُهم ال‬
‫بأنم ال يزالون‬ ‫نستطيع رؤيتهم‪ ،‬قلبي خيربين هّ‬
‫ُ‬ ‫يزالون هناك‪ ،‬ونحن فقط ال‬
‫هناك‪.‬‬
‫أيضا خيربين بذلك‪ ،‬ومل حيدث ّ‬
‫قط ْ‬
‫أن أخربين قلبي بيشء ومل‬ ‫‪ -‬قلبي ً‬
‫حيدث‪.‬‬
‫قال (هنري)‪:‬‬
‫اهلوة التي ستقعان فيها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫األقل انظرا إىل تلك ّ‬ ‫‪ -‬هل تريدان ْ‬
‫أن تقفزا؟ عىل‬
‫الساموية؟ ستموتان ميتة شنيعة!‬ ‫ِ‬
‫احلفرة ّ‬ ‫قرارا؟ أين هناية‬
‫هل تريان هلا ً‬
‫للتدخل بحزم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫هنا‪ ،‬عاد (جاك)‬
‫حر‪ ،‬أ ّما أنا فمعكام‬ ‫دع َك م ّنا يا (هنري) إن كنت ال تصدّ ق قلبك َ‬
‫فأنت ّ‬ ‫‪ْ -‬‬
‫يا (صويف) و(جيسيكا)‪ ،‬قلبي خيربين هّأنم عىل اجلانب اآلخر‪.‬‬
‫ونظرت إىل بقية الكالب ملقي ًة كلامهتا احلامسية‪:‬‬
‫ْ‬ ‫تراقصت (صويف)‬
‫ْ‬
‫إن العني قد ختطئ‪ ،‬واألنف‬ ‫‪ -‬يا إخويت‪ ،‬عليكم أن تبحثوا يف قلوبكم‪ّ ،‬‬
‫أيضا قد خيطئ‪ ،‬صحيح أنّه نادر؛ لك ّنه احتامل‪ ،‬أ ّما القلب فال‪ ،‬اسألوا‬ ‫ً‬
‫أنفسكم‪ ..‬هل تؤمنون ح ًّقا بوجود أصحابكم عىل اجلانب اآلخر؟ هل أن ُتم‬
‫مستعدّ ون للعبور إليهم‪ ،‬أم ال؟‬
‫حواس الكالب فجأة‪ ،‬وقد أصابتهم القشعريرة من صدق‬ ‫ّ‬ ‫انتبهت‬
‫ْ‬
‫شعر بتلك القشعريرة لك ّنه كان خائ ًفا‪ ،‬وبدأ اآلخرون‬
‫كلامهتا‪ ،‬حتى (هنري) َ‬
‫بصوت واحد‪ ،‬والدموع ملء أعينهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف القيام واالجتاه إليها‪ ،‬وال ّنباح‬
‫‪15‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫قالت (صويف)‪:‬‬
‫مجيعا إىل‬
‫مجيعا؛ لنقفز ً‬
‫هيا يا إخويت ً‬
‫هيا يا (جاك)‪ّ ،‬‬
‫‪-‬هيا يا (جيسيكا)‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫رعونا ووعدْ ناهم بالوفاء ما حيينا‪ ،‬إىل اجلانب‬
‫السامء‪ ،‬إىل أصحابنا الذين ْ‬
‫ّ‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫فقررت (جيسيكا)‬ ‫ٍ‬
‫لربهة من الوقت‪ّ ،‬‬ ‫وقفوا ص ًّفا واحدً ا ومل ّ‬
‫يتحرك أحد‬
‫وتشجعهم فقفزت معتقد ًة هّأنا ستنزل ألسفل إىل ّ‬
‫السامء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن تستبق األمر‪،‬‬
‫حي ثان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حي ّأول إىل جاذبية األرض الطبيعية يف ّ‬‫جاذبية ّ‬ ‫فإذا هبا خترج من‬
‫ألنم مل‬
‫لبقية الكالب عىل أنّه معجزة هّ‬
‫فسقطت إىل األعىل‪ ،‬األمر الذي بدا ّ‬
‫بقية الكالب واحدً ا تلو اآلخر لريتفعوا إىل األعىل‬
‫يروا إىل أين وصلت! فقفز ّ‬
‫َ‬
‫رجف قل ُبه من روعة املنظر‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫برسعة خارقة حتى مل يتبقّ إىل (هنري) الذي‬
‫قال لنفسه بصوت مرتفع وهو يبكي‪:‬‬

‫‪ -‬لقد كانوا حم ّقني‪ ،‬هّإنم ح ًقا يذهبون إىل ّ‬


‫السامء‪ ،‬انتظروين يا إخويت؛ أنا‬
‫قادم‪.‬‬
‫اهلوة برسعة وقفز‪ ..‬إىل اجلانب اآلخر‪.‬‬
‫وتقدّ م إىل طرف ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪16‬‬

‫(سامح المتسامح)‬

‫أحب َمن حويل‪ ،‬وال أمحل هلم ضغينة‪ ،‬لذلك يقومون أحيا ًنا‬ ‫ّ‬ ‫إنّني‬
‫ري أنيّ‬
‫باستغاليل‪ ،‬لك ّني أعذرهم ألنيّ لو كنت مكاهنم لر ّبام فعلت املثل‪ ،‬غ َ‬
‫ال أفعل‪..‬‬

‫أقرب شخص يل‪ ،‬شخصي ُته قوية‪ ،‬عكيس متا ًما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صديقي (سعد) هو‬
‫ّ‬
‫والكل‬ ‫ٍ‬
‫جملس يكون له الصوت األعىل‪،‬‬ ‫حيبه من حوله وأنا منهم‪ ،‬إذا ك ّنا يف‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫حمظوظ ألنه ريض بمصادقتي‪.‬‬ ‫ينصت يف اهتامم‪ ،‬يف احلقيقة أنا‬

‫ثم نقيض‬ ‫ّ‬


‫كل يوم ي ّتصل يب ألقابله يف بيته‪ ،‬وأجلب له معي شيئًا لنأكله‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بغضب‪ ،‬واشتبكا باأليدي‪،‬‬ ‫معا‪ ،‬ويو ًما ما رأيته يتشاجر مع جا ٍر له‬
‫سائر اليوم ً‬
‫لكن جسدي الضعيف أ ّدى يب إىل الضرّ ب املربح من ذلك‬
‫أتدخل ّ‬
‫حاولت أن ّ‬
‫اجلار فغضبت منه غض ًبا شديدً ا‪ ،‬لك ّني كتمته يف نفيس ألنيّ ليس بيدي يشء‬
‫املارة‪ ،‬وعرفت من (سعد)‪ -‬فيام بعد‪ّ -‬‬
‫أن‬ ‫تدخل ّ‬‫ثم تصاحلا بعد ّ‬
‫لضعفي‪ّ ،‬‬
‫الشّ جار كان له عالقة باملخدّ رات‪.‬‬

‫حي أول‪ ،‬وحني سمعنا بخرب‬


‫ك ّنا نسكن يف (حارة املغاربة) يف أطراف ّ‬
‫األمر بسهولة‪ ،‬هل سنموت؟ هل ستفنى احلياة‬
‫َ‬ ‫اصطدام ال ّنيزك مل نستوعب‬
‫املليونية‬
‫ّ‬ ‫عىل ُ‬
‫الك َرة األرضية؟ مل نصدّ ق أ ًّيا من ذلك‪ ..‬ليس بعد تلك السنني‬
‫تد ّمر األرض هكذا ببساطة‪ ،‬ال بدّ من مقدّ مات عىل األقل!‬
‫‪17‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ال أعرف ما الذي دهاين‪ -‬عىل عكس أغلب الناس‪ -‬مل أختبئ يف املنزل‬
‫ٍ‬
‫لسبب‬ ‫أشجع قرار اتخّ ذته يف حيايت ك ّلها‪ ،‬لك ّنه كان‬
‫َ‬ ‫يوم ال ّنيزك‪ ،‬وكان هذا‬
‫بسيط وهو ّ‬
‫أن هؤالء القابعني يف البيوت ْ‬
‫إن د ّمر النيزك األرض فسيموتون‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬فام فائدة االختباء طاملا ال يؤمنون باألمل؟‬
‫وتعجب (سعد) من فعيل‪،‬‬‫ّ‬ ‫سخر م ّني أصحايب وغضب م ّني ُ‬
‫بعضهم‪،‬‬
‫أي‬
‫مجيعا أين لن حيدث يل ّ‬ ‫وبكت ع ّ‬
‫يل أ ّمي‪ ..‬لك ّني طمأنتهم ً‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫وحذرين أهيل‬
‫وأن النيزك لن يصطدم باألرض اً‬
‫أصل‪.‬‬ ‫يشء‪ّ ،‬‬

‫لك ّني كنت خمطئًا‪..‬‬


‫املارة‬
‫نمت عىل األرض يف منتصف شارع (البحر) املهجور من ّ‬ ‫كنت قد ُ‬
‫السامء برت ّقب‪ ،‬هل ترى سيأيت ح ًّقا؟‬
‫أنظر إىل ّ‬
‫ُ‬
‫السامء صافية متا ًما‪ ،‬وفجأة ظهر يشء أسود من الفراغ يقرتب‬
‫كانت ّ‬
‫َ‬
‫حدث‬ ‫لكن االصطدام‬
‫وجريت نحو حارتنا‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫مرسعا‬
‫ً‬ ‫برسعة خارقة‪ ،‬قمت‬
‫وسقطت عىل رأيس ففقدت وعيي متا ًما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حي ّأول‬
‫وانقلب ّ‬
‫فرتة طويلة ألنيّ وجدت نفيس يف مستشفى مغطى‬ ‫يبدو أنيّ أفقت بعد ٍ‬
‫كوكب‬
‫ُ‬ ‫بمالءة خفيفة‪ ،‬واملحاليل املغذية ت ّتصل بأورديت‪ ..‬إ ًذا‪ ،‬فقد نجا‬
‫قلت لكم‪ ،‬حاولت اجللوس ببطء‪ ،‬فلم أستطع‬
‫األرض يا أصدقائي كام ُ‬
‫حتريك جسدي فأرسعت إىل املمرضة‪:‬‬
‫‪ -‬محدً ا هلل عىل سالمتك يا (سامح)‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪18‬‬

‫‪ -‬س ّلمك اهلل‪ ،‬كيف عرفت اسمي؟‬


‫‪ -‬وجدنا بطاقة هو ّيتك معك حني جئت للمستشفى‪ ،‬أنت ُهنا منذ شه ٍر‬
‫كامل يف غيبوبة من بعد االصطدام‪.‬‬
‫‪ -‬اصطدام؟!‬
‫ري من األحداث‪ ،‬ستعرف ّ‬
‫كل يشء بالتدريج‪ ،‬قد تشعر‬ ‫‪-‬لقد فاتك الكث ُ‬
‫باخلدر يف أعضائك هذا طبيعي‪ ،‬لن تستطيع القيام مبارشة من أثر الغيبوبة‬
‫األطباء يتابعون‬
‫ّ‬ ‫ونتائج حتاليلك مذهلة اً‬
‫فعل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نجوت بمعجزة‪،‬‬
‫َ‬ ‫الطويلة‪ ،‬لقد‬
‫حالتك بانبهار‪.‬‬
‫تظهر عالمات ال ّتغري تزامنًا مع معرفتي بتفاصيل انقالب‬
‫ُ‬ ‫حينئذ‪ ،‬بدأت‬
‫السامء من نافذة املستشفى رهي ًبا‬
‫األول‪ ،‬وأنيّ اآلن يف األعىل‪ ،‬كان منظر ّ‬
‫حي ّ‬
‫أرسع من املعتاد يف مثل‬
‫َ‬ ‫رسيعا‬
‫ً‬ ‫قمت‬ ‫حي ّأول‪ ..‬وسامؤنا حي ٍ‬
‫ثان‪ُ ،‬‬ ‫فأرضنا ّ‬
‫رصت أقوى‪ ،‬اكتشفت مع الوقت‬ ‫ُ‬ ‫شعرت بطاقة غريبة‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫هذه الغيبوبة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأكد يل األطباء يف ذهول ّ‬
‫أن ال ّنيزك قد منحني قو ًة خارقة‪ ،‬حاولت إخفاءها‬
‫لك ّني مل أستطع‪ ،‬لقد رصت (سوبر سامح) فيام يبدو!‬
‫أحب هذا‪ ،‬وحني عرف (سعد)‬
‫ّ‬ ‫رصت أساعد ال ّناس بقويت اجلديدة‪ ،‬فإنيّ‬
‫ُ‬
‫الصور‪ ،‬شعرت باحلرج لك ّني تركته‬ ‫صار يأخذين ألصدقائه يلتقطون معي ّ‬
‫يستغ ّلني بإراديت‪ ،‬حتى إنّه كان جيعلني ُ‬
‫أرفع أشياء ثقيلة وأد ّمر َ‬
‫بعض األشياء‬
‫وص ّب ع ّ‬
‫يل غيظه‪ ،‬سألني‪:‬‬ ‫جن جنو ُنه َ‬
‫أبديت ضيقي ّ‬
‫ُ‬ ‫ليبهر أصحابه‪ ،‬وحني‬
‫أين أصبت بالضبط؟‬
‫‪19‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫فقدت فيه وعيي‪ ،‬لقد كان عند أطراف احلي متا ًما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أخرب ُته باملكان الذي‬
‫بكل الطرق‪ ،‬رافقته وهو جيلس هناك‬ ‫بقوة مثلها ّ‬ ‫ألن حيظى ّ‬‫سعى ْ‬
‫قوة مثل ما أعطتني‪ ،‬أخذ‬ ‫لعل طاق ًة ما تكون هنالك فتعطيه ّ‬
‫بالساعات ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحسس عضالته ويغلق عينيه ويتن ّفس بعمق‪ّ ،‬‬
‫لكن شيئًا مل حيدث‪ ،‬لقد‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بطريقة ما‪.‬‬ ‫كانت الطاقة وقت االرتطام فقط وتوزّ عت‬
‫قلت له‪:‬‬
‫وأي يشء تريده سأن ّفذه لك ّ‬
‫بكل‬ ‫‪-‬ال تقلق يا (سعد)‪ ،‬أنت صاحبي‪ّ ..‬‬
‫حب‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بحزن عميق‪ ..‬ملاذا اغتاظ م ّني؟‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫فنظر يل بغيظ وانرصف إىل بيته‪،‬‬
‫َ‬
‫أي شخص‪ ،‬لك ّني عذرته لغضبه من عدم‬ ‫أن أخرسه كصديق يتم ّناه ّ‬ ‫خفت ْ‬
‫ُ‬
‫ْني ِله قويت‪ ،‬و َمن ذا الذي ال يتم ّنى ّ‬
‫قوة مثل تلك! لك ّنه قاطعني عدّ ة أيام؛ ال‬
‫كالم وال سالم‪ ،‬ويو ًما ما جاءين أحدُ أصحابه الذين كانوا يشاهدونني يف‬
‫حيبني‪ ،‬وقال‬
‫وتعجب من صبرْ ي عليه‪ ،‬قال إنّه يستغلني وال ّ‬
‫ّ‬ ‫عروضه تلك‪،‬‬
‫قوته جيدً ا‪ ،‬وعرض ع ّ‬
‫يل أن يساعدين أن أصل‬ ‫ّ‬
‫يستغل ّ‬ ‫إن َمن هو مثيل ال بدّ أن‬‫ّ‬
‫لكن (سعدً ا)‬
‫كالمه فوافقت‪ّ ،‬‬
‫نقود أو نفوذ‪ ،‬أغراين ُ‬‫بقويت ملا شئت من قوة أو ٍ‬ ‫ّ‬
‫فورا‪ ،‬فذهبت إليه يف سعادة ّ‬
‫لعل املياه‬ ‫اتّصل يب ذات ليلة وأخربين أنّه يريدين ً‬
‫تعود إىل جمارهيا‪ ،‬فوجدته يتشاجر مع جا ِره الذي تشاجر معه قبل ال ّنيزك ومل‬
‫أستطع إنقاذه وقتها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬أنقذين يا صديقي (سامح)‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪20‬‬

‫بغضب إىل جاره الذي ارتعدَ ملّا رآين؛ ملَا عرفه من ّ‬


‫قويت اجلديدة‬ ‫ٍ‬ ‫فتوجهت‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بغضب فارتدّ ليصطدم‬ ‫وسعدت ّ‬
‫ألن هذه فرصتي لالنتقام؛ فرضب ُته يف وجهه‬
‫ٍ‬
‫بعنف‪ ،‬فكان جلسده‬ ‫قويت فاصطدم‬‫ثم رفعته بيدي‪ ،‬ورميته بأقىص ّ‬‫باحلائط‪ّ ،‬‬
‫أثر يف األرض وقد َ‬
‫فارق احلياة‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫لتوي قد قتلت‬ ‫ٍ‬
‫برعب غري مصدّ ق أنيّ ّ‬ ‫ألقرتب منه‬
‫َ‬ ‫أفقت من غضبي‬
‫ُ‬
‫نظرت إىل (سعد) الذي كان حيدق ّ‬
‫يف بذهول‪ ،‬وملّا وجدين‬ ‫ُ‬ ‫إنسا ًنا ال أعرفه‪،‬‬
‫يكن هناك أحدٌ يف الشارع غرينا‪ ،‬لك ّني نظرت إىل أعىل‬
‫فر هار ًبا‪ ..‬مل ْ‬
‫أنظر إليه ّ‬
‫ُ‬
‫كل يشء‪ ،‬كان جيلس فوق سطح‬ ‫حي ّأول‪ ،‬هناك َمن يراقبني وقد رأى ّ‬ ‫إىل ّ‬
‫ٍ‬
‫للحظة قبل أن‬ ‫وجهه‬
‫لكن باب السطح فتح فجأة‪ ،‬فرأيت َ‬ ‫بيت ما يف الظالم ّ‬ ‫ٍ‬
‫السطح وخيتفيا عن ناظري‪ ،‬لك ّني أعرف مكان تلك‬
‫يرسع إىل َمن فتح باب ّ‬
‫البناية جيدً ا‪.‬‬
‫رأسا عىل عقب‪ ،‬أين (سعد)؟ أخطو برسعة‬
‫أشعر باألسى‪ ،‬حيايت تنقلب ً‬
‫ُ‬
‫إىل بيته‪ ،‬أطرق الباب فال يفتح‪ ،‬أقتحم البيت أجدُ ه يرتعد يف زاوية البيت وهو‬
‫وأنزل حاجبي إىل وضع اهلدوء‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأغمض عيني‬ ‫ينظر إ ّيل‪ُ ،‬‬
‫أمللم غضبي‬
‫‪-‬ملاذا يا (سعد) تركتني وهربت؟ أال تدري أنيّ فعلت هذا من أجلك؟‬
‫‪ -‬أنا مل أطلب منك ْ‬
‫أن تقتله!‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فأنزهلام بصعوبة وأقول ببطء‪:‬‬
‫يتصاعد حاجباي غض ًبا ّ‬
‫‪ -‬لقد مت ّلكني الغضب لك‪ ،‬هذا ليس ِمن طباعي‪ ،‬مل ْ‬
‫أكن أبدً ا غضو ًبا‪،‬‬
‫حل!‬ ‫كن معي يف حمنتي ّ‬
‫وفكر معي يف ّ‬ ‫ّ‬
‫األقل ْ‬ ‫عىل‬
‫‪21‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫قال بتوتر‪:‬‬

‫‪ -‬أنا لست معك‪ ،‬هذا شأنك وحدَ ك‪ ،‬ال ّ‬


‫تورطني يف جريمة مل أرتكبها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بقبضة واحدة‪:‬‬ ‫امحر وجهي‪ ،‬أمسك ُته من رقبته ورفعته عال ًيا عن األرض‬
‫ّ‬
‫لست معي إ ًذا‪ ..‬فأنت ضدّ ي‪ ،‬لطاملا كنت تستخدمني ألجل‬
‫‪-‬ما دمت َ‬
‫تستغل ضعفي وطيبتي‪ ،‬أنت‬ ‫ّ‬ ‫مصاحلك‪ ،‬ظنن ُتك صاحبي وأنت تستغ ّلني‪،‬‬
‫مفر إ ًذا ِمن قتلك‬
‫وإن تركتك تعيش ستشهد ضدّ ي‪ ،‬ال ّ‬‫الذي أوقعتني يف هذا ْ‬
‫يا (سعد)‪.‬‬
‫قوة‬
‫يرضب بقدميه هباء‪ ،‬فأزيد من ّ‬
‫ُ‬ ‫وضغطت بقبضتي عىل رقبته وهو‬
‫ُ‬
‫قبضتي إىل ْ‬
‫أن فارق احلياة‪.‬‬
‫دور الشّ اهد‬
‫فأول قتلة حقيقية يل‪ ،‬واآلن حان ُ‬
‫األوىل ال حتسب‪ ،‬أ ّما هذه ّ‬
‫احلي اآلخر‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬ع ّ‬
‫يل أن أعرب أنابيب املواصالت إىل ّ‬
‫أن ذلك الشخص كان أرسع م ّني فقد قام بإبالغ‬ ‫لكن ما حدث بعدها ّ‬ ‫ّ‬
‫صوره يل وأنا أقتل جار (سعد)‪ ،‬لذلك‬ ‫الرشطة عماّ حدث‪ ،‬وأرسل فيديو قد ّ‬
‫قصصت عليكم ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫قبضتم عيل أثناء مروري من األنابيب‪ ،‬وها أنا ذا قد‬
‫ٍ‬
‫بجهد أكرب‬ ‫أستطيع قتل الكثريين منكم‪ ،‬وأحاول اهلرب‬
‫ُ‬ ‫يشء‪ ،‬رغم أين كنت‬
‫قويت‪ ،‬لكن وما الفائدة؟‬ ‫اًّ‬
‫مستغل ّ‬
‫املرة‬
‫جار (سعد) قد رضبني بعنف يف ّ‬ ‫ر ّبام السبب يف ما أنا فيه اآلن ّ‬
‫أن َ‬
‫األوىل فو ّلد عندي رغب ًة باالنتقام! لك ّني ّ‬
‫متأكد ّ‬
‫أن هذه القوة اخلارقة التي‬
‫أتت إىل الشّ خص اخلطأ‪.‬‬
‫أصابتني قد ْ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪22‬‬

‫حر)‬
‫(سقوط ّ‬
‫ْ‬
‫إن كنتم تقرؤون هذه الرسالة فهذا يعني أنيّ قد رحلت بالفعل‪..‬‬
‫لكن أ ّمي امرأة‬
‫مرح ًبا‪ ..‬أنا‪ ..‬سيارة‪ ،‬نعم سيارة‪ ،‬ال أعرف شيئًا عن أيب‪ّ ،‬‬
‫يابانية قو ّية‪ ،‬وعىل الرغم من ذلك فقد ولدت يف إندونيسيا منذ ثالثة أعوام‬
‫لسبب ال أعرفه‪ ،‬ورغم عمري القصري إلاّ أنيّ أجزم أنيّ قد رأيت يف حيايت ما‬
‫ٍ‬
‫الرؤوس‪.‬‬
‫تشيب له ّ‬
‫بعد والديت مبارشة‪ ،‬سافرت رحل ًة طويلة عند قريب أ ّمي أو صديق عمل‬
‫يسمونه الوكيل‪ ،‬حيث يتب ّناين أحدُ هم ويرعاين‪ ،‬مل‬‫يف مدينة طنطا املرصية ّ‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫يل‪ ،‬وحني تس ّلمني أيب اجلديد‬
‫ريا؛ فقد هتافت ال ّناس ع ّ‬
‫أمكث عنده كث ً‬
‫ْ‬
‫بالزهو ملا كان يرمقني بانبهار ويراين نعمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بحب‪ ،‬وكنت أعدّ ه صدي ًقا ال أ ًبا‪ ،‬حيافظ‬
‫لن أكذب عليكم‪ ،‬كان يعاملني ّ‬ ‫ْ‬
‫أعلم ِمن‬
‫بالسري‪ ،‬فبينام كنت ُ‬ ‫عىل صيانتي الدّ ورية يف املوعد‪ ،‬وال يرهقني ّ‬
‫آالف الكيلومرتات يف الشهر الواحد؛ كان صاحبي‬ ‫أهنن يمشني َ‬ ‫صديقايت ّ‬
‫وأن طنطا مدينة‬ ‫خاصة ّ‬ ‫ال يميش يب إلاّ نحو مخسة آالف كيلو يف عا ٍم كامل‪ّ ،‬‬
‫صغرية‪.‬‬
‫اشرتى يل سرت ًة ّ‬
‫تغطي الكرايس واألريكة حتى حتافظ عليها‪.‬‬
‫ألي من أصدقائه خو ًفا‬
‫مثاليا‪ ،‬حتى إنّه كان يرفض إعاريت ّ‬
‫كل يشء كان ًّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بخدش صغري كا َد يبكي‬ ‫يل من ِ‬
‫سوء املعاملة‪ ،‬وحني صدمتني سيار ٌة أخرى‬ ‫ع ّ‬
‫ألرجع كام كنت‪.‬‬
‫َ‬ ‫يل‪ ،‬وسارع يف إصالح اخلدش‬‫من احلزن ع ّ‬
‫‪23‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫لكن شيئًا ال يدوم‬


‫نعيم دائم‪ ،‬جنة أرضية‪ّ ،‬‬
‫ظللت هكذا عامني كاملني يف ٍ‬
‫ُ‬
‫أتنبه‪.‬‬ ‫إىل األبد صحيح؟ كان ع ّ‬
‫يل أن ّ‬
‫ٍ‬
‫بغفوة بسيطة م ّني‪ ،‬وهل أنا معصومة من اخلطأ؟ ك ّنا‬ ‫ّ‬
‫كل ما حصل بدأ‬
‫يف سف ٍر وبينام نحن عىل الطريق املمتدّ بال عوائق أصابني ُ‬
‫بعض اإلرهاق‪،‬‬
‫بكل يشء حيدث برسعة‪ ،‬فجأة‬ ‫ٍ‬
‫للحظات يسرية‪ ،‬فإذا ّ‬ ‫فأغمضت عيني‬
‫وجدت نفيس أنزل إىل ّ‬
‫الطريق الترّ ايب فتناثر الرتاب يف عيني‪ ،‬مل َأر شيئًا‪،‬‬
‫بسياج حديدي عىل الطريق‪ ،‬لو‬
‫ٍ‬ ‫لك ّني سمعت رصير احتكاك جانبي األيرس‬
‫نزفت الكثري من اجلروح التي حدثت يل‪ ،‬مل أد ِر‬
‫ُ‬ ‫دم مثل البرش لكنت‬
‫كان يل ٌ‬
‫الرؤية‪ ،‬هل أقف فجأة؟ ماذا لو كانت‬
‫يل أن أفعل لعدم قدريت عىل ّ‬‫ماذا ع ّ‬
‫هناك سيارة ضخمة خلفي؟ إ ًذا لكان احلادث أكرب! هل أرسع؟ ماذا لو كان‬
‫أصدمها؟ وجدتني أدور دورة كامل ًة حول نفيس‪ ،‬قبل‬
‫ُ‬ ‫هناك سيارة أمامي قد‬
‫أن يقوم نظام املكابح احلديث بإيقايف يف الوقت املناسب‪.‬‬
‫يل إلاّ أنّه كان خائ ًفا عىل نفسه‬
‫سيطمئن ع ّ‬
‫ّ‬ ‫مرسعا‪ ،‬ظننته‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫نزل صاحبي‬
‫تعجب‬
‫رسيعا وأخذ يتأ ّملني يف ّ‬
‫ً‬ ‫وأصحابه اجلالسني عىل األريكة‪ ،‬فأخرجهم‬
‫يستطع أن يساحمني عىل غفويت الوحيدة بعد عامني كاملني‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وغضب‪ ،‬مل‬
‫ٌ‬
‫ورضوض قد‬ ‫كنت شب َه غائبة عن الوعي‪ ،‬أقدامي األمامية تكسرّ ت متا ًما‪،‬‬
‫كل جانب‪.‬‬‫أصابتني يف ّ‬
‫ّ‬
‫واستقل هو سيارة أخرى إىل‬ ‫استأجر ناقلة سيارات لتنقلني لإلصالح‪،‬‬
‫َ‬
‫بيته‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪24‬‬

‫األمر َ‬
‫بعض الوقت إلصالحي وليستعيد ثقتَه يب‪ ،‬ال أستطيع أن‬ ‫ُ‬ ‫استغرق‬
‫عدت إىل سابق عهدي‪ ،‬فقد نزعوا بعض أحشائي واستبدلوا هبا‬ ‫ُ‬ ‫أقول إين‬
‫بدائل كور ّية وتايلندية‪ ،‬أعني أنّني لست بالتأكيد عنرصية‪ ،‬لكن ك ّلنا يعلم‬
‫مهام كانت جيدة‪ ،‬لقد رصت‪ -‬بشكلٍ‬ ‫ّ‬
‫أن هذه الصناعات ليست أصلية ْ‬
‫ما‪ -‬كرجلٍ تكسرّ ت أسنانه فوضع أسنا ًنا فضية‪ ،‬وفسدت كلي ُته فزرع كلي َة‬
‫شخص آخر‪ ،‬وقام برتكيب جهاز داخل جسمه لتنظيم رضبات قلبه‪ ،‬أعني‬ ‫ٍ‬
‫لست أنت‪ ،‬وإن كانت معجزة‬
‫مهام كانت هذه األشياء جيدة فأنت تعلم أنك َ‬
‫ْ‬
‫ْ‬
‫أن حتيا من جديد‪.‬‬
‫بعد اإلصالح الكبري تغيرّ ت معاملته يل‪ ،‬صحيح أنّه كان سعيدً ا بعوديت‪،‬‬
‫عرفت مكانتي اجلديدة عنده حني صدمتني سيارة أخرى ضخمة بعد‬ ‫ُ‬ ‫لك ّني‬
‫سيهتم يب ويعيد إصالحي‬
‫ّ‬ ‫شهرين من اإلصالح كانت صدمة قوية‪ ،‬ظنن ُته‬
‫مرة أخرى‪ ،‬لكني سمع ُته يقول لصديق له بال اكرتاث‪" :‬ما دامت متيش‬ ‫ّ‬
‫فلن أصلحها‪ ،‬يكفيني ما أنفقت عليها ّأول‬
‫والصدمة غري مؤثرة يف عملها ْ‬
‫ّ‬
‫احلقيقية يل‪ ،‬وليست صدمة السيارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرة"‪ ،‬كانت هذه هي الصدمة‬
‫ّ‬
‫جمرد نزوة‬
‫رصت حزينة‪ ،‬مل يعدْ يل كأب أو صديق‪ ،‬بل رصت بالنسبة له ّ‬‫ُ‬
‫فقرر أن يستفيد يب إىل آخر ٍ‬
‫رمق‬ ‫علم أنّه لن يستطيع أن َ‬
‫ينال م ّني أكثر ممّا نال‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫دون أن ينفقَ عيل ً‬
‫قرشا واحدً ا لو استطاع‪.‬‬
‫أعتذر له‪ ،‬ورغم‬
‫ُ‬ ‫أفهم طريقة تفكريه‪،‬‬
‫مربرا عندي‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬
‫كل ذلك كان له ً‬
‫كنت أنتظره حتت‬
‫ولكن بعد ذلك بشهرين آخرين ُ‬
‫ْ‬ ‫حزين لك ّني أرىض بحايل‪،‬‬
‫‪25‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫بعنف دون أن‬ ‫ٍ‬ ‫البيت حيث تركني‪ ،‬أنام اً‬


‫قليل وإ ْذ بسيارة حقرية تصدمني‬
‫مؤخريت‪ ،‬وبرو ِز رفريف األيرس‬
‫انبعاج واضح يف ّ‬‫ٍ‬ ‫أذنب بيشء؛ ممّا أ ّدى إىل‬
‫الصدمة‪ ،‬ونظر إ ّيل بال‬
‫موضع ّ‬
‫َ‬ ‫راكب السيارة فتأ ّمل سيارته‬
‫ُ‬ ‫إىل اخلارج‪ ،‬نزل‬
‫بساعات نزل صاحبي فرأى ما حدث‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ثم انطلق برسعة‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫مباالة‪ّ ،‬‬
‫يسب ذلك األمحق الذي صدمني دون‬ ‫ثم بدأ ّ‬‫ذهل‪ ..‬انعقد لسانه‪ ..‬غضب‪ّ ،‬‬
‫أن يرتك ورق ًة هبا ُ‬
‫رقم هاتفه ليدعه حتى يشتمه يف اهلاتف‪ ،‬ولو مل يصلح ما‬
‫حدث!‬
‫املرة؛ فالصدمة كانت قوية‪ ،‬وبالفعل‬
‫وهيتم يب هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫حسب ُته سيصلحني‬
‫ذهب إىل ِ‬
‫أحد اّ‬
‫حملت الصيانة سمعتهام يتحدثان‪:‬‬
‫"كم سيتك ّلف إصالحها؟"‬
‫كل هذا اجلزء وتركيب ٍ‬
‫جزء جديد‪ ،‬وطالء جديد ً‬
‫أيضا‬ ‫"ال بدّ من إزالة ّ‬
‫هنا‪ ..‬وهنا‪ ..‬وهنا"‬
‫طالء جديد!! هذا هو ما أحتاجه اً‬
‫فعل‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫شعرت بالسعادة‪،‬‬
‫ُ‬
‫أرخص يشء لتثبيت هذا الرفرف‬
‫َ‬ ‫"ال‪ ..‬ال‪ ،‬هذا مك ّلف‪ ،‬اسمع‪ ..‬أريد‬
‫حتركه بشدّ ة‪ ،‬وقد يقع م ّني بالكامل"‪.‬‬ ‫فحسب‪ّ ،‬‬
‫فإن الريح ّ‬
‫لكن‬
‫بشعا ْ‬ ‫"إممم‪ ،‬يمكننا أن ّ‬
‫ندق فيه عدّ ة مسامري لنثبته‪ ،‬سيكون الشكل ً‬
‫هذا هو ّ‬
‫احلل املناسب"‬
‫مهل‪ ،‬ما هذا؟ يد ّقون املسامري ّ‬
‫يف؟ ال‪ ..‬لن أسمح هبذا! أنا ابنة اليابان‪،‬‬ ‫اً‬
‫جئت هنا ألخدمك ال لتيسء معاملتي‪ ،‬ال لن يكون‪ ..‬لن أسمـ‪ ..‬أوه!‬
‫ُ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪26‬‬

‫وضع املسامري بالفعل‪ّ ،‬‬


‫إن هذا مؤمل يا محقى!‬ ‫ُ‬ ‫لقد بدأ‬
‫يل كساعات‬ ‫مرت ع ّ‬ ‫تألمّ ت بشدّ ة حتى انتهى من عمله‪ ،‬كانت دقائق لك ّنها ّ‬
‫قررت أن أنتقم‪ ..‬وال بدّ أن يبدو األمر‬‫قررت أن أغضب‪ّ ،‬‬ ‫من املَهانة‪ ،‬لك ّني ّ‬
‫حي أول‪،‬‬
‫الرضا حتى حدث انقالب ّ‬
‫انتظرت يف صرب وتص ّنعت ّ‬
‫ُ‬ ‫حاد ًثا ً‬
‫عابرا‪،‬‬
‫قرر اخلروج مع أصحابه‬ ‫حينها بدأت يف وضع ّ‬
‫خطتي البسيطة‪ ،‬انتظرت حتى ّ‬
‫منقوع‬ ‫حي ّأول حيث جيلسون بالسيارة عند ِ‬
‫أحد أطراف احلي يرشبون‬
‫َ‬ ‫يف ّ‬
‫ثم ّ‬
‫رن هاتفه‬ ‫السامء املقلوبة ويضحكون‪ّ ،‬‬
‫الساخن‪ ،‬ويتأ ّملون ّ‬
‫محص الشام ّ‬
‫َ‬
‫احلديث والضحكات مع امل ّتصل‪ ،‬هذه هي حلظتي التي‬ ‫فالتقطه وأخذ يتبادل‬
‫بالتحرك ببطء شديد نحو اهلاوية‪ ،‬لك ّنه انتبه فوضع‬
‫ّ‬ ‫فقمت‬
‫ُ‬ ‫اً‬
‫طويل‪،‬‬ ‫انتظرهتا‬
‫فسقطت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫رسعة قبل أن يستطيع إيقايف‬ ‫قد َمه عىل املكابح فانطلقت بأقىص‬
‫السقوط مل يستغرق ثواين معدودة‬
‫الرغم من أن ّ‬
‫حرا إىل األعىل‪ ..‬عىل ّ‬ ‫ً‬
‫سقوطا ًّ‬
‫ُ‬
‫ورصاخ أصحابه فقد كان‬ ‫صوت رصاخه‬
‫ُ‬ ‫يل ببطء شديد‪ ،‬أ ّما‬ ‫إلاّ أنّه ّ‬
‫مر ع ّ‬
‫أمجل صوت سمعته منذ زمن بعيد‪.‬‬ ‫َ‬

‫فسجلوا احلادث‬ ‫حي ثان وجدوا اهلاتف يف ِ‬


‫يده ّ‬ ‫حينام ِ‬
‫أتت الرشطة يف ّ‬
‫لكن هذا أعادين‬
‫فصحيح أين ُد ّمرت متا ًما‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫نتيجة االنْشغال عن القيادة‪ ،‬أ ّما أنا‬
‫األم‪ ،‬وها أنا ذا يف طريقي إىل موطني وموطن أمي ‪ -‬اليابان‪ ،‬وقد‬
‫إىل رشكتي ّ‬
‫ل ّقنت أمثال صاحبي ً‬
‫درسا يف ال ّتعامل مع أمثايل من بنات الناس‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(سارة)‬
‫ريا؛ اقرتب منها وسأهلا بلطف‪:‬‬
‫الطبيب هّأنا قد أفاقت أخ ً‬
‫ُ‬ ‫حني وجد‬
‫‪ -‬ما اسمك يا صغرية؟‬
‫بتعجب‪..‬‬
‫أخذت الفتاة املمدّ دة عىل الرسير تتأ ّمل ما حوهلا ّ‬
‫‪ -‬أين أنا؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنت يف املستشفى‪ ،‬لك ّنك بخري‪ ،‬كانت صدمة خفيفة مل تؤ ّثر عليك إلاّ‬
‫ببعض الكدمات‪ ،‬واآلن أخربيني‪ ..‬ما اسمك؟‬
‫أنفاسها تتسارع‪..‬‬
‫البنت وقد بدا عليها الفزع‪ ،‬وأخذت ُ‬
‫جلست ُ‬
‫‪ -‬ال أعرف‪.‬‬
‫بدت عليه اجلدية‪:‬‬ ‫َ‬
‫سأل الطبيب وقد ْ‬
‫‪ -‬هل تذكرين أين تسكنني؟‬
‫مرة أخرى أجابت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ال أذكر شيئًا‪.‬‬
‫‪َ -‬من أبوك؟ َمن أ ّمك؟ هل تذكرين أي يشء؟‬
‫البنت ترجتف‪ ،‬ودموعها جتري عىل خدّ هيا بخوف‪:‬‬
‫بدأت ُ‬
‫ثم اصطدم‬
‫أذكر فقط أنيّ كنت أجري يف الشارع أبحث عن أ ّمي‪ّ ..‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫ذلك اليشء باألرض‪ ،‬هذا ّ‬
‫كل ما ّ‬
‫أتذكر‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪28‬‬

‫بنيتينْ واسعتينْ ‪ ،‬وهلا ضفريتان إحدامها‬


‫كان وجهها بيضاو ًّيا‪ ،‬وعيناها ّ‬
‫أطول من األخرى‪ ،‬شكلها يوحي بالرباءة واملسكنة‪.‬‬
‫ثم إبالغ الرشطة‬ ‫واضحا للطبيب‪ ،‬فقام ليكتب تقريره‪ِ ،‬‬
‫ومن ّ‬ ‫ً‬ ‫األمر‬
‫ُ‬ ‫صار‬
‫تم اإلبالغ عن فقدها بعدَ وقوع النيزك‪ْ ،‬‬
‫فإن‬ ‫لتبدأ بالبحث عن احلاالت التي ّ‬
‫حية؛ فال بدّ هّأنا قد أبلغت عن فقداهنا‪.‬‬
‫كانت أ ّمها ّ‬
‫خارج املستشفى خو ًفا من ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫أ ّما البنت فبمجرد انرصافه قامت جتري‬
‫يشء‪.‬‬
‫حي ثان تبكي أحيا ًنا وأحيا ًنا تنظر‬
‫السري يف شوارع ّ‬
‫بعد عدّ ة ساعات من ّ‬
‫مرت بجوار رجلني‬
‫وتتعجب كيف صعدت األرض هناك؟ حتى ّ‬
‫ّ‬ ‫السامء‪،‬‬
‫إىل ّ‬
‫يتحدثان عماّ وقع ففهمت من حديثهام ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫كانت جائعة ُمنهكة تعبة‪ ،‬فجلست عىل جانب الطريق لتسرتيح وهي‬
‫متهرئي‬ ‫مر بجانبها ُ‬
‫بعض أطفال الشّ وارع ّ‬ ‫أين تذهب‪ ،‬حتى ّ‬
‫ال تدري إىل َ‬
‫املارة‪ ،‬فنظرت إىل‬
‫املالبس‪ ،‬ومعهم بعض املثلجات قد أعطاهم إ ّياها بعض ّ‬
‫كأي طفلٍ يف مثل سنواهتا العرش‪ ..‬فالحظت ذلك‬
‫املثلجات وقد سال لعاهبا ّ‬
‫فابتسمت هلا وأعطتها قطعتَها‪ ،‬فغلب جوعها خجلها‪ ،‬فقبلت‬
‫ْ‬ ‫بنت منهم‬
‫ٌ‬
‫منها وأكلت عىل الفور‪.‬‬
‫جلست بجانبها وسألتها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫‪29‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫‪ -‬ال أذكر اسمي‪ ،‬لقد حصل يل حادث أفقدين ذاكريت‪.‬‬


‫سأسميك (سارة)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫ريا‪..‬‬
‫وكأنا قد وجدت هلا هوية أخ ً‬
‫ابتسمت هّ‬
‫‪ -‬تعايل معنا‪ ،‬ال تكوين وحدك؛ هذا خطر‪.‬‬
‫تتأكد من عدم وجود يشء تتع ّلق به‪ ،‬فلام مل‬
‫نظرت (سارة) حوهلا كأهنا ّ‬
‫ْ‬
‫جتدْ قامت معها‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت‪ ..‬ما اسمك؟‬
‫‪ -‬هايدي‪.‬‬
‫‪ -‬هايدي! يبدو اسماً راق ًيا‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫فسميت نفيس به‪.‬‬ ‫‪ -‬بىل‪ ،‬إنّه ليس اسمي اً‬
‫فعل‪ ،‬لك ّنه أعجبني ّ‬
‫‪ -‬رائع‪.‬‬
‫لكن ملاذا إحدامها طويلة واألخرى قصرية؟‬
‫‪ -‬تعجبني ضفريتاك‪ْ ..‬‬
‫‪ -‬ال أعرف هكذا وجدت نفيس يف املستشفى‪ ..‬إ ًذا‪ ،‬أين تعيشون؟‬
‫‪-‬ك ّنا إىل فرتة قريبة نعيش يف الشّ ارع‪ ،‬حتت كوبري أو يف أرض مزبلة‬
‫السامء رآنا شيخ كبري فدعانا للمبيت‬
‫حي ّأول إىل ّ‬
‫لكن بعد شقلبة ّ‬
‫خالية‪ْ ،‬‬
‫حيبوننا وال حيبون‬ ‫نكن نعرف ّ‬
‫أن هذا ممكن‪ ،‬فالناس عمو ًما ال ّ‬ ‫يف املسجد‪ ،‬مل ْ‬
‫رائحتنا‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪30‬‬

‫‪ -‬رائحتك جيدة‪.‬‬

‫ثم ابتسمت وهي تغمض عينيها‬


‫لتشم‪ّ ،‬‬
‫قربت (هايدي) ذراعها إىل أنفها ّ‬
‫ّ‬
‫للحظة وأكملت‪:‬‬
‫ونستحم ّ‬
‫كل يوم يف‬ ‫ّ‬ ‫نبيت يف املسجد‪،‬‬
‫‪-‬اآلن صارت جيدة ألنّنا رصنا ُ‬
‫محامات املسجد‪ ،‬األوالد يف مصلىّ الرجال‪ ،‬والبنات يف مصلىّ النساء‪ ،‬الناس‬
‫ّ‬
‫ألنم مل يعرفوا‬
‫تعودوا علينا بالتدريج فقد كانوا خيافوننا يف البداية فيام يبدو هّ‬
‫ّ‬
‫نخرج لنبحث عن الطعام واملالبس يف املزابل‬
‫ُ‬ ‫ثم إذا طلع الصبح‬
‫شيئًا ع ّنا‪ّ ..‬‬
‫ونلعب‪.‬‬

‫‪ -‬وهل جتدون أشياء جيدة؟‬

‫‪ -‬ال ّناس مل يعودوا يلقون بأشياء جيدة‪ ،‬يبدو هّأنم اكتشفوا هّأنم حيتاجون‬
‫لكن ال ينبغي علينا أن نيأس؛ فليس لدينا ّ‬
‫حل آخر سوى‬ ‫تلك األشياء‪ْ ،‬‬
‫ومرة ّ‬
‫كل عام تأتينا إحدى اجلمعيات اخلريية‬ ‫البحث واملزيد من البحث‪ّ ،‬‬
‫بطعام ومالبس مستعملة مجيلة‪.‬‬
‫مرت عىل (سارة) وهي ّ‬
‫تفكر فيام ستصري إليه حياهتا‪ ،‬هّإنا ال‬ ‫نسامت هادئة ّ‬
‫ٌ‬
‫ولكن هؤالء الصبية يبدون‬‫ّ‬ ‫تذكر شيئًا عن حياهتا القديمة لتستطيع املقارنة‪،‬‬
‫ألنم ال يعرفون يف هذه احلياة إلاّ أنفسهم‪..‬‬
‫وحيبون بعضهم البعض؛ هّ‬‫طيبني ّ‬
‫قالت ضاحكة‪:‬‬

‫‪ -‬سأكون معكم إ ًذا‪.‬‬


‫‪31‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫وعرفتها عىل باقي األطفال‪ ،‬قضت معهم‬ ‫ٍ‬


‫سعادة‪ّ ،‬‬ ‫احتضنتها (هايدي) يف‬
‫ثم ذهبت معهم للمبيت يف املسجد‪.‬‬
‫اليوم‪ّ ،‬‬
‫وجهها يف احلماّ م‪،‬‬
‫بعد ساعتني من األرق‪ ،‬قامت من بني صوحيباهتا تغسل َ‬
‫ثم جلست قري ًبا من إحدى ال ّنوافذ تتأ ّمل اجلزء الظاهر من القمر‪ ،‬فهناك‬
‫ّ‬
‫اقرتبت‬
‫ْ‬ ‫السامء‪ ،‬وبينا هي كذلك‬
‫حي ّأول املقلوب يف ّ‬
‫جزء من القمر قد أخفاه ّ‬
‫ٌ‬
‫منها (هايدي) وجلست بجوارها‪.‬‬
‫‪-‬ملاذا مل تنامي؟‬
‫‪ -‬ر ّبام السبب أنيّ لست معتادة عىل النوم عىل األرض‪ ،‬أو أن املكان‬
‫جديد‪ ..‬ال أعرف‪.‬‬
‫حتمست فجأة‪:‬‬
‫قالت (هايدي) وقد ّ‬
‫‪ -‬تعايل ِ‬
‫أريك شيئًا!‬
‫وقامت جتري‪ ،‬فقامت (سارة) معها وصعدا إىل سطح املسجد‪ ،‬مدّ ت‬
‫قامشية عىل األرض ودع ْتها للنوم عليها والنظ ِر ألعىل‪ ،‬كان املنظر‬
‫ّ‬ ‫قطعة‬
‫الرائي ال يرى إلاّ النجوم ً‬
‫نقاطا مفرقة ضعيفة‬ ‫عجي ًبا‪ ،‬فيام سبق كان ّ‬
‫اإلضاءة يف الغالب‪ ،‬أ ّما اآلن فأنت ترى إضاءات الشّ وارع والبنايات؛ بل‬
‫وتتتبعها ببرصك وهي خترتق الشوارع‬
‫السيارات يف الطرق من فوقك ّ‬
‫ترى ّ‬
‫خاصة وقت‬
‫ويسارا‪ ،‬وترى املقاهي صغرية وعليها الناس يصيحون‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫يمينًا‬
‫املباريات الرياضية‪ ،‬ترى الشباب يقفون عىل قارعة الطريق‪ ،‬وترى األطفال‬
‫يلعبون فوق األسطح ويف املالعب‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪32‬‬

‫لك ّنهم ً‬
‫أيضا يرونك كذلك‪..‬‬
‫قالت (سارة) بعد سكوت طويل‪:‬‬
‫‪ -‬هل تظ ّنني ّ‬
‫أن أ ّمي هناك تبحث عني؟ ر ّبام تكون تلك املرأة أو تلك‪..‬‬
‫ور ّبام هي اآلن تبكي يف البيت بعدما فقدت األمل يف العثور ع ّ‬
‫يل!‬
‫‪-‬أنا مل أعرف أ ّمي قط‪ ..‬ر ّبام هي اآلن مع أ ّمك تواسيها وتندم عىل تركها‬
‫يل صغرية يف امللجأ الذي هربت منه‪.‬‬
‫لكم ُتشبه (سارة) (هايدي) عىل اختالف ظروفهام واألسباب التي أ ّدت‬
‫ْ‬
‫هبام إىل ما ُهم فيه؛ كلتامها بدون ّأم أو ٍ‬
‫أب‪ ،‬كلتامها ال تعرف أباها وال أ ّمها‪،‬‬
‫وحني أبرصتا تلك احلقيقة تعانقتا ورشعتا يف البكاء‪ ..‬وما هي إلاّ دقائق‬
‫قليلة حتى نامتا نو ًما عمي ًقا‪.‬‬
‫وتعرفت إىل الشيخ الطيب الذي‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا اندجمت (سارة) يف املجموعة‪،‬‬
‫أنكر عليها أن مل تنتظر يف املستشفى لع ّلها إن‬
‫قصتها‪ ،‬فلماّ أخربته َ‬
‫سأهلا عن ّ‬
‫فعلت استطاعت أن جتدَ أهلها‪ ،‬قالت هّإنا كانت خائفة ال تدري ما حيدث‪،‬‬
‫حي ثان ّ‬
‫لعل اسمها يكون يف أسامء املفقودين‪،‬‬ ‫فأخذها الشيخ إىل قسم رشطة ّ‬
‫ألنا ال تعرف اسمها احلقيقي‪ ،‬فاضطروا ملكاملة أهل‬ ‫ريا هّ‬
‫وكان البحث عس ً‬
‫يتوصلوا إىل يشء عنها أبدً ا‪ ،‬فقد تكون والدهتا قد‬ ‫ّ‬
‫كل مفقود عىل حدة‪ ،‬ومل ّ‬
‫تو ّفيت حني حصل االنقالب أو ُفقدت هي األخرى‪.‬‬
‫مرة أخرى إىل املسجد بعد أن صار بيتَها الوحيد‪،‬‬‫وهكذا عادت (سارة) ّ‬
‫رصن أهلها ّ‬
‫وكل ما هلا يف هذه الدنيا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وإىل صوحيباهتا الاليت‬
‫‪33‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ومرت السنة تلو السنة‪ ،‬والشيخ يعتني هبؤالء األطفال‪ ،‬ويسعى ّ‬


‫لكل‬ ‫ّ‬
‫يتكسبون منها مع يشء من‬
‫ّ‬ ‫منهم للحصول عىل عملٍ مناسب ووظيفة‬
‫التعليم غري املنتظم لظروف عديدة‪.‬‬
‫سن السادسة عرش حصلت عىل عملٍ يف أحد‬ ‫وحينام بلغت (سارة) ّ‬
‫متاجر املالبس‪ ،‬عمل بسيط ال يتط ّلب الكث َ‬
‫ري من املجهود‪.‬‬
‫ني آلخر‪ ،‬التي حصلت عىل عملٍ يف روضة‬‫وكانت تقابل (هايدي) من ح ٍ‬
‫ٍ‬
‫مكان يف شارع‬ ‫متر ّ‬
‫كل أسبوع من‬ ‫أطفال‪ ،‬أ ّما (سارة) فصار لدهيا عاد ٌة أن ّ‬
‫بعض املث ّلجات‪ ،‬وترى‬
‫بعض أطفال الشوارع لتعطيهم َ‬
‫سعيد يتواجد فيه ُ‬
‫تلك الفرحة عىل وجوههم‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪34‬‬

‫(عصام عبد الفتاح)‬


‫أنا عصام عبد الفتاح‪ ،‬حيايت عبار ٌة عن مأساة مقدّ سة‪ ..‬هل تصدّ قون أنيّ‬
‫مل َأر الشمس أبدً ا يف حيايت ك ّلها؟!‬
‫أي دنيا تلك! هّإنا حياة‬
‫أسكن حتت األرض منذ عرفت الدّ نيا‪ ،‬لكن ّ‬ ‫ُ‬ ‫فأنا‬
‫جيف سقف بيتي تظهر فيه بعض ال ّتشققات‪ ،‬ومن‬ ‫كئيبة مظلمة‪ ،‬أحيا ًنا حينام ّ‬
‫بعض الضوء‪ ،‬حلظات قصرية بائسة لك ّنها ممُ تعة يل وألصحايب‪.‬‬ ‫خالهلا أرى َ‬
‫األمر‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫سنتمكن فيه من رؤية الشمس نفسها‪،‬‬ ‫ك ّلنا هنا نتط ّلع لليوم الذي‬
‫وما فيه أنّنا قصار القامة فينبغي علينا هذه األ ّيام التغذية اجليدة حتى نصل‬
‫إىل السقف‪ ،‬ونعرب من خالله‪ ،‬أعلم أنّه يبدو مري ًبا َ‬
‫بعض اليشء ْ‬
‫أن نعرب من‬
‫السقف لك ّنه الطريق الوحيد لنا‪.‬‬
‫خالل ّ‬
‫الشّ مس‪ ..‬أمجل املخلوقات‪ ،‬الدفء املفت َقد‪ ..‬أشتاق إليك‪ ،‬برصاحة‪،‬‬
‫أيضا إىل أيب وأ ّمي وأصحايب الذين سبقوين ّ‬
‫بالذهاب إليها‪ ،‬املشكلة‬ ‫أشتاق ً‬
‫أي يشء ممّا‬
‫مرة أخرى ليخربنا ّ‬
‫الرجوع ّ‬ ‫أن َمن خيرج ِمن السقف ال يمكنه ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫للمتشككني واليائسني الذين ينكرون وجود الشمس‪ ،‬وملا‬ ‫أعطى الفرصة‬
‫مرة ألنّه ينكر وجود الشمس رغم أنّه يرى ضوءها من‬ ‫انفعلت عىل أحدهم ّ‬
‫إن هذا ليس بالرضورة ضو َء الشمس‪ ،‬بل قد‬ ‫خالل الشّ قوق اجلافة؛ قال ّ‬
‫جمرد تفاعالت كيميائية أو حتى أوها ًما يف عقولنا‪ ،‬فرتكت ال ّنقاش‬‫يكون ّ‬
‫السقف املظلم‬ ‫معه ومع أمثاله ِمن احلمقى ألنيّ موقن باليوم الذي سنع ُ‬
‫رب فيه ّ‬
‫ونتجاور بعد ذلك إىل األبد يف حرضة الشمس‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪35‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫حترك ّ‬
‫كل يشء بعنف‪ ،‬ال ندري‬ ‫هزة أرضية غريبة ّ‬ ‫ُ‬
‫ومنذ يومني حصلت ّ‬
‫هل درنا حول أنفسنا ح ًّقا أم هّأنا ختاريف الظالم؟‬
‫السقف‪ ،‬ها أنا ذا أقرتب‪ ،‬اعذروين ِ‬
‫إن انقطعت عن‬ ‫املهم أنّنا قد اقرتبنا من ّ‬
‫ّ‬
‫ريا وصلت‪ ،‬يا‬
‫أوه آ‪ ..‬امم‪ ،‬أخ ً‬
‫ريا‪ ،‬رأيس يؤملني ّ‬‫الكالم فجأة‪ ،‬إنيّ أقرتب أخ ً‬
‫ويسارا بسبب اهلواء ا ُملنعش‪ ،‬اً‬
‫مهل‪ ..‬أين الشمس؟‬ ‫ً‬ ‫للروعة إنّني أمتايل يمينًا‬
‫ّ‬
‫املتشكك عىل حقّ ؟! أيب‬ ‫لكن ال يوجد شمس! هل كان ذاك‬
‫هناك ضوء ْ‬
‫وأ ّمي ما لكام؟ أصحايب؟ ّ‬
‫الكل مات!‬
‫أرضا ال سامء‪ ،‬وأنظر حتت فأرى األرض التي خرجت‬‫أنظر فوقي فأرى ً‬
‫ُ‬
‫منها‪ ،‬هل ماتت الشمس؟ إ ًذا‪َ ..‬‬
‫فم ْويت قريب‪.‬‬
‫نبات ياسمني‪ ،‬نبت حدي ًثا وسيموت قري ًبا‪ ،‬ما‬
‫أنا عصام عبد الفتاح‪ُ ،‬‬
‫أن ّ‬
‫كل نبتة ياسمني ال بدّ أن يكون اسمها‬ ‫تتعجبون! وهل كنتم حتسبون ّ‬
‫لكم ّ‬
‫ياسمني؟!‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪36‬‬

‫(ساعة براغ المصرية)‬


‫وقف ال ّناس يف (ميدان الساعة)‪ ،‬الذي هو يف ملتقى شارع (املديرية)‬
‫موصلني إىل شارع‬
‫املوصل إىل حمطة القطار مع شارعني آخرين أو ثالثة ّ‬
‫ّ‬
‫أهم معامل مدينة (طنطا)‬
‫فرعية‪ ،‬أحد ّ‬
‫ّ‬ ‫(البحر) مع عدّ ة شوارع أخرى‬
‫ٍ‬
‫ساعة عمالقة ال يظهر منها يشء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫غطاء قد انسدل عىل‬ ‫املعدودة‪ ،‬ينظرون إىل‬
‫الستار عنها‪.‬‬
‫يف انتظار جميء حمافظ الغربية الفتتاحها وإزاحة ّ‬
‫علمية متطورة‪ ،‬وقيل هّإنا ساعة‬
‫ّ‬ ‫تم تصنيعها عىل أسس‬
‫قيل هّإنا ساعة قد ّ‬
‫كل حال كثر الكالم بني‬ ‫ِ‬
‫سحرة أوروبا‪ ،‬عىل ّ‬ ‫َ‬
‫استعان صانعها ببعض‬ ‫سحرية‬
‫سيارات فخمة تتوافد من ش ّتى أنحاء مرص‪ ،‬وينزل منها‬
‫ٌ‬ ‫الناس حتى بدأت‬
‫أشخاص ببدالت غالية الثّمن‪ ،‬إىل أن جاءت سيارة املحافظ مع احلراسة‬
‫شاب عرشيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمنية املشدّ دة فوق العادة‪ ..‬نزل ِمن السيارة‪ ،‬ونزل معه‬
‫فسكت املثرثرون وتو ّقفت اهلمسات‪.‬‬

‫منصة قد ُنصبت له‪ ،‬وأخذ يتحدّ ث إىل الناس يف مكبرّ‬


‫وقف املحافظ أمام ّ‬
‫الصوت‪:‬‬
‫ّ‬
‫الشاق‬ ‫‪-‬أهل طنطا األعزاء‪ّ ،‬‬
‫إن الشهور املاضية كانت مليئة بالعمل‬
‫كل مرص كام تعلمون‪ ،‬وقد آن األوان لبعض الرتفيه‬ ‫واإلنجازات عىل ّ‬
‫واالحتفال‪ ،‬فها هو ابن طنطا البار (حممود كامل) الذي ّ‬
‫حطم نظرية أينشتني‬
‫وشجعته عىل التفوق‪ ،‬وقمت بإرساله يف‬
‫ّ‬ ‫كرمته بنفيس‬
‫منذ عدّ ة أعوام‪ ،‬وقد ّ‬
‫‪37‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫تتحمل املحافظة تكاليفها كاملة‪ ،‬وها هي ذي نتيجة‬


‫منحة تعليمية إىل أوروبا ّ‬
‫أتشوق مثلكم لرؤيتها تعمل‪ ،‬ممّا عرفته من ابننا حممود عن‬ ‫ٌ‬
‫ساعة بديعة ّ‬ ‫البعثة‬
‫تؤصل االنتامء فينا‬
‫روحا وطنية فريدة ّ‬
‫فكرهتا وطريقة عملها والتي تعكس ً‬
‫الساعة وفكرهتا‪.‬‬
‫مجيعا‪ ،‬تقدّ م يا حممود لتخربهم عن ّ‬
‫ً‬
‫يتقدّ م حممود مبتسماً يف فخر‪:‬‬
‫سيدي املحافظ‪ ،‬يف احلقيقة ال أستطيع أن أنسب لنفيس ّ‬
‫كل الفضل‬ ‫شكرا ّ‬
‫ً‬
‫الساعة التي ستكون حديث العامل أمجع‪ ،‬وقد حاولت ٌ‬
‫دول‬ ‫يف إنجاز هذه ّ‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫كثرية رشاءها م ّني ولك ّني رفضت ّ‬
‫وفضلت أن تكون يف مرص‪،‬‬
‫نشأت فيها‪ ،‬يف احلقيقة‪ّ ..‬‬
‫إن فكرة الساعة واتتني‬ ‫ُ‬ ‫طنطا مدينتي الغالية التي‬
‫الفلكية أثناء زياريت لدولة (ال ّتشيك) وقد هبرين‬
‫ّ‬ ‫حينام رأيت ساعة (براج)‬
‫وصمودها أكثر من ستامئة عا ًما وهي ال تزال تعمل إىل اآلن!‬
‫ُ‬ ‫تصميمها املتقن‪،‬‬
‫ُ‬
‫هتتم بالفلك واألبراج وموقع الشّ مس والقمر من األرض‬
‫ساعة براج ّ‬
‫وهلا صبغة مسيحية أوروبية؛ فبالساعة يوجد نافذتان تفتحان يف بداية ّ‬
‫كل‬
‫ُ‬
‫متاثيل للحوار ّيني ممّا يمثل ثقافة ذلك العرص‪ ،‬ولذلك‬ ‫ّ‬
‫ليطل منهام‬ ‫ساعة‬
‫أيضا الثقافة املرصية األصيلة لذلك‬ ‫صممت ساعتي كان ع ّ‬
‫يل أن ألتزم ً‬ ‫حني ّ‬
‫اسمحوا يل بإزاحة الستار عن ساعتكم اجلديدة التي سيأيت ال ّناس من ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬
‫األقل!‬ ‫مكان يف العامل لزيارهتا‪ ،‬وستبقى ألف عا ٍم عىل‬
‫سيدة هلا رأس ضخم‬
‫الستار‪ ،‬فإذا بالساعة تظهر عىل هيئة ّ‬‫أزاح حممود ّ‬
‫تلف به رأسها كأنّام تعاين الصداع‪ ،‬عيناها واسعتان‪ ،‬يف ّ‬
‫كل‬ ‫وشاحا ّ‬
‫ً‬ ‫ترتدي‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪38‬‬

‫وفمها مفتوح‬ ‫ٍ‬


‫واحد إىل اثني عرش‪ُ ،‬‬ ‫وعالمات وأرقام من‬
‫ٌ‬ ‫منهام كر ٌة سوداء‬
‫كأنا ترصخ‪ ،‬وعىل مالحمها مسحة حزن‪.‬‬
‫وجموف هّ‬
‫ّ‬
‫أمسك حممود مكبرّ الصوت اً‬
‫قائل‪ :‬واآلن‪ ،‬نبدأ العدّ التنازيل لتشغيل‬
‫مادا‬
‫ثم ضغط مفتاح ال ّتشغيل‪ ،‬وابتسم ًّ‬ ‫الساعة ثالثة‪ ..‬اثنان‪ ..‬واحد‪ّ ..‬‬
‫الساعة مل تعمل!‬‫لكن ّ‬
‫مرسحية لثوان ّ‬
‫ّ‬ ‫ذراعيه إىل جانبيه بحركة‬
‫الساعة بقلق (ال بدّ من وجود خطأ بسيط‬
‫الرجل‪ ،‬ونظر إىل ّ‬ ‫اضطرب ّ‬
‫َ‬
‫وسأصلحه حالاً ‪ ،‬ال داعي للقلق)‪.‬‬
‫ويشمر عن ساعديه‬
‫ّ‬ ‫مرت‪ ،‬والناس ينظرون وهو خيلع سرت َته‬ ‫ُ‬
‫نصف ساعة ّ‬
‫ليفحص الساعة ويمسك بعض ّ‬
‫املفكات واملسامري ليصلح‪ ،‬وال يشء يفلح‪،‬‬
‫فأتى ٌ‬
‫طفل صغري يقول‪( :‬عندي فكرة)‪.‬‬
‫نظر إليه باستهزاء‪:‬‬
‫‪-‬وما هي يا عبقري!‬
‫الساعة متثّل مرص والثقافة املرصية؟‬
‫‪ -‬أليست ّ‬
‫‪-‬بىل!‬

‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬أغلقها وا ْفتحها ّ‬


‫مرة أخرى‪ ،‬وستعمل!‬
‫‪-‬ماذا تقول يا هذا؟ أنا منذ نصف ساعة أتبع بروتوكولاً تع ّلمته يف أرقى‬
‫مرة‬
‫اجلامعات األوروبية يف إصالح املاكينات‪ ،‬وأنت تقول أغلقها وافتحها ّ‬
‫أخرى!‬
‫‪39‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ومهس إليه‪:‬‬
‫َ‬ ‫دنا منه املحافظ‬
‫ٍ‬
‫موقف حرج‪ ،‬وهذا الولد لديه وجهة نظر‪،‬‬ ‫‪ -‬حممود‪ ،‬لقد وضعتنا يف‬
‫جرب لن خترس شيئًا‪.‬‬
‫ريا‪ّ ،‬‬
‫وهذه الطريقة تنفع معي كث ً‬
‫ثم أعاد‬ ‫رضب حممود ك ًّفا ّ‬
‫بكف‪ ،‬وأغلق مفتاح التشغيل وانتظر دقيقة‪ّ ،‬‬
‫تعجب حممود ونظر‬‫مرة أخرى‪ ،‬فإذا بصوت املحرك يبدأ يف العمل‪ّ ،‬‬‫فتحه ّ‬
‫مبال كأنّه كان‬ ‫ٍ‬
‫شطرية يف يده غري ٍ‬ ‫يف دهشة إىل ّ‬
‫الطفل‪ ،‬وهو يقضم قضمة من‬
‫متأكدً ا من ال ّنتيجة!‬
‫بكل عني تدور برسعة خمتلفة‪ ،‬فاليمنى ّ‬
‫تدل‬ ‫الساعة يف العمل فإذا ّ‬ ‫ِ‬
‫بدأت ّ‬
‫معا لتعرف‬ ‫الساعة‪ ،‬واليرسى ّ‬
‫تدل عىل الدقيقة‪ ،‬وعليك أن تقرأمها ً‬ ‫عىل ّ‬
‫ٍ‬
‫كامرأة‬ ‫الساعة تبدو‬
‫الوقت بالضبط‪ ،‬وهاتان الرسعتان املختلفتان جتعالن ّ‬
‫مرة واحدة ّ‬
‫كل ساعة‪..‬‬ ‫كل عني من عينيها باتجّ اه خمتلف إلاّ ّ‬
‫حوالء تنظر ّ‬
‫لوحات‬
‫ٌ‬ ‫يف نفس الوقت تفتح ال ّنافذتان ال ّلتان فوق العينني ليظهر يف اليمنى‬
‫مصغّ رة ّ‬
‫حلكام مرص بالترّ تيب ال ّتنازيل تدور إىل اليمني‪ ،‬ويف النافذة اليرسى‬
‫ٍ‬
‫إشارة إىل‬ ‫لوحات لعلامء مرص وأعالمها‪ ،‬تدور كذلك إىل اليمني يف‬
‫ٌ‬ ‫تظهر‬
‫أمهية اتّفاق العلم والسياسة ليحصل التقدّ م واإلصالح يف املجتمع‪.‬‬
‫قال حممود‪:‬‬
‫تم برجمتها بد ّقة واحرتافية عالية‪ ،‬حتى هّأنا‬ ‫ّ‬
‫"إن هذه الساعة ذكية‪ ،‬وقد ّ‬
‫يتدخل فيه أحد ص ّناعها‬
‫ّ‬ ‫يعتقد أن هلا شخصية مستق ّلة‪ ،‬وتفكري مبتدع ال‬
‫الذين عاونوين‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪40‬‬

‫الساعة الثانية عرشة من ّ‬


‫كل يوم‪ ،‬حني ت ّتفق العينان سيخرج‬ ‫فإذا ِ‬
‫أتت ّ‬
‫الساعة ذراعان أحدُ مها يأخذ ال ّنقود من املعطي ويعطي ّ‬
‫السائل املحتاج‪،‬‬ ‫من ّ‬
‫السامع ّ‬
‫لكل منهام‪،‬‬ ‫والذراع اآلخر يرضب الظامل حني يشتكيها رجالن بعد ّ‬ ‫ّ‬
‫فتأخذ الرشطة املرضوب وتو ّقع عليه العقاب املناسب"‪.‬‬
‫الساعة األعجوبة‪ ،‬ويف اليوم التايل اصط ّفوا أمامها يعطيها‬
‫فرح ال ّناس هبذه ّ‬
‫ثم يطلب الفقري‬
‫وحمب مرص هبته‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫صاحب املال زكاته واملتصدّ ق صدقته‬
‫ُ‬
‫األولون‪ ،‬ويأتيها‬ ‫حاجته والغارمون واملساكني فتعطي اًّ‬
‫كل منهم ممّا أعطاها ّ‬
‫رب‬ ‫الرجالن رسق أحدُ مها من اآلخر‪ ،‬واآلخر ينفي فتسأل اًّ‬
‫كل منهام أسئلة ع َ‬
‫فمها‪ ،‬فيجيبان سؤالاً فآخر‪ ..‬حتى‬ ‫شاشة إلكرتونية موضوعة يف جتويف ِ‬
‫تعلم الكاذب فترض ُبه فتمسكه الرشطة‪ ،‬ويفرح املنترص بتحقيق العدالة‪.‬‬
‫الساعة‪ ،‬فيأيت الناس من ّ‬
‫كل‬ ‫صار ال ّناس حيدثون بعضهم البعض بأمر ّ‬
‫املحافظات ليقصدوها ويلتمسوا بركتها‪ ،‬وأنشئوا هلا مولدً ا ّ‬
‫كل عام يوافق‬
‫اليوم الذي بدأت فيه العمل‪ ،‬وتركوا مولد السيد البدوي والدسوقي وغريها‬
‫بأنا‬
‫من املوالد التي احتفلوا هبا منذ مئات السنني‪ ،‬بعدما جترأوا عىل احلديث هّ‬
‫الساعة‪.‬‬
‫مل تنفعهم مثلام نفعتهم هذه ّ‬
‫كل هذا‪ّ ،‬‬
‫جل ما كان يريده أن ينشغل الناس بأمر‬ ‫نفسه مل يتو ّقع ّ‬
‫املحافظ ُ‬
‫فعل‪ ..‬لذلك استدعى‬‫حيل مشكالهتم اً‬ ‫الساعة عن الشّ أن السيايس ال أن ّ‬
‫رس تلك الساعة فأخربه بنفس الذي قد قاله يف االفتتاح ّ‬
‫أن‬ ‫حممو ًدا وسأله عن ّ‬
‫متطورة الستيعاب شخصية مرص احلديثة‪ ،‬فال يستطيع‬
‫ّ‬ ‫الساعة مربجمة برجمة‬
‫ّ‬
‫‪41‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫مميزات مرص من ّ‬
‫الذكاء والطيبة‬ ‫أحد التدخل أو إجبارها عىل يشء فهي متلك ّ‬
‫ٍ‬
‫صفات‬ ‫واألصالة واحلكمة والعلم‪ ،‬ويف نفس الوقت مع األسف متلك‬
‫أخرى ليست جيدة كام عبرّ ت عنه النافذتان ال ّلتان فوق العني فكام هناك‬
‫حب السلطة "وطاملا وضعتها يف البيئة املناسبة ومل تؤ ّثر‬
‫حب احلكمة هناك ّ‬
‫ّ‬
‫عليها مؤثرات خارجية ّ‬
‫فإن اخلري دو ًما ينترص‪ ،‬وهذا ما حدث!"‬
‫قاهلا حممود ّ‬
‫بكل فخر‪.‬‬
‫الساعة هلا عقل‪ ،‬وفيها خري ورش‪ ،‬وتفهم وتعي‬
‫إن ّ‬‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬فأنت تقول ّ‬
‫وتدخن احلشيشة!‬
‫ّ‬ ‫السجائر‬
‫وترشب ّ‬
‫لكن الباقي صحيح‪.‬‬ ‫‪ -‬احلقيقة ّ‬
‫أن موضوع السجائر واحلشيشة هذا مبالغة‪ّ ،‬‬
‫رأس املحافظ باألفكار‪ ،‬وطلب من حممود االنرصاف‪ ،‬وبقي وحيدً ا‬
‫دار ُ‬
‫يف مكتبه‪.‬‬
‫الساعة‪ ،‬وأنشئوا‬
‫املختصني لتطوير ّ‬
‫ّ‬ ‫كل بضعة أشهر‪ ،‬يأيت حممود وبعض‬ ‫ّ‬
‫صوتيا بحيث تستطيع أن تتك ّلم وحتاور الناس‪ ..‬فأرسلت رشكة‬
‫ًّ‬ ‫هلا نظا ًما‬
‫وأقروا بأهنا‬
‫الساعة الذكي‪ّ ،‬‬
‫"أبل" ورشكة "جوجل" مندوبني الختبار نظام ّ‬
‫وأي نظام متحدّ ث موجود حال ًيا باإلضافة إىل عبقرية‬
‫تطورا من سريي ّ‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫برجمتها التي وصلت إىل حدّ ال يمكن تو ّقعه يقرب من الذي متناه مؤسسو‬
‫علم الذكاء االصطناعي‪.‬‬

‫أحدث هذا النظام الصويت ضج ًة كبرية زادت من اإلقبال عىل ّ‬


‫الساعة‪،‬‬
‫أمية مرتفعة يف مرص‪ ،‬األمر الذي كان جيعل الكثريين‬
‫خاصة مع وجود نسبة ّ‬
‫ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪42‬‬

‫ال يستطيعون قراء َة الشاشة الرقمية إلاّ بوسيط متع ّلم‪ ،‬والذي كان يأخذ‬
‫خاصية الكالم صار األمر‬
‫ّ‬ ‫جنيها مقابل قراءة ّ‬
‫كل سطر‪ .‬أ ّما اآلن بعد إضافة‬ ‫ً‬
‫سهل عىل ّ‬
‫كل أحد‪.‬‬ ‫اً‬

‫الساعة زاد عن احلدّ ؛ لذلك ينبغي تنظيم‬


‫أن الضغط عىل ّ‬ ‫أعلن املحافظ ّ‬
‫الساعة إلعطائها فرتة‬ ‫ٍ‬
‫موعد مع ّ‬ ‫األمر اً‬
‫قليل‪ ..‬وأعلن عن تعيينه موظ ًفا حلجز‬
‫ٍ‬
‫وقت للسائحني األجانب بتذاكر‬ ‫يومية حتى ال تعطب‪ ،‬وختصيص‬
‫راحة ّ‬
‫الساعة لتعود عىل املواطنني بالنفع‪.‬‬
‫تدخل يف إيراد ّ‬
‫فرح املواطن البسيط هبذا اإلعالن ّ‬
‫ألن النفع سيعود عليه بالتأكيد‪،‬‬
‫فالساعة ال تظلم أحدً ا‪ ،‬والساعة تعطي املحتاج‪.‬‬
‫ّ‬
‫حصة الشعب من وقتهم مع الساعة‪،‬‬ ‫إلاّ ّ‬
‫أن ذلك قد أ ّدى إىل انخفاض ّ‬
‫فمن يريد لقاء الساعة اآلن حيجز موعدً ا بعد أيام‪ ،‬وإن مل يأت يف املوعد متا ًما‬
‫َ‬
‫موعد جديد‪ ،‬أ ّما من قبل فقد كنت تذهب مبارشة‬ ‫ٍ‬ ‫واضطر حلجز‬
‫ّ‬ ‫ضاع عليه‬
‫أي وقت من ليل أو هنار ال أحد يمنعك‪.‬‬
‫يف ّ‬
‫أن هذا من أجلهم‪ ،‬لذلك ال مانع أن نصرب اً‬
‫قليل‬ ‫لكن ال ّناس يعلمون ّ‬
‫ّ‬
‫سببها اصطدام ال ّنيزك أنست الناس‬ ‫حتى ننال ما نريدُ ‪ ،‬غري ّ‬
‫أن الفوىض التي ّ‬
‫خاصة مع احلديث عن الطاقة التي انبعثت وأ ّثرت‬
‫الزمن‪ّ ،‬‬
‫الساعة لفرتة من ّ‬
‫حي ّأول‬ ‫ْ‬
‫أضف إىل ذلك ّ‬
‫أن وجود الساعة يف ّ‬ ‫عىل أشياء كثرية وغري متو ّقعة‪،‬‬
‫جعلها بعيد ًة عن بقية الناس حتى ّ‬
‫تم إنشاء أنابيب املواصالت‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫أن النظام الذي كانوا قد أنشئوه‬ ‫وبعد عدّ ة أشهر‪ ،‬أعلن املسئولون ّ‬
‫الساعة صارت أكثر قدر ًة عىل تلبية‬ ‫رائعا‪ّ ،‬‬
‫وأن ّ‬ ‫نجاحا ً‬
‫ً‬ ‫نجح‬
‫َ‬ ‫قبل النيزك‬
‫احتياجات الناس من ذي قبل بعد دخول اإليرادات األجنبية نتيجة الفرتة‬
‫املخصصة للزيارات؛ لذلك وبعد األحداث األخرية نحتاج أن نقوم بتطوير‬ ‫ّ‬
‫ريا يف مصلحة الطبقة الكادحة‪ ،‬وهو ختصيص ٍ‬
‫وقت‬ ‫يصب أولاً وأخ ً‬
‫ّ‬ ‫آخر‬
‫إضايف للحجز العاجل لالستشارات النفسية واملالية واملظامل لقا َء د ْفع ٍ‬
‫مبلغ‬
‫أيضا يف إيراد الساعة ليعطى بعد ذلك للفقري‪.‬‬ ‫مايل مرتفع‪ ،‬والذي سيدخل ً‬
‫قلق من تبعات هذا القرار‪ ،‬فالوقت قد ضاق عىل الناس‬ ‫اعرتى الناس ٌ‬
‫بمجرد‬
‫ّ‬ ‫األول بام ال حيتمل تضيي ًقا آخر‪ ..‬وهو ما حت ّقق‬
‫بالفعل بعد القرار ّ‬
‫الساعة إلاّ‬
‫حجزا ملقابلة ّ‬
‫ً‬ ‫بداية العمل هبذا القرار األخري‪ ،‬فقد رصت ال جتد‬
‫بعد عدّ ة أسابيع‪ ،‬أو ربام شهور‪ -‬لو أردت احلجز يف املواسم التي يكون هبا‬
‫وألول‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وأيضا‪-‬‬ ‫الساعة‪،‬‬
‫وتم عمل سور حول منطقة تواجد ّ‬ ‫ضغط أكرب‪ّ -‬‬
‫الساعة متا ًما يف غري أوقات عا ّمة الشعب املجانية إلضفاء‬ ‫تم تغطية ّ‬ ‫مرة‪ّ -‬‬
‫ّ‬
‫مبلغ مايل أو عن طريق‬ ‫خصوصية عىل األغنياء والكرباء الذين يزوروهنا لقا َء ٍ‬
‫ّ‬
‫صحت الشائعات‪.‬‬ ‫بعض الوساطات لو ّ‬
‫أن األمر قد ساء جدًّ ا‪ّ ،‬‬
‫وأن األغنياء‬ ‫حتدّ ث أهل طنطا‪ -‬فيام بينهم‪ّ -‬‬
‫الساعة لالستشارات املالية واإلدارية حني تعوق‬ ‫يدفعون مالاً كث ً‬
‫ريا للقاء ّ‬
‫الساعة حلولاً عبقرية وف ًقا لربجمتها‬
‫أعامهلم االستثامرية مشاكل فتح ّلها ّ‬
‫أكثر بكثري‪ ..‬وأين يذهب املال الذي يدفعونه؟‬
‫املتطورة‪ ،‬فيعود عليهم بامل َ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫موعد‬ ‫الساعة إلاّ القليل‪ ،‬هذا إن استطاعوا حجز‬
‫الفقراء كام هم ال تعطيهم ّ‬
‫معها!‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪44‬‬

‫الساعة بعد اصطدام ال ّنيزك صارت اللوحات‬ ‫أن ّ‬ ‫رأوا ّ‬


‫وبعض الناس ْ‬‫ُ‬
‫التي فوق عينيها تدور يف اتجّ اهني خمتلفني‪ ،‬فلوحات العلامء تدور إىل اليمني‬
‫احلكام تدور إىل اليسار‪ ،‬كيف حدث هذا؟ وما معناه؟ وبعضهم‬ ‫ولوحات ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع‬ ‫الساعة خالل لقائهم هبا وشخريها‬ ‫أيضا يشتكون من نوم ّ‬ ‫ً‬
‫طول اليوم مع األغنياء الذين يدفعون فيضيع الوقت الذي انتظروه‬ ‫لتعبها َ‬
‫اً‬
‫طويل‪.‬‬
‫ترد إليها‪ ،‬وأنّه‬
‫أيضا يف الشكاوى التي ُ‬ ‫أحدُ هم قال ّ‬
‫إن الساعة مل تعد تعدل ً‬
‫شخصا بعينه رسق قطع َة أرض من جاره املسافر‪ ،‬فلماّ عاد اجلار من‬‫ً‬ ‫يعرف‬
‫السارق ورضبت املظلوم‪ ،‬فأخذ يبكي ويرصخ‬ ‫ِ‬
‫فنرصت ّ‬ ‫للساعة‬
‫سفره شكاه ّ‬
‫الساعة‪ ،‬وهي‬ ‫والرشطة تسحبه لتعاقبه عىل اال ّدعاء وعدم احرتام أحكام ّ‬
‫ّ‬
‫الشك فيه!‬ ‫ٌ‬
‫هتمة عجيبة مل نسمع هبا من ْقبل ّ‬
‫كأن الساعة إله ال جيوز‬
‫عمه يف‬
‫ظلمه ّ‬
‫قصة مشاهبة لشخص يعرفه َ‬ ‫رجل آخر‪ ،‬وحكى ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وافقه‬
‫عمه قبل موعد الشّ كوى شوهد يدفع مالاً لزيارة ّ‬
‫خاصة‬ ‫مرياث أبيه ّ‬
‫وأن ّ‬
‫الساعة املظلوم‬ ‫يقال إنّه دفع فيها رشو ًة ّ‬
‫للساعة ألنّه يف اليوم التايل رضبت ّ‬
‫العم الظامل من‬
‫أيضا رغم وضوح القضية للجميع‪ ،‬وتباكى ّ‬ ‫صاحب احلقّ ً‬
‫َ‬
‫الساعة‬
‫الرجال عىل نزع ّ‬
‫عقوق ابن أخيه له‪ ،‬وتعدّ دت احلكايات حتى عزم ّ‬
‫وكل َمن كانت‬‫نزعا ورميها يف النيل وأخذوا جيمعون أصحاهبم وإخواهنم ّ‬ ‫ً‬
‫الساعة‬
‫ألنم مل يروا من ّ‬
‫له مظلمة مل ينصرَ ْ فيها‪ ،‬بينام رفض آخرون املشاركة هّ‬
‫رشا بعد‪ ،‬وال يدرون ماذا سيحدث بعد إزالتها! فالوضع قبلها كان سيئًا‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫ففضلوا السكوت واجللوس حول امليدان للمشاهدة‬‫ور ّبام بعدها يكون أسوأ ّ‬
‫فقط‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫الساعة حلاميتها‬
‫سمع املسئولون باألمر ففزعوا وأمروا الرشطة بمحارصة ّ‬
‫َ‬
‫الساعة بعد أن يفرغها من أمواهلا ّ‬
‫كل‬ ‫ري من وراء ّ‬
‫فقد كان بعضهم جيني الكث َ‬
‫ليلة إلاّ ّ‬
‫أقل القليل من املال ليس َ‬
‫رت اختالسه وال يمكن املخاطرة بإزالتها عىل‬
‫لكن قائد الرشطة الرشيف ا ّدعى املوافقة‬ ‫أيدي الثّائرين الشرّ اذم هؤالء‪ّ ،‬‬
‫ثم فاجأ اجلميع بفتح الطريق للثّوار ألنه يعلم‬ ‫ّ‬
‫ليتمكن من الوصول للميدان‪ّ ،‬‬
‫يتم منذ زمن بعيد‪ ،‬وهو شخص ّ‬
‫مطلع عىل‬ ‫ّ‬
‫أن هذا األمر كان ال بدّ له أن ّ‬
‫الفساد الداخيل طوال الوقت‪.‬‬
‫فإنا مل‬
‫الساعة التي ارتفع حاجباها يف فزع‪ ،‬هّ‬ ‫هجم ُ‬
‫أهل طنطا الشرّ فاء عىل ّ‬
‫تتصور أن حيدث هذا‪ ،‬فأخذت بنظامها الصويت تنادي أصدقاءها‬ ‫ّ‬ ‫تكن أبدً ا‬
‫الراشني الذين طاملا نرصهتم ظلماً فاختبئوا ً‬
‫مجيعا‪ ،‬ومل ير ّد أحد نداءها‪..‬‬
‫ِ‬
‫أطراف‬ ‫ٍ‬
‫مسرية ضخمة إىل أحد‬ ‫انتزعها الرجال من مكاهنا وانطلقوا هبا يف‬
‫حي ثان‪ ،‬يف ترعة‬
‫فوقعت إىل األعىل إىل ّ‬
‫ْ‬ ‫ثم رموها وهي ترصخ‬
‫احلي املبتورة ّ‬
‫كبرية مهجورة‪.‬‬
‫لكن‬
‫الساعة وأرغموه عىل صناعة أخرى ْ‬ ‫ثم أتوا بمحمود صانع ّ‬ ‫ّ‬
‫فمثل ال يسمح هلا أبدً ا أن ّ‬
‫تفكر من تلقاء‬ ‫املرة اً‬
‫بمواصفات خاصة هذه ّ‬
‫نفسها‪ ،‬بل تن ّفذ ما برجمت عليه فقط‪ ..‬وأن تعينّ جلنة تراقب املال الداخل‬
‫لكل ال ّناس يف لوحة إلكرتونية ضخمة‬ ‫واخلارج‪ ،‬وتكون األرقام معلنة ّ‬
‫أن توجد إمكانية مراجعة‬ ‫بحيث يتابعها الناس حلظ ًة بلحظة‪ ..‬كذلك ْ‬
‫جمرد برنامج كتبه برش‪،‬‬
‫وآخرا ّ‬
‫ً‬ ‫األحكام التي تصدرها يف ال ّنزاعات‪ ،‬فهي أولاً‬
‫وليست معصومة من اخلطأ!‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪46‬‬

‫األمر من حممود رحلة إىل جامعة أملانية شهرية وبمشاركة‬


‫ُ‬ ‫استغرق‬
‫ٍ‬
‫بساعة جديدة باملواصفات املطلوبة بعد ستة أشهر‪.‬‬ ‫الباحثني هناك عاد‬

‫الساعة القديمة فلم يعدْ أحدٌ يراها إلاّ القليل هّ‬


‫ألنا كام قلنا يف الرتعة‬ ‫أ ّما ّ‬
‫مر ِمن هناك ّأكد أنّه سمعها تناديه باسمه‬ ‫كل َمن ّ‬‫بحي ثان‪ ،‬لكن ّ‬‫البعيدة ّ‬
‫كل يشء‬‫ترص عىل أن حتاكي مرص يف ّ‬
‫كأنا ّ‬‫متدّ به صوهتا عىل طريقة النداهة هّ‬
‫الرجال بشعرها الناعم‬ ‫حتى يف أساطريها‪ ،‬غري ّ‬
‫أن النداهة امرأة مجيلة جتذب ّ‬
‫ومفاتنها لكن َمن ذا األبله الذي جتذبه ساعة حوالء صدئة؟!‬
‫‪47‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(يمناها)‬

‫عرضيا بني شارع‬


‫ًّ‬ ‫حي ثان‪-‬‬
‫يمتدّ شارع (حسان بن ثابت)‪ -‬الكائن يف ّ‬
‫(حسن حسيب) وشارع (حممد متويل الشعراوي) يتعامد طرفاه عليهام‪ ،‬فهو‬
‫وسبب‬
‫ُ‬ ‫نسبيا لك ّنه من األماكن احليوية بطنطا‪ ،‬وسو ُقه رائج‪،‬‬
‫شارع قصري ًّ‬
‫ٌ‬
‫ذكره يف حكايتنا هذه أنّه يف صبيحة يوم اجلمعة التايل لتصادم ال ّنيزك الشهري‬
‫كانت تسكن هذا الشارع (يمنى)‪ ،‬فتا ٌة سمراء يف الثامنة عرش من عمرها‪.‬‬

‫استيقظت من نومها متثائب ًة فنادت أ ّمها دون أن تفتح عينها "أ ّمي كم‬
‫ٍ‬
‫بصوت أعىل "أ ّماه‪،‬‬ ‫فكررت‬ ‫الساعة؟"‪ ..‬يبدو ّ‬
‫أن أ ّمها كانت بعيدة فلم تر ّد‪ّ ،‬‬
‫"الساعة العارشة حسب ما‬
‫صوت من يدها ّ‬
‫ٌ‬ ‫كم الساعة اآلن؟" فأتاها‬
‫أرى"‪.‬‬

‫نصور ما حدث حني سمعت هذا الصوت فإنّه أشبه بعاصفة‬


‫لو أمكن أن ّ‬
‫الصفراء صبغ ًة مع قفزها فزعة فوق‬
‫خصالت شعرها ّ‬
‫ُ‬ ‫رملية حيث تطايرت‬
‫الرشيق‪ ،‬وقد ارتفعت قدماها وانثنت ركبتاها أقىص ما‬‫الرسير بجسدها ّ‬
‫مرة أخرى بفعل اجلاذبية األرضية الرشيرة‪،‬‬
‫يمكن إىل األعىل قبل أن هتبط ّ‬
‫أخذت تبحث حوهلا عن مصد ِر ّ‬
‫الصوت‪ ،‬وقل ُبها ينبض بعنف‪ ..‬مل َتر أحدً ا‬
‫بجوارها‪ ،‬لك ّنها ّ‬
‫متأكدة هّأنا سمعته‪ ..‬وضعت يدَ ها عىل صدرها هتدّ ئ‬
‫هتيؤات ال أكثر"‪.‬‬
‫نفسها‪ ،‬وتقول "هذه ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪48‬‬

‫هتيؤات‪ ،‬أنا‬
‫مرة أخرى "ليست ّ‬‫الصوت هادئًا من يدها اليمنى ّ‬
‫ُ‬ ‫جاءها‬
‫الساعة العارشة" نظرت إىل يدها لتجدها تتك ّلم‪ ،‬سمعت‬ ‫الذي قلت ّ‬
‫إن ّ‬
‫نظرت‬
‫ْ‬ ‫جرت إليها لتجد يدَ ها تك ّلمها هي األخرى‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رصاخ أ ّمها يف املطبخ‬
‫كل منهام إىل األخرى يف فزع‪ ..‬ماذا حيدث؟!‬ ‫ٌّ‬

‫نزلتا إىل الشّ ارع لتجدا مجيع ّ‬


‫سكان شارع (حسان بن ثابت) أصاهبم نفس‬
‫اليشء ويتبادلون اخلرب‪..‬‬

‫(كتشنر)‪،‬‬‫يف اليوم التايل‪ ،‬ذهبت إىل عملها بحضانة األطفال يف ميدان ُ‬


‫ّ‬
‫املكتظة باملعامل الدافئة‪،‬‬ ‫وهو ميدان صغري كأغلب األماكن يف مدينة طنطا‬
‫حوهلا ترتدي غطا َء رأس حلزوين‪ ،‬طبقات بعضها فوق‬
‫يراها السائرون من ْ‬
‫بعض ومالبس ملونة‪.‬‬

‫تسمى غال ًبا‬ ‫حتب ّ‬


‫الذهاب والعودة مش ًيا يف شارع (سعيد) الذي ّ‬ ‫كانت ّ‬
‫متر بمعامل ذلك الشّ ارع املألوفة‬
‫عىل اسم األديب الطنطاوي (سعيد العريان) ّ‬
‫الذكريات‬ ‫هنرا من ّ‬‫رغم عدم اهتام ِم (يمنى) بتفاصيلها لك ّنها تعيد إليها ً‬
‫فتبتسم أحيا ًنا ويظهر عليها الرشود أحيا ًنا أخرى‪.‬‬
‫للذهاب إىل مدارسهم‪ ،‬وترى اً‬
‫رجل‬ ‫بعض األطفال يعربون الطريق ّ‬
‫ترى َ‬
‫يقف يف متج ٍر صغري يبيع لفائف مريب ًة لبعض الشباب الذين يبدو عليهم‬
‫تاجر خمدّ رات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الرباءة والطيش أحيا ًنا‪ ..‬قالت يدُ ها بتلقائية‪" :‬هذا الرجل‬
‫ملاذا ال يمنعه أحد؟ هل أصاب الناس العمى؟"‬
‫‪49‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫فرقت (يمنى) رع ًبا وهي تقبض يدَ ها يف جيبها حتاول إسكاتهَ ا اّ‬
‫لئل‬
‫أن اليد مل ْ‬
‫تقل شيئًا جديدً ا؛ بل‬ ‫يسمعها الرجل وأرسعت بامليش‪ ،‬صحيح ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫كان هذا ما يدور بعقلها ك ّلام ّ‬
‫مرت‪ ،‬لك ّنها ليست مستعدّ ة أن تقوله‬
‫نفسها املهالك‪..‬‬
‫عال وتور َد َ‬
‫حتب األطفال لكن تعاملها معهم‬
‫رسيعا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫متر‬
‫أيامها يف احلضانة ّ‬
‫كانت ُ‬
‫جمرد سكرترية أو ّ‬
‫موظفة استقبال ال مدرسة‪ ،‬لك ّنها تثرثر مع‬ ‫قليل‪ ،‬فهي ّ‬
‫َ‬
‫مواقف طريفة وردو ًدا مفاجئة من األطفال‬ ‫املدرسات يف أثناء اليوم حيكنيَ هلا‬
‫أثناء التدريس‪.‬‬

‫يوم استثنائي‪ ،‬فقد صارت يدُ ها تتك ّلم!‬


‫أ ّما اليوم فهو ٌ‬
‫باب الشقة التي هبا احلضانة‪ ،‬جلست يف مكاهنا يف مكتب‬
‫فتحت َ‬
‫ثم قامت إىل الرشفة تتأ ّمل دوران (كتشنر)‬
‫االستقبال ترتّب بعض األوراق‪ّ ،‬‬
‫والزحام كام يسمح هلا موقعها‬ ‫وتد ّفق املشاة ّ‬
‫والسيارات به مع بداية اليوم ّ‬
‫مدرسني أو آباء مع أطفاهلم‬
‫برؤية القادمني إىل احلضانة قبل صعودهم من ّ‬
‫فتعود إىل مكتبها لتكون يف استقباهلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫موعدها بنصف ساعة‪ ،‬جاءت (تغريد) مع ّلمة احلساب‪ ،‬اندفعت‬ ‫وقبل‬
‫إليها وسألتها وعىل وجهها اإلثارة‪:‬‬

‫‪ -‬هل هذا صحيح؟‬


‫أسرار حي أول‬ ‫‪50‬‬

‫ابتسمت (يمنى) فضاقت عيناها ّ‬


‫كخطني رفيعني وأومأت‪:‬‬ ‫ْ‬

‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬فقد انترش اخلرب!‬

‫خصوصا؟‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ال ّناس كلهم يتك ّلمون منذ أمس‪ ،‬ملاذا شارع (حسان بن ثابت)‬

‫‪ -‬ال أدري‪ ،‬إهنا فضيحة‪ ،‬لقد صارت يدي تتك ّلم يف مواقف حمرجة‬
‫فأضطر أن أقبض بشدّ ة حتى أكتم صوهتا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للغاية‪،‬‬

‫‪ -‬أريد أن أرى‪.‬‬

‫امحر وجه (يمنى) وهي تفتح هلا يدَ ها أمامها‪ ،‬كانت تعلم ّ‬
‫أن الناس‬ ‫ّ‬
‫ألنا‬
‫سيبدؤون بطلب رؤية يدها‪ ،‬ونحو ذلك من الطلبات الغريبة‪ ،‬ومل متانع هّ‬
‫ريا ّ‬
‫حمل اهتامم‪.‬‬ ‫ستكون أخ ً‬

‫طبيعية متا ًما‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪-‬تبدو‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬طاملا ال تتك ّلم‪.‬‬

‫‪ -‬هل يمكنك أن‪ ..‬جتعليها تتك ّلم؟‬

‫خفضت (يمنى) صوهتا واقرتبت من (تغريد) قائلة‪:‬‬

‫‪-‬لقد تع ّلمت بعض احليل أمس الستفزازها‪ ،‬فهي ال تتك ّلم طوال الوقت‬
‫شخصية ما‪ ..‬راقبي هذا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كأن هلا‬
‫‪51‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ثم رفعت صوهتا وقالت‪:‬‬


‫ّ‬
‫‪ -‬أتعلمني يا (تغريد) إنّني يف البيت دو ًما أحافظ عىل شعري ّ‬
‫مهذ ًبا حتى‬
‫أثناء ال ّنوم!‬

‫ضاجر من يدها‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫صدر صوت‬
‫‪ -‬ح ًّقا؟ أهذا أفضل ما ّ‬
‫فكرت فيه جلعيل أتك ّلم؟‬

‫أجفلت (تغريد) وقامت من مقعدها وهي ترصخ‪ ،‬فضحكت (يمنى)‬


‫ْ‬
‫مرة أخرى‪..‬‬
‫وطمأنتها لتجلس ّ‬
‫َ‬
‫طوال اليوم‬ ‫ً‬
‫اعرتاضا عىل الكذب الصرّ يح بتهذيب شعرك‬ ‫‪ -‬أنا مل أتك ّلم‬
‫كونك مل تستخدمي طريقة أكثر ذكا ًء ومالءمة لعقيل‪.‬‬ ‫ً‬
‫اعرتاضا عىل ْ‬ ‫لكن‬
‫ِ‬
‫ضحكت الفتاتان وقالت (يمنى)‪:‬‬

‫‪-‬طيب يا عاقلة!‬
‫ّ‬
‫ثم بدأ الناس يف الدخول‪ ،‬فقبضت (يمنى) يدها كي ال جتذب إليها املزيدَ‬
‫ّ‬
‫من االنتباه مع قدوم اآلباء واملعلامت‪.‬‬

‫اجتامعه املعتاد مع العاملني باحلضانة‪،‬‬


‫َ‬ ‫وقبل هناية اليوم‪ ،‬اجتمع املدير‬
‫سيطبقها يف احلضانة وأخذ يرشح باستفاضة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقال إنّه لديه فكرة جديدة‬
‫استفز يدَ (يمنى) فنطقت أخ ً‬
‫ريا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فأبدى اجلميع إعجابهَ م بالفكرة ممّا‬

‫أي فكرة تلك التي تقولون هّإنا رائعة يا ث ّلة من املنافقني واألغبياء‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪52‬‬

‫التعجب لريوا مصدر الكالم‪،‬‬


‫ّ‬ ‫آهات‬ ‫التفت ّ‬
‫الكل إىل (يمنى) وقد تناثرت ُ‬ ‫َ‬
‫فامحرت وجنتاها يف خجل شديد‪ ،‬وقالت برسعة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪-‬واهلل مل ْ‬
‫أقل شيئًا‪ ،‬هّإنا يدي!‬

‫ورفعت يدَ ها اليمنى لينظر إليها اجلميع وهي تتك ّلم‪.‬‬

‫ثم تساءل‪:‬‬
‫نظر املدير إىل يدها باهتامم‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬هل تسكنني شارع (حسان بن ثابت) يا (يمنى)؟‬

‫قالت وهي تشري برأسها برسعة‪:‬‬

‫‪ -‬نعم!‬

‫‪ -‬مدهش! إ ًذا‪ ..‬ملاذا مل تعجبك الفكرة أيتها اليد؟‬

‫حتب السخرية فقط‬


‫حتب النقاشات النافعة بل ّ‬
‫كأنا ال ّ‬ ‫ِ‬
‫ضجرت اليدُ هّ‬
‫ثم ّ‬
‫وضحت هّأنا‬ ‫ترشح له مدى غبائه‪ّ ،‬‬
‫وأن تلك الفكرة قديمة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫لكنها بدأت‬
‫تلفزيونيا ما‪ ،‬قالوا فيه فكرة أحسن ألمثال هذه‬
‫ًّ‬ ‫كانت تشاهد مع يمنى برناجمًا‬
‫احلضانة‪ ،‬وبدأت ترشح الفكرة له ممّا القى استحسانه بوضوح‪ ،‬فلم يغضب‬
‫قرر تنفيذ فكرة ِ‬
‫يد (يمنى) ممّا أسعد (يمنى) نفسها‬ ‫املدير عىل اإلطالق بل ّ‬
‫ُ‬
‫بالطبع‪.‬‬

‫بعد انتهاء االجتامع‪ ،‬بدأ اجلمع ينرصف‪ ،‬وصافحت (يمنى) األخريات‬


‫كأنا‬ ‫عليهن الدّ هشة من أمر ِ‬
‫يدها العجيبة‪ ،‬يصافحنَها بخوف هّ‬ ‫ّ‬ ‫الاليت بدا‬
‫‪53‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫مرة أخرى تتمشّ ى‬


‫ثم نزلت إىل دوران (كتشنر) ّ‬ ‫ّ‬
‫ستعضهم أثناء املصافحة‪ّ ،‬‬
‫مستفزة‬
‫ّ‬ ‫يف طريق العودة إىل البيت عىل مهل‪ ،‬وقد أخرجت يدَ ها تقول هلا‬
‫إ ّياها‪:‬‬

‫‪ -‬يا محقاء‪.‬‬

‫فرت ّد عليها‪:‬‬

‫‪ -‬مل َأر أمحق منك!‬

‫ثم تع ّقب‪:‬‬
‫فتضحك (يمنى) ّ‬
‫‪ -‬يا قبيحة‪.‬‬

‫‪ -‬انظري إىل املرآة أولاً !‬


‫َ‬
‫طوال الطريق‪.‬‬ ‫وهكذا‬

‫‪...‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪54‬‬

‫(عبد اهلل الوموي)‬

‫وقف (عبد اهلل إبراهيم سعد الوموي) يف قفص االتهّ ام يف حمكمة طنطا‬
‫رسا‬
‫اهلم الشديد حيمل ًّ‬
‫بحي أول‪ ،‬وقد بدا عليه ّ‬
‫املوجودة يف شارع النادي ّ‬
‫اً‬
‫ثقيل عىل كاهله‪.‬‬

‫املوجهة إليه‪ ،‬ولك ّنه يف نفس‬


‫ّ‬ ‫كان يرفض‪ -‬متا ًما‪ -‬االعرتاف بال ّتهمة‬
‫أن يدافع عن نفسه‪ ..‬ماذا حدث؟ حتى متى هذا الصمت؟‬ ‫الوقت يرفض ْ‬

‫باب املحكمة يف صمت وخ ّفة‪ ،‬وقد ألقى‬


‫مرسعا من ِ‬
‫ً‬ ‫لكن اً‬
‫رجل دخل‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫استغراب حتى وصل‬ ‫ببرصه إىل األرض متج ّن ًبا العيون التي التفتت إليه يف‬
‫إىل وكيل النيابة وقد ظهر عليه ّ‬
‫الضيق حني عرفه‪ ،‬وعرف أنّه قادم إليه‪ ،‬بينام‬
‫رأسه إليه ليسمع ما يريد قو َله‪ ،‬فإذا بالضيق‬
‫كليهام‪ ،‬فأمال َ‬
‫ينظر القايض إىل ْ‬
‫يتحول إىل دهشة وعيناه تلتمعان فجأ ًة يف رسور‪ ،‬فقال برسعة‪:‬‬
‫ّ‬
‫سيدي القايض‪ ،‬أو ّد استدعاء شاهد‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫قال القايض‪:‬‬
‫‪ -‬لك ّنك استدعيت ّ‬
‫كل شهودك بالفعل‪ ،‬هل هناك أحدٌ آخر ّ‬
‫مسجل يف‬
‫قائمة الشهود مل تستدعه بعد؟‬

‫حقيقيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫إن الشاهد ليس‬ ‫‪ -‬إحم‪ ..‬حقيق ًة ّ‬
‫سيدي القايض‪ّ ،‬‬
‫‪55‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫َ‬
‫ضحك القايض يف استخفاف‪ ،‬وخلع نظارته وأخذ ّ‬
‫حيك مقدم رأسه‪،‬‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل فقدت عقلك يا عالء؟‬
‫اضطرب عالء وأخذت عينه ترمش برسعة مع ضحكات احلضور‪:‬‬
‫َ‬

‫‪ -‬إطال ًقا يا سيدي‪ْ ،‬‬


‫لكن بلغني اآلن ّ‬
‫أن امل ّتهم من سكان شارع (حسان‬
‫بن ثابت)‪.‬‬
‫قاهلا وهو يبتسم وقد علت اهلمهامت بني احلارضين يف قاعة املحكمة‬
‫مرة أخرى‪:‬‬‫فطرق القايض بمطرقتِه ليسكتهم‪ ،‬وسأله وهو يضع نظارته ّ‬
‫‪ -‬هل هذا هو الشارع الذي صار سكانه تتك ّلم أيدهيم وأرجلهم؟‬
‫‪ -‬أيدهيم فقط يا سيدي‪.‬‬
‫ً‬
‫ضاحكا‪:‬‬ ‫قال القايض للم ّتهم‬
‫دع يدَ ك حتكي لنا ما حدث‪.‬‬
‫بني معك من الصباح‪ْ ،‬‬
‫‪ -‬وملاذا أتعبتنا يا ّ‬
‫يتفوه بكلمة‪ ،‬فقال‬
‫يتحسس يده املربوطة‪ ،‬ومل ّ‬
‫ّ‬ ‫قطب امل ّتهم حاجبيه وهو‬
‫مرة أخرى‪:‬‬
‫املدّ عي ّ‬
‫‪ -‬سيدي القايض‪ ،‬أرجو مالحظة قيام امل ّتهم بربط يده برابط ضاغط‬
‫للريبة يف‬ ‫قول احلقيقة‪ ،‬وأرى ّ‬
‫أن هذا دليل جديد يدعو ّ‬ ‫عامدً ا ليسكتها عن ْ‬
‫املوجه إليه‪.‬‬
‫موقفه من االهتام ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪56‬‬

‫ولكن هذه ستكون سابقة يا حرضة املدّ عي‪ ،‬كيف ستستدعي يدً ا‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫للشهادة؟‬
‫‪ -‬صحيح هّأنا سابقة لك ّنها سابقة يف صالح القانون‪ ،‬وروح القانون حت ّتم‬
‫علينا االستامع لشهادة اليد‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬فطرق القايض بمطرقته ّ‬
‫ومط شفتيه ّ‬ ‫ِ‬
‫علت اهلمهامت ّ‬
‫‪ -‬فليكن!‬
‫توجه إىل املتهم بقوله‪:‬‬
‫ثم ّ‬‫ّ‬
‫الرباط يا بني‪ ،‬خلصنا ودع اليدَ تقول ما لدهيا!‬
‫انزع هذا ّ‬
‫‪ْ -‬‬
‫هنا قبض (عبد اهلل الوموي) بشدّ ة عىل يديه‪ ،‬وتك ّلم أخ ً‬
‫ريا بصوت‬
‫ضعيف قال‪:‬‬
‫‪ -‬ال داعي لذلك‪ ،‬سأعرتف باجلريمة‪ ،‬لقد‪ ..‬قتلت زوجتي ألين‪..‬‬
‫تشاجرت معها‪ ،‬نعم تشاجرت معها‪ ،‬وكان معي سكني رضبتها به حتى‬
‫ماتت‪.‬‬
‫ثم نظر إىل األرض كأنّه‬ ‫ووجهه يتق ّلص مع ّ‬
‫كل كلمة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال هذه الكلامت‬
‫لكن املدّ عي قال يف حبور‪:‬‬
‫نادم عىل اجلريمة أو نادم عىل االعرتاف‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬أرجو تسجيل ذلك االعرتاف سيدي القايض‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫لتوه‪ّ ،‬‬ ‫قليل ّ‬
‫يفكر يف ما سمعه ّ‬ ‫ثم جلس‪ ،‬فسكت القايض اً‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أعتقد يا حرضة املدّ عي أنّك تريد استجواب اليد‪ ،‬وأنّك تتعجب اآلن‬
‫فضل املتهم االعرتاف عىل أن تتك ّلم يده باحلقيقة!‬
‫ملاذا ّ‬
‫‪57‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫مضطر الحرتامه فقام يف‬


‫ّ‬ ‫ً‬
‫مغتاظا من القايض بالفعل‪ ،‬لك ّنه‬ ‫كان املدّ عي‬
‫وطلب من (الوموي) كشف ِ‬
‫يده ليك ّلمها أمام احلضور‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ضيق‬
‫فتدخل أحد احلراس‬
‫الرضا‪ ،‬وتلكأ يف االستجابة‪ّ ،‬‬
‫بدا عىل (الوموي) عدم ّ‬
‫الرباط برسعة‪ ،‬فظهرت يدُ ه وعليها مثل ِ‬
‫الفم‬ ‫بإشارة من القايض ونزع عنه ّ‬
‫بخط رقيق أخرض اللون يتثاءب من ٍ‬
‫نومة طويلة وفوقه عينان دقيقتان‬ ‫مرسوم ّ‬
‫الرهبة‪ ،‬نظرت إىل‬ ‫ٍ‬
‫يشء من ّ‬ ‫ِ‬
‫بسقفه العايل وحوائطه البنية يف‬ ‫تتأمل املكان‬
‫تشع عيناه ً‬
‫غيظا‪ ،‬واحلضور‬ ‫منصتهم‪ ،‬واملدّ عي الذي ّ‬ ‫َ‬
‫خلف ّ‬ ‫القضاة اجلالسني‬
‫التعجب والرت ّقب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والكل ينظر إليها بمزيج من‬ ‫املصطفني يف القاعة‬
‫نظر املدّ عي إىل اليد وخاطبها مبارشة‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّيتها اليد‪ّ ،‬‬
‫إن املحكمة تستدعيك للشهادة‪ ،‬فهل تقسمني عىل قول‬
‫احلقيقة؟‬
‫ظهر صوهتا ذكور ًّيا ّ‬
‫أجش‪ ،‬لك ّنه واضح وبسيط‪:‬‬ ‫َ‬
‫‪ -‬نعم أقسم‪ ،‬رغم أنيّ لست بحاجة إىل القسم فإنيّ ال أستطيع الكذب‪.‬‬
‫وخمترصا‪ ،‬وأريد اإلجابة بنعم أو ال‪..‬‬
‫ً‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬جيد‪ ،‬سأسألك سؤالاً‬
‫هل قتل (عبد اهلل إبراهيم سعد الوموي) زوجته؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬قتلها ّ‬
‫رش قتلة!‬
‫مرتاحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫زفر املدّ عي‬
‫َ‬
‫‪ -‬انتهيت ِمن الشاهد يا سيادة القايض‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪58‬‬

‫أومأ القايض برأسه إلاّ ّ‬


‫أن حمامي املحكمة قام برسعة‪:‬‬

‫‪ -‬سيدي القايض‪ ،‬أريد استجواب الشاهد!‬

‫‪ -‬ح ّقك‪ّ ،‬‬


‫تفضل‪.‬‬
‫واجه املحامي امل ّتهم‪ ،‬وطلب منه رفع ِ‬
‫يده ليواجه الوجه املرسوم عليها‪،‬‬
‫فنظرت إليه اليدُ منتظر ًة سؤاله فقال‪:‬‬

‫‪-‬أ ّيتها اليد‪ ،‬هل (عبد اهلل إبراهيم سعد الوموي) بريء؟‬

‫نعم بالطبع!‬
‫‪ْ -‬‬
‫مرة تقول‬
‫إن هذه اليد ال تصلح للشهادة‪ّ ،‬‬ ‫‪-‬أرأيت سيادة القايض؟ ّ‬
‫مرة ّ‬
‫تؤكد قوهلا بثقة متناهية‪.‬‬ ‫ومرة مل يقتلها‪ّ ..‬‬
‫وكل ّ‬ ‫قتلها‪ّ ..‬‬
‫قال القايض‪:‬‬

‫واضحا أمام املحكمة‬


‫ً‬ ‫‪-‬ما خطبك أيتها اليدُ املتك ّلمة؟ أمل تقسمي قسماً‬
‫فلامذا تكذبني؟‬

‫أقل إلاّ احلقيقة املطلقة!‬


‫‪ -‬أنا ال أكذب وال أستطيع الكذب‪ ،‬ومل ْ‬

‫‪ -‬وكيف ذلك؟‬

‫‪ -‬يا سيادة القايض يوجد شخصان بنفس االسم (عبد اهلل إبراهيم سعد‬
‫الوموي) أحدُ مها قتل زوجته واآلخر مل يفعل!‬
‫‪59‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫قال (الوموي)‪:‬‬
‫ِ‬
‫تسكت فحسب!‬ ‫‪ -‬ملاذا ِ‬
‫قلت هذا يا غبية؟ ملاذا مل‬
‫قالت اليدُ ساخرة‪:‬‬
‫‪ -‬ليس بيدي!‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فطرق القايض بمطرقتِه نافد الصرب‪..‬‬
‫ضجت قاعة املحكمة ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬الشّ خصان بنفس االسم الرباعي؟‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي!‬
‫‪-‬هل صاحبك هو القاتل أم الربيء؟‬
‫حبا شديدً ا‪.‬‬
‫حيب زوجته ًّ‬
‫طبعا يا سيدي‪ ،‬لقد كان ّ‬
‫‪ -‬هو الربيء ً‬
‫بدأ الدّ مع يرتقرق يف عني (الوموي) عند ذكر زوجته‪ ،‬فأكملت اليد‪:‬‬
‫هتتم برتتيب البيت ّ‬
‫كل يوم‪،‬‬ ‫‪ -‬صحيح هّأنا ال حتسن ال ّتنظيف لك ّنها ّ‬
‫زوجا‬ ‫وصحيح أهنا كثري ُة اإلمهال يف ح ّقه لك ّنها كانت تذكر أحيا ًنا ّ‬
‫أن هلا ً‬
‫لتهتم به ثالثة أيام يف الشّ هر عىل أقىص تقدير‪ ،‬وصحيح أهنا‪...‬‬‫ّ‬
‫أن قبض (الوموي) يدَ ه بقوة‬ ‫صدرت من ِ‬
‫اليد مههامت مكتومة بعد ْ‬ ‫ْ‬
‫ليسكتها عن قول املزيد‪ ،‬وتك ّلم هو‪:‬‬
‫حبي لزوجتي‬ ‫تتفوه برأهيا الشخيص‪ّ ،‬‬ ‫‪-‬اعذرين أيهّ ا القايض فإهنا يدٌ محقاء‪ّ ،‬‬
‫كان أكرب من أطباق ال جتيد تنظيفها أو انشغال ع ّني أحيا ًنا بأبنائي‪ ،‬هّإنا قصة‬
‫حب قديمة؛ فهي ابنة خايل وأعرفها منذ كانت طفلة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪60‬‬

‫قال القايض‪:‬‬
‫ّ‬
‫وتكف عن‬ ‫إن أردت أن تسكت اليد فعليك أن جتيب عن ّ‬
‫كل األسئلة‪،‬‬ ‫‪ْ -‬‬
‫صمتك املعتاد؛ فهل أنت مستعدّ لذلك؟‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫أطرق (الوموي) ّ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬سأجيب عن أسئلتك‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ ،‬ما ّ‬
‫قصتك أنت و(الوموي) اآلخر؟ وكيف تشابه اسمكام الرباعي؟‬
‫ً‬
‫منترشا بني‬ ‫السبب بسيط‪ ،‬وهو أنّه منذ زمن بعيد كان زواج األقارب‬ ‫‪ّ -‬‬
‫تنزح إىل طنطا قبل والديت بمدّ ة‪ ،‬فتجد ابن اخلال‬
‫عائلة (الوموي) من قبل أن َ‬
‫عمته‬
‫العم حيمالن لقب (الوموي)‪ ..‬كان أيب (إبراهيم سعد) وكان ابن ّ‬ ‫وابن ّ‬
‫وأعز أصدقائه يدعى (إبراهيم سعد) ً‬
‫أيضا‪ ،‬واالثنان كام ّنوهت مها من عائلة‬ ‫ّ‬
‫كل منهام ابنه نفس االسم (عبد‬‫أن يسمي ّ‬ ‫وقررا عىل سبيل التندّ ر ْ‬
‫(الوموي)‪ّ ،‬‬
‫اهلل)‪..‬‬
‫قرر‬ ‫لكن أيب ّ‬
‫معا يف شارع (احلكمة) ّ‬ ‫كنت و(عبد اهلل) صديقني نشأنا ً‬
‫ُ‬
‫السفر للعمل باخلليج‪ ،‬فانقطعت عالقتي بـ(عبد اهلل) تقري ًبا‪ ،‬وحتى حينام‬
‫واضحا يف صداقتنا‪ ،‬كانت نظر ُته‬
‫ً‬ ‫فتورا‬
‫كنت أجد ً‬ ‫كنت أنزل يف اإلجازات ُ‬
‫إ ّيل ختتلف عن ذي قبل‪ ،‬رغم أنيّ كنت أشتاق إليه بادئ األمر‪ ،‬وأو ّد أن نعود‬
‫لكن ذلك الفتور باعد بيني وبينه عا ًما بعد عام‪.‬‬
‫صديقني‪ّ ،‬‬
‫وتعرفت عىل بعض األصحاب يف مدرستي الذين كانوا‬
‫درست باخلليج ّ‬
‫ُ‬
‫يرتادون املساجد لدروس العلم الشرّ عي‪ ،‬فذهبت معهم وأحببت العلوم‬
‫فقررت دراستها يف الكلية‪.‬‬
‫وتفوقت فيها‪ّ ،‬‬
‫الرشعية ّ‬
‫‪61‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ٍ‬
‫أرض يف شارع‬ ‫قرر أيب العودة إىل مرص‪ ،‬كان قد اشرتى قطعة‬
‫حينام ّ‬
‫واسعا من عدّ ة أدوار‪ ،‬سكناه وبدأت‬
‫ً‬ ‫(حسان بن ثابت) وبنى عليها بي ًتا لنا‬
‫أخطب يف املسجد وأع ّلم الناس القرآن‪ ..‬بينام كانت تصلني‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫العمل بالدعوة‬
‫ٍ‬
‫لعصابة‬ ‫انضم‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مسلكا خمتل ًفا متا ًما‪ ،‬فقد‬ ‫األخبار عن (عبد اهلل) اآلخر أنّه اتخّ ذ‬
‫املواد املخدرة ويصاحب‬
‫تدرج يف انحرافه معهم إىل أن صار يبيع َّ‬
‫يف مثل عمره ّ‬
‫البلطجية‪.‬‬
‫انقطعت عالقتنا متا ًما‪ ،‬إىل أن قامت ثورة يناير واشتدّ ت املواجهات بني‬
‫ْ‬
‫الشعب والبلطجية‪ ،‬كانوا هيامجوننا يف الشّ وارع بالسيوف واألسلحة البيضاء‬
‫أشخاص معروفني ليس من مصلحتهم نجاح‬ ‫ٍ‬ ‫جتمع بأوامر من‬
‫كل ّ‬ ‫يف ّ‬
‫الثورة‪.‬‬
‫هياجا‬
‫ً‬ ‫ري يف شارع سعيد عائدً ا إىل بيتي‪ ،‬وجدت‬
‫وذات يوم‪ ،‬كنت أس ُ‬
‫وفر يف مواجهة مع البلطجية‪ ،‬فجريت معهم خو ًفا‬
‫كر ّ‬ ‫والناس يف الشّ ارع بني ٍّ‬
‫وجريت يف أحد الشوارع اجلانبية‪ ،‬وجدت الناس يدخلون بناي ًة‬
‫ُ‬ ‫من اإلصابة‬
‫وبمجرد إغالق الباب خلفنا عرفنا أنّا قد وقعنا يف ّ‬
‫فخ؛ فقد‬ ‫ّ‬ ‫فدخلت معهم‬
‫شخصا‪ ،‬وبدأ البلطجية يرضبون‬
‫ً‬ ‫حورصنا داخل البناية وك ّنا أكثر من ثالثني‬
‫الباب من اخلارج‪ ،‬ونحن يف فز ٍغ‪ ،‬وبعضنا يبكي‪..‬‬
‫(هيا بنا إىل السطح) فصعد اجلميع برسعة‪ ،‬ومكثت مع رجلني‬
‫قال رجل ّ‬
‫فتح الباب قدر اإلمكان حتى‬
‫نؤخر َ‬
‫وفتاة صغرية شجاعة يف املرحلة الثانوية ّ‬
‫يصعد اآلخرون إىل السطح‪ ،‬كان البلطجية يدخلون سيوفهم بني فتحات‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪62‬‬

‫وحشية مل َأر هلا اً‬


‫مثيل من قبل‪ ،‬وبينهم أطفال يفعلون‬ ‫ّ‬ ‫احلديد ويصيحون يف‬
‫البوابة‬ ‫ٍ‬
‫برسعة إىل األعىل‪ ،‬فاقتحموا ّ‬ ‫مثلهم متا ًما‪ ..‬فلماّ ضعفت مقاومتنا جرينا‬
‫الحقني بنا لك ّنا فررنا إىل األعىل دورين أو ثالثة‪ ،‬نظرت خلفي فلم أجدْ إلاّ‬
‫الرجلني فقط‪ ،‬أين الفتاة؟‬

‫فرأيت البلطجية قد قتلوها وظ ّلوا يطعنوهنا بوحشية بعدما‬


‫ُ‬ ‫نزلت ببطء‬
‫ُ‬
‫فقدت وعيها أو ماتت بالفعل‪ ،‬التفت أحدهم إ ّيل فالتقت عينانا‪ ..‬إنّه (عبد‬
‫أفهم نظرته‪ ..‬هل هي هتديدٌ‬ ‫اهلل الوموي) عيناه جامدتان كأنّه مل يعدْ ً‬
‫برشا‪ ،‬مل ْ‬
‫ريا‪ ،‬وكانوا منشغلني‬
‫لكن عددهم كان كب ً‬
‫أتدخل‪ّ ،‬‬
‫أم ال مباالة! أردت أن ّ‬
‫مرة أخرى برسعة‪ ،‬وعيني تذرف‬
‫بالفتاة ع ّنا للحظات‪ ،‬فصعدت إىل األعىل ّ‬
‫الدّ مع بعنف‪ ،‬وجسدي ينتفض من هول ما رأيت‪.‬‬
‫مرت تلك األ ّيام طلب ُ‬
‫أهل الفتاة املقتولة الشّ هادة ممّن رأي َمن‬ ‫وحني ّ‬
‫جبنت عن اإلفصاح باسمه فهو يعرفني‬
‫ُ‬ ‫قتلوها‪ ،‬لك ّني مل أشهد‪ ،‬كنت خائ ًفا‪،‬‬
‫ويستطيع أن ينال م ّني أو ِمن زوجتي حتى لو كان وراء القضبان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كام أعرفه‬

‫أن ماتت زوجتي باملرض‪ ،‬وبعدها بيومني‬ ‫مرة أخرى إىل ْ‬ ‫ومل أره ِمن حينها ّ‬
‫قتل (عبد اهلل) زوجته‪ ..‬قيل يل إنّه كان يف ليلة ُس ْكر وخمدّ رات تشاجر فيها مع‬
‫وعيه أشار عليه‬ ‫زوجته فأخرج سكينَه وطعنها إىل ْ‬
‫أن ماتت‪ ،‬وحني أفاق من ْ‬
‫لكن ساعده‬‫بعض أصحابه أن يلصقها يب‪ ..‬ال أدري كيف تالعب باألوراق ْ‬
‫اسمينا ووفاة زوجتي يف ٍ‬
‫وقت مقارب‪ ..‬وأتاين وهدّ دين يف‬ ‫ْ‬ ‫عىل ذلك تشابه‬
‫بيتي إن نطقت كلم ًة عماّ حدث بال ّتعذيب إىل املوت‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫لك ّني مل َ‬
‫أخش ال ّتهديد بقدر ما شعرت أنيّ أنال جزائي لسكويت عنه ّأول‬
‫مرة حينام قتل تلك الفتاة الربيئة!‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لك ّنك قد ُب ْحت بالكثري بالفعل كأنّك ال تبايل!‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬لقد كانت يدي ستخربكم ّ‬
‫كل ما قلته بأ ّية حال‪ ،‬أظ ّنني لن أنجو‬
‫لكن‬
‫من اهلالك إ ّما عىل أيديكم أو عىل يد (عبد اهلل الوموي) وأتباعه‪ّ ،‬‬
‫ضمريي قد ارتاح‪.‬‬
‫صحة‬ ‫أن ّ‬
‫تتأكد النيابة من ّ‬ ‫‪ -‬ال تقلق يا بني‪ ،‬سنحميك جيدً ا‪ ،‬لكن بعد ْ‬
‫املعلومات التي أدليت هبا‪.‬‬
‫والتفت إىل املدّ عي‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬هل لديك سؤال آخر للمتهم أو الشاهد؟‬
‫‪-‬ال يا سيدي‪.‬‬
‫‪ -‬إ ًذا‪ُ ..‬رفعت اجللسة‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪64‬‬

‫(عم جورجي)‬
‫معطشة تعني مرح ًبا‬‫(جمَ َ ْر ُجو َبا) اجليم األوىل مرصية واجليم الثانية ّ‬
‫أحب أن أقدّ م نفيس حماولاً أن أبدو‬
‫بلغتي‪ ..‬أنا جورجي من جورجيا‪ ،‬هكذا ّ‬
‫سمجا‪ ..‬ر ّبام لثقل لساين العريب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ظري ًفا شيئًا ما‪ ،‬أعرف أنيّ رغم ذلك أبدو‬
‫عمري مخسة وس ّتون‪ ،‬أعيش يف مرص منذ أربعني عا ًما‪ ،‬والسبب؟ السبب ّ‬
‫أن‬
‫فهم يريدوهنا بجانبهم‬
‫هذا كان رشط أهل (كرستينا) ليقبلوا زواجي منها‪ُ ،‬‬
‫يف طنطا كي يطمئ ّنوا عليها‪.‬‬
‫تعرفت عليها يف روسيا قبل ذلك بسنتني‪ ،‬حيث كانت يف زيارة‬
‫كنت قد ّ‬
‫أدرس هناك‪ ،‬وأحببتها بل ُت ّيمت هبا‪ ،‬لذلك مل أتر ّدد يف قبول‬
‫ُ‬ ‫سياحية وكنت‬
‫وأن الشّ به بني مرص وجورجيا ٌ‬
‫كبري فكلتامها بلدٌ‬ ‫خاصة ّ‬‫ّ‬ ‫ذلك الرشط‪،‬‬
‫للسياح وكال الشّ عبني ً‬
‫أيضا متد ّين بطبعه‬ ‫حمب ّ‬ ‫سياحية عريقة‪ ،‬وكال الشّ عبني ّ‬
‫ّ‬
‫أقف‬‫إن مررت من أمام كنيسة أن َ‬ ‫تدينًا ظاهر ًّيا عىل األغلب‪ ،‬فعندنا ال بدّ ْ‬
‫كل كنيسة‬‫كنائس ُمتتالية أصليّ أمام ّ‬
‫َ‬ ‫مررت أمام ثالث‬
‫ُ‬ ‫وأصيل بيدي‪ ،‬ولو‬
‫الركبة‪،‬‬
‫وسرتت ما فوق ّ‬
‫ْ‬ ‫غطت شعرها‬ ‫عىل حدة‪ ،‬وإذا دخلت املرأة الكنيسة ّ‬
‫فإذا خرجت عادت سريتهَ ا األوىل‪ ،‬لكن يف ال ّتطبيق العميل للدين فك ّلنا يف‬
‫اهلوى سواء‪.‬‬
‫كذلك مع األسف نتشابه يف ظاهرة ال ّتسول‪ ،‬ولست أعني الفقر‪ ،‬فالفقر‬
‫التسول‬
‫ّ‬ ‫لكن أعني هؤالء الذين حيرتفون‬
‫كل مكان؛ ْ‬ ‫ليس عي ًبا وهو موجود يف ّ‬
‫‪65‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ولو كانوا يمتلكون العقارات‪ ،‬مل أصدّ ق حني وجدت هذا يف مرص ً‬
‫أيضا‪..‬‬
‫عجيب!‬
‫أيضا حينام وجدت املرص ّيني يقولون ّ‬
‫إن مرص مقربة الغزاة؛ فإنّنا‬ ‫تعجبت ً‬‫ّ‬
‫أن (جورجيا) مقربة الغزاة‬ ‫نفس اليشء عن (جورجيا)‪ ،‬وإن كنت أرى ّ‬ ‫نقول َ‬
‫أن الغزاة جاءوا وأكلوا ورشبوا ومرحوا وعاشوا حيا ًة مديدة‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫بمعنى ّ‬
‫ماتوا فكانت مقربة هلم‪ ،‬ال أدري عن مرص‪.‬‬
‫عدم وجود جليد‪ ،‬الربودة قارصة يف شتاء‬
‫يميز مرص عن جورجيا ُ‬ ‫لكن ممّا ّ‬
‫ْ‬
‫أحببت مرص واحليا َة فيها مع (كرستينا) حتى تو ّفيت برسطان‬
‫ُ‬ ‫(تبلييس)‪،‬‬
‫تكن هناك فرصة‬
‫متأخ ًرا‪ ،‬مل ْ‬ ‫َ‬
‫املرض ّ‬ ‫البنكرياس منذ عرشين عا ًما‪ ،‬اكتشفنا‬
‫طويل‪ ..‬لك ّني عانيت‪.‬‬‫اً‬ ‫للعالج فلم ِ‬
‫تعان‬
‫سهل‪ ،‬وعوديت إىل جورجيا ليست مطروح ًة للنقاش‪ ،‬فأنا‬ ‫رحي ُلها مل يكن اً‬
‫قررت املكث هنا‪ ..‬كنت‬ ‫أريد أن أبقى يف طنطا بالقرب من (كرستينا)؛ لذلك ّ‬
‫أن بدأت هي تزورين‪ ..‬نعم ال داعي للعجب فأنا‬ ‫ربها ّ‬
‫كل أحد‪ ،‬إىل ْ‬ ‫أزور ق َ‬
‫أعلم جيدً ا أهنا ماتت لكن روحها صارت تزورين وتك ّلمني‪ ،‬ربام يكون هذا‬ ‫ُ‬
‫بسبب ال ّنبيذ الذي أرشبه‪ ،‬لكني جورجي‪ ،‬واجلورجي ال يسكر بسهولة؛ فأنا‬
‫رصت أسمع‬ ‫ُ‬ ‫طفل عىل مائدة ّ‬
‫الطعام مع أيب وأ ّمي‪،‬‬ ‫أرشب ال ّنبيذ منذ كنت اً‬
‫صوتهَ ا وال أراها‪ ،‬وبالطبع ال يسمع صوهتا غريي‪ ،‬لك ّني ال أبايل أنا ٌ‬
‫شيخ‬
‫الطبيعي أن يقول من يراين أحدث نفيس يف الشّ ارع إنيّ جمنون‪،‬‬ ‫ومن ّ‬‫كبري‪ِ ،‬‬
‫أن يدعوا‬‫فهم لن يستطيعوا انتزاعها م ّني إ ًذا‪ ،‬فالناس يكرهون ْ‬
‫وهذا يرحيني ُ‬
‫لك شيئًا طي ًبا ولو فكرة يف خيالك‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪66‬‬

‫إن كان هذا‬‫ألن حالتي النفسية صارت رائعة‪ْ ،‬‬ ‫تتحسن ّ‬‫ّ‬ ‫بدأت حيايت‬
‫إن األمحق فقط هو‬ ‫كنت أقول لـ(كرستينا) ّ‬ ‫جنو ًنا فهنيئًا للمجانني‪ ،‬طاملا ُ‬
‫فاملجنون يعيش يف ملكوته اخلاص‪ ،‬وربام يكون‬ ‫ُ‬ ‫املجنون‪،‬‬
‫َمن يشفق عىل ْ‬
‫أسعدَ أهل األرض ونحن ال ندري‪ ،‬ولك ّني كام قال (سلفادور دايل) ذات‬
‫أترصف‬
‫ّ‬ ‫مرة "الفرق بيني وبني املجنون أنّني لست جمنو ًنا"‪ ،‬نعم صحيح أنيّ‬ ‫ّ‬
‫أحيا ًنا كاملجانني‪ ،‬لك ّني أعي ذلك جيدً ا!‬
‫أختيل شكل (كرستينا) وهي تتك ّلم‪ ،‬وهي تضحك‪،‬‬ ‫مع الوقت‪ ،‬بدأت ّ‬
‫كاألم لطفلها قبل أن ينام‪ ،‬رغم هّأنا مل تكن تفعل ذلك قبل‬
‫ّ‬ ‫وهي تغني يل اً‬
‫ليل‬
‫عانيت من الوحدة املطلقة يف‬
‫ُ‬ ‫أنجب منها؛ لذلك‬
‫ْ‬ ‫موهتا‪ ،‬من سوء ّ‬
‫احلظ أنيّ مل‬
‫أذكرهم بحزهنم عليها‪.‬‬‫هذا البلد‪ ،‬وأقرباؤها ال يريدون رؤيتي ألين ّ‬
‫تشبه متثال (أم اجلورجيني ‪)Mother Georgia‬‬ ‫كانت (كرستينا) يف خيايل ُ‬
‫املوجود يف تبلييس عاصمة بلدي‪ ،‬وهو متثال من األملونيوم طوله عرشون‬
‫زي أهل البلد‪ ،‬ومتسك يف إحدى يدهيا وعا ًء‬ ‫رتا عىل هيئة امرأة تلبس ّ‬ ‫م ً‬
‫ريا عن الكرم مع الضيوف‪ ،‬ويف اليد األخرى متسك سي ًفا ضخماً‬ ‫للنبيذ تعب ً‬
‫املموج وشامة‬ ‫لألعداء‪ ..‬وهكذا صارت كرستينا بالنسبة إ ّيل‪ ،‬بشعرها ّ‬
‫البني ّ‬
‫عىل وجنتها اليمنى‪ ،‬تعطي ابتسامتها قوة وأما ًنا ملَن تبتسم له‪.‬‬
‫ثم أعود إىل بيتي فتعود‬‫مكان تأيت معي (كرستينا) تؤنسني‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ك ّلام أذهب إىل‬
‫األول‪،‬‬ ‫بناية قديمة يف شارع البحر بالقرب من (صيدناوي) يف الطابق ّ‬ ‫معي يف ٍ‬
‫كل ليلة إىل الفجر‪ ،‬وال أنام إلاّ حني يغلبني النعاس‪.‬‬
‫نتسامر يف الشرّ فة ّ‬
‫ملّا شاهدت معها يف ال ّتلفاز أخبار ال ّنيزك فزعت‪ ،‬لك ّنها طمأنتني وقالت‬
‫املرة فقط كنت قل ًقا اً‬
‫فعل‪ ،‬هل‬ ‫هّإنا ستحميني كام تفعل دائماً ‪ ،‬لك ّني يف تلك ّ‬
‫‪67‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ّ‬
‫قل حبي لك يا (كرستينا)‪ ،‬أم أنيّ مل أرشب ما يكفي من النبيذ؟ إنيّ خائف يا‬
‫(كرستينا) ال تغضبي م ّني!‬
‫لكن (كرستينا) مل تغضب م ّني‪ ،‬بل أخذت تغ ّني يل بصوهتا الدافئ أغنية‬
‫ّ‬
‫جورجية قديمة كانت تغ ّنيها يل أ ّمي‪ّ ،‬‬
‫بالطبع ّ‬
‫فإن (كرستينا) احلقيقية مل تكن‬
‫تعرف تلك األغنية‪.‬‬
‫ال بأس ّ‬
‫بكل ذلك ال بأس‪ ،‬تظ ّنونني جمنو ًنا ّ‬
‫يتخيل األشياء‪ ،‬إممم‪ ..‬نعم‬
‫ظننت أنيّ جمنون‪ ،‬لكن‪..‬‬
‫ُ‬ ‫الظن‪ ،‬وأنا نفيس‬
‫أعرتف بأنيّ ساعدتكم عىل هذا ّ‬
‫بم تفسرّ ون إ ًذا ما حدث بعد اصطدام ال ّنيزك؟ أولاً لقد َصدَ قت‬
‫لكن َ‬
‫محت‬ ‫مجيعا رغم ّ‬
‫كل ال ّتوقعات العاملية‪ ،‬ومحتني؛ بل ْ‬ ‫(كرستينا) كام رأيتم ً‬
‫كوكب األرض بأكمله من ّ‬
‫رش النيزك!‬
‫وجيزة من االصطدام يف ٍ‬
‫ليلة باردة‪ ،‬كنت‬ ‫ٍ‬ ‫األهم‪ :‬بعد مدّ ة‬
‫ّ‬ ‫ثان ًيا وهذا هو‬
‫أجلس معها يف الشرّ فة‪ ،‬ورأينا شا ًّبا يشبه مدْ مني املخدرات جيلس قري ًبا م ّنا‬
‫ثم جرى ُمرتع ًبا بشكلٍ‬
‫حي ثان يقرأ كتا ًبا ما‪ ،‬وفجأة بدأ يضطرب ّ‬ ‫عىل حا ّفة ّ‬
‫تتحركان برسعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫غريب‪ ،‬ضحكت م ْنه وأنا أك ّلم كرستينا فوجدت عينيها‬
‫خفت منها؛ فهي مل‬‫ُ‬ ‫وصوهتا يتحرشج وحتدث حركات غريبة كاملخابيل‪،‬‬
‫بدأت ختيلها كانت دائماً كام ّ‬
‫أحب وأمت ّنى فقط ال تأيت‬ ‫تفعل هذا أبدً ا معي مذ ُ‬
‫أي كلمة‪ ،‬ورفعت‬
‫قامت من دون ّ‬
‫ثم ْ‬ ‫ترصفات شا ّذة كهذه‪ ،‬لكنها هدأت ّ‬
‫بأ ّية ّ‬
‫تسمرت مكاين‪،‬‬ ‫األطباق الفارغة ِمن عىل املنضدة‪ ،‬وذهبت هبا إىل ْ‬
‫املطبخ‪ ،‬هنا ّ‬
‫ٍ‬
‫لشخص خيايل أن يفعل أشياء ماد ّية؟‬ ‫ما هذا؟ كيف يمكن‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪68‬‬

‫قمت ببطء إىل املطبخ‪ ،‬وناديتها‪( :‬كرستينا)!‬


‫ُ‬
‫َ‬
‫األطباق يف احلوض‪ ،‬وابتسمت قائل ًة بصوت‬ ‫التفتت إ ّيل وهي تغسل‬
‫نعم يا حبيبي؟‬
‫غريب‪ْ :‬‬
‫‪ -‬هاتيِ يدك‪.‬‬

‫ج ّففت يدَ ها يف ثوبهِ ا اجلورجي‪ ،‬ومدّ هتا إ ّيل‪ ،‬فأمسكتها ّ‬


‫بقوة‪:‬‬
‫حقيقية يا (كرستينا)‪ ،‬كيف هذا؟! اً‬
‫مهل احذري‬ ‫ّ‬ ‫حقيقية! لقد رصت‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬هّإنا‬
‫كأي وعاء‬
‫حقيقيا كذلك ووعاء النبيذ‪ ،‬ر ّباه إنّك تغسلينه ّ‬
‫ًّ‬ ‫السيف يبدو‬
‫فهذا ّ‬
‫الصوت الغريب الذي تتحدّ ثني به؟!‬
‫آخر‪ ،‬وما هذا ّ‬
‫وجرت‬
‫ْ‬ ‫وجهها‬
‫تتحسس َ‬
‫ّ‬ ‫تنبهت (كرستينا) فجأة‪ ،‬فاضطربت وهي‬
‫كأنّام َ‬
‫إىل املرآة تنظر إىل نفسها وهيئتها‪ ..‬وصارت تتحدّ ث كاملجانني‪:‬‬

‫جئت إىل هنا؟ َمن أنت يا رجل؟ هل هذا مقلب‬ ‫‪َ -‬من هذه؟ اً‬
‫مهل كيف ُ‬
‫آخر من إخويت؟‬

‫هيا إىل فراشك‪ ،‬يا‬ ‫‪ -‬اهدئي يا حبيبتي‪ِ ،‬‬


‫أنت ُمرهقة حتتاجني إىل ال ّنوم‪ّ ،‬‬
‫هلا من ُمعجزة جليلة! أنا ال أصدّ ق نفيس ً‬
‫أيضا‪ ،‬عجيب أنّك مندهشة وال‬
‫الصدمة ويرجع ّ‬
‫كل‬ ‫يل‪ ،‬لك ّنك إذا نمت اً‬
‫قليل سيفيق عقلك من ّ‬ ‫تتعرفني ع ّ‬
‫ّ‬
‫السيف‬
‫تتعجبني هكذا؟! نامي اآلن يا حبيبتي ضعي هذا ّ‬
‫يشء كام كان‪ ..‬ملاذا ّ‬
‫ِ‬
‫أحسنت‪.‬‬ ‫نعم‬ ‫بعيدً ا من فضلك‪ ..‬أغميض عينيك‪ّ ،‬‬
‫هيا اسرتخي متا ًما‪ْ ،‬‬
‫‪69‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫مرة أخرى أهنك‬


‫أن انتقاهلا للجسد ّ‬ ‫ِ‬
‫للروعة‪ ،‬لقد نامت كاملالك‪ ،‬يبدو ّ‬ ‫يا‬
‫الرقيقة فأحدث صدمة ما‪ ،‬لكم ْ‬
‫اشتقت إىل ملس يدهيا‪ ..‬محدً ا هلل عىل‬ ‫روحها ّ‬
‫معجزة ال ّنيزك‪ ،‬سأنام اآلن إىل جوارها فإنيّ مرهق ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫حتسست الفراش فلم أجدها بجواري‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ساعات قليلة حينام ّ‬ ‫فزعت بعد‬
‫ُ‬
‫قلت لنفيس ر ّبام عادت إىل شكلها‬
‫مرة أخرى؟ ُ‬
‫أخذت أبكي‪ ..‬هل فقدهتا ّ‬
‫تبخرت‪ ،‬ال‬ ‫َ‬
‫احلديث إليها لك ّنها ّ‬ ‫أختيلها وأحاول‬
‫اخليايل القديم‪ ،‬فأخذت ّ‬
‫ُ‬
‫أبحث يف أنحاء الشقة فلم أجدْ ها‪،‬‬ ‫روحا وال جسدً ا‪ ،‬أخذت‬ ‫أثرا ً‬
‫أجد هلا ً‬
‫لك ّني سمعت طر ًقا قو ًّيا عىل الباب ففتحت ألجدها واقف ًة تلهث من ال ّتعب‪،‬‬
‫مل أصدّ ق نفيس‪ ،‬أدخلتها وأنا أسأهلا‪:‬‬
‫‪ -‬أين كنت؟‬
‫السيف الذي يف يرساها‪ ،‬فالحظت ذلك‪ ،‬قالت‬
‫ورأيت د ًما يقطر من ّ‬
‫ُ‬
‫بصوهتا الغريب‪:‬‬
‫رجل ومل أجدْ مكا ًنا أختبئ فيه إلاّ هنا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قتلت اً‬
‫رجل اً‬
‫فعل؟ ملاذا يا (كرستينا)؟‬ ‫‪ -‬ماذا!! ِ‬
‫قتلت اً‬

‫قالت بضيق‪:‬‬
‫‪ -‬قلت لك إنيّ لست (كرستينا) تلك‪ ،‬لقد خرجت إىل الشارع أحاول‬
‫تتبعني وهو يلقي نكا ًتا سمجة‬ ‫َ‬
‫حدث يل‪ ،‬فرآين رجل أمحق‪ّ ،‬‬ ‫أن أعرف ماذا‬
‫فالتفت إليه بغضب‪ ،‬وأمسكت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتهكم عىل مالبيس‪،‬‬ ‫ويقول كلامت قبيحة‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪70‬‬

‫ثم مل‬
‫ثم أخرجت سيفي وطعن ُته به‪ّ ،‬‬
‫وسبب ُته‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫عنقه ورفعته عال ًيا عن األرض‪،‬‬
‫فاضطررت للمجيء إىل هنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أد ِر أين أذهب وأنا يف هذا اجلسد قد ُحبست‪،‬‬
‫َ‬
‫والسيف من أث ِر الدماء وأنا أرتعد من‬ ‫قامت إىل املطبخ تغسل يدهيا‬
‫غضب مكتوم‪ ،‬وقالت وهي‬ ‫ٌ‬ ‫نظرت إ ّيل وقد بدا عىل مالحمها‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫اخلوف‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫تصك أسناهنا‪:‬‬
‫مرة أخرى حتى ال ُأحلقك به‪.‬‬ ‫‪ -‬فال ْ‬
‫تقل يل (كرستينا) ّ‬
‫ّ‬
‫وأفكر يف طريقة‬ ‫قررت أن أصمت‬
‫هذه ليست (كرستينا) بال ّتأكيد‪ّ ..‬‬
‫مرة أخرى‬ ‫ٍ‬
‫ساعات طويلة حتى خرجت ّ‬ ‫للتخ ّلص من هذا املأزق‪ ،‬فانتظرت‬
‫أهم أشيائي يف حقيبتي‪ ،‬وأخذت وثيق َة سفري وهربت‬
‫من البيت‪ ..‬وضعت ّ‬
‫ماتت منذ عرشين‬
‫ْ‬ ‫من املنزل‪ ..‬أنا (جورجي) من جورجيا و(كرستينا) قد‬
‫سنة‪ ،‬ولن تستفيد شيئًا من مكثي بجوارها يف مرص‪ ،‬حان الوقت ألعود إىل‬
‫أحب مرص بال ّتأكيد‪ ،‬لكن موضوع العفاريت هذا‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬إين‬
‫بلدي ّ‬
‫يعني‪..‬‬
‫‪71‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(مبسوط)‬
‫‪ -‬اسمك مبسوطة؟‬
‫‪ -‬مبسوط يا (حسام) باشا‪ ،‬مبسوط الشبح‪.‬‬
‫‪-‬هل أنت مسرتجلة يا امرأة؟‬
‫لكن يديه‬ ‫اغتاظ مبسوط‪ ،‬و ّد لو يبطش بذلك ّ‬
‫الضابط ويسحقه بني يديه‪ّ ،‬‬
‫مكبلتان باألصفاد‪ ..‬فكتم َ‬
‫غيظه بصعوبة وقال بصوته الغليظ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا رجل يا باشا ولست امرأة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫علبة ملقاة بإمهال عىل‬ ‫الضابط العرشيني سيجار ًة رخيصة من‬ ‫أشعل ّ‬
‫بنية الشعر‪ ،‬عىل‬ ‫مكتبه‪ ،‬وأخذ يتأ ّمل تلك املرأة التي أمامه‪ ،‬سمراء البرشة ّ‬
‫للتو من‬
‫كأنا خرجت ّ‬ ‫مالبس عجيبة هّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫شامة جريئة‪ ،‬ترتدي‬ ‫وجنتها اليمنى‬
‫ُ‬
‫احلوادث الغريبة‬ ‫ٍ‬
‫ملكة رومانية قديمة‪ ..‬كانت تأتيه‬ ‫عرض مرسحي يف دور‬
‫لكن ما أثار سخطه ح ًّقا هّأنم‬
‫من بعد اصطدام ال ّنيزك‪ ،‬ومل تكن هذه أعجبها‪ْ ،‬‬
‫كأنا خارقة للطبيعة‪ ،‬لك ّنه‬‫ري من القضايا التي تبدو هّ‬‫ريا لكث ٍ‬
‫ال جيدون تفس ً‬
‫وأن ال وجود للخوارق ها هنا‪.‬‬‫أن هذا غري صحيح‪ْ ،‬‬ ‫يعرف ّ‬

‫‪-‬فسرّ يل إ ًذا ما ُ‬
‫سبب هيئتك هذه؟‬

‫ريا خمي ًفا‪ ،‬وأغمض عينيه هنيه ًة ّ‬


‫ثم بدأ حيكي‪:‬‬ ‫زفر مبسوط زف ً‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫واحلظ يف هذه احلياة‪.‬‬ ‫‪ -‬اسمي مبسوط‪ ..‬لك ّني يف احلقيقة ُ‬
‫قليل االنبساط‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪72‬‬

‫الضابط املكتب بيده اً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫رضب ّ‬
‫َ‬
‫‪ -‬بدون فلسفة!‬
‫فعائلة أيب ك ّلهم طيارون‬
‫ُ‬ ‫طيب‪ ..‬أيب وأ ّمي من عائلتني خمتلفتني متا ًما‪،‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫فغواصون حمرتفون ما‬
‫الريح ويصعدون إىل الفضاء‪ ،‬أ ّما عائلة أ ّمي ّ‬
‫يركبون ّ‬
‫بني رشم الشيخ وترعة ّ‬
‫املرشحة‪ ،‬وبعضهم يعيش يف دول اخلليج؛ لذلك‬
‫مج َع‬
‫صار إخواين األربعون بعضهم يطري‪ ،‬وبعضهم يغوص‪ ،‬والقليل َمن َ‬
‫بني االثنني‪.‬‬
‫لكن لسوء ّ‬
‫حظي‬ ‫أكون مثل هؤالء أو أولئك‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أ ّما أنا‪ ،‬فقد كان ينبغي أن‬
‫ُ‬
‫أمكث يف اخللوات‪،‬‬ ‫الطريان وال الغوص‪ ،‬ما أنا إلاّ ج ّني رحالة‬
‫مل أستطع ّ‬
‫وأسافر أحيا ًنا لل ّتغيري‪.‬‬
‫وهم برضبه‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بسخرية من ا ّدعاء (مبسوط) أنه ج ّني‪،‬‬ ‫ابتسم ّ‬
‫الضابط‬ ‫َ‬
‫خاصة وقد بدت عىل‬
‫وإعادته إىل احلجز‪ ،‬لك ّنه كان يشعر بامللل فرتكه حيكي‪ّ ،‬‬
‫مالحمه جدية شديدة‪.‬‬
‫‪ -‬تغ ّلبت عىل انزعاجي من قدرايت القليلة مقارن ًة بعائلتي وسخرية‬
‫نسميه‬ ‫السخيفة معي‪ ..‬يل ٌ‬
‫أخ اسمه (شمهورس) لك ّننا ّ‬ ‫إخويت م ّني ومقالبهم ّ‬
‫رامز جالل العفاريت‪ ،‬ال يدعني وشأين أبدً ا‪ ،‬ويف ّ‬
‫مرة بينام أزور عائلتي يف‬
‫طنطا ألدعوهم حلفل زواجي‪ ،‬د ّبر يل أخي هذا مقل ًبا‪ ،‬فقد كان أحدُ سحرة‬
‫وذات يوم طلب‬
‫َ‬ ‫البرش يتعامل معه ويطلب م ْنه أشياء مقابل أشياء أخرى‪،‬‬
‫الساحر أن يؤذي برش ًّيا لديه ّ‬
‫حمل جتارة يف شارع البحر قريب من‬ ‫منه ذلك ّ‬
‫‪73‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫الساحر‪ ،‬لك ّنه كان (أوردر) لعميل‬ ‫ٍ‬


‫لغرض شخيص لدى ّ‬ ‫(صيدناوي)‪ ..‬ليس‬
‫له‪.‬‬
‫فاستغل أخي تلك الفرصة ووجودي يف طنطا‪ ،‬واستدرجني إىل ذلك‬ ‫ّ‬
‫وطلبت منه إخراجي‪ ،‬أخذ يضحك‬ ‫ُ‬ ‫غضبت منه‬
‫ُ‬ ‫املكان وح َب َسني فيه‪ ،‬بالطبع‬
‫سأتزوج يا أمحق‪ ،‬لك ّنه مل يبال!‬
‫ّ‬ ‫بسخرية وقال ر ّبام بعد مائة سنة‪ ،‬قلت له إنيّ‬
‫ٍ‬
‫بتعويذة‬ ‫حمبوسا‬
‫ً‬ ‫مكثت يف ذلك املكان قرابة اخلمسني عا ًما‪ ،‬كنت غاض ًبا‪،‬‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫النريان من غضبي‬ ‫رجل جديد‪ ،‬كنت أشعل‬ ‫ٌ‬ ‫قو ّية‪ ،‬وك ّلام اشرتى املكان‬
‫فأسكن‬
‫ُ‬ ‫فيفر البرشي ويرتك احلانوت‪،‬‬ ‫وسخطي حتى يرتكوين وحدي ّ‬
‫واشتهر ذلك املحل بني البرش بأنّه‬
‫َ‬ ‫وأنزوي يف ركن أندب ّ‬
‫حظي ال ّتعس‪،‬‬
‫مسكون‪.‬‬
‫بالصدمة‪ ،‬حاولت االستغاثة بإخويت‬ ‫أن جاء ذلك النيزك‪ ..‬ك ّلنا شعرنا ّ‬
‫إىل ْ‬
‫ليحملوين معهم إىل الفضاء بعيدً ا عن األرض‪ ،‬لك ّنهم كانوا مشغولني ع ّني‬
‫كل ما حدث يل يف‬ ‫أن هذه هنايتي املأساوية املنطقية بعد ّ‬ ‫بالفعل‪ .‬فعرفت ّ‬
‫األرض مل تد ّمر كام تعلم‪ ..‬وعىل خالف العادة كان ّ‬
‫حظي جيدً ا‬ ‫َ‬ ‫لكن‬
‫حيايت‪ّ ..‬‬
‫ألن النيزك َ‬
‫شط َر طنطا أمام احلانوت الذي أنا‬ ‫ومرة ّ‬‫أمت‪ّ ،‬‬
‫مرة ألنيّ مل ْ‬
‫مرتني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وبطريقة ما‬ ‫وحي ثان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حي ّأول‬ ‫فيه مبارشة عىل ّ‬
‫اخلط الوهمْ ي الفاصل بني ّ‬
‫فعل!‬‫فإن ذلك قد أبطل التعويذة‪ ..‬كيف؟ ال أدري اً‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫واألمجل من ذلك‬ ‫نجوت من حبيس‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ريا‬
‫مشيت ببطء ال أصدّ ق أنيّ أخ ً‬
‫ُ‬
‫أن أمامي مبارش ًة مكان ّ‬
‫حي ّأول‪ ..‬يوجد فجوة كبرية خالية تصلح سكنًا يل‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫لفرتة من الزمن إىل ْ‬
‫أن أعيدَ ال ّتواصل مع خطيبتي‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪74‬‬

‫تعرفت‬
‫اجلن من ْنوعي عىل الفجوة األرضية يو ًما بعد يوم‪ّ ،‬‬
‫بدأ يتوافد ّ‬
‫مرة يف حيايت‪ ،‬مل أبحث عن‬ ‫عىل الكثري منهم‪ ،‬وبدأ األمر يسري جيدً ا ّ‬
‫ألول ّ‬
‫هبم بعد ما حدث وما فعلوه معي‪ ..‬واستطعت ال ّتواصل‬
‫أهتم ْ‬
‫إخويت ومل ّ‬
‫َ‬
‫حدث يل يف الفرتة املاضية‬ ‫ريا مع خطيبتي الغاضبة م ّني‪ ،‬ورشحت هلا ما‬‫أخ ً‬
‫ٍ‬
‫موعد جديد للزواج‪ ،‬ومل أعبأ بدعوة عائلتي تلك‬ ‫ريا واتّفقنا عىل‬
‫فتفهمت أخ ً‬
‫ّ‬
‫املرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫رجل جيلس عىل أرض شارع‬‫وجدت اً‬
‫ُ‬ ‫وبينام أميش سعيدً ا يف تلك اخلالة‬
‫صحيح‬
‫ٌ‬ ‫قررت أن أل ّقنه ً‬
‫درسا؛‬ ‫البحر و ِر ْجاله تتد ّليان يف الفجوة‪ ..‬يا جلرأته! ّ‬
‫اقرتبت منه‪ ..‬رأيت برشته‬
‫ُ‬ ‫أين مل أفزع البرش منذ ٍ‬
‫زمن بعيد‪ ،‬لك ّنها متعة أفتقدُ ها‬
‫البنية حتت اإلضاءة اخلافتة‪ ،‬ووجهه امليلء باحلبوب وحلية قصرية حمدّ دة‪ ،‬كأنّام‬
‫وينظر حوله كأنّه ينتظر‬
‫ُ‬ ‫خطها عىل وجهه بقلمه‪ ،‬كان يمسك كتا ًبا‬‫طفل قد ّ‬‫ٌ‬
‫أختبط يف‬‫حدث فجأة وجدتني ّ‬ ‫َ‬ ‫لكن شيئًا غري ًبا قد‬
‫فهممت بإخافته ّ‬
‫ُ‬ ‫شيئًا ما‪،‬‬
‫أن ذلك األمحق كان يقرأ تعويذ ًة أ ّثرت عيل‪،‬‬ ‫املكان ال أدري ما حيدث‪ ،‬يبدو ّ‬
‫َ‬
‫وسقط م ْنه‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫قوة غريبة جتذبني وتدفعني‪ ،‬زجمرت ففزع‬ ‫كانت هناك ّ‬
‫جيلس‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫عجوزا‬ ‫أختبط وجدت اً‬
‫رجل‬ ‫الكتاب وقام جيري‪ ،‬خرجت من اخلالة ّ‬
‫دفعا‬ ‫تطل عىل شارع البحر ويك ّلم الفراغ‪ ،‬فدفعتني تلك ّ‬
‫القوة ً‬ ‫ٍ‬
‫رشفة ّ‬ ‫يف‬
‫جتسدت أمامه يف صورة هذه املرأة التي تراين يف هيئتها‪.‬‬
‫جتاهه‪ ،‬وفجأة ّ‬
‫يف البدء‪ّ ،‬‬
‫كأن عقيل مل يكن معي‪ ،‬وجدتني أقوم بتلقائية ألرفع األطباق‬
‫املوضوعة عىل املنضدة وأغسلها يف املطبخ‪ ،‬كأنيّ أسكن هذا البيت منذ زمن‪،‬‬
‫الرجل شيئًا غري ًبا؛ قال إنيّ من صنع خياله‪ ،‬واسمي (كرستينا)‪،‬‬
‫حتى قال يل ّ‬
‫‪75‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫نظرت إىل املرآة فوجدتني امرأة‪ ،‬لو رآين إخويت اآلن‬


‫ُ‬ ‫هنا بدأت أفيق‪،‬‬
‫فسيجعلون م ّني ُمزحة إىل األبد‪.‬‬
‫الرجل الذي دعاين إىل ال ّنوم‬ ‫ُ‬
‫أرضخ لكلامت ّ‬ ‫الصدمة جعلني‬ ‫ُ‬
‫هول ّ‬
‫وقمت‪-‬‬
‫ُ‬ ‫أنم حلظة‪ ،‬انتظرت حتى نام العجوز‬
‫الصباح‪ ،‬لكني مل ْ‬
‫والراحة إىل ّ‬
‫ومعي سيفي الذي وجدته مع هذا اجلسد‪ -‬وخرجت إىل الشارع أحاول‬
‫ٍ‬
‫حبس‬ ‫احلبس الذي وضعني فيه أخي إىل‬
‫فهم ما حدث‪ ،‬هل خرجت من ْ‬
‫للترصف كب ٍ‬
‫رش مثلكم؛‬ ‫ّ‬ ‫أضطر‬
‫ّ‬ ‫آخر يف جسد هذه املرأة؟ قواي قد فقدتهُ ا‪..‬‬
‫جنيا يعطيني الفرص َة كي أراقبكم‬
‫أحبه‪ ،‬كوين ًّ‬ ‫ّ‬
‫الكل يراين وهذا يشء ال ّ‬
‫وأن ُتم ال تعلمون‪ ،‬أدخل األبواب التي ترتكوهنا مفتوح ًة وأجالسكم وأنْتم‬
‫ِ‬
‫نظرات‬ ‫ال تشعرون‪ ،‬ر ّبام أصدر بعض األصوات أحيا ًنا ألخيفكم فرؤية‬
‫أن أصري مكشو ًفا هكذا ّ‬
‫كل الناس‬ ‫الفزع عىل وجوهكم ُت ْضحكني جدًّ ا‪ ..‬أ ّما ْ‬
‫يرونني؟ يشء بشع‪ ،‬أعتقد أنيّ خجول بطبعي‪.‬‬
‫تظن أين سأصدّ قك‪ ،‬أم أنّك تريد أن تدخل‬
‫قصة لطيفة‪ ،‬وهل ّ‬
‫‪-‬يا هلا من ّ‬
‫مصحة املجانني؟‬
‫ّ‬
‫طرق الباب أحدُ العساكر‪:‬‬
‫ضجة كبرية يف مدخل القسم وحيتاجونك باألسفل‪.‬‬
‫سيدي‪ ،‬يوجد ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫قال الضابط بضجر‪:‬‬
‫‪-‬أال ترى أنيّ أح ّقق مع م ّتهم؟ ك ّلم الرائد عالء‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪76‬‬

‫حياه العسكري حتي ًة عسكرية‪ ،‬وانرصف‪ ،‬فأكمل (مبسوط) حديثه‪:‬‬


‫ّ‬
‫رجل بالسيف‪ ،‬ملاذا سأقتل اً‬
‫رجل‬ ‫‪ -‬إنّكم قد أمسكتم يب ألنيّ قتلت اً‬
‫طبيعيا مثلكم؟!‬
‫ًّ‬ ‫الرداء لو كنت ً‬
‫برشا‬ ‫بالسيف يف هذا ّ‬
‫‪-‬قل يل أنت ملاذا فعلت ذلك؟‬
‫ّ‬
‫مط (مبسوط) شفتيه ّ‬
‫لتذكره ما حدث‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أسري يف الشوارع عىل غري هدى‪ ،‬بعدما ذهبت إىل اخلالة فلم‬
‫حظي الذي‬ ‫ً‬
‫مغتاظا من سوء ّ‬ ‫اجلن‪ ،‬كنت حان ًقا‬
‫أستطع رؤية أصحايب من ّ‬
‫الزمني طوال حيايت‪ ،‬فتبعني ذلك األمحق ظ ًّنا م ْنه أنيّ امرأة ح ًّقا‪ ،‬وأخذ يلقي‬
‫طويل وحاولت ْ‬
‫أن ال أبايل‪،‬‬ ‫اً‬ ‫عىل مسامعي تعليقاته البذيئة‪ ،‬متالكت نفيس‬
‫خملوق من نار؛ لذلك رفع ُته بيدي من‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫معرش البرش أنا‬ ‫لك ّني لست مثلكم‬
‫ثم طعنته بسيفي‬
‫الرعب عليه وقد جحظت عيناه‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫نظرات ّ‬ ‫عنقه حتى رأيت‬ ‫ِ‬
‫فعدت‬
‫ُ‬ ‫غري ٍ‬
‫مبال وألقي ُته عىل األرض‪ ..‬ال أنكر أنيّ خفت بعدَ ها ألنيّ مرئي‪،‬‬
‫واقرتبت من الفالة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫طويل فخرجت‬ ‫اً‬ ‫إىل البيت خمتبئًا لك ّني مل أطقْ االختباء‬
‫ونظر إ ّيل فلم‬
‫َ‬ ‫مضطرا تعويذ َة ٍ‬
‫نداء ألخي لينجدين ممّا أنا فيه فجاء‬ ‫ًّ‬ ‫وتلوت‬
‫ُ‬
‫يعرفني‪ ،‬فأخذت أرشح له بخجلٍ ما حدث‪ ،‬ضحك م ّني كث ً‬
‫ريا‪.‬‬
‫الضجة قد وصلت إىل الطابق الذي به مكتب ّ‬
‫الضابط‪ ،‬فأمر‬ ‫ّ‬ ‫كانت‬
‫العسكري املوجود بالغرفة أن يذهب ليتف ّقد األمر‪.‬‬
‫السخرية م ّني‪ ،‬وعدين بأن يأتيني‬
‫وطره من ّ‬
‫‪ -‬يف هناية األمر بعد ما قىض َ‬
‫بمساعدة ّ‬
‫ألن التعويذة التي ُحبست هبا يف خيال ذلك الرجل العجوز تعويذة‬
‫‪77‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫قديمة ال يعرف أخي كيف يرفعها ع ّني‪ ،‬لك ّنه قبل أن ينرصف رآكم وأنتم‬
‫لكن جسدي البرشي كان أضعف‬ ‫بالطبع‪ّ ،‬‬ ‫متسكون يب‪ ،‬حاولت أن أقاومكم ّ‬
‫ممّا يعتمد عليه‪.‬‬
‫حريق بدأت تدخل من حتت الباب‪ ،‬فنظر الضابط إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫رائحة‬ ‫كانت‬
‫متوج ًها نحو‬
‫ّ‬ ‫يبتسم وهو ُ‬
‫يقف هبدوء‬ ‫ُ‬ ‫خاصة حينام رآه‬‫ّ‬ ‫(مبسوط) بقلق‪،‬‬
‫ِ‬
‫خلت الغرفة ممّن عدامها بعد انرصاف العسكري‪.‬‬ ‫الباب‪ ،‬وقد‬
‫الضجة التي تسمعها باخلارج بسبب جميء‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬لذلك يا باشا؛ ّ‬
‫فإن تلك‬
‫ّ‬
‫سنظل‬ ‫إخويت‪ ،‬صحيح هّأنم يسخرون م ّني دو ًما‪ ،‬لكن يبدو أنّنا يف واقع األمر‬
‫عائلة واحدة‪.‬‬
‫قال ّ‬
‫الضابط مضطر ًبا‪:‬‬
‫‪-‬أنت تكذب‪ ،‬فقد قلت بنفسك ّ‬
‫إن اجلن يدخلون من األبواب املفتوحة‬
‫والباب مغلق!‬
‫ُ‬ ‫فقط‪ ،‬فكيف سيدخلون هنا‬
‫ّ‬
‫األقل طاملا أنا‬ ‫‪ -‬صحيح هّإنم ال يستطيعون فتح الباب لك ّني أستطيع عىل‬
‫اسمح يل أن أفتح الباب‪ ،‬ونصيحة م ّني‪ ..‬اقفز‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫اجلسد البرشي‪ ،‬لذلك‬ ‫يف هذا‬
‫حيب احلرائق‪ ،‬ورائحة‬
‫فإن أخي (زوبعة) ّ‬ ‫من النافذة حتى لو كرست رج ُلك ّ‬
‫تدل عىل أنّه لن يرتك قسم الرشطة إلاّ رما ًدا‪.‬‬
‫الدخان املتصاعدة ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪78‬‬

‫(إبراهيم القرشي)‬
‫يغلب إبراهيم القريش‪ ،‬أقول لك هذا عن ثقة‪ ..‬أرأيت ذلك‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال أحد‬
‫الضابط وما حدث له؟ َمن كان ليصدّ ق ذلك؟‬
‫صحيح أنيّ لست كأخي الدكتور‪ ،‬وال كام كان يريد أيب‪ ،‬وال ما مت ّنته يل‬
‫استطعت السيطرة يف طريق انحرايف‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أ ّمي‪ ،‬لك ّنني‬

‫املخدرات! مل أكن أريدُ ها يف احلقيقة‪ْ ،‬‬


‫لكن صديق السوء فعل معي‬
‫أمه َر منه وأحذق فيها وأنواعها وكشف‬
‫كام فعلت أنا معك‪ ..‬حتى رصت ْ‬
‫سعر الدّ والر‪ ،‬وأنا‬
‫لكن األسعار زادت مع ارتفاع ْ‬
‫األصيل من املرضوب‪ّ ،‬‬
‫صاحب مزاج ال ينبغي ملثيل أن يرتك اصطباحته؛ لذلك دخلت يف جتارهتا‪.‬‬
‫املهم الثقة التي تبنيها مع عميلك‪ ..‬إذا وثق فيك‬
‫لكن ّ‬ ‫مكس ُبها كبري‪ّ ،‬‬
‫وأي بضاعة جديدة تريد تروجيها؛‬
‫أي يشء تقوله‪ّ ،‬‬
‫العميل فسيقبل م ْنك ّ‬
‫آخر ُ‬
‫يثق العميل فيه‪.‬‬ ‫تاجر ُ‬
‫لذلك ال بدّ أن يرشحك للعميل ٌ‬
‫ربا وأنت‬ ‫والثّقة ال بدّ أن تكون متبا َد َلة ّ‬
‫ألن ذلك العميل ر ّبام يكون خم ً‬
‫ال تدري‪ ،‬فال بدّ أن يأتيك برتشيح عميل آخر ُ‬
‫تثق فيه وهكذا‪ ..‬دوائر من‬
‫خاصة للعمالء مرتفعي املستوى االجتامعي‬
‫الثقة أقوى من شبكة اإلنرتنت‪ّ ،‬‬
‫ألنم خيشون املشاكل إذا‬ ‫الذين ّ‬
‫يفضلون أن توصل البضاعة إليهم باملنزل هّ‬
‫رآهم أحدٌ يف املنطقة‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫لكن منطقة متركزي هي شارع سعيد‪ ..‬شباهبا مثل الورد‬


‫أنا من (عالغة) ّ‬
‫يدي هاتني‪.‬‬
‫الذي يتف ّتح عىل ّ‬
‫مع الوقت‪ ،‬صنعت شبكتي زبائن وجتار‪ ،‬ال تشوهبم شائبة‪ ،‬فصار يأتيني‬
‫اجلدد يريدون أن يدخلوا معي يف تلك الشبكة‪ ..‬هنا أصري موضع‬ ‫التجار ُ‬
‫ولكن‬
‫ْ‬ ‫كمية البضاعة التي معي وال األموال؛‬‫قويت ليست يف ّ‬
‫قوة حقيقية‪ّ ،‬‬
‫كل زبون ووقته املفضل وطريقة‬ ‫يف معلومات الزبائن ومعرفتي بتفضيالت ّ‬
‫حيبه‪ ..‬هل يرفع أم يرضب؟ ّ‬
‫يفضل األدوية الكيميائية‬ ‫التوصيل والطراز الذي ّ‬
‫أم الطبيعة النباتية؟‬
‫للم ْعلنني عن بضائعهم‪ ..‬هذا‬
‫للتجار مثل أمهية فيسبوك ُ‬
‫أمهيتي ّ‬
‫صارت ّ‬ ‫ْ‬
‫هو الذي يريدُ ه اآلخرون م ّني‪ ،‬وهنا‪ ..‬بدأت ّ‬
‫القصة‪.‬‬
‫حي ثان استدعاين‪ ،‬أنا سليم‬
‫ضابط جديد اسمه (حسام) يف قسم رشطة ّ‬
‫ال أترك ثغر ًة واحدة ورائي‪ ..‬كنت واث ًقا من نفيس فذهبت إليه ألرى ماذا‬
‫يريد!‬
‫قال إنّه سمع ع ّني وعن شبكتي‪ ،‬وإنّه ال يريد إيذائي؛ ولكن يريد‪-‬‬
‫فابتسم وقال (ال داعي‬
‫َ‬ ‫ببساطة‪ -‬الدخول معي يف الشّ بكة‪ ،‬بالطبع أنكرت‪،‬‬
‫للترسع‪ ،‬دخويل معك سيؤ ّمن لك ظهرك‪ ،‬وكذلك سيو ّفر لك بضاعة جمانية‬
‫ّ‬
‫ِمن التي نضبطها من التجار اآلخرين‪ ،‬اذهب اآلن إىل رفاقك الذين واعدهتم‪،‬‬
‫ور ّد ع ّ‬
‫يل بعد ما تفكر جيدً ا)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫إضافة كبرية بال شك‪ ،‬ستكون‬ ‫حسبت حسابايت جيدً ا‪ ،‬ضابط يؤ ّمنني‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫والكل رابح‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫ببضاعة أكرب‪ ،‬التجارة ستزيد‬ ‫ولكن سيأتيني‬
‫ْ‬ ‫له نسبة كبرية‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪80‬‬

‫أن أس ّلمه أحد عمالئي أو أوقع بأحد‬ ‫ً‬


‫رشطا آخر‪ْ ..‬‬ ‫وافقت‪ ،‬لك ّنه اشرتط‬
‫كل حني حتى يقبض عليه وال ّ‬
‫يشك أحد فيه‪ ،‬عنده حقّ يف‬ ‫ال ّتجار الصغار ّ‬
‫ذلك وهو يشء كنت أتو ّقعه‪.‬‬
‫فتمر دور ّية رشطة‬ ‫رصت أب ّلغه بمكان وموعد التِقاء العميل ّ‬
‫بالزبون‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫مرة‪،‬‬
‫مرة بعد ّ‬
‫يستطع اهلرب منهام‪ّ ..‬‬
‫ِ‬ ‫البحتة لتقبض عىل َمن مل‬
‫باملصادفة ْ‬
‫ٍ‬
‫ترقية يف جهاز الرشطة وصار موقفي أحسن‪.‬‬ ‫وحصل الضابط عىل‬
‫كنت‬
‫ولكن أعداء ال ّنجاح الكارهني أرادوا اإليقاع يب من وراء ظهري‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫قد أبلغت عن تاج ٍر ُمنافس يل فقبضوا عليه‪ ،‬ولك ّنه علم أنيّ كنت السبب؛‬
‫ريا ع ّني‬ ‫فقرر أن ينتقم م ّني فلماّ ُعرض عىل ّ‬
‫الضابط (حسام) قال له كال ًما كث ً‬ ‫ّ‬
‫عرضا لتجارة املخدرات معه‬ ‫وعن التجارة مل يص ْلني م ْنه إلاّ أنّه عرض عليه ً‬
‫لكن الضابط‬
‫أن الكالم قد راق للضابط‪ّ ،‬‬ ‫أكثر ممّا يفعل معي‪ ..‬ويبدو ّ‬
‫ينال به َ‬
‫اختبار‬
‫َ‬ ‫حالل؛ رفض أن يتعامل معه حتى يوقع يب أولاً ‪ ،‬واعتربه‬
‫ٍ‬ ‫ابن‬
‫كان َ‬
‫قبول لذلك املنافس‪ ..‬وقد نجح يف ذلك االختبار!‬
‫بخس ٍة‬ ‫ُ‬
‫أحتاط دو ًما إلاّ أنّه استطاع أن ّ‬
‫يدس يف بيتي شيئًا ّ‬ ‫رغم أنيّ كنت‬
‫متلب ًسا ظلماً واهلل‪ ،‬فام كانت تلك‬
‫يل ّ‬ ‫القبض ع ّ‬
‫َ‬ ‫بالغة فجاءت الرشطة لتلقي‬
‫بضاعتي وال أعرف عنها شيئًا!‬
‫ً‬
‫مغتاظا أريدُ االنتقام‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ثالث سنوات‪ ..‬ثالث سنوات قضي ُتها يف السجن‬
‫ري عرب ًة ملَن‬
‫األول يف جمايل أص ُ‬
‫ريا‪ ،‬أنا الذي كنت ّ‬‫السجن كث ً‬
‫تدهورت حايل يف ّ‬
‫يعترب؟‬
‫‪81‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫خرجت بعد انتهاء مدّ ة عقوبتي هائماً عىل وجهي ال يشء صار مثلام كان‪..‬‬
‫ُ‬
‫كل زبائني الذي كنت أبيعهم ما يريدون من بضاعة؛ باعوين‬ ‫شبكتي اهنارت‪ّ ،‬‬
‫حي‬
‫ربيب احلبس‪ ..‬آه من غدْ ر األصحاب‪ ،‬حتى أرض ّ‬ ‫ملّا عرفوا أنيّ رصت َ‬
‫حلي ثان! أال يوجد يشء ثابت يف هذه الدنيا!؟‬
‫ّأول صارت سام ًء ّ‬
‫إن االنتقام من ضابط كان مزحة‪ ،‬فامذا بيدي أن أفعل؟ هل‬ ‫يف احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬لذلك‬ ‫لتوي من السجن وال أريد العودة ّ‬ ‫أقتله؟ لقد خرجت ّ‬
‫نسيت عىل‬
‫ُ‬ ‫بمجرد أن استنشقت اهلوا َء البارد ال ّنظيف خارج سجن طنطا‬ ‫ّ‬
‫رأيت الكتاب‪ ..‬تعرف كيف‬ ‫الفور‪ ..‬متشّ يت إىل حمطة القطار سعيدً ا‪ ،‬وهناك ُ‬
‫السفيل" نسخة قديمة‬ ‫"اجلن ّ‬
‫ّ‬ ‫ينترش باعة الكتب يف تلك املنطقة‪ ،‬كان بعنوان‬
‫فقلت لنفيس ر ّبام أجد‬
‫ُ‬ ‫متهرئة تص ّفحتها وجدت بعض ال ّتعويذات املكتوبة؛‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫فيها شيئًا لالنتقام من الضابط الذي باعني؛ فاشرتي ُتها بخمسة جنيهات‬
‫قلت للبائع (أعطني كتاب ال ّتعاويذ) فقال بسخرية‪:‬‬ ‫آخر ما جيبي‪ُ ..‬‬ ‫كانت َ‬
‫حقيقيا عن حتضري اجلن)‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫(إنا رواية وليست كتا ًبا‬‫هّ‬
‫الروايات ً‬
‫أيضا تعتمد عىل حقائق!‬ ‫‪-‬وما الفارق؟ ّ‬
‫وقفزت إىل صفحات التعاويذ‪ ،‬قال الكاتب يف‬ ‫ُ‬ ‫بنه ٍم شديد‪،‬‬
‫القصة َ‬
‫قرأت ّ‬ ‫ُ‬
‫تعمدت كتابتها كام هي ألنيّ‬ ‫(إن ّ‬
‫كل التعاويذ املذكورة حقيقية‪ ،‬وإنّام ّ‬ ‫اهلامش ّ‬
‫يستطيع قراءهتا عىل ال ّنحو الصحيح‪ ،‬فال خوف من ذكرها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أعلم ّ‬
‫أن أحدً ا لن‬
‫أي تعويذة)‪ ..‬النطق إ ًذا هو املشكلة‪.‬‬‫فبدون ال ّنطق الصحيح لن تعمل ّ‬
‫اجلن الذي‬ ‫ٍ‬
‫خالء الستدعاء ّ‬ ‫كانت ال ّتعويذة تتط ّلب تالوهتا عند أرض‬
‫حي ثان حني‬
‫السامء يف ّ‬
‫يسكنها فخطر ببايل احلفرة الكبرية التي رأي ُتها يف ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪82‬‬

‫عربت‬
‫ُ‬ ‫حي ّأول الطائر؛ لذلك‬ ‫خرجت من السجن‪ ،‬والتي هي مكان ّ‬
‫حي ثان‪ ،‬ومتشّ يت إليها‪ ..‬مل أد ِر أين أجلس حتديدً ا‪ ،‬كان شارع‬‫األنابيب إىل ّ‬
‫الرئيس كام كان يف السابق‪ ،‬متشّ يت حتى‬ ‫فارغا تقري ًبا فلم ِ‬
‫يعد الشّ ارع ّ‬ ‫البحر ً‬
‫عجوزا جيلس يف رشفة أحد املنازل يك ّلم نفسه‪ ،‬قلت لعليّ أجلس قري ًبا‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫أستأنس بوجوده حتى إذا خرج ج ّني اً‬
‫فعل ال أكون وحدي متا ًما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫منه‬
‫فشعرت بقشعريرة‪ ،‬يبدو أنّني ال زلت أخاف‬
‫ُ‬ ‫جلست عىل شفا احلفرة‬
‫ُ‬
‫الكتاب وبدأت أقرأ ال ّتعويذة فلم حيدث يشء‪ ،‬بدأت أغيرّ‬
‫َ‬ ‫الظالم‪ ،‬فتحت‬
‫فجربت‬‫فمرة‪ ..‬وال يشء حيدث‪ ،‬شعرت باخليبة ّ‬ ‫مرة ّ‬‫الشّ كل وطريقة النطق ّ‬
‫ِ‬
‫كنفحة هواء قوية‪،‬‬ ‫اجلو‬
‫شعرت بيشء يف ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫وأضم وأكرس‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أفتح‬
‫مرة أخرية؛ ُ‬‫ّ‬
‫فقمت عىل الفور أجري بأقىص‬‫ُ‬ ‫الرعب‪،‬‬‫ثم سمعت زجمرة غاضبة فتملكني ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫رسعة وقد سقط م ّني الكتاب امللعون يف احلفرة‪ًّ ..‬تبا لذلك الكاتب‪ ،‬أكان‬
‫جيب أن ينقل ال ّتعويذة احلقيقية؟!‬
‫حريق بقسم‬ ‫ٍ‬ ‫ولكن‪ ..‬سمعت بعدَ ذلك عن‬ ‫ْ‬ ‫ال ّليايل التالية كانت مرعب ًة‬
‫منظرا خمي ًفا مل ْ‬
‫يكن حري ًقا عاد ًّيا‬ ‫ً‬ ‫ذهبت ألرى بنفيس‪ ..‬كان‬ ‫ُ‬ ‫رشطة حي ثان‪،‬‬
‫بالتأكيد لقد كان ِمن عمل الشياطني‪ ،‬والذي ّأكد يل هذا أنيّ رأيت ذلك‬
‫حول القسم يف مالبس املرشّ دين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الضابط الذي أردت االنتقام م ْنه حيوم‬ ‫ّ‬
‫ويصيح (ابعدْ ع ّني يا مبسوط‪ ،‬ال تقرب يل يا زوبعة)‪.‬‬
‫‪83‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(الكاتب ّ‬
‫الشهير)‬ ‫ُ‬
‫الكاتب املخرضم (أمحد إسامعيل) جييب أسئل َة احلضور يف املؤمتر‬
‫ُ‬ ‫جلس‬
‫الصحفي بأسلوبه ال ّلطيف ورسعة بدهيته‪ ،‬جتاعيد وج ِهه الطولية يف وجنتيه‬ ‫ّ‬
‫كل كلمة ينطقها‪ ،‬ووجهه األمحر‬ ‫والعرضية يف جبهته تتق ّلص وتنفرج مع ّ‬
‫ّ‬
‫ٌّ‬
‫ريايض هو كام يبدو عىل جسده ر ّبام يامرس اجلري والسباحة‬ ‫توه ًجا‪،‬‬
‫يزداد ّ‬
‫ونظارته العريضة تربز من‬ ‫شعره نائم إىل اليسار‪ّ ،‬‬
‫لكي يبقي ذهنَه صاف ًيا‪ُ ،‬‬
‫فوق أنفه‪.‬‬
‫كانت رواي ُته األخرية التي نرشها منذ عام أو يزيد ال تلقى اهتام ًما إلاّ من‬
‫كعادة كتبه‪ ..‬لطاملا سخط من عدم اهتامم‬ ‫ِ‬ ‫قرائه الشباب واملراهقني‬ ‫طائفة ّ‬
‫نوعا مهماًّ من األدب‪،‬‬‫كأنم ال يرونه عىل اإلطالق‪ ،‬رغم أنّه يكتب ً‬ ‫ال ّنقاد به هّ‬
‫لكن األدباء لطاملا انشغلوا بام‬
‫وهو أدب اخليال العلمي وأدب الفانتازيا‪ّ ،‬‬
‫يب‬
‫يعدّ ونه أدب (الكبار) أو األدب (العميق) احلائز عىل اجلوائز القادمة من د ّ‬
‫مجهور عريض يغنيه‬
‫ٌ‬ ‫لكن (أمحد إسامعيل) كان له‬
‫ذوات آالف الدوالرات‪ّ ،‬‬
‫عن مثل هذا‪.‬‬

‫إ ًذا‪ ،‬فام ّ‬
‫رس االهتامم املفاجئ به اآلن؟ ملاذا جيلس أمامه ّ‬
‫كل هؤالء ال ّنقاد‬
‫إن عنوان روايته السابقة‬ ‫والصحافيون فجأة؟ ستعرف اإلجابة حني أقول لك ّ‬ ‫ّ‬
‫بكل يشء‬ ‫حي أول)! هل يبدو لك هذا مألو ًفا؟ نعم إنّه قد ّ‬
‫تنبأ ّ‬ ‫كان (انقالب ّ‬
‫قبل أن حيدث بعا ٍم كامل! قبل أن يرى العلامء ال ّنيزك بل ر ّبام قبل أن يعرف‬
‫قادم إىل األرض!! فكيف عرف؟!‬ ‫النيزك نفسه أنّه ٌ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪84‬‬

‫مهمة؛ ال بدّ أهنا تفتح آفا ًقا عبقرية للتفكري‪،‬‬ ‫ُ‬


‫فاخليال العلمي والفانتازيا ّ‬ ‫إ ًذا‪،‬‬
‫لكل رواياته السابقة بعد حدوث‬ ‫أخربك عن حجم املبيعات ّ‬ ‫َ‬ ‫ال أحتاج أن‬
‫االنقالب‪َ ،‬من يدري‪ّ ..‬‬
‫لعل إحداها تصبح حقيقة هي األخرى يو ًما ما بام‬
‫فيها رواية (نصف حوت‪ ..‬نصف إنسان) ورواية (حياة آدمية يف بلدنا)‪.‬‬
‫‪-‬كيف أت ْتك تلك الفكرة العبقرية؟‬
‫امحر وجهه أكثر‪:‬‬ ‫ّ‬
‫مضخم الصوت‪ ،‬وقد ّ‬ ‫اقرتب من‬
‫أحب أن أصف نفيس أو أفكاري بالعبقرية‪ ،‬فإنيّ أؤمن ّ‬
‫أن الفكرة‬ ‫‪ -‬ال ّ‬
‫اجليدة موجودة‪ ،‬لك ّنها حتتاج فقط إىل َمن يالحظها‪ ،‬واألفكار تتزاوج كام‬
‫أفكارا جديدة‪ ،‬أ ّما فكرة تلك الرواية فقد جاءتني حينام كنت‬
‫ً‬ ‫يقولون وتلدُ‬
‫نيزكا رضب األرض‪ ،‬ونظر الناس‬ ‫"إن ً‬
‫شاب يقول فيها ّ‬ ‫أقرأ رواي ًة لكاتب ّ‬
‫فوقهم ليجدوا‪ "...‬هنا تو ّقفت عن القراءة ّ‬
‫وختيلت ماذا قد يكون ال ّناس قد‬
‫السامء‪،‬‬
‫أن قطعة من األرض انقلبت إىل ّ‬ ‫فتخيلت ّ‬
‫ّ‬ ‫رأوا حني نظروا فوقهم‬
‫فعدت إىل القراءة ألجدَ ه يقول "ليجدوا سحاب ًة كثيفة من الدخان" ففرحت‬
‫إ ْذ كانت فكرة مغايرة لفكريت‪ ،‬ومن هنا جاءت فكرة ّ‬
‫القصة ببساطة‪ ،‬أي أنيّ‬
‫فكرت؛ لو‬ ‫يفكر فيام ّ‬
‫ألي أحد أن ّ‬
‫لست عبقر ًّيا عىل اإلطالق‪ ،‬بل كان يمكن ّ‬
‫كان تو ّقف عن القراءة يف نفس تلك اللحظة‪.‬‬
‫هْانالت عليه األسئلة‪:‬‬
‫مرة أخرى؟‬
‫أول إىل مكانه ّ‬ ‫‪-‬وهل تتو ّقع أن يعود ّ‬
‫حي ّ‬
‫‪-‬هل هناك كارثة أخرى قد حتدث قري ًبا؟‬
‫‪85‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫‪ -‬ما عنوان روايتك القادمة؟‬


‫معجزا شفا ًفا‪،‬‬
‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫احتفاء ال ّناس به مفهو ًما؛ هّإنم يرون أمامهم‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ٍ‬
‫بطريقة أسطورية‪،‬‬ ‫َ‬
‫وحدث كام هو‬ ‫تنبأ بيشء مستحيل‬ ‫مكشوف عنه احلجاب‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫لكنه ينفي عن ِ‬
‫نفسه العبقرية والشّ فافية بتواضع شديد‪ ،‬ويكتفي بالر ّد عىل‬
‫ٍ‬
‫بحياء وابتسامة صادقة‪.‬‬ ‫األسئلة األخرى‬
‫ري املفهوم أنه حينام انتهى املؤمتر وعا َد إىل بيته يف شارع النحاس‬
‫لكن غ ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫اختفت االبتسامة‪ ،‬فقد كان يعلم جيدً ا‬ ‫وبمجرد أن أغلق عىل نفسه الباب؛‬‫ّ‬
‫أن ّ‬
‫كل ما قاله كذب‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بعد أن بدّ ل مالبسه شغّ ل حاسوبه وفتح بريدَ ه اإللكرتوين ليتأ ّمل الرسالة‬
‫مرة أخرى‪ ..‬رسالة قد أتته قبل ال ّنيزك بعام ونصف‪ ،‬يقول كاتبها إنّه أرسلها‬
‫ّ‬
‫إليه من املايض!‬
‫ال مشكلة‪ ،‬ر ّبام مزحة من أحد ا ُملعجبني‪ ،‬تأتيه رسائل كثرية كهذه بني‬
‫يتخيلون أنفسهم شخصيات خيالية‪ ..‬واحلقيقة ّ‬
‫أن‬ ‫احلني واحلني‪ ،‬أشخاص ّ‬
‫مصدر إهلام يف كث ٍ‬
‫ري من األحيان لكتاباته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ألنا تكون‬
‫هذه الرسائل تعج ُبه هّ‬
‫كانت الرسالة تقول‪:‬‬
‫"الكاتب الكبري‪ /‬أمحد إسامعيل‬
‫قرائك بالطبع‪،‬‬
‫أعرفك بنفيس‪ ،‬أنا (عمرو هاين) ُمربمج كمبيوتر‪ ،‬وأحد ّ‬
‫ّ‬
‫أمت ّنى أن تتعامل مع رسالتي عىل حممل اجلدّ ‪..‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪86‬‬

‫ضعها يف‬ ‫ّ‬


‫األقل ْ‬ ‫ولكن عىل‬
‫ْ‬ ‫أعرف أنّه ليس من السهل عليك ذلك‪،‬‬
‫كاحتاملية‪ ..‬هل هذا صعب؟!‬
‫ّ‬ ‫االعتبار‬
‫أختيل‬
‫إنّام اخرتتك عىل وجه اخلصوص ألنّك كاتب خيال‪ ،‬وأقرب من ّ‬
‫ْ‬
‫أن يصدّ قني فيام أقوله لك‪ ،‬ألنيّ نفيس ال أصدّ ق!‬
‫كحلم يل ال أستطيع االستيقاظ منه أبدً ا‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫إنّه‬
‫الرسالة من املايض‪ ،‬حتديدً ا منذ عرش‬ ‫املوضوع هو أنيّ أرسل إليك هذه ّ‬
‫تتعجب؟! الذي حدث أو سيحدث بالنسبة إليك هو‪ -‬صدّ ق أو‬ ‫سنوات‪ّ ..‬‬
‫نيزك من‬‫الرسالة إليك سيأيت ٌ‬ ‫ال تصدق‪ -‬بعد عا ٍم ونصف من وصول هذه ّ‬
‫الفضاء ليصطدم باألرض‪ ،‬وحتديدً ا طنطا‪ ،‬وسيتو ّقع العلامء فنا َء األرض‪،‬‬
‫حي ّأول‬ ‫بطريقة ما‪ ،‬ويشطر طنطا فينفلق ّ‬‫ٍ‬ ‫لكنها لن تفنَى؛ سيتق ّلص ال ّنيزك‬
‫السامء مقلو ًبا‬ ‫ثم متسكه اجلاذبية األرضية ّ‬
‫فيظل يف ّ‬ ‫ري إىل السامء غري بعيد‪ّ ،‬‬
‫ويط ُ‬
‫ولكن‬
‫ْ‬ ‫كل هذا يبدو جمنو ًنا‪ ،‬أعلم ذلك لك ّني رأيته بعيني‪،‬‬‫ينظر إىل حي ثان‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫فحصل يل يشء غريب‪ ،‬وهو أنيّ ك ّلام ّ‬
‫مر‬ ‫َ‬ ‫قمت بتجربة سخيفة‬ ‫بعد الصدمة ُ‬
‫السابق!‬ ‫يل يوم أستيقظ ألجد نفيس يف اليوم ّ‬ ‫ع ّ‬
‫ٍ‬
‫لنيزك‬ ‫فإذا كان اليوم اجلمعة ّ‬
‫فإن غدً ا هو اخلميس!! ال أدري كيف يكون‬
‫ساموي هذا التأثري امليتافيزيقي‪ ،‬لك ّني قد أفقت من هذه الصدمة منذ‬
‫ّ‬ ‫أو جرم‬
‫مدّ ة‪..‬‬
‫لكن كيف!؟ وجدت طريقة وهي‬ ‫قررت أن أرسل رسالة إىل املستقبل‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم يرسلها‬ ‫ُ‬
‫حيتفظ بالرسالة يف خادم بيانات ملدّ ة زمنية أحدّ دها ّ‬ ‫كتابة برنامج‬
‫يف املوعد املطلوب‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ُ‬
‫سأحتفظ باخلادم يعمل حلسايب‬ ‫واجهتني مشكلتان؛ األوىل هي كيف‬
‫طوال هذه املدّ ة‪ ،‬والثانية هي أنيّ ال بدّ أن أكتب الربنامج اً‬
‫كامل يف يوم واحد؟‬
‫السابق ملا كتبت‪ ،‬وهذا يعني‬
‫ونمت استيقظت يف اليوم ّ‬
‫ُ‬ ‫ألنيّ ك ّلام ُ‬
‫كتبت شيئًا‬
‫كل ما كتبت ْ‬
‫كأن مل يكن!‬ ‫أن ّ‬ ‫ّ‬

‫فاستأجرت خاد ًما لعرشين سنة قادمة‬


‫ُ‬ ‫أ ّما األوىل فكان ح ّلها هو األيرس؛‬
‫لكن املشكلة أين‬
‫ستظل حمفوظة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بخصم ممتاز‪ ،‬وبذلك أضمن ّ‬
‫أن الرسالة‬
‫وأكتب الربنامج‬
‫َ‬ ‫كل يوم أريدُ أن أرسل فيه رسالة‬ ‫أضطر لرشاء ذلك اخلادم ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا يف نفس اليوم‪ ،‬ما يعني أنّه ال بدّ من تو ّفر النقود معي دائماً وهذا صعب‪،‬‬
‫ً‬
‫بأي طريقة ُمتاحة‪.‬‬ ‫لك ّني سأح ّلها ّ‬
‫أقل ٍ‬
‫عدد‬ ‫ٍ‬
‫أكواد برجمية جاهزة حتتاج ّ‬ ‫فاضطررت للبحث عن‬
‫ُ‬ ‫وأ ّما الثانية‪،‬‬
‫خاصة يف‬
‫ممُ كن من ال ّتعديالت لتصري كام أريد‪ ،‬ومل يكن هذا بالبحث اليسري‪ّ ،‬‬
‫الزمن الذي أنا فيه اآلن‪ ،‬وك ّلام أعود للوراء سيصري هذا أصعب‪ ،‬لذلك لن‬
‫اً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫الرسائل‬ ‫َ‬
‫إرسال هذه ّ‬ ‫أستطيع‬
‫َ‬
‫فاصيل التي تثبت‬ ‫الرسالة‪ ،‬ستجد موعدَ قدوم النيزك‪ ،‬وال ّت‬
‫يف هناية هذه ّ‬
‫ريا منك ألرسل إليه هذه الرسالة‪ ،‬وإذا أرسلت‬
‫صحة كالمي‪ ..‬مل أجدْ خ ً‬
‫لك ّ‬
‫أجرت‬ ‫إليك رسالة أخرى فستكون ِمن ٍ‬
‫بريد آخر عىل األغلب؛ ألنيّ سأكون ّ‬
‫إلكرتونيا جديدً ا ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫خاد ًما جديدً ا وبريدً ا‬
‫تظن أنيّ‬ ‫ٍ‬
‫بوقت كبري حتى ال ّ‬ ‫ِ‬
‫موعد النيزك‬ ‫ُ‬
‫أرسل إليك هذه الرسالة قبل‬
‫صحيفة ما وأخدعك‪ ،‬وسأرسل إليك رسال ًة أخرى تصل‬ ‫ٍ‬ ‫قرأت عنها يف‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪88‬‬

‫ربك فيها‬ ‫إليك بعد حادث النيزك حينام تكون قد ّ‬


‫تأكدت من كالمي أخ ُ‬
‫باملزيد‪.‬‬
‫َ‬
‫لتبحث عن شخيص الذي عندك هل أنا ال‬ ‫وسأترك لك عنواين ً‬
‫أيضا‬ ‫ُ‬
‫بقصتي؟‬
‫حيا؟ هل يمكن أن أتواصل مع نفيس؟ هل ستخرب العامل ّ‬
‫زلت ًّ‬
‫أعرف أين لن أجدَ إجابة أبدً ا ألنّه‪ -‬وعىل الرغم من غرابة إرسال الرسائل‬
‫من املايض‪ّ -‬‬
‫فإن إرساهلا من املستقبل مستحيل!‬
‫لسع ِة صدرك"‬
‫شكرا َ‬
‫ً‬
‫كان قد ذهب بالفعل للتح ّقق من وجود شخصية املهندس (عمرو هاين)‬
‫أمرا‬
‫حي ّأول إىل حي ثان‪ ..‬كان ً‬ ‫ً‬
‫سقوطا من ّ‬ ‫ٍ‬
‫بفرتة‬ ‫مات بعد النيزك‬
‫وعرف أنّه َ‬
‫أن الكاتب (أمحد إسامعيل) كان يمكنه بالفعل ْ‬
‫أن حيكي تلك‬ ‫عجي ًبا‪ ،‬ورغم ّ‬
‫يفعل بل اكتفى بنسبة الفضل اً‬
‫كامل لنفسه حتى لو‬ ‫ْ‬ ‫الرسالة للعامل إلاّ أنّه مل‬
‫ّ‬
‫ز ّين ذلك ببعض التواضع ا ُملفتعل الذي خيفي حقيق َة سعادته البالغة بال ّنجاح‬
‫كل آماله‪ّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫ريا واملَبيعات الساحقة التي فاقت ّ‬
‫الباهر الذي وصل إليه أخ ً‬
‫(الرجل الذي عاد إىل‬ ‫َ‬
‫عنوان روايته القادمة ّ‬ ‫ما يشغل باله اآلن هو أنه يعرف‬
‫املايض)‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫(عمرو هاني)‬
‫ُ‬
‫خالصة عم ٍر طويل‬ ‫إخويت‪ ،‬أنصتوا إ ّيل من فضلكم؛ فام سأقوله اآلن هو‬
‫خربة وحكمة‪ ..‬أعلم أنّكم تنظرون إ ّيل كأمحق قصري القامة ّ‬
‫لكن حيايت أكرب‬
‫من ذلك بكث ٍ‬
‫ري‪ ..‬صدّ قوين‪.‬‬
‫األمر منذ رضب ذلك ال ّنيزك مدينة طنطا‪ ،‬لقد رأيت ّ‬
‫كل يشء انقلب‬ ‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫السامء كطبق بيض (أوملت) يطري من فوق طاسة أ ّمي يف‬ ‫حي ّأول إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫استقر يف السامء بمعجزة‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى إىل الطاسة؛ بل‬
‫املطبخ‪ ،‬غري أنّه مل يعدْ ّ‬
‫كل يشء وهو حيدث‪ ،‬رأيت الناس ترتعب يف البيوت‪ ،‬ورأيت‬ ‫فريدة‪ ..‬رأيت ّ‬
‫النباتات متوت لعدم وصول الشمس إليها‪ ،‬ورأيت كال ًبا ماتت ملّا ض ّلت عن‬
‫أصحاهبا‪ ،‬وسيارة يابانية كنت قد صدمتها من قبل عن طريق اخلطأ‪ ،‬رأيتها‬
‫حي ّأول إىل حي ثان‪ ،‬ومات َمن فيها‪ ،‬رأيت أشياء كثرية‪.‬‬
‫وقد وقعت من ّ‬
‫ٍ‬
‫بتجربة مل أخرب أحدً ا هبا‪ ،‬أال وهي ّ‬
‫السباحة‬ ‫ثم اتخّ ذت ذلك القرار الغبي‬
‫ّ‬
‫حي ّأول وجاذبية حي ثان‪ ،‬حسبت ّ‬
‫كل يشء‬ ‫اجلاذبيتني جاذبية ّ‬
‫ّ‬ ‫يف اهلواء بني‬
‫هتربت من حراسة أنابيب املواصالت وتس ّلقت األنابيب‬ ‫جيدً ا‪ ،‬ويف ليلة ّ‬
‫وصلت إىل ارتفا ٍع معينّ يف‬
‫ُ‬ ‫متحم اًل برودة اجلو‪ ،‬ومعي حبايل وأدوايت حتى‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫مربوط باحلبل‬ ‫شديد بدأت ُ‬
‫أترك نفيس وأنا‬ ‫ٍ‬ ‫منتصف املسافة متا ًما‪ ،‬وببطء‬
‫وقد كان ما كنت أتو ّقع‪ ..‬لقد كانت منطقة انعدام جاذبية كأنيّ يف الفضاء‪،‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪90‬‬

‫ّ‬
‫اختل مكاين؟!‬ ‫أشعر بدُ وار‪ ،‬هل‬
‫ُ‬ ‫ال وزن يل أبدً ا‪ ،‬متعة رائعة‪ ،‬لك ّني بدأت‬
‫وحي ثان يتقاسامن ّخمي‪ّ ،‬‬
‫كل منهام جيذب أحدَ‬ ‫ّ‬ ‫حي ّأول‬ ‫أشعر بصداع ّ‬
‫كأن ّ‬
‫ِ‬
‫أنبوب املواصالت‬ ‫نصفي ّخمي إليه وجسدي كذلك‪ ،‬حاولت ّ‬
‫الرجوع إىل‬
‫الصداع يشتدّ ح ّتى شعرت‬ ‫مل أستطع‪ ،‬حاولت التع ّلق باحلبل مل أقدر‪ّ ،‬‬
‫ظل ّ‬
‫ثم ال يشء‪.‬‬
‫برأيس ينفجر‪ّ ..‬‬
‫كل ذكريات حيايت‪ّ ..‬‬
‫كل‬ ‫استعدت فيها ّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫غيبوبة عميقة‬ ‫كأنيّ دخلت يف‬
‫وتذكرت أيب الذي توفيّ‬
‫ّ‬ ‫قرارايت اخلاطئة؛ رأيت أ ّمي التي ماتت منذ سنني‪،‬‬
‫ثم خرج‬
‫وقبلني ّ‬
‫بعد والديت بقليل‪ ،‬كانت أ ّمي تقول إنّه رآين ومحلني عىل يده ّ‬
‫فامت عىل الفور‪ّ ،‬‬
‫تذكرت ذنو ًبا أرسفت فيها‬ ‫من املستشفى فصدم ْته سيارة َ‬
‫ري من األشياء التي كانت دفينة‬ ‫ضيعتها يف كال ٍم فارغ‪ّ ..‬‬
‫تذكرت الكث َ‬ ‫ٍ‬
‫وأوقات ّ‬
‫عقيل منذ ٍ‬
‫أمد بعيد‪ ،‬وبعد أن رأيت ّ‬
‫كل يشء استيقظت‪.‬‬
‫استيقظت يف بيتي ّ‬
‫كأن شيئًا مل حيدث‪ ..‬ما هذا؟ كيف وصلت إىل هنا؟ يا‬ ‫ُ‬
‫كدت أفقد عقيل‪،‬‬
‫عدت إىل اليوم السابق‪ُ ،‬‬‫ُ‬ ‫إخويت لقد حصلت معجز ٌة‪ ،‬لقد‬
‫هل كنت أحلم؟ ر ّبام‪ ..‬نعم بالتأكيد كان هذا حلماً ‪ ،‬لك ّنه حلم سخيف عىل‬
‫أ ّية حال‪ ،‬وميلء بالتفاصيل الدقيقة بشكلٍ بشع‪ ،‬أكره مثل هذه األحالم‬
‫املليئة بالتفاصيل‪ ،‬إ ًذا سأقوم ال ّليلة بعمل جتربة ّ‬
‫السباحة يف اهلواء؟ برصاحة‪..‬‬
‫بالسهرة يف‬
‫انقبض قلبي من الفكرة بعد ما رأي ُته يف احللم؛ لذلك اكتفيت ّ‬
‫ثم نمت‪.‬‬
‫بيتي ّ‬
‫‪91‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫أعود‬
‫ُ‬ ‫املرة أنّه مل يكن حلماً ؛ إنّني يا سادة‬ ‫وحني استيقظت ّ‬
‫تأكدت تلك ّ‬
‫بالزمن إىل الوراء! ال تسألني كيف؟! إنّني أعود وحسب‪ ،‬ال بدّ ّ‬
‫أن هذا‬
‫بسبب النيزك لكن ال ّنيزك حدث وانتهى ومل أتأ ّثر حينها! إ ًذا‪ ،‬فهي عىل‬
‫رواد الفضاء طاملا سبحوا يف ما‬ ‫لكن ّ‬ ‫ُ‬
‫منطقة انعدام اجلاذبية تلك‪ّ ..‬‬ ‫األغلب‬
‫ونحن ال نعرف! كيف‬
‫ُ‬ ‫أي يشء‪ ،‬أو ر ّبام حدث هلم‬
‫هو مثلها ومل حيدث هلم ّ‬
‫ستعرف ْ‬
‫إن عاد املرء إىل املايض؟ أين ستقابله وأنت يف مستقبله؟‬

‫حي‬ ‫مزيج بني انعدام اجلاذبية وطاقة ال ّنيزك‪ ..‬جذب ّ‬


‫كل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أو ر ّبام هي‬
‫وتدخلت طاقة النيزك فحدث هذا اليشء العجيب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نصف ّخمي‬‫َ‬

‫املهم أنيّ أرجع إىل اخللف‪،‬‬


‫أهتم اآلن بالسبب؟ وما الفائدة؟ ّ‬
‫هل أنا ّ‬
‫عدت‬
‫ُ‬ ‫ثم بعدما وصلت إىل القمة‬‫وعرا ّ‬ ‫كأنيّ كنت طوال حيايت أصعد اً‬
‫جبل ً‬
‫أدراجي ثانية‪.‬‬

‫اسمعوين‪ ..‬أعرف أنّكم تقولون َمن هذا‬


‫إخويت‪ ..‬إخويت‪ ،‬من فضلكم ْ‬
‫األمحق؟ وما هذه الترّ هات التي يلوكها فمه؟! إنيّ لكم ناصح أمني‪ ،‬فإنّكم ال‬
‫تدرون ما أنتم ُمقبلون عليه من هذه احلياة!‬

‫إن أدركت األمر اتخّ ذت ً‬


‫قرارا بإصالح ما أستطيع إصالحه‪،‬‬ ‫إنّني ما ْ‬
‫خطرا‪..‬‬
‫مهام كان ً‬
‫أي يشء ْ‬
‫أي يشء أو أفعل ّ‬
‫اليشء اجليد أنيّ أستطيع أن أقول ّ‬
‫السيئ أنيّ‬
‫أحتمل عواقبه يف اليوم التايل‪ .‬اليشء ّ‬
‫مهام كان جريئًا ما دمت لن ّ‬
‫ْ‬
‫ومهام أصلحت ِمن أخطاء املايض‪ ،‬فلن أرى نتائج‬ ‫مهام فعلت أشياء جيدة‪ْ ،‬‬‫ْ‬
‫هذه اإلصالحات يف اليوم التايل‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪92‬‬

‫أن إذا وجدت فسيل ًة أغرسها حتى لو ْ‬


‫لن أرى النتائج أبدً ا‪،‬‬ ‫لك ّني آثرت ْ‬
‫ومن ذلك أنيّ رأيت نبت َة ياسمني حديث َة اخلروج من األرض بعد االنقالب‬
‫كيال متوت من انْعدام أشعة الشمس‪ ،‬وأرسلتها‬ ‫ٍ‬
‫بحرص شديد ْ‬ ‫بقليلٍ فنزعتها‬
‫أن زرعتها بشعو ٍر غريب وأنا‬ ‫ّ‬
‫الظل متا ًما‪ ،‬وشعرت بعد ْ‬ ‫إىل خارج منطقة‬
‫َ‬
‫معرش بني آدم؟!‬ ‫إحساس مثلنا‬
‫ٌ‬ ‫كأنا تشكرين‪ُ ،‬ترى هل للنباتات‬
‫أتلمسها هّ‬
‫ّ‬

‫وملّا رأيت الكالب ا ُملجتمعة عىل أطراف ّ‬


‫حي ّأول تريد أن تلقي نفسها‬
‫ووضعت صورهم عىل‬
‫ُ‬ ‫فصورت الكالب‬ ‫أبلغت الشرّ طة‪ ،‬لك ّنهم مل ّ‬
‫هيتموا ّ‬ ‫ُ‬
‫تم إنقاذهم من‬
‫مواقع التواصل االجتامعي ليعرفها أصحابهُ ا‪ ،‬وبالفعل ّ‬
‫اهلالك‪.‬‬

‫أطوف بالشوارع فرأيت طفل ًة‬


‫ُ‬ ‫عدت إىل يوم سقوط ال ّنيزك‪ ،‬أخذت‬
‫وحني ُ‬
‫الساعة‬‫أين اتجّ َهت؟ فأخربتني هّأنا ذهبت إىل ميدان ّ‬
‫تبحث عن أ ّمها‪ ،‬سألتها َ‬
‫الساعة العجيبة‪ ،‬فأخذت البنت يف السيارة وأخذت‬
‫لتطلب املساعدة من ّ‬
‫ُ‬
‫أبحث عن أ ّمها حتى وجدهتا حائر ًة ذاهلة تنظر إىل ّ‬
‫الساعة حوالء العني ممّا‬
‫فنبهتها وأوصلتها مع ابنتها إىل بيتهام‬
‫يعرضها للموت وقت االصطدام ّ‬
‫قد ّ‬
‫دور ا ُملنقذ‪ ،‬وساعدين عىل ذلك أنيّ ال‬
‫يف الوقت املناسب‪ .‬نعم لقد أحببت َ‬
‫أخشى املوت‪ ،‬فاملوت يشء مستقبيل‪ ،‬وأنا لن أرى املستقبل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫قصد وهي ساكنة‬ ‫َ‬
‫حدث يف األصل أنيّ صدم ُتها دون‬ ‫أ ّما السيارة فالذي‬
‫حتت بيت صاحبها‪ ،‬ومل أجدْ من الوقت الكايف ألترك ورق ًة برقم هاتفي‬
‫‪93‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫مرسعا يف‬
‫ً‬ ‫وانطلقت‬
‫ُ‬ ‫الصدمة‬
‫نزلت ألرى موضع ّ‬ ‫ُ‬ ‫أو نحو ذلك‪ ،‬ولعجلتي‬
‫مشواري‪ ،‬وكنت أنوي بالفعل أن أعو َد لك ّني نسيت متا ًما‪ ،‬لذلك اتخّ ذت‬
‫لن حيدث هبا‬
‫فمن يدري‪ ..‬ر ّبام لو مل أصدمها ْ‬
‫املرة ومل أصدمها‪َ ،‬‬
‫حذري هذه ّ‬
‫تسبب يف سقوطها فيام بعد‪ ..‬إن كان اً‬
‫عطل‪.‬‬ ‫العطل الذي ّ‬
‫الشاب الذي صارت له قوى خارقة بعد ال ّنيزك‪ ،‬رغم‬
‫ّ‬ ‫هناك ً‬
‫أيضا ذلك‬
‫تافه يف احلقيقة‪ ،‬فقد كنت أعرفه قبل ذلك معرف ًة طفيفة‪ ،‬وقد‬
‫أنّه شخص ٌ‬
‫التدخل فضرُ ب رض ًبا‬
‫ّ‬ ‫رأيته يف ِشجار قبل انْقالب ّ‬
‫حي ّأول وهو حياول‬
‫أي دو ٍر يف الشّ جار سوى ّ‬
‫ذل النفس‪،‬‬ ‫عني ًفا وسقط عىل األرض‪ ،‬مل ْ‬
‫يكن له ّ‬
‫للمرة الثانية أشغل ُته بكالم جانبي وشدّ‬
‫مررت عىل ذلك الشجار ّ‬
‫ُ‬ ‫لذلك حني‬
‫تعجبه ّ‬
‫ألن معرفتنا سطحية‪ ،‬وأراد أن يشارك يف الشّ جار‬ ‫وجذب ممّا أثار ّ‬
‫األمر‬
‫ُ‬ ‫املتشاجرين تصاحلا فلم يطلِ‬
‫َ‬ ‫لكن‬
‫دفاعا عن صاحبه إىل آخر حلظة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وانرصفت عنه‬

‫قصتي لألديب (أمحد إسامعيل)‪ ،‬ولك ّني بعد أن أرسلت‬


‫قررت أن أرسل ّ‬
‫ّ‬
‫أضيع عمري يف إرسال‬
‫شعرت بامللل‪ ..‬ما الفائدة؟ ملاذا ّ‬
‫ُ‬ ‫إليه عدّ ة رسائل‬
‫رسائل لن يصلني ر ّدها؟‬

‫ال أنكر أنيّ أحيا ًنا ال أبايل‪ ،‬فقط ال أبايل فال أغيرّ شيئًا أو ال أفعل شيئًا‬
‫إن كنت قد‬‫كل يوم أصغر س ًّنا حتى متى؟ ْ‬ ‫البتة‪ ..‬عمري ينفدُ م ّني‪ ،‬أصري ّ‬
‫ثم أختفي من الوجود‬
‫عشت ثالثني عا ًما فسأعود إىل اخللف ثالثني عا ًما‪ّ ،‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪94‬‬

‫لكن عندما‬ ‫أن رقم الثالثني ليس اً‬


‫قليل ْ‬ ‫مرة‪ ..‬رغم ّ‬
‫كام مل أكن موجو ًدا ّأول ّ‬
‫األصح؛ فهذا‬
‫ّ‬ ‫علم اليقني ّ‬
‫أن ذلك موعدُ مويت أو فنائي عىل‬ ‫أراه أمامي وأعلم َ‬
‫بحر‪ ،‬أو أسهر‬
‫أي مكان به ٌ‬
‫شهورا أسافر إىل ّ‬
‫ً‬ ‫قضيت‬
‫ُ‬ ‫شعور مرعب‪ ،‬لذلك‬
‫ٌ‬
‫حلظات حاسمة يف حيايت‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ثم تأيت‬
‫إىل أن يغلبني النوم‪ ،‬أو أمرح بال عواقب‪ّ ..‬‬
‫قررت أنيّ لن‬
‫الزواج‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫مخسة أعوام من ّ‬ ‫كاليوم الذي ط ّلقت فيه زوجتي بعد‬
‫غبيني‬ ‫اً‬
‫طويل‪ ،‬ك ّنا ّ‬ ‫يدم زواجنا‬
‫ريا ومل ْ‬ ‫تزوجتها صغ ً‬
‫ريا‪ّ ،‬‬‫أطلقها فقد افتقدهتا كث ً‬
‫فهم الكرامة‪ّ ..‬‬
‫كل‬ ‫نتشاجر عىل أشياء تافهة‪ ،‬والعند يتم ّلك اًّ‬
‫كل م ّنا‪ ،‬ونيسء َ‬
‫لكن التوقري‬ ‫يظن ّ‬
‫أن اآلخر ينبغي له أن يوقره‪ ،‬أعني أن االحرتام مفهوم ّ‬ ‫م ّنا ّ‬
‫مبا َلغ فيه بني زوجني من املفرتض هّأنام قد صارا ً‬
‫روحا واحدة‪.‬‬

‫وأرصت عىل أنيّ قد‬‫ّ‬ ‫الطالق قد تشاجرنا‬ ‫ك ّنا يف الليلة السابقة ليوم ّ‬
‫جرحت كرامتها؛ لذلك وعدتهُ ا أنيّ سأط ّلقها يف الصباح وأر ّدها إىل أهلها‬
‫كام يفعل أبناء األصول‪.‬‬

‫لك ّني اآلن لن أفعل‪ ،‬بل سأصاحلها وأعتذر إليها‪ ..‬قلت هلا‪ :‬هل لو‬
‫كنت ستشعرين بنفس الضيق؟‬ ‫كانت الكلمة التي قلتها لك قاهلا أخوك ِ‬
‫بضع‬
‫متر ُ‬ ‫خيارا‪ ،‬فام إن ّ‬
‫الطالق ليس ً‬ ‫نعم‪ ،‬ستغضبني منه لك ّنه أخوك وقدرك‪ّ ،‬‬
‫ساعات أو أ ّيام عىل أكثر تقدير إلاّ وستنسيان ما كان‪ ..‬فهل عالقتنا هشّ ة إىل‬
‫رصنا ّ‬
‫أقل من أن نكون أخوين؟ أ ّما عن الكلمة‬ ‫تلك الدرجة؟ إىل درجة أننا ْ‬
‫ِ‬
‫وأنت تعلمني ذلك جيدً ا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قصد م ّني‬ ‫التي قلتها فقد خرجت رغماً عني دون‬
‫وها أنا أعتذر إليك‪.‬‬
‫‪95‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫حبنا إىل مستوى وعي جديد‬


‫ترقرقت دموعها وأخذت تبكي‪ ،‬وانتقل ّ‬
‫ْ‬
‫أعىل من املستوى الطفويل الذي ك ّنا فيه‪.‬‬
‫يوم املشكلة نفسها؛ فلم‬ ‫لكن املشكلة ّ‬
‫أن اليوم التايل بالنسبة يل كان َ‬ ‫ّ‬
‫ريا بذلك الوعي!‬
‫أستمتع كث ً‬
‫لكن املشكلة أنّني يف هناية‬
‫بنفسية جيدة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فرصت أستمتع ّ‬
‫بكل يوم معها‬ ‫ُ‬
‫ألول يو ٍم تقابلنا فيه كنت قد مللت م ْنها بالفعل؛ لذلك‬
‫األمر حني وصلت ّ‬
‫أصل‪ ..‬ترى ماذا َ‬
‫فعل نظريي املستقبيل‬ ‫التعرف عليها اً‬ ‫قررت ألاّ آخذ خطوة ّ‬
‫ّ‬
‫يتزوج امرأة أخرى؟ ال أدري‪ ..‬ولن أدري‪.‬‬
‫يت به إىل أن ّ‬
‫اآلن؟ هل أ ّد ُ‬
‫أروع يشء‬
‫َ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬كان هذا‬ ‫حية ّ‬‫كم كانت سعاديت حني رأيت أ ّمي ّ‬‫ْ‬
‫وددت لو ال أتركها حلظ ًة واحدة ّ‬
‫أقبل‬ ‫ُ‬ ‫حدث يل يف تلك الرحلة العجيبة‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ولعمري ال يشء ُيشبه هذا‪،‬‬
‫شعرت بحناهنا ّ‬
‫ُ‬ ‫رأسها وقدميها‪،‬‬
‫تكذبني‪ ،‬وسألتني عن‬‫فضحكت ومل ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫حدث‬ ‫لدرجة أنيّ حكيت هلا ما‬
‫ريا وجدت َمن أحكي له‪،‬‬
‫كل يشء ورصت أحكي هلا‪ ..‬أخ ً‬‫ال ّتفاصيل وعن ّ‬
‫اً‬
‫طويل وكذبت‪.‬‬ ‫ولك ّنها حني سألتني (متى سأموت؟) قلت هلا ستعيشني‬
‫عمر عرش سنوات بينام عمرك‬
‫أن يراك الناس يف ْ‬ ‫َ‬
‫أتفهمون يا إخويت معنى ْ‬
‫معا‬
‫احلقيقي مخسون عا ًما؟ لذلك قلت لصديقتي (سلمى) ونحن نلعب ً‬
‫بحبها‪:‬‬
‫حني صارحتني ّ‬
‫جمرد‪ ،‬ويف هناية العام بعدما‬
‫حب طفويل ّ‬
‫حتبينني‪ ،‬لك ّنه ّ‬
‫(إنّني أعرف أنّك ّ‬
‫مرة أخرى‪،‬‬
‫حتصلني عىل االبتدائية ستنتقلني إىل مدرسة البنات‪ ،‬ولن أراك ّ‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪96‬‬

‫تتعرفني عىل زميلٍ يف جامعتك يف كلية‬


‫ثم ّ‬ ‫أحبك‪ ،‬ولك ّنك ستنسينني ّ‬ ‫ّ‬
‫وسأظل ّ‬
‫حب مجيلة‪ ،‬لك ّنه سريسب يف إحدى السنوات‬‫قصة ّ‬ ‫اهلندسة‪ ،‬وستعيشان ّ‬
‫لتتزوجي اً‬
‫رجل غري ًبا تقدّ م إليك من طريق إحدى قريبات أ ّمك‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫فترتكيه‬
‫الزواج؛ فهو أنجح زواج رأي ُته يف حيايت‪ ..‬أ ّما أنا‬
‫أشجع هذا ّ‬
‫وبرصاحة أنا ّ‬
‫ٍ‬
‫أغان‬ ‫دون منغّ صات ونظ ٍر إىل السقف وسامع‬‫فإين أريد أن أعيش طفولتي َ‬
‫عاطفية)‪.‬‬

‫السفيل وهي تنظر إ ّيل نظرة‬ ‫تتخيلوا كيف تدلىّ ّ‬


‫فكها ّ‬ ‫ّ‬
‫بالطبع‪ ،‬يمكنكم أن ّ‬
‫محقاء تليق بعمرها‪ ،‬يف الواقع لقد كنت بعم ِر جدّ ها حينئذ‪.‬‬

‫وصلت إىل اللحظة التي مت ّنيتها ح ًّقا‪ ..‬ما بعد‬


‫ُ‬ ‫ظللت أصغر بالعمر حتى‬
‫ُ‬
‫املرة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ولكن هذه ّ‬
‫والديت حني أتى أيب ليحملني‪ ،‬مل أصدّ ق أنيّ أراه ّ‬
‫رضيعا‪..‬‬
‫ً‬ ‫عمره ستون عا ًما كاملة‪ ،‬وإن كان يبدو‬
‫ُ‬ ‫بوعي رجلٍ‬
‫ِ‬ ‫بوعي كامل‬
‫يدي قصريتان وجهازي احلركي‬
‫لكن ّ‬‫أقبله ّ‬
‫أردت أن ّ‬‫ُ‬ ‫أخذت أبكي وأبكي‪،‬‬
‫كل جسدي واحتضنني اً‬
‫طويل‪..‬‬ ‫أضعف ما يكون‪ ،‬لك ّنه اهنمر ع ّ‬
‫يل ُبقبالت يف ّ‬
‫للمرة األوىل يف حيايت‪.‬‬
‫شعرت بإشبا ٍع عاطفي كامل ّ‬
‫كل ما مىض وأسمع حديثها‬ ‫يف الشّ هور التالية‪ ،‬كنت يف بطن أ ّمي أتأ ّمل ّ‬
‫ويتحسس قدمي البارزة يف بطن أ ّمي‬
‫ّ‬ ‫مع أيب وأرك ُلها أحيا ًنا حتى يأيت أيب‬
‫ويقبلها موضعها‪ ..‬هل تصدّ قون ّ‬
‫أن هذه الشّ هور القليلة كانت أحىل من‬
‫حيايت ك ّلها؟‬
‫‪97‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫ثم ها أنا ذا أجري معكم إخويت‪ ..‬املاليني منكم حتى َ‬


‫نصل إىل البويضة‬ ‫ّ‬
‫رس حيايت ك ّلها‪ ،‬وأنتم ال تريدون ح ّتى اإلصغاء إيل‪ ،‬تظ ّنون أين أريد‬
‫التي فيها ّ‬
‫َ‬
‫ألصل وحدي وأفوز أيهّ ا احلمقى!‬ ‫أن أعطلكم‬

‫أكن أخادعكم يا‬ ‫معا إىل البويضة‪ ..‬أرأيتم؟ مل ْ‬ ‫وها نحن قد وصلنا ً‬
‫ِ‬
‫قرارات حيايت جرأة‪ ..‬ماذا لو أنيّ مل‬ ‫أغبياء‪ ..‬أتعلمون! لعليّ اآلن سأتخّ ذ أكثر‬
‫صبيا؟ ترى هل كان أيب سيأيت وينرصف يف نفس‬
‫كنت بن ًتا ال ًّ‬
‫أكن أنا؟ ماذا لو ُ‬
‫ليحبني أكثر ويمكث أطول؟‬
‫السيارة؟ أم ترى كان ّ‬
‫وتصدمه ّ‬
‫ُ‬ ‫الرسعة‬
‫ُ‬
‫سأترككم تفعلوهنا‪ ..‬فام الفائدة عىل أ ّية حال؟!‬ ‫أتعرفون‪،‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪98‬‬

‫(سباحة في الفراغ)‬
‫‪-‬استيقظ‬
‫ثم‬
‫تعجب‪( ..‬أين أنا؟) ّ‬
‫نظر حوله يف ّ‬ ‫يتصبب عر ًقا‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫قام عمرو من نومه‬
‫هِ‬
‫مكانا الطبيعي‪ ،‬ورأس زوجته‬ ‫حني وجد أشيا َءه التي اعتاد تواجدُ ها يف‬
‫توقظه كالعادة‪ ،‬عرف أنّه يف بيته يف شارع (طه احلكيم)‬‫(دعاء) فوق رأسه ُ‬
‫بمدينة (طنطا)‪.‬‬
‫أنم بام فيه الكفاية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نصف ساعة‪ ،‬مل ْ‬ ‫‪ -‬أيقظيني بعد‬
‫متأخرا؛ لذلك ال تكفيك هذه الساعات القليلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬إنّك تعود ّ‬
‫كل يوم‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ظروف العمل جتربين عىل ذلك‪ ،‬ال بدّ من املرور عىل الكثري من‬
‫أمر عليها ّ‬
‫كل يوم‪،‬‬ ‫الصيدليات لتوريد األدوية املطلوبة‪ ،‬وبعض الصيدليات ّ‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫اعتدت عىل هذا‪.‬‬ ‫املفرتض أن تكوين قد‬
‫أنت باخلارج أخرج مع‬‫‪ -‬إنّني قد اعتدت ال مشكلة عندي‪ ،‬بينام َ‬
‫صديقايت وأذهب إىل ال ّنادي وأزور أ ّمي‪ ،‬أنت الذي مل تعتدْ بعد ّ‬
‫كل هذه‬
‫متأخ ًرا‪.‬‬
‫السنني‪ ،‬والزلت تستيقظ ّ‬
‫نصف ساعة فقط‪ ،‬أحتاج أن أقوم ً‬
‫نشيطا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫طيب‪ ،‬دعيني أنام‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬هل ستعطيني نقو ًدا اليوم؟ ّأول الشهر!‬
‫نقود الشهر املايض؟ هذا كثري!‬
‫‪ -‬هل انتهت ُ‬
‫‪99‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬اشرتيت هبا َ‬


‫بعض املالبس والعطور‪.‬‬
‫أشمها ألين أعمل‬ ‫‪ -‬صحيح‪ ،‬املالبس التي لن ِ‬
‫أراك هبا‪ ،‬والعطور التي لن ّ‬
‫مثري للسخرية‪.‬‬
‫طوال اليوم حتى تستطيعني رشاءها‪ٌ ،‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬اذهب إ ًذا للعمل ألشرتي املزيد‪.‬‬
‫السبب يف أنّه مل يكن ّ‬
‫متأكدً ا أين هو‪ ،‬أنّه منذ بضعة أسابيع بعدما شعر‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫كمندوب مبيعات برشكة ابن النفيس‬ ‫باإلرهاق ال ّنفيس والبدين من عمله‬
‫جمرب ُ‬
‫يزيل ّ‬
‫كل اهلموم‬ ‫دواء ّ‬ ‫ِ‬
‫جلسة صفاء بتناول ٍ‬ ‫الطبية نصحه أحدُ زمالئه يف‬
‫مزاجية عالية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويدخلك يف حالة‬
‫‪-‬تقصد خمدرات؟‬

‫نفسا عمي ًقا من ْ‬


‫مبسم الشيشة‪ ،‬وأخرجه ببطء‪:‬‬ ‫سحب ً‬
‫َ‬
‫سحرا‪ ،‬إنّه يف احلقيقة ّبوابة لعامل موا ٍز لعاملنا‬
‫ً‬ ‫أسميه‬
‫أسميه هكذا‪ ،‬بل ّ‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫قط هّأنا موجودة‪ ،‬وتعيش حياة تفعل فيها‬ ‫هذا‪ ،‬سرتى أشياء مل تكن تعرف ّ‬
‫احللم مبارشة قبل أن يضيع‬
‫َ‬ ‫كل ما تريد‪ ،‬فقط ِ‬
‫خذ القرص قبل نومك لتدخل‬ ‫ّ‬
‫مفعوهلا‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫ومن أين حصلت عىل هذا الدواء؟‬
‫مسكنة قوية ملا تعانيه من آال ٍم يف‬‫أن أ ّمي تستعمل أدوي ًة ّ‬
‫‪ -‬أنت تعرف ّ‬
‫مضطر أن أشرتيه‬
‫ّ‬ ‫غال جدًّ ا‪ ،‬ولك ّني‬ ‫ظهرها من ِ‬
‫بعد العملية‪ ،‬وهذا الدواء ٍ‬
‫هلا باستمرار‪ ،‬وإلاّ مأل رصاخها البيت كله‪ّ ..‬‬
‫املهم أنّه بعد الفوىض التي‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪100‬‬

‫أمر بجوار الشقّ الذي نتج؛ فرأيت العديدَ من‬ ‫تلت موضوع النيزك‪ ،‬كنت ّ‬
‫صيدليات شارع البحر مدمرة متا ًما وقد تركها أصحابهُ ا بعدما تل َف ْت معظم‬
‫ٍ‬
‫سليمة لدواء أ ّمي‪ ،‬فجمعت‬ ‫األدوية‪ ،‬لك ّني دخلت وأخذت أبحث عن علب‬
‫فعدت هبا إىل أ ّمي‪ ،‬لك ّنها حني‬
‫ُ‬ ‫علب كاملة دون أن أدفع ً‬
‫قرشا واحدً ا‪،‬‬ ‫َ‬
‫عرش ٍ‬
‫وحتلم أحال ًما‬
‫ُ‬ ‫كأنا سليمة من مرضها‬
‫رأت أشياء يف منامها هّ‬
‫بدأت تأخذها ْ‬
‫مسكن‬‫قرصا؟ فهو ّ‬ ‫سعيدة غيرّ ت مزاجها متا ًما‪ ،‬فقلت لنفيس َمل ال ّ‬
‫أجرب ً‬
‫جترب بنفسك‬ ‫ُ‬
‫وصفه‪ ،‬ال بدّ أن ّ‬ ‫جربت رأيت ما ال يمكن‬ ‫عىل أ ّية حال‪ ،‬وحني ّ‬
‫كل شخص يرى أشياء خمتلفة‪.‬‬‫ألن ّ‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬ولكن كيف تغيرّ الدواء هكذا؟‬


‫‪ -‬أنت تعرف الشائعات‪ ،‬يقولون ّ‬
‫إن ذلك النيزك له طاقة غريبة‪ ،‬وإنّه‬
‫أعلم بالصواب‪ ،‬لقد سمعت ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫حيدث تأثريات عىل ّ‬
‫كل ما أصابه واهلل‬
‫كنوزا ترتّبت عىل هبوطه‪ ،‬وتركوا لنا الفتات مثل هذه‬‫ً‬ ‫املسئولني خيفون‬
‫األقراص وغريها‪ ،‬ولو استطاعوا ملا تركوا لنا شيئًا‪ْ ،‬‬
‫خذ هذه العلبة هدية‬
‫م ّني‪.‬‬
‫احلبة‬
‫أعطاه علبة كاملة‪ ،‬وبالفعل حينام عا َد إىل بيته يف تلك الليلة تناول ّ‬
‫ثم‬ ‫ساخرا من كالمه‪ ،‬وهو ّ‬
‫متأكد أنّه سينام نومته املعتادة اخلالية من األحالم‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫كل ليلة‪ ،‬كان أحيا ًنا ّ‬
‫يفكر هل‬ ‫السواد ذاته الذي يراه ّ‬ ‫نام نو ًما اً‬
‫ثقيل رأى فيه ّ‬
‫كل ليلة حلماً يف حدّ ذاته؟ وهل معنى هذا أنّه‬
‫يعدّ السواد الساكن الذي يراه ّ‬
‫شخص كئيب ألن أحال َمه سوداوية؟‬
‫‪101‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫السواد أعباء نفسه وجسده اليومية يسبح‬ ‫دهرا يلقي يف ّ‬


‫مكث هكذا ً‬‫َ‬
‫ً‬
‫نشيطا‪ ،‬وقف أمام املرآة فإذا به يرتدي‬ ‫ثم تثاءب وقام من ِ‬
‫نومه‬ ‫يف الفراغ‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫اختفت ال ّندبة الكبرية التي كانت عىل وجهه‪ ،‬نظر وراءه‬ ‫مالبس فاخرة‪ ،‬وقد‬
‫َ‬
‫فيل كبرية‪ ،‬سار ِ‬
‫ذهال يف أنحاء املكان واخلدم‬ ‫فاكتشف أنه ليس يف بيته بل يف اّ‬
‫أن اسمه (أمحد الوزير) وأنّه ثري بالوالدة؛ فأبوه ملياردير‬ ‫حييونه‪ ،‬عرف ّ‬ ‫ّ‬
‫نادرا‪ ،‬أ ّما هو فال يعمل وال حيتاج أن يعمل‪ ،‬ر ّبام فقط‬
‫ً‬ ‫ريا فال يراه إلاّ‬
‫يسافر كث ً‬
‫يو ّقع بعض األوراق نياب ًة عن أبيه بني الفينة والفينة‪ ،‬تلك هي احلر ّية املالية‬
‫وأنت يف بيتك أو عىل فراشك‪،‬‬
‫َ‬ ‫التي نسمع عنها‪ ،‬فاملال يعمل من أجلك‬
‫ألحصل‬
‫ّ‬ ‫أ ّما يف حيايت الواقعية فأنا الذي أكدّ طوال النهار وأنام اً‬
‫ليل كاحلامر‬
‫املال أسدّ د به الفواتري وأشرتي به األشياء التي أكرهها لكي أبدو أمام الناس‬
‫اجتامعيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫مقبولاً‬

‫الضخم يأتيه أصدقاؤه‬ ‫كل يوم جيلس (أمحد الوزير) يف اّ‬


‫الفيل أمام مسبحه ّ‬ ‫ّ‬
‫بأن ّ‬
‫كل ما يريد يف حياته‬ ‫شعر ّ‬
‫شعورا غري ًبا َ‬
‫ً‬ ‫معا ويلهوا ويرشبوا‪ ،‬كان‬
‫ليسهروا ً‬
‫جمرد‬
‫حقيقيا جدًّ ا‪ ،‬أعني أهنا مل تكن ّ‬‫ًّ‬ ‫قد حت ّقق فجأة‪ ،‬لكن الغريب اً‬
‫فعل أنّه بدا‬
‫هالوس لشخص يتعاطى املخدّ رات‪ ،‬بل كان شيئًا خمتل ًفا متا ًما‪.‬‬
‫ثم بعد عام ّ‬
‫شاق تأتيه فرصة‬ ‫ريا ّ‬
‫شعور املمثّل الذي يكون فق ً‬
‫ُ‬ ‫أهكذا يكون‬
‫ريا فجأة؟ ال بدّ‬
‫باهرا فيصري مليون ً‬
‫نجاحا ً‬ ‫ً‬ ‫العمر يف هيئة فيلم سينامئي ينجح‬
‫أن الصدمة تكون عنيفة‪ ،‬وكذلك العب الكرة الذي يلعب يف فريق مغمور‬ ‫ّ‬
‫مدرب ٍ‬
‫ناد كبري فيو ّقع معه عقدً ا بعرشة ماليني‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬
‫يكتشفه ّ‬ ‫ثم‬
‫وتربز مهاراته ّ‬
‫بدّ أنه يشعر به اآلن (أمحد الوزير) أو (عمرو) هل يستطيع أحد هؤالء أن‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪102‬‬

‫مرة أخرى؟ أعني ماذا لو بعدَ عرشة أعوام من ال ّنجاح الساحق‬


‫يعود للفقر ّ‬
‫فانرصفت عنه األموال واجلامهري؟ من‬
‫ْ‬ ‫ذريعا‬
‫فشل ً‬ ‫واملاليني ا ُمل َم ْلينة فشل اً‬
‫يتعرض لصدمة نفسية أعنف بكثري من األوىل!‬‫املؤكد أنه ّ‬ ‫ّ‬
‫يف هناية اليوم‪ ،‬ذهب (أمحد) للنوم‪ ،‬واستغرق يف تلك اللوحة السوداء‬
‫يسبح يف الفراغ والسكون‪ ،‬يسرتيح من ا ُملتَع هذه ّ‬
‫املرة ال من الكدّ والتعب‪،‬‬
‫لكنه حني استيقظ رجع سري َته األوىل‪.‬‬
‫توجه إىل املرآة‪ ،‬عادت‬
‫مرة شعر بذهول‪ّ ،‬‬ ‫حينام استيقظ من نومه ّأول ّ‬
‫هِ‬
‫مكانا ساملة‪ ،‬لقد صارت له حياتان كاملتان منفصلتان؛ إحدامها‬ ‫ندبته إىل‬
‫يزرها ّ‬
‫قط‪.‬‬ ‫يف طنطا واألخرى يف القاهرة التي مل ْ‬
‫ريا يعيش يف هيئة (أمحد الوزير) حتى يعتاد الغنى‬
‫كان الصرّ اع النفيس كب ً‬
‫ثم يرجع إىل (عمرو عايد) حتى ّ‬
‫يمل الفقر ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تطورت األمور وتع ّلق جدًّ ا باحلياة األخرى واقرتبت‬ ‫وذات يوم بعد ما ّ‬
‫مرة‬
‫أقراص الدّ واء من النفاد‪ ،‬سأل عن زميله الذي أعطاه األقراص ّأول ّ‬
‫ثم ظهر منتش ًيا تلمع عيناه بجنون‪ ،‬وقال هلم‬ ‫فلم جيده قيل إنّه اختفى مدّ ة ّ‬
‫إنّه ذاهب للبحث عن ذاته ور ّبام ال يعود أبدً ا ومل يفسرّ ما قال‪ ،‬ومل يعرف عنه‬
‫أحدٌ شيئًا بعدها!‬
‫مرا) خاطرة جمنونة!‬
‫(ع ً‬
‫جاءت َ‬
‫حينام نام تلك الليلة‪ ،‬ودخل حياة (أمحد الوزير)‪ ،‬اتّصل بأصدقائه وألغى‬
‫لكل الترّ تيبات‪ ،‬وضع ّ‬
‫كل أمواله يف دوالب‬ ‫خطة ّ‬‫ثم وضع ّ‬ ‫اليومي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫لقاءهم‬
‫عينه أبوه‬
‫مجيعا إجازة ما عدا (فريد) احلارس الذي ّ‬
‫رسي‪ ،‬وأعطى اخلدم ً‬
‫‪103‬‬ ‫أسرار حي أول‬

‫يستطع أن يتخ ّلص منه‪ ،‬لك ّنه استطاع‬


‫ْ‬ ‫أي إجازات ومل‬‫ليحرسه‪ ،‬فهو يرفض ّ‬
‫قرصا منو ًما يف ِ‬
‫كأسه ليرتك الوقت الكايف‪ ،‬ألقى نظر ًة عىل املداخل‬ ‫أن يضع ً‬
‫أن (أمحد) مل خيرج من الفيال ّ‬
‫قط‪،‬‬ ‫واملخارج جيدً ا‪ ،‬بقيت مشكلة واحدة ‪ّ -‬‬
‫حيتج اخلروج‪ ،‬ومل يمتلك اجلرأة أن‬ ‫ّ‬
‫كل ما يريده كان يأيت حتت قدميه فلم ْ‬
‫يسأل عىل عنواهنا‪ ،‬هو ّيته مكتوب فيها عنوان قديم يف املعادي‪ّ ،‬‬
‫وكل ما يعرفه‬
‫هّأنم يف مدينة الشيخ زايد‪ ،‬فلتكن هذه إ ًذا ّ‬
‫مهمتك يا (عمرو)‪.‬‬
‫قرر أن يسافر لريى ْ‬
‫إن كانت‬ ‫وهكذا حني نام وعاد إىل صورة (عمرو) ّ‬
‫ّ‬
‫استقل القطار إىل القاهرة‪،‬‬ ‫حقيقيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫حقيقية وذاك الـ(أمحد الوزير)‬
‫ّ‬ ‫تلك الفيال‬
‫املجمعات السكنية‬
‫ّ‬ ‫ثم سيارة أجرة إىل مدينة الشيخ زايد‪ ،‬وأخذ يسأل عن‬
‫ّ‬
‫املجمع‬
‫ّ‬ ‫اخلاصة املوجودة ويتف ّقدها واحد ًة تلو األخرى‪ ،‬ينظر إىل ّ‬
‫خمطط‬
‫نمط الفيال‪ ،‬ويسأل عن شخص اسمه (أمحد‬ ‫إن كان عىل نفس ِ‬ ‫السكني لريى ْ‬
‫مشهورا؛ فام هو ِمن رجال األعامل الذين‬
‫ً‬ ‫يكن‬
‫الوزير)‪ ،‬مل يعرفه أحد‪ ،‬فإنه مل ْ‬
‫يظهرون يف اإلعالم وال أبوه كان‪.‬‬
‫جممع سكني عرف ّ‬
‫أن‬ ‫يائسا بعد تف ّقد ّ‬
‫خمطط آخر ّ‬ ‫وحينام كاد ينرصف ً‬
‫هناك فيال قد ُبنيت عىل خالف الشّ كل اإلنشائي العام للمجمع؛ لذلك مل‬
‫تم رشاؤها يف بداية املدينة‬ ‫يكن يتو ّقع أهنا موجودة‪ ،‬وقد ُبنيت كذلك هّ‬
‫ألنا قد ّ‬
‫يتم إضافة بند االلتزام بشكلٍ واحد للمباين يف العقد‪ ،‬لذلك كانت‬
‫قبل أن ّ‬
‫إن تلك الفيال يسكنها‬ ‫مميزة‪ ،‬قال له احلارس بعدما جتاذبا أطراف احلديث ّ‬
‫ّ‬
‫أن يراها فلماّ رآها من بعيد‬ ‫َ‬
‫طوال الوقت‪ ،‬طلب منه ْ‬ ‫شاب ثري يسافر أبوه‬
‫ّ‬
‫رقص قل ُبه من اإلثارة‪ ،‬هّإنا هي‪.‬‬
‫أسرار حي أول‬ ‫‪104‬‬

‫كان يعرف الفيال من الداخل جيدً ا؛ لذلك انتظر حتى الليل ّ‬


‫وقرر أن‬
‫سيجن لكي يرى ما املوجود بالداخل؛ هل‬
‫ّ‬ ‫يدخل الفيال واحلارس نائم‪،‬‬
‫هناك شخص اً‬
‫فعل اسمه أمحد الوزير؟ وكيف حييا حياته وهو نائم؟ ماذا‬
‫تفعل تلك األقراص التي كان يتناوهلا؟‬
‫مر‬ ‫ٍ‬
‫وبعيد عن كامريات املراقبة‪ّ ،‬‬ ‫تس ّلل إىل الفيال عبرْ مدخلٍ خفي‬
‫خبأ فيه األموال واملجوهرات فأخذ يمأل حقيبتَه منها‪ ،‬كان‬
‫بالدوالب الذي ّ‬
‫خائ ًفا من (فريد) احلارس الضخم لو استيقظ‪ ،‬وحني ّ‬
‫هم باهلروب كان قري ًبا‬
‫ثم دخل‬
‫قليل ّ‬ ‫بالفعل من غرفته التي كان ينام فيها كـ(أمحد الوزير)‪ّ ،‬‬
‫فكر اً‬
‫وأنفاسه تتسارع كام تتسارع‬
‫ُ‬ ‫نفسه ينام يف الفراش مب ّل اًل بالعرق‪،‬‬
‫ببطء فرأى َ‬
‫ووجهه ال َّنضرِ اخلايل من العيوب‪،‬‬
‫َ‬ ‫تعجب‪،‬‬
‫يف الواقع بالضبط‪ ،‬تأ ّمل نفسه يف ّ‬
‫أخذ ّ‬
‫يفكر‪:‬‬
‫(هل آخذ املال وأهرب‪ ،‬أم‪..‬؟)‬
‫سيجن عقله فيام بعد‪ ،‬لذلك اتخّ ذ قراره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفضول يقتله‪ ،‬لو انرصف اآلن‬
‫وجه النائم حتى كاد‬
‫كيس النقود عىل األرض‪ ،‬واقرتب بوجهه من ْ‬
‫فرمى َ‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫الوجهان يتالصقان‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬استيقظ‪.‬‬

You might also like