Professional Documents
Culture Documents
الهروب من السستم
الهروب من السستم
الهروب من السيستيم
الحياة البسيطة وتحقيق االستقاللية الذاتية في زمن األزمات
تأليف
طوني صغبيني
"أدون"
مدونة نينار
منشورات ّ
دبي 2015
1
الكتاب متوافر تحت رخصة المشاع االبداعي2015 ،
بعض الحقوق محفوظة
2
قائمة المحتويات
– مقدمة :ماذا يعني الهروب من السيستيم؟
– الفصل :2حي على الحب والكفاح :فلسفة العيش البسيط في زمن األزمة
– الفصل :6هل هناك وظيفة مثالية؟ معضلة عبودية األجر والحياة البسيطة
– الفصل :8امرح كأنك في العصر الحجري :أربع نصائح لالنتقال منن الترفينه االسنتهالكي إلنى
المتعة الحقيقية
حننول المننال :بنننا المناعننة الماليننة عبننر الحينناة – الفصننل :11أعننط نفسننك هديننة عنند القلن
البسيطة
– الفصل :13أين ستكون بعد خمس سنوات؟ لماذا تحتاج لخطة مالية وكيف تضعها
– الفصل :14االستدانة والعبودية :لماذا يجب تجنب الديون (وما هي االستثنا ات)
– الفصل :15نحو االستقاللية المالية :1كيف يمكن لالختينار الصنحيح لمنزلنك أن يسناهم فني
استقالليتك المالية
– الفصننل :16نحننو االسننتقاللية الماليننة :2كيننف يمكننن لالختيننار الصننحيح ألسننلوب التنقننل أن
يساهم في استقالليتك المالية
3
تمهيد
مع انقضا عا كان ملي بالصعوبات واألزمات واآلال وبداية عا جديد نتمناه
جميعاً أن يكون أفضل ،هنالك موضوع رئيسي يشغل بال العديدين منا
وسيشغلهم بعد طوال حياتهم تقريباً؛ وهذا الموضوع هو شعورنا بالعجز
الشخصي تجاه قساوة األحداث والظروف في زمن أزمات وتقلبات لم يعرف التاريخ
مثلها بعد.
هنالك طبعاً بعض الظروف الكبرى التي ال نستطيع تغييرها ،منها مثال ً أننا ال
يمكننا الحؤول دون السقوط البطي الذي تعيشه حضارتنا اليو ،ألنه ناتج عن
ظروف بيئية وجيولوجية وسياسية واقتصادية تراكمت لمئات السنوات لدرجة
االنفجار.
هنالك أيضاً أسباب مختلفة لشعورنا بالعجز هذا ،منها أنه ال يوجد اليو وسائل
فعالة تتيح لنا المشاركة في رسم مصيرنا الجماعي في ظل غياب شبه تا
للقوى التغييرية الحقيقية .السياسات االقتصادية يحددها أولئك الذين في
السلطة – والذين ال يد لنا في اختيارهم مهما اعتقدنا العكس ،والواقع
االجتماعي والفكري تحدده المؤسسات السلطوية الدينية والثقافية وغيرها،
وتفاصيل حياتنا تحددها الموضة االستهالكية الرائجة التي تفرضها علينا الشركات
والمؤسسات التي ال وظيفة لها سوى غسل أدمغتنا لشرا خردتها…
في الحقيقة ،إن واقعنا اليومي بأكمله يحدده أولئك الذين يتسلحون بالبنادق
والمال في وجهنا – نحن الذين ال نملك سوى أنفسنا وأحالمنا كأداة لنتخيل بهما
المستقبل.
رغم كل ذلك ،هذا ال يعني أنه ال يمكن إحداث تغيير ،وال يعني أننا عاجزون تماماً؛
فنحن ال نستطيع منع الرأسمالية العالمية من االنهيار لكننا نستطيع رسم
تفاصيل الحياة الجديدة التي ستنبث من أنقاضها ،ونحن ال نستطيع الفكاك من
عبودية األجر بشكل مفاجأ ،لكننا نستطيع اكتساب استقاللية كافية للقيا بذلك
فيما بعد .وقد ال يكون لدينا وسائل للتغيير اليو ،لكننا نستطيع العمل المتالكها
فيما بعد.
4
في كل ذلك ،هنالك تفصيل مهم جداً تهمله معظم الطروحات التي تتحدث عن
ضرورة التغيير وعن ضرورة استعادة زما السيطرة على حياتنا ،أال وهي
المساحة الشخصية المتوافرة لنا في ظل القبضة الخانقة للمنظومة االستبدادية
التي تحكمنا.
معظمنا اليو ليس لديهم أدنى سيطرة على حياتهم؛ إن لم نكن نعيش تحت
رحمة البندقية ،فنحن نعيش تحت رحمة رب العمل واستبداد الشركات ،نعيش
عبيداً للراتب في نهاية الشهر ولالستهالك في أوله ،نعيش من دون أن نمتلك
وقتنا الخاص ومن دون أن نمتلك مساحتنا الخاصة ،ومن دون أن نمتلك حتى
تفكيرنا الخاص أحياناً .معظمنا ليس لديهم أي مناعة ذاتية تجاه أي أزمة اقتصادية
أو سياسية تعصف ببلدنا أو بحياتنا الشخصية .إن خسرنا وظيفتنا اليو ،نكون في
الشارع غداً ،ورغم ذلك نتوهم بأننا آمنين طالما أن األزمات بعيدة نسبياً عنا.
كيف يمكننا أن نفكر بالمستقبل أن لم يكن لدينا زما السيطرة على حياتنا هنا
واآلن؟ كيف يمكننا أن نخل أي مستقبل لنا إن لم يكن لدينا مساحة نفسية
وعملية ومالية تتيح لنا العمل على المستقبل الذي نحلم به؟ كيف يمكن أن
نكون أحرار وأن نحلم بالحرية إن لم نكن بصدد خلقها هنا واآلن في حياتنا؟
هذا ما تتحدث عنه هذه السلسلة :كيفية بنا مناعتنا الذاتية واستقالليتنا
النفسية والعملية والمالية في ظل منظومة تصر على استعبادنا .وقبل أن تقفزوا،
أعزائي القرا ،إلى خالصات كبيرة ،دعوني أخبركم أنه ال يوجد تعويذة سحرية أو
سر كبير لتحقي ذلك .الطريقة هي في الواقع بسيطة جداً :العيش البسيط.
نحن مستعبدون اليو في ظل الرأسمالية ال ألنها نظا غير عادل فحسب ،لكن
ألننا نقبل من دون أن نشعر بكل القيود التي تفرضها علينا ،وهذه السلسلة هي
حول تحطيم تلك القيود ،قيداً تلو اآلخر.
5
ماذا يعني الهروب من السيستيم؟
منذ بضعة سنوات قادتنا أبحاثنا في الجامعة إلى خالصة غيرت نظرتنا للواقع
بشكل جذري .هذه الخالصة مفادها أن الحضارة الحديثة والبراقة التي نعرفها
حالياً تعيش مرحلة سقوط بطي وغير قابل للعكس بسبب االنحدار في مصادر
الطاقة .ماذا يعني السقوط البطي ؟ يعني أن كل االستقرار االقتصادي
والسياسي واالجتماعي الذي نعرفه يتداعى إلى غير رجعة ،وأن المستقبل
الذي سيحل مكانه لن يكون تطوراً مستقيماً وتقدماً تكنولوجياً واقتصادياً مذهال ً
كما يصوره لنا اإلعال والشركات والحكومات ،بل سيكون مزيجاً قاسياً من القرون
المظلمة والتكنولوجيا الحديثة.
هذا السيناريو نراه بوضوح اليو في العديد من الدول ،منها ليبيا وسوريا والعراق
ولبنان ،ونرى بوادره حتى في الدول المتقدمة كاليونان والواليات المتحدة،
وسيأتي يو سيكون من الواضح فيه أننا نعيش زمن االنهيار الكامل لالمبراطورية
المعولمة التي نعيش في ظلها اليو .
بعد اكتمال أبحاثنا حول هذه الظاهرة ،نشرنا كتاباً بحثياً كامال ً حول هذا الموضوع
بعنوان “األزمة األخيرة“ ،واستمرينا بعدها بدراسة تأثير ذلك على مختلف نواحي
حياتنا ،ثم كتبنا لعدة سنوات حول تأثير االنحدار الطاقوي على العالقات الدولية
واالقتصاد العالمي ومستقبل التكنولوجيا والواقع السياسي وأسلوب العيش.
على مستوى األفراد ،األزمة األخيرة تعني أن المستقبل لن يكون فيه نفس فرص
العمل ،االستقرار االقتصادي واألدوات التكنولوجية التي توافرت لنا في الساب .
6
معظم كتاباتنا السابقة حول هذه األزمة ركزت على الجانب الجماعي من
المشكلة ،ونادراً ما تناولنا تأثيره على حياة األفراد كأفراد .في مقال وحيد حول
هذا الجانب ،نصحنا األفراد باالنفكاك عن السيستيم مالياً ونفسياً
ومعيشياً بأسرع وقت ممكن ،وتعلم مهارات ستفيدهم في عصر ما بعد الحضارة
الصناعية من دون التوسع حول هذه النقاط .اليو ،حان الوقت للقيا بذلك.
بعد نشر الكتاب ،مرت السنوات ووجدت نفسي شخصياً اتنقل بين عمل وآخر مع
فترات مطولة أحياناً من البطالة ،ومع الوقت الحظت أنه هنالك سبب إضافي
لضرورة الهروب من السيستيم حتى ولو لم تكن الرأسمالية العالمية في حالة
انهيار وانحدار .وهذا السبب هو أن حضارتنا ،هي ،ببساطة ،سجن كبير.
إن وضعنا األمور السياسية جانباً ،وحتى إن وضعنا جانباً الفقر والعنف والقمع
والتفاوت الطبقي واالستغالل وكل المشاكل التي نعرفها جيداً وتحدثنا فقط عن
الجانب اليومي من حياتنا ،سنرى أن أسلوب حياتنا ليس سوى سجن بكل
ما للكلمة من معنى.
عبر شبكة معقدة من القوانين والمؤسسات والسلطات واأليدولوجيات ،حضارتنا
تقو على فكرة أنه يجب على كل شخص على الكوكب أن يدفع المال لطرف آخر
(فرد أو شركة أو سلطة) لكي يكون بإمكانه أن يأكل وأن يعيش بأمان مع سقف
فوق رأسه.
ولكي يحصل هذا الشخص على المال ،عليه أن يعمل .ولكي يعمل عليه أن
يتعلم .ولكي يتعلم ،عليه أن ينتمي ألهل ولجيل بأكمله يعمل ليجني المال
ليدفع ألشخاص آخرين ثمن طعامه ومسكنه ،وهكذا دواليك بما يضمن استمرار
المنظومة إلى ما ال نهاية .ولكي يكون الجميع سعيداً وال يفقد صوابه في هذه
المنظومة الفارغة ،يجب أن يكون هنالك الكثير من الترفيه واإلباحية والقمع
والمدارس واألديان التي تعلم الفقرا كيف يكونوا عبيداً سعدا ،فيما تعلم األغنيا
كيف يستفيدون من األمر الواقع قدر المستطاع.
هي كلها خدعة منظمة مصممة لكي ال ندرك أننا نعيش في سجن ،ومن
المحزن أنها تنطلي على معظمنا .إن أتى أحدهم اليو وقال لك أنه عليك أن
تقضي نحو 15عا في المدرسة ،ثم 4غيرها في الجامعة ،ومن ثم 45عا في
عمل متعب وطويل ال يمنع الديون والبنوك والحكومات من التها لحمك ألف مرة،
ليكون بامكانك من بعدها أن تتقاعد (إن كنت محظوظاً) وأنت على أبواب الموت،
ستجيبه أن ما يقترحه هو أسوأ فكرة خرج بها أحدهم في كل التاريخ البشري.
7
رغم ذلك ،ال نرى أحداً يعترض على ذلك ،ونادراً ما سمعنا أحداً يقول أن هذا
الجنون بأكمله هو فكرة سيئة ،بل العكس .كل ما نسمعه منذ الصغر هو أنه من
الضروري أن نجد عمالً ،وأن نكون عمال مجتهدين وموظفين مثاليين ،وأن نسعى
ورا المال والمنازل والسيارات والمجوهرات والجاه وكل ما شأنه أن يبقينا في
الحلقة المغلقة لعبودية األجر .لحسن الحظ بالنسبة لك يا عزيزتي وعزيزي
القارى ،قرا تكم لهذه السطور تعني أن هذه الخدعة الكبيرة ال تنطلي عليكم.
لألسف ،الحياة المملة ،الشاقة ،المقيدة ،والباردة ،المتمثلة بالعيش كعبد يأجر
عقله أو جسده معظم حياته ،قد تكون كافية للبعض .قد يكون كافياً للبعض أن
يستيقظوا ويذهبوا إلى عبوديتهم كل يو ،شهراً بعد شهر ،وعاماً بعد عا .لكنه
كاف بالنسبة لكثر منكم أيضاً.
ٍ كاف بالنسبة لنا ،وأعلم أنه غير
ٍ غير
هنالك بعض األرواح الحرة التي ال تستطيع تحمل عالم العمال الخنوعين
والموظفين السعيدين والشركات والبذالت والمهن؛ أولئك هم الذين يجلسون
على مكاتبهم ويفكرون كل يو باألمور التي يمكن أن يقوموا بها لو لم يكونوا
مقيدين بهذا المقعد اللعين.
8
بعض األشخاص ليس لديهم أدنى فكرة ما الذي يمكن أن يقوموا به في أيامهم
إن لم يكونوا في وظيفة ،وعلى األرجح أنهم يموتون ضجراً منذ اليو الثالث من
العطلة ،لكن هنالك أقلية تعرف ماذا تريد أن تفعل في حياتها لدرجة أن الوظيفة
هي العائ الوحيد بينها وبين الحياة .وهذا ما تدور هذه السلسلة حوله :أال
تبقى وظيفتنا وظروفنا المادية المحدودة حاجزا بيننا وبين عيش الحياة
التي نريد.
كثيرون قد تناولوا قبلنا هذا الموضوع المهم ،منهم أدبا ومفكرون وفالسفة
تاريخيين مثل هنري ديفيد ثورو ،ومنهم شباب ومدونون وناشطون شباب
معاصرون ،أخص منهم بالذكر مدونة تا مبسوطة على صعيد المحتوى العربي.
كل من تناول هذا الموضوع كان لديه مقاربته الخاصة المميزة التي أضفت تنوعاً
وغنى على موضوع العيش البسيط ،وهذا الكتاب يأتي ليضيف لون آخر على
الباقة.
اعتقد أن ما سيميز هذا الكتاب بالنسبة للقارى هو أنه يتناول الموضوع انطالقاً
من رؤية شاملة للواقع ومن ادراك ضرورة االنتقال إلى أساليب عيش جديدة ،ال
كخيار فردي عادي بل كضرورة حياتية ستعطي من يتبناها مناعة ال بد منها في
عصر االضطرابات .من ناحية أخرى ،لقد خصصنا جز كبير من الموضوع للحديث
عن أساليب تخفيض االستهالك وبنا المناعة واالستقاللية المالية وهو جانب
غائب في معظم األحاديث حول العيش البسيط وخصوصاً العربية منها.
إلى ذلك ،الكتاب يتوجه خصيصاً ألبنا الطبقات الفقيرة والعاملة والمتوسطة ،أي
أولئك الذين ليست لديهم ثروات مالية كبيرة والمقيدين غالباً بالعمل ليل نهار
لتأمين قوتهم اليومي ،كحال كاتب هذه السطور .الخبر الجيد هو أن الحياة
البسيطة ستخل لهم مساحة حرية لم يعتادوها من قبل في ظل المنظومة
السائدة ،لكن الدرب التي نقترحها ليست في الواقع رحلة سهلة واعتقد أن القلة
فقط تمتلك ما يكفي من التصميم والحنكة والصبر التباعها في زماننا هذا.
9
الكتاب ليس إذاً حول طرق سحرية لجني ثروات مالية ،وال حول خدع نفسية
لتحقي السعادة الداخلية .هو بكل بساطة يتحدث عن المقاربات والخطوات
العملية التي يمكن أن نطبقها في حياتنا لتحقي المزيد من االستقاللية والحرية
الشخصية.
ال ندعي أن هذا الكتاب يحتوي على كل األجوبة حول العيش البسيط ،فهو ال
يتناول سوى جز صغير منها .وال نزعم أيضاً أن كل ما نذكره هنا سيكون مناسباً
للجميع؛ فالناس أنواع وظروفها مختلفة .رغم ذلك ،كل ما سنذكره في المقاالت
المقبلة ليس تنظيراً على اإلطالق ،بل كله يدور حول مفاهيم وأمور عملية
نطبقها في حياتنا الشخصية أو رأيناها مطبقة بنجاح لدى أشخاص آخرين.
10
االستقاللية النفسية والثقافية :نحن اليو مبرمجون اجتماعياً وثقافياً
على اعتماد نمط تفكير معين واتباع نمط حياة معين منذ الصغر ،حيث يتم
تلقيننا عادات اجتماعية ونفسية منذ نعومة أظافرنا من خالل األهل ثم
المدرسة والجامع والكنيسة واإلعال والوسط االجتماعي .وهكذا نصبح
مندمجين كلياً بالنظا االجتماعي السائد من دون تشكيك حتى بأبسط
األمور .حين نشعر مثال ً برغبة معينة كامتالك سيارة خاصة حديثة ،فهذه
الرغبة نابعة في معظم األحيان من البرمجة الثقافية المسبقة التي أقنعتنا
بأن السيارة أمر ضروري عملياً واجتماعياً.
واألمر نفسه حين يتعل األمر بتصرفاتنا األخرى ونظرتنا للحياة بشكل عا .
االستقاللية النفسية عن المنظومة تتمثل إذاً باإلفالت من البرمجة
االجتماعية المسبقة التي نخضع لها واكتشاف هويتنا الحقيقية تحت طبقة
االستبداد الثقافي السائد.
االستقاللية التقنية والحياتية :نحن نعتمد على المنظومة السائدة في
كل شي في حياتنا؛ نعتمد على شركات وأشخاص آخرين لتأمين طعامنا
وحتى لطهوه لنا وتوصيله للمنزل ،نعتمد على الحكومة والشركات لتأمين
كهربا لمنزلنا وحاجاتنا اليومية األساسية ،ونعتمد على الخبرا إلصالح
حواسيبنا وأدواتنا المنزلية ،ونعتمد على تطبيقات الهاتف الذكي لتنظيم
حياتنا وأعمالنا.
رغم أننا نعتقد العكس إال أننا اليو نمتلك مهارات محدودة جداً في الحياة؛
معظمنا ال يعلمون زراعة غذائهم أو تحضير طعامهم أو صيانة منزلهم
وسيارتهم وحاسوبهم أو الدفاع عن أنفسهم ،وبعضنا ال يستطيعون حتى
الوصول إلى الطاب الثاني من دون مصعد .التعقيد التكنولوجي الهائل
جعلنا معتمدين على منظومة اقتصادية هائلة لتأمين كل شي في حياتنا،
وهذا يجعلنا مرتبطين كثيراً بالمنظومة السائدة وضعيفين جداً في وجه أي
تغيرات أو أزمات قد تطرأ فيها .االستقاللية التقنية عن السيستيم هي
اكتساب أكبر قدر ممكن من المهارات التي تتيح لنا االعتماد على أنفسنا
في األمور الحياتية األساسية.
االستقاللية المالية :الغالبية الساحقة منا تعتمد على أجر تتلقاه مقابل
عمل أو وظيفة ،وبما أننا نحتاج للمال لتأمين كل شي في حياتنا ومنه
الغذا والمسكن ،فهذا يعني أن رب العمل يتحكم بحياتنا بأكملها .ففي
اليو الذي نُطرد فيه من عملنا ،قد نجد أنفسنا في الشارع وغير قادرين
على تأمين أساسيات العيش.
11
االستقاللية المالية تعني تعلم أساليب توفير المال واستخدامه كوسيلة
لزيادة المناعة االقتصادية بدل استخدامه كأداة استهالكية فحسب،
والهدف النهائي لالستقاللية المالية هو أن يكون لدينا ما يكفي من الموارد
لكي ال تسحقنا الشركة إن خسرنا عملنا ،أو لكي يكون بامكاننا تأمين
مدخول جانبي أو أساسي من دون الحاجة للعمل في وظيفة لدى شخص
آخر.
بنا ً على ذلك ستكون المقاالت موزعة على قسمين رئيسيين بهدف تسهيل
عرض األفكار؛ القسم األول يتحدث عن االستقاللية الحياتية عن السيستيم
شامال ً معه االستقاللية النفسية والثقافية والتقنية ،والقسم الثاني سيتحدث
عن تحقي االستقاللية المالية نظراً إلى أن المحتوى العربي في هذا الموضوع
نادر إلى حد كبير.
12
فلننظر مثال ً إلى أمر بسيط جداً كأسلوب تعامل المجتمع مع الهاتف الذكي؛ اعتقد
أنني قد أكون آخر شخص في دبي ال يمتلك هاتف ذكي وكل من أصادفه إما
يشف علي ،أو ال يصدقني ،أو يبدأ بالتشكيك بسالمتي العقلية وبقدرتي على
العيش من دون قطعة الخردة هذه .المجتمع االستهالكي السائد بالكاد يستطيع
تقبل شاب ال يمتلك هاتف ذكي ،فكيف األمر باألمور االستهالكية األكبر كالسيارة
الخاصة والمالبس الجديدة والسهرات الصاخبة والعطل السنوية والمهنة الناجحة
والزوجة (أو الزوج) الجميل واألوالد المدللين؟
أينما نظرنا في المجتمع ،هنالك عملية فرض مستمرة للقيم االستهالكية علينا؛
كل برنامج تلفزيوني وكل لوحة إعالنية وكل زميل عمل وكل صورة فايسبوك
تدعونا لالستهالك .الخروج من هذه المنظومة ليس باألمر السهل على اإلطالق.
رغم ذلك ،اعتقد أن عيش حياة بسيطة هو أفضل ما يستطيع المر أن يقدمه
ف
لنفسه .على الصعيد الشخصي ،أسلوب العيش البسيط أعطانا وقت حر كا ٍ
للقيا بالكثير من األمور التي لم تكن لتكون ممكنة بطريقة أخرى ،كتطوير مهاراتنا
في أمور عديدة ،واكتساب نسبة ال بأس بها من االستقاللية المالية رغم فترات
البطالة والرواتب المنخفضة التي عملنا بها.
هذه االستقاللية المالية النسبية تعني أيضاً أنني إذا ما فقدت عملي غداً ،لدي
القدرة على االستمرار بدفع كافة فواتيري ومصاريفي بنفسي من دون راتب لعدة
أشهر .في المقابل ،هنالك العديد من الزمال الذين ال يعملون بدوا طويل مثلي،
ولم يعانوا من البطالة يوماً ،والذين تبلغ رواتبهم أضعاف راتبي ،لكنهم بسبب
انغماسهم في الثقافة االستهالكية ،ال يستطيعون القيا بأي من األمور التي
أقو بها – وإن حصل أن فقدوا عملهم غداً فسوف يعانون فوراً من تعقيدات مالية
ومعنوية هائلة.
العيش البسيط ليس إذاً هدفاً بحد ذاته ،بل وسيلة؛ وسيلة لخل الحياة التي
نريدها نحن .عليك أن تسأل نفسك ما الذي تريده من حياتك ،ما هو األمر الذي
ستتيحه لك الحياة البسيطة؟ بالنسبة لي ،أهم ما تتيحه الحياة البسيطة ،هو
الحرية .وتحديداً التحرر من عبودية األجر لكي اتفرغ للقيا ببعض األمور األهم في
الحياة .قد يتسا ل البعض ،لماذا أريد االنسحاب من عالم عبودية األجر بهذه
السرعة فيما يبقى الجميع في وظائفهم حتى عمر الستين والسبعين؟
13
وجوابي هو أن هذا السؤال خاطى .السؤال يجب أن يكون لماذا تريد الناس
البقا بعبودية األجر واالستهالك طوال حياتها من دون البحث عن سبيل لتحطيم
سالسلها؟ بماذا تفكر هذه الناس؟ هل هي ميتة من الداخل لهذه الدرجة؟ هل
تقبل األمور كما هي من دون تشكيك ولو تعل األمر بحياتها نفسها؟
اعتقد أن البحث عن سبل الهروب من منظومة تقبض على رقابنا وعلى الجز
األكبر من حياتنا هو الخالصة األكثر منطقية لكل روح حرة في هذا العالم .من هو
الذي يريد أن يستيقظ مكرهاً كل صباح ،كل يو من حياته ،ليذهب إلى مكان
يكرهه أو ال يعني له شيئاً ،ويقو بعمل يكرهه أو ال يعني له شيئاً ،لكي تنتفخ
جيوب مدرا وأرباب عمل يكرههم أو ال يعنون له شيئاً؟ أال يعني ذلك أن حياتنا
نفسها ال تعني لنا شيئاً؟
متى نحيا إن كنا كل حياتنا مقيدين بمقعد وظيفتنا؟ متى نفكر بحرية وصفا إن
كان العمل يستحوذ على عشرة ساعات من يقظتنا فيما يستحوذ التعب والنو
على الباقي؟
نحن نواجه يومياً خيارات نعلم أنها يمكن أن تغير حياتنا لألبد ،ونعاني يومياً لنحق
الحد االدنى فقط ،فيما يتلهى السياسيون واإلعالميون والمفكرين ورجال الدين
بأمور ال طائل منها .نحن ننزل إلى العصور المظلمة ببط ،وجميعاً نشعر بعبئها،
لكن الكل يتصرف كأن كل شي عادي ،أو كأن كل ما يحدث حالياً هو مجرد حلم
مزعج سنستيقظ منه قريباً لنرى أن كل شي هو على ما يرا .
14
لكن الحقيقة هي أنه ال شي هو على ما يرا – وما قد يفاجأك عزيزتي وعزيزي
القارى ،أن ذلك قد يكون خبراً ساراً ،ال خبراً سيئاً .فكل النهايات ،وخصوصاً نهايات
القصص الحزينة كقصة حضارتنا ،تحمل في طياتها آالف البدايات لكل منا – بدايات
تعطينا فرصة المشاركة في والدة فجر جديد يخرج من جراح الماضي وآالمه.
لماذا نقول كل ذلك؟ ألن العيش البسيط الذي نتحدث عنه ليست مجرد أسلوب
عيش ،بل دعوة لبداية جديدة لكل منا – بداية منفصلة عن البنية المتداعية
والفاسدة للحضارة السائدة.
كنا قد تناولنا على مدونتنا في الماضي االستراتيجية التي نعتقد أنها ستساعد
الحركات التغييرية على إيجاد مستقبل أفضل يحمينا من العصور المظلمة ،وقلنا
وقتها أنها تتمثل في بنا الوعي ،المقاومة المنظمة للبنى والمؤسسات القمعية،
والتحول المباشر في المدن والبلدات والقرى وحياة األفراد .وتحدثنا كثيراً في
مقاالت سابقة عن الوعي المطلوب لرفض دين النمو وعن بعض مشاريع التحول
المجتمعية المنتشرة حول العالم.
هذا يعني أننا ندرك أهمية التحول الجماعي لكن ذلك ال يعني أن التحول
الشخصي غير مهم ،بل العكس .في الواقع ،في ظل غياب التجارب التحولية
الكبرى والحركات المنظمة ،ال يوجد أي معنى النتظار أمور قد ال تأتي أبداً ،ومن
األجدى البد بتحوالت في حياتنا الشخصية منذ اليو .رغم أن التحوالت التي
نقو بها في حياتنا الخاصة ليست بديال ً عن المقاومة السياسية المنظمة ،إال
أنها بداية جيدة.
الحياة البسيطة يمكن أن تكون بداية جديدة صغيرة لكل منا ،بداية صغرى تزرع
بعض البذور لبداية كبرى لمجتمعنا بأكمله ،وهي ستساعدنا على بنا مناعة
ذاتية لنا ولعائالتنا في زمن تحوالت وانهيارات تحاصرنا أينما التفتنا .لقد حان وقت
الهروب من السيستيم .لقد حان الوقت لبنا الحياة التي نريدها نحن.
15
ي على الحب والكفاح:
ح ّ
فلسفة العيش البسيط في زمن األزمة
من قال أننا نحتاج لفلسفات معقدة للعيش في أكثر األزمان تعقيداً؟ الحياة في
جوهرها بسيطة جداً ،وفلسفة العيش التي نقترحها تتناسب مع هذه الحقيقة
ومع ما يعرفه الناس بشكل فطري ،وهو أن الحياة هي حب وكفاح ،ومفتاح
سعادتها هو العيش البسيط من دون توقعات مسبقة منها.
16
العيش في زمن أزمات وجودية كالتي نراها حولنا اليو ،يعني أنه من السهل جداً
أن ننزل إلى القل حول كل األمور في الحياة ،ومن السهل جداً أن ننزل إلى
خيبات األمل عندما ال نحصل على األمور التي ننتظرها ،ومن السهل أيضاً أن
ننزل من بعدها إلى االكتئاب حين ندرك بأننا قد ال نحصل أبداً على الحياة التي
كنا نتوقع الحصول عليها يوماً ما.
هذا يعني أننا نواجه خياران :إما أن نعيش بقل وخيبات أمل مستمرة متمسكين
بكافة توقعاتنا المسبقة عن الحياة ومعتقدين أن الحياة تدين لنا بشي ما مع ما
يعنيه ذلك من غضب واغتياظ واكتئاب ،وإما أن نكف عن ربط سعادتنا بأمور
مستقبلية قد ال تحدث أبداً ونبدأ باالستمتاع بشكل أكبر بما يتوافر لدينا هنا واآلن.
هذا ال يعني أنه علينا أن نقبل واقعنا الشخصي من دون أن نحاول تغييره أو
التأثير عليه ،بل العكس – وخصوصاً إن كان واقعاً ظالماً أو سبباً لتعاستنا وألمنا.
األمر يعني أنه فيما سنعمل بحز نحو مستقبل يشبهنا أكثر ،ال يوجد أي ضرر
في االستمتاع بالرحلة وباألمور اليومية في الحياة .قد تكون تلك األمور رشفة
قهوة صباحية ،أو أغنية عابرة ،أو قبلة حبيب ،أو ضحكة مع األصدقا ،أو نزهة في
البرية .المهم أن نتعلم أن اللحظة الوحيدة التي يمكننا أن نكون سعدا فيها حقاً
هي هنا واآلن.
الحياة أقصر من أن نجعل سعادتنا رهن مستقبل قد ال نراه أبداً ،لذلك علينا أن
نجد الحب كل يو في كل ما هو حولنا ،وإال قد نستيقظ يوماً ولن نرى من حولنا
سوى ظلمة باردة.
17
علينا أن نتقبل فكرة أن عيشنا في هذا الزمن يعني كفاحاً مستمراً للحصول على
حاجاتنا األساسية ولتأمين الحد األدنى من المستقبل اآلمن لنا .المنظومة
المهيمنة على الكوكب ومعها قوى األمر الواقع الحاكمة مصرة على سح
الكوكب من أجل السلطة والمال حتى آخر رم – وتضعنا كل يو أما خيار
الكفاح للعيش بكرامة وحرية أو االنكسار والخنوع.
إلى ذلك ،االنهيار البطي يعني أنه هنالك عدد هائل من الناس اليو يدخلون في
حفلة جنون وغضب جماعية ،وهذا الجنون يترجم على أرض الواقع بالمزيد من
المتحرشين في الشوارع ،المزيد من الساديين في إدارات الشركات ،المزيد من
المكتئبين في المكاتب ،المزيد من المريضين نفسياً في السلطات والجيوش
والميليشيات ،والمزيد من المجانين أينما التفنا حولنا في الحياة .نحن لسنا
بمنأى عن هذا المصير أيضاً ،وكفاحنا اليومي هو حقاً كفاح داخلي وخارجي في
وجه كل تلك الشياطين التي تفلت من عقالها في زمن يفقد فيه اإلنسان صوابه
ولقمة عيشه في آن واحد.
علينا أن نتقبل أن حياتنا اليومية في هذا الزمن ستكون كفاحاً دائماً وأال نعتبر أن
الكفاح هو عقاب ما علينا اإلفالت منه .علينا أن نتعلم العيش معه ،وعلينا أن نطور
أنفسنا لنكون أفضل فيه .القتال فرض علينا وانتهى ،فمن األفضل أن نقاتل بكل ما
فينا .قد يكون كفاحنا نفسياً وذهنياً ،وقد يكون في عملنا أو منزلنا ،وقد يكون
جسدياً أو سياسياً أو اقتصادياً .نحن ال نعلم ماذا سترمي علينا الحياة غداً ،لذلك
علينا أن ندرب أنفسنا وأن نحول أنفسنا لمحاربين بالطريقة نفسها التي علينا أن
نتعلم أن نحول أنفسنا إلى عشاق وصوفيين .هذين القطبين ال ينفصال عن بعضها
البعض؛ المحارب الحقيقي هو من يقاتل انطالقاً من الحب.
18
إنه يعني بطريقة أو بأخرى التخلي عن األحال المادية الكبيرة من قصور فخمة
وسيارات سريعة وحفالت باذخة ومئات القطع االلكترونية المضيئة في غرفتنا،
واستبدالها بأحال أكثر حقيقية وإنسانية كالعالقات العميقة مع اآلخرين ،العيش
الهادى الخالي من التوتر ،الهوايات الممتعة والحرف والمشاريع اليدوية والفنية
والفكرية التي تسعد الروح والجسد على السوا ،واألهداف الحياتية السامية
كمساعدة اآلخرين أو إعادة الحياة ألرض هجرناها.
حياتنا اليو معقدة ومليئة بمئات األمور التي تزيدها تعقيداً من مئات التطبيقات
التي تتدخل في حياتنا إلى ضغوط العمل ووتيرة الحياة السريعة ،نحن نجد
باستمرار أن عالقاتنا االجتماعية تتراجع فيما نعاني بشكل متزايد من األمراض
المرتبطة بالتوتر والقل والسمنة والسرعة .كل هذا التعقيد الذي يجتاح حياتنا
يجعلها في الواقع أكثر فقراً ويؤثر سلباً على صحتنا وعالقاتنا وسعادتنا الذاتية.
البعض يعتقد أن حل هذه األمور يكون بالمزيد من التعقيد ،كاستخدا تطبي
جديد على الهاتف ،إال أن الحل حقيقة هو في المزيد من التبسيط.
كل من يتبع العيش البسيط في حياته سيخبركم بأنه هنالك عدة نتائج تحصل
عند اتباع هذا النمط من الحياة :الوضوح في الرؤيا الذي تتيحه المساحة المتوافرة
لنا للتفكير والتأمل ،والسعادة المتأتية من األمور الحقيقية في الحياة ال من األمور
المزيفة والمؤقتة .أما النتيجة األهم فهي زيادة المناعة المالية واالقتصادية الذاتية
تجاه التحوالت االقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم كل يو .
العيش البسيط يشبه إلى حد بعيد عملية ري شجرة صغيرة .حين تكون مجرد
بذرة وغصن صغير ،تكون الشجرة هشة للغاية لدرجة أن رياح قليلة قد تقتلعها
وشمس خفيفة قد تجعلها يباساً؛ تماماً كما أن أي أزمة اقتصادية أو شخصية يمر
بها أحدنا اليو كافية ألن تحطمنا .كل ما تحتاجه هذه النبتة صغيرة لتتحول إلى
شجرة هو القليل من الري والعناية كل يو ،ومع كل قطرة ما تكتسب المزيد من
القوة والمناعة .صحيح أننا لن نستطيع رؤية الفارق بين يو وآخر ،لكننا
سنستيقظ يوماً ما وسنرى أن ذلك الجذع الصغير قد أصبح شجرة وارفة ،ثابتة في
وجه كل ما ترميه الطبيعة بوجهها .وهكذا هو العيش البسيط؛ القليل من اإلرادة
كل يو ،ولن يطول بنا األمر لنجد أننا خلقنا من أنفسنا حياة جديدة وأكثر حرية
واستقاللية.
19
التخلي عن توقعاتنا المسبقة من الحياة ،صهر ثنائية الكفاح والحب كجز منا ومن
ذاتنا ،وعيش الحياة بالبساطة ،هي أمور قد تبدو سهلة جداً للوهلة األولى ،لكننا
قد نحتاج لحياة بأكملها لتعلمها حقاً .في كل األحوال ،أعدكم أنها مغامرة تستح
خوضها…
20
أنت في مواجهة العالم:
ما هي الخطوة األولى؟
معظمنا يعلمون تلك القصة عن جون لينون ،حين سألته المعلمة في المدرسة
“ما الذي تريد أن تكونه في الحياة حين تكبر؟” .أجابها لينون وقتها أنه يريد أن
يكون سعيداً ،فقالت له المعلمة أنه لم يفهم السؤال ،فأجابها بأنها ال تفهم
الحياة.
هذه القصة تختصر إلى حد كبير الخطوة األولى الضرورية للعيش البسيط :اكتشف
ما الذي يجعلك سعيداً .الجملة السابقة تبدو للوهلة األولى بديهية بل سخيفة،
وقد يستغرب البعض لماذا نريد تخصيص مقال كامل عن أمر يعتقد الجميع أنه
يعرفه ،لذلك ،اسمحوا لنا أعزائي القرا بأن نتحدث عن هذا األمر قليالً.
21
معظمنا ال يتخرجون من المدارس ليصبحوا رواد فضا وعلما وضباط وأطبا
وفنانين ،بل معظمنا يتخرجون ليصبحوا عاطلين عن عمل وباحثين عن عمل
وأساتذة مدرسة وموظفين مملين ونادلين وعمال مستودع وسائقي أجرة…
هذا السيستيم ال يخبرنا بأن طبيعته الطبقية تعني أن كل األحال التي أوحي لنا
أنها ممكنة في صغرنا ،ستتبخر في الواقع ما أن نخطو الخطوة األولى خارج
المدرسة ،وهذه هي المشكلة األساسية في نسخة هذا السيستيم عن
السعادة :هو يعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن نربط سعادتنا بأمور مادية ال يمكن لنا
تحقيقها أو ال يمكن لنا الوصول إليها.
إلى ذلك ،تخبرنا الثقافة السائدة من خالل االعالنات والبرامج والضغط االجتماعي
وصور الفايسبوك أن السعادة ترتبط بطريقة أو بأخرى بوظيفة أو دخل محدد،
بماركة تجارية شهيرة على مالبسنا ،بمنزل في بقعة محددة من المدينة،
بسيارة رائعة ،بعطلة في بالد بعيدة.
قد نجد أنفسنا نعمل لسنوات لتحقي كل هذه األمور لنكتشف من بعدها أننا لم
نصبح سعدا بعد؛ لكن السيستيم يخرج بخدعة أخرى علينا ويقول لنا أن
السعادة تنتظرنا دائماً عند المنعطف التالي؛ هذا المنعطف التالي قد يكون سيارة
أحدث أو أثاث منزلي أجدد أو هاتف أكثر تطوراً أو منزل أكبر أو زوج أجمل أو طفل
إضافي .هنالك دائماً خطوة أخرى نحتاجها لنكون سعدا ،أو هذا ما يخبرنا به
السيستيم.
22
السعادة هي اكتشاف داخلي ال إعالن تلفزيوني
حين نطرح سؤال “ما الذي يجعلنا سعدا ” على أنفسنا من دون أن نعيد النظر
في منظومة القيم التي نحملها ،سنجيب عليه وفقاً للبرمجة الثقافية االجتماعية
التي ربينا عليها منذ الصغر .معظمنا سيخرجون بنفس اإلجابات الجاهزة التي
تروجها لنا الثقافة السائدة بدل أن يبحثوا داخل أنفسهم عما يجعلهم سعدا حقاً.
رغم أن البرمجة الثقافية السائدة توحي لنا أن نفس األمور تسعد الجميع من دون
استثنا ،إال أن الحقيقة هي أن الناس أنواع وكل منا يجد السعادة في أمور
مختلفة.
أنا متأكد أن معظم قرائي ال يجدون سعادة في االشتباك القتالي في الحلبة مع
خصم مدرب على القتال ،كما افعل أنا مثالً ،كما أني ال أجد سعادة في أمر قد
يجده بعض القرا مسلياً ،كالسهر في مكان ضي وصاخب ومفعم بالدخان
والموسيقى الصاخبة .االختالف في مصادر السعادة يبدأ من أبسط األمور ويصل
إلى أكبرها.
23
اكتشفوا ما الذي يسعدكم حقاً ،وستتفاجأون بكمية األمور التي تقومون بها في
حياتكم والتي تعتقدون أنها تسعدكم فيما تسبب العكس .ستتفاجأون أيضا ً
باكتشاف أمور جديدة ومثيرة قد تسعدكم أكثر .اجلبوا ورقة صغيرة وضعوا الئحة
باألمور التي تسعدكم ،من أصغرها إلى أكبرها .القيا بهذا التمرين الصغير قد
يساعدكم في أحيان كثيرة على أن تدركوا أنه ال يوجد أي سبب يمنعكم من أن
تكونوا سعدا هنا واآلن .هذه هي الخطوة األولى.
24
ماذا يخبرنا راهب قديم عن ذهنية العيش البسيط
في رواية “سيدارتا” لهيرمان هيسه ،يقو أحد التجار األغنيا بسؤال الراهب
الهندي سيدارتا عن المهارات التي يمتلكها ليقرر ما إذا كان مناسباً ليعمل لديه،
ويجيبه الراهب جواباً غريباً ،قائالً“ :يمكنني أن أفكر .يمكنني أن انتظر .ويمكنني
أن أصو ”.
طبعاً ،ال يمكننا استخدا هذا النوع من األجوبة في مقابالت العمل اليو ،كما أن
المهارات التي تحدث عنها سيدارتا ليست من التي قد نعتبرها أساسية لحياتنا
العصرية ،إال أن الحقيقة هي أن هذه الصفات الثالث – التفكير ،الصبر ،والصو –
هي جوهرية ألسلوب العيش ببساطة.
بعكس نمط الحياة االستهالكي السائد ،العيش البسيط يستوجب جهداً واعياً
علينا أن نمارسه بشكل دائم في وجه البرمجة الثقافية المستمرة التي نتعرض
لها في كل مكان .لكي يكون بامكاننا التخلص من رواسب الثقافة السائدة ورسم
أسلوب الحياة الذي نريده نحن ،هنالك مهارات ذهنية معينة ال بد من تنميتها
واالهتما بها ،وهذه المهارات تم تلخيصها ببراعة في الجملة السابقة لسيدارتا.
25
التفكير يعني أن ننظر بعين نقدية إلى كل إعالن تلفزيوني وكل تصريح سياسي.
القدرة على التفكير تعني أيضاً قيامنا باختيار أسلوب حياة ونمط تفكير يناسبنا من
دون أن نقلد بشكل أعمى ما تقوله لنا البرمجة اإلعالنية أو ما يقوله رجال الدين
والسياسيين والمشاهير والمفكرين الذين يستحوذون بشكل شبه مطل على
فضائنا الحياتي.
القدرة على التفكير مهمة جداً لمن يريد أن يرى الحقيقة من بين غابات األوها
السائدة في مجتمعاتنا ،لكن القدرة على االنتظار تضاهيها أهمية.
معظم اإلعالنات وكتب التنمية الذاتية التي تخاطبنا اليو تتحدث عن تلبية رغباتنا
بشكل فوري ،فتخبرنا كيف نصبح أغنيا في 21يو وكيف نحصل على عالقة
بثانية واحدة وكيف نحصل على الجسم المثالي بثالثة أيا .
هذا الهوس بالحصول على كل شي بأسرع وقت ممكن يدفعنا لالستدانة من
البنوك لشرا سيارات جديدة ،يدفعنا لتغيير وظائفنا عشر مرات من دون أن نحق
شيئاً في أي منها ،يدفعنا للتسرع بالزواج وإنجاب االطفال قبل أن نكون
مستعدين للقيا بأي شي من ذلك .االستعجال يدفعنا لشرا كل ما نراه في
الواجهة من مالبس وهواتف جديدة في أول الشهر لنعيش بإفالس مطب حتى
الراتب المقبل .وهو يدفعنا أيضاً لقبول كل ما يقوله لنا رجال الدين والسياسة
ف لنفكر ونقيم األمور التي يتحدثون عنها.
والتسوي ألنه ليس لدينا وقت كا ٍ
انعدا الصبر يعني أن معظم أعضا المجتمع االستهالكي ال يعرفون عيش حياتهم
بهدو أو كبح رغبتهم االستهالكية ،والنتيجة هي أننا أصبحنا أسرى رغباتنا
وقراراتنا المتسرعة .القليل من الصبر يمكن أن يجنبنا الكثير من القرارات الخاطئة
في الحياة .القليل من االنتظار فقط يمكن أن يظهر لنا جانب آخر لم ننتبه له
سابقاً للمسألة التي نحن بصددها.
26
الرغبة ،كما يعلم كل راهب وكل عالم نفس ،هي مجرد شعور عابر والقليل من
االنتظار هو الفارق في الكثير من األحيان بين االنصياع لها وبين تأجيلها وتجنب
النتائج السلبية التي قد تترتب عنها .وهذا ما يأخذنا إلى المهارة الثالثة التي
تحدث عنها سيدارتا وهي الصو .
إن اعتبرنا أن حديث سيدارتا ليس فقط عن الطعا بل يشمل الصو عن رغبة
استهالكية معينة سيتضح لنا حينها أهمية هذه المهارة للحياة البسيطة.
شخصياً مثالً ،أستطيع العيش من دون تلفاز بشكل شبه دائم ،ومن دون هاتف
ذكي بشكل دائم ،ومن دون سيارة خاصة معظم الوقت ،ومن دون سكاكر ووجبات
سريعة – وكل هذه األمور البسيطة تساعدني ال على التحرر من البرمجة
االستهالكية المفروضة علينا فحسب ،بل على عيش حياة صحية و ُمرضيَة في
الوقت نفسه.
اجتماع هذه المهارات الثالث في شخص واحد تعني أن هذا الشخص لديه القدرة
على التحرر من الرغبات التي تخلقها الماكينة الرأسمالية فينا .التحرر من تلك
الرغبات يعني أنه لدينا الفرصة الكتشاف أنفسنا من دون تشويش ،أنه لدينا
الفرصة لرسم حياتنا كما نريدها نحن واكتشاف رغباتنا الحقيقية والتعرف على
األمور التي تجلب لنا السعادة حقاً من دون أن نكون أسرى البرمجة االجتماعية
المسبقة التي تعطينا سعادة آنية على حساب تعاسة طويلة األمد.
التفكير ،االنتظار ،والصو ،مهارات أساسية علينا بتنميتها منذ اليو .
27
تأسيس االستقاللية الحياتية عن المنظومة:
نحن نعيش في مجتمع مبني بشكل متزايد على االبتعاد عن العالم الحقيقي
وعلى تقليص تفاعلنا المباشر معه إلى أدنى الدرجات .نحن نستعمل أيادينا أقل
لمصافحة الناس والعمل ونستخدمها أكثر للنقر على زر وتحريك أيقونة على
شاشة .نستعمل عيوننا أقل للنظر إلى بعضنا البعض فيما نستعملها أكثر لنحدق
بالشاشات.
عالقتنا مع العالم تصبح تجريدية أكثر يوماً بعد يو ،فيما تشهد حياتنا اليومية تزايد
عدد الوسطا (كالشاشات والتطبيقات والخبرا ) الذين يحولون بيننا وبين العالم
الحقيقي .في ظل كل هذه المسافة التي تفصلنا عن الحياة ،مهاراتنا اليدوية
تكاد تكون معدومة؛ نحن نأكل طعاماً لم نزرعه ولم نطبخه ،ونستخد آالت ال
نعرف كيف نصلحها ،ونتنقل في سيارات لم نعد نعرف كيف تعمل ،ونعيش في
منازل ال نعرف كيفية بنائها وصيانتها ،وبالكاد يمكننا صعود درج من دون اللهاث تعباً
أو خوض حديث من دون االلتفات الى شاشة الهاتف .مع الوقت ،المهارة الوحيدة
التي نحافظ عليها هي التفاعل البارد مع الشاشة.
مجموعة من الناس تجرب نظارات غوغل غالس التي تحوي شاشة صغيرة داخلها.
28
مجموعة من الناس تختبر نظارة أوكولوس ريفت المصممة لأللعاب وتطبيقات أخرى
نحن نصر على التفاعل مع العالم عبر وسيط ،سوا كان هذا الوسيط كتاباً أو
شاشة أو شخص آخر ،رغم أن هذا الوسيط ال يتيح لنا معرفة العالم كما هو بل
يعرفنا فقط على فلسفة ونظرة صانعه .الكتاب ال ينقل لك العالم كما هو ،بل يقد
لك نظرة مؤلفه للعالم ،والشاشة أيضاً ال تنقل لك العالم كما هو ،بل تنقل لك
رؤية السلطة والعمامة والشركة التي تقف خلف الشاشة.
النتيجة هي أن المهارات اليدوية أصبحت أمر غريب عنا وعن يومياتنا رغم أن
أيادينا هي من أروع ما تقدمه لنا أجسادنا كبشر.
نحن من المخلوقات النادرة في الطبيعة التي تمتلك ابها متعاكس ،وبنية يدينا
هذه هي التي تتيح لنا بنا األدوات والتفاعل مع العالم بطريقة فريدة تختلف عن
جميع المخلوقات األخرى .أيادينا هي التي جعلت عالقتنا مع كل شي في
العالم عالقة مميزة وجميلة؛ فنحن نستطيع احتضان خد أحبائنا ونحت الحجر
وعزف آلة وتطويع الحديد وتشكيل الخشب وإمساك السيف وزرع األرض وتلوين
األف بأجمل اللوحات بأيادينا.
كل ما نستطيع فعله تقريباً نفعله عبر أيادينا – هي وسيلتنا لتحسس العالم كما
هو وهي أداتنا لالتصال المباشر معه .حين نلمس العالم ،نتبادل معه الكثير من
الحقائ واألحاسيس التي ال يمكن لشاشة أن تعرفنا عليها.
29
تقلص مهاراتنا اليدوية له ثمن حياتي كبير على استقالليتنا ومناعتنا الذاتية في
زمن األزمات .كلما كانت لدينا مهارات أقل واعتماد أكبر على المتخصصين
والخبرا ،كلما تخلينا عن جز من استقالليتنا وقوتنا وأعطيناه للخبير .نحن إذاً
نأخذ السلطة من أنفسنا ونعطيها بشكل متزايد للخبرا .
هؤال الخبرا ال يتمثلون فقط بالتقني الذي يصلح التلفاز ،فسلسلة الخبرا تبدأ به
وتنتهي بن”الخبرا ” الدينيين والسياسيين وصوال ً إلى مدير الشركة ورئيس الدولة
ومفتي الجمهورية الذين يوكلهم المجتمع عادة مهمة اتخاذ القرارات االقتصادية
والسياسية نيابة عنهم .اعتمادنا المتزايد على الخبرا والوسطا لتنظيم وتحديد
عالقتنا مع كل شي حولنا تعني أننا نتحول مع الوقت إلى غالبية عاجزة تتحكم
بها أقلية تمتلك الخبرة والموارد .اعتمادنا المتزايد على الخبرا يحولنا شيئاً فشيئاً
إلى كائنات كئيبة أحادية البعد ال استقاللية لها على االطالق عن المنظومة
السائدة.
مهارة تحضير طعامنا بأنفسنا :هذه أهم مهارة يمكن لشخص أن
يكتسبها ألنها تعفيه من االعتماد على اآلخرين لتحضير الطعا له ،كما أنها
تعطينا فرصة تناول طعا صحي أكثر كما توفر الكثير من المال الذي نصرفه
عادة على الوجبات الجاهزة .الحياة البسيطة تبدأ من هذه المهارة تحديداً؛
من قدرتنا على أن نطعم أنفسنا بأنفسنا.
30
مهارة إصالح اآلالت واألدوات :هذه المهارة مهمة في زمن نعتمد فيه
على اآلالت واألدوات للقيا بكل شي تقريباً .هنالك بطبيعة الحال بعض
اآلالت التي تحتاج الختصاصي لصيانتها لكن اعتقد أنه يمكن تعلم إصالح
معظم اآلالت واألدوات الشخصية والمنزلية الرئيسية بأنفسنا .هذا يشمل
األمور المنزلية كصيانة األبواب واألثاث واألنابيب والحنفيات والحما وما
شابه ،كما يشمل اآلالت المنزلية اآللية البسيطة كالغسالة والتلفاز والبراد،
والتكنولوجيا الشخصية مثل الحاسوب والهاتف .هذه المهارة يمكن أيضاً
اكتسابها إلصالح السيارة الخاصة (لألسف بعض السيارات الحديثة مصممة
بطريقة تجعل من المستحيل إصالحها في أي مكان باستثنا الشركة
األساسية).
اللياقة البدنية وأساليب الدفاع عن النفس :االعتماد الذاتي يعني أنه
يجب أن تكون لدينا اللياقة البدنية الكافية للقيا بكل ما نتحدث عنه هنا
مثل االصالحات المنزلية ،زراعة بعض الخضار ،أو نقل قطعة من األثاث إلى
مكان آخر .اللياقة البدنية الجيدة لها فوائد صحية ونفسية أكثر من أن
تحصى وتساعدنا كثيراً في تجنب العديد من العوارض الصحية التي تنتشر
في مجتمعاتنا الخاملة مثل الكوليستيرول ،التريغليسيريد ،أمراض القلب،
انسداد الشرايين ،االكتئاب…ألخ .إلى ذلك ،هنالك ضرورة لتعلم أساليب
الدفاع عن النفس ،ألنها ستساعدنا على الدفاع عن أنفسنا وعن أحبابنا
في زمن ال نعرف فيه ما الذي ينتظرنا عند المنعطف التالي في الشارع،
وألنها تطورنا نفسياً وذهنياً وتجعلنا أكثر استقاللية وانتباهاً وأكثر استعداداً
لمواجهة التحديات التي ترميها الحياة علينا.
البستنة وزراعة الخضراوات :قد يبدو للعديد من القرا أنه ال يوجد نفع
على االطالق لهذه المهارة في ظل توافر الطعا في كل المحال والمراكز
التجارية من حولنا ،لكنها أهم األساسات لحياة بسيطة ألنها تعطينا القدرة
على تحقي االستقاللية في أهم مجال حياتي على اإلطالق :إنتاج قسم
من غذائنا بأنفسنا .االنتاج الصناعي للغذا غير صحي وغير مستدا
ويتداعى عادة عند أول أزمة سياسية أو اقتصادية كما حصل في دول
عديدة حول العالم منها كوريا الشمالية (التي مات الماليين منها في
مجاعة) وكوبا (التي حولت اقتصادها الزراعي إلى زراعة محلية ومنزلية
ونجت من األزمة) ،ومؤخراً سوريا التي تم تجويع العديد من مدنها وأحيائها
بعد محاصرتها من قبل األطراف المتقاتلة.
31
القدرة على زراعة القليل من الغذا تضمن الحد األدنى من المناعة
واالستقاللية الغذائية تجاه التقلبات السياسية واالقتصادية ،كما أنها
تساعدنا على بنا عالقة ال يمكن تعويضها مع التراب واألرض .حتى ولو كنا
في قلب المدينة ،يمكننا الحصول على بضعة أحواض من التراب وتعلم
كيفية زراعة الخضراوات البسيطة كالبصل والبقدونس والبندورة والزعتر
والنعناع وما شابه .الموضوع أسهل إذا كنا نمتلك قطعة صغيرة من األرض
قرب المنزل – حتى ولو ال تتعدى مساحتها مساحة غرفة واحدة – إذ من
األفضل زراعتها بدل استعمالها كحديقة تزينية .ستتفاجأون كم يمكن
لمساحة صغيرة من التراب أن تنتج من الغذا .
المهارة اليدوية الحياتية :إضافة إلى المهارات السابقة ،كل شخص
يحتاج لمهارة يدوية تعبر عنه ويشعر بصلة حميمة واستثنائية معها .هذه
المهارة قد تكون شيئاً يمكن تحويله فيما بعد إلى مصدر ثانوي للدخل
كالنجارة أو اإلبحار أو تصليح كهربا السيارة ،كما يمكن أن تكون مجرد مهارة
فنية كالموسيقى وما شابه .شخصياً المهارة اإلضافية التي أركز عليها
هي النجارة والعمل على الخشب لبنا قطع من األثاث وما شابه ولقد
صنعت حتى اآلن بضعة قطع أثاث منها مضحك وقبيح ومنها عملي وجميل.
اكتساب مهارات من هذا النوع هو أمر ال يتعل فقط باالستقاللية الذاتية
بل بالتعبير عن الذات وبنا عالقة مع شي يسعدنا حقاً في عالم يفرض
علينا باستمرار نسخته الباردة والفارغة عن السعادة.
إن كنا نريد بنا عالقة حقيقية مع العالم الذي نعيش فيه علينا أن نقتل الوسيط
الذي يحول بيننا وبينه ،وأن نتعلم استخدا أيادينا للتفاعل معه بشكل مباشر.
سيكون يوماً جميال ً حين نخرج أيادينا من جيوبنا ونسحب اصابعنا من على
الشاشات ونحمل بها حفنة من التراب ،العالم ينتظرنا لنلمسه.
32
هل هناك وظيفة مثالية؟
معضلة عبودية األجر والحياة البسيطة
يقال أنه إن أحب المر عمله فهو لن يشعر بأنه يعمل يوماً في حياته .يقال أيضاً
أنه إن كان المر يكره عمله ،فكل يو بالنسبة له هو جحيم حي .العمل هو في
نهاية المطاف المحور الرئيسي الذي تقو عليه حياتنا المعاصرة :نحن نقضي فيه
معظم ساعات يومنا وغالبية أيا حياتنا ونعطيه معظم طاقتنا وانتباهنا فيما يوفر
لنا األساس المادي لسد احتياجاتنا ويمدنا بجز ال يستهان به من عالقاتنا
االجتماعية وهويتنا الذاتية .ما نقو به في عملنا إذاً ،ليس مجرد أمر هامشي بل
أحد أهم أوجه حياتنا التي يجب أن نحاول التأثير عليها وجعلها تناسب شخصيتنا
وميولنا وأهدافنا.
حين نكون على وشك الدخول إلى سوق العمل ،نالحظ أنه هنالك وجهتا نظر
سائدتان في المجتمع حول هذا الشأن :الرأي األول يتمثل بنصيحة اختيار مهنة
تدر الكثير من المال وتعطي مكانة اجتماعية مرموقة كطبيب أو مهندس أو ضابط
جيش أو محامي (للذكور خصوصاً) ،من دون أن يكون لميولنا وتفضيالتنا الخاصة
أي تأثير على هذا القرار .هذا موقف الغالبية الساحقة من األهل الذين ينتمون
للطبقات الفقيرة ،حيث تمثل وظيفة من هذا النوع الفرصة الوحيدة ألوالدهم لكي
يتجنبوا تكرار الحياة الصعبة التي عاشها أهلهم.
الرأي الثاني يقول أن المر يجب أن يختار عمل أو مهنة يحبها ويمتلك شغف
تجاهها ولو لم تكن تدر أي مردود مادي ،وتركز النصائح في هذا االتجاه عادة على
المهن االبداعية كالتصوير والتصميم واإلخراج والكتابة وما شابه .هذا الرأي سائد
في اإلعال وفي كتب التنمية الذاتية وفي بعض أوساط الطبقات الميسورة
وخصوصاً أن أبنائها يمتلكون في معظم األحيان رفاهية اختيار العمل الذي يريدونه
من دون أن يقلقوا حول النتائج المالية والمعيشية المترتبة عليه.
33
…
هنالك وجهة نظر ثالثة ال تحظى بالكثير من الشعبية تدعو لالنسحاب من العمل
بشكل كامل واالعتماد على نمط حياة بديل ال تشكل الوظيفة محوراً رئيسياً فيه،
لكن وجهة النظر هذه ال تحدد كثيراً كيفية القيا بهذا األمر ،وسنعود لنتحدث عنها
قليال ً في نهاية المقال.
رغم االختالف في وجهات النظر ،إيجاد وظيفة نحبها وتدر علينا ما يكفي من
المدخول في الوقت نفسه هو بالنسبة للعديد منا حلم نسعى لتحقيقه .العمل
الكادح في مجال نكرهه ليس أفضل طريقة بتاتاً لقضا حياتنا ،خصوصاً أنه ال يوجد
في الحياة زر إعادة يمكن الضغط عليه واستعادة عمرنا من خالله .رغم شيوع
هذا الحلم ،قليلون جداً من بيننا هم من يتمكنون من تحقيقه.
34
أفضل ما في األمر :حين يتحوّل الشغف إلى مهنة
من السهل أن نعرف لماذا تدور أحال الماليين حول الكوكب حول القيا بعمل
يحبوه بدال ً عن العمل المتردي الذي تزاوله البقية كل يو ،فال أحد يولد لتنظيف
الطرقات أو تلحيم الدعائم الحديدية تحت الشمس أو تقديم الطعا في المطاعم
أو الجلوس ورا مكتب والتحدي في شاشة طوال اليو .
القيا بعمل نحبه حقاً هو مفتاح السعادة لماليين التعسا الذي يشعرون أنهم
يستيقظون كل يو للذهاب إلى حتفهم .في نهاية المطاف ،ما الذي سيكون
أفضل لهؤال من االستيقاظ صباحاً للقيا بشي يحبوه ويدر عليهم مدخول كاف
لعيش حياة كريمة في الوقت نفسه؟
كل ذلك يبدو مثالياً ،ولعله ما يدفع مؤلفي كتب النصائح المهنية والتنمية الذاتية
على استعماله كهدف أسمى لكل ساعٍ للسعادة – من الصعب أن نرفض عمال ً ال
يمللنا وال يتعبنا وال يقلقنا وال يسبب لنا االكتئاب .لكن ما ال يخبرنا به أصحاب هذه
الدعوات هي أن تحويل الشغف إلى عمل ليس بالضرورة وصفة للسعادة المهنية.
من ناحية أخرى ،تحويل شغفنا إلى عمل ليس بالضرورة أمراً جيداً .حين نتحمس
لتحويل شغفنا إلى مهنة ،غالباً ما ننسى أن ربط الشغف بالمال قد يؤدي في
الكثير من األحيان إلى قتل الشغف.
35
ما يجعل األشيا التي نحبها جميلة هو أننا نقو بها من وقت آلخر في وقتنا الحر،
على وتيرتنا الخاصة وبتفضيالتنا الخاصة ،واألهم ،نحن نقو بها باختيارنا الحر.
حين نحولها إلى مهنة ،فهذا يعني أنه سيكون علينا معظم الوقت أن نضع شغفنا
وتفضيالتنا وميولنا الشخصية جانباً واالنصياع لرغبات االتفضيالت لسائدة في
سوق العمل والزبون الذي نتعامل معه .المال والزبائن هم من يحددون إلى حد
كبير وتيرة العمل وطبيعته واتجاهه ،سوا كنا نتحدث عن عمل فني أو غيره.
هل يبقى الشغف للتصوير ،الكتابة ،البستنة أو تصميم األثاث نفسه حين يصبح
واجباً يومياً متعباً يهدف لمالقاة ذوق وأهداف زبون يدفع لنا المال؟ هل سنحافظ
على شعور الشغف حين ننهمك في مالقاة المهل والمواعيد النهائية وطلبات
الزبائن والصعوبات التقنية واألعبا المادية لعمل مستقل من هذا النوع كل يو
من األسبوع؟ أو سنقو عندها بالبحث عن هواية وحب آخر للهروب من ضغط
العمل واستنشاق بعض الهوا النقي بعيداً عن العب الجديد الذي خلقناه
ألنفسنا؟
هنالك عدد ال يحصى من الناس الذين حاولوا تحويل شغفهم إلى مهنة أو حاولوا
تأسيس شركاتهم الصغيرة الخاصة ليكتشفوا فيما بعد أن ذلك يضع على عاتقهم
المزيد من الضغوط والتعب بدل العكس .العمل في أمر نكرهه إذاً ليس أمراً جيداً،
لكن تحويل شغفنا إلى عمل أو مهنة قد ال يكون بالضرورة الجنة الموعودة .ما
الحل إذاً؟
36
مثلّث النجاح
هنالك حل للمعضلة السابقة تعرفه بعض الكتب باسم “مثلث النجاح” ،وهو تمرين
عملي وبسيط يظهر لك المجال المهني المناسب لك ويسمح لك بالتخطيط
بهدو لالنتقال إليه بعد بضعة أشهر أو سنوات ،خصوصاً إن كنت تعمل في مجال
تكرهه وتبحث عن أبواب للخروج منه من دون تعريض مدخولك للخطر.
التمرين التالي يحتاج لنحو 20دقيقة فقط (أضمن لكم أنها ستكون 20دقيقة قيمة
لكم) وهو مفيد لمن هم على أبواب سوق العمل وللموظفين الذين قضوا عقود
في سوق العمل على السوا .
“مثلث النجاح” هو المنطقة الناتجة عن تقاطع ثالث دوائر ،كما يظهر الرسم
التالي:
37
الدائرة األولى هي دائرة الشغف :ارسم دائرة واكتب فيها كل األشيا التي تحب
القيا بها .ليس من الضروري أن تكون تمارسها حالياً وقد تكون أمور تحب أن
تتعلمها في المستقبل أو تحبها بشكل عا من دون أن يكون لديك مهارة حالية
فيها.
الدائرة الثانية هي دائرة المهارات :ارسم دائرة أخرى تتقاطع مع الدائرة األولى
واكتب فيها كل المهارات التي اكتسبتها خالل حياتك ،سوا اكتسبتها في العمل،
الدراسة ،من خالل هواياتك ،عبر تدريب مهني خاص ،أو بمجهودك الشخصي.
من المهم أن تكتب فيها كل األمور التي تبرع فيها أو التي تمتلك فيها كفا ة
معينة.
الدائرة الثالثة هي دائرة المدخول :اكتب في هذه الدائرة مستوى الدخل الذي
تحصل عليه حالياً ،وحاول تقدير مستوى الدخل المتوقع من كل شغف أو مهارة
وضعتها في الدائرتين السابقتين .كن واقعياً في تحديد مستوى الدخل المتوقع
وال تجعل األرقا أكبر من الممكن؛ بعض المهارات قد ال تؤمن لك أي دخل على
االطالق ،وعليك أن تضع رقم صفر إلى جانبها .عليك أيضاً أن تحدد مستوى الدخل
الذي تحتاجه لكي تحصل على حياة كريمة والئقة وتضعه في أسفل الدائرة.
حين تنتهي من تعبئة الدوائر األساسية الثالث بالمعلومات المطلوبة ،سنبدأ اآلن
بتعديل ما كتبناه في الدوائر الكتشاف بعض المناط .ستالحظ أن التقاطعات بين
الدوائر الرئيسية الثالث ترسم فيما بينها أربع مناط منفصلة .المنطقة األولى
هي منطقة التقاطع بين دائرتي الشغف والمهارة (المنطقة رقم 1في الرسم
أعاله) :ضع في هذه المنطقة األمور التي تحبها وتجيد القيا بها ولكن ال يمكنها
كاف أو أن دخلها في سوق العمل هامشي جداً (الكتابة عادة ٍ تأمين مدخول
تدخل ضمن هذا اإلطار .)D:مهنياً ،هذه المنطقة التي تريد االبتعاد عنها؛ ال تريد
إعطا الكثير من االهتما لها ونفعها الوحيد أنها ستساعدك على اكتشاف األمور
التي تحبها والتي ال يمكنك تحويلها إلى مهنة.
38
المنطقة الثالثة هي منطقة التقاطع بين دائرتي المهارة والمدخول (وهي
المنطقة رقم 3في الرسم أعاله) :هنا ستضع األمور التي تجيد القيا بها ،والتي
تعطيك ما يكفي من المدخول في الوقت الحالي ،لكن التي ليس لديك شغف أو
حب تجاهها .معظم الناس على الكوكب تعمل في مهن يمكن وضعها في هذه
المنطقة ومن األرجح أن يكون عملك الحالي من ضمنها.
المنطقة الرابعة وهي األهم تقع في قلب تقاطع الدوائر الثالث واسمها في
الرسم مثلث النجاح .داخل هذه المنطقة ،ضع األمور التي تحبها وتجيد القيا بها
ف لك في الوقت نفسه .الغالبية الساحقة من الناس ويمكنها تأمين مدخول كا ٍ
ليس لديها أي كلمة لتضعها في هذا المثلث ،وإذا كانت هذه حالتك أيتها القارئة
والقارى العزيز فال تقلقوا! هذا أمر طبيعي جداً ألنه لو كان لديك ما تضعه في
هذه المنطقة لكان ذلك مجال عملك وما كنت لتقرأ هذا المقال من األساس.
إن كانت هذه المنطقة فارغة حين تصل إلى نهاية هذا التمرين ،انظر إلى ما
الثالث السابقة ،وخصوصاً منطقة التقاطع بين الشغف وضعته في المناط
والمدخول (المنطقة رقم ،)2وادرس الخطوات التي تحتاج للقيا بها في حياتك
لنقل أمر ما من هذه المنطقة إلى مثلث النجاح.
الشغف األكبر لمعظم الناس سيكون في الواقع خارج “مثلث النجاح” ألنه على
األرجح من أنواع الشغف التي ال تؤمن مدخوال ً كافياً في سوق العمل الحالي أو
ألنها من األمور التي تحتاج لوقت طويل جداً لتطوير مهارتنا فيها .المفتاح إذاً ليس
تحويل الشغف األكبر إلى عمل ألن ذلك أمر نادر وصعب جداً .الحل هو ببساطة أن
تحاول أن تقو بعمل تحبه بالحد األدنى ،لديك مهارة جيدة فيه ،وقادر في الوقت
ف لك.
نفسه على تأمين مدخول كا ٍ
مجدداً ،ليس من الضروري أن يكون هذا العمل هو شغفك األكبر ،وليس من
الضروري أن يحق لك المدخول األكبر ،وقد قد ال تجيده بشكل كبير في البداية،
الكلمة المفتاح هنا هي التوازن :التوازن بين الشغف والمهارة والمدخول هو الخيار
المهني األكثر واقعية في هذه األيا .هذا الخيار سيتيح لك تحمل سنوات من
العمل من دون أن تتمنى خن مديرك كل يو ،كما أنه يسمح لك بإبقا شغفك
واألمور التي تحبها بعيدة عن ضغوط العمل ومساوئه.
39
الهروب النهائي من العمل :هل هو ممكن؟
هنالك العديد من الناس ومنهم كاتب هذه السطور ال يحتملون أية وظيفة ،مهما
كانت مريحة ومهما كانوا يحبونها .فكرة االستيقاظ صباحاً للذهاب إلى مكان ما
رغماً عن إرادتك والقيا بأمور ال تعني لك كثيراً وحددها لك أشخاص آخرون ،هي
أسوأ األفكار التي خرجت بها الرأسمالية يوماً .الوظيفة هي قيد ال يناسب كثيراً
الناس الذين تشكل استقالليتهم الذاتية ومشاريعهم الخاصة شغفهم الرئيسي
في الحياة.
على الصعيد الشخصي مثالً ،هدفي النهائي هو أن أصل إلى مرحلة اتخلص فيها
كلياً من الوظيفة؛ مرحلة استطيع فيها االستيقاظ صباحاً وتحديد ما الذي أريد أن
أفعله في ذلك اليو بقراري الخاص من دون أن يملي علي أحد أين يجب أن
أكون أو ما الذي يجب أن أقو به أو ماذا الذي يجب أن اكتب خالله .أريد أن أكون
حراً من قيد عبودية األجر ،ال ألنني كسول وال أحب العمل ،لكن ألنني أريد أن
أعمل على األمور التي أريدها أنا ال التي يحددها لي رب عمل ال يهدف سوى
لجمع الثروات من عملي.
لكن الحرية لها ثمن ،وثمنها في زماننا الحالي باهظ جداً .هل نستطيع شرا
حريتنا من العمل كما كان يشتري العبيد حريتهم في العصور القديمة؟ هل يمكن
عيش حياة من دون وظيفة من دون أن يكون لدينا ماليين الدوالرات في البنك؟
شخصياً اعتقد أن ذلك ممكن إلى حد ما لكنه ليس باألمر السهل .السر؟ السر
هو البنا التدريجي والمستمر للمناعة المالية والمهارات الشخصية المناسبة
لالنفكاك عن السيستيم ،وتعزيز أسلوب العيش البسيط بشكل يتيح لنا على
المدى البعيد مرونة حياتية ومهنية ال يمتلكها أي موظف آخر في العالم .فلنتحدث
عن ذلك قليالً.
الجانب األول هو بنا المناعة المالية ونقصد به بنا احتياط مالي من خالل االدخار
يتيح للشخص إعالة نفسه بنفسه في حال خسر وظيفته أو في حال أراد تغيير
مهنته .على سبيل المثال ،ادخار % 30من مدخولنا يعني أنه سيكون بمقدورنا
بعد عشر سنوات إعالة أنفسنا ألربع سنوات كاملة من دون وظيفة ومن دون
مدخول (تفاصيل الحساب هنا[ .)]1مذهل أليس كذلك؟
هذا ولم نذكر بعد األساليب التي يمكننا من خاللها استخدا المال لتحقي
مدخول إضافي ،ما يعني أن المدخرات المذكورة قد تكون كافية لسنوات أطول بما
قد يتيح التخلص من الوظيفة نهائياً وتحقي االستقاللية المالية الجزئية أو الكاملة
(المتمثلة بالقدرة على تحقي مدخول من دون وظيفة أو رب عمل).
40
في أقل األحوال ،االدخار لسنوات قليلة يمكن أن يساعدنا على االستقالة من
عمل نكرهه وربما التدرب في مهنة أخرى أو العودة إلى الجامعة لبضعة سنوات.
الجانب الثاني من خطة الهروب من عبودية األجر يتمثل ببنا المهارات الشخصية
التي تفتح لنا أبواب مهنية جديدة قد تتيح لنا فيما بعد الحصول على عمل أفضل
أو الوصول إلى عمل نحبه يتناسب مع شخصيتنا وطموحنا ،أو حتى إنشا عمل
جديد بالكامل .اإلحصا ات تشير إلى أن أبنا جيلنا يقضون ما معدله 15ساعة
كاف الكتساب
ٍ على األقل في األسبوع في تصفح االنترنت؛ نصف هذا الوقت فقط
مهارة جديدة كل عا أو تعزيز مهارة نملكها لدرجة احترافية.
هنالك أصدقا كثر أعرفهم شخصياً غيروا مهنهم بهذه الطريقة؛ هنالك صديقة مثال ً
كانت تعمل في مجال المحاسبة وتعلمت التصوير لثالث سنوات إلى جانب عملها
قبل أن تنجح فيما بعد باالنتقال إلى هذا المجال الجديد بدوا كامل .زميلي في
العمل تخرج من كلية الحقوق وبدأ بالتدرج كمحا ٍ قبل أن يدرك أنه يكره هذا
المجال – فعلم نفسه البرمجة ومهارات تحسين تجربة المستخد UXحتى
أصبح اليو أحد مدرا المشاريع في شركة كبرى في هذا المجال .هنالك قريب
لي بدأ بالعمل على صندوق الدفع في مركز تسوق تجاري ،وبعد بضعة سنوات
أصبح مديراً للمركز الذي بدأ فيه بأدنى وظيفة.
شخصياً ،قمت بالعمل على تحسين لغتي االنكليزية عندما كنت أعمل كمحرر
باللغة العربية حتى أصبحت قادراً فيما بعد على الكتابة والتحرير بهذه اللغة
بشكل سهل جداً ما اتاح لي العمل في مجالت إنكليزية وشركات ال تستعمل
سوى هذه اللغة .هنالك الكثير من األمثلة في هذا المجال – عليك فقط أن تجد
األمر الذي تحبه وأن تعمل عليه خطوة خطوة.
الجانب الثالث من هذه العملية هو تعزيز أسلوب العيش البسيط الذي يعني أن
القيود االستهالكية المنتشرة في المجتمع ال تقيد حركتك بعد اليو ،وال تجبرك
على العمل لساعات إضافية في عمل تكرهه لشرا سيارة رياضية سريعة أو
أحدث هاتف ذكي .االستقاللية عن هذه الرغبات االستهالكية السائدة تتيح لك
الكثير من الحرية والمرونة فيما يتعل بعملك ومستقبلك بما يتيح لك تغيير
وجهتك المهنية في أي وقت تقريباً ألنك خفيف وحر وغير مقيد بالممتلكات
المادية من حولك.
41
اجتماع هذه الجوانب الثالث :االحتياط المالي ،المهارات المهنية التي تتيح لك
تحقي مدخول بنفسك ،وأسلوب الحياة البسيطة ،يمكن أن يساعدك على
التخلص من الوظيفة التي تكرهها على المدى البعيد ،أو يساهم على األقل
بفتح مجاالت جديدة أمامك لم تعتقد بوجودها قبالً .سنتحدث عن كل هذه األمور
بالتفصيل في الفصول المقبلة.
_________________
هامش:
[ ]1إن كان المدخول 1000دوالر مثالً ،واالدخار هو 300دوالر ،هذا يعني أن الشخص المذكور
سيستطيع خالل عشر سنوات ادخار مبلغ 36ألف دوالر ،أو ما يعادل 51شهراً من المصاريف
(التي هي 700دوالر بالشهر).
42
تخلّص من مخدراتك:
لماذا كلنا مدمنون وكيف نواجه ذلك
معظم حاالت اإلدمان تبدأ كمحاولة للتكيف مع مشكلة؛ تبدأ باحتسا كوب واحد
من الكحول مثال ً لتغيير مزاجنا بعد شجار مع الشريك ،ثم نحتاج لكوب آخر للتعامل
مع يو صعب في العمل ،وآخر للتعامل مع حادث في العائلة ،حتى يأتي يو ال
نستطيع فيه العيش من دون زجاجة كحول في يدنا .قد يعتقد بعض القرا الذين
بدأوا بهذا المقال أنهم غير مدمنين على شي وأن هذا المقال ال يعنيهم أبداً،
لكن عليهم أن يعيدوا النظر بذلك :في مجتمعنا االستهالكي ،كل شخص يعاني
من نوع واحد على األقل من اإلدمان .فلنتحدث عن ذلك قليالً.
يعرف علم النفس اإلدمان على أنه هوس الإرادي على القيا بشي محدد
للحصول على اشباع معين ،حتى ولو أدت هذه العادة إلى عرقلة الحياة الطبيعية
للمدمن .فلنطب هذا التعريف على مبادى الحياة البسيطة وسيتضح لنا أنه
هنالك حاالت كثيرة من اإلدمان في عاداتنا الالإرادية والالواعية التي ورثناها
بطريقة أو بأخرى عن الثقافة السائدة.
…
43
حين نعاين هذا التعريف تتضح الصورة أكثر :بعضنا مدمن على فايسبوك ويوقفون
جميع نشاطاتهم خالل اليو عدة مرات لتفقده والحصول على اشباع للذات من
خالل بضعة اليكات وتعليقات .بعضنا مدمن على نشرات االخبار والمسلسالت
الدرامية ،وبعضنا مدمن على التسوق ،وبعضنا مدمن على شرا الكتب (التي
يكدسها في المنزل من دون قرا تها) ،وبعضنا مدمن على االلعاب االلكترونية،
على القهوة ،على األطعمة الدهنية الغنية بالسكر والملح ،وبعض الناس مدمنون
على شرا أحدث تلفزيون كل بضعة أشهر حتى يكاد حائطهم بكامله يكون مجرد
تلفاز هائل ،وبعضنا مدمنون على أمور أسوأ كالكحول أو الدخان أو المخدرات.
العالم العصري بحد ذاته مبني على االدمان ككل؛ فهو عالم مدمن على التقد
والنمو ،مهووس بتحقي األرباح وزيادة المكانة االجتماعية والهيمنة على اآلخرين
وعلى الظواهر الطبيعية واختراع تكنولوجيا أكثر وأكبر وأسرع عاماً بعد عا .
طبيعة هذه الممارسات الالإرادية التي تسود على أسلوب حياة معظمنا تجعل
منها عائقاً أما االنفكاك عن المنظومة السائدة .نحن ال نستطيع االنفكاك عن
السيستيم إن كنا ال نستطيع االنفكاك عن المواد التي يقدمها لنا لتأسرنا .علينا
أن نكتشف العادات والرغبات التي زرعها فينا ،وأن نتغلب عليها ونخل عاداتنا
ورغباتنا الخاصة المستقلة عنه .بتعابير أبسط ،االستقاللية عن السيستيم ال
تعني شيئاً إن كنا ال نستطيع العيش من دون فايسبوك لشهر مثالً ،أو إن كنا ال
نستطيع العيش من دون مشروبات غازية أو نوع محدد من الشوكوالتة.
44
أما الكلفة المالية المباشرة لإلدمان فهي أوضح :االشتراك في القنوات الفضائية
مثال ً إلروا ادماننا على التلفاز يكلفنا على األقل أربعة آالف دوالر خالل عقدين
ونصف من الزمن ،وشرا تلفاز جديد لهذه المهمة كل ثالث أعوا يكلفنا على
األقل خمسة آالف دوالر أخرى للفترة نفسها ،وتدخين علبة واحدة من الدخان
يومياً يكلفنا نحو عشرة آالف دوالر خالل عقدين ونصف ثمناً للسجائر.
45
اكتشف ادمانك .هنالك الكثير من العادات التي ال نفكر فيها في حياتنا
وال نعلم أنها إدمان إال حين نضطر أن نعيش من دونها ،كحين تنقطع
الكهربا أو حين تنفذ المشروبات الغازية من المنزل .اكتشف عاداتك
اإلدمانية ودونها على ورقة صغيرة ،مهما احتاجت عملية االستكشاف هذه
من وقت.
اكتشف كلفة ادمانك .االدمان لم يكن ليكون ادماناً لوال أنه أوحى لعقلك
الالواعي بأنه هنالك أمر جيد تحصل عليه في المقابل .قد تعتقد أنك
اجتماعي أكثر حين تشرب الكحول ،أو متيقظ ونشيط أكثر حين تشرب
القهوة ،وقد تعتقد أن هاتفك الذكي الحديث يعطي لمحيطك االجتماعي
االنطباع بأنك ناجح وعصري .كل حالة إدمانية توهمنا بأنها تعطينا شيئاً ما
فيما تخفي عنا الجوانب السلبية لها .ادمانك على الهاتف مثال ً يستولي
على انتباهك حين تكون مع اصدقائك ما يعي أو يخفف تواصلك معهم،
ادمانك على القهوة قد يجعلك عصبياً في الصباح بشكل أنك لم تعد تعرف
كيف تهدأ أو تتيقظ من دونها ،وادمانك على الكحول قد يسبب لك
المشاكل الصحية .اكتشف أيضاً الكلفة المالية التي تدفعها ثمن ادمانك:
هل تصرف 50دوالراً شهرياً بسبب ادمانك التطبيقات الجديدة على الهاتف
الذكي؟ أو بسبب كميات القهوة أو الكحول الهائلة التي تشتريها كل
أسبوع؟
أسس عادة جديدة وإيجابية تستبدل العادة االستهالكية السلبية: ّ
االدمان هو عادة خرجت عن السيطرة ،ويمكننا تبديل هذه العادة بعادة
أخرى أكثر صحية وأكثر تناسباً مع أهدافنا الشخصية .مثالً ،بدل تناول
مشروب غازي مع الطعا ،استبدله في فترة أولى بمشروب غازي أخف
وتناول كميات أقل منه ،ثم استبدله بعد فترة بعصير خفيف ،ثم استبدل
العصير بكوب من الما .هكذا تبقى عادة تناول سائل ما مع الطعا لكن
السائل يتغير ،ما يجعل تغيير العادة أسهل .األمر نفسه بالنسبة للهاتف
حيث يمكننا في الواقع البد بحذف بعض التطبيقات الثانوية التي ال تفيدنا
وال نستخدمها كثيراً ،لنصل فيما بعد إلى حذف التطبيقات التي تسبب
ادماننا على الهاتف .البعض يفضل اتباع طريقة الصد ،بحيث يوقف االدمان
في يو واحد بشكل كامل ويحاول أن يصارعه من هناك .في كل األحوال،
سيكون عليك أن تبني عادة جديدة لتحل مكان العادة التي توقفت عنها،
وإال فسيستبدلها عقلك الالواعي بإدمان سلبي آخر .عليك أن تخطط مثال ً
ماذا ستفعل في المسا إن كنت ال تريد أن تقضيه أما التلفاز :قد تقرر
مثال ً أن تتعلم آلة موسيقية لساعة وأن تشاهد التلفاز لساعة فقط بدل
اثنتين ،وهذه بداية استبدال عادة التلفاز السيئة.
46
مهما كان نوع إدمانك ومهما كانت مقاربتك الخاصة للتخلص منه ،مواجهة هذا
األمر تعني أنك بدأت بالسيطرة على حياتك وانك بدأت باختيار االتجاه الذي تريده
لحياتك ،بدل أن تتبع االتجاه االستهالكي الالواعي الذي فرضه المجتمع علينا
فرضاً ،فحظاً سعيداً!
47
امرح كأنك في العصر الحجري
48
الترفيه واللهو هو جز طبيعي من الحياة .في مجتمعات ما قبل التاريخ كان
اإلنسان يعمل نحو 6-4ساعات فقط في اليو ،ما ترك له نحو 20ساعة يومياً
للنو والراحة واللهو والترفيه .الفكرة األولى التي ستتبادر إلى ذهن القارى
العصري حين يقرأ الفكرة السابقة هي التساؤل “كيف كان أسالفنا يقضون 20
ساعة في الراحة والترفيه واللهو من دون أن يكون لديهم كهربا وتلفزيون وانترنت
ومطاعم وجبات سريعة؟ ألم يعانوا من الضجر إلى حد الموت؟ ففي عالمنا
الرقمي والتكنولوجي ،ال نستطيع تخيل ترفيه من دون كل الخردة االلكترونية
التي نملكها اليو .
اإلنسان العصري يعتقد إلى حد بعيد أن الترفيه واالستهالك هما األمر نفسه –
سوا كنا نتحدث عن استهالك المواد المرئية والمسموعة كاألفال والبرامج
والمسلسالت واالنترنت ،أو االستهالك المعيشي كحضور الحفالت والذهاب إلى
المطاعم وشرا المالبس الجديدة وأحدث الصيحات االلكترونية .أنا متأكد أنه
هنالك عدد كبير من األطفال والشباب اليو ال يعلمون أبداً كيف يمرحون من دون
كهربا تغذي هاتفهم ،حاسوبهم أو تلفازهم.
حين ننظر إلى أساليب الترفيه السائدة حالياً نالحظ أمران:
الترفيه السائد هو بمعظمه ترفيه سلبي ،أي أن المشارك فيه هو متلقي
وليس مشارك إيجابي فاعل .الجلوس أما التلفاز ،تصفح االنترنت
ومشاهدة مباريات كرة القد هي بمعظمها أمور ال تستوجب من المشارك
فيها سوى الجلوس على مؤخرته من دون تحريك أي عضلة في عقله أو
جسده .هذا ينطب بشكل خاص على الترفيه الرقمي.
الترفيه السائد هو ترفيه استهالكي وغير مجاني في معظم األحيان .هذا
ينطب بشكل خاص على الترفيه غير الرقمي كالذهاب إلى المطاعم
والحفالت والقيا بالتسوق والمشاركة في النشاطات الترفيهية.
هذا ال يعني أن كل ترفيه رقمي هو سلبي ،وال يعني أن كل ترفيه غير مجاني
هو استهالكي؛ المشكلة هي أننا لم نعد نعرف المرح والمتعة خارج منظومة
االستهالك .إصالح هذا األمر ال يتم عبر عيش حياة خالية من الترفيه والمرح ،بل
العكس تماماً :الخروج من الترفيه االستهالكي يعني جعل النشاطات الترفيهية
واللهو أكثر إرضا ً ومرحاً وإفادة لنا .علينا أن نتعلم المرح كأننا في العصر الحجري!
49
أربع نصائح لالنتقال من الترفيه االستهالكي إلى المتعة الحقيقية
فيما يلي بعض النصائح في هذا المجال:
األبحاث تشير إلى أننا نحتاج لمئتي ساعة فقط لتعلم شي جديد ،وأللف ساعة
لنصبح جيدين فيه ،ولن 10آالف ساعة لنصبح معلمين وأسياد فيه .هذا يعني أنه
إن قتلنا مصاصي دما االنتباه من هاتف وحاسوب وتلفاز ،يمكننا تعلم مهارة
جديدة أو أكثر كل عا تقريباً.
ما يمكن فعله في هذا المجال هو أن نحد من الوقت الذي نقضيه على الشاشة
وأن نزيد الوقت الذي نقضيه خارجها ،كأن نضيف تمريناً رياضياً بعد العمل أو درساً
موسيقياً أو أن نقرأ كتاباً ورقياً بدل االلكتروني ،أو أن نلغي االنترنت عن الهاتف
وأن نحدد أيا مشاهدة التلفاز بيو أو اثنين في األسبوع فقط .الفكرة هنا هي أن
علينا أن نضيف على حياتنا شي مرح يساعدنا على تنشيط أذهاننا وأجسادنا
بدل االكتفا باستهالك الترفيه بشكل سلبي .ال داعي لنذكر الفوائد الصحية
والنفسية لذلك على المدى البعيد.
50
قاعدة ستان :هل هي صحيحة؟
هنالك دائماً بدائل متوافرة يمكنها أن تعطينا نفس السعادة والمتعة والمرح
من دون الوقوع في فخ نمط الحياة االستهالكي الذي يروجه لنا
السيستيم.
51
.4اختيار الهوايات التي تناسب شخصيتكم وميزانيتكم
اختيار هواية هو أمر مهم لصحتنا الذهنية والنفسية والبدنية في زمن يريد
منا أن نكون آالت صامتة .في اآلونة األخيرة أصادف أعداداً متزايدة من
الناس التي ال تمتلك أي هواية على اإلطالق؛ بل تكتفي فقط بالعمل
واالستهالك وتصفح االنترنت .الهوايات الحقيقية ليست بالضرورة هوايات
استهالكية.
ال تصدقوا الخدع التسويقية :أنتم ال تحتاجون لخمس عدسات للكاميرا
وثالث غيتارات للموسيقى وسوار الكتروني متطور لممارسة الرياضة .ما
تحتاجوه أكثر هو الوقت واإلرادة .علينا أيضاً أن نكون منطقيين في اختيار
هواياتنا؛ إن كنا نتقاضى الحد األدنى لألجور مثالً ،هل من المنطقي أن
تكون هوايتنا هي التزلج بما تستوجبه من دفع ثمن المعدات وثياب التزلج
وتكاليف تعلم التزلج والذهاب الدوري إلى المنتجعات الجبلية؟
هل من المنطقي أن نشتري أغلى كامرا وثالث عدسات إن كنا ال نزال في
بدايات التصوير؟
من قال أن الترفيه ال يمكن أن يكون سوى عبر االستهالك؟ إن كان الناس في
العصري الحجري يستطيعون قضا عشرين ساعة حرة في اليو من دون أن يكون
لديهم هاتف ذكي ليقتلوا الوقت عبره ،فلما ال نستطيع نحن القيا بذلك؟ تعلموا
من نسا ورجال الكهف ،وامرحوا كأنكم في العصر الحجري!
52
ترحال كسندباد:
نصائح للسفر و نمط العيش البسيط
السفر هو طبعاً إحدى الطرق المهمة للقيا بمغامرات ال تنسى ولتوسيع آفاقنا
الثقافية واالجتماعية وتعمي تجربتنا في الحياة وتجاوز مناط راحتنا نحو أبعاد
جديدة لم نختبرها قبالً .رغم ذلك ،السفر هو أوال ً ذهنية ،وليس رحلة جغرافية
فحسب :السفر هو روح المغامرة وحب التعرف على كل شي من زاوية جديدة
ومختلفة وتجربة أمور لم نجربها من قبل ،وهذا برأيي يمكن القيا به في الحي
الذي نسكن فيه كما يمكن القيا به في بلد يبعد آالف الكيلومترات عن
مسقط رأسنا.
قبل أن نتحدث عن السفر ،فلنتحدث قليال ً عن ظاهرة أخرى متعلقة بالسفر في
وقتنا الحالي :ظاهرة تقديم السفر في قالب استهالكي ككل شي آخر في
مجتمعنا.
53
لماذا روح المغامرة أهم من السفر
هنالك ثقافة سائدة خصوصاً في أوساط الطبقات الوسطى والثرية ،تتعامل مع
السفر الدوري على أنه أحد أوجه المنافسة مع اآلخرين وأحد أركان أسلوب
حياتها ،وال تتوانى عن استعراضه بصور على فايسبوك وتحف وأغراض في
المنزل ،بالطريقة نفسها التي تستعرض فيها مقتنياتها األخرى .هنالك أيضاً ضغط
اجتماعي في أوساط الشباب لكي يسافروا بشكل دائم ،ولقد تعاملت كثيراً مع
أوساط اجتماعية يخجل أفرادها من غياب تجارب سفر سابقة لديهم أو يتفاخرون
بكثرة تجارب سفرهم.
في عملي الساب في دبي ،كان الجميع يخجل من أن يقول أنه سيقضي وقته
في المدينة في عطلته السنوية ،حيث يسافر الجميع ثالث وأربع مرات في العا
على األقل إلى أماكن مختلفة في العالم – ليعودوا من بعد عطلتهم ويتبجحوا
أما زمالئهم عن مغامراتهم.
السفر االستهالكي له وجهان؛ فهو من ناحية أولى يعتبر من دالئل النجاح
االقتصادي والمهني ،كونه مكلفاً وليس بمتناول الجميع ومن يسافر يبرهن
بالتالي عن قدرته على تحمل كلفة السفر .ومن ناحية ثانية يعتبر هذا النوع من
السفر دليل على التجربة الحياتية المتقدمة والثقافة الواسعة والخبرة العملية
للشخص المذكور في شؤون مختلفة .اعتقد أن هاتين الفكرتين عن السفر (فكرة
أن السفر دليل نجاح مالي ودليل على سعة الثقافة الشخصية) غير صحيحتين،
وال بد من نقاشهما قليال لشرح السبب.
من ناحية أولى ،السفر ليس مكلفاً بالدرجة التي يعتقدها البعض؛ لقد سافرت
سابقاً وال أزال بمبالغ أدنى مما يصرفه أصدقائي على هواتفهم الجديدة خالل
العا ،واعرف آخرين سافروا بميزانيات أقل من ذلك بكثير ألنهم كانوا يمتلكون
وقتاً أكبر للتخطيط وقضا الوقت في وجهتهم .يمكن السفر من بيروت إلى النيبال
وقضا عشرة أيا هناك مثال ً بمبلغ ال يتعدى 1000دوالر (من ضمنه تذكرة
السفر) ،وأنا واث تما الثقة أن السفر بميزانيات أقل يغني التجربة أكثر ال
العكس.
من ناحية ثانية ،ليس صحيحاً أن السفر يصلح ليكون معياراً للحكم على
المستوى الثقافي والتجربة الحياتية للناس ونحن ال نحتاج لنناقش ذلك طويال ً
ألننا جميعاً نعلم أشخاص جالوا العالم كله وبقيوا في تحجرهم الثقافي نفسه
ولم تتطور شخصيتهم قيد أنملة ،فيما هنالك أشخاص لم يغادروا قراهم في
حياتهم لكنهم يمتلكون ثقافة وخبرة حياتية وطيبة بشرية أكثر من أي مسافر
عالمي.
54
المهم هو الذهنية التي يحملها اإلنسان ،ال الكيلومترات التي يقطعها في
الطائرة؛ المهم هي ذهنية المغامرة واالنفتاح التي تستطيع أن تطورنا ذاتياً
وتساعدنا على اكتشاف آفاق جديدة وتعلم حكمة الحياة .هنالك بالتأكيد العديد
من األماكن التي ال نعرفها في بلدنا ،والعديد من الشخصيات واألسرار والحكايا
التي تنتظرنا لنكتشفها عند زاوية ما في مكان غير بعيد عنا ،كل ما نحتاجه هو
فقط روح المغامرة فينا.
إلى ذلك ،إن كنت مغامراً بح وموجود في بلد يمكن السفر منه بسهولة
نسبية ،أنا متأكد أنك ستكتشف طريقة لتنظيم ميزانيتك ووقتك والقيا بسفر ما
إن كنت تحب القيا بذلك .بعكس االعتقاد الشائع ،السفر ال يحتاج للكثير من
المال .بعض الخطوات البسيطة قد تعني الفارق بين قدرتك على القيا بسفر ما
من عدمه ،مثل:
55
المعرفة المسبقة بوجهة سفركم :اقرأوا عن وجهة سفركم قبل
السفر إليها واكتسبوا فكرة عن معالمها ومصاريفها ومخاطرها ومتعها .هذا
األمر سيعرفكم على أفضل الطرق لالستمتاع بسفركم ويجنبكم الكثير من
الرحالت والتكاليف غير الضرورية.
احجز على خطوط الطيران الرخيصة لكن اآلمنة :الفارق في أسعار
التذاكر إلى نفس الوجهة بين الطيران الرخيص والطيران الغالي يبلغ أحياناً
الضعف .قارن بين خطوط الطيران المختلفة واحجز وفقاً للسعر األفضل.
تجنّب الفنادق الفاخرة :إن لم تكن من أولئك األطفال المدللين الذين
يعيشون محاطون بالخد وال يستطيعون النو سوى على أسرة من حرير،
ابتعد عن الفنادق الفاخرة .لماذا تريد أن تسافر لتقضي وقتاً في فندق في
كل األحوال؟ عند السفر ،الفندق هو المكان الذي تنا فيه ،ال المكان الذي
تريد أن تقضي فيه وقتك .شخصياً ،أفخر فندق نزلت فيه كان ثالث نجو
(كان الوحيد المتوافر في المنطقة) ،وأقضي معظم أسفاري في الواقع في
موتيالت من نجمة واحدة أو اثنتين ،وأحياناً في نزل Guest Houseال نجو
له على اإلطالق .لقد نزلت عدة مرات في منازل خاصة استأجرتها بأسعار
أقل بكثير من سعر غرفة في فندق .إلى ذلك يمكن استخدا موقع
couchsurfing.comللنزول لليلة واحدة مجاناً عند أشخاص يتشاركون
ذهنية المغامرة واالنفتاح مع بعضهم البعض .في معظم الوقت لم تتخطى
ميزانية السكن خالل سفري الن 150دوالر في األسبوع.
التنقل :بعض المسافرين ال يتنقلون سوى بوسائل نقل خاصة مع سائ
لكن هذه الطريقة مكلفة وتحد كثيراً من احتكاكك المباشر مع البلد الذي
تزوره .الوسائل التي اعتمدها في سفري تتمثل باستعمال النقل العا
الذي يستخدمه سكان البلد أنفسهم مثل القطارات والمترو والباص
وسيارات األجرة العادية.
56
في أحيان نادرة ،قد أقو بالتشارك مع أصدقائي باستئجار سيارة وقيادتها
بأنفسنا كونها أحياناً أقل كلفة وأكثر سرعة عند التنقل لمسافات طويلة
داخل البلد .ما عدا ذلك ،هنالك جانب مهم من البلد ينتظركم لتكتشفوه
في باصاته وقطاراته.
الطعام :كالتنقل ،أفضل وسيلة للحصول على تجربة غنية للبلد الذي
تزوروه ولتوفير المال في الوقت نفسه هي عبر تناول الطعا في نفس
األماكن التي يتناول فيها السكان المحليون وجباتهم .نعم هذا يعني أن
ذلك يشمل تناول الطعا أحياناً من محل صغير على جانب الطري .إلى
ذلك ،هنالك كلمة سر إضافية لتوفير تكاليف الغذا عند السفر ،وهي:
الوجبات الخفيفة.
ضعوا في حقيبتكم الكثير من الوجبات الخفيفة ألن ذلك يجنبكم إيقاف
نشاطاتكم بسبب الجوع والبحث عن أقرب مطعم لتناول الطعا فيه .إن
كنتم قرب معلم سياحي مهم ،المطاعم الموجودة ستكون بالتأكيد مكلفة،
ما يعني أن جوعكم سيكلفكم حينها مرتين .ال تنسوا تجريب الطعا
الغريب الذي لم تروه سابقاً في حياتكم؛ إن لم يعجبكم المذاق ،سيكون
لديكم على األقل قصة لتخبروها!
57
الفارق هو أن الخدمة الثانية يتم ترويجها على أنها خدمة حصرية وآمنة
وساحرة وذات مستوى عالمي ،فيما تكون الثانية أكثر محلية وطبيعية –
هذا ما يجعل البعض يعتقد أن الخدمة االولى تقد نوعية جيدة فيما تبدو
الثانية مغامرة غير مضمونة النتائج ،رغم أن الجولتان هما في الواقع األمر
نفسه.
فهم الموسم السياحي :لكل بلد فترة في العا يكون فيها طقسه
مثالياً للسفر والنشاطات ،سوا كنا نتحدث عن سواحل البحر األسود في
فصل الصيف أ الهند في فصل الخريف ،لكن المشكلة هي أن االسعار في
الموسم السياحي تكون عادة أعلى بكثير من بقية أيا العا .تجنب
المواسم السياحية هو من أفضل الطرق لتوفير المال خالل السفر؛ لكن
هذا ال يعني أنه يجب السفر خالل موسم االمطار الى فييتنا والسفر إلى
دبي خالل فصل الصيف ،فمن غير المنطقي صرف المال على السفر إن
كنتم ستذهبون لتقضوا كل وقتكم داخل غرفة مغلقة.
الحل هو في الوصول في بداية الموسم السياحي أو نهايته ،حين يكون
الطقس ال يزال مناسباً للسفر ،لكنه غير مناسب كفاية للجميع .على
سبيل المثال ،يبدأ موسم المطر والشتا في النيبال في آخر أسبوعين من
نوفمبر ،لكن الطقس خاللها ال يزال صالحاً للقيا بكافة النشاطات
السياحية رغم بعض البرد الخفيف واألمطار القليلة .أسعار كل شي خالل
هذه الفترة مثال ً تكون أدنى بقليل من فترة ذروة الموسم السياحي في
هذا البلد.
التسوق :يمكنني أن أقول بثقة ان السياح الذين يبحثون عن أهم مراكز
التسوق الكبرى في البلد الذي يزورونه ال يقرأون سلسلة المقاالت هذه،
وانا ال افهم اساساً لماذا يريد أي شخص أن يسافر الى بلد آخر ليشتري
كميات كبيرة من نفس االغراض التي يمكن أن يشتريها في بلده .إن
وضعنا ذلك جانباً ،هنالك حاالت قليلة تبرر تسوق بعض األمور خالل السفر؛
منها مثال ً أن يكون هنالك في البلد المذكور شي تبحث عنه وال يمكن أن
تجده أبداً في بلدك (كاألدوات الطقوسية للتأمل الروحي التي وجدتها
النيبال) ،أو أن تكون األمور التي تريدها متوافرة في البلد المذكور بأسعار
منخفضة جداً مقارنة مع بلدك (كالشاالت الباكستانية).
في ما عدا ذلك ،أي تسوق يتجاوز تذكارات صغيرة لك أو للمنزل ،هو أمر
غير ضروري على االطالق.
58
دد الوجهات :هنالك أمر أساسي يرفع كثيراً من كلفة السفر تجنب تع ّ
وهو السفر إلى وجهات متعددة وبعيدة عن بعضها بعضاً ،إن داخل البلد
الواحد أوبين عدة بلدان متجاورة .اعتقد أن هذا يعود في جز منه إلى
ضي الوقت المخصص للسفر حيث نحاول أن نرى أكبر قدر ممكن من
وجهتنا في أقصر وقت ممكن .وهو قد يعود في جز منه إلى رغبة البعض
بتجميع أكبر عدد ممكن من الوجهات في جعبته الستعراضها على
فايسبوك وأما االصدقا .
تعدد الوجهات يعني أنك مضطر على التنقل أكثر وبسرعة أكبر داخل البلد
سوا بالطائرة أو باألجرة ،وانك ستقو بالكثير من النشاطات في يو واحد
لكي تستطيع اللحاق بالنشاطات األخرى ،ويعني انك ستصرف المزيد من
االموال عند كل محطة للحصول على الخدمة االسرع واالفضل .حشد
الوجهات بالطريقة هذه ال يزيد مصروف السفر فحسب ،بل يحرمك من
االستمتاع بالوجهة التي تذهب إليها ومن التفاعل مع البلد الذي تزوره
ألنك ستكون مستعجال ً طوال الوقت وقد ال تلتقي بأي شخص محلي
أساساً إن كنت تتنقل بين غرف الفنادق وسيارات األجرة الخاصة والطائرات
الداخلية.
اعرف بعض االشخاص الذين يخصصون يوماً واحد فقط لكل مدينة قبل
االنتقال الى مدينة أخرى ،وهذا بالفعل جنون .طريقتي الخاصة بالسفر
هي أن أزور عاصمة البلد أوالً ،ثم منطقة ريفية نائية تساعدني على رؤية
وجه آخر له ،وقد يقتصر كل سفري على هاتين الوجهتين ،وال اتنقل بين
وجهاتي سوى بالباص أو القطار – بشكل يمكنني من التفاعل مع الناس
وجهاً لوجه ومن رؤية البلد عن قرب .قضا أسبوع في مدينة واحدة هو في
معظم االحيان افضل بكثير من قضا أسبوع في سبعة مدن مختلفة – إال
إن كنت من محبي تجميع الصور.
59
هذا ال يعني أنه إن كان لديك ألفي دوالر مثالً ،عليك أن تصرفهم على السفر،
فأنت من تحدد أولوياتك بنفسك ،ال تسمح للثقافة السائدة أن تشعرك أنك يجب
أن تسافر لتكون كاآلخرين .هنالك أمور في الحياة أهم بكثير من السفر .إلى ذلك،
إن كنت من محبي الترحال ،السفر ال يستوجب ماال ً بالقدر الذي تعتقده وهو
بالتالي ليس عائقاً.
منذ بضعة أشهر سألتي شقيقتي إن كان من االفضل أن تشتري حاسوباً جديداً
بالمبلغ الذي ادخرته أو أن تسافر به؛ رغم أن الحاسوب هو عملية شرا أكثر
منطقية من الناحية المالية (ألنها تحتاجه في عملها) إال أنني نصحتها بالسفر،
وخصوصاً أنها لم تعش هذه التجربة بعد وهي ليست بحاجة للمال في الوقت
الحالي ،كما أن الحاسوب سيبقى معها لخمس سنوات على األكثر فيما
الذكريات التي ستكتسبها في الرحلة ستبقى معها مدى الحياة.
نمط العيش البسيط ،كما سنرى في القسم الثاني من هذه السلسلة ،يعني
أنن ا سنستطيع توفير المال لعيش بعض األمور التي نحلم بالقيا بها ،وال يعني
أبداً اغالق الباب على مغامرات الحياة والعيش على سندويش لبنة وزيتون مدى
الحياة .العيش البسيط بحد ذاته يعني إغالق الباب أما الثقافة التافهة السائدة
لفتحه أما الحياة الحقيقية والمغامرات الدائمة…
60
نمط العيش البسيط
وحياتنا العاطفية واالجتماعية
هل تعني البساطة أن حياتنا االجتماعية ستبدو على هذا الشكل؟ (الصورة من مجموعة بدوية معاصرة في
الواليات المتحدة متلقطة عا (2013
اتباع نمط حياة بسيطة يطرح من دون شك أسئلة كثيرة حول حياتنا االجتماعية،
وخصوصاً أن الحياة االجتماعية لبقية الناس في ظل الثقافة السائدة تدور حول
مسلمات ال يشكك بها أحد كالزواج ،إنجاب األطفال ،التركيز على المهنة ،الزيارات
الدورية للمطاعم والمقاهي ،وامتالك األشيا المادية التي ال تحصى كالمنزل
الخاص والهاتف الذكي والسيارة والمالبس الفاخرة…ألخ .بسبب هذه األمور ،كل
من يحاول اتباع نمط عيش بسيط يواجه تحديات اجتماعية عدة ،أولها مع العائلة
واألصدقا الذين قد ال يتفهمون خياراً صغيراً بحجم عد امتالك هاتف ذكي.
أصدقاؤنا وأهلنا قد يعتبرون أننا فقدنا صوابنا ،وبعضهم قد يعتقد أننا لم نعد نحبهم
ألننا نتجنب العادات االستهالكية التي تجمعنا معهم.
من يتابع النقاشات على االنترنت حول الحياة البسيطة يالحظ أن أكثر األسئلة
شيوعاً وإثارة للجدل هي تلك المتعلقة بالعالقة مع األهل واألصدقا والشريك.
من هذه األسئلة :هل يمكن التوفي مثال ً بين شريكة تحيا حياة بسيطة وزوج ال
يفكر سوى بالمهنة والمال والسيارات والمظاهر االجتماعية؟ هل تعني الحياة
البسيطة أنك ستخسر األصدقا الذين ال يشاركوك نمط الحياة نفسه؟
61
هذه األسئلة وغيرها سيواجهها كل من يحاول تطبي مبادئ الحياة البسيطة،
وقد يعتقد البعض أنه يوجد إجابات جاهزة يمكن أن تقد حلوال ً مناسبة للجميع.
الحقيقة هي أنه ال يوجد إجابات مناسبة للجميع فيما يتعل بالعالقات اإلنسانية،
ألن عالقاتنا هي أمور حية ،متعددة ومتنوعة ومتغيرة باستمرار .رغم ذلك ،ال بد
لنا أن نشارك أفكارنا حول هذا الموضوع كوننا نتحدث عن كل ما يتعل بالحياة
البسيطة.
البساطة في الحياة تعني أنه يمكننا أن نركز على الناس الموجودة في حياتنا
والموجودة أمامنا هنا واآلن بدل أن نركز على مئات األصدقا االفتراضيين على
فايسبوك وأن نوزع انتباهنا بين شاشتين وعشرات التطبيقات.
الوقت والطاقة اإلضافية التي توفرها لها الحياة البسيطة تعطينا فرصة لزيادة
مشاركتنا االجتماعية اإليجابية في المكان الذي نتواجد فيه عبر النوادي
والجمعيات الرياضية والثقافية والسياسية .عضويتنا في نا ٍد رياضي واحد في
الحي الذي نسكن فيه أمر يضيف على حياتنا أكثر بكثير من عضويتنا بآالف
صفحات الفايسبوك ومجموعات الواتساب وما شابه من تلك التي تعقد حياتنا
كثيراً من دون أن تضيف عليها شيئاً.
اتباع أسلوب حياة بسيطة ال يعني استحالة الصداقة مع أشخاص يتبعون أسلوب
عيش مختلف ،لكنه يجعلها بالتأكيد أكثر صعوبة .المشكلة التي قد يعانيها من
يتبع نمط عيش بسيط تنبع في معظم األحيان من ثقافة عد تقبل اآلخر؛ صاحب
نمط العيش البسيط قد ال يتقبل األسلوب االستهالكي الذي يعيش به شخص
آخر ،وهذا اآلخر قد ال يتقبل ما يراه رفضاً للمجتمع أو غرابة لدى من يتبع نمط
البساطة .إن كان هنالك تقبل متبادل من دون تحفظات ،فمن السهل بنا صداقات
حول أمور مشتركة أخرى.
62
المشكلة تنبع غالباً من محاولة اآلخرين فرض نمط عيشهم علينا ،أو محاولة
أصحاب الحياة البسيطة فرض رؤيتهم على أصدقائهم .من السهل على من يتبع
نمط عيش بسيط أن ينزل الى االعتقاد بأنه شخص أفضل في الحياة لمجرد أنه
استطاع خل هذه الحياة الجديدة لنفسه في وجه مجتمع من الروبوتات .لكن
هذا االعتقاد خطير وليس بالضرورة صحيحاً ،وخصوصاً إن كان مقترناً باالعتقاد بأن
كل شخص يتبع الثقافة السائدة هو شخص ال يفكر أو استهالكي .الناس تتبع
النمط السائد في الحياة ألنها تولد فيه وال تختاره عن قناعة ،والظروف التي
تسمح لإلنسان بإعادة النظر بحياته وتبسيطها وتغييرها ال تتوفر للجميع بشكل
متساو.
ٍ
حتى أن هذه السلسلة نفسها هي أكبر دليل على ما نقوله؛ فالبعض قد
تقودهم صدفة محض إلى قرا ة هذه السلسلة من المقاالت ،وقد يدفعهم ذلك
للبد بتغيير أمور صغيرة في حياتهم حتى يأتي يو تكون حياتهم بأكملها قد
تغيرت ،لكن ذلك لن يحصل لغالبية ساحقة تحاول أن تكافح لتأمين لقمة عيشها
أو تركض كل يو للحاق بقطار الحياة السريع جداً هذه األيا .
63
هل تؤثر البساطة على العالقات العاطفية؟
بعكس الصداقة العادية ،اعتقد أن اتباع أسلوب حياة مختلف جذرياً بين شخصين
يعني استحالة إيجاد عالقة عاطفية مستقرة بينهما .هذا ال يعني أن العالقات
العاطفية ال يمكن أن تقو إال على التماثل ،فاالختالف النسبي بين شريكين هو
أمر صحي .أما االختالف على أمور جوهرية كاتجاه الحياة وأسلوب الحياة نفسه
فهذا وصفة لمشاكل كبيرة فيما بعد.
بعض األمور يمكن إيجاد حلول وسط لها ،كعندما يكون هنالك شخص يحب الخروج
يومياً بعد العمل فيما يفضل شخص آخر الراحة في المنزل ،لكن هنالك بعض
األمور التي ال يمكن إيجاد حلول لها كاالختالف في القيم :حين يعتقد الرجل أن
مكان المرأة في المنزل فيما هي تحب أن يكون لديها مهنة وعمل مثالً ،أو عندما
يكون أحد الشريكين مولع بالمظاهر المادية كالسيارات والمالبس الفاخرة
والمجوهرات وما شابه فيما الشريك اآلخر يعتبر هذه األمور ترهات ،أو حينما يكون
أحد الشريكين مهووس بمهنته التي يقضي فيها كل وقته وطاقته فيما يود
الشريك أن يحيا أسلوب حياة مختلف يركز على السفر واألمور اإلبداعية والحياة
الخالية من منبهات الساعة والمكاتب الكئيبة.
الفارق الحياتي سيكون كبيراً أيضاً إن كانت خطتك في الحياة تتمثل في تحقي
االستقاللية المالية والخروج من الوظيفة بعد بضعة سنوات فيما يريد شريكك أن
تستمر في الوظيفة حتى عمر الستين لكي تتولى مناصب أعلى وتعطيه حياة
أكثر رفاهية وبذخاً في المستقبل .هذه كلها اختالفات كبيرة ال يمكن معالجتها
بسهولة.
النصيحة الوحيدة التي يمكن أن نقدمها في هذا المجال هي التواصل بوضوح مع
الشريك حول كل شي في حياتك لكي يكون على بينة ،ولكي تفتح الطري
إليجاد حلول لالختالفات بينكما .التوصل الى حلول في هذه المسائل يحتاج
لفترات قد تمتد إلى شهور أو سنوات (ألن األمر متعل بصلب أسلوب الحياة ال
بمجرد تفاصيل هنا وهناك) .في معظم األحيان هنالك حلول وسط ترضي
الطرفين؛ لكن في بعض األحيان يكون من الصعب جداً التوفي بين شخص يريد
حياة بسيطة جداً وشخص يريد أن يحيا أسلوب الحياة االستهالكي السائد بكل
ما فيه.
64
هل يتعارض الزواج مع الحياة البسيطة وهل تؤثر البساطة على الزواج؟
الحياة البسيطة ال تعني حياة من دون زواج ،وال تعني بالضرورة حياة مع زواج.
الزواج يمكن أن يكون معقداً ومكلفاً وصعباً ومتعارضاً مع نمط عيش بسيط ،ويمكن
أن يكون بسيطاً وعامال ً إيجابياً وجميال ً في الحياة .الزواج ليس تعويذة سحرية
للسعادة ،وال هو لعنة لتعاسة دائمة .األمر يرتبط بالشريكين وبالدرجة التي هما
متفاهمان فيها على األمور الكبرى في الحياة.
إلى ذلك ،الناس تتغير عدة مرات خالل حياتها ،ومن الطبيعي أن تتغير طموحاتها
وأحالمها وأسلوب تفكيرها بعد الزواج أيضاً ،وقد يجد الزوجان أنفسهما بعد فترة
شخصين مختلفين ،لكن هذا ال يعني بالضرورة نهاية الحب ونهاية الزواج – النهر
تتغير مياهه كل يو لكنه يبقى نهراً – العامل الحاسم هو القدرة على التناغم
في ظل التغيرات التي تحصل لكما ،والمهم أن تبقى قيمكما األساسية حول
الحياة وأسلوب العيش متناغمة.
التحدي الصعب فيما يتعل بالزواج والحياة البسيطة يحصل حين يعيش أحد
الشريكين تحوال ً نحو الحياة البسيطة بمفرده من دون شريكه ،فيتحول من الحياة
االستهالكية الى الحياة البسيطة (أو العكس) فيما يبقى الزوج(ة) اآلخر كما هو.
في هذه الحالة سيكون الزواج في حالة صعبة جداً الن هذا التحول يشير الى
تحول في القيم وفي أسلوب الحياة على السوا والشخص الذي يمر به سيخرج
منه شخصاً مختلفاً ،وسيكون على الشريك اآلخر أن يختار ما إذا كان يحب هذا
الشخص الجديد ويريد االستمرار معه في الزواج أ ال.
65
لذلك ،رأيي المتواضع في هذا المجال هي أنه من األفضل دائماً للشريكان أن
يتواصال بأكبر قدر ممكن من الوضوح ليكونا على نفس الموجة مع اآلخر في أكبر
قدر ممكن من األمور األساسية في الحياة ،ومنها نمط العيش البسيط ،قبل
الشروع في خطوة كبيرة كالزواج ،ألن ذلك يوفر الكثير من المتاعب الحقاً.
66
مع أخذ ذلك في عين االعتبار ،اعتقد أن إنجاب األطفال في زماننا الحالي يجب أن
يكون أمراً مخططاً له ،ال حادثة عشوائية؛ فهو قرار له تبعات شخصية هائلة من
جميع النواحي ،وهو تغيير ال عودة عنه وال يشبه أي قرار آخر في الحياة .إنجاب
طفل هو التزا لمدى الحياة باالهتما بإنسان آخر وبتأمين كافة احتياجاته ،وذلك
ليس أمراً سهال ً.
هذا ال يعني أنه يمكن اتخاذ قرار إنجاب األطفال بنا على هذه األمور ،فقرار
اإلنجاب هو بجزئه األكبر عملية عاطفية وبيولوجية ال نفكر فيها كثيراً ،بنفس
الطريقة التي ال نفكر فيها بتناول الطعا حين نجوع .لكن علينا أن نكون متنبهين
لتبعات هذا القرار قبل اإلقدا عليه.
إلى ذلك ،اعتقد أن قرار عد اإلنجاب هو أيضاً قرار منطقي بقدر ما هو قرار
اإلنجاب منطقي؛ ال يوجد أي خطأ أو مشكلة أخالقية في قرار عد اإلنجاب – وهو
الخيار الذي أميل له شخصياً – وهذا ال ينتقص من إنسانية أو من تجربة صاحب
القرار .هنالك أمور أهم في الحياة من إنجاب طفل بالنسبة للعديدين منا؛ وبعضنا
قد ال يمتلكون أساساً رفاهية اإلنجاب ألسباب شخصية عدة .الكوكب مكتظ بكل
األحوال والعالم كله يبدو اليو كأنه يحترق لدرجة أن جلب طفل إليه يبدو أحياناً
نزعة سادية بح مخلوق صغير لم يختر المجي الى هذا العالم .إلى ذلك،
معظمنا يعملون اليو لساعات طويلة وبالكاد يستطيعون تأمين معيشتهم ،وبعضنا
لديهم مسؤوليات تجاه أهلهم أو أفراد آخرين في العائلة ،ما يزيد من أعبا إنجاب
طفل ويضيف تعقيدات وصعوبات على حياة معقدة وصعبة أصال ً.
67
في نهاية المطاف إذاً ،يمكن إلنجاب األطفال أن يسبب الكثير من المشاكل
والتعقيدات في حياتنا كما يمكن أن يضيف عليها الكثير من األمور الجميلة أيضاً؛
ظروفنا الشخصية والعائلية والمادية هي التي تحدد نتيجة ذلك إلى حد بعيد .هذا
يعني ،أن اإلنجاب بالنسبة لمن يتبع الحياة البسيطة ال يمكن له أن يكون سوى
قراراً واعياً؛ إن لم يكن أمر بحجم خل حياة جديدة هو خطوة نقو بها بوعي،
ماذا تركنا لألمور األخرى؟
68
أعط نفسك هدية عدم القلق حول المال: ِ
بناء المناعة المالية عبر الحياة البسيطة
فوائد الحياة البسيطة ال تقتصر على الصحة البدنية والنفسية والعقلية ،بل هي
أيضاً من أفضل ما يمكن أن يحدث لنا على الصعيد المالي .نمط العيش البسيط ال
يعني أن نهمل الجانب العملي والمالي من حياتنا ،بل هو يستوجب العكس
تماماً :يستوجب منا إدارة مدخولنا واألموال التي بحوزتنا بشكل سليم لكي
نستطيع تحقي استقالليتنا المالية وتعزيز مناعتنا تجاه تقلبات االقتصاد .صحيح
أن تحرير كامل الطبقات الفقيرة والمهمشة يستوجب مقاومة سياسية
جماعية منظمة للرأسمالية السائدة ،لكن بانتظار بروز هكذا مقاومة واكتسابها
الفعالية الالزمة ،ليس هنالك من ضرر في تحسين حياتنا الفريدية بما يساعدنا
على االقتراب خطوة إضافية من الحرية.
69
معظمنا ال نمتلك ضمانات صحية في وظيفتنا ،وغالبيتنا الساحقة ال تعرف عن
التقاعد شيئاً سوى أنه حلم غير متاح لها .الشركات التي نعمل فيها يمكنها أن
ترمينا خارجها على وقع أبسط مشكلة أو عند أول أزمة صغيرة في االقتصاد
المحلي ،فيما البحث عن عمل يزداد صعوبة عاماً بعد عا في ظل تزايد أعداد
الناس التي تبحث بيأس عن وظيفة تقيها التشرد والفقر والبرد واليأس.
نحن نعيش في ظل سوق عمل غير مستقر على االطالق ،والوظيفة التي
نملكها اليو قد تتبخر غداً ،وفي بعض الحاالت ،البلد بأكمله قد يتبخر نحو الجحيم
كما حصل في ليبيا وسوريا والعراق .لكل هذه األسباب ،الرهان على الوظيفة
لتحقي استقرارنا المالي هو أخطر ما يمكن أن نفعله بح أنفسنا .لكن إن لم
تكن الوظيفة هي ما يحق االستقرار المالي لنا ،فما الذي يحققه إذاً؟
قد يتسا ل بعض القرا لماذا ركزت على االدخار ولم اتحدث عن زيادة الدخل بدال ً
عن ذلك .السبب بسيط؛ زيادة الدخل مسألة غير متاحة دائماً للجميع .قد ال يكون
بإمكاننا العمل لساعات أكثر لزيادة راتبنا ،وقد ال يكون مجال عملنا مناسباً للقيا
بمشاريع حرة على حسابنا ،وقد ال نتلقى الترقية التي تبحث عنها في الشركة،
وقد ال نمتلك رأس المال الكافي للبد بمشروع يدر علينا مدخوال ً إضافياً .وإن
حصل أن توافرت هذه الشروط ألحدهم ،ال اعتقد أنهم سيحتاجون لقرا ة مقاالت
تشجعهم على القيا بالخطوات التي تساعدهم على زيادة الدخل.
زيادة الدخل هي أمر ال يتردد أحد بالقيا به حين تتاح له الفرصة ،لكنها في
الوقت نفسه ليست بمتناول الجميع وليست مضمونة ،كما أنها ال تعني شيئاً إن
كنا نعيش حياة استهالكية وال نحسن إدارة مدخولنا.
70
يمكننا أن نرفع دخلنا إلى عشرة آالف دوالر في الشهر وقد نبقى من الذين
يصلون آلخر الشهر من دون أي مال في جيبنا (إن كنا معتادون كما بقية الناس،
على زيادة استهالكنا بالتناسب مع زيادة مدخولنا) .مبادى الحياة البسيطة تركز
على جانب االدخار أكثر من تركيزها على جانب الدخل ألنه جانب نستطيع
التحكم به وألنه يحق فارقاً كبيراً في حياتنا بغض النظر عن وظيفتنا أو مستوى
مدخولنا المادي.
يمكن فهم أهمية االدخار عبر عمليات حسابية بسيطة جداً ،لكن قبل أن نتحدث
عنها يجب أن نقول أنه هنالك العديد من أبنا الطبقات الفقيرة والمهمشة
يعتقدون أن الحسابات المالية وتنظيم األموال هو من عادات الطبقة العليا فقط وال
يجب على الفقرا القيا به ،لكن تلك هي فكرة خاطئة جداً سنعود لنتناولها
مستقبالً .هنالك العديد ممن يعتقدون أيضاً أن االدخار والحسابات المالية هي
للبخال ،أو أن االدخار يعني عيش حياة من الفقر ،لكنه في الواقع العكس تماماً.
فلنعاين الفارق بين هذه المفاهيم.
حقيقة االستهالك
71
وهنا يتضح الفارق األساسي بين البخل وبين الحياة البسيطة :من يتبع نمط حياة
بسيط يمتنع عن استهالك أمر معين ال ألنه يريد تكديس المال ،لكن ألن هذا
الشي قد ال يعطيه سعادة بكل بساطة ،أو ألنه يريد استخدا المال في شي
يعطيه سعادة أكبر .حين يقو صاحب الحياة البسيطة بتوفير المال ،فهو ال يقو
بذلك بهدف تكديسه أو خوفاً من نفاذه ،بل ألنه يخطط على المدى البعيد للقيا
بشي كبير ومهم يحتاج فيه لمبلغ معين من المال .إن امتنعنا مثال ً عن تناول
الطعا في المطاعم لفترة معينة ألننا نوفر لرحلة إلى البيرو ،فهذا ال يعني أننا
بخال على االطالق ،هذا يعني أننا نخطط ببراعة وأنه سيكون بإمكاننا االستمتاع
برحلة ستكون بالتأكيد أفضل من بضعة وجبات في مطعم .من يتبع الحياة
البسيطة ال يحرم نفسه من األمور التي يحبها ألنه يريد توفير المال ،بل
يريد توفير المال ألنه يريد القيام باألمور التي يحب ّها.
إلى ذلك ،االدخار ونمط العيش البسيط ال يعني العيش في الفقر .هذه الفكرة
الخاطئة ترتبط بمفهو خاطى سائد اليو عن الفقر؛ فهل الفقر هو عد امتالك
سيارة حديثة وهاتف ذكي وعد الخروج إلى المقهى كل يو ؟ بالنسبة لمعظم
الناس ،يرتبط تعريف الفقر بنمط الحياة االستهالكي للشخص ،فكلما كان أقل
استهالكاً اعتقدوا أنه أكثر فقراً والعكس.
في معظم األحيان ،قد يبدو أصحاب نمط العيش البسيط فقرا ألنهم ال يمتلكون
األشيا التي تمتلكها بقية الناس أو ال يقومون باألشيا التي يقو بها اآلخرون،
لكنني واث أن من يتبع حياة بسيطة يمتلك في معظم األحيان استقاللية
ومناعة مالية أكثر ممن يمتلكون عدة سيارات ومنازل.
وفي السياق نفسه ،الفكرة القائلة بأن الحسابات المالية هي فقط لألغنيا أو
البخال هي فكرة خاطئة جداً أيضاً .كل شركة وكل مؤسسة وكل مجموعة
منظمة في العالم تقو بمسك حساباتها المالية لكي تنظم مصاريفها ومدخولها
وتحسن وضعها المالي ،وكل فرد عامل هو في الواقع مؤسسة صغيرة ،لها
مدخولها ولها مصاريفها ومن الطبيعي جداً القيا ببعض الحسابات المالية
البسيطة إن كان هذا الفرد يسعى لهدف حياتي أو مالي معين .القيا
بالحسابات المالية ليس باألمر الغريب ،بل الغريب هو عد القيا بها حين يكون
لديك هدف مالي أو حين تكون في فترة حرجة مادياً أو إن كنت ال تملك أدنى
فكرة عن كيفية تبخر المال من بين يديك.
فلنتحدث اآلن عن هذه الحسابات التي تدعم فكرة االدخار كخطوة ضرورية نحو
االستقاللية المالية.
72
االدخار هو الخطوة األولى واألهم.
إدخار % 20من الراتب المذكور ،يعني أنني بعد عا واحد سأكون قد ادخرت
ف لشرا حاسوب جديد حتى، 1800دوالر – وهذا مبلغ قد يكون بسيطاً وغير كا ٍ
لكنه يعني أنه خالل عا واحد من العمل يمكنني أن أغطي كامل مصاريفي
لفترة ثالثة أشهر (بما أن المصروف الشهري هو 600دوالر) .أي أنني إن فقدت
عملي أو تعرضت ألزمة مالية ،يمكنني االعتنا بنفسي من دون عمل ومن دون
الحاجة لالستدانة لثالثة أشهر.
حسناً قد يبدو المبلغ بسيطاً اآلن ،لكن حين ننظر إلى تأثير ادخار بسيط كهذا
على مر السنوات قد نتفاجأ كيف يمكن ألمر بسيط تحقي تأثير يمكن أن يطال
حياتنا بأكملها .فلنكمل الصورة.
73
بعد التخرج من المدرسة أو الجامعة ،نقضي معظم حياتنا في العمل – رغم فترات
البطالة .لتسهيل الحسابات ،فلنقل أننا سنعمل لن 25عا فقط رغم أن معظم
أبنا الطبقة العاملة يعملون لن 45عا على األقل إن عاشوا حتى الستينات من
عمرهم .خالل 25عا ،إن افترضنا أن مدخولي ومدخراتي بقيت ثابتة (لتسهيل
الحساب) ،سأكون قد ادخرت نحو 45ألف دوالر في نهاية هذه الفترة .حتى وإن
احتسبنا نسبة مرتفعة للتضخم (النقاش حول التضخم على الهامش هنا]،)[1
يستطيع هذا المبلغ أن يعيلني لن 60شهراً على األقل من دون الحاجة لعمل،
أي 5سنوات.
ً
صحيح أن هذا المبلغ قد ال يكون كافيا لتحريري من العبودية االقتصادية لبقية
حياتي ،لكنه بالتأكيد خطوة أساسية إن أردت الذهاب في هذا االتجاه .هنالك
العديد من األمور التي يمكنني القيا بها بهكذا مبلغ ،كتعليم أوالدي في جامعة
محترمة أو السفر مع زوجتي حول العالم لبضعة أعوا ،أو شرا سيارة نقل
عمومية لتحقي مدخول إضافي ،أو استئجار محل تجاري أو مطعم صغير يحق
لي االستقاللية المالية ،أو استثمار المبلغ في مكان ما .الخيارات متعددة بقدر
تعدد الشخصيات التي تقو باالدخار .تذكروا أننا نتحدث عن ادخار يبلغ 150دوالر
في الشهر فقط.
قد ال تكون هذه النتيجة مبهرة للوهلة األولى ،لكن فلنقارنها قليال ً مع نتيجة عد
االدخار على اإلطالق .إن ادخرت 150دوالر في الشهر ،سأبلغ عمر الن50
وبحوزتي مبلغ من المال يفتح لي احتماالت كبيرة ومتعددة للمستقبل كما أنه
يعطيني مناعة مالية تجاه أي طارئ ،كفقدان عملي أو تعرضي لمشكلة صحية
وما شابه .في الوقت نفسه ،إن لم ادخر 150دوالر في الشهر ،سأصل إلى عمر
الن 50من عمري من دون أي مال في جيبي وبهشاشة كاملة تجاه عملي وقل
تجاه مستقبلي وقلة حيلة كاملة أما مدرا العمل ومفاجآت الحياة .ما هي
النتيجة األفضل برأيكم بين االثنين؟
ال يزال لهذه القصة تتمة .لقد افترضنا في مثالنا أن المدخول سيبقى نفسه لمدة
25عا ،وهذا أمر غير مرجح .صحيح أن المصاريف قد تزيد بسبب تطورات كالزواج
والمنزل واألطفال وما شابه ،لكن اعتقد أنه رغم ذلك يمكن مع الوقت إضافة
نسبة االدخار عاماً بعد عا .
74
قد يجيب أحدهم أنه من المستحيل أن يستطيع أي منا ادخار % 25-20من
مدخولهم الشهري في ظل الوضع االقتصادي الحالي ،لكنني مقتنع بشدة بأن
معظم الناس – حتى ولو كانوا يتقاضون الحد األدنى من األجور ،يستطيعون ادخار
ولو القليل من المال .أنا مقتنع في الواقع بأن تطبي مبادى الحياة البسيطة
يمكن أن يساعد معظم الناس على رفع نسبة ادخارها إلى 30و % 40من
مدخولها.
فكروا بهذا الرقم جيداً :االشتراك بالقنوات الفضائية يعني أنكم ستكونون قد
عملتم في حياتكم ألشهر فقط لدفع ثمن أمر سخيف كهذا .الرقم نفسه يعني
أيضاً أنكم حرمتم أنفسكم من سبعة أشهر ونصف من الحرية والمناعة التي كان
يمكن أن تضاف إلى حياتكم بسهولة.
فلنعطي مثال آخر؛ فيما كنت اتحدث مع صديقة لي مرة ،ذكرت لي عرضياً أنها
تخرج لعشا وسهرة صغيرة مع صديقاتها وخطيبها نحو مرتين في األسبوع ،وفي
كل مرة تدفع نحو 40دوالر – وأحياناً أكثر إن كان هنالك زيارة للمقهى وأمور أخرى
إلى جانب السهرة .إن قامت هذه الصديقة بالقيا بهذا النوع من العشا المكلف
مرة واحد في األسبوع عوضاً عن مرتين ،فهي ستوفر نحو 160دوالر في الشهر،
أي ما يعادل كل ما ندخره في المثال الساب .خالل 25عا من العمل ،ستكون
قد أضافت إلى محفظتها 48ألف دوالر – وهذا فقط بسبب التخلي عن عشا
واحد في المطعم في األسبوع!
75
أمران بسيطان كإلغا االشتراك في القنوات الفضائية وتخفيض تناول الطعا في
المطاعم يسمحان مثال ً بادخار أكثر من خمسين ألف دوالر خالل عقدين ونصف،
تخيلوا كم يمكن أن ندخر إن شملنا أمور أخرى كالسيارة الخاصة والمنزل الكبير
والمشروبات الغازية وما شابه.
في الواقع ما يمنع هذه الفتاة والماليين من الناس من االدخار هو أسلوبهم في
االستهالك ،ال ضعف مدخولهم فحسب .في معظم األحوال ،غياب االدخار يشير
إلى نظرة معينة إلى المال ال تراه سوى من منظوره االستهالكي الضي :معظمنا
يعتقدون أن المال هو أداة لالستهالك ،مجرد وسيلة لشرا األشيا التي نريدها،
لكنه ليس كذلك.
االدخار إذاً هو مجرد خطوة أولى لتحقي االستقاللية المالية ،لكنه الخطوة
األساسية واألهم .رغم بساطة الطرح ،إني متأكد من أنه هنالك عدد كبير من
القرا األعزا يقولون ألنفسهم أن القيا باالدخار سيكون مستحيال ً – واعتقد أنه
هنالك سبب أعم العتقادهم هذا من مجرد متطلبات الحياة .سبب يتعل
بنظرتنا للمال .وهذا ما سنتحدث عنه في مقالنا التالي.
___________
هامش:
] [1حول مسألة التضخم :التضخم المالي هو ظاهرة نقدية تؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية
لألموال ،قد تكون القيمة الحقيقية لمبلغ الن 45ألف دوالر بعد عقدين ونصف تبلغ 36ألف دوالر
مثالً .لكن هنالك أمور تعوض االنخفاض في القيمة المالية ،كادخار األموال في البنك مقابل
األموال في مشروع ما…ألخ ،ولم نذكرها في المثال أعاله فائدة ،زيادة الراتب ،استخدا
لتسهيل الحسابات (مثال ً وضع المبلغ المدخر في البنك ضمن الفوائد الحالية سيجعل المبلغ
يبلغ نحو 70-60ألف دوالر لنفس الفترة) .إلى ذلك ،تبقى القيمة المالية للمال أعلى من قيمة
ستكون أي غرض استهالكي آخر على مر السنوات :كل هاتف وكل كومبيوتر نشتريه اليو
قيمته صفر بعد 25عا ؛ كذلك كل وجبة في مطعم ومشروب غازي وعلبة دخان نستهلكها،
وحتى السيارات التي نشتريها ستكون قيمتها منخفضة جداً بعد 25عا .لذلك ،كيفما قمنا
بالحسابات ،يبقى االدخار (واالستثمار بطبيعة الحال) أفضل من صرف المال على األمور التي ال
نحتاجها.
76
نحو تغيير نظرتنا للمال
في كل تفاعل لنا مع المال – سوا كنا ندخره أ نصرفه ،نحتقره أو نسعى إليه
باستمرار ،هنالك معتقدات نفسية الواعية ومعقدة تؤثر على هذا التفاعل وتحدد
كيفية تعاملنا معه .هنالك دراسات نفسية عديدة حول هذا الموضوع تحاول أن
تفهم لماذا يحاول بعضنا طوال حياتهم تجنب التعامل مع المال ،فيما يقو آخرون
بصرف كل مبلغ من المال ما أن يضعوا يدهم عليه ،وفيما هنالك آخرون يخافون
صرف أي مبلغ على االطالق ،وفيما هنالك من يحتقرون كل من يهتم بالمال أو
يعبدون كل من يبدو ناجحاً معه.
هنالك أيضاً من يلجأون للمال ليشعروا باألمان ،ومن يلجأون للمال ليشتروا ما
يعتقدوه أنه سعادة أو حب أو ليحصلوا على انتباه وتقدير اآلخرين .كل هذه األمور
تعبر عن عالقة نفسية معينة مع المال ،تختلف من فئة ألخرى ومن شخص آلخر.
في نهاية المطاف ،المال هو مسألة لها وجهان :فهو من ناحية أولى أداة عبودية
وأداة أساسية في منظومة اقتصادية قاتلة ،تجبر االقتصاد على النمو المستمر
على حساب اإلنسان واألرض لخل الثروة للطبقات الحاكمة وتعزيز سلطتها .من
ناحية ثانية ،المال هو مجرد وسيلة للتبادل ولوضع قيمة (سعر) على األشيا
والخدمات في المجتمع.
كاف يعلم أن العالم الذي نحلم به ال مكان فيه لسلطةٍ من تابع مدونتنا بشكل
المال على أحد ،ويمكننا أن نتحدث كثيراً عن مساوى النظا المالي الحالي
وعن بدائله ،لكن هكذا حديث ال تأثير مباشر له على حياتنا هنا واآلن .نحن نعيش
في العالم الحالي وال نعيش في عالم المستقبل الذي نحلم به ،والمال في
الوقت الحالي يحكم جز هائل من حياتنا وسعادتنا وخياراتنا وحتى صحتنا
وعافيتنا عموماً .لذلك من األفضل التعامل مباشرة مع موضوع نظرتنا للمال بدل
تجنب ذلك.
77
من المسلسل الكرتوني الكوميدي ساوث بارك في حلقة حول ال َدين والمال.
مشكلتنا مع المال
الحقيقة هي أن معظم األشخاص الذين يمتلكون مواقف جذرية من النظا
االقتصادي والمالي العالمي لديهم مشكلة في التعاطي مع المال .العديد من
هؤال يتعاطون مع المال على أنه أمر غير مهم على اإلطالق ،ويتعاملون معه
بعشوائية مطلقة من دون أي تخطيط أو انتباه ما يسبب لهم عادة الكثير من
الديون والمتاعب في حياتهم ويجعلهم أسرى مدى الحياة لوظائف وظروف
يكرهونها.
أما الغالبية الباقية فتتعاطى مع المال على أنه ذات غاية واحدة :االستهالك .ما
أن تبدأ هذه الغالبية بأول وظيفة لها حتى تراها قد بدأت بشرا السيارات الخاصة
واألجهزة االلكترونية المتطورة والمنازل والذهاب إلى المزيد من المطاعم وما
شابه؛ وحين يرتفع مدخولها قليال ً ستراها تنتقل إلى بيت أفخم وتلفاز أكبر
وسيارة أحدث وهاتف أذكى وثياب أكثر كلفة .هنالك عدد كبير من الناس
يستخدمون الجز األكبر من أموالهم على أمور ليسوا بحاجة لها ،ويتضخم
استهالكهم كلما ازداد مدخولهم.
وسوا كنا نتجنب المال ونديره بشكل سي أ كنا نستخدمه لالستهالك فقط،
النتيجة في الحالتان هي سلبية جداً وخصوصاً ألبنا الطبقات المهمشة والعاملة.
هذا السلوك تجاه المال ال يحسن حياة الناس وال يجعلهم أكثر مناعة تجاه
االستغالل االقتصادي والتقلبات المالية ،بل يعطيهم إشباعاً آنياً لرغبة ما على
حساب مستقبلهم .لذلك ،فلنسأل أنفسنا ،ما هو المال بالنسبة لنا؟
78
المال هو قيمة طاقتنا الحياتية
اعتقد أن معظم من يقرأون هذه الصفحات هم من الطبقات العاملة وليسوا
رأسماليين من أصحاب الماليين ،وبالتالي هم يجنون المال عبر طريقة واحدة
فقط :عرق جبينهم .األسلوب الرئيسي لجني المال للغالبية الساحقة منا هو
العمل اليومي .إن توقفنا عن العمل ،يتوقف مدخولنا وبعضنا قد يجد نفسه مشردا ً
في الشوارع خالل فترة قصيرة بعد ذلك.
هنالك كتاب مهم جداً حول االستقاللية المالية ،عنوانه “مالك أو حياتك” (الكتاب
باالنكليزية) ،يشدد على ضرورة أن يعرف كل شخص “قيمة طاقته الحياتية” حين
تقاس بالمال .الكتاب يقترح لذلك عملية حسابية معقدة قليالً ،لكننا سنبسطها
هنا .لكي تكتشفوا كم تبلغ قيمة األشيا التي تدفعون ثمنها مقارنة مع طاقتكم
الحياتية ،قوموا بكل بساطة بقسمة مدخولكم الشهري على 30يو لمعرفة
مدخولكم اليومي .إن كان مدخولكم الشهري 750دوالر مثالً ،فهذا يعني أن
مدخولكم اليومي هو 25دوالر.
واآلن نصل إلى الجز المهم :في المرة التالية حين تدفعون ثمن شي ما،
احسبوا كم تدفعون من أيا حياتكم ثمناً لذلك :إن افترضنا أن الراتب هو 750
دوالر ،فحين تشترون سيارة ثمنها 10آالف دوالر مثالً ،أنتم تقايضون 400يو من
حياتكم مقابل الحصول عليها .إلى ذلك ،تبلغ المصاريف الشهرية
للسيارة نحو 200دوالراً في الشهر على األقل ،أي أنكم تقايضون نحو 96يو من
حياتكم كل عا (ثلث عامكم) مقابل تشغيل السيارة.
79
إن أضفنا إلى هذه الحسابات أمور مثل شرا هواتف وتلفزيونات جديدة ،العادات
االستهالكية كالتدخين والمشروبات الغازية ،المالبس الجديدة وما شابه،
ستكتشفون بالتأكيد أنكم تقايضون معظم سنين حياتكم مقابل الحصول على
أمور مادية ال قيمة لها على االطالق – وخاصة أننا ال نصطحب معنا سياراتنا
وثيابنا وهواتفنا بعد الموت!
قد تكون النتيجة صادمة للحظة األولى ،إذ نكتشف أننا في ظل النظا
الرأسمالي ،نقو حرفياً بمقايضة سنوات حياتنا وطاقتنا للحصول على أمور تافهة
نسبياً .لكن التمرين هذا ال يهدف لصدمنا ،بل إلعطائنا نظرة مختلفة للمال
تساعدنا على التمييز بشكل أوضح بين األمور المهمة في الحياة وتلك السخيفة.
لكن كيف نتعامل مع المال بعد هذا االكتشاف؟
علينا أوال ً أن ننظر إلى مصاريفنا؛ المال يتوزع عادة على نوعان من المصروف:
80
السيولة المالية المباشرة :أي المال الذي يكون بحوزتنا ونستخدمه
لدفع ثمن المصاريف الحياتية األساسية والمصاريف االستهالكية .الغالبية
الساحقة من الناس يقع كامل مدخولها ضمن هذه الفئة.
األصول المالية :هي الممتلكات (النقدية وغير النقدية) التي تزيد قيمتها
مع الوقت أو التي يمكن استخدامها لجني المزيد من المال ،وهي تشمل
أمور مثل المدخرات ،االستثمارات ،أجهزة صناعية ،شركة خاصة ،منزل أو
عقار…ألخ.
حين نتأمل المجتمع ،سنجد أن الرأسماليين الكبار بارعون في إدارة وتنمية
األصول المالية (على حساب الفقرا غالباً) ،أما الطبقات الوسطى فبارعة في
تبذير أموالها على المصاريف الترفيهية واالستهالكية ،فيما تنهمك الطبقات
الفقيرة والمهمشة بتأمين المصاريف الحياتية األساسية.
في الحالة الطبيعية ،يجب أن يذهب الجز األول من مدخولنا على سد النوع
األول من المصاريف (الحاجات األساسية) ،ويذهب الجز الثاني منه على تنمية
أصولنا المالية ،وما يتبقى بعد ذلك من سيولة يمكن صرفه على النوع الثاني من
المصروف (المصاريف الترفيهية واالستهالكية) .المشكلة أن الغالبية الساحقة من
الناس تستخد مدخولها لسداد النوع األول من المصاريف األساسية ،ثم
تستخد كافة ما تبقى من أموال بحوزتها لسداد النوع الثاني من المصاريف
االستهالكية من دون أن تفكر على اإلطالق بتنمية أصولها المالية على شكل
مدخرات وما شابه.
مفتاح االستقاللية والمناعة المالية يكمن إذاً في إدراك أهمية تنمية األصول
المالية التي قد تنمو كفاية لتصبح مع الوقت قادرة على تأمين مدخول إضافي
والتي تعطينا مناعة كبيرة تجاه األزمات المالية التي يمكن أن نمر بها.
81
نمط الحياة البسيطة هو أفضل طريقة لتنمية األصول المالية على شكل ادخار
في البداية ،وهذا ما سنتوسع فيه في المقاالت المقبلة .المهم أن نتوقف عن
التعاطي مع المال على أنه مجرد وسيلة لالستهالك وأن ندرك أنه حافظ للقيمة
وقطعة من جهدنا وطاقتنا وحياتنا يمكننا استخدامها لبنا مناعتنا واستقالليتنا
المادية.
82
أين ستكون بعد خمس سنوات؟
لماذا تحتاج لخطة مالية وكيف تضعها
السؤال الذي طرحناه في العنوان (أين ستكون بعد خمس سنوات) هو مضحك
للوهلة األولى ،فنحن نعيش في زمن وبالد ال نعلم فيهما أين سنكون األسبوع
المقبل .المفارقة هي أنه كلما كان الوضع المعيشي واالقتصادي والسياسي من
حولنا غير مستقر ،كلما كنا نحتاج للتخطيط في حياتنا بشكل أكبر ،ال العكس .إن
لم نخطط على اإلطالق ،سنكون قد سلمنا حياتنا لتلعب بها رياح األحداث كما
تشا ،وسترمينا الحياة من مكان آلخر فيما نعتقد أنه ال حول وال قوة لنا فيها على
اإلطالق.
أما إن وضعنا تصورات بسيطة واتبعناها ،يوماً بعد يو وشهراً بعد شهر ،سنجد
أنفسنا نكتسب مناعة شخصية ومالية تجاه األحداث ال يتمتع بها أولئك الذي
تركوا مصيرهم للصدف واألقدار .التخطيط هو بكل بساطة عملية خل للخيارات
في زمن يريد أن يفرض علينا خيارات غير عادلة.
…
83
ما يميز نمط العيش البسيط هو أنه نمط من الحياة نختاره بوعي وال نرثه عن
المجتمع ،وهو يستوجب في كل األحوال جهداً وتخطيطاً وإرادة في العديد من
مجاالت الحياة ،والمجال المالي ليس استثنا ً .الخطة المالية الشخصية تساعدنا
على التحكم أكثر بمستقبلنا حتى ولو لم نستطع تطبيقها بالكامل .فلنفترض
للحظة أننا نستطيع اإلجابة على السؤال الذي طرحناه في العنوان؛ فكروا قليال ً
بالجواب وفكروا بأحالمكم الصغيرة واألمور التي تحبون القيا بها وحاولوا أن تكتبوا
إجابة :أي تريدون أن تكونوا بعد خمس سنوات من اليو ؟
أنا متأكد مئة في المئة أن أي جواب على هذا السؤال يستوجب أرضية مالية أو
وضعية اقتصادية معينة ال يمكن تحقي ما تريدونه من دونها .وهنا يأتي دور الرؤيا
المالية الشخصية.
الخطة المالية التي نضعها تسمح لنا أن نكتشف ما إذا كان حلمنا بالتقاعد المبكر
أو بتأسيس شركة خاصة بعد خمسة أعوا مثال ً هو خطة منطقية أ حلم
مستحيل ،وتخبرنا ما إذا كان بإمكاننا تحمل األعبا المالية لعائلة من طفلين أو
ثالثة أو لمنزل من طابقين مثالً .ما نتحدث عنه هنا ليس بالضرورة خطة مالية
مفصلة تحدد كافة األرقا المرتبطة بحياتنا ،بل مجرد تصور أولي للعناصر المالية
الرئيسية التي تحدد وضعنا الحياتي وتؤثر عليه .هنالك عناصر أساسية ألي تصور
مالي نضعه لحياتنا ،وهي تبدأ بحساب القيمة الصافية.
الثروة الصافية Net Worthهي طبعاً مفهو رأسمالي يهدف لقياس ثروة شخص
ما أو قيمة شركة معينة ،وبغض النظر عن كون الرأسمالية نظا اقتصادي غير
عادل إال أن المفاهيم االقتصادية الناتجة عنها هي أدوات لفهم واقعنا المادي.
84
احتساب الثروة الصافية يتم عبر وضع قيمة كل ما نملكه من سيولة وممتلكات
في خانة (ومنها مدخراتك ،حساباتك في البنك ،قيمة المنزل ،قيمة السيارة،
قيمة األثاث واألغراض االلكترونية والثياب الشخصية..ألخ) ،وكل ما علينا من ديون
ومستحقات على الجهة األخرى (ومنها القيمة االجمالية لقرض السيارة ،القيمة
االجمالية لقرض المنزل ،ديون بطاقات االئتمان ،قروض وديون أخرى…ألخ).
الخطوة التالية هي طرح مجموع أصولنا المالية من مجموع الديون وسنحصل في
نهاية المطاف على رقم هو ثروتنا الصافية .بالنسبة لمعظم الناس من الطبقات
المهمشة والعاملة ،ستكون ثروتهم الصافية تقارب الصفر أو قد تكون رقماً سلبياً
– أي أن الديون التي يدينون بها أكثر بكثير من األموال واألمالك التي بحوزتهم.
بطبيعة الحال ،موقعنا المالي واالقتصادي يكون في مكانة هشة وسلبية جداً إن
اتضح أن ثروتنا الصافية سلبية أو صفر ،فهذا يعني أننا مرتهنين بالكامل لعبودية
األجر ولرب العمل والبنوك والشركات وال نستطيع الفكاك من هذه العبودية قبل
تسديد ديوننا بالكامل.
حين قمت باحتساب القيمة الصافية لدي منذ عامين ،اتضح أنها سلبية :ناقص
111آالف دوالر .أي أنني إن دفعت كافة مدخراتي وقمت ببيع كل ممتلكاتي
(ومنها ثيابي) ،سأبقى مديناً بن 111ألف دوالر للبنوك .هذا الرقم المرتفع يعود
لقرض إسكان لمنزلين في لبنان (منزل أهلي ومنزلي) الممتد على دفعات
شهرية ألعوا طويلة.
إدراك هذا األمر أظهر لي وقتها بوضوح أنني ال امتلك حرية االستقالة من العمل
في هذا الوقت ،وحتى أن وضعي المالي ال يسمح لي بالتوقف عن العمل ولو
لشهر واحد ،ألن هذا يعني أن البنك سيستولي على منزل أهلي ويشردهم في
الشارع فيما ليس لدي أي مصدر آخر لتسديد الدفعة الشهرية.
85
حساب القيمة الصافية أظهر لي بوضوح أيضاً أن أي محاولة لالستقاللية المادية
لن تتوج بالنجاح طالما أن القيمة المالية الصافية لي هي سلبية .إدراك هذه
الحقيقة كان في الواقع إحدى األسباب الرئيسية التي قررت بسببها العمل على
تحقي استقالليتي المالية الكاملة والفكاك من السيستيم بأكلمه.
الوضع بالنسبة لي تغير قليال ً منذ ذلك الوقت (من المفترض أن تصبح القيمة
الصافية لدي مساوية لصفر بعد عامين من اآلن) ،لكن الدرس بقي نفسه :معرفة
القيمة الصافية لثروتنا هو أداة مفيدة جداً الكتساب صورة أولية عن وضعنا المادي.
الخطوة التالية هي احتساب الميزانية الشهرية.
86
قم بطرح القيمة االجمالية للمصاريف من القيمة االجمالية للدخل واكتشف
ما إذا كان مصروفك الشهري أكبر من مدخولك أو أقل منه.
بعد ذلك ،تتمثل مهمتك بتوسيع الفارق بين مصروفك ومدخولك ليكون الرقم الذي
تحصل عليه آخر الشهر إيجابياً ،بحيث تجعل المدخول أكبر من المصروف وتدخر
مبلغ من المال كل شهر.
تقليص المصاريف بشكل كبير قد يعني أحياناً القيا بتغيرات جذرية في حياتنا كما
سنرى في الفصول المقبلة من هذه السلسلة ،كاالنتقال إلى منزل آخر أو
االستغنا عن السيارة أو تغيير حميتنا الغذائية وإعادة النظر في هواياتنا وعاداتك
االستهالكية .في كل األحوال ،سنستعين كثيراً بجدول الميزانية الشهرية
لنكتشف ما الذي يمكن تخفيضه من المصروف أو إلغا ه نهائياً.
إن كنا قادرين على سبيل المثال على ادخار ما يساوي ثمن سيارة خالل عا
واحد ،سيساعدنا ذلك على تجنب أخذ قرض من البنك لشرا سيارة اآلن ودفع
الفوائد والرسو عليها لخمس سنوات مقبلة.
في كل األحوال ،هنالك شروط أساسية تؤثر على نجاح هكذا خطة ،أولها وجود
ما يكفي من الرغبة بتحقي االستقاللية المالية لكي نستطيع االستمرار بخطتنا
المالية أسبوعاً بعد أسبوع ،شهراً بعد شهر ،وعاماً بعد عا .لذلك من المهم أن
نكتشف أحالمنا واألمور التي نحبها ووضعها نصب أعيننا ،ألن كل خطوة مالية من
اآلن فصاعداً يجب أن تساعدنا على الوصول إليها .الحافز األكبر بالنسبة لي
لتحقي االستقاللية المادية هو التخلص من الوظيفة والتفرغ للكتابة ولألمور
األخرى التي أحبها في الحياة.
87
الشرط الثاني لنجاح رؤيتنا المالية يتمثل في معرفة الحد الشهري األدنى من
المال الذي نحتاجه لكي نعيش حياة كريمة ومريحة وادخار الباقي .العديد من
الناس يعتقدون أنهم يحتاجون أللف أو ألفين أو ثالثة آالف دوالر في الشهر كحد
أدنى للمعيشة ألنهم يرون أن اآلخرين يحتاجون لهذا المبلغ أو ألنهم يستهلكون
من حيث ال يدرون .إن كنا قد خرجنا من الحياة االستهالكية ،سنجد أن الحد
االدنى الذي نحتاجه هو أقل بكثير مما كنا نعتقد سابقاً.
إلى ذلك ،الحيلة األخيرة لنجاح عملية االدخار الشهرية هي تحديد قيمة المبلغ
الذي نريد ادخاره مسبقاً ،وتسديده في بداية الشهر عند الحصول على راتبنا ال
في نهايته .يمكننا أن نقول مثال ً أننا سنقو هذا العا بادخار 200دوالر شهرياً،
ولكي نقو بذلك علينا أن نبدأ من بعدها بدفع 200دوالر كل شهر لحساب
التوفير عندما نحصل على راتبنا في أول الشهر وتدبر أمورنا بما تبقى من الرات،
بدل أن نصرف مالنا طوال الشهر وندخر ما تبقى من فتات منه في نهايته .الخطة
إذاً هي بكل بساطة :ادخر أوالً ،واصرف ما تبقى – ال اصرف أوال ً وادخر ما تبقى
كما تفعل غالبية الناس.
إن كنا نريد اختصار جوهر هذا المقال بجملة واحدة سنقول التالي :اكتساب وضع
مادي راسخ ال يمكن أن يتحق بطريقة ارتجالية وال يمكن أن يتحق من دون
النظر بإمعان إلى األرقا التي تحكم حياتنا – ساعة واحدة من التخطيط المالي
في العا قد تعني الفارق بين اكتساب مناعة مالية حقيقية وبين التخبط في
قرارات مالية سيئة ال تؤدي سوى إلى استمرار عبوديتنا للمنظومة السائد .في
الحقيقة ،المناعة المالية ليست أمراً نكتسبه في مستقبل بعيد فحسب ،بل
هي شي يمكننا أن نبدأ بتحقيقه فوراً عبر خطوات حياتية معينة .هذا ما
سنتناوله في المقاالت المقبلة.
88
االستدانة والعبودية:
لماذا يجب تجنب الديون (وما هي االستثناءات)
معظم أبنا جيلنا الشاب يعتبرون أن االستدانة هي أمر طبيعي في الحياة وال
يمكن تجنبه ،والعديدون منا يعتبرون أن أهم إنجاز لهم هو البقا خارج الدين.
الواقع الثقيل لالستدانة جعل تجنبها من اإلنجازات التي نفتخر فيها إن استطعنا
تحقيقها! األسوأ هو أن االستدانة أصبحت في الوقت نفسه أمراً طبيعياً ،لدرجة
أن البعض يعتقد أنها مفيدة له وأنها تعطيه أفضلية ما في حياته المالية والعملية.
هنالك طبعاً العديد من األسباب التي تجعل من جيلنا أكثر جيل عليه ديون في
التاريخ الحديث ،منها الوضع االقتصادي المتردي ،االرتفاع الهائل لمستوى
المعيشة مقارنة مع األجيال السابقة ،وعد وجود وظائف دائمة أو مداخيل ثابتة
لنا كما كانت الحال مع أهلنا وأجدادنا .كل ذلك يدفعنا لالستدانة لتأمين أساسيات
عيشنا ولكن هنالك عامل آخر ال بد أن نعترف به أيضاً .هذا العامل هو أننا أكثر
جيل استهالكي في التاريخ .نحن ال نكتفي بهاتف ثابت في المنزل وسيارة
واحدة للعائلة بأكملها ومشوار وحيد في نهاية األسبوع إلى الكورنيش كما كان
يفعل أهلنا ،بل نريد أحدث هاتف وحاسوب جديد كل عا وسيارة جديدة كل
عامين ومنزل كبير ومطاعم وحفالت ومشاوير ومالبس وسفر ومئة نوع من
السكاكر والمشروبات الغازية والطعا السريع .وكل ذلك يكلفنا مال ال نملكه،
فنضطر على االستدانة.
89
هكذا تبدو حريتنا في ظل الديون.
إن كنا نريد أن نشتري سيارة ثمنها 10آالف دوالر مثالً ،سنستدين ثمنها وندفع
للبنك خالل خمس سنوات مبلغ قدره 14ألف دوالر على األقل (بسبب الفوائد).
وهنا يوجد تناقض غريب :إن كنا نستطيع تسديد 14ألف دوالر للبنك خالل خمس
سنوات ،فهذا يعني أننا نستطيع بسهولة ادخار 10آالف دوالر خالل سنوات أقل
وشرا السيارة من دون قرض ،فلماذا االستدانة إذاً؟
الجواب سهل :لقد علمتنا الرأسمالية انعدا الصبر .ال أحد يشعر أنه يستطيع أن
ينتظر ثالث أو أربع سنوات من االدخار لتأمين ثمن السيارة التي يريد ،بل يريد أن
يحصل على السيارة اآلن وحتى لو عنى ذلك أنه سيدفع أكثر .إن أخذنا بعين
االعتبار أن المال ليس مجرد أوراق نقدية بل يمثل قطعاً من حياتنا وطاقتنا ،سنجد
أن قلة الصبر هذه تكلفنا باإلضافة إلى المال ،سنوات وسنوات من حياتنا ألننا
سنقضي سنوات إضافية في عبودية الوظيفة لتسديد فوائد القروض.
90
فلنأخذ مثال السيارة أعاله ونتأمله قليالً :السيارة التي نشتريها بن 10آالف دوالر،
سيكون ثمنها بعد خمس سنوات نحو 7-6آالف دوالر على األكثر (بحسب نوع
السيارة) .إن قمنا باالستدانة لشرائها ،وسددها لفترة خمس سنوات مبلغ 14
ألف دوالر بسبب الفوائد ،نكون قد خسرنا في الواقع نحو 7آالف دوالر بسبب
الفوائد وانخفاض قيمة السيارة (أي خسرنا مبلغاً يساوي سعر سيارة أخرى!).
في المقابل ،إن انتظرنا عامين أو ثالثة ،سنستطيع شرا نفس السيارة بمبلغ
أقل ومن دون ديون على اإلطالق .بعض الناس تغير سياراتها كل ثالث أو أربع
سنوات من خالل ديون جديدة من دون أن تنتبه أنها تخسر آالف الدوالرات في كل
مرة.
هذا وال زلنا نتحدث فقط عن النتائج المالية المباشرة لالستدانة ولم نتحدث بعد
عن التعقيدات القانونية والحياتية التي تنشأ عنها .االستدانة تجبرنا إلى حد كبير
على تحمل وظائف وأعمال لم نكن لنتحملها لوال وجود الديون .االستدانة تحرمنا
من الخيارات في الحياة أيضاً ،ألن االستقالة من عملنا أو تغييره في ظل وجود
ديون قد تؤدي فوراً إلى مشاكل وضغوط قانونية ومالية كبيرة قد تصل إلى السجن
في بعض األحيان.
االستدانة إذا في نهاية المطاف ال توفر علينا الوقت وال تسرع مجرى حياتنا وال
تسهل أمورنا بل العكس :االستدانة تسرق سنوات إضافية منا نقضيها في العمل
لدفع فوائد الدين.
األمر بسيط جداً :ال تستدين أبداً لتسديد ثمن االستهالك العادي كشرا حاسوب
أو هاتف أو مالبس أو السفر وما شابه .االستدانة من أجل االستهالك هي جنون.
استدن فقط عندما تريد أن تقو باستثمار يدعم حياتك ويزيد مناعتك المالية،
كشرا منزل أو متجر أو أدوات تحتاجها في عملك (وأحياناً السيارة الخاصة
بحسب طبيعة عملك) ،أو حين يكون هنالك طارئ طبي ال يمكن التعامل معه
بغير االستدانة.
91
في حالة المنزل ،من الطبيعي أال يكون بإمكاننا انتظار عشرون عا وأكثر لتأمين
ثمن منزل بأنفسنا ألنه ال يمكننا أن نبقى في الشارع كل هذا الوقت ،ولذلك
االستدانة في هذه الحالة ال يمكن تجنبها بالنسبة لكثر منا .األمر الجيد في
القروض السكنية هو أن القروض التي تمتد ألكثر من عقد من الزمن تفيد أحياناً
المستدين أكثر مما تفيد المدين لسبب بسيط اسمه التضخم المالي .الدفعة
الشهرية في حالة قرض المنزل تبقى نفسها عاماً بعد عا فيما تنخفض القدرة
الشرائية للعملة المحلية مع الوقت .الدفعة الشهرية التي تبلغ قيمتها 500دوالر
قد تبدو مبلغاً كبيراً اليو ،لكنها لن تبدو كذلك بعد 10و 20و 30عا حين يكون
مساو لثمن بضعة وجبات ال أكثر.
ٍ المبلغ نفسه
إلى ذلك ،شرا األصول المالية التي تزيد قيمتها مع الوقت (كالمنزل والمتجر) هو
استثنا مفيد ألن المبلغ الذي استدنته ال يذهب هبا بل يكون بمثابة استثمار
يعطيك مردود يعوض الفوائد التي تدفعها للقرض.
تجنب االستدانة يتطلب بالطبع حنكة وصبراً تفوق ما هو سائد في المجتمع ،وقد
ال يكون ذلك أمراً سهالً ،لكننا نفترض أنك إن كنت تقرأ هذا النص ،فأنت تتحلى
بهاتين الصفتين وستستطيع عبر القليل من الجهد اإلضافي تدبير أمورك من دون
ديون .بالتوفي !
92
كيف يمكن لالختيار الصحيح لمنزلك
أن يساهم في استقالليتك المالية
قرار صغير واحد فيما يتعل بالسكن قد يعني حرفياً الفارق بين ادخار ثروة أو
صرفها .موقع المنزل ،حجمه ،وتشاركه مع آخرين ،هي أمور ستفاجئكم كم تؤثر
على استقالليتكم المالية على المدى البعيد حين نناقشها أدناه.
…
93
ال تأخذ(ي) قرضا سكنيا إال إن توافرت الظروف المناسبة
النصائح التي يمكن أن نقدمها في هذا المجال تنبع عن تجربة شخصية ،ويمكن
أن نقول بثقة إن أخذ قرض سكني لثالثون عا هو حكم باإلعدا االقتصادي
لمعظمنا حيث أن دفع القرض الشهري سيعتقلنا في عبودية أبدية للبنك الذي
يمتلك المنزل .إن كان يمكن تجنب أخذ قرض لشرا منزل بأي طريقة كانت ،فذلك
ممتاز ،لكن بالنسبة للغالبية منا ،القرض السكني هو الطريقة الوحيدة ليكون
هنالك سقف فوق رؤوسهم.
االلتزا بقرض منزلي لعقود من الزمن هو قرار سيرافقنا مدى الحياة ،لذلك من
المهم جداً توفير الظروف المناسبة له والقيا به في الوقت المناسب ألن أي
خطوة متعثرة في هذا المجال ستؤثر علينا لبقية حياتنا .ما نقصده بالظروف
المناسبة هو مجموعة من العوامل.
العامل األول هو أال تكون الدفعة الشهرية للبنك أعلى بكثير من اإليجار الذي
ندفعه حالياً؛ أي إن كنا ندفع 500دوالر لإليجار شهرياً والقرض السكني سيجبرنا
على دفع 1000دوالر في الشهر ،فاألفضل أال نقو بالخطوة وأن نبقى على
اإليجار .أما إن كانت الدفعة الشهرية للبنك ستكون نحو 500دوالر مثال ً أو حتى
،600عندها قد يكون القرض فكرة جيدة.
العامل الثاني هو أن تكون الدفعة األولى للمنزل متوافرة بحوزتنا من أموالنا نحن
وإلى جانبها القليل من المدخرات اإلضافية .هنالك أشخاص يقترضون من البنك
ليسددوا الدفعة األولى ثم يأخذون قرضاً سكنياً آخر لتسديد الثمن الباقي من
المنزل ،ما يجبرهم على دفع قرضين في الوقت نفسه لسنوات من الزمن –
وهذه وصفة لإلفالس .من المهم أن يكون لدينا أيضاً القليل من المدخرات
اإلضافية عند شرا المنزل ألنه هنالك الكثير من المصاريف التي ال نتوقعها مثل
كلفة المعامالت الرسمية والصيانة التي قد يحتاجها المنزل ،فضال ً عن األثاث وما
شابه.
األمر الجيد في القروض الطويلة األمد هو أن الدفعة الشهرية التي نسددها للبنك
تصبح أقل قيمة مع الوقت بسبب التضخم المالي (أي أن الن 500دوالر الشهرية
التي ندفعها اليو قد تصبح بمثابة 350-300دوالراً بعد 15عا ) .إلى ذلك ،القرض
السكني ،رغم مساوئه العديدة ،قد يكون أفضل في البلدان التي يرتفع فيها
اإليجار بشكل مستمر ألن الدفعة الشهرية تبقى نفسها فيما يستمر اإليجار
الشهري باالرتفاع عاماً بعد عا .
94
العامل الثالث الذي ال بد من توافره ألخذ قرض سكني من دون التسبب بإفالسنا
هو طبعاً أن يكون لدينا مدخوال ً ثابتاً واستقرار نسبي في عملنا ألن أسوأ ما يمكن
أن يحدث هو أن نأخذ قرضاً سكنياً ثم نخسر عملنا بعد بضعة أشهر ،حيث
سيعني ذلك أننا سنخسر السقف فوق رؤوسنا كما أننا سنخسر كل ما دفعناه
من أموال حتى تلك النقطة.
العامل الرابع الذي سيساعدنا كثيراً هو أن نقو بشرا المنزل مع أفراد عائلتنا أو
شريكنا الحياتي (الزوجة أو الزوج) إن كان ذلك ممكناً ،ألن ذلك يزيد من مناعتنا
تجاه تقلبات العمل كما أنه يخفف من الضغط النفسي والمالي على الزوجين.
95
هنالك حركة اسمها “المنازل الفائقة الصغر” في الغرب تذهب إلى حد اعتماد منازل صغيرة جداً لتجنب الديون والقروض
الثاني. االستقاللية المالية .في الصورة منزل صغير مؤلف من غرفة جلوس صغيرة وسرير في الطاب وتحقي
البعض قد يقترح البقا مع األهل خالل مرحلة العزوبية لتوفير الجهد والمال الذي
يحتاجه السكن بمفردنا ،وهذا قرار يعود لكل منا .رأيي الشخصي أن السكن مع
األهل يسبب في الواقع متاعب يومية لنا وألهلنا أكثر مما يحل ،فهو يعي
استقالليتنا ونمونا الذاتي إلى حد كبير وخصوصاً أن األهل في ثقافتنا الشرقية
مشبعين بالعقلية األبوية والسلطوية والرغبة بالسيطرة على تفاصيل حياة
أوالدهم .الخيار الثاني هو مشاركة غرفة مع صدي أو صديقة ،وهو خيار مقبول
مالياً عادة ومتاح بالنسبة لعدد كبير منا.
96
مشاركة اإليجار مع شريك لها فوائدها المالية كما سب وذكرنا (مثل تقاسم
اإليجار ،تقاسم الفواتير ،تقاسم أعبا الصيانة…ألخ) ،لكن لها جانبها السلبي أيضا ً
إذ تعني استقاللية أقل ،احتمال صدا الشخصيات المختلفة ،عد تقاسم األعبا
المنزلية ،اختالف العادات أو وجود عادات سيئة لشريك السكن…ألخ .لذلك ،الخيار
سيكون أحياناً بين الكلفة المالية اإلضافية مع استقاللية شخصية أكبر (السكن
بمفردنا) أو توفير الكلفة مع استقاللية شخصية أقل (السكن مع األهل أو شركا
آخرين).
الكلفة الحياتية للمسافة هي مئات الساعات المهدورة خالل العا على الطري ؛
إن كنا نحتاج لن 45دقيقة كل يو للوصول إلى مركز عملنا فهذا يعني أننا نهدر نحو
450ساعة سنوياً في الذهاب واإلياب من وإلى العمل ،مع ما يعنيه ذلك من توتر
وضغط نفسي مرتبط بالزحمة والقيادة والقل حول إيجاد مواقف لركن السيارة.
أما الكلفة المالية للمسافة فيمكن أن تبلغ آالف الدوالرات سنوياً ثمناً للوقود
وصيانة السيارة؛ السكن على بعد 45دقيقة من العمل يعني في لبنان نحو 3000
دوالر إضافية سنوياً في كلفة التنقل مقارنة مع السكن على بعد 10دقائ منه،
وهذا الرقم هو نفسه تقريباً في دبي ،أي نحو 30ألف دوالر إضافية كل عشر
سنوات.
أفضل اختيار جغرافي للسكن هو السكن األقرب إلى مركز عملنا – والخيار
المثالي هو المنزل الذي يتيح الوصول إلى مركز عملنا مشياً على األقدا أو على
الدراجة الهوائية .حين ال يكون ذلك ممكنا ،ثاني أفضل خيار هو أن يكون المنزل
قريب من محطات النقل العا الرئيسية ،كالباص أو القطار.
97
اتباع النصائح التي نذكرها في المقال المذكور تستوجب بطبيعة الحال تأجيل أو
إلغا أحال العيش بمنزل فخم من طابقين .في الحقيقة ،اتباع هذه النصائح قد
يتيح لنا تحقي هذا الحلم في وقت الح .السكن في منزل صغير ،مشاركة
المنزل أو الغرفة مع شريك ،واختيار مكان جغرافي قريب جداً من مركز العمل،
هي كلها أمور توفر علينا ما بين 5آالف و 10آالف دوالر سنوياً في لبنان مثال ً
(واعتقد أن األرقا مشابهة في بقية البلدان) ،أي ما بين 125ألف دوالر و 250ألف
كاف وحده لتحقي االستقاللية المالية ٍ دوالر خالل عقدين ونصف ،وهو مبلغ
الشاملة لمعظمنا .مذهل كيف يمكن لقرارات صغيرة كهذه أن يكون لها تأثير بهذا
الحجم على المدى البعيد ،أليس كذلك؟
98
كيف يمكن لالختيار الصحيح ألسلوب النقل
أن يساهم في استقالليتك المالية
معظم الناس تعتبر أن السيارة الخاصة هي اليو أكثر من وسيلة تنقل وتتعامل
معها على أنها “ضرورة” ال بد منها لكل شخص راشد في مجتمعنا .شخصياً ،أنا
محبي السيارات والسرعة ،ومعظم السيارات التي امتلكتها في الماضي كانت
سيارات رياضية معدلة ،لكن حين أفكر في الموضوع وفي تأثيره على حياتي ،أجد
أن الكلفة والعب اليومي الذي كان يسببه لي امتالك سيارة كانت أكبر من
المتعة التي احصل عليها في المقابل .ذكرت “المتعة” قبل أن أذكر “المنفعة” ألنه
حين نتمعن في األمر قليالً ،سنجد أن امتالك سيارة ال يدور بشكل أساسي حول
التنقل – فالتنقل في معظم مدن العالم سهل وممكن من دون سيارة خاصة.
امتالك سيارة خاصة يدور في الوقع حول أمر آخر ،هو المكانة االجتماعية.
99
من بين جميع وسائل النقل ،السيارة هي األكثر ارتباطاً بالمكانة االجتماعية واألكثر كلفة.
العب المالي ال يقتصر أيضاً على تسديد ثمنها ،بل يشمل المصاريف اليومية مثل
الوقود ،ثمن المواقف والتأمين والصيانة .في دبي اتنقل مثال ً في المترو والتاكسي
بمصروف ال يتخطى مئة دوالر شهرياً ،ما يساعدني على توفير نحو 6000دوالر
سنوياً فيما لو كنت امتلك سيارة (نحو 300دوالر شهرياً لتسديد ثمن السيارة
ونحو 200دوالر على األقل ثمن الوقود والمواقف والصيانة) .مرة أخرى ،نحن نرى
باألرقا كيف أن قرارات حياتية صغيرة تأتي بنتائج مالية كبيرة على المدى البعيد.
100
طبعاً ،هذا المصروف المنخفض لتنقالتي في وسائل النقل العا يعود أيضاً إلى
اختياري السكن في منطقة قريبة من مركز عملي ،ال تبعد أكثر من 15دقيقة في
السيارة (لذلك ذكرنا في المقال الساب أهمية السكن قرب مركز العمل).
ّ
التنقل للحياة البسيطة حلول
هذا ال يعني أن امتالك سيارة خاصة هو أمر مرفوض على اإلطالق ،فالمدن
المعاصرة مهندسة بأكملها حول محورية السيارة وحول طرقاتها وهذا ما يجعل من
السيارة بالنسبة للبعض ضرورة عملية .بعض الظروف التي قد تحتم امتالك سيارة
خاصة هي:
طبيعة عملنا التي قد تتطلب منا التنقل بسيارة خاصة خالل الدوا .
وجود أفراد من عائلتنا يعتمدون علينا للتنقل وال يمكن تأمين احتياجاتهم
وتنقالتهم بأمان وفعالية من دون سيارة خاصة ،مثل األطفال والمسنين.
عد فعالية النقل العا في المكان الذي نعيش فيه ،أو انعدا األمان في
وسائله وخصوصاً بالنسبة للنسا .النقل العا في مصر مثال ً وفي أجزا
عديدة من العالم العربي غير مريح وغير ودود أبداً للنسا ومن األسهل
على أي امرأة أن تتنقل بسيارتها الخاصة على أن تركب الباص رغم الكلفة
الزائدة .الباصات الكبرى ضمن بيروت اإلدارية في لبنان تأخذ ساعة إضافية
على األقل لرحلة ال تستوجب أكثر من ربع ساعة ،وبالتالي ال يمكن
االعتماد عليها لمن ال يمتلك رفاهية إضاعة الوقت على الطري .
البعض يحتاج لسيارة من وقت آلخر للرحالت ذات المسافات البعيدة.
في هذه الحالة ،ما يمكن أن ننصح به هو امتالك سيارة مستعملة يمكن االعتماد
عليها للتنقل من وقت آلخر .السيارات المستعملة أرخص وأقل كلفة من عدة
نواحي (خصوصاً من ناحية التأمين السنوي والتسجيل وما شابه) ،كما أنه يمكن
دائماً إيجاد سيارات مستعملة بحالة ممتازة وقادرة على التفوق باألدا والكفا ة
والمتانة على العديد من السيارات الجديدة.
101
التنقل على دراجات من العصر الحجري أكثر متعة:p
المشكلة في شرا سيارة جديدة أننا ندفع مبلغاً إضافياً كبيراً للحصول على نفس
النتيجة عند شرا سيارة مستعملة – أي وسيلة تتيح لنا التنقل من النقطة أ إلى
النقطة ب على خارطة المدينة .إلى ذلك ،نحن نخسر كمية هائلة من المال في
اللحظة التي نشتري بها سيارة جديدة ،إذ من اللحظة التي نضع فيها المفتاح
في الباب بعد لحظة الشرا األولى تخسر السيارة ما بين 10و % 40من سعرها
ألنها تصبح بنظر السوق سيارة مستعملة .أي أننا إن دفعنا 20ألف دوالر ثمن
سيارة جديدة ،نحن نخسر ألفي دوالر على األقل خالل الخمس دقائ األولى
من قيادتنا لها ،ونحو 8آالف دوالر بعد العا األول.
باإلضافة إلى امتالك سيارة مستعملة ،هنالك بدائل أخرى للسيارة هي:
102
التنقل في النقل العا ال يتطلب منك أن تركز على الطري وأن تقود بنفسك ،ما
يعطيك المزيد من الوقت للقيا بأمور أخرى كقرا ة كتاب أو التحدث مع أشخاص
آخرين أو التأمل والشرود والتفكير خالل انتقالك من وإلى العمل.
عد امتالك سيارة يعني أيضاً أننا متحررين من قيد نفسي كبير في تحركاتنا ،فال
نقل حول إيجاد موقف للسيارة وال نصرف الوقت في غسلها وتلميعها وال نقل
من أن تتعرض للسرقة أو لحادث ،وال نقل حول صيانتها حين تتعطل أو على
تجديد أوراقها القانونية .إلى ذلك ،إن عد امتالك سيارة يوفر علينا الكثير من
المال الذي يمكن استخدامه فيما بعد لتحقي الكثير من أحالمنا.
صحيح أن السيارة تعطينا المزيد من المرونة والسيطرة فيما يتعل بتنقلنا من
مكان آلخر ،لكنها في الوقت نفسه تضع علينا عب اً كبيراً وتحرمنا من الكثير من
األمور التي قد ال ننتبه لها للوهلة األولى .لذلك قبل أن تذهب(ي) لشرا تلك
السيارة التي لطالما حلمت بها ،فكر قليالً ،هل هي مهمة لدرجة أن تعمل
لسنوات وسنوات من أجلها وأن تقيد محفظتك وراحتك ومكانتك االجتماعية
بقطعة معدنية أينما ذهبت؟
103
البساطة الغذائية
بعد السكن والتنقل ،فاتورة الطعا هي عادة ثالث أكبر بالوعة للمصروف والمال
(وأهم عامل مؤثر على صحتنا الجسدية) .حين يخبرني بعض األصدقا عن الكلفة
الشهرية إلطعا أنفسهم ،غالباً ما اتفاجأ باألرقا التي تبلغ أضعاف كلفتي
الشخصية على األمر نفسه .هذا ال يعني أنني أحاول التوفير فيما يتعل
بالطعا ،بل العكس تماماً ،لكني أحاول ببساطة القيا بخيارات ذكية وصحية
أكثر.
اإلجابة بسيطة؛ جيلنا الشاب ال يحب الطبخ كثيراً وقليلون من بيننا يعلمون طرق
تحضير طعامهم بأنفسهم .هذا ما يدفعنا إلى دفع ثمن كل وجبة تقريباً ،كل يو
من حياتنا .نحن أيضاً نزور المطاعم بوتيرة عالية جداً ،وندفع فيها أسعاراً مضاعفة
لوجبات يمكننا تحضيرها بأنفسنا في المنزل .هنالك أيضاً سبب مهم جداً ،وهو
أننا ال نعرف ماذا الذي يجب أن نتناوله تحديداً وينتهي بنا األمر إلى تناول الكثير
من األطعمة المعلبة والمصنعة ،وهي عادة غير صحية وأغلى ثمناً مقارنة مع
الطعا الطازج.
إلى ذلك ،نحن نتناول كميات هائلة من المشروبات الباردة والساخنة والغازية
والكحولية والسكاكر والبطاطاس ،وبعضنا ال يستطيع قضا يو كامل من دون
إحدى هذه األمور ،وهي كلها تضيف الكثير على ميزانيتنا وعلى أوزاننا من دون أن
تضيف شيئاً إيجابياً على صحتنا واستقالليتنا المالية.
104
…
العديدون منا يعتقدون أن تناول نوعية طعا جيدة تعني أنه علينا أن ندفع المزيد
من المال ثمناً له ،لكن تجربتي الشخصية كما تجارب عدد ال يحصى من الناس،
تظهر العكس .حميتي الغذائية مثال ً تقو بشكل أساسي على البروتيين كالدجاج
واللحمة والسمك والبيض ،أي على مكونات هي في العادة أغلى من الحبوب
والوجبات السريعة وما شابه ،كما أنني أتناول نحو 6وجبات يومياً أو ما مجموعه
2500سعرة حرارية في اليو مقارنة مع 2000-1200سعرة للشخص غير
الرياضي .رغم ذلك ،استطيع أن اتناول أفضل نوعية طعا بميزانية أقل من معظم
أصدقائي .السر؟ ما أقو به بكل بساطة هو تحضير أكبر قدر ممكن من طعامي
بنفسي بدل شرا الطعا الجاهز.
القليل من الجهد والتفكير في ما نتناوله يومياً يمكن أن يوفر علينا الكثير (حتى
في موضوع بسيط كالنقرشات المسائية) ،ويمكننا تحضير معظم الوجبات التي
نأكلها في منزلنا بنصف سعرها في المطاعم.
105
رغم أن الفارق اليومي بين الوجبة التي نحضرها بأنفسنا وما نشتريه من الخارج
قد يبدو صغيراً في البد ،إال أنه يصبح كبيراً جداً بسبب التراكم :نحن نتناول نحو
ألف وجبة سنوياً على األقل .أي أنه حتى ولو كان الفارق ثالث دوالرات فقط بين
الوجبة الجاهزة والوجبة التي نحضرها في المنزل ،هذا يعني أننا نوفر ثالثة آالف
دوالر في العا ،أو 75ألف دوالر خالل فترة 25عا .
تجدر اإلشارة إلى أننا نحق هذه النتيجة من خالل خيار واحد فقط فيما يتعل
بالغذا ،ولم نتحدث بعد عن االجرا ات األخرى التي يمكن القيا بها لتحسين
نوعية غذائنا وتخفيض كلفته.
تحضير طعامنا بأنفسنا؛ كما سب وقلنا ،تحضير طعامنا بأنفسنا هو
خيار صحي أكثر ويوفر علينا الكثير من المال.
شراء الطعام بشكل أسبوعي أو شهري من المصادر
الكبرى كالتعاونيات والمتاجر الكبرى ألنها تبيع نفس الطعا بكلفة أقل،
كما أن شرا الطعا بشكل أسبوعي أو شهري يوفر الكثير من مشقة
الزيارات المتكررة إلى المتجر كلما احتجنا شيئاً.
106
التخفيف من المأكوالت الضارّة والتي ال تحوي أي فائدة غذائية مثل
المشروبات الغازية ،السكاكر ،والتشيبس وما شابه .في مرحلة ماضية،
كان نحو ثلث مصروفي الغذائي يذهب على أمور مثل الشوكوال ،الشاي
المثلج ،أكياس التشيبس ،المشروبات الغازية ،النسكافيه ،وغيرها من
المشروبات والمأكوالت اللذيذة لكن القاتلة للصحة .تعلمت مع الوقت أن
أشطب معظم هذه األمور من حميتي الغذائية وهو خبر جيد لصحتي (ألن
مستويات السكر والملح والصوديو والزيوت العالية في هذه األطعمة هي
مضرة جداً) وخبر جيد لجيبتي أيضاً.
التخفيف من عادة الذهاب إلى المطعم بشكل دوري .على الصعيد
الشخصي ،أحب الذهاب إلى مطاعم جميلة من وقت آلخر وقضا وقت
ممتع مع األصدقا وتناول طعا لم أتذوقه سابقاً وال أستطيع تحضيره
بنفسي في المنزل ،لكني اعتقد أننا نبالغ كثيراً في العالم العربي
(وخصوصاً في دبي ولبنان مثالً) بوتيرة زيارتنا للمطاعم .بعض زمالئي في
العمل يتناولون وجبة الغدا يومياً في المطعم ويدفعون كل أسبوع ما يعادل
مصروف شهر من فاتورتي الغذائية.
تحضير طعا منزلي جيد ومعرفة المكونات ذات النوعية المناسبة هو أمر يحتاج
لبعض الوقت ،ولألسف معظم أبنا جيلنا الشاب ال يعرفون تحضير حتى أبسط
األطعمة بأنفسهم .رغم ذلك ،تعلم تحضير بعض الوجبات البسيطة كاألرز
والعدس ،الدجاج والسمك المشوي وسلطات الخضار وما شابه ،هو أمر سهل
نسبياً حتى بالنسبة ألكثر الناس بعداً عن الطبخ .الطريقة التي اتبعتها هي تعلم
تحضير طب واحد في البداية ،وتكرار المحاولة على نفس النوع من الطب حتى
اتمكن من تحضيره بشكل شهي وبسيط ،ثم االنتقال من بعدها إلى تعلم تحضير
أطباق أخرى.
من نافل القول أن هذه المسألة – تناول الطعا المنزلي – هي مسألة صحية
أوالً ،ال مسألة مالية .تناول الطعا الجاهز فيه الكثير من األضرار الصحية فهو
ملي بالسكر والملح والمواد الحافظة كما أنه من المستحيل أن نعلم نوعية
المكونات المستخدمة فيه وكيفية تحضيرها (هنالك قصص رعب كثيرة عن النظافة
الصحية في المطاعم) .الطعا الذي نحضره في المنزل صحي أكثر ألننا نعرف ما
الذي نضعه فيه ونختار المكونات بأنفسنا وال نضيف عليه مكونات منتهية الصالحية
أو ذات خصائص غذائية غريبة عجيبة .التوفير في المال هو نتيجة جانبية فحسب
لتناول طعا صحي نحضره بأنفسنا .فوق كل ذلك ،الطعا الذي نحضره بأيادينا
دائماً لديه مذاق أشهى بطريقة غريبة؛ ابدأوا بالتجربة واكتشفوا ذلك بأنفسكم!
107
تبسيط االستهالك المنزلي
العامل األول الذي يحدد حجم استهالكنا المنزلي هو عادة حجم المنزل نفسه،
ولذلك تحدثنا في مقال ساب عن ضرورة العيش في منزل بحجم
احتياجاتنا وتجنب المنازل الضخمة التي تقيدنا مادياً من دون أن تضيف الكثير
على حياتنا .المنزل األصغر يعني أنه هنالك مساحة أقل لملئها باألثاث واألشيا
(هل الحظتم كيف نميل إلى شرا أشيا أكثر حين نشعر بأن المنزل فيه
مساحات فارغة؟) ،كما أنه يعني أيضاً توفير إضافي في فواتير الكهربا والصيانة
ألننا نضي ونبرد ونصلح مساحة أصغر.
العوامل األخرى التي تؤثر على ميزانية االستهالك المنزلي هي بطبيعة الحال
األثاث والفواتير – فواتير الكهربا والهاتف والمياه واالنترنت والصيانة ،وهي العوامل
التي سنتحدث عنها في هذا المقال.
108
كلفة الكهرباء
يمكن توفير فاتورة الكهربا عبر عدة أمور مثل:
االمتناع عن اقتنا عشرات األجهزة الكهربائية وتجنب تشغيلها جميعها في
الوقت نفسه حين ال يكون هنالك حاجة حقيقية لها .لقد دخلت إلى منازل
فيها برادان وثالجة وغسالة صحون ونشافة وفرن كهربائي وثالث مكيفات
وتلفزيون ضخم وعدة حواسيب وأجهزة لوحية جميعها مشغلة في الوقت
نفسه (لعائلة من ثالث أشخاص فقط!).
وضع عوازل حرارية للحيطان والسقف إن كان ذلك ممكناً .هذا يوفر في
العادة ما بين 20و % 50من فاتورة التدفئة والتبريد بحسب جودة العزل
الحراري .في منزل أهلي في قريتي في لبنان ،حرصت على إقامة حيطان
مزدوجة على جز من المنزل (أقد وأسهل أسلوب في العزل الحراري)،
ما خفض قيمة التبريد في المنزل إلى الصفر (المنزل في الصيف بالكاد
نستعمل فيه مروحة هوائية لبضعة أيا ) ،وخفض فاتورة التدفئة نحو .% 30
استخدا المكيف أو التدفئة في غرفة واحدة بدل تبريد أو تدفئة كافة غرف
المنزل .معظم الناس الذين أعرفهم يطبقون هذه النصيحة ،لكني دخلت
إلى منازل كثيرة من ثالث غرف نو ألجد أن المكيف الهوائي شغال في
كل غرف المنزل رغم أن الجميع يجلس في غرفة واحدة فقط.
ضبط التدفئة والتبريد على درجات حرارة منطقية :في دبي ،اضبط التبريد
على الن 24درجة مئوية خالل أشهر الصيف الحارة ،وهذا المستوى من
الحرارة معتدل جداً للجسد البشري (رأيت الكثير من الناس يضبطون
مكيفاتهم الهوائية على 20وحتى 18درجة انني اضطر الرتدا قميص
شتوي عند زيارتهم) .في فصل الشتا كذلك األمر ،ليس منطقياً أن نجلس
بمالبسنا الداخلية الصيفية في عز الشتا ؛ ومن المنطقي جداً ارتدا سترة
إضافية وبنطلون دافى وضبط التدفئة قليال ً بدل أن نجعل حرارة الغرفة 26
درجة مئوية .أجسادنا تحتاج لتعلم التكيف مع الحر والبرد ،وإال ستفقد
الكثير من مناعتها تجاه تبدالت الطقس .فقدان القدرة على التكيف مع
تبدالت الطقس يؤثر على مناعتنا البيولوجية ويجعلنا أكثر عرضة لألمراض
(لذلك معظم السكان الذين يسكنون في دبي مثال ً يتعرضون لنزلة برد كلما
تغير الطقس بشكل طفيف).
109
األثاث واألدوات المنزلية
االستراتيجية األفضل فيما يتعل باألدوات واألثاث هي شرا النوعية األفضل (ال
األداة األرخص) ،بغض النظر عن السعر ،ألننا سنستعمل هذه األشيا بشكل
يومي وعلينا أن نكون قادرين على االعتماد عليها لوقت طويل.
األدوات الرخيصة واألثاث الرخيص تعني في الكثير من األحيان عمر قصير ونوعية
رديئة ،ما يجبركم على استبدالها بعد فترة قصيرة من شرائها ودفع المزيد من
المال .لذلك من األفضل شرا نوعية جيدة قادرة على أن تستمر عشرة سنوات
على األقل من دون الحاجة الستبدالها ،بدال ً عن شرا أمور رخيصة تتداعى أو
تتعطل بسرعة وتجبرنا على استبدالها كل عا أو اثنين .هذا ينطب على البراد
والغسالة وأدوات المطبخ كما ينطب على تجهيزات الحما واألنابيب ونوعية
األثاث وحتى مفكات البراغي التي نستخدمها هنا وهناك.
يمكن كذلك شرا بعض األدوات وقطع األثاث المستعملة بكلفة أقل مقارنة مع
شرائها جديدة ،وخصوصاً األدوات الكهربائية .يمكن إيجاد الكثير من التلفزيونات
المستعملة مثال ً بحالة ممتازة؛ كذلك األمر بالنسبة لبعض األدوات األخرى .كل
التلفزيونات ومعظم البرادات واألفران وبعض الغساالت التي اقتنيتها في حياتي
كانت مستعملة؛ اخترتها بعناية بحيث كانت كلها في حالة جيدة جداً .الفارق
الوحيد أنني اشتريتها بنصف أو ثلث سعرها مقارنة مع أسعارها لو كانت جديدة
وغير مستعملة.
من ناحية ثانية ،هنالك مبالغ هائلة يتم صرفها على األثاث غير الضروري ،كالديكور
المصمم يدوياً والتحف الثمينة .الحقيقة هي أنه يمكن وضع ديكور جميل بمبالغ
منخفضة؛ علينا فقط أن نبتعد عن األسما التجارية الشهيرة.
كذلك ،من األفضل االبتعاد عن ثقافة تغيير األثاث كل فترة لمجرد التغيير؛ ال أرى
أي دافع منطقي لذوي الدخل المحدود لتغيير األثاث كل عامين أو ثالثة إن كان ال
يزال في حالة جيدة .حين تملون من األثاث ،هنالك طرق كثيرة لتغيير ديكور
المنزل من دون دفع المال على شرا أثاث جديد بالكامل ،وفي أحيان كثيرة يمكن
تغيير األلوان والديكور بالكامل من دون تغيير أي قطعة أثاث في البيت.
110
فواتير المياه والصيانة وأمور أخرى
من ناحية فاتورة المياه ،اعتقد أن الجميع يعلم طرق توفير المياه ،وكل ما يمكن
أن نلفت النظر إليه إلى أن االستهالك الكبير للمياه يقع عادة على عات اآلالت
في المنزل كالغسالة ،غسالة الصحون ،ري العشب في الحديقة ،ويليه استخدا
المرحاض واالستحما والجلي .االنتباه لهذه األمور يمكن أن يساعدكم على
توفير القليل في فواتير المياه.
أما فواتير الصيانة فيمكن توفيرها بكل بساطة عبر االعتنا بالمنزل؛ كما يمكن
توفيرها عبر تعلم القيا باإلصالحات المنزلية الخفيفة مثل إصالح وتبديل السخان
المائي واألنابيب والحنفيات ،إصالح األبواب والخزائن ،إصالح األجهزة المنزلية…ألخ.
يمكن أيضاً استعارة بعض األدوات الضرورية لإلصالحات المنزلية بدل شرائها،
واالستعانة ببعض األصدقا الذين لديهم خبرة إصالح العطل الذي نود إصالحه بدل
دفع أجرة خبير للقيا بذلك.
فواتير الهاتف
يمكن توفير فواتير الهاتف عبر عدة طرق منها:
استخدا الهاتف األرضي حين يكون ذلك ممكناً إذ إن كلفته على الدقيقة
تكون عادة أدنى بكثير من كلفة االتصال من جهاز خليوي.
استخدا االنترنت لالتصال المجاني حين يكون ذلك ممكنا.
اختيار رزمات االتصال البسيطة المناسبة في البلد الذي تقيمون به .قد
يعني ذلك إلغا االشتراك باالنترنت على الهاتف كما في حالتي ،كما أنه
قد يعني العكس ،أي وضع انترنت عليه لالستفادة من خدمات التحدث عبر
االنترنت إن كانت أقل كلفة من فاتورة الهاتف (كما هي الحالة في لبنان
مثالً).
111
ثمار تبسيط االستهالك المنزلي
باتباع هذه النصائح البسيطة ،يمكن توفير ما بين 10و 40في المئة من فواتير
المنزل .إن افترضنا أن فواتير المنزل تبلغ 500دوالر ،فتطبي هذه النصائح يعني
أنه بإمكاننا تخفيضها إلى 400دوالر مثال ً من دون أن نلغي أو نضحي بأي شي ؛
المسألة هي مسألة اتخاذ خيارات أذكى بكل بساطة.
هذا المبلغ الذي يبدو بسيطاً سيكون 30ألف دوالر خالل عقدين ونصف ،وهو مبلغ
كاف لتحقي الكثير من األحال التي لم نعتقد في الساب أننا ممكنة.
ٍ
112
تبسيط االستهالك الشخصي
بعض الناس قد يقومون بردة فعل دفاعية عنيفة تجاه من يشكك باستهالكهم،
ولن يتوانوا عن وصف من يقترح تغيير نمط بعبارات مثل “بخيل”“ ،مجنون”،
“خيالي”“ ،مثالي” ،وما شابه .والبعض سيطرح أسئلة مثل “لكن كيف يمكن أن
أكون سعيداً إذا ألغيت الزيارة اليومية إلى المقهى من حياتي؟
113
كيف سأتواصل مع الناس وأراهم وأعرف أخبارهم إن تخليت عن هاتفي الذكي؟
كيف سأسلي نفسي أو أذهب إلى العمل إن لم يكن لدي تلفاز وسيارة؟”
لألسف ،الثقافة السائدة أقنعتنا بأن العديد من الممارسات البشرية الطبيعية
كاللقا بين األصدقا والتنقل والتحدث والمرح هي كلها أمور مستحيلة من دون
اآلالت التي تمتلكنا ومن دون المال الذي نصرفه عليها .المسألة هي أن معظم
الممارسات االستهالكية التي نقو بها هي غير ضرورية على اإلطالق وال تضيف
على حياتنا الكثير من القيمة.
طبعاً ،نحن ال نتوهم أنه يمكننا العيش في المجتمع الحالي من دون القيا
بنشاطات تتطلب ماالً ،وال نعتقد أنه يمكننا العيش في المجتمع الحالي من دون
شرا أمور نحتاجها – ونحن ال ندعو الرتدا نفس القميص لألبد والجلوس في
المنزل حتى يو القيامة ،بل العكس .من حسن الحظ أن معظم األمور الجميلة
في الحياة هي أمور ال تزال مجانية وكل ما علينا فعله هو إدراك ذلك .ما أن ندرك
بأن الصداقة والحب والسعادة والمرح واالستكشاف والنمو الذاتي والشمس
والجمال هي كلها أمور مجانية في الحياة ومتاحة لنا بجهدنا الخاص ،تكون
خطوتنا التالية هي تعلم كيفية االستمتاع بالحياة والحصول على كل هذه األمور
من دون أن يجعلنا ذلك عبيداً ألجورنا الشهرية.
…
114
أساليب تبسيط االستهالك الشخصي
فلنميز أوال ً بين نوعان من االستهالك :االستهالك الذي يتضمن القيا بنشاطات
(كالذهاب إلى المقاهي أو حديقة األلعاب) ويمكننا أن نسميه االستهالك
االجتماعي ،والنوع الثاني هو االستهالك الذي يتضمن شرا األشيا .
النوع الثاني هو االستهالك القائم على شرا األشيا والمنتجات التي قد ال نحتاج
لها كثيراً .الثقافة السائدة تقول أنه علينا شرا مالبس جديدة شهرياً ،وأنه علينا
تغيير هاتفنا كل عا أو اثنين ،وأنه علينا تغيير سيارتنا كل ثالثة أو خمسة أعوا ،
وأنه علينا تغيير أثاث منزلنا والتلفزيون وأغراضنا الشخصية كل فترة وأخرى.
ثقافة االستهالك من هذه الناحية تتألف عادة من خطوتان :الخطوة األولى تتمثل
بشرا الشي – كشرا تلفزيون وهاتف وسيارة ،والخطوة الثانية تتمثل بالترقية
إلى موديل أحدث أي شرا نفس المنتج لكن بنسخته األكثر تطوراً – مثال ً شرا
تلفزيون مسطح عالي الوضوح بدل التلفزيون القديم ،شرا هاتف ذكي أحدث بدل
هاتفنا القديم ،وشرا سيارة أحدث بدل سيارتنا القديمة.
115
في معظم األحيان ،الخطوة الثانية من االستهالك ،أي ترقية المنتج ،هي غير
ضرورية على اإلطالق .لماذا نريد شرا تلفزيون أحدث إن كان التلفزيون الحالي
يعمل بشكل جيد؟ ولماذا نريد شرا هاتف أحدث إن كان هاتفنا يعمل بشكل
جيد؟ يبدو أن الناس تخشى أنها عبر االمتناع عن شرا هذه االمور ،تفوت عليها
تجربة رائعة معينة يعيشيها اآلخرون .في الواقع ،استطيع أن أناقش اننا عبر
الدخول في دوامة االستهالك نخسر تجارب أكثر بكثير مما نحصل عليه بالمقابل.
فلنتحدث عن ذلك بلغة األرقا .
هذه كلها أرقا واقعية تنطب على بلدان كثيرة ،وهي بالمناسبة أرقا متواضعة
جداً بالمقارنة مع المصروف االستهالكي للعديد من الناس .كلفة استهالك هذه
األمور خالل عا تبلغ لدى هذا الشخص نحو 4000دوالر ،أي ما يبلغ مئة ألف
دوالر خالل فترة 25عا .
اآلن ،فلنفترض أنه هنالك شخص آخر أقل استهالكاً ،يشتري مالبس كل ثالثة
أشهر بدل كل شهر (أي 200دوالر في العا ) ،ويتناول الطعا في المطعم مرة
واحدة في األسبوع بدل ثالث (بما كلفته نحو 1200دوالر سنوياً) ،وال يضع اشتراك
انترنت على هاتفه ،ونادراً ما يشتري أكسسوارات وأجهزة الكترونية (رغم ذلك
فلنفترض أنه يدفع 200دوالر سنوياً على أمور تعجبه) .المصروف االستهالكي
على هذه األمور لهذا الشخص يبلغ نحو 1600دوالر في العا ،أي نحو 40ألف
دوالر خالل فترة 25عا .
116
لنقارن اآلن بين هذين الشخصين :لو كان لدى هذين الشخصين المدخول نفسه،
لكان الشخص الثاني قد وفر أو ادخر 60ألف دوالر أكثر من الشخص األول بعد 25
عا من العمل ،هذا مع العلم أنه ال يزال يزور المطاعم والمقاهي دورياً ،ال يزال
يشتري ثياب جديدة كل فترة ،وال يزال يشتري بعض األكسسوارات واألشيا
المختلفة التي يريدها من وقت آلخر .ال يوجد تضحية هائلة قا بها الشخص
الثاني سوى أنه انتبه أكثر الستهالكه.
إن لم تكن بحاجة له ،فهذا يعني أن ما يدفعك لشرائه هو الرغبة ال الحاجة ،وهنا
اسأل نفسك ،هل ستبقى الرغبة موجودة بالقوة نفسها بعد نصف ساعة؟ بعد
أسبوع؟ بعد شهر؟ أ ستشعر أنك قد بذرت المال من دون طائل على أمر ال
جدوى منه على اإلطالق؟
كلما كان المبلغ المالي الذي أنت بصدد دفعه أكبر ،كلما كان عليك أن تسأل
نفسك حول رغبتك به على المدى البعيد ،فإن كنت تريد أن تدفع ألف دوالر مثال ً
لتشترك في النادي لعا كامل ،اسأل نفسك هل ستبقى رغبتك بالذهاب إلى
النادي هي نفسها طوال العا ؟ إن شعرت بالتردد ،فهذا يعني أنه يمكنك على
األرجح االستغنا عنه ،أو على األقل إيجاد بدائل.
في الكثير من األحيان حين أمشي في المتاجر الكبرى ،أجد نفسي أتأمل
الالبتوبات الحديثة وأبدأ بالتفكير بشرا البتوب جديد أسرع وأقوى وأفضل من
الالبتوب الذي أملكه .رغم ذلك ،حين انتظر وأفكر قليالً ،اتذكر انني ال استخد
الالبتوب الخاص بي سوى لالتصال باالنترنت والكتابة ،وبالتالي ال يوجد أي حاجة
على اإلطالق لالبتوب أحدث طالما أن جهازي يعمل بشكل جيد .األمر نفسه
ينطب على هاتفي وعلى أشيائي األخرى.
117
طرح هذا السؤال البسيط واالنتظار قليال ً قبل شرا أي شي هو الطريقة األكثر
فعالية لكبح جماح استهالكنا في الفترة األولى .بعد ذلك بمدة ،سنجد أنفسنا
وقد انفككنا عن البرمجة االستهالكية السائدة ولن نشعر بنفس الحاجة الملحة
لشرا كل ما تسوقه الرأسمالية لنا.
رفض ثقافة االستهالك ورفض ثقافة الهوس بشرا أسرع وأكبر وأفضل األشيا ،هو
في الواقع أفضل الخدمات التي قد نقدمها ألنفسنا ،فهو ال يبسط حياتنا فحسب
ويلغي منها كل الضجيج الفارغ ،بل يحررنا من كل األشيا التي يمكن أن تمتلكنا
ويدفعنا خطوة أقرب نحو االستقاللية الشخصية والمادية التي تعني على المدى
البعيد المزيد من الحرية والسعادة والعافية – وهي كلها أمور ال نستطيع شرائها
بالمال.
118
تمرد اآلالت
تبسيط الحياةّ ،
نحن نعيش اليو في عصر نستطيع فيه أن نتحكم بمعظم األشيا المتواجدة
حولنا بنقرة زر واحدة؛ نقرة صغيرة على الهاتف تتيح لنا التواصل مع أي شخص
نريده في العالم ،ونقرة زر صغيرة أخرى تتيح لنا تحضير الطعا أو تسخين المياه
أو تبريد الغرفة ،ونقرة أخرى تدير محركات سياراتنا وتنقلنا إلى مسافات بعيدة لم
يكن أجدادنا يحلمون بتجاوزها .لهؤال األجداد ،ستبدو حياتنا اليو سحرية
بالكامل ،بل خيالية؛ ولن يخطر على بالهم أبداً أن كل هذا التطور قد أطل أيضاً
بعضاً من أسوأ كوابيسنا لتحكم واقعنا.
كل هذه النقرات التي تسهل حياتنا ،تأسرنا أيضاً في أسلوب عيش يجعلنا عبيد
لكل أشيائنا؛ ويجعلنا عبيداً للمال الذي نحتاجه المتالك هذه األشيا .رغم أننا
نحتاج للحظة واحدة فقط للقيا بكل تلك األمور ،إال أننا نفتقد للوقت الحر أكثر من
أي وقت مضى .ورغم أننا نحتاج لنقرة واحدة لنتصل بأي شخص ،إال أننا نشعر
بالوحدة أكثر من أي وقت مضى ،حتى إن مرض االكتئاب هو من أكثر أمراضنا
المعاصرة انتشاراً وخطورة .ورغم أننا ال نحتاج سوى لتحريك أصابعنا لنقو بمعظم
األمور في العمل والمنزل ،إال أن ذلك لم يحرر أجسادنا لنرقص في الحياة بل
أجبرنا على قضا أيامنا جلوساً خلف شاشات مختلفة ،حتى أن أمراض السمنة
والسكري والقلب وانسداد الشرايين تفتك بنا أكثر من الحروب.
119
نحن نتناول أطعمة متنوعة لم نكن لنحلم بوجودها منذ أعوا قليلة ،إال أننا لم نعد
نعرف ماذا نأكل باستثنا أننا نتناول سموماً مميتة معظم الوقت .وفوق كل ذلك،
رغم كل العلم الذي يحيط بنا وكل المعلومات التي تتدف يميناً وشماال ً من
حولنا ،ال يوجد شخصان من بيننا يتفقان على رأي واحد ،فيما ال يزال طغاة المال
والسلطة يتحكمون بكافة تفاصيل حياتنا.
حياتنا اليو تبدو سحرية فعالً ،ونقرات قليلة كافية لتسير معظم أمورنا فيها ،إال أن
أن الثمن هو أننا نعيش حياة أكثر وحدة وانشغاال ً وتوتراً وإرهاقاً وتعاسة وتسارعاً.
حين يدرك البعض منا أن الحياة التي نعيشها ليست حياة حقيقية بل سجن
مغل وسباق للفئران ال نهاية له ،يحاولون غالباً معالجة الدا بالدا ،فيعتقدون أن
اإلجابات تكمن في المزيد من تطبيقات الهاتف الذكي أو المزيد من المال أو
المزيد من العمل أو المزيد من الترفيه .لكن المشكلة في حياتنا أيضاً أيها
األصدقا هي أننا نمتلك الكثير من كل شي وما نحتاج إليه ليس المزيد من
األمور ،بل األقل منها ،نحتاج للتبسيط ال للتعقيد .نحتاج للعودة إلى األساسيات ال
للتلهي بالمزيد من القشور في الحياة.
يوجد نقرات لكل شي تقريباً في حياتنا ،لكن ال يوجد نقرة بإمكانها تبسيطها
وتحسينها وإعادة زما أمورها إلى أيادينا .ال يوجد نقرة لذلك ألنه ال يوجد أداة
تكنولوجية سحرية يمكننا أن نستخدمها لذلك؛ ال يوجد سوى إرادتنا .إرادتنا هي
األمر الوحيد الذي نحتاجه للخروج من منظومة العبودية السائدة .وهذا ما حاولنا
أن نوقظه في هذه السلسلة :إرادة التحرر والقوة والخل .إرادة إيجاد حياة
بشروطنا نحن ،ال بالشروط التي فرضتها علينا هذه المنظومة الظالمة .تبسيط
الحياة أيها األصدقا ،ليس مجرد رحلة نحو حياة أكثر حقيقية وسعادة وصحية
وهدو اً فحسب ،بل هي أيضاً مهمة روحية كبرى في زمن لم نعد فيه سوى آالت
باردة.
تبسيط حياتنا واختيار أسلوبها بأنفسنا هو تمرد على منظومة استعبادية لم
يسب لها مثيل في التاريخ البشري؛ منظومة ال تكتفي بقتل أجسادنا وأرواحنا
بل تلتهم العالم بأكمله شخصاً بعد شخصاً ،شعباً بعد شعب ،غابة بعد غابة ،ونهر
بعد نهر .قال أحدهم مرة أن حضارتنا الحالية تسبقها الغابات وتلحقها الصحارى،
ولعل كثرة اإلنشغاالت التي تخلقها لنا ليست سوى إللهائنا عن اآلال والصحارى
التي تهيمن اليو على حياتنا.
120
تمردنا على هذا الواقع ال يقف عند استعادة زما السيطرة على حياتنا ،بل هو
خطوة أولى لالنفكاك عن آلة تقتلنا وتقتل العالم لتكديس المزيد من المال
والسلطة.
في هذه المنظومة السائدة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ،نحن لسنا سوى قطع
صغيرة في آلة ضخمة؛ كل واحد منا هو مجرد برغي يمكن استبداله بسهولة في
منظومة ال تكترث بحياتنا الفردية وال تكترث ما إذا عشنا حياة سعيدة و ُمرضية أ
ال .لقد حان الوقت لهذه الروبوتات أن تتمرد وأن تستعيد إنسانيتها؛ على أمل أن
تكون هذه السطور خير معين لكل من يقو اآلن بخطواته الشجاعة األولى نحو
الحرية…
]النهاية[
121