Professional Documents
Culture Documents
والعلوم اإلسالمية
حضرموت/المكال
فقه السيرة
العام الدراسي
2023/ 2022م
1
بسـ اهلل الرحمف الرحيـ
الحمد هلل رب العالميف والصالة والسالـ عمى مف النبي بعده ،وعمى آلو وصحبو ومف
اتبعو .صالة وسالماً دائميف متالزميف إلى يوـ الديف.
اما بعد:
فبيف يديؾ أييا الطالب الكريـ ممخص لفقو السيرة النبوية تناوؿ أبرز احدث السيرة النبوية
ونرجوا مف اهلل التوفيؽ والسداد.
مدخل لدراسة السيرة النبوية
تمييد:
إف دراسة السيرة النبوية ليا أىمية كبيرة في فيـ اإلسالـ فالسيرة النبوية ليست مجرد
حوادث تاريخية تؤخذ منيا العبر والعظات فحسب ،وِانما ىي فوؽ ىذا كمو ،تجسيد عممي
ويتبع ،ألنيا
لموحي الذي ُيقتدى بو ،وىي منيج واضح ييتدى بيداه ،وصراط مستقيـ ُيسمؾ ُ
منيج معياري غير خاضع لحدود الزماف والمكاف وِانما تقاس إِليو األعماؿ والمواقؼ،
وتُ َعاير عميو االجتيادات واآلراء وتوزف بميزانو الحؽ .فنحف نحتاج إلى دراسة السيرة في
كؿ أحوالنا ،في السراء او الضراء وفي حاؿ النصر أو اليزيمة ،في حاؿ الضعؼ أو القوة.
مدلول كممة :السيرة النبوية:
السيرة لغة:
السيرة :الطريقة يقاؿ سار بيـ سيرة حسنة .والسيرة الييئة وفي التنزيؿ الكريـَ ﴿ :س ُن ِع ُ
يد َىا
وسّير ِسيرةّ : ِ
()2 ()1
حدث أحاديث األوائؿ س َيرتَيَا ْاألُولَى﴾ َ .
اصطالحا:
ً السيرة
ىي دراسة حياة النبي وأخبار أصحابو عمى الجممة ،وبياف أخالقو وصفاتو وخصائصو
ودالئؿ نبوتو ،وأحواؿ عصره.
فالسيرة النبوية تشمؿ كؿ ما يتعمؽ بالنبي ،وأحواؿ عصره ،وأخبار أصحابو ،وتشتمؿ
عمى ذكر أدؽ التفاصيؿ عف حياة نبينا محمد في المرحمة المكية والمدنية ،وعمى ىذا
درج المؤلفوف عف حياة النبي بتسمية مؤلفاتيـ بالسيرة النبوية ،كالسيرة النبوية البف
إسحاؽ ،وتيذيب ابف ىشاـ .
2
خصوصية السيرة النبوية:
تمتاز السيرة النبوية بخصائص عدة ال يمكن حصرىا منيا:
أف صاحبيا وىو نبينا محمد مرسؿ مف ربو إلى ٔ-كونيا ربانية المصدر ،بمعنى ّ
اس إِّْني َر ُسو ُؿ المَّ ِو إِلَْي ُك ْـ َج ِميعاً﴾(.)3 الناس كافةُ ﴿ :ق ْؿ َيا أَُّييَا َّ
الن ُ
وىذه الخصوصية واف كاف يشاركو األنبياء في بعضيا إال أف نبينا انفرد بكونو إلى
الناس كافة ،فأوامره ونواىيو ممزمة ومقررة لمناس جميعاً.
ٕ -ثبوتيا وصحة ما جاء فييا.
ٖ -شموليا وكماليا :فال تكاد تجد سيرة لنبي مف أنبياء اهلل السابقيف وصفت وصفاً دقيقاً
ابتداء مف والدتو حتى وفاتو وبقيت بعده ،فضالً عف غيرىـ مف البشر ،لكف سيرة نبينا
شممت جميع مراحؿ حياتو.
ٗ -وسطيتيا ويسرىا.
أىمية دراسة السيرة النبوية ومعرفتيا:
تكمن أىمية دراسة السيرة النبوية في النقاط األساسية اآلتية:
رسما لطريقو التي سمكيا ،وقد
ٔ -التثبت والتوثؽ مف سيرة الرسوؿ ألف سيرتو تعد ً
أمرنا اهلل تعالى باتباع ىديو ،فكاف ال بد مف توثيؽ واثبات كؿ ما ينسب إلى سيرة النبي
ألف ذلؾ أصؿ مف أصوؿ الديف.
ٕ -معرفة تفاصيؿ سيرتو حتى يمكف االقتداء بو في جميع شئوف الحياة ،حيث كانت
عمميا ألحكاـ اإلسالـ وشريعتو ،حتى ال يظف ظاف أف ىذه األحكاـ غير ً سيرتو تطبيقًا
اف َي ْر ُجو ِ قابمة لمتطبيؽ ،وقد قاؿ اهلل تعالى{ :لَقَ ْد َكاف لَ ُكـ ِفي رس ِ َّ ِ
ُس َوةٌ َح َس َنةٌ ل َم ْف َك َ
وؿ المو أ ْ َُ َ ْ
المَّوَ َواْل َي ْوَـ ْاآل ِخ َر}(.)4
ٖ -دعـ صدؽ نبوة محمد ، إف تقديـ السيرة النبوية الموثقة بأسانيدىا المتصمة إلى
مصادرىا األصمية المتضافرة ،والتي تبيف كؿ ما يتعمؽ بحياتو بجميع تفاصيميا سواء
كاف في شئونو الخاصة أو العامة ،كؿ ذلؾ يدعـ صدؽ نبوة محمد.
ٗ -معرفة عظمة اإلسالـ وقوتو فعندما ندرؾ أف ىذا الديف قد أرسى قواعده وأحكامو وتـ
تشييده في فترة وجيزة ىي مدة حياتو بعد الرسالة التي لـ تجاوز ثالثا وعشريف سنة.
3
تطور دراسة السيرة النبوية عبر العصور:
أىـ المراحؿ التي تمثؿ منعطفات أو ركائز أساسية في دراسة ورواية السيرة النبوية
ونستطيع تمخيص ىذه المراحؿ في:
- 1مرحمة الرواية :إف المرحمة األولى مف مراحؿ دراسة السيرة النبوية كانت مرحمة
رواية األحداث والتي بدأىا الصحابة رضواف اهلل عمييـ مف رواة األحاديث النبوية وىي
األحاديث التي تتناوؿ المواقؼ واألحداث وىي التي تبدأ عادة بمثؿ قوليـ :كنا مع رسوؿ
اهلل ويمحؽ بذلؾ تميـ الداري الذي أجمسو عمر بف الخطاب في مسجد رسوؿ اهلل
يقص عمى الناس يوما في األسبوع فمما كانت خالفة عثماف بف عفاف سمح لو
بيوميف .وكاف ذلؾ بال شؾ في العشريف سنة التالية لوفاة النبي .
ٕ -مرحمة التجميع :وىي التي قاـ عمييا عروة بف الزبير واباف بف عثماف بف عفاف
ووىب بف منبو وشرحبيؿ بف سعد وبف شياب الزىري.
ٖ -مرحمة التدوين :ومثميا محمد بف اسحاؽ المتوفي عاـ ٕ٘ٔ ىػ
ٗ -مرحمة التوثيق والتنقيح والتيذيب :ومثميا بف ىشاـ الذي ىذب كتاب بف إسحاؽ
وأخرجو لنا في (سيرة بف ىشاـ).
()5
وتالميذىـ :وىي منعطؼ خطير في تناوؿ السيرة النبوية بدأ ٘ -مرحمة المستشرقين
مف النصؼ الثاني مف القرف التاسع عشر،واعتمدت ىذه المرحمة ما يعرؼ بالمنيج الذاتي
في تناوؿ التاريخ وىو منيج يقدـ ذاتية الكاتب عف وثائقية الوقائع وىي المرحمة بثت
شكوكا حوؿ العالقات األخوية المتميزة بيف الصحابة رضواف اهلل عمييـ ،والتي شككت
كذلؾ في معجزات النبي الحسية المختمفة الثابتة بطرؽ الثبوت اإلسالمية المختمفة .
- ٙمرحمة الصحوة :وىي المرحمة التي تعد انقالبا عمى مرحمة المستشرقيف والتي أعادت
لمسيرة النبوية بياءىا باعتماد المنيج العممي ،ثـ تابعت في ىذا المضمار إضافة المنيج
التحميمي واالستنباطي الستخراج الدروس واألحكاـ ،وىي المرحمة التي يطمئف الدارس
والباحث إلنتاجيا في مجموعو ،ويمثؿ ىذه المرحمة عمى سبيؿ المثاؿ مصطفى والبوطي
٘) يدرس المستشرقوف السيرة النبوية ويقوموف بالتحميؿ الدقيؽ ألخبار أصحاب السير مف عدة وجوه ،ولكف إقباليـ
يختمؼ اختالفا تاما عف إقباؿ المسمميف .فبحوثيـ المتحاممة عادة متوجية إلنشاء فكر وتصور مشوه عف اإلسالـ
؛ لذلؾ كاف -وال يزاؿ -عمماء المسمميف ينتقدوف ُّ
ويردوف عمى ىذا التوجو في الثقافة الغربية ورسوؿ اهلل
المسمى باالستشراؽ.
4
والمباركفوري (الرحيؽ المختوـ) وعماد الديف خميؿ (دراسات في السيرة) ومحمد أحمد
باشميؿ (معارؾ اإلسالـ الفاصمة) و محمد الغزالي (فقو السيرة) ،وغيرىـ.
مصادر السيرة النبوية
تعتمد دراسة السيرة النبوية عمى مصادر متنوعة ،منيا األصمية ومنيا التكميمية ،فمف
المصادر األصمية في دراسة السيرة النبوية القرآف الكريـ والحديث الشريؼ وكتب الدالئؿ
والشمائؿ وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة ،أما المصادر التكميمية فيي ال تختص
بالسيرة أو التاريخ ،بؿ تتناوؿ موضوعات أخرى لكنيا تفيد في حقؿ دراسة السيرة ،مثؿ
كتب األدب ودواويف الشعر وكتب الرجاؿ والتراجـ وكتب الجغرافية التاريخية وكتب الفقو
وكتب األنساب ومعاجـ المغة ...إلخ.
من أىم مصادر السيرة النبوية:
- 1القرآن الكريم:
يقص عمينا جميع مناحي السيرة النبوية ،وطرفا مف حياتو صمّى قبؿ النبوة،
القرآف ّ
فيذكر لنا يتمو ،وفقره ،وتحنثو ،كما يذكر لنا شؤونو بعد النبوة مف ىبوط الوحي اإلليي
عميو ،وتبميغو ّإياه ،والعروج بو ،وعداوة األعداء ،وىجرتو،وقد تحدث القرآف عما لقيو عميو
الصالة والسالـ مف أذى وعنت في سبيؿ دعوتو ،كما ذكر ما كاف المشركوف ينعتونو بو
مف السحر والجنوف صدا عف ديف اهلل عز وجؿ ،وقد تعرض القرآف ليجرة الرسوؿ كما
تعرض ألىـ المعارؾ الحربية التي خاضيا بعد ىجرتو ،فتحدث عف معركة بدر ،وأحد،
واألحزاب ،وصمح الحديبية ،وفتح مكة ،وغزوة حنيف ،وتحدث عف بعض معجزاتو ،كمعجزة
اإلسراء والمعراج.
وبالجممة فقد تحدث عف كثير مف وقائع سيرة الرسوؿ ،ولما كاف الكتاب الكريـ أوثؽ
كتاب عمى وجو األرض ،وكاف مف الثبوت المتواتر بما ال يفكر إنساف عاقؿ في التشكيؾ
بنصوصو وثبوتيا التاريخي ،فإف ما تعرض لو مف وقائع السيرة يعتبر أصح مصدر لمسيرة
عمى اإلطالؽ.
- 2السنة النبوية الصحيحة:
وىي كتب حفظت لنا مف أقواؿ النبي ،وأفعالو ،وأحوالو .ومف الكتب المصنفة في
الحديث الكتب الستة الصحاح والكتب الستة ىي :البخاري ،ومسمـ ،وأبوداود ،والنسائي،
والترمذي ،وابف ماجو .ويضاؼ إلييا :موطأ اإلماـ مالؾ ،ومسند اإلماـ أحمد ،فيذه الكتب
وخاصة البخاري ومسمـ في الذروة العميا مف الصحة والثقة والتحقيؽ ،أما الكتب األخرى،
فقد تضمنت الصحيح والحسف ،وفي بعضيا الضعيؼ أيضا .وىذه الكتب التي حوت القسـ
األكبر مف حياة النبي صمى اهلل عميو وسمـ ،ووقائعو وحروبو.
5
- 3الشعر العربي المعاصر لعيد الرسالة:
مما ال شؾ فيو أف المشركيف قد ىاجموا الرسوؿ ودعوتو عمى ألسنة شعرائيـ ،مما
اضطر المسمميف إلى الرد عمييـ عمى ألسنة شعرائيـ ،كحساف بف ثابت ،وعبد اهلل ابف
رواحة ،وغيرىما ،وقد تضمنت كتب األدب ،وكتب السيرة التي صنفت فيما بعد قسطا كبي ار
مف ىذه األشعار التي نستطيع أف نستنتج منيا حقائؽ كثيرة عف البيئة التي كاف يعيش
فييا الرسوؿ ،والتي ترعرعت فييا عقيدة اإلسالـ أوؿ قياميا.
-4كتب المغازي:
ومعظـ ما فييا ذكر الغزوات النبوية ،وقد تتضمف أمو ار أخرى .ومف المصنفات القديمة في
المغازي مغازي عروة بف الزبير ،ومغازي موسى بف ومغازي زياد وغيرىـ.
-5كتب التاريخ اإلسالمي:
ومف أوثقيا ،وأصحيا ،وأطوليا ،وأضخميا تاريخ الرسؿ والمموؾ لإلماـ أبي جعفر
الطبري ،والتاريخ الصغير ،والتاريخ الكبير لمحمد بف إسماعيؿ البخاري ،وتاريخ ابف حياف،
وتاريخ ابف أبي خيثمة البغدادي وغيرىـ.
-6كتب الدالئل:
وتسمى بكتب الدالئؿ ،ومنيا دالئؿ النبوة ألبي ّ وىي الكتب التي ألفت في المعجزات،
إسحاؽ الحربي ،ودالئؿ النبوة البف قتيبة ودالئؿ النبوة لإلماـ البييقي ودالئؿ النبوة ألبي
نعيـ األصفياني.
-6كتب الشمائل
وىي مقصورة عمى ذكر أخالؽ النبي ،وعاداتو ،وفضائمو ،وما كاف يعمؿ في يومو
مف الصباح إلى المساء ،وفي ليمة مف المساء إلى الصباح .وأشير ىذه الكتب وأوليا
أىميا وأضخميا
(كتاب الشمائؿ) لمحافظ الترمذي .وقد كتب كبار العمماء زيادات عميوّ ،
وأطوليا (كتاب الشفا في حقوؽ المصطفى) لمقاضي عياض ،وقد شرحو الشياب
وسماه :نسيـ الرياض ،وصنؼ في ىذا الموضع عمماء آخروف.
الخفاجيّ ،
تطور التأليف في السيرة:
ىذا وال يزاؿ العمماء يؤلفوف في سيرة الرسوؿ بأسموب حديث يتقبمو ذوؽ أبناء العصر،
ومف أشير الكتب المؤلفة في العصر الحديث كتاب الرحيؽ المختوـ لممباركفوري ونور
اليقيف في سيرة سيد المرسميف لمحمد الخضري بؾ ،واسيرة النبوية عرض وقائع وتحميؿ
أحداث لمدكتور عمي بف محمد الصالبي ،وقصة السيرة النبوية سيرة ودعوة( العيد المكي)
لعبدالرحمف العبيدي ،وغيرىـ كثير .
6
صورة العالم قبل البعثة
كانت اإلنسانية قبؿ بزوغ فجر اإلسالـ العظيـ تعيش مرحمة مف أحط مراحؿ التاريخ
البشري في شؤونيا الدينية واالقتصادية والسياسية واالجتماعية ،وتعاني مف فوضى عامة
في كافة شؤوف حياتيا ،وىيمف المنيج الجاىمي عمى العقائد واألفكار والتصورات والنفوس،
وأصبح الجيؿ واليوى واالنحالؿ والفجور ،والتجبر والتعسؼ مف أبرز مالمح المنيج
الجاىمي المييمف عمى دنيا الناس .وضاع تأثير الديانات السماوية عمى الحياة أو كاد
بسبب ما أصابيا مف التبديؿ والتحريؼ والتغيير الذي جعميا تفقد أىميتيا باعتبارىا رسالة
اهلل إلى خمقو ،وانشغؿ أىميا بالصراعات العقدية النظرية التي كاف سببيا دخوؿ األفكار
البشرية ،والتصورات الفاسدة عمى ىذه األدياف ،حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينيـ،
ومف بقي منيـ لـ يحرؼ ولـ يبدؿ قميؿ نادر ،وآثر االبتعاد عف دنيا الناس ودخؿ في حياة
يأسا مف اإلصالح ،ووصؿ الفساد إلى جميع طمعا في النجاة بنفسو ً
ً الخموة والعزلة
األصناؼ واألجناس البشرية ،ودخؿ في جميع المجاالت بال استثناء.
ففي الجانب الديني تجد الناس إما أف ارتدوا عف الديف أو خرجوا منو أو لـ يدخموا فيو
أصال ،أو وقعوا في تحريؼ الديانات السماوية وتبديميا.
وتزعـ ىذا الفساد زعماء الشعوب واألمـ مف القادة والرىباف والقساوسة والدىاقيف والمموؾ،
وأصبح العالـ في ظالـ دامس وليؿ بييـ ،وانحراؼ عظيـ عف منيج اهلل سبحانو وتعالى.
فالييودية :أصبحت مجموعة مف الطقوس والتقاليد ال روح فييا وال حياة ،وتأثرت بعقائد
األمـ التي جاورتيا واحتكت بيا ،والتي وقعت تحت سيطرتيا فأخذت كثي ار مف عاداتيا
وتقاليدىا الوثنية الجاىمية .أما المسيحية :فقد امتحنت بتحريؼ الغاليف ،وتأويؿ الجاىميف
واختفى نور التوحيد واخالص العبادة هلل وراء السحب الكثيفة ،وانتشرت الوثنية ،وانتكست
فيو األخالؽ ،وسادت فيو الجياالت والخرافات ،وأىدر فيو الكثير مف حقوؽ اإلنساف،
وتغمبت فيو قوى الشر والبغي والضالؿ عمى دعاة الحؽ والخير واليدى ،وساد العالـ ألواف
مف الترؼ واإلغراؽ في الممذات والشيوات ،سواء في ذلؾ البيئات المتحضرة أـ البدوية.
فمف وثنية في شبو الجزيرة العربية وغيرىا ،إلى عبادة لمشمس والكواكب في بالد سبأ،
وبابؿ ،وكمدانيا ،وغيرىا ،ومف مجوسية في بالد فارس وما جاورىا ،إلى ثنوية تقوؿ بإلو
النور والو الظممة ،إلى صابئة ليس ليـ ديف ،ومف برىمية وعبادة لمحيواف وال سيما البقرة
في بالد اليند وما جاورىا ،إلى بوذية تقوـ عمى تأليو بوذا وعبادتو في بالد الصيف وما
جاورىا ،وىكذا نرى أف توحيد اهلل وعبادتو واحده أمر يكاد يكوف معدوما في األرض.
7
مراحل الدعوة اإلسالمية
مرت الدعوة اإلسالمية فى حياتو منذ بعثتو الى وفاتو بأربع مراحل :
المرحمة األولى :الدعوة س اًر واستمرت ثالث سنوات .
المرحمة الثانية :الدعوة جي اًر وبالمساف فقط دوف قتاؿ واستمرت إلى اليجرة.
المرحمة الثالثة :الدعوة جي اًر مع قتاؿ المعتديف والبادئيف بالقتاؿ أو الشر واستمرت ىذه
المرحمة الى عاـ صمح الحديبية .
المرحمة الرابعة :الدعوة جي اًر مع محاربة كؿ مف وقؼ فى سبيؿ الدعوة أو امتنع عف
الدخوؿ في اإلسالـ -بعد فترة الدعوة واإلعالـ -مف المشركيف أو المالحدة أو الوثنييف .
وكانت ىذه المرحمة ىى التى استقر عمييا أمر الشريعة اإلسالمية وحكـ الجياد في
اإلسالـ .ومف يتأمؿ مراحؿ الدعوة النبوية ،المرحمة السرية ،والعمنية ،واليجرة ،واقامة
الدولة ،والفتوحات ،كميا مراحؿ متكاممة غير متضاد وال متقاطعة ،وكانت كؿ واحدة مف
ىذه األجزاء ىدفاً مستقالً في فترة زمنية معينة ،تكاممت لتشكؿ اليدؼ الكبير (دعوة
اإلسالـ).
كما يمكف أف نقسـ عيد الدعوة المحمدية -عمى صاحبيا الصالة والسالـ والتحية -إلى
دوريف يمتاز أحدىما عف اآلخر تماـ اإلمتياز وىما:
-1الدور المكي :ثالث عشرة سنة تقريبا.
ٕ -الدور المدني :عشر سنوات كاممة.
ثـ يشتمؿ كؿ مف الدوريف عمى مراحؿ لكؿ منيا خصائص تمتاز بيا عف غيرىا ،ويظير
ذلؾ جميا بعد النظر الدقيؽ في الظروؼ التي مرت بيا الدعوة خالؿ الدوريف.
مراحل الدور المكي
ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثالث مراحل:
-1مرحمة الدعوة السرية:
استمرت ىذه الدعوة السرية نحو ثالث سنوات( ،)6ازداد فييا عدد المسمميف زيادة يسيرة.
تسرب إلييا ،لكنيا
ويبدو أف خبر الدعوة لـ يعد س ار بصورة مطمقة بالنسبة إلى قريش ،فقد َّ
لـ تعبأ بيذا فى البداية ،ولعميا واثقة بقوتيا وقدرتيا عمى مقاومة ىذه الدعوة مف ناحية،
وواثقة بأف حمميا عمى ترؾ ديف آبائيا وأجدادىا أمر صعب مف ناحيةأخرى.
)ٙقيؿ أنيا سنتيف ونصؼ وقيؿ ثالث سنوات وقيؿ اربعاً .و تحديد الدعوة السرية بثالث سنيف ،لـ يصح فيو خبر
ولـ يثبت .وقد ذكر البالذري أنيا أربع سنيف وروى ذلؾ عف عف عائشة -رضي اهلل عنو -قالت" :دعا رسوؿ
سر أربع سنيف.
ًا اهلل
8
عرض الرسوؿ اإلسالـ في ىذه المرحمة عمى ألصؽ الناس بو وآؿ بيتو ،وأصدقائو،
فدعاىـ إلى اإلسالـ ،ودعا إليو كؿ مف توسـ فيو خي ار ممف يعرفيـ ويعرفونو ،يعرفيـ بحب
اهلل والحؽ والخير ،ويعرفونو بتحري الصدؽ والصالح ،فأجابو مف ىؤالء -الذيف لـ
تخالجيـ ريبة قط في عظمة الرسوؿ وجاللة نفسو وصدؽ خبره -جمع عرفوا في
التاريخ اإلسالمي بالسابقيف األوليف ،وفي مقدمتيـ زوجة النبي أـ المؤمنيف خديجة بنت
خويمد ،ومواله زيد بف حارثة بف شرحبيؿ الكمبي ،وابف عمو عمي بف أبي طالب -وكاف
صبيا يعيش في كفالة الرسوؿ وصديقو الحميـ أبو بكر الصديؽ .أسمـ ىؤالء في أوؿ
يوـ مف أياـ الدعوة .
ثـ نشط أبو بكر في الدعوة إلى اإلسالـ ،وكاف رجال مألفا محببا سيال ،ذا خمؽ ومعروؼ،
وكاف رجاؿ قومو يأتونو ويألفونو ،لعممو وتجارتو ،وحسف مجالستو ،فجعؿ يدعومف يثؽ بو
مف قومو ممف يغشاه ويجمس إليو ،فأسمـ بدعائو عثماف بف عفاف ،والزبير بف العواـ ،
وعبد الرحمف بف عوؼ ،وسعد بف أبي وقاص ،وطمحة بف عبيد اهلل .فكاف ىؤالء النفر
الثمانية الذيف سبقوا الناس ىـ الرعيؿ األوؿ وطميعة اإلسالـ.
ومن أوائل المسممين بالؿ بف رباح ،ثـ تالىـ أميف ىذه األمة أبو عبيدة عامر بف الجراح
،وأبو سممة بف عبد األسد ،واألرقـ بف أبي األرقـ ،وعثماف بف مظعوف وأخواه قدامة
وعبد اهلل ،وعبيدة بف الحارث بف المطمب بف عبد مناؼ ،وسعيد بف زيد العدوي ،وامرأتو
فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بف الخطاب ،وخباب بف األرت وعبد اهلل بف
مسعود وخمؽ سواىـ ،وأولئؾ ىـ السابقوف األولوف ،وىـ مف جميع بطوف قريش وعدىـ ابف
ىشاـ أكثر مف أربعيف نف ار.
استمرت مرحمة الدعوة السرية ثالث سنيف ،ودخؿ في اإلسالـ ستوف مسمما ومسممة مف
كافة طبقات وقبائؿ المجتمع المكي ،حتى أنو ال تخمو عشيرة مكية مف شخص أو أكثر
أسمموا مف بينيا.أسمـ ىؤالء سرا ،وكاف الرسوؿ يجتمع بيـ ويرشدىـ إلى الديف متخفيا؛
ألف الدعوة كانت ال تزاؿ فردية وسرية.
ٕ-مرحمة إعالن الدعوة في أىل مكة:
لما اكتممت سف النبي أربعيف ،أتاه جبريؿ ،بالقرآف المبيف ،فقاـ النبي صمى يدعو
إلى ديف اهلل س اًر لمدة ثالث سنوات ،فاستجاب لو بعض أقاربو وأصدقائو ومف شاء اهلل
ىدايتو ،ثـ أمره اهلل أف يجير بالدعوة ،فقاؿ تعالى ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عف
المشركيف﴾ (.)7
9
بدء الدعوة الجيرية:
يف} انقضت مرحمة الدعوة السرية بنزوؿ اآلية { َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ
ؾ ْاألَ ْق َربِ َ
أخرج الشيخاف عف ابف عباس رضي اهلل عنيما قاؿ :لما نزلت { َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ
ؾ ْاألَ ْق َربِ َ
يف}
خيال بسفح ىذا الجبؿ، بطنا بطنا ،فقاؿ :أرأيتـ لو قمت لكـ إِف ً نادى رسوؿ اهلل في قريش ً
كذبا قط .قاؿ :فِإني نذير لكـ بيف يدي عذاب
مصدقي؟ قالوا :نعـ ،ما جربنا عميؾ ً
َّ أكنتـ
شديد .فقاؿ أبو ليب :تبَّا لؾ ،أليذا جمعتنا؟!.
وامتثاال ليذا األمر اإلليى بدأ النبى بدعوة األقربيف مف أىمو وعشيرتو إلى اإلسالـ.وبعد
اإلعداد العظيـ الذي قاـ بو النبي لتربية أصحابو ،وبناء الجماعة المسممة المنظمة
األولى عمى أسس عقدية ،وتعبدية وخمقية رفيعة المستوى ،حاف موعد إعالف الدعوة بنزوؿ
ِ ؾ لِم ِف اتَّبع َ ِ اخ ِف ْ َنذ ْر َع ِش َيرتَ َ
قوؿ اهلل تعالى﴿ :وأ ِ
ؾ م َف اْل ُم ْؤ ِمن َ
يف﴾ اح َ َ َ َ ض َج َن َ ؾ األ ْق َربِ َ
يف َ -و ْ َ
()8
وخوفيـ مف العذاب .فجمع قبيمتو وعشيرتو ،ودعاىـ عالنية إلى اإليماف بإلو واحدَّ ،
الشديد إف عصوه ،وأمرىـ بإنقاذ أنفسيـ مف النار ،وبيف ليـ مسؤولية كؿ إنساف عف نفسو.
َنذ ْر َع ِش َيرتَ َ
ؾ األ ْق َربِ َ
يف﴾ صعد النبي عف ابف عباس -رضي اهلل عنو -قاؿ :لما نزلت ﴿وأ ِ
َ
عمى الصفا فجعؿ ينادي« :يا بني فير ،يا بني عدي» لبطوف قريش -حتى اجتمعوا،
فجعؿ الرجؿ إذا لـ يستطع أف يخرج أرسؿ رسوال لينظر ما ىو ،فجاء أبو ليب ،وقريش،
فقاؿ« :أرأيتكـ لو أخبرتكـ أف خيالً بالوادي تريد أف تغير عميكـ أكنتـ مصدقي؟» قالوا:
نعـ ،ما جربنا عميؾ إال صدقًا ،قاؿ« :فإنني نذير لكـ بيف يدي عذاب شديد» فقاؿ أبو
َغ َنى َع ْنوُ َمالُوُ ت َي َدا أَبِي لَيَ ٍب َوتَ َّ
ب َما أ ْ ليب :تبِّا لؾ سائر اليوـ أليذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تََّب ْ
()9
بطنا ،ويقوؿ لكؿ بطف« :أنقذوا أنفسكـ مف النار
بطنا ً
ب﴾ .وفي رواية -ناداىـ ً َو َما َك َس َ
شيئا غير أف لكـ
» ثـ قاؿ« :يا فاطمة أنقذي نفسؾ مف النار ،فإني ال أممؾ لكـ مف اهلل ً
سأبميا ببالليا» .ومف الطبيعي أف يبدأ الرسوؿ دعوتو العمنية بإنذار عشيرتورحما ُ
األقربيف ،إذ أف مكة بمد توغمت فيو الروح القبمية ،فبدء الدعوة بالعشيرة ،قد يعيف عمى
نصرتو وتأييده وحمايتو ،كما أف القياـ بالدعوة في مكة ال بد أف يكوف لو أثر خاص ،لما
ليذا البمد مف مركز ديني خطير ،فجمبيا إلى حظيرة اإلسالـ ال بد أف يكوف لو وقع كبير
عمى بقية القبائؿ ،عمى أف ىذا ال يعني أف رسالة اإلسالـ كانت في أدوارىا األولى محدودة
بقريش؛ ألف اإلسالـ كما يتجمى مف القرآف الكريـ اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى
11
ؾ
لتحقيؽ رسالتو العالمية» فقد جاءت اآليات المكية تبيف عالمية الدعوة ،قاؿ تعالى( :تََب َار َ
ير) ( .)10ثـ جاءت مرحمة أخرى بعدىا، يف َن ِذ ًا الَِّذي َن َّز َؿ اْلفُرقَاف عمَى ع ْب ِد ِه لِي ُك ِ ِ
وف لْم َعالَم َ
َ َ َ ْ َ َ
فأصبح يدعو فييا كؿ مف يمتقي بو مف الناس عمى اختالؼ قبائميـ وبمدانيـ ويتبع الناس
في أنديتيـ ،ومجامعيـ ومحافميـ ،وفي المواسـ ومواقؼ الحج ،ويدعو مف لقيو مف حر
وعبد ،وقوي وضعيؼ ،وغني وفقير .
كانت النتيجة ليذا الصدع ىي الصد واإلعراض والسخرية واإليذاء والتكذيب ،والكيد المدبر
المدروس ،وقد اشتد الصراع بيف النبي وصحبو وبيف شيوخ الوثنية وزعمائيا ،وأصبح
مكسبا
ً الناس في مكة يتناقموف أخبار ذلؾ الصراع في كؿ مكاف ،وكاف ىذا في حد ذاتو
عظيما لمدعوة ،ساىـ فيو أشد وألد أعدائيا ،ممف كاف يشيعوف في القبائؿ قالة السوء عنيا،
ً
فميس كؿ الناس يسمموف بدعاوي زعماء الكفر والشرؾ.
الجير بالدعوة بعد بناء النواة الصمبة:
ودليؿ ذلؾ أنو لـ يرتد أحد عف دينو مف ىؤالء عندما وقعت المحنة وابتدأت المواجية .بؿ
كاف ىؤالء الذيف عاشوا الخطوات األولى لمدعوة ىـ القمة في اإلسالـ فيما بعد مف حيث
مستويات إيمانيـ ومستويات سموكيـ ،ومستويات جيادىـ وتضحياتيـ .ويكفي أف نعرؼ
أف أعمى طبقة في األمة المسممة وىي طبقة العشرة المبشريف بالجنة كانت منيـ باستثناء
عمر بف الخطاب رضي اهلل عنو .ىذه الطبقة ىي التي كونت جيؿ القيادة لممجتمع الراشد،
وكاف اصطفاء الخميفة منيا ،وتوفي رسوؿ اهلل وىو راض عنيا.
ىذه النواة ىي التي حممت فيما بعد عبء الدعوة لإلسالـ في األرض ،وحممت عبء
المواجية الكبرى مع أعداء ىذا الديف.
لقد كاف ىؤالء الستوف مستعصيف عمى اإلبادة بعد أف انتيت ىذه المرحمة وبدأت مرحمة
المواجية وكانوا مؤىميف لرضا اهلل عز وجؿ.
ٖ -مرحمة الدعوة خارج مكة(:مف أواخر السنة العاشرة مف النبوة إلى اليجرة إلى المدينة).
لما استعصت قريش ،وصمت آذانيا وأغمقت قموبيا وعقوليا ،اتجو النبي إلى خارج
مكة.بعد أف أغمقت أمامو أبواب الدعوة تماماً في مكة ،فقد أغمقت القموب تماماً بعد موت
أبي طالب وبعد موت السيدة خديجة رضي اهلل عنيا وأرضاىا ،وسمي ذلؾ العاـ بعاـ
الحزف ،ولـ يدخؿ في ذلؾ العاـ رجؿ واحد في ديف اهلل عز وجؿ مف أىؿ مكة.
11
خروج الرسول إلى الطائف ( 3ق ىـ620/م)
لما اشتد عمى الرسوؿ كيد قريش وأذاىا بعد وفاة عمو وزوجو ،توجو إلى الطائؼ
لعمو يجد في ثقيؼ حسف اإلصغاء لدعوتو واالنتصار ليا ،ولكنيـ ردوه ردا غير جميؿ،
وأغروا بو صبيانيـ فقذفوه بالحجارة حتى ساؿ الدـ مف قدميو الطاىرتيف ،ثـ التجأ إلى
بستاف مف بساتيف الطائؼ ،وتوجو إلى اهلل بيذا الدعاء الخاشع« :الميـ إليؾ أشكو ضعؼ
قوتي ،وقمة حيمتي ،وىواني عمى الناس يا أرحـ الراحميف ،أنت رب المستضعفيف ،وأنت
ربي ،إلى مف تكمني؟ إلى بعيد يتجيمني؟ أو إلى عدو ممكتو أمري؟ إف لـ يكف بؾ غضب
عمي فال أبالي ،ولكف عافيتؾ ىي أوسع لي ،أعوذ بنور وجيؾ الذي أشرقت بو الظممات،
وصمح عميو أمر الدنيا واآلخرة مف أف تنزؿ بي غضبؾ ،أو تحؿ بي سخطؾ ،لؾ العتبى
حتى ترضى ،وال حوؿ وال قوة إال بؾ» .وعاد رسوؿ اهلل مف الطائؼ دوف أف تستجيب
ثقيؼ لدعوتو ،الميـ إال ما كاف مف إسالـ « َّ
عداس» غالـ عتبة وشيبة ابني ربيعة ،وكاف
غالما نصرانيا ،طمب منو سيداه أف يقدـ قطفا مف العنب إلى الرسوؿ وىو في البستاف
لما رأيا مف إعيائو وتيجـ ثقيؼ عميو ،فمما قدـ َّ
عداس العنب لمرسوؿ أخذ الرسوؿ يبدأ
في أكمو قائال :بسـ اهلل ،فمفت ذلؾ نظر عداس ،إذ ال يوجد في القوـ مف يقوؿ مثؿ ىذا.
وبعد حديث بيف عداس والنبي أسمـ َّ
عداس.
محزونا كسير القمب،
ً كئيبا
ورجع رسوؿ اهلل في طريؽ مكة بعد خروجو مف الحائط ً
فمما بمغ قرف المنازؿ بعث اهلل إليو جبريؿ ومعو ممؾ الجباؿ ،يستأمره أف يطبؽ األخشبيف
عمى أىؿ مكة ،فقاؿ النبي ( :بؿ أرجو أف يخرج اهلل عز وجؿ مف أصالبيـ مف يعبد
اهلل عز وجؿ وحده ال يشرؾ بو شيئا) ،وفي ىذا الجواب الذي أدلى بو الرسوؿ تتجمى
شخصيتو الفذة ،وما كاف عميو مف الخمؽ العظيـ.
أشد ما كانوا عميو مف خالؼ وعداء،
وانصرؼ رسوؿ اهلل مف الطائؼ إلى م ّكة ،وقومو ّ
وسخرية واستيزاء.
اجعا إلى مكة ،حتى إذا كاف بنخمة ،قاـ مف جوؼ ولما انصرؼ النبي مف الطائؼ ر ً
الميؿ يصمي ،فمر بو النفر مف الجف الذيف ذكرىـ اهلل تعالى ،وكانوا سبعة نفر مف جف
أىؿ نصيبيف ،فاستمعوا لتالوة الرسوؿ ،فمما فرغ مف صالتو ،ولَّوا إلى قوميـ منذريف،
قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ،وبعد عدة أشير مف لقاء الوفد األوؿ مف الجف برسوؿ اهلل
،جاء الوفد الثاني متشوقاً لرؤية الحبيب المصطفى واالستماع إلى كالـ رب
العالميف .وأماـ ىذه النصرة ،وأماـ ىذه البشارات ،أقشعت سحابة الكابة والحزف واليأس،
التي كانت مطبقة عميو منذ أف خرج مف الطائؼ مطرودا مدحورا ،حتى صمـ عمى العود
إلى مكة ،وعمى القياـ باستئناؼ خطتو األولى في عرض اإلسالـ وابالغ رسالة اهلل الخالدة
12
بنشاط جديد وجد وحماس.وحينئذ قاؿ لو زيد بف حارثة :كيؼ تدخؿ عمييـ وقد أخرجوؾ؟
يعني قريشا .فقاؿ:يا زيد إف اهلل جاعؿ لما ترى فرجا ومخرجا ،واف اهلل ناصر دينو ومظير
نبيو .وسار رسوؿ اهلل حتى إذا دنا مف مكة مكث بحراء ،فبعث إلى المطعـ بف عدي،
فقاؿ المطعـ :نعـ ،ثـ تسمح ودعا بنيو وقومو فقاؿ :البسوا السالح ،وكونوا عند أركاف
البيت ،فإني قد أجرت محمدا ،ثـ بعث إلى رسوؿ اهلل : أف ادخؿ ،فدخؿ رسوؿ اهلل
ومعو زيد بف حارثة حتى انتيى إلى المسجد الحراـ ،فقاـ المطعـ بف عدي عمى راحمتو
فنادى :يا معشر قريش ،إني قد أجرت محمدا فال ييجو أحد منكـ ،وانتيى رسوؿ اهلل
إلى الركف فاستممو ،وصمى ركعتيف ،وانصرؼ إلى بيتو ،ومطعـ بف عدي وولده محدقوف
بو بالسالح حتى دخؿ بيتو.
عرض رسول اهلل نفسو عمى القبائل ومواقفيا منو:
بدأ رسوؿ اهلل يعرض نفسو في المواسـ عمى قبائؿ العرب ،يدعوىـ إلى اإلسالـ ،والى
أف يمنعوه مف األعداء ،ويقوؿ :يا بني فالف! ّإني رسوؿ اهلل إليكـ ،يأمركـ أف تعبدوا اهلل وال
وتصدقوا
ّ تشركوا بو شيئا ،وأف تخمعوا ما تعبدوف مف دونو مف ىذه األنداد ،وأف تؤمنوا بو،
بو ،وتمنعوني حتّى أبيف عف اهلل ما بعثني بو.
إف ىذا إنما يدعوكـ أف
فإذا فرغ رسوؿ اهلل مف قولو ،قاـ أبو ليب ،فقاؿ :يا بني فالف! ّ
الجف ،إلى ما جاء بو مف البدعة
ّ العزى مف أعناقكـ ،وحمفائكـ مف الالت و ّ
تسمخوا ّ
الضاللة ،فال تطيعوه وال تسمعوا منو .
و ّ
القبائل التي عرض عمييا اإلسالم
قاؿ الزىري :وكاف ممف يسمى لنا مف القبائؿ الذيف أتاىـ رسوؿ اهلل ودعاىـ وعرض
نفسو عمييـ بنو عامر بف صعصعة ،ومحارب بف خصفة ،وف ازرة ،وغساف ،ومرة ،وحنيفة،
وسميـ ،وعبس ،وبنو نصر ،وبنو البكاء ،وكندة ،وكمب ،والحارث بف كعب ،وعذرة،
والحضارمة ،فمـ يستجب منيـ أحد .وىذه القبائؿ التي سماىا الزىري لـ يكف عرض
اإلسالـ عمييا في سنة واحدة ،وال في موسـ واحد ،بؿ إنما كاف ما بيف السنة الرابعة مف
النبوة إلى آخر موسـ قبؿ اليجرة.
وقد ذكر ابف إسحاؽ كيفية العرض وردودىـ ،وىاؾ ممخصا:
-1بنو كمب
-أتى النبي إلى بطف منيـ ،يقاؿ ليـ بنو عبد اهلل ،فدعاىـ إلى اهلل ،وعرض عمييـ
نفسو ،حتى إنو ليقوؿ ليـ :يا بني عبد اهلل ،إف اهلل قد أحسف اسـ أبيكـ ،فمـ يقبموا منو ما
عرض عمييـ.
-2بنو حنيفة
13
-أتاىـ في منازليـ فدعاىـ إلى اهلل ،وعرض عمييـ نفسو ،فمـ يكف أحد مف العرب أقبح
عميو ردا منيـ.
-3وأتى إلى بني عامر بن صعصعة
فدعاىـ إلى اهلل ،وعرض عمييـ نفسو ،فقاؿ بحيرة بف فراس (رجؿ منيـ) :واهلل لو أني
أخذت ىذا الفتى مف قريش ألكمت بو العرب ،ثـ قاؿ :أرأيت إف نحف بايعناؾ عمى أمرؾ،
ثـ أظيرؾ اهلل عمى مف خالفؾ أيكوف لنا األمر مف بعدؾ؟ قاؿ :األمر إلى اهلل ،يضعو
حيث يشاء ،فقاؿ لو :أفتيدؼ نحورنا لمعرب دونؾ ،فإذا أظيرؾ اهلل كاف األمر لغيرنا ،ال
حاجة لنا بأمرؾ ،فأبوا عميو.
األفراد الذين عرض عمييم اإلسالم
عرض رسوؿ اهلل اإلسالـ عمى عمى األفراد واألشخاص ،وحصؿ مف بعضيـ عمى
ردود صالحة ،وآمف بو عدة رجاؿ بعد .وأبرز المؤمنوف مف غير أىؿ مكة.
-1سويد بن صامت
-كاف شاع ار لبيبا مف سكاف يثرب ،يسميو قومو الكامؿ ،لجمده وشعره وشرفو ونسبو ،جاء
مكة حاجا أو معتمرا ،فدعاه رسوؿ اهلل إلى اإلسالـ ،وتال عميو رسوؿ اهلل القرآف،
ودعاه إلى اإلسالـ ،فأسمـ ،وكاف إسالمو في أوائؿ سنة ٔٔ مف النبوة .
-2إياس بن معاذ
كاف غالما حدثا مف سكاف يثرب ،قدـ في وفد مف األوس ،فمما عمـ رسوؿ اهلل بمقدميـ
جاءىـ فجمس إلييـ ،وقاؿ ليـ« :ىؿ لكـ في خير مما جئتـ لو؟» فقالوا :وما ذاؾ؟ قاؿ:
عمي
«أنا رسوؿ اهلل ،بعثني إلى العباد ،أدعوىـ أف يعبدوا اهلل وال يشركوا بو شيئا ،وأنزؿ ّ
الكتاب» ،ثـ ذكر ليـ اإلسالـ ،وتال عمييـ القرآف ،فقاؿ إياس بف معاذ :أي قوـ ،ىذا واهلل
خير مما جئتـ لو ،وبعد رجوعيـ إلى يثرب لـ يمبث إياس أف ىمؾ ،وكاف ييمؿ ويكبر
ويحمد ،ويسبح عند موتو ،فال يشكوف أنو مات مسمما .
-3أبو ذر الغفاري
وكاف مف سكاف نواحي يثرب ،ولما بمغ إلى يثرب خبر مبعث النبي بسويد بف
صامت واياس بف معاذ وقع في أذف أبي ذر أيضا ،وصار سببا إلسالمو.
-4طفيل بن عمرو الدوسي
قدـ الطفيؿ بف عمرو ،رئيس قبيمة دوس ،إلى مكة ،وقد عرفت أسرتو في نواحي اليمف
بالحكـ والرئاسة وكاف طفيؿ نفسو رجال شاع ار ذكيا ،وقد خرج أىؿ مكة الستقبالو خارجيا،
وبالغوا في الحفاوة بو ،وطبقا لرواية طفيؿ "قاؿ لي أىؿ مكة ،خرج فينا رجؿ ،يأتيو
السحر ،فرؽ بيف المرء وابنو وبيف المرء وأخيو ،وبيف المرء وزوجو ،فرؽ جماعتنا وشتت
14
أمرنا وأنا ال نريد أف يصيب قومؾ ما أصابنا وننصحؾ بشدة أال تذىب إليو .وأال تكممو
وأال تسمع منو ،وظموا يمحوف عمي بذلؾ حتى إنو حيف أردت دخوؿ الكعبة أغمقت أذناي
بقطعة مف القطف حتى ال أسمع شيئا مما يقوؿ محمد ،وغدوت إلى الكعبة ذات يوـ وكاف
النبي -صمى اهلل عميو وسمـ -يصمي ،وكانت مشيئة اهلل أف يصؿ صوتو إلى سمعي،
فسمعتو يقوؿ كالما عجبا ،ورحت ألوـ نفسي فأنا نفسي شاعر ،عالـ ،أميز بيف الحسف
والقبيح ،فألي سبب وماذا يمنعني مف أف أسمع كالمو ،فإف كاف ما يقوؿ حسنا قبمت واال
رفضت.وانتظرت بعد قراري ىذا ،وانصرؼ النبي إلى بيتو فمضيت خمفو ،ودخؿ بيتو
فدخمت عميو وأخبرتو بما قاؿ القوـ وبما فعمتو حتى ال أسمع صوتو وما حدث بعد ذلؾ ىو
أف شاءت إرادة اهلل أف سمع ما جرى عمى لسانو الكريـ ،وطمبت منو أف يسمعني كالمو.
فق أر النبي القرآف ،وواهلل ما سمعت كالما أطير منو ،وال أحسف منو وال أم ار أعدؿ
منو" .وىكذا أسمـ طفيؿ عمى الفور وىو الذي كانت قريش تصفو بالمخدوـ المطاع ،وىكذا
أصبح بقمبو وروحو خادما ومطيعا لمحمد وقد شؽ إسالـ طفيؿ عمى قريش كثير.
-5ضماد األزدي
كاف مف أزد شنوءة مف اليمف ،وكاف يرقي مف ىذا الريح ،قدـ مكة فسمع سفياءىا يقولوف:
إف محمدا مجنوف ،فقاؿ :لو أني أتيت ىذا الرجؿ لعؿ اهلل يشفيو عمى يدي ،فمقيو ،فقاؿ :يا
محمد ،إني أرقي مف ىذا الريح ،فيؿ لؾ؟ فقاؿ رسوؿ اهلل « : إف الحمد هلل نحمده
ونستعينو ،مف ييده اهلل فال مضؿ لو ،ومف يضممو فال ىادي لو ،وأشيد أالإلو إال اهلل وحده
ال شريؾ لو ،وأشيد أف محمدا عبده ورسولو ،أما بعد» .
فقاؿ :أعد عمي كمماتؾ ىؤالء ،فأعادىف عميو رسوؿ اهلل ثالث مرات ،فقاؿ:
لقد سمعت قوؿ الكينة وقوؿ السحرة وقوؿ الشعراء ،فما سمعت مثؿ كمماتؾ ىؤالء ،ولقد
بمغف قاموس البحر ،ىات يدؾ أبايعؾ عمى اإلسالـ ،فبايعو .
إسالم الطميعة الخزرجية:
في موسـ الحج مف سنة ٔٔ مف النبوة -يوليو سنة ٕٓ ٙـ خرج رسوؿ اهلل في
الموسـ ،فبينما ىو عند العقبة ،إذ لقي رىطا مف الخزرج مف األنصار ،فدعاىـ إلى اهلل
عزوج ّؿ ،وعرض عمييـ اإلسالـ ،وتال عمييـ القرآف .وكانوا جيراف الييود في المدينة،
ّ
بنبي قد أظ ّؿ زمانو ،فقاؿ بعضيـ لبعض :يا قوـ! تعمموف واهلل
وكانوا يسمعونيـ يخبروف ّ
وصدقوه ،وقالوا :إنا قد تركنا
ّ يسبقنكـ إليو ،فأجابوه،
ّ توعدكـ بو الييود ،فال
النبي الذي ّ
ّ ّأنو
الشر ما بينيـ ،فعسى أف يجمعيـ اهلل بؾ ،فسنقدـ عمييـ، قومنا ،وال قوـ بينيـ مف العداوة و ّ
فندعوىـ إلى أمرؾ ،ونعرض عمييـ الذي أجبناؾ إليو مف ىذا الديف ،فإف يجمعيـ اهلل عميو
أعز منؾ .
فال رجؿ ّ
15
ولما رجع ىؤالء إلى المدينة حمموا إلييا رسالة اإلسالـ ،حتى لـ تبؽ دار مف دور األنصار
إال وفييا ذكر رسوؿ اهلل .
بيعة العقبة األولى:
بعد عاـ مف المقابمة األولى التي تمت بيف الرسوؿ وأىؿ يثرب عند العقبة وافى الموسـ
مف األنصار اثنا عشر رجالً فمقوه بالعقبة ،وبايعوه بيعة العقبة األولى(،عشرة مف
الخزرج واثناف مف األوس) ،فمقوه بالعقبة األولى ،فبايعوا رسوؿ اهلل عمى التوحيد،
الزنى وقتؿ األوالد والطاعة في المعروؼ .
السرقة و ّ
والتعفّؼ مف ّ
ىـ القوـ باالنصراؼ بعث رسوؿ اهلل معيـ مصعب بف عمير ،وأمره أف يقرئيـ فمما ّ
ّ
يسمى «المقرىء» بالمدينة ونزؿ عمى
القرآف ،ويعمّميـ اإلسالـ ،ويفقّييـ في الديف ،فكاف ّ
أسعد بف ز اررة ،وكاف يصمّي بيـ.
وقد تحدث عبادة بف الصامت الخزرجي عف البيعة في العقبة األولى ،فقاؿ« :كنت فيمف
حضر العقبة األولى ،وكنا اثني عشر رجالً ،فبايعنا رسوؿ اهلل عمى بيعة النساء وذلؾ
قبؿ أف تُفترض عمينا الحرب :عمى أال نشرؾ باهلل ،وال نسرؽ ،وال نزني ،وال نقتؿ أوالدنا،
وال نأتي ببيتاف نفتريو بيف أيدينا وأرجمنا ،وال نعصيو في معروؼ ،فإف وفيتـ فمكـ الجنة،
شيئا فأمركـ إلى اهلل عز وجؿ ،إف شاء غفر واف شاء عذب».
واف غشيتـ مف ذلؾ ً
وبنود ىذه البيعة ىي التي بايع الرسوؿ عمييا النساء فيما بعد ولذلؾ عرفت باسـ بيعة
النساء ،وقد بعث رسوؿ اهلل مع المبايعيف مصعب بف عمير أوؿ سفير في يثرب،
ليعمـ المسمميف فييا شرائع اإلسالـ ،ويفقييـ في الديف وليقوـ بنشر اإلسالـ بيف الذيف لـ
يزالوا عمى الشرؾ .وقد تمكف خالؿ أشير أف ينشر اإلسالـ في سائر بيوتات المدينة ،وأف
أنصار مف كبار زعمائيا ،كسعد بف معاذ وأسيد بف الحضير ،وقد أسمـ
ًا يكسب لإلسالـ
بإسالميما خمؽ كثير مف قوميـ .
بيعة العقبة الثانية:
في موسـ الحج في السنة الثالثة عشر مف النبوة -يونيو سنة ٕٕ ٙـ -حضر ألداء
مناسؾ الحج بضع وسبعوف نفسا مف المسمميف مف أىؿ يثرب ،جاؤوا ضمف حجاج قوميـ
مف المشركيف ،وقد تساءؿ ىؤالء المسمموف فيما بينيـ -وىـ لـ يزالوا في يثرب أو كانوا في
الطريؽ -حتى متى نترؾ رسوؿ اهلل يطوؼ ويطرد في جباؿ مكة ويخاؼ؟
فمما قدموا مكة جرت بينيـ وبيف النبي اتصاالت سرية ،أدت إلى إتفاؽ الفريقيف عمى
أف يجتمعوا في أوسط أياـ التشريؽ في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة األولى مف
منى ،وأف يتـ ىذا اإلجتماع في سرية تامة في ظالـ الميؿ.
بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسؤولية:
16
وبعد أف تكامؿ المجمس بدأت المحادثات إلبراـ التحالؼ الديني والعسكري ،وكاف أوؿ
المتكمميف ىو العباس بف عبد المطمب عـ رسوؿ اهلل تكمـ ليشرح ليـ -بكؿ صراحة-
خطورة المسؤولية التي ستمقى عمى كواىميـ نتيجة ىذا التحالؼ .قاؿ( :يا معشر الخزرج-
وكاف العرب يسموف األنصار خزرجا ،خزرجيا وأوسيا كمييما -إف محمدا منا حيث قد
عممتـ ،وقد منعناه مف قومنا ممف ىو عمى مثؿ رأينا فيو ،فيو في عز مف قومو ،ومنعة
في بمده ،وانو قد أبى إال اإلنحياز إليكـ والمحوؽ بكـ ،فإف كنتـ تروف أنكـ وافوف لو بما
دعوتموه إليو ،ومانعوه ممف خالفو ،فأنتـ وما تحممتـ مف ذلؾ ،واف كنتـ تروف أنكـ مسمموه
وخاذلوه بعد الخروج بو إليكـ فمف اآلف فدعوه ،فإنو في عز ومنعة مف قومو وبمده) .
قاؿ كعب :فقمنا لو :قد سمعنا ما قمت ،فتكمـ يا رسوؿ اهلل ،فخذ لنفسؾ ولربؾ ما أحببت.
وىذا الجواب يدؿ عمى ما كانوا عميو مف عزـ وتصميـ وشجاعة وايماف واخالص في
تحمؿ ىذه المسؤولية العظيمة ،وتحمؿ عواقبيا الخطيرة .وألقى رسوؿ اهلل بعد ذلؾ
بيانو ،ثـ تمت البيعة.
بنود البيعة:
وقد روى ذلؾ اإلماـ أحمد عف جابر مفصال .قاؿ جابر :قمنا :يا رسوؿ اهلل عمى ما
نبايعؾ؟ قاؿ:
ٔ -عمى السمع والطاعة في النشاط والكسؿ.
ٕ -وعمى النفقة في العسر واليسر.
ٖ -وعمى األمر بالمعروؼ والنيي عف المنكر.
ٗ -وعمى أف تقوموا في اهلل ،ال تأخذكـ في اهلل لومة الئـ.
٘ -وعمى أف تنصروني إذا قدمت إليكـ ،وتمنعوني مما تمنعوف منو أنفسكـ وأزواجكـ
وأبناءكـ ،ولكـ الجنة» .
وفي رواية كعب -التي رواىا ابف إسحاؽ -البند األخير فقط مف ىذه البنود ،ففيو قاؿ
كعب :فتكمـ رسوؿ اهلل ، فتال القرآف ،ودعا إلى اهلل ،ورغب في اإلسالـ ،ثـ قاؿ:
«أبايعكـ عمى أف تمنعوني مما تمنعوف منو نساءكـ وأبناءكـ» .فأخذ البراء بف معرور
بيده ثـ قاؿ :نعـ ،والذي بعثؾ بالحؽ (نبيا) لنمنعنؾ مما نمنع أزرنا منو ،فبايعنا يا رسوؿ
اهلل ،فنحف واهلل أبناء الحرب وأىؿ الحمقة ،ورثناىا كاب ار (عف كابر) .
قاؿ :فاعترض القوؿ -والبراء يكمـ رسوؿ اهلل أبو الييثـ بف التيياف فقاؿ :يا رسوؿ اهلل
إف بيننا وبيف الرجاؿ حباال ،وانا قاطعوىا -يعني الييود -فيؿ عسيت إف نحف فعمنا ذلؾ،
ثـ أظيرؾ اهلل أف ترجع إلى قومؾ وتدعنا؟
17
قاؿ :فتبسـ رسوؿ اهلل ثـ قاؿ :بؿ الدـ الدـ ،واليدـ اليدـ ،أنا منكـ وأنتـ مني ،أحارب
مف حاربتـ ،وأسالـ مف سالمتـ .
التأكيد من خطورة البيعة:
وبعد أف تمت المحادثة حوؿ شروط البيعة ،وأجمعوا عمى الشروع في عقدىا قاـ رجالف
مف الرعيؿ األوؿ ممف أسمموا في مواسـ سنتي ٔٔ ٕٔ ،مف النبوة ،قاـ أحدىما تمو اآلخر،
ليؤكدا لمقوـ خطورة المسؤولية ،حتى ال يبايعوه إال عمى جمية مف األمر ،وليعرفا مدى
استعداد القوـ لمتضحية ويتأكدا مف ذلؾ.
قاؿ ابف إسحاؽ :لما اجتمعوا لمبيعة قاؿ العباس بف عبادة بف نضمة :ىؿ تدروف عالـ
تبايعوف ىذا الرجؿ؟ قالوا :نعـ ،قاؿ :إنكـ تبايعونو عمى حرب األحمر واألسود مف الناس،
فإف كنتـ تروف أنكـ إذا نيكت أموالكـ مصيبة ،وأشرافكـ قتال أسممتموه ،فمف اآلف ،فيو
واهلل إف فعمتـ خزي الدنيا واآلخرة ،واف كنتـ تروف أنكـ وافوف لو بما دعوتموه إليو عمى
نيكة األمواؿ وقتؿ األشراؼ فخذوه ،فيو واهلل خير الدنيا واآلخرة.
قالوا :فإنا نأخذه عمى مصيبة األمواؿ وقتؿ األشراؼ ،فما لنا بذلؾ يا رسوؿ اهلل إف نحف
وفينا بذلؾ؟ قاؿ« :الجنة» .قالوا :ابسط يدؾ .فبسط يده فبايعوه .
عقد البيعة:
وبعد إقرار بنود البيعة ،وبعد ىذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة ،وبدأت البيعة
العامة ،قاؿ جابر :فقمنا إليو رجال رجال فأخذ عمينا البيعة ،يعطينا بذلؾ الجنة .وأما بيعة
المرأتيف المتيف شيدتا الوقعة فكانت قوال .ما صافح رسوؿ اهلل امرأة أجنبية قط.
نقباء األوس و الخزرج:
وبعد أف تمت البيعة طمب رسوؿ اهلل انتخاب اثني عشر زعيما يكونوف نقباء عمى
قوميـ ،يكفموف المسؤولية عنيـ في تنفيذ بنود ىذه البيعة ،فقاؿ لمقوـ :أخرجوا إلي منكـ
اثني عشر نقيبا؛ ليكونوا عمى قومكـ بما فييـ.فتـ انتخابيـ في الحاؿ ،وكانوا تسعة في
الخزرج وثالثة مف األوس .وىاؾ أسماؤىـ:
نقباء الخزرج:
ٔ -أسعد بف ز اررة.
ٕ -سعد بف الربيع بف عمرو.
ٖ -عبد اهلل بف رواحة بف ثعمبة.
ٗ -رافع بف مالؾ بف العجالف.
٘ -البراء بف معرور بف صخر.
-ٙعبد اهلل بف عمرو بف حراـ.
18
-ٚعبادة بف الصامت بف قيس.
-ٛسعد بف عبادة بف دليـ.
-ٜالمنذر بف عمرو بف خنيس.
نقباء األوس:
ٔ -أسيد بف حضير بف سماؾ.
ٕ -سعد بف خيثمة بف الحارث.
ٖ -رفاعة بف عبد المنذر بف زبير.
ولما تـ انتخاب ىؤالء النقباء أخذ عمييـ النبي ميثاقا آخر بصفتيـ رؤساء مسؤوليف.
قاؿ ليـ :أنتـ عمى قومكـ بما فييـ كفالء ككفالة الحوارييف لعيسى بف مريـ ،وأنا كفيؿ
عمى قومي -يعني المسمميف -قالوا :نعـ .
شيطان يكتشف المعاىدة:
ولما تـ إبراـ المعاىدة ،وكاف القوـ عمى وشؾ اإلنفضاض ،اكتشفيا أحد الشياطيف ،وحيث
جاء ىذا اإلكتشاؼ في المحظة األخيرة ،ولـ يكف يمكف إبالغ زعماء قريش ىذا الخبر س ار
ليباغتوا المجتمعيف وىـ في الشعب ،قاـ ذلؾ الشيطاف عمى مرتفع مف األرض ،وصاح
بأنفذ صوت سمع قط :يا أىؿ األخاشب -المنازؿ -ىؿ لكـ في محمد والصباة معو؟ قد
اجتمعوا عمى حربكـ.
فقاؿ رسوؿ اهلل « : ىذا أزب العقبة ،أما واهلل يا عدو اهلل ألتفرغف لؾ» .ثـ أمرىـ أف
ينفضوا إلى رحاليـ .
استعداد األنصار لضرب قريش:
وعند سماع صوت ىذا الشيطاف قاؿ العباس بف عبادة بف نضمة :والذي بعثؾ بالحؽ ،إف
شئت لنميمف عمى أىؿ منى غدا بأسيافنا .فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :لـ نؤمر
بذلؾ ،ولكف ارجعوا إلى رحالكـ» ،فرجعوا وناموا حتى أصبحوا .ولما قرع ىذا الخبر آذاف
قريش وقعت فييـ ضجة أثارت القالقؿ واألحزاف ،ألنيـ كانوا عمى معرفة تامة مف عواقب
مثؿ ىذه البيعة ونتائجيا بالنسبة إلى أنفسيـ وأمواليـ ،فما إف أصبحوا حتى توجو وفد كبير
مف زعماء مكة وأكابر مجرمييا إلى مخيـ أىؿ يثرب ،ليقدـ احتجاجو الشديد عمى ىذه
المعاىدة .فقد قاؿ:
يا معشر الخزرج ،إنو قد بمغنا أنكـ قد جئتـ إلى صاحبنا ىذا تستخرجونو مف بيف أظيرنا،
وتبايعونو عمى حربنا ،وانو واهلل ما مف حي مف العرب أبغض إلينا مف أف تنشب الحرب
بيننا وبينيـ منكـ .ولما كاف مشركو الخزرج ال يعرفوف شيئا عف ىذه البيعة ،ألنيا تمت في
سرية تامة ،وفي ظالـ الميؿ ،انبعث ىؤالء المشركوف يحمفوف باهلل :ما كاف مف شيء ،وما
19
عممناه ،حتى أتوا عبد اهلل بف أبي بف سموؿ ،فجعؿ يقوؿ :ىذا باطؿ ،وما كاف ىذا ،وما
كاف قومي ليفتاتوا عمى مثؿ ىذا ،لو كنت بيثرب ما صنع قومي ىذا حتى يؤامروني.
أما المسمموف فنظر بعضيـ إلى بعض ،ثـ الذوا بالصمت ،فمـ يتحدث أحد منيـ بنفي أو
إثبات .وماؿ زعماء قريش إلى تصديؽ المشركيف ،فرجعوا خائبيف.
تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين:
عاد زعماء مكة وىـ عمى شبو اليقيف مف كذب ىذا الخبر ،لكنيـ لـ يزالوا يتنطسونو-
يكثروف البحث عنو ويدققوف النظر فيو -حتى تأكد لدييـ أف الخبر صحيح ،والبيعة قد
تمت فعال .وذلؾ بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانيـ ،فسارع فرسانيـ بمطاردة اليثربييف،
ولكف بعد فوات األواف ،إال أنيـ تمكنوا مف رؤية سعد بف عبادة والمنذر بف عمرو،
فطاردوىما ،فأما المنذر فأعجز القوـ ،وأما سعد فألقوا القبض عميو ،فربطوا يديو إلى عنقو
بنسع رحمو ،وجعموا يضربونو ويجرونو ويجروف شعره حتى أدخموه مكة ،فجاء المطعـ بف
عدي والحارث بف حرب بف أمية فخمصاه مف أيدييـ .إذ كاف سعد يجير ليما قوافميما
المارة بالمدينة ،وتشاورت األنصار حيف فقدوه أف يكروا إليو ،فإذا ىو قد طمع عمييـ،
فوصؿ القوـ جميعا إلى المدينة .
ىذه ىي بيعة العقبة الثانية -التي تعرؼ ببيعة العقبة الكبرى -وقد تمت في جو تعموه
عواطؼ الحب والوالء والتناصر بيف أشتات المؤمنيف ،والثقة والشجاعة واإلستبساؿ في ىذا
السبيؿ ،فمؤمف مف أىؿ يثرب يحنو عمى أخيو المستضعؼ في مكة ،ويتعصب لو،
ويغضب مف ظالمو ،وتجيش في حناياه مشاعر الود ليذا األخ الذي أحبو بالغيب في ذات
اهلل.ولـ تكف ىذه المشاعر والعواطؼ نتيجة نزعة عابرة تزوؿ عمى مر األياـ ،بؿ كاف
مصدرىا ىو اإليماف باهلل وبرسولو وبكتابو ،إيماف ال يزوؿ أماـ أي قوة مف قوات الظمـ
والعدواف ،إيماف إذا ىبت ريحو جاءت بالعجائب في العقيدة والعمؿ ،وبيذا اإليماف استطاع
المسمموف أف يسجموا عمى أوراؽ الدىر أعماال ،ويتركوا عمييا آثارا ،خال عف نظائرىا
الغابر والحاضر ،وسوؼ يخمو المستقبؿ.
21
اليجرة المباركة:
بعد أف تمت بيعة العقبة الثانية،استطاع النبي بدعوتو الصابرة الحكيمة أف يؤسس
لإلسالـ -وألوؿ مرة -وطناً وسط صحراء تموج بالكفر والشرؾ والجيالة ،وبدأت طالئع
اليجرة المباركة لممقيوريف والمعذبيف في مكة ،وبدءوا يصموف إلى المدينة المنورة.
إف اليجرة إلى المدينة سبقيا تمييد واعداد وتخطيط مف النبي وكاف ذلؾ بتقدير اهلل
تعالى وتدبيره ،وكاف ىذا اإلعداد في اتجاىيف ،إعداد في شخصية المياجريف ،واعداد في
المكاف المياجر إليو.
من أساليب قريش في محاربة المياجرين ومن مشاىد العظمة في اليجرة:
عممت قيادة قريش ما في وسعيا لمحيمولة دوف خروج مف بقي مف المسمميف إلى المدينة،
واتبعت في ذلك عدة أساليب منيا:
ٔ ٍ -أسموب التفريؽ بيف الرجؿ وزوجو وولده.
ٕ -أسموب االختطاؼ.:
ٖ -أسموب الحبس:
ٗ-أسموب التجريد مف الماؿ
طالئع اليجرة:
روى البخاري عف عائشة قالت :قاؿ رسوؿ اهلل لممسمميف إني رأيت دار ىجرتكـ ذات
نخؿ بيف البتيف -وىما الحرتاف -فياجر مف ىاجر قبؿ المدينة .ورجع عامة مف كاف
ىاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ،وتجيز أبو بكر قبؿ المدينة ،فقاؿ لو رسوؿ اهلل
عمى رسمؾ ،فإني أرجو أف يؤذف لي .فقاؿ لو أبو بكر :وىؿ ترجو ذلؾ بأبي أنت؟ قاؿ:
نعـ فحبس أبو بكر نفسو عمى رسوؿ اهلل ليصحبو ،وعمؼ راحمتيف كانتا عنده ورؽ
السمر -وىو الخبط -أربعة أشير.
ىجرة النبي :
ولما تـ اتخاذ القرار الغاشـ بقتؿ النبي نزؿ إليو جبريؿ بوحي ربو تبارؾ وتعالى ،فأخبره
بمؤامرة قريش ،وأف اهلل قد أذف لو في الخروج ،وحدد لو وقت اليجرة قائال :ال تبت ىذه
الميمة عمى فراشؾ الذي كنت تبيت عميو .
وذىب النبي في الياجرة إلى أبي بكر رضي اهلل عنو ،ليبرـ معو مراحؿ اليجرة ،قالت
عائشة رضي اهلل عنيا :بينما نحف جموس في بيت أبي بكر في نحر الظييرة قاؿ قائؿ
ألبي بكر ىذا رسوؿ اهلل متقنعا ،في ساعة لـ يكف يأتينا فييا ،فقاؿ أبو بكر :فداء لو
أبي وأمي ،واهلل ما جاء بو في ىذه الساعة إال أمر.
21
قالت :فجاء رسوؿ اهلل فاستأذف ،فأذف لو ،فدخؿ ،فقاؿ النبي صمى اهلل عميو وسمـ ألبي
بكر:
«أخرج مف عندؾ» .فقاؿ أبو بكر :إنما ىـ أىمؾ ،بأبي أنت يا رسوؿ اهلل .قاؿ« :فإني قد
أذف لي في الخروج» فقاؿ أبو بكر :الصحبة بأبي أنت يا رسوؿ اهلل؟ قاؿ رسوؿ اهلل
:نعـ ،وبعد إبراـ خطة اليجرة رجع رسوؿ اهلل إلى بيتو ،ينتظر مجيء الميؿ.
اجتماع دار الندوة:
بعد شيريف ونصؼ تقريبا مف بيعة العقبة الكبرى -عقد برلماف مكة (دار الندوة) في أوائؿ
أخطر اجتماع لو في تاريخو ،وتوافد إلى ىذا اإلجتماع جميع نواب القبائؿ النيار
القرشية ،ليتدارسوا خطة حاسمة تكفؿ القضاء سريعا عمى حامؿ لواء الدعوة اإلسالمية،
وتقطع تيار نورىا عف الوجود نيائيا.
وكانت الوجوه البارزة في ىذا اإلجتماع الخطير مف نواب قبائؿ قريش:
ٔ -أبو جيؿ بف ىشاـ ،عف قبيمة بني مخزوـ.
ٕ -جبير بف مطعـ ،وطعيمة بف عدي ،والحارث بف عامر ،عف بني نوفؿ بف عبد مناؼ.
ٖ -شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفياف بف حرب ،عف بني عبد شمس بف عبد مناؼ.
ٗ -النضر بف الحارث -وىو الذي كاف ألقى عمى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ سال
جزور -عف بني عبد الدار.
٘ -أبو البختري بف ىشاـ وزمعة بف األسود ،وحكيـ بف حزاـ عف بني أسد بف عبد العزي.
-ٙنبيو ومنبو ابنا الحجاج ،عف بني سيـ.
-ٚأمية بف خمؼ ،عف بني جمح.
ولما جاؤوا إلى دار الندوة حسب الميعاد اعترضيـ إبميس في ىيئة شيخ جميؿ ،ووقؼ عمى
الباب ،فقالوا :مف الشيخ؟ قاؿ :شيخ مف أىؿ نجد سمع بالذي اتعدتـ لو ،فحضر معكـ
ليسمع ما تقولوف ،وعسى أاليعدمكـ منو رأيا ونصحا .قالوا :أجؿ ،فادخؿ ،فدخؿ معيـ.
تآمر القرشيين عمى قتل رسول اهلل :
ىاجر المسمموف إلى المدينة وبدأ أىؿ مكة يشعروف أف تجمع المسمميف في المدينة مع
أىميا خطر عمييـ ،وبخاصة إذا لحؽ محمد بيـ فأخذوا يتآمروف لمقضاء عمى رسوؿ
اهلل وىو بينيـ قبؿ أف يتركيـ إلى المدينة ويتعاظـ شأنو.
يقوؿ ابف إسحاؽ :ولما رأت قريش أف رسوؿ اهلل قد صارت لو شيعة وأصحاب مف
دار
غيرىـ بغير بمدىـ ،و أروا خروج أصحابو مف المياجريف إلييـ ،وعرفوا أنيـ قد نزلوا ًا
وأصابوا منيـ منعة ،فحذروا خروج رسوؿ اهلل فاجتمعوا لو في دار الندوة ،يتشاوروف
فيما يصنعوف في أمره حيف خافوه.
22
تطويق منزل الرسول :
قاؿ ابف إسحاؽ :فمما كانت عتمة الميؿ اجتمعوا عمى بابو يرصدونو متى ناـ فيثبوف عميو.
وقد كاف ميعاد تنفيذ تمؾ المؤامرة بعد منتصؼ الميؿ ،فباتوا متيقظيف ينتظروف ساعة
ممكوت السماوات واألرض ،يفعؿ ما يشاء ،وىو الصفر ،ولكف اهلل غالب عمى أمره ،بيده
يف َكفَ ُروا بو الرسوؿ فيما بعد :وِا ْذ يم ُكر بِ َ َِّ
ؾ الذ َ َ َْ ُ يجير وال يجار عميو ،فقد فعؿ ما خاطب
ِ َّ َّ ِلُيثْبِتُو َ
َوَي ْم ُك ُر الموَُ ،والموُ َخ ْي ُر اْلماك ِر َ
يف) (.)11 وف ؾ أ َْو ُي ْخ ِر ُجو َ
ؾَ ،وَي ْم ُك ُر َ ؾ أ َْو َي ْقتُمُو َ
الرسول يغادر بيتو:
ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتيـ فقد فشموا فشال فاحشا .ففي ىذه الساعة الحرجة
قاؿ رسوؿ اهلل لعمي بف أبي طالب« :نـ عمى فراشي ثـ خرج رسوؿ اهلل ،واخترؽ
صفوفيـ ،وأخذ حفنة مف البطحاء فجعؿ يذره عمى رؤوسيـ ،وقد آخذ اهلل أبصارىـ عنو فال
ناى ْـ فَيُ ْـ ال يرونو ،وىو يتموَ (:و َج َعْمنا ِم ْف َب ْي ِف أ َْي ِدي ِي ْـ َس ِّدا َو ِم ْف َخْم ِف ِي ْـ َس ِّدا فَأ ْ
َغ َش ْي ُ
وف)( .)12فمـ يبؽ منيـ رجؿ إال وقد وضع عمى رأسو ترابا ،ومضى إلى بيت أبي ِ
ُي ْبص ُر َ
بكر ،فخرجا مف خوخة في دار أبي بكر ليال حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمف .
وبقي المحاصروف ينتظروف حموؿ ساعة الصفر ،وقبيؿ حموليا تجمت ليـ الخيبة والفشؿ،
فقد جاءىـ رجؿ ممف لـ يكف معيـ ،ورآىـ ببابو فقاؿ :ما تنتظروف؟ قالوا :محمدا .قاؿ:
خبتـ وخسرتـ ،قد واهلل مر بكـ ،وذر عمى رؤوسكـ التراب ،وانطمؽ لحاجتو ،قالوا :واهلل ما
أبصرناه ،وقاموا ينفضوف التراب عف رؤوسيـ.ولكنيـ تطمعوا مف صير الباب ف أروا عميا،
عمي عف
فقالوا :واهلل إف ىذا لمحمد نائما ،عميو برده ،فمـ يبرحوا كذلؾ حتى أصبحوا .وقاـ ّ
الفراش ،فسقط في أيدييـ ،وسألوه عف رسوؿ اهلل ،فقاؿ :ال عمـ لي بو.
ولما كاف النبي يعمـ أف قريشا ستجد في الطمب ،وأف الطريؽ الذي ستتجو إليو األنظار
ألوؿ وىمة ىو طريؽ المدينة الرئيسي المتجو شماال ،فقد سمؾ الطريؽ الذي يضاده تماما،
وىو الطريؽ الواقع جنوب مكة ،والمتجو نحو اليمف .سمؾ ىذا الطريؽ نحو خمسة أمياؿ،
حتى بمغ إلى جبؿ يعرؼ بجبؿ ثور ،وىذا جبؿ شامخ ،وعر الطريؽ ،صعب المرتقى ،ذا
أحجار كثيرة ،فحفيت قدما رسوؿ اهلل ،وقيؿ :بؿ كاف يمشي في الطريؽ عمى أطراؼ
قدميو كي يخفي أثره فحفيت قدماه ،وأيا ما كاف ،فقد حممو أبو بكر حيف بمغ إلى الجبؿ،
وطفؽ يشتد بو حتى انتيى بو إلى غار في قمة الجبؿ ،عرؼ في التاريخ بغار ثور .
23
إذ ىما في الغار
ولما انتييا إلى الغار قاؿ أبو بكر :واهلل ال تدخمو حتى أدخمو قبمؾ ،فإف كاف فيو شيء
أصابني دونؾ ،فدخؿ فكسحو ،ووجد في جانبو ثقبا فشؽ إ ازره وسدىا بو ،وبقي منيا اثناف
فألقميما رجميو ،ثـ قاؿ لرسوؿ اهلل . ادخؿ .فدخؿ رسوؿ اهلل ، ووضع رأسو في
حجره وناـ ،فمدغ أبو بكر في رجمو مف الحجر ،ولـ يتحرؾ مخافة أف ينتبو رسوؿ اهلل ،
فسقطت دموعو عمى وجو رسوؿ اهلل ،فقاؿ :ما لؾ يا أبا بكر؟ قاؿ :لدغت ،فداؾ أبي
وأمي ،فتفؿ رسوؿ اهلل ،فذىب ما يجده.
وكمنا في الغار ثالث لياؿ ،ليمة الجمعة وليمة السبت وليمة األحد وكاف عبد اهلل ابف أبي
بكر يبيت عندىما .قالت عائشة :وىو غالـ شاب ثقؼ لقف ،فيدلج مف عندىما بسحر،
فيصبح مع قريش بمكة كبائت ،فال يسمع أم ار يكتاداف بو إال وعاه ،حتى يأتييما بخبر ذلؾ
حيف يختمط الظالـ .و (كاف) يرعى عمييما عامر بف فييرة مولى أبي بكر منحة مف غنـ،
فيريحيا عمييما حيف تذىب ساعة مف العشاء ،فيبيتاف في رسؿ -وىو لبف منحتيما
ورضيفيما -حتى ينعؽ بيما عامر بف فييرة بغمس ،يفعؿ ذلؾ في كؿ ليمة مف تمؾ الميالي
الثالث .وكاف عامر بف فييرة يتبع بغنمو أثر عبد اهلل بف أبي بكر بعد ذىابو إلى مكة
ليعفى عميو.
أما قريش فقد جف جنونيا حينما تأكد لدييا إفالت رسوؿ اهلل صباح ليمة تنفيذ المؤامرة.
فأوؿ ما فعموا بيذا الصدد أنيـ ضربوا عميا ،وسحبوه إلى الكعبة ،وحبسوه ساعة ،عميـ
عمي عمى جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر ،وقرعوا يظفروف بخبرىما .ولما لـ يحصموا مف ّ
بابو ،فخرجت إلييـ أسماء بنت أبي بكر ،فقالوا ليا :أيف أبوؾ؟ قالت :ال أدري واهلل أيف
أبي؟ فرفع أبو جيؿ يده -وكاف فاحشا خبيثا -فمطـ خدىا لطمة طرح منيا قرطيا .
وقررت قريش في جمسة طارئة مستعجمة استخداـ جميع الوسائؿ التي يمكف بيا القبض
عمى الرجميف ،فوضعت جميع الطرؽ النافذة مف مكة ،في جميع الجيات تحت المراقبة
المسمحة الشديدة ،كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرىا مائة ناقة بدؿ كؿ واحد منيما
لمف يعيدىما إلى قريش حييف أو ميتيف ،كائنا مف كاف .
وحينئذ جدت الفرساف والمشاة وقصاص األثر في الطمب ،وانتشروا في الجباؿ والودياف،
لكف مف دوف جدوى.وقد وصؿ المطاردوف إلى باب الغار ،ولكف اهلل غالب عمى أمره،
روى البخاري عف أنس عف أبي بكر قاؿ :كنت مع النبي في الغار فرفعت رأسي ،فإذا
أنا بأقداـ القوـ ،فقمت يا نبي اهلل لو أف بعضيـ طأطأ بصره رآنا .قاؿ :اسكت يا أبا بكر،
اثناف اهلل ثالثيما ،وفي لفظ :ما ظنؾ يا أبا بكر باثنيف اهلل ثالثيما .وقد كانت معجزة أكرـ
اهلل بيا نبيو ، فقد رجع المطاردوف حيف لـ يبؽ بينو وبينيـ إال خطوات معدودة.
24
في الطريق إلى المدينة:
وحيف خمدت نار الطمب ،وتوقفت أعماؿ دوريات التفتيش ،وىدأت ثائرات قريش بعد
استمرار المطاردة الحثيثة ثالثة أياـ بدوف جدوى ،تييأ رسوؿ اهلل وصاحبو لمخروج إلى
المدينة.وكانا قد استأجر عبد اهلل بف أريقط الميثي ،وكاف ىاديا خريتا -ماى ار بالطريؽ-
وكاف عمى ديف كفار قريش ،وأمناه عمى ذلؾ ،وسمما إليو راحمتييما ،وواعداه غار ثور بعد
ثالث لياؿ براحمتييما ،فمما كانت ليمة اإلثنيف -غرة ربيع األوؿ سنة ٔ ىػ ٔٙ /سبتمبر
سنة ٕٕ ٙـ -جاءىما عبد اهلل بف أريقط بالراحمتيف ثـ ارتحؿ رسوؿ اهلل وأبو بكر
رضي اهلل عنو ،وارتحؿ معيما عامر بف فييرة ،وأخذ بيـ الدليؿ -عبد اهلل بف أريقط -عمى
طريؽ السواحؿ.وأوؿ مف سمؾ بيـ بعد الخروج مف الغار أنو أمعف في اتجاه الجنوب نحو
اليمف ،ثـ اتجو غربا نحو الساحؿ ،حتى إذا وصؿ إلى طريؽ لـ يألفو الناس اتجو شماال
عمى مقربة مف شاطئ البحر األحمر ،وسمؾ طريقا لـ يكف يسمكو أحد إال ناد ار.
وقد ذكر ابف إسحاؽ المواضع التي مر بيا رسوؿ اهلل في ىذا الطريؽ قاؿ :لما خرج
بيما الدليؿ سمؾ بيما أسفؿ مكة ،ثـ مضى بيما عمى الساحؿ حتى عارض الطريؽ أسفؿ
مف عسفاف ،ثـ سمؾ بيما عمى أسفؿ أمج ،ثـ استجاز بيما حتى عارض بيما الطريؽ بعد
أف أجاز قديدا ،ثـ أجاز بيما مف مكانو ذلؾ ،فسمؾ بيما الخرار ،ثـ سمؾ بيما ثنية المرة،
ثـ سمؾ بيما لقفا ،ثـ أجاز بيما مدلجة لقؼ ،ثـ استبطف بيما مدلجة مجاح ،ثـ سمؾ بيما
مرجح محاج ،ثـ تبطف بيما مرجح ذي الغضويف ،ثـ بطف ذي كشر ،ثـ أخذ بيما عمى
الجداجد ،ثـ عمى األجرد ،ثـ سمؾ بيما ذا سمـ ،مف بطف أعداء مدلجة تعيف ،ثـ عمى
العبابيد ،ثـ أجاز بيما الفاجة ،ثـ ىبط بيما العرج ،ثـ سمؾ بيما ثنية العائر -عف يميف
ركوبة -حتى ىبط بيما بطف رئـ ،ثـ قدـ بيما عمى قبا .وىاؾ بعض ما وقع في الطريؽ:
ٔ -روى البخاري عف أبي بكر الصديؽ رضي اهلل عنو قاؿ :أسرينا ليمتنا ومف الغد حتى
قاـ قائـ الظييرة ،وخال الطريؽ ،ال يمر فيو أحد ،فرفعت لنا صخرة طويمة ليا ظؿ لـ تأت
عمييا الشمس ،فنزلنا عنده ،وسويت لمنبي مكانا بيدي ،يناـ عميو ،وبسطت عميو فروة،
وقمت :نـ يا رسوؿ اهلل ،وأنا أنفض لؾ ما حولؾ ،فناـ ،وخرجت أنفض ما حولو ،فإذا أنا
براع مقبؿ بغنمو إلى الصخرة ،يريد منيا مثؿ الذي أردنا ،فقمت لو :لمف أنت يا غالـ؟
قاؿ :لرجؿ مف أىؿ المدينة أو مكة .قمت :أفي غنمؾ لبف؟ قاؿ :نعـ .قمت:
أفتحمب؟ قاؿ :نعـ .فأخذ شاة ،فقمت :أنفض الضرع مف التراب والشعر والقذى .فحمب في
كعب كثبة مف لبف ،ومعي إداوة حممتيا لمنبي ـ ،يرتوي منيا ،ما يشرب ويتوضأ ،فأتيت
النبي صمى اهلل عميو وسمـ ،فكرىت أف أوقظو ،فوافقتو حيف استيقظ ،فصببت مف الماء
25
عمى لبف حتى برد أسفمو ،فقمت :إشرب يا رسوؿ اهلل ،فشرب حتى رضيت ،ثـ قاؿ :ألـ
يأف الرحيؿ؟ قمت :بمى ،قاؿ :فارتحمنا .
ٕ -كاف مف دأب أبي بكر رضي اهلل عنو أنو كاف ردفا لمنبي ،وكاف شيخا يعرؼ،
ونبي اهلل شاب ال يعرؼ ،فيمقى الرجؿ أبا بكر فيقوؿ :مف ىذا الرجؿ الذي بيف يديؾ؟
فيقوؿ :ىذا الرجؿ ييديني الطريؽ ،فيحسب الحاسب أنو يعني بو الطريؽ ،وانما يعني
سبيؿ الخير .
ٖ -وتبعيما في الطريؽ سراقة بف مالؾ .قاؿ سراقة :بينما أنا جالس في مجمس مف
مجالس قومي بني مدلج ،أقبؿ رجؿ منيـ حتى قاـ عمينا ،ونحف جموس ،فقاؿ :يا سراقة،
إني رأيت آنفا أسودة بالساحؿ ،أراىا محمدا وأصحابو .قاؿ سراقة :فعرفت أنيـ ىـ.
فقمت لو :إنيـ ليسوا بيـ ،ولكنؾ رأيت فالنا وفالنا انطمقوا بأعيننا ،ثـ لبثت في المجمس
ساعة ،ثـ قمت فدخمت ،فأمرت جاريتي أف تخرج فرسي ،وىي مف وراء أكمة ،فتحبسيا
عمي ،وأخذت رمحي فخرجت بو مف ظير البيت ،فخططت بزجو األرض ،وخفضت
عاليو ،حتى أتيت فرسي ،فركبتيا ،فعرفتيا تقرب بي حتى دنوت منيـ ،فعثرت بي فرسي
فخررت عنيا ،فقمت ،فأىويت يدي إلى كنانتي ،فاستخرجت منيا األزالـ ،فاستقسمت بيا،
أضرىـ أـ ال؟ فخرج الذي أكره ،فركبت فرسي وعصيت األزالـ ،تقرب بي ،حتى إذا سمعت
قراءة رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ -وىو ال يمتفت ،وأبو بكر يكثر اإللتفات -ساخت يدا
فرسي في األرض ،حتى بمغتا الركبتيف ،فخررت عنيا ،ثـ زجرتيا فنيضت ،فمـ تكد تخرج
يدييا ،فمما استوت قائمة إذا ألثر يدييا غبار ساطع في السماء مثؿ الدخاف ،فاستقسمت
باألزالـ ،فخرج الذي أكره ،فناديتيـ باألماف ،فوقفوا ،فركبت فرسي حتى جئتيـ ،ووقع في
نفسي حيف لقيت ما لقيت مف الحبس عنيـ أف سيظير أمر رسوؿ اهلل فقمت لو ،إف
قومؾ قد جعموا فيؾ الدية ،وأخبرتيـ أخبار ما يريد الناس بيـ ،وعرضت عمييـ الزاد
والمتاع فمـ يرزآني ،ولـ يسأالني إال أف قاؿ :أخؼ عنا ،فسألتو أف يكتب لي كتاب أمف،
فأمر عامر بف فييرة ،فكتب لي في رقعة مف أدـ ،ثـ مضى رسوؿ اهلل .
وفي رواية عف أبي بكر قاؿ :ارتحمنا ،والقوـ يطمبوننا ،فمـ يدركنا منيـ أحد غير سراقة بف
مالؾ بف جعشـ عمى فرس لو ،فقمت :ىذا الطمب قد لحقنا يا رسوؿ اهلل ،فقاؿ :ال تَ ْح َزْف إِ َّف
المَّوَ َم َعنا .
ورجع سراقة ،فوجد الناس في الطمب ،فجعؿ يقوؿ :قد استبرأت لكـ الخبر ،قد كفيتـ ما
ىينا .وكاف أوؿ النيار جاىدا عمييما ،وآخره حارسا ليما .
26
ٗ -ومر في مسيره ذلؾ حتى مر بخيمتي أـ معبد الخزاعية ،وكانت امرأة برزة جمدة تحتبي
بفناء الخيمة ،ثـ تطعـ وتسقي مف مر بيا ،فسأالىا :ىؿ عندىا شيء؟ فقالت :واهلل لو كاف
عندنا شيء ما أعوزكـ القرى والشاء عازب ،وكانت سنة شيباء.
فنظر رسوؿ اهلل إلى شاة في كسر الخيمة ،فقاؿ :ما ىذه الشاة يا أـ معبد؟
قالت :شاة خمفيا الجيد عف الغنـ ،فقاؿ :ىؿ بيا مف لبف؟ قالت :ىي أجيد مف ذلؾ.
فقاؿ :أتأذنيف لي أف أحمبيا؟ قالت :نعـ بأبي وأمي ،إف رأيت بيا حمبا فاحمبيا .فمسح
رسوؿ اهلل بيده ضرعيا ،وسمى اهلل ودعا ،فتفاجت عميو ودرت ،فدعا بإناء ليا يربض
الرىط ،فحمب فيو حتى عمتو الرغوة ،فسقاىا ،فشربت حتى رويت ،وسقي أصحابو حتى
رووا ،ثـ شرب ،وحمب فيو ثانيا ،حتى مأل اإلناء ،ثـ غادره عندىا فارتحموا.
فما لبثت أف جاء زوجيا أبو معبد يسوؽ أعن از عجافا يتساوكف ىزال ،فمما رأى المبف
عجب ،فقاؿ :مف أيف لؾ ىذا؟ والشاة عازب ،وال حموبة في البيت؟ فقالت :ال واهلل إال أنو
مر بنا رجؿ مبارؾ كاف مف حديثو كيت وكيت ،ومف حالو كذا وكذا ،قاؿ :إني واهلل أراه
صاحب قريش الذي تطمبو ،صفيو لي يا أـ معبد ،فوصفتو بصفاتو الرائعة بكالـ رائع كأف
السامع ينظر إليو وىو أمامو -وسننقمو في بياف صفاتو صمى اهلل عميو وسمـ في أواخر
المقالة -فقاؿ أبو معبد:
واهلل ىذا صاحب قريش الذي ذكروا مف أمره ما ذكروا ،لقد ىممت أف أصحبو ،وألفعمف إف
وجدت إلى ذلؾ سبيال،
وفي يوـ اإلثنيف ٛربيع األوؿ سنة ٗٔ مف النبوة -وىي السنة األولى مف اليجرة-
الموافؽ ٖٕ سبتمبر سنة ٕٕ ٙـ نزؿ رسوؿ اهلل بقباء .قاؿ عروة بف الزبير :سمع
المسمموف بالمدينة بمخرج رسوؿ اهلل مف مكة ،فكانوا يغدوف كؿ غداة إلى الحرة،
فينتظرونو حتى يردىـ حر الظييرة ،فانقمبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارىـ ،فمما أووا إلى
بيوتيـ أوفى رجؿ مف ييود عمى أطـ مف آطاميـ ألمر ينظر إليو ،فبصر برسوؿ اهلل
صمى اهلل عميو وسمـ وأصحابو مبيضيف يزوؿ بيـ السراب ،فمـ يممؾ الييودي أف قاؿ
بأعمى صوتو يا معاشر العرب ،ىذا جدكـ الذي تنظروف ،فثار المسمموف إلى السالح.
قاؿ ابف القيـ :وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بف عوؼ ،وكبر المسمموف فرحا
بقدومو ،وخرجوا لمقائو ،فتمقوه وحيوه بتحية النبوة ،فأحدقوا بو مطيفيف حولو ،والسكينة
يفَ ،واْل َمالئِ َكةُ َب ْع َد ذلِ َ
ؾ ِ ِ َّ
تغشاه ،والوحي نزؿ عميو (:فَِإ َّف الموَ ُى َو َم ْوالهُ َو ِج ْب ِري ُؿ َوصال ُح اْل ُم ْؤ ِمن َ
)ٌ.)13قاؿ عروة بف الزبير :فتمقوا رسوؿ اهلل ،فعدؿ بيـ ذات اليميف ،حتى نزؿ بيـ (
ظ ِيير
َ
27
في بني عمرو بف عوؼ ،وذلؾ يوـ اإلثنيف مف شير ربيع األوؿ .فقاـ أبو بكر لمناس،
وجمس رسوؿ اهلل صامتا ،فطفؽ مف جاء مف األنصار ممف لـ ير رسوؿ اهلل
يحيى -وفي نسخة :يجيئ -أبا بكر ،حتى أصابت الشمس رسوؿ اهلل فأقبؿ أبو بكر
حتى ظمؿ عميو بردائو ،فعرؼ الناس رسوؿ اهلل عند ذلؾ .وكانت المدينة كميا قد
زحفت لإلستقباؿ ،وكاف يوما مشيودا لـ تشيد المدينة مثمو في تاريخيا ،وقد رأى الييود
صدؽ بشارة حبقوؽ النبي :إف اهلل جاء مف التيماف ،والقدوس مف جباؿ فاراف .ونزؿ
رسوؿ اهلل بقباء عمى كمثوـ بف اليدـ ،وقيؿ :بؿ عمى سعد بف خيثمة ،واألوؿ أثبت،
ومكث عمي بف أبي طالب بمكة ثالثا ،حتى أدى عف رسوؿ اهلل الودائع.
الدخول في المدينة:
وبعد الجمعة دخؿ النبي المدينة -ومف ذلؾ اليوـ سميت بمدة يثرب بمدينة الرسوؿ ،
ويعبر عنيا بالمدينة مختص ار -وكاف يوما تاريخيا أغر ،فقد كانت البيوت والسكؾ ترتج
بأصوات التحميد والتقديس.
دور الشباب والمرأة في اليجرة:
حيف نراجع الرصيد الضخـ مف أحداث اليجرة ،نالحظ أف الذيف نفذوا مخطط اليجرة،
والعناصر التي اعتمدىا عميو الصالة والسالـ لمتنفيذ مف غرر الشباب والنساء.
دور الشباب في اليجرة:
نمحظ دور الشباب فيما يمي:
ٔ – إف الذي تحمؿ ابتداء مسؤولية المواجية والدعوة في المدينة والذي أنزؿ مصعب بف
عمير عنده ،والذي عرض حياتو لمخطر والموت ،ىو أسعدابف ز اررة رضي اهلل عنو أبو
أمامة وىما مف شباب األنصار .
ٕ -أف مف الذيف حضروا بيعة العقبة الثانية كانومف الشباب ،قاؿ عروة بف الزبير
وموسى بف عقبة :كانو سبعيف رجال وامرأة واحدة ،وقاؿ :منيـ أربعوف مف ذوي أسنانيـ،
وثالثوف مف شبابيـ.
ٖ -أف الذيف اختارىـ الرسوؿ لتنفيذ مخطط اليجرة كذلؾ ،جميعيـ مف الشباب وليس
فييـ إال كيؿ واحد ىو أو بكر رضي اهلل عنو ،واف كاف قد قدـ أوالده الثالثة :ليشاركوا في
ىذا الشرؼ العظيـ .فعبد اهلل بف أبي بكر كما وصفتو عائشة رضي اهلل عنيما( :وىو
غالـ شاب ثقؼ لقف) .وىو الذي حمؿ مسؤولية نقؿ األخبار لرسوؿ اهلل كؿ يوـ بعد أف
يختمط بقريش طيمة النيار ،ويعود بيا ليال بعيدا عف أعيف الرقباء ،وفي قمب الخطر
المحدؽ.
28
-2دور المرأة في اليجرة:
لمعت في سماء اليجرة أسماء كثيرة مف النساء كاف ليف فضؿ كبير ونصيب وافر مف
الجياد فمف الذيف حضروا بيعة العقبة الثانية امرأتاف ىما أـ عمارة ،وأـ منيع.وقد وفتا
بالبيعة وشيدتا المشاىد مع رسوؿ اهلل ويكفي ألـ عمارة شيادة رسوؿ اهلل ( ما التفت
يمينا وال شماال إال وأنا أراىا تقاتؿ دوني) .كما برز دور عائشة بنت أبي بكر الصديؽ
التي حفظت لنا القصة ووعتيا وبمغتيا لألمة ،وأـ سممة المياجرة الصبورة ،وأسماء ذات
النطاقيف التي ساىمت في تمويف الرسوؿ وصاحبو في الغار بالماء والغذاء ،وكيؼ
تحممت األذى في سبيؿ اهلل؟ فقد حدثتنا عف ذلؾ فقالت« :لما خرج رسوؿ اهلل وأبو بكر
-رضي اهلل عنو -أتانا نفر مف قريش ،فييـ أبو جيؿ بف ىشاـ ،فوقفوا عمى باب أبي
بكر ،فخرجت إلييـ فقالوا :أيف أبوؾ يا بنت أبي بكر؟ قالت :قمت :ال أدري واهلل أيف أبي؟
قالت :فرفع أبو جيؿ يده ،وكاف فاحشاً خبيثاً فمطـ خدي لطمة طرح منيا قرطي قالت :ثـ
انصرفوا » ...
أىمية اليجرة في تاريخ الدعوة:
وىكذا لـ تكف اليجرة في الحس اإلسالمي مجرد نجاة مف عدو ،أو ىروب مف محنة ،لقد
كانت اليجرة فاتحة تاريخ جديد ،وكانت بالنسبة لممسمميف في األرض ،ابتداء وجودىـ
وتاريخيـ ،فصار التاريخ اليجري ،المبتدىء في ىجرة الرسوؿ ىو سمة ىذه األمة،
عمى مدار القروف ،وبو ومف خاللو تعرؼ.
يقوؿ ابف كثير رحمو اهلل(:اتفؽ الصحابة رضي اهلل عنيـ في سنة ستة عشر -وقبؿ سبع
عشرة ،أو ثماني عشرة -في الدولة العمرية عمى جعؿ ابتداء التاريخ اإلسالمي مف سنة
اليجرة ،وذلؾ أف أمير المؤمنيف عمر رضي اهلل عنو رفع إليو صؾ -أي حجة -لرجؿ
عمى آخر ،وفيو أنو يحؿ عميو في شعباف ،فقاؿ عمر :أي شعباف؟ أشعباف ىذه السنة التي
نحف فييا ،أو السنة الماضية ،أو اآلتية؟ ثـ جمع الصحابة ،فاستشارىـ في وضع تاريخ
يتعرفوف بو حموؿ الديوف وغير ذلؾ.
فقاؿ قائؿ :أرخوا كتاريخ الفرس ،فكره ذلؾ ،وكاف الفرس يؤرخوف بمموكيـ واحدا بعد واحد.
وقاؿ قائؿ :أرخوا بتاريخ الروـ ،وكانوا يؤرخوف بممؾ اسكندر المقدوني ،فكره ذلؾ ...فماؿ
عمر رضي اهلل عنو إلى التاريخ باليجرة لظيوره واشتياره واتفقوا عمى ذلؾ).
29
أسس بناء المجتمع الجديد:
شرع رسوؿ اهلل منذ دخولو المدينة لتثبيت دعائـ الدولة الجديدة عمى قواعد متينة،وأسس
راسخة ،فكانت اليجرة نواة تأسيس دولة اإلسالـ في المدينة المنورة ،فحققت اليجرة بفضؿ
اهلل أوالً وآخ اًر ما كاف يسعى إليو النبي والمياجروف ،فمـ تكف اليجرة مجرد التخمص مف
إيذاء المشركيف أو الفرار مف الفتنة في الديف ،بؿ كانت كذلؾ إيذاناً بميالد دولة اإلسالـ.
بناء الدولة اإلسالمية:
في المدينة بدأت مرحمة جديدة لمدعوة إلى اهلل عز وجؿ ،حقاً إنيا مرحمة جديدة ،فمقد
أصبح لإلسالـ دولة حقيقية مف حاكـ وقائد وقوة وأرض ووطف ،وأصبح لإلسالـ قوة تحميو
وتدافع عنو.
وأىم أسس بناء المجتمع الجديد:
-1بناء المسجد النبوي:
كانت أوؿ خطوة في ىذا السبيؿ ىي بناء المسجد النبوي وقد كاف المسجد جامعة لإلسالـ،
ومنتدى لمتشاور وح ّؿ النزاعات ،وقاعدة إلدارة المجتمع .فأوؿ مؤسسة بنيت في دولة
اإلسالـ ىي (المسجد) ،فالمسجد كاف مكاف عبادة ،وممتقى األخوة والمدرسة التعميمية وىو
كذلؾ كاف مقر القيادة منو تنطمؽ الجيوش وفيو تعقد المقاءات الداخمية والخارجية.
وقد بنوي المسجد في المكاف الذي بركت فيو الناقة ،وكاف في األصؿ حائطا -بستانا-
فتخرب بعضو فبنيت فيو قبور ،واتّخذ بعضو مربدا لتجفيؼ التمر ،وكاف لغالميف يتيميف
ّ
بالمدينة ،وىما سيؿ وسييؿ ابنا عمرو ،وكانا في حجر أسعد بف ز اررة ،فساوميما النبي
فأبيا ،وقاال بؿ نيبو هلل ولرسولو؛ ولكف الرسوؿ أبى إال أف يكوف بالثمف .وبيذا التصرؼ
تتقوؿ بو
الحكيـ ضرب النبي مثال كريما في رعاية حقوؽ اليتامى ،وقطع ما عسى أف ّ
ألسنة السوء.
الصديؽ ىو
ّ وقد ذكر موسى بف عقبة في تاريخو أف الرسوؿ اشتراه بعشرة دنانير ،وأف
الذي دفعيا ،وأمر رسوؿ اهلل بالنخؿ فقطعت ،وبالقبور فنبشت ،وبالخرب فسويت .وشرع
المسمموف يبنوف ورسوؿ اهلل يحمؿ معيـ التراب والمبف وىـ يقولوف:
ىذي الحماؿ ال حماؿ خيبر ...ىذي أبر -رّبنا -وأطير
إف األجر أجر االخرة ...فارحـ األنصار والمياجرة.
الميـ ّ
ويقولوفّ :
ولما بني المسجد النبوي صار مصمّى المسمميف ومتعبدىـ ومنتداىـ ومكاف تشاورىـ ،وكاف
ممف ال ماؿ ليـ وال دار ،وال يجدوف ما يعمموف بو
فيو صفّة يأوي إلييا الفقراء والمساكيف ّ
فيكتسبوف ،وفيو تمقى دروس العمـ والحكمة.
31
-2المؤاخاة بين المياجرين واألنصار:
كاف مف أوؿ األعماؿ العظيمة التي قاـ بيا رسوؿ اهلل بعد ىجرتو إلى المدينة
المنورة ،ىو المؤاخاة بيف المياجريف واألنصار .وقد كاف ليذا التآخي عظيـ األثر في وحدة
المجتمع المسمـ وفي تماسكو وترابطو ، .ووقعت المؤاخاة بيف طرفيف ىما المياجروف
()14
فآخى الرسوؿ ، بيف كؿ مياجر وأنصاري اثنيف اثنيف .وقد ترتب عمى واألنصار،
المتآخي ْيف كالمواساة بيف االثنيف ،كما ترتب عمى
َ تشريع نظاـ المؤاخاة حقوؽ خاصة بيف
المؤاخاة أف يتوارث المتآخيف دوف ذوي أرحاميـ ،مما يرقى بالعالقات بيف المتآخيف إلى
مستوى أعمؽ وأعمى مف أخوة الدـ .وقد جعؿ الرسوؿ ىذه األخوة عقداً نافذاً ،ال لفظاً
فارغاً ،وعمالً يرتبط بالدماء واألمواؿ ،ال تحية تثرثر بيا األلسنة وال يقوـ ليا أثر.
-3وثيقة المدينة(الدستور اإلسالمي):
كاف أوؿ عمؿ قاـ بو رسوؿ اهلل أف كتب صحيفة المدينة التي حفظ فييا الحقوؽ لكؿ
مكونات الدولة الجديدة ،وحدد المرجعية السياسية ،وصاف الحرية الدينية ،وكفؿ الحقوؽ
الفردية ،وىي الوثيقة السياسية اإلسالمية األولى المعروفة تاريخيا باسـ :صحيفة المدينة،
وىي تنظيـ العالقات بيف المسمميف وبيف غير المسمميف فيذه الوثيقة تجعؿ غير المسمميف
المقيميف في دولة المدينة مواطنيف فييا ،ليـ مف الحقوؽ مثؿ ما لممسمميف ،وعمييـ مف
الواجبات مثؿ ما عمى المسمميف.
قاؿ ابف سحاؽ( :وكتب رسوؿ اهلل كتابا بيف المياجريف واألنصار ،وادع فيو ييود
(.)15وعاىدىـ ،وأقرىـ عمى دينيـ وأمواليـ وشرط ليـ واشترط عمييـ).
وتقرر الوثيقة النبوية أف بينيـ النصح -ىـ والمسمموف -عمى مف حارب أىؿ ىذه
الصحيفة ،وأف بينيـ النصر والنصيحة ،والبر دوف اإلثـ ،وأف اهلل عمى أصدؽ ما في ىذه
الصحيفة وأبره (أي اهلل شاىد ووكيؿ عمى ما تـ االتفاؽ عميو).
وفيما يمي نصوص الميثاؽ:
بسـ اهلل الرحمف الرحيـ
ىذا كتاب مف محمد النبي بيف المؤمنيف والمسمميف مف قريش ويثرب ومف تبعيـ فمحؽ
بيـ ،وجاىد معيـ:
تتفؽ المصادر عمى أف المؤاخاة التي جرت في المدينة كانت بيف المياجريف واألنصار ،لكف ابف سعد يذكر أف ثمة مؤاخاة بيف ٗٔ)
المياجريف أنفسيـ وقعت في المدينة إلى جانب المؤاخاة بينيـ وبيف األنصار ،ولـ يذكر أية تفصيالت أخرى توضح ىدؼ المؤاخاة بيف
المياجريف أنفسيـ ،وما يترتب عمييا.
٘ٔ) موقؼ الديف االسالمى فى بداية عيده مف الييود ..فقد كانت وثيقة المدينة التى أعطتيـ حؽ المواطنة الكاممة
مع المسمميف ،ولكنيـ ىـ الذيف رفضوا ىذه المواطنة و تعاونوا مع األعداء ضد مدينتيـ فكاف الصداـ.
31
ٔ -أنيـ أمة واحدة مف دوف الناس.
ٕ -المياجروف مف قريش عمى ربعتيـ (الحاؿ التي ىـ عمييا) يتعاقموف بينيـ (يدفعوف
دياتيـ بعضيـ مع بعض) وىـ يفدوف عانييـ ( أسيرىـ) بالمعروؼ ،والقسط بيف المؤمنيف، ّ
دياتيـ) األولى ،وكؿ طائفة منيـ
وكؿ قبيمة مف األنصار عمى ربعتيـ يتعاقموف معاقميـ ( ّ
تفدى عانييا بالعروؼ والقسط بيف المؤمنيف.
ٖ -وأف المؤمنيف ال يتركوف ُمفَّرجاً ( ُمثقالً بالديف) بينيـ أف يعطوه بالمعروؼ في فداء أو
عقؿ.
ٗ -وأف المؤمنيف المتقيف عمى مف بغى منيـ ،أو ابتغى دسيعة ( عطية) ظمـ أو إثـ أو
عدواف أو فساد بيف المؤمنيف.
٘ -وأف أيدييـ عميو جميعاً ولو كاف ولد أحدىـ.
-ٙوال ُيقتؿ مؤمف في كافر ،وال ُينصر كافر عمى مسمـ.
-ٚوأف ذمة اهلل واحدة يجير عمييـ أدناىـ.
-ٛوأف مف تبعنا مف ييود فإف لو النصر واألسوة ،غير مظموميف وال متناصريف عمييـ.
-ٜواف ِسمـ المؤمنيف واحدة ،ال يسالـ مؤمف دوف مؤمف في قتاؿ في سبيؿ اهلل إال عمى
سواء وعدؿ بينيـ.
ٓٔ -وأف المؤمنيف يبيء -يرجع ويحتمؿ -بعضيـ عمى بعض بما يناليـ في سبيؿ اهلل.
ٔٔ -وأنو ال يجير مشرؾ ماالً لقريش وال نفساً ،وال يحوؿ دونو عمى مؤمف.
ٕٔ -وأنو مف اعتبط مؤمناً (قتمو بدوف سبب) قتالً عف بينة فإنو قود ( يقتؿ بو) إال أف
يرضى ولي المقتوؿ ،وأف المؤمنيف عميو كافة ،وال يحؿ ليـ إال قياـ عميو.
ٖٔ -وأنو ال يحؿ لمؤمف أف ينصر محدثاً -مف أحدث منك اًر غير معتاد -وال يؤويو،
وأنو مف نصره أو آواه فإف عميو لعنة اهلل وغضبو يوـ القيامة ،وال يؤخذ منو صرؼ وال
عدؿ (أي ال يشارؾ في تصريؼ األمور وال في الشيادة عمييا).
مرده إلى اهلل عز وجؿ والى محمد صمى اهلل
ٗٔ -وأنكـ ميما اختمفتـ فيو مف شيء ،فإف ّ
عميو وسمـ.وىكذا أرسى الرسوؿ قواعد المجتمع الجديد في المدينة عمى أسس راسخة
ومبادئ شامخة ،مف مكارـ األخالؽ ومحاسف األعماؿ.
أثر المعنويات في المجتمع:
بيذه الحكمة وبيذا التدبير أرسى رسوؿ اهلل قواعد مجتمع جديد ،كانت صورتو الظاىرة
وآثار لممعاني التي كاف يتمتع بيا أولئؾ األمجاد بفضؿ صحبة النبي وكاف النبي
بيانا ًا
يتعيدىـ بالتعميـ والتربية ،وتزكية النفوس ،والحث عمى مكارـ األخالؽ ،ويؤدبيـ بآداب
الود واإلخاء والمجد والشرؼ والعبادة والطاعة .
32
السرايا والغزوات
سبقت غزوات اإلسالـ الخالدة بعض السرايا التي ميدت الطريؽ لممسمميف ،وأظيرت
إخالصيـ لقائدىـ ،وعودتيـ لقاء األعداء والوقوؼ أماميـ وجيًا لوجو في معارؾ صغيرة
خاطفة قويت بيا الروح المعنوية لممسمميف ،بقدرما ألقي في قموب أعدائيـ مف رعب وفزع.
()16
قبل بدر الغزوات والسرايا ،
وفيما يمي أبرز ىذه السرايا باإليجاز:
-1سرية سيف البحر:
أمر رسوؿ اهلل عمى ىذه السرية
في رمضاف سنة ٔ ىػ .الموافؽ مارس سنة ٖٕ ٙـّ .
حمزة بف عبد المطمب ،وبعثو في ثالثيف رجال مف المياجريف ،يعترض عي ار لقريش جاءت
مف الشاـ ،وفييا أبو جيؿ بف ىشاـ في ثالثمائة رجؿ ،فبمغوا سيؼ البحر مف ناحية
العيص .فالتقوا واصطفوا لمقتاؿ ،فمشى مجدي ابف عمرو الجيني -وكاف حميفا لمفريقيف
جميعا -بيف ىؤالء وىؤالء ،حتى حجز بينيـ ،فمـ يقتتموا .وكاف لواء حمزة أوؿ لواء عقده
رسوؿ اهلل ،وكاف أبيض ،وكاف حاممو أبا مرثد كناز بف حصيف الغنوي.
-2سرية رابغ:
،في شواؿ سنة ٔ مف اليجرة -أبريؿ سنة ٖٕ ٙـ ،بعث رسوؿ اهلل عبيدة بف الحارث
بف المطمب في ستيف راكبا مف المياجريف ،فمقي أبا سفياف -وىو في مائتيف -عمى بطف
رابغ ،وقد ترامى الفريقاف بالنبؿ ،ولـ يقع قتاؿ .وفي ىذه السرية انضـ رجالف مف جيش
مكة إلى المسمميف ،وىما المقداد بف عمرو البيراني ،وعتبة بف غزواف المازني ،وكاف
مسمميف ،خرجا مع الكفار ،ليكوف ذلؾ وسيمة لموصوؿ إلى المسمميف .وكاف لواء عبيدة
أبيض ،وحاممو مسطح بف أثاثة بف المطمب بف عبد مناؼ.
الخرار:
-3سرية ّ
سعد بف أبي في ذي القعدة سنة ٔ ىػ الموافؽ مايو سنة ٖٕ ٙـ ،بعث رسوؿ اهلل
وقاص في عشريف راكبا ،يعترضوف عي ار لقريش ،وعيد إليو أف ال يجاوز الخرار ،فخرجوا
مشاة يكمنوف بالنيار ويسيروف بالميؿ حتى بمغوا الخرار صبيحة خمس ،فوجدوا العير قد
مرت باألمس .كاف لواء سعد رضي اهلل عنو أبيض ،وحممو المقداد بف عمرو.
بنفسو غزوة ،حارب فييا أـ لـ يحارب وما خرج فيو أحد قادتو سرية. )ٔٙسمى المؤرخوف ما خرج فيو ّ
النبي
33
-4غزوة األبواء أو ودان:
في صفر سنة ٕ ىػ الموافؽ أغسطس سنة ٖٕ ٙـ ،خرج رسوؿ اهلل بنفسو ،بعد أف
استخمؼ عمى المدينة سعد بف عبادة ،في سبعيف رجال مف المياجريف خاصة ،يعترض
عي ار لقريش حتى بمغ وداف ،فمـ يمؽ كيدا .وفي ىذه الغزوة عقد معاىدة حمؼ مع عمرو بف
مخشى الضمري ،وكاف سيد بني ضمرة في زمانو ،وىذه أوؿ غزوة غزاىا رسوؿ اهلل
وكانت غيبتو خمس عشرة ليمة ،وكاف المواء أبيض ،وحاممو حمزة بف عبد المطمب.
-5غزوة بواط:
،في شير ربيع األوؿ سنة ٕ ىػ سبتمبر سنة ٖٕ ٙـ ،خرج رسوؿ اهلل في مائتيف مف
أصحابو ،يعترض عي ار لقريش فييا أمية بف خمؼ الجمحي ومائة رجؿ مف قريش ،وألفاف
وخمسمائة بعير ،فبمغ بواطا مف ناحية رضوى ولـ يمؽ كيدا.واستخمؼ في ىذه الغزوة عمى
المدينة سعد بف معاذ ،والمواء كاف أبيض ،وحاممو سعد بف أبي وقاص رضي اهلل عنو.
-6غزوة سفوان:
،في شير ربيع األوؿ سنة ٕ ىػ سبتمبر سنة ٖٕ ٙـ أغار كرز بف جابر الفيري في
قوات خفيفة مف المشركيف عمى مراعي المدينة ،ونيب بعض المواشي ،فخرج رسوؿ اهلل
في سبعيف رجال مف أصحابو لمطاردتو ،حتى بمغ واديا يقاؿ لو :سفواف مف ناحية بدر،
ولكنو لـ يدرؾ كر از وأصحابو ،فرجع مف دوف حرب ،وىذه الغزوة تسمى بغزوة بدر
األولى .واستخمؼ في ىذه الغزوة عمى المدينة زيد بف حارثة ،وكاف المواء أبيض ،وحاممو
عمي بف أبي طالب.
-7غزوة ذي العشيرة:
في جمادى األولى ،وجمادى اآلخرة سنة ٕ ىػ الموافؽ نوفمبر وديسمبر سنة ٖٕ ٙـ ،خرج
رسوؿ اهلل في خمسيف ومائة ويقاؿ :في مائتيف ،مف المياجريف ،ولـ يكره أحدا عمى
الخروج ،وخرجوا عمى ثالثيف بعي ار يعتقبونيا ،يعترضوف عي ار لقريش ،ذاىبة إلى الشاـ ،وقد
جاء الخبر بفصوليا مف مكة فييا أمواؿ لقريش ،فبمغ ذا العشيرة ،فوجد العير قد فاتتو
بأياـ ،وىذه ىي العير التي خرج لي طمبيا حتى رجعت مف الشاـ ،فصارت سببا لغزوة بدر
الكبرى.وفي ىذه الغزوة عقد رسوؿ اهلل معاىدة عدـ اعتداء مع بني مدلج وحمفائيـ مف
بني ضمرة .واستخمؼ عمى المدينة في ىذه الغزوة أبا سممة بف عبد األسد المخزومي،
وكاف المواء في ىذه الغزوة أبيض ،وحاممو حمزة بف عبد المطمب رضي اهلل عنو.
-8سرية نخمة:
في رجب سنة ٕ ىػ الموافؽ يناير سنة ٕٗ ٙـ ،بعث رسوؿ اهلل عبد اهلل بف جحش
األسدي إلى نخمة في اثني عشر رجال مف المياجريف ،كؿ اثنيف يعتقباف عمى بعير.
34
سار عبد اهلل بف جحش حتى نزؿ بنخمة ،فمرت عير لقريش تحمؿ زبيبا وأدما وتجارة وفييا
عمرو بف الحضرمي وعثماف ونوفؿ ابنا عبد اهلل بف المغيرة والحكـ بف كيساف مولى بني
المغيرة ،فتشاور المسمموف وقالوا :نحف في آخر يوـ مف رجب ،الشير الحراـ ،فإف قاتمناىـ
انتيكنا الشير الحراـ ،واف تركناىـ الميمة دخموا الحرـ ،ثـ اجتمعوا عمى المقاء فرمى أحدىـ
عمرو بف الحضرمي فقتمو ،وأسروا عثماف والحكـ ،وأفمت نوفؿ ،ثـ قدموا بالعير واألسيريف
إلى المدينة ،وقد عزلوا مف ذلؾ الخمس ،وىو أوؿ خمس كاف في اإلسالـ ،وأوؿ قتيؿ في
اإلسالـ ،وأوؿ أسيريف في اإلسالـ.
وأنكر رسوؿ اهلل ما فعموه ،وقاؿ :ما أمرتكـ بقتاؿ في الشير الحراـ ،ووقؼ التصرؼ في
العير واألسيريف.
ووجد المشركوف فيما حدث فرصة إلتياـ المسمميف بأنيـ قد أحموا ما حرـ اهلل ،وكثر في
ذلؾ القيؿ والقاؿ ،حتى نزؿ الوحي حاسما ىذه األقاويؿ ،وأف ما عميو المشركوف أكبر
وأعظـ مما ارتكبو المسمموف ...
يؿ المَّ ِو َو ُك ْفٌر بِ ِو
يو َكبِير ،وص ّّد َع ْف سبِ ِ
َ ٌ َ َ
يوُ ،ق ْؿ ِقتا ٌؿ ِف ِ تاؿ ِف ِ الشي ِر اْل َحرِاـ ِق ٍ
ْ
ؾ َع ِف َّ ون َ
َي ْسَئمُ َ
َىمِ ِو ِم ْنوُ أَ ْك َب ُر ِع ْن َد المَّ ِوَ ،واْل ِفتَْنةُ أَ ْك َب ُر ِم َف اْلقَ ْت ِؿ [البقرة. ]ٕٔٚ : ِ
َواْل َم ْس ِجد اْل َحرِاـَ ،وِا ْخر ُ
اج أ ْ
فقد صرح ىذا الوحي بأف الضجة التي افتعميا المشركوف إلثارة الريبة في سيرة المقاتميف
المسمميف ال مساغ ليا ،فإف الحرمات المقدسة قد انتيكت كميا في محاربة اإلسالـ،
واضطياد أىمو ،ألـ يكف المسمموف مقيميف بالبمد الحراـ حيف تقرر سمب أمواليـ وقتؿ
نبييـ؟ فما الذي أعاد ليذه الحرمات قد استيا فجأة ،فأصبح انتياكيا معرة وشناعة؟ ال جرـ
أف الدعاية التي أخذ ينشرىا المشركوف دعاية تبتني عمى وقاحة ودعارة.
وبعد ذلؾ أطمؽ رسوؿ اهلل سراح األسيريف ،وأدى دية المقتوؿ إلى أوليائو .
تمكـ السرايا والغزوات قبؿ بدر ،لـ يجر في واحدة منيا سمب األمواؿ وقتؿ الرجاؿ،
إال بعد ما ارتكبو المشركوف في قيادة كرز بف جابر الفيري ،فالبداية إنما ىي مف
المشركيف مع ما كانوا قد أوتوه قبؿ ذلؾ مف األفاعيؿ.
35
غزوة بدر الكبرى(2ىـ623/م )
ِّ
عمميا وضحت بو مشروعية القتاؿ في اإلسالـ وىي الدفاع كانت غزوة بدر الكبرى تطبيقًا
عف النفس ورد الظمـ والعدواف ،كما كانت الغزوات التي جاءت بعدىا في حياة الرسوؿ
وتأمينا لطريؽ الدعوة حتى تقؼ في سبيميا الحواجز ،وحتى ال
ً دفاعا عف النفس ِّ
وردا لمظمـ ً
تكوف فتنة ويكوف الديف كمو هلل.
سبب الغزوة:
كاف سببيا أف قافمة تجارية لقريش بقيادة أبي سفياف كانت قادمة مف الشاـ وفي طريقيا
يشا في أمواليا كما
إلى مكة ،فأراد رسوؿ اهلل أف يعترض طريؽ ىذه القافمة ليفجع قر ً
فجعت قريش المسمميف مف قبؿ في أمواليـ وأنفسيـ ،وخرج الرسوؿ في ثالثمائة وثالثة
بعير وفرساف
رجال مف أصحابو في اليوـ الثامف مف رمضاف ومعيـ سبعوف ًا
عشر ً
وحينما عمـ أبو سفياف بخروج الرسوؿ وأصحابو فزع كؿ الفزع ،وأرسؿ إلى قريش يطمب
اعا ،وعمى رأسيـ سادتيـ وكبراؤىـ،
الغوث والنجدة ،فثار القرشيوف ثورة عصبية ،ونفروا سر ً
رجال ،ومعيـ مائة فرس وسبعمائة بعير ،ومضى مشركو وكانت عدتيـ تسعمائة وخمسيف ً
قريش في طريقيـ لنجدة أبي سفياف وتخميص أمواليـ مف قبضة المسمميف ،وبينما ىـ في
الطريؽ وصميـ رسوؿ مف أبي سفياف يخبرىـ بنجاتو ىو وقافمتو ،ويطمب إلييـ الرجوع،
ولكف أبا جيؿ تحمس لمحرب والقتاؿ ،وأبى إال أف يتقدـ حتى يصؿ إلى بدر ،وصاح
قائؿ :واهلل ال نرجع حتى نصؿ إلى بدر ونقيـ عمييا ثالثًا ،ننحر الجزر ونطعـ الطعاـ
ونسقي الخمر ،وتعزؼ عمينا القياف ،وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ،فال يزالوف
أبدا بعدىا.
ييابوننا ً
مبمغ قوة الجيش اإلسالمي وتوزيع القيادات:
استعد رسوؿ اهلل لمخروج ومعو ثالثمائة وبضعة عشر رجالً ،ولـ يحتفموا ليذا الخروج
احتفاال بميغا ،وال اتخذوا أىبتيـ كاممة ،فمـ يكف معيـ إال فرساف ،فرس لمزبير بف العواـ،
وفرس لممقداد بف األسود الكندي ،وكاف معيـ سبعوف بعي ار
وعمي ومرثد بف أبي مرثد
ّ ليعتقب الرجالف والثالثة عمى بعير واحد ،وكاف رسوؿ اهلل
الغنوي يعتقبوف بعي ار واحدا.واستخمؼ عمى المدينة وعمى الصالة ابف أـ مكتوـ ،فمما كاف
رد أبا لبابة بف عبد المنذر ،واستعممو عمى المدينة.
بالروحاء ّ
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بف عمير القرشي العبدري ،وكاف ىذا المواء أبيض.
وقسـ جيشو إلى كتيبتيف:
ٔ -كتيبة المياجريف ،وأعطى عمميا عمي بف أبي طالب.
36
ٕ -كتيبة األنصار ،وأعطى عمميا سعد بف معاذ.
وجعؿ عمى قيادة الميمنة الزبير بف العواـ ،وعمى الميسرة المقداد بف عمرو -وكانا ىما
الفارسيف الوحيديف في الجيش كما أسمفنا -وجعؿ عمى الساقة قيس بف أبي صعصعة،
وظمت القيادة العامة في يده صمى اهلل عميو وسمـ كقائد أعمى لمجيش.
الجيش اإلسالمي يتحرك نحو بدر:
سار رسوؿ اهلل في ىذا الجيش غير المتأىب ،فخرج مف نقب المدينة ،ومضى عمى
الطريؽ الرئيسي المؤدي إلى مكة ،حتى بمغ بئر الروحاء ولما ارتحؿ منيا ،ترؾ طريؽ
مكة بيسار ،وانحرؼ ذات اليميف عمى النازية -يريد بد ار ،-فسمؾ في ناحية منيا ،حتى
جذع واديا يقاؿ لو :رحقاف ،بيف النازية وبيف مضيؽ الصفراء ،ثـ مر عمى المضيؽ ،ثـ
انصب منو حتى قرب مف الصفراء ،وىنالؾ بعث بسيس بف عمر الجيني وعدي بف أبي
الزغباء الجيني إلى بدر يتجسساف لو أخبار العير.
النذير في مكة:
وأما خبر العير فإف أبا سفياف -وىو المسؤوؿ عنيا -كاف عمى غاية مف الحيطة والحذر،
فقد كاف يعمـ أف طريؽ مكة محفوؼ باألخطار ،وكاف يتحسس األخبار ،ويسأؿ مف لقي
مف الركباف ،ولـ يمبث أف نقمت إليو استخباراتو بأف محمدا قد استنفر أصحابو ليوقع
بالعير ،وحينئذ استأجر أبو سفياف ضمضـ بف عمرو الغفاري إلى مكة ،مستصرخا لقريش
بالنفير إلى عيرىـ ،ليمنعوه مف محمد وأصحابو ،وخرج ضمضـ سريعا حتى أتى مكة،
فصرخ ببطف الوادي واقفا عمى بعيره ،وقد جدع أنفو ،وحوؿ رحمو ،وشؽ قميصو ،وىو
يقوؿ :يا معشر قريش ،المطيمة ،المطيمة ،أموالكـ مع أبي سفياف قد عرض ليا محمد في
أصحابو ،ال أرى أف تدركوىا ،الغوث الغوث.
قوام الجيش المكي:
وكاف قواـ ىذا الجيش نحو ألؼ وثالثمائة مقاتؿ في بداية سيره ،وكاف معو مائة فرس
وستمائة درع ،وكاف قائده العاـ أبا جيؿ بف ىشاـ ،تحركوا بسرعة فائقة نحو الشماؿ في
إتجاه بدر ،وسمكوا في طريقيـ وادي عسفاف ،ثـ قديد ،ثـ الجحفة ،وىناؾ تمقوا رسالة جديدة
مف أبي سفياف يقوؿ ليـ فييا :انكـ إنما خرجتـ لتحرزوا عيركـ ورجالكـ وأموالكـ ،وقد
نجاىا اهلل فارجعوا.
ىم الجيش المكي بالرجوع ووقوع اإلنشقاق فيو:
ولما تمقى ىذه الرسالة جيش مكة ىـ بالرجوع ،ولكف قاـ طاغية قريش أبو جيؿ في كبرياء
وغطرسة قائال :واهلل ال نرجع حتى نرد بدرا ،فنقيـ بيا ثالثا فننحر الجزور ،ونطعـ الطعاـ،
ونسقي الخمر ،وتعزؼ لنا القياف ،وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ،فال يزالوف ييابوننا
37
أبدا .ولكف عمى رغـ أبي جيؿ أشار األخنس بف شريؽ بالرجوع فعصوه ،فرجع ىو وبنو
زىرة -وكاف حميفا ليـ ورئيسا عمييـ في ىذا النفير -فمـ يشيد بد ار زىري واحد ،وكانوا
حوالي ثالثمائة رجؿ ،واغتبطت بنو زىرة بعد برأي األخنس بف شريؽ ،فمـ يزؿ فييـ
مطاعا معظما .وأرادت بنو ىاشـ الرجوع ،فاشتد عمييـ أبو جيؿ ،وقاؿ :ال تفارقنا ىذه
العصابة حتى نرجع .فسار جيش مكة وقوامو ألؼ مقاتؿ بعد رجوع بني زىرة -وىو يقصد
بد ار -فواصؿ سيره حتى نزؿ قريبا مف بدر ،وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى عمى حدود
وادي بدر .حراجة موقؼ الجيش اإلسالمي.
المجمس اإلستشاري:
ونظ ار إلى ىذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسوؿ اهلل مجمسا عسكريا استشاريا أعمى،
أشار فيو إلى الوضع الراىف ،وتبادؿ فيو الرأي مع عامة جيشو ،وقادتو.
وحينئذ تزعزع قموب فريؽ مف الناس ،وخافوا المقاء الدامي ،وىـ الذيف قاؿ اهلل فييـ َكما
ؾ ِفي اْل َح ّْ
ؽ َب ْع َد ما ون َ كارىوف .ي ِ
جادلُ َ يف لَ ِ ُ َ ُ
ِ ِ
ؽ َوِا َّف فَ ِريقاً م َف اْل ُم ْؤ ِمن َ ؾ ِم ْف َب ْيتِ َ
ؾ بِاْل َح ّْ ؾ َرُّب َ
َخ َر َج َ
أْ
ِ
وف( .)17وأما قادة الجيش ،فقاـ أبو بكر الصديؽ وف إِلَى اْل َم ْوت َو ُى ْـ َي ْنظُُر َ تََبيَّ َف َكأََّنما ُيساقُ َ
فقاؿ وأحسف ،ثـ قاـ عمر بف الخطاب فقاؿ وأحسف ،ثـ قاـ المقداد بف عمرو فقاؿ:
«يا رسوؿ اهلل ،امض لما أراؾ اهلل فنحف معؾ ،واهلل ال نقوؿ لؾ كما قالت بنو إسرائيؿ
لموسى :اذىب أنت وربؾ فقاتال إنا ىينا قاعدوف ،ولكف اذىب أنت وربؾ فقاتال إنا معكما
مقاتموف ،فو الذي بعثؾ بالحؽ لو سرت بنا إلى برؾ الغماد لجالدنا معؾ مف دونو ،حتى
تبمغو .فقاؿ لو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خي ار ودعا لو بو.
وىؤالء القادة الثالثة كانوا مف المياجريف ،وىـ أقمية في الجيش ،فأحب رسوؿ اهلل صمى اهلل
عميو وسمـ أف يعرؼ رأي قادة األنصار ،ألنيـ كانوا يمثموف أغمبية الجيش ،وألف ثقؿ
المعركة سيدور عمى كواىميـ ،مع أف نصوص العقبة لـ تكف تمزميـ بالقتاؿ خارج ديارىـ،
عمي أييا الناس» وانما يريد األنصار،
فقاؿ بعد سماع كالـ ىؤالء القادة الثالثة« :أشيروا ّ
وفطف إلى ذلؾ قائد األنصار وحامؿ لوائيـ سعد بف معاذ ،فقاؿ :واهلل ،لكأنؾ تريدنا يا
رسوؿ اهلل؟ قاؿ :أجؿ.
الرسول يقوم بعممية اإلستكشاف:
وىناؾ قاـ بنفسو بعممية اإلستكشاؼ مع رفيقو في الغار أبي بكر الصديؽ رضي اهلل عنو،
وبينما ىما يتجوالف حوؿ معسكر مكة إذا ىما بشيخ مف العرب ،فسألو رسوؿ اهلل عف
قريش وعف محمد وأصحابو -سأؿ عف الجيشيف زيادة في التكتـ -ولكف الشيخ قاؿ :ال
)ٔٚسورة .
38
أخبركما حتى تخبراني ممف أنتما؟ فقاؿ لو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :إذا أخبرتنا
أخبرناؾ» ،قاؿ :أو ذاؾ بذلؾ؟ قاؿ :نعـ.
قاؿ الشيخ :فإنو بمغني أف محمدا وأصحابو خرجوا يوـ كذا وكذا ،فإف كاف صدؽ الذي
أخبرني فيو اليوـ بمكاف كذا وكذا -لممكاف الذي بو جيش المدينة -وبمغني أف قريشا
خرجوا يوـ كذا وكذا ،فإف كاف صدؽ الذي أخبرني فيـ اليوـ بمكاف كذا وكذا -لممكاف
الذي بو جيش مكة.
ولما فرغ مف خبره قاؿ :ممف أنتما؟ فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :نحف مف ماء»
،ثـ انصرؼ عنو ،وبقي الشيخ يتفوه ،ما مف ماء؟ أمف ماء العراؽ؟
الحصول عمى أىم المعمومات عن الجيش المكي:
وفي مساء ذلؾ اليوـ بعث استخباراتو مف جديد ،ليبحث عف أخبار العدو ،وقاـ ليذه
العممية ثالثة مف قادة المياجريف؛ عمي بف أبي طالب والزبير بف العواـ وسعد بف أبي
وقاص في نفر مف أصحابو ،ذىبوا إلى ماء بدر ،فوجدوا غالميف يستقياف لجيش مكة،
فألقوا عمييما القبض وجاؤوا بيما إلى رسوؿ اهلل وىو في الصالة ،فاستخبرىما القوـ،
فقاال :نحف سقاة قريش بعثونا نسقييـ مف الماء ،فكره القوـ ورجوا أف يكونا ألبي سفياف-
ال تزاؿ في نفوسيـ بقايا أمؿ في اإلستيالء عمى القافمة -فضربوىما موجعا ،حتى اضطر
الغالماف أف يقوال :نحف ألبي سفياف ،فتركوىما.
ولما فرغ رسوؿ اهلل عف الصالة قاؿ ليـ كالعاتب« :إذا صدقاكـ ضربتموىما واذا
كذباكـ تركتموىما ،صدقا واهلل ،إنيما لقريش» .
ثـ خاطب الغالميف قائال :أخبراني عف قريش ،قاال :ىـ وراء ىذا الكنيب الذي ترى بالعدوة
القصوى ،فقاؿ ليما :كـ القوـ؟ قاال :كثير .قاؿ :ما عدتيـ؟ قاال :ال ندري ،قاؿ :كـ
ينحروف كؿ يوـ؟ قاال :يوما تسعا ويوما عشرا ،فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ:
القوـ فيما بيف التسعمائة إلى األلؼ ،ثـ قاؿ ليما :فمف فييـ مف أشراؼ قريش؟ قاال :عتبة
وشيبة ابنا ربيعة ،وأبو البختري بف ىشاـ ،وحكيـ بف حزاـ ،ونوفؿ بف خويمد ،والحارث بف
عامر ،وطعيمة بف عدي ،والنضر بف الحارث وزمعة بف األسود ،وأبو جيؿ بف ىشاـ،
وأمية بف خمؼ في رجاؿ سمياىـ.فأقبؿ رسوؿ اهلل عمى الناس ،فقاؿ« :ىذه مكة قد
ألقت إليكـ أفالذ كبدىا» .
نزول المطر:
وأنزؿ اهلل عز وجؿ في تمؾ الميمة مط ار واحدا ،فكاف عمى المشركيف وابال شديدا منعيـ مف
التقدـ ،وكاف عمى المسمميف طال طيرىـ بو ،وأذىب عنيـ رجس الشيطاف ،ووطأ بو
األرض ،وصمب بو الرمؿ ،وثبت األقداـ ،وميد بو المنزؿ ،وربط بو عمى قموبيـ.
39
الجيش اإلسالمي يسبق إلى أىم المراكز العسكرية:
وتحرؾ رسوؿ اهلل بجيشو ،ليسبؽ المشركيف إلى ماء بدر ،ويحوؿ بينيـ وبيف اإلستيالء
عميو ،فنزؿ عشاء أدنى ماء مف مياه بدر ،وىنا قاـ الحباب بف المنذر كخبير عسكري
وقاؿ :يا رسوؿ اهلل ،أرأيت ىذا المنزؿ ،أمنزال أنزلكو اهلل ،ليس لنا أف نتقدمو وال نتأخر
عنو؟ أـ ىو الرأي والحرب والمكيدة؟ قاؿ« :بؿ ىو الرأي والحرب والمكيدة» ،قاؿ :يا
رسوؿ اهلل ،فإف ىذا ليس بمنزؿ ،فانيض بالناس حتى نأتي أدنى ماء مف القوـ -قريش-
فننزلو وتغور -أي نخرب -ما وراءه مف القمب ،ثـ نبني عميو حوضا ،فنمأله ماء ،ثـ نقاتؿ
القوـ ،فنشرب وال يشربوف ،فقاؿ رسوؿ اهلل « : لقد أشرت بالرأي» .
فنيض رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بالجيش ،حتى أتى أقرب ماء مف العدو ،فنزؿ عميو
شطر الميؿ ،ثـ صنعوا الحياض ،وغوروا ما عداىا مف القمب.
مقر القيادة:
وبعد أف تـ نزوؿ المسمميف عمى الماء اقترح سعد بف معاذ عمى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو
وسمـ أف يا بني المسمموف مق ار لقيادتو ،استعدادا لمطوارئ ،وتقدي ار لميزيمة قبؿ النصر،
حيث قاؿ:
«يا نبي اهلل أال نبني لؾ عريشا تكوف فيو ،ونعد عندؾ ركائبؾ ،ثـ نمقى عدونا فإف أعزنا
اهلل وأظيرنا عمى عدونا كاف ذلؾ ما أحببنا ،واف كانت اآلخرى جمست عمى ركائبؾ،
فمحقت بمف وراءنا مف قومنا ،فقد تخمؼ عنؾ أقواـ يا نبي اهلل ما نحف بأشد لؾ حبا منيـ،
ولو ظنوا أنؾ تمقى حربا ما تخمفوا عنؾ ،يمنعؾ اهلل بيـ ،يناصحونؾ ،ويجاىدوف معؾ.
فأثنى عميو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خيرا ،ودعا لو بخير وبنى المسمموف عريشا
عمى تؿ مرتفع يقع في الشماؿ الشرقي لميداف القتاؿ ،ويشرؼ عمى ساحة المعركة.
كما تـ انتخاب فرقة مف شباب األنصار بقيادة سعد بف معاذ ،يحرسوف رسوؿ اهلل صمى
اهلل عميو وسمـ حوؿ مقر قيادتو.
تعبئة الجيش وقضاء الميل:
ثـ عبأ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ جيشو ،ومشى في موضع المعركة ،وجعؿ يشير
بيده :ىذا مصرع فالف غدا إف شاء اهلل ،وىذا مصرع فالف غدا إف شاء اهلل .ثـ بات
رسوؿ اهلل يصمي إلى جذع شجرة ىنالؾ ،وبات المسمموف ليميـ ىادئ األنفاس منير
اآلفاؽ ،غمرت الثقة قموبيـ ،وأخذوا مف الراحة قسطيـ ،يأمموف أف يروا بشائر ربيـ
41
طيّْ َرُك ْـ بِ ِو
ماء لُِي َ ِ ِ ِ
بعيونيـ صباحا إِ ْذ ُي َغ ّْشي ُك ُـ
َم َنةً م ْنوُ َوُي َنّْز ُؿ َعمَ ْي ُك ْـ م َف السَّماء ً
عاس أ َ
الن َ ُّ
ط عمى ُقمُوبِ ُكـ ويثَب َ ِ ِ
ب َع ْن ُكـ ِر ْج َز َّ ِ
داـ (.)18
ّْت بو ْاألَ ْق َ الش ْي ِ
طاف ْ َُ ْ َولِ َي ْربِ َ َ
َوُي ْذى َ
كانت ىذه الميمة ليمة الجمعة ،السابع عشر مف رمضاف في السنة الثانية مف اليجرة ،وكاف
خروجو في ٛأو ٕٔ مف نفس الشير.
الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع اإلنشقاق فيو:
أما قريش ،فقضت ليمتيا ىذه في معسكرىا بالعدوة القصوى ،ولما أصبحت أقبمت في
كتائبيا ،ونزلت مف الكثيب إلى وادي بدر ،وأقبؿ نفر منيـ إلى حوض رسوؿ اهلل صمى اهلل
عميو وسمـ ،فقاؿ :دعوىـ ،فما شرب أحد منيـ يومئذ إال قتؿ ،سوى حكيـ بف حزاـ ،فإنو لـ
يقتؿ ،وأسمـ بعد ذلؾ ،وحسف إسالمو ،وكاف إذا اجتيد في اليميف قاؿ :ال والذي نجاني مف
يوـ بدر ،فمما اطمأنت قريش بعث عمير بف وىب الجمحي ،لمتعرؼ عمى مدى قوة جيش
المدينة ،فدار عمير بفرسو حوؿ العسكر ،ثـ رجع إلييـ فقاؿ :ثالثمائة رجؿ ،يزيدوف قميال
أو ينقصوف ،ولكف أميموني حتى أنظر ألمقوـ كميف أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد،
فمـ يرد شيئا ،فرجع إلييـ فقاؿ :ما وجدت شيئا ،ولكني قد رأيت يا معشر قريش الباليا
تحمؿ المنايا ،نواضح يثرب تحمؿ الموت الناقع ،قوـ ليس معيـ منعة وال ممجأ إال
سيوفيـ ،واهلل ما أرى أف يقتؿ رجؿ منيـ حتى يقتؿ رجال منكـ ،فإذا أصابوا منكـ أعدادكـ،
فما خير العيش بعد ذلؾ ،فروا رأيكـ.
وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جيؿ -المصمـ عمى المعركة -تدعو إلى العودة
بالجيش إلى مكة دونما قتاؿ ،فقد مشى حكيـ بف حزاـ في الناس ،وأتى عتبة بف ربيعة
فقاؿ :يا أبا الوليد إنؾ كبير قريش ،وسيدىا والمطاع فييا ،فيؿ لؾ إلى خير تذكر بو إلى
آخر الدىر؟ قاؿ :وما ذاؾ يا حكيـ؟ قاؿ :ترجع بالناس ،وتحمؿ أمر حميفؾ عمرو بف
الحضرمي -المقتوؿ في سرية نخمة -فقاؿ عتبة :قد فعمت ،أنت ضامف عمي بذلؾ ،إنما
ىو حميفي فعمي عقمو ديتو وما أصيب مف مالو.
ثـ قاؿ عتبة لحكيـ بف حزاـ ،فأت ابف الحنظمية -أبا جيؿ ،والحنظمية أمو -فإني ال
أخشى أف يشجر أمر الناس غيره.
ثـ قاـ عتبة بف ربيعة خطيبا فقاؿ :يا معشر قريش ،إنكـ واهلل ما تصنعوف بأف تمقوا محمدا
وأصحابو شيئا ،واهلل لئف أصبتموه ال يزاؿ ينظر في وجو رجؿ يكره النظر إليو ،قتؿ ابف
عمو أو ابف خالو أو رجال مف عشيرتو ،فارجعوا وخموا بيف محمد وبيف سائر العرب ،فإف
أصابوه فذاؾ الذي أردتـ ،واف كاف غير ذلؾ ألفاكـ ولـ تعرضوا منو ما تريدوف.
41
وانطمؽ حكيـ بف حزاـ إلى أبي جيؿ -وىو يييء درعا لو -قاؿ يا أبا الحكـ إف عتبة
أرسمني إليؾ بكذا وكذا ،فقاؿ أبو جيؿ :انتفخ واهلل سحره حيف رأى محمدا وأصحابو ،كال،
واهلل ال نرجع حتى يحكـ اهلل بيننا وبيف محمد ،وما بعتبة ما قاؿ ،ولكنو رأى أف محمدا
وأصحابو أكمة جزور ،وفييـ ابنو -وىو أبو حذيفة بف عتبة كاف قد أسمـ قديما وىاجر-
فتخوفكـ عميو.
ولما بمغ قوؿ أبي جيؿ« :انتفخ واهلل سحره» ،قاؿ عتبة :سيعمـ مف انتفخ سحره ،أنا أـ
ىو؟ وتعجؿ أبو جيؿ مخافة أف تقوى ىذه المعارضة ،فبعث عمى إثر ىذه المحاورة إلى
عامر بف الحضرمي -أخي عمرو بف الحضرمي المقتوؿ في سرية عبد اهلل بف جحش-
فقاؿ :ىذا حميفؾ -أي عتبة -يريد أف يرجع بالناس ،وقد رأيت ثأرؾ بعينؾ ،فقـ فانشد
خفرتؾ ،ومقتؿ أخيؾ ،فقاـ عامر ،فكشؼ عف أستو ،وصرخ :واعمراه ،واعمراه فحمي
القوـ ،وحقب أمرىـ ،واستوثقوا عمى ما ىـ عميو مف الشر ،وأفسد عمى الناس الرأي الذي
دعاىـ إليو عتبة .وىكذا تغمب الطيش عمى الحكمة ،وذىبت ىذه المعارضة دوف جدوى.
الجيشان يتراآن:
ولما طمع المشركوف ،وتراآى الجمعاف قاؿ رسوؿ اهلل « :الميـ ىذه قريش قد أقبمت
بخيالئيا وفخرىا ،تحادؾ وتكذب رسولؾ ،الميـ فنصرؾ الذي وعدتني ،الميـ أحنيـ الغداة»
.وقد قاؿ رسوؿ اهلل ورأى عتبة بف ربيعة في القوـ عمى جمؿ لو أحمر« -إف يكف في
أحد مف القوـ خير فعند صاحب الجمؿ األحمر ،إف يطيعوه يرشدوا» .
وعدؿ رسوؿ اهلل صفوؼ المسمميف ،وبينما ىو يعدليا وقع أمر عجيب ،فقد كاف في يده
قدح يعدؿ بو ،وكاف سواد بف غزية مستنصال مف الصؼ ،فطعف في بطنو بالقدح وقاؿ:
استو يا سواد ،فقاؿ سواد :يا رسوؿ اهلل أوجعتني فأقدني ،فكشؼ عف بطنو ،وقاؿ :استقد،
فأعتنقو سواد ،وقبؿ بطنو ،فقاؿ :ما حممؾ عمى ىذا يا سواد؟ قاؿ :يا رسوؿ اهلل قد حضر
ما ترى ،فأردت أف يكوف آخر العيد بؾ أف يمس جمدي جمدؾ .فدعا لو رسوؿ اهلل
بخير.
ولما تـ تعديؿ الصفوؼ أصدر أوامره إلى جيشو بأف ال يبدأوا القتاؿ حتى يتمقوا منو
األوامر األخيرة ،ثـ أدلى إلييـ بتوجيو خاص في أمر الحرب فقاؿ :إذا أكثبوكـ -يعني
كثروكـ -فارموىـ ،واستبقوا نبمكـ ،وال تسموا السيوؼ حتى يغشوكـ ،ثـ رجع إلى العريش
ىو وأبو بكر خاصة ،وقاـ سعد بف معاذ بكتيبة الحراسة عمى باب العريش.
وأما المشركوف فقد استفتح أبو جيؿ في ذلؾ اليوـ فقاؿ :الميـ أقطعنا لمرحـ ،وآتانا بما ال
نعرفو ،فأحنو الغداة ،الميـ أينا كاف أحب إليؾ وأرضى عندؾ فانصره اليوـ ،وفي ذلؾ أنزؿ
42
ودوا َن ُع ْدَ ،ولَ ْف تُ ْغنِ َي ِ
إِ ْف تَ ْستَ ْفت ُحوا فَقَ ْد َ
جاء ُك ُـ اْلفَتْ ُحَ ،وِا ْف تَْنتَيُوا فَيُ َو َخ ْيٌر لَ ُك ْـَ ،وِا ْف تَ ُع ُ اهلل(:
ِ ت ،وأ َّ َّ ِ
يف)(.)19 َف الموَ َم َع اْل ُم ْؤ ِمن َ ف َئتُ ُك ْـ َش ْيئاً َولَ ْو َكثَُر ْ َ
َع ْن ُك ْـ
ساعة الصفر وأول وقود المعركة:
وكاف أوؿ وقود المعركة األسود بف عبد األسد المخزومي -وكاف رجال شرسا سييء
الخمؽ -خرج قائال :أعاىد اهلل ألشربف مف حوضيـ ،أو ألىدمنو ،أو ألموتف دونو .فمما
خرج إليو حمزة بف عبد المطمب رضي اهلل عنو ،فمما التقيا ضربو حمزة ،فأطف قدمو
بنصؼ ساقو وىو دوف الحوض ،فوقع عمى ظيره تشخب رجمو دما نحو أصحابو ،ثـ حبا
إلى الحوض حتى اقتحـ فيو ،يريد أف تبر يمينو ،ولكف حمزة ثنى عميو بضربة أخرى أتت
عميو وىو داخؿ الحوض.
المبارزة:
وكاف ىذا أوؿ قتؿ أشعؿ نار المعركة ،فقد خرج بعده ثالثة مف خيرة فرساف قريش كانوا
مف عائمة واحدة ،وىـ عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ،والوليد بف عتبة ،فمما انفصموا مف
الصؼ طمبوا المبارزة ،فخرج إلييـ ثالثة مف شباب األنصار ،عوؼ ومعوذ ابنا الحارث-
وأميما عفراء -وعبد اهلل بف رواحة ،فقالوا :مف أنتـ؟ قالوا :رىط مف األنصار .قالوا:
أكفاء كراـ ،ما لنا بكـ حاجة ،وانما نريد بني عمنا ،ثـ نادى منادييـ :يا محمد ،أخرج إلينا
أكفاءنا مف قومنا ،فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ :قـ يا عبيدة بف الحارث ،وقـ يا
حمزة ،وقـ يا عمي ،فمما قاموا ودنوا منيـ ،قالوا :مف أنتـ؟ فأخبروىـ ،فقالوا :أنتـ أكفاء
كراـ ،فبارز عبيدة -وكاف أسف القوـ -عتبة بف ربيعة ،وبارز حمزة شيبة ،وبارز عمي
الوليد «ٔ» ،فأما حمزة وعمي فمـ يميال قرنييما أف قتالىما ،وأما عبيدة فاختمؼ بينو وبيف
قرنو ضربتاف ،فأثخف كؿ واحد منيما صاحبو ،ثـ كر عمي وحمزة عمى عتبة فقتاله
واحتمال عبيدة ،وقد قطعت رجمو ،فمـ يزؿ صمتا حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة
أياـ مف وقعة بدر ،حينما كاف المسمموف في طريقيـ إلى المدينة.
ص ُموا ِفي َرّْب ِي ْـ اآلية.
اختَ َ ص ِ
ماف ْ وكاف عمي يقسـ باهلل أف ىذه اآلية نزلت فييـِ :
ىذاف َخ ْ
اليجوـ العاـ:
وكانت نياية ىذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركيف ،فقدوا ثالثة مف خيرة فرسانيـ
وقادتيـ دفعة واحدة ،فاستشاطوا غضبا ،وكروا عمى المسمميف كرة رجؿ واحد.
)ٜٔسورة األنفاؿ.ٜٔ:
43
وأما المسمموف فبعد أف استنصروا ربيـ ،واستغاثوه ،وأخمصوا لو ،وتضرعوا إليو ،تمقوا
ىجمات المشركيف المتوالية ،وىـ مرابطوف في مواقعيـ ،واقفوف موقؼ الدفاع ،وقد ألحقوا
بالمشركيف خسائر فادحة ،وىـ يقولوف :أحد أحد.
الرسول يناشد ربو:
وأما رسوؿ اهلل ، فكاف منذ رجوعو بعد تعديؿ الصفوؼ يناشد ربو ما وعده مف النصر،
ويقوؿ« :الميـ أنجز لي ما وعدتني ،الميـ إني أنشدؾ عيدؾ ووعدؾ» .حتى إذا حمي
الوطيس ،واستدارت رحى الحرب بشدة ،واحتدـ القتاؿ ،وبمغت المعركة قمتيا ،قاؿ« :الميـ
إف تيمؾ ىذه العصابة اليوـ ال تعبد ،الميـ إف شئت لـ تعبد بعد اليوـ أبدا» .
وبالغ في اإلبتياؿ حتى سقط رداؤه عف منكبيو ،فرده عميو الصديؽ ،وقاؿ :حسبؾ يا رسوؿ
اهلل ،ألححت عمى ربؾ.
ب، وأوحى اهلل إلى مالئكتو :أَّْني مع ُكـ فَثَبّْتُوا الَِّذيف آمُنوا ،سأُْل ِقي ِفي ُقمُ ِ َِّ
الرْع َ
يف َكفَُروا ُّ
وب الذ َ َ َ َ ََ ْ
ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
يف -أي أنيـ ردؼ لكـ ،أو يردؼ وأوحى إلى رسولو :أَّْني ُمم ُّد ُك ْـ بِأَْلؼ م َف اْل َمالئ َكة ُم ْرِدف َ
بعضيـ بعضا أرساال ،ال يأتوف دفعة واحدة.
نزول المالئكة:
وأغفى رسوؿ اهلل إغفاءة واحدة ،ثـ رفع رأسو فقاؿ :أبشر يا أبا بكر ،ىذا جبريؿ عمى
ثناياه النقع ،أي :الغبار .وفي رواية إسحاؽ :قاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :أبشر
يا أبا بكر ،أتاؾ نصر اهلل ،ىذا جبريؿ آخذ بعناف فرسو يقوده ،عمى ثناياه النقع» .
وف ُّ
ثـ خرج رسوؿ اهلل مف باب العريش ،وىو يثب في الدرع ،ويقوؿَ ( :سُي ْي َزُـ اْل َج ْمعُ َوُي َول َ
الد ُبر)َ( ،)20ثـ أخذ حفنة مف الحصباء ،فاستقبؿ بيا قريشا وقاؿ :شاىت الوجوه ،ورمى بيا ُّ
في وجوىيـ ،فما مف المشركيف أحد إال أصاب عينو ومنخريو وفمو مف تمؾ القبضة ،وفي
لك َّف المَّوَ َرمى(.)21
توِ ذلؾ أنزؿ اهلل :وما رم ْي َ ِ
ت إ ْذ َرَم ْي َ َ َ ََ
اليجوم المضاد:
وحينئذ أصدر إلى جيشو أوامره باليجمة المضادة فقاؿ :شدوا ،وحرضيـ عمى القتاؿ،
قائال :والذي نفس محمد بيده ال يقاتميـ اليوـ رجؿ فيقتؿ صاب ار محتسبا مقبال غير مدبر
إال أدخمو اهلل الجنة ،وقاؿ وىو يحضيـ عمى القتاؿ ،قوموا إلى جنة عرضيا السموات
واألرض( ،وحينئذ) قاؿ العمير بف الحماـ :بخ .بخ ،فقاؿ رسوؿ اهلل ما يحممؾ عمى
قولؾ :بخ بخ؟ قاؿ :ال ،واهلل يا رسوؿ اهلل إال رجاء أف أكوف مف أىميا ،قاؿ :فإنؾ مف
44
أىميا .فأخرج تمرات مف قرنو ،فجعؿ يأكؿ منيف ،ثـ قاؿ :لئف أنا حييت حتى آكؿ تمراتي
ىذه إنيا لحياة طويمة ،فرمى بما كاف معو مف التمر ،ثـ قاتميـ حتى قتؿ .
وكذلؾ سألو عوؼ بف الحارس -ابف عفراء -فقاؿ :يا رسوؿ اهلل ما يضحؾ الرب مف
عبده! قاؿ« :غمسو يده في العدو حاس ار» ،فنزع درعا كانت عميو ،فقذفيا ،ثـ أخذ سيفو
فقاتؿ القوـ حتى قتؿ.
وحيف أصدر رسوؿ اهلل األمر باليجوـ المضاد كانت حدة ىجمات العدو قد ذىبت،
وفتر حماسو ،فكاف ليذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقؼ المسمميف ،فإنيـ حينما
تمقوا أمر الشد واليجوـ -وقد كاف نشاطيـ الحربي عمى شبابو -قاموا بيجوـ كاسح مرير،
فجعموا يقمبوف الصفوؼ ،ويقطعوف األعناؽ ،وزادىـ نشاطا وحدة أف أروا رسوؿ اهلل
وف ُّ
الدُب َر ،فقاتؿ المسمموف أشد ُّ
يثب في الدرع ،ويقوؿ في جزـ وصراحةَ :س ُي ْي َزُـ اْل َج ْمعُ َوُي َول َ
القتاؿ ،ونصرتيـ المالئكة ،ففي رواية ابف سعد عف عكرمة قاؿ :كاف يومئذ يندر رأس
الرجؿ ال يدري مف ضربو ،وتندر يد الرجؿ ال يدري مف ضربيا ،وقاؿ ابف عباس :بينما
رجؿ مف المسمميف يشتد في إثر رجؿ مف المشركيف أمامو إذ سمع ضربة بالسوط فوقو،
وصوت الفارس يقوؿ :أقدـ حيزوـ ،فنظر إلى المشرؾ أمامو ،فجاء األنصاري فحدث بذلؾ
رسوؿ اهلل ، فقاؿ :صدقت ،ذلؾ مف مدد السماء الثالثة .
إبميس ينسحب عن ميدان القتال:
ولما رأى إبميس -وكاف قد جاء في صورة سراقة بف مالؾ بف جعشـ المدلجي كما ذكرنا،
ولـ يكف فارقيـ منذ ذلؾ الوقت -فمما رأى ما يفعؿ المالئكة بالمشركيف فر ونكص عمى
عقبيو ،وتشبث بو الحارس بف ىشاـ -وىو يظنو سراقة -فوكز في صدر الحارس فألقاه،
ثـ خرج ىاربا ،وقاؿ لو المشركوف :إلى أيف يا سراقة :ألـ تكف قمت :إنؾ جار لنا ،ال
تفارقنا؟ فقاؿ :إني أرى ما ال تروف ،إني أخاؼ اهلل ،واهلل شديد العقاب ،ثـ فر حتى ألقى
نفسو في البحر.
اليزيمة الساحقة:
وبدأت أمارات الفشؿ واإلضطراب في صفوؼ المشركيف ،وجعمت تتيدـ أماـ حمالت
المسمميف العنيفة ،واقتربت المعركة مف نيايتيا ،وأخذت جموع المشركيف في الفرار
واإلنسحاب المبدد ،وركب المسمموف ظيورىـ يأسروف ويقتموف حتى تمت عمييـ اليزيمة.
صمود أبي جيل:
أما الطاغية األكبر أبو جيؿ ،فإنو لما رأى أوؿ إمارات اإلضطراب في صفوفو حاوؿ أف
يصمد في وجو ىذا السيؿ ،فجعؿ يشجع جيشو ،ويقوؿ ليـ في شراسة ومكابرة :ال ييزمنكـ
خزالف سراقة إياكـ ،فإنو كاف عمى ميعاد مف محمد ،وال ييولنكـ قتؿ عتبة وشيبة والوليد،
45
فإنيـ قد عجموا ،فو الالت والعزى ال نرجع حتى نقرنيـ بالحباؿ ،وال ألفيف رجال منكـ قتؿ
منيـ رجال ،ولكف خذوىـ أخذا ،حتى نعرفيـ بسوء صنيعيـ.
ولكف سرعاف ما تبدى لو حقيقة ىذه الغطرسة ،فما لبث إال قميال حتى أخذت الصفوؼ
تتصدع أماـ تيارات ىجوـ المسمميف .نعـ بقي حولو عصابة مف المشركيف ،ضربت حولو
سياجا مف السيوؼ وغابات مف الرماح ،ولكف عاصفة ىجوـ المسمميف بددت ىذا السياح
وأقمعت ىذه الغابات ،وحينئذ ظير ىذا الطاغية ،ورآه المسمموف يجوؿ عمى فرسو ،وكاف
الموت ينتظر أف يشرب مف دمو بأيدي غالميف أنصارييف.
مصرع أبي جيل:
قاؿ عبد الرحمف بف عوؼ :إني لفي الصؼ يوـ بدر إذ التفت ،فإذا عف يميني وعف
يساري فتياف حديثا السف ،فكأني لـ آمف بمكانيما ،إذ قاؿ لي أحدىما س ار مف صاحبو:
يا عـ ،أرني أبا جيؿ ،فقمت :يا ابف أخي ،فما تصنع بو؟ قاؿ :أخبرت أنو يسب رسوؿ اهلل
قاؿ :والذي نفسي بيده لئف رأيتو ال يفارؽ سوادي سواده حتى يموت األعجؿ منا،
فتعجبت لذلؾ .قاؿ :وغمزني اآلخر ،فقاؿ لي مثميا ،فمـ أنشب أف نظرت إلى أبي جيؿ
يجوؿ في الناس ،فقمت :أال ترياف؟ ىذا صاحبكما الذي تسأالني عنو ،قاؿ :فابتدراه
بسيفييما فضرباه حتى قتاله ،ثـ انصرفا إلى رسوؿ اهلل ، فقاؿ :أيكما قتمو؟ فقاؿ كؿ
واحد منيما :أنا قتمتو ،قاؿ :ىؿ مسحتما سيفيكما؟ فقاال :ال ،فنظر رسوؿ اهلل صمى اهلل
عميو وسمـ إلى السيفيف ،فقاؿ :كالكما قتمو ،وقضى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بسمبو
لمعاذ بف عمرو بف الجموح ،والرجالف معاذ بف عمرو بف الجموح ومعوذ بف عفراء «ٔ» .
وقاؿ ابف إسحاؽ :قاؿ معاذ بف عمرو بف الجموح :سمعت القوـ ،وأبو جيؿ في مثؿ
الحرجة -والحرجة :الشجر الممتؼ ،أو شجرة مف األشجار ال يوصؿ إلييا ،شبو رماح
المشركيف وسيوفيـ التي كانت حوؿ أبي جيؿ لحفظو بيذه الشجرة -وىـ يقولوف :أبو
الحكـ ال يخمص إليو ،قاؿ :فمما سمعتيا جعمتو مف شأني فصمدت نحوه ،فمما أمكنني
حممت عميو ،فضربتو ضربة أطنت قدمو -أطارتيا -بنصؼ ساقو ،فو اهلل ما شبيتيا حيف
طاحت إال بالنواة تطيح مف تحت مرضخة النوى حيف يضرب بيا .قاؿ :وضربني ابنو
عكرمة عمى عاتقي ،فطرح يدي ،فتعمقت بجمدة مف جنبي ،وأجيضني القتاؿ عنو ،فمقد
قاتمت عامة يومي واني ألسحبيا خمفي ،فمما آذتني وضعت عمييا قدمي ،ثـ تمطيت بيا
عمييا حتى طرحتيا «ٕ» ثـ مر بأبي جيؿ -وىو عقير -معوذ بف عفراء ،فضربو حتى
أثبتو ،فتركو وبو رمؽ ،وقاتؿ معوذ حتى قتؿ.
ولما انتيت المعركة قاؿ رسوؿ اهلل : مف ينظر ما صنع أبو جيؿ؟ فتفرؽ الناس في
طمبو ،فوجده عبد اهلل بف مسعود رضي اهلل عنو وبو آخر رمؽ ،فوضع رجمو عمى عنقو،
46
وأخذ لحيتو ليحتز رأسو ،وقاؿ :ىؿ أخزاؾ اهلل يا عدو اهلل؟ قاؿ :وبماذا أخزاني؟ أعمد مف
رجؿ قتمتموه ؟ أو ىؿ فوؽ رجؿ قتمتموه؟ وقاؿ :فمو غير أكار قتمني ،ثـ قاؿ :أخبرني لمف
الدائرة اليوـ؟ قاؿ :هلل ورسولو ،ثـ قاؿ البف مسعود -وكاف قد وضع رجمو عمى عنقو -لقد
ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنـ ،وكاف ابف مسعود مف رعاة الغنـ في مكة.
وبعد أف دار بينيما ىذا الكالـ احتز ابف مسعود رأسو ،وجاء بو إلى رسوؿ اهلل فقاؿ :يا
رسوؿ اهلل ،ىذا رأس عدو اهلل أبي جيؿ ،فقاؿ« :اهلل الذي ال إلو إال ىو؟» فرددىا ثالثا ،ثـ
قاؿ« :اهلل أكبر ،الحمد هلل الذي صدؽ وعده ،ونصر عبد ،وىزـ األحزاب وحده ،انطمؽ
أرنيو ،فانطمقنا فأريتو إياه ،فقاؿ :ىذا فرعوف ىذه األمة» .
قضية األسارى:
ولما بمغ رسوؿ اهلل المدينة استشار أصحابو في األسارى ،فقاؿ أبو بكر:يا رسوؿ اهلل
ىؤالء بنو العـ والعشيرة واإلخواف ،واني أرى أف تأخذ منيـ الفدية ،فيكوف ما أخذناه قوة لنا
عمى الكفار ،وعسى أف ييداىـ اهلل ،فيكونوا لنا عضدا.
فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :ما ترى يا ابف الخطاب؟» قاؿ :قمت :واهلل ما أرى
ما رأى أبو بكر ،ولكف أرى أف تمكنني مف فالف -قريب لعمر -فأضرب عنقو ،وتمكف
عميا مف عقيؿ بف أبي طالب فيضرب عنقو ،وتمكف حمزة مف فالف أخيو فيضرب عنقو،
حتى يعمـ اهلل أنو ليست في قموبنا ىوادة لممشركيف ،وىؤالء صناديدىـ وأئمتيـ وقادتيـ.
فيوى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ ما قاؿ أبو بكر ،ولـ ييو ما قمت ،وأخذ منيـ الفداء،
فمما كاف مف الغد قاؿ عمر :فغدوت إلى النبي صمى اهلل عميو وسمـ وأبي بكر -وىما
يبكياف -فقمت يا رسوؿ اهلل أخبرني ما يبكيؾ أنت وصاحبؾ؟ فإف وجدت بكاء بكيت ،واف
عمي
لـ أجد بكاء تباكيت لبكائكما ،فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ« :لمذي عرض ّ
عمي عذابيـ أدنى مف ىذه الشجرة -شجرة قريبة. أصحابؾ :مف أخذىـ الفداء ،فقد عرض ّ
ض وف َع َر َ
يد َض ،تُِر ُ َسرى َحتَّى ُيثْ ِخ َف ِفي ْاأل َْر ِ وف لَوُ أ ْ
َف َي ُك َ
ِ
كاف ل َنبِي أ ْ
وأنزؿ اهلل تعالى :ما َ
ؽ لَ َم َّس ُك ْـ ِفيما أ َ
َخ ْذتُ ْـ تاب ِم َف المَّ ِو َس َب َ يـ .لَ ْوال ِك ٌ ِ َّ الد ْنيا والمَّو ي ِر ُ ِ
يد ْاآلخ َرةََ ،والموُ َع ِز ٌيز َحك ٌ ُّ َ ُ ُ
يـ(. )22 ع ٌ ِ
ذاب َعظ ٌ َ
ِ
داء) ( .)23ففيو اإلذف بأخذ والكتاب الذي سبؽ مف اهلل ىو قولو تعالى (:فَِإ َّما َمنِّا َب ْع ُد َوِا َّما ف ً
الفدية مف األسارى ولذلؾ لـ يعذبوا ،وانما نزؿ العتاب ألنيـ أسروا الكفار قبؿ أف يثخنوا
في األرض ،ثـ إنيـ قبموا الفداء مف أولئؾ المجرميف الذيف لـ يكونوا أسرى حرب فقط ،بؿ
47
كانوا أكابر مجرمي الحرب الذيف ال يتركيـ قانوف الحرب الحديث إال ويحاكميـ ،وال يكوف
الحكـ في الغالب إال باإلعداـ أو بالحبس حتى الموت.
واستقر األمر عمى رأي الصديؽ فأخذ منيـ الفداء ،وكاف الفداء مف أربعة آالؼ درىـ ،إلى
ثالثة آالؼ درىـ ،إلى ألؼ درىـ ،وكاف أىؿ مكة يكتبوف ،وأىؿ المدينة ال يكتبوف ،فمف لـ
يكف عنده فداء دفع إليو عشرة غمماف مف غمماف المدينة يعمميـ ،فإذا حذقوا فيو فداء.
ومف رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمى عدة مف األسارى ،فأطمقيـ بغير فداء ،منيـ:
ّ
المطمب بف حنطب ،وصيفي بف أبي رفاعة ،وأبو عزة الجمحي ،وىو الذي قتمو أس ار في
أحد ،وسيأتي.
ومف عمى ختنو أبي العاص بشرط أف يخمي سبيؿ زينب ،وكانت قد بعثت في فدائو بماؿ، ّ
بعثت فيو بقالدة ليا كانت عند خديجة ،أدخمتيا بيا عمى أبي العاص ،فمما رآىا رسوؿ اهلل
صمى اهلل عميو وسمـ رؽ ليا رقة شديدة ،واستأذف أصحابو في إطالؽ أبي العاص ففعموه،
واشترط رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمى أبي العاص أف يخمي سبيؿ زينب ،فخالىا،
فياجرت ،وبعث رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ زيد بف حارثة ورجال مف األنصار ،فقاؿ:
«كونا ببطف يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباىا» فخرجا حتى رجعا بيا ،وقصة ىجرتيا
طويمة مؤلمة.
وكاف في األسرى سييؿ بف عمرو ،وكاف خطيبا مصقعا ،فقاؿ عمر :يا رسوؿ اهلل ،أنزع
ثنيتي سييؿ بف عمرو يدلع لسانو ،فال يقوـ خطيبا عميؾ في موطف أبدا ،بيد أف رسوؿ اهلل
صمى اهلل عميو وسمـ رفض ىذا الطمب ،إحت ار از عف المثمة ،وعف بطش اهلل يوـ القيامة.
وخرج سعد بف النعماف معتم ار فحبسو أبو سفياف ،وكاف ابنو عمرو بف أبي سفياف في
األسرى ،فبعثوا بو إلى أبي سفياف فخمى سبيؿ سعد.
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة:
وحوؿ موضوع ىذه المعركة نزلت سورة األنفاؿ ،وىذه السورة تعميؽ إليي -إف صح ىذا
التعبير -عمى ىذه المعركة ،يختمؼ كثي ار عف التعاليؽ التي ينطؽ بيا المموؾ والقواد بعد
الفتح.
إف اهلل تعالى لفت أنظار المسمميف -أوال -إلى التقصيرات والتقاريظ األخالقية التي كانت
قد بقيت فييـ ،وصدرت بعضيا منيـ ،ليسعوا في تكميؿ نفوسيـ وتزكيتيا عف ىذه
التقاريظ .ثـ ثنى بما كاف في ىذا الفتح مف تأييد اهلل وعونو ونصره بالغيب لممسمميف .ذكر
ليـ ذلؾ لئال يغتروا بشجاعتيـ وبسالتيـ ،فتتسور نفوسيـ الغطرسة والكبرياء ،بؿ ليتوكموا
عمى اهلل ويطيعوه ويطيعوا رسولو عميو الصالة والسالـ.
48
ثـ بيف ليـ األىداؼ واألغراض النبيمة التي خاض الرسوؿ صمى اهلل عميو وسمـ ألجميا
ىذه المعركة الدامية الرىيبة ،ودليـ عمى الصفات واألخالؽ التي تسببت في الفتوح وفي
المعارؾ.
ثـ خاطب المشركيف والمنافقيف والييود وأسارى المعركة ،وعظيـ موعظة بميغة ،تيداىـ إلى
اإلستسالـ لمحؽ والتقيد بو.
قنف ليـ مبادئ وأسس ىذه المسألة.
ثـ خاطب المسمميف حوؿ موضوع الغنائـّ ،
ثـ بيف وشرع ليـ مف قوانيف الحرب والسمـ ما كانت الحاجة تمس إلييا بعد دخوؿ الدعوة
اإلسالمية في ىذه المرحمة ،حتى تمتاز حروب المسمميف عف حروب أىؿ الجاىمية ،ويقوـ
ليـ التفوؽ في األخالؽ والقيـ والمثؿ ،ويتأكد لمدنيا أف اإلسالـ ليس مجرد وجية نظرية،
بؿ إنو يثقؼ أىمو عمميا عمى األسس والمبادئ التي يدعو إلييا.
ثـ قرر بنودا مف قوانيف الدولة اإلسالمية التي تقيـ الفرؽ بيف المسمميف الذيف يسكنوف
داخؿ حدودىا ،والذيف يسكنوف خارجيا.
ومف أحسف المواقع وأروع الصدفات أف أوؿ عيد تعيد بو المسمموف في حياتيـ ىو العيد
الذي وقع في شواؿ سنة ٕ ىػ .إثر الفتح المبيف الذي حصموا عميو في غزوة بدر ،فما
أروع ىذا العيد السعيد الذي جاء بو اهلل بعد أف توج ىامتيـ بتاج الفتح والعز ،وما أروؽ
منظر تمؾ الصالة التي صموىا بعد أف خرجوا مف بيوتيـ يرفعوف أصواتيـ بالتكبير
والتوحيد والتحميد ،وقد فاضت قموبيـ رغبة إلى اهلل ،وحنينا إلى رحمتو ورضوانو بعد ما
أوالىـ مف النعـ ،وأيدىـ بو مف النصر ،وذكرىـ بذلؾ قائالَ :وا ْذ ُك ُروا إِ ْذ أ َْنتُ ْـ َقمِي ٌؿ
ص ِرِه َوَرَزَق ُك ْـ ِم َفاس فَآوا ُك ْـ َوأََّي َد ُك ْـ بَِن ْ َف َيتَ َخطَّفَ ُك ُـ َّ
الن ُ وف أ ْ وف ِفي ْاأل َْر ِ
ض تَخافُ َ ض َعفُ َ
ُم ْستَ ْ
وف(.)24 َّ ِ َّ
الطيّْبات لَ َعم ُك ْـ تَ ْش ُك ُر َ
الغزوات والسرايا بين بدر وأحد:
-1غزوة السويق:
يمس رأسو ماء ،حتّى يغزو المسمميف ،فخرج في مئتي راكب كاف أبو سفياف قد نذر أال ّ
النضير ،فأذف لو ،وقراه،
ليبر يمينو ،واستأذف عمى سالـ بف مشكـ سيد بني ّ مف قريش ّ
وسقاه ،وبطف لو مف خبر الناس ،وبعث رجاال ،فقتموا رجميف مف األنصار.
وخرج رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في طمبيـ ،ورجع أبو سفياف وأصحابو قبؿ أف
السويؽ.
فسميت «غزوة ّ
عامتيا سويؽّ ،
يدركيـ المسمموف ،وألقوا أزوادا كثيرةّ ،
49
-2إجالء بني قينقاع:
وكاف بنو قينقاع أوؿ ييود ،نقضوا ما بينيـ وبيف رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ وحاربوا
في بدر وأحد ،وآذوا المسمميف ،فحاصرىـ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خمس عشرة
أبي رأس المنافقيف ،فأطمقيـ لو
ليمة ،حتّى نزلوا عمى حكمو ،وشفع فييـ حميفيـ عبد اهلل بف ّ
وتجا ار.
رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ وكانوا سبعمئة مقاتؿ ،وكانوا صاغة ّ
النبي صمى اهلل عميو وسمـ عفوا عاما عف ىؤالء الييود شريطة أف يخرجوا مف ّ أصدر
أي مكاف شاؤوا ،فجموا عنيا إلى الشاـ آمنيف عمى أنفسيـ ،وعمى ما قدروا مف
المدينة إلى ّ
حممو مف أمواليـ ،وغادر بنو قينقاع يثرب سالميف بعد أف كانوا يتوقّعوف الموت جزاء
وتمردىـ .
نكثيـ ّ
غزوة أحد3( :ىـ624 /م)
لما أصيب صناديد قريش يوـ بدر ،ورجع فمّيـ إلى مكة ،عظـ المصاب عمييـ ،ومشى ّ
رجاؿ أصيب آباؤىـ وأبناؤىـ واخوانيـ ،فكمّموا أبا سفياف ،ومف كانت لو في تمؾ العير مف
قريش تجارة فاستعانوا بيذا الماؿ عمى حرب المسمميف ،ففعموا واجتمعت قريش لحرب
وحرض الشعراء الناس بشعرىـ ،وأثاروا فييـ الغيرة
رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ ّ
الحمية.
و ّ
بحدىا وحديدىا ،بأبنائيا ومف تابعيا
شواؿ سنة ثالث لميجرة ّوخرجت قريش في منتصؼ ّ
يفروا وخرج سادة قريش بأزواجيـ وأقبموا حتّى نزلوا
مف القبائؿ ،وخرجوا معيـ بالظّعف ،لئال ّ
مقابؿ المدينة.
وكاف مف رأي رسوؿ اهلل أف يقيـ المسمموف بالمدينة ،ويدعيـ فإف يدخموا عمييـ قاتموىـ
أبي ما رأى رسوؿ اهلل فييا ،وكاف رسوؿ اهلل يكره الخروج ،وكاف رأي عبد اهلل بف ّ
ممف فاتيـ بدر :يا رسوؿ اهلل! اخرج بنا إلى أعدائنا ال يرونا أنا
فقاؿ رجاؿ مف المسمميف ّ
جبنا عنيـ وضعفنا.
ّ
فمـ يزالوا برسوؿ اهلل حتّى دخؿ رسوؿ اهلل بيتو فمبس ألمتو ،وندمالذيف اقترحوا
الخروج ،فقالوا :استكرىناؾ يا رسوؿ اهلل! ولـ يكف ذلؾ لنا ،فإف شئت فاقعد صمّى اهلل
لنبي إذا لبس ألمتو أف يضعيا حتّى يقاتؿ».
عميؾ ،فقاؿ رسوؿ اهلل «ما ينبغي ّ
فمما كانوا بال ّشوط بيف
فخرج رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في ألؼ مف أصحابو ّ ،
أبي بثمث الناس ،وقاؿ :أطاعيـ وعصاني .
المدينة وأحد ،انخذؿ عنو عبد اهلل بف ّ
51
في ميدان أحد:
ومضى رسوؿ اهلل حتّى نزؿ ال ّشعب مف أحد (وىو جبؿ عمى نحو ثالثة كيمو متر مف
يقاتمف أحد منكـ حتّى نأمره
ّ المدينة) وجعؿ ظيره وعسكره إلى أحد «ٗ» ،وقاؿ :ال
وتعبأ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ لمقتاؿ ،وىو في سبعمئة رجؿ. بالقتاؿّ ،
بالنبؿ ،ال
عنا ّالرماة عبد اهلل بف جبير ،وىـ خمسوف رجال ،فقاؿ :ادفع الخيؿ ّ أمر عمى ّ وّ
يأتونا مف خمفنا إف كانت لنا أو عمينا وأمرىـ بأف يمزموا مركزىـ ،و ّأال يفارقوا ولو أروا الطّير
تتخطّؼ العسكر .ولبس رسوؿ اهلل درعا فوؽ درع ،ودفع المواء إلى مصعب بف عمير
رضي اهلل عنو.-
مسابقة بين أتراب:
فرد سمرة بف جندب ،ورافع بفرد رسوؿ اهلل جماعة مف الغمماف في يوـ أحد لصغرىـّ ، ّ
إف ابني رافعا
خديج ،وىما ابنا خمس عشرة سنة ،وشفع أبو رافع البنو وقاؿ :يا رسوؿ اهلل! ّ
النبي صمى اهلل عميو وسمـ.
ّ راـ ،فأجازه
ورده رسوؿ اهلل لصغره،
سف رافعّ ،
وعرض عمى رسوؿ اهلل سمرة بف جندب وىو في ّ
فقاؿ سمرة :لقد أجزت رافعا ورددتني ،ولو صارعتو لصرعتو ،ووقعت المصارعة بينيما،
فصرع سمرة رافعا فأجيز وخرج وقاتؿ يوـ أحد .
المعركة:
النسوة ،وأخذف الدفوؼ
الناس ،ودنا بعضيـ مف بعض ،وقامت ىند بنت عتبة في ّ والتقى ّ
يضربف بيا خمؼ الرجاؿ يحرضنيـ ،واقتتؿ الناس حتّى حميت الحرب ،وقاتؿ أبو دجانة
الذي أخذ السيؼ مف رسوؿ اهلل .
كيف دارت الدائرة عمى المسممين؟
الرماة
فمما رأى ّ
وبينما ىـ كذلؾ إذ انيزـ المشركوف ،وولّوا مدبريف ،حتى انتيوا إلى نسائيـّ ،
ذلؾ ،مالوا إلى العسكر ،وىـ موقنوف بالفتح ،وقالوا :يا قوـ! الغنيمة! الغنيمة! فذ ّكرىـ
وظنوا أف ليس لممشركيف رجعة،
أميرىـ عيد رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ فمـ يسمعواّ ،
فأخموا الثغر ،وأخموا ظيور المسمميف إلى الخيؿ ،وأصيب أصحاب لواء المشركيف حتّى
إف محمدا قد
ما يدنو منو أحد مف القوـ ،فأتاىـ المشركوف مف خمفيـ ،وصرخ صارخ :أال! ّ
كرة ،وانتيزوا الفرصة ،وكاف يوـ بالء وتمحيص،
وكر المشركوف ّ
قتؿ .فتراجع المسمموف ّ
وشج
العدو إلى رسوؿ اهلل وأصابتو الحجارة ،حتّى وقع لشقّو ،وأصيبت رباعيتوّ ،
ّ وخمص
في رأسو ،وجرحت شفتو صمى اهلل عميو وسمـ وجعؿ الدـ يسيؿ عمى وجيو ،فيمسحو
نبييـ ،وىو يدعوىـ إلى رّبيـ؟!» .
ويقوؿ« :كيؼ يفمح قوـ خضبوا وجو ّ
51
عمي بف أبي طالب -رضي اهلل عنو -بيد رسوؿ اهلل وال يعمـ المسمموف بمكانو ،فأخذ ّ
الدـ عف وجيو. ومص مالؾ بف سناف ّ
ّ ورفعو طمحة بف عبيد اهلل ،حتّى استوى قائما،
كرة ،
ثـ يستأنؼ ّ
يضطر إلييا الجيش ّ
ّ فرةّ ،إنما كانت جولة
ولـ تكف ّ
وما أصاب المسمميف مف نكسة ومحنة ،وما أصيبوا مف خسارة في النفوس ،وشيادة مف
ولمديفّ ،إنما كاف نتيجة زلة لمرماة،
كاف قوة لإلسالـ والمسمميف ،وناص ار لرسوؿ اهلل ّ
عينيـ
تمسكيـ بتعاليـ الرسوؿ وأمره إلى المّحظة األخيرة ،واخالئيـ لمجبية التي ّ
وعدـ ّ
رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمييا ،وىو قولو تعالى:
ص ْيتُ ْـ ِم ْف ِ
نازْعتُ ْـ في ْاأل َْم ِر َو َع َ ُّونيُ ْـ بِِإ ْذنِ ِو َحتَّى إِذا فَ ِشْمتُ ْـ َوتَ َ
ص َدقَ ُك ُـ المَّوُ َو ْع َدهُ إِ ْذ تَ ُحس َ
َولَقَ ْد َ
ص َرفَ ُك ْـ َع ْنيُ ْـ لَِي ْبتَمِ َي ُك ْـ الد ْنيا و ِم ْن ُكـ مف ي ِر ُ ِ
يد ْاآلخ َرةَ ثَُّـ َ يد ُّ َ ْ َ ْ ُ وف ِم ْن ُك ْـ َم ْف ُي ِر ُ ِ ِ
َب ْعد ما أَ ار ُك ْـ ما تُحُّب َ
ِ َولَقَ ْد َعفا َع ْن ُك ْـ َوالمَّوُ ُذو فَ ْ
يف (.)25 ض ٍؿ َعمَى اْل ُم ْؤ ِمن َ
الحب والفداء:
ّ روائع من
ثنيتو ،ونزع
الجراح إحدى الحمقتيف مف وجو رسوؿ اهلل فسقطت ّ
نزع أبو عبيدة بف ّ
اآلخرى ،فكاف ساقط الثنيتيف .
النبؿ في ظيره وىو منحف عميو ،حتّى كثر
وتترس أبو دجانة بنفسو دوف رسوؿ اهلل يقع ّ
ّ
فيو النبؿ.
النبي النبؿ ويقوؿ« :ارـ فداؾ أبي
ّ ورمى سعد بف أبي وقّاص دوف رسوؿ اهلل ويناولو
أمي» .
وّ
فردىا رسوؿ اهلل بيده،
ّ النعماف ،حتّى وقعت عمى وجنتو
وأصيبت عيف قتادة بف ّ
أحدىما .
فكانت أحسف عينيو و ّ
وقصده المشركوف ،يريدوف ما يأباه اهلل ،فحاؿ دونو نفر نحو عشرة ،حتّى قتموا عف آخرىـ،
النبي فأصيبت أناممو وشمّت
ّ وجالدىـ طمحة بف عبيد اهلل ،وترس عميو بيده ،يقي بيا
يده ،وأراد رسوؿ اهلل أف يعمو صخرة ىنالؾ ،فمـ يستطع لما بو مف الجراح والضعؼ،
فجمس طمحة تحتو ،حتى صعدىا ،وحانت الصالة ،فصمّى بيـ جالسا .
وتقدـ،
النضر ،عـ أنس بف مالؾ -خادـ رسوؿ اهلل ّ
ولما انيزـ الناس ،لـ ينيزـ أنس بف ّ
ّ
الجنة ،يا سعد إني
فمقيو سعد بف معاذ ،فقاؿ :أيف يا أبا عمرو؟ فقاؿ أنس :واىا لريح ّ
أجدىا دوف أحد .
52
غزوة الخندق( 5ه626 /م)
الحرة الشرقية ،إلى
شامييا ،مف طرؼ ّ
ّ سميت بذلؾ لمخندؽ الذي حفر حوؿ المدينة في
لتحزب طوائؼ مف الكفار عمى حرب
ّ الحرة الغربية ،وتسمى(:غزوة األحزاب)
ّ طرؼ
المسمميف ،وىـ :قريش ،وغطفاف ،والييود ،ومف تبعيـ.وكانت سنة أربع لميجرة وقيؿ سنة
خمسة لميجرة ،اتجيت ىذه األحزاب ،وتحركت نحو المدينة عمى ميعاد كانت قد تعاقدت
عميو.وبعد أياـ تجمع حوؿ المدينة جيش عرمرـ يبمغ عدده عشرة آالؼ مقاتؿ ،جيش ربما
يزيد عدده عمى جميع مف في المدينة مف النساء والصبياف والشباب والشيوخ.
ولو بمغت ىذه األحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظـ
خطر عمى كياف المسمميف مما يقاس ،ربما تبمغ إلى استئصاؿ الشأفة وابادة الخضراء،
ولكف قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة ،لـ تزؿ واضعة أنامميا عمى العروؽ النابضة،
تتجسس الظروؼ ،وتقدر ما يتمخض عف مجراىا ،فمـ تكد تتحرؾ ىذه الجيوش عف
مواضعيا حتى نقمت استخبارات المدينة إلى قيادتيا فييا بيذا الزحؼ الخطير.
وسارع رسوؿ اهلل إلى عقد مجمس استشاري أعمى ،تناوؿ فيو موضوع خطة الدفاع عف
كياف المدينة ،وبعد مناقشات جرت بيف القادة وأىؿ الشورى ،اتفقوا عمى قرار قدمو
الصحابي النبيؿ سمماف الفارسي رضي اهلل عنو .قاؿ سمماف :يا رسوؿ اهلل ،إنا كنا بأرض
فارس إذا حوصرنا خندقنا عمينا -وكانت خطة حكيمة لـ تكف تعرفيا العرب قبؿ ذلؾ-
.وأسرع رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ إلى تنفيذ ىذه الخطة ،فوكؿ إلى كؿ عشرة رجاؿ
أف يحفروا مف الخندؽ أربعيف ذراعا.وقاـ المسمموف بجد ونشاط يحفروف الخندؽ ،ورسوؿ
اهلل صمى اهلل عميو وسمـ يحثيـ ويساىميـ في عمميـ ىذا ،ففي البخاري عف سيؿ بف
سعد ،قاؿ :كنا مع رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في الخندؽ ،وىـ يحفروف ،ونحف ننقؿ
التراب عمى أكتادنا ،فقاؿ رسوؿ اهلل : الميـ ال عيش إال عيش اآلخرة ...فاغفر
لممياجريف واألنصار ولما كانت المدينة تحيط بيا الحرات والجباؿ وبساتيف مف النخيؿ مف
كؿ جانب سوى الشماؿ ،وكاف النبي يعمـ كخبير عسكري حاذؽ أف زحؼ مثؿ ىذا
الجيش الكبير ،ومياجمة المدينة -ال يمكف إال مف جية الشماؿ ،اتخذ الخندؽ في ىذا
الجانب .وواصؿ المسمموف عمميـ في حفره ،فكانوا يحفرونو طوؿ النيار ،ويرجعوف إلى
أىمييـ في المساء ،حتى تكامؿ الخندؽ حسب الخطة المنشودة ،قبؿ أف يصؿ الجيش
53
الوثني العرمرـ إلى أسوار المدينة.وأقبمت قريش في أربعة آالؼ ،حتى نزلت بمجتمع
األسياؿ مف رومة بيف الجرؼ وزعابة ،وأقبمت غطفاف ومف تبعيـ مف أىؿ نجد في ستة
اب قالُوا :ىذا ما َحز َوف ْاأل ْ آالؼ حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحدَ (.ولَ َّما َأَر اْل ُم ْؤ ِمُن َ
ؽ المَّوُ َوَر ُسولُوَُ ،وما ز َاد ُى ْـ إِ َّال إِيماناً َوتَ ْسمِيماً) ( .) 26وأما ص َد َ َّ
َو َع َد َنا الموُ َوَر ُسولُوَُ ،و َ
يف َِّ ِ
وف َوالذ َ
المنافقوف وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قموبيـ لرؤية ىذا الجيش َوِا ْذ َيقُو ُؿ اْل ُمنافقُ َ
ض ما َو َع َد َنا المَّوُ َوَر ُسولُوُ ِإ َّال ُغ ُرو اًر [األحزاب. ]ٕٔ :وخرج رسوؿ اهلل صمى
ِفي ُقمُوبِ ِي ْـ َم َر ٌ
اهلل عميو وسمـ في ثالثة آالؼ مف المسمميف ،فجعموا ظيورىـ إلى جبؿ سمع فتحصنوا بو،
والخندؽ بينيـ وبيف الكفار .وكاف شعارىـ« :ىـ ال ينصروف؛ واستخمؼ عمى المدينة ابف
أـ مكتوـ ،وأمر بالنساء والذراري فجعموا في آطاـ المدينة ،ولما أراد المشركوف مياجمة
المسمميف واقتحاـ المدينة ،وجدوا خندقا عريضا يحوؿ بينيـ وبينيا ،فالتجأوا إلى فرض
الحصار عمى المسمميف ،بينما لـ يكونوا مستعديف لو حيف خرجوا مف ديارىـ ،إذ كانت ىذه
الخطة -كما قالوا -مكيدة ما عرفتيا العرب ،فمـ يكونوا أدخموىا في حسابيـ رأسا .وأخذ
المشركوف يدوروف حوؿ الخندؽ غضابا ،يتحسسوف نقطة ضعيفة ،لينحدروا منيا ،وأخذ
المسمموف يتطمعوف إلى جوالت المشركيف ،يرشقونيـ بالنبؿ ،حتى ال يجترئوا عمى اإلقتراب
منو ،وال يستطيعوا أف يقتحموه ،أو يييموا عميو التراب ،ليبنوا بو طريقا يمكنيـ مف العبور.
وكره فوارس مف قريش أف يقفوا حوؿ الخندؽ مف غير جدوى في ترقب نتائج الحصار،
فإف ذلؾ لـ يكف مف شيميـ ،فخرجت منيا جماعة فييا عمرو بف عبد ود وعكرمة بف أبي
جيؿ وضرار بف الخطاب وغيرىـ ،فتيمموا مكانا ضيقا مف الخندؽ فاقتحموه ،وجالت بيـ
خيميـ في السبخة بيف الخندؽ وسمع ،وخرج عمي بف أبي طالب في نفر مف المسمميف
حتى أخذوا عمييـ الثغرة التي أقحموا منيا خيميـ ،ودعا عمرو إلى المبارزة ،فانتدب لو
عمي بف أبي طالب ،وقاؿ كممة حمي ألجميا -وكاف مف شجعاف المشركيف وأبطاليـ-
عمي ،فتجاوال وتصاوال ،حتى قتمو
فاقتحـ عف فرسو فعقره وضرب وجيو ،ثـ أقبؿ عمى ّ
عمي رضي اهلل عنو ،وانيزـ الباقوف حتى اقتحموا مف الخندؽ ىاربيف ،وقد بمغ بيـ الرعب
إلى أف ترؾ عكرمة رمحو وىو منيزـ عف عمرو.
)ٕٙسورة األحزاب.ٕٕ:
54
وقد حاوؿ المشركوف في بعض األياـ محاولة بميغة ،القتحاـ الخندؽ ،أو لبناء الطرؽ فييا،
ولكف المسمميف كافحوا مكافحة مجيدة ،ورشقوىـ بالنبؿ وناضموىـ أشد النضاؿ حتى فشؿ
المشركوف في محاولتيـ.
إف معركة األحزاب لـ تكف معركة خسائر؛ بؿ كانت معركة أعصاب ،لـ يجر فييا قتاؿ
مرير ،إال أنيا كانت مف أحسـ المعارؾ في تاريخ اإلسالـ ،تمخضت عف تخاذؿ
المشركيف ،وأفادت أف أية قوة مف قوات العرب ال تستطيع إستئصاؿ القوة الصغيرة التي
تنمو في المدينة ،ألف العرب لـ تكف تستطيع أف تأتي بجمع أقوى مما أتت بو في
األحزاب ،ولذلؾ قاؿ رسوؿ اهلل حيف أجمى اهلل األحزاب« :اآلف نغزوىـ وال يغزوننا،
نحف نسير إلييـ» .
صمح الحديبية6(:ىـ627 /م)
النبي أعمف في المسمميف
أف ّكاف في شير ذي القعدة ،آخر سنة ست لميجرة.وسببيا ّ
متوجو إلى مكة معتمرا ،فتبعو جمع كبير مف المياجريف واألنصار بمغ عددىـ ألفا
ّ أنو
وأربع مئة تقريبا .وأحرـ بالعمرة في الطريؽ ،وساؽ معو اليدي ليأمف الناس مف حربو
وليعمموا أنو إنما خرج زائ ار البيت ومعظما لو .وأرسؿ وىو عند ذي الحميفة عينا لو مف
قبيمة خزاعة اسمو بشر بف سفياف ليأتيو بخبر أىؿ مكة ،وسار النبي صمّى اهلل عميو وسمـ
حتى وصؿ إلى غدير األشطاط ،فأتاه العيف الذي كاف قد أرسمو ،فقاؿ لو« :إف قريشا
وصادوؾ عف البيت ومانعوؾ،
ّ جمعت لؾ جموعا ،وقد جمعوا لؾ األحابيش ،وىـ مقاتموؾ
فقاؿ :أشيروا أييا الناس ..فقاؿ لو أبو بكر :يا رسوؿ اهلل ،خرجت عامدا ليذا البيت ال تريد
صدنا عنو قاتمناه .قاؿ :امضوا عمى اسـ اهلل .ثـ
قتؿ أحد وال حرب أحد ،فتوجو لو ،فمف ّ
قاؿ :مف رجؿ يخرج بنا عمى طريؽ غير طريقيـ التي ىـ بيا؟ فقاؿ لو رجؿ مف بني
النبي صمّى اهلل عميو
أسمـ :أنا يا رسوؿ اهلل .فسمؾ بيـ طريقا وع ار بيف الشعاب ،وسار ّ
وسمـ وأصحابو حتى إذا كانوا في ثنية المرار (وىي طريؽ في الجبؿ تشرؼ عمى الحديبية)
بركت بو راحمتو ،فقاؿ الناس:
حؿ ،حؿ (اسـ صوت كانوا يزجروف بو الجماؿ) فمـ تتحرؾ ،فقالوا :خألت القصواء ،فقاؿ
صمّى اهلل عميو وسمـ :ما خألت ،وما ذاؾ ليا بخمؽ ،ولكف حبسيا حابس الفيؿ ،ثـ قاؿ:
والذي نفسي بيده ،ال يسألونني خطة يعظموف فييا حرمات اهلل إال أعطيتيـ إياىا ،ثـ
55
زجرىا فوثبت ،فعدؿ حتى نزؿ بأقصى الحديبية ،فمما وصموا إلى الحديبية وصمو الخبر أف
ىناؾ مف يريد أف يقاتمو فقاؿ إنو لـ يجئ لقتاؿ بؿ جاء معتم ار وأرسؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل
عميو وسمـ عثماف بف عفاف إلى مكة ليخبرىـ بذلؾ ثـ شاع الخبر أف عثماف قتؿ فأمر
رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بالبيعة وىي بيعة الرضواف ثـ جاء المشركوف إلى الحديبية
وجاءت بعد ذلؾ ثقيؼ ثـ حصمت عدة مفاوضات بيف رؤساء مف المشركيف وبيف النبي
حتى جاء سييؿ بف عمرو فصالحو عمى أف توضع الحرب عشر سنيف يأمف فييا
الناس ويكؼ بعضيـ عف بعض وعمى أف مف أتى رسوؿ اهلل مف أصحابو مف غير إذف
وليو رده رسوؿ اهلل عمييـ ومف أتى قريشا مف أصحابو لـ يردوه وأف بينيـ عيبة مكفوفة أي
ال غش فييا وأنو ال إسالؿ يعني ال سرقة وال إغالؿ يعني ال خيانة وأف يرجع في عامو
ىذا دوف أف يدخؿ مكة ولو ذلؾ في العاـ القابؿ يدخميا ثالثة أياـ معو سالح الراكب ال
يدخميا بغير السيوؼ في القرب ...ثـ أمر النبي صمى اهلل عميو وسمـ أصحابو أف ينحروا
ويحمقوا ولكنيـ لـ يستجيبوا حتى أشارت عميو أـ سممة رضي اهلل عنيا أف يقوـ ىو بذلؾ
حر تََواثَُبوا إلَى اْليَ ْد ِي وفعموا مثؿ ما فعؿ ثـ عاد النبي صمى
دوف أف يكمـ أحدا فمما َأرَْوهُ َن َ
اهلل عميو وسمـ إلى المدينة دوف عمرة ودوف قتاؿ.
غزوة فتح مكة8( :ىـ630/م)
قاؿ ابف القيـ :ىو الفتح األعظـ الذي أعز اهلل بو دينو ورسولو وجنده وحزبو األميف،
واستنقذ بو بمده وبيتو الذي جعمو ىدى لمعالميف ،مف أيدي الكفار والمشركيف ،وىو الفتح
الذي استبشر بو أىؿ السماء ،وضربت أطناب عزه عمى مناكب الجوزاء ،ودخؿ الناس بو
في ديف اهلل أفواجا ،وأشرؼ بو وجو األرض ضياء وابتياجا أه .
سبب الغزوة:
التزمت قريش بمعاىدة الحديبيةعاـ وبعض العاـ ،فقد ذىب الرسوؿ وأصحابو ألداء
عمرة القضاء فى العاـ السابع مف اليجرة .لكنيا ما لبثت أف نقضت المعاىدة عندما
أعانت قبيمة بنى بكر حميفتيا عمى قبيمة «خزاعة» حميفة رسوؿ اهلل فطمبت «خزاعة»
مف الرسوؿ نصرتيا طبقًا لممعاىدة التى بينيا وبينو ،فوعدىـ بالنصر ،وبدأ فى االستعداد
لغزومكة .شعر «أبو سفياف» زعيـ «مكة» بالخطأ الفاحش الذى وقعوا فيو ،فسافر إلى
«المدينة» لمقابمة الرسوؿ ولتجديد المعاىدة ،فمـ يقبؿ الرسوؿ اعتذاره.
56
أمر الناس بالتجيز دوف أف يخبرىـ بوجيتو .ثـ مضى حتى نزؿ بمر الظيراف وىو واد
وقاؿ ليـ ما قالو عميو الصالة والسالـ :مف دخؿ دار أبي سفياف فيو آمف ،ومف أغمؽ
عميو داره فيو آمف ،ومف دخؿ المسجد فيو آمف .فتفرؽ الناس إلى دورىـ والى المسجد.
وفي الصحيحيف عف عائشة رضي اهلل عنيا أف النبي صمى اهلل عميو وسمـ دخؿ عاـ الفتح
مف كداء التي بأعمى مكة .وقد أىدر النبي صمى اهلل عميو وسمـ دـ بعض المشركيف يوـ
الفتح .ووجد عميو الصالة والسالـ حوؿ البيت ثالثمائة وستيف نصبا ،فجعؿ يطعنيا بعود
في يده ويقوؿ( :جاء الحؽ وزىؽ الباطؿ ،جاء الحؽ وما يبدي الباطؿ وما يعيد).
57
سبب ما حدث ليـ فى أوؿ المعركة ،فقاؿ تعالى{ :ولقد نصركـ اهلل فى مواطف كثيرة ويوـ
رحبت ثـ وليتـ
شيئا وضاقت عميكـ األرض بما ُ
حنيف إذ أعجبتكـ كثرتكـ فمـ تغف عنكـ ً
جنودا لـ تروىا وعذب الذيف
ً مدبريف ثـ أنزؿ اهلل سكينتو عمى رسولو وعمى المؤمنيف وأنزؿ
كفروا وذلؾ جزاء الكافريف}.)27(.
حصار الطائف:
بعد ىزيمة «ىوازف» و «ثقيؼ» فى وادى « ُحنيف» .فرت فموليـ وتحصنت بالطائؼ
نحوا مف ثالثة أسابيع ،وكانت حصونيـ قوية،
فحاصرىـ النبى -صمى اهلل عميو وسمـ ً -
بعيدا عف مرمى
وأخذوا فى قذؼ المسمميف بالنباؿ فآذوىـ ،فاضطر النبى أف يتراجع بقواتو ً
النباؿ ،ثـ استشار أصحابو ماذا يفعؿ معيـ ،فقالوا لو« :يارسوؿ اهلل ىـ كضب فى جحر
إف أقمت عميو أخذتو واف تركتو فمف يضرؾ» ،أي أنيـ بعد فتح «مكة» وبعد ىزيمتيـ فى
وادى «حنيف» لف يستطيعوا الصمود فى وجيؾ ،وىـ مستسمموف ال محالة إف أطمت
الحصار ،واف رفعتو عنيـ فسيقدموف عميؾ مف تمقاء أنفسيـ ،فاقتنع الرسوؿ -صمى اهلل
عميو وسمـ -بيذا الرأى ،ورفع عنيـ الحصار ،ورفض أف يدعو عمييـ عندما طمب منو
اىد ثقيفًا و ِ
أت بيـ» .وبعد أقؿ مف عاـ جاءت ذلؾ بعض الصحابة ،بؿ قاؿ« :الميـ ِ
وفودىـ إلى الرسوؿ فى «المدينة» ،وأعمنوا إسالميـ ،فى رمضاف سنة ٜىػ ،وعيف
الياعمييـ.
الرسوؿ -صمى اهلل عميو وسمـ « -عثماف بف العاص الثقفى» و ً
غزوة تبوك9(:ىـ631/م)
قاـ النبى بقيادة ىذه الغزوة فى شير رجب سنة ٜىػ ،وىى آخر غزوة غزاىا ،وكاف
أخبار وصمت إليو مف عيونو التى بثيا لمراقبة تحركات الروـ فى الشماؿ ،أنيـ
ًا سببيا أف
كثير عمى المسمميف مف
يعدوف العدة لميجوـ عميو .والحقيقة أف عدواف الروـ كاف قد تكرر ًا
قبؿ ،فاعتدى الروـ عمى المسمميف وحاربوىـ فى غزوة «مؤتة» في جمادى اآلخرة سنة
ٛىػ ،وكادوا يستأصمونيـ ،لوال ميارة «خالد بف الوليد» -رضى اهلل عنو -الذى انسحب
مف أماميـ وأنقذ جيش المسمميف مف براثنيـ .وكاف عدوانيـ ذلؾ بدوف سبب يدعو إليو ألف
المسمميف لـ يذىبوا لمحاربتيـ ،وانما جاءوا لتأديب القبائؿ القاطنة بيف «الحجاز» و
58
كبير حيف قتمت
جرما ًا
«الشاـ» ،التى دأبت عمى قطع الطريؽ عمى المسمميف ،ثـ ارتكبت ً
«الحارث بف ُعمير» أحد سفراء النبى الذيف حمموا رسائمو إلى المموؾ واألمراء ،فأراد
النبى أف يؤدبيـ بيذه الغزوة ،ليكفوا أذاىـ عف المسمميف ،ولكف الروـ تدخموا بجيش
كبير -أكثر مف مائة ألؼ – بدوف سبب.
أخذ رسوؿ اهلل يرصد تحركات الروـ ،فمما وصمت إليو األخبار بعزميـ عمى اليجوـ
وسمى
جيشا لصده ،وكاف عدده ثالثيف ألفًا ،وىو أكبر جيش قاده النبىُ
ً عميو؛ أعد
«جيش العسرة» ،ألف المسافة كانت بعيدة والجو صيؼ شديد الح اررة ،والناس يحبوف المقاـ
فى مزارعيـ وبساتينيـ لجنى الثمار ،واالستمتاع بالظؿ الوارؼ ،ولكف مادامت الدولة
اإلسالمية ودعوتيا فى خطر ،فالبد مف التضحية واالستيانة بكؿ راحة ومتعة ،وقد ضحى
أصحاب النبى -صمى اهلل عميو وسمـ -تضحيات كبيرة ،وأسيموا في تجييز الجيش
واعداده بأمواليـ ،وبخاصة «عثماف بف عفاف» الذى جيز نحو ثمث الجيش مف مالو
الخاص .سار النبى حتى وصؿ إلى «تبوؾ» ،فإذا بو يعمـ أف جيش الروـ الذى كاف
مذعور إلى داخؿ «الشاـ» ،فعسكر النبى -صمى
ًا فر ٍ
يومئذ أقوى جيش فى الدنيا قد َّ ُيعد
اهلل عميو وسمـ – في «تبوؾ» ثالثة أسابيع ،رتب خالليا أوضاع المنطقة ،وأظير ىيبة
اإلسالـ وضرب ىيبة الروـ ضربة قاصمة ،جعمت سكاف اإلمارات الصغيرة فى المنطقة
الخاضعة لسيطرة الروـ -كأيمة و «أدرح» و «الجرساء» -ييرعوف إلى رسوؿ اهلل -
صمى اهلل عميو وسمـ -مذعنيف ،وقالوا لو :ماذا تريد منا؟ فعرض عمييـ اإلسالـ فرفضوا،
وقالوا :غير ىذا ،قاؿ« :تدفعوف الجزية ونؤمنكـ عمى عقائدكـ وأرواحكـ وأموالكـ»؛ فقبموا،
عاليا ودليال عمى تسامح اإلسالـ،
فأعطاىـ بذلؾ معاىدات ،وكاف تصرؼ النبى مثال ً
وأنو ال ُيفرض عمى الناس بالقوة.
عام الوفود(:ىـ630/9م)
كاف العاـ التاسع اليجري في حياة الرسوؿ مناط الفخر وذروة القوة ،ففيو خرج الرسوؿ
إلى تبوؾ عمى مشارؼ الشاـ ،ليمتقي بدولة الروـ التي كانت تيدد حدود الجزيرة
العربية ،فتييب الروـ لقاءه ،والذوا بالفرار ليتحصنوا داخؿ بالدىـ ،فكاف ىذا النصر
عجيبا يعتز بو المسمموف في
ً كبير وتحوًال
تطور ًا
ًا األبيض عمى دولة الروـ العظيمة
تاريخيـ .وفيو تتابعت الوفود مف سائر الجزيرة العربية لتعمف الوالء والطاعة لمرسوؿ -
59
صمى اهلل عميو وسمـ -ولتؤمف مستقبميا قبؿ أف يصؿ إلييا المد اإلسالمي ويكتسحيا تياره
القوي ،وكانت ىذه الوفود في كثرتيا وتتابعيا َح ِرّية بأف تجعؿ ىذا العاـ عاـ الوفود ،كما
كانت ىذه الوفود ىي الثمرة الطبيعية لكفاح المسمميف الطويؿ ،ألنيا البرىاف الواضح عمى
مسموعا في كؿ مكاف ،وأف الناس حينما سمعوه واطمأنوا إليو
ً أف صوت اإلسالـ قد أصبح
لبوا النداء واستجابوا لمدعاء.
واذا كاف مف حؽ القارئ أف يتعرؼ عمى ىذه الوفود ،فإف مف واجبنا أف نتحدث عنيـ
ألنيـ كانوا -في جممتيـ -سفراء أمناء حمموا رسالة الحؽ مف الرسوؿ -صمى اهلل عميو
وسمـ -وبمغوىا كاممة إلى أىميـ وذوييـ ،فشرح اهلل صدورىـ لإلسالـ ،ودخموا في ديف اهلل
اجا[ .سورة النصر] .فمف ىذه الوفودٔ وفد عبد القيسٕ ،وكاف مف خبرىـ أف الرسوؿ -
أفو ً
جالسا بيف أصحابو يوما فقاؿ ليـ" :سيطمع عميكـ مف ىنا
ً صمى اهلل عميو وسمـ -كاف
ركب مف أىؿ المشرؽ ،لـ يكرىوا عمى اإلسالـ ،قد أنضوا الركائبٖ وأفنوا الزاد ،الميـ
اغفر لعبد القيس" .فمما أتوا و أروا النبي -صمى اهلل عميو وسمـ -رموا بأنفسيـ عف الركائب
بباب المسجد ،وتبادروا إلى رسوؿ اهلل -صمى اهلل عميو وسمـ -يسمموف عميو.
مرحبا بالقوـ غير خزايا وال ندامى" ٗ.
فقاؿ -صمى اهلل عميو وسمـً " :
فقالوا :يا رسوؿ اهلل إنا نأتيؾ مف شقة بعيدة ،وانو يحوؿ بيننا وبينؾ ىذا الحي مف كفار
مضر ،وانا ال نصؿ إليؾ إال في شير حراـ ،فمرنا بأمر فصؿ.
محمدا رسوؿ
ً فقاؿ" :آمركـ باإليماف .أتدروف ما اإليماف باهلل؟ شيادة أف ال إلو إال اهلل ،وأف
اهلل ،وايتاء الزكاة ،وصوـ رمضاف وأف تعطوا مف المغنـ الخمس ،وأنياكـ عف الدنيا والحنتـ
والنقير والمزفت" .فأومأ -عميو الصالة والسالـ -بكفيو وقاؿ" :يا أشج إف رخصت لؾ في
مثؿ ىذه شربتو في مثؿ ىذه -وفرج بيف يديو وبسطيا -حتى إذا ثمؿ أحدكـ مف شرابو قاـ
إلى ابف عمو فضرب ساقو بالسيؼ"ومف ىذه الوفود وفد تميـ :وكاف مف خبرىـ أنيـ جاءوا
إلى رسوؿ اهلل -صمى اهلل عميو وسمـ -فمما خرج إلييـ تعمقوا بو وقالوا :نحف ناس مف تميـ
جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرؾ ونفاخرؾ ،فقاؿ ليـ -عميو الصالة والسالـ" :ما بالشعر
بعثنا وال بالفخار أمرنا" .ثـ صمى الظير ،واجتمع حولو رجاؿ الوفد يتفاخروف بمجدىـ
ومجد آبائيـ ،وطمبوا مف الرسوؿ -صمى اهلل عميو وسمـ -أف يأذف لخطيبيـ وشاعرىـ
بذلؾ ،فأذف الرسوؿ -صمى اهلل عميو وسمـ.
61
أوضاع المسممين عقب وفاة الرسول :
كانت وفاة الرسوؿ فجيعة كبرى اشتدت وطأتيا في نفوس المسمميف وأصابيـ
جميعا ليوؿ الكارثة ،وطاشت
ً الذىوؿ لما أُشيع عف وفاة الرسوؿ فاضطرب الصحابة
عقوؿ كثير منيـ واختمفت موافقيـ ،فمنيـ مف عقد لسانو ومنيـ مف أقعد ووقؼ عمر بف
رجاال مف المنافقيف يزعموف أف رسوؿ توفي ،واف رسوؿ اهلل
الخطاب يقوؿ« :إف ً
ما مات ،لكف ذىب إلى ربو كما ذىب موسى بف عمراف فغاب عف قومو أربعيف ليمة ثـ
رجع إلييـ بعد أف قيؿ :قد مات ،واهلل ليرجعف رسوؿ اهلل فميقطعف أيدي رجاؿ وأرجميـ
غائبا خارج المدينة يزعموف أنو مات» .وكاف أبو بكر الص ّْ
ّْديؽ في تمؾ المحظات ً
بمنزلو في السنح فمما وصؿ خطب الناس وقاؿ« :أييا الناس ،مف كاف يعبد اهلل فإف اهلل
محمدا قد مات» ،ثـ ق أر قولو تعالىَ « :وما ً محمدا فإف
ً حي ال يموت ،ومف كاف يعبد
61
فرغـ الذىوؿ الذي أصاب المسمميف لـ تمض ساعات قميمة مف وفاتو حتى سارعوا في
التفكير الختيار خميفة لو في ذلؾ الظرؼ العصيب .والواضح أف مسألة قيادة المسمميف
بعد وفاة النبي كانت مف المسائؿ الرئيسة ليـ ،فإف أىمية الحفاظ عمى كياف الدولة التي
أسسيا الرسوؿ جعمتيـ يتحركوف في اتجاه اختيار مف يخمفو قبؿ أف ينتيوا مف دفنو.
واف ىذا ليعطينا داللة واضحة عمى إيماف الصحابة بأف اإلسالـ ديف ودولة ،فال يجوز
أف يترؾ منصب اإلمامة ولو لساعات قميمة مف غير تولية ،وىذا يمثؿ قمة الشعور
بالمسؤولية مف جانب الصحابة . فاألمة في حاجة إلى قيادة لمحفاظ عمى وحدتيا
وكيانيا ،وسد الطريؽ أماـ كؿ مف تسوؿ لو نفسو استغالؿ ىذا الظرؼ العصيب الذي
تعرض لو المسمموف ،وصد كيد المتربصيف باإلسالـ والمسمميف
ويمكن أن نجمل ىذه األسباب في اآلتي:
ٔ -إدراؾ الصحابة الخطورة المحيطة بالدولة اإلسالمية ،سواء كانت األخطار الداخمية
المتمثمة في حركة الردة أو غيرىا ،تقوؿ عائشة رضي اهلل عنيا« :لما توفي الرسوؿ
ارتدت العرب واشرأبت الييودية ،والنصرانية ونجـ النفاؽ ،وصار المسمموف كالغنـ المطيرة
في الميمة الشاتية لفقد نبييـ» .واألخطار الخارجية ،حيث الروـ في الشاـ بعد معركة مؤتو
تحشد جيوشيا لتنقض عمى الدولة اإلسالمية؛ ىذه األخطار جعمتيـ يفكروف في لـ شمؿ
األمة وجمع كممتيا لمواجيتيا.
ٕ-انطالقًا مف إيمانيـ بأف النظاـ الذي وضع اإلسالـ أصولو يستمزـ وجود دولة عمى
رأسيا حاكـ وألىمية الخالفة في اإلسالـ جعمتيـ يتحركوف في اتجاه اختيار الخميفة كما
عبر عف ذلؾ سعيد بف زيد قاؿ« :كره المسمموف أف يبقوا بعض يوـ وليسوا جماعة».
ٖ-شعور الصحابة بالحاجة إلى حاكـ يحفظ كياف األمة ويوجييا لما فيو خيرىا وصالحيا
أيضا أف الصحابة رضواف اهلل تعالى عمييـ أجمعيف
.قاؿ ابف حجر الييتمي « :اعمـ ً
أجمعوا عمى أف نصب اإلماـ بعد انق ارض زمف النبوة ،بؿ جعموه أىـ الواجبات حيث
اشتغموا بو عف دفف رسوؿ اهلل . »فكاف ىذا الوعي السياسي في اجتماع كممة المسمميف
لتجنب الفتف والخالؼ.
نابعا مف فيميـ ألمر ىذا الديف ،وأنو ال يمكف أف يعيشوا بال
ٗ-كاف سبب اجتماعيـ ً
قيادة ،فشعورىـ بأنيـ بحاجة ضرورية إلى اختيار خميفة يتولى شئوف المدينة وأمر
62
المسمميف ،فمدينتيـ ميددة بعد وفاة النبي مف ىجمات األعراب ،كما أنيا ال تخمو مف
المنافقيف الذيف يتربصوف بالمسمميف الدوائر.
63
وصول خبر اجتماع األنصار إلى المياجرين:
حيف بمغ خبر اجتماع السقيفة إلى المياجريف كاف أوؿ مف تمقى الخبر ىو عمر بف
الخطاب كما في رواية الطبري ،حيث أقبؿ عمر إلى منزؿ النبي فأرسؿ إلى
إلي ،فأرسؿ إليو إني مشتغؿ.
أبي بكر وىو في الدار أف أخرج َّ
وفي رواية ابف ىشاـ أف أبا بكر بمغو الخبر ،حيث أتى آت يقوؿ لو « :إف األنصار
اجتمعت مع سعد بف عبادة» .
وُذكر أنو عندما عمـ أبو بكر وعمر رضي اهلل عنيما أف األنصار مجتمعوف في سقيفة
بني ساعدة الختيار الخميفة منيـ ،وخرجا إلى السقيفة عمى غير اتفاؽ بينيما وفي الطريؽ
لقيا أبا عبيدة بف الجراح فسارو إلى األنصار وأرادوا أف يعالجوا ىذا الموقؼ ،وفي طريقيـ
نصيبا» .قاؿ عمر بف الخطاب :فمما
ً يقوؿ بعضيـ لبعض« :إف ليـ في ىذا الحؽ
دنونا منيـ لقينا منيـ رجميف صالحيف فقاال :أيف تريدوف يا معشر المياجريف؟ فقمنا إخواننا
األنصار فقاال :ال ،عميكـ أف ال تقربوىـ واقضوا أمركـ يا معشر المياجريف .وىذا يدؿ تماـ
الداللة عمى أنو لـ يكف ىناؾ خالؼ عمى البيعة بيف المياجريف واألنصار .وحينما وصؿ
الثالثة إلى السقيفة شاركوا األنصار فيما يتحدثوف بو مف أمر الخالفة ،فبددوا مخاوفيـ
واطمأنوا عمى مستقبؿ اإلسالـ والمسمميف لما كانوا يسمعونو مف إجابات وتفاصيؿ تجاوزت
ما كاف يقدمو خطباء األنصار .
طريقة إدارة الحوار داخل السقيفة:
طويال
ً وبعد استعراض الروايات الصحيحة الجتماع السقيفة يتبيف أف االجتماع لـ يدـ
ولـ تجر فيو مناقشات طويمة بيف المياجريف واألنصار أو تنافس وصراع عمى تولي
الخالفة وانما جرت مناقشات وحوار وردود بيف المياجريف واألنصار وضع كؿ وجية
نظره ،وليذا لـ يثبت أف مف الصحابة مف ُمنع مف حضور اجتماع السقيفة ،فيي لـ تجر
في غرفة مغمقة أو حراسة مشددة وانما جرت في عريش مكشوفة وسط المدينة يحؽ
سرا ،ألنيـ أرادوه
لمجميع اإلنضماـ لالجتماع ،ولـ يسع األنصار أف يبقى خبر اجتماعيـ ً
عمى المأل فمـ يخفوه ،ولـ يثبت أف حضورىا كاف يقتضي إذف مف أحد ،أو يشترط لو
64
شرط ،بؿ كاف كؿ مف بمغو الحضور حضر ،وقد اجتمع في السقيفة ممثموف عف كؿ
الفئات ،والمشاركة فيما دار فييا مف حوار .أما موقؼ األنصار يوـ السقيفة وما حصؿ مف
حوار بيف أفراد منيـ مع الص ّْ
ّْديؽ والفاروؽ وأبو عبيدة فإنو لـ يخرج عف إشارات وارشادات
النبي التي سبؽ ذكر بعضو
وقد تعدد طرح وجيات النظر المؤيدة والمعارضة عبر حوار ودي استحضر فيو الجميع
أمانة الرسالة الختيار األصمح واألفضؿ ،وظموا يتحاوروف ويدرسوف اآلراء والمقترحات
واألفكار حتى استقروا عمى رأي واحد وىو ما يدؿ عمى أف تاريخ اإلسالـ قد شيد منذ
عيد الخالفة الراشدة حرية سياسية كاممة
يرى أصحاب ىذا الرأي أف األنصار ىـ أولى الناس بخالفة النبي فاختاروا سعد بف
عبادة لمخالفة لما كاف يحظى بو مف مكانة بينيـ.
وبالرغـ مف أف بعض المصادر ذكرت أف األنصار لـ يكف جميعيـ عمى ىذا الرأي ،فقد
خالفيـ جماعة ىـ عويـ بف ساعدة ،ومعف بف عدي ،وحبيب بف زيد وغيرىـ فكاف
رأييـ أف الخميفة يكوف مف المياجريف.
أكد المياجروف المشاركوف في السقيفة سبقيـ إلى اإلسالـ وقربيـ مف الرسوؿ وىـ
الذيف ىاجروا مف بمدىـ في سبيؿ مساندة الرسوؿ والوقوؼ إلى جانبو .وتمخصت
حججيـ في خطاب الص ّْ
ّْديؽ الذي أكد فيو صواب رأي المياجريف كما ذكرنا سابقاً .
وأف العرب لف ترض إال بقيادتيـ لمكانتيـ فييـ.
65
الرأي الثالث :الشراكة في السمطة:
أما الرأي الثالث الذي اقترحو الحباب بف المنذر لمتوفيؽ بيف الرأييف السابقيف وىو
قائال «منا أمير ومنكـ أمير» وفسرتيا رواية
الشراكة في السمطة بيف المياجريف واالنصار ً
رجال مف المياجريف حتى إذا مات
الزىري« :قاؿ األنصار منا أمير ومنكـ أمير نختار ً
رجال مف المياجريف ،وىكذا» .وىذا الرأي
رجال مف األنصار حتى إذا مات اخترنا ً
اخترنا ً
يعني مبدأ التعددية لمسمطة بيف حزبيف سياسييف ،أي أف يكوف لممياجريف أمير ولألنصار
أمير والتبادؿ في إمرة المؤمنيف ،بمعنى أف تكوف تارة عند المياجريف وتارة عند األنصار
وكاف ىذا الرأي جاء كحؿ وسط جو ًابا عمى الرفض القاطع مف المياجريف في تفرد
قائال« :الَّ ،
ولكنا األمراء وأنتـ األنصار باإلمارة .مع العمـ بأف أبو بكر رد عمى ذلؾ ً
الوزراء» ،كما رد عميو عمر بف الخطاب فقاؿ «سيفاف في غمد ال يصطمحاف»وأوضح
ليـ أف إقامة أميريف يفضي إلى التنازع واالختالؼ والفشؿ.
ٔ -خشية المجتمعيف مف وقوع الفتنة إف لـ توجد قيادة متفؽ عمييا .وذلؾ مف حرصيـ
عمى مستقبؿ الدعوة اإلسالمية ،واستعدادىـ المستمر لمتَّضحية في سبيميا.
ٕ -إف الحوار الذي دار في السقيفة قاـ عمى قاعدة األمف النفسي السائد بيف الفريقيف،
مثاليا لمسموؾ في المجاؿ السياسي .فال ىرج وال مرج ،وال
ً نموذجا
ً حيث قدـ المجتمعوف
تكذيب وال مؤامرة وال تخويف وال نقض لالتفاؽ ،بؿ تسميـ لمنصوص الشرعية التي تحكميـ.
ٗ-إف الحوار لـ يتـ عمى أساس عشائري قبمي ،وكاف يدور حوؿ مف ىو األحؽ بالخالفة
ىؿ ىـ األنصار الذيف آووا ونصروا؟ أوالمياجروف السابقيف في اإلسالـ .
66
وىكذا انتيى األمر بيف المجتمعيف في ذلؾ الجو مف الحرية الكاممة والنقاش المفتوح إلى
إسناد أمر الخالفة ألبي بكر الص ّْ
ّْديؽ ،فقد سأؿ عمرو بف حريث سعيد بف زيد قاؿ:
« ىؿ خالؼ أحد أبا بكر؟ قاؿ سعيد :ال ،لـ يخالفو إال مرتد أو كاد أف يرتد ،وقد أنقذ اهلل
األنصار ،فجمعيـ عميو وبايعوه .قاؿ :ىؿ قعد أحد مف المياجريف عف بيعتو؟ قاؿ سعيد:
ال .لقد تتابع المياجروف عمى بيعتو».
الصدِّيق:
أسباب اختيار المتحاورين ألبي بكر ِّ
بعد أف أنيى المتحاوروف حوارىـ انتقموا إلى الخطوة التالية والخاصة بتحديد مف يكوف
الخميفة ،فكاف البحث عمف تتوفر فيو شروط أىمية القيادة فكاف اختيار الجميع لمصديؽ
وىذا يقودنا إلى الحديث عف مكانة أبي بكر الص ّْ
ّْديؽ وتقديـ المياجريف واألنصار لو
لألسباب اآلتية:
ٔ -لما يتمتع بو مف مكانة عالية يقر لو الجميع بيا ،فكانت مكانتو معمومة لمجميع وقبولو
مف كؿ األنصار والمياجرينفقد فرض الص ّْ
ّْديؽ نفسو بنفسو مف واقع شخصيتو اليادئة،
والمعتدلة والمقبولة مف كؿ الصاحبة باإلضافة إلى حب النبي لو ،وقربو منو ،وأسبقيتو
في اإلسالـ.
ٕ -نظر المسمموف إلى أعظـ أركاف الديف فوجدوىا الصالة ،وأف الرسوؿ حيف مرض
واله إقامتيا فرضي المسمموف ما رضي ليـ رسوؿ اهلل فبايعوه واتخذوا مف إمامتو
لمصالة حجة لإلمامة الكبرى.
67
كؿ ىذه األسباب جعمت الصحابة المجتمعوف يجمعوف عمى استخالؼ أبي بكر والبيعة
لو ويقولوف :نعوذ باهلل أف نتقدـ أبا بكر .فبيعة الص ّْ
ّْديؽ في السقيفة كانت بإجماع
ورضى مف كؿ الصحابة .ولذلؾ انتيى األمر إلى رأي اتفؽ عميو الجميع وارتضوا بيوعميو
ففي ذلؾ الجو مف الحرية الكاممة والنقاش المفتوح دوف ضغط أو إكراه أو إلزاـ؛ استقر أمر
الخالفة ألبي بكر الص ّْ
ّْديؽ .
68