You are on page 1of 2

‫السياسات العمومية بالمغرب بين رهانات التنمية ومؤشرات الفشل‬

‫المساءنشر في المساء يوم ‪2008 - 05 - 20‬‬

‫‪ -‬السياسات العمومية وتدخل الدولة‪:‬‬


‫إن التحوالت التي عرفها مفهوم الدولة‪ ،‬خالل مراحل تطورها‪ ،‬ساهمت بشكل كبير في إعادة صياغة دورها الذي لم يعد ينحصر في‬
‫إشباع الحاجات األساسية للمجموعات االجتماعية‪ ،‬بقدر ما أصبح نشاطها الرئيسي يتجه نحو تحقيق تنمية شاملة ومستديمة لهذه‬
‫المجموعات‪ ،‬وفي هذا السياق احتلت السياسات العامة – كأداة لتدخل الدولة في مختلف القطاعات – مكانة متقدمة في إستراتيجيتها‬
‫التنموية‪.‬‬
‫وتطرح مسألة تدخل الدولة‪ ،‬بواسطة السياسات العمومية لتنظيم وتدبير قضية معينة أو قطاع محدد‪ ،‬إشكالية أساسية تتعلق بانتقال‬
‫قضية مجتمعية إلى المستوى السياسي‪ ،‬وكذلك بالشروط التي تصبح فيها الرهانات الجماعية موضوعا لسياسة عامة تتطلب تعبئة‬
‫موارد بشرية وتقنية ومالية‪ ،‬أي كيف يمكن لسلطة سياسية ما أن تنظر لقضية معينة بأنها تستدعي تدخال عاما في ظل تنامي‬
‫صراعات المصالح والصعوبات االجتماعية والتطلعات من كل األنواع؟‬
‫لقد أثبتت التجارب السياسية حتى اآلن أن إدراج قضية مجتمعية في األجندة السياسية للسلطات العمومية كانت وطنية أو محلية‪،‬‬
‫يكون إما نتيجة مبادرة الفاعلين السياسيين‪ ،‬عندما يتعلق األمر بقضايا قد يؤدي رفض تحمل أعبائها في لحظة معينة إل اإلضرار‬
‫بشرعيتهم السياسية‪ ،‬فال يمكن لحكومة مثال أن تتجاهل بشكل مستمر حركة إضراب على الصعيد الوطني‪ ،‬وإما نتيجة وجود مطالب‬
‫جماعية انتقلت إلى مستوى المطلب السياسي المنظم‪ ،‬بفعل وجود دعم منظم ومتنام من طرف الفاعلين االجتماعيين‪ ،‬كالجمعيات‬
‫والنقابات أو غيرها من الحركات االجتماعية المنظمة‪ ،‬حين ذاك يمكن للسلطة أن تأخذ هذه المطالب في الحسبان ما لم يكن هناك‬
‫إجماع سلبي لدى األجهزة التقريرية بهدف منع وصول قضية خطيرة أو حساسة إلى األجندة السياسية‪.‬‬
‫غير أن المرحلة األهم في السياسات العمومية تبقى هي مرحلة التدخل‪ ،‬ويتعلق األمر بسيرورة اإلعداد والتنفيذ والتقويم‪ ،‬حيث يتأثر‬
‫االستخدام الملموس للسياسات العامة بعدد من المعطيات‪ ،‬كالتحديد الدقيق للقضايا التي يراد التدخل فيها أو تدبيرها‪ ،‬والموارد‬
‫المتوفرة بشكل طاقة بشرية ومادية وسيناريوهات الحلول التي يمكن تصورها‪ ،‬وفرص النجاح التي توفرها الظروف أثناء لحظة‬
‫التدخل‪ ،‬وكذلك بمدى القبول أو الدعم االجتماعي لها‪.‬‬
‫‪ -‬أسباب فشل ‪:‬‬
‫يمكن اعتبار تراجع تصنيف المغرب على مستوى المؤشر المركب للتنمية البشرية مؤشرا قويا على فشل استراتيجية التنمية المتبعة‬
‫في بالدنا‪ ،‬فبالرغم من أن صياغة السياسات العمومية تسبقها دراسات ومشاورات وترصد لتطبيقها كل اإلمكانيات البشرية والتقنية‬
‫والمالية فإنها ال تحقق األهداف المرجوة منها بل وفي كثير من األحيان تكون النتائج مخيبة لآلمال‪ ،‬وال تستجيب للحد األدنى من‬
‫انتظارات المواطنين المستهدفين منها‪.‬‬
‫وهذا ما يمكن معاينته بالنسبة إلى السياسات العمومية التي انتهجتها الدولة في مجموعة من القطاعات االجتماعية الحيوية‪،‬‬
‫كالصحة والتعليم والسكن والتنمية القروية ومحاربة األمية والفقر وغيرها من القطاعات التي تندرج ضمن المشروع الكبير للتنمية‬
‫البشرية‪.‬‬
‫إن تقييما موضوعيا للسياسات العمومية بالمغرب يسمح لنا بتشخيص أفضل ألسباب عدم فعاليتها والمتمثلة على وجه التحديد في‬
‫غياب استراتيجية واضحة للسياسات العامة والمركزية المفرطة وغياب التقويم والمتابعة باإلضافة إلى ضعف البعد التشاركي‪.‬‬
‫‪ -‬غياب استراتيجية واضحة ‪:‬‬
‫إن عدم استقرار الخيارات الحكومية نتيجة كثرة التعديالت الوزارية وتغيير الحكومات‪ ،‬يعطي االنطباع بوجود نظام تقريري يجسد رد‬
‫الفعل أكثر من الفعل‪ ،‬ويبدو بالفعل أن السياسات العمومية المعتمدة ال تعمر طويال (تقرير الخمسينية)‪ ،‬الشيء الذي يجعل‬
‫اإلصالحات المنجزة تبدو كما لو كانت ذات طبيعة ظرفية وليست هيكلية هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن ارتفاع عدد الوزراء‬
‫داخل نفس التركيبة الحكومية‪ ،‬يجعل وضع وتنفيذ السياسات العمومية أكثر تعقيدا‪ ،‬ذلك أنه بالرغم من كون السياسة العامة تتميز‬
‫بأنها سياسة قطاعية‪ ،‬فإن موضوعها هو إدارة «عدم تطابق» هذا القطاع مع محيطه أي مع باقي القطاعات األخرى‪ ،‬األمر الذي‬
‫يتطلب من السياسات الحكومية وضع استراتيجية واضحة وشاملة ال تنظر لسياسة قطاعية معينة إال في عالقتها مع ما يجري في‬
‫باقي القطاعات‪.‬‬
‫‪ -‬المركزية المفرطة‬
‫إذا كان تدبير المجال الترابي في الماضي قد جاء كاستجابة إلرادة التأطير السياسي‪/‬األمني‪ ،‬أكثر مما شكل انشغاال بمالءمة التدبير‬
‫العمومي مع ضرورات التنمية المحلية‪ ،‬فإنه لم يعد من المقبول اليوم أن تقوم الدولة المركزية بإدارة كل شيء بنفسها‪ ،‬بما في ذلك‬
‫تدبير السياسات العمومية‪ ،‬بل لقد بات خيار الالمركزية وتحرير قدرة المبادرة اإلدارية لدى المنتخبين المحليين مدخال ال غنى عنه‬
‫لتحقيق أهداف التنمية‪ ،‬وذلك من خالل إعادة تحديد دور السلطات المركزية في اتجاه انتقال مزيد من الصالحيات واالختصاصات‬
‫لفائدة الجماعات المحلية والهيئات الالمركزية‪ ،‬لكن السؤال الذي يطرح هنا يتعلق بما إذا كانت الدولة المتمركزة والمتشبعة بالتدبير‬
‫البيروقراطي مهيأة لتبني تصور ترابي مندمج للسياسات العمومية‪.‬‬
‫وفي نفس السياق لم يكن البعد التشاركي حاضرا في سيرورة إعداد وتنفيذ السياسات العمومية ببالدنا‪ ،‬ذلك أن عدم إشراك السكان‬
‫واستشارتهم في المشاريع التنموية التي تعنيهم بالدرجة األولى جعل كثيرا من هذه المشاريع إنجازات غير مكتملة‪ ،‬أو اتضح فيما‬
‫بعد أنها ال تناسب الحاجيات الحقيقية للمعنيين بها‪ ،‬إن التدبير الجيد للسياسات العمومية ينبغي أن يرتكز أساسا على الدعم الذي‬
‫يمكن أن تحظى به من طرف الفئات االجتماعية المعنية بها ومدى قابليتها للمساهمة في تنفيذها‪.‬‬
‫‪ -‬غياب المتابعة والتقويم‪:‬‬
‫الزال موضوع تقويم السياسات العمومية لم يجد موضعا ثابتا ومعترفا به في المشهد اإلداري والعلمي الوطني‪ ،‬ذلك أن اعتماد‬
‫المؤشرات الكمية واإلحصائية ومقارنة النتائج المحصل عليها باألهداف المعلنة ال يأخذ في الحسبان تقويم الفوائد االجتماعية‬
‫واآلثار الحقيقية لسياسة عمومية معينة‪ ،‬ومدى مالءمتها الحتياجات المواطنين وانتظارا تهم‪ ،‬بل إن واقع تدبير السياسات العمومية‬
‫في المغرب يكشف لنا أن عددا من المشاريع والبرامج كانت غير منتجة (في التعليم خصوصا) وكان باإلمكان إعادة صياغتها‬
‫وتوجيهها في الوقت المناسب لو كانت تتوفر على هياكل وبنيات للتقويم‪ ،‬ونفس الشيء ينطبق على مشاريع اإلصالح اإلداري التي‬
‫باتت في حاجة ماسة لتقويم حقيقي ينطلق من مدى فعاليتها ومالءمتها‪ ،‬وليس من استطالعات الرأي التي تجريها الوزارة المعنية‪.‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬إنه ال حاجة للتذكير بأن تقويم السياسات العمومية ببالدنا أصبح اليوم مطلبا مجتمعيا ملحا‪ ،‬ومدخال حقيقيا إلرساء قواعد‬
‫حكامة جيدة محليا ووطنيا‪ ،‬ذلك أن السلطات العمومية بحاجة للتوفر على مؤشرات حقيقية تسمح بعقلنة عملها وتدبير وسائلها‬
‫بشكل أمثل‪ ،‬وتمكن من تقييم اآلثار الحقيقية لبرامجها وسياساتها التنموية‪.‬‬

You might also like