You are on page 1of 68

‫جامعة القرآن الكريم‬

‫والعلوم اإلسالمية‬
‫حضرموت‪/‬المكال‬

‫فقه السيرة‬

‫العام الدراسي‬
‫‪2023/ 2022‬م‬

‫‪1‬‬
‫بسـ اهلل الرحمف الرحيـ‬
‫الحمد هلل رب العالميف والصالة والسالـ عمى مف النبي بعده‪ ،‬وعمى آلو وصحبو ومف‬
‫اتبعو‪ .‬صالة وسالماً دائميف متالزميف إلى يوـ الديف‪.‬‬
‫اما بعد‪:‬‬
‫فبيف يديؾ أييا الطالب الكريـ ممخص لفقو السيرة النبوية تناوؿ أبرز احدث السيرة النبوية‬
‫ونرجوا مف اهلل التوفيؽ والسداد‪.‬‬
‫مدخل لدراسة السيرة النبوية‬
‫تمييد‪:‬‬
‫إف دراسة السيرة النبوية ليا أىمية كبيرة في فيـ اإلسالـ فالسيرة النبوية ليست مجرد‬
‫حوادث تاريخية تؤخذ منيا العبر والعظات فحسب‪ ،‬وِانما ىي فوؽ ىذا كمو‪ ،‬تجسيد عممي‬
‫ويتبع‪ ،‬ألنيا‬
‫لموحي الذي ُيقتدى بو‪ ،‬وىي منيج واضح ييتدى بيداه‪ ،‬وصراط مستقيـ ُيسمؾ ُ‬
‫منيج معياري غير خاضع لحدود الزماف والمكاف وِانما تقاس إِليو األعماؿ والمواقؼ‪،‬‬
‫وتُ َعاير عميو االجتيادات واآلراء وتوزف بميزانو الحؽ‪ .‬فنحف نحتاج إلى دراسة السيرة في‬
‫كؿ أحوالنا‪ ،‬في السراء او الضراء وفي حاؿ النصر أو اليزيمة‪ ،‬في حاؿ الضعؼ أو القوة‪.‬‬
‫مدلول كممة‪ :‬السيرة النبوية‪:‬‬
‫السيرة لغة‪:‬‬
‫السيرة‪ :‬الطريقة يقاؿ سار بيـ سيرة حسنة‪ .‬والسيرة الييئة وفي التنزيؿ الكريـ‪َ ﴿ :‬س ُن ِع ُ‬
‫يد َىا‬
‫وسّير ِسيرة‪ّ :‬‬ ‫ِ‬
‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حدث أحاديث األوائؿ‬ ‫س َيرتَيَا ْاألُولَى﴾ ‪َ .‬‬
‫اصطالحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫السيرة‬
‫ىي دراسة حياة النبي ‪ ‬وأخبار أصحابو عمى الجممة‪ ،‬وبياف أخالقو وصفاتو وخصائصو‬
‫ودالئؿ نبوتو‪ ،‬وأحواؿ عصره‪.‬‬
‫فالسيرة النبوية تشمؿ كؿ ما يتعمؽ بالنبي ‪ ،‬وأحواؿ عصره‪ ،‬وأخبار أصحابو‪ ،‬وتشتمؿ‬
‫عمى ذكر أدؽ التفاصيؿ عف حياة نبينا محمد ‪ ‬في المرحمة المكية والمدنية‪ ،‬وعمى ىذا‬
‫درج المؤلفوف عف حياة النبي ‪ ‬بتسمية مؤلفاتيـ بالسيرة النبوية‪ ،‬كالسيرة النبوية البف‬
‫إسحاؽ‪ ،‬وتيذيب ابف ىشاـ ‪.‬‬

‫ٔ) سورة طو‪. ٕٔ :‬‬


‫ٕ) ابف منظور‪ .‬جماؿ الديف محمد بف مكرـ ‪ ،‬لساف العرب‪ ،‬مادة سير‪ ،‬جػٗ‪ ،‬صٓ‪ ،ٖٜ‬تحقيؽ‪ /‬أميف محمد‬
‫عبدالوىاب ومحمد الصادؽ العبيدي‪ ،‬ط الثانية ‪ٔٗٔٚ‬ىػ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬ومؤسسة التاريخ‬
‫العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫خصوصية السيرة النبوية‪:‬‬
‫تمتاز السيرة النبوية بخصائص عدة ال يمكن حصرىا منيا‪:‬‬
‫أف صاحبيا وىو نبينا محمد ‪ ‬مرسؿ مف ربو إلى‬ ‫ٔ‪-‬كونيا ربانية المصدر‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫اس إِّْني َر ُسو ُؿ المَّ ِو إِلَْي ُك ْـ َج ِميعاً﴾(‪.)3‬‬ ‫الناس كافة‪ُ ﴿ :‬ق ْؿ َيا أَُّييَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫وىذه الخصوصية واف كاف يشاركو األنبياء في بعضيا إال أف نبينا انفرد بكونو ‪ ‬إلى‬
‫الناس كافة‪ ،‬فأوامره ونواىيو ممزمة ومقررة لمناس جميعاً‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬ثبوتيا وصحة ما جاء فييا‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬شموليا وكماليا‪ :‬فال تكاد تجد سيرة لنبي مف أنبياء اهلل السابقيف وصفت وصفاً دقيقاً‬
‫ابتداء مف والدتو حتى وفاتو وبقيت بعده‪ ،‬فضالً عف غيرىـ مف البشر‪ ،‬لكف سيرة نبينا ‪‬‬
‫شممت جميع مراحؿ حياتو‪.‬‬
‫ٗ‪ -‬وسطيتيا ويسرىا‪.‬‬
‫أىمية دراسة السيرة النبوية ومعرفتيا‪:‬‬
‫تكمن أىمية دراسة السيرة النبوية في النقاط األساسية اآلتية‪:‬‬
‫رسما لطريقو التي سمكيا‪ ،‬وقد‬
‫ٔ ‪ -‬التثبت والتوثؽ مف سيرة الرسوؿ ‪ ‬ألف سيرتو ‪ ‬تعد ً‬
‫أمرنا اهلل تعالى باتباع ىديو‪ ،‬فكاف ال بد مف توثيؽ واثبات كؿ ما ينسب إلى سيرة النبي ‪‬‬
‫ألف ذلؾ أصؿ مف أصوؿ الديف‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬معرفة تفاصيؿ سيرتو ‪ ‬حتى يمكف االقتداء بو في جميع شئوف الحياة‪ ،‬حيث كانت‬
‫عمميا ألحكاـ اإلسالـ وشريعتو‪ ،‬حتى ال يظف ظاف أف ىذه األحكاـ غير‬ ‫ً‬ ‫سيرتو تطبيقًا‬
‫اف َي ْر ُجو‬ ‫ِ‬ ‫قابمة لمتطبيؽ‪ ،‬وقد قاؿ اهلل تعالى‪{ :‬لَقَ ْد َكاف لَ ُكـ ِفي رس ِ َّ ِ‬
‫ُس َوةٌ َح َس َنةٌ ل َم ْف َك َ‬
‫وؿ المو أ ْ‬ ‫َُ‬ ‫َ ْ‬
‫المَّوَ َواْل َي ْوَـ ْاآل ِخ َر}(‪.)4‬‬
‫ٖ ‪ -‬دعـ صدؽ نبوة محمد ‪، ‬إف تقديـ السيرة النبوية الموثقة بأسانيدىا المتصمة إلى‬
‫مصادرىا األصمية المتضافرة‪ ،‬والتي تبيف كؿ ما يتعمؽ بحياتو‪ ‬بجميع تفاصيميا سواء‬
‫كاف في شئونو الخاصة أو العامة‪ ،‬كؿ ذلؾ يدعـ صدؽ نبوة محمد‪. ‬‬
‫ٗ ‪-‬معرفة عظمة اإلسالـ وقوتو فعندما ندرؾ أف ىذا الديف قد أرسى قواعده وأحكامو وتـ‬
‫تشييده في فترة وجيزة ىي مدة حياتو ‪ ‬بعد الرسالة التي لـ تجاوز ثالثا وعشريف سنة‪.‬‬

‫ٖ) سورة األعراؼ‪.ٔ٘ٛ :‬‬


‫ٗ) سورة األحزاب‪.ٕٔ :‬‬

‫‪3‬‬
‫تطور دراسة السيرة النبوية عبر العصور‪:‬‬
‫أىـ المراحؿ التي تمثؿ منعطفات أو ركائز أساسية في دراسة ورواية السيرة النبوية‬
‫ونستطيع تمخيص ىذه المراحؿ في‪:‬‬
‫‪ - 1‬مرحمة الرواية ‪ :‬إف المرحمة األولى مف مراحؿ دراسة السيرة النبوية كانت مرحمة‬
‫رواية األحداث والتي بدأىا الصحابة رضواف اهلل عمييـ مف رواة األحاديث النبوية وىي‬
‫األحاديث التي تتناوؿ المواقؼ واألحداث وىي التي تبدأ عادة بمثؿ قوليـ‪ :‬كنا مع رسوؿ‬
‫اهلل ‪ ‬ويمحؽ بذلؾ تميـ الداري الذي أجمسو عمر بف الخطاب ‪ ‬في مسجد رسوؿ اهلل‬
‫‪ ‬يقص عمى الناس يوما في األسبوع فمما كانت خالفة عثماف بف عفاف ‪ ‬سمح لو‬
‫بيوميف ‪.‬وكاف ذلؾ بال شؾ في العشريف سنة التالية لوفاة النبي ‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬مرحمة التجميع‪ :‬وىي التي قاـ عمييا عروة بف الزبير واباف بف عثماف بف عفاف‬
‫ووىب بف منبو وشرحبيؿ بف سعد وبف شياب الزىري‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬مرحمة التدوين‪ :‬ومثميا محمد بف اسحاؽ المتوفي عاـ ٕ٘ٔ ىػ‬
‫ٗ ‪ -‬مرحمة التوثيق والتنقيح والتيذيب‪ :‬ومثميا بف ىشاـ الذي ىذب كتاب بف إسحاؽ‬
‫وأخرجو لنا في (سيرة بف ىشاـ)‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وتالميذىـ‪ :‬وىي منعطؼ خطير في تناوؿ السيرة النبوية بدأ‬ ‫٘ ‪ -‬مرحمة المستشرقين‬
‫مف النصؼ الثاني مف القرف التاسع عشر‪،‬واعتمدت ىذه المرحمة ما يعرؼ بالمنيج الذاتي‬
‫في تناوؿ التاريخ وىو منيج يقدـ ذاتية الكاتب عف وثائقية الوقائع وىي المرحمة بثت‬
‫شكوكا حوؿ العالقات األخوية المتميزة بيف الصحابة رضواف اهلل عمييـ‪ ،‬والتي شككت‬
‫كذلؾ في معجزات النبي ‪ ‬الحسية المختمفة الثابتة بطرؽ الثبوت اإلسالمية المختمفة ‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬مرحمة الصحوة‪ :‬وىي المرحمة التي تعد انقالبا عمى مرحمة المستشرقيف والتي أعادت‬
‫لمسيرة النبوية بياءىا باعتماد المنيج العممي‪ ،‬ثـ تابعت في ىذا المضمار إضافة المنيج‬
‫التحميمي واالستنباطي الستخراج الدروس واألحكاـ‪ ،‬وىي المرحمة التي يطمئف الدارس‬
‫والباحث إلنتاجيا في مجموعو‪ ،‬ويمثؿ ىذه المرحمة عمى سبيؿ المثاؿ مصطفى والبوطي‬

‫٘) يدرس المستشرقوف السيرة النبوية ويقوموف بالتحميؿ الدقيؽ ألخبار أصحاب السير مف عدة وجوه‪ ،‬ولكف إقباليـ‬
‫يختمؼ اختالفا تاما عف إقباؿ المسمميف‪ .‬فبحوثيـ المتحاممة عادة متوجية إلنشاء فكر وتصور مشوه عف اإلسالـ‬
‫؛ لذلؾ كاف ‪ -‬وال يزاؿ ‪ -‬عمماء المسمميف ينتقدوف ُّ‬
‫ويردوف عمى ىذا التوجو في الثقافة الغربية‬ ‫ورسوؿ اهلل ‪‬‬
‫المسمى باالستشراؽ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫والمباركفوري (الرحيؽ المختوـ) وعماد الديف خميؿ (دراسات في السيرة) ومحمد أحمد‬
‫باشميؿ (معارؾ اإلسالـ الفاصمة) و محمد الغزالي (فقو السيرة)‪ ،‬وغيرىـ‪.‬‬
‫مصادر السيرة النبوية‬
‫تعتمد دراسة السيرة النبوية عمى مصادر متنوعة‪ ،‬منيا األصمية ومنيا التكميمية‪ ،‬فمف‬
‫المصادر األصمية في دراسة السيرة النبوية القرآف الكريـ والحديث الشريؼ وكتب الدالئؿ‬
‫والشمائؿ وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة‪ ،‬أما المصادر التكميمية فيي ال تختص‬
‫بالسيرة أو التاريخ‪ ،‬بؿ تتناوؿ موضوعات أخرى لكنيا تفيد في حقؿ دراسة السيرة‪ ،‬مثؿ‬
‫كتب األدب ودواويف الشعر وكتب الرجاؿ والتراجـ وكتب الجغرافية التاريخية وكتب الفقو‬
‫وكتب األنساب ومعاجـ المغة ‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫من أىم مصادر السيرة النبوية‪:‬‬
‫‪ - 1‬القرآن الكريم‪:‬‬
‫يقص عمينا جميع مناحي السيرة النبوية‪ ،‬وطرفا مف حياتو صمّى‪ ‬قبؿ النبوة‪،‬‬
‫القرآف ّ‬
‫فيذكر لنا يتمو‪ ،‬وفقره‪ ،‬وتحنثو‪ ،‬كما يذكر لنا شؤونو بعد النبوة مف ىبوط الوحي اإلليي‬
‫عميو‪ ،‬وتبميغو ّإياه‪ ،‬والعروج بو‪ ،‬وعداوة األعداء‪ ،‬وىجرتو‪،‬وقد تحدث القرآف عما لقيو عميو‬
‫الصالة والسالـ مف أذى وعنت في سبيؿ دعوتو‪ ،‬كما ذكر ما كاف المشركوف ينعتونو بو‬
‫مف السحر والجنوف صدا عف ديف اهلل عز وجؿ‪ ،‬وقد تعرض القرآف ليجرة الرسوؿ ‪ ‬كما‬
‫تعرض ألىـ المعارؾ الحربية التي خاضيا بعد ىجرتو‪ ،‬فتحدث عف معركة بدر‪ ،‬وأحد‪،‬‬
‫واألحزاب‪ ،‬وصمح الحديبية‪ ،‬وفتح مكة‪ ،‬وغزوة حنيف‪ ،‬وتحدث عف بعض معجزاتو‪ ،‬كمعجزة‬
‫اإلسراء والمعراج‪.‬‬
‫وبالجممة فقد تحدث عف كثير مف وقائع سيرة الرسوؿ ‪ ،‬ولما كاف الكتاب الكريـ أوثؽ‬
‫كتاب عمى وجو األرض‪ ،‬وكاف مف الثبوت المتواتر بما ال يفكر إنساف عاقؿ في التشكيؾ‬
‫بنصوصو وثبوتيا التاريخي‪ ،‬فإف ما تعرض لو مف وقائع السيرة يعتبر أصح مصدر لمسيرة‬
‫عمى اإلطالؽ‪.‬‬
‫‪ - 2‬السنة النبوية الصحيحة‪:‬‬
‫وىي كتب حفظت لنا مف أقواؿ النبي ‪ ،‬وأفعالو‪ ،‬وأحوالو ‪ .‬ومف الكتب المصنفة في‬
‫الحديث الكتب الستة الصحاح والكتب الستة ىي‪ :‬البخاري‪ ،‬ومسمـ‪ ،‬وأبوداود‪ ،‬والنسائي‪،‬‬
‫والترمذي‪ ،‬وابف ماجو‪ .‬ويضاؼ إلييا‪ :‬موطأ اإلماـ مالؾ‪ ،‬ومسند اإلماـ أحمد‪ ،‬فيذه الكتب‬
‫وخاصة البخاري ومسمـ في الذروة العميا مف الصحة والثقة والتحقيؽ‪ ،‬أما الكتب األخرى‪،‬‬
‫فقد تضمنت الصحيح والحسف‪ ،‬وفي بعضيا الضعيؼ أيضا‪ .‬وىذه الكتب التي حوت القسـ‬
‫األكبر مف حياة النبي صمى اهلل عميو وسمـ‪ ،‬ووقائعو وحروبو‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ - 3‬الشعر العربي المعاصر لعيد الرسالة‪:‬‬
‫مما ال شؾ فيو أف المشركيف قد ىاجموا الرسوؿ ‪ ‬ودعوتو عمى ألسنة شعرائيـ‪ ،‬مما‬
‫اضطر المسمميف إلى الرد عمييـ عمى ألسنة شعرائيـ‪ ،‬كحساف بف ثابت‪ ،‬وعبد اهلل ابف‬
‫رواحة‪ ،‬وغيرىما‪ ،‬وقد تضمنت كتب األدب‪ ،‬وكتب السيرة التي صنفت فيما بعد قسطا كبي ار‬
‫مف ىذه األشعار التي نستطيع أف نستنتج منيا حقائؽ كثيرة عف البيئة التي كاف يعيش‬
‫فييا الرسوؿ ‪ ،‬والتي ترعرعت فييا عقيدة اإلسالـ أوؿ قياميا‪.‬‬
‫‪ -4‬كتب المغازي‪:‬‬
‫ومعظـ ما فييا ذكر الغزوات النبوية‪ ،‬وقد تتضمف أمو ار أخرى‪ .‬ومف المصنفات القديمة في‬
‫المغازي مغازي عروة بف الزبير‪ ،‬ومغازي موسى بف ومغازي زياد وغيرىـ‪.‬‬
‫‪-5‬كتب التاريخ اإلسالمي‪:‬‬
‫ومف أوثقيا‪ ،‬وأصحيا‪ ،‬وأطوليا‪ ،‬وأضخميا تاريخ الرسؿ والمموؾ لإلماـ أبي جعفر‬
‫الطبري‪ ،‬والتاريخ الصغير‪ ،‬والتاريخ الكبير لمحمد بف إسماعيؿ البخاري‪ ،‬وتاريخ ابف حياف‪،‬‬
‫وتاريخ ابف أبي خيثمة البغدادي وغيرىـ‪.‬‬
‫‪ -6‬كتب الدالئل‪:‬‬
‫وتسمى بكتب الدالئؿ‪ ،‬ومنيا دالئؿ النبوة ألبي‬ ‫ّ‬ ‫وىي الكتب التي ألفت في المعجزات‪،‬‬
‫إسحاؽ الحربي‪ ،‬ودالئؿ النبوة البف قتيبة ودالئؿ النبوة لإلماـ البييقي ودالئؿ النبوة ألبي‬
‫نعيـ األصفياني‪.‬‬
‫‪ -6‬كتب الشمائل‬
‫وىي مقصورة عمى ذكر أخالؽ النبي ‪ ،‬وعاداتو‪ ،‬وفضائمو‪ ،‬وما كاف يعمؿ في يومو‬
‫مف الصباح إلى المساء‪ ،‬وفي ليمة مف المساء إلى الصباح‪ .‬وأشير ىذه الكتب وأوليا‬
‫أىميا وأضخميا‬
‫(كتاب الشمائؿ) لمحافظ الترمذي‪ .‬وقد كتب كبار العمماء زيادات عميو‪ّ ،‬‬
‫وأطوليا (كتاب الشفا في حقوؽ المصطفى) لمقاضي عياض‪ ،‬وقد شرحو الشياب‬
‫وسماه‪ :‬نسيـ الرياض‪ ،‬وصنؼ في ىذا الموضع عمماء آخروف‪.‬‬
‫الخفاجي‪ّ ،‬‬
‫تطور التأليف في السيرة‪:‬‬
‫ىذا وال يزاؿ العمماء يؤلفوف في سيرة الرسوؿ ‪ ‬بأسموب حديث يتقبمو ذوؽ أبناء العصر‪،‬‬
‫ومف أشير الكتب المؤلفة في العصر الحديث كتاب الرحيؽ المختوـ لممباركفوري ونور‬
‫اليقيف في سيرة سيد المرسميف لمحمد الخضري بؾ‪ ،‬واسيرة النبوية عرض وقائع وتحميؿ‬
‫أحداث لمدكتور عمي بف محمد الصالبي ‪ ،‬وقصة السيرة النبوية سيرة ودعوة( العيد المكي)‬
‫لعبدالرحمف العبيدي‪ ،‬وغيرىـ كثير ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫صورة العالم قبل البعثة‬
‫كانت اإلنسانية قبؿ بزوغ فجر اإلسالـ العظيـ تعيش مرحمة مف أحط مراحؿ التاريخ‬
‫البشري في شؤونيا الدينية واالقتصادية والسياسية واالجتماعية‪ ،‬وتعاني مف فوضى عامة‬
‫في كافة شؤوف حياتيا‪ ،‬وىيمف المنيج الجاىمي عمى العقائد واألفكار والتصورات والنفوس‪،‬‬
‫وأصبح الجيؿ واليوى واالنحالؿ والفجور‪ ،‬والتجبر والتعسؼ مف أبرز مالمح المنيج‬
‫الجاىمي المييمف عمى دنيا الناس‪ .‬وضاع تأثير الديانات السماوية عمى الحياة أو كاد‬
‫بسبب ما أصابيا مف التبديؿ والتحريؼ والتغيير الذي جعميا تفقد أىميتيا باعتبارىا رسالة‬
‫اهلل إلى خمقو‪ ،‬وانشغؿ أىميا بالصراعات العقدية النظرية التي كاف سببيا دخوؿ األفكار‬
‫البشرية‪ ،‬والتصورات الفاسدة عمى ىذه األدياف‪ ،‬حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينيـ‪،‬‬
‫ومف بقي منيـ لـ يحرؼ ولـ يبدؿ قميؿ نادر‪ ،‬وآثر االبتعاد عف دنيا الناس ودخؿ في حياة‬
‫يأسا مف اإلصالح‪ ،‬ووصؿ الفساد إلى جميع‬ ‫طمعا في النجاة بنفسو ً‬
‫ً‬ ‫الخموة والعزلة‬
‫األصناؼ واألجناس البشرية‪ ،‬ودخؿ في جميع المجاالت بال استثناء‪.‬‬
‫ففي الجانب الديني تجد الناس إما أف ارتدوا عف الديف أو خرجوا منو أو لـ يدخموا فيو‬
‫أصال‪ ،‬أو وقعوا في تحريؼ الديانات السماوية وتبديميا‪.‬‬
‫وتزعـ ىذا الفساد زعماء الشعوب واألمـ مف القادة والرىباف والقساوسة والدىاقيف والمموؾ‪،‬‬
‫وأصبح العالـ في ظالـ دامس وليؿ بييـ‪ ،‬وانحراؼ عظيـ عف منيج اهلل سبحانو وتعالى‪.‬‬
‫فالييودية‪ :‬أصبحت مجموعة مف الطقوس والتقاليد ال روح فييا وال حياة‪ ،‬وتأثرت بعقائد‬
‫األمـ التي جاورتيا واحتكت بيا‪ ،‬والتي وقعت تحت سيطرتيا فأخذت كثي ار مف عاداتيا‬
‫وتقاليدىا الوثنية الجاىمية‪ .‬أما المسيحية‪ :‬فقد امتحنت بتحريؼ الغاليف‪ ،‬وتأويؿ الجاىميف‬
‫واختفى نور التوحيد واخالص العبادة هلل وراء السحب الكثيفة ‪ ،‬وانتشرت الوثنية‪ ،‬وانتكست‬
‫فيو األخالؽ‪ ،‬وسادت فيو الجياالت والخرافات‪ ،‬وأىدر فيو الكثير مف حقوؽ اإلنساف‪،‬‬
‫وتغمبت فيو قوى الشر والبغي والضالؿ عمى دعاة الحؽ والخير واليدى‪ ،‬وساد العالـ ألواف‬
‫مف الترؼ واإلغراؽ في الممذات والشيوات‪ ،‬سواء في ذلؾ البيئات المتحضرة أـ البدوية‪.‬‬
‫فمف وثنية في شبو الجزيرة العربية وغيرىا‪ ،‬إلى عبادة لمشمس والكواكب في بالد سبأ‪،‬‬
‫وبابؿ‪ ،‬وكمدانيا‪ ،‬وغيرىا‪ ،‬ومف مجوسية في بالد فارس وما جاورىا‪ ،‬إلى ثنوية تقوؿ بإلو‬
‫النور والو الظممة‪ ،‬إلى صابئة ليس ليـ ديف‪ ،‬ومف برىمية وعبادة لمحيواف وال سيما البقرة‬
‫في بالد اليند وما جاورىا‪ ،‬إلى بوذية تقوـ عمى تأليو بوذا وعبادتو في بالد الصيف وما‬
‫جاورىا‪ ،‬وىكذا نرى أف توحيد اهلل وعبادتو واحده أمر يكاد يكوف معدوما في األرض‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫مراحل الدعوة اإلسالمية‬
‫مرت الدعوة اإلسالمية فى حياتو ‪ ‬منذ بعثتو الى وفاتو بأربع مراحل ‪:‬‬
‫المرحمة األولى ‪ :‬الدعوة س اًر واستمرت ثالث سنوات ‪.‬‬
‫المرحمة الثانية‪ :‬الدعوة جي اًر وبالمساف فقط دوف قتاؿ واستمرت إلى اليجرة‪.‬‬
‫المرحمة الثالثة ‪ :‬الدعوة جي اًر مع قتاؿ المعتديف والبادئيف بالقتاؿ أو الشر واستمرت ىذه‬
‫المرحمة الى عاـ صمح الحديبية ‪.‬‬
‫المرحمة الرابعة ‪ :‬الدعوة جي اًر مع محاربة كؿ مف وقؼ فى سبيؿ الدعوة أو امتنع عف‬
‫الدخوؿ في اإلسالـ ‪ -‬بعد فترة الدعوة واإلعالـ ‪ -‬مف المشركيف أو المالحدة أو الوثنييف ‪.‬‬
‫وكانت ىذه المرحمة ىى التى استقر عمييا أمر الشريعة اإلسالمية وحكـ الجياد في‬
‫اإلسالـ ‪ .‬ومف يتأمؿ مراحؿ الدعوة النبوية‪ ،‬المرحمة السرية‪ ،‬والعمنية‪ ،‬واليجرة‪ ،‬واقامة‬
‫الدولة‪ ،‬والفتوحات‪ ،‬كميا مراحؿ متكاممة غير متضاد وال متقاطعة‪ ،‬وكانت كؿ واحدة مف‬
‫ىذه األجزاء ىدفاً مستقالً في فترة زمنية معينة‪ ،‬تكاممت لتشكؿ اليدؼ الكبير (دعوة‬
‫اإلسالـ)‪.‬‬
‫كما يمكف أف نقسـ عيد الدعوة المحمدية‪ -‬عمى صاحبيا الصالة والسالـ والتحية‪ -‬إلى‬
‫دوريف يمتاز أحدىما عف اآلخر تماـ اإلمتياز وىما‪:‬‬
‫‪ -1‬الدور المكي ‪ :‬ثالث عشرة سنة تقريبا‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬الدور المدني‪ :‬عشر سنوات كاممة‪.‬‬
‫ثـ يشتمؿ كؿ مف الدوريف عمى مراحؿ لكؿ منيا خصائص تمتاز بيا عف غيرىا‪ ،‬ويظير‬
‫ذلؾ جميا بعد النظر الدقيؽ في الظروؼ التي مرت بيا الدعوة خالؿ الدوريف‪.‬‬
‫مراحل الدور المكي‬
‫ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثالث مراحل‪:‬‬
‫‪-1‬مرحمة الدعوة السرية‪:‬‬
‫استمرت ىذه الدعوة السرية نحو ثالث سنوات(‪ ،)6‬ازداد فييا عدد المسمميف زيادة يسيرة‪.‬‬
‫تسرب إلييا‪ ،‬لكنيا‬
‫ويبدو أف خبر الدعوة لـ يعد س ار بصورة مطمقة بالنسبة إلى قريش ‪ ،‬فقد َّ‬
‫لـ تعبأ بيذا فى البداية‪ ،‬ولعميا واثقة بقوتيا وقدرتيا عمى مقاومة ىذه الدعوة مف ناحية‪،‬‬
‫وواثقة بأف حمميا عمى ترؾ ديف آبائيا وأجدادىا أمر صعب مف ناحيةأخرى‪.‬‬

‫‪ )ٙ‬قيؿ أنيا سنتيف ونصؼ وقيؿ ثالث سنوات وقيؿ اربعاً‪ .‬و تحديد الدعوة السرية بثالث سنيف‪ ،‬لـ يصح فيو خبر‬
‫ولـ يثبت‪ .‬وقد ذكر البالذري أنيا أربع سنيف وروى ذلؾ عف عف عائشة ‪ -‬رضي اهلل عنو ‪ -‬قالت‪" :‬دعا رسوؿ‬
‫سر أربع سنيف‪.‬‬
‫ًا‬ ‫اهلل ‪‬‬
‫‪8‬‬
‫عرض الرسوؿ ‪ ‬اإلسالـ في ىذه المرحمة عمى ألصؽ الناس بو وآؿ بيتو‪ ،‬وأصدقائو‪،‬‬
‫فدعاىـ إلى اإلسالـ‪ ،‬ودعا إليو كؿ مف توسـ فيو خي ار ممف يعرفيـ ويعرفونو‪ ،‬يعرفيـ بحب‬
‫اهلل والحؽ والخير‪ ،‬ويعرفونو بتحري الصدؽ والصالح‪ ،‬فأجابو مف ىؤالء‪ -‬الذيف لـ‬
‫تخالجيـ ريبة قط في عظمة الرسوؿ ‪ ‬وجاللة نفسو وصدؽ خبره‪ -‬جمع عرفوا في‬
‫التاريخ اإلسالمي بالسابقيف األوليف‪ ،‬وفي مقدمتيـ زوجة النبي ‪ ‬أـ المؤمنيف خديجة بنت‬
‫خويمد‪ ،‬ومواله زيد بف حارثة بف شرحبيؿ الكمبي‪ ،‬وابف عمو عمي بف أبي طالب‪ -‬وكاف‬
‫صبيا يعيش في كفالة الرسوؿ‪ ‬وصديقو الحميـ أبو بكر الصديؽ‪ .‬أسمـ ىؤالء في أوؿ‬
‫يوـ مف أياـ الدعوة ‪.‬‬
‫ثـ نشط أبو بكر في الدعوة إلى اإلسالـ‪ ،‬وكاف رجال مألفا محببا سيال‪ ،‬ذا خمؽ ومعروؼ‪،‬‬
‫وكاف رجاؿ قومو يأتونو ويألفونو‪ ،‬لعممو وتجارتو‪ ،‬وحسف مجالستو‪ ،‬فجعؿ يدعومف يثؽ بو‬
‫مف قومو ممف يغشاه ويجمس إليو‪ ،‬فأسمـ بدعائو عثماف بف عفاف‪ ،‬والزبير بف العواـ ‪،‬‬
‫وعبد الرحمف بف عوؼ‪ ،‬وسعد بف أبي وقاص‪ ،‬وطمحة بف عبيد اهلل‪ .‬فكاف ىؤالء النفر‬
‫الثمانية الذيف سبقوا الناس ىـ الرعيؿ األوؿ وطميعة اإلسالـ‪.‬‬
‫ومن أوائل المسممين بالؿ بف رباح ‪ ،‬ثـ تالىـ أميف ىذه األمة أبو عبيدة عامر بف الجراح‬
‫‪ ،‬وأبو سممة بف عبد األسد‪ ،‬واألرقـ بف أبي األرقـ ‪ ،‬وعثماف بف مظعوف وأخواه قدامة‬
‫وعبد اهلل‪ ،‬وعبيدة بف الحارث بف المطمب بف عبد مناؼ‪ ،‬وسعيد بف زيد العدوي‪ ،‬وامرأتو‬
‫فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بف الخطاب‪ ،‬وخباب بف األرت وعبد اهلل بف‬
‫مسعود وخمؽ سواىـ‪ ،‬وأولئؾ ىـ السابقوف األولوف‪ ،‬وىـ مف جميع بطوف قريش وعدىـ ابف‬
‫ىشاـ أكثر مف أربعيف نف ار‪.‬‬
‫استمرت مرحمة الدعوة السرية ثالث سنيف‪ ،‬ودخؿ في اإلسالـ ستوف مسمما ومسممة مف‬
‫كافة طبقات وقبائؿ المجتمع المكي‪ ،‬حتى أنو ال تخمو عشيرة مكية مف شخص أو أكثر‬
‫أسمموا مف بينيا‪.‬أسمـ ىؤالء سرا‪ ،‬وكاف الرسوؿ ‪ ‬يجتمع بيـ ويرشدىـ إلى الديف متخفيا؛‬
‫ألف الدعوة كانت ال تزاؿ فردية وسرية‪.‬‬
‫ٕ‪-‬مرحمة إعالن الدعوة في أىل مكة‪:‬‬
‫لما اكتممت سف النبي ‪ ‬أربعيف‪ ،‬أتاه جبريؿ‪ ،‬بالقرآف المبيف‪ ،‬فقاـ النبي صمى ‪ ‬يدعو‬
‫إلى ديف اهلل س اًر لمدة ثالث سنوات‪ ،‬فاستجاب لو بعض أقاربو وأصدقائو ومف شاء اهلل‬
‫ىدايتو‪ ،‬ثـ أمره اهلل أف يجير بالدعوة‪ ،‬فقاؿ تعالى ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عف‬
‫المشركيف﴾ (‪.)7‬‬

‫‪ )ٚ‬سورة الحجر‪.ٜٗ :‬‬

‫‪9‬‬
‫بدء الدعوة الجيرية‪:‬‬
‫يف}‬ ‫انقضت مرحمة الدعوة السرية بنزوؿ اآلية { َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ؾ ْاألَ ْق َربِ َ‬
‫أخرج الشيخاف عف ابف عباس رضي اهلل عنيما قاؿ‪ :‬لما نزلت { َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ؾ ْاألَ ْق َربِ َ‬
‫يف}‬
‫خيال بسفح ىذا الجبؿ‪،‬‬ ‫بطنا بطنا‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أرأيتـ لو قمت لكـ إِف ً‬ ‫نادى رسوؿ اهلل في قريش ً‬
‫كذبا قط‪ .‬قاؿ‪ :‬فِإني نذير لكـ بيف يدي عذاب‬
‫مصدقي؟ قالوا‪ :‬نعـ‪ ،‬ما جربنا عميؾ ً‬
‫َّ‬ ‫أكنتـ‬
‫شديد‪ .‬فقاؿ أبو ليب‪ :‬تبَّا لؾ‪ ،‬أليذا جمعتنا؟!‪.‬‬
‫وامتثاال ليذا األمر اإلليى بدأ النبى ‪ ‬بدعوة األقربيف مف أىمو وعشيرتو إلى اإلسالـ‪.‬وبعد‬
‫اإلعداد العظيـ الذي قاـ بو النبي ‪ ‬لتربية أصحابو‪ ،‬وبناء الجماعة المسممة المنظمة‬
‫األولى عمى أسس عقدية‪ ،‬وتعبدية وخمقية رفيعة المستوى‪ ،‬حاف موعد إعالف الدعوة بنزوؿ‬
‫ِ‬ ‫ؾ لِم ِف اتَّبع َ ِ‬ ‫اخ ِف ْ‬ ‫َنذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫قوؿ اهلل تعالى‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫ؾ م َف اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫يف﴾‬ ‫اح َ َ َ َ‬ ‫ض َج َن َ‬ ‫ؾ األ ْق َربِ َ‬
‫يف ‪َ -‬و ْ‬ ‫َ‬
‫(‪)8‬‬
‫وخوفيـ مف العذاب‬ ‫‪ .‬فجمع قبيمتو ‪ ‬وعشيرتو‪ ،‬ودعاىـ عالنية إلى اإليماف بإلو واحد‪َّ ،‬‬
‫الشديد إف عصوه‪ ،‬وأمرىـ بإنقاذ أنفسيـ مف النار‪ ،‬وبيف ليـ مسؤولية كؿ إنساف عف نفسو‪.‬‬
‫َنذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ؾ األ ْق َربِ َ‬
‫يف﴾ صعد النبي‬ ‫عف ابف عباس ‪ -‬رضي اهلل عنو ‪ -‬قاؿ‪ :‬لما نزلت ﴿وأ ِ‬
‫َ‬
‫‪ ‬عمى الصفا فجعؿ ينادي‪« :‬يا بني فير‪ ،‬يا بني عدي» لبطوف قريش ‪ -‬حتى اجتمعوا‪،‬‬
‫فجعؿ الرجؿ إذا لـ يستطع أف يخرج أرسؿ رسوال لينظر ما ىو‪ ،‬فجاء أبو ليب‪ ،‬وقريش‪،‬‬
‫فقاؿ‪« :‬أرأيتكـ لو أخبرتكـ أف خيالً بالوادي تريد أف تغير عميكـ أكنتـ مصدقي؟» قالوا‪:‬‬
‫نعـ‪ ،‬ما جربنا عميؾ إال صدقًا‪ ،‬قاؿ‪« :‬فإنني نذير لكـ بيف يدي عذاب شديد» فقاؿ أبو‬
‫َغ َنى َع ْنوُ َمالُوُ‬ ‫ت َي َدا أَبِي لَيَ ٍب َوتَ َّ‬
‫ب َما أ ْ‬ ‫ليب‪ :‬تبِّا لؾ سائر اليوـ أليذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تََّب ْ‬
‫(‪)9‬‬
‫بطنا‪ ،‬ويقوؿ لكؿ بطف‪« :‬أنقذوا أنفسكـ مف النار‬
‫بطنا ً‬
‫ب﴾ ‪ .‬وفي رواية‪ -‬ناداىـ ً‬ ‫َو َما َك َس َ‬
‫شيئا غير أف لكـ‬
‫» ثـ قاؿ‪« :‬يا فاطمة أنقذي نفسؾ مف النار‪ ،‬فإني ال أممؾ لكـ مف اهلل ً‬
‫سأبميا ببالليا»‪ .‬ومف الطبيعي أف يبدأ الرسوؿ ‪ ‬دعوتو العمنية بإنذار عشيرتو‬‫رحما ُ‬
‫األقربيف‪ ،‬إذ أف مكة بمد توغمت فيو الروح القبمية‪ ،‬فبدء الدعوة بالعشيرة‪ ،‬قد يعيف عمى‬
‫نصرتو وتأييده وحمايتو‪ ،‬كما أف القياـ بالدعوة في مكة ال بد أف يكوف لو أثر خاص‪ ،‬لما‬
‫ليذا البمد مف مركز ديني خطير‪ ،‬فجمبيا إلى حظيرة اإلسالـ ال بد أف يكوف لو وقع كبير‬
‫عمى بقية القبائؿ‪ ،‬عمى أف ىذا ال يعني أف رسالة اإلسالـ كانت في أدوارىا األولى محدودة‬
‫بقريش؛ ألف اإلسالـ كما يتجمى مف القرآف الكريـ اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى‬

‫‪ )ٛ‬سورة الشعراء‪. ٕٔ٘ ،ٕٔٗ :‬‬


‫‪ )ٜ‬سورة المسد‪.ٔ،ٕ :‬‬

‫‪11‬‬
‫ؾ‬
‫لتحقيؽ رسالتو العالمية» فقد جاءت اآليات المكية تبيف عالمية الدعوة‪ ،‬قاؿ تعالى‪( :‬تََب َار َ‬
‫ير) (‪ .)10‬ثـ جاءت مرحمة أخرى بعدىا‪،‬‬ ‫يف َن ِذ ًا‬ ‫الَِّذي َن َّز َؿ اْلفُرقَاف عمَى ع ْب ِد ِه لِي ُك ِ ِ‬
‫وف لْم َعالَم َ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫فأصبح يدعو فييا كؿ مف يمتقي بو مف الناس عمى اختالؼ قبائميـ وبمدانيـ ويتبع الناس‬
‫في أنديتيـ‪ ،‬ومجامعيـ ومحافميـ‪ ،‬وفي المواسـ ومواقؼ الحج‪ ،‬ويدعو مف لقيو مف حر‬
‫وعبد‪ ،‬وقوي وضعيؼ‪ ،‬وغني وفقير ‪.‬‬
‫كانت النتيجة ليذا الصدع ىي الصد واإلعراض والسخرية واإليذاء والتكذيب‪ ،‬والكيد المدبر‬
‫المدروس‪ ،‬وقد اشتد الصراع بيف النبي ‪ ‬وصحبو وبيف شيوخ الوثنية وزعمائيا‪ ،‬وأصبح‬
‫مكسبا‬
‫ً‬ ‫الناس في مكة يتناقموف أخبار ذلؾ الصراع في كؿ مكاف‪ ،‬وكاف ىذا في حد ذاتو‬
‫عظيما لمدعوة‪ ،‬ساىـ فيو أشد وألد أعدائيا‪ ،‬ممف كاف يشيعوف في القبائؿ قالة السوء عنيا‪،‬‬
‫ً‬
‫فميس كؿ الناس يسمموف بدعاوي زعماء الكفر والشرؾ‪.‬‬
‫الجير بالدعوة بعد بناء النواة الصمبة‪:‬‬
‫ودليؿ ذلؾ أنو لـ يرتد أحد عف دينو مف ىؤالء عندما وقعت المحنة وابتدأت المواجية‪ .‬بؿ‬
‫كاف ىؤالء الذيف عاشوا الخطوات األولى لمدعوة ىـ القمة في اإلسالـ فيما بعد مف حيث‬
‫مستويات إيمانيـ ومستويات سموكيـ‪ ،‬ومستويات جيادىـ وتضحياتيـ‪ .‬ويكفي أف نعرؼ‬
‫أف أعمى طبقة في األمة المسممة وىي طبقة العشرة المبشريف بالجنة كانت منيـ باستثناء‬
‫عمر بف الخطاب رضي اهلل عنو‪ .‬ىذه الطبقة ىي التي كونت جيؿ القيادة لممجتمع الراشد‪،‬‬
‫وكاف اصطفاء الخميفة منيا‪ ،‬وتوفي رسوؿ اهلل ‪ ‬وىو راض عنيا‪.‬‬
‫ىذه النواة ىي التي حممت فيما بعد عبء الدعوة لإلسالـ في األرض‪ ،‬وحممت عبء‬
‫المواجية الكبرى مع أعداء ىذا الديف‪.‬‬
‫لقد كاف ىؤالء الستوف مستعصيف عمى اإلبادة بعد أف انتيت ىذه المرحمة وبدأت مرحمة‬
‫المواجية وكانوا مؤىميف لرضا اهلل عز وجؿ‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬مرحمة الدعوة خارج مكة‪(:‬مف أواخر السنة العاشرة مف النبوة إلى اليجرة إلى المدينة)‪.‬‬
‫لما استعصت قريش‪ ،‬وصمت آذانيا وأغمقت قموبيا وعقوليا‪ ،‬اتجو النبي ‪ ‬إلى خارج‬
‫مكة‪.‬بعد أف أغمقت أمامو أبواب الدعوة تماماً في مكة‪ ،‬فقد أغمقت القموب تماماً بعد موت‬
‫أبي طالب وبعد موت السيدة خديجة رضي اهلل عنيا وأرضاىا‪ ،‬وسمي ذلؾ العاـ بعاـ‬
‫الحزف‪ ،‬ولـ يدخؿ في ذلؾ العاـ رجؿ واحد في ديف اهلل عز وجؿ مف أىؿ مكة‪.‬‬

‫ٓٔ) سورة الفرقاف‪.ٔ :‬‬

‫‪11‬‬
‫خروج الرسول‪ ‬إلى الطائف (‪ 3‬ق ىـ‪620/‬م)‬
‫لما اشتد عمى الرسوؿ ‪ ‬كيد قريش وأذاىا بعد وفاة عمو وزوجو‪ ،‬توجو إلى الطائؼ‬
‫لعمو يجد في ثقيؼ حسف اإلصغاء لدعوتو واالنتصار ليا‪ ،‬ولكنيـ ردوه ردا غير جميؿ‪،‬‬
‫وأغروا بو صبيانيـ فقذفوه بالحجارة حتى ساؿ الدـ مف قدميو الطاىرتيف‪ ،‬ثـ التجأ إلى‬
‫بستاف مف بساتيف الطائؼ‪ ،‬وتوجو إلى اهلل بيذا الدعاء الخاشع‪« :‬الميـ إليؾ أشكو ضعؼ‬
‫قوتي‪ ،‬وقمة حيمتي‪ ،‬وىواني عمى الناس يا أرحـ الراحميف‪ ،‬أنت رب المستضعفيف‪ ،‬وأنت‬
‫ربي‪ ،‬إلى مف تكمني؟ إلى بعيد يتجيمني؟ أو إلى عدو ممكتو أمري؟ إف لـ يكف بؾ غضب‬
‫عمي فال أبالي‪ ،‬ولكف عافيتؾ ىي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجيؾ الذي أشرقت بو الظممات‪،‬‬
‫وصمح عميو أمر الدنيا واآلخرة مف أف تنزؿ بي غضبؾ‪ ،‬أو تحؿ بي سخطؾ‪ ،‬لؾ العتبى‬
‫حتى ترضى‪ ،‬وال حوؿ وال قوة إال بؾ»‪ .‬وعاد رسوؿ اهلل ‪ ‬مف الطائؼ دوف أف تستجيب‬
‫ثقيؼ لدعوتو‪ ،‬الميـ إال ما كاف مف إسالـ « َّ‬
‫عداس» غالـ عتبة وشيبة ابني ربيعة‪ ،‬وكاف‬
‫غالما نصرانيا‪ ،‬طمب منو سيداه أف يقدـ قطفا مف العنب إلى الرسوؿ ‪ ‬وىو في البستاف‬
‫لما رأيا مف إعيائو وتيجـ ثقيؼ عميو‪ ،‬فمما قدـ َّ‬
‫عداس العنب لمرسوؿ ‪ ‬أخذ الرسوؿ يبدأ‬
‫في أكمو قائال‪ :‬بسـ اهلل‪ ،‬فمفت ذلؾ نظر عداس‪ ،‬إذ ال يوجد في القوـ مف يقوؿ مثؿ ىذا‪.‬‬
‫وبعد حديث بيف عداس والنبي‪ ‬أسمـ َّ‬
‫عداس‪.‬‬
‫محزونا كسير القمب‪،‬‬
‫ً‬ ‫كئيبا‬
‫ورجع رسوؿ اهلل ‪ ‬في طريؽ مكة بعد خروجو مف الحائط ً‬
‫فمما بمغ قرف المنازؿ بعث اهلل إليو جبريؿ ومعو ممؾ الجباؿ‪ ،‬يستأمره أف يطبؽ األخشبيف‬
‫عمى أىؿ مكة‪ ،‬فقاؿ النبي ‪( :‬بؿ أرجو أف يخرج اهلل عز وجؿ مف أصالبيـ مف يعبد‬
‫اهلل عز وجؿ وحده ال يشرؾ بو شيئا) ‪ ،‬وفي ىذا الجواب الذي أدلى بو الرسوؿ ‪ ‬تتجمى‬
‫شخصيتو الفذة‪ ،‬وما كاف عميو مف الخمؽ العظيـ‪.‬‬
‫أشد ما كانوا عميو مف خالؼ وعداء‪،‬‬
‫وانصرؼ رسوؿ اهلل ‪ ‬مف الطائؼ إلى م ّكة‪ ،‬وقومو ّ‬
‫وسخرية واستيزاء‪.‬‬
‫اجعا إلى مكة‪ ،‬حتى إذا كاف بنخمة‪ ،‬قاـ مف جوؼ‬ ‫ولما انصرؼ النبي ‪ ‬مف الطائؼ ر ً‬
‫الميؿ يصمي‪ ،‬فمر بو النفر مف الجف الذيف ذكرىـ اهلل تعالى‪ ،‬وكانوا سبعة نفر مف جف‬
‫أىؿ نصيبيف‪ ،‬فاستمعوا لتالوة الرسوؿ ‪ ،‬فمما فرغ مف صالتو‪ ،‬ولَّوا إلى قوميـ منذريف‪،‬‬
‫قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا‪ ،‬وبعد عدة أشير مف لقاء الوفد األوؿ مف الجف برسوؿ اهلل‬
‫‪ ،‬جاء الوفد الثاني متشوقاً لرؤية الحبيب المصطفى ‪ ‬واالستماع إلى كالـ رب‬
‫العالميف‪ .‬وأماـ ىذه النصرة‪ ،‬وأماـ ىذه البشارات‪ ،‬أقشعت سحابة الكابة والحزف واليأس‪،‬‬
‫التي كانت مطبقة عميو منذ أف خرج مف الطائؼ مطرودا مدحورا‪ ،‬حتى صمـ عمى العود‬
‫إلى مكة‪ ،‬وعمى القياـ باستئناؼ خطتو األولى في عرض اإلسالـ وابالغ رسالة اهلل الخالدة‬

‫‪12‬‬
‫بنشاط جديد وجد وحماس‪.‬وحينئذ قاؿ لو زيد بف حارثة‪ :‬كيؼ تدخؿ عمييـ وقد أخرجوؾ؟‬
‫يعني قريشا‪ .‬فقاؿ‪:‬يا زيد إف اهلل جاعؿ لما ترى فرجا ومخرجا‪ ،‬واف اهلل ناصر دينو ومظير‬
‫نبيو‪ .‬وسار رسوؿ اهلل ‪ ‬حتى إذا دنا مف مكة مكث بحراء‪ ،‬فبعث إلى المطعـ بف عدي‪،‬‬
‫فقاؿ المطعـ‪ :‬نعـ‪ ،‬ثـ تسمح ودعا بنيو وقومو فقاؿ‪ :‬البسوا السالح‪ ،‬وكونوا عند أركاف‬
‫البيت‪ ،‬فإني قد أجرت محمدا‪ ،‬ثـ بعث إلى رسوؿ اهلل ‪ : ‬أف ادخؿ‪ ،‬فدخؿ رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫ومعو زيد بف حارثة حتى انتيى إلى المسجد الحراـ‪ ،‬فقاـ المطعـ بف عدي عمى راحمتو‬
‫فنادى‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إني قد أجرت محمدا فال ييجو أحد منكـ‪ ،‬وانتيى رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫إلى الركف فاستممو‪ ،‬وصمى ركعتيف‪ ،‬وانصرؼ إلى بيتو‪ ،‬ومطعـ بف عدي وولده محدقوف‬
‫بو بالسالح حتى دخؿ بيتو‪.‬‬
‫عرض رسول اهلل ‪ ‬نفسو عمى القبائل ومواقفيا منو‪:‬‬
‫بدأ رسوؿ اهلل ‪ ‬يعرض نفسو في المواسـ عمى قبائؿ العرب‪ ،‬يدعوىـ إلى اإلسالـ‪ ،‬والى‬
‫أف يمنعوه مف األعداء‪ ،‬ويقوؿ‪ :‬يا بني فالف! ّإني رسوؿ اهلل إليكـ‪ ،‬يأمركـ أف تعبدوا اهلل وال‬
‫وتصدقوا‬
‫ّ‬ ‫تشركوا بو شيئا‪ ،‬وأف تخمعوا ما تعبدوف مف دونو مف ىذه األنداد‪ ،‬وأف تؤمنوا بو‪،‬‬
‫بو‪ ،‬وتمنعوني حتّى أبيف عف اهلل ما بعثني بو‪.‬‬
‫إف ىذا إنما يدعوكـ أف‬
‫فإذا فرغ رسوؿ اهلل ‪ ‬مف قولو‪ ،‬قاـ أبو ليب‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا بني فالف! ّ‬
‫الجف‪ ،‬إلى ما جاء بو مف البدعة‬
‫ّ‬ ‫العزى مف أعناقكـ‪ ،‬وحمفائكـ مف‬ ‫الالت و ّ‬
‫تسمخوا ّ‬
‫الضاللة‪ ،‬فال تطيعوه وال تسمعوا منو ‪.‬‬
‫و ّ‬
‫القبائل التي عرض عمييا اإلسالم‬
‫قاؿ الزىري‪ :‬وكاف ممف يسمى لنا مف القبائؿ الذيف أتاىـ رسوؿ اهلل ‪ ‬ودعاىـ وعرض‬
‫نفسو عمييـ بنو عامر بف صعصعة‪ ،‬ومحارب بف خصفة‪ ،‬وف ازرة‪ ،‬وغساف‪ ،‬ومرة‪ ،‬وحنيفة‪،‬‬
‫وسميـ‪ ،‬وعبس‪ ،‬وبنو نصر‪ ،‬وبنو البكاء‪ ،‬وكندة‪ ،‬وكمب‪ ،‬والحارث بف كعب‪ ،‬وعذرة‪،‬‬
‫والحضارمة‪ ،‬فمـ يستجب منيـ أحد‪ .‬وىذه القبائؿ التي سماىا الزىري لـ يكف عرض‬
‫اإلسالـ عمييا في سنة واحدة‪ ،‬وال في موسـ واحد‪ ،‬بؿ إنما كاف ما بيف السنة الرابعة مف‬
‫النبوة إلى آخر موسـ قبؿ اليجرة‪.‬‬
‫وقد ذكر ابف إسحاؽ كيفية العرض وردودىـ‪ ،‬وىاؾ ممخصا‪:‬‬
‫‪ -1‬بنو كمب‬
‫‪ -‬أتى النبي‪ ‬إلى بطف منيـ‪ ،‬يقاؿ ليـ بنو عبد اهلل‪ ،‬فدعاىـ إلى اهلل‪ ،‬وعرض عمييـ‬
‫نفسو‪ ،‬حتى إنو ليقوؿ ليـ‪ :‬يا بني عبد اهلل‪ ،‬إف اهلل قد أحسف اسـ أبيكـ‪ ،‬فمـ يقبموا منو ما‬
‫عرض عمييـ‪.‬‬
‫‪ -2‬بنو حنيفة‬

‫‪13‬‬
‫‪ -‬أتاىـ في منازليـ فدعاىـ إلى اهلل‪ ،‬وعرض عمييـ نفسو‪ ،‬فمـ يكف أحد مف العرب أقبح‬
‫عميو ردا منيـ‪.‬‬
‫‪ -3‬وأتى إلى بني عامر بن صعصعة‬
‫فدعاىـ إلى اهلل‪ ،‬وعرض عمييـ نفسو‪ ،‬فقاؿ بحيرة بف فراس (رجؿ منيـ) ‪ :‬واهلل لو أني‬
‫أخذت ىذا الفتى مف قريش ألكمت بو العرب‪ ،‬ثـ قاؿ‪ :‬أرأيت إف نحف بايعناؾ عمى أمرؾ‪،‬‬
‫ثـ أظيرؾ اهلل عمى مف خالفؾ أيكوف لنا األمر مف بعدؾ؟ قاؿ‪ :‬األمر إلى اهلل‪ ،‬يضعو‬
‫حيث يشاء‪ ،‬فقاؿ لو‪ :‬أفتيدؼ نحورنا لمعرب دونؾ‪ ،‬فإذا أظيرؾ اهلل كاف األمر لغيرنا‪ ،‬ال‬
‫حاجة لنا بأمرؾ‪ ،‬فأبوا عميو‪.‬‬
‫األفراد الذين عرض عمييم اإلسالم‬
‫عرض رسوؿ اهلل ‪ ‬اإلسالـ عمى عمى األفراد واألشخاص‪ ،‬وحصؿ مف بعضيـ عمى‬
‫ردود صالحة‪ ،‬وآمف بو عدة رجاؿ بعد‪ .‬وأبرز المؤمنوف مف غير أىؿ مكة‪.‬‬
‫‪ -1‬سويد بن صامت‬
‫‪ -‬كاف شاع ار لبيبا مف سكاف يثرب‪ ،‬يسميو قومو الكامؿ‪ ،‬لجمده وشعره وشرفو ونسبو‪ ،‬جاء‬
‫مكة حاجا أو معتمرا‪ ،‬فدعاه رسوؿ اهلل ‪ ‬إلى اإلسالـ‪ ،‬وتال عميو رسوؿ اهلل ‪ ‬القرآف‪،‬‬
‫ودعاه إلى اإلسالـ‪ ،‬فأسمـ‪ ،‬وكاف إسالمو في أوائؿ سنة ٔٔ مف النبوة ‪.‬‬
‫‪ -2‬إياس بن معاذ‬
‫كاف غالما حدثا مف سكاف يثرب‪ ،‬قدـ في وفد مف األوس‪ ،‬فمما عمـ رسوؿ اهلل ‪ ‬بمقدميـ‬
‫جاءىـ فجمس إلييـ‪ ،‬وقاؿ ليـ‪« :‬ىؿ لكـ في خير مما جئتـ لو؟» فقالوا‪ :‬وما ذاؾ؟ قاؿ‪:‬‬
‫عمي‬
‫«أنا رسوؿ اهلل‪ ،‬بعثني إلى العباد‪ ،‬أدعوىـ أف يعبدوا اهلل وال يشركوا بو شيئا‪ ،‬وأنزؿ ّ‬
‫الكتاب» ‪ ،‬ثـ ذكر ليـ اإلسالـ‪ ،‬وتال عمييـ القرآف‪ ،‬فقاؿ إياس بف معاذ‪ :‬أي قوـ‪ ،‬ىذا واهلل‬
‫خير مما جئتـ لو‪ ،‬وبعد رجوعيـ إلى يثرب لـ يمبث إياس أف ىمؾ‪ ،‬وكاف ييمؿ ويكبر‬
‫ويحمد‪ ،‬ويسبح عند موتو‪ ،‬فال يشكوف أنو مات مسمما ‪.‬‬
‫‪ -3‬أبو ذر الغفاري‬
‫وكاف مف سكاف نواحي يثرب‪ ،‬ولما بمغ إلى يثرب خبر مبعث النبي ‪ ‬بسويد بف‬
‫صامت واياس بف معاذ وقع في أذف أبي ذر أيضا‪ ،‬وصار سببا إلسالمو‪.‬‬
‫‪ -4‬طفيل بن عمرو الدوسي‬
‫قدـ الطفيؿ بف عمرو‪ ،‬رئيس قبيمة دوس‪ ،‬إلى مكة‪ ،‬وقد عرفت أسرتو في نواحي اليمف‬
‫بالحكـ والرئاسة وكاف طفيؿ نفسو رجال شاع ار ذكيا‪ ،‬وقد خرج أىؿ مكة الستقبالو خارجيا‪،‬‬
‫وبالغوا في الحفاوة بو‪ ،‬وطبقا لرواية طفيؿ "قاؿ لي أىؿ مكة‪ ،‬خرج فينا رجؿ‪ ،‬يأتيو‬
‫السحر‪ ،‬فرؽ بيف المرء وابنو وبيف المرء وأخيو‪ ،‬وبيف المرء وزوجو‪ ،‬فرؽ جماعتنا وشتت‬

‫‪14‬‬
‫أمرنا وأنا ال نريد أف يصيب قومؾ ما أصابنا وننصحؾ بشدة أال تذىب إليو‪ .‬وأال تكممو‬
‫وأال تسمع منو‪ ،‬وظموا يمحوف عمي بذلؾ حتى إنو حيف أردت دخوؿ الكعبة أغمقت أذناي‬
‫بقطعة مف القطف حتى ال أسمع شيئا مما يقوؿ محمد‪ ،‬وغدوت إلى الكعبة ذات يوـ وكاف‬
‫النبي ‪ -‬صمى اهلل عميو وسمـ ‪ -‬يصمي‪ ،‬وكانت مشيئة اهلل أف يصؿ صوتو إلى سمعي‪،‬‬
‫فسمعتو يقوؿ كالما عجبا‪ ،‬ورحت ألوـ نفسي فأنا نفسي شاعر‪ ،‬عالـ‪ ،‬أميز بيف الحسف‬
‫والقبيح‪ ،‬فألي سبب وماذا يمنعني مف أف أسمع كالمو‪ ،‬فإف كاف ما يقوؿ حسنا قبمت واال‬
‫رفضت‪.‬وانتظرت بعد قراري ىذا‪ ،‬وانصرؼ النبي ‪ ‬إلى بيتو فمضيت خمفو‪ ،‬ودخؿ بيتو‬
‫فدخمت عميو وأخبرتو بما قاؿ القوـ وبما فعمتو حتى ال أسمع صوتو وما حدث بعد ذلؾ ىو‬
‫أف شاءت إرادة اهلل أف سمع ما جرى عمى لسانو الكريـ‪ ،‬وطمبت منو أف يسمعني كالمو‪.‬‬
‫فق أر النبي ‪ ‬القرآف‪ ،‬وواهلل ما سمعت كالما أطير منو‪ ،‬وال أحسف منو وال أم ار أعدؿ‬
‫منو"‪ .‬وىكذا أسمـ طفيؿ عمى الفور وىو الذي كانت قريش تصفو بالمخدوـ المطاع‪ ،‬وىكذا‬
‫أصبح بقمبو وروحو خادما ومطيعا لمحمد ‪ ‬وقد شؽ إسالـ طفيؿ عمى قريش كثير‪.‬‬
‫‪ -5‬ضماد األزدي‬
‫كاف مف أزد شنوءة مف اليمف‪ ،‬وكاف يرقي مف ىذا الريح‪ ،‬قدـ مكة فسمع سفياءىا يقولوف‪:‬‬
‫إف محمدا مجنوف‪ ،‬فقاؿ‪ :‬لو أني أتيت ىذا الرجؿ لعؿ اهلل يشفيو عمى يدي‪ ،‬فمقيو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا‬
‫محمد‪ ،‬إني أرقي مف ىذا الريح‪ ،‬فيؿ لؾ؟ فقاؿ رسوؿ اهلل ‪« : ‬إف الحمد هلل نحمده‬
‫ونستعينو‪ ،‬مف ييده اهلل فال مضؿ لو‪ ،‬ومف يضممو فال ىادي لو‪ ،‬وأشيد أالإلو إال اهلل وحده‬
‫ال شريؾ لو‪ ،‬وأشيد أف محمدا عبده ورسولو‪ ،‬أما بعد» ‪.‬‬
‫فقاؿ‪ :‬أعد عمي كمماتؾ ىؤالء‪ ،‬فأعادىف عميو رسوؿ اهلل ‪ ‬ثالث مرات‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫لقد سمعت قوؿ الكينة وقوؿ السحرة وقوؿ الشعراء‪ ،‬فما سمعت مثؿ كمماتؾ ىؤالء‪ ،‬ولقد‬
‫بمغف قاموس البحر‪ ،‬ىات يدؾ أبايعؾ عمى اإلسالـ‪ ،‬فبايعو ‪.‬‬
‫إسالم الطميعة الخزرجية‪:‬‬
‫في موسـ الحج مف سنة ٔٔ مف النبوة‪ -‬يوليو سنة ٕٓ‪ ٙ‬ـ خرج رسوؿ اهلل ‪ ‬في‬
‫الموسـ‪ ،‬فبينما ىو عند العقبة‪ ،‬إذ لقي رىطا مف الخزرج مف األنصار‪ ،‬فدعاىـ إلى اهلل‬
‫عزوج ّؿ‪ ،‬وعرض عمييـ اإلسالـ‪ ،‬وتال عمييـ القرآف‪ .‬وكانوا جيراف الييود في المدينة‪،‬‬
‫ّ‬
‫بنبي قد أظ ّؿ زمانو ‪ ،‬فقاؿ بعضيـ لبعض‪ :‬يا قوـ! تعمموف واهلل‬
‫وكانوا يسمعونيـ يخبروف ّ‬
‫وصدقوه‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنا قد تركنا‬
‫ّ‬ ‫يسبقنكـ إليو‪ ،‬فأجابوه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫توعدكـ بو الييود‪ ،‬فال‬
‫النبي الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّأنو‬
‫الشر ما بينيـ‪ ،‬فعسى أف يجمعيـ اهلل بؾ‪ ،‬فسنقدـ عمييـ‪،‬‬ ‫قومنا‪ ،‬وال قوـ بينيـ مف العداوة و ّ‬
‫فندعوىـ إلى أمرؾ‪ ،‬ونعرض عمييـ الذي أجبناؾ إليو مف ىذا الديف‪ ،‬فإف يجمعيـ اهلل عميو‬
‫أعز منؾ ‪.‬‬
‫فال رجؿ ّ‬
‫‪15‬‬
‫ولما رجع ىؤالء إلى المدينة حمموا إلييا رسالة اإلسالـ‪ ،‬حتى لـ تبؽ دار مف دور األنصار‬
‫إال وفييا ذكر رسوؿ اهلل ‪.‬‬
‫بيعة العقبة األولى‪:‬‬
‫بعد عاـ مف المقابمة األولى التي تمت بيف الرسوؿ ‪ ‬وأىؿ يثرب عند العقبة وافى الموسـ‬
‫مف األنصار اثنا عشر رجالً فمقوه ‪ ‬بالعقبة‪ ،‬وبايعوه بيعة العقبة األولى‪(،‬عشرة مف‬
‫الخزرج واثناف مف األوس)‪ ،‬فمقوه بالعقبة األولى‪ ،‬فبايعوا رسوؿ اهلل ‪‬عمى التوحيد‪،‬‬
‫الزنى وقتؿ األوالد والطاعة في المعروؼ ‪.‬‬
‫السرقة و ّ‬
‫والتعفّؼ مف ّ‬
‫ىـ القوـ باالنصراؼ بعث رسوؿ اهلل ‪ ‬معيـ مصعب بف عمير‪ ،‬وأمره أف يقرئيـ‬ ‫فمما ّ‬
‫ّ‬
‫يسمى «المقرىء» بالمدينة ونزؿ عمى‬
‫القرآف‪ ،‬ويعمّميـ اإلسالـ‪ ،‬ويفقّييـ في الديف‪ ،‬فكاف ّ‬
‫أسعد بف ز اررة‪ ،‬وكاف يصمّي بيـ‪.‬‬
‫وقد تحدث عبادة بف الصامت الخزرجي عف البيعة في العقبة األولى‪ ،‬فقاؿ‪« :‬كنت فيمف‬
‫حضر العقبة األولى‪ ،‬وكنا اثني عشر رجالً‪ ،‬فبايعنا رسوؿ اهلل ‪ ‬عمى بيعة النساء وذلؾ‬
‫قبؿ أف تُفترض عمينا الحرب‪ :‬عمى أال نشرؾ باهلل‪ ،‬وال نسرؽ‪ ،‬وال نزني‪ ،‬وال نقتؿ أوالدنا‪،‬‬
‫وال نأتي ببيتاف نفتريو بيف أيدينا وأرجمنا‪ ،‬وال نعصيو في معروؼ‪ ،‬فإف وفيتـ فمكـ الجنة‪،‬‬
‫شيئا فأمركـ إلى اهلل عز وجؿ‪ ،‬إف شاء غفر واف شاء عذب»‪.‬‬
‫واف غشيتـ مف ذلؾ ً‬
‫وبنود ىذه البيعة ىي التي بايع الرسوؿ ‪ ‬عمييا النساء فيما بعد ولذلؾ عرفت باسـ بيعة‬
‫النساء ‪ ،‬وقد بعث رسوؿ اهلل ‪ ‬مع المبايعيف مصعب بف عمير أوؿ سفير في يثرب‪،‬‬
‫ليعمـ المسمميف فييا شرائع اإلسالـ‪ ،‬ويفقييـ في الديف وليقوـ بنشر اإلسالـ بيف الذيف لـ‬
‫يزالوا عمى الشرؾ‪ .‬وقد تمكف خالؿ أشير أف ينشر اإلسالـ في سائر بيوتات المدينة‪ ،‬وأف‬
‫أنصار مف كبار زعمائيا‪ ،‬كسعد بف معاذ وأسيد بف الحضير‪ ،‬وقد أسمـ‬
‫ًا‬ ‫يكسب لإلسالـ‬
‫بإسالميما خمؽ كثير مف قوميـ ‪.‬‬
‫بيعة العقبة الثانية‪:‬‬
‫في موسـ الحج في السنة الثالثة عشر مف النبوة‪ -‬يونيو سنة ٕٕ‪ ٙ‬ـ‪ -‬حضر ألداء‬
‫مناسؾ الحج بضع وسبعوف نفسا مف المسمميف مف أىؿ يثرب‪ ،‬جاؤوا ضمف حجاج قوميـ‬
‫مف المشركيف‪ ،‬وقد تساءؿ ىؤالء المسمموف فيما بينيـ‪ -‬وىـ لـ يزالوا في يثرب أو كانوا في‬
‫الطريؽ‪ -‬حتى متى نترؾ رسوؿ اهلل ‪ ‬يطوؼ ويطرد في جباؿ مكة ويخاؼ؟‬
‫فمما قدموا مكة جرت بينيـ وبيف النبي ‪ ‬اتصاالت سرية‪ ،‬أدت إلى إتفاؽ الفريقيف عمى‬
‫أف يجتمعوا في أوسط أياـ التشريؽ في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة األولى مف‬
‫منى‪ ،‬وأف يتـ ىذا اإلجتماع في سرية تامة في ظالـ الميؿ‪.‬‬
‫بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسؤولية‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫وبعد أف تكامؿ المجمس بدأت المحادثات إلبراـ التحالؼ الديني والعسكري‪ ،‬وكاف أوؿ‬
‫المتكمميف ىو العباس بف عبد المطمب عـ رسوؿ اهلل ‪ ‬تكمـ ليشرح ليـ‪ -‬بكؿ صراحة‪-‬‬
‫خطورة المسؤولية التي ستمقى عمى كواىميـ نتيجة ىذا التحالؼ‪ .‬قاؿ‪( :‬يا معشر الخزرج‪-‬‬
‫وكاف العرب يسموف األنصار خزرجا‪ ،‬خزرجيا وأوسيا كمييما‪ -‬إف محمدا منا حيث قد‬
‫عممتـ‪ ،‬وقد منعناه مف قومنا ممف ىو عمى مثؿ رأينا فيو‪ ،‬فيو في عز مف قومو‪ ،‬ومنعة‬
‫في بمده‪ ،‬وانو قد أبى إال اإلنحياز إليكـ والمحوؽ بكـ‪ ،‬فإف كنتـ تروف أنكـ وافوف لو بما‬
‫دعوتموه إليو‪ ،‬ومانعوه ممف خالفو‪ ،‬فأنتـ وما تحممتـ مف ذلؾ‪ ،‬واف كنتـ تروف أنكـ مسمموه‬
‫وخاذلوه بعد الخروج بو إليكـ فمف اآلف فدعوه‪ ،‬فإنو في عز ومنعة مف قومو وبمده) ‪.‬‬
‫قاؿ كعب‪ :‬فقمنا لو‪ :‬قد سمعنا ما قمت‪ ،‬فتكمـ يا رسوؿ اهلل‪ ،‬فخذ لنفسؾ ولربؾ ما أحببت‪.‬‬
‫وىذا الجواب يدؿ عمى ما كانوا عميو مف عزـ وتصميـ وشجاعة وايماف واخالص في‬
‫تحمؿ ىذه المسؤولية العظيمة‪ ،‬وتحمؿ عواقبيا الخطيرة‪ .‬وألقى رسوؿ اهلل ‪ ‬بعد ذلؾ‬
‫بيانو‪ ،‬ثـ تمت البيعة‪.‬‬
‫بنود البيعة‪:‬‬
‫وقد روى ذلؾ اإلماـ أحمد عف جابر مفصال‪ .‬قاؿ جابر‪ :‬قمنا‪ :‬يا رسوؿ اهلل عمى ما‬
‫نبايعؾ؟ قاؿ‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬عمى السمع والطاعة في النشاط والكسؿ‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬وعمى النفقة في العسر واليسر‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬وعمى األمر بالمعروؼ والنيي عف المنكر‪.‬‬
‫ٗ‪ -‬وعمى أف تقوموا في اهلل‪ ،‬ال تأخذكـ في اهلل لومة الئـ‪.‬‬
‫٘‪ -‬وعمى أف تنصروني إذا قدمت إليكـ‪ ،‬وتمنعوني مما تمنعوف منو أنفسكـ وأزواجكـ‬
‫وأبناءكـ‪ ،‬ولكـ الجنة» ‪.‬‬
‫وفي رواية كعب‪ -‬التي رواىا ابف إسحاؽ‪ -‬البند األخير فقط مف ىذه البنود‪ ،‬ففيو قاؿ‬
‫كعب‪ :‬فتكمـ رسوؿ اهلل ‪ ، ‬فتال القرآف‪ ،‬ودعا إلى اهلل‪ ،‬ورغب في اإلسالـ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫«أبايعكـ عمى أف تمنعوني مما تمنعوف منو نساءكـ وأبناءكـ» ‪ .‬فأخذ البراء بف معرور‬
‫بيده ثـ قاؿ‪ :‬نعـ‪ ،‬والذي بعثؾ بالحؽ (نبيا) لنمنعنؾ مما نمنع أزرنا منو‪ ،‬فبايعنا يا رسوؿ‬
‫اهلل‪ ،‬فنحف واهلل أبناء الحرب وأىؿ الحمقة‪ ،‬ورثناىا كاب ار (عف كابر) ‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬فاعترض القوؿ‪ -‬والبراء يكمـ رسوؿ اهلل ‪ ‬أبو الييثـ بف التيياف فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل‬
‫إف بيننا وبيف الرجاؿ حباال‪ ،‬وانا قاطعوىا‪ -‬يعني الييود‪ -‬فيؿ عسيت إف نحف فعمنا ذلؾ‪،‬‬
‫ثـ أظيرؾ اهلل أف ترجع إلى قومؾ وتدعنا؟‬

‫‪17‬‬
‫قاؿ‪ :‬فتبسـ رسوؿ اهلل ‪ ‬ثـ قاؿ‪ :‬بؿ الدـ الدـ‪ ،‬واليدـ اليدـ‪ ،‬أنا منكـ وأنتـ مني‪ ،‬أحارب‬
‫مف حاربتـ‪ ،‬وأسالـ مف سالمتـ ‪.‬‬
‫التأكيد من خطورة البيعة‪:‬‬
‫وبعد أف تمت المحادثة حوؿ شروط البيعة‪ ،‬وأجمعوا عمى الشروع في عقدىا قاـ رجالف‬
‫مف الرعيؿ األوؿ ممف أسمموا في مواسـ سنتي ٔٔ‪ ٕٔ ،‬مف النبوة‪ ،‬قاـ أحدىما تمو اآلخر‪،‬‬
‫ليؤكدا لمقوـ خطورة المسؤولية‪ ،‬حتى ال يبايعوه إال عمى جمية مف األمر‪ ،‬وليعرفا مدى‬
‫استعداد القوـ لمتضحية ويتأكدا مف ذلؾ‪.‬‬
‫قاؿ ابف إسحاؽ‪ :‬لما اجتمعوا لمبيعة قاؿ العباس بف عبادة بف نضمة‪ :‬ىؿ تدروف عالـ‬
‫تبايعوف ىذا الرجؿ؟ قالوا‪ :‬نعـ‪ ،‬قاؿ‪ :‬إنكـ تبايعونو عمى حرب األحمر واألسود مف الناس‪،‬‬
‫فإف كنتـ تروف أنكـ إذا نيكت أموالكـ مصيبة‪ ،‬وأشرافكـ قتال أسممتموه‪ ،‬فمف اآلف‪ ،‬فيو‬
‫واهلل إف فعمتـ خزي الدنيا واآلخرة‪ ،‬واف كنتـ تروف أنكـ وافوف لو بما دعوتموه إليو عمى‬
‫نيكة األمواؿ وقتؿ األشراؼ فخذوه‪ ،‬فيو واهلل خير الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فإنا نأخذه عمى مصيبة األمواؿ وقتؿ األشراؼ‪ ،‬فما لنا بذلؾ يا رسوؿ اهلل إف نحف‬
‫وفينا بذلؾ؟ قاؿ‪« :‬الجنة» ‪ .‬قالوا‪ :‬ابسط يدؾ‪ .‬فبسط يده فبايعوه ‪.‬‬
‫عقد البيعة‪:‬‬
‫وبعد إقرار بنود البيعة‪ ،‬وبعد ىذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة‪ ،‬وبدأت البيعة‬
‫العامة‪ ،‬قاؿ جابر‪ :‬فقمنا إليو رجال رجال فأخذ عمينا البيعة‪ ،‬يعطينا بذلؾ الجنة‪ .‬وأما بيعة‬
‫المرأتيف المتيف شيدتا الوقعة فكانت قوال‪ .‬ما صافح رسوؿ اهلل ‪ ‬امرأة أجنبية قط‪.‬‬
‫نقباء األوس و الخزرج‪:‬‬
‫وبعد أف تمت البيعة طمب رسوؿ اهلل ‪ ‬انتخاب اثني عشر زعيما يكونوف نقباء عمى‬
‫قوميـ‪ ،‬يكفموف المسؤولية عنيـ في تنفيذ بنود ىذه البيعة‪ ،‬فقاؿ لمقوـ‪ :‬أخرجوا إلي منكـ‬
‫اثني عشر نقيبا؛ ليكونوا عمى قومكـ بما فييـ‪.‬فتـ انتخابيـ في الحاؿ‪ ،‬وكانوا تسعة في‬
‫الخزرج وثالثة مف األوس‪ .‬وىاؾ أسماؤىـ‪:‬‬
‫نقباء الخزرج‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬أسعد بف ز اررة‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬سعد بف الربيع بف عمرو‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬عبد اهلل بف رواحة بف ثعمبة‪.‬‬
‫ٗ‪ -‬رافع بف مالؾ بف العجالف‪.‬‬
‫٘‪ -‬البراء بف معرور بف صخر‪.‬‬
‫‪ -ٙ‬عبد اهلل بف عمرو بف حراـ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -ٚ‬عبادة بف الصامت بف قيس‪.‬‬
‫‪ -ٛ‬سعد بف عبادة بف دليـ‪.‬‬
‫‪ -ٜ‬المنذر بف عمرو بف خنيس‪.‬‬
‫نقباء األوس‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬أسيد بف حضير بف سماؾ‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬سعد بف خيثمة بف الحارث‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬رفاعة بف عبد المنذر بف زبير‪.‬‬
‫ولما تـ انتخاب ىؤالء النقباء أخذ عمييـ النبي ‪ ‬ميثاقا آخر بصفتيـ رؤساء مسؤوليف‪.‬‬
‫قاؿ ليـ‪ :‬أنتـ عمى قومكـ بما فييـ كفالء ككفالة الحوارييف لعيسى بف مريـ‪ ،‬وأنا كفيؿ‬
‫عمى قومي‪ -‬يعني المسمميف‪ -‬قالوا‪ :‬نعـ ‪.‬‬
‫شيطان يكتشف المعاىدة‪:‬‬
‫ولما تـ إبراـ المعاىدة‪ ،‬وكاف القوـ عمى وشؾ اإلنفضاض‪ ،‬اكتشفيا أحد الشياطيف‪ ،‬وحيث‬
‫جاء ىذا اإلكتشاؼ في المحظة األخيرة‪ ،‬ولـ يكف يمكف إبالغ زعماء قريش ىذا الخبر س ار‬
‫ليباغتوا المجتمعيف وىـ في الشعب‪ ،‬قاـ ذلؾ الشيطاف عمى مرتفع مف األرض‪ ،‬وصاح‬
‫بأنفذ صوت سمع قط‪ :‬يا أىؿ األخاشب‪ -‬المنازؿ‪ -‬ىؿ لكـ في محمد والصباة معو؟ قد‬
‫اجتمعوا عمى حربكـ‪.‬‬
‫فقاؿ رسوؿ اهلل ‪« : ‬ىذا أزب العقبة‪ ،‬أما واهلل يا عدو اهلل ألتفرغف لؾ» ‪ .‬ثـ أمرىـ أف‬
‫ينفضوا إلى رحاليـ ‪.‬‬
‫استعداد األنصار لضرب قريش‪:‬‬
‫وعند سماع صوت ىذا الشيطاف قاؿ العباس بف عبادة بف نضمة‪ :‬والذي بعثؾ بالحؽ‪ ،‬إف‬
‫شئت لنميمف عمى أىؿ منى غدا بأسيافنا‪ .‬فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬لـ نؤمر‬
‫بذلؾ‪ ،‬ولكف ارجعوا إلى رحالكـ» ‪ ،‬فرجعوا وناموا حتى أصبحوا‪ .‬ولما قرع ىذا الخبر آذاف‬
‫قريش وقعت فييـ ضجة أثارت القالقؿ واألحزاف‪ ،‬ألنيـ كانوا عمى معرفة تامة مف عواقب‬
‫مثؿ ىذه البيعة ونتائجيا بالنسبة إلى أنفسيـ وأمواليـ‪ ،‬فما إف أصبحوا حتى توجو وفد كبير‬
‫مف زعماء مكة وأكابر مجرمييا إلى مخيـ أىؿ يثرب‪ ،‬ليقدـ احتجاجو الشديد عمى ىذه‬
‫المعاىدة‪ .‬فقد قاؿ‪:‬‬
‫يا معشر الخزرج‪ ،‬إنو قد بمغنا أنكـ قد جئتـ إلى صاحبنا ىذا تستخرجونو مف بيف أظيرنا‪،‬‬
‫وتبايعونو عمى حربنا‪ ،‬وانو واهلل ما مف حي مف العرب أبغض إلينا مف أف تنشب الحرب‬
‫بيننا وبينيـ منكـ ‪.‬ولما كاف مشركو الخزرج ال يعرفوف شيئا عف ىذه البيعة‪ ،‬ألنيا تمت في‬
‫سرية تامة‪ ،‬وفي ظالـ الميؿ‪ ،‬انبعث ىؤالء المشركوف يحمفوف باهلل‪ :‬ما كاف مف شيء‪ ،‬وما‬

‫‪19‬‬
‫عممناه‪ ،‬حتى أتوا عبد اهلل بف أبي بف سموؿ‪ ،‬فجعؿ يقوؿ‪ :‬ىذا باطؿ‪ ،‬وما كاف ىذا‪ ،‬وما‬
‫كاف قومي ليفتاتوا عمى مثؿ ىذا‪ ،‬لو كنت بيثرب ما صنع قومي ىذا حتى يؤامروني‪.‬‬
‫أما المسمموف فنظر بعضيـ إلى بعض‪ ،‬ثـ الذوا بالصمت‪ ،‬فمـ يتحدث أحد منيـ بنفي أو‬
‫إثبات‪ .‬وماؿ زعماء قريش إلى تصديؽ المشركيف‪ ،‬فرجعوا خائبيف‪.‬‬
‫تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين‪:‬‬
‫عاد زعماء مكة وىـ عمى شبو اليقيف مف كذب ىذا الخبر‪ ،‬لكنيـ لـ يزالوا يتنطسونو‪-‬‬
‫يكثروف البحث عنو ويدققوف النظر فيو‪ -‬حتى تأكد لدييـ أف الخبر صحيح‪ ،‬والبيعة قد‬
‫تمت فعال‪ .‬وذلؾ بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانيـ‪ ،‬فسارع فرسانيـ بمطاردة اليثربييف‪،‬‬
‫ولكف بعد فوات األواف‪ ،‬إال أنيـ تمكنوا مف رؤية سعد بف عبادة والمنذر بف عمرو‪،‬‬
‫فطاردوىما‪ ،‬فأما المنذر فأعجز القوـ‪ ،‬وأما سعد فألقوا القبض عميو‪ ،‬فربطوا يديو إلى عنقو‬
‫بنسع رحمو‪ ،‬وجعموا يضربونو ويجرونو ويجروف شعره حتى أدخموه مكة‪ ،‬فجاء المطعـ بف‬
‫عدي والحارث بف حرب بف أمية فخمصاه مف أيدييـ‪ .‬إذ كاف سعد يجير ليما قوافميما‬
‫المارة بالمدينة‪ ،‬وتشاورت األنصار حيف فقدوه أف يكروا إليو‪ ،‬فإذا ىو قد طمع عمييـ‪،‬‬
‫فوصؿ القوـ جميعا إلى المدينة ‪.‬‬
‫ىذه ىي بيعة العقبة الثانية‪ -‬التي تعرؼ ببيعة العقبة الكبرى‪ -‬وقد تمت في جو تعموه‬
‫عواطؼ الحب والوالء والتناصر بيف أشتات المؤمنيف‪ ،‬والثقة والشجاعة واإلستبساؿ في ىذا‬
‫السبيؿ‪ ،‬فمؤمف مف أىؿ يثرب يحنو عمى أخيو المستضعؼ في مكة‪ ،‬ويتعصب لو‪،‬‬
‫ويغضب مف ظالمو‪ ،‬وتجيش في حناياه مشاعر الود ليذا األخ الذي أحبو بالغيب في ذات‬
‫اهلل‪.‬ولـ تكف ىذه المشاعر والعواطؼ نتيجة نزعة عابرة تزوؿ عمى مر األياـ‪ ،‬بؿ كاف‬
‫مصدرىا ىو اإليماف باهلل وبرسولو وبكتابو‪ ،‬إيماف ال يزوؿ أماـ أي قوة مف قوات الظمـ‬
‫والعدواف‪ ،‬إيماف إذا ىبت ريحو جاءت بالعجائب في العقيدة والعمؿ‪ ،‬وبيذا اإليماف استطاع‬
‫المسمموف أف يسجموا عمى أوراؽ الدىر أعماال‪ ،‬ويتركوا عمييا آثارا‪ ،‬خال عف نظائرىا‬
‫الغابر والحاضر‪ ،‬وسوؼ يخمو المستقبؿ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫اليجرة المباركة‪:‬‬
‫بعد أف تمت بيعة العقبة الثانية‪،‬استطاع النبي ‪ ‬بدعوتو الصابرة الحكيمة أف يؤسس‬
‫لإلسالـ ‪-‬وألوؿ مرة‪ -‬وطناً وسط صحراء تموج بالكفر والشرؾ والجيالة‪ ،‬وبدأت طالئع‬
‫اليجرة المباركة لممقيوريف والمعذبيف في مكة‪ ،‬وبدءوا يصموف إلى المدينة المنورة‪.‬‬
‫إف اليجرة إلى المدينة سبقيا تمييد واعداد وتخطيط مف النبي ‪ ‬وكاف ذلؾ بتقدير اهلل‬
‫تعالى وتدبيره‪ ،‬وكاف ىذا اإلعداد في اتجاىيف‪ ،‬إعداد في شخصية المياجريف‪ ،‬واعداد في‬
‫المكاف المياجر إليو‪.‬‬
‫من أساليب قريش في محاربة المياجرين ومن مشاىد العظمة في اليجرة‪:‬‬
‫عممت قيادة قريش ما في وسعيا لمحيمولة دوف خروج مف بقي مف المسمميف إلى المدينة‪،‬‬
‫واتبعت في ذلك عدة أساليب منيا‪:‬‬
‫ٔ ‪ٍ -‬أسموب التفريؽ بيف الرجؿ وزوجو وولده‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬أسموب االختطاؼ‪.:‬‬
‫ٖ‪ -‬أسموب الحبس‪:‬‬
‫ٗ‪-‬أسموب التجريد مف الماؿ‬
‫طالئع اليجرة‪:‬‬
‫روى البخاري عف عائشة قالت‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬لممسمميف إني رأيت دار ىجرتكـ ذات‬
‫نخؿ بيف البتيف‪ -‬وىما الحرتاف‪ -‬فياجر مف ىاجر قبؿ المدينة‪ .‬ورجع عامة مف كاف‬
‫ىاجر بأرض الحبشة إلى المدينة‪ ،‬وتجيز أبو بكر قبؿ المدينة‪ ،‬فقاؿ لو رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫عمى رسمؾ‪ ،‬فإني أرجو أف يؤذف لي‪ .‬فقاؿ لو أبو بكر‪ :‬وىؿ ترجو ذلؾ بأبي أنت؟ قاؿ‪:‬‬
‫نعـ فحبس أبو بكر نفسو عمى رسوؿ اهلل ‪ ‬ليصحبو‪ ،‬وعمؼ راحمتيف كانتا عنده ورؽ‬
‫السمر‪ -‬وىو الخبط‪ -‬أربعة أشير‪.‬‬
‫ىجرة النبي ‪:‬‬
‫ولما تـ اتخاذ القرار الغاشـ بقتؿ النبي ‪ ‬نزؿ إليو جبريؿ بوحي ربو تبارؾ وتعالى‪ ،‬فأخبره‬
‫بمؤامرة قريش‪ ،‬وأف اهلل قد أذف لو في الخروج‪ ،‬وحدد لو وقت اليجرة قائال‪ :‬ال تبت ىذه‬
‫الميمة عمى فراشؾ الذي كنت تبيت عميو ‪.‬‬
‫وذىب النبي ‪ ‬في الياجرة إلى أبي بكر رضي اهلل عنو‪ ،‬ليبرـ معو مراحؿ اليجرة‪ ،‬قالت‬
‫عائشة رضي اهلل عنيا‪ :‬بينما نحف جموس في بيت أبي بكر في نحر الظييرة قاؿ قائؿ‬
‫ألبي بكر ىذا رسوؿ اهلل ‪ ‬متقنعا‪ ،‬في ساعة لـ يكف يأتينا فييا‪ ،‬فقاؿ أبو بكر‪ :‬فداء لو‬
‫أبي وأمي‪ ،‬واهلل ما جاء بو في ىذه الساعة إال أمر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫قالت‪ :‬فجاء رسوؿ اهلل ‪ ‬فاستأذف‪ ،‬فأذف لو‪ ،‬فدخؿ‪ ،‬فقاؿ النبي صمى اهلل عميو وسمـ ألبي‬
‫بكر‪:‬‬
‫«أخرج مف عندؾ» ‪ .‬فقاؿ أبو بكر‪ :‬إنما ىـ أىمؾ‪ ،‬بأبي أنت يا رسوؿ اهلل‪ .‬قاؿ‪« :‬فإني قد‬
‫أذف لي في الخروج» فقاؿ أبو بكر‪ :‬الصحبة بأبي أنت يا رسوؿ اهلل؟ قاؿ رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫‪ :‬نعـ‪ ،‬وبعد إبراـ خطة اليجرة رجع رسوؿ اهلل ‪ ‬إلى بيتو‪ ،‬ينتظر مجيء الميؿ‪.‬‬
‫اجتماع دار الندوة‪:‬‬
‫بعد شيريف ونصؼ تقريبا مف بيعة العقبة الكبرى‪ -‬عقد برلماف مكة (دار الندوة) في أوائؿ‬
‫أخطر اجتماع لو في تاريخو‪ ،‬وتوافد إلى ىذا اإلجتماع جميع نواب القبائؿ‬ ‫النيار‬
‫القرشية‪ ،‬ليتدارسوا خطة حاسمة تكفؿ القضاء سريعا عمى حامؿ لواء الدعوة اإلسالمية‪،‬‬
‫وتقطع تيار نورىا عف الوجود نيائيا‪.‬‬
‫وكانت الوجوه البارزة في ىذا اإلجتماع الخطير مف نواب قبائؿ قريش‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬أبو جيؿ بف ىشاـ‪ ،‬عف قبيمة بني مخزوـ‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬جبير بف مطعـ‪ ،‬وطعيمة بف عدي‪ ،‬والحارث بف عامر‪ ،‬عف بني نوفؿ بف عبد مناؼ‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفياف بف حرب‪ ،‬عف بني عبد شمس بف عبد مناؼ‪.‬‬
‫ٗ‪ -‬النضر بف الحارث‪ -‬وىو الذي كاف ألقى عمى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ سال‬
‫جزور‪ -‬عف بني عبد الدار‪.‬‬
‫٘‪ -‬أبو البختري بف ىشاـ وزمعة بف األسود‪ ،‬وحكيـ بف حزاـ عف بني أسد بف عبد العزي‪.‬‬
‫‪ -ٙ‬نبيو ومنبو ابنا الحجاج‪ ،‬عف بني سيـ‪.‬‬
‫‪ -ٚ‬أمية بف خمؼ‪ ،‬عف بني جمح‪.‬‬
‫ولما جاؤوا إلى دار الندوة حسب الميعاد اعترضيـ إبميس في ىيئة شيخ جميؿ‪ ،‬ووقؼ عمى‬
‫الباب‪ ،‬فقالوا‪ :‬مف الشيخ؟ قاؿ‪ :‬شيخ مف أىؿ نجد سمع بالذي اتعدتـ لو‪ ،‬فحضر معكـ‬
‫ليسمع ما تقولوف‪ ،‬وعسى أاليعدمكـ منو رأيا ونصحا‪ .‬قالوا‪ :‬أجؿ‪ ،‬فادخؿ‪ ،‬فدخؿ معيـ‪.‬‬
‫تآمر القرشيين عمى قتل رسول اهلل ‪:‬‬
‫ىاجر المسمموف إلى المدينة وبدأ أىؿ مكة يشعروف أف تجمع المسمميف في المدينة مع‬
‫أىميا خطر عمييـ‪ ،‬وبخاصة إذا لحؽ محمد ‪ ‬بيـ فأخذوا يتآمروف لمقضاء عمى رسوؿ‬
‫اهلل ‪ ‬وىو بينيـ قبؿ أف يتركيـ إلى المدينة ويتعاظـ شأنو‪.‬‬
‫يقوؿ ابف إسحاؽ‪ :‬ولما رأت قريش أف رسوؿ اهلل ‪ ‬قد صارت لو شيعة وأصحاب مف‬
‫دار‬
‫غيرىـ بغير بمدىـ‪ ،‬و أروا خروج أصحابو مف المياجريف إلييـ‪ ،‬وعرفوا أنيـ قد نزلوا ًا‬
‫وأصابوا منيـ منعة‪ ،‬فحذروا خروج رسوؿ اهلل ‪ ‬فاجتمعوا لو في دار الندوة‪ ،‬يتشاوروف‬
‫فيما يصنعوف في أمره ‪ ‬حيف خافوه‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫تطويق منزل الرسول ‪: ‬‬
‫قاؿ ابف إسحاؽ‪ :‬فمما كانت عتمة الميؿ اجتمعوا عمى بابو يرصدونو متى ناـ فيثبوف عميو‪.‬‬
‫وقد كاف ميعاد تنفيذ تمؾ المؤامرة بعد منتصؼ الميؿ‪ ،‬فباتوا متيقظيف ينتظروف ساعة‬
‫ممكوت السماوات واألرض‪ ،‬يفعؿ ما يشاء‪ ،‬وىو‬ ‫الصفر‪ ،‬ولكف اهلل غالب عمى أمره‪ ،‬بيده‬
‫يف َكفَ ُروا‬ ‫بو الرسوؿ‪ ‬فيما بعد‪ :‬وِا ْذ يم ُكر بِ َ َِّ‬
‫ؾ الذ َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫يجير وال يجار عميو‪ ،‬فقد فعؿ ما خاطب‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِلُيثْبِتُو َ‬
‫َوَي ْم ُك ُر الموُ‪َ ،‬والموُ َخ ْي ُر اْلماك ِر َ‬
‫يف) (‪.)11‬‬ ‫وف‬ ‫ؾ أ َْو ُي ْخ ِر ُجو َ‬
‫ؾ‪َ ،‬وَي ْم ُك ُر َ‬ ‫ؾ أ َْو َي ْقتُمُو َ‬
‫الرسول ‪ ‬يغادر بيتو‪:‬‬
‫ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتيـ فقد فشموا فشال فاحشا‪ .‬ففي ىذه الساعة الحرجة‬
‫قاؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬لعمي بف أبي طالب‪« :‬نـ عمى فراشي ثـ خرج رسوؿ اهلل ‪ ،‬واخترؽ‬
‫صفوفيـ‪ ،‬وأخذ حفنة مف البطحاء فجعؿ يذره عمى رؤوسيـ‪ ،‬وقد آخذ اهلل أبصارىـ عنو فال‬
‫ناى ْـ فَيُ ْـ ال‬ ‫يرونو‪ ،‬وىو يتمو‪َ (:‬و َج َعْمنا ِم ْف َب ْي ِف أ َْي ِدي ِي ْـ َس ِّدا َو ِم ْف َخْم ِف ِي ْـ َس ِّدا فَأ ْ‬
‫َغ َش ْي ُ‬
‫وف)(‪ .)12‬فمـ يبؽ منيـ رجؿ إال وقد وضع عمى رأسو ترابا‪ ،‬ومضى إلى بيت أبي‬ ‫ِ‬
‫ُي ْبص ُر َ‬
‫بكر‪ ،‬فخرجا مف خوخة في دار أبي بكر ليال حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمف ‪.‬‬
‫وبقي المحاصروف ينتظروف حموؿ ساعة الصفر‪ ،‬وقبيؿ حموليا تجمت ليـ الخيبة والفشؿ‪،‬‬
‫فقد جاءىـ رجؿ ممف لـ يكف معيـ‪ ،‬ورآىـ ببابو فقاؿ‪ :‬ما تنتظروف؟ قالوا‪ :‬محمدا‪ .‬قاؿ‪:‬‬
‫خبتـ وخسرتـ‪ ،‬قد واهلل مر بكـ‪ ،‬وذر عمى رؤوسكـ التراب‪ ،‬وانطمؽ لحاجتو‪ ،‬قالوا‪ :‬واهلل ما‬
‫أبصرناه‪ ،‬وقاموا ينفضوف التراب عف رؤوسيـ‪.‬ولكنيـ تطمعوا مف صير الباب ف أروا عميا‪،‬‬
‫عمي عف‬
‫فقالوا‪ :‬واهلل إف ىذا لمحمد نائما‪ ،‬عميو برده‪ ،‬فمـ يبرحوا كذلؾ حتى أصبحوا‪ .‬وقاـ ّ‬
‫الفراش‪ ،‬فسقط في أيدييـ‪ ،‬وسألوه عف رسوؿ اهلل ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ال عمـ لي بو‪.‬‬
‫ولما كاف النبي ‪ ‬يعمـ أف قريشا ستجد في الطمب‪ ،‬وأف الطريؽ الذي ستتجو إليو األنظار‬
‫ألوؿ وىمة ىو طريؽ المدينة الرئيسي المتجو شماال‪ ،‬فقد سمؾ الطريؽ الذي يضاده تماما‪،‬‬
‫وىو الطريؽ الواقع جنوب مكة‪ ،‬والمتجو نحو اليمف‪ .‬سمؾ ىذا الطريؽ نحو خمسة أمياؿ‪،‬‬
‫حتى بمغ إلى جبؿ يعرؼ بجبؿ ثور‪ ،‬وىذا جبؿ شامخ‪ ،‬وعر الطريؽ‪ ،‬صعب المرتقى‪ ،‬ذا‬
‫أحجار كثيرة‪ ،‬فحفيت قدما رسوؿ اهلل ‪ ،‬وقيؿ‪ :‬بؿ كاف يمشي في الطريؽ عمى أطراؼ‬
‫قدميو كي يخفي أثره فحفيت قدماه‪ ،‬وأيا ما كاف‪ ،‬فقد حممو أبو بكر حيف بمغ إلى الجبؿ‪،‬‬
‫وطفؽ يشتد بو حتى انتيى بو إلى غار في قمة الجبؿ‪ ،‬عرؼ في التاريخ بغار ثور ‪.‬‬

‫ٔٔ) سورة االنفاؿ‪.ٖٓ :‬‬


‫ٕٔ) سورة يس‪. ٜ :‬‬

‫‪23‬‬
‫إذ ىما في الغار‬
‫ولما انتييا إلى الغار قاؿ أبو بكر‪ :‬واهلل ال تدخمو حتى أدخمو قبمؾ‪ ،‬فإف كاف فيو شيء‬
‫أصابني دونؾ‪ ،‬فدخؿ فكسحو‪ ،‬ووجد في جانبو ثقبا فشؽ إ ازره وسدىا بو‪ ،‬وبقي منيا اثناف‬
‫فألقميما رجميو‪ ،‬ثـ قاؿ لرسوؿ اهلل ‪ . ‬ادخؿ‪ .‬فدخؿ رسوؿ اهلل ‪ ، ‬ووضع رأسو في‬
‫حجره وناـ‪ ،‬فمدغ أبو بكر في رجمو مف الحجر‪ ،‬ولـ يتحرؾ مخافة أف ينتبو رسوؿ اهلل ‪،‬‬
‫فسقطت دموعو عمى وجو رسوؿ اهلل ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ما لؾ يا أبا بكر؟ قاؿ‪ :‬لدغت‪ ،‬فداؾ أبي‬
‫وأمي‪ ،‬فتفؿ رسوؿ اهلل ‪ ،‬فذىب ما يجده‪.‬‬
‫وكمنا في الغار ثالث لياؿ‪ ،‬ليمة الجمعة وليمة السبت وليمة األحد وكاف عبد اهلل ابف أبي‬
‫بكر يبيت عندىما‪ .‬قالت عائشة‪ :‬وىو غالـ شاب ثقؼ لقف‪ ،‬فيدلج مف عندىما بسحر‪،‬‬
‫فيصبح مع قريش بمكة كبائت‪ ،‬فال يسمع أم ار يكتاداف بو إال وعاه‪ ،‬حتى يأتييما بخبر ذلؾ‬
‫حيف يختمط الظالـ‪ .‬و (كاف) يرعى عمييما عامر بف فييرة مولى أبي بكر منحة مف غنـ‪،‬‬
‫فيريحيا عمييما حيف تذىب ساعة مف العشاء‪ ،‬فيبيتاف في رسؿ‪ -‬وىو لبف منحتيما‬
‫ورضيفيما‪ -‬حتى ينعؽ بيما عامر بف فييرة بغمس‪ ،‬يفعؿ ذلؾ في كؿ ليمة مف تمؾ الميالي‬
‫الثالث ‪ .‬وكاف عامر بف فييرة يتبع بغنمو أثر عبد اهلل بف أبي بكر بعد ذىابو إلى مكة‬
‫ليعفى عميو‪.‬‬
‫أما قريش فقد جف جنونيا حينما تأكد لدييا إفالت رسوؿ اهلل ‪ ‬صباح ليمة تنفيذ المؤامرة‪.‬‬
‫فأوؿ ما فعموا بيذا الصدد أنيـ ضربوا عميا‪ ،‬وسحبوه إلى الكعبة‪ ،‬وحبسوه ساعة‪ ،‬عميـ‬
‫عمي عمى جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر‪ ،‬وقرعوا‬ ‫يظفروف بخبرىما ‪ .‬ولما لـ يحصموا مف ّ‬
‫بابو‪ ،‬فخرجت إلييـ أسماء بنت أبي بكر‪ ،‬فقالوا ليا‪ :‬أيف أبوؾ؟ قالت‪ :‬ال أدري واهلل أيف‬
‫أبي؟ فرفع أبو جيؿ يده‪ -‬وكاف فاحشا خبيثا‪ -‬فمطـ خدىا لطمة طرح منيا قرطيا ‪.‬‬
‫وقررت قريش في جمسة طارئة مستعجمة استخداـ جميع الوسائؿ التي يمكف بيا القبض‬
‫عمى الرجميف‪ ،‬فوضعت جميع الطرؽ النافذة مف مكة‪ ،‬في جميع الجيات تحت المراقبة‬
‫المسمحة الشديدة‪ ،‬كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرىا مائة ناقة بدؿ كؿ واحد منيما‬
‫لمف يعيدىما إلى قريش حييف أو ميتيف‪ ،‬كائنا مف كاف ‪.‬‬
‫وحينئذ جدت الفرساف والمشاة وقصاص األثر في الطمب‪ ،‬وانتشروا في الجباؿ والودياف‪،‬‬
‫لكف مف دوف جدوى‪.‬وقد وصؿ المطاردوف إلى باب الغار‪ ،‬ولكف اهلل غالب عمى أمره‪،‬‬
‫روى البخاري عف أنس عف أبي بكر قاؿ‪ :‬كنت مع النبي ‪ ‬في الغار فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا‬
‫أنا بأقداـ القوـ‪ ،‬فقمت يا نبي اهلل لو أف بعضيـ طأطأ بصره رآنا‪ .‬قاؿ‪ :‬اسكت يا أبا بكر‪،‬‬
‫اثناف اهلل ثالثيما‪ ،‬وفي لفظ‪ :‬ما ظنؾ يا أبا بكر باثنيف اهلل ثالثيما‪ .‬وقد كانت معجزة أكرـ‬
‫اهلل بيا نبيو ‪ ، ‬فقد رجع المطاردوف حيف لـ يبؽ بينو وبينيـ إال خطوات معدودة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫في الطريق إلى المدينة‪:‬‬
‫وحيف خمدت نار الطمب‪ ،‬وتوقفت أعماؿ دوريات التفتيش‪ ،‬وىدأت ثائرات قريش بعد‬
‫استمرار المطاردة الحثيثة ثالثة أياـ بدوف جدوى‪ ،‬تييأ رسوؿ اهلل ‪ ‬وصاحبو لمخروج إلى‬
‫المدينة‪.‬وكانا قد استأجر عبد اهلل بف أريقط الميثي‪ ،‬وكاف ىاديا خريتا‪ -‬ماى ار بالطريؽ‪-‬‬
‫وكاف عمى ديف كفار قريش‪ ،‬وأمناه عمى ذلؾ‪ ،‬وسمما إليو راحمتييما‪ ،‬وواعداه غار ثور بعد‬
‫ثالث لياؿ براحمتييما‪ ،‬فمما كانت ليمة اإلثنيف‪ -‬غرة ربيع األوؿ سنة ٔ ىػ‪ ٔٙ /‬سبتمبر‬
‫سنة ٕٕ‪ ٙ‬ـ‪ -‬جاءىما عبد اهلل بف أريقط بالراحمتيف ثـ ارتحؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬وأبو بكر‬
‫رضي اهلل عنو‪ ،‬وارتحؿ معيما عامر بف فييرة‪ ،‬وأخذ بيـ الدليؿ‪ -‬عبد اهلل بف أريقط‪ -‬عمى‬
‫طريؽ السواحؿ‪.‬وأوؿ مف سمؾ بيـ بعد الخروج مف الغار أنو أمعف في اتجاه الجنوب نحو‬
‫اليمف‪ ،‬ثـ اتجو غربا نحو الساحؿ‪ ،‬حتى إذا وصؿ إلى طريؽ لـ يألفو الناس اتجو شماال‬
‫عمى مقربة مف شاطئ البحر األحمر‪ ،‬وسمؾ طريقا لـ يكف يسمكو أحد إال ناد ار‪.‬‬
‫وقد ذكر ابف إسحاؽ المواضع التي مر بيا رسوؿ اهلل ‪ ‬في ىذا الطريؽ قاؿ‪ :‬لما خرج‬
‫بيما الدليؿ سمؾ بيما أسفؿ مكة‪ ،‬ثـ مضى بيما عمى الساحؿ حتى عارض الطريؽ أسفؿ‬
‫مف عسفاف‪ ،‬ثـ سمؾ بيما عمى أسفؿ أمج‪ ،‬ثـ استجاز بيما حتى عارض بيما الطريؽ بعد‬
‫أف أجاز قديدا‪ ،‬ثـ أجاز بيما مف مكانو ذلؾ‪ ،‬فسمؾ بيما الخرار‪ ،‬ثـ سمؾ بيما ثنية المرة‪،‬‬
‫ثـ سمؾ بيما لقفا‪ ،‬ثـ أجاز بيما مدلجة لقؼ‪ ،‬ثـ استبطف بيما مدلجة مجاح‪ ،‬ثـ سمؾ بيما‬
‫مرجح محاج‪ ،‬ثـ تبطف بيما مرجح ذي الغضويف‪ ،‬ثـ بطف ذي كشر‪ ،‬ثـ أخذ بيما عمى‬
‫الجداجد‪ ،‬ثـ عمى األجرد‪ ،‬ثـ سمؾ بيما ذا سمـ‪ ،‬مف بطف أعداء مدلجة تعيف‪ ،‬ثـ عمى‬
‫العبابيد‪ ،‬ثـ أجاز بيما الفاجة‪ ،‬ثـ ىبط بيما العرج‪ ،‬ثـ سمؾ بيما ثنية العائر‪ -‬عف يميف‬
‫ركوبة‪ -‬حتى ىبط بيما بطف رئـ‪ ،‬ثـ قدـ بيما عمى قبا ‪ .‬وىاؾ بعض ما وقع في الطريؽ‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬روى البخاري عف أبي بكر الصديؽ رضي اهلل عنو قاؿ‪ :‬أسرينا ليمتنا ومف الغد حتى‬
‫قاـ قائـ الظييرة‪ ،‬وخال الطريؽ‪ ،‬ال يمر فيو أحد‪ ،‬فرفعت لنا صخرة طويمة ليا ظؿ لـ تأت‬
‫عمييا الشمس‪ ،‬فنزلنا عنده‪ ،‬وسويت لمنبي ‪ ‬مكانا بيدي‪ ،‬يناـ عميو‪ ،‬وبسطت عميو فروة‪،‬‬
‫وقمت‪ :‬نـ يا رسوؿ اهلل‪ ،‬وأنا أنفض لؾ ما حولؾ‪ ،‬فناـ‪ ،‬وخرجت أنفض ما حولو‪ ،‬فإذا أنا‬
‫براع مقبؿ بغنمو إلى الصخرة‪ ،‬يريد منيا مثؿ الذي أردنا‪ ،‬فقمت لو‪ :‬لمف أنت يا غالـ؟‬
‫قاؿ‪ :‬لرجؿ مف أىؿ المدينة أو مكة‪ .‬قمت‪ :‬أفي غنمؾ لبف؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪ .‬قمت‪:‬‬
‫أفتحمب؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪ .‬فأخذ شاة‪ ،‬فقمت‪ :‬أنفض الضرع مف التراب والشعر والقذى‪ .‬فحمب في‬
‫كعب كثبة مف لبف‪ ،‬ومعي إداوة حممتيا لمنبي ‪‬ـ‪ ،‬يرتوي منيا‪ ،‬ما يشرب ويتوضأ‪ ،‬فأتيت‬
‫النبي صمى اهلل عميو وسمـ‪ ،‬فكرىت أف أوقظو‪ ،‬فوافقتو حيف استيقظ‪ ،‬فصببت مف الماء‬

‫‪25‬‬
‫عمى لبف حتى برد أسفمو‪ ،‬فقمت‪ :‬إشرب يا رسوؿ اهلل‪ ،‬فشرب حتى رضيت‪ ،‬ثـ قاؿ‪ :‬ألـ‬
‫يأف الرحيؿ؟ قمت‪ :‬بمى‪ ،‬قاؿ‪ :‬فارتحمنا ‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬كاف مف دأب أبي بكر رضي اهلل عنو أنو كاف ردفا لمنبي ‪ ،‬وكاف شيخا يعرؼ‪،‬‬
‫ونبي اهلل ‪ ‬شاب ال يعرؼ‪ ،‬فيمقى الرجؿ أبا بكر فيقوؿ‪ :‬مف ىذا الرجؿ الذي بيف يديؾ؟‬
‫فيقوؿ‪ :‬ىذا الرجؿ ييديني الطريؽ‪ ،‬فيحسب الحاسب أنو يعني بو الطريؽ‪ ،‬وانما يعني‬
‫سبيؿ الخير ‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬وتبعيما في الطريؽ سراقة بف مالؾ‪ .‬قاؿ سراقة‪ :‬بينما أنا جالس في مجمس مف‬
‫مجالس قومي بني مدلج‪ ،‬أقبؿ رجؿ منيـ حتى قاـ عمينا‪ ،‬ونحف جموس‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا سراقة‪،‬‬
‫إني رأيت آنفا أسودة بالساحؿ‪ ،‬أراىا محمدا وأصحابو‪ .‬قاؿ سراقة‪ :‬فعرفت أنيـ ىـ‪.‬‬
‫فقمت لو‪ :‬إنيـ ليسوا بيـ‪ ،‬ولكنؾ رأيت فالنا وفالنا انطمقوا بأعيننا‪ ،‬ثـ لبثت في المجمس‬
‫ساعة‪ ،‬ثـ قمت فدخمت‪ ،‬فأمرت جاريتي أف تخرج فرسي‪ ،‬وىي مف وراء أكمة‪ ،‬فتحبسيا‬
‫عمي‪ ،‬وأخذت رمحي فخرجت بو مف ظير البيت‪ ،‬فخططت بزجو األرض‪ ،‬وخفضت‬
‫عاليو‪ ،‬حتى أتيت فرسي‪ ،‬فركبتيا‪ ،‬فعرفتيا تقرب بي حتى دنوت منيـ‪ ،‬فعثرت بي فرسي‬
‫فخررت عنيا‪ ،‬فقمت‪ ،‬فأىويت يدي إلى كنانتي‪ ،‬فاستخرجت منيا األزالـ‪ ،‬فاستقسمت بيا‪،‬‬
‫أضرىـ أـ ال؟ فخرج الذي أكره‪ ،‬فركبت فرسي وعصيت األزالـ‪ ،‬تقرب بي‪ ،‬حتى إذا سمعت‬
‫قراءة رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬وىو ال يمتفت‪ ،‬وأبو بكر يكثر اإللتفات‪ -‬ساخت يدا‬
‫فرسي في األرض‪ ،‬حتى بمغتا الركبتيف‪ ،‬فخررت عنيا‪ ،‬ثـ زجرتيا فنيضت‪ ،‬فمـ تكد تخرج‬
‫يدييا‪ ،‬فمما استوت قائمة إذا ألثر يدييا غبار ساطع في السماء مثؿ الدخاف‪ ،‬فاستقسمت‬
‫باألزالـ‪ ،‬فخرج الذي أكره‪ ،‬فناديتيـ باألماف‪ ،‬فوقفوا‪ ،‬فركبت فرسي حتى جئتيـ‪ ،‬ووقع في‬
‫نفسي حيف لقيت ما لقيت مف الحبس عنيـ أف سيظير أمر رسوؿ اهلل ‪ ‬فقمت لو‪ ،‬إف‬
‫قومؾ قد جعموا فيؾ الدية‪ ،‬وأخبرتيـ أخبار ما يريد الناس بيـ‪ ،‬وعرضت عمييـ الزاد‬
‫والمتاع فمـ يرزآني‪ ،‬ولـ يسأالني إال أف قاؿ‪ :‬أخؼ عنا‪ ،‬فسألتو أف يكتب لي كتاب أمف‪،‬‬
‫فأمر عامر بف فييرة‪ ،‬فكتب لي في رقعة مف أدـ‪ ،‬ثـ مضى رسوؿ اهلل ‪.‬‬
‫وفي رواية عف أبي بكر قاؿ‪ :‬ارتحمنا‪ ،‬والقوـ يطمبوننا‪ ،‬فمـ يدركنا منيـ أحد غير سراقة بف‬
‫مالؾ بف جعشـ عمى فرس لو‪ ،‬فقمت‪ :‬ىذا الطمب قد لحقنا يا رسوؿ اهلل‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ال تَ ْح َزْف إِ َّف‬
‫المَّوَ َم َعنا ‪.‬‬
‫ورجع سراقة‪ ،‬فوجد الناس في الطمب‪ ،‬فجعؿ يقوؿ‪ :‬قد استبرأت لكـ الخبر‪ ،‬قد كفيتـ ما‬
‫ىينا‪ .‬وكاف أوؿ النيار جاىدا عمييما‪ ،‬وآخره حارسا ليما ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ٗ‪ -‬ومر في مسيره ذلؾ حتى مر بخيمتي أـ معبد الخزاعية‪ ،‬وكانت امرأة برزة جمدة تحتبي‬
‫بفناء الخيمة‪ ،‬ثـ تطعـ وتسقي مف مر بيا‪ ،‬فسأالىا‪ :‬ىؿ عندىا شيء؟ فقالت‪ :‬واهلل لو كاف‬
‫عندنا شيء ما أعوزكـ القرى والشاء عازب‪ ،‬وكانت سنة شيباء‪.‬‬
‫فنظر رسوؿ اهلل ‪ ‬إلى شاة في كسر الخيمة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ما ىذه الشاة يا أـ معبد؟‬
‫قالت‪ :‬شاة خمفيا الجيد عف الغنـ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ىؿ بيا مف لبف؟ قالت‪ :‬ىي أجيد مف ذلؾ‪.‬‬
‫فقاؿ‪ :‬أتأذنيف لي أف أحمبيا؟ قالت‪ :‬نعـ بأبي وأمي‪ ،‬إف رأيت بيا حمبا فاحمبيا‪ .‬فمسح‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ‬بيده ضرعيا‪ ،‬وسمى اهلل ودعا‪ ،‬فتفاجت عميو ودرت‪ ،‬فدعا بإناء ليا يربض‬
‫الرىط‪ ،‬فحمب فيو حتى عمتو الرغوة‪ ،‬فسقاىا‪ ،‬فشربت حتى رويت‪ ،‬وسقي أصحابو حتى‬
‫رووا‪ ،‬ثـ شرب‪ ،‬وحمب فيو ثانيا‪ ،‬حتى مأل اإلناء‪ ،‬ثـ غادره عندىا فارتحموا‪.‬‬
‫فما لبثت أف جاء زوجيا أبو معبد يسوؽ أعن از عجافا يتساوكف ىزال‪ ،‬فمما رأى المبف‬
‫عجب‪ ،‬فقاؿ‪ :‬مف أيف لؾ ىذا؟ والشاة عازب‪ ،‬وال حموبة في البيت؟ فقالت‪ :‬ال واهلل إال أنو‬
‫مر بنا رجؿ مبارؾ كاف مف حديثو كيت وكيت‪ ،‬ومف حالو كذا وكذا‪ ،‬قاؿ‪ :‬إني واهلل أراه‬
‫صاحب قريش الذي تطمبو‪ ،‬صفيو لي يا أـ معبد‪ ،‬فوصفتو بصفاتو الرائعة بكالـ رائع كأف‬
‫السامع ينظر إليو وىو أمامو‪ -‬وسننقمو في بياف صفاتو صمى اهلل عميو وسمـ في أواخر‬
‫المقالة‪ -‬فقاؿ أبو معبد‪:‬‬
‫واهلل ىذا صاحب قريش الذي ذكروا مف أمره ما ذكروا‪ ،‬لقد ىممت أف أصحبو‪ ،‬وألفعمف إف‬
‫وجدت إلى ذلؾ سبيال‪،‬‬
‫وفي يوـ اإلثنيف ‪ ٛ‬ربيع األوؿ سنة ٗٔ مف النبوة‪ -‬وىي السنة األولى مف اليجرة‪-‬‬
‫الموافؽ ٖٕ سبتمبر سنة ٕٕ‪ ٙ‬ـ نزؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬بقباء ‪ .‬قاؿ عروة بف الزبير‪ :‬سمع‬
‫المسمموف بالمدينة بمخرج رسوؿ اهلل ‪ ‬مف مكة‪ ،‬فكانوا يغدوف كؿ غداة إلى الحرة‪،‬‬
‫فينتظرونو حتى يردىـ حر الظييرة‪ ،‬فانقمبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارىـ‪ ،‬فمما أووا إلى‬
‫بيوتيـ أوفى رجؿ مف ييود عمى أطـ مف آطاميـ ألمر ينظر إليو‪ ،‬فبصر برسوؿ اهلل‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ وأصحابو مبيضيف يزوؿ بيـ السراب‪ ،‬فمـ يممؾ الييودي أف قاؿ‬
‫بأعمى صوتو يا معاشر العرب‪ ،‬ىذا جدكـ الذي تنظروف‪ ،‬فثار المسمموف إلى السالح‪.‬‬
‫قاؿ ابف القيـ‪ :‬وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بف عوؼ‪ ،‬وكبر المسمموف فرحا‬
‫بقدومو‪ ،‬وخرجوا لمقائو‪ ،‬فتمقوه وحيوه بتحية النبوة‪ ،‬فأحدقوا بو مطيفيف حولو‪ ،‬والسكينة‬
‫يف‪َ ،‬واْل َمالئِ َكةُ َب ْع َد ذلِ َ‬
‫ؾ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫تغشاه‪ ،‬والوحي نزؿ عميو‪ (:‬فَِإ َّف الموَ ُى َو َم ْوالهُ َو ِج ْب ِري ُؿ َوصال ُح اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫)ٌ‪.)13‬قاؿ عروة بف الزبير‪ :‬فتمقوا رسوؿ اهلل ‪ ،‬فعدؿ بيـ ذات اليميف‪ ،‬حتى نزؿ بيـ‬ ‫(‬
‫ظ ِيير‬
‫َ‬

‫ٖٔ) سورة التحريـ‪.ٗ :‬‬

‫‪27‬‬
‫في بني عمرو بف عوؼ‪ ،‬وذلؾ يوـ اإلثنيف مف شير ربيع األوؿ‪ .‬فقاـ أبو بكر لمناس‪،‬‬
‫وجمس رسوؿ اهلل ‪ ‬صامتا‪ ،‬فطفؽ مف جاء مف األنصار ممف لـ ير رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫يحيى‪ -‬وفي نسخة‪ :‬يجيئ‪ -‬أبا بكر‪ ،‬حتى أصابت الشمس رسوؿ اهلل ‪ ‬فأقبؿ أبو بكر‬
‫حتى ظمؿ عميو بردائو‪ ،‬فعرؼ الناس رسوؿ اهلل ‪ ‬عند ذلؾ ‪.‬وكانت المدينة كميا قد‬
‫زحفت لإلستقباؿ‪ ،‬وكاف يوما مشيودا لـ تشيد المدينة مثمو في تاريخيا‪ ،‬وقد رأى الييود‬
‫صدؽ بشارة حبقوؽ النبي‪ :‬إف اهلل جاء مف التيماف‪ ،‬والقدوس مف جباؿ فاراف ‪.‬ونزؿ‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ‬بقباء عمى كمثوـ بف اليدـ‪ ،‬وقيؿ‪ :‬بؿ عمى سعد بف خيثمة‪ ،‬واألوؿ أثبت‪،‬‬
‫ومكث عمي بف أبي طالب بمكة ثالثا‪ ،‬حتى أدى عف رسوؿ اهلل ‪‬الودائع‪.‬‬
‫الدخول في المدينة‪:‬‬
‫وبعد الجمعة دخؿ النبي ‪ ‬المدينة‪ -‬ومف ذلؾ اليوـ سميت بمدة يثرب بمدينة الرسوؿ ‪،‬‬
‫ويعبر عنيا بالمدينة مختص ار‪ -‬وكاف يوما تاريخيا أغر‪ ،‬فقد كانت البيوت والسكؾ ترتج‬
‫بأصوات التحميد والتقديس‪.‬‬
‫دور الشباب والمرأة في اليجرة‪:‬‬
‫حيف نراجع الرصيد الضخـ مف أحداث اليجرة‪ ،‬نالحظ أف الذيف نفذوا مخطط اليجرة‪،‬‬
‫والعناصر التي اعتمدىا عميو الصالة والسالـ لمتنفيذ مف غرر الشباب والنساء‪.‬‬
‫دور الشباب في اليجرة‪:‬‬
‫نمحظ دور الشباب فيما يمي‪:‬‬
‫ٔ – إف الذي تحمؿ ابتداء مسؤولية المواجية والدعوة في المدينة والذي أنزؿ مصعب بف‬
‫عمير عنده‪ ،‬والذي عرض حياتو لمخطر والموت‪ ،‬ىو أسعدابف ز اررة رضي اهلل عنو أبو‬
‫أمامة وىما مف شباب األنصار ‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬أف مف الذيف حضروا بيعة العقبة الثانية كانومف الشباب‪ ،‬قاؿ عروة بف الزبير‬
‫وموسى بف عقبة‪ :‬كانو سبعيف رجال وامرأة واحدة‪ ،‬وقاؿ‪ :‬منيـ أربعوف مف ذوي أسنانيـ‪،‬‬
‫وثالثوف مف شبابيـ‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬أف الذيف اختارىـ الرسوؿ ‪ ‬لتنفيذ مخطط اليجرة كذلؾ‪ ،‬جميعيـ مف الشباب وليس‬
‫فييـ إال كيؿ واحد ىو أو بكر رضي اهلل عنو‪ ،‬واف كاف قد قدـ أوالده الثالثة‪ :‬ليشاركوا في‬
‫ىذا الشرؼ العظيـ‪ .‬فعبد اهلل بف أبي بكر كما وصفتو عائشة رضي اهلل عنيما‪( :‬وىو‬
‫غالـ شاب ثقؼ لقف)‪ .‬وىو الذي حمؿ مسؤولية نقؿ األخبار لرسوؿ اهلل ‪ ‬كؿ يوـ بعد أف‬
‫يختمط بقريش طيمة النيار‪ ،‬ويعود بيا ليال بعيدا عف أعيف الرقباء‪ ،‬وفي قمب الخطر‬
‫المحدؽ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ -2‬دور المرأة في اليجرة‪:‬‬
‫لمعت في سماء اليجرة أسماء كثيرة مف النساء كاف ليف فضؿ كبير ونصيب وافر مف‬
‫الجياد فمف الذيف حضروا بيعة العقبة الثانية امرأتاف ىما أـ عمارة‪ ،‬وأـ منيع‪.‬وقد وفتا‬
‫بالبيعة وشيدتا المشاىد مع رسوؿ اهلل ‪ ‬ويكفي ألـ عمارة شيادة رسوؿ اهلل ‪( ‬ما التفت‬
‫يمينا وال شماال إال وأنا أراىا تقاتؿ دوني)‪ .‬كما برز دور عائشة بنت أبي بكر الصديؽ‬
‫التي حفظت لنا القصة ووعتيا وبمغتيا لألمة‪ ،‬وأـ سممة المياجرة الصبورة‪ ،‬وأسماء ذات‬
‫النطاقيف التي ساىمت في تمويف الرسوؿ ‪ ‬وصاحبو في الغار بالماء والغذاء‪ ،‬وكيؼ‬
‫تحممت األذى في سبيؿ اهلل؟ فقد حدثتنا عف ذلؾ فقالت‪« :‬لما خرج رسوؿ اهلل ‪ ‬وأبو بكر‬
‫‪ -‬رضي اهلل عنو ‪ -‬أتانا نفر مف قريش‪ ،‬فييـ أبو جيؿ بف ىشاـ‪ ،‬فوقفوا عمى باب أبي‬
‫بكر‪ ،‬فخرجت إلييـ فقالوا‪ :‬أيف أبوؾ يا بنت أبي بكر؟ قالت‪ :‬قمت‪ :‬ال أدري واهلل أيف أبي؟‬
‫قالت‪ :‬فرفع أبو جيؿ يده‪ ،‬وكاف فاحشاً خبيثاً فمطـ خدي لطمة طرح منيا قرطي قالت‪ :‬ثـ‬
‫انصرفوا ‪» ...‬‬
‫أىمية اليجرة في تاريخ الدعوة‪:‬‬
‫وىكذا لـ تكف اليجرة في الحس اإلسالمي مجرد نجاة مف عدو‪ ،‬أو ىروب مف محنة‪ ،‬لقد‬
‫كانت اليجرة فاتحة تاريخ جديد‪ ،‬وكانت بالنسبة لممسمميف في األرض‪ ،‬ابتداء وجودىـ‬
‫وتاريخيـ‪ ،‬فصار التاريخ اليجري‪ ،‬المبتدىء في ىجرة الرسوؿ ‪ ‬ىو سمة ىذه األمة‪،‬‬
‫عمى مدار القروف‪ ،‬وبو ومف خاللو تعرؼ‪.‬‬
‫يقوؿ ابف كثير رحمو اهلل‪(:‬اتفؽ الصحابة رضي اهلل عنيـ في سنة ستة عشر ‪ -‬وقبؿ سبع‬
‫عشرة‪ ،‬أو ثماني عشرة ‪ -‬في الدولة العمرية عمى جعؿ ابتداء التاريخ اإلسالمي مف سنة‬
‫اليجرة‪ ،‬وذلؾ أف أمير المؤمنيف عمر رضي اهلل عنو رفع إليو صؾ ‪ -‬أي حجة ‪ -‬لرجؿ‬
‫عمى آخر‪ ،‬وفيو أنو يحؿ عميو في شعباف‪ ،‬فقاؿ عمر‪ :‬أي شعباف؟ أشعباف ىذه السنة التي‬
‫نحف فييا‪ ،‬أو السنة الماضية‪ ،‬أو اآلتية؟ ثـ جمع الصحابة‪ ،‬فاستشارىـ في وضع تاريخ‬
‫يتعرفوف بو حموؿ الديوف وغير ذلؾ‪.‬‬
‫فقاؿ قائؿ‪ :‬أرخوا كتاريخ الفرس‪ ،‬فكره ذلؾ‪ ،‬وكاف الفرس يؤرخوف بمموكيـ واحدا بعد واحد‪.‬‬
‫وقاؿ قائؿ‪ :‬أرخوا بتاريخ الروـ‪ ،‬وكانوا يؤرخوف بممؾ اسكندر المقدوني‪ ،‬فكره ذلؾ‪ ...‬فماؿ‬
‫عمر رضي اهلل عنو إلى التاريخ باليجرة لظيوره واشتياره واتفقوا عمى ذلؾ)‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫أسس بناء المجتمع الجديد‪:‬‬
‫شرع رسوؿ اهلل ‪ ‬منذ دخولو المدينة لتثبيت دعائـ الدولة الجديدة عمى قواعد متينة‪،‬وأسس‬
‫راسخة‪ ،‬فكانت اليجرة نواة تأسيس دولة اإلسالـ في المدينة المنورة‪ ،‬فحققت اليجرة بفضؿ‬
‫اهلل أوالً وآخ اًر ما كاف يسعى إليو النبي ‪ ‬والمياجروف‪ ،‬فمـ تكف اليجرة مجرد التخمص مف‬
‫إيذاء المشركيف أو الفرار مف الفتنة في الديف ‪ ،‬بؿ كانت كذلؾ إيذاناً بميالد دولة اإلسالـ‪.‬‬
‫بناء الدولة اإلسالمية‪:‬‬
‫في المدينة بدأت مرحمة جديدة لمدعوة إلى اهلل عز وجؿ‪ ،‬حقاً إنيا مرحمة جديدة‪ ،‬فمقد‬
‫أصبح لإلسالـ دولة حقيقية مف حاكـ وقائد وقوة وأرض ووطف‪ ،‬وأصبح لإلسالـ قوة تحميو‬
‫وتدافع عنو‪.‬‬
‫وأىم أسس بناء المجتمع الجديد‪:‬‬
‫‪-1‬بناء المسجد النبوي‪:‬‬
‫كانت أوؿ خطوة في ىذا السبيؿ ىي بناء المسجد النبوي وقد كاف المسجد جامعة لإلسالـ‪،‬‬
‫ومنتدى لمتشاور وح ّؿ النزاعات‪ ،‬وقاعدة إلدارة المجتمع‪ .‬فأوؿ مؤسسة بنيت في دولة‬
‫اإلسالـ ىي (المسجد)‪ ،‬فالمسجد كاف مكاف عبادة‪ ،‬وممتقى األخوة والمدرسة التعميمية وىو‬
‫كذلؾ كاف مقر القيادة منو تنطمؽ الجيوش وفيو تعقد المقاءات الداخمية والخارجية‪.‬‬
‫وقد بنوي المسجد في المكاف الذي بركت فيو الناقة‪ ،‬وكاف في األصؿ حائطا‪ -‬بستانا‪-‬‬
‫فتخرب بعضو فبنيت فيو قبور‪ ،‬واتّخذ بعضو مربدا لتجفيؼ التمر‪ ،‬وكاف لغالميف يتيميف‬
‫ّ‬
‫بالمدينة‪ ،‬وىما سيؿ وسييؿ ابنا عمرو‪ ،‬وكانا في حجر أسعد بف ز اررة‪ ،‬فساوميما النبي ‪‬‬
‫فأبيا‪ ،‬وقاال بؿ نيبو هلل ولرسولو؛ ولكف الرسوؿ ‪ ‬أبى إال أف يكوف بالثمف‪ .‬وبيذا التصرؼ‬
‫تتقوؿ بو‬
‫الحكيـ ضرب النبي ‪ ‬مثال كريما في رعاية حقوؽ اليتامى‪ ،‬وقطع ما عسى أف ّ‬
‫ألسنة السوء‪.‬‬
‫الصديؽ ىو‬
‫ّ‬ ‫وقد ذكر موسى بف عقبة في تاريخو أف الرسوؿ‪ ‬اشتراه بعشرة دنانير‪ ،‬وأف‬
‫الذي دفعيا‪ ،‬وأمر رسوؿ اهلل ‪ ‬بالنخؿ فقطعت‪ ،‬وبالقبور فنبشت‪ ،‬وبالخرب فسويت‪ .‬وشرع‬
‫المسمموف يبنوف ورسوؿ اهلل ‪ ‬يحمؿ معيـ التراب والمبف وىـ يقولوف‪:‬‬
‫ىذي الحماؿ ال حماؿ خيبر ‪ ...‬ىذي أبر‪ -‬رّبنا‪ -‬وأطير‬
‫إف األجر أجر االخرة ‪ ...‬فارحـ األنصار والمياجرة‪.‬‬
‫الميـ ّ‬
‫ويقولوف‪ّ :‬‬
‫ولما بني المسجد النبوي صار مصمّى المسمميف ومتعبدىـ ومنتداىـ ومكاف تشاورىـ‪ ،‬وكاف‬
‫ممف ال ماؿ ليـ وال دار‪ ،‬وال يجدوف ما يعمموف بو‬
‫فيو صفّة يأوي إلييا الفقراء والمساكيف ّ‬
‫فيكتسبوف‪ ،‬وفيو تمقى دروس العمـ والحكمة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪ -2‬المؤاخاة بين المياجرين واألنصار‪:‬‬
‫كاف مف أوؿ األعماؿ العظيمة التي قاـ بيا رسوؿ اهلل ‪ ‬بعد ىجرتو إلى المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬ىو المؤاخاة بيف المياجريف واألنصار‪ .‬وقد كاف ليذا التآخي عظيـ األثر في وحدة‬
‫المجتمع المسمـ وفي تماسكو وترابطو‪ ، .‬ووقعت المؤاخاة بيف طرفيف ىما المياجروف‬
‫(‪)14‬‬
‫فآخى الرسوؿ ‪ ، ‬بيف كؿ مياجر وأنصاري اثنيف اثنيف‪ .‬وقد ترتب عمى‬ ‫واألنصار‪،‬‬
‫المتآخي ْيف كالمواساة بيف االثنيف‪ ،‬كما ترتب عمى‬
‫َ‬ ‫تشريع نظاـ المؤاخاة حقوؽ خاصة بيف‬
‫المؤاخاة أف يتوارث المتآخيف دوف ذوي أرحاميـ‪ ،‬مما يرقى بالعالقات بيف المتآخيف إلى‬
‫مستوى أعمؽ وأعمى مف أخوة الدـ‪ .‬وقد جعؿ الرسوؿ ‪ ‬ىذه األخوة عقداً نافذاً‪ ،‬ال لفظاً‬
‫فارغاً‪ ،‬وعمالً يرتبط بالدماء واألمواؿ‪ ،‬ال تحية تثرثر بيا األلسنة وال يقوـ ليا أثر‪.‬‬
‫‪ -3‬وثيقة المدينة(الدستور اإلسالمي)‪:‬‬
‫كاف أوؿ عمؿ قاـ بو رسوؿ اهلل ‪ ‬أف كتب صحيفة المدينة التي حفظ فييا الحقوؽ لكؿ‬
‫مكونات الدولة الجديدة‪ ،‬وحدد المرجعية السياسية‪ ،‬وصاف الحرية الدينية‪ ،‬وكفؿ الحقوؽ‬
‫الفردية‪ ،‬وىي الوثيقة السياسية اإلسالمية األولى المعروفة تاريخيا باسـ‪ :‬صحيفة المدينة‪،‬‬
‫وىي تنظيـ العالقات بيف المسمميف وبيف غير المسمميف فيذه الوثيقة تجعؿ غير المسمميف‬
‫المقيميف في دولة المدينة مواطنيف فييا‪ ،‬ليـ مف الحقوؽ مثؿ ما لممسمميف‪ ،‬وعمييـ مف‬
‫الواجبات مثؿ ما عمى المسمميف‪.‬‬
‫قاؿ ابف سحاؽ‪( :‬وكتب رسوؿ اهلل ‪ ‬كتابا بيف المياجريف واألنصار‪ ،‬وادع فيو ييود‬
‫(‪.)15‬وعاىدىـ‪ ،‬وأقرىـ عمى دينيـ وأمواليـ وشرط ليـ واشترط عمييـ)‪.‬‬
‫وتقرر الوثيقة النبوية أف بينيـ النصح ‪ -‬ىـ والمسمموف ‪ -‬عمى مف حارب أىؿ ىذه‬
‫الصحيفة‪ ،‬وأف بينيـ النصر والنصيحة‪ ،‬والبر دوف اإلثـ‪ ،‬وأف اهلل عمى أصدؽ ما في ىذه‬
‫الصحيفة وأبره (أي اهلل شاىد ووكيؿ عمى ما تـ االتفاؽ عميو)‪.‬‬
‫وفيما يمي نصوص الميثاؽ‪:‬‬
‫بسـ اهلل الرحمف الرحيـ‬
‫ىذا كتاب مف محمد النبي‪ ‬بيف المؤمنيف والمسمميف مف قريش ويثرب ومف تبعيـ فمحؽ‬
‫بيـ‪ ،‬وجاىد معيـ‪:‬‬

‫تتفؽ المصادر عمى أف المؤاخاة التي جرت في المدينة كانت بيف المياجريف واألنصار‪ ،‬لكف ابف سعد يذكر أف ثمة مؤاخاة بيف‬ ‫ٗٔ)‬
‫المياجريف أنفسيـ وقعت في المدينة إلى جانب المؤاخاة بينيـ وبيف األنصار‪ ،‬ولـ يذكر أية تفصيالت أخرى توضح ىدؼ المؤاخاة بيف‬
‫المياجريف أنفسيـ‪ ،‬وما يترتب عمييا‪.‬‬
‫٘ٔ) موقؼ الديف االسالمى فى بداية عيده مف الييود ‪ ..‬فقد كانت وثيقة المدينة التى أعطتيـ حؽ المواطنة الكاممة‬
‫مع المسمميف ‪ ،‬ولكنيـ ىـ الذيف رفضوا ىذه المواطنة و تعاونوا مع األعداء ضد مدينتيـ فكاف الصداـ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ٔ‪ -‬أنيـ أمة واحدة مف دوف الناس‪.‬‬
‫ٕ‪ -‬المياجروف مف قريش عمى ربعتيـ (الحاؿ التي ىـ عمييا) يتعاقموف بينيـ (يدفعوف‬
‫دياتيـ بعضيـ مع بعض) وىـ يفدوف عانييـ ( أسيرىـ) بالمعروؼ‪ ،‬والقسط بيف المؤمنيف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫دياتيـ) األولى‪ ،‬وكؿ طائفة منيـ‬
‫وكؿ قبيمة مف األنصار عمى ربعتيـ يتعاقموف معاقميـ ( ّ‬
‫تفدى عانييا بالعروؼ والقسط بيف المؤمنيف‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬وأف المؤمنيف ال يتركوف ُمفَّرجاً ( ُمثقالً بالديف) بينيـ أف يعطوه بالمعروؼ في فداء أو‬
‫عقؿ‪.‬‬
‫ٗ‪ -‬وأف المؤمنيف المتقيف عمى مف بغى منيـ‪ ،‬أو ابتغى دسيعة ( عطية) ظمـ أو إثـ أو‬
‫عدواف أو فساد بيف المؤمنيف‪.‬‬
‫٘‪ -‬وأف أيدييـ عميو جميعاً ولو كاف ولد أحدىـ‪.‬‬
‫‪ -ٙ‬وال ُيقتؿ مؤمف في كافر‪ ،‬وال ُينصر كافر عمى مسمـ‪.‬‬
‫‪ -ٚ‬وأف ذمة اهلل واحدة يجير عمييـ أدناىـ‪.‬‬
‫‪ -ٛ‬وأف مف تبعنا مف ييود فإف لو النصر واألسوة‪ ،‬غير مظموميف وال متناصريف عمييـ‪.‬‬
‫‪ -ٜ‬واف ِسمـ المؤمنيف واحدة‪ ،‬ال يسالـ مؤمف دوف مؤمف في قتاؿ في سبيؿ اهلل إال عمى‬
‫سواء وعدؿ بينيـ‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬وأف المؤمنيف يبيء ‪ -‬يرجع ويحتمؿ ‪ -‬بعضيـ عمى بعض بما يناليـ في سبيؿ اهلل‪.‬‬
‫ٔٔ‪ -‬وأنو ال يجير مشرؾ ماالً لقريش وال نفساً‪ ،‬وال يحوؿ دونو عمى مؤمف‪.‬‬
‫ٕٔ‪ -‬وأنو مف اعتبط مؤمناً (قتمو بدوف سبب) قتالً عف بينة فإنو قود ( يقتؿ بو) إال أف‬
‫يرضى ولي المقتوؿ‪ ،‬وأف المؤمنيف عميو كافة‪ ،‬وال يحؿ ليـ إال قياـ عميو‪.‬‬
‫ٖٔ‪ -‬وأنو ال يحؿ لمؤمف أف ينصر محدثاً ‪ -‬مف أحدث منك اًر غير معتاد ‪ -‬وال يؤويو‪،‬‬
‫وأنو مف نصره أو آواه فإف عميو لعنة اهلل وغضبو يوـ القيامة‪ ،‬وال يؤخذ منو صرؼ وال‬
‫عدؿ (أي ال يشارؾ في تصريؼ األمور وال في الشيادة عمييا)‪.‬‬
‫مرده إلى اهلل عز وجؿ والى محمد صمى اهلل‬
‫ٗٔ‪ -‬وأنكـ ميما اختمفتـ فيو مف شيء‪ ،‬فإف ّ‬
‫عميو وسمـ‪.‬وىكذا أرسى الرسوؿ ‪ ‬قواعد المجتمع الجديد في المدينة عمى أسس راسخة‬
‫ومبادئ شامخة‪ ،‬مف مكارـ األخالؽ ومحاسف األعماؿ‪.‬‬
‫أثر المعنويات في المجتمع‪:‬‬
‫بيذه الحكمة وبيذا التدبير أرسى رسوؿ اهلل ‪ ‬قواعد مجتمع جديد‪ ،‬كانت صورتو الظاىرة‬
‫وآثار لممعاني التي كاف يتمتع بيا أولئؾ األمجاد بفضؿ صحبة النبي ‪ ‬وكاف النبي‬
‫بيانا ًا‬
‫‪ ‬يتعيدىـ بالتعميـ والتربية‪ ،‬وتزكية النفوس‪ ،‬والحث عمى مكارـ األخالؽ‪ ،‬ويؤدبيـ بآداب‬
‫الود واإلخاء والمجد والشرؼ والعبادة والطاعة ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫السرايا والغزوات‬
‫سبقت غزوات اإلسالـ الخالدة بعض السرايا التي ميدت الطريؽ لممسمميف‪ ،‬وأظيرت‬
‫إخالصيـ لقائدىـ‪ ،‬وعودتيـ لقاء األعداء والوقوؼ أماميـ وجيًا لوجو في معارؾ صغيرة‬
‫خاطفة قويت بيا الروح المعنوية لممسمميف‪ ،‬بقدرما ألقي في قموب أعدائيـ مف رعب وفزع‪.‬‬
‫(‪)16‬‬
‫قبل بدر‬ ‫الغزوات والسرايا ‪،‬‬
‫وفيما يمي أبرز ىذه السرايا باإليجاز‪:‬‬
‫‪ -1‬سرية سيف البحر‪:‬‬
‫أمر رسوؿ اهلل ‪ ‬عمى ىذه السرية‬
‫في رمضاف سنة ٔ ىػ‪ .‬الموافؽ مارس سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ّ .‬‬
‫حمزة بف عبد المطمب‪ ،‬وبعثو في ثالثيف رجال مف المياجريف‪ ،‬يعترض عي ار لقريش جاءت‬
‫مف الشاـ‪ ،‬وفييا أبو جيؿ بف ىشاـ في ثالثمائة رجؿ‪ ،‬فبمغوا سيؼ البحر مف ناحية‬
‫العيص ‪ .‬فالتقوا واصطفوا لمقتاؿ‪ ،‬فمشى مجدي ابف عمرو الجيني‪ -‬وكاف حميفا لمفريقيف‬
‫جميعا‪ -‬بيف ىؤالء وىؤالء‪ ،‬حتى حجز بينيـ‪ ،‬فمـ يقتتموا‪ .‬وكاف لواء حمزة أوؿ لواء عقده‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ،‬وكاف أبيض‪ ،‬وكاف حاممو أبا مرثد كناز بف حصيف الغنوي‪.‬‬
‫‪ -2‬سرية رابغ‪:‬‬
‫‪ ،‬في شواؿ سنة ٔ مف اليجرة‪ -‬أبريؿ سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬بعث رسوؿ اهلل ‪ ‬عبيدة بف الحارث‬
‫بف المطمب في ستيف راكبا مف المياجريف‪ ،‬فمقي أبا سفياف‪ -‬وىو في مائتيف‪ -‬عمى بطف‬
‫رابغ‪ ،‬وقد ترامى الفريقاف بالنبؿ‪ ،‬ولـ يقع قتاؿ‪ .‬وفي ىذه السرية انضـ رجالف مف جيش‬
‫مكة إلى المسمميف‪ ،‬وىما المقداد بف عمرو البيراني‪ ،‬وعتبة بف غزواف المازني‪ ،‬وكاف‬
‫مسمميف‪ ،‬خرجا مع الكفار‪ ،‬ليكوف ذلؾ وسيمة لموصوؿ إلى المسمميف‪ .‬وكاف لواء عبيدة‬
‫أبيض‪ ،‬وحاممو مسطح بف أثاثة بف المطمب بف عبد مناؼ‪.‬‬
‫الخرار‪:‬‬
‫‪ -3‬سرية ّ‬
‫سعد بف أبي‬ ‫في ذي القعدة سنة ٔ ىػ الموافؽ مايو سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬بعث رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫وقاص في عشريف راكبا‪ ،‬يعترضوف عي ار لقريش‪ ،‬وعيد إليو أف ال يجاوز الخرار‪ ،‬فخرجوا‬
‫مشاة يكمنوف بالنيار ويسيروف بالميؿ حتى بمغوا الخرار صبيحة خمس‪ ،‬فوجدوا العير قد‬
‫مرت باألمس‪ .‬كاف لواء سعد رضي اهلل عنو أبيض‪ ،‬وحممو المقداد بف عمرو‪.‬‬

‫بنفسو غزوة‪ ،‬حارب فييا أـ لـ يحارب وما خرج فيو أحد قادتو سرية‪.‬‬ ‫‪ )ٔٙ‬سمى المؤرخوف ما خرج فيو ّ‬
‫النبي ‪‬‬
‫‪33‬‬
‫‪ -4‬غزوة األبواء أو ودان‪:‬‬
‫في صفر سنة ٕ ىػ الموافؽ أغسطس سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬خرج رسوؿ اهلل ‪ ‬بنفسو‪ ،‬بعد أف‬
‫استخمؼ عمى المدينة سعد بف عبادة‪ ،‬في سبعيف رجال مف المياجريف خاصة‪ ،‬يعترض‬
‫عي ار لقريش حتى بمغ وداف‪ ،‬فمـ يمؽ كيدا‪ .‬وفي ىذه الغزوة عقد معاىدة حمؼ مع عمرو بف‬
‫مخشى الضمري‪ ،‬وكاف سيد بني ضمرة في زمانو‪ ،‬وىذه أوؿ غزوة غزاىا رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫وكانت غيبتو خمس عشرة ليمة‪ ،‬وكاف المواء أبيض‪ ،‬وحاممو حمزة بف عبد المطمب‪.‬‬
‫‪ -5‬غزوة بواط‪:‬‬
‫‪ ،‬في شير ربيع األوؿ سنة ٕ ىػ سبتمبر سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬خرج رسوؿ اهلل ‪ ‬في مائتيف مف‬
‫أصحابو‪ ،‬يعترض عي ار لقريش فييا أمية بف خمؼ الجمحي ومائة رجؿ مف قريش‪ ،‬وألفاف‬
‫وخمسمائة بعير‪ ،‬فبمغ بواطا مف ناحية رضوى ولـ يمؽ كيدا‪.‬واستخمؼ في ىذه الغزوة عمى‬
‫المدينة سعد بف معاذ‪ ،‬والمواء كاف أبيض‪ ،‬وحاممو سعد بف أبي وقاص رضي اهلل عنو‪.‬‬
‫‪ -6‬غزوة سفوان‪:‬‬
‫‪ ،‬في شير ربيع األوؿ سنة ٕ ىػ سبتمبر سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ أغار كرز بف جابر الفيري في‬
‫قوات خفيفة مف المشركيف عمى مراعي المدينة‪ ،‬ونيب بعض المواشي‪ ،‬فخرج رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫في سبعيف رجال مف أصحابو لمطاردتو‪ ،‬حتى بمغ واديا يقاؿ لو‪ :‬سفواف مف ناحية بدر‪،‬‬
‫ولكنو لـ يدرؾ كر از وأصحابو‪ ،‬فرجع مف دوف حرب‪ ،‬وىذه الغزوة تسمى بغزوة بدر‬
‫األولى‪ .‬واستخمؼ في ىذه الغزوة عمى المدينة زيد بف حارثة‪ ،‬وكاف المواء أبيض‪ ،‬وحاممو‬
‫عمي بف أبي طالب‪.‬‬
‫‪ -7‬غزوة ذي العشيرة‪:‬‬
‫في جمادى األولى‪ ،‬وجمادى اآلخرة سنة ٕ ىػ الموافؽ نوفمبر وديسمبر سنة ٖٕ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬خرج‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ‬في خمسيف ومائة ويقاؿ‪ :‬في مائتيف‪ ،‬مف المياجريف‪ ،‬ولـ يكره أحدا عمى‬
‫الخروج‪ ،‬وخرجوا عمى ثالثيف بعي ار يعتقبونيا‪ ،‬يعترضوف عي ار لقريش‪ ،‬ذاىبة إلى الشاـ‪ ،‬وقد‬
‫جاء الخبر بفصوليا مف مكة فييا أمواؿ لقريش‪ ،‬فبمغ ذا العشيرة ‪ ،‬فوجد العير قد فاتتو‬
‫بأياـ‪ ،‬وىذه ىي العير التي خرج لي طمبيا حتى رجعت مف الشاـ‪ ،‬فصارت سببا لغزوة بدر‬
‫الكبرى‪.‬وفي ىذه الغزوة عقد رسوؿ اهلل ‪ ‬معاىدة عدـ اعتداء مع بني مدلج وحمفائيـ مف‬
‫بني ضمرة‪ .‬واستخمؼ عمى المدينة في ىذه الغزوة أبا سممة بف عبد األسد المخزومي‪،‬‬
‫وكاف المواء في ىذه الغزوة أبيض‪ ،‬وحاممو حمزة بف عبد المطمب رضي اهلل عنو‪.‬‬
‫‪ -8‬سرية نخمة‪:‬‬
‫في رجب سنة ٕ ىػ الموافؽ يناير سنة ٕٗ‪ ٙ‬ـ‪ ،‬بعث رسوؿ اهلل ‪ ‬عبد اهلل بف جحش‬
‫األسدي إلى نخمة في اثني عشر رجال مف المياجريف‪ ،‬كؿ اثنيف يعتقباف عمى بعير‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫سار عبد اهلل بف جحش حتى نزؿ بنخمة‪ ،‬فمرت عير لقريش تحمؿ زبيبا وأدما وتجارة وفييا‬
‫عمرو بف الحضرمي وعثماف ونوفؿ ابنا عبد اهلل بف المغيرة والحكـ بف كيساف مولى بني‬
‫المغيرة‪ ،‬فتشاور المسمموف وقالوا‪ :‬نحف في آخر يوـ مف رجب‪ ،‬الشير الحراـ‪ ،‬فإف قاتمناىـ‬
‫انتيكنا الشير الحراـ‪ ،‬واف تركناىـ الميمة دخموا الحرـ‪ ،‬ثـ اجتمعوا عمى المقاء فرمى أحدىـ‬
‫عمرو بف الحضرمي فقتمو‪ ،‬وأسروا عثماف والحكـ‪ ،‬وأفمت نوفؿ‪ ،‬ثـ قدموا بالعير واألسيريف‬
‫إلى المدينة‪ ،‬وقد عزلوا مف ذلؾ الخمس‪ ،‬وىو أوؿ خمس كاف في اإلسالـ‪ ،‬وأوؿ قتيؿ في‬
‫اإلسالـ‪ ،‬وأوؿ أسيريف في اإلسالـ‪.‬‬
‫وأنكر رسوؿ اهلل ‪‬ما فعموه‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ما أمرتكـ بقتاؿ في الشير الحراـ‪ ،‬ووقؼ التصرؼ في‬
‫العير واألسيريف‪.‬‬
‫ووجد المشركوف فيما حدث فرصة إلتياـ المسمميف بأنيـ قد أحموا ما حرـ اهلل‪ ،‬وكثر في‬
‫ذلؾ القيؿ والقاؿ‪ ،‬حتى نزؿ الوحي حاسما ىذه األقاويؿ‪ ،‬وأف ما عميو المشركوف أكبر‬
‫وأعظـ مما ارتكبو المسمموف ‪...‬‬
‫يؿ المَّ ِو َو ُك ْفٌر بِ ِو‬
‫يو َكبِير‪ ،‬وص ّّد َع ْف سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ َ َ‬
‫يو‪ُ ،‬ق ْؿ ِقتا ٌؿ ِف ِ‬ ‫تاؿ ِف ِ‬ ‫الشي ِر اْل َحرِاـ ِق ٍ‬
‫ْ‬
‫ؾ َع ِف َّ‬ ‫ون َ‬
‫َي ْسَئمُ َ‬
‫َىمِ ِو ِم ْنوُ أَ ْك َب ُر ِع ْن َد المَّ ِو‪َ ،‬واْل ِفتَْنةُ أَ ْك َب ُر ِم َف اْلقَ ْت ِؿ [البقرة‪. ]ٕٔٚ :‬‬ ‫ِ‬
‫َواْل َم ْس ِجد اْل َحرِاـ‪َ ،‬وِا ْخر ُ‬
‫اج أ ْ‬
‫فقد صرح ىذا الوحي بأف الضجة التي افتعميا المشركوف إلثارة الريبة في سيرة المقاتميف‬
‫المسمميف ال مساغ ليا‪ ،‬فإف الحرمات المقدسة قد انتيكت كميا في محاربة اإلسالـ‪،‬‬
‫واضطياد أىمو‪ ،‬ألـ يكف المسمموف مقيميف بالبمد الحراـ حيف تقرر سمب أمواليـ وقتؿ‬
‫نبييـ؟ فما الذي أعاد ليذه الحرمات قد استيا فجأة‪ ،‬فأصبح انتياكيا معرة وشناعة؟ ال جرـ‬
‫أف الدعاية التي أخذ ينشرىا المشركوف دعاية تبتني عمى وقاحة ودعارة‪.‬‬
‫وبعد ذلؾ أطمؽ رسوؿ اهلل ‪ ‬سراح األسيريف‪ ،‬وأدى دية المقتوؿ إلى أوليائو ‪.‬‬
‫تمكـ السرايا والغزوات قبؿ بدر‪ ،‬لـ يجر في واحدة منيا سمب األمواؿ وقتؿ الرجاؿ‪،‬‬
‫إال بعد ما ارتكبو المشركوف في قيادة كرز بف جابر الفيري‪ ،‬فالبداية إنما ىي مف‬
‫المشركيف مع ما كانوا قد أوتوه قبؿ ذلؾ مف األفاعيؿ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫غزوة بدر الكبرى(‪2‬ىـ‪623/‬م )‬
‫ِّ‬
‫عمميا وضحت بو مشروعية القتاؿ في اإلسالـ وىي الدفاع‬ ‫كانت غزوة بدر الكبرى تطبيقًا‬
‫عف النفس ورد الظمـ والعدواف‪ ،‬كما كانت الغزوات التي جاءت بعدىا في حياة الرسوؿ ‪‬‬
‫وتأمينا لطريؽ الدعوة حتى تقؼ في سبيميا الحواجز‪ ،‬وحتى ال‬
‫ً‬ ‫دفاعا عف النفس ِّ‬
‫وردا لمظمـ‬ ‫ً‬
‫تكوف فتنة ويكوف الديف كمو هلل‪.‬‬
‫سبب الغزوة‪:‬‬
‫كاف سببيا أف قافمة تجارية لقريش بقيادة أبي سفياف كانت قادمة مف الشاـ وفي طريقيا‬
‫يشا في أمواليا كما‬
‫إلى مكة‪ ،‬فأراد رسوؿ اهلل ‪ ‬أف يعترض طريؽ ىذه القافمة ليفجع قر ً‬
‫فجعت قريش المسمميف مف قبؿ في أمواليـ وأنفسيـ‪ ،‬وخرج الرسوؿ ‪ ‬في ثالثمائة وثالثة‬
‫بعير وفرساف‬
‫رجال مف أصحابو في اليوـ الثامف مف رمضاف ومعيـ سبعوف ًا‬
‫عشر ً‬
‫وحينما عمـ أبو سفياف بخروج الرسوؿ ‪ ‬وأصحابو فزع كؿ الفزع‪ ،‬وأرسؿ إلى قريش يطمب‬
‫اعا‪ ،‬وعمى رأسيـ سادتيـ وكبراؤىـ‪،‬‬
‫الغوث والنجدة‪ ،‬فثار القرشيوف ثورة عصبية‪ ،‬ونفروا سر ً‬
‫رجال‪ ،‬ومعيـ مائة فرس وسبعمائة بعير‪ ،‬ومضى مشركو‬ ‫وكانت عدتيـ تسعمائة وخمسيف ً‬
‫قريش في طريقيـ لنجدة أبي سفياف وتخميص أمواليـ مف قبضة المسمميف‪ ،‬وبينما ىـ في‬
‫الطريؽ وصميـ رسوؿ مف أبي سفياف يخبرىـ بنجاتو ىو وقافمتو‪ ،‬ويطمب إلييـ الرجوع‪،‬‬
‫ولكف أبا جيؿ تحمس لمحرب والقتاؿ‪ ،‬وأبى إال أف يتقدـ حتى يصؿ إلى بدر‪ ،‬وصاح‬
‫قائؿ‪ :‬واهلل ال نرجع حتى نصؿ إلى بدر ونقيـ عمييا ثالثًا‪ ،‬ننحر الجزر ونطعـ الطعاـ‬
‫ونسقي الخمر‪ ،‬وتعزؼ عمينا القياف‪ ،‬وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا‪ ،‬فال يزالوف‬
‫أبدا بعدىا‪.‬‬
‫ييابوننا ً‬
‫مبمغ قوة الجيش اإلسالمي وتوزيع القيادات‪:‬‬
‫استعد رسوؿ اهلل ‪ ‬لمخروج ومعو ثالثمائة وبضعة عشر رجالً‪ ،‬ولـ يحتفموا ليذا الخروج‬
‫احتفاال بميغا‪ ،‬وال اتخذوا أىبتيـ كاممة‪ ،‬فمـ يكف معيـ إال فرساف‪ ،‬فرس لمزبير بف العواـ‪،‬‬
‫وفرس لممقداد بف األسود الكندي‪ ،‬وكاف معيـ سبعوف بعي ار‬
‫وعمي ومرثد بف أبي مرثد‬
‫ّ‬ ‫ليعتقب الرجالف والثالثة عمى بعير واحد‪ ،‬وكاف رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫الغنوي يعتقبوف بعي ار واحدا‪.‬واستخمؼ عمى المدينة وعمى الصالة ابف أـ مكتوـ‪ ،‬فمما كاف‬
‫رد أبا لبابة بف عبد المنذر‪ ،‬واستعممو عمى المدينة‪.‬‬
‫بالروحاء ّ‬
‫ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بف عمير القرشي العبدري‪ ،‬وكاف ىذا المواء أبيض‪.‬‬
‫وقسـ جيشو إلى كتيبتيف‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬كتيبة المياجريف‪ ،‬وأعطى عمميا عمي بف أبي طالب‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ٕ‪ -‬كتيبة األنصار‪ ،‬وأعطى عمميا سعد بف معاذ‪.‬‬
‫وجعؿ عمى قيادة الميمنة الزبير بف العواـ‪ ،‬وعمى الميسرة المقداد بف عمرو‪ -‬وكانا ىما‬
‫الفارسيف الوحيديف في الجيش كما أسمفنا‪ -‬وجعؿ عمى الساقة قيس بف أبي صعصعة‪،‬‬
‫وظمت القيادة العامة في يده صمى اهلل عميو وسمـ كقائد أعمى لمجيش‪.‬‬
‫الجيش اإلسالمي يتحرك نحو بدر‪:‬‬
‫سار رسوؿ اهلل ‪ ‬في ىذا الجيش غير المتأىب‪ ،‬فخرج مف نقب المدينة‪ ،‬ومضى عمى‬
‫الطريؽ الرئيسي المؤدي إلى مكة‪ ،‬حتى بمغ بئر الروحاء ولما ارتحؿ منيا‪ ،‬ترؾ طريؽ‬
‫مكة بيسار‪ ،‬وانحرؼ ذات اليميف عمى النازية‪ -‬يريد بد ار‪ ،-‬فسمؾ في ناحية منيا‪ ،‬حتى‬
‫جذع واديا يقاؿ لو‪ :‬رحقاف‪ ،‬بيف النازية وبيف مضيؽ الصفراء‪ ،‬ثـ مر عمى المضيؽ‪ ،‬ثـ‬
‫انصب منو حتى قرب مف الصفراء‪ ،‬وىنالؾ بعث بسيس بف عمر الجيني وعدي بف أبي‬
‫الزغباء الجيني إلى بدر يتجسساف لو أخبار العير‪.‬‬
‫النذير في مكة‪:‬‬
‫وأما خبر العير فإف أبا سفياف‪ -‬وىو المسؤوؿ عنيا‪ -‬كاف عمى غاية مف الحيطة والحذر‪،‬‬
‫فقد كاف يعمـ أف طريؽ مكة محفوؼ باألخطار‪ ،‬وكاف يتحسس األخبار‪ ،‬ويسأؿ مف لقي‬
‫مف الركباف‪ ،‬ولـ يمبث أف نقمت إليو استخباراتو بأف محمدا ‪ ‬قد استنفر أصحابو ليوقع‬
‫بالعير‪ ،‬وحينئذ استأجر أبو سفياف ضمضـ بف عمرو الغفاري إلى مكة‪ ،‬مستصرخا لقريش‬
‫بالنفير إلى عيرىـ‪ ،‬ليمنعوه مف محمد ‪ ‬وأصحابو‪ ،‬وخرج ضمضـ سريعا حتى أتى مكة‪،‬‬
‫فصرخ ببطف الوادي واقفا عمى بعيره‪ ،‬وقد جدع أنفو‪ ،‬وحوؿ رحمو‪ ،‬وشؽ قميصو‪ ،‬وىو‬
‫يقوؿ‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬المطيمة‪ ،‬المطيمة‪ ،‬أموالكـ مع أبي سفياف قد عرض ليا محمد في‬
‫أصحابو‪ ،‬ال أرى أف تدركوىا‪ ،‬الغوث الغوث‪.‬‬
‫قوام الجيش المكي‪:‬‬
‫وكاف قواـ ىذا الجيش نحو ألؼ وثالثمائة مقاتؿ في بداية سيره‪ ،‬وكاف معو مائة فرس‬
‫وستمائة درع‪ ،‬وكاف قائده العاـ أبا جيؿ بف ىشاـ‪ ،‬تحركوا بسرعة فائقة نحو الشماؿ في‬
‫إتجاه بدر‪ ،‬وسمكوا في طريقيـ وادي عسفاف‪ ،‬ثـ قديد‪ ،‬ثـ الجحفة‪ ،‬وىناؾ تمقوا رسالة جديدة‬
‫مف أبي سفياف يقوؿ ليـ فييا‪ :‬انكـ إنما خرجتـ لتحرزوا عيركـ ورجالكـ وأموالكـ‪ ،‬وقد‬
‫نجاىا اهلل فارجعوا‪.‬‬
‫ىم الجيش المكي بالرجوع ووقوع اإلنشقاق فيو‪:‬‬
‫ولما تمقى ىذه الرسالة جيش مكة ىـ بالرجوع‪ ،‬ولكف قاـ طاغية قريش أبو جيؿ في كبرياء‬
‫وغطرسة قائال‪ :‬واهلل ال نرجع حتى نرد بدرا‪ ،‬فنقيـ بيا ثالثا فننحر الجزور‪ ،‬ونطعـ الطعاـ‪،‬‬
‫ونسقي الخمر‪ ،‬وتعزؼ لنا القياف‪ ،‬وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا‪ ،‬فال يزالوف ييابوننا‬

‫‪37‬‬
‫أبدا‪ .‬ولكف عمى رغـ أبي جيؿ أشار األخنس بف شريؽ بالرجوع فعصوه‪ ،‬فرجع ىو وبنو‬
‫زىرة‪ -‬وكاف حميفا ليـ ورئيسا عمييـ في ىذا النفير‪ -‬فمـ يشيد بد ار زىري واحد‪ ،‬وكانوا‬
‫حوالي ثالثمائة رجؿ‪ ،‬واغتبطت بنو زىرة بعد برأي األخنس بف شريؽ‪ ،‬فمـ يزؿ فييـ‬
‫مطاعا معظما‪ .‬وأرادت بنو ىاشـ الرجوع‪ ،‬فاشتد عمييـ أبو جيؿ‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ال تفارقنا ىذه‬
‫العصابة حتى نرجع‪ .‬فسار جيش مكة وقوامو ألؼ مقاتؿ بعد رجوع بني زىرة‪ -‬وىو يقصد‬
‫بد ار‪ -‬فواصؿ سيره حتى نزؿ قريبا مف بدر‪ ،‬وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى عمى حدود‬
‫وادي بدر‪ .‬حراجة موقؼ الجيش اإلسالمي‪.‬‬
‫المجمس اإلستشاري‪:‬‬
‫ونظ ار إلى ىذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسوؿ اهلل ‪ ‬مجمسا عسكريا استشاريا أعمى‪،‬‬
‫أشار فيو إلى الوضع الراىف‪ ،‬وتبادؿ فيو الرأي مع عامة جيشو‪ ،‬وقادتو‪.‬‬
‫وحينئذ تزعزع قموب فريؽ مف الناس‪ ،‬وخافوا المقاء الدامي‪ ،‬وىـ الذيف قاؿ اهلل فييـ َكما‬
‫ؾ ِفي اْل َح ّْ‬
‫ؽ َب ْع َد ما‬ ‫ون َ‬ ‫كارىوف‪ .‬ي ِ‬
‫جادلُ َ‬ ‫يف لَ ِ ُ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ؽ َوِا َّف فَ ِريقاً م َف اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ؾ ِم ْف َب ْيتِ َ‬
‫ؾ بِاْل َح ّْ‬ ‫ؾ َرُّب َ‬
‫َخ َر َج َ‬
‫أْ‬
‫ِ‬
‫وف(‪ .)17‬وأما قادة الجيش‪ ،‬فقاـ أبو بكر الصديؽ‬ ‫وف إِلَى اْل َم ْوت َو ُى ْـ َي ْنظُُر َ‬ ‫تََبيَّ َف َكأََّنما ُيساقُ َ‬
‫فقاؿ وأحسف‪ ،‬ثـ قاـ عمر بف الخطاب فقاؿ وأحسف‪ ،‬ثـ قاـ المقداد بف عمرو فقاؿ‪:‬‬
‫«يا رسوؿ اهلل‪ ،‬امض لما أراؾ اهلل فنحف معؾ‪ ،‬واهلل ال نقوؿ لؾ كما قالت بنو إسرائيؿ‬
‫لموسى‪ :‬اذىب أنت وربؾ فقاتال إنا ىينا قاعدوف‪ ،‬ولكف اذىب أنت وربؾ فقاتال إنا معكما‬
‫مقاتموف‪ ،‬فو الذي بعثؾ بالحؽ لو سرت بنا إلى برؾ الغماد لجالدنا معؾ مف دونو‪ ،‬حتى‬
‫تبمغو‪ .‬فقاؿ لو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خي ار ودعا لو بو‪.‬‬
‫وىؤالء القادة الثالثة كانوا مف المياجريف‪ ،‬وىـ أقمية في الجيش‪ ،‬فأحب رسوؿ اهلل صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ أف يعرؼ رأي قادة األنصار‪ ،‬ألنيـ كانوا يمثموف أغمبية الجيش‪ ،‬وألف ثقؿ‬
‫المعركة سيدور عمى كواىميـ‪ ،‬مع أف نصوص العقبة لـ تكف تمزميـ بالقتاؿ خارج ديارىـ‪،‬‬
‫عمي أييا الناس» وانما يريد األنصار‪،‬‬
‫فقاؿ بعد سماع كالـ ىؤالء القادة الثالثة‪« :‬أشيروا ّ‬
‫وفطف إلى ذلؾ قائد األنصار وحامؿ لوائيـ سعد بف معاذ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬واهلل‪ ،‬لكأنؾ تريدنا يا‬
‫رسوؿ اهلل؟ قاؿ‪ :‬أجؿ‪.‬‬
‫الرسول ‪ ‬يقوم بعممية اإلستكشاف‪:‬‬
‫وىناؾ قاـ بنفسو بعممية اإلستكشاؼ مع رفيقو في الغار أبي بكر الصديؽ رضي اهلل عنو‪،‬‬
‫وبينما ىما يتجوالف حوؿ معسكر مكة إذا ىما بشيخ مف العرب‪ ،‬فسألو رسوؿ اهلل‪ ‬عف‬
‫قريش وعف محمد وأصحابو‪ -‬سأؿ عف الجيشيف زيادة في التكتـ‪ -‬ولكف الشيخ قاؿ‪ :‬ال‬

‫‪ )ٔٚ‬سورة ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫أخبركما حتى تخبراني ممف أنتما؟ فقاؿ لو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬إذا أخبرتنا‬
‫أخبرناؾ» ‪ ،‬قاؿ‪ :‬أو ذاؾ بذلؾ؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪.‬‬
‫قاؿ الشيخ‪ :‬فإنو بمغني أف محمدا وأصحابو خرجوا يوـ كذا وكذا‪ ،‬فإف كاف صدؽ الذي‬
‫أخبرني فيو اليوـ بمكاف كذا وكذا‪ -‬لممكاف الذي بو جيش المدينة‪ -‬وبمغني أف قريشا‬
‫خرجوا يوـ كذا وكذا‪ ،‬فإف كاف صدؽ الذي أخبرني فيـ اليوـ بمكاف كذا وكذا‪ -‬لممكاف‬
‫الذي بو جيش مكة‪.‬‬
‫ولما فرغ مف خبره قاؿ‪ :‬ممف أنتما؟ فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬نحف مف ماء»‬
‫‪ ،‬ثـ انصرؼ عنو‪ ،‬وبقي الشيخ يتفوه‪ ،‬ما مف ماء؟ أمف ماء العراؽ؟‬
‫الحصول عمى أىم المعمومات عن الجيش المكي‪:‬‬
‫وفي مساء ذلؾ اليوـ بعث استخباراتو مف جديد‪ ،‬ليبحث عف أخبار العدو‪ ،‬وقاـ ليذه‬
‫العممية ثالثة مف قادة المياجريف؛ عمي بف أبي طالب والزبير بف العواـ وسعد بف أبي‬
‫وقاص في نفر مف أصحابو‪ ،‬ذىبوا إلى ماء بدر‪ ،‬فوجدوا غالميف يستقياف لجيش مكة‪،‬‬
‫فألقوا عمييما القبض وجاؤوا بيما إلى رسوؿ اهلل ‪ ‬وىو في الصالة‪ ،‬فاستخبرىما القوـ‪،‬‬
‫فقاال‪ :‬نحف سقاة قريش بعثونا نسقييـ مف الماء‪ ،‬فكره القوـ ورجوا أف يكونا ألبي سفياف‪-‬‬
‫ال تزاؿ في نفوسيـ بقايا أمؿ في اإلستيالء عمى القافمة‪ -‬فضربوىما موجعا‪ ،‬حتى اضطر‬
‫الغالماف أف يقوال‪ :‬نحف ألبي سفياف‪ ،‬فتركوىما‪.‬‬
‫ولما فرغ رسوؿ اهلل ‪ ‬عف الصالة قاؿ ليـ كالعاتب‪« :‬إذا صدقاكـ ضربتموىما واذا‬
‫كذباكـ تركتموىما‪ ،‬صدقا واهلل‪ ،‬إنيما لقريش» ‪.‬‬
‫ثـ خاطب الغالميف قائال‪ :‬أخبراني عف قريش‪ ،‬قاال‪ :‬ىـ وراء ىذا الكنيب الذي ترى بالعدوة‬
‫القصوى‪ ،‬فقاؿ ليما‪ :‬كـ القوـ؟ قاال‪ :‬كثير‪ .‬قاؿ‪ :‬ما عدتيـ؟ قاال‪ :‬ال ندري‪ ،‬قاؿ‪ :‬كـ‬
‫ينحروف كؿ يوـ؟ قاال‪ :‬يوما تسعا ويوما عشرا‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪:‬‬
‫القوـ فيما بيف التسعمائة إلى األلؼ‪ ،‬ثـ قاؿ ليما‪ :‬فمف فييـ مف أشراؼ قريش؟ قاال‪ :‬عتبة‬
‫وشيبة ابنا ربيعة‪ ،‬وأبو البختري بف ىشاـ‪ ،‬وحكيـ بف حزاـ‪ ،‬ونوفؿ بف خويمد‪ ،‬والحارث بف‬
‫عامر‪ ،‬وطعيمة بف عدي‪ ،‬والنضر بف الحارث وزمعة بف األسود‪ ،‬وأبو جيؿ بف ىشاـ‪،‬‬
‫وأمية بف خمؼ في رجاؿ سمياىـ‪.‬فأقبؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬عمى الناس‪ ،‬فقاؿ‪« :‬ىذه مكة قد‬
‫ألقت إليكـ أفالذ كبدىا» ‪.‬‬
‫نزول المطر‪:‬‬
‫وأنزؿ اهلل عز وجؿ في تمؾ الميمة مط ار واحدا‪ ،‬فكاف عمى المشركيف وابال شديدا منعيـ مف‬
‫التقدـ‪ ،‬وكاف عمى المسمميف طال طيرىـ بو‪ ،‬وأذىب عنيـ رجس الشيطاف‪ ،‬ووطأ بو‬
‫األرض‪ ،‬وصمب بو الرمؿ‪ ،‬وثبت األقداـ‪ ،‬وميد بو المنزؿ‪ ،‬وربط بو عمى قموبيـ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الجيش اإلسالمي يسبق إلى أىم المراكز العسكرية‪:‬‬
‫وتحرؾ رسوؿ اهلل ‪ ‬بجيشو‪ ،‬ليسبؽ المشركيف إلى ماء بدر‪ ،‬ويحوؿ بينيـ وبيف اإلستيالء‬
‫عميو‪ ،‬فنزؿ عشاء أدنى ماء مف مياه بدر‪ ،‬وىنا قاـ الحباب بف المنذر كخبير عسكري‬
‫وقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل‪ ،‬أرأيت ىذا المنزؿ‪ ،‬أمنزال أنزلكو اهلل‪ ،‬ليس لنا أف نتقدمو وال نتأخر‬
‫عنو؟ أـ ىو الرأي والحرب والمكيدة؟ قاؿ‪« :‬بؿ ىو الرأي والحرب والمكيدة» ‪ ،‬قاؿ‪ :‬يا‬
‫رسوؿ اهلل‪ ،‬فإف ىذا ليس بمنزؿ‪ ،‬فانيض بالناس حتى نأتي أدنى ماء مف القوـ‪ -‬قريش‪-‬‬
‫فننزلو وتغور‪ -‬أي نخرب‪ -‬ما وراءه مف القمب‪ ،‬ثـ نبني عميو حوضا‪ ،‬فنمأله ماء‪ ،‬ثـ نقاتؿ‬
‫القوـ‪ ،‬فنشرب وال يشربوف‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل ‪« : ‬لقد أشرت بالرأي» ‪.‬‬
‫فنيض رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بالجيش‪ ،‬حتى أتى أقرب ماء مف العدو‪ ،‬فنزؿ عميو‬
‫شطر الميؿ‪ ،‬ثـ صنعوا الحياض‪ ،‬وغوروا ما عداىا مف القمب‪.‬‬
‫مقر القيادة‪:‬‬
‫وبعد أف تـ نزوؿ المسمميف عمى الماء اقترح سعد بف معاذ عمى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو‬
‫وسمـ أف يا بني المسمموف مق ار لقيادتو‪ ،‬استعدادا لمطوارئ‪ ،‬وتقدي ار لميزيمة قبؿ النصر‪،‬‬
‫حيث قاؿ‪:‬‬
‫«يا نبي اهلل أال نبني لؾ عريشا تكوف فيو‪ ،‬ونعد عندؾ ركائبؾ‪ ،‬ثـ نمقى عدونا فإف أعزنا‬
‫اهلل وأظيرنا عمى عدونا كاف ذلؾ ما أحببنا‪ ،‬واف كانت اآلخرى جمست عمى ركائبؾ‪،‬‬
‫فمحقت بمف وراءنا مف قومنا‪ ،‬فقد تخمؼ عنؾ أقواـ يا نبي اهلل ما نحف بأشد لؾ حبا منيـ‪،‬‬
‫ولو ظنوا أنؾ تمقى حربا ما تخمفوا عنؾ‪ ،‬يمنعؾ اهلل بيـ‪ ،‬يناصحونؾ‪ ،‬ويجاىدوف معؾ‪.‬‬
‫فأثنى عميو رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خيرا‪ ،‬ودعا لو بخير وبنى المسمموف عريشا‬
‫عمى تؿ مرتفع يقع في الشماؿ الشرقي لميداف القتاؿ‪ ،‬ويشرؼ عمى ساحة المعركة‪.‬‬
‫كما تـ انتخاب فرقة مف شباب األنصار بقيادة سعد بف معاذ‪ ،‬يحرسوف رسوؿ اهلل صمى‬
‫اهلل عميو وسمـ حوؿ مقر قيادتو‪.‬‬
‫تعبئة الجيش وقضاء الميل‪:‬‬
‫ثـ عبأ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ جيشو ‪ ،‬ومشى في موضع المعركة‪ ،‬وجعؿ يشير‬
‫بيده‪ :‬ىذا مصرع فالف غدا إف شاء اهلل‪ ،‬وىذا مصرع فالف غدا إف شاء اهلل ‪ .‬ثـ بات‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ‬يصمي إلى جذع شجرة ىنالؾ‪ ،‬وبات المسمموف ليميـ ىادئ األنفاس منير‬
‫اآلفاؽ‪ ،‬غمرت الثقة قموبيـ‪ ،‬وأخذوا مف الراحة قسطيـ‪ ،‬يأمموف أف يروا بشائر ربيـ‬

‫‪41‬‬
‫طيّْ َرُك ْـ بِ ِو‬
‫ماء لُِي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعيونيـ صباحا إِ ْذ ُي َغ ّْشي ُك ُـ‬
‫َم َنةً م ْنوُ َوُي َنّْز ُؿ َعمَ ْي ُك ْـ م َف السَّماء ً‬
‫عاس أ َ‬
‫الن َ‬ ‫ُّ‬
‫ط عمى ُقمُوبِ ُكـ ويثَب َ ِ ِ‬
‫ب َع ْن ُكـ ِر ْج َز َّ‬ ‫ِ‬
‫داـ (‪.)18‬‬
‫ّْت بو ْاألَ ْق َ‬ ‫الش ْي ِ‬
‫طاف‬ ‫ْ َُ‬ ‫ْ‬ ‫َولِ َي ْربِ َ َ‬
‫َوُي ْذى َ‬
‫كانت ىذه الميمة ليمة الجمعة‪ ،‬السابع عشر مف رمضاف في السنة الثانية مف اليجرة‪ ،‬وكاف‬
‫خروجو في ‪ ٛ‬أو ٕٔ مف نفس الشير‪.‬‬
‫الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع اإلنشقاق فيو‪:‬‬
‫أما قريش‪ ،‬فقضت ليمتيا ىذه في معسكرىا بالعدوة القصوى‪ ،‬ولما أصبحت أقبمت في‬
‫كتائبيا‪ ،‬ونزلت مف الكثيب إلى وادي بدر‪ ،‬وأقبؿ نفر منيـ إلى حوض رسوؿ اهلل صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬دعوىـ‪ ،‬فما شرب أحد منيـ يومئذ إال قتؿ‪ ،‬سوى حكيـ بف حزاـ‪ ،‬فإنو لـ‬
‫يقتؿ‪ ،‬وأسمـ بعد ذلؾ‪ ،‬وحسف إسالمو‪ ،‬وكاف إذا اجتيد في اليميف قاؿ‪ :‬ال والذي نجاني مف‬
‫يوـ بدر‪ ،‬فمما اطمأنت قريش بعث عمير بف وىب الجمحي‪ ،‬لمتعرؼ عمى مدى قوة جيش‬
‫المدينة‪ ،‬فدار عمير بفرسو حوؿ العسكر‪ ،‬ثـ رجع إلييـ فقاؿ‪ :‬ثالثمائة رجؿ‪ ،‬يزيدوف قميال‬
‫أو ينقصوف‪ ،‬ولكف أميموني حتى أنظر ألمقوـ كميف أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد‪،‬‬
‫فمـ يرد شيئا‪ ،‬فرجع إلييـ فقاؿ‪ :‬ما وجدت شيئا‪ ،‬ولكني قد رأيت يا معشر قريش الباليا‬
‫تحمؿ المنايا‪ ،‬نواضح يثرب تحمؿ الموت الناقع‪ ،‬قوـ ليس معيـ منعة وال ممجأ إال‬
‫سيوفيـ‪ ،‬واهلل ما أرى أف يقتؿ رجؿ منيـ حتى يقتؿ رجال منكـ‪ ،‬فإذا أصابوا منكـ أعدادكـ‪،‬‬
‫فما خير العيش بعد ذلؾ‪ ،‬فروا رأيكـ‪.‬‬
‫وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جيؿ‪ -‬المصمـ عمى المعركة‪ -‬تدعو إلى العودة‬
‫بالجيش إلى مكة دونما قتاؿ‪ ،‬فقد مشى حكيـ بف حزاـ في الناس‪ ،‬وأتى عتبة بف ربيعة‬
‫فقاؿ‪ :‬يا أبا الوليد إنؾ كبير قريش‪ ،‬وسيدىا والمطاع فييا‪ ،‬فيؿ لؾ إلى خير تذكر بو إلى‬
‫آخر الدىر؟ قاؿ‪ :‬وما ذاؾ يا حكيـ؟ قاؿ‪ :‬ترجع بالناس‪ ،‬وتحمؿ أمر حميفؾ عمرو بف‬
‫الحضرمي‪ -‬المقتوؿ في سرية نخمة‪ -‬فقاؿ عتبة‪ :‬قد فعمت‪ ،‬أنت ضامف عمي بذلؾ‪ ،‬إنما‬
‫ىو حميفي فعمي عقمو ديتو وما أصيب مف مالو‪.‬‬
‫ثـ قاؿ عتبة لحكيـ بف حزاـ‪ ،‬فأت ابف الحنظمية‪ -‬أبا جيؿ‪ ،‬والحنظمية أمو‪ -‬فإني ال‬
‫أخشى أف يشجر أمر الناس غيره‪.‬‬
‫ثـ قاـ عتبة بف ربيعة خطيبا فقاؿ‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إنكـ واهلل ما تصنعوف بأف تمقوا محمدا‬
‫وأصحابو شيئا‪ ،‬واهلل لئف أصبتموه ال يزاؿ ينظر في وجو رجؿ يكره النظر إليو‪ ،‬قتؿ ابف‬
‫عمو أو ابف خالو أو رجال مف عشيرتو‪ ،‬فارجعوا وخموا بيف محمد وبيف سائر العرب‪ ،‬فإف‬
‫أصابوه فذاؾ الذي أردتـ‪ ،‬واف كاف غير ذلؾ ألفاكـ ولـ تعرضوا منو ما تريدوف‪.‬‬

‫‪ )ٔٛ‬سورة األنفاؿ‪.ٔٔ :‬‬

‫‪41‬‬
‫وانطمؽ حكيـ بف حزاـ إلى أبي جيؿ‪ -‬وىو يييء درعا لو‪ -‬قاؿ يا أبا الحكـ إف عتبة‬
‫أرسمني إليؾ بكذا وكذا‪ ،‬فقاؿ أبو جيؿ‪ :‬انتفخ واهلل سحره حيف رأى محمدا وأصحابو‪ ،‬كال‪،‬‬
‫واهلل ال نرجع حتى يحكـ اهلل بيننا وبيف محمد‪ ،‬وما بعتبة ما قاؿ‪ ،‬ولكنو رأى أف محمدا‬
‫وأصحابو أكمة جزور‪ ،‬وفييـ ابنو‪ -‬وىو أبو حذيفة بف عتبة كاف قد أسمـ قديما وىاجر‪-‬‬
‫فتخوفكـ عميو‪.‬‬
‫ولما بمغ قوؿ أبي جيؿ‪« :‬انتفخ واهلل سحره» ‪ ،‬قاؿ عتبة‪ :‬سيعمـ مف انتفخ سحره‪ ،‬أنا أـ‬
‫ىو؟ وتعجؿ أبو جيؿ مخافة أف تقوى ىذه المعارضة‪ ،‬فبعث عمى إثر ىذه المحاورة إلى‬
‫عامر بف الحضرمي‪ -‬أخي عمرو بف الحضرمي المقتوؿ في سرية عبد اهلل بف جحش‪-‬‬
‫فقاؿ‪ :‬ىذا حميفؾ‪ -‬أي عتبة‪ -‬يريد أف يرجع بالناس‪ ،‬وقد رأيت ثأرؾ بعينؾ‪ ،‬فقـ فانشد‬
‫خفرتؾ‪ ،‬ومقتؿ أخيؾ‪ ،‬فقاـ عامر‪ ،‬فكشؼ عف أستو‪ ،‬وصرخ‪ :‬واعمراه‪ ،‬واعمراه فحمي‬
‫القوـ‪ ،‬وحقب أمرىـ‪ ،‬واستوثقوا عمى ما ىـ عميو مف الشر‪ ،‬وأفسد عمى الناس الرأي الذي‬
‫دعاىـ إليو عتبة‪ .‬وىكذا تغمب الطيش عمى الحكمة‪ ،‬وذىبت ىذه المعارضة دوف جدوى‪.‬‬
‫الجيشان يتراآن‪:‬‬
‫ولما طمع المشركوف‪ ،‬وتراآى الجمعاف قاؿ رسوؿ اهلل ‪« :‬الميـ ىذه قريش قد أقبمت‬
‫بخيالئيا وفخرىا‪ ،‬تحادؾ وتكذب رسولؾ‪ ،‬الميـ فنصرؾ الذي وعدتني‪ ،‬الميـ أحنيـ الغداة»‬
‫‪ .‬وقد قاؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬ورأى عتبة بف ربيعة في القوـ عمى جمؿ لو أحمر‪« -‬إف يكف في‬
‫أحد مف القوـ خير فعند صاحب الجمؿ األحمر‪ ،‬إف يطيعوه يرشدوا» ‪.‬‬
‫وعدؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬صفوؼ المسمميف‪ ،‬وبينما ىو يعدليا وقع أمر عجيب‪ ،‬فقد كاف في يده‬
‫قدح يعدؿ بو‪ ،‬وكاف سواد بف غزية مستنصال مف الصؼ‪ ،‬فطعف في بطنو بالقدح وقاؿ‪:‬‬
‫استو يا سواد‪ ،‬فقاؿ سواد‪ :‬يا رسوؿ اهلل أوجعتني فأقدني‪ ،‬فكشؼ عف بطنو‪ ،‬وقاؿ‪ :‬استقد‪،‬‬
‫فأعتنقو سواد‪ ،‬وقبؿ بطنو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ما حممؾ عمى ىذا يا سواد؟ قاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل قد حضر‬
‫ما ترى‪ ،‬فأردت أف يكوف آخر العيد بؾ أف يمس جمدي جمدؾ‪ .‬فدعا لو رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫بخير‪.‬‬
‫ولما تـ تعديؿ الصفوؼ أصدر أوامره إلى جيشو بأف ال يبدأوا القتاؿ حتى يتمقوا منو‬
‫األوامر األخيرة‪ ،‬ثـ أدلى إلييـ بتوجيو خاص في أمر الحرب فقاؿ‪ :‬إذا أكثبوكـ‪ -‬يعني‬
‫كثروكـ‪ -‬فارموىـ‪ ،‬واستبقوا نبمكـ ‪ ،‬وال تسموا السيوؼ حتى يغشوكـ ‪ ،‬ثـ رجع إلى العريش‬
‫ىو وأبو بكر خاصة‪ ،‬وقاـ سعد بف معاذ بكتيبة الحراسة عمى باب العريش‪.‬‬
‫وأما المشركوف فقد استفتح أبو جيؿ في ذلؾ اليوـ فقاؿ‪ :‬الميـ أقطعنا لمرحـ‪ ،‬وآتانا بما ال‬
‫نعرفو‪ ،‬فأحنو الغداة‪ ،‬الميـ أينا كاف أحب إليؾ وأرضى عندؾ فانصره اليوـ‪ ،‬وفي ذلؾ أنزؿ‬

‫‪42‬‬
‫ودوا َن ُع ْد‪َ ،‬ولَ ْف تُ ْغنِ َي‬ ‫ِ‬
‫إِ ْف تَ ْستَ ْفت ُحوا فَقَ ْد َ‬
‫جاء ُك ُـ اْلفَتْ ُح‪َ ،‬وِا ْف تَْنتَيُوا فَيُ َو َخ ْيٌر لَ ُك ْـ‪َ ،‬وِا ْف تَ ُع ُ‬ ‫اهلل‪(:‬‬
‫ِ‬ ‫ت‪ ،‬وأ َّ َّ‬ ‫ِ‬
‫يف)(‪.)19‬‬ ‫َف الموَ َم َع اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ف َئتُ ُك ْـ َش ْيئاً َولَ ْو َكثَُر ْ َ‬
‫َع ْن ُك ْـ‬
‫ساعة الصفر وأول وقود المعركة‪:‬‬
‫وكاف أوؿ وقود المعركة األسود بف عبد األسد المخزومي‪ -‬وكاف رجال شرسا سييء‬
‫الخمؽ‪ -‬خرج قائال‪ :‬أعاىد اهلل ألشربف مف حوضيـ‪ ،‬أو ألىدمنو‪ ،‬أو ألموتف دونو‪ .‬فمما‬
‫خرج إليو حمزة بف عبد المطمب رضي اهلل عنو‪ ،‬فمما التقيا ضربو حمزة‪ ،‬فأطف قدمو‬
‫بنصؼ ساقو وىو دوف الحوض‪ ،‬فوقع عمى ظيره تشخب رجمو دما نحو أصحابو‪ ،‬ثـ حبا‬
‫إلى الحوض حتى اقتحـ فيو‪ ،‬يريد أف تبر يمينو‪ ،‬ولكف حمزة ثنى عميو بضربة أخرى أتت‬
‫عميو وىو داخؿ الحوض‪.‬‬
‫المبارزة‪:‬‬
‫وكاف ىذا أوؿ قتؿ أشعؿ نار المعركة‪ ،‬فقد خرج بعده ثالثة مف خيرة فرساف قريش كانوا‬
‫مف عائمة واحدة‪ ،‬وىـ عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة‪ ،‬والوليد بف عتبة‪ ،‬فمما انفصموا مف‬
‫الصؼ طمبوا المبارزة‪ ،‬فخرج إلييـ ثالثة مف شباب األنصار‪ ،‬عوؼ ومعوذ ابنا الحارث‪-‬‬
‫وأميما عفراء‪ -‬وعبد اهلل بف رواحة‪ ،‬فقالوا‪ :‬مف أنتـ؟ قالوا‪ :‬رىط مف األنصار‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫أكفاء كراـ‪ ،‬ما لنا بكـ حاجة‪ ،‬وانما نريد بني عمنا‪ ،‬ثـ نادى منادييـ‪ :‬يا محمد‪ ،‬أخرج إلينا‬
‫أكفاءنا مف قومنا‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪ :‬قـ يا عبيدة بف الحارث‪ ،‬وقـ يا‬
‫حمزة‪ ،‬وقـ يا عمي‪ ،‬فمما قاموا ودنوا منيـ‪ ،‬قالوا‪ :‬مف أنتـ؟ فأخبروىـ‪ ،‬فقالوا‪ :‬أنتـ أكفاء‬
‫كراـ‪ ،‬فبارز عبيدة‪ -‬وكاف أسف القوـ‪ -‬عتبة بف ربيعة‪ ،‬وبارز حمزة شيبة‪ ،‬وبارز عمي‬
‫الوليد «ٔ» ‪ ،‬فأما حمزة وعمي فمـ يميال قرنييما أف قتالىما‪ ،‬وأما عبيدة فاختمؼ بينو وبيف‬
‫قرنو ضربتاف‪ ،‬فأثخف كؿ واحد منيما صاحبو‪ ،‬ثـ كر عمي وحمزة عمى عتبة فقتاله‬
‫واحتمال عبيدة‪ ،‬وقد قطعت رجمو‪ ،‬فمـ يزؿ صمتا حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة‬
‫أياـ مف وقعة بدر‪ ،‬حينما كاف المسمموف في طريقيـ إلى المدينة‪.‬‬
‫ص ُموا ِفي َرّْب ِي ْـ اآلية‪.‬‬
‫اختَ َ‬ ‫ص ِ‬
‫ماف ْ‬ ‫وكاف عمي يقسـ باهلل أف ىذه اآلية نزلت فييـ‪ِ :‬‬
‫ىذاف َخ ْ‬
‫اليجوـ العاـ‪:‬‬
‫وكانت نياية ىذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركيف‪ ،‬فقدوا ثالثة مف خيرة فرسانيـ‬
‫وقادتيـ دفعة واحدة‪ ،‬فاستشاطوا غضبا‪ ،‬وكروا عمى المسمميف كرة رجؿ واحد‪.‬‬

‫‪ )ٜٔ‬سورة األنفاؿ‪.ٜٔ:‬‬

‫‪43‬‬
‫وأما المسمموف فبعد أف استنصروا ربيـ‪ ،‬واستغاثوه‪ ،‬وأخمصوا لو‪ ،‬وتضرعوا إليو‪ ،‬تمقوا‬
‫ىجمات المشركيف المتوالية‪ ،‬وىـ مرابطوف في مواقعيـ‪ ،‬واقفوف موقؼ الدفاع‪ ،‬وقد ألحقوا‬
‫بالمشركيف خسائر فادحة‪ ،‬وىـ يقولوف‪ :‬أحد أحد‪.‬‬
‫الرسول ‪ ‬يناشد ربو‪:‬‬
‫وأما رسوؿ اهلل ‪ ، ‬فكاف منذ رجوعو بعد تعديؿ الصفوؼ يناشد ربو ما وعده مف النصر‪،‬‬
‫ويقوؿ‪« :‬الميـ أنجز لي ما وعدتني‪ ،‬الميـ إني أنشدؾ عيدؾ ووعدؾ» ‪ .‬حتى إذا حمي‬
‫الوطيس‪ ،‬واستدارت رحى الحرب بشدة‪ ،‬واحتدـ القتاؿ‪ ،‬وبمغت المعركة قمتيا‪ ،‬قاؿ‪« :‬الميـ‬
‫إف تيمؾ ىذه العصابة اليوـ ال تعبد‪ ،‬الميـ إف شئت لـ تعبد بعد اليوـ أبدا» ‪.‬‬
‫وبالغ في اإلبتياؿ حتى سقط رداؤه عف منكبيو‪ ،‬فرده عميو الصديؽ‪ ،‬وقاؿ‪ :‬حسبؾ يا رسوؿ‬
‫اهلل‪ ،‬ألححت عمى ربؾ‪.‬‬
‫ب‪،‬‬ ‫وأوحى اهلل إلى مالئكتو‪ :‬أَّْني مع ُكـ فَثَبّْتُوا الَِّذيف آمُنوا‪ ،‬سأُْل ِقي ِفي ُقمُ ِ َِّ‬
‫الرْع َ‬
‫يف َكفَُروا ُّ‬
‫وب الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫يف‪ -‬أي أنيـ ردؼ لكـ‪ ،‬أو يردؼ‬ ‫وأوحى إلى رسولو‪ :‬أَّْني ُمم ُّد ُك ْـ بِأَْلؼ م َف اْل َمالئ َكة ُم ْرِدف َ‬
‫بعضيـ بعضا أرساال‪ ،‬ال يأتوف دفعة واحدة‪.‬‬
‫نزول المالئكة‪:‬‬
‫وأغفى رسوؿ اهلل ‪ ‬إغفاءة واحدة‪ ،‬ثـ رفع رأسو فقاؿ‪ :‬أبشر يا أبا بكر‪ ،‬ىذا جبريؿ عمى‬
‫ثناياه النقع‪ ،‬أي‪ :‬الغبار‪ .‬وفي رواية إسحاؽ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬أبشر‬
‫يا أبا بكر‪ ،‬أتاؾ نصر اهلل‪ ،‬ىذا جبريؿ آخذ بعناف فرسو يقوده‪ ،‬عمى ثناياه النقع» ‪.‬‬
‫وف‬ ‫ُّ‬
‫ثـ خرج رسوؿ اهلل ‪ ‬مف باب العريش‪ ،‬وىو يثب في الدرع‪ ،‬ويقوؿ‪َ ( :‬سُي ْي َزُـ اْل َج ْمعُ َوُي َول َ‬
‫الد ُبر)َ(‪ ،)20‬ثـ أخذ حفنة مف الحصباء‪ ،‬فاستقبؿ بيا قريشا وقاؿ‪ :‬شاىت الوجوه‪ ،‬ورمى بيا‬ ‫ُّ‬
‫في وجوىيـ‪ ،‬فما مف المشركيف أحد إال أصاب عينو ومنخريو وفمو مف تمؾ القبضة‪ ،‬وفي‬
‫لك َّف المَّوَ َرمى(‪.)21‬‬
‫توِ‬ ‫ذلؾ أنزؿ اهلل‪ :‬وما رم ْي َ ِ‬
‫ت إ ْذ َرَم ْي َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫اليجوم المضاد‪:‬‬
‫وحينئذ أصدر إلى جيشو أوامره باليجمة المضادة فقاؿ‪ :‬شدوا‪ ،‬وحرضيـ عمى القتاؿ‪،‬‬
‫قائال‪ :‬والذي نفس محمد بيده ال يقاتميـ اليوـ رجؿ فيقتؿ صاب ار محتسبا مقبال غير مدبر‬
‫إال أدخمو اهلل الجنة‪ ،‬وقاؿ وىو يحضيـ عمى القتاؿ‪ ،‬قوموا إلى جنة عرضيا السموات‬
‫واألرض‪( ،‬وحينئذ) قاؿ العمير بف الحماـ‪ :‬بخ‪ .‬بخ‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬ما يحممؾ عمى‬
‫قولؾ‪ :‬بخ بخ؟ قاؿ‪ :‬ال‪ ،‬واهلل يا رسوؿ اهلل إال رجاء أف أكوف مف أىميا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فإنؾ مف‬

‫ٕٓ) سورة القمر‪.ٗ٘:‬‬


‫ٕٔ) سورة األنفاؿ‪.ٔٚ:‬‬

‫‪44‬‬
‫أىميا‪ .‬فأخرج تمرات مف قرنو‪ ،‬فجعؿ يأكؿ منيف‪ ،‬ثـ قاؿ‪ :‬لئف أنا حييت حتى آكؿ تمراتي‬
‫ىذه إنيا لحياة طويمة‪ ،‬فرمى بما كاف معو مف التمر‪ ،‬ثـ قاتميـ حتى قتؿ ‪.‬‬
‫وكذلؾ سألو عوؼ بف الحارس‪ -‬ابف عفراء‪ -‬فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل ما يضحؾ الرب مف‬
‫عبده! قاؿ‪« :‬غمسو يده في العدو حاس ار» ‪ ،‬فنزع درعا كانت عميو‪ ،‬فقذفيا‪ ،‬ثـ أخذ سيفو‬
‫فقاتؿ القوـ حتى قتؿ‪.‬‬
‫وحيف أصدر رسوؿ اهلل ‪ ‬األمر باليجوـ المضاد كانت حدة ىجمات العدو قد ذىبت‪،‬‬
‫وفتر حماسو‪ ،‬فكاف ليذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقؼ المسمميف‪ ،‬فإنيـ حينما‬
‫تمقوا أمر الشد واليجوـ‪ -‬وقد كاف نشاطيـ الحربي عمى شبابو‪ -‬قاموا بيجوـ كاسح مرير‪،‬‬
‫فجعموا يقمبوف الصفوؼ‪ ،‬ويقطعوف األعناؽ‪ ،‬وزادىـ نشاطا وحدة أف أروا رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫وف ُّ‬
‫الدُب َر‪ ،‬فقاتؿ المسمموف أشد‬ ‫ُّ‬
‫يثب في الدرع‪ ،‬ويقوؿ في جزـ وصراحة‪َ :‬س ُي ْي َزُـ اْل َج ْمعُ َوُي َول َ‬
‫القتاؿ‪ ،‬ونصرتيـ المالئكة‪ ،‬ففي رواية ابف سعد عف عكرمة قاؿ‪ :‬كاف يومئذ يندر رأس‬
‫الرجؿ ال يدري مف ضربو‪ ،‬وتندر يد الرجؿ ال يدري مف ضربيا‪ ،‬وقاؿ ابف عباس‪ :‬بينما‬
‫رجؿ مف المسمميف يشتد في إثر رجؿ مف المشركيف أمامو إذ سمع ضربة بالسوط فوقو‪،‬‬
‫وصوت الفارس يقوؿ‪ :‬أقدـ حيزوـ‪ ،‬فنظر إلى المشرؾ أمامو‪ ،‬فجاء األنصاري فحدث بذلؾ‬
‫رسوؿ اهلل ‪ ، ‬فقاؿ‪ :‬صدقت‪ ،‬ذلؾ مف مدد السماء الثالثة ‪.‬‬
‫إبميس ينسحب عن ميدان القتال‪:‬‬
‫ولما رأى إبميس‪ -‬وكاف قد جاء في صورة سراقة بف مالؾ بف جعشـ المدلجي كما ذكرنا‪،‬‬
‫ولـ يكف فارقيـ منذ ذلؾ الوقت‪ -‬فمما رأى ما يفعؿ المالئكة بالمشركيف فر ونكص عمى‬
‫عقبيو‪ ،‬وتشبث بو الحارس بف ىشاـ‪ -‬وىو يظنو سراقة‪ -‬فوكز في صدر الحارس فألقاه‪،‬‬
‫ثـ خرج ىاربا‪ ،‬وقاؿ لو المشركوف‪ :‬إلى أيف يا سراقة‪ :‬ألـ تكف قمت‪ :‬إنؾ جار لنا‪ ،‬ال‬
‫تفارقنا؟ فقاؿ‪ :‬إني أرى ما ال تروف‪ ،‬إني أخاؼ اهلل‪ ،‬واهلل شديد العقاب‪ ،‬ثـ فر حتى ألقى‬
‫نفسو في البحر‪.‬‬
‫اليزيمة الساحقة‪:‬‬
‫وبدأت أمارات الفشؿ واإلضطراب في صفوؼ المشركيف‪ ،‬وجعمت تتيدـ أماـ حمالت‬
‫المسمميف العنيفة‪ ،‬واقتربت المعركة مف نيايتيا‪ ،‬وأخذت جموع المشركيف في الفرار‬
‫واإلنسحاب المبدد‪ ،‬وركب المسمموف ظيورىـ يأسروف ويقتموف حتى تمت عمييـ اليزيمة‪.‬‬
‫صمود أبي جيل‪:‬‬
‫أما الطاغية األكبر أبو جيؿ‪ ،‬فإنو لما رأى أوؿ إمارات اإلضطراب في صفوفو حاوؿ أف‬
‫يصمد في وجو ىذا السيؿ‪ ،‬فجعؿ يشجع جيشو‪ ،‬ويقوؿ ليـ في شراسة ومكابرة‪ :‬ال ييزمنكـ‬
‫خزالف سراقة إياكـ‪ ،‬فإنو كاف عمى ميعاد مف محمد‪ ،‬وال ييولنكـ قتؿ عتبة وشيبة والوليد‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫فإنيـ قد عجموا‪ ،‬فو الالت والعزى ال نرجع حتى نقرنيـ بالحباؿ‪ ،‬وال ألفيف رجال منكـ قتؿ‬
‫منيـ رجال‪ ،‬ولكف خذوىـ أخذا‪ ،‬حتى نعرفيـ بسوء صنيعيـ‪.‬‬
‫ولكف سرعاف ما تبدى لو حقيقة ىذه الغطرسة‪ ،‬فما لبث إال قميال حتى أخذت الصفوؼ‬
‫تتصدع أماـ تيارات ىجوـ المسمميف‪ .‬نعـ بقي حولو عصابة مف المشركيف‪ ،‬ضربت حولو‬
‫سياجا مف السيوؼ وغابات مف الرماح‪ ،‬ولكف عاصفة ىجوـ المسمميف بددت ىذا السياح‬
‫وأقمعت ىذه الغابات‪ ،‬وحينئذ ظير ىذا الطاغية‪ ،‬ورآه المسمموف يجوؿ عمى فرسو‪ ،‬وكاف‬
‫الموت ينتظر أف يشرب مف دمو بأيدي غالميف أنصارييف‪.‬‬
‫مصرع أبي جيل‪:‬‬
‫قاؿ عبد الرحمف بف عوؼ‪ :‬إني لفي الصؼ يوـ بدر إذ التفت‪ ،‬فإذا عف يميني وعف‬
‫يساري فتياف حديثا السف‪ ،‬فكأني لـ آمف بمكانيما‪ ،‬إذ قاؿ لي أحدىما س ار مف صاحبو‪:‬‬
‫يا عـ‪ ،‬أرني أبا جيؿ‪ ،‬فقمت‪ :‬يا ابف أخي‪ ،‬فما تصنع بو؟ قاؿ‪ :‬أخبرت أنو يسب رسوؿ اهلل‬
‫‪ ‬قاؿ‪ :‬والذي نفسي بيده لئف رأيتو ال يفارؽ سوادي سواده حتى يموت األعجؿ منا‪،‬‬
‫فتعجبت لذلؾ‪ .‬قاؿ‪ :‬وغمزني اآلخر‪ ،‬فقاؿ لي مثميا‪ ،‬فمـ أنشب أف نظرت إلى أبي جيؿ‬
‫يجوؿ في الناس‪ ،‬فقمت‪ :‬أال ترياف؟ ىذا صاحبكما الذي تسأالني عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬فابتدراه‬
‫بسيفييما فضرباه حتى قتاله‪ ،‬ثـ انصرفا إلى رسوؿ اهلل ‪ ، ‬فقاؿ‪ :‬أيكما قتمو؟ فقاؿ كؿ‬
‫واحد منيما‪ :‬أنا قتمتو‪ ،‬قاؿ‪ :‬ىؿ مسحتما سيفيكما؟ فقاال‪ :‬ال‪ ،‬فنظر رسوؿ اهلل صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ إلى السيفيف‪ ،‬فقاؿ‪ :‬كالكما قتمو‪ ،‬وقضى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بسمبو‬
‫لمعاذ بف عمرو بف الجموح‪ ،‬والرجالف معاذ بف عمرو بف الجموح ومعوذ بف عفراء «ٔ» ‪.‬‬
‫وقاؿ ابف إسحاؽ‪ :‬قاؿ معاذ بف عمرو بف الجموح‪ :‬سمعت القوـ‪ ،‬وأبو جيؿ في مثؿ‬
‫الحرجة‪ -‬والحرجة‪ :‬الشجر الممتؼ‪ ،‬أو شجرة مف األشجار ال يوصؿ إلييا‪ ،‬شبو رماح‬
‫المشركيف وسيوفيـ التي كانت حوؿ أبي جيؿ لحفظو بيذه الشجرة‪ -‬وىـ يقولوف‪ :‬أبو‬
‫الحكـ ال يخمص إليو‪ ،‬قاؿ‪ :‬فمما سمعتيا جعمتو مف شأني فصمدت نحوه‪ ،‬فمما أمكنني‬
‫حممت عميو‪ ،‬فضربتو ضربة أطنت قدمو‪ -‬أطارتيا‪ -‬بنصؼ ساقو‪ ،‬فو اهلل ما شبيتيا حيف‬
‫طاحت إال بالنواة تطيح مف تحت مرضخة النوى حيف يضرب بيا‪ .‬قاؿ‪ :‬وضربني ابنو‬
‫عكرمة عمى عاتقي‪ ،‬فطرح يدي‪ ،‬فتعمقت بجمدة مف جنبي‪ ،‬وأجيضني القتاؿ عنو‪ ،‬فمقد‬
‫قاتمت عامة يومي واني ألسحبيا خمفي‪ ،‬فمما آذتني وضعت عمييا قدمي‪ ،‬ثـ تمطيت بيا‬
‫عمييا حتى طرحتيا «ٕ» ثـ مر بأبي جيؿ‪ -‬وىو عقير‪ -‬معوذ بف عفراء‪ ،‬فضربو حتى‬
‫أثبتو‪ ،‬فتركو وبو رمؽ‪ ،‬وقاتؿ معوذ حتى قتؿ‪.‬‬
‫ولما انتيت المعركة قاؿ رسوؿ اهلل ‪ : ‬مف ينظر ما صنع أبو جيؿ؟ فتفرؽ الناس في‬
‫طمبو‪ ،‬فوجده عبد اهلل بف مسعود رضي اهلل عنو وبو آخر رمؽ‪ ،‬فوضع رجمو عمى عنقو‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫وأخذ لحيتو ليحتز رأسو‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ىؿ أخزاؾ اهلل يا عدو اهلل؟ قاؿ‪ :‬وبماذا أخزاني؟ أعمد مف‬
‫رجؿ قتمتموه ؟ أو ىؿ فوؽ رجؿ قتمتموه؟ وقاؿ‪ :‬فمو غير أكار قتمني‪ ،‬ثـ قاؿ‪ :‬أخبرني لمف‬
‫الدائرة اليوـ؟ قاؿ‪ :‬هلل ورسولو‪ ،‬ثـ قاؿ البف مسعود‪ -‬وكاف قد وضع رجمو عمى عنقو‪ -‬لقد‬
‫ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنـ‪ ،‬وكاف ابف مسعود مف رعاة الغنـ في مكة‪.‬‬
‫وبعد أف دار بينيما ىذا الكالـ احتز ابف مسعود رأسو‪ ،‬وجاء بو إلى رسوؿ اهلل ‪ ‬فقاؿ‪ :‬يا‬
‫رسوؿ اهلل‪ ،‬ىذا رأس عدو اهلل أبي جيؿ‪ ،‬فقاؿ‪« :‬اهلل الذي ال إلو إال ىو؟» فرددىا ثالثا‪ ،‬ثـ‬
‫قاؿ‪« :‬اهلل أكبر‪ ،‬الحمد هلل الذي صدؽ وعده‪ ،‬ونصر عبد‪ ،‬وىزـ األحزاب وحده‪ ،‬انطمؽ‬
‫أرنيو‪ ،‬فانطمقنا فأريتو إياه‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ىذا فرعوف ىذه األمة» ‪.‬‬
‫قضية األسارى‪:‬‬
‫ولما بمغ رسوؿ اهلل ‪ ‬المدينة استشار أصحابو في األسارى‪ ،‬فقاؿ أبو بكر‪:‬يا رسوؿ اهلل‬
‫ىؤالء بنو العـ والعشيرة واإلخواف‪ ،‬واني أرى أف تأخذ منيـ الفدية‪ ،‬فيكوف ما أخذناه قوة لنا‬
‫عمى الكفار‪ ،‬وعسى أف ييداىـ اهلل‪ ،‬فيكونوا لنا عضدا‪.‬‬
‫فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬ما ترى يا ابف الخطاب؟» قاؿ‪ :‬قمت‪ :‬واهلل ما أرى‬
‫ما رأى أبو بكر‪ ،‬ولكف أرى أف تمكنني مف فالف‪ -‬قريب لعمر‪ -‬فأضرب عنقو‪ ،‬وتمكف‬
‫عميا مف عقيؿ بف أبي طالب فيضرب عنقو‪ ،‬وتمكف حمزة مف فالف أخيو فيضرب عنقو‪،‬‬
‫حتى يعمـ اهلل أنو ليست في قموبنا ىوادة لممشركيف‪ ،‬وىؤالء صناديدىـ وأئمتيـ وقادتيـ‪.‬‬
‫فيوى رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ ما قاؿ أبو بكر‪ ،‬ولـ ييو ما قمت‪ ،‬وأخذ منيـ الفداء‪،‬‬
‫فمما كاف مف الغد قاؿ عمر‪ :‬فغدوت إلى النبي صمى اهلل عميو وسمـ وأبي بكر‪ -‬وىما‬
‫يبكياف‪ -‬فقمت يا رسوؿ اهلل أخبرني ما يبكيؾ أنت وصاحبؾ؟ فإف وجدت بكاء بكيت‪ ،‬واف‬
‫عمي‬
‫لـ أجد بكاء تباكيت لبكائكما‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ‪« :‬لمذي عرض ّ‬
‫عمي عذابيـ أدنى مف ىذه الشجرة‪ -‬شجرة قريبة‪.‬‬ ‫أصحابؾ‪ :‬مف أخذىـ الفداء‪ ،‬فقد عرض ّ‬
‫ض‬ ‫وف َع َر َ‬
‫يد َ‬‫ض‪ ،‬تُِر ُ‬ ‫َسرى َحتَّى ُيثْ ِخ َف ِفي ْاأل َْر ِ‬ ‫وف لَوُ أ ْ‬
‫َف َي ُك َ‬
‫ِ‬
‫كاف ل َنبِي أ ْ‬
‫وأنزؿ اهلل تعالى‪ :‬ما َ‬
‫ؽ لَ َم َّس ُك ْـ ِفيما أ َ‬
‫َخ ْذتُ ْـ‬ ‫تاب ِم َف المَّ ِو َس َب َ‬ ‫يـ‪ .‬لَ ْوال ِك ٌ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫الد ْنيا والمَّو ي ِر ُ ِ‬
‫يد ْاآلخ َرةَ‪َ ،‬والموُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫ُّ َ ُ ُ‬
‫يـ(‪. )22‬‬ ‫ع ٌ ِ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫داء) (‪ .)23‬ففيو اإلذف بأخذ‬ ‫والكتاب الذي سبؽ مف اهلل ىو قولو تعالى‪ (:‬فَِإ َّما َمنِّا َب ْع ُد َوِا َّما ف ً‬
‫الفدية مف األسارى ولذلؾ لـ يعذبوا‪ ،‬وانما نزؿ العتاب ألنيـ أسروا الكفار قبؿ أف يثخنوا‬
‫في األرض‪ ،‬ثـ إنيـ قبموا الفداء مف أولئؾ المجرميف الذيف لـ يكونوا أسرى حرب فقط‪ ،‬بؿ‬

‫ٕٕ) سورة األنفاؿ‪.ٙٚ،ٙٛ:‬‬


‫ٖٕ) سورة محمد‪.ٗ :‬‬

‫‪47‬‬
‫كانوا أكابر مجرمي الحرب الذيف ال يتركيـ قانوف الحرب الحديث إال ويحاكميـ‪ ،‬وال يكوف‬
‫الحكـ في الغالب إال باإلعداـ أو بالحبس حتى الموت‪.‬‬
‫واستقر األمر عمى رأي الصديؽ فأخذ منيـ الفداء‪ ،‬وكاف الفداء مف أربعة آالؼ درىـ‪ ،‬إلى‬
‫ثالثة آالؼ درىـ‪ ،‬إلى ألؼ درىـ‪ ،‬وكاف أىؿ مكة يكتبوف‪ ،‬وأىؿ المدينة ال يكتبوف‪ ،‬فمف لـ‬
‫يكف عنده فداء دفع إليو عشرة غمماف مف غمماف المدينة يعمميـ‪ ،‬فإذا حذقوا فيو فداء‪.‬‬
‫ومف رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمى عدة مف األسارى‪ ،‬فأطمقيـ بغير فداء‪ ،‬منيـ‪:‬‬
‫ّ‬
‫المطمب بف حنطب‪ ،‬وصيفي بف أبي رفاعة‪ ،‬وأبو عزة الجمحي‪ ،‬وىو الذي قتمو أس ار في‬
‫أحد‪ ،‬وسيأتي‪.‬‬
‫ومف عمى ختنو أبي العاص بشرط أف يخمي سبيؿ زينب‪ ،‬وكانت قد بعثت في فدائو بماؿ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بعثت فيو بقالدة ليا كانت عند خديجة‪ ،‬أدخمتيا بيا عمى أبي العاص‪ ،‬فمما رآىا رسوؿ اهلل‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ رؽ ليا رقة شديدة‪ ،‬واستأذف أصحابو في إطالؽ أبي العاص ففعموه‪،‬‬
‫واشترط رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمى أبي العاص أف يخمي سبيؿ زينب‪ ،‬فخالىا‪،‬‬
‫فياجرت‪ ،‬وبعث رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ زيد بف حارثة ورجال مف األنصار‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫«كونا ببطف يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباىا» فخرجا حتى رجعا بيا‪ ،‬وقصة ىجرتيا‬
‫طويمة مؤلمة‪.‬‬
‫وكاف في األسرى سييؿ بف عمرو‪ ،‬وكاف خطيبا مصقعا‪ ،‬فقاؿ عمر‪ :‬يا رسوؿ اهلل‪ ،‬أنزع‬
‫ثنيتي سييؿ بف عمرو يدلع لسانو‪ ،‬فال يقوـ خطيبا عميؾ في موطف أبدا‪ ،‬بيد أف رسوؿ اهلل‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ رفض ىذا الطمب‪ ،‬إحت ار از عف المثمة‪ ،‬وعف بطش اهلل يوـ القيامة‪.‬‬
‫وخرج سعد بف النعماف معتم ار فحبسو أبو سفياف‪ ،‬وكاف ابنو عمرو بف أبي سفياف في‬
‫األسرى‪ ،‬فبعثوا بو إلى أبي سفياف فخمى سبيؿ سعد‪.‬‬
‫القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‪:‬‬
‫وحوؿ موضوع ىذه المعركة نزلت سورة األنفاؿ‪ ،‬وىذه السورة تعميؽ إليي‪ -‬إف صح ىذا‬
‫التعبير‪ -‬عمى ىذه المعركة‪ ،‬يختمؼ كثي ار عف التعاليؽ التي ينطؽ بيا المموؾ والقواد بعد‬
‫الفتح‪.‬‬
‫إف اهلل تعالى لفت أنظار المسمميف‪ -‬أوال‪ -‬إلى التقصيرات والتقاريظ األخالقية التي كانت‬
‫قد بقيت فييـ‪ ،‬وصدرت بعضيا منيـ‪ ،‬ليسعوا في تكميؿ نفوسيـ وتزكيتيا عف ىذه‬
‫التقاريظ‪ .‬ثـ ثنى بما كاف في ىذا الفتح مف تأييد اهلل وعونو ونصره بالغيب لممسمميف‪ .‬ذكر‬
‫ليـ ذلؾ لئال يغتروا بشجاعتيـ وبسالتيـ‪ ،‬فتتسور نفوسيـ الغطرسة والكبرياء‪ ،‬بؿ ليتوكموا‬
‫عمى اهلل ويطيعوه ويطيعوا رسولو عميو الصالة والسالـ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ثـ بيف ليـ األىداؼ واألغراض النبيمة التي خاض الرسوؿ صمى اهلل عميو وسمـ ألجميا‬
‫ىذه المعركة الدامية الرىيبة‪ ،‬ودليـ عمى الصفات واألخالؽ التي تسببت في الفتوح وفي‬
‫المعارؾ‪.‬‬
‫ثـ خاطب المشركيف والمنافقيف والييود وأسارى المعركة‪ ،‬وعظيـ موعظة بميغة‪ ،‬تيداىـ إلى‬
‫اإلستسالـ لمحؽ والتقيد بو‪.‬‬
‫قنف ليـ مبادئ وأسس ىذه المسألة‪.‬‬
‫ثـ خاطب المسمميف حوؿ موضوع الغنائـ‪ّ ،‬‬
‫ثـ بيف وشرع ليـ مف قوانيف الحرب والسمـ ما كانت الحاجة تمس إلييا بعد دخوؿ الدعوة‬
‫اإلسالمية في ىذه المرحمة‪ ،‬حتى تمتاز حروب المسمميف عف حروب أىؿ الجاىمية‪ ،‬ويقوـ‬
‫ليـ التفوؽ في األخالؽ والقيـ والمثؿ‪ ،‬ويتأكد لمدنيا أف اإلسالـ ليس مجرد وجية نظرية‪،‬‬
‫بؿ إنو يثقؼ أىمو عمميا عمى األسس والمبادئ التي يدعو إلييا‪.‬‬
‫ثـ قرر بنودا مف قوانيف الدولة اإلسالمية التي تقيـ الفرؽ بيف المسمميف الذيف يسكنوف‬
‫داخؿ حدودىا‪ ،‬والذيف يسكنوف خارجيا‪.‬‬
‫ومف أحسف المواقع وأروع الصدفات أف أوؿ عيد تعيد بو المسمموف في حياتيـ ىو العيد‬
‫الذي وقع في شواؿ سنة ٕ ىػ‪ .‬إثر الفتح المبيف الذي حصموا عميو في غزوة بدر‪ ،‬فما‬
‫أروع ىذا العيد السعيد الذي جاء بو اهلل بعد أف توج ىامتيـ بتاج الفتح والعز‪ ،‬وما أروؽ‬
‫منظر تمؾ الصالة التي صموىا بعد أف خرجوا مف بيوتيـ يرفعوف أصواتيـ بالتكبير‬
‫والتوحيد والتحميد‪ ،‬وقد فاضت قموبيـ رغبة إلى اهلل‪ ،‬وحنينا إلى رحمتو ورضوانو بعد ما‬
‫أوالىـ مف النعـ‪ ،‬وأيدىـ بو مف النصر‪ ،‬وذكرىـ بذلؾ قائال‪َ :‬وا ْذ ُك ُروا إِ ْذ أ َْنتُ ْـ َقمِي ٌؿ‬
‫ص ِرِه َوَرَزَق ُك ْـ ِم َف‬‫اس فَآوا ُك ْـ َوأََّي َد ُك ْـ بَِن ْ‬ ‫َف َيتَ َخطَّفَ ُك ُـ َّ‬
‫الن ُ‬ ‫وف أ ْ‬ ‫وف ِفي ْاأل َْر ِ‬
‫ض تَخافُ َ‬ ‫ض َعفُ َ‬
‫ُم ْستَ ْ‬
‫وف(‪.)24‬‬ ‫َّ ِ َّ‬
‫الطيّْبات لَ َعم ُك ْـ تَ ْش ُك ُر َ‬
‫الغزوات والسرايا بين بدر وأحد‪:‬‬
‫‪-1‬غزوة السويق‪:‬‬
‫يمس رأسو ماء‪ ،‬حتّى يغزو المسمميف‪ ،‬فخرج في مئتي راكب‬ ‫كاف أبو سفياف قد نذر أال ّ‬
‫النضير‪ ،‬فأذف لو‪ ،‬وقراه‪،‬‬
‫ليبر يمينو‪ ،‬واستأذف عمى سالـ بف مشكـ سيد بني ّ‬ ‫مف قريش ّ‬
‫وسقاه‪ ،‬وبطف لو مف خبر الناس‪ ،‬وبعث رجاال‪ ،‬فقتموا رجميف مف األنصار‪.‬‬
‫وخرج رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في طمبيـ‪ ،‬ورجع أبو سفياف وأصحابو قبؿ أف‬
‫السويؽ‪.‬‬
‫فسميت «غزوة ّ‬
‫عامتيا سويؽ‪ّ ،‬‬
‫يدركيـ المسمموف‪ ،‬وألقوا أزوادا كثيرة‪ّ ،‬‬

‫ٕٗ) سورة األنفاؿ‪.ٕٙ:‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ -2‬إجالء بني قينقاع‪:‬‬
‫وكاف بنو قينقاع أوؿ ييود‪ ،‬نقضوا ما بينيـ وبيف رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ وحاربوا‬
‫في بدر وأحد‪ ،‬وآذوا المسمميف‪ ،‬فحاصرىـ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ خمس عشرة‬
‫أبي رأس المنافقيف‪ ،‬فأطمقيـ لو‬
‫ليمة‪ ،‬حتّى نزلوا عمى حكمو‪ ،‬وشفع فييـ حميفيـ عبد اهلل بف ّ‬
‫وتجا ار‪.‬‬
‫رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ وكانوا سبعمئة مقاتؿ‪ ،‬وكانوا صاغة ّ‬
‫النبي صمى اهلل عميو وسمـ عفوا عاما عف ىؤالء الييود شريطة أف يخرجوا مف‬ ‫ّ‬ ‫أصدر‬
‫أي مكاف شاؤوا‪ ،‬فجموا عنيا إلى الشاـ آمنيف عمى أنفسيـ‪ ،‬وعمى ما قدروا مف‬
‫المدينة إلى ّ‬
‫حممو مف أمواليـ‪ ،‬وغادر بنو قينقاع يثرب سالميف بعد أف كانوا يتوقّعوف الموت جزاء‬
‫وتمردىـ ‪.‬‬
‫نكثيـ ّ‬
‫غزوة أحد‪3( :‬ىـ‪624 /‬م)‬
‫لما أصيب صناديد قريش يوـ بدر‪ ،‬ورجع فمّيـ إلى مكة‪ ،‬عظـ المصاب عمييـ‪ ،‬ومشى‬ ‫ّ‬
‫رجاؿ أصيب آباؤىـ وأبناؤىـ واخوانيـ‪ ،‬فكمّموا أبا سفياف‪ ،‬ومف كانت لو في تمؾ العير مف‬
‫قريش تجارة فاستعانوا بيذا الماؿ عمى حرب المسمميف‪ ،‬ففعموا واجتمعت قريش لحرب‬
‫وحرض الشعراء الناس بشعرىـ‪ ،‬وأثاروا فييـ الغيرة‬
‫رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ ّ‬
‫الحمية‪.‬‬
‫و ّ‬
‫بحدىا وحديدىا‪ ،‬بأبنائيا ومف تابعيا‬
‫شواؿ سنة ثالث لميجرة ّ‬‫وخرجت قريش في منتصؼ ّ‬
‫يفروا وخرج سادة قريش بأزواجيـ وأقبموا حتّى نزلوا‬
‫مف القبائؿ‪ ،‬وخرجوا معيـ بالظّعف‪ ،‬لئال ّ‬
‫مقابؿ المدينة‪.‬‬
‫وكاف مف رأي رسوؿ اهلل ‪ ‬أف يقيـ المسمموف بالمدينة‪ ،‬ويدعيـ فإف يدخموا عمييـ قاتموىـ‬
‫أبي ما رأى رسوؿ اهلل ‪‬‬ ‫فييا‪ ،‬وكاف رسوؿ اهلل ‪ ‬يكره الخروج‪ ،‬وكاف رأي عبد اهلل بف ّ‬
‫ممف فاتيـ بدر‪ :‬يا رسوؿ اهلل! اخرج بنا إلى أعدائنا ال يرونا أنا‬
‫فقاؿ رجاؿ مف المسمميف ّ‬
‫جبنا عنيـ وضعفنا‪.‬‬
‫ّ‬
‫فمـ يزالوا برسوؿ اهلل ‪ ‬حتّى دخؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬بيتو فمبس ألمتو‪ ،‬وندمالذيف اقترحوا‬
‫الخروج‪ ،‬فقالوا‪ :‬استكرىناؾ يا رسوؿ اهلل! ولـ يكف ذلؾ لنا‪ ،‬فإف شئت فاقعد صمّى اهلل‬
‫لنبي إذا لبس ألمتو أف يضعيا حتّى يقاتؿ»‪.‬‬
‫عميؾ‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل ‪«‬ما ينبغي ّ‬
‫فمما كانوا بال ّشوط بيف‬
‫فخرج رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في ألؼ مف أصحابو ‪ّ ،‬‬
‫أبي بثمث الناس‪ ،‬وقاؿ‪ :‬أطاعيـ وعصاني ‪.‬‬
‫المدينة وأحد‪ ،‬انخذؿ عنو عبد اهلل بف ّ‬

‫‪51‬‬
‫في ميدان أحد‪:‬‬
‫ومضى رسوؿ اهلل ‪ ‬حتّى نزؿ ال ّشعب مف أحد (وىو جبؿ عمى نحو ثالثة كيمو متر مف‬
‫يقاتمف أحد منكـ حتّى نأمره‬
‫ّ‬ ‫المدينة) وجعؿ ظيره وعسكره إلى أحد «ٗ» ‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ال‬
‫وتعبأ رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ لمقتاؿ‪ ،‬وىو في سبعمئة رجؿ‪.‬‬ ‫بالقتاؿ‪ّ ،‬‬
‫بالنبؿ‪ ،‬ال‬
‫عنا ّ‬‫الرماة عبد اهلل بف جبير‪ ،‬وىـ خمسوف رجال‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ادفع الخيؿ ّ‬ ‫أمر عمى ّ‬ ‫وّ‬
‫يأتونا مف خمفنا إف كانت لنا أو عمينا وأمرىـ بأف يمزموا مركزىـ‪ ،‬و ّأال يفارقوا ولو أروا الطّير‬
‫تتخطّؼ العسكر‪ .‬ولبس رسوؿ اهلل ‪ ‬درعا فوؽ درع‪ ،‬ودفع المواء إلى مصعب بف عمير‬
‫رضي اهلل عنو‪.-‬‬
‫مسابقة بين أتراب‪:‬‬
‫فرد سمرة بف جندب‪ ،‬ورافع بف‬‫رد رسوؿ اهلل ‪ ‬جماعة مف الغمماف في يوـ أحد لصغرىـ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫إف ابني رافعا‬
‫خديج‪ ،‬وىما ابنا خمس عشرة سنة‪ ،‬وشفع أبو رافع البنو وقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل! ّ‬
‫النبي صمى اهلل عميو وسمـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫راـ‪ ،‬فأجازه‬
‫ورده رسوؿ اهلل ‪ ‬لصغره‪،‬‬
‫سف رافع‪ّ ،‬‬
‫وعرض عمى رسوؿ اهلل ‪‬سمرة بف جندب وىو في ّ‬
‫فقاؿ سمرة‪ :‬لقد أجزت رافعا ورددتني‪ ،‬ولو صارعتو لصرعتو‪ ،‬ووقعت المصارعة بينيما‪،‬‬
‫فصرع سمرة رافعا فأجيز وخرج وقاتؿ يوـ أحد ‪.‬‬
‫المعركة‪:‬‬
‫النسوة‪ ،‬وأخذف الدفوؼ‬
‫الناس‪ ،‬ودنا بعضيـ مف بعض‪ ،‬وقامت ىند بنت عتبة في ّ‬ ‫والتقى ّ‬
‫يضربف بيا خمؼ الرجاؿ يحرضنيـ‪ ،‬واقتتؿ الناس حتّى حميت الحرب‪ ،‬وقاتؿ أبو دجانة‬
‫الذي أخذ السيؼ مف رسوؿ اهلل ‪.‬‬
‫كيف دارت الدائرة عمى المسممين؟‬
‫الرماة‬
‫فمما رأى ّ‬
‫وبينما ىـ كذلؾ إذ انيزـ المشركوف‪ ،‬وولّوا مدبريف‪ ،‬حتى انتيوا إلى نسائيـ‪ّ ،‬‬
‫ذلؾ‪ ،‬مالوا إلى العسكر‪ ،‬وىـ موقنوف بالفتح‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا قوـ! الغنيمة! الغنيمة! فذ ّكرىـ‬
‫وظنوا أف ليس لممشركيف رجعة‪،‬‬
‫أميرىـ عيد رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ فمـ يسمعوا‪ّ ،‬‬
‫فأخموا الثغر‪ ،‬وأخموا ظيور المسمميف إلى الخيؿ ‪ ،‬وأصيب أصحاب لواء المشركيف حتّى‬
‫إف محمدا قد‬
‫ما يدنو منو أحد مف القوـ‪ ،‬فأتاىـ المشركوف مف خمفيـ‪ ،‬وصرخ صارخ‪ :‬أال! ّ‬
‫كرة‪ ،‬وانتيزوا الفرصة‪ ،‬وكاف يوـ بالء وتمحيص‪،‬‬
‫وكر المشركوف ّ‬
‫قتؿ‪ .‬فتراجع المسمموف ّ‬
‫وشج‬
‫العدو إلى رسوؿ اهلل ‪ ‬وأصابتو الحجارة‪ ،‬حتّى وقع لشقّو‪ ،‬وأصيبت رباعيتو‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وخمص‬
‫في رأسو ‪ ،‬وجرحت شفتو صمى اهلل عميو وسمـ وجعؿ الدـ يسيؿ عمى وجيو‪ ،‬فيمسحو‬
‫نبييـ‪ ،‬وىو يدعوىـ إلى رّبيـ؟!» ‪.‬‬
‫ويقوؿ‪« :‬كيؼ يفمح قوـ خضبوا وجو ّ‬

‫‪51‬‬
‫عمي بف أبي طالب‪ -‬رضي اهلل عنو‪ -‬بيد رسوؿ اهلل ‪‬‬‫وال يعمـ المسمموف بمكانو‪ ،‬فأخذ ّ‬
‫الدـ عف وجيو‪. ‬‬‫ومص مالؾ بف سناف ّ‬
‫ّ‬ ‫ورفعو طمحة بف عبيد اهلل‪ ،‬حتّى استوى قائما‪،‬‬
‫كرة ‪،‬‬
‫ثـ يستأنؼ ّ‬
‫يضطر إلييا الجيش ّ‬
‫ّ‬ ‫فرة‪ّ ،‬إنما كانت جولة‬
‫ولـ تكف ّ‬
‫وما أصاب المسمميف مف نكسة ومحنة‪ ،‬وما أصيبوا مف خسارة في النفوس‪ ،‬وشيادة مف‬
‫ولمديف‪ّ ،‬إنما كاف نتيجة زلة لمرماة‪،‬‬
‫كاف قوة لإلسالـ والمسمميف‪ ،‬وناص ار لرسوؿ اهلل ‪ّ ‬‬
‫عينيـ‬
‫تمسكيـ بتعاليـ الرسوؿ ‪ ‬وأمره إلى المّحظة األخيرة‪ ،‬واخالئيـ لمجبية التي ّ‬
‫وعدـ ّ‬
‫رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ عمييا‪ ،‬وىو قولو تعالى‪:‬‬
‫ص ْيتُ ْـ ِم ْف‬ ‫ِ‬
‫نازْعتُ ْـ في ْاأل َْم ِر َو َع َ‬ ‫ُّونيُ ْـ بِِإ ْذنِ ِو َحتَّى إِذا فَ ِشْمتُ ْـ َوتَ َ‬
‫ص َدقَ ُك ُـ المَّوُ َو ْع َدهُ إِ ْذ تَ ُحس َ‬
‫َولَقَ ْد َ‬
‫ص َرفَ ُك ْـ َع ْنيُ ْـ لَِي ْبتَمِ َي ُك ْـ‬ ‫الد ْنيا و ِم ْن ُكـ مف ي ِر ُ ِ‬
‫يد ْاآلخ َرةَ ثَُّـ َ‬ ‫يد ُّ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫وف ِم ْن ُك ْـ َم ْف ُي ِر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ْعد ما أَ ار ُك ْـ ما تُحُّب َ‬
‫ِ‬ ‫َولَقَ ْد َعفا َع ْن ُك ْـ َوالمَّوُ ُذو فَ ْ‬
‫يف (‪.)25‬‬ ‫ض ٍؿ َعمَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫الحب والفداء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫روائع من‬
‫ثنيتو‪ ،‬ونزع‬
‫الجراح إحدى الحمقتيف مف وجو رسوؿ اهلل ‪ ‬فسقطت ّ‬
‫نزع أبو عبيدة بف ّ‬
‫اآلخرى‪ ،‬فكاف ساقط الثنيتيف ‪.‬‬
‫النبؿ في ظيره وىو منحف عميو‪ ،‬حتّى كثر‬
‫وتترس أبو دجانة بنفسو دوف رسوؿ اهلل ‪ ‬يقع ّ‬
‫ّ‬
‫فيو النبؿ‪.‬‬
‫النبي ‪ ‬النبؿ ويقوؿ‪« :‬ارـ فداؾ أبي‬
‫ّ‬ ‫ورمى سعد بف أبي وقّاص دوف رسوؿ اهلل ‪‬ويناولو‬
‫أمي» ‪.‬‬
‫وّ‬
‫فردىا رسوؿ اهلل ‪ ‬بيده‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النعماف‪ ،‬حتّى وقعت عمى وجنتو‬
‫وأصيبت عيف قتادة بف ّ‬
‫أحدىما ‪.‬‬
‫فكانت أحسف عينيو و ّ‬
‫وقصده المشركوف‪ ،‬يريدوف ما يأباه اهلل‪ ،‬فحاؿ دونو نفر نحو عشرة‪ ،‬حتّى قتموا عف آخرىـ‪،‬‬
‫النبي ‪ ‬فأصيبت أناممو وشمّت‬
‫ّ‬ ‫وجالدىـ طمحة بف عبيد اهلل‪ ،‬وترس عميو بيده‪ ،‬يقي بيا‬
‫يده‪ ،‬وأراد رسوؿ اهلل ‪‬أف يعمو صخرة ىنالؾ‪ ،‬فمـ يستطع لما بو مف الجراح والضعؼ‪،‬‬
‫فجمس طمحة تحتو‪ ،‬حتى صعدىا‪ ،‬وحانت الصالة‪ ،‬فصمّى بيـ جالسا ‪.‬‬
‫وتقدـ‪،‬‬
‫النضر‪ ،‬عـ أنس بف مالؾ‪ -‬خادـ رسوؿ اهلل ‪ّ ‬‬
‫ولما انيزـ الناس‪ ،‬لـ ينيزـ أنس بف ّ‬
‫ّ‬
‫الجنة‪ ،‬يا سعد إني‬
‫فمقيو سعد بف معاذ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أيف يا أبا عمرو؟ فقاؿ أنس‪ :‬واىا لريح ّ‬
‫أجدىا دوف أحد ‪.‬‬

‫ٕ٘) سورة آؿ عمراف‪. ٕٔ٘ :‬‬

‫‪52‬‬
‫غزوة الخندق( ‪5‬ه‪626 /‬م)‬
‫الحرة الشرقية‪ ،‬إلى‬
‫شامييا‪ ،‬مف طرؼ ّ‬
‫ّ‬ ‫سميت بذلؾ لمخندؽ الذي حفر حوؿ المدينة في‬
‫لتحزب طوائؼ مف الكفار عمى حرب‬
‫ّ‬ ‫الحرة الغربية‪ ،‬وتسمى‪(:‬غزوة األحزاب)‬
‫ّ‬ ‫طرؼ‬
‫المسمميف‪ ،‬وىـ‪ :‬قريش‪ ،‬وغطفاف‪ ،‬والييود‪ ،‬ومف تبعيـ‪.‬وكانت سنة أربع لميجرة وقيؿ سنة‬
‫خمسة لميجرة‪ ،‬اتجيت ىذه األحزاب‪ ،‬وتحركت نحو المدينة عمى ميعاد كانت قد تعاقدت‬
‫عميو‪.‬وبعد أياـ تجمع حوؿ المدينة جيش عرمرـ يبمغ عدده عشرة آالؼ مقاتؿ‪ ،‬جيش ربما‬
‫يزيد عدده عمى جميع مف في المدينة مف النساء والصبياف والشباب والشيوخ‪.‬‬
‫ولو بمغت ىذه األحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظـ‬
‫خطر عمى كياف المسمميف مما يقاس‪ ،‬ربما تبمغ إلى استئصاؿ الشأفة وابادة الخضراء‪،‬‬
‫ولكف قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة‪ ،‬لـ تزؿ واضعة أنامميا عمى العروؽ النابضة‪،‬‬
‫تتجسس الظروؼ‪ ،‬وتقدر ما يتمخض عف مجراىا‪ ،‬فمـ تكد تتحرؾ ىذه الجيوش عف‬
‫مواضعيا حتى نقمت استخبارات المدينة إلى قيادتيا فييا بيذا الزحؼ الخطير‪.‬‬
‫وسارع رسوؿ اهلل ‪ ‬إلى عقد مجمس استشاري أعمى‪ ،‬تناوؿ فيو موضوع خطة الدفاع عف‬
‫كياف المدينة‪ ،‬وبعد مناقشات جرت بيف القادة وأىؿ الشورى‪ ،‬اتفقوا عمى قرار قدمو‬
‫الصحابي النبيؿ سمماف الفارسي رضي اهلل عنو‪ .‬قاؿ سمماف‪ :‬يا رسوؿ اهلل‪ ،‬إنا كنا بأرض‬
‫فارس إذا حوصرنا خندقنا عمينا‪ -‬وكانت خطة حكيمة لـ تكف تعرفيا العرب قبؿ ذلؾ‪-‬‬
‫‪.‬وأسرع رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ إلى تنفيذ ىذه الخطة‪ ،‬فوكؿ إلى كؿ عشرة رجاؿ‬
‫أف يحفروا مف الخندؽ أربعيف ذراعا‪.‬وقاـ المسمموف بجد ونشاط يحفروف الخندؽ‪ ،‬ورسوؿ‬
‫اهلل صمى اهلل عميو وسمـ يحثيـ ويساىميـ في عمميـ ىذا‪ ،‬ففي البخاري عف سيؿ بف‬
‫سعد‪ ،‬قاؿ‪ :‬كنا مع رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ في الخندؽ‪ ،‬وىـ يحفروف‪ ،‬ونحف ننقؿ‬
‫التراب عمى أكتادنا ‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل ‪: ‬الميـ ال عيش إال عيش اآلخرة ‪ ...‬فاغفر‬
‫لممياجريف واألنصار ولما كانت المدينة تحيط بيا الحرات والجباؿ وبساتيف مف النخيؿ مف‬
‫كؿ جانب سوى الشماؿ‪ ،‬وكاف النبي ‪ ‬يعمـ كخبير عسكري حاذؽ أف زحؼ مثؿ ىذا‬
‫الجيش الكبير‪ ،‬ومياجمة المدينة‪ -‬ال يمكف إال مف جية الشماؿ‪ ،‬اتخذ الخندؽ في ىذا‬
‫الجانب‪ .‬وواصؿ المسمموف عمميـ في حفره‪ ،‬فكانوا يحفرونو طوؿ النيار‪ ،‬ويرجعوف إلى‬
‫أىمييـ في المساء‪ ،‬حتى تكامؿ الخندؽ حسب الخطة المنشودة‪ ،‬قبؿ أف يصؿ الجيش‬

‫‪53‬‬
‫الوثني العرمرـ إلى أسوار المدينة‪.‬وأقبمت قريش في أربعة آالؼ‪ ،‬حتى نزلت بمجتمع‬
‫األسياؿ مف رومة بيف الجرؼ وزعابة‪ ،‬وأقبمت غطفاف ومف تبعيـ مف أىؿ نجد في ستة‬
‫اب قالُوا‪ :‬ىذا ما‬ ‫َحز َ‬‫وف ْاأل ْ‬ ‫آالؼ حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد‪َ (.‬ولَ َّما َأَر اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ؽ المَّوُ َوَر ُسولُوُ‪َ ،‬وما ز َاد ُى ْـ إِ َّال إِيماناً َوتَ ْسمِيماً) (‪ .) 26‬وأما‬ ‫ص َد َ‬ ‫َّ‬
‫َو َع َد َنا الموُ َوَر ُسولُوُ‪َ ،‬و َ‬
‫يف‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫وف َوالذ َ‬
‫المنافقوف وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قموبيـ لرؤية ىذا الجيش َوِا ْذ َيقُو ُؿ اْل ُمنافقُ َ‬
‫ض ما َو َع َد َنا المَّوُ َوَر ُسولُوُ ِإ َّال ُغ ُرو اًر [األحزاب‪. ]ٕٔ :‬وخرج رسوؿ اهلل صمى‬
‫ِفي ُقمُوبِ ِي ْـ َم َر ٌ‬
‫اهلل عميو وسمـ في ثالثة آالؼ مف المسمميف‪ ،‬فجعموا ظيورىـ إلى جبؿ سمع فتحصنوا بو‪،‬‬
‫والخندؽ بينيـ وبيف الكفار‪ .‬وكاف شعارىـ‪« :‬ىـ ال ينصروف؛ واستخمؼ عمى المدينة ابف‬
‫أـ مكتوـ‪ ،‬وأمر بالنساء والذراري فجعموا في آطاـ المدينة‪ ،‬ولما أراد المشركوف مياجمة‬
‫المسمميف واقتحاـ المدينة‪ ،‬وجدوا خندقا عريضا يحوؿ بينيـ وبينيا‪ ،‬فالتجأوا إلى فرض‬
‫الحصار عمى المسمميف‪ ،‬بينما لـ يكونوا مستعديف لو حيف خرجوا مف ديارىـ‪ ،‬إذ كانت ىذه‬
‫الخطة‪ -‬كما قالوا‪ -‬مكيدة ما عرفتيا العرب‪ ،‬فمـ يكونوا أدخموىا في حسابيـ رأسا‪ .‬وأخذ‬
‫المشركوف يدوروف حوؿ الخندؽ غضابا‪ ،‬يتحسسوف نقطة ضعيفة‪ ،‬لينحدروا منيا‪ ،‬وأخذ‬
‫المسمموف يتطمعوف إلى جوالت المشركيف‪ ،‬يرشقونيـ بالنبؿ‪ ،‬حتى ال يجترئوا عمى اإلقتراب‬
‫منو‪ ،‬وال يستطيعوا أف يقتحموه‪ ،‬أو يييموا عميو التراب‪ ،‬ليبنوا بو طريقا يمكنيـ مف العبور‪.‬‬
‫وكره فوارس مف قريش أف يقفوا حوؿ الخندؽ مف غير جدوى في ترقب نتائج الحصار‪،‬‬
‫فإف ذلؾ لـ يكف مف شيميـ‪ ،‬فخرجت منيا جماعة فييا عمرو بف عبد ود وعكرمة بف أبي‬
‫جيؿ وضرار بف الخطاب وغيرىـ‪ ،‬فتيمموا مكانا ضيقا مف الخندؽ فاقتحموه‪ ،‬وجالت بيـ‬
‫خيميـ في السبخة بيف الخندؽ وسمع‪ ،‬وخرج عمي بف أبي طالب في نفر مف المسمميف‬
‫حتى أخذوا عمييـ الثغرة التي أقحموا منيا خيميـ‪ ،‬ودعا عمرو إلى المبارزة‪ ،‬فانتدب لو‬
‫عمي بف أبي طالب‪ ،‬وقاؿ كممة حمي ألجميا‪ -‬وكاف مف شجعاف المشركيف وأبطاليـ‪-‬‬
‫عمي‪ ،‬فتجاوال وتصاوال‪ ،‬حتى قتمو‬
‫فاقتحـ عف فرسو فعقره وضرب وجيو‪ ،‬ثـ أقبؿ عمى ّ‬
‫عمي رضي اهلل عنو‪ ،‬وانيزـ الباقوف حتى اقتحموا مف الخندؽ ىاربيف‪ ،‬وقد بمغ بيـ الرعب‬
‫إلى أف ترؾ عكرمة رمحو وىو منيزـ عف عمرو‪.‬‬

‫‪ )ٕٙ‬سورة األحزاب‪.ٕٕ:‬‬

‫‪54‬‬
‫وقد حاوؿ المشركوف في بعض األياـ محاولة بميغة‪ ،‬القتحاـ الخندؽ‪ ،‬أو لبناء الطرؽ فييا‪،‬‬
‫ولكف المسمميف كافحوا مكافحة مجيدة‪ ،‬ورشقوىـ بالنبؿ وناضموىـ أشد النضاؿ حتى فشؿ‬
‫المشركوف في محاولتيـ‪.‬‬
‫إف معركة األحزاب لـ تكف معركة خسائر؛ بؿ كانت معركة أعصاب‪ ،‬لـ يجر فييا قتاؿ‬
‫مرير‪ ،‬إال أنيا كانت مف أحسـ المعارؾ في تاريخ اإلسالـ‪ ،‬تمخضت عف تخاذؿ‬
‫المشركيف‪ ،‬وأفادت أف أية قوة مف قوات العرب ال تستطيع إستئصاؿ القوة الصغيرة التي‬
‫تنمو في المدينة‪ ،‬ألف العرب لـ تكف تستطيع أف تأتي بجمع أقوى مما أتت بو في‬
‫األحزاب‪ ،‬ولذلؾ قاؿ رسوؿ اهلل ‪ ‬حيف أجمى اهلل األحزاب‪« :‬اآلف نغزوىـ وال يغزوننا‪،‬‬
‫نحف نسير إلييـ» ‪.‬‬
‫صمح الحديبية‪6(:‬ىـ‪627 /‬م)‬
‫النبي ‪ ‬أعمف في المسمميف‬
‫أف ّ‬‫كاف في شير ذي القعدة‪ ،‬آخر سنة ست لميجرة‪.‬وسببيا ّ‬
‫متوجو إلى مكة معتمرا‪ ،‬فتبعو جمع كبير مف المياجريف واألنصار بمغ عددىـ ألفا‬
‫ّ‬ ‫أنو‬
‫وأربع مئة تقريبا‪ .‬وأحرـ ‪ ‬بالعمرة في الطريؽ‪ ،‬وساؽ معو اليدي ليأمف الناس مف حربو‬
‫وليعمموا أنو إنما خرج زائ ار البيت ومعظما لو‪ .‬وأرسؿ ‪ ‬وىو عند ذي الحميفة عينا لو مف‬
‫قبيمة خزاعة اسمو بشر بف سفياف ليأتيو بخبر أىؿ مكة‪ ،‬وسار النبي صمّى اهلل عميو وسمـ‬
‫حتى وصؿ إلى غدير األشطاط‪ ،‬فأتاه العيف الذي كاف قد أرسمو‪ ،‬فقاؿ لو‪« :‬إف قريشا‬
‫وصادوؾ عف البيت ومانعوؾ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جمعت لؾ جموعا‪ ،‬وقد جمعوا لؾ األحابيش‪ ،‬وىـ مقاتموؾ‬
‫فقاؿ‪ :‬أشيروا أييا الناس‪ ..‬فقاؿ لو أبو بكر‪ :‬يا رسوؿ اهلل‪ ،‬خرجت عامدا ليذا البيت ال تريد‬
‫صدنا عنو قاتمناه‪ .‬قاؿ‪ :‬امضوا عمى اسـ اهلل‪ .‬ثـ‬
‫قتؿ أحد وال حرب أحد‪ ،‬فتوجو لو‪ ،‬فمف ّ‬
‫قاؿ‪ :‬مف رجؿ يخرج بنا عمى طريؽ غير طريقيـ التي ىـ بيا؟ فقاؿ لو رجؿ مف بني‬
‫النبي صمّى اهلل عميو‬
‫أسمـ‪ :‬أنا يا رسوؿ اهلل‪ .‬فسمؾ بيـ طريقا وع ار بيف الشعاب‪ ،‬وسار ّ‬
‫وسمـ وأصحابو حتى إذا كانوا في ثنية المرار (وىي طريؽ في الجبؿ تشرؼ عمى الحديبية)‬
‫بركت بو راحمتو‪ ،‬فقاؿ الناس‪:‬‬
‫حؿ‪ ،‬حؿ (اسـ صوت كانوا يزجروف بو الجماؿ) فمـ تتحرؾ‪ ،‬فقالوا‪ :‬خألت القصواء‪ ،‬فقاؿ‬
‫صمّى اهلل عميو وسمـ‪ :‬ما خألت‪ ،‬وما ذاؾ ليا بخمؽ‪ ،‬ولكف حبسيا حابس الفيؿ‪ ،‬ثـ قاؿ‪:‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ ،‬ال يسألونني خطة يعظموف فييا حرمات اهلل إال أعطيتيـ إياىا‪ ،‬ثـ‬

‫‪55‬‬
‫زجرىا فوثبت‪ ،‬فعدؿ حتى نزؿ بأقصى الحديبية ‪،‬فمما وصموا إلى الحديبية وصمو الخبر أف‬
‫ىناؾ مف يريد أف يقاتمو فقاؿ إنو لـ يجئ لقتاؿ بؿ جاء معتم ار وأرسؿ رسوؿ اهلل صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ عثماف بف عفاف إلى مكة ليخبرىـ بذلؾ ثـ شاع الخبر أف عثماف قتؿ فأمر‬
‫رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ بالبيعة وىي بيعة الرضواف ثـ جاء المشركوف إلى الحديبية‬
‫وجاءت بعد ذلؾ ثقيؼ ثـ حصمت عدة مفاوضات بيف رؤساء مف المشركيف وبيف النبي ‪‬‬
‫حتى جاء سييؿ بف عمرو فصالحو ‪ ‬عمى أف توضع الحرب عشر سنيف يأمف فييا‬
‫الناس ويكؼ بعضيـ عف بعض وعمى أف مف أتى رسوؿ اهلل مف أصحابو مف غير إذف‬
‫وليو رده رسوؿ اهلل عمييـ ومف أتى قريشا مف أصحابو لـ يردوه وأف بينيـ عيبة مكفوفة أي‬
‫ال غش فييا وأنو ال إسالؿ يعني ال سرقة وال إغالؿ يعني ال خيانة وأف يرجع في عامو‬
‫ىذا دوف أف يدخؿ مكة ولو ذلؾ في العاـ القابؿ يدخميا ثالثة أياـ معو سالح الراكب ال‬
‫يدخميا بغير السيوؼ في القرب ‪ ...‬ثـ أمر النبي صمى اهلل عميو وسمـ أصحابو أف ينحروا‬
‫ويحمقوا ولكنيـ لـ يستجيبوا حتى أشارت عميو أـ سممة رضي اهلل عنيا أف يقوـ ىو بذلؾ‬
‫حر تََواثَُبوا إلَى اْليَ ْد ِي وفعموا مثؿ ما فعؿ ثـ عاد النبي صمى‬
‫دوف أف يكمـ أحدا فمما َأرَْوهُ َن َ‬
‫اهلل عميو وسمـ إلى المدينة دوف عمرة ودوف قتاؿ‪.‬‬
‫غزوة فتح مكة‪8( :‬ىـ‪630/‬م)‬
‫قاؿ ابف القيـ‪ :‬ىو الفتح األعظـ الذي أعز اهلل بو دينو ورسولو وجنده وحزبو األميف‪،‬‬
‫واستنقذ بو بمده وبيتو الذي جعمو ىدى لمعالميف‪ ،‬مف أيدي الكفار والمشركيف‪ ،‬وىو الفتح‬
‫الذي استبشر بو أىؿ السماء‪ ،‬وضربت أطناب عزه عمى مناكب الجوزاء‪ ،‬ودخؿ الناس بو‬
‫في ديف اهلل أفواجا‪ ،‬وأشرؼ بو وجو األرض ضياء وابتياجا أه ‪.‬‬
‫سبب الغزوة‪:‬‬
‫التزمت قريش بمعاىدة الحديبيةعاـ وبعض العاـ‪ ،‬فقد ذىب الرسوؿ ‪ ‬وأصحابو ألداء‬
‫عمرة القضاء فى العاـ السابع مف اليجرة‪ .‬لكنيا ما لبثت أف نقضت المعاىدة عندما‬
‫أعانت قبيمة بنى بكر حميفتيا عمى قبيمة «خزاعة» حميفة رسوؿ اهلل ‪ ‬فطمبت «خزاعة»‬
‫مف الرسوؿ نصرتيا طبقًا لممعاىدة التى بينيا وبينو‪ ،‬فوعدىـ بالنصر‪ ،‬وبدأ فى االستعداد‬
‫لغزومكة ‪ .‬شعر «أبو سفياف» زعيـ «مكة» بالخطأ الفاحش الذى وقعوا فيو‪ ،‬فسافر إلى‬
‫«المدينة» لمقابمة الرسوؿ ‪ ‬ولتجديد المعاىدة‪ ،‬فمـ يقبؿ الرسوؿ اعتذاره‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫أمر الناس بالتجيز دوف أف يخبرىـ بوجيتو‪ .‬ثـ مضى حتى نزؿ بمر الظيراف وىو واد‬
‫وقاؿ ليـ ما قالو عميو الصالة والسالـ‪ :‬مف دخؿ دار أبي سفياف فيو آمف‪ ،‬ومف أغمؽ‬
‫عميو داره فيو آمف‪ ،‬ومف دخؿ المسجد فيو آمف‪ .‬فتفرؽ الناس إلى دورىـ والى المسجد‪.‬‬
‫وفي الصحيحيف عف عائشة رضي اهلل عنيا أف النبي صمى اهلل عميو وسمـ دخؿ عاـ الفتح‬
‫مف كداء التي بأعمى مكة‪ .‬وقد أىدر النبي صمى اهلل عميو وسمـ دـ بعض المشركيف يوـ‬
‫الفتح‪ .‬ووجد عميو الصالة والسالـ حوؿ البيت ثالثمائة وستيف نصبا‪ ،‬فجعؿ يطعنيا بعود‬
‫في يده ويقوؿ‪( :‬جاء الحؽ وزىؽ الباطؿ‪ ،‬جاء الحؽ وما يبدي الباطؿ وما يعيد)‪.‬‬

‫غزوة حنين‪8 (:‬ىـ ‪630 /‬م)‬


‫إف فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شد ليا العرب‪ ،‬وبوغتت القبائؿ المجاورة باألمر‬
‫الواقع‪ ،‬الذي لـ يكف يمكف ليا أف تدفعو‪ ،‬ولذلؾ لـ تمتنع عف اإلستسالـ إال بعض القبائؿ‬
‫الشرسة القوية المتغطرسة‪ ،‬وفي مقدمتيا بطوف ىوازف وثقيؼ‪ ،‬واجتمعت إلييا نصر وجشـ‬
‫وسعد بف بكر وناس مف بني ىالؿ‪ -‬وكميا مف قيس عيالف‪ -‬رأت ىذه البطوف مف نفسيا‬
‫ع از وأنفو أف تقابؿ ىذا اإلنتصار بالخضوع‪ ،‬فاجتمعت إلى مالؾ بف عوؼ النصري‪،‬‬
‫وقررت المسير إلى حرب المسمميف‬
‫أمر النبى ‪ ‬الجيش بالتأىب لمواجيتيـ في أوائؿ شير شواؿ سنة ‪ٛ‬ىػ‪ ،‬وكاف يضـ اثنى‬
‫عشر ألفًا بعد أف انضـ إلى جيش الفتح ألفاف مف أىؿ «مكة»‪ ،‬واتجو بو إلى وادى‬
‫«حنيف»‪ ،‬ففاجأتيـ جموع «ىوازف» و «ثقيؼ» مف مكامنيا فى األودية والجباؿ‪ ،‬وكادت‬
‫تيزميـ‪ ،‬وفر معظـ المسمميف مف ىوؿ المفاجأة‪ ،‬ولـ يثبت مع النبى ‪ ‬إال قمة قميمة مف‬
‫أىمو وأصحابو‪ ،‬تقدر بنحو عشرة رجاؿ‪ ،‬وصاح النبى‪ ‬بالمسمميف «إلى أيف أييا الناس؟‬
‫إلى أييا الناس‪ ،‬أنا النبى ال كذب أنا ابف عبد المطمب»‪ ،‬وأماـ ثبات النبى ‪ ‬وشجاعتو‬
‫َّ‬
‫عاد المسمموف وراءه‪ ،‬وتماسكوا مف جديد‪ ،‬وحمموا عمى عدوىـ حممة صادقة‪ ،‬فيزموىـ‬
‫نحوا مف ستة آالؼ‪ ،‬وغنموا غنائـ‬
‫كبيرا‪ ،‬وأسروا كذلؾ ً‬
‫عددا ً‬
‫ىزيمة شديدة‪ ،‬وقتموا منيـ ً‬
‫كثيرة‪ .‬وكاف سبب اليزيمة التى كادت تحيؽ بالمسمميف فى أوؿ المعركة ىو االغترار‬
‫بالكثرة‪ ،‬وكانوا اثنى عشر ألفًا‪ ،‬وقالوا‪ :‬لف نيزـ اليوـ مف قمة‪ ،‬فأراد اهلل أف يعمميـ أف الكثرة‬
‫ال تكفى وحدىا فى حسـ المعارؾ؛ إذ البد مف عوف اهلل تعالى‪ ،‬وقد أشار القرآف الكريـ إلى‬

‫‪57‬‬
‫سبب ما حدث ليـ فى أوؿ المعركة‪ ،‬فقاؿ تعالى‪{ :‬ولقد نصركـ اهلل فى مواطف كثيرة ويوـ‬
‫رحبت ثـ وليتـ‬
‫شيئا وضاقت عميكـ األرض بما ُ‬
‫حنيف إذ أعجبتكـ كثرتكـ فمـ تغف عنكـ ً‬
‫جنودا لـ تروىا وعذب الذيف‬
‫ً‬ ‫مدبريف ثـ أنزؿ اهلل سكينتو عمى رسولو وعمى المؤمنيف وأنزؿ‬
‫كفروا وذلؾ جزاء الكافريف}‪.)27(.‬‬
‫حصار الطائف‪:‬‬
‫بعد ىزيمة «ىوازف» و «ثقيؼ» فى وادى « ُحنيف»‪ .‬فرت فموليـ وتحصنت بالطائؼ‬
‫نحوا مف ثالثة أسابيع‪ ،‬وكانت حصونيـ قوية‪،‬‬
‫فحاصرىـ النبى ‪ -‬صمى اهلل عميو وسمـ ‪ً -‬‬
‫بعيدا عف مرمى‬
‫وأخذوا فى قذؼ المسمميف بالنباؿ فآذوىـ‪ ،‬فاضطر النبى أف يتراجع بقواتو ً‬
‫النباؿ‪ ،‬ثـ استشار أصحابو ماذا يفعؿ معيـ‪ ،‬فقالوا لو‪« :‬يارسوؿ اهلل ىـ كضب فى جحر‬
‫إف أقمت عميو أخذتو واف تركتو فمف يضرؾ»‪ ،‬أي أنيـ بعد فتح «مكة» وبعد ىزيمتيـ فى‬
‫وادى «حنيف» لف يستطيعوا الصمود فى وجيؾ‪ ،‬وىـ مستسمموف ال محالة إف أطمت‬
‫الحصار‪ ،‬واف رفعتو عنيـ فسيقدموف عميؾ مف تمقاء أنفسيـ‪ ،‬فاقتنع الرسوؿ ‪ -‬صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ ‪ -‬بيذا الرأى‪ ،‬ورفع عنيـ الحصار‪ ،‬ورفض أف يدعو عمييـ عندما طمب منو‬
‫اىد ثقيفًا و ِ‬
‫أت بيـ»‪ .‬وبعد أقؿ مف عاـ جاءت‬ ‫ذلؾ بعض الصحابة‪ ،‬بؿ قاؿ‪« :‬الميـ ِ‬

‫وفودىـ إلى الرسوؿ ‪ ‬فى «المدينة»‪ ،‬وأعمنوا إسالميـ‪ ،‬فى رمضاف سنة ‪ٜ‬ىػ‪ ،‬وعيف‬
‫الياعمييـ‪.‬‬
‫الرسوؿ ‪ -‬صمى اهلل عميو وسمـ ‪« -‬عثماف بف العاص الثقفى» و ً‬
‫غزوة تبوك‪9(:‬ىـ‪631/‬م)‬
‫قاـ النبى ‪ ‬بقيادة ىذه الغزوة فى شير رجب سنة ‪ ٜ‬ىػ‪ ،‬وىى آخر غزوة غزاىا‪ ،‬وكاف‬
‫أخبار وصمت إليو مف عيونو التى بثيا لمراقبة تحركات الروـ فى الشماؿ‪ ،‬أنيـ‬
‫ًا‬ ‫سببيا أف‬
‫كثير عمى المسمميف مف‬
‫يعدوف العدة لميجوـ عميو‪ .‬والحقيقة أف عدواف الروـ كاف قد تكرر ًا‬
‫قبؿ‪ ،‬فاعتدى الروـ عمى المسمميف وحاربوىـ فى غزوة «مؤتة» في جمادى اآلخرة سنة‬
‫‪ٛ‬ىػ‪ ،‬وكادوا يستأصمونيـ‪ ،‬لوال ميارة «خالد بف الوليد» ‪ -‬رضى اهلل عنو ‪ -‬الذى انسحب‬
‫مف أماميـ وأنقذ جيش المسمميف مف براثنيـ‪ .‬وكاف عدوانيـ ذلؾ بدوف سبب يدعو إليو ألف‬
‫المسمميف لـ يذىبوا لمحاربتيـ‪ ،‬وانما جاءوا لتأديب القبائؿ القاطنة بيف «الحجاز» و‬

‫‪ )ٕٚ‬سورة التوبة‪- ٕ٘:‬‬

‫‪58‬‬
‫كبير حيف قتمت‬
‫جرما ًا‬
‫«الشاـ»‪ ،‬التى دأبت عمى قطع الطريؽ عمى المسمميف‪ ،‬ثـ ارتكبت ً‬
‫«الحارث بف ُعمير» أحد سفراء النبى ‪ ‬الذيف حمموا رسائمو إلى المموؾ واألمراء‪ ،‬فأراد‬
‫النبى ‪ ‬أف يؤدبيـ بيذه الغزوة‪ ،‬ليكفوا أذاىـ عف المسمميف‪ ،‬ولكف الروـ تدخموا بجيش‬
‫كبير ‪ -‬أكثر مف مائة ألؼ – بدوف سبب‪.‬‬
‫أخذ رسوؿ اهلل ‪ ‬يرصد تحركات الروـ‪ ،‬فمما وصمت إليو األخبار بعزميـ عمى اليجوـ‬
‫وسمى‬
‫جيشا لصده‪ ،‬وكاف عدده ثالثيف ألفًا‪ ،‬وىو أكبر جيش قاده النبى‪ُ ‬‬
‫ً‬ ‫عميو؛ أعد‬
‫«جيش العسرة»‪ ،‬ألف المسافة كانت بعيدة والجو صيؼ شديد الح اررة‪ ،‬والناس يحبوف المقاـ‬
‫فى مزارعيـ وبساتينيـ لجنى الثمار‪ ،‬واالستمتاع بالظؿ الوارؼ‪ ،‬ولكف مادامت الدولة‬
‫اإلسالمية ودعوتيا فى خطر‪ ،‬فالبد مف التضحية واالستيانة بكؿ راحة ومتعة‪ ،‬وقد ضحى‬
‫أصحاب النبى ‪ -‬صمى اهلل عميو وسمـ ‪ -‬تضحيات كبيرة‪ ،‬وأسيموا في تجييز الجيش‬
‫واعداده بأمواليـ‪ ،‬وبخاصة «عثماف بف عفاف» الذى جيز نحو ثمث الجيش مف مالو‬
‫الخاص‪ .‬سار النبى ‪ ‬حتى وصؿ إلى «تبوؾ»‪ ،‬فإذا بو يعمـ أف جيش الروـ الذى كاف‬
‫مذعور إلى داخؿ «الشاـ»‪ ،‬فعسكر النبى ‪ -‬صمى‬
‫ًا‬ ‫فر‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ أقوى جيش فى الدنيا قد َّ‬ ‫ُيعد‬
‫اهلل عميو وسمـ – في «تبوؾ» ثالثة أسابيع‪ ،‬رتب خالليا أوضاع المنطقة‪ ،‬وأظير ىيبة‬
‫اإلسالـ وضرب ىيبة الروـ ضربة قاصمة‪ ،‬جعمت سكاف اإلمارات الصغيرة فى المنطقة‬
‫الخاضعة لسيطرة الروـ ‪ -‬كأيمة و «أدرح» و «الجرساء» ‪ -‬ييرعوف إلى رسوؿ اهلل ‪-‬‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ ‪-‬مذعنيف‪ ،‬وقالوا لو‪ :‬ماذا تريد منا؟ فعرض عمييـ اإلسالـ فرفضوا‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬غير ىذا‪ ،‬قاؿ‪« :‬تدفعوف الجزية ونؤمنكـ عمى عقائدكـ وأرواحكـ وأموالكـ»؛ فقبموا‪،‬‬
‫عاليا ودليال عمى تسامح اإلسالـ‪،‬‬
‫فأعطاىـ بذلؾ معاىدات‪ ،‬وكاف تصرؼ النبى ‪ ‬مثال ً‬
‫وأنو ال ُيفرض عمى الناس بالقوة‪.‬‬
‫عام الوفود‪(:‬ىـ‪630/9‬م)‬
‫كاف العاـ التاسع اليجري في حياة الرسوؿ ‪ ‬مناط الفخر وذروة القوة‪ ،‬ففيو خرج الرسوؿ‬
‫‪ ‬إلى تبوؾ عمى مشارؼ الشاـ‪ ،‬ليمتقي بدولة الروـ التي كانت تيدد حدود الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬فتييب الروـ لقاءه‪ ،‬والذوا بالفرار ليتحصنوا داخؿ بالدىـ‪ ،‬فكاف ىذا النصر‬
‫عجيبا يعتز بو المسمموف في‬
‫ً‬ ‫كبير وتحوًال‬
‫تطور ًا‬
‫ًا‬ ‫األبيض عمى دولة الروـ العظيمة‬
‫تاريخيـ‪ .‬وفيو تتابعت الوفود مف سائر الجزيرة العربية لتعمف الوالء والطاعة لمرسوؿ ‪-‬‬

‫‪59‬‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬ولتؤمف مستقبميا قبؿ أف يصؿ إلييا المد اإلسالمي ويكتسحيا تياره‬
‫القوي‪ ،‬وكانت ىذه الوفود في كثرتيا وتتابعيا َح ِرّية بأف تجعؿ ىذا العاـ عاـ الوفود‪ ،‬كما‬
‫كانت ىذه الوفود ىي الثمرة الطبيعية لكفاح المسمميف الطويؿ‪ ،‬ألنيا البرىاف الواضح عمى‬
‫مسموعا في كؿ مكاف‪ ،‬وأف الناس حينما سمعوه واطمأنوا إليو‬
‫ً‬ ‫أف صوت اإلسالـ قد أصبح‬
‫لبوا النداء واستجابوا لمدعاء‪.‬‬
‫واذا كاف مف حؽ القارئ أف يتعرؼ عمى ىذه الوفود‪ ،‬فإف مف واجبنا أف نتحدث عنيـ‬
‫ألنيـ كانوا ‪-‬في جممتيـ‪ -‬سفراء أمناء حمموا رسالة الحؽ مف الرسوؿ ‪-‬صمى اهلل عميو‬
‫وسمـ‪ -‬وبمغوىا كاممة إلى أىميـ وذوييـ‪ ،‬فشرح اهلل صدورىـ لإلسالـ‪ ،‬ودخموا في ديف اهلل‬
‫اجا‪[ .‬سورة النصر]‪ .‬فمف ىذه الوفودٔ وفد عبد القيسٕ‪ ،‬وكاف مف خبرىـ أف الرسوؿ ‪-‬‬
‫أفو ً‬
‫جالسا بيف أصحابو يوما فقاؿ ليـ‪" :‬سيطمع عميكـ مف ىنا‬
‫ً‬ ‫صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬كاف‬
‫ركب مف أىؿ المشرؽ‪ ،‬لـ يكرىوا عمى اإلسالـ‪ ،‬قد أنضوا الركائبٖ وأفنوا الزاد‪ ،‬الميـ‬
‫اغفر لعبد القيس"‪ .‬فمما أتوا و أروا النبي ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬رموا بأنفسيـ عف الركائب‬
‫بباب المسجد‪ ،‬وتبادروا إلى رسوؿ اهلل ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬يسمموف عميو‪.‬‬
‫مرحبا بالقوـ غير خزايا وال ندامى" ٗ‪.‬‬
‫فقاؿ ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪ً " :‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل إنا نأتيؾ مف شقة بعيدة‪ ،‬وانو يحوؿ بيننا وبينؾ ىذا الحي مف كفار‬
‫مضر‪ ،‬وانا ال نصؿ إليؾ إال في شير حراـ‪ ،‬فمرنا بأمر فصؿ‪.‬‬
‫محمدا رسوؿ‬
‫ً‬ ‫فقاؿ‪" :‬آمركـ باإليماف‪ .‬أتدروف ما اإليماف باهلل؟ شيادة أف ال إلو إال اهلل‪ ،‬وأف‬
‫اهلل‪ ،‬وايتاء الزكاة‪ ،‬وصوـ رمضاف وأف تعطوا مف المغنـ الخمس‪ ،‬وأنياكـ عف الدنيا والحنتـ‬
‫والنقير والمزفت"‪ .‬فأومأ ‪-‬عميو الصالة والسالـ‪ -‬بكفيو وقاؿ‪" :‬يا أشج إف رخصت لؾ في‬
‫مثؿ ىذه شربتو في مثؿ ىذه ‪-‬وفرج بيف يديو وبسطيا‪ -‬حتى إذا ثمؿ أحدكـ مف شرابو قاـ‬
‫إلى ابف عمو فضرب ساقو بالسيؼ"ومف ىذه الوفود وفد تميـ‪ :‬وكاف مف خبرىـ أنيـ جاءوا‬
‫إلى رسوؿ اهلل ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬فمما خرج إلييـ تعمقوا بو وقالوا‪ :‬نحف ناس مف تميـ‬
‫جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرؾ ونفاخرؾ‪ ،‬فقاؿ ليـ ‪-‬عميو الصالة والسالـ‪" :‬ما بالشعر‬
‫بعثنا وال بالفخار أمرنا"‪ .‬ثـ صمى الظير‪ ،‬واجتمع حولو رجاؿ الوفد يتفاخروف بمجدىـ‬
‫ومجد آبائيـ‪ ،‬وطمبوا مف الرسوؿ ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪ -‬أف يأذف لخطيبيـ وشاعرىـ‬
‫بذلؾ‪ ،‬فأذف الرسوؿ ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫أوضاع المسممين عقب وفاة الرسول ‪: ‬‬

‫كانت وفاة الرسوؿ ‪ ‬فجيعة كبرى اشتدت وطأتيا في نفوس المسمميف وأصابيـ‬
‫جميعا ليوؿ الكارثة‪ ،‬وطاشت‬
‫ً‬ ‫الذىوؿ لما أُشيع عف وفاة الرسوؿ ‪ ‬فاضطرب الصحابة‬
‫عقوؿ كثير منيـ واختمفت موافقيـ‪ ،‬فمنيـ مف عقد لسانو ومنيـ مف أقعد ووقؼ عمر بف‬
‫رجاال مف المنافقيف يزعموف أف رسوؿ ‪ ‬توفي‪ ،‬واف رسوؿ اهلل ‪‬‬
‫الخطاب ‪ ‬يقوؿ‪« :‬إف ً‬
‫ما مات‪ ،‬لكف ذىب إلى ربو كما ذىب موسى بف عمراف فغاب عف قومو أربعيف ليمة ثـ‬
‫رجع إلييـ بعد أف قيؿ‪ :‬قد مات‪ ،‬واهلل ليرجعف رسوؿ اهلل ‪ ‬فميقطعف أيدي رجاؿ وأرجميـ‬
‫غائبا خارج المدينة‬ ‫يزعموف أنو مات» ‪ .‬وكاف أبو بكر الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬في تمؾ المحظات ً‬
‫بمنزلو في السنح فمما وصؿ خطب الناس وقاؿ‪« :‬أييا الناس‪ ،‬مف كاف يعبد اهلل فإف اهلل‬
‫محمدا قد مات» ‪ ،‬ثـ ق أر قولو تعالى‪َ « :‬وما‬ ‫ً‬ ‫محمدا فإف‬
‫ً‬ ‫حي ال يموت‪ ،‬ومف كاف يعبد‬

‫مات أ َْو قُتِ َؿ ْان َقمَ ْبتُ ْـ َعمى أ ْ‬


‫َعقابِ ُك ْـ‪َ ،‬ومف‬ ‫ت ِم ْف قَْبمِ ِو ُّ‬
‫الر ُس ُؿ‪ ،‬أَفَِإ ْف َ‬ ‫ُم َح َّم ٌد إِ َّال َر ُسو ٌؿ قَ ْد َخمَ ْ‬
‫ب عمى ع ِقب ْي ِو َفمَف يض َّر المَّو َش ْيئاً‪ ،‬وسي ْج ِزي المَّو َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يف» (‪ .)ٕٛ‬فكانت ىذه اآلية‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َي ْن َقم ْ َ َ َ‬
‫اء لمشاكريف‪ .‬وقد ظير في ىذا‬
‫ثباتًا لممؤمنيف‪ ،‬وتعزية لممصابيف‪ ،‬وسموى لمصابريف‪ ،‬وجز ً‬
‫ّْديؽ ‪ ‬وقوة جأشو‪ ،‬وشجاعتو وجرأتو‪ ،‬وقوة رأيو‪ ،‬ووصمت اآلية إلى‬‫الموقؼ عمـ الص ّْ‬
‫سمع عمر بف الخطاب ‪ .‬حيث قاؿ‪« :‬واهلل! ما ىو إال أف سمعت أبا بكر تالىا فعقرت‬
‫حتى ما تقمني رجالي‪ ،‬حتى أىويت إلى األرض وعممت أف النبي ‪ ‬قد مات»‪.‬في ىذا‬
‫الوقت العصيب الذي مر بو المسمموف فكروا في االجتماع الختيار مف يخمؼ الرسوؿ ‪‬‬
‫قبؿ تجييزه ودفنو ‪.‬وبعد اتفاقيـ عمى مف يخمؼ األمة بعد نبييا قاموا بتجييزه ‪ ‬فغسموه‬
‫وكفنوه وصموا عميو ثـ دفنوه‪.‬‬
‫بواعث إسراع الصحابة الختيار من يخمف الرسول ‪:‬‬
‫توفي الرسوؿ ‪ ‬ولـ يعيف مف يخمفو‪ ،‬بؿ ترؾ األمر شورى بيف المسمميف يختاروف‬
‫خميفة ليـ‪ ،‬فكاف عمى األمة أف تواجو الموقؼ الصعب الذي نشأ عف انتقاؿ الرسوؿ ‪‬‬
‫ظا عمى وحدة المسمميف‪.‬‬
‫إلى الرفيؽ األعمى وأف تحسـ أمرىا خشية الوقوع في الفتنة وحفا ً‬

‫‪ )28‬سورة آل عمران‪ .‬اآلية‪.144 :‬‬

‫‪61‬‬
‫فرغـ الذىوؿ الذي أصاب المسمميف لـ تمض ساعات قميمة مف وفاتو ‪ ‬حتى سارعوا في‬
‫التفكير الختيار خميفة لو في ذلؾ الظرؼ العصيب‪ .‬والواضح أف مسألة قيادة المسمميف‬
‫بعد وفاة النبي ‪ ‬كانت مف المسائؿ الرئيسة ليـ‪ ،‬فإف أىمية الحفاظ عمى كياف الدولة التي‬
‫أسسيا الرسوؿ ‪ ‬جعمتيـ يتحركوف في اتجاه اختيار مف يخمفو ‪ ‬قبؿ أف ينتيوا مف دفنو‪.‬‬
‫واف ىذا ليعطينا داللة واضحة عمى إيماف الصحابة بأف اإلسالـ ديف ودولة‪ ،‬فال يجوز‬
‫أف يترؾ منصب اإلمامة ولو لساعات قميمة مف غير تولية‪ ،‬وىذا يمثؿ قمة الشعور‬
‫بالمسؤولية مف جانب الصحابة ‪ . ‬فاألمة في حاجة إلى قيادة لمحفاظ عمى وحدتيا‬
‫وكيانيا‪ ،‬وسد الطريؽ أماـ كؿ مف تسوؿ لو نفسو استغالؿ ىذا الظرؼ العصيب الذي‬
‫تعرض لو المسمموف‪ ،‬وصد كيد المتربصيف باإلسالـ والمسمميف‬
‫ويمكن أن نجمل ىذه األسباب في اآلتي‪:‬‬
‫ٔ‪ -‬إدراؾ الصحابة الخطورة المحيطة بالدولة اإلسالمية‪ ،‬سواء كانت األخطار الداخمية‬
‫المتمثمة في حركة الردة أو غيرىا‪ ،‬تقوؿ عائشة رضي اهلل عنيا‪« :‬لما توفي الرسوؿ ‪‬‬
‫ارتدت العرب واشرأبت الييودية‪ ،‬والنصرانية ونجـ النفاؽ‪ ،‬وصار المسمموف كالغنـ المطيرة‬
‫في الميمة الشاتية لفقد نبييـ»‪ .‬واألخطار الخارجية‪ ،‬حيث الروـ في الشاـ بعد معركة مؤتو‬
‫تحشد جيوشيا لتنقض عمى الدولة اإلسالمية؛ ىذه األخطار جعمتيـ يفكروف في لـ شمؿ‬
‫األمة وجمع كممتيا لمواجيتيا‪.‬‬
‫ٕ‪-‬انطالقًا مف إيمانيـ بأف النظاـ الذي وضع اإلسالـ أصولو يستمزـ وجود دولة عمى‬
‫رأسيا حاكـ وألىمية الخالفة في اإلسالـ جعمتيـ يتحركوف في اتجاه اختيار الخميفة كما‬
‫عبر عف ذلؾ سعيد بف زيد ‪ ‬قاؿ‪« :‬كره المسمموف أف يبقوا بعض يوـ وليسوا جماعة»‪.‬‬
‫ٖ‪-‬شعور الصحابة بالحاجة إلى حاكـ يحفظ كياف األمة ويوجييا لما فيو خيرىا وصالحيا‬
‫أيضا أف الصحابة رضواف اهلل تعالى عمييـ أجمعيف‬
‫‪ .‬قاؿ ابف حجر الييتمي ‪« :‬اعمـ ً‬
‫أجمعوا عمى أف نصب اإلماـ بعد انق ارض زمف النبوة‪ ،‬بؿ جعموه أىـ الواجبات حيث‬
‫اشتغموا بو عف دفف رسوؿ اهلل ‪ . »‬فكاف ىذا الوعي السياسي في اجتماع كممة المسمميف‬
‫لتجنب الفتف والخالؼ‪.‬‬
‫نابعا مف فيميـ ألمر ىذا الديف‪ ،‬وأنو ال يمكف أف يعيشوا بال‬
‫ٗ‪-‬كاف سبب اجتماعيـ ً‬
‫قيادة‪ ،‬فشعورىـ بأنيـ بحاجة ضرورية إلى اختيار خميفة يتولى شئوف المدينة وأمر‬

‫‪62‬‬
‫المسمميف‪ ،‬فمدينتيـ ميددة بعد وفاة النبي ‪ ‬مف ىجمات األعراب‪ ،‬كما أنيا ال تخمو مف‬
‫المنافقيف الذيف يتربصوف بالمسمميف الدوائر‪.‬‬

‫اجتماع األنصار في سقيفة بني ساعدة‪:‬‬


‫وانطالقًا مف الواجب المتحتـ عمى المسمميف في اختيار خميفة ليـ بادر األنصار لتنفيذ‬
‫ىذا األمر والتشاور في تعييف الخميفة فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليذا األمر مف أجؿ‬
‫تحقيؽ مصمحة األمة في مختمؼ نواحي الحياة ‪ ،‬واقترحوا أف يولوا ىذا األمر سعد بف‬
‫عبادة (سيد األوس)‪ ،‬محتجيف بأنو يحظى بموافقة وتأييد كثير مف األنصار‪ .‬وفي ذلؾ‬
‫يقوؿ القاضي عبدالجبار ‪ :‬وكاف ليـ عذر في المبادرة إلى البيعة؛ ألنيـ خافوا في التأخر‬
‫فتنة عظيمة ولذلؾ كاف ال بد مف تدبير األمر ووجود خميفة لممسمميف‪ ،‬ال كما يصوره‬
‫بعضيـ مف أنيـ انتيزوا الفرصة‪ ،‬فحممتيـ العصبية إلى المسارعة لالجتماع في السقيفة‬
‫منفرديف في ذلؾ دوف المياجريف‪.‬‬
‫ويمكف ذكر بعض األسباب التي تكاد تكوف دوافع رئيسة الجتماعيـ مف أبرزىا ما يأتي‪:‬‬
‫ٔ‪-‬دفاعيـ عف اإلسالـ وحمايتيـ لو بأنفسيـ وأمواليـ ‪ ،‬فيـ يروف أف األمر ليـ بما آووا‬
‫ونصروا‪ ،‬وبما قدموا بو مف تضحيات‪.‬‬
‫ٕ‪-‬نظروا إلى الخالفة مف زاوية قريبة ال تتجاوز العالقة التاريخية بينيـ وبيف إخوانيـ‬
‫المياجريف ‪ .‬فاألنصار يروف أف األمر ليـ ألف المدينة بمدىـ فتصوروا أف القيادة ال بد اف‬
‫تكوف بأيدييـ‪ ،‬ألنيـ أصحاب األرض والدار وىـ األكثرية‪.‬‬
‫ٖ‪ -‬إف النبي ‪ ‬لـ يعيف أحد عمى أمر المسمميف بعد وفاتو‪ ،‬قاؿ المحب الطبري‪«:‬وأنو ‪‬‬
‫لـ يعيد في الخالفة بعيد ولـ ينص فييا عمى أحد بعينو» فإسراعيـ إلى االجتماع في‬
‫السقيفة كاف سببو عدـ وجود نائب معيف مف ِقبؿ الرسوؿ ‪ ‬ولو كاف ىنالؾ شيء مف‬
‫حرصا منيـ‬
‫ً‬ ‫ذلؾ لما فعموا ما فعموه‪.‬فالدوافع وراء اجتماع األنصار في السقيفة‪ ،‬وىي ليست‬
‫عمى اإلمارة والسعي لمحكـ بؿ لحرصيـ عمى حماية األمة مف التمزؽ واالختالؼ‪ ،‬دؿ‬
‫عمى ىذه الحقيقة السرعة التي تـ عقد االجتماع فييا الختيار الخميفة‪ ،‬واسراعيـ إلى‬
‫مبايعة الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬دوف تردد بعد تمؾ المداولة القصيرة حوؿ الخالفة‪ .‬ومف خالؿ ىذه‬
‫جميعا ‪ ‬بأمر الخالفة ووحدة المسمميف‪.‬‬
‫ً‬ ‫األسباب والبواعث يتضح اىتماـ الصحابة‬

‫‪63‬‬
‫وصول خبر اجتماع األنصار إلى المياجرين‪:‬‬
‫حيف بمغ خبر اجتماع السقيفة إلى المياجريف كاف أوؿ مف تمقى الخبر ىو عمر بف‬
‫الخطاب ‪ ‬كما في رواية الطبري‪ ،‬حيث أقبؿ عمر‪ ‬إلى منزؿ النبي ‪ ‬فأرسؿ إلى‬
‫إلي‪ ،‬فأرسؿ إليو إني مشتغؿ‪.‬‬
‫أبي بكر ‪ ‬وىو في الدار أف أخرج َّ‬
‫وفي رواية ابف ىشاـ أف أبا بكر‪ ‬بمغو الخبر‪ ،‬حيث أتى آت يقوؿ لو‪ « :‬إف األنصار‬
‫اجتمعت مع سعد بف عبادة» ‪.‬‬
‫وُذكر أنو عندما عمـ أبو بكر وعمر رضي اهلل عنيما أف األنصار مجتمعوف في سقيفة‬
‫بني ساعدة الختيار الخميفة منيـ ‪ ،‬وخرجا إلى السقيفة عمى غير اتفاؽ بينيما وفي الطريؽ‬
‫لقيا أبا عبيدة بف الجراح فسارو إلى األنصار وأرادوا أف يعالجوا ىذا الموقؼ‪ ،‬وفي طريقيـ‬
‫نصيبا» ‪ .‬قاؿ عمر بف الخطاب ‪ :‬فمما‬
‫ً‬ ‫يقوؿ بعضيـ لبعض‪« :‬إف ليـ في ىذا الحؽ‬
‫دنونا منيـ لقينا منيـ رجميف صالحيف فقاال‪ :‬أيف تريدوف يا معشر المياجريف؟ فقمنا إخواننا‬
‫األنصار فقاال‪ :‬ال‪ ،‬عميكـ أف ال تقربوىـ واقضوا أمركـ يا معشر المياجريف‪ .‬وىذا يدؿ تماـ‬
‫الداللة عمى أنو لـ يكف ىناؾ خالؼ عمى البيعة بيف المياجريف واألنصار ‪ .‬وحينما وصؿ‬
‫الثالثة إلى السقيفة شاركوا األنصار فيما يتحدثوف بو مف أمر الخالفة‪ ،‬فبددوا مخاوفيـ‬
‫واطمأنوا عمى مستقبؿ اإلسالـ والمسمميف لما كانوا يسمعونو مف إجابات وتفاصيؿ تجاوزت‬
‫ما كاف يقدمو خطباء األنصار ‪.‬‬
‫طريقة إدارة الحوار داخل السقيفة‪:‬‬

‫طويال‬
‫ً‬ ‫وبعد استعراض الروايات الصحيحة الجتماع السقيفة يتبيف أف االجتماع لـ يدـ‬
‫ولـ تجر فيو مناقشات طويمة بيف المياجريف واألنصار أو تنافس وصراع عمى تولي‬
‫الخالفة وانما جرت مناقشات وحوار وردود بيف المياجريف واألنصار وضع كؿ وجية‬
‫نظره‪ ،‬وليذا لـ يثبت أف مف الصحابة مف ُمنع مف حضور اجتماع السقيفة‪ ،‬فيي لـ تجر‬
‫في غرفة مغمقة أو حراسة مشددة وانما جرت في عريش مكشوفة وسط المدينة يحؽ‬
‫سرا‪ ،‬ألنيـ أرادوه‬
‫لمجميع اإلنضماـ لالجتماع‪ ،‬ولـ يسع األنصار أف يبقى خبر اجتماعيـ ً‬
‫عمى المأل فمـ يخفوه ‪ ،‬ولـ يثبت أف حضورىا كاف يقتضي إذف مف أحد‪ ،‬أو يشترط لو‬

‫‪64‬‬
‫شرط‪ ،‬بؿ كاف كؿ مف بمغو الحضور حضر‪ ،‬وقد اجتمع في السقيفة ممثموف عف كؿ‬
‫الفئات‪ ،‬والمشاركة فيما دار فييا مف حوار‪ .‬أما موقؼ األنصار يوـ السقيفة وما حصؿ مف‬
‫حوار بيف أفراد منيـ مع الص ّْ‬
‫ّْديؽ والفاروؽ وأبو عبيدة فإنو لـ يخرج عف إشارات وارشادات‬
‫النبي ‪ ‬التي سبؽ ذكر بعضو‬

‫وقد تعدد طرح وجيات النظر المؤيدة والمعارضة عبر حوار ودي استحضر فيو الجميع‬
‫أمانة الرسالة الختيار األصمح واألفضؿ‪ ،‬وظموا يتحاوروف ويدرسوف اآلراء والمقترحات‬
‫واألفكار حتى استقروا عمى رأي واحد وىو ما يدؿ عمى أف تاريخ اإلسالـ قد شيد منذ‬
‫عيد الخالفة الراشدة حرية سياسية كاممة‬

‫ويتضح مف الروايات الصحيحة أف اآلراء المطروحة في االجتماع تتمثؿ في ثالثة آراء‬


‫ىي‪ :‬أحقية األنصار بالخالفة‪ ،‬وأحقية المياجريف بيا‪ ،‬واقتساـ السمطة وتعدد األمراء‪ ،‬وىي‬
‫عمى النحو التالي‪:‬‬

‫الرأي األوؿ‪ :‬أحقية األنصار بالخالفة‪:‬‬

‫يرى أصحاب ىذا الرأي أف األنصار ىـ أولى الناس بخالفة النبي ‪ ‬فاختاروا سعد بف‬
‫عبادة ‪ ‬لمخالفة لما كاف يحظى بو مف مكانة بينيـ‪.‬‬

‫وبالرغـ مف أف بعض المصادر ذكرت أف األنصار لـ يكف جميعيـ عمى ىذا الرأي‪ ،‬فقد‬
‫خالفيـ جماعة ىـ عويـ بف ساعدة‪ ،‬ومعف بف عدي‪ ،‬وحبيب بف زيد ‪ ‬وغيرىـ فكاف‬
‫رأييـ أف الخميفة يكوف مف المياجريف‪.‬‬

‫الرأي الثاني‪ :‬أحقية المياجريف بالخالفة‪:‬‬

‫أكد المياجروف المشاركوف في السقيفة سبقيـ إلى اإلسالـ وقربيـ مف الرسوؿ ‪‬وىـ‬
‫الذيف ىاجروا مف بمدىـ في سبيؿ مساندة الرسوؿ ‪ ‬والوقوؼ إلى جانبو‪ .‬وتمخصت‬
‫حججيـ في خطاب الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬الذي أكد فيو صواب رأي المياجريف كما ذكرنا سابقاً ‪.‬‬
‫وأف العرب لف ترض إال بقيادتيـ لمكانتيـ فييـ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬الشراكة في السمطة‪:‬‬

‫أما الرأي الثالث الذي اقترحو الحباب بف المنذر ‪ ‬لمتوفيؽ بيف الرأييف السابقيف وىو‬
‫قائال «منا أمير ومنكـ أمير» وفسرتيا رواية‬
‫الشراكة في السمطة بيف المياجريف واالنصار ً‬
‫رجال مف المياجريف حتى إذا مات‬
‫الزىري‪« :‬قاؿ األنصار منا أمير ومنكـ أمير نختار ً‬
‫رجال مف المياجريف‪ ،‬وىكذا»‪ .‬وىذا الرأي‬
‫رجال مف األنصار حتى إذا مات اخترنا ً‬
‫اخترنا ً‬
‫يعني مبدأ التعددية لمسمطة بيف حزبيف سياسييف‪ ،‬أي أف يكوف لممياجريف أمير ولألنصار‬
‫أمير والتبادؿ في إمرة المؤمنيف‪ ،‬بمعنى أف تكوف تارة عند المياجريف وتارة عند األنصار‬
‫وكاف ىذا الرأي جاء كحؿ وسط جو ًابا عمى الرفض القاطع مف المياجريف في تفرد‬
‫قائال‪« :‬ال‪َّ ،‬‬
‫ولكنا األمراء وأنتـ‬ ‫األنصار باإلمارة‪ .‬مع العمـ بأف أبو بكر ‪ ‬رد عمى ذلؾ ً‬
‫الوزراء»‪ ،‬كما رد عميو عمر بف الخطاب ‪ ‬فقاؿ «سيفاف في غمد ال يصطمحاف»وأوضح‬
‫ليـ أف إقامة أميريف يفضي إلى التنازع واالختالؼ والفشؿ‪.‬‬

‫أسباب نجاح الحوار داخل السقيفة‪:‬‬

‫يعود نجاح الحوار داخؿ السقيفة إلى أسباب عديدة منيا‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬خشية المجتمعيف مف وقوع الفتنة إف لـ توجد قيادة متفؽ عمييا ‪ .‬وذلؾ مف حرصيـ‬
‫عمى مستقبؿ الدعوة اإلسالمية‪ ،‬واستعدادىـ المستمر لمتَّضحية في سبيميا‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬إف الحوار الذي دار في السقيفة قاـ عمى قاعدة األمف النفسي السائد بيف الفريقيف‪،‬‬
‫مثاليا لمسموؾ في المجاؿ السياسي‪ .‬فال ىرج وال مرج‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫حيث قدـ المجتمعوف‬
‫تكذيب وال مؤامرة وال تخويف وال نقض لالتفاؽ‪ ،‬بؿ تسميـ لمنصوص الشرعية التي تحكميـ‪.‬‬

‫ٖ‪-‬حرص المتشاوروف في السقيفة عمى تأكيد حرية الرأي‪.‬‬

‫ٗ‪-‬إف الحوار لـ يتـ عمى أساس عشائري قبمي‪ ،‬وكاف يدور حوؿ مف ىو األحؽ بالخالفة‬
‫ىؿ ىـ األنصار الذيف آووا ونصروا؟ أوالمياجروف السابقيف في اإلسالـ ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وىكذا انتيى األمر بيف المجتمعيف في ذلؾ الجو مف الحرية الكاممة والنقاش المفتوح إلى‬
‫إسناد أمر الخالفة ألبي بكر الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ،‬فقد سأؿ عمرو بف حريث‪ ‬سعيد بف زيد قاؿ‪:‬‬
‫« ىؿ خالؼ أحد أبا بكر؟ قاؿ سعيد‪ :‬ال‪ ،‬لـ يخالفو إال مرتد أو كاد أف يرتد‪ ،‬وقد أنقذ اهلل‬
‫األنصار‪ ،‬فجمعيـ عميو وبايعوه‪ .‬قاؿ‪ :‬ىؿ قعد أحد مف المياجريف عف بيعتو؟ قاؿ سعيد‪:‬‬
‫ال‪ .‬لقد تتابع المياجروف عمى بيعتو»‪.‬‬

‫الصدِّيق‪:‬‬
‫أسباب اختيار المتحاورين ألبي بكر ِّ‬

‫بعد أف أنيى المتحاوروف حوارىـ انتقموا إلى الخطوة التالية والخاصة بتحديد مف يكوف‬
‫الخميفة‪ ،‬فكاف البحث عمف تتوفر فيو شروط أىمية القيادة فكاف اختيار الجميع لمصديؽ ‪‬‬
‫وىذا يقودنا إلى الحديث عف مكانة أبي بكر الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬وتقديـ المياجريف واألنصار لو‬
‫لألسباب اآلتية‪:‬‬

‫ٔ‪ -‬لما يتمتع بو مف مكانة عالية يقر لو الجميع بيا‪ ،‬فكانت مكانتو معمومة لمجميع وقبولو‬
‫مف كؿ األنصار والمياجرينفقد فرض الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬نفسو بنفسو مف واقع شخصيتو اليادئة‪،‬‬
‫والمعتدلة والمقبولة مف كؿ الصاحبة باإلضافة إلى حب النبي ‪ ‬لو‪ ،‬وقربو منو‪ ،‬وأسبقيتو‬
‫في اإلسالـ‪.‬‬

‫ٕ‪ -‬نظر المسمموف إلى أعظـ أركاف الديف فوجدوىا الصالة‪ ،‬وأف الرسوؿ ‪ ‬حيف مرض‬
‫واله إقامتيا فرضي المسمموف ما رضي ليـ رسوؿ اهلل ‪ ‬فبايعوه واتخذوا مف إمامتو‬
‫لمصالة حجة لإلمامة الكبرى‪.‬‬

‫ٖ‪-‬ما اتصفت بو شخصية الص ّْ‬


‫ّْديؽ ‪ ‬مف االعتداؿ بيف المياجريف واألنصار‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬حيث قاـ بالحركة األولى‬
‫ٗ‪-‬مساعدة عمر بف الخطاب ‪ ‬وسرعة تحركو ساعده ً‬
‫لالعتراؼ بو وبأحقيتو في الخالفة‪ ،‬فكانت السرعة في التحرؾ وفي االختيار مف األسباب‬
‫التي أدت إلى نجاحو‪.‬‬
‫‪-ٙ‬اجتمعت فيو شروط السف والسبؽ لإلسالـ والصحبة‪ ،‬ومكانتو بيف الصحابة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫كؿ ىذه األسباب جعمت الصحابة المجتمعوف يجمعوف عمى استخالؼ أبي بكر ‪ ‬والبيعة‬
‫لو ويقولوف‪ :‬نعوذ باهلل أف نتقدـ أبا بكر ‪ .‬فبيعة الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪ ‬في السقيفة كانت بإجماع‬
‫ورضى مف كؿ الصحابة‪ .‬ولذلؾ انتيى األمر إلى رأي اتفؽ عميو الجميع وارتضوا بيوعميو‬
‫ففي ذلؾ الجو مف الحرية الكاممة والنقاش المفتوح دوف ضغط أو إكراه أو إلزاـ؛ استقر أمر‬
‫الخالفة ألبي بكر الص ّْ‬
‫ّْديؽ ‪.‬‬

‫‪68‬‬

You might also like