You are on page 1of 182

‫ﻴﺪة‬

‫ﻨ‬‫ﺎتﻋ‬
‫ﻠﻘ‬‫ﺗﻌ‬
‫ر‬
‫ا‬‫ﺮ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫داﻷﺣ‬‫ا‬‫ﺮ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـﻦاﻷﻓ‬
‫ـ‬‫ـﻤﻊﻣ‬‫ﺘ‬‫ـ‬
‫ﺔﻟﻤﺠ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ﻳ‬
‫رؤ‬
‫ـﻦ‬
‫ـ‬‫ﻴ‬
‫ـ‬‫ﻟ‬‫ـﺆو‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ﻟﻤﺴ‬‫ا‬‫ـﻦو‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﻳ‬‫ﺮ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫دﻫ‬‫ﺰ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـﻤ‬‫ﻟ‬
‫ا‬‫و‬

‫ﻴﻒ‬
‫ﻟ‬‫ﺄ‬
‫ﺗ‬
‫ﻳﻦ‬
‫ﺮﻛﻮ‬
‫ﻠ‬‫ﻳ‬‫ﺎ‬
‫ﺗ‬
‫تعلّقات عنيدة‬
‫رؤية ملجتمع من األفراد األحرار واملزدهرين واملسؤولني‬

‫تأليف‬
‫تايلر كوين‬

‫ترجمة‬
‫حبيب زريق‬ ‫حازم موس‬ ‫مريا جندي‬ ‫رزان حميدة‬

‫عبد املعني السباعي‬ ‫زينب أحمد‬

‫مراجعة‬
‫أحمد رضا‬
‫خالصة‬
‫ُ‬

‫وحسن السعادة وكّثّ الفرص وأطال أعامر‬


‫ّ‬ ‫النم ّو ج ّيد‪ .‬عرب التاريخ‪ ،‬خفف النمو االقتصادي بالذات املعاناة اإلنسانية‪،‬‬
‫الناس‪ .‬املجتعامت الغنية أكّث استقرا ًرا‪ ،‬وتقدم مستويات معيشية أعىل‪ ،‬وأدوية أفضل‪ ،‬وتضمن استقالالً أكرب‪ ،‬ورضً ا‬
‫أكرب‪ ،‬ومصادر تسلية أكّث‪ .‬إذا أردنا أن نحافظ عىل اتجاهنا نحو النمو‪ ،‬وعىل النتائج اإليجابية املذهلة التي رافقت هذا‬
‫االتجاه‪ ،‬فعىل كل إنسان أن يهتم اهتام ًما أكرب بسعادة من هم حوله‪.‬‬
‫للميض يف هذا االتجاه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فكيف نبدأ؟ يقدم تايلر كوين‪ ،‬يف حصيلة لعرشين عا ًما قضاها يف التفكري والبحث‪ ،‬خريطة‬
‫يف هذا الكتاب الجديد‪ ،‬تعلّقات عنيدة‪ :‬رؤية ملجتمع من األفراد األحرار واملزدهرين واملسؤولني‪ ،‬يقول كوين إن أذهاننا‬
‫أناسا متخلفني ومجتم ًعا متخلفًا‪ .‬إن‬
‫وبداهات عقولنا قد تساعدنا عىل تحرير أنفسنا من األفكار الخاطئة التي تجعلنا ً‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬تعلّقات عنيدة‪ ،‬يقدم الحجة األخالقية املعارصة للنمو االقتصادي‪ ،‬ولذلك يقدم جرعة كبرية من اإللهام‬
‫والتفاؤل بشأن إمكاناتنا املستقبلية‪.‬‬
‫شكر وعرفان‬

‫يريد املؤلف أن يشكر أنجس كاالرد‪ ،‬وبريان كابالن‪ ،‬وباترك كوليسون‪ ،‬وديفيد غوردون‪ ،‬وروبن هانسون‪ ،‬ودانييل‬
‫جاكوبسون‪ ،‬وكفن مكايب‪ ،‬وسارة أوه‪ ،‬ومغ باترك‪ ،‬وديريك بارفت‪ ،‬وهولس روبنز‪ ،‬وتوم راوند‪ ،‬وأمني رسيل‪ ،‬وديفيد‬
‫شميدتز‪ ،‬وألكس تاباروك‪ ،‬والري متكني‪ ،‬واملشاركني يف سمنار جامعة بنسلفانيا‪ ،‬كفن فالري‪ ،‬وعددًا من املعلقني عىل‬
‫دعام بحث ًّيا ناف ًعا‪.‬‬
‫املسودات األوىل املتعلقة بهذا العمل‪ ،‬ملا قدموه من تعليقات ومناقشات نافعة‪ .‬قدم مركز مريكاتس ً‬
‫شكر خاص لوكيلتي ترييزا هارتنت‪ ،‬ولربيانا وولفسن لتصميمها لكتايب‪ ،‬ولريبيكا هسكت للتحرر‪ ،‬وباترك كوليسون‬
‫الهتاممه بنرش الكتاب مع سرتايب‪.‬‬
‫ملحة عن املؤلف‬

‫تايلر كوين بروفسور يف مؤسسة هولربت إل‪ .‬هارس يف جامعة جورج ماسون‪ ،‬ومدير مركز مركاتس‪ .‬حاز شهادة‬
‫دكتوراه يف االقتصاد من جامعة هارفارد عام ‪ .1987‬كان كتابه الركود الكبري‪ :‬كيف أكلت أمريكا فاكهة التاريخ‬
‫الحديث الدانية ومرضت‪ ،‬وكيف ستشفى (يف النهاية) أفضل كتاب من حيث املبيعات يف نيويورك تاميز‪ُ .‬وصف كوين‬
‫يف استطالع حديث يف مجلة إيكونيميست بأنه واحد من أكّث االقتصاديني تأث ً‬
‫ريا يف العقد األخري‪ ،‬وقبل عدة سنوات‬
‫وصفته بلومربغ بزنس ويك بأنه «أشد اقتصاديي أمريكا إثارةً»‪ .‬وصفته مجلة فورين بولييس بأنه واحد من «أهم مئة‬
‫مفكر عاملي» يف ‪ .2011‬يسهم كوين أيضً ا يف مدونة ‪ ،marginalrevolution.com‬وله سلسلة بودكاستات بعنوان‬
‫«محادثات مع تايلر»‪ ،‬وقد أسهم يف تأسيس مرشوع تعليم اقتصادي عىل اإلنرتنت‪ .mruniversity.com ،‬كان أحدث‬
‫كتبه بعنوان الطبقة الراضية‪ :‬السعي املدمر لنفسه نحو الحلم األمرييك‪.‬‬
‫قامئة املحتويات‬

‫مقدمة ‪1...............................................................................................................‬‬ ‫‪.1‬‬

‫الّثوة تدفع العامل إىل الدوران‪14..............................................................................‬‬ ‫‪.2‬‬

‫التغلب عىل الخالف‪53............................................................................................‬‬ ‫‪.3‬‬

‫هل الوقت وهم أخالقي؟ ‪67......................................................................................‬‬ ‫‪.4‬‬

‫ماذا عن توزيع الّثوات؟‪92......................................................................................‬‬ ‫‪.5‬‬

‫هل يجب أن يشلّنا االرتياب؟‪118...............................................................................‬‬ ‫‪.6‬‬

‫خالصة‪ :‬أين وصلنا؟‪143........................................................................................‬‬ ‫‪.7‬‬

‫امللحق أ‪155.................................................................................................. .......‬‬ ‫‪.8‬‬

‫امللحق ب ‪164........................................................................................................‬‬ ‫‪.9‬‬


‫مقدمة‬ ‫‪1‬‬

‫كامال‪ً ،‬ل يقترص عىل بعض‬


‫ا‬ ‫ضالًل‬
‫ا‬ ‫بشأن مستقبل العامل‪ ،‬لقد ضللنا الطريق‬
‫التفاصيل‪ً .‬ل بد أن نعود إىل املبادئ‪ ،‬ولكننا ًل منتلك دامئاا مبادئ صالحة‬
‫تقودنا‪ .‬لقد ابتعدنا عن ُمثل املجتمع القامئة عىل اًلزدهار وحقوق الفرد‬
‫وحرياته‪ ،‬ومل نعد نعرف طريق الرجعة إىل هذه املثل‪.‬‬

‫يبدو األمر بسيطاا ج ًّدا‪ :‬اًلزدهار والحرية الفردية‪ .‬مل قد يعارض أي أحد هذه‬
‫املثل؟ عند الحديث املج َّرد‪ ،‬لن يعارض هذه القيم إًل فئة قليلة من الناس‪ .‬ولكن‬
‫عمل ًّيا‪ ،‬لطاملا ألقينا بها وراء ظهورنا‪ .‬يتجه سعينا إىل أهداف كثرية أخرى‪،‬‬
‫أهداف كان ينبغي أن نهملها أو نرفضها‪ .‬إن علينا أن نط ّور تعلّقاا أقوى وأعند‬
‫إخالصا باًلزدهار والحرية‪ .‬عندما ترى مقتضيات هذا التعلق يف الواقع‪،‬‬
‫ا‬ ‫وأش ّد‬
‫قد يزعجك بعضها‪ ،‬وقد ينفّرك اإلطالق األخالقي الذي تتطلبه‪ .‬لكن هذه‬
‫األهداف –إذا طُلبت برصامة‪ً ،‬ل بتساهل– ذات أهمية تاريخية لحضارتنا‪ ،‬وإذا‬
‫التزمنا بها جاءت مبقدار هائل من الخري إىل عاملنا‪.‬‬
‫ولكن كيف نعلم األهداف التي ينبغي أن نطلبها‪ ،‬وكيف نزن قيمة أمام قيمة‬
‫أخرى؟ كيف نتخذ قراراتنا عندما تتنازع القيم األخالقية؟ هذه األسئلة املعتادة‬
‫طويال– مل‬
‫ا‬ ‫–التي تقدمها مجموعات النقاش يف السنة األوىل وتتأمل فيها‬
‫تزل ذات أهمية كربى‪.‬‬
‫قبل أن ننظر يف طريقة اتخاذ هذه القرارات‪ ،‬هنا خلفية بسيطة عن موقفي‬
‫الفلسفي وما أنوي طرحه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أرى أن ألسئلة الصواب والخطأ أجوبة صحيحة‪ ،‬عىل األقل من حيث املبدأ‪.‬‬
‫ينبغي أن نقر بوجود مناطق أخالقية رمادية كبرية‪ ،‬ولكن الصواب والخطأ‬
‫مسألة «حقيقة طبيعية»‪ ،‬بعبارة كثري من الفالسفة‪ .‬بعبارة رصيحة‪ :‬الصواب‬
‫املوضوعي موجود‪ ،‬والخطأ املوضوعي موجود‪ .‬النسبية مبدأ فاشل‪ ،‬ومعظم‬
‫أصال‪ .‬يف أعامقهم النفسية‪ ،‬يرى‬
‫الناس ليسوا مخلصني إلطالقاتهم النسبية ا‬
‫النسبيون أنهم يعرفون الصواب والخطأ‪ ،‬وإذا كنت يف شك من هذا فشاهدهم‬
‫وهم يلقّنون أطفالهم‪ ،‬أو باألحرى وهم ينتقدون زمالءهم‪.‬‬
‫مع هذا‪ ،‬فلن أدخل يف نقاش معنى الصواب والخطأ‪ ،‬وهل هام من الله‪ ،‬وهل‬
‫يجب علينا أن نلتزم باألخالق دامئاا‪ .‬لن أنظر يف ما وراء األخالق‪ ،‬أي يف‬
‫دراسة الطبيعة التي تقوم عليها األحكام األخالقية‪ .‬بل سأفرتض أن الصواب‬
‫والخطأ مفهومان لهام مع انى أسايس يف ذهن القارئ‪ .‬وحتى إذا مل تشاركني‬
‫ريا من حججي عىل نحو يوافق موقفك‬
‫هذا الرأي‪ ،‬فقد تستطيع أن تصوغ كث ا‬
‫األخالقي البديل‪.‬‬
‫يف الحاًلت الواقعية‪ ،‬يصعب عادة معرفة صواب أو خطأ مسلك من مسالك‬
‫الترصف‪ً .‬ل ينال الشكاك التقدير الذي يستحقه‪ً ،‬ل سيام يف عرصنا الذي‬
‫أصبحت فيه السياسة مستقطبة‪ ،‬وأصبح كل طرف يرى أنه الصواب وأن‬
‫خصمه هو الخطأ املرفوض‪ .‬العلم هو طريقنا األسايس نحو املعرفة‪ ،‬ولكنه‬
‫ريا ما يقول لنا إننا ًل نعرف‪ .‬وهذا أص َدق يف العلوم اًلجتامعية‪ ،‬أما‬ ‫كث ا‬
‫اًلقتصاد الكيل فلعله يرتبع عىل قمة العلوم من حيث املحدودية املعرفية‪ .‬لذا‪،‬‬
‫عندما ننظر يف عامل السياسة‪ً ،‬ل ينبغي أن نتعامل كام يف عامل الرياضة‪،‬‬
‫حيث نبني حلفاا من األفراد الذين يوافقوننا يف التفكري‪ ،‬ثم نهزم األحالف‬

‫‪2‬‬
‫األخرى‪ ،‬ونجعل األفضل يف نظرنا قانوناا‪ .‬هذا املسلك شائع‪ ،‬وقد يجعلنا نشعر‬
‫بأريحية وفوقية‪ ،‬ولكنه غري مسوغ‪ً .‬ل بد أن نكون متواضعني بشأن ما ميكن‬
‫أن نعرفه‪.‬‬
‫أدرك الفيلسوفان ديفيد هيوم وويليام جيمس كالهام ص َغر العقل اإلنساين‬
‫املفرد أمام اتساع الطبيعة واملجتمع‪ ،‬وأكدا عىل عدم عقالن ّيته عند مواجهة‬
‫املشكالت اليومية‪ .‬إذا أردنا بناء مبادئ للسياسة‪ ،‬فال بد من اًلعتامد عىل‬
‫مناهج منيعة نسب ًّيا من الخطأ اإلنساين ومن النزعة اإلنسانية القوية إىل‬
‫خداع النفس‪ ،‬مناهج تستطيع تجاوز نزعات تفكرينا الجمعي املفرط «إما نحن‬
‫وإما هم»‪.‬‬
‫ولكن يف الوقت نفسه‪ ،‬نحتاج إىل اعتقادات نستطيع أن نؤمن بها حقًّا‪،‬‬
‫أساسا للنظام اًلجتامعي والسيايس‪ً .‬ل فائدة من‬
‫ا‬ ‫وتستطيع هي أن تقدم‬
‫اعتقاد فلسفي مهذَّب مدروس إذا مل يقبله أحد أو مل يستطع قبوله أحد‪ .‬إن‬
‫التوفيق بني ّ‬
‫الشك واًلعتقاد من أصعب املهام أمام أي فلسفة‪ .‬إذا كنا شكّاكني‬
‫حقًّا‪ ،‬فكيف لنا أن نؤمن بأي يشء ذي قيمة حقيقية؟ بعبارة أخرى‪ :‬كيف‬
‫ينبغي أن نوزع أدوار العقل واإلميان ونحن نتقدم؟‬
‫ثم إنني أعتقد بأن التعددية حدس أخالقي جوهري‪ً .‬ل ميكن اختزال ما يصلح‬
‫يف حياة أي إنسان يف أي قيمة واحدة‪ً .‬ل يرجع األمر كله إىل الجامل وحده‬
‫أو العدل وحده أو السعادة وحدها‪ .‬النظريات التعددية أقرب إىل املعقولية‪ ،‬إذ‬
‫تطرح مجموعة من القيم املهمة‪ ،‬منها الرفاهية والعدل واإلنصاف والجامل‬
‫والروائع الفنية التي ينتجها اإلنسان‪ ،‬والرحمة‪ ،‬وأنواع كثرية‪ ،‬بل ومتضادة‬
‫أحياناا‪ ،‬من السعادة‪ .‬الحياة معقدة! أي ليس يف الحياة قيمة واحدة هي ورقة‬

‫‪3‬‬
‫الطرنيب التي تغلب كل القيم األخرى يف كل الحاًلت‪ ،‬لذا فإن يف طبيعة الخري‬
‫فوضوية جوهرية‪ .‬قد يبدو إدراك هذه الفوضوية غري متسق مع تعلقنا‬
‫مبثل اًلزدهار والحرية؛ هذا التوفيق هو القضية األساسية يف هذا‬
‫الصارم ُ‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫يقول زماليئ اًلقتصاديون أحياناا إن «تلبية تفضيالت الناس» هي القيمة‬
‫الوحيدة املهمة‪ ،‬ألن هذه القيمة يف رؤيتهم تجمع كل القيم املهمة‪ .‬لكن هذا‬
‫أيضا أن يكون‬
‫املنهج ًل ينفع‪ً .‬ل يحمل هذا املنهج تعددية كافية‪ ،‬ألن من املهم ا‬
‫يف املجتمع العام مبادئ للعدل والجامل وغريهام من القيم التعددية‪« .‬الذي‬
‫نريده» ًل يكفي لتعريف الخري‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ً ،‬ل بد أن نحكم عىل تفضيالت‬
‫الناس باستعامل قيم أخرى خارجة عن هذه التفضيالت‪ .‬فلنذكر مثاًلا متطرفاا‪:‬‬
‫رجال يرضب زوجته‪ ،‬هل يجب أن نحسب إن كانت معاناة‬
‫ا‬ ‫عندما نشجب‬
‫الضحية أكرب من متعة الضارب؟ أظ ّن أن ًل‪ .‬بل وإذا كان األفراد سيئي التعلم‪،‬‬
‫أو متناقضني‪ ،‬أو كانت األمور عليهم ملتبسة –وكلنا هكذا تقري ابا‪ ،‬يف بعض‬
‫األحيان– فإن مفهوم «الذي نريده» ليس واض احا دامئاا‪ .‬لذا‪ ،‬فأنا وإن كنت‬
‫ريا من الحجج اًلقتصادية‪ ،‬لن أقبل دامئاا‬
‫اقتصاديًّا‪ ،‬وإن كنت سأستعمل كث ا‬
‫ريا عىل تلبية تفضيالت‬
‫املنهج النمطي يف اختصايص‪ ،‬الذي يؤكد تأكي ادا كب ا‬
‫الناس عىل حساب القيم األخالقية األخرى‪ً .‬ل بد أن يكون عندنا مجال للعدل‬
‫والجامل‪.‬‬
‫أسمي نفيس أحياناا «ثلثَي نفعي» ألنني أنظر أوًلا إىل سعادة اإلنسان عندما‬
‫أحلل الخيارات السياسية‪ .‬إذا كانت سياسة ما ترض السعادة اإلنسانية‪ ،‬فتلك‬
‫عقبة كبرية أمامي قد ًل أستطيع تجاوزها‪ .‬إذا كان «فعل الصواب» م ّرة بعد‬

‫‪4‬‬
‫م ّرة ًل يؤدي إىل عامل أجمل من حيث السعادة‪ ،‬فعلينا أن نتساءل إن كان‬
‫مفهومنا عن «الصواب» معقوًلا ‪ .‬ولكن السعادة اإلنسانية ليست هي األولوية‬
‫املطلقة دامئاا – من هنا دعابة أن املنفعة عندي هي ثلثا األمر‪ .‬يجب علينا أحياناا‬
‫أن نفعل العدل حقًّا‪ ،‬وإن كان مؤملاا لكثري من الناس‪ .‬ليس يل أن أستأصل كلية‬
‫من كليتيك باإلكراه ملجرد أنك تستطيع العيش من دونها‪ ،‬وليس لنا أن ننهي‬
‫الحضارة ملجرد فعل العدل‪ ،‬لكن العدل أهم أحياناا من املنفعة‪ .‬وًل ميكن اختزال‬
‫‪1‬‬
‫العدل مبا يسعدنا أو يلبي رغباتنا‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬نقاط انطالقي الفلسفية هي‪:‬‬
‫‪« .1‬الصواب» و«الخطأ» مفهومات حقيق ّيان ينبغي أن تكون لهام قوة‬
‫كبرية‪.‬‬
‫‪ .2‬ينبغي أن يكون موقفنا من العقل اإلنساين املفرد هو الشك‪.‬‬
‫‪ .3‬الحياة اإلنسانية معقدة وفيها أشياء خرية كثرية مختلفة‪ ،‬وليس فيها‬
‫قيمة تغلب كل القيم األخرى‪.‬‬
‫بعد ذكر هذا‪ ،‬فللنتقل إىل سؤال اًلختيار‪ .‬عند النظر يف اًلختيار‪ ،‬أرى بعض‬
‫نفضل خيا ارا عىل آخر؟ هل منلك‬
‫األسئلة األساسية أمام الفرد وأمام املجتمع‪ .‬مل ّ‬
‫أسباباا صالحة ح ًّقا لتفضيالتنا هذه؟ ما هي الخيارات التي يجب أن نتخذها؟‬
‫ليك نتقدم يف هذه األسئلة‪ ،‬أقدم ست قضايا محورية‪ ،‬كل واحدة منها تساعد‬
‫يف حل رصاعات القيمة‪:‬‬
‫‪ .1‬الوقت‬

‫يقدم سمارت وويليامز (‪ )1973‬وشفلر (‪ )1982‬وسنغر (‪ )1993‬بعض المعامالت المعيارية للعواقبية‪ ،‬وهي تقدير االختيارات من حيث عواقبها‪ ،‬وهي‬ ‫‪1‬‬
‫فلسفة تتفرع عنها النفعية‪ .‬يقدم بيتيت (‪ )1997‬مقدمة صالحة للمنطق العواقبي وسبب شيوعه‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫كيف ينبغي أن نزن مصالح الحارض أمام مصالح املستقبل البعيد؟‬
‫يتعلق هذا األمر بالسؤال اآلخر األقرب إىل امليتافيزيقيا‪ :‬هل لنا حجة‬
‫لتفضيل الحارض ملجرد أنه هنا واآلن؟ هل يصلح املنهج اًلقتصادي يف‬
‫التفضيل الزمني‪ ،‬الذي يقول إن األهمية األخالقية للمستقبل تنحدر كلام‬
‫كان املستقبل أبعد‪ ،‬وإنه يف تناسب تقريبي مع معدًلت الفائدة يف‬
‫السوق؟ (رأيي هو‪ً :‬ل)‪ .‬هذا السؤال جوهري يجب النظر فيه عند اتخاذ‬
‫قرار مقدار املوارد الذي يجب أن نخصصه لجعل مستقبلنا مكاناا أفضل‪.‬‬
‫‪ .2‬التجميع‬
‫التجميع هو كيفية حل الخالفات والطريقة التي نفضل بها رغبات فرد‬
‫عىل رغبات فرد آخر‪ .‬هنا مثال بسيط‪ :‬إذا أرادت ابنتك أن تشاهد مسلسل‬
‫كرتون يابان ًّيا عىل التلفزيون‪ ،‬وأراد ابنك أن يشاهد مسلسل ديزين‪،‬‬
‫فقول من سيطبق؟ إذا أراد جون مساواة أكرب يف الدخل‪ ،‬ومل ترد ذلك‬
‫سيسيليا‪ ،‬فعىل أي أساس نفضل رغبة منهام عىل األخرى؟‬
‫لهذه املعضالت إجابات معروفة يف اًلقتصاد‪ ،‬منها مفارقة أرو‪ ،‬التي‬
‫تقول إن مشكالت التجميع حلها صعب ج ًّدا ورمبا مستحيل‪ .‬يقرأ بعض‬
‫املعلقني هذه املفارقة ويرى أنها دليل عىل استحالة اتخاذ القرار‬
‫العقالين بشأن تفضيل رغبة عىل أخرى إذا جرى خالف‪ .‬ولكننا‬
‫مضطرون إىل حل مشكلة الرغبات املتنازعة كل يوم تقري ابا يف حياتنا‪،‬‬
‫لذا فال ميكننا يف الحقيقة أن نتقهقر إىل نوع من العدمية العملية‪.‬‬
‫سأكشف أوراقي وأقول إين متفائل بإمكانية حل هذه املسألة‪.‬‬
‫‪ .3‬القواعد‬

‫‪6‬‬
‫إن فكرة قدرة القواعد واملبادئ العامة عىل حكم خياراتنا وسياساتنا‬
‫فكرة مقنعة‪ .‬ولكن ما الذي يعنيه اًللتزام بهذه القواعد واملبادئ؟ قد‬
‫يروقنا أن نفكر أن للقواعد قوة مستقلة جوهرية‪ ،‬ولكن هذه النظرة‬
‫يصعب دفع اًلنتقادات عنها‪ .‬يف النهاية‪ ،‬لكل قاعدة استثناءات‪ ،‬وقد‬
‫ٍ‬
‫معتد‪ ،‬مثال‬ ‫يصلح الكذب أخالق ًّيا أحياناا إذا كان سينقذ حياة ضحية من‬
‫كالسييك من الفلسفة األخالقية‪ .‬عندما نقرر متى وهل نخرق قانوناا‬
‫معي انا‪ ،‬نعود إىل محاكمة الحاًلت املفردة‪ ،‬التي كان يفرتض أن القواعد‬
‫أصال‪.‬‬
‫ستخلصنا منها ا‬
‫يطرح الفالسفة أسئلة مشابهة بلغة مختلفة‪ .‬يتناقشون بشأن فلسفة‬
‫نفعية القواعد‪ ،‬التي تقول إننا يجب أن نختار القواعد التي تبلغ باملنفعة‬
‫اًلجتامعية أقصاها‪ .‬أما عواقبية القواعد‪ ،‬فهي منهج أوسع وأقرب إىل‬
‫التعددية‪ ،‬يدعو إىل اختيار القواعد التي تحقق تعريفاا أوسع من‬
‫العواقب الخرية‪ 2.‬ولكن هل ميكن اختزال نفعية القواعد (أو عواقبيتها)‬
‫بالنفعية العامة؟ أي‪ ،‬ألسنا دامئاا نشكك يف وجوب التزامنا بالقواعد؟‬
‫هل ميكن تسويغ خرق قاعدة ما عندما تحكم الظروف الفردية بأنه‬
‫ينبغي خرقها؟‬
‫ترى بعض الفلسفات أن القواعد خيال محض‪ ،‬خدعة زائفة –لكن‬
‫مفيدة– ليس لها قوة مستقلة يف حسابنا األخالقي‪ .‬هل ميكن أن ننشئ‬
‫مذه ابا أخالق ًّيا يكون فيه احرتام القواعد واملبادئ غاي اة يف حد ذاته؟ هل‬
‫ميكن أن نختار اختيا ارا جوهريًّا أن نفكر بالقواعد واملبادئ املحضة؟ هل‬

‫انظر هرلي (‪ ،)2009‬وبراون (‪ )2011‬لنقاش حديث عن معنى العواقبية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪7‬‬
‫ميكن للقواعد أن تستحوذ علينا؟ أو هل ميكن أن نجد أنفسنا كل مرة‬
‫يف فخ القلق بشأن اًلستثناءات‪ ،‬التي تعيدنا مرة أخرى إىل نقطة البدء‪،‬‬
‫وإىل أن القواعد ليست إًل خياًلا مفي ادا‪.‬‬
‫سأدافع عن القواعد‪.‬‬
‫‪ .4‬اًلرتياب املتطرف‬
‫نعم‪ ،‬أنا شكاك‪ ،‬ولكنني شكاك مبزاج عميل يدرك الشلل الذي قد يؤدي‬
‫إليه الشك‪ .‬إن من الصعب ج ًّدا توقع املستقبل البعيد‪ً .‬ل أتكلم هنا عن‬
‫صعوبة بناء نظريات صالحة يف العلوم اًلجتامعية واختبار اتساق هذه‬
‫النظريات مع البيانات فحسب‪ ،‬بل علينا كذلك أن نكافح عجزنا األوسع‬
‫عن تعقب السالسل الحتمية من األسباب والنتائج يف الشؤون اإلنسانية‪.‬‬
‫مل تزل تزعجني مشكالت شائعة ج ًّدا من الخيال العلمي والخيال‬
‫تفاعال تسلسل ًّيا‬
‫ا‬ ‫التخميني‪ .‬هذا مثال‪ :‬ميكن ألصغر أفعالنا نظريًّا أن يبدأ‬
‫له عواقب بعيدة املدى‪ .‬تخيل لو أن أبا هتلر –أو ما رأيك بأيب قيرص؟–‬
‫وصل إىل رسيره الزوجي بعد ثانية واحدة‪ .‬كانت لتجتمع يف تلك الحالة‬
‫ريا‬
‫نطفة مختلفة مع البويضة‪ ،‬وكان ليتغري مسار التاريخ اإلنساين تغ ا‬
‫طفال‪ ،‬قرأت قصة مرسومة عن فريق من الباحثني‬‫ريا ج ًّدا‪ .‬عندما كنت ا‬
‫كب ا‬
‫الذين عادوا يف الزمان ليدرسوا الديناصورات‪ .‬بالخطأ‪ ،‬تحطّم مركبتهم‬
‫ورق اة واحدة‪ ،‬فيتغري كل التاريخ اإلنساين؛ يف ذلك الواقع البديل‪ ،‬يغزو‬
‫الهنود الحمر أوروبا‪ .‬إذا كان لهتلر نسخة مستقبلية‪ ،‬فإن كتابتي لهذا‬
‫مهام يف حمله ووًلدته‪ .‬من يدري؟‬
‫الكتاب –وقراءتك له– قد تلعب دو ارا ًّ‬

‫‪8‬‬
‫مع هذا اًلرتياب الكبري‪ ،‬كيف ميكن أن نتظاهر أننا نستطيع تقدير‬
‫العواقب الصالحة والفاسدة ألفعالنا؟ كيف ميكننا اتخاذ أي قرار دون‬
‫أن نتقهقر إىل شلل أخالقي كامل وارتياب مطلق؟‬
‫عادةا‪ ،‬يتجاوز الناس هذه املشكلة بالقول إن علينا أن نفعل ما يف وسعنا‪.‬‬
‫يف هذا الجواب حق كبري‪ ،‬ولكن السؤال يبقى‪ :‬كيف ميكن أن نستعمل‬
‫تواضعنا املعريف لنتخذ خيارات أفضل؟‬
‫‪ .5‬كيف ميكن أن نؤمن بالحقوق؟‬
‫لطاملا برز موضوع الحقوق اإلنسانية الجوهرية يف النقاشات‬
‫الفلسفية‪ ،‬وهو موضوع له يف العامل األوسع قوة معتربة‪ ،‬منها قوته يف‬
‫مثال‪ .‬ولكن يف الدوائر الفلسفية‪ ،‬يقوم مفهوم الحقوق‬
‫القانون الدويل ا‬
‫عادة عىل أسس تعترب غري ثابتة‪ .‬حتى عندما يُقبل مفهوم الحقوق‬
‫ريا عىل مجرد الحدس‪.‬‬
‫الجوهرية‪ ،‬يظل هذا املفهوم معتم ادا اعتام ادا كب ا‬
‫لن أستدل عىل فهمي للحقوق من الصفر‪ ،‬لكنني أعتقد بحقوق إنسانية‬
‫مطلقة (تقري ابا)‪ .‬سأطرح يف الكتاب اعتقادي بـ«الحقوق من غري‬
‫إحراج»‪ .‬قد ًل يكون هذا اًلستدًلل بقوة دليل قطعي عىل الحقوق‬
‫الجوهرية‪ ،‬لكن بعض العنارص األساسية يف استدًلًلتنا الفلسفية تدعم‬
‫‪3‬‬
‫حتام‪ ،‬طبيعتها املقدسة‪.‬‬
‫مفهوم حقوق اإلنسان املوضوعية‪ ،‬كام تدعم‪ ،‬ا‬
‫أيضا‪.‬‬
‫كام قد تتوقع من رجل يدافع عن القواعد‪ ،‬سأدافع عن الحقوق ا‬
‫‪ .6‬أخالق الحس املشرتك‬

‫كثيرا من األسئلة التي أعالجها هنا‪ ،‬راجع غريفين (‪ .)2008‬يستطيع وينار (‪ )2013‬كذلك بعض جوانب النقاش‬
‫لنظرة حديثة عن الحقوق‪ ،‬تستطلع ً‬ ‫‪3‬‬
‫الحالي‪ ،‬باإلضافة إلى إسهاماته األصلية‪ .‬بشأن المذهب الحدسي‪ ،‬انظر هيومر (‪.)2005‬‬

‫‪9‬‬
‫يعتقد أصحاب أخالق الحس املشرتك بأن عىل اإلنسان أن يجتهد يف‬
‫عمله‪ ،‬ويعتني بأرسته‪ ،‬ويعيش حياة فاضلة ولكن متمركزة عىل ذاته‪،‬‬
‫وأن يتربع مبا يستطيع ويساعد غريه بني الفينة واألخرى‪ .‬أما األخالق‬
‫النفعية‪ ،‬فيبدو أنها تدعو إىل درجة أكرب من التضحية بالنفس‪ .‬مل يجب‬
‫عىل األم أن تهتم بابنها إذا كانت تستطيع أن تبيعه وتستعمل أرباحها‬
‫لتنقذ عد ادا أكرب من األطفال يف هايتي؟ أليس واج ابا عىل كل متدرب‬
‫طبي أن ينتقل إىل إفريقيا جنوب الصحراء الكربى لينقذ أكرب عدد من‬
‫الحيوات؟ ما النسبة التي يجب أن تتربع بها من دخلك؟ بالنظر إىل‬
‫وجود الفقر املدقع‪ ،‬أًل ينبغي أن تكون هذه النسبة عىل األقل خمسني‬
‫باملئة؟ هل تناول اآليس كريم مهم ج ًّدا؟ تقول أخالق الحس املشرتك إنه‬
‫ًل بأس باًلستمتاع بالشوكوًلتة‪ ،‬أما األخالق النفعية فلها قول مختلف‪.‬‬
‫كان الفيلسوف الربيطاين هرني سيدغويك متعلقاا بفكرة التوفيق‬
‫الواسع بني ما تدعو إليه النفعية وما يدعو إليه الحس املشرتك؛ بعد ذلك‪،‬‬
‫سلك الفيلسوف الربيطاين ديريك بارفت املسلك نفسه‪ .‬وإذا مل ميكن‬
‫نفضل‪ ،‬ومل؟‬
‫التوفيق بني املنظورين‪ ،‬فأيّهام ّ‬
‫تطرح املشكالت الستة السابقة كلها بعض األسئلة الصعبة‪ .‬لكنني سأحاول‬
‫أن أدافع عن ادعاء جديل‪ :‬أن هذه املشكالت الصعبة أكرث تشاب اها مام نظن‪.‬‬
‫حتام‪ ،‬وبعدد قليل نسب ًّيا من «الحركات» الفكرية‬
‫ميكن حل هذه املشكالت ا‬
‫سهال سائ اغا؛ بل ستؤدي‬
‫ا‬ ‫والفلسفية‪ .‬لن تجعل هذه الحركات التقدير املعياري‬
‫إىل مشكالت جديدة‪ .‬لكنني سأقرتح أن نبيع مشكالتنا القدمية ونشرتي هذه‬

‫‪10‬‬
‫املشكالت الجديدة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬سأقرتح‪ ،‬بعد النظر واًلستدًلل‪ ،‬أن هذا البيع‬
‫واجب علينا‪.‬‬
‫الحركات الفلسفية الجوهرية التي يف ذهني هي اثنتان‪:‬‬
‫أوًلا ‪ ،‬أنا ًل أعترب قوى اًلقتصاد اإلنتاجية أم ارا بديه ًّيا أو مفروغاا منه‪ .‬ميكن‬
‫لإلنتاج أن يكون أكرث بكثري مام هو اليوم‪ ،‬وميكن لحياتنا أن تكون أجمل‪ .‬أو‪،‬‬
‫إذا ارتكبنا بعض األخطاء الكربى‪ ،‬ميكن لإلنتاج أن يكون أقل‪ ،‬وأن يكون‬
‫الجميع أفقر‪ .‬هذه املالحظة البسيطة تسمح لنا أن نجعل اإلنتاج محور‬
‫نظريتنا األخالقية‪ ،‬ألن القيمة مسألة مشكلة لوًل اإلنتاج‪ .‬رغم كل نقائصها‪،‬‬
‫كانت آين راند الكاتبة الوحيدة التي فهمت أهمية اإلنتاج يف النظرية‬
‫األخالقية–وهي فكرة عربت عنها بحامسة وطول نفس‪ ،‬وإن كانت بشخصيات‬
‫تعيسة‪ .‬إن إنجازات حضارتنا إمنا تقوم عىل رأس املال والعمل واملوارد‬
‫الخالق‪ .‬سواء أتفقت مع كل آراء راند‬
‫ّ‬ ‫الطبيعية‪ ،‬التي وظفها العقل الفردي‬
‫السياسية أم مل تتفق‪ ،‬فهي مصيبة يف موقفها بشأن أننا ًل ينبغي أن نعترب‬
‫وجود الرثوة أم ارا بديه ًّيا‪.‬‬
‫ثان ايا‪ ،‬سأحاول أن أراجع بعض افرتاضاتنا الحدسية بشأن البعد األخالقي‪َ .‬من‬
‫من األفراد ينبغي أن يكون له نفوذ أكرب عىل خياراتنا‪ ،‬ومن ينبغي أن يكون‬
‫له نفوذ أقل؟ سأدافع عن القول بأن األفراد الذين سيعيشون يف املستقبل‬
‫ينبغي أن يكونوا أقرب إلينا من حيث األخالق‪ ،‬أقرب مام يفرتض كثري منا‬
‫اليوم‪ .‬يجب أن يكون ملصالح املستقبليني قوة أكرب يف حساباتنا‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫أن علينا أن نستثمر استثام ارا أكرب يف املستقبل‪ .‬حتى إذا صعب علينا أحياناا‬
‫خصوصا املستقبل البعيد‪،‬‬
‫ا‬ ‫أن نتخيل كيف ستؤثر أفعالنا يف أهل املستقبل‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫فإن أهميتهم األخالقية تبقى عالية‪ .‬لذا سأطالب الناس أن يكون إميانهم‬
‫باملستقبل أكرب‪ً .‬ل أطالب بهذا اإلميان أن يكون عىل حساب العقل‪ ،‬ولكن أخذ‬
‫املستقبل البعيد هذا بعني اًلعتبار يف حساباتنا يتطلب موقفاا شبي اها ج ًّدا‬
‫باإلميان‪ .‬ليس عبثاا أن معدًلت الخصوبة بني املتدينني أعىل‪ ،‬أو أنهم‬
‫ريا من األعامل طويلة املدى واملشاريع الخريية‪ ،‬كام ًلحظ ماكس‬
‫يخوضون كث ا‬
‫فيرب قدمياا‪.‬‬
‫وأنا أنظر يف األسئلة املطروحة أعاله‪ ،‬سأركز عىل الحجج املتعارضة وعىل‬
‫ريا يف بناء اإلجامعات عىل املواد‬
‫خالصة املوضوع‪ .‬لن أستغرق وقتاا كب ا‬
‫املألوفة‪ ،‬ولن أستطلع قول كل أحد يف كل مسألة‪ ،‬ولن أخوض يف غري ذلك‬
‫من التفاصيل املفرطة‪ .‬لن أطيل ذكر األصول املألوفة ثم أذكر بعض اًلقرتاحات‬
‫الصغرية لحل هذه املشكالت الصعبة يف النهاية‪ .‬لن أجادل باإلزالة‪ ،‬أي لن‬
‫أركز عىل نقاط ضعف وجهات النظر األخرى وأغض الطرف عن نقاط‬
‫ضعفي‪ .‬بل سأحاول أن أبدأ باألسئلة الصعبة‪ ،‬وأشري إىل أصعب النقاط عىل‬
‫النقاش‪ ،‬ثم أقيض بقية الوقت أحاول جمع القطع لتكون الحل‪ .‬هذا ما أحب‬
‫أن أقرأه‪ ،‬لذا فهذا ما أحاول أن أكتبه‪.‬‬
‫هذا هو موقف نقايش الداخيل‪ .‬أرجو أن تستمتع به‪ .‬إذا كنت القارئ الذي‬
‫أريده بهذا الكتاب‪ ،‬فستشعر أنني مل أضغط مبا يكفي عىل األسئلة الصعبة‪،‬‬
‫مهام ضغطت‪.‬‬
‫أرجو كذلك أن تكون استجابتك لهذا الكتاب موقفاا أقوى يف الدفاع عن مثل‬
‫الحرية واًلزدهار‪ .‬أرجو أن تنخرط انخراطاا أكرب يف قضية تقوية حضارتنا‬
‫وإطالة عمرها وتكثري عجائبها‪ .‬يف هذا الكتاب‪ ،‬سأذكر حاجتنا إىل صحوة‬

‫‪12‬‬
‫جذرية‪ .‬ستثبت هذه الصحوة أنها طريقة جديدة ومقنعة للتأكيد مرة أخرى‬
‫عىل قوتنا نحن األفراد‪.‬‬
‫فلنبق هذا يف ذهننا‪ ،‬ولنبدأ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الرثوة تدفع العامل إىل الدوران‬ ‫‪2‬‬

‫من أين تأيت القيمة؟ وكيف ت ُخلق القيمة وتبقى وتزيد مع مرور الزمن؟‬
‫تبدو تلك األسئلة البسيطة مبتذلة‪ ،‬ولكنها يف صميم األخالق‪.‬‬

‫فلنتأمل يف فكرة األنظمة‪ ،‬أو الشبكات‪ ،‬أو املعايري‪ ،‬أو السياسات التي تخلق‬
‫قيمة متزايدة عىل نحو ممنهج مع مرور الزمن‪ ،‬دون نهاية ظاهرية‪ .‬اعتاد‬
‫ميلتون فريدمان أن يحتج بأن ال وجود ليشء يُدعى وجبات مجانية‪ ،‬ولكن‬
‫ال بد من هذا خاطئ عىل بعض املستويات‪ .‬فالكون موجود – من الذي يدفع‬
‫مثنه؟ (بل وتؤكد بعض الفرضيات الكونية أن الكون نشأ من اضطرابات‬
‫كمية‪ ،‬وينبعث منه بدوره فرو ًعا‪ ،‬أو أكوان وليدة‪ ،‬لألبد‪ ،‬وكل ذلك‬
‫«باملجان»)‪ .‬ويوحي ذلك عىل ما يبدو بوجود وجبة مجانية واحدة كبرية‬
‫يف تاريخنا عىل األقل‪ ،‬ولذا فمن املحتمل أن يكون لها مثيالت أخرى‪ .‬إذن‪،‬‬
‫ما الذي مبقدورنا أن نعتربه وجبة مجانية عىل نحو مفيد يف إطار صنع‬
‫القرار االجتامعي؟ فرغم كل يشء‪ ،‬تطور كوكب األرض بطريقة ما من‬
‫مجموعة من مفصليات ثالثية الفصوص إىل تريليونات الدوالرات من‬
‫الناتج املحيل اإلجاميل ومتحف لوفر ميلء بالرسومات‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ومبا أن العثور عىل وجبات باملجان ليست مهمة سهلة دو ًما‪ ،‬علينا أن‬
‫نفكر يف األماكن التي قد تختبئ فيها الوجبات املجانية وسبب كون بعضها‬
‫حا من غريها‪ .‬وتحدي ًدا‪ ،‬قد نكتشف مكاسب خفية إذا تأملنا بعد‬
‫أقل وضو ً‬
‫منتظام من املنافع‪،‬‬
‫ً‬ ‫سيال‬
‫ً‬ ‫الزمان عن قرب‪ .‬فرمبا تصدر بعض خياراتنا‬
‫ولكننا ال نراها بوضوح كام ينبغي لنا‪ .‬فكام الحظ آدم سميث يف القرن‬
‫الثامن عرش‪ ،‬نحن منيل إىل تصور األحداث املستقبلية عىل نحو سيئ للغاية‬
‫وبقصور يف الخيال املناسب‪.‬‬

‫يف االقتصاد‪ ،‬يوجد عىل األقل مثال واحد (افرتايض) عىل وجبة‬
‫مجانية‪ .‬فقد كتب االقتصادي فرانك نايت عن نبات الكروسونيا‪ ،‬وهو‬
‫محصول خرايف ينمو تلقائ ًيا ويزيد إنتاجه كل فرتة‪ .‬يكفيك أن تغرس‬
‫البذور حتى ينمو النبات مبفرده؛ ولن تحتاج أن تسقيه باملاء أو أن ترعاه‪.‬‬
‫تخيل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬شجرة تفاح تنتج بضع تفاحات كل عام‪ .‬وتنتج‬
‫أيضا بذور التفاح‪ .‬وتنبت تلك البذور‪ ،‬ما ينتج عنه إمداد منتظم‬
‫تلك الشجرة ً‬
‫ومتزايد من التفاح وأشجار التفاح‪ ،‬رغم أنه يعتمد عىل قدر ما من الشمس‬
‫واألمطار‪ .‬وقد ينمو نبات الكروسونيا‪ ،‬بقياس قدرته عىل إنتاج التفاح‪ ،‬من ًوا‬
‫صاف ًيا قدره خمسة يف املائة كل عام‪ .‬ويف ذات الوقت‪ ،‬يبدو هذا النبات‬
‫كشجرة تفاح متواضعة وال يبدو أنه يحل أي أسئلة أخالقية أو سياسية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫قد تبدو فكرة نبات الكروسونيا غري واقعية أو ساذجة بعض اليشء‪،‬‬
‫ولكنها مثال مفيد يف تحديد طبيعة مسعانا‪ .‬فالكروسونيا مثال عىل وجبة‬
‫مجانية –من التفاح عىل األقل– مبجرد أن تحصل عليها‪( .‬وباملناسبة‪ ،‬إذا‬
‫كنت تتساءل عن سبب تسميته بنبات الكروسونيا‪ ،‬فقد ُسمي ذلك تيمنًا‬
‫بجزيرة روبنسون كروسو يف رواية دانيال ديفو‪ ،‬إذ كانت تلك الجزيرة‬
‫مليئة بأشجار تطرح مثا ًرا دون أي مقابل‪ ،‬ودون الحاجة إىل عمل أو‬
‫مجهود يبذله كروسو أو أي شخص آخر‪ .‬ولذا فقد استمتع كروسو ببعض‬
‫الوجبات املجانية الخاصة به)‪.‬‬

‫اقرتح فرانك نايت فكرة نبات الكروسونيا حتى يوضح بعض النقاط‬
‫التقنية يف نظرية رأس املال واالستثامر‪ ،‬ولكن زمن تلك النقاشات قد انتهى‪.‬‬
‫مدخال لحل مشاكل‬
‫ً‬ ‫ويف املقابل‪ ،‬أرى أن نبات الكروسونيا يصلح أن يكون‬
‫التجميع‪ .‬فنبات الكروسونيا مرغوب فيه أكرث من نبات ميوت بعد شهر دون‬
‫جميال ورائ ًعا‪ .‬وبوسعنا‬
‫ً‬ ‫أن يرتك أي خلفاء‪ ،‬مهام كان النبات قصري األمد هذا‬
‫أن نقارن النباتني من نواح عديدة‪ ،‬مثل لونهام ورائحتهام‪ ،‬ولكن بعد فرتة‬
‫من العائد املجاين املتواصل من نبات الكروسونيا‪ ،‬يتضح أن الكروسونيا‬
‫هو الخيار األفضل‪ .‬ففي مرحلة ما‪ ،‬يطغى الرتاكم الهائل للقيمة الناتجة عن‬
‫النمو املتواصل لنبات الكروسونيا عىل جميع أوجه املقارنة‪ .‬وبهذا نحصل‬

‫‪16‬‬
‫عىل مبدأ لكل من األخالق والحكمة‪ :‬كلام ساورتك الشكوك‪ ،‬اخرت نبات‬
‫الكروسونيا‪ .‬فحني يتعلق األمر باتخاذ قرارات صعبة‪ ،‬علينا أن نحاول‬
‫تحديد أي عنارص يف زمرة االختيارات املتاحة تشبه نبات الكروسونيا‪ .‬فإذا‬
‫استطعنا أن نحدد الخيارات أو السياسات املعينة التي تطلق العنان ملا يكافئ‬
‫عائد نبات الكروسونيا املتواصل‪ ،‬أو االرتفاعات املستمرة القامئة بذاتها‬
‫للقيمة‪ ،‬فسيغدو الدفاع عن تلك الخيارات أم ًرا مقن ًعا‪ .‬وعالوة عىل ذلك‪ ،‬إذا‬
‫اتضح أن نباتات الكروسونيا أكرث شيو ًعا مام ظننا يف البداية‪ ،‬فمن شأن‬
‫ذلك أن يخفف مشاكل التجميع بصفة أشمل‪.‬‬

‫ولذا‪ ،‬يف وضع اجتامعي‪ ،‬ما الذي ميكن اعتباره مشاب ًها لنبات‬
‫الكروسونيا؟ ابحث عن العمليات االجتامعية املستمرة‪ ،‬والقامئة بذاتها‪،‬‬
‫والتي تخلق قيمة متزايدة مع مرور الزمن‪ .‬واملرشح الطبيعي ملثل تلك‬
‫العمليات هو النمو االقتصادي‪ ،‬أو نسخة معدلة لهذا املفهوم‪ .‬فإذا كانت‬
‫املؤسسات التي تخلق حصيلة إيجابية بشكل مستمر موجودة‪ ،‬فرمبا نجد‬
‫نبات الكروسونيا يف كل مكان‪ .‬وكام سوف نرى‪ ،‬ال تستويف التعريفات‬
‫املعيارية للنمو االقتصادي جميع خصائص نبات الكروسونيا متا ًما‪ ،‬ويعزى‬
‫ذلك من ناحية إىل أنها تتغاىض عن قابلية االستدامة البيئية‪ ،‬ومن ناحية‬
‫أخرى إىل أنها ال تنسب قيمة كافية لوقت الفراغ‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬إذا فكرنا يف‬

‫‪17‬‬
‫النمو االقتصادي بصفة أعم‪ ،‬سنحظى بنبات الكروسونيا املناسب الذي‬
‫سوف نؤسس عليه قراراتنا‪.‬‬

‫يستعمل االقتصاديون مفهوم الناتج املحيل اإلجاميل (‪ )GDP‬لإلشارة‬


‫إىل القيمة اإلجاملية للبضائع والخدمات امل ُنتجة خالل فرتة ما من الزمن‪،‬‬
‫ويف العادة ما تكون سنة أو ربع سنة‪ .‬ومعدل النمو االقتصادي هو املعدل‬
‫الذي ينمو به الناتج املحيل اإلجاميل‪ .‬وسأستعمل هذا املفهوم بطريقة‬
‫مفرتضا أن أنسب طريقة لقياس الناتج املحيل‬
‫ً‬ ‫مختلفة بعض اليشء‪،‬‬
‫اإلجاميل تكون من حيث تعظيم معدل النمو االقتصادي طويل األمد‪ .‬وتلك‬
‫ليست نفس الطريقة التي تقيس بها معظم الحكومات الناتج املحيل‬
‫اإلجاميل‪ .‬ومصطلح «ولث بلس» ‪ ،Wealth Plus‬إذا جاز يل استعامله يف‬
‫اإلشارة إىل املكاسب املرتاكمة من النمو‪ ،‬يراعي وقت الفراغ‪ ،‬ويراعي اإلنتاج‬
‫املنزيل (األنشطة ذات القيمة التي تقوم بها يف منزلك مقابل ال يشء‪ ،‬سواء‬
‫كان ذلك إصالح جواربك أو استعاملك لفيسبوك)‪ ،‬ووسائل الراحة البيئية‪،‬‬
‫وغريها من التصحيحات األخرى‪ .‬تنطوي إحصاءات الناتج املحيل اإلجاميل‬
‫الحالية عىل تحيز تجاه ما ميكن قياسه بسهولة ودقة نسبية‪ ،‬بخالف‬
‫الرتكيز عىل ما يساهم يف رفاهية اإلنسان‪ .‬وبأخذ ذلك يف االعتبار‪ ،‬سأضع‬
‫تعريفًا ملفهوم ولث بلس كاآليت‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫ولث بلس‪ :‬الكمية اإلجاملية للقيمة املنتجة خالل فرتة محددة من‬
‫الزمن‪ .‬ويشمل ذلك القياسات التقليدية للقيمة االقتصادية املستخدمة يف‬
‫إحصاءات الناتج املحيل اإلجاميل‪ ،‬مضافًا إليها قياسات وقت الفراغ‪،‬‬
‫واإلنتاج املنزيل‪ ،‬ووسائل الراحة البيئية‪ ،‬وجميعها محصودة يف قياس‬
‫مناسب للرثوة‪.‬‬

‫ويف هذا السياق‪ ،‬ال يعني تعظيم الولث بلس أنه ينبغي عىل الجميع‬
‫أن يعملوا بأقىص قدر ممكن‪ .‬إذ قد يعظم جعل يوم عمل مدته ‪ 14‬ساعة‬
‫الناتج املحيل اإلجاميل املقاس عىل املدى القصري‪ ،‬ولكن ذلك سيكون أقل‬
‫مالءمة مع مرور الزمن مبجرد أن نأخذ يف االعتبار قيمة وقت الفراغ‪ ،‬ناهيك‬
‫من إمكانية اإلرهاق من العمل‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬يقدر ذلك املعيار أخالقيات العمل‬
‫‪1‬‬
‫القوية‪.‬‬

‫وال يعني تعظيم الولث بلس تدمري البيئة الطبيعية‪ .‬فمن املفهوم جي ًدا‬
‫اآلن أن من شأن املشاكل البيئية أن تقلل من النمو االقتصادي أو أن تدمره‬

‫‪ .1‬فيام يخص توفري إرشادات عملية يف حساب ولث بلس‪ ،‬أفضل مجهودان أعرفهام هام جونز وكليناو (‪،)2016‬‬
‫وبيكر وفيليبسون وسورز (‪ .)2005‬ولقراءة فقرة جيدة تضع اإلنتاج واإلنتاجية يف محور النظرية األخالقية‪ ،‬انظر‬
‫ستانشيك (‪ ،)2012‬وانظر أيضً ا أعامل الفيلسوف ديفيد شميدتز‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫من خالل تأثريات التغذية املرتدة‪ .‬ولذا ينبغي علينا أن نحمي البيئة مبا فيه‬
‫الكفاية للحفاظ عىل النمو االقتصادي واستدامته حتى املستقبل األبعد‪.‬‬

‫وبصفة أعم‪ ،‬يؤكد مبدأ الولث بلس عىل رضورة الحفاظ عىل منو‬
‫متزايد مع مرور الزمن‪ ،‬ال أن نهتم بالنمو االقتصادي خالل سنة واحدة أو‬
‫فرتات أقرص من الزمن‪ .‬وال يعني تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام‬
‫ريا ما تكون‬
‫السعي إىل النمو الفوري عىل حساب جميع القيم األخرى‪ .‬فكث ً‬
‫السياسات التي متنح األولوية للنمو مبعدالت فائقة غري مستقرة‪ ،‬من‬
‫فمثال‪ ،‬حاول شاه إيران أن يدخل بلده إىل‬
‫ً‬ ‫الناحية االقتصادية والسياسية‪.‬‬
‫العرص الحديث برسعة هائلة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ارتفعت معدالت النمو لفرتة من‬
‫الزمن‪ ،‬ولكن مل يكن من املمكن استدامة تلك املعدالت عىل املدى الطويل‪.‬‬
‫ومنذ حلول الثورة اإليرانية‪ ،‬انتكس اقتصاد إيران‪ .‬فلم تكن الحداثة القرسية‬
‫التي فرضها شاه إيران تعظم النمو االقتصادي الحقيقي‪ ،‬ومن املرجح أن‬
‫‪2‬‬
‫السياسات األكرث حذ ًرا كانت أفضل وأكرث استدامة يف تلك الحالة‪.‬‬

‫إن مصطلح االستدامة إذن‪ ،‬كام دمجته داخل فكرة نبات الكروسونيا‪،‬‬
‫يوجه انتباهنا نحو الرشوط املسبقة إلقامة حضارة معمرة‪ .‬ورغم أن العديد‬
‫من الناس يعيشون حال ًيا يف سلم ورخاء نسبي‪ ،‬ال ينبغي أن نعترب استمرار‬
‫‪ .2‬لنظرة رسمية عىل مفهوم االستدامة‪ ،‬انظر هيل (‪.)1998‬‬
‫‪20‬‬
‫مسلام به‪ .‬فإذا نظرنا إىل السجالت التاريخية‬
‫ً‬ ‫هذا السلم والرخاء أم ًرا‬
‫الشاملة‪ ،‬سنجد أن النمو االقتصادي ليس القاعدة‪ ،‬وأن الحضارات هشة‪.‬‬
‫وقد جمع مايكل شريمر قاعدة بيانات غري رسمية عن البقاء الحضاري‬
‫تصنف بداخلها ستني حضارة‪ ،‬ومن بينها حضارة سومر‪ ،‬وبالد الرافدين‪،‬‬
‫وبابل‪ ،‬وأُرس مرص القدمية الثامنية‪ ،‬وست حضارات يف اليونان‪،‬‬
‫والجمهورية الرومانية واإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬وأرس وجمهوريات‬
‫متفرقة يف الصني‪ ،‬وأربعة عصور مختلفة يف أفريقيا‪ ،‬وثالثة يف الهند‪،‬‬
‫واثنان يف اليابان‪ ،‬وستة يف أمريكا الجنوبية وأمريكا املركزية‪ ،‬وستة يف‬
‫أوروبا وأمريكا الحديثتني‪ .‬ووجد شريمر أن الحضارة املتوسطة صمدت‬
‫أيضا أن االضمحالل بات يأيت رسي ًعا مع مرور‬
‫ملدة ‪ 402.6‬عا ًما‪ .‬ووجد ً‬
‫الزمن؛ فمنذ سقوط اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬بات متوسط أعامر الحضارات‬
‫‪3‬‬
‫‪ 304.5‬عا ًما فقط‪.‬‬

‫كل من ريز (‪ )2003‬وبوسرن تحديدًا (‪ )2004‬عىل قضايا االنهيار الحضاري‪ .‬يقدم‬


‫‪ .3‬انظر شريمر (‪ .)2002‬يركز ٌ‬
‫إس‪ .‬إي‪ .‬فايرن (‪ )34–30 ,1999‬نظرة بديلة عىل البقاء الحضاري‪ ،‬تحت عنوان «فرتات الحياة اإلجاملية»‪ .‬ويعرف‬
‫الحضارة مبنظور أوسع من شريمر‪ ،‬ولذا فهو يعترب الحضارة املرصية القدمية حضارة واحدة‪ ،‬ال مثانية‪ .‬ويف مقابل‬
‫ذلك تحظى الحضارات بفرتات حياة أطول‪ .‬ومن بني الحضارات األطول عم ًرا‪ :‬مرص (‪ 2,820‬سنة)‪ ،‬الصني‬
‫(‪ ،)2,133‬واإلمرباطورية البيزنطية (‪ .)1,962‬ودامت الجمهورية البندقية ملدة ‪ 1,112‬سنة‪ .‬وتشمل األمثلة األقرص‬
‫عم ًرا اإلمرباطورية الفارسية األخمينية (‪ 220‬سنة) واإلمرباطورية الفارسية الساسانية (‪ 427‬سنة)‪ .‬وقد طور فايرن‬
‫أيضً ا التصنيف األكرث دقة لالنهيارات الحضارية‪ ،‬وهو ما يتكرر بكرثة‪ .‬االنهيار هو «تفكك دولة موحدة سابقًا»‬
‫(‪ ،)32‬يف مقابل األمثلة األكرث شدة لالنهيار الحضاري الشامل‪ .‬وقعت االنهيارات املرصية بعد فرتات قدرها ‪،675‬‬
‫‪21‬‬
‫ورغم أن التقديرات العددية الدقيقة تعتمد عىل الطريقة التي نعرف‬
‫بها مفهوم الحضارة والكيفية التي نحدد بها نقاط البداية والنهاية‪ ،‬تظل‬
‫وجهة النظر املتعلقة بهشاشة الحضارات قامئة‪ .‬فمن شأن البرش أن‬
‫‪4‬‬
‫يتعرضوا لخسارات جسيمة ومستمرة لرخائهم وحريتهم‪.‬‬

‫ولعلنا نتساءل عام إذا كان مبقدورنا أن نعظم القيم التعددية ذات‬
‫الصلة من خالل إقامة مجتمع إنساين بحجم سكان ومستوى اقتصادي‬
‫متواضعني للغاية لزمن طويل ج ًدا – أو العيش يف انسجام مع الطبيعة‪،‬‬
‫إذا جاز التعبري‪ .‬وعسانا أن نتذكر يف هذا الصدد عرق الهوبيت الطريف يف‬
‫رواية تولكني‪ .‬ولكن املجتمعات األكرث األفقر يف املايض انهارت مرا ًرا‬

‫و‪ ،187‬و‪ ،206‬و‪ 1,238‬سنة‪ .‬ووقعت االنهيارات الصينية بعد فرتات قدرها ‪ ،400‬و‪ ،500‬و‪ ،442‬و‪ ،360‬و‪،326‬‬
‫و‪ ،69‬و‪ 936‬سنة‪ .‬ووقعت االنهيارات األشورية بعد فرتات قدرها ‪ ،157‬و‪ ،82‬و‪ ،38‬و‪ ،143‬و‪ 312‬سنة‪ .‬ويصنف‬
‫أرنولد توينبي‪ ،‬يف عمله الكالسييك دراسة عن التاريخ‪ ،‬تاريخ العامل إىل ست وعرشين حضارة‪ .‬ووفقًا لطريقته يف‬
‫العد‪ ،‬مل تعد ست عرشة حضارة موجودة‪ .‬ويشري عمل صمويل هنتنغتون اشتباك الحضارات‪ ،‬مستشهدًا مباثيو‬
‫ميلكو (‪ ،)1969‬إىل اثنتي عرشة حضارة كربى‪ ،‬هلكت منهم سبع حضارات‪.‬‬

‫‪ .4‬يستشهد صمويل هنتنغتون (‪ )1996‬بعدة تعريفات للـ«حضارة»‪ ،‬ومن بينها مفاهيم مثل «االستقرار‪ ،‬والحرضية‪،‬‬
‫ريا‬
‫ومعرفة القراءة والكتابة» (‪ )40‬و«الكيان الثقايف األوسع» (‪ .)43‬حدد فرناندي‪-‬أرمستو (‪ ،)20–16 ،2001‬مش ً‬
‫إىل عمل كينيث كالرك‪ ،‬الحضارة باعتبارها مجتمع يحظى بالثقة الكافية التي متكنه من البناء للمستقبل‪ .‬نوه كالرك‬
‫(‪ )1969‬بأنه‪ ،‬رغم عدم معرفته مباهية الحضارة عىل وجه التحديد‪ ،‬بوسعه أن يتعرف عليها فور رؤيتها‪ .‬وعلق ماثيو‬
‫قائال‪« :‬حني تعمل الحضارة بكفاءة‪ ،‬فمن املرجح أنها ستنمو»‪.‬‬
‫ميلكو (‪ً )113 ،1969‬‬

‫‪22‬‬
‫وتكرا ًرا بسبب الضعف العسكري‪ ،‬واملصائب البيئية‪ ،‬واملجاعات‪،‬‬
‫واالستبداد‪ ،‬والكوارث الطبيعية‪ ،‬إىل جانب عوامل أخرى‪.‬‬

‫ولنضع يف اعتبارنا أن املستبد األكرث ثرا ًء سيقهر‪ ،‬أو عىل األقل‬


‫سيعرقل‪ ،‬النبالء البدائيني‪ .‬فحتى لو كانت حياة النبالء البدائيني هي األفضل‬
‫من حيث املبدأ‪ ،‬فلن يتمكن أي مجتمع يسلك هذا الدرب من أن يحافظ عىل‬
‫استقالله الذايت مبفرده عىل املدى الطويل‪ .‬وبالنظر إىل مسار التطور‬
‫اإلنساين‪ ،‬ستحظى بعض املجتمعات دامئًا بالدبابات واألسلحة النووية‪،‬‬
‫ريا‬
‫أيضا أن نالحظ أن املجتمعات األكرث خ ً‬
‫سواء أحببنا ذلك أم ال‪ .‬ومن املهم ً‬
‫أيضا – وهو‬
‫متيل إىل أن تكون أغنى وأكرث تقد ًما من الناحية التكنولوجية ً‬
‫ما يشكل أدلة إضافية عىل أهمية النمو االقتصادي املستدام‪.‬‬

‫وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬من الواضح أن الحروب البدائية كانت تكرر بنفس‬
‫أيضا يف الدموية ويف عنفها‬
‫معدل الحروب الحديثة عىل األقل‪ ،‬ومتاثلها ً‬
‫العشوايئ‪ 5.‬فلم تكن املجتمعات املبكرة مثالية أو سلمية‪ .‬ولذا فالعودة إىل‬
‫املايض‪ ،‬أو محاولة خنق النمو االقتصادي‪ ،‬ال يضمن تحقيق اآلفاق‬

‫‪ .5‬يركز داميوند (‪ )2005‬عىل الكيفية التي دمرت أو خربت بها املصائب البيئية حضارات املايض األقدم‪ .‬وفيام يتعلق‬
‫بوحشية الحروب البدائية‪ ،‬انظر كييل (‪ )1996‬ولوبالنك (‪.)2003‬‬

‫‪23‬‬
‫املستقبلية للحضارة‪ ،‬ناهيك عن مدى الراحة التي توفرها‪ .‬أو بعبارة أخرى‪،‬‬
‫عوضا عن السعي إىل حياة ساكنة وهادئة‪ .‬ورغم‬
‫ً‬ ‫علينا أن نتقدم إىل األمام‬
‫ذلك يتطلب مسارنا السري عىل حبل مشدود‪ ،‬واملوازنة بني التقدم‬
‫واالستقرار عىل طول الطريق‪.‬‬

‫وبوسعنا بالفعل أن نستشف ثالثة أسئلة ينبغي إيالئها أهميتها‬


‫السياسية والفلسفية‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬ما الذي بوسعنا فعله لتعزيز معدل النمو االقتصادي؟‬


‫‪ .2‬ما الذي بوسعنا فعله لجعل حضارتنا أكرث استقرا ًرا؟‬
‫‪ .3‬كيف ينبغي علينا أن نتعامل مع املشاكل البيئية؟‬

‫ومن الشائع اعتبار أول سؤال من تلك األسئلة موضع اهتامم مييني أو‬
‫ليربتاري‪ ،‬واعتبار الثاين الشغل الشاغل للمحافظني‪ ،‬ويشيع الربط بني‬
‫السؤال الثالث‪ ،‬ال سيام يف الواليات املتحدة‪ ،‬بوجهات نظر اليسار‬
‫السيايس‪ .‬ورغم ذلك من األحرى أن تكون تلك األسئلة مركزية‪ ،‬ال ثانوية‪،‬‬
‫بالنسبة لكل كيان سيايس‪ .‬وبوسعنا أن نرى فو ًرا كيف ينبغي إعادة‬
‫تشكيل الطيف السيايس ملواجهة تلك الشواغل بالقدر الكايف‪ .‬فمن‬

‫‪24‬‬
‫األحرى أن تكون السياسة متعلقة بالبحث عن أفضل طرق لتحقيق تلك‬
‫الغايات‪ ،‬ال أن تكون مشغولة بالحط من أهميتها‪.‬‬

‫ما الفائدة من النمو‪ ،‬عىل أي حال؟‬

‫يشري تاريخ النمو االقتصادي إىل أن النمو‪ ،‬مع بعض التحفظات‪ ،‬يخفف‬
‫من البؤس والشقاء‪ ،‬ويزيد السعادة والفرص‪ ،‬ويطيل األعامل‪ .‬إذ تحظى‬
‫املجتمعات األكرث ثرا ًء مبستويات معيشية أعىل‪ ،‬وأدوية أفضل‪ ،‬واستقاللية‬
‫شخصية أكرب‪ ،‬ومستوى أعىل من الرضا‪ ،‬ومصادر أكرث للمرح‪ .‬ورغم أن‬
‫الرثوة املقاسة ال تتوافق متا ًما مع الولث بلس‪ ،‬فقد اقرتب هذان املفهومان‬
‫من بعضهام للغاية يف املايض‪ ،‬وال سيام عرب نطاق النتائج التي رصدناها‬
‫(عىل عكس التجارب الفكرية االفرتاضية والتفكري املخالف للواقع)‪.‬‬

‫ريا ما ننىس كم كانت آثار النمو االقتصادي إيجابية للغاية‪ .‬فقد‬


‫كث ً‬
‫ريا بشأن مقدار‬
‫ذكر االقتصادي راس روبرتس أن الصحفيون يستفتون كث ً‬
‫النمو االقتصادي الذي تحقق منذ عام ‪ .1900‬ووفقًا ملا قاله راس‪ ،‬اإلجابة‬
‫الشائعة لذلك هو أن مستوى املعيشة ارتفع بنحو خمسني يف املائة‪ .‬ويف‬
‫الواقع‪ ،‬ارتفع مستوى املعيشة يف الواليات املتحدة مبقدار خمسة إىل سبعة‬
‫أمثال‪ ،‬طبقًا لتقديرات متحفظة‪ ،‬ومن املمكن أن مقدار الزيادة أكرث من ذلك‬

‫‪25‬‬
‫بكثري‪ ،‬اعتام ًدا عىل طريقة قياس األسعار وقيم املنتجات مع مرور الزمن‪،‬‬
‫وهو علم غري دقيق للغاية‪.‬‬

‫تظهر البيانات املدى الهائل الذي ارتفعت به مستويات املعيشة‪ .‬ففي‬


‫مثال‪ ،‬كان يف ما يقرب من نصف املساكن العائلية يف الواليات‬
‫‪ً ،1900‬‬
‫املتحدة (‪ )%49‬أكرث من فرد واحد مقيم يف كل غرفة‪ ،‬ويف ما يقرب من‬
‫ربع املساكن العائلية (‪ )%24‬ما يزيد عن ‪ 3.5‬فرد يف كل غرفة نوم‪ .‬وكانت‬
‫املياه الجارية متاحة لدى أقل من ربع املساكن العائلية يف الواليات املتحدة‬
‫(‪ ،)%24‬والثالجات لدى ‪ %18‬فقط من البيوت‪ ،‬وإضاءة غازية أو كهربية‬
‫لدى ‪ %12‬فقط‪ .‬واليوم‪ ،‬تبلغ جميع األرقام السابق ذكرها ‪ %99‬أو أكرث‪.‬‬
‫وحينئذ‪ ،‬كانت الهواتف متاحة يف ‪ %5‬فقط من البيوت‪ ،‬ومل يكن الراديو‬
‫حا ألحد‪ .‬وكان معدل التخرج يف املدارس الثانوية نحو ستة‬
‫أو التلفاز متا ً‬
‫يف املائة‪ ،‬وكانت معظم األشغال شاقة جسديًا واتسمت بارتفاع معدل‬
‫اإلصابة بإعاقة أو الوفاة‪ .‬ويف منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬قيض العامل‬
‫العادي ما يرتاوح بني ‪ 2,800‬و‪ 3,300‬من وقته يف العمل كل عام‪ ،‬يف‬

‫‪26‬‬
‫حني أن تقديرات ساعات العمل السنوية اآلن ترتاوح بني ‪ 1,400‬و‪2,000‬‬
‫‪6‬‬
‫ساعة‪.‬‬

‫أمراضا‬
‫ً‬ ‫وحتى وقت قريب‪ ،‬كان شلل األطفال والجدري والتيفود‬
‫شائعة‪ ،‬حتى يف أوساط األغنياء‪ .‬وقد أصيب كل من رؤساء الواليات املتحدة‬
‫جورج واشنطن‪ ،‬وجيمس مونرو‪ ،‬وأندرو جاكسون‪ ،‬وأبراهام لينكون‪،‬‬
‫ويوليسيس س‪ .‬جرانت‪ ،‬وجيمس أ‪ .‬جارفيلد باملالريا يف وقت ما يف‬
‫حياتهم‪ .‬فقد وجدت املضادات الحيوية واللقاحات يف جزء ضئيل ج ًدا فقط‬
‫يف تاريخ البرشية‪ ،‬وليس من قبيل املصادفة أنها ظهرت يف أكرث األزمنة‬
‫ثرا ًء من بني كل األزمنة التي شهدتها البرشية عىل اإلطالق‪ .‬فاألطفال‬
‫الصغار يبلون بال ًء حسنًا حني يولدون يف البالد األغنى‪ ،‬وذلك ألن الرثوة‬
‫توفر املوارد الالزمة لرعايتهم بشكل أفضل‪.‬‬

‫وحتى نهاية القرن التاسع عرش‪ ،‬كان متوسط األعامر يف أوروبا‬


‫الغربية نحو أربعني عا ًما‪ ،‬واستحوذ الطعام عىل نسبة ترتاوح بني خمسني‬
‫وخمسة وسبعني يف املائة من ميزانية أرسة عادية‪ .‬واحتوت الحمية الغذائية‬

‫‪ .6‬تلك األرقام مستمدة من مكتب إحصاء الواليات املتحدة‪ ،‬من خالل ورقة غري منشورة من تأليف برادفورد دولونج‬
‫«املحارضة الثانية‪ :‬النمو البطيء والفقر يف شامل األطليس‪ .»1870–1800 ،‬وعن ساعات العمل‪ ،‬انظر هابرمان‬
‫ومينز (‪.)2007‬‬

‫‪27‬‬
‫يف فرنسا يف القرن الثامن عرش عىل نفس كمية الطاقة التي تجدها يف‬
‫حمية رواندا يف عام ‪ ،1965‬وهي أكرث دولة كانت تعاين من سوء التغذية‬
‫يف ذلك العام‪ .‬ومن آثار هذا الحرمان ببساطة هو أن معظم الناس مل تكن‬
‫‪7‬‬
‫لديهم طاقة كبرية لالستمرار يف الحياة‪.‬‬

‫ويف األزمنة املبكرة‪ ،‬أدى معظم األفراد أعامالً بدنية شاقة‪ ،‬وكان‬
‫التعليم الجامعي –أو حتى التعليم الثانوي– كان صورة من صور الرتف‪.‬‬
‫وقد زاد وقت الفراغ مع النمو االقتصادي‪ .‬ففي ‪ ،1880‬أنفق األفراد نحو‬
‫أربع أخامس وقتهم التقديري يف العمل‪ ،‬طبقًا لالقتصادي روبرت فوجل‪.‬‬
‫واليوم نحن نقيض نحو تسعة وخمسني يف املائة من وقتنا يف فعل ما‬
‫‪8‬‬
‫يحلو لنا‪ ،‬وقد ترتفع تلك النسبة إىل خمسة وسبعني بحلول عام ‪.2040‬‬

‫وال تُعترب روائع العامل الحديث مجرد ملهيات تافهة‪ ،‬بل هي مصادر‬
‫مهمة لراحة اإلنسان ورفاهيته‪ .‬تخيل لو زار مسافر عرب الزمن من القرن‬
‫الثامن عرش بيت بيل جيتس اليوم‪ .‬سيجد أجهزة تلفاز‪ ،‬وسيارات‪،‬‬
‫ريا‪ ،‬ومراحيض‬
‫وثالجات‪ ،‬وتدفئة مركزية‪ ،‬ومضادات حيوية‪ ،‬وطعا ًما وف ً‬

‫‪ .7‬انظر فوجل (‪.)34 ،9 ،8 ،2004‬‬

‫‪ .8‬انظر فوجل (‪.)70 ،2004‬‬

‫‪28‬‬
‫مزودة بنظام شطف‪ ،‬وهواتف محمولة‪ ،‬وحواسيب شخصية‪ ،‬وسفر جوي‬
‫بأسعار ميرسة‪ ،‬بجانب منافع رائعة أخرى‪ .‬إن أكرث مزايا حياة جيتس املثرية‬
‫لإلعجاب‪ ،‬من وجهة نظر شخص من القرن الثامن عرش‪ ،‬هي مزايا يتمتع‬
‫بها معظم مواطني البلدان الرثية اليوم‪ .‬فهاتفي الذيك يعمل بنفس كفاءة‬
‫هاتفه الذيك‪ .‬ومينح وجود حضارة متقدمة يف حد ذاته –نتيجة النمو‬
‫االقتصادي الرتاكمية– منافع هائلة للمواطنني العاديني‪ ،‬ومن بينها قدرتهم‬
‫عىل تعليم وترفيه أنفسهم‪ ،‬واختيار مسار حياة معني بدالً من مسار آخر‪.‬‬
‫وملزيد من الحجج عىل هذا املنوال‪ ،‬أنصح بقراءة أحدث كتاب لستيفن‬
‫‪9‬‬
‫بينكر‪ ،‬التنوير اآلن‪ :‬دفا ًعا عن العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‪.‬‬

‫أيضا‪،‬‬
‫ويعود النمو االقتصادي للبلدان الرثية بالفائدة عىل الفقراء ً‬
‫رغم وجود بعض التأخري امللحوظ يف بعض األحيان‪ .‬إذ يتغري توزيع الرثوة‬
‫مع مرور الزمن‪ ،‬وال تنساب كل آثار النمو إىل األسفل‪ ،‬ولكن مع اعتبار‬
‫املتوسط التاريخي اإلجاميل‪ ،‬تحظى الرشيحة السفلية يف االقتصاد‬
‫بنصيبها من النمو‪ 10.‬وبوسعك أن ترى ذلك مبقارنة الرشيحة السفلية يف‬
‫مثال‪ ،‬بنظائرها يف الهند أو املكسيك‪.‬‬
‫الواليات املتحدة‪ً ،‬‬

‫‪ .9‬أنا مدين لدون بودرو يف تأطري تلك النقطة‪.‬‬

‫‪ .10‬انظر عىل سبيل املثال دوالر وكراي (‪.)2000‬‬


‫‪29‬‬
‫أيضا أن يبذل جه ًدا أكرب يف رفع‬
‫ومن شأن االقتصاد األغنى ً‬
‫مستويات املعيشة للمهاجرين‪ .‬فعاد ًة ما يحصل الفقراء الذين ينتقلون‬
‫للبلدان الغنية عىل أجور أعىل وظروف معيشية أفضل‪ ،‬ويبيل أطفالهم بال ًء‬
‫أيضا‪ .‬فكلام ازداد البلد املستقبل ثرا ًء استفاد عدد أكرب من املهاجرين‬
‫أفضل ً‬
‫الجدد‪ .‬فاملهاجرون من أمريكا الوسطى إىل الواليات املتحدة يبلون بال ًء‬
‫أفضل من املهاجرين من أمريكا الوسطى إىل املكسيك‪ ،‬أو املهاجرين من‬
‫يضا تحويالت مالية مبعدالت تفوق‬
‫نيبال إىل الهند‪ .‬ويرسل املهاجرون أ ً‬
‫املعونات الحكومية األجنبية بكثري‪ .‬واملدى الحقيقي للحركة التصاعدية يف‬
‫الواليات املتحدة يفوق بكثري ما تشري إليه األرقام يف العادة‪ ،‬وذلك ألن‬
‫اإلحصاءات املنشورة عن الحركة التصاعدية ال تتضمن يف العادة مقارنة‬
‫بنتائج ما قبل الهجرة‪.‬‬

‫وال يتوقف تسلسل املنافع عند هذا الحد‪ .‬فاملهاجرون يعودون يف‬
‫كثري من األحيان إىل بالدهم األصلية‪ ،‬جالبني معهم مهارات جديدة وعالقات‬
‫كل من الهند وإرسائيل مشاهد تكنولوجيا‬
‫تجارية جديدة‪ .‬فقد طورت ٌ‬
‫وبرمجية تنبض بالحياة بفضل عالقاتهم الوثيقة مبشهد الرشكات الناشئة‬
‫يف الواليات املتحدة عىل وجه التحديد‪ .‬وقد دربت الجامعات اإلنجليزية يف‬
‫البالد املتكلمة باإلنجليزية آالفًا مؤلفة من الطالب اآلسيويني يف العلوم‬

‫‪30‬‬
‫أيضا إىل أعامل تجارية جديدة‪ ،‬ويف النهاية‪ ،‬معدالت‬
‫والهندسة‪ ،‬ما أدى ً‬
‫منو اقتصادي أعىل يف بلدانهم األصلية‪.‬‬

‫أيضا‬
‫وتشق األدوية والتكنولوجيا الجديدة املطورة يف األمم الرثية ً‬
‫طريقها إىل بقية أنحاء العامل‪ ،‬كام تبني بوضوح شديد يف االنتشار الرسيع‬
‫للهواتف املحمولة والهواتف الذكية اآلن‪ .‬وتتنبأ إحدى الدراسات بأنه إذا‬
‫عززت مجموعة البلدان الصناعية الرائدة املؤلفة من إحدى وعرشين دولة‬
‫ميزانية البحث والتطوير لديها مبقدار نصف يف املائة فقط من الناتج‬
‫املحيل اإلجاميل‪ ،‬فسريتفع إنتاج الواليات املتحدة وحدها مبقدار خمسة‬
‫عرش يف املائة‪ .‬ولكن األمر ال ينتهي عند هذا الحد‪ :‬فسريتفع إنتاج كندا‬
‫وإيطاليا بنحو خمسة وعرشين يف املائة‪ ،‬وسريتفع إنتاج كل األمم‬
‫الصناعية بنحو ‪ 17.5‬يف املائة‪ ،‬يف املتوسط‪ .‬ويف البلدان األقل تطو ًرا يف‬
‫‪11‬‬
‫االقتصاد‪ ،‬سريتفع إنتاجها بنحو ‪ 10.6‬يف املتوسط‪.‬‬

‫ورغم أن تلك العمليات التاريخية جسدت يف كثري من األحيان عدم‬


‫اإلنصاف وفرتات تأخري طويلة تصل إىل عقود أو أكرث‪ ،‬فقد قدم النمو‬
‫االقتصادي الرثاء للفقراء وارتقى مبكانتهم‪ .‬فقد انتفعت الدول املدنية‬

‫‪ .11‬انظر هيلبامن (‪.)84 ،2004‬‬

‫‪31‬‬
‫اليونانية واإلمرباطورية الرومانية من التجارة البحرية عرب البحر املتوسط؛‬
‫وقد قامت تلك املناطق بدورها بنرش املؤسسات املعززة للنمو يف أنحاء‬
‫أوروبا‪ ،‬وأفريقيا الشاملية‪ ،‬والرشق األوسط‪ .‬وأعادت الثورة التجارية يف‬
‫العصور الوسطة املتأخرة وعرص النهضة فتح العديد من طرق التجارة‬
‫العتيقة‪ ،‬وويف النهاية متكن البرش من الهروب من الفخ املالتويس الذي‬
‫ينطوي عىل أجور منخفضة للغاية للفرد عىل مستوى الكفاف‪ .‬لقد ساهمت‬
‫ثروة الغرب يف متكني معجزات التصدير يف اقتصادات رشق آسيا‪ .‬واليوم‪،‬‬
‫تسعى معظم البلدان الفقرية إىل زيادة فرص الوصول لألسواق الغربية‬
‫‪12‬‬
‫واآلسيوية‪ ،‬وأن تزدهر إذا كان بإمكانها تحقيق ذلك‪.‬‬

‫ورغم الزيادة األخرية يف انعدام املساواة داخل كل أمة مبفردها‪ ،‬فقد‬


‫انخفض التفاوت العاملي خالل العقود األخرية‪ ،‬ويرجع فضل ذلك بنسبة‬
‫كبرية إىل النمو االقتصادي يف الصني والهند‪ .‬والدافع الرئييس للنمو يف‬
‫تلك األمم الناشئة هو النمو السابق يف الغرب ورشق آسيا‪ .‬فقد شاركت‬
‫الصني‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف محاولة ملواكبة النمو من خالل تبني‬

‫ريا داخل ًيا‪ .‬ورغم‬


‫‪ .12‬ال ميكن لألعامل اإلحصائية عن التجارة واالستثامر والنمو دامئًا أن تحدد أي من املتغريات متغ ً‬
‫ذلك‪ ،‬تظهر األدلة املتاحة ارتباطات قطعية بني االنفتاح عىل التجارة والنمو؛ انظر هيلبامن (‪ )71–70 ،2004‬لالطالع‬
‫عىل استبيان‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫التكنولوجيا الغربية وتصديرها لألمم األكرث ثرا ًء‪ .‬وتحولت الصني من أمة‬
‫فقرية للغاية إىل أمة «متوسطة الدخل» مع وجود طبقة متوسطة وطبقة‬
‫غنية ال بأس بهام‪.‬‬

‫ورغم أن التغطية اإلعالمية األخرية ركزت بشكل شبه حرصي عىل‬


‫التفاوتات االقتصادية داخل كل أمة مبفردها‪ ،‬فقد كان تاريخ العامل املعارص‬
‫رصا يتسم باملساواة بشكل استثنايئ‪ .‬فاألمر يتعلق قبل كل يشء باملدى‬
‫ع ً‬
‫الذي يساعد به االقتصاد العاملي الفقراء‪ .‬ومثة تقلص حديث للطبقة‬
‫املتوسطة يف األمم األكرث ثرا ًء‪ ،‬ويُعزى ذلك جزئ ًيا إىل التنافس العاملي‬
‫املتزايد‪ .‬ولكن رغم ذلك‪ ،‬فقد شهدنا ارتفا ًعا آنيًا للنمو االقتصادي‪ ،‬والرثوة‬
‫الرتاكمية‪ ،‬واملساواة العاملية يف الدخول خالل الخمسة وعرشين عا ًما‬
‫األخرية‪ .‬وشهد العديد من املواطنني يف رشق آسيا‪ ،‬وجنوب آسيا‪ ،‬وأمريكا‬
‫الالتينية مكاسب ملموسة يف مستوى معيشتهم‪ ،‬ويُعزى معظم ذلك إىل‬
‫تأثري انسياب النمو السابق للبلدان األكرث ثرا ًء‪ .‬وتحذو معظم بلدان أفريقيا‬
‫حذوهم اآلن‪ ،‬مدعومة بشكل جزيئ بحاجة الصني إىل مواد خام‪ ،‬وبانتشار‬
‫‪13‬‬
‫أيضا يف صورة هواتف محمولة بأسعار ميرسة‪.‬‬
‫التكنولوجيا الحديثة ً‬

‫‪ .13‬عن انخفاض انعدام املساواة العاملي‪ ،‬انظر عىل سبيل املثال الكرن وميالنوفيتش (‪.)2014‬‬

‫‪33‬‬
‫ويف بعض األحيان‪ ،‬ال متنح فرتات النمو املطولة منافع كاملة أو‬
‫منصفة للطبقات الفقرية أو الطبقات الدنيا‪ ،‬ومن األمثلة عىل ذلك املرحلة‬
‫األوىل من الثورة الصناعية الربيطانية يف أواخر القرن الثامن عرش‪ .‬ورغم‬
‫ذلك‪ ،‬توحي السجالت التاريخية بأنه كان من األفضل لربيطانيا أن متيض‬
‫قد ًما يف النمو االقتصادي‪ ،‬نظ ًرا ألن ذلك قدم يف النهاية أكرب دفعة يف‬
‫مستويات املعيشة شهدها العامل عىل اإلطالق‪ .‬ومام ال شك فيه أن مثة‬
‫سياسات أفضل كان من املمكن تطبيقها حينئذ‪ ،‬وكان من شأنها أن تؤدي‬
‫إىل توزيع أشمل ملنافع النمو االقتصادي (وعىل سبيل املثال ال الحرص‪،‬‬
‫تقليل عدد الحروب‪ ،‬وإصالح قانون الفقراء‪ ،‬ومتكني التجارة الحرة‬
‫للربيطانيني)‪ .‬ولكن حتى مع أخذ السياسات الخاطئة يف االعتبار‪ ،‬فقد أبلت‬
‫عوضا عن التخيل عن‬
‫ً‬ ‫بريطانيا بالء أفضل بسعيها إىل النمو االقتصادي‬
‫الفكرة كل ًيا‪ ،‬حتى وإن مل تتحقق أي مكاسب حقيقية يف أجور الطبقة‬
‫العاملة حتى أربعينات القرن التاسع عرش‪.‬‬

‫قدم الفائز بجائزة نوبل‪ ،‬أمارتيا سن‪ ،‬فكرة «القدرات» كمحل تركيز‬
‫بديال له كل ًيا‪ .‬وأشار سن إىل أن فرصنا‬
‫بديل للنمو االقتصادي‪ ،‬إن مل يكن ً‬
‫اإليجابية يف الحياة عاد ًة ما تحظى بأهمية أكرب من املبلغ النقدي يف‬
‫أيضا أن بعض أجزاء العامل‪ ،‬مثل والية كرياال‬
‫حساباتنا البنكية‪ .‬وقد الحظ ً‬

‫‪34‬‬
‫يف الهند‪ ،‬تحظى مبؤرشات مرتفعة يف الصحة والتعليم‪ ،‬رغم أن دخولها‬
‫الفردية منخفضة نسبية‪.‬‬

‫والنقاط التي ذكرها سن هنا مهمة‪ ،‬ولكنها ال تضع عراقيل جوهرية‬


‫أمام أهمية الرثوة‪ ،‬أو كام أدعوها هنا‪ ،‬ولث بلس‪ .‬فاملنافع املهمة املرتاكمة‬
‫من القدرات‪ ،‬مثل املنافع الصحية‪ ،‬مأخوذة يف االعتبار يف مفهوم ولث‬
‫بلس‪ ،‬حتى وإن مل تكن ُممثلة بطريقة مالمئة يف قياسات الناتج املحيل‬
‫اإلجاميل‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬والية كرياال أكرث ثرا ًء مام قد توحي به بعض‬
‫القياسات اإلحصائية املحدودة‪ .‬والرثوة والنتائج االجتامعية الحسنة عامالن‬
‫مرتابطان ارتباطًا قويًا يف املتوسط‪ ،‬ويزداد هذا االرتباط يف القوة كلام‬
‫فمثال‪ ،‬إذا مل تحظ كرياال بنمو كبري يف نطاقات‬
‫ً‬ ‫اعتربنا آفاقًا زمنية أطول‪.‬‬
‫اقتصادية ضيقة‪ ،‬فمن غري املرجح أن مؤرشاتها االجتامعية ستبدو مثرية‬
‫لإلعجاب بعد خمسني أو مائة عام من اآلن‪ .‬وحتى اليوم‪ ،‬يُعزى سبب حسن‬
‫تدبري األمور يف كرياال بدرجة كبرية إىل أن العديد من الكرياالليني يعملون‬
‫يف البلدان األكرث ثرا ًء‪ ،‬ال سيام دول الخليج‪ ،‬ويرسلون املال إىل وطنهم‪.‬‬
‫وباملقارنة بالواليات الهندية األخرى‪ ،‬تتسم كرياال مبستوى فوق املتوسط‬

‫‪35‬‬
‫من الرثوة‪ ،‬إىل جانب إنفاق استهاليك أعىل من املتوسط‪ ،‬وهام عامالن‬
‫‪14‬‬
‫يؤخذان يف االعتبار يف اإلحصاءات التقليدية‪.‬‬

‫والحقيقة هي أن النمو االقتصادي هو املسار الوحيد الدائم الذي‬


‫يخرجنا من البؤس‪ .‬فالنمو االقتصادي هو العامل الذي جعل العامل الغريب‬
‫يهرب من فقر عام ‪ 1000‬بعد امليالد أو ‪ 5000‬قبل امليالد‪ .‬وهو السبب يف‬
‫أن معظم رشق آسيا صارت مزدهرة بدرجة مذهلة‪ .‬وهو السبب يف تحسن‬
‫مذهال من منظور‬
‫ً‬ ‫مستوياتنا املعيشية يف املستقبل‪ .‬وكام يبدو الحارض‬
‫املايض‪ ،‬فسوف يقدم املستقبل‪ ،‬إذا افرتضنا أن النمو سيستمر‪ ،‬تطورات‬
‫مامثلة قد تشمل زيادة يف األعامر املتوقعة‪ ،‬وعالجات لألمراض املنهكة‪،‬‬
‫وتحسينات معرفية‪ .‬سيحظى املليارات من الناس بحياة أفضل وأطول‪ .‬وقد‬
‫تبدو العديد من مزايا الحياة املعارصة يو ًما ما متأخرة بنفس القدر الذي‬
‫نحكم به عىل العدد الهائل من النساء الاليت منت أثناء الوالدة يف القرون‬
‫املاضية نتيجة عدم وجود رعاية مناسبة‪.‬‬

‫وأنا شخصيًا كتبت عن الركود العظيم‪ ،‬وهو تباطؤ يف النمو بدأ يخيم‬
‫عىل العامل الغريب يف عام ‪ 1973‬تقري ًبا‪ .‬ولكن االعتقاد بأن التقدم‬

‫‪ .14‬انظر عىل سبيل املثال فينكاترامان (‪ )2009‬وتساي (‪.)2006‬‬

‫‪36‬‬
‫اإلنساين قد استنفد أغراضه ينم عن عجز بالغ يف الخيال‪ .‬والرؤية األقرب‬
‫للعقل هو أن التقدم يتكتل عىل نحو غري متساو عرب الزمن‪ ،‬ونحن اآلن‬
‫نعيش يف عرص يتسم بالبطء يف اآلونة األخرية‪ ،‬ومثة تطورات جديدة‬
‫متنوعة متناثرة‪ ،‬وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا يف دعمها عىل طول‬
‫الطريق‪ .‬وسواء أحببنا ذلك أم ال‪ ،‬ال يصل النمو االقتصادي والتقدم‬
‫التكنولوجي دامئًا بخطى ثابتة‪.‬‬

‫يزخر تاريخ العامل بسوابق متنوعة لفكرة «تحول عظيم» يؤدي إىل‬
‫زيادات ضخمة يف كمية وجودة الحياة البرشية‪ .‬مل يتنبأ أجدادنا بتطور‬
‫البرش‪ ،‬أو الثورة الزراعية‪ ،‬أو «الثورة الحرضية» (سومر وبالد الرافدين‪،‬‬
‫نحو ‪ 4000‬عام قبل امليالد)‪ ،‬أو الثورة الصناعية‪ .‬ويف هذا الشأن‪ ،‬مل تكن‬
‫ثورة رشق آسيا يف النمو االقتصادي متوقعة عىل نطاق واسع‪ .‬وكل تطور‬
‫غري الوضع البرشي بدرجة كبرية مع مرور الزمن‪ ،‬ويف النهاية كان كل ذلك‬
‫ر‬
‫نحو األفضل‪ .‬وتاريخ النمو االقتصادي هو‪ ،‬بدرجة ما‪ ،‬تاريخ تحديد تبعات‬
‫مثل تلك التحوالت غري املتوقعة‪ .‬ومن غري املرجح أننا شهدنا آخر ما تبقى‬
‫من مثل تلك الثورات‪ ،‬وهذا عىل األقل يعتمد عىل ما إذا نجحت الحضارة يف‬
‫البقاء صامدة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وتزداد أهمية مسألة معدل النمو االقتصادي بالنظر إىل املستقبل‬
‫فمثال‪ ،‬يحدث معدل اثنني يف املائة من النمو االقتصادي‪ ،‬بدالً من‬
‫ً‬ ‫البعيد‪.‬‬
‫ضئيال عرب أفق زمني مقداره عام واحد‪ .‬ولكن مع مرور‬
‫ً‬ ‫واحد يف املائة‪ ،‬فرقًا‬
‫الزمن‪ ،‬يحدث معدل النمو األعىل زيادة هائلة ج ًدا يف مستوى الرخاء‪.‬‬
‫ملموسا‪ ،‬فلنتأمل التجربة اآلتية‪ :‬أعد تنفيذ‬
‫ً‬ ‫وإلثبات هذا املفهوم وجعله‬
‫تاريخ الواليات املتحدة‪ ،‬ولكن افرتض أن اقتصاد البلد منا مبقدار أقل بنسبة‬
‫واحد يف املائة كل عام بني ‪ 1870‬و‪ .1990‬يف هذا السيناريو‪ ،‬لن يكون‬
‫اقتصاد الواليات املتحدة يف ‪ 1990‬أكرث ثراء من اقتصاد املكسيك يف‬
‫‪15‬‬
‫‪.1990‬‬

‫أيضا التأمل يف بعض املقارنات مع معدالت النمو االقتصادي‬


‫ويجدر ً‬
‫ريا يف االقتصادات الناشئة‪ .‬فإذا‬
‫األعىل‪ ،‬من قبيل تلك املعدالت التي نراها كث ً‬
‫كان معدل النمو عرشة يف املائة كل عام‪ ،‬كام كان شائ ًعا يف الصني‪،‬‬
‫سيتضاعف الدخل الفعيل للفرد مرة كل سبع سنوات‪ .‬وإذا كان معدل النمو‬
‫واح ًدا يف املائة فقط‪ ،‬سيستغرق مثل هذا التحسن نحو ستة وتسعني عا ًما‪.‬‬

‫‪ .15‬كوين (‪.)2004‬‬

‫‪38‬‬
‫وضح روبرت إي‪ .‬لوكاس‪ ،‬الفائز بجائزة نوبل يف االقتصاد‪ ،‬تلك‬
‫قائال‪« :‬إن التبعات املرتتبة عىل إجابة مثل تلك األسئلة عىل‬
‫النقطة بإيجاز ً‬
‫رفاهية اإلنسان فادحة‪ :‬فبمجرد أن نفكر يف (النمو األيس)‪ ،‬من الصعب‬
‫‪16‬‬
‫علينا أن نفكر يف أي يشء آخر»‪.‬‬

‫رصا رئيس ًيا يف رفاهية‬


‫وحتى لو كنت ال تعترب الرثوة املادية عن ً‬
‫قيام عديدة أخرى‪ ،‬ومنها‪ ،‬عىل سبيل‬‫اإلنسان‪ ،‬فالنمو االقتصادي يجلب ً‬
‫املثال‪ ،‬زيادة فرص تعلم الفنون وتلقي التعليم‪ .‬ومينح النمو االقتصادي‬
‫أيضا قد ًرا أكرب من االستقاللية الذاتية‪ ،‬ويقلل احتاملية أن تكون‬
‫األفراد ً‬
‫مصائرهم ُمحددة بالزمان واملكان الذي ولدوا فيه‪ .‬ويظل صحي ًحا أن العديد‬
‫ريا للتعليم‬
‫من األفراد يولدون فقراء أو يولدون يف عائالت ال تكن احرتا ًما كب ً‬
‫الرسمي أو عائالت تعيش بعي ًدا عن املدن‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬سل نفسك سؤاالً‬
‫بسيطًا‪ :‬أمثة أي وقت مىض يف تاريخ البرشية حظي فيه العديد من األفراد‬
‫بفرص جيدة لهذه الدرجة بأن يكونوا علامء من الطراز األول؟‬

‫يحظى األفراد اليوم بقدرة أكرب عىل تشكيل مستقبلهم‪ ،‬واختيار‬


‫أصدقائهم‪ ،‬والتواصل مع العامل الخارجي‪ ،‬ونسج خيوط ثقافية متنوعة‬

‫‪ .16‬انظر لوكاس (‪.)5 ،1988‬‬

‫‪39‬‬
‫حني يشكلون رواياتهم الشخصية‪ .‬أظهر بنجامني م‪ .‬فريدمان‪ ،‬يف عمله‬
‫الرائع التبعات األخالقية للنمو االقتصادي‪ ،‬مدى اعتامد العديد من فضائل‬
‫‪17‬‬
‫العامل الحديث عىل مستويات متنامية ومتزايدة من الرثوة‪.‬‬

‫وخالصة القول هو أن االقتصاد الذي ينمو مبعدل أرسع سيؤدي‪ ،‬يف‬


‫مرحلة ما‪ ،‬إىل مستويات أعىل من الرفاهية اإلنسانية –والعديد من القيم‬
‫التعددية األخرى– مبعدل ثابت‪ .‬وإذا كانت مجموعة من الخيارات أو‬
‫السياسات متنحنا معدالت أعىل من النمو االقتصادي‪ ،‬فإن تلك الخيارات أو‬
‫السياسات يف حد ذاتها أقرب ما يكون إىل نبات الكروسونيا‪.‬‬

‫هل يزيد النمو االقتصادي من سعادتنا؟‬

‫مييل الكثري منا إىل التكهن أماكن العامل التي تحظى بأعىل مستوى معييش‬
‫وأماكن العامل التي يحظى فيها الناس بأعىل مستوى من السعادة‪ .‬أهي‬
‫البلدان األكرث ثرا ًء؟ أم البلدان التي يتسم فيها الناس بأفضل اتجاهات‬
‫نفسية؟ أم مثة إجابة أخرى لهذا السؤال؟‬

‫‪ .17‬انظر فريدمان (‪ .)2006‬وعن الصلة بني الفنون والنمو االقتصادي‪ ،‬انظر كوين (‪ .)1998‬ولدفاع حديث عن‬
‫تعظيم الناتج املحيل اإلجاميل‪ ،‬انظر أولتون (‪ .)2012‬ولدفاع فلسفي حديث عن أهمية النمو االقتصادي يعتمد عىل‬
‫اعتبارات تعددية‪ ،‬انظر مولر (‪ .)2011‬ويأخذ ستانشيك (‪ )2012‬يف االعتبار أهمية «العدالة املنتجة»‪ ،‬أي ضامن إنتاج‬
‫املخرج يف املقام األول‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫توحي األبحاث الحديثة أن الرثوة تعزز السعادة‪ ،‬وينطبق ذلك عىل‬
‫طيف متنوع من الناس‪ ،‬ومن بينهم األغنياء نسب ًيا الذين يدبرون حاجاتهم‬
‫األساسية بالفعل‪ .‬وجد االقتصاديون بيتيس ستيفنسون وجاسنت وولفرز‪،‬‬
‫يف أشمل دراسة للرابط بني الدخل والسعادة حتى تاريخ الكتابة‪ ،‬أن‬
‫العالقة بني الرفاهية املقاسة والدخل هي عالقة شبه خطية لوغاريتمية‪ ،‬ما‬
‫يدل عىل أن الدخل يعزز السعادة حتى يف املستويات األعىل من الدخول‪.‬‬
‫وتوصلت دراسة شاملة أجراها الحاصل عىل جائزة نوبل االقتصادي‬
‫أنغوس ديتون إىل نتائج مشابهة‪ ،‬وهي أن الدخل اإلضايف يثمر عن مستوى‬
‫‪18‬‬
‫أعىل من السعادة‪ ،‬حتى يف األوساط الرثية نسبيًا‪.‬‬

‫تشري جملة أقدم من األبحاث إىل أن الرثوات اإلضافية ال تجعل‬


‫املواطنني يف البلدان الرثية أسعد‪ ،‬وهذا ينطبق عىل األقل فوق مستوى‬
‫معني من الرثوة‪ .‬واألدلة األساسية لذلك هي مجموعة من االستبيانات‬
‫تستفرس عن مدى سعادة الناس‪ .‬فمتى يصل متوسط الدخل للفرد يف بلد‬
‫معني إىل أعىل من ‪ 10,000‬دوالر أو أكرث بعملة الواليات املتحدة الحالية‪،‬‬
‫يغدو الرابط الرتاكمي بني الدخل والسعادة ضعيفًا للعديد من املراقبني‪.‬‬

‫‪ .18‬انظر عىل سبيل املثال ستيفنسون وولفرز (‪ ،)2013 ،2008‬وساكس وستيفنسون وولفرز (‪ ،)2010‬وديتون‬
‫(‪.)2007‬‬

‫‪41‬‬
‫ويحتج بعض املعلقني بأن املنحنى يتسطح عند نصف الدخل األمرييك لكل‬
‫فرد تقري ًبا‪ .‬وتثري تلك النتائج الشكوك بشأن ما إذا كان النمو االقتصادي‬
‫‪19‬‬
‫يثمر حقًا عن فوائد فيام يخص السعادة‪.‬‬

‫ورغم تلك األدلة‪ ،‬أنا أرى أن الرثوة والسعادة متسايران باملفهوم‬


‫أيضا بفهم متطور بالشكل الكايف للرثوة‪.‬‬
‫الواسع‪ ،‬وذلك مرهون ً‬

‫إن رصد عالقة شبه مسطحة بني السعادة والرثوة يدل عىل طبيعة‬
‫اللغة أكرث مام يدل عىل طبيعة السعادة‪ .‬وكمثال‪ ،‬إذا سألت الناس يف كينيا‬
‫عن مدى سعادتهم بصحتهم‪ ،‬فستحصل عىل معدل مرتفع للغاية عن‬
‫ريا عن املعدل املرصود يف البلدان‬
‫مستوى الرضا املقر به‪ ،‬وال يختلف كث ً‬
‫األكرث الصحة‪ ،‬بل وهو أعىل من معدل الرضا املقر به يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫واالستنتاج الصحيح لذلك ليس أن املستشفيات الكينية تحظى بفضائل‬

‫‪ .19‬عن تسطح املنحنى‪ ،‬انظر عىل سبيل املثال هيليويل (‪ .)28 ،2002‬واملصادر األخرى ذات الصلة هي أرجايل‬
‫(‪ ،)1999‬وأوزوالد (‪ ،)1997‬ومايرز (‪ .)2000‬ال يرتفع مستوى السعادة الرتاكمي بصفة عامة يف البلدان الرثية حني‬
‫تزداد ثرا ًء مع مرور الزمن‪ .‬ويف بعض الحاالت (الواليات املتحدة يف الفرتة ‪ 1991–1946‬كمثال) ترتبط الزيادة يف‬
‫الرثوة مبستويات أقل من السعادة املقر بها ذاتيًا؛ انظر ديرت (‪ ،)1984‬وبالنشفالور وأوزوالد (‪ ،)2000‬وديرن‬
‫وأوييش (‪ ،)2000‬ومايرز (‪ ،)2000‬وكيني (‪ ،)1999‬ولني (‪ ،)1998‬وفري وستوترس (‪ ،)2000‬وإيسرتلني‬
‫(‪ .)1995‬وعن الواليات املتحدة‪ ،‬انظر فري وستوترس (‪ .)77–76 ،2002a‬ولنقد الرابط بني الدخل والسعادة من‬
‫منظور استخدام الزمن‪ ،‬انظر كامنان وآخرين (‪.)2006‬‬

‫‪42‬‬
‫خفية أو أن املالريا ال وجود لها يف كينيا‪ ،‬بل أن الكينيني أعادوا ضبط‬
‫استعاملهم للغة ليعكسوا ما ميكن توقعه عىل نحو معقول من تجاربهم‬
‫اليومية‪ .‬وبطريقة مشابهة‪ ،‬يرفق الناس املعرضون ملواقف غري سعيدة أو‬
‫املجتمعات غري السعيدة معان أقل تفاؤالً مع زعمهم بأنهم سعداء‪ .‬وبالتايل‬
‫أي أدلة قامئة عىل االستبيانات ستقلل من مدى سعادة الناس يف البلدان‬
‫‪20‬‬
‫األكرث ثراء‪.‬‬

‫يركز الرتاث العلمي الخاص بالسعادة يف كثري من األحيان عىل‬


‫الطموح أو تكيفات املتعة‪ .‬ومن منظور تلك الرؤية‪ ،‬كلام حصلت عىل املزيد‬
‫أيضا‪ .‬وبالتايل ترتجم الرثوة األكرب إىل‬
‫رصت تتوقع أو تطمح إىل املزيد ً‬
‫سعادة أقل‪ .‬ولكن من غري املرجح أن تكيفات املتعة تلك «تلتهم» كل مكاسب‬
‫السعادة املكتسبة من الرثوة األكرب‪ .‬وعىل غرار مثال كينيا‪ ،‬تدفع الرثوة‬
‫املتنامية الناس إىل إعادة ضبط استعاملهم للغة‪ ،‬وهي تؤثر يف كيفية‬
‫استجابتهم لألسئلة املتعلقة بسعادتهم‪ .‬فإذا كانت السعادة ذاتها خاضعة‬
‫لتأثريات التأطري‪ ،‬فال شك يف أن الكالم عن السعادة خاضع لتأثريات‬

‫‪ .20‬انظر ديتون (‪.)2007‬‬

‫‪43‬‬
‫أيضا‪ .‬بل قد يكون من األيرس أن تعيد ضبط استعاملك للغة من أن‬
‫التأطري ً‬
‫تعيد ضبط توقعاتك للسعادة‪.‬‬

‫يفرض األثرياء معايري أعىل عىل الظروف التي يعتربون أنفسهم فيها‬
‫«سعداء» أو «سعداء للغاية»‪ .‬فإذا كنت مليونري تعيش بجوار ملياردير‪ ،‬فمن‬
‫غري املرجح أنك ستقر بأنك يف غاية الرثاء‪ ،‬رغم أن حياتك اليومية قد تكون‬
‫حلوة للغاية‪ .‬وال يعني عدم إقرارك بأنك تعيش حياة سعيدة للغاية أنك‬
‫تقيض وقتك بأكمله تحقد عىل امللياردير أو تتعذب من كونك تحظى مبكانة‬
‫نسبية أقل‪ ،‬بل بوسعك أن تتباهى برثوتك الطائلة أمام غريك من الناس‪ ،‬إذا‬
‫رغبت يف ذلك‪ .‬ولكن من شأن وجود جار أغنى منك يف حد ذاته أن يجعلك‬
‫تفرض معايري أعىل عىل كيفية استخدامك لكلمة «سعيد» أو «سعيد‬
‫للغاية»‪.‬‬

‫وبالتايل‪ ،‬قد ينطوي املستوى الثابت من السعادة املقر بها عىل زيادة‬
‫يف السعادة الحقيقية مع مرور الزمن‪ ،‬وذلك ألن كلمة «سعيد» تنطوي عىل‬
‫معان متزايدة يف الطموح كلام جمع املجتمع ثروات أكرب وحظي بتجارب‬
‫أغنى‪ .‬فالتحسن يف أوجه الحياة يجعلنا سعداء بصفة عامة‪ ،‬يف حني أننا‬
‫كال من توقعاتنا للسعادة ومعايري إقرارنا بالسعادة –استعاملنا‬
‫نضبط ً‬
‫للغة– لألعىل‪ .‬واالعتقاد القائل بأن الرثوة األكرب ترتبط مبستوى أعىل من‬
‫‪44‬‬
‫السعادة مدعوم باملالحظة املبارشة‪ .‬إذ يسعى العديد من األفراد أن يحظوا‬
‫بدخول أكرب‪ ،‬حتى بعد تعرضهم لقوة الطموح وتكيفات املتعة‪ .‬وال يعني‬
‫ذلك أنهم يتعرضون للخداع‪ ،‬بل أنهم يعلمون من داخل أنفسهم أن املال‬
‫سيساعدهم يف تحقيق غايات مثينة أو أنه سيساعد عائالتهم‪ .‬فاألفراد‬
‫يقدرون السعادة لعائالتهم بقدر ما يقدرونها ألنفسهم‪ ،‬حتى لو كانت‬
‫وسيلة تحقيق تلك السعادة هذه غري مبارشة وال تنعكس دامئًا عىل مزاجهم‬
‫اليومي أو تقاريرهم الذاتية املحدثة لحظة بلحظة‪.‬‬

‫ونفس املبدأ ينطبق داخل بلد ما‪ ،‬فاألثرياء يقرون مبستويات أعىل من‬
‫السعادة عىل نحو قاطع‪ ،‬يف املتوسط‪ ،‬باملقارنة مبن هم أفقر منهم‪ 21.‬ورغم‬
‫كل الحديث عن بعض دراسات السعادة التي تقدم رؤية تصحيحية للرثوة‬
‫املادية‪ ،‬مل يشكك أحد يف صحة تلك النتيجة‪ ،‬ما يوضح بشكل قاطع أن‬
‫الرثوة تؤدي إىل مزيد من السعادة‪ ،‬يف املتوسط عىل األقل‪ .‬وإىل حد ما‪،‬‬
‫تعكس سعادة األثرياء املقر بها ذات ًيا تأثري مكانة نسبية ذات محصلة‬
‫صفرية‪ ،‬أي أن األكرث ثرا ًء يشعرون بأنهم أفضل حاالً ‪ ،‬ولكن ممتلكاتهم‬
‫تجعل الفقري يشعر بأنه أسوأ حاالً ‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬من غري املرجح أن كل‬

‫‪ .21‬انظر عىل سبيل املثال ديرت (‪ ،)1984‬بجانب مصار عديدة أخرى‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫املكاسب من الرثوة‪ ،‬أو حتى معظمها‪ ،‬تتبدد يف ألعاب ذات محصلة‬
‫صفرية‪ .‬فحياة األثرياء أيرس وأسعد من الناحية املطلقة يف عديد من‬
‫النواحي‪ ،‬كام نوقش أعاله‪ ،‬وكام هو واضح بنظرة رسيعة عىل أكرث األماكن‬
‫التي يتمنى املهاجرون أن يهاجروا إليها‪ ،‬وهي البلدان األكرث ثرا ًء‪.‬‬

‫إذا اشرتى رجل ثري سيارة مرسيدس‪ ،‬فسيظهر جاره استياء أكرب‬
‫للفولكسفاغن التي لديه‪ .‬ولكن إذا امتلك نفس هذا الجار سيارة الدا يف‬
‫لينينغراد قرابة عام ‪ ،1976‬فسيعرب عن مستوى عال أو الئق من الرضا يف‬
‫استبيان عن السعادة‪ .‬ولكن من الناحية املطلقة‪ ،‬سيكون هذا الرجل أفضل‬
‫حاالً بكثري إذا امتلك سيارة فولكسفاغن يف أمريكا املعارصة مام إذا امتلك‬
‫سيارة الدا يف لينينغراد يف سبعينات القرن العرشين‪ .‬فالفولكسفاغن‬
‫ريا ويصعب تشغيلها‪ .‬إذن فرغم‬
‫سيارة جيدة ج ًدا‪ ،‬أما الالدا فهي تتعطل كث ً‬
‫أن الجار يحسد جاره الرثي عىل املرسيدس التي ميتلكها‪ ،‬فمكاسب السعادة‬
‫التي يحظى بها من الرثوة (ومن السيارات األفضل) ال تتبدد يف صورة‬
‫حسد‪ .‬فالسيارات األفضل تجعلنا أفضل حاالً بالفعل‪ .‬ولصياغة ذلك بعبارة‬
‫أخرى‪ :‬من األفضل لك أن تحسد جارك عىل سيارته املرسيدس بدالً من أن‬
‫تحسده عىل حنطوره‪ .‬ويا حبذا لو كنت تحسده عىل مركبته األرسع من‬
‫الصوت‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ريا واح ًدا بسيطًا ميكن‬
‫وفوق كل تلك االعتبارات‪ ،‬السعادة ليست متغ ً‬
‫قياسه بطريقة ال لبس فيها‪ .‬فالسعادة لها معان مختلفة متا ًما عند أشخاص‬
‫مختلفني‪ .‬فقد يسعى بعض الناس إىل محفزات وقتية حني يسعى البعض‬
‫اآلخر إىل الشعور بالرضا يف نهاية حياتهم‪ ،‬ويسعى البعض اآلخر إىل‬
‫تعظيم جودة حياتهم اليومية‪ .‬ويسعى البعض إىل السعادة من خالل عملية‬
‫التغلب عىل نظرائه يف املنافسة عىل املكانة‪ ،‬بينام يلجأ البعض اآلخر إىل‬
‫البحث بداخلهم عىل املرسات التأملية‪ .‬ومن املرجح أننا نسعى إىل خليط من‬
‫تلك الغايات ولكن مع الرتكيز عىل غاية أو أخرى بعينها‪ .‬توفر املجتمعات‬
‫فرصا أكرث وحقوقًا أكرث يف تحقيق املفاهيم املفضلة للسعادة‪،‬‬
‫ً‬ ‫األكرث ثرا ًء‬
‫حتى ال يظهر هذا االمتياز دامئًا يف قياسات رقم إجاميل واحد‪.‬‬

‫يتعامل الرتاث العلمي الخاص السعادة مع رؤية محدودة نسب ًيا‬


‫لرفاهيات اإلنسان‪ .‬ففي العادة تبدأ املطبوعات العلمية التجريبية املعارصة‬
‫شخصا رصي ًحا وواع ًيا بذاته‬
‫ً‬ ‫الخاصة بالسعادة بالتعريف العميل ملا إذا كان‬
‫يقر عن نفسه أنه سعيد حني يُسأل عن ذلك‪ .‬وحتى لو كان ذلك يضع تصو ًرا‬
‫دقيقًا ملفهوم السعادة‪ ،‬ولرمبا يفعل ذلك بالفعل‪ ،‬فذلك ميثل مكونًا واح ًدا‬
‫فقط من رفاهية اإلنسان‪ .‬إذ توفر املجتمعات األكرث ثرا ًء اختيارات أكرث‬
‫لهيكلة اختيارات العمل مقابل األصدقاء‪ ،‬واإلثارة مقابل الرضا عىل املدى‬

‫‪47‬‬
‫الطويل‪ ،‬واالستمتاع باألطفال مقابل خوض حياة مليئة باملسارح والرحالت‪،‬‬
‫وهلم ج ًرا‪.‬‬

‫أيضا املزيد من تجارب السعادة‬


‫ً‬ ‫ومينحنا االقتصاد األكرث ثرا ًء‬
‫«العابرة»‪ .‬إذ يقر الفرد بأنه سعيد إذا عرث مؤخ ًرا عىل قرش‪ ،‬أو إذا فاز فريقه‬
‫املفضل يف مباراة مهمة‪ .‬ومن املرجح أن مصادر السعادة هذه أكرث شيو ًعا‬
‫وأكرث ثباتًا يف املجتمع األكرث ثرا ًء‪ .‬ويوفر االقتصاد التجاري املتنوع‬
‫مصادر أكرث من التحفيز املؤقت وجوالت أكرث من الحظ السعيد قصري‬
‫املدى‪ .‬ويعني ذلك أجهزة جديدة أكرث‪ ،‬وفيديوهات مسلية أكرث‪ ،‬وفرص أكرث‬
‫ملقابلة أشخاص مثريين لالهتامم بالصدفة‪ .‬ويبدو كل ذلك سطحيًا‪ ،‬وهو‬
‫بالفعل كذلك‪ ،‬ولكنه سبب آخر يجعل النمو االقتصادي محف ًزا للسعادة يف‬
‫‪22‬‬
‫أشكالها األكرث تعقي ًدا وتعددية‪.‬‬

‫وعىل أقىص تقدير‪ ،‬يظهر الرتاث العلمي الخاص بالسعادة أن‬


‫التغريات العديدة يف ظروف الفرد ال صلة لها برفاهيتنا‪ ،‬وذلك نتيجة‬
‫تأثريات التكيف والتوقع‪ .‬ولكن تلك النتيجة ال تستبعد الفوائد الكربى للنمو‬
‫االقتصادي‪ .‬فحتى لو كانت التغريات العديدة الصغرية يف مستوى الدخل‬

‫‪ .22‬انظر شوارتز وسرتاك (‪ )1998‬عن بعض تلك املفارقات‪ .‬يقدم ليفنسون (‪ )2013‬مالحظات مثرية لالهتامم عن‬
‫دور الذي قد يلعبه اإلسقاط (مع افرتاض الدوام الزائد لألحداث الحالية) يف تلك التقييامت‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ال صلة لها بالسعادة‪ ،‬فالتغريات الكبرية مبا فيه الكفاية يف ظروف الحياة‬
‫كفيلة بتعزيز أو إيذاء رفاهيتنا‪.‬‬

‫وكمثال عىل الكيفية التي تؤثر بها التغريات الكبرية‪ ،‬تخلق معظم‬
‫ريا‪ .‬ويحظى األفراد املرىض باستقاللية أقل‪،‬‬
‫بؤسا كب ً‬
‫ً‬ ‫كوارث الحياة‬
‫ويشعرون بأمل أكرث‪ ،‬ويواجهون ضغط التعامل مع حالتهم‪ .‬وموت طفل أو‬
‫فرد عائلة قريب يرض رض ًرا بال ًغا بسعادة معظم األفراد‪ ،‬وتلك التأثريات‬
‫تدوم ألعوام طويلة‪ .‬ويؤدي التعذيب‪ ،‬والضغط الشديد‪ ،‬واالغتصاب‪ ،‬واألمل‬
‫أيضا إىل االكتئاب‪ ،‬والصدمة‪ ،‬والتعاسة املستمرة‪ .‬ويعاين األفراد‬
‫الحاد ً‬
‫الذين خاضوا الحروب‪ ،‬والثورات‪ ،‬وانهيار النظام املدين بكرثة من ومضات‬
‫ذاكرة متكررة‪ ،‬وكوابيس‪ ،‬ورسعة الغضب‪ ،‬واالكتئاب‪ ،‬وإدمان الكحول‪،‬‬
‫والعالقات املضطربة‪ ،‬والعجز عن الرتكيز‪ .‬ورغم االضطراب النفيس الذي‬
‫حال لتلك املشاكل‪ ،‬ويف‬
‫تبدو عليه املجتمعات الحديثة الرثية‪ ،‬فالفقر ليس ً‬
‫‪23‬‬
‫الواقع قد يجعلها أسوأ‪.‬‬

‫‪ .23‬عن الرابط بني الكوارث والتعاسة‪ ،‬انظر ديريجروف (‪ ،)1990‬ليامن وآخرين (‪ ،)1987‬وايس (‪ ،)1987‬فريدريك‬
‫ولوينشتاين (‪ ،)1999‬ليامن وورمتان وويليامز (‪ ،)1987‬أرترش (‪ ،)2001‬وورمتان وآخرين (‪ .)1992‬وألدلة عن‬
‫صعوبة التعايف من االغتصاب‪ ،‬انظر ماير وتيلور (‪ )1986‬وويرتز وهاريل (‪.)1987‬‬

‫‪49‬‬
‫شكك بعض املعلقني يف ما إذا كانت الكوارث الشديدة تجعل حال‬
‫الناس أسوأ‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬قد تدفع اإلصابة بإعاقة حادة أو إعاقة بدنية‬
‫األفراد إىل تعديل توقعاتهم ملا ستكون عليه حياتهم‪ .‬وقد يحتفظ هؤالء‬
‫األفراد ببعض أو رمبا كل مستويات السعادة األصلية من خالل تقليل‬
‫طموحاتهم‪ ،‬ولهذا السبب قد يقل مقدار السعادة املفقودة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬يقر‬
‫ضحايا الكوارث مبستويات أقل من السعادة من األفراد األصحاء نسب ًيا‪،‬‬
‫ويتحمل الكثري من هؤالء الضحايا أعوا ًما طويلة من املعاناة الكبرية‪ .‬ويبدو‬
‫أن آليات التأقلم ال تعمل بكفاءة ال سيام حني تكون حالة الفرد تسوء بانتظام‬
‫‪24‬‬
‫مع مرور الزمن‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬طاملا يتسبب املجتمع األفقر يف تدهور مستمر لظروف العديد‬


‫من األفراد‪ ،‬فستزداد املعاناة اإلنسانية املقرتنة به‪ ،‬وذلك ميثل بالفعل خسارة‬
‫حقيقية يف رفاهية اإلنسان‪ .‬ومجد ًدا‪ ،‬مثة فوائد كبرية للنمو االقتصادي‬
‫املستمر واملستدام‪.‬‬

‫‪ .24‬عن التأقلم‪ ،‬انظر بريكامن وكوتس وجانوف‪-‬بوملان (‪ ،)1978‬وبوملان وورمتان (‪ ،)1977‬وكسلر وبرايس‬
‫وورمتان (‪ ،)1985‬وورمتان وسيلفر (‪ .)1987‬وعن فكرة «جوهر األمل»‪ ،‬انظر فري وستوترس (‪ ،)56 ،2002a‬ويرتز‬
‫وهاريل (‪ ،)1987‬سرتويب وآخرين (‪ .)2001‬وعن التغريات التي تحدث مرة واحدة فقط مقابل التدهور املستمر‪،‬‬
‫انظر فريدريك ولوينشتاين (‪.)1999‬‬

‫‪50‬‬
‫ومتثل الرثوة اإلضافية كذلك وسادة للحامية من األحداث السيئة‬
‫للغاية‪ ،‬أو عىل األقل حامية من االنخفاضات الالحقة للرثوة‪ .‬فقبل عرش أو‬
‫خمس عرشة سنة‪ ،‬كان من الشائع أن تسمع الزعم القائل بأنه متى تصل‬
‫أمة إىل مستوى الرثوة املادية التي تحظى به اليونان‪ ،‬يصل مستوى‬
‫السعادة إىل خط مستوي ثابت ال يرتفع‪ .‬وبالفعل‪ ،‬تلك هي النقطة التي‬
‫يبدو أن مستوى السعادة يتوقف عندها‪ .‬ولكن منذ األزمة االقتصادية‬
‫اليونانية التي يعود تاريخها إىل عام ‪ ،2009‬مل يعد أحد يستخدم املثال‬
‫اليوناين لتوضيح العالقة املسطحة بني السعادة والدخل‪ .‬فقد خرس البلد ما‬
‫يقرب من ربع مخرجه االقتصادي‪ ،‬وارتفعت البطالة إىل ما يزيد عن‬
‫عرشين يف املائة‪ ،‬واندلعت أعامل الشغب يف الشوارع‪ ،‬وانتُخب حزب نازي‬
‫جديد يف مجلس الترشيع‪ ،‬وأضحت األدوية األساسية يف بعض األوقات‬
‫غري متوفرة‪ .‬ولو كان البلد ميتلك احتياطيات إضافية من الرثوة قبل تلك‬
‫األزمة لرمبا ساعد ذلك اقتصاد البلد بدرجة كبرية‪ ،‬ولرمبا حال ذلك دون‬
‫وقوع كل تلك املشاكل برمتها بتيسري سداد الديون‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬حتى لو تقبلنا نتيجة «الخط املستوي» التجريبية عن السعادة‬


‫وأخ ً‬
‫والرثوة‪ ،‬فتلك االستبيانات عن السعادة املقر بها ذات ًيا يشارك فيها األفراد‬
‫تحت ظروف املعيشة الطبيعية‪ .‬ولن تتضمن اإلجابات قدرة االقتصادات‬

‫‪51‬‬
‫فمثال‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫األكرث ثرا ًء عىل إرجاء الكوارث الحادة أو التخفيف من حدتها‪.‬‬
‫ميكن لقياسات السعادة أن تتضمن فوائد الزيادة يف متوسط العمر املتوقع‪.‬‬
‫فليس بوسع املوىت والعجزة أن يشتكوا من الوضع الذي هم فيه من القرب‪،‬‬
‫أو عىل األقل ليس يف االستبيانات‪ .‬يرتفع متوسط العمر املتوقع بزيادة‬
‫الرثوة‪ ،‬ولكن التقارير الذاتية عن السعادة تغفل عن هذه الفائدة ألن‬
‫الباحثني ال يستفتون املوىت عن آرائهم‪ .‬وإذا مأل مهاجر‪ ،‬أو طفل ملهاجر‪،‬‬
‫استبيانًا عن السعادة‪ ،‬فلن تجد مقارنة بني أحوالهم الحالية وما قبل الهجرة‪،‬‬
‫سواء كام كانت أو كام كانت لتكون‪ .‬وبحكم التصميم‪ ،‬تستند أبحاث‬
‫السعادة إىل مجموعة ثابتة من الناس يعيشون يف ظروف طبيعية نسبيًا‪.‬‬
‫وذلك يحد من قدرتها عىل قياس بعض أكرب الفوائد التي يثمر عنها النمو‬
‫االقتصادي‪ .‬إذا أردنا أن نكون موجودين حتى يكون لنا خيار اإلجابة عىل‬
‫استبيانات السعادة تلك‪ ،‬فالرثوة ذات أهمية بالغة‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫التغلب عىل الخالف‬ ‫‪3‬‬

‫إن فوائد النمو االقتصادي الجمة تساعدنا عىل حل التفضيالت املتضاربة‪،‬‬


‫وبذلك نصبح قادرين عىل التغلب عىل ما أسميه مشاكل التجميع‪ .‬وبطبيعة‬
‫يحسن ارتفاع معدل النمو االقتصادي حال الجميع؛ فقد يكون‬
‫ّ‬ ‫الحال‪ ،‬لن‬
‫حاال بزيادة االستهالك وتقليل العمل‪،‬‬
‫بعض األفراد يف وقتنا الحايل أفضل ا‬
‫وبالتايل يف نظام ذي معدالت منو اقتصادي منخفضة‪ .‬وحتى لو كان النمو‬
‫يحسن حال الكثريين عىل املدى البعيد‪ ،‬فمن غري املرجح أن‬
‫ّ‬ ‫االقتصادي‬
‫حاال عىل امتداد العملية‪.‬‬
‫يجعل كل فرد أفضل ا‬
‫مع ذلك‪ ،‬فكر يف كيفية تحول مشكلة التفضيالت املتضاربة‪ .‬فحني ترتفع‬
‫معدالت النمو االقتصادي بشكل مستدام‪ ،‬مثة رجحان ساحق للفوائد عىل‬
‫أحد طريف املقياس‪.‬‬
‫ضع يف اعتبارك زيادة نقطة مئوية واحدة يف معدل النمو‪ ،‬بد اءا من‬
‫التكافؤ‪ .‬سنحتاج إىل أفق زمني ميتد ‪ 110.4‬أعوام للحصول عىل النسبة‬
‫‪ 3:1‬من ناتج محيل إجاميل (عىل طول العملية‪ ،‬مع َّدالا وفقاا لوقت الفراغ‬
‫واالستدامة) إىل آخر‪ .‬وإذا أخذنا يف االعتبار زيادة نقطتني مئويتني يف‬
‫معدل النمو‪ ،‬فسنحتاج إىل أفق زمني ميتد ‪ 55.5‬عا اما‪ .‬ومن أجل زيادة أكرث‬

‫‪53‬‬
‫حا مبقدار خمس نقاط مئوية يف معدل النمو‪ ،‬يجب أن ميتد األفق‬
‫طمو ا‬
‫الزمني ‪ 22.5‬عا اما فقط للحصول عىل تلك النسبة ‪.3:1‬‬
‫ضع يف اعتبارك أن عدد السنوات املشار إليه يعرب عن زمن الوصول إىل‬
‫النسبة ‪ ،3:1‬مبقارنة معدل منو أعىل مع معدل منو أدىن‪ .‬مبرور الوقت‪ ،‬إذا‬
‫استمر ارتفاع النمو‪ ،‬فسيتم تجاوز النسبة ‪ 3:1‬عىل أساس مستمر وستزداد‬
‫تلك الفجوة باستمرار‪ .‬ومن أجل تعزيز النمو مبقدار نقطة واحدة‪،‬‬
‫ونقطتني‪ ،‬وخمس نقاط مئوية‪ ،‬سنحتاج إىل ‪ ،161‬و‪ ،81‬و‪ 33‬عا اما‪ ،‬عىل‬
‫التوايل‪ ،‬للوصول إىل خمسة أضعاف الناتج املحيل اإلجاميل‪ .‬لذا فإن‬
‫املطلب ‪ 3:1‬هو مجرد معلم مؤقت عىل الطريق نحو اختالفات أكرب يف‬
‫الرثوة والرفاه (عىل األرجح)‪.‬‬
‫يجادل االقتصاديون أحياناا بأن البنية املعروفة باسم مربهنة االستحالة آلرو‬
‫مستحيال‪ ،‬إال أنه فور اعتبار السعادة والرفاه‬
‫ا‬ ‫تجعل حل تضارب التفضيالت‬
‫ٍ‬
‫سامت ذات صلة ملقارنة خيار بآخر‪ ،‬فإن مربهنة االستحالة آلرو ال تنطبق‪.‬‬
‫إذ تفرتض مربهنة آرو األصلية‪ ،‬ويجب أن تفرتض‪ ،‬أن «حديث السعادة»‬
‫(عىل سبيل املثال‪ ،‬معلومات املنفعة األساسية والشخصية) غائب عن‬
‫مقارنات الحاالت االجتامعية‪ .‬فكر يف مربهنة آرو عىل أنها تقترص عىل‬
‫النظر يف نوع املعلومات الذي ميكن تجسيده يف األصوات املرصودة أو‬
‫التصنيفات الرتتيبية‪ .‬وحاملا تُق َّدم مجموعة أغنى من املعلومات‪ ،‬تضمحل‬

‫‪54‬‬
‫مربهنات االستحالة القياسية‪ ،‬ولهذا السبب أنا ال أعريها الكثري من االهتامم‪.‬‬
‫فقد كانت مجرد مشكلة كبرية يف بعض األطر النظرية املحدودة نو اعا ما‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ومل تكن أب ادا مشكلة كبرية يف العامل الحقيقي يف األساس‪.‬‬
‫تتمثل النقطة األساسية ببساطة يف أنه إذا كانت مكاسب املستقبل كبرية‬
‫ومستمرة‪ ،‬فإن تلك املكاسب ينبغي أن تفوق يف نهاية املطاف التكاليف غري‬
‫أيضا‪.‬‬
‫املتكررة بدرجة كبرية‪ ،‬ومن املرجح أن تأيت بقيم تعددية أخرى ا‬
‫قارن كوريا الجنوبية يف الوقت الحايل مع أفريقيا جنوب الصحراء‪ .‬كام‬
‫ناقشنا آنفاا‪ ،‬إن الزيادة املستدامة يف النمو االقتصادي‪ ،‬املفهومة بشكل‬
‫صحيح‪ ،‬ستعزز العديد من القيم التعددية عىل املدى املتوسط والطويل‪.‬‬
‫وبال شك أن بعض الناس سيصبحون أسوأ حاالا ‪ ،‬ولن تؤيَّد بعض القيم‪،‬‬
‫عىل املدى القصري إىل املتوسط‪ .‬يف هذه الجوانب‪ ،‬ال تختفي مشاكل‬

‫مثال سن (‪ .)1984‬بعيداا عن صلب املوضوع‪ ،‬فكر كيف يستحرض تحليل التكلفة والفائدة التقليدي مبدأ‬
‫‪ .1‬اقرأ ا‬
‫«التعويض املحتمل» لتقييم األهمية النسبية لفائزي السياسة وخارسي السياسة‪ .‬يف هذا النهج االقتصادي التقليدي‪،‬‬
‫إن السؤال الرئييس هو هل تتجاوز مكاسب الرابحني خسائر الخارسين‪ ،‬أو بصياغة أخرى‪ ،‬هل بإمكان الرابحني‬
‫تعويض الخارسين من حيث املبدأ‪ ،‬كام تقاس بالرثوة املادية‪ .‬إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإن تحليل التكلفة والفائدة يويص‬
‫بالسياسة‪ ،‬ألنه من حيث املبدأ ميكن تحويلها إىل حالة يستفيد فيها الجميع‪ .‬ال يعترب هذا عمو اما مقارنة منفعة‬
‫شخصية‪ ،‬ولكنه من الناحية العملية يؤدي الوظيفة ذاتها‪ .‬ففي معظم حاالت العامل الحقيقي‪ ،‬ال يع ِّوض الرابحون‬
‫الخارسين أبداا أو حتى يفكروا بجدية بذلك‪ .‬لذلك نحن نحكم عىل مجموعة واحدة من املكاسب عىل أنها «أكرث قيمة»‬
‫اجتامعياا من مجموعة الخسائر عىل الجانب اآلخر من املقياس‪ ،‬وغالباا ما تكون هوامش الربح الصايف ضئيلة نسبياا‪.‬‬
‫الحظ باملناسبة أن إجاميل مقارنات الدخل الحقيقي سيحد من نطاق عدم تعدي الناتج ومشاكل التبديل املزدوج‬
‫لسيتوفسيك‪ ،‬كام حددها تشيبامن ومور (‪.)1978‬‬
‫‪55‬‬
‫التجميع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال تعرض الخيارات املتنافسة عمو اما حالة جمود للقيم‬
‫واملصالح املتكافئة تقري ابا عىل كل جانب من املقياس‪ ،‬إذ يبدو أحد الجانبني‬
‫مثال‪ ،‬أفضل حاالا من جمهورية الكونغو‬
‫أفضل باعتدال‪ .‬فكوريا الجنوبية‪ ،‬ا‬
‫الدميقراطية بهامش كبري‪ .‬وسيوفر ارتفاع بديل النمو يف النهاية رجحاناا‬
‫واض احا ومستم ارا للقيم التعددية لصالحه‪ ،‬سواء كانت مستويات املعيشة‪ ،‬أو‬
‫حقوق املرأة‪ ،‬أو حرية االختيار‪ ،‬أو مكافحة الفقر‪ ،‬أو قيم مهمة أخرى‪ .‬فلم‬
‫‪2‬‬
‫ال نختار ذلك الخيار ونعرتف أنه يف حوزتنا أسباب عقالنية لتفضيله؟‬
‫إن هذا النهج ملشكلة التجميع ينسجم مع أخالق الحس السليم‪ .‬فال ميكن أن‬
‫يكون الجميع سعداء بكل يشء طوال الوقت‪ ،‬ولكن ينبغي علينا مع ذلك‬
‫اختيار الخيار الذي يجعل أكرثية كبرية من الناس أفضل حاالا ‪ .‬وستعم أهم‬
‫القيم التعددية‪.‬‬
‫إن اختيار السياسة املؤيدة للنمو يعالج بعض املشاكل البارزة يف‬
‫األخالقيات‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف االقتصاد التقليدي –عىل األقل قبل الثورة‬
‫السلوكية واالندماج مع علم النفس– كان يُفرتض عمو اما أن ما يختاره الفرد‪،‬‬
‫أو سيختاره‪ ،‬هو مؤرش جيد عىل رفاهه‪ .‬لكن التفضيالت الفردية ال تعكس‬
‫عرب عنها يف‬
‫دامئاا اهتاممات األفراد جي ادا‪ .‬وغال ابا ما تظهر التفضيالت‪ ،‬كام يُ َّ‬

‫‪ .2‬رونالد دوركني (‪ )1980‬يقدم نقداا فلسف ايا ملبدأ التعويض املحتمل‪ .‬ويناقش بأن الرثوة ال ميكن أن تكون غاية يف‬
‫حد ذاتها وبأننا ينبغي أن نويل املزيد من االهتامم املبارش لكل ما نعتقد أن الرثوة متثله‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫السوق‪ ،‬العقالنية أو غري متعدية أو حاقدة أو مريبة أخالق ايا‪ ،‬كام يتضح من‬
‫السكَّر املكرر إىل الرغبة امللحة يف‬
‫مجموعة واسعة من الرذائل‪ ،‬من اشتهاء ُّ‬
‫املواد اإلباحية فالتوق إىل بطاقات اليانصيب املجحفة إكتوارياا بشكل فادح‪.‬‬
‫بالنظر إىل هذه العيوب البرشية‪ ،‬ملاذا ينبغي أن يكون مفهوم إرضاء‬
‫التفضيالت بالغ األهمية؟ وحتى لو كنت عىل استعداد لتربير بعض هذه‬
‫الخيارات أو الدفاع عنها‪ ،‬يبدو واض احا يف كثري من الحاالت أن إرضاء‬
‫التفضيالت ال يجعل الناس أكرث سعادة وال يجعل العامل مكاناا أفضل‪.‬‬
‫إن الرتكيز عىل فوائد النمو طويلة األجل يتفادى مثل هذه املعضالت‪ .‬فوجبة‬
‫رسيعة من التشيز برغر ال تستحق يف الواقع ‪ 4.89‬دوالرات‪ ،‬بالنظر إىل‬
‫تأثريها املحتمل عىل صحتي املستقبلية‪ .‬وعرض التشيز برغر يتالعب‬
‫برغبتي املربمجة تطورياا يف املزيد من الدهون‪ ،‬عىل حساب متوسط العمر‬
‫املتوقع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬ما يزال العيش يف مجتمع أكرث ثرا اء –‬
‫حتى لو كان مجتم اعا يغص بالوجبات الرسيعة– مفي ادا بالنسبة ملعظم‬
‫أيضا‪ .‬فعىل الرغم من الحديث عن مشكلة السمنة‬
‫الناس‪ ،‬وكذلك لصحتهم ا‬
‫فعال‪ ،‬ما يزال متوسط العمر املتوقع يرتفع‬
‫يف أمريكا‪ ،‬وهي مشكلة حقيقية ا‬
‫مع الرثاء‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬األثرياء واملتعلمون هم األكرث احتامالا ألن يكونوا‬
‫نحفاء أو ينجحوا يف نظامهم الغذايئ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫عندما يكون ارتفاع معدل النمو االقتصادي عىل املحك‪ ،‬تصبح املقارنات‬
‫ذات الصلة واضحة متا اما بعد مرور وقت ٍ‬
‫كاف‪ .‬فمن املحتمل أن يكون الفرد‬
‫أفضل حاالا بالعيش خمس سنوات أخرى‪ ،‬وتلقي التخدير عند طبيب‬
‫األسنان‪ ،‬والتمتع باملواد الغذائية الوفرية‪ ،‬والحصول عىل املزيد من سنوات‬
‫التعليم‪ ،‬وعدم فقد أطفال بسبب األمراض املبكرة‪ .‬وباملثل‪ ،‬سيكون الناس‬
‫بعد مائة عام من اآلن أفضل حاالا بكثري إذا استمر النمو االقتصادي‪ .‬ويف‬
‫مرحلة ما‪ ،‬ستكون هذه الفوائد الرتاكمية قوية مبا يكفي لرتجح عىل حاالت‬
‫معينة من التفضيالت الالعقالنية أو املضللة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يحل هذا النهج‬
‫أيضا بعض مشاكل تجميع التفضيالت داخل الذات الفردية‪ .‬فإذا كان جزء‬
‫ا‬
‫منك يريد التشيز برغر وجزء آخر منك يريد الربوكيل‪ ،‬قد يصعب التوصل‬
‫إىل حكم جيد يراعي كل األمور ملا هو أفضل‪ .‬أيهام أهم‪ ،‬اللذة أم صحتك؟‬
‫ومع ذلك‪ ،‬عندما تسنح لنا الفرصة الختيار نبات كروسونيا –معدالت أعىل‬
‫للنمو االقتصادي– ميكننا أن نتدبر أمرنا مبجموعة من األحكام الرصيحة‬
‫إىل حد ما‪ .‬فاملجتمع األثرى سيجعل‪ ،‬مبرور الوقت‪ ،‬الجميع تقري ابا أفضل‬
‫حاالا ‪.‬‬
‫لتلخيص ما سبق‪ ،‬إذا أجرينا مقارنة واسعة وطويلة مبا يكفي‪ ،‬فسنجد أنه‬
‫بالنسبة للعديد من الخيارات‪ ،‬ال تكون مشاكل التجميع شديدة الخطورة‪،‬‬

‫‪58‬‬
‫عىل األقل ليست كذلك بشكل معوق‪ .‬وبالنظر إىل ذلك الواقع املبهج إىل حد‬
‫ما‪ ،‬أود تعريف مبدأين لالستدالل العميل‪ .‬أوالا ‪:‬‬
‫مبدأ النمو‪ :‬علينا رفع معدل النمو االقتصادي املستدام إىل الحد األقىص‪،‬‬
‫املحدد مبفهوم مثل ولث بالس‪.‬‬
‫سيعيد مبدأ النمو االقتصاد إىل جذوره يف آدم سميث‪ ،‬إذ اتخذ سميث نه اجا‬
‫رشا ومنطق ايا لالقتصاد السيايس‪ .‬وقد أدرك أن فوائد النمو الرتاكمي‬
‫مبا ا‬
‫مهمة‪ ،‬ال سيام مبرور الوقت‪ .‬وليست مصادفة أن رسالته يف االقتصاد كانت‬
‫بعنوان بحث يف أسباب وطبيعة ثروة األمم‪.‬‬
‫فصال واح ادا يف تاريخ البرشية طُ ِّبق فيه مبدأ‬
‫ا‬ ‫وباملناسبة‪ ،‬إنني ال أرى سوى‬
‫النمو بشكل واضح ال لبس فيه‪ ،‬وذلك يف املعجزات االقتصادية لرشق آسيا‪،‬‬
‫التي تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة‬
‫والصني (مع تحذير بشأن االستدامة يف حالة الصني)‪ .‬عاد اة ما يُنظر إىل‬
‫هذه التواريخ عىل أنها نجاحات اقتصادية هائلة‪ ،‬وهي بالطبع كذلك‪ ،‬لكن‬
‫أيضا أعىل مظهر من مظاهر النفع‬
‫مثة ما هو أهم من ذلك‪ :‬فهي متثل ا‬
‫األخالقي يف تاريخ البرشية حتى اآلن‪ .‬ويف حني اعترب هيغل الدولة‬
‫الربوسية يف القرن التاسع عرش تجل ايا إلرادة الله يف التاريخ‪ ،‬إنني أويل‬
‫أهمية مشابهة (لكن علامنية) للمعجزات االقتصادية يف رشق آسيا‪ .‬وكلمة‬
‫فعال‪.‬‬
‫«معجزة» تنطبق ا‬
‫‪59‬‬
‫أسمي املبدأ الثاين مبدأ النمو والحقوق‪:‬‬
‫مبدأ النمو والحقوق‪ :‬حقوق اإلنسان املصونة‪ ،‬حيثام تطبَّق‪ ،‬يجب أن تحرص‬
‫السعي لتحقيق منو اقتصادي أعىل‪.‬‬
‫ضع يف اعتبارك أنني أعمل بنهج تعددي وليس بنهج نفعي ضيق‪.‬‬
‫وسأتطرق إىل حالة هذه الحقوق وطبيعتها الحقاا‪ ،‬لكن يف الوقت الحايل‬
‫فكر فقط يف هذه الحقوق عىل أنها ملزمة ومطلقة‪ .‬هذا يعني‪ :‬ال تنتهك‬
‫حقوق اإلنسان‪ .‬فإذا كنا مستعدين ملقايضة هذه الحقوق مبجموعة من‬
‫القيم التعددية األخرى‪ ،‬فعىل أفق زمني طويل مبا يكفي‪ ،‬ستتفوق الفوائد‬
‫من النمو االقتصادي املرتفع عىل الحقوق يف األهمية‪ ،‬ويف جوهرها ستكف‬
‫الحقوق عن كونها ذات صلة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن وجود نباتات الكروسونيا‬
‫يعني أن الحقوق –إذا كنا سنؤمن بها ال محالة– يجب أن تكون راسخة‬
‫وقريبة ج ادا من املطلقة يف األهمية إذا كانت ستبقى ذات صلة مبقارناتنا‪.‬‬
‫كتب الفيلسوف روبرت نوزيك عن الحقوق باعتبارها «قيو ادا جانبية»‪ .‬وال‬
‫حاجة إىل أن يتوافق التوصيف املحدد لهذه القيود الجانبية مع رؤية نوزيك‬
‫التحررية‪ ،‬أو مع ارتباطه توافقه املطلق بجميع أشكال امللكية الخاصة أو‬
‫حظره ملعظم أشكال الرضائب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ستلبي هذه الحقوق مفهوم‬
‫نوزيك عن الحقوق باعتبارها قيو ادا عىل مجموعة خيارات الفرد أو املؤسسة‪.‬‬
‫أكرر مرة أخرى‪ ،‬مثة بعض األشياء التي ال ينبغي علينا القيام بها‪ .‬ففي‬
‫‪60‬‬
‫رأيي‪ ،‬يؤمن كل شخص تقري ابا بحقوق من نوع ما‪ ،‬والتفكري مبنطق نباتات‬
‫كروسونيا ومشكالت التجميع يساعدنا عىل تحديد كيفية انسجام تلك‬
‫الحقوق مع النظرية األخالقية‪ ،‬أي أنها يجب أن تكون قوية ج ادا وشبه‬
‫مطلقة‪.‬‬
‫الحظ أن املفهومني التقليديني «الحقوق اإليجابية» أو «الحريات اإليجابية»‬
‫–كالهام يشري إىل فرص الناس– ال ينسجامن مع مفهوم الحقوق هذا‪ .‬يعد‬
‫مهام‪ ،‬لكنه مشمول مسبقاا بالواجب لزيادة النمو‬
‫مفهوم الحريات اإليجابية ا‬
‫املستدام إىل أقىص حد‪ .‬وال حاجة إىل حساب الحريات اإليجابية مرتني‪،‬‬
‫ففي الواقع إن القيام بذلك سيكون خطأ‪ .‬والنتيجة هي أن هذه الحقوق‬
‫السلبية‪ ،‬عىل الرغم من أنها قد تكون مقيدة‪ ،‬متثل مجموعة مجردة من‬
‫القيود األساسية‪ ،‬وهي سلسلة من األوامر التي تنهى عن مختلف أشكال‬
‫القتل والتعذيب واإلساءة‪.‬‬
‫بعد قويل هذا‪ ،‬سأناقش الحقاا بأنه ينبغي علينا انتهاك الحقوق ملنع النتائج‬
‫مثال‪،‬‬
‫السلبية للغاية التي تنطوي عىل انقراض القيمة متا اما‪ ،‬كنهاية العامل ا‬
‫كام يُفرتض أحياناا يف التجارب الفكرية الفلسفية‪ .‬إذا أزلنا جميع الرشوط‬
‫املسبقة األساسية من االستدالل األخالقي وجميع التجارب الواسعة وراء‬
‫أحكامنا ووراء تكويننا لنباتات كروسونيا‪ ،‬قد ال تنطبق املفاهيم املعقولة‬
‫متقلقال‪ .‬وبذلك املعنى‪ ،‬إن هذه‬
‫ا‬ ‫للحقوق‪ ،‬أو عىل األقل يصبح وضعها‬

‫‪61‬‬
‫استخدمت العبارة‬
‫ُ‬ ‫رتضة ليست مطلقة متا اما‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫الحقوق املف َ‬
‫ملموسا‪ ،‬إين أقرأ‬
‫ا‬ ‫«شبه مطلقة» يف وقت سابق‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لجعل هذا‬
‫يل إيجاد مثال لخيار واقعي‬
‫الصحف منذ أكرث من أربعني عا اما‪ ،‬وما زال ع ّ‬
‫يكون خارج الصندوق حتى اآلن بحيث ال أرغب يف تطبيق االستدالل‬
‫األسايس حول الحقوق عليه‪.‬‬
‫أال توجد استثناءات أخرى للقواعد؟‬
‫إىل أي مدى ميتد مبدأ تعظيم النمو هذا؟ عىل سبيل املثال‪ ،‬ماذا لو مل تؤثر‬
‫السياسات الفردية الصغرية يف النمو إال عند اعتبارها حزمة جامعية أكرب‬
‫لسياسات تعزيز النمو؟ هل يجب علينا إذن أن نكون محايدين تجاه‬
‫السياسة الفردية يف تلك الحالة؟ أم ميكننا تجميع تلك السياسات الفردية‬
‫م اعا بطريقة ما والتفكري من منظور مجموعة من االلتزامات األكرث إحكا اما‬
‫وشمولية؟ وكيف ستمت هذه املسألة بصلة إىل الحقوق؟‬
‫للتمعن يف هذه األسئلة مبثال واضح‪ ،‬دعنا نتناول أحد «األخطاء يف‬
‫الرياضيات األخالقية» لديريك بارفيت‪ .‬وهو عىل النحو التايل‪ :‬إذا قتلت‬
‫شخصا بري ائا‪ ،‬بحيث‬
‫ا‬ ‫فرقة للرمي بالرصاص مكونة من ستة مطلقني للنار‬
‫يص ّوب جميعهم النار بدقة عىل قلبه‪ ،‬فهل ميكننا القول إن كل واحد من‬
‫مطلقي النار قاتل؟ يف نهاية املطاف‪ ،‬إن «الناتج الحدي» ألي مطلق نار‬
‫كان صف ارا‪ .‬فهل ينبغي أن نعاقب أو نستثمر املوارد ملنع مامرسات منفذي‬
‫‪62‬‬
‫إطالق النار؟ وهل يهم من وصلت رصاصته أوالا ؟ هل ينبغي أن نرفض‬
‫مقاضاة جرائم القتل الجامعي من هذا النوع؟‬
‫سيتفق الجميع تقري ابا عىل أن املشاركة يف عملية إطالق نار كهذه فعل‬
‫خاطئ‪ .‬فعىل الرغم من أن إطالق رصاصة أخرى ال يغري النتيجة املأساوية‪،‬‬
‫إذا نظرنا إىل تلك الرصاصة كجزء من قاعدة قابلة للتعميم عن كيفية معاملة‬
‫اآلخرين –«ال تطلق النار عىل األبرياء»– فإن املجموع الكيل لسلوك اتباع‬
‫القاعدة سينقذ حياة الضحية‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬تشري لنا كل من األخالق‬
‫الواجبة لحقوق اإلنسان ونهج عواقبي للقواعد إىل االتجاه الصحيح‪ ،‬أي‬
‫عدم إطالق الرصاصة األخرى‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬إن نهج «الناتج الحدي‬
‫وحده يهم» ألسئلة من هذا النوع سيؤدي إىل عواقب عملية وخيمة‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬ستنفَّذ املزيد من جرائم القتل عىل يد مجموعات كبرية يك ال‬
‫يتحمل أي فرد املسؤولية‪ .‬لكن الحكومات ال تريد بجالء السامح بهذه الثغرة‬
‫األخالقية أو القانونية‪ ،‬وهذا أحد األسباب التي تجعل نه اجا لألخالق قامئاا‬
‫‪3‬‬
‫عىل القواعد محتو اما إىل حد ما‪.‬‬
‫إن مثال مطلق النار منمط‪ ،‬لكنه يناسب العديد من الحاالت الواقعية‪ .‬رمبا‬
‫ال يرتتب عن عمل فاسد واحد آثار ضارة‪ ،‬لكن الفساد عمو اما ضار‪ ،‬وارتكاب‬

‫‪ .3‬اقرأ بارفيت (‪ )67 ،1987‬لالستزادة مبثال ذي صلة وأعقد‪ .‬وملزيد من اآلراء املستجدة حول هذه املعضلة واملشكالت‬
‫ذات الصلة‪ ،‬اقرأ كاغان (‪ )2011‬ونيفسيك (‪ ،)2012‬واقرأ تيمكن (‪ )1996‬عن دور محتمل ملشكلة الكومة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫العديد من أعامل الفساد سيدمر الكيان السيايس‪ .‬فهل لدينا مربر إلدانة‬
‫عمل واحد من أعامل الفساد بدرجة معقولة من الرصامة والشدة‪ ،‬دون القلق‬
‫فعال‬
‫مهام حقاا عىل املدى الطويل؟ إن ا‬
‫ريا هل سيكون عمل فاسد واحد ا‬
‫كث ا‬
‫ريا‪ ،‬لكن القيام بالعديد من‬
‫ضعيفاا واح ادا قد ال يرض مبصداقية املرء كث ا‬
‫األفعال الضعيفة سيلحق الرضر بها‪ .‬وقد ال يعزز تحسني واحد يف‬
‫ريا‪ ،‬لكن مجموعة أوسع من تحسينات‬
‫اإلجراءات صحة العلم اإلجاملية كث ا‬
‫ريا‪ .‬قد تبدو االنتهاكات العديدة للقاعدة أو القانون‬
‫كهذه قد تحدث فرقاا كب ا‬
‫وخيام حاملا‬
‫ا‬ ‫غري مؤذية بشكل كاف‪ ،‬لكن مقدا ارا كاف ايا منها ميكن أن يكون‬
‫نفكر يف تأثريات الحافز والتوقع طويلة املدى‪ .‬يف العديد من هذه الحاالت‪،‬‬
‫نحن نحكم عىل الفعل الفردي غري املؤذي ظاهرياا من منظور النمط األوسع‬
‫للسلوك الذي ينتمي إليه‪ ،‬وبذلك ميكننا تصور واجب أخالقي ملحاولة إحداث‬
‫‪4‬‬
‫مجموعة أكرب من األفعال املجمعة‪.‬‬
‫قد يرتاجع بعضنا مذعو ارا من فكرة الحياة‪ ،‬أو املجتمع‪ ،‬التي يخضع فيها‬
‫كل يشء لقواعد صارمة دون استثناءات‪ .‬لكن ال تخف – فالقواعد لن‬

‫‪ .4‬يف ما يتعلق بالقواعد‪ ،‬اقرأ برينان وبوكنان (‪ ،)2000‬إبستاين (‪ ،)1997‬وكيدالند وبريسكوت (‪ ،)1977‬من بني‬
‫آخرين كرث‪ .‬يقدم كاون (‪ )2011‬أفكاري السابقة‪ .‬ويوضح غليزر وروتينربغ (‪ )2005‬عدد قضايا السياسة التي‬
‫تنطوي عىل قضايا اتساق الوقت‪ .‬اقرأ أيضا ا املؤلفات حول نفعية القاعدة مقابل نفعية الفعل‪ ،‬عىل سبيل املثال‬
‫براندت (‪ ،)1963‬وليونز (‪ ،)1965‬وريغان (‪ ،)1980‬وسلوت (‪ ،)1992‬وهوكر (‪ ،)2000‬ومايك (‪ ،)1985‬وسكار‬
‫(‪ ،)1996‬وفيلدمان (‪ .)1997‬فقد كانت هذه املشكلة حارضة يف نفعية القاعدة منذ ويليام بييل يف القرن الثامن‬
‫عرش؛ اقرأ شنيويند (‪.)127-125 ،1977‬‬
‫‪64‬‬
‫تكتسب مثل هذه الصالحيات املتطرفة‪ ،‬ألن معظم القواعد ليست بأهمية‬
‫قاعدة تعظيم النمو‪ .‬وما يجعل قاعدة تعظيم النمو مقنعة هو تعلقها بنبات‬
‫الكروسونيا‪ ،‬وهي مكاسب كبرية ج ادا ومستمرة ومركبة يف رفاه البرش‪.‬‬
‫تواجه بعض القواعد‪ ،‬مثل قاعدة «ال تكذب أب ادا»‪ ،‬أمثلة معاكسة محرجة إذا‬
‫كان بإمكان الكذب أن يحقق فوائد عملية جمة يف حاالت معينة‪ .‬لكن قاعدة‬
‫«تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام» ال تواجه مشكلة مامثلة‪ .‬فوفقاا‬
‫للتعريف‪ ،‬تخربنا القاعدة أن نتبع النتائج برجحان للفوائد عىل التكاليف‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬قد تلغي التكاليف العملية بعض القواعد أو تعدلها‪ ،‬لكنها لن تضع‬
‫حدو ادا عىل مبدأ النمو‪ ،‬الذي لن يكون محد ادا إال بحقوق اإلنسان املطلقة أو‬
‫شبه املطلقة‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن اعتبار تعظيم النمو املستدام قاعدة آمرة ال يسمح لقاعدة‬
‫مثل «دامئاا رتّب أبجدياا وفق اسم املؤلف بدالا من عنوان الكتاب» بأن تتمتع‬
‫فعال بأي قوة‪ .‬وفور أن نتجاوز حقوق‬
‫بقوة أخالقية مامثلة‪ ،‬إذا كانت تتمتع ا‬
‫اإلنسان املطلقة ونصل إىل نبات كروسونيا (يف هذه الحالة‪ ،‬النمو‬
‫االقتصادي املستدام)‪ ،‬ستكون معظم األخالق املتبقية عملية بطبيعتها‪،‬‬
‫ريا بحياتنا‪ .‬ولن‬
‫وعرضة لالستثناء‪ ،‬ومعتمدة عىل السياق‪ ،‬وغري مستبدة كث ا‬

‫‪65‬‬
‫تتعلق بالرضورة بالقواعد‪ ،‬ما مل يثبت منظور آخر‪ ،‬خارج نطاق الحجج‬
‫‪5‬‬
‫املطروحة‪ ،‬أن القواعد هي بالفعل الطريق الصحيح الذي ينبغي اتباعه‪.‬‬
‫يف ختام هذه الحجج‪ ،‬نصل إىل استنتاج مفاجئ‪ .‬إذا كان األفق الزمني‬
‫طويال مبا يكفي‪ ،‬فإن القيم الوحيدة غري املرتبطة بالنمو التي ستُلزم‬
‫ا‬
‫القرارات العملية هي القيود الجانبية املطلقة‪ ،‬أو حقوق اإلنسان املصونة‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬ستكون املثل املزدوجة لالزدهار والحرية مركزية لألخالق‪.‬‬
‫سأعود الحقاا إىل بعض الحجج التي تؤيد حقوق اإلنسان املصونة‪ ،‬ولكن‬
‫يف الوقت الحايل يف حوزتنا صيغة واضحة نسب ايا وحرصية («ال تعبد آلهة‬
‫أخرى») وعملية «للنمو وحقوق اإلنسان»‪.‬‬
‫سأتطرق اآلن إىل مسألة األفق الزمني مبزيد من التفصيل‪ .‬فاألفق الزمني‬
‫ريا ج ادا‪ ،‬لن تنجح أي من هذه الحجج‪.‬‬ ‫املناسب لقراراتنا إذا كان قص ا‬
‫مهام ج ادا وملاذا ينبغي أن نفكر –يف معظم‬
‫وسأوضح ملاذا يعد األفق الزمني ا‬
‫الحاالت وليس كلها– من منظور آفاق زمنية طويلة ج ادا‪.‬‬

‫‪ .5‬لقراءة ممتعة حول مواضيع ذات صلة ألقِ نظرة عىل فريينن (‪.)2006‬‬

‫‪66‬‬
‫هل الوقت وهم أخالقي؟‬ ‫‪4‬‬

‫أتساءل عندما أحدد موعدي مع طبيب األسنان‪ ،‬هل يجب أن يكون‬


‫هذا األسبوع أم األسبوع التايل‪ .‬هل ميكن اكتساب أو خسارة أي‬
‫يشء من إزاحة االنزعاج من وقت إىل آخر؟ هل يوجد سبب مربر‬
‫لتأجيل املوعد ملجرد تأخي االنزعاج؟‬

‫منيل غال ًبا إىل تعجيل املتعة وتأجيل أعاملنا الرتيبة وآالمنا‪ .‬إن‬
‫الحارض حقيقي وحيوي للغاية‪ ،‬بينام يبدو املستقبل بعي ًدا ومج ّر ًدا‪.‬‬
‫ال يدرك العديد من الناس أنه عند قدوم املستقبل‪ ،‬سيكون حقيق ًيا‬
‫مثل الحارض اآلن‪.‬‬

‫يخيون بني الحارض اآلين‬


‫ّ‬ ‫تدهشني كيفية استجابة الناس عندما‬
‫واملستقبل واملستقبل البعيد‪ .‬إذ ينحازون غال ًبا تجاه الحارض اآلين‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬أن الفائدة يف غضون عامني لها تقريبًا‬
‫فقد يدرك الشخص‪ً ،‬‬
‫نفس قيمة الفائدة يف غضون ثالثة أعوام‪ .‬إنه موقف عقالين‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬قد يفضل هذا الشخص دوال ًرا واح ًدا اليوم عىل ثالث دوالرات‬

‫‪67‬‬
‫بعد ثالثة أسابيع‪ 1.‬ولكن عندما تكون املقارنة بني عشة أعوام‬
‫وعشين عا ًما من اليوم‪ ،‬يبدي الناس مزي ًدا من الصرب‪ ،‬وقد يقول‬
‫الكثي منهم إن الفائدة بعد عشة أعوام من اليوم تساوي تقري ًبا‬
‫قيمة الفائدة بعد عشين عا ًما من اليوم‪.‬‬

‫بعبار ٍة أخرى‪ ،‬يركز تفضيل الوقت الفردي عاد ًة عىل اآلين مقابل‬
‫البعيد إىل حد ما‪ .‬فإن متكنا من التغلب عىل استعجالنا األويل لتلقي‬
‫املكافأة حاالً ‪ ،‬يكون فكرنا قادر يف كثي من األحيان عىل إدراك أنه‬
‫يجب أن نهتم باملستقبل البعيد بقدر ما يجب أن نهتم باملستقبل‬
‫األقل بع ًدا‪ .‬عمو ًما‪ ،‬إننا يف الواقع عقالنيون إىل حد ما بشأن الوقت‪،‬‬
‫باستثناء هذا التشبث بلحظة «اآلن» وأفق «القريب ج ًدا‪/‬الحايل»‪.‬‬

‫إننا مربمجون للحظة اآلن ألسباب ال تنطبق عىل معظم خيارات‬


‫سياستنا العامة وقد بطل استعاملها كأداة أساسية للتفكي‬
‫األخالقي‪ .‬تطور البش يف ظل ظروف الصيد والجمع القاسية؛‬
‫وكان لديهم سبب وجيه إليالء اهتامم خاص للحظة اآلن‪ .‬إن مل‬
‫تترصف «اآلن» بشكل صحيح‪ ،‬فقد ال يكون هناك غ ًدا‪ .‬فإذا ادخرت‬

‫‪ .1‬بخصوص هذا النوع من الخصم‪ ،‬انظر فريدريك‪ ،‬ولوفنشتاين‪ ،‬وأودونوغو (‪.)2002‬‬


‫‪68‬‬
‫قطع ًة من اللحم‪ ،‬فسوف تفسد أو يستويل عليها جارك أو تستهلكها‬
‫الحيوانات الغازية بني عشية وضحاها‪ .‬مل يكن األمر مثل ادخار‬
‫سندات الخزينة أو حساب فيديليتي‪ .‬قد يكون لدينا تفضيل‬
‫بيولوجي فطري لـ«اآلن»‪ ،‬لكننا سنكون أفضل حاالً إن متكنا من‬
‫تجاوزه‪ ،‬وإن استطعنا االستفادة من جزء ذاتنا الذي يدرك أن الفائدة‬
‫يف غضون عشين عا ًما متلك تقري ًبا نفس قيمة الفائدة يف غضون‬
‫ثالثني عا ًما‪.‬‬

‫إذا كنت من نوع األشخاص الذين مييلون إىل اغتنام الفائدة الحالية‪،‬‬
‫فستكون أفضل حاالً إن متكنت من إيجاد طريقة لربط هذه املكافآت‬
‫اآلنية مبردود أعىل يف املستقبل‪ .‬يجد الشباب‪ ،‬وغي املتعلمني‪ ،‬ومن‬
‫يعانون من انخفاض معدل الذكاء ومشاكل يف اإلدراك أو ضبط‬
‫النفس صعوب ًة أكرب يف خلق هذا الرابط‪ .‬يعد هؤالء األشخاص ً‬
‫أيضا‬
‫أكرث عرض ًة ملشاكل السمنة والقامر والتحكم يف االنفعاالت وحتى‬
‫العنف‪ .‬ال تثبت هذه االرتباطات فلسف ًيا أن خياراتهم املستعجلة غي‬
‫صحيحة (قد يكون املقامرون هم الحكامء ونحن الباقون حمقى‬
‫لفقداننا بهجة املخاطرة)‪ ،‬لكنها تدعم فكرة أن هؤالء األفراد يرتكبون‬

‫‪69‬‬
‫خطأً‪ .‬إنهم يفشلون يف تخيل املستقبل واستياده‪ .‬وتشي أدلة‬
‫أخرى إىل أن األطفال العجولني يواجهون مشاكل أكرث يف املدرسة‬
‫‪2‬‬
‫ويزيد احتامل تعرضهم إلجراءات تأديبية‪.‬‬

‫غال ًبا ما يتم االختيار بني الحارض واملستقبل عىل املستوى‬


‫االجتامعي‪ .‬إذ تؤثر العديد من السياسات االجتامعية عىل ما إذا‬
‫آجال‪ ،‬وإن كان علينا اتخاذ‬
‫عاجال أم ً‬
‫ً‬ ‫كانت الفوائد والتكاليف تأيت‬
‫قرار‪ ،‬يجب أن نحدد مدى استعجالنا‪ .‬إنني قلق بشأن التداعيات‬
‫املنطقية لالستعجال‪ ،‬يف حال كان علينا تطبيق هذا االستعجال عىل‬
‫‪3‬‬
‫أفق زمني أطول‪ .‬فقد كتبت مرة مبشاركة ديريك بارفيت‪:‬‬

‫ملاذا يجب أن تحظى التكاليف والفوائد باهتامم أقل‪ ،‬ببساطة‬


‫ألنها ستزيد يف املستقبل؟ عند قدوم املستقبل‪ ،‬لن تكون هذه‬
‫الفوائد والتكاليف أقل واقعية‪ .‬تخيل أن تكتشف‪ ،‬بعد أن بلغت‬
‫لتوك عيد ميالدك الحادي والعشين‪ ،‬أنك ستموت قريبًا بسبب‬

‫‪ .2‬كاستيلو وآخرون‪ )2011( .‬انظر أيضً ا موفيت وآخرون‪ )2011( .‬وميشيل وشودا ورودريغيز (‪)1989‬‬
‫األحدث‪ .‬وحول العالقة بني الصرب ومقاييس القدرة اإلدراكية‪ ،‬انظر فريدريك (‪ .)2005‬ايبش وزرغامي‬
‫)‪ (2011‬دراسة العالقة بني التأثي اإليجايب والتفضيل الزمني املنخفض‪.‬‬
‫‪ .3‬كون وبارفيت (‪.)145 ،1992‬‬
‫‪70‬‬
‫الرسطان ألن كليوباترا أرادت وجبة إضافية من الحلوى يف‬
‫إحدى األمسيات‪ .‬كيف ميكن تربير هذا؟‬

‫يتحدث االقتصاديون وعلامء االجتامع اآلخرون غال ًبا عن «معدل‬


‫الخصم»‪ .‬يخربنا معدل الخصم كيف نقارن الفوائد املستقبلية‬
‫بالفوائد (أو التكاليف) الحالية عند اتخاذنا القرارات‪ .‬فعندما يكون‬
‫معدل الخصم مرتف ًعا‪ ،‬نعترب التكاليف والفوائد املستقبلية أقل‬
‫أهمية‪ .‬لنتحدث من حيث املتعة (أو األمل) كمقدار يتوافق‪ ،‬لكن‬
‫تقري ًبا‪ ،‬مع مقياس عددي حقيقي‪ .‬إن معدل الخصم بنسبة ‪ 5‬باملئة‪،‬‬
‫محدد سنويًا‪ ،‬يعني أن ‪ 100‬وحدة تستحق املتعة اليوم تساوي ‪105‬‬
‫وحدات تستحق املتعة بعد عام من اآلن‪ .‬ومعدل الخصم بنسبة ‪10‬‬
‫باملئة سيجعل هذه املساواة تبلغ ‪ 110‬وحدات متعة بعد عام من‬
‫اآلن‪ ،‬وهلم ج ًرا‪.‬‬

‫أما معدل الخصم الصفري يعني أن الفوائد (أو التكلفة) املستقبلية‬


‫لها نفس قيمة الفوائد املقارنة يف الوقت الحارض‪ .‬فالشخص مع‬
‫معدل خصم صفري لن يرى أي جدوى من تأجيل الذهاب إىل طبيب‬
‫األسنان‪ .‬ال يوجد سبب لعدم إنهاء األمر‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫إن كنا قد تعلمنا شي ًئا‪ ،‬فهو أن معدالت الخصم مهمة‪ .‬ففي حياتك‬
‫الشخصية‪ ،‬تؤثر عىل مدى صعوبة عملك‪ ،‬وكم تشب (مشوبات‬
‫كحولية) وتقامر‪ ،‬ونوع التعليم الذي تحصل عليه‪ .‬وعىل املستوى‬
‫االجتامعي‪ ،‬يتعلق معدل الخصم مبسائل حول مدى صعوبة مكافحة‬
‫تغي املناخ وكم يجب أن نستثمر يف الحفاظ عىل التنوع البيولوجي‪.‬‬
‫إن تجاهلنا أهمية املستقبل البعيد‪ ،‬فلن تبدو اإلجراءات رضورية‪.‬‬
‫ولكن إذا التفتنا إىل املستقبل البعيد‪ ،‬فسرنى هذه املخاوف الرئيسية‪.‬‬

‫أيضا ملدى إرصارنا عىل السعي لتحقيق معدل أعىل‬


‫والخصم مهم ً‬
‫من النمو االقتصادي‪ .‬فمعدل النمو األعىل يعني أن املستقبل‪ ،‬يف‬
‫مرحل ٍة من الوقت‪ ،‬سيكون أغنى بكثي مام سيكون يف األحوال‬
‫أيضا أن البش سيكونون أفضل‬
‫األخرى‪ ،‬وكام قلت سابقًا‪ ،‬إنه يعني ً‬
‫حاالً بكثي‪ .‬فإىل أي مدى يجب أن نشعر بأننا ملزمون بتحقيق هذه‬
‫مهتام باليوم فحسب‪ ،‬لن يكون لديك الدافع‬
‫ً‬ ‫الحالة األغنى؟ إذا كنت‬
‫للعمل لصالح منو مستدام أعىل‪.‬‬

‫يترصف معظمنا بإيثار‪ ،‬خاص ًة تجاه أبنائنا وأحفادنا‪ .‬لكن هذا‬


‫يا بأحفاد اآلخرين‪.‬‬
‫الشكل من اإليثار الجزيئ ال يجعلنا نهتم كث ً‬
‫‪72‬‬
‫عندما يصوت الناس أو يتخذون قرارات أخرى تؤثر عىل األجيال‬
‫القادمة ككل‪ ،‬فإنهم يترصفون غال ًبا بأنانية تامة‪ .‬تكون اآلفاق‬
‫الزمنية السياسية قصية ج ًدا يف العادة‪ ،‬وغال ًبا ال متتد أبعد من‬
‫االنتخابات التالية أو الدورة اإلعالمية التالية‪ .‬إذ يحرص الناخبون‬
‫عىل تلقي املزيد من اإلنفاق الحكومي اآلن وتأجيل الرضائب املطلوبة‬
‫إىل املستقبل البعيد‪ .‬تفعل قلة من الحكومات جل ما يف وسعها‬
‫لتعزيز النمو االقتصادي يف املستقبل البعيد‪ .‬خالصة القول هي إن‬
‫االهتامم باملستقبل يشء ال يحدث تلقائ ًيا‪ ،‬حتى لو كنت تعشق‬
‫أحفادك أو ستعشقهم‪ .‬عندما يتعلق األمر مبعدل الخصم للقرارات‬
‫االجتامعية‪ ،‬يجب أن نختار بحكمة‪.‬‬

‫بالنسبة لقرارات معينة‪ ،‬مثل قطع شجرة أو تركها‪ ،‬تحث قوى‬


‫السوق حتى األشخاص األنانيني عىل التفكي يف املستقبل البعيد‪.‬‬
‫إذا تركت الشجرة قامئة‪ ،‬فقد يزيد مثنها‪ .‬وإن كنت متتلك لوحة‬
‫لرامربانت‪ ،‬فمن املحتمل أن تحتفظ بها يف حالة جيدة‪ ،‬حتى لو كنت‬
‫أحمقًا أنان ًيا غي مثقف وغي مهتم باإلرث الفني للهولنديني‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬ال تنطبق هذه األمثلة إال عندما وجود حقوق ملكية محددة جي ًدا‬

‫‪73‬‬
‫ألصول معينة‪ .‬فالدوافع وراء هذه السلوكيات لن تحفزنا عىل‬
‫الحفاظ عىل البيئة أو تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام‪ .‬ومر ًة‬
‫أخرى‪ ،‬ال يأتينا عمق االهتامم املناسب باملستقبل البعيد تلقائ ًيا‪ ،‬عىل‬
‫األقل ليس مبجموعة متنوعة من الحاالت‪.‬‬

‫بعبار ٍة أخرى‪ ،‬عندما يتعلق األمر باألصول غي القابلة للتداول‬


‫والقابلة للتخزين‪ ،‬ال تعكس األسواق تفضيالت األفراد الذين مل‬
‫يولدوا بعد‪ .‬يعترب فرع االقتصاد املعروف باقتصاد الرفاه األسواق‬
‫مثال معياريًا‪ ،‬ومع ذلك ال ميكن أن تتعاقد األجيال القادمة‬
‫املثالية ً‬
‫يف أسواق اليوم‪ .‬لكن إن كان لنا أن نتخيل انخراط أجيال املستقبل‬
‫يف مثل هذه التعاقدات‪ ،‬فقد تصب القرارات الحالية يف مصلحتهم‪.‬‬
‫إنه عام ‪ ،2018‬لن يستطيع األشخاص املستقبليني يف عام ‪2068‬‬
‫التعبي عن تفضيالتهم عرب معظم الخيارات التي نتخذها اليوم‪ ،‬مثل‬
‫رسعة تعزيز الرثوة املستقبلية أو مقدار التخفيف من مخاطر‬
‫‪4‬‬
‫الكوارث الجسيمة‪.‬‬

‫‪ .4‬ملعرفة كيف يعمل هذا‪ ،‬فكر يف مستقبل أكرث ثرا ًء بعد مئة عام من اآلن‪ .‬رغم ارتفاع الرثوة اإلجاملية‪ ،‬قد‬
‫ميوت بعض األفراد بسبب القرارات الحالية‪ ،‬مثل اإلهامل البيئي‪ .‬إن متكن هؤالء األفراد من املزايدة عىل‬
‫سياسات اليوم‪ ،‬سيحاولون زيادة االهتامم باملستقبل‪ .‬إن اعتربنا أن منو الرثوة يتطابق (تقريبًا) مع معدل‬
‫‪74‬‬
‫دعنا ننظر اآلن يف بعض الخيارات األساسية حول كيفية تقييم‬
‫املستقبل البعيد‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬فكر يف صانع القرار الذي يوازن بني‬
‫املصالح الحالية واملستقبلية‪ ،‬أو حياة البش يف هذه الحالة‪ .‬إن‬
‫طريقة عمل الخصم هي كاآليت‪ :‬إن خصمنا املستقبل بنسبة خمسة‬
‫باملئة‪ ،‬فإن وفاة الشخص اليوم تعادل وفاة ‪ 39‬مليار شخص بعد‬
‫خمسمئة عام من اآلن‪ .‬أو بدالً من ذلك‪ ،‬وبنفس معدل الخصم هذا‪،‬‬
‫إن وفاة شخص بعد مئتي عام من اآلن تساوي وفاة ‪ 131.5‬شخص‬
‫بعد ثالمثئة عام من اآلن‪ .‬بعد التفكي‪ ،‬سيشارك قلة من الناس‪ ،‬بعد‬
‫تنحية مصلحتهم األنانية يف الفرتة الزمنية الحالية‪ ،‬هذه‬
‫‪5‬‬
‫االستنتاجات كأساس التخاذ القرارات األخالقية‪.‬‬

‫أو لنفكر يف املقارنة بشكل مستقبيل‪ .‬تحت أي معدل خصم إيجايب‪،‬‬


‫بغض النظر عن مدى انخفاضه‪ ،‬ميكن أن تساوي حياة واحدة اليوم‬

‫الفائدة أو الخصم‪ ،‬فإن عروضهم‪ ،‬وفقًا لشوط اليوم‪ ،‬ستكون بنفس أهمية عروضنا‪ .‬وإذا كان للسياسة‬
‫القدرة عىل إحداث تأثي كبي عىل حياتهم‪ ،‬فمن املمكن أن يكون أفراد األجيال القادمة هم املزايدون‬
‫املهيمنون يف تقييم السياسة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن أسعار السوق الحالية ال متنحهم أي أهمية‪ ،‬أو متنحهم أهمية‬
‫دليال إضاف ًيا عىل أن األساليب الحالية تقلل من أهمية‬
‫من خالل إيثارنا غي الكامل فقط‪ .‬ميكنك اعتبار هذا ً‬
‫تخصيص املوارد لألجيال القادمة‪.‬‬
‫‪ .5‬بشأن كيفية استجابة األفراد لالستفسارات حول الحياة الحالية واملستقبلية‪ ،‬انظر فريدريك (‪،2003‬‬
‫‪.)2006‬‬
‫‪75‬‬
‫أكرث من مليون حياة يف املستقبل‪ .‬قد يستحق األمر كامل البقاء‬
‫طويال كفاي ًة‬
‫ً‬ ‫الالحق للجنس البشي‪ ،‬إن استخدمنا أفقًا زمن ًيا‬
‫للمقارنة‪ .‬يجب أن نشكك‪ ،‬عىل أقل تقدير‪ ،‬يف تطبيق معدالت‬
‫الخصم اإليجابية عىل كل خيار أمامنا‪ .‬يجب أن نكون أحيانًا أقل‬
‫استعجاالً وأن نويل املستقبل اهتام ًما أكرب‪.‬‬

‫حتى لو كنت تعتقد أن االستعجال الفردي مربر يف بعض األحيان‪،‬‬


‫فاالستعجال لن يربر الخصم اإليجايب للرخاء عرب األجيال‪ .‬قد يعني‬
‫التفضيل الزمني أن الفرد يفضل تناول رشيحة لحم جيدة للعشاء‬
‫آجال‪ .‬حتى لو كان هذا منطق ًيا –ففي النهاية‪ ،‬إنك‬
‫عاجال وليس ً‬
‫ً‬
‫تجوع أكرث كل دقيقة– ال ينطبق هذا النوع من التفضيل الزمني عىل‬
‫األطر الزمنية األطول‪ ،‬مبا فيها األجيال القادمة‪ .‬لن يحصل أحفاد‬
‫أحفادنا الذين مل يولدوا بعد عىل املزايا لبعض الوقت‪ .‬لكنهم يف‬
‫نفس الوقت لن يجلسوا وينتظروا بفارغ الصرب مع بطونهم‬
‫الخاوية‪ .‬ال ميكن املجادلة بأن فرتتهم الزمنية القادمة ستكون أقل‬
‫قيمة ملجرد أنه يجب عليهم انتظارها‪ .‬وباملثل‪ ،‬ال ميكن املجادلة بأن‬
‫فالحي العصور الوسطى استفادوا من كونهم قد ولدوا قبلنا‪ ،‬وأكلوا‬

‫‪76‬‬
‫خبزهم يف وقت أبكر‪ .‬عندما نفكر يف فرتات زمنية طويلة ونحيص‬
‫السنوات التي تسبق والدة األفراد‪ ،‬يجب أن نتجاهل االستعجال‬
‫كعامل وثيق الصلة لعدم انطباقه‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن التفضيل الزمني ال‬
‫يربر الخصم الكبي للمستقبل البعيد‪ ،‬حتى لو كان يربر رغبة توم‬
‫‪6‬‬
‫آجال‪.‬‬
‫عاجال وليس ً‬
‫ً‬ ‫يف تناول رشائح اللحم للعشاء‬

‫هناك طريقة أخرى للتفكي يف سبب خطأ معدل خصم الوقت‬


‫املرتفع تتضمن تجربة فكرية غي عادية إىل حد ما – قد يقول‬
‫البعض عنها غريبة‪ .‬تقرتح نظرية النسبية ألينشتاين أنه ال توجد‬
‫إجابة واقعية واحدة عىل السؤال «ما الوقت اآلن؟»‪ ،‬إذ يتعلق أي‬
‫قياس للوقت (متى «اآلن»؟) مبنظور املراقب‪ ،‬ورسعة ذلك املراقب‬
‫بالنسبة لرسعة الضوء‪ .‬بعبار ٍة أخرى‪ ،‬إذا كنت تسافر برسعة كبية‪،‬‬

‫‪ .6‬الحظ‪ ،‬باملناسبة‪ ،‬أن التفضيل الزمني الفردي مفهوم معقد‪ .‬ماذا لو كنت جائ ًعا جدًا وأرغب يف تناول‬
‫تفضيال زمن ًيا؟ أم أن التفضيل الزمني يعني أنه يجب تفضيل‬
‫ً‬ ‫الطعام اآلن وليس الحقًا؟ هل يعترب هذا‬
‫آجال؟ وإذا حافظنا عىل كل يشء‬
‫عاجال وليس ً‬
‫ً‬ ‫«تجربة األكل» نفسها –الحفاظ عىل مستوى الجوع ثابت–‬
‫ثابت‪ ،‬فبأي منطق ميكننا القول إن الوقت قد مىض؟ لذا‪ ،‬فإن مرور الوقت يعني أن رشوط ثبات العوامل ال‬
‫ميكن أن تكون دقيقة متا ًما‪ ،‬ولكننا نعود إىل مسألة ما الذي يجب أن يتغي مع مرور الوقت املفرتض‪.‬‬
‫ميكن القول إن جميع حاالت «البضائع يف فرتات زمنية مختلفة» هي بضائع مختلفة ببساطة‪ ،‬مع مالحظة‬
‫أن االقتصاديني يع ّرفون «البضائع» من حيث التفضيل الظاهر والسواء‪ .‬مل تُحل هذه املشاكل الفوضوية‪،‬‬
‫لكنها تلقي مزيدًا من الشك عىل فكرة عقالنية التفضيل الزمني اإليجايب البحت يف حد ذاته‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫فأنت تنتقل إىل املستقبل مبعدل رسيع للغاية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبدو‬
‫غري ًبا‪ ،‬عىل أقل تقدير‪ ،‬أن نخصم رخاء الناس مع زيادة رسعتهم‪ .‬إذا‬
‫مثال‪ ،‬مركبة فضائية برسعة تقارب رسعة الضوء‪ ،‬فإن رواد‬
‫أرسلنا‪ً ،‬‬
‫الفضاء سيعودون إىل األرض‪ ،‬بالكاد متقدمني يف العمر‪ ،‬بعد‬
‫ماليني السنني‪ .‬هل يجب أن نويل اهتام ًما أقل لسالمة مركبتنا‬
‫الفضائية‪ ،‬وبالتايل لرفاه روادنا للفضاء‪ ،‬ورسعة هذه املركبات؟ هل‬
‫يجب علينا –نتيج ًة للخصم اإليجايب– أال نزودهم بالوقود الكايف‬
‫للهبوط اآلمن؟ وإذا رفضت الحكم عىل هؤالء الرواد الشجعان‬
‫باملوت‪ ،‬فكيف يختلفون عن غيهم من سكان املستقبل البعيد؟‬

‫بدالً من ترك رواد الفضاء ميوتون برسعة‪ ،‬ميكننا التفكي يف الكون‬


‫باعتباره كتلة من الزمكان رباعي األبعاد‪ .‬لن نخصم رخاء اإلنسان‬
‫للمسافة الزمنية يف حد ذاتها أكرث مام نخصمه للموقع املكاين يف‬
‫حد ذاته‪ .‬فمن الناحية األخالقية‪ ،‬قد يكون الوقت وهم حقًا‪ ،‬كام‬
‫اقرتح بوذا منذ آالف السنني‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإن الخصم للمخاطرة مربر بطريقة ال تربر الخصم‬


‫ملرور الوقت الرصف‪ .‬إذا كانت الفائدة املستقبلية غي مؤكدة‪ ،‬فيجب‬
‫‪78‬‬
‫أن نخصم هذه الفائدة بنا ًء عىل ذلك ألنها قد ال تحدث‪ .‬لكن هذه‬
‫املامرسة ال تؤثر عىل القلق العميق بشأن املستقبل البعيد‪ .‬فبخصمنا‬
‫للمخاطرة بالتحديد‪ ،‬نسعى لحامية مستقبلنا من املآيس الكربى‪،‬‬
‫وبالتايل جعل املستقبل أقل خطورة‪ .‬إذا عززنا معدل النمو املستدام‬
‫مثال‪ ،‬فإننا نجعل املستقبل أقل خطورة بالفعل‪ .‬بدالً‬
‫طويل األجل‪ً ،‬‬
‫من تجاهل املخاطر‪ ،‬يراعي املنظور ذو التوجه املستقبيل املخاطر‬
‫طويلة األجل ويحاول خفضها‪ .‬قد يشجعك عامل املخاطرة عىل‬
‫إنفاق أموالك اآلن‪ ،‬وإال فقد يرسقها شخص ما‪ .‬لكنه لن يثنينا عن‬
‫يا بالنمو املستدام طويل األجل‪.‬‬
‫االهتامم كث ً‬

‫قبل امليض قد ًما‪ ،‬دعونا ننظر يف أهمية املقارنات العددية املعروضة‬


‫أعاله لألحداث التي تقع بعد مئة أو مئتني أو حتى خمسمئة عام يف‬
‫املستقبل‪ .‬قد يبدو أنه ال يوجد يشء نفعله اليوم ميكن أن يؤثر عىل‬
‫العامل بذلك البعد‪ ،‬وخاص ًة عندما يتعلق األمر بقضايا السياسة‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬تشي أحدث األدلة إىل أن القرارات السياسية واالقتصادية‬
‫الجيدة (أو السيئة)‪ ،‬والوجود العام لالزدهار‪ ،‬لها آثار مستمرة متتد‬
‫لقرون يف املستقبل‪ .‬فلسياسات القرنني السادس عش والسابع‬

‫‪79‬‬
‫عش االستعامرية آثار مستمرة عىل االزدهار اليوم‪ ،‬بل إن هناك‬
‫بحوثًا تشي إىل أن ازدهار منطقة ما قبل والدة املسيح بفرتة طويلة‬
‫‪7‬‬
‫يحمل قوة تنبؤية الزدهار تلك املناطق اليوم‪.‬‬

‫لسبب ما‪ ،‬متيل املؤسسات الجيدة وتاريخ االزدهار إىل امتالك آثار‬
‫دامئة‪ .‬ميكن أن متول الرثوة حكومة أفضل ومتكّنها‪ ،‬وهذا بدوره‬
‫يؤدي إىل ثروة إضافية ومؤسسات أفضل‪ .‬ميكن أن تستمر‬
‫الذكريات املؤسسية للنجاح االقتصادي والحكم الرشيد لفرتات‬
‫طويلة من الزمن‪ .‬وميكن أن تستمر املامرسات الثقافية مثل الدهاء‬
‫التجاري أو االهتامم باألسواق الخارجية لعدة قرون‪.‬‬

‫متتعت إنجلرتا‪ ،‬التي قادت الثورة الصناعية‪ ،‬بسامت مؤسسية‬


‫إيجابية متتد جذورها إىل زمن بعيد يف تاريخها‪ ،‬مثل أسواق العمل‬
‫الحرة نسب ًيا يف العصور الوسطى وتشكيل وحدة وطنية متامسكة‬
‫مع لغة وجيش وبرملان‪ .‬حملت مامرسات اإلمرباطورية بعد ذلك‬

‫‪ . 7‬استطلع سبولوري واتشيارغ (‪ )2013‬هذا البحث‪ .‬يوضح أسيموغلو وجونسون وروبنسون (‪،2001‬‬
‫‪ )2005 ،2002‬كيف أن قرارات ومؤسسات الحقبة االستعامرية املبكرة ما تزال تؤثر عىل األداء االقتصادي‬
‫اليوم‪ .‬ويظهر كومني وإيسرتيل غونغ (‪ )2010‬إىل أي مدى ما تزال الرثوة اإلقليمية لعام ‪ 1000‬قبل امليالد‬
‫تتنبأ بالرثوة اإلقليمية اليوم‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫بعض هذه املؤسسات عرب املحيطات‪ ،‬كام حدث عندما استقر‬
‫الربيطانيون يف معظم أمريكا الشاملية وحدود الكرة األرضية (وإن‬
‫مل تستفد كل املناطق من الجانب املشق للحكم الربيطاين)‪ .‬وليس‬
‫صدف ًة أن تظل العديد من األرايض األصلية لإلمرباطورية الرومانية‬
‫أيضا دولة غنية‬
‫حا‪ .‬كانت الصني ً‬
‫من أغنى دول العامل وأكرثها نجا ً‬
‫نسب ًيا يف السابق‪ ،‬وهذا االزدهار يعاود الظهور اليوم‪ .‬فقد أظهر‬
‫خاصا يف جميع أنحاء‬
‫ً‬ ‫رجال األعامل الصينيون لقرون دها ًء تجاريًا‬
‫العامل؛ وهذا مر ًة أخرى له عالقة بالتاريخ‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬ال ينطبق استمرار االزدهار عىل كل حالة‪ .‬فمعظم العامل‬


‫العريب اليوم دون مكانته التاريخية النسبية بكثي‪ .‬فقد كانت بغداد‬
‫غال ًبا إحدى أفضل املدن وأكرثها إثار ًة لالهتامم للعيش فيها منذ نحو‬
‫ألف عام‪ ،‬لكنها اليوم تصارع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إن فكرنا من حيث‬
‫مهام‬
‫املتوسطات‪ ،‬نرى الكثي من األدلة عىل أن التاريخ قد يكون ً‬
‫لفرتات زمنية طويلة ج ًدا‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن أي عمل يقوي املؤسسات‬
‫الجيدة اليوم‪ ،‬من حيث القيمة املتوقعة‪ ،‬له امتداد سببي ميتد لقرون‬

‫‪81‬‬
‫يف املستقبل‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬هذا يعني أن اختيارنا ملعدل الخصم ذات‬
‫أهمية بالغة‪.‬‬

‫أيضا أهمية اإلميان يف الحجة الشاملة‪ .‬ليك نفهم‬


‫ميكننا أن نرى ً‬
‫متا ًما أهمية فعل الصواب‪ ،‬وأهمية تكوين الرثوة وتقوية املؤسسات‪،‬‬
‫يجب أن ننظر بعمق شديد يف املستقبل البعيد‪ .‬وكام ذكرت بإسهاب‪،‬‬
‫هذا استنتاج يوحيه العقل‪ .‬ولكن يف العامل الحقيقي للدوافع‬
‫البشية الفعلية‪ ،‬إن تطبيق العقل املجرد عىل هذه اآلفاق الزمنية‬
‫الطويلة أمر نادر وغي مفيد عندما يتعلق األمر بإجبار الناس عىل‬
‫فعل الصواب‪ .‬فاملواقف الفعلية املطلوبة للحث عىل قبول هذه اآلفاق‬
‫الزمنية الطويلة هي أقرب‪ ،‬من الناحية النفسية‪ ،‬بكثي إىل نوع من‬
‫اإلميان‪ .‬ال ميكننا أن نرى هذه املكاسب البعيدة املتوقعة‪ ،‬لكن يجب‬
‫أن نؤمن بها رغم ذلك‪ ،‬ويجب أن نحتفظ بهذه املعتقدات قريب ًة‬
‫وعزيز ًة عىل قلوبنا‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬يجب أن نرفض بشدة االتجاه‬
‫العلامين الحديث لالدعاء بأن السياسة الجيدة ميكن أو يجب أن‬
‫تكون خالية من اإلميان‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫يوجد‪ ،‬بالطبع‪ ،‬العديد من األشكال السيئة لإلميان بالسياسة‪ ،‬وال‬
‫ينبغي لنا أن نشجع املعتقدات السياسية (أو غيها) يف التجاهل‬
‫املتعمد للعقل‪ .‬لكن ال ميكننا التخيل عن اإلميان نفسه كأداة‬
‫تحفيزية‪ ،‬ألن السياسة مبنية بالرضورة عىل نوع من اإلميان‪ .‬يعد‬
‫االفتقار –بل والرفض املتعمد أحيانًا– ملفهوم اإلميان‪ ،‬كام هو شائع‬
‫يف العقالنية العلامنية‪ ،‬إحدى أكرث سامت العامل املعارص إثار ًة‬
‫للقلق‪ .‬فقد جلب لنا بعض املكاسب الحقيقية للغاية فيام يتعلق‬
‫أيضا بتقليل قدرتنا عىل اتخاذ أفضل‬
‫بالحرية الشخصية‪ ،‬لكنه يهدد ً‬
‫الخيارات‪.‬‬

‫هل يجب أن نخصم املايض؟‬

‫حتى اآلن كنا ننظر يف قيمة املستقبل مقارن ًة بالحارض‪ .‬ولكن هناك‬
‫طريقة أخرى ملعالجة مشكلة الوقت‪ ،‬وهي التساؤل عن قيمة املايض‬
‫مقارن ًة بالحارض‪ .‬هذه هي املعضلة التي نواجهها عندما تثار أسئلة‬
‫حول التعويض عن مظامل املايض‪ ،‬مثل الرسقة أو العبودية‬
‫املاضيتني‪ .‬يف هذه الحاالت‪ ،‬يجب أن نسأل أنفسنا إىل أي مدى يجب‬
‫مراعاة تكلفة املايض يف الوقت الحارض‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫يطبق أحد األساليب املتبعة يف مشاكل التعويض معدالً قياس ًيا‬
‫للخصم اإليجايب عىل التكاليف السابقة لتحويلها إىل قيمة حالية‪.‬‬
‫لنقل إن معدل الخصم هو سبعة باملئة‪ .‬إذا رسق سلفي ألف دوالر‬
‫من أسالفك يف عام ‪ ،1854‬يجب أن أدفع لك سبعة باملئة مركبة عن‬
‫كل عام بني ‪ 1854‬و‪ .2018‬يفرتض أن يبطل هذا الرضر أو يصحح‬
‫الظلم‪ .‬لكن إذا أجريت الحسابات‪ ،‬فإن هذا يصل إىل أكرث من ‪65‬‬
‫مليون دوالر‪ .‬سيحكم معظم املراقبني بصورة صحيحة أن هذا‬
‫الحكم التعوييض مبالغ فيه‪ .‬لو مل تحدث الرسقة‪ ،‬فمن غي املرجح‬
‫أن يكون لديك أنت أو أحفادك أي يشء يقارب هذا املبلغ اليوم‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬نظ ًرا ملدى سهولة تبديد املياث‪ ،‬ستكون محظوظًا المتالك‬
‫أي يشء عىل اإلطالق‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬وبغض النظر عن مدى‬
‫مبالغتك يف اإلعالن عن عدالة هذا التحويل‪ ،‬فليس لدي املاليني‬
‫أصال‪ ،‬فإن مقدار الرسقة األولية‬
‫تعويضا ً‬
‫ً‬ ‫ألعطيها لك‪ .‬إذا كنا سنمنح‬
‫‪8‬‬
‫مضاف إليه بعض العالوة املتواضعة للمعاناة أكرث واقعية‪.‬‬

‫‪ .8‬كون (‪ )1997‬يتابع هذه األسئلة‪.‬‬


‫‪84‬‬
‫والخالصة كالتايل‪ :‬عندما نعمل من املايض باتجاه الحارض‪ ،‬فإننا‬
‫عمو ًما ال –وال ينبغي أن– نطبق معدل قيايس للخصم اإليجايب‬
‫لجعل الفرتة الالحقة من الوقت أقل قيمة‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬ال ميكن‬
‫تطبيق معدل الخصم اإليجايب دون متحيص‪ ،‬خاص ًة عىل فرتات‬
‫طويلة من الزمن‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬توجد حجة أخرى تدفعنا نحو معدالت خصم منخفضة‬


‫قيام اقتصادية‪ ،‬ومن املرجح أن تحتوي‬
‫نسب ًيا‪ .‬ليست كل القيم ً‬
‫الحزمة التعددية عىل ما يسمى بالسلع املثالية‪ ،‬وسلع املنفعة العامة‪،‬‬
‫ورمبا القيم األفالطونية‪ .‬هذه السلع‪ ،‬بحكم التعريف‪ ،‬غي مستمدة‬
‫من التفضيالت الفردية؛ بل تشي‪ ،‬وفقًا لبعض النظريات األخالقية‪،‬‬
‫فمثال‪ ،‬عندما يتعلق األمر‬
‫ً‬ ‫إىل يشء جيد موضوع ًيا يف حد ذاته‪.‬‬
‫بقيمة الجامل األفالطوين‪ ،‬فإننا نهتم بوجوده بأية حال؛ وال نهتم‬
‫يا باملستهلكني الذين ميكنهم الوصول إليه عندها‪ .‬تبدو القيم غي‬
‫كث ً‬
‫التفضيلية أقل املرشحني املؤهلني للخصم الزمني القوي‪ ،‬وبالتايل‬
‫فإن االهتامم بالقيم غي التفضيلية يعزز األهمية التي يجب أن‬
‫نضعها للمستقبل بالنسبة للحارض‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫رمبا مل تقنعك هذه الحجج‪ .‬يصعب طرح أسئلة اقتصادية وفلسفية‬
‫جدية حول العامل بعد خمسمئة عام من اآلن‪ ،‬أو حتى بعد مئة عام‬
‫من اآلن‪ .‬وقد كان مثال نظرية آينشتاين هو األغرب‪ .‬حتى الحديث‬
‫عن التفضيل الزمني عرب األجيال أمر محي‪ .‬لذلك ليس لدينا حجة‬
‫واضحة بأن معدل الخصم لرخاء اإلنسان يجب أن يكون صف ًرا‬
‫متا ًما‪ .‬ولكن مع ذلك‪ ،‬لقد قوضت بشدة فكرة وجوب خصم املستقبل‬
‫البعيد مبعدالت عالية ج ًدا وبالتايل منحه أهمية أقل بكثي يف‬
‫حساباتنا‪.‬‬

‫حجة تكلفة الفرصة البديلة‬

‫يقدم بعض االقتصاديني حجة تكلفة الفرصة البديلة لخصم تدفقات‬


‫املوارد أو الدوالرات‪ ،‬واسمحوا يل بصفحة أو اثنتني ألن هذا يصبح‬
‫تقن ًيا نو ًعا ما‪ 9.‬تشي هذه الحجة إىل أن استثامر دوالر اليوم بعوائد‬
‫إيجابية سيحقق أكرث من دوالر يف العام املقبل‪ .‬رأس املال منتج‬
‫عمو ًما‪ .‬لذا فإن الدوالر اليوم يساوي أكرث من دوالر يف املستقبل ألن‬

‫‪ .9‬انظر ليند وآخرون (‪ ،)1982‬آرو وآخرون (‪ ،)1994‬وبروم (‪ ،)1994‬وبرينان (‪ ،)2007‬وغولييه‬


‫(‪ .)2013‬وأيضً ا يناقش كون (‪ )2007‬هذه القضايا‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫الدوالر اليوم ميكن استثامره أكرث من دوالر الغد‪ .‬من الناحية‬
‫االقتصادية‪ ،‬إن معدل الفائدة اإليجايب يساوي معدالت اإلحالل‬
‫الحدية مبرور الوقت‪ ،‬أو بعبار ٍة أخرى‪ ،‬يعرب عن قيمة الدوالر‬
‫تفضيال‬
‫ً‬ ‫املستقبيل بالنسبة للدوالر الحايل‪ .‬ال تتطلب هذه الحجة‬
‫إيجاب ًيا للوقت‪.‬‬

‫وباملناسبة‪ ،‬هذه الحجة ال توحي بأننا نقبل أسعار الفائدة املرصودة‬


‫يف السوق دون متحيص كمقياس ملدى خصمنا للمستقبل‪ .‬بل يجب‬
‫أن نعدل أسعار الفائدة يف السوق وفقًا للمخاطر وتكاليف املعامالت‬
‫والعوامل املعقدة األخرى‪ ،‬مثل الرضائب‪ .‬ولكن‪ ،‬قد يكون سعر‬
‫الفائدة يف السوق نقطة انطالق تقريبية للتفكي يف مقدار خصم‬
‫‪10‬‬
‫املستقبل‪.‬‬

‫تفضيال زمنيًا‪ ،‬ولكنها تتطلب‬


‫ً‬ ‫‪ .10‬حجة الخصم هذه أكرث تعقيدًا مام هو معروف أحيانًا‪ .‬ال تتطلب‬
‫افرتاضات حول قابلية اإلحالل بني الزمني لالستهالك‪ .‬يحدد تناقص املنفعة الحدية‪ ،‬باملعنى الكالسييك‪،‬‬
‫يف نقطة زمنية معينة‪ .‬ولكن كيف تتنوع املنافع الحدية املختلفة لالستهالك عرب الزمن؟ كيف يقارن ‪2‬‬
‫مليون دوالر يف العام املقبل مبليون دوالر اليوم؟ يختلف هذا املتغي عن التفضيل الزمني الكالسييك أو‬
‫املنفعة الحدية املتناقصة الكالسيكية‪ .‬ليك تنجح الحجة االقتصادية الكالسيكية‪ ،‬يُفرتض عاد ًة أن االستهالك‬
‫يف الغد هو بديل قريب نسبيًا لالستهالك اليوم‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫تعرب حجة تكلفة الفرصة البديلة عن منطق قوي‪ ،‬ولكن يف حال‬
‫فهمها بشكل صحيح‪ ،‬فإنها ال تعارض االهتامم العميق باملستقبل‬
‫البعيد‪.‬‬

‫أوالً ‪ ،‬ال تتعامل الحجج االقتصادية سوى مع الرثوة؛ ال تؤسس هذه‬


‫خصام إيجاب ًيا قويًا عرب الرخاء‪ .‬إن كان معدل النمو املستدام‬
‫ً‬ ‫الحجج‬
‫األعىل يعزز الرخاء مبرور الوقت‪ ،‬فهذا هو الرخاء الذي يهمنا‪.‬‬
‫ويجب أال نخصم رخاء املستقبل‪ ،‬حتى لو رأينا أسبابًا لخصم املوارد‬
‫املادية أو مصادر الدخل املستقبلية‪ .‬الرخاء هو غاية يف حد ذاته‪،‬‬
‫لكن الرثوة هي مسلك للرخاء والقيم التعددية األخرى‪ .‬وبالنسبة‬
‫ألهم جزء من الحزمة التعددية –الرخاء– فإن اهتاممنا العميق‬
‫باملستقبل البعيد سيستمر‪ .‬إذا متكنا من تحقيق مكاسب مستمرة يف‬
‫رخاء اإلنسان للمستقبل‪ ،‬فسيكون لدينا نبات كروسونيا خاص بنا‪،‬‬
‫وستظل قضية تعظيم النمو املستدام قامئة‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ ،‬حتى لو وضعنا الرخاء جان ًبا‪ ،‬فإن املغزى من حجة تكلفة‬
‫الفرصة البديلة هو أنه ميكن استثامر الرثوة املادية اليوم وكسب‬
‫معدل عائد إيجايب‪ ،‬عىل األقل يف املتوسط‪ .‬إنها حجة جيدة‬
‫‪88‬‬
‫لالستثامر الكبي يف املستقبل؛ وليست حجة لتقليل االهتامم‬
‫باملستقبل‪.‬‬

‫توجد حجة أخرى للخصم القوي للمستقبل وهي أن هؤالء األفراد‬


‫سيكونون أفضل حاالً أو سيكونون أكرث ثرا ًء مام نحن عليه اليوم‪.‬‬
‫ولكن حتى لو أخذنا فرضية املساواتية يف هذه الحجة كأمر مسلم‬
‫به‪ ،‬فإنها ستؤدي إىل خصم للرثوة بدالً من الخصم عرب الزمن‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬لكن قلقنا العميق بشأن‬
‫سينطبق الخصم عىل أثرياء اليوم ً‬
‫املستقبل البعيد سيستمر‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬لن يكون الكثي من األفراد‪،‬‬
‫وحتى يف املستقبل‪ ،‬أثرياء مطلقًا عىل األغلب‪ ،‬أو عىل األقل لن‬
‫يكونوا أثرياء ما مل نفعل الصواب‪ .‬إننا نختار ثرواتهم يف األساس‬
‫من خالل السياسات الحالية (إن اخرتناها بشكل صحيح)‪ ،‬لذا ال‬
‫ينبغي أن نفرتض ثروتهم كمربر إلهاملهم‪ .‬أو رمبا سيكونون أثرياء‬
‫معظم حياتهم‪ ،‬لكنهم لن يكونوا أثرياء ج ًدا عندما يواجهون مأسا ًة‬
‫يا‪ .‬وبغض النظر عن مدى إرشاق املستقبل‪،‬‬
‫مرضا خط ً‬
‫ً‬ ‫شديدة أو‬
‫فإنه ما زال سيسفر عن تدفق مستمر من املآيس البشية‪ .‬والسبيل‬
‫لتقليل تلك املآيس‪ ،‬مر ًة أخرى‪ ،‬هو تعظيم النمو املستدام‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫بدالً من اختيار معدل خصم صفري متا ًما‪ ،‬أقرتح فرضية أكرث‬
‫تواض ًعا‪ ،‬والتي أرشت إليها بالفعل ولكني سأسميها اآلن رسم ًيا‪:‬‬
‫القلق العميق عىل املستقبل البعيد‪ .‬من وجهة النظر هذه‪ ،‬ال ينبغي‬
‫يا ملجرد أن تلك الخسائر‬
‫أن نقلل من قيمة الخسائر الكارثية كث ً‬
‫بعيدة زمن ًيا‪ .‬ففي حالة غياب العوامل املؤهلة‪ ،‬ال ينبغي أن يتسبب‬
‫أي مقدار زمني يف حد ذاته يف تضاؤل أهمية املآيس الكربى واسعة‬
‫االنتشار يف الوقت الحارض‪ .‬يجب أن نصدق أن نهاية العامل هي‬
‫حدث مروع حقًا‪ ،‬حتى لو حدث هذا االنهيار يف املستقبل البعيد‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬فإن استمرار الحضارة بعد ثالمثئة عام من اآلن أفضل‬
‫بكثي من عدم وجود حضارة أخرى يف ذلك الوقت‪ .‬إن حضارة‬
‫املستقبل األكرث ثرا ًء أفضل بكثي من حضارة املستقبل األقل ثرا ًء‪.‬‬
‫تلك هي تداعيات القلق العميق عىل املستقبل البعيد‪.‬‬

‫مهتام تقن ًيا ورياض ًيا‪ ،‬فيمكنك قراءة امللحق أ الحقًا‪ ،‬الذي‬
‫ً‬ ‫إذا كنت‬
‫أضع فيه نسخة مام يسمى معيار التجاوز‪ .‬إنه طريقة رسمية‬
‫لتحديد قلق عميق بشأن املستقبل البعيد‪ ،‬لكنك لست بحاجة إىل‬
‫الرياضيات لفهم الحدس‪ .‬يتضمن معيار التجاوز ما ييل‪ :‬نظ ًرا‬

‫‪90‬‬
‫للحركة املتزامنة طويلة األمد للنمو املستدام ورخاء اإلنسان‪ ،‬إذا كان‬
‫أحد مسارات النمو أعىل من اآلخر باستمرار مع مرور الوقت‪ ،‬فيجب‬
‫أن نفضل مسار النمو األعىل‪ .‬ففي مرحلة ما يف املستقبل‪ ،‬سيجعل‬
‫معدل النمو األعىل الناس أفضل حاالً بكثي‪ ،‬وهذا املسار يستحق‬
‫االختيار حتى لو انطوى عىل بعض التكلفة من حيث االستهالك‬
‫الضائع اليوم‪.‬‬

‫يدفعنا معيار التجاوز نحو تعظيم ويلث بلس‪ ،‬كام حددنا يف‬
‫الفصل السابق‪ ،‬ولكن دون االلتزام بفكرة أن الرخاء املستقبيل يكافئ‬
‫متا ًما الرخاء الحايل‪ .‬لذا فإن معيار التجاوز ليس وجهة نظر‬
‫أخالقية نهائية أو حاسم حول كيفية مقارنة القيم الحالية‬
‫واملستقبلية يف كل وجميع الظروف‪ .‬بل إنه ميثل قاعدة عملية‬
‫واحدة‪ ،‬نو ًعا من التزام بالحد األدىن مبستقبل رخاء اإلنسان‪.‬‬
‫سأناقش هذا أكرث يف امللحق أ‪ ،‬ولكني أويص اآلن ببساطة‬
‫باالحتفاظ بالحدس واالنتقال إىل الفصل التايل‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫ماذا عن توزيع الرثوات؟‬ ‫‪5‬‬

‫مل تأكل اآليس كريم وأحدهم ميوت جو ًعا يف ماالوي؟ هذا مثال عن سؤال‬
‫قديم يف األخالق‪ ،‬مل يزل صعب اإلجابة‪.‬‬
‫يف أي نظرية أخالقية تأخذ بعني االعتبار مصالح الناس بطريقة عاملية‪ ،‬تبدو‬
‫التزاماتنا الشخصية تجاه الفقراء قوية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يعيش عدة مليارات‬
‫إنسان يف العامل اليوم بأقل من دوالرين يف اليوم الواحد‪ .‬يف العام املايض‬
‫مات ماليني األطفال من أمراض ميكن منعها مثل اإلسهال‪ ،‬وعاىن بعضهم‬
‫توقف النمو‪ .‬إذا ُعرضت علينا هذه األمثلة‪ ،‬يسهل أن نشعر أن علينا أن نهتم‬
‫بهذه املشكالت اهتام ًما أكرب ونوفر لها موارد وطاقة أكرث مام نوفر لها اليوم‪،‬‬
‫فعال‪ .‬لكن السؤال األصعب هو‪ :‬إىل أي مدى تتسع هذه‬
‫وهو أمر ينبغي علينا ً‬
‫االلتزامات وهل ينبغي أن متنعنا من السعي إىل أهدافنا الشخصية أو‬
‫الفردانية؟ خالفًا للفلسفة النفعية‪ ،‬تقول أخالق الحدس املشرتك إن لنا حقًّا أن‬
‫نعيش حياتنا وخططنا فيها‪.‬‬
‫حسب بعض اآلراء بشأن التزاماتنا لآلخرين‪ ،‬يجب عىل كل فرد أن يعمل عد ًدا‬
‫معينًا من الساعات يف العمل الخريي‪ ،‬أو أن يرسل معظم دخله إىل الفقراء‪.‬‬
‫يجب عىل األطباء األغنياء أن يقضوا معظم حياتهم العملية‪ ،‬أو كلها‪ ،‬يف القرى‬
‫اإلفريقية‪ .‬يجب عىل ٍ‬
‫مزيد منّا أن يصبحوا أطباء أو ممرضني‪ ،‬إال إذا كان األنفع‬
‫رب ًعا غن ًّيا‪ .‬قد تبدو هذه الخيارات‬
‫أن يصبح املرء مستثم ًرا يف وول سرتيت ومت ّ‬
‫صالحة يف نظرك‪ ،‬ولكن ما مدى استعدادك لتطبيقها والعمل مبا تقول؟ هل‬
‫أنت مستعد ملساواة مصالح الغرباء مبصالحك أنت‪ ،‬أو مبصالح أهلك‬

‫‪92‬‬
‫وأصدقائك؟ إذا كنت مقتن ًعا مبنطق الخرييّة النفعي‪ ،‬فعىل كل أ ٍّم إذن أن ترتك‬
‫ابنها أو تبيعه حتى تجمع مبل ًغا من املال وترسل به طعا ًما ألبناء غريها‪ .‬هنا‬
‫يتوقف معظم الناس ويبحثون عن مبدأ أخالقي يح ّد التزاماتنا تجاه الفقراء‪.‬‬
‫من املشكالت أمامنا أن حاجات الذين يعانون ضخمة ج ًّدا إىل درجة ال‬
‫يستطيع معها إال بعض األغنياء أو أصحاب النفوذ أن ينفذوا مشاريع خريية‬
‫من اختيارهم‪ .‬أما معظم الناس فسيصبحون –إذا التزموا بهذه املبادئ– عبي ًدا‬
‫للمنفعة العامة‪ ،‬ال يخدمون إال مصالح اآلخرين وال يأكلون إال الكفاف‪ .‬النتيجة‬
‫ريا من أشكال العواقبية– ينظَر إليها عادة عىل‬
‫هي أن النفعية –أو حتى كث ً‬
‫أنها فلسفة أخالقية كثرية املطالب‪ .‬الناس من هذه الفلسفة يف معسكرين‪:‬‬
‫الذين يرفضون النفعية بسبب مقتضياتها الشديدة املرفوضة‪ ،‬والذين يلتزمون‬
‫باملنطق النفعي التزا ًما متسقًا متطرفًا ويدعون إىل تضحية أكرب‪ ،‬مثل بيرت‬
‫سنغر يف أول حياته‪.‬‬
‫كام قلت من قبل‪ ،‬مذهبي هو التعددية وليس النفعية البسيطة‪ .‬لكن املنفعة‬
‫قيمة مركزية ومهمة‪ ،‬لذا أود أن أواجه هذه املعضالت وأنظر يف مجال‬
‫التزاماتنا نحو الفقراء‪ .‬لكنني ال أريد هنا أن أركز عىل املقارنة بني العمل‬
‫الخريي الحكومي والعمل الخريي الخاص‪ .‬نعم‪ ،‬هي مسألة عملية مهمة‪،‬‬
‫لكنني سأركز بدالً منها عىل السؤال املفاهيمي األوسع‪ :‬هل النمو أم التوزيع‬
‫–يف القطاع العام أو الخاص– هو األنفع يف مساعدة الفقراء؟ بهذه الصيغة‪،‬‬
‫نجد أمامنا قيو ًدا شديدة عىل توزيع الرثوة‪ ،‬حتى إذا قبلنا اإلطار النفعي‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬سأدعم موقف أخالق الحدس املشرتك‪ ،‬التي تسمح (عمو ًما)‬
‫بالسعي نحو أهداف الحياة الفردية‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ميكن أن نقول قوالً معقوالً ‪ ،‬وصحي ًحا يف رأيي‪ ،‬أننا ملزمون مبساعدة الفقراء‬
‫أكرث مام نساعدهم اآلن‪ .‬لكن املنهج الصحيح لهذه االلتزامات العاملية ال يؤدي‬
‫إىل االستعباد وال إىل إعادة التوزيع الشاملة للرثوة الشخصية‪ .‬يجب عىل‬
‫معظمنا أن يجتهد يف عمله‪ ،‬ويبتكر‪ ،‬ويخلص لحضارتنا‪ ،‬ويبني مؤسسات‬
‫صحية‪ ،‬وي ّدخر ملستقبله‪ ،‬ويسهم يف بناء ج ٍّو من الثقة يف املجتمع‪ ،‬ويكون‬
‫ناق ًدا عندما يلزم األمر‪ ،‬ويحب أرسته‪ .‬إن التزاماتنا األقوى هي اإلسهام يف‬
‫النمو االقتصادي املستدام ودعم االنتشار العام للحضارة‪ ،‬ال مجرد إعادة‬
‫توزيع الرثوة باملعنى األضيق‪ .‬عىل املدى البعيد‪ ،‬سيساعد النمو االقتصادي‬
‫واستقرار الحضارة الفقراء أكرب مساعدة‪.‬‬
‫ميكن التعبري عن هذه الفكرة كام ييل‪ :‬يجب أن نوزع الرثوة إىل الدرجة التي‬
‫يتحقق فيها أكرب منو اقتصادي مستدام‪ .‬قد يعني هذا مزي ًدا من إعادة‬
‫التوزيع‪ ،‬وقد يعني نو ًعا آخر من إعادة التوزيع‪ ،‬هو إعادة التوزيع املعززة‬
‫للنمو‪( .‬فربامج إعادة التوزيع الحكومية اليوم ال توزع جميعها الرثوة للفقراء‪،‬‬
‫وال تعزز النمو االقتصادي)‪ .‬لكن هذا ال يعني الطريقة النفعية أو العواقبية‬
‫التي تلزمنا بإعادة توزيع معظم دخلنا الوطني للفقراء‪ .‬وال يعني أن األفراد‬
‫املنتجني ملزمون أخالق ًّيا بقضاء معظم سنني عملهم يف خدمة الفقراء‪.‬‬
‫مثال‪،‬‬
‫مع هذا‪ ،‬مل يزل ميكن تقديم حجة صالحة لدرجة من إعادة التوزيع‪ً .‬‬
‫نظيام ج ّي ًدا التعليم والغذاء‬
‫ميكن أن توزع دولة رعاية اجتامعية منظمة ت ً‬
‫توزي ًعا أوسع‪ .‬يستفيد األفراد الذين تدعمهم هذه الدولة‪ ،‬ويصبحون أقرب إىل‬
‫اإلنتاجية ودفع الرضائب‪ ،‬وأبعد عن إسقاط النظام العام‪ .‬ومن فوائد إعادة‬
‫التوزيع ما ينبع من التحسينات السياسية‪ .‬تستطيع برامج الرعاية االجتامعية‬

‫‪94‬‬
‫رشاء والء بعض مجموعات الضغط وتقليل مشاعر اليأس‪ ،‬وهو ما يعزز‬
‫النظام االجتامعي‪ .‬هذا وإن برامج الرعاية االجتامعية تحسن شعور املواطنني‬
‫‪1‬‬
‫تجاه دولتهم‪ ،‬وهو ما يعزز النظام العام والوفاق السيايس واالستقرار‪.‬‬
‫تسوغ هذه العوامل بعض االستثامر يف الرعاية االجتامعية –نعم‪ ،‬يجب أن‬
‫نسميه استثام ًرا– ومن ثم تدعم شي ًئا من إعادة التوزيع‪ .‬ميكننا أن نستخلص‬
‫أيضا الطبيعة املناسبة إلعادة التوزيع هذه‪ ،‬وهي أن تهدف‬
‫من هذه العوامل ً‬
‫لتعزيز النمو االقتصادي املستدام‪.‬‬
‫رضا بالنمو‬
‫إذا تجاوز توزيع الرثوة هامشً ا مع ّينًا‪ ،‬وأصبح زائد الك َرم‪ ،‬أصبح م ًّ‬
‫االقتصادي‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يقل عمل كثري من الناس‪ ،‬أو يقل اجتهادهم يف‬
‫العمل‪ ،‬وتث ّبط الرضائب املرتفعة ريادة األعامل وقد تؤدي إىل ركود اقتصادي‪.‬‬
‫سهال‪ ،‬فسيؤدي هذا إىل كثري من‬
‫ً‬ ‫وإذا كان طلب معونة من الدولة أم ًرا نظام ًّيا‬
‫التالعب لكسب املال والتواكل والفساد‪ ،‬ومن ثم سيؤدي إىل اختالالت مالية‬
‫وقد يبلغ األمر اإلفالس أو أزمة مالية‪ .‬باملقابل‪ ،‬إذا كانت نفقات الحكومة‬
‫االجتامعية قليلة التنظيم أو زائدة عن حدها‪ ،‬فقد تؤدي إىل ثقافة من التواكل‬
‫والجرمية‪ ،‬تهدد النظام االجتامعي‪ .‬تدل الدراسات التجريبية عىل أن اإلنفاق‬
‫الحكومي عىل أي يشء سوى البنية التحتية مرتبط ارتباطًا إيجاب ًّيا بخفض‬
‫معدالت النمو‪ ،‬عىل أن هذه النتائج مستخلصة بحساب الناتج اإلجاميل املحيل‬
‫‪2‬‬
‫التقليدي‪ ،‬ال باستخدام فكرة بديلة مثل ويلث بلس‪.‬‬

‫مثال أليسينا ورودريك (‪ )1994‬وبريسون وتابليني (‪ .)1994‬وانظر غريرن‪ ،‬وسيملر‪ ،‬وغونع (‪–132 ،2005‬‬
‫‪ .1‬انظر ً‬
‫‪ )133‬الستطالع عن املنشورات املتزايدة عن أثر التوزيع عىل النمو‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬بارو (‪ .)1991‬يجادل غودن وهيدي ومفلز ودريفن (‪ )1999‬أن نظام الرعاية االجتامعية يف دولة‬
‫‪ .2‬نظر ً‬
‫دميقراطية ال يخفض معدل النمو االقتصادي‪ ،‬لكنهم ال يستخدمون إال عينيتني من البيانات‪ ،‬هولندا والواليات املتحدة‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫التوزيع الزائد سيئ لسبب آخر‪ ،‬هو أنه يص ّعب إدماج أعداد أكرب من املهاجرين‬
‫من البلدان الفقرية‪ .‬يشعر الناخبون أن املهاجرين عبء عىل ميزانية الحكومة‪،‬‬
‫سواء أكان هذا الشعور عقالن ًّيا أم ال‪ ،‬ويسوؤهم أن يروا بعض املهاجرين‬
‫يستفيدون من الحكومة‪ .‬نعم‪ ،‬تجعل درجة معينة من الرعاية االجتامعية‬
‫الهجرة أسهل وتساعد املهاجرين عىل تثبيت أقدامهم واالكتفاء بأنفسهم‪ .‬لكن‬
‫رفع مستوى الفوائد يعني عادة‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬خفض مستوى الهجرة‪،‬‬
‫وخفضا موافقًا يف أفضل برنامج اكتشفناه إىل اليوم ملعالجة الفقر‪ .‬يجب أن‬
‫ً‬
‫‪3‬‬
‫أيضا تعلقنا بربامج الرعاية االجتامعية‪.‬‬
‫يحد هذا األمر ً‬
‫لذا بدالً من إعادة توزيع معظم الرثوة‪ ،‬ميكننا أن نفيد العامل إفادة أكرب‬
‫باالستثامر يف األنشطة عالية العوائد‪ ،‬كدعم املهاجرين وإنتاج تقنيات عاملية‬
‫جديدة‪ ،‬كالهواتف‪ ،‬وطرائق جديدة لتعزيز اإلنتاجية الزراعية‪ .‬يستهزئ‬
‫كثريون مبصطلح «اقتصاد التقطري»‪ ،‬لكن معظم الفوائد االجتامعية تأيت عىل‬
‫هيئة مقطرة‪ .‬ينبغي طب ًعا أن نفضل الطوفان عىل القطرة‪ ،‬وهو ما يعيدنا إىل‬
‫رغبتنا يف تعزيز معدل النمو املستدام قدر املستطاع‪.‬‬
‫هذه االلتزامات الفردية املذكورة ليست بعيدة عن أخالق الحدس املشرتك‪ .‬ال‬
‫شك أننا مل نردم بعد الفجوة بني العقل النفعي وأخالق الحدس املشرتك‪ .‬حتى‬
‫عندما يتفق العقل النفعي والحدس املشرتك عىل تفضيل مسلك معني من‬

‫انظر أيضً ا لندرت (‪ .)2004‬يجادل لندرت أن اإلنفاق االجتامعي املرتفع يج َمع عادة مع سياسات تعزز النمو‪ ،‬مثل‬
‫خفض الرضائب عىل عوائد رأس املال‪ .‬لكنه ال يثبت أن زيادة اإلنفاق يف أوروبا الغربية يف حد ذاتها تعزز النمو‬
‫االقتصادي‪.‬‬
‫‪ .3‬للنظر يف االلتزامات النفعية‪ ،‬انظر سكار (‪ .)1996‬ينتقد سامرت وويليامز (‪ )1973‬وراند (‪ ،)1967‬وشفلر (‪)1982‬‬
‫ووولف (‪ ،)1982‬وريلتون (‪ ،)1984‬وناغل (‪ )1986‬أيضً ا فكرة االلتزامات النفعية املتطرفة‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫السلوك‪ ،‬يكون هذا التفضيل راج ًعا ألسباب مختلفة‪ .‬تقول النفعية إن علينا أن‬
‫نعمل وندخر ونبتكر لخدمة مصالح اآلخرين‪ ،‬ومنهم األجيال التي مل تأت بعد‪.‬‬
‫تقول أخالق الحدس املشرتك إن علينا أن نعمل وندخر ونعتني بأرسنا ألننا‬
‫مستقال يف طرائقه وتسويغاته‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫نرى قيمة لحياتنا‪ .‬يبقى كل منظور‬
‫إىل الدرجة التي تتفق فيها االستنتاجات العملية للمذهبني‪ ،‬ميكننا أن نرى‬
‫أنهام جانبان من صورة أخالقية أوسع‪ .‬يف النهاية‪ ،‬أنا أفضل التعددية‪ ،‬ال‬
‫النفعية وال أخالق الحدس املشرتك بحد ذاتها‪ .‬بل‪ ،‬وليك نبني تعددية مجدية‪،‬‬
‫يكفي أن نعرف أن أداتني من األدوات يف صندوقنا األخالقي تشريان إىل‬
‫‪4‬‬
‫اتجاهات متوافقة عمو ًما‪.‬‬
‫ميكننا اآلن أن ننظر يف أسباب االختالف الواسع بني األنظمة األخالقية‬
‫الحكومية والخاصة‪ .‬يف النطاق الخاص‪ ،‬يتفق الجميع عىل أن من حق األم‬
‫أن تعتني بطفلها بدالً من أن تبيعه لرتسل ألطفال الغرباء ماالً أو طعا ًما‪ .‬ولكن‬
‫يف النطاق العام‪ ،‬يؤمن كثري من الناس أن عىل الحكومات أن تكون غري‬
‫متحيزة‪ ،‬عىل األقل يف نطاق حدودها الوطنية‪ 5.‬ال ينبغي للحكومة أن تفضل‬
‫مصالح طفل عىل آخر‪ ،‬عىل األقل ليس لنفس األسباب التي تجعل األم تفضل‬
‫طفلها عىل طفل غريها‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ملاذا تنقسم األخالق هكذا إىل قسمني؟ إن تكرار القول بوجود حدسنا‬
‫بشأن هذا األمر لن يس ّوغه‪ .‬ولكن‪ ،‬يف نطاق هذا الكتاب‪ ،‬قد نستطيع أن نرى‬

‫‪ .4‬يطرح هاريل (‪ )2009‬سؤاالً ‪ :‬هل تستطيع العواقبية‪ ،‬حتى إذا حكمت بصوابية مجموعة من األفعال‪ ،‬أن تنشئ التزا ًما‬
‫قويًّا بها؟ يف الرأي التوفيقي الذي أقدمه هنا‪ ،‬ميكن أن يأيت حس االلتزام من أخالق الحدس املشرتك‪ ،‬إذا اقتضت‬
‫الحاجة‪.‬‬
‫‪ .5‬انظر غودين (‪.)1995‬‬

‫‪97‬‬
‫سبب اختالف الواجبات األخالقية بني الفرد الذي يترصف يف مجاله الخاص‪،‬‬
‫والحكومة التي تسعى إىل زيادة معدل النمو االقتصادي املستدام‪ .‬ليس هذا‬
‫يف الحقيقة إال تطبيقًا آخر ملبدأ آدم سميث يف تقسيم العمل‪ .‬يسهل أن نرى‬
‫لِ َم يصلح لآلباء أن يعتنوا بأولويات أرسهم‪ ،‬ويصلح للحكومات أن تنشئ‬
‫نظا ًما قانون ًّيا قامئًا عىل عدم التحيز وعىل حكم القانون‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬ال أقول‬
‫إن هذه الحجة تسويغ دقيق لتعقيدات أخالق الحدس املشرتك كام تظهر يف‬
‫العامل‪ ،‬بكل التواءاتها وتنويعاتها املعتمدة عىل العادات‪ .‬لكنني ببساطة أذكر‬
‫أن الفجوة بني أخالق الحدس املشرتك وتحقيق أكرب منفعة‪ ،‬إذا فرسناها‬
‫ريا صحي ًحا‪ ،‬أصغر مام تبدو أول األمر‪.‬‬
‫تفس ً‬
‫ميكننا أن نخترب هذه الفرضيات بالنظر إىل الحاالت التي ينبغي فيها أن‬
‫مثال‪ ،‬تصبح حجة‬
‫يفضل النفعي أو العواقبي إعادة التوزيع للفقراء املدقعني‪ً .‬‬
‫إعادة التوزيع أقوى إذا كان العامل سينتهي يف املستقبل القريب‪ .‬إذا كان األفق‬
‫ريا ج ًّدا‪ ،‬أصبحت فوائد النمو االقتصادي األكرب قليلة وأفق التجميع‬
‫الزمني قص ً‬
‫مع الوقت محدو ًدا كذلك‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يصبح للعوائد الفورية لألعامل‬
‫الخريية وزن أكرب يف حساب القرار‪ .‬للتعبري عن هذه الحجة بأقوى صورها‪،‬‬
‫تخيل أن العامل سينتهي غ ًدا‪ .‬لن يكون لتعزيز معدل النمو أي فائدة تذكر؛ كل‬
‫ما ينبغي أن نفعله هو أن نقيم حفلة ونستهلك ما نستطيع استهالكه (بعد أن‬
‫نطعم الجوعى‪ ،‬طب ًعا)‪.‬‬
‫أو‪ ،‬قد تصبح عوائد االستثامر سلبية أو صفرية‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬ال ميكن‬
‫تجميع العوائد‪ ،‬ولن يؤدي تطاول الزمن إىل إيجاد نبتة الكروسونيا‪ ،‬وهنا‬
‫أيضا‬
‫يزداد الدافع إلعادة توزيع الرثوة‪ .‬تصلح درجة كبرية من إعادة التوزيع ً‬

‫‪98‬‬
‫مثال‪ ،‬إذا كانت مجموعة من األفراد‬
‫يف كثري من حاالت «قارب النجاة»‪ً ،‬‬
‫علب اللحم‬
‫البائسني عامئني يف البحر املفتوح ويتساءلون كيف يتشاركون َ‬
‫افرتاضا ضمن ًّيا هو أن معدل العوائد‬
‫ً‬ ‫فيام بينهم‪ .‬تفرتض هذه الحاالت عاد ًة‬
‫من االستثامر صفري أو سلبي‪ ،‬أو أن االستثامر ببساطة غري ممكن يف هذا‬
‫الوضع املفرتض‪ .‬هنا كذلك‪ ،‬ليس أمام األفراد نبتة الكروسونيا يسعون إليها‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فإن من أهم االنتقادات املوجهة لحججي‪ ،‬موقف التشاؤم التاريخي‪ .‬إذا‬
‫صدق التشاؤم التاريخي‪ ،‬كام يقول كثري من املحافظني من املدرسة القدمية‪،‬‬
‫فإن املعدالت املتوقعة سلبية‪ ،‬وما من نبتة الكروسونيا مستدامة‪ ،‬وحججي‪،‬‬
‫وإن صدقت منطق ًّيا‪ ،‬ال تنطبق عىل الحال‪ .‬التشاؤم التاريخي إذن ليس مجرد‬
‫ريا‬
‫ريا من آرائنا واختياراتنا العملية تغي ً‬
‫غري كث ً‬
‫مزاج أو موقف؛ ألنه إذا صدق‪ّ ،‬‬
‫ريا‪ .‬لكن ألهداف حجج نبتة الكروسونيا‪ ،‬يكفي أن يكون النمو االقتصادي‬ ‫كب ً‬
‫اإليجايب ممكنًا محتمالً ؛ هذه حجة من الحجج التي تتكرر بنيتها األساسية‬
‫يف فصول هذا الكتاب‪ .‬يقتيض االحتامل اإليجايب أن حساب النمو سيسود‬
‫تقديراتنا للعوائد املتوقعة من االختيارات املختلفة‪ .‬ميكننا إذن أن نرفض‬
‫املوقف العميل النهايئ الذي يتخذه املتشامئون التاريخيون‪ ،‬حتى إذا أقررنا‬
‫أنهم أفضل من املتفائلني بشأن الحجج املوضوعية املتعلقة باملسار املستقبيل‬
‫للعامل‪.‬‬
‫إن اآلراء الحديثة لعلامء االجتامع ال توافق دامئًا هذه االستنتاجات‪ .‬يبدو أن‬
‫خصوصا من غري علامء االقتصاد–‬
‫ً‬ ‫ريا من مؤيدي زيادة اإلنفاق الحكومي –‬
‫كث ً‬
‫تعجبهم فكرة االنخفاض الكبري ملعدل الخصم‪ .‬يود كثري من هؤالء الناس أن‬
‫تخصص الحكومة مزي ًدا من املوارد للتعليم والبنية التحتية وتحسني البيئة‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫وكل املواقف املرتبطة باليسار السيايس عمو ًما‪ ،‬عىل األقل يف الواليات‬
‫املتحدة‪ .‬يرى أصحاب هذا االتجاه أن خفض معدل الخصم يدعم كل هذه‬
‫السياسات‪ .‬لكنهم يف الوقت نفسه يدعمون إعادة التوزيع‪ ،‬حتى عندما‬
‫تعارض هذه السياسات النمو االقتصادي‪ .‬لذا فإن موقف اليسار السيايس‬
‫غري متسق مع نفسه تجاه أهمية املستقبل‪ .‬يعاين كثري من املفكرين اليمينيني‬
‫من التناقض املقابل‪ .‬يفضل هؤالء املفكرون معدالت الخصم التي يحددها‬
‫السوق‪ ،‬التي تكون عالية نسب ًّيا‪ ،‬ولكن عند الحديث عن إعادة التوزيع‪ ،‬يظهر‬
‫‪6‬‬
‫قلقهم بشأن العواقب عىل املدى الطويل‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬أرى اهتام ًما عميقًا باملستقبل البعيد يف جميع االتجاهات السياسية‪.‬‬
‫إن من شأن االهتامم األكرب باملستقبل أن يدعم السياسات التي تفضل اقتصاد‬
‫السوق والنمو االقتصادي واالبتكار التقني‪ .‬بل إن بعض الحجج الداعمة لهذه‬
‫ريا باملستقبل البعيد‪ .‬فعىل سبيل‬
‫املؤسسات قد تتطلب يف الحقيقة اهتام ًما كب ً‬
‫املثال‪ ،‬تقتيض معدالت الخصم اإليجابية عادة أن علينا أن نعطي أهمية كبرية‬
‫إللغاء املعاناة الحالية‪ .‬إن تحريرات السوق‪ ،‬مهام كانت فوائدها عىل املدى‬
‫الطويل‪ ،‬قد تزيد أحيانًا املعاناة الحالية ألنها تتطلب إعادة توزيع املوارد‪ ،‬إذ‬
‫توجب عىل كثري من العامل أن يبحثوا عن عمل جديد‪ .‬بل إن اقتصاد السوق‬
‫عادة يستثمر فائضه يف مشاريع منو عىل املدى الطويل‪ ،‬وال يوزعها عىل‬
‫الفقراء املعانني‪.‬‬

‫مثال‪ ،‬سولو (‪ .)1974‬يقدم بيكرمان (‪ )1996‬رأيًا ينارص السوق وينتقد الخصم‬


‫‪ .6‬انظر يف رأي اليسار للخصم‪ً ،‬‬
‫الصفري‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫يبدو اقتصاد السوق وإصالحات السوق مبظهر أفضل عندما نضع وزنًا أكرب‬
‫يف كفة املستقبل البعيد نسب ًّيا‪ .‬املجتمع الحر اليوم أفضل من املجتمع الفاسد‬
‫الشمويل‪ ،‬ولكن بعد مئة عام‪ ،‬سيربز الفرق يف السعادة اإلنسانية وغريها من‬
‫القيم املهمة بروزًا أكرب بكثري‪ .‬مع الوقت تعزز موقف الواليات املتحدة من‬
‫االتحاد السوفييتي‪ ،‬ومل ميكن االتفاق بينهام‪.‬‬
‫من يجب أن يضحي‪ ،‬ومتى؟‬
‫يف الظروف العادية‪ ،‬وإذا كان األفق الزمني واس ًعا‪ ،‬قد يبقى اإلطار النفعي أو‬
‫العواقبي عىل موقفه الذي ينصح بأن يضحي بعض األفراد بأجزاء كبرية من‬
‫حياتهم‪ ،‬أو أن يخاطروا بهذه التضحيات من أجل املصلحة املجتمعية العامة‪.‬‬
‫ريا للعامل من ناحية‬
‫ريا كب ً‬
‫هنا مثال بسيط‪ :‬لقد قدم مارتن لوثر كينغ األصغر خ ً‬
‫العدالة ومن ناحية النمو االقتصادي عىل املدى الطويل‪ .‬من اإلنصاف أن نقول‬
‫إن كنغ اختار الخيار الصحيح عندما سعى إىل مثله العليا‪ ،‬بدالً من أن يقيض‬
‫يومه يف لعب الغولف‪ ،‬حتى لو أنه خرس حياته يف سعيه هذا‪ .‬ميكن أن نقول‬
‫األمر نفسه عن غاندي‪ .‬مع هذا‪ ،‬فإن هذه االلتزامات بالتضحية ال ميكن أن‬
‫تكون عامة وال قريبة من العامة‪ .‬إذا ضحى كل امرئ بأهدافه الفردانية لدرجة‬
‫متطرفة‪ ،‬فلن يبقى بني أيدينا حضارة نتقدم بها‪ .‬كام رأينا من قبل‪ ،‬األقرب‬
‫إىل العقل رفض نصائح التضحية الجمعية التي تخفض معدل النمو‬
‫االقتصادي املستدام‪.‬‬
‫يف حاالت كثرية‪ ،‬يجب أن ننظر إىل التزاماتنا عىل مستوى جمعي‪ .‬ال يثبت‬
‫هذا اإلطار مسلكًا صحي ًحا فري ًدا ينبغي عىل كل فرد أن يلتزم به‪ ،‬لذا فليس‬
‫من الواضح من الذي ينبغي أن يضحي‪ .‬ماذا إذا كانت فتاة صغرية تغرق يف‬

‫‪101‬‬
‫بحرية‪ ،‬وكان ميكن ألي واحد م ّنا أن يقفز وينقذها؟ يف هذه الحاالت‪ ،‬يتيح‬
‫سؤال «ماذا يجب أن أفعل؟» مجاالً واس ًعا من الخيارات هنا‪ ،‬وقد يكون إطار‬
‫التزام الفرد بوصفه عض ًوا يف الجامعة‪ ،‬غري محدد‪ .‬نعم‪ ،‬يصلح أن أخاطر‬
‫بسالمتي وأقفز أنا ألنقذها‪ ،‬ولكن ال بأس لو قفز غريي‪ .‬كذلك‪ ،‬ال يجب أن‬
‫تكون مجموعتي أنا هي التي تحتج عىل ظلم الحكومة‪ ،‬ألن مجموعات كثرية‬
‫أيضا‪ .‬تصبح املسألة هنا مسألة نظرية ألعاب‪،‬‬
‫أخرى تستطيع أن تفعل ذلك ً‬
‫وكام نعلم من نظرية األلعاب‪ ،‬فإن التزام الفرد الواحد أو املجموعة الواحدة‬
‫عاد ًة غري محدد‪.‬‬
‫تخيل لعبة فيها مكافآت‪ ،‬يف هذه اللعبة‪ ،‬يتحسن الحال إذا ضحى فرد واحد‬
‫ليحقق غاية ذات قيمة مجتمعية‪ ،‬ولكنه يسوء إذا ضحى الجميع من أجل هذه‬
‫الغاية‪ .‬إن بنية هذه املسألة مشرتكة يف أسئلة أخالقية كثرية‪ ،‬منها مشكلة‬
‫الفقر العاملي‪ .‬قد يضحي بعض الناس ليساعدوا‪ ،‬ولكن‪ ،‬ليس عىل كل الناس‬
‫أن يضحوا‪ ،‬ألننا يجب أن نحافظ عىل وجود حضارتنا املتقدمة اقتصاديًّا وعىل‬
‫سريورتها‪ .‬ميكن القول إن نظام املكافآت النموذجي هذا‪ ،‬هو الذي يجب أن‬
‫نستعمله لنعالج مسائل الفقر العاملي‪ ،‬والتضحية وااللتزام‪.‬‬
‫حسب املبدأ النفعي‪ ،‬بأبسط أشكاله‪ ،‬يجب أن يقدم التضحية من يستطيع أن‬
‫يقدمها «بأقل تكلفة»‪ .‬يجعلنا هذا االقرتاح أقرب إىل أخالق الحدس املشرتك‪،‬‬
‫ميال إليها‪ .‬يشمل هذا‬
‫إذ يقول إن التضحيات يجب أن يقوم بها أكرث األفراد ً‬
‫القديسني‪ ،‬والقديسني األخالقيني‪ ،‬ونشطاء التغيري املجتمعي‪ ،‬واألفراد الذين‪،‬‬
‫ألي سبب كان‪ ،‬ال يجدون هذه التضحيات كبرية املشقة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫فإذا تساوت تكاليف التضحية عند مجموعة من املضحني املحتملني‪ ،‬وتساوت‬
‫الفوائد املجتمعية املتوقعة من تضحيتهم‪ ،‬ميكن القول حينها إنه يجب عىل‬
‫واحد منهم (أو‪ ،‬بعبارة أوسع‪ ،‬عىل مجموعة منهم) أن يضحي‪ .‬يف هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬ال ميكن أخالق ًّيا تحديد الذي يجب عليه أن يضحي‪ ،‬والذي ال يجب‬
‫عليه‪ ،‬أو الذي يجب أن ينتقل إىل ماالوي ليعطي األطفال اللقاحات‪ .‬هذا الطرح‬
‫أقل قم ًعا‪ ،‬وأقل عدا ًء لخطط الحياة الفردية‪ ،‬من السيناريوهات النفعية‬
‫النمطية التي تريد استعباد األطباء الغربيني لتحقيق مصالح ليست هي‬
‫مصالحهم‪.‬‬
‫عندما يواجه الناس بأسئلة الفقر العاملي أو غريه من املآيس‪ ،‬يقول كثري منهم‬
‫(أو معظمهم) شيئًا من هذا القبيل‪« :‬يجب عىل أحدهم أن يفعل شيئًا»‪ .‬يف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬ال يشعر الواحد من هؤالء أن «أحدهم» هذا يجب أن يكون هو‪.‬‬
‫قد تبدو هذه الردود الحدسية متناقضة‪ ،‬أو رمبا أنويّة وغري مسؤولة‪ .‬لكنها‬
‫توافق إحدى حقائق اللعبة‪ .‬نعم‪ ،‬يجب عىل أحد أن يفعل شيئًا‪ ،‬لكن اللعبة‬
‫نفسها ال تحدد من أحدهم هذا‪ .‬النتيجة هي نقص يف املصالح العامة‬
‫واستمرار كثري من الناس يف افرتاضهم‪ ،‬ألسباب أنوية عادةً‪ ،‬أن «أحدهم» هذا‪،‬‬
‫حل للعبة‬
‫يل اجتامع ًّيا‪ ،‬بل إن أفضل ٍّ‬
‫ليس هم‪ .‬ال أقول إن ر ّد هؤالء الناس أمث ّ‬
‫‪7‬‬
‫يوافق بعض الخطوط العريضة ألخالق الحدس املشرتك‪.‬‬

‫‪ .7‬ميكن أن نحدد املضحي كذلك بالقرعة‪ .‬أو أن ننظر إىل نظرية األلعاب‪ .‬ميكننا أن نقول إن األخالق تفرض عىل األفراد‬
‫أن يلعبوا ما يسميه االقتصاديون اسرتاتيجات ناش العشوائية‪ ،‬التي تعني احتامالً معيّنًا من األنوية واحتامالً معيّنًا‬
‫من التضحية يف كل فرد‪ ،‬كام لو أن املرء يلقي بحجر نرد‪ .‬إذا حددت اسرتاتيجية عشوائية تحديدًا صحي ًحا‪ ،‬ستؤدي‬
‫إىل املقدار الصحيح من التضحية –باملتوسط‪ ،‬عىل األقل– دون أن تجرب الجميع عىل التضحية‪ .‬مجموعة‬
‫االسرتاتيجيات العشوائية املناسبة هي التي تعزز النمو االقتصادي العاملي املستدام املتوقع‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫وعىل أي حال‪ ،‬االحتامل األكرب أن يضحي األفراد أقل من الالزم ال أكرث من‬
‫أصال‪ .‬لذا ميكننا أن‬
‫قليال ج ًّدا منهم سيضحي تضحية كبرية ً‬
‫الالزم‪ ،‬وأن عد ًدا ً‬
‫ننظر إىل اقرتاح معني من نوع آخر‪ ،‬حتى لو مل يستطع أن يساعدنا يف معرفة‬
‫الفرد الذي يجب أن يضحي‪ .‬علينا أن نقوي ضامئرنا‪ ،‬وأمناطنا املجتمعية‪،‬‬
‫حتى نزيد احتامل استعداد األفراد املناسبني للتضحية التي يحتاج إليها‬
‫تبني أنها األفضل‪ .‬علينا أن نعظّم ونكافئ هذه التضحيات حتى‬
‫املجتمع إذا ّ‬
‫نزيد احتاملها‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬ليس هذا بعي ًدا عن أخالق الحدس املشرتك‪.‬‬
‫هل ينبغي إعادة توزيع املال إىل األغنياء؟‬
‫يف حاالت كثرية‪ ،‬تأيت االقرتاحات النفعية املحضة مبقتضيات غري متوقعة‪،‬‬
‫بل مبقتضيات تعارض املخاوف املعتادة بشأن األطباء األمريكيني املستعبدين‬
‫مثال‪ ،‬قد تدعم الفلسفة النفعية نقل املوارد من الفقراء‬
‫لخدمة األفارقة الفقراء‪ً .‬‬
‫مثال‪ ،‬يستطيع أن يأيت بقدر أكرب من‬
‫إىل األغنياء‪ .‬رائد األعامل املوهوب ً‬
‫العوائد من املوارد املستثمرة‪ ،‬إذا قورن بجدة عجوز معوقة‪ .‬وكلنا يعلم‬
‫الشكوى الشائعة يف األدب من عدم املساواة‪ ،‬أن الغني يزداد غنًى والفقري‬
‫يزداد فق ًرا‪ ،‬أو عىل األقل يبقى يف مكانه‪ .‬إذا صدقنا هذا التصوير‪ ،‬فاألغنياء‬
‫إذن يكتسبون عوائد أكرب من ثروتهم املجمعة‪ ،‬كام قال عامل االقتصاد الفرنيس‬
‫توماس بيكيتي‪ .‬إذا جمعنا أثر تقطري الرثوة ومعدل خصم صفري‪ ،‬يسهل‬
‫توليد حاالت يجب فيها عىل النفعية أن تقرتح إعادة توزيع الرثوة من الفقري‬
‫إىل الغني‪.‬‬
‫فلنفرتض جدالً ‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن األغنياء يربحون مثانية باملئة عىل‬
‫أمالكهم‪ ،‬سنويًّا وباملتوسط‪ ،‬أما الفقراء فريبحون واح ًدا باملئة‪ .‬إذا تقطّر‬

‫‪104‬‬
‫خمس أرباح األغنياء إىل الفقراء مع الوقت‪ ،‬أصبح الفقراء أفضل حاالً من ج ّراء‬
‫ُ‬
‫خمس مثانية باملئة‪ ،‬أي ‪ 1.6‬باملئة‪،‬‬
‫امتالك األغنياء موارد أكرب‪ .‬سيأخذ الفقراء ُ‬
‫بدالً من أن يأخذوا ‪ 1‬باملئة لو كانت املوارد معهم‪ .‬عاد ًة ال يصل هذا التقطري‬
‫إليهم مبارشة‪ ،‬لكن مع الوقت‪ ،‬سيبني األغنياء مصانع أكرث‪ ،‬ويشرتون‬
‫منتجات أكرث‪ ،‬ويوظفون عامالً منزليني أكرث‪ ،‬ومي ّولون مزي ًدا من البحث‬
‫آجال‪ ،‬سيستفيد كثري‬
‫عاجال أو ً‬
‫ً‬ ‫والتطوير‪ ،‬ويدفعون نحو هجرة أكرب‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ريا أن معظم‬
‫من الفقراء‪ .‬إذا كان اهتاممنا باملستقبل البعيد عميقًا‪ ،‬فال يهم كث ً‬
‫آجال‪.‬‬
‫هذه الفوائد سيأيت ً‬
‫ستكون نتائج إعادة التوزيع هذه أول األمر مناقضة للمساواة‪ ،‬ولكن عىل مدى‬
‫زمني طويل مبا يكفي‪ ،‬سيستفيد الفقراء أكرث من املعدل العايل للنمو‬
‫االقتصادي‪ .‬لن تكون النتائج مناقضة للمساواة إذا نظرنا إىل املدى الزمني‬
‫حتام مناقضة للمساواة إذا استعملنا أي مقياس شائع‪ ،‬يركز‬
‫املناسب‪ ،‬ولكنها ً‬
‫عىل املدى القصري أو عىل بلد واحد‪ ،‬وال يتسع منظوره إىل املدى األطول‬
‫واألوسع واألكرث عاملية‪.‬‬
‫ال أقول هنا إن نظرية تعددية صالحة ميكن أن تدعم إعادة توزيع منهجية‬
‫للرثوة إىل األغنياء أو املوهوبني‪ .‬من األسباب املانعة لهذا‪ ،‬أن هذه قد تكون‬
‫حالة من الحاالت التي تفرض فيها الحقوق حدو ًدا عىل االستحسان الجوهري‬
‫الذي هو زيادة النمو‪ .‬لعل أن مدير صندوق االحتياط ال يحق له أن يأخذ موارد‬
‫من عامل بناء مهام كان هذا املدير مستثم ًرا جي ًدا‪ .‬ومن املخاوف األخرى التي‬
‫قد تحد إعادة التوزيع إىل األغنياء‪ ،‬أن توزيع الرثوة إذا بلغ من عدم املساواة‬
‫مبل ًغا مع ّي ًنا‪ ،‬فقد يؤدي إىل تقليل النمو يف بعض القنوات التي نوقشت أعاله‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫لكن املهم‪ ،‬هو كيف يزيح هذا التأطري الجديد عبء البينة إذ يطالع تداعيات‬
‫معدل الخصم املنخفض ج ًّدا‪ .‬مل تعد إعادة التوزيع املبارشة قصرية املدى إىل‬
‫فقراء اليوم هي الخيار االفرتايض للنظرية األخالقية التي تؤكد عىل سعادة‬
‫الفرد ورفاهيته‪ .‬بل‪ ،‬يف كثري من الحاالت‪ ،‬يجب عىل النفعية أن تعمل لتتجنب‬
‫استنتاج إعادة توزيع مزيد من املوارد إىل األغنياء‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬ميكن أن نصوغ‬
‫نظرية أخالقية تركز عىل العواقب الصالحة من دون أن نفرض عىل كل إنسان‬
‫‪8‬‬
‫أن يتخىل عن مثانني باملئة من دخله أو يعمل طبي ًبا يف إفريقيا‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬علينا أن ننظر بدقة إىل مصدر املكتسبات الكبرية التي اكتسبتها‬ ‫أخ ً‬
‫اإلنسانية يف املايض‪ ،‬وأن نؤكد عىل توسيع هذه املكتسبات بدالً من إعادة‬
‫التوزيع بحد ذاتها‪ .‬ميكن القول إن أهم ِهبات الجيل املايض للجيل الحايل أتت‬
‫من االستثامرات الحكيمة‪ ،‬واإلميان بقواعد السلوك العادل‪ ،‬واملؤسسات‬
‫السياسية الصالحة‪ ،‬والقيم الصالحة‪ ،‬وعوامل تاريخية أخرى متعلقة مبا‬
‫مىض‪ .‬تتطلب املؤسسات املعززة للنمو اجتها ًدا يف العمل‪ ،‬ولكن االستثامر‬
‫لعبة إيجابية املجموع‪ ،‬ليست صفرية املجموع‪ ،‬عرب األجيال‪ .‬الدافع األخالقي‬
‫الناتج هو دافع نحو تقوية القواعد الصالحة التي تؤدي إىل النمو االقتصادي‬
‫فهام صحي ًحا‪ ،‬وهنا مرة أخرى نسلك مسلك أخالق‬
‫يف املستقبل‪ ،‬النمو املفهوم ً‬
‫الحدس املشرتك‪.‬‬
‫واجباتنا نحو املس ّنني‬
‫بالنظر إىل حدود واجباتنا نحو الفقراء‪ ،‬أمام واجباتنا نحو املسنني حدود‬
‫مشابهة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬ميكننا أن نفكر يف املسنني عىل أنهم أفراد فقراء يف‬

‫‪ .8‬عن وجوب االدخار‪ ،‬انظر راولز (‪.)252 ،1999‬‬

‫‪106‬‬
‫جانب معني‪ ،‬هو رأس مالهم اإلنساين املستقبيل‪ .‬فاحتامل املوت القريب‬
‫للمسنني أكرب من احتامل املوت القريب للشباب‪ .‬ومع أن علينا أن نفعل أشياء‬
‫غري قليلة ملساعدة املسنني‪ ،‬فإن منطق النمو املستدام يفرض قيو ًدا عىل هذه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫الواجبات ً‬
‫وهنا سؤال أوسع هو مدى تقدير املعيار العواقبي أو النفعي لحياة املسنني‪.‬‬
‫أتذكر مقابلة عمل يف ‪ 1986‬سألني فيها املقابل‪ ،‬االقتصادي جوليوس‬
‫مارغوليس‪« ،‬ملاذا ال نقدر حيوات الناس حسب تكلفة استبدالها؟»‪ .‬فاجأين‬
‫السؤال‪ ،‬ومل أملك جوابًا ج ّي ًدا له‪ .‬لكن التحدي بدا خاطئًا يف نظري‪ .‬أال‬
‫يستحق املسنون احرتا ًما أكرب؟ أمل يعش كل مس ٍّن حياة خاصة‪ ،‬ال ميكن أن‬
‫تقاس قيمتها بتشبيهات االستبدال؟ طال تفكريي يف هذا السؤال ألنه يتحدى‬
‫ريا من حدسياتنا األخالقية‪.‬‬
‫كث ً‬
‫فلنبدأ مبثال بسيط‪ .‬إذا قُ ّدر مثن منزل يف السوق مبليون دوالر‪ ،‬ولكن كان‬
‫ميكن بناء هذا املنزل من جديد بتكلفة استبدال هي ‪ 500,000‬دوالر‪ ،‬فقيمة‬
‫البيت الحقيقية حينئذ هي ‪ ،500,000‬عىل األقل إذا رشعنا يف االستبدال‪.‬‬
‫بعبارة أقوى‪ ،‬ال يصلح أن ندفع ‪ 800,000‬دوالر لننقذ البيت من الهدم إذا‬
‫كان ميكن بناء نسخة مطابقة له بتكلفة ‪ 500,000‬دوالر‪.‬‬
‫فلنقل إن قيمة حياة اإلنسان هي ‪ 4‬ماليني دوالر‪ ،‬إذا قدرناها بناء عىل‬
‫االستعداد االقتصادي العام للدفع التخاذ إجراءات تقلل املخاطر‪ ،‬ولكن ميكن‬
‫مثال‬
‫يف الوقت نفسه إنتاج حياة جديدة بنحو ‪ 10‬آالف دوالر‪ ،‬بدعم الوالدات ً‬
‫أو إنقاذ حياة أخرى بطريقة اقتصادية أكرث يف مكان آخر‪ .‬دعم الوالدات‬
‫سيكون عىل األرجح أرخص بكثري من ‪ 4‬ماليني دوالر نتكلفها إلنقاذ حياة‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫فكم علينا أن ندفع لننقذ أو نحافظ عىل هذه الحياة؟ هل يجب أن ندفع ‪4‬‬
‫ماليني؟ أم إن الحياة اإلنسانية ال تساوي أكرث من ‪ 10‬آالف دوالر‪ ،‬هي تكلفة‬
‫استبدالها‪.‬‬
‫سيتفق جميعنا تقري ًبا عىل أن ‪ 10‬آالف دوالر –وقد تكون أقل– ليست‬
‫بالعموم قيمة مناسبة لحياة إنسان‪ ،‬سواء أكان مس ًّنا أو غري مسن‪ .‬أوالً ‪ ،‬الحياة‬
‫التي سنخرسها والحياة التي ستأيت بدالً منها ليستا متطابقتني‪ .‬لذا‪ ،‬فليس‬
‫لنا أن نقول بدقة إننا قد استبدلنا حياة جديدة بالحياة التي خرسناها‪ .‬وقد‬
‫نشعر بواجب خاص تجاه األكرب سنًّا بسبب ما قدموه يف تربيتنا وبناء بلدنا‬
‫والدفاع عنا يف الحروب السابقة‪ .‬هذا وإن عدم إنقاذ الحياة األوىل واالستثامر‬
‫يف إنتاج حياة جديدة ليسا أمرين مرتبطني سبب ًّيا عادةً‪ .‬لن يؤدي ترك مس ٍّن‬
‫ميوت تلقائ ًّيا إىل زيادة دعم الوالدات أو غري ذلك من اإلجراءات املنقذة للحياة‬
‫يف االقتصاد‪.‬‬
‫لذلك يبعد أن يكون قياس تكلفة االستبدال هو الطريقة الصحيحة لتقدير قيمة‬
‫حياة اإلنسان‪ .‬ولكن القدرة عىل االستبدال ال يجب أن تلغى متا ًما عندما نفكر‬
‫يف قيمة حياة‪ .‬إذا ذهبت حياة وأتت حياة‪ ،‬فإن الحياة الجديدة تع ّوض عن‬
‫بعض القيمة التي ُ‬
‫خرست‪ ،‬عىل األقل من حيث النفع‪ .‬أو بح ّجة أخرى‪ ،‬إن‬
‫خسارة حضارة ال ميكن استبدال حضارة أخرى بها مأساة أكرب بكثري من‬
‫خسارة حضارة بطريقة تتيح والدة حضارة جديدة ومختلفة محلها‪ .‬لذا فإن‬
‫قابلية االستبدال لها وزن يف الحساب‪ ،‬وإن اختلفنا يف مقدار هذا الوزن‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫عمل ًّيا‪ ،‬إن الرثوة املضافة التي تتجمع بسبب االقتصاد يف نفقات إنقاذ الحياة‪،‬‬
‫تدفع الناس إىل رشاء سيارات أكرث أمنًا والعمل يف مهن أقل خط ًرا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫لذا ميكن القول إننا سننقذ عد ًدا أكرب من الحيوات إذا قللنا استثامرنا املبارش‬
‫يف الحفاظ عىل حياة املسنني‪ .‬ال نعلم إن كانت زيادة الرثوة املوفرة ستنقذ أو‬
‫تحافظ عىل حياة أخرى‪ ،‬لكن احتامل هذا األمر قائم‪ .‬وهذا االحتامل يخفض‬
‫قيمة دفع كثري من املال لتمديد عمر إنسان‪ .‬لذا‪ ،‬يف الوضع املعارص‪ ،‬يجب‬
‫تقدير حياة اإلنسان عىل األرجح بثمن أقل من ‪ 4‬ماليني دوالر‪ ،‬أو أي رقم‬
‫يجمع استعداد الناس للدفع للحفاظ عىل الحياة‪ ،‬أو يحسب القيمة النفعية‬
‫للحياة‪.‬‬
‫قد ال نعرف عىل وجه الدقة القيمة الصحيحة لحياة الفرد‪ ،‬لكننا نعلم أن‬
‫احتامل التكافؤ‪ ،‬وتقريب املستقبل‪ ،‬والتجدد املستمر للحضارة البرشية‪ ،‬وقيمة‬
‫االستثامر يف الحيوات املستقبلية‪ ،‬إذا اجتمعت كلها شكلت ضغطًا يهبط‬
‫باملقدار الذي ينبغي أن نستثمره إلطالة أعامر املسنني اليوم‪ .‬من هنا‪ ،‬تقرتح‬
‫حججي تقدي ًرا أقل لقيمة الحياة‪ ،‬ومنها الحياة املسنة‪ ،‬باملقارنة مع معظم‬
‫اإلطارات املعقولة ألخرى‪ ،‬ألن االستبدال والتجديد عامل يف التدفق الحضاري‬
‫ولكنه عامل بني عوامل كثرية أخرى‪ .‬ال يجب أن يكون القول الفصل لالستبدال‬
‫والتجديد‪ ،‬ولكن نعم‪ ،‬إن لهام ضغطًا هابطًا قويًّا عىل تقديراتنا لقيمة الحياة‪.‬‬
‫ريا ج ًّدا عىل املسنني‬
‫بعبارة أقرب إىل الواقع‪ ،‬اليوم يف الواليات املتحدة ننفق كث ً‬
‫وال ننفق عىل الشباب ما يكفي‪ .‬وإذا علمنا أن املسنني هم األكرث تصوي ًتا يف‬
‫االنتخابات‪ ،‬وأن الشباب عادة ال يصوتون أو ال يستطيعون أن يصوتوا‪ ،‬زال‬
‫عجبنا من هذا الخطأ‪ .‬ينبغي أن تركز الحكومات عىل االستثامر‪ ،‬لكن يف‬

‫‪109‬‬
‫الواليات املتحدة عىل األقل‪ ،‬إنفاق الحكومة يف االستثامر يتناقص‪ ،‬يف‬
‫السنوات األخرية‪ ،‬انخفض استثامر الحكومة إىل نسبة أدىن من متوسط نسبة‬
‫اإلنفاق بعد الحرب‪ ،‬التي كانت خمسة باملئة‪ .‬ميكن أن نلحظ أمناطًا مشابهة‬
‫يف عدة ميزانيات وطنية لدول أوروبية‪ 9.‬من سوء الحظ‪ ،‬عندما يجب وضع‬
‫حد إلنفاق الحكومة‪ ،‬تتجه األنظار أوالً إىل االستثامر‪ ،‬أما االلتزامات برعاية‬
‫املسنني فال يقرتب منها أحد‪ .‬من هذه الناحية‪ ،‬أقرتح بعض املراجعات‬
‫لالتجاهات الحالية هذه‪.‬‬
‫التغريات الفورية الدامئة وتغريات معدل النمو‬
‫فلننظر اآلن يف آخر حجر بناء سنستعمله يف تقرير املجال املناسب إلعادة‬
‫التوزيع‪ ،‬هو طبيعة النمو االقتصادي‪ .‬بتقسيم عام ج ًّدا‪ ،‬تنقسم السياسات‬
‫النافعة إىل فئتني‪ .‬أوالً ‪ ،‬السياسات التي قد تأيت مبنافع فورية دامئة‪ :‬كزيادة‬
‫طاقة كل املصابيح لعام واحد‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬التي تكون منافعها مستم ّرة ومتصاعدة؛‬
‫مثل السياسات العلمية التي تزيد رسعة الوترية التي تتطور بها املصابيح (أو‬
‫غريها من االبتكارات)‪ .‬تزيد هذه السياسات معدل النمو االقتصادي‪ ،‬أو‪،‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬تعترب نبتة الكروسونيا‪ ،‬أي مصد ًرا مولّ ًدا لنفسه ومج ّد ًدا لنفسه‬
‫من الطاقة املستمرة‪.‬‬
‫عندما ننظر يف تغري سيايس أو قانون إلعادة التوزيع‪ ،‬يهم أن نعرف إن كان‬
‫يريد تحقيق منفعة (أو تكلفة) فورية دامئة‪ ،‬أو تعزي ًزا (أو إضعافًا) منظوم ًّيا‬
‫يف معدل النمو مع الوقت‪ .‬هذا التفريق الغريب نو ًعا ما‪ ،‬املستن َتج من األدبيات‬

‫‪ 9‬انظر هاردنغ‪ ،‬ومكغريغور‪ ،‬ومولر (‪.)2013‬‬

‫‪110‬‬
‫االقتصادية عن النمو‪ ،‬له أهمية كبرية يف الحكم عىل التغريات االجتامعية‬
‫املمكنة‪.‬‬
‫لننظر يف مثال بسيط‪ ،‬يعتقد كثري من العلامء أن االحرتار العاملي سيزيد عدد‬
‫العواصف الشديدة واملستمرة يف كوكبنا‪ .‬لن يظهر كثري من هذه العواصف‬
‫إال بعد حني‪ ،‬ولكن االهتامم األكرب باملستقبل يقتيض أن علينا أن نستوعب‬
‫هذه العواقب‪ .‬كثري من املشكالت البيئية األخرى يؤثر يف آفاقنا للنمو املستدام‬
‫عىل املدى الطويل‪ .‬أرى أن هذه املشكالت مهمة عىل نحو خاص‪.‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬ميكن أن يؤدي االهتامم باملستقبل البعيد إىل إبعادنا عن‬
‫بعض االستثامرات البيئية‪ .‬خالفًا لتهديد العواصف الشديدة املستمرة‪ ،‬تتخذ‬
‫بعض تكاليف التغري املناخي شكل تعديالت فورية تتخذ مرة واحدة‪ ،‬مثل‬
‫تغيري أماكن املستوطنات الساحلية‪ .‬ميكن أن يعد هذا التغيري خرقًا للحقوق‬
‫نو ًعا ما‪ ،‬لكن من وجهة نظر عواقبية‪ ،‬فزيادة معدل النمو له األولوية عىل‬
‫تجنب التكاليف التي تدفع مرة واحدة والتغيريات التي تحدث مرة واحدة‪.‬‬
‫حتى لو كانت هذه التكاليف كبرية‪ ،‬سنستعيدها مع الوقت‪ ،‬بفضل منطق‬
‫مضاعفة النمو‪ .‬لذا‪ ،‬خالفًا ملا قد تطرحه األطر الزمنية األخرى‪ ،‬علينا أن نهتم‬
‫اهتام ًما أكرب بالعواصف واهتام ًما أقل بتكاليف نقل املستوطنات‪.‬‬
‫من املهم ج ًّدا أن نالحظ إن كان االختيار السيايس املعني سيؤثر يف إجاميل‬
‫معدل النمو‪ .‬لكن تفاصيل هذا التفريق معقدة‪ ،‬ألن النامذج االقتصادية تختلف‬
‫أقوالها بشأن التغيريات التي تؤثر يف معدالت النمو‪ ،‬باملقارنة مع تغيريات أو‬
‫تحسينات املرة الواحدة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫أبرز املقاربات االقتصادية للنمو‪ ،‬منوذج سولو‪ ،‬املسمى باسم عامل االقتصاد‬
‫يف معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واملرشح لجائزة نوبل روبرت سولو‪،‬‬
‫الذي وضع أسس هذا النموذج يف خمسينيات القرن العرشين‪ .‬يفرتض منوذج‬
‫سولو تابع إنتاج مجرد يشمل االقتصاد كله‪ ،‬بنا ًء عىل عوائد الحجم الثابتة‪.‬‬
‫الناتج الوطني هو نتيجة مدخالت رأس املال ومدخالت العمل والتقدم التقني‪،‬‬
‫الذي يجعل رأس املال والعمل أكرث فعالية‪ 10.‬يف هذا النموذج‪ ،‬الطريقة األوىل‬
‫لزيادة النمو املستمر هي زيادة معدل االبتكار التقني‪ .‬ولقد دلّت أبحاث‬
‫ريا وراء النمو‬
‫عامال كب ً‬
‫ً‬ ‫تجريبية كثرية عىل أن التقدم التقني املطبق كان‬
‫االقتصادي يف الواليات املتحدة‪.‬‬

‫يساعدنا منوذج سولو عىل فهم ظاهرة النمو التداريك‪ ،‬التي كانت مهمة ج ًّدا‬
‫يف رشق آسيا‪ .‬يف هذا النموذج‪ ،‬يتضاءل معدل عائدات رأس املال كلام زاد‬
‫ريا‪ ،‬كانت عائدات االستثامر ومن‬
‫مخزون رأس املال‪ .‬فإذا مل يكن رأس املال كث ً‬
‫ثم دوافع االستثامر قوية‪ ،‬عىل األقل إذا كانت اليد العاملة جيدة وكانت‬
‫املؤسسات تحمي حقوق امللكية للمستثمرين‪ .‬لذا ينبغي أن تواكب الدول‬
‫الفقرية الدول األغنى حني تستورد تقنياتها الجديدة وتزيد رؤوس أموالها‬
‫فرصا جديدة ومربحة‪ .‬كان النمو االقتصادي يف الصني الذي بدأ يف‬
‫ً‬ ‫لتوفر‬
‫مثانينيات القرن العرشين عىل طريقة التدارك هذه‪.‬‬
‫يقتيض منوذج سولو كذلك أن االقتصاد يتعاىف رسي ًعا بعد الصدمات السلبية‬
‫التي تحدث مرة واحدة كالزالزل أو الحروب‪ .‬عىل رغم انهيار مخزون رؤوس‬

‫ملخصا حديثًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ 10‬انظر سولو (‪)1957 ,1956‬؛ يقدم رومر (‪)2000‬‬

‫‪112‬‬
‫األموال من الدمار‪ ،‬يرتفع معدل العائدات عىل رأس املال بسبب هذا‬
‫االنخفاض يف املخزون‪ .‬تردم املدخرات اإلضافية الفجوة وتستعيد مع الوقت‬
‫االقتصاد إىل مسار منوه السابق‪ .‬يظهر التعايف االقتصادي الرسيع ج ًّدا يف‬
‫اليابان وأملانيا بعد الحرب العاملية الثانية هذه اآللية عمل ًّيا‪ .‬لذا فحسب هذه‬
‫منخفضا يف حالة واحدة‪ ،‬هي أن تقلّص الصدمة‬
‫ً‬ ‫النظرية‪ ،‬يبقى معدل النمو‬
‫تقليصا دامئًا أبديًّا‪.‬‬
‫ً‬ ‫السلبية معدل التقدم التقني‬
‫ألسباب مشابهة‪ ،‬يُنظَر إىل تعزيز االدخار واالستثامر عىل أنه يسهم يف نقل‬
‫مسارات النمو ولكنه ال ينقلها إىل حالة منو مستقر عىل املدى الطويل‪ .‬يف‬
‫هذا النموذج‪ ،‬إذا زاد االدخار فمعناه أن مقدا ًرا مع ّي ًنا من النمو التداريك‬
‫‪11‬‬
‫سيحدث برسعة أكرب‪ ،‬لكن االدخار ال يزيد معدالت النمو عىل املدى الطويل‪.‬‬
‫هذا هو منوذج سولو‪ ،‬لكنني ال أقول هنا إنه أفضل منوذج لفهم عاملنا أو اتخاذ‬
‫موقف من إعادة التوزيع‪ .‬لكنه ببساطة أحد االحتامالت‪.‬‬
‫خالفًا لنموذج سولو‪ ،‬يقرتح منوذج العوائد املتزايدة أن النمو يأيت مبزيد من‬
‫النمو‪ .‬يف هذا الرأي‪ ،‬كلام كرب االقتصاد كان منوه أرسع من منو االقتصادات‬
‫األصغر‪ ،‬وتتجه معدالت النمو إىل الزيادة مع الوقت‪ .‬تأيت التحسينات مبزيد‬
‫من التحسينات وكذلك األحداث السلبية ترتاكم‪ ،‬لذا ُس ّمي النموذج منوذج‬
‫«العوائد املتزايدة»‪.‬‬
‫توصف األفكار عادة‪ ،‬وطبيعتها غري التنافسية‪ ،‬بأنها املصدر األسايس للعوائد‬
‫املتزايدة‪ .‬فبعد أن تولد الفكرة‪ ،‬ميكن أن يستعملها أناس كثريون مختلفون‬
‫‪ .11‬تتيح تعديالت الحقة لنموذج سولو ملعدالت االدخار واالستثامر أن ترتبط بالنمو االقتصادي بطريقة أعم؛ انظر متبل‬
‫(‪ .)140–139 ،1999‬تؤكد توسيعات أوزاوا (‪ )1965‬ولوكس (‪ )1988‬للنموذج عىل دور رأس املال اإلنساين يف‬
‫تعزيز معدل النمو أو الحفاظ عليه‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫بتكاليف هامشية منخفضة ج ًّدا‪ .‬تنترش الفكرة األوىل‪ ،‬وتلد أفكا ًرا الحقة‪،‬‬
‫فيزداد النمو‪ .‬وميكن النظر إىل العوائد املتزايدة بطريقة أخرى‪ .‬تولّد األسواق‬
‫األكرب دوافع أقوى إلنتاج األفكار ألن املستثمرين يستطيعون فيها أن يبيعوا‬
‫(فمثال‪ ،‬لن يكون ابتكار اآليفون يستحق‬
‫ً‬ ‫منتجاتهم إىل عدد أكرب من املشرتين‬
‫املوارد املبذولة فيه لو كان مصنو ًعا للعمالء يف نيوزيلندا فقط)‪ .‬يقتيض هذا‬
‫أن االقتصادات الكبرية تنمو برسعة أكرب من االقتصادات الصغرية‪ .‬كلام منا‬
‫االقتصاد‪ ،‬كان الدافع أقوى وراء األفكار الالحقة‪ ،‬التي بدورها تعزز الدافع‬
‫للنمو‪ .‬تؤدي األفكار الجديدة إىل منو أكرب‪ ،‬يشجع بدوره مزي ًدا من األفكار‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬

‫يشتهر ارتباط منوذج العوائد املتزايدة بعامل االقتصاد بول رومر‪ ،‬ولكن ميكن‬
‫أن نجده قبل ذلك يف آدم سميث ويف البدايات األوىل لالقتصاد بوصفه مجال‬
‫دراسة نظام ًّيا‪ .‬يف منوذج سميث الضمني‪ ،‬يؤدي حجم السوق األكرب إىل‬
‫توزيع أكرب للعمل‪ ،‬يؤدي بدوره إىل إنتاجية أكرب يف االقتصاد‪ .‬يف مناذج‬
‫أخرى‪ ،‬كلام زاد االنفتاح عىل التجارة‪ ،‬أو اتسعت منطقة سوق مشرتكة‪،‬‬
‫كالواليات املتحدة‪ ،‬أدى ذلك إىل عملية تزايد عوائد الحجم‪.‬‬
‫إذا أردنا التعبري عن هذه النظريات بعبارايت‪ ،‬فإن منوذج العوائد املتزايدة‬
‫يقول إن أمامنا نبتات الكروسونيا كثرية ج ًّدا‪ ،‬أما منوذج سولو فيقول إننا لن‬
‫نجد نبتات الكروسونيا إال إذا اعتمدنا سياسات ترفع معدل إنتاج األفكار عىل‬
‫رشا‪ .‬يرى منوذج العوائد املتزايدة أن أي ربح من‬
‫وجه الخصوص رف ًعا مبا ً‬

‫‪114‬‬
‫املوارد ميكن أن يرتجم إىل منو أعىل عىل املدى الطويل‪ ،‬ولن يضمحل يف‬
‫‪12‬‬
‫عملية التكيف‪.‬‬
‫يف منوذج العوائد املتزايدة‪ ،‬تلحق صدمة سلبية واحدة رض ًرا مبعدل النمو‬
‫عىل املدى الطويل‪ ،‬وهو ما يقتيض أن علينا االهتامم بتجنب أي صدمة سلبية‬
‫محتملة‪ ،‬أو عىل األقل بالحد منها‪ .‬يظهر منوذج سولو صورة فيها مناعة أكرب‪،‬‬
‫ألن آثار التدارك متنع تراكم األخطاء املفردة مع الوقت أن يؤدي إىل انهيار‬
‫أكرب‪.‬‬
‫سيجعلنا منوذج العوائد املتزايدة إذن أشد حذ ًرا من إعادة توزيع الرثوة التي‬
‫ال تعزز النمو‪ ،‬باملقارنة مع منوذج سولو‪ .‬يف منوذج سولو‪ ،‬قد تكون تكاليف‬
‫إعادة التوزيع تكاليف «تُدفع م ّرة واحدة»‪ ،‬أي ال تسبب خفض معدل النمو‬
‫عىل املدى الطويل‪ .‬ميكننا أن نعوض عن الخسائر املؤقتة ونعود إىل املكان‬
‫الذي كنا سنصل إليه‪ .‬باملقابل‪ ،‬يف منوذج العوائد املتزايدة‪ ،‬أي تراجع سيجعل‬
‫االقتصاد أصغر ويحد معدالت النمو يف املستقبل‪ ،‬وهو أمر له تداعيات مهمة‬
‫عىل مستوى املعيشة يف املستقبل البعيد‪.‬‬
‫يشري هذا الفرق إىل طريقة أخرى يجب فيها إعادة صياغة النقاشات‬
‫السياسية التقليدية‪ .‬يجب أن يكون املؤمنون بنموذج العوائد املتزايدة أشد‬
‫تشكيكًا بإعادة التوزيع التي ال تعزز النمو من الذين يؤمنون بنموذج التدارك‬
‫لسولو‪.‬‬

‫‪ 12‬يف منوذج العوائد املتزايدة‪ ،‬انظر رومر (‪ .)1990 ،1986‬يف مقارنة منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة‪ ،‬انظر‬
‫ندوة ‪ 1994‬يف مجلة املنظورات االقتصادية ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ي املنطقني هو الصحيح؟ منطق منوذج سولو أم‬
‫من األسئلة املركزية هنا‪ :‬أ ّ‬
‫منطق منوذج العوائد املتزايدة؟ حتى لو كنت غري مقتنع بكل تفاصيل هذين‬
‫النموذجني‪ ،‬فإن الخيارين اللذين يقدمانهام هام‪ :‬إما أن تكاليف املرة الواحدة‬
‫تؤثر عىل املدى الطويل‪ ،‬وإما أنها ال تؤثر‪ .‬سأعامل هذين النموذجني عىل‬
‫أنهام ممثالن لرأيني أوسع‪ .‬السؤال املحوري هو‪ :‬هل ترتاكم األرباح والخسائر‬
‫‪13‬‬
‫مع الوقت أم تضمحل إىل أن تصبح بال أهمية عىل املدى الطويل؟‬

‫مهام يكن رأيك بشأن منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة‪ ،‬فإن منطق‬
‫العوائد املتزايدة سيكون له عىل األرجح وزن مهم يف تقديرنا األخري‪ .‬يف كثري‬
‫من األحوال تكون أفضل إجابة نقدمها‪ ،‬حسب معارفنا الحالية‪ ،‬هي أن أي‬
‫تكلفة معينة يحتمل أن يكون لها أثر مستمر عىل النمو (كام يف منوذج العوائد‬
‫املتزايدة) ويحتمل أن تكون تكلفة تعديل تدفع مرة واحدة‪ ،‬ويلحقها تدارك‬
‫اقتصادي (كام يف منوذج سولو)‪ .‬يف حساباتنا للقيمة املتوقعة‪ ،‬سيكون هذا‬
‫هو األثر املتوقع عىل املعدل طويل املدى للنمو االقتصادي‪ .‬لذلك يجب أن ندمج‬
‫منطق منوذج العوائد املتزايدة يف طريقة تقييمنا للتغيريات االجتامعية‪ ،‬حتى‬
‫إذا مل يكن هذا النموذج هو أفضل نظرية حالية يف النمو االقتصادي‪ .‬من حيث‬
‫القيمة املتوقعة‪ ،‬سيكون ملعظم اختياراتنا االجتامعية أثر عىل معدالت النمو‬

‫‪ .13‬املقاربات املؤسسية الجديدة أقل رسمية يف صياغتها من منوذج سولو أ منوذج العوائد املشرتكة‪ .‬تشري هذه املقاربات‬
‫إىل أهمية حقوق امللكية‪ ،‬واملؤسسات الفعالة‪ ،‬والثقة‪ ،‬وحكم القانون‪ ،‬والدوافع االقتصادية الجزئية املتفقة‪ .‬مع هذا‪،‬‬
‫فإن هذه اآلراء ال تحدد عادة التغيريات السياسية التي تعزز معدل النمو تعزي ًزا مستم ًّرا‪ ،‬مقابل تغيريات املرة الواحدة‬
‫(الفورية الدامئة)‪ .‬للنظر يف هذه املقاربات املؤسسية الجديدة‪ ،‬انظر عمل دوغالس نورث عن التاريخ االقتصادي‬
‫األمرييك واألورويب (نورث ‪ ،1981‬نورث وتوماس ‪)1976‬؛ انظر أيضً ا أولسون (‪ ،)1984‬وبيتس وآخرون (‪،)1998‬‬
‫وأسيموغلو وجونسون (‪.)2004‬‬

‫‪116‬‬
‫االقتصادي املستقبلية‪ .‬نبتات الكروسونيا يف كل مكان‪ ،‬من حيث القيمة‬
‫املتوقعة‪ .‬كل قراراتنا تتعلق بنبتات الكروسونيا يف آخر املطاف‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬يؤكد منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة كالهام عىل أن األفكار هي‬
‫أخ ً‬
‫منبع النمو االقتصادي‪ .‬األفكار الجديدة هي منتجات العقل البرشي‪ ،‬لقد ع ّرف‬
‫أرسطو اإلنسان بأنه حيوان عاقل‪ .‬لذا فإن االهتامم بالسعي نحو النمو –أو‬
‫نحو فكرة معدلة من النمو– يقتيض االهتامم باألفكار‪ ،‬واالهتامم بتثقيف‬
‫العقل البرشي‪ ،‬واالهتامم بأنه ينبغي عىل اإلنسان أن يحقق طبيعته ويك ّملها‬
‫ويوسعها ألنها هي التي تولد األفكار التي تستطيع أن تغري العامل‪ .‬اشمئ ّز ما‬
‫ّ‬
‫شئت‪ ،‬سأشكر هنا آين راند مرة أخرى‪ ،‬ألنها أكدت عىل هذه الفكرة أكرث من‬
‫معظم الفالسفة العقالنيني‪ .‬إذا كنا نطلب مجموعة تحافظ عىل نفسها وتولد‬
‫نجل قوة العقل البرشي‪.‬‬
‫نفسها من القيم التعددية‪ ،‬فإننا بطريقة أو بأخرى ّ‬

‫‪117‬‬
‫هل ينبغي أن يشلنا عدم اليقني؟‬ ‫‪6‬‬

‫طفًل‪ ،‬كنت أحب قصص الخيال العلمي‪ .‬كنت أحب التفكي يف‬
‫عندما كنت ا‬
‫كم ميكن لألمور أن تصي مغاير اة متا اما ملا كانت عليه‪ .‬أثارت إحدى‬
‫القصص فضويل بشكل خاص‪ ،‬وقد وجدت فكرتها الرئيسية نفسها يف‬
‫بضعة كتب مختلفة‪ .‬وهي ما تزال تظهر يف الثقافة الشعبية‪ ،‬وإذا مل تكن‬
‫تحب الخيال العلمي‪ ،‬جرب فيلم األبواب املنزلقة ‪ Sliding Doors‬الذي‬
‫عرض عام ‪ 1998‬من بطولة غوينث بالرتو‪ ،‬والذي يسأل كم ميكن لحياة‬
‫واحدة أن تتغي مبجرد تفويت بسيط ملوعد القطار‪.‬‬

‫الفكرة الرئيسية مبارشة إىل حد كبي‪ :‬إذا استطعت بشكل ما أن تعود يف‬
‫يا واح ادا‪ ،‬فإن تاريخ العامل بأكمله ميكن أن يتغي‪.‬‬
‫الزمن وتغي حدثاا صغ ا‬
‫عطسة واحدة إضافية من رجل كهف واحد قبل آالف السنني قد تقلب‬
‫رأسا عىل عقب؟ قصة راي برادبري القصية‬
‫الحياة التي نعرفها اليوم ا‬
‫«صوت الرعد»‪ ،‬التي نرشت عام ‪ ،1952‬واحدة من املصادر األوىل لهذه‬
‫الفكرة‪ .‬تبدو الفكرة مجنون اة بعض اليشء‪ ،‬ولكن كلام فكرت فيها أكرث‪،‬‬
‫فإنها تبدو أكرث إقنا اعا‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫النقطة املفتاحية أن التغييات الصغية ميكن أن تتحول بسهولة إىل‬
‫تغييات كبية‪ .‬ماذا لو توقف جوزيف اللتقاط قطعة نقدية من الرصيف؟‬
‫كان هذا التغيي الطفيف يف توقيت حياته ليحول بشكل شبه مؤكد‬
‫مثًل من خًلل تأخي العًلقة الجنسية‬
‫الهويات الخاصة لنسله املستقبيل‪ ،‬ا‬
‫قليًل‪ ،‬ما يؤثر عىل‬
‫مع زوجته مبقدار ضئيل‪ ،‬أو تغيي وضع خصيتيه ا‬
‫تحديد أي النطاف سينتهي بها األمر بتخصيب بويضة زوجته‪ .‬يف‬
‫املستقبل‪ ،‬إذا ولدت مجموعة مختلفة من األفراد‪ ،‬فمن املحتمل أن يسلك‬
‫العامل مسا ارا مختلفاا – أو شديد االختًلف أحياناا‪ .‬ماذا لو كان جد هتلر‬
‫األكرب تأخر يف إغواء زوجته لحظ اة واحد اة من الزمن‪ ،‬وتغي مزيج‬
‫الحيوانات املنوية والبويضة الذي تًلقى نتيجة ذلك؟ ما كان هتلر الذي‬
‫يا يف تحديد‬
‫نعرفه اليوم ليولد‪ .‬حتى لو كان معظم الناس غي مهمني كث ا‬
‫املصائر اإلجاملية األوسع‪ ،‬فإن من املؤكد أن بعضهم يفعلون‪ ،‬مثل يسوع‬
‫أو محمد أو بوذا‪ ،‬ناهيك عن هتلر أو لينني‪ .‬دون هتلر‪ ،‬ملا نجح النازيون‬
‫عىل األرجح؛ وكان هذا ليعني عدم وجود حرب عاملية ثانية وال‬
‫هولوكوست‪ ،‬عىل األقل ليس بالشكل الذي شهدناه‪ .‬عمل ايا‪ ،‬كان التاريخ‬
‫الًلحق لكل بلد سيختلف وكانت البرشية لتتبع مسا ارا مختلفاا متا اما فيام‬

‫‪119‬‬
‫تبقى من الحياة عىل األرض‪ .‬هل نحن متأكدون حقاا أن الواليات املتحدة‬
‫كانت لتظل أول دولة تصنع أسلحة نووية قابلة لًلستخدام؟‬

‫قد تفرتض أن النتائج العاملية اإلجاملية مستقرة يف الغالب يف ظل‬


‫االضطرابات الصغية يف األحداث األساسية من الحياة اليومية‪ .‬قد تعتقد‪،‬‬
‫مثًل‪ ،‬أن منطق التجارة ذات الحصيلة اإليجابية وقوة العقل البرشي عىل‬
‫ا‬
‫دفع التقدم التكنولوجي سوف يفوزان عىل املدى الطويل‪ ،‬بوجود هتلر‬
‫عىل الكوكب أو بدونه‪ .‬قد تلغي الفروع األخرى لتأثيات الفراشة هذه‬
‫بعضها أو تعدل بعضها عىل املدى الطويل؛ جادل تولستوي يف روايته‬
‫الحرب والسلم‪ ،‬أن «الرجال العظيمني» يف التاريخ مل يكن لهم تأثي كبي‪،‬‬
‫إذ كانت أفعالهم ستوكل من قبل من يخلفهم (ونابليون مثال عىل ذلك)‪.‬‬

‫بينام يتمنى جزء مني أن يكون هذا املنطق صحي احا‪ ،‬فإن الحقيقة الغاشمة‬
‫هي أن األحداث التي تؤثر يف االحتامالت أمر واقع واضطرابات جريان‬
‫األحداث الدنيوية ال يجب أن يقلل من أمرها باعتبارها تافهة‪ ،‬فحتى الفعل‬
‫الصغي قد يعيد تشكيل التاريخ الجيني املستقبيل للبرشية بأكمله‪ .‬غيت‬
‫ترصفات نابليون مسار الحياة يف أملانيا‪ ،‬التي خضعت لثورة فكرية‬
‫حدثت الحقاا‪ ،‬وكذلك مرص‪ ،‬التي حصلت‬
‫ليربالية نتيجة للغزو الفرنيس ثم ُ‬
‫عىل املطبعة وجرعة كبية من األيديولوجيا الليربالية قبل أن تبدأ باالستياء‬
‫‪120‬‬
‫من التدخل األورويب يف الشؤون املحلية‪ ،‬وهو شعور مستمر حتى يومنا‬
‫هذا‪ .‬تغي تاريخ هذه املناطق بشكل ال رجعة فيه‪ ،‬وكذلك تاريخ اليهود‬
‫الذين حرروا تحت حكم نابليون‪.‬‬

‫مهام‬
‫إن النقطة األساسية هي ما ييل‪ :‬حتى لو مل تقتنع بأن نابليون كان ا‬
‫حقاا‪ ،‬فإنك ال تعرف ذلك وال ميكنك أن تعرف حقاا‪ .‬هناك احتامل حقيقي‬
‫أن والدة نابليون‪ ،‬بدالا من طفل آخر من حمل آخر‪ ،‬غيت تاريخ العامل‬
‫بشكل جذري‪ .‬لذلك فمن حيث القيمة املتوقعة‪ ،‬يبقى الحال أن األعامل‬
‫الصغية ميكن أن يكون لها تأثي كبي عىل املستقبل‪ ،‬حتى لو مل تكن‬
‫تفعل ذلك دامئاا‪ .‬كل ما ينبغي قوله إن بعض األفعال الصغية تقود‬
‫املستقبل إىل مسار شديد االختًلف‪.‬‬

‫تب اعا للفًلسفة‪ ،‬أشي إىل هذا باسم املشكلة املعرفية‪ 1.‬ال تتعلق املشكلة‬
‫املعرفية حقاا بالسفر عرب الزمن عىل اإلطًلق‪ ،‬عىل الرغم من أن تراكيب‬

‫‪ .1‬يقدم لينامن ‪ )2000( Lenman‬بياناا واض احا للنقد املعريف للمذهب النفعي ويستشهد ببعض من سبقوه‪.‬‬
‫كًل من‪:‬‬
‫للحصول عىل وجهات نظر إضافية حول النقد املعريف‪ ،‬انظر أيضا ا ا‬
‫‪Norcross (1990), Frazier (1994), Howard-Snyder (1997), Dorsey (2012), Mason (2004),‬‬
‫‪Lang (2008), Burch-Brown (2014), Kolmar & Rommeswinkel (2013).‬‬
‫ميكن اعتبار أن هايك ‪ )1991( Hayek‬يقدم نسخة من النقد املعريف أيضا ا‪ .‬تسمي شييل كيغان ‪Shelly Kegan‬‬
‫)‪ (1998, 64‬هذه الحجة املعرفية «االعرتاض األكرث شيو اعا عىل العواقبية»‪ .‬قدم ويليام ويويل بياناا مبك ارا للنقد‬
‫املعريف؛ انظر )]‪ .Mill (1969[1852‬يدرس كل من كاويل‪ ،‬وأمربوز‪ ،‬وماك كولو ‪Cowley, Ambrose, and‬‬
‫)‪ McCullough (2000‬أسئلة «ماذا لو؟» يف سياق التاريخ العسكري‪ .‬يتناول مورياريت )‪Moriarty (2005‬‬
‫‪121‬‬
‫الخيال العلمي تسمح لنا بتصور املشكلة بطريقة واضحة بشكل خاص‪.‬‬
‫القضية الحقيقية هي أننا ال نعرف إذا ما كانت أفعالنا اليوم ستؤدي يف‬
‫الواقع إىل مستقبل أفضل‪ ،‬حتى لو بدا أنها ستفعل‪ .‬إذا فكرت يف ألغاز‬
‫السفر عرب الزمن مبا فيه الكفاية‪ ،‬فستدرك أنه من الصعوبة مبكان التنبؤ‬
‫بآثار أفعالنا الحالية‪ ،‬وال عًلقة لذلك مبا إذا كان السفر عرب الزمن ممكناا‬
‫سيصي ممكناا يو اما ما أم ال‪.‬‬

‫دليًل‬
‫يقرتح النقد املعريف أن العقيدة الفلسفية للعواقبية ال ميكن أن تكون ا‬
‫ناف اعا للترصف ألننا بالكاد نعرف أي يشء عن العواقب طويلة املدى‪ .‬بينام‬
‫ميكننا محاولة حساب القيم املتوقعة‪ ،‬فإن هذه الحسابات تبنى عاد اة عىل‬
‫نطاق محدود ج ادا من املعلومات عن العواقب الحالية أو العواقب يف‬
‫املستقبل القريب‪ .‬كام قال يل ديفيد شميتز يو اما‪ :‬هل ميكننا أن منتلك‬
‫النظرية األخًلقية الصحيحة إذا مل نكن نستطيع أن نعرف تسعني باملئة‪،‬‬
‫أو رمبا ‪ 99.99‬باملئة‪ ،‬مام ميكن أن يؤدي إىل نتيجة جيدة؟‬

‫قد تتفق أنه من الجيد تعليم السائقني املراهقني أال يقتحموا السي أثناء‬
‫الضوء األصفر إلشارة املرور‪ .‬ففي نهاية املطاف‪ ،‬ميوت نحو أربعني ألف‬

‫تداعيات الحجة املعرفية ملفاهيم الصحراء‪ .‬تحلل أوىل محاواليت يف هذه املواضيع )‪ .Cowen (2006‬يحلل ماك‬
‫آسكيل )‪ MacAskill (2014‬كيف يجب أن نحقق أقىص قدر من بني كل القيم املتوقعة للنظريات األخًلقية التي قد‬
‫تكون متناقضة من خًلل أطر مفاهيمية قد تكون متناقضة‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫شخص يف حوادث السيارات كل عام يف الواليات املتحدة وحدها‪ .‬ولكن‬
‫اليوم‪ ،‬عندما يتوقف السائق عند الضوء األصفر بدالا من التسارع‪ ،‬فمن‬
‫املحتمل أن يؤثر عىل طول السي لألشخاص اآلخرين‪ ،‬وبذلك يغي توقيت‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ا‬ ‫مًليني الوالدات املستقبلية‪ .‬ستتغي الهويات الوراثية الًلحقة‬
‫وبحلول الجيل القادم‪ ،‬فإن هذه الهويات املختلفة ستؤدي إىل أمناط زواج‬
‫مختلفة وبالتايل مجموعة جديدة متا اما من األفراد يف املستقبل‪ .‬فكيف‬
‫ميكننا حقاا معرفة إذا ما كانت قاعدة الضوء األصفر جيدة؟ أال يبدو أننا‬
‫نعمل يف الظًلم؟ إذا فكرت يف هذه األلغاز لفرتة كافية‪ ،‬فإنك ستبدأ‬
‫بالتساؤل كيف ميكننا أب ادا أن نحكم عىل النتائج الجيدة عىل اإلطًلق‪.‬‬

‫ما إن تبدأ باالهتامم باملشكلة املعرفية‪ ،‬قد تخىش إطًلق عصبية أخًلقية‬
‫متطرفة‪ .‬إذ سيبدو أن كل عمل تقري ابا سيكون له عواقب هائلة تؤثر عىل‬
‫مستقبلنا‪ .‬قد تخىش أنك رمبا‪ ،‬فقط رمبا‪ ،‬تكون قد بدأت حوادث املوت‬
‫األليم للمًليني يف آخر مرة أرسعت فيها متجاوزاا اإلشارة الصفراء؛ لكن‬
‫أيضا‪ .‬كل هذه األرواح كانت‬
‫ابتهج‪ ،‬فرمبا تكون قد أنقذت مًليني اآلخرين ا‬
‫متعلق اة بقرارك‪ .‬يف أي لحظة‪ ،‬قد يكون معظمنا يفعل أشياء ستؤدي إىل‬
‫نتائج رائعة حقاا‪ ،‬أو نتائج مريعة حقاا‪ ،‬أو‪ ،‬عىل األرجح‪ ،‬مزي اجا من‬
‫االثنني‪ .‬يبدو أن ذلك يقود إىل الشلل‪ .‬إذا كنت لتستوعب هذه الطريقة يف‬

‫‪123‬‬
‫التفكي‪ ،‬فإنك ستشعر وكأنك تسي عىل قرش بيض طيلة حياتك‪ ،‬باستثناء‬
‫أن قرش البيض ذلك هو التغيات الجيوسياسية التي قد تؤدي إىل إنقاذ‬
‫مًليني أو حتى بًليني األرواح البرشية يف املستقبل أو فقدانها‪.‬‬

‫قد تظن اآلن أن هذه الحجة غبية بشكل تام ورصيح‪ .‬ولكن تحل بالصرب‪.‬‬
‫فأنا لست هنا ألدافع عن العدمية وال ألقرتح أن األخًلقيات يجب أن تركز‬
‫عىل مفارقات السفر عرب الزمن وتوقيت إنجاب هتلر املستقبيل‪ .‬أنا أرغب‬
‫يف الدفاع عن نسخة من األخًلقيات املنطقية – لكن أوالا ‪ ،‬أريد أن أنظر‬
‫قليًل يف السبب الذي يجعل النقد املعريف ال يعني أننا يجب أن‬
‫نظر اة أعمق ا‬
‫نشعر باليأس حيال جهودنا لجعل العامل مكاناا أفضل‪ .‬مبجرد أن نحصل‬
‫عىل هذا الفهم‪ ،‬فسرنى أن بعض نسخ أخًلقيات البداهة العقلية تعمل‬
‫بشكل أفضل من غيها‪ ،‬وسوف نقرتب أكرث من تلك األشكال األكرث‬
‫عقًلنية من أخًلقيات البداهة العقلية‪ .‬سيكون لذلك بعض النتائج‬
‫أيضا يف الحجج الجديدة لبعض املواقف التي حددتها‬
‫امللموسة‪ .‬سنبحث ا‬
‫سابقاا‪ .‬يف أثناء ذلك‪ ،‬أقرتح ببساطة أن علينا أن ننظر بجدية إىل مشاكل‬
‫التأكيد العقائدي بأنه ميكننا أن نعرف متا اما بأننا نؤدي للعامل معروفاا‬

‫أيضا مع تأكيد هذا الكتاب عىل االهتامم العميق‬


‫تتقاطع هذه الحجج ا‬
‫للمستقبل البعيد‪ .‬إذا كان املعدل االجتامعي الصحيح للخصم مرتف اعا مبا‬
‫‪124‬‬
‫فيه الكفاية‪ ،‬فإن عدم اليقني بشأن املستقبل البعيد ال تكون له أهمية كبية‬
‫ألنه‪ ،‬نظ ارا ملنطق الخصم‪ ،‬فإن معظم العواقب املستقبلية لن تعود مهمة‬
‫يف غضون بضعة عقود‪ .‬ولكن‪ ،‬عند معدالت منخفضة للخصم‪ ،‬فإن‬
‫محاولة التخلص من العواقب املستقبلية لألفعال الحالية أمر ميكنه أن‬
‫يستمر ويستمر‪ .‬ال ميكننا أن نرصف النظر عن أهمية املستقبل ملجرد أنه‬
‫بعيد عنا زمن ايا‪ ،‬وهذا سبب إضايف يدعونا لنهتم باملشاكل املعرفية أكرث‪.‬‬

‫لذا‪ ،‬للميض قد اما‪ ،‬سأرجع خطو اة إىل الوراء وأفكر فيام إذا كانت املشاكل‬
‫املعرفية تحدث اضطراباا يف اإلطار العواقبي بأكمله‪ .‬يف الوقت نفسه‪،‬‬
‫سأعيد النظر يف بعض األسئلة عن نباتات الكروسونيا من الفصول‬
‫السابقة‪ .‬أميكن أن يكون هناك ارتباط ضمني بني املسألة املعرفية وأهمية‬
‫نباتات الكروسونيا؟ سأعود إىل هذا السؤال بعد أن أعمل عىل بعض‬
‫األمثلة عىل عدم اليقني الجذري للمستقبل‪.‬‬

‫إيجاد حاالت تتضح فيها أهمية كون العواقب مهمة‬

‫سأركز عىل مثال اإلرهايب الذي يحرض أدوات قاتلة للحرب البيولوجية‬
‫إىل الواليات املتحدة‪ .‬العوامل املمرضة قاتلة إىل درجة أنها‪ ،‬إذا أطلقت‪،‬‬
‫ستقتل مليون شخص‪ .‬يجب علينا بالطبع أن نحاول إيقاف اإلرهايب‪ ،‬أو‬
‫عىل األقل أن نقلص أثره أو احتامل نجاحه‪ ،‬ألن هذا سينقذ األرواح‬
‫‪125‬‬
‫أيضا يف حامية الواليات املتحدة بشكل أعم‪ .‬ال يجب أن يكون‬
‫وسيساعد ا‬
‫هذا موقفاا جدل ايا‪ ،‬مهام تكن اآلراء األخًلقية وما وراء األخًلقية الصحيحة‪.‬‬

‫ومع ذلك فإن محاولة إيقاف اإلرهايب ال تلزمنا برؤية واضحة للكيفية‬
‫الدقيقة‪ ،‬بالضبط‪ ،‬التي ستعمل بها وسيلة الدفاع الفعالة عىل املدى‬
‫الطويل‪ .‬بالعودة إىل املنطق املرشوح أعًله‪ ،‬فإن إيقاف اإلرهايب سيؤثر‬
‫عىل العامل الفيزيايئ األوسع‪ ،‬وبذلك يعيد توزيع الهويات الجينية وراء‬
‫العديد من حاالت الحمل املتًلحقة‪ .‬قد يؤدي هذا إىل والدة جنكيز خان‬
‫مستقبيل أو طاغية أسوأ حتى‪ ،‬مسل احا بأسلحة أقوى مام كان لدى جنكيز‬
‫خان يو اما‪ .‬فحتى محاولة إيقاف اإلرهايب‪ ،‬دون ضامن النجاح‪ ،‬ستعيد‬
‫تشكيل املستقبل بطريقة مامثلة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تظل هناك فرصة ضئيلة عىل‬
‫األقل (ورمبا حتى فرصة مؤكدة للغاية) بأن يكون إليقاف الهجوم عواقب‬
‫حسنة‪ ،‬حتى عىل أطول مدى ممكن‪ .‬لتوضيح األمر ببساطة‪ ،‬من الصعب‬
‫اعتبار اعتداء يستخدم الحرب البيولوجية أفضل عىل املدى البعيد‬
‫للحضارة بالقيمة الصافية‪ ،‬من حيث القيم املتوقعة‪.‬‬

‫من املؤكد أن هناك سيناريوهات محتملة يكون فيها للهجمة نتائج أفضل‪.‬‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬قد تؤدي إىل حظر أوسع لألسلحة البيولوجية وبالتايل‬
‫إىل تفادي حدوث كوارث أكرب يف املستقبل‪ .‬رمبا يكون ذلك صحي احا‪،‬‬
‫‪126‬‬
‫ولكن ال يوجد إنسان عاقل يتنفس الصعداء إذا سمع أن الهجمة قد نجحت‪.‬‬
‫لن نفكر‪ ،‬يف تلك اللحظة‪ ،‬بأن العامل عىل طريق الخًلص‪ .‬عىل األرجح‬
‫أننا سنخىش عندها من تكرار حدوث هجامت إرهابية أخرى ذات طبيعة‬
‫مشابهة‪ ،‬والتي قد تفتح بوابة جديدة وحقيقية للغاية نحو الفوىض‬
‫واالستبداد العامليني‪ ،‬مع عواقب وخيمة لعقود أو رمبا لقرون الحقة‪.‬‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬ستكون هناك أحداث معينة وعواقب معينة مؤثرة لدرجة‬
‫أننا سنتحفز للعمل دون الكثي من الرتدد املعريف‪ ،‬عىل الرغم من أننا قد‬
‫ندرك الشكوك األوسع التي تحيط بأفعال كهذه عىل املدى الطويل ج ادا‪.‬‬
‫بالتأكيد يجب أن تكون الفائدة املسبقة ألي إجراء كبية مبا يكفي إلقناعنا‬
‫‪2‬‬
‫باتباعه يف بعض الحاالت‪.‬‬

‫‪ .2‬تقدم املؤلفات االقتصادية التي تتناول االحتامالت مناظر اة حول إذا ما كان بإمكاننا يو اما أن نقول إننا ال منتلك «أي‬
‫فكرة» عن احتاملية حدوث نتيجة ما‪ .‬وفق إحدى وجهات النظر‪ ،‬ميكننا دامئاا ربط االحتامل البايزي‪ ،‬سوا اء كان‬
‫رصي احا أم ضمن ايا‪ ،‬بنتائج مختلفة (‪ .)Caplan 1999‬حتى لو مل نكن متأكدين‪ ،‬فهناك من حيث املبدأ احتامالت‬
‫للمراهنة قد نكون مستعدين أو غي مستعدين لقبولها إذا أعطينا الخيار‪ .‬تساعدنا هذه الرهانات املضادة للحقائق‬
‫عىل تحديد التقديرات الضمنية الحتامالت أي نتيجة ميكن تصورها‪ .‬وفقاا لوجهة نظر ثانية‪ ،‬فإننا ببساطة ال ميكننا‬
‫تحديد احتامالت بعض األحداث (‪ .)O’Driscoll and Rizzo 1996‬هذه األحداث فريدة و«غي يقينية بشكل‬
‫جذري»‪ ،‬ولذلك فهي ال تتناسب مع الفئات القياسية لنظرية االحتامالت‪ .‬لكن حتى يف هذه الحاالت ما تزال لدينا‬
‫درجات من عدم اليقني‪ .‬قد ال تكون لدي «أي فكرة» عن مفاجأة عيد ميًلدي القادم‪ ،‬ولكن عدم اليقني هذا ال يقارن‬
‫بعدم امتًليك «أي فكرة» عن الحياة الذكية عىل الكواكب األخرى‪ .‬تعطينا السياقات االجتامعية الخلفية بعض‬
‫التوقعات‪ ،‬حتى لو مل نكن نستطيع إعطاء أرقام محددة لتنبؤات االحتامالت‪ .‬إللقاء النظر عىل الرأي األسبق القائل‬
‫إننا غالباا ما منتلك فكر اة ما عن العواقب‪ ،‬انظر )‪.Mill (1969 [1852], 180‬‬
‫‪127‬‬
‫لذلك ميكننا تفادي الشلل التام أو الًلأدرية الرصفة واملطلقة‪ ،‬عىل األقل‬
‫بالنسبة لبعض خياراتنا‪ .‬بغض النظر عن مدى ارتفاع نسبة عدم اليقني‬
‫املحيط بالعواقب طويلة املدى‪ ،‬ميكننا اتخاذ بعض اإلجراءات لرتجيح‬
‫العواقب الحسنة عىل املدى القصي‪ .‬من الرضوري فقط أن تكون تلك‬
‫العواقب الحسنة عىل املدى القصي ذات قيمة كبية وواضحة مبا فيه‬
‫الكفاية‪.‬‬

‫ال يركز النقد املعريف عىل السعي وراء الفوائد الكبية‪ ،‬واملقدمة‪ .‬بدالا من‬
‫ذلك‪ ،‬غال ابا ما تحدد املقاالت املكتوبة يف هذه املؤلفات الفلسفية فوائد‬
‫صغية ج ادا‪ ،‬و«متقطعة»‪ .‬وهناك سبب لذلك‪ ،‬وهو أن تلك الحاالت تضفي‬
‫فلنلق نظر اة عىل هذه الحجج مبزيد من‬
‫ِ‬ ‫وزناا أكرب عىل النقد املعريف‪ .‬لذا‬
‫التفصيل‪.‬‬

‫يشك جيمس لينامن‪ ،‬وهو فيلسوف ومعلق يف هذه املؤلفات يف أهمية‬


‫مقياسا للخطأ والصواب‪ .‬حجج لينامن مثية لًلهتامم‪،‬‬
‫ا‬ ‫العواقب بوصفها‬
‫لكنني أعتقد أنها‪ ،‬إذا فهمت بشكل صحيح‪ ،‬تعزز حجة التصور املبني عىل‬

‫‪128‬‬
‫القواعد‪ ،‬وعىل الصورة الكبية‪ ،‬للعواقب‪ .‬لنستعرض أوالا حجج لينامن‪ ،‬ثم‬
‫‪3‬‬
‫نعود إىل ما قد تعنيه كل تلك الفوىض‪.‬‬

‫يقدم لينامن مثاالا مستوحى من يوم إنزال النورماندي يجب أن نختار فيه‬
‫الشاطئ الفرنيس الذي يجب احتًلله لهزمية النازيني‪ .‬هذا بالطبع قرار‬
‫مهم‪ ،‬بعواقب مؤثرة عىل نتيجة الحرب‪ .‬يف املثال‪ ،‬علينا أن نختار بني‬
‫شاطئني مرشحني لًلحتًلل‪ ،‬لكن ال يوجد سبب عسكري قوي يرجح أحد‬
‫الشاطئني عىل اآلخر‪ .‬عىل األرجح أن تكون النتيجة النهائية ألحد‬
‫الخيارين هي األفضل؛ لكننا ال نعرف أيهام‪ .‬ولكن هنالك عامل يزيد تعقيد‬
‫األمر‪ :‬إذا نزلنا عىل الشاطئ الشاميل‪ ،‬سيكرس كلب إحدى ساقيه‬
‫وسيعاين بعض األمل‪ ،‬رمبا نتيجة فعل عسكري ما‪( .‬ما رأيكم لو عاىن‬
‫الكلب املسكني التوا اء طفيفاا بدل ذلك؟) أما إذا نزلنا عىل الشاطئ‬
‫الجنويب‪ ،‬لن يصيب الكًلب أي مكروه‪.‬‬

‫رغم أن معظم النظريات األخًلقية املعقولة تقيم وزناا ما ملعاناة الحيوانات‪،‬‬


‫يبدو أن مصي ساق الكلب ليس سب ابا قوياا لرتجيح كفة الشاطئ الجنويب‬
‫عىل الشاطئ الشاميل‪ ،‬ورمبا ال يكون سب ابا عىل اإلطًلق‪ .‬إن مسألة ساق‬

‫‪ .3‬يبدو أن لينامن )‪ Lenman (2000‬يفضل «النظريات األخًلقية التي يكون الرتكيز فيها عىل شخصية الوسطاء‬
‫وخصائص إرادتهم‪ ،‬عىل النظريات ذات الروح الكانتية أو األرسطية يف عمومها»‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫الكلب واألمل املصاحب تبدو ضئيل اة للغاية باملقارنة مبا هو عىل املحك‪:‬‬
‫نتيجة الحرب العاملية الثانية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فحتى قبل الحدث‪ ،‬يجب أال نرفع‬
‫مسألة ساق الكلب إىل مصاف اتخاذ القرار الحاسم‪ ،‬وفقاا للينامن‪ ،‬ألن‬
‫ساق الكلب ستكون مهمل اة عند التحليل النهايئ‪ .‬هذه الحجة كلها منطقية‬
‫بعض اليشء بالنسبة يل‪ .‬ولكن لينامن يخلص بعدها إىل أننا يجب أال‬
‫نكون حريصني عىل الحكم عىل األفعال من حيث عواقبها عىل اإلطًلق‪.‬‬
‫كام ميكنكم أن تروا هنا‪ ،‬فإن هذه الحجة نوع من النقد املعريف‪.‬‬

‫الرد املتشدد‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يتجاهل حدس لينامن بدالا من الرد عليه‪ .‬ميكننا أن‬
‫نتخيل املتشددين يف وجهة النظر العواقبية يرصخون‪« ،‬أنقذوا الكلب من‬
‫انكسار ساقه‪ ،‬احصلوا عىل املكاسب التي ميكننا رؤيتها‪ ،‬وت ابا لعدم‬
‫اليقني! التباين املحتمل لنتائج قرار االحتًلل كبي عىل أي حال!»‪.‬‬

‫ولكن تلك ليست إجابتي‪ .‬أنا مستعد لقبول أن هناك شي ائا من الصحة يف‬
‫نقطة لينامن األسايس‪ .‬ردي هو‪« :‬أوقفوا اإلرهايب وحربه البيولوجية؛‬
‫ولكن ال ميكنني اإلفتاء يف أمر ساق الكلب‪ .‬قد يكون لينامن محقاا ورمبا‬
‫تكون مسألة إنزال النورماندي هذه مطروح اة للنقاش»‪ .‬ثم يتبق لنا الرأي‬
‫القائل إن العواقبية تكون يف أقوى حاالتها عندما نسعى لتحقيق قيم ذات‬
‫أهمية مطلقة مرتفعة‪ .‬ميكنك مناقشة مكان رسم الخط الفاصل بني‬
‫‪130‬‬
‫الهجمة اإلرهابية باألسلحة البيولوجية وساق الكلب‪ ،‬ولكن مبجرد التمييز‬
‫بني الحاالت التي تختلف من حيث حجم التكاليف املقدمة‪ ،‬يكون لدينا‬
‫يشء ميكننا العمل به‪.‬‬

‫غامضا‪.‬‬
‫ا‬ ‫إن استخدام ساق الكلب قيم اة ذات صلة قد ُ‬
‫صمم بحيث يكون‬
‫هناك استحقاق واقعي يف حجج الرفق بالحيوان‪ ،‬ولكننا فقط ال نعرف‬
‫يف الكثي من املقارنات مقدار الثقل الذي يجب أن نعطيه لها‪ .‬ال نعرف‪،‬‬
‫مثًل‪ ،‬كيف نقيس سًلمة الحيوانات يف مقابل سًلمة البرش‪ ،‬لذلك كم‬
‫ا‬
‫السهل نسب ايا للنقد املعريف أن يعزز حالة عدم اليقني هذه ويجعلنا نشك‬
‫فيام إذا كانت العواقبية قابلة للتطبيق عىل اإلطًلق‪ .‬إن الرتكيز عىل ساق‬
‫أيضا‪ ،‬يعطي النقد‬
‫الكلب‪ ،‬وهي قيمة صغية نسب ايا ورمبا كانت غامضة ا‬
‫املعريف مظه ارا أكرث قوة مام يستحق‪.‬‬

‫إلظهار التباين‪ ،‬لنقارن بسيناريو آخر لًلحتًلل‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬سيؤدي‬
‫اختيار الشاطئ الشاميل إىل موت خمسمئة طفل بريء ولن يؤدي اختيار‬
‫ى باملدنيني عىل اإلطًلق‪ .‬يف هذه‬
‫الشاطئ الجنويب إىل إلحاق أي أذ ا‬
‫الحالة االختيار سهل‪ ،‬ألن لخمسامئة حياة بريئة أهمية عواقبية ووضوح ال‬
‫متتلكه ساق الكلب‪ ،‬حتى لو كان خيارنا سيؤدي إىل سلسلة من اآلثار غي‬
‫اليقينية عىل املدى الطويل‪ .‬ال يوجد سبب وجيه لعدم اختيار إنقاذ‬
‫‪131‬‬
‫خمسامئة حياة بريئة مقد اما‪ ،‬نظ ارا ألن الفائدة األولية كبية مبا فيه‬
‫الكفاية‪.‬‬

‫رن ما سيحدث‪ .‬سنجد مزي ادا‬


‫لنستعرض اآلن بعض الحاالت املتوسطة ول ر‬
‫من الدعم للفكرة القائلة إن الشكل املعدل للعواقبية الذي يركز عىل الفوائد‬
‫والتكاليف الكبية يبيل حسناا يف مواجهة النقد املعريف‪.‬‬

‫فعًل عىل مبدأ أخًلقي مختلف متا اما‪ ،‬وهو مبدأ‬


‫قد يعتمد النقد املعريف ا‬
‫يا يف املقاربات التعددية‪ .‬لنأخذ ما أسميه مبدأ التقريب‪:‬‬
‫يظهر كث ا‬
‫حكام‬
‫ا‬ ‫مبدأ التقريب‪ :‬ميكن أن تختلف النتائج بطرق معقدة‪ .‬فقد نصدر‬
‫منطقياا بأنها تتساوى يف القيمة تقريباا ويجب أال نفرق بينها تقريباا‪ .‬بعد‬
‫إجراء تحسني طفيف عىل إحدى هذه النتائج‪ ،‬رمبا نظل غي متأكدين أيها‬
‫تكون األفضل‪.‬‬

‫يا ما نلجأ إىل شكل ما من مبدأ التقريب يف مسائل الجامل‬


‫كث ا‬
‫والجامليات‪ .‬حاول أن نحدد ما إذا كان رامربانت أم فيًلزكيز رسا اما‬
‫أفضل‪ .‬قد تحكم بأن االثنني لديهام نفس الجودة تقري ابا وتستنتج‪ ،‬أو عىل‬
‫األقل تقرر أن أياا منهام ال يجب أن يوضع يف مقام أعىل من اآلخر‪ .‬لو‬
‫اكتشفنا بعدها رسم اة جديد اة لرامربانت‪ ،‬ال يجب أن نستخلص فجأ اة أن‬

‫‪132‬‬
‫رامربانت كان يف الحقيقة رسا اما أفضل‪ .‬ميكننا أن نظل نعترب االثنني‬
‫‪4‬‬
‫متساويني تقري ابا يف الجودة واألهمية‪.‬‬

‫مثًل‪ ،‬أنك‬
‫قد ينطبق مبدأ التقريب عىل العديد من أحكام الخي‪ .‬تخيل‪ ،‬ا‬
‫تقارن برنامج تطعيم جديد بربنامج من شأنه تحسني جودة املضادات‬
‫الحيوية ملجموعة واحدة من األطفال‪ .‬قد تكون هاتان السياستان‬
‫متكافئتني بشكل عام من حيث القيمة‪ ،‬عىل األقل إذا كان األثر املحتمل‬
‫لهام متشاب اها بشكل كافئ من حيث الحجم‪ .‬هذا الحكم بالتساوي‬
‫التقريبي من شأنه أن ينجو مر اة أخرى من إدراك أن إحدى السياستني‬
‫كانت أفضل بقليل مام كان يعتقد سابقاا أو أنها ستكلف أقل من املتوقع‬
‫بقليل‪.‬‬

‫يشي مبدأ التقريب‪ ،‬عند إمكانية تطبيقه‪ ،‬إىل أنه ال ينبغي لنا التمييز عىل‬
‫أساس الفوائد والخسائر الصغية نسب ايا‪ .‬تبدو التغييات املستقبلية‬
‫املوضوعة عىل املحك –كون بقية التاريخ البرشي عرض اة للتغيي– كبي اة‬
‫لدرجة أن التغييات الصغية يف الفوائد والتكاليف املقدمة‪ ،‬مثل انكسار‬
‫ساق الكلب‪ ،‬ال تخرج املقارنة األولية من كونها مبهمة وغي واضحة‪.‬‬

‫يا ما يكتب الفًلسفة عن فكرتني شديديت االرتباط هام عدم قابلية القياس وعدم قابلية املقارنة‪ .‬حول هذه‬
‫‪ .4‬كث ا‬
‫األفكار بشكل عام‪ ،‬انظر تشانغ )‪ .Chang (2002, 1997‬فيام يتعلق مبفهوم الغموض ذي الصلة‪ ،‬راجع أعامل‬
‫مثًل «الغموض يف الواقع» (‪.)Williamson, 2003‬‬
‫تيمويث ويليامسون‪ ،‬ا‬
‫‪133‬‬
‫يف املقارنة بني رامربانت وفيًلزكيز‪ ،‬تضمحل التغييات الصغية‪،‬‬
‫كالعثور عىل رسمة جديدة غي منشورة‪ ،‬أمام املجموع املطلق الكبي‬
‫لإلبداع‪ .‬أما يف مقارنة يوم إنزال النورماندي‪ ،‬فإن التغيي الصغي –ساق‬
‫الكلب– يضمحل أمام عدم اليقني الخاص بالعواقب‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يوسع‬
‫النقد املعريف إحدى نسخ مبدأ التقريب لتمتد إىل املقارنات التي تنضوي‬
‫عىل الشك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تظل العواقبية قامئة‪ ،‬عىل األقل برشط أن نسعى‬
‫لتحقيق فوائد مقدمة كبية‪ ،‬كإنقاذ خمسمئة من أرواح األبرياء‪.‬‬

‫أو لننظر األمر بهذه الطريقة‪ :‬أي يشء نحاول القيام به يطفو يف بحر من‬
‫عدم اليقني الجذري عىل املدي الطويل‪ ،‬إذا جاز التعبي‪ .‬فقط األهداف‬
‫الكبية واملهمة املقدمة‪ ،‬يف حالة التوازن االنعكايس‪ ،‬سرتبو عىل الزبد‬
‫الدائم وتسمح للمقارنة بأن تكون أكرث من مجرد مقارنة مغرقة يف‬
‫التقريب‪ .‬إن وضع الكثي من األهداف الصغية عىل املحك يعني ببساطة‬
‫أن حدسنا األخًلقي سيتبك يف النهاية‪ ،‬وهذا يف الواقع هو االستنتاج‬
‫الصحيح والبديهي‪ .‬إذا كانت هناك ضحية للنقد املعريف‪ ،‬فهي الرتكيز عىل‬
‫الفوائد والتكاليف الصغية‪ ،‬وليس عىل العواقبية بشكل أعم‪ .‬إذا ربطنا‬
‫األمور كام يجب و«فكرنا بالصورة الكبية» وتتبعنا نباتات الكروسونيا‪،‬‬
‫فإن حدسنا األخًلقي سيبو عىل زبد التباين طويل املدى‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫قد يقرتح مقدمو النقد املعريف أن العواقب يجب أال تكون ذات أهمية‬
‫كبية‪ ،‬عىل األقل ليس باملقارنة مع األخًلق املستلهمة من علم األخًلق أو‬
‫الفضيلة‪ ،‬وذلك نظ ارا إىل مدى صعوبة التنبؤ بها‪ .‬ولكن االستنتاج األفضل‬
‫هو أن زبد عدم اليقني يجب أن يدفعنا إىل زيادة استياد الفوائد الكبية‬
‫بالنسبة إىل الفوائد الصغية‪ ،‬وذلك للتغلب عىل مبدأ التقريب‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬هناك جانب آخر للنظرية األخًلقية يوجه انتباهنا نحو البحث عن‬
‫نباتات الكروسونيا‪.‬‬

‫ما هي النتائج العملية لهذه الحجج؟‬

‫للحجج املذكورة أعًله (عىل األقل) نتيجتان عمليتان ملا يجب أن نؤمن به‪،‬‬
‫وكيف يجب أن نؤمن‪ ،‬وكيف يجب أن نترصف‪ .‬وسأتناول الًلأدرية‬
‫والحقوق الفردية عىل التوايل‪.‬‬

‫كيف تكون الأدرياا صال احا‬

‫يجب أن نكون متشككني يف املؤدلجني الذين يدعون أنهم يعرفون جميع‬


‫املسارات الخاصة بجعل عاملنا أفضل‪ .‬فكيف ميكننا التأكد أن األيديولوجيا‬
‫املختارة ستؤدي يف الواقع إىل نتائج حسنة؟ نظ ارا لجذرية عدم اليقني‬
‫يف املستقبل البعيد‪ ،‬ال ميكننا معرفة كيفية تحقيق األهداف املفضلة بأي‬

‫‪135‬‬
‫مقدار من اليقني عىل مدى األفق الزمنية الطويلة‪ .‬لذلك يجب أن يكون‬
‫ارتباطنا بوسائل معينة مؤق اتا للغاية وغي مؤكد إىل حد كبي وطارئاا من‬
‫جذوره‪.‬‬

‫إن احتامل كون آراءنا املحددة النتهاج سياسة ما هي الصائبة‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من أننا قد نعتقد بشكل منطقي أنها أفضل املتاح‪ ،‬احتامل ضئيل ج ادا‪.‬‬
‫يجب أن تكون ذات الفرصة األكرب يف أن تكون الصائبة من بني كل اآلراء‬
‫يا ج ادا باملطلق‪ .‬لنقارن بني‬
‫املتاحة‪ ،‬ولكن هذا االحتامل لن يكون كب ا‬
‫الخيارات السياسية للمرء واملراهنة عىل الفريق األكرث ترجي احا للفوز‬
‫ببطولة العامل يف بداية املوسم‪ .‬يتمتع ذلك الفريق بالفعل بأفضل فرصة‬
‫بطًل يف النهاية‪ .‬يف معظم‬
‫للفوز‪ ،‬ولكن يف معظم األحيان فإنه ال يتوج ا‬
‫األوقات‪ ،‬تكون توقعاتنا الرياضية خاطئة‪ ،‬حتى لو كنا متنبئني جيدين‬
‫باملتوسط‪ .‬وهكذا هو الحال مع علم السياسة واختيار السياسات‪.‬‬

‫لذلك يجب أن تكون مواقفنا من اآلخرين متسامحة‪ .‬تخيل أن احتامل‬


‫كونك عىل حق ثًلثة باملئة‪ ،‬واحتامل أن تكون مخط ائا يف املقابل سبعة‬
‫وتسعون باملئة‪ .‬ولكن لكل رأي معارض‪ ،‬باملقابل‪ ،‬احتامل اثنني باملئة فقط‬
‫يف أن يكون هو الصحيح‪ ،‬وهو بالطبع أقل بقليل من فرصة كونك أنت‬
‫عىل صواب‪ .‬مع ذلك هناك الكثي من اآلراء املعارضة‪ ،‬لذلك فحتى لو كان‬
‫‪136‬‬
‫رأيك هو األفضل‪ ،‬فإنك ما تزال مخط ائا عىل األرجح‪ .‬اآلن تخيل أن خطأك‬
‫سيؤدي إىل إبطاء معدل النمو االقتصادي‪ ،‬ومستقبل أكرث فق ارا‪ ،‬ورمبا‬
‫حتى إىل نهاية الحضارة قبل أوانها (كعدم وجود علم ٍ‬
‫كاف لردع النيزك‬
‫الذي سينهيها!)‪ .‬هذا يعني أن آراءك السياسية‪ ،‬مع أنها أفضل املوجود‪،‬‬
‫ستكون لها عواقب سلبية وخيمة باحتامل ‪( 0.98‬واحد ناقص اثنني‬
‫باملئة‪ ،‬والنسبة األخية هي احتامل كونك مصي ابا يف تفاصيل عًلقات‬
‫الغاية–الوسيلة)‪ .‬يف هذا الوضع‪ ،‬كم سيبلغ مدى ثقتك حقاا بشأن‬
‫تفاصيل اعتقاداتك السياسية؟ إىل أي مدى ستكون اعتقاداتك الراسخة‬
‫حازم اة حول العًلقات بني عًلقات الوسائل‪-‬الغايات؟ عىل األرجح ليس‬
‫يا؛ فاألفضل أن تسلك سلوكاا أكرث تسام احا وأن تعني ذلك حقاا‪.‬‬
‫كث ا‬
‫كقاعدة عامة‪ ،‬ال يجب أن نربت عىل أكتافنا ونشعر بأننا عىل الجانب‬
‫الصحيح من املسألة‪ .‬يجب أن نختار املسار ذا االحتامل األكرب بأن يكون‬
‫صائ ابا‪ ،‬دون أن ننىس أن كوننا مخطئني يف نهاية األمر أكرث ترجي احا من‬
‫كوننا مصيبني‪ .‬ال يجب أن تكون آراؤنا الخاصة‪ ،‬يف السياسة وغيها‪،‬‬
‫أكرث تأكي ادا من تقييامتنا ألي الفرق سيفوز بالبطولة العاملية‪ .‬بهذه‬
‫الطريقة تفقد املواقف السياسية الكثي من طرافتها‪ ،‬ويصبح علينا بالفعل‬

‫‪137‬‬
‫أن ننظر إليها بوصفها ذات سمعة سيئة أو رمبا حتى كعًلمة عىل‬
‫طبيعتنا املوهومة واملفرطة يف الثقة‪.‬‬

‫ملاذا تعترب حجة قضية الحقوق مقنعة‪ ،‬وما هي الحقوق املهمة‬

‫أيضا عىل فهم سبب احتياجنا إىل احرتام الحقوق‬


‫يساعدنا النقد املعريف ا‬
‫أيضا‬
‫الفردية بدالا من االستغناء عنها لصالح عواقب أفضل‪ .‬وهو يساعدنا ا‬
‫يف تحديد حدود تلك الحقوق الفردية‪.‬‬

‫مثًل‪ ،‬حق الطفل الربيء يف أال يُقتل‪ .‬لنفرتض أنك تؤمن بهذا‬
‫لندرس‪ ،‬ا‬
‫الحق‪ ،‬كام أؤمن به‪ ،‬ولكنك بعدها تواجه مثاالا مضا ادا سيزيد فيه قتل طفل‬
‫بريء‪ ،‬عىل املدى القصي‪ ،‬الدخل القومي مبقدار ‪ 5‬بليون دوالر‪ .‬يف‬
‫العادة‪ ،‬يقدر االقتصاديون الحياة بقيمة أقل بكثي من ‪ 5‬بليون دوالر؛ إذ‬
‫يقيمونها عاد اة يف حدود ‪ 5‬مًليني دوالر‪ ،‬وهو فرق كبي‪ .‬ولكن يف هذه‬
‫الحالة من الخطأ وضع مقارنة «حياة رضيع يف مقابل ‪ 5‬بليون دوالر» ثم‬
‫االضطرار لًلختيار‪ .‬املقارنة الصحيحة هي «حياة طفل يف مقابل زبد مع‬
‫عدم يقني كبي وربح ‪ 5‬بليون دوال ارا مرم ايا كجزء من ذلك الزبد»‪ .‬عندما‬
‫تصاغ بهذه الطريقة‪ ،‬يكون من األسهل الوقوف بجانب منع قتل الطفل‪.‬‬
‫بل إن هناك فرصة جيدة –وإن كانت أقل من خمسني باملئة– بأن يكون‬
‫أيضا‪.‬‬
‫قتل الرضيع مفي ادا للناتج املحيل اإلجاميل ا‬
‫‪138‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬ناد ارا ما تتعارض الحقوق مع العواقب بالطرق البسيطة‬
‫التي حددتها التجارب الفكرية الفلسفية‪ .‬لذلك ميكننا تغيي طريقة‬
‫تفكينا تجاه عدم اليقني الجذري والعواقب‪ .‬بدالا من ترك عدم اليقني‬
‫الجذري يشلنا‪ ،‬ميكننا أن نفكر فيه عىل أنه مينحنا حرية الترصف بشكل‬
‫أخًلقي‪ ،‬دون الخوف من كوننا نشرتك يف التدمي العواقبي‪.‬‬

‫أيضا أن نرى أن عدم اليقني الجذري هذا يدعم انبها ارا جدي ادا‬
‫ميكننا ا‬
‫بالحياة البرشية واالختيار؛ ميكننا قبول أن معظم أفعالنا أو كلها سيكون‬
‫له عواقب ال ميكننا توقعها‪ .‬يف املتوسط‪ ،‬ستكون هذه العواقب إيجابية‪،‬‬
‫متا اما كام أن النمو االقتصادي إيجايب‪ ،‬ولكننا سنتساءل دامئاا عن العواقب‬
‫املستقبلية التي أطلقنا حركتها‪ .‬سنتساءل عن قوتنا الغريبة وشبه‬
‫السحرية يف هذا الصدد‪.‬‬

‫عىل الرغم من كل االرتباك الذي قد نشعر به تجاه الناتج الهاميش للفعل‬


‫الفردي‪ ،‬فإنه يظل فكرة متكينية‪ ،‬وهو يتصل بفكرة أن كل املجتمعات‬
‫املثمرة تقوم عىل يشء من اإلميان‪ .‬يف هذه الحالة ميكننا التشبث بإمياننا‬
‫فعًل ألجل فعل‬
‫ا‬ ‫بفعل اليشء الصحيح –وبأن نفعل اليشء الصحيح‬
‫اليشء الصحيح نفسه– دون أن يهزمنا الخوف من أننا قد نجلب نو اعا من‬
‫الكوارث العواقبية بقسوة‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫اآلن لنفكر يف تجربة فكرية فلسفية مجنونة أخرى‪ :‬إما أن نقتل رضي اعا‬
‫محد ادا‪ ،‬أو ستدمر كائنات فضائية قادمة من رجل القنطور األرض‬
‫بأكملها‪ .‬هنا لدينا مساحة أكرب لنتبع ما يسمى بالعواقبية الحقوقية‪ .‬إن‬
‫قتل الرضيع خطأ‪ ،‬ولكن إذا مل نفعل ذلك‪ ،‬فإن املزيد من األطفال سيقتلون‬
‫–سيقتل مًليني أكرث‪ ،‬يف الواقع‪ .‬يف جانب من املعادلة‪ ،‬لدينا «كل‬
‫األطفال سيقتلون‪ ،‬وكل يشء عىل األرض سيضيع‪ ،‬و‪ ،‬مبا أن حياة البرش‬
‫عىل األرض ستنتهي‪ ،‬ال مزيد من نباتات الكروسونيا‪ ،‬وال زبد يذكر من‬
‫عدم اليقني سيتبع ذلك»‪.‬‬

‫من املمكن أن نفهم ملاذا نختار قتل الرضيع يف هذه الحالة‪ .‬لسبب واحد‪،‬‬
‫إن تكلفة عدم قتل الرضيع اآلن أعىل بكثي‪ .‬من ناحية أخرى –وهذا مهم–‬
‫إذا انتهى العامل بأرسه‪ ،‬فًل يتبقى عدم يقني بشأن ما سيحدث الحقاا‪.‬‬
‫يجب أن نتبع العواقب األفضل‪ ،‬ولن يعود هناك زبد من عدم اليقني ليربر‬
‫التزامنا بحقوق الرضيع الفرد‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬فإن فكرة الحقوق املفرتضة‬
‫هنا ليست مطلقة متا اما ضد كل العواقب الخارجية املحتملة التي قد يحلم‬
‫بها الفًلسفة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن معظم األمثلة االفرتاضية التي ينبغي فيها‬
‫انتهاك الحقوق أو كلها ليست ذات صلة وثيقة بخيارات العامل الحقيقي‬
‫التي وجب علينا مواجهتها حتى اآلن‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫من املؤكد أننا ال نعرف بالضبط أين يجب أن تنتهي هذه املقارنة ويف أي‬
‫نقطة تبدو الحجة قوية لصالح قتل طفل بريء‪ .‬ماذا لو كان الخيار بني‬
‫قتل رضيع واحد أو تدمي الكائنات الفضائية لنيبال فقط؟ ميكن جعل‬
‫عدد األرواح املتأثرة بالتهديد األجنبي أكرب أو أصغر حتى يرصخ منظّر‬
‫الحقوق طل ابا للرحمة‪ .‬ال نعرف بالضبط أين نرسم ذلك الحد‪ .‬ميكنك أن‬
‫تفكر يف هذا عىل أنه أحد نقاط الضعف يف نظرية الحقوق التي أطرحها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا يرتكنا مع نظرية الحقوق التي تكون فيها الحقوق‬
‫مطلق اة بالفعل‪ ،‬عىل األقل إذا كانت األمثلة التي ندرسها تطابق وقائع‬
‫أساسية ج ادا عن العامل الحقيقي‪ ،‬عىل سبيل املثال وجود نباتات‬
‫الكروسونيا وزبد عدم اليقني العواقبي‪.‬‬

‫أيضا رؤية بعض األدلة‬


‫باستخدام هذا الفهم للمشكلة املعرفية‪ ،‬ميكننا ا‬
‫اإلضافية حول سبب اختًلف «أخًلقيات قارب النجاة» عن توصياتنا‬
‫األخًلقية األكرث شيو اعا واألكرث عملي اة‪ .‬أعرف أخًلقيات قارب النجاة عىل‬
‫أنها األخًلق التي يفرتض أن تحكم مع اقرتاب نهاية العامل – أو نهاية‬
‫جزء بحجم ٍ‬
‫كاف من العامل‪ .‬ال ميكن للناس يف قارب النجاة (الذي لن‬
‫ينقرذ) أن يتطلعوا إىل تحسينات كبية يف رفاهيتهم املستقبلية وال إىل منو‬
‫اقتصادي كبي‪ .‬أسامك القرش تحوم وسوف تنفد إمدادات الغذاء واملاء‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫حسب التصميم‪ ،‬ال يرتبط قارب النجاة يف هذا املثال بالزبد األوسع من‬
‫عدم اليقني يف العامل بشكل عام‪.‬‬

‫إذن ماذا يعني هذا؟ يف ظروف قوارب النجاة‪ ،‬ستكون الفوائد املوضوعة‬
‫عىل املحك عاد اة ضئيل اة بالضبط ألن قوارب النجاة‪ ،‬حتى الكبية نسب ايا من‬
‫بينها‪ ،‬صغية‪ .‬لذلك تكتسب الحقوق قوة أكرب من الناحية النسبية‪.‬‬
‫فبغض النظر عام تفعله‪ ،‬ال ميكنك تحقيق فوائد اجتامعية كبية يف مناذج‬
‫قوارب النجاة‪ ،‬لذلك هناك حجة أقوى تجب إقامتها ملجرد فعل اليشء‬
‫الصحيح‪ .‬ال تقذف الرجل الضعيف يف البحر أو تطبخ لحمه؛ فعل هذا‬
‫خاطئ‪ ،‬وال يعود ذلك بالكثي من الفائدة‪ .‬قد يتطلب صنع العجة تكسي‬
‫بعض البيض‪ ،‬ولكن العجة هنا صغية‪ ،‬وليست لذيذة إضاف اة إىل ذلك‪،‬‬
‫سليام‪ .‬مر اة أخرى‪ ،‬فإن حجة حقوق‬
‫ا‬ ‫لذلك أرى أن عليك ترك ذلك البيض‬
‫اإلنسان أقوى مام تبدو عليه للوهلة األوىل‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫خامتة – أين وصلنا‬

‫تناولت بعض حججي موضوع املسافة‪ .‬لقد زعمت أن سكان‬


‫املستقبل أقل بع ًدا عنا‪ ،‬من الناحية األخالقية‪ ،‬مام قد تشري إليه اآلراء‬
‫األخرى العديدة‪ .‬لذا‪ ،‬يجب أن نتعامل بجدية أكرب مع اآلثار املرتتبة‬
‫عىل خياراتنا لذلك املستقبل‪.‬‬

‫يدفعنا هذا االهتامم البالغ باملستقبل إىل إعادة التفكري يف مجموعة‬


‫متنوعة من املسائل األخالقية‪ ،‬التي تشمل أهمية النمو االقتصادي‬
‫وأفضل أنواع إعادة التوزيع‪ ،‬ويجعل استقرار النظم االجتامعية‬
‫أولوية عليا‪ ،‬من بني اعتبارات أخرى‪ .‬لقد قدم الفصل السابق حول‬
‫الالأدرية واالرتياب الجذري حجة إضافية للرغبة يف التفكري‬
‫الطموح‪ .‬فإن كان لقيمنا أن ترتفع يف أهميتها فوق زبد االرتياب‬
‫طويل املدى بشأن تأثريات أفعالنا‪ ،‬يجب أن نتطلع إىل قيم كبرية‬
‫ومهمة نسب ًيا‪ .‬يعيدنا هذا إىل مكان تكون فيه هيمنة نباتات‬
‫كروسونيا عىل النمو االقتصادي األعىل واملستدام هي كل ما يهم‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫إليكم تلخييص القصري املكون من ثالث نقاط ملا أوصلتنا إليه هذه‬
‫الحجج‪:‬‬

‫أوالً ‪ ،‬إن اإلميان باألهمية القصوى للنمو االقتصادي املستدام ليس‬


‫مقبوالً من الناحية الفلسفية فحسب‪ .‬وإمنا قد يكون يف الواقع‬
‫حتم ًيا من الناحية الفلسفية‪ .‬يجب أن نسعى إىل الفوائد الكبرية‬
‫وليس الفوائد الصغرية‪ ،‬ويجب أن يكون لدينا اهتامم عميق‬
‫باملستقبل البعيد بدالً من خصمه تصاعديًا‪ .‬ويجب أن يكون معيار‬
‫عملنا لتقييم الخيارات هو زيادة النمو االقتصادي املستدام‪ ،‬ألن هذه‬
‫الخيارات تتغلب عىل مشاكل التجميع وهي جيدة بصورة حاسمة‪.‬‬
‫يوفر لنا هذا متثي ًال كم ًيا واس ًعا للتنمية طويلة املدى للحضارة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ويشكل إحدى وسائل إيجاد قيم املسايرة التعددية‬
‫وتعزيزها‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ ،‬هناك مجال واسع ألخالقنا‪ ،‬ومن بينها أخالقنا السياسية‪،‬‬
‫لتكون صارمة وقامئة عىل مفهوم القواعد والحقوق‪ .‬يجب أن‬
‫نخضع أنفسنا لقيود احرتام حقوق اإلنسان‪ ،‬مع اإلشارة إىل أن‬
‫حقوق اإلنسان شبه املطلقة هي الوحيدة القوية كفاي ًة لوضع أي‬
‫‪144‬‬
‫قيود عىل السعي لتحقيق فوائد ارتفاع معدل النمو االقتصادي‬
‫املستدام‪.‬‬

‫يف نهاية هذا املطاف‪ ،‬إننا ال منلك «أفضل نظرية أخالقية»‪ ،‬التي قد‬
‫يرغب الفيلسوف يف استخالصها‪ ،‬وإمنا بعض قواعد اتخاذ القرار‬
‫الجيدة للعيش وفقها‪ ،‬باإلضافة إىل بعض املعايري لكيفية تخيل‬
‫مستقبل أكرث إرشاقًا‪.‬‬

‫من املؤكد أنني مل أبذل أي محاولة إلثبات الوجود املطلق للحقوق‪.‬‬


‫ولكن ما أن نبدأ يف التفكري من منظور التغيريات الكبرية والشاملة‪،‬‬
‫فإن اإلميان بالحقوق يصبح مالمئًا بشكل طبيعي متا ًما‪ .‬إننا منلك‬
‫بعض القواعد ملا يجب القيام به –تعظيم النمو املستدام– وقواعد‬
‫أخرى –الحقوق– تضع بعض القيود عىل هذه الخيارات‪ .‬بعبار ٍة‬
‫أخرى‪ ،‬إن قواعد الرتتيب األدىن توجد ضمن حدود قواعد الرتتيب‬
‫األعىل‪ ،‬وال سيام احرتام حقوق اإلنسان‪ .‬يجب أن نلتزم بأولوياتنا‬
‫املختارة والقواعد املختارة برصامة‪ .‬فبدالً من الحقوق واالعتبارات‬
‫العواقبية التي متثل نهج متعارضة أو متناقضة للفلسفة‪ ،‬إن املجال‬
‫مفتوح أمام املواءمة والتوافقية لتسودان‪ ،‬وكل ذلك ضمن نهج‬
‫‪145‬‬
‫متداخل القواعد للتفكري يف جانبي املعادلة القائم عىل الحقوق‪،‬‬
‫والعميل العواقبي‪.‬‬

‫يجب أال ندافع عن وجهات النظر القامئة عىل القواعد عىل أساس‬
‫أنها «كذبة نبيلة» عملية للغاية‪ .‬فمن الجيد أن نرى الفوائد العملية‬
‫للقواعد مقدرة‪ ،‬لكن نهج الكذبة النبيلة ساخر ج ًدا‪ .‬فهو يفرتض أن‬
‫القواعد ضعيفة فلسف ًيا لنبدأ بها وإن مل تكن كذلك‪ .‬لذا بدالً من‬
‫اعتبار اإلميان بالقواعد الصارمة كذبة نبيلة‪ ،‬اعتربها حقيقة نبيلة‬
‫مهمة للغاية‪.‬‬

‫من الناحية العملية البحتة‪ ،‬من املستبعد أن يفكر صانعو القرار‬


‫الدميقراطيون يف العامل الواقعي بطموح كبري‪ .‬ومن األرجح أن تنتج‬
‫طبيعة السياسة أمو ًرا تافهة كثرية ج ًدا بدالً من إنتاج القليل ج ًدا‪.‬‬
‫يتخذ صانعو السياسات القرارات غال ًبا عىل أساس يومي‪ ،‬وعىل‬
‫أساس كل حالة عىل حدة‪ ،‬آملني ببساطة النجاح يف الدورة‬
‫االنتخابية التالية‪ .‬ال أقصد ذلك كنقد ساخر للطبيعة البرشية؛ وإمنا‬
‫كنتيجة للمنافسة السياسية ضمن دورات انتخابية قصرية نسب ًيا‬
‫بالنسبة إىل اآلفاق الزمنية التي تهم السياسة فيها‪( .‬لدى مجلس‬
‫‪146‬‬
‫النواب األمرييك دورة تصويت مدتها سنتان لسياسات يحتمل أن‬
‫ميتد أثرها عىل مدى عرشين أو ثالثني عا ًما‪ ،‬أو لفرتة أطول‪ ،‬يف‬
‫حالة السياسات البيئية)‪ .‬إن هذا أحد األسباب التي تجعل سياستنا‬
‫ترتكب هذه األخطاء العديدة‪ .‬لذا‪ ،‬من وجهة نظر براغامتية أو‬
‫عواقبية بحتة‪ ،‬يجب تقديم حجة إضافية لتخيل خياراتنا السياسية‬
‫من ناحية مجموعات أوسع من الخيارات والقواعد‪ ،‬برشط وضع‬
‫القواعد بشكل صحيح عىل األقل‪.‬‬

‫ثالثًا‪ ،‬يجب أن نكون حذرين للغاية يف مواقفنا تجاه سياسات‬


‫محددة‪ .‬حتى لو نجحنا يف اتخاذ هدف حقيقي يتمثل فيام نعتقد‬
‫أنها أفضل مسارات العمل‪ ،‬فإن احتامل أن نكون محقني يف‬
‫التفاصيل –مهام ارتفع االحتامل– ما يزال غري مرتفع ج ًدا‪ .‬إنه مثل‬
‫محاولة تخمني أصل الكون‪ .‬أفضل ما ميكنك فعله هو اختيار ما‬
‫تعتقد أنه صحيح بنسبة ‪ 1.05‬يف املئة من اليقني‪ ،‬بدالً من االنحياز‬
‫إىل ما تعتقد أنه صحيح بنسبة ‪ 1.03‬يف املئة‪ .‬إنك مخطئ عىل‬
‫محتمال أن يكون اآلخرون مخطئني أكرث منك‪،‬‬
‫ً‬ ‫األرجح‪ ،‬حتى لو كان‬

‫‪147‬‬
‫ومن ثم فإن موقفك يجب أن يكون متواض ًعا باملعنى املعريف تب ًعا‬
‫لذلك‪.‬‬

‫ملزيد من التوصيات املحددة‪ ،‬أقرتح ما ييل‪:‬‬

‫أ‪ .‬يجب أن تكون السياسة أكرث تطلعية وأكرث اهتام ًما باملستقبل‬
‫البعيد‪.‬‬
‫يجب عىل الحكومات أن تويل االستثامر أولوية أعىل‬ ‫ب‪.‬‬
‫بكثري مام هو عليه الحال اآلن‪ ،‬يف كال القطاعني الخاص‬
‫والعام‪ .‬فبالنسبة ملا يجب أن نفعله‪ ،‬إننا نعيش حال ًيا يف‬
‫جفاف استثامري‪.‬‬
‫ج‪ .‬يجب أن تهتم السياسة أكرث بالنمو االقتصادي‪ ،‬وأن تحدد عىل‬
‫نحو سليم‪ ،‬ويجب أن تويل مناقشة السياسات اهتام ًما أقل‬
‫أيضا‪ .‬ال‬
‫للقيم األخرى‪ .‬ونعم‪ ،‬هذا يعني تخفيض قيمك املفضلة ً‬
‫استثناءات‪ ،‬باستثناء حقوق اإلنسان شبه املطلقة بالطبع‪.‬‬
‫د‪ .‬يجب أن نهتم أكرث بهشاشة حضارتنا‪.‬‬
‫متثل إمكانية التشاؤم التاريخي تحديًا لهذا النهج برمته‪ ،‬ألن‬
‫املستقبل يف هذا املنظور قاتم مهام حدث‪ ،‬وقد ال يكون هناك‬
‫‪148‬‬
‫مستقبل بعيد لنتطلع إليه لحل معضالت التجميع التي ينطوي‬
‫عليها اتخاذ القرارات التي تؤثر عىل كثري من البرش‪.‬‬
‫ه‪ .‬يجب أن نكون أكرث إحسانًا بشكل عام‪ ،‬لكننا لسنا ملزمني‬
‫بالتخيل عن كامل ثرواتنا‪ .‬إننا ملزمون بالعمل الجاد واالدخار‬
‫واالستثامر وتحقيق إمكاناتنا البرشية‪ ،‬ويجب أن نأخذ هذه‬
‫االلتزامات عىل محمل الجد‪.‬‬
‫و‪ .‬ميكننا تبني الكثري من أخالقيات الفطرة السليمة مع العلم أنها‬
‫أيضا التوفيق‬
‫ال تتعارض مع نظرية أخالقية أعمق‪ .‬وميكننا ً‬
‫بني أخالقيات الفطرة السليمة والعديد من التوصيات املعيارية‬
‫الناشئة عن إطار غري شخيص وعواقبي بدرجة أكرب‪.‬‬
‫ز‪ .‬عندما يتعلق األمر مبعظم السياسات «الصغرية» التي تؤثر‬
‫عىل الحارض والحارض القريب فحسب‪ ،‬يجب أن نكون ال‬
‫أدريني‪ ،‬ألننا ال نستطيع التغلب عىل مشاكل التجميع إلصدار‬
‫حكم مربر‪ .‬االستثناءات الرئيسية هنا هي بعض السياسات‬
‫التي تفيد الجميع تقري ًبا‪.‬‬

‫الرؤية الطوباوية‬

‫‪149‬‬
‫تتمثل رؤيتي السياسية الطوباوية يف مجتمع يتبع هذه املبادئ‪.‬‬
‫وهذا يعني مجتم ًعا يتيح للفردانية والسعادة واالستقاللية االزدهار‬
‫إىل أقىص حد‪ .‬ال أتوقع حدوث يشء جيد للغاية يف الواقع‪ ،‬لكنها‬
‫مع ذلك رؤية لنعيش وفقها ولنستخدمها عند تحديد فلسفتنا‬
‫الشخصية والسياسية‪ .‬وبالنسبة للمجموعات الفرعية األصغر من‬
‫القضايا السياسية‪ ،‬خاص ًة تلك الضيقة للغاية لدرجة أنها ال تؤثر‬
‫عىل النمو االقتصادي املستدام‪ ،‬هناك متسع كبري للرؤى املتعايشة‪،‬‬
‫السياسية وغريها‪ .‬وهناك جانب مهم مفتوح لهذا النهج‪ ،‬ميثل لبنة‬
‫واحدة من الفكر السيايس‪ ،‬بدالً من نظام مغلق يجيب أو يعالج كل‬
‫سؤال محتمل‪ .‬ميكنك تبني هذا املنظور دون الحاجة إىل التخيل عن‬
‫جميع رؤاك الصغرية األخرى لنظام سيايس واجتامعي أفضل‪.‬‬

‫ورغم كل ذلك‪ ،‬يرتبط معظم العمل املعياري ببعض الحدس عىل‬


‫املستوى الفطري‪ ،‬وهذا العرض ليس استثنا ًء‪ .‬لدي شعور –ونعم‪،‬‬
‫إنني مستعد لوصف األمر عىل هذا النحو– أننا يجب أن ننظر إىل ما‬
‫هو أبعد من القيود التي نتصورها حال ًيا‪ .‬إذ يسهل القيام باملهام‬

‫‪150‬‬
‫الصغرية ذات الفائدة الواضحة؛ وليس بالرضورة أن تكون النصائح‬
‫األكرث أهمية يف مجال السياسة مريحة أو عملية دامئًا‪.‬‬

‫يجب أن نسعى جاهدين لزيادة رخاء اإلنسان يف املستقبل بشكل‬


‫كبري وعىل مدى فرتات زمنية طويلة‪ .‬ففي أثناء كفاحنا لتحقيق‬
‫إنجازات عظيمة‪ ،‬سنواجه العديد من التكاليف العرضية والعقبات‬
‫عىل طول الطريق‪ .‬لسنا متأكدين من مقدار األهمية التي يجب أن‬
‫نعلقها عىل هذه التكاليف‪ ،‬متا ًما كام مل نكن متأكدين من كيفية‬
‫تقييم ساق الكلب املكسورة يف مثال يوم إنزال النورماندي يف‬
‫الفصل الخامس‪ ،‬نظ ًرا لالرتياب الكبري املرتبط بخيارنا‪ .‬لكن قد‬
‫تكون التكاليف العرضية –والفوائد– أقل أهمية عىل األرجح مام‬
‫نعتقد‪ .‬وينبغي أال تشكل عقبة أمام محاوالتنا لتحسني حضارتنا‬
‫وجعلها أكرث دميومة‪.‬‬

‫عند التفكري يف السياسة‪ ،‬غالبًا ما يكون هناك صوت خافت داخل‬


‫رأيس يقول «دعنا نقلق فقط بشأن إجراء بعض التحسينات الطفيفة‬
‫اليوم‪ .‬املخططات الكربى ستذهب سدى‪ .‬ما هو املستقبل عىل أي‬
‫حال؟ أليست التحسينات الحالية‪ ،‬مهام كانت صغرية‪ ،‬صعبة التنفيذ‬
‫‪151‬‬
‫بدرجة كافية؟ فلنكن براغامتيني فوقيني ونركز فقط عىل ما هو‬
‫موجود هنا واآلن‪ .‬هذا هو أفضل ما ميكننا القيام به للمستقبل عىل‬
‫أي حال‪ .‬ميكن للمستقبل أن يتكفل بنفسه‪ .‬دعنا نتخىل عن‬
‫تخيالتنا»‪.‬‬

‫لكن أفكر بعد ذلك مر ًة أخرى‪ ،‬وأدرك أنني منخرط يف شكل مريح‬
‫من خداع الذات‪ .‬أعلم أننا كبرش مربمجني بيولوج ًيا لالستجابة‬
‫للمحفزات الفورية واملدى القريب عىل حساب املستقبل‪ .‬فمعظمنا ال‬
‫يخطط بعي ًدا بالقدر الكايف أو يدخر ما يكفي لتقاعدنا‪ .‬سيرشب‬
‫األفراد ِ‬
‫الظامء املاء املالح بدافع اليأس‪ ،‬حتى لو قلل ذلك من فرص‬
‫نجاتهم‪ .‬لذلك ال ميكننا دامئًا الوثوق يف برمجتنا وآليات االستجابة‬
‫الفطرية‪ .‬رمبا كانت هذه اآلليات تكيفية يف مجتمعات الصيد‬
‫والجمع‪ ،‬لكنها أصبحت فجأة أكرث تكلفة يف حضارة مزدهرة ذات‬
‫مؤسسات سياسية واسعة النطاق‪ ،‬ومشاكل مستمرة طويلة األمد‪،‬‬
‫وقدرة عىل توليد منو اقتصادي مستدام ومضاعف‪.‬‬

‫لذا أريد أن أكون أكرث تشككًا يف صوتنا الخافت لصالح الرباغامتية‬


‫العليا قصرية املدى‪ .‬وأود أن أقرتح أنه رذيلة‪ ،‬نظري الرجل املفكر‬
‫‪152‬‬
‫لإلشباع الوحيش قصري املدى‪ .‬إنه أحدث آلية تكيفية لدينا للشعور‬
‫بالرضا عن أنفسنا‪ ،‬عىل حساب ترك روما تحرتق‪ .‬أقرتح أن نحول‬
‫طاقاتنا السياسية بدالً من ذلك نحو التفكري يف ثروات حضارتنا‬
‫عىل املدى الطويل‪ .‬وهذا يعني الرتكيز عىل مستقبل الحرية والرثوة‬
‫والعلم واملؤسسات السليمة جيدة األداء التي تحكمها القواعد‬
‫والحقوق‪.‬‬

‫أنهي هذا الكتاب بتكرار بعض االدعاءات األساسية‪ .‬إن حضارتنا‬


‫تحمل العديد من القيم املتعددة الرائعة‪ .‬يجب أن يكون الحفاظ عىل‬
‫هذه القيم وتوسيعها عرب الزمن أولويتنا‪ .‬إذ يؤدي النمو االقتصادي‬
‫قيام‬
‫املستدام إىل رفع مستويات املعيشة ورفاهية اإلنسان‪ ،‬ويقدم ً‬
‫متعددة أخرى‪ .‬إن قضية املجتمع الجيد‪ ،‬املحددة بشكل مناسب‪ ،‬هي‬
‫قضية سليمة وليست ضحية ملشاكل النفعية أو العواقبية املعتادة‪.‬‬
‫ويجوز اإلميان بحقوق اإلنسان املطلقة أو شبه املطلقة‪ .‬ميكننا أن‬
‫نكون طوباويني جزئ ًيا يف التزاماتنا الشخصية والسياسية‪ ،‬ويجب‬
‫أن نكون كذلك‪ .‬يجب أال نخاف من التفكري من منظور الصورة‬
‫األشمل‪ ،‬بدالً من تقييم كل يشء عىل أساس كل حالة عىل حدة‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫يجب أن نكون متشككني بعمق يف بعض وجهات النظر األساسية ملا‬
‫يرجح أنه يعزز الخري‪.‬‬

‫ما زلنا ال منلك أفضل نظرية أخالقية‪ .‬لكن يجب أن نعيش حياتنا‬
‫عىل أكمل وجه‪ ،‬مدركني أن أخالقيات الفطرة السليمة ذات عالقة‬
‫عميقة مبا هو صحيح حقًا‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫امللحق أ – بعض الرياضيات االختيارية واملالحظات عىل بعض‬
‫املقاييس‬

‫رياض ًيا‪ ،‬ميكننا صياغة اهتاممنا باملستقبل ببضع طرق‪ .‬تفرتض‬


‫أبسط طريقة خصم صفري تام للمنفعة‪ .‬من الناحية الرياضية‪،‬‬
‫يبدو ذلك كالتايل‪:‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫) 𝒕𝒂(𝑼 ∑ = 𝑾𝑺‬


‫تعني األخالق القامئة عىل هذه املعادلة حيا ًدا أساس ًيا للمنافع عرب‬
‫‪1‬‬
‫الزمن‪ .‬فلن تقل أهمية رخاء أي شخص بسبب بعده الزمني‪.‬‬

‫هناك نهج آخر يعتمد عىل «القاعدة الذهبية» يف النظرية االقتصادية‬


‫لرأس املال‪ .‬تدعونا القاعدة الذهبية إىل اختيار أعىل مسار مستدام‬
‫للمنفعة أو االستهالك مع مرور الوقت‪ ،‬ويبدو ذلك رياض ًيا كالتايل‪:‬‬

‫) 𝒕𝒂( 𝑼 𝒎𝒊𝒍 ‪(2) 𝑴𝒂𝒙:‬‬

‫‪ 1‬يحاول كون (‪ )1992‬تبسيط هذا النهج‪.‬‬


‫‪155‬‬
‫هذا يعني أنه يجب علينا تعظيم قيمة الحالة الثابتة –ويلث بلس‪ ،‬يف‬
‫‪2‬‬
‫هذه الحالة– عىل امتداد أفق زمني غري محدد‪.‬‬

‫كال من الخصم الصفري للرخاء والقاعدة الذهبية‪ .‬ويف‬


‫إنني أؤيد ً‬
‫ظل مجموعة متنوعة من الرشوط التقنية‪ ،‬سينطوي املبدآن عىل‬
‫نفس الخيارات يف جميع املقارنات‪ 3.‬ولكن هناك نه ًجا آخ ًرا ملقارنة‬
‫القيم الحالية واملستقبلية‪ .‬فقد يتطلب معدل الخصم الصفري‬
‫الرصيح أن نويل الفائدة املستقبلية دامئًا اعتبا ًرا مكاف ًئا للفائدة‬
‫الحالية‪ .‬وسوا ًء ناسب هذا االستنتاج حدسنا األخالقي أم ال‪ ،‬فإنه‬
‫يبدو حجة قوية للغاية‪ ،‬خاص ًة مع كلمة «دامئًا»‪ .‬بالنسبة للقاعدة‬
‫الذهبية‪ ،‬تصعب الخصائص الرياضية التعميم خارج حالة األفق‬
‫الالنهايئ‪.‬‬

‫‪ 2‬ملحارضات مبكرة عن القاعدة الذهبية‪ ،‬انظر رامزي (‪ ،)1928‬وفيلبس (‪ ،)1961‬وميد (‪ .)1962‬تويل‬


‫القاعدة الذهبية «الخرضاء» اهتام ًما أكرب الستنفاد املوارد ولكنها تجسد نفس املبادئ األساسية؛ انظر‬
‫بيلرتايت وتشيتشلنيسيك وهيل (‪ )1993‬وهيل (‪.)1998‬‬
‫‪ 3‬يناقش هيل (‪ )111-110 ،1998‬هذه الرشوط‪ .‬للحصول عىل نسخة من مسلمة التجاوز‪ ،‬ولكنها نسخة‬
‫أكرث عمومية ومن دون نفس متطلبات االستمرارية‪ ،‬انظر باسو وميرتا (‪)2007‬؛ انظر أيضً ا بانريجي‬
‫(‪ )2006‬لتحليل األفكار ذات الصلة‪ .‬إللقاء نظرة عىل القضايا الفلسفية ذات الصلة‪ ،‬انظر فالنتي (‪،1993‬‬
‫‪ )1995‬وفالنتي وكاغان (‪.)1997‬‬
‫‪156‬‬
‫وكتعديل لهذه النهج‪ ،‬فإن معيار التجاوز يعد قاعدة أساسية أكرث‬
‫اعتداالً للمقايضات الحالية‪/‬املستقبلية‪ .‬يجب أن نكون مستعدين‬
‫دامئًا للتخيل عن فائدة متميزة اليوم إن كان بإمكاننا يف املقابل‬
‫خلق سلسلة طويلة كفاي ًة من زيادات الرخاء املستقبيل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال‬
‫يحدد املعيار أي معدل خصم رقمي مفرد أو مطبق عامل ًيا‪ .‬ميكننا‬
‫كتابة التايل‪:‬‬

‫معيار التجاوز‪ :‬ترجح املتتالية ) … ‪ 𝑔∞ = (𝑏1 , 𝑏 2 ,‬عىل‬


‫) … ‪ ℎ∞ = (𝑎1 , 𝑎2 ,‬إن ظلت إحدى املتتاليات‪ ،‬يف نقطة زمنية‬
‫مثال بي املتتاليتي‪:‬‬
‫معينة‪ ،‬أعىل بصورة منتظمة من األخرى‪ .‬قارن ً‬

‫… ‪(𝑎) 3, 3, 4, 4, 5, 6, 6, 6, 6, 6, 6, 6‬‬
‫… ‪(𝑏) 4, 4, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5‬‬
‫بحكم التصميم‪ ،‬ستتواصل املتتالية (‪ )a‬بالرقم ‪ ،6‬وستتواصل‬
‫املتتالية (‪ )b‬بالرقم ‪ .5‬باستخدام معيار التجاوز‪ ،‬تعترب (‪ )a‬أفضل‬
‫من (‪ ،)b‬رغم أن (‪ )b‬تجلب رخاء أعىل يف الفرتات القليلة األوىل‪.‬‬
‫ومجد ًدا‪ ،‬أعتقد أن هذه األرقام تتوافق مع ما أسميه ويلث بلس‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫وباملثل‪ ،‬فإن معيار التجاوز يرجح (‪ )c‬عىل (‪ )d‬للمعطيات التالية‪:‬‬

‫… ‪(𝑐 ) 3, 3, 7, 8, 9, 10, 11, 12, 13, 14‬‬


‫… ‪(𝑑 ) 4, 4, 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12, 13‬‬
‫وكام كتب‪ ،‬يفرتض هذا أن كل عنرص يف كل متتالية يستمر يف‬
‫االرتفاع مبقدار واحد‪.‬‬

‫ال أحتاج إىل تراكب أفق زمني النهايئ ليصبح معيار التجاوز‬
‫منطق ًيا‪ .‬وإمنا ميكننا أن نرجح (‪ )a‬عىل (‪ )b‬و(‪ )c‬عىل (‪ )d‬إذا كان‬
‫طويال كفاي ًة لتكون إحدى املتتاليات مهيمنة يف‬
‫ً‬ ‫األفق الزمني املعني‬
‫الرفاهية عىل األخرى بوضوح‪ .‬بكل بساطة‪ ،‬إذا تفوقت (‪ )a‬عىل (‪)b‬‬
‫أيضا إضافة‬
‫لبضع مئات السني‪ ،‬يسعدين إقرار ترجيح (‪ .)a‬ميكننا ً‬
‫مبادئ باريتو إىل معيار التجاوز بحيث إن كان إلحدى املتتاليات‬
‫قيام أعىل بوضوح عىل طول املسار‪ ،‬فإنها أفضل حتى لو مل تتفوق‬
‫ً‬
‫‪4‬‬
‫عىل األخرى يف جميع الفرتات الالحقة‪ ،‬وإمنا ظلت مساوية لها‪.‬‬

‫‪ .4‬تقرتح تشتشيلنسيك (‪ )1997‬نسخة معدلة من معيار التجاوز ال تجرب الفرتة الزمنية الحالية عىل‬
‫احتساب أي يشء‪ .‬ميكننا أن نفكر يف هذا البديل يف حال واجهنا يف الواقع أفقًا زمنيًا النهائيًا ومشكلة‬
‫«ديكتاتورية املستقبل»‪ .‬الحظ أنه مع األفق الالنهايئ‪ ،‬سيفشل معيار التجاوز يف تلبية بعض مسلامت‬
‫العدالة بي األجيال‪ ،‬مثل املجهولية أو الال مباالة يف قرارات التصنيف‪ .‬حول صعوبات تلبية جميع املسلامت‬
‫‪158‬‬
‫قد يبدو أن معدالت الخصم املنخفضة‪ ،‬كام وردت خالل هذه‬
‫املجموعة املتنوعة من االفرتاضات الرياضية‪ ،‬متنح املستقبل أهمية‬
‫أكرث من الحارض‪ .‬ولكن توجد أسباب تجريبية عميقة لعدم تاليش‬
‫أهمية الحارض يف قراراتنا‪ .‬إذ يعد النمو االقتصادي عملية تراكمية‬
‫ذات عالقات سببية بي املتغريات يف بداية النمو ويف مراحل النمو‬
‫الالحقة‪ .‬وهذا يعني–عاد ًة– أن أفضل طريقة لتلبية معيار التجاوز‬
‫هي جعل الحارض يف وضع جيد لبناء املستقبل‪ .‬بعبار ٍة أخرى‪،‬‬
‫يتطلب النمو االقتصادي أن نستثمر يف مؤسسات سليمة‪ ،‬ما يعني‬
‫‪5‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫القيام ببعض األشياء الجيدة هنا واآلن ً‬

‫إن نظريات املجتمع الدورية‪ ،‬كام توجد يف مؤلفات بعض املفكرين‬


‫الكالسيكيي‪ ،‬مثل مونتسكيو وفيكو‪ ،‬تصعب تطبيق معيار التجاوز‬
‫مثال‪ ،‬أن املجتمعات الناجحة ستصاب‬
‫بطريقة مفيدة‪ .‬افرتض‪ً ،‬‬

‫مثال فلورباي وميشيل (‪ )2003‬وساكاي (‪ .)2003‬يرد أسهيم‬


‫املعقولة يف سياق أفق النهايئ‪ ،‬انظر ً‬
‫وبوخولز وتونغودن (‪ )2001‬عىل بعض التهم من هذا النوع‪ .‬وحول افرتاضات الثبات واالستقالل‪ ،‬انظر‬
‫كومبانز (‪ .)1960‬ينظر بوسرتوم (‪ )2011‬يف بعض القضايا الفلسفية والرياضية ضمن إطار أفق ال‬
‫نهايئ‪.‬‬
‫‪ 5‬حول الطبيعة التعاونية األساسية للمشكلة بي األجيال‪ ،‬انظر هيث (‪ .)2013‬إللقاء نظرة مثرية لالهتامم‬
‫عىل التبادل املستدام بي األجيال مبرور الوقت‪ ،‬انظر رانجيل (‪.)2000‬‬
‫‪159‬‬
‫بالغطرسة ثم تدمر نفسها نتيج ًة لنجاحها السابق‪ .‬وعالو ًة عىل‬
‫ذلك‪ ،‬قد تنهض املجتمعات املتدنية من رمادها وتتقدم لتحقيق أمجاد‬
‫أعظم‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬قد تعني املتتالية األعىل يف إحدى الفرتات‪،‬‬
‫وسط ًيا‪ ،‬متتاليات أقل بصورة منتظمة يف فرتات مستقبلية الحقة‪.‬‬
‫التجاوز املنتظم لن يصمد أب ًدا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬رغم أنه قد تكون هناك‬
‫درجة معينة من اللحاق بالركب‪ ،‬ال توجد الكثري من األدلة املنهجية‬
‫عىل أن الخارسين اليوم يصبحون رابحي غ ًدا‪ .‬إن كنت تحاول‬
‫التنبؤ باملستويات املطلقة لالزدهار املستقبيل‪ ،‬فمن املستحسن‬
‫عمو ًما أن تراهن عىل الفائزين السابقي‪ ،‬ألسباب متت مناقشتها يف‬
‫‪6‬‬
‫الفصل الثالث‪.‬‬

‫مقارنة مع خصم غاما‬

‫هناك طريقة أخرى الستخالص عوامل خصم منخفضة نسب ًيا‪ ،‬وهي‬
‫النظر يف النامذج التي يتغري فيها عامل الخصم مع مرور الوقت‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫تعمل حسابات القيمة املتوقعة‪ ،‬رياض ًيا‪ ،‬بافرتاض أن أقل معدل‬

‫مثال بريتشيت (‪ )1997‬وأيضً ا كومي‪ ،‬إيسرتيل‪ ،‬وغونغ (‪.)2010‬‬


‫‪ 6‬فيام يتعلق بقضية التقارب‪ ،‬انظر ً‬
‫‪ .7‬انظر ويتسامن (‪ ،)2012 ،1998‬وأيضً ا فارمر وجيناكوبلوس (‪ )2009‬وآرو وأخرون (‪.)2014‬‬
‫‪160‬‬
‫خصم سيكون له مساهمة عالية نسب ًيا يف التقييم النهايئ للنتيجة‪.‬‬
‫تنشأ هذه الطريقة من املؤلفات املتعلقة مبا يعرف باسم خصم غاما‪،‬‬
‫وتؤدي إىل نتائج متسقة عمو ًما مع القلق العميق بشأن املستقبل‬
‫البعيد‪.‬‬

‫إليك طريقة بسيطة للتفكري يف هذا املنطق‪ :‬لنفرتض أن هناك فرصة‬


‫متساوية ليكون معدل الفائدة املعني إما واح ًدا يف املئة أو خمسة‬
‫يف املئة‪ .‬تبلغ قيمة الدوالر الواحد بعد مئة عام ‪ 36.9‬سن ًتا مبعدل‬
‫خصم واحد باملئة وتبلغ فقط ‪ 0.76‬سنتًا بخصم خمسة باملئة‪ .‬نظ ًرا‬
‫لتحدب العوائد‪ ،‬يكون متوسط أو معدل خصم القيمة املتوقع أقل من‬
‫‪ 2‬باملئة‪ ،‬ألن هذا هو املعدل الذي ستحصل به عىل ‪0.76 + 36.9‬‬
‫مقسو ًما عىل اثني كمكافأة متوقعة‪ .‬من الخطأ حساب متوسط‬
‫معدالت الخصم نفسها‪ ،‬مثل أخذ ‪ 6 = 5 + 1‬ثم قسمة الناتج عىل‬
‫اثني للحصول عىل متوسط ثالثة باملئة‪ .‬يطبق حساب املتوسط عىل‬
‫ريا أكرب عىل‬
‫املكافآت‪ ،‬ويعطي هذا معدالت الخصم املنخفضة تأث ً‬
‫‪8‬‬
‫القيم املتوقعة عمو ًما‪.‬‬

‫‪ .8‬انظر بوسرن (‪ )154-153 ،2004‬وأيضً ا ويتسامن (‪.)260 ،2001‬‬


‫‪161‬‬
‫لذا فإن معدالت الخصم املنخفضة لها أهمية أكرب يف تحديد تقييم‬
‫القيم املستقبلية البعيدة‪ .‬هذا ال يعكس بالضبط معيار التجاوز‪ ،‬لكنه‬
‫‪9‬‬
‫يزيد من معقوليته من خالل تفضيل معدل خصم منخفض نسب ًيا‪.‬‬

‫يعكس سلوكنا الفعيل أحيانًا نسخة من خصم غاما‪ .‬ففي‬


‫مثال‪ ،‬يقرتح العديد من األشخاص أن الحارض أكرث‬
‫االستبيانات‪ً ،‬‬
‫ريا‬
‫أهمية من بعد أربعي عا ًما‪ ،‬ولكن يف النهاية يجب أال نهتم كث ً‬
‫باملسافات الزمنية األبعد‪ .‬فمن وجهة النظر هذه‪ ،‬إن ما يحدث بعد‬
‫أربعمئة عام من اآلن ليس أقل أهمية بكثري مام يحدث بعد ثالمثئة‬
‫‪10‬‬
‫عام‪ ،‬رغم أن تطبيق الخصم األيس التام يوحي بخالف ذلك‪.‬‬

‫تتوافق حججي مع منطلق خصم غاما‪ ،‬لكنني اخرتت اتجا ًها مختلفًا‬
‫قليال‪ ،‬كام نوقش أعاله‪ .‬ما يزال خصم غاما يعني أنه ميكننا اختيار‬
‫ً‬
‫رقم واحد صحيح (غري صفري) أو مجموعة أرقام ملعدل الخصم‬
‫طويل األجل‪ .‬إذا كانت هذه املعدالت إيجابية‪ ،‬فإننا ما نزال نواجه‬
‫‪ .9‬انظر ويتسامن (‪.)260 ،2001‬‬
‫مثال برايس (‪ )1993‬وويتسامن (‪ )2001‬لنسخ من هذا الرأي‪ .‬يجادل ليهي (‪ )2000‬بأن‬
‫‪ .10‬انظر ً‬
‫التقنيات القياسية تقيس مدى اهتامم الوكيل الحايل بذاته املستقبلية‪ ،‬يف حي ميكننا أيضً ا أن نسأل عن‬
‫مدى اهتامم الذات املستقبلية بذاتها الحالية‪ .‬قد يؤدي تعديل هذا التناقض أيضً ا إىل اختيار معدالت خصم‬
‫أقل تويل اهتامم أكرب باملستقبل البعيد‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫احتامل أن تكون حياة واحدة اليوم أكرث قيمة من استمرار بقاء‬
‫طويال كفاي ًة للمقارنة‪ .‬بالنسبة‬
‫ً‬ ‫العامل‪ ،‬رشيطة أن نختار أفقًا زمن ًيا‬
‫ملعظم القضايا العملية‪ ،‬ال يرجح أن تظهر مثل هذه املشاكل‪ ،‬لكنني‪،‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬أجد هذا االستنتاج بديه ًيا من الناحية األخالقية‪ .‬وبدالً من‬
‫ذلك‪ ،‬قد نختار معدل صفر للسنوات األخرية من مقارنات خصم‬
‫غاما‪ ،‬ويف هذه الحالة سنقرتب من معيار التجاوز‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫امللحق ب – رعاية الحيوان واستنتاج ديريك بارفيت البغيض‬

‫قبل الختام‪ ،‬أود تقديم بعض املالحظات حول املشكلة التي لفتت‬
‫انتباهي بداية إىل أخالقيات االختيار العقالين‪ ،‬وتحديدا استنتاج‬
‫ديريك بارفيت البغيض‪ .‬لقد قرأت عمل بارفيت ألول مرة يف عام‬
‫‪ ،1984‬وما زلت أفكر فيه منذ ذلك الحني‪ .‬مل أحل أو أدحض‬
‫استنتاجه البغيض‪ ،‬لكن بالنظر إىل إطار هذه الحجج‪ ،‬سألخص‬
‫أفكاري وأبحث ملا ما يزال االستنتاج البغيض ميثل ثغرة يف بعض‬
‫هذه الحجج‪ .‬وباملناسبة‪ ،‬إن كنت ال تحب االستدالل انطالقا من‬
‫األفكار األخالقية «الالمعقولة» املنافية للواقع‪ ،‬ميكنك التوقف عن‬
‫القراءة اآلن‪.‬‬

‫يقارن استنتاج بارفيت البغيض بني سيناريوهني للتعداد السكاين‪.‬‬


‫النتيجة األوىل ذات عدد كبري جدا من السكان‪ ،‬الراضيني والسعداء‬
‫للغاية‪ .‬وميلك فيها العامل أيضا العديد من السلع املثالية‪ ،‬مثل الجامل‬
‫والفضيلة والعدالة‪ .‬بينام متلك النتيجة الثانية عددا أكرب من السكان‬

‫‪164‬‬
‫ولكن القليل من السلع املثالية‪ ،‬إن وجدت‪ .‬حيث يطلب منا بارفيت‬
‫تصور عامل من «امليوزاك والبطاطا»‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ما تزال الحياة‬
‫تستحق العيش يف هذا السيناريو‪ ،‬وإن كانت رمبا بأقل الهوامش‪.‬‬
‫يشري بارفيت إىل أنه إذا كان عدد سكان السيناريو الثاين كبري‬
‫كفاية‪ ،‬فقد يهيمن السيناريو الثاين يف الرفاهية عىل األول‪ .‬وبغض‬
‫النظر عن مدى جودة صنعنا للعامل األول‪ ،‬ميكن أن تؤثر الكمية عىل‬
‫‪1‬‬
‫الجانب الثاين‪.‬‬

‫قلة من يعتربون السيناريو الثاين –عامل امليوزاك والبطاطا– أفضل‬


‫من األول‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يصعب بصورة مدهشة العثور عىل خوارزمية‬
‫رفاهية تتجنب تأييد األرقام الهائلة يف حد ذاتها‪ .‬وتقع العديد من‬
‫املحاوالت الرامية إىل وقف تأييد السيناريو الثاين ضحية ملزيد من‬
‫‪2‬‬
‫األمثلة الفلسفية املضادة‪.‬‬

‫جاء يف بيان بارفيت لالستنتاج البغيض ما ييل‪« :‬االستنتاج‬


‫البغيض‪ .‬بالنسبة ألي تعداد سكاين محتمل ال يقل عن عرشة‬

‫‪ .1‬انظر بارفيت (‪.)1986 ،1984‬‬


‫‪ .2‬يستطلع كون (‪ )1996‬بعض الخيارات املختلفة‪ ،‬مثل تحديد أهمية األرقام أو تحديد أهمية املنفعة‬
‫اإلجاملية‪ .‬انظر أيضا كون (‪.)2005‬‬
‫‪165‬‬
‫مليارات شخص‪ ،‬يتمتعون جميعهم بنوعية حياة عالية جدا‪ ،‬ال بد من‬
‫أن يكون هناك تعداد سكاين أكرب بكثري مام ميكن تخيله‪ ،‬والذي‬
‫سيكون وجوده‪ ،‬إذا كانت األشياء األخرى متساوية‪ ،‬أفضل‪ ،‬رغم أن‬
‫‪3‬‬
‫حياة أفراده ستكون بالكاد تستحق العيش»‪.‬‬

‫لن أنخرط يف جميع املحاوالت املختلفة لحل (أو بيان) هذه املعضلة‪،‬‬
‫فقد خصصت كتب كاملة لهذا الغرض‪ .‬أما بالنسبة ألغرايض‪ ،‬فيكفي‬
‫أن أشري إىل أن معظم الناس يرفضون تأييد االستنتاج البغيض‬
‫ألنهم يشعرون أن املنافع الصغرية جدا‪ ،‬مهام كرب عددها‪ ،‬يجب أال‬
‫تؤدي إىل يشء ذي أهمية أخالقية كبرية‪ .‬أي أنهم يقللون من‬
‫مستوى املنافع الصغرية جدا التي تشكل حياة امليوزاك والبطاطا‪.‬‬

‫لقد ركزت عىل ويلث بلس كمفهوم تأسييس لنبتة الكروسونيا‬


‫ميكننا بناء نظرية أخالقية استنادا إليها‪ .‬لقد وجدت‪ ،‬عىل ما أعتقد‪،‬‬
‫أحد نباتات الكروسونيا هذه‪ ،‬لكنني مل أقدم أي حجة عىل أنها نبتة‬
‫كروسونيا الوحيدة لدينا‪ .‬لقد اخرتت نبتة الكروسونيا من حياة‬

‫‪ .3‬انظر بارفيت (‪.)1984،387‬‬

‫‪166‬‬
‫البرش كام نعرفها‪ ،‬وهي حياة مليئة بالسلع املثالية التي ميتد ثراؤها‬
‫إىل ما هو أبعد من استهالك امليوزاك والبطاطا‪ .‬ميكن قراءة استنتاج‬
‫بارفيت البغيض بوصفه تصويرا لنتائج نبتة الكروسونيا أخرى‬
‫تتكون من سلسلة طويلة جدا من حيوات «امليوزاك والبطاطا»‪.‬‬
‫يسهل تجسيد سيناريو بارفيت وجعل حياة امليوزاك والبطاطا‬
‫عديدة ألنها تتكاثر ذاتيا وتستمر لفرتة طويلة جدا‪.‬‬

‫عندما أفكر يف االستنتاج البغيض بطريقة حرفية للغاية‪ ،‬أحتار إن‬


‫كانت حياة امليوزاك والبطاطا توصف جيدا مبقارنتها بحياة البرش‬
‫كام نعرفها‪ .‬فحتى يف أفقر دول العامل‪ ،‬يتمتع الناس بعالقات‬
‫إنسانية غنية وثقافات مؤثرة وجميلة للغاية‪ .‬رمبا توصف حياة‬
‫امليوزاك والبطاطا بشكل أفضل مبقارنتها مع (بعض) الحيوانات‬
‫غري البرشية‪ .‬أي أن هناك حيوانات تستحق حياتها العيش‪ ،‬رغم‬
‫افتقارها إىل معظم السلع التي نربطها بحياة برشية مزدهرة وأكرث‬
‫تعقيدا‪ .‬م‬
‫مل يجب أن نختار حياة برشية مزدهرة وأكرث تعقيدا عىل‬
‫عدد أكرب من حياة الحيوانات األقل سعادة؟ فهل لنا أن نفكر يف‬

‫‪167‬‬
‫إفناء الجنس البرشي طواعية إلفساح املجال لعدد أكرب من‬
‫الحيوانات غري البرشية؟‬

‫بعبار ٍة أخرى‪ ،‬ما أن نفكر يف الحياة غري البرشية‪ ،‬توجد العديد من‬
‫نباتات الكروسونيا املتنافسة‪ .‬ال أقدم‪ ،‬وال ميكنني حتى‪ ،‬ضمن هذا‬
‫اإلطار‪ ،‬أي سبب الختيار نبتة الكروسونيا للحياة البرشية كام‬
‫نعرفها بدال من نبتة الكروسونيا مستمدة من عوامل أخرى من‬
‫الطبيعة‪ .‬وال يسعني سوى القول إنه‪ ،‬ألغراض عملية‪ ،‬علينا التعامل‬
‫مع نبات الكروسونيا املعروض علينا‪ ،‬والذي يركز بشدة عىل الرؤية‬
‫الغنية والتعددية للحياة البرشية كام نعرفها يف متيزها‪.‬‬

‫ألسباب مامثلة‪ ،‬ال تحل حجج هذا الكتاب‪ ،‬وال ميكنها‪ ،‬الخالفات‬
‫طويلة األمد حول رعاية الحيوان وحقوق الحيوان‪ .‬إنني أتعاطف‬
‫شخصيا بشدة مع الرأي القائل بأنه يجب علينا معاملة الحيوانات‬
‫غري البرشية أفضل مام نفعل اآلن‪ .‬لكن حقوق الحيوانات‪ ،‬عىل األقل‬
‫الحيوانات غري املستأنسة‪ ،‬تعود إىل نبات الكروسونيا مختلف عن ما‬
‫نفكر فيه‪ .‬ال يحل يشء يف إطاري‪ ،‬كام هو معروض هنا‪ ،‬تلك‬
‫املناقشات‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫ولعلك تتذكر أن بعض األطر‪ ،‬مثل التعاقدية‪ ،‬تشري ضمنا إىل أن‬
‫قضايا رعاية الحيوان تخرج عن الخطاب األخالقي السائد ألننا ال‪،‬‬
‫وال ميكننا أن‪ ،‬نصوغ اتفاقيات‪ ،‬حتى االفرتاضية منها‪ ،‬مع‬
‫الحيوانات (غري املستأنسة)‪ .‬ال توجد مساومة مع الزرزور‪ ،‬رغم أن‬
‫الزرزور يبدو أكرث ذكاء مام كنا نعتقد سابقا‪ .‬إن أسبايب الستبعاد‬
‫الحيوانات من االتفاق مختلفة‪ ،‬وليس لها عالقة باملوافقة أو املوافقة‬
‫االفرتاضية‪.‬‬

‫يتمثل أحد اآلثار املرتتبة عىل هذه الحجة يف افتقارنا إىل طريقة‬
‫سهلة للتحايل عىل مشاكل التجميع عندما يتعلق األمر بقضايا رعاية‬
‫الحيوان‪ ،‬إذ ال يوجد –باستثناء الحيوانات املستأنسة– نبات‬
‫الكروسونيا شائع‪ .‬يفرس هذا أيضا ملا تعد معالجات املعلقني‬
‫املسيحيني‪ ،‬وليس النفعني‪ ،‬من أكرث معالجات رعاية الحيوانات‬
‫إقناعا‪ ،‬مثل ماثيو سكايل وكتابه املمتاز السيادة‪ :‬قوة اإلنسان‬
‫ومعاناة الحيوانات ونداء الرحمة‪ .‬فبالنسبة للمفكرين املسيحيني‪،‬‬
‫وليس النفعيني‪ ،‬من الطبيعي أن نعترب رعاية الحيوان تخضع‬

‫‪169‬‬
‫لسيادة منفصلة‪ ،‬ولكنها ما تزال تستحق رحمتنا‪ ،‬تقرتب نسبيا من‬
‫املوقف الذي أحدده يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫لذا قد تكون معضلة بارفيت غري قابلة للحل يف بعض النواحي‬


‫املركزية‪ ،‬متاما مثل افتقارنا إىل نظرية أخالقية شاملة ملوازنة‬
‫مصالح البرش والخفافيش‪ ،‬أو البرش والكائنات الفضائية من كوكب‬
‫آخر‪ .‬تحدث األحكام األخالقية ضمن نوع من مخاريط القيمة‪،‬‬
‫ويجب أن نبحث عن مخاريط تسمح بالتغلب عىل مشاكل التجميع‪.‬‬
‫ال تتاح هذه املخاريط بأي حال من األحوال لكل مشكلة قد نواجهها‪،‬‬
‫مبا فيها حاالت قوارب النجاة‪.‬‬

‫قد تخيب هذه املالحظات آمال أولئك الذين يتوقعون نظرية أخالقية‬
‫لحل معضالت بارفيت‪ .‬لكن ميكننا أن نشعر بالراحة يف تصنيفها‬
‫إىل مجموعة معضالت أوسع وأكرث شهرة – وإن كانت ما تزال غري‬
‫قابلة للحل‪ .‬لكن ضمن املخاريط األخالقية التي منلكها‪ ،‬وباستخدام‬
‫نباتات الكروسونيا التي نفهمها‪ ،‬أقرتح قوة كاملة مقبلة‪.‬‬

‫‪170‬‬
A translation of “Stubborn Attachments: A Vision for a Society of Free, Prosperous,
and Responsible Individuals” © [2018] Eamon Butler

You might also like