Professional Documents
Culture Documents
أما بعد ،فقد سألني غير واحد من الأكارم عن كلام فقهاء الملّة
الإسلامية -أعلى الله منارهم -في أثر تعدد الدول والممالك
والسلاطين والح ُ َّكّام في بعض أحكام الجهاد المخاطب بها عامة أهل
الإسلام وما يتعلق بذلك من أبواب الموالاة والن ُصرة ،فالمقصود في
هذا المقام تحرير مقالات الفقهاء وتبيين أحكام الشر يعة ،صيانة لها
عن التبديل والتزييف ،أما الفتوى في جزئيات الوقائع فهذا يفتقر
إلى اجتهاد خاص وميزان دقيق ،والكلام في دين الله شديد جدا،
واستعمال سلطان الشرع بغير علم للتحر يض أو التخذيل -ولو بحق-
من أعظم الكبائر وأوسع أبواب الفتنة والضلال ،والله المستعان!
2
اعلم أولا أن تمز ّق أوصال الأمة ،وتعدد الدول والممالك أو الحُكّام
والأمراء ،ليس من حادث النوازل ،بل ر ُوي وقوعه منذ عهد
الصحابة رضي الله عنهم ،فقد استأثر معاو ية بالشام دون علي رضي
الله عنهما ،حتى روى الطبري في تار يخه أنه قد وقعت بينهما مهادنة
على أن يكون لعل ٍّيّ العراق ،ولمعاو ية الشام ،فلا يدخل أحدهما على
صاحبه في عمله ،ثم تجدد الأمر -كما هو معلوم -بين ابن الزبير من
جهة ،ويزيد ثم مروان ثم ابنه عبد الملك من جهة ٍّ أخرى ،ثم
استفحل الأمر في عهد العب ّاسيين باستقلال الأندلس ،وظهور دول
الأغالبة والأدارسة والع ُبي ْديين والموحدين والمرابطين وغيرها من
ظ ِي ملوك طوائف الأندلس ،فضلا
دول المغرب الإسلامي ،وتش ّ
عن دول الأمراء المستقلّين حقيقة المنتسبين إلى دولة الخلافة
صورة.
4
فصل
6
بلا إذن الأمير) لرجوع أمر الحرب إليه لعلمه بكثرة العدو وقلته
ومكامنه وكيده" ،قالا في الإقناع وشرحه(" :إ َّلّا أَ ْن يفْجأَ هُمْ) أَ ْ
ي:
ي:الل ّا ِم ،أَ ْ يطْلُع عليْه ِ ْم بغْتة (عد ُ ّو ٌ يخاف ُون كلبه ُ) ب ِفت ِْح ال ْك ِ
اف و َّ
ش َّرّه ُ ،وأَ ذاه ُ (ب َِّالت ّو ُّق ّ ِ
ف على ال ِْإ ْذنِ) ؛ ل ِأَ َّ ّ
ن الْحاجة ت ْدع ُو إليْه ِ لم ِا فِي
ج الت ّخ ُّل ّ ُ
ف ل َأحدٍّ إ َّلّا منْ يح ْتا ُ الت ّأْ خِيرِ م ِنْ ال َّض ّررِ ،وحِينئِذٍّ لا يج ُوز ُ َّ
َّ
ل ،وال ْمالِ ،ومنْ لا ق َُّو ّة له ُ على إلى تخ ُّل ّفِه ِ ،لِ حِفْظِ ال ْمكا ِ
ن والْأَ ه ْ ِ
ُوج ،ومنْ يم ْنع ُه ُ ال ِْإمام ُ (أَ وْ) يجِد ُون (فُر ْصة يخاف ُون فو ْتها) إ ْن الْخُر ِ
ن له ُ ْم الْخُر ُوج ب ِغيْرِ إذْنِه ِ ،لِئ َّل ّا
تركُوها ح َّت ّى يسْتأْ ذِنُوا الْأَ م ِير ف ِإ َّ ّ
تف ُوته ُ ْم" ،ولذلك لمّا أوجب أصحابنا استئذان الأمير في المبارزة قبل
المعركة دون الانغماس في العدو عللوا ذلك بنحو ما قاله الموفق في
ن العدوّ ،ومتى برز
الإمام أعلم ُ بفُر ْسان ِه وفُر ْسا ِ
ن ِالمغني ،قال" :ولنا ،أ َّ ّ
كسِر ُ قلوب
الإنسانُ إلى من لا يُطيق ُه ،كان م ُعرِّضا نفْسه للهلاكِ ،في ْ
ِ
المسلمين ،فين ْبغ ِى أ ْن يُف َّو ّض ذلك إلى ِ
الإما ِم ،ليخْ تار للمُبارزة ِ منْ
لوب المُسْل ِمين ،وكسْرِ يرْضاه ُ لها ،فيكون أق ْرب إلى ال َّ ّ
ظفرِ ،وجبْرِ ق ُ ِ
لوب المُش ْركِين .فإ ْن قيل :فقد أبح ْتُم له أ ْن ين ْغمِس في ال كُ َّ ّفارِ،
قُ ِ
ش به، ب لقتْلِه .قُل ْنا :إذا كان م ُبارِزا َّ
تعل ّقت قلوبُ الجي ِ وهو سب ٌ
وارْتقب ُوا ظفره ُ ،فإ ْن ظف ِر جبر قلوبهم ،وس َّرّه ُم ،وكسر قلوب
ِس يطْلبُ ال َّش ّهادة ،لا
س ،والمُن ْغم ُ
ال كفّارِ ،وإ ْن قُت ِل كان بالعك ِ
7
يُتر َّق ّبُ منه ظفر ٌ ولا م ُقاومة ٌ ،فاف ْترقا" ،ثم قال" :بل المخُ ْتل ُ
ف فيها أن
الصّ َّ ّفي ْن قبل ال ْتحا ِم الحر ِ
ْب ،ي ْدع ُو إلى المُبارزة ِ ،فهذا ل بين َّ
يب ْر ُز رج ٌ
ن عين الطائ ِفتي ْن تم ْت ُّ ّد إليْهما ،وقُلوب
الإما ِم ،لأ َّ ّ
هو الذي يُعْتبر ُ له إ ْذنُ ِ
ق بهما ،وأ ُّ ّيهما غلب س َّرّ ْ
أصحابه ،وكسر قلوب أعدائ ِه، الفرِ يقي ْن تتع َّل ّ ُ
ن الحكم يدور مع عل ّته وجودا وعدما = قالا في
خلاف غيْرِه" ،ولأ ّ
ب ِ
الإقناع وشرحه(" :فإن كان الأمير ُ لا رأي له ،ف ُعلت المبارزة بغير
إذنه ،ذكره) محمد (بن تميم) الحراني" ،ومثل هذا في أمر الدفع عموما
ن مخ ّذِل لا يدفع عن أرض الإسلام
لو علم أهل البلد أن الأمير جبا ٌ
وأهلها ،ولا نظر له في ذلك أو تدبير ،و يحس ُن حينئذٍّ أن يؤمّ ِروا
عليهم – ولو َّ
مؤق ّتا -من يجمع الكلمة ويدب ّر دفع العدو ،وعلى الرغم
من تشديد علمائنا في الغزو مع كل بر ٍّّ وفاجر طاعة للنبي صلى الله
عليه وسلم وإبقاء على الجهاد إلا إنهم قيدوا ذلك بحفظ المسلمين،
لأنه المصلحة المطلوبة من وراء هذه الأحكام أصلا ،قالا في الإقناع
وشرحه(" :و يُغزى مع كل أمير بر ٍّّ وفاجر يحفظان المسلمين) لحديث
ل أميرٍّ ،ب ًّر ّا كان أو
واجب عليكم مع ك ّ ِ
ٌ أبي هريرة مرفوعا" :الجهاد
فاجِرا" ،رواه أبو داود .وفي الصحيح" :إن الله لي ُؤ يِّد ُ هذا الدِّين
بالرجل الفاجر"؛ ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه وظُهور
ال كفار على المسلمين ،واستئصالهم ،وإعلاء كلمة ال كفر (ولا
8
يكون) الأمير (مخ ّذِلا ،ولا م ُْرجِفا ولا معروفا بالهزيمة وتضييع
المسلمين) لعدم المقصود من حفظه المسلمين" ،ونقل الأصحاب عن
الإمام أحمد أنه قال" :لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا
عُر ِف بالهزيمة وتضييع المسلمين" ،ولأجل ذلك قي ّد جماعة ٌ من أهل
العلم لزوم متابعة الإمام في نحو ما ذكرنا بوجود المصلحة ،نقل ابن
عرفة المال كي في مختصره عن ابن حبيب أنه قال" :سمعت أهل العلم
يقولون :إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة؛ حرمت مخالفته إلا أن
يدهمهم العدو" ،والمقصود ما لم يكن عدلا مأمونا قويا موثوقا،
ل من بعض سلاطين المغرب للعلامة
ولذلك فإنه لما ورد سؤا ٌ
التاودي المال كي عن قتل بعض أمراء الت ُرْك لبعض رعاياه من
المسلمين لم ّا شاركوا من غير إذنه في الدفع عن ثغر مليلية المحتل إلى
جواب حسن ،ثم أجاب بعده العلا ّمة محمد
الآن = أجاب التاودي ب ٍّ
بن الحسن البن ّاني ،فكان مما قال" :وكونه ممن له الولاية عليهم -كما
ذكره السائل في السؤال -لا يسوِّغ له ذلك الفعل الشنيع ،بل ذلك
مما يزيد في شناعته وقبحه" ،قال" :ولا جور أعظم مما فعله هذا
الظالم ،فإن قلت :فهل على هؤلاء المؤمنين المقتولين درك حيث
توجّهوا للجهاد بغير إذن واليهم المذكور؟ قلتُ :لا درك عليهم في
ذلك ،حيث كان من ولاة الجور ،كما ذكر في العتبية ،قال ابن
9
وهب :إن كان الإمام عدلا لم يجز لأحد أن يبارز العدو أو يقاتله
إلا بإذنه ،وإن كان غير عدل فليقاتل وليبارز بغير إذنه" ،ولأجل
هذا المعنى قي ّد أصحابنا لزوم الاستئذان بكون الإمام إمام حق ،قال
البرهان ابن مفلح في المبدع(" :فإن دخل قوم لا منعة لهم) هو
بفتح الأحرف الثلاثة ،وقد تسكن النون ،والمراد بها القوة والدفع
(دار الحرب بغير إذنه) أي :إذن المعتبر إذنه ،وهو إمام الحق ،غير
المتغلب (فغنموا ،فغنيمتهم فيء) على المذهب لأنهم عصاة بفعلهم"،
وأصل الكلام للمجد ابن تيمية رحمه الله تعالى ،قال في المحرر" :وإذا
دخل قوم دار الحرب بغير إذن الإمام المعتبر كان ما غنموه فيئا"،
قال الصفي القطيعي في الشرح" :يعني بذلك الإمام المعتبر إذنه ،وهو
الإمام الحق غير المتغلب" ،ثم أخذ هذا عنه البرهان ابن مفلح
بحروفه ،وذلك لأن الإمام الحق الأصل فيه العدالة ولحاظ صيانة
الإسلام واعتبار مصالح المسلمين ،أما المتغل ّب فعلى العكس من
ذلك ،ولأجل لحاظ العلّة المصلحية قي ّد جماعة من أكابر أصحابنا
اشتراط الإذن بالقلّة أو عدم القوة والمنعة التي يحصل بها الغلبة
والنكاية والمصلحة والاجتماع ،قال المرداوي في الإنصاف في
ت الر ِّواية ُ مسألة الغزو بغير إذن الأمير" :وقال في َّ
«الر ّوْضة ِ» :اخْ تلف ِ
خفْية،
ل حالٍّ ،ظاه ِرا و ُ
عن أحمد؛ فعنه ،لا يجوز ُ .وعنه ،يجوز ُ بك ُ ّ ِ
10
ِلاف» :الغزْو ُ
جماعة وآحادا ،جي ْشا وسر ِية .وقال القاضي في «الخ ِ
ْب
ل دارِ الحر ِ لا يجوز ُ أ ْن يُق ِيمه ك ُّ ّ
ل أحدٍّ على الان ْف ِرادِ ،ولا د ُخو ُ
ل ذلك إذا كانُوا ع ُصْ بة لهم منعة ٌ" ،ونص
الإما ِم ،ولهم فِعْ ُ
ن ِبلا إ ْذ ِ
كلام القاضي في كتاب الصلاة من التعليقة" :فإن قيل :المعنى في
سائر العبادات :أن يجوز أن يقيمها كل واحد من الناس على
الانفراد ،فلم يكن من شرطها السلطان ،وليس كذلك الجمعة؛ لأنه
ليس لكل واحد أن يقيمها على الانفراد ،فهي كالحدود .قيل له:
منتقض بالغزو؛ فإنه لا يجوز أن يقيمه كل واحد من الناس على
الانفراد ،ولا الدخول إلى دار الحرب بغير إذن الإمام ،ومع هذا:
إذا اجتمعوا ،وكانت لهم منعة ،كان لهم دخولها من غير إذنه"،
وقال في الروايتين والوجهين" :مسألة :و يكره لطائفة قليلة أن تغزو
بغير إذن الإمام لأنه أعرف بالطرقات وأوقات الحرب ومكان
الحرب بخلاف غيره ،لاهتمامه بذلك ،فإن كان بإذنه أرشدهم
وهداهم إلى ما هو أصوب ،فإذا تركوا الأصوب = ك ُره لهم ،ولأنه
إذا كان بإذنه كان ردءا لهم ،وعلى خبرتهم ،حتى إذا احتاجوا إلى
مدد بادر به إليهم ،وإذا لم يكن بإذنه لم يعلم بهم فربما نالهم ما لا
طاقة لهم به فهل كوا ،فإن خالفوا وخرجوا فهل يحرم عليهم تلك
الغنيمة أم لا؟" ،ثم ذكر الروايتين في ذلك ،والله أعلم.
11
فصل
ثم إن أهل البلد التي نزل العد ُّوّ بساحتها إذا لم تحصل بهم ال كفاية
في دفع العدو ،أو عصوا وجبنوا ُّ
وفر ّوا ،أو ظُنّ حصول ذلك من
أول الأمر = انسحب التعيين على من يليهم من بلاد المسلمين،
اج إليه من المال والسلاح والنفس
فيلزمهم نصرتُهم بكل مُحت ٍّ
والتدبير ،فإن عصى هؤلاء وخذلوا أو لم تحصل بهم ال كفاية أو ظُنّ
ذلك ابتداء = انسحب التعيين على من يليهم ،حتى إذا انقطع سلطان
الحاكم المستقل انسحب التعيين على من يليه من حُكّام المسلمين وعلى
رعيته من ورائه سوى عاجز ٍّ معذورٍّ عذرا معتبرا شرعا ،وهكذا حتى
تنقطع بلاد المسلمين من ههنا وههنا ،شرقا وغربا ،وحتى تُب ْذل
عامة المُهج دون الإسلام وحريمه ،ولذلك ع ّد أصحابنا م ِم ّن يتعين
عليهم الجهاد = من احتاج إليه بعيدٌ ،وهذا المذكور إجماعٌ في الجملة
لا َّ ّ
حظ للخلاف المعتبر فيه ،وهو الذي يحصل به العز والنصر لا
الذلة والانهزام ،و يُجلب به الحفظ والصيانة لا الضياع والفناء.
12
قال شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة أصحابنا رضي الله عنهم" :و ِإذا
دخل ال ْعد ُ ُّوّ بِلاد ال ِْإسْ لا ِم فلا ر ي ْب أَ َّن ّه ُ يج ِبُ دف ْع ُه ُ على ا ْل َأق ْر ِ
ب
ب إ ْذ بِلاد ُ ال ِْإسْ لا ِم ك ُُّل ّها بِمنْزِلة ِ ال ْبل ْدة ِ ال ْواحِدة ِ ،وأَ َّن ّه ُ يج ِبُ
فا ْلأَق ْر ِ
ُوص أَ حْمد صر ِ يحة ٌ بِهذا"، ن والِدٍّ ولا غر ِيمٍّ ،ونُص ُ َّ
الن ّف ِير ُ إليْه ِ بِلا إ ْذ ِ
ل ال َّد ّف ِْع مِث ْ ُ
ل أَ ْن يكُون ال ْعد ُ ُّوّ كث ِيرا لا طاقة لِل ْمُسْل ِمِين ثم قال" :وق ِتا ُ
اف إ ْن ان ْصرف ُوا عنْ عدُوِّه ِ ْم عطف ال ْعد ُ ُّوّ على منْ
بِه ِ ل كِنْ يُخ ُ
صحابُنا ب ِأَ َّن ّه ُ يج ِبُ أَ ْن يبْذ ُلُوا
يُخ َّل ّف ُون م ِنْ ال ْمُسْل ِمِين فه ُنا ق ْد ص َّرّح أَ ْ
اف عليْه ِ ْم فِي ال َّد ّف ِْع ح َّت ّى يسْلم ُوا ونظ ِير ُها أَ ْنمُهجه ُ ْم ومُهج منْ يُخ ُ
ف ف ِإ ْن يهْجُم ال ْعد ُ ُّوّ على بِلادِ ال ْمُسْل ِمِين وتكُون ال ْم ُقاتِلة ُ أَ ق َّ ّ
ل م ِنْ الن ِّصْ ِ
ب لا ل طل ٍّل دف ٍّْع لا ق ِتا ُ ان ْصرف ُوا اسْ تو ْلو ْا على الْحرِي ِم فهذا وأَ مْثالُه ُ ق ِتا ُ
ل" ،ثم قال الشيخ" :وال ْواجِبُ أَ ْن يُعْتبر فِي اف ف ِيه ِ بِ حا ٍّ
يج ُوز ُ ال ِانْص ِر ُ
ل
خب ْرة ٌ بِما عليْه ِ أَ ه ْ ُ الصّ ح ِ
ِيح ال َّ ّذ ِين له ُ ْم ِ ن َّل الد ِّي ِ ُّأم ُورِ الْج ِهادِ ب ِرأْ ي أَ ه ْ ِ
ال ُّد ّن ْيا ،د ُون أَ ه ْل الدُن ْيا ال َّ ّذ ِين يغْل ِبُ عليْه ِ ْم َّ
الن ّظر ُ فِي ظاهِرِ الد ِّينِ ،فلا
خب ْرة له ُ ْم فِي ال ُّد ّن ْيا"،
ن ال َّ ّذ ِين لا ِ
ي أَ ه ْل الد ِّي ِ
يُؤ ْخذ ُ ب ِرأْ يِهِمْ ،ولا ب ِرأْ ِ
وهذا الكلام غاية في الحسن ،فإن أهل الدنيا الذين عندهم معرفة
بظاهر الدين تغلبهم دنياهم و يضن ّون بزينتها ،و يجبنون عن بذل
الأموال والأنفس ،ولا يصبرون على قول الحق ،فيشقشقون ببعض
ما يعرفون من ظاهر الدين ليُلبسوا عجزهم جُب ّة الديانة والحكمة عمدا
13
ونفاقا أو غفلة وجهلا ،وأما أهل الدين الذين لا خبرة لهم بالدنيا
فإنهم لا يحسنون درْك ر ُتب المصالح وأحوالها ،ويتلاعب بهم مع
ل الدنيا والسلطان لجهلهم بهذه الأمور ،وإنا لله وإنا إليه
ذلك أه ُ
راجعون!
16
تعيّن عليهم أن يتط َّي ّروا إليهم ،ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم
فيهم كفاية ،سقط الحرج عن الباقين.
ومن أصحابنا من قال :يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن
يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل ،ولو بنينا
الأمر على ال كفاية وقد ج ّد الجد وليس هذا مما يقبل الأناة ،بخلاف
القتال الموضوع لإقامة فرض ال كفاية ،وال كفار قارّون ،فلا ينتظم
دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض ،لما في
الطباع من الانحباس عن القتال ،وإذا فرض ذلك ،فإلى أن يظهر
للكافة لحوق الحرج ،ربما تجري عظائم من القتل والأسر ،واهتتاك
الحرمات ،فالوجه الإ يجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى
ما يلي ال كفار من فيه كفاية ،وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل
ل بالأمر".
الناحية إذا كان فيهم كفاية ،وكان البعض منهم يستق ّ
17
(ومنْ ) ه ُ ْم (على ال ْمسافة ِ) ال ْم ْذكُورة ِ فما فو ْقها (يل ْزمُهُمْ) إ ْن وجد ُوا
ل ذل ِكزادا وسِلاحا وم ْركُوبا و ِإ ْن أَ طاق ُوا ال ْمش ْي (ال ْم ُوافقة ُ) ل ِ َأه ْ ِ
ل فِي ال َّد ّف ِْع (ب ِق ْدرِ ال ْ كِفاية ِ إ ْن ل ْم يك ِ
ْف أَ ه ْلُها ومنْ يل ِيهِمْ) دف ْعا ال ْمح ّ ِ
عنْه ُ ْم و ِإن ْقاذا لهُمْ ،وأَ ف ْهم قو ْلُهُ :ب ِق ْدرِ ال ْ كِفاية ِ .أَ َّن ّه ُ لا يل ْزم ُ الْك ُ َّ ّ
ل
ج قو ْ ٍّم مِنْه ُ ْم ف ِيه ِ ْم
ج عنْه ُ ْم خُر ُو ُ
سق ُوطِ الْحر ِ
كفِي فِي ُ
الْخُر ُوجُ ،بلْ ي ْ
كِفاية ٌ.
(ق ِيل) تج ِبُ ال ْم ُوافقة ُ على منْ بِمسافة ِ ال ْقصْرِ فما فو ْقها (و ِإ ْن كفو ْا)
ل ال ْبلد ِ ومنْ يل ِيه ِ ْم فِي ال َّد ّف ِْع لم ُِعْظ ِم الْخط ِ
ْب ور ُّدّوه ُ ،ب ِأَ َّن ّه ُ ي :أَ ه ْ ُ
أَ ْ
ِ
اب على جم ِيع ا ْل ُّأ َّمّة ِ ،وف ِيه ِ أَ ش ُّ ّد الْحر ِ
ج م ِنْ غيْرِ يُؤدِّي إلى ال ِْإ يج ِ
حاجة ٍّ ،ل كِنْ ق ِيل :هذا ال ْوجْه ُ لا يُوجِبُ ذل ِك ،بلْ يُوجِبُ ال ْم ُوافقة
ب بِلا ضب ْطٍّ ح َّت ّى يصِ ل الْخ بر ُ ب ِأَ َّ ّنه ُ ْم ق ْد ُ
كف ُوا". ب فالْأَق ْر ِ
على الْأَق ْر ِ
19
بين الأمة ،إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم
حين يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم".
وقال أبو بكر الشاشي في الحلية" :فإن دخل العدو بلاد الإسلام،
فيتعين على كافة المسلمين فرض القتال إذا لم يكن في أهل تلك
البلاد قدرة على دفعهم ،وإن كان لهم قدرة على دفعهم لم يسقط
بهم فرض ال كفاية عن كافة المسلمين ما كان العدو باقيا في دارهم،
وهل يصير فرض قتالهم متعينا على سائر المسلمين؟ فيه وجهان".
وقال العل ّامة البز ّازي في فتاو يه" :امرأة مسلمة سُبيت بالمشرق،
وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر ما لم ي ُ ْدخل دار الحرب،
لأن دار الإسلام مكان واحد" ،ونقله غير واحد من الحنفية في
سياق تعيّن النصرة في الدفع.
20
[مطلب في بعض مقالات المال كية]
وللمال كية كلام كثير في الباب ونوازل وفتاوى ،و يلزم كل فقيه
العناية به والنظر فيه ،فإن أهل الغرب الإسلامي خبروا من ذلك
ْض عام ٌ متعين
الشأن ما لم يخ بره غيرهم ،قال أبو عمر في الكافي" :فر ٌ
على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من
البالغين الأحرار ،وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربا لهم،
فإذا كان ذلك ،وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا و يخرجوا
إليه خفافا وثقالا ،وشبابا وشيوخا ،ولا يتخلف أحد يقدر على
الخروج من مقاتل أو مكتر ،وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام
بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا ،قلوا أو كثروا،
على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ،حتى يعلموا أن فيهم طاقة على
القيام بهم ومدافعتهم ،وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم
وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم ،لزمه أيضا الخروج إليهم ،فالمسلمون
كلهم يد على من سواهم ،حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية
التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين" ،وعلى
هذا درج المال كية ،ونقل نص كلامه المو ّاق وغيره ،وقال المو ّاق
أيضا" :وقال ابن بشير :إذا نزل قوم من العدو بأحد من المسلمين
وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة ،فإن عجزوا
21
تعين على من قرب منهم نصرتهم .وتقدم نص المازري :إذا عصى
الأقرب وجب على الأبعد".
وقد كتب الإمام ال كبير أبو بكر الطرطوشي المال كي رسالة عظيمة
شديدة إلى ابن تاشفين أمير المرابطين بالمغرب يحثه فيها على الدفع
عن ثغور الأندلس ،فكان مما قال فيها" :واعلم أبا يعقوب أن الله
تعالى فرض الجهاد على كافة المسلمين ،ولا يرده جور جائر ،ولا
فسق فاسق ،إلا أن تقوم الساعة .قال الله تعالى[ :قاتِلُوا ال َّ ّذ ِين لا
خر ِ ولا يُحرِ ّم ُون ما ح َّرّم َّ
الل ّه ُ ورسُولُه ُ ولا يُؤْم ِن ُون ب َِّالل ّه ِ ولا ب ِال ْيو ْ ِم الآ ِ
يدِين ُون دِين الْحقّ ِ م ِن ال َّ ّذ ِين ُّأوتُوا الْك ِتاب ح َّت ّى يُعْط ُوا الْجِز ْية عنْ يدٍّ
وه ُ ْم صاغِرُون] ،فلم يرخّص لهذه الأمة في ترك جهاد عدوّهم إلا
بإعطاء الجز ية أو كلمة الإسلام ،وهذه الآية نسخت كل آية في
كتاب الله تعالى تتضمن الإعراض عن المشركين ،وروى أبو بكر
الصديق رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :ما
ترك قوم ٌ الجهاد إلا عم ّهم العذاب" ،فجهاد ال كفّار فرض عليك
فيما يليك من ثغور بلاد الأندلس ،لأنك أقرب الملوك إليها ،وعندك
ال كراع والسلاح ولأمة الحرب وآلتها ،وجيوش المسلمين وحماة
البيضة طائعون لك ،وكذلك كل من بنواحيك وجنبات أعمالك
من المجاهدين والمقاتلين وأولي البطش والقوة ،وأنت في حرج من
22
تضييع من في ثُغور الأندلس من جماعة المسلمين والحُر ُم والذراري"،
وهي رسالة طو يلة بديعة أوردها بتمامها أبو بكر ابن العربي في شواهد
الجلة والأعيان.
وقال أبو القاسم ابن جزي في القوانين الفقهية" :ويتعين -أي الجهاد
-لثلاثة أسباب .أحدها :أمر الإمام ،فمن عي ّنه الإمام وجب عليه
الخروج .الثاني :أن يفجأ العدو بعض بلاد المسلمين ،فيتعين عليهم
دف ْع ُه ،فإن لم يقدروا لزم من قاربهم ،فإن لم يستقل الجميع وجب
على سائر المسلمين حتى يندفع العدو .الثالث :استنقاذ أسارى
المسلمين من أيدي ال كفار".
23
لم تكن فيهم كفاية ومقاومة أيضا = وجب على من والاهم ،وهكذا
حتى يأتي الوجوب منسحبا على جميع المسلمين.
فقطر الجزائر مثلا حيث لم يقدروا على دفعه ،لعدم من يضبط
كلمتهم ،أو لعدم وجود القوة فيهم ،بدليل أنه يتردّد العدوّ إليهم
و يأخذ مدائنهم شيئا فشيئا ،فإنه يجب على من والاهم -من أئمة
المشرق وأئمة المغرب إلى سوس الأقصى وإلى بغداد ،بل وإلى الهند
مثلا -أن يعينوهم بالجيوش والعدّة والعدد ،وإن عصى من والاه
فلم يُع ِن = تعيّن على من والى من والاه ،وهكذا" ،قال" :الوجوب
والتعيين متعل ّق بالمسلمين ،لا بقيد زمان ،ولا مكان ،إلا ّ أنه :يتعيّن
مر ترتيبه -فإن لم يفعل لعذر ،أو
على الحاضر زمانا ومكانا -على ما ّ
لغير عذر ،وجب على غيره مم ّن يليه" ،وقال" :ولهذا أفتى سيدي
شقرون بن هبة ،أحد حفّاظ المتأخرين ،بأن الجهاد في هذا الزمان
فرض عين ونحوه في كتاب فلك السعادة ،قائلا :الجهاد اليوم فرض
عين ،لأنّهم قالوا إذا نزل العدوّ ساحة الإسلام فالجهاد فرض عين،
ولا مخالف لهذا القول ،واليوم قد نزلوا بساحات ،وهتكوا أستارا
وحرمات ،وأخذوا معاقل وحصونا ،وسبوا قبائل وبطونا.
أي :وهم إذا سبوا ذلك ،تعيّن على إمام الوقت ورعي ّته أن يستنقذوا
ذلك ،و يجب على من يليه من الأئمة أن يعينه على ذلك إن هو عجز،
24
أو ترك وعصى" ،وقال رحمه الله ورضي عنه" :وقال تعالى{ :وال َّ ّذ ِين
ض ِإ َّلّا تفْعلُوه ُ} ،أي :إلا تفعلوا مثله من
كفر ُوا بعْضُه ُ ْم أَ وْلِياء ُ بعْ ٍّ
تولّى المؤمنين بعضهم بعضا ،ومعاداتهم للكافرين ،كما يفعل ال كفّار
ض وفساد ٌ كب ِير ٌ} ،وبيانه:
من التعاضد والتعاون{ ،تكُنْ فِت ْنة ٌ فِي الْأَ ْر ِ
أن المؤمنين إذا تركوا التناصر والتعاون فيما بينهم -حتى يكونوا يدا
ل نظامهم ،واستولى الكافر على جميعهم،
واحدة على الكافرين -انح ّ
وذلك مفسدة لدينهم ودنياهم.
ل
فالله الله في الهمم قد خمدت ر يحها ،والله الله في الرجولية قد ق ّ
حدّها ،والله الله في الغيرة على الدين قد تعس جدّها ،والله الله في
الدين الذي طمع ال كفار في تبديله ،والله الله في الحريم الذي م ّد
الكافر يده إلى استرقاقه وتحو يله ،ولمثل هذا فليعمل العاملون ،وفي
مثله فليتنافس المتنافسون!
وبالجملة :فلا يخرج إمام ولا رعيته من عهدة الوجوب في إزاحة
ال كفار من مدائن المسلمين ،أو إعانة من عجز عن إخراجهم منها،
أو مدافعتهم عنها إلا ّ باستفراغ الوسع ،وبذل الطاقة والجهد بالعدّة
والاستعداد ،ومباشرة الدفع ،ومعاودة القتال بحسب الإمكان ،أو
يموت وهو مدين على ذلك الفعل ،فينتقل الوجوب إلى من تولّى
25
بعده ،وأما كونه يقتدي بمن عصى من الأئمة ،وترك مدائن المسلمين
بأيدي ال كفار ،أو ترك إغاثة من عجز عن الدفع ،فذلك غير مخلص".
وقال أبو عبد الله الفاسي العربي كما نقله عنه المهدي الوزّاني في
نوازله" :فإذا علم أنه يجب علينا أن ندافعهم عن الاستيلاء على وطن
من أوطان المسلمين قبل استيلائهم عليه ،فما الذي رفع هذا الوجوب
عنا بعد استيلائهم وعلة وجوبه قبل الاستيلاء موجودة بالأحرو ية
بعد الاستيلاء ،ولم يختلف الناس في بقاء الحكم مع بقاء العلة ،وإنما
اختلفوا في بقائه مع زوال العلة؟!
ولا يتوهم متوهم أن ترك المسلمين مدائن المسلمين في أيدي ال كفرة
يدل على عدم الوجوب ،لأن ذلك من تقصير الملوك ،وهم بذلك
في محل العصيان لا في مقام الاقتداء بهم والاستنان ،وقديما قيل:
اسلك سبيل الهدى ولا يضرك قلة السال كين ،واترك طر يق الردى
ولا يغرك كثرة الهال كين.
ولا فرق في الحكم بين ما أدركنا من أخذه كالعرائش والمعمورة وإن
كانت غير معمورة ،وبين ما لم ندركه كسبتة وطنجة ،لأن الوجوب
متعلق بالمسلمين لا بقيد زمان ولا مكان ،إلا أنه يتعين على الحاضر
زمانا ومكانا ،فإن لم يفعل لعذر أو لغير عذر وجب على غيره أيضا،
وقد تقدم قول المازري« :فإن عجز الحاضر تعلق الوجوب بمن يليه»،
26
وهو ظاهر في المكان ،صادق بالزمان ،ولا يبرأ المسلمون من العهدة
إلا إذا بلغوا العذر واستفرغوا الوسع في منازلة مراسي ال كفار
المأخوذة من أيدي المسلمين ،ومحاولة فتحها وانتزاعها من أيدي
ال كفرة وردها إلى الإسلام ،فلو نازلوها ثم نازلوها فلم تفتح وجب
عليهم معاودتها كلما أمكنهم ذلك حتى يفتحها الله تعالى".
28
وأعظم من ذلك من يمنع عن أهل الثغور ونحوهم الغذاء والدواء
والعُدّة وغير ذلك مما يتقوون به ،فإن ذلك قطيعة وإثم ،وإمدادهم
واجب وحت ْم ،وهو داخل في عموم
ٌ بهذا ونحوه بكل سبيل ممكنة
قوله سبحانه[ :وتعاونوا على البر والتقوى] ،وأعظم البر جهاد أعداء
الله سبحانه ،ثم تأمل مع هذا تبج ّح طوائف من المسلمين ببعض ما
يُسمونه بالمساعدات المالية التي ي ُرسلونها لمن خذلوهم من إخوانهم
ابتداء مع كون هذا بعض حقوقهم أصلا ،وإن ّا لله وإن ّا إليه
تخْرِجُونراجعون! [وإ ْذ أخذْنا م ِيثاقكم لا تسْفِكُون دِماءكم ولا ُ
أنْف ُسكم م ِن دِيارِكم ث َُّم ّ أق ْر ْرتُم ْ وأن ْتُم ْ تش ْهد ُون .ث َُّم ّ أن ْتُم ْ هؤ ُلاء ِ تقْتُلُون
تخْرِجُون فرِ يقا م ِنكم م ِن دِيارِه ِ ْم تظاهر ُون عليْه ِ ْم ب ِالإ ْث ِم
أنْف ُسكم و ُ
ن وإ ْن يأْ تُوكم ُّأسارى تُفاد ُوهم وه ْو مُح َّر ّم ٌ علي ْكم إخْراجُهم
والعُدْوا ِ
ل ذل ِك
ض فما جزاء ُ من يفْع ُ كف ُر ُون ببِعْ ٍِّتاب وت ْ ض الك ِ أفتُؤْم ِن ُون ببِعْ ِ
خزْيٌ في الحياة ِ ال ُّد ّن ْيا و يو ْم الق ِيامة ِ ي ُر ُّدّون إلى أش ّدِ الع ِ
ذاب م ِنكم إلّا ِ
ل عم ّا يعْملُون] ،فضلا عن أهل الخسة الذين يفرحون
الل ّه ُ ب ِغاف ِ ٍّ
وما َّ
بما هم فيه من الأمنة ولين العيش لإيثارهم سلامة الدنيا دون
الآخرة ،وإرضائهم عدوّ الله وعدوّهم ،وقعودهم عم ّا افترض الله
عليهم من نُصرة إخوانهم المستضعفين بكل سبيل ليتخلصوا بذلك
ل ومن ّة ،وإنما هؤلاء كمن
من الإثم والحرج لا ليكونوا أصحاب فض ٍّ
29
قال الله فيهم[ :وطائ ِفة ٌ ق ْد أَ ه َّم ّتْه ُ ْم أَ نْف ُسُه ُ ْم يظ ُُّن ّون ب َِّالل ّه ِ غي ْر الْحقّ ِ ظ َّنّ
ط ِئ َّ ّن ف ِإ ْن أَ صابتْك ُ ْم الْجاه ِل َِّي ّة ِ] ،وقال سبحانه[ :و ِإ َّ ّ
ن مِنْك ُ ْم لمنْ ليُب ّ
ن من الل ّه ُ عل َّيّ ِإ ْذ ل ْم أَ كُنْ معه ُ ْم شه ِيدا] ،فإ ّ م ُصِ يبة ٌ قال ق ْد أَ ن ْعم َّ
أظهر صفات المنافقين الانشغال بأنفسهم عند نزول البلاء بالمؤمنين،
والتباطؤ في النصرة خشية أن يصيبهم ما أصابهم ،ووصف الله
سبحانه المنافقين أيضا بأنهم أشح ّة على الخ ير ،قال تعالى[ :أَ شِ َّح ّة عليْك ُ ْم
ْف رأَ ي ْته ُ ْم ينْظ ُر ُون ِإلي ْك تد ُور ُ أَ عْيُنُه ُ ْم كال َّ ّذ ِي يُغْشى
ف ِإذا جاء الْخو ُ
ْف سلق ُوك ُ ْم ب ِأَ لْسِنة ٍّ حِدادٍّ أَ شِ َّح ّة على
ْت ف ِإذا ذهب الْخو ُ
عليْه ِ م ِن ال ْمو ِ
الْخ يْرِ] ،فهم أشح ّة على المؤمنين بكل خير وبكل نُصرة ،سواء بالقول
أو الفعل ،ولا يكتفون بهذا ،بل يسلقونهم بألسنة ٍّ حداد!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية" :وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون
بوجوه :تارة يقول المنافقون للمؤمنين :هذا الذي جرى علينا بشؤمكم؛
فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه
وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .وتارة
يقولون :أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا
الوقت وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا .وتارة يقولون:
غركم دينكم
أنتم -مع قلتكم وضعفكم -تريدون أن تكسروا العدو وقد َّ ّ
كما قال تعالى{ :إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر
30
هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} .وتارة
يقولون :أنتم مجانين لا عقل ل كم ،تريدون أن تهل كوا أنفسكم والناس
معكم .وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي الشديد".
31
فصل
32
تجديد العزم على الخروج والنصرة عند الإمكان ،وتحديث •
النفس بذلك ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم" :من مات
ق"،
ِث نفسه ُ بالغزوِ مات على شعبة ٍّ من الن ِّفا ِ
ولم يغز ُ ولم يح ّد ْ
فمن فاته الغزو لزمه تحديث النفس.
اعتقاد إثم هؤلاء الح ُكّام ،واقترافهم للمنكر ،ثم بذل الجهد في •
ل ال َّد ّف ِْع فه ُو أَ ش ُّ ّد أَ ن ْو ِ
اع دف ِْع شيخ الإسلام ابن تيمية" :وأَ َّمّا ق ِتا ُ
ل ِب إجْماعا فال ْعد ُ ُّوّ َّ
الصّ ائ ِ ُ ن فواج ٌ
ل عنْ الْحُر ْمة ِ والد ِّي ِ َّ
الصّ ائ ِ ِ
سد ُ الد ِّين وال ُّد ّن ْيا لا شيْء أَ وْجب بعْد ال ِْإ يما ِ
ن م ِنْ ال َّ ّذ ِي ي ُ ْف ِ
ب ال ِْإمْكانِ .وق ْد ْط بلْ يُدْف ُع بِ حس ِ ط ل ه ُ شر ٌ دف ْعِه ِ فلا يُشْتر ُ
ق بي ْن دف ِْع صحابُنا وغي ْر ُه ُ ْم فيجِبُ َّ
الت ّ ْفرِ ي ُ ص على ذل ِك ال ْع ُلماء ُ أَ ْ ن َّ ّ
ظال ِ ِم ال ْكافِرِ و بي ْن طلبِه ِ فِي بِلادِه ِ ،والْج ِهاد ُ مِن ْه ُ ما ه ُو ل ال َّ ّ َّ
الصّ ائ ِ ِ
ي ن و َّ
الرأّْ ِ ْب وال َّد ّعْوة ِ والْ َّحجُ ّة ِ والل ّ ِسا ِ
ب ِال ْيدِ ومِن ْه ُ ما ه ُو ب ِال ْقل ِ
الصناعة ِ فيجِبُ ب ِغاية ِ ما يمُْكِن ُه ُ و يج ِبُ على ال ْقعدة ِ و َّ
الت ّدْبِيرِ و ِّ
ل ِع ُ ْذرٍّ أَ ْن يخ ْلُف ُوا ال ْغ ُزاة فِي أَ ه ْل ِيه ِ ْم ومالِه ِ ْم" ،وقال البهوتي في
ال كشاف شارحا كلام الشيخ رضي الله عنه(" :قال الشيخ:
33
الأمر بالجهاد) يعني :الجهاد المأمور به (منه ما يكون بالقلب)
كالعزم عليه (والدعوة) إلى الإسلام وشرائعه (والحَّج ّة) أي:
إقامتها على المبطل (والبيان) أي :بيان الحق وإزالة ال ُّ ّ
ش به
(والرأي والتدبير) فيما فيه نفع المسلمين (والبدن) أي :القتال
بنفسه (فيجب) الجهاد (بغاية ما يمكنه) من هذه الأمور.
قلت :ومنه هج ْو ال كفار ،كما كان حسان رضي الله تعالى عنه
يهجو أعداءه صلى الله عليه وسلم" ،ويتخر ّج على ذلك أمور
أخرى كثيرة.
34
فصل
ن فعليْكُم ُ
ن اسْ تن ْصر ُوكم في الد ِّي ِ
أولها :قول الله سبحانه[ :وإ ِ •
الثاني :أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في •
35
الثالث :أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذمته ومن معه في •
36
الرابع :أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم ينصر أبا بصير •
الله عنه أنه قال" :ما منعنِي أَ ْن أَ ش ْهد بدْرا إلّا أَ ن ِ ّي خرجْ تُ أَ نا
ْش ،قالواَّ :إن ّك ُ ْم تُر ِيد ُون
كفّار ُ قُر ي ٍّ
وأَ بِي حُسيْلٌ ،قال :فأخذنا ُ
مُح َّم ّدا ،فق ُل ْنا :ما نُر ِيدُه ُ ،ما نُر ِيد ُ إلّا المدِينة ،فأخذ ُوا م ِن ّا عهْد
الله ِ وم ِيثاقه ُ لنن ْصرِف َّنّ إلى المدِينة ِ ،ولا نُقات ِ ُ
ل معه ُ ،فأتي ْنا رسول
الله ِ ﷺ ،فأخْبرْناه ُ الخ بر ،فقال :ان ْصرِفا ،نفِي له ْم بع ْهدِهِمْ،
الل ّه عليهم" ،وظاهره أن ميثاق حذيفة وأبيه مع
ونسْتع ِينُ َّ
المشركين كان مانعا من نصرتهما المسلمين في غزوة بدر.
37
الموفق في بيان مقاصد اله ُدنة في الشر يعةَّ " :
ولأن ّه قد يكُون بالمسلمين
حت ّى يقْوى المسلمون .ولا يجوز ُ ذلك إ َّلّا َّ
للن ّظرِ ْف ،فيُهادِنُهم َّ
ضع ٌ
ْف عن قتالِهم ،وإ َّمّا أ ْن يطمع في
للمسلمين؛ إ َّمّا أ ْن يكون بهم ضع ٌ
إسْ لامِه ِم بِهُدْنتِهم ،أو في أدائِهم الجِز ْية ،وال ْتزامِهم أحْكام الملَّ ِ ّة ِ ،أو
غيرِ ذلك من المصالِ ح .إذا ثبت هذاَّ ،
فإن ّه لا تجوز ُ المُهادنة ُ مُطْلقا
ك الجهادِ بالك ُل ّ َِّي ّة ِ" ،وعلى هذا من غيرِ تقْدير ِ م ُ َّ ّدة ٍّ؛ َّ
لأن ّه ي ُ ْفض ِى إلى ترْ ِ
جمهور الفقهاء ،أما الحنفية ،فعلى الرغم من تجويزهم المهادنة مطلقة
غير مؤق ّتة ،إلا إنهم لم يجو ّزوها مؤبدة ،وجعلوها مع ذلك جائزة
غير لازمة ،يتجدد فيها لحاظ الأصلح للإسلام وأهله ،قال محمد رحمه
الله في السير الصغير" :قلت :أَ رأَ ي ْت قوما من أهل الْحر ْب طلب ُوا إلى
ج ْز ية أينبغي لل ْم ُسلمين أَ ن
ال ْم ُسلمين ال ْم ُوادعة سِنِين معْلُومة ب ِغي ْر ِ
يعطوهم ذل ِك؟ قال :نعم ،ين ْبغ ِي ِلإمام ال ْم ُسلمين أَ ن ينظر فِي ذل ِك،
ف ِإن كانت له ُم شو ْكة لا يستطيعهم ،وكانت موادعتهم خيرا لل ْم ُسلمين
وادعهم .قلت :ف ِإن وادعهم َّ
ثم ّ نظر فِي ذل ِك فوجد موادعتهم شرا
لل ْم ُسلمين ،وقد وادعهم على شيْء يؤدونه إليه ،أينبذ إليهم و يب ْطل
ال ْم ُوادعة َّ
ثم ّ يقاتلهم؟ قال :نعم" ،والخ ير ية والشر ي ّة ههنا راجعة
للمسلمين من حيث هم مسلمون ،مقاصد دينهم مقدمة على مقاصد
دنياهم ،بل الحنفية يرون الصلح نوعا من الجهاد في المعنى لا قعودا
38
عنه ،لأنه مسلك من مسالك حماية الإسلام وصيانة أهله ،والجميع
متفقون على أن ذلك يُت َّ
رصّ د معه قوة المسلمين وعُلو ِّهم ،وإنما اختلفوا
ت بالمسْل ِمِين نازِلة ٌ بق ُ َّو ّة ِ
وقت لذلك ،قال الشافعي" :إن نزل ْ
ٍّ في تقدير
عدُوٍّّ عليهم -وأ ْرجُو أن لا يُنْزِلها الله ُ بهم -هادنهم الإمام ُ على َّ
الن ّظرِ
للمسْل ِمِين إلى م ُ َّ ّدة ٍّ يرْجُو إليها الق ُ َّو ّة عليهم" ،وقد اتفق الفقهاء مع ذلك
ل يبذله المسلمون لأعدائهم إلا في شديد
على عدم جواز العقد على ما ٍّ
الضرورات ،لأنهم رأوا في ذلك ذلة للمسلمين مناق ِضة للمصلحة
المطلوبة من الهدنة ونحوها ،قال الشافعي" :ولا خي ْر في أن يُعْطيهم
المسلمون شيئا بحال على أن يكُ ُّ ّفوا عنهم؛ لأ َّ ّ
ن القتل للمسلمين شهادة ٌ،
أعز من أن يُعطى مُشْرِك ٌ على أن يكف عن أهله؛
ن الإسلام ُّ ّوأ َّ ّ
ن أهله -قاتلين ومقتولين -ظاهرون على الحق ،إلا في حال لأ َّ ّ
واحدة وأخرى أكثر منها ،وذلك أن يلتحم قوم من المسلمين
فيخافون أن يصطلموا ل كثرة العدو وقِل ّتهم وخُلّة فيهم ،فلا بأس أن
يُعط ُوا في تلك الحال شيئا من أموالهم على أن يتخل ّصوا من المشركين؛
لأنه من معاني الضرورات يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها ،أو يُؤسر
مسلم فلا يُخلى إلا بفدية فلا بأس أن يُفدى" ،فانظر هذه المقالة
الشر يفة في أمر بذل المال والدنيا ،فما بالك بالمصالحة على بذل الديانة
وتفر يغ الشر يعة والرضى بالصغار؟!
39
فهذه المهادنة الشرعية لا علاقة لها بالمهادنة لأجل الاستكثار من
ُّ
والتقل ّب في زينتها ،ونشر الفواحش ،وإماتة السنن ،وتبديل الدنيا،
الديانة ،وتسليط الكافرين على عقول المسلمين وقلوبهم ،فتنز يل
أحكام الهدنة على هذه المقامات ومجاوزة هذا إلى الخوض في
وتلاعب بالشر يعة ،وخيانة ٌ لله
ٌ عبث سخيف،
ٌ تفاصيلها ودقائقها
ورسوله والمؤمنين!
فإن كانت المواثيق على هذه الحال فهي ساقطة الاعتبار في نظر
الشارع والمتشرِّع ،كالمصالحة على ما لا يجوز ،وعلى ما يُفسد دين
المسلمين قبل دنياهم ،قال الشافعي" :وبهذه الآية مع الآية في براءة
قلنا إذا صالح الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه كما صنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في النساء" ،يُشير إلى قول الله تعالى[ :يا أَ ُّ ّيها
ات فامْتحِن ُوه َُّنّ َّ
الل ّه ُ أَ ع ْلم ُ ال َّ ّذ ِين آمن ُوا ِإذا جاءكُم ُ ال ْمُؤْم ِناتُ مُهاجِر ٍّ
ات فلا ترْجِع ُوه َُّنّ ِإلى ال ْ كُ َّ ّفارِ] ،وقد
ب ِِإ يمانِه َِّنّ ف ِإ ْن علِم ْتُم ُوه َُّنّ مُؤْم ِن ٍّ
روى ابن جرير عن عروة أنه قال في هذه الآية" :إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشا عام الحديبية على أن يردّ عليهم
من جاء بغير إذن وليه؛ فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإلى الإسلام ،أَ بى الله أن يُرْددْن إلى المشركين إذا هنّ
امْتحنّ محنة الإسلام" ،وهذا كان شديدا مه ّدِدا للصُلح بر ُ َّمّته ،بل
40
ن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إعماء
أشار بعضهم إلى أ ّ
الله سبحانه المشركين عن التشنيع على المسلمين بالرجوع عن ذلك
بعد أخذ العهد عليه.
41
ثم إنه قد تقدم ُّ
تعل ّق الدفع بجميع المسلمين في عامة الأقطار ،ومحال
الالتزام بالعهود والمواثيق يكون عند الطلب لا الدفع ،قال العلامة
التسولي في أجوبته لمسائل الأمير عبد القادر" :وبالجملة :إنما تجوز
المهادنة مع كون الجهاد فرض كفاية ،بأن يكون العدوّ مطلوبا في
أرضه" ،وقال" :وإنما جاز الصلح والهدنة :إذا كانوا مطلوبين في
أراضيهم ،لأن الغلبة والظفر حينئذ للمؤمنين ،فالعهد حينئذ منا
إليهم ،لا منهم إلينا ،فالمؤمنون هم الموفون بالعهود" ،ونقل الونشريسي
في المعيار عن بعض فقهاء تلمسان أنه سُئل عن خليفة ٍّ صالح
النصارى المعتدين على بعض سواحل المسلمين وينهى عن جهادهم
ودفعهم ،فكان مما أجاب به .." :أما الضرب الثاني ،فمهما تعيّن
الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح ،كما لو كان العدو طالبا على
المسلمين ،أو قد يفجأ موضعهم ،وهو ضعف عدد المسلمين فأقل،
شدة وع ُ ّدة المشهور عند المحققين ،فتعيّن على من نزل بهم أو
لا ِ
أقاربهم دفعهم في الح ين" ،قال" :فكل ما نُق ِل في تعيين فرض
الجهاد مان ٌع من الصلح ،لاستلزامه إبطال فرض العين الذي هو
الجهاد المطلوب به الاستنقاذ" ،قال" :ولما تقررت هذه المقدمة بما
فيها من نصوص الأيمة تعين بها أن الجهاد فرض عين في مسألة
السؤال ،فيمتنع فيها الصلح على كل حال ،لا سيما إن طالت مدته،
42
مصلحته ،وعلى المسلمين أهل كه الله فقد عادت على العدو
مفسدته ،وإن تخيّلت فيه مصلحة فهي للعدو أعظم من وجوه مكملة،
فإنه يتحصن في تلك المدة و يكثر من آلات الحرب والعدة ،فيتعذر
على المسلمين الاستنقاذ ،و يصعب عليهم تحصيل المراد بعد تيسره لو
ساعده التوفيق ،ول كن المولى جل جلاله هو المسئول في هدايته إلى
سواء الطر يق ،فما وقع من الصلح فهو مصلحة للعدو وهو مفسدة
على الإسلام ،فلا يكون له في نفس الأمر انبرام ،فالصلح المذكور
يجب نقضه لأنه بمقتضى الشرع غير منبرم ،فحكمه غير لازم عند
كل من حقق أصول الشر يعة بنظر عالم" ،ثم قال" :لا يقال الصلح
المسؤول عنه داخل في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب،
والصلح من الإسلام لا يكون في الغالب إلا من عذر ،على إنه حكم
اجتهادي من إمام فلا سبيل إلى نقضه!
لأن ّا نقول :وقوع ذلك الصلح عقب الداهية الدهيا -وهي انتهاز
العدو دمره الله الفرصة في بلاد المغرب مع توفر الإسلام والعدو
أهل كه الله ليس له فيها مردّ والمسلمون لا يقصرون عن ضعف العدد
فضلا أن يكون عدوهم ضعفهم -إما يكون لخوف استيصال
الكافرين بقية المسلمين ،وإما لخوف من المحاربين ،والأول باطل،
لأنه خلاف الفرض ،والثاني أيضا كذلك ،لأن الخوف من
43
المحارب بالفرض مع إمكان انقسام العدد ،واتصال المسلمين بحصول
المدد ،فالواجب القتال .وإن كان العدو ذا جلد ،ومعهكثرة العدد،
فلا يدخل الصلح في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب،
وحكم الاجتهاد يتنقض إذا تبين فيه الخطأ كما نُقل عن سحنون،
وطول المدة في الصلح المذكور خطأ ،فيتنقض الصلح ،ودليل ذلك
أيضا أن الصلح المذكور فيه ترك الجهاد المتعين ،وترك ما فيه الجهاد
المتعين يمتنع ،فالصلح المذكور ممتنع غير لازم ،فالجهاد في الموضع
المذكور لم يزل متعينا من زمن الوخزة إلى الآن .وعن ابن القاسم:
إن طمع قوم في فرصة في عدو قربهم وخشوا إن أعلموا الإمام
منعهم فواس ٌع خروجهم وأحب إلي أن يستأذنوه .قال ابن حبيب:
سمعت أهل العلم يقولون إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت
مخالفته إلا بأن يدهمهم العدو .وقال ابن رشد :طاعة الإمام لازمة
وإن كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية .ومن المعصية النهي عن
الجهاد المتعين على ما تقدم .والله أعلم" ،وهذه الفتوى نقلها كذلك
التسولي وعليش المال كيين في أجوبتهما للأمير عبد القادر ،وأما
كلامه في خوف استيصال الكافرين فيوضحه ما نقله بعض المال كية
-كما في المعيار -عن ابن حزم رحمه الله تعالى أنه قال" :أجمعوا على
أن ّه لو نزل عدوّ الدين بساحة المسلمين وقالوا إن لم تعطونا مال فلان
44
استأصلناكم = لم يحل أن يعطوا ذلك ،ولو خيف استئصال
المسلمين" ،ولم أقف عليه من كلام ابن حزم ،ل كن عل ّق عليه بعض
فضلاء فقهاء المال كية قائلا" :وأما مساعفة ال كفار بمال مسلم معين
من غير طيب نفس منه بذلك على مهادنة ال كفار فينبغي أن لا يجوز
كما ذكر ابن حزم ،وقد قال صلى الله عليه وسلم :لا يحل مال المسلم
بغير طيب نفس منه ،أو كما قال صلى الله عليه وسلم ،وقال تعالى:
ض
[لا تأكلوا أموال كم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن ترا ٍّ
منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما] ،فقرن تعالى بين
النهي عن أخذ المال بغير رضى وبين القتل ،وقد أفتى ابن رشد في
القتل أنه لا يجوز إن خيف الاستيصال ،فكذلك المال والله أعلم.
وما يهوِّلون به من استيصال الإسلام = من اختلاف أهل الز يغ
كما قال ابن رشد ،وقد سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم ربه أن
لا تستباح بيضة أمته فأعطاه ذلك ،وقال صلى الله عليه وسلم :لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق .الحديث .وقال تعالى:
[لي ُظه ِره على الدين كله] ،وإذا كان فرض خوارق العادات ليس
من دأب الفقهاء كما قال المازري وغيره = ففرض المحال شرعا
ينبغي ألا يكون من دأب المسلمين فضلا عن دأب الفقهاء ،فهذا
الفرض من شيم أهل الز يغ والتعطيل كما قال ابن رشد في أجوبته،
45
والله تعالي أعلم" ،وأصل هذا الكلام ما قاله الإمام القاضي ابن رشد
الجد في أجوبته" :وأما السؤال عن العدو -أهل كه الله -لو قدم
البيت الحرام ،أو قبر النبي عليه السلام ،فقال للمسلمين :إما دفعتم
إلينا رجلا منكم يسمونه وإلا هدمنا البيت أو نبشنا نبيكم = فهي من
المسائل التي يبثها في الناس أهل الز يغ والتعطيل ،كي يلزمهم -
بزعمهم -استباحة قتل النفس التي حرمها الله أو استباحة حرمة
النبي عليه السلام ،فيسخروا بهم وبدينهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام أكرم على الله من أن يمكن أعداءه
ال كفرة من استباحة حرمته ،ونبشه من مضجعه ،وكما عصمه الله
عز وجل ممن أراد به سوءا مكروها في حياته ،فكذلك يعصمه ممن
أراد شيئا من استباحة حرمته ،بعد وفاته ،ويهلك من تعرض إلى
شيء من ذلك" ،قال" :ولما وقع السؤال عن هذا الممتنع بفضل الله
تعالى ،المحال ،لم يكن بد من الجواب عليه ،لرفع شبهة من رام
يخشى وقوعه ،بفضل الله ورحمته،
الطعن في الدين ،لا لأن ذلك ُ
في ُفتقر إلى معرفة الحكم فيه ،فنقول :إن الواجب يكون على جميع
المسلمين في ذلك أن يموتوا عن آخرهم دون أن ت ُستباح حرمة نبيهم
صلى الله عليه وسلم وش َّرّف و َّ
كر ّم ،ولا يدفعوا إليهم الرجل الذي
طلبوه ليقتلوه ،إذ ليس هو أولى من أن يكون فداء لحرمته من كل
46
واحد منهم" ،فتأمل قول الإمام رضي الله عنه في الدفع عن رجل
مسلم واحد ،فكيف بالدفع عن بقعة ٍّ من ديار الإسلام بما فوقها
من الدماء والأنفس والأعراض والحرمات؟!
وسأل الأمير عبد القادر العل ّامة محمد عليش ،مفتي مصر وشيخ
المال كية فيها ،عن سلطان المغرب المصالح للعدو الكافر النازل بساحة
الجزائر ،المُعين للعدو بالمتاجرة معه ونحو ذلك ،المضي ِّق الخناق على
المجاهدين ،فأجاب الشيخ بإجابة ٍّ طو يلة ص َّ ّدرها بقوله" :نعم ،يحرم
على السلطان المذكور -أصلح الله أحواله -جميع ذلك الذي ذكرتم،
حرمة معلومة من الدين بالضرورة" ،وقال رحمه الله تعالى" :وبيع
البقر وسائر الحيوان والطعام والعروض وكل ما ينتفعون به في
النازلة المذكورة حرام قطعا إجماعا ضرورة لا يشك فيه مسلم ،سواء
في حال حصر المسلمين إياهم وفي حال عدمه ،إذ قتالهم فرض عين
على كل من فيه قدرة عليه ،ولو من النساء والصبيان من أهل تلك
البلاد ومن قرب منها ،كأهل عمل السلطان المذكور وفقه الله
تعالى ،فكيف يتخيل مسلم أن معاملتهم بما ينتفعون به ويتقوون به
على البقاء في أرض الإسلام جائزة مع ذلك؟!" ،وبنحو ذلك أجاب
العربي الفاسي كما ورد في نوازل الوزّاني ،قال" :وأما المسألة الرابعة
فلا يجوز أن ي ُباع لل كفار الحربيين القوت ولا السلاح ولا ما ي ُصنع
47
منه السلاح ،ولا ما يعظمون بهكفرهم .ونصوص المذهب متظاهرة
على ذلك .قال في المدونة :قال مالك :لا يباع من الحربي سلاح
ولا سروج ولا نحاس .قال ابن حبيب :وسواء كانوا في هدنة أو
غيرها ،ولا يجوز بيع الطعام منهم في غير الهدنة ،قال الحسن :ومن
حمل إليهم الطعام فهو فاسق ،ومن باع منهم السلاح فليس بمومن،
ولا يعتذر بالحاجة إلى ذلك لتحصيل ما يحتاج إليه في بلادهم"،
وقد روى ابن هانئ رحمه الله تعالى في مسائله أن الإمام أحمد رضي
الله عنه سُئل عن الرجل يبيع من العدوّ شيئا؟ قال" :لا يُباع ممن
يتقو ّى على المسلمين" ،أي لا يُباع له ،أو لا يُشترى منه ،احتمالان.
ومن فقه الإمام رضي الله عنه أنه لم ينظر هنا إلى عين المُباع ،بل
إلى المآل ،وهو أن يتقو ّى العدو بهذه المعاملة على المسلمين ،أي فوق
تقو ّي المسلمين عليهم بها ،فجعل ذلك معْدِلا عن أصل الإباحة،
وهذا غاية في الظهور ،فإن تقو ية المؤمن على المؤمن ممنوعة شرعا،
وهي داخلة في قول الله سبحانه[ :ولا تعاونوا على الإثم والعدوان]،
وبنى الفقهاء على ذلك تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة ونحو ذلك،
فكيف بتقو ية الكافر على المؤمن؟! بل إن هذا كان من أسباب لعن
الله لليهود ،كما قال تعالى[ :ث ُم ّ أَ ن ْتُم ْ هؤ ُلاء ِ تقْتُلُون أَ نْف ُسك ُ ْم و ُ
تخْرِجُون
ن وإ ْن يأْ تُوكم
فرِ يقا مِنْك ُ ْم م ِنْ دِيارِه ِ ْم تظاهر ُون عليْه ِ ْم ب ِِالإ ْث ِم وال ْعُدْوا ِ
48
ُّأسارى تُفاد ُوهم وه ْو مُحرّم ٌ علي ْكم إخْراجُهم] ،أي تقوون أعداءكم
على إخوانكم ثم توالون إخوانكم بالفداء ونحو ذلك وأنتم الذين أضعفتم
شوكتهم أصالة ،وظاهر من الظهر في أحد الوجوه ،وهو محل القوة،
ولذلك قيل للشيء الشديد الثقيل [الّذ ِي أَ ن ْقض ظهْرك] ،و يُقال
فلان كان ظهرا لفلان ،أي قو ّاه ،ويدخل في ذلك كل تقو ية
مادية أو معنو ية ،فهذا كله من جملة سلاح الحرب ،لذلك أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بجواب المسلمين لأبي سفيان بعدما وقع في أحد،
"الله مولانا ولا مولى ل كم"" ،لا سواء ،قتلانا في الجنة وقتلاكم في
النار" ،لكيلا يجتمع للمشركين الشوكتان المادية والمعنو ية حينئذ ،وقد
أمر النبي أصحابه أن يجيبوا هم أمرا عاما ،ليتقووا بذلك معنويا على
عدوهم.
أما المذكور أولا ،وهو آية الأنفال ،فهي دليل على ضد مطلوب •
49
ح َّت ّى يُها ِ
جر ُوا] ،قال ابن جرير" :يعني :من نُص ْرتهم وميراثهم"،
يريد الن ُصرة المطلقة ،لأن لهم نُصرة مقيدة ذكرها الله سبحانه
ن فعليْكُم ُ
ن اسْ تن ْصر ُوكم في الد ِّي ِ
بعد ذلك ،قال جل وعلا[ :وإ ِ
َّ
الن ّصْر ُ] ،وهذا القدر مشترك بين أهل الولايتين التامة والناقصة،
فليس هو محل الامتياز ،بل ما قاله سبحانه تاليا[ ،إلّا على قو ْ ٍّم
بي ْنكم وبي ْنهم م ِيثاقٌ ] ،فإن هذه الطائفة لما أبت الانحياز إلى
الفئة المؤمنة في أرض الإسلام لم يكن للمسلمين أن ينقضوا
مواثيقهم لأجل من قعد عن الامتياز معهم عم ّن سواهم ،فعُل ِم
بهذا أن أصحاب الولاية التامة لا يمنع من وجوب نصرتهم
ميثاقٌ أو غيره ،قال ابن العربي المال كي في أحكام القرآن" :وأَ َّمّا
جر ُوا ما ل ك ُ ْم م ِنْ ولايتِه ِ ْم م ِنْ شيْء ٍّ
قو ْلُهُ{ :وال َّ ّذ ِين آمن ُوا ول ْم يُها ِ
ن ذل ِك عامّ ٌ فِي ُّ
الن ّص ْرة ِ جر ُوا} [الأنفال :]72 :ف ِإ َّ ّ
ح َّت ّى يُها ِ
ن منْ كان مُق ِيما بِم َّك ّة على إيمانِه ِ ل ْم يكُنْ ذل ِك
اث؛ ف ِإ َّ ّ
والْمِير ِ
مُعْتدّا له ُ بِه ِ ،ولا م ُثابا عليْه ِ ح َّت ّى يُهاجِر" ،قال" :إ َّلّا أَ ْن يكُونُوا
ُّأسراء مُسْتضْ عف ِين؛ ف ِإ َّ ّ
ن الْوِلاية معه ُ ْم قائِمة ٌ ،و ُّ
الن ّص ْرة له ُ ْم واجِبة ٌ
ِف ح َّت ّى نخ ْر ُج إلى اسْ تِن ْقاذِه ِ ْم ن ب ِأَ َّلّا يب ْقى م َِّن ّا عي ْ ٌ
ن ت ْطر ُ ب ِال ْبد ِ
ل ذل ِك ،أَ ْو نبْذ ُل جم ِيع أَ مْوالِنا فِي
إ ْن كان عدد ُنا يح ْتمِ ُ
جهِمْ ،ح َّت ّى لا يب ْقى ل ِأَ حدٍّ دِرْهم ٌ.كذل ِك قال مال ِ ٌ
ك اسْ ت ِخْ را ِ
50
ق فِي وجم ِي ُع ال ْع ُلماءِ ،ف ِإ َّن ّا ل َِّل ّه ِ و ِإ َّن ّا إليْه ِ راجِع ُون على ما ح َّ ّ
ل ب ِالْخل ْ ِ
ل
ن ا ْل َأمْوا ِ
ترْكِه ِ ْم إخْ وانه ُ ْم فِي أَ سْرِ ال ْعدُوِّ ،و ب ِأَ يْدِيه ِ ْم خزائ ِ ُ
ل وال ْع ُ َّ ّدة ُ وال ْعدد ُ ،والْق ُ َّو ّة ُ والْجلد ُ" ،والأمر على
ل ا ْلأَحْ وا ِ
وفُضُو ُ
ما قال رحمه الله تعالى ،وإنا لله وإنا إليه راجعون!
فانظر وصاية الله بالمؤمنين المتخل ّفين العاصين المكث ّرين لسواد
المشركين القاعدين عن تكثير المؤمنين والدفع عنهم والجهاد
51
معهم ،فكيف بمن سواهم من أهل الولاية التامة والنصرة
المطلقة؟!
بل انظر إلى وصاية الله بميثاق الكافرين في هذه الحال ،فكيف
بميثاق الإيمان والإسلام والتوحيد؟! ..قال قتادة في هذه
سل ِم ُ
ل ميثاقهم ،فوالله لأَ خُوك ال ْم ُ ْ
الآية" :نُهِ ى ال ْمُسْل ِم ُون عنْ أَ ه ْ ِ
أَ عْظم ُ علي ْك حُرْمة وحقّا".
وأما ما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية •
52
بالرجال دون النساء ،أما طلب العدو للمسلمين في ديارهم فلا
تمييز فيه .ومنها أن العلماء في هذه الحادثة على مذاهب ،فأما
الحنفية فذهبوا إلى أن جواز ذلك منسوخ في حق الرجال
والنساء جميعا ،فلا يجوز هذا الشرط بعد ُ ولا يُعمل به ،وذهب
إلى ذلك ابن شاس وابن العربي من المال كية ،وقال ابن العربي
خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم في ذلك من
ٌ إن ذلك
الحكمة وحُسن العاقبة ،وأما الشافعية فقد قي ّدوا الجواز بأن
يكون الرد إلى عشيرة ٍّ تطلبه ،لأنها تحميه وتذب عنه ،أو أن
يكون الرد مع غلبة ظن القدرة على قهر الطالب والهرب منه،
قال الشافعي" :فإن ذهب ذاهب إلى رد أبي جندل بن سهيل
إلى أبيه وعياش بن أبي ربيعة إلى أهله بما أعطاهم قيل له:
آباؤهم وأهلوهم أشفق الناس عليهم وأحرص على سلامتهم،
وأهلهم كانوا سيقونهم بأنفسهم مما يؤذيهم فضلا عن أن يكونوا
متهمين على أن ينالوهم بتلف أو أمر لا يتحملونه من عذاب،
وإنما نقموا منهم خلافهم دينهم ودين آبائهم فكانوا يتشددون
عليهم ليتركوا دين الإسلام ،وقد وضع الله عز وجل عنهم المأثم
في الإكراه فقال{ :إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ،ومن
أسر مسلما من غير قبيلته وقرابته ،فقد يقتله بألوان القتل ويبلوه
53
بالجوع والجهد ،وليس حالهم واحدة" ،وأما أصحابنا وغيرهم فلم
يقي ّدوا بما لم يقي ّد به الشافعية ،ل كن قالوا لا يجوز هذا الشرط
إلا عند شدة الحاجة إليه وتعيّن المصلحة فيه ،وعللوا ترك قيد
الشافعية بأن ذا العشيرة إن كانت هي التي تفتنه وتؤذيه فهو
كمن لا عشيرة له ،و يُفهم منه غلبة ظن أن غاية ما يفعله
المشركون بالمردود هو الأذى لا القتل ،ولذلك قالوا إن الصبي
لا يجوز رده ،لأنه كالمرأة في الضعف وعدم القدرة على تحم ّل
الشدة والبلاء والاستمالة عن الإسلام ،ولذلك اشترطوا في ردّ
الأسير المسلم حصول الأمن سواء بعشيرة أو غيرها ،قالا في
الإقناع وشرحه(" :و يحرم ر ُّدّه) أي :الأسير المسلم (إلى
ال كفار ،قال الموفق) والشارح (إلا أن يكون له) أي :الأسير
المسلم (من يمنعه) من ال كفار (من عشيرة ونحوها) فلا يمتنع
رده؛ لأمنه" ،وظاهر النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم ما
رضي بذلك الشرط إلا مع ظن ذلك ،ولذلك قال صلى الله
عليه وسلم لأبي جندل رضي الله عنه" :اصبر واحتسب فإن الله
ل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
عز وجل جاع ٌ
ومخرجا" ،ثم إن هذا هو صلح الحديبية الذي جعله النبي صلى
الله عليه وسلم منقوضا بإعانة قريش لحلفائهم من بني بكر على
54
خزاعة المحالفين للنبي صلى الله عليه وسلم ،مسلمهم وكافرهم،
حتى قتلوا منهم طائفة بمكة خارج سلطان دولة النبي صلى الله
عليه وسلم ،قال المحقق ابن القيم في الهدي" :وكان هديه وسنته
أنه إذا صالح قوما وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم
فدخلوا معهم في عقدهم ،وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا
معه في عقده= صار حكم ُ من حارب من دخل معه في عقده
من ال كفار حكم من حاربه.
وبهذا السبب غزا أهل مكة ،فإنه لما صالحهم على وضع الحرب
ت بنو بكر بن وائل فدخلت في عهد
بينه وبينهم عشر سنين تواثب ْ
قريش وعقدِها ،وتواثبت خزاعة ُ فدخلت في عهد رسول الله
ت بنو بكر ٍّ على خزاعة َّ
فبي ّتتْهم صلى الله عليه وسلم وعقده ،ثم عد ْ
وقتلت منهم ،وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح ،فع َّ ّد رسو ُ
ل
الله صلى الله عليه وسلم قريشا ناقضين للعهد بذلك واستجاز
غزو بني بكر بن وائل لتع ّدِيهم على حلفائه ،وسيأتي ذكر القصة
إن شاء الله تعالى.
وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما
أعانوا عد َّوّ المسلمين على قتالهم وأمدوهم بالمال والسلاح وإن
كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا ،ورآهم بذلك ناقضين للعهد ،كما
55
نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني بكر
ل الذمة
بن وائل على حرب حلفائه ،فكيف إذا أعان أه ُ
المشركين على حرب المسلمين؟!" ،بل كيف إذا تعدى
المشركون المعاهدون أنفسهم على دماء المسلمين وأعراضهم في
بلاد المسلمين وديارهم ،وغزوهم وحاربوهم؟!
وقال ابن القيم في الهدي" :وفيها :أن أهل العهد إذا حاربوا من
ه ُم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك ،ولم
يبق بينهم وبينه عهد ،فله أن يبي ِّتهم في ديارهم ،ولا يحتاج أن
يُعْلمهم على سواء ،وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة،
فإذا تح َّ ّققها صاروا نابذين لعهده" ،وليس في الدنيا عهدٌ أوثق
من عهد الإسلام والأخوة الإيمانية ،وتق َّ ّدم قول قتادة رحمه
ل ميثاقهم ،فوالله ل َأخُوك
الله تعالى" :نُهِ ى ال ْمُسْل ِم ُون عنْ أَ ه ْ ِ
سل ِم ُ أَ عْظم ُ علي ْك حُرْمة وحقّا" ،ل كن هذا في حق المؤمن،
ال ْم ُ ْ
أما الكافر فقد لا يعتبر لذلك إذا تعددت الطوائف والدول
والإمارات ،فيحسن الإعلام والنبذ على سواء.
وأما المذكور ثالثا فينبغي أن يُعلم أولا أن الوارد في الفتوى ليس •
خاصا بالشيخ رحمه الله تعالى ،بل هذا منثور في كلام السابقين
56
ن م َِّن ّا.
له ،قال الإمام الموفق في المغني" :وقولُهم :إ َّ ّنهم في أَ ما ٍّ
قُل ْنا :إ َّن ّما أ َّمّ َّن ّاهم َّمم ّنْ هو في دارِ ِ
الإسلا ِم ،الذين هم في قب ْضة ِ
الإما ِم ،فأما من هو في دارِهم ،ومنْ ليس في قب ْضت ِه ،فلا يُم ْن ُع
ِ
ل ما لو خرج العبد ُ قبل إسْ لام ِه ،ولهذا َّلم ّا قتل أبو
منه ،بدلي ِ
بصِ يرٍّ الرج ُل الذى جاء ل ِردِّه ،لم يُنْكِرْه ُ َّ
الن ّبِي صلى الله عليه وسلم،
ل وأصحابُهما عن َّ
الن ّب ِ ِيّ صلى ولم يُضمِّن ْه ،ولما ان ْفرد هو وأَ بُو جن ْد ٍّ
طرِ يق عليهم ،وقتلُوا الله عليه وسلم في صُل ِْح الحُدي ْبية ِ ،فقطع ُوا ال َّ ّ
من قتلُوا منهم ،وأخذ ُوا المال ،لم يُنْكِر ْ ذلك َّ
الن ّبِي صلى الله عليه
وسلم ،ولم يأْ م ُْرهم بردِّ ما أخذ ُوه ،ولا غرامة ِ ما أَ تْلف ُوه" ،ل كن
ج عم ّا نحن فيه أيضا ،فغاية ما فيه أن الحاكم
هذا ونحوه خار ٌ
المسلم إذا عاهد قوما من المشركين فإن غاية ما عليه أن يؤمّ ِنهم
من نفسه ورعاياه ،أما لو طلبهم طائفة ٌ من المسلمين ليست تحت
سلطانه فليس له حينئذ أن يُشاركهم في ذلك ما دام العهد
قائما ،ل كن لا يلزمه أيضا أن يردهم ويدفعهم ،أما لو طلب
المشركون المسلمين في ديارهم التي ليست تحت سلطان ذلك
الحاكم المعاه ِد فيلزمه حينئذٍّ أن ينصر إخوانه من المسلمين ،وأن
يدفع الصائلين عليهم عنهم ،فهذا خارج عن ميثاقه مع
المشركين ،بل لو صالحهم على ترك نُصرة المؤمنين والدفع عنهم
57
صراحة لكان هذا الشرط باطلا ،يُفسد العقد من أصله ،أو
يسقط مع بقاء العقد ،ل كن يلزمه أن ينبذ إليهم ويبين لهم.
وأما آخر المذكور ،وهو حديث حذيفة وأبيه رضي الله عنهما، •
فغاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هو الإمام -
58
أَ ذِن لهما في ترك الجهاد لكيلا يُشاع أن المسلمين ينكثون
عهودهم ،ولكيلا لا يُع َّي ّر حذيفة وأبوه بذلك ،ولذلك قال
اب ،ف ِإ َّن ّه ُ لا يج ِبُ
النووي في شرح مسلم" :وهذا لي ْس لِل ِْإ يج ِ
الن ّب ِ ُّيّ صلى
ك الْج ِهادِ مع ال ِْإما ِم ونائبِِه ِ ،ول كِنْ أَ راد َّ
ال ْوفاء ُ بِترْ ِ
ْض ال ْع ْهدِ ،و ِإ ْن كان صحابِه ِ نق ُالله عليه وسلم أَ ْن لا يشِيع عنْ أَ ْ
لا يل ْزمُه ُ ْم ذل ِك ،ل ِ َأ َّ ّ
ن ال ْمُشِيع عليْه ِ ْم لا ي ْذك ُر ُ تأْ وِ يلا" ،وهذا مع
وعد الله سبحانه للنبي بالنصر على أي حال ،ومع كون النصر
في معركة ٍّ كهذه لا يتوقف على رجلين أحدهما شيخ كبير،
ولذلك قال ابن الملقّن في شرح البخاري" :وبيَّ ّن الشارع لوفاء
عهدهما عدم الحاجة إلى ذلك ،فإن الله ناصره" ،فالوفاء بهذا
العهد لا يضر بالمسلمين ،ولذلك قال ابن القيم في الهدي" :وكان
من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحدا من أصحابه على عهدٍّ لا
يض ُّرّ بالمسلمين بغير رضاه أمضاه لهم ،كما عاهدوا حذيفة وأباه
أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم ،فأمضى لهم ذلك"،
فتبيّن أن المصلحة فيما ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أرجح
وأعظم ،ولذلك قال الأمير الصنعاني في شرح الجامع الصغير:
"وفيه حسن الوفاء بالعهد وإن كان لا يجب لأن طاعة الله
ورسوله أقدم بالوفاء إلا أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهما بالوفاء
59
حفظا للعهد واتصافا بالأحسن من الجائزين" ،ويدل على ذلك
أن حذيفة رضي الله عنه أعطاهم ذلك العهد وهو في حكم
الم ُكره كما ذكره الفقهاء ،وجمهور العلماء على عدم انعقاد يمين
المكره وعهده وأمانه ،وأيا ما كان المعنى الذي أَ ذِن لأجله
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصح التوسل به إلى التخاذل
عن نصرة المؤمنين المستضعفين ،ولذلك قال البيهقي في
الخلافيات عن هذا الحديث" :وكان هذا فِي اب ْتِداء ِ ال ِْإسْ لا ِم
ل
ك ق ِتا ِ
ُوت الْأَ حْكا ِم ،وال ْيو ْم فلوْ حلف على ترْ ِ
قب ْل ثُب ِ
ال ْمُشْرِكِين ،ف ِإ َّن ّا نأْ م ُرُه ُ ب ِأَ ْن يُحن ِّث نفْسه ُ ،و يُقات ِل ال ْمُشْرِكِين"،
والله أعلم.
60
فصل
62
فصل
64