You are on page 1of 122

0

‫الهروب من السيستيم‬
‫الحياة البسيطة وتحقيق االستقاللية الذاتية في زمن األزمات‬

‫تأليف‬
‫طوني صغبيني‬
‫"أدون"‬

‫مدونة نينار‬
‫منشورات ّ‬

‫دبي ‪2015‬‬

‫‪1‬‬
‫الكتاب متوافر تحت رخصة المشاع االبداعي‪2015 ،‬‬
‫بعض الحقوق محفوظة‬

‫حقوق النشر واستعمال النصوص م ّجانية لكن يتوجب نسبة‬


‫"مدونة نينار – طوني صغبيني"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المقاالت إلى‬
‫يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص‪.‬‬
‫يحظر استخدام العمل ألية غايات تجارية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫قائمة المحتويات‬
‫– مقدمة‪ :‬ماذا يعني الهروب من السيستيم؟‬

‫– الفصل ‪ :2‬حي على الحب والكفاح‪ :‬فلسفة العيش البسيط في زمن األزمة‬

‫– الفصل ‪ :3‬أنت في مواجهة العالم‪ :‬ما هي الخطوة األولى؟‬

‫– الفصل ‪ :4‬ماذا يخبرنا راهب قديم عن ذهنية العيش البسيط‬

‫– الفصل ‪ :5‬تأسيس االستقاللية الحياتية عن المنظومة‪ :‬مهارات ال بد منها‬

‫– الفصل ‪ :6‬هل هناك وظيفة مثالية؟ معضلة عبودية األجر والحياة البسيطة‬

‫– الفصل ‪ :7‬تخلص من مخدراتك‪ :‬لماذا كلنا مدمنون وكيف نواجه ذلك‬

‫– الفصل ‪ :8‬امرح كأنك في العصر الحجري‪ :‬أربع نصائح لالنتقال منن الترفينه االسنتهالكي إلنى‬
‫المتعة الحقيقية‬

‫– الفصل ‪ :9‬ترحال كسندباد‪ :‬نصائح للسفر و نمط العيش البسيط‬

‫– الفصل ‪ :10‬نمط العيش البسيط وحياتنا العاطفية واالجتماعية‬

‫حننول المننال‪ :‬بنننا المناعننة الماليننة عبننر الحينناة‬ ‫– الفصننل ‪ :11‬أعننط نفسننك هديننة عنند القلن‬
‫البسيطة‬

‫– الفصل ‪ :12‬نحو تغيير نظرتنا للمال‬

‫– الفصل ‪ :13‬أين ستكون بعد خمس سنوات؟ لماذا تحتاج لخطة مالية وكيف تضعها‬

‫– الفصل ‪ :14‬االستدانة والعبودية‪ :‬لماذا يجب تجنب الديون (وما هي االستثنا ات)‬

‫– الفصل ‪ :15‬نحو االستقاللية المالية ‪ :1‬كيف يمكن لالختينار الصنحيح لمنزلنك أن يسناهم فني‬
‫استقالليتك المالية‬

‫– الفصننل ‪ :16‬نحننو االسننتقاللية الماليننة ‪ :2‬كيننف يمكننن لالختيننار الصننحيح ألسننلوب التنقننل أن‬
‫يساهم في استقالليتك المالية‬

‫– الفصل ‪ :17‬نحو االستقاللية المالية ‪ :3‬البساطة الغذائية‬

‫– الفصل ‪. :18‬نحو االستقاللية المالية ‪ :4‬تبسيط االستهالك المنزلي‬

‫– الفصل ‪ :19‬نحو االستقاللية المالية ‪ :5‬تبسيط االستهالك الشخصي‬

‫– الفصل ‪ :20‬خاتمة‪ :‬تبسيط الحياة‪ ،‬تمرد اآلالت‬

‫‪3‬‬
‫تمهيد‬

‫مع انقضا عا كان ملي بالصعوبات واألزمات واآلال وبداية عا جديد نتمناه‬
‫جميعاً أن يكون أفضل‪ ،‬هنالك موضوع رئيسي يشغل بال العديدين منا‬
‫وسيشغلهم بعد طوال حياتهم تقريباً؛ وهذا الموضوع هو شعورنا بالعجز‬
‫الشخصي تجاه قساوة األحداث والظروف في زمن أزمات وتقلبات لم يعرف التاريخ‬
‫مثلها بعد‪.‬‬

‫هنالك طبعاً بعض الظروف الكبرى التي ال نستطيع تغييرها‪ ،‬منها مثال ً أننا ال‬
‫يمكننا الحؤول دون السقوط البطي الذي تعيشه حضارتنا اليو ‪ ،‬ألنه ناتج عن‬
‫ظروف بيئية وجيولوجية وسياسية واقتصادية تراكمت لمئات السنوات لدرجة‬
‫االنفجار‪.‬‬

‫هنالك أيضاً أسباب مختلفة لشعورنا بالعجز هذا‪ ،‬منها أنه ال يوجد اليو وسائل‬
‫فعالة تتيح لنا المشاركة في رسم مصيرنا الجماعي في ظل غياب شبه تا‬
‫للقوى التغييرية الحقيقية‪ .‬السياسات االقتصادية يحددها أولئك الذين في‬
‫السلطة – والذين ال يد لنا في اختيارهم مهما اعتقدنا العكس‪ ،‬والواقع‬
‫االجتماعي والفكري تحدده المؤسسات السلطوية الدينية والثقافية وغيرها‪،‬‬
‫وتفاصيل حياتنا تحددها الموضة االستهالكية الرائجة التي تفرضها علينا الشركات‬
‫والمؤسسات التي ال وظيفة لها سوى غسل أدمغتنا لشرا خردتها…‬

‫في الحقيقة‪ ،‬إن واقعنا اليومي بأكمله يحدده أولئك الذين يتسلحون بالبنادق‬
‫والمال في وجهنا – نحن الذين ال نملك سوى أنفسنا وأحالمنا كأداة لنتخيل بهما‬
‫المستقبل‪.‬‬

‫رغم كل ذلك‪ ،‬هذا ال يعني أنه ال يمكن إحداث تغيير‪ ،‬وال يعني أننا عاجزون تماماً؛‬
‫فنحن ال نستطيع منع الرأسمالية العالمية من االنهيار لكننا نستطيع رسم‬
‫تفاصيل الحياة الجديدة التي ستنبث من أنقاضها‪ ،‬ونحن ال نستطيع الفكاك من‬
‫عبودية األجر بشكل مفاجأ‪ ،‬لكننا نستطيع اكتساب استقاللية كافية للقيا بذلك‬
‫فيما بعد‪ .‬وقد ال يكون لدينا وسائل للتغيير اليو ‪ ،‬لكننا نستطيع العمل المتالكها‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫في كل ذلك‪ ،‬هنالك تفصيل مهم جداً تهمله معظم الطروحات التي تتحدث عن‬
‫ضرورة التغيير وعن ضرورة استعادة زما السيطرة على حياتنا‪ ،‬أال وهي‬
‫المساحة الشخصية المتوافرة لنا في ظل القبضة الخانقة للمنظومة االستبدادية‬
‫التي تحكمنا‪.‬‬

‫معظمنا اليو ليس لديهم أدنى سيطرة على حياتهم؛ إن لم نكن نعيش تحت‬
‫رحمة البندقية‪ ،‬فنحن نعيش تحت رحمة رب العمل واستبداد الشركات‪ ،‬نعيش‬
‫عبيداً للراتب في نهاية الشهر ولالستهالك في أوله‪ ،‬نعيش من دون أن نمتلك‬
‫وقتنا الخاص ومن دون أن نمتلك مساحتنا الخاصة‪ ،‬ومن دون أن نمتلك حتى‬
‫تفكيرنا الخاص أحياناً‪ .‬معظمنا ليس لديهم أي مناعة ذاتية تجاه أي أزمة اقتصادية‬
‫أو سياسية تعصف ببلدنا أو بحياتنا الشخصية‪ .‬إن خسرنا وظيفتنا اليو ‪ ،‬نكون في‬
‫الشارع غداً‪ ،‬ورغم ذلك نتوهم بأننا آمنين طالما أن األزمات بعيدة نسبياً عنا‪.‬‬

‫كيف يمكننا أن نفكر بالمستقبل أن لم يكن لدينا زما السيطرة على حياتنا هنا‬
‫واآلن؟ كيف يمكننا أن نخل أي مستقبل لنا إن لم يكن لدينا مساحة نفسية‬
‫وعملية ومالية تتيح لنا العمل على المستقبل الذي نحلم به؟ كيف يمكن أن‬
‫نكون أحرار وأن نحلم بالحرية إن لم نكن بصدد خلقها هنا واآلن في حياتنا؟‬

‫هذا ما تتحدث عنه هذه السلسلة‪ :‬كيفية بنا مناعتنا الذاتية واستقالليتنا‬
‫النفسية والعملية والمالية في ظل منظومة تصر على استعبادنا‪ .‬وقبل أن تقفزوا‪،‬‬
‫أعزائي القرا ‪ ،‬إلى خالصات كبيرة‪ ،‬دعوني أخبركم أنه ال يوجد تعويذة سحرية أو‬
‫سر كبير لتحقي ذلك‪ .‬الطريقة هي في الواقع بسيطة جداً‪ :‬العيش البسيط‪.‬‬

‫نحن مستعبدون اليو في ظل الرأسمالية ال ألنها نظا غير عادل فحسب‪ ،‬لكن‬
‫ألننا نقبل من دون أن نشعر بكل القيود التي تفرضها علينا‪ ،‬وهذه السلسلة هي‬
‫حول تحطيم تلك القيود‪ ،‬قيداً تلو اآلخر‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ماذا يعني الهروب من السيستيم؟‬

‫منذ بضعة سنوات قادتنا أبحاثنا في الجامعة إلى خالصة غيرت نظرتنا للواقع‬
‫بشكل جذري‪ .‬هذه الخالصة مفادها أن الحضارة الحديثة والبراقة التي نعرفها‬
‫حالياً تعيش مرحلة سقوط بطي وغير قابل للعكس بسبب االنحدار في مصادر‬
‫الطاقة‪ .‬ماذا يعني السقوط البطي ؟ يعني أن كل االستقرار االقتصادي‬
‫والسياسي واالجتماعي الذي نعرفه يتداعى إلى غير رجعة‪ ،‬وأن المستقبل‬
‫الذي سيحل مكانه لن يكون تطوراً مستقيماً وتقدماً تكنولوجياً واقتصادياً مذهال ً‬
‫كما يصوره لنا اإلعال والشركات والحكومات‪ ،‬بل سيكون مزيجاً قاسياً من القرون‬
‫المظلمة والتكنولوجيا الحديثة‪.‬‬

‫هذا السيناريو نراه بوضوح اليو في العديد من الدول‪ ،‬منها ليبيا وسوريا والعراق‬
‫ولبنان‪ ،‬ونرى بوادره حتى في الدول المتقدمة كاليونان والواليات المتحدة‪،‬‬
‫وسيأتي يو سيكون من الواضح فيه أننا نعيش زمن االنهيار الكامل لالمبراطورية‬
‫المعولمة التي نعيش في ظلها اليو ‪.‬‬

‫بعد اكتمال أبحاثنا حول هذه الظاهرة‪ ،‬نشرنا كتاباً بحثياً كامال ً حول هذا الموضوع‬
‫بعنوان “األزمة األخيرة“‪ ،‬واستمرينا بعدها بدراسة تأثير ذلك على مختلف نواحي‬
‫حياتنا‪ ،‬ثم كتبنا لعدة سنوات حول تأثير االنحدار الطاقوي على العالقات الدولية‬
‫واالقتصاد العالمي ومستقبل التكنولوجيا والواقع السياسي وأسلوب العيش‪.‬‬
‫على مستوى األفراد‪ ،‬األزمة األخيرة تعني أن المستقبل لن يكون فيه نفس فرص‬
‫العمل‪ ،‬االستقرار االقتصادي واألدوات التكنولوجية التي توافرت لنا في الساب ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫معظم كتاباتنا السابقة حول هذه األزمة ركزت على الجانب الجماعي من‬
‫المشكلة‪ ،‬ونادراً ما تناولنا تأثيره على حياة األفراد كأفراد‪ .‬في مقال وحيد حول‬
‫هذا الجانب‪ ،‬نصحنا األفراد باالنفكاك عن السيستيم مالياً ونفسياً‬
‫ومعيشياً بأسرع وقت ممكن‪ ،‬وتعلم مهارات ستفيدهم في عصر ما بعد الحضارة‬
‫الصناعية من دون التوسع حول هذه النقاط‪ .‬اليو ‪ ،‬حان الوقت للقيا بذلك‪.‬‬

‫بعد نشر الكتاب‪ ،‬مرت السنوات ووجدت نفسي شخصياً اتنقل بين عمل وآخر مع‬
‫فترات مطولة أحياناً من البطالة‪ ،‬ومع الوقت الحظت أنه هنالك سبب إضافي‬
‫لضرورة الهروب من السيستيم حتى ولو لم تكن الرأسمالية العالمية في حالة‬
‫انهيار وانحدار‪ .‬وهذا السبب هو أن حضارتنا‪ ،‬هي‪ ،‬ببساطة‪ ،‬سجن كبير‪.‬‬
‫إن وضعنا األمور السياسية جانباً‪ ،‬وحتى إن وضعنا جانباً الفقر والعنف والقمع‬
‫والتفاوت الطبقي واالستغالل وكل المشاكل التي نعرفها جيداً وتحدثنا فقط عن‬
‫الجانب اليومي من حياتنا‪ ،‬سنرى أن أسلوب حياتنا ليس سوى سجن بكل‬
‫ما للكلمة من معنى‪.‬‬
‫عبر شبكة معقدة من القوانين والمؤسسات والسلطات واأليدولوجيات‪ ،‬حضارتنا‬
‫تقو على فكرة أنه يجب على كل شخص على الكوكب أن يدفع المال لطرف آخر‬
‫(فرد أو شركة أو سلطة) لكي يكون بإمكانه أن يأكل وأن يعيش بأمان مع سقف‬
‫فوق رأسه‪.‬‬

‫ولكي يحصل هذا الشخص على المال‪ ،‬عليه أن يعمل‪ .‬ولكي يعمل عليه أن‬
‫يتعلم‪ .‬ولكي يتعلم‪ ،‬عليه أن ينتمي ألهل ولجيل بأكمله يعمل ليجني المال‬
‫ليدفع ألشخاص آخرين ثمن طعامه ومسكنه‪ ،‬وهكذا دواليك بما يضمن استمرار‬
‫المنظومة إلى ما ال نهاية‪ .‬ولكي يكون الجميع سعيداً وال يفقد صوابه في هذه‬
‫المنظومة الفارغة‪ ،‬يجب أن يكون هنالك الكثير من الترفيه واإلباحية والقمع‬
‫والمدارس واألديان التي تعلم الفقرا كيف يكونوا عبيداً سعدا ‪ ،‬فيما تعلم األغنيا‬
‫كيف يستفيدون من األمر الواقع قدر المستطاع‪.‬‬

‫هي كلها خدعة منظمة مصممة لكي ال ندرك أننا نعيش في سجن‪ ،‬ومن‬
‫المحزن أنها تنطلي على معظمنا‪ .‬إن أتى أحدهم اليو وقال لك أنه عليك أن‬
‫تقضي نحو ‪ 15‬عا في المدرسة‪ ،‬ثم ‪ 4‬غيرها في الجامعة‪ ،‬ومن ثم ‪ 45‬عا في‬
‫عمل متعب وطويل ال يمنع الديون والبنوك والحكومات من التها لحمك ألف مرة‪،‬‬
‫ليكون بامكانك من بعدها أن تتقاعد (إن كنت محظوظاً) وأنت على أبواب الموت‪،‬‬
‫ستجيبه أن ما يقترحه هو أسوأ فكرة خرج بها أحدهم في كل التاريخ البشري‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫رغم ذلك‪ ،‬ال نرى أحداً يعترض على ذلك‪ ،‬ونادراً ما سمعنا أحداً يقول أن هذا‬
‫الجنون بأكمله هو فكرة سيئة‪ ،‬بل العكس‪ .‬كل ما نسمعه منذ الصغر هو أنه من‬
‫الضروري أن نجد عمالً‪ ،‬وأن نكون عمال مجتهدين وموظفين مثاليين‪ ،‬وأن نسعى‬
‫ورا المال والمنازل والسيارات والمجوهرات والجاه وكل ما شأنه أن يبقينا في‬
‫الحلقة المغلقة لعبودية األجر‪ .‬لحسن الحظ بالنسبة لك يا عزيزتي وعزيزي‬
‫القارى ‪ ،‬قرا تكم لهذه السطور تعني أن هذه الخدعة الكبيرة ال تنطلي عليكم‪.‬‬

‫الركض ورا موزة العيش؟‬

‫لألسف‪ ،‬الحياة المملة‪ ،‬الشاقة‪ ،‬المقيدة‪ ،‬والباردة‪ ،‬المتمثلة بالعيش كعبد يأجر‬
‫عقله أو جسده معظم حياته‪ ،‬قد تكون كافية للبعض‪ .‬قد يكون كافياً للبعض أن‬
‫يستيقظوا ويذهبوا إلى عبوديتهم كل يو ‪ ،‬شهراً بعد شهر‪ ،‬وعاماً بعد عا ‪ .‬لكنه‬
‫كاف بالنسبة لكثر منكم أيضاً‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كاف بالنسبة لنا‪ ،‬وأعلم أنه غير‬
‫ٍ‬ ‫غير‬

‫هنالك بعض األرواح الحرة التي ال تستطيع تحمل عالم العمال الخنوعين‬
‫والموظفين السعيدين والشركات والبذالت والمهن؛ أولئك هم الذين يجلسون‬
‫على مكاتبهم ويفكرون كل يو باألمور التي يمكن أن يقوموا بها لو لم يكونوا‬
‫مقيدين بهذا المقعد اللعين‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫بعض األشخاص ليس لديهم أدنى فكرة ما الذي يمكن أن يقوموا به في أيامهم‬
‫إن لم يكونوا في وظيفة‪ ،‬وعلى األرجح أنهم يموتون ضجراً منذ اليو الثالث من‬
‫العطلة‪ ،‬لكن هنالك أقلية تعرف ماذا تريد أن تفعل في حياتها لدرجة أن الوظيفة‬
‫هي العائ الوحيد بينها وبين الحياة‪ .‬وهذا ما تدور هذه السلسلة حوله ‪:‬أال‬
‫تبقى وظيفتنا وظروفنا المادية المحدودة حاجزا بيننا وبين عيش الحياة‬
‫التي نريد‪.‬‬

‫حول هذا الكتاب‬


‫ً‬
‫هذا الكتاب الصغير يدور إذا حول محور واحد‪ :‬تعلم أساليب العيش البسيط بهدف‬
‫التحرر من القيود النفسية والمادية والوظيفية والخروج من منظومة الجنون‬
‫الرأسمالية واالستهالكية التي تحاصرنا في كل مكان‪ .‬بعبارات أخرى‪ ،‬هذه‬
‫السلسلة من المقاالت تهدف لمساعدتكم على التحضير لليلة هروبكم من‬
‫السيستيم‪.‬‬

‫كثيرون قد تناولوا قبلنا هذا الموضوع المهم‪ ،‬منهم أدبا ومفكرون وفالسفة‬
‫تاريخيين مثل هنري ديفيد ثورو‪ ،‬ومنهم شباب ومدونون وناشطون شباب‬
‫معاصرون‪ ،‬أخص منهم بالذكر مدونة تا مبسوطة على صعيد المحتوى العربي‪.‬‬
‫كل من تناول هذا الموضوع كان لديه مقاربته الخاصة المميزة التي أضفت تنوعاً‬
‫وغنى على موضوع العيش البسيط‪ ،‬وهذا الكتاب يأتي ليضيف لون آخر على‬
‫الباقة‪.‬‬
‫اعتقد أن ما سيميز هذا الكتاب بالنسبة للقارى هو أنه يتناول الموضوع انطالقاً‬
‫من رؤية شاملة للواقع ومن ادراك ضرورة االنتقال إلى أساليب عيش جديدة‪ ،‬ال‬
‫كخيار فردي عادي بل كضرورة حياتية ستعطي من يتبناها مناعة ال بد منها في‬
‫عصر االضطرابات‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬لقد خصصنا جز كبير من الموضوع للحديث‬
‫عن أساليب تخفيض االستهالك وبنا المناعة واالستقاللية المالية وهو جانب‬
‫غائب في معظم األحاديث حول العيش البسيط وخصوصاً العربية منها‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬الكتاب يتوجه خصيصاً ألبنا الطبقات الفقيرة والعاملة والمتوسطة‪ ،‬أي‬
‫أولئك الذين ليست لديهم ثروات مالية كبيرة والمقيدين غالباً بالعمل ليل نهار‬
‫لتأمين قوتهم اليومي‪ ،‬كحال كاتب هذه السطور‪ .‬الخبر الجيد هو أن الحياة‬
‫البسيطة ستخل لهم مساحة حرية لم يعتادوها من قبل في ظل المنظومة‬
‫السائدة‪ ،‬لكن الدرب التي نقترحها ليست في الواقع رحلة سهلة واعتقد أن القلة‬
‫فقط تمتلك ما يكفي من التصميم والحنكة والصبر التباعها في زماننا هذا‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الكتاب ليس إذاً حول طرق سحرية لجني ثروات مالية‪ ،‬وال حول خدع نفسية‬
‫لتحقي السعادة الداخلية‪ .‬هو بكل بساطة يتحدث عن المقاربات والخطوات‬
‫العملية التي يمكن أن نطبقها في حياتنا لتحقي المزيد من االستقاللية والحرية‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫ال ندعي أن هذا الكتاب يحتوي على كل األجوبة حول العيش البسيط‪ ،‬فهو ال‬
‫يتناول سوى جز صغير منها‪ .‬وال نزعم أيضاً أن كل ما نذكره هنا سيكون مناسباً‬
‫للجميع؛ فالناس أنواع وظروفها مختلفة‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬كل ما سنذكره في المقاالت‬
‫المقبلة ليس تنظيراً على اإلطالق‪ ،‬بل كله يدور حول مفاهيم وأمور عملية‬
‫نطبقها في حياتنا الشخصية أو رأيناها مطبقة بنجاح لدى أشخاص آخرين‪.‬‬

‫لكن ماذا يعني الهروب من السيستيم تحديدا؟‬


‫إنه يعني تحقي أكبر قدر ممكن من االستقاللية النفسية والتقنية والمالية عن‬
‫المنظومة المركزية السائدة‪ ،‬وزيادة االعتماد على الذات وعلى المجتمع المحلي‬
‫لتأمين متطلباتنا الحياتية األساسية‪ .‬وعبارات أدق‪ ،‬الهروب من السيستيم هو‬
‫التالي‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫االستقاللية النفسية والثقافية‪ :‬نحن اليو مبرمجون اجتماعياً وثقافياً‬ ‫‪‬‬
‫على اعتماد نمط تفكير معين واتباع نمط حياة معين منذ الصغر‪ ،‬حيث يتم‬
‫تلقيننا عادات اجتماعية ونفسية منذ نعومة أظافرنا من خالل األهل ثم‬
‫المدرسة والجامع والكنيسة واإلعال والوسط االجتماعي‪ .‬وهكذا نصبح‬
‫مندمجين كلياً بالنظا االجتماعي السائد من دون تشكيك حتى بأبسط‬
‫األمور‪ .‬حين نشعر مثال ً برغبة معينة كامتالك سيارة خاصة حديثة‪ ،‬فهذه‬
‫الرغبة نابعة في معظم األحيان من البرمجة الثقافية المسبقة التي أقنعتنا‬
‫بأن السيارة أمر ضروري عملياً واجتماعياً‪.‬‬
‫واألمر نفسه حين يتعل األمر بتصرفاتنا األخرى ونظرتنا للحياة بشكل عا ‪.‬‬
‫االستقاللية النفسية عن المنظومة تتمثل إذاً باإلفالت من البرمجة‬
‫االجتماعية المسبقة التي نخضع لها واكتشاف هويتنا الحقيقية تحت طبقة‬
‫االستبداد الثقافي السائد‪.‬‬

‫االستقاللية التقنية والحياتية‪ :‬نحن نعتمد على المنظومة السائدة في‬ ‫‪‬‬
‫كل شي في حياتنا؛ نعتمد على شركات وأشخاص آخرين لتأمين طعامنا‬
‫وحتى لطهوه لنا وتوصيله للمنزل‪ ،‬نعتمد على الحكومة والشركات لتأمين‬
‫كهربا لمنزلنا وحاجاتنا اليومية األساسية‪ ،‬ونعتمد على الخبرا إلصالح‬
‫حواسيبنا وأدواتنا المنزلية‪ ،‬ونعتمد على تطبيقات الهاتف الذكي لتنظيم‬
‫حياتنا وأعمالنا‪.‬‬
‫رغم أننا نعتقد العكس إال أننا اليو نمتلك مهارات محدودة جداً في الحياة؛‬
‫معظمنا ال يعلمون زراعة غذائهم أو تحضير طعامهم أو صيانة منزلهم‬
‫وسيارتهم وحاسوبهم أو الدفاع عن أنفسهم‪ ،‬وبعضنا ال يستطيعون حتى‬
‫الوصول إلى الطاب الثاني من دون مصعد‪ .‬التعقيد التكنولوجي الهائل‬
‫جعلنا معتمدين على منظومة اقتصادية هائلة لتأمين كل شي في حياتنا‪،‬‬
‫وهذا يجعلنا مرتبطين كثيراً بالمنظومة السائدة وضعيفين جداً في وجه أي‬
‫تغيرات أو أزمات قد تطرأ فيها‪ .‬االستقاللية التقنية عن السيستيم هي‬
‫اكتساب أكبر قدر ممكن من المهارات التي تتيح لنا االعتماد على أنفسنا‬
‫في األمور الحياتية األساسية‪.‬‬

‫االستقاللية المالية‪ :‬الغالبية الساحقة منا تعتمد على أجر تتلقاه مقابل‬ ‫‪‬‬
‫عمل أو وظيفة‪ ،‬وبما أننا نحتاج للمال لتأمين كل شي في حياتنا ومنه‬
‫الغذا والمسكن‪ ،‬فهذا يعني أن رب العمل يتحكم بحياتنا بأكملها‪ .‬ففي‬
‫اليو الذي نُطرد فيه من عملنا‪ ،‬قد نجد أنفسنا في الشارع وغير قادرين‬
‫على تأمين أساسيات العيش‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫االستقاللية المالية تعني تعلم أساليب توفير المال واستخدامه كوسيلة‬
‫لزيادة المناعة االقتصادية بدل استخدامه كأداة استهالكية فحسب‪،‬‬
‫والهدف النهائي لالستقاللية المالية هو أن يكون لدينا ما يكفي من الموارد‬
‫لكي ال تسحقنا الشركة إن خسرنا عملنا‪ ،‬أو لكي يكون بامكاننا تأمين‬
‫مدخول جانبي أو أساسي من دون الحاجة للعمل في وظيفة لدى شخص‬
‫آخر‪.‬‬

‫بنا ً على ذلك ستكون المقاالت موزعة على قسمين رئيسيين بهدف تسهيل‬
‫عرض األفكار؛ القسم األول يتحدث عن االستقاللية الحياتية عن السيستيم‬
‫شامال ً معه االستقاللية النفسية والثقافية والتقنية‪ ،‬والقسم الثاني سيتحدث‬
‫عن تحقي االستقاللية المالية نظراً إلى أن المحتوى العربي في هذا الموضوع‬
‫نادر إلى حد كبير‪.‬‬

‫إلى متى البقا في سباق الفئران؟‬

‫كيف وصلنا إلى هنا‪ :‬قصّتنا مع البساطة‬


‫قليلون جدا هم األشخاص الذين ينشأون اليو وهم يتبعون حياة بسيطة‪.‬‬
‫معظمنا‪ ،‬حتى أولئك األكثر فقراً بيننا‪ ،‬غارقون في المنظومة االستهالكية بالكامل‪،‬‬
‫إما عبر االستهالك الفعلي وإما عبر االستهالك االعالمي والتطاب النفسي مع‬
‫القيم الرأسمالية كالرغبة بامتالك السيارات والبيوت والهواتف الحديثة وكل ما‬
‫تقول الرأسمالية عنه أنه مفتاح النجاح والسعادة والقوة‪ .‬عيش حياة بسيطة هو‬
‫صراع يومي ضد الثقافة السائدة ألن المجتمع ينظر إلينا إما نظرة شفقة أو نظرة‬
‫تشكيك‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫فلننظر مثال ً إلى أمر بسيط جداً كأسلوب تعامل المجتمع مع الهاتف الذكي؛ اعتقد‬
‫أنني قد أكون آخر شخص في دبي ال يمتلك هاتف ذكي وكل من أصادفه إما‬
‫يشف علي‪ ،‬أو ال يصدقني‪ ،‬أو يبدأ بالتشكيك بسالمتي العقلية وبقدرتي على‬
‫العيش من دون قطعة الخردة هذه‪ .‬المجتمع االستهالكي السائد بالكاد يستطيع‬
‫تقبل شاب ال يمتلك هاتف ذكي‪ ،‬فكيف األمر باألمور االستهالكية األكبر كالسيارة‬
‫الخاصة والمالبس الجديدة والسهرات الصاخبة والعطل السنوية والمهنة الناجحة‬
‫والزوجة (أو الزوج) الجميل واألوالد المدللين؟‬

‫أينما نظرنا في المجتمع‪ ،‬هنالك عملية فرض مستمرة للقيم االستهالكية علينا؛‬
‫كل برنامج تلفزيوني وكل لوحة إعالنية وكل زميل عمل وكل صورة فايسبوك‬
‫تدعونا لالستهالك‪ .‬الخروج من هذه المنظومة ليس باألمر السهل على اإلطالق‪.‬‬

‫رغم ذلك‪ ،‬اعتقد أن عيش حياة بسيطة هو أفضل ما يستطيع المر أن يقدمه‬
‫ف‬
‫لنفسه‪ .‬على الصعيد الشخصي‪ ،‬أسلوب العيش البسيط أعطانا وقت حر كا ٍ‬
‫للقيا بالكثير من األمور التي لم تكن لتكون ممكنة بطريقة أخرى‪ ،‬كتطوير مهاراتنا‬
‫في أمور عديدة‪ ،‬واكتساب نسبة ال بأس بها من االستقاللية المالية رغم فترات‬
‫البطالة والرواتب المنخفضة التي عملنا بها‪.‬‬

‫هذه االستقاللية المالية النسبية تعني أيضاً أنني إذا ما فقدت عملي غداً‪ ،‬لدي‬
‫القدرة على االستمرار بدفع كافة فواتيري ومصاريفي بنفسي من دون راتب لعدة‬
‫أشهر‪ .‬في المقابل‪ ،‬هنالك العديد من الزمال الذين ال يعملون بدوا طويل مثلي‪،‬‬
‫ولم يعانوا من البطالة يوماً‪ ،‬والذين تبلغ رواتبهم أضعاف راتبي‪ ،‬لكنهم بسبب‬
‫انغماسهم في الثقافة االستهالكية‪ ،‬ال يستطيعون القيا بأي من األمور التي‬
‫أقو بها – وإن حصل أن فقدوا عملهم غداً فسوف يعانون فوراً من تعقيدات مالية‬
‫ومعنوية هائلة‪.‬‬

‫العيش البسيط ليس إذاً هدفاً بحد ذاته‪ ،‬بل وسيلة؛ وسيلة لخل الحياة التي‬
‫نريدها نحن‪ .‬عليك أن تسأل نفسك ما الذي تريده من حياتك‪ ،‬ما هو األمر الذي‬
‫ستتيحه لك الحياة البسيطة؟ بالنسبة لي‪ ،‬أهم ما تتيحه الحياة البسيطة‪ ،‬هو‬
‫الحرية‪ .‬وتحديداً التحرر من عبودية األجر لكي اتفرغ للقيا ببعض األمور األهم في‬
‫الحياة‪ .‬قد يتسا ل البعض‪ ،‬لماذا أريد االنسحاب من عالم عبودية األجر بهذه‬
‫السرعة فيما يبقى الجميع في وظائفهم حتى عمر الستين والسبعين؟‬

‫‪13‬‬
‫وجوابي هو أن هذا السؤال خاطى ‪ .‬السؤال يجب أن يكون لماذا تريد الناس‬
‫البقا بعبودية األجر واالستهالك طوال حياتها من دون البحث عن سبيل لتحطيم‬
‫سالسلها؟ بماذا تفكر هذه الناس؟ هل هي ميتة من الداخل لهذه الدرجة؟ هل‬
‫تقبل األمور كما هي من دون تشكيك ولو تعل األمر بحياتها نفسها؟‬

‫اعتقد أن البحث عن سبل الهروب من منظومة تقبض على رقابنا وعلى الجز‬
‫األكبر من حياتنا هو الخالصة األكثر منطقية لكل روح حرة في هذا العالم‪ .‬من هو‬
‫الذي يريد أن يستيقظ مكرهاً كل صباح‪ ،‬كل يو من حياته‪ ،‬ليذهب إلى مكان‬
‫يكرهه أو ال يعني له شيئاً‪ ،‬ويقو بعمل يكرهه أو ال يعني له شيئاً‪ ،‬لكي تنتفخ‬
‫جيوب مدرا وأرباب عمل يكرههم أو ال يعنون له شيئاً؟ أال يعني ذلك أن حياتنا‬
‫نفسها ال تعني لنا شيئاً؟‬

‫متى نحيا إن كنا كل حياتنا مقيدين بمقعد وظيفتنا؟ متى نفكر بحرية وصفا إن‬
‫كان العمل يستحوذ على عشرة ساعات من يقظتنا فيما يستحوذ التعب والنو‬
‫على الباقي؟‬

‫قد يقول أحدهم أن المنظومة الحياتية‪-‬االقتصادية‪-‬االجتماعية مهندسة لكي‬


‫تجعل من هروب األفراد منها أمر مستحيل‪ ،‬وهم محقون‪ ،‬لكن ضرورة المواجهة‬
‫الجماعية المنظمة مع السيستيم ال تعني أنه يجب على األفراد الجلوس في‬
‫زنزانتهم من دون حراك‪ .‬فلنتحدث عن ذلك قليالً‪.‬‬

‫بين الهروب الشخصي والتحول الجماعي‬


‫نحن نعيش فعال ً في نهاية زمن بأكمله‪ ،‬نعيش في قلب األزمة ونعلم ذلك جيدا ً‬
‫ألنه يترجم في حياتنا بكفاح يومي وأيا نقضيها متنقلين بين هجرة وأخرى وبين‬
‫بطالة وأعمال تشبه العبودية وبين حروب أهلية وأزمات اقتصادية وتفجيرات‬
‫وتظاهرات وقمع من الحكومات‪ .‬وفي كل ذلك نكافح كل يو للحصول على حياة‬
‫كريمة‪ ،‬للحصول على حياة تشبه تلك التي حصل عليها جيل أهلنا‪ ،‬ونفشل في‬
‫ذلك فشال ً ذريعاً‪ .‬القلة القليلة منا التي تبني ما يشبه االستقرار تكون في معظم‬
‫األحيان قد رهنت حياتها ومصيرها للبنوك والقروض والشركات والسلطات‪.‬‬

‫نحن نواجه يومياً خيارات نعلم أنها يمكن أن تغير حياتنا لألبد‪ ،‬ونعاني يومياً لنحق‬
‫الحد االدنى فقط‪ ،‬فيما يتلهى السياسيون واإلعالميون والمفكرين ورجال الدين‬
‫بأمور ال طائل منها‪ .‬نحن ننزل إلى العصور المظلمة ببط ‪ ،‬وجميعاً نشعر بعبئها‪،‬‬
‫لكن الكل يتصرف كأن كل شي عادي‪ ،‬أو كأن كل ما يحدث حالياً هو مجرد حلم‬
‫مزعج سنستيقظ منه قريباً لنرى أن كل شي هو على ما يرا ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫لكن الحقيقة هي أنه ال شي هو على ما يرا – وما قد يفاجأك عزيزتي وعزيزي‬
‫القارى ‪ ،‬أن ذلك قد يكون خبراً ساراً‪ ،‬ال خبراً سيئاً‪ .‬فكل النهايات‪ ،‬وخصوصاً نهايات‬
‫القصص الحزينة كقصة حضارتنا‪ ،‬تحمل في طياتها آالف البدايات لكل منا – بدايات‬
‫تعطينا فرصة المشاركة في والدة فجر جديد يخرج من جراح الماضي وآالمه‪.‬‬

‫لماذا نقول كل ذلك؟ ألن العيش البسيط الذي نتحدث عنه ليست مجرد أسلوب‬
‫عيش‪ ،‬بل دعوة لبداية جديدة لكل منا – بداية منفصلة عن البنية المتداعية‬
‫والفاسدة للحضارة السائدة‪.‬‬

‫كنا قد تناولنا على مدونتنا في الماضي االستراتيجية التي نعتقد أنها ستساعد‬
‫الحركات التغييرية على إيجاد مستقبل أفضل يحمينا من العصور المظلمة‪ ،‬وقلنا‬
‫وقتها أنها تتمثل في بنا الوعي‪ ،‬المقاومة المنظمة للبنى والمؤسسات القمعية‪،‬‬
‫والتحول المباشر في المدن والبلدات والقرى وحياة األفراد‪ .‬وتحدثنا كثيراً في‬
‫مقاالت سابقة عن الوعي المطلوب لرفض دين النمو وعن بعض مشاريع التحول‬
‫المجتمعية المنتشرة حول العالم‪.‬‬

‫هذا يعني أننا ندرك أهمية التحول الجماعي لكن ذلك ال يعني أن التحول‬
‫الشخصي غير مهم‪ ،‬بل العكس‪ .‬في الواقع‪ ،‬في ظل غياب التجارب التحولية‬
‫الكبرى والحركات المنظمة‪ ،‬ال يوجد أي معنى النتظار أمور قد ال تأتي أبداً‪ ،‬ومن‬
‫األجدى البد بتحوالت في حياتنا الشخصية منذ اليو ‪ .‬رغم أن التحوالت التي‬
‫نقو بها في حياتنا الخاصة ليست بديال ً عن المقاومة السياسية المنظمة‪ ،‬إال‬
‫أنها بداية جيدة‪.‬‬

‫الحياة البسيطة يمكن أن تكون بداية جديدة صغيرة لكل منا‪ ،‬بداية صغرى تزرع‬
‫بعض البذور لبداية كبرى لمجتمعنا بأكمله‪ ،‬وهي ستساعدنا على بنا مناعة‬
‫ذاتية لنا ولعائالتنا في زمن تحوالت وانهيارات تحاصرنا أينما التفتنا‪ .‬لقد حان وقت‬
‫الهروب من السيستيم‪ .‬لقد حان الوقت لبنا الحياة التي نريدها نحن‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ي على الحب والكفاح‪:‬‬
‫ح ّ‬
‫فلسفة العيش البسيط في زمن األزمة‬

‫من قال أننا نحتاج لفلسفات معقدة للعيش في أكثر األزمان تعقيداً؟ الحياة في‬
‫جوهرها بسيطة جداً‪ ،‬وفلسفة العيش التي نقترحها تتناسب مع هذه الحقيقة‬
‫ومع ما يعرفه الناس بشكل فطري‪ ،‬وهو أن الحياة هي حب وكفاح‪ ،‬ومفتاح‬
‫سعادتها هو العيش البسيط من دون توقعات مسبقة منها‪.‬‬

‫العيش من دون توقّعات مسبقة من الحياة‬


‫التوقعات هي خيبات أمل تنتظر أن تحدث‪ ،‬ولذلك تعاش الحياة البسيطة من دون‬
‫توقعات‪ .‬هذا ال يعني أنه علينا أن نعيش من دون خطط أو اتجاه‪ ،‬لكن يعني أننا‬
‫لن نربط سعادتنا بحدث ما في المستقبل‪ .‬هذا يعني أننا سنحاول دائماً خل‬
‫الظروف التي تجعلنا سعدا هنا واآلن‪ ،‬بغض النظر عما يحمله المستقبل لنا –‬
‫وخصوصاً أننا ال نستطيع التحكم بهذا المستقبل‪ .‬كل ما نستطيع التحكم به هو ما‬
‫نستطيع القيا به في اللحظة اآلنية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫العيش في زمن أزمات وجودية كالتي نراها حولنا اليو ‪ ،‬يعني أنه من السهل جداً‬
‫أن ننزل إلى القل حول كل األمور في الحياة‪ ،‬ومن السهل جداً أن ننزل إلى‬
‫خيبات األمل عندما ال نحصل على األمور التي ننتظرها‪ ،‬ومن السهل أيضاً أن‬
‫ننزل من بعدها إلى االكتئاب حين ندرك بأننا قد ال نحصل أبداً على الحياة التي‬
‫كنا نتوقع الحصول عليها يوماً ما‪.‬‬

‫هذا يعني أننا نواجه خياران‪ :‬إما أن نعيش بقل وخيبات أمل مستمرة متمسكين‬
‫بكافة توقعاتنا المسبقة عن الحياة ومعتقدين أن الحياة تدين لنا بشي ما مع ما‬
‫يعنيه ذلك من غضب واغتياظ واكتئاب‪ ،‬وإما أن نكف عن ربط سعادتنا بأمور‬
‫مستقبلية قد ال تحدث أبداً ونبدأ باالستمتاع بشكل أكبر بما يتوافر لدينا هنا واآلن‪.‬‬

‫هذا ال يعني أنه علينا أن نقبل واقعنا الشخصي من دون أن نحاول تغييره أو‬
‫التأثير عليه‪ ،‬بل العكس – وخصوصاً إن كان واقعاً ظالماً أو سبباً لتعاستنا وألمنا‪.‬‬
‫األمر يعني أنه فيما سنعمل بحز نحو مستقبل يشبهنا أكثر‪ ،‬ال يوجد أي ضرر‬
‫في االستمتاع بالرحلة وباألمور اليومية في الحياة‪ .‬قد تكون تلك األمور رشفة‬
‫قهوة صباحية‪ ،‬أو أغنية عابرة‪ ،‬أو قبلة حبيب‪ ،‬أو ضحكة مع األصدقا ‪ ،‬أو نزهة في‬
‫البرية‪ .‬المهم أن نتعلم أن اللحظة الوحيدة التي يمكننا أن نكون سعدا فيها حقاً‬
‫هي هنا واآلن‪.‬‬

‫الحياة أقصر من أن نجعل سعادتنا رهن مستقبل قد ال نراه أبداً ‪ ،‬لذلك علينا أن‬
‫نجد الحب كل يو في كل ما هو حولنا‪ ،‬وإال قد نستيقظ يوماً ولن نرى من حولنا‬
‫سوى ظلمة باردة‪.‬‬

‫ي على الكفاح‬ ‫ب‪ ،‬ح ّ‬‫ي على الح ّ‬


‫ح ّ‬
‫حسناً‪ ،‬أعلم أن كلمة الحب تم ابتذالها في هذه األيا لدرجة أننا نود إغالق‬
‫الصفحة ما أن نقرأ مقاال ً يذكرها مراراً وتكراراً‪ ،‬لكن علينا أن نقولها‪ :‬الحياة‪،‬‬
‫بأكملها‪ ،‬هي حب وصراع‪ ،‬رقص وقتال‪ .‬حياتنا نحن خصوصاً في زمن السقوط‬
‫األكبر هي صراع يومي – والحب هو الدوا الوحيد لكي يكون بامكاننا االستمرار‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫علينا أن نتقبل فكرة أن عيشنا في هذا الزمن يعني كفاحاً مستمراً للحصول على‬
‫حاجاتنا األساسية ولتأمين الحد األدنى من المستقبل اآلمن لنا‪ .‬المنظومة‬
‫المهيمنة على الكوكب ومعها قوى األمر الواقع الحاكمة مصرة على سح‬
‫الكوكب من أجل السلطة والمال حتى آخر رم – وتضعنا كل يو أما خيار‬
‫الكفاح للعيش بكرامة وحرية أو االنكسار والخنوع‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬االنهيار البطي يعني أنه هنالك عدد هائل من الناس اليو يدخلون في‬
‫حفلة جنون وغضب جماعية‪ ،‬وهذا الجنون يترجم على أرض الواقع بالمزيد من‬
‫المتحرشين في الشوارع‪ ،‬المزيد من الساديين في إدارات الشركات‪ ،‬المزيد من‬
‫المكتئبين في المكاتب‪ ،‬المزيد من المريضين نفسياً في السلطات والجيوش‬
‫والميليشيات‪ ،‬والمزيد من المجانين أينما التفنا حولنا في الحياة‪ .‬نحن لسنا‬
‫بمنأى عن هذا المصير أيضاً‪ ،‬وكفاحنا اليومي هو حقاً كفاح داخلي وخارجي في‬
‫وجه كل تلك الشياطين التي تفلت من عقالها في زمن يفقد فيه اإلنسان صوابه‬
‫ولقمة عيشه في آن واحد‪.‬‬

‫علينا أن نتقبل أن حياتنا اليومية في هذا الزمن ستكون كفاحاً دائماً وأال نعتبر أن‬
‫الكفاح هو عقاب ما علينا اإلفالت منه‪ .‬علينا أن نتعلم العيش معه‪ ،‬وعلينا أن نطور‬
‫أنفسنا لنكون أفضل فيه‪ .‬القتال فرض علينا وانتهى‪ ،‬فمن األفضل أن نقاتل بكل ما‬
‫فينا‪ .‬قد يكون كفاحنا نفسياً وذهنياً‪ ،‬وقد يكون في عملنا أو منزلنا‪ ،‬وقد يكون‬
‫جسدياً أو سياسياً أو اقتصادياً‪ .‬نحن ال نعلم ماذا سترمي علينا الحياة غداً‪ ،‬لذلك‬
‫علينا أن ندرب أنفسنا وأن نحول أنفسنا لمحاربين بالطريقة نفسها التي علينا أن‬
‫نتعلم أن نحول أنفسنا إلى عشاق وصوفيين‪ .‬هذين القطبين ال ينفصال عن بعضها‬
‫البعض؛ المحارب الحقيقي هو من يقاتل انطالقاً من الحب‪.‬‬

‫العيش البسيط هو المفتاح‬


‫النصيحتان السابقتان تركزان على الجانب الداخلي – النفسي والذهني؛‬
‫النصيحة األولى تساعد على التعامل مع الواقع كما هو‪ ،‬والثانية تساعد على‬
‫تحفيز إرادة تغيير هذا الواقع‪ ،‬لكن هنالك جانب آخر مادي هو أساسي لعافيتنا‬
‫خالل الفترة المقبلة‪ ،‬وهو العيش البسيط‪.‬‬

‫العيش البسيط هو االستبدال المنهجي للضوضا المادية التي تمأل حياتنا‬


‫بغنى روحي ونفسي ومعنوي‪ .‬العيش البسيط يعني أال تكون سعادتنا وصحتنا‬
‫ورضانا الذاتي نابعة من ممتلكات مادية قد ال نستطيع الحفاظ عليها أو حتى‬
‫امتالكها في األصل‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫إنه يعني بطريقة أو بأخرى التخلي عن األحال المادية الكبيرة من قصور فخمة‬
‫وسيارات سريعة وحفالت باذخة ومئات القطع االلكترونية المضيئة في غرفتنا‪،‬‬
‫واستبدالها بأحال أكثر حقيقية وإنسانية كالعالقات العميقة مع اآلخرين‪ ،‬العيش‬
‫الهادى الخالي من التوتر‪ ،‬الهوايات الممتعة والحرف والمشاريع اليدوية والفنية‬
‫والفكرية التي تسعد الروح والجسد على السوا ‪ ،‬واألهداف الحياتية السامية‬
‫كمساعدة اآلخرين أو إعادة الحياة ألرض هجرناها‪.‬‬

‫حياتنا اليو معقدة ومليئة بمئات األمور التي تزيدها تعقيداً من مئات التطبيقات‬
‫التي تتدخل في حياتنا إلى ضغوط العمل ووتيرة الحياة السريعة‪ ،‬نحن نجد‬
‫باستمرار أن عالقاتنا االجتماعية تتراجع فيما نعاني بشكل متزايد من األمراض‬
‫المرتبطة بالتوتر والقل والسمنة والسرعة‪ .‬كل هذا التعقيد الذي يجتاح حياتنا‬
‫يجعلها في الواقع أكثر فقراً ويؤثر سلباً على صحتنا وعالقاتنا وسعادتنا الذاتية‪.‬‬
‫البعض يعتقد أن حل هذه األمور يكون بالمزيد من التعقيد‪ ،‬كاستخدا تطبي‬
‫جديد على الهاتف‪ ،‬إال أن الحل حقيقة هو في المزيد من التبسيط‪.‬‬

‫كل من يتبع العيش البسيط في حياته سيخبركم بأنه هنالك عدة نتائج تحصل‬
‫عند اتباع هذا النمط من الحياة‪ :‬الوضوح في الرؤيا الذي تتيحه المساحة المتوافرة‬
‫لنا للتفكير والتأمل‪ ،‬والسعادة المتأتية من األمور الحقيقية في الحياة ال من األمور‬
‫المزيفة والمؤقتة‪ .‬أما النتيجة األهم فهي زيادة المناعة المالية واالقتصادية الذاتية‬
‫تجاه التحوالت االقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم كل يو ‪.‬‬

‫العيش البسيط يشبه إلى حد بعيد عملية ري شجرة صغيرة‪ .‬حين تكون مجرد‬
‫بذرة وغصن صغير‪ ،‬تكون الشجرة هشة للغاية لدرجة أن رياح قليلة قد تقتلعها‬
‫وشمس خفيفة قد تجعلها يباساً؛ تماماً كما أن أي أزمة اقتصادية أو شخصية يمر‬
‫بها أحدنا اليو كافية ألن تحطمنا‪ .‬كل ما تحتاجه هذه النبتة صغيرة لتتحول إلى‬
‫شجرة هو القليل من الري والعناية كل يو ‪ ،‬ومع كل قطرة ما تكتسب المزيد من‬
‫القوة والمناعة‪ .‬صحيح أننا لن نستطيع رؤية الفارق بين يو وآخر‪ ،‬لكننا‬
‫سنستيقظ يوماً ما وسنرى أن ذلك الجذع الصغير قد أصبح شجرة وارفة‪ ،‬ثابتة في‬
‫وجه كل ما ترميه الطبيعة بوجهها‪ .‬وهكذا هو العيش البسيط؛ القليل من اإلرادة‬
‫كل يو ‪ ،‬ولن يطول بنا األمر لنجد أننا خلقنا من أنفسنا حياة جديدة وأكثر حرية‬
‫واستقاللية‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫التخلي عن توقعاتنا المسبقة من الحياة‪ ،‬صهر ثنائية الكفاح والحب كجز منا ومن‬
‫ذاتنا‪ ،‬وعيش الحياة بالبساطة‪ ،‬هي أمور قد تبدو سهلة جداً للوهلة األولى‪ ،‬لكننا‬
‫قد نحتاج لحياة بأكملها لتعلمها حقاً‪ .‬في كل األحوال‪ ،‬أعدكم أنها مغامرة تستح‬
‫خوضها…‬

‫‪20‬‬
‫أنت في مواجهة العالم‪:‬‬
‫ما هي الخطوة األولى؟‬

‫معظمنا يعلمون تلك القصة عن جون لينون‪ ،‬حين سألته المعلمة في المدرسة‬
‫“ما الذي تريد أن تكونه في الحياة حين تكبر؟”‪ .‬أجابها لينون وقتها أنه يريد أن‬
‫يكون سعيداً‪ ،‬فقالت له المعلمة أنه لم يفهم السؤال‪ ،‬فأجابها بأنها ال تفهم‬
‫الحياة‪.‬‬

‫هذه القصة تختصر إلى حد كبير الخطوة األولى الضرورية للعيش البسيط‪ :‬اكتشف‬
‫ما الذي يجعلك سعيداً‪ .‬الجملة السابقة تبدو للوهلة األولى بديهية بل سخيفة‪،‬‬
‫وقد يستغرب البعض لماذا نريد تخصيص مقال كامل عن أمر يعتقد الجميع أنه‬
‫يعرفه‪ ،‬لذلك‪ ،‬اسمحوا لنا أعزائي القرا بأن نتحدث عن هذا األمر قليالً‪.‬‬

‫سراب السعادة المادّية‬


‫حين نكون صغاراً‪ ،‬يسألنا أساتذنا في المدرسة “ماذا تريدون أن تصبحوا حين‬
‫تكبرون؟”‪ ،‬لكنهم ال يخبروننا وقتها أننا في ‪ % 99‬من الوقت‪ ،‬ليس لنا خيار‬
‫حقيقي في ما سنكونه حين نكبر‪ ،‬ألننا ال نعيش في بلدان ترسل رواد فضا إلى‬
‫الخارج‪ ،‬وقد ال ننتمي إلى عائالت ميسورة كفاية لتدخلنا الكلية الطبية أو معهد‬
‫تطوير الروبوتات مثالً‪ ،‬وقد ال يكون لدينا ترف اختيار مهنة ال مال فيها كالفنون‬
‫والكتابة‪ ،‬وقد ال ننتمي إلى الطبقة أو الطائفة أو الحزب أو العائلة المناسبة لكي‬
‫نصبح تالمذة ضباط في المدرسة الحربية…ألخ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫معظمنا ال يتخرجون من المدارس ليصبحوا رواد فضا وعلما وضباط وأطبا‬
‫وفنانين‪ ،‬بل معظمنا يتخرجون ليصبحوا عاطلين عن عمل وباحثين عن عمل‬
‫وأساتذة مدرسة وموظفين مملين ونادلين وعمال مستودع وسائقي أجرة…‬

‫هذا السيستيم ال يخبرنا بأن طبيعته الطبقية تعني أن كل األحال التي أوحي لنا‬
‫أنها ممكنة في صغرنا‪ ،‬ستتبخر في الواقع ما أن نخطو الخطوة األولى خارج‬
‫المدرسة‪ ،‬وهذه هي المشكلة األساسية في نسخة هذا السيستيم عن‬
‫السعادة‪ :‬هو يعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن نربط سعادتنا بأمور مادية ال يمكن لنا‬
‫تحقيقها أو ال يمكن لنا الوصول إليها‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬تخبرنا الثقافة السائدة من خالل االعالنات والبرامج والضغط االجتماعي‬
‫وصور الفايسبوك أن السعادة ترتبط بطريقة أو بأخرى بوظيفة أو دخل محدد‪،‬‬
‫بماركة تجارية شهيرة على مالبسنا‪ ،‬بمنزل في بقعة محددة من المدينة‪،‬‬
‫بسيارة رائعة‪ ،‬بعطلة في بالد بعيدة‪.‬‬

‫قد نجد أنفسنا نعمل لسنوات لتحقي كل هذه األمور لنكتشف من بعدها أننا لم‬
‫نصبح سعدا بعد؛ لكن السيستيم يخرج بخدعة أخرى علينا ويقول لنا أن‬
‫السعادة تنتظرنا دائماً عند المنعطف التالي؛ هذا المنعطف التالي قد يكون سيارة‬
‫أحدث أو أثاث منزلي أجدد أو هاتف أكثر تطوراً أو منزل أكبر أو زوج أجمل أو طفل‬
‫إضافي‪ .‬هنالك دائماً خطوة أخرى نحتاجها لنكون سعدا ‪ ،‬أو هذا ما يخبرنا به‬
‫السيستيم‪.‬‬

‫وهنا لب الموضوع‪ :‬النسخة التي تقدمها الثقافة السائدة عن السعادة مصممة‬


‫لكي ال نستطيع الوصول إليها أبداً‪ .‬المنظومة تريد إبقا نا في سباق الفئران مدى‬
‫الحياة ولذلك تحرص على أن نالح سراب يوماً بعد يو ‪ .‬األمر يشبه سراب واحة‬
‫الصحرا ‪ ،‬كلما اعتقدنا أننا اقتربنا من السعادة الموعودة‪ ،‬سنغمض أعيننا للحظة‬
‫لنرى بأنها عادت بعيدة وأنه علينا أن نمشي باتجاهها من جديد‪ .‬لذلك‪ ،‬طالما أننا‬
‫نصدق السراب الذي تبيعنا إياه الثقافة السائدة؛ سيكون من المستحيل أن نصل‬
‫إلى السعادة التي نحلم بها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫السعادة هي اكتشاف داخلي ال إعالن تلفزيوني‬
‫حين نطرح سؤال “ما الذي يجعلنا سعدا ” على أنفسنا من دون أن نعيد النظر‬
‫في منظومة القيم التي نحملها‪ ،‬سنجيب عليه وفقاً للبرمجة الثقافية االجتماعية‬
‫التي ربينا عليها منذ الصغر‪ .‬معظمنا سيخرجون بنفس اإلجابات الجاهزة التي‬
‫تروجها لنا الثقافة السائدة بدل أن يبحثوا داخل أنفسهم عما يجعلهم سعدا حقاً‪.‬‬

‫رغم أن البرمجة الثقافية السائدة توحي لنا أن نفس األمور تسعد الجميع من دون‬
‫استثنا ‪ ،‬إال أن الحقيقة هي أن الناس أنواع وكل منا يجد السعادة في أمور‬
‫مختلفة‪.‬‬

‫أنا متأكد أن معظم قرائي ال يجدون سعادة في االشتباك القتالي في الحلبة مع‬
‫خصم مدرب على القتال‪ ،‬كما افعل أنا مثالً‪ ،‬كما أني ال أجد سعادة في أمر قد‬
‫يجده بعض القرا مسلياً‪ ،‬كالسهر في مكان ضي وصاخب ومفعم بالدخان‬
‫والموسيقى الصاخبة‪ .‬االختالف في مصادر السعادة يبدأ من أبسط األمور ويصل‬
‫إلى أكبرها‪.‬‬

‫أولى االنتصارات الفردية على‬ ‫الخطوة األولى للعيش البسيط بل لتحقي‬


‫المنظومة السائدة هي أن نجلس بعيداً عن ضجيج االعالنات المدفوعة االجر‬
‫والضغط االجتماعي وتوقعات األقران وأن ننظر عميقاً في أعماق روحنا لكي‬
‫نكتشف ما الذي يسعدنا حقاً في الحياة‪.‬‬

‫في تجربتي المتواضعة‪ ،‬بساطة اإلجابات التي سنكتشفها في أنفسنا مع الوقت‬


‫قد تفاجأنا – االستمتاع بلمسة يد حبيبتك على عنقك في لحظة صمت قد يكون‬
‫أثمن من أي مبلغ من المال يمكن أن تجنيه يوماً‪ .‬هذه الممارسة – اكتشاف‬
‫األمور التي تسعدنا حقاً – هي أساس الحياة البسيطة وباب الخروج من البرمجة‬
‫الثقافية التي تشجعنا على ربط سعادتنا باالستهالك والشهادات الجامعية والصور‬
‫الفايسبوكية والممتلكات المادية‪ .‬إيماننا بنسخة الثقافة السائدة عن السعادة هو‬
‫القيد األول الذي يمنعنا من عيش حياة بسيطة‪ ،‬والكفر بها هي الخطوة األولى‬
‫لتبسيط حياتنا‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫اكتشفوا ما الذي يسعدكم حقاً‪ ،‬وستتفاجأون بكمية األمور التي تقومون بها في‬
‫حياتكم والتي تعتقدون أنها تسعدكم فيما تسبب العكس‪ .‬ستتفاجأون أيضا ً‬
‫باكتشاف أمور جديدة ومثيرة قد تسعدكم أكثر‪ .‬اجلبوا ورقة صغيرة وضعوا الئحة‬
‫باألمور التي تسعدكم‪ ،‬من أصغرها إلى أكبرها‪ .‬القيا بهذا التمرين الصغير قد‬
‫يساعدكم في أحيان كثيرة على أن تدركوا أنه ال يوجد أي سبب يمنعكم من أن‬
‫تكونوا سعدا هنا واآلن‪ .‬هذه هي الخطوة األولى‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ماذا يخبرنا راهب قديم عن ذهنية العيش البسيط‬

‫في رواية “سيدارتا” لهيرمان هيسه‪ ،‬يقو أحد التجار األغنيا بسؤال الراهب‬
‫الهندي سيدارتا عن المهارات التي يمتلكها ليقرر ما إذا كان مناسباً ليعمل لديه‪،‬‬
‫ويجيبه الراهب جواباً غريباً‪ ،‬قائالً‪“ :‬يمكنني أن أفكر‪ .‬يمكنني أن انتظر‪ .‬ويمكنني‬
‫أن أصو ”‪.‬‬

‫طبعاً‪ ،‬ال يمكننا استخدا هذا النوع من األجوبة في مقابالت العمل اليو ‪ ،‬كما أن‬
‫المهارات التي تحدث عنها سيدارتا ليست من التي قد نعتبرها أساسية لحياتنا‬
‫العصرية‪ ،‬إال أن الحقيقة هي أن هذه الصفات الثالث – التفكير‪ ،‬الصبر‪ ،‬والصو –‬
‫هي جوهرية ألسلوب العيش ببساطة‪.‬‬

‫بعكس نمط الحياة االستهالكي السائد‪ ،‬العيش البسيط يستوجب جهداً واعياً‬
‫علينا أن نمارسه بشكل دائم في وجه البرمجة الثقافية المستمرة التي نتعرض‬
‫لها في كل مكان‪ .‬لكي يكون بامكاننا التخلص من رواسب الثقافة السائدة ورسم‬
‫أسلوب الحياة الذي نريده نحن‪ ،‬هنالك مهارات ذهنية معينة ال بد من تنميتها‬
‫واالهتما بها‪ ،‬وهذه المهارات تم تلخيصها ببراعة في الجملة السابقة لسيدارتا‪.‬‬

‫القدرة على التفكير في وجه ثقافة التلقين‬


‫في الرواية‪ ،‬أظهر سيدارتا قدرته على التفكير عبر القرا ة والكتابة وعبر إظهار‬
‫قدرته على نقد وتحليل ما يقرأ ويكتب‪ .‬في زمننا هذا‪ ،‬القدرة على التفكير تعني‬
‫القدرة على النظر مباشرة عبر أكاذيب الثقافة االستهالكية السائدة وتبيان الغث‬
‫من السمين منها‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫التفكير يعني أن ننظر بعين نقدية إلى كل إعالن تلفزيوني وكل تصريح سياسي‪.‬‬
‫القدرة على التفكير تعني أيضاً قيامنا باختيار أسلوب حياة ونمط تفكير يناسبنا من‬
‫دون أن نقلد بشكل أعمى ما تقوله لنا البرمجة اإلعالنية أو ما يقوله رجال الدين‬
‫والسياسيين والمشاهير والمفكرين الذين يستحوذون بشكل شبه مطل على‬
‫فضائنا الحياتي‪.‬‬

‫القدرة على التفكير مهمة جداً لمن يريد أن يرى الحقيقة من بين غابات األوها‬
‫السائدة في مجتمعاتنا‪ ،‬لكن القدرة على االنتظار تضاهيها أهمية‪.‬‬

‫القدرة على االنتظار في وجه ثقافة االستعجال‬


‫حين ننظر إلى الثقافة السائدة يبدو لنا أنها محكومة بقلة الصبر؛ نريد الحصول‬
‫على كل شي اآلن وبأسرع وقت ممكن؛ نحن نريد تحقي ثروات هائلة في‬
‫شبابنا‪ ،‬ونريد أن نكون في مناصب إدارية في بداية مهنتنا‪ ،‬نريد أن نحصل على‬
‫سيارة جديدة وهاتف جديد اآلن وليس غداً‪ ،‬ونريد أن ننحف بأسبوع وأن ننمي‬
‫عضالتنا بتمارين من عشرة دقائ ونريد أن نتزوج وننجب أطفال ونجوب العالم‬
‫ونتسل الهيماال قبل أن نبلغ ثالثون عاماً من العمر‪.‬‬

‫معظم اإلعالنات وكتب التنمية الذاتية التي تخاطبنا اليو تتحدث عن تلبية رغباتنا‬
‫بشكل فوري‪ ،‬فتخبرنا كيف نصبح أغنيا في ‪ 21‬يو وكيف نحصل على عالقة‬
‫بثانية واحدة وكيف نحصل على الجسم المثالي بثالثة أيا ‪.‬‬

‫هذا الهوس بالحصول على كل شي بأسرع وقت ممكن يدفعنا لالستدانة من‬
‫البنوك لشرا سيارات جديدة‪ ،‬يدفعنا لتغيير وظائفنا عشر مرات من دون أن نحق‬
‫شيئاً في أي منها‪ ،‬يدفعنا للتسرع بالزواج وإنجاب االطفال قبل أن نكون‬
‫مستعدين للقيا بأي شي من ذلك‪ .‬االستعجال يدفعنا لشرا كل ما نراه في‬
‫الواجهة من مالبس وهواتف جديدة في أول الشهر لنعيش بإفالس مطب حتى‬
‫الراتب المقبل‪ .‬وهو يدفعنا أيضاً لقبول كل ما يقوله لنا رجال الدين والسياسة‬
‫ف لنفكر ونقيم األمور التي يتحدثون عنها‪.‬‬
‫والتسوي ألنه ليس لدينا وقت كا ٍ‬

‫انعدا الصبر يعني أن معظم أعضا المجتمع االستهالكي ال يعرفون عيش حياتهم‬
‫بهدو أو كبح رغبتهم االستهالكية‪ ،‬والنتيجة هي أننا أصبحنا أسرى رغباتنا‬
‫وقراراتنا المتسرعة‪ .‬القليل من الصبر يمكن أن يجنبنا الكثير من القرارات الخاطئة‬
‫في الحياة‪ .‬القليل من االنتظار فقط يمكن أن يظهر لنا جانب آخر لم ننتبه له‬
‫سابقاً للمسألة التي نحن بصددها‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الرغبة‪ ،‬كما يعلم كل راهب وكل عالم نفس‪ ،‬هي مجرد شعور عابر والقليل من‬
‫االنتظار هو الفارق في الكثير من األحيان بين االنصياع لها وبين تأجيلها وتجنب‬
‫النتائج السلبية التي قد تترتب عنها‪ .‬وهذا ما يأخذنا إلى المهارة الثالثة التي‬
‫تحدث عنها سيدارتا وهي الصو ‪.‬‬

‫القدرة على الصوم في وجه ثقافة االستهالك الشره‬


‫حين تحدث الراهب سيدارتا في الرواية عن الصو كان يقصد به الصو عن‬
‫الطعا ‪ ،‬وحين طلب منه التاجر أن يشرح أسباب أهمية هذه المهارة‪ ،‬أجابه‪“ :‬إن‬
‫لم يكن للرجل شي يأكله‪ ،‬الصو هو أذكى األمور التي يمكن له القيا بها‪ .‬إن‬
‫لم يكن تعلم مثال ً كيف يصو ‪ ،‬سيكون مجبراً على البحث عن عمل ما بسرعة‪،‬‬
‫سوا معك أو في مكان آخر‪ ،‬حيث سيبدأ الجوع بتوجيهه‪ .‬لكن مع هذه القدرة‪،‬‬
‫سيدارتا يمكنه أن ينتظر بصمت‪ .‬فهو صبور‪ ،‬وليس أسير الحاجة‪ ،‬ويمكنه طرد‬
‫الجوع لوقت طويل‪ ،‬ومن ثم الضحك عليه”‪.‬‬

‫إن اعتبرنا أن حديث سيدارتا ليس فقط عن الطعا بل يشمل الصو عن رغبة‬
‫استهالكية معينة سيتضح لنا حينها أهمية هذه المهارة للحياة البسيطة‪.‬‬
‫شخصياً مثالً‪ ،‬أستطيع العيش من دون تلفاز بشكل شبه دائم‪ ،‬ومن دون هاتف‬
‫ذكي بشكل دائم‪ ،‬ومن دون سيارة خاصة معظم الوقت‪ ،‬ومن دون سكاكر ووجبات‬
‫سريعة – وكل هذه األمور البسيطة تساعدني ال على التحرر من البرمجة‬
‫االستهالكية المفروضة علينا فحسب‪ ،‬بل على عيش حياة صحية و ُمرضيَة في‬
‫الوقت نفسه‪.‬‬

‫اجتماع هذه المهارات الثالث في شخص واحد تعني أن هذا الشخص لديه القدرة‬
‫على التحرر من الرغبات التي تخلقها الماكينة الرأسمالية فينا‪ .‬التحرر من تلك‬
‫الرغبات يعني أنه لدينا الفرصة الكتشاف أنفسنا من دون تشويش‪ ،‬أنه لدينا‬
‫الفرصة لرسم حياتنا كما نريدها نحن واكتشاف رغباتنا الحقيقية والتعرف على‬
‫األمور التي تجلب لنا السعادة حقاً من دون أن نكون أسرى البرمجة االجتماعية‬
‫المسبقة التي تعطينا سعادة آنية على حساب تعاسة طويلة األمد‪.‬‬

‫التفكير‪ ،‬االنتظار‪ ،‬والصو ‪ ،‬مهارات أساسية علينا بتنميتها منذ اليو ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫تأسيس االستقاللية الحياتية عن المنظومة‪:‬‬

‫مهارات عمليّة ال بد منها‬

‫نحن نعيش في مجتمع مبني بشكل متزايد على االبتعاد عن العالم الحقيقي‬
‫وعلى تقليص تفاعلنا المباشر معه إلى أدنى الدرجات‪ .‬نحن نستعمل أيادينا أقل‬
‫لمصافحة الناس والعمل ونستخدمها أكثر للنقر على زر وتحريك أيقونة على‬
‫شاشة‪ .‬نستعمل عيوننا أقل للنظر إلى بعضنا البعض فيما نستعملها أكثر لنحدق‬
‫بالشاشات‪.‬‬

‫عالقتنا مع العالم تصبح تجريدية أكثر يوماً بعد يو ‪ ،‬فيما تشهد حياتنا اليومية تزايد‬
‫عدد الوسطا (كالشاشات والتطبيقات والخبرا ) الذين يحولون بيننا وبين العالم‬
‫الحقيقي‪ .‬في ظل كل هذه المسافة التي تفصلنا عن الحياة‪ ،‬مهاراتنا اليدوية‬
‫تكاد تكون معدومة؛ نحن نأكل طعاماً لم نزرعه ولم نطبخه‪ ،‬ونستخد آالت ال‬
‫نعرف كيف نصلحها‪ ،‬ونتنقل في سيارات لم نعد نعرف كيف تعمل‪ ،‬ونعيش في‬
‫منازل ال نعرف كيفية بنائها وصيانتها‪ ،‬وبالكاد يمكننا صعود درج من دون اللهاث تعباً‬
‫أو خوض حديث من دون االلتفات الى شاشة الهاتف‪ .‬مع الوقت‪ ،‬المهارة الوحيدة‬
‫التي نحافظ عليها هي التفاعل البارد مع الشاشة‪.‬‬

‫مجموعة من الناس تجرب نظارات غوغل غالس التي تحوي شاشة صغيرة داخلها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫مجموعة من الناس تختبر نظارة أوكولوس ريفت المصممة لأللعاب وتطبيقات أخرى‬

‫نحن نصر على التفاعل مع العالم عبر وسيط‪ ،‬سوا كان هذا الوسيط كتاباً أو‬
‫شاشة أو شخص آخر‪ ،‬رغم أن هذا الوسيط ال يتيح لنا معرفة العالم كما هو بل‬
‫يعرفنا فقط على فلسفة ونظرة صانعه‪ .‬الكتاب ال ينقل لك العالم كما هو‪ ،‬بل يقد‬
‫لك نظرة مؤلفه للعالم‪ ،‬والشاشة أيضاً ال تنقل لك العالم كما هو‪ ،‬بل تنقل لك‬
‫رؤية السلطة والعمامة والشركة التي تقف خلف الشاشة‪.‬‬

‫النتيجة هي أن المهارات اليدوية أصبحت أمر غريب عنا وعن يومياتنا رغم أن‬
‫أيادينا هي من أروع ما تقدمه لنا أجسادنا كبشر‪.‬‬

‫نحن من المخلوقات النادرة في الطبيعة التي تمتلك ابها متعاكس ‪ ،‬وبنية يدينا‬
‫هذه هي التي تتيح لنا بنا األدوات والتفاعل مع العالم بطريقة فريدة تختلف عن‬
‫جميع المخلوقات األخرى‪ .‬أيادينا هي التي جعلت عالقتنا مع كل شي في‬
‫العالم عالقة مميزة وجميلة؛ فنحن نستطيع احتضان خد أحبائنا ونحت الحجر‬
‫وعزف آلة وتطويع الحديد وتشكيل الخشب وإمساك السيف وزرع األرض وتلوين‬
‫األف بأجمل اللوحات بأيادينا‪.‬‬
‫كل ما نستطيع فعله تقريباً نفعله عبر أيادينا – هي وسيلتنا لتحسس العالم كما‬
‫هو وهي أداتنا لالتصال المباشر معه‪ .‬حين نلمس العالم‪ ،‬نتبادل معه الكثير من‬
‫الحقائ واألحاسيس التي ال يمكن لشاشة أن تعرفنا عليها‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تقلص مهاراتنا اليدوية له ثمن حياتي كبير على استقالليتنا ومناعتنا الذاتية في‬
‫زمن األزمات‪ .‬كلما كانت لدينا مهارات أقل واعتماد أكبر على المتخصصين‬
‫والخبرا ‪ ،‬كلما تخلينا عن جز من استقالليتنا وقوتنا وأعطيناه للخبير‪ .‬نحن إذاً‬
‫نأخذ السلطة من أنفسنا ونعطيها بشكل متزايد للخبرا ‪.‬‬

‫هؤال الخبرا ال يتمثلون فقط بالتقني الذي يصلح التلفاز‪ ،‬فسلسلة الخبرا تبدأ به‬
‫وتنتهي بن”الخبرا ” الدينيين والسياسيين وصوال ً إلى مدير الشركة ورئيس الدولة‬
‫ومفتي الجمهورية الذين يوكلهم المجتمع عادة مهمة اتخاذ القرارات االقتصادية‬
‫والسياسية نيابة عنهم‪ .‬اعتمادنا المتزايد على الخبرا والوسطا لتنظيم وتحديد‬
‫عالقتنا مع كل شي حولنا تعني أننا نتحول مع الوقت إلى غالبية عاجزة تتحكم‬
‫بها أقلية تمتلك الخبرة والموارد‪ .‬اعتمادنا المتزايد على الخبرا يحولنا شيئاً فشيئاً‬
‫إلى كائنات كئيبة أحادية البعد ال استقاللية لها على االطالق عن المنظومة‬
‫السائدة‪.‬‬

‫إحدى األهداف األساسية ألسلوب الحياة البسيطة هي تنمية االستقاللية‬


‫الذاتية وتعلم االعتماد على الذات عبر القيا بأكبر عدد ممكن من األمور بشكل‬
‫شخصي‪ ،‬أو بمساعدة أشخاص مقربين لنا‪ ،‬من دون االعتماد على الوسائط‬
‫التكنولوجية وخبرا المنظومة‪.‬‬

‫تحديد المهارات اليدوية الضرورية للحياة البسيطة قد يختلف من شخص آلخر‬


‫وهذا طبيعي ألنه هنالك مهارات يدوية متنوعة بتنوع األمور التي نقو بها في‬
‫الحياة‪ .‬بعض المفكرين الذين يكتبون حول البساطة يصل بهم األمر إلى حد وضع‬
‫القدرة على تحميص القهوة وصنعها منزلياً ضمن الئحة المهارات الضرورية للعيش‬
‫البسيط‪ ،‬والبعض ال يؤمن سوى بجدوى بضعة مهارات فقط‪ .‬شخصياً‪ ،‬أرى أنه‬
‫هنالك خمس مهارات ضرورية للعيش البسيط وللحياة الصحية بشكل عا ‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫مهارة تحضير طعامنا بأنفسنا ‪:‬هذه أهم مهارة يمكن لشخص أن‬ ‫‪‬‬
‫يكتسبها ألنها تعفيه من االعتماد على اآلخرين لتحضير الطعا له‪ ،‬كما أنها‬
‫تعطينا فرصة تناول طعا صحي أكثر كما توفر الكثير من المال الذي نصرفه‬
‫عادة على الوجبات الجاهزة‪ .‬الحياة البسيطة تبدأ من هذه المهارة تحديداً؛‬
‫من قدرتنا على أن نطعم أنفسنا بأنفسنا‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫مهارة إصالح اآلالت واألدوات ‪:‬هذه المهارة مهمة في زمن نعتمد فيه‬ ‫‪‬‬
‫على اآلالت واألدوات للقيا بكل شي تقريباً‪ .‬هنالك بطبيعة الحال بعض‬
‫اآلالت التي تحتاج الختصاصي لصيانتها لكن اعتقد أنه يمكن تعلم إصالح‬
‫معظم اآلالت واألدوات الشخصية والمنزلية الرئيسية بأنفسنا‪ .‬هذا يشمل‬
‫األمور المنزلية كصيانة األبواب واألثاث واألنابيب والحنفيات والحما وما‬
‫شابه‪ ،‬كما يشمل اآلالت المنزلية اآللية البسيطة كالغسالة والتلفاز والبراد‪،‬‬
‫والتكنولوجيا الشخصية مثل الحاسوب والهاتف‪ .‬هذه المهارة يمكن أيضاً‬
‫اكتسابها إلصالح السيارة الخاصة (لألسف بعض السيارات الحديثة مصممة‬
‫بطريقة تجعل من المستحيل إصالحها في أي مكان باستثنا الشركة‬
‫األساسية)‪.‬‬

‫اللياقة البدنية وأساليب الدفاع عن النفس ‪:‬االعتماد الذاتي يعني أنه‬ ‫‪‬‬
‫يجب أن تكون لدينا اللياقة البدنية الكافية للقيا بكل ما نتحدث عنه هنا‬
‫مثل االصالحات المنزلية‪ ،‬زراعة بعض الخضار‪ ،‬أو نقل قطعة من األثاث إلى‬
‫مكان آخر‪ .‬اللياقة البدنية الجيدة لها فوائد صحية ونفسية أكثر من أن‬
‫تحصى وتساعدنا كثيراً في تجنب العديد من العوارض الصحية التي تنتشر‬
‫في مجتمعاتنا الخاملة مثل الكوليستيرول‪ ،‬التريغليسيريد‪ ،‬أمراض القلب‪،‬‬
‫انسداد الشرايين‪ ،‬االكتئاب…ألخ‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬هنالك ضرورة لتعلم أساليب‬
‫الدفاع عن النفس‪ ،‬ألنها ستساعدنا على الدفاع عن أنفسنا وعن أحبابنا‬
‫في زمن ال نعرف فيه ما الذي ينتظرنا عند المنعطف التالي في الشارع‪،‬‬
‫وألنها تطورنا نفسياً وذهنياً وتجعلنا أكثر استقاللية وانتباهاً وأكثر استعداداً‬
‫لمواجهة التحديات التي ترميها الحياة علينا‪.‬‬

‫البستنة وزراعة الخضراوات ‪:‬قد يبدو للعديد من القرا أنه ال يوجد نفع‬ ‫‪‬‬
‫على االطالق لهذه المهارة في ظل توافر الطعا في كل المحال والمراكز‬
‫التجارية من حولنا‪ ،‬لكنها أهم األساسات لحياة بسيطة ألنها تعطينا القدرة‬
‫على تحقي االستقاللية في أهم مجال حياتي على اإلطالق‪ :‬إنتاج قسم‬
‫من غذائنا بأنفسنا‪ .‬االنتاج الصناعي للغذا غير صحي وغير مستدا‬
‫ويتداعى عادة عند أول أزمة سياسية أو اقتصادية كما حصل في دول‬
‫عديدة حول العالم منها كوريا الشمالية (التي مات الماليين منها في‬
‫مجاعة) وكوبا (التي حولت اقتصادها الزراعي إلى زراعة محلية ومنزلية‬
‫ونجت من األزمة)‪ ،‬ومؤخراً سوريا التي تم تجويع العديد من مدنها وأحيائها‬
‫بعد محاصرتها من قبل األطراف المتقاتلة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫القدرة على زراعة القليل من الغذا تضمن الحد األدنى من المناعة‬
‫واالستقاللية الغذائية تجاه التقلبات السياسية واالقتصادية‪ ،‬كما أنها‬
‫تساعدنا على بنا عالقة ال يمكن تعويضها مع التراب واألرض‪ .‬حتى ولو كنا‬
‫في قلب المدينة‪ ،‬يمكننا الحصول على بضعة أحواض من التراب وتعلم‬
‫كيفية زراعة الخضراوات البسيطة كالبصل والبقدونس والبندورة والزعتر‬
‫والنعناع وما شابه‪ .‬الموضوع أسهل إذا كنا نمتلك قطعة صغيرة من األرض‬
‫قرب المنزل – حتى ولو ال تتعدى مساحتها مساحة غرفة واحدة – إذ من‬
‫األفضل زراعتها بدل استعمالها كحديقة تزينية‪ .‬ستتفاجأون كم يمكن‬
‫لمساحة صغيرة من التراب أن تنتج من الغذا ‪.‬‬

‫المهارة اليدوية الحياتية ‪:‬إضافة إلى المهارات السابقة‪ ،‬كل شخص‬ ‫‪‬‬
‫يحتاج لمهارة يدوية تعبر عنه ويشعر بصلة حميمة واستثنائية معها‪ .‬هذه‬
‫المهارة قد تكون شيئاً يمكن تحويله فيما بعد إلى مصدر ثانوي للدخل‬
‫كالنجارة أو اإلبحار أو تصليح كهربا السيارة‪ ،‬كما يمكن أن تكون مجرد مهارة‬
‫فنية كالموسيقى وما شابه‪ .‬شخصياً المهارة اإلضافية التي أركز عليها‬
‫هي النجارة والعمل على الخشب لبنا قطع من األثاث وما شابه ولقد‬
‫صنعت حتى اآلن بضعة قطع أثاث منها مضحك وقبيح ومنها عملي وجميل‪.‬‬
‫اكتساب مهارات من هذا النوع هو أمر ال يتعل فقط باالستقاللية الذاتية‬
‫بل بالتعبير عن الذات وبنا عالقة مع شي يسعدنا حقاً في عالم يفرض‬
‫علينا باستمرار نسخته الباردة والفارغة عن السعادة‪.‬‬

‫إن كنا نريد بنا عالقة حقيقية مع العالم الذي نعيش فيه علينا أن نقتل الوسيط‬
‫الذي يحول بيننا وبينه‪ ،‬وأن نتعلم استخدا أيادينا للتفاعل معه بشكل مباشر‪.‬‬
‫سيكون يوماً جميال ً حين نخرج أيادينا من جيوبنا ونسحب اصابعنا من على‬
‫الشاشات ونحمل بها حفنة من التراب‪ ،‬العالم ينتظرنا لنلمسه‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫هل هناك وظيفة مثالية؟‬
‫معضلة عبودية األجر والحياة البسيطة‬

‫يقال أنه إن أحب المر عمله فهو لن يشعر بأنه يعمل يوماً في حياته‪ .‬يقال أيضاً‬
‫أنه إن كان المر يكره عمله‪ ،‬فكل يو بالنسبة له هو جحيم حي‪ .‬العمل هو في‬
‫نهاية المطاف المحور الرئيسي الذي تقو عليه حياتنا المعاصرة‪ :‬نحن نقضي فيه‬
‫معظم ساعات يومنا وغالبية أيا حياتنا ونعطيه معظم طاقتنا وانتباهنا فيما يوفر‬
‫لنا األساس المادي لسد احتياجاتنا ويمدنا بجز ال يستهان به من عالقاتنا‬
‫االجتماعية وهويتنا الذاتية‪ .‬ما نقو به في عملنا إذاً‪ ،‬ليس مجرد أمر هامشي بل‬
‫أحد أهم أوجه حياتنا التي يجب أن نحاول التأثير عليها وجعلها تناسب شخصيتنا‬
‫وميولنا وأهدافنا‪.‬‬

‫حين نكون على وشك الدخول إلى سوق العمل‪ ،‬نالحظ أنه هنالك وجهتا نظر‬
‫سائدتان في المجتمع حول هذا الشأن‪ :‬الرأي األول يتمثل بنصيحة اختيار مهنة‬
‫تدر الكثير من المال وتعطي مكانة اجتماعية مرموقة كطبيب أو مهندس أو ضابط‬
‫جيش أو محامي (للذكور خصوصاً)‪ ،‬من دون أن يكون لميولنا وتفضيالتنا الخاصة‬
‫أي تأثير على هذا القرار‪ .‬هذا موقف الغالبية الساحقة من األهل الذين ينتمون‬
‫للطبقات الفقيرة‪ ،‬حيث تمثل وظيفة من هذا النوع الفرصة الوحيدة ألوالدهم لكي‬
‫يتجنبوا تكرار الحياة الصعبة التي عاشها أهلهم‪.‬‬

‫الرأي الثاني يقول أن المر يجب أن يختار عمل أو مهنة يحبها ويمتلك شغف‬
‫تجاهها ولو لم تكن تدر أي مردود مادي‪ ،‬وتركز النصائح في هذا االتجاه عادة على‬
‫المهن االبداعية كالتصوير والتصميم واإلخراج والكتابة وما شابه‪ .‬هذا الرأي سائد‬
‫في اإلعال وفي كتب التنمية الذاتية وفي بعض أوساط الطبقات الميسورة‬
‫وخصوصاً أن أبنائها يمتلكون في معظم األحيان رفاهية اختيار العمل الذي يريدونه‬
‫من دون أن يقلقوا حول النتائج المالية والمعيشية المترتبة عليه‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫…‬
‫هنالك وجهة نظر ثالثة ال تحظى بالكثير من الشعبية تدعو لالنسحاب من العمل‬
‫بشكل كامل واالعتماد على نمط حياة بديل ال تشكل الوظيفة محوراً رئيسياً فيه‪،‬‬
‫لكن وجهة النظر هذه ال تحدد كثيراً كيفية القيا بهذا األمر‪ ،‬وسنعود لنتحدث عنها‬
‫قليال ً في نهاية المقال‪.‬‬

‫رغم االختالف في وجهات النظر‪ ،‬إيجاد وظيفة نحبها وتدر علينا ما يكفي من‬
‫المدخول في الوقت نفسه هو بالنسبة للعديد منا حلم نسعى لتحقيقه‪ .‬العمل‬
‫الكادح في مجال نكرهه ليس أفضل طريقة بتاتاً لقضا حياتنا‪ ،‬خصوصاً أنه ال يوجد‬
‫في الحياة زر إعادة يمكن الضغط عليه واستعادة عمرنا من خالله‪ .‬رغم شيوع‬
‫هذا الحلم‪ ،‬قليلون جداً من بيننا هم من يتمكنون من تحقيقه‪.‬‬

‫وجود غالبيتنا في أعمال مرهقة وخالية من المعنى ومدمرة لصحتنا وعافيتنا‬


‫وسعادتنا هو أمر لم يحصل صدفة‪ ،‬فالمنظومة السائدة مصممة لكي يكون العمل‬
‫المأجور فيها نوع من أنواع العبودية التي تلغي أي إمكانية ابداعية أو تحررية فينا‪.‬‬
‫لكن هل هذا يعني أنه ال يوجد أمل لألفراد فيما ينتظرون انتفاض العمال لتغيير‬
‫أوضاعهم بشكل جذري؟‬
‫ليس بالضرورة؛ هنالك طرق يمكن فيها لألفراد االحتيال على السيستيم لتحقي‬
‫الحد األدنى من االستقاللية الذاتية في مجال الوظيفة‪ ،‬لكن قبل أن نتحدث عن‬
‫ذلك‪ ،‬فلنناقش قليال ً وجهات النظر السائدة حول كيفية التوفي بين الشغف‬
‫والعمل‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫أفضل ما في األمر‪ :‬حين يتحوّل الشغف إلى مهنة‬
‫من السهل أن نعرف لماذا تدور أحال الماليين حول الكوكب حول القيا بعمل‬
‫يحبوه بدال ً عن العمل المتردي الذي تزاوله البقية كل يو ‪ ،‬فال أحد يولد لتنظيف‬
‫الطرقات أو تلحيم الدعائم الحديدية تحت الشمس أو تقديم الطعا في المطاعم‬
‫أو الجلوس ورا مكتب والتحدي في شاشة طوال اليو ‪.‬‬

‫القيا بعمل نحبه حقاً هو مفتاح السعادة لماليين التعسا الذي يشعرون أنهم‬
‫يستيقظون كل يو للذهاب إلى حتفهم‪ .‬في نهاية المطاف‪ ،‬ما الذي سيكون‬
‫أفضل لهؤال من االستيقاظ صباحاً للقيا بشي يحبوه ويدر عليهم مدخول كاف‬
‫لعيش حياة كريمة في الوقت نفسه؟‬

‫شغفنا بشي ما يجعلنا نستمتع لساعات في أخذ الصور الفوتوغرافية في أبعد‬


‫جبل في العالم مثال ً من دون أن نشعر بالتعب‪ .‬الشغف يسهل علينا الجلوس‬
‫أليا طويلة أما الشاشة لكتابة رواية قصيرة أو للقرا ة عن أسلوب ما في الرسم‬
‫أو الحياكة أو النحت في الخشب‪ .‬الشغف يساعدنا أيضاً على تطوير مهاراتنا‬
‫بشكل سريع جداً ألننا نمارس العمل بانتباهنا الكامل ويهمنا أن نكون بارعين فيه‪.‬‬

‫كل ذلك يبدو مثالياً‪ ،‬ولعله ما يدفع مؤلفي كتب النصائح المهنية والتنمية الذاتية‬
‫على استعماله كهدف أسمى لكل ساعٍ للسعادة – من الصعب أن نرفض عمال ً ال‬
‫يمللنا وال يتعبنا وال يقلقنا وال يسبب لنا االكتئاب‪ .‬لكن ما ال يخبرنا به أصحاب هذه‬
‫الدعوات هي أن تحويل الشغف إلى عمل ليس بالضرورة وصفة للسعادة المهنية‪.‬‬

‫أسوأ ما في األمر‪ :‬حين يقضي المال على الشغف‬


‫تحويل شغفنا إلى عمل أمر غير متوافر وغير ممكن بالنسبة للغالبية الساحقة‬
‫من الناس‪ ،‬والسبب بسيط‪ :‬العرض والطلب في سوق العمل هو ما يحكم‬
‫الوظائف وطبيعتها‪ ،‬ال الرغبات واألحال الشخصية‪ .‬معظم األمور التي يحبها الناس‬
‫كالرياضة والموسيقى والفن والتصميم والكتابة وما شابه لها سوق عمل محدود‬
‫جداً وال يمكن للجميع أن يحصلوا على وظيفة فيها أو يجنوا منها ما يكفي من‬
‫المال ليحولوها إلى عمل دائم‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬تحويل شغفنا إلى عمل ليس بالضرورة أمراً جيداً‪ .‬حين نتحمس‬
‫لتحويل شغفنا إلى مهنة‪ ،‬غالباً ما ننسى أن ربط الشغف بالمال قد يؤدي في‬
‫الكثير من األحيان إلى قتل الشغف‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ما يجعل األشيا التي نحبها جميلة هو أننا نقو بها من وقت آلخر في وقتنا الحر‪،‬‬
‫على وتيرتنا الخاصة وبتفضيالتنا الخاصة‪ ،‬واألهم‪ ،‬نحن نقو بها باختيارنا الحر‪.‬‬
‫حين نحولها إلى مهنة‪ ،‬فهذا يعني أنه سيكون علينا معظم الوقت أن نضع شغفنا‬
‫وتفضيالتنا وميولنا الشخصية جانباً واالنصياع لرغبات االتفضيالت لسائدة في‬
‫سوق العمل والزبون الذي نتعامل معه‪ .‬المال والزبائن هم من يحددون إلى حد‬
‫كبير وتيرة العمل وطبيعته واتجاهه‪ ،‬سوا كنا نتحدث عن عمل فني أو غيره‪.‬‬

‫هل يبقى الشغف للتصوير‪ ،‬الكتابة‪ ،‬البستنة أو تصميم األثاث نفسه حين يصبح‬
‫واجباً يومياً متعباً يهدف لمالقاة ذوق وأهداف زبون يدفع لنا المال؟ هل سنحافظ‬
‫على شعور الشغف حين ننهمك في مالقاة المهل والمواعيد النهائية وطلبات‬
‫الزبائن والصعوبات التقنية واألعبا المادية لعمل مستقل من هذا النوع كل يو‬
‫من األسبوع؟ أو سنقو عندها بالبحث عن هواية وحب آخر للهروب من ضغط‬
‫العمل واستنشاق بعض الهوا النقي بعيداً عن العب الجديد الذي خلقناه‬
‫ألنفسنا؟‬

‫هنالك عدد ال يحصى من الناس الذين حاولوا تحويل شغفهم إلى مهنة أو حاولوا‬
‫تأسيس شركاتهم الصغيرة الخاصة ليكتشفوا فيما بعد أن ذلك يضع على عاتقهم‬
‫المزيد من الضغوط والتعب بدل العكس‪ .‬العمل في أمر نكرهه إذاً ليس أمراً جيداً‪،‬‬
‫لكن تحويل شغفنا إلى عمل أو مهنة قد ال يكون بالضرورة الجنة الموعودة‪ .‬ما‬
‫الحل إذاً؟‬

‫‪36‬‬
‫مثلّث النجاح‬
‫هنالك حل للمعضلة السابقة تعرفه بعض الكتب باسم “مثلث النجاح”‪ ،‬وهو تمرين‬
‫عملي وبسيط يظهر لك المجال المهني المناسب لك ويسمح لك بالتخطيط‬
‫بهدو لالنتقال إليه بعد بضعة أشهر أو سنوات‪ ،‬خصوصاً إن كنت تعمل في مجال‬
‫تكرهه وتبحث عن أبواب للخروج منه من دون تعريض مدخولك للخطر‪.‬‬

‫التمرين التالي يحتاج لنحو ‪ 20‬دقيقة فقط (أضمن لكم أنها ستكون ‪ 20‬دقيقة قيمة‬
‫لكم) وهو مفيد لمن هم على أبواب سوق العمل وللموظفين الذين قضوا عقود‬
‫في سوق العمل على السوا ‪.‬‬

‫“مثلث النجاح” هو المنطقة الناتجة عن تقاطع ثالث دوائر‪ ،‬كما يظهر الرسم‬
‫التالي‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫الدائرة األولى هي دائرة الشغف‪ :‬ارسم دائرة واكتب فيها كل األشيا التي تحب‬
‫القيا بها‪ .‬ليس من الضروري أن تكون تمارسها حالياً وقد تكون أمور تحب أن‬
‫تتعلمها في المستقبل أو تحبها بشكل عا من دون أن يكون لديك مهارة حالية‬
‫فيها‪.‬‬

‫الدائرة الثانية هي دائرة المهارات‪ :‬ارسم دائرة أخرى تتقاطع مع الدائرة األولى‬
‫واكتب فيها كل المهارات التي اكتسبتها خالل حياتك‪ ،‬سوا اكتسبتها في العمل‪،‬‬
‫الدراسة‪ ،‬من خالل هواياتك‪ ،‬عبر تدريب مهني خاص‪ ،‬أو بمجهودك الشخصي‪.‬‬
‫من المهم أن تكتب فيها كل األمور التي تبرع فيها أو التي تمتلك فيها كفا ة‬
‫معينة‪.‬‬

‫الدائرة الثالثة هي دائرة المدخول‪ :‬اكتب في هذه الدائرة مستوى الدخل الذي‬
‫تحصل عليه حالياً‪ ،‬وحاول تقدير مستوى الدخل المتوقع من كل شغف أو مهارة‬
‫وضعتها في الدائرتين السابقتين‪ .‬كن واقعياً في تحديد مستوى الدخل المتوقع‬
‫وال تجعل األرقا أكبر من الممكن؛ بعض المهارات قد ال تؤمن لك أي دخل على‬
‫االطالق‪ ،‬وعليك أن تضع رقم صفر إلى جانبها‪ .‬عليك أيضاً أن تحدد مستوى الدخل‬
‫الذي تحتاجه لكي تحصل على حياة كريمة والئقة وتضعه في أسفل الدائرة‪.‬‬

‫حين تنتهي من تعبئة الدوائر األساسية الثالث بالمعلومات المطلوبة‪ ،‬سنبدأ اآلن‬
‫بتعديل ما كتبناه في الدوائر الكتشاف بعض المناط ‪ .‬ستالحظ أن التقاطعات بين‬
‫الدوائر الرئيسية الثالث ترسم فيما بينها أربع مناط منفصلة‪ .‬المنطقة األولى‬
‫هي منطقة التقاطع بين دائرتي الشغف والمهارة (المنطقة رقم ‪ 1‬في الرسم‬
‫أعاله)‪ :‬ضع في هذه المنطقة األمور التي تحبها وتجيد القيا بها ولكن ال يمكنها‬
‫كاف أو أن دخلها في سوق العمل هامشي جداً (الكتابة عادة‬ ‫ٍ‬ ‫تأمين مدخول‬
‫تدخل ضمن هذا اإلطار ‪ .)D:‬مهنياً‪ ،‬هذه المنطقة التي تريد االبتعاد عنها؛ ال تريد‬
‫إعطا الكثير من االهتما لها ونفعها الوحيد أنها ستساعدك على اكتشاف األمور‬
‫التي تحبها والتي ال يمكنك تحويلها إلى مهنة‪.‬‬

‫المنطقة الثانية هي منطقة التقاطع بين دائرتي الشغف والمدخول (وهي‬


‫المنطقة رقم ‪ 2‬في الرسم أعاله)‪ :‬في هذه المنطقة‪ ،‬اكتب االمور التي تحبها‬
‫والتي لها امكانية تأمين مدخول جيد لك في المستقبل لكن ليس لديك فيها‬
‫حالياً المهارة التقنية المطلوبة أو الشهادة أو المعرفة الكافية لممارستها‪ .‬في‬
‫هذه المنطقة ستكتشف احتماالت مهنية مفيدة للمستقبل يمكنك العمل عليها‬
‫خالل السنوات المقبلة (وتحديداً على اكتساب المهارة أو المعرفة التقنية‬
‫المطلوبة فيها)‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫المنطقة الثالثة هي منطقة التقاطع بين دائرتي المهارة والمدخول (وهي‬
‫المنطقة رقم ‪ 3‬في الرسم أعاله)‪ :‬هنا ستضع األمور التي تجيد القيا بها‪ ،‬والتي‬
‫تعطيك ما يكفي من المدخول في الوقت الحالي‪ ،‬لكن التي ليس لديك شغف أو‬
‫حب تجاهها‪ .‬معظم الناس على الكوكب تعمل في مهن يمكن وضعها في هذه‬
‫المنطقة ومن األرجح أن يكون عملك الحالي من ضمنها‪.‬‬

‫المنطقة الرابعة وهي األهم تقع في قلب تقاطع الدوائر الثالث واسمها في‬
‫الرسم مثلث النجاح‪ .‬داخل هذه المنطقة‪ ،‬ضع األمور التي تحبها وتجيد القيا بها‬
‫ف لك في الوقت نفسه‪ .‬الغالبية الساحقة من الناس‬ ‫ويمكنها تأمين مدخول كا ٍ‬
‫ليس لديها أي كلمة لتضعها في هذا المثلث‪ ،‬وإذا كانت هذه حالتك أيتها القارئة‬
‫والقارى العزيز فال تقلقوا! هذا أمر طبيعي جداً ألنه لو كان لديك ما تضعه في‬
‫هذه المنطقة لكان ذلك مجال عملك وما كنت لتقرأ هذا المقال من األساس‪.‬‬

‫إن كانت هذه المنطقة فارغة حين تصل إلى نهاية هذا التمرين‪ ،‬انظر إلى ما‬
‫الثالث السابقة‪ ،‬وخصوصاً منطقة التقاطع بين الشغف‬ ‫وضعته في المناط‬
‫والمدخول (المنطقة رقم ‪ ،)2‬وادرس الخطوات التي تحتاج للقيا بها في حياتك‬
‫لنقل أمر ما من هذه المنطقة إلى مثلث النجاح‪.‬‬

‫الشغف األكبر لمعظم الناس سيكون في الواقع خارج “مثلث النجاح” ألنه على‬
‫األرجح من أنواع الشغف التي ال تؤمن مدخوال ً كافياً في سوق العمل الحالي أو‬
‫ألنها من األمور التي تحتاج لوقت طويل جداً لتطوير مهارتنا فيها‪ .‬المفتاح إذاً ليس‬
‫تحويل الشغف األكبر إلى عمل ألن ذلك أمر نادر وصعب جداً‪ .‬الحل هو ببساطة أن‬
‫تحاول أن تقو بعمل تحبه بالحد األدنى‪ ،‬لديك مهارة جيدة فيه‪ ،‬وقادر في الوقت‬
‫ف لك‪.‬‬
‫نفسه على تأمين مدخول كا ٍ‬

‫مجدداً‪ ،‬ليس من الضروري أن يكون هذا العمل هو شغفك األكبر‪ ،‬وليس من‬
‫الضروري أن يحق لك المدخول األكبر‪ ،‬وقد قد ال تجيده بشكل كبير في البداية‪،‬‬
‫الكلمة المفتاح هنا هي التوازن‪ :‬التوازن بين الشغف والمهارة والمدخول هو الخيار‬
‫المهني األكثر واقعية في هذه األيا ‪ .‬هذا الخيار سيتيح لك تحمل سنوات من‬
‫العمل من دون أن تتمنى خن مديرك كل يو ‪ ،‬كما أنه يسمح لك بإبقا شغفك‬
‫واألمور التي تحبها بعيدة عن ضغوط العمل ومساوئه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الهروب النهائي من العمل‪ :‬هل هو ممكن؟‬
‫هنالك العديد من الناس ومنهم كاتب هذه السطور ال يحتملون أية وظيفة‪ ،‬مهما‬
‫كانت مريحة ومهما كانوا يحبونها‪ .‬فكرة االستيقاظ صباحاً للذهاب إلى مكان ما‬
‫رغماً عن إرادتك والقيا بأمور ال تعني لك كثيراً وحددها لك أشخاص آخرون‪ ،‬هي‬
‫أسوأ األفكار التي خرجت بها الرأسمالية يوماً‪ .‬الوظيفة هي قيد ال يناسب كثيراً‬
‫الناس الذين تشكل استقالليتهم الذاتية ومشاريعهم الخاصة شغفهم الرئيسي‬
‫في الحياة‪.‬‬

‫على الصعيد الشخصي مثالً‪ ،‬هدفي النهائي هو أن أصل إلى مرحلة اتخلص فيها‬
‫كلياً من الوظيفة؛ مرحلة استطيع فيها االستيقاظ صباحاً وتحديد ما الذي أريد أن‬
‫أفعله في ذلك اليو بقراري الخاص من دون أن يملي علي أحد أين يجب أن‬
‫أكون أو ما الذي يجب أن أقو به أو ماذا الذي يجب أن اكتب خالله‪ .‬أريد أن أكون‬
‫حراً من قيد عبودية األجر‪ ،‬ال ألنني كسول وال أحب العمل‪ ،‬لكن ألنني أريد أن‬
‫أعمل على األمور التي أريدها أنا ال التي يحددها لي رب عمل ال يهدف سوى‬
‫لجمع الثروات من عملي‪.‬‬

‫لكن الحرية لها ثمن‪ ،‬وثمنها في زماننا الحالي باهظ جداً‪ .‬هل نستطيع شرا‬
‫حريتنا من العمل كما كان يشتري العبيد حريتهم في العصور القديمة؟ هل يمكن‬
‫عيش حياة من دون وظيفة من دون أن يكون لدينا ماليين الدوالرات في البنك؟‬
‫شخصياً اعتقد أن ذلك ممكن إلى حد ما لكنه ليس باألمر السهل‪ .‬السر؟ السر‬
‫هو البنا التدريجي والمستمر للمناعة المالية والمهارات الشخصية المناسبة‬
‫لالنفكاك عن السيستيم‪ ،‬وتعزيز أسلوب العيش البسيط بشكل يتيح لنا على‬
‫المدى البعيد مرونة حياتية ومهنية ال يمتلكها أي موظف آخر في العالم‪ .‬فلنتحدث‬
‫عن ذلك قليالً‪.‬‬

‫الجانب األول هو بنا المناعة المالية ونقصد به بنا احتياط مالي من خالل االدخار‬
‫يتيح للشخص إعالة نفسه بنفسه في حال خسر وظيفته أو في حال أراد تغيير‬
‫مهنته‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬ادخار ‪ % 30‬من مدخولنا يعني أنه سيكون بمقدورنا‬
‫بعد عشر سنوات إعالة أنفسنا ألربع سنوات كاملة من دون وظيفة ومن دون‬
‫مدخول (تفاصيل الحساب هنا[‪ .)]1‬مذهل أليس كذلك؟‬

‫هذا ولم نذكر بعد األساليب التي يمكننا من خاللها استخدا المال لتحقي‬
‫مدخول إضافي‪ ،‬ما يعني أن المدخرات المذكورة قد تكون كافية لسنوات أطول بما‬
‫قد يتيح التخلص من الوظيفة نهائياً وتحقي االستقاللية المالية الجزئية أو الكاملة‬
‫(المتمثلة بالقدرة على تحقي مدخول من دون وظيفة أو رب عمل)‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫في أقل األحوال‪ ،‬االدخار لسنوات قليلة يمكن أن يساعدنا على االستقالة من‬
‫عمل نكرهه وربما التدرب في مهنة أخرى أو العودة إلى الجامعة لبضعة سنوات‪.‬‬

‫الجانب الثاني من خطة الهروب من عبودية األجر يتمثل ببنا المهارات الشخصية‬
‫التي تفتح لنا أبواب مهنية جديدة قد تتيح لنا فيما بعد الحصول على عمل أفضل‬
‫أو الوصول إلى عمل نحبه يتناسب مع شخصيتنا وطموحنا‪ ،‬أو حتى إنشا عمل‬
‫جديد بالكامل‪ .‬اإلحصا ات تشير إلى أن أبنا جيلنا يقضون ما معدله ‪ 15‬ساعة‬
‫كاف الكتساب‬
‫ٍ‬ ‫على األقل في األسبوع في تصفح االنترنت؛ نصف هذا الوقت فقط‬
‫مهارة جديدة كل عا أو تعزيز مهارة نملكها لدرجة احترافية‪.‬‬

‫هنالك أصدقا كثر أعرفهم شخصياً غيروا مهنهم بهذه الطريقة؛ هنالك صديقة مثال ً‬
‫كانت تعمل في مجال المحاسبة وتعلمت التصوير لثالث سنوات إلى جانب عملها‬
‫قبل أن تنجح فيما بعد باالنتقال إلى هذا المجال الجديد بدوا كامل‪ .‬زميلي في‬
‫العمل تخرج من كلية الحقوق وبدأ بالتدرج كمحا ٍ قبل أن يدرك أنه يكره هذا‬
‫المجال – فعلم نفسه البرمجة ومهارات تحسين تجربة المستخد ‪ UX‬حتى‬
‫أصبح اليو أحد مدرا المشاريع في شركة كبرى في هذا المجال‪ .‬هنالك قريب‬
‫لي بدأ بالعمل على صندوق الدفع في مركز تسوق تجاري‪ ،‬وبعد بضعة سنوات‬
‫أصبح مديراً للمركز الذي بدأ فيه بأدنى وظيفة‪.‬‬

‫شخصياً‪ ،‬قمت بالعمل على تحسين لغتي االنكليزية عندما كنت أعمل كمحرر‬
‫باللغة العربية حتى أصبحت قادراً فيما بعد على الكتابة والتحرير بهذه اللغة‬
‫بشكل سهل جداً ما اتاح لي العمل في مجالت إنكليزية وشركات ال تستعمل‬
‫سوى هذه اللغة‪ .‬هنالك الكثير من األمثلة في هذا المجال – عليك فقط أن تجد‬
‫األمر الذي تحبه وأن تعمل عليه خطوة خطوة‪.‬‬

‫الجانب الثالث من هذه العملية هو تعزيز أسلوب العيش البسيط الذي يعني أن‬
‫القيود االستهالكية المنتشرة في المجتمع ال تقيد حركتك بعد اليو ‪ ،‬وال تجبرك‬
‫على العمل لساعات إضافية في عمل تكرهه لشرا سيارة رياضية سريعة أو‬
‫أحدث هاتف ذكي‪ .‬االستقاللية عن هذه الرغبات االستهالكية السائدة تتيح لك‬
‫الكثير من الحرية والمرونة فيما يتعل بعملك ومستقبلك بما يتيح لك تغيير‬
‫وجهتك المهنية في أي وقت تقريباً ألنك خفيف وحر وغير مقيد بالممتلكات‬
‫المادية من حولك‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫اجتماع هذه الجوانب الثالث‪ :‬االحتياط المالي‪ ،‬المهارات المهنية التي تتيح لك‬
‫تحقي مدخول بنفسك‪ ،‬وأسلوب الحياة البسيطة‪ ،‬يمكن أن يساعدك على‬
‫التخلص من الوظيفة التي تكرهها على المدى البعيد‪ ،‬أو يساهم على األقل‬
‫بفتح مجاالت جديدة أمامك لم تعتقد بوجودها قبالً‪ .‬سنتحدث عن كل هذه األمور‬
‫بالتفصيل في الفصول المقبلة‪.‬‬

‫_________________‬

‫هامش‪:‬‬

‫[‪ ]1‬إن كان المدخول ‪ 1000‬دوالر مثالً‪ ،‬واالدخار هو ‪ 300‬دوالر‪ ،‬هذا يعني أن الشخص المذكور‬
‫سيستطيع خالل عشر سنوات ادخار مبلغ ‪ 36‬ألف دوالر‪ ،‬أو ما يعادل ‪ 51‬شهراً من المصاريف‬
‫(التي هي ‪ 700‬دوالر بالشهر)‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫تخلّص من مخدراتك‪:‬‬
‫لماذا كلنا مدمنون وكيف نواجه ذلك‬

‫معظم حاالت اإلدمان تبدأ كمحاولة للتكيف مع مشكلة؛ تبدأ باحتسا كوب واحد‬
‫من الكحول مثال ً لتغيير مزاجنا بعد شجار مع الشريك‪ ،‬ثم نحتاج لكوب آخر للتعامل‬
‫مع يو صعب في العمل‪ ،‬وآخر للتعامل مع حادث في العائلة‪ ،‬حتى يأتي يو ال‬
‫نستطيع فيه العيش من دون زجاجة كحول في يدنا‪ .‬قد يعتقد بعض القرا الذين‬
‫بدأوا بهذا المقال أنهم غير مدمنين على شي وأن هذا المقال ال يعنيهم أبداً‪،‬‬
‫لكن عليهم أن يعيدوا النظر بذلك‪ :‬في مجتمعنا االستهالكي‪ ،‬كل شخص يعاني‬
‫من نوع واحد على األقل من اإلدمان‪ .‬فلنتحدث عن ذلك قليالً‪.‬‬

‫يعرف علم النفس اإلدمان على أنه هوس الإرادي على القيا بشي محدد‬
‫للحصول على اشباع معين‪ ،‬حتى ولو أدت هذه العادة إلى عرقلة الحياة الطبيعية‬
‫للمدمن‪ .‬فلنطب هذا التعريف على مبادى الحياة البسيطة وسيتضح لنا أنه‬
‫هنالك حاالت كثيرة من اإلدمان في عاداتنا الالإرادية والالواعية التي ورثناها‬
‫بطريقة أو بأخرى عن الثقافة السائدة‪.‬‬

‫…‬

‫‪43‬‬
‫حين نعاين هذا التعريف تتضح الصورة أكثر‪ :‬بعضنا مدمن على فايسبوك ويوقفون‬
‫جميع نشاطاتهم خالل اليو عدة مرات لتفقده والحصول على اشباع للذات من‬
‫خالل بضعة اليكات وتعليقات‪ .‬بعضنا مدمن على نشرات االخبار والمسلسالت‬
‫الدرامية‪ ،‬وبعضنا مدمن على التسوق‪ ،‬وبعضنا مدمن على شرا الكتب (التي‬
‫يكدسها في المنزل من دون قرا تها)‪ ،‬وبعضنا مدمن على االلعاب االلكترونية‪،‬‬
‫على القهوة‪ ،‬على األطعمة الدهنية الغنية بالسكر والملح‪ ،‬وبعض الناس مدمنون‬
‫على شرا أحدث تلفزيون كل بضعة أشهر حتى يكاد حائطهم بكامله يكون مجرد‬
‫تلفاز هائل‪ ،‬وبعضنا مدمنون على أمور أسوأ كالكحول أو الدخان أو المخدرات‪.‬‬
‫العالم العصري بحد ذاته مبني على االدمان ككل؛ فهو عالم مدمن على التقد‬
‫والنمو‪ ،‬مهووس بتحقي األرباح وزيادة المكانة االجتماعية والهيمنة على اآلخرين‬
‫وعلى الظواهر الطبيعية واختراع تكنولوجيا أكثر وأكبر وأسرع عاماً بعد عا ‪.‬‬

‫لكن هل نحن مدمنون حقا؟‬


‫ادماننا العصري يقع على مستويات مختلفة؛ فبعضنا ال يستطيعون قضا الصباح‬
‫من دون قهوة‪ ،‬وال يستطيعون قضا عطلة من دون تسوق أو سفر‪ ،‬وال‬
‫يستطيعون قضا ساعة من دون جرعة فايسبوك‪ .‬هؤال سيعبرون عن رغبتهم‬
‫بالقول أنها “حاجة”‪ ،‬فيقولون مثال ً “أنا بحاجة للسفر”‪“ ،‬أنا بحاجة لتفقد‬
‫فايسبوك”‪“ ،‬أنا بحاجة لقهوة”‪ .‬كأن هذه األمور هي حاجات ضرورية للبقا‬
‫البيولوجي‪ ،‬ال مجرد رغبات آنية ورثناها من خالل نمط حياة معين‪.‬‬

‫طبيعة هذه الممارسات الالإرادية التي تسود على أسلوب حياة معظمنا تجعل‬
‫منها عائقاً أما االنفكاك عن المنظومة السائدة‪ .‬نحن ال نستطيع االنفكاك عن‬
‫السيستيم إن كنا ال نستطيع االنفكاك عن المواد التي يقدمها لنا لتأسرنا‪ .‬علينا‬
‫أن نكتشف العادات والرغبات التي زرعها فينا‪ ،‬وأن نتغلب عليها ونخل عاداتنا‬
‫ورغباتنا الخاصة المستقلة عنه‪ .‬بتعابير أبسط‪ ،‬االستقاللية عن السيستيم ال‬
‫تعني شيئاً إن كنا ال نستطيع العيش من دون فايسبوك لشهر مثالً‪ ،‬أو إن كنا ال‬
‫نستطيع العيش من دون مشروبات غازية أو نوع محدد من الشوكوالتة‪.‬‬

‫مشكلة إدماننا االستهالكي ال تتوقف على استقالليتنا عن السيستيم‪ ،‬بل‬


‫هنالك أيضاً كلفة حياتية ومالية هائلة لالدمان‪ .‬جز من هذه الكلفة يسمى‬
‫اقتصادياً “الفرصة الضائعة”؛ أي أن الساعات األربعة التي نقضيها على التلفاز كان‬
‫يمكن أن نقضيها في أمر أكثر إفادة بكثير لنا على الصعيد الشخصي كالقرا ة أو‬
‫التحدث مع أفراد عائلتنا‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أما الكلفة المالية المباشرة لإلدمان فهي أوضح‪ :‬االشتراك في القنوات الفضائية‬
‫مثال ً إلروا ادماننا على التلفاز يكلفنا على األقل أربعة آالف دوالر خالل عقدين‬
‫ونصف من الزمن‪ ،‬وشرا تلفاز جديد لهذه المهمة كل ثالث أعوا يكلفنا على‬
‫األقل خمسة آالف دوالر أخرى للفترة نفسها‪ ،‬وتدخين علبة واحدة من الدخان‬
‫يومياً يكلفنا نحو عشرة آالف دوالر خالل عقدين ونصف ثمناً للسجائر‪.‬‬

‫هذه العادات الثالث (شرا أحدث التلفزيونات‪ ،‬االشتراك بالقنوات الفضائية‪،‬‬


‫التدخين) شائعة جداً وال ينتبه لها أحد لكنها تكلف الشخص العادي في العالم‬
‫العربي نحو عشرين ألف دوالراً على األقل خالل فترة ‪ 25‬عا ‪ ،‬فضال ً عن كلفتها‬
‫الصحية العالية بسبب مخاطر التدخين والجلوس أما التلفاز‪ .‬فكيف األمر إن‬
‫تحدثنا أيضاً عن مئات العادات الصغيرة األخرى التي تكلفنا صحتنا وسنوات حياتنا؟‬

‫التسوق بهدف الشعور بالسعادة هو أيضاً إدمان‪.‬‬

‫لكن كيف يمكن التخلص من االدمان االستهالكي؟‬

‫هنالك ثالث خطوات بسيطة جداً‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫اكتشف ادمانك‪ .‬هنالك الكثير من العادات التي ال نفكر فيها في حياتنا‬ ‫‪‬‬
‫وال نعلم أنها إدمان إال حين نضطر أن نعيش من دونها‪ ،‬كحين تنقطع‬
‫الكهربا أو حين تنفذ المشروبات الغازية من المنزل‪ .‬اكتشف عاداتك‬
‫اإلدمانية ودونها على ورقة صغيرة‪ ،‬مهما احتاجت عملية االستكشاف هذه‬
‫من وقت‪.‬‬

‫اكتشف كلفة ادمانك‪ .‬االدمان لم يكن ليكون ادماناً لوال أنه أوحى لعقلك‬ ‫‪‬‬
‫الالواعي بأنه هنالك أمر جيد تحصل عليه في المقابل‪ .‬قد تعتقد أنك‬
‫اجتماعي أكثر حين تشرب الكحول‪ ،‬أو متيقظ ونشيط أكثر حين تشرب‬
‫القهوة‪ ،‬وقد تعتقد أن هاتفك الذكي الحديث يعطي لمحيطك االجتماعي‬
‫االنطباع بأنك ناجح وعصري‪ .‬كل حالة إدمانية توهمنا بأنها تعطينا شيئاً ما‬
‫فيما تخفي عنا الجوانب السلبية لها‪ .‬ادمانك على الهاتف مثال ً يستولي‬
‫على انتباهك حين تكون مع اصدقائك ما يعي أو يخفف تواصلك معهم‪،‬‬
‫ادمانك على القهوة قد يجعلك عصبياً في الصباح بشكل أنك لم تعد تعرف‬
‫كيف تهدأ أو تتيقظ من دونها‪ ،‬وادمانك على الكحول قد يسبب لك‬
‫المشاكل الصحية‪ .‬اكتشف أيضاً الكلفة المالية التي تدفعها ثمن ادمانك‪:‬‬
‫هل تصرف ‪ 50‬دوالراً شهرياً بسبب ادمانك التطبيقات الجديدة على الهاتف‬
‫الذكي؟ أو بسبب كميات القهوة أو الكحول الهائلة التي تشتريها كل‬
‫أسبوع؟‬

‫أسس عادة جديدة وإيجابية تستبدل العادة االستهالكية السلبية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬‬
‫االدمان هو عادة خرجت عن السيطرة‪ ،‬ويمكننا تبديل هذه العادة بعادة‬
‫أخرى أكثر صحية وأكثر تناسباً مع أهدافنا الشخصية‪ .‬مثالً‪ ،‬بدل تناول‬
‫مشروب غازي مع الطعا ‪ ،‬استبدله في فترة أولى بمشروب غازي أخف‬
‫وتناول كميات أقل منه‪ ،‬ثم استبدله بعد فترة بعصير خفيف‪ ،‬ثم استبدل‬
‫العصير بكوب من الما ‪ .‬هكذا تبقى عادة تناول سائل ما مع الطعا لكن‬
‫السائل يتغير‪ ،‬ما يجعل تغيير العادة أسهل‪ .‬األمر نفسه بالنسبة للهاتف‬
‫حيث يمكننا في الواقع البد بحذف بعض التطبيقات الثانوية التي ال تفيدنا‬
‫وال نستخدمها كثيراً‪ ،‬لنصل فيما بعد إلى حذف التطبيقات التي تسبب‬
‫ادماننا على الهاتف‪ .‬البعض يفضل اتباع طريقة الصد ‪ ،‬بحيث يوقف االدمان‬
‫في يو واحد بشكل كامل ويحاول أن يصارعه من هناك‪ .‬في كل األحوال‪،‬‬
‫سيكون عليك أن تبني عادة جديدة لتحل مكان العادة التي توقفت عنها‪،‬‬
‫وإال فسيستبدلها عقلك الالواعي بإدمان سلبي آخر‪ .‬عليك أن تخطط مثال ً‬
‫ماذا ستفعل في المسا إن كنت ال تريد أن تقضيه أما التلفاز‪ :‬قد تقرر‬
‫مثال ً أن تتعلم آلة موسيقية لساعة وأن تشاهد التلفاز لساعة فقط بدل‬
‫اثنتين‪ ،‬وهذه بداية استبدال عادة التلفاز السيئة‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫مهما كان نوع إدمانك ومهما كانت مقاربتك الخاصة للتخلص منه‪ ،‬مواجهة هذا‬
‫األمر تعني أنك بدأت بالسيطرة على حياتك وانك بدأت باختيار االتجاه الذي تريده‬
‫لحياتك‪ ،‬بدل أن تتبع االتجاه االستهالكي الالواعي الذي فرضه المجتمع علينا‬
‫فرضاً‪ ،‬فحظاً سعيداً!‬

‫‪47‬‬
‫امرح كأنك في العصر الحجري‬

‫أربع نصائح لالنتقال من الترفيه االستهالكي إلى المتعة‬


‫الحقيقية‬

‫تحدثنا في المقالة السابقة عن اإلدمان االستهالكي الذي يحكم حياتنا وكيفية‬


‫مواجهته‪ ،‬واعتقد أن معظم القرا قد يجدون أن جز كبير من ادمانهم هو إدمان‬
‫معلوماتي ما‪ ،‬كفايسبوك‪ ،‬التلفاز‪ ،‬االنترنت وما شابه‪ .‬نحن نعيش في نهاية‬
‫المطاف في العصر الرقمي ومن الطبيعي أن يكون المجال الرقمي مهيمناً على‬
‫أجزا ال يستهان بها من انتباهنا وحياتنا‪ .‬العديدون منا يكادون ال يعرفون كيفية‬
‫الترفيه عن أنفسهم من دون تلفاز أو هاتف – وهو ما يتعارض إلى حد كبير مع‬
‫الحياة البسيطة‪ ،‬التي يفترض أن نكون قادرون فيها على الفكاك من الترفيه‬
‫االستهالكي السلبي الذي تفرضه علينا المنظومة السائدة‪.‬‬

‫أصدقائنا الفلينتستونز ‪:D‬‬

‫‪48‬‬
‫الترفيه واللهو هو جز طبيعي من الحياة‪ .‬في مجتمعات ما قبل التاريخ كان‬
‫اإلنسان يعمل نحو ‪ 6-4‬ساعات فقط في اليو ‪ ،‬ما ترك له نحو ‪ 20‬ساعة يومياً‬
‫للنو والراحة واللهو والترفيه‪ .‬الفكرة األولى التي ستتبادر إلى ذهن القارى‬
‫العصري حين يقرأ الفكرة السابقة هي التساؤل “كيف كان أسالفنا يقضون ‪20‬‬
‫ساعة في الراحة والترفيه واللهو من دون أن يكون لديهم كهربا وتلفزيون وانترنت‬
‫ومطاعم وجبات سريعة؟ ألم يعانوا من الضجر إلى حد الموت؟ ففي عالمنا‬
‫الرقمي والتكنولوجي‪ ،‬ال نستطيع تخيل ترفيه من دون كل الخردة االلكترونية‬
‫التي نملكها اليو ‪.‬‬

‫اإلنسان العصري يعتقد إلى حد بعيد أن الترفيه واالستهالك هما األمر نفسه –‬
‫سوا كنا نتحدث عن استهالك المواد المرئية والمسموعة كاألفال والبرامج‬
‫والمسلسالت واالنترنت‪ ،‬أو االستهالك المعيشي كحضور الحفالت والذهاب إلى‬
‫المطاعم وشرا المالبس الجديدة وأحدث الصيحات االلكترونية‪ .‬أنا متأكد أنه‬
‫هنالك عدد كبير من األطفال والشباب اليو ال يعلمون أبداً كيف يمرحون من دون‬
‫كهربا تغذي هاتفهم‪ ،‬حاسوبهم أو تلفازهم‪.‬‬
‫حين ننظر إلى أساليب الترفيه السائدة حالياً نالحظ أمران‪:‬‬

‫الترفيه السائد هو بمعظمه ترفيه سلبي‪ ،‬أي أن المشارك فيه هو متلقي‬ ‫‪‬‬
‫وليس مشارك إيجابي فاعل‪ .‬الجلوس أما التلفاز‪ ،‬تصفح االنترنت‬
‫ومشاهدة مباريات كرة القد هي بمعظمها أمور ال تستوجب من المشارك‬
‫فيها سوى الجلوس على مؤخرته من دون تحريك أي عضلة في عقله أو‬
‫جسده‪ .‬هذا ينطب بشكل خاص على الترفيه الرقمي‪.‬‬
‫الترفيه السائد هو ترفيه استهالكي وغير مجاني في معظم األحيان‪ .‬هذا‬ ‫‪‬‬
‫ينطب بشكل خاص على الترفيه غير الرقمي كالذهاب إلى المطاعم‬
‫والحفالت والقيا بالتسوق والمشاركة في النشاطات الترفيهية‪.‬‬

‫هذا ال يعني أن كل ترفيه رقمي هو سلبي‪ ،‬وال يعني أن كل ترفيه غير مجاني‬
‫هو استهالكي؛ المشكلة هي أننا لم نعد نعرف المرح والمتعة خارج منظومة‬
‫االستهالك‪ .‬إصالح هذا األمر ال يتم عبر عيش حياة خالية من الترفيه والمرح‪ ،‬بل‬
‫العكس تماماً‪ :‬الخروج من الترفيه االستهالكي يعني جعل النشاطات الترفيهية‬
‫واللهو أكثر إرضا ً ومرحاً وإفادة لنا‪ .‬علينا أن نتعلم المرح كأننا في العصر الحجري!‬

‫‪49‬‬
‫أربع نصائح لالنتقال من الترفيه االستهالكي إلى المتعة الحقيقية‬
‫فيما يلي بعض النصائح في هذا المجال‪:‬‬

‫‪ .1‬قتل مصّاصي االنتباه‬


‫لقد كررنا كثيراً أننا نقضي فترات طويلة جداً أما الشاشة؛ بعضنا يحدقون في‬
‫شاشة الحاسوب أما مكتبهم طوال اليو ليذهبوا من بعدها ويقضوا المسا أما‬
‫شاشة أخرى‪ .‬حاولوا أن تكتشفوا نسبة الوقت المنتج مقارنة مع الوقت الترفيهي‬
‫من مجموع الوقت الذي تقضونه أما الشاشة‪ .‬تقديري أنه هنالك على األقل‬
‫ساعتين إضافيتين نقضيهما كل يو أما الشاشة من دون أي فائدة ترفيهية أو‬
‫تعليمية على اإلطالق – أي نحو ‪ 720‬ساعة في العا ‪.‬‬

‫األبحاث تشير إلى أننا نحتاج لمئتي ساعة فقط لتعلم شي جديد‪ ،‬وأللف ساعة‬
‫لنصبح جيدين فيه‪ ،‬ولن‪ 10‬آالف ساعة لنصبح معلمين وأسياد فيه‪ .‬هذا يعني أنه‬
‫إن قتلنا مصاصي دما االنتباه من هاتف وحاسوب وتلفاز‪ ،‬يمكننا تعلم مهارة‬
‫جديدة أو أكثر كل عا تقريباً‪.‬‬

‫‪ .2‬التوازن بين الترفيه السلبي والمرح الفاعل‬


‫البعض قد يقول أن إلغا الشاشات من حياتنا أمر شبه مستحيل هذه األيا وأنا‬
‫أواف على ذلك‪ .‬حتى أنني اعتقد أنه ال يمكن تجنب قدر معين من الترفيه‬
‫السلبي كمشاهدة التلفاز أو تصفح االنترنت بسبب طبيعة حياتنا – حيث أن‬
‫السيستيم يحرص على أن نكون متعبين في معظم األيا ‪ ،‬ما يحول دون قيامنا‬
‫بأي بشي يستوجب جهد أكبر من الجلوس على الصوفا‪.‬‬

‫ما يمكن فعله في هذا المجال هو أن نحد من الوقت الذي نقضيه على الشاشة‬
‫وأن نزيد الوقت الذي نقضيه خارجها‪ ،‬كأن نضيف تمريناً رياضياً بعد العمل أو درساً‬
‫موسيقياً أو أن نقرأ كتاباً ورقياً بدل االلكتروني‪ ،‬أو أن نلغي االنترنت عن الهاتف‬
‫وأن نحدد أيا مشاهدة التلفاز بيو أو اثنين في األسبوع فقط‪ .‬الفكرة هنا هي أن‬
‫علينا أن نضيف على حياتنا شي مرح يساعدنا على تنشيط أذهاننا وأجسادنا‬
‫بدل االكتفا باستهالك الترفيه بشكل سلبي‪ .‬ال داعي لنذكر الفوائد الصحية‬
‫والنفسية لذلك على المدى البعيد‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫قاعدة ستان‪ :‬هل هي صحيحة؟‬

‫‪ .3‬إيجاد بدائل للترفيه االستهالكي‬


‫تقول إحدى شخصيات البرنامج الهزلي “ساوث بارك” أن “كل شي‬
‫مسلي يكلف على األقل ‪ 8‬دوالرات”‪ ،‬وهذا لألسف صحيح إلى حد كبير‬
‫في ظل الثقافة السائدة‪ .‬التسوق‪ ،‬حضور الحفالت والسهرات والفعاليات‪،‬‬
‫السفر‪ ،‬تناول الوجبات في المطاعم‪ ،‬األلعاب االلكترونية والرياضات المائية‬
‫ورياضات التزلج والتسل والتنس وغيرها‪ ،‬كلها تكلف الكثير من المال‪.‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬ليس من المنطقي لموظفة تتلقى راتب ‪ 500‬دوالر‪ ،‬أن‬


‫تستئجر ملعب تنس مثال ً مرتين في الشهر بمبلغ ‪ 100‬دوالر لممارسة‬
‫رياضتها المفضلة‪ ،‬كما أنه ليس من المنطقي أن يقو شاب يحصل على‬
‫األجر نفسه بالخروج كل أسبوع إلى مطعم مختلف ودفع ‪ % 40‬من راتبه‬
‫على تناول الطعا في الخارج‪ .‬علينا البحث عن بدائل بكل بساطة‪ .‬لعب‬
‫كرة السلة أو كرة القد بدل التنس قد يجلب نفس متعة الرياضة‬
‫والتنافس‪ ،‬لكن بكلفة أقل بكثير؛ ودعوة األصدقا للمنزل وتحضير طعا‬
‫شهي قد تجلب نفس متعة الخروج إلى مطعم فاخر ألن مصدر المتعة هو‬
‫غالباً في المرح مع األصدقا ال في المكان بحد ذاته‪.‬‬

‫هنالك دائماً بدائل متوافرة يمكنها أن تعطينا نفس السعادة والمتعة والمرح‬
‫من دون الوقوع في فخ نمط الحياة االستهالكي الذي يروجه لنا‬
‫السيستيم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫‪ .4‬اختيار الهوايات التي تناسب شخصيتكم وميزانيتكم‬
‫اختيار هواية هو أمر مهم لصحتنا الذهنية والنفسية والبدنية في زمن يريد‬
‫منا أن نكون آالت صامتة‪ .‬في اآلونة األخيرة أصادف أعداداً متزايدة من‬
‫الناس التي ال تمتلك أي هواية على اإلطالق؛ بل تكتفي فقط بالعمل‬
‫واالستهالك وتصفح االنترنت‪ .‬الهوايات الحقيقية ليست بالضرورة هوايات‬
‫استهالكية‪.‬‬
‫ال تصدقوا الخدع التسويقية‪ :‬أنتم ال تحتاجون لخمس عدسات للكاميرا‬
‫وثالث غيتارات للموسيقى وسوار الكتروني متطور لممارسة الرياضة‪ .‬ما‬
‫تحتاجوه أكثر هو الوقت واإلرادة‪ .‬علينا أيضاً أن نكون منطقيين في اختيار‬
‫هواياتنا؛ إن كنا نتقاضى الحد األدنى لألجور مثالً‪ ،‬هل من المنطقي أن‬
‫تكون هوايتنا هي التزلج بما تستوجبه من دفع ثمن المعدات وثياب التزلج‬
‫وتكاليف تعلم التزلج والذهاب الدوري إلى المنتجعات الجبلية؟‬

‫هل من المنطقي أن نشتري أغلى كامرا وثالث عدسات إن كنا ال نزال في‬
‫بدايات التصوير؟‬

‫األمر األساسي مع الهوايات إذاً هو أن تختاروا الهواية التي تناسب‬


‫شخصيتكم وتجلب لكم سعادة ومتعة حقيقية من دون أن ترهقكم مالياً‪،‬‬
‫وأن تبدأوا بها على مهل‪ ،‬خطوة خطوة‪.‬‬

‫من قال أن الترفيه ال يمكن أن يكون سوى عبر االستهالك؟ إن كان الناس في‬
‫العصري الحجري يستطيعون قضا عشرين ساعة حرة في اليو من دون أن يكون‬
‫لديهم هاتف ذكي ليقتلوا الوقت عبره‪ ،‬فلما ال نستطيع نحن القيا بذلك؟ تعلموا‬
‫من نسا ورجال الكهف‪ ،‬وامرحوا كأنكم في العصر الحجري!‬

‫‪52‬‬
‫ترحال كسندباد‪:‬‬
‫نصائح للسفر و نمط العيش البسيط‬

‫عند الحديث عن الحياة البسيطة وضرورة الخروج من االستهالك وبنا االستقاللية‬


‫الذاتية معيشياً ومالياً‪ ،‬تُطرح عادة عدة أسئلة متعلقة بتأثير نمط العيش هذا على‬
‫حياتنا االجتماعية والعملية ومنها خططنا للسفر والمغامرة في بلدان جديدة‪.‬‬

‫السفر هو طبعاً إحدى الطرق المهمة للقيا بمغامرات ال تنسى ولتوسيع آفاقنا‬
‫الثقافية واالجتماعية وتعمي تجربتنا في الحياة وتجاوز مناط راحتنا نحو أبعاد‬
‫جديدة لم نختبرها قبالً‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬السفر هو أوال ً ذهنية‪ ،‬وليس رحلة جغرافية‬
‫فحسب‪ :‬السفر هو روح المغامرة وحب التعرف على كل شي من زاوية جديدة‬
‫ومختلفة وتجربة أمور لم نجربها من قبل‪ ،‬وهذا برأيي يمكن القيا به في الحي‬
‫الذي نسكن فيه كما يمكن القيا به في بلد يبعد آالف الكيلومترات عن‬
‫مسقط رأسنا‪.‬‬

‫قبل أن نتحدث عن السفر‪ ،‬فلنتحدث قليال ً عن ظاهرة أخرى متعلقة بالسفر في‬
‫وقتنا الحالي‪ :‬ظاهرة تقديم السفر في قالب استهالكي ككل شي آخر في‬
‫مجتمعنا‪.‬‬

‫أساليب كثيرة للسفر!‬

‫‪53‬‬
‫لماذا روح المغامرة أهم من السفر‬

‫هنالك ثقافة سائدة خصوصاً في أوساط الطبقات الوسطى والثرية‪ ،‬تتعامل مع‬
‫السفر الدوري على أنه أحد أوجه المنافسة مع اآلخرين وأحد أركان أسلوب‬
‫حياتها‪ ،‬وال تتوانى عن استعراضه بصور على فايسبوك وتحف وأغراض في‬
‫المنزل‪ ،‬بالطريقة نفسها التي تستعرض فيها مقتنياتها األخرى‪ .‬هنالك أيضاً ضغط‬
‫اجتماعي في أوساط الشباب لكي يسافروا بشكل دائم‪ ،‬ولقد تعاملت كثيراً مع‬
‫أوساط اجتماعية يخجل أفرادها من غياب تجارب سفر سابقة لديهم أو يتفاخرون‬
‫بكثرة تجارب سفرهم‪.‬‬
‫في عملي الساب في دبي‪ ،‬كان الجميع يخجل من أن يقول أنه سيقضي وقته‬
‫في المدينة في عطلته السنوية‪ ،‬حيث يسافر الجميع ثالث وأربع مرات في العا‬
‫على األقل إلى أماكن مختلفة في العالم – ليعودوا من بعد عطلتهم ويتبجحوا‬
‫أما زمالئهم عن مغامراتهم‪.‬‬
‫السفر االستهالكي له وجهان؛ فهو من ناحية أولى يعتبر من دالئل النجاح‬
‫االقتصادي والمهني‪ ،‬كونه مكلفاً وليس بمتناول الجميع ومن يسافر يبرهن‬
‫بالتالي عن قدرته على تحمل كلفة السفر‪ .‬ومن ناحية ثانية يعتبر هذا النوع من‬
‫السفر دليل على التجربة الحياتية المتقدمة والثقافة الواسعة والخبرة العملية‬
‫للشخص المذكور في شؤون مختلفة‪ .‬اعتقد أن هاتين الفكرتين عن السفر (فكرة‬
‫أن السفر دليل نجاح مالي ودليل على سعة الثقافة الشخصية) غير صحيحتين‪،‬‬
‫وال بد من نقاشهما قليال لشرح السبب‪.‬‬

‫من ناحية أولى‪ ،‬السفر ليس مكلفاً بالدرجة التي يعتقدها البعض؛ لقد سافرت‬
‫سابقاً وال أزال بمبالغ أدنى مما يصرفه أصدقائي على هواتفهم الجديدة خالل‬
‫العا ‪ ،‬واعرف آخرين سافروا بميزانيات أقل من ذلك بكثير ألنهم كانوا يمتلكون‬
‫وقتاً أكبر للتخطيط وقضا الوقت في وجهتهم‪ .‬يمكن السفر من بيروت إلى النيبال‬
‫وقضا عشرة أيا هناك مثال ً بمبلغ ال يتعدى ‪ 1000‬دوالر (من ضمنه تذكرة‬
‫السفر)‪ ،‬وأنا واث تما الثقة أن السفر بميزانيات أقل يغني التجربة أكثر ال‬
‫العكس‪.‬‬

‫من ناحية ثانية‪ ،‬ليس صحيحاً أن السفر يصلح ليكون معياراً للحكم على‬
‫المستوى الثقافي والتجربة الحياتية للناس ونحن ال نحتاج لنناقش ذلك طويال ً‬
‫ألننا جميعاً نعلم أشخاص جالوا العالم كله وبقيوا في تحجرهم الثقافي نفسه‬
‫ولم تتطور شخصيتهم قيد أنملة‪ ،‬فيما هنالك أشخاص لم يغادروا قراهم في‬
‫حياتهم لكنهم يمتلكون ثقافة وخبرة حياتية وطيبة بشرية أكثر من أي مسافر‬
‫عالمي‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫المهم هو الذهنية التي يحملها اإلنسان‪ ،‬ال الكيلومترات التي يقطعها في‬
‫الطائرة؛ المهم هي ذهنية المغامرة واالنفتاح التي تستطيع أن تطورنا ذاتياً‬
‫وتساعدنا على اكتشاف آفاق جديدة وتعلم حكمة الحياة‪ .‬هنالك بالتأكيد العديد‬
‫من األماكن التي ال نعرفها في بلدنا‪ ،‬والعديد من الشخصيات واألسرار والحكايا‬
‫التي تنتظرنا لنكتشفها عند زاوية ما في مكان غير بعيد عنا‪ ،‬كل ما نحتاجه هو‬
‫فقط روح المغامرة فينا‪.‬‬

‫الدراجة هي وسيلة تنقل شعبية لدى محبي “السفر البطي ”‬

‫ترحال سندباد‪ :‬نصائح للسفر بميزانيات بسيطة‬

‫إلى ذلك‪ ،‬إن كنت مغامراً بح وموجود في بلد يمكن السفر منه بسهولة‬
‫نسبية‪ ،‬أنا متأكد أنك ستكتشف طريقة لتنظيم ميزانيتك ووقتك والقيا بسفر ما‬
‫إن كنت تحب القيا بذلك‪ .‬بعكس االعتقاد الشائع‪ ،‬السفر ال يحتاج للكثير من‬
‫المال‪ .‬بعض الخطوات البسيطة قد تعني الفارق بين قدرتك على القيا بسفر ما‬
‫من عدمه‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫‪55‬‬
‫المعرفة المسبقة بوجهة سفركم‪ :‬اقرأوا عن وجهة سفركم قبل‬ ‫‪‬‬
‫السفر إليها واكتسبوا فكرة عن معالمها ومصاريفها ومخاطرها ومتعها‪ .‬هذا‬
‫األمر سيعرفكم على أفضل الطرق لالستمتاع بسفركم ويجنبكم الكثير من‬
‫الرحالت والتكاليف غير الضرورية‪.‬‬

‫احجز على خطوط الطيران الرخيصة لكن اآلمنة‪ :‬الفارق في أسعار‬ ‫‪‬‬
‫التذاكر إلى نفس الوجهة بين الطيران الرخيص والطيران الغالي يبلغ أحياناً‬
‫الضعف‪ .‬قارن بين خطوط الطيران المختلفة واحجز وفقاً للسعر األفضل‪.‬‬

‫ضعوا ميزانية للسفر واستخدموا األموال الورقية طوال فترة‬ ‫‪‬‬


‫السفر‪ .‬هذه الممارسة مهمة جداً وإال ستجدون أنفسكم تصرفون أكثر من‬
‫ميزانيتكم بكثير‪ .‬من السهل جداً دفع مبالغ طائلة من المال عند السفر‬
‫للقيا بأمر إضافي ال تقو به عادة‪ ،‬كشرا زجاجة كحول فاخرة في غرفة‬
‫الفندق أو استئجار سيارة فخمة للتنقل…ألخ‪ .‬لذلك من األفضل استخدا‬
‫األموال الورقية دائماً بدل بطاقة الرصيد أو بطاقة االئتمان ألنه من األسهل‬
‫أن تكبح مصاريفك حين ترى األموال تنفذ من بين يديك‪.‬‬

‫تجنّب الفنادق الفاخرة‪ :‬إن لم تكن من أولئك األطفال المدللين الذين‬ ‫‪‬‬
‫يعيشون محاطون بالخد وال يستطيعون النو سوى على أسرة من حرير‪،‬‬
‫ابتعد عن الفنادق الفاخرة‪ .‬لماذا تريد أن تسافر لتقضي وقتاً في فندق في‬
‫كل األحوال؟ عند السفر‪ ،‬الفندق هو المكان الذي تنا فيه‪ ،‬ال المكان الذي‬
‫تريد أن تقضي فيه وقتك‪ .‬شخصياً‪ ،‬أفخر فندق نزلت فيه كان ثالث نجو‬
‫(كان الوحيد المتوافر في المنطقة)‪ ،‬وأقضي معظم أسفاري في الواقع في‬
‫موتيالت من نجمة واحدة أو اثنتين‪ ،‬وأحياناً في نزل ‪ Guest House‬ال نجو‬
‫له على اإلطالق‪ .‬لقد نزلت عدة مرات في منازل خاصة استأجرتها بأسعار‬
‫أقل بكثير من سعر غرفة في فندق‪ .‬إلى ذلك يمكن استخدا موقع‬
‫‪ couchsurfing.com‬للنزول لليلة واحدة مجاناً عند أشخاص يتشاركون‬
‫ذهنية المغامرة واالنفتاح مع بعضهم البعض‪ .‬في معظم الوقت لم تتخطى‬
‫ميزانية السكن خالل سفري الن ‪ 150‬دوالر في األسبوع‪.‬‬

‫التنقل‪ :‬بعض المسافرين ال يتنقلون سوى بوسائل نقل خاصة مع سائ‬ ‫‪‬‬
‫لكن هذه الطريقة مكلفة وتحد كثيراً من احتكاكك المباشر مع البلد الذي‬
‫تزوره‪ .‬الوسائل التي اعتمدها في سفري تتمثل باستعمال النقل العا‬
‫الذي يستخدمه سكان البلد أنفسهم مثل القطارات والمترو والباص‬
‫وسيارات األجرة العادية‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫في أحيان نادرة‪ ،‬قد أقو بالتشارك مع أصدقائي باستئجار سيارة وقيادتها‬
‫بأنفسنا كونها أحياناً أقل كلفة وأكثر سرعة عند التنقل لمسافات طويلة‬
‫داخل البلد‪ .‬ما عدا ذلك‪ ،‬هنالك جانب مهم من البلد ينتظركم لتكتشفوه‬
‫في باصاته وقطاراته‪.‬‬

‫الطعام‪ :‬كالتنقل‪ ،‬أفضل وسيلة للحصول على تجربة غنية للبلد الذي‬ ‫‪‬‬
‫تزوروه ولتوفير المال في الوقت نفسه هي عبر تناول الطعا في نفس‬
‫األماكن التي يتناول فيها السكان المحليون وجباتهم‪ .‬نعم هذا يعني أن‬
‫ذلك يشمل تناول الطعا أحياناً من محل صغير على جانب الطري ‪ .‬إلى‬
‫ذلك‪ ،‬هنالك كلمة سر إضافية لتوفير تكاليف الغذا عند السفر‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الوجبات الخفيفة‪.‬‬
‫ضعوا في حقيبتكم الكثير من الوجبات الخفيفة ألن ذلك يجنبكم إيقاف‬
‫نشاطاتكم بسبب الجوع والبحث عن أقرب مطعم لتناول الطعا فيه‪ .‬إن‬
‫كنتم قرب معلم سياحي مهم‪ ،‬المطاعم الموجودة ستكون بالتأكيد مكلفة‪،‬‬
‫ما يعني أن جوعكم سيكلفكم حينها مرتين‪ .‬ال تنسوا تجريب الطعا‬
‫الغريب الذي لم تروه سابقاً في حياتكم؛ إن لم يعجبكم المذاق‪ ،‬سيكون‬
‫لديكم على األقل قصة لتخبروها!‬

‫زيارة المعالم السياحية‪ :‬هنالك عادة نوعان من المعالم السياحية‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫المعالم المخصصة الستعراض الثروة‪ ،‬والمعالم التي تعطيكم مغامرة‬
‫جميلة‪ .‬تلك المخصصة الستعراض الثروة تشمل األسواق التجارية الكبرى‪،‬‬
‫المالهي الليلية الشهيرة‪ ،‬والفنادق الفخمة (التي يعتبرها الكثيرون أساس‬
‫تجربة السفر)‪ .‬ابتعدوا عنها‪ .‬المعالم األخرى تشمل األسواق القديمة‬
‫واآلثار والمعابد واألنهار والغابات والجبال الفريدة والتي تحتاج لكم أقل من‬
‫الجهد والمال للوصول إليها‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬حاولوا قرا ة تجارب المسافرين‬
‫السابقين عن البلد الذي تزورونه إذ قد تكتشفون فيه وجهة ساحرة غير‬
‫معروفة أو تتجنبون وجهة شهيرة ال طائل منها‪.‬‬

‫النشاطات السياحية‪ :‬في معظم األحيان هنالك مستويان من األسعار‬ ‫‪‬‬


‫لنفس النشاط السياحي – أحدهما عالي واآلخر منخفض‪ ،‬والفارق بين‬
‫االثنين هو عادة في أسلوب تقديم النشاط ال في طبيعته‪ .‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬يمكنك حجز جولة على األقدا على سفوح الهيمااليا ألسبوع‬
‫بسعر ‪ 150‬دوالر‪ ،‬كما يمكنك حجز نفس الجولة بسعر ألف دوالر‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫الفارق هو أن الخدمة الثانية يتم ترويجها على أنها خدمة حصرية وآمنة‬
‫وساحرة وذات مستوى عالمي‪ ،‬فيما تكون الثانية أكثر محلية وطبيعية –‬
‫هذا ما يجعل البعض يعتقد أن الخدمة االولى تقد نوعية جيدة فيما تبدو‬
‫الثانية مغامرة غير مضمونة النتائج‪ ،‬رغم أن الجولتان هما في الواقع األمر‬
‫نفسه‪.‬‬

‫فهم الموسم السياحي‪ :‬لكل بلد فترة في العا يكون فيها طقسه‬ ‫‪‬‬
‫مثالياً للسفر والنشاطات‪ ،‬سوا كنا نتحدث عن سواحل البحر األسود في‬
‫فصل الصيف أ الهند في فصل الخريف‪ ،‬لكن المشكلة هي أن االسعار في‬
‫الموسم السياحي تكون عادة أعلى بكثير من بقية أيا العا ‪ .‬تجنب‬
‫المواسم السياحية هو من أفضل الطرق لتوفير المال خالل السفر؛ لكن‬
‫هذا ال يعني أنه يجب السفر خالل موسم االمطار الى فييتنا والسفر إلى‬
‫دبي خالل فصل الصيف‪ ،‬فمن غير المنطقي صرف المال على السفر إن‬
‫كنتم ستذهبون لتقضوا كل وقتكم داخل غرفة مغلقة‪.‬‬
‫الحل هو في الوصول في بداية الموسم السياحي أو نهايته‪ ،‬حين يكون‬
‫الطقس ال يزال مناسباً للسفر‪ ،‬لكنه غير مناسب كفاية للجميع‪ .‬على‬
‫سبيل المثال‪ ،‬يبدأ موسم المطر والشتا في النيبال في آخر أسبوعين من‬
‫نوفمبر‪ ،‬لكن الطقس خاللها ال يزال صالحاً للقيا بكافة النشاطات‬
‫السياحية رغم بعض البرد الخفيف واألمطار القليلة‪ .‬أسعار كل شي خالل‬
‫هذه الفترة مثال ً تكون أدنى بقليل من فترة ذروة الموسم السياحي في‬
‫هذا البلد‪.‬‬

‫التسوق‪ :‬يمكنني أن أقول بثقة ان السياح الذين يبحثون عن أهم مراكز‬ ‫‪‬‬
‫التسوق الكبرى في البلد الذي يزورونه ال يقرأون سلسلة المقاالت هذه‪،‬‬
‫وانا ال افهم اساساً لماذا يريد أي شخص أن يسافر الى بلد آخر ليشتري‬
‫كميات كبيرة من نفس االغراض التي يمكن أن يشتريها في بلده‪ .‬إن‬
‫وضعنا ذلك جانباً‪ ،‬هنالك حاالت قليلة تبرر تسوق بعض األمور خالل السفر؛‬
‫منها مثال ً أن يكون هنالك في البلد المذكور شي تبحث عنه وال يمكن أن‬
‫تجده أبداً في بلدك (كاألدوات الطقوسية للتأمل الروحي التي وجدتها‬
‫النيبال)‪ ،‬أو أن تكون األمور التي تريدها متوافرة في البلد المذكور بأسعار‬
‫منخفضة جداً مقارنة مع بلدك (كالشاالت الباكستانية)‪.‬‬
‫في ما عدا ذلك‪ ،‬أي تسوق يتجاوز تذكارات صغيرة لك أو للمنزل‪ ،‬هو أمر‬
‫غير ضروري على االطالق‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫دد الوجهات‪ :‬هنالك أمر أساسي يرفع كثيراً من كلفة السفر‬ ‫تجنب تع ّ‬ ‫‪‬‬
‫وهو السفر إلى وجهات متعددة وبعيدة عن بعضها بعضاً‪ ،‬إن داخل البلد‬
‫الواحد أوبين عدة بلدان متجاورة‪ .‬اعتقد أن هذا يعود في جز منه إلى‬
‫ضي الوقت المخصص للسفر حيث نحاول أن نرى أكبر قدر ممكن من‬
‫وجهتنا في أقصر وقت ممكن‪ .‬وهو قد يعود في جز منه إلى رغبة البعض‬
‫بتجميع أكبر عدد ممكن من الوجهات في جعبته الستعراضها على‬
‫فايسبوك وأما االصدقا ‪.‬‬
‫تعدد الوجهات يعني أنك مضطر على التنقل أكثر وبسرعة أكبر داخل البلد‬
‫سوا بالطائرة أو باألجرة‪ ،‬وانك ستقو بالكثير من النشاطات في يو واحد‬
‫لكي تستطيع اللحاق بالنشاطات األخرى‪ ،‬ويعني انك ستصرف المزيد من‬
‫االموال عند كل محطة للحصول على الخدمة االسرع واالفضل‪ .‬حشد‬
‫الوجهات بالطريقة هذه ال يزيد مصروف السفر فحسب‪ ،‬بل يحرمك من‬
‫االستمتاع بالوجهة التي تذهب إليها ومن التفاعل مع البلد الذي تزوره‬
‫ألنك ستكون مستعجال ً طوال الوقت وقد ال تلتقي بأي شخص محلي‬
‫أساساً إن كنت تتنقل بين غرف الفنادق وسيارات األجرة الخاصة والطائرات‬
‫الداخلية‪.‬‬
‫اعرف بعض االشخاص الذين يخصصون يوماً واحد فقط لكل مدينة قبل‬
‫االنتقال الى مدينة أخرى‪ ،‬وهذا بالفعل جنون‪ .‬طريقتي الخاصة بالسفر‬
‫هي أن أزور عاصمة البلد أوالً‪ ،‬ثم منطقة ريفية نائية تساعدني على رؤية‬
‫وجه آخر له‪ ،‬وقد يقتصر كل سفري على هاتين الوجهتين‪ ،‬وال اتنقل بين‬
‫وجهاتي سوى بالباص أو القطار – بشكل يمكنني من التفاعل مع الناس‬
‫وجهاً لوجه ومن رؤية البلد عن قرب‪ .‬قضا أسبوع في مدينة واحدة هو في‬
‫معظم االحيان افضل بكثير من قضا أسبوع في سبعة مدن مختلفة – إال‬
‫إن كنت من محبي تجميع الصور‪.‬‬

‫لكن هل السفر ضرورة؟‬


‫السفر البسيط إذاً هو… بسيط! المعادلة سهلة‪ :‬إن قمت بالتوفير في تذاكر‬
‫الطيران‪ ،‬ووضعت ميزانية واضحة‪ ،‬وتنقلت بالطريقة التي يتنقل فيها أهل البلد‬
‫وأكلت نفس الطعا الذي يتناولوه‪ ،‬وتجنبت الفنادق الفخمة والسيارات الخاصة‬
‫والمعالم والنشاطات السياحية التي تشكل فخاً مالياً للسياح‪ ،‬يمكنك أن تسافر‬
‫بميزانية بسيطة إلى الكثير من األماكن حول العالم‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫هذا ال يعني أنه إن كان لديك ألفي دوالر مثالً‪ ،‬عليك أن تصرفهم على السفر‪،‬‬
‫فأنت من تحدد أولوياتك بنفسك‪ ،‬ال تسمح للثقافة السائدة أن تشعرك أنك يجب‬
‫أن تسافر لتكون كاآلخرين‪ .‬هنالك أمور في الحياة أهم بكثير من السفر‪ .‬إلى ذلك‪،‬‬
‫إن كنت من محبي الترحال‪ ،‬السفر ال يستوجب ماال ً بالقدر الذي تعتقده وهو‬
‫بالتالي ليس عائقاً‪.‬‬

‫منذ بضعة أشهر سألتي شقيقتي إن كان من االفضل أن تشتري حاسوباً جديداً‬
‫بالمبلغ الذي ادخرته أو أن تسافر به؛ رغم أن الحاسوب هو عملية شرا أكثر‬
‫منطقية من الناحية المالية (ألنها تحتاجه في عملها) إال أنني نصحتها بالسفر‪،‬‬
‫وخصوصاً أنها لم تعش هذه التجربة بعد وهي ليست بحاجة للمال في الوقت‬
‫الحالي‪ ،‬كما أن الحاسوب سيبقى معها لخمس سنوات على األكثر فيما‬
‫الذكريات التي ستكتسبها في الرحلة ستبقى معها مدى الحياة‪.‬‬

‫نمط العيش البسيط‪ ،‬كما سنرى في القسم الثاني من هذه السلسلة‪ ،‬يعني‬
‫أنن ا سنستطيع توفير المال لعيش بعض األمور التي نحلم بالقيا بها‪ ،‬وال يعني‬
‫أبداً اغالق الباب على مغامرات الحياة والعيش على سندويش لبنة وزيتون مدى‬
‫الحياة‪ .‬العيش البسيط بحد ذاته يعني إغالق الباب أما الثقافة التافهة السائدة‬
‫لفتحه أما الحياة الحقيقية والمغامرات الدائمة…‬

‫‪60‬‬
‫نمط العيش البسيط‬
‫وحياتنا العاطفية واالجتماعية‬

‫هل تعني البساطة أن حياتنا االجتماعية ستبدو على هذا الشكل؟ (الصورة من مجموعة بدوية معاصرة في‬
‫الواليات المتحدة متلقطة عا ‪(2013‬‬

‫اتباع نمط حياة بسيطة يطرح من دون شك أسئلة كثيرة حول حياتنا االجتماعية‪،‬‬
‫وخصوصاً أن الحياة االجتماعية لبقية الناس في ظل الثقافة السائدة تدور حول‬
‫مسلمات ال يشكك بها أحد كالزواج‪ ،‬إنجاب األطفال‪ ،‬التركيز على المهنة‪ ،‬الزيارات‬
‫الدورية للمطاعم والمقاهي‪ ،‬وامتالك األشيا المادية التي ال تحصى كالمنزل‬
‫الخاص والهاتف الذكي والسيارة والمالبس الفاخرة…ألخ‪ .‬بسبب هذه األمور‪ ،‬كل‬
‫من يحاول اتباع نمط عيش بسيط يواجه تحديات اجتماعية عدة‪ ،‬أولها مع العائلة‬
‫واألصدقا الذين قد ال يتفهمون خياراً صغيراً بحجم عد امتالك هاتف ذكي‪.‬‬
‫أصدقاؤنا وأهلنا قد يعتبرون أننا فقدنا صوابنا‪ ،‬وبعضهم قد يعتقد أننا لم نعد نحبهم‬
‫ألننا نتجنب العادات االستهالكية التي تجمعنا معهم‪.‬‬

‫من يتابع النقاشات على االنترنت حول الحياة البسيطة يالحظ أن أكثر األسئلة‬
‫شيوعاً وإثارة للجدل هي تلك المتعلقة بالعالقة مع األهل واألصدقا والشريك‪.‬‬
‫من هذه األسئلة‪ :‬هل يمكن التوفي مثال ً بين شريكة تحيا حياة بسيطة وزوج ال‬
‫يفكر سوى بالمهنة والمال والسيارات والمظاهر االجتماعية؟ هل تعني الحياة‬
‫البسيطة أنك ستخسر األصدقا الذين ال يشاركوك نمط الحياة نفسه؟‬

‫‪61‬‬
‫هذه األسئلة وغيرها سيواجهها كل من يحاول تطبي مبادئ الحياة البسيطة‪،‬‬
‫وقد يعتقد البعض أنه يوجد إجابات جاهزة يمكن أن تقد حلوال ً مناسبة للجميع‪.‬‬
‫الحقيقة هي أنه ال يوجد إجابات مناسبة للجميع فيما يتعل بالعالقات اإلنسانية‪،‬‬
‫ألن عالقاتنا هي أمور حية‪ ،‬متعددة ومتنوعة ومتغيرة باستمرار‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬ال بد‬
‫لنا أن نشارك أفكارنا حول هذا الموضوع كوننا نتحدث عن كل ما يتعل بالحياة‬
‫البسيطة‪.‬‬

‫هل اتباع نمط عيش بسيط في مجتمع استهالكي يعني خسارة‬


‫العالقات االجتماعية؟‬
‫رغم الصعوبة التي يواجهها متبعي الحياة البسيطة في بنا عالقات اجتماعية‬
‫وثيقة مع مجتمع يبدو أنه يدور حصراً حول العائلة والمهنة واالستهالك‪ ،‬إال أن‬
‫عيش حياة بسيطة يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على عالقاتنا االجتماعية‪.‬‬
‫الحياة البسيطة تحرر جز اً كبيراً من وقتنا وطاقتنا التي كنا نبددها في أمور ال‬
‫تفيدنا كثيراً (كتصفح الهاتف)‪ ،‬وتتيح لنا بنا عالقات أعم وأقوى مع الناس من‬
‫حولنا‪.‬‬

‫البساطة في الحياة تعني أنه يمكننا أن نركز على الناس الموجودة في حياتنا‬
‫والموجودة أمامنا هنا واآلن بدل أن نركز على مئات األصدقا االفتراضيين على‬
‫فايسبوك وأن نوزع انتباهنا بين شاشتين وعشرات التطبيقات‪.‬‬

‫الوقت والطاقة اإلضافية التي توفرها لها الحياة البسيطة تعطينا فرصة لزيادة‬
‫مشاركتنا االجتماعية اإليجابية في المكان الذي نتواجد فيه عبر النوادي‬
‫والجمعيات الرياضية والثقافية والسياسية‪ .‬عضويتنا في نا ٍد رياضي واحد في‬
‫الحي الذي نسكن فيه أمر يضيف على حياتنا أكثر بكثير من عضويتنا بآالف‬
‫صفحات الفايسبوك ومجموعات الواتساب وما شابه من تلك التي تعقد حياتنا‬
‫كثيراً من دون أن تضيف عليها شيئاً‪.‬‬

‫اتباع أسلوب حياة بسيطة ال يعني استحالة الصداقة مع أشخاص يتبعون أسلوب‬
‫عيش مختلف‪ ،‬لكنه يجعلها بالتأكيد أكثر صعوبة‪ .‬المشكلة التي قد يعانيها من‬
‫يتبع نمط عيش بسيط تنبع في معظم األحيان من ثقافة عد تقبل اآلخر؛ صاحب‬
‫نمط العيش البسيط قد ال يتقبل األسلوب االستهالكي الذي يعيش به شخص‬
‫آخر‪ ،‬وهذا اآلخر قد ال يتقبل ما يراه رفضاً للمجتمع أو غرابة لدى من يتبع نمط‬
‫البساطة‪ .‬إن كان هنالك تقبل متبادل من دون تحفظات‪ ،‬فمن السهل بنا صداقات‬
‫حول أمور مشتركة أخرى‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫المشكلة تنبع غالباً من محاولة اآلخرين فرض نمط عيشهم علينا‪ ،‬أو محاولة‬
‫أصحاب الحياة البسيطة فرض رؤيتهم على أصدقائهم‪ .‬من السهل على من يتبع‬
‫نمط عيش بسيط أن ينزل الى االعتقاد بأنه شخص أفضل في الحياة لمجرد أنه‬
‫استطاع خل هذه الحياة الجديدة لنفسه في وجه مجتمع من الروبوتات‪ .‬لكن‬
‫هذا االعتقاد خطير وليس بالضرورة صحيحاً‪ ،‬وخصوصاً إن كان مقترناً باالعتقاد بأن‬
‫كل شخص يتبع الثقافة السائدة هو شخص ال يفكر أو استهالكي‪ .‬الناس تتبع‬
‫النمط السائد في الحياة ألنها تولد فيه وال تختاره عن قناعة‪ ،‬والظروف التي‬
‫تسمح لإلنسان بإعادة النظر بحياته وتبسيطها وتغييرها ال تتوفر للجميع بشكل‬
‫متساو‪.‬‬
‫ٍ‬

‫حتى أن هذه السلسلة نفسها هي أكبر دليل على ما نقوله؛ فالبعض قد‬
‫تقودهم صدفة محض إلى قرا ة هذه السلسلة من المقاالت‪ ،‬وقد يدفعهم ذلك‬
‫للبد بتغيير أمور صغيرة في حياتهم حتى يأتي يو تكون حياتهم بأكملها قد‬
‫تغيرت‪ ،‬لكن ذلك لن يحصل لغالبية ساحقة تحاول أن تكافح لتأمين لقمة عيشها‬
‫أو تركض كل يو للحاق بقطار الحياة السريع جداً هذه األيا ‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬الحياة االجتماعية في ظل نمط الحياة البسيطة يمكنها أن تكون غنية‬


‫بالقدر الذي نريده لها أن تكون؛ المهم أن نبتعد عن الحكم على اآلخرين بسبب‬
‫نمط حياتهم وأن نتجنب أيضاً أولئك الذين يريدون أن يطلقوا األحكا علينا والذين‬
‫يريدون أن يحاولوا دائماً فرض أسلوب حياتهم علينا‪.‬‬

‫هل االشتراك في نمط العيش البسيط ضروري للعالقات العاطفية؟‬

‫‪63‬‬
‫هل تؤثر البساطة على العالقات العاطفية؟‬
‫بعكس الصداقة العادية‪ ،‬اعتقد أن اتباع أسلوب حياة مختلف جذرياً بين شخصين‬
‫يعني استحالة إيجاد عالقة عاطفية مستقرة بينهما‪ .‬هذا ال يعني أن العالقات‬
‫العاطفية ال يمكن أن تقو إال على التماثل‪ ،‬فاالختالف النسبي بين شريكين هو‬
‫أمر صحي‪ .‬أما االختالف على أمور جوهرية كاتجاه الحياة وأسلوب الحياة نفسه‬
‫فهذا وصفة لمشاكل كبيرة فيما بعد‪.‬‬

‫بعض األمور يمكن إيجاد حلول وسط لها‪ ،‬كعندما يكون هنالك شخص يحب الخروج‬
‫يومياً بعد العمل فيما يفضل شخص آخر الراحة في المنزل‪ ،‬لكن هنالك بعض‬
‫األمور التي ال يمكن إيجاد حلول لها كاالختالف في القيم‪ :‬حين يعتقد الرجل أن‬
‫مكان المرأة في المنزل فيما هي تحب أن يكون لديها مهنة وعمل مثالً‪ ،‬أو عندما‬
‫يكون أحد الشريكين مولع بالمظاهر المادية كالسيارات والمالبس الفاخرة‬
‫والمجوهرات وما شابه فيما الشريك اآلخر يعتبر هذه األمور ترهات‪ ،‬أو حينما يكون‬
‫أحد الشريكين مهووس بمهنته التي يقضي فيها كل وقته وطاقته فيما يود‬
‫الشريك أن يحيا أسلوب حياة مختلف يركز على السفر واألمور اإلبداعية والحياة‬
‫الخالية من منبهات الساعة والمكاتب الكئيبة‪.‬‬

‫الفارق الحياتي سيكون كبيراً أيضاً إن كانت خطتك في الحياة تتمثل في تحقي‬
‫االستقاللية المالية والخروج من الوظيفة بعد بضعة سنوات فيما يريد شريكك أن‬
‫تستمر في الوظيفة حتى عمر الستين لكي تتولى مناصب أعلى وتعطيه حياة‬
‫أكثر رفاهية وبذخاً في المستقبل‪ .‬هذه كلها اختالفات كبيرة ال يمكن معالجتها‬
‫بسهولة‪.‬‬

‫النصيحة الوحيدة التي يمكن أن نقدمها في هذا المجال هي التواصل بوضوح مع‬
‫الشريك حول كل شي في حياتك لكي يكون على بينة‪ ،‬ولكي تفتح الطري‬
‫إليجاد حلول لالختالفات بينكما‪ .‬التوصل الى حلول في هذه المسائل يحتاج‬
‫لفترات قد تمتد إلى شهور أو سنوات (ألن األمر متعل بصلب أسلوب الحياة ال‬
‫بمجرد تفاصيل هنا وهناك)‪ .‬في معظم األحيان هنالك حلول وسط ترضي‬
‫الطرفين؛ لكن في بعض األحيان يكون من الصعب جداً التوفي بين شخص يريد‬
‫حياة بسيطة جداً وشخص يريد أن يحيا أسلوب الحياة االستهالكي السائد بكل‬
‫ما فيه‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫هل يتعارض الزواج مع الحياة البسيطة وهل تؤثر البساطة على الزواج؟‬
‫الحياة البسيطة ال تعني حياة من دون زواج‪ ،‬وال تعني بالضرورة حياة مع زواج‪.‬‬
‫الزواج يمكن أن يكون معقداً ومكلفاً وصعباً ومتعارضاً مع نمط عيش بسيط‪ ،‬ويمكن‬
‫أن يكون بسيطاً وعامال ً إيجابياً وجميال ً في الحياة‪ .‬الزواج ليس تعويذة سحرية‬
‫للسعادة‪ ،‬وال هو لعنة لتعاسة دائمة‪ .‬األمر يرتبط بالشريكين وبالدرجة التي هما‬
‫متفاهمان فيها على األمور الكبرى في الحياة‪.‬‬

‫االختالفات الصغيرة في الشخصيات والتفاصيل الحياتية البسيطة ال تحدد مصير‬


‫الزواج‪ ،‬لكن األمور الكبيرة‪ ،‬كأهداف الشريكين من الحياة وأسلوب العيش‬
‫وتوقعاتهما من الزواج ومن بعضهما البعض‪ ،‬هي أمور يجب االتفاق عليها قبل‬
‫الشروع في خطوة كهذه‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬الناس تتغير عدة مرات خالل حياتها‪ ،‬ومن الطبيعي أن تتغير طموحاتها‬
‫وأحالمها وأسلوب تفكيرها بعد الزواج أيضاً‪ ،‬وقد يجد الزوجان أنفسهما بعد فترة‬
‫شخصين مختلفين‪ ،‬لكن هذا ال يعني بالضرورة نهاية الحب ونهاية الزواج – النهر‬
‫تتغير مياهه كل يو لكنه يبقى نهراً – العامل الحاسم هو القدرة على التناغم‬
‫في ظل التغيرات التي تحصل لكما‪ ،‬والمهم أن تبقى قيمكما األساسية حول‬
‫الحياة وأسلوب العيش متناغمة‪.‬‬

‫الحياة البسيطة هي في الواقع أسهل في ظل الزواج إن كان الزوجان هما على‬


‫نفس الموجة في هذا المجال؛ فهذا سيمكنهما من اختيار موف ألسلوب الحياة‬
‫بكل تفاصيلها‪ ،‬بد اً من حياتهما المشتركة في المنزل وصوال ً إلى أسلوب العيش‬
‫وطريقة تربية األوالد وكيفية الترفيه عن بعضها البعض وكيفية تحديد أهدافهم‬
‫العائلية والمالية المشتركة‪ .‬تناغم الرؤيا هو أمر كفيل بتحقي تفاهم في هذه‬
‫األمور بسهولة‪ ،‬حتى ولو كان هنالك اختالف طبيعي في الرأي عليها‪.‬‬

‫التحدي الصعب فيما يتعل بالزواج والحياة البسيطة يحصل حين يعيش أحد‬
‫الشريكين تحوال ً نحو الحياة البسيطة بمفرده من دون شريكه‪ ،‬فيتحول من الحياة‬
‫االستهالكية الى الحياة البسيطة (أو العكس) فيما يبقى الزوج(ة) اآلخر كما هو‪.‬‬
‫في هذه الحالة سيكون الزواج في حالة صعبة جداً الن هذا التحول يشير الى‬
‫تحول في القيم وفي أسلوب الحياة على السوا والشخص الذي يمر به سيخرج‬
‫منه شخصاً مختلفاً‪ ،‬وسيكون على الشريك اآلخر أن يختار ما إذا كان يحب هذا‬
‫الشخص الجديد ويريد االستمرار معه في الزواج أ ال‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫لذلك‪ ،‬رأيي المتواضع في هذا المجال هي أنه من األفضل دائماً للشريكان أن‬
‫يتواصال بأكبر قدر ممكن من الوضوح ليكونا على نفس الموجة مع اآلخر في أكبر‬
‫قدر ممكن من األمور األساسية في الحياة‪ ،‬ومنها نمط العيش البسيط‪ ،‬قبل‬
‫الشروع في خطوة كبيرة كالزواج‪ ،‬ألن ذلك يوفر الكثير من المتاعب الحقاً‪.‬‬

‫البساطة ال تتعارض مع االنجاب‬

‫هل يتعارض اإلنجاب مع العيش البسيط؟‬


‫بعض دعاة العيش البسيط يعتقدون أن االمتناع عن إنجاب األطفال في الوقت‬
‫الحالي هو شرط أساسي للعيش ببساطة‪ ،‬لكني ال اتف مع ذلك‪ .‬أواف على‬
‫ان إنجاب األطفال هو قرار هائل يجب أن يتم بطريقة واعية‪ ،‬وأن العديد من الناس‬
‫التي تنجب اطفاال ً اليو قد تكون غير مؤهلة حتى لتربية حيوان أليف فكيف‬
‫بإنسان كامل‪ ،‬لكن جعل البساطة مرتبطة بعد إنجاب األطفال هو خطأ كبير‬
‫برأيي ألنه يجرد البساطة من روحها األساسية المتمثلة بالسعي لعيش الحياة‬
‫بعمقها وشموليتها وجمالها بأكملها‪ ،‬كما هي‪ ،‬واألطفال هم جز منها‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫مع أخذ ذلك في عين االعتبار‪ ،‬اعتقد أن إنجاب األطفال في زماننا الحالي يجب أن‬
‫يكون أمراً مخططاً له‪ ،‬ال حادثة عشوائية؛ فهو قرار له تبعات شخصية هائلة من‬
‫جميع النواحي‪ ،‬وهو تغيير ال عودة عنه وال يشبه أي قرار آخر في الحياة‪ .‬إنجاب‬
‫طفل هو التزا لمدى الحياة باالهتما بإنسان آخر وبتأمين كافة احتياجاته‪ ،‬وذلك‬
‫ليس أمراً سهال ً‪.‬‬

‫من الناحية االجتماعية‪ ،‬إنجاب طفل يعني أن عالقتك مع زوجتك أو زوجك‬


‫ستتراجع إلى المرتبة الثانية إلفساح المجال لألوالد‪ .‬اإلنجاب يعني أيضاً أن حياتك‬
‫االجتماعية ستصبح متمحورة لفترة طويلة جداً من الزمن حول أطفالك‬
‫ونشاطاتهم حصراً‪ ،‬وأن وقتك الحر سيتقلص إلى أقصى حد فيما ستكون مجبراً‬
‫على األرجح على العمل لساعات أطول وبأعمال أكثر لتأمين احتياجات الصغار‪.‬‬
‫من الناحية المالية‪ ،‬إنجاب طفل قد يعني أن تحقي أحالمك الشخصية كتأسيس‬
‫شركتك الخاصة أو تحقي استقالليتك المادية أو حتى الخروج من الديون أو من‬
‫أزمة مالية ما هو أمر قد ال يتحق أبداً‪ .‬هذه كلها تغيرات كبيرة‪.‬‬

‫هذا ال يعني أنه يمكن اتخاذ قرار إنجاب األطفال بنا على هذه األمور‪ ،‬فقرار‬
‫اإلنجاب هو بجزئه األكبر عملية عاطفية وبيولوجية ال نفكر فيها كثيراً‪ ،‬بنفس‬
‫الطريقة التي ال نفكر فيها بتناول الطعا حين نجوع‪ .‬لكن علينا أن نكون متنبهين‬
‫لتبعات هذا القرار قبل اإلقدا عليه‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬اعتقد أن قرار عد اإلنجاب هو أيضاً قرار منطقي بقدر ما هو قرار‬
‫اإلنجاب منطقي؛ ال يوجد أي خطأ أو مشكلة أخالقية في قرار عد اإلنجاب – وهو‬
‫الخيار الذي أميل له شخصياً – وهذا ال ينتقص من إنسانية أو من تجربة صاحب‬
‫القرار‪ .‬هنالك أمور أهم في الحياة من إنجاب طفل بالنسبة للعديدين منا؛ وبعضنا‬
‫قد ال يمتلكون أساساً رفاهية اإلنجاب ألسباب شخصية عدة‪ .‬الكوكب مكتظ بكل‬
‫األحوال والعالم كله يبدو اليو كأنه يحترق لدرجة أن جلب طفل إليه يبدو أحياناً‬
‫نزعة سادية بح مخلوق صغير لم يختر المجي الى هذا العالم‪ .‬إلى ذلك‪،‬‬
‫معظمنا يعملون اليو لساعات طويلة وبالكاد يستطيعون تأمين معيشتهم‪ ،‬وبعضنا‬
‫لديهم مسؤوليات تجاه أهلهم أو أفراد آخرين في العائلة‪ ،‬ما يزيد من أعبا إنجاب‬
‫طفل ويضيف تعقيدات وصعوبات على حياة معقدة وصعبة أصال ً‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫في نهاية المطاف إذاً‪ ،‬يمكن إلنجاب األطفال أن يسبب الكثير من المشاكل‬
‫والتعقيدات في حياتنا كما يمكن أن يضيف عليها الكثير من األمور الجميلة أيضاً؛‬
‫ظروفنا الشخصية والعائلية والمادية هي التي تحدد نتيجة ذلك إلى حد بعيد‪ .‬هذا‬
‫يعني‪ ،‬أن اإلنجاب بالنسبة لمن يتبع الحياة البسيطة ال يمكن له أن يكون سوى‬
‫قراراً واعياً؛ إن لم يكن أمر بحجم خل حياة جديدة هو خطوة نقو بها بوعي‪،‬‬
‫ماذا تركنا لألمور األخرى؟‬

‫‪68‬‬
‫أعط نفسك هدية عدم القلق حول المال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بناء المناعة المالية عبر الحياة البسيطة‬

‫فوائد الحياة البسيطة ال تقتصر على الصحة البدنية والنفسية والعقلية‪ ،‬بل هي‬
‫أيضاً من أفضل ما يمكن أن يحدث لنا على الصعيد المالي‪ .‬نمط العيش البسيط ال‬
‫يعني أن نهمل الجانب العملي والمالي من حياتنا‪ ،‬بل هو يستوجب العكس‬
‫تماماً‪ :‬يستوجب منا إدارة مدخولنا واألموال التي بحوزتنا بشكل سليم لكي‬
‫نستطيع تحقي استقالليتنا المالية وتعزيز مناعتنا تجاه تقلبات االقتصاد‪ .‬صحيح‬
‫أن تحرير كامل الطبقات الفقيرة والمهمشة يستوجب مقاومة سياسية‬
‫جماعية منظمة للرأسمالية السائدة‪ ،‬لكن بانتظار بروز هكذا مقاومة واكتسابها‬
‫الفعالية الالزمة‪ ،‬ليس هنالك من ضرر في تحسين حياتنا الفريدية بما يساعدنا‬
‫على االقتراب خطوة إضافية من الحرية‪.‬‬

‫هل تريدون أن تبقوا عبيداً طوال حياتكم؟‬

‫لماذا ال يمكننا االعتماد على وظيفة لتحقيق االستقرار المالي‬


‫مقارنة مع الجيل الساب ‪ ،‬جميعنا نعمل اليو في ظروف عمل أسوأ بكثير من‬
‫تلك التي عاشها أهلنا‪ .‬وظائفنا اليو منهكة‪ ،‬تستوجب منا العمل الشاق‬
‫لساعات وساعات متواصلة‪ ،‬ذهنياً أو جسدياً‪ ،‬وفي وظيفتين وثالث أحياناً‪ ،‬فيما‬
‫رواتبنا بالكاد تكون كافية لتأمين مستقبل شباب في عشريناتهم وثالثيناتهم‬
‫ولدفع ثمن أساسيات الحياة لهم كالسكن والتنقالت وما شابه‪ .‬العمل يالحقنا‬
‫معظم األحيان إلى منازلنا عبر الهواتف الذكية‪ ،‬فيما يبدو أن مدرا نا يزدادون ازعاجاً‬
‫واحتقاراً وجنوناً يوماً بعد يو ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫معظمنا ال نمتلك ضمانات صحية في وظيفتنا‪ ،‬وغالبيتنا الساحقة ال تعرف عن‬
‫التقاعد شيئاً سوى أنه حلم غير متاح لها‪ .‬الشركات التي نعمل فيها يمكنها أن‬
‫ترمينا خارجها على وقع أبسط مشكلة أو عند أول أزمة صغيرة في االقتصاد‬
‫المحلي‪ ،‬فيما البحث عن عمل يزداد صعوبة عاماً بعد عا في ظل تزايد أعداد‬
‫الناس التي تبحث بيأس عن وظيفة تقيها التشرد والفقر والبرد واليأس‪.‬‬

‫نحن نعيش في ظل سوق عمل غير مستقر على االطالق‪ ،‬والوظيفة التي‬
‫نملكها اليو قد تتبخر غداً‪ ،‬وفي بعض الحاالت‪ ،‬البلد بأكمله قد يتبخر نحو الجحيم‬
‫كما حصل في ليبيا وسوريا والعراق‪ .‬لكل هذه األسباب‪ ،‬الرهان على الوظيفة‬
‫لتحقي استقرارنا المالي هو أخطر ما يمكن أن نفعله بح أنفسنا‪ .‬لكن إن لم‬
‫تكن الوظيفة هي ما يحق االستقرار المالي لنا‪ ،‬فما الذي يحققه إذاً؟‬

‫السرّ البسيط لالستقاللية المادية‬


‫إن كانت حالتكم كحال معظم سكان الكوكب‪ ،‬فهذا يعني أن وظيفتكم أو عملكم‬
‫هي مصدر دخلكم الوحيد‪ ،‬لكنها ال يجب أن تكون مصدر استقراركم المالي بل‬
‫الوسيلة لتحقيقه‪.‬‬
‫السر؟ االدخار‪ ،‬بكل بساطة‪ .‬حسناً‪ ،‬أعلم أن البعض اعتقد أن الجواب سيكون‬
‫أكثر تعقيداً بكثير من ذلك‪ ،‬لكنه حقاً بهذه البساطة‪ .‬ال يوجد تعاويذ سحرية‬
‫وأسرار استثمارية ومعادالت حسابية تستطيع أن تجعلكم أغنيا ً في ليلة وضحاها‬
‫– رغم كل اإلعالنات الكاذبة التي نراها على االنترنت‪ .‬االدخار يسمح لذوي‬
‫الدخل المحدود ببنا قدرة مالية معينة تعزز مناعتهم االقتصادية وتمكنهم فيما بعد‬
‫من اتخاذ خطوات مهمة نحو االستقاللية المالية‪.‬‬

‫قد يتسا ل بعض القرا لماذا ركزت على االدخار ولم اتحدث عن زيادة الدخل بدال ً‬
‫عن ذلك‪ .‬السبب بسيط؛ زيادة الدخل مسألة غير متاحة دائماً للجميع‪ .‬قد ال يكون‬
‫بإمكاننا العمل لساعات أكثر لزيادة راتبنا‪ ،‬وقد ال يكون مجال عملنا مناسباً للقيا‬
‫بمشاريع حرة على حسابنا‪ ،‬وقد ال نتلقى الترقية التي تبحث عنها في الشركة‪،‬‬
‫وقد ال نمتلك رأس المال الكافي للبد بمشروع يدر علينا مدخوال ً إضافياً‪ .‬وإن‬
‫حصل أن توافرت هذه الشروط ألحدهم‪ ،‬ال اعتقد أنهم سيحتاجون لقرا ة مقاالت‬
‫تشجعهم على القيا بالخطوات التي تساعدهم على زيادة الدخل‪.‬‬

‫زيادة الدخل هي أمر ال يتردد أحد بالقيا به حين تتاح له الفرصة‪ ،‬لكنها في‬
‫الوقت نفسه ليست بمتناول الجميع وليست مضمونة‪ ،‬كما أنها ال تعني شيئاً إن‬
‫كنا نعيش حياة استهالكية وال نحسن إدارة مدخولنا‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫يمكننا أن نرفع دخلنا إلى عشرة آالف دوالر في الشهر وقد نبقى من الذين‬
‫يصلون آلخر الشهر من دون أي مال في جيبنا (إن كنا معتادون كما بقية الناس‪،‬‬
‫على زيادة استهالكنا بالتناسب مع زيادة مدخولنا)‪ .‬مبادى الحياة البسيطة تركز‬
‫على جانب االدخار أكثر من تركيزها على جانب الدخل ألنه جانب نستطيع‬
‫التحكم به وألنه يحق فارقاً كبيراً في حياتنا بغض النظر عن وظيفتنا أو مستوى‬
‫مدخولنا المادي‪.‬‬

‫يمكن فهم أهمية االدخار عبر عمليات حسابية بسيطة جداً‪ ،‬لكن قبل أن نتحدث‬
‫عنها يجب أن نقول أنه هنالك العديد من أبنا الطبقات الفقيرة والمهمشة‬
‫يعتقدون أن الحسابات المالية وتنظيم األموال هو من عادات الطبقة العليا فقط وال‬
‫يجب على الفقرا القيا به‪ ،‬لكن تلك هي فكرة خاطئة جداً سنعود لنتناولها‬
‫مستقبالً‪ .‬هنالك العديد ممن يعتقدون أيضاً أن االدخار والحسابات المالية هي‬
‫للبخال ‪ ،‬أو أن االدخار يعني عيش حياة من الفقر‪ ،‬لكنه في الواقع العكس تماماً‪.‬‬
‫فلنعاين الفارق بين هذه المفاهيم‪.‬‬

‫حقيقة االستهالك‬

‫االدخار والفقر والبخل‪ :‬ثالثي ال يلتقي‬


‫البخل يعبر عن مشكلة في العالقة مع المال؛ الشخص البخيل يمتلك في معظم‬
‫األحيان ترسبات نفسية تشوه عالقته مع المال وتخل لديه خوفاً من صرفه على‬
‫أي شي ‪ ،‬لدرجة أنه قد يحر نفسه وأحبابه من األمور األساسية في الحياة‬
‫فقط ليحافظ على المال‪ .‬الهدف األساسي للبخيل هو تكديس المال وتكديسه‬
‫فقط من دون أن يفعل به شيئاً‪ ،‬ألن المال بحد ذاته هو ما يعطي البخيل شعوراً‬
‫معيناً باألمان أو السلطة أو ما شابه‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫وهنا يتضح الفارق األساسي بين البخل وبين الحياة البسيطة‪ :‬من يتبع نمط حياة‬
‫بسيط يمتنع عن استهالك أمر معين ال ألنه يريد تكديس المال‪ ،‬لكن ألن هذا‬
‫الشي قد ال يعطيه سعادة بكل بساطة‪ ،‬أو ألنه يريد استخدا المال في شي‬
‫يعطيه سعادة أكبر‪ .‬حين يقو صاحب الحياة البسيطة بتوفير المال‪ ،‬فهو ال يقو‬
‫بذلك بهدف تكديسه أو خوفاً من نفاذه‪ ،‬بل ألنه يخطط على المدى البعيد للقيا‬
‫بشي كبير ومهم يحتاج فيه لمبلغ معين من المال‪ .‬إن امتنعنا مثال ً عن تناول‬
‫الطعا في المطاعم لفترة معينة ألننا نوفر لرحلة إلى البيرو‪ ،‬فهذا ال يعني أننا‬
‫بخال على االطالق‪ ،‬هذا يعني أننا نخطط ببراعة وأنه سيكون بإمكاننا االستمتاع‬
‫برحلة ستكون بالتأكيد أفضل من بضعة وجبات في مطعم ‪.‬من يتبع الحياة‬
‫البسيطة ال يحرم نفسه من األمور التي يحبها ألنه يريد توفير المال‪ ،‬بل‬
‫يريد توفير المال ألنه يريد القيام باألمور التي يحب ّها‪.‬‬
‫إلى ذلك‪ ،‬االدخار ونمط العيش البسيط ال يعني العيش في الفقر‪ .‬هذه الفكرة‬
‫الخاطئة ترتبط بمفهو خاطى سائد اليو عن الفقر؛ فهل الفقر هو عد امتالك‬
‫سيارة حديثة وهاتف ذكي وعد الخروج إلى المقهى كل يو ؟ بالنسبة لمعظم‬
‫الناس‪ ،‬يرتبط تعريف الفقر بنمط الحياة االستهالكي للشخص‪ ،‬فكلما كان أقل‬
‫استهالكاً اعتقدوا أنه أكثر فقراً والعكس‪.‬‬

‫في معظم األحيان‪ ،‬قد يبدو أصحاب نمط العيش البسيط فقرا ألنهم ال يمتلكون‬
‫األشيا التي تمتلكها بقية الناس أو ال يقومون باألشيا التي يقو بها اآلخرون‪،‬‬
‫لكنني واث أن من يتبع حياة بسيطة يمتلك في معظم األحيان استقاللية‬
‫ومناعة مالية أكثر ممن يمتلكون عدة سيارات ومنازل‪.‬‬

‫وفي السياق نفسه‪ ،‬الفكرة القائلة بأن الحسابات المالية هي فقط لألغنيا أو‬
‫البخال هي فكرة خاطئة جداً أيضاً‪ .‬كل شركة وكل مؤسسة وكل مجموعة‬
‫منظمة في العالم تقو بمسك حساباتها المالية لكي تنظم مصاريفها ومدخولها‬
‫وتحسن وضعها المالي‪ ،‬وكل فرد عامل هو في الواقع مؤسسة صغيرة‪ ،‬لها‬
‫مدخولها ولها مصاريفها ومن الطبيعي جداً القيا ببعض الحسابات المالية‬
‫البسيطة إن كان هذا الفرد يسعى لهدف حياتي أو مالي معين‪ .‬القيا‬
‫بالحسابات المالية ليس باألمر الغريب‪ ،‬بل الغريب هو عد القيا بها حين يكون‬
‫لديك هدف مالي أو حين تكون في فترة حرجة مادياً أو إن كنت ال تملك أدنى‬
‫فكرة عن كيفية تبخر المال من بين يديك‪.‬‬

‫فلنتحدث اآلن عن هذه الحسابات التي تدعم فكرة االدخار كخطوة ضرورية نحو‬
‫االستقاللية المالية‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫االدخار هو الخطوة األولى واألهم‪.‬‬

‫كيف يمكنك أن تزيد مناعتك المالية بالحد األدنى لألجور‬


‫فلنفترض أن راتبي يبلغ ‪ 750‬دوالر في الشهر‪ ،‬وأن مصروفي الشهري يبلغ ‪600‬‬
‫دوالر فيما تبلغ مدخراتي ‪ 150‬دوالر شهرياً – أي نحو ‪ % 20‬من الراتب‪ .‬كما‬
‫الحظتم‪ ،‬المثال هنا يركز على راتب متوسط ومنخفض نسبياً (بالنسبة لبلدان‬
‫مثل لبنان واألردن مثالً) وليس على راتب عا ٍ‬
‫ل‪.‬‬

‫إدخار ‪ % 20‬من الراتب المذكور‪ ،‬يعني أنني بعد عا واحد سأكون قد ادخرت‬
‫ف لشرا حاسوب جديد حتى‪،‬‬ ‫‪ 1800‬دوالر – وهذا مبلغ قد يكون بسيطاً وغير كا ٍ‬
‫لكنه يعني أنه خالل عا واحد من العمل يمكنني أن أغطي كامل مصاريفي‬
‫لفترة ثالثة أشهر (بما أن المصروف الشهري هو ‪ 600‬دوالر)‪ .‬أي أنني إن فقدت‬
‫عملي أو تعرضت ألزمة مالية‪ ،‬يمكنني االعتنا بنفسي من دون عمل ومن دون‬
‫الحاجة لالستدانة لثالثة أشهر‪.‬‬

‫حسناً قد يبدو المبلغ بسيطاً اآلن‪ ،‬لكن حين ننظر إلى تأثير ادخار بسيط كهذا‬
‫على مر السنوات قد نتفاجأ كيف يمكن ألمر بسيط تحقي تأثير يمكن أن يطال‬
‫حياتنا بأكملها‪ .‬فلنكمل الصورة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫بعد التخرج من المدرسة أو الجامعة‪ ،‬نقضي معظم حياتنا في العمل – رغم فترات‬
‫البطالة‪ .‬لتسهيل الحسابات‪ ،‬فلنقل أننا سنعمل لن‪ 25‬عا فقط رغم أن معظم‬
‫أبنا الطبقة العاملة يعملون لن ‪ 45‬عا على األقل إن عاشوا حتى الستينات من‬
‫عمرهم‪ .‬خالل ‪ 25‬عا ‪ ،‬إن افترضنا أن مدخولي ومدخراتي بقيت ثابتة (لتسهيل‬
‫الحساب)‪ ،‬سأكون قد ادخرت نحو ‪ 45‬ألف دوالر في نهاية هذه الفترة‪ .‬حتى وإن‬
‫احتسبنا نسبة مرتفعة للتضخم (النقاش حول التضخم على الهامش هنا]‪،)[1‬‬
‫يستطيع هذا المبلغ أن يعيلني لن ‪ 60‬شهراً على األقل من دون الحاجة لعمل‪،‬‬
‫أي ‪ 5‬سنوات‪.‬‬
‫ً‬
‫صحيح أن هذا المبلغ قد ال يكون كافيا لتحريري من العبودية االقتصادية لبقية‬
‫حياتي‪ ،‬لكنه بالتأكيد خطوة أساسية إن أردت الذهاب في هذا االتجاه‪ .‬هنالك‬
‫العديد من األمور التي يمكنني القيا بها بهكذا مبلغ‪ ،‬كتعليم أوالدي في جامعة‬
‫محترمة أو السفر مع زوجتي حول العالم لبضعة أعوا ‪ ،‬أو شرا سيارة نقل‬
‫عمومية لتحقي مدخول إضافي‪ ،‬أو استئجار محل تجاري أو مطعم صغير يحق‬
‫لي االستقاللية المالية‪ ،‬أو استثمار المبلغ في مكان ما‪ .‬الخيارات متعددة بقدر‬
‫تعدد الشخصيات التي تقو باالدخار‪ .‬تذكروا أننا نتحدث عن ادخار يبلغ ‪ 150‬دوالر‬
‫في الشهر فقط‪.‬‬

‫قد ال تكون هذه النتيجة مبهرة للوهلة األولى‪ ،‬لكن فلنقارنها قليال ً مع نتيجة عد‬
‫االدخار على اإلطالق‪ .‬إن ادخرت ‪ 150‬دوالر في الشهر‪ ،‬سأبلغ عمر الن‪50‬‬
‫وبحوزتي مبلغ من المال يفتح لي احتماالت كبيرة ومتعددة للمستقبل كما أنه‬
‫يعطيني مناعة مالية تجاه أي طارئ‪ ،‬كفقدان عملي أو تعرضي لمشكلة صحية‬
‫وما شابه‪ .‬في الوقت نفسه‪ ،‬إن لم ادخر ‪ 150‬دوالر في الشهر‪ ،‬سأصل إلى عمر‬
‫الن ‪ 50‬من عمري من دون أي مال في جيبي وبهشاشة كاملة تجاه عملي وقل‬
‫تجاه مستقبلي وقلة حيلة كاملة أما مدرا العمل ومفاجآت الحياة‪ .‬ما هي‬
‫النتيجة األفضل برأيكم بين االثنين؟‬

‫ال يزال لهذه القصة تتمة‪ .‬لقد افترضنا في مثالنا أن المدخول سيبقى نفسه لمدة‬
‫‪ 25‬عا ‪ ،‬وهذا أمر غير مرجح‪ .‬صحيح أن المصاريف قد تزيد بسبب تطورات كالزواج‬
‫والمنزل واألطفال وما شابه‪ ،‬لكن اعتقد أنه رغم ذلك يمكن مع الوقت إضافة‬
‫نسبة االدخار عاماً بعد عا ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫قد يجيب أحدهم أنه من المستحيل أن يستطيع أي منا ادخار ‪ % 25-20‬من‬
‫مدخولهم الشهري في ظل الوضع االقتصادي الحالي‪ ،‬لكنني مقتنع بشدة بأن‬
‫معظم الناس – حتى ولو كانوا يتقاضون الحد األدنى من األجور‪ ،‬يستطيعون ادخار‬
‫ولو القليل من المال‪ .‬أنا مقتنع في الواقع بأن تطبي مبادى الحياة البسيطة‬
‫يمكن أن يساعد معظم الناس على رفع نسبة ادخارها إلى ‪ 30‬و‪ % 40‬من‬
‫مدخولها‪.‬‬

‫ما يقيدنا عن ادخار المال هو في الكثير من األحيان االستهالك غير الضروري‪،‬‬


‫وخصوصاً االستهالك الذي ال نراه‪ ،‬كالهاتف واالنترنت والتلفاز والسيارة والتنقل وما‬
‫شابه‪ .‬سنعود لنتحدث عن كل من هذه األمور بالتفصيل وكيف يمكن أن نتعاطى‬
‫مع كل منها في ظل أسلوب العيش البسيط‪ ،‬لكن في هذا الوقت فلنعطي مثاال ً‬
‫بسيطاً‪ .‬معظم الناس اليو يمتلكون في منازلهم اشتراك للقنوات الفضائية‪،‬‬
‫واالشتراك في القنوات الفضائية في ظل وجود االنترنت هو في رأيي أمر ال جدوى‬
‫منه على اإلطالق‪ .‬في لبنان مثالً‪ ،‬يبلغ معدل االشتراك في القنوات الفضائية نحو‬
‫‪ 15‬دوالر في الشهر‪ ،‬وبالتالي االشتراك بها لن ‪ 25‬عا يكلفنا في نهاية المطاف‬
‫‪ 4500‬دوالر‪ ،‬أو ما يوازي مصاريف سبعة أشهر ونصف في المثال الذي أعطيناه‬
‫سابقاً‪.‬‬

‫فكروا بهذا الرقم جيداً‪ :‬االشتراك بالقنوات الفضائية يعني أنكم ستكونون قد‬
‫عملتم في حياتكم ألشهر فقط لدفع ثمن أمر سخيف كهذا‪ .‬الرقم نفسه يعني‬
‫أيضاً أنكم حرمتم أنفسكم من سبعة أشهر ونصف من الحرية والمناعة التي كان‬
‫يمكن أن تضاف إلى حياتكم بسهولة‪.‬‬

‫فلنعطي مثال آخر؛ فيما كنت اتحدث مع صديقة لي مرة‪ ،‬ذكرت لي عرضياً أنها‬
‫تخرج لعشا وسهرة صغيرة مع صديقاتها وخطيبها نحو مرتين في األسبوع‪ ،‬وفي‬
‫كل مرة تدفع نحو ‪ 40‬دوالر – وأحياناً أكثر إن كان هنالك زيارة للمقهى وأمور أخرى‬
‫إلى جانب السهرة‪ .‬إن قامت هذه الصديقة بالقيا بهذا النوع من العشا المكلف‬
‫مرة واحد في األسبوع عوضاً عن مرتين‪ ،‬فهي ستوفر نحو ‪ 160‬دوالر في الشهر‪،‬‬
‫أي ما يعادل كل ما ندخره في المثال الساب ‪ .‬خالل ‪ 25‬عا من العمل‪ ،‬ستكون‬
‫قد أضافت إلى محفظتها ‪ 48‬ألف دوالر – وهذا فقط بسبب التخلي عن عشا‬
‫واحد في المطعم في األسبوع!‬

‫‪75‬‬
‫أمران بسيطان كإلغا االشتراك في القنوات الفضائية وتخفيض تناول الطعا في‬
‫المطاعم يسمحان مثال ً بادخار أكثر من خمسين ألف دوالر خالل عقدين ونصف‪،‬‬
‫تخيلوا كم يمكن أن ندخر إن شملنا أمور أخرى كالسيارة الخاصة والمنزل الكبير‬
‫والمشروبات الغازية وما شابه‪.‬‬

‫في الواقع ما يمنع هذه الفتاة والماليين من الناس من االدخار هو أسلوبهم في‬
‫االستهالك‪ ،‬ال ضعف مدخولهم فحسب‪ .‬في معظم األحوال‪ ،‬غياب االدخار يشير‬
‫إلى نظرة معينة إلى المال ال تراه سوى من منظوره االستهالكي الضي ‪ :‬معظمنا‬
‫يعتقدون أن المال هو أداة لالستهالك‪ ،‬مجرد وسيلة لشرا األشيا التي نريدها‪،‬‬
‫لكنه ليس كذلك‪.‬‬

‫االدخار إذاً هو مجرد خطوة أولى لتحقي االستقاللية المالية‪ ،‬لكنه الخطوة‬
‫األساسية واألهم‪ .‬رغم بساطة الطرح‪ ،‬إني متأكد من أنه هنالك عدد كبير من‬
‫القرا األعزا يقولون ألنفسهم أن القيا باالدخار سيكون مستحيال ً – واعتقد أنه‬
‫هنالك سبب أعم العتقادهم هذا من مجرد متطلبات الحياة‪ .‬سبب يتعل‬
‫بنظرتنا للمال‪ .‬وهذا ما سنتحدث عنه في مقالنا التالي‪.‬‬

‫___________‬

‫هامش‪:‬‬

‫]‪ [1‬حول مسألة التضخم‪ :‬التضخم المالي هو ظاهرة نقدية تؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية‬
‫لألموال‪ ،‬قد تكون القيمة الحقيقية لمبلغ الن ‪ 45‬ألف دوالر بعد عقدين ونصف تبلغ ‪ 36‬ألف دوالر‬
‫مثالً‪ .‬لكن هنالك أمور تعوض االنخفاض في القيمة المالية‪ ،‬كادخار األموال في البنك مقابل‬
‫األموال في مشروع ما…ألخ‪ ،‬ولم نذكرها في المثال أعاله‬ ‫فائدة‪ ،‬زيادة الراتب‪ ،‬استخدا‬
‫لتسهيل الحسابات (مثال ً وضع المبلغ المدخر في البنك ضمن الفوائد الحالية سيجعل المبلغ‬
‫يبلغ نحو ‪ 70-60‬ألف دوالر لنفس الفترة)‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬تبقى القيمة المالية للمال أعلى من قيمة‬
‫ستكون‬ ‫أي غرض استهالكي آخر على مر السنوات‪ :‬كل هاتف وكل كومبيوتر نشتريه اليو‬
‫قيمته صفر بعد ‪ 25‬عا ؛ كذلك كل وجبة في مطعم ومشروب غازي وعلبة دخان نستهلكها‪،‬‬
‫وحتى السيارات التي نشتريها ستكون قيمتها منخفضة جداً بعد ‪ 25‬عا ‪ .‬لذلك‪ ،‬كيفما قمنا‬
‫بالحسابات‪ ،‬يبقى االدخار (واالستثمار بطبيعة الحال) أفضل من صرف المال على األمور التي ال‬
‫نحتاجها‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫نحو تغيير نظرتنا للمال‬

‫في كل تفاعل لنا مع المال – سوا كنا ندخره أ نصرفه‪ ،‬نحتقره أو نسعى إليه‬
‫باستمرار‪ ،‬هنالك معتقدات نفسية الواعية ومعقدة تؤثر على هذا التفاعل وتحدد‬
‫كيفية تعاملنا معه‪ .‬هنالك دراسات نفسية عديدة حول هذا الموضوع تحاول أن‬
‫تفهم لماذا يحاول بعضنا طوال حياتهم تجنب التعامل مع المال‪ ،‬فيما يقو آخرون‬
‫بصرف كل مبلغ من المال ما أن يضعوا يدهم عليه‪ ،‬وفيما هنالك آخرون يخافون‬
‫صرف أي مبلغ على االطالق‪ ،‬وفيما هنالك من يحتقرون كل من يهتم بالمال أو‬
‫يعبدون كل من يبدو ناجحاً معه‪.‬‬

‫هنالك أيضاً من يلجأون للمال ليشعروا باألمان‪ ،‬ومن يلجأون للمال ليشتروا ما‬
‫يعتقدوه أنه سعادة أو حب أو ليحصلوا على انتباه وتقدير اآلخرين‪ .‬كل هذه األمور‬
‫تعبر عن عالقة نفسية معينة مع المال‪ ،‬تختلف من فئة ألخرى ومن شخص آلخر‪.‬‬

‫في نهاية المطاف‪ ،‬المال هو مسألة لها وجهان‪ :‬فهو من ناحية أولى أداة عبودية‬
‫وأداة أساسية في منظومة اقتصادية قاتلة‪ ،‬تجبر االقتصاد على النمو المستمر‬
‫على حساب اإلنسان واألرض لخل الثروة للطبقات الحاكمة وتعزيز سلطتها‪ .‬من‬
‫ناحية ثانية‪ ،‬المال هو مجرد وسيلة للتبادل ولوضع قيمة (سعر) على األشيا‬
‫والخدمات في المجتمع‪.‬‬
‫كاف يعلم أن العالم الذي نحلم به ال مكان فيه لسلطة‬‫ٍ‬ ‫من تابع مدونتنا بشكل‬
‫المال على أحد‪ ،‬ويمكننا أن نتحدث كثيراً عن مساوى النظا المالي الحالي‬
‫وعن بدائله‪ ،‬لكن هكذا حديث ال تأثير مباشر له على حياتنا هنا واآلن‪ .‬نحن نعيش‬
‫في العالم الحالي وال نعيش في عالم المستقبل الذي نحلم به‪ ،‬والمال في‬
‫الوقت الحالي يحكم جز هائل من حياتنا وسعادتنا وخياراتنا وحتى صحتنا‬
‫وعافيتنا عموماً‪ .‬لذلك من األفضل التعامل مباشرة مع موضوع نظرتنا للمال بدل‬
‫تجنب ذلك‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫من المسلسل الكرتوني الكوميدي ساوث بارك في حلقة حول ال َدين والمال‪.‬‬

‫مشكلتنا مع المال‬
‫الحقيقة هي أن معظم األشخاص الذين يمتلكون مواقف جذرية من النظا‬
‫االقتصادي والمالي العالمي لديهم مشكلة في التعاطي مع المال‪ .‬العديد من‬
‫هؤال يتعاطون مع المال على أنه أمر غير مهم على اإلطالق‪ ،‬ويتعاملون معه‬
‫بعشوائية مطلقة من دون أي تخطيط أو انتباه ما يسبب لهم عادة الكثير من‬
‫الديون والمتاعب في حياتهم ويجعلهم أسرى مدى الحياة لوظائف وظروف‬
‫يكرهونها‪.‬‬
‫أما الغالبية الباقية فتتعاطى مع المال على أنه ذات غاية واحدة‪ :‬االستهالك‪ .‬ما‬
‫أن تبدأ هذه الغالبية بأول وظيفة لها حتى تراها قد بدأت بشرا السيارات الخاصة‬
‫واألجهزة االلكترونية المتطورة والمنازل والذهاب إلى المزيد من المطاعم وما‬
‫شابه؛ وحين يرتفع مدخولها قليال ً ستراها تنتقل إلى بيت أفخم وتلفاز أكبر‬
‫وسيارة أحدث وهاتف أذكى وثياب أكثر كلفة‪ .‬هنالك عدد كبير من الناس‬
‫يستخدمون الجز األكبر من أموالهم على أمور ليسوا بحاجة لها‪ ،‬ويتضخم‬
‫استهالكهم كلما ازداد مدخولهم‪.‬‬

‫وسوا كنا نتجنب المال ونديره بشكل سي أ كنا نستخدمه لالستهالك فقط‪،‬‬
‫النتيجة في الحالتان هي سلبية جداً وخصوصاً ألبنا الطبقات المهمشة والعاملة‪.‬‬
‫هذا السلوك تجاه المال ال يحسن حياة الناس وال يجعلهم أكثر مناعة تجاه‬
‫االستغالل االقتصادي والتقلبات المالية‪ ،‬بل يعطيهم إشباعاً آنياً لرغبة ما على‬
‫حساب مستقبلهم‪ .‬لذلك‪ ،‬فلنسأل أنفسنا‪ ،‬ما هو المال بالنسبة لنا؟‬

‫‪78‬‬
‫المال هو قيمة طاقتنا الحياتية‬
‫اعتقد أن معظم من يقرأون هذه الصفحات هم من الطبقات العاملة وليسوا‬
‫رأسماليين من أصحاب الماليين‪ ،‬وبالتالي هم يجنون المال عبر طريقة واحدة‬
‫فقط‪ :‬عرق جبينهم‪ .‬األسلوب الرئيسي لجني المال للغالبية الساحقة منا هو‬
‫العمل اليومي‪ .‬إن توقفنا عن العمل‪ ،‬يتوقف مدخولنا وبعضنا قد يجد نفسه مشردا ً‬
‫في الشوارع خالل فترة قصيرة بعد ذلك‪.‬‬

‫بغض النظر عن أن العمل في عالمنا هو أشبه بالعبودية‪ ،‬كون الوظيفة هي‬


‫مصدر الدخل الرئيسي لنا فهذا يعني أن تلك األوراق الملونة التي نحصل عليها‬
‫آخر الشهر تمثل في الواقع جز من عمرنا وطاقتنا وحياتنا‪ .‬العمل بأجر هو بحد‬
‫ذاته تبادل‪ :‬نحن نعطي جز من حياتنا وشبابنا وطاقتنا وقوتنا الذهنية أو‬
‫الجسدية‪ ،‬مقابل المال‪ .‬وبالتالي‪ ،‬كل مبلغ من المال يمثل جز صغير من أنفسنا‬
‫ومن عمرنا‪.‬‬
‫هذا يعني أننا كلما دفعنا أي مبلغ من المال على شي ما‪ ،‬نكون في الواقع‬
‫نعطيهم جز من حياتنا ووقتنا وطاقتنا على شكل أوراق نقدية‪ .‬إن كنا نجني ‪500‬‬
‫دوالر في الشهر‪ ،‬ثم ذهبنا ودفعنا ‪ 500‬دوالر ثمن هاتف ذكي جديد‪ ،‬فهذا يعني‬
‫أننا أعطينا شركة الهاتف شهراً كامال ً من حياتنا وطاقتنا وأنفسنا مقابل الحصول‬
‫على هاتف‪ .‬علبنا أن نفكر بذلك جيداً في المرة القادمة قبل أن نبذر مالنا على‬
‫ما‬ ‫االستهالك‪ .‬قبل صرف مبلغ من المال‪ ،‬اسألوا أنفسكم‪ ،‬هل يستح‬
‫ستدفعون ثمنه في هذه اللحظة مقايضة جز من عمركم للحصول عليه؟‬

‫هنالك كتاب مهم جداً حول االستقاللية المالية‪ ،‬عنوانه “مالك أو حياتك” (الكتاب‬
‫باالنكليزية)‪ ،‬يشدد على ضرورة أن يعرف كل شخص “قيمة طاقته الحياتية” حين‬
‫تقاس بالمال‪ .‬الكتاب يقترح لذلك عملية حسابية معقدة قليالً‪ ،‬لكننا سنبسطها‬
‫هنا‪ .‬لكي تكتشفوا كم تبلغ قيمة األشيا التي تدفعون ثمنها مقارنة مع طاقتكم‬
‫الحياتية‪ ،‬قوموا بكل بساطة بقسمة مدخولكم الشهري على ‪ 30‬يو لمعرفة‬
‫مدخولكم اليومي‪ .‬إن كان مدخولكم الشهري ‪ 750‬دوالر مثالً‪ ،‬فهذا يعني أن‬
‫مدخولكم اليومي هو ‪ 25‬دوالر‪.‬‬

‫واآلن نصل إلى الجز المهم‪ :‬في المرة التالية حين تدفعون ثمن شي ما‪،‬‬
‫احسبوا كم تدفعون من أيا حياتكم ثمناً لذلك‪ :‬إن افترضنا أن الراتب هو ‪750‬‬
‫دوالر‪ ،‬فحين تشترون سيارة ثمنها ‪ 10‬آالف دوالر مثالً‪ ،‬أنتم تقايضون ‪ 400‬يو من‬
‫حياتكم مقابل الحصول عليها‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬تبلغ المصاريف الشهرية‬
‫للسيارة نحو ‪ 200‬دوالراً في الشهر على األقل‪ ،‬أي أنكم تقايضون نحو ‪ 96‬يو من‬
‫حياتكم كل عا (ثلث عامكم) مقابل تشغيل السيارة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫إن أضفنا إلى هذه الحسابات أمور مثل شرا هواتف وتلفزيونات جديدة‪ ،‬العادات‬
‫االستهالكية كالتدخين والمشروبات الغازية‪ ،‬المالبس الجديدة وما شابه‪،‬‬
‫ستكتشفون بالتأكيد أنكم تقايضون معظم سنين حياتكم مقابل الحصول على‬
‫أمور مادية ال قيمة لها على االطالق – وخاصة أننا ال نصطحب معنا سياراتنا‬
‫وثيابنا وهواتفنا بعد الموت!‬

‫قد تكون النتيجة صادمة للحظة األولى‪ ،‬إذ نكتشف أننا في ظل النظا‬
‫الرأسمالي‪ ،‬نقو حرفياً بمقايضة سنوات حياتنا وطاقتنا للحصول على أمور تافهة‬
‫نسبياً‪ .‬لكن التمرين هذا ال يهدف لصدمنا‪ ،‬بل إلعطائنا نظرة مختلفة للمال‬
‫تساعدنا على التمييز بشكل أوضح بين األمور المهمة في الحياة وتلك السخيفة‪.‬‬
‫لكن كيف نتعامل مع المال بعد هذا االكتشاف؟‬

‫المال وسيلة لتحريرنا من عبودية المال‬


‫ال يمكننا تجنب صرف المال في ظل النظا االقتصادي الموجود؛ عبودية األجر‬
‫السائدة تحرص على أننا سنقايض جز من عمرنا للحصول على أي شي ‪ ،‬بد اً‬
‫من الطعا وصوال ً إلى كل شي آخر‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬هذا االكتشاف يعني أننا يجب أن‬
‫نفك الصلة بين المال واالستهالك‪ ،‬وأن نبدأ بالتعاطي مع المال كوسيلة لتحريرنا‬
‫من عبوديته الخاصة‪.‬‬

‫علينا أوال ً أن ننظر إلى مصاريفنا؛ المال يتوزع عادة على نوعان من المصروف‪:‬‬

‫المصاريف الحياتية األساسية‪ :‬وهي المصاريف التي ال يمكن االستغنا‬ ‫‪‬‬


‫عنها والتي نحتاجها لنكون أحيا وأصحا ‪ ،‬وهي السكن والطعا والمالبس‬
‫والحد األدنى من الراحة‪.‬‬
‫المصاريف الترفيهية واالستهالكية‪ :‬وهي كل المصاريف التي تنبع من‬ ‫‪‬‬
‫الرغبات ال من الحاجات – أي من األمور التي إن استغنينا عنها سنبقى‬
‫أحيا وبصحة جيدة‪ .‬وهذه المصاريف تبدأ من األمور الصغيرة كقهوة الصباح‬
‫وتصل إلى األمور الكبيرة كالمنزل الكبير والسيارة الفخمة والعطلة‬
‫السياحية في بلد بعيد‪.‬‬
‫ً‬
‫علينا بعد ذلك أن ننظر إلى مصادر دخلنا‪ ،‬والتي يمكن توزيعها أيضا على فئتان‪:‬‬

‫‪80‬‬
‫السيولة المالية المباشرة‪ :‬أي المال الذي يكون بحوزتنا ونستخدمه‬ ‫‪‬‬
‫لدفع ثمن المصاريف الحياتية األساسية والمصاريف االستهالكية‪ .‬الغالبية‬
‫الساحقة من الناس يقع كامل مدخولها ضمن هذه الفئة‪.‬‬
‫األصول المالية‪ :‬هي الممتلكات (النقدية وغير النقدية) التي تزيد قيمتها‬ ‫‪‬‬
‫مع الوقت أو التي يمكن استخدامها لجني المزيد من المال‪ ،‬وهي تشمل‬
‫أمور مثل المدخرات‪ ،‬االستثمارات‪ ،‬أجهزة صناعية‪ ،‬شركة خاصة‪ ،‬منزل أو‬
‫عقار…ألخ‪.‬‬
‫حين نتأمل المجتمع‪ ،‬سنجد أن الرأسماليين الكبار بارعون في إدارة وتنمية‬
‫األصول المالية (على حساب الفقرا غالباً)‪ ،‬أما الطبقات الوسطى فبارعة في‬
‫تبذير أموالها على المصاريف الترفيهية واالستهالكية‪ ،‬فيما تنهمك الطبقات‬
‫الفقيرة والمهمشة بتأمين المصاريف الحياتية األساسية‪.‬‬

‫لألسف‪ ،‬الغالبية الساحقة من الطبقات العاملة وحتى الوسطى ال ترى سوى‬


‫الوجه االستهالكي من الثرا ‪ ،‬وما أن تبدأ بجني المزيد من المال حتى تحاول‬
‫تقليد الطبقات العليا بأسلوب االستهالك بدل أن تتعلم منها أساليب تنمية األصول‬
‫المالية‪ .‬علينا أن نشير هنا إلى أن تنمية أصولنا المالية ليست أمراً شريراً‪ ،‬طالما‬
‫أنه ال يتم على حساب أحد‪ .‬في الواقع‪ ،‬قيا أبنا الطبقات العاملة والوسطى‬
‫بصرف المال على االستهالك العبثي بدل صرفه على تنمية األصول المالية هو‬
‫األمر الخاطى ألنه يتم على حسابنا نحن وحساب مستقبلنا ومناعتنا‬
‫االقتصادية‪.‬‬

‫في الحالة الطبيعية‪ ،‬يجب أن يذهب الجز األول من مدخولنا على سد النوع‬
‫األول من المصاريف (الحاجات األساسية)‪ ،‬ويذهب الجز الثاني منه على تنمية‬
‫أصولنا المالية‪ ،‬وما يتبقى بعد ذلك من سيولة يمكن صرفه على النوع الثاني من‬
‫المصروف (المصاريف الترفيهية واالستهالكية)‪ .‬المشكلة أن الغالبية الساحقة من‬
‫الناس تستخد مدخولها لسداد النوع األول من المصاريف األساسية‪ ،‬ثم‬
‫تستخد كافة ما تبقى من أموال بحوزتها لسداد النوع الثاني من المصاريف‬
‫االستهالكية من دون أن تفكر على اإلطالق بتنمية أصولها المالية على شكل‬
‫مدخرات وما شابه‪.‬‬

‫مفتاح االستقاللية والمناعة المالية يكمن إذاً في إدراك أهمية تنمية األصول‬
‫المالية التي قد تنمو كفاية لتصبح مع الوقت قادرة على تأمين مدخول إضافي‬
‫والتي تعطينا مناعة كبيرة تجاه األزمات المالية التي يمكن أن نمر بها‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫نمط الحياة البسيطة هو أفضل طريقة لتنمية األصول المالية على شكل ادخار‬
‫في البداية‪ ،‬وهذا ما سنتوسع فيه في المقاالت المقبلة‪ .‬المهم أن نتوقف عن‬
‫التعاطي مع المال على أنه مجرد وسيلة لالستهالك وأن ندرك أنه حافظ للقيمة‬
‫وقطعة من جهدنا وطاقتنا وحياتنا يمكننا استخدامها لبنا مناعتنا واستقالليتنا‬
‫المادية‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫أين ستكون بعد خمس سنوات؟‬
‫لماذا تحتاج لخطة مالية وكيف تضعها‬

‫السؤال الذي طرحناه في العنوان (أين ستكون بعد خمس سنوات) هو مضحك‬
‫للوهلة األولى‪ ،‬فنحن نعيش في زمن وبالد ال نعلم فيهما أين سنكون األسبوع‬
‫المقبل‪ .‬المفارقة هي أنه كلما كان الوضع المعيشي واالقتصادي والسياسي من‬
‫حولنا غير مستقر‪ ،‬كلما كنا نحتاج للتخطيط في حياتنا بشكل أكبر‪ ،‬ال العكس‪ .‬إن‬
‫لم نخطط على اإلطالق‪ ،‬سنكون قد سلمنا حياتنا لتلعب بها رياح األحداث كما‬
‫تشا ‪ ،‬وسترمينا الحياة من مكان آلخر فيما نعتقد أنه ال حول وال قوة لنا فيها على‬
‫اإلطالق‪.‬‬

‫أما إن وضعنا تصورات بسيطة واتبعناها‪ ،‬يوماً بعد يو وشهراً بعد شهر‪ ،‬سنجد‬
‫أنفسنا نكتسب مناعة شخصية ومالية تجاه األحداث ال يتمتع بها أولئك الذي‬
‫تركوا مصيرهم للصدف واألقدار‪ .‬التخطيط هو بكل بساطة عملية خل للخيارات‬
‫في زمن يريد أن يفرض علينا خيارات غير عادلة‪.‬‬

‫…‬

‫‪83‬‬
‫ما يميز نمط العيش البسيط هو أنه نمط من الحياة نختاره بوعي وال نرثه عن‬
‫المجتمع‪ ،‬وهو يستوجب في كل األحوال جهداً وتخطيطاً وإرادة في العديد من‬
‫مجاالت الحياة‪ ،‬والمجال المالي ليس استثنا ً ‪ .‬الخطة المالية الشخصية تساعدنا‬
‫على التحكم أكثر بمستقبلنا حتى ولو لم نستطع تطبيقها بالكامل‪ .‬فلنفترض‬
‫للحظة أننا نستطيع اإلجابة على السؤال الذي طرحناه في العنوان؛ فكروا قليال ً‬
‫بالجواب وفكروا بأحالمكم الصغيرة واألمور التي تحبون القيا بها وحاولوا أن تكتبوا‬
‫إجابة‪ :‬أي تريدون أن تكونوا بعد خمس سنوات من اليو ؟‬
‫أنا متأكد مئة في المئة أن أي جواب على هذا السؤال يستوجب أرضية مالية أو‬
‫وضعية اقتصادية معينة ال يمكن تحقي ما تريدونه من دونها‪ .‬وهنا يأتي دور الرؤيا‬
‫المالية الشخصية‪.‬‬

‫الرؤيا المالية الشخصية تخبرنا ببساطة عن حقيقة حالتنا االقتصادية والمعيشية‬


‫وتساعدنا على التخطيط بحكمة وترو لألمور الهامة التي نود القيا بها مستقبال ً‬
‫والتي تؤثر بشكل مباشر على طبيعة ونوعية حياتنا كتأسيس عائلة‪ ،‬تغيير‬
‫مهنتنا‪ ،‬شرا منزل… ألخ‪.‬‬

‫الخطة المالية التي نضعها تسمح لنا أن نكتشف ما إذا كان حلمنا بالتقاعد المبكر‬
‫أو بتأسيس شركة خاصة بعد خمسة أعوا مثال ً هو خطة منطقية أ حلم‬
‫مستحيل‪ ،‬وتخبرنا ما إذا كان بإمكاننا تحمل األعبا المالية لعائلة من طفلين أو‬
‫ثالثة أو لمنزل من طابقين مثالً‪ .‬ما نتحدث عنه هنا ليس بالضرورة خطة مالية‬
‫مفصلة تحدد كافة األرقا المرتبطة بحياتنا‪ ،‬بل مجرد تصور أولي للعناصر المالية‬
‫الرئيسية التي تحدد وضعنا الحياتي وتؤثر عليه‪ .‬هنالك عناصر أساسية ألي تصور‬
‫مالي نضعه لحياتنا‪ ،‬وهي تبدأ بحساب القيمة الصافية‪.‬‬

‫احتساب القيمة الصافية‬


‫األمر يبدأ من اكتشاف مكاننا المالي الحالي‪ ،‬وهو ما سنفعله من خالل حساب‬
‫“الثروة (القيمة) الصافية”‪.‬‬

‫الثروة الصافية ‪ Net Worth‬هي طبعاً مفهو رأسمالي يهدف لقياس ثروة شخص‬
‫ما أو قيمة شركة معينة‪ ،‬وبغض النظر عن كون الرأسمالية نظا اقتصادي غير‬
‫عادل إال أن المفاهيم االقتصادية الناتجة عنها هي أدوات لفهم واقعنا المادي‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫احتساب الثروة الصافية يتم عبر وضع قيمة كل ما نملكه من سيولة وممتلكات‬
‫في خانة (ومنها مدخراتك‪ ،‬حساباتك في البنك‪ ،‬قيمة المنزل‪ ،‬قيمة السيارة‪،‬‬
‫قيمة األثاث واألغراض االلكترونية والثياب الشخصية‪..‬ألخ)‪ ،‬وكل ما علينا من ديون‬
‫ومستحقات على الجهة األخرى (ومنها القيمة االجمالية لقرض السيارة‪ ،‬القيمة‬
‫االجمالية لقرض المنزل‪ ،‬ديون بطاقات االئتمان‪ ،‬قروض وديون أخرى…ألخ)‪.‬‬

‫الخطوة التالية هي طرح مجموع أصولنا المالية من مجموع الديون وسنحصل في‬
‫نهاية المطاف على رقم هو ثروتنا الصافية‪ .‬بالنسبة لمعظم الناس من الطبقات‬
‫المهمشة والعاملة‪ ،‬ستكون ثروتهم الصافية تقارب الصفر أو قد تكون رقماً سلبياً‬
‫– أي أن الديون التي يدينون بها أكثر بكثير من األموال واألمالك التي بحوزتهم‪.‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬موقعنا المالي واالقتصادي يكون في مكانة هشة وسلبية جداً إن‬
‫اتضح أن ثروتنا الصافية سلبية أو صفر‪ ،‬فهذا يعني أننا مرتهنين بالكامل لعبودية‬
‫األجر ولرب العمل والبنوك والشركات وال نستطيع الفكاك من هذه العبودية قبل‬
‫تسديد ديوننا بالكامل‪.‬‬

‫حين قمت باحتساب القيمة الصافية لدي منذ عامين‪ ،‬اتضح أنها سلبية‪ :‬ناقص‬
‫‪ 111‬آالف دوالر‪ .‬أي أنني إن دفعت كافة مدخراتي وقمت ببيع كل ممتلكاتي‬
‫(ومنها ثيابي)‪ ،‬سأبقى مديناً بن‪ 111‬ألف دوالر للبنوك‪ .‬هذا الرقم المرتفع يعود‬
‫لقرض إسكان لمنزلين في لبنان (منزل أهلي ومنزلي) الممتد على دفعات‬
‫شهرية ألعوا طويلة‪.‬‬

‫إدراك هذا األمر أظهر لي وقتها بوضوح أنني ال امتلك حرية االستقالة من العمل‬
‫في هذا الوقت‪ ،‬وحتى أن وضعي المالي ال يسمح لي بالتوقف عن العمل ولو‬
‫لشهر واحد‪ ،‬ألن هذا يعني أن البنك سيستولي على منزل أهلي ويشردهم في‬
‫الشارع فيما ليس لدي أي مصدر آخر لتسديد الدفعة الشهرية‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫حساب القيمة الصافية أظهر لي بوضوح أيضاً أن أي محاولة لالستقاللية المادية‬
‫لن تتوج بالنجاح طالما أن القيمة المالية الصافية لي هي سلبية‪ .‬إدراك هذه‬
‫الحقيقة كان في الواقع إحدى األسباب الرئيسية التي قررت بسببها العمل على‬
‫تحقي استقالليتي المالية الكاملة والفكاك من السيستيم بأكلمه‪.‬‬

‫الوضع بالنسبة لي تغير قليال ً منذ ذلك الوقت (من المفترض أن تصبح القيمة‬
‫الصافية لدي مساوية لصفر بعد عامين من اآلن)‪ ،‬لكن الدرس بقي نفسه‪ :‬معرفة‬
‫القيمة الصافية لثروتنا هو أداة مفيدة جداً الكتساب صورة أولية عن وضعنا المادي‪.‬‬
‫الخطوة التالية هي احتساب الميزانية الشهرية‪.‬‬

‫“من يفشل في التخطيط يخطط للفشل” (وينستون تشرشل)‬

‫حساب الميزانية الشهرية‬


‫الميزانية الشهرية تسهل عملية االدخار وتتيح لنا اكتشاف األمور التي تستهلك‬
‫أموالنا‪ ،‬ما يساعدنا على تعديل سلوكنا وقراراتنا المالية واالستهالكية شهراً بعد‬
‫شهر وتحسين وضعنا المالي‪.‬‬

‫يمكن وضع ميزانية بشكل بسيط جداً‪:‬‬

‫ضع الئحة بمصادر دخلك الحالية ومجموع قيمتها المالية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫ضع الئحة بمصاريفك الشهرية الحالية واكتشف كيف تصرف أموالك تحديداً‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫عليك أن تعلم أكثر ما يمكن عن مصاريفك‪ ،‬كالمصاريف التي تدفعها لإليجار‬
‫وفواتير المنزل‪ ،‬مصاريف التنقل‪ ،‬مصاريف الطعا ‪ ،‬الترفيه‪ ،‬المالبس‪ ،‬اشتراك‬
‫النادي‪ ،‬مصروف االنترنت‪..‬ألخ‪ .‬كلما كنت تفصيلياً في مصاريفك كلما كان‬
‫ذلك أفضل‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫قم بطرح القيمة االجمالية للمصاريف من القيمة االجمالية للدخل واكتشف‬ ‫‪‬‬
‫ما إذا كان مصروفك الشهري أكبر من مدخولك أو أقل منه‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬تتمثل مهمتك بتوسيع الفارق بين مصروفك ومدخولك ليكون الرقم الذي‬
‫تحصل عليه آخر الشهر إيجابياً‪ ،‬بحيث تجعل المدخول أكبر من المصروف وتدخر‬
‫مبلغ من المال كل شهر‪.‬‬

‫تقليص المصاريف بشكل كبير قد يعني أحياناً القيا بتغيرات جذرية في حياتنا كما‬
‫سنرى في الفصول المقبلة من هذه السلسلة‪ ،‬كاالنتقال إلى منزل آخر أو‬
‫االستغنا عن السيارة أو تغيير حميتنا الغذائية وإعادة النظر في هواياتنا وعاداتك‬
‫االستهالكية‪ .‬في كل األحوال‪ ،‬سنستعين كثيراً بجدول الميزانية الشهرية‬
‫لنكتشف ما الذي يمكن تخفيضه من المصروف أو إلغا ه نهائياً‪.‬‬

‫وضع تصوّر مالي لألعوام الخمسة المقبلة‬


‫الخطوة األخيرة بعد إجرا التغيرات الحياتية الالزمة لتحقي فائض مالي شهري‬
‫هي احتساب مجموع مدخراتنا بعد عا أو خمسة أعوا من اليو ‪ .‬قد نكتشف أن‬
‫مدخراتنا بعد خمسة أعوا ستكون ألف دوالر فقط‪ ،‬وقد نكتشف أنها ستكون‬
‫خمسين ألفاً‪ .‬في الحالتان‪ ،‬ستساعدنا النتيجة على اتخاذ قرارات أفضل في‬
‫الوقت الحالي‪.‬‬

‫إن كنا قادرين على سبيل المثال على ادخار ما يساوي ثمن سيارة خالل عا‬
‫واحد‪ ،‬سيساعدنا ذلك على تجنب أخذ قرض من البنك لشرا سيارة اآلن ودفع‬
‫الفوائد والرسو عليها لخمس سنوات مقبلة‪.‬‬

‫في كل األحوال‪ ،‬هنالك شروط أساسية تؤثر على نجاح هكذا خطة‪ ،‬أولها وجود‬
‫ما يكفي من الرغبة بتحقي االستقاللية المالية لكي نستطيع االستمرار بخطتنا‬
‫المالية أسبوعاً بعد أسبوع‪ ،‬شهراً بعد شهر‪ ،‬وعاماً بعد عا ‪ .‬لذلك من المهم أن‬
‫نكتشف أحالمنا واألمور التي نحبها ووضعها نصب أعيننا‪ ،‬ألن كل خطوة مالية من‬
‫اآلن فصاعداً يجب أن تساعدنا على الوصول إليها‪ .‬الحافز األكبر بالنسبة لي‬
‫لتحقي االستقاللية المادية هو التخلص من الوظيفة والتفرغ للكتابة ولألمور‬
‫األخرى التي أحبها في الحياة‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الشرط الثاني لنجاح رؤيتنا المالية يتمثل في معرفة الحد الشهري األدنى من‬
‫المال الذي نحتاجه لكي نعيش حياة كريمة ومريحة وادخار الباقي‪ .‬العديد من‬
‫الناس يعتقدون أنهم يحتاجون أللف أو ألفين أو ثالثة آالف دوالر في الشهر كحد‬
‫أدنى للمعيشة ألنهم يرون أن اآلخرين يحتاجون لهذا المبلغ أو ألنهم يستهلكون‬
‫من حيث ال يدرون‪ .‬إن كنا قد خرجنا من الحياة االستهالكية‪ ،‬سنجد أن الحد‬
‫االدنى الذي نحتاجه هو أقل بكثير مما كنا نعتقد سابقاً‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬الحيلة األخيرة لنجاح عملية االدخار الشهرية هي تحديد قيمة المبلغ‬
‫الذي نريد ادخاره مسبقاً‪ ،‬وتسديده في بداية الشهر عند الحصول على راتبنا ال‬
‫في نهايته‪ .‬يمكننا أن نقول مثال ً أننا سنقو هذا العا بادخار ‪ 200‬دوالر شهرياً‪،‬‬
‫ولكي نقو بذلك علينا أن نبدأ من بعدها بدفع ‪ 200‬دوالر كل شهر لحساب‬
‫التوفير عندما نحصل على راتبنا في أول الشهر وتدبر أمورنا بما تبقى من الرات‪،‬‬
‫بدل أن نصرف مالنا طوال الشهر وندخر ما تبقى من فتات منه في نهايته‪ .‬الخطة‬
‫إذاً هي بكل بساطة‪ :‬ادخر أوالً‪ ،‬واصرف ما تبقى – ال اصرف أوال ً وادخر ما تبقى‬
‫كما تفعل غالبية الناس‪.‬‬

‫إن كنا نريد اختصار جوهر هذا المقال بجملة واحدة سنقول التالي‪ :‬اكتساب وضع‬
‫مادي راسخ ال يمكن أن يتحق بطريقة ارتجالية وال يمكن أن يتحق من دون‬
‫النظر بإمعان إلى األرقا التي تحكم حياتنا – ساعة واحدة من التخطيط المالي‬
‫في العا قد تعني الفارق بين اكتساب مناعة مالية حقيقية وبين التخبط في‬
‫قرارات مالية سيئة ال تؤدي سوى إلى استمرار عبوديتنا للمنظومة السائد‪ .‬في‬
‫الحقيقة‪ ،‬المناعة المالية ليست أمراً نكتسبه في مستقبل بعيد فحسب‪ ،‬بل‬
‫هي شي يمكننا أن نبدأ بتحقيقه فوراً عبر خطوات حياتية معينة‪ .‬هذا ما‬
‫سنتناوله في المقاالت المقبلة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫االستدانة والعبودية‪:‬‬
‫لماذا يجب تجنب الديون (وما هي االستثناءات)‬

‫معظم أبنا جيلنا الشاب يعتبرون أن االستدانة هي أمر طبيعي في الحياة وال‬
‫يمكن تجنبه‪ ،‬والعديدون منا يعتبرون أن أهم إنجاز لهم هو البقا خارج الدين‪.‬‬
‫الواقع الثقيل لالستدانة جعل تجنبها من اإلنجازات التي نفتخر فيها إن استطعنا‬
‫تحقيقها! األسوأ هو أن االستدانة أصبحت في الوقت نفسه أمراً طبيعياً‪ ،‬لدرجة‬
‫أن البعض يعتقد أنها مفيدة له وأنها تعطيه أفضلية ما في حياته المالية والعملية‪.‬‬

‫هنالك طبعاً العديد من األسباب التي تجعل من جيلنا أكثر جيل عليه ديون في‬
‫التاريخ الحديث‪ ،‬منها الوضع االقتصادي المتردي‪ ،‬االرتفاع الهائل لمستوى‬
‫المعيشة مقارنة مع األجيال السابقة‪ ،‬وعد وجود وظائف دائمة أو مداخيل ثابتة‬
‫لنا كما كانت الحال مع أهلنا وأجدادنا‪ .‬كل ذلك يدفعنا لالستدانة لتأمين أساسيات‬
‫عيشنا ولكن هنالك عامل آخر ال بد أن نعترف به أيضاً‪ .‬هذا العامل هو أننا أكثر‬
‫جيل استهالكي في التاريخ‪ .‬نحن ال نكتفي بهاتف ثابت في المنزل وسيارة‬
‫واحدة للعائلة بأكملها ومشوار وحيد في نهاية األسبوع إلى الكورنيش كما كان‬
‫يفعل أهلنا‪ ،‬بل نريد أحدث هاتف وحاسوب جديد كل عا وسيارة جديدة كل‬
‫عامين ومنزل كبير ومطاعم وحفالت ومشاوير ومالبس وسفر ومئة نوع من‬
‫السكاكر والمشروبات الغازية والطعا السريع‪ .‬وكل ذلك يكلفنا مال ال نملكه‪،‬‬
‫فنضطر على االستدانة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫هكذا تبدو حريتنا في ظل الديون‪.‬‬

‫االستدانة هي إطالة لعبودية الوظيفة‬


‫ما نقو به عند االستدانة هو شرا شي ال نملك ثمنه اآلن مقابل دفع مبلغ أكبر‬
‫ثمناً له فيما بعد‪ .‬وفقاً لذلك‪ ،‬الغالبية الساحقة من عمليات االستدانة هي‬
‫صفقات خاسرة للمستدين‪.‬‬

‫إن كنا نريد أن نشتري سيارة ثمنها ‪ 10‬آالف دوالر مثالً‪ ،‬سنستدين ثمنها وندفع‬
‫للبنك خالل خمس سنوات مبلغ قدره ‪ 14‬ألف دوالر على األقل (بسبب الفوائد)‪.‬‬
‫وهنا يوجد تناقض غريب‪ :‬إن كنا نستطيع تسديد ‪ 14‬ألف دوالر للبنك خالل خمس‬
‫سنوات‪ ،‬فهذا يعني أننا نستطيع بسهولة ادخار ‪ 10‬آالف دوالر خالل سنوات أقل‬
‫وشرا السيارة من دون قرض‪ ،‬فلماذا االستدانة إذاً؟‬

‫الجواب سهل‪ :‬لقد علمتنا الرأسمالية انعدا الصبر‪ .‬ال أحد يشعر أنه يستطيع أن‬
‫ينتظر ثالث أو أربع سنوات من االدخار لتأمين ثمن السيارة التي يريد‪ ،‬بل يريد أن‬
‫يحصل على السيارة اآلن وحتى لو عنى ذلك أنه سيدفع أكثر‪ .‬إن أخذنا بعين‬
‫االعتبار أن المال ليس مجرد أوراق نقدية بل يمثل قطعاً من حياتنا وطاقتنا‪ ،‬سنجد‬
‫أن قلة الصبر هذه تكلفنا باإلضافة إلى المال‪ ،‬سنوات وسنوات من حياتنا ألننا‬
‫سنقضي سنوات إضافية في عبودية الوظيفة لتسديد فوائد القروض‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فلنأخذ مثال السيارة أعاله ونتأمله قليالً‪ :‬السيارة التي نشتريها بن‪ 10‬آالف دوالر‪،‬‬
‫سيكون ثمنها بعد خمس سنوات نحو ‪ 7-6‬آالف دوالر على األكثر (بحسب نوع‬
‫السيارة)‪ .‬إن قمنا باالستدانة لشرائها‪ ،‬وسددها لفترة خمس سنوات مبلغ ‪14‬‬
‫ألف دوالر بسبب الفوائد‪ ،‬نكون قد خسرنا في الواقع نحو ‪ 7‬آالف دوالر بسبب‬
‫الفوائد وانخفاض قيمة السيارة (أي خسرنا مبلغاً يساوي سعر سيارة أخرى!)‪.‬‬
‫في المقابل‪ ،‬إن انتظرنا عامين أو ثالثة‪ ،‬سنستطيع شرا نفس السيارة بمبلغ‬
‫أقل ومن دون ديون على اإلطالق‪ .‬بعض الناس تغير سياراتها كل ثالث أو أربع‬
‫سنوات من خالل ديون جديدة من دون أن تنتبه أنها تخسر آالف الدوالرات في كل‬
‫مرة‪.‬‬

‫هذا وال زلنا نتحدث فقط عن النتائج المالية المباشرة لالستدانة ولم نتحدث بعد‬
‫عن التعقيدات القانونية والحياتية التي تنشأ عنها‪ .‬االستدانة تجبرنا إلى حد كبير‬
‫على تحمل وظائف وأعمال لم نكن لنتحملها لوال وجود الديون‪ .‬االستدانة تحرمنا‬
‫من الخيارات في الحياة أيضاً‪ ،‬ألن االستقالة من عملنا أو تغييره في ظل وجود‬
‫ديون قد تؤدي فوراً إلى مشاكل وضغوط قانونية ومالية كبيرة قد تصل إلى السجن‬
‫في بعض األحيان‪.‬‬

‫االستدانة إذا في نهاية المطاف ال توفر علينا الوقت وال تسرع مجرى حياتنا وال‬
‫تسهل أمورنا بل العكس‪ :‬االستدانة تسرق سنوات إضافية منا نقضيها في العمل‬
‫لدفع فوائد الدين‪.‬‬

‫هل يوجد استثناءات على االستدانة؟‬


‫بما أن المنظومة السائدة حرصت على أن يكون من الصعب جداً علينا تأمين كافة‬
‫احتياجاتنا المعيشية من دون ديون‪ ،‬قد ال يكون ممكناً بالنسبة للكثيرين منا أال‬
‫يستدينوا على اإلطالق‪ .‬ما هي في هذه الحالة أفضل ممارسة مالية؟‬

‫األمر بسيط جداً‪ :‬ال تستدين أبداً لتسديد ثمن االستهالك العادي كشرا حاسوب‬
‫أو هاتف أو مالبس أو السفر وما شابه‪ .‬االستدانة من أجل االستهالك هي جنون‪.‬‬

‫استدن فقط عندما تريد أن تقو باستثمار يدعم حياتك ويزيد مناعتك المالية‪،‬‬
‫كشرا منزل أو متجر أو أدوات تحتاجها في عملك (وأحياناً السيارة الخاصة‬
‫بحسب طبيعة عملك)‪ ،‬أو حين يكون هنالك طارئ طبي ال يمكن التعامل معه‬
‫بغير االستدانة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫في حالة المنزل‪ ،‬من الطبيعي أال يكون بإمكاننا انتظار عشرون عا وأكثر لتأمين‬
‫ثمن منزل بأنفسنا ألنه ال يمكننا أن نبقى في الشارع كل هذا الوقت‪ ،‬ولذلك‬
‫االستدانة في هذه الحالة ال يمكن تجنبها بالنسبة لكثر منا‪ .‬األمر الجيد في‬
‫القروض السكنية هو أن القروض التي تمتد ألكثر من عقد من الزمن تفيد أحياناً‬
‫المستدين أكثر مما تفيد المدين لسبب بسيط اسمه التضخم المالي‪ .‬الدفعة‬
‫الشهرية في حالة قرض المنزل تبقى نفسها عاماً بعد عا فيما تنخفض القدرة‬
‫الشرائية للعملة المحلية مع الوقت‪ .‬الدفعة الشهرية التي تبلغ قيمتها ‪ 500‬دوالر‬
‫قد تبدو مبلغاً كبيراً اليو ‪ ،‬لكنها لن تبدو كذلك بعد ‪ 10‬و‪ 20‬و‪ 30‬عا حين يكون‬
‫مساو لثمن بضعة وجبات ال أكثر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫المبلغ نفسه‬

‫إلى ذلك‪ ،‬شرا األصول المالية التي تزيد قيمتها مع الوقت (كالمنزل والمتجر) هو‬
‫استثنا مفيد ألن المبلغ الذي استدنته ال يذهب هبا بل يكون بمثابة استثمار‬
‫يعطيك مردود يعوض الفوائد التي تدفعها للقرض‪.‬‬

‫الحل األفضل لتجنب االستدانة هو في الواقع أن تسدد لنفسك دفعات شهرية‬


‫كما لو كنت تسددها للبنك‪ .‬إن قررت أنك تريد شرا سيارة العا المقبل (مع اني‬
‫شخصياً ضد االستدانة لشرا سيارات ألنها تفقد قيمتها بسرعة)‪ ،‬ابدأ منذ العا‬
‫الحالي بتحويل دفعة شهرية لنفسك على أنها قسط شهري للسيارة‪ ،‬وستجد‬
‫نفسك خالل عامين أنك تمتلك ثمنها بالكامل من دون أن تضطر لالستدانة‪.‬‬

‫تجنب االستدانة يتطلب بالطبع حنكة وصبراً تفوق ما هو سائد في المجتمع‪ ،‬وقد‬
‫ال يكون ذلك أمراً سهالً‪ ،‬لكننا نفترض أنك إن كنت تقرأ هذا النص‪ ،‬فأنت تتحلى‬
‫بهاتين الصفتين وستستطيع عبر القليل من الجهد اإلضافي تدبير أمورك من دون‬
‫ديون‪ .‬بالتوفي !‬

‫‪92‬‬
‫كيف يمكن لالختيار الصحيح لمنزلك‬
‫أن يساهم في استقالليتك المالية‬

‫قرار صغير واحد فيما يتعل بالسكن قد يعني حرفياً الفارق بين ادخار ثروة أو‬
‫صرفها‪ .‬موقع المنزل‪ ،‬حجمه‪ ،‬وتشاركه مع آخرين‪ ،‬هي أمور ستفاجئكم كم تؤثر‬
‫على استقالليتكم المالية على المدى البعيد حين نناقشها أدناه‪.‬‬

‫الفارق في التكلفة بين السكن بمفردنا والسكن مع شريك في منزل من غرفة‬


‫واحدة في بيروت مثالً‪ ،‬يبلغ نحو ‪ 40‬ألف دوالر كل عشر سنوات‪ ،‬وفي دبي يبلغ‬
‫هذا الرقم الضعف تقريباً‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬ورغم أن السكن هو المصروف األكبر لدى أبنا‬
‫جيلنا (خصوصاً أن غالبيتنا ال يمتلكون منازلهم الخاصة)‪ ،‬تهمل معظم نصائح‬
‫االدخار هذا األساس المهم جداً لالستقاللية المالية‪ .‬لذلك فلنتحدث قليال ً عن‬
‫االختيار الحكيم للمنزل وكيف يمكن لذلك أن يساعدنا في تحقي استقالليتنا‪.‬‬

‫…‬

‫‪93‬‬
‫ال تأخذ(ي) قرضا سكنيا إال إن توافرت الظروف المناسبة‬
‫النصائح التي يمكن أن نقدمها في هذا المجال تنبع عن تجربة شخصية‪ ،‬ويمكن‬
‫أن نقول بثقة إن أخذ قرض سكني لثالثون عا هو حكم باإلعدا االقتصادي‬
‫لمعظمنا حيث أن دفع القرض الشهري سيعتقلنا في عبودية أبدية للبنك الذي‬
‫يمتلك المنزل‪ .‬إن كان يمكن تجنب أخذ قرض لشرا منزل بأي طريقة كانت‪ ،‬فذلك‬
‫ممتاز‪ ،‬لكن بالنسبة للغالبية منا‪ ،‬القرض السكني هو الطريقة الوحيدة ليكون‬
‫هنالك سقف فوق رؤوسهم‪.‬‬
‫االلتزا بقرض منزلي لعقود من الزمن هو قرار سيرافقنا مدى الحياة‪ ،‬لذلك من‬
‫المهم جداً توفير الظروف المناسبة له والقيا به في الوقت المناسب ألن أي‬
‫خطوة متعثرة في هذا المجال ستؤثر علينا لبقية حياتنا‪ .‬ما نقصده بالظروف‬
‫المناسبة هو مجموعة من العوامل‪.‬‬

‫العامل األول هو أال تكون الدفعة الشهرية للبنك أعلى بكثير من اإليجار الذي‬
‫ندفعه حالياً؛ أي إن كنا ندفع ‪ 500‬دوالر لإليجار شهرياً والقرض السكني سيجبرنا‬
‫على دفع ‪ 1000‬دوالر في الشهر‪ ،‬فاألفضل أال نقو بالخطوة وأن نبقى على‬
‫اإليجار‪ .‬أما إن كانت الدفعة الشهرية للبنك ستكون نحو ‪ 500‬دوالر مثال ً أو حتى‬
‫‪ ،600‬عندها قد يكون القرض فكرة جيدة‪.‬‬

‫العامل الثاني هو أن تكون الدفعة األولى للمنزل متوافرة بحوزتنا من أموالنا نحن‬
‫وإلى جانبها القليل من المدخرات اإلضافية‪ .‬هنالك أشخاص يقترضون من البنك‬
‫ليسددوا الدفعة األولى ثم يأخذون قرضاً سكنياً آخر لتسديد الثمن الباقي من‬
‫المنزل‪ ،‬ما يجبرهم على دفع قرضين في الوقت نفسه لسنوات من الزمن –‬
‫وهذه وصفة لإلفالس‪ .‬من المهم أن يكون لدينا أيضاً القليل من المدخرات‬
‫اإلضافية عند شرا المنزل ألنه هنالك الكثير من المصاريف التي ال نتوقعها مثل‬
‫كلفة المعامالت الرسمية والصيانة التي قد يحتاجها المنزل‪ ،‬فضال ً عن األثاث وما‬
‫شابه‪.‬‬

‫األمر الجيد في القروض الطويلة األمد هو أن الدفعة الشهرية التي نسددها للبنك‬
‫تصبح أقل قيمة مع الوقت بسبب التضخم المالي (أي أن الن ‪ 500‬دوالر الشهرية‬
‫التي ندفعها اليو قد تصبح بمثابة ‪ 350-300‬دوالراً بعد ‪ 15‬عا )‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬القرض‬
‫السكني‪ ،‬رغم مساوئه العديدة‪ ،‬قد يكون أفضل في البلدان التي يرتفع فيها‬
‫اإليجار بشكل مستمر ألن الدفعة الشهرية تبقى نفسها فيما يستمر اإليجار‬
‫الشهري باالرتفاع عاماً بعد عا ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫العامل الثالث الذي ال بد من توافره ألخذ قرض سكني من دون التسبب بإفالسنا‬
‫هو طبعاً أن يكون لدينا مدخوال ً ثابتاً واستقرار نسبي في عملنا ألن أسوأ ما يمكن‬
‫أن يحدث هو أن نأخذ قرضاً سكنياً ثم نخسر عملنا بعد بضعة أشهر‪ ،‬حيث‬
‫سيعني ذلك أننا سنخسر السقف فوق رؤوسنا كما أننا سنخسر كل ما دفعناه‬
‫من أموال حتى تلك النقطة‪.‬‬

‫العامل الرابع الذي سيساعدنا كثيراً هو أن نقو بشرا المنزل مع أفراد عائلتنا أو‬
‫شريكنا الحياتي (الزوجة أو الزوج) إن كان ذلك ممكناً‪ ،‬ألن ذلك يزيد من مناعتنا‬
‫تجاه تقلبات العمل كما أنه يخفف من الضغط النفسي والمالي على الزوجين‪.‬‬

‫ال تشتري (أو تستأجر) منزال أكبر من حاجتك‬


‫هنالك اعتقاد شائع بأنه كلما كان المنزل أكبر كلما كان ذلك أفضل‪ ،‬ومعظمنا‬
‫يحبون بطبيعتهم األماكن الواسعة والمفتوحة مقارنة مع األماكن الضيقة والمغلقة‪.‬‬
‫لألسف‪ ،‬كلما كان المنزل أكبر كلما كانت الدفعة الشهرية لتسديد ثمنه أكبر‬
‫وكلما كانت مصاريفه أعلى‪ .‬غرفة نو إضافية واحدة في المنزل تكلف في لبنان‬
‫مثال ً نحو ‪ 90‬ألف دوالر إضافية على األقل على مدى األعوا ‪ ،‬بما تضيفه على‬
‫الثمن اإلجمالي للمنزل وعلى فواتير الكهربا والصيانة وما شابه‪ .‬المساحات‬
‫اإلضافية في المنزل تحتاج أيضاً ألثاث إضافي وأغراض إضافية لملئها وهذا يعني‬
‫المزيد من الجهد والمال الذي يجب تخصيصه للمنزل‪.‬‬

‫اعتقد أن غرفة نو واحدة لكل شخص (للعازبين) ولكل شخصين (للمتزوجين)‬


‫هي مساحة منطقية وكافية نسبياً لحياة مريحة‪ .‬معظم األزواج الذين ليس لديهم‬
‫أوالد يمكن أن يعيشوا بغرفة نو واحدة بكل سهولة‪ .‬إن كنتم عازبين يمكنكم‬
‫مشاركة المنزل مع صدي لكم‪ ،‬أو يمكن السكن في غرفة واحدة (استوديو) بدل‬
‫بيت بغرفة نو كاملة وغرفة جلوس‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫هنالك حركة اسمها “المنازل الفائقة الصغر” في الغرب تذهب إلى حد اعتماد منازل صغيرة جداً لتجنب الديون والقروض‬

‫الثاني‪.‬‬ ‫االستقاللية المالية‪ .‬في الصورة منزل صغير مؤلف من غرفة جلوس صغيرة وسرير في الطاب‬ ‫وتحقي‬

‫شارك(ي) المنزل مع األشخاص المناسبين‬


‫مشاركة السكن هو أمر ال مفر منه لمعظم أبنا جيلنا‪ ،‬إذ إن كلفة السكن هي‬
‫أعلى من قدرتنا بمفردنا على تسديدها‪ .‬هنالك عدد كبير منا يتشاركون المنزل‬
‫مع أهلهم أساساً وال خيار كبير لهم بذلك‪ .‬معظمنا في العالم العربي نسكن مع‬
‫أهلنا حتى يحين موعد زواجنا‪ ،‬والبعض ينتقل مباشرة من منزل األهل إلى منزل‬
‫كبير بغرفتي نو أو أكثر عند الزواج‪ ،‬ما يثقلهم بالكثير من األعبا المالية في‬
‫مرحلة حساسة من حياتهم‪.‬‬

‫البعض قد يقترح البقا مع األهل خالل مرحلة العزوبية لتوفير الجهد والمال الذي‬
‫يحتاجه السكن بمفردنا‪ ،‬وهذا قرار يعود لكل منا‪ .‬رأيي الشخصي أن السكن مع‬
‫األهل يسبب في الواقع متاعب يومية لنا وألهلنا أكثر مما يحل‪ ،‬فهو يعي‬
‫استقالليتنا ونمونا الذاتي إلى حد كبير وخصوصاً أن األهل في ثقافتنا الشرقية‬
‫مشبعين بالعقلية األبوية والسلطوية والرغبة بالسيطرة على تفاصيل حياة‬
‫أوالدهم‪ .‬الخيار الثاني هو مشاركة غرفة مع صدي أو صديقة‪ ،‬وهو خيار مقبول‬
‫مالياً عادة ومتاح بالنسبة لعدد كبير منا‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫مشاركة اإليجار مع شريك لها فوائدها المالية كما سب وذكرنا (مثل تقاسم‬
‫اإليجار‪ ،‬تقاسم الفواتير‪ ،‬تقاسم أعبا الصيانة…ألخ)‪ ،‬لكن لها جانبها السلبي أيضا ً‬
‫إذ تعني استقاللية أقل‪ ،‬احتمال صدا الشخصيات المختلفة‪ ،‬عد تقاسم األعبا‬
‫المنزلية‪ ،‬اختالف العادات أو وجود عادات سيئة لشريك السكن…ألخ‪ .‬لذلك‪ ،‬الخيار‬
‫سيكون أحياناً بين الكلفة المالية اإلضافية مع استقاللية شخصية أكبر (السكن‬
‫بمفردنا) أو توفير الكلفة مع استقاللية شخصية أقل (السكن مع األهل أو شركا‬
‫آخرين)‪.‬‬

‫الموقع الجغرافي للمنزل أهم من المنزل نفسه أحيانا‬


‫هنالك العديد من الناس الذين يختارون السكن في منازل بعيدة جداً عن مراكز‬
‫عملهم‪ ،‬ما يؤثر بشكل سلبي جداً على وضعهم المادي وحالتهم النفسية‬
‫وصحتهم على المدى البعيد‪ .‬نحن ننتقل إلى عملنا يومياً‪ ،‬خمسة أيا في‬
‫األسبوع على األقل‪ ،‬والسكن في منزل بعيد يعني إهدار الوقت والجهد والمال‬
‫في االنتقال من وإلى العمل‪.‬‬

‫الكلفة الحياتية للمسافة هي مئات الساعات المهدورة خالل العا على الطري ؛‬
‫إن كنا نحتاج لن‪ 45‬دقيقة كل يو للوصول إلى مركز عملنا فهذا يعني أننا نهدر نحو‬
‫‪ 450‬ساعة سنوياً في الذهاب واإلياب من وإلى العمل‪ ،‬مع ما يعنيه ذلك من توتر‬
‫وضغط نفسي مرتبط بالزحمة والقيادة والقل حول إيجاد مواقف لركن السيارة‪.‬‬

‫أما الكلفة المالية للمسافة فيمكن أن تبلغ آالف الدوالرات سنوياً ثمناً للوقود‬
‫وصيانة السيارة؛ السكن على بعد ‪ 45‬دقيقة من العمل يعني في لبنان نحو ‪3000‬‬
‫دوالر إضافية سنوياً في كلفة التنقل مقارنة مع السكن على بعد ‪ 10‬دقائ منه‪،‬‬
‫وهذا الرقم هو نفسه تقريباً في دبي‪ ،‬أي نحو ‪ 30‬ألف دوالر إضافية كل عشر‬
‫سنوات‪.‬‬

‫أفضل اختيار جغرافي للسكن هو السكن األقرب إلى مركز عملنا – والخيار‬
‫المثالي هو المنزل الذي يتيح الوصول إلى مركز عملنا مشياً على األقدا أو على‬
‫الدراجة الهوائية‪ .‬حين ال يكون ذلك ممكنا‪ ،‬ثاني أفضل خيار هو أن يكون المنزل‬
‫قريب من محطات النقل العا الرئيسية‪ ،‬كالباص أو القطار‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫اتباع النصائح التي نذكرها في المقال المذكور تستوجب بطبيعة الحال تأجيل أو‬
‫إلغا أحال العيش بمنزل فخم من طابقين‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬اتباع هذه النصائح قد‬
‫يتيح لنا تحقي هذا الحلم في وقت الح ‪ .‬السكن في منزل صغير‪ ،‬مشاركة‬
‫المنزل أو الغرفة مع شريك‪ ،‬واختيار مكان جغرافي قريب جداً من مركز العمل‪،‬‬
‫هي كلها أمور توفر علينا ما بين ‪ 5‬آالف و‪ 10‬آالف دوالر سنوياً في لبنان مثال ً‬
‫(واعتقد أن األرقا مشابهة في بقية البلدان)‪ ،‬أي ما بين ‪ 125‬ألف دوالر و‪ 250‬ألف‬
‫كاف وحده لتحقي االستقاللية المالية‬ ‫ٍ‬ ‫دوالر خالل عقدين ونصف‪ ،‬وهو مبلغ‬
‫الشاملة لمعظمنا‪ .‬مذهل كيف يمكن لقرارات صغيرة كهذه أن يكون لها تأثير بهذا‬
‫الحجم على المدى البعيد‪ ،‬أليس كذلك؟‬

‫‪98‬‬
‫كيف يمكن لالختيار الصحيح ألسلوب النقل‬
‫أن يساهم في استقالليتك المالية‬

‫معظم الناس تعتبر أن السيارة الخاصة هي اليو أكثر من وسيلة تنقل وتتعامل‬
‫معها على أنها “ضرورة” ال بد منها لكل شخص راشد في مجتمعنا‪ .‬شخصياً‪ ،‬أنا‬
‫محبي السيارات والسرعة‪ ،‬ومعظم السيارات التي امتلكتها في الماضي كانت‬
‫سيارات رياضية معدلة‪ ،‬لكن حين أفكر في الموضوع وفي تأثيره على حياتي‪ ،‬أجد‬
‫أن الكلفة والعب اليومي الذي كان يسببه لي امتالك سيارة كانت أكبر من‬
‫المتعة التي احصل عليها في المقابل‪ .‬ذكرت “المتعة” قبل أن أذكر “المنفعة” ألنه‬
‫حين نتمعن في األمر قليالً‪ ،‬سنجد أن امتالك سيارة ال يدور بشكل أساسي حول‬
‫التنقل – فالتنقل في معظم مدن العالم سهل وممكن من دون سيارة خاصة‪.‬‬
‫امتالك سيارة خاصة يدور في الوقع حول أمر آخر‪ ،‬هو المكانة االجتماعية‪.‬‬

‫هل السيارة ضرورة عملي ّة أم رمز اجتماعي وعبء مالي؟‬


‫الثقافة االستهالكية المعاصرة تقو إلى حد كبير على محورية امتالك سيارة‬
‫خاصة لدرجة أن جز كبير من مكانتنا االجتماعية يرتبط بنوع السيارة التي‬
‫نقودها؛ كلما كانت السيارة أغلى وأجدد وأسرع وأكبر‪ ،‬كلما كان ذلك أفضل وكلما‬
‫تعامل معنا المجتمع على أننا ناجحون في الحياة وعلى أننا ننتمي إلى طبقة‬
‫أعلى‪ .‬النتيجة هي أنه هنالك عدد هائل من الشباب اليو يستدينون المال‬
‫لشرا سيارات ال يمتلكون ثمنها ويثقلون أنفسهم بمصاريف إضافية كالوقود‬
‫والتأمين والصيانة والموقف‪ ،‬ثم يستدينون المزيد من المال بعد بضعة سنوات‬
‫لشرا سيارة ذات تصميم أحدث‪ .‬السيارة القديمة والمستعملة ترتبط إلى حد‬
‫كبير في ذهننا بصورة الشخص الفاشل في المجتمع‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫من بين جميع وسائل النقل‪ ،‬السيارة هي األكثر ارتباطاً بالمكانة االجتماعية واألكثر كلفة‪.‬‬

‫لقد عشت السنوات القليلة الماضية من حياتي في مدينتين مختلفتين (بيروت‬


‫ودبي) من دون سيارة‪ ،‬وللمفارقة فإن كل من اتحدث معه عن هاتين المدينتين‬
‫يقول أنه ال يمكن العيش فيهما من دون سيارة‪ .‬في الواقع كان امتالك سيارة في‬
‫بيروت بالنسبة لي عبئاً كبيراً أكثر مما كان حال ً ألزمة التنقل في هذه المدينة‬
‫الصغيرة‪ .‬أما في دبي‪ ،‬فمعظم أصدقائي يمتلكون سيارات خاصة وتجربتهم ال‬
‫تشجعني سوى على االستمرار بالتنقل من دون سيارة ألنني أرى األعبا التي‬
‫يعيشونها كل يو بسببها‪.‬‬
‫العب الذي تضعه السيارة علينا في المدن الحديثة ال يقتصر على الشأن المالي‬
‫فحسب‪ ،‬بل هو أيضاً عب نفسي وقيد على وقتنا الحر؛ إذ علينا أن نقل حول‬
‫إيجاد موقف لها أينما ذهبنا‪ ،‬وتصبح خياراتنا في العمل والسكن والتنزه متأثرة مع‬
‫الوقت بمدى سهولة إيجاد موقف للسيارة في الوجهة التي نقصدها‪ ،‬كما أنه‬
‫علينا أن نقضي وقتاً في مالحقة المعامالت الورقية والتأمينات والصيانات التي‬
‫تحتاجها السيارة شهرياً أو سنوياً‪ ،‬ناهيك عن العب الذي نتعرض له إن تعرضنا‬
‫لحادث‪.‬‬

‫العب المالي ال يقتصر أيضاً على تسديد ثمنها‪ ،‬بل يشمل المصاريف اليومية مثل‬
‫الوقود‪ ،‬ثمن المواقف والتأمين والصيانة‪ .‬في دبي اتنقل مثال ً في المترو والتاكسي‬
‫بمصروف ال يتخطى مئة دوالر شهرياً‪ ،‬ما يساعدني على توفير نحو ‪ 6000‬دوالر‬
‫سنوياً فيما لو كنت امتلك سيارة (نحو ‪ 300‬دوالر شهرياً لتسديد ثمن السيارة‬
‫ونحو ‪ 200‬دوالر على األقل ثمن الوقود والمواقف والصيانة)‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬نحن نرى‬
‫باألرقا كيف أن قرارات حياتية صغيرة تأتي بنتائج مالية كبيرة على المدى البعيد‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫طبعاً‪ ،‬هذا المصروف المنخفض لتنقالتي في وسائل النقل العا يعود أيضاً إلى‬
‫اختياري السكن في منطقة قريبة من مركز عملي‪ ،‬ال تبعد أكثر من ‪ 15‬دقيقة في‬
‫السيارة (لذلك ذكرنا في المقال الساب أهمية السكن قرب مركز العمل)‪.‬‬

‫ّ‬
‫التنقل للحياة البسيطة‬ ‫حلول‬
‫هذا ال يعني أن امتالك سيارة خاصة هو أمر مرفوض على اإلطالق‪ ،‬فالمدن‬
‫المعاصرة مهندسة بأكملها حول محورية السيارة وحول طرقاتها وهذا ما يجعل من‬
‫السيارة بالنسبة للبعض ضرورة عملية‪ .‬بعض الظروف التي قد تحتم امتالك سيارة‬
‫خاصة هي‪:‬‬

‫طبيعة عملنا التي قد تتطلب منا التنقل بسيارة خاصة خالل الدوا ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وجود أفراد من عائلتنا يعتمدون علينا للتنقل وال يمكن تأمين احتياجاتهم‬ ‫‪‬‬
‫وتنقالتهم بأمان وفعالية من دون سيارة خاصة‪ ،‬مثل األطفال والمسنين‪.‬‬
‫عد فعالية النقل العا في المكان الذي نعيش فيه‪ ،‬أو انعدا األمان في‬ ‫‪‬‬
‫وسائله وخصوصاً بالنسبة للنسا ‪ .‬النقل العا في مصر مثال ً وفي أجزا‬
‫عديدة من العالم العربي غير مريح وغير ودود أبداً للنسا ومن األسهل‬
‫على أي امرأة أن تتنقل بسيارتها الخاصة على أن تركب الباص رغم الكلفة‬
‫الزائدة‪ .‬الباصات الكبرى ضمن بيروت اإلدارية في لبنان تأخذ ساعة إضافية‬
‫على األقل لرحلة ال تستوجب أكثر من ربع ساعة‪ ،‬وبالتالي ال يمكن‬
‫االعتماد عليها لمن ال يمتلك رفاهية إضاعة الوقت على الطري ‪.‬‬
‫البعض يحتاج لسيارة من وقت آلخر للرحالت ذات المسافات البعيدة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫في هذه الحالة‪ ،‬ما يمكن أن ننصح به هو امتالك سيارة مستعملة يمكن االعتماد‬
‫عليها للتنقل من وقت آلخر‪ .‬السيارات المستعملة أرخص وأقل كلفة من عدة‬
‫نواحي (خصوصاً من ناحية التأمين السنوي والتسجيل وما شابه)‪ ،‬كما أنه يمكن‬
‫دائماً إيجاد سيارات مستعملة بحالة ممتازة وقادرة على التفوق باألدا والكفا ة‬
‫والمتانة على العديد من السيارات الجديدة‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫التنقل على دراجات من العصر الحجري أكثر متعة‪:p‬‬

‫المشكلة في شرا سيارة جديدة أننا ندفع مبلغاً إضافياً كبيراً للحصول على نفس‬
‫النتيجة عند شرا سيارة مستعملة – أي وسيلة تتيح لنا التنقل من النقطة أ إلى‬
‫النقطة ب على خارطة المدينة‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬نحن نخسر كمية هائلة من المال في‬
‫اللحظة التي نشتري بها سيارة جديدة‪ ،‬إذ من اللحظة التي نضع فيها المفتاح‬
‫في الباب بعد لحظة الشرا األولى تخسر السيارة ما بين ‪ 10‬و‪ % 40‬من سعرها‬
‫ألنها تصبح بنظر السوق سيارة مستعملة‪ .‬أي أننا إن دفعنا ‪ 20‬ألف دوالر ثمن‬
‫سيارة جديدة‪ ،‬نحن نخسر ألفي دوالر على األقل خالل الخمس دقائ األولى‬
‫من قيادتنا لها‪ ،‬ونحو ‪ 8‬آالف دوالر بعد العا األول‪.‬‬

‫باإلضافة إلى امتالك سيارة مستعملة‪ ،‬هنالك بدائل أخرى للسيارة هي‪:‬‬

‫استئجار سيارة عند الحاجة‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫استخدا النقل العا من تكسي وباصات ومترو وقطار‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التنقل عبر الدراجة الهوائية إن كانت المدينة التي نعيش فيها مسطحة‬ ‫‪‬‬
‫وآمنة‪.‬‬
‫التنقل مشياً على األقدا للمسافات القريبة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫العيش من دون سي ّارة ليس متعلقا بالمال‬


‫العيش من دون سيارة هو أيضاً أفضل على الصعيد الصحي والنفسي‪ ،‬فهو يجبرك‬
‫على السير على األقدا لمسافات كبيرة كل يو ‪ ،‬ويدفعك لمشاركة النقل العا‬
‫مع أناس آخرين ويعطيك فرصة التفاعل معهم بدل أن تكون جالساً وحدك في‬
‫قطعة حديد بائسة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫التنقل في النقل العا ال يتطلب منك أن تركز على الطري وأن تقود بنفسك‪ ،‬ما‬
‫يعطيك المزيد من الوقت للقيا بأمور أخرى كقرا ة كتاب أو التحدث مع أشخاص‬
‫آخرين أو التأمل والشرود والتفكير خالل انتقالك من وإلى العمل‪.‬‬

‫عد امتالك سيارة يعني أيضاً أننا متحررين من قيد نفسي كبير في تحركاتنا‪ ،‬فال‬
‫نقل حول إيجاد موقف للسيارة وال نصرف الوقت في غسلها وتلميعها وال نقل‬
‫من أن تتعرض للسرقة أو لحادث‪ ،‬وال نقل حول صيانتها حين تتعطل أو على‬
‫تجديد أوراقها القانونية‪ .‬إلى ذلك‪ ،‬إن عد امتالك سيارة يوفر علينا الكثير من‬
‫المال الذي يمكن استخدامه فيما بعد لتحقي الكثير من أحالمنا‪.‬‬

‫صحيح أن السيارة تعطينا المزيد من المرونة والسيطرة فيما يتعل بتنقلنا من‬
‫مكان آلخر‪ ،‬لكنها في الوقت نفسه تضع علينا عب اً كبيراً وتحرمنا من الكثير من‬
‫األمور التي قد ال ننتبه لها للوهلة األولى‪ .‬لذلك قبل أن تذهب(ي) لشرا تلك‬
‫السيارة التي لطالما حلمت بها‪ ،‬فكر قليالً‪ ،‬هل هي مهمة لدرجة أن تعمل‬
‫لسنوات وسنوات من أجلها وأن تقيد محفظتك وراحتك ومكانتك االجتماعية‬
‫بقطعة معدنية أينما ذهبت؟‬

‫‪103‬‬
‫البساطة الغذائية‬

‫بعد السكن والتنقل‪ ،‬فاتورة الطعا هي عادة ثالث أكبر بالوعة للمصروف والمال‬
‫(وأهم عامل مؤثر على صحتنا الجسدية)‪ .‬حين يخبرني بعض األصدقا عن الكلفة‬
‫الشهرية إلطعا أنفسهم‪ ،‬غالباً ما اتفاجأ باألرقا التي تبلغ أضعاف كلفتي‬
‫الشخصية على األمر نفسه‪ .‬هذا ال يعني أنني أحاول التوفير فيما يتعل‬
‫بالطعا ‪ ،‬بل العكس تماماً‪ ،‬لكني أحاول ببساطة القيا بخيارات ذكية وصحية‬
‫أكثر‪.‬‬

‫لماذا ندفع الكثير في فاتورة الطعام؟‬

‫اإلجابة بسيطة؛ جيلنا الشاب ال يحب الطبخ كثيراً وقليلون من بيننا يعلمون طرق‬
‫تحضير طعامهم بأنفسهم‪ .‬هذا ما يدفعنا إلى دفع ثمن كل وجبة تقريباً‪ ،‬كل يو‬
‫من حياتنا‪ .‬نحن أيضاً نزور المطاعم بوتيرة عالية جداً‪ ،‬وندفع فيها أسعاراً مضاعفة‬
‫لوجبات يمكننا تحضيرها بأنفسنا في المنزل‪ .‬هنالك أيضاً سبب مهم جداً‪ ،‬وهو‬
‫أننا ال نعرف ماذا الذي يجب أن نتناوله تحديداً وينتهي بنا األمر إلى تناول الكثير‬
‫من األطعمة المعلبة والمصنعة‪ ،‬وهي عادة غير صحية وأغلى ثمناً مقارنة مع‬
‫الطعا الطازج‪.‬‬

‫إلى ذلك‪ ،‬نحن نتناول كميات هائلة من المشروبات الباردة والساخنة والغازية‬
‫والكحولية والسكاكر والبطاطاس‪ ،‬وبعضنا ال يستطيع قضا يو كامل من دون‬
‫إحدى هذه األمور‪ ،‬وهي كلها تضيف الكثير على ميزانيتنا وعلى أوزاننا من دون أن‬
‫تضيف شيئاً إيجابياً على صحتنا واستقالليتنا المالية‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫…‬

‫هل يساعدنا عدم شراء القهوة من المقهى على أن نصبح أغنياء؟‬


‫هنالك مقولة سائدة في أوساط بعض المدونين حول االستقاللية المالية تقول إن‬
‫االمتناع عن شرا كوب من القهوة كل يو من المقهى يمكن أن يجعلنا أغنيا ‪.‬‬
‫هنالك طبعاً مبالغة كبيرة في األمر‪ ،‬لكن هنالك أيضاً جز من الصحة‪ .‬شرا كوب‬
‫قهوة من المقهى كل يو لفترة خمسة وعشرون عا يكلفنا نحو ‪ 20‬ألف دوالر‪.‬‬
‫كاف ليحفزنا على التفكير‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إنه ليس مبلغاً كافياً ليجعلنا أغنيا ‪ ،‬لكني أعتقد أنه‬

‫العديدون منا يعتقدون أن تناول نوعية طعا جيدة تعني أنه علينا أن ندفع المزيد‬
‫من المال ثمناً له‪ ،‬لكن تجربتي الشخصية كما تجارب عدد ال يحصى من الناس‪،‬‬
‫تظهر العكس‪ .‬حميتي الغذائية مثال ً تقو بشكل أساسي على البروتيين كالدجاج‬
‫واللحمة والسمك والبيض‪ ،‬أي على مكونات هي في العادة أغلى من الحبوب‬
‫والوجبات السريعة وما شابه‪ ،‬كما أنني أتناول نحو ‪ 6‬وجبات يومياً أو ما مجموعه‬
‫‪ 2500‬سعرة حرارية في اليو مقارنة مع ‪ 2000-1200‬سعرة للشخص غير‬
‫الرياضي‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬استطيع أن اتناول أفضل نوعية طعا بميزانية أقل من معظم‬
‫أصدقائي‪ .‬السر؟ ما أقو به بكل بساطة هو تحضير أكبر قدر ممكن من طعامي‬
‫بنفسي بدل شرا الطعا الجاهز‪.‬‬

‫القليل من الجهد والتفكير في ما نتناوله يومياً يمكن أن يوفر علينا الكثير (حتى‬
‫في موضوع بسيط كالنقرشات المسائية)‪ ،‬ويمكننا تحضير معظم الوجبات التي‬
‫نأكلها في منزلنا بنصف سعرها في المطاعم‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫رغم أن الفارق اليومي بين الوجبة التي نحضرها بأنفسنا وما نشتريه من الخارج‬
‫قد يبدو صغيراً في البد ‪ ،‬إال أنه يصبح كبيراً جداً بسبب التراكم‪ :‬نحن نتناول نحو‬
‫ألف وجبة سنوياً على األقل‪ .‬أي أنه حتى ولو كان الفارق ثالث دوالرات فقط بين‬
‫الوجبة الجاهزة والوجبة التي نحضرها في المنزل‪ ،‬هذا يعني أننا نوفر ثالثة آالف‬
‫دوالر في العا ‪ ،‬أو ‪ 75‬ألف دوالر خالل فترة ‪ 25‬عا ‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إلى أننا نحق هذه النتيجة من خالل خيار واحد فقط فيما يتعل‬
‫بالغذا ‪ ،‬ولم نتحدث بعد عن االجرا ات األخرى التي يمكن القيا بها لتحسين‬
‫نوعية غذائنا وتخفيض كلفته‪.‬‬

‫كل ما يجب أن نتجنبه‪.‬‬

‫تبسيط تناول الطعام‪ :‬الخيار األسلم صحيا وماليا‬


‫الخيار األفضل بما يتعل بالغذا هو بطبيعة الحال زرعه بأنفسنا أو مبادلته مع‬
‫مزارعين محليين يعيشون قربنا‪ ،‬لكن بما أن معظمنا ال يسكنون في قرية في‬
‫القرون الوسطى ويعيشون في مدن مليونية ال يوجد فيها سوى مراكز تجارية‬
‫كبرى‪ ،‬هنالك خيارات أخرى ذكية وصحية يمكننا القيا بها‪ ،‬منها‪:‬‬

‫تحضير طعامنا بأنفسنا؛ كما سب وقلنا‪ ،‬تحضير طعامنا بأنفسنا هو‬ ‫‪‬‬
‫خيار صحي أكثر ويوفر علينا الكثير من المال‪.‬‬
‫شراء الطعام بشكل أسبوعي أو شهري من المصادر‬ ‫‪‬‬
‫الكبرى كالتعاونيات والمتاجر الكبرى ألنها تبيع نفس الطعا بكلفة أقل‪،‬‬
‫كما أن شرا الطعا بشكل أسبوعي أو شهري يوفر الكثير من مشقة‬
‫الزيارات المتكررة إلى المتجر كلما احتجنا شيئاً‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫التخفيف من المأكوالت الضارّة والتي ال تحوي أي فائدة غذائية مثل‬ ‫‪‬‬
‫المشروبات الغازية‪ ،‬السكاكر‪ ،‬والتشيبس وما شابه‪ .‬في مرحلة ماضية‪،‬‬
‫كان نحو ثلث مصروفي الغذائي يذهب على أمور مثل الشوكوال‪ ،‬الشاي‬
‫المثلج‪ ،‬أكياس التشيبس‪ ،‬المشروبات الغازية‪ ،‬النسكافيه‪ ،‬وغيرها من‬
‫المشروبات والمأكوالت اللذيذة لكن القاتلة للصحة‪ .‬تعلمت مع الوقت أن‬
‫أشطب معظم هذه األمور من حميتي الغذائية وهو خبر جيد لصحتي (ألن‬
‫مستويات السكر والملح والصوديو والزيوت العالية في هذه األطعمة هي‬
‫مضرة جداً) وخبر جيد لجيبتي أيضاً‪.‬‬
‫التخفيف من عادة الذهاب إلى المطعم بشكل دوري‪ .‬على الصعيد‬ ‫‪‬‬
‫الشخصي‪ ،‬أحب الذهاب إلى مطاعم جميلة من وقت آلخر وقضا وقت‬
‫ممتع مع األصدقا وتناول طعا لم أتذوقه سابقاً وال أستطيع تحضيره‬
‫بنفسي في المنزل‪ ،‬لكني اعتقد أننا نبالغ كثيراً في العالم العربي‬
‫(وخصوصاً في دبي ولبنان مثالً) بوتيرة زيارتنا للمطاعم‪ .‬بعض زمالئي في‬
‫العمل يتناولون وجبة الغدا يومياً في المطعم ويدفعون كل أسبوع ما يعادل‬
‫مصروف شهر من فاتورتي الغذائية‪.‬‬
‫تحضير طعا منزلي جيد ومعرفة المكونات ذات النوعية المناسبة هو أمر يحتاج‬
‫لبعض الوقت‪ ،‬ولألسف معظم أبنا جيلنا الشاب ال يعرفون تحضير حتى أبسط‬
‫األطعمة بأنفسهم‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬تعلم تحضير بعض الوجبات البسيطة كاألرز‬
‫والعدس‪ ،‬الدجاج والسمك المشوي وسلطات الخضار وما شابه‪ ،‬هو أمر سهل‬
‫نسبياً حتى بالنسبة ألكثر الناس بعداً عن الطبخ‪ .‬الطريقة التي اتبعتها هي تعلم‬
‫تحضير طب واحد في البداية‪ ،‬وتكرار المحاولة على نفس النوع من الطب حتى‬
‫اتمكن من تحضيره بشكل شهي وبسيط‪ ،‬ثم االنتقال من بعدها إلى تعلم تحضير‬
‫أطباق أخرى‪.‬‬

‫من نافل القول أن هذه المسألة – تناول الطعا المنزلي – هي مسألة صحية‬
‫أوالً‪ ،‬ال مسألة مالية‪ .‬تناول الطعا الجاهز فيه الكثير من األضرار الصحية فهو‬
‫ملي بالسكر والملح والمواد الحافظة كما أنه من المستحيل أن نعلم نوعية‬
‫المكونات المستخدمة فيه وكيفية تحضيرها (هنالك قصص رعب كثيرة عن النظافة‬
‫الصحية في المطاعم)‪ .‬الطعا الذي نحضره في المنزل صحي أكثر ألننا نعرف ما‬
‫الذي نضعه فيه ونختار المكونات بأنفسنا وال نضيف عليه مكونات منتهية الصالحية‬
‫أو ذات خصائص غذائية غريبة عجيبة‪ .‬التوفير في المال هو نتيجة جانبية فحسب‬
‫لتناول طعا صحي نحضره بأنفسنا‪ .‬فوق كل ذلك‪ ،‬الطعا الذي نحضره بأيادينا‬
‫دائماً لديه مذاق أشهى بطريقة غريبة؛ ابدأوا بالتجربة واكتشفوا ذلك بأنفسكم!‬

‫‪107‬‬
‫تبسيط االستهالك المنزلي‬

‫تبسيط االستهالك المنزلي هو إحدى الخطوات الضرورية نحو االستقاللية‬


‫المنزلية‪ ،‬ال ألنه يوفر المال علينا فحسب‪ ،‬بل ألنه يسمح لنا بالعيش ضمن‬
‫ميزانية أقل لبقية أيا حياتنا من دون أن نقع في فخ مجاراة اآلخرين على حساب‬
‫استقالليتنا وأهدافنا‪.‬‬

‫العامل األول الذي يحدد حجم استهالكنا المنزلي هو عادة حجم المنزل نفسه‪،‬‬
‫ولذلك تحدثنا في مقال ساب عن ضرورة العيش في منزل بحجم‬
‫احتياجاتنا وتجنب المنازل الضخمة التي تقيدنا مادياً من دون أن تضيف الكثير‬
‫على حياتنا‪ .‬المنزل األصغر يعني أنه هنالك مساحة أقل لملئها باألثاث واألشيا‬
‫(هل الحظتم كيف نميل إلى شرا أشيا أكثر حين نشعر بأن المنزل فيه‬
‫مساحات فارغة؟)‪ ،‬كما أنه يعني أيضاً توفير إضافي في فواتير الكهربا والصيانة‬
‫ألننا نضي ونبرد ونصلح مساحة أصغر‪.‬‬
‫العوامل األخرى التي تؤثر على ميزانية االستهالك المنزلي هي بطبيعة الحال‬
‫األثاث والفواتير – فواتير الكهربا والهاتف والمياه واالنترنت والصيانة‪ ،‬وهي العوامل‬
‫التي سنتحدث عنها في هذا المقال‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫كلفة الكهرباء‬
‫يمكن توفير فاتورة الكهربا عبر عدة أمور مثل‪:‬‬

‫االمتناع عن اقتنا عشرات األجهزة الكهربائية وتجنب تشغيلها جميعها في‬ ‫‪‬‬
‫الوقت نفسه حين ال يكون هنالك حاجة حقيقية لها‪ .‬لقد دخلت إلى منازل‬
‫فيها برادان وثالجة وغسالة صحون ونشافة وفرن كهربائي وثالث مكيفات‬
‫وتلفزيون ضخم وعدة حواسيب وأجهزة لوحية جميعها مشغلة في الوقت‬
‫نفسه (لعائلة من ثالث أشخاص فقط!)‪.‬‬

‫وضع عوازل حرارية للحيطان والسقف إن كان ذلك ممكناً‪ .‬هذا يوفر في‬ ‫‪‬‬
‫العادة ما بين ‪ 20‬و‪ % 50‬من فاتورة التدفئة والتبريد بحسب جودة العزل‬
‫الحراري‪ .‬في منزل أهلي في قريتي في لبنان‪ ،‬حرصت على إقامة حيطان‬
‫مزدوجة على جز من المنزل (أقد وأسهل أسلوب في العزل الحراري)‪،‬‬
‫ما خفض قيمة التبريد في المنزل إلى الصفر (المنزل في الصيف بالكاد‬
‫نستعمل فيه مروحة هوائية لبضعة أيا )‪ ،‬وخفض فاتورة التدفئة نحو ‪.% 30‬‬

‫استخدا المكيف أو التدفئة في غرفة واحدة بدل تبريد أو تدفئة كافة غرف‬ ‫‪‬‬
‫المنزل‪ .‬معظم الناس الذين أعرفهم يطبقون هذه النصيحة‪ ،‬لكني دخلت‬
‫إلى منازل كثيرة من ثالث غرف نو ألجد أن المكيف الهوائي شغال في‬
‫كل غرف المنزل رغم أن الجميع يجلس في غرفة واحدة فقط‪.‬‬

‫ضبط التدفئة والتبريد على درجات حرارة منطقية‪ :‬في دبي‪ ،‬اضبط التبريد‬ ‫‪‬‬
‫على الن ‪ 24‬درجة مئوية خالل أشهر الصيف الحارة‪ ،‬وهذا المستوى من‬
‫الحرارة معتدل جداً للجسد البشري (رأيت الكثير من الناس يضبطون‬
‫مكيفاتهم الهوائية على ‪ 20‬وحتى ‪ 18‬درجة انني اضطر الرتدا قميص‬
‫شتوي عند زيارتهم)‪ .‬في فصل الشتا كذلك األمر‪ ،‬ليس منطقياً أن نجلس‬
‫بمالبسنا الداخلية الصيفية في عز الشتا ؛ ومن المنطقي جداً ارتدا سترة‬
‫إضافية وبنطلون دافى وضبط التدفئة قليال ً بدل أن نجعل حرارة الغرفة ‪26‬‬
‫درجة مئوية‪ .‬أجسادنا تحتاج لتعلم التكيف مع الحر والبرد‪ ،‬وإال ستفقد‬
‫الكثير من مناعتها تجاه تبدالت الطقس‪ .‬فقدان القدرة على التكيف مع‬
‫تبدالت الطقس يؤثر على مناعتنا البيولوجية ويجعلنا أكثر عرضة لألمراض‬
‫(لذلك معظم السكان الذين يسكنون في دبي مثال ً يتعرضون لنزلة برد كلما‬
‫تغير الطقس بشكل طفيف)‪.‬‬

‫إطفا األنوار واألجهزة االلكترونية التي ال نستخدمها في تلك اللحظة‪،‬‬ ‫‪‬‬


‫وفصلها تماماً عن الكهربا خالل الليل‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫األثاث واألدوات المنزلية‬
‫االستراتيجية األفضل فيما يتعل باألدوات واألثاث هي شرا النوعية األفضل (ال‬
‫األداة األرخص)‪ ،‬بغض النظر عن السعر‪ ،‬ألننا سنستعمل هذه األشيا بشكل‬
‫يومي وعلينا أن نكون قادرين على االعتماد عليها لوقت طويل‪.‬‬

‫األدوات الرخيصة واألثاث الرخيص تعني في الكثير من األحيان عمر قصير ونوعية‬
‫رديئة‪ ،‬ما يجبركم على استبدالها بعد فترة قصيرة من شرائها ودفع المزيد من‬
‫المال‪ .‬لذلك من األفضل شرا نوعية جيدة قادرة على أن تستمر عشرة سنوات‬
‫على األقل من دون الحاجة الستبدالها‪ ،‬بدال ً عن شرا أمور رخيصة تتداعى أو‬
‫تتعطل بسرعة وتجبرنا على استبدالها كل عا أو اثنين‪ .‬هذا ينطب على البراد‬
‫والغسالة وأدوات المطبخ كما ينطب على تجهيزات الحما واألنابيب ونوعية‬
‫األثاث وحتى مفكات البراغي التي نستخدمها هنا وهناك‪.‬‬

‫يمكن كذلك شرا بعض األدوات وقطع األثاث المستعملة بكلفة أقل مقارنة مع‬
‫شرائها جديدة‪ ،‬وخصوصاً األدوات الكهربائية‪ .‬يمكن إيجاد الكثير من التلفزيونات‬
‫المستعملة مثال ً بحالة ممتازة؛ كذلك األمر بالنسبة لبعض األدوات األخرى‪ .‬كل‬
‫التلفزيونات ومعظم البرادات واألفران وبعض الغساالت التي اقتنيتها في حياتي‬
‫كانت مستعملة؛ اخترتها بعناية بحيث كانت كلها في حالة جيدة جداً‪ .‬الفارق‬
‫الوحيد أنني اشتريتها بنصف أو ثلث سعرها مقارنة مع أسعارها لو كانت جديدة‬
‫وغير مستعملة‪.‬‬

‫من ناحية ثانية‪ ،‬هنالك مبالغ هائلة يتم صرفها على األثاث غير الضروري‪ ،‬كالديكور‬
‫المصمم يدوياً والتحف الثمينة‪ .‬الحقيقة هي أنه يمكن وضع ديكور جميل بمبالغ‬
‫منخفضة؛ علينا فقط أن نبتعد عن األسما التجارية الشهيرة‪.‬‬

‫كذلك‪ ،‬من األفضل االبتعاد عن ثقافة تغيير األثاث كل فترة لمجرد التغيير؛ ال أرى‬
‫أي دافع منطقي لذوي الدخل المحدود لتغيير األثاث كل عامين أو ثالثة إن كان ال‬
‫يزال في حالة جيدة‪ .‬حين تملون من األثاث‪ ،‬هنالك طرق كثيرة لتغيير ديكور‬
‫المنزل من دون دفع المال على شرا أثاث جديد بالكامل‪ ،‬وفي أحيان كثيرة يمكن‬
‫تغيير األلوان والديكور بالكامل من دون تغيير أي قطعة أثاث في البيت‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫فواتير المياه والصيانة وأمور أخرى‬
‫من ناحية فاتورة المياه‪ ،‬اعتقد أن الجميع يعلم طرق توفير المياه‪ ،‬وكل ما يمكن‬
‫أن نلفت النظر إليه إلى أن االستهالك الكبير للمياه يقع عادة على عات اآلالت‬
‫في المنزل كالغسالة‪ ،‬غسالة الصحون‪ ،‬ري العشب في الحديقة‪ ،‬ويليه استخدا‬
‫المرحاض واالستحما والجلي‪ .‬االنتباه لهذه األمور يمكن أن يساعدكم على‬
‫توفير القليل في فواتير المياه‪.‬‬

‫أما فواتير الصيانة فيمكن توفيرها بكل بساطة عبر االعتنا بالمنزل؛ كما يمكن‬
‫توفيرها عبر تعلم القيا باإلصالحات المنزلية الخفيفة مثل إصالح وتبديل السخان‬
‫المائي واألنابيب والحنفيات‪ ،‬إصالح األبواب والخزائن‪ ،‬إصالح األجهزة المنزلية…ألخ‪.‬‬

‫يمكن أيضاً استعارة بعض األدوات الضرورية لإلصالحات المنزلية بدل شرائها‪،‬‬
‫واالستعانة ببعض األصدقا الذين لديهم خبرة إصالح العطل الذي نود إصالحه بدل‬
‫دفع أجرة خبير للقيا بذلك‪.‬‬

‫فواتير الهاتف‬
‫يمكن توفير فواتير الهاتف عبر عدة طرق منها‪:‬‬

‫استخدا الهاتف األرضي حين يكون ذلك ممكناً إذ إن كلفته على الدقيقة‬ ‫‪‬‬
‫تكون عادة أدنى بكثير من كلفة االتصال من جهاز خليوي‪.‬‬
‫استخدا االنترنت لالتصال المجاني حين يكون ذلك ممكنا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اختيار رزمات االتصال البسيطة المناسبة في البلد الذي تقيمون به‪ .‬قد‬ ‫‪‬‬
‫يعني ذلك إلغا االشتراك باالنترنت على الهاتف كما في حالتي‪ ،‬كما أنه‬
‫قد يعني العكس‪ ،‬أي وضع انترنت عليه لالستفادة من خدمات التحدث عبر‬
‫االنترنت إن كانت أقل كلفة من فاتورة الهاتف (كما هي الحالة في لبنان‬
‫مثالً)‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ثمار تبسيط االستهالك المنزلي‬
‫باتباع هذه النصائح البسيطة‪ ،‬يمكن توفير ما بين ‪ 10‬و‪ 40‬في المئة من فواتير‬
‫المنزل‪ .‬إن افترضنا أن فواتير المنزل تبلغ ‪ 500‬دوالر‪ ،‬فتطبي هذه النصائح يعني‬
‫أنه بإمكاننا تخفيضها إلى ‪ 400‬دوالر مثال ً من دون أن نلغي أو نضحي بأي شي ؛‬
‫المسألة هي مسألة اتخاذ خيارات أذكى بكل بساطة‪.‬‬

‫هذا المبلغ الذي يبدو بسيطاً سيكون ‪ 30‬ألف دوالر خالل عقدين ونصف‪ ،‬وهو مبلغ‬
‫كاف لتحقي الكثير من األحال التي لم نعتقد في الساب أننا ممكنة‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪112‬‬
‫تبسيط االستهالك الشخصي‬

‫تحدثنا كثيراً عن موضوع تبسيط االستهالك في المقاالت السابقة ونعود اآلن‬


‫لنتحدث عنه على صعيد شخصي أكثر‪ .‬رغم أن تبسيط االستهالك الشخصي‬
‫يبدو للجميع على أنه أمر بديهي كلما تحدثنا عنه (الكل تقريباً يواف على ضرورة‬
‫تخفيض االستهالك والكل يقول أنه ليس مستهلكاً)‪ ،‬إال أنه في الواقع موضوع‬
‫حساس في المجتمع ككل ألننا مبرمجون من خالل اإلعالنات والثقافة السائدة‬
‫على ربط قيمتنا الذاتية كأشخاص باألشيا التي نستهلكها والتي نملكها‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫الخطوة األولى في تخفيض االستهالك الشخصي هي خطوة ذهنية ال عملية‪.‬‬

‫فصل األشياء عن قيمتنا كأشخاص‬


‫يعتبر المجتمع بشكل عا أن االستهالك واالمتالك هو دليل على النجاح المهني‬
‫والمالي والشخصي‪ .‬قولوا أما أحدهم أنه من األفضل تخفيف االستهالك‬
‫وتبسيط الحياة وسيوافقكم فوراً‪ ،‬لكن ما أن تبدأوا بالتحدث عن أمور تفصيلية‬
‫مرتبطة بحياته كانتقاله إلى بيت أصغر‪ ،‬التخلي عن سيارته الخاصة‪ ،‬أو التخلص‬
‫من التطبيقات على هاتفه الذكي حتى يبدأ بالمراوغة والحديث حول األسباب‬
‫التي تمنعه من االستغنا عن كل هذه األمور‪.‬‬

‫الثقافة السائدة باختصار‬

‫بعض الناس قد يقومون بردة فعل دفاعية عنيفة تجاه من يشكك باستهالكهم‪،‬‬
‫ولن يتوانوا عن وصف من يقترح تغيير نمط بعبارات مثل “بخيل”‪“ ،‬مجنون”‪،‬‬
‫“خيالي”‪“ ،‬مثالي”‪ ،‬وما شابه‪ .‬والبعض سيطرح أسئلة مثل “لكن كيف يمكن أن‬
‫أكون سعيداً إذا ألغيت الزيارة اليومية إلى المقهى من حياتي؟‬

‫‪113‬‬
‫كيف سأتواصل مع الناس وأراهم وأعرف أخبارهم إن تخليت عن هاتفي الذكي؟‬
‫كيف سأسلي نفسي أو أذهب إلى العمل إن لم يكن لدي تلفاز وسيارة؟”‬
‫لألسف‪ ،‬الثقافة السائدة أقنعتنا بأن العديد من الممارسات البشرية الطبيعية‬
‫كاللقا بين األصدقا والتنقل والتحدث والمرح هي كلها أمور مستحيلة من دون‬
‫اآلالت التي تمتلكنا ومن دون المال الذي نصرفه عليها‪ .‬المسألة هي أن معظم‬
‫الممارسات االستهالكية التي نقو بها هي غير ضرورية على اإلطالق وال تضيف‬
‫على حياتنا الكثير من القيمة‪.‬‬

‫طبعاً‪ ،‬نحن ال نتوهم أنه يمكننا العيش في المجتمع الحالي من دون القيا‬
‫بنشاطات تتطلب ماالً‪ ،‬وال نعتقد أنه يمكننا العيش في المجتمع الحالي من دون‬
‫شرا أمور نحتاجها – ونحن ال ندعو الرتدا نفس القميص لألبد والجلوس في‬
‫المنزل حتى يو القيامة‪ ،‬بل العكس‪ .‬من حسن الحظ أن معظم األمور الجميلة‬
‫في الحياة هي أمور ال تزال مجانية وكل ما علينا فعله هو إدراك ذلك‪ .‬ما أن ندرك‬
‫بأن الصداقة والحب والسعادة والمرح واالستكشاف والنمو الذاتي والشمس‬
‫والجمال هي كلها أمور مجانية في الحياة ومتاحة لنا بجهدنا الخاص‪ ،‬تكون‬
‫خطوتنا التالية هي تعلم كيفية االستمتاع بالحياة والحصول على كل هذه األمور‬
‫من دون أن يجعلنا ذلك عبيداً ألجورنا الشهرية‪.‬‬

‫…‬

‫‪114‬‬
‫أساليب تبسيط االستهالك الشخصي‬
‫فلنميز أوال ً بين نوعان من االستهالك‪ :‬االستهالك الذي يتضمن القيا بنشاطات‬
‫(كالذهاب إلى المقاهي أو حديقة األلعاب) ويمكننا أن نسميه االستهالك‬
‫االجتماعي‪ ،‬والنوع الثاني هو االستهالك الذي يتضمن شرا األشيا ‪.‬‬

‫تحدثنا سابقاً عن موضوع االستهالك االجتماعي‪ ،‬وقلنا أن الخطوة األولى هي‬


‫اإلجابة على سؤال جوهري‪ :‬اكتشفوا ما الذي يجعلكم سعدا حقاً‪ .‬في أحيان‬
‫كثيرة‪ ،‬قد نكتشف أن ما يسعدنا هو مختلف عما نمارسه اجتماعياً بحكم العادة أو‬
‫بحكم مجاراة اآلخرين‪ .‬شخصياً‪ ،‬ال أجد الكثير من المتعة مثال ً في التسكع في‬
‫الملهى الليلي كما يفعل الكثير من زمالئي اللبنانيين – وأجد الكثير من المتعة‬
‫ليال‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫في الذهاب إلى بقعة بعيدة في الجبال أو في الصحرا للتخييم لبضعة‬
‫لحسن حظي ربما أن النشاطات التي استمتع بها ال تحتاج للكثير من المال‪،‬‬
‫كالتسكع مع األصدقا ‪ ،‬االسترخا على شاطى البحر‪ ،‬الرياضة والفنون القتالية‪،‬‬
‫التخييم‪ ،‬العمل مع الخشب‪ ،‬القرا ة والكتابة‪ ،‬النشاطات السياسية‬
‫واالجتماعية…ألخ‪.‬‬

‫النوع الثاني هو االستهالك القائم على شرا األشيا والمنتجات التي قد ال نحتاج‬
‫لها كثيراً‪ .‬الثقافة السائدة تقول أنه علينا شرا مالبس جديدة شهرياً‪ ،‬وأنه علينا‬
‫تغيير هاتفنا كل عا أو اثنين‪ ،‬وأنه علينا تغيير سيارتنا كل ثالثة أو خمسة أعوا ‪،‬‬
‫وأنه علينا تغيير أثاث منزلنا والتلفزيون وأغراضنا الشخصية كل فترة وأخرى‪.‬‬

‫يبدو أن القاعدة بالنسبة للثقافة السائدة هي أنه يجب أن نسعى باستمرار‬


‫لشرا المزيد‪ ،‬ولشرا منتجات أحدث وأغلى وأكبر حتى ولو كنا نمتلك مثلها‪.‬‬
‫المجتمع االستهالكي يسخر من أي شخص يرتدي ثياب مستعملة أو يقود سيارة‬
‫قديمة أو يحمل هاتفاً من العصر الحجري كهاتفي الخلوي‪ .‬صحيح أنه يجب علينا‬
‫أن نكون بمظهر مرتب ونظيف‪ ،‬وأنه إن كنا نمتلك سيارة يجب أن تكون قابلة‬
‫لالعتماد عليها‪ ،‬ويجب أن يكون هاتفنا قادر على إيصال صوتنا للطرف اآلخر من‬
‫دون مشاكل‪ ،‬لكن ما هو غير صحيح هو أنه علينا أن نمتلك أحدث هاتف وأحدث‬
‫سيارة وأغلى مالبس لكي نكون “طبيعيين”‪.‬‬

‫ثقافة االستهالك من هذه الناحية تتألف عادة من خطوتان‪ :‬الخطوة األولى تتمثل‬
‫بشرا الشي – كشرا تلفزيون وهاتف وسيارة‪ ،‬والخطوة الثانية تتمثل بالترقية‬
‫إلى موديل أحدث أي شرا نفس المنتج لكن بنسخته األكثر تطوراً – مثال ً شرا‬
‫تلفزيون مسطح عالي الوضوح بدل التلفزيون القديم‪ ،‬شرا هاتف ذكي أحدث بدل‬
‫هاتفنا القديم‪ ،‬وشرا سيارة أحدث بدل سيارتنا القديمة‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫في معظم األحيان‪ ،‬الخطوة الثانية من االستهالك‪ ،‬أي ترقية المنتج‪ ،‬هي غير‬
‫ضرورية على اإلطالق‪ .‬لماذا نريد شرا تلفزيون أحدث إن كان التلفزيون الحالي‬
‫يعمل بشكل جيد؟ ولماذا نريد شرا هاتف أحدث إن كان هاتفنا يعمل بشكل‬
‫جيد؟ يبدو أن الناس تخشى أنها عبر االمتناع عن شرا هذه االمور‪ ،‬تفوت عليها‬
‫تجربة رائعة معينة يعيشيها اآلخرون‪ .‬في الواقع‪ ،‬استطيع أن أناقش اننا عبر‬
‫الدخول في دوامة االستهالك نخسر تجارب أكثر بكثير مما نحصل عليه بالمقابل‪.‬‬
‫فلنتحدث عن ذلك بلغة األرقا ‪.‬‬

‫الكلفة العالية لشراء األشياء‬


‫فلنفترض بمثال مبسط أنه هنالك شخص يشتري مالبس كل شهر بقيمة‬
‫خمسين دوالر (أي ‪ 600‬دوالر سنوياً)‪ ،‬ويخرج مرتين أو ثالث مرات في األسبوع‬
‫إلى المطعم أو البار بما يكلفه نحو ‪ 50‬دوالر أسبوعياً (أي ‪ 2600‬دوالر سنوياً)‪،‬‬
‫ويضع اشتراك انترنت على هاتفه بما قدره ‪ 25‬دوالر في الشهر (أي نحو ‪ 300‬دوالر‬
‫سنوياً)‪ ،‬ويشتري بعض األكسسوارات واألجهزة االلكترونية وآيباد وما شابه كل‬
‫فترة بما يكلفه نحو ‪ 500‬دوالر في العا ‪.‬‬

‫هذه كلها أرقا واقعية تنطب على بلدان كثيرة‪ ،‬وهي بالمناسبة أرقا متواضعة‬
‫جداً بالمقارنة مع المصروف االستهالكي للعديد من الناس‪ .‬كلفة استهالك هذه‬
‫األمور خالل عا تبلغ لدى هذا الشخص نحو ‪ 4000‬دوالر‪ ،‬أي ما يبلغ مئة ألف‬
‫دوالر خالل فترة ‪ 25‬عا ‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬فلنفترض أنه هنالك شخص آخر أقل استهالكاً‪ ،‬يشتري مالبس كل ثالثة‬
‫أشهر بدل كل شهر (أي ‪ 200‬دوالر في العا )‪ ،‬ويتناول الطعا في المطعم مرة‬
‫واحدة في األسبوع بدل ثالث (بما كلفته نحو ‪ 1200‬دوالر سنوياً)‪ ،‬وال يضع اشتراك‬
‫انترنت على هاتفه‪ ،‬ونادراً ما يشتري أكسسوارات وأجهزة الكترونية (رغم ذلك‬
‫فلنفترض أنه يدفع ‪ 200‬دوالر سنوياً على أمور تعجبه)‪ .‬المصروف االستهالكي‬
‫على هذه األمور لهذا الشخص يبلغ نحو ‪ 1600‬دوالر في العا ‪ ،‬أي نحو ‪ 40‬ألف‬
‫دوالر خالل فترة ‪ 25‬عا ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫لنقارن اآلن بين هذين الشخصين‪ :‬لو كان لدى هذين الشخصين المدخول نفسه‪،‬‬
‫لكان الشخص الثاني قد وفر أو ادخر ‪ 60‬ألف دوالر أكثر من الشخص األول بعد ‪25‬‬
‫عا من العمل‪ ،‬هذا مع العلم أنه ال يزال يزور المطاعم والمقاهي دورياً‪ ،‬ال يزال‬
‫يشتري ثياب جديدة كل فترة‪ ،‬وال يزال يشتري بعض األكسسوارات واألشيا‬
‫المختلفة التي يريدها من وقت آلخر‪ .‬ال يوجد تضحية هائلة قا بها الشخص‬
‫الثاني سوى أنه انتبه أكثر الستهالكه‪.‬‬

‫هل تحتاج حقا لتلفاز ‪ 55‬إنش لتكون سعيدا؟‬


‫هنالك نصيحة بسيطة جداً يمكن أن تنقذنا من العديد من العادات االستهالكية‬
‫وهي التالية‪ :‬قبل شرا أي شي ‪ ،‬اسأل نفسك‪ ،‬هل أنت بحاجة له؟ هنا نتحدث‬
‫عن الحاجة بمعنى أن يكون هذا الشي ضروري جداً لحياتك مثل الطعا واألمان‬
‫والمسكن وما شابه‪.‬‬

‫إن لم تكن بحاجة له‪ ،‬فهذا يعني أن ما يدفعك لشرائه هو الرغبة ال الحاجة‪ ،‬وهنا‬
‫اسأل نفسك‪ ،‬هل ستبقى الرغبة موجودة بالقوة نفسها بعد نصف ساعة؟ بعد‬
‫أسبوع؟ بعد شهر؟ أ ستشعر أنك قد بذرت المال من دون طائل على أمر ال‬
‫جدوى منه على اإلطالق؟‬

‫كلما كان المبلغ المالي الذي أنت بصدد دفعه أكبر‪ ،‬كلما كان عليك أن تسأل‬
‫نفسك حول رغبتك به على المدى البعيد‪ ،‬فإن كنت تريد أن تدفع ألف دوالر مثال ً‬
‫لتشترك في النادي لعا كامل‪ ،‬اسأل نفسك هل ستبقى رغبتك بالذهاب إلى‬
‫النادي هي نفسها طوال العا ؟ إن شعرت بالتردد‪ ،‬فهذا يعني أنه يمكنك على‬
‫األرجح االستغنا عنه‪ ،‬أو على األقل إيجاد بدائل‪.‬‬

‫في الكثير من األحيان حين أمشي في المتاجر الكبرى‪ ،‬أجد نفسي أتأمل‬
‫الالبتوبات الحديثة وأبدأ بالتفكير بشرا البتوب جديد أسرع وأقوى وأفضل من‬
‫الالبتوب الذي أملكه‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬حين انتظر وأفكر قليالً‪ ،‬اتذكر انني ال استخد‬
‫الالبتوب الخاص بي سوى لالتصال باالنترنت والكتابة‪ ،‬وبالتالي ال يوجد أي حاجة‬
‫على اإلطالق لالبتوب أحدث طالما أن جهازي يعمل بشكل جيد‪ .‬األمر نفسه‬
‫ينطب على هاتفي وعلى أشيائي األخرى‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫طرح هذا السؤال البسيط واالنتظار قليال ً قبل شرا أي شي هو الطريقة األكثر‬
‫فعالية لكبح جماح استهالكنا في الفترة األولى‪ .‬بعد ذلك بمدة‪ ،‬سنجد أنفسنا‬
‫وقد انفككنا عن البرمجة االستهالكية السائدة ولن نشعر بنفس الحاجة الملحة‬
‫لشرا كل ما تسوقه الرأسمالية لنا‪.‬‬

‫رفض ثقافة االستهالك ورفض ثقافة الهوس بشرا أسرع وأكبر وأفضل األشيا ‪ ،‬هو‬
‫في الواقع أفضل الخدمات التي قد نقدمها ألنفسنا‪ ،‬فهو ال يبسط حياتنا فحسب‬
‫ويلغي منها كل الضجيج الفارغ‪ ،‬بل يحررنا من كل األشيا التي يمكن أن تمتلكنا‬
‫ويدفعنا خطوة أقرب نحو االستقاللية الشخصية والمادية التي تعني على المدى‬
‫البعيد المزيد من الحرية والسعادة والعافية – وهي كلها أمور ال نستطيع شرائها‬
‫بالمال‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫تمرد اآلالت‬
‫تبسيط الحياة‪ّ ،‬‬

‫نحن نعيش اليو في عصر نستطيع فيه أن نتحكم بمعظم األشيا المتواجدة‬
‫حولنا بنقرة زر واحدة؛ نقرة صغيرة على الهاتف تتيح لنا التواصل مع أي شخص‬
‫نريده في العالم‪ ،‬ونقرة زر صغيرة أخرى تتيح لنا تحضير الطعا أو تسخين المياه‬
‫أو تبريد الغرفة‪ ،‬ونقرة أخرى تدير محركات سياراتنا وتنقلنا إلى مسافات بعيدة لم‬
‫يكن أجدادنا يحلمون بتجاوزها‪ .‬لهؤال األجداد‪ ،‬ستبدو حياتنا اليو سحرية‬
‫بالكامل‪ ،‬بل خيالية؛ ولن يخطر على بالهم أبداً أن كل هذا التطور قد أطل أيضاً‬
‫بعضاً من أسوأ كوابيسنا لتحكم واقعنا‪.‬‬

‫هل تريدون أن تبقوا سجنا طوال حياتكم؟‬

‫كل هذه النقرات التي تسهل حياتنا‪ ،‬تأسرنا أيضاً في أسلوب عيش يجعلنا عبيد‬
‫لكل أشيائنا؛ ويجعلنا عبيداً للمال الذي نحتاجه المتالك هذه األشيا ‪ .‬رغم أننا‬
‫نحتاج للحظة واحدة فقط للقيا بكل تلك األمور‪ ،‬إال أننا نفتقد للوقت الحر أكثر من‬
‫أي وقت مضى‪ .‬ورغم أننا نحتاج لنقرة واحدة لنتصل بأي شخص‪ ،‬إال أننا نشعر‬
‫بالوحدة أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬حتى إن مرض االكتئاب هو من أكثر أمراضنا‬
‫المعاصرة انتشاراً وخطورة‪ .‬ورغم أننا ال نحتاج سوى لتحريك أصابعنا لنقو بمعظم‬
‫األمور في العمل والمنزل‪ ،‬إال أن ذلك لم يحرر أجسادنا لنرقص في الحياة بل‬
‫أجبرنا على قضا أيامنا جلوساً خلف شاشات مختلفة‪ ،‬حتى أن أمراض السمنة‬
‫والسكري والقلب وانسداد الشرايين تفتك بنا أكثر من الحروب‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫نحن نتناول أطعمة متنوعة لم نكن لنحلم بوجودها منذ أعوا قليلة‪ ،‬إال أننا لم نعد‬
‫نعرف ماذا نأكل باستثنا أننا نتناول سموماً مميتة معظم الوقت‪ .‬وفوق كل ذلك‪،‬‬
‫رغم كل العلم الذي يحيط بنا وكل المعلومات التي تتدف يميناً وشماال ً من‬
‫حولنا‪ ،‬ال يوجد شخصان من بيننا يتفقان على رأي واحد‪ ،‬فيما ال يزال طغاة المال‬
‫والسلطة يتحكمون بكافة تفاصيل حياتنا‪.‬‬

‫حياتنا اليو تبدو سحرية فعالً‪ ،‬ونقرات قليلة كافية لتسير معظم أمورنا فيها‪ ،‬إال أن‬
‫أن الثمن هو أننا نعيش حياة أكثر وحدة وانشغاال ً وتوتراً وإرهاقاً وتعاسة وتسارعاً‪.‬‬
‫حين يدرك البعض منا أن الحياة التي نعيشها ليست حياة حقيقية بل سجن‬
‫مغل وسباق للفئران ال نهاية له‪ ،‬يحاولون غالباً معالجة الدا بالدا ‪ ،‬فيعتقدون أن‬
‫اإلجابات تكمن في المزيد من تطبيقات الهاتف الذكي أو المزيد من المال أو‬
‫المزيد من العمل أو المزيد من الترفيه‪ .‬لكن المشكلة في حياتنا أيضاً أيها‬
‫األصدقا هي أننا نمتلك الكثير من كل شي وما نحتاج إليه ليس المزيد من‬
‫األمور‪ ،‬بل األقل منها‪ ،‬نحتاج للتبسيط ال للتعقيد‪ .‬نحتاج للعودة إلى األساسيات ال‬
‫للتلهي بالمزيد من القشور في الحياة‪.‬‬

‫يوجد نقرات لكل شي تقريباً في حياتنا‪ ،‬لكن ال يوجد نقرة بإمكانها تبسيطها‬
‫وتحسينها وإعادة زما أمورها إلى أيادينا‪ .‬ال يوجد نقرة لذلك ألنه ال يوجد أداة‬
‫تكنولوجية سحرية يمكننا أن نستخدمها لذلك؛ ال يوجد سوى إرادتنا‪ .‬إرادتنا هي‬
‫األمر الوحيد الذي نحتاجه للخروج من منظومة العبودية السائدة‪ .‬وهذا ما حاولنا‬
‫أن نوقظه في هذه السلسلة‪ :‬إرادة التحرر والقوة والخل ‪ .‬إرادة إيجاد حياة‬
‫بشروطنا نحن‪ ،‬ال بالشروط التي فرضتها علينا هذه المنظومة الظالمة‪ .‬تبسيط‬
‫الحياة أيها األصدقا ‪ ،‬ليس مجرد رحلة نحو حياة أكثر حقيقية وسعادة وصحية‬
‫وهدو اً فحسب‪ ،‬بل هي أيضاً مهمة روحية كبرى في زمن لم نعد فيه سوى آالت‬
‫باردة‪.‬‬

‫تبسيط حياتنا واختيار أسلوبها بأنفسنا هو تمرد على منظومة استعبادية لم‬
‫يسب لها مثيل في التاريخ البشري؛ منظومة ال تكتفي بقتل أجسادنا وأرواحنا‬
‫بل تلتهم العالم بأكمله شخصاً بعد شخصاً‪ ،‬شعباً بعد شعب‪ ،‬غابة بعد غابة‪ ،‬ونهر‬
‫بعد نهر‪ .‬قال أحدهم مرة أن حضارتنا الحالية تسبقها الغابات وتلحقها الصحارى‪،‬‬
‫ولعل كثرة اإلنشغاالت التي تخلقها لنا ليست سوى إللهائنا عن اآلال والصحارى‬
‫التي تهيمن اليو على حياتنا‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫تمردنا على هذا الواقع ال يقف عند استعادة زما السيطرة على حياتنا‪ ،‬بل هو‬
‫خطوة أولى لالنفكاك عن آلة تقتلنا وتقتل العالم لتكديس المزيد من المال‬
‫والسلطة‪.‬‬
‫في هذه المنظومة السائدة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً‪ ،‬نحن لسنا سوى قطع‬
‫صغيرة في آلة ضخمة؛ كل واحد منا هو مجرد برغي يمكن استبداله بسهولة في‬
‫منظومة ال تكترث بحياتنا الفردية وال تكترث ما إذا عشنا حياة سعيدة و ُمرضية أ‬
‫ال‪ .‬لقد حان الوقت لهذه الروبوتات أن تتمرد وأن تستعيد إنسانيتها؛ على أمل أن‬
‫تكون هذه السطور خير معين لكل من يقو اآلن بخطواته الشجاعة األولى نحو‬
‫الحرية…‬

‫]النهاية[‬

‫‪121‬‬

You might also like