You are on page 1of 64

‫رسالة ف‬

‫أثر تعدد الدول اإلسالمية‬


‫ف أحكــــام الدفـــــــع‬
‫واملــــــواالة والنصـــرة‬

‫صنعــــــة الفقيــر إىل عفو الغني‬

‫كريــــم بن أحمــــــــد الحنبـــــيل‬


‫الحمد لله المُت ِم ّ نوره ولو كر ِه الكافرون‪ ،‬الناصر عباده ولو كم ِد‬
‫جن ْده ولو كث ُر المرجفون‪ ،‬الهازم الأحزاب ولو‬
‫المنافقون‪ ،‬المثب ِّت ُ‬
‫أسرف المعوِّقون‪ ،‬المزه ِق الباطل ولو ارتاب المبطلون‪ ،‬أحْمد ُه في‬
‫السراء والضراء وعند مثار الظنون‪ ،‬وأشهد أن لا إله إلا هو م ُستغاث‬
‫الواجل المحزون‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسوله ونبي ّه المأمون‪ ،‬اللهم صل‬
‫ح راضه المجاهدون!‬
‫عليه وآله وصحبه ما زمْجر سلا ٌ‬

‫أما بعد‪ ،‬فقد سألني غير واحد من الأكارم عن كلام فقهاء الملّة‬
‫الإسلامية ‪ -‬أعلى الله منارهم ‪ -‬في أثر تعدد الدول والممالك‬
‫والسلاطين والح ُ َّكّام في بعض أحكام الجهاد المخاطب بها عامة أهل‬
‫الإسلام وما يتعلق بذلك من أبواب الموالاة والن ُصرة‪ ،‬فالمقصود في‬
‫هذا المقام تحرير مقالات الفقهاء وتبيين أحكام الشر يعة‪ ،‬صيانة لها‬
‫عن التبديل والتزييف‪ ،‬أما الفتوى في جزئيات الوقائع فهذا يفتقر‬
‫إلى اجتهاد خاص وميزان دقيق‪ ،‬والكلام في دين الله شديد جدا‪،‬‬
‫واستعمال سلطان الشرع بغير علم للتحر يض أو التخذيل ‪-‬ولو بحق‪-‬‬
‫من أعظم الكبائر وأوسع أبواب الفتنة والضلال‪ ،‬والله المستعان!‬

‫‪2‬‬
‫اعلم أولا أن تمز ّق أوصال الأمة‪ ،‬وتعدد الدول والممالك أو الحُكّام‬
‫والأمراء‪ ،‬ليس من حادث النوازل‪ ،‬بل ر ُوي وقوعه منذ عهد‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬فقد استأثر معاو ية بالشام دون علي رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬حتى روى الطبري في تار يخه أنه قد وقعت بينهما مهادنة‬
‫على أن يكون لعل ٍّيّ العراق‪ ،‬ولمعاو ية الشام‪ ،‬فلا يدخل أحدهما على‬
‫صاحبه في عمله‪ ،‬ثم تجدد الأمر ‪ -‬كما هو معلوم ‪ -‬بين ابن الزبير من‬
‫جهة‪ ،‬ويزيد ثم مروان ثم ابنه عبد الملك من جهة ٍّ أخرى‪ ،‬ثم‬
‫استفحل الأمر في عهد العب ّاسيين باستقلال الأندلس‪ ،‬وظهور دول‬
‫الأغالبة والأدارسة والع ُبي ْديين والموحدين والمرابطين وغيرها من‬
‫ظ ِي ملوك طوائف الأندلس‪ ،‬فضلا‬
‫دول المغرب الإسلامي‪ ،‬وتش ّ‬
‫عن دول الأمراء المستقلّين حقيقة المنتسبين إلى دولة الخلافة‬
‫صورة‪.‬‬

‫والمقصود أن فقهاء المسلمين لم يخل خاطرهم من هذه الحال عند‬


‫تحرير أحكام الشر يعة وتسطيرها‪ ،‬كعامة ما سيأتي من كلامهم في‬
‫أحكام الدفع والن ُصرة‪ ،‬فاجعل هذا منك ببال عند قراءته‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أيضا ذهاب عامتهم إلى عدم جواز تعدد الأئمة والممالك‬
‫الإسلامية المستقلة ما أمكن‪ ،‬ونقل الإجماع على ذلك غير ُ واحد‪،‬‬
‫ل بالجواز عند تباعد‬
‫كالجويني في الغياثي‪ ،‬وذُك ِر للمال كية والشافعية قو ٌ‬
‫‪3‬‬
‫الأقطار جدا بما يتعذر معه الرجوع إلى إمام واحد‪ ،‬فهو اضطرار ٌ‬
‫على خلاف الأصل‪ ،‬ومقتضى كلامهم جميعا أن الحاصل في بلاد‬
‫المسلمين من التق ُّ ّ‬
‫طع إنما هو من جملة الحوادث ال كونية لا المقاصد‬
‫الشرعية‪ ،‬وأن الدول والممالك والإمارات المستقلة المتعددة في حكم‬
‫ل منها‬ ‫ُّ‬
‫التغل ّبات أو الضرورات‪ ،‬ل كن جعلوا للحاكم المستتب في ك ٍّ‬
‫ح ُكم الإمام‪ ،‬حفظا للنظام وحسما لأسباب الهرج والفساد‪ ،‬ثم إن‬
‫الضرورة ت ُق َّ ّدر بقدرها‪ ،‬فإن بلوى تقطّع الإمامة ونظام الحكم لا‬
‫تسري إلى نسب الإيمان وما يقتضيه من الولاية وال ُّأ ُ‬
‫خو ّة‪ ،‬فإن مثل‬
‫سل ْك الإسلام‪ ،‬ومع ذلك‬
‫هذا كمثل قبائل العرب المنتظمة في ِ‬
‫فبعضهم أولياء بعض‪ ،‬أشداء على ال كفّار رحماء بينهم‪ ،‬أذِل َّ ّة على‬
‫المؤمنين أعِ َّ ّزة على الكافرين‪ ،‬يؤوون بعضهم بعضا وينصرون‪ ،‬تتكافأ‬
‫دماؤهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬ويرد على أقصاهم‪ ،‬وهم يد ٌ على‬
‫من سواهم‪ ،‬ليسوا من الذين فر ّقوا دينهم وكانوا شيعا‪ ،‬ولا من الذين‬
‫تقطّعوا أمرهم بينهم ز ُب ُرا‪ ،‬فحوادث البلايات ال كونية لا تقضي على‬
‫أصول المقاصد الشرعية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫فصل‬

‫فرض على ال كفاية‪ ،‬إذ النظر‬


‫ٌ‬ ‫ثم اعلم أن الأصل في كل جهاد أنه‬
‫فيه أصالة إلى الفعل لا الفاعل‪ ،‬وإلى تحقق المصلحة العامة لا ت ُّحصّ ل‬
‫التعب ّد‪ ،‬ثم إنه كغيره من فروض ال كفايات عند ت ُّمح ّض‬
‫ُّ‬ ‫خصوصية‬
‫النظر إلى الأفراد‪ ،‬قد يصبح مستحبا حال حصول ال كفاية‪ ،‬وقد‬
‫يتعيّن عند قيام أسباب الاختصاص‪ ،‬ومن ذلك طلبُ العدو لبعض‬
‫بلاد المسلمين ونزول ُه بساحتهم‪ ،‬فيتعيّن على أهل هذا البلد خصوصا‬
‫دفع العدو ومجالدته‪ ،‬وليس هذا على إطلاقه‪ ،‬لأن ال كفائيات‬
‫طرف من النظر فيها متعلقا بالمصالح‪ ،‬فقد تقتضي‬
‫ٌ‬ ‫المتعي ِّنة يبقى‬
‫المصلحة انشغال بعض أهل البلد بما سوى المجالدة‪ ،‬أو عدم اندفاع‬
‫الجميع للواجهة‪ ،‬أو تقتضي تراخي غير المحاربين المتمرسين إن كان‬
‫انغماسهم يشو ّش على أهل القتال‪ ،‬ويتأكّد هذا في مثل زماننا‬
‫وأسلحته ومعاركه‪ ،‬ولذلك قال َّ‬
‫الموف ّق في الكافي‪" :‬إذا نزل ال كفار ُ‬
‫ببلد ِ المسلمين تعيَّ ّن على أهله قتالهم‪ ،‬والنفير إليهم‪ ،‬ولم يج ُز لأحدٍّ‬
‫يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل‪ ،‬والمكان‪ ،‬والمال‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫التخل ّف‪ ،‬إلا من ُ‬
‫ومن يمنعه الأمير ُ الخروج"‪ ،‬ولذلك ر ُوي عن الإمام أحمد لزوم‬
‫استئذان الحاكم قبل الخروج عند نزول العدو أو إتيان النفير‪ ،‬قال‬
‫‪5‬‬
‫الإمام ال ْقو ْم يأْ ت ِيهم‬
‫عبد الله في مسائله‪" :‬سم ِعت أبي يق ُول‪ِ :‬إذا أذن ِ‬
‫النفير فلا بأْ س أَ ن يخرجُوا‪.‬‬
‫الإمام؟ قال‪ :‬لا‪ِ ،‬إ َّلّا أَ ن يأْ ذن‬
‫قلت لأبي‪ :‬ف ِإن خرجُوا ب ِغي ْر إذن ِ‬
‫الإمام‪ِ ،‬إ َّلّا أَ ن يكون يفاجئهم أَ مر من ال ْعدو ولا يُمكنه ُم أَ ن يستأذنوا‬
‫ِ‬
‫الإمام فأرجو أَ ن يكون ذل ِك دفعا من ال ْم ُسلمين"‪ ،‬والإمام أحمد‬
‫ِ‬
‫خطّة وتدبيرا وتأ ُّه ّبا‬
‫ناظر ٌ في هذا إلى أن مصلحة الدفع قد تقتضي ُ‬
‫وصيانة عن النزاع والشتات والجدال‪ ،‬قال ابن هانئ في مسائله‪:‬‬
‫"وسئل عن القوم يأتيهم العدو‪ ،‬فيريدون أن يخرجوا‪ ،‬فيقاتلونهم؟‬
‫الل ّه‬
‫قال‪ :‬إذا لم يكن عليهم أمير‪ ،‬أو يأمر السلطان فلا يعجبني‪ ،‬قال َّ‬
‫عز وجل {ولا تنازع ُوا فتفْشلُوا} [الأنفال‪ ،]46 :‬إذا لم يكن عليهم‬
‫أمير تجادلوا"‪ ،‬وقال في رواية أبي داود‪" :‬ينبغي أن ينتهوا إلى أمره‪،‬‬
‫إذا جاء الخلاف جاء الخذلان"‪ ،‬وبنحو ذلك علل أصحابنا عدم جواز‬
‫الانفراد بالتصرف في الغزو بغير إذن الإمام‪ ،‬قال الموفق في المغني‪:‬‬
‫ل العدُوِّ‪ ،‬ومكام ِنهم‪،‬‬
‫ل الناسِ‪ ،‬وحا ِ‬
‫ف بحا ِ‬ ‫"ولأ َّ ّ‬
‫ن الأمير أعْر ُ‬
‫ج بغيرِ إذْن ِه‪ ،‬لم يأْ منْ‬
‫ومواضِعهم‪ ،‬وقُر ْبِهم وبُعْدِهمْ‪ .‬فإذا خرج خارِ ٌ‬
‫أ ْن يُصادِف كم ِينا للعدُوِّ‪ ،‬فيأْ خُذ ُوه‪ ،‬أو طليعة لهم‪ ،‬أو يرْحل الأمير ُ‬
‫بالمسلمين و يتر ُكه فيه ْلِك"‪ ،‬وبذلك يُعلم أن انتظار إذن الأمير إذا‬
‫كان مفوِّتا للمصلحة سقط‪ ،‬قالا في المنتهى وشرحه‪(" :‬و يحرم غزو‬

‫‪6‬‬
‫بلا إذن الأمير) لرجوع أمر الحرب إليه لعلمه بكثرة العدو وقلته‬
‫ومكامنه وكيده"‪ ،‬قالا في الإقناع وشرحه‪(" :‬إ َّلّا أَ ْن يفْجأَ هُمْ) أَ ْ‬
‫ي‪:‬‬
‫ي‪:‬‬‫الل ّا ِم‪ ،‬أَ ْ‬ ‫يطْلُع عليْه ِ ْم بغْتة (عد ُ ّو ٌ يخاف ُون كلبه ُ) ب ِفت ِْح ال ْك ِ‬
‫اف و َّ‬
‫ش َّرّه ُ‪ ،‬وأَ ذاه ُ (ب َِّالت ّو ُّق ّ ِ‬
‫ف على ال ِْإ ْذنِ) ؛ ل ِأَ َّ ّ‬
‫ن الْحاجة ت ْدع ُو إليْه ِ لم ِا فِي‬
‫ج‬ ‫الت ّخ ُّل ّ ُ‬
‫ف ل َأحدٍّ إ َّلّا منْ يح ْتا ُ‬ ‫الت ّأْ خِيرِ م ِنْ ال َّض ّررِ‪ ،‬وحِينئِذٍّ لا يج ُوز ُ َّ‬
‫َّ‬
‫ل‪ ،‬وال ْمالِ‪ ،‬ومنْ لا ق َُّو ّة له ُ على‬ ‫إلى تخ ُّل ّفِه ِ‪ ،‬لِ حِفْظِ ال ْمكا ِ‬
‫ن والْأَ ه ْ ِ‬
‫ُوج‪ ،‬ومنْ يم ْنع ُه ُ ال ِْإمام ُ (أَ وْ) يجِد ُون (فُر ْصة يخاف ُون فو ْتها) إ ْن‬ ‫الْخُر ِ‬
‫ن له ُ ْم الْخُر ُوج ب ِغيْرِ إذْنِه ِ‪ ،‬لِئ َّل ّا‬
‫تركُوها ح َّت ّى يسْتأْ ذِنُوا الْأَ م ِير ف ِإ َّ ّ‬
‫تف ُوته ُ ْم"‪ ،‬ولذلك لمّا أوجب أصحابنا استئذان الأمير في المبارزة قبل‬
‫المعركة دون الانغماس في العدو عللوا ذلك بنحو ما قاله الموفق في‬
‫ن العدوّ‪ ،‬ومتى برز‬
‫الإمام أعلم ُ بفُر ْسان ِه وفُر ْسا ِ‬
‫ن ِ‬‫المغني‪ ،‬قال‪" :‬ولنا‪ ،‬أ َّ ّ‬
‫كسِر ُ قلوب‬
‫الإنسانُ إلى من لا يُطيق ُه‪ ،‬كان م ُعرِّضا نفْسه للهلاكِ‪ ،‬في ْ‬
‫ِ‬
‫المسلمين‪ ،‬فين ْبغ ِى أ ْن يُف َّو ّض ذلك إلى ِ‬
‫الإما ِم‪ ،‬ليخْ تار للمُبارزة ِ منْ‬
‫لوب المُسْل ِمين‪ ،‬وكسْرِ‬ ‫يرْضاه ُ لها‪ ،‬فيكون أق ْرب إلى ال َّ ّ‬
‫ظفرِ‪ ،‬وجبْرِ ق ُ ِ‬
‫لوب المُش ْركِين‪ .‬فإ ْن قيل‪ :‬فقد أبح ْتُم له أ ْن ين ْغمِس في ال كُ َّ ّفارِ‪،‬‬
‫قُ ِ‬
‫ش به‪،‬‬ ‫ب لقتْلِه‪ .‬قُل ْنا‪ :‬إذا كان م ُبارِزا َّ‬
‫تعل ّقت قلوبُ الجي ِ‬ ‫وهو سب ٌ‬
‫وارْتقب ُوا ظفره ُ‪ ،‬فإ ْن ظف ِر جبر قلوبهم‪ ،‬وس َّرّه ُم‪ ،‬وكسر قلوب‬
‫ِس يطْلبُ ال َّش ّهادة‪ ،‬لا‬
‫س‪ ،‬والمُن ْغم ُ‬
‫ال كفّارِ‪ ،‬وإ ْن قُت ِل كان بالعك ِ‬

‫‪7‬‬
‫يُتر َّق ّبُ منه ظفر ٌ ولا م ُقاومة ٌ‪ ،‬فاف ْترقا"‪ ،‬ثم قال‪" :‬بل المخُ ْتل ُ‬
‫ف فيها أن‬
‫الصّ َّ ّفي ْن قبل ال ْتحا ِم الحر ِ‬
‫ْب‪ ،‬ي ْدع ُو إلى المُبارزة ِ‪ ،‬فهذا‬ ‫ل بين َّ‬
‫يب ْر ُز رج ٌ‬
‫ن عين الطائ ِفتي ْن تم ْت ُّ ّد إليْهما‪ ،‬وقُلوب‬
‫الإما ِم‪ ،‬لأ َّ ّ‬
‫هو الذي يُعْتبر ُ له إ ْذنُ ِ‬
‫ق بهما‪ ،‬وأ ُّ ّيهما غلب س َّرّ ْ‬
‫أصحابه‪ ،‬وكسر قلوب أعدائ ِه‪،‬‬ ‫الفرِ يقي ْن تتع َّل ّ ُ‬
‫ن الحكم يدور مع عل ّته وجودا وعدما = قالا في‬
‫خلاف غيْرِه"‪ ،‬ولأ ّ‬
‫ب ِ‬
‫الإقناع وشرحه‪(" :‬فإن كان الأمير ُ لا رأي له‪ ،‬ف ُعلت المبارزة بغير‬
‫إذنه‪ ،‬ذكره) محمد (بن تميم) الحراني"‪ ،‬ومثل هذا في أمر الدفع عموما‬
‫ن مخ ّذِل لا يدفع عن أرض الإسلام‬
‫لو علم أهل البلد أن الأمير جبا ٌ‬
‫وأهلها‪ ،‬ولا نظر له في ذلك أو تدبير‪ ،‬و يحس ُن حينئذٍّ أن يؤمّ ِروا‬
‫عليهم – ولو َّ‬
‫مؤق ّتا ‪ -‬من يجمع الكلمة ويدب ّر دفع العدو‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من تشديد علمائنا في الغزو مع كل بر ٍّّ وفاجر طاعة للنبي صلى الله‬
‫عليه وسلم وإبقاء على الجهاد إلا إنهم قيدوا ذلك بحفظ المسلمين‪،‬‬
‫لأنه المصلحة المطلوبة من وراء هذه الأحكام أصلا‪ ،‬قالا في الإقناع‬
‫وشرحه‪(" :‬و يُغزى مع كل أمير بر ٍّّ وفاجر يحفظان المسلمين) لحديث‬
‫ل أميرٍّ‪ ،‬ب ًّر ّا كان أو‬
‫واجب عليكم مع ك ّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫أبي هريرة مرفوعا‪" :‬الجهاد‬
‫فاجِرا"‪ ،‬رواه أبو داود‪ .‬وفي الصحيح‪" :‬إن الله لي ُؤ يِّد ُ هذا الدِّين‬
‫بالرجل الفاجر"؛ ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه وظُهور‬
‫ال كفار على المسلمين‪ ،‬واستئصالهم‪ ،‬وإعلاء كلمة ال كفر (ولا‬

‫‪8‬‬
‫يكون) الأمير (مخ ّذِلا‪ ،‬ولا م ُْرجِفا ولا معروفا بالهزيمة وتضييع‬
‫المسلمين) لعدم المقصود من حفظه المسلمين"‪ ،‬ونقل الأصحاب عن‬
‫الإمام أحمد أنه قال‪" :‬لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا‬
‫عُر ِف بالهزيمة وتضييع المسلمين"‪ ،‬ولأجل ذلك قي ّد جماعة ٌ من أهل‬
‫العلم لزوم متابعة الإمام في نحو ما ذكرنا بوجود المصلحة‪ ،‬نقل ابن‬
‫عرفة المال كي في مختصره عن ابن حبيب أنه قال‪" :‬سمعت أهل العلم‬
‫يقولون‪ :‬إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة؛ حرمت مخالفته إلا أن‬
‫يدهمهم العدو"‪ ،‬والمقصود ما لم يكن عدلا مأمونا قويا موثوقا‪،‬‬
‫ل من بعض سلاطين المغرب للعلامة‬
‫ولذلك فإنه لما ورد سؤا ٌ‬
‫التاودي المال كي عن قتل بعض أمراء الت ُرْك لبعض رعاياه من‬
‫المسلمين لم ّا شاركوا من غير إذنه في الدفع عن ثغر مليلية المحتل إلى‬
‫جواب حسن‪ ،‬ثم أجاب بعده العلا ّمة محمد‬
‫الآن = أجاب التاودي ب ٍّ‬
‫بن الحسن البن ّاني‪ ،‬فكان مما قال‪" :‬وكونه ممن له الولاية عليهم ‪ -‬كما‬
‫ذكره السائل في السؤال ‪ -‬لا يسوِّغ له ذلك الفعل الشنيع‪ ،‬بل ذلك‬
‫مما يزيد في شناعته وقبحه"‪ ،‬قال‪" :‬ولا جور أعظم مما فعله هذا‬
‫الظالم‪ ،‬فإن قلت‪ :‬فهل على هؤلاء المؤمنين المقتولين درك حيث‬
‫توجّهوا للجهاد بغير إذن واليهم المذكور؟ قلتُ ‪ :‬لا درك عليهم في‬
‫ذلك‪ ،‬حيث كان من ولاة الجور‪ ،‬كما ذكر في العتبية‪ ،‬قال ابن‬

‫‪9‬‬
‫وهب‪ :‬إن كان الإمام عدلا لم يجز لأحد أن يبارز العدو أو يقاتله‬
‫إلا بإذنه‪ ،‬وإن كان غير عدل فليقاتل وليبارز بغير إذنه"‪ ،‬ولأجل‬
‫هذا المعنى قي ّد أصحابنا لزوم الاستئذان بكون الإمام إمام حق‪ ،‬قال‬
‫البرهان ابن مفلح في المبدع‪(" :‬فإن دخل قوم لا منعة لهم) هو‬
‫بفتح الأحرف الثلاثة‪ ،‬وقد تسكن النون‪ ،‬والمراد بها القوة والدفع‬
‫(دار الحرب بغير إذنه) أي‪ :‬إذن المعتبر إذنه‪ ،‬وهو إمام الحق‪ ،‬غير‬
‫المتغلب (فغنموا‪ ،‬فغنيمتهم فيء) على المذهب لأنهم عصاة بفعلهم"‪،‬‬
‫وأصل الكلام للمجد ابن تيمية رحمه الله تعالى‪ ،‬قال في المحرر‪" :‬وإذا‬
‫دخل قوم دار الحرب بغير إذن الإمام المعتبر كان ما غنموه فيئا"‪،‬‬
‫قال الصفي القطيعي في الشرح‪" :‬يعني بذلك الإمام المعتبر إذنه‪ ،‬وهو‬
‫الإمام الحق غير المتغلب"‪ ،‬ثم أخذ هذا عنه البرهان ابن مفلح‬
‫بحروفه‪ ،‬وذلك لأن الإمام الحق الأصل فيه العدالة ولحاظ صيانة‬
‫الإسلام واعتبار مصالح المسلمين‪ ،‬أما المتغل ّب فعلى العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬ولأجل لحاظ العلّة المصلحية قي ّد جماعة من أكابر أصحابنا‬
‫اشتراط الإذن بالقلّة أو عدم القوة والمنعة التي يحصل بها الغلبة‬
‫والنكاية والمصلحة والاجتماع‪ ،‬قال المرداوي في الإنصاف في‬
‫ت الر ِّواية ُ‬ ‫مسألة الغزو بغير إذن الأمير‪" :‬وقال في َّ‬
‫«الر ّوْضة ِ»‪ :‬اخْ تلف ِ‬
‫خفْية‪،‬‬
‫ل حالٍّ‪ ،‬ظاه ِرا و ُ‬
‫عن أحمد؛ فعنه‪ ،‬لا يجوز ُ‪ .‬وعنه‪ ،‬يجوز ُ بك ُ ّ ِ‬

‫‪10‬‬
‫ِلاف»‪ :‬الغزْو ُ‬
‫جماعة وآحادا‪ ،‬جي ْشا وسر ِية‪ .‬وقال القاضي في «الخ ِ‬
‫ْب‬
‫ل دارِ الحر ِ‬ ‫لا يجوز ُ أ ْن يُق ِيمه ك ُّ ّ‬
‫ل أحدٍّ على الان ْف ِرادِ‪ ،‬ولا د ُخو ُ‬
‫ل ذلك إذا كانُوا ع ُصْ بة لهم منعة ٌ"‪ ،‬ونص‬
‫الإما ِم‪ ،‬ولهم فِعْ ُ‬
‫ن ِ‬‫بلا إ ْذ ِ‬
‫كلام القاضي في كتاب الصلاة من التعليقة‪" :‬فإن قيل‪ :‬المعنى في‬
‫سائر العبادات‪ :‬أن يجوز أن يقيمها كل واحد من الناس على‬
‫الانفراد‪ ،‬فلم يكن من شرطها السلطان‪ ،‬وليس كذلك الجمعة؛ لأنه‬
‫ليس لكل واحد أن يقيمها على الانفراد‪ ،‬فهي كالحدود‪ .‬قيل له‪:‬‬
‫منتقض بالغزو؛ فإنه لا يجوز أن يقيمه كل واحد من الناس على‬
‫الانفراد‪ ،‬ولا الدخول إلى دار الحرب بغير إذن الإمام‪ ،‬ومع هذا‪:‬‬
‫إذا اجتمعوا‪ ،‬وكانت لهم منعة‪ ،‬كان لهم دخولها من غير إذنه"‪،‬‬
‫وقال في الروايتين والوجهين‪" :‬مسألة‪ :‬و يكره لطائفة قليلة أن تغزو‬
‫بغير إذن الإمام لأنه أعرف بالطرقات وأوقات الحرب ومكان‬
‫الحرب بخلاف غيره‪ ،‬لاهتمامه بذلك‪ ،‬فإن كان بإذنه أرشدهم‬
‫وهداهم إلى ما هو أصوب‪ ،‬فإذا تركوا الأصوب = ك ُره لهم‪ ،‬ولأنه‬
‫إذا كان بإذنه كان ردءا لهم‪ ،‬وعلى خبرتهم‪ ،‬حتى إذا احتاجوا إلى‬
‫مدد بادر به إليهم‪ ،‬وإذا لم يكن بإذنه لم يعلم بهم فربما نالهم ما لا‬
‫طاقة لهم به فهل كوا‪ ،‬فإن خالفوا وخرجوا فهل يحرم عليهم تلك‬
‫الغنيمة أم لا؟"‪ ،‬ثم ذكر الروايتين في ذلك‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫فصل‬

‫ثم إن أهل البلد التي نزل العد ُّوّ بساحتها إذا لم تحصل بهم ال كفاية‬
‫في دفع العدو‪ ،‬أو عصوا وجبنوا ُّ‬
‫وفر ّوا‪ ،‬أو ظُنّ حصول ذلك من‬
‫أول الأمر = انسحب التعيين على من يليهم من بلاد المسلمين‪،‬‬
‫اج إليه من المال والسلاح والنفس‬
‫فيلزمهم نصرتُهم بكل مُحت ٍّ‬
‫والتدبير‪ ،‬فإن عصى هؤلاء وخذلوا أو لم تحصل بهم ال كفاية أو ظُنّ‬
‫ذلك ابتداء = انسحب التعيين على من يليهم‪ ،‬حتى إذا انقطع سلطان‬
‫الحاكم المستقل انسحب التعيين على من يليه من حُكّام المسلمين وعلى‬
‫رعيته من ورائه سوى عاجز ٍّ معذورٍّ عذرا معتبرا شرعا‪ ،‬وهكذا حتى‬
‫تنقطع بلاد المسلمين من ههنا وههنا‪ ،‬شرقا وغربا‪ ،‬وحتى تُب ْذل‬
‫عامة المُهج دون الإسلام وحريمه‪ ،‬ولذلك ع ّد أصحابنا م ِم ّن يتعين‬
‫عليهم الجهاد = من احتاج إليه بعيدٌ‪ ،‬وهذا المذكور إجماعٌ في الجملة‬
‫لا َّ ّ‬
‫حظ للخلاف المعتبر فيه‪ ،‬وهو الذي يحصل به العز والنصر لا‬
‫الذلة والانهزام‪ ،‬و يُجلب به الحفظ والصيانة لا الضياع والفناء‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫قال شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة أصحابنا رضي الله عنهم‪" :‬و ِإذا‬
‫دخل ال ْعد ُ ُّوّ بِلاد ال ِْإسْ لا ِم فلا ر ي ْب أَ َّن ّه ُ يج ِبُ دف ْع ُه ُ على ا ْل َأق ْر ِ‬
‫ب‬
‫ب إ ْذ بِلاد ُ ال ِْإسْ لا ِم ك ُُّل ّها بِمنْزِلة ِ ال ْبل ْدة ِ ال ْواحِدة ِ‪ ،‬وأَ َّن ّه ُ يج ِبُ‬
‫فا ْلأَق ْر ِ‬
‫ُوص أَ حْمد صر ِ يحة ٌ بِهذا"‪،‬‬ ‫ن والِدٍّ ولا غر ِيمٍّ‪ ،‬ونُص ُ‬ ‫َّ‬
‫الن ّف ِير ُ إليْه ِ بِلا إ ْذ ِ‬
‫ل ال َّد ّف ِْع مِث ْ ُ‬
‫ل أَ ْن يكُون ال ْعد ُ ُّوّ كث ِيرا لا طاقة لِل ْمُسْل ِمِين‬ ‫ثم قال‪" :‬وق ِتا ُ‬
‫اف إ ْن ان ْصرف ُوا عنْ عدُوِّه ِ ْم عطف ال ْعد ُ ُّوّ على منْ‬
‫بِه ِ ل كِنْ يُخ ُ‬
‫صحابُنا ب ِأَ َّن ّه ُ يج ِبُ أَ ْن يبْذ ُلُوا‬
‫يُخ َّل ّف ُون م ِنْ ال ْمُسْل ِمِين فه ُنا ق ْد ص َّرّح أَ ْ‬
‫اف عليْه ِ ْم فِي ال َّد ّف ِْع ح َّت ّى يسْلم ُوا ونظ ِير ُها أَ ْن‬‫مُهجه ُ ْم ومُهج منْ يُخ ُ‬
‫ف ف ِإ ْن‬ ‫يهْجُم ال ْعد ُ ُّوّ على بِلادِ ال ْمُسْل ِمِين وتكُون ال ْم ُقاتِلة ُ أَ ق َّ ّ‬
‫ل م ِنْ الن ِّصْ ِ‬
‫ب لا‬ ‫ل طل ٍّ‬‫ل دف ٍّْع لا ق ِتا ُ‬ ‫ان ْصرف ُوا اسْ تو ْلو ْا على الْحرِي ِم فهذا وأَ مْثالُه ُ ق ِتا ُ‬
‫ل"‪ ،‬ثم قال الشيخ‪" :‬وال ْواجِبُ أَ ْن يُعْتبر فِي‬ ‫اف ف ِيه ِ بِ حا ٍّ‬
‫يج ُوز ُ ال ِانْص ِر ُ‬
‫ل‬
‫خب ْرة ٌ بِما عليْه ِ أَ ه ْ ُ‬ ‫الصّ ح ِ‬
‫ِيح ال َّ ّذ ِين له ُ ْم ِ‬ ‫ن َّ‬‫ل الد ِّي ِ‬ ‫ُّأم ُورِ الْج ِهادِ ب ِرأْ ي أَ ه ْ ِ‬
‫ال ُّد ّن ْيا‪ ،‬د ُون أَ ه ْل الدُن ْيا ال َّ ّذ ِين يغْل ِبُ عليْه ِ ْم َّ‬
‫الن ّظر ُ فِي ظاهِرِ الد ِّينِ‪ ،‬فلا‬
‫خب ْرة له ُ ْم فِي ال ُّد ّن ْيا"‪،‬‬
‫ن ال َّ ّذ ِين لا ِ‬
‫ي أَ ه ْل الد ِّي ِ‬
‫يُؤ ْخذ ُ ب ِرأْ يِهِمْ‪ ،‬ولا ب ِرأْ ِ‬
‫وهذا الكلام غاية في الحسن‪ ،‬فإن أهل الدنيا الذين عندهم معرفة‬
‫بظاهر الدين تغلبهم دنياهم و يضن ّون بزينتها‪ ،‬و يجبنون عن بذل‬
‫الأموال والأنفس‪ ،‬ولا يصبرون على قول الحق‪ ،‬فيشقشقون ببعض‬
‫ما يعرفون من ظاهر الدين ليُلبسوا عجزهم جُب ّة الديانة والحكمة عمدا‬

‫‪13‬‬
‫ونفاقا أو غفلة وجهلا‪ ،‬وأما أهل الدين الذين لا خبرة لهم بالدنيا‬
‫فإنهم لا يحسنون درْك ر ُتب المصالح وأحوالها‪ ،‬ويتلاعب بهم مع‬
‫ل الدنيا والسلطان لجهلهم بهذه الأمور‪ ،‬وإنا لله وإنا إليه‬
‫ذلك أه ُ‬
‫راجعون!‬

‫وقال القاضي المتفنن ابن المناصف القرطبي في كتاب الإنجاد‪" :‬وأما‬


‫فرض الجهاد‪ ،‬فهو إذا أَ ظ َّ ّ‬
‫ل العدو بلدا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحالة الثانية‪ :‬حيثُ يتعين‬
‫أو جانبا من ثغور المسلمين‪ ،‬م ُقاتلا لهم‪ ،‬فيتعيَّ ّن فرض الجهاد حينئذٍّ‬
‫على كل واحد َّمم ّن هنالك من المسلمين في خا َّ ّ‬
‫صته‪ ،‬وعلى ق ْدرِ طاقته‪،‬‬
‫إلى أن تقع ال كفاية و يحصل الاستقلال بقتال العدو ودفعه‪ ،‬فإ ْن‬
‫قصر عدد ُ من هنالك أو ق َّو ّتهم عن دفاعهم؛ وجب كذلك على‬
‫كل من صاقبهم وقر ُب منهم من المسلمين إعانتهم والنفير إليهم‪ ،‬ثم‬
‫كذلك أبدا إن غارّهم العد ُّوّ‪ ،‬حتى يع ُ َّ ّ‬
‫م الفرض جميع المسلمين‪ ،‬أو‬
‫يقع الاستغناء ُ من دون ذلك بمقاومتهم ودفعهم والدليل على صحة‬
‫الإ ْث ِم‬ ‫ذلك‪ :‬قوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وتعاونُوا ْ على ال ْبرِّ و َّ‬
‫الت ّقْوى ولا تعاونُوا ْ على ِ‬
‫الل ّه ُ لِل ْكافِرِين‬
‫وال ْعُدْوانِ} [المائدة‪ ، ]2 :‬وقوله ‪-‬تعالى‪{ :-‬ولن يج ْعل َّ‬
‫على ال ْمُؤْم ِنِين سب ِيلا} [النساء‪ ، ]141 :‬فمن ترك دفاع كافرٍّ عن‬
‫ن تثاقلا من غير عذرٍّ يسقط به عنه القيام‪ ،‬فقد ترك المعاونة‬
‫مؤم ٍّ‬
‫على البرِّ والتقوى‪ ،‬وجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين‪ ،‬وقد نفى الله‬
‫‪14‬‬
‫تعالى ذلك أن يكون من ال َّش ّرع؛ ففعل ذلك معصية ٌ‪ ،‬وتع ّدٍّ لحدود‬
‫الله تعالى‪ .‬خ َّرّج أبو داود‪ ،‬عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ج ّدِه‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪« :‬المؤمنون تتكافأ دماؤهم‪،‬‬
‫يسعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬و يُج ير عليهم أقصاهم‪ ،‬وهم يد ٌ على من‬
‫سواهم»‪ ،‬وذلك مما لا يُعرف فيه خلاف"‪ ،‬وهو كما قال‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫"و يلحق هذه الحالة في تعيين الجهاد أيضا للأمر يعْرض‪ :‬حالة ُ‬
‫استنقاذ الأسرى إذا حازهم العدو‪ ،‬وكان بالمسلمين قدرة على‬
‫ل‬
‫استنقاذهم بالقتال‪ ،‬قال الله ‪-‬تعالى‪{ :-‬وما ل ك ُ ْم لا تُقاتِلُون فِي سب ِي ِ‬
‫ل والن ِّساء ِ والْوِلْدا ِ‬
‫ن ال َّ ّذ ِين يق ُولُون ر َّب ّنا‬ ‫الل ّه ِ وال ْمُسْتضْ عف ِين م ِن الر ِّجا ِ‬ ‫َّ‬
‫ظال ِ ِم أَ ه ْلُها} [النساء‪ ، ]75 :‬قيل‪ :‬يريد‬ ‫خر ِجْ نا م ِنْ هذِه ِ ال ْقر ْية ِ ال َّ ّ‬
‫أَ ْ‬
‫قتال أهل مكة لاستنقاذ من فيها من المستضعفين وكذلك يدل قوله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪« :‬وهم يد ٌ على من سواهم»‪ .‬وقال صلى الله عليه‬
‫وسلم‪« :‬ف ُ ُّ ّ‬
‫كوا العاني» ؛ خ َّرّجه البخاري‪ .‬ولا خلاف في ذلك أعلمه"‪.‬‬

‫[مطلب في بعض مقالات الشافعية]‬


‫وقال أبو المعالي الجويني في النهاية‪" :‬فأما القتال الموصوف بكونه‬
‫فرض عين‪ ،‬فقال الفقهاء في تصويره‪ :‬إذا وطئ ال كفار طرفا من‬
‫بلاد الإسلام‪ ،‬تعين دفعهم"‪ ،‬قال‪" :‬ومن تمام الكلام فيه أن أهل‬
‫‪15‬‬
‫الناحية لو كان فيهم كثرة‪ ،‬وكان في خروج البعض كفاية‪ ،‬فابتدر‬
‫من فيهكفاية‪ ،‬فظاهر المذهب أنه يتحتم على الباقين أن يخرجوا أيضا‪،‬‬
‫ُّ ّ‬
‫حث الدين على‬ ‫والسبب فيه أن هذه عظيمة من العظائم اشتد‬
‫دفعها‪ ،‬فلو لم تزد على ح ّد ال كفاية‪ ،‬لما حصل غرض الشرع‪،‬‬
‫ولكانت هذه الواقعة بمثابة ما لو كان ال كفار قارّين في ديارهم‪.‬‬
‫وإذا كان لا يطير إلى ال كفار إلا أهل ال كفاية‪ ،‬فبالحري أن‬
‫يستجري ال كفار على دخول ديار الإسلام علما منهم بأن ّا لا نلقاهم‬
‫إلا بمثلهم في العدد والعدة‪ .‬وهذا هو الظاهر"‪ ،‬قال‪" :‬فأما الذين‬
‫ليسوا في تلك الناحية‪ ،‬فنتكلم في الأقرب منهم فالأقرب‪ ،‬ونقول‪:‬‬
‫إن كان في أهل الناحية كفاية واستقلال بالقتال‪ ،‬فالذين قربوا‬
‫منهم‪ ،‬وكانوا دون مسافة القصر ينزلون ‪-‬إن وجدوا الزاد‪ -‬منزلة أهل‬
‫الناحية‪ ،‬إذا قام بالدفع منْ فيه ال كفاية‪.‬‬
‫وإن لم يكن في أهل الناحية كفاية‪ ،‬فيتعين على الأقربين أن يطيروا‬
‫إليهم‪ ،‬وإذا قلنا؛ إنهم بمثابة أهل الناحية‪ ،‬لم نغادر من البيان المقصود‬
‫شيئا في طوارئ القوة والضعف‪.‬‬
‫فأما الذين يقعون من الناحية على مسافة القصر فصاعدا‪ ،‬فإذا بلغهم‬
‫الخ بر نُظ ِر‪ :‬فإن لم يكن في أهل الناحية‪ ،‬وفي الذين يلونهم كفاية‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫تعيّن عليهم أن يتط َّي ّروا إليهم‪ ،‬ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم‬
‫فيهم كفاية‪ ،‬سقط الحرج عن الباقين‪.‬‬
‫ومن أصحابنا من قال‪ :‬يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن‬
‫يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل‪ ،‬ولو بنينا‬
‫الأمر على ال كفاية وقد ج ّد الجد وليس هذا مما يقبل الأناة‪ ،‬بخلاف‬
‫القتال الموضوع لإقامة فرض ال كفاية‪ ،‬وال كفار قارّون‪ ،‬فلا ينتظم‬
‫دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض‪ ،‬لما في‬
‫الطباع من الانحباس عن القتال‪ ،‬وإذا فرض ذلك‪ ،‬فإلى أن يظهر‬
‫للكافة لحوق الحرج‪ ،‬ربما تجري عظائم من القتل والأسر‪ ،‬واهتتاك‬
‫الحرمات‪ ،‬فالوجه الإ يجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى‬
‫ما يلي ال كفار من فيه كفاية‪ ،‬وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل‬
‫ل بالأمر"‪.‬‬
‫الناحية إذا كان فيهم كفاية‪ ،‬وكان البعض منهم يستق ّ‬

‫وعلى هذا درج الشافعية في الجملة‪ ،‬قالا في المنهاج والتحفة‪(" :‬ومنْ‬


‫ل الْج ِهادِ‬ ‫ه ُو د ُون مسافة ِ ال ْقصْرِ م ِنْ ال ْبلد ِ) و ِإ ْن ل ْم يكُنْ م ِنْ أَ ه ْ ِ‬
‫ن منْ م َّ ّر‪ ،‬إ ْن‬ ‫جه ِ بِلا إ ْذ ِ‬
‫ل وخُر ُو ِ‬ ‫(كأَ ه ْل ِها) فِي تعيُّ ّنِ وُج ِ‬
‫ُوب ال ْق ِتا ِ‬
‫وجد زادا أَ ْو يل ْزم ُه ُ مشْيٌ أَ طاقه ُ و ِإ ْن كان فِي أَ ه ْل ِها كِفاية ٌ؛ ل ِأَ َّ ّنه ُ ْم فِي‬
‫حُ ْ‬
‫كمِهِمْ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫(ومنْ ) ه ُ ْم (على ال ْمسافة ِ) ال ْم ْذكُورة ِ فما فو ْقها (يل ْزمُهُمْ) إ ْن وجد ُوا‬
‫ل ذل ِك‬‫زادا وسِلاحا وم ْركُوبا و ِإ ْن أَ طاق ُوا ال ْمش ْي (ال ْم ُوافقة ُ) ل ِ َأه ْ ِ‬
‫ل فِي ال َّد ّف ِْع (ب ِق ْدرِ ال ْ كِفاية ِ إ ْن ل ْم يك ِ‬
‫ْف أَ ه ْلُها ومنْ يل ِيهِمْ) دف ْعا‬ ‫ال ْمح ّ ِ‬
‫عنْه ُ ْم و ِإن ْقاذا لهُمْ‪ ،‬وأَ ف ْهم قو ْلُهُ‪ :‬ب ِق ْدرِ ال ْ كِفاية ِ‪ .‬أَ َّن ّه ُ لا يل ْزم ُ الْك ُ َّ ّ‬
‫ل‬
‫ج قو ْ ٍّم مِنْه ُ ْم ف ِيه ِ ْم‬
‫ج عنْه ُ ْم خُر ُو ُ‬
‫سق ُوطِ الْحر ِ‬
‫كفِي فِي ُ‬
‫الْخُر ُوجُ‪ ،‬بلْ ي ْ‬
‫كِفاية ٌ‪.‬‬
‫(ق ِيل) تج ِبُ ال ْم ُوافقة ُ على منْ بِمسافة ِ ال ْقصْرِ فما فو ْقها (و ِإ ْن كفو ْا)‬
‫ل ال ْبلد ِ ومنْ يل ِيه ِ ْم فِي ال َّد ّف ِْع لم ُِعْظ ِم الْخط ِ‬
‫ْب ور ُّدّوه ُ‪ ،‬ب ِأَ َّن ّه ُ‬ ‫ي‪ :‬أَ ه ْ ُ‬
‫أَ ْ‬
‫ِ‬
‫اب على جم ِيع ا ْل ُّأ َّمّة ِ‪ ،‬وف ِيه ِ أَ ش ُّ ّد الْحر ِ‬
‫ج م ِنْ غيْرِ‬ ‫يُؤدِّي إلى ال ِْإ يج ِ‬
‫حاجة ٍّ‪ ،‬ل كِنْ ق ِيل‪ :‬هذا ال ْوجْه ُ لا يُوجِبُ ذل ِك‪ ،‬بلْ يُوجِبُ ال ْم ُوافقة‬
‫ب بِلا ضب ْطٍّ ح َّت ّى يصِ ل الْخ بر ُ ب ِأَ َّ ّنه ُ ْم ق ْد ُ‬
‫كف ُوا"‪.‬‬ ‫ب فالْأَق ْر ِ‬
‫على الْأَق ْر ِ‬

‫[مطلب في بعض مقالات الحنفية]‬


‫وقد نقل ابن مازة في المحيط عن محمد بن الحسن أنه قال‪" :‬إذا جاء‬
‫النفير‪ ،‬فقيل لأهل مدينة أو مصر قريب من العدو‪ :‬قد جاء العدو‬
‫يريدون أنفسكم وذرار يكم وأموال كم = فلا بأس بأن يخرج الرجل‬
‫بغير إذن والديه‪ ،‬وإن نهياه فلا بأس بأن يعصيهما إذا كان ممن يقدر‬
‫على الجهاد"‪ ،‬قال‪" :‬لأن القتال في هذه الحالة فرض عين"‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫"فأما إذا لم يكن له قوة القتال ولا يحصل بخروجه قوة للمسلمين‪،‬‬
‫فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجهاد بعد النفير العام إنما يفترض‬
‫على القادر‪ ،‬أو على أن يحصل بخروجه قوة للمسلمين إن كان يقدر‬
‫على القتال"‪ ،‬ثم قال عن النفير والدفع‪" :‬وإنما يفترض فرض عين‬
‫على من كان يقرب من العدو‪ ،‬وهم يقدرون على الجهاد‪ ،‬فأما على‬
‫من وراءهم يبعد من العدو‪ ،‬فإنه يفرض عليه فرض كفاية لا‬
‫فرض عين حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليه‪ ،‬فأما إذا احتيج إليه‬
‫بأن عجز من كان يقرب من العدو من المقاومة مع العدو‪ ،‬أو لم‬
‫يعجزوا عن المقاومة إلا أنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا‪ ،‬فإنه يفترض على‬
‫من يليهم فرض عين كالصوم والصلاة ولا يسعهم تركه‪ ،‬ثم إلى أن‬
‫يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا‪ ،‬على هذا الترتيب‬
‫والتدريج"‪ ،‬وعلى هذا درج الحنفية ونقلوا نص الكلام أو قريبا منه‬
‫في كتبهم‪.‬‬

‫وقال الجصّ اص في أحكام القرآن‪" :‬ومعلوم ٌ في اعتقاد جميع المسلمين‬


‫أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو‪ ،‬ولم تكن فيهم مقاومة لهم‪،‬‬
‫فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم‪ ،‬أن الفرض على كافة الأمة‬
‫أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين‪ ،‬وهذا لا خلاف فيه‬

‫‪19‬‬
‫بين الأمة‪ ،‬إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم‬
‫حين يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم"‪.‬‬

‫وقال أبو بكر الشاشي في الحلية‪" :‬فإن دخل العدو بلاد الإسلام‪،‬‬
‫فيتعين على كافة المسلمين فرض القتال إذا لم يكن في أهل تلك‬
‫البلاد قدرة على دفعهم‪ ،‬وإن كان لهم قدرة على دفعهم لم يسقط‬
‫بهم فرض ال كفاية عن كافة المسلمين ما كان العدو باقيا في دارهم‪،‬‬
‫وهل يصير فرض قتالهم متعينا على سائر المسلمين؟ فيه وجهان"‪.‬‬

‫وقال الكاساني في البدائع‪" :‬وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة‬


‫ال كفرة‪ ،‬وخيف عليهم من العدو فعلى من وراءهم من المسلمين‬
‫الأقرب فالأقرب أن ينفروا إليهم‪ ،‬وأن يمدوهم بالسلاح‪ ،‬وال كراع‪،‬‬
‫والمال؛ لما ذكرنا أنه فرض على الناس كلهم ممن هو من أهل الجهاد‪،‬‬
‫ل كن الفرض يسقط عنهم بحصول ال كفاية بالبعض‪ ،‬فما لم يحصل‬
‫لا يسقط"‪.‬‬

‫وقال العل ّامة البز ّازي في فتاو يه‪" :‬امرأة مسلمة سُبيت بالمشرق‪،‬‬
‫وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر ما لم ي ُ ْدخل دار الحرب‪،‬‬
‫لأن دار الإسلام مكان واحد"‪ ،‬ونقله غير واحد من الحنفية في‬
‫سياق تعيّن النصرة في الدفع‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫[مطلب في بعض مقالات المال كية]‬
‫وللمال كية كلام كثير في الباب ونوازل وفتاوى‪ ،‬و يلزم كل فقيه‬
‫العناية به والنظر فيه‪ ،‬فإن أهل الغرب الإسلامي خبروا من ذلك‬
‫ْض عام ٌ متعين‬
‫الشأن ما لم يخ بره غيرهم‪ ،‬قال أبو عمر في الكافي‪" :‬فر ٌ‬
‫على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من‬
‫البالغين الأحرار‪ ،‬وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربا لهم‪،‬‬
‫فإذا كان ذلك‪ ،‬وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا و يخرجوا‬
‫إليه خفافا وثقالا‪ ،‬وشبابا وشيوخا‪ ،‬ولا يتخلف أحد يقدر على‬
‫الخروج من مقاتل أو مكتر‪ ،‬وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام‬
‫بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا‪ ،‬قلوا أو كثروا‪،‬‬
‫على حسب ما لزم أهل تلك البلدة‪ ،‬حتى يعلموا أن فيهم طاقة على‬
‫القيام بهم ومدافعتهم‪ ،‬وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم‬
‫وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم‪ ،‬لزمه أيضا الخروج إليهم‪ ،‬فالمسلمون‬
‫كلهم يد على من سواهم‪ ،‬حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية‬
‫التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين"‪ ،‬وعلى‬
‫هذا درج المال كية‪ ،‬ونقل نص كلامه المو ّاق وغيره‪ ،‬وقال المو ّاق‬
‫أيضا‪" :‬وقال ابن بشير‪ :‬إذا نزل قوم من العدو بأحد من المسلمين‬
‫وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة‪ ،‬فإن عجزوا‬

‫‪21‬‬
‫تعين على من قرب منهم نصرتهم‪ .‬وتقدم نص المازري‪ :‬إذا عصى‬
‫الأقرب وجب على الأبعد"‪.‬‬

‫وقد كتب الإمام ال كبير أبو بكر الطرطوشي المال كي رسالة عظيمة‬
‫شديدة إلى ابن تاشفين أمير المرابطين بالمغرب يحثه فيها على الدفع‬
‫عن ثغور الأندلس‪ ،‬فكان مما قال فيها‪" :‬واعلم أبا يعقوب أن الله‬
‫تعالى فرض الجهاد على كافة المسلمين‪ ،‬ولا يرده جور جائر‪ ،‬ولا‬
‫فسق فاسق‪ ،‬إلا أن تقوم الساعة‪ .‬قال الله تعالى‪[ :‬قاتِلُوا ال َّ ّذ ِين لا‬
‫خر ِ ولا يُحرِ ّم ُون ما ح َّرّم َّ‬
‫الل ّه ُ ورسُولُه ُ ولا‬ ‫يُؤْم ِن ُون ب َِّالل ّه ِ ولا ب ِال ْيو ْ ِم الآ ِ‬
‫يدِين ُون دِين الْحقّ ِ م ِن ال َّ ّذ ِين ُّأوتُوا الْك ِتاب ح َّت ّى يُعْط ُوا الْجِز ْية عنْ يدٍّ‬
‫وه ُ ْم صاغِرُون]‪ ،‬فلم يرخّص لهذه الأمة في ترك جهاد عدوّهم إلا‬
‫بإعطاء الجز ية أو كلمة الإسلام‪ ،‬وهذه الآية نسخت كل آية في‬
‫كتاب الله تعالى تتضمن الإعراض عن المشركين‪ ،‬وروى أبو بكر‬
‫الصديق رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ما‬
‫ترك قوم ٌ الجهاد إلا عم ّهم العذاب"‪ ،‬فجهاد ال كفّار فرض عليك‬
‫فيما يليك من ثغور بلاد الأندلس‪ ،‬لأنك أقرب الملوك إليها‪ ،‬وعندك‬
‫ال كراع والسلاح ولأمة الحرب وآلتها‪ ،‬وجيوش المسلمين وحماة‬
‫البيضة طائعون لك‪ ،‬وكذلك كل من بنواحيك وجنبات أعمالك‬
‫من المجاهدين والمقاتلين وأولي البطش والقوة‪ ،‬وأنت في حرج من‬
‫‪22‬‬
‫تضييع من في ثُغور الأندلس من جماعة المسلمين والحُر ُم والذراري"‪،‬‬
‫وهي رسالة طو يلة بديعة أوردها بتمامها أبو بكر ابن العربي في شواهد‬
‫الجلة والأعيان‪.‬‬

‫وقال أبو القاسم ابن جزي في القوانين الفقهية‪" :‬ويتعين ‪ -‬أي الجهاد‬
‫‪ -‬لثلاثة أسباب‪ .‬أحدها‪ :‬أمر الإمام‪ ،‬فمن عي ّنه الإمام وجب عليه‬
‫الخروج‪ .‬الثاني‪ :‬أن يفجأ العدو بعض بلاد المسلمين‪ ،‬فيتعين عليهم‬
‫دف ْع ُه‪ ،‬فإن لم يقدروا لزم من قاربهم‪ ،‬فإن لم يستقل الجميع وجب‬
‫على سائر المسلمين حتى يندفع العدو‪ .‬الثالث‪ :‬استنقاذ أسارى‬
‫المسلمين من أيدي ال كفار"‪.‬‬

‫وقال العلامة التسولي المال كي في جوابه عن مسائل الأمير عبد‬


‫القادر‪" :‬إذا نزل عدوّ الدين بأرض الإسلام‪ ،‬أو قريبا منها مريدا‬
‫الدخول إليها‪ ،‬فإن الجهاد فرض عين على أهل ذلك البلد‪ ،‬وعلى‬
‫إمامهم‪ ،‬شيوخا وشب ّانا‪ ،‬أحرارا‪ ،‬أو عبيدا‪ ،‬بل وإن على امرأة إن‬
‫كانت لها قو ّة‪ ،‬ولا يتوقف قتالهم للعدوّ النازل على مشورة الإمام‪،‬‬
‫ولا سيّما إن بعد منهم‪ ،‬بل وإن لم يكن لهم إمام تعيّن عليهم مدافعته‬
‫ونصب الإمام‪ ،‬فإن لم يقدر أهل ذلك البلد مع إمامهم على مقاومة‬
‫العدوّ = تعيّن على أقرب الأئمة إليهم وعلى رعي ّته أن يعينوهم‪ ،‬فإن‬

‫‪23‬‬
‫لم تكن فيهم كفاية ومقاومة أيضا = وجب على من والاهم‪ ،‬وهكذا‬
‫حتى يأتي الوجوب منسحبا على جميع المسلمين‪.‬‬
‫فقطر الجزائر مثلا حيث لم يقدروا على دفعه‪ ،‬لعدم من يضبط‬
‫كلمتهم‪ ،‬أو لعدم وجود القوة فيهم‪ ،‬بدليل أنه يتردّد العدوّ إليهم‬
‫و يأخذ مدائنهم شيئا فشيئا‪ ،‬فإنه يجب على من والاهم ‪ -‬من أئمة‬
‫المشرق وأئمة المغرب إلى سوس الأقصى وإلى بغداد‪ ،‬بل وإلى الهند‬
‫مثلا ‪ -‬أن يعينوهم بالجيوش والعدّة والعدد‪ ،‬وإن عصى من والاه‬
‫فلم يُع ِن = تعيّن على من والى من والاه‪ ،‬وهكذا"‪ ،‬قال‪" :‬الوجوب‬
‫والتعيين متعل ّق بالمسلمين‪ ،‬لا بقيد زمان‪ ،‬ولا مكان‪ ،‬إلا ّ أنه‪ :‬يتعيّن‬
‫مر ترتيبه‪ -‬فإن لم يفعل لعذر‪ ،‬أو‬
‫على الحاضر زمانا ومكانا ‪ -‬على ما ّ‬
‫لغير عذر‪ ،‬وجب على غيره مم ّن يليه"‪ ،‬وقال‪" :‬ولهذا أفتى سيدي‬
‫شقرون بن هبة‪ ،‬أحد حفّاظ المتأخرين‪ ،‬بأن الجهاد في هذا الزمان‬
‫فرض عين ونحوه في كتاب فلك السعادة‪ ،‬قائلا‪ :‬الجهاد اليوم فرض‬
‫عين‪ ،‬لأنّهم قالوا إذا نزل العدوّ ساحة الإسلام فالجهاد فرض عين‪،‬‬
‫ولا مخالف لهذا القول‪ ،‬واليوم قد نزلوا بساحات‪ ،‬وهتكوا أستارا‬
‫وحرمات‪ ،‬وأخذوا معاقل وحصونا‪ ،‬وسبوا قبائل وبطونا‪.‬‬
‫أي‪ :‬وهم إذا سبوا ذلك‪ ،‬تعيّن على إمام الوقت ورعي ّته أن يستنقذوا‬
‫ذلك‪ ،‬و يجب على من يليه من الأئمة أن يعينه على ذلك إن هو عجز‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫أو ترك وعصى"‪ ،‬وقال رحمه الله ورضي عنه‪" :‬وقال تعالى‪{ :‬وال َّ ّذ ِين‬
‫ض ِإ َّلّا تفْعلُوه ُ}‪ ،‬أي‪ :‬إلا تفعلوا مثله من‬
‫كفر ُوا بعْضُه ُ ْم أَ وْلِياء ُ بعْ ٍّ‬
‫تولّى المؤمنين بعضهم بعضا‪ ،‬ومعاداتهم للكافرين‪ ،‬كما يفعل ال كفّار‬
‫ض وفساد ٌ كب ِير ٌ}‪ ،‬وبيانه‪:‬‬
‫من التعاضد والتعاون‪{ ،‬تكُنْ فِت ْنة ٌ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫أن المؤمنين إذا تركوا التناصر والتعاون فيما بينهم‪ -‬حتى يكونوا يدا‬
‫ل نظامهم‪ ،‬واستولى الكافر على جميعهم‪،‬‬
‫واحدة على الكافرين‪ -‬انح ّ‬
‫وذلك مفسدة لدينهم ودنياهم‪.‬‬
‫ل‬
‫فالله الله في الهمم قد خمدت ر يحها‪ ،‬والله الله في الرجولية قد ق ّ‬
‫حدّها‪ ،‬والله الله في الغيرة على الدين قد تعس جدّها‪ ،‬والله الله في‬
‫الدين الذي طمع ال كفار في تبديله‪ ،‬والله الله في الحريم الذي م ّد‬
‫الكافر يده إلى استرقاقه وتحو يله‪ ،‬ولمثل هذا فليعمل العاملون‪ ،‬وفي‬
‫مثله فليتنافس المتنافسون!‬
‫وبالجملة‪ :‬فلا يخرج إمام ولا رعيته من عهدة الوجوب في إزاحة‬
‫ال كفار من مدائن المسلمين‪ ،‬أو إعانة من عجز عن إخراجهم منها‪،‬‬
‫أو مدافعتهم عنها إلا ّ باستفراغ الوسع‪ ،‬وبذل الطاقة والجهد بالعدّة‬
‫والاستعداد‪ ،‬ومباشرة الدفع‪ ،‬ومعاودة القتال بحسب الإمكان‪ ،‬أو‬
‫يموت وهو مدين على ذلك الفعل‪ ،‬فينتقل الوجوب إلى من تولّى‬

‫‪25‬‬
‫بعده‪ ،‬وأما كونه يقتدي بمن عصى من الأئمة‪ ،‬وترك مدائن المسلمين‬
‫بأيدي ال كفار‪ ،‬أو ترك إغاثة من عجز عن الدفع‪ ،‬فذلك غير مخلص"‪.‬‬

‫وقال أبو عبد الله الفاسي العربي كما نقله عنه المهدي الوزّاني في‬
‫نوازله‪" :‬فإذا علم أنه يجب علينا أن ندافعهم عن الاستيلاء على وطن‬
‫من أوطان المسلمين قبل استيلائهم عليه‪ ،‬فما الذي رفع هذا الوجوب‬
‫عنا بعد استيلائهم وعلة وجوبه قبل الاستيلاء موجودة بالأحرو ية‬
‫بعد الاستيلاء‪ ،‬ولم يختلف الناس في بقاء الحكم مع بقاء العلة‪ ،‬وإنما‬
‫اختلفوا في بقائه مع زوال العلة؟!‬
‫ولا يتوهم متوهم أن ترك المسلمين مدائن المسلمين في أيدي ال كفرة‬
‫يدل على عدم الوجوب‪ ،‬لأن ذلك من تقصير الملوك‪ ،‬وهم بذلك‬
‫في محل العصيان لا في مقام الاقتداء بهم والاستنان‪ ،‬وقديما قيل‪:‬‬
‫اسلك سبيل الهدى ولا يضرك قلة السال كين‪ ،‬واترك طر يق الردى‬
‫ولا يغرك كثرة الهال كين‪.‬‬
‫ولا فرق في الحكم بين ما أدركنا من أخذه كالعرائش والمعمورة وإن‬
‫كانت غير معمورة‪ ،‬وبين ما لم ندركه كسبتة وطنجة‪ ،‬لأن الوجوب‬
‫متعلق بالمسلمين لا بقيد زمان ولا مكان‪ ،‬إلا أنه يتعين على الحاضر‬
‫زمانا ومكانا‪ ،‬فإن لم يفعل لعذر أو لغير عذر وجب على غيره أيضا‪،‬‬
‫وقد تقدم قول المازري‪« :‬فإن عجز الحاضر تعلق الوجوب بمن يليه»‪،‬‬
‫‪26‬‬
‫وهو ظاهر في المكان‪ ،‬صادق بالزمان‪ ،‬ولا يبرأ المسلمون من العهدة‬
‫إلا إذا بلغوا العذر واستفرغوا الوسع في منازلة مراسي ال كفار‬
‫المأخوذة من أيدي المسلمين‪ ،‬ومحاولة فتحها وانتزاعها من أيدي‬
‫ال كفرة وردها إلى الإسلام‪ ،‬فلو نازلوها ثم نازلوها فلم تفتح وجب‬
‫عليهم معاودتها كلما أمكنهم ذلك حتى يفتحها الله تعالى"‪.‬‬

‫بل مال النفراوي المال كي إلى أن القاعدين عن النصرة والدفع ‪-‬‬


‫مع تعي ّنهما ‪ -‬يضمنون أنفس قتلى المسلمين وأموالهم‪ ،‬قال في الفواكه‬
‫الدواني‪(" :‬خاتمة) لم يتعرض المصنف كخليل لحكم ما إذا ترك الناس‬
‫القتال مع أهل تلك المدينة التي فجأ العدو على أهلها‪ ،‬هل يضمنون‬
‫لتركهم الواجب عليهم و يصيرون من أفراد من ترك تخليص‬
‫المستهلك المشار إليه بقول خليل بعد قوله‪ :‬وضمن مار‪ ،‬إلى قوله‪:‬‬
‫كترك تخليص مستهلك من نفس أو مال أم لا؟ و يظهر لي أن‬
‫هؤلاء كذلك‪ ،‬حيث تمكنوا من تخليصهم وزجر العدو عنهم"‪ ،‬ومال‬
‫إلى ذلك أيضا العلامة العربي الفاسي حيث قال‪" :‬وهذا باب عظم‬
‫فيه الخطر‪ ،‬ولا سيما على القول بأن الترك يتنز ّل منزلة الفعل‪ ،‬وعليه‬
‫رُت ّ ِب الضمان في فروع كثيرة‪ ،‬كمسألة من قدر على تخليص نفس‬
‫أو مال‪ ،‬بشهادة أو وثيقة أو مواساة واجبة‪ ،‬كشرب ماء أو كطعام‬
‫لسد الرمق‪ ،‬وكالخيط للجائفة وغير ذلك‪ ،‬فيكون على هذا تارك‬
‫‪27‬‬
‫مدافعة ال كفرة من البلد الذي أخذوه من أيدي المسلمين مع إمكانها‬
‫كالممكن لهم منه‪ ،‬وكفى بذلك جرأة على الله وجرما وحوبا كثيرة"‪،‬‬
‫وهذا مقتضى أحد الوجهين لأصحابنا‪ ،‬قال ابن مفلح في الفروع‪:‬‬
‫"وإن أمكنه إنجاء شخص من هل كة فلم يفعل = فوجهان"‪ ،‬أي في‬
‫الضمان‪ ،‬والذي عليه جمهور الأصحاب ثبوته‪ ،‬وهو قول القاضي وأبي‬
‫الخطاب والعكبري وصاحبي الخلاصة والمنور‪ ،‬وقدمه في الرعايتين‬
‫والحاوي‪ ،‬وجعله السامري في المستوعب قول الأصحاب من غير‬
‫حكاية خلاف‪ ،‬وجعله المرداوي قول أكثر الأصحاب وجمهورهم‪،‬‬
‫ل كن أعرض عنه لقول الموفق والشارح‪ ،‬وجعله هو المذهب‪ ،‬وقول‬
‫الجمهور أصح‪ ،‬وتفر يق الإمام الموف ّق فيه نظر‪ ،‬والأصل الم َّخر ّج عليه‬
‫ن من اضطر إلى طعا ِم‬
‫هذه المسألة هو ما نص عليه الإمام م ِن أ ّ‬
‫غيرِ مضطر أو شرابه‪ ،‬فمنعه غير ُ المضطر‪ ،‬فمات المضطر = ضمنه المانع‪،‬‬
‫وقد يتخرج عليه أن العدو إذا حاصر جماعة بين المسلمين فطلبوا المدد‬
‫من طعام وشراب وسلاح فق ُع ِد عنهم حتى هل كوا ضمن القاعدون‬
‫مع القدرة‪ ،‬ولذلك فإن الإمام أحمد لما سئ ُل عن الرجل يسكن‬
‫الثغر فيشتري الأقوات‪ ،‬و يخز ّنها لنفسه‪ ،‬ل كي يتقوى بذلك على إطالة‬
‫الإقامة بالثغر ونحو ذلك = قال‪" :‬لا يحتكر على الثغر شيئا من هذِه‬
‫الأصناف وغيرها‪ ،‬مما ينتفع به المسلمون ويتقوون به على عدوهم"‪،‬‬

‫‪28‬‬
‫وأعظم من ذلك من يمنع عن أهل الثغور ونحوهم الغذاء والدواء‬
‫والعُدّة وغير ذلك مما يتقوون به‪ ،‬فإن ذلك قطيعة وإثم‪ ،‬وإمدادهم‬
‫واجب وحت ْم‪ ،‬وهو داخل في عموم‬
‫ٌ‬ ‫بهذا ونحوه بكل سبيل ممكنة‬
‫قوله سبحانه‪[ :‬وتعاونوا على البر والتقوى]‪ ،‬وأعظم البر جهاد أعداء‬
‫الله سبحانه‪ ،‬ثم تأمل مع هذا تبج ّح طوائف من المسلمين ببعض ما‬
‫يُسمونه بالمساعدات المالية التي ي ُرسلونها لمن خذلوهم من إخوانهم‬
‫ابتداء مع كون هذا بعض حقوقهم أصلا‪ ،‬وإن ّا لله وإن ّا إليه‬
‫تخْرِجُون‬‫راجعون! [وإ ْذ أخذْنا م ِيثاقكم لا تسْفِكُون دِماءكم ولا ُ‬
‫أنْف ُسكم م ِن دِيارِكم ث َُّم ّ أق ْر ْرتُم ْ وأن ْتُم ْ تش ْهد ُون ‪ .‬ث َُّم ّ أن ْتُم ْ هؤ ُلاء ِ تقْتُلُون‬
‫تخْرِجُون فرِ يقا م ِنكم م ِن دِيارِه ِ ْم تظاهر ُون عليْه ِ ْم ب ِالإ ْث ِم‬
‫أنْف ُسكم و ُ‬
‫ن وإ ْن يأْ تُوكم ُّأسارى تُفاد ُوهم وه ْو مُح َّر ّم ٌ علي ْكم إخْراجُهم‬
‫والعُدْوا ِ‬
‫ل ذل ِك‬
‫ض فما جزاء ُ من يفْع ُ‬ ‫كف ُر ُون ببِعْ ٍّ‬‫ِتاب وت ْ‬ ‫ض الك ِ‬ ‫أفتُؤْم ِن ُون ببِعْ ِ‬
‫خزْيٌ في الحياة ِ ال ُّد ّن ْيا و يو ْم الق ِيامة ِ ي ُر ُّدّون إلى أش ّدِ الع ِ‬
‫ذاب‬ ‫م ِنكم إلّا ِ‬
‫ل عم ّا يعْملُون]‪ ،‬فضلا عن أهل الخسة الذين يفرحون‬
‫الل ّه ُ ب ِغاف ِ ٍّ‬
‫وما َّ‬
‫بما هم فيه من الأمنة ولين العيش لإيثارهم سلامة الدنيا دون‬
‫الآخرة‪ ،‬وإرضائهم عدوّ الله وعدوّهم‪ ،‬وقعودهم عم ّا افترض الله‬
‫عليهم من نُصرة إخوانهم المستضعفين بكل سبيل ليتخلصوا بذلك‬
‫ل ومن ّة‪ ،‬وإنما هؤلاء كمن‬
‫من الإثم والحرج لا ليكونوا أصحاب فض ٍّ‬

‫‪29‬‬
‫قال الله فيهم‪[ :‬وطائ ِفة ٌ ق ْد أَ ه َّم ّتْه ُ ْم أَ نْف ُسُه ُ ْم يظ ُُّن ّون ب َِّالل ّه ِ غي ْر الْحقّ ِ ظ َّنّ‬
‫ط ِئ َّ ّن ف ِإ ْن أَ صابتْك ُ ْم‬ ‫الْجاه ِل َِّي ّة ِ]‪ ،‬وقال سبحانه‪[ :‬و ِإ َّ ّ‬
‫ن مِنْك ُ ْم لمنْ ليُب ّ‬
‫ن من‬ ‫الل ّه ُ عل َّيّ ِإ ْذ ل ْم أَ كُنْ معه ُ ْم شه ِيدا]‪ ،‬فإ ّ‬ ‫م ُصِ يبة ٌ قال ق ْد أَ ن ْعم َّ‬
‫أظهر صفات المنافقين الانشغال بأنفسهم عند نزول البلاء بالمؤمنين‪،‬‬
‫والتباطؤ في النصرة خشية أن يصيبهم ما أصابهم‪ ،‬ووصف الله‬
‫سبحانه المنافقين أيضا بأنهم أشح ّة على الخ ير‪ ،‬قال تعالى‪[ :‬أَ شِ َّح ّة عليْك ُ ْم‬
‫ْف رأَ ي ْته ُ ْم ينْظ ُر ُون ِإلي ْك تد ُور ُ أَ عْيُنُه ُ ْم كال َّ ّذ ِي يُغْشى‬
‫ف ِإذا جاء الْخو ُ‬
‫ْف سلق ُوك ُ ْم ب ِأَ لْسِنة ٍّ حِدادٍّ أَ شِ َّح ّة على‬
‫ْت ف ِإذا ذهب الْخو ُ‬
‫عليْه ِ م ِن ال ْمو ِ‬
‫الْخ يْرِ]‪ ،‬فهم أشح ّة على المؤمنين بكل خير وبكل نُصرة‪ ،‬سواء بالقول‬
‫أو الفعل‪ ،‬ولا يكتفون بهذا‪ ،‬بل يسلقونهم بألسنة ٍّ حداد!‬

‫قال شيخ الإسلام ابن تيمية‪" :‬وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون‬
‫بوجوه‪ :‬تارة يقول المنافقون للمؤمنين‪ :‬هذا الذي جرى علينا بشؤمكم؛‬
‫فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه‬
‫وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة‪ .‬وتارة‬
‫يقولون‪ :‬أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا‬
‫الوقت وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا‪ .‬وتارة يقولون‪:‬‬
‫غركم دينكم‬
‫أنتم ‪ -‬مع قلتكم وضعفكم ‪ -‬تريدون أن تكسروا العدو وقد َّ ّ‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر‬
‫‪30‬‬
‫هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}‪ .‬وتارة‬
‫يقولون‪ :‬أنتم مجانين لا عقل ل كم‪ ،‬تريدون أن تهل كوا أنفسكم والناس‬
‫معكم‪ .‬وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي الشديد"‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫فصل‬

‫قال التسولي في أجوبته‪" :‬والمخاطب بالتعيين المذكور ابتداء إنما هو‬


‫الإمام‪ ،‬إذ هو المكل ّف باستنفار الرعية‪ ،‬لن ُصرة من والاهم‪ ،‬وتجب‬
‫على من عي ّنه لذلك إطاعته‪ ،‬ولا يت ّكل على الرعية أن تفعل"‪ ،‬والذي‬
‫يلزمه هو بذل أسباب الدفع التي يتحقق بها غاية الممكن من المصالح‪،‬‬
‫سواء كان ذلك بإنفاذ الجيوش‪ ،‬أو بعث المدد والع ُ َّ ّدة‪ ،‬أو تهديد‬
‫العدو وإرباكه والتضييق عليه في مصالحه ونحو ذلك‪ ،‬فإن امتنع‬
‫الحُكّام عن الدفع عم ّن يلونهم من المسلمين‪ ،‬وقعدوا عن إنفاذ‬
‫الجيوش والمدد أو بذل غاية الممكن من الأسباب السلطانية‬
‫فالصحيح ما ذهب إليه الحنفية من عدم إثم آحاد الرعايا في الجملة‪،‬‬
‫خاصة مع توق ّف حصول النصرة المنشودة على العدد والعُدّة‬
‫والسلاح والجيوش والنفوذ العام‪ ،‬قال ابن اله ُمام في فتح القدير‪:‬‬
‫ُوج‬
‫ُوج‪ ،‬وق ُع ُودُه ُ ل ِعد ِم خُر ِ‬
‫"و يج ِبُ أَ ْن لا يأْ ثم منْ عزم على الْخُر ِ‬
‫ن أَ ْو من ْعِه ِ"‪ ،‬ل كنّ الجهاد مراتب‬ ‫س وتكاسُلِه ِ ْم أَ ْو قُع ُودِ ال ُّ ّ‬
‫سل ْطا ِ‬ ‫َّ‬
‫الن ّا ِ‬
‫كتغيير المنكر‪ ،‬فإن استعصت على الآحاد رتبة لم يسقط ما سواها‪،‬‬
‫فيلزم مع ذلك أمور‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫تجديد العزم على الخروج والنصرة عند الإمكان‪ ،‬وتحديث‬ ‫•‬

‫النفس بذلك‪ ،‬وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬من مات‬
‫ق"‪،‬‬
‫ِث نفسه ُ بالغزوِ مات على شعبة ٍّ من الن ِّفا ِ‬
‫ولم يغز ُ ولم يح ّد ْ‬
‫فمن فاته الغزو لزمه تحديث النفس‪.‬‬

‫اعتقاد إثم هؤلاء الح ُكّام‪ ،‬واقترافهم للمنكر‪ ،‬ثم بذل الجهد في‬ ‫•‬

‫تغيير هذا المنكر بالمستطاع المشروع الراجح مصلحته‪.‬‬

‫الانشغال بكل ممكن من صور الجهاد والدفع والنصرة‪ ،‬قال‬ ‫•‬

‫ل ال َّد ّف ِْع فه ُو أَ ش ُّ ّد أَ ن ْو ِ‬
‫اع دف ِْع‬ ‫شيخ الإسلام ابن تيمية‪" :‬وأَ َّمّا ق ِتا ُ‬
‫ل‬ ‫ِب إجْماعا فال ْعد ُ ُّوّ َّ‬
‫الصّ ائ ِ ُ‬ ‫ن فواج ٌ‬
‫ل عنْ الْحُر ْمة ِ والد ِّي ِ‬ ‫َّ‬
‫الصّ ائ ِ ِ‬
‫سد ُ الد ِّين وال ُّد ّن ْيا لا شيْء أَ وْجب بعْد ال ِْإ يما ِ‬
‫ن م ِنْ‬ ‫ال َّ ّذ ِي ي ُ ْف ِ‬
‫ب ال ِْإمْكانِ‪ .‬وق ْد‬ ‫ْط بلْ يُدْف ُع بِ حس ِ‬ ‫ط ل ه ُ شر ٌ‬ ‫دف ْعِه ِ فلا يُشْتر ُ‬
‫ق بي ْن دف ِْع‬ ‫صحابُنا وغي ْر ُه ُ ْم فيجِبُ َّ‬
‫الت ّ ْفرِ ي ُ‬ ‫ص على ذل ِك ال ْع ُلماء ُ أَ ْ‬ ‫ن َّ ّ‬
‫ظال ِ ِم ال ْكافِرِ و بي ْن طلبِه ِ فِي بِلادِه ِ‪ ،‬والْج ِهاد ُ مِن ْه ُ ما ه ُو‬ ‫ل ال َّ ّ‬ ‫َّ‬
‫الصّ ائ ِ ِ‬
‫ي‬ ‫ن و َّ‬
‫الرأّْ ِ‬ ‫ْب وال َّد ّعْوة ِ والْ َّحجُ ّة ِ والل ّ ِسا ِ‬
‫ب ِال ْيدِ ومِن ْه ُ ما ه ُو ب ِال ْقل ِ‬
‫الصناعة ِ فيجِبُ ب ِغاية ِ ما يمُْكِن ُه ُ و يج ِبُ على ال ْقعدة ِ‬ ‫و َّ‬
‫الت ّدْبِيرِ و ِّ‬
‫ل ِع ُ ْذرٍّ أَ ْن يخ ْلُف ُوا ال ْغ ُزاة فِي أَ ه ْل ِيه ِ ْم ومالِه ِ ْم"‪ ،‬وقال البهوتي في‬
‫ال كشاف شارحا كلام الشيخ رضي الله عنه‪(" :‬قال الشيخ‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫الأمر بالجهاد) يعني‪ :‬الجهاد المأمور به (منه ما يكون بالقلب)‬
‫كالعزم عليه (والدعوة) إلى الإسلام وشرائعه (والحَّج ّة) أي‪:‬‬
‫إقامتها على المبطل (والبيان) أي‪ :‬بيان الحق وإزالة ال ُّ ّ‬
‫ش به‬
‫(والرأي والتدبير) فيما فيه نفع المسلمين (والبدن) أي‪ :‬القتال‬
‫بنفسه (فيجب) الجهاد (بغاية ما يمكنه) من هذه الأمور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومنه هج ْو ال كفار‪ ،‬كما كان حسان رضي الله تعالى عنه‬
‫يهجو أعداءه صلى الله عليه وسلم"‪ ،‬ويتخر ّج على ذلك أمور‬
‫أخرى كثيرة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫فصل‬

‫ثم قد يُقال يلزم أن ت ُ َّ‬


‫قي ّد هذه الأحكام بعدم وجود ميثاق وعهد‬
‫بين الدولة المسلمة والعدو النازل بساحة دولة مسلمة ٍّ أخرى‪ ،‬ويُستدل‬
‫على ذلك بأمور‪:‬‬

‫ن فعليْكُم ُ‬
‫ن اسْ تن ْصر ُوكم في الد ِّي ِ‬
‫أولها‪ :‬قول الله سبحانه‪[ :‬وإ ِ‬ ‫•‬

‫والل ّه ُ بِما تعْملُون بصِ ير ٌ]‪،‬‬ ‫َّ‬


‫الن ّصْر ُ إلّا على قو ْ ٍّم بي ْنكم وبي ْنهم م ِيثاقٌ َّ‬
‫فقي ّد سبحانه وجوب الن ُصرة بانتفاء الميثاق مع العدو‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في‬ ‫•‬

‫الحديبية على أن يرد إليهم من جاءه مسلما منهم‪ ،‬ووفّى صلى‬


‫الله عليه وسلم بما صالح عليه‪ ،‬وفيه جواز إسلام المسلم وفاء‬
‫بالميثاق‪ ،‬قال ابن القيم في الهدي‪" :‬ومنها‪ :‬أن مصالحة‬
‫المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة ٌ للمصلحة‬
‫ِ‬
‫ودفع ما هو شرّ ٌ منه‪ ،‬ففيه دفع أعلى المفسدتين‬ ‫الراجحة‬
‫باحتمال أدناهما"‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الثالث‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذمته ومن معه في‬ ‫•‬

‫المدينة مباينة لذمة أبي بصير وطائفته‪ ،‬وهذا يعني أن الاعتداء‬


‫على إحدى الدولتين المسلمتين غير ناقض للعهد مع الدولة‬
‫الأخرى‪ ،‬وقال ابن القيم في الهدي‪" :‬وعلى هذا فإذا كان بين‬
‫بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى‬
‫وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم‬
‫و يغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد‪ ،‬كما أفتى به شيخ‬
‫الإسلام في نصارى ملطْية وسبْيِهم مستدلّا بقصة أبي بصير‬
‫مع المشركين‪ .‬والله أعلم"‪ ،‬ومحل الشاهد من نص فتوى‬
‫ق‬ ‫الشيخ قوله رحمه الله تعالى‪" :‬ونصارى ملط َِّي ّة وأَ ه ْ ُ‬
‫ل ال ْمشْرِ ِ‬
‫و يه ُود ُه ُ ْم لو ْ كان له ُ ْم ذِ َّمّة ٌ وع ْهدٌ م ِنْ ملِكٍّ م ُ ْ‬
‫سل ِ ٍّم يُجاهِد ُه ُ ْم‬
‫ن ل َّم ّا ل ْم‬
‫ِب والْيم ِ‬ ‫ح َّت ّى يُسْل ِم ُوا أَ ْو يُعْط ُوا الْجِز ْية كأَ ه ْ ِ‬
‫ل ال ْمغْر ِ‬
‫ل مِص ْر‬
‫ل ال ْع ْهدِ جاز ل ِأَ ه ْ ِ‬ ‫يُعام ِلُوا أَ ه ْل مِص ْر وال َّ ّ‬
‫شا ِم م ُعاملة أَ ه ْ ِ‬
‫ل وأَ با‬ ‫شا ِم غ ْزو ُه ُ ْم واسْ ت ِباحة ُ دمِه ِ ْم ومالِه ِ ْم ل ِأَ َّ ّ‬
‫ن أَ با جن ْد ٍّ‬ ‫وال َّ ّ‬
‫الن ّب ِ ِيّ صلى الله عليه‬‫ن بي ْنه ُ ْم و بي ْن َّ‬ ‫نُصيْرٍّ حار با أَ ه ْل م َّك ّة مع أَ َّ ّ‬
‫ن ال ْعهْد والذ ِّ َّمّة َّإن ّما يكُونُ‬
‫ق الْأَ ئ َِّم ّة ِ ل ِأَ َّ ّ‬
‫وسلم عهْدا‪ ،‬وهذا ب ِات ِّفا ِ‬
‫م ِنْ الْجانبِيْنِ"‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫الرابع‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم ينصر أبا بصير‬ ‫•‬

‫وأصحابه في قتالهم مع المشركين على الرغم من قلة عدد هذه‬


‫الفئة المسلمة وضعف قوتهم‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬ما أخرجه مسلم ٌ وغيره عن حذيفة بن اليمان رضي‬ ‫•‬

‫الله عنه أنه قال‪" :‬ما منعنِي أَ ْن أَ ش ْهد بدْرا إلّا أَ ن ِ ّي خرجْ تُ أَ نا‬
‫ْش‪ ،‬قالوا‪َّ :‬إن ّك ُ ْم تُر ِيد ُون‬
‫كفّار ُ قُر ي ٍّ‬
‫وأَ بِي حُسيْلٌ‪ ،‬قال‪ :‬فأخذنا ُ‬
‫مُح َّم ّدا‪ ،‬فق ُل ْنا‪ :‬ما نُر ِيدُه ُ‪ ،‬ما نُر ِيد ُ إلّا المدِينة‪ ،‬فأخذ ُوا م ِن ّا عهْد‬
‫الله ِ وم ِيثاقه ُ لنن ْصرِف َّنّ إلى المدِينة ِ‪ ،‬ولا نُقات ِ ُ‬
‫ل معه ُ‪ ،‬فأتي ْنا رسول‬
‫الله ِ ﷺ‪ ،‬فأخْبرْناه ُ الخ بر‪ ،‬فقال‪ :‬ان ْصرِفا‪ ،‬نفِي له ْم بع ْهدِهِمْ‪،‬‬
‫الل ّه عليهم"‪ ،‬وظاهره أن ميثاق حذيفة وأبيه مع‬
‫ونسْتع ِينُ َّ‬
‫المشركين كان مانعا من نصرتهما المسلمين في غزوة بدر‪.‬‬

‫والجواب عن هذا إجمالي وتفصيلي‪ ،‬أما الإجمالي فهو أن حوادث‬


‫الأعيان وم ُشتبهات الأحكام لا يُقضى بها على أصول الديانة‬
‫ومُح ْكمات الشر يعة‪ ،‬ثم إن من يستقرئ موارد الشرع وتصرفات‬
‫الفقهاء يعلم أنهم مجمعون على أن مدار أحكام المعاهدة والموادعة على‬
‫مصلحة الإسلام والمسلمين‪ ،‬وتدعيم أهل الإيمان في جهادهم لأهل‬
‫ال كفر والطغيان‪ ،‬لا إسقاط هذا الجهاد وتلك المكافحة‪ ،‬قال الإمام‬

‫‪37‬‬
‫الموفق في بيان مقاصد اله ُدنة في الشر يعة‪َّ " :‬‬
‫ولأن ّه قد يكُون بالمسلمين‬
‫حت ّى يقْوى المسلمون‪ .‬ولا يجوز ُ ذلك إ َّلّا َّ‬
‫للن ّظرِ‬ ‫ْف‪ ،‬فيُهادِنُهم َّ‬
‫ضع ٌ‬
‫ْف عن قتالِهم‪ ،‬وإ َّمّا أ ْن يطمع في‬
‫للمسلمين؛ إ َّمّا أ ْن يكون بهم ضع ٌ‬
‫إسْ لامِه ِم بِهُدْنتِهم‪ ،‬أو في أدائِهم الجِز ْية‪ ،‬وال ْتزامِهم أحْكام الملَّ ِ ّة ِ‪ ،‬أو‬
‫غيرِ ذلك من المصالِ ح‪ .‬إذا ثبت هذا‪َّ ،‬‬
‫فإن ّه لا تجوز ُ المُهادنة ُ مُطْلقا‬
‫ك الجهادِ بالك ُل ّ َِّي ّة ِ"‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫من غيرِ تقْدير ِ م ُ َّ ّدة ٍّ؛ َّ‬
‫لأن ّه ي ُ ْفض ِى إلى ترْ ِ‬
‫جمهور الفقهاء‪ ،‬أما الحنفية‪ ،‬فعلى الرغم من تجويزهم المهادنة مطلقة‬
‫غير مؤق ّتة‪ ،‬إلا إنهم لم يجو ّزوها مؤبدة‪ ،‬وجعلوها مع ذلك جائزة‬
‫غير لازمة‪ ،‬يتجدد فيها لحاظ الأصلح للإسلام وأهله‪ ،‬قال محمد رحمه‬
‫الله في السير الصغير‪" :‬قلت‪ :‬أَ رأَ ي ْت قوما من أهل الْحر ْب طلب ُوا إلى‬
‫ج ْز ية أينبغي لل ْم ُسلمين أَ ن‬
‫ال ْم ُسلمين ال ْم ُوادعة سِنِين معْلُومة ب ِغي ْر ِ‬
‫يعطوهم ذل ِك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ين ْبغ ِي ِلإمام ال ْم ُسلمين أَ ن ينظر فِي ذل ِك‪،‬‬
‫ف ِإن كانت له ُم شو ْكة لا يستطيعهم‪ ،‬وكانت موادعتهم خيرا لل ْم ُسلمين‬
‫وادعهم‪ .‬قلت‪ :‬ف ِإن وادعهم َّ‬
‫ثم ّ نظر فِي ذل ِك فوجد موادعتهم شرا‬
‫لل ْم ُسلمين‪ ،‬وقد وادعهم على شيْء يؤدونه إليه‪ ،‬أينبذ إليهم و يب ْطل‬
‫ال ْم ُوادعة َّ‬
‫ثم ّ يقاتلهم؟ قال‪ :‬نعم"‪ ،‬والخ ير ية والشر ي ّة ههنا راجعة‬
‫للمسلمين من حيث هم مسلمون‪ ،‬مقاصد دينهم مقدمة على مقاصد‬
‫دنياهم‪ ،‬بل الحنفية يرون الصلح نوعا من الجهاد في المعنى لا قعودا‬

‫‪38‬‬
‫عنه‪ ،‬لأنه مسلك من مسالك حماية الإسلام وصيانة أهله‪ ،‬والجميع‬
‫متفقون على أن ذلك يُت َّ‬
‫رصّ د معه قوة المسلمين وعُلو ِّهم‪ ،‬وإنما اختلفوا‬
‫ت بالمسْل ِمِين نازِلة ٌ بق ُ َّو ّة ِ‬
‫وقت لذلك‪ ،‬قال الشافعي‪" :‬إن نزل ْ‬
‫ٍّ‬ ‫في تقدير‬
‫عدُوٍّّ عليهم ‪ -‬وأ ْرجُو أن لا يُنْزِلها الله ُ بهم ‪ -‬هادنهم الإمام ُ على َّ‬
‫الن ّظرِ‬
‫للمسْل ِمِين إلى م ُ َّ ّدة ٍّ يرْجُو إليها الق ُ َّو ّة عليهم"‪ ،‬وقد اتفق الفقهاء مع ذلك‬
‫ل يبذله المسلمون لأعدائهم إلا في شديد‬
‫على عدم جواز العقد على ما ٍّ‬
‫الضرورات‪ ،‬لأنهم رأوا في ذلك ذلة للمسلمين مناق ِضة للمصلحة‬
‫المطلوبة من الهدنة ونحوها‪ ،‬قال الشافعي‪" :‬ولا خي ْر في أن يُعْطيهم‬
‫المسلمون شيئا بحال على أن يكُ ُّ ّفوا عنهم؛ لأ َّ ّ‬
‫ن القتل للمسلمين شهادة ٌ‪،‬‬
‫أعز من أن يُعطى مُشْرِك ٌ على أن يكف عن أهله؛‬
‫ن الإسلام ُّ ّ‬‫وأ َّ ّ‬
‫ن أهله ‪ -‬قاتلين ومقتولين ‪ -‬ظاهرون على الحق‪ ،‬إلا في حال‬ ‫لأ َّ ّ‬
‫واحدة وأخرى أكثر منها‪ ،‬وذلك أن يلتحم قوم من المسلمين‬
‫فيخافون أن يصطلموا ل كثرة العدو وقِل ّتهم وخُلّة فيهم‪ ،‬فلا بأس أن‬
‫يُعط ُوا في تلك الحال شيئا من أموالهم على أن يتخل ّصوا من المشركين؛‬
‫لأنه من معاني الضرورات يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها‪ ،‬أو يُؤسر‬
‫مسلم فلا يُخلى إلا بفدية فلا بأس أن يُفدى"‪ ،‬فانظر هذه المقالة‬
‫الشر يفة في أمر بذل المال والدنيا‪ ،‬فما بالك بالمصالحة على بذل الديانة‬
‫وتفر يغ الشر يعة والرضى بالصغار؟!‬

‫‪39‬‬
‫فهذه المهادنة الشرعية لا علاقة لها بالمهادنة لأجل الاستكثار من‬
‫ُّ‬
‫والتقل ّب في زينتها‪ ،‬ونشر الفواحش‪ ،‬وإماتة السنن‪ ،‬وتبديل‬ ‫الدنيا‪،‬‬
‫الديانة‪ ،‬وتسليط الكافرين على عقول المسلمين وقلوبهم‪ ،‬فتنز يل‬
‫أحكام الهدنة على هذه المقامات ومجاوزة هذا إلى الخوض في‬
‫وتلاعب بالشر يعة‪ ،‬وخيانة ٌ لله‬
‫ٌ‬ ‫عبث سخيف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تفاصيلها ودقائقها‬
‫ورسوله والمؤمنين!‬

‫فإن كانت المواثيق على هذه الحال فهي ساقطة الاعتبار في نظر‬
‫الشارع والمتشرِّع‪ ،‬كالمصالحة على ما لا يجوز‪ ،‬وعلى ما يُفسد دين‬
‫المسلمين قبل دنياهم‪ ،‬قال الشافعي‪" :‬وبهذه الآية مع الآية في براءة‬
‫قلنا إذا صالح الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه كما صنع رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم في النساء"‪ ،‬يُشير إلى قول الله تعالى‪[ :‬يا أَ ُّ ّيها‬
‫ات فامْتحِن ُوه َُّنّ َّ‬
‫الل ّه ُ أَ ع ْلم ُ‬ ‫ال َّ ّذ ِين آمن ُوا ِإذا جاءكُم ُ ال ْمُؤْم ِناتُ مُهاجِر ٍّ‬
‫ات فلا ترْجِع ُوه َُّنّ ِإلى ال ْ كُ َّ ّفارِ]‪ ،‬وقد‬
‫ب ِِإ يمانِه َِّنّ ف ِإ ْن علِم ْتُم ُوه َُّنّ مُؤْم ِن ٍّ‬
‫روى ابن جرير عن عروة أنه قال في هذه الآية‪" :‬إن رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشا عام الحديبية على أن يردّ عليهم‬
‫من جاء بغير إذن وليه؛ فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم وإلى الإسلام‪ ،‬أَ بى الله أن يُرْددْن إلى المشركين إذا هنّ‬
‫امْتحنّ محنة الإسلام"‪ ،‬وهذا كان شديدا مه ّدِدا للصُلح بر ُ َّمّته‪ ،‬بل‬
‫‪40‬‬
‫ن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إعماء‬
‫أشار بعضهم إلى أ ّ‬
‫الله سبحانه المشركين عن التشنيع على المسلمين بالرجوع عن ذلك‬
‫بعد أخذ العهد عليه‪.‬‬

‫وأيضا فإن غاية ما قد يقع عليه الصُلح مع المشركين الإمساك عن‬


‫القتال من الجانبين‪ ،‬أما إذا تعدّى المشركون مع ذلك إلى الطعن‬
‫في الإسلام‪ ،‬والاستهزاء بح ُر ُمه‪ ،‬والطعن في النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬والاستطالة على عقائد الملة = فإن هذا لا يبقى معه عهد أو‬
‫أمان‪ ،‬ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على قتل كعب بن‬
‫الأشرف لإيذائه الله ورسوله‪ ،‬قال شيخ الإسلام في الصارم‬
‫المسلول‪" :‬وقد كان معاهدا قبل ذلك‪ ،‬ثم هجا رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫مع كونه قد أمّنهم على دمه وماله؛ لاعتقاده بقاء العهد‪ ،‬ولأنهم‬
‫حارب فقط‬
‫جاؤوه مجيء من قد آمنه‪ ،‬ولو كان كعب بمنزلة كافرٍّ م ٍّ‬
‫لم يجز قتله إذا أمّنهم كما تقدم؛ لأن الحربي إذا قلت له أو عملت‬
‫معه ما يعتقد أنه أمانٌ؛ صار له أمانٌ‪ ،‬وكذلك كل من يجوز أمانه‪،‬‬
‫فع ُلم أن هجاءه للنبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لله ‪-‬تعالى‪ -‬ورسوله؛‬
‫ن ولا عهدٌ"‪.‬‬
‫لا ينعقد معه أما ٌ‬

‫‪41‬‬
‫ثم إنه قد تقدم ُّ‬
‫تعل ّق الدفع بجميع المسلمين في عامة الأقطار‪ ،‬ومحال‬
‫الالتزام بالعهود والمواثيق يكون عند الطلب لا الدفع‪ ،‬قال العلامة‬
‫التسولي في أجوبته لمسائل الأمير عبد القادر‪" :‬وبالجملة‪ :‬إنما تجوز‬
‫المهادنة مع كون الجهاد فرض كفاية‪ ،‬بأن يكون العدوّ مطلوبا في‬
‫أرضه"‪ ،‬وقال‪" :‬وإنما جاز الصلح والهدنة‪ :‬إذا كانوا مطلوبين في‬
‫أراضيهم‪ ،‬لأن الغلبة والظفر حينئذ للمؤمنين‪ ،‬فالعهد حينئذ منا‬
‫إليهم‪ ،‬لا منهم إلينا‪ ،‬فالمؤمنون هم الموفون بالعهود"‪ ،‬ونقل الونشريسي‬
‫في المعيار عن بعض فقهاء تلمسان أنه سُئل عن خليفة ٍّ صالح‬
‫النصارى المعتدين على بعض سواحل المسلمين وينهى عن جهادهم‬
‫ودفعهم‪ ،‬فكان مما أجاب به‪ .." :‬أما الضرب الثاني‪ ،‬فمهما تعيّن‬
‫الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح‪ ،‬كما لو كان العدو طالبا على‬
‫المسلمين‪ ،‬أو قد يفجأ موضعهم‪ ،‬وهو ضعف عدد المسلمين فأقل‪،‬‬
‫شدة وع ُ ّدة المشهور عند المحققين‪ ،‬فتعيّن على من نزل بهم أو‬
‫لا ِ‬
‫أقاربهم دفعهم في الح ين"‪ ،‬قال‪" :‬فكل ما نُق ِل في تعيين فرض‬
‫الجهاد مان ٌع من الصلح‪ ،‬لاستلزامه إبطال فرض العين الذي هو‬
‫الجهاد المطلوب به الاستنقاذ"‪ ،‬قال‪" :‬ولما تقررت هذه المقدمة بما‬
‫فيها من نصوص الأيمة تعين بها أن الجهاد فرض عين في مسألة‬
‫السؤال‪ ،‬فيمتنع فيها الصلح على كل حال‪ ،‬لا سيما إن طالت مدته‪،‬‬

‫‪42‬‬
‫مصلحته‪ ،‬وعلى المسلمين‬ ‫أهل كه الله‬ ‫فقد عادت على العدو‬
‫مفسدته‪ ،‬وإن تخيّلت فيه مصلحة فهي للعدو أعظم من وجوه مكملة‪،‬‬
‫فإنه يتحصن في تلك المدة و يكثر من آلات الحرب والعدة‪ ،‬فيتعذر‬
‫على المسلمين الاستنقاذ‪ ،‬و يصعب عليهم تحصيل المراد بعد تيسره لو‬
‫ساعده التوفيق‪ ،‬ول كن المولى جل جلاله هو المسئول في هدايته إلى‬
‫سواء الطر يق‪ ،‬فما وقع من الصلح فهو مصلحة للعدو وهو مفسدة‬
‫على الإسلام‪ ،‬فلا يكون له في نفس الأمر انبرام‪ ،‬فالصلح المذكور‬
‫يجب نقضه لأنه بمقتضى الشرع غير منبرم‪ ،‬فحكمه غير لازم عند‬
‫كل من حقق أصول الشر يعة بنظر عالم"‪ ،‬ثم قال‪" :‬لا يقال الصلح‬
‫المسؤول عنه داخل في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب‪،‬‬
‫والصلح من الإسلام لا يكون في الغالب إلا من عذر‪ ،‬على إنه حكم‬
‫اجتهادي من إمام فلا سبيل إلى نقضه!‬
‫لأن ّا نقول‪ :‬وقوع ذلك الصلح عقب الداهية الدهيا ‪ -‬وهي انتهاز‬
‫العدو دمره الله الفرصة في بلاد المغرب مع توفر الإسلام والعدو‬
‫أهل كه الله ليس له فيها مردّ والمسلمون لا يقصرون عن ضعف العدد‬
‫فضلا أن يكون عدوهم ضعفهم ‪ -‬إما يكون لخوف استيصال‬
‫الكافرين بقية المسلمين‪ ،‬وإما لخوف من المحاربين‪ ،‬والأول باطل‪،‬‬
‫لأنه خلاف الفرض‪ ،‬والثاني أيضا كذلك‪ ،‬لأن الخوف من‬

‫‪43‬‬
‫المحارب بالفرض مع إمكان انقسام العدد‪ ،‬واتصال المسلمين بحصول‬
‫المدد‪ ،‬فالواجب القتال‪ .‬وإن كان العدو ذا جلد‪ ،‬ومعهكثرة العدد‪،‬‬
‫فلا يدخل الصلح في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب‪،‬‬
‫وحكم الاجتهاد يتنقض إذا تبين فيه الخطأ كما نُقل عن سحنون‪،‬‬
‫وطول المدة في الصلح المذكور خطأ‪ ،‬فيتنقض الصلح‪ ،‬ودليل ذلك‬
‫أيضا أن الصلح المذكور فيه ترك الجهاد المتعين‪ ،‬وترك ما فيه الجهاد‬
‫المتعين يمتنع‪ ،‬فالصلح المذكور ممتنع غير لازم‪ ،‬فالجهاد في الموضع‬
‫المذكور لم يزل متعينا من زمن الوخزة إلى الآن‪ .‬وعن ابن القاسم‪:‬‬
‫إن طمع قوم في فرصة في عدو قربهم وخشوا إن أعلموا الإمام‬
‫منعهم فواس ٌع خروجهم وأحب إلي أن يستأذنوه‪ .‬قال ابن حبيب‪:‬‬
‫سمعت أهل العلم يقولون إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت‬
‫مخالفته إلا بأن يدهمهم العدو‪ .‬وقال ابن رشد‪ :‬طاعة الإمام لازمة‬
‫وإن كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية‪ .‬ومن المعصية النهي عن‬
‫الجهاد المتعين على ما تقدم‪ .‬والله أعلم"‪ ،‬وهذه الفتوى نقلها كذلك‬
‫التسولي وعليش المال كيين في أجوبتهما للأمير عبد القادر‪ ،‬وأما‬
‫كلامه في خوف استيصال الكافرين فيوضحه ما نقله بعض المال كية‬
‫‪ -‬كما في المعيار ‪ -‬عن ابن حزم رحمه الله تعالى أنه قال‪" :‬أجمعوا على‬
‫أن ّه لو نزل عدوّ الدين بساحة المسلمين وقالوا إن لم تعطونا مال فلان‬

‫‪44‬‬
‫استأصلناكم = لم يحل أن يعطوا ذلك‪ ،‬ولو خيف استئصال‬
‫المسلمين"‪ ،‬ولم أقف عليه من كلام ابن حزم‪ ،‬ل كن عل ّق عليه بعض‬
‫فضلاء فقهاء المال كية قائلا‪" :‬وأما مساعفة ال كفار بمال مسلم معين‬
‫من غير طيب نفس منه بذلك على مهادنة ال كفار فينبغي أن لا يجوز‬
‫كما ذكر ابن حزم‪ ،‬وقد قال صلى الله عليه وسلم‪ :‬لا يحل مال المسلم‬
‫بغير طيب نفس منه‪ ،‬أو كما قال صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ض‬
‫[لا تأكلوا أموال كم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن ترا ٍّ‬
‫منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما]‪ ،‬فقرن تعالى بين‬
‫النهي عن أخذ المال بغير رضى وبين القتل‪ ،‬وقد أفتى ابن رشد في‬
‫القتل أنه لا يجوز إن خيف الاستيصال‪ ،‬فكذلك المال والله أعلم‪.‬‬
‫وما يهوِّلون به من استيصال الإسلام = من اختلاف أهل الز يغ‬
‫كما قال ابن رشد‪ ،‬وقد سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم ربه أن‬
‫لا تستباح بيضة أمته فأعطاه ذلك‪ ،‬وقال صلى الله عليه وسلم‪ :‬لا‬
‫تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‪ .‬الحديث‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬
‫[لي ُظه ِره على الدين كله]‪ ،‬وإذا كان فرض خوارق العادات ليس‬
‫من دأب الفقهاء كما قال المازري وغيره = ففرض المحال شرعا‬
‫ينبغي ألا يكون من دأب المسلمين فضلا عن دأب الفقهاء‪ ،‬فهذا‬
‫الفرض من شيم أهل الز يغ والتعطيل كما قال ابن رشد في أجوبته‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫والله تعالي أعلم"‪ ،‬وأصل هذا الكلام ما قاله الإمام القاضي ابن رشد‬
‫الجد في أجوبته‪" :‬وأما السؤال عن العدو ‪ -‬أهل كه الله ‪ -‬لو قدم‬
‫البيت الحرام‪ ،‬أو قبر النبي عليه السلام‪ ،‬فقال للمسلمين‪ :‬إما دفعتم‬
‫إلينا رجلا منكم يسمونه وإلا هدمنا البيت أو نبشنا نبيكم = فهي من‬
‫المسائل التي يبثها في الناس أهل الز يغ والتعطيل‪ ،‬كي يلزمهم ‪-‬‬
‫بزعمهم ‪ -‬استباحة قتل النفس التي حرمها الله أو استباحة حرمة‬
‫النبي عليه السلام‪ ،‬فيسخروا بهم وبدينهم‪.‬‬
‫والنبي عليه الصلاة والسلام أكرم على الله من أن يمكن أعداءه‬
‫ال كفرة من استباحة حرمته‪ ،‬ونبشه من مضجعه‪ ،‬وكما عصمه الله‬
‫عز وجل ممن أراد به سوءا مكروها في حياته‪ ،‬فكذلك يعصمه ممن‬
‫أراد شيئا من استباحة حرمته‪ ،‬بعد وفاته‪ ،‬ويهلك من تعرض إلى‬
‫شيء من ذلك"‪ ،‬قال‪" :‬ولما وقع السؤال عن هذا الممتنع بفضل الله‬
‫تعالى‪ ،‬المحال‪ ،‬لم يكن بد من الجواب عليه‪ ،‬لرفع شبهة من رام‬
‫يخشى وقوعه‪ ،‬بفضل الله ورحمته‪،‬‬
‫الطعن في الدين‪ ،‬لا لأن ذلك ُ‬
‫في ُفتقر إلى معرفة الحكم فيه‪ ،‬فنقول‪ :‬إن الواجب يكون على جميع‬
‫المسلمين في ذلك أن يموتوا عن آخرهم دون أن ت ُستباح حرمة نبيهم‬
‫صلى الله عليه وسلم وش َّرّف و َّ‬
‫كر ّم‪ ،‬ولا يدفعوا إليهم الرجل الذي‬
‫طلبوه ليقتلوه‪ ،‬إذ ليس هو أولى من أن يكون فداء لحرمته من كل‬

‫‪46‬‬
‫واحد منهم"‪ ،‬فتأمل قول الإمام رضي الله عنه في الدفع عن رجل‬
‫مسلم واحد‪ ،‬فكيف بالدفع عن بقعة ٍّ من ديار الإسلام بما فوقها‬
‫من الدماء والأنفس والأعراض والحرمات؟!‬

‫وسأل الأمير عبد القادر العل ّامة محمد عليش‪ ،‬مفتي مصر وشيخ‬
‫المال كية فيها‪ ،‬عن سلطان المغرب المصالح للعدو الكافر النازل بساحة‬
‫الجزائر‪ ،‬المُعين للعدو بالمتاجرة معه ونحو ذلك‪ ،‬المضي ِّق الخناق على‬
‫المجاهدين‪ ،‬فأجاب الشيخ بإجابة ٍّ طو يلة ص َّ ّدرها بقوله‪" :‬نعم‪ ،‬يحرم‬
‫على السلطان المذكور ‪ -‬أصلح الله أحواله ‪ -‬جميع ذلك الذي ذكرتم‪،‬‬
‫حرمة معلومة من الدين بالضرورة"‪ ،‬وقال رحمه الله تعالى‪" :‬وبيع‬
‫البقر وسائر الحيوان والطعام والعروض وكل ما ينتفعون به في‬
‫النازلة المذكورة حرام قطعا إجماعا ضرورة لا يشك فيه مسلم‪ ،‬سواء‬
‫في حال حصر المسلمين إياهم وفي حال عدمه‪ ،‬إذ قتالهم فرض عين‬
‫على كل من فيه قدرة عليه‪ ،‬ولو من النساء والصبيان من أهل تلك‬
‫البلاد ومن قرب منها‪ ،‬كأهل عمل السلطان المذكور وفقه الله‬
‫تعالى‪ ،‬فكيف يتخيل مسلم أن معاملتهم بما ينتفعون به ويتقوون به‬
‫على البقاء في أرض الإسلام جائزة مع ذلك؟!"‪ ،‬وبنحو ذلك أجاب‬
‫العربي الفاسي كما ورد في نوازل الوزّاني‪ ،‬قال‪" :‬وأما المسألة الرابعة‬
‫فلا يجوز أن ي ُباع لل كفار الحربيين القوت ولا السلاح ولا ما ي ُصنع‬
‫‪47‬‬
‫منه السلاح‪ ،‬ولا ما يعظمون بهكفرهم‪ .‬ونصوص المذهب متظاهرة‬
‫على ذلك‪ .‬قال في المدونة‪ :‬قال مالك ‪:‬لا يباع من الحربي سلاح‬
‫ولا سروج ولا نحاس‪ .‬قال ابن حبيب‪ :‬وسواء كانوا في هدنة أو‬
‫غيرها‪ ،‬ولا يجوز بيع الطعام منهم في غير الهدنة‪ ،‬قال الحسن‪ :‬ومن‬
‫حمل إليهم الطعام فهو فاسق‪ ،‬ومن باع منهم السلاح فليس بمومن‪،‬‬
‫ولا يعتذر بالحاجة إلى ذلك لتحصيل ما يحتاج إليه في بلادهم"‪،‬‬
‫وقد روى ابن هانئ رحمه الله تعالى في مسائله أن الإمام أحمد رضي‬
‫الله عنه سُئل عن الرجل يبيع من العدوّ شيئا؟ قال‪" :‬لا يُباع ممن‬
‫يتقو ّى على المسلمين"‪ ،‬أي لا يُباع له‪ ،‬أو لا يُشترى منه‪ ،‬احتمالان‪.‬‬
‫ومن فقه الإمام رضي الله عنه أنه لم ينظر هنا إلى عين المُباع‪ ،‬بل‬
‫إلى المآل‪ ،‬وهو أن يتقو ّى العدو بهذه المعاملة على المسلمين‪ ،‬أي فوق‬
‫تقو ّي المسلمين عليهم بها‪ ،‬فجعل ذلك معْدِلا عن أصل الإباحة‪،‬‬
‫وهذا غاية في الظهور‪ ،‬فإن تقو ية المؤمن على المؤمن ممنوعة شرعا‪،‬‬
‫وهي داخلة في قول الله سبحانه‪[ :‬ولا تعاونوا على الإثم والعدوان]‪،‬‬
‫وبنى الفقهاء على ذلك تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة ونحو ذلك‪،‬‬
‫فكيف بتقو ية الكافر على المؤمن؟! بل إن هذا كان من أسباب لعن‬
‫الله لليهود‪ ،‬كما قال تعالى‪[ :‬ث ُم ّ أَ ن ْتُم ْ هؤ ُلاء ِ تقْتُلُون أَ نْف ُسك ُ ْم و ُ‬
‫تخْرِجُون‬
‫ن وإ ْن يأْ تُوكم‬
‫فرِ يقا مِنْك ُ ْم م ِنْ دِيارِه ِ ْم تظاهر ُون عليْه ِ ْم ب ِِالإ ْث ِم وال ْعُدْوا ِ‬

‫‪48‬‬
‫ُّأسارى تُفاد ُوهم وه ْو مُحرّم ٌ علي ْكم إخْراجُهم]‪ ،‬أي تقوون أعداءكم‬
‫على إخوانكم ثم توالون إخوانكم بالفداء ونحو ذلك وأنتم الذين أضعفتم‬
‫شوكتهم أصالة‪ ،‬وظاهر من الظهر في أحد الوجوه‪ ،‬وهو محل القوة‪،‬‬
‫ولذلك قيل للشيء الشديد الثقيل [الّذ ِي أَ ن ْقض ظهْرك]‪ ،‬و يُقال‬
‫فلان كان ظهرا لفلان‪ ،‬أي قو ّاه‪ ،‬ويدخل في ذلك كل تقو ية‬
‫مادية أو معنو ية‪ ،‬فهذا كله من جملة سلاح الحرب‪ ،‬لذلك أمر النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم بجواب المسلمين لأبي سفيان بعدما وقع في أحد‪،‬‬
‫"الله مولانا ولا مولى ل كم"‪" ،‬لا سواء‪ ،‬قتلانا في الجنة وقتلاكم في‬
‫النار"‪ ،‬لكيلا يجتمع للمشركين الشوكتان المادية والمعنو ية حينئذ‪ ،‬وقد‬
‫أمر النبي أصحابه أن يجيبوا هم أمرا عاما‪ ،‬ليتقووا بذلك معنويا على‬
‫عدوهم‪.‬‬

‫وأما الجواب عم ّا است ُدل به على التفصيل فكما يلي‪:‬‬

‫أما المذكور أولا‪ ،‬وهو آية الأنفال‪ ،‬فهي دليل على ضد مطلوب‬ ‫•‬

‫المست ّدِل! فإن الله سبحانه قد جعل المؤمنين فيها صنفين‪،‬‬


‫أحدهما له ولاية تامة‪ ،‬والآخر له ولاية ناقصة ل كونهم عصاة‬
‫مقترفين ل كبيرة القعود عن الهجرة إلى ديار الإسلام‪ ،‬قال الله‬
‫جر ُوا ما ل ك ُ ْم م ِنْ ولايتِه ِ ْم م ِنْ شيْء ٍّ‬
‫تعالى‪[ :‬وال َّ ّذ ِين آمن ُوا ول ْم يُها ِ‬

‫‪49‬‬
‫ح َّت ّى يُها ِ‬
‫جر ُوا]‪ ،‬قال ابن جرير‪" :‬يعني‪ :‬من نُص ْرتهم وميراثهم"‪،‬‬
‫يريد الن ُصرة المطلقة‪ ،‬لأن لهم نُصرة مقيدة ذكرها الله سبحانه‬
‫ن فعليْكُم ُ‬
‫ن اسْ تن ْصر ُوكم في الد ِّي ِ‬
‫بعد ذلك‪ ،‬قال جل وعلا‪[ :‬وإ ِ‬
‫َّ‬
‫الن ّصْر ُ]‪ ،‬وهذا القدر مشترك بين أهل الولايتين التامة والناقصة‪،‬‬
‫فليس هو محل الامتياز‪ ،‬بل ما قاله سبحانه تاليا‪[ ،‬إلّا على قو ْ ٍّم‬
‫بي ْنكم وبي ْنهم م ِيثاقٌ ]‪ ،‬فإن هذه الطائفة لما أبت الانحياز إلى‬
‫الفئة المؤمنة في أرض الإسلام لم يكن للمسلمين أن ينقضوا‬
‫مواثيقهم لأجل من قعد عن الامتياز معهم عم ّن سواهم‪ ،‬فعُل ِم‬
‫بهذا أن أصحاب الولاية التامة لا يمنع من وجوب نصرتهم‬
‫ميثاقٌ أو غيره‪ ،‬قال ابن العربي المال كي في أحكام القرآن‪" :‬وأَ َّمّا‬
‫جر ُوا ما ل ك ُ ْم م ِنْ ولايتِه ِ ْم م ِنْ شيْء ٍّ‬
‫قو ْلُهُ‪{ :‬وال َّ ّذ ِين آمن ُوا ول ْم يُها ِ‬
‫ن ذل ِك عامّ ٌ فِي ُّ‬
‫الن ّص ْرة ِ‬ ‫جر ُوا} [الأنفال‪ :]72 :‬ف ِإ َّ ّ‬
‫ح َّت ّى يُها ِ‬
‫ن منْ كان مُق ِيما بِم َّك ّة على إيمانِه ِ ل ْم يكُنْ ذل ِك‬
‫اث؛ ف ِإ َّ ّ‬
‫والْمِير ِ‬
‫مُعْتدّا له ُ بِه ِ‪ ،‬ولا م ُثابا عليْه ِ ح َّت ّى يُهاجِر"‪ ،‬قال‪" :‬إ َّلّا أَ ْن يكُونُوا‬
‫ُّأسراء مُسْتضْ عف ِين؛ ف ِإ َّ ّ‬
‫ن الْوِلاية معه ُ ْم قائِمة ٌ‪ ،‬و ُّ‬
‫الن ّص ْرة له ُ ْم واجِبة ٌ‬
‫ِف ح َّت ّى نخ ْر ُج إلى اسْ تِن ْقاذِه ِ ْم‬ ‫ن ب ِأَ َّلّا يب ْقى م َِّن ّا عي ْ ٌ‬
‫ن ت ْطر ُ‬ ‫ب ِال ْبد ِ‬
‫ل ذل ِك‪ ،‬أَ ْو نبْذ ُل جم ِيع أَ مْوالِنا فِي‬
‫إ ْن كان عدد ُنا يح ْتمِ ُ‬
‫جهِمْ‪ ،‬ح َّت ّى لا يب ْقى ل ِأَ حدٍّ دِرْهم‪ ٌ.‬كذل ِك قال مال ِ ٌ‬
‫ك‬ ‫اسْ ت ِخْ را ِ‬

‫‪50‬‬
‫ق فِي‬ ‫وجم ِي ُع ال ْع ُلماءِ‪ ،‬ف ِإ َّن ّا ل َِّل ّه ِ و ِإ َّن ّا إليْه ِ راجِع ُون على ما ح َّ ّ‬
‫ل ب ِالْخل ْ ِ‬
‫ل‬
‫ن ا ْل َأمْوا ِ‬
‫ترْكِه ِ ْم إخْ وانه ُ ْم فِي أَ سْرِ ال ْعدُوِّ‪ ،‬و ب ِأَ يْدِيه ِ ْم خزائ ِ ُ‬
‫ل وال ْع ُ َّ ّدة ُ وال ْعدد ُ‪ ،‬والْق ُ َّو ّة ُ والْجلد ُ"‪ ،‬والأمر على‬
‫ل ا ْلأَحْ وا ِ‬
‫وفُضُو ُ‬
‫ما قال رحمه الله تعالى‪ ،‬وإنا لله وإنا إليه راجعون!‬

‫وقال العلامة ابن نور الدين الموزعي الشافعي في تيسير البيان‬


‫لأحكام القرآن‪" :‬الله سبحانه سم ّاهم مؤمنين‪ ،‬وأمر بنُِص ْرتهم‪،‬‬
‫ن‪ ،‬وأما المرت ُّدّ‪ ،‬فلا تجوز ُ نُصرته بحالٍّ‪.‬‬
‫ولا يأمرُ إلا بنصرة ِ مؤم ِ‬
‫فإن قيل‪ :‬فالمراد ُ به المستضعفون غير ُ المستطيعين‪ ،‬فيكونُ عامّا‬
‫مخ ْصوصا بالمستضعفين؛ بدلالة ِ هذه الآيات والظواهرِ‪ .‬قلنا‪:‬‬
‫ل قو ٍّم‪ ،‬سواء ٌ كان بيننا وبينه ُم‬
‫نصرة ُ المستضعفين واجبة على ك ّ ِ‬
‫ميثاقٌ ‪ ،‬أم لا؛ لأن لهم حكم المؤمنين؛ ل كمال إيمانهم؛ لأنهم‬
‫فوجبت‬
‫ْ‬ ‫معذورون‪ ،‬وأما غير ُ المستضعفين‪ ،‬فغير معذورين‪،‬‬
‫نصرتُهم على الحر ْب ِ ِيّ؛ لإيمانهم‪ ،‬ولا تجب نُصرتُهم على المعاهدِ؛‬
‫لن ُقصان إيمانِهم"‪.‬‬

‫فانظر وصاية الله بالمؤمنين المتخل ّفين العاصين المكث ّرين لسواد‬
‫المشركين القاعدين عن تكثير المؤمنين والدفع عنهم والجهاد‬

‫‪51‬‬
‫معهم‪ ،‬فكيف بمن سواهم من أهل الولاية التامة والنصرة‬
‫المطلقة؟!‬

‫بل انظر إلى وصاية الله بميثاق الكافرين في هذه الحال‪ ،‬فكيف‬
‫بميثاق الإيمان والإسلام والتوحيد؟! ‪ ..‬قال قتادة في هذه‬
‫سل ِم ُ‬
‫ل ميثاقهم‪ ،‬فوالله لأَ خُوك ال ْم ُ ْ‬
‫الآية‪" :‬نُهِ ى ال ْمُسْل ِم ُون عنْ أَ ه ْ ِ‬
‫أَ عْظم ُ علي ْك حُرْمة وحقّا"‪.‬‬

‫وأما ما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية‬ ‫•‬

‫فهذا خارج عم ّا نحن فيه من وجوه عديدة‪ .‬منها أن هذا كان‬


‫صلحا على عدم الحيلولة دون من خرج من دار ال كفر إلى دار‬
‫الإسلام‪ ،‬لا القعود عن نصرة المسلمين في ديار الإسلام‪،‬‬
‫وبينهما بون شاسع‪ ،‬فإن الثاني في حكم المصالحة على بعث‬
‫المسلمين إلى المشركين ابتداء‪ ،‬وقال الشافعي رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫"وإذا صالح الإمام على أن يبعث إليهم بمن كان يقدر على بعثه‬
‫منهم ممن لم يأته لم يجز الصلح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم لم يبعث إليهم منهم بأحد‪ ،‬ولم يأمر أبا بصير‪ ،‬ولا أصحابه‬
‫بإتيانهم‪ ،‬وهو يقدر على ذلك‪ ،‬وإنما معنى رددناه إليكم لم نمنعه‬
‫كما نمنع غيره"‪ .‬ومنها أن هذا الشرط عند جماهير العلماء خاص‬

‫‪52‬‬
‫بالرجال دون النساء‪ ،‬أما طلب العدو للمسلمين في ديارهم فلا‬
‫تمييز فيه‪ .‬ومنها أن العلماء في هذه الحادثة على مذاهب‪ ،‬فأما‬
‫الحنفية فذهبوا إلى أن جواز ذلك منسوخ في حق الرجال‬
‫والنساء جميعا‪ ،‬فلا يجوز هذا الشرط بعد ُ ولا يُعمل به‪ ،‬وذهب‬
‫إلى ذلك ابن شاس وابن العربي من المال كية‪ ،‬وقال ابن العربي‬
‫خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم في ذلك من‬
‫ٌ‬ ‫إن ذلك‬
‫الحكمة وحُسن العاقبة‪ ،‬وأما الشافعية فقد قي ّدوا الجواز بأن‬
‫يكون الرد إلى عشيرة ٍّ تطلبه‪ ،‬لأنها تحميه وتذب عنه‪ ،‬أو أن‬
‫يكون الرد مع غلبة ظن القدرة على قهر الطالب والهرب منه‪،‬‬
‫قال الشافعي‪" :‬فإن ذهب ذاهب إلى رد أبي جندل بن سهيل‬
‫إلى أبيه وعياش بن أبي ربيعة إلى أهله بما أعطاهم قيل له‪:‬‬
‫آباؤهم وأهلوهم أشفق الناس عليهم وأحرص على سلامتهم‪،‬‬
‫وأهلهم كانوا سيقونهم بأنفسهم مما يؤذيهم فضلا عن أن يكونوا‬
‫متهمين على أن ينالوهم بتلف أو أمر لا يتحملونه من عذاب‪،‬‬
‫وإنما نقموا منهم خلافهم دينهم ودين آبائهم فكانوا يتشددون‬
‫عليهم ليتركوا دين الإسلام‪ ،‬وقد وضع الله عز وجل عنهم المأثم‬
‫في الإكراه فقال‪{ :‬إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}‪ ،‬ومن‬
‫أسر مسلما من غير قبيلته وقرابته‪ ،‬فقد يقتله بألوان القتل ويبلوه‬

‫‪53‬‬
‫بالجوع والجهد‪ ،‬وليس حالهم واحدة"‪ ،‬وأما أصحابنا وغيرهم فلم‬
‫يقي ّدوا بما لم يقي ّد به الشافعية‪ ،‬ل كن قالوا لا يجوز هذا الشرط‬
‫إلا عند شدة الحاجة إليه وتعيّن المصلحة فيه‪ ،‬وعللوا ترك قيد‬
‫الشافعية بأن ذا العشيرة إن كانت هي التي تفتنه وتؤذيه فهو‬
‫كمن لا عشيرة له‪ ،‬و يُفهم منه غلبة ظن أن غاية ما يفعله‬
‫المشركون بالمردود هو الأذى لا القتل‪ ،‬ولذلك قالوا إن الصبي‬
‫لا يجوز رده‪ ،‬لأنه كالمرأة في الضعف وعدم القدرة على تحم ّل‬
‫الشدة والبلاء والاستمالة عن الإسلام‪ ،‬ولذلك اشترطوا في ردّ‬
‫الأسير المسلم حصول الأمن سواء بعشيرة أو غيرها‪ ،‬قالا في‬
‫الإقناع وشرحه‪(" :‬و يحرم ر ُّدّه) أي‪ :‬الأسير المسلم (إلى‬
‫ال كفار‪ ،‬قال الموفق) والشارح (إلا أن يكون له) أي‪ :‬الأسير‬
‫المسلم (من يمنعه) من ال كفار (من عشيرة ونحوها) فلا يمتنع‬
‫رده؛ لأمنه"‪ ،‬وظاهر النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم ما‬
‫رضي بذلك الشرط إلا مع ظن ذلك‪ ،‬ولذلك قال صلى الله‬
‫عليه وسلم لأبي جندل رضي الله عنه‪" :‬اصبر واحتسب فإن الله‬
‫ل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا‬
‫عز وجل جاع ٌ‬
‫ومخرجا"‪ ،‬ثم إن هذا هو صلح الحديبية الذي جعله النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم منقوضا بإعانة قريش لحلفائهم من بني بكر على‬

‫‪54‬‬
‫خزاعة المحالفين للنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬مسلمهم وكافرهم‪،‬‬
‫حتى قتلوا منهم طائفة بمكة خارج سلطان دولة النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬قال المحقق ابن القيم في الهدي‪" :‬وكان هديه وسنته‬
‫أنه إذا صالح قوما وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم‬
‫فدخلوا معهم في عقدهم‪ ،‬وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا‬
‫معه في عقده= صار حكم ُ من حارب من دخل معه في عقده‬
‫من ال كفار حكم من حاربه‪.‬‬
‫وبهذا السبب غزا أهل مكة‪ ،‬فإنه لما صالحهم على وضع الحرب‬
‫ت بنو بكر بن وائل فدخلت في عهد‬
‫بينه وبينهم عشر سنين تواثب ْ‬
‫قريش وعقدِها‪ ،‬وتواثبت خزاعة ُ فدخلت في عهد رسول الله‬
‫ت بنو بكر ٍّ على خزاعة َّ‬
‫فبي ّتتْهم‬ ‫صلى الله عليه وسلم وعقده‪ ،‬ثم عد ْ‬
‫وقتلت منهم‪ ،‬وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح‪ ،‬فع َّ ّد رسو ُ‬
‫ل‬
‫الله صلى الله عليه وسلم قريشا ناقضين للعهد بذلك واستجاز‬
‫غزو بني بكر بن وائل لتع ّدِيهم على حلفائه‪ ،‬وسيأتي ذكر القصة‬
‫إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما‬
‫أعانوا عد َّوّ المسلمين على قتالهم وأمدوهم بالمال والسلاح وإن‬
‫كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا‪ ،‬ورآهم بذلك ناقضين للعهد‪ ،‬كما‬

‫‪55‬‬
‫نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني بكر‬
‫ل الذمة‬
‫بن وائل على حرب حلفائه‪ ،‬فكيف إذا أعان أه ُ‬
‫المشركين على حرب المسلمين؟!"‪ ،‬بل كيف إذا تعدى‬
‫المشركون المعاهدون أنفسهم على دماء المسلمين وأعراضهم في‬
‫بلاد المسلمين وديارهم‪ ،‬وغزوهم وحاربوهم؟!‬

‫وقال ابن القيم في الهدي‪" :‬وفيها‪ :‬أن أهل العهد إذا حاربوا من‬
‫ه ُم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك‪ ،‬ولم‬
‫يبق بينهم وبينه عهد‪ ،‬فله أن يبي ِّتهم في ديارهم‪ ،‬ولا يحتاج أن‬
‫يُعْلمهم على سواء‪ ،‬وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة‪،‬‬
‫فإذا تح َّ ّققها صاروا نابذين لعهده"‪ ،‬وليس في الدنيا عهدٌ أوثق‬
‫من عهد الإسلام والأخوة الإيمانية‪ ،‬وتق َّ ّدم قول قتادة رحمه‬
‫ل ميثاقهم‪ ،‬فوالله ل َأخُوك‬
‫الله تعالى‪" :‬نُهِ ى ال ْمُسْل ِم ُون عنْ أَ ه ْ ِ‬
‫سل ِم ُ أَ عْظم ُ علي ْك حُرْمة وحقّا"‪ ،‬ل كن هذا في حق المؤمن‪،‬‬
‫ال ْم ُ ْ‬
‫أما الكافر فقد لا يعتبر لذلك إذا تعددت الطوائف والدول‬
‫والإمارات‪ ،‬فيحسن الإعلام والنبذ على سواء‪.‬‬

‫وأما المذكور ثالثا فينبغي أن يُعلم أولا أن الوارد في الفتوى ليس‬ ‫•‬

‫خاصا بالشيخ رحمه الله تعالى‪ ،‬بل هذا منثور في كلام السابقين‬

‫‪56‬‬
‫ن م َِّن ّا‪.‬‬
‫له‪ ،‬قال الإمام الموفق في المغني‪" :‬وقولُهم‪ :‬إ َّ ّنهم في أَ ما ٍّ‬
‫قُل ْنا‪ :‬إ َّن ّما أ َّمّ َّن ّاهم َّمم ّنْ هو في دارِ ِ‬
‫الإسلا ِم‪ ،‬الذين هم في قب ْضة ِ‬
‫الإما ِم‪ ،‬فأما من هو في دارِهم‪ ،‬ومنْ ليس في قب ْضت ِه‪ ،‬فلا يُم ْن ُع‬
‫ِ‬
‫ل ما لو خرج العبد ُ قبل إسْ لام ِه‪ ،‬ولهذا َّلم ّا قتل أبو‬
‫منه‪ ،‬بدلي ِ‬
‫بصِ يرٍّ الرج ُل الذى جاء ل ِردِّه‪ ،‬لم يُنْكِرْه ُ َّ‬
‫الن ّبِي صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫ل وأصحابُهما عن َّ‬
‫الن ّب ِ ِيّ صلى‬ ‫ولم يُضمِّن ْه‪ ،‬ولما ان ْفرد هو وأَ بُو جن ْد ٍّ‬
‫طرِ يق عليهم‪ ،‬وقتلُوا‬ ‫الله عليه وسلم في صُل ِْح الحُدي ْبية ِ‪ ،‬فقطع ُوا ال َّ ّ‬
‫من قتلُوا منهم‪ ،‬وأخذ ُوا المال‪ ،‬لم يُنْكِر ْ ذلك َّ‬
‫الن ّبِي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولم يأْ م ُْرهم بردِّ ما أخذ ُوه‪ ،‬ولا غرامة ِ ما أَ تْلف ُوه"‪ ،‬ل كن‬
‫ج عم ّا نحن فيه أيضا‪ ،‬فغاية ما فيه أن الحاكم‬
‫هذا ونحوه خار ٌ‬
‫المسلم إذا عاهد قوما من المشركين فإن غاية ما عليه أن يؤمّ ِنهم‬
‫من نفسه ورعاياه‪ ،‬أما لو طلبهم طائفة ٌ من المسلمين ليست تحت‬
‫سلطانه فليس له حينئذ أن يُشاركهم في ذلك ما دام العهد‬
‫قائما‪ ،‬ل كن لا يلزمه أيضا أن يردهم ويدفعهم‪ ،‬أما لو طلب‬
‫المشركون المسلمين في ديارهم التي ليست تحت سلطان ذلك‬
‫الحاكم المعاه ِد فيلزمه حينئذٍّ أن ينصر إخوانه من المسلمين‪ ،‬وأن‬
‫يدفع الصائلين عليهم عنهم‪ ،‬فهذا خارج عن ميثاقه مع‬
‫المشركين‪ ،‬بل لو صالحهم على ترك نُصرة المؤمنين والدفع عنهم‬

‫‪57‬‬
‫صراحة لكان هذا الشرط باطلا‪ ،‬يُفسد العقد من أصله‪ ،‬أو‬
‫يسقط مع بقاء العقد‪ ،‬ل كن يلزمه أن ينبذ إليهم ويبين لهم‪.‬‬

‫ج عم ّا نحن فيه أيضا من وجوه عدة؛‬


‫وأما المذكور رابعا فهو خار ٌ‬ ‫•‬

‫منها أن أبا بصير وطائفته كانوا ع ُصبة من الرجال البالغين الذين‬


‫يصح فيهم الشرط الذي صالح عليه النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫في الحديبية‪ ،‬أما العدو النازل بساحة المسلمين فلا يميز‪ .‬ومنها‬
‫أن هذه الطائفةكانوا في حكم الأعراب السائح ين غير المنحازين‬
‫إلى ديار الإسلام‪ ،‬وهم وإن كانوا معذورين في ذلك إلا إن‬
‫الطالب لهم يبقى غير نازل بساحة المسلمين‪ .‬ومنها ‪-‬وهو العمدة‪-‬‬
‫أن هذه الطائفة كانت الطالبة لا المطلوبة أصلا‪ ،‬فهم الذين‬
‫كانوا يغيرون على ع ِيرات قريش ويتسلطون على دمائهم‬
‫وأموالهم حتى هرولت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫تناشده أن يصرف أذى هذه الطائفة عنهم وأن يضمهم إليه‪،‬‬
‫فأين هذا من طلب المشركين للمؤمنين في ديار الإسلام‬
‫وتسلطهم على دمائهم وأعراضهم وأموالهم؟!‬

‫وأما آخر المذكور‪ ،‬وهو حديث حذيفة وأبيه رضي الله عنهما‪،‬‬ ‫•‬

‫فغاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ‪ -‬الذي هو الإمام ‪-‬‬

‫‪58‬‬
‫أَ ذِن لهما في ترك الجهاد لكيلا يُشاع أن المسلمين ينكثون‬
‫عهودهم‪ ،‬ولكيلا لا يُع َّي ّر حذيفة وأبوه بذلك‪ ،‬ولذلك قال‬
‫اب‪ ،‬ف ِإ َّن ّه ُ لا يج ِبُ‬
‫النووي في شرح مسلم‪" :‬وهذا لي ْس لِل ِْإ يج ِ‬
‫الن ّب ِ ُّيّ صلى‬
‫ك الْج ِهادِ مع ال ِْإما ِم ونائبِِه ِ‪ ،‬ول كِنْ أَ راد َّ‬
‫ال ْوفاء ُ بِترْ ِ‬
‫ْض ال ْع ْهدِ‪ ،‬و ِإ ْن كان‬ ‫صحابِه ِ نق ُ‬‫الله عليه وسلم أَ ْن لا يشِيع عنْ أَ ْ‬
‫لا يل ْزمُه ُ ْم ذل ِك‪ ،‬ل ِ َأ َّ ّ‬
‫ن ال ْمُشِيع عليْه ِ ْم لا ي ْذك ُر ُ تأْ وِ يلا"‪ ،‬وهذا مع‬
‫وعد الله سبحانه للنبي بالنصر على أي حال‪ ،‬ومع كون النصر‬
‫في معركة ٍّ كهذه لا يتوقف على رجلين أحدهما شيخ كبير‪،‬‬
‫ولذلك قال ابن الملقّن في شرح البخاري‪" :‬وبيَّ ّن الشارع لوفاء‬
‫عهدهما عدم الحاجة إلى ذلك‪ ،‬فإن الله ناصره"‪ ،‬فالوفاء بهذا‬
‫العهد لا يضر بالمسلمين‪ ،‬ولذلك قال ابن القيم في الهدي‪" :‬وكان‬
‫من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحدا من أصحابه على عهدٍّ لا‬
‫يض ُّرّ بالمسلمين بغير رضاه أمضاه لهم‪ ،‬كما عاهدوا حذيفة وأباه‬
‫أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأمضى لهم ذلك"‪،‬‬
‫فتبيّن أن المصلحة فيما ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أرجح‬
‫وأعظم‪ ،‬ولذلك قال الأمير الصنعاني في شرح الجامع الصغير‪:‬‬
‫"وفيه حسن الوفاء بالعهد وإن كان لا يجب لأن طاعة الله‬
‫ورسوله أقدم بالوفاء إلا أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهما بالوفاء‬

‫‪59‬‬
‫حفظا للعهد واتصافا بالأحسن من الجائزين"‪ ،‬ويدل على ذلك‬
‫أن حذيفة رضي الله عنه أعطاهم ذلك العهد وهو في حكم‬
‫الم ُكره كما ذكره الفقهاء‪ ،‬وجمهور العلماء على عدم انعقاد يمين‬
‫المكره وعهده وأمانه‪ ،‬وأيا ما كان المعنى الذي أَ ذِن لأجله‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصح التوسل به إلى التخاذل‬
‫عن نصرة المؤمنين المستضعفين‪ ،‬ولذلك قال البيهقي في‬
‫الخلافيات عن هذا الحديث‪" :‬وكان هذا فِي اب ْتِداء ِ ال ِْإسْ لا ِم‬
‫ل‬
‫ك ق ِتا ِ‬
‫ُوت الْأَ حْكا ِم‪ ،‬وال ْيو ْم فلوْ حلف على ترْ ِ‬
‫قب ْل ثُب ِ‬
‫ال ْمُشْرِكِين‪ ،‬ف ِإ َّن ّا نأْ م ُرُه ُ ب ِأَ ْن يُحن ِّث نفْسه ُ‪ ،‬و يُقات ِل ال ْمُشْرِكِين"‪،‬‬
‫والله أعلم‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫فصل‬

‫ولا تتوقف أحكام الموالاة والن ُصرة على كو ْن طلب المشركين‬


‫للمسلمين دين ّي الدافع‪ ،‬فلو كان سياسيا محضا أو اقتصاديا أو عِرقيا‬
‫أو غير ذلك = للزم عامة المسلمين الدفع عن إخوانهم كذلك‪ ،‬لعموم‬
‫ن فعليْكُم ُ َّ‬
‫الن ّصْر ُ]‪،‬‬ ‫قول الله جل وعلا‪[ :‬و ِإ ْن اسْ تن ْصر ُوك ُ ْم فِي الد ِّي ِ‬
‫و(في) ههنا سببية‪ ،‬ل كنها متعلقة بالاستنصار لا القتال‪ ،‬قال ابن‬
‫جرير‪﴿" :‬في الدين﴾‪ ،‬يعني‪ :‬بأنهم من أهل دينكم"‪ ،‬وروى عن‬
‫الس ُ ّدِي أنه قال‪﴿" :‬وإن استنصروكم في الدين﴾ يقول‪ :‬بأنهم‬
‫مسلمون"‪ ،‬ولذلك أطلق ابن عباس رضي الله عنهما القول في أي‬
‫عدو‪ ،‬قال‪﴿" :‬وإن استنصروكم في الدين﴾ يعني‪ :‬إن استنصر‬
‫الأعرابُ المسلمون المهاجرين والأنصار على عدوٍّّ لهم فعليهم أن‬
‫الل ّه ُ لِل ْكافِرِين على ال ْمُؤْم ِنِين‬
‫ينص ُروهم"‪ ،‬وقال الله سبحانه‪[ :‬ولنْ يج ْعل َّ‬
‫سب ِيلا]‪ ،‬وهذا بغض النظر عن غاية الكافر من استطالته‪ ،‬وهذه‬
‫الآية مما استدل به العلماء على وجوب الدفع‪ ،‬وأيضا فإن النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم جعل عهده مع قريش منقوضا وغزاهم لأجل تع ّدِي‬
‫بني بكر على خزاعة ‪ -‬مسلمهم وكافرهم ‪ -‬لأمر ٍّ كان بينهما في‬
‫الجاهلية‪ ،‬وأيضا فإن أكثر طلب الكافرين لديار المسلمين كان لأجل‬
‫‪61‬‬
‫الدنيا والر ياسة‪ ،‬ومع ذلك أوجب العلماء الدفع بالإجماع‪ ،‬والمسألة‬
‫كلها أظهر من أن تفتقر إلى بيان وبسط!‬

‫‪62‬‬
‫فصل‬

‫ولا تتوقف أحكام الموالاة والنصرة كذلك على خلو المسلمين‬


‫المطلوبين من المعاصي والبدع‪ ،‬فإن هذا إما أن يبلغ أن يكون كفرا‬
‫وخروجا من الملة فليسوا مسلمين حينئذ لتثبت لهم الموالاة الإيمانية‪،‬‬
‫وإما ألّا يبلغ الأمر ذلك المبلغ فيبقى لهم مع ذلك ح ُكم الإسلام‬
‫وما يقتضيه من وجوب النصرة والدفع بالإجماع‪ ،‬والله سبحانه أمر‬
‫نبيه والمؤمنين بنصرة القاعدين عن الهجرة إن استنصروهم مع كون‬
‫هؤلاء المستنصرين عاصين بترك نصرة المؤمنين وتكثير سوادهم‬
‫والجهاد معهم أصلا‪ ،‬بل يبقى للمسلمين أصل الولاية وإن خرجوا‬
‫على أهل الإسلام وبغوا عليهم وقاتلوهم‪ ،‬ومن ذلك ما ذهب إليه‬
‫جماهير الفقهاء من حرمة الاستعانة بالكافر في قتال الب ُغاة‪ ،‬وعللوا‬
‫ذلك بأنه يحرم تسليط الكافر على المسلم بحال‪ ،‬وقد ذكر شيخ‬
‫الإسلام ابن تيمية أن طوائف من المبتدعة عندنا يُعدون من أهل‬
‫السنة والجماعة بالنظر إلى مثل المعتزلة والرافضة‪ ،‬بل هم أهل السنة‬
‫في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم‪،‬‬
‫فكيف يكون ذلك بالنظر إلى عدوٍّ كافر يريد استئصال الإسلام‬
‫وأهله؟!‬
‫‪63‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬لا يجوز تعطيل الجهاد ‪ -‬فضلا عن الدفع ‪ -‬لأجل‬
‫بعض ما قد يقع فيه من الدخن والفساد والانحراف‪ ،‬قال ابن هانئ‬
‫الل ّه عن القوم يكونون بطرسوس‪،‬‬
‫في مسائله‪" :‬سألت أبا عبد َّ‬
‫فيقعدون ولا يغزون‪ ،‬و يحتجون يقولون‪ :‬متى ما غزونا‪ ،‬إنما نوفر‬
‫الفيء على ولد العباس!‬
‫جهّال‪،‬‬
‫الل ّه‪ :‬هؤلاء قوم سوء‪ ،‬هؤلاء القعدة‪ ،‬هؤلاء ُ‬
‫قال أبو عبد َّ‬
‫وإن لم يكونوا يعلمون‪ ،‬ولا لهم علم بالعلم‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬أرأيت لو أن‬
‫طرسوس وأهل الثغور جلسوا عما جلسوا عنه هؤلاء‪ ،‬أليس كان‬
‫قد ذهب الإسلام؟ هؤلاء قوم سوء"‪ ،‬وهذا على ما يعلمه القاصي‬
‫والداني مما في نفْس الإمام على بني العباس وفسادهم‪ ،‬ومحل‬
‫الشاهد ههنا أنه رضي الله عنه أنكر التوسّ ل بالمذكور من المفاسد أو‬
‫ض إلى ذهاب‬
‫غيره إلى القعود عن الجهاد‪ ،‬ورأى أن طرد هذا مف ٍّ‬
‫الإسلام‪ ،‬وهو كما قال‪ ،‬فلو قعد عن الناس عن الجهاد إلا مع‬
‫الصفاء من كل شائبة لتعطّل هذا الباب منذ أواخر عهد الصحابة‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬والله أعلى وأعلم‪ ،‬وهو الهادي إلى سواء الصراط‪.‬‬

‫‪64‬‬

You might also like