You are on page 1of 300

‫مجلس األمناء‬

‫الرتتيب األلفبايئ)‬ ‫(بحسب‬

‫إندونيسيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬إظهار نوري‬

‫مصر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد الجزار‬

‫تونس‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬توفيق بن عامر‬

‫لبنان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬جاد حاتم‬

‫الجزائر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬زعيم خنشالوي‬

‫المغرب‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سيدي علي ماء العينين‬

‫اليمن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الله الفالحي‬

‫األردن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عامر عدنان الحافي‬

‫ماليزيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عزم الدين إبراهيم‬

‫السودان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الصادق الفقيه‬

‫سلطنة عمان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد السجواني‬

‫بلغاريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فيلين بيليف‬

‫العراق‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد حسين آل ياسين‬

‫تركيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمود إرول قليج‬

‫باكستان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد طاهر القادري‬

‫السنغال‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد المختار بن أحمد جيي‬

‫سوريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد أحمد علي‬

‫بروناي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬مول بادي‬

‫موريتانيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد سالم الصوفي‬

‫إيران‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يد الله يزدن بناه‬


‫رئيس التحرير‬
‫محمود حيدر‬

‫المجلس العلمي االستشاري‬


‫مصطفى الن ّ‬
‫شار‬ ‫سيد علي الموسوي‬

‫مدراء التحرير‬

‫إحسان الحيدري ـ الهذيلي المنصر ـ محمدعلي ميرزائي‬


‫إدريس هاني ـ غيضان الس ّيد علي‬

‫مجلس التحكيم العلمي‬


‫تونس‬ ‫محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مصر‬ ‫صابر أبا زيد‬
‫موريتانيا‬ ‫محمد يحيى باباه‬ ‫العراق‬ ‫جعفر نجم نصر‬
‫إيران‬ ‫حبيب الله بابائي‬ ‫األردن‬ ‫أمين يوسف عودة‬
‫المغرب‬ ‫كنزة القاسمي‬ ‫لبنان‬ ‫هدى نعمة مطر‬
‫الجزائر‬ ‫ياسين بن عبيد‬ ‫سوريا‬ ‫بكري عالء الدين‬

‫التصميم واإلخراج الفني‬ ‫المدير المسؤول مدير التحرير التنفيذي‬

‫‪Red Design Company‬‬ ‫خضر إبراهيم حيدر‬ ‫قاسم الطفيلي‬

‫تواصل‬
‫‪ /‬اإليميل‪ilmolmabdaa@gmail.com :‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪www.ilmolmabdaa.com :‬‬
‫‪00989 – 355471498 / 009611 – 3867158 / 00964 – 7801877152 / 009611 – 305347‬‬ ‫هاتف‪:‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 113/5748 :‬ـ بيروت ـ لبنان‬
‫فهرس المحتويات‬
‫ّ‬ ‫ض ف‬ ‫ت‬
‫الرحمانية ‪7........................................................‬‬ ‫الحا� ي�‬ ‫الف�‬ ‫مفتتح‬
‫محمود حيدر‬

‫المحور‬
‫ُّ‬ ‫َّ ف‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالم‬
‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫الفتوة ي�‬ ‫تجليات‬
‫ٌ ف‬
‫تنظ� المفهوم وأفعاله‬ ‫ي‬ ‫قراءة ي�‬
‫ض‬
‫األخ�‪18...................................................................‬‬ ‫ـ قويدري‬
‫َّ‬
‫الفتوة‬ ‫رسائل‬
‫الح ف ّ‬
‫ر�ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ن‬
‫وتأث�ه عىل اإلبداع ِ ي‬
‫العرفا� ي‬
‫ي‬ ‫السلوك‬
‫ن‬
‫الكيال�‪ ،‬محمد شكيبادل ‪38. ..................................‬‬ ‫ّ‬
‫الموسوي‬ ‫ـ رضا‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫عر�‬
‫مح� الدين بن ب ي‬‫فتوة الروح ي� فتوحات ي ي‬
‫ِّ‬ ‫ـ ين‬
‫ب� الوجود الحق ومحاق العدم‬
‫ليىل عبد الكريم خليفة‪56...........................................................‬‬
‫ن ّْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫المد�‬
‫ي‬ ‫للتصوف‬ ‫تظه�‬
‫ي‬ ‫ه‬‫الفتوة بما ي‬
‫ف‬
‫ثقا�‬
‫تقريب سوسيو ـ ي‬
‫ّ‬
‫عل محمد مؤذ ن ي�‪ ،‬فاطمة مهري ‪92...............................................‬‬ ‫ـ ي‬
‫ن‬
‫العرفا�‬
‫ي‬ ‫الرباط‬
‫ّ ف‬
‫مكانة الفتوة ي� مقاومة استعمار أفريقيا‬
‫إيزول ‪112.....................................................‬‬
‫ي‬ ‫ـ رضوان محمد سعيد‬
‫توة الح َّ‬ ‫ُ‬
‫الف َّ‬
‫كمية‬ ‫ِ‬
‫النورس‬
‫ي‬ ‫السياس عند سعيد‬
‫ي‬ ‫درس العرفان‬
‫ـ جعفر نجم نرص ‪134..................................................................‬‬
‫ّ ف‬
‫الفتوة ي� القرآن والعرفان‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫دالالت‬
‫ـ أحمد ماجد ‪160.........................................................................‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫محاورات‬

‫الروس ألكسندر كنيش‬‫ي‬ ‫ـ ـ المفكر‬


‫ف‬
‫عر� سبق هيغل بستة قرون ي� إبداع المفاهيم‬ ‫ابن ب ي‬
‫ت‬
‫اللوا� ‪176.........................‬‬ ‫ـ أنشأ الحوار ونقله إىل العربية‪ :‬هادي محمد‬
‫ي‬

‫حقول التنظير‬

‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬


‫ٍ‬ ‫بداية‬
‫استقراء المقبل‬

‫داقل ‪196...........................................................................‬‬
‫ي‬ ‫ـ كانر‬

‫ُّ‬ ‫االست�اق ث‬
‫ش‬
‫للتصوف‬ ‫ج ي‬
‫وبولو�‬‫األن�‬ ‫ــ‬

‫مسىع انتقادي‬
‫ـ صابر أبا زيد ‪224........................................................................‬‬

‫مقارنات‬
‫فهرس المحتويات‬

‫أفنان‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ـ ـ التجليات الوجودية للحروف‬
‫َّ‬ ‫َّ ُّ‬
‫العرفانية عند الشيخ العالوي‬ ‫تأويلية اللغة‬
‫ق‬
‫رز� بن عومر ‪250....................................................................‬‬
‫ـ ي‬

‫مكنز الكتب‬
‫ً‬
‫الغر�”‬
‫بي‬ ‫ـ ـ ريتشارد تارناس كاشفا “آالم العقل‬
‫تراجيديا الحضارة المتشائمة‬

‫العل ‪268..............................................................‬‬
‫ـ قراءة وتعليق‪ :‬خالد ي‬
‫ــ ي ز‬
‫ف�ياء اإليمان‬
‫ن‬
‫الدي�‬ ‫والوح‬ ‫الطبيع‬ ‫إمكان رفع التناقض ي ن‬
‫ب� العلم‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ـ نعيم تلحوق‪280..............................................................................‬‬

‫ترجمة الملخصات ‪294..................................................‬‬


‫مفتـتح‬

‫الفتى الحاضر في الرحمان ّية‬

‫محمود حيدر‬

‫نكاد ال نجد ما يُعرب عن ماه َّية اإلنسان يف حضوره واقتداره وتساميه‪،‬‬


‫مم تيش به كلمة الفت َّوة‪ .‬لقد ات َّخذت مكانتها الفريدة يف القرآن‬
‫أكرث َّ‬
‫ْب فائق‪ ،‬أو أن َّ‬
‫تدل‬ ‫خط ٍ‬
‫والعرفان وفقه اإلنسان‪ ،‬من أجل أن تشري إىل َ‬
‫ين‪ .‬وسنميل إىل “جميل الظ ِّن” أ َّن‬
‫عىل من هو مفارق يف الوجود اإلنسا ّ‬
‫الكلمة يف نحوها ومعناها ترمي إىل استجالء املخبوء من سجايا الذين‬
‫استحقّوا اسمها ورسمها وشهادتها‪.‬‬
‫مثل عليها بأصحاب الكهف‪ ،‬إذ اصطفاهم‬ ‫الحق ً‬
‫ُّ‬ ‫كذلك أعطى‬
‫النبي إذ نُودي من‬
‫ِّ‬ ‫بالصرب‪ ،‬وحباهم باالقتدار‪ .‬وهكذا األمر مع يحي‬
‫خ ِذ الكتاب بق َّوة‪ .‬كأمنا أري َد باألمثال أن يحوز الفتى‬
‫وحي الغيب أ ْن ُ‬
‫الحارض يف الرحامن َّية‪ ،‬هبة العلم واالقتدار مقرونني بالتأييد واالعتناء‪.‬‬
‫من أجل ذلك ستظهر الفت َّو ُة يف الحرضة الرحامن َّية آمنة ال يشوبها‬
‫رب عىل‬
‫إل لكونها راشدة‪ ،‬و ُدربتها الص ُ‬ ‫ٌ‬
‫خوف وال يغشاها غ ّم‪ .‬وما ذاك َّ‬
‫وتلقي املعرفة‪ .‬والخطبة اإللهيَّة تخربنا أ َّن ِفتية الكهف‬
‫ِّ‬ ‫قبول الهدى‬
‫مل َّا بلغوا منازل االصطفاء والقبول‪ ،‬ارتضوا جميل ما جاءهم به القدر‪.‬‬
‫مفتتح‬

‫ض فُ ِت َح لهم باب عىل جميل أسمى‪.‬‬


‫وهم كلَّام نالوا قسطًا من الجميل ال َر ِ ِّ‬
‫‪II‬‬
‫مم ال‬
‫ين بأثقال ما َل َح له َّ‬
‫عند شهود الحقيقة يف بهائها‪ ،‬ال ينوء الفتى الرحام ُّ‬
‫أن أ َّدت إليه من رهبة أو ذهول‪ .‬وما ذاك‬
‫عهد لسواه به‪ .‬فهو مت ِّهيىء للواردات َّ‬
‫ين‪ .‬تجده آم ًنا مطمئ ًّنا بني الخوف‬
‫ين والظلام ّ‬
‫إل ألنَّه مقتد ٌر عىل التمييز بني النورا ِّ‬
‫َّ‬
‫وال َّرجاء‪ ..‬خوفه من الفقد والخرسان‪ ،‬ورجاؤه باإليجاد واإلحضار‪ .‬وحتى يقتدر‬
‫عىل الوصل املتكافئ بني خوف الفقدان ورجاء الوجدان ال مناص له من التعايل‬
‫َت ه َّمته‬
‫صح به القول‪ :‬من َعل ُ‬
‫عىل األشياء‪ ،‬وال ُّزهد بدنيا املمكنات الفانية‪ .‬لقد َّ‬
‫الحق فات َ ُه‬
‫ِّ‬ ‫عىل األكوان‪ ،‬وصل إىل مك ِّونها‪ ،‬ومن وقف به َّمته عىل يشء سوى‬
‫الحق‪ ،‬ألنَّه أع ُّز من أن يرىض معه برشيك‪...‬‬
‫ُّ‬
‫حا ومعنى‪ .‬وهو بالنسبة إىل أهلها‬ ‫جسم ورو ً‬
‫ً‬ ‫واالقتدار سمة الفت َّوة وسمتُها‬
‫يت‪ ،‬وه ّويَّة فعل َّية‪ .‬دليلنا أ َّن لفتاها صف ًة متف ِّرد ًة من القدرة املركَّبة‪ :‬فيزيائ َّية‬
‫شأن ذا ٌّ‬
‫وميتافيزيائيَّة‪ .‬حيث الجسم والروح يف نشأة واحدة‪ .‬وألنَّه عىل هاتيك الصورة‬
‫الحق عىل لسان العارفني‪:‬‬
‫ين كونًا يف عامل املعنى‪ .‬وسيخاطبه ُّ‬
‫صار الفتى الرحام ُّ‬
‫أيُّهذا الفتى أنت معنى الكون كلِّه‪ .‬ومعناك أقوى من األرض والسامء‪ ،‬تبرص‬
‫بال ط ْر ٍ‬
‫ف‪ ،‬وتسمع بال س ْمع‪ .‬معناك هنالك‪ ،‬ال تحيط به األلباب وال تتعلَّق به‬
‫األسباب‪ .‬فإنَّك ال تعرف نفسك بالحرف‪ ،‬وال تعرف الله بالحرف‪ .‬فإ َّن الحرف‬
‫حجاب‪ .‬والحجاب حرف‪...‬‬
‫يدرك الفتى املقتدر معنى ما هو عليه‪ ،‬ذلك بأ َّن صبغته االنتباه‪ .‬ولوال انتبا ُهه‬
‫ح َدر إىل وادي الغفلة فال يغادرها قطٌّ‪.‬‬
‫الحق‪ ،‬النْ َ‬
‫ِّ‬ ‫إىل ما هو عليه شأنه وشأن َّيته مع‬
‫من أراد سؤاله عن علَّة فت َّوتِ ِه يقول‪ :‬ما تع َّرض العقل الغارق يف الَّلهو والَّلعب لـ‬
‫ين” إلَّ نجا من ضالالت التيه‪ .‬حتى إذا عرف نفسه‪ ،‬عرف الكون‪،‬‬ ‫“الوارد الرحام ِّ‬
‫ين‬
‫ولو عرف نفسه وتبصَّ آفاق الكون عرف الله‪ .‬لهذا الداعي يؤمن الفتى الرحام ُّ‬

‫‪8‬‬
‫الفتى الحاضر في الرحمان ّية‬

‫كل ما سوى ذلك‬


‫بأ َّن التوحيد هو أعىل مراتب الفت َّوة‪ .‬وإنَّه عىل يقني من أ َّن َّ‬
‫فكل فت َّوة ال ترى أ َّن حقيقة اإلميان بـ “ليس كمثله يشء”‪،‬‬
‫هو محض خرسان‪ُّ .‬‬
‫إنَّ ا هي فت َّوة ناقصة مبتدأها األبدان ومنتهاها األبدان‪ ،‬فال تش ُّم رائحة األبديَّة‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ين هو عني الفت َّوة التي دارت مدار‬ ‫أب ًدا‪ .‬فمقام التوحيد الذي يصله الفتى الرحام ُّ‬
‫علم حضوريًّا‪ ،‬ومعرفة شهوديَّة ال‬ ‫ٍ‬
‫مقامئذ ً‬ ‫الحكمة اإلله َّية‪ .‬وبهذا يصري ِعلْ ُمه‬
‫إل وترى عناية الله فيه ومعه وحواليه‪...‬‬
‫ترى إىل يشء َّ‬
‫‪III‬‬
‫مث َّة إذًا‪ ،‬رضورة الستكشاف الذات املتعالية إلنسان ميتلك الرؤية والبصرية‬
‫فضل عن حيازته َملَكَة الخطاب الفصل‪ .‬بفضل هذا‪ ،‬يحظى‬ ‫ً‬ ‫واإلرادة والفعل‪،‬‬
‫ين مبكَن ٍة ال يناظره فيها َّ‬
‫إل من نَ َد َر من أهل الكرثة‪ .‬لذا يشبِّ ُه ُه ابن‬ ‫الفتى الرحام ُّ‬
‫عريب بالقمر الذي فاز بالفت َّوة وتأيَّد بنور الروح والكلمة‪ .‬وهذا التشبيه ينحرص‬
‫بنظريين‪ :‬املسيح واملهدي‪ .‬فإذا كان املسيح هو روح الله وكلمته‪ ،‬فاملهدي‬
‫هو خاتم الوالية املحمديَّة املطلقة‪ ،‬وهام م ًعا كالسيف الصارم يف كشوفات‬
‫الحقائق‪ .‬بل يرمزان إىل القول الفصل وكلمة الصدق‪ .‬ثم مييض ليبيِّ الصلة‬
‫بني فت َّوة املسيح وفت َّوة املهدي لجهة ات ِّصال األول بالثاين بوصفه نور الرشيعة‬
‫املحمديَّة الذي سيظهر آخر الزمان لينشئ العدل ويقيم القسطاس‪.‬‬
‫مل صدرا فَيُن ِزلُه منزلة الرحامنيَّة ومظهريَّتها يف عامل الخلق‪ .‬فهو امل ُنجي‬
‫أ َّما َّ‬
‫من ضالالت الدنيا و ُمس َّد ًدا بالحكمة التي بها يكون كامله‪ .‬وهي الحكمة التي‬
‫يُعبَّ عنها تارة بالقرآن‪ ،‬وتارة بالنور‪ ،‬وطو ًرا بالعقل البسيط‪ .‬وغايتها أن تصري بها‬
‫العيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النفس عند تعقُّل األشياء عال ًَم عقل ًّيا مضاه ًيا للعامل‬
‫ين وخصائصها متعلِّقة مبيتافيزيقا‬
‫التأسيسات النظريَّة لفت َّوة الفتى الرحام ِّ‬
‫اإلبستمولوجي‪ .‬آيلة عىل اإلجامل إىل التح ّْقق مبقصدين‬
‫ّ‬ ‫العرفان ونظامها‬
‫متالزمني‪ :‬العلم بالله‪ ،‬واإلنهامم بشؤون الخلق‪ .‬ومرجع األمر إىل مركزيَّة الكائن‬

‫‪9‬‬
‫مفتتح‬

‫إلهي يف دنيا املخلوقات‪ .‬وبوصف كون هذا الكائن نقطة‬


‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫كمستخلف‬ ‫اآلدمي‬
‫ِّ‬
‫الجاذبيَّة يف الكون األكرب الحاوي للموجودات كلِّها‪ ،‬فقد وقع التكليف عليه‬
‫بال ِّرىض والقبول واإلقبال‪ ،‬ث َّم لينجز مه َّمته العظمى يف التوحيد بركْ َن ْيه‪ :‬توحيد‬
‫الخالق وتوحيد املخلوقات‪ .‬فإذا كان مقتىض األول توحيد الخالق بتنزيهه عن‬
‫خلق‪ ،‬وتدبري حاجاتهم عىل كرثتها‬
‫الثنائ َّية والرتكيب‪ ،‬فمقتىض الثاين توحيد ال َ‬
‫وتن ِّوعها واختالفها‪.‬‬
‫‪IV‬‬
‫ين تسمو عىل األنان َّية وترقى فوق الغرييَّة البرتاء التي‬ ‫كينونة الفتى الرحام ِّ‬
‫وانعدام اليقني‪ .‬وأل َّن كينونته‬
‫ِ‬ ‫آن ََست إليها الوثن َّية‪ ،‬وت َ َع َّب َدها عقلُها املق َّيد بالنقص‬
‫ين إىل النوع‬
‫مفارقة ملا تع َّودته الوثنيَّات الغاربة واملستحدثة‪ ،‬ينظر الفتى الرحام ُّ‬
‫ين كنظري له يف عوامل الكرثة واإلختالف‪ .‬وعىل ما يُبتنى للفت َّوة يف أدب‬
‫اإلنسا ِّ‬
‫الحق‪ .‬أو ما يس َّمى عندهم بـ “اآلخ َّية”‪ .‬وهي‬
‫ّ‬ ‫العرفاء فإنَّها تقوم عىل التآخي يف‬
‫ِ‬
‫واآلخ َّية بامل ِّد والتشديد‬ ‫تعني األخ َّوة املوثوقة برباط وطيد غري قابل لالنفكاك‪.‬‬
‫عم اندرجت‬
‫تؤول إىل الغرييَّة املحفوظة بالربوب َّية‪ .‬ولهذه الغرييَّة مرساها املفارق َّ‬
‫ِب بجالء عن هذا املرسى‬
‫ولعل ما يعر ُ‬
‫َّ‬ ‫عليه يف الحضارات البرشيَّة املتعاقبة‪.‬‬
‫قول أمري املؤمنني والعارفني عيل بن أيب طالب (ك‪-‬ع)‪“ :‬الناس صنفان‪ ،‬إ َّما أ ٌخ‬
‫ري لك يف الخلق”‪ .‬فالنظري يف الخلق هو األساس الذي‬
‫لك يف الدين‪ ،‬أو نظ ٌ‬
‫مبني عىل حارضيَّة‬
‫يقوم عليه مفهوم الفت َّوة يف امليتافيزيقا الرحامن َّية‪ .‬هو مقام ٌّ‬
‫الله وعدله يف عامل االختالف والكرثة‪ ،‬ذاك بأ َّن حارضيَّة الله يف عامل الخلق‬
‫تجعل النظري مخلوقًا صا َد َق األلوه َّية مبيثاق ُم َ‬
‫ربم حتى منحته صفاتها يف العطاء‬
‫والجود والُّلطف‪ .‬ولذا‪ ،‬جاءت حارضيَّة الله يف محراب الفت َّوة عىل نشأة الُّلطف‬
‫اآلدمي كلُّه عىل أرض العدل‪ ،‬فال يُنجز فهم‬
‫ُّ‬ ‫والتسديد‪ .‬وعىل أرضها يستوي النوع‬
‫الحق ال بعني ذاتنا‪ .‬وال‬
‫ِّ‬ ‫إل إذا عاي ّناه بعني‬
‫ين َّ‬
‫النظري عىل نصاب التعايل الرحام ِّ‬

‫‪10‬‬
‫الفتى الحاضر في الرحمان ّية‬

‫تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع رؤيتنا املكتظة بالفقر‪ ،‬واألنان َّية‪ ،‬ونكران الجميل‪.‬‬
‫خلْقيَّة قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده‪.‬‬
‫أ َّما قاعدة التناظر يف الكرثة ال َ‬
‫مم يح ّبون‪ .‬ولهذه‬
‫والخلق املأمورون بتمثُّلها ال ينالونها بغري اإليثار واإلنفاق َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يف العميق يف املباحث‬


‫رشائط معرف َّية وسلوك َّية‪ ،‬هي من مقتضيات السفر املعر ِّ‬
‫حسن السري والسلوك‪ .‬ولو كان لنا أن نعرث عىل مكانة النظري يف‬
‫اإلله َّية املقرونة ب ُ‬
‫الحق يف دنيا الخلق‪ .‬فلو‬
‫ِّ‬ ‫السالك إىل‬
‫أفق الرحامنيَّة‪ ،‬لقلنا إنَّها الغاية التي يطلبها َّ‬
‫رضا يف أرض الحقيقة‪ ،‬ولك َّنه يعرف أ َّن مقتىض امله َّمة‬
‫بلغ املطلوب صار حا ً‬
‫أن كانت أثقالها‪ .‬وإذا كان من خصائص هذه األرض‬
‫هو األخذ مبشقّة الطريق ّ‬
‫كتجل من تجلّياتها‪ .‬وميكن أن تظهر‬
‫ٍّ‬ ‫سيان الوحي يف التاريخ‪ ،‬بَا َن لنا النظري‬
‫ََ‬
‫هذه التجلّيات من ثالث جهات‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬بصفة كونه سلك الطريق وترقَّى يف معارجها حتى عرف نفسه فعرِف‬
‫الله فع َّرفه الله عىل خلقه‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬بوصف كونه عارفًا بغريه‪ ،‬معي ًنا لهذا الغري عىل التش ُّبه بجميله و ُ‬
‫حسن‬
‫الصفات واألفعال‪.‬‬
‫ريا له يف ِّ‬
‫فعاله‪ ،‬إىل الدرجة التي يصري فيها الغري نظ ً‬
‫للحق األعىل يف مقام الرحامن َّية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الثالثة‪ :‬بوصفه مظْه ًرا‬
‫حق أن تتكامل ماه َّية الفتى وحارضيَّته يف‬ ‫حني تجتمع الجهات الثالث‪َّ ،‬‬
‫أرض الحقيقة‪ .‬بذلك نجده ينتقل إىل طور العمل ليبدأ سفره يف عامل اآلدم َّية‬
‫ساع ًيا إىل إنجاز مه َّمته املوكولة إليه‪ .‬ولهذه امله َّمة أبعا ٌد جوهريَّة ميزان تح ُّق ِقها‬
‫الحق األعىل يف نظم املفارقة بني‬ ‫ِّ‬ ‫تحصيل الرحامنيَّة كصفة فعليَّة لحاكميَّة‬
‫ين يبقى حتى وهو يف مقام التحقُّق مفتق ًرا إىل‬‫األنان َّية والغرييَّة‪ .‬فالنظري الرحام ُّ‬
‫الحق األعىل وتسديده‪ .‬فهو دامئًا عىل خوف مقيم من التقصري يف الجود‬
‫ِّ‬ ‫حاكم َّية‬
‫الحب هو العطاء الزائد عن الواجب‪ .‬وهو‬
‫ِّ‬ ‫والعطاء وإظهار الجميل‪ .‬واإلنفاق من‬
‫الدرجة العليا من الجود التي تدخل يف فضاء يتع ّدى فائض التملُّك‪ .‬إنَّه اإلنفاق‬

‫‪11‬‬
‫مفتتح‬

‫إل من نال حظًّا موزونًا من حقيقة الوحي‪.‬‬


‫من ذات األنا التي ال يقدر عليها َّ‬
‫وعليه‪ ،‬مل يكن للنظري أن يحرز كامله‪ ،‬لوال أن بلغ ما بلغه يف معراج التوحيد‪.‬‬
‫فلنئ استوت جدل َّية األنا والغري عىل أرض الله‪ ،‬أفلح العارف يف تظهري فت َّوته‬
‫عىل حسن املقام‪ .‬حيث ال يُكتب له ح ُّ‬
‫ظ اكتساب صفاته الفاضلة‪ ،‬ما مل يحرز‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مقام التوحيد كأساس ملوقع َّيته يف دنيا االستخالف‬
‫‪V‬‬
‫َ َ ُْ ُ‬
‫‪‬و َما خلقك ْم‬ ‫يظهر النظري يف الحكمة اإللهيَّة البالغة‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫َّ َ ْ‬ ‫َ ُْ ُ‬
‫َولا َبعثك ْم إِلا ك َنف ٍس َواح َِد ٍة‪ .‬فهو إذًا‪ ،‬املساوي واملثيل ولكن عىل نصاب‬
‫اآلدمي‪ ،‬حيث يؤاخي بني اثنني من أصل‬
‫ِّ‬ ‫العدل‪ .‬أي عىل «النشأة األصل َّية للنوع‬
‫واحد‪ .‬وهو ما نجده يف زوجيَّة املث َّنى حيث ال انفصال لألصل‪ ،‬وإنَّ ا رضب‬
‫فكل متقابلني عىل نحو‬ ‫َ‬
‫طرف الزوجيَّة يف الصفة والهويَّة‪ُّ .‬‬ ‫كل من‬
‫من متيي ٍز بني ٍّ‬
‫التناظر‪ ،‬هام نظريان متعادالن يف أصل تقابلهام وج ًها لوجه‪ .‬وبذلك يؤول التناظر‬
‫إىل مبدأ اإليجاد‪ .‬فالكون بجميع ما به من كرث ٍة وتضا ٍّد وتفارقٍ يُدار بسلسلة من‬
‫تتغي‪ .‬ذلك بأنَّها نظائر ال متناهية اإلتقان‪،‬‬
‫األنظمة والقوانني الذات َّية الثابتة التي ال َّ‬
‫فهي متعادلة يف أصل ظهورها يف الوجود رغم االختالفات والتفاوتات بني‬
‫شخوصها وأفرادها‪ ..‬ولذا فالعدل ـ مبعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله‬
‫أي يشء‬
‫وعليم‪ .‬ومبقتىض علمه الشامل‪ ،‬وحكمته العا َّمة‪ ،‬يعلم أ َّن لبناء ِّ‬
‫ً‬ ‫حكيم‬
‫ً‬
‫مقادير مع َّينة من العنارص‪ .‬ولذا فهو من يركِّب تلك العنارص‪ ،‬لتشييد ذلك البناء‪.‬‬
‫الحق تعاىل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة بوصفهام صفتني من صفات‬
‫يستحق‪ .‬وعىل‬
‫ّ‬ ‫كل مخلوق بقدر ما‬
‫اإللهي من خالل فيضه عىل ِّ‬
‫ُّ‬ ‫يتجل العدل‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ..‬ولن‬
‫ّ‬ ‫قول الفيلسوف نصري الدين الطويس‪ :‬ال يوجد حكم الئق غري حكم‬
‫وكل يشء موجود قد أُوجد كام كان ينبغي‪ ،‬ومل‬
‫الحق‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يأيت حك ٌم يفضُ ُل الحك َم‬
‫يوجد يشء ال ينبغي وجوده»‪ ..‬وأل َّن الزم الحكمة والعناية اإللهيَّة هو أن يكون‬

‫‪12‬‬
‫الفتى الحاضر في الرحمان ّية‬

‫ريا بنفسه‪ ،‬أو يكون‬


‫فأي يشء يوجد‪ ،‬إ َّما أن يكون خ ً‬
‫للكون والوجود معنى وغاية‪ُّ ،‬‬
‫عليم ومري ًدا‪ ،‬هي توضيح‬
‫ً‬ ‫وسيلة للوصول إىل الخري‪ ...‬فالحكمة من لوازم كونه‬
‫أصل العلَّة الغائ َّية للكون‪ .‬أ َّما العدالة فليس لها عالقة بصفتَي العلم واإلرادة‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ولك َّنها باملعنى الذي م َّر تكون من شؤون فاعل َّية الله‪ .‬أي أنَّها من صفات الفعل‬
‫وليست من صفات الذات‪.‬‬
‫ولنئ كان النظري هو يف حيث َّية ما حاصل لقاء األنا والغري‪ ،‬فذلك يعني أ َّن‬
‫الوضعي‬
‫ِّ‬ ‫ين نتيجة فعل َّية الستبدال مفهوم التناقض‬
‫حارضيَّته يف اإلجتامع اإلنسا ِّ‬
‫اإللهي‪ .‬ولذا فهو ال يقوم عىل قانون نفي النفي كام تق َّرر املاديَّة‬
‫ّ‬ ‫مبفهوم التدافع‬
‫الديالكتيك َّية‪ .‬وال عىل قانون التناقض كام وجدت الوثن َّيات الحديثة‪ ،‬وإمنا عىل‬
‫ما نس ّميه بـ«زوج َّية التكامل يف عامل املث َّنى»‪ ...‬ففي هذا العامل بالذات يولد‬
‫النظري من دون أن تشوب والدته شائبة‪.‬‬
‫فلو أ َّولنا املث َّنى يف توليده للنظري لظهر لنا ما نعتربه مجازًا «الديالكتيك‬
‫الخلق‬
‫ّ‬ ‫مقابل لآلخر وإنَّ ا هو حاصل االمتداد‬
‫ً‬ ‫الخلق»‪ ،‬بحيث ال يعود النظري‬
‫ّ‬
‫من األنا إىل اآلخر وبالعكس‪ .‬وهو ما ال يقدر عليه إلَّ الفتى الذي أخذ الكتاب‬
‫بق َّوة‪ ،‬ث َّم استقام فأودع نفسه يف رحاب األلوهة من أجل أن ميتلئ بألطافها‬
‫وتدبرياتها‪.‬‬
‫ال يعمل مثل هذا النظري خارج املث َّنى‪ ..‬مبعنى أنَّه ثالث يولد من لقاء األنانيَّة‬
‫واآلخريَّة ث َّم ليظهر عىل املأل كبديل لهام‪ .‬وألنَّه متَّصل بالرحامن َّية‪ ،‬ال يرتيض‬
‫لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن اإلثنني‪ ،‬بحيث لو تآلف هذان اإلثنان من بعد‬
‫املكابدة يف مشقَّة التناقض‪ ،‬أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد األنا بالغري‬
‫ليصبح أ َّولً من جديد‪ .‬فلو فعل النظري هذا ما كان ليبلغ السم َّو‪ ،‬وال تس َّنى له أن‬
‫بأي حال‪.‬‬ ‫يكون له ح ُّ‬
‫ظ املفارقة‪ .‬ذلك أنَّه محفوظ يف البيت اآلمن فال يغادره ِّ‬
‫يف هذا املقام بالذَّات‪ ،‬سوف يُرى النظري يف ضمري األنا والغري الَّلذين اكتمال‬

‫‪13‬‬
‫مفتتح‬

‫بالحق األعىل‪ .‬سوى أنَّه ال يفارق الجرية الحميمة‬ ‫ِّ‬ ‫باملث َّنى‪ ،‬ث َّم توث َّقت صلته‬
‫ليستقل بذاته‪ ،‬فهو ممت ٌّد معها عىل أرض األخ َّوة الفاضلة‪ .‬وتب ًعاً ملبدأ االمتداد‬
‫َّ‬
‫ريا يف اآلخر‪ ،‬فيام تتولَّ الرحامن َّية‬
‫يصري النظري آخ َر يف األنا‪ ،‬واألنا تغدو نظ ً‬
‫كل من األنا والغري يف س َّنة التدافع‬
‫بعنايتها تثبيت املث َّنى وتسديده‪ .‬ولذا‪ ،‬يدخل ٌّ‬
‫وتؤسس إلعامر دنيا‬
‫ِّ‬ ‫الخلق‪ ،‬مبا هي س َّنة عمران َّية متنع الفساد يف األرض‪،‬‬
‫َّ‬
‫اإلنسان وت ُيسِّ سبيله إىل السعادة القصوى‪.‬‬
‫وعىل هذا النحو‪ ،‬تصري نفس النظري يف مقام الفاعل َّية املدركة ُمظ ِه َر ًة لآلخر‪،‬‬
‫وكل منهام يصبح مظه ًرا لغريه‪ ،‬أل َّن الفاعل املدرك يف مقام التألُّه يُظه ُر خرييَّته‬ ‫ٌّ‬
‫طو ًعا وطاع ًة للخري األ َّول‪ .‬وهو يف الوقت نفسه يدرك أنَّه مؤيَّد بالحقَّانيَّة اإللهيَّة‬
‫كل خلل وزيغ‪.‬‬
‫ومحفوظ ٌ بها من ِّ‬
‫ين أن يجتاز التناقض لريى الوحدانيَّة يف املث َّنى‪ .‬ويف‬
‫كتب للفتى الرحام ِّ‬
‫سيُ ُ‬
‫الخلقة يف الوجود‪.‬‬
‫َّ‬ ‫رسيان الزوج َّية‬
‫قابل ل َ‬
‫كل يشء بالنسبة إليه ً‬
‫هذه الحال يصري ُّ‬
‫لقد صار األمر ب ّي ًنا ملن رأى نقيضه قامئًا يف ذاته‪ ،‬ويف هذه الحال‪ ،‬ال حاجة‬
‫َ‬
‫طرف الزوج َّية إىل البحث عن صاحبه يف غري ذات زوجه‪ ،‬أل َّن كلًّ‬ ‫ألحد من‬
‫يحس بزوجه‪ ،‬ولوال رؤية‬
‫ُّ‬ ‫وكل م ّنهام‬
‫من الزوجني النقيضني قائ ٌم يف ذات اآلخر‪ًّ ،‬‬
‫كل من الباطن والظاهر قامئًا يف اآلخر ملا استطاع اإلنسان أن يتالءم مع رصوف‬
‫ِّ‬
‫لكل حال ع َّدته مز َّو ًدا من غناه لفقره‪ ،‬ومن‬
‫الدهر‪ ،‬فيحيا النقيض يف نقيضه‪ ،‬ل ُيع َّد ِّ‬
‫العادي يحيا‬
‫ُّ‬ ‫حته ملرضه‪ ،‬ومن راحته لتعبه‪ ،‬ومن شبابه لهرمه‪ .‬وإذا كان الفر ُد‬
‫ص َّ‬
‫هذا التناقض فطر ًة وسليق ًة وطب ًعا بحياته النقيضني م ًعا‪ ،‬فإنّه عىل بصرية من أمره‪،‬‬
‫ولعل السبب يف غيابها ع َّنا‬
‫َّ‬ ‫إل أصحابها‪،‬‬
‫فكيف حياة أهل الغرام التي ال يعرفها َّ‬
‫هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا‪ ،‬فلم نعش النقيض قامئًا يف ذات نقيضه؟ لهذا‪ ،‬كان‬
‫عل ُمنا بباطن اليشء يجعلنا نعلم ظاهره رضور ًة وبداه ًة والعكس بالعكس‪ .‬ولنا‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫كل من الزوجني النقيضني من ِّ‬
‫علمت أ َّن الحركة يف ٍّ‬
‫َ‬ ‫يف هذا مثال‪ :‬فلو‬
‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬لوجدت أ َّن السبب يف ذلك إنَّ ا‬ ‫تنتهي وتبدأ يف الزوج اآلخر يف ٍ‬
‫وقت‬

‫‪14‬‬
‫الفتى الحاضر في الرحمان ّية‬

‫تظل مستم َّرة دامئًا وأب ًدا‪ .‬فاليشء املتح ِّرك الذي تنتهي حركته‬
‫هو من أجل أن َّ‬
‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬إنَّ ا هي حرك ٌة مستم َّرة‬ ‫يف أحد الزوجني وتبدأ يف الزوج اآلخر يف ٍ‬
‫وقت‬
‫ال تتوقَّف‪ ،‬وفيها تتمثَّل الصلة بني الخالق واملخلوق‪ -،‬وبني النظري ونظريه‪،-‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل يشء‪ .‬ويف استمرار هذه الصلة املتبادلة‬


‫وذلك يف صورة رحمته التي وسعت َّ‬
‫رس هذا الوجود يف صورة قيام النهاية يف‬
‫عىل السواء والتعادل املتبادل‪ ،‬يتجلَّ ُّ‬
‫مثل إىل معنى التزاوج الذي‬
‫كل يشء‪ .‬فإذا نظرت ً‬
‫البداية والبداية يف النهاية يف ِّ‬
‫مستقل عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إىل تع ّدي اليشء الذي‬
‫ًّ‬ ‫يتَّجه إىل اإلتصال‬
‫أي منهام من سبيل إلَّ من‬
‫منفصل عنه‪ ،‬وجدت أنَّه ليس إىل تع ُّرف ٍّ‬
‫ً‬ ‫تتجاوزه‬
‫خالل اآلخر‪.‬‬
‫يرتسخ عرب حركة ترسي يف جوهر العالقة‬
‫وهكذا‪ ،‬سيكون ملسار التع ُّرف أن َّ‬
‫السيان فهو يف الح ّيز الذي‬
‫الحق والخلق‪ .‬أ َّما ميدان هذا َ َ‬
‫ِّ‬ ‫التي ال تنفصم بني‬
‫الحق عىل الخلق‪ .‬وهو ما اصطُلح عليه بعامل الشهادة‪ .‬فسيكون عىل‬
‫ُّ‬ ‫يشهد فيه‬
‫ين وسط هذا العامل‪ ،‬أن يستبرص معنى الخري املتعايل‪ ،‬ويسلك‬
‫الفتى الرحام ِّ‬
‫ويبي ويعلِّم ويق ّيم العدل ويز َن بالقسط‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سبيله إىل الحياة الفائقة‪ .‬ثم أن َّ‬
‫يدل‬

‫‪15‬‬
‫المحور‬
‫ُّ‬ ‫َّ ف‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالم‬
‫ي‬ ‫ف‬‫التصو‬ ‫�‬
‫ي‬ ‫ة‬‫الفتو‬ ‫يات‬ ‫تجل‬
‫ٌ ف‬
‫تنظ� المفهوم وأفعاله‬
‫ي‬ ‫قراءة ي�‬
‫ض‬
‫قويدري األخ�‬
‫َّ‬
‫الفتوة‬ ‫رسائل‬
‫العرفا� وتأث�ه عىل اإلبداع الح ف ّْ‬
‫ر�‬ ‫ن ُّ‬ ‫السلوك‬
‫ِ ي‬ ‫ي‬ ‫ّ ي‬
‫الكيال�‪ ،‬محمد شكيبادل‬ ‫ن‬ ‫رضا الموسوي‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫عر�‬
‫يب‬ ‫مح� الدين بن‬
‫يي‬ ‫فتوة الروح ي� فتوحات‬
‫ِّ‬ ‫ي ن‬
‫ب� الوجود الحق ومحاق العدم‬
‫ليىل عبد الكريم خليفة‬
‫ن ّْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫المد�‬
‫ي‬ ‫للتصوف‬ ‫تظه�‬
‫ي‬ ‫ه‬
‫ي‬ ‫الفتوة بما‬
‫ف‬
‫ثقا�‬
‫سوسيو ـ ـ ي‬ ‫تقريب‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫عل محمد مؤذ ي�‪ ،‬فاطمة مهري‬
‫ي‬
‫ن‬
‫العرفا�‬
‫ف ي‬ ‫الرباط‬
‫ّ‬
‫الفتوة ي� مقاومة استعمار أفريقيا‬ ‫مكانة‬
‫إيزول‬
‫ي‬ ‫رضوان محمد سعيد‬
‫ُ‬
‫الف َّ‬
‫توة الح َّ‬
‫كمية‬ ‫ِ‬
‫النورس‬
‫ي‬ ‫السياس عند سعيد‬
‫ي‬ ‫درس العرفان‬
‫جعفر نجم نرص‬
‫ّ ف‬
‫الفتوة ي� القرآن والعرفان‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫دالالت‬
‫أحمد ماجد‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة يف‬
‫َّ‬ ‫جت ِّليات‬
‫قراء ٌة يف تنظري املفهوم وأفعاله‬

‫ض‬
‫األخ�‬ ‫قويدري‬
‫ثلي�‪ ،‬األغواط ـ الجزائر‬ ‫ض‬
‫أستاذ محا� بقسم الفلسفة ـ جامعة عمار ج ي‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إجمال‬‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ َّ‬ ‫الحق َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫للتصوف‪َ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫وجل‪ ،‬إال أن‬ ‫عز‬ ‫روح‪ ،‬يروم التواصل مع‬ ‫ي‬ ‫بما هو منهج‬ ‫ال يمكن‬
‫ِّ ف‬ ‫ُّف‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫و� قلبه‬ ‫الصو� مع الحق‪ ،‬ي‬ ‫ي‬ ‫يكون مسلكا تراحميا مع الخلق كافة‪ ،‬إذ يستحيل أن يتصل‬
‫من الضغائن واألحقاد ما يفصله عن الخلق‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ع� مقامات العرفان‪ ،‬وصوال إىل المعرفة باهلل تعاىل‪ ،‬البد‬ ‫السفر ب‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن‬
‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ٌ‬
‫أخالق َّ‬
‫والمحبة للمخلوقات‬ ‫بمعا� الرحمة‬‫ي‬ ‫علية تفيض‬ ‫من أن تصحبه – وبشكل دائم‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ه إال آثار ألسماء الحق وصفاته‪ ،‬فمن أحبها وأحسن‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫المخلوقات‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫ها‪،‬‬ ‫كل‬
‫َّ‬
‫إليها اتصل به‪ ،‬ومن أبغضها وأساء األدب معها انفصل عنه‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َّ‬
‫كل خلق منها إىل اآلخر‪ ،‬نود‬ ‫متشعبة ومتداخلة‪ ،‬بحيث ُيحيل‬ ‫ِّ‬ ‫وبما أن األخالق‬
‫ال� َّ‬‫َّ ت‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫يتأسس‬ ‫ي� هذه الدراسة أن نتحدث عن خلق الفتوة كأحد المرتكزات الجوهرية ي‬
‫األساسية للمعرفة باهلل‪ ،‬وذلك من‬ ‫َّ‬ ‫الصوفية‪ ،‬وكأحد المداخل‬ ‫َّ‬ ‫ال�كية عند‬ ‫عليها علم ت ز‬
‫خالل اإلجابة عن األسئلة اآلتية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫األخالقية المرتبطة بها؟ ‪ -3‬وكيف تجلت‬ ‫القيم‬ ‫الفتوة؟ ‪ -2‬وما‬ ‫‪ -1‬ما هو مفهوم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫تنظ�ات الصوفية وممارساتهم اليومية؟‬ ‫ي‬ ‫هذه الفضيلة ي�‬
‫***‬
‫ُّ‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬الفتوة ‪ -‬مقامات العرفان‪ -‬علم ت ز‬
‫ال�كية – الرجولة – ت‬
‫ال�احم – التخلق ‪.‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫‪ .1‬مدخل مفاهييم‪:‬‬
‫الفتـ َّوة هي صفة الفتى‪ ،‬اشتُقَّت منه‪ ،‬كال ُّرجولة من الرجل‪ ،‬واألب َّوة من األب‪ ،‬واألمومة من األم‪،‬‬
‫واألخ َّوة من األخ‪ ،‬وقد استُعريت منذ أيام الجاهل َّية للداللة عىل الشجاعة والسخاء[[[‪.‬‬
‫والفت َّوة تطلق يف االصطالح عىل صفات محمودة ات ُّسم بها شخص عىل وجه مخصوص وامتاز‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫بها عن أبناء جنسه‪ ،‬فأوجبت له اسم فتى[[[‪.‬‬


‫آم ُنوا‬ ‫وقد ورد هذا اللَّفظ يف القرآن الكريم‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل عن أهل الكهف‪ :‬إ َّن ُه ْم ف ِتْ َي ٌة َ‬
‫ِ‬ ‫ْ َ‬
‫َ َ ُ َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ً‬ ‫ْ ْ ُ َ ْ َ‬ ‫اه ْم ُه ً‬ ‫َّ ْ َ َْ ُ‬
‫دى‪ ،[[[‬وقوله‪ :‬إِذ أ َوى الفِت َية إِلى الك ْه ِف فقالوا ربنا آت ِنا مِن لدنك رحمة‬ ‫بِرب ِ ِهم وزِدن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََّ ْ َ‬
‫تى يَذك ُره ْم‬ ‫قالوا‪:‬س ِم ْع َنا ف ً‬
‫َ‬ ‫ئ ل َنا م ِْن أ ْم ِرنا َرش ًدا‪ .[[[‬وقوله عن قوم سيدنا إبراهيم‪ ‬إنهم‬ ‫وهي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪:‬و َد َخل َم َع ُه ال ّ ِ ْ َ َ َ‬
‫ِيم‪ .[[[‬وقوله تعاىل عن سيدنا يوسف‪َ ‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُي َقال ل ُه إب ْ َراه ُ‬
‫ان‪ [[[‬وقوله ع َّز‬ ‫سجن فتي ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جل َ‬
‫‪:‬وقال لِفِتيانِهِ اجعلوا بِضاعتهم ف ِي رِحال ِ ِهم‪.[[[‬‬ ‫و َّ‬
‫وقد تع َّددت تعريفات الفت َّوة‪ ،‬يف امل ُد ّونة الصوف َّية تع ُّددا بي ّــ ًنا‪ ،‬يعكس أحوال مع ِّرفيها‪ ،‬وزوايا‬
‫خلُقِ ‪ ،‬بحيث سنجد أنفسنا ‪ -‬ونحن نفحص دالالتها‪ -‬أننا‬ ‫النظر التي نظروا من خاللها إىل هذا ال ُ‬
‫نتكلَّم عن جملة من الفضائل الخيِّ ة‪ ،‬كاملروءة وال َّرحمة و السخاء والعفو واإليثار‪ ،‬والسامحة‪،‬‬
‫والنبل والشهامة‪ ،‬وغريها من مكارم األخالق‪ ،‬وهذا ما سيتَّضح لنا من خالل التعريفات اآلتية‪:‬‬
‫بمع� ُحسن ُّ‬
‫الصحبة‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫الفتوة‬
‫الصحبة‪.‬‬
‫حسن ُّ‬ ‫السلَمي(ت ‪ 74‬هـ) «ومن أصولهم (أي الصوف َّية) ُ‬ ‫يقول الشيخ عبد الرحمن ُ‬
‫توسع عىل أخيك من مال نفسك وال تطمع يف ماله‪ ،‬وتنصفه وال تطلب منه اإلنصاف‪.‬‬ ‫فظاهره أن ِّ‬
‫وتستقل ما‬
‫َّ‬ ‫وتكون تبعاً له وال يكون تبعاً لك‪ ،‬وتتح ّمل منه الجفوة وال تجفوه‪ ،‬وتستكرث قليل ب ِّره‪،‬‬
‫منك له»[[[‪.‬‬
‫كل‬
‫الصحبة بحيث «ال تربح عىل صديقك»[[[‪ ،‬وبهذا تنتفي بينك وبينه ِّ‬
‫بحق ُّ‬
‫ومن داللتها الوفاء ِّ‬
‫[[[‪ -‬مصطفى جواد‪ :‬مقدِّمة ابن معامر البغدادي (أبو عبد الله محمد بن أيب املكارم)‪ :‬كتاب الفت َّوة مطبعة شفيق‪ ،‬مكتبة املثنى‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫ط‪ ،1958 ،1‬ص‪(.05‬بترصف)‬
‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت ّوة‪ ،‬تحقيق مصطفى جواد وآخرين‪ ،‬مطبعة شفيق‪ ،‬مكتبة املثنى‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪ ،1958 ،1‬ص‪.130‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.13‬‬
‫[[[ سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.60‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.62‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ (:‬رسالة املالمت َّية) ضمن كتاب أبو العال عفيفي‪ :‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬درا إحياء الكتب العرب َّية‪،‬‬
‫القاهرة‪ 1945 ،‬ص‪.119‬‬
‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت ّوة‪ ،‬ص‪.156‬‬

‫‪19‬‬
‫المحور‬

‫املطامع واملصالح الض ّيقة التي تفسد املو َّدة‪.‬‬


‫ريا عن فت َّوة سيدنا عيل ك َّرم الله وجهه‪ ،‬حيث أنَّه جاد بنفسه‪ ،‬ونام عىل‬
‫والصوفيَّة يتكلَّمون كث ً‬
‫بحق األخ َّوة‪ ،‬يوم الهجرة[[[‪.‬‬
‫النبي‪ ‬فدا ًء له ووفا ًء ِّ‬
‫فراش ِّ‬
‫ّ‬
‫وكف األذى‪:‬‬ ‫ن‬
‫بمع� العفو‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‬
‫والفت َّوة تعني أيضاً العفو والتجاوز عن عرثات الناس‪ .‬وقد أشار اإلمام القشريي(‪465-376‬‬
‫هـ) إىل هذا املعنى فقال‪« :‬الفتى من ال يكون خصامً ألحد»[[[‪ .‬كام ُع ِّرفت بأنَّها «العفو عن زلل‬
‫اإلخوان»[[[‪.‬‬
‫وع َّرفها الفضيل بن عياض(‪187-107‬هـ) بأنّها‪« :‬الصفح عن عرثات اإلخوان»[[[‪ .‬وإىل هذا‬
‫املعنى أشار األمام أبو بكر الو َّراق(ت ‪240‬هـ) فذهب يف تعريف الفتى إىل أنه‪« :‬من ال خصم‬
‫«كف األذى وبذل الندى»[[[‪.‬‬
‫له»[[[‪ .‬أما الجنيد(‪298-215‬هـ) فع َّرفها بأنَّها ُّ‬
‫السلمي «رؤية أعذار الخلق وتقصريك‪ ،‬ومتامهم ونقصانك‪ ،‬والشفقة‬ ‫وهي عند عبد الرحمن ّ‬
‫عىل الخلق كلِّهم‪ ،‬بَ ّرهم وفاجرهم»[[[‪ .‬كام ُع ِّرفت بأنَّها «العفو عن زلل اإلخوان»[[[ ‪.‬‬
‫وإىل الوصف ذاته ذهب الشيخ أبو محمد ُرويم بن أحمد (ت‪303‬هـ) فقال عنها‪« :‬هي أن تعذر‬
‫إخوانك يف زللهم‪ ،‬وال تعاملْهم مبا يُحوِجك إىل االعتذار منهم»[[[‪ .‬وأنشد أحدهم أبياتاً بديعة‬
‫تؤسس لفضيلة الصفح عن عرثات األحباب‪ ،‬وتذكِّ ُر بواجب حفظ املو َّدة بينهم‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬
‫ّ‬
‫فأيــــ ْــــن عاقب ُة األُ ُ‬
‫خ َّوه‬ ‫ت‬
‫َه ْبني أسأتُ كام زع ْم َ‬
‫فأين فضلك وامل ُ ُر َّوه [‪.[[1‬‬ ‫وإذا أسأتُ كام أســــــأتَ‬
‫ن‬
‫بمع� التواضع‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‬
‫ومن معاين الفت َّوة التواض ُع وعدم التميُّز عن املخلوقات بحيث أ ْن ال يرى اإلنسان لنفسك‬

‫رصف )‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪ ( 142‬بت ُّ‬
‫[[[‪ -‬القشريي أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪2001،‬م ‪ ،‬ص‪.261‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬املقدِّمة يف التص ُّوف‪ ،‬تحقيق يوسف زيدان‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1999 .1‬م ص ‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة ص‪.261‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.262‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬طبقات الصوفيَّة‪ ،‬تحقيق أحمد الرشبايص‪ ،‬طبعة كتاب الشعب‪ ،‬ط‪1998 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬املقدِّمة يف التص ُّوف‪ ،‬تحقيق يوسف زيدان‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1999 .1‬م ص ‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬األصفهاين أبو نعيم‪ :‬حلية األولياء وطبقات األصفياء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪1996 ،‬م‪ ،‬ج ‪ ،10‬ص ‪ .296‬وكذا ابن املعامر البغدادي‪:‬‬
‫كتاب الفت َّوة‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬املقدِّمة يف التص ُّوف‪ ،‬ص ‪ .48‬واألبيات للخليل بن أحمد الفراهيدي(‪ 170 -100‬هـ)‪.‬‬ ‫[‪ّ -[[1‬‬

‫‪20‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫جب وال ِكرب»[[[‪ ،‬باإلضافة إىل «حسن الخلق وترك التميّز‬


‫فضالً عن غريه[[[‪« .‬أال يُظهِر اإلنسان ال ُع ْ‬
‫يف العطاء»[[[‪.‬‬
‫ومن دالالتها يف هذا السياق‪ ،‬ما ذكره أبو حفص عمرو بن سلمة (ت‪ 270‬وقيل ‪ )267‬من أنها‬
‫«أدا ُء اإلنصاف‪ ،‬وترك مطالبة اإلنصاف»[[[‪ ،‬فينصف املرء غريه‪ ،‬وال يطال ُبهم بأن ينصفوه‪ ،‬ويكون‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫موصوفاً باإليثار معرتفاً بالتقصري[[[‪ ،‬زيادة عىل عدم التفاخر بالفت َّوة حتى يف حال إتيانها بحيث‬
‫«يأتيها وال يرى نفسه فيها[[[‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َّ‬
‫الغ�‪:‬‬
‫بمع� خدمة ي‬ ‫الفتوة‬
‫والفتوة من وجهة أخرى تعني خدمة اإلنسان لآلخرين حبّاً فيهم‪ ،‬من دون أن ينتظر منهم جزا ًء‬
‫عىل ذلك‪ ،‬أو حتى أن يبادلوه الخدمة عىل ما ق َّدمه لهم‪ ،‬ويف ذلك يقول اإلمام القشريي‪« :‬الفت َّوة‬
‫أ ّن يكون العبد ساعياً أبدا ً يف أمر غريه»[[[‪ .‬وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الشبهي(ت قبل‬
‫حسن الخلق وبذل املعروف»[[[‪.‬‬ ‫‪ 360‬هـ)‪« :‬الفت َّوة ُ‬
‫كل أحد يف القيامة‬
‫وهذا الخلق الراقي وبهذا املعنى» ال يكون كامله إالَّ لرسول الله‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫يقول نفيس نفيس‪ ،‬وهو‪ ‬يقول‪ :‬أ ّمتي أ ّمتي»[[[‪.‬‬
‫ن‬
‫بمع� الكرم والجود‪:‬‬ ‫الفتوة‬
‫والفت َّوة تشري أيضاً إىل معاين السخاء والكرم والجود‪ ،‬فيكون صاحبها كرمياً مع جميع مخلوقات‬
‫ويل أو كافر»[‪ .[[1‬بل إ َّن من الفت َّوة أن‬
‫بي أن يأكل عنده ٌّ‬
‫قصدَهُ [‪ ،[[1‬وال مي ّيز» ْ‬
‫الله‪ ،‬فال يحتجب ع َّمن َ‬
‫يفعل صنائع وال ير ِّددها عند من صنعها معه[‪.[[1‬‬
‫َص ِ‬
‫ص األنبياء أن مجوس َّياً نزل ضيفاً عىل س ّيدنا إبراهيم‪ ،‬فاشرتط عليه سيدنا‬ ‫وقد جاء يف ق َ‬
‫املجويس هذا الطلب وانرصف‪ .‬فأوحى الله تعاىل إليه أ ْن‬
‫ُّ‬ ‫إبراهيم أن ال يطع َمه إالَّ إذا أسلم‪ .‬فرفض‬

‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪.261‬‬


‫[[[‪ -‬أبو العال عفيفي‪ :‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬ص‪. 41‬‬
‫[[[‪ -‬ابن املعامر البغدادي‪ :‬كتاب الفتوة‪ ،‬ص ‪.155 -154‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬طبقات الصوفية‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫[[[‪ -‬أبو العال عفيفي‪ :‬املالمتيَّة والصوفيَّة وأهل الفت ّوة‪ ،‬ص‪41‬‬
‫[[[‪ -‬ابن املعامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت َّوة‪ ،‬ص ‪.155-154‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪.260‬‬
‫[[[‪ -‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬طبقات الصوفيَّة‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪.261‬‬
‫[‪ -[[1‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪.263‬‬
‫[‪ -[[1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.262‬‬
‫بترصف)‪.‬‬
‫[‪ -[[1‬أبو عبد الرحمن السلمي‪ :‬املقدِّمة يف التص ٌّوف‪ ،‬ص ‪ُّ (48‬‬

‫‪21‬‬
‫المحور‬

‫يا إبراهيم منذ خمسني سنة نُطعمه عىل كُفره‪ ،‬فلو ناولتَه لقم ًة من غري أن تطالبه بتغيري دينه؟‬
‫املجويس عن السبب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فمىض سيدنا إبراهيم‪ ،‬عىل أثَرِه‪ ،‬حتى أ ْدركه واعتذر إليه‪ .‬فسأله‬
‫فذكر له القصة‪ ،‬فأسلم املجويس[[[‪.‬‬
‫ومام َر َوى عاصم بن ضمرة[[[¨عن فت ّوة أمري املؤمنني اإلمام س ِّيدنا عيل‪ ،‬أنه دخل عليه‬
‫ضيف وال‬
‫ٌ‬ ‫يل‬
‫يل‪ ،‬ومل يَ ِر ْد ع َّ‬ ‫يوماً فوجده يبيك‪ .‬فقال‪ :‬ما يبكيك يا أمري املؤمنني؟ قال‪َ :‬سب ٌع ْ‬
‫أتت ع َّ‬
‫سائل[[[‪.‬‬
‫ٌ‬
‫بمع� تعظيم المخلوقات ت‬
‫وس� عيوبــهم‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫الفتوة‬
‫ومن هذه الزاوية ع َّرفها بعضهم بأنَّها «ال ِتامس امل َعا ِذير ِعند رؤية القَبيح إذا ص َدر عن الغَري»[[[‪.‬‬
‫وهي تشري إىل االرتقاء من سرت عيوب األحباب إىل سرت عيوب األعداء‪ ،‬بحيث «تسرت عيب عد ِّوك‪،‬‬
‫كام تسرت عيب نفسك»[[[‪.‬‬
‫حيك أن رجالً ع َق َد ال ِقران عىل امرأ ٍة‪ ،‬ولكن قبل الدخول عليها‪ ،‬أصيبت بدا ِء‬ ‫ويف هذا السياق ُ‬
‫الجِدري‪ .‬فهاله أمرها وأشفق عليها‪ .‬وحتى ال يجرح مشاعرها و يكشْ َف عيبها‪ ،‬أشاع بني الناس أنه‬
‫رسه إالَّ عندما ماتت املرأة‪ ،‬بعد‬ ‫أُصيب مبرض يف برصه‪ ،‬ثم أشاع أنه َع ِمي‪ ،‬و ُزف ْ‬
‫ّت إليه‪ ،‬ومل يبح ب ِّ‬
‫يت ح َذ َر‬
‫رصف فقال‪ :‬مل أ ْع َم ولكن تعا َم ُ‬‫عرشين سنة من العرشة الط ّيبة معها‪ .‬فلام ُسئل عن هذا الت ُّ‬
‫أن تحز َن[[[‪.‬‬
‫ن‬
‫بمع� مخالفة النفس‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الفتوة‬
‫كل حظوظها‪ .‬ولذا‬ ‫ومن معاين الفت ّوة ما يحيل إىل مجاهدة النفس ومخالفتها‪ ،‬وتطهريها من ِّ‬
‫فت بأنَّها «احتقار النفس‪ ،‬وتعظيم حرمة املسلمني»[[[‪ .‬وقيل عنها إنَّها‪« :‬فضيلة تأتيها وال ترى‬
‫ُع ِّر ْ‬
‫خصام لربّك عىل نفسك»[[[‪ .‬وذهب بعضهم ‪ -‬تأكيدا ً عىل هذا‬ ‫ً‬ ‫نفسك فيها»[[[‪ .‬وهي «أن تكون‬
‫كل إنسانٍ نفسه األمارة‬
‫وصنم ِّ‬
‫املفهوم‪ -‬إىل أ َّن الفتى من ك َّس الصنم‪ ،‬كام فعل سيدنا إبراهيم‪َ .‬‬
‫بالسوء‪« .‬فمن خالف هواه فهو فتًى يف الحقيقة»[‪.[[1‬‬

‫رصف)‪.‬‬ ‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪( 262‬بت ُّ‬


‫ف سنة ‪74‬ه‪.‬‬
‫[[[ عاصم بن ضمرة السلويل‪ ،‬صدوق حسن الحديث‪ ،‬روى عن سيّدنا عيل ريض الله عنه‪ .‬عاش يف الكوفة‪ .‬تو ّ‬
‫¨‬

‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت ّوة‪ ،‬ص‪( 157‬بترصف)‬


‫[[[‪ -‬أبو العال عفيفي‪ :‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬ص‪. 41‬‬
‫[[[‪ -‬ابن املعامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت َّوة‪ ،‬ص ‪.155 ،154‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشريية‪ ،‬ص‪(.263‬بترصف)‬
‫[[[‪ -‬أبو نعيم األصفهاين‪ :‬حلية األولياء وطبقات األصفياء‪ ،‬ج‪ 10‬ص ‪.381‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص‪.262‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.261‬‬
‫[‪ -[[1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.261‬‬

‫‪22‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫تطور حركة َّ‬


‫الفتوة يف التاريخ اإلساليم‪:‬‬ ‫‪ُّ .2‬‬

‫كانت الفت َّوة ‪ -‬كام أوردنا سابقاً‪ -‬متثّل جامع الفضائل واألخالق‪ ،‬وكان للصوف َّية الدور األبرز يف‬
‫يل بن أيب طالب‪‬‬ ‫ترسيخها‪ ،‬تنظريا ً ومامرسة‪ ،‬بحيث أوجدوا لها أصالً وس َندا ً يتَّصل باإلمام ع ٍّ‬
‫[[[‬

‫يف إالَّ إذا ات َّصف بها‪.‬‬


‫و َع ّدوها فضيلة ال يكتمل سلوك الصو ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل من‬‫يف‪ ،‬يتن َّعم بها أصحابها‪ ،‬وينتفع بهم ُّ‬ ‫وهكذا استم َّرت هذه الفضيلة‪ ،‬يف ثوبها الصو ِّ‬
‫ب فيها سوس االنحراف‪ ،‬فا َّدعاها قو ٌم ليسوا من أهلها‪ .‬وذلك أنه مع نهاية‬ ‫يحيطون بهم‪ ،‬إىل أن َد ّ‬
‫القرن الثاين للهجرة‪ ،‬وبعد أن كانت الفت ّوة سلوكاً راقياً نُخبويّاً‪ ،‬نشأت يف املقابل لها‪ ،‬فُت ّو ٌة أخرى‬
‫العبة باغية تدين بالشطارة وال َعيَّارة[[[‪ ،‬لها أتباع أكرثهم من الرعاع الن ّهابة الثائرين عىل املجتمع‬
‫لكل متم ِّرد أثيم وقاطع طريق لئيم‪ ،‬وخُلقاً‬‫والدولة[[[‪ ،‬فانحرفت عن مسارها القويم‪ ،‬وصارت وصفاً ِّ‬
‫لكل راغب يف الدنيا متش ِّوق إىل اللَّهو واملتعة[[[‪ .‬وباتت ثقاف ُة رشب الخمر واأللعاب والغناء‬ ‫ِّ‬
‫والتشطّر واإلرهاب‪ ،‬هي التي تطبع صفات الفت َّوة‪ ،‬مع يشء من الصفات الحميدة األصليَّة كالوفاء‬
‫والنجدة والسخاء[[[‪.‬‬
‫وظهر مجرمون متم ِّردون‪ ،‬يزعمون الفت َّوة‪ ،‬وهم ناقمون عىل الناس‪ ،‬ال يخضعون لقانون‪ ،‬وال‬
‫كل من يخرج عىل املِلّة‪ ،‬ويتباهون بقتل الرشطة‪ ،‬ويتفاخرون‬ ‫يرتدعون برشع‪ ،‬فكانوا يُعينون َّ‬
‫كل من يتعاطى عظائم‬ ‫بالخروج عن ال ُوالة الذابِّني عن حرمة املسلمني‪ ،‬بل تجدهم يثنون عىل ِّ‬
‫جانب تلك‬
‫ُ‬ ‫حق‪ ،‬ويعتربون من يُ‬
‫والتلصص عىل أموال الناس‪ ،‬والقتل بغري ّ‬ ‫ُّ‬ ‫األمور من ال ِعيارة‬
‫األعامل‪ ،‬جباناً وبخيالً[[[‪.‬‬
‫ومم ُروي عن سلوك َّياتهم املشينة أ َّن بعضاً منهم كانوا يأتون قرب أيب الهندي غالب بن عبد‬
‫َّ‬
‫رض ِمي شعراء الدولتني‪ ،‬األمويَّة والعباس َّية‪ ،‬وأ ّول من استفرغ‬
‫القدوس (ت ‪180‬هـ) وهو من ُمخ َ‬
‫شعره يف وصف الخمر يف اإلسالم‪ ،‬فيرشبون الخمر ويصبُّون القدح إذا وصل إليه‪ ،‬عىل القرب[[[‪.‬‬
‫أ َّما يف القرن الثالث للهجرة فقد انغمس من ي َّدعون الفت َّوة‪ ،‬يف الرذائل و مفاسد األخالق إىل‬

‫[[[‪ -‬مصطفى جواد‪ :‬مقدِّمة كتاب الفت َّوة البن معامر البغدادي‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫لِّ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫الذي‬ ‫هو‬ ‫الرجال‪:‬‬ ‫من‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫وال‬ ‫والرسقة‪.‬‬ ‫ل‬‫و‬‫ُّ‬ ‫التس‬ ‫من‬ ‫واالكتساب‬ ‫[[[‪ -‬العيارة ‪ :‬باإلنكليزيَّة ‪)Vagrancy‬‏) وهي إحدى أحوال الت ُّ‬
‫رشد‬
‫ج ُرها‪.‬‬‫نفس ُه وهَواها ال يرد ُعها وال يز ُ‬
‫َ‬
‫رصف)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬مصطفى جواد‪ :‬مقدِّمة كتاب الفت َّوة البن معامر البغدادي‪ ،‬ص‪(13‬بت ُّ‬
‫رصف)‪.‬‬ ‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 13‬بت ُّ‬
‫رصف)‪.‬‬ ‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪(14‬بت ُّ‬
‫رصف)‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪(.290‬بت‬ ‫‪-‬‬ ‫ص‪289‬‬ ‫ص‬ ‫ة‪،‬‬‫و‬‫َّ‬ ‫الفت‬ ‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬

‫‪23‬‬
‫المحور‬

‫أذقانهم [[[‪ ،‬فلم يختلفوا فيام يأتون به من قبائح األفعال عن طبقة الصعاليك يف الجاهليَّة[[[‪.‬‬
‫وما إن دخل القرن الرابع للهجرة‪ ،‬حتى صار لفظ الفتى والفت َّوة يقابالن الشاطر والشطَارة‪.‬‬
‫وصار البعض منهم يقطعون الطريق ويقتلون وينهبون‪ .‬وت ْذكُر الرواياتُ أ َّن الفيلسوف أبا نرص‬
‫ني‪ ،‬وهو يف طريقه إىل عسقالن‪،‬‬ ‫الفارايب(‪260‬هـ‪339 -‬هـ) قُتل عىل أيديهم عن ُعم ٍر يناهز الثامن َ‬
‫سيف الدولة الحمداين‪ ،‬و ُدفن بظاهر دمشق[[[‪.‬‬ ‫ف ُن ِق َل إىل دمشق وصلَّ عليه ُ‬
‫ويف أوائل القرن الخامس للهجرة ظهرت يف البالد الشاميَّة فت ّو ٌة يُعرف أصحابها باألحداث‬
‫والواحد منهم الحدث‪ ،‬وهو مرادف للفتى‪ .‬وأشهرهم أحداث مدين ُة حلب‪ .‬وقد تدخَّل هؤالء يف‬
‫الحياة السياس َّية طلباً لل ِّرياسة‪ ،‬وشاركوا يف الحروب والفنت‪ ،‬وكانوا ينرصون أمريا ً ويخذلون آخر[[[‪.‬‬
‫مم كانوا عليه من فساد األخالق‪ ،‬فإ َّن قوماً منهم قليلني كانوا عىل جانب كبري من‬ ‫ولكن بالرغم َّ‬
‫الثقافة األدب َّية والدين َّية والظرافة[[[‪.‬‬
‫وقد شاعت الفت َّوة بني املامليك يف القاهرة‪ ،‬و ُهم الذين حاربوا خالل الحروب الصليب َّية‬
‫األخرية‪ ،‬كام شاعت أيضاً يف األندلس‪ .‬وال يُستبعد أن يكون نظام الفروس َّية (الفت َّوة) الذي نشأ يف‬
‫اإلقطاعي‪ ،‬قد استم َّد جذوره من اتصال الشعوب األوروب َّية بالعرب‬
‫ِّ‬ ‫ظل النظام‬
‫أوروبا الغرب َّية يف ِّ‬
‫املسلمني[[[‪ ،‬فإ َّن نظام الفروس َّية(الفت َّوة) مل يظهر عند األوروبيني إالَّ زمن الحروب الصليب َّية‪،‬‬
‫وقد أستفادوا منه فائدة كربى حيث نقلهم من مجتمعات متخلِّفة تعاين من ظلم اإلقطاعيني ومن‬
‫الحروب املستم َّرة‪ ،‬إىل حالة من املدن َّية يسود فيها االستقرار والسلم والخصال الحميدة كالنجدة‬
‫يف الحروب واحرتام املرأة [[[‪.‬‬
‫ومن الالَّفت لالنتباه أ َّن الفروس َّية (‪ )La chevaleri‬بأوروبا يف العصور الوسطى‪ ،‬كانت عبارة‬
‫عن مجموعة من املواقف األخالق َّية واملامرسات االجتامع َّية الرضوريَّة للفروس َّية كالوالء والكرم‬
‫والتفاين والشجاعة[[[‪ ،‬وقد أصبحت ظاهرة ثقاف َّية وعسكريَّة‪ ،‬وكان أقىص تط ُّورها يف عرص الفروس َّية‬
‫يك بني القرنني الثاين عرش والخامس عرش‪ ،‬وهي فرتة تط ُّور الحمالت الصليبيَّة[[[‪.‬‬ ‫الكالسي ِّ‬

‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.22‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪27‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ ،28‬ص ‪.37‬‬
‫[[[‪ -‬مصطفى جواد‪ :‬مقدِّمة كتاب الفت َّوة‪ ،‬البن معامر البغدادي‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫مؤسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة ‪2012،‬م‪ ،‬ص‪.54‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد أمني‪ :‬الصعلكة والفت َّوة يف اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫رصف)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬الصفحات‪( .54-40-39،‬بت ُّ‬
‫)‪[8] .  Jean Flori, Chevaliers et chevalerie au Moyen Âge, Hachette, Paris, 1998, avant-propos‬‬
‫‪[9]. Montserrat Planelles Ivañez, «Les mots de la guerre au Moyen Âge: étymologie, usage et évolution‬‬
‫‪sémantique» in Linguistica, 2019, vol. 58, p.‬‬

‫‪24‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫واستم َّر وجود حركة الفت َّوة حتى عرصنا الحايل‪ ،‬وقد عاينها األستاذ أحمد أمني(‪)1954-1886‬‬
‫مبرص‪ ،‬ويف ذلك يقول‪« :‬كثريا ً ما يكونون (أي الفتيان) حشَّ اشني أو ُس َك ِريَّة عىل ح ِّد تعبريهم‪ .‬وإذا‬
‫جت الحكومة من هذه األحوال‪ ،‬خصوصاً بعد أن دخلها‬ ‫السكْر أفسدوا ما شاءوا‪...‬ثم ض َّ‬‫لعب بهم ُ‬
‫اإلنكليز واجتهدت يف القضاء عىل الفت َّوات‪ ...‬وكان هؤالء الفت َّوات يُس َّم ْون أيضاً البلطج َّية‪ .‬ويف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل واحد منهم «أبا أحمد»‪ ،‬ويف سوريا «قبضايا»»[[[‪.‬‬ ‫اإلسكندريَّة يس َّمى ُّ‬
‫ُقي‪ ،‬فإنَّهم كانوا هم الدعاة إىل الوطن َّية‬
‫خل ٍّ‬ ‫ورغم ما كان عليه أولئك الفُت َّوات من انحراف وفساد ُ‬
‫حل‬
‫حامة للبالد‪ ،‬فقد أتعبوا الفرنسيني م َّدة احتاللهم‪ ،‬وكانوا لهم مصدر قلق واضطراب‪ .‬ومل َّا َّ‬ ‫وال ُ‬
‫كل‬ ‫اإلنكليز مبرص‪ ،‬وعلموا ما فعله أولئك مع الفرنسيني‪ ،‬خطَّطوا للقضاء عليهم فضيَّقوا عليهم َّ‬
‫املسالك‪ ،‬وأذلّوهم بجميع أنواع ِّ‬
‫الذل‪ ،‬حتى زالت هيبتهم[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الفتوة يف حياة آل البيت‪:‬‬ ‫‪ .3‬مظاهر‬
‫خلُق األنبياء‪ .‬فقد كان سيدنا إبراهيم‬
‫بكل تلك املعاين املذكورة‪ -‬هي ُ‬ ‫ال َّ‬
‫شك يف أ َّن الفت َّوة ‪ِّ -‬‬
‫الخليل عليه الصالة والسالم‪ ،‬أبا الفتيان حيث كسَّ األصنام‪ ،‬وأعرض عن األنام‪ ،‬وحني ألقوا به إىل‬
‫فتول الله قضاء حاجته بنفسه[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫النار قال له جربيل هل لك حاجة؟ فقال‪ :‬أما لك فال‪.‬‬
‫و ُروي عن سيدنا رسول الله‪ ‬أنَّه قال‪« :‬لقد كان أخي يوسف أفْتى الفتيان حيث قال‪ :‬إلخوته‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َّ‬
‫ح ِمين‪. »‬‬
‫[[[‬
‫‪‬قال لا تثرِيب عليكم اليوم يغفِر الل لكم وهو أرحم الرا ِ‬
‫ومل تزل الفت َّوة تتَّصل باألنبياء والص ّديقني‪ ،‬وتنتقل منهم حتى وصلت إىل نب ّينا‪ ،‬وهو أفْتى‬
‫كل األنبياء يوم القيامة‪ -‬يقول هو‪ :‬أ َّمتي أ َّمتي‪ .‬فيشتغل بأمر غريه عن‬
‫الفتيان‪ ،‬لكونه ‪ -‬حني يصمت ُّ‬
‫نفسه يف ذلك اليوم املهول[[[‪.‬‬
‫اإلسالمي سنجدها ماثلة بشكل مثري لإلعجاب يف‬
‫ِّ‬ ‫ونحن حينام نتكلَّم عن الفت َّوة يف تاريخنا‬
‫أمئَّة أهل البيت‪.‬‬
‫النبي‪ ‬يوم الهجرة[[[‪.‬‬
‫يل‪ ،‬أنَّه جاد بنفسه عىل فراش ِّ‬
‫فمن فت َّوة سيدنا ع ٍّ‬
‫وقد أظهر ‪ ‬منتهى صفات الفت َّوة أثناء فرتة حكمه التي امت َّدت بني سنتي ‪-41 36‬هـ‪ ،‬ومنها أنَّه‬

‫[[[‪ -‬أحمد أمني‪ :‬الصعلكة والفت َّوة يف اإلسالم ‪ ،‬ص‪.47‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت َّوة‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.92‬‬
‫رصف)‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ص‪(141‬بت‬ ‫ة‪،‬‬‫و‬ ‫َّ‬ ‫الفت‬ ‫كتاب‬ ‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪:‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.142‬‬

‫‪25‬‬
‫المحور‬

‫شيح القايض‪ [[[ª‬ليقيض بينهام‪،‬‬‫اليهودي إىل ُ‬


‫ِّ‬ ‫يهودي عىل درع‪ ،‬وحني حرض مع الرجل‬ ‫ٍّ‬ ‫تخاصم مع‬
‫رصف رشيح الذي كان يناديه بكنيته‪ ،‬بينام كان يخاطب اليهودي‬ ‫أظهر اإلمام‪ ‬عدم رضاه من ت ُّ‬
‫وقلب رحيم‪ ،‬يق ّدر قيمة اآلخر حتى‬
‫ٍ‬ ‫باسمه‪ .‬وهذا االنتصار للخصم ال يصدر إالَّ من نفس عادلة‪،‬‬
‫ولو كان مختلفاً عنه ديناً وعرقاً[[[‪.‬‬
‫وعندما أعلن جامع ٌة من أصحابه الخروج عليه‪ ،‬مل يضمن حياتهم فحسب‪ ،‬حينام ه َّم من‬
‫أصحابه بقتال هؤالء الخوارج‪ ،‬ولكنه ضمن حقوقهم من بيت املال‪ .‬ويف هذا يُر َوى أ َّن مجموعة‬
‫من أصحابه جاءوه ‪ -‬عند تف ُّرق الناس عنه وفرار بعضهم إىل معاوية ‪ -‬طلباً ملا يف يديه من الدنيا‪،‬‬
‫أعط هذه األموال‪ ،‬وفضِّ ْل هؤالء األرشاف عىل املوايل والعجم ومن تخاف‬ ‫فقالوا‪ :‬يا أمري املؤمنني ِ‬
‫عليه من الناس فراره إىل معاوية‪ .‬فقال لهم‪ :‬أتأمروين أن أطلب النرص بالجور‪ ،‬ال والله ما أفعل‪،‬‬
‫لساويت بينهم‪ ،‬وكيف وإمنا هي‬
‫ُ‬ ‫ما طلعت شمس‪ ،‬والح يف السامء نجم‪ ،‬والله لو كان مالُهم يل‬
‫أموالهم[[[‪.‬‬
‫أ َّما مواقفه يف العفو عن ظامليه‪ ،‬فهي ال ت ُع ُّد وال تُحىص‪ .‬فقد ح َّدثنا التاريخ أنَّه يف إحدى‬
‫[[[·‬
‫حروبه مع جيش معاوية‪ ،‬اشت َّد العطش بجيشه‪ ،‬وكان جيش معاوية هو الذي يسيطر عىل رشيعة‬
‫يل وأصحابُه أن يسمحوا لهم بالرشب‪ .‬فقالوا‪ :‬ال والله ال قطرة حتى متوتوا‬ ‫الفرات‪ ،‬فسألهم اإلمام ع ٌّ‬
‫يل‪ ‬عىل جند معاوية حمالت كثيفة حتى أزالهم عن‬ ‫ظمئاً كام مات ب ُن عفَّان‪ .‬فحمل اإلمام ع ّ‬
‫مواقعهم‪ ،‬وسيطر عىل ماء الفرات‪ .‬فصار أصحاب معاوية ال ماء لهم‪ .‬فقال أصحاب اإلمام‪ :‬يا أمري‬
‫املؤمنني ا ْمن ْعهم حتى ميوتوا عطشاً كام منعوك‪ ،‬وبذلك ال حاجة لك بالحرب‪ .‬فقال‪ :‬ال والله‪،‬‬
‫ال أكافئهم مبثل ِفعلتهم‪ ،‬أفسحوا لهم عن بعض الرشيعة ففي ح ِّد السيـف ما يكفي عن ذلك[[[‪.‬‬
‫متجسدا ً يف واقعهم‬
‫ِّ‬ ‫وإذا ما انتقلنا إىل حياة بق َّية األمئَّة‪ ‬وجدنا أ َّن منهج أبيهم وج ّدهم‬
‫الحلم‪ ،‬حتى ُس ّمي‬‫بصورة جليَّة تثري اإلكبار‪ .‬فقد ُعرِف اإلمام الحسن‪ 50 03-( ‬هـ) بفضيلة ِ‬
‫حليم آل البيت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رغيف لقمةً‪ ،‬ويُطعم كلباً‬ ‫وظهرت أسمى آيات الفت َّوة يف أفعاله أنَّه رأى غالماً أسود يأكل من‬
‫إن استحيت منه أن آكل وال‬ ‫أمامه‪ ،‬لقمةً‪ .‬فأخذت ْه الشفقة عليه وقال‪ :‬ما حملك عىل هذا؟ فقال‪ّ :‬‬
‫تربح من مكانك حتى آتيك‪ .‬فذهب إىل س ّيده فاشرتاه‪ ،‬واشرتى‬
‫أطعمه‪ .‬فقال له اإلمام الحسن‪ :‬ال ْ‬
‫‪ [[[ª‬رشيح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي‪ :‬ت ‪ 78‬هـ‪ .‬وهو صحايب‪ ،‬أصله من اليم ‪ ،‬وكان مأموناً يف القضاء‪ ،‬له باع يف األدب‬
‫والشعر‪ ،‬قال عنه اإلمام عيل‪ ": ‬رشيح أقىض العرب"‪ .‬بقي يف القضاء نحو ستني سنة حتى خالفة عبد امللك بن مروان‪.‬‬
‫[[[‪ -‬السيد الصدر‪ :‬أخالق أهل البيت‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.409‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫شب‪.‬‬‫[[[ الرشيعة‪ :‬مورد ُّ‬
‫ال‬ ‫·‬

‫اإلنساين يف اإلسالم‪ ،‬عني للدراسات والبحوث اإلنسانيَّة واالجتامعية ط‪2013 ، 1‬م‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬محمود قمر‪ :‬التسامح واإلخاء‬

‫‪26‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫الحائط(البستان) الذي هو فيه‪ ،‬فأعتقه وملَّكه الحائط[[[‪.‬‬


‫خ َرى‪،‬‬ ‫ف أُذ ِ‬
‫ُن األ ْ‬ ‫إل ِ‬ ‫ف أُذ ِ‬
‫ُن َه ِذ ِه‪َ ،‬وا ْعتَ َذ َر َ َّ‬ ‫َوكان‪ ،‬ريض الله عنه‪ ،‬يقول‪ :‬لَ ْو أَ َّن َر ُ‬
‫جالً شَ تَ َم ِني ِ‬
‫ْت ُع ْذ َرهُ ‪ .‬ويف هذا املعنى أنش َد بعضهم(من الخفيف)‪.‬‬ ‫لَ َق ِبل ُ‬
‫أسا َ‬
‫إليك فــــال ٌن وقعو ُد الفتى عن الضـــيمِ عا ُر‬ ‫قيل يل قد َ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الذنب عندنا االعـــتذا ُر[[[‪.‬‬


‫ِ‬ ‫قلت قد جاءنا فأحدث عذرا ديَّة‬
‫ُ‬
‫ومن عظيم فت َّوته أنه تنازل عن الخالفة لصالح معاوية‪ ،‬وذلك أنَّه مل َّا «سار ُم َعا ِويَة ِم ْن الشَّ ام ِإ َ‬
‫ل‬
‫ح َسن‪ ،‬الْ ِفتْ َنة‪َ ،‬وأَ َّن األ ْمر َع ِظيم‪ ،‬تُ َراق‬ ‫ل ُم َعا ِويَة‪ ،‬فَل ََّم تَقَا َربَا‪َ .‬رأَى اإلمام الْ َ‬ ‫الْ ِع َراق‪َ ،‬و َسا َر ُه َو إِ َ‬
‫حتَّى‬
‫ي َ‬ ‫ض الله َع ْن ُه‪ ،‬أَنَّ ُه لَ ْن ت ُ ْغلَب إِ ْ‬
‫ح َدى الطَّائِ َفتَ ْ ِ‬ ‫خ ِتالف أَ ْهل الْ ِع َراق‪َ ،‬و َعلِ َم‪َ ،‬ر ِ َ‬ ‫ِفي ِه ال ِّد َماء‪َ ،‬و َرأَى اِ ْ‬
‫خ َرى‪ ،‬فَأَ ْر َس َل إِ َ‬
‫ل ُم َعا ِويَة يُ َسلِّم لَ ُه أَ ْمر ال ِْخالفَة»[[[‪.‬‬ ‫يُ ْقتَل أَك َْث األ ْ‬
‫فرأيت الحسن بن عيل ريض‬ ‫ُ‬ ‫«دخلت املدينةَ‪،‬‬‫ُ‬ ‫وقال أحد مبغضيه ويدعى عصام بن املصطلق‪:‬‬
‫ح ْسن منظره)‪ .‬فأثار مني الحسد ما كان‬ ‫الله عنهام‪ ،‬فأعجبني َس ْمتُ ُه(هيئته ووقاره) وحسن ُر َوائِه( ُ‬
‫فبالغت يف شتمه‬
‫ُ‬ ‫ج ُّنه(يخفيه) صدري ألبيه من البغض فقلت‪ :‬أنت ابن أيب طالب؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫يَ ِّ‬
‫رؤوف‪ ،‬ثم قال‪ :‬أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عاطف‬ ‫يل نظر َة‬
‫وشتم أبيه‪ .‬فنظر إ َّ‬
‫َ َ ُ ْ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ ْ َ َُْ ْ ُْ ْ َ ْ ْ‬
‫َ‬
‫الرحيم ‪:‬خ ِذ العفو وأمر بِالعر ِف وأع ِرض ع ِن الجاهِل ِين‪ ‬فقرأ إىل قوله‪ :‬فإِذا هم مب ِصرون‪ ‬ثم‬
‫رتفدتنا أ ْرفدناك‪ ،‬ولو‬‫ّض عليك‪ ،‬أستغف ُر الل َه يل ولك‪ ،‬إنك لو استع ْنتَنا أع َّناك‪ ،‬ولو اس ْ‬ ‫قال يل‪ :‬خف ْ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ّ َُ‬
‫يف الند َم عىل ما فرط مني فقال‪ :‬لا تث ِريب عليكم اليوم يغ ِفر الل‬ ‫فتوسم َّ‬‫ّ‬ ‫اسرتشدتنا أرشدناك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ [[[‬ ‫َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ َّ‬
‫ح ِمين‪ . ‬أم ْن أهل الشام أنت؟‬ ‫لكم وهو أرحم الرا ِ‬
‫ط إلينا يف‬ ‫قلت‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ِ :‬شنش َن ٌة أ ْعرفُها من أخ ِ‬
‫ْزم‪ ،[[[ª‬ح َّياك الله وب ّياك‪ ،‬وعافاك وآداك‪ .‬انبس ْ‬ ‫ُ‬
‫حوائجك وما يعرض لك‪ ،‬تج ْدنا عند أفضلِ ظ ِّنك إن شاء الله‪.‬‬
‫ّلت‬
‫حبت‪ ،‬ووددتُ أنَّها ساخت يب‪ .‬ثم تسل ُ‬‫يل األرض مبا ر ُ‬‫فضاقت ع َّ‬
‫ْ‬ ‫قال عصام بن املصطلق‪:‬‬
‫يل منه ومن أبيه»[[[‪.‬‬‫أحب إ َّ‬
‫ّ‬ ‫منه لواذا ً‪ ،‬وما عىل وجه األرض‬

‫[[[‪ -‬ابن كثري أبو الفداء اسامعيل‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬تحقيق عيل شريي‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ 1988،‬م‪.42 /8 ،‬‬
‫مؤسسة ال ِّرسالة‪ ،‬بريوت ط‪1999 -3‬‬ ‫[[[‪ -‬املقديس عبد الله محمد بن مفلح‪ :‬اآلداب الرشعيَّة‪ ،‬تحقيق شعيب األرناؤوط‪ ،‬وعمر القيّام‪َّ ،‬‬
‫ج‪ ،1‬ص‪319‬‬
‫[[[‪ -‬الصديقي العظيم آبادي محمد أرشف بن أمري‪ :‬عون املعبود رشح سنن أيب داود‪ ،‬دار الكتب العلم َّية ‪ ،‬بريوت ط‪1415 -2‬ه‪11 ،‬ج‪،‬‬
‫ص ‪.127‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.92‬‬
‫الش ْن ِشة (بكرس الشني)‪ :‬العادة والطبيعة‪ .‬قال األصمعي وهذا بيت رجز أليب أخزم الطايئ وهو‪ :‬إن بني ز ّملوين بالدم * ِشنش ٌة أ ْعرفُها‬
‫[[[ ‪ِ ª‬‬
‫من أخزم ‪ .‬وكان أخزم عاقاً ألبيه‪ ،‬فامت وترك بنني عقّوا جدهم ورضبوه وأدموه‪ ،‬فقال ذلك‪ ،‬أي إنهم أشبهوا أباهم يف العقوق‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬القرطبي عبد الله محمد بن أحمد األنصاري‪ :‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب بريوت ‪.351/7 ، 1985 -‬‬

‫‪27‬‬
‫المحور‬

‫أ َّما اإلمام الحسني‪ 3( ‬هـ ‪ 61 -‬هـ) فقد أظهر يوم عاشوراء بكربالء أنبل صفات التسامح‬
‫والفت َّوة‪ .‬ففي صبيحة ذلك اليوم املشؤوم وقف‪ ‬داعياً الله يك يهدي أعداءه إىل طريق الصواب‪،‬‬
‫مم يَ ِن ُّم عن س ُم ِّو نفسه وطيب عنرصه ‪.‬‬
‫رصف مبنتهى قيم الفت َّوة معهم‪َّ ،‬‬
‫حتى ال يأمثوا بسببه‪ .‬كام ت َّ‬
‫التميمي[[[¨ وقف بجيشه البالغ ألف فارس مقابل اإلمام‬
‫ِّ‬ ‫ح َّر ب َن ٍ‬
‫يزيد‬ ‫وقد ذكرت الرواياتُ أ َّن ال ُ‬
‫ح ِّر الظهرية وهم يشكون من العطش‪ ،‬فلام رآه اإلمام وقد أرشف عىل الهالك من ش َّدة‬
‫الحسني يف َ‬
‫العطش‪ ،‬قال لفتيانه‪ :‬اسقــوا القــــو َم‪ ،‬وار ُووهـــم‪ ،‬وارشفـــوا الخيل‪ .‬ففعلوا وأقبلوا ميلؤون‬
‫القصاع والطساس(أواين من النحاس لغسل اليدين) من املاء ث َّم يدنونها من الخيل ويرشفوها‬
‫ترشيفاً حتى سقوها عن آخرها[[[‪.‬‬
‫رش املاء عليها ألن الخيل‬
‫والغريب أ َّن اإلمام مل يأمر بسقي الخيل فحسب‪ ،‬بل برتشيفها‪ ،‬أي ّ‬
‫ح ِّر بن يزيد هو املاء‬
‫وربا كان ذلك املاء الذي سقى به جيش ال ُ‬
‫ال ترتوي إالَّ إذا فُعل لها ذلك‪ّ .‬‬
‫االحتياطي الذي تسبَّب نفا ُده يف عطش اإلمام الحسني‪ ‬وأهله‪ .‬وهذه الصورة العجيبة من صور‬
‫َّ‬
‫الفت َّوة ال نجد لها مثيالً يف قواميس حقوق اإلنسان وال يف الرصاعات الحرب َّية بني الجيوش‪ .‬ففي‬
‫كل طَ َرف أن يستفيد من ِّ‬
‫أي فرصة لإليقاع بخصمه‪ ،‬وهزميته‪ ،‬و لكن اإلمام‬ ‫الحروب عاد ًة ما يحاول ُّ‬
‫الحسني مل يفعل ذلك‪ ،‬وإمنا سار مع القوم سرية ج ِّده وأبيه من العفو والتسامح‪ .‬ومع ذلك فإ َّن‬
‫القوم مل يبادلوه باإلحسان إحساناً‪ ،‬بل حارصوه هو َ‬
‫وآل بيته ومنعوا عنهم املاء‪ ،‬حتى استشهدوا‬
‫وهم يحرتقون عطشاً‪.‬‬
‫ومن فت َّوة اإلمام جعفر الصادق‪148 - 80(‬هـ) أ َّن رجالً كان نامئاً باملدينة‪ ،‬وملا انتبه ظ َّن‬
‫(كيس ت ُجعل فيه النقود ويُش ُّد عىل الوسط)‪ .‬فرأى اإلما َم جعفر الصادق‪ ‬قامئاً‬
‫ٌ‬ ‫أنَّه ضيع ِه ْميَانَ ُه‬
‫يصل‪ ،‬تعلّق به‪ .‬فقال له اإلمام‪ :‬ما شأنك؟ فقال‪ِ :‬همياين ُ‬
‫سق وليس عندي س َو َاك‪ .‬فقال له اإلمام‬ ‫ّ‬
‫جعفر‪ :‬كم يف هميانك؟ فقال‪ :‬ألف دينار‪ .‬فقال له اإلمام‪ :‬أ ْذ َه ُ‬
‫ب إىل البيت حتى أعطيَك ألف دينار‪.‬‬
‫بقصته‪ .‬فقالوا‪:‬‬ ‫فانطلق معه‪ ،‬فأعطاه ألف دينار خريا ً من ذهبه‪َّ .‬‬
‫فلم جاء الرجل إىل رفقته أخربهم َّ‬
‫هميانك عندنا‪ .‬فسأل الرجل عن اإلمام‪ ،‬فأخربوه بأنَّه ابن بنت رسول الله‪ .‬فجاء إليه ووقع يقبِّل‬
‫رجليه‪ ،‬ويعتذر إليه‪ .‬ور َّد األلف الدينار عليه‪ .‬فلم يقبلها منه اإلمام‪ ،‬وقال له‪ :‬ما أخرجناه لله فال‬
‫يرجع إلينا»[[[‪.‬‬

‫[[[¨ الحر بن يزيد الرياحي‪ :‬أحد زعامء أهل الكوفة وساداتها‪ .‬كان رشيفاً يف قومه جاهليّ ًة وإسالماً‪ ،‬وقد أرسله عبيد الله بن زياد لرياقب‬
‫ُتل معه بكربالء سنة ‪61‬ه‬‫تح ُّركات اإلمام الحسني‪ ،‬وقد ندم يف اللَّحظات األخرية يف يوم عاشوراء‪ ،‬فالتحق بركب اإلمام الحسني‪ ،‬وق َ‬
‫ح َّمد بَا ِقر‪ :‬بحار األنوار‪ ،‬تحقيق محمد الباقر البهبودي‪ ،‬ط‪1983 ،2‬م‪ ،‬ج‪ ،44‬ص‪. 376‬‬ ‫[[[‪ -‬املجليس أبو عبد الله ُم َ‬
‫[[[‪ -‬ابن معامر البغدادي‪ :‬كتاب الفت ّوة‪ ،‬ص ص ‪.264 -263‬‬

‫‪28‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫جاد(‪ 95-38‬هـ)‪،‬‬ ‫ومن النامذج املثىل يف مدرسة آل البيت نذكر اإلمام عيل زين العابدين الس َّ‬
‫الذي كان غصناً من أغصان الشجرة النبويَّة العظيمة‪ ،‬امل ُل ِقية بظاللها عىل رؤوس الخلق إىل أبد‬
‫اآلبدين‪ .‬فقد كان يويص أتباعه بأن يتواصلوا مع من يختلف معهم‪ ،‬وأن يُعطوهم حقوقهم‪ ،‬وأن‬
‫يتج َّنبوا التع ّدي عليهم‪ ،‬وعدم إظهار ما يوغر صدورهم‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫هذا من دون أن نغفل ذكر اإلمام الرضا‪203-148( ‬هـ) الذي عبَّ يف وص َّيته ألحمد بن أيب‬
‫نصري البيزنطي‪ ،‬عن أسمى معاين الفت َّوة‪ ،‬بقوله‪« :‬وإياك ومكاشفة الناس‪ ،‬فإنَّا أهل البيت ِ‬
‫نصل م ْن‬
‫قطعنا‪ ،‬ونحسن إىل من أساء إلينا‪ ،‬فرنى والله يف ذلك العاقبة الحس َنةَ»[[[‪.‬‬
‫غيض من فيض‪ ،‬وقطر ٌة من بحر‪ ،‬فالفت َّوة نشأت فيهم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫إ َّن ما ذكرناه عن فت َّوة آل البيت ما هو إالَّ‬
‫وأرشقت بسناها ‪-‬عىل الناس‪ -‬من مرابعهم‪ ،‬واليشء من َمأتا ُه ال يُستغرب‪ .‬ولو أردنا بسط الحديث‬
‫عن مكارمهم‪ ،‬وجميل خصالهم الحتجنا إىل مؤلَّفات‪ ،‬وإمنا كانت اإلشارة إليهم‪ ،‬مؤانسة للقارئ‪،‬‬
‫وتأسياً ب ُ‬
‫حسن أخالقهم‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫الصوفية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الفتوة عند‬
‫التاريخي حول تط ُّور حركة الفت َّوة‪ ،‬ننتقل إىل الحديث عن بعض مامرسات هذه‬
‫ِّ‬ ‫بعد هذا العرض‬
‫الفضيلة لدى الصوفيَّة‪ .‬ولتكن بدايتنا مع الشيخ أحمد الرفاعي[[[ ق ِّدس الله رسُّه‪.‬‬
‫أ‪ .‬الفت َّوة عند الشيخ أحمد الرفاعي‪:‬‬
‫اشتهر بأحوال من الفت َّوة‪ ،‬ما يبهر العقول‪ ،‬حيث كانت تعرتيه حاالت من التواضع واالنكسار ال‬
‫لست مبق َّدم عىل‬
‫ُ‬ ‫لست بشيخ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يرى فيها نفسه إالَّ ع ْبدا ً ذليالً‪ ،‬فيخاطب مريديه قائالً‪ْ :‬‬
‫“أي سادة‪ ،‬أنا‬
‫أن شيخ عىل أحد‬
‫شتُ مع فرعون وهامان إن خطر يل ّ‬ ‫ح ِ‬
‫هذا الجمع‪ ،‬لست بواعظ‪ ،‬لست مبعلِّم‪ُ .‬‬
‫من خلق الله‪ ،‬إالَّ أن يتغ َّمدين الله برحمته فأكون كآحاد املسلمني”[[[‪.‬‬

‫وكان من ش َّدة تواضعه يشعر بأفضل َّية مريده عليه‪ ،‬فيقول مخاطباً إيَّاه‪ْ :‬‬
‫“أي أخي‪ ،‬أنت أحسن‬
‫[[[‬
‫حم ِلك ِذلَّة التلقّي‪ ،‬وأنا أخذَتني سكرة التعليم”‪.‬‬
‫م ّني ل َ‬
‫الكل ازدحاماً عظيامً‪،‬‬
‫كل باب‪ ،‬فرأيت عىل ِّ‬
‫ولطاملا كان يقول رحمه الله‪“ :‬دخلت عىل الله من ِّ‬

‫[[[‪ -‬العاميل ياسني حسني عيىس‪ :‬أصول التعايش مع اآلخر‪ ،‬دار الهادي‪ ،‬ط‪ 2008 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫أشعري العقيدة‪ .‬وكان ريض الله‬
‫َّ‬ ‫شافعي املذهب‬
‫َّ‬ ‫مؤسس الطريقة الرفاعيَّة‪ ،‬ولد سنة ‪ 512‬هـ يف العراق‪ .‬كان‬
‫[[[‪ -‬اإلمام أحمد الرفاعي ِّ‬
‫رضب به املثل يف الفت َّوة والتواضع واالنكسار ولني الجانب والتسامح وال َّرحمة بالناس والشفقة عليهم‪ّ .‬‬
‫توف سنة ‪578‬ه‪.‬‬ ‫عنه يُ َ‬
‫[[[‪ -‬الرفاعي أحمد‪ :‬الربهان املؤيّد‪ ،‬تحقيق إبراهيم الرفاعي‪ ،‬دار آل الرفاعي‪ ،‬القاهرة‪ 1998 ،‬م‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.20‬‬

‫‪29‬‬
‫المحور‬

‫رب من‬
‫وحصلت عىل مطلويب‪ ...‬وأعطاين ّ‬
‫ُ‬ ‫فوصلت‬
‫ُ‬ ‫فجئته من باب ِّ‬
‫الذل واالنكسار فرأيته خالياً‪،‬‬
‫ني رأت‪ ،‬وال أذ ٌن سمعت‪ ،‬وال خطر عىل قلب برش من أهل هذا العرص”[[[‪.‬‬
‫فضله ومواهبه ما ال ع ٌ‬
‫إ َّن طُرق الوصول إىل الله كثرية يف دائرة الرشيعة اإلسالم َّية‪ ،‬ولكن اإلمام الرفاعي يُق ُّر بأنَّه مل‬
‫يجد طريقاً “ أقرب وأوضح وأيرس وأصلح وأرجى من طريق َْي ِّ‬
‫الذل واالنكسار”[[[‪.‬‬
‫األخالقي‪ ،‬أبعادا ً إنسانيَّة عميقة املعنى‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وال َّ‬
‫شك يف أ َّن هذه املبادئ تتض َّمن‪ ،‬إىل جانب بُعدها‬
‫وذلك أ َّن ما نراه من رصاع بني البرش إنَّ ا باعثُه ترفُّع اإلنسان عىل أخيه اإلنسان‪ ،‬وذلك ما حذَّر منه‬
‫اإلمام الرفاعي يف قوله‪ ...“ :‬ال تز ُع ْم أخا الحجاب[[[ أ َّن أخاك اإلنسان اآلخر‪ ،‬عبدك بدريهامتك‪،‬‬
‫كل من ساواك‬
‫بوقتك‪ ،‬بحظّك‪ ،‬بشأنك‪ ،‬مبا أنت فيه من أمرك‪ .‬هو فوق ذلك‪ ،‬وأنت دون ذلك‪ُّ .‬‬
‫برتكيب الهيكل‪ ،‬أو ما�ثَلَك بالصورة وال َّنسق فهو أخوك بجنسيَّتك‪ ،‬ورشيكك بآدميَّتك‪ ،‬ال هو‬
‫مملوكك‪ ،‬وال أنت مالكه”[[[‪.‬‬
‫هذا عن أبناء الجنس الواحد من البرش‪ ،‬أ َّما عن األجناس األخرى من الكائنات‪ ،‬فليس لإلنسان‬
‫ح ُق َر أو َعظُ َم‪ ،‬وأنت ملحق‬
‫كل من خالفك برتكيبك فهو ملحق بجنسه‪َ ،‬‬
‫الحق يف احتقارها أل َّن “ َّ‬
‫ُّ‬
‫بجنسك‪ .‬فاعرف ح َّدك”[[[‪.‬‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬دعا الشيخ الرفاعي مريديه إىل أن يتحلَّوا بالفت َّوة‪ ،‬فيوقِّروا أصناف الكائنات‬
‫وسفليَّ ٍ‬
‫ات[[[‪ .‬وال يقف الح ُّد عند توقريها‬ ‫ات‪ُ ،‬علويَّ ٍ‬
‫ات ُ‬ ‫بارزات‪ ،‬ومطويَّ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ح‪ ،‬وجامدات‪،‬‬
‫من ذوات أروا ٍ‬
‫خلْق‬ ‫فحسب‪ ،‬بل املطلوب أيضاً منهم إيصال النفع إليها قدر االستطاعة “ لقوله َّ‬
‫صل الله عليه‪ :‬ال َ‬
‫كلُّهم عيال الله‪ ،‬فأحبُّهم إىل الله أنف ُعهم لعياله”[[[‪.‬‬
‫رب اإلمام الرفاعي مريديه‪ ،‬وكذلك‬
‫ين‪َّ ،‬‬
‫هكذا‪ ،‬وبهذه اللُّغة املتسامية‪ ،‬وعىل هذا النهج الروحا ِّ‬
‫الرتبوي باملوازين‬
‫َّ‬ ‫كل شيوخ التص ُّوف عرب العصور‪ .‬وإن جاز لنا أن نقيس هذا الخطاب‬ ‫فعل ُّ‬
‫مم تنادي به املواثيق الدول َّية‪ ،‬من احرتام حقوق اإلنسان وال ِّرفق‬
‫املعارصة‪ ،‬لوجدناه أعمق بكثري َّ‬
‫سيايس‪ ،‬كحال تلك‬
‫ٌّ‬ ‫دنيوي أو‬
‫ٌّ‬ ‫بالحيوان‪ ،‬وتوقري البيئة‪ .‬ألنَّه خطاب ال ينحرص يف حدود ما هو‬

‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.92 - 91‬‬


‫الخاص ألهل االختصاص‪ ،‬ص‪.57‬‬‫ُّ‬ ‫[[[‪ -‬الرفاعي أحمد‪ :‬النظام‬
‫[[[‪ -‬أي املحجوب عن الله ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.11 -10‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫فأحب‬
‫ُّ‬ ‫ل الله عليه وسلَّم قال‪ (( :‬الخلق كلُّهم عيال الله‬
‫َّ‬ ‫ص‬ ‫الله‬ ‫رسول‬ ‫أن‬ ‫معجمه‬ ‫يف‬ ‫الطرباين‬ ‫وروى‬ ‫‪.67‬‬ ‫ص‪-66‬‬ ‫ص‬ ‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪،‬‬
‫الخلق إىل الله أنف ُعهم لعباده))‪ .‬أنظر‪ :‬الطرباين أبو القاسم سليامن بن أحمد‪ ،‬املعجم الكبري‪ ،‬تحقيق حمدي عبد املجيد‪ ،‬مكتبة ابن تيم َّية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ج‪ ،10‬حديث رقم ‪.10033‬‬

‫‪30‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫املواثيق الدوليَّة‪ ،‬بل إنَّه يتع َّداها ليصبح واجباً دينيّاً‪ ،‬ومطلباً روحيَّاً عىل املسلم بوج ٍه عا ٍّم‪ ،‬وعىل‬
‫أخص‪ ،‬أن يؤ ّديَه تجاه الكائنات بأكملها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يف بوجه‬
‫الصو ِّ‬
‫التعصب والعنف والغل ِّو والتط ُّرف‪ ،‬ويتَّجه‬
‫ُّ‬ ‫يتبي لنا أ َّن التص ُّوف ينأى بطبيعته عن أخالق‬
‫وبهذا َّ‬
‫اتجاهاً رحيامً تسامح ّياً‪ ،‬تتواصل فيه ذات العارف ببارئها‪ ،‬وبسائر الكائنات يف هذا الوجود يف فضاء‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫رحيب يفيض مبعاين الفت َّوة واملح َّبة وال َّرحمة والتسامح‪.‬‬
‫ب‪ .‬الفت َّوة عند الشيخ محي الدين بن عريب‪:‬‬
‫من األشعار الجميلة التي أنشدها ابن عريب يف مدح الفت َّوة قوله من(البسيط)‪:‬‬
‫ِ‬
‫والنــاس‬ ‫ُمق ّدماً عـــند ِّ‬
‫رب الناس‬ ‫ُّ‬
‫ينـــفك صاحبــــُـها‬ ‫إ َّن الفت َّوة ما‬
‫ِ‬
‫الراس‬ ‫فحيث ما كان محموالً عىل‬ ‫إ َّن الفتى من لــــــه اإليثار تحلي ًة‬

‫لكـــونه ثابـــتاً كالشام ِ‬


‫خ الـرايس‬ ‫ما إ ْن تزلزلــــه األهــوا ُء بق َّوتــها‬
‫ِ‬
‫والباس[[[‪.‬‬ ‫حرب‬
‫املكارم حال ال َ‬
‫ِ‬ ‫عن‬ ‫ال حزن يحك ُمه ال خــــوف يشغلُه‬
‫حق الغري إيثارا ً عىل نفسه[[[‪ ،‬والفتى هو املايش يف األمور‬
‫والفت َّوة عنده هي أن يعمل املرء يف ِّ‬
‫حق نفسه‪ ،‬لكن بأمر ربّه[[[‪.‬‬
‫حق غريه ال يف ِّ‬
‫بأمر غريه ال بأمر نفسه‪ ،‬ويف ِّ‬
‫إلهي قبل أن تكون نعتاً برشيّاً‪ ،‬فإنَّه سبحانه تص َّدق علينا بالوجود واملعرفة به‪ ،‬وما َم ّن‬
‫نعت ٌّ‬
‫وهي ٌ‬
‫علينا بذلك‪ .‬ورشح هذا أنَّه أوجد العالَم من أجلِ العالَم‪ ،‬إيثارا ً له‪ ،‬ومل ينفرد هو بالوجود‪ ،‬وهذا عني‬
‫الفت َّوة‪ .‬ثم علم سبحانه وتعاىل أ َّن االمتنان يقدح يف النعمة عند املن َعم عليه(املخلوقات)‪ ،‬فسرت‬
‫ون‪ .[[[‬فأظهر أنَّه خلقهم من أجله ال‬ ‫ت الْج َّن َوالْإن ْ َس إ ّلَا ل َِي ْع ُب ُ‬
‫د‬ ‫بقوله‪:‬و َما َخلَ ْق ُ‬
‫َ‬ ‫ذلك إيثارا ً لهم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل ذلك ليسرت صنيعه الجميل يف حقنا[[[‪.‬‬ ‫من أجلهم‪ُّ ،‬‬
‫الغني عنهم‪ ،‬فالعبد أوىل‬
‫ُّ‬ ‫وجل قد نزل مع عباده إىل هذا الح ِّد من الفت َّوة‪ ،‬وهو‬
‫وإذا كان الله ع َّز َّ‬
‫أن يتخلَّق بهذه الصفة[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ابن عريب محي الدين‪ :‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬تحقيق أحمد شمس الدين‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان ط‪ ،1999 ،1‬املجلَّد ‪.3‬‬
‫الباب ‪ ، 146‬ص ‪349‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.353‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.354‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.350 – 349‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.350‬‬

‫‪31‬‬
‫المحور‬

‫وابن عريب يق ِّدم معيارا ً رشعيّاً يقي املرء من االنحراف وهو يبارش هذا الخلق‪ ،‬بحيث «ال يتفتّى‬
‫الحق املتفتِّي ال هذا العبد»[[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫حق‪ ،‬فيكون‬
‫حق أو أمر ّ‬ ‫عىل الخلق إالَّ بصفة ٍّ‬
‫فاإلنسان قد تشتبه عليه األمور حني التفتّي‪ ،‬فيقوم بفعل من أجل إرضاء شخص‪ ،‬ولكنه قد‬
‫يسخط به آخر‪ ،‬ويف هذه الحالة ال مهرب له سوى االحتكام إىل الرشيعة «أل َّن األغراض مختلفة‬
‫واألهواء متقابلة‪ ...‬فام ِمن حالة يرضاها زي ٌد منك‪ ،‬إالَّ ويسخطها عمرو‪ ،‬فإذا كان األمر هكذا فاترك‬
‫الخلق بجانب‪ ،‬إن أردتَ تحصيل هذا املقام‪ ،‬وارجع إىل الله يف أصل الفت َّوة‪ ،‬فإ َّن أصلها أن تخرج‬
‫ظ نفسك إيثارا ً لح ِّ‬
‫ظ غريك»[[[‪.‬‬ ‫عن ح ِّ‬

‫قصة حدثت مع مريد وشيخه‪،‬‬


‫الرشعي يف مامرسة الفت َّوة‪ ،‬أورد ابن عريب َّ‬
‫ِّ‬ ‫وترسيخاً لهذا املبدأ‬
‫ثم بيَّ رأيه فيها مبا يخالف رأي ذلك الشيخ‪ .‬فيقول‪« :‬يُحىك أن شيخاً من املشايخ جاءه أضياف‬
‫بسفرة الطعام‪ ،‬فأبطأ عليه‪ .‬فسأله ما أبطأ بك؟ فقال‪ :‬وجدتُ النمل عىل السفرة‪،‬‬
‫فأمر تلميذه أن يأتيه ُ‬
‫َّقت‪ .‬فجعل‬
‫صت حتى خرجوا من نفوسهم‪ .‬فقال الشيخ‪ :‬لقد دق َ‬ ‫فلم أ َر من الفت َّوة أن أخرجهم‪ .‬فرتبَّ ُ‬
‫هذا الفعل من تدقيق باب الفت َّوة‪ ،‬ونِ ْعم ما قال‪ ،‬ونِعم ما فاته»[[[‪.‬‬
‫والذي فات هذا الشيخ ‪ -‬حسب ابن عريب‪ -‬أن تقديم الطعام للضيوف كان أوىل من والشفقة‬
‫عىل النمل‪ ،‬ألنَّه ليس من الفت َّوة أن نشفق عىل النمل (وذاك من الفت َّوة طبعاً) ونرتك الضيوف متألِّمني‬
‫بالتأخري واالنتظار‪ ،‬أل َّن الشارع أمر الشارع بتعجيل تقديم الطعام للضيوف‪.‬‬
‫بالقصة‪ ،‬ونظر يف تقديم أم ٍر‬
‫َّ‬ ‫ولو أ َّن هذا الخادم تفتَّى وترك السفرة للنمل‪ ،‬واستأذن الشيخ وع َّرفه‬
‫َّ‬
‫وأدق يف الفت َّوة[[[‪.‬‬ ‫آخر للضيوف‪ ،‬لكان أوىل‬
‫وعليه‪ ،‬فإ َّن مامرسة الفت َّوة ال ب َّد من أن تكون مؤطِّرة بقواعد الرشيعة «فحقيقة الفت َّوة أن يؤثر‬
‫اإلنسا ُن العلم املرشوع الوارد من الله عىل ألسنة ال ُّرسل‪ ،‬عىل هوى نفسه‪ ،‬وعىل أدلَّة عقله وما‬
‫حكَم به فكره ونظره»[[[‪.‬‬
‫التنظريي ملقام الفت َّوة‪ ،‬أ َّما فيام يتعلَّق باملامرسة امليدان َّية‪ ،‬فإ َّن الشيخ األكرب‬
‫ِّ‬ ‫هذا عن الجانب‬
‫دي قرآناً وس َّنةً‪.‬‬
‫كان ينهل ‪ -‬يف معامالته مع غريه ‪ -‬من املرياث املح َّم ِّ‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 351‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 351‬‬
‫والقصة وردت أيضاً يف الرسالة القشرييَّة‪« :‬فقال‬‫َّ‬ ‫[[[‪ -‬ابن عريب محي الدين‪ :‬الفتوحات املكيَّة‪ ،‬املجلَّد ‪ ،3‬الباب ‪ ، 146‬ص‪.354‬‬
‫الرجل ملا أبطأْتَ بالسفرة؟ فقال الغالم‪ :‬كان عليها منل فلم يكن من األدب تقديم السفرة إىل الفتيان مع النمل‪ ،‬ومل يكن من الفت َّوة إلقاء‬
‫دب النمل‪ .‬فقالوا له دقَّقت يا غالم‪ ،‬مثلك من يخدم الفتيان»‪ .‬أنظر القشريي‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص ‪.264‬‬‫فلبثت حتى ّ‬
‫ُ‬ ‫النمل من السفرة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ .‬ص‪.352‬‬

‫‪32‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫قصه أحد رواة سريته من أ َّن «رجالً من دمشق فرض عىل نفسه‬
‫ومن مواقفه املرشقة يف ذلك ما َّ‬
‫جه‬
‫كل يوم عرش م َّرات‪ ،‬فامت‪ .‬وحرض ابن عريب جنازته‪ ،‬ث َّم رجع فجلس يف بيته‪ ،‬وتو َّ‬
‫أن يلعنه َّ‬
‫األكل فلم يأكل‪ .‬ومل يزل يف حاله إىل بعد العشاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ض إليه‬ ‫لل ِقبلة‪ ،‬فلام جاء وقت الغداء‪ ،‬أُ ْ‬
‫ح ِ‬
‫التزمت مع الله أن ال آكل وال أرشب‬
‫ُ‬ ‫فالتفت مرسورا ً‪ ،‬وطلب ال َعشاء وأكل‪ ،‬فقيل له يف ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫حتى يُغفر لهذا الذي يلعنني‪ ،‬وذكرتُ له سبعني ألف ال إله الله‪ ،‬ف ُغ ِفر له»[[[‪.‬‬
‫تلك هي إحدى الصور املرشقة من سرية ابن عريب‪ ،‬يف تعامله مع خصومه‪ ،‬عرضناها لنؤكِّد‬
‫أخالق عل َّية‪ ،‬ومعامالت َسن َّية‪ ،‬قبل أن يكون ثقافة وتنظريا ً‪ ،‬إ ْذ من السهل‬
‫ٌ‬ ‫عىل التص ُّوف ما هو إالَّ‬
‫ويلقي حوله مئات الدروس واملحارضات‪ ،‬ولكنه‬
‫َ‬ ‫ج ّدا ً أن يكتب املرء عن التص ُّوف آالف األوراق‪،‬‬
‫ليس من السهل أن يُرتجمه إىل أعامل وأحوال‪ ،‬إالَّ إذا وفَّقه الله لذلك‪.‬‬
‫وألجل هذا السبب اتفق الصوف َّية عىل أن علمهم ال يؤخذ من األوراق‪ ،‬بل بصحبة أهل األذواق‪.‬‬
‫وال يعني هذا أنَّهم يتنكَّرون للعلم‪ ،‬و ُهم أهله وذووه‪ ،‬ولكنهم يحثّون مريديهم عىل اكتساب محامد‬
‫األخالق‪ ،‬أحواالً وأقواالً‪ ،‬من أهلها‪ ،‬مبرافقتهم‪ ،‬وإخالص الو ِّد لهم‪ ،‬والتأ ُّدب يف حرضتهم‪.‬‬
‫ولذلك مل َّا سئل أبو حفص عمرو بن سلمة(ت‪ 270‬وقيل ‪ )267‬عن الفت َّوة ما هي؟ فقال‪ »:‬الفت ّوة‬
‫تؤخذ استعامالً ومعاملة ال نطقاً»[[[‪.‬‬
‫وابن عريب ينبــِّهنا إىل معنى لطيف يف التعامل مع خصومنا‪ ،‬مبيّناً أ َّن امليسء إلينا ‪ -‬وإن كان‬
‫قد أساء ظاهرا ً ‪ -‬فإنَّه أحسن إلينا باطناً من دون أن يشعر‪ ،‬ألنَّه أعطانا بإساءته خريا ً كثريا ً نجده مثرته‬
‫يف اآلخرة‪ .‬وبالتايل فال يجب أن نكافئه‪ ،‬عىل ما ق َّدمه لنا من إحسان (يف صورة إساءة)‪ ،‬باإلساءة‪،‬‬
‫بل يقتيض األمر م َّنا مكافأته إ َّما بالعفو عنه‪ ،‬أو باإلحسان إليه بحسب ما تسمح به نفوسنا‪ .‬يقول يف‬
‫هذا‪ )...(« :‬امليسء يف حقّنا الذي خيَّ نا الله بني جزائه مبا أساء وبني العفو عنه‪ ،‬أنَّه مل َّا أساء إلينا‬
‫أعطانا من خري اآلخرة ما نحن محتاجون إليه‪ ،‬حتى لو كشف الله الغطاء بيننا وبني ما لنا من الخري‬
‫يف اآلخرة‪ ،‬يف تلك املساءة‪ ،‬حتى نراه عياناً‪ ،‬لقلنا إنَّه ما أحسن أح ٌد يف حقِّنا‪ ،‬ما أحسن هذا الذي‬
‫قلنا إنَّه أساء يف حقّنا‪ .‬فال يكون جزاؤه عندنا الحرمان‪ .‬فنعفو عنه‪ ،‬فال نجازيه‪ ،‬ونحسن إليه مام‬
‫عندنا من الفضل عىل قدر ما تسمح به نفوسنا»[[[ ‪.‬‬
‫«كنت نامئاً‬
‫ُ‬ ‫رس ِحلْمه وعفوه عىل خصومه‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫ويح ِّدثنا ابن عريب يف إحدى إشاراته عن ِّ‬

‫[[[‪ -‬املناوي محمد عبد الرؤوف‪ :‬الكواكب الدُّريّة يف تراجم السادة الصوفيَّة‪ ،‬تحقيق محمد أديب الجادر‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1999‬م‪ ،‬ج‪، 2‬ص ‪. 520‬‬
‫[[[ ‪ -90‬السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬طبقات الصوف َّية‪ ،‬ص ص‪. 38- 37‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ :‬الفتوحات املكيَّة‪ ،‬املجلَّد ‪ ،7‬الباب ‪ ، 435‬ص ص‪. 69-68‬‬

‫‪33‬‬
‫المحور‬

‫يف مقام إبراهيم‪ ،‬وإذ بقائل من األرواح‪ ،‬أرواح املإل األعىل‪ ،‬يقول يل عن الله‪ :‬ادخ ُْل مقام إبراهيم‬
‫قوم‪ ،‬فأعاملهم ِ‬
‫بالحلمِ ‪...‬‬ ‫فعلمت أنَّه ال ب َّد أن يبتل َيني بكالم يف ِعريض من ٍ‬
‫ُ‬ ‫إنه كان أ ّواهاً حليام‪،‬‬
‫فيكون أذًى كثريا‪ ،‬فإنه جاء بـ (حليم) بصيغة املبالغة‪ ،‬ث َّم وصفه باأل َّواه‪ ،‬وهو من يكرث من التأ ُّوه ملا‬
‫[[[‬
‫يشاهد من جالل الله»‪.‬‬
‫وجل‪ ،‬وأث ٌر‬
‫َّ‬ ‫للحق ع َّز‬
‫ِّ‬ ‫تجل‬
‫بكل متظ ُهراته‪ ،‬ما هو إالَّ ٍّ‬
‫لقد تحقَّق ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬من أ َّن الكون ِّ‬
‫لصفاته وأسامئه ال ُعىل‪ ،‬بل ما هو إالَّ مظهر للحقيقة املح َّمديَّة السارية يف الوجود‪ .‬فكان يدعو إىل‬
‫ين بديع‪،‬‬‫التعامل مع الكون كلِّه‪ ،‬بخلُق املح َّبة وال َّرحمة والفت َّوة‪ ،‬ومتكَّن من تأسيس بَراديغم[[[¨ إنسا ٍّ‬
‫الحب الذي دعا إليه وعاش ِّ‬
‫يبش به‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يندر أن نجد له نظريا ً عند غريه‪ .‬وذلك هو دين‬

‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص ‪.521 -520‬‬


‫ين (‪ .) paradeigma‬باللَّتين َّية‪.) )Paradigma‬‬
‫ِّ‬ ‫اليونا‬ ‫األصل‬ ‫من‬ ‫َّفظة‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫َّ‪،‬‬ ‫يك‬ ‫اإلدرا‬ ‫النموذج‬ ‫الفكري أو‬
‫َّ‬ ‫[[[¨ الرباديغم‪ :‬يعني النموذج‬
‫أنظر‪ :‬منري ورمزي البعلبيك‪ ،‬قاموس املورد الحديث (إنكليزي عريب)‪ ،‬دار العلم للماليني ‪ ،2008‬ص‪.166‬‬

‫‪34‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫اخلاتمة‪:‬‬
‫لعلَّه قد تبيَّ للقارئ الكريم‪ ،‬أ َّن أخالق الفت َّوة ‪ -‬وإن كانت قد ظهرت ببعض صورها يف الجاهل َّية‪-‬‬
‫صل الله عليه وسلَّم‪ ،‬ويف حياة آل بيته األطهار‪،‬‬ ‫النبي َّ‬
‫فإنَّها مل تتألَّق مبباهجها املرشقة إالَّ يف حياة ِّ‬
‫إسالمي ال‬
‫ٌّ‬ ‫خل ٌُّق‬
‫وبكل بساطة‪ُ -‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ألنَّها ‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫وصحابته األخيار‪ ،‬بل وتواىل تألُّقها عرب التاريخ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يكتمل إميان املسلم إالَّ إذا ات َّصف بها‪.‬‬


‫ولعلَّه قد اتضح للقارئ أيضاً أ َّن الفت َّوة عند الصوف َّية عىل وجه الخصوص‪ ،‬مل تكن مج َّرد تنظري‬
‫يل مفارق للواقع‪ ،‬بل كان مامرسات يوميَّة‪ ،‬وأحواالً ع َمليَّة ارتبطت عندهم بأصول روحيَّة عميقة‬ ‫مثا ٍّ‬
‫الغَور‪.‬‬

‫يف ميكن أن يكون مصدراً تربويَّاً ملن يريد أن ِّ‬


‫يؤسس لثقافة الفت َّوة‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن الخطاب الصو َّ‬
‫وأرض َّية للحوار ملن يبتغي أن ينفتح عىل اآلخر[[[‪ ،‬ومنربا ً للدعوة ملن يريد أن يع ِّرف باإلسالم‪ ،‬بعيدا ً‬
‫عن التط ُّرف والغل ِّو وخطاب الكراهية‪.‬‬
‫املتخصصة سواء الغربيَّة منها أم العربيَّة[[[‪ ،‬قد تنبَّهت إىل‬
‫ِّ‬ ‫ولهذا‪ ،‬فإ َّن بعض الدراسات العلميّة‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فراحت تربز مزاياه‪ ،‬وتظهر محاسنه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يف‬
‫القيم الرتبويَّة التي يتض َّمنها الخطاب الصو ُّ‬
‫ين الذي أراد البعض طرده من‬ ‫ٍ‬
‫متزايد بهذا القطاع العرفا ٍّ‬ ‫يف‪ ،‬واهتامم‬
‫وعي معر ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫مم أ َّدى إىل إنتاج‬
‫َّ‬
‫القطاعات الفكريَّة‪ ،‬وتقدميه للمثقَّف املسلم املعارص‪ ،‬تارة يف صورة بِدع وضالالت تناقض الدين‬
‫للعقالنيَّة بعيدة عن الواقع(العقالنيَّة العربيَّة‬ ‫اإلسالمي(السلفيَّة الوهابيَّة)‪ ،‬وتارة يف صورة أفكار َّ‬
‫ِّ‬
‫املعارصة)‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬فإ َّن هذه الدراسة جاءت‪ ،‬ال لت َّدعي أ َّن التص ُّوف وحده ميتلك قيم الفت َّوة‪ ،‬ولكن لرتشد من‬
‫يبحثُ عن هذا الخلُق الراقي(الفت َّوة)‪ ،‬بأنَّه سيعرث عليه‪ ،‬وبص َوره النقيَّة املرشقة‪ ،‬عند العارفني بالله‪،‬‬
‫حيث تفيض يف مرابعهم ينابيع ال َّرحمة واملح َّبة والصفاء‪.‬‬

‫[[[ ‪Voir Bariza Khiari .Le soufisme: spiritualité et citoyenneté ;fondation pour l’innovation politique‬‬
‫‪41; pp40.2015 fodapol.org .février‬‬
‫محل روح الحداثة املا ّديَّة التي تهيمن عىل العامل‬
‫اإلسالمي وما يرتبط به من قيم شاملة َّ‬
‫ِّ‬ ‫التوسع يف إمكانيَّة حلول التص ُّوف‬
‫ُّ‬ ‫[[[‪ -‬من أجل‬
‫املعارص‪ ،‬يُرجى العودة إىل كتاب الربوفيسور ‪ Éric Geoffroy‬املوسوم بـ (‪plus L’Islam sera spirituel ou ne sera). Edité par‬‬
‫‪ .2009 ,Le Seuil, Paris‬وقد ترجمه األستاذ هاشم صالح بعنوان املستقبل الروحاين لإلسالم‪ ،‬املركز الوطني للرتجمة القاهرة‪.2016 ،‬‬
‫األصح هي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫لكن املفكِّر الفرنيس إيريك جوفورا أخربين يف أحد املؤمترات بفاس بأنَّه مستا ٌء من ترجمة العنوان بهذا الشكل‪ ،‬إذ الرتجمة‬
‫(اإلسالم سيكون روحانيّاً أو ال يكون)‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر العربي�ة‬


‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪2.2‬ابن عريب محي الدين‪ :‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬تحقيق أحمد شمس الدين‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬
‫ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬املجلّدان ‪.7 3-‬‬
‫‪3.3‬ابن كثري أبو الفداء إسامعيل الدمشقي‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬تحقيق عيل شريي‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪1988،‬‬
‫م‪ ،‬ج‪.8‬‬
‫‪4.4‬ابن معامر البغدادي (أبو عبد الله محمد بن أيب املكارم)‪ :‬كتاب الفت َّوة‪ ،‬تحقيق مصطفى جواد وآخرين‪،‬‬
‫مطبعة شفيق‪ ،‬مكتبة املثنى‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪1958 ،1‬م‪.‬‬
‫‪5.5‬أبو العال عفيفي‪ :‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬درا إحياء الكتب العرب َّية‪ ،‬القاهرة‪1945 ،‬م‪.‬‬
‫مؤسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة ‪ 2012،‬م‪.‬‬
‫‪6.6‬أحمد أمني‪ :‬الصعلكة والفت َّوة يف اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫‪7.7‬األصفهاين أبو نعيم‪ :‬حلية األولياء وطبقات األصفياء‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪1996 ،‬م‪ ،‬ج ‪.10‬‬
‫‪8.8‬إيريك جوفورا‪ :‬املستقبل الروحاين لإلسالم‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬املركز الوطني للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪2016 ،‬‬
‫م‪.‬‬
‫‪9.9‬ال ّرفاعي أحمد‪ :‬الربهان املؤ ّيد‪ ،‬تحقيق إبراهيم الرفاعي‪ ،‬دار آل الرفاعي‪ ،‬القاهرة‪ 1998 ،‬م‪.‬‬
‫‪1010‬ال ِّرفاعي أحمد‪ :‬النظام الخاص ألهل االختصاص‪ ،‬تحقيق عبد الغني نكه مي‪ ،‬دار الكتاب النفيس‪ ،‬حلب‪،‬‬
‫سورية‪ ،‬ط‪1414 2-‬هـ‪.‬‬
‫السلمي أبو عبد الرحمن‪( :‬رسالة املالمت َّية) ضمن كتاب أبو العال عفيفي‪ :‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪،‬‬ ‫‪ُّ 1111‬‬
‫درا إحياء الكتب العرب َّية‪ ،‬القاهرة‪1945 ،‬‬
‫السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬املقدِّ مة يف التص ُّوف‪ ،‬تحقيق يوسف زيدان‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1999 1-‬م ‪.‬‬
‫‪ُّ 1212‬‬
‫السلمي أبو عبد الرحمن‪ :‬طبقات الصوف َّية‪ ،‬تحقيق أحمد الرشبايص‪ ،‬طبعة كتاب الشعب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ُّ 1313‬‬
‫‪1998‬م‬
‫السيد الصدر‪ :‬أخالق أهل البيت‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ّ 1414‬‬
‫‪1515‬الصدّ يقي العظيم آبادي محمد أرشف بن أمري‪ :‬عون املعبود رشح سنن أيب داود‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪،‬‬
‫بريوت ط‪1415 2-‬هـ‪ ،‬ج‪.11‬‬
‫‪1616‬الطرباين أبو القاسم سليامن بن أحمد‪ :‬املعجم الكبري‪ ،‬تحقيق حمدي عبد املجيد‪ ،‬مكتبة ابن تيم َّية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ج‪.10‬‬
‫‪1717‬العاميل ياسني حسني عيىس‪ :‬أصول التعايش مع اآلخر‪ ،‬دار الهادي ‪ ،‬ط‪2008 – 1‬م‪.‬‬
‫دار‬ ‫ألحكام القرآن‪،‬‬ ‫الجامع‬ ‫أحمد األنصاري‪:‬‬ ‫بن‬ ‫الله محمد‬ ‫عبد‬ ‫‪1818‬القرطبي‬
‫إحياء الرتاث العريب بريوت‪ 1985 ،‬م‪ ،‬ج‪. 7‬‬

‫‪36‬‬
‫التصوف اإلسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة في‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيات‬

‫‪1919‬القشريي أبو القاسم‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪2001،‬م‪.‬‬
‫ح َّمد بَا ِقر‪ :‬بحار األنوار‪ ،‬تحقيق محمد الباقر البهبودي‪ ،‬ط‪1983 ،2‬م‪ ،‬ج‪.44‬‬
‫‪2020‬املجليس أبو عبد الله ُم َ‬
‫‪2121‬محمود قمر‪ :‬التسامح واإلخاء اإلنساين يف اإلسالم‪ ،‬عني للدراسات والبحوث اإلنسان َّية واالجتامع َّية ط‪1‬‬
‫‪ 2013 -‬م‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مؤسسة‬
‫‪2222‬املقديس عبد الله محمد بن مفلح‪ :‬اآلداب الرشع َّية‪ ،‬تحقيق شعيب األرناؤوط‪ ،‬وعمر الق ّيام‪َّ ،‬‬
‫الرسالة‪ ،‬بريوت ط‪ ،-1999 3‬ج ‪.1‬‬
‫‪2323‬امل ُ ّناوي محمد عبد الرؤوف‪ :‬الكواكب الدُّ ريّة يف تراجم السادة الصوف َّية‪ ،‬تحقيق محمد أديب الجادر‪ ،‬دار‬
‫صادر‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪1999 1-‬م‪ ،‬ج‪.2‬‬
‫‪2424‬منري ورمزي‪  ‬البعلبيك‪ :‬قاموس املورد الحديث(إنكليزي عريب)‪ ،‬دار العلم للماليني ‪.2008‬‬

‫الئحة املصادر األجنبية‬


‫‪1.‬‬ ‫‪Bariza Khiari : Le soufisme ; spiritualité et citoyenneté .fondation pour‬‬
‫‪l’innovation. politique fodapol.org .février 2015.‬‬
‫‪2.‬‬ ‫‪Éric Geoffroy : L’Islam sera spirituel ou ne sera plus. Edité par Le Seuil, Paris,‬‬
‫‪2009.‬‬
‫‪3.‬‬ ‫‪Jean Flori: Chevaliers et chevalerie au Moyen Âge, Hachette, Paris, 1998, avant-‬‬
‫‪propos.‬‬
‫‪4.‬‬ ‫‪Montserrat Planelles Ivañez: Les mots de la guerre au Moyen Âge: étymologie,‬‬
‫‪usage et évolution sémantique. in Linguistica, 2019, vol. 58.‬‬

‫‪37‬‬
‫الفتوة‬
‫َّ‬ ‫رسائل‬
‫يف‬ ‫ِ‬
‫العرفاين وتأثريه عىل اإلبداع احل َر ّْ‬
‫ُّ‬ ‫السلوك‬

‫ن‬ ‫ّ‬
‫| محمد شكيبادل‬ ‫الكيال�‬
‫ي‬ ‫الموسوي‬ ‫رضا‬
‫ف‬ ‫ّ‬
‫| طالب دكتوراه ي� فلسفة الفن ـ جامعة األديان المذاهب‬ ‫العلمية ـ جامعة األديان والمذاهب‬ ‫عضو الهيئة‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫تسىع هذه الدراسة إىل تأصيل مفهوم الفتوة من وجهة معرفية لها‬
‫ف‬
‫اإلسالم‪ .‬ولهذه الغاية ذهبنا‬ ‫ي‬ ‫خصوصيتها ي� فضاء التصوف والعرفان‬
‫إىل ما ُيعرف بـ «رسائل الفتوة» لتكون الحقل الذي سنؤسس عليه‬
‫العرفا� طبق طريقة المريد والمراد وال سيما‬ ‫ن‬ ‫أحد أبرز منازل السلوك‬
‫ي‬
‫َّ‬
‫الفتوة‪،‬‬ ‫الف�‪ .‬من أجل ذلك اعتمدنا رسائل‬ ‫ن‬
‫تأث�ه عىل اإلبداع ي‬ ‫لجهة ي‬
‫َّ ف‬
‫الحرفية ي� الثقافة‬ ‫كأسلوب أخذ به أصحاب الصناعات والفنون ِ‬
‫ِّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫اإلير َّ‬
‫اإلسالمية القديمة‪ ،‬بهدف السلوك ي� طريق الحق‪ ،‬وتربية‬ ‫انية‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫الفن ي ن‬
‫ان�‪ .‬ويمكن مقارنة هذه الرسائل بما يشبهها ي� اليابان‬ ‫الطلبة‬
‫فنية‬‫سببيتها ف� إيجاد آثار َّ‬ ‫َّ‬ ‫وأوروبا القرون الوسىط والهند‪ ،‬من حيث‬
‫ي‬
‫عظيمة‪.‬‬
‫ف‬ ‫ف‬
‫لقد حاولنا ي� هذا البحث‪ ،‬دراسة أصول وأساليب السلوك ي�‬
‫الف� للصناعات‬ ‫وتأث� ذلك ف� اإلبداع نّ ِّ‬
‫هذه الحلقات والمجموعات‪ ،‬ي‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫المذكورة‪.‬‬

‫***‬
‫الف�‪ ،‬السلوك‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‪ ،‬اإلبداع ن ُّ‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‪ ،‬رسائل‬ ‫مفردات مفتاحية‪:‬‬
‫ي‬
‫ن ُّ‬
‫العرفا�‪ ،‬األستاذ‪ ،‬المرشد‪.‬‬
‫ي‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫[[[‬

‫املعنوي الذي‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫تدل الفت َّوة يف الثقافة اإليرانيَّة اإلسالميَّة القدمية عىل معنى السالك‪ ،‬أو الزائر‬
‫الباطني‪ ،‬ووصل من خالله إىل مرحلة الشباب والخلود والروح الطاهرة‪ .‬والفتوة‬
‫َّ‬ ‫امتلك الشهود‬
‫تعني إيصال القوى الداخليَّة والخصائص الباطنيَّة للفرد إىل الكامل[[[‪ .‬يف هذا الخصوص‪ ،‬يعترب‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ين أ َّن الفت َّوة عبارة عن ظهور نور الفطرة‪ ،‬وسيطرة ذاك النور عىل الظلمة لتظهر‬
‫عبد الرزَّاق الكاشا ُّ‬
‫السبزواري‬
‫ُّ‬ ‫الكاشفي‬
‫ُّ‬ ‫كامل الفضائل يف النفس والروح‪ ،‬حيث تنتفي الرذائل[[[ ‪ .‬من جهته‪ ،‬يعتقد‬
‫أ َّن الفت َّوة عبارة عن ظهور نور الفطرة اإلنسانيَّة‪ ،‬وسيطرته عىل ظلمة الصفات النفسانيَّة؛ لتصبح‬
‫الفضائل األخالقيَّة َملَكَة يف وجود اإلنسان‪ ،‬وتزول الرذائل بالكامل[[[‪.‬‬

‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬ميكن القول أ َّن معنى الفتوى يعود إىل قض َّية تزكية النفس اإلنسان َّية‪ ،‬وتزيينها‬
‫بالصفات الحسنة‪ ،‬ليصل اإلنسان بواسطتها إىل الصالح والنجاة األبديَّة؛ ولذلك ليس غري ًبا أن‬
‫َ‬ ‫َ ً ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َّ‬ ‫ََ ْ َ ْ َ َ‬
‫اس َعليْ َها‬
‫الن َ‬ ‫ِين حن ِيفا ۚ ف ِطرت اللِ التِي فطر‬
‫ِ‬
‫كل ّ‬
‫ِلد‬ ‫اإللهي لإلنسان‪﴿ :‬فأق ِم وجه‬
‫ُّ‬ ‫جه الخطاب‬ ‫يتو َّ‬
‫َ َ َ َ ْ َّ‬
‫لا تبْدِيل ل ِخل ِق اللِ﴾[[[‪ .‬فالطهارة من املل ِّوثات الجسامن َّية والصفات الحيوان َّية‪ ،‬يؤ ّدي إىل جامل‬
‫اإللهي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الروح واألخالق‪ .‬الفتوة يف الحقيقة‪ ،‬نو ٌر يأيت من عامل القدس‪ ،‬فيظهر عىل أثر هذا الفيض‬
‫[[[‬
‫الصفات امللكوت َّية والسامويَّة يف باطن صاحبها‪.‬‬

‫يل‪ ،‬ثابت‬
‫الحق تعاىل أن يجعله وفيًّا للعهد األز ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ويف دعاء اإلمام الحسني‪ ،‬يطلب اإلمام من‬
‫القدم يف مسرية الدين املستقيمة‪ .‬وهذه هي الفطرة الخالصة التي يطلبها أهل الفت َّوة‪ .‬وعىل هذا‬
‫األساس‪ ،‬فالفت َّوة هي استعادة تلك األمانة التي عجزت الساموات واألرضني والجبال والبحار عن‬
‫ح َملها اإلنسان[[[‪.‬‬
‫حملها‪ ،‬و َ‬
‫الظاهري حتَّى الحياة‬
‫ِّ‬ ‫من هنا‪ ،‬فإ َّن الفت َّوة مقام املجاهدة والسلوك‪ ،‬هو سلوك يبدأ من ساحة العمل‬
‫كل الثقافات التي تح َّدثت عن هذه القض َّية‪ ،‬قرنت‬
‫األبديَّة يف أعىل املراتب‪ .‬والجدير باملالحظة‪ ،‬أ َّن َّ‬

‫ـ املصدر‪ :‬الفصلية العلمية البحثية «آيني حكمت‪ ،‬العام الثامن‪ ،‬صيف ‪ ،2016/1395‬العدد ‪.28‬‬
‫املرتجم‪ :‬د‪ .‬عيل الحاج حسن‪ -‬أستاذ الفلسفة يف الجامعة اللبنانية‪.‬‬
‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬كوربن‪)4-3 :1382 ،‬‬
‫ين‪.)223 :1369 ،‬‬ ‫[[[‪( -‬الكاشا ُّ‬
‫السبزواري‪.)9 :1350 ،‬‬
‫ُّ‬ ‫(الكاشفي‬
‫ُّ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬
‫السبزواري‪.)11 :1350 ،‬‬
‫ّ‬ ‫(الكاشفي‬
‫ّ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫[[[‪ -‬راجع سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.72‬‬

‫‪39‬‬
‫المحور‬

‫الفتوة بحصول بعض األوصاف‪ ،‬كالشجاعة‪ ،‬واالستبسال والسخاء والبطولة‪ .‬كام أ َّن الجزء األعظم من‬
‫جوهر الروح اإلسالميَّة املعنويَّة‪ ،‬قد تشكَّل خالل قرون بهذه الصفات والخصائص يف حلقات الفت َّوة‪.‬‬
‫[[[‬

‫الفتوة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫التاريخية حللقات َّ‬ ‫اجلذور‬
‫إل أ َّن‬
‫الهجري‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي يعود إىل القرن الثالث‬
‫ِّ‬ ‫صحيح أ َّن جذور ظهور أهل الفت َّوة يف العامل‬
‫خاصة وميول عرفان َّية ف ّن َّية‪ ،‬قد بدأ يف القرن الخامس‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ظهور هذه الجامعة عىل شكل منظَّم وفرق‬
‫وتح َّول أصحاب الفتوة‪ ،‬يف تلك املرحلة‪ ،‬إىل ق َّوة اجتامع َّية مؤث ِّرة يف طريقة عمل حكَّام ذاك‬
‫الزمان؛ بل األكرث من ذلك‪ ،‬أنَّهم تركوا آثا ًرا كبرية عىل تط ُّور الفكر واألخالق واملعرفة؛ باعتبار أنَّهم‬
‫ِ‬
‫والح َرف والحضور بني الناس‪ ،‬وقد تجلَّ هذا التأثري عىل مستوى‬ ‫كانوا من أصحاب املشاغل‬
‫كل‬
‫الرشائح االجتامع َّية كافَّة‪ ،‬وبالتايل ساهمت سلوك َّيات هذه الجامعة يف أن يتح َّول أصحاب ِّ‬
‫حرفة إىل حلقة من أصحاب الفت َّوة‪ ،‬ث َّم عمدوا إىل تدوين مبادئ ورسائل ت ُبيِّ األصول األخالق َّية‬
‫والف ّن َّية ملشاغلهم‪.‬‬

‫ت ُشكِّل هذه الرسائل جوهر تعليمهم؛ أي أصول التص ُّوف واملعرفة اإللهيَّة‪ ،‬التي كانت تخضع‬
‫باستمرار لرقابة وإرشاف شيوخ املتص ِّوفة والعرفاء الكبار‪ ،‬يف ذاك الزمان[[[‪ .‬من هنا ميكن القول‪،‬‬
‫أ َّن سلوك املحاربني واملصارعني تغيَّ شيئًا فشيئًا‪ ،‬وظهر بالتدريج عىل صورة الفت َّوة (امللحمة‬
‫السهروردي[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العرفانيَّة)‪ ،‬وهذا ما أشارت إليه ثقافة إيران القدمية‪ ،‬عدا عن آثار شهاب الدين‬

‫ساهمت هذه الطريقة يف تلك املرحلة‪ ،‬يف وجود ارتباط بني مشاغل ِ‬
‫وح َرف الناس العاديَّة‪ ،‬وبني‬
‫الوجوه الباطن َّية لألديان‪ ،‬ومحاولة الكشف عن األرسار واملعارف السامويَّة‪ ،‬عدا عن محاولة أصحاب‬
‫الح َرف إظهار األصول العرفان َّية والرموز املعنويَّة يف ِح َرفهم بشكل ما‪ ،‬حتَّى سقطت الحدود بني‬
‫ِ‬
‫التخصصات ِ‬
‫الح َرف َّية واألشغال الصناع َّية‪ ،‬وبني التجلِّيات العرفان َّية الحاصلة عىل أثر الرياضات الباطن َّية‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫مضمون رسائل َّ‬
‫الفتوة وقوانني حلقاتها‪:‬‬
‫جمعت يف حلقات الفتيان تعاليم وتوصيات أساتذة ومرشدي الطريق‪ ،‬ضمن رسائل أُطلق‬
‫عليها «رسائل الفت َّوة»‪ .‬وتتح َّدث هذه الرسائل من جهة‪ ،‬عن الوصايا واألصول واألساليب يف‬

‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬اعتضادي‪.)64-63 :1390 ،‬‬


‫الكيالين‪.)129-125 :1390 ،‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬زرين كوب‪356 :1385 ،‬؛ وراجع أيضً ا‪ :‬موسوي‬
‫[[[‪( -‬شيخ اإلرشاق)‪( .‬كوربن‪.)6 :1382 ،‬‬

‫‪40‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫كل الجزئيَّات العمليَّة وأسلوب الطريقة املعنويَّة‪ ،‬واالستفادة‬


‫الحرفة والصنعة املقصودة‪ ،‬وترشح َّ‬
‫الباطني لتعاليمهم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫من أدوات ووسائل العمل للطلبة والفتيان‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تُبيِّ جذور التاريخ‬
‫وسلسلة املراتب التي أخذت هذه األصول عنها‪ ،‬وهي نسب متوالية تتَّصل بأحد أولياء الله‪ ،‬أو‬
‫أصحاب املقامات املعنويَّة؛ لذلك كانت رسائل الفت َّوة والحفاظ عليها جز ًءا من األعامل املق َّدسة‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫والواجبة ألصحاب الصناعات وحلقات الفت َّوة‪.‬‬

‫النبي إبراهيم ‪ ،‬والذي أعطاه‬


‫يعود تاريخ الفت َّوة‪ ،‬يف «رسائل الفت َّوة» من الناحية العرفان َّية‪ ،‬إىل ِّ‬
‫القرآن الكريم لقب «فتى»‪ ،‬و َع َّرف به عىل أنَّه محطِّم األصنام‪ .‬مع العلم‪ ،‬أ َّن الدقَّة يف طريق انتساب‬
‫النبي إبراهيم‪،‬‬
‫الفت َّوات إىل أنبياء الله‪ ،‬ت ُبيِّ أنَّهم يذهبون يف سلسلة مراتبهم إىل ما هو أبعد من ِّ‬
‫النبي‬
‫ِّ‬ ‫ربر بروز وشخوص‬
‫النبي آدم ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن م ِّ‬
‫ِّ‬ ‫فيصلون إىل رأس سلسلة األنبياء‪،‬‬
‫إبراهيم ‪ ‬يف رسائل الفت َّوة؛ كونه األصل واألساس ملنشأ أصلني من أصول اإلسالم العقائديَّة؛‬
‫تجل النب َّوة واإلمامة؛ وألنَّه من جهة ثانية قطب ومظهر مقام النب َّوة‪ ،‬وإذا كان مبدأ هذه املرتبة‬
‫أي ّ‬
‫(مقام النب َّوة) يتجلَّ يف آدم ‪ ،‬فإ َّن خاتَ ها هو رسول اإلسالم املك َّرم‪.‬‬

‫واملهدي املوعود‪‬‬
‫َّ‬ ‫من جهة ثالثة‪ ،‬فإ َّن إبراهيم ‪ ‬مبدأ الفت َّوة‪ ،‬وعل ًّيا ‪ ‬قطبها ومظهرها‪،‬‬
‫ِ‬
‫والحرف والصناعات‬ ‫يئ ملرتبتها؛[[[ لذلك تعود املشاغل‬
‫التجل النها ُّ‬
‫ّ‬ ‫(خات َم أمئَّة الشيعة)‪ ،‬هو‬
‫يل ‪ ‬مبارشة‪ ،‬ومنه ترجع إىل الرسول‬
‫ابتدا ًء يف رسائل الفت َّوة إىل أحد األمئّة أو إىل اإلمام ع ّ‬
‫النبي آدم ‪.‬‬
‫والنبي إبراهيم ‪ ،‬ويف النهاية تتَّصل بنقطة البداية؛ أي َّ‬
‫ّ‬ ‫األعظم‪،‬‬

‫يتبي أنّها تشري إىل الدرجات املعنويَّة للرشيعة‬


‫ومن خالل نظرة عا َّمة عىل «رسائل الفت َّوة‪َّ ،‬‬
‫والطريقة والحقيقة‪ ،‬وتوضح أصول وأساليب وصول السالكني وطالبي الحقيقة (املهنيّني وأصحاب‬
‫الصناعات العاديَّة يف املجتمع) يف رداء الفت َّوة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬بذل أصحاب الفتوة وكبار العرفاء‬
‫[[[‬
‫جهو ًدا يف تدوين رسائل الفت َّوة‪ ،‬بهدف هداية املجتمع وضبط حياة الناس املعنويَّة‪.‬‬

‫وعمل بأصول‬
‫ً‬ ‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن الدخول إىل حلقة الفت َّوة‪ ،‬يتطلَّب مجاهدات كبرية‬
‫كل حلقة وصنعة؛ لذلك‬
‫باطني يف ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫يل‬
‫طي مرحلة طويلة وإجازة أستاذ وو ٍّ‬
‫معقَّدة‪ ،‬ويتحقَّق األمر بعد ِّ‬
‫تح َّدثت رسائل الفت َّوة عن أساليب دخول الحلقات والتزام الفتى بها‪ .‬وقد أشارت هذه الرسائل إىل‬

‫طهوري‪76-75 :1391 ،‬؛ كوربن‪)8-7 :1382 ،‬‬


‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬راجع‪:‬‬
‫الكيالين‪.)133-131 :1390 ،‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬موسوي‬

‫‪41‬‬
‫المحور‬

‫أمور من جملتها‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ :‬ارتداء اللباس والرساويل وما تحتها من ألبسة‪ ،‬ش ُّد الحزام‪،‬‬
‫خاصة تتناسب مع الثقافة‬
‫َّ‬ ‫مراسم رشب املاء وتناول امللح‪ ،‬تقديم السيف وقطع العهد طبق آداب‬
‫وكل صنف‪.‬‬
‫كل منطقة ِّ‬
‫الدينيَّة والشعبيَّة يف ِّ‬

‫يُشار إىل وجود ثالثة أساليب للدخول يف حلقة الفتيان‪ ،‬ذكرها املريزا عبد العظيم خان قريب‬
‫يف رسالته‪ ،‬عىل النحو اآليت‪:‬‬

‫أصناف الفتوة ثالثة أقسام‪ :‬األ ّول ُ‬


‫شيب‪ ،‬الثاين قويل‪ ،‬والثالث سيفي‪.‬‬

‫يل بني الفتيان‪ ،‬يعود إىل العهد الذي أخذه الله تعاىل‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل أ َّن أهميَّة العهد القو ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من ذرية آدم ‪ ‬يف الجنة‪ ،‬عندما خاطبهم ﴿أل ْس ُ‬
‫ت ب ِ َر ّبِك ْم﴾ فكان جوابهم‪﴿ :‬قالوا بَلى﴾[[[‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ َّ‬
‫والجامعة التي ال ترجع يف قولها‪ ،‬والتي بقيت وفيَّة له‪ ،‬هي األرواح الطاهرة لألنبياء واألولياء‬
‫والفتيان[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫والفتوة‪:‬‬ ‫العالقة بني ِّ‬
‫الفن والصنعة‬
‫من املفيد القول أ َّن تغيري معنى الفتوة من كونه مفهو ًما ُّ‬
‫يدل عىل الشجاعة والق َّوة والبسالة يف‬
‫خاصة‪ ،‬يتح َّرك فيها اإلنسان‬
‫َّ‬ ‫أسس لطريقة باطن َّية‬
‫الحرب‪ ،‬إىل تهذيب النفس ومحاربة الخصم‪ ،‬قد َّ‬
‫ين يضاعف من كيف َّية حياة‬
‫نحو الكامالت العقل َّية والتجلّيات اإلله َّية‪ ،‬عدا عن أ َّن السلوك العرفا َّ‬
‫الخاص َّية املعنويَّة اللطيفة تتَّصل‪ ،‬يف جانب منها‪ ،‬بالحكمة الخالدة والق َّوة‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان وعمقها‪ .‬وهذه‬
‫اإلله َّية األبديَّة‪ ،‬ويتَّصل طرفها اآلخر مببادئ التص ُّوف والتش ُّيع يف حياة اإليران ّيني؛ لترتك تأثريها عىل‬
‫وصول إىل الفنون واملهن‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل شؤونهم الوجوديَّة بد ًءا من العالقات االجتامع َّية‬
‫ِّ‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬أكَّدت جميع رسائل الفت َّوة عىل مقولة «أخي يجب أن يكون صاحب صنعة»؛‬
‫أل َّن الفت َّوة ت ُعرف من خالل ف ِّن الرجل وصنعته‪ .‬والفتى يف الثقافة اإليرانيَّة القدمية هو الرجل الف َّنان‬
‫يتجل ف ُّنه يف مهارته بصناعته فحسب؛ بل هو أيضً ا الذي يتخلَّق باألخالق السامويَّة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الذي ال‬
‫وتتجل الروح املعنويَّة واملعرفيَّة يف صنعته‪ .‬وميكن مشاهدة مناذج عن ذلك يف الصناعات‬
‫َّ‬
‫والفنون اإليرانيَّة ‪ -‬اإلسالميَّة‪ ،‬من قبيل الفنون املعامريَّة‪ ،‬الخطِّ‪ ،‬الرسم‪ ،‬التذهيب‪ ،‬الفنون التزيينيَّة‬

‫[[[‪ -‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.172‬‬


‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬أفشاري ومدايني‪[ 77-71 :1381 ،‬رسالة الفتوة‪ ،‬املريزا عبد العظيم خان قريب])‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫الخاصة باملساجد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والكتابيَّة واملعامريَّة‬

‫تجل الله بني الناس وعىل األرض‪ ،‬ظهور حقيقته عن‬


‫يعتقد أصحاب الفت َّوة أ َّن من جملة طرق ّ‬
‫الحق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫طريق الف ِّن وبني الفنانني من أصحاب الصناعات‪ .‬والف َّنان يحصل عىل أهل َّية رؤية جامل‬
‫الحق عن طريق املرآة املضاءة بنور الحقيقة املح َّمديَّة ‪ ،‬ليق ِّدمها‬
‫وتصبح روحه الئقة لقبول أمانة ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫للناس عىل صورة أثر ف ّن ٍّي‪ ،‬فهو قد أبدع هذا العمل الف ّن ِّي بتزكية النفس طبق الرشيعة‪ ،‬وبالسلوك يف‬
‫الوجودي إلدراك الحقيقة‪ .‬من هنا‪ ،‬يُ ْعطَى أدوات وآالت وأساليب وفنون‬
‫ِّ‬ ‫مسري الطريقة واالرتقاء‬
‫ومهارات تتنزل أصولها من الج ّنة وعامل امللكوت‪.‬‬

‫كل الفنون والصناعات‪ ،‬والتي انتقلت إىل املرشدين‬


‫الحق تعاىل منشأ ِّ‬
‫ُّ‬ ‫عىل هذا األساس‪ ،‬كان‬
‫وأساتذة ِ‬
‫الح َرف والفنون عن طريق جربائيل األمني واألنبياء واألولياء[[[‪ .‬والسبب يف ذلك‪ ،‬أ َّن جامله‬
‫اإللهي يف طريق السالك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تجل الجامل والكامل‬
‫وحقيقته كامل الظهور بصفات املالئكة‪ ،‬وف ّن ّ‬

‫كل عمل وفعل ألنبياء وألولياء الله؛ لذلك ال يحرصون‬


‫ليس غريبًا أن تُنسب رسائل الفت َّوة منشأ ِّ‬
‫كل‬
‫يل ‪‬؛ بل يعتربون أولياء الله البداية يف ِّ‬
‫بالنبي إبراهيم ‪ ‬والقطب باإلمام ع ِّ‬
‫ِّ‬ ‫بداية الفت َّوة‬
‫ساموي‬
‫ٍّ‬ ‫يل إىل مصدر‬
‫مشاغلهم وصنائعهم‪ ،‬حتَّى أنَّهم ينسبون األداة والوسيلة التي يستخدمها الو ُّ‬
‫وإلهي‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ينسبون بداية إعامر العامل إىل إبراهيم خليل الله‪ ،‬وبداية الحدادة إىل‬
‫ّْ‬
‫النبي شيث ‪ ،‬وبداية صناعة السفن والنجارة إىل‬
‫ِّ‬ ‫جاد إىل‬
‫النبي داوود ‪ ،‬وبداية حياكة الس َّ‬
‫ِّ‬
‫النبي إدريس ‪ ‬أو هرمس‪.‬‬
‫النبي نوح ‪ ،‬وبداية النساجة إىل ِّ‬
‫ِّ‬
‫الحق الذي أخرج‬
‫ِّ‬ ‫تجل ذات‬ ‫كانت ِ‬
‫الح َرف والصناعات مق َّدسة يف القديم‪ ،‬وهذا التقديس هو ّ‬
‫كتاب يحمل عنوان‪ :‬ساحة القدس‬
‫ٍ‬ ‫هذه ِ‬
‫الح َرف[[[‪ .‬ويؤكِّد رودولف أوتو (‪ )Rudollf Otto‬يف‬
‫(‪ ،)DasHeilige‬أ َّن مقام القدس أو الحقيقة القدس َّية تتجلَّ وتظهر‪ ،‬إلَّ أ َّن اإلنسان ال يدركها؛‬
‫قائل‪« :‬ميكن مشاهدة‬
‫ولذلك فإ َّن إدراكها هو إدراك تجلّيات وآثار الحقيقة القدس َّية‪ .‬وقد كتب ً‬
‫للحق يف الهندسة املعامريَّة‪ ،‬ورسم أيقونات الكنيسة ورسائل‬
‫ِّ‬ ‫التجلّيات الجامل َّية والجالل ّية‬
‫املناجات يف التوراة»‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬أراد أوتو القول أ َّن اإلدراك الف ّن َّي لليشء يُعطى لإلنسان من‬

‫[[[‪( -‬طهوري‪.)231 :1391 ،‬‬


‫[[[‪( -‬بازويك‪.)82 :1386 ،‬‬

‫‪43‬‬
‫المحور‬

‫السامء وساحة القدس[[[‪.‬‬

‫من هنا‪ ،‬عندما يؤ ّدي ِ‬


‫الح َرف ّيون وأصحاب الصناعات مشاغلهم يعيشون حياتهم‪ ،‬وعندما يرتدون‬
‫كسوة الفت َّوة ويتواضعون للتتلمذ عىل أيدي مرشد وأستاذ حلقة‪ ،‬فقد سلكوا مسري اآلخرة ووصلوا‬
‫إىل الحقيقة‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يصل الفتى بواسطة نور املعرفة إىل الخَلق األكرب‪ ،‬وإىل أكرث اآلثار‬
‫الفن َّية واملعنويّة استمرا ًرا يف مرحلة حياته؛ لذلك كانت املعرفة الدقيقة بالتقن َّيات الفن َّية‪ ،‬واملهارة‬
‫الحرف والفنون‪ ،‬جز ًءا من األصول األُوىل للفت َّوة‪.‬‬
‫يف ِ‬

‫عمل من دون معرفة‬


‫ً‬ ‫جاء يف بدايات رسائل الفت َّوة حول رشوط سلوك الفتى‪ :‬إذا بدأ شخص‬
‫أصول ذاك العمل وامتالك مهاراته الكافية‪ ،‬لن يكون سعي ًدا ويكون رزقه حرا ًما‪ .‬جاء يف «رسالة‬
‫الفت َّوة لحائيك الشيت»‪« :‬إ َّن ف َّن حياكة الشيت‪ ،‬إذا كان دون معرفة املبادئ املعنويّة‪ ،‬فهو رشك»[[[‪.‬‬
‫تذكّرنا هذه الرؤية برضورة النظر إل هذا الف ِّن عىل أنَّه عمل مق َّدس‪ ،‬وهذا الذي يضمن نجاة الشخص‬
‫يوم القيامة؛ أل َّن هذا النوع من األعامل ليس مج َّرد شغل ِ‬
‫وحرفة صدفة؛ بل هي عامل تح ُّول يف‬
‫كل‬
‫باطن صاحبها؛ لذلك يتعلَّم الفتيان يف حلقاتهم األذكار وذكر الله والقرآن‪ ،‬واالشتغال بهم يف ِّ‬
‫[[[‬
‫مراحل العمل‪.‬‬

‫صحيح أ َّن هذا األسلوب يف سلوك أصحاب الفت َّوة قد يشري إىل بعض الروايات‪ ،‬كالتي خاطب‬
‫جار‪ ،‬الفقه ث َّم املتجر»[[[‪.‬‬
‫جار وأصحاب الصناعات‪« :‬يا معرش الت َّ‬
‫فيها اإلمام أمري املؤمنني ‪ ‬الت َّ‬
‫تجل ذات‬
‫ّ‬ ‫يبي‬
‫إلَّ أ َّن نسبة هذا الكالم إىل أولياء الله فيه كناية لطيفة‪ ،‬وهي أنَّ‪ :‬الف َّن املق َّرر أن ّ ِ‬
‫والصناعي يسعى للوقوف عىل الرسوم األزليَّة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يف‬
‫الحق‪ ،‬ال ميكن أن يكون منشأه أرضيًّا؛ أل َّن الحر َّ‬
‫ِّ‬
‫فيعكس صورها عىل األرض‪ ،‬وهو مل يعمد إىل تصوير ما يف ذهنه أيضً ا‪ .‬من هنا كان التأكيد‬
‫الحق‪ ،‬والتي يكون له معنى آخر يُعبَّ عنه‬
‫ِّ‬ ‫عىل حفظ مقام األستاذ‪ ،‬وإيصال سلسلته إىل أولياء‬
‫بـ«اللوجود»‪.‬‬
‫َّ‬

‫الفتوة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الرمزية يف أصول َّ‬ ‫املعاين‬
‫ولكل واحدة‬
‫ِّ‬ ‫كل يوم‪،‬‬ ‫يشتغل الفتى ضمن صنعته ِ‬
‫وحرفته بآالت وأدوات وأصول تُنصب مقابله َّ‬
‫[[[‪( -‬بازويك‪.)36-33 :1392 ،‬‬
‫[[[‪( -‬كوربن‪[ )89-82 :1382 ،‬رسالة فتوة حائيك الشيت])‪.‬‬
‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬طهوري ‪.)238-237 :1391‬‬
‫الكليني‪.)150/5 ،1410 ،‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬راجع‪:‬‬

‫‪44‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫خاص يف قانون الفت َّوة‪ .‬يف بداية دخول الحلقات‪ ،‬يتلقَّى األستاذ من الطالب عه ًدا‬
‫ٌّ‬ ‫باطني‬
‫ٌّ‬ ‫منها مع ًنى‬
‫أل يضعف يف املسري الذي اختاره‪ ،‬وأن تكون أصول الفت َّوة أمام عينيه عىل الدوام‪ .‬والتع ُّهد‬
‫ووع ًدا َّ‬
‫صفي الله يف الج َّنة‪ .‬والتع ُّهد‬
‫ِّ‬ ‫ين‪ ،‬إشارة إىل العهد الذي أخذه الله تعاىل من ذ ّريَّة آدم‬
‫يل واللسا ُّ‬
‫القو ُّ‬
‫بالسيف الذي ُّ‬
‫يدل عىل الشجاعة والبطولة من الناحية الظاهريَّة‪ ،‬كناية عن الجهاد األصغر‪ ،‬ويف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الباطن فيه إشارة إىل الجهاد األكرب؛ مبعنى أن يكون اإلنسان عىل استعداد دائم لجهاد أهواء النفس‬
‫وشيطان داخله‪.‬‬

‫يب‪ ،‬والذي يجري بواسطة رشب املاء وامللح‪ ،‬فهو يعود إىل الرسول األكرم ‪‬‬
‫أ َّما التع ُّهد الرش ُّ‬
‫قليل من امللح ثالث م َّرات يف‬
‫يل ‪ ،‬حيث وضع ً‬
‫الذي أعطى لقب فتى األ َّمة اإلسالم َّية لإلمام ع ٍّ‬
‫قدح ماء‪ ،‬وقال إنَّها ‪ -‬دفعات امللح الثالث ‪ -‬عبارة عن رشيعة وطريقة وحقيقة اإلسالم‪ ،‬ث َّم أعطى‬
‫يل ‪ ‬ليرشبه‪.‬‬
‫املاء لإلمام ع ّ‬
‫الباطني للفرد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫املاء يف القدح‪ ،‬من وجهة نظر أصحاب الفت َّوة‪ ،‬فيه إشارة إىل املعرفة والعقل‬
‫ش ٍء َح ٍّي}[[[‪ .‬واملقصود‬
‫ومصدر الحياة الباطن َّية ومعرفة اإلنسان‪ ،‬فقد جاء‪َ { :‬و َج َعلْ َنا ِم َن ال َْم ِء ك َُّل َ ْ‬
‫الباطني‪ ،‬حيث يصبح األمر ذا معنى يف العالقة مبقام الرشيعة‬
‫ِّ‬ ‫من امللح‪ ،‬العدالة وتعادل اإلنسان‬
‫والطريقة الحقيقة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يتمكَّن اإلنسان مع هذه املراحل الثالث من الوصول إىل وحدته‬
‫الباطن َّية والخارج َّية‪ ،‬والتي تحصل مبساعدة التفكُّر وتزكية النفس[[[‪.‬‬

‫يل) يف بداية الدخول‪ ،‬كناية عن العفاف‬


‫يل (البنطال الداخ َّ‬
‫كام أ َّن ارتداء الطالب اللباس الداخ َّ‬
‫رصا مساع ًدا للسالك يف التخلُّص من أجزاء وجوده الدانية‪ ،‬بينام‬
‫والحشمة‪ ،‬حيث يشكِّل األمر عن ً‬
‫املعنوي الذي يجب أن يتجلَّ يف مراتب الوجود األعىل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يف إىل تعايل الفرد‬
‫تشري قلنسوة الصو ِّ‬
‫ح ِكم الفتيان الحزام يف وسطهم‪ ،‬أل َّن يف لك إشارة إىل‬
‫وبني هذين األمرين‪ ،‬جرى العرف أن يُ ْ‬
‫الشجاعة والغرية واستعداد الفرد الدائم للخدمة والقيام باعتباره فتى‪ .‬كام أحكم الرسول األكرم ‪‬‬
‫يل ‪ ،‬وقال‪« :‬أكملتك»؛ والكامل هنا فيه إشارة إىل اكتامل العهد‬
‫ربط الحزام وسط بدن اإلمام ع ِّ‬
‫وامليثاق[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬


‫الكاشاين])‪.‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬كوربن‪[ 23-21 :1382 ،‬رسالة فتوة‬
‫[[[‪( -‬م‪ .‬ن‪23 :‬؛ وحول معاين الرموز يف رسالة الفت َّوات راجع أيضً ا‪ :‬طهوري ‪235-234 :1391‬؛ شفيعي كدكني‪182-168 :1386 ،‬؛‬
‫ين‪.)140-133 :1390 ،‬‬
‫البغدادي‪1958 ،‬م‪256-231 :‬؛ موسوي الكيال ّ‬ ‫ّ‬ ‫غوليبناريل‪26-25 :1379 ،‬؛‬

‫‪45‬‬
‫المحور‬

‫كل شغل وصنعة ِ‬


‫وحرفة إىل أولياء الله وأنبيائه فيه معانٍ رمزيَّة‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬أ َّن‬ ‫ونلفت إىل أ َّن نسبة ِّ‬
‫ارتداء لباس أمر أنبياء الله بخياطته‪ ،‬كناية عن تغطية [ارتداء] الروح البرشيَّة‪ ،‬وسفينة نوح كناية عن‬
‫ِ‬
‫والحرف‬ ‫كل األعامل‬
‫الحق‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬ميكن ربط ِّ‬
‫ّ‬ ‫سفينة نجاة وهداية اإلنسان نحو مسري‬
‫باملفاهيم املعرفيَّة واإللهيّة‪.‬‬

‫إىل ذلك‪ ،‬تتح َّدث «رسالة فت َّوة الح َّدا ّدين» عن صنعة الحدادة‪ ،‬فرتسم الفتى وكأنّه يقوم بتشكيل‬
‫اإللهي‪ .‬فعندما ميسك الح َّداد بآالته‪ ،‬يتمتم بآيات من القرآن‬
‫ّْ‬ ‫خمرية وجوده‪ ،‬ث َّم يح ِّميها باملوقد‬
‫الحق والدين الحنيف‪ .‬عندما ميسك‬ ‫ِّ‬ ‫الكريم‪ ،‬فيها إشارة إىل نار العذاب ونور الهداية يف مسري‬
‫َ َّ ْ ّ ََ‬ ‫َ ُ َّ ْ َ‬
‫ار اللِ ال ُموق َدةُ﴾[[[‪ ،‬وعندما يضع الحديد عىل السندان ير ِّدد‪﴿ :‬أ ِن اتبِع مِلة‬ ‫الكمشة‪ ،‬ير ِّدد ﴿ن‬
‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫﴿خ ُذوهُ َف ُغلوهُ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫إب ْ َراه َ‬
‫ِيم َحن ِيفا﴾[[[‪ .‬والسندان فيه داللة عىل أوزار أعامل اإلنسان الباطن ّية‪ ،‬ث ّم يقول‪:‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫َُ َ‬
‫يم َصلوهُ ث ّم ف ِي سِلسِل ٍة﴾[[[‪ ،‬ونار الت ّنور فيها إشارة إىل النار التي كانت لهداية موىس‬ ‫ح َ‬ ‫* ث ّم الج ِ‬
‫َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ْ‬
‫خ َضر نَ ً‬ ‫َ ُ َ ُ ّ َ ْ َ ٌ َّ‬
‫ارا﴾[[[‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ال‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ج‬ ‫الش‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫ج‬ ‫ِي‬
‫ذ‬ ‫كليم الله يف الصحراء‪﴿ :‬وهو بِك ِل خل ٍق عل ِيم * ال‬

‫القصابني»‪ ،‬حيث يكون لآلالت واألدوات وأساليب ذبح الحيوان‬


‫وكذلك األمر يف «رسائل فت َّوة َّ‬
‫معانٍ معرف َّية وإله َّية‪ .‬يعتقد أصحاب الفت َّوة‪ ،‬أ َّن صنعة القصابة بدأت أ َّول م َّرة عندما علَّم جربائيل‬
‫صفي الله‪ ،‬وفيها إشارة إىل الذبح العظيم إسامعيل ‪ ‬ابن إبراهيم خليل الله‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األمني الذبح آلدم‬
‫ّْ‬
‫الحق‪.‬‬ ‫مستسلم ملقام‬
‫ً‬ ‫والذابح هنا‪ ،‬كالحيوان األضحية‪ ،‬يجد نفسه‬

‫ميكن مشاهدة مصاديق كثرية من هذا القبيل يف «رسائل فت َّوة أصحاب ِ‬


‫الحرف والصناعات»‪:‬‬
‫جاد‪ ،‬كناية عن ميزان األعامل يوم القيامة‪ ،‬واملرآة يف ِحرفة الحالقة‪،‬‬
‫فامليزان والحجر يف حياكة الس َّ‬
‫كناية عن مرآة األعامل يوم القيامة‪ ،‬حيث يقف الفرد عىل أعامله[[[‪ .‬والحبل وامليزان يف ِحرفة‬
‫لف الحبال‪ ،‬كناية عن الرصاط وامليزان يوم القيامة‪ .‬وكذلك «رفع األحامل» يف «رسائل فت َّوة‬
‫ِّ‬
‫الحملني»‪ ،‬يرتادف مع حمل األمانة اإللهيّة‪ ،‬و«السلَّم» يف السفن كناية عن مراتب ورتب الفتيان‬
‫َّ‬
‫يف مقامات الرشيعة والطريقة والحقيقة‪ .‬وقواعد السلَّم‪ ،‬هي مراتب الطريقة نحو السامء‪ ،‬وهي التي‬

‫[[[‪ -‬سورة الهمزة‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬


‫[[[‪ -‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.123‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الحاقة‪ ،‬اآليات ‪.32-30‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يس‪ ،‬اآليتان ‪.80-79‬‬
‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬افشاري ومدايني‪ 171 :1381 ،‬و‪.)223‬‬

‫‪46‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫تشري للمراتب العليا[[[‪.‬‬

‫احلرفة طبق طريقة األستاذ والتلميذ‪:‬‬


‫معىن ِ‬
‫إ ّن الفتيان الذين أصبحوا مع تغيري مفهوم الفتوة أصحاب ِحرفة وصنعة‪ ،‬يعتربون أ ّن صنعتهم‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ين‬ ‫ِ‬
‫وحرفتهم مصدرها الذات اإلله ّية‪ ،‬والهدف من عملهم إعادة الجامل والكامل يف الوجود اإلنسا ّ‬
‫إىل موقعه األساس؛ أي الج ّنة والفطرة األزل ّية‪.‬‬

‫ِ‬
‫الحرفة ال تعني هنا إيجاد يشء جميل أو إبداع ناشئ من مهارة أو تقنيَّة‪ ،‬فالهدف منها هو السري‬
‫والسلوك وتربية روح اإلنسان‪ ،‬وإيصالها إىل كامل املعرفة اإللهيَّة‪ .‬من هنا‪ ،‬تؤكِّد رسائل الفتوة عىل‬
‫حضور القلب وقدسيَّة العمل مع التزام الفرد ودقَّته باإلتيان بأوامر املرشد الذي يشكِّل األسلوب‬
‫يل للسلوك‪ .‬هذه الرؤية ميكن مشاهدتها يف ِ‬
‫الحرف الرشقيَّة يف اليابان والرشق األقىص‪ ،‬فالذي‬ ‫العم َّ‬
‫مثل‪ ،‬أو كسب مهارة يف استخدام السيف‬
‫يخضع للتعليم ال يهدف إلبداع صنعة باسم تنسيق الزهور ً‬
‫أو الرماية بالقوس؛ بل هدفه االت ِّصال بحقيقة العامل الباطنيَّة والفرق يف النور والسيطرة الوجوديَّة؛‬
‫كل ِحرفة هي نوع من‬ ‫ليصل إىل مقام من ال قلب له‪ ،‬ومقام ال أعلم؛ لذلك يعترب اليابانيّون أ َّن يف َّ‬
‫الرتبية مت ُّد اإلنسان برؤية جامليَّة لحياته؛ ولذلك تحصل الحكمة والذكاء بني األبطال اليابانيّني‬
‫(الساموراي) عن طريق التفكُّر واإلرشاق تحت إرشاف تعاليم الطريقة‪.‬‬

‫كل أنحاء‬
‫وتبذل الجهود بني أصحاب الفت َّوة يف اعتبار أصولها؛ كقانون شامل يلقي ظالله عىل ِّ‬
‫وجود الحياة البرشيّة‪ ،‬فتصبح الفت َّوة شبيهة بنمط حياة للشخص الذي يتمكَّن انطالقًا من أوضاعه‬
‫وموقعه من السري الصحيح نحو الله‪ .‬كذلك هو الحال يف الثقافة اليابان َّية‪ ،‬حيث متتزج األبعاد‬
‫األخالق َّية واملعرف َّية بأنحاء الحياة البرشيَّة‪ ،‬حتَّى يف الحاالت الجزئ َّية؛ كارتشاف الشاي أو تنظيم‬
‫مم يضفي أبعا ًدا متعالية عىل هذه األعامل البسيطة والصغرية‪ ،‬فتظهر أكرث عمقًا‬
‫سفرة الطعام‪َّ ،‬‬
‫وتجربة وتأخذ بيد الفرد نحو الحقيقة النهائ َّية‪ .‬وتؤيّد هذه القض َّية الهدوء الذي يسود بعد أداء هذه‬
‫الشخيص لألفراد[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الطقوس‪ ،‬وأرسار الحكمة وتجلّياتها يف السلوك‬

‫[[[‪( -‬طهوري‪.)80-77 :1391 ،‬‬


‫(موسوي الكيالين‪.)138-137 :1390 ،‬‬
‫ُّ‬ ‫[[[‪-‬‬

‫‪47‬‬
‫المحور‬

‫ّ‬
‫ُسنة األستاذ والطالب واإلبداع‪:‬‬
‫يجري التأكيد بني الفتيان ويف حلقات الفت َّوة عىل سلسلة شيوخ الطريقة وأساتذتها‪ ،‬وقد بلغت‬
‫حته متوقِّفني عليه‪ ،‬والسبب يف ذلك أ َّن السري‬
‫أهميَّة وجود األستاذ حتَّى اعتُرب بطالن العمل وص َّ‬
‫املعنوي للفتى‪ ،‬والوصول إىل القرب ِم َن الله‪ ،‬يستلزم الجهاد األكرب مع أهواء النفس‬
‫َّ‬ ‫والسلوك‬
‫املرافقة للفرد يف األحوال كافَّة‪ ،‬ولن يتحقَّق هذا األمر من دون مساعدة أستاذ ومصاحبة رفيق‬
‫املعنوي توصل الفرد إىل املقصد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عطوف كمرشف من ذاك املقام‬

‫األه ُّم من ذلك‪ ،‬أ َّن عالقة األستاذ والطالب تصل إىل األنبياء واألولياء عند تبيني السلسلة وشجرة‬
‫أي قول؛ بل يعترب أ َّن ذاته قد‬
‫النسب؛ مبعنى أ َّن األستاذ ليس عنده يش ٌء من نفسه‪ ،‬وهو ال ميتلك َّ‬
‫وصلت إىل مرحلة الفناء والعدم‪ .‬وطريقة السلوك هذه تبيِّ أ َّن ِح َرف أصحاب الفتوة ذات منشأ‬
‫ساموي‪ ،‬وهي متّصلة بنح ٍو ما بالوحي[[[‪ .‬وهكذا هي الطريقة والحكمة ِ‬
‫الح َرف َّية املتعا َرف عليها‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫والتي ال تُقْطع إلَّ بحضور أستاذ صاحب نفس وشخص من أهل الكرامات‪.‬‬

‫أي شخص سيكون عاج ًزا عن االستمرار مبسريه من دون هداية‬


‫ال ريب يف إدراك السالك أ َّن َّ‬
‫دليل ومساعدة أستاذ‪ [[[.‬وقد جاء يف «رسالة الفت َّوة السلطانيَّة»‪« :‬إ َّن أ َّول يشء يحتاجه النبَّال أستاذ‬
‫أي مقصد‪،‬‬
‫مشفق‪ ،‬حيث ال ميكن لشخص أن يبدأ هذا العمل من دونه‪ ،‬وإذا بدأه لن يوصله إىل ِّ‬
‫ولن يكون عمله مفي ًدا»[[[‪.‬‬

‫يف السياق عينه‪ ،‬أكَّدت رسائل الفت َّوة عىل أ ّن «أصل الطريقة تنتقل من األستاذ إىل الطالب‪،‬‬
‫أي عمل صحيح»[[[؛ ولذلك ش َّدد أغلب تلك الرسائل عىل‬
‫وكل من يجهل ذلك لن يصدر منه ُّ‬
‫ُّ‬
‫طي الطريق من دون مساعدة األستاذ هو ضالل؛ بل سبب طرد الطالب من حلقة الفت َّوة‪ .‬ومن‬
‫أ َّن َّ‬
‫هذا املنطلق‪ ،‬يرتسم موقع األستاذ بالنسبة إىل الطالب؛ أي الوالية الوجوديَّة؛ من هنا‪ ،‬ينبغي عىل‬
‫طي طريقه بهدايته وإرشافه‪ ،‬سواء‬
‫الطالب أن يق ِّدمه باستمرار‪ ،‬وال يغفل عن تنفيذ أوامره‪ ،‬وأن يتابع َّ‬
‫يف بيئة العمل أم يف خارجها‪ ،‬وحتَّى يف الحياة الشخص َّية‪ .‬هذا ما نشاهده أيضً ا يف الثقافة اليابان َّية‪،‬‬
‫حتَّى أنَّها ظهرت يف طريقة جلوس الطالب عند األستاذ‪ ،‬وكيف َّية اإلجابة عن األسئلة‪ ،‬والكثري من‬

‫[[[‪( -‬بازويك‪.)87 :1389 ،‬‬


‫[[[‪( -‬هريكل‪.)34 :1377 ،‬‬
‫السبزواري‪.)361 :1350 ،‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪( -‬الكاشفي‬
‫[[[‪( -‬افشاري ومدايني‪.)260 :1381 ،‬‬

‫‪48‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫املوارد األخرى املد َّونة‪.‬‬

‫حق األستاذ‬
‫من جملة التوصيات التي جاءت يف «رسالة فت َّوة صانعي األحذية»‪« :‬إذا ُسئلت عن ِّ‬
‫عىل الطالب‪ ،‬قل‪ :‬ستَّة حقوق‪ :‬األ َّول الخدمة‪ ،‬الثاين الع َّزة‪ ،‬الثالث فضله‪ ،‬الرابع مح َّبته‪ ،‬الخامس‬
‫عدم الضعف يف األعامل‪ ،‬السادس الصرب عىل الشدائد»[[[‪ .‬وتح َّدثت هذه الرسائل عن األستاذ يف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫رضا يف فكر الطالب باستمرار مشفقًا عىل هدايته»‪.‬‬


‫أنَّه «يجب أن يكون حا ً‬
‫ومم جاء يف «رسائل فت َّوة الط َّباخني»‪« :‬يجب أن يكون األستاذ كسري النفس‪ ،‬وأن ال يقبل‬
‫َّ‬
‫كل‬
‫للمؤمن ما ال يقبله لنفسه‪ ،‬وأن يكون مغطَّى الرأس زاه ًدا‪ ،‬هام ًدا‪ ،‬دائم الوضوء‪ ،‬وأن يكون ُّ‬
‫السهروردي» خطاب أستاذ لطالبه‬
‫ِّ‬ ‫ما يقوله صدقًا»[[[‪ .‬وقد جاء يف «رسالة فت َّوة شهاب الدين عمر‬
‫كل مقام‪ ،‬فإ َّن برص قلوبنا وأعيننا وأسامعنا وخواطرنا معك‪ ،‬ونحن يف‬
‫رضا يف ِّ‬
‫كاآليت‪« :‬اعتربين حا ً‬
‫كل حركاتك»[[[‪.‬‬
‫كل مقام حارضون وواقفون عىل ِّ‬
‫ِّ‬

‫يف ضوء ما تق َّدم‪ ،‬يتأكد أ َّن األستاذ يف الحقيقة هو صديق الطالب ومرافقه ومساعده؛ لذلك‬
‫يجب االستضاءة بفكره‪ ،‬ومعرفة قلبه‪ ،‬وإعطاؤه سعة يف الصدر‪ .‬وليس مستغربًا أن يجري التشديد‬
‫ّْ‬
‫الحق»[[[؛‬ ‫يف «عوارف املعارف» عىل أنّه «يجب أن يجد السالك صديقًا من أجل التق ُّرب إىل‬
‫كل واحد منهم اآلخر‬
‫مبعنى أ َّن ساليك الطريق يعتربون أنفسهم أصدقاء بعضهم لبعض‪ ،‬ليساند ُّ‬
‫ّْ‬
‫الحق‪.‬‬ ‫يف مسري‬

‫كل منهام‪،‬‬
‫ال ب َّد من القول أ َّن هذه العالقة بني األستاذ والطالب ترتبط‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬بسلوك ٍّ‬
‫تاريخي لهذه القض ّية‪ ،‬هجرة املري الس ّيد‬
‫ٍّ‬ ‫ولعل أفضل منوذج‬
‫َّ‬ ‫والذي عىل أساسه تتط َّور وتقوى‪.‬‬
‫ين‪ ،‬حيث هاجر عىل أثر ذلك ما يقرب من سبعامئة‬
‫يل إىل الهند بتوص ّية من عالء الدولة السمنا ّ‬
‫ع ّ‬
‫شخص ِم َن الحرف ّيني والصناع ّيني م َّمن يشتغلون بالحياكة والرسم واملوسيقى‪ [[[.‬والسبب يف ذلك‪،‬‬
‫أ ّن سلوك أصحاب الفتوة قد امتزج بعملهم وحرفتهم‪ ،‬حيث يرتبط هذا األمر بنفس األستاذ‪.‬‬

‫أي خطأ يرتكبه الطالب مع األستاذ‪ ،‬كخداعه‬


‫املسألة الجديرة باإلشارة هنا يف طريقة الفتيان‪ ،‬أ َّن َّ‬

‫[[[‪( -‬افشاري‪.)62-61 :1382 ،‬‬


‫[[[‪( -‬م‪ .‬ن‪.)71-70 :‬‬
‫[[[‪( -‬كوربن‪.)56 :1382 ،‬‬
‫(السهروردي‪)187 :1384 ،‬‬
‫ُّ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫[[[‪( -‬بازويك‪.)85 :1389 ،‬‬

‫‪49‬‬
‫المحور‬

‫كل ذلك يؤ ّدي‬


‫الشخيص‪ُّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫أي شكل من أشكال امل َّنة عليه‪ ،‬أو الُّلجوء إىل املهارات والفهم‬
‫مثل؛ بل َّ‬
‫ً‬
‫إىل طرده من الحلقة‪ .‬وهكذا األمر يف الثقافة اليابان َّية‪ ،‬ومنها تجربة هريكل يف إتقان وتعلُّم الرمايَّة‬
‫من األستاذ‪ ،‬فعندما بدأت عالمات التعب تظهر عليه لجأ إىل تقن َّياته الشخص َّية فيها‪ ،‬فجرى طرده‪.‬‬
‫وخطأ هريكل‪ ،‬من وجهة نظر األستاذ‪ ،‬ليس الخداع فحسب؛ بل عدم امتالكه الصرب والتواضع يف‬
‫طي املسري‪ ،‬والحقيقة أنَّه مسري يتطلَّب الصرب والجهد املتواصلني يف حالة نكران الذات[[[‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يجب االلتفات إىل أ َّن الرصاع الدائم مع النفس وحضور القلب يف طريقة الفت َّوة‪ ،‬هو أصل‬
‫كل يوم‪ ،‬ويعيشون حربًا دامئة مع أنفسهم‪،‬‬
‫الحركة؛ فالحرف ّيون يف الثقافة اليابان َّية يؤ ُّدون التامرين َّ‬
‫حيث يشكِّل هذا األمر أساس حروبهم الخارج َّية‪ ،‬وقد أُطلق يف الثقافة اإلسالم َّية عىل هذه الحرب‬
‫عنوان‪ :‬الجهاد األكرب‪.‬‬

‫يئ عند الحرف ّيني وأصحاب‬


‫من هذا املنطلق‪ ،‬ميكن القول أ َّن الذات الخف َّية لهذا الف ِّن‪ ،‬وتط ُّوره النها ُّ‬
‫الفت َّوة‪ ،‬هام التغلّب عىل النفس وتزكيتها‪ .‬فعندما يغوص الشخص يف ذاته‪ ،‬يصل إىل أعمق أُ ُسس‬
‫الروح؛ أي إىل األساس الذي ال أساس بعده‪ .‬وللوصول إىل هذا املوقع ال ب َّد من حضور القلب‪،‬‬
‫والتمرين الدائم‪ ،‬والحرب اليوم َّية‪ ،‬والتي تجعل من ق َّوته الروح َّية أو العرفان َّية قادرة عىل الوصول إىل‬
‫الحق[[[؛‬
‫جه اإلنسان سهامه إىل وجود ذاته‪ ،‬يجد عدم نفسه يف طريقه نحو ّ‬
‫حدود الكامل‪ .‬وعندما يو ِّ‬
‫لذلك قيل‪« :‬انزع بنفسك حجاب ذاتك»‪ ،‬حتى متيض عىل الطريق يقظًا عاريًا من امل َّنة‪.‬‬

‫كل يوم إىل مهارة‪ ،‬وأن يثبتوا‬


‫من هنا‪ ،‬ينبغي عىل الفتيان والحرف ّيني‪ ،‬يف هذه التامرين‪ ،‬أن يصلوا ّ‬
‫الج ّديَّة يف عملهم؛ أل ّن إمتام العمل وإكامله من جملة رشوط أصحاب الفت َّوة‪ ،‬وقد قالوا إ َّن الفتى‬
‫ال يبادر إىل عمل‪ ،‬وإذا بدأه وجب عليه الوصول إىل متام الصناعة وكاملها‪.‬‬

‫السلمي حول رشوط أهل الفت َّوة يف كتابه‪ ،‬فقال‪« :‬ومن‬


‫ُّ‬ ‫يف هذا اإلطار‪ ،‬تح َّدث أبو عبد الرحمن‬
‫الفت َّوة‪ :‬إمتام الصنيعة إذا ابتدأت بها»[[[‪ .‬وعىل املنوال نفسه‪ ،‬يُش ِّدد أصحاب الطريقة يف الثقافة‬
‫اليابانيَّة عىل إمتام العمل عىل أحسن وجه؛ أل َّن الفتى يأيت بحرفته يف مقام األولياء واملرشدين‬
‫الحق يشتغلون بال َّرسم والعمل‪ .‬من هنا‪ ،‬كان التأكيد عىل أ َّن‬
‫ِّ‬ ‫وكبار الطريقة‪ ،‬ولعلَّهم يف محرض‬
‫متاميَّة العمل من خصائص هذه الطريقة‪ .‬وهذا ما تشري إليه الطريقة اليابانيَّة‪ ،‬كام يف قضايا تنسيق‬

‫[[[‪( -‬هريكل‪.)90-86 :1377 ،‬‬


‫[[[‪( -‬م‪ .‬ن‪)33-30 :‬؛‬
‫(السلمي‪.)284 :1372 ،‬‬
‫ّْ‬ ‫[[[‪-‬‬

‫‪50‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫الزهور والرماية‪ ،‬حتَّى عندما يعمد الرامي إىل إطالق نباله نحو هدف ال يدركه يف قلب الليل‪،‬‬
‫وكذلك الحال عند الدقَّة يف ال ُّرسوم واألعامل الهندسيَّة والروح العا َّمة الحارضة يف اآلثار الفنيَّة‬
‫كل ذلك ُّ‬
‫يدل‬ ‫اإلسالميَّة التقليديَّة‪ ،‬وأيضً ا يف الكتابات والزخارف وبناء املساجد وألوانها املتن ِّوعة‪ُّ ،‬‬
‫تجل الذات اإللهيَّة يف‬
‫عىل كامل األستاذيَّة وإكامل الحرفة عىل أفضل وجه ممكن‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الف ّْن‪ .‬وتجب اإلشارة إىل أ َّن من أه ِّم أصول الحرفة عىل طريقة الفتيان‪ ،‬الوصول إىل كامل العدم‬
‫ونكران الذات‪.‬‬

‫كل يشء عنده‪،‬‬


‫من املفيد القول أ َّن السالك يستم ُّر بالعمل عىل استحاالته الباطن َّية؛ ليفنى ُّ‬
‫للحق‪ ،‬فيكون له وجو ٌد آخر‪ .‬وهو يبذل جهو ًدا للعب دور مؤث ّر‬
‫ِّ‬ ‫فتصبح حياته يف الحقيقة مظه ًرا‬
‫كل صنعة يعمل بها‪ ،‬حتّى ال يجد جه ًدا يف وجوده‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬كلّام أصبح‬
‫يف كل حرفة‪ ،‬ويف ّ‬
‫اإللهي الحكيم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫أكرث معرفة بسلطته عىل ذاته وحرفته‪ ،‬وأدخل ذاته فيها‪ ،‬ابتعد عن اإلبداع الحر ّ‬
‫وأ ّما إذا ألقى النبل أثناء الرماية من دون «ذاته»‪ ،‬كان صائ ًبا؛ لذلك إذا أخطأ النبل الهدف‪ ،‬فالتامرين‬
‫املك ّررة ال تس ّبب تعب لألستاذ‪ ،‬وال تدفع الطالب لليأس وفقدان األمل؛ ألنّه قد تخلّص من ذاته‪.‬‬
‫ميس من دون مداد منه [املقصد‬
‫وأ ّما الوصول إىل مقام «ال هدف»‪ ،‬فهو أمر غاية يف الصعوبة‪ ،‬غري ّ‬
‫إل عن طريق إلغاء النفس والتغلّب‬
‫يتيس هذا األمر الها ّم يف تعبري هريكل ّ‬
‫يئ] وجذب إليه‪ .‬ال ّ‬
‫النها ّ‬
‫بأي من التعلّقات‪.‬‬
‫عليها‪ ،‬فيكون الكامل من دون «األنا» ويقطع التعلّق ّ‬

‫الحواس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وعىل هذا األساس‪ ،‬كانت الوصايا املك َّررة يف رسائل الفت َّوة برضورة إغالق أبواب‬
‫وكل ذلك يؤ ّدي إىل صحوة الروح‪ .‬وانطالقًا‬
‫واالستعداد الدائم والتسليم من دون سؤال وجواب‪ُّ ،‬‬
‫يف عىل صنعته‪ ،‬خالفًا‬
‫أي تعلُّق‪ ،‬يُقْبل الحر ُّ‬
‫من هذا املقام املشبع بحضور القلب والتح ُّرر من ِّ‬
‫اليومي املعاش‪ ،‬وعندما يحتاج األمر إىل طاقة وق َّوة كبرية‪ ،‬تتحقّق هذه الحرفة‬
‫ِّ‬ ‫للمنطق والعقل‬
‫يئ ومن دون قصد‪ .‬وهذا يُطلق عليه يف الثقافة الصين َّية «حالة الالَّعمل»‪،‬‬
‫يف الخارج بشكل تلقا ٍّ‬
‫ويف الثقافة البوذيَّة «عدم الذهن َّية»‪ ،‬ويف الثقافة الهنديَّة «عدم القصد»‪ ،‬ويف ثقافة اإلسالم «الرىض‬
‫يئ[[[‪.‬‬
‫والتوكّل»‪ ،‬وكلّها تؤ ّدي إىل الفالح النها ّ‬
‫ليس غريبًا أن يكون «الجهل» أحد رشوط السلوك والدخول إىل الحلقات يف الثقافة اليابانيَّة‪،‬‬

‫[[[‪( -‬هريكل‪74-59 :1377 ،‬؛ طهوري‪.)284-281 :1391 ،‬‬

‫‪51‬‬
‫المحور‬

‫حتَّى أنَّهم يوصون املنتسبني إىل الحلقات بنسيان معارفهم وعلومهم املاضية[[[‪ .‬وعندما يصل‬
‫الحق والحقيقة‬
‫ِّ‬ ‫يف والفتى إىل جهله ونكران ذاته‪ ،‬ويف الوقت عينه إىل تعيني الفرق يف ذات‬ ‫ِ‬
‫الح َر ُّ‬
‫يف اليوم‪ ،‬يبذل جهده ألخذ صورة تتطابق مع‬ ‫الغائيَّة‪ ،‬تصبح صنعته صنعة من ال صنعة له‪ِ .‬‬
‫فالح َر ُّ‬
‫ذهنه‪ ،‬ويستخدم كامل إبداعه ومهارته ليحصل عىل تقنيَّات قادرة عىل املطابقة بني صورته الذهنيَّة‬
‫وصنعته املخلوقة‪ .‬أ َّما أصحاب الفت َّوة‪ ،‬فيصلون إىل مقام نكران الذات والتخلُّص من ذهنيَّاتهم‪.‬‬
‫لذلك؛ لو اكتفى بف ِّنه وصنعته‪ ،‬فلن يتقن ِحرفته‪ ،‬بينام طبق هذه الطريقة‪ ،‬يكون ما يص ّوره خار ً‬
‫جا عن‬
‫يل‪ ،‬وكام يعبِّ أفالطون فقد وصل إىل املُثُل وإىل حقيقة‬
‫رقابته‪ ،‬وهذه صورة عامل يذكِّر بالعامل األز ِّ‬
‫األشياء وطبيعتها‪ ،‬وهي حقيقة موجودة عند الحقيقة املطلقة‪ ،‬أودعت يف عامل خياله[[[‪.‬‬

‫يف عىل تطبيق ِحرفته وف ِّنه مع املُثُل والحقائق التي تتشكَّل يف‬ ‫يف ضوء ذلك‪ ،‬يقترص عمل ِ‬
‫الح َر ِّ‬
‫عامل الخيال‪ ،‬يف أثناء االت ِّصال بالحقيقة األزل َّية‪ ،‬والتي تتشكَّل بدورها عند نكران الذات والعدم‬
‫قائل‪« :‬عندما يحرض الغرض يحتجب الف ُّن‪ ،‬فقد خرج ألف حجاب‬
‫مولوي ً‬
‫ُّ‬ ‫الكامل؛ لذلك أنشد‬
‫من القلب نحو الرؤية»‪.‬‬

‫[[[‪( -‬طهوري‪.)278 :1391 ،‬‬


‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬بازويك‪.)65-61 :1392 ،‬‬

‫‪52‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫اخلالصة‪:‬‬
‫نخلص إىل القول أ َّن الهدف من اكتساب ِ‬
‫الح َرف والصناعات طبق طريقة الفت َّوات‪ ،‬هو السري‬
‫والسلوك‪ ،‬وأيضً ا تربية روح وقلب اإلنسان‪ ،‬وإيصالهام إىل كامل املعرفة اإلله َّية‪ .‬ويتحقَّق األمرعن‬
‫طريق تصفية النفس‪ ،‬وامتالك البصرية الباطن َّية‪ ،‬والعمل بالطرق واألساليب واملناسك والضوابط‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الدينيَّة‪.‬‬

‫أهميَّة هذا الجهد أنَّه يوصل الفرد إىل الصالح‪ ،‬وعىل أثر هذا الصالح تتَّصل روح اإلنسان‬
‫بحقيقة العامل النهائيَّة‪ ،‬مع التأكيد عىل حضور القلب وتق ُّدس العمل‪ ،‬ث َّم إ َّن املرشد األستاذ يبذل‬
‫املعنوي كالرفيق املشفق له يف محاربة النفس‬
‫ِّ‬ ‫جهوده لرتبية نفس الطالب‪ ،‬ويصبح من خالل نفوذه‬
‫والوصول إىل الهدوء‪ .‬ومع الوصول إىل نكران الذات يتف َّوق يف إبداع الف ِّن واالتِّصال مبصدره‪.‬‬

‫اليومي والصرب عىل‬


‫ِّ‬ ‫وال ريب يف أ َّن هذا املسري يتحقَّق‪ ،‬من وجهة نظر األستاذ‪ ،‬بالرصاع‬
‫املجاهدة هذا من جهة‪ ،‬ومع الج ّديَّة والدقَّة يف إمتام الصنعة من جهة أخرى‪ .‬وعندما يتخلَّص‬
‫يف من معارفه‪ ،‬ويغوص يف جذبة نور الحقيقة‪ ،‬يصل إىل كامل االنفصال عن ذاته‪ ،‬فيصبح‬
‫الحر ُّ‬
‫قاد ًرا عىل تصوير عامل املعنى يف خلقه الف ّن ّْي‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫يل أكرب‬
‫‪2.2‬ابن قولويه الق ّم ّي‪ ،‬أيب القاسم جعفر بن مح َّمد (‪ ،)1375‬كامل الزيارات‪ ،‬تصحيح بهزاد جعفري وع ّ‬
‫غفّاري‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة الصدوق‪.‬‬

‫ين‪ ،‬طهران‪ :‬حقيقت‪.‬‬


‫‪3.3‬اعتضادي الدن (‪ ،)1390‬الف ّن والجامل يف العرفان اإليرا ّ‬
‫‪4.4‬افشاري‪ ،‬مهران (‪ ،)1382‬رسائل الفتوة ورسائل الخاسكاريَّة (ثالثون رسالة)‪ ،‬طهران‪ ،‬مركز دراسات العلوم‬
‫اإلنسان َّية واملطالعات الثقاف َّية‪.‬‬

‫‪5.5‬افشاري‪ ،‬مهران ومهدي مدايني (‪ ،)1381‬الفت َّوة وأصناف الفت َّوات (‪ 14‬رسالة يف باب الفت َّوة وأصنافها)‪،‬‬
‫ط‪ ،2‬طهران‪ :‬چشمه‪.‬‬

‫‪6.6‬بازويك‪ ،‬شهرام (‪« ،)1386‬معنى الصنعة يف الحكمة اإلسالم َّية‪ ،‬رشح وتحليل رسالة املري فندرسيك‬
‫الصناع َّية»‪ ،‬فصل َّية خردنامه صدرا‪ ،‬العدد ‪.48‬‬

‫اإلسالمي»‪ ،‬فصل َّية «بينات»‪ ،‬العدد ‪ ،17‬طهران‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪7.7‬بازويك‪ ،‬شهرام (‪« ،)1389‬الطريقة املعنويَّة والف ُّن‬

‫مؤسسة التأليف والرتجمة ونرش‬


‫‪8.8‬بازويك‪ ،‬شهرام (‪ ،)1392‬حكمة الف ّن والجامل يف اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،3‬طهران‪َّ :‬‬
‫اآلثار الفن َّية‪.‬‬

‫البغدادي‪ ،‬ابن معامر (‪ ،)1958‬كتاب الفتوة‪ ،‬تصحيح مصطفى جواد وآخرين‪ ،‬بغداد‪ ،‬مكتبة املثنى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪9.9‬‬

‫ين‪ ،‬ط‪ ،7‬طهران‪ ،‬أمري كبري‪.‬‬


‫‪1010‬زرين كوب‪ ،‬عبد الحسني (‪ ،)1385‬بحث يف التص ُّوف اإليرا ّ‬
‫السلمي‪ ،‬أبو عبد الرحامن (‪ ،)1372‬مجموعة اآلثار‪ ،‬جمع نرص الله ﭘور جوادي‪ ،‬طهران‪ :‬مركز النرش‬
‫ّ‬ ‫‪1111‬‬
‫الجامعي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ين‪،‬‬
‫السهروردي‪ ،‬الشيخ شهاب الدين (‪ ،)1384‬عوارف املعارف‪ ،‬ترجمة أبو منصور بن عبد املؤمن األصفها ّ‬
‫ّ‬ ‫‪1212‬‬
‫بعناية قاسم أنصاري‪ ،‬ط‪ ،3‬طهران‪ :‬العلم َّية الثقاف َّية‪.‬‬

‫‪1313‬شفيعي كدكني‪ ،‬مح ّمد رضا (‪ ،)1386‬القلندريَّة يف التاريخ‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات سخن‪.‬‬

‫اإلسالمي)‪ ،‬طهران‪ :‬العلم َّية‬


‫ّ‬ ‫‪1414‬طهوري‪ ،‬نري (‪ ،)1391‬ملكوت املرايا (مجموعة مقاالت يف حكمة الف ّن‬
‫الثقاف َّية‪.‬‬

‫ين‪ ،‬كامل الدين عبد الرزَّاق (‪ ،)1369‬تحفة اإلخوان يف خصائص الفتيان‪ ،‬تصحيح الس ّيد مح ّمد‬
‫‪1515‬الكاشا ّ‬
‫الدامادي‪ ،‬طهران‪ :‬العلم َّية الثقاف َّية‪.‬‬

‫السبزواري‪َّ ،‬‬
‫املل حسني واعظ (‪ ،)1350‬رسالة فت َّوة السلطان َّية‪ ،‬بعناية مح َّمد جعفر محجوب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪1616‬الكاشفي‬
‫مؤسسة إيران الثقاف َّية‪.‬‬
‫طهران‪َّ ،‬‬

‫‪54‬‬
‫رسائل الفت َّوة‬

‫يل أكرب‬
‫الرازي‪ ،‬أيب جعفر مح ّمد بن يعقوب (‪ 1401‬ق)‪ ،‬الفروع من الكايف‪ ،‬ج‪ ،4‬تصحيح ع ّ‬
‫ّ‬ ‫الكليني‬
‫ّ‬ ‫‪1717‬‬
‫غفَّاري‪ ،‬ط‪ ،3‬بريوت‪ ،‬دار املعارف‪.‬‬

‫‪1818‬كورين‪ ،‬هرني (‪ ،)1382‬قانون الفت َّوة‪ ،‬ترجمة إحسان نراقي‪ ،‬طهران‪ :‬سخن‪.‬‬

‫‪1919‬كولپيناريل‪ ،‬عبد الباقي (‪ ،)1379‬الفتوة يف الدول اإلسالم َّية‪ ،‬ترجمة‪ :‬توفيق هـ‪ .‬سبحاين‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫روزنه‪.‬‬

‫قم‪ ،‬أديان وانتشارات مدرسة‬


‫اإلسالمي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ين‪ ،‬الس ّيد رىض (‪ ،)1390‬مدخل إىل منهج َّية الف ّن‬
‫موسوي الكيال ّ‬
‫ّ‬ ‫‪2020‬‬
‫هند اإلسالم َّية‪.‬‬

‫‪2121‬هريكل‪ ،‬أويغن (‪ ،)1377‬الـ ِذن يف ف ّن الرماية‪ ،‬ترجمة ع‪ .‬ﭘاشايئ‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ :‬فراروان‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫فتوة الروح يف فتوحات حميي الدين بن عريب‬
‫َّ‬
‫بني الوجود ِّ‬
‫احلق وحماق العدم‬

‫ليىل عبد الكريم خليفة‬


‫ف‬ ‫ف‬
‫عر� ـ األردن‬
‫باحثة ي� تاري ــخ الحضارات وأستاذة جامعية متخصصة ي� فكر ابن ب ي‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫عر�‪ ،‬سعيا وطوافا‬ ‫تتناول هذه الدراسة مفهوم الفتوة عند ابن ب ي‬
‫يلت�‬ ‫وال�ع‪ ،‬واإلنباء واالعتبار‪ .‬ق‬ ‫ش‬ ‫والوح‬ ‫ب� المجاز والحقيقة‪،‬‬ ‫ين‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫والقوة‬ ‫َّ‬ ‫الفتوة‪ ،‬بما يحويه من مفاهيم مكارم األخالق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مفهوم‬
‫األك�‪.‬‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫ب‬ ‫واالقتدار‪ ،‬بمفاهيم النبوة والحكمة والعلم ي� مذهب الشيخ‬
‫عر� إىل‬ ‫يش� ابن ب ي‬ ‫تع� عن فطرة اإلنسان وإيمانه‪ .‬وهويته الروحية‪ .‬ي‬ ‫ب‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ت‬
‫«الف� الروح» باعتباره «القلب الحول الذي ي� كل صورة يتحول»‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ستدل‬ ‫وي‬‫الكيا� المنيف‪ُ ،‬‬ ‫ن ِّ‬ ‫ال�يف والمنصب‬ ‫اإلله ش‬ ‫ِّ‬ ‫ذو «النسب‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اإلله بفطرته‬ ‫ي‬ ‫وفتوته»‪ .‬يتحقق السالك طالب العلم‬ ‫به عىل كرمه‬
‫ً‬ ‫ِّ ً‬
‫مجددا عهده مع هللا‪ ،‬من قبل أن يجوب الكون باحثا عن الحكمة‬
‫َّ‬ ‫تمثل َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫الفتوة عند ابن‬ ‫قصة‬ ‫معت�ا بأخبار األمم واألنبياء‪.‬‬ ‫ب‬ ‫اإللهية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عر�‪ ،‬قصة رحلة ت‬
‫الف� الروح‪ ،‬يشبهه بـ«قمر الصدق»‪ ،‬وترقيه من‬ ‫بي‬
‫ً‬ ‫ِّّ‬
‫المك‪ ،‬طلبا للحكمة‬ ‫ي‬ ‫التمام إىل الكمال‪ ،‬ومن قدس النفس إىل الحرم‬
‫ّْ‬
‫اإلله‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ي‬ ‫النبوية وللعلم‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫تنظ�ها ي� الفتوحات‬ ‫ولقد خصصنا موضوع فتوة الروح كما جرى ي‬
‫تأسيسية لهذه الدراسة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المكية واعتمادها كمرجعية‬
‫***‬
‫َّ‬
‫فتوة الروح‪ ،‬مكارم األخالق‪ ،‬الحقيقة‬ ‫مفردات مفتاحية‪:‬‬
‫القلم األعىل‪،‬‬ ‫عل‪ ،‬الفروسية‪ ،‬العلم‬ ‫ت‬
‫ي‬ ‫المحمدية‪ ،‬الف� إال ي‬
‫ن‬
‫الروحا�‪.‬‬ ‫نزُّ‬
‫ي‬ ‫الت�ل‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫يتح َّدث الشيخ األكرب محمد محيي الدين بن عريب(‪560‬ــــ ‪638‬هـ) يف الباب األول من‬
‫كتابه “الفتوحات املك َّية”‪ ،‬عن لقائه فتى روحان ّياً يف مكَّة املك َّرمة‪ .‬كان ذلك‪ ،‬بالقرب من الحجر‬
‫مكبا ً‪ ،‬ومهلِّالً»‪ ،‬وكام يقول‪:‬‬
‫جدا ً‪ِّ ،‬‬
‫األسود‪ ،‬بينام كان يسعى ويطوف بالكعبة املعظَّمة‪« ،‬مس ِّبحاً‪ ،‬مم ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫«تارة ألثم وأستلم‪ ،‬وتارة للملتزم ألتزم»[[[‪ .‬يح ِّدثنا الشيخ عن هذا اللقاء‪ ،‬وعمَّ دار بينه وبني الفتى‬
‫يئ مم َّيز يستحوذ ببالغته عىل تركيز القارئ حتى ينجح بجعله يتقلَّب معه‬
‫ين بأسلوب استثنا ٍّ‬
‫الروحا ِّ‬
‫النص سعياً وطوافاً‪ ،‬بني املجاز والحقيقة‪ ،‬والواقع والخيال‪ ،‬وبني الروح والجسد‪ ،‬كام بني‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫الصفا واملروة‪ ،‬وبني الحجر واملقام؛ حتى يشعر وكأنه يكاد يرى الفتى مع ابن عريب‪ ،‬ويكاد يطوف‬
‫ويسعى‪ ،‬بل ويدخل معهام «كعبة الحجر»‪.‬‬

‫ين قد ت َّم يف حرضة غيب َّية‪ ،‬يقول‪« :‬تيقَّنت أن‬


‫يخربنا الشيخ أ َّن اللقاء بينه وبني الفتى الروحا ِّ‬
‫يئْ»[[[‪ .‬يصفه كام خلقه‬
‫حي ومر ّ‬
‫األمر غيب»‪ ،‬ولكنه يستدرك قائالً‪« :‬وإنَّه لدى الكشف والتحقيق ٌّ‬
‫«حي ليس مبائت»‪ .‬حياته ذات َّية وما مي ُّر عىل يشء إالَّ‬
‫ٌّ‬ ‫الله‪ ،‬بأنَّه «بسيط مركَّب»‪« ،‬صامت ناطق»‪،‬‬
‫كل صورة يلبسها‪ ،‬فيحييها ويعطيها معناها‪ .‬له ما يلزمه من القوة والعلم لذلك‪،‬‬
‫ويحييه‪ .‬ويتح َّول يف ِّ‬
‫يل منها‪ ،‬ليوصل املعاين‬ ‫وله أيضاً من الكرم واإليثار ليتح َّول بصور ِّ‬
‫كل يشء من العامل حتى السف ِّ‬
‫جهل مقامه عند الناس‬
‫كل آن وعندما ينام‪ُ .‬‬
‫إىل السالك‪ .‬بل هو الذي يقوم عىل خدمته وحفظه يف ِّ‬
‫وفاتهم أمره‪ ،‬فوصفه الشيخ األكرب بالفتى «الفائت»‪ .‬وهو وإن كان يف االعتبار السيد «الفائق» يفوق‬
‫الخلق‪ ،‬فإنه يظهر بصورة العبد الخادم‪ ،‬يقول ابن عريب‪« :‬فإن الروح ال رياسة عنده يف نفسه وال‬
‫كل مكان من عل ٍّو وسفل‪ ،‬وإن كان له الرشف من حيث‬
‫يقبل الوصف بها»[[[‪ .‬كالنور مثَله‪ ،‬يصل إىل ِّ‬
‫نوران َّيته‪ ،‬فهو ال يتواىن أن يكون السيد الخديم‪.‬‬

‫فهم ابن عريب رسَّ فت َّوة الفتى الروح‪ .‬يش ّبه ُه تارة بالقمر يخرتق بأمر الله ليل هيكل اإلنسان‪ ،‬ينريه‬
‫كل تحوالته‪ ،‬ثابتاً عىل فطرته محامياً عنها‪ .‬ويش ِّبهه‬
‫وينري له طريقه إىل الحق‪ ،‬باقياً عىل متام حقيقته يف ِّ‬
‫ابن عريب‪ ،‬تارة أخرى‪ ،‬بالصخرة أمام رمي السنان‪ ،‬يسميه بأيب الفوارس صخر بن سنان[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 47.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 48 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،2.‬ص‪. 606 .‬‬
‫[[[‪ -‬رسالة اإلتحاد الكوين يف حرضة اإلشهاد العيني‪ ،‬تم نرشها م َّرات عديدة ونجدها هنا ضمن مجموعة رسائل البن عريب تحت عنوان‬
‫الرسالة الوجوديَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،2004 ،‬ص‪.243 .‬‬

‫‪57‬‬
‫المحور‬

‫فالفتى‪ ،‬وقد فطر عىل الكرم والفتوة التي تتميز بثباتها عىل مر الزمان‪ ،‬ال تهرم وال تتغري‪ ،‬تغنت‬
‫بها العرب‪ ،‬ونظم شعراؤهم يف ثبات سامت الفتى الكامل الرجل‪ ،‬الكثري من القصائد‪ ،‬مام استحسنه‬
‫شيوخ التصوف فيام بعد‪.‬‬
‫يرى ابن عريب أن علم فطرة هذا الفتى الروح الثابت عند الطعان‪ ،‬هو علم التوحيد الذي يشمل‬
‫علم ربوب َّية الخالق وعبوديَّة الخلق‪ .‬يع ِّرف الفتى نفسه بالعبوديَّة‪ ،‬ال تدخلها رائحة الربوب َّية‪ .‬وبذلك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪‬أل َ ْس ُ‬
‫ت ب ِ َر ّبِك ْم‬ ‫أخذ الله عليه ميثاق فطرته يف األزل حني أشهده عىل ذلك‪ ،‬وفقاً لآلية الكرمية‬
‫َ ُ ْ َ‬
‫قالوا بَلى‪ .[[[‬بهذا امليثاق ط َّوق الله اإلنسان‪ ،‬الذي خلق من علق النسيان‪ ،‬ليحفظ عليه عهده‪،‬‬
‫فيشهد لسان حال الفتى استعداده الذود عنه حتى املوت‪ ،‬يقول ابن عريب‪:‬‬
‫قل للذي خلق اإلنسان من علق جعلت عهدك يف التوحيد يف عنقي[[[‪ .‬ثم جعل الله‪ ،‬لهذا‬
‫اإلنسان املط َّوق بعهد الفطرة وميثاقها يف عامل الذ ِّر‪« ،‬مييناً يف الحجاز»‪ ،‬أمنوذجاً ورمزا ً‪ ،‬الحجر‬
‫األسود؛ ليتذكَّر ويبايع ويج ِّدد العهد يف عامل الرتاب‪ .‬وقف الشيخ عىل حقيقة الفتى وعىل ألطاف‬
‫إشاراته وألغازه يف حوزة الحجاز ومكَّتها‪ ،‬فهم أ َّن حقيقته هي الروح القدس‪ ،‬وامللك املوكَل‬
‫جلة التي‬ ‫الحق يف علم التص ُّوف‪ ،‬يقول‪« :‬امللك يف وجودنا املطلوب للقيامة املع َّ‬ ‫ِّ‬ ‫بساليك درب‬
‫القديس»[[[‪ .‬يخربنا ابن عريب أنَّه قبّل ميينه ومسح من عرق‬
‫ّ‬ ‫تظهر يف طريق التص ُّوف هو الروح‬
‫الوحي جبينه‪ ،‬وعرب مجاز حقيقته وامتثل بالسمع والطاعة ألمره‪ .‬وقد أمره الروح بالسري عىل إثره‪،‬‬
‫يل بنور قمري حتى تأخذ من نشأيت ما تسطره يف كتابك‪،‬‬ ‫حني قال له‪« :‬طُف عىل أثري وانظر إ َّ‬
‫ومتليه عىل كتابك»[[[‪ .‬طاف ابن عريب عىل إثر الفتى‪ ،‬قمر الروح‪ ،‬جالسه وآنسه‪ ،‬فهم رمزه وعنوانه‪.‬‬
‫أخذ عنه‪ ،‬وشهد له بالفت َّوة‪ ،‬فقال‪« :‬وفاز القمر بالفت َّوة»[[[‪ .‬فهم رمزه الحجر األسود‪ ،‬وقد اسو َّد‬
‫«اسوداد السيادة»[[[‪ ،‬لقد تناول الشيخ األكرب هذه الجوانب لفت َّوة الروح وقد تجلَّت يف الفتى‬
‫الروحاين‪ ،‬من حيث مجازه ورمزه يف الباب األول من كتابه «الفتوحات»‪ ،‬تحت عنوان «يف معرفة‬
‫الروح الذي أخذت من تفصيل نشأته ما سطرته يف هذا الكتاب‪ ،‬وما كان بيني وبينه من األرسار»‪.‬‬
‫حي‪ .‬ولك َّنه تعمد أن يُبهم هويَّته‪،‬‬
‫إنيس‪ ،‬وأنه ّ‬
‫ٌّ‬ ‫وأما شخص هذا الفتى الروح‪ ،‬فيؤكِّد ابن عريب أنه‬

‫[[[‪ -‬األعراف‪.172 :‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.46 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪.114 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 48 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪. 330 .‬‬
‫[[[‪ -‬تعود معاين االسوداد والسيادة يف اللغة العرب َّية إىل الجذر «سود»‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬وإن تناولت كتب األدب موضوع اسوداد الحجر‬
‫أبيض عالمة الخطايا‪ ،‬فإنه يحمل أيضاً معنى عالمة السيادة‪ ،‬ولهذا املوضوع يف عرفان ابن عريب خصوص َّية‪ ،‬من حيث‬
‫َ‬ ‫األسود بعد أن كان‬
‫اعتباره يف خروج آدم وهبوطه من الجنة كام يقول‪«:‬هبوط ترشيف وتكريم» ال عقوبة ملعصية‪ ،‬يراجع الباب ‪ 313‬من الفتوحات‪ ،‬كام يراجع‬
‫الحديث الثاين والثالثون يف اسوداد الحجر االسود من الباب ‪73‬يف الحج وأرساره‪ .‬ويراجع ف‪ ،4 .‬ص‪. 349 .‬‬

‫‪58‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫فأومأ إليه ومل يذكره رصاحة‪ ،‬وكأنه أراد من ذلك استثارة ه َّمة من يرابط يف الفتوحات‪ ،‬فيلقاه‬
‫بالجهاد والفتح‪ .‬وسنأيت عىل ذكر هويَّة هذا الفتى الروح‪ ،‬الحقاً إن شاء الله‪.‬‬

‫ترتبط‪ ،‬إذا ً‪ ،‬الفت َّوة عند ابن عريب بروح النب َّوة‪ ،‬وبالكعبة الرشيفة وبيمني الله حجرها األسود‪،‬‬
‫رشفة‪ .‬وكتب كتابه “الفتوحات املك َّية” وقد‬
‫كام ارتبط مكان الفتح عنده مبكَّة الربكات‪ ،‬وكعبتها امل َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫استقى علومه كام رأينا “فتحاً” من الفتى الروح‪ .‬وصار هذا الكتاب بني كتب العلامء يف ميادين‬
‫“الكشوف العرفانيَّة”‪ ،‬كعبتهم وقبلتهم‪ .‬وإن كلمة الفتح ومشتقَّاتها من فتوحات وفتوح‪ ،‬أخذت‬
‫معنى “الكشوف اإلله َّية”‪ .‬وأصبح معنى الفتح مصطلحاً صوف ّياً متعا َرفاً عليه يف هذا السياق‪ ،‬يقول‬
‫ابن عريب‪:‬‬
‫[[[‬
‫عـلم فتـح واشـربـوه لبنـاً‬ ‫ ‬
‫فاقتنـوا للعـلم مـن أعمـالكـم‬
‫ّغوي للفتوحات اإلسالميَّة خطأً إىل اللغات األوروبيَّة‬
‫االصطالحي الل ُّ‬
‫ُّ‬ ‫كثريا ً ما يرتجم املعنى‬
‫يف‪ ،‬لقلنا ‪ .overtures‬واألصل يف معنى‬ ‫بالغزو أو باالستيالء ‪ conquêtes‬ولو شئنا املعنى الحر َّ‬
‫هذا االصطالح (الفتوحات اإلسالم َّية) تقديره‪ ،‬أن نتيجة جهاد فتيان املسلمني وفتوحاتهم للبلدان‬
‫التي مل يصلها اإلسالم‪ ،‬أن الله سبحانه وتعاىل‪ ،‬يقول عبد الكريم خليفة‪« :‬مي ّن عىل هذه البالد‬
‫بفتحها وإخراج أهلها من دار الجهل باإلسالم إىل دار العلم واإلميان به»[[[‪ .‬وفيام يصف ابن‬
‫عريب الفرتة التي كانت قبل فتح الله عليه «ورجوعه إىل هذا الطريق»‪ ،‬يقول «زمان جاهليَّتي»[[[‪.‬‬
‫ونالحظ أنه يتع َّمد أن ال يقول زمان جهيل‪ ،‬متييزا ً لفرتة ما قبل اإلسالم‪ ،‬عىل أنها جاهلة لإلسالم‪ ،‬ال‬
‫ين‪ ،‬لها خزائن علوم رشيفة‪ ،‬ترمز لفرتة كمون‬ ‫فرتة «جهل»‪ .‬وإن هذه الفرتة عىل صعيد العلم العرفا ِّ‬
‫يف سلوك الفتى املريد لها وظيفة برزخيَّة رشيفة‪ ،‬أفرد ابن عريب لها الفص السادس والعرشين‬
‫من كتاب «فصوص الحكم» اندرجت تحت عنوان «فص حكمة صمديَّة يف كلمه خالديَّة»[[[‪.‬‬
‫يل وفصاحته جعلته حتى يومنا هذا أمنوذجاً يُحتذى به‪ .‬التزم به شعراء‬ ‫وإن بالغة الشعر الجاه ِّ‬
‫الصوف َّية من دون استثناء ومنهم ابن عريب‪ [[[،‬وعمر بن الفارض «سلطان العاشقني» وغريهام كرث‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 22 .‬‬


‫[[[‪ -‬عبد الكريم خليفة (شفوياً)‪ ،‬ويقول ابن منظور يف لسان العرب‪«:‬الجاهل َّية زمن الفرتة وال إسالم ‪ ...‬ويف الحديث إنك امرؤ فيك‬
‫جاهل َّية‪ ،‬هي الحال التي كانت عليه العرب قبل اإلسالم من الجهل بالله سبحانه ورسوله ورشائع الدين واملفاخر باألنساب ‪.»..‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 185 .‬‬
‫ل الله عليه وسلَّم ــ بقوله‪« :‬نبي‬
‫َّ‬ ‫ص‬ ‫ــ‬ ‫الرسول‬ ‫إليه‬ ‫أشار‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫الجاهل‬ ‫حكامء‬ ‫من‬ ‫العبيس‪،‬‬ ‫غيث‬ ‫بن‬ ‫سنان‬ ‫بن‬ ‫خالد‬ ‫شخص‬ ‫[[[‪ -‬اإلشارة إىل‬
‫أضاعه قومه»‪ ،‬أخذ ابن عريب باإلشارة النبويَّة واعتمدها من باب الحكمة النبويَّة الربزخ َّية ‪.‬‬
‫يل يظهر أثرها عنده‪ .‬تتَّضح‬
‫يب الجاه ِّ‬
‫[[[‪ -‬ال ميكن فهم مقاصد ابن عريب العرفان َّية يف أشعاره‪ ،‬إالَّ بالرجوع إىل أساليب ومناهج الشعر العر ِّ‬
‫خصوصاً يف ديوانه «ترجامن األشواق»‪ ،‬حيث نجد الحديث عن العيس‪ ،‬وريح الصبا‪ ،‬والوقوف عىل األطالل‪ ،‬وندبها‪ .‬وأسلوب التوجه‬
‫يل‪ ،‬وكثرياً ما يضمن‬‫يب الجاه ِّ‬
‫بالحديث إىل الشخص بصيغة املثنى «قفا» و«خلييل»‪ ،‬وكثرية هي األمثلة توضح تأثُّر ابن عريب بالشعر العر ِّ‬
‫مؤلَّفاته أبياتاً لشعراء ال يذكر أسامءهم‪ ،‬مفرتضاً إملام القارئ بالشعر العريب ودواوين شعرائه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫المحور‬

‫املك‬
‫ّ ِّ‬ ‫وكأن اعتامد ابن عريب «الفتوحات املكيَّة» عنواناً لكتابه هو من باب اإلشارة إىل الفتح‬
‫ين للعامل الكبري (‪)macrocosme‬‬ ‫والفتوحات اإلسالميَّة يحتذي بها السالك‪ .‬يجوز من البعد الكو ِّ‬
‫ين لإلنسان‪ ،‬العامل الصغري(‪ ،)microcosme‬ينتقل من الجهل بالطريق‪ ،‬إىل العرفان‬ ‫إىل البعد الكيا ِّ‬
‫ين‪ ،‬تتواىل بعد ذلك عنده‬ ‫بالسلوك‪ .‬بعد فتح مكة صدره وطوافه حول كعبة قلبه‪ ،‬ولقائه فتاه الروحا َّ‬
‫تعب‬‫حواسه‪ .‬يأخذ مسار الفت َّوة‪ ،‬الصور املجازيَّة التي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الفتوحات يف مشارق روحانيَّاته‪ ،‬ومغارب‬
‫عن سري الفتى ب َّرا ً وبحرا ً‪ ،‬ليال ونهارا ً‪ ،‬سام ًء وأرضاً‪ ،‬رشقاً وغرباً‪ ،‬يقطع بالد الروم وأرض فارس‪،‬‬
‫ويحط بالهند والصني‪ ،‬يقول الشيخ‪:‬‬
‫أريباً له بح ٌر عىل أرضها قد طام‬ ‫ ‬
‫نزلت بالد الهند أطمع أن أرى‬
‫[[[‬
‫أقمنا بها والليل بالصني قد سجا‬ ‫فتلك برازخ األوىل شيدوا العىل ‬
‫وإن تتق َّدم الصور املجازيَّة يف مصطلحات الفت َّوة والفتوحات‪ ،‬فإن معنى طلب علم الكشوف‬
‫العرفان َّية والعلوم اإلله َّية الذي تعلَّق مبفاهيم الفت َّوة والفتوحات يف التص ُّوف‪ ،‬مل يلغ املعنى الظاهر‬
‫األول للفتوحات من جهاد وفروسيَّة وسياحة يف طلب العلم‪ .‬يثري عنوان “الفتوحات املكيَّة”‬
‫يف مخيِّلة القارئ صور ومعاين الفت َّوة والفروسيَّة والشجاعة والكرم‪ ،‬إىل جانب الواردات اإللهيَّة‬
‫وحس ّياً؛‬
‫ّ‬ ‫والعرفان َّية والكشوف الغيب َّية‪ .‬وقد حرص ابن عريب عىل أن تكون سياحته حقيق َّية معنويّاً‬
‫ط يف مدنها‬ ‫ومن يراجع سريته‪ [[[،‬يجد أنه وصل مشارق األرض مبغاربها‪ ،‬قطع بواديها وبحارها‪ ،‬وح َّ‬
‫حل‪ .‬وكان ال يغفل عن أخبار جهاد املرابطني واملدافعني عن دار‬ ‫وكان له تالمذة ومريدون حيثام ّ‬
‫اإلسالم حيثام أقام‪ ،‬فكثري من املرابطني كانوا من أهل التص ُّوف‪ .‬ويف هذا السياق الذي يجمع‬
‫املعنى الظاهر والباطن‪ ،‬والذي حرص عىل اعتامده وبيانه يف جميع مؤلفاته‪ ،‬ال تفوتنا اإلشارة إىل‬
‫مسار واحد‪ ،‬يعترب من أهم الشخصيات التي عرفت بتأثرها بالشيخ األكرب‪ ،‬وهو األمري عبد القادر‬
‫ومعنى‪ ،‬بالجهادين األكرب (معنويّاً)‬
‫ً‬ ‫حساً‬
‫الجزائري (ت ‪1300‬هـ)‪ ،‬الذي طبَّق مبدأ جمع الفتوحات ّ‬
‫[[[‬
‫(حسيّاً) عىل أرض الواقع‪.‬‬‫واألصغر ِّ‬
‫ُّ‬
‫التصوف والعرفان‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الفتوة يف تراث‬
‫قبل أن نتع َّمق يف خصوص َّية موضوع الفت َّوة يف مجال التص ُّوف وعلم العرفان‪ ،‬وال سيام عند‬
‫ابن عريب‪ ،‬نعود قليالً لنلقي نظرة رسيعة عىل خلفية الفت َّوة بشكل عام‪ .‬فقد ج ّد الناس يف طلبها منذ‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 68 .‬‬


‫[[[‪ -‬كلود عداس‪ ،‬ابن عريب‪ ،‬سريته وفكره(مرتجم)‪ ،‬بريوت‪ ،‬املدار اإلسالمي‪ ،2014 ،‬محمد الحاج يوسف‪ ،‬شمس املغرب‪ ،‬سرية الشيخ‬
‫األكرب ومذهبه‪ ،‬حلب‪ ،‬فصلت للدراسات والرتجمة والنرش‪.2006 ،‬‬
‫[[[‪ -‬ليىل خليفة‪« ،‬الفت َّوة عند األمري عبد القادر الجزائري‪ :‬فتوحات ومواقف»‪ ،‬الجزائر‪ 2010 ،‬نرش ضمن أعامل امللتقى الدويل الخامس‬
‫للمركز الوطني للبحوث‪ ،‬تحت عنوان صولة الروح‪ ،‬تنسيق وتقديم زعيم خنشالوي‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫[[[‬
‫قديم الزمان ويف جميع الحضارات اإلنسانيَّة ملا تحتمله من معاين الفروسيَّة‪ ،‬والق َّوة والفتاء الدائم‪،‬‬
‫ومبا تشتمل عليه من معاين محاسن املكارم واألخالق‪ ،‬والحكمة‪ ،‬متثّل صفات الروح ال تهرم أبدا ً‪،‬‬
‫توسعت كتب األدب[[[ ودواوين شعر الحامسة يف تعريف الفت َّوة واملروءة‬ ‫يف عمل َّية تج ُّدد دائم‪َّ .‬‬
‫والتغ ّني مبا لها من مكارم األخالق‪ ،‬من حلم وصرب ونجدة وعفَّة وحياء وعفو وشجاعة وفروس َّية‪ ،‬وكرم‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫وإيثار‪،‬غايته اإليثار بالنفس‪ .‬وأخذ مفهوم الفت َّوة عند القبائل العربيَّة يف جزيرة العرب قبل اإلسالم‪،‬‬
‫كل واحد منهم‬ ‫أهميَّة جعلته من أه ِّم مق ِّومات السيادة‪ .‬احتفت القبائل بأمثلة منوذجيَّة للفتيان‪ ،‬يتميَّز ُّ‬
‫يئ‪ ،‬والحلم لألحنف بن قيس‪،‬‬ ‫بخصلة جعلته مرضب مثلها‪ ،‬فكان عىل سبيل املثل الكرم لحاتم الطا ِّ‬
‫وهلم ج َّرا ً‪ .‬وتص َّدرت الفت َّوة فرتة صدر اإلسالم مبواقف الصحابة والفتوحات اإلسالم َّية بفتيانها‪ ،‬كان‬
‫من أبرزهم حمزة عم الرسول ‪ ،‬وعيل بن أيب طالب‪ ،‬وقد قيل فيه «ال فتى إال عيل»‪ ،‬ألنه‬
‫كام يقول ابن عريب‪« :‬الويص والويل»[[[ وسنعود إليه الحقاً‪ ،‬وخالد بن الوليد صاحب الفتوحات‬
‫الحاسمة‪ ،‬وغريهم كرث من فتيان الفتوحات اإلسالم َّية‪ .‬عربت الفت َّوة طبقات املجتمع‪ ،‬وجذبت جميع‬
‫الخاصة‪ ،‬يف أمور دنيويَّة وأخرى دين َّية عىل ح ٍّد سواء‪ .‬برزت يف النقابات‬ ‫َّ‬ ‫فئاته‪ ،‬نجدها بني العا َّمة وبني‬
‫الحرفيَّة‪ ،‬ويف الرشطة والجند‪ .‬وملعت بني فئات وحركات اجتامعيَّة مثل الظرفاء والطرفاء والعيارين‬
‫والشطار‪ .‬ونجد حكايات بطوالتها يف البادية‪ ،‬كام نجد نوادرها يف الحوارض ويف دواوين الخلفاء[[[‪،‬‬
‫وكان الخليفة العبايس النارص لدين الله (ت‪622 .‬هـ) من أه ِّم الخلفاء الذي اعتنوا بالفت َّوة‪ ،‬وعرف‬
‫[[[‬
‫بإحيائه «نظام الفت َّوة» بني الناس اجتامع ّياً ويف َّ‬
‫مؤسسات الدولة‪.‬‬

‫فتي السن‪ ،‬وفت ّياً‪ .‬وأما الفت َّوة وهي من الجذر نفسه‪:‬‬
‫[[[‪ -‬يقول صاحب اللسان‪ ،‬الفتاء يف اللُّغة هو الشباب‪ ،‬والفعل منه فتى يفتو فتا ًء‪ ،‬فيقال َّ‬
‫بي الفت َّوة‪ .‬فالفتى هو من يجمع معاين الكرم والشجاعة‪،‬‬ ‫تفتى وتفاىت‪ .‬ويقال فتى ّ‬ ‫فهي مبعنى السخاء والكرم والشجاعة والنجدة‪ ،‬والفعل ً‬
‫والقوة والحيو َّية التي تالزم معنى الفتاء مبعنى الشباب‪ ،‬حتى ولو مل يكن فتي السن‪ ،‬فقد يكون شباب وال فت َّوة‪ ،‬وقد يكون شيخاً وصاحب‬
‫فتوة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬انترشت كتب األدب بشكل واسع عرب قرون من الحضارة اإلسالم َّية العرب َّية نذكر عىل سبيل املثال ال الحرص«العقد الفريد» البن عبد‬
‫ربه(‪328‬هـ)‪ ،‬و«أمايل» القايل(‪356‬هـ) ونهاية األرب للنويري (‪733‬هـ) وغريهم ‪ .‬تناولت هذه الكتب موضوعات مختلفة من مكارم األخالق‬
‫يتحل‬‫َّ‬ ‫والشعر واألدب والسرية النبو َّية وحكم األنبياء والتاريخ العام‪ ،‬عىل اعتبار أن هذه العلوم هي مبثابة متطلب الثقافة العا َّمة‪ ،‬يجب أن‬
‫تخصصت يف آداب التص ُّوف تشتمل عىل السرية‬ ‫َّ‬ ‫بها طالب العلم‪ ،‬بل كل فرد يستطيع القراءة ‪ .‬وعىل غرار هذا املبدأ الرتبوي‪ ،‬ظهرت كتب‬
‫النبويَّة وكثري مام جاء يف هذه اكتب باإلضافة إىل ذكر أحوال األولياء وأقوالهم‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4.‬ص‪.357 .‬‬
‫يل ويف صدر اإلسالم يف الباب الثاين من كتابنا ‪IbnArabi L’initiation à la Futuwwa,‬‬ ‫ِّ‬ ‫الجاه‬ ‫العرص‬ ‫يف‬ ‫ة‬‫و‬‫[[[‪ -‬تناولنا موضوع َّ‬
‫الفت‬
‫‪ Beirout, 2001‬بشكل متهيدي لبيان وإيضاح أهم َّية الخلف ّية التاريخ َّية ملفهوم الفت َّوة يف تراث األدب العريب عند الشيخ األكرب‪.‬‬
‫[[[‪ -‬حكم الخليفة العبايس النارص لدين الله خالل خمسة عقود‪ ،‬وقد أخذ عىل عاتقه النهوض بدار الخالفة اإلسالم َّية يف وقت كانت‬
‫مؤسسات الدولة‪ ،‬ونهض بها‪ ،‬واعتمد لهذه النهضة إحياء نظام الفت َّوة‪.‬‬ ‫تشهد فيه ضعف وتدخُّالت خارج َّية وداخل َّية‪ .‬جدد خالل فرتة خالفته َّ‬
‫نال الخليفة النارص اهتامم الباحثني‪ ،‬كان أولهم مصطفى جواد (أطروحة الدكتوراه ‪ ،)1932‬وال يزال االهتامم بالخليفة العبايس يثري اهتامم‬
‫املتخصصني‪ ،‬باعتبار ما اعتمده من دعائم النهضة‪ ،‬يعترب عالمة فارقة يف تاريخ الخلفاء والحكَّام‪ .‬ومن أهم الباحثني كانت الباحثة األملان َّية‬ ‫ِّ‬
‫خصصته لسريته ومساره يف الحكم (‪.)1975‬‬ ‫انجليكا هارمتان‪ ،‬يف كتابها الذي َّ‬
‫‪An-Nasir li-Din Allah. Politik, Religion, Kultur in der späten Abbasidenzeit. (= Studien zur Sprache,‬‬
‫‪Geschichte und Kultur des islamischen Orients. N.F. Band 8). Berlin/ New York 1975.‬‬

‫‪61‬‬
‫المحور‬

‫دخلت الفت َّوة عامل التص ُّوف‪ ،‬وصارت من أهم أعمدته‪ .‬فقد أجمع شيوخ التص ُّوف عىل أ َّن‬
‫مذهبهم يقوم عىل مبدأ مكارم األخالق وعلومها‪ .‬وعليه‪ ،‬تناولت كتب أدب التص ُّوف علوم وأحوال‬
‫ومقامات السلوك مؤكِّدة أنَّه هو أوالً‪« ،‬خلق» «وعفة» «وكرم»؛ أي فت َّوة‪ .‬وأ َّن التخلق مبكارم األخالق‬
‫مم ال بد منه للمريد‪ ،‬وال يسمح له بالسياحة والتع ُّمق يف طريق العرفان‪ ،‬إالَّ بعد التخلُّق بها‪.‬‬ ‫هو َّ‬
‫وقد ترك الشيوخ عرب قرون من الزمان‪ ،‬تراثاً صوفيَّاً أدبيَّاً بالعربيَّة وباللغات الفارسيَّة والرتكيَّة وغريها‪،‬‬
‫يعترب من أغنى تراث اإلنسانيَّة يف ما َّدة العرفان‪ .‬اشتهر من هذه الكتب عىل سبيل املثال ال الحرص‬
‫كتاب «آداب النفوس»‪ ،‬للحارث املحاسبي (‪243‬هـ) ‪«،‬اللمع»‪ ،‬للرساج الطويس(‪378‬هـ)‪« ،،‬قوت‬
‫املك (‪386‬هـ) «وكشف املحجوب»‪ ،‬للهجويري(‪465‬هـ)‪« ،‬ومنازل‬ ‫ّ‬ ‫القلوب»‪ ،‬أليب طالب‬
‫خاصاً واهتامماً باألخالق والشعر واألدب يف‬ ‫َّ‬ ‫السائرين»‪ ،‬للهروي(‪481‬هـ) وغريهم‪ ،‬تلبي احتياجاً‬
‫مجال الرتبية الصوفيَّة‪ ،‬هو يف الحقيقة جزء من ذلك االهتامم الذي عرفه العامل العريب بظاهرة كتب‬
‫األدب التي كانت معروفة ومنترشة من أقىص رشقه إىل أقىص غربه‪ .‬وال يفوتنا أن الحديث يف‬
‫كل زمان يأيت من يعيد توجيه بوصلة التص ُّوف نحوها مبا تتض َّمنه‬ ‫الفت َّوة ومبقاماتها‪ ،‬مل يتوقَّف؛ ففي ِّ‬
‫من معاين مكارم األخالق واإلميان والق َّوة والجهاد‪.‬‬
‫فصل شيوخ التص ُّوف يف كتبهم ورسائلهم مسألة التخلق مبكارم األخالق وأخذوا عىل عاتقهم‬ ‫ّ‬
‫رشح دقائقها من حيث هي مقامات الطريق إىل الله ومنازله‪ .‬فنقرأ مثالً‪ ،‬رسالة القشريي (‪465‬هـ)‪،‬‬
‫ومؤلفات السلمي (‪412‬هـ) يف آداب الصحبة والتص ُّوف ومقامات األولياء‪ ،‬وخصوصاً كتابه‬
‫يف «الفت َّوة»‪ ،‬وكتاب أيب حامد الغزايل (‪505‬هـ) «إحياء علوم الدين»‪ ،‬وكتاب عوارف املعارف‬
‫للسهروردي (‪632‬هـ)‪ ،‬ونقرأ كذلك لوروزبهان البقيل الشريازي (ت ‪606‬هـ) كتابه «مرشب األرواح‬
‫ألف مقام ومقام من مقامات العارفني بالله تعاىل»[[[‪ ،‬ولشمس الدين الرازي (‪666‬هـ) كتاب‬
‫«حدائق الحقائق»‪ .‬عرفت هذه الكتب وغريها الكثري‪ ،‬بعلوم التص ُّوف وقواعده‪ ،‬وتتَّسع قامئتها‬
‫العتبارها تشتمل عىل ما ال بد منه للمريد‪ .‬وقد متيز ابن عريب برشح علوم هذه املقامات بشكل‬
‫دقيق ومفصل‪ ،‬رشعي وعرفاين ال سيام يف كتابه الفتوحات املك َّية‪ ،‬حيث فصل أحوال االرتقاء يف‬
‫الحق بطريق الفتوحات‪ ،‬متطلبها‬
‫ِّ‬ ‫مقامات العلوم اإلله َّية والروحان َّية‪ ،‬باعتبارها مقامات السلوك إىل‬
‫التحقُّق يف مقام املكارم والفتوة‪ .‬فيكون االعتبار فيها ينتهي إىل تحقُّق العبد يف أعىل مقامات الكرم‬
‫واإليثار والفت َّوة‪ ،‬يف مقام العبوديَّة يف حرضات األسامء اإلله َّية‪ .‬حرص الشيخ األكرب عىل بيان‬
‫علوم وأرسار درجات ومستويات املقامات‪ ،‬مؤكّدا ً للمريد رضورة اكتساب واحتواء دقائق علوم كل‬
‫مقام قبل االنتهاء منه‪ ،‬إىل ما هو فوقه (أو بعده) من املقامات‪.‬‬

‫[[[‪ -‬قدَّ مه نظيف محرم خواجة‪ ،‬نرشته مطبعة كل َّية اآلداب‪ ،‬جامعة استنابول ‪ ،1973‬وأعاد نرشه عاصم ابراهيم كيايل لدى دار الكتب العلم َّية‪،‬‬
‫بريوت‪. 2005 ،‬‬

‫‪62‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫يئ‪،‬ال خالف‬ ‫جوهري تلقا ٌّ‬


‫ٌّ‬ ‫إ َّن خالصة مسألة ارتباط التص ُّوف بالخلق الكريم وبالفت َّوة‪ ،‬أنه ارتباط‬
‫عليه‪ .‬وما هي إالَّ األخالق اإللهيَّة جاء تفصيلها من حلم‪ ،‬وصرب‪ ،‬وكرم وغريها يف حرضات األسامء‬
‫وجل‪ .‬ليس للعبد أن يتش َّبه بصفات سيده‪ ،‬فذلك‬ ‫يتحل بها املريد من دون تش ُّبه بالله ع َّز َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإلله َّية‪،‬‬
‫يعتربه ابن عريب‪ ،‬كام يقول «سوء أدب»[[[ ؛ واألدب مع الله ومع الخلق‪ ،‬يعترب من أهم مق ِّومات‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل حرضة الصفة اإللهيَّة مبا له من صفة العبد منها‪ ،‬فمثالً‪ ،‬يقابل‬ ‫الطريق إىل الله‪ .‬يقابل املريد يف ِّ‬
‫الكريم بصفته عبد الكريم‪ ،‬والحليم بصفته عبد الحليم‪ ،‬ويبقى عىل ذلك يف جميع الحرضات‪،‬‬
‫حتى يتحقَّق باملكارم‪ ،‬فيكون عبد الله[[[‪ .‬مجمل القول يف هذا السياق‪ ،‬أن التحقُّق مبقامات‬
‫يف هو تحقُّق مبقامات املكارم وحرضات األسامء اإلله َّية‪ ،‬وهو يف االعتبار تحقُّق‬ ‫الطريق الصو ِّ‬
‫حد ذاتها منازل‬ ‫حسيَّاً يف الواقع؛ فهذه املقامات هي يف ِ‬ ‫ين إىل جانب كونه تحقُّقاً ّ‬ ‫علمي عرفا ٌّ‬
‫ٌّ‬
‫علميَّة عرفانيَّة بامتياز‪ .‬ولقد أبدع ابن عريب إيضاحها يف فتوحاته من حيث بعديها الظاهر والباطن‪.‬‬
‫يقطع املريد هذه املقامات متقلِّباً متحقِّقاً بها علام ً وعمالً‪ ،‬ظاهرا ً وباطناً حتى يصبح عاملاً متحقِّقاً‬
‫كام يصفه شيخنا‪« :‬بذي عينني»‪ ،‬عني الظاهر وعني الباطن‪ ،‬يقول‪« :‬إذ انكشفت الحقائق فال ريب‬
‫وال مني وبان صبحها لذي عينني‪ ،‬كان االطالع وارتفع النزاع‪ ،‬وحصل االستامع»[[[‪ .‬ويعطي مفهوم‬
‫الفتوح والكشوف ملقام الفت ّوة بُعد التحقُّق باملقامات‪ ،‬حيث ينتقل الفتى من التخلُّق إىل التحقُّق‪،‬‬
‫«سمهم باسم الفتوة ألنهم آمنوا بالتحقيق ال‬ ‫َّ‬ ‫يقول نجم الدين كربى يف أمر فتية أهل الكهف‪:‬‬
‫بالتقليد»[[[‪ .‬أي بفطرتهم األوىل التي عادوا إليها‪ ،‬فاإلنسان إن انقلب إىل ربّه عىل التقليد بقي عليه‪،‬‬
‫ألنه يجني ما غرس يف الدنيا‪ ،‬كام يؤكّده شيخنا ــ الفتى الحامتي ــ‪ ،‬آخذا ً باألسباب‪ ،‬والله من‬
‫ورائها‪ ،‬فعال ملا يريد‪ ،‬ال يحجر عليه‪.‬‬
‫َّ‬
‫العرفاني�ة‬ ‫الفتوة لطالب الكشوف‬
‫كاإلحرام لطالب بيت الله الوضوء لطالب الصالة‪:‬‬
‫يف سياق ما تق َّدم‪ ،‬يتَّضح للباحث املبحر يف بحار مؤلَّفات ابن عريب‪ ،‬ويف علوم فتوحاته‬
‫العرفان َّية والرشع َّية‪ ،‬أن اكتساب العلوم اإلله َّية عنده‪ ،‬يعتمد طريق الفتوح‪ ،‬مبا يتض َّمنه من معاين‬
‫الفتوة والجهاد والسعي وبذل الجهد؛ فالفتى‪ ،‬كام يقول‪« :‬صاحب الفتوح ما عنده جموح»[[[‪.‬‬
‫جة والسلطان والدليل والربهان‪ .‬عليهم‪،‬‬‫و"الفتيان‪ ،‬يقول‪ ،‬هم‪" :‬رؤساء املكانة واإلمكان لهم الح َّ‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 173 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪. 243 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.246 .‬‬
‫اإلشاري الصويفِّ‪ ،‬بريوت‪ ،2009 ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪ .120 .‬وكثرية هي األمثلة يف تفسري فتية أهل الكهف يف كتب‬
‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬التأويالت النجم َّية يف التفسري‬
‫التص ُّوف‪ ،‬عىل سبيل املثال تراجع الرسالة القشري َّية‪ ،‬بريوت ‪ ،1990‬ص‪ ،227.‬ولطائف املنن البن عطاء الله‪ ،‬القاهرة‪ ،1987 ،‬ص‪.237 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.357 .‬‬

‫‪63‬‬
‫المحور‬

‫الحل والعقد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫قام عامد األمر‪ ،‬وهم عىل قدم حذيفة يف علم الرس؛ لهم التمييز والنقد‪ ،‬وهم أهل‬
‫ال ناقض ملا أبرموه‪ ،‬وال مربم ملا نقضوه وال مطنب ملا ق َّوضوه‪ ،‬وال مق ِّوض ملا أطنبوه إن أوجزوا‬
‫أعجزوا و إن أسهبوا أتعبوا إليهم االستناد وعليهم االعتامد"[[[‪ .‬ولكن‪ ،‬إن يكن السعي والجهاد‬
‫للعبد‪ ،‬فإ َّن ابن عريب ين ِّبه إىل أن نتائج النرص والفتح من مثار الفهم والعلم‪ ،‬ال تكون إالَّ من عند‬
‫َص ٱللَّ ِه َوٱلْ َف ْت ُح}‪ .‬وإن أصل النرص والفتح‪ ،‬أنهام من صفات الله‬
‫الله ملا جاء يف اآلية {إِ َذا َجآ َء ن ْ ُ‬
‫بي»‪ ،‬وإنه «إذا فتح أوضح وأعطى‬ ‫النارص والفاتح‪ ،‬والله سبحانه وتعاىل‪ ،‬من حيث هو فاتح «يُ ّ‬
‫جزيل املنح»‪ .‬ومن حيث هو نارص فإنه «قاذف يف قلب العارف ما شاء من العوارف»[[[‪ .‬يقول‪:‬‬
‫[[[‬
‫تعمل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ومن بعده فتح له النفس‬ ‫تعقل‬
‫من اسم العزيز النرص إن كنت ُ‬
‫ين يف الحرضة‬‫أحكم ابن عريب رباط فتوحاته مبفاهيم الفت َّوة والنب َّوة‪ ،‬وكان للقائه الفتى الروحا ِّ‬
‫كل ما د ّونه ىف مؤلَّفاته العديدة‪ ،‬خصوصاً يف كتابه «الفتوحات املكيَّة»‬ ‫الحسيَّة يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫الغيبيَّة‪ ،‬آثارها‬
‫األسايس ملادة العلوم العرفان َّية للشيخ‪ ،‬يأيت إىل جانبه كتابه «فصوص الحكم»‬ ‫ُّ‬ ‫وهو الكتاب‬
‫الذي حظي بشهرة واسعة عند أهل االختصاص مبا ناله من الرشوحات باللغات املختلفة‪ .‬وإن‬
‫يقدمه بعض الباحثني عىل كتاب «الفتوحات املك َّية»‪ ،‬إالَّ أن كتاب الفتوحات‪ ،‬كام يتوافق عليه‬
‫املتخصصون بدراسة مؤلفات الشيخ األكرب‪ [[[،‬يندرج يف باب تفصيل الحكمة‪ ،‬هو يف الحقيقة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫يل لفهم ما جاء مجمالً يف علوم حكم الفصوص‪ .‬وإن االعتناء الذي ناله‬ ‫األسايس التفصي ُّ‬
‫ُّ‬ ‫املرجع‬
‫كتاب الفصوص من قبل الشارحني‪ ،‬لداللة عىل صعوبة الكتاب ملن مل يخض غامر الفتوحات‪.‬‬
‫بكلمة أخرى‪ ،‬إن شارحي كتاب «فصوص الحكم» من شيوخ التص ُّوف والعرفان‪ ،‬هم يف االعتبار‪،‬‬
‫الفتية الذين خاضوا مصاعب كتاب «الفتوحات املكيَّة»‪ ،‬وفهموا علومه‪ ،‬فأقبلوا عىل رشح مجمل‬
‫علوم كتاب الفصوص ومبهامت إشاراته‪.‬‬
‫إ َّن من يتدبَّر كتاب «الفتوحات املكية»‪ ،‬يجد نفسه أمام خمسمئة وستني باباً‪ ،‬يف ِسلسلة من‬
‫وكل باب هو نفسه سلسلة من دوائر‬ ‫كل باب يفتح عىل آخر‪ُّ ،‬‬ ‫األبواب‪ ،‬عىل شكل دوائر لولبيَّة‪ُّ ،‬‬
‫املعاين العلم َّية‪ ،‬واللطائف واألحكام (إله َّية‪ ،‬روحان َّية‪ ،‬عرفان َّية‪ ،‬فقه َّية وحكم َّية)‪ ،‬تتدرج وتتالحق‪،‬‬
‫فتتداخل بها املواقف‪ ،‬واملسائل‪ ،‬والكشوف‪ ،‬ثم تعود لتنفصل عن بعضها البعض‪ ،‬لتجوز بالقارئ‬
‫يعرب باباً آخر ومجموعة أُخرى من املعاين‪ ،‬من دون أن يكون هناك بالرضورة‪ ،‬عالقة واضحة‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.357.‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.386 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.168 .‬‬
‫[[[‪ -‬منهم من الباحثني املتأخّرين عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬من فرنسا‪ :‬عيل ميشيل شودكيفتش‪ ،‬ومن الجزائر عبد الباقي مفتاح‪ ،‬ومن‬
‫لبنان سعاد الحكيم‪ ،‬ومن أمريكا وليام شيتيك‪ ،‬ومن تركيا محمود كلص‪ .‬وغريهم من إيران واليابان وأفريقيا‪ .‬فمدرسة ابن عريب اليوم تتض َّمن‬
‫متخصصني عىل صعيد عاملي‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪64‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫وظاهرة تربط بني البابني‪ .‬يُفهِم ابن عريب قارئه‪ ،‬أ َّن هذه الفتوحات ال يَثْبت فيها إالّ من «بلغ أش َّده»‬
‫وتسلَّح بصرب الفت َّوة وق َّوتها‪ ،‬وتأ َّهب ملواجهة صعابها؛ ويس ّمي طالب علومها «باملتأ ِّهب الطالب‬
‫للمزيد املتع ِّرض لنفحات الجود بأرسار الوجود»‪ [[[،‬يف إشارة إىل رضورة االستعداد لنيلها‪ .‬فالفت َّوة‬
‫ين‪ ،‬ال‬‫عنده‪ ،‬تعترب من مناهج التأسيس لدراسة مؤلَّفات علوم الكشوف والتجلّيات والتص ُّوف العرفا ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يأخذ السالك اإلذن بدخول الخلوة أو بالسياحة إالَّ إذا قدم برهان فت َّوته‪ .‬فهي كاإلحرام ملن يريد‬
‫الطواف بالبيت الحرام‪ ،‬وكالوضوء لطالب الصالة‪ .‬ونجد حتى يومنا هذا أن شيوخ التص ُّوف مينعون‬
‫مريديهم من قراءة مؤلَّفات ابن عريب وخصوصاَ «الفتوحات امل ّك َّية»‪ ،‬حتى يرتئي الشيخ منهم‪ ،‬أن‬
‫مريده بلغ أش َّده‪ ،‬وتحقَّق مبكارم الفتوة واألخالق‪ ،‬فأصبح أهالً لذاك‪.‬‬

‫عناصر الفتوة‪ :‬الكرم‪ ،‬العلم‪ ،‬والقوة‪.‬‬


‫يف مبكارم األخالق‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬وتحمل الفت َّوة بق َّوة راية‬
‫ين الصو ِّ‬
‫تتوث َّق ُعرى مفاهيم العلم العرفا ِّ‬
‫هذه العروة‪ ،‬يقول ابن عريب‪:‬‬
‫[[[‬
‫أخذ التص ُّوف عنهام‬ ‫ ‬
‫خلق وعلم جامع‬
‫وقد أجملنا يف كتابنا يف الفتوة عند ابن عريب[[[‪ ،‬عنارص الفت َّوة يف ثالث صفات أساس َّية هي‪،‬‬
‫اإللهي والحكمة النبويَّة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أوالً‪ :‬الكرم واإليثار‪ ،‬ثانياً‪ :‬الق ّوة (الفتاء) وبلوغ األشّ د‪ ،‬وثالثاً‪ :‬العلم‬
‫خصال ثالث ال بد من التحقّق بها وبرهانها ملن يخوض غامر الفت َّوة وفقاً ملذهب ابن عريب‪ .‬إذ‬
‫كل ذي حق؛ فيكون عطاؤه وكرمه عن ق َّوة وعن علم‪ .‬ويعترب الشيخ‪ ،‬العلم‬ ‫بها مجتمعة يكرم الفتى َّ‬
‫اإللهي أصل كل العلوم‪ ،‬وهو واحد يف أصله كثري يف تف ُّرعاته؛ فيتح َّدث عن “أحديَّة العلم”‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫َّ‬
‫«ما ينسب (إىل العلم) من الكرثة ليس لعينه‪ ،‬وإمنا ذلك ملتعلقاته» ‪ .‬وإن كل علم عنده‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫[[[‬

‫ينص عليه ابن عريب‪ ،‬إذ إن «كل‬‫ين الذي ُّ‬ ‫اإللهي العرفا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫«أصله من العلم اإللهي» وهذا هو املنطق‬
‫اإللهي وفقاً ملا جاء يف قوله‬
‫ِّ‬ ‫ما سوى الله من الله»[[[‪ .‬وكذلك الدين عنده‪ ،‬واحد يف أصل محتده‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬
‫ِند ٱللِ ٱلإ ِ ْسلا ُم‪ ،[[[‬ولكنه متع ِّدد يف الرشائع والعبادات[[[‪ .‬وكالهام (الدين‬ ‫‪‬إن ّ‬
‫ٱلد َ‬
‫ِين ع‬ ‫تعاىل‪:‬‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ‬
‫جن‬ ‫كل مخلوق من إنس وجن‪ ،‬بدليل قوله تعاىل‪ :‬وما خلقت ٱل ِ‬ ‫اإللهي يف ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫والعلم) نافذ أمره‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.31 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.58‬‬
‫[[[‪ -‬كانت الدراسة موضوع رسالتنا لنيل درجة الدكتوراه‪ ،‬تحت إرشاف األستاذ عيل ميشيل شودكيفتش‪ ،‬نرشت بالفرنس َّية تحت عنوان‬
‫‪ ،Ibn Arabi L’initiation à la Futuwwa‬دار الرباق‪ ،‬بريوت‪.2001 ،‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪. 246 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 170 .‬‬
‫[[[‪ -‬آل عمران‪. 19 :‬‬
‫حس َّية «نرشت يف «ما وراء‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫كون‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ورحان‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫إله‬ ‫وأرسار‬ ‫ظاهر‬ ‫غيب‬ ‫عريب‪،‬‬ ‫ابن‬ ‫عند‬ ‫«الرشيعة‬ ‫دراستنا‬ ‫يف‬ ‫املوضوع‬ ‫[[[‪ -‬وقد تناولنا هذا‬
‫النص» تنسيق وتقديم زعيم خنشالوي‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬الجزائر‪.2008 ،‬‬

‫‪65‬‬
‫المحور‬

‫سها ابن عريب»‪ ،‬كام وردت عن ابن عباس‪ ،‬مبعنى «ليعرفون»[[[‪.‬‬ ‫يف‬ ‫‪،‬‬ ‫ون‬ ‫نس إلا َّ ل َِي ْع ُب ُ‬
‫د‬ ‫َوٱلإ َ‬
‫ِّ‬
‫[[[‬
‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فاجتمع الدين مبكارم األخالق وبالفتوة وبالعلم‪ ،‬ليشكل وحدة واحدة يف طريق التص ُّوف‪.‬‬
‫ترجع أهم َّية العلم والحكمة يف مقام الفت َّوة‪ ،‬إىل حقيقة أنه بالحكمة يكون الكيل يف مواطن‬
‫املكارم ومصارفها‪ .‬فمثالً يف أي موطن‪ ،‬يكون الحلم مرصفه محمودا ً‪ .‬ويف أي موطن‪ ،‬ال يكون‬
‫كل املكارم‪ .‬لذا كان العلم من متطلِّبات الفت َّوة بالرضورة‪ .‬وإن‬ ‫الحلم محمودا ً‪ ،‬وكذلك الحال مع ِّ‬
‫فتى‪ ،‬حتى يفر من الجهل‬ ‫والتحل به عمالً يع ُّد من أه ِّم مزايا الفت َّوة‪ ،‬فال يكون الفتى ً‬
‫ّ‬ ‫طلب العلم‬
‫يف طلب العلم‪ ،‬حكمة موسويَّة املرشب‪ ،‬يشري إليها ابن عريب قائالً‪« :‬الفتى ال يزال للعلم طالباً‬
‫من الجهل هارباً»[[[‪ ،‬فمن فت ّوة نبي الله موىس‪ ،‬وهو الكليم «كليم الله»‪ ،‬اتَّبع الخرض طلباً للعلم‪.‬‬
‫شك مد ٍع ومنافق‪ .‬ومن ي َّدعي العلم دومنا‬ ‫فمن يدعي الفت َّوة عند ابن عريب‪ ،‬من دون علم‪ ،‬هو بال ٍّ‬
‫عمل (فتوة) ليس بعامل‪ .‬فأهل الفتوة‪ ،‬يقول الشيخ مؤكِّدا ً‪ :‬هم «أهل علم وافر»؛ وهو رشط الفت َّوة‪،‬‬
‫مثله مثل املكارم والقوة‪ .‬وقد جاء ارتباط مكارم األخالق بالعلم ربطاً إله َّياً محكامً يف سورة القلم‪،‬‬
‫حيث جاء ذكر الخُلق العظيم يف سياق ذكر النون والقلم والسطر‪ ،‬يف قوله تعاىل يف محكم التنزيل‬
‫َّ َ َ َ‬
‫ون*ِإَونك ل َعل ٰى‬ ‫َّ َ َ َ ْ ً َ ْ َ َ ْ ُ‬ ‫‪ُ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َْ َ ۤ ‬‬
‫ون*ِإَون لك لأجرا غير ممن ٍ‬ ‫ن وٱلقل ِم وما يسطرون*مآ أنت بِن ِعمةِ ربِك بِمجن ٍ‬
‫ُ ُ َ‬
‫يم‪ . ‬ويصف ابن عريب صاحب الخلق العظيم‪ ،‬الرسول‪« ‬بخري ً‬
‫فتى»‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫خل ٍق ع ِظ ٍ‬
‫[[[‬

‫[[[‬
‫رشعه‬
‫بالله نتبعه فيام ي ِّ‬ ‫ ‬
‫ري فتى‬ ‫ُ‬
‫رسول الله خ ُ‬ ‫النبي‬
‫هو ُّ‬
‫ومييِّز ابن عريب بني العالِم‪ ،‬وبني ومن يكون لديه علم وال يُعد عالِامً[[[‪ .‬وينبِّه إىل حقيقة أن‬
‫َ‬ ‫ََ ْ ْ‬
‫مس َّمى العلم قد يُطلق عىل ما هو ليس بعلم‪ ،‬ويعطي مثالً ما جاء يف اآلية الكرمية‪ :‬فأعرِض عن‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ َ َ َ ْ ُ ْ َّ ْ َ َ َ ُّ ْ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َّ‬
‫ٱلدن َيا ذل ِك َمبْلغ ُه ْم ّم َِن ٱلعِل ِم‪ .[[[‬العالِم عنده هو من يعلم‬ ‫ّمن ت َو ٰل َعن ذِك ِرنا ولم ي ِرد إِلا ٱلحياة‬
‫ويفهم حقائق األمور بكل َّيتها ويعمل بها‪ .‬وال يتحقَّق له ذلك حتى يكون هو نفسه مجتمعاً يف نفسه‬
‫ومعنى‪ ،‬فكرا ً وذوقاً‪ ،‬علامً وعمالً‪ ،‬يفهم عن الله بكليّته‪ .‬وال يقدم ابن عريب الفكر العلمي عىل‬
‫ً‬ ‫حساً‬
‫ّ‬
‫العلمي‪ ،‬يقول ‪« :‬فمن دخل هذه الحرضة (العلميَّة) ذوقاً فقد حاز كل علم ومن‬
‫ِّ‬ ‫التحقُّق والذوق‬
‫دخلها بالفكر فإنه ينال منها عىل قدر ما هو فيه»[[[‪ .‬يف هذا السياق يعترب الشيخ األكرب‪ ،‬أن العمل‬

‫[[[‪ -‬سورة الذاريات‪ :‬اآلية ‪. 56‬‬


‫[[[‪ -‬تنزل األمالك من عامل األرواح إىل عامل األفالك‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪ ،2000 ،‬ص‪. 21 .‬‬
‫[[[‪ -‬إشارة إىل نبي الله موىس ‪ ‬حني ف َّر هارباً من «جهل» مأل فرعون‪ ،‬انظر ف‪ ،4 .‬ص ص‪.358-357 .‬‬
‫[[[‪ -‬القلم ‪.4-1 :‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4.‬ص‪.140 .‬‬
‫[[[‪ -‬قد ال يجانبنا الصواب إن وصفناه بالتقني‪ ،‬وفقاً ملعايري العلم الحديث‪.‬‬
‫[[[‪ -‬النجم ‪ ،30 ،29 :‬ف‪ ،3 .‬ص‪. 242 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.222 .‬‬

‫‪66‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫أسايس ملس َّمى العالِم؛ أما حال من لديه علم وال يعمل به‪ ،‬فهو عنده‪ ،‬ليس بعامل عىل‬
‫ٌّ‬ ‫بالعلم رش ٌ‬
‫ط‬
‫وجه الدقَّة‪ ،‬ألنه مل يتحقَّق (ومل يتذ َّوق) العلم الذي ي َّدعيه‪ ،‬ولكن عنده معلومات‪ .‬ويطلق عىل‬
‫هؤالء اسم علامء «الغَرةّ» الذين يزعمون العلم بالله[[[‪ .‬وأما الراسخون يف العلم‪ ،‬فيقول عنهم‪" :‬هم‬
‫املحققون بحقائق الفهم عن الله"[[[‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يؤكِّد ابن عريب أن تحقُّق العبد بعلوم حرضات األسامء اإلله َّية مرتبط بتحقُّقه يف مقام العبوديَّة‬
‫لله يف كل حرضة‪ .‬بذلك يتَّضح عنده رباط مقام الفت َّوة بالتحقق بأعىل مقامات العبوديَّة لله وبالعلم‬
‫اإللهي‪ .‬بهذا التحقُّق فقط‪ ،‬يكون للفتى العامل فهم األمور من حيث كنهها وحقائقها‪ ،‬ومن حيث‬
‫ِّ‬
‫أسبابها ومظاهرها‪ .‬يقر األسباب ويتعامل معها‪ ،‬مثبتاً الله من ورائها‪ .‬فمن يتحقَّق بحرضة االسم‬
‫العليم‪ ،‬يتحقَّق بعلم التوحيد ويعلم علامً يقيناً‪ ،‬أن مثة أمرا ً يبقى يف علم الله ال يدركه اإلنسان‪ ،‬وهو‬
‫العلم املكنون الذي ينفرد به الله تعاىل‪ .‬فيتأدب مع الله‪ ،‬وال يخوض يف علم الذات اإلله َّية‪ ،‬ويعلم‬
‫أن نصيب اإلنسان من العلم ينتهي إىل ما هو «كهيئة املكنون»[[[ وليس ما هو مبكنون[[[‪ .‬أي له ما‬
‫هو يف الخفاء‪ ،‬ويف كنه األشياء وحقائقها‪ ،‬ولكن ليس له ما هو غيب يف علم الله‪ ،‬ال يعلمه إالَّ الله‪.‬‬
‫فهذا العلم «كهيئة املكنون» يقول ابن عريب‪ ،‬ال يعلمه إالَّ العاملون بالله‪ .‬أي الذين يعلمون أنه ال‬
‫يكون لهم العلم بالله من حيث ذاته‪ ،‬فمعنى العلم بالله عند الشيخ األكرب‪ ،‬كام يقول‪« :‬أنه ال يُعلم»‪.‬‬
‫خالصة املسألة‪ ،‬أن معرفة العامل بالله أن يعلم‪ ،‬أن مث َّة أمورا ً ال ميكن العلم بها عىل التعيني‪ ،‬ولكن‬
‫ما عداها فممكن‪ .‬وإن العلم بالله يورث العلم مبا يعلمه الله مام هو «كهيئة املكنون»‪ .‬وما األكنة‬
‫إال أكنة قلوب العلامء بالله[[[‪.‬‬
‫وخلق‪ ،‬وال يؤمن برشع إلهي منزل‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫يتناول ابن عريب مسألة الحكيم أو الفيلسوف لديه عل ٌم‬
‫املخصص ملعرفة «رس الرشيعة ظاهرا ً وباطناً»[[[‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬يف بابه‬
‫ِّ‬ ‫مسألة حال العاقل قبل التنزيل‬
‫مميزا ً بني علوم العقالء وامللهمني أصحاب الحكمة‪ ،‬والتي يذهب العتبارها يف األصل فطرة‬
‫يوجدها الله يف نفوسهم ويطلق عليها اسم «سياسة حكم َّية»‪ ،‬وعلوم الرسالة اإلله َّية تكون بالتن ُّزل‬
‫عىل األنبياء‪ ،‬تحوي علوم اآلخرة والبعث وما تتض َّمنه من بُعد يتع َّدى طور العقل والحياة الدنيويَّة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.244 .‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.309 .‬‬
‫[[[‪ -‬ورد يف الحديث «إن من العلم كهيئة املكنون ال يعلمه إالَّ العلامء بالله فإذا نطقوا به مل ينكره إالَّ أهل الغرة بالله» وإن كان ضعيف‬
‫السند فهو صحيح املعنى عند علامء الصوف َّية‪ ،‬ذكره أبوحامد الغزايل يف كتابه «مشكاة األنوار»‪ ،‬وأبو طالب امليك يف «قوت القلوب»‬
‫والسلمي وغريهم واعتمده ابن عريب‪.‬‬
‫[[[‪ -‬وإن يستخدم ابن عريب يف أماكن أخرى مصطلح العلم املكنون يكون للعلامء‪ ،‬فإنه بالتحديد يقصد ما هو «كهيئة املكنون» ويؤكد‬
‫ذلك‪ ،‬قوله يف هذا السياق‪«:‬فجعله كهيئة املكنون وما جعله مكنوناً‪ ،‬إذ لو كان مكنوناً النفرد به تعاىل»‪ .‬ف‪ ،3.‬ص‪244 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪. 244 .‬‬
‫[[[‪ -‬الباب الستون من كتاب الفتوحات‪ ،‬ف ‪ ،1 .‬ص‪. 322 .‬‬

‫‪67‬‬
‫المحور‬

‫يخص الطبيعة والرياضة‬ ‫ُّ‬ ‫قد يتشارك الفريقان (أهل الفلسفة وأهل العرفان) يف الكثري من العلوم يف ما‬
‫اإللهي يبقى فيصالً يفتقر إليه الحكامء والعقالء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الروحيَّة واالتصال بالروحانيَّات‪ ،‬إالَّ أن البعد‬
‫اإللهي بالرشائع التي تحمل علوم اآلخرة‪ ،‬والتي ال تحاز إالَّ بإإلعالم اإللهي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويبقى افتقارهم للتن ُّزل‬
‫فيفوت أصحاب الحكمة امللهمني‪ ،‬حكم الرشيعة املن ّزلة من حيث هي رابط دنيا اإلنسان بآخرتها‪.‬‬
‫اإللهي الذي تجتمع فيه كل َّية األبعاد الطبيع َّية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وال يكون كامل العلم عند شيخنا إال يف بعده‬
‫اإللهي يف مذهب ابن عريب‪ ،‬عليه أن‬ ‫ِّ‬ ‫والروحان َّية‪ ،‬واإلله َّية‪ ،‬دنيا وآخرة‪ .‬معنى ذلك‪ ،‬أن طالب العلم‬
‫يطلب علم الوجود وأشياءه من حيث الوجود الحق (وحدة الوجود) تجتمع فيه الدنيا واآلخرة‪ .‬فهذا‬
‫الحقيقي عند ابن عريب ال يفوز به إال من تحقق بعلوم الفت َّوة والنب َّوة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫هو العلم األكمل‬
‫قوة له ال َّ‬
‫فتوة له‪:‬‬ ‫من ال َّ‬

‫املخصص «يف معرفة الفت َّوة والفتيان ومنازلهم وطبقاتهم‬‫ّ‬ ‫يقول ابن عريب يف بابه الثاين واألربعني‬
‫وأرسار أقطابهم»‪ ،‬أن «من ال ق َّوة له ال فت َّوة له‪ ،‬كام أنَّه من ال قدرة له ال حلم له»[[[‪ ،‬وكام أ َّن رشط‬
‫التحقُّق بصفة الحلم الذي يظهر عند الغضب‪ ،‬أن يكون الشخص قادرا ً أن يأخذ بحقِّه وأن يعاقب‬
‫فيستحق اسم الحليم‪ ،‬كذلك مفهوم الق َّوة‪ ،‬وهو متض ِّمن يف معنى الفتاء والفت َّوة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قبل أن يعفو‪،‬‬
‫رشط من رشوط الفت َّوة يف طريق طلب املكارم العىل وعلومها‪ .‬فبسيف املخالفة يخالف الفتى‬
‫نفسه‪ ،‬وبسيف العدم يقتل هواه‪ ،‬ومتثِّل الفت َّوة بق َّوتها‪ ،‬جزءا ً ال يتج ّزأ من منهاج التص ُّوف والعرفان‪.‬‬
‫وأصل ذلك‪ ،‬أن فتوح العلوم العرفان َّية‪ ،‬أمرها يف االعتبار خطري‪ ،‬وطريق الحرضة اإلله َّية‪ .‬كام يحذّر‬
‫شيوخ التص ُّوف وعىل رأسهم الشيخ األكرب‪ ،‬طريق برازخ ومواقف‪ ،‬وفنت وابتالء وفتوحات؛ فيها‬
‫ومم هو فوق طور العقل‪ .‬وإ َّن قطَّاع الطرق‬ ‫من علوم الدنيا واآلخرة‪ ،‬ما هو من طور العقل والفكر‪َّ ،‬‬
‫الحس َّية‪ .‬كام أ َّن عقباتها حا َّدة‬
‫ّ‬ ‫بها كرث‪ ،‬وهم رمز ما يكون من باب التطلُّعات الفكريَّة والشهوات‬
‫ومزلتها مهلكة‪ .‬يسري السالك مريد هذا الطريق‪ ،‬تارة يف أرض ذاته‪ ،‬وتارة يف أفالك نفسه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكؤود‪،‬‬
‫ويبيت تارة‪ ،‬مع أفكار عقله‪ .‬وتارة‪ ،‬مع علوم قدسه؛ يحط ويتوقَّف ليتز َّود يف برازخ قد ال يعود منها‬
‫أبدا ً‪ .‬فالفناء هو طريق البقاء بالله يف سلوك التص ُّوف؛ ميوت العبد الفقري عن نفسه ويحيا بربه يف‬
‫عقيدة التوحيد‪ ،‬متحقّقاً بأ َّن الوجود الحق ال يكون إال لله سبحانه وتعاىل‪ ،‬وهذا مراد طريق التص ُّوف‬
‫وغايته‪ .‬يبادر فتيان هذا الطريق ملالقة ِحامم الفناء‪ ،‬واملوت دونه‪ .‬ويذكر ابن عريب يف أكرث من‬
‫مناسبة ما كان يتمثَّل به أبو السعود بن الشبل‪ ،‬الذي كان يعتربه من أكابر الطريق[[[‪ ،‬يف قول الشاعر‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 244 .‬‬


‫[[[‪ -‬أحمد بن أيب بكر أبو السعود‪ ،‬عرف بابن الشبل الحرميي‪ ،‬تويف‪582‬هـ‪ ،‬ذكره ابن الذهبي (ت‪748‬هـ)يف كتابه «املخترص املحتاج‬
‫إليه من تأريخ الحافظ ابن الدبيثي»‪ ،‬ويعتربه ابن عريب من «الصنف العايل من الرجال»‪ ،‬الذين حازوا أعىل درجات الفت َّوة واملالم َّية‪ .‬ف‪،1.‬‬
‫ص‪ ،188 .‬ف‪ ،2.‬ص‪370 .‬‬

‫‪68‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫العريب حبيب بن أوس الطايئ (أبو متام‪ ،‬ت‪231 .‬هـ) [[[‪:‬‬


‫[[[‬
‫وقال لها من دون أخمصك الحرش‬ ‫ ‬‫وأثبت يف مستنقع املوت رجله‬
‫َّ‬
‫الفتوة من تمام بدره إىل محاقه‪:‬‬ ‫َّ‬
‫بالفتوة»؛ رحلة قمر‬ ‫«وفاز القمر‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫املك «بقمر الصدق»‪ ،‬وقال فيه من باب‬ ‫ّ‬ ‫وصف ابن عريب الفتى الروح الذي لقيه يف الحرم‬
‫اإلشارة‪« :‬وفاز القمر بالفت َّوة»‪ .‬منبّهاً إىل أن فت َّوة الروح تشبه فت َّوة القمر‪ ،‬وقد لبس دجى ليل الهيكل‬
‫كل صورة يخدمه حتى يبلغ‬ ‫الجسمي‪ ،‬فأحيا بحياته الذات َّية قلب السالك وأناره‪ ،‬وتح َّول له يف ِّ‬
‫يل متعلّقه اجتياز املوت والثبات يف «مستنقعه»‬
‫مقصده من علم وتحقُّق بحال اآلخرة‪ ،‬له معنى بطو ٌّ‬
‫والتحل باملكارم وبالفت َّوة هو من أجل هذا االجتياز والثبات عنده‪ .‬هنا‬ ‫ّ‬ ‫كام ذكرنا‪ .‬وكأن التخلُّق‬
‫يكمن بيت قصيد فت َّوة القمر يرسي عند كامله ملحاقه فيجتازه‪ ،‬ليبعث هالالً‪ .‬يقول شيخنا‪:‬‬
‫علامً يصريه املحاق هالال‬ ‫ ‬
‫من كان بدراً كامالً يف ذاته‬
‫يف ذاته فكامله ما زاال[[[‪.‬‬ ‫ ‬
‫عند املحقّق يف املحاق كامله‬

‫إ َّن مفهوم القيامة الصغرى يرمز يف سلوك أهل طريق التص ُّوف‪ ،‬لهذا اإلجتياز يف الدنيا‪ ،‬قوله‪‬‬
‫«موتوا قبل أن متوتوا»‪ .‬ميوت العبد الفقري عن نفسه حتى يحيا بربه عبدا ً يف عقيدة التوحيد‪ .‬فإ َّن‬
‫رؤية الله محاق‪ ،‬وإن السالك املتحقّق‪ ،‬يف االعتبار‪ ،‬هو من قامت قيامته يف حياته الدنيا‪ .‬وال يت ُّم‬
‫ذلك إال باجتياز ما تهابه النفس من هذا الخروج عنها‪ .‬فال ميكن للسالك أن يتحقَّق بالوجود لله‬
‫وحده «الوجود الحق»‪ ،‬إالَّ بتحقُّقه يف مقام الفقر لله‪ ،‬وال يت ُّم هذا التحقُّق عىل أكمل وجه إال‪،‬‬
‫«بورود العبد هذا العدم‪ ،‬يقول شيخنا‪:‬‬
‫[[[‬
‫وليس يعرفه إالَّ الذي وردا‪.‬‬ ‫ ‬
‫عدم‬
‫ذات يل إىل ِ‬
‫إن افتقاري ٌ‬

‫ويقول مؤكّدا ً ما يورثه اإلميان والثقة بالله من الشجاعة يف مواجهة ِحامم العدم‪:‬‬
‫[[[‬
‫حل يب عد ُم‪.‬‬
‫فام أبايل إن َّ‬ ‫ ‬
‫صح أن الغنى لله والكرما‬
‫قد َّ‬
‫التحقُّق بالعلوم اإللهيَّة إذا ً‪ ،‬يستلزم من الفتى أن يبادر وجوده وهو «الخري املحض»‪ ،‬مبواجهة‬

‫[[[‪ -‬صاحب ديوان الحامسة‪ ،‬كان ينتسب إىل قبيلة طي التي ينتمي إليها ابن عريب نفسه‪ ،‬الذي عرف أيضاً بالحامتي الطايئ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬القصيده مطلعها‪”:‬كذا فليجل الخطب وليفدح األمر”‪ .‬ويف بعض النسخ جاء بيت الشعر “ وقال لها من تحت أخمصك الحرش”‪،‬‬
‫ويعتمد ابن عريب “من دون أخمصك”‪ ،‬ف‪ ،2.‬ص‪371 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪296.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 360 .‬‬

‫‪69‬‬
‫المحور‬

‫حساً وحقيقةً‪ ،‬يف الدنيا‬


‫رش املحض»‪ ،‬فيكون اجتياز املحاق ّ‬
‫واجتياز العدم‪ ،‬وهو يف االعتبار «ال ُّ‬
‫كام هو يف اآلخرة‪ .‬وهنا متطلَّب شجاعة ال ميلكه وال يجتازه إالَّ من لقي الفتى‪ ،‬بدر التامم‪ ،‬الروح‬
‫املحمدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‪ .‬فهو يعلم يقيناً أنه بد ٌر تا ٌّم يف ذاته لنفسه‪ ،‬وهو ذاهب إىل محاقه لنيل الكامل‬
‫ّ‬
‫ين أن يجيزه ويعرب به أرض الهالك‪،‬‬
‫يق ِّدم الفتى السالك براهني فت َّوته‪ ،‬عندها يتع َّهد الفتى الروحا ُّ‬
‫ليعيده عبدا ً ساملاً باقياً مبا كسبه‪ ،‬ومبا تحقَّق له من علوم إلهيَّة بذاته وبربّه وبعقيدة التوحيد‪ .‬وإذ‬
‫تعترب هذه األرض التي ال ب َّد للفتى من اجتيازها‪ ،‬أرض هالك‪ ،‬فذلك ألن املكاشف إذا دخلها‬
‫بنفسه‪ ،‬تكون دليله‪ ،‬حتى ولو كانت مؤيَّدة بعلوم وحكم إله َّية‪ ،‬فإنها لن تثبت من هول ما ترى‪ .‬فإما‬
‫أن يسارع صاحبها بالعودة خوفاً عىل هيكله‪ ،‬أويعود قبل ان يصل‪ ،‬مؤيَّدا ً بق َّوته الوهميَّة معتقدا ً أنه‬
‫وصل‪ ،‬م َّدعياً الربوبيَّة‪ ،‬مثل فرعون وأمثاله كام ذكرنا‪ .‬ويرشح الشيخ األكرب هذا الحال يف الباب‬
‫الثاين والخمسني من فتوحاته «يف معرفة السبب الذي يهرب منه املكاشف إىل عامل الشهادة إذا‬
‫أبرصه»‪ .‬فيبدأ الباب شعرا ً مبا أسلفناه يف عنوان هذه الورقة‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫الحـق جهـاراً علنـاً‬
‫َّ‬ ‫لـم يـ َر‬ ‫كـل مـن خـاف عىل هيكلـ ِه‬
‫ ‬ ‫ُّ‬
‫راجعـاً للكـون يبـغي البـدنـا‬ ‫فـتـراه عنــدمـا يشـهـده ‬
‫[[[‬
‫للـذي يحـذر مـنـه الـجبنـا‬ ‫وتـرى الشـجعان ُقدُ مـاً طلبـاً‬
‫ ‬
‫ويذكر شيخنا أنه كان يعاتب صاحبه أحمد العصاد الحريري الذي كان إذ أُخذ عن نفسه‪ ،‬يعود‬
‫حس‪ ،‬يقول‪“ :‬أخاف وأجنب من عدم عينى لِام أراه”[[[‪ .‬فاإلنسان‪ ،‬يقول‬ ‫رسيعاً باضطراب واهتزاز ّ ٍّ‬
‫الشيخ‪“ ،‬ردم مآلن بضعفه وفقره”‪ ،‬يعلم من جهة‪ ،‬حقيقته هذه‪ ،‬ويعلم من جهة أخرى أصله ومقام‬
‫خالفته‪ ،‬أي أنه يعرف أن ال حول له وال ق َّوة إالَّ بالله‪ ،‬وأن لوال الله مل يكن شيئاً يذكر‪ .‬فللوجود‬
‫يقول ابن عريب‪“ :‬لذ ٌة وحالوة‪ ،‬وهو الخري‪ ،‬ولتوهم العدم العيني أمل شديد عظيم يف النفوس”[[[‪.‬‬
‫ولكن العدم متو ّهم‪ ،‬وما املوت إالَّ حالة فرقان أجزاء “الكلم” اإلنسان‪ ،‬وحالة جمعها “قرآنها” حالة‬
‫وجودها‪ .‬والدنيا حامل باإلنسان وشهر والدتها‪ ،‬عند شيخنا شهر موته‪ .‬وإن الزمان يسحق اإلنسان‬
‫ويفرق أجزاءه وال ميحقه‪ ،‬فري ّدد شيخنا يف أكرث من مناسبة “الزمان مربد يسحقك وال ميحقك”‪.‬‬
‫وإن الروح كام يقول “ألزمها الله الصورة الطبيعية دامئاً يف الدنيا والربزخ يف النوم وبعد املوت‬
‫فال ترى نفسها أبدا ً مج َّردة عن املا َّدة ويف اآلخرة ال تزال يف أجساد يبعثها الله من صور الربزخ يف‬
‫األجساد التي أنشأها لها يوم القيامة‪ ،‬وبها تدخل الجنة والنار”‪ .‬وذلك‪ ،‬يرشح‪“ :‬ليلزمها الضعف‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 274.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 276.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 275.‬‬

‫‪70‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫الطبيعي فال تزال فقرية أبدا ً”‪ .‬أما ما يطرأ عليها أحياناً من ا ّدعاء الربوبيَّة‪ ،‬فيكون يف أوقات غفلتها‬
‫اإللهي؟”[[[ ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جم واإلقدام عىل املقام‬ ‫عن نفسها‪ ،‬وإال‪ ،‬يتساءل‪“ :‬كيف يكون منها الته ُّ‬
‫ال يفنى السالك والميوت وال يفارق صورة إالَّ ليبقى‪ ،‬كام يقول ابن عريب‪ ،‬يف عينه بربه‪ .‬لذا‪،‬‬
‫وجب الدخول إىل الحرضة اإللهيَّة دومنا يشء‪ ،‬يف حالة العبوديَّة واالفتقار والعدم‪ ،‬ليتحقَّق‪ ،‬أن ال‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الحق‪ .‬اليجنب وال يخاف‪ ،‬إالَّ من دخل ومعه يشء من الربوب َّية؛ يخاف أن‬ ‫ِّ‬ ‫وجود له إال يف الوجود‬
‫تزول مع ما يتو َّهمه من عدم‪ ،‬فال يثبت‪ ،‬ويعود مرسعاً إىل الوجود حيث ظهرت فيه ربان َّيته‪ .‬وهذا من‬
‫الناس فائدته قليلة‪ ،‬يالحظ شيخنا‪ ،‬باملقارنه مع من دخلها كام يقول‪“ :‬عبدا ً قابالً به َّمة محرتقة إىل‬
‫أصله ليهبه من عوارفه ما عوده‪ ،‬فإذا خرج‪ ،‬خرج نورا ً يستضاء به”[[[‪ .‬وهو يشبّه من يدخل “الجناب‬
‫العايل” بيشء من الربوب َّية كالداخل برساج موقود تطفئه ريح الحرضة من نفس الرحمن‪ ،‬ولكن من‬
‫يدخل بقبضة حشيش أوفتيل‪ ،‬فإنه يشتعل؛ واحد أظلم‪ ،‬واآلخر يستضاء به‪.‬‬
‫ما العدم يف مذهب ابن عريب إالَّ نفي وجود “مستقل” عن وجود الله “الوجود الحق”‪ ،‬يش ّبهه‬
‫مبحاق القمر‪ .‬وما املحاق‪ ،‬كام يقول‪“ :‬إالَّ استتار بد ّريَّة القمر عن األبصار تحت شعاع الشمس‬
‫الحائل بني األبصار وبينه”‪ .‬يقول الشيخ يف بابه الثالثني وثالمثئة من كتاب “الفتوحات امل ّك َّية”‪،‬‬
‫بعنوان “يف معرفة منزل القمر من الهالل من البدر من الحرضة املحمديَّة”‪ :‬إن القمر “من الوجه‬
‫الذي ييل الشمس بدر كام هو يف حال كونه عندنا بدرا ً‪ ،‬هو من الوجه الذي ال يظهر فيه الشمس‬
‫الحق‪ ،‬إالَّ بعد التحقُّق بالعدم املحال‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫محق”[[[‪ .‬ولكن ال يتحقَّق السالك بتامم بدريَّته بالوجود‬
‫فيعلم أنه كامل يف ذاته ال يف نفسه‪ .‬يف أرض نفسه له املنازل وهو يف سفر دائم بينها‪ ،‬ينقص‬
‫ويزيد‪ .‬ولكن من حيث حقيقته‪ ،‬فهو تام‪ .‬وذلك‪ ،‬يرشح ابن عريب قائالً‪ ،‬بسبب “تعويج القوس‬
‫الفليكِّ”‪ ،‬فإنه “عىل قدر ما يظهر فيه من النور ينقص من الوجه اآلخر‪ ،‬وعىل قدر ما استرت من أحد‬
‫الوجهني‪ ،‬يظهر بالنور من الوجه اآلخر”‪ .‬وخالصة هذا الظهور واالستتار املتتابع يف منازل القمر‪،‬‬
‫يقول‪ :‬إن القمر يف الحقيقة “ال يزال بدرا ً دامئاً ومحقاً دامئاً”[[[‪ .‬وينظم يف هذا املعنى‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫يف ذاته‪ ،‬فكامله ما زاال[[[‪.‬‬ ‫ ‬
‫عند املحقّق يف املحاق كامله‬
‫إن السلب هو طريق اإلثبات‪ ،‬ال ينفصل املفهومان بعضهام عن بعض‪ ،‬وال بقاء بالحق إالَّ بعد‬
‫فناء الخلق عن نفسه‪ .‬ولقد أقبل علامء الصوف َّية عىل تناول مفاهيم الفناء والبقاء تفصيالً ودرساً؛‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 276.‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪.276 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.110 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.110 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.297 .‬‬

‫‪71‬‬
‫المحور‬

‫فال نجد كتاباً يف مذهب التص ُّوف وأدبه إالَّ ويتح َّدث عن مفاهيم الفناء والبقاء‪ .‬وقد اعتنوا بوضع‬
‫يف إىل الحرضة اإللهيَّة تتلخَّص‬ ‫حة التحقُّق يف مقامي الفناء والبقاء‪ .‬فخالصة سفر الصو ِّ‬ ‫معايري ص َّ‬
‫بفناء السالك عن نفسه لريجع يف البقاء بربِّه وبرشعه وأمره‪ .‬فتمثّل شهادة “محمد رسول الله” نتيجة‬
‫للمحمدي خصوصاً‪ ،‬إذ إ َّن متام شهادة أن “ال إله إال الله”‪ ،‬يقول‬ ‫ِّ‬ ‫هذا الرجوع والبقاء بعد الفناء‪،‬‬
‫ابن عريب‪ ،‬أعطيت لألنبياء من قبل‪ ،‬ولكن كاملها شهادة أن “محمدا ً رسول الله”‪ ،‬كانت له من دون‬
‫اختص بها هو وأ َّمته من بعده‪ .‬فتامم الفناء وكامل الرجوع‬ ‫َّ‬ ‫األنبياء‪ ،‬كام الفاتحة‪ ،‬كانت له خالصة‪،‬‬
‫والبقاء يف عهد اإلسالم‪ ،‬يعني بالرضورة التقاء ميثاق فطرة “بىل”‪ ،‬بدين اإلسالم ورشيعته الخامتة‬
‫بكامل الشهادة‪ .‬يعود السالك املتحقِّق إىل الوجود عارفاً ُمق َّرا ً بربوب َّية الخالق‪ ،‬وبعبوديَّته‪ ،‬مسلامً‬
‫لله‪ ،‬يشهد بتامم وكامل التوحيد “ال إله إال الله‪ ،‬محمد رسول الله”‪ ،‬فيلتقي مقام الشهادة مبقام‬
‫املحمدي بعد فنائه‬
‫ُّ‬ ‫الحس والتكليف‪ .‬أي يرجع السالك‬ ‫ِّ‬ ‫الحمد ميثالن مقام الرجوع إىل عامل‬
‫لناسوته مكلَّفاً‪ ،‬مستخلفاً‪ ،‬نائباً وإماماً يعمل برشع الله الخاتم‪ ،‬مؤيَّدا ً بعلوم التوحيد‪ ،‬ولكنه‪ ،‬مييش‬
‫يف األسواق ويأكل الطعام‪.‬‬
‫ميثِّل الفناء عند ابن عريب املقام األعىل يف وصول السالك‪ ،‬فالرجوع ميثل املقام األكمل‬
‫ويتجل يف كامل تحقُّقه يف مقام عبوديَّته أمام ربوب َّية الله‪ ،‬ويتمثَّل يف شهادة‬ ‫َّ‬ ‫يف بقاء السالك‪.‬‬
‫يل‪“ :‬إ َّن عل َّو اإلنسان‬ ‫اإللهي الع ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أن محمدا ً عبده ورسوله‪ .‬يقول ابن عريب من حرضة العلو لالسم‬
‫عبوديَّته ألن فيها عينه وعني سيده”[[[‪ .‬فقد علم اإلنسان ذاته من ذاته؛ وإن تحقُّقه أن الوجود الحق‬
‫وبتمسكه برشع التكليف الذي فيه رسُّ وصله‬ ‫ُّ‬ ‫لله وحده ال رشيك له‪ ،‬ال يزيده إالَّ تحقُّقاً بعبوديَّته‬
‫وثبوته مبا تحقَّق‪ .‬فمعرفة أرسار علوم العبادات التكليف َّية الرشع َّية‪ ،‬ومستنداتها اإلله َّية‪ ،‬ال يكون‬
‫إالَّ للعارفني املتمكّنني يف هذا البقاء‪ ،‬الذين حازو أعىل الدرجات‪ ،‬درجة العبوديَّة‪ .‬وإن شطحات‬
‫بعض العارفني مثل الحالَّج وغريه من أهل التص ُّوف‪ ،‬عند ابن عريب‪ ،‬لها رشوطها وعلومها ليس‬
‫هذا مكانه‪ .‬وإن يشت ُّم فيها رائحة ربوب َّية أو اتحاد‪ ،‬فإ َّن الدراسة العرفان َّية املع َّمقة لهذه الشطحات‬
‫تبي أنَّها يف صلب وجوهر التوحيد‪ ،‬ال تخرج عنه‪ .‬وال يجوز تأويل تأكيد الشيخ األكرب عىل‬ ‫ّ‬
‫رضورة التحقُّق مبقام العبوديَّة‪ ،‬من باب األدب‪ ،‬وحسب‪ .‬فاألمر عنده‪ ،‬يتعلَّق بتحقُّق العبد علم ّياً‪،‬‬
‫أن وجوده من حيث هو خلق ال يخرج عن الوجود الحق‪ .‬وهذا هو معنى مفهوم “وحدة الوجود”‬
‫عند الشيخ األكرب‪ ،‬وإن مل يستخدمه من حيث االصطالح‪ ،‬إالَّ أنه يفيد معنى التحقُّق “بالوجود‬
‫ت إِ ْذ‬
‫الحق”[[[ ال يكون إالَّ بالله ولله تعاىل‪ .‬ويتمثَّل ابن عريب يف كل مناسبة‪ ،‬بقوله تعاىل { َو َما َر َم ْي َ‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،4.‬ص‪.244 .‬‬


‫[[[‪ -‬رشح عبد الغني النابلس مسألة وحدة الوجود بأسلوب واضح ومبسط يف كتابه «الوجود الحق والخطاب الصدق»‪ ،‬حققه بكري عالء‬
‫الدين‪ ،‬نرشه املعهد العلمي الفرنيس للدراسات العرب َّية‪ ،‬دمشق‪. 1995 ،‬‬

‫‪72‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫ت َولَـٰ ِك َّن ٱللَّ َه َر َم ٰى}[[[‪ ،‬فاملعنى يفيد نفي رمي الرسول ‪ ‬من نفسه‪ ،‬ليثبت رميه يف رمي الله‬
‫َر َميْ َ‬
‫اإللهي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والرب ربَّاً‪« .‬وكل حرية»‪ ،‬يقول‪« :‬تغنيك عن االسرتقاق‬
‫ُّ‬ ‫سبحانه وتعاىل‪ .‬فيبقى العبد عبدا ً‬
‫ظل ملن هو‬‫ال يعول عليه»[[[‪ .‬ويفيض بنا القول يف هذا السياق‪ ،‬وكأن ظل الشخص أصبح يعي أنه ٌّ‬
‫الفاعل الحقيقي‪ .‬وأن الصورة يف املرآة‪ ،‬تحققت بأنها صورة‪ ،‬ال حول لها وال قوة إال مبن هي له‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫صورة‪ .‬وأ َّن الرداء أدرك أنه رداء عىل املرتدي‪ ،‬وحسب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‪ :‬يف مقام “ال فىت إال علي”‪:‬‬
‫يقول ابن عريب‪" :‬وعيل ‪ ‬يرتجم عن الختم بلسانه"[[[‪ .‬وكان الختم ويعني خاتم الوالية العا َّمة‬
‫يل ابن أيب طالب‪ ،‬من‬ ‫(الفتى الروح) قد جثى بني يدي رسول الله‪ .‬ويف هذا السياق تتَّضح مكانة ع ٍّ‬
‫حيث كونه "أقرب الناس لرسول الله"‪ ،‬فهو مبثابة اللسان "املتكلم" وترجامن علم النب َّوة والفت َّوة‪،‬‬
‫املحمدي؛ وهو رمز لسان القلب وسيفه (ذو الفقار)‪ .‬يف هذا السياق نقرأ‬ ‫ِّ‬ ‫ويكون األقرب إىل القلب‬
‫[[[‬
‫يل بابها"‬‫معنى اإلشارات النبويَّة التي جاءت يف حديث"ال فتى إالَّ عيل"‪" ،‬وأنا مدينة العلم وع ٌّ‬
‫الغيبي‪ ،‬ألحق بذكره عيل‪ ،‬جملة ‪ ،‬التي‬ ‫ِّ‬ ‫وقد اعتمدهام ابن عريب‪ ،‬ونفهم مل ِ‬
‫ض ْمن هذا املشهد‬
‫ارتبطت بذكر الرسول ‪ ‬دون الخلفاء الثالثة‪ .‬وال يفوتنا أن اعتبار هذا القرب يف مذهب الشيخ‪،‬‬
‫يخص عليّاً‪ ،‬من حيث‬ ‫ُّ‬ ‫يخص مكانته من الحقيقة املحمديَّة من حيث هو رمز "لسان القلب"‪ ،‬وال‬ ‫ُّ‬
‫كونه ابن عم الرسول‪ ،‬من األقربني‪ .‬وال من حيث كونه زوج فاطمة الزهراء‪ .‬فالحقيقة املحمديَّة‬
‫متثِّل مفهوم اإلنسان الكامل‪ ،‬يتع َّرف السالك عىل مكانته منها بالنظر إىل مكانة ال ُّرسل واألنبياء‬
‫محل النظر‪،‬‬‫ِّ‬ ‫محل الحياة‪ ،‬أو‬
‫ِّ‬ ‫املحمدي‪ ،‬منهم من تكون مكانته يف‬
‫ِّ‬ ‫والخلفاء الراشدين من القلب‬
‫محل الكالم‪ .‬ويتبع هذا العلم عند ابن عريب‪ ،‬علوم ترتيب وظهور أحكام ونسب‬ ‫محل السمع‪ ،‬أو ِّ‬
‫أو ِّ‬
‫أمهات الحرضات اإلله َّية‪.‬‬
‫إن جوهر هذه املسألة يتبع حكمة ترتيب ظهور األشياء يف العامل‪ ،‬ويتبع حرضات األسامء‬
‫اإللهيَّة من حرضات التقديم والتأخري‪ ،‬والظهور والبطون‪ ،‬واألوليَّة واآلخريَّة‪ ،‬وهي من املسائل‬
‫العلم َّية اإلله َّية الصعبة؛ متعلَّقها رسُّ ترتيب ظهور النسب واألحكام اإلله َّية يف الكون‪ ،‬ال الحقائق‬
‫كام هي عند الله‪ .‬يقول ابن عريب يف مسألة ترتيب أمهات األسامء اإلله َّية التي يتوقَّف عليها وجود‬

‫[[[‪ -‬األنفال‪. 17 :‬‬


‫[[[‪ -‬رسالة ال يعول عليه‪ ،‬يف رسائل ابن عريب‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت ‪ ،2007‬ص‪.196.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.2 .‬‬
‫متخصصون بعلم الحديث بهذين الحديثني عىل اعتبار ثقة سندهام‪ ،‬وجعلهام آخرون من األحاديث املوضوعة‪ ،‬إالَّ أنهام‬ ‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬أخذ‬
‫اعتربا من باب املستحسن يف الرتاث‪ ،‬وقد اعتمدهام ابن عريب‪ ،‬فأشار إىل حديث “ال فتى” يف الفتوحات ف‪ . 357 ،4.‬كام أنه أشار‬
‫إىل حديث “أنا مدينة العلم” يف كتابه اإلرساء إىل املقام األرسى‪ ،‬أو كتاب املعراج‪ ،‬تحقيق سعاد الحكيم‪ ،‬بريوت‪ ،‬دندرة للطباعة‬
‫والنرش‪1988،‬ص‪.112.‬‬

‫‪73‬‬
‫المحور‬

‫الحي هي رشط قيام الوجود املقيَّد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫العامل‪ ،‬وهي‪" :‬الحي العامل املريد القادر"[[[‪ ،‬أن تق ُّدم حرضة‬
‫الحي أن يتق َّدم األسامء‪ ،‬وذلك كام يقول ابن عريب‪" :‬لكون الحياة رشطاً يف‬ ‫ِّ‬ ‫لذلك ال ب َّد لالسم‬
‫الحي؛‬
‫ُّ‬ ‫جميع وجود النسب املنسوبة إىل الله؛ وهذه النسبة أوجبت له سبحانه أن يكون له اسمه‬
‫فجميع األسامء اإلله َّية موقوفة عليه ومرشوطة به حتى االسم الله‪ .‬فاالسم الله هو املهيمن عىل‬
‫الحي لها املهيمنيَّة عىل جميع النسب األسامئيَّة‬ ‫ِّ‬ ‫الحي ونسبة االسم‬
‫ُّ‬ ‫جميع األسامء التي من جملتها‬
‫حتى نسبة األلوهة»[[[‪ .‬كذلك مرتبة الحرضة العلميَّة النورانيَّة وإن تتقدم يف الباطن‪ ،‬من حيث إن‬
‫الوجود وكل ما دخل به وترتيب ظهوره يتبع ما هو يف علم الله يف األصل؛ فإ َّن االسم العامل يتأخَّر‬
‫الحي للسبب ذاته‪ .‬وكذلك االسم املتكلم[[[ وإن يكن ترجامن االسم الله إىل باقي‬ ‫ِّ‬ ‫عن االسم‬
‫الحي يف رباعيَّة أمئَّة األسامء اإللهيّة «من غري‬
‫ِّ‬ ‫األسامء واملمكنات‪ ،‬إالَّ أن ترتيبه يأيت بعد االسم‬
‫«الحي واملتكلّم السميع البصري»[[[‪.‬‬‫َّ‬ ‫نظر إىل العامل»‪ ،‬حيث نجد‬
‫يحيك ابن عريب يف الباب السادس والستني من كتابه «الفتوحات املكية»‪ ،‬يف حوار «قصيص»‬
‫رائع‪ ،‬حكاية ما دار بني املمكنات يف حال عدمها مع األسامء اإللهيَّة‪ ،‬تطلب منها إظهار أعيانها‪،‬‬
‫جه األسامء من اسم إىل آخر حتى وصلت االسم الله‪ ،‬الذي خرج بأمر الذات‬ ‫وما كان من تو ُّ‬
‫املق َّدسة‪ ،‬إىل األسامء واملمكنات‪ .‬يقول‪« :‬فخرج االسم الله ومعه االسم املتكلم يرتجم عنه‬
‫للممكنات واألسامء»[[[‪.‬‬
‫اإللهي يف ظهور نسب الحقائق‬
‫ِّ‬ ‫ين الدقيق ملسألة الرتتيب‬
‫العلمي العرفا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يف هذا السياق‬
‫وأحكامها يف الكون‪ ،‬يتبع تفصيل الحقائق ال مراتبها‪ ،‬نقرأ تأكيده عىل عدم وجوب أي استحقاق‬
‫حح نسبه وهو عبد‬
‫سيايس ألهل البيت‪ ،‬يقول‪ :‬إن "نسب الله التقوى‪ ،‬فمن اتَّقاه فقد ص َّ‬
‫ٍّ‬ ‫دنيوي أو‬
‫ٍّ‬
‫الله حقاً‪ ،‬وإيَّاك والنسب الطيني‪ ،‬فإنه غري معترب"‪ .‬ويف سياق قوله هذا‪ ،‬يستشهد ابن عريب ببيت من‬
‫الشعر ينسبه إىل عيل بن أيب طالب‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬
‫[[[‬
‫عىل الهدى ملن استهدى أدالَّ ُء‬ ‫ ‬
‫أنهم‬
‫ما الفضل إالَّ ألهل العلم ُ‬
‫شك يف أ َّن مذهب ابن عريب يف مسألة ترتيب الخلفاء الراشدين‪ ،‬وما يرتتَّب عليه من مفهوم‬‫ال َّ‬
‫واضح ال يحتمل التأويل؛ وقد ن َّوه إليها ميشيل شودكيفتش يف محارضاته ويف مؤلَّفاته[[[‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اإلماميَّة‪،‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.469 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪.322 .‬‬
‫املخصص لقامئة حرضات األسامء اإلله َّية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪585‬‬ ‫الباب‬ ‫يف‬ ‫يف‬ ‫يوردهام‬ ‫مل‬ ‫ولكنه‬ ‫نصوصه‬ ‫يف‬ ‫والقائل‬ ‫ّم‬ ‫ل‬ ‫املتك‬ ‫األسم‬ ‫[[[ ‪ -‬يذكر ابن عريب‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.100 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.323 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.400 .‬‬
‫‪[7]- Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints , Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn Arabi, Paris,‬‬
‫‪Gallimard, 1986, réd. 2012, p. 18,146, 240 n. 27.‬‬

‫‪74‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫النبي هو املحبة؛ هي األمر األوحد الذي طلبه‬ ‫ِّ‬ ‫فابن عريب يؤكِّد أ َّن أه َّم استحقاق ألهل بيت‬
‫الرسول‪ ‬من الله ألهل بيته‪ .‬ويعترب أ َّن رسول الله طلب ألهله املقام األسمى‪ ،‬فإ َّن مقام املحبة‬
‫وقد تض َّمن مقامي العلم والرحمة يف أعىل رأس هرم املقامات‪ .‬وللحديث يف مقامات املح َّبة‬
‫وأحوالها وخصوص َّية عالقتها بعلوم األسامء اإلله َّية‪ ،‬ونسبها‪ ،‬وأحكام ظهورها يف العامل‪ ،‬عند‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الشيخ األكرب‪ ،‬جوالت ليس هذا مكانها‪.‬‬


‫خالصة القول يف طريق الفت َّوة‪ ،‬أنَّه طريق مخاطر وفنت؛ من السالكني من يعود أدراجه‪ ،‬فال حمل‬
‫له عىل املشقَّة‪ .‬ومنهم من ال يعود أبدا ً‪ .‬ومنهم من يعود وقد ترك رشده عىل عتبات الطريق‪ ،‬حال‬
‫املجذوب‪ .‬ومنهم من يختلط عليه األمر فيعود م َّدعياً‪" :‬أنا ربُّكم األعىل"‪ ،‬حال الفرعون‪ .‬أ َّما من‬
‫كتب له الله السالمة والرجوع‪ ،‬فرتافقه الفت َّوة‪ ،‬وهي حقيقته وفطرته وكعبة قلبه‪ ،‬يحامي عنها ويفديها‬
‫ين بأمر الله‪ ،‬وقد ت َّم ذلك البن عريب كام ذكرنا‪ ،‬عند الحرم‬
‫بروحه‪ .‬يظهر له فتاها وابنها الروحا ُّ‬
‫املكّ‪ ،‬بينام كان يطوف ويقبّل الحجر األسود‪ ،‬ليكون فتاه وسيّده‪ ،‬خدميه وحفيظه يف آن واحد‪،‬‬
‫ّ‬
‫حتى تت َّم له السالمة ويعود من فناء الرحلة إىل رجوع البقاء‪ ،‬عاشقاً‪ ،‬متحقّقاً بعلوم النب َّوة اإلله َّية‪،‬‬
‫فت َّوةً‪ ،‬أي متحقّقاً‪ ،‬شاهدا ً‪ ،‬عاملاً بربوبيَّة الخالق وسيادة الروح‪ ،‬وعبوديَّة نفسه‪ .‬هذا هو املعنى‬
‫كل مناسبة‪" :‬من عرف نفسه عرف ربَّه"‪ ،‬أي‬
‫الحقيقي عند ابن عريب‪ ،‬للحديث الذي يأيت ذكره يف ِّ‬
‫ُّ‬
‫من عرف نفسه بالعبوديَّة عرف ربه بالربوبيَّة‪ .‬وهذا ما اختلط عىل الفرعون‪ .‬فشهود الربوبيَّة يعترب من‬
‫أخطر املزالَّت والعقبات التي تواجه الفتى‪ ،‬خصوصاً أن ثعابني النفس الشهوان َّية للسلطة حارضة‪،‬‬
‫وبق َّوة‪ ،‬ال تقابل إالَّ بالق َّوة اإللهيَّة "ال حول وال ق َّوة إالَّ بالله"‪ ،‬التي يقول ابن عريب‪ ،‬إنَّها ق َّوة من‬
‫يتحل بها ليقطع بسيفها ح َّد هذه املسألة ويشهد‬
‫َّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬عىل الفتى أن‬
‫ِّ‬ ‫الكنوز التي تحت العرش‬
‫عبوديَّته أمام الله‪ ،‬فيشهد أن ال إله إالَّ الله وأن محمدا ً عبده ورسوله‪ .‬فالسعيد من تحقَّق بالفت َّوة‪ ،‬عند‬
‫شيخنا‪ ،‬هو كام يقول‪ ،‬من حفظ الله عليه عبوديَّته‪« ،‬وحال الله بينه وبني ربوب َّيته»‪ .‬من هذا الباب‬
‫يعكس الشيخ املثل املعروف «سيّد القوم خادمهم»‪ ،‬ليجعله خادم القوم سيّدهم‪ ،‬واملعنى واحد‪،‬‬
‫والتقديم والتأخري إليحاءات يف تركيز املعنى عىل مفهوم الخدمة‪.‬‬
‫النبوي‪ ،‬وصبغته الصوف َّية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬محتده‬
‫ّ‬ ‫نسب الفت َّوة‬
‫تجل فرقان الحكمة اإلله َّية‪ ،‬وما تتض َّمنه الحكم النبويَّة من‬
‫ّ‬ ‫يفصله‬
‫يشري ابن عريب إىل ما ّ‬
‫معاين مصاعب وعقبات علوم الطريق‪ ،‬يف األمثلة والقصص القرآنيَّة‪ ،‬من آدم ‪ ‬إىل محمد ‪.‬‬
‫نبي الله موىس ‪ ‬يف طلبه مجمع‬ ‫يخوضها الفتى عن دراية وعلم بها‪ ،‬بل وبتصميم‪ ،‬مثل تصميم ِّ‬
‫َ َ ٰ ُ َ ْ َ ُ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫البحرين للقاء الخرض‪ ،‬ما جاء عىل لسانه يف القرآن الكريم‪ِ :‬إَوذ قال ُم َ‬
‫وس ٰى ل ِفته لاۤ أبرح حت ٰى‬

‫‪75‬‬
‫المحور‬

‫ُ ً‬ ‫ح َريْن أَ ْو أَ ْ‬ ‫َأبْلُ َغ َم ْ‬
‫ج َم َع ٱلْ َب ْ‬
‫ض َي ُحقبا‪ .[[[‬وكان برفقة فتاه يخدمه ويحمل ق ُوته‪ .‬والفتى ابراهيم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫الذي ألقى بنفسه يف النار بعدما كرس أصنام نفسه‪ .‬فهذه الصعاب تنطوي عىل حكمة‪ ،‬تنجيل ملن‬
‫يطلبها‪ ،‬ويركب صعابها‪ .‬يقول ابن عريب يف حكمة السجن‪ ،‬وهي إشارة إلىل الفتى يوسف‪،‬‬
‫وكان من فت َّوته أن فضَّ ل السجن عىل الفتنة‪:‬‬
‫أن يف السجن بلوغ األمل[[[‪.‬‬ ‫ ‬
‫مت واعلمن‬
‫املختصة بالنب َّوة‪ ،‬رسل ثالثة عند ابن عريب‪ :‬سيدنا ابراهيم الخليل‪ ،‬الشيخ‬
‫َّ‬ ‫وقد تق َّدم بالفت َّوة‬
‫الفتى صاحب ال ِقرى‪ ،‬وأول من كرس صنم نفسه‪ ،‬قطب الفت َّوة الذي تدور رحاها عليه‪ .‬وسيدنا‬
‫اإللهي‪ ،‬ورفيق الدرب‪ .‬وسيدنا موىس‪ ‬كليم‬ ‫ِّ‬ ‫ين فتى الوحي‬ ‫عيىس املسيح‪ ‬الفتى الروحا ُّ‬
‫الحق يف إشارة موسويَّة‪ ،‬فيقول‪« :‬سفينتك‬
‫ِّ‬ ‫الخرض‪ .‬وهو يجمل خطوات الطريق إىل‬ ‫الله وصاحب ِ‬
‫مركبك فاخرقه باملجاهدة‪ ،‬وغالمك هواك فاقتله بسيف املخالفة‪ ،‬وجدارك عقلك‪...‬فأقمه تسرت به‬
‫كنز املعارف اإللهية عقالً ورشعاً حتى يبلغ الكتاب أجله‪ ،‬فإذا بلغ عقلك ورشعك أشدهام وتوخيا‬
‫ما يكون به املنفعة يف حقهام [‪ ]...‬فإ َّن العقل واإلميان نور عىل نور»[[[‪.‬‬
‫تأخذ حقيقة الرسول‪ ،‬من حيث إنه أويت «جوامع الكلِم»‪ ،‬ومن حيث قوله ‪« ‬جئت ألمتِّم‬
‫مكارم األخالق»‪ ،‬معنى جمع َّية حقائق األنبياء‪ ،‬التي تف َّرقت يف األنبياء (الكلم)‪‬يف الزمان املايض‪.‬‬
‫وقد جاء إلحاق الفت َّوة بالنب َّوة‪ ،‬من قبل يف الرتاث واألدب َّيات اإلسالم َّية عا َّمة‪ ،‬فقد تناقلت كتب األدب‬
‫والتص ُّوف إجابة «أحدهم» حني ُسئل ما الفت َّوة؟ قال‪« :‬اعتذار آدم‪ ،‬وصالح نوح‪ ،‬ووفاء ابراهيم‪،‬‬
‫وإخالص موىس وصرب أيوب ودموع داوود وكرم محمد‪ [[[»‬والكرم‪ ،‬ال يفوتنا‪ ،‬هو يف االعتبار‬
‫الخلق الجامع لألخالق اإلله َّية النبويَّة‪ ،‬فقيل «مكارم األخالق»‪ .‬كان الرسل‪ ،‬نوابه‪ ‬قبل مجيئه‪،‬‬
‫كام هو يف االعتبار عند أهل التص ُّوف والعرفان‪ .‬ميثّل كل منهم وجهاً من الحقيقة املحمديَّة‪ ،‬فيمثِّل‬
‫املوسوي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اليوسفي من الحقيقة املحمديَّة‪ ،‬وموىس‪ ‬الوجه‬ ‫َّ‬ ‫سيدنا يوسف‪ ،‬مثالً‪ ،‬الوجه‬
‫وكذلك باقي الرسل‪ .‬كام ويُعترب كل منهم «الباب» أل َّمته‪ ،‬يدخلون منه إىل الحرضة اإللهيَّة‪.‬‬
‫كان ذلك يف مذهب ابن عريب‪ ،‬حتى اكتمل الزمان «واستدار عىل هيئته»‪ ،‬فدخل الكون يف «دولة‬
‫امليزان»‪ ،‬وجاء زمان ظهور الرسول‪ ‬بشخصه وبنزول القرآن الكريم‪ ،‬يقول الشيخ‪« :‬ظهر جسم‬
‫محمد‪ ،‬وظهرت رشيعته عىل التعيُّ والترصيح ال بالكناية‪ ،‬واتصل الحكم باآلخرة»[[[‪ .‬فام كان‬
‫[[[‪ -‬سورة الكهف‪ :‬اآلية ‪.60‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.29 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪.403 .‬‬
‫رصف يف كتب األدب عامة‪ ،‬ويف كتب آداب التص ُّوف‪ ،‬وقد وردت يف رسالة املالمت َّية‪ ،‬أليب عبد الرحمن السلمي‪ ،‬يف‬ ‫[[[‪ -‬نجد الرواية بت َّ‬
‫املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬أبو العالء عفيفي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بريوت‪ ،‬بغداد‪ ،2015 ،‬ص ‪.98‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪.146 .‬‬

‫‪76‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫كل رسول يف زمانه كان‬ ‫ومعنى‪ُّ .‬‬


‫ً‬ ‫حساً‬
‫مجازا ً صار حقيقة‪ ،‬ومن كان غائباً صار حارضا ً‪ ،‬وواقعاً‪ّ ،‬‬
‫ميثِّل حكمة إلهيَّة‪ ،‬ثم آلت جمعية هذه الحكم وعلومها ملن كان أصل نور الخلق والنب َّوة بحكم‬
‫كامل استدارة الزمان عىل هيئته‪ ،‬فجاء شخص الرسول ‪ ‬يف الزمان واملكان وقد أويت جوامع‬
‫حكم‪ ،‬اجتمع فيه بظهوره‪ .[[[»‬فا ُّدخرت‬ ‫الكلم‪ ،‬يقول ابن عريب‪« :‬له يف كل جزء من أجزاء الزمانٍ ‪ُ ،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الفاتحة له من دون الرسل‪ ،‬ونالت أ َّمته‪ ،‬كام يقول شيخنا‪ ،‬علوماً مل ينلها أحد من األمم من قبل‪،‬‬
‫وتض َّمن رشعه الرشائع التي سبقته‪ .‬كان األصل املم ُّد لهذه الرشائع‪ ،‬من حيث هو دين اإلسالم بدءا ً‬
‫وفطرة‪ ،‬وصار بعد اكتامل دائرة الزمان‪ ،‬دين الرشع الخاتم والجامع‪ ،‬لحقائق كلم األنبياء‪ .‬وصار‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كتابه‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬الخاتم الجامع لهذه السلسلة النبويَّة التي متثِّل عهد التنزيل والوحي‬
‫فهذه الحكم النبويَّة وإن تف َّرقت يف األنبياء والزمان‪ ،‬إال أن حقيقتها‪ ،‬عند ابن عريب‪ ،‬هي حقيقة‬
‫واحد‪ ،‬هي «الحقيقة املحمدية» املجتمعة يف شخص الرسول الكريم‪ ،‬يكون مثالها بني أسامء الله‬
‫الحسنى‪ ،‬االسم الله الذي يشمل جمع َّية األسامء‪ ،‬فيكون الرسول الكريم «خري فتى»‪ ،‬عبد الله بني‬
‫«فتيان» أنبياء ورسل هم عبادلة األسامء الحسنى [[[‪.‬‬
‫النبي الخاتم يف مذهب ابن عريب‪ ،‬إنها اجتمعت يف الخلق‬ ‫مجمل القول يف فت َّوة األنبياء وفتوة ِّ‬
‫وتجسدت بشخص الرسول‪ ‬قرآناً‪ ،‬بعدما تف َّرقت يف األنبياء وال ّرسل فرقاناً‪ .‬يضبط الشيخ‬ ‫َّ‬ ‫العظيم‪،‬‬
‫لحكم املكارم والعرفان يف الرسل يف كتابه «فصوص الحكم»‪ ،‬الذي‬ ‫ين ِ‬ ‫ين الفرقا َّ‬
‫التجل القرآ َّ‬
‫ّ‬ ‫هذا‬
‫يتك َّون من سبع وعرشين فصاً نبويّاً‪ .‬كل فص يعرب عن حكمة علميَّة نبويَّة‪ ،‬قد ال يجانبنا الصواب‬
‫املختصة‬
‫َّ‬ ‫إذا قلنا‪ ،‬إنها يف إطار إلحاق الفت َّوة بالنب َّوة عند ابن عريب‪ ،‬تكون من باب ِحكم «الفت َّوة‬
‫يستشف ابن عريب‪ ،‬بذور فت َّوة نبويَّة‪ ،‬تحمل تجلّيات وكشوف أرسار‬ ‫ُّ‬ ‫بالنب َّوة»‪ .‬ففي كل حكمة نبويَّة‪،‬‬
‫وعلوماً إله َّية تؤخذ بق َّوة مؤيَّدة‪ .‬واألنبياء عنده‪ ،‬جميعهم‪ ،‬كام أرشنا‪ ،‬عصبة واحدة‪ ،‬عصبة «فتيان‬
‫كل منهم أمنوذجاً‬ ‫صدق» يصطفون بنياناً مرصوصاً وبيتاً عتيقاً‪ ،‬حقيق ًة واحدة‪ ،‬حرماً إلهيّاً‪ .‬ميثّل ٌّ‬
‫لحكمة إله َّية‪ ،‬ممثَّالً بحجر من أحجار البيت‪ ،‬فصاً من فصوص خاتم النب َّوة‪ ،‬فتمثِّل الكعبة الرشيفة‬
‫نبي وعن حكمته اإلله َّية‪ .‬يقول ابن‬ ‫يعب عن رسول أو ٍّ‬ ‫هذه الحقيقة النبويَّة الكرمية‪ .‬وكل حجر ِّ‬
‫عريب‪ ،‬إ َّن كل ذراع تحجري منها هو «مقدار ألمر إلهي يعرفه أهل الكشف»‪ ،‬ويقابل هذه املقادير‬
‫منازل القلب تقطعها كواكب اإلميان السيارة والتي منها يكون ظهور الحوادث يف العامل العنرصي‪،‬‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪.146.‬‬


‫[[[‪ -‬إن فهم واستيعاب الحقيقة املحمديَّة‪ ،‬يعد من أهم مفاتيح فهم مذهب ابن عريب‪ .‬وإننا ال نستنكف عن التذكري مبفهوم الحقيقة‬
‫كل مناسبة‪ .‬يفصل ابن عريب رشح هذا املفهوم يف مؤلفاته‪ ،‬وال سيام يف الباب الثاين عرش من الفتوحات املك َّية بعنوان‬ ‫املحمديَّة‪ ،‬يف ِّ‬
‫«يف معرفة دورة فلك سيدنا محمد ـــ صىل اللع عليه وسلم ـــ وهي دورة السيادة وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله تعاىل» ف‪،1.‬‬
‫ص‪ .‬ص‪143 .‬ــ ‪ ،146‬وأيضا ً يف الجواب عىل السؤال األول من الباب الثالث والسبعني من الفتوحات‪ ،‬ف‪ ،2.‬ص‪ ،40.‬والسؤال الرابع‬
‫والخمسني ومئة ف‪ ،2.‬ص‪.134.‬‬

‫‪77‬‬
‫المحور‬

‫معنى»[[[‪ .‬وإنها ما اكتمل بناؤها حتى جاء من يختمها يحفظها‬


‫ً‬ ‫معنى‬
‫ً‬ ‫كام يقول «سواء حرفاً حرفاً أو‬
‫ويؤمنها‪ .‬ويطابق تركيب الكعبة «كعبة الرس» التي كام يقول الشيخ‪« :‬يسعى لها كل من مييش عىل‬
‫قدم»[[[‪ ،‬تركيب الفاتحة أم الكتاب و«فاتحة الهدى»[[[‪ .‬فمن يطوف بالكعبة‪ ،‬أو من يقرأ الفاتحة‪،‬‬
‫كأنه طاف بحقائق األنبياء جميعاً‪ ،‬واستحرض ذكرهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫الفتوة وفتوحات غرائب العلوم ومبهماتها‪ ،‬وعلوم اآلخرة‪:‬‬
‫اإللهي للكرم وغايته‪ ،‬ليكون شعار وم ْعلم راية الفت َّوة‬
‫ُّ‬ ‫يتق َّدم مفهوم اإليثار‪ ،‬وهو كام رأينا‪ ،‬األصل‬
‫يف‪ ،‬خصوصاً ملن يطلب تع ُّمقاً يف لطائف العلوم النبويَّة واإللهيَّة‪ ،‬ويف ما‬ ‫يف طريق العرفان الصو ِّ‬
‫هو من مبهامت غرائبها وأرسارها‪ .‬هنا يصبح اإليثار وبرهانه رشط مطلوب ممن ي َّدعي الفت َّوة يف‬
‫هذا املضامر‪ .‬وإن مضمون أمر اإليثار وجوهر لبه هنا‪ ،‬أن مكارم األخالق تُجيل مرآة القلب حتى‬
‫تصفو‪ ،‬وتظهر بها الحكمة اإلله َّية ومعارفها الروحان َّية والعرفان َّية‪ ،‬فإن مل يكن املريد مؤيَّدا ً بروح‬
‫اإللهي عىل بنات أفكاره‪ ،‬فإنه سيستقبل هذه املعارف والحكم بفكره ونظره‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الفت َّوة‪ ،‬وإيثار التنزيل‬
‫ويكون التعمل والفهم له من قواه؛ فيكون فهمه بالنتيجة‪ ،‬محدودا ً بحكم عقله ومنطقه اإلنساين‪.‬‬
‫اإللهي عىل فكره ومنطقه‪ ،‬فإ َّن قلبه يصبح بصفاء‬ ‫ِّ‬ ‫تحل باإليثار‪ ،‬وآثر التنزيل والتعريف‬ ‫ولكنه‪ ،‬إذا َّ‬
‫يل الذي يؤيّده‪ ،‬يرى ويسمع ما يسمع نب َّيه‪ ،‬يقول ابن عريب‪« :‬فاجهد أن تنظر‬ ‫النبي أو الو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫مرآة قلب‬
‫املتجل يف مرآة محمد‪ ‬لينطبع يف مرآتك‪ ،‬فرتى الحق يف صورة محمدية برؤية‬ ‫ّ‬ ‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫إىل‬
‫ل باإليثار والفت َّوة‪ ،‬املعارف والحكم‬ ‫محمدية‪ ،‬وال تراه يف صورتك» ‪ .‬فتُفتح أمام السالك املتح ّ‬
‫[[[‬

‫اإلله َّية بحكمها هي‪ ،‬ال بحكم فكره‪ ،‬وتكون بحكم صفاء وكامل مرآة نب ّيه‪ ،‬ال بحكم مرآته‪ ،‬فهذه‬
‫العلوم كام يقول ابن عريب‪:‬‬
‫عن الظ ِّن والتخمني والحدس والحرز[[[‪.‬‬ ‫نصاً جل ّياً تقدَّ ست‬
‫ ‬ ‫علوم أتت َّ‬
‫يأخذ معنى اإليثار وهو غاية الكرم‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬نصيب األسد من جموع املكارم ‪ .‬ويكون‬
‫الفتى‪ ،‬من يؤثر أمر الله ووحيه‪ ،‬عىل حكم عقله وفكره‪ .‬كام أنَّه يؤثر النظر يف مرآة قلب نب ّيه عىل‬
‫مرآة نفسه‪ .‬فيقول شيخنا‪:‬‬
‫ثم حق رسول الله إيثاراً»[[[‪.‬‬ ‫ ‬
‫«إن الفتى من يراعي حق خالقه‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.666 .‬‬


‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.10 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.280 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ 4 .‬ص ‪. 433‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 314.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 135 .‬‬

‫‪78‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫حدة مجتمعة بطبيعتها‪ ،‬دنيا وآخرة‪.‬‬


‫ويكون ذلك أت َّم‪ ،‬أل َّن العلوم اإللهيَّة ستظهر له بكاملها متو ِّ‬
‫ولِام يكون لهذه العلوم يف قلب الفتى من رهبة لهول وقعها‪ ،‬كان لزوم التأ ُّهب والسلوك من‬
‫اإللهي‪ ،‬وبالروح من‬
‫ِّ‬ ‫رضوريَّات طريقها‪ .‬وإذ يتحقَّق السالك بربهان اإليثار‪ ،‬عندها يؤيّده الله باألمر‬
‫عنده «فتاه الروحاين»‪ ،‬ليعينه‪ ،‬ويخدمه‪ ،‬ويحفظه‪ ،‬ويعيده بالسالمة إىل أهله‪ ،‬متحقِّقاً بعلوم الكشوف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫والفتوحات والشهود‪ ،‬مستأهالً لقب الفت َّوة‪ .‬فهذا التحقُّق «فت َّوةً» بالعلوم‪ ،‬هو مبثابة الكنز الذي تفنى‬
‫النفوس يف طلبه‪ .‬يقول نجم الدين كربى‪ ،‬كام ذكرنا سابقاً يف أمر فتية أهل الكهف‪« :‬سامهم باسم‬
‫الفتوة ألنهم آمنوا بالتحقيق ال بالتقليد»‪ .‬فتأخذ الفتوة يف التص ُّوف بعد التحقق باألرسار والعلوم‬
‫اإلله َّية‪ .‬ويكون للفتيان بفطرة الروح من العلوم أخفاها وأدقّها‪ .‬ومنها علوم السمسمة التي ال يعلمها‬
‫الخاصة من العلامء الفتيان‪ .‬يقول ابن عريب‪:‬‬
‫َّ‬ ‫إالَّ‬
‫[[[‬
‫وما هو موسوم لديهم بسمسمة‬ ‫ ‬
‫لهم من خفايا العلم كل شعرية‬
‫يتضح يف سياق ما تقدم توثق عالقة الفتوة‪ ،‬بالتحقق مبا هو من العلوم املبهمة يف مذهب ابن‬
‫عريب ‪ .‬ويشبه من يذهب يف طلبها‪ ،‬صورة الفتى العريب «حامي الظعينة» يقطع الصحراء متعرضاً‬
‫لغرابيب العرب‪ ،‬ووحوش الصحراء‪ ،‬راكباً أهوال الطريق‪ ،‬ليعود بها‪ ،‬بسالم موضحاً ملن يريد أن‬
‫يسلك عىل خطاه‪ ،‬خفايا الطريق ومخاطره ‪ .‬فيعترب ابن عريب أن إيضاح مبهامت العلوم ال يكون إال‬
‫للفتيان الشجعان‪ ،‬فالفتى‪ ،‬يقول‪ ،‬هو من يوضح املبهم‪ .‬وقد أوضح ابن عريب الشيخ األكرب‪ ،‬والفتى‬
‫الحامتي الكثري من مبهامت العلوم رصاحة أو إشارة ورمزا ً‪ ،‬عن أمر إلهي‪ .‬ومن هذه املبهامت‬
‫عىل سبيل املثال ال الحرص رس كلب الكهف‪ ،‬أرشنا إليه يف مقدمة هذه الورقة‪ ،‬فيقول موضحاً عن‬
‫رس الشخص الكريم يظهر مبظهر «الكلب الظبي»‪ ،‬يعرفه من هو يف االعتبار «فتى عربيّاً»‪ ،‬أي من‬
‫توضَّ ح وتع َّرب عنده مبهم أمر هذا الشخص‪ ،‬وعرف بأن ظهوره مبظهر الكلب الظبي ليس من باب‬
‫املسخ‪ ،‬فهو‪ ،‬كام يقول‪ ،‬من «األنايس سويا»‪ .‬ونفهم أن املعنى املقصود من إشارات ابن عريب‬
‫هنا‪ ،‬أن األمر من باب التجسد الروحاين‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫من كان كلباً ظب َّيا‬ ‫ ‬‫إين رأيت بظ ّني‬

‫من اإلنايس سويَّا‬ ‫وكان شخصاً كرمياً‬


‫ ‬

‫ت فيه شيئاً فريَّا‬ ‫ ‬


‫ومل أجىء بالذي قل‬

‫تكن فتى عرب َّيا[[[‪.‬‬ ‫ ‬


‫«وال تقل فيه مسخ‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 241 .‬‬


‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪ . 284 .‬وقد تناولنا مسألة تأويل مفاهيم «العرب َّية» «األعجم َّية» عند ابن عريب‪ ،‬يف ورقتنا األوىل من كتابنا ورقات أكربيَّة ‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫المحور‬

‫يأيت التحقُّق بالعلوم اإللهيَّة ومبكارم األخالق وبالفت َّوة املوصلة إليها عند ابن عريب‪ ،‬وكام هو‬
‫اإلسالمي عموماَ‪ ،‬والصويف خصوصاً‪ ،‬من باب السعادة الدنيويَّة واألخرويَّة‪ .‬فهي أه ُّم‬
‫ِّ‬ ‫يف الرتاث‬
‫ما يحوزه اإلنسان يف دنياه آلخرته‪ ،‬بل إنه بها‪ ،‬يتم َّيز عند الله‪ ،‬يقول ابن عريب‪:‬‬

‫غداة غد يف موقـف البعث والنشـ ِر‬ ‫ ‬


‫بـها مي َّـز ال َّرحـمن بيـن عبـاده‬

‫إذا دفنوا يف األرض من ضغطة الق ِ‬


‫رب‬ ‫ ‬
‫كـام م َّيـز ال َّرحـمن بيـن عبـاده‬
‫[[[‬
‫فال بد منه فاعلـموا ذاك من شعري‬ ‫ ‬
‫فـضـم لـتعذيـب وضـم تعشـق‬

‫فمقام اإلنسان يف اآلخرة هو استمراريَّة ما اكتسبه وعمل له يف الدنيا‪ ،‬وال يسكن يف الدار اآلخرة‬
‫إالَّ الدار التي بناها يف الدنيا‪ ،‬وال يجني إالَّ ما غرسه يف أرضها [[[‪ .‬وإالَّ فإنَّه يف اآلخرة وعندما يرى‬
‫«خري الله»‪ ،‬يقول شيخنا‪« :‬يصبح نادماً مبا فرط املسكني يف زمن البذر»[[[‪ ،‬بل ويصبح يف «نكد»‪.‬‬
‫كل كون»‪ .‬وينصح ابن عريب السالك‬
‫وإن القلب املغبون هو الذي يسهو عن «رس حكمته يف ِّ‬
‫اإللهي قبل فوات األوان‪ ،‬قائالً‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫بالعمل عىل اكتساب العلم‬
‫[[[‬
‫متت فإنك عل التقليد مسجون‪.‬‬ ‫فاعرف إلهك من قبل املامت فإن‬

‫كل عاقل‪ .‬والعاقل يف مفهوم ابن عريب‪ ،‬هو الذي يعقل‬


‫هذه العلوم واملعارف رضوريَّة عند ِّ‬
‫(ميسك) عقله املفكّر ليعقل ما يلقى إليه‪ ،‬ما ميليه عليه قلبه من الحكمة اإللهيَّة املؤيَّدة بالوحي‬
‫اإللهي‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫والتنزيل‬
‫[[[‬
‫عاقل‪.‬‬
‫فإذا تخىل عنه ما هو ُ‬ ‫عاقل ‬
‫ال يقبل اإللقاء إالَّ ٌ‬

‫كام أ َّن هذه العلوم اإلله َّية‪ ،‬يعتربها ابن عريب مبثابة أرسار الشافية للعلل واألمراض الدنيويَّة‬
‫والروحانيَّة‪ .‬فإ َّن تدخل عىل السالك العلَّة ويصبح سقيامً‪ ،‬فإنها الشافية‪ .‬والفتى هو الذي يعتمدها‬
‫ويعمل بها ليشفي نفسه من العلل التي تطرأ عليه يف سفره‪ .‬فحال العمل والعلم عنده‪ ،‬مثل حال‬
‫الروح مع الجسد ال ينفصالن دنيا وآخرة‪ ،‬فكام أن الجسد ذو روح‪ ،‬فإن الروح «ذو جسد»‪ ،‬وال‬
‫يكون إالَّ مدبّرا ً لهيكل‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.314 .‬‬


‫[[[‪ -‬ينظم ابن عريب بهذا املعنى‪ ،‬فيقول‪« :‬دخلت جنة عدن يك أرى أثراٌ * فقيل ليس جناهم غري ما غرسوا»‪ .‬ديوان‪ ،‬ص‪.358 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.314 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.33 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.231 ,‬‬

‫‪80‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫[[[‬
‫لن تدركوه ألن الروح ذو جسد‪.‬‬ ‫ ‬ ‫إذا َّ‬
‫تجل لكم يف عني واحدة‬

‫ومل َّا كان البعث عند ابن عريب يف القيامتني الصغرى والكربى‪ ،‬معنويّاً وحسيّاً وحدة واحدة‪،‬‬
‫كان التحقُّق بعلوم اآلخرة‪ ،‬يتطلَّب الشفاء من العلل‪ ،‬والعمل يف الدنيا‪ .‬فعمل اإلنسان وإن ينقطع‬
‫يف اآلخرة حيث ال تكليف‪ ،‬إالَّ أن نتائج أحكامه تظهر هناك‪ ،‬يقول الشيخ‪:‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫وإمنا الفوز يف العقبى مع العمل[[[ ‪.‬‬ ‫ ‬


‫واعمل عليه تصب دنيا وآخرة‬

‫يتَّضح يف إطار مفهوم وحدة الوجود‪ ،‬أو كام يس ّميه ابن عريب «الوجود الواحد» أو «الوجود‬
‫الحق»‪ ،‬أن يوم الدين عنده‪« ،‬هو يوم الدنيا واآلخرة»[[[ بال شك‪ .‬ينبه الشيخ يف بابه الرابع والثالثني‬
‫َّ َ‬
‫واملخصص «يف معرفة حال قطب كان منزله ‪ِ‬إَونك‬ ‫َّ‬ ‫وخمسمئة من كتاب «الفتوحات املك َّية»‪،‬‬
‫َََ ُ ُ َ‬
‫يم‪ ،‬إىل أن من يداوم عىل هذا الذكر‪ ،‬يفتح الله له معاين هذه السورة عىل «أكمل‬ ‫لعل ٰى خل ٍق ع ِظ ٍ‬
‫الوجوه»‪« ،‬وينكشف له أمر اآلخرة عياناً»‪ [[[.‬فإنه مبجيء اإلسالم يقول ابن عريب ‪« :‬اتصل الحكم‬
‫باآلخرة»‪ [[[.‬وإن هذه العلوم الربزخ َّية عزيزة من فوق طور العقل‪ ،‬ال يصمد لها إالَّ من تحقَّق بالفت َّوة‪.‬‬
‫ولذلك باإلضافة إىل الكرم واإليثار والعلم والحكمة‪ ،‬كان ال ب َّد للفت َّوة من قوة‪ ،‬بها يأخذ الفتى علمه‬
‫ويثبت حيث املزالَّت وحيث املواقف املهيبة‪ .‬فهو يف صدد معاينة مواقف وأحوال وأهوال اآلخرة‬
‫مثل «ضغطة القرب» يف دنياه ويف حياته‪ ،‬يف حال اليقظة‪ .‬لذا‪ ،‬كان لزاماً أن يؤكد شيخنا‪ ،‬يف مجال‬
‫االتحقق بهذه العلوم الرشيفة أن «من ال قوة له ال فتوة له»‪ ،‬كام ذكرنا‪ ،‬وقد يكون كرم وال فتوة‪ .‬فال‬
‫بد من استكامل ثالثية الكرم‪ ،‬والعلم والقوة‪ ،‬الستحقاق لقب الفت َّوة واستكامل الرحلة إىل برزخ‬
‫«فتى» يف حديثه لحكيم‬
‫الوجود والعدم‪ .‬وهو ذات برزخ «نعم ال»‪ ،‬الذي أشار إليه ابن عريب‪ ،‬وكان ً‬
‫قرطبة ابن رشد وكان شيخاً‪ ،‬وقد فهم قايض قرطبة إشارة ابن عريب وهاله أمرها وأخذ بالحوقلة‪ ،‬ملا‬
‫تيقن من كالم ابن عريب‪ ،‬أن عبور هذا الربزخ وما يكون فيه من أرواح تطري من موادها‪ ،‬وأعناق من‬
‫[[[‬
‫حق‪ ،‬يف يقظة الدنيا‪.‬‬
‫أجسادها‪ ،‬وما يكون من رجوعها إىل أجسادها‪ ،‬وبعثها‪ ،‬شهود ٍّ‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.293 .‬‬


‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.413.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 513 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4.‬ص‪. 178 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 146 .‬‬
‫[[[‪ -‬تناولنا مسألة لقاء ابن رشد وابن عريب‪ ،‬وما دار بينهام من حديث بالرمز واإلشارة‪ ،‬يف الورقة الخامتة لكتابنا ورقات أكرب َّية‪ ،‬تحت‬
‫عنوان «الفتوح اإللهي يف مجمع بحري نعم وال‪ ،‬اجتهاد العقل وجهاد النفس‪ ،‬علوم الدنيا وعرفان اآلخرة يف مذهب بن عريب»‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫المحور‬

‫الفىت الروح ابن أمه‪« :‬عيىس القلوب»‪ ،‬محييها وحاديها‪:‬‬


‫تتلخَّص صفات الفتى األساس َّية‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬بشجاعة وبكرم يصل ح َّد اإليثار بالنفس‪ ،‬تجتمع‬
‫كل مكارم األخالق تحت لوائه‪ .‬يقول ابن عريب «ومنحرهم نفيس ومرشبهم دمي»[[[ ‪ .‬وبسيف‬
‫ُّ‬
‫إلهي يجمع علوم‬
‫ه َّمة «مسلول» عىل األعداء مؤيَّد بالق َّوة اإلله َّية يحمي الحمى والحوزة‪ .‬وبعلم ٍّ‬
‫املوازين اإللهيَّة ومواطنها‪ ،‬بها يكون عطاء الفت َّوة‪ .‬والفت َّوة‪ ،‬يقول ابن عريب ‪« :‬من غري وزن ال يع َّول‬
‫عليه»[[[‪ .‬هذه الصفات األساس َّية تلتقي ومفهوم الروح عنده‪ ،‬كام ب َّيناه يف ما تق َّدم‪ .‬فللروح قوة إله َّية‬
‫من حيث هو ريح (قوة) كلمة من نفس الرحمن‪ ،‬كالسيف الصارم‪ ،‬منه العزمية وبه يكون جهاد النفس‬
‫وقواها السبع َّية‪ .‬وإن الله‪ ،‬كام ين ّبه ابن عريب‪ ،‬ما كلف العبد الضعيف إالَّ بوجود هذه القوه فيه‪ .‬خلق‬
‫الله الروح كامالً بالغاً عاقالً‪ ،‬وعارفاً مؤمناً بتوحيد الله‪ ،‬عاملاً بربّه وبنفسه‪ ،‬والدليل عىل ذلك‪،‬‬
‫يقول الشيخ‪ ،‬إقراره بربوب َّيته يف جوابه «بىل» حني أشهده الله عىل نفسه وعىل عبوديَّته‪ ،‬ولو أنه «مل‬
‫يكن عاقالً»‪ ،‬يستدرك شيخنا‪ ،‬قائالً‪« :‬ملا خاطبه الله‪ ،‬فالله ال يخاطب إالَّ من يعقل عنه خطابه»[[[‪.‬‬
‫فتمثِّل الفت َّوة مبا تشتمل عليه من معاين املكارم والقوة والشجاعة‪ ،‬والحكمة والعلم‪ ،‬الطبيعة األم‬
‫للفتى الروح‪ ،‬فهو أبن أمه‪ ،‬يقول ابن عريب‪« :‬فاإلنسان ابن أمه بال شك‪ ،‬فالروح ابن طبيعة بدنه وهي‬
‫أمه التي أرضعته ونشأ يف بطنها»[[[‪ .‬فهذا الروح «ابن أمه الطبيعة» من نفس الرحمن‪ ،‬وإن األنفاس‬
‫املحل الذي متر منه‪ ،‬وتنشأ به‪ ،‬وإن صحتها املكارم ومرضها سفاسف األخالق[[[‪ .‬ويؤكد‬
‫ُّ‬ ‫متعلَّقها‬
‫الشيخ‪ ،‬أن هذه الصفات التي متثل الفتوة متثل األم (النفس الكل َّية)‪ ،‬وابنها الفتى (الروح)‪ ،‬يتَّسم‬
‫مثلها بالقوة و الكرم والشجاعة واإلقدام‪ ،‬وإال فالنفس اإلنسانيَّة (الجزئيَّة)‪ ،‬فقد جبلها الله عىل‬
‫الجزع والضعف يف أصل نشأتها‪ ،‬لها الجنب والخوف‪.‬‬

‫يتَّسع موضوع الروح والنفس يف مذهب ابن عريب‪ ،‬يشمل األرواح الجزئيَّة والكليَّة نرتكه ملناسبة‬
‫يخص شخص الفتى الروح‪ ،‬ابن أمه الفت َّوة‪ ،‬السيد والخديم‬
‫ُّ‬ ‫أخرى إن شاء الله‪ ،‬ونأخذ باختصار هنا ما‬
‫الذي لقيه الشيخ األكرب بالقرب من الحجر األسود‪ ،‬وهو املطلوب يف طريق التص ُّوف كام يؤكِّده‪.‬‬
‫ين‪ ،‬ويعكس ابن عريب‪،‬‬
‫يتداخل مفهوم السيادة ومفهوم الخدمة يف سياق مفهوم الفت َّوة والكامل اإلنسا ِّ‬
‫يب «سيد القوم خادمهم» واضعاً الخدمة يف صدارة املوقف‪ ،‬فيقول‪« :‬خادم‬
‫كام ذكرنا املثل العر َّ‬
‫[[[‪ -‬ذخائر األعالق رشح ترجامن األشواق‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت ‪ ،2000‬ص‪. 18 .‬‬
‫[[[‪ -‬رسالة ال يعول عليه‪ ،‬ص‪. 198 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،2.‬ص‪. 690 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 276 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪.‬ص‪274 .‬ــ‪. 275‬‬

‫‪82‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫القوم سيدهم»[[[‪ .‬مؤكِّدا ً أن معنى الخدمة هو مفتاح معنى السيادة‪ .‬فالروح مبا ميثله من خدمة وسيادة‬
‫للسالك‪ ،‬هو يف االعتبار‪ ،‬فتى نشأته اإلنسان َّية‪ ،‬مليكها وخادمها (التاج والنعل)‪ ،‬وابن فطرتها‪ ،‬بق َّوته‬
‫لنبي الله عيىس بن مريم من إحياء‬
‫وعلمه وكرم خلقه يُحيي القلوب‪ .‬ويقول من باب اإلشارة إىل ما كان ِّ‬
‫اإللهي هو نفس الرحمن «لذلك كنى (الله) عنه بالنفخ ملناسبة النفس‪ ،‬فقال‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بالنفخ‪ ،‬قائالً‪ ،‬إن الروح‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫[[[‬
‫ونفخت فيه من روحي‪ ،‬وكذا جعل عيىس ينفخ يف صورة طينيَّة كهيئة الطري»‪.‬‬
‫ين الذي فات الناس أمره‪،‬‬ ‫قلنا يف بداية بحثنا‪ ،‬إن ابن عريب مل َّح ون َّوه لشخص الفتى الروحا ِّ‬
‫ومل يذكره باالسم يف مكانه‪ .‬وقد أثار هذا الفتى فضول ق ّرائه‪ ،‬من يكون؟ هل هو كناية ورمز للقرآن‬
‫النبوي اإلشارة إىل القرآن يأيت‬ ‫ِّ‬ ‫الكريم‪ ،‬وقد وصفة الشيخ باملتكلِّم الصامت؟ وجاءت يف الرتاث‬
‫املفسين‪ ،‬هو روح‪ ،‬وقد يكون جربيل “ املخصوص‬ ‫ِّ‬ ‫حسن الطلعة‪ .‬وقال بعض‬ ‫املؤمن يف هيئة فتى َ‬
‫باإلنباء”‪ .‬وقد يخطر عىل بال أحدهم أنه من وحي خيال ابن عريب نفسه‪ .‬ولكن الشيخ يقطع طريق‬
‫إنيس”[[[مؤكِّدا ً اإلشارة إىل شخص بعينه‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫هذه التك ُّهنات والظنون‪ ،‬فيقول “وليس من األمالك بل هو‬
‫لنبي‬
‫ولقد بيَّ َّنا يف دراستنا املع َّمقة يف الفت َّوة عند ابن عريب‪ ،‬أن هويَّة هذا الفتى الروح بن أمه‪ ،‬تعود ِّ‬
‫ُ َّ‬
‫ِيسى ٱبْ ُن َم ْر َي َم َر ُسول ٱللِ‬ ‫الله عيىس بن مريم‪ ،‬كام جاء يف اآلية الكرمية‪ :‬إ َّن َما ٱل ْ َمس ُ‬
‫ِيح ع َ‬
‫ِ‬
‫ٌ ّ ْ [[[‬ ‫ََ َُُ ََْ َ َ َ َْ َ َ ُ‬
‫رصح‬ ‫وك ِمته ألقاها إِل ٰى مريم وروح مِنهُ‪ . ‬بني يدي ٍه‪ ،‬كان أول رجوع ابن عريب إىل الله‪ ،‬كام ي ِّ‬
‫بذلك هو نفسه (ملراجعة الدالئل نعيد القارئ إىل دراستنا يف الفت َّوة)[[[‪ .‬وإذ يتعمد الشيخ األكرب‬
‫رصح بهويّة الفتى الروح عالنيَّة‪ ،‬ويتح َّدث عنه بلغة الرمز واإلشارة يف الباب األول‪ ،‬فذلك كام‬
‫أالَّ ي ِّ‬
‫نراه‪ ،‬أسوة بطبيعة الروح‪ ،‬وتي ُّمناً به‪ ،‬فهو الفتى الذي ال يتح َّدث إالَّ رمزا ً وإشارة‪ ،‬وقد فطر‪ ،‬كام يقول‬
‫ابن عريب‪« ،‬أن ال يكلم أحدا ً إالَّ رمزا ً»[[[‪ .‬كام أننا قد نرى يف اإلشارة إليه وبالغموض الذي تع َّمد أن‬
‫يحيطه به ابن عريب‪ ،‬أيضاً‪ ،‬استثارة لفت َّوة القارئ الذي ينوي أن يركب مشاق الفتوحات ومخاطرها‪،‬‬
‫فيدعوه للذهاب يف أثر الفتى يجده يف أبواب الحقة من كتاب «الفتوحات املكيَّة»‪ .‬كام يجده يف‬
‫باب سفر القلب من كتابه «اإلرساء»‪ ،‬ويف السامء الثانية من الكتاب نفسه‪ ،‬حيث روحانية املسيح‪،‬‬
‫وحيث يصفه ابن عريب بالفتى كاتب اإللهام‪« ،‬رائع الجامل ساطع البهاء»‪ ،‬طلب منه أن يكتب له‬
‫«ظهري األمان»[[[ يف سفره‪.‬‬
‫[[[‪ -‬وال ميكن اعتبار ذلك هفوة من الشيخ‪ً ،‬‬
‫فأوال‪ ،‬ال يتأىت ذلك من متمكّن من اللغة والحضارة العرب َّية مثله‪ .‬وثانياً‪ ،‬إنه يردِّده يف أكرث من‬
‫يدل عىل سابق تصميم بإبراز املثل معكوساً‪ ،‬وإن املعنى الذي يريد إيصاله بفعله هذا‪ ،‬واضح‪.‬‬ ‫مكان مام ُّ‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 275 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 47 .‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء‪ :‬اآلية‪. 171‬‬
‫[[[‪ ،Ibn Arabi L’initiation à la Futuww -‬ص ص‪. 230-226 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪. 48 .‬‬
‫[[[‪ -‬اإلرساء إىل املقام األرسى ص‪ .‬ص‪57 .‬ــ ‪.81‬‬

‫‪83‬‬
‫المحور‬

‫جب عىل طالب درب الفت َّوة‪ ،‬إذا ً‪ ،‬التأ ُّهب واالستعداد‪ ،‬بدءا ً بإحياء عهد فطرته‪« ،‬فطرة بىل»‪،‬‬
‫يتو َّ‬
‫يتجل له فتى نفسه‪ ،‬ميني الله يف أرض جسمه‪ ،‬وحادي عيسها‪ ،‬ليج ِّدد عهده ويلتزم به‪.‬‬
‫َّ‬ ‫حتى‬
‫فصح القول بإحياء الفت َّوة‪ ،‬فهي كامنة يف قلب اإلنسان (كعبة مكته)‪« ،‬أم القرى»‪ .‬وإن الصورة التي‬
‫يوحيها ابن عريب‪ ،‬أن الفت َّوة عندما تحيي القلب‪ ،‬فإ َّن فتاها‪ ،‬الروح (كلمة الله)‪ ،‬يسيح يف باقي‬
‫أرض الجسم‪ ،‬من اململكة اإلنسانيَّة[[[‪ ،‬يج ِّدد البيعة لجوارح البلدان ومدنها وأقطارها‪ ،‬ويستويف‬
‫زكاة علومها منها‪ .‬ويتَّضح دور البيعة[[[ يف تثبيب مريد وسالك طريق الله رغم املصاعب‪ ،‬إذ إن‬
‫الطريق كام ذكرنا‪ ،‬خطر وشاق‪ ،‬فكان الفتى املسيح «عيىس القلوب» كام يس ِّميه ابن عريب‪ ،‬هو‬
‫كل ميت‪.‬‬
‫الذي يحييها ويحيي جوارح بدنها من قبورها بالعلم؛ إذ إ َّن حياة الروح ذاتيَّة‪ ،‬تُحيي بذاتها َّ‬
‫يقول شيخنا‪:‬‬

‫القلـوب فـــي ألـــفاظـك‬


‫ِ‬ ‫وحيـاة‬ ‫عجباً كيف ترتك القـــلب ميتاً‬
‫[[[‬
‫الجهل وهي من حفاظك‬
‫ج‬ ‫دث‬ ‫ ‬
‫أنت عيىس القلوب تنرشها من‬

‫الحي بذاته‬
‫ِّ‬ ‫يكمن الفرق بني من هو حي بذاته‪ ،‬ومن هو حي بغريه‪ ،‬عند ابن عريب‪ ،‬يف اعتبار‬
‫الفص الخامس عرش املخصوص باملسيح‬
‫ِّ‬ ‫كل من يراه‪ ،‬يقول يف‬
‫كل ما يالمسه أو يطأه أو َّ‬
‫يحيي َّ‬
‫عيىس‪« ‬فص حكمة نبويَّة يف كلمة عيسويَّة»‪« :‬إعلم أ َّن من خصائص األرواح أنها ال تطأ شيئاً‬
‫الحي من «حرضة‬
‫ِّ‬ ‫إالَّ حيي ذلك اليشء ورست الحياة فيه»[[[‪ .‬ويقول مؤكِّدا ً من حرضة االسم‬
‫فكل يشء به حي»[[[‪ .‬وإن الطريق‬
‫كل من يراه وما يغيب عنه يشء ُّ‬ ‫الحياة»‪ :‬إن «الحي بذاته يحيا به ُّ‬
‫كل‬
‫للفتوحات وكشوف الحقائق‪ ،‬والصوفيَّة هم يف االعتبار «أهل حقائق» كام يؤكِّده ابن عريب يف ِّ‬
‫مناسبة‪ ،‬يتطلَّب صحبة والتزام من كانت حياته ذاتيَّة‪ ،‬وال يكون إحياء علوم الفتوحات والشهود إالَّ‬
‫به‪ .‬ين ِّبه ابن عريب إىل وجوب رفقة من هو حي بذاته‪ ،‬فيقول‪»:‬ولكن بينك وبني هذه الحال مفاوز‬
‫مهلكة وبيداء معطشة وطرق دارسة وآثار طامسة يحار فيها الخريت الذي انكشفت له الحقائق‪ .‬فال‬
‫يقطعها إالَّ من يُحيي ومييت‪ ،‬ال من يحيا وميوت»‪ [[[.‬ويقول يف هذا الروح‪:‬‬

‫مؤسسات عديدة‪.‬‬‫[[[‪ -‬أفرد ابن عريب لهذه اململكة اإلنسان َّية‪ ،‬كتاباً سمَّه‪ :‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ ،‬نرشته َّ‬
‫[[[‪ -‬وقد رشحنا معاين البيعة وعهد فطرة «بىل»‪ ،‬عند ابن عريب يف الورقة الثانية من كتابنا ورقات أكرب َّية‪ ،‬تحت عنوان ‪ :‬دالالت معاين‬
‫«البيعة» «والعهد» يف إطار مفاهيم نظريَّات الجرب واالختيار‪ ،‬والقضاء والقدر‪ ،‬والعصمة واالبتالء‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪.47 .‬‬
‫[[[‪ -‬فصوص الحكم‪ ،‬تحقيق أبرار أحمد شاهي وعبد العزيز املنصوب‪ ،‬رشكة القدس للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ 2016 ،‬ص‪144 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4 .‬ص‪. 291 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3 .‬ص‪. 246 .‬‬

‫‪84‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫معصوم ُة الحال من علم الخف َّي ِ‬


‫ات‬ ‫ ‬
‫أفـادين منـه أسـرا ٌر مـخ َّبـأة‬
‫ِ‬
‫أمـوات‬
‫[[[‬
‫ورصت ح ّياً ولكن بني‬ ‫ ‬
‫فعندما حصلت يف القلب عشت بها‬

‫ين»‪« ،‬عيىس القلوب» «بالقمر املنري» «وبقمر الصدق»‪ ،‬الذي‬


‫يش ِّبه ابن عريب‪ ،‬الفتى «الروحا َّ‬
‫ُّ‬
‫يستدل‬ ‫يلبس هيكل جسمه كام يلبس القمر دجى الليل‪ ،‬فيقول‪« :‬أتانا رسول القوم مرتد الدجى»[[[‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫تجل‬
‫به فتيان الليل يف رساهم‪ .‬ويعترب الشيخ يف هذه الصورة املجازيَّة‪ ،‬أن الله وهو الكريم‪ ،‬جعل ّ‬
‫هذا الفتى القمر‪ ،‬رأف ًة ورحم ًة بفتيانه القاصدينه‪ ،‬أضيافه «أضياف الله»[[[ يف ليلهم البهيم‪ ،‬ينري لهم‬
‫الطريق‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫فهو املرحوم‬ ‫والذي ُيشهده نور القمر ‬


‫[[[‬
‫فهو املحروم‪.‬‬ ‫ ‬‫والذي غيب عنه واسترس‬

‫هو الفتى‪ ،‬الروح‪ ،‬نور حياته الذايتُّ جعله بغية السائرين يستنريون طريقهم به‪ ،‬وبه تنكشف‬
‫لهم الحقائق‪ ،‬فوجب عليهم‪ ،‬كام يقول ابن عريب‪ ،‬أن يتح َّولوا إىل الله سبحانه وتعاىل‪ ،‬يحمدونه‬
‫ويدعونه‪ ،‬حتى يجود عليهم بلقائه‪ ،‬ليكون دليل رحلتهم‪ ،‬حاميهم‪ ،‬وطبيبهم‪ ،‬ملا يتع َّرضون له من‬
‫اآلفات يف سفرهم‪ .‬وينظم الشيخ بهذا املعنى‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫وال دواء إذا ما استحكم الـدا ُء‬ ‫ ‬


‫للحق فينا تصاريف وأشيا ُء‬
‫ِّ‬

‫الطب أنبــا ُء‬


‫ِّ‬ ‫إالَّ ُعبيد له يف‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬
‫عضال ليس يذهبهُ‬ ‫الدا ُء دا ٌء‬
‫[[[‬
‫ومن أتته من الرحمن أنبــا ُء‬ ‫عـن اإلله كعيىس يف نب َّوت ِه‬
‫ ‬

‫إن يكن الفتى‪ ،‬روح الله وكلمته عيىس‪ ‬يف االعتبار قمرا ً‪ ،‬فذلك ملا يف منازل القمر من‬
‫إبدار ومحاق عربة للسالكني ومث ٌَل‪ ،‬أراد الله سبحانه به لهم‪ ،‬كام يقول ابن عريب‪« :‬العبور إىل ما‬
‫نصب لهم من معرفة اإلنسان الكامل ومعرفة الله لوجودهم عىل الصورة»[[[‪ .‬يشبه الفتى القمر‬
‫يطلب كامل شهر وجوده‪ ،‬فيكون له التغيُّ يف املنازل زيادة ونقصاناً‪ ،‬بينام هو يف ذاته تا ّم‪ .‬وإ َّن‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 361 .‬‬


‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 68 .‬‬
‫[[[‪ -‬الصوف َّية‪ ،‬هم يف االعتبار عند ابن عريب‪ ،‬كام يقول‪« :‬أضياف الله»‪ ،‬يسافرون إليه وينزلون يف حامه‪ ،‬فيحق لهم ما يحق للضيف عند‬
‫العرب من القرى‪ ،‬رمز العلوم واألحوال واملعارف اإلله َّية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 116 .‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 361 .‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،3.‬ص‪. 111 .‬‬

‫‪85‬‬
‫المحور‬

‫متام املعرفة للسالك هو معرفته بآيات الله يف نفسه «العامل الصغري»‪ ،‬ويف اآلفاق «العامل الكبري»‪.‬‬
‫مثل يستند إىل حقيقة إلهيَّة‪ ،‬وهذه األمثال‪ ،‬ينبّه ابن عريب‪ ،‬هي لله‪،‬‬
‫كل يشء هو يف الحقيقة‪ٌ ،‬‬
‫وأن َّ‬
‫وهو الذي يرضبها للناس‪ .‬ومل َّا كان االنسان ال يقبل علم وجوده إالَّ باملثل‪ ،‬كان النور من حيث‬
‫كونه ميسح الوجود عل ّوا ً وسفالً‪ ،‬أحسن مثالً رضبه الله لإلنسان حتى يفهم وجود أرضه وسامئه‪،‬‬
‫يقول الشيخ‪:‬‬
‫[[[‬
‫يل السافل‬
‫إالَّ به فهو الع ُّ‬ ‫ال يقبل اإلنسان علم وجود ِه‬
‫ ‬

‫وإذ يقول ابن عريب يف هذا السياق مجازا ً‪« :‬وفاز القمر بالفت َّوة»‪ ،‬فإنَّه يالقي فوز الفت َّوة بنور‬
‫الروح والكلمة يكون كالسيف الصارم يف كشوف الحقائق‪ .‬فهو «القول الفصل وكلمة الصدق‪،‬‬
‫«مبثابة «سيف الله يف أرضه»‪ .‬وهو يصل فت َّوة املسيح عيىس بن مريم عليهام السالم‪ ،‬بنور سيف‬
‫الرشيعة املحمديَّة يف آخر الزمان يقيم به العدل‪ ،‬يقول‪« :‬ورضب له (للمسيح) بسهم يف الدورة‬
‫املحمديَّة‪ ،‬وأن سهمه يصيب قرطاسها وعدله يقيم قسطاسها»[[[ فيشري إىل نزول روحه يف دمشق‪،‬‬
‫يكون كام يقول‪:‬‬

‫مـــهدي وسنــ َّـة مصطفى‬


‫ٍّ‬ ‫بدعوة‬ ‫ ‬
‫سيف للرشيعة صار ٌم‬
‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫[[[‬
‫ويهلك أعداء وينجو من اهتدى‪.‬‬ ‫ ‬
‫فيقتل د َّجاالً يدحض باطالً‬

‫رحلة الفتى قمر الروح «عيىس القلوب» من مقام «التامم» إىل مقام «كامل» الحمد‪.‬‬

‫املالم َّية‪« ،‬أصحاب النومة العسلية» يف أعىل هرم الفت َّوة‪:‬‬

‫وإن متايزت يف طريق الحق عند شيوخ التصوف والعرفان‪ ،‬وال سيام عند ابن عريب‪ ،‬معاين‬
‫العدم واملحو واملحق والسلب والفناء والغربة ومفارقة األوطان‪ ،‬من جهة‪ ،‬ومعاين الوجود‬
‫واإلثبات واإليجاب ومحق املحق والبقاء والرجوع‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬إالَّ أن هذا التاميز يكون من‬
‫بكل مفهوم‪ .‬تجتمع هذه املفاهيم تحت مفاهيم الحياة واملوت والبعث‪،‬‬
‫الخاص ِّ‬
‫ِّ‬ ‫حيث املعنى‬
‫وال يشكِّل املوت نهاية الحياة بل هو يف األصل الحدث املرج ُّو والذي ينتظره العارف بالله ملا فيه‬
‫من لقاء وشهود الله‪ .‬فيتغ َّنى باملوت‪ ،‬النخبة من شيوخ الصوفيَّة م َّمن يسميهم ابن عريب «باألكابر»‪،‬‬
‫«وبأعظم الرجال» أو «بالصنف العايل من رجال الله»‪ ،‬مشريا ً إىل طبقة املالم َّية الذين هم يف‬

‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 230 .‬‬


‫[[[‪ -‬اإلرساء إىل املقام األرسى‪ ،‬ص‪ .82 .‬ترشح سعاد الحكيم معنى القرطاس هنا الغرض‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ديوان‪ ،‬ص‪. 65 .‬‬

‫‪86‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫اعتباره‪ ،‬حازوا أعىل درجات مقام الفتوة‪ ،‬ومنهم أبو السعود الذي كان يردد معجباً بقول أيب متام‬
‫(تم ذكره)‪:‬‬

‫وقال لها من دون أخمصك الحرش‪.‬‬ ‫ ‬


‫وأثبت يف مستنقع املوت رجله‬

‫يف هذا السياق‪ ،‬يؤكِّد الشيخ قائالً‪« :‬هكذا هو الرجل وإالَّ فال ي ّدعي أنه رجل»[[[‪ .‬ويعجب‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مبواقف العرب ال يهابون املوت‪ ،‬بل‪ ،‬ويف مواطن يستعذبونه‪ ،‬فيستذكر شيخنا قول الشاعر من‬
‫بني ضبة‪:‬‬

‫املوت عندنا أحىل من العسل‬ ‫ ‬


‫نحن بنــي ضبـه إذا جد الوهل‬

‫ال عــــار بالـــموت إذا حـل ‪.‬‬ ‫نحن بنو املوت إذا املوت نزل‬

‫وينبِّه ابن عريب إىل مقولة الشاعر إنه «يلت ُّذ باملوت تلذُّذ آكل العسل»‪ ،‬يعتربها من دواعي النظر‬
‫واالستبصار‪ ،‬يقول‪ :‬محفِّزا ً القارئ السالك‪« :‬هذه اإلشارة فيها غنية ملن نظر واستبرص»[[[‪ .‬فنستبرص‬
‫يتجل فيها صنف املالم َّية «أصحاب النومة العسل َّية»‪ ،‬ممن حازوا وجازوا‬
‫َّ‬ ‫يف ق َّمة الفت َّوة عنده‬
‫أرسار الحياة واملوت‪ ،‬ويذكر الشيخ مبا كان أبو السعود يقوله‪« :‬ما هي إالَّ الصلوات الخمس‬
‫وانتظار املوت»‪ ،‬ويستدرك منبّهاً ومعلّقاً عىل كالم أيب السعود‪ ،‬فيقول‪« :‬وتحت هذا الكالم علم‬
‫كبري»[[[ يف إشارة إىل علم رس القضاء والقدر‪ .‬يكون حال من حازه أنه «اسرتاح» «ومات قبل أن‬
‫ميوت»‪ ،‬فقامت عنده القيامة الصغرى وتم بعثه وعودته يف مقام الثبوت يف عني الحق‪ ،‬وهوما‬
‫يسميه ابن عريب مقام «محق املحق» مقا ّماً محمديّاً‪.‬‬

‫تتلخَّص مرتبة املالم َّية يف أعىل درجات مقام الفت َّوة عند شيخنا الحامتي‪ ،‬بكونها نحرا ً لنفس‬
‫ومواقف‪ ،‬وازدالفاً‪ ،‬ورشاء “حمد‬
‫َ‬ ‫وصلوات‪ ،‬و سعياً بني صفا ومروة‪ ،‬ورج َم شيطانٍ عند عقبات‪،‬‬
‫بحمد” يبقى مدى الدهر‪ ،‬مهرا ً لحسناء‪ ،‬غضة حوراء‪ ،‬كاعب بكر يصفها ابن عريب “بالكعبة‬
‫الحسناء”[[[ حيث يتحقَّق مبا ميليه عليه “العلم القلمي األعىل”[[[‪ .‬عندها يكون التحقُّق بالحقيقة‬
‫املحمديَّة‪ ،‬وتكون رؤية الله مبرآة محمد “رؤية كامل َّية”‪ .‬وإن كامل الشهر‪ ،‬والشهر رمز اإلنسان‬
‫الكامل عنده‪ ،‬ال يكون إالَّ بسفر القمر‪ ،‬رمز الروح‪ ،‬مبنازله حتى يت َّم بدره‪ ،‬ويجتمع فتاؤه ق َّوة وكرماً؛‬

‫[[[ ‪ -‬ف‪ ،2.‬ص‪. 371 .‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،4‬ص ص‪. 291 290-.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪. 188.‬‬
‫[[[‪ -‬قصيدة ابن عريب يف خطبة الفتوحات‪ ،‬مطلعها‪ :‬ملا انتهى للكعبة الحسناء * جسمي وحصل رتبة األمناء‪ .‬ف‪ ،1.‬ص‪. 6.‬‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،1 .‬ص‪.51 .‬‬

‫‪87‬‬
‫المحور‬

‫فيتطلَّع إىل محاقه يسري إليه ليتحقَّق يف مقام اإليثار‪ .‬يف هذا السياق نقرأ مقولة ابن عريب‪“ :‬وفاز‬
‫القمر بالفتوة”‪ .‬إذ ال يخوض املحاق إالَّ من تسلَّح بسيف اإليثار والفتوة والكرم علامً وتحقُّقاً‪ ،‬ال‬
‫جهالً‪ .‬فيشهد وحدة وجوده ويعلم أ َّن السيف والكرم والعلم طبيعة فت َّوته وفطرته‪ .‬يحمد الله ويسلِّم‬
‫ألمره مرتقّياً يف مقامات الحمد حتى يجتازها إىل املقام اليرثيب “مقام ال مقام”‪ ،‬حيث جمعيَّة‬
‫املقامات كلِّها‪ ،‬فيعرف أن حقيقة حمده هي حقيقته‪ ،‬وكعبة قلبه‪ ،‬وهي كتابه وقرآنه‪ ،‬وأنه كام يقول‬
‫ابن عريب‪ ،‬مل يخرج يف سفره عن نفسه‪ .‬يعود الفتى متحقِّقاً يف مقام املالم َّية محمديَّاً مييش يف‬
‫األسواق ويأكل القديد‪ ،‬متحقِّقاً يف مقام النفس الل َّوامة مؤيَّدا ً بكتاب الله‪.‬‬

‫يف هذا السياق يقول ابن عريب “وبقي الوحي فتوة”[[[‪ .‬فنفهم مل ربط الفت َّوة بالنب َّوة‪ ،‬وجعلها نائبة‬
‫لها بعد أن أغلق باب النب َّوة الترشيع َّية برشيعة محمد ‪ ‬بظهور شخصه يف الزمان واملكان‪ .‬فنفهم‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬إشارته «وبقي الوحي الفت َّوة»‪ ،‬من حيث هو وحي نب َّوة ووالية‪ ،‬ال وحي ترشيع‪.‬‬
‫َْ َْ َ ْ َ ْ ُ َ ُ‬
‫ت لك ْم‬ ‫فرحلة الفت َّوة هي رحلة «التامم» إىل «الكامل»‪ ،‬يعتربها من اآلية الكرمية ‪‬اليوم أكمل‬
‫ُ َ ُ‬ ‫ك ْم َو َأتْ َم ْم ُ َ َ ُ ْ‬
‫َ ُ‬
‫يت لك ُم الإسلام دينا‪.[[[‬‬ ‫ت عليْك ْم ن ِع َمتِي َو َر ِ‬
‫ض‬ ‫دِين‬

‫ولو تدبَّرنا ترتيب الحكم النبويَّة يف كتاب ابن عريب «فصوص الحكم» الذي يوافق تركيبه الشهر‬
‫القمري وعدد كلامت الفاتحة[[[‪ ،‬نجد أ َّن ترتيب الحكمة النبويَّة العيسويَّة هو الحكمة الخامسة‬
‫عرشة‪ ،‬يوافق النهاية العظمى لليلة بدر التامم‪ .‬وتأيت الحكمة املحمديَّة يف الرتتيب السابع والعرشين‬
‫يوافق بداية فرتة املحاق‪ ،‬وهي أيضاً يف االعتبار ليلة القدر من شهر رمضان‪ .‬ولو تدبَّرنا أيضاً ما بني‬
‫فتى» الرسول ‪ ،‬فتى‬
‫فتى الفتوحات املك َّية «الفتى الفائت» املسيح عيىس بن مريم ‪« ،‬وخري ً‬
‫«فصوص الحكم» الذي رآه يف مبرشة‪ ،‬يناوله كتاب الفصوص[[[‪ ،‬لوجدنا الرقم خمسمئة وستني‪،‬‬
‫يطابق عدد أبواب الفتوحات التي هي يف االعتبار‪ ،‬للدارس املتخصص الطريق للفصوص‪ .‬كام‬
‫ميثل الرقم ‪ 560‬باإلضافة لكونه سنة مولد ابن عريب نفسه‪ ،‬فإنه يف بعض الروايات ميثِّل عدد السنني‬
‫ما بني أنبياء الله عيىس والرسول‪ .[[[‬فام فاز القمر بالفت َّوة إالَّ ليبقى الوحي فت َّوة‪ .‬تحقق الشيخ‬
‫[[[‪ -‬ف‪ ،4.‬ص‪395 .‬‬
‫[[[‪ -‬سورة املائدة‪ :‬اآلية ‪3‬‬
‫[[[‪ -‬وقد بينا هذا التناسب يف ورقتنا «خطاب القونوي بني التأثر بخطاب ابن عريب والتاميز عنه‪ ،‬الفكوك والفصوص أمنوذجاً‪ ،‬ألقي‬
‫مبناسبة املؤمتر العاملي لصدر الدين القونوين‪ ،‬ونرش ضمن أعامل املؤمتر يف قونيا‪ 2008 ،‬منشورات ‪ MEBKAM‬تنسيق ‪Dilaver‬‬
‫‪ Gurer‬وترجم هذا البحث إىل اللُّغة اإلنكليزيَّة ونرش يف مجلة ‪Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society,V49 2011‬‬
‫ل الله عليه وسلَّم ـــ‪ ،‬يف مبرشة وبيده كتاب الفصوص‪،‬‬ ‫[[[‪ -‬يقول ابن عريب يف مقدّ مة كتابه فصوص الحكم‪ ،‬إنه رأى رسول الله ـــ ص َّ‬
‫وطلب منه أن يأخذه ويخرج به إىل الناس‪ .‬فامتثل ابن عريب ألوامر سيده قائالً «السمع والطاعة» وأخرجه للناس‪.‬‬
‫[[[‪ -‬جاءت هذه الروايات ً‬
‫«نقال عن قتادة» يف معظم كتب التفسري يف سياق تفسري اآلية الكرمية *عىل فرتة من الرسل*املائدة‪ ،19 :‬يراجع‬
‫مثالً تفسري ابن كثري‪ ،‬والطربي‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫اإللهي‪ ،‬يقول‪« :‬وإذا بالعلم القلمي‬


‫ِّ‬ ‫الحامتي بالفتوة وباملقام املحمدي‪ ،‬وعاد مؤيَّدا ً بق َّوة القلم‬
‫األعىل قد نزل بذايت من منازله العىل راكباً عىل جواده‪ ،‬قامئاً عىل ثالث قوائم‪ .‬فنكس رأسه إىل‬
‫ذايت‪ ،‬فانترشت األنوار والظلامت ونفث يف روعي جميع الكائنات‪ ،‬ففتق أريض وساميئ وأطلعني‬
‫عىل جميع أساميئ»[[[ ‪ .‬فإن كان باب النب َّوة الترشيعيَّة قد أغلق‪ ،‬برشيعة الرسول ‪ ‬الخاتم‪ ،‬إالَّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أن الله أبقى للخلق‪ ،‬كام يقول ابن عريب‪« :‬التن ُّزل الروحاين بالعلم ليكونوا عىل بصرية يف دعائهم‬
‫إىل الله»[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ف‪ ،1.‬ص‪51 .‬‬


‫[[[‪ -‬ف‪ ،2.‬ص‪569 .‬‬

‫‪89‬‬
‫المحور‬

‫خالصة ‪:‬‬
‫تتم َّيز قصة الفت َّوة بالذكورة والق َّوة والفروس َّية‪ ،‬فإن محورها‪ ،‬وغايتها عند الشيخ األكرب‪ ،‬وقد‬
‫بالحامتي‪ ،‬هو مهر«األنثى»‪ ،‬صاحبة «كنوز املعارف اإلله َّية» والحكم النبويَّة‪« ،‬الكعبة‬
‫ِّ‬ ‫عرف أيضاً‬
‫رشفة»‪ .‬يق ِّدم الفتى طالب طريق علوم هذه الفتوح والكشوف‪ ،‬مهرا ً‪ ،‬براهني الفت َّوة من استعداد‬ ‫امل َّ‬
‫وتأسيس‪ ،‬مفاده التخلق مبكارم األخالق اإللهيَّة والق َّوة والحكمة؛ إذ ال يشارف كنوز الله يف حامه‪،‬‬
‫إالَّ من هو كفؤا ً لها‪ .‬يدخل الفتى إىل حرضة الكعبة‪ ،‬يس ّميها ابن عريب «بالكعبة الحسناء» حيث‬
‫يتحقَّق مبا ميليه عليه «العلم القلمي األعىل» من حقائق العلوم يف مقام الحمد الجامع‪ .‬يف هذا‬
‫السياق‪ ،‬نقرأ يف عنوان كتاب الشيخ‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬اإلشارة إىل فتح الرسول‪ ‬مكة‪ ،‬وكان‬
‫يف السنة الثامنه للهجرة‪ ،‬توالت بعده الفتوحات اإلسالميّة وتالحقت يف مغارب األرض ومشارقها‪.‬‬
‫تأسياً بالسرية النبويَّة‪ ،‬يطلب الفتى الحرضة املك َّية ليفتح الله عليه علوم مشارق ومغارب قواه‬ ‫ّ‬
‫مشاق الطريق‪ ،‬مهرا ً يق ّدمه لهذه «األنثى» العتيقة‪ .‬فقد أشار الشيخ األكرب‬
‫َّ‬ ‫والحس َّية‪ ،‬معتربا ً‬
‫ّ‬ ‫الروحان َّية‬
‫إىل خرب «حديث األنثى» من الحرضة املك َّية‪ ،‬عرب مشهد مهيب‪ ،‬يف مكاشفة قلب َّية متثّل جوهر‬
‫خطبة كتاب «الفتوحات املكيَّة»‪ .‬وحرص عىل بيان تفصيل علوم هذا الحديث يف باقي أبواب‬
‫الكتاب‪ ،‬ويف مؤلَّفاته األخرى‪.‬‬
‫خالصة ما يذهب إليه ابن عريب بصدد فتوة الروح يف الفتوحات املكية ما ينطوي عليه‬
‫املقتبس التايل‪:‬‬
‫فلم برز الروح‬
‫«فلم نازعه الهوى واستعان بالنفس عليه‪ ،‬عزم الروح عىل قتل الهوى‪ ،‬واستعد‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫بجنود التوحيد واملأل األعىل‪ ،‬وبرز الهوى كذلك بجنود األماين والغرور واملأل األسفل‪ ،‬قال الروح‬
‫للهوى‪ :‬مني إليك‪ ،‬فإن ظفرتُ بك فالقوم يل‪ ،‬وإن ظفرتَ أنت وهزمتني‪ ،‬فامللك لك وال يهلك‬
‫القوم بيننا‪ .‬برز الروح والهوى‪ ،‬فقتله الروح بسيف العدم وظفر بالنفس بعد إباية منها وجهد كبري‪،‬‬
‫الحواس إلميانها‪ ،‬ودخلوا يف‬
‫ُّ‬ ‫فأسلمت تحت سيفه‪ ،‬فسلمت وأسلمت وتط َّهرت وتق َّدست وآمنت‬
‫رق االنقياد وأذعنوا‪ ،‬وسلبت عنهم أردية الدعاوى الفاسدة واتَّحدت كلمتهم‪ ،‬وصار الروح والنفس‬ ‫ِّ‬
‫كاليش‏ء الواحد[ ] ونقله من افرتاق الرشع إىل جمع التوحيد» ‪.‬‬
‫[[[‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬يف أربعة مجلَّدات‪ ،‬سرنمز إليها ب ف‪ ،‬ف‪ ،1.‬ص‪ . 274‬وإذ نعتمد هذه النسخة من الفتوحات يف أربعة مجلَّدات‬
‫ال تفوتنا مراجعة النسخة التي حقَّقها عبد العزيز املنصوب يف ثالثة عرش مجلَّداً‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فت َّوة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫اإلشاري الصويفِّ‪ ،‬بريوت‪ ،2009 ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪ .120 .‬وكثرية هي األمثلة يف‬
‫ِّ‬ ‫‪2.2‬التأويالت النجم َّية يف التفسري‬
‫تفسري فتية أهل الكهف يف كتب التص ُّوف‪ ،‬عىل سبيل املثال تراجع الرسالة القشرييَّة‪ ،‬بريوت ‪ ،1990‬ولطائف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫املنن البن عطاء الله‪ ،‬القاهرة‪.1987 ،‬‬


‫‪3.3‬تنزل األمالك من عامل األرواح إىل عامل األفالك‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪.2000 ،‬‬
‫‪4.4‬ديوان ابن عريب‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت ‪.2002‬‬
‫‪5.5‬ذخائر األعالق رشح ترجامن األشواق‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت ‪.2000‬‬
‫‪6.6‬الرسالة الوجوديَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪.2004 ،‬‬
‫‪7.7‬رسالة ال يعول عليه‪ ،‬يف رسائل ابن عريب‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت ‪.2007‬‬
‫‪8.8‬فصوص الحكم‪ ،‬تحقيق أبرار أحمد شاهي وعبد العزيز املنصوب‪ ،‬رشكة القدس للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2016‬‬
‫‪9.9‬كلود عداس‪ ،‬ابن عريب‪ ،‬سريته وفكره(مرتجم)‪ ،‬بريوت‪ ،‬املدار اإلسالمي‪ ،2014 ،‬محمد الحاج يوسف‪،‬‬
‫شمس املغرب‪ ،‬سرية الشيخ األكرب ومذهبه‪ ،‬حلب‪ ،‬فصلت للدراسات والرتجمة والنرش‪.2006 ،‬‬
‫‪1010‬ديوان سجيع جميل الجبييل‪ ،‬ديوان أمية بن أيب الصلت‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪1998 ،‬‬

‫املصادر األجنبية‬
‫‪1.‬‬ ‫‪Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints , Prophétie et sainteté dans la doctrine‬‬
‫‪d’Ibn Arabi, Paris, Gallimard, 1986, réd. 2012, n. 27.‬‬
‫‪2.‬‬ ‫=(‪An-Nasir li-Din Allah. Politik, Religion, Kultur in der späten Abbasidenzeit. ‬‬
‫‪Studien zur Sprache, Geschichte und Kultur des islamischen Orients. N.F. Band‬‬
‫‪8). Berlin/ New York 1975.‬‬
‫‪3.‬‬ ‫‪Ibn Arabi Le livre de l’Arbre et des Quatre Oiseaux, Paris,1984 rééd1988‬‬

‫‪91‬‬
‫المحور‬

‫املدين‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفتوة بام هي تظهري‬
‫َّ‬
‫تقريب سوسيو ـ ثقايف‬

‫ّ ن‬
‫فاطمة مهري‬ ‫ ‬
‫عل محمد مؤذ ي�‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫ف‬
‫طالبة دكتوراه ي� جامعة طهران‬ ‫ ‬
‫أستاذ ي� جامعة طهران‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫التصور يبدو‬ ‫العام؛ بيد أن هذا‬ ‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫الفتوة نوع من‬ ‫يعتقد البعض أن‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫رصا عن توضيح دورها وتأث�ها عىل مستوى ِّ‬ ‫ً‬
‫االجتماعية‬ ‫وتطور الحياة‬ ‫نمو‬ ‫ي‬ ‫قا‬
‫ّ‬
‫المتصوفة والعرفاء‪،‬‬ ‫والحضارية‪ ،‬وما من ريب أن هذه الوجهة السلوكية‪ ،‬لدى‬
‫َّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومثل هذا‬ ‫َّ‬
‫المدنية» للمجتمعات‬ ‫الكب� عىل «الحياة‬‫كان لها أثرها ي‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الفكري فحسب؛ بل تخط ذلك أيضا نحو‬ ‫التأث� لم يكن عىل المستوى‬ ‫ي‬
‫واالجتماع‪ْ.‬‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫السياس‬ ‫التأث�‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الفتوات عىل امتداد التاري ــخ مجاالت السوق والمجتمع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لقد دخلت‬
‫ام�جت ت‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وسننا ت ز‬ ‫�‪ ،‬وفرضت ً‬
‫آدابا ُ‬ ‫في ي ن‬‫وتغلغلت ف� طبقات الح َر ّ‬
‫بال�كيب‬ ‫ِ‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ض‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الفكري لهذه الطبقات‪ ،‬وتمكنت من إضفاء روح الحياة المدنية الح�ية‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الصوفية‪ ،‬فظهرت تبعا لذلك مفاهيم ومصطلحات جديدة‬ ‫عىل المفاهيم‬
‫ّ‬
‫المد�‪.‬‬ ‫ن‬ ‫ُّ‬
‫من أبرزها التصوف‬
‫ي‬
‫َ‬
‫ال� تثبت هذه الف َرضية وتقيم‬ ‫ّ ت‬ ‫ف‬
‫سنعمل ي� هذا البحث عىل عرض األدلة ي‬
‫والسوسيولو�‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫ج ي‬ ‫المعر�‬
‫ي‬ ‫األدلة عىل صوابها ي� الميدان‬
‫* * *‬
‫َّ‬
‫المدنية‪-‬‬ ‫ُّ‬
‫التصوف‪ ،‬الحياة‬ ‫فّ‬
‫الحر�‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الفتوة‪ ،‬الفتيان‪،‬‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫ي‬
‫ن‬
‫المد�‪.‬‬ ‫ض‬
‫الح�ية‪ -‬التصوف‬
‫ي‬

‫الفاريس]‪ ،‬جامعة آزاد اإلسالم َّية‪ ،‬فرع بوشهر‪ ،‬العام الثاين‪ ،‬العدد ‪ ،3‬ربيع‬
‫ّ‬ ‫* املصدر [عن فصل َّية «دراسات الُّلغة واألدب‬
‫‪1389‬هـ‪.‬ش‪2010 /‬م]‪.‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬د‪ .‬عيل الحاج حسن‬

‫‪92‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫تمهيد ‪:‬‬
‫[[[‬

‫كان التص ّوف وباستمرار من جملة املوضوعات التي جذبت اهتامم الباحثني واملحقّقني يف‬
‫مجاالت الثقافة والحضارة يف إيران‪ ،‬ومن هذا املنطلق‪ ،‬خضع التاريخ وسيَّ تط ّوره لدراسات‬
‫إل أنَّه كان‬
‫كثرية‪ .‬وكان مصطلح «الفتوة» واح ًدا من املوضوعات املرتبطة برباط وثيق بالتص ّوف‪ّ ،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫قليل الحضور يف النصوص واملصادر الصوفيَّة‪ ،‬إذا ما قارنّاه بحضور املفاهيم األخرى؛ لذلك مل‬
‫يخضع مفهوم الفتوة للبحث والدراسة من ناحية كونه مفهو ًما مؤث ّ ًرا يف الحياة الفكريّة – االجتامع ّية‬
‫لعل السبب يف ذلك‪ ،‬أ ّن الفتيان يف األغلب هم من عا ّمة الناس‪،‬‬
‫ين – املسلم؛ ّ‬
‫للمجتمع اإليرا ّ‬
‫باألخص يف القرون األوىل‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقليل ما كانوا يولون االهتامم لكتابة أصول اعتقاداتهم‪،‬‬
‫ً‬
‫ميكن تتبّع أحوالهم يف اآلثار املكتوبة‪ ،‬والتي مل تُذكر يف رسائل الفتوات‪ ،‬بل يف الكتابات‬
‫التاريخ ّية واألدب ّية‪.‬‬

‫خاص إىل مجموعات ع َّدة‬


‫ّ‬ ‫ميكن تقسيم النصوص التي تح ّدثت عن الفت َّوة ومقوالتها بشكل‬
‫منها‪:‬‬

‫أ‪ -‬النصوص التي عرفت بـ«رسائل الفتوة» أو «كتاب الفتوة»‪ ،‬والتي تح ّدثت أغلبها عن الحرف؛‬
‫ولعل من أشهر هذه النصوص التي نُرشت‪ :‬رسائل الفتوة (التي تشتمل عىل سبع رسائل ملجموعة‬
‫َّ‬
‫السهروردي‪ ،‬عبد الرزّاق الكاشاين‪ ،‬شمس الدين مح ّمد بن محمود‬
‫ّ‬ ‫من املؤلّفني هم‪ :‬شهاب الدين‬
‫اآلميل‪ ،‬نجم الدين زركوب‪ ،‬درويش عيل كهركري‪ ،‬ورسالة فتوة حائيك الخيش التي مل يُ ْعلم‬
‫رصاف‪« ،‬رسالة فتوة السقّائني»‪ ،‬طباعة ايرج أفشار (طبعت‬
‫مؤلّفها)‪ ،‬وهي من تصحيح مرتىض ّ‬
‫يف الذكرى السنوية للدكتور محمود أفشار (‪1372‬هـ‪.‬ش‪« ،)1993 /‬ثالث رسائل فتوة» طباعة‬
‫مهران أفشاري‪( ،‬يف ذكرى الدكتور محمود أفشار)‪ ،‬باإلضافة إىل أربع عرشة رسالة يف باب الفتوة‬
‫وأصنافها من تصحيح مهران أفشاري ومهدي مدائني‪.‬‬

‫متحورت هذه النصوص ـ وهي نصوص غري طويلة ـ حول إثبات وتقرير أصل الفت َّوة‪ ،‬منشأها –‬
‫وقد أرجعت أغلب أصنافها إىل األنبياء – أصنافها‪ ،‬آدابها‪ ،‬أصولها والفضائل املقبولة عند الحرفيّني‪.‬‬
‫خاصة؛ لذلك جاء الكالم فيها مط ّو ًل‪ ،‬بل أشارت إىل‬
‫ّ‬ ‫بعض هذه النصوص‪ ،‬مل تتح ّدث حول حرفة‬
‫خاص‪ ،‬من جملة هذه النصوص كتاب «الفت َّوة» للسلمي[[[‪ ،‬حيث تظهر الفت َّوة يف‬
‫ّ‬ ‫الفت َّوة كمفهوم‬

‫[[[‪( -‬راجع‪ :‬شفيعي كدكني ‪1386‬هـ‪.‬ش‪ ،2007 /‬الفصل ‪)23‬‬

‫‪93‬‬
‫المحور‬

‫الكتاب بصورتها الصوفيّة الكاملة‪« ،‬تحفة الوصايا» من تأليف أحمد بن الياس النقاش الخرتربيت‬
‫(طبعت صورة للرسالة يف مجلّة «كل ّية االقتصاد» يف تركيا»[[[‪ ،‬كتاب «الفتوة» البن املعامر‪« ،‬رسالة‬
‫للمل حسني واعظي كاشفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفتوة السلطان ّية»‬

‫ب‪ -‬النصوص البحث ّية املعارصة‪ ،‬وميكن تقسيمها إىل ع ّدة مجموعات ع َّدة منها‪:‬‬

‫مستقل‪ ،‬والتي متحورت حول تعريفها‪ ،‬تاريخها‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬األوىل؛ اآلثار التي كُتبت حول الفت َّوة بشكل‬
‫وتح ُّوالتها‪ ،‬من قبيل الفت َّوة يف الدول اإلسالم ّية للمؤلّف عبد الباقي غولبيناريل‪ ،‬ومذهب الفتوة‬
‫لهرني كوربان‪ ،‬رسالة الفتوة‪ :‬مذهب وآداب وعادات ملح ّمد عفيفي‪.‬‬

‫بالنص الذي كتبت‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬الثانية؛ هي اآلثار التي د ِّونت كمق ِّدمة لرسائل الفت َّوة‪ ،‬والتي تض ّمنت تعريفًا‬
‫ألجله‪ ،‬باإلضافة إىل كليَّات مفيدة حول الفت َّوة وأصولها‪ .‬من جملة هذه اآلثار مق ِّدمة مصطفى جواد‬
‫عىل كتاب الفت َّوة البن املعامر‪ ،‬مق ِّدمة مح ّمد جعفر محجوب عىل رسالة الفت َّوة السلطانيّة‪ ،‬ومق ّدمة‬
‫مهران أفشاري ومهدي مدائني عىل الرسائل األربع عرشة يف باب الفت َّوة‪.‬‬

‫خصصوا فصولً يف آثارهم للحديث عن الفت َّوة‪،‬‬


‫كام أ ّن الباحثني الذين كتبوا حول التص ّوف‪ّ ،‬‬
‫وللعالقة التي تحكم التص ّوف والفتوة ومسرية التح ّوالت التي شهدتها‪ .‬من جملة الكتب يف هذا‬
‫الشأن‪ :‬القلندريّة يف التاريخ للدكتور مح ّمد رضا شفيعي كدكني‪ ،‬وآثار املرحوم الدكتور عبد‬
‫خصوصا كتابه «بحثًا عن التص ّوف يف إيران» (الفصل ‪ ،)14‬والذي تح ّدث‬
‫ً‬ ‫الحسني زرين كوب‪،‬‬
‫عن أصحاب املالمة والفتيان‪.‬‬

‫وقد نُرش العديد من املقاالت حول الفتوة‪ ،‬من جملتها مقال لفرانتس تشرن حول تاريخ تح ّوالت‬
‫الفتوة ‪ -‬باإلضافة إىل تصحيحه رسالة الفتوة النارصيّة ـ وقد د ّون العديد من املقاالت يف هذا‬
‫الخصوص‪.‬‬

‫وتعترب كتابات الدكتور زرين كوب هي األبرز من بني الكتابات التي أرشنا إليها حتّى اآلن‪ ،‬يف‬
‫توضيح دور الحرفيني يف الفت َّوة‪ ،‬والعالقة التي تربط الفتيان بأصحاب ِ‬
‫الحرف وطبقاتهم‪ ،‬وهو ق ّدم‬
‫مفاتيح مفيدة يف توضيح الجذور اإليرانيّة للفتوة‪.‬‬

‫سنحاول يف هذا املقال‪ ،‬أن نوضح دور الفت َّوة يف إيجاد املدن َّية‪ ،‬ودور الفتيان يف الحياة‬
‫االجتامعيّة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬عنوان املجلة نقلً عن شفيعي كدكني)‪1386: 162. Iktisat Fakultesi Mecmuasi (II inci No. 1-4‬‬

‫‪94‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫الفتوة يف احلياة َّ‬


‫املدني�ة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫دور‬
‫كام أ ّن الفتوة ترتبط برباط وثيق مع التص ُّوف‪ ،‬فهي تتامهى ومتتزج بطبقات املجتمع العا َّمة‪،‬‬
‫حيث ميكن اعتبار هذا التامزج والتامهي أحد موارد االفرتاق أو الوجه املم ّيز بني التص ُّوف والفت َّوة‪.‬‬
‫ومن جملة الدوافع األساس ّية التي تع ّزز هذا اال ّدعاء االرتباط الوثيق بني الفت َّوة وطبقة الحرف ّيني‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫إ ّن هذه العالقة كانت يف السابق سببًا يف تنظيم الحياة املدنيّة يف الحضارة اإلسالميّة‪ ،‬مع العلم‬
‫أنّه ميكن مشاهدة ما ميكن أن يشري إىل ذلك‪ ،‬يف ما تبقَّى من الطريقة الحرف ّية التقليديّة‪ ،‬ومع‬
‫للتكسب يف القرنني األخريين‪ ،‬فال ميكن االكتفاء بالنامذج القليلة‬
‫ّ‬ ‫التقليدي‬
‫ّ‬ ‫زوال وضمور الشكل‬
‫املتبقّية للبحث والدراسة حولها‪ .‬إ ّن ما نسمعه اليوم يف األسواق واألحياء حول الفتيان والبهلوان ّيني‬
‫والرفاق‪ ،‬أو الكلامت اليوميّة املستخدمة واملستوحاة من عامل الذّوق واملعرفة‪ ،‬جميعها تشري إىل‬
‫أشخاص كانوا ميتلكونها عىل وجه املعنى‪ ،‬وليس اال ّدعاء‪ ،‬وإذا كانت بعض الكلامت قد امتزجت‬
‫مثل‪ ،‬فإ ّن الفت َّوة ما زالت صفة بارزة يُ ْنظر إىل صاحبها نظرة‬
‫اليوم بقصص من عامل الجهل كاللوتيني ً‬
‫احرتام وتقدير‪.‬‬
‫َّ‬
‫الفتوة والفتي�ان‪:‬‬
‫ع ّدد مؤلِّف رسالة قابوس الذي عاش يف القرن الخامس‪ ،‬أصول الفت َّوة عىل النحو اآليت‪« :‬أصول‬
‫كل ما تقول‪ ،‬والثاين أن ال تتكلَّم مبا يخالف الصدق‪ ،‬والثالث أن‬
‫الفت َّوة ثالثة أشياء‪ :‬األ ّول أن تفعل َّ‬
‫تعتمد التواضع»‪( .‬عنرص املعايل ‪.)246 :1378‬‬

‫كل ما قيل يف رسائل الفتوة حول أصولها ومفاهيمها األساسيّة‪ ،‬تربطه نسبة‬ ‫مم ال ّ‬
‫شك فيه أ ّن ّ‬ ‫ّ‬
‫واضحة بالتص ّوف[[[‪ ،‬إلّ أ ّن الفتوة كالتص ّوف تتطلّب حياة معقّدة‪ ،‬وقد ق ّدمت لها تعاريف كثرية‪ .‬أ ّما‬
‫يئ‬
‫االصطالحي إىل أتّباع الفتوة‪ ،‬فإنّه يوضح التع ّدد املعنا ّ‬
‫ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬والذي يشري يف معناه‬
‫ّ‬ ‫املعنى‬
‫لألطياف املنتمية للفت َّوة‪ .‬من جملة املصطلحات التي استخدمت يف هذا اإلطار‪ :‬الفتى[[[‪ ،‬العيار‪،‬‬
‫الشاب‪ ،‬البهلوان‪ ،‬األخ والرفيق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصعلوك‪،‬‬

‫حمل مصطلح «العيار» طوال التاريخ معاين متع ّددة وبعيدة بعضها عن بعض‪ ،‬تبدأ من املتسكّع‪،‬‬
‫كالشاب والفتى‪ ،‬والسبب يف ذلك أ ّن العديد من الفتيان‬
‫ّ‬ ‫الرشيق‪ ،‬الداهية‪ ،‬املاكر إىل معانٍ أخرى‬

‫[[[‪ -‬سنوضح يف ما يأيت بالتفصيل العالقة التي تربط التص ّوف بالفتوة‪.‬‬
‫والنبي إبراهيم‪‬‬
‫ّ‬ ‫الكهف‪،‬‬ ‫أصحاب‬ ‫خصوص‬ ‫يف‬ ‫العبارة‬ ‫وأطلقت‬ ‫[[[‪ -‬استخدمت كلمة فتى ومشتقّاتها عرش م ّرات يف القرآن الكريم‪،‬‬
‫والنبي يوسف ‪ ،‬حيث ميكن القول إنّ معناها يرادف الشباب‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫المحور‬

‫ات ّصفوا وعرفوا بها‪ ،‬واشتهر العيارون بأمور من جملتها األدلَّ ء يف طرق الجبال والصحاري‪ ،‬الرسقة‬
‫من املقتدرين وإعطاء املفلّسني‪( .‬راجع‪ :‬دهستاين ‪.)786-781 :1360‬‬

‫استخدمت كلمة «الصعلوك» يف اللغة الفارس ّية مبعنى العيار‪ ،‬السارق وقاطع الطريق‪ .‬ويف‬
‫تدل عىل السارق وقاطع الطريق‪ ،‬واستخدمت‬‫العربية‪ ،‬استخدمت كلمة «الصعلوك» أيضً ا‪ ،‬والتي ّ‬
‫أيضً ا مبعنى الفقري‪ .‬والصعاليك يف الثقافة العرب ّية ت ُطلق عىل األشخاص الفقراء‪ ،‬والذين يجوبون‬
‫الصحارى والغرباء واملهاجرين واملطرودين من قبائلهم (ذكاويت قراكزلو ‪ .)34-33 :1373‬ومن‬
‫أبرز أعاملهم رسقة األغنياء وإعطاء الضعفاء[[[ (حاكمي ‪ ،)627 :1346‬وقد أنشد شاعر العرص‬
‫العبيس أشعا ًرا بالصعاليك الس ّيئني والصعاليك الط ّيبني‪( .‬ذكاويت‬
‫ّ‬ ‫يل املشهور عروة بن ورد‬
‫الجاه ّ‬
‫قراكوز لو ‪ ،)38 :1373‬وهذا يعني أ ّن منهم من كان سلوكه حس ًنا‪ ،‬ومنهم من كان سلوكه س ّيئًا‪.‬‬

‫البهلوان ّيني هم مجموعة أو فرع من هذه املجموعة الكبرية‪ ،‬تختلف عن سواها باملروءة والق ّوة‬
‫حر يف بعض الرياضات والفنون القتال ّية من قبيل املصارعة‪ ،‬رمي الرماح‪ ،‬وإطالق الرصاص[[[‪.‬‬
‫والتب ُّ‬
‫(راجع‪ :‬كاشفي السبزواري ‪ .)330-306 :1350‬وقد أُطْلق عليهم لقب األيتام‪ ،‬ويعنى بها يف ثقافتهم‬
‫ما يرادف الفتى (أفشاري ومدائني ‪ .)25 :1381‬يضاف إىل ذلك أحد املصطلحات الواردة من‬
‫الرتك َّية وهو املحارب‪ ،‬وقد استخدمه يزن بهادر يف وصفه البهلون ّيني األتراك والترت‪( .‬راجع‪ :‬حسني‬
‫كرد الشبسرتي ‪.)174 ،136 ،135 ،134 ،126 ،83 :1344‬‬

‫ذكرت املصطلحات والكلامت املتق ّدمة مرا ًرا يف النصوص املتعلّقة بالفت َّوة والفتيان‪ .‬وإذا‬
‫لكل واحدة من الفرق واملجموعة املتق ّدمة غري متاميزة بعضها عن‬
‫كانت الصفات املشخّصة ِّ‬
‫خاصة مح َّددة ُّ‬
‫تدل عليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل فرقة قد ُعرفت بصفات‬
‫إل أ ّن ّ‬
‫البعض اآلخر يف الكثري من األحيان‪ّ ،‬‬
‫بكل منها‪.‬‬
‫خاصة ٍّ‬
‫ّ‬ ‫ويرتت ّب عىل ذلك وجود عادات ومامرسات‬
‫َّ‬
‫الفتوة يف التاريخ‪:‬‬
‫ح َوت ثقافة العرب يف الجاهل ّية إشارات إىل مجموعة العيارين‪ ،‬حيث يتبادر إىل الذهن أن منشأ‬
‫يل‪ ،‬باعتبار االرتباط الوثيق بينها وبني منط الحياة العرب ّية يف‬
‫هذه املجموعة يعود إىل العرص الجاه ّ‬
‫إل أ ّن مث َّة عاملني رئيسني يدفعان‬ ‫ذاك الزمان‪ .‬ورغم وجود العديد من الشواهد التي ّ‬
‫تدل عىل ذلك‪ّ ،‬‬

‫[[[‪ -‬يف ما يتعلّق مبصطلح الصعلوك ميكن مراجعة كتاب الدكتور حاكمي‪ ،‬وكذلك‪ :‬عالف فتحي ‪.692-687 :1346‬‬
‫[[[‪ -‬أشار كاشفي يف صفحات كتابه ألحوال أصحاب الق ّوة‪ ،‬وتحدّ ث عن بعض فرقهم من قبيل رماة الحجارة‪ ،‬مد ّمري السفن‪ ،‬املصارعني‬
‫و‪...‬‬

‫‪96‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫إىل االعتقاد بعكس ذلك‪:‬‬

‫العامل األ ّول‪ :‬حتى لو سلّمنا بأ ّن املنشأ األ ّول لهذه املجموعة يعود إىل الحياة العربيَّة يف‬
‫واالجتامعي للمجموعة مل يرتبط بحياة العرب يف الجاهل ّية[[[‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الفكري‬
‫َّ‬ ‫الجاهل ّية‪ ،‬فإ َّن التكامل‬
‫وقد حصل هذا التكامل يف األماكن التي احتلّها العرب (تيشرن ‪ .)80 :1335‬وقد برزت بني العرب‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫القدماء فضيلتان أساس ّيتان‪ :‬األوىل هي الضيافة والسخاء‪ ،‬والثانية الشجاعة[[[‪( .‬تيشرن ‪133 :1385‬؛‬
‫كاشفي السبزواري ‪ :1350‬مثانية)‪ ،‬حيث يتّضح تأثري الظروف املحيطة ومنط حياة العرب يف‬
‫يب يف تلك املرحلة هو حاتم الطايئ‪،‬‬
‫لعل النموذج األبرز للفتى العر ّ‬
‫الجاهل ّية (عفيفي ‪ّ .)45 :1376‬‬
‫حتّى أ ّن القصص التي نقلت عن فتوته قد يخ ّيل للبعض أنّها من صنف األساطري‪.‬‬

‫العامل الثاين‪ :‬كام أ ّن الباحثني يعودون يف دراساتهم حول التص ّوف إىل مرحلة إيران ما قبل‬
‫اإلسالم‪ ،‬كذلك هو الحال يف ما يتعلّق بالفت َّوة‪ .‬وقد أرشنا عىل سبيل املثال‪ ،‬إىل أ ّن من أبرز ما‬
‫البهلوي‬
‫ّ‬ ‫اشتهر به العيارون الرسقة من األغنياء وإعطاء الفقراء؛ لذلك جرى الحديث يف التفسري‬
‫الغني وإعطاء الفقري هي ثواب أيضً ا (شىك ‪.)29 :1372‬‬
‫ّ‬ ‫عن اإلثابة والثواب‪ ،‬فاعتربوا أ ّن الرسقة من‬
‫اللحقة‪ ،‬سنجد‬
‫الخاصة للفت َّوة يف املراحل َّ‬
‫ّ‬ ‫يل والتقسيامت‬
‫وعندما ندقّق النظّر يف ال َّنظام الداخ ِّ‬
‫أنّها تتض ّمن نو ًعا من التصنيف الدقيق الذي يتطابق مع الطبقات والطوائف الزرادشت ّية‪ ،‬حيث تنتظم‬
‫يحق لهم ركوب‬
‫الطبقي‪ :‬الفرسان وهم الجنود الذين ّ‬
‫ّ‬ ‫مجموعات الفتيان مبا يتطابق مع هذا النظام‬
‫لباسا‬
‫الفلحون والحرفيون فهم عاجزون عن ركوب الخيل‪ ،‬إلّ أ ّن لهم ً‬
‫الخيل‪ ،‬وهم الفتيان‪ .‬أ ّما ّ‬
‫خاصا بهم‪ ،‬وهم الذين ات ّخذوا الفت َّوة مسلكًا لهم‪( .‬بهار‪ ،‬مح ّمد تقى ‪ .)112-109 :1385‬ورياضة‬
‫ًّ‬
‫البهلوان ّيني هي التي ميارسونها يف بيوت الق َّوة [زورخانه]‪ ،‬وهي عني رياضة الجنود املشاة (م‪ .‬ن‪:‬‬
‫‪.)118-116‬‬

‫ميكن القول أ ّن التصنيف الذي ق َّدمه نجم الدين زركوب ألصحاب الفت َّوة‪ ،‬يرتبط بهذا التصنيف‬
‫قسم أصحاب الفت َّوة إىل ثالث مجموعات‪ :‬السيفيَّة‪ ،‬القوليَّة‪ ،‬والرشبيّة‪،‬‬
‫إىل حدود بعيدة‪ ،‬فقد َّ‬
‫رشفهم بالفت َّوة يف داللة عىل أنّه من‬
‫وبيَّ أ َّن أصحاب السيوف يربطون وسطهم بحزام مزدوج عند ت ُّ‬
‫الفتيان العسكر؛ وأ َّن الفت َّوة القول َّية يربطون وسطهم بحزام من كتّان ‪ -‬كام يرتدي أصحاب ِ‬
‫الحرف‬

‫[[[‪ -‬سنحاول يف هذا املقال اإلشارة إىل االرتباط الوثيق بني الفتوة والحياة املدن ّية‪ ،‬وبالتايل سيتّضح الفرق بني فتوة العرب يف الجاهل ّية‬
‫الذين عاشوا حياة البداوة‪ ،‬وبني الفتوة التي راجت يف الدول اإلسالم ّية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يعتقد تيشرن أن من جملة أسباب امليول االنحراف ّية وزوال الفتوة‪ ،‬اإلفراط يف هاتني الفضيلتني‪ ،‬حيث تح ّولت الضيافة شيئًا فشيئًا إىل‬
‫مراسم واسعة متارس فيها القبائح وتح ّولت الشجاعة أيضً ا إىل نوع من الخصومة والعداوة‪( .‬تيشرن ‪.)48 :1382‬‬

‫‪97‬‬
‫المحور‬

‫جار والناس العاديّني‪ ،-‬وأ ّما أصحاب الفت َّوة الرشبيَّة فريبطون وسطهم بحزام من صوف‪ ،‬باعتبار‬
‫والت ّ‬
‫أنّهم من املتص ِّوفة‪( .‬زركوب ‪187 :1352‬؛ ‪.)191‬‬

‫إذا دقّقنا يف عادات الفتيان بعد اإلسالم حول الِّلباس‪ ،‬فسنجد أ ّن من تعاليم الدخول إىل حلقات‬
‫الفتيان العيارين‪ ،‬ربط حزام عىل الخارصة كداللة عىل رغبتهم يف االنضامم إليهم‪ ،‬كام أ ّن عليهم‬
‫األسايس منه‬
‫ّ‬ ‫خاص يُطلق عليه اسم «لباس الفت َّوة» يشكل البنطال [رسوال] الجزء‬
‫ٍّ‬ ‫ارتداء لباس‬
‫خاصا يرتبط‬
‫ًّ‬ ‫بنطال‬
‫ً‬ ‫(تيشرن ‪ .)137-136 :1385‬طب ًعا‪ ،‬تجب اإلشارة إىل أ ّن ارتداء هذه املجموعة‬
‫بعادات الشعوب اآلسيويّة التي كانت تعترب الفروس ّية من جملة عاداتها‪ ،‬أ َّما ارتداء البنطال يف إيران‬
‫فيعود يف الح ّد األدىن إىل مرحلة الهخامنشيني‪ .‬وهنا متكن اإلشارة إىل بعض أوجه الشبه بني‬
‫«الش ّد» عند أهل الفتوة‪ ،‬و«كستى» يف لباس الزردشت ّيني‪ ،‬حيث كانوا يربطون الحزام يف وسطهم‬
‫داللة عىل أنّه حزام الدين‪( .‬غولبيناريل ‪.)111 :1378‬‬

‫يعتقد البعض أ ّن الفتيان من حيث فرقهم الحرف َّية وجمع َّياتهم وات ّحاداتهم‪ ،‬يرتبطون بالفرق‬
‫خصوصا أ ّن سلسلة رواة الفتيان تعود‬
‫ً‬ ‫الحرفيَّة التي كانت رائجة يف املدائن عاصمة الساسانيّني‪،‬‬
‫الفاريس الذي كان عىل ارتباط باملدائن وفيها ُدفن‪ ،‬حيث يعرف‬
‫ّ‬ ‫بحسب قولهم إىل شخص سلامن‬
‫محل للزيارة ومقصد الشيعة[[[‪( .‬تيشرن ‪138 :1385‬؛ زرين كوب ‪:1385‬‬
‫مقامه بـ«سلامن باك»‪ ،‬وهو ّ‬
‫‪.)198‬‬

‫مع ذلك كلّه‪ ،‬ميكن الذهاب بعي ًدا عن مرحلة الساسان ّيني‪ ،‬حيث ظهر يف الدراسات التاريخ ّية‬
‫قصة «سمك عيار» أقدم قصص الفت َّوة وفيها إشارات ُّ‬
‫تدل عىل أنّها تعود إىل مرحلة األشكانيّني‬ ‫أ ّن ّ‬
‫الذين كانوا يف زمانهم من جملة املر ّوجني األساسيّني ملذهب املو َّدة [الحب]‪ ،‬وقد متكّنوا من‬
‫نرشه حتّى يف روما‪ .‬وتشري بعض الدراسات التاريخ ّية إىل أ ّن دين املو ّدة واملح ّبة انتقل إىل روما‬
‫عرب لصوص البحار يف آسيا الصغرى‪( .‬بهار‪ ،‬مهرداد ‪.)194-193 :1385‬‬

‫يف هذا السياق‪ ،‬أشار كاشفي يف رسالة «الفتوة السلطان ّية» إىل مجموعة من رؤساء الفتيان‬
‫الذين كان يُطلق عليهم آباء العهد‪ ،‬وهم الذين كانوا يتولّون قراءة رسائل العهد والقسم‪( .‬كاشفي‬
‫السبزواري‪94 :1350 ،‬؛ غني ‪)122 :1385‬؛ وإذا اعتربنا أ َّن االلتزام بالقول والرشف يف املعامالت‬

‫عيل‪ ‬واهتامم املوايل يف‬ ‫[[[‪ -‬تحدّ ث املرحوم زرين كوب عن العالقة القويّة بني الفتوة والشيعة؛ وكذلك عن انتساب الفتوة لإلمام ّ‬
‫باألخص الجمع ّيات الحرف ّية الساسان ّية‪ ،‬وعدّ د األدلّة عىل ذلك‪ ،‬واعترب أنّ اهتامم بعض املجموعات من قبيل إخوان الصفا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إيران بالتش ّيع‪،‬‬
‫دليل آخر عىل اهتامم الشيعة بالفتوة‪( .‬راجع‪ :‬زرين كوب ‪ .)348 :1379‬وهناك آراء أخرى تؤكّد‬ ‫القرامطة واإلسامعيل ّيني بطبقات الحرف ّيني‪ً ،‬‬
‫عدم االرتباط بني الفتوة والشيعة‪( .‬راجع‪ :‬تيشرن ‪ 48 :1382‬و‪.)53‬‬

‫‪98‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫‪ -‬والتي هي الخلفية األخالقيّة للنشاطات التجاريّة يف املدن‪ -‬من جملة مبادئ الفت َّوة األخالقيَّة‬
‫ونظرنا إىل مكانة العهد والقسم يف مذهب املو َّدة واملح َّبة‪ ،‬عند ذلك ميكن الحديث عن نوع من‬
‫العالقة بينهام‪ .‬وتح ّدث البعض عن عالقة تربط بني البهلوان ّيني ورياضة الق َّوة وبني مذهب املو َّدة‪.‬‬
‫(أفشاري ‪.[[[)37 :1384‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مبا أ ّن البحث األساس يف هذا املقال يدور حول الفت َّوة بعد اإلسالم؛ لذلك ميكن القول أ ّن‬
‫يل‪ ،‬ويف هذا‬
‫جميع الرسائل التي كتبت حول أصول الفتوة اعتربت أ ّن منشأها يعود إىل اإلمام ع ّ‬
‫رشف األع ِّم من تناول القدح ولبس اإلزار وربط الحزام‪.‬‬
‫قصصا حول آداب الت ُّ‬
‫ً‬ ‫الخصوص ينقلون‬

‫انطالقًا من بعض الروايات املوجودة‪ ،‬فالرسول األكرم ‪ ‬هو الذي أطلق لقب الفتى عىل اإلمام‬
‫عيل‪.‬‬ ‫يل‪ ،‬واعتربه رفيقًا له ‪ ،‬وبيَّ آداب الت ُّ‬
‫رشف بلقائه‪ ،‬وبعد ذلك أصبح سلامن رفيق ّ‬ ‫[[[‬
‫ع ّ‬
‫كل األحوال‪ ،‬فإ ّن‬
‫السهروردي ‪108 :1352‬؛ اآلميل ‪ .)72 :1352‬يف ّ‬
‫ّ‬ ‫(كايش‪13-12 :‬؛ راجع أيضً ا‪:‬‬
‫يل‪ ،‬واملقصود من كلمة فتى عىل صورتها املطلقة هو أمري‬
‫سند سلسلة الفت َّوة تصل إىل اإلمام ع ّ‬
‫املؤمنني‪.‬‬

‫يل‪ ،‬ولكن إذا أخذنا بعني‬


‫من املفيد القول أ َّن الصوفيّة يظهرون الكثري من االحرتام لإلمام ع ّ‬
‫االعتبار بعض التح ّوالت التي أ ّدت إىل إيجاد أصحاب ِ‬
‫الحرف وجمعيَّات الفت َّوات عىل امتداد‬
‫يل‪ ‬يكون عىل رأسها من منطلق أنّه الشخص األ ّول يف املجتمع العر ّ‬
‫يب‬ ‫سنوات طويلة‪ ،‬فاإلمام ع ّ‬
‫يف املدينة والعراق‪ ،‬الذي أبدى اهتام ًما وعطفًا عىل الحرف ّيني وأصحاب املصالح‪( .‬زرين كوب‬
‫‪ .)198 :1385‬وتجدر اإلشارة إىل أ ّن حياة الفتيان األوىل ظهر فيها نوع من امليل إىل العسكرة‬
‫ِ‬
‫والحرف‪ .‬صحيح أ ّن كِال األمرين يتعلّقان بأوضاع وظروف ذاك‬ ‫والحرب قبل االهتامم بالكسب‬
‫تخل حقبة‬
‫إل أنّهام الزما الفتيان طوال التاريخ‪ ،‬فلم ُ‬
‫الزمان‪ ،‬وعىل أساسه يشهدان ش َّدة أو ضعفًا‪ّ ،‬‬
‫منهام‪ .‬وإذا كان صاحب رسالة قابوس قد أق َّر بوجود نوعني من الفت َّوة العسكريّة والحرف ّية‪ ،‬إلَّ أنّه‬
‫ع ّدد لهام صفات واحدة ومشرتكة‪( .‬راجع‪ :‬عنرص املعايل‪.)149-246 :1378 ،‬‬

‫الفتي�ان واحلرب‪:‬‬
‫ميكن مشاهدة مناذج من امليل نحو الحرب والعسكر‪ ،‬وبشكل واضح‪ ،‬يف تأثري الفتيان‬
‫ولعل من أوائل الفتيان الذين تدخّلوا يف السياسة هو أبو مسلم‬
‫َّ‬ ‫السيايس يف إيران‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل التاريخ‬
‫[[[‪ -‬يف موضوع العالقة بني الفتوة وأديان إيران القدمية ميكن مراجعة‪ :‬ىك منش (‪ ،)1378‬ص‪.79-78‬‬
‫[[[‪ -‬هناك عالقة بني كلمة رفيق وما يطلق عليه «عيار» يف الفتوة أو «ايار» يف الفارسية‪( .‬راجع‪ :‬بهار‪ ،‬مح ّمد تقي ‪.)112 :1385‬‬

‫‪99‬‬
‫المحور‬

‫الخراساين الذي سخَّر نضاله يف إسقاط بني أُميّة وإجالس بني العبّاس عىل س ّدة الحكم‪( .‬راجع‪:‬‬
‫حاكمي ‪ .)71-68 :1382‬وقد متكّن يعقوب ليث الصفاري (م‪256 .‬ق) من تأسيس حكومة مستقلّة‬
‫يف سيستان وهو من املنتمني إىل الفت َّوات[[[‪( .‬راجع‪ :‬م‪ .‬ن‪93-72 :‬؛ أفشاري‪.)19 :1384 ،‬‬

‫العبايس عمل الخلفاء بهدف دعم خالفتهم للحصول عىل رئاسة أصحاب‬
‫ّ‬ ‫يف نهاية العهد‬
‫الفت َّوة‪ ،‬باعتبار أ َّن الجمع ّيات الحرف َّية كانت تقبض عىل الجزء األكرب من الطبقات الشعب َّية‪ ،‬وبالتايل‬
‫كانوا يتمتّعون بق ّوة كبرية‪ .‬عندما بدأت الخالفة الع ّباس ّية متيل نحو الضعف‪ ،‬كان الفتيان يف بغداد‬
‫يدافعون عن املظلومني مع أنّهم كانوا قبل ذلك قد هجموا م ّرات عديدة عىل الناس‪ ،‬وساهموا‬
‫إمامي‬
‫ُّ‬ ‫يف زعزعة األمن بينهم‪( .‬رياض ‪ .)75 :1382‬يف العام ‪ 578‬ق‪ ،‬متكّن النارص لدين الله وهو‬
‫املذهب‪ ،‬من تر ّؤس فرقة الفت َّوة‪ ،‬وقد وصلت إليه عىل يدي الشيخ مالك بن عبد الج ّبار (م ‪583‬ق)‪،‬‬
‫كل أنظمة وأشكال الفت َّوة املوجودة‪ .‬ومن هذا‬
‫النارصي‪ ،‬وعمل عىل إلغاء ِّ‬
‫َّ‬ ‫فأسس نظام الفت َّوة‬
‫ّ‬
‫املنطلق‪ ،‬بدأ بفرض عقاب شديد عىل الفتيان والشطّار الذين ميتهنون القتل والسلب‪( .‬م‪ .‬ن‪-75 :‬‬
‫‪ .)76‬وعىل هذا النحو‪ ،‬متكّن من خالل االنتساب إىل الفت َّوة‪ ،‬من وضع الفتيان يف خدمة الدول‬
‫العباس َّية ومن دون مقابل[[[ (تشرن ‪636 :1347‬؛ محجوب ‪.)180-179 :1385‬‬

‫يف العام ‪ 656‬ق‪ ،‬متكَّن هوالكو من القضاء عىل حكومة بني الع ّباس‪ ،‬فزالت معها الفت َّوة‬
‫النارصيَّة‪ ،‬إلّ أ ّن الخلفاء الفاطم ّيني عملوا من جديد عىل إحيائها والرتويج لها يف مرص؛ ولذلك‬
‫اللحق‪ ،‬وهذا ما ظهر يف رسائل الفتوة‪( .‬رياض‬
‫نالحظ أ ّن نشاطات فتيان مرص امت ّدت حتّى القرن َّ‬
‫‪.)90 :1382‬‬

‫يُعترب الدراوشة الرسبداريَّة يف خراسان من جملة الفتيان‪ ،‬وهم الذين ثاروا ض َّد الظلم الذي مارسه‬
‫فأسسوا حكومتهم يف تلك املنطقة‪( .‬م‪ .‬ن‪78-77 :‬؛ أفشاري ومدائني ‪.)31 :1381‬‬
‫رجال تيمور‪َّ ،‬‬
‫بعد م ّدة‪ ،‬متكّنت مجموعة يف شرياز تحمل عنوان «لكوها»‪ ،‬وأفرداها من قادة أصحاب الصنائع‬
‫والحرف‪ ،‬من لعب دور مؤث ّر للغاية يف نقل حكومة شرياز من الشاه الشيخ أبو إسحاق اينجو إىل‬

‫[[[‪ -‬تحدّ ث املرحوم الدكتور زرين كوب حول الدور الذي لعبه الصناع ّيون وأصحاب الحرف يف تشكيل القوة التي رافقت أبو مسلم‪،‬‬
‫وكذلك يعقوب ليث الصفاري‪ ،‬فكانوا محاربني متط ّوعني ميتلكون انضباطًا مشاب ًها النضباط الجمع ّيات الحرف ّية‪ ،‬وكانوا يتواجدون يف‬
‫مراكز املدن أو القرى تحت عنوان الجهاد‪ ،‬ولتشكيل جبهة يف مقابل معاريض الحكّام املحل ّيني‪( .‬راجع‪ :‬زرين كوب ‪.)80-79 :1383‬‬
‫[[[‪ -‬كان خلفاء بن الع ّباس قبل ذلك قد استعانوا ببعض فرق الفتيان يف نزاعاتهم الداخل ّية‪ .‬ويف هذا الخصوص‪ ،‬ميكن اإلشارة إىل النزاع‬
‫بني األمني واملأمون‪ ،‬والنزاع بني املستعني واملعت ّز‪( .‬راجع‪ :‬حاكمي ‪.)45 :1382‬‬

‫‪100‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫األمري مبارز الدين مح ّمد مظفّري‪( .‬زرين كوب ‪.)29 ،3-6 :1377‬‬

‫مؤسس الساللة الصفويَّة يف أشعاره عناوين املؤمنني‬


‫وقد أطلق الشاه اسامعيل الصفوي ّ‬
‫والغزاة واألبدال عىل فرقة «األخيان»‪ ،‬والسبب يف ذلك أنّه كان قد جمع إىل جانبه الكثري من‬
‫الفتيان الحرف ّيني‪( .‬رياض ‪ .)115 :1382‬صحيح أ ّن الفتيان كانوا يتمتَّعون بق َّوة كبرية يف مرحلة‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫زوال الصفويَّة‪ ،‬إلّ أ َّن الحقيقة أنّهم كانوا قد انحرفوا عن مسري الفت َّوة األساس‪ ،‬فكانوا من جملة‬
‫أسباب سقوط الحكومة الصفويَّة‪ ،‬ففي رسالة رستم التواريخ نقرأ أسامء أكرث من مائة بهلوان يف‬
‫كل‬
‫عهد الشاه سلطان حسني الصفوي (حكم بني ‪1135–1105‬ق)‪ ،‬وقد أجازوا ألنفسهم مامرسة ِّ‬
‫أنواع االعتداء والظلم‪ ،‬عدا عن الرسقة وقطع الطرق‪ ،‬وكانوا يأتون باألعامل املنافية للحشمة والعفّة‬
‫أمام املأل العام[[[‪( .‬راجع‪ :‬رستم الحكام ‪ .)106-104 :1348‬وتح ّدثت القصص الشعب ّية يف العهد‬
‫عم كان يتّصف به البهلوان ّيني من صفات قبيحة كالرسقة واالعتداء و‪( ...‬راجع‪ :‬حسني‬
‫الصفوي‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫كرد الشبسرتي ‪132 ،157 ،160 ،119 ،154-151 ،133-131 ،77-76 :1344‬؛ أرجاين ‪ :1363‬ج‪،2‬‬
‫‪.)505 ،500 ،390‬‬

‫بغض النظر عن هذا النوع من االنحرافات‪ ،‬فالفت َّوة كانت ترتاوح بني الحرب والعسكرة والكسب‬
‫ِّ‬
‫والحرف َّية‪ ،‬وكلّام برزت وملعت واحدة من هذه األمور عىل امتداد التاريخ‪ ،‬كان الناس يلتفّون حولها‪،‬‬
‫فعندما تص َّدر العيارون الحكم‪ ،‬راجت العسكرة والبهلوان َّية‪ ،‬وكلّام اتّجه املجتمع نحو الهدوء والسكينة‬
‫واألمن‪ ،‬نشطت ِ‬
‫الحرف وبرزت آداب وعادات مجالس الفت َّوة‪( .‬محجوب ‪.)179 :1385‬‬
‫َّ‬
‫والصوفية‪:‬‬ ‫احلرفة‪ ،‬الوجه ّ‬
‫املمي بني َّ‬
‫الفتوة‬ ‫ِ‬
‫عند الحديث عن امليول عند فرق الفتيان األخرى؛ أي اهتاممهم بالحرف‪ ،‬ال ب ّد من العودة‬
‫تخل من آثار‬
‫مج ّد ًدا للحديث عن العالقة بني الفت َّوة والتص ُّوف‪ .‬يُالحظ أ ّن النصوص الصوف َّية مل ُ‬
‫الفت َّوة‪ ،‬سواء كانت تلك النصوص تتمحور حول األبعاد النظريَّة للتص ُّوف أو تلك التي اهت َّمت‬
‫بأحوال أتباعه‪ .‬فقد جاء يف كشف املحجوب للهجويري‪ ،‬وهو من أهم نصوص املتص ِّوفة‪ ،‬أثناء‬
‫الحديث عن أحوال فضيل بن الع ّياض أنَّه‪« :‬واحد من صعاليك القوم ومن كبارهم‪ ...‬كان يف بدايته‬
‫إل أنّه كان يحمل الرغبة يف الصالح والفت َّوة يف طبعه‪.»...‬‬
‫يقطع طريق املا ّرة بني مرو وباورد‪ّ ،‬‬

‫[[[‪ -‬يتحدّ ث مؤلّف رستم التواريخ يف كتابه عن حاالت عديدة من الوقاحة التي كانوا يتصفون بها حتّى أنّ السلطان الصفوي كان عاج ًزا‬
‫عن محاسبتهم‪( .‬راجع‪ :‬رستم الحكام ‪.)113 108- :1348‬‬

‫‪101‬‬
‫المحور‬

‫(الهجويري ‪ .)149 :1384‬ث ّم تح ّدث عن فريوز الكرخي‪ ،‬فاعتربه من مشهوري الفت َّوات (م‪ .‬ن‪،‬‬
‫‪ ،)173‬وأشار إىل عالمات املروءة والفت َّوة‪ ،‬فأكّد أنّها ثالث‪ :‬الوفاء بال خالف[[[‪ ،‬الثناء من دون‬
‫جود‪ ،‬واإلعطاء من دون سؤال‪( .‬م‪ .‬ن)‪.‬‬

‫بالتكسب والصناعة‪ ،‬فمن جملة‬


‫ّ‬ ‫يضاف إىل ذلك‪ ،‬أ ّن بعض مشهوري الصوف َّية قد اشتغلوا‬
‫الصناعات التي عملوا بها‪َ :‬ج ُّر املياه (بايزيد البسطامي)‪ ،‬البيع (الرسي السقطي)‪ ،‬الحدادة (أبو‬
‫القصار)‪ ،‬بيع الكتب (أبو بكر الو ّراق)‪ ،‬بيع لوازم الخياطة‬
‫ّ‬ ‫حفص الح ّداد)‪ ،‬غسل الثياب (حمدون‬
‫النساج)‪ ،‬القصابة (أبو العباس اآلميل)‪ ،‬بيع القامش (أبو‬
‫(أبو سعيد الخ ّراز)‪ ،‬الحياكة والنسج (خري ّ‬
‫حمزة البغدادي)‪( .‬راجع‪ :‬زرين كوب‪ .)73-72 :1383 ،‬ومع ذلك‪ ،‬كانت التعاليم الصوف َّية التي‬
‫تدعو إىل نوع من الفردان َّية‪ ،‬االنزواء‪ ،‬واالبتعاد عن الجامعة أو عدم االختالط بها‪ ،‬تشكّل عامل‬
‫خلل يف التجارب العرفان َّية الخالصة[[[‪.‬‬

‫ويجدر القول أ َّن بعض املتص ّوفة أصحاب امليل نحو الفتوة ق َّدموا آراء متع ّددة حول مقام‬
‫الفت َّوة[[[؛ فتح ّدث عنها شهاب الدين السهروردي املنسوب إىل أصحاب الفت َّوة يف رسالته املعروفة‬
‫باسم «أدلّة العيان عىل الربهان»‪ ،‬واعتربها فر ًعا من الصوف َّية‪ ،‬واعترب أ َّن التص ُّوف أعىل من الفت َّوة‪،‬‬
‫واملتص ِّوفة أعىل من الفتيان (غولبيناريل ‪16 :1378‬؛ كاشفي السبزواري ‪.)50 :1350‬‬

‫وتشكّل اآلداب والعادات الرائجة بني املتص ِّوفة‪ ،‬والتي لها ما يشابهها عند الفت َّوة‪ ،‬سببًا لالعتقاد‬
‫بوثاقة العالقة بني التص ُّوف والفت َّوة؛ وسنجد العديد من أماكن التالقي بني االثنني‪ ،‬كام يف مسألة‬
‫هبة الخرقة يف التص ُّوف أو هبة اإلزار عند الفتيان‪( .‬شفيعي كدكنى ‪.)184 :1386‬‬

‫ولعل فرقة املالمت َّية الصوف َّية من أكرث الفرق التي تشبه الفتيان‪ ،‬وكام ساهم املتص ِّوفة يف غنى‬
‫ّ‬
‫وعمق املفاهيم الدين ّية‪ ،‬أضافوا مفهو ًما جدي ًدا للفت َّوة أيضً ا‪ ،‬وهو اإليثار الذي يدفع الشخص إىل‬
‫خصوصا إذا كان اآلخرون من الضعفاء‪ ،‬ومع ذلك يجب اإلشارة إىل أ ّن‬
‫ً‬ ‫ترجيح اآلخرين عىل نفسه‪،‬‬
‫التكسب الحالل‪ ،‬واالستفادة من الصنعة ِ‬
‫والحرفة‬ ‫ُّ‬ ‫خاصة للدنيا‪ ،‬فكان‬
‫ّ‬ ‫أصحاب الفت َّوة يعطون أهم ّية‬
‫من جملة رشوط الفت َّوة األساس ّية‪ .‬وتشكّل هذه املسألة أبرز أوجه االختالف بني املتص ّوفة والفتيان‪.‬‬

‫[[[‪ -‬وقد أرشنا إىل أهمية الوفاء بالعهد يف األديان قبل اإلسالم‪.‬‬
‫[[[‪ -‬حول هذا األمر‪ ،‬راجع ما نقله املرحوم زرين كوب حول رابعة العدوية (‪.)75-74 :1383‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬القشريي ‪.365-355 :1383‬‬

‫‪102‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫جع أتباعها عىل االبتعاد عن الدنيا‪ ،‬دفعت الفت َّوة أتباعها إىل‬
‫وإذا كانت أغلب الطرق الصوفيَّة تش ِّ‬
‫الحصول عىل املصالح واملنافع الدنيويَّة‪ ،‬والنيّة الحاكمة عىل هذه املنفعة مساعدة اإلخوان وليس‬
‫التكسب الحالل‪ ،‬واالعتقاد بالقناعة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫املنفعة الشخصيّة؛ لذلك جمعت الفت َّوة بني التشجيع عىل‬
‫فكان هذا األمر رشطًا أساسيًّا فيها‪ ،‬وهو رشط يف األخ ّوة‪ ،‬واعتربوا أ ّن األخ يجب أن ال ميتلك أكرث‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫من عرشة دراهم‪( .‬غولبيناريل ‪.)119 :1378‬‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬أكّد القشريي أ ّن أصل الفتوة أن أكون عىل اشتغال دائم‪ ،‬ث ّم أضاف أ ّن الرسول‪‬‬
‫أكّد يف ما ُروي عنه أ ّن الله يرعى حاجة العبد ما دام يسعى يف حاجة أخيه املسلم‪( .‬القشريي‪،‬‬
‫‪ .)355 :1383‬طب ًعا‪ ،‬م ّهدت املبالغة يف مفهوم اإليثار عند املتص ّوفة الطريق أمام فرقة املالمت َّية[[[‪،‬‬
‫أي فرقة أخرى‪( .‬تيشرن ‪ .)134 :1385‬ويُعترب السلّمي أ ّول‬
‫وهي الفرقة التي ارتبط بها الفتيان أكرث من ّ‬
‫من تح ّدث حولها‪ ،‬ويف رشحه لصفات املالمتيني جاء عىل ذكر صفات الفتيان‪ ،‬والسبب يف ذلك‬
‫املؤسسني األوائل للمالمت ّية‪ ،‬كانوا يعتربون املالمة نو ًعا من الفت َّوة واملروءة؛ لذلك‬
‫ّ‬ ‫اعتقاده أ َّن‬
‫أطلقوا عىل أنفسهم ألقاب «الفتيان» و«الرجال»‪( .‬عفيفي ‪.)46-48 :1376‬‬

‫من جملة الصفات البارزة للمالمت ّية‪ ،‬معارضة تعاليم التص ُّوف الظاهريَّة والرجوع إىل الزهد‬
‫والتقوى‪ ،‬كام جاء يف صدر اإلسالم‪ ،‬واالبتعاد عن كرثة اال ّدعاء‪ .‬ويعتقد الفتيان مبجموعة من‬
‫األصول غري البعيدة عن هذه املعاين‪ ،‬من جملتها االشتغال بعيوب الذات‪ ،‬واالبتعاد عن عيوب‬
‫الناس‪ ،‬وحسن الظ ِّن بالخلق وحفظ حرمتهم‪ ،‬االهتامم بالباطن أكرث من الظاهر‪ ،‬االهتامم باألحوال‬
‫واألنفس واألوقات‪ ،‬الُّليونة مع الضعفاء والش َّدة مع املتجبِّ ين‪( .‬غني ‪.)126-125 :1385‬‬

‫ومن جملة اآلفات التي لحقت الفت َّوة يف مرحلة الحقة أ َّن االختالف شكّل الجزء األكرب من‬
‫أوقاتهم‪ ،‬والنظر إىل فضائل النفس الباعثة عىل ات ّباع الهوى‪( .‬كايش ‪ .)49 :1351‬ومن جملة كليَّات‬
‫اآلفات املفاخرة واملباهاة‪ ،‬وهام األمران اللذان يجعالن االختالف واق ًعا‪ ،‬والسبب يف ذلك ظهور‬
‫محل‬
‫لكل نفس خاصيّة ال يشاركها فيها غريها‪ ،‬وهي ّ‬
‫وإل فاليقني أن تعلم أ ّن ّ‬
‫النفس بصفة الجهل‪ّ ،‬‬
‫اإللهي يف وجود الشخص‪ ،‬فلو مل تكن هذه الخاصيّة ملا وجد الشخص‪ .‬ومع استحضار‬
‫ّ‬ ‫النظر‬
‫هذا املعنى‪ ،‬تصبح املفاخرة واملباهاة من املحاالت‪ ،‬وتشعر النفس حالة ّ‬
‫الذل واالنكسار والصغر‬
‫يتكسبون‬
‫ّ‬ ‫يف ذاتها‪( .‬م‪ .‬ن‪ .)52 :‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أ ّن املالمتيّني كانوا يعيشون كام أهل السوق‪،‬‬

‫[[[‪ -‬يعتقد البعض أنّ التحاق بعض الفتيان باملتصوفة هو الذي أدّى إىل ظهور الفرقة املالمتية‪( .‬راجع‪ :‬أفشاري ‪ :1382‬ستّة وأربعون)‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫المحور‬

‫من خالل ِحرفهم‪( .‬أفشاري ‪ :1382‬أربعة وستّون)‪ ،‬كام كان «األخيان» يسكنون املدن ويعتاشون‬
‫والتكسب والصناعة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫بالعمل‬

‫من املفيد القول أ َّن الحديث عن املالمت َّية‪ ،‬وعن عدم اهتاممهم بالظواهر‪ ،‬يصدق يف الغالب‬
‫اللحقة بدأوا يهت ّمون بالظواهر؛ فكان هذا األمر من أسباب‬
‫امللمتيني األوائل‪ ،‬ففي املراحل َّ‬
‫حول َّ‬
‫خاصة‪ .‬وقد وصل األمر بالقلندريَّة وهم وارثو املالمت َّية يف مرحلة ما‬
‫ّ‬ ‫اعتامدهم آدابًا وعادات وسن ًنا‬
‫طقوسا وشكل ّيات عديدة‪ ،‬يعتقدون أنّها مستوحاة من األنبياء‬
‫ً‬ ‫يل إىل اعتامدهم‬
‫بعد الهجوم املغو ِّ‬
‫منذ آدم‪‬إىل خاتم ال ُّرسل ‪( .‬شفيعي كدكني ‪ .)83 :1386‬واملسلّم به أ ّن املالمت ّية األوائل‬
‫يفّ‪.‬‬
‫شكّلوا ثورة ض َّد الظاهر الصو ْ‬
‫خاص يطلق عليه‬
‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬ولهم حزام‬
‫الخاصة والتنظيم الداخ ّ‬
‫ّ‬ ‫الفتيان كاملتص ّوفة من حيث العادات‬
‫«الش ّد»‪ ،‬وبنطال باسم «الرسوال»[[[‪( .‬أفشاري ومدائني ‪ .)11 :1381‬والفتيان الذين يسكنون املدن‬
‫خاصة يطلق عليها املرساة والعتبة‪( .‬م‪ .‬ن‪ .)19 :‬ويف تعريف العتبة قالوا‬
‫ّ‬ ‫كانوا يجتمعون يف مراكز‬
‫بأي بناء آخر‪ .‬ويجب أن تكون داخل‬
‫إنَّها‪ :‬يجب أن يكون لها أطراف أربعة؛ أي يجب أن ال تتصل ّ‬
‫قطعة مس ّورة‪ ،‬ويجب أن ت ُبنى حيطانها بشكل جذّاب‪ ،‬ويجب صبغ جدرانها باللون األبيض لزيادة‬
‫اإلضاءة‪ ،‬ويجب الحفاظ عىل زواياها نظيفة‪( ...‬غولبيناريل ‪.)115 :1378‬‬

‫إىل هذا‪ ،‬جاء يف الرسالة الفتوتيَّة من نفائس الفنون‪ ،‬للمؤلِّف شمس الدين مح ّمد بن محمود‬
‫اآلميل‪ ،‬حول رشوط استعداد الفت َّوة‪« :‬األ ّول الذكورة‪ ،‬فالفت َّوة صفة رشف وكامل واألنوثة تستلزم‬
‫النقص واإلذالل‪ ...‬الثاين البلوغ‪ ،‬وهو يف اللغة مبدأ ظهور العقل وخروج الق ّوة امللكيّة من الق ّوة‬
‫حة البنية واستقامة أحوال الوجه‪ ،‬فال يتض ّمن سببًا فاحشً ا ينايف الفضيلة‪ ،‬كالخنوثة‬
‫إىل الفعل‪ ...‬ص ّ‬
‫وأمثالها‪ ،‬وأن ال يكون الوجه عليه عالمات العيب الظاهريّة‪ ،‬كالربص والجزام وأمثالها»‪( .‬اآلميل‬
‫‪ .)70-69 :1352‬طب ًعا ما جرى الحديث عنه حول النساء‪ ،‬ال يتطابق مع ما جاء يف «سمك عيار»‬
‫– وهي أقدم قصص املروءة – يف املوضوع عينه‪ .‬يبدو أ ّن بدايات حلقات الفت َّوة مل تتض ّمن منع‬
‫خصوصا يف عرص الخليفة النارص‪،‬‬
‫ً‬ ‫النساء من االلتحاق بها؛ بل دخل املنع يف مراحل الحقة‬
‫فاعتربت األنوثة تعارض العضويَّة يف طريقة الفت َّوة‪( .‬شفيعي كدكني‪ .)147-146 :1386 ،‬والذكورة‬
‫هي الرشط األ َّول للفتوة‪ ،‬كام جاء يف كتاب الفت َّوة البن املعامر‪ ،‬وهو الذي ُد َّون طبق أصول الفت َّوة‬

‫[[[‪ -‬حول حزام «الشدّ » وأقسامه وكيف ّية ربطه‪ ،‬راجع‪ :‬كاشفي السبزواري ‪.110-102 :1350‬‬

‫‪104‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫النارصيَّة‪( .‬راجع‪ :‬ابن املعامر ‪.)163 :1958‬‬

‫بكل عمل جديد بعد اتّخاذ قرار يف‬


‫خاص ملجموعاتهم‪ ،‬يقومون ّ‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫كان للفتيان نظام داخ ّ‬
‫يخصصون أيّا ًما طوال السنة إلقامة الجلسات العا ّمة‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫هيئات واجتامعات عا ّمة؛ لذلك كانوا‬
‫خاصة وطارئة يشكّلون جلسات ألصحاب الحرف[[[‪( .‬غولبيناريل ‪.)132 ،121 :1378‬‬
‫ّ‬ ‫حاالت‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫من حيث الوضع الطبقي‪ ،‬يُعترب الفت َّوة البهلوانيون من املنتجني يف املدن عادةً‪ ،‬ويف األغلب‬
‫يحملون اسم الحرفة التي يتقنونها‪ .‬وكأ ّن الفت َّوة واملروءة ثورة ألصحاب الحرف والصناعات‬
‫وقليل ما نجد حضو ًرا لألرشاف والقرويّني ضمن هذه الطبقة‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ ّن عدم الحاجة‬
‫ً‬ ‫املدن ّية‪،‬‬
‫يل‪ ،‬من جملة ما ّ‬
‫يدل عىل‬ ‫ين املحرتف‪ ،‬وامتالك نظام داخ ٍّ‬
‫ملصادر الق ّوة املالزمة للعمل املد ِّ‬
‫االرتباط بني مفهوم الفت َّوة والحياة املدن ّية‪( .‬بهار‪ ،‬مهرداد ‪193 :1385‬؛ زرين كوب ‪.)198 :1385‬‬

‫ولقد تح ّدثت أقدم رسائل الفت َّوة حول رشوط الفتيان‪ ،‬فاعتربت أ ّن «األخي» يجب أن يكون‬
‫صاحب صنعة؛ فالفتيان القوليَّة والرشبيَّة أصحاب حرفة وف ّن‪ .‬ويف القوانني املعمول بها‪ ،‬فالشاب‬
‫التكسب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الخاص ما مل يصبح ماه ًرا يف‬
‫ّ‬ ‫السالك ضمن حرفة معيّنة ال ميكن أن ميتلك دكّانه‬
‫خاصة‪ ،‬وترتبط بدقّة وصعوبة العمل املقصود يف ِ‬
‫الحرفة‪ ،‬فمراسم‬ ‫ّ‬ ‫وتصدر اإلجازة بعد مراسم‬
‫كل عرشين سنة‪ ،‬باعتبار ما تتطلّبه من دقّة وظرافة عىل أثر التجربة يف املدى‬
‫الصاغة تجري م ّرة ّ‬
‫الطويل[[[‪.‬‬

‫ميكن تقسيم رسائل الفت َّوة املت ّبقية من القرون املاضية إىل مجموعتني أساس َّيتني‪ :‬الرسائل التي‬
‫اهت ّمت بتعريف الفت َّوة وأصولها من قبيل رسالة الفت َّوة السلطان ّية‪ ،‬وهي أكمل الرسائل التي ما زالت‬
‫موجودة‪ ،‬أو رسائل الفت َّوة التي د ّونها شخص ّيات من قبيل عبد الرزّاق الكاشاين‪ ،‬شمس الدين مح ّمد‬
‫كل‬
‫بن محمود اآلميل‪ ،‬السهروردي ونجم الدين زركوب؛ وكذلك رسائل الفت َّوة الحرف ّية‪ ،‬باعتبار أ ّن ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واحدة منها تنسب إىل حرفة وصفة مع ّينة‪ ،‬وتق ّدم تعريفًا للفتوة طبق ما تستلزمه آداب املهنة‬

‫الحلقني‪،‬‬
‫َّ‬ ‫القصابني‪ ،‬السكَّافني‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يف هذا اإلطار‪ ،‬ميكن اإلشارة إىل رسائل فت َّوة الطبَّاخني‪،‬‬
‫كل واحدة‬
‫النساجني‪ ...‬وقد حرص مد ّونو ّ‬
‫جامني‪ ،‬السقّائني‪ ،‬الحيّاكني‪ ،‬الخبّازين‪ّ ،‬‬
‫املدلِّكني‪ ،‬الح َّ‬
‫من هذه الرسائل عىل التعريف بشيخ الطريقة‪ ،‬وهو أ ّول شخص امتهن الحرفة‪ ،‬ث ّم عملوا عىل إيجاد‬

‫[[[‪ -‬حول جزئيات هذا النظم؛ أي الحزب والبيت والزعيم والنقيب‪ ،‬راجع‪ :‬تيشرن ‪.634-633 :1347‬‬
‫[[[‪ -‬ملزيد من املعلومات حول مختلف الحرف‪ ،‬راجع‪ :‬غولبيناريل ‪.123-120 :1378‬‬

‫‪105‬‬
‫المحور‬

‫نوع من العالقة بني اآلداب والعادات الرائجة فيها‪ ،‬وبني آداب وعادات الفت َّوة واملروءة‪ .‬واملالحظ‬
‫أ ّن نظم هذه الرسائل جاء يف الغالب عىل شكل السؤال والجواب‪ ،‬باعتبار ماهيّـتها التعليميّة‪.‬‬

‫مع الوقت‪ ،‬تراجع امليل نحو الحرب والعسكرة شيئًا فشيئًا لدى الفتيان‪ ،‬حتّى أ ّن الفتوة السلطان ّية‬
‫أي كالم عن الحرب والبطولة والقتال؛ بل اهت ّمت‬
‫الهجري‪ ،‬مل تتض ّمن ّ‬
‫ّ‬ ‫التي ُد ّونت يف القرن التاسع‬
‫بتوضيح آداب وعادات ِ‬
‫الحرفة‪.‬‬

‫وأعامل ال يليق بأصحابها دخول حلقات‬


‫ً‬ ‫باإلضافة إىل ما تق ّدم‪ ،‬تنبغي اإلشارة إىل أ ّن هناك ِحرفًا‬
‫الفت َّوة‪ ،‬من جملتهم صانعو التامثيل‪ ،‬مالعبو القرود‪ ،‬مالعبو الدببة‪ ،‬مربّو الكالب‪ ،‬امله ّر جون‪،‬‬
‫املوسيق ّيون والشعراء[[[ (راجع‪ :‬أفشاري ‪ ،)64 :1384‬ويضاف إىل هؤالء جامعو الرضائب‪،‬‬
‫جمون وقاطعو الطرق (راجع‪ :‬ابن املعامر ‪.)174 :1958‬‬
‫املتن ّبئون‪ ،‬السحرة‪ ،‬املن ّ‬
‫عىل هذا النحو‪ ،‬متكَّنت جمعيَّات الفت َّوة من تنظيم وتنسيق هياكلها الحرفيَّة من خالل ما متتلك‬
‫من عادات وآداب‪ ،‬وحافظت عىل درجات الحرف املوجودة‪ ،‬ونقلت أرسارها من جيل إىل جيل‪.‬‬
‫وقد لعب الفت َّوات أدوا ًرا يف تأسيس الحكومات‪ ،‬عندما كانت الظروف تقتيض ذلك‪ ،‬وتركوا آثا ًرا‬
‫إل أ ّن هذا النظم والتنسيق‬
‫واضحة عىل مستوى اإلسكان واإلعامر مبا ميتلكون من ق َّوة ماديَّة‪ّ ،‬‬
‫بدأ بالرتاجع شيئًا فشيئًا‪ .‬من جملة أسباب ذلك‪ :‬دخول العسكر مجال العمل والصناعة‪ ،‬حيث‬
‫ت ّم إعفاؤهم من الرضائب‪ ،‬وكانوا يفتقدون االنضباط والنظم‪ ،‬مع العلم أ ّن أصحاب ِ‬
‫الحرف كانوا‬
‫يدفعون الرضائب (غولييناريل ‪ ،)133-132 :1378‬ولوأخذنا بعني االعتبار سهولة الحمل وأمثانه‬
‫البخسة‪ ،‬ألدركنا أسباب تراجع الصناعات املحليّة والتي أصبح يُطلق عليها اليوم عنوان التحف‬
‫القدمية‪.‬‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬ترك التواصل مع أوروبا والتع ُّرف عىل أمناط الحياة فيها تأثريهام عىل عادات‬
‫أعامل يدويَّة ساهمت بعض‬
‫ً‬ ‫الناس وأفكارهم‪ .‬وأدى هذا األمر إىل أفول الصناعات التي تتطلّب‬
‫النصوص الدين ّية يف تنميتها من خالل التشجيع عليها‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬كان الفتيان يف املراحل‬
‫إل أ ّن حضورهم ال يشبه حضور وتأثري‬
‫التكسب‪ ،‬كالسوق وغريه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫املتأخّرة يوجدون يف أماكن‬
‫السابقني منهم‪ ،‬بل تراجع إىل ح ِّد أنهم اشتغلوا يف مهن ليست مبستوى املهن السابقة كرتبية‬

‫ب القردة والكالب‬
‫[[[‪ -‬طب ًعا‪ ،‬مل تتّفق آراءهم يف هذا الخصوص‪ ،‬فاعترب ابن املعامر أنّ صانعي التامثيل‪ ،‬والراقصون‪ ،‬والعازفون‪ ،‬ومر ّ‬
‫ناقيص الفتوة‪ ،‬ومل يخرجوهم من دائرة الفتيان بالكامل‪( .‬راجع‪ :‬ابن املعامر ‪.)177-176 :1958‬‬

‫‪106‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫الضباع‪ ،‬والبالبل والحساسني والكناري وديكة املصارعة‪ ...‬فكانوا يقفون عىل الطرقات يعرضون‬
‫اللهوي[[[‪( ،‬مستويف ‪ :1377‬ج‪ .)411-408 ،1‬واليوم ميكن القول بعدم بقاء‬
‫ّ‬ ‫مواهبهم ذات اللون‬
‫يشء يذكر من أساليب الفتيان‪.‬‬

‫عند تحليل الظواهر االجتامع ّية‪ ،‬ال ميكن القول أ َّن سب ًبا واح ًدا وعلّة واحدة هي التي تساهم‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يف ظهورها أو أفولها‪ ،‬لكن يظهر من خالل ما تق َّدم‪ ،‬أ ّن العالقة التي تربط الفتوة والحرفة هي عالقة‬
‫ثنائ ّية؛ فقد انتظمت الحرف ضمن آداب وعادات ورسوم الفت َّوة‪ ،‬والفتوة أيضً ا كانت حياتها مدينة‬
‫للحرف ّيني‪ .‬وهام أمران جنحا نحو األفول م ًعا‪ ،‬وتح ّولت املروءة والفت َّوة اليوم إىل ما يشبه املقولة‬
‫االجتامعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشخص ّية بعدما فقدت بُعدها‬

‫[[[‪ -‬أشار مستويف إىل بعض خصال هذه املجموعة كاألكل من كد اليمني‪ ،‬احرتام الكبري‪ ،‬العطف عىل الصغري‪ ،‬االهتامم مبساعدة‬
‫والحي وعدم الته ّور‪( .‬راجع‪ :‬مستويف ‪ ،1377‬ج‪.)303 :1‬‬
‫ّ‬ ‫التعصب ألهل املدنية‬
‫ّ‬ ‫الضعفاء واملع ّوزين‪ ،‬الطهارة‪ ،‬العفّة‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫المحور‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫إل‬
‫وخصوصا الطريقة املالمت ّية‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫صحيح أ َّن «الفت َّوة» نوع من الطريقة لقربها من التص ُّوف‪،‬‬
‫أ ّن التأثري الذي تركه الفتيان عىل مستوى املجتمع والحياة االجتامع ّية‪ ،‬وبعبارة عا َّمة عىل الحياة‬
‫املدن ّية‪ ،‬أ َّدى إىل القول بأه ّم َّيتها عىل مستوى الحياة املدن ّية‪ .‬لقد متكّن الفتيان مبا ميتلكون من‬
‫فأسسوا ملختلف‬ ‫آداب وعادات من اختبار مراحل العسكرة‪ ،‬والجمعيّات الحرفيّة والصناعيّة‪ّ ،‬‬
‫الخاصة‪ ،‬وحفظوا املراتب والدرجات الحرف ّية املوجودة‪،‬‬‫ّ‬ ‫املراحل التاريخ ّية عىل طريقتهم‬
‫وساعدوا يف الحفاظ عىل أرسار ِ‬
‫الحرف يف املدن‪ ،‬ونقلوها من جيل إىل آخر‪ ،‬ولعبوا دو ًرا محوريًّا‬
‫يف اإلسكان واإلعامر‪ ،‬ملا كانوا يتمتّعون به من قدرات ماديّة‪ .‬ونستنتج من اآلثار الباقية منهم أ ّن‬
‫الجهود التي بذلها أتباع هذه الطريقة‪ ،‬كانت تتمحور حول االستفادة من آداب املروءة والفت َّوة‬
‫ينْ‪.‬‬
‫لتنظيم الحياة املدن ّية‪ ،‬وهذا أمر ممكن من خالل التق ّيد مبتطلّبات التص ُّوف املد ّ‬

‫‪108‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬ابن املعامر‪ ،‬أبو عبد الله مح ّمد بن أيب املكارم (‪ ،)1958‬كتاب الفت َّوة‪ ،‬تصحيح مصطفى جواد‪ ،‬بغداد‪ ،‬مكتبة‬
‫املثنى‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪2.2‬أرجاين‪ ،‬فرامرز بن خداداد (‪ ،)1984/1363‬سمك عيار‪ ،‬تصحيح برويز ناتل خانلرى‪ 5 ،‬أجزاء‪ ،‬طهران‪ ،‬آگاه‪.‬‬

‫‪3.3‬أفشار‪ ،‬ايرج (‪« ،)1993/1372‬رسالة فت َّوة السقَّائني»‪ ،‬الذكرى السنويَّة للدكتور مح ّمد أفشار‪ ،‬جمع ايرج أفشار‬
‫ومعاونة كريم أصفهانيان‪ ،‬ج‪ ،7‬طهران‪ ،‬مؤسسة وقف ّيات الدكتور أفشار‪.‬‬

‫‪4.4‬أفشاري‪ ،‬مهران (‪« ،)1993/1372‬ثالث رسائل فت َّوة»‪ ،‬ذكرى الدكتور محمود أفشار‪ ،‬جمع ايرج أفشار ومعاونة‬
‫مؤسسة وقفيات الدكتور أفشار‪.‬‬
‫كريم أصفهانيان‪ ،‬ج‪ ،7‬طهران‪َّ ،‬‬

‫‪5.5‬أفشاري‪ ،‬مهران (‪ ،)2003/1382‬رسائل الفت َّوة والرسائل الخاكسار َّية (ثالثون رسالة)‪ ،‬ط‪ ،1‬طهران‪ ،‬معهد‬
‫العلوم اإلنسان َّية والدراسات الثقاف َّية‪.‬‬

‫‪6.6‬أفشاري‪ ،‬مهران (‪ ،)2005/1384‬مذهب الفت َّوة‪ ،‬ط‪ ،1‬طهران‪ ،‬مركز الدراسات الثقاف َّية‪.‬‬

‫‪7.7‬أفشاري‪ ،‬مهران ومدائني‪ ،‬مهدي (‪ ،)2002/1381‬أربع عرشة رسالة يف باب الفت َّوة وأصنافها‪ ،‬ط‪ ،1‬طهران‪،‬‬
‫انتشارات چشمه‪.‬‬

‫‪8.8‬اآلميل‪ ،‬شمس الدين مح ّمد (‪« ،)1973/1352‬الرسالة الفتوت َّية»‪ ،‬رسائل الفت َّوة وتشتمل عىل سبع رسائل‪،‬‬
‫تصحيح مرتىض ط ّراف‪ ،‬طهران‪ ،‬انجمن ايران شناىس فرانسه وانتشارات معني‪.‬‬

‫‪9.9‬بهار‪ ،‬مح ّمد تقي (‪« ،)2006/1385‬الفت َّوة»‪ ،‬مذهب الفت َّوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة إحسان نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪،‬‬
‫سخن‪.‬‬

‫‪1010‬بهار‪ ،‬مهرداد (‪« ،)2006/1385‬تاريخ الفت َّوة يف إيران القدمية»‪ ،‬مذهب الفت َّوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة إحسان‬
‫نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬

‫اإلسالمي»‪ ،‬مجلّة «كلية اآلداب»‪ ،‬السنة الرابعة‬


‫ّ‬ ‫‪1111‬تشرن‪ ،‬فرانتس (‪« ،)1956/1335‬مجموعات الفت َّوة يف العامل‬
‫عرشة‪ ،‬العدد ‪.2‬‬

‫‪1212‬تشرن‪ ،‬فرانتس (‪« ،)2003/1382‬كامن گروهه فتوت»‪ ،‬ترجمة مظفر بختيار‪ ،‬مجلة «هستى»‪ ،‬السنة الرابعة‬
‫عرشة (الدورة الثانية)‪ ،‬العدد ‪.13‬‬

‫‪109‬‬
‫المحور‬

‫‪1313‬تشرن‪ ،‬فرانتس (‪« ،)2006/1385‬الفت َّوة يف الدول اإلسالم َّية»‪ ،‬مذهب الفت َّوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة إحسان‬
‫نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬

‫‪1414‬تشرن‪ ،‬فرنتز (‪« ،)1968/1347‬الخليفة العبايس وطريقة الفت َّوة»‪ ،‬ترجمة مظفر بختيار‪ ،‬مجلّة «وحيد»‪ ،‬السنة‬
‫الخامسة‪ ،‬األعداد ‪ 7‬و‪.9‬‬

‫‪1515‬حاكمي‪ ،‬إسامعيل (‪« ،)1967/1346‬بحث حول مصطلح الصعلوك»‪ ،‬مجلّة «وحيد»‪ ،‬السنة الرابعة عرشة‪،‬‬
‫العدد ‪.7‬‬

‫‪1616‬حاكمي‪ ،‬إسامعيل (‪ ،)2003/1382‬طريقة الفت َّوة واملروءة‪ ،‬ط‪ ،1‬طهران‪ ،‬أساطري‪.‬‬

‫مؤسسة‬
‫‪1717‬دهستاين‪ ،‬حسني بن أحمد (‪ ،)1981/1360‬الفرج بعد الشدّ ة‪ ،‬تصحيح إسامعيل حاكمي‪ ،‬طهران‪َّ ،‬‬
‫إيران الثقاف َّية‪.‬‬

‫‪1818‬دون اسم (‪ ،)1965/1344‬حسني كرد الشبسرتي‪ ،‬باهتامم عيل حصوري‪ ،‬طهران‪ ،‬طهوري‪.‬‬

‫‪1919‬ذكاويت قراكوزلو‪ ،‬عىل رضا (‪« ،)1994/1373‬الشعراء الصعاليك يف األدب العريب»‪ ،‬مجلّة «آينه برتوهش»‪،‬‬
‫السنة الخامسة‪ ،‬العدد ‪.1‬‬

‫‪2020‬رستم الحكام‪ ،‬مح ّمد هاشم آصف (‪ ،)1969/1348‬رستم التواريخ‪ ،‬باهتامم مح ّمد مشريي‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات‬
‫جيبي‪.‬‬

‫‪2121‬رياض‪ ،‬مح ّمد (‪ ،)2003/1382‬رسالة الفت َّوة‪ ،‬الطريقة‪ ،‬العادات والرسوم‪ ،‬طهران‪ ،‬أساطري‪.‬‬

‫رصاف‪،‬‬
‫‪2222‬زركوب‪ ،‬نجم الدين (‪« ،)1973/1352‬رسالة الفتوة»‪ ،‬تشتمل عىل سبع رسائل‪ ،‬تصحيح مرتىض ّ‬
‫طهران‪ ،‬انجمن إيران شناىس فرانسه وانتشارات معني‪.‬‬

‫‪2323‬زرين كوب‪ ،‬عبد الحسني (‪ ،)1998/1377‬كوجه رندان‪ ،‬ط‪ ،8‬طهران‪ ،‬امري كبري‪.‬‬

‫ ‪24.‬زرين كوب‪ ،‬عبد الحسني (‪ ،)0002/9731‬بحث يف التصوف اإليراين‪ ،‬ط‪ ،6‬طهران‪ ،‬امري كبري‪.‬‬

‫ ‪25.‬زرين كوب‪ ،‬عبد الحسني (‪ ،)4002/3831‬التص ّوف اإليراين من وجهة نظر تاريخ ّية‪ ،‬ترجمة مجد الدين‬
‫كيواين‪ ،‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬

‫ ‪26.‬زرين كوب‪ ،‬عبد الحسني (‪« ،)6002/5831‬أهل املالمة والفتيان» مذهب الفتوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة إحسان‬
‫نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫المدني‬
‫ّْ‬ ‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫الفت َّوة بما هي تظهير‬

‫ ‪27.‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين عمر (‪« ،)3791/2531‬رسالة الفتوة» تشتمل عىل سبع رسائل‪ ،‬تصحيح مرتىض‬
‫رصاف‪ ،‬طهران‪ ،‬انجمن ايران شناس فرانسه وانتشارات معني‪.‬‬

‫ ‪28.‬شفيعي‪ ،‬كدكني (‪ ،)7002/6831‬القلندرية يف التاريخ‪ ،‬تح ّول أيديولوج ّية‪ ،‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ ‪29.‬شيك‪ ،‬منصور (‪« ،)3991/2731‬صحيحوا األديان»‪ ،‬مجلّة املعارف‪ ،‬الدورة العارشة‪ ،‬العدد ‪.1‬‬
‫رصاف‪ ،‬مرتىض (‪ ،)3791/2531‬رسائل الفتوة‪ ،‬تشتمل عىل سبع رسائل‪ ،‬طهران‪ ،‬انجمن ايران شناس فرانسه‬
‫ ‪ّ 30.‬‬
‫وانتشارات معني‪.‬‬
‫ ‪31.‬عفيفي‪ ،‬أبو العالء (‪ ،)7991/6731‬الرسالة املالمتية‪ ،‬الصوفية والفتوة‪ ،‬ترجمة نرصت الله فروهر‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫الهام‪.‬‬
‫ ‪32.‬عالف فتحي‪ ،‬رسول (‪ ،)7691/6431‬سالوكان أو الصعاليك‪ ،‬مجلّة «وحيد»‪ ،‬السنة الرابعة‪ ،‬العدد ‪.8‬‬
‫ ‪33.‬عنرص املعايل‪ ،‬كيكاووس بن إسكندر (‪ ،)9991/8731‬رسالة قابوس‪ ،‬تصحيح غال محسني يوسفي‪ ،‬ط‪،9‬‬
‫طهران‪ ،‬العلم َّية والثقاف َّية‪.‬‬
‫ ‪34.‬غني‪ ،‬قاسم (‪« ،)6002/5831‬خصائص الفتيان»‪ ،‬مذهب الفتوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة هرني كوربن‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬
‫ ‪35.‬غولبيناريل‪ ،‬عبد الباقي (‪ ،)9991/8731‬الفت َّوة يف الدول اإلسالم َّية ومصادرها‪ ،‬ترجمة توفيق سبحاين‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫روزنه‪.‬‬
‫ ‪36.‬القشريي‪ ،‬عبد الكريم بن هوازن (‪ ،)4002/3831‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬تصحيح بديع الزمان فروزانفر‪ ،‬ط‪،8‬‬
‫طهران‪ ،‬االنتشارات العلم َّية الثقاف َّية‪.‬‬
‫ ‪37.‬كاشفي السبزواري‪ ،‬حسني (‪ ،)1791/0531‬رسالة الفت َّوة السلطان َّية‪ ،‬تصحيح مح ّمد جعفر محجوب‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫مؤسسة إيران الثقاف َّية‪.‬‬
‫َّ‬
‫مؤسسة إيران‬
‫ ‪38.‬كايش‪ ،‬معصوم بن عبد الله (‪ ،)2791/1531‬تحفة اإلخوان‪ ،‬تصحيح مح ّمد دامادي‪ ،‬طهران‪َّ ،‬‬
‫الثقاف َّية‪.‬‬
‫ ‪39.‬كوربن‪ ،‬هرني‪ ،‬مذهب الفت َّوة‪ ،‬ترجمة إحسان نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬
‫ ‪40.‬ىك منش‪ ،‬عباس‪« ،‬العالقة بني التص ُّوف والفت َّوة»‪ ،‬مجلّة «كلية اآلداب والعلوم اإلنسان ّية»‪ ،‬جامعة طهران‪،‬‬
‫الدورة ‪ ،83‬العدد ‪.051‬‬
‫ ‪41.‬محجوب‪ ،‬مح ّمد جعفر (‪« ،)6002/5831‬جولة يف تاريخ الفت َّوة»‪ ،‬مذهب الفت َّوة لهرني كوربن‪ ،‬ترجمة‬
‫إحسان نراقي‪ ،‬ط‪ ،2‬طهران‪ ،‬سخن‪.‬‬
‫قصة حيايت‪ 3 ،‬أجزاء‪ ،‬طهران زوار‪.‬‬
‫ ‪42.‬مستويف‪ ،‬حمد الله (‪َّ ،)8991/7731‬‬

‫‪111‬‬
‫الرباط العرفاين‬
‫الفتوة يف مقاومة استعامر أفريقيا‬
‫ّ‬ ‫مكانة‬

‫إيزول‬
‫ي‬ ‫رضوان محمد سعيد‬
‫التصوف‪ ،‬وأستاذ مساعد ف ي� جامعة البلقاء التطبيقية ـ األردن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ف‬
‫باحث ي� سوسيولوجيا‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ِّ ف‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالم ي� إصالح‬ ‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫تسلط هذه الدراسة الضوء عىل دور أعالم‬
‫َّ‬
‫األفريقية‪:‬‬ ‫ف‬
‫األورو� الحديث ي� القارة‬
‫بي‬ ‫مجتمعاتهم‪ ،‬ومقاومة المستعمر‬
‫ِّ‬
‫«المغرب‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الصومال‪ ،‬ليبيا‪ ،‬السودان‪ ،‬مرص إلخ‪ ...‬كما تركز عىل‬
‫ِّ‬
‫المؤر ي ن‬
‫خ�‬ ‫وال� َّتم تجاهلها من قبل‬ ‫َّ‬
‫التاريخية لهذا الدور‪ -‬ت‬ ‫بيان الحقائق‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫ف‬ ‫ت‬
‫األورو� الحديث‪ -‬ي� المشاركة ي� اإلصالح‬ ‫ِّ‬
‫بي‬ ‫الذين َّأرخوا لف�ة االستعمار‬
‫والمقاومة‪ ،‬ودحر االستعمار عن بالدهم‪.‬‬

‫الحقي� عىل ثغور الدولة‬ ‫ق ِّ‬ ‫ُّ‬


‫التصوف‬ ‫كما تتناول الدراسة مرابطة أهل‬
‫ي‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ومن خاللها يِّن‬ ‫َّ‬
‫نب� الدور الريادي الذي تواله أعالم التصوف‬
‫لت�ء‬ ‫األفريقية‪ .‬ثم تتناول مفهوم الفتوة ف� مقام المرابطة‪ ،‬ض‬ ‫َّ‬ ‫القارة‬ ‫َّ‬ ‫ي�‬
‫ف‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ف‬ ‫ُّ‬
‫األورو� للقارة‬
‫بي‬ ‫التصوف ودور أعالمه ي� مقاومة المستعمر‬ ‫عىل موقف‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ال� أثرث ي� إصالح المجتمع‪،‬‬ ‫األفريقية‪ ،‬وتتطرق إىل الحركات الصوفية ي‬
‫َّ‬
‫القادرية‬ ‫السنوسية‪ ،‬والطرق‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫األورو� كالحركة‬ ‫وقاومت االستعمار‬
‫بي‬
‫َّ‬
‫والتجانية والدرقاوية‪ ،‬وأعالم هذه الطرق الذين شهد‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫والرحمانية‬ ‫َّ‬
‫والشاذلية‬
‫عل‬
‫لهم التاري ــخ وما زال كعمر المختار‪ ،‬وعبدالقادر الجزائري‪ ،‬ومحمد ي‬
‫الخطا�‪،‬‬
‫بي‬ ‫العين�‪ ،‬وعثمان فودي‪ ،‬وعبدالكريم‬ ‫ين‬ ‫والج� ت ي�‪ ،‬وماء‬ ‫ب‬ ‫السنوس‪،‬‬
‫ي‬
‫ال�قاوي‪...‬إلخ‪.‬‬ ‫والشيخ أبو الوفاء ش‬

‫* * *‬
‫ّْ‬ ‫ُّ‬
‫تصوف‪ُّ ،‬‬ ‫مفردات مفتاحية‪:‬‬
‫األورو�‪ ،‬الرباط‬
‫بي‬ ‫تحرر‪ ،‬جهاد‪ ،‬مقاومة‪ ،‬االستعمار‬
‫ن‬
‫العرفا�‪.‬‬
‫ي‬
‫الرباط العرفاني‬

‫تمهيد‬
‫يجسد التعاليم اإلسالم َّية‪ ،‬وعىل ما فيه من زهد فهو‬ ‫اإلسالمي يوماً إالَّ تجلِّياً ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ما كان التص ُّوف‬
‫وكل من تنكَّب عن طريق الكتاب والس َّنة ال يع ُّد من‬ ‫زهد الصحابة‪ ،‬املتَّبِعني للكتاب والس َّنة‪ُّ ،‬‬
‫السلبي املقوقَع يف الزوايا والتكايا نظ ُّن أ َّن التص ُّوف عبارة‬ ‫ِّ‬ ‫الصوفيَّة‪ .‬ولذا‪ ،‬حني نقرأ عن التص ُّوف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل ما‬ ‫عن ابتعاد عن الحياة‪ ،‬وال عالقة له مبا يدور حوله‪ ،‬وه ُّمه هو االنحياز بنفسه وإبعادها عن ِّ‬
‫اإلسالمي هو علم وعمل‪ ،‬ومجاهدة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املنصفة تثبت أ َّن التص ُّوف‬ ‫ِ‬ ‫يتعلَّق مبجتمعه‪ ،‬ولكن الدراسات‬
‫مم يشوبها من عالئق وسجايا دنيَّة‪ ،‬وتخليصها من التبعيَّة‬ ‫وجهاد‪ :‬مجاهدة النفس وتخليصها َّ‬
‫السنيَّة؛ بعد خوض التجربة الصوفيَّة‪ ،‬فرتخص‬ ‫تتحل باألخالق الرفيعة َ‬ ‫َّ‬ ‫للهوى والشيطان حتى‬
‫نفسه يف سبيل الله بعد هذه الرحلة من املجاهدة‪ ،‬ث َّم يكون الجهاد بالسيف فيدخل املعركة مبتغياً‬
‫حس َنيني النرص أو الشهادة‪ .‬ولذا‪ ،‬نجدهم باعوا أنفسهم رخيصة إذا ما دعا داعي الجهاد‬ ‫إحدى ال ُ‬
‫ْ ْ ُ ْ َ َ ُ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واحتلَّت أرض املسلمني‪ ،‬امتثاالً لقوله تعاىل‪ :‬إ ّن ّ َ‬
‫الل اش َت َرى مِن المؤ ِمن ِين أنفسهم وأموالهم بِأن‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ ُ ْ ْ َ َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫ون ف ِي َ‬
‫يل اللِ فيقتلون ويقتلون‪( ‬سورة التوبة‪:‬اآلية ‪ ،)111‬وامتثاالً لقوله‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫لهم الجنة يقات ِل‬
‫ح ُة َوالْ َغ ْد َو ُة يف َسبِيلِ اللَّ ِه أَفْضَ ُل ِم َن ال ُّدنْ َيا َو َما ِفي َها»[[[‪.‬‬
‫«ال َّر ْو َ‬
‫يف ضوء ذلك‪ ،‬نعرض هنا دور التص ُّوف يف اإلصالح والتحرير‪ ،‬ومقارعة االستعامر يف القارة‬
‫األفريق َّية حيث نجد الكثري م َّمن ينتسبون إىل الطرق الصوف َّية كانوا مرابطني عىل الثغور لحامية‬
‫دولة اإلسالم‪ ،‬يتص َّدون للمستعمرين‪ ،‬باذلني الغايل والنفيس يف سبيل تحرير بالدهم من االستعامر‬
‫الغاشم‪ ،‬كام نعرض ما ق َّدمه التص ُّوف من مناذج العلامء املجاهدين واملصلحني الذين خلَّدهم‬
‫التاريخ؛ ملا بذلوه من جهد يف مقاومة االستعامر بجميع أشكاله وأساليبه‪ .‬ال كام وصفه من طُمس‬
‫عىل بصريته بأنَّه ديدن املتخاذلني الجبناء املعطِّلني لفريضة الجهاد ذروة سنام اإلسالم‪ ،‬متَّخذين‬
‫من أدعياء التص ُّوف مناذج يثبتون بها دعواهم‪ ،‬ومتناسني أولئك األبطال والعلامء العاملني الذين‬
‫تفانوا يف سبيل استعادة بالدهم كعمر املختار‪ ،‬وعبد القادر الجزائري‪ ،‬وماء العينني‪ ،‬وأحمد عرايب‪،‬‬
‫والسنويس‪ ،‬والجربيت‪ ،‬والخطايب‪ ،‬وعثامن فودي وغريهم‪.‬‬

‫ال ريب يف أ َّن التص ُّوف ق َّدم مناذج متكاملة يف اإلصالح والنهوض باملجتمع والحفاظ عىل‬
‫متاسكه‪ ،‬كام حارب البِدع والضالالت التي عانت منها املجتمعات اإلسالم َّية‪ ،‬وكان دوره بارزا ً يف‬
‫نرش العلم يف زواياه‪ ،‬كام قام املتص ِّوفة بدور كبري يف نرش اإلسالم يف القارة األفريق َّية وغريها من‬
‫القا َّرات‪.‬‬

‫[[[‪ -‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬الجهاد باب ‪ ،5‬حديث رقم (‪.)2794‬‬

‫‪113‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫الصوفية‪:‬‬ ‫مفهوم اجلهاد عند‬
‫«بدأ اإلسالم بالجهاد وسينتهي إىل الجهاد‪ ،‬وجعل ما بينهام من حرب وسلم جهادا ً؛ فالحرب‬
‫جهاد أصغر؛ ألنَّه حالة عارضة‪ ،‬والسلم جهاد أكرب؛ أل َّن جهاد النفس أد َوم؛ ألنَّه استعدا ٌد لدن ِّو ساع ِة‬
‫واجب عىل املكلَّف وال فصل بينهام‪ ،‬فإذا انتهى املسلم من‬ ‫ٌ‬ ‫الحرب ومقارع ِة العد ّْو»[[[‪ ،‬فكالهام‬
‫ِ‬
‫مواجهة العد ِّو الظاهر‪ ،‬فليس َع ملواجهة العد ِّو الباطن العتقادهم بأ َّن «أعدى أعدائك نفسك التي‬
‫بني جنبيك»[[[ (رواه البيهقي)‪.‬‬
‫الجهاد الذي فرضه اإلسالم مل يكن بحال من األحوال رغبة يف إراقة الدماء وقتل األبرياء بسبب‬
‫كل‬
‫التعصب األعمى؛ أل َّن اإلسالم يرفض َّ‬
‫ُّ‬ ‫بسبب‬
‫ِ‬ ‫اختالف يف الدين أو املذهب أو ال ِعرق أو الجنس‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫أشكال اإلرهاب والعنف «الذي يُرا ُد به املامرسات الخاطئة أيَّاً يكُن مصدرها وشكلها‪ ،‬واملتمثِّلة يف‬
‫التع ِّدي عىل الحياة اإلنسان َّية بصورة باغية متجاوزة ألحكام الله‪ ،‬تروع اآلمنني وتعتدي عىل املدنيني‬
‫املساملني‪ ،‬وتجهز عىل الجرحى‪ ،‬وتقتل األرسى‪ ،‬وتستخدم الوسائل غري األخالق َّية‪ ،‬من تهديمِ‬
‫ّ‬ ‫َّ َّ ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫بالحق‪( ‬سورة األنعام‪ :‬اآلية ‪.)151‬‬ ‫النفس التي حرم الل إلا‬ ‫العمران واستباحة املدن ‪‬ولا تقتلوا‬
‫ولقد أق َّر اإلسالم مقاومة الظلم‪ ،‬واالستعداد ملالقاة العد ِّو‪ ،‬ونبذ التطرف والعنف «وإ َّن وسائل‬
‫مقاومة الظلم وإقرار العدل تكون مرشوعة بوسائل مرشوعة‪ ،‬وندعو األ َّمة لألخذ بأسباب املنعة‬
‫ب عرب التاريخ يف تدمري بُنى‬
‫والق َّوة لبناء الذات واملحافظة عىل الحقوق‪ ،‬ونعي أ َّن التط ُّرف تس َّب َ‬
‫شامخة يف مدنيَّات كربى‪ ،‬وأ َّن شجرة الحضارة تذوي عندما يتمكَّن الحقد وتنغلق الصدور‪.‬‬
‫بكل أشكاله غريب عن اإلسالم الذي يقوم عىل االعتدال والتسامح‪.‬‬
‫وال ب َّد من القول أ َّن التطرف ِّ‬
‫وال ميكن إلنسان أنار الله قلبه أن يكون ُمغالياً متط ِّرفاً»[[[‪.‬‬
‫املحتل الظامل والطامع يف خريات املسلمني‪ ،‬جهاد العد ِّو‬
‫ِّ‬ ‫والجهاد الذي نقصده هو جهاد‬
‫الذي استهدف عقيدة املسلمني وأعراضهم هذه هي املقاومة التي نقصدها يف بحثنا هذا‪.‬‬
‫وعىل هذا‪ ،‬فقد فهم علامء التص ُّوف دورهم جيِّدا ً‪ ،‬ومن يقاتلون‪ ،‬ومتى يقاتلون‪ ،‬وكيف‬
‫يجاهدون‪ ،‬ولذا جمعوا بني الجهادين يف مقاومة العد َّويْنِ ‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬فإنَّنا نجدهم املجاهدين‬

‫[[[‪ -‬أحمد سالم‪ ،‬الصوفية والجهاد‪ ،‬أعامل ملتقى التص ُّوف اإلسالمي العاملي‪ ،‬طرابلس‪ ،‬الجامهرييَّة العظمى‪ ،‬جمع َّية الدعوة اإلسالم َّية‬
‫العامليَّة‪1995،‬م(ط‪ ،)1‬ص‪.422‬‬
‫[[[‪ -‬إسامعيل بن محمد العجلوين‪( ،‬تويف‪1162‬ه‪1748/‬م)‪ ،‬كشف الخفاء ومزيل اإللباس عمَّ اشتهر من األحاديث عىل ألسنة الناس‪،‬‬
‫أرشف عىل طبعه وتصحيحه والتعليق عليه أحمد القالش‪ ،‬بريوت‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪(1197 ،‬ط‪ ،)7‬ج‪ ،1‬ص‪.160‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر رسالة عامن»بيان مفصل أصدره صاحب الجاللة امللك عبد الله الثاين‬
‫‪http://www.ammanmessage.com/index.php?lang=ar‬‬

‫‪114‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫الذين هانت الدنيا عليهم‪ ،‬فباعوا أنفسهم لله فأقبلوا وما أدبروا‪ ،‬وال تقاعسوا عن تلبية النداء‪ ،‬كام‬
‫رصح أعداء التص ُّوف‪.‬‬
‫َّ‬
‫يف‪ ،‬فقالوا فيه‪ :‬إنَّه خمول‬
‫وليست خافية الهجمة عىل التص ُّوف والتي تركِّز عىل الجهاد الصو ِّ‬
‫للمحتل‪ ،‬وات َّهموهم ات ِّهامات باطلة مألت صفحات الكتب واملواقع اإللكرتونيَّة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وخنوع وخضوع‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ونصبوا العداء لعلامئه قدمياً وحديثاً‪ ،‬فلم يسلم من ألسنة املتَّهِمني أحد‪ ،‬سواء يف ذلك العدل‬
‫واملجروح‪ ،‬فص ُّبوا جام غضبهم عىل الدعاة واملجاهدين واملصلحني والكتَّاب والشعراء‬
‫بكل أشكالهم‬
‫واملؤلِّفني ‪ -‬وكلُّهم ممن يُشْ َه ُد لهم بالعدل والفضل‪ -‬ووصل اتهامهم للصوف َّية ِّ‬
‫وطوائفهم إىل ح ِّد التكفري‪ ،‬وإخراجهم من املِلَّة‪ .‬وقد جاء يف رسالة عامن والتي القت إجامعاً‬
‫من علامء املسلمني املعتربين‪»:‬ال يجوز تكفري أصحاب العقيدة األشعريَّة‪ ،‬ومن ميارس التص ُّوف‬
‫السلفي الصحيح”‪ ،‬فانربى لهم املنصفون من‬ ‫ِّ‬ ‫الحقيقي‪ ،‬وكذلك ال يجوز تكفري أصحاب الفكر‬ ‫َّ‬
‫العلامء الذين مي ِّيزون بني الغثِّ والسمني‪ ،‬وب َّينوا الفرق بني الصو ِّ‬
‫يف واملتص ِّوف‪ ،‬فكتبوا بإنصاف‬
‫وحيَد ٍة‪ ،‬فتص َّدوا لهم‪ ،‬وبيَّنوا حقيقة التص ُّوف‪ ،‬ودور علامئه يف اإلصالح ونرش اإلسالم يف مشارق‬ ‫ِ‬
‫األرض ومغاربها‪ ،‬وتحرير البالد من االستعامر[[[‪.‬‬
‫ومم قالوه فيهم‪ :‬إ َّن تقاعس املتص ِّوفة عن الجهاد‪ ،‬يرجع إىل فكرة التص ُّوف نفسها‪ ،‬فهي ال ترى‬
‫َّ‬
‫جهادا ً وال حرباً‪ ،‬إالَّ جها َد النفس وحربَها‪ .‬وقالوا‪ :‬بـ«أ َّن الصوف َّية يرون عدم جدوى جهاد الكفار‪،‬‬
‫وكل ما وقع فقد ق َّدره الله‪ ،‬ولذا يجب عدم معارضة قضاء الله وقدره‪ .‬كام‬
‫كل ما ق َّدره الله يح ُّبه‪َّ ،‬‬
‫وأ َّن َّ‬
‫ي‪ ،‬وإ َّن الدول العظمى تركِّز عىل الزوايا الصوف َّية‬ ‫املحتل ونالوا منه الدعم املا ِّد َّ‬
‫َّ‬ ‫قالوا إنَّهم استقبلوا‬
‫ألنها تقوم مقام املراكز االستخباريَّة للدول املستع ِمرة»[[[‪ .‬بل قالوا‪ :‬إ َّن التص ُّوف بر َّمته مؤامرة عىل‬
‫اإلسالم «وليس له صلة بتعاليم اإلسالم‪ ،‬وال تعاليم الرشيعة الحنيف َّية السمحاء الغراء؛ لقتل روح‬
‫الجهاد‪...‬ولتمكني ِّ‬
‫الذل واالستكانة والهوان وإفشاء الجهل والكسل والخمول»[[[‪.‬‬
‫وال َّ‬
‫شك بأ َّن هناك بعض من ينتسبون إىل التص ُّوف كانوا عىل هذه الشاكلة‪ ،‬وكانوا وباالً عىل‬
‫اللوجستي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األجنبي ليقف إىل صفِّه‪ ،‬ويق ِّدم له الدعم‬
‫ُّ‬ ‫املحتل‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وهناك من اشرتاه‬
‫الدعي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يف واملتص ِّوف‬
‫ولكن‪ ،‬ال ب َّد من التمييز بني الصو ِّ‬

‫[[[‪ -‬أنظر محمد فهر شقفه‪،‬تويف(‪1431‬هـ ‪2010/‬م)» التصوف بني الحق والحقيقة»‪(1970،‬ط‪ .)2‬وعبد الرحمن الوكيل‪(،‬تويف‬
‫‪1390‬هـ ‪1971/‬م)‪ ،‬هذه هي الصوفية»‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪(1979،‬ط‪.)3‬‬
‫[[[‪ -‬فقد كانت زاوية (مستغانم) أعظم مراكز االستخبارات الفرنسية بالنسبة للمغرب‬
‫‪www.alagidah.com/vb/archive/index.../t-2164.html‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر إحسان الهي ظهري (تويف ‪1407‬هـ‪1987/‬م) دراسات يف التص ُّوف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار اإلمام املجدد‪(2005،‬ط‪ ، )1‬ص‪ .126‬وانظر‬
‫إحسان الهي ظهري‪ ،‬التص ُّوف املنشأ واملصدر‪ ،‬باكستان‪ ،‬الهور‪(1986،‬ط‪ ،)1‬ويف هذين الكتابني يشدد النكري عىل التصوف وينسفه‬
‫نسفاً‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫المحور‬

‫فهناك فئات ا َّدعت التص ُّوف‪ ،‬وش َّوهت صورته قدمياً وحديثاً‪ ،‬فألَّف علامء التص ُّوف املعتربون‬
‫ين واألسمر‪ ،‬وابن البنا‬‫الكتب الكثرية مييِّزون خاللها بني أولياء ال َّرحمن وأولياء الشيطان‪ ،‬كالشعرا ِّ‬
‫واليافعي[[[‪ ،‬وذلك ملا شاهدوه من أدعياء التص ُّوف‪ .‬فهذا الشيخ ز ُّروق‪ -‬وهو العامل‬
‫ّْ‬ ‫الرسقسطي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫خصه الله‬
‫البارز يف طريق القوم‪ -‬قد ألَّف كتابيه‪ُ :‬ع َّدة املريد الصادق‪ ،‬والنصيحة الكافية ملن َّ‬
‫وبي فيهام أحوال كثريين من م َّدعي التص ُّوف يف عرصه‪ ،‬وهي أحوال تن ُّم عن البُعد عن‬ ‫بالعافية؛ َّ‬
‫ب يف التص ُّوف‬‫السالم األسمر (‪981‬هـ)‪ -‬وهو شيخ ُمعت َ‬ ‫الدين‪ ،‬وترك الطريق القويم»[[[‪ .‬وها هو عبد َّ‬
‫– قد ألَّف كتباً يف حال متص ِّوفة عرصه من ولو ٍع بخوارق العادات‪ ،‬ورقص عىل الدفوف أمام النساء‪،‬‬
‫وهو يقول يف وص َّيته إلخوانه املريدين محذِّرا ً‪« :‬وحقيقة اتِّباع الهوى‪ ،‬هو أن يشتغل امل ُريد باألوراد‬
‫والفضائل‪ ،‬ويرتك ما أوجبه الله عليه‪ ،‬وال يتعلَّم الواجبات‪ ،‬فمن كان هذا وصفه فال تقبلوه بالكليَّة؛‬
‫[[[‬
‫ألنَّه ال يفلح أبدا ً»‪.‬‬
‫الرسقسطي حال املتص ِّوفة الج َهلة يف ليبيا وغريها يف منظومته قائالً‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫من جهته‪ ،‬شكا ابن البنا‬

‫بل َّية‬ ‫لجُّهم‬ ‫أناس‬ ‫إىل‬ ‫الصوف َّية‬ ‫الطريقة‬ ‫وآلت‬

‫بل يحسنون الفسق والعصيانا‬ ‫ال يفقهون العلم والفرقانا‬

‫ويجهلون ال َّرسم للحروف‬ ‫الضب للدفوف‬


‫َ‬ ‫ويتقنون‬

‫السنيَّة‬
‫َّ‬ ‫الشَّ يعة‬ ‫وخالفوا‬ ‫الدنيَّة‬ ‫زخارف‬ ‫وات َّبعوا‬

‫عن العلوم وال ِّرجال الواصلة‬ ‫كل ال َزوايا عاطلة‬


‫وأصبحت ُّ‬

‫االبتداع‬ ‫رش‬
‫ب ِّ‬ ‫ُعرفوا‬ ‫قد‬ ‫فجل من فيها من ال ُّرعاع‬
‫ُّ‬
‫[[[‬
‫ودي َنهم بجهلهم قد باعوا‪.‬‬ ‫فأفسدوا طريقهم وضاعوا‬

‫[[[‪ -‬انظر محمد عبدالله بن أسعد اليافعي‪ ،‬نرش املحاسن الغالية يف فضل املشايخ الصوفية أصحاب املقامات العالية امللقب كتابه كفاية‬
‫املعتقد ونكاية املنتقد(‪768‬ه‪1366/‬م)‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم عطوة عوض‪ ،‬مرص‪ ،‬مطبعة مصطفى البايب الحلبي‪(،1961،‬ط‪ )1‬كتاب يسلط‬
‫الضوء عىل الفرق بني أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن محمد بن عيىس الربنيس املغريب(تويف ‪ 846‬هـ ‪1442/‬م) قواعد التصوف‪ ،‬تعليق وضبط‪ ،‬الشيخ إبراهيم اليعقويب‪،‬‬
‫دمشق‪،‬مطبعة املالح‪(،1968 ،‬د‪.‬ط) ص‪.1‬‬
‫[[[‪ -‬محمد بن محمد بن مخلوف تنقيح روضة األزهار‪ ،‬طرابلس‪ ،‬مكتبة الطلبة والطالبات‪ ،‬ص‪.191‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد شهاب الدين الزوي‪ ،‬سلطان األولياء الجيالين ‪ ،‬طرابلس‪ ،‬منشورات زاوية سيدي نرص د‪ -‬ت ص‪.129‬‬

‫‪116‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫ِّ‬
‫املتصوفة‪:‬‬ ‫أقسام‬
‫حقيقة القول أ َّن املتص ِّوفة يقسمون ثالث طوائف‪ :‬صوف َّية ُسن َّية‪ ،‬وصوف َّية بدع َّية‪ ،‬وصوف َّية‬
‫الطويس يف كتابه «اللمع» وبسط القول يف طوائف الصوف َّية الحقَّة واملتَّبِعة‬ ‫ُّ‬ ‫فلسف َّية‪ .‬وقد ذكر ذلك‬
‫[[[‬ ‫ِ‬
‫املبتدعة والفلسف َّية‪ ،‬وما وقعوا فيه من أغالط‪.‬‬ ‫للكتاب والس َّنة والطوائف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أ َّوالً‪ :‬الغارقون يف البدع واملخالفات هؤالء هم مخلَّفات األدعياء الذين يتن َّعمون بأتباع يفنون‬
‫أنفسهم يف خدمتهم‪ ،‬ويبذلون أموالهم يف سبيلهم‪ ،‬ويعظِّمونهم ويق ِّدسونهم‪ ،‬وال يخالفون لهم أمرا ً‪،‬‬
‫فكيف يرتكون هذه ال ِنعم ويرجعون إىل الطريق الصحيح؟! طريق‪ :‬الزهد والتواضع والخضوع لله؛‬
‫إ َّن هذا صعب عىل أنفسهم كام كان اإلسالم صعباً عىل زعامء مكَّة فكيف يخضعون ويأمترون؟!‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الضعفاء الجاهلون الذي تص َّدروا للتص ُّوف واملشيَخة‪ ،‬وهم ال يعرفون منه إالَّ ال َّرسم‬
‫والقشور‪ ،‬وقد نُشِّ ئوا عىل هذا واستق َّرت أحوالهم‪ ،‬فال يتكبَّدون صعوبة التصحيح والرجوع للعلم‬
‫والعمل‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬ال ُّدخالء واألدعياء الذين دخلوا التص ُّوف للنيل منه‪ ،‬فدخولهم بقصد التحريف؛ كام دخل‬
‫والدس فيه‪ ،‬وهذا هو‬
‫ِّ‬ ‫الكثري من املجوس واليهود يف اإلسالم يف عرص الفتوحات بقصد النيل منه‬
‫حال التص ُّوف رصاع دائم بني أهل التصحيح وأهل التربير‪ ،‬وهناك من يرتبَّص بكليهام وهم أعداء‬
‫التص ُّوف من املسترشقني وغريهم‪.‬‬
‫يتجل يف تلك النامذج الصوف َّية التي‬ ‫َّ‬ ‫يف واملتص ِّوف‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن الفرق بني الصو ِّ‬
‫كانت ترابط عىل الثغور لحامية دار اإلسالم‪ ،‬والتي سنشري إىل بعض منها يف هذه الدراسة‪ ،‬تلك‬
‫النامذج التي سطَّرت تاريخ املقاومة والتحرير بدمائها‪ ،‬وق َّدمت لإلسالم جيالً مقاوماً سلك طريق‬
‫النبوي‪ ،‬وبذلت جهدها وحياتها يف إصالح املجتمع وتعليمه وتثقيفه‪ .‬إنَّها مناذج نرشت‬ ‫ِّ‬ ‫ال َه ْدي‬
‫اإلسالم يف الرشق والغرب مبعامالتها وعلمها وأخالقها‪ ،‬حتى وصل إىل شتَّى بقاع األرض‪ ،‬من‬
‫دون إراقة نقطة دم‪ .‬إنَّها النامذج الربَّان َّية ال الرهبان َّية‪ ،‬ومثل هؤالء ال مجال لنسيانهم وسلخهم من‬
‫نبي دورهم يف حركات اإلصالح والتح ُّرر املعارصة؛‬ ‫رشف‪ .‬وعليه‪ ،‬فال ب َّد لنا من أن ِّ‬
‫التاريخ امل ِّ‬
‫ِّ‬
‫بالذل واالستعامر‪ .‬فهذه الجزائر تشهد بأ َّن‬ ‫لدحض ما اتُّهِموا به من تقاعس وخنوع وخضوع ورىض‬
‫شيوخ الطُّرق الصوف َّية هم الذين أمروا جميع املواطنني الجزائريني بالتعبئة العا َّمة والدفاع عن مدينة‬
‫تخل األتراك عن هذه امله َّمة‪ [[[.‬وإنَّ»جميع الثورات واالنتفاضات الشعب َّية‬ ‫الجزائر العاصمة بعد ِّ‬
‫[[[‪ -‬أبو نرص عبد الله بن عيل الرساج الطويس (تويف‪387‬ه‪997/‬م )‪ ،‬اللُمع‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪.‬عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي رسور‪ ،‬مرص‪،‬‬
‫دار الكتب الحديثة‪ ،‬د ط ‪1960 ،‬ص‪.545-516‬‬
‫[[[‪ -‬حمدان بن عثامن خوجة (تويف‪1255‬هـ‪1840/‬م)‪ ،‬املرآة ‪ ،‬تقديم وتحقيق وتعريب د‪ .‬محمد العريب الزبريي ‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الرشكة‬
‫الوطنية للنرش والتوزيع‪،‬ط‪2‬‬

‫‪117‬‬
‫المحور‬

‫التي وقعت خالل ليل االستعامر الطويل قد انطلقت من الزوايا‪ ،‬واعتمدت طريقة أو مجموعة من‬
‫[[[‬
‫الطرق الصوفيَّة»‪.‬‬
‫ونلفت هنا إىل أ َّن وتقارير الفرنسيني تعرتف بدور الطُّرق الصوف َّية‪ .‬فقد جاء يف أحدها أنَّ‪»:‬‬
‫خاص أرادوا أن يشيدوا من‬ ‫ٍّ‬ ‫كل العداء؛ أل َّن غايتهم كانت سياسيَّة‪ ،‬وبوجه‬
‫الدرقاويَّة كانوا معادين لنا َّ‬
‫جديد رصح أمرباطوريَّة إسالم َّية ويطردوننا‪ .‬إ َّن هذه الطريقة منترشة ج َّدا ً يف الجنوب ومن الصعب‬
‫رسيَّة وكانت أغلب َّية رؤسائهم معروفة»[[[‪« .‬إ َّن مشائخ الزوايا‬
‫ج َّدا ً مراقبتهم‪ .‬لقد كانت ندوات اإلخوان ِّ‬
‫مم يحطِّم فيهم وبرسعة الشعور الذي‬ ‫يختارون يف تدريسهم للقراءة نصوصاً من القرآن معادية لنا‪َّ ،‬‬
‫مؤسساتنا وتعترب التأثريات الدينيَّة من أل ِّد أعدائنا والتي يجب أن نخشاها‬
‫سعينا لتطويره فيهم من طرف َّ‬
‫[[[‬
‫ونخطِّط لها سياستنا‪ .‬ولقد كانت القبائل األش ُّد عداء لنا هي تلك التي ينترش فيها التعليم اإلسالمي»‪.‬‬
‫الفرنيس مارسيل إميريي‪ »:‬إ َّن معظم الثورات التي وقعت خالل‬ ‫ُّ‬ ‫يف هذا اإلطار‪ ،‬يقول املؤ ِّرخ‬
‫القرن التاسع عرش يف الجزائر كانت قد أُ ِع َّدت ونُظِّمت ونُفِّذت بوحي من الطرق الصوف َّية‪ ،‬فاألمري‬
‫عبد القادر كان رئيساً لواحدة منها‪ ،‬وهي الجمع َّية القادريَّة‪ ،‬ومن بني الجمع َّيات املشهورة التي أ َّدت‬
‫دورا ً أساس َّياً يف هذه الثورات‪ :‬الرحامن َّية والسنوس َّية والدرقاويَّة والطيب َّية»‪.‬‬
‫يل من‬‫«والحق أ َّن للطُّرق الصوف َّية أهم َّية بالغة يف اإلسالم‪ ،‬وذلك أنَّها متثِّل الجانب العم َّ‬
‫َّ‬
‫جل التَّاريخ لكثري‬‫التص ُّوف‪ ،‬وهو جانب ارتبط بحياة املجتمعات اإلسالم َّية وجامهري ال َّناس‪ ،‬ويس ِّ‬
‫من الطُّرق الصوفيَّة مواقف ال تنقصها الشجاعة إزاء مواجهة العد ِّو‪ ،‬ور ِّد الظلم والدفاع عن مصالح‬
‫قل أن توجد يف هذا العرص‪ .‬وال يخفى علينا‬ ‫الطبقات الفقرية املستض َعفة‪ ،‬وذلك يف ع َّزة مدهشة َّ‬
‫الفرنيس يف الجزائر‪ ،‬ودور السنوس َّية يف ليبيا غري خاف‬‫ِّ‬ ‫دور الطريقة القادريَّة يف مقاومة االستعامر‬
‫املحتل‪ ،‬وحفاظاً عىل مصالح‬‫ِّ‬ ‫عىل أحد‪ ،‬ونجد الدور نفسه قامت به الطريقة الشاذل َّية يف مرص تجاه‬
‫العباد‪ ،‬يف عرص الشاذيل نفسه‪ ،‬والطريقة الرحامنيَّة من ضمن هذه الطرق الصوفيَّة التي أ َّدت دورا ً‬
‫[[[‬
‫التونيسّ»‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الجزائري واملجتمع‬
‫ِّ‬ ‫ها َّماً يف املجتمع‬
‫إ َّن ال َّناظر بعني اإلنصاف إىل التاريخ املوث َّق واملحقَّق والذي كُ ِتب بأيدي املنصفني‪ ،‬ليجد َّن‬
‫أغلب حركات التح ُّرر املعارصة قامت بقيادة علامء التص ُّوف‪ ،‬بل قلَّام نجد حركة من حركات‬
‫[[[‬
‫التحرير املعارص مل يكن لعلامء التص ُّوف فيها دور‪.‬‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬محمد العريب الزبريي‪ ،‬تاريــخ الجزائـــر املعاصــر (‪ ، )1962-1954‬ج‪ ،2‬منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪1999‬م ‪،‬ص‪.180‬‬
‫[[[ ‪ -‬حمدان خوجة‪ ،‬املرآة‪ ،‬هذا التقرير أصدرته املفتشية العامة وحرر بالجزائر سنة ‪.1864‬‬
‫[[[ ‪ -‬عبد املنعم قاسمي الحسني‪ ،‬دور الطرقية يف مقاومة االستعامر الفرنيس‪.http://aljazeeratalk.net/forum/showthread ،‬‬
‫‪[4] - http://www.hamsjazan.com/vb/showthread.php?t=65978‬‬
‫[[[ ‪ -‬لإلطالع عىل دور املدارس الصوفية يف مقاومة املحتل واإلصالح أنظر الدكتور ماجد عرسان الكيالين‪ ،‬هكذا ظهر جيل صالح‬
‫الدين وهكذا عادت القدس‪ ،‬اإلمارات العربية املتحدة‪ ،‬ديب‪ ،‬دار القلم‪( 2009 ،‬ط‪ ،)2‬ص‪270-189‬‬

‫‪118‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫ولكن‪ ،‬لألسف‪ ،‬فقد أغفل أولئك املؤ ِّرخون دور علامء املسلمني عموماً‪ ،‬ومن انتسب منهم‬
‫إىل التص ُّوف خصوصاً‪ .‬ورمبا كان ذلك متع َّمدا ً؛ ملا لبعث الروح الصوفيَّة من دور يف إثارة ذعر‬
‫أعداء اإلسالم؛ بفعل ما القوه من الصوف َّية يف القرون السابقة‪ ،‬واملعارصة‪ .‬فالتص ُّوف هو املارد‬
‫الذي يخيفهم؛ لعلمهم وتجربتهم برشاسة مقاومتهم يف حروبهم إبَّان الحروب الصليب َّية‪ .‬وقد منا‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أدل عىل ذلك من موقف قائد الحملة الفرنسيَّة غوروا حني دخل دمشق‬ ‫حقدهم عىل الصوفيَّة‪ ،‬وال َّ‬
‫يب وخاطبه بحقده واضعاً حذاءه عىل‬ ‫محتالًّ سنة‪1920‬م هرع إىل مقام السلطان صالح الدين األيو ِّ‬
‫قربه‪ ،‬قائالً‪« :‬ها قد عدنا يا صالح الدين»[[[‪.‬‬
‫شك يف أ َّن هذا ما دعاهم إىل تجاهلهم وتجاهل دورهم وإبعادهم عن بؤرة الضوء يف‬ ‫ال َّ‬
‫السجالَّت التاريخ َّية‪ ،‬فال نجد ذكرا ً لهم يف ما كتبوا اللَّهم إالَّ هنا وهناك يف ط َّيات بعض الرتاجم‬
‫ُنصفني أو تالميذهم املخلصني‪ ،‬والتي‬ ‫أو املؤلَّفات التي أُلِفت بذكر مآثرهم من قبل املؤ ِّرخني امل ِ‬
‫مل تصل إىل الق َّراء إالَّ بعد مرور عقود من جهادهم‪ ،‬وتحرير األرض من براثن االستعامر‪ ،‬عدا‬
‫مشاهري املجاهدين ممن دخلوا التاريخ عنوة كقادة الحركة السنوسيَّة‪ :‬محمد عيل السنويس‪ ،‬وعمر‬
‫املختار‪ ،‬وعبد القادر الجزائري‪ ،‬فلم يلق أولئك املؤ ِّرخون أمامهم يف ساحة القتال سواهم‪ ،‬ومل‬
‫يستطيعوا إسكات أقالمهم فكتبوا تاريخهم عىل استحياء‪ ،‬وذلك ملواقفهم الناطقة والشاهدة عىل‬
‫التاريخ‪ ،‬والظاهرة ظهور الشمس يف رابعة النهار‪.‬‬
‫تقض مضاجع املستعمرين‪ ،‬ولذا نجدهم ال يألون جهدا ً‬ ‫ُّ‬ ‫حري القول أ َّن الصحوة اإلسالم َّية‬
‫ٌّ‬
‫للقضاء عليها‪ ،‬وإجهاضها‪ ،‬فريسمون املخطَّطات‪ ،‬ويبنون االسرتاتيج َّيات الطويلة األجل‪ ،‬خوفاً‬
‫من عودتها إىل جذورها األصليَّة «الكتاب والس َّنة»‪ ،‬ولذا‪ ،‬جيَّشوا الجيوش لنزع اإلسالم من أعامق‬
‫َصوا بذلك التص ُّوف ملا له من دور ف َّعال يف املزاوجة بني الروح والجسد‪ -‬فلم‬ ‫املسلمني‪ ،‬وخ ُّ‬
‫مم يجعلهم يحسبون الحسابات الدقيقة للقضاء‬ ‫يؤثروا أح َدهام عىل اآلخر‪ -‬علامً وعمالً وسلوكاً؛ َّ‬
‫عىل روح اإلسالم الذي يريدونه إسالماً فارغاً من العقيدة والجهاد والتح ُّرر من ربقة االحتالل‪.‬‬
‫كام أنَّهم مل يرتكوا وسيلة لنزع تعاليم القرآن وهدي الس َّنة إالَّ واستخدموها سالحاً ض َّد املسلمني‬
‫ِك ْم إ ْن ْ‬
‫اس َت َط ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ َ ُ‬
‫اعوا‪( ‬سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،)217‬فيقتلون‬ ‫ِ‬ ‫‪‬ولا يَ َزالون ُيقات ِلونك ْم َح ّتى يَ ُردوك ْم ع ْن دِين‬
‫املسلمني باسم اإلرهاب والعنف والتط ُّرف‪ ،‬وبدعوى التحضُّ والتم ُّدن واالرتقاء مبستوى ما س ُّموه‬
‫بدول العامل الثالث‪ ،‬يرتبَّصون بهم الدوائر‪ ،‬فجميع حروبهم دينيَّة صليبيَّة وصهيونيَّة‪ ،‬وهكذا احتلُّوا‬
‫بالد املسلمني لرسقة خرياتهم‪ ،‬وانتهاك حرماتهم‪ ،‬ال يرعون يف مؤمن إالًّ وال ذ َّمة‪ ،‬ويوهمون العامل‬

‫[[[ ‪ -‬شمس الدين العجالين‪ ،‬مقالة يف ذكرى معركة ميسلون‪ ،‬موقع أدباء الشام‬
‫‪http://www.odabasham.net/show.php?sid=36912‬‬

‫‪119‬‬
‫المحور‬

‫بأنَّهم أهل العدالة ورعاية حقوق اإلنسان‪ ،‬ودعاة الرفق بالحيوان وحامية البيئة‪ ،‬فس ُّموا احتاللهم‬
‫استعامرا ً‪ ،‬وعاثوا يف األرض فسادا ً‪ ،‬باسم الحريَّة والدميقراطيَّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الصوفية يف أفريقيا‪:‬‬ ‫انتشار ُّ‬
‫الطرق‬
‫لقد شاع التص ُّوف وانترشت طرقه يف أفريقيا‪ ،‬من املغرب العريب إىل الصومال فليبيا ومرص‬
‫والسودان‪ ،‬وأصبح الطابع العام للقا َّرة اإلفريق َّية طابعاً صوف َّياً‪ .‬وقامت طبيعة التص ُّوف عىل ال ُّزهد‬
‫يف الدنيا‪ ،‬وتربية املريدين عىل تطبيق الكتاب والس َّنة‪ ،‬والتعلُّق بهام وتطبيق أحكامهام‪ ،‬فبنوا الزوايا‬
‫يف فيها أحكام دينه علامً‬ ‫الخاصة بهم‪ ،‬وكانت مبثابة ُدور العلم‪ ،‬حيث يتعلَّم الصو ُّ‬ ‫َّ‬ ‫والربط والتكايا‬
‫صل الله عليه وسلم‪.‬‬‫وعمالً وتربية وسلوكاً‪ ،‬كام كان الصحابة يتعلَّمون زمن رسول الله َّ‬
‫وحني فاجأ االستعامر الصوفيَّة انربوا له فتد َّربوا عىل الفت َّوة وحمل السالح‪ ،‬وج َّهزوا أنفسهم‬
‫للدفاع عن ديار اإلسالم‪ ،‬فظهر بينهم علامء أعالم‪ ،‬واشتهر منهم قادة عظام‪ ،‬زكَّوا أنفسهم فزكت‪،‬‬
‫بكل وصف َس ِن ٍّي‪ ،‬فأصبحوا القدوة واملثل‪ ،‬ويف الثبات‬ ‫ين‪ ،‬وتحلَّوا ِّ‬
‫كل خلق د ٍّ‬
‫وتخلَّوا عن ِّ‬
‫والشجاعة مرضباً للمثل‪ ،‬فقادوا املجاهدين إىل الجهادين األكرب أوالً ثم األصغر آخرا ً‪ ،‬وباتوا‬
‫معتد‪ ،‬صامدين صمود الصحابة الذين حرصوا عىل املوت لتهب‬ ‫كل ٍ‬ ‫مرابطني عىل الثغور يدفعون َّ‬
‫رص دي َنه‪ ،‬قاتلوا يف سبيل الله‬
‫لهم الحياة‪ ،‬أخرجوهم خاسئني بصالبة إميانهم ويقينهم بأ َّن الله نا ٌ‬
‫لتكون كلمة الله هي العليا‪ ،‬وبغيتهم إحدى الحسنيني‪ ،‬إ َّما النرص أو الشهادة‪.‬‬
‫َّ‬
‫األفريقية‪:‬‬ ‫الصويف يف َّ‬
‫القارة‬ ‫ِّ‬ ‫أعالم اجلهاد‬
‫مستقل‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫فكل علم منهم يحتاج إىل بحث‬ ‫ليس من السهولة مبكان اإلحاطة بأعالم التص ُّوف ُّ‬
‫وذلك يحتاج إىل مجلَّدات ال يسعها هذا البحث الذي نحن بصدده‪ ،‬فإحصاء علامء التص ُّوف أمر‬
‫ال يستطيعه باحث وال باحثان بل يتطلَّب جهدا ً جامعيَّاً ليعيد صياغة التاريخ إلنصافهم؛ أل َّن كثريا ً‬
‫من املؤ ِّرخني استبعدوهم‪.‬‬
‫جل حركات التح ُّرر اإلسالميَّة‬
‫الس َي والرتاجم‪ ،‬ظهر للباحث أ َّن َّ‬
‫وبعد الدراسة والنظر يف كتب ِّ‬
‫قامت عىل عاتق هؤالء العلامء‪ ،‬وسنذكر يف ما ييل بعضاً من أعالمهم وبيان دورهم‪:‬‬
‫مؤسس الطريقة السنوسيَّة‪ ،‬وتلميذ أحمد بن‬ ‫ّْ‬
‫السنويس (ت‪1859:‬م)‪ :‬هو ِّ‬ ‫‪ .1‬محمد بن عيل‬
‫الفايس (ت‪1853:‬م) شيخ الطريقة الخضرييَّة الشاذل َّية[[[‪« .‬من عيون أعيان القرن الثالث‬ ‫ِّ‬ ‫إدريس‬
‫الهجري عاملاً عامالً كبريا ً مجتهدا ً‪ ،‬وأصله من الجزائر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عرش‬

‫[[[‪ -‬عبد الكريم غرايبة‪ ،‬دراسات يف تاريخ أفريقية العربية‪ ،‬مطبعة جامعة دمشق ‪ (1960‬ط‪ ،)1‬ص‪.15‬‬

‫‪120‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫مل تسمح الحكومة الفرنسيَّة يف املغرب بنرش الطريقة السنوسيَّة يف الجزائر التي اعتربتها خطرا ً‬
‫عظيامً عىل االستعامر‪ ،‬وتسمح لسائر الطرق مع املراقبة الالَّزمة لها‪ ،‬ولك َّنها ال تقبل رصفاً وال‬
‫عدالً من جهة السنوس َّية التي تعلم ق َّوتها ومن مقدرتها املل َّية ما تعلم‪ .‬انتقل إىل ليبيا فقاد مقاومة‬
‫االحتالل يف القرن التاسع عرش ومطلع القرن العرشين‪ ،‬وعمل عىل بناء ق َّوة عرب َّية إسالم َّية يف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫صحراء ليبيا تقوم دعامتها عىل أساس الزوايا والرباطات[[[‪ .‬و«هذه الطريقة التي كافحت الجهل‬
‫يل يف ليبيا جهادا ً شديدا ً‪ ،‬وقد قيض الشيخ الرشيف‬ ‫والفوىض التي جاهدت االستعامر اإليطا َّ‬
‫يل وأزعج موسيليني‬ ‫أحمد السنويس حفيد شيخ الطريقة السنوس َّية حياته يف كفاح االستعامر اإليطا ِّ‬
‫[[[‬
‫الفاشستي ورئيس الدولة اإليطال َّية»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫زعيم الحزب‬
‫‪ .2‬شيخ املجاهدين عمر املختار‪ :‬جعل من زاويته الكربى يف واحة الجغبوب مق َّرا ً ومركزا ً‬
‫يل لليبيا يف‬ ‫للعمل َّيات العسكريَّة حتى استشهاده‪ ،‬وقد تح َّولت جميع الزوايا ملقاومة املحتل اإليطا ِّ‬
‫[[[‬
‫مطلع القرن العرشين»‪.‬‬
‫وعمر املختار هو أحد رجاالت الطريقة السنوس َّية‪ ،‬ومن كبار مق َّدميها‪ ،‬ومن أخلص التالميذ‬
‫[[[‬
‫لقائد الجهاد األعىل الشيخ الرشيف أحمد ابن السنويس‪.‬‬
‫‪ .3‬الشيخ محمد عبد الله حسن الجربيت العقييل ثائر من الصومال (‪1920-1856‬م)‪ :‬وهو أبرز‬
‫خلفاء شيخ الطريقة الشاذل َّية‪ ،‬قاد بالده من نرص إىل نرص أكرث من عرشين عاماً حارب فيها ق َّوات‬
‫الدول الكربى يف القرن التاسع عرش (بريطانيا وإيطاليا والحبشة)[[[‪ ،‬وبعد توايل االنتصارات عىل‬
‫بريطانيا وأنَّه ال مجال لهزميته أغرت برشوته وعرضت عليه ملك الصومال‪ ،‬فرفض بشموخ العقيلني‬
‫الهواشم‪ ،‬وآثر املعركة حتى النرص أو االستشهاد‪ ،‬فاستشهد متأثرا بجراحه بعد قصفهم‪.‬‬
‫الروحي ماء العينني (ت ‪1910‬م)‪ :‬تز َّعم حركة املقاومة يف موريتانيا يف وجه الفرنسيني‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ .4‬الزعيم‬
‫[[[‬
‫أسسها والده (وهي فرع من القادريَّة)‪.‬‬
‫وتص َّدى ملطامعهم‪ ،‬وكان قد اتَّبع الطريقة الفاضلة التي َّ‬
‫ويف أفريقيا بوجه عام اتَّبع زعامء الجهاد تعاليم الطرق الصوفيَّة التي ال يستطيع أحد أن ينكر‬
‫األجنبي‪ .‬وهم‬
‫ّْ‬ ‫كل مظاهر السيطرة والوجود‬ ‫دورها يف نرش ال ِّدين والثقافة اإلسالم َّية‪ ،‬ويف مقاومة ِّ‬
‫[[[‪ -‬لوثورب ستودارد االمرييك ‪ –lothrob studdard‬حارض العامل اإلسالمي ‪ ،‬ترجمة عجاج نويهض ‪ ،‬بريوت‪،‬دار الفكر‪(1973 ،‬ط‪)4‬‬
‫املجلد االول ج‪ ،2‬ص‪.141-140‬‬
‫[[[‪ -‬لوثورب – حارض العامل اإلسالمي ص‪.91‬‬
‫[[[‪ -‬حبيب وداعة الحسناوي‪ ،‬عمر املختار نشأته وبيئته األوىل‪ .،‬ليبيا‪ ،‬جامعة الفاتح ص‪.22‬‬
‫[[[‪ -‬لوثورب – حارض العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪.‬عبد الله عبد الرزاق إبراهيم‪ ،‬املسلمون واالستعامر األورويب ألفريقية‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة الكويتية ‪ -139‬متوز ‪ ،189‬ص ‪223‬‬
‫وما بعدها‪ .‬بترصف‬
‫[[[‪ -‬د‪.‬الهام ذهني‪ ،‬جهاد املاملك اإلسالمية يف غرب أفريقيا ضد االستعامر الفرنيس (‪ ، )1914 -1850‬الرياض‪ ،‬دار املريخ للنرش‪،‬‬
‫‪ 1988‬ص‪.200‬‬

‫‪121‬‬
‫المحور‬

‫جميعاً رفضوا االستسالم‪ .‬فقد فضَّ لوا االستشهاد يف سبيل الله»[[[‪ .‬ومازالت شعوب غرب أفريقيا‬
‫اإلسالميَّة تدين للمجاهدين من أصحاب الطرق الصوفيَّة‪.‬‬
‫‪ .5‬الشيخ عثامن بن فودي (القادري) والحاج الشهيد عمر التكرويت[[[ الذي حمل معه الطريقة‬
‫التجانيَّة إىل غرب أفريقيا‪.‬‬
‫‪ .6‬البطل املراكيش األمري عبد الكريم الخطايب(‪1962-1881‬م)‪ :‬من أبرز شخص َّيات املغرب‬
‫البطوليَّة الذي كان عىل درجة كبرية من الشجاعة وال ُّزهد معاً‪ ،‬وقد اعتكف سنوات ع َّدة‪ ،‬أخذ نفسه‬
‫بالرياضة الروح َّية الخالصة حتى يصقل نفسه ويصفِّيها من شوائب الدنيا وأعراضها[[[‪ .‬ث َّم بدأ بعدها‬
‫مرحلة طويلة من الكفاح ض َّد االحتالل وخلَّف عددا ً كبريا ً من املريدين حملوا بعده راية الكفاح‬
‫حتى ت َّم قطف مثار جهادهم‪ .‬وال ننىس الدور الف َّعال الذي قامت به الدرقاويَّة إبَّان االستعامر‬
‫الفرنيس للمغرب[[[‪.‬‬
‫ويف الجزائر الحظ الخرباء الفرنسيون أ َّن زعامء حركة الجهاد التي تولَّت محاربتهم انطلقت‬
‫من الطُّرق الصوفيَّة وخصوصاً املرتكزة منها حول الزوايا التي كانت منذ قرون تعتني بالجهاد عند‬
‫الخطر‪ ،‬وتعتني بالعلم والتص ُّوف عند السلم‪ .‬ومن أبرز تلك الطُّرق يف القرن املايض القادريَّة‬
‫والرحامن َّية[[[‪ .‬وقد أنجبت األوىل كالًّ من‪:‬‬
‫‪ .7‬األمري عبد القادر الجزائري (‪1885-1807‬م)‪ :‬شيخ املجاهدين يف العرص الحديث فضالً عن‬
‫اإللهي»[[[ ‪ .‬وقد حارب الفرنسيني بال‬
‫ِّ‬ ‫كونه من كبار صوف َّية عرصه‪ ،‬فقد كان راسخ القَدم يف العلم‬
‫هوادة م َّدة سبعة وعرشين عاماً‪.‬‬
‫ين عام ‪1871‬م حتى‬ ‫‪ .8‬الشيخ عيل الحداد‪ :‬شيخ الطريقة الرحامن َّية والذي نارص ثورة املقرا ِّ‬
‫سيطرت عىل ثلثي الجزائر‪ ،‬واشرتك فيها نحو‪ 150‬ألفاً منهم ‪120‬ألفاً من اإلخوان الرحامن َّية»[[[‪.‬‬

‫‪ .9‬عبد الرحمن بن عبد القادر‪ :‬قام بثورة عام ‪1871‬م بعدما دخل الجزائر َّ‬
‫رسا ً لتخليصها من‬

‫[[[‪ -‬املسلمون واالستعامر األورويب ألفريق َية‪ ،‬ص‪.271‬‬


‫[[[‪ -‬املسلمون واالستعامر األورويب ألفريقية‪ ،‬ص‪.271‬‬
‫[[[‪ -‬محمد عبد املنعم املحامي ومحمد عبد الوارث الصويف‪ ،‬األمري عبد الكريم الخطايب بطل الشامل األفريقي‪ ،‬القاهرة املكتبة‬
‫العلمية( ط‪ ،1958 )1‬ص‪.88‬‬
‫‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.396‬‬
‫[[[‪ -‬لوثورب – حارض العامل اإلسالمي‬
‫[[[‪ -‬انترشت الطريقة الرحامنية يف الخمسينات من القرن املايض‪ ،‬ويعزى انتشارها إىل أنها كانت رد فعل لنشاط املبرشين بني القبائل‬
‫ونارصت الرحامنية ثورة أحمد املقراين انظر اإلسالم وحركات التحرر العربية ص‪.74‬‬
‫[[[‪ -‬عبد الرزاق البيطار(تويف ‪ 1335‬ه‪1916/‬م)‪ ،‬حلية البرش يف تاريخ القرن الثالث عرش‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد بهجة البيطار‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار‬
‫صادر (ط‪ ،1993)2‬ج‪ 2‬ص‪.883‬‬
‫[[[‪ -‬انظر د‪.‬شوقي أبو خليل‪ ،‬اإلسالم وحركات التحرر العربية‪ ،‬دمشق ‪ 1976‬دار الرشيد‪ (،‬ط‪ )1‬ص‪.85- 74‬‬

‫‪122‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫االستعامر‪ ،‬مغتنامً الحرب الفرنسيَّة األملانيَّة‪ ،‬وكان حافظاً للقرآن”[[[‪.‬‬


‫‪ .10‬العامل محمد أحمد املهدي (‪ :)1885-1843‬حارب اإلنكليز يف السودان‪ ،‬حفظ القرآن منذ‬
‫صغره‪ ،‬وبهرته من دون أترابه يف الدرس أنوار التص ُّوف‪ ،‬فأقبل عليها[[[ ‪ .‬يف عام ‪1881‬م أصدر فتواه‬
‫بإعالن الجهاد ض َّد الكفَّار واملستعمرين اإلنكليز‪ ،‬وأخذ يعمل عىل بسط نفوذه يف جميع أنحاء‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫غرب السودان[[[ ‪ .‬وقد متكَّن الثوار بقيادته من محارصة الخرطوم عام ‪1885‬م‪ ،‬وقتل حاكم السودان‬
‫اإلنكليزي (غوردن)[[[‪.‬‬
‫ِّ‬
‫‪ .11‬يف مرص‪ ،‬ظهر الزعيم أحمد عرايب (‪1911-1841‬م)‪ :‬نشأ يف بيئة صوف َّية‪ ،‬ويف ذلك يذكر‬
‫خلُ ِق ِه وشخص َّيت ِه‪.‬‬
‫عن أبيه أنَّه كان شيخاً جليالً عاملاً ورعاً[[[‪ .‬وكان لهذه النشأة أثر بعيد يف تكوين ُ‬
‫يف جاور يف األزهر عامني»[[[‪.‬‬
‫وقد جاء يف بعض الكتابات‪« :‬أحمد عرايب الحسيني مسلم صو ٌّ‬
‫‪ .12‬حسن العدوي ومحمد عليش‪ :‬كانا يف املجلس األعىل لقيادة الثورة ال ُعراب َّية‪ ،‬وكان األول‬
‫من أشهر خطباء الثورة‪ ،‬والثاين أمهر كتَّابها‪.‬‬
‫‪ .13‬املجاهد الشيخ محمود أبو عليان الشاذيل البصييل‪ :‬تلميذ الشيخني حسن العدوي ومحمد‬
‫عليش‪ ،‬وقد مأل الدنيا دعوة وجهادا ً[[[ ‪.‬‬
‫‪ .14‬الشيخ محمد القاياين‪ :‬من كبار الصوف َّية الذين ساهموا يف الثورة ال ُعراب َّية ‪ 16- .41‬أبو الوفاء‬
‫ين‪ ،‬من أعالم‬ ‫يف ال َّزاهد واإلمام والقطب الربا ُّ‬
‫الرشقاوي (‪1296‬هـ)‪ :‬هو اإلمام العارف بالله الصو ُّ‬
‫األزهر والصوف َّية يف مرص‪ ،‬ومن أبرز علامئها وشيوخها‪ .‬له مدرسة صوف َّية عظمى بدأت نشأتها يف‬
‫الصعيد‪ ،‬ث َّم ذاع صيتها يف مختلف األقطار‪ .‬كان أعالم العلامء يف عرصه يتوافدون عليه ملكانته‬
‫اإلسالمي يف عرصه‪ .‬علامً وعمالً وإرشادا ً‪،‬‬‫ِّ‬ ‫العلم َّية واألدب َّية‪ ،‬كام كان والده علامً من أعالم التص ُّوف‬
‫وله فيه مؤلَّفات قيمة وقصائد ممتعة‪ .‬وكان للتص ُّوف يف نفسه بحكم نشأته أث ٌر ظاه ٌر يف أخالقه‬
‫الروحي وإرشاده‪ .‬وقد جمع بني الرتبيتني وأحرز‪ .‬وأق َّر له بالفضل والسبق يف العلوم‬ ‫ِّ‬ ‫وتربيته وسم ِّوه‬
‫واملعارف‪ ،‬وأدب النفس‪ ،‬وعل ِّو املدارك شيوخ اإلسالم وجهابذة العلامء باألزهر وغريه ‪.‬‬

‫[[[‪ -‬السابق ص‪.85‬‬


‫[[[‪ -‬محمد أحمد املهدي‪ ،‬توفيق أحمد البكري(تويف‪1386‬ه‪1966/‬م)‪ ،‬سلسلة أعالم اإلسالم‪ -‬القاهرة ‪ 1944‬مطبعة مصطفى البايب‬
‫الحلبي‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬الدعوة املهديَّة‪ ،‬الندوة العامل َّية لشباب العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫‪http://www.almwsoaa.com/Forum/showthread.php?t=4423‬‬
‫[[[‪ -‬البيطار‪ ،‬حلية البرش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.801‬‬
‫[[[‪ -‬محمود محمود الخفيف‪ ،‬أحمد عرايب الزعيم املفرتى عليه (تويف‪1431‬ه‪2010/‬م) ‪ ،‬مرص مطبعة الرسالة ‪( ،1947‬ط‪ ،)1‬ص‪.3‬‬
‫[[[‪ -‬د‪.‬شوقي أبو خليل‪ ،‬اإلسالم وحركات التحرر العربية‪ ،‬ص‪ 42‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املسلم» مجلة العشرية» املحمدية‪ ،‬السنة‪ ، 6‬عدد‪10 1375 ،4‬حزيران ‪1956‬م‪ .‬وانظر عدد‪21‬توز ‪1955‬م ‪،‬ص‪ ،7‬وانظر حركات‬
‫التحرر العربية‪ ،‬ص‪46‬‬

‫‪123‬‬
‫المحور‬

‫كان الرشقاوي مهموماً بقضايا أ َّمته مشغوالً بواقعها‪« ،‬ويظهر ذلك من مواقفه الوطنيَّة املعارضة‬
‫الفرنيس‪ ،‬وانشغاله يف صدر شبابه باألحداث الكربى‪ ،‬يف العامل كالحرب العامليَّة‬ ‫ِّ‬ ‫لالستعامر‬
‫املرصي سعد زغلول حني‬‫ُّ‬ ‫األوىل‪ ،‬وتأييده للحركات التح ُّرريَّة يف مرص‪ .‬فقد استضاف الزعيم‬
‫زار الصعيد يف رحلة جهاد كانت الحكومة ال تنظر إليها آنذاك بعني الرضا‪ ،‬بل كانت تدبِّر املكائد‬
‫إلفشالها‪ ،‬فإذا به يتح َّدى رغبتها‪ ،‬ويقف بجانب ثورة ‪1919‬م معلناً عن تأييده الكامل لزغلول زعيم‬
‫التح ُّرر‪.‬‬
‫الرشقاوي بواقع مرص يف قصيدة همزيَّة رصيحة تقول‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫وقد ظهر اهتامم‬

‫ال م َّيتون وال ُه ُم أحيا ُء‬ ‫أشال ُء‬ ‫وأ َّمة‬ ‫أفمسلمو َن‬

‫برا ُء‬ ‫لقو ُه‬ ‫مم‬


‫َّ‬ ‫ومحمد‬ ‫يهنون واإلسال ُم أرشف منزالً‬

‫وبال ُء‬ ‫مع َّر ٌة‬ ‫عليه‬ ‫و ُه ُم‬ ‫قد أثقلوا اإلسال َم عن وث َبات ِه‬

‫وبكل قط ٍر منه ُم غوغا ُء‬


‫ِّ‬ ‫كل ده ٍر سقط ٌة ُعرِفت لهم‬
‫يف ِّ‬

‫يلحق بها إعيا ُء‬


‫ْ‬ ‫ِ‬
‫األرض مل‬ ‫يف‬ ‫داست ُه ُم أم ٌم تج ُّد إىل ال ُعال‬

‫ضِبت عليهم ذلَّ ٌة وشقا ُء‬


‫ُ‬ ‫و ُه ُم إذا قرع العصا ذو مطمعٍ‬

‫يفعل الجبنا ُء‬


‫ُ‬ ‫سقطوا كذلك‬ ‫مسته ُم ي ٌد‬
‫غاصب أو كلَّام ّ‬
‫ٌ‬

‫ِمن سابقيهم غَري ٌة وإبا ُء‬ ‫يس يف أعراقه ْم‬


‫فكأنَّهم مل ْ ِ‬

‫قو ٌم ببذ ِل نفوسهم بُخال ُء‬ ‫ِ‬


‫مبجدهم وحياتِهم‬ ‫ال يَظ ِفر َّن‬

‫منهم وهم زعموا لها أبنا ُء‬ ‫ِ‬


‫وأرضها‬ ‫رص‬
‫ومبص قو ٌم يا مل َ‬
‫َ‬

‫قد كان خريا ً منه ُم األعدا ُء‬ ‫وربا‬


‫َّ‬ ‫الصديق‬
‫َ‬ ‫ثوب‬
‫َ‬ ‫لبسوا لها‬

‫تعبأْ وترف ْع رأسها الرؤسا ُء‬ ‫أكف الطامعني بها فل ْم‬


‫ُّ‬ ‫عبثت‬

‫رص أولئك العقال ُء‬


‫فليهن م َ‬ ‫رص عقولُهم‬
‫أنهته ُم عن ب ِّر م َ‬

‫‪124‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫بطريقِ حفظ كيانهم جهال ُء‬ ‫ني علومهم شيئاً وهم‬


‫ال تُغن َّ‬

‫بني األنام سياد ٌة وعال ُء‬ ‫فالعل ُم ح َّقاً علم ما يُبنى به‬

‫يبق فيكم للبال ِء رجا ُء‬


‫مل َ‬ ‫أبناؤها‬ ‫وأنت ُم‬ ‫رص‪،‬‬
‫م َ‬ ‫أ ُوال َة‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫فلنو ُم عافي ٍة لكم وهنا ُء‬ ‫الخطب الجسيم ومنت ُم‬


‫َ‬ ‫أغريت ُم‬

‫ها أنت ُم بي ٌع بكم ورشا ُء‬ ‫وتُشرتى‬ ‫تُباع‬ ‫أمامً‬ ‫أرأيت ُم‬

‫جه للنامئني قائالً‪:‬‬


‫الرشقاوي املدى حني يتو َّ‬
‫ِّ‬ ‫ث َّم تبلغ سخرية‬

‫رص َذ َما ُء‬


‫رمقاً وهل باقٍ مب َ‬ ‫خونوا بال َدكُ ُم وال ت ُبقوا بها‬

‫تشقى به األوطا ُن واألرجا ُء‬ ‫الشعوب ومثلكم‬


‫ُ‬ ‫فبمثلِكم ت ُخزى‬

‫اجتامعي الذع يحيك خاللها مرارة واقع مرص‪ ،‬وتهاون أهل البالد يف‬
‫ٍّ‬ ‫وله أيضاً قصائد نقد‬
‫حقوقها عليهم‪ ،‬منها قوله‪:‬‬

‫معيشتُهم ضنىك وعيشُ هم م ُّر‬ ‫رص‪ -‬أهله‬


‫قد أصبح اإلسالم – يا م َ‬

‫رت‬
‫كام تأكل األنعام تغذَى وتج ُّ‬ ‫وما العيش أن تحيا عىل الهون آكالً‬

‫إذا حاطها بالسؤ َد ِد املج ُد والفخ ُر‬ ‫ولك َّنام العيش الحياة عىل هدى‬

‫هذا هو أبو الوفاء الرشقاوي الذي مل يكن إالَّ جنديَّاً تح ُّرريَّاً يقف إىل جوار إخوانه من األحرار‬
‫ُّ‬
‫والذل لنفسه وبني‬ ‫ين[[[ ‪ ،‬ومصلحاً اجتامع َّياً‪ ،‬يأىب الضيم‬ ‫للذَّود عن مرص ومقارعاً االستعامر الربيطا ِّ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫‪ - 17‬محمد عبد الله حسن الجربيت[[[‪ :‬حني نذكر الصومال ال بد لنا من ذكر هذا العامل الصويف‪،‬‬
‫املجاهد إذ كان مع جامعته التي اشتهرت بالدراويش (‪ ، )daraawiish‬وهو من أبرز املناضلني‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬يوسف زيدان‪ ،‬شعراء الصوف َّية املجهولون ‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل ‪1996 ،‬م ‪(،‬ط‪ ،)2‬ص‪.115-113‬‬
‫[[[‪ -‬لالطِّالع عىل مواقف هذا القائد وجهاده ودوره يف جهاد اإلنكليز واإليطاليني والفرنسيني‪ .‬انظر موقع املعرفة‬
‫‪http://www.marefa.org/index.php‬‬

‫‪125‬‬
‫المحور‬

‫جلها التاريخ‪ ،‬وبذلوا النفس والنفيس‪ ،‬وهو عامل من‬ ‫الذين تح ُّدوا الغزاة وأذاقوهم دروساً س َّ‬
‫يل وتح ِّدياته‬
‫علامء الطُّرق الصوفيَّة الصوماليَّة وأثره ناطق يف نرش الدين يف ربوع املجتمع الصوما ِّ‬
‫الخارج َّية ملؤامرات املستعمرين‪ .‬ورغم قلَّة املوارد آنذاك فقد بادر بالتص ِّدي للمستعمر هو وطلبة‬
‫جار‪ ،‬وكان من أبرز قادة حركة التحرير الصومال َّية وهو من‬ ‫العلم وعلامء الطُّرق الصوف َّية وبعض الت َّ‬
‫أبناء مشايخ الطُّرق الصوفيَّة الصوماليَّة‪.‬‬
‫اإلنكليزي‪ ،‬قوله‪ »:‬لن تحصلوا‬
‫ِّ‬ ‫جهة إىل الربملان‬
‫ومن خطابات الجربيت ورسائله املشهورة املو َّ‬
‫منا إالَّ عىل الحرب ال غري‪ ...‬نحن قوم ال نسمح للكفَّار أن يحتلُّوا بالدنا أو يحكموها‪ ،‬وال نتكاتف‬
‫نذل قوانني الرشيعة وأحكامها‪ ،‬وال نجعلها‬‫عىل ذلك مع املستعمرين ال بعوض وال بتهديد ‪ ...‬وال ُّ‬
‫خاضعة لقوانني الكفرة وأحكامها الطاغوت َّية‪ ،‬بل نعلن حربنا عىل ال ُّزعامء وعىل الذين يسمحون‬
‫لهم بدخول بالدنا واستعامرها‪ ...‬ونوجه لومنا للعلامء والقضاة الذين يهينون رشيعتنا اإلسالم َّية‬
‫ويجعلونها تحت أقدام الكفرة الفجرة»‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪« :‬نحن قوم ال يخضعون ألعداء دينهم ووطنهم ولو كرثت جنودهم‪ ،‬وتتابعت‬
‫هجامتهم‪ ،‬وتن َّوعت آالتهم املهلكات‪ ،‬واشت َّدت وطأتهم علينا‪ ،‬وانض َّمت إىل صفوفهم أكرثيَّة‬
‫الوطنيَّة الصوماليَّة‪ ،‬وآخرون من املستخدمني األجانب‪ ،‬ألنَّنا نريد بأموالنا وأنفسنا الج َّنة من الله‬
‫تعاىل‪ ،‬وأن نط ِّهر بتضحيتنا يف الجهاد وصدق إمياننا وإسالمنا‪.‬‬
‫وقد قال فيه روبرت هس( (‪ R.l.hess‬أستاذ التاريخ املشارك يف جامعة «شيكاغو«‪« :‬كان وطنيَّاً‬
‫والديني الذي عرفه‬
‫ِّ‬ ‫السيايس‬
‫ِّ‬ ‫فريد الطراز يف عرصه‪ ،‬شاعرا ً عظيامً‪ ،‬وزعيامً لشعبه يف إطار التط ُّور‬
‫يل يف األزمنة الحديثة‪ .‬فأمام قوى كربى ثالث (بريطانيا‪ ،‬إيطاليا‪ ،‬الحبشة)‪ ،‬واجه محمد‬ ‫الصوما ُّ‬
‫عبد الله بعدائها السافر‪ ،‬وبقدر ضئيل من األسلحة األوروب َّية مع ضعف االت ِّصال باملدن الساحل َّية‬
‫ولفرتة تزيد عىل عقدين من الزمان مل يتمكَّن فحسب من مضايقة الربيطانيني‪...‬بل أحرز ض َّدهم‬
‫وبانتظام انتصارات حربيَّة وسياسيَّة وأيضاً دبلوماسيَّة»‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فالصوف َّية قدمياً وحديثاً مل يتوانوا عن اإلصالح والدعوة إىل مقاومة االستعامر‪.‬‬
‫اإلسالمي بعد سقوط بغداد عاصمة‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬قدمياً‪ :‬كان الصوف َّية «وراء تأهيل املرصيني لزعامة العامل‬
‫الخالفة‪ ،‬وبتأييدهم وحشود مريديهم ومح ِّبيهم انترص املسلمون عىل الصليبيني يف حطِّني ويف‬
‫دمياط ويف املنصورة‪ ،‬وانترصوا عىل التَّتار يف عني جالوت‪ .‬وتذكر األبحاث التاريخيَّة أ َّن الشيخ‬
‫الرشقاوي شيخ الطريقة الشاذل َّية‪ ،‬والشيخ‬
‫ِّ‬ ‫الدرديري شيخ الطريقة الخلوت َّية والشيخ عبدالله‬
‫َّ‬ ‫أحمد‬
‫السنباطي‪ ،‬وكل هؤالء‪ ،‬هم صوفيون تركوا تاريخاً‬
‫َّ‬ ‫السادات‪ ،‬والشيخ عمر مكرم‪ ،‬والشيخ أحمد بن‬
‫مرشفَّاً ما زال املسلمون يفخرون به‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫يل يف‬ ‫‪-‬حديثاً‪ :‬السنوسيَّة هي الطريقة التي كافحت الجهل والفوىض‪ ،‬وجاهدت االستعامر اإليطا َّ‬
‫السنويس حفيد شيخ الطريقة السنوسيَّة حياته‬
‫ُّ‬ ‫ليبيا جهادا ً شديدا ً‪ .‬وقد قىض الشيخ الرشيف أحمد‬
‫الفاشستي ورئيس الدولة اإليطال َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف الكفاح ض َّده‪ ،‬وأزعج (الدويتش موسيليني) زعيم الحزب‬
‫وجهاده هذا يعترب من أيام البطوالت الخالدة يف تاريخنا املعارص‪ ،‬ويكفي طريقته املجاهدة فخرا ً‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أن الشيخ عمر املختار هو أحد رجاالتها‪ ،‬ومن كبار مق َّدميها‪ ،‬ومن أخلص التالميذ لقائد الجهاد‬
‫األعىل الشيخ الرشيف أحمد ابن السنويس»[[[ ‪.‬‬
‫جلوا بحروف من نور أمجادا ً وبطوالت‬ ‫ومث َّة الكثري من املجاهدين ال يتَّسع املجال لذكرهم‪ ،‬س َّ‬
‫ال ب َّد لألجيال من أن تعيها‪ .‬ويعود الفضل األول يف تكوين هذه الفئات إىل املدرسة الروحيَّة‬
‫الخالدة التي أنجبت ال ُق َّواد العظامء أمثال نور الدين‪ ،‬وصالح الدين‪ ،‬والظاهر بيربس‪ ،‬وعبد القادر‬
‫يب‪ ،‬والذين كانوا جميعاً مناذج رائعة من التج ُّرد‬
‫الجزائري‪ ،‬وعمر املختار‪ ،‬وعبد الكريم الخطا ِّ‬
‫واإلخالص‪ .‬فهم ورثة النامذج من السلف الصالح من أمثال خالد بن الوليد‪ ،‬وأيب عبيدة عامر بن‬
‫الجراح‪ ،‬وسعد بن أيب وقَّاص وسواهم‪.‬‬
‫يف ختام هذا البحث نخلص إىل معرفة دور علامء الصوف َّية يف حركات اإلصالح والتح ُّرر‬
‫املعارصة‪ ،‬والتي كانوا فيها الطالئع واملبادرين كونهم ميلكون طاقات علميَّة‪ ،‬فعملوا مبا علموا‪،‬‬
‫حساً ومعنى‪ ،‬مام جعل إقدامهم إقدام األبطال‪ ،‬إقدام املشتاقني إىل لقاء ربِّهم‬ ‫وجسدوا اإلسالم َّ‬ ‫َّ‬
‫طالبني الشهادة الخالية من الشوائب‪ .‬فكام أنَّهم شاركوا يف الدفاع عن األ َّمة ومجدها‪ ،‬كان لهم‬
‫ِّ‬
‫بالذل والعار ولو للحظة‪ ،‬وق َّدموا مناذج‬ ‫الدور الف َّعال يف توجيه أبناء األ َّمة وتزكيتهم‪ ،‬فلم يرضوا‬
‫قلَّام نسمع عنها يف التاريخ إالَّ من كان عىل شاكلتهم‪ .‬كام أ َّن علامءهم مل يركنوا إىل الراحة حتى‬
‫بعد جالء املستعمر عن ديار اإلسالم‪ ،‬بل عادوا إىل العلم والتعليم‪ ،‬وتربية النفوس عىل الخري‪،‬‬
‫االجتامعي واملشاركة‬
‫ِّ‬ ‫وكم رأينا يف هذا البحث من مشاركة علامء التص ُّوف يف تب ِّني اإلصالح‬
‫املجتمع َّية‪.‬‬
‫وبهذا نخلص إىل حقائق موث َّقة بأنَّهم كانوا فاعلني ومنفعلني مع مجتمعاتهم‪ ،‬مل ينعزلوا عنه‬
‫وكل مسلم‬ ‫إالَّ فرتة التزكية‪ ،‬وهي س َّنة الرسول‪ ،‬فكم كان يهجر أهله ليذكر الله يف غار حراء‪ُّ ،‬‬
‫يحتاج إىل مثل هذه الخلوة ليعود منها مسلامً قويَّاً ال تأخذه الدنيا ببهرجها‪ ،‬يعود متخلِّياً عن أوصافه‬
‫الذميمة‪ ،‬متحلِّياً بأخالقه الحميدة‪ ،‬يعود قرآناً مييش عىل األرض‪ ،‬متمسكاً بدينه‪ ،‬مطبِّقاً لس َّنة نبيِّه‪.‬‬

‫ومن الحقائق التي نخلص إليها أ َّن علامء الصوف َّية تن َّبهوا ملقاصد أعداء الدين‪ ،‬يف هدم الركن‬

‫[[[‪ -‬دكتور عمر مسعود التجان‪ ،‬دور الصوف َّية يف مقاومة االستعامر يف أفريقيا‬
‫‪http://www.mubarak-inst.org/stud_reas/research_view.php?id=139‬‬

‫‪127‬‬
‫المحور‬

‫يتجسد إالَّ به‪ ،‬وال يتحقَّق مقصوده إالَّ من خالله‪ .‬ونجد غريهم م َّمن‬
‫َّ‬ ‫الروحي لإلسالم‪ ،‬والذي ال‬
‫ِّ‬
‫كل ما يبثُّه االستعامر من‬
‫رسب املرض إىل نفوسهم حتى أخذوا يص ِّدقون َّ‬
‫سلك غري طريقهم كيف ت َّ‬
‫دعوات زائفة‪ ،‬كالح ِّريَّة‪ ،‬والدميقراط َّية‪ ،‬والح ِّريَّات الدين َّية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫بكل ما‬
‫ومل يتوقَّف األمر عند أعداء اإلسالم‪ ،‬بل تع َّداه إىل بعض املسلمني الذين يشكِّكون ِّ‬
‫ق َّدمه علامء الصوف َّية‪ ،‬ويش ِّوهون التص ُّوف بر َّمته‪ ،‬بتص ُّيدهم ألخطاء أدعياء التص ُّوف‪ ،‬فام أنصفوا وال‬
‫نطقوا بالحقيقة‪ ،‬معتمدين عىل ما دراسات املسترشقني؛ الذين وصفوا التص ُّوف بأنَّه قوقعة بالزوايا‬
‫كل جهدهم ونضالهم‪ ،‬ومل يأخذوه من منابعه األصل َّية‬
‫والتكايا‪ ،‬وخمول وانهزام واستسالم‪ ،‬وأنكروا َّ‬
‫وعلامء الصوف َّية عىل أنَّه ه َّمة وبأس وصمود وصرب ورجولة‪ ،‬وهم رهبان الليل وفرسان النهار‪،‬‬
‫جاهدوا أنفسهم‪ ،‬لرتتقي إىل أعىل ما ترتقي إليه النفس اإلنسان َّية من قيم عليا‪ ،‬متَّبعني بذلك س َّنة‬
‫محمد‪ ،‬ومقتدين بأصحابه‪.‬‬

‫ومن الحقائق التي نستخلصها أيضاً أ َّن علامء الصوف َّية هم من دحروا األعداء وسطَّروا أروع آيات‬
‫النرص والجهاد بإميان ويقني ال يربحهم البتَّة حتى يحصلوا عىل إحدى الحسنيني‪ ،‬ولوالهم لبقيت‬
‫الصليبي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫ديار اإلسالم خاضعة ترزح تحت نري االحتالل‬

‫ال ريب يف أ َّن ما أثبتناه غيض من فيض علامء الصوفيَّة‪ ،‬فقد اكتفى الباحث بذكر مناذج من‬
‫علامئنا املشهورين وبعض املغمورين‪ ،‬ولكن القامئة طويلة والعدد كبري ال يستوعبه هذا البحث‬
‫وليس هذا مجاله‪.‬‬

‫حق هؤالء األعالم‪ ،‬وأخفوا ودورهم‬


‫والحقيقة األخرى هي أ َّن املؤ ِّرخني لهذا العرص قد صادروا َّ‬
‫يف مقاومة االحتالل‪ ،‬وإصالح املجتمع‪ .‬ناهيك بغمزهم وملزهم ووصفهم بالسلبيني والقدريَّة‬
‫املتواكلني‪ ،‬وكأنَّهم مل يطَّلعوا عىل الحقائق التاريخيَّة‪ ،‬ومل ينسبوا لإلسالم إالَّ إرهاباً وتخريباً‪ ،‬فقلبوا‬
‫وحسنوا القبيح‪ ،‬وق َّبحوا الحسن‪« .‬فمدحوا الحركات املناوئة لإلسالم والتي ألحقت به‬
‫َّ‬ ‫املوازين‪،‬‬
‫أبلغ الرضر يف عرصه األول كحركة القرامطة والباطن َّية والخرم َّية البابك َّية‪...‬ير ِّددون شعارات ب َّراقة‬
‫ظاهرها رحمة وباطنها فيه العذاب‪« :‬التحليل العلمي‪« ،‬إعادة كتابة التاريخ»‪ ،‬الدراسة املوضوع َّية‬
‫العلمي الشعوبيَّة الحاقدة منارات هدى يف تاريخنا»[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املنهجيَّة»‪ ،‬فجعلوا باسم التحليل‬

‫وعليه‪ ،‬يجب إعادة النظر يف تدوين تاريخنا‪ ،‬هذا التاريخ الذي كتبه أعداء اإلسالم ودعاة‬

‫[[[‪ -‬انظر شوقي أبو خليل «الحركات اإلسالميَّة املعارصة»‪ ،‬ص ‪ 8‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫الصليبي الحاقد[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫التق ُّدميَّة املمزوجة بروح االسترشاق الغر ِّ‬
‫وال ننىس يف هذا املجال ما كتبه مؤ ِّرخو الحركات اإلسالميَّة املخلصني لدينهم‪ ،‬فبذلوا الجهد‬
‫الفردي يف بيان الحقيقة التاريخ َّية إلنصاف العلامء العاملني من رجال الثورة واملقاومة»[[[‪ .‬وهذا‬
‫َّ‬
‫يتطلب تضافر الجهود يف إعادة كتابة تاريخ علامئنا‪ ،‬وبيان دورهم يف حركات التح ُّرر املعارصة يف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ِ‬
‫املنصفني الذين بثُّوا التاريخ يف ثنايا كتبهم‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ويتحقَّق ذلك بالرجوع إىل املؤ ِّرخني‬
‫ّْ‬ ‫العامل‬
‫وترجامتهم ألنَّها تُرتجم عن واقع مشاهد ُمعاش‪ ،‬ما كتبه التالميذ عن مشايخهم‪ ،‬وما عشناه نحن‬
‫كل هذه االنتصارات‬
‫املعارصين من مقاومة رمبا ما زلنا نشاهدها يف عاملنا املعارص‪ .‬فقد تُحال ُّ‬
‫إىل من كان مختبئاً يف جحره‪ ،‬بفعل السلطة أو املال أو الحزب َّية‪...‬‬

‫وأخريا ً‪ ،‬أرجو أن أكون قد ق َّدمت مناذج من علامئنا تعيدنا إىل مجدنا‪ ،‬وتذكِّرنا بتاريخنا ليكونوا‬
‫القدوة لبناء جيل النرص والتمكني‪ ،‬فعىس أن يظهر جيل صالح الدين الذي اقتدى هو ونور الدين‬
‫بالعلامء العاملني ومبدرسة اإلمام الغزايل علامً وعمالً‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إنَّهم مناذج صدقوا مع الله فص َّدقهم‪ ،‬وال يكون النرص إالَّ مبا انترصوا به‪ ،‬والذي أرجوه أالَّ‬
‫تصبح هذه النامذج تراثاً نتغ َّنى به‪ ،‬بل لتكن دافعاً للقدوة بعلامئنا‪َّ ،‬‬
‫لعل الله سبحانه وتعاىل يبعث‬
‫ويجل بعضنا بعضاً بعيدين عن تكفري املسلمني والتط ُّرف وقبول اآلخر‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫روح هذه األ َّمة من جديد‪،‬‬
‫وإيصال رسالة اإلسالم كام أرادها الشارع سبحانه وتعاىل‪ ،‬نجتمع وال نختلف‪ ،‬نتحاور وال نتشاجر‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ْ َ َ ْ َ َّ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اس َو َم ْن َيف َعل‬ ‫الن ِ‬ ‫اح بين‬ ‫وف أو إِصل ٍ‬ ‫ير مِن نج َواهم إِلا من أم َر بِصدق ٍة أو مع ُر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬لا خيْ َر ف ِي كث ِ‬
‫َ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ً َ ً َ َ ْ ُ َ ْ َّ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ‬
‫الر ُسول م ِْن َبع ِد َما تبَ ّي َن ل ُه ال ُه َدى‬ ‫اء َم ْرضاة ِ اللِ فسوف نؤتِيهِ أجرا ع ِظيما ومن يشاق ِق‬ ‫ذل ِك ابتِغ‬
‫َ ََّ ََ َ ْ‬‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َو َي ّتَب ْع َغيْ َر َ‬
‫ت َم ِص ً‬
‫يرا‪. [[[‬‬ ‫ِين ن َولِهِ َما ت َول َونصلِهِ جهنم وساء‬ ‫يل المؤ ِمن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِ‬

‫[[[‪ -‬انظر املؤامرة عىل تاريخنا يف مقدِّمة كتاب محمد جالل كشك»ودخلت الخيل األزهر»(ط‪1990)3‬م‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الزهراء لإلعالم‬
‫العريب‪ ،‬ص‪.15 -10:‬‬
‫[[[‪ -‬انظر املصادر واملراجع لالطِّالع عىل هذه املؤلَّفات الق ِّيمة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء‪ ،‬اآليتان ‪.115-114‬‬

‫‪129‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪2.2‬فقد كانت زاوية (مستغانم) أعظم مراكز االستخبارات الفرنسية بالنسبة للمغرب‬

‫‪3.3‬أبو نرص عبد الله بن عيل الرساج الطويس (تويف‪387‬ه‪997/‬م )‪ ،‬اللُمع‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪.‬عبد الحليم محمود وطه‬

‫عبد الباقي رسور‪ ،‬مرص‪ ،‬دار الكتب الحديثة‪ ،‬د ط ‪.1960 ،‬‬

‫‪4.4‬إحسان الهي ظهري (تويف ‪1407‬هـ‪1987/‬م) دراسات يف التص ُّوف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار اإلمام املجدد‪(2005،‬ط‪)1‬‬

‫‪ ،‬وانظر إحسان الهي ظهري‪ ،‬التص ُّوف املنشأ واملصدر‪ ،‬باكستان‪ ،‬الهور‪(1986،‬ط‪ ،)1‬ويف هذين الكتابني يشدد‬

‫النكري عىل التصوف وينسفه نسفاً‪.‬‬

‫‪5.5‬أحمد بن محمد بن عيىس الربنيس املغريب (تويف ‪ 846‬هـ ‪1442/‬م) قواعد التصوف‪ ،‬تعليق وضبط‪،‬‬

‫الشيخ إبراهيم اليعقويب‪ ،‬دمشق‪ ،‬مطبعة املالح‪(،1968 ،‬د‪.‬ط)‪.‬‬

‫‪6.6‬أحمد سالم‪ ،‬الصوفية والجهاد‪ ،‬أعامل ملتقى التص ُّوف اإلسالمي العاملي‪ ،‬طرابلس‪ ،‬الجامهرييَّة العظمى‪،‬‬

‫جمع َّية الدعوة اإلسالم َّية العامل َّية‪1995 ،‬م(ط‪.)1‬‬

‫‪7.7‬أحمد شهاب الدين الزوي‪ ،‬سلطان األولياء الجيالين ‪ ،‬طرابلس‪ ،‬منشورات زاوية سيدي نرص د‪ -‬ت ‪.‬‬

‫عم اشتهر من‬


‫‪8.8‬إسامعيل بن محمد العجلوين‪( ،‬تويف‪1162‬ه‪1748/‬م)‪ ،‬كشف الخفاء ومزيل اإللباس َّ‬

‫األحاديث عىل ألسنة الناس‪ ،‬أرشف عىل طبعه وتصحيحه والتعليق عليه أحمد القالش‪ ،‬بريوت‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬

‫‪(1197‬ط‪ ،)7‬ج‪.1‬‬

‫‪ 9.9‬انترشت الطريقة الرحامنية يف الخمسينات من القرن املايض‪ ،‬ويعزى انتشارها إىل أنها كانت رد فعل‬

‫لنشاط املبرشين بني القبائل ونارصت الرحامنية ثورة أحمد املقراين انظر اإلسالم وحركات التحرر العربية ص‪.74‬‬

‫‪1010‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬الجهاد باب ‪ ،5‬حديث رقم (‪.)2794‬‬

‫‪1111‬البيطار‪ ،‬حلية البرش‪ ،‬ج‪.2‬‬

‫‪ 1212‬حبيب وداعة الحسناوي‪ ،‬عمر املختار نشأته وبيئته األوىل‪ .،‬ليبيا‪ ،‬جامعة الفاتح‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫‪1313‬حمدان بن عثامن خوجة (تويف‪1255‬هـ‪1840/‬م)‪ ،‬املرآة ‪ ،‬تقديم وتحقيق وتعريب د‪ .‬محمد العريب‬

‫الزبريي‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الرشكة الوطنية للنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪.2‬‬

‫‪1414‬حمدان خوجة‪ ،‬املرآة‪ ،‬هذا التقرير أصدرته املفتشية العامة وحرر بالجزائر سنة ‪.1864‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪1515‬الدعوة املهديَّة‪ ،‬الندوة العامل َّية لشباب العامل اإلسالمي‪.http://www.almwsoaa .‬‬

‫‪com/Forum/showthread.php?t=4423‬‬

‫‪http://www.mubarak-‬‬ ‫‪1616‬دكتور عمر مسعود التجان‪ ،‬دور الصوف َّية يف مقاومة االستعامر يف أفريقيا‬

‫‪inst.org/stud_reas/research_view.php?id=139‬‬

‫‪1717‬رسالة عامن»بيان مفصل أصدره صاحب الجاللة امللك عبد الله الثاين ‪http://www.ammanmessage.‬‬

‫‪com/index.php?lang=ar‬‬

‫‪ 1818‬شمس الدين العجالين‪ ،‬مقالة يف ذكرى معركة ميسلون‪ ،‬موقع أدباء الشام‬

‫‪http://www.odabasham.net/show.php?sid=36912‬‬

‫‪1919‬شوقي أبو خليل «الحركات اإلسالم َّية املعارصة»‪.‬‬

‫‪2020‬شوقي أبو خليل‪ ،‬اإلسالم وحركات التحرر العربية‪.‬‬

‫‪2121‬شوقي أبو خليل‪ ،‬اإلسالم وحركات التحرر العربية‪ ،‬دمشق ‪ 1976‬دار الرشيد‪ (،‬ط‪. )1‬‬

‫‪ 2222‬عبد الرزاق البيطار(تويف ‪ 1335‬هـ‪1916/‬م)‪ ،‬حلية البرش يف تاريخ القرن الثالث عرش‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد‬

‫بهجة البيطار‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر (ط‪ ،1993)2‬ج‪. 2‬‬

‫‪ 2323‬عبد الكريم غرايبة‪ ،‬دراسات يف تاريخ أفريقية العربية‪ ،‬مطبعة جامعة دمشق ‪ (1960‬ط‪.)1‬‬

‫‪2424‬عبد الله عبد الرزاق إبراهيم‪ ،‬املسلمون واالستعامر األورويب ألفريقية‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة الكويتية‬

‫‪ 139-‬متوز ‪.189‬‬

‫‪2525‬عبد املنعم قاسمي الحسني‪ ،‬دور الطرقية يف مقاومة االستعامر الفرنيس‪،‬‬

‫‪131‬‬
‫المحور‬

‫‪http://aljazeeratalk.net/forum/showthread.php?t=254355‬‬

‫‪ 2626‬لإلطالع عىل دور املدارس الصوفية يف مقاومة املحتل واإلصالح أنظر الدكتور ماجد عرسان الكيالين‪،‬‬

‫هكذا ظهر جيل صالح الدين وهكذا عادت القدس‪ ،‬اإلمارات العربية املتحدة‪ ،‬ديب‪ ،‬دار القلم‪( 2009 ،‬ط‪.)2‬‬

‫‪ 2727‬لالطِّالع عىل مواقف هذا القائد وجهاده ودوره يف جهاد اإلنكليز واإليطاليني والفرنسيني‪ .‬انظر موقع‬

‫املعرفة ‪http://www.marefa.org/index.php‬‬

‫‪ 2828‬لوثورب ستودارد االمرييك ‪ –lothrob studdard‬حارض العامل اإلسالمي‪ ،‬ترجمة عجاج نويهض‪،‬‬

‫بريوت‪ ،‬دار الفكر‪(1973 ،‬ط‪ )4‬املجلد االول ج‪.2‬‬

‫‪2929‬محمد أحمد املهدي‪ ،‬توفيق أحمد البكري(تويف‪1386‬ه‪1966/‬م)‪ ،‬سلسلة أعالم اإلسالم‪ -‬القاهرة ‪1944‬‬

‫مطبعة مصطفى البايب الحلبي‪.‬‬

‫‪3030‬محمد العريب الزبريي‪ ،‬تاريــخ الجزائـــر املعاصــر (‪ ، )1962-1954‬ج‪ ،2‬منشورات اتحاد الكتاب‬

‫العرب ‪1999‬م ‪.‬‬

‫‪3131‬محمد بن محمد بن مخلوف تنقيح روضة األزهار‪ ،‬طرابلس‪ ،‬مكتبة الطلبة والطالبات‪.‬‬

‫‪3232‬محمد عبد املنعم املحامي ومحمد عبد الوارث الصويف‪ ،‬األمري عبد الكريم الخطايب بطل الشامل‬

‫األفريقي‪ ،‬القاهرة املكتبة العلمية( ط‪.1958 )1‬‬

‫‪3333‬محمد عبدالله بن أسعد اليافعي‪ ،‬نرش املحاسن الغالية يف فضل املشايخ الصوفية أصحاب املقامات‬

‫العالية امللقب كتابه كفاية املعتقد ونكاية املنتقد(‪768‬هـ‪1366/‬م)‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم عطوة عوض‪ ،‬مرص‪ ،‬مطبعة‬

‫مصطفى البايب الحلبي‪(،1961،‬ط‪ )1‬كتاب يسلط الضوء عىل الفرق بني أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪.‬‬

‫‪3434‬محمد فهر شقفه‪ ،‬تويف(‪1431‬هـ ‪2010/‬م)» التصوف بني الحق والحقيقة»‪(1970،‬ط‪ .)2‬وعبد الرحمن‬

‫الوكيل‪( ،‬تويف ‪1390‬هـ ‪1971/‬م)‪ ،‬هذه هي الصوفية»‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪(1979،‬ط‪.)3‬‬

‫‪3535‬محمود محمود الخفيف‪ ،‬أحمد عرايب الزعيم املفرتى عليه (تويف‪1431‬ه‪2010/‬م) ‪ ،‬مرص مطبعة الرسالة‬

‫‪( ،1947‬ط‪.)1‬‬

‫‪132‬‬
‫الرباط العرفاني‬

‫‪ 3636‬املسلم» مجلة العشرية» املحمدية‪ ،‬السنة‪ ، 6‬عدد‪10 1375 ،4‬حزيران ‪1956‬م‪ .‬وانظر عدد‪21‬توز ‪1955‬م‪،‬‬

‫وانظر حركات التحرر العربية‪.‬‬

‫‪ 3737‬املسلمون واالستعامر األورويب ألفريقية‪ ،‬ص‪.271‬‬


‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪3838‬املؤامرة عىل تاريخنا يف مقدِّ مة كتاب محمد جالل كشك»ودخلت الخيل األزهر»(ط‪1990)3‬م‪ ،‬القاهرة‪،‬‬

‫الزهراء لإلعالم العريب‪.‬‬

‫‪ 3939‬الهام ذهني‪ ،‬جهاد املاملك اإلسالمية يف غرب أفريقيا ضد االستعامر الفرنيس (‪، )1914 1850-‬‬

‫الرياض‪ ،‬دار املريخ للنرش‪.1988 ،‬‬

‫‪ 4040‬يوسف زيدان‪ ،‬شعراء الصوف َّية املجهولون ‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل ‪1996 ،‬م ‪(،‬ط‪.)2‬‬

‫‪133‬‬
‫توة ِ‬
‫احلكم َّية‬ ‫ُ‬
‫الف َّ‬
‫درس العرفان السيايس عند سعيد النوريس‬

‫جعفر نجم نرص‬


‫باحث ف� الفلسفة وأستاذ ث‬
‫أن�وبولوجيا الدين ـ الجامعة المستن ّ‬
‫رصية ـ العراق‬ ‫ي‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ال� ظلت‬ ‫السياس‪ ،‬تلك الصلة ي‬ ‫ي‬ ‫الفتوة بالعرفان‬ ‫يقدم البحث مقاربة جديدة لصلة‬
‫أن مر َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ً‬ ‫َّ‬ ‫غائبة أو َّ‬
‫كزية األخالق‬ ‫األكاديمية الحديثة والمعارصة‪ ،‬ظنا منها‬ ‫مغيبة عن المراجعات‬
‫السياسية؛ ولكن عند التمحيص وإعادة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصوفية‬ ‫تلت� والممارسة‬ ‫(الفتوة) ال ق‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصوفية‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ه‬‫األخ�ة ي‬
‫ي‬ ‫بالفتوة‪ ،‬بل كانت‬ ‫ه عىل صلة وثيقة‬ ‫كث�ة ي‬ ‫النظر وجدنا أن هنالك تجارب ي‬
‫ًّ ف‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ِّ‬
‫عمليا ي� تجارب‬ ‫وتجسد‬ ‫عر�‬ ‫الباعث والموجه لها ي� الوقت عينه‪ ،‬وهذا ما أشار إليه ابن ب ي‬
‫الحالج ف ي� طليعتهم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫المتصوفة كان‬ ‫كب�ة من‬ ‫مختلفة لمجموعة ي‬
‫النورس بمثابة استكمال لتلك‬ ‫السياسية لدى العارف بديع الزمان سعيد‬ ‫َّ‬ ‫الفتوة‬ ‫َّ‬ ‫كانت‬
‫ي‬
‫ز َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ت‬
‫م�ته أنه سار‬ ‫ع� أزمان متباعدة‪ ،‬ولكن ي‬ ‫ال� ابتدأها هؤالء المتصوفة والعرفاء ب‬ ‫الحلقات ي‬
‫ِّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اإليجا� البناء) ألجل‬ ‫بي‬ ‫(للفتوة)‪ ،‬وكان يسىع نحو (العمل‬ ‫األخالقية‬ ‫عىل وفق تلك المواريث‬
‫ال� عاشتها تركيا ّإبان عرص كمال أتاتورك وما تالها‪،‬‬ ‫ت‬
‫مواجهة التحوالت السياسية المرعبة ي‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫حد السياسة فحسب‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وال� استصحبت سياقات العلمنة ِّ‬ ‫ت‬
‫لكل جوانب الحياة ولم تقف عند‬ ‫ي‬
‫آ�) يمتلك‬ ‫ن‬ ‫النورس وتالميذه ب ش‬ ‫ِّ‬
‫ع� ن� رسائل النور وتوليد (جيل قر ي‬ ‫ي‬ ‫لقد ظهرت مواقف‬
‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫عنارص التهذيب ت ز‬
‫العلما�) الذي داس عىل‬ ‫ي‬ ‫الروحية(الفتوة) لمواجهة مد (الجيل‬ ‫وال�كية‬
‫ه المرتكزات‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫منظومة القيم الروحية والتحق بركب الحضارة الغربية‪ ،‬كانت تلك المواقف ي‬
‫النورس‪.‬‬ ‫السياس الذي صنعه‬ ‫ِّ‬ ‫الفتوة بالعرفان‬ ‫َّ‬ ‫والمنطلقات ألجل قراءة صالت‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫* * *‬
‫َّ‬
‫االجتماعية‪،‬‬ ‫َّ‬
‫المسؤولية‬ ‫آ�‪،‬‬‫ن‬ ‫تز‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬العرفان‬
‫السياس‪ ،‬ال�كية‪ ،‬جيل قر ي‬
‫ي‬ ‫مفردات‬
‫َّ‬
‫الخدمة اإليمانية‪.‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫لعل العنوان بجزئه األول وبجزئه الثاين الذي يحيل إىل مصطلح مركَّب يبدو متناقضاً بني العرفان‬ ‫َّ‬
‫الذي هو تجربة ذوقيَّة روحيَّة باطنيَّة فرديَّة خارج دائرة املجتمع وانشغاالته‪ ،‬ومصطلح السياسة‬
‫دنيوي رصف وال‬
‫ٌّ‬ ‫الذي يشري إىل عمليَّة برشيَّة أداتيَّة إلدارة السلطة وشؤون الدولة عموماً‪ ،‬وهو أمر‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫شأن له بعامل الباطن أو عامل األخرويَّات‪.‬‬


‫السيايس بوصفها األداة أو الوسيلة‬
‫ِّ‬ ‫يف حقيقة األمر‪ ،‬إ َّن الفت َّوة عىل صلة وثيقة متاماً بالعرفان‬
‫تظل مشاريع‬ ‫السيايس‪ ،‬إذ من دونها ُّ‬
‫ِّ‬ ‫العمل َّية التي يتوخَّى من خاللها العارف إعادة إنتاج املجتمع‬
‫السيايس مج َّرد يوتوبيا حاملة ال‬
‫ِّ‬ ‫السياسة األخالق َّية أو أخالق َّيات السلطة أو الدعوة إىل التغيري‬
‫منطق مامرسات ّياً‪/‬عمل َّيات ّياً أخالق ّياً مبارشا ً لها‪ ،‬وبذلك تكون الفت َّوة‬
‫َ‬ ‫أرض َّي ًة صلب ًة لها‪ ،‬أو بعبارة َّ‬
‫أدق ال‬
‫ألي إصالح للمملكة اإلنسانيَّة وشؤونها السياسيَّة‬ ‫مبثابة الحاضنة والوسيلة والغاية يف الوقت عينه ِّ‬
‫محل اهتامم املقال)‪.‬‬
‫(التي هي ُّ‬

‫السيايس‬
‫ِّ‬ ‫وهنا نلحظ الفرق بني من يق ِّدم الرؤى السياس َّية أو املشاريع السياس َّية لإلصالح والتغيري‬
‫من دون مرجع َّية أخالق َّية (مرشدة) عرب أيديولوج َّيات مصلح َّية‪ ،‬آن َّية‪ ،‬تستبدل املستب َّد مبستب ٍّد آخر أو‬
‫السيايس ملجموعة مبجموعة أخرى‪ ،‬أو تهدم طغياناً سياسيّاً ما لتقيم بدالً منه طغياناً جديدا ً‬
‫ِّ‬ ‫الفساد‬
‫تحت ذرائع شتَّى!؟ ‪.‬‬

‫فرق أيضاً بني هذه الرؤى واإليديولوجيَّات واالسرتاتيجيَّات التي ال سند أخالقيّاً ضامناً‬
‫مث َّة ٌ‬
‫جهها‬
‫لها‪ ،‬وبني الرؤى العرفان َّية والصوف َّية السياس َّية اإلصالح َّية التي ال تتح َّرك إالَّ ومنطق الفت َّوة يو ِّ‬
‫كل خطوة من خطواتها‪ ،‬إذ إ َّن بناء الظاهر (املجتمع والدولة) ال يستقيم من‬
‫ويرعاها ويساندها يف ِّ‬
‫دون بناء الباطن (إصالح النفس وتهذيبها)‪ ،‬وهذا ما متثِّل ُه الفت َّوة فكرا ً ومامرسة ورعاية‪.‬‬

‫السيايس من‬
‫ِّ‬ ‫النوريس أن يجمع بني الفت َّوة من جهة وبني العرفان‬
‫ُّ‬ ‫وهنا نتساءل‪ :‬كيف استطاع‬
‫ٍ‬
‫حينئذ؟ وعن‬ ‫جهة أخرى؟ وكيف استطاع صياغة منطق جديد للفت َّوة يتالءم والتح ُّوالت السياسيَّة‬
‫السيايس لديه نتح َّدث؟ وهل تناول السياسة مبنهج جديد‪ ،‬وكيف‬
‫ِّ‬ ‫أي منط أو صيغة من العرفان‬
‫ِّ‬
‫ذلك وهو من اعتزل السياسة بنصوص رصيحة؟ أم أنَّه كان يتح َّدث عن بناء الباطن وبناء املجتمع‬
‫السيايس بحاضنة (الفت َّوة) تحت وطأة‬
‫ِّ‬ ‫قبل بناء السياسة وظاهرها؟ ث َّم هل استطاع مترير عرفانه‬
‫السيايس الرهيب بعد علمنة الدولة واملجتمع يف تركيا؟ وبذلك النحو استطاع مترير خطابه‬
‫ِّ‬ ‫الضغط‬
‫السيايس من خالل (الفت َّوة) ذاتها ؟‪...‬هذا ما سنسعى للوقوف عليه والكشف عن مضامينه‪.‬‬
‫ِّ‬

‫‪135‬‬
‫المحور‬

‫ّ‬ ‫ً‬
‫تأطريي‪:‬‬ ‫َّ‬
‫والفتوة والسياسة‪ /‬مدخل‬ ‫ُّ‬
‫التصوف‬ ‫َّأوال‪ :‬يف‬
‫من املفيد القول أ َّن ظهور املتص ِّوفة وال ُعرفاء يف داخل اإلسالم إنَّ ا جاء بوصفه رد فعل ض َّد‬
‫السياسة وأهلها من الخلفاء واألمراء والوزراء وقادة جيشهم‪ ،‬فأخالق َّيات الفت َّوة تجعلهم أمام‬
‫مسؤول َّية اجتامع َّية وسياس َّية يف آن واحد‪ .‬والفتوة كام أوجزها حسن حنفي نقالً عن املد َّونات‬
‫الصوفيَّة‪ :‬عذر اإلخوان يف الزالَّت وعدم معاملتهم مبا يوجب االعتذار‪ .‬هي إذن الشهامة‪ ،‬وهي‬
‫احتقار النفس وتعظيم حرمة املسلمني‪ ،‬وتقوم عىل إنكار الذات والتضحية بالنفس يف سبيل اآلخر‪.‬‬
‫فمن النفاق لبس لباس الفتيان من دون حمل أثقالها‪ .‬والفت َّوة رؤية أعذار الخلق وتقصري الذات‪،‬‬
‫ومتامهم ونقصانها‪ ،‬والشفقة عليهم كلِّهم ِب ِّرهم وفاجرهم‪ ،‬وكاملها هو عدم االنشغال بالخلق عن‬
‫الله‪.‬‬
‫والفتوة كذلك رؤية فضل الناس بنقصان الذات‪ ،‬وهي سمة التواضع‪ ،‬وعدم رؤية اإلنسان زيادة‬
‫كف األذى‪ ،‬وبذل الندى‪،‬‬ ‫فضل له عىل غريه‪ ،‬وهي فضيلة من دون رؤية النفس فيها‪ ،...‬وهي ُّ‬
‫الغني وهام رضوريَّان للتغيُّ االجتامعي‪ .‬فالفتى من‬
‫ِّ‬ ‫واملساملة لدرجة عدم منافرة الفقري ومعارضة‬
‫ُلقي‬
‫الديني واالنحطاط الخ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫كرس الصنم مثل إبراهيم‪ ،‬وتكسري األصنام رمز للقضاء عىل الضالل‬
‫والفساد االجتامعي‪ .‬كام أ َّن الفت َّوة هي عدم الهروب من املسائل وعدم االحتجاب من القاصدين[[[‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬فإ َّن الفتوة هي الحركة اإلنسان َّية الدائبة واملستم َّرة يف خدمة املجتمع‪ ،‬وأي شأن من‬
‫شؤونه‪ ،‬فام بالك‪ ،‬بأه ِّم شأن وهو السياسة وواقع السلطة وتأثرياتها‪ ،‬سلباً أم إيجاباً‪ ،‬ضمن أخالق َّيات‬
‫الخاصة والعا َّمة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الفت َّوة االعتناء بشؤون‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬ولتوضيح معاين الفت َّوة‪ ،‬أو الفت َّوة االجتامع َّية والسياس َّية (إن صح التعبري)‪ ،‬نجد‬
‫موسع هو (من وجوه مقاومة التص ُّوف للتط ُّرف)‬ ‫قراءة عرصيَّة لها بقلم محمد بن الط ّيب تحت عنوان َّ‬
‫فرعي هو (يف صنع مناذج السلوكيَّة الحسنة فرديّاً وجامعيّاً)‪ ،‬إذ قال‪ :‬إ َّن لدى أقطاب‬ ‫ٍّ‬ ‫وضمن عنوان‬
‫التص ُّوف شعورا ً مرهفاً باملسؤول َّية عن البرش جميعاً فهم متَّفقون عىل العمل من أجل إنقاذ البرش‬
‫ولعل أبرز منوذج لذلك هو الحالَّج باعتباره‬ ‫َّ‬ ‫والذل يف الدنيا ومن العذاب يف اآلخرة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫من الفقر‬
‫ين‪ ،‬ورمبا كان‬ ‫االجتامعي املناضل‪ ،‬وجهة التص ُّوف العرفا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫متص ِّوفاً عىل الجهتني‪ :‬جهة التص ُّوف‬
‫يف الكبري مركز الصدارة من اهتاممات ماسينون والقطب من بحوثه‪ ،‬ألنَّه رأى فيها شبهاً‬ ‫هذا الصو ُّ‬
‫باملسيح املطلوب‪.[[[...،‬‬

‫[[[‪ -‬حسن حنفي‪ ،‬من الفناء إىل البقاء‪ :‬محاولة إلعادة بناء علوم التص ُّوف‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الوعي املوضوعي‪ ،‬دار املدار اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪ ،2009 ،1‬ص‪.862‬‬
‫[[[‪ -‬محمد بن الطيب‪ ،‬من وجوه مقاومة التص ُّوف للتط ُّرف‪ ،‬مقالة يف كتاب‪ :‬التص ُّوف والعنف‪ ،‬ملجموعة باحثني‪ ،‬إرشاف‪ :‬صابر سوييس‪،‬‬
‫مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،2021 ،1‬ص‪.197‬‬

‫‪136‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫ويف سرية الحالَّج من األخبار ما ينطبق عىل هذه املسؤوليَّة العا َّمة‪ ،‬فقد اتَّسم سلوكه بالتسامح‬
‫املطلق واالستعداد للفداء‪ ،‬فكان يزور املرىض والبؤساء ال من املسلمني فحسب‪ ،‬بل من النصارى‬
‫عب أمام الجمهور عن رغبته الغريبة يف املوت منبوذا ً من أجل نجاة‬ ‫واليهود والوثنيني أيضاً‪ .‬لقد َّ‬
‫يدل عىل رغبة جامحة يف أن يجود بنفسه لله قرباناً يفتدي جميع الخالئق‪ .‬وال‬ ‫اآلخرين‪ ،‬وهو ما ُّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ين عىل متص ِّوفة املرشق‪ ،‬بل إنَّنا نجد له أشباهاً ونظائ َر‬ ‫االجتامعي اإلنسا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يقترص مثل هذا السلوك‬
‫يف غريي املنزع‪ ،‬ال تعنيه ذاته‬ ‫اإلسالمي ُّ‬
‫تدل عىل أ َّن الصو َّ‬ ‫ِّ‬ ‫وشواه َد كثرية عند متص ِّوفة املغرب‬
‫وخاصة من الفقراء واملستضعفني وذوي‬ ‫َّ‬ ‫الفرديَّة ومصلحتها ونفعها‪ ،‬وإمنا ه ُّمه مساعدة غريه‪،‬‬
‫الحاجة[[[ ‪.‬‬
‫ط إالَّ‬‫وينبغي القول أ َّن فعل املعارضة بح ِّد ذاته هو فعل املتص ِّوفة والعرفاء عىل طول الخ ِّ‬
‫بحاالت شاذَّة هنا وهناك‪ ،‬إذ قال الكاتب هادي العلوي عن تلك املعارضة عندهم‪ :‬مل يستعمل‬
‫مشايخنا (يقصد املتص ِّوفة والعرفاء)‪ ،‬هذا املصطلح الذي هو من مستحدثات جيلنا لك َّنهم مارسوه‬
‫بوصفه مسلكاً للخروج من قيد األغيار‪ ،‬وتعني املعارضة قطع العالقة مع الدولة وأربابها‪ ،‬والدعوة‬
‫ين‪ ،‬وسلوك أربابها‬ ‫إىل ‪ -‬أو العمل‪ -‬عىل تغيريها‪ ،‬فالدولة شيطان تتألَّف من شياطني‪ ،‬وفعلها شيطا ٌّ‬
‫ين‪ ،‬وشيطا ٌن من يعاملها ويتعامل معها‪ ،‬وتتألَّف منهم جملة األغيار املقيمني يف دار الض ِّد‬
‫شيطا ٌّ‬
‫والحس والشهوة‪ ،‬وهم عامد الظلم ومنشأ الظلمة والخلق منهم يف بوار[[[‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تجسدت مبظاهر اجتامع َّية وثقاف َّية بل وسياس َّية متع ِّددة عىل مدى العصور‪،‬‬
‫َّ‬ ‫هذ ِه املعارضة‬
‫ولهذا وجدنا كبار العرفاء من أوائل املقتولني عىل أيدي السلطة(الحالَّج‪ ،‬السهروردي‪ ،‬عني القضاة‬
‫الهمذاين) وغريهم الكثري‪ ،‬وإذ كان هؤالء يناوئون السالطني يف العامل اإلسالمي‪ ،‬فإ َّن الكثري من‬
‫املتص ِّوفة يف عصور الحقة دخلوا يف رصاع مع السلطات السياس َّية االستعامريَّة يف عدد من البلدان‬
‫السيام يف شامل أفريقيا‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬ينبغي التذكري مبا قاله الكثري من الباحثني حول عرص ظهور التص ُّوف والعرفان‪،‬‬
‫والذي ظهر بوصفه ات ِّجاه معارض ٍة صامت ٍة للوهلة األوىل إزاء عامل اإلرساف والبذخ ومظاهر الفسق‬
‫والفجور التي سادت العامل اإلسالمي بعد تزاحم الفتوحات وتضخُّم بنية الدولة اإلسالم َّية من جهة‬
‫مواردها املاليَّة (الخراج) الذي بلغ ح َّد التخمة‪.‬‬
‫يذهب الباحث عيل سامي النشار إىل أ َّن الزهد ومظاهر التقوى كانت موجودة يف القرن األول‬
‫الغفاري والحسن‬
‫ِّ‬ ‫الهجري‪ ،‬وأ َّن الكثري من هؤالء الز َّهاد ظهروا معارضني لبعض الخلفاء أمثال أيب ذر‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ :‬ص‪.198-197‬‬


‫[[[‪ -‬هادي العلوي‪ ،‬مدارات صوف َّية‪ :‬تراث الثورة املشاع َّية يف الرشق‪ ،‬دار املدى للثقافة والنرش‪ ،‬دمشق ‪ -‬بغداد‪ ،‬ط‪ ،2007 ،2‬ص‪.49‬‬

‫‪137‬‬
‫المحور‬

‫البرصي وغريهام الكثري‪ ،‬ولكن مل تظهر اللُّغة االصطالحيَّة وتقعيد القواعد الصوفيَّة والعرفانيَّة إالَّ‬
‫ِّ‬
‫الجوهري هو أ َّن هنالك روحاً للمعارضة كانت ترسي يف هذين‬ ‫ُّ‬ ‫الهجري‪ ،‬واألمر‬
‫ِّ‬ ‫يف القرن الثاين‬
‫القرنني إزاء ترف السلطة ومفاسدها[[[‪.‬‬
‫املفصل عن‬‫َّ‬ ‫وال يخرج كامل مصطفى الشيبي عن ذلك األمر كثريا ً‪ ،‬بل يزيد عليه بالحديث‬
‫يف وبداية تشكُّل حركة للزهد عىل نطاق واسع‪ ،‬إذ يقول‪ :‬أ َّما ميادين‬ ‫خصوص َّية املجتمع الكو ِّ‬
‫اإلسالمي األصيل القائم عىل التواضع يف امللبس‬ ‫َّ‬ ‫يف فقد تع َّددت‪ ،‬ووجدنا فيها الزهد‬ ‫الزهد الكو ِّ‬
‫واملأكل‪ ،‬والتزام تالوة القرآن‪ ،‬والخوف من عذاب اآلخرة‪ ،‬ووجدنا يف الكوفة ال ُّزهد املنبعث من‬
‫عذاب اآلخرة‪ ،‬والزهد اآليت من األحداث التي تناوبت عليها من قتل ذريع‪ ،‬ومن خيانة‪ ،‬ومن نرصة‬
‫للباطل‪ ،‬ومن حرسة عىل العجز عن ر ِّد الظلم‪ .‬وسرنى أ َّن الكوفة ستكون مثابة للبس الصوف يف‬
‫وسيتبي لنا أ َّن ذلك كان مقصورا ً عليها‪ ،‬وكان تعبريا ً عن معارضة سلب َّية‪،‬‬‫َّ‬ ‫اإلسالمي كلِّه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫العامل‬
‫وفوق هذا كان يف الكوفة أول من تس ّمى صوف ّياً وأول من قال بالوالية الصوف َّية[[[‪.‬‬
‫يعلِّل الشيبي هذا السلوك ويربطه مبا جرى يف عرص الفتنة إبَّان الخليفة الثالث‪ ،‬وث َّم رصاع‬
‫معاوية بن أيب سفيان واإلمام عيل بن أيب طالب‪ ،‬وثورة اإلمام الحسني‪ ،‬ونكص أهل الكوفة عىل‬
‫عقبيهام‪ ،‬ومن ث َّم شعورهم بالندم الشديد ومحاسبة النفس‪ ،‬مام دفعهم إىل ذلك‪ .‬ولك َّن هذا األمر‬
‫الحق وأهله آنذاك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يع ُّد معارضة سلب َّية ألنهم مل ينرصوا‬

‫وتأسيساً عىل هذا العرص‪ ،‬واعتامدا ً عىل أمنوذج سعد بن أيب وقَّاص‪ ،‬يرى الباحث السنغا ُّ‬
‫يل‬
‫الفرنيس الجنسيَّة سليامن بشري ديان أ َّن املتص ِّوفة كانوا انسحابيني من الحياة السياسيَّة من‬
‫ُّ‬ ‫األصل‬
‫جهة‪ ،‬وغري مدركني لتامم َّية وجود دولة إسالم َّية يوالونها أو يسعون دامئاً إلقامتها من جهة أخرى!؟‪.‬‬
‫إذ يقول‪ :‬يقف سعد بوصفه منوذجاً مثال ّياً يف عيون املسلمني ملا يعنيه (القتال يف سبيل الله‬
‫جه الواضح الذي‬ ‫خاصة الصوفيني منهم‪ ،‬عندما أصبح يف نهاية حياته رمز التو ُّ‬ ‫َّ‬ ‫باألموال واألنفس)‬
‫يقف أمام الدولة وجهاً لوجه‪ .‬وخالل الفتنة والحروب الطاحنة التي شقَّت املجتمع املسلم‪ ،‬بدءا ً‬
‫من السنوات األخرية من حكم الخليفة الثالث عثامن (ت‪656‬م) إىل أن بلغت ذروتها يف املعارك‬
‫بني عيل الخليفة الرابع‪ ،‬ومعاوية الذي مت َّرد عليه (بدءا ً من عام ‪656‬م وحتى وفاة عيل عام ‪661‬م)‪،‬‬
‫انسحب سعد بن أيب وقَّاص‪ ،‬ببساطة من املجال العام‪ ،‬رافضاً االنحياز وتأييد أحد الطرفني يف‬
‫مسألة الخالفة السياسيَّة – الدينيَّة‪ ،‬وعندما ت َّم الضغط عليه ليفعل ذلك‪ ،‬نقل عنه أنه قال‪ :‬لن أشارك‬
‫يف القتال حتى تأتوين بسيف له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر‪ .‬يستدعي هذا املوقف‬

‫الفلسفي يف اإلسالم‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1977 ،7‬ص‪.65-63‬‬
‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬ينظر‪ :‬عيل سامي النشار‪ ،‬نشأة الفكر‬
‫[[[‪ -‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬الصلة بني التص ُّوف والتش ُّيع‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬منشورات الجمل‪-‬بريوت‪-‬بغداد‪ ،2011 ،‬ص‪.280‬‬

‫‪138‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫مالحظتني اثنتني‪ :‬األوىل وثيقة الصلة مبا يس َّمى الدولة اإلسالميَّة‪ ،‬والثانية معنيَّة مبا ميكن تسميته‬
‫بالنزعة الصوفيَّة لالنسحاب[[[‪.‬‬
‫ث َّم يستمر ليقول‪ :‬كان للطريقة التي انسحب بها سعد بن أيب وقَّاص من امليدان العام‪ ،‬حيث‬
‫كان وجوده قد يعني اإلجابة عن السؤال الصعب حول من يجب أن يكون الخليفة‪ ،‬إرثٌ ٌّ‬
‫غني‪ ،‬وقد‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫تب َّناها عدد من الفالسفة والصوفيني ونظَّروا لها‪ ،‬وكان أبو نرص الفارايب (‪905-874‬م) الذي ميكن‬
‫اإلسالمي للفلسفة السياس َّية املتجذِّرة يف تعاليم أفالطون أحد هؤالء‪ ،‬وتبعه‬
‫ِّ‬ ‫مؤسس الرتاث‬
‫اعتباره ِّ‬
‫يف ذلك الفيلسوف ابن باجة (‪1138-1085‬م)‪ ،‬الذي اعترب أ َّن الدرس الرئيس الذي ميكن أخذه من‬
‫فلسفة أفالطون هو أنَّ‪( :‬املدينة الفاضلة) يوتوبيا مستحيلة‪ ،‬ولذلك فقد رفض مج َّرد فكرة تدخُّل‬
‫((محب الحكمة ‪ ))Lover of Wisdom‬يف شؤون الدولة[[[‪.‬‬
‫السيايس ويجعله‬
‫ِّ‬ ‫يف من املجال‬ ‫نالحظ هنا أ َّن الباحث ديان ميظهر م َديات االنسحاب الصو ِّ‬
‫يأخذ منطقاً فلسف ّياً كذلك عا َّدا ً تجربة أيب وقَّاص أمنوذجاً متك ِّررا ً احتذى ب ِه الفالسفة واملتص ِّوفة‬
‫أي مامرسة‬ ‫عىل ح ٍّد سواء‪ ،‬عىل اعتبار أن اليوتوبيا السياس َّية أمر مستحيل‪ ،‬ومن ث َّم االنخراط يف ِّ‬
‫عبثي‪ ،‬بل ل ُيس ِه َم يف تلويث صاحبه وإعاقته عن القيام بالعمل املثمر الخادم‬ ‫ٌّ‬ ‫سياس َّية هي أم ٌر‬
‫لشؤون املجتمع وأعضائه‪.‬‬
‫ث َّم يستمر قائالً‪ :‬تقليد تقدير االنسحاب بالطريقة التي قام بها سعد بن أيب وقَّاص بوصفها ر َّد فعل‬
‫عىل حالة الشؤون العا َّمة‪ ،‬ت َّم استحضارها كثريا ً من فالسفة حديثني‪ ،‬اعترب محمد إقبال أ َّن واحدا ً‬
‫الديني لإلسالم نفسه بعد القرن الثالث‬ ‫َّ‬ ‫جر التي وجد فيها الفكر‬ ‫من األسباب املبكرة لحالة التح ُّ‬
‫عرش هو حقيقة أ َّن أفضل العقول املسلمة انسحبت من حالة الوهن التي انتابت الشؤون العا َّمة‬
‫ين يق ِّدر الحياة التأ ُّمل َّية ‘’‪’’Viata Contempativa‬‬ ‫واختاروا مسار االنسحاب يف تص ُّور نيو‪ -‬أفالطو ٍّ‬
‫كل يشء‪ .‬يقول إقبال إن‪ :‬الروح الغيبيَّة الكليَّة يف الصوفيَّة املتأخِّرة حجبت رؤية الناس عن‬ ‫قبل ِّ‬
‫يل‪،‬‬
‫اجتامعي‪ ،‬وبتقدميه إمكانيَّة التفكري املتح ِّرر بجانبه التأ ُّم ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫مفهوم مه ٍّم ج ّدا ً يف اإلسالم كأدب‬
‫امتص أفضل العقول يف اإلسالم ولذلك‪ ،‬فقد ت ُركت الدولة املسلمة بشكل عام‬ ‫َّ‬ ‫فقد جذب وأخريا ً‬
‫متوسطي القدرة فكريّاً‪ ،‬واألغلب َّية غري املفكِّرة يف اإلسالم‪ ،‬بال شخص َّيات ذات معايري عليا‬ ‫َّ‬ ‫بأيدي‬
‫لتقودهم‪ ،‬ووجدوا األمن فقط باالتباع األعمى للمدارس [[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سليامن بشري ديان‪ ،‬الصويف والدولة‪ ،‬مقالة يف كتاب‪ :‬ما وراء الغرب العلامين‪ ،‬تحرير‪ :‬عقيل بلغرامي‪ ،‬ت‪ :‬عبيدة عامر‪ ،‬الشبكة العرب َّية‬
‫لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1‬ص‪.42-41‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48-47‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪،‬ص‪.51_50‬‬
‫(‪ )10‬لتفاصيل أكرث ُينظر‪ :‬خليل عبد الكريم‪ ،‬شدد الربابة بأحوال مجتمع الصحابة‪ ،‬دار مرص املحروسة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2011 ،1‬ص‪328‬‬
‫وص‪.334‬‬

‫‪139‬‬
‫المحور‬

‫ال أعتقد أ َّن اختيار شخصيَّة مثل ابن أيب وقَّاص كان أمرا ً دقيقاً ومالمئاً بالنسبة إىل ذلك العرص‪،‬‬
‫وكان األوىل اختيار شخصيَّة أكرث ورعاً وزهدا ً من قبل األستاذ ديان‪ ،‬وكان جيل وعرص بن أيب‬
‫عمر بن يارس وأيب ذ ٍّر‬
‫ين الواضح أمثال‪َّ :‬‬ ‫يف والعرفا ِّ‬
‫وقَّاص يض ُّم شخص َّيات مشهورة بامليل الصو ِّ‬
‫الغفاري وأرضابهم‪ ،‬إذ كان األمنوذج هذا من كبار أصحاب اإلقطاع َّيات والرثوات بعد فتح العراق‬ ‫ِّ‬
‫وعاش حياة ترف كبرية ‪.‬‬
‫[[[‬

‫الحق وأهله يف ذلك العرص‪ ،‬فوجد أ َّن أيب وقَّاص‬‫َّ‬ ‫ولرمبا كان الكاتب نفسه (ديان) ال يعرف‬
‫نفيس وذلك لعدم اتّضاح الرؤية أمامه‪ ،‬أن انسحاب املتص ِّوفة‬ ‫ٍّ‬ ‫ميثِّل ذاته‪ ،‬أي أنَّه اختاره كإسقاط‬
‫جوهري مل يلتفت إليه (ديان) مطلقاً وهو (رشعيَّة السلطة) هل كانت‬ ‫ٍّ‬ ‫والكثري من الفالسفة يرتبط بأمر‬
‫ين؟ وهذا‬‫موجودة أم أ َّن الحاكم والنظام هو منطق املغالبة املسند إىل (العصب َّية) باملعنى الخلدو ِّ‬
‫ربرا ً لالنسحاب‬‫األمر هو ما استشعره هؤالء وليست مسألة علامن َّية الدولة آنذاك التي وجدوا فيها م ِّ‬
‫ولعدم نرصة طرف عىل آخر!؟‪.‬‬
‫الطرقي هو الخطر املاحق لتجارب املتص ِّوفة‬
‫َّ‬ ‫ولعل محمد إقبال أدرك ذلك وزاد عليه أ َّن اإلسالم‬ ‫َّ‬
‫والعرفاء‪ ،‬أل َّن التنظيامت الصوف َّية أيّاً كانت (إخوان َّيات أو هياكل طرق َّية) أو نحو ذلك ستكون مبعثاً‬
‫السيايس القائم‪ ،‬وهذا ما جرى يف‬
‫ِّ‬ ‫للبحث عن مصالحها املا ّديَّة ومن ث َّم تدخل يف هدنة مع الوضع‬
‫سيايس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املرشق واملغرب عىل مدى قرون إالَّ حاالت محدودة دخلت يف رصاع‬
‫يقول الباحث بومدين بوزيد بهذا السياق‪ :‬ظلَّت ظاهرة التحالف مع السلطة أو التم ُّرد عليها‬
‫ولعل الصورة تتَّضح حني‬‫السيايس‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫مالزمة للطرقيَّة الصوفيَّة التي هي شبيهة ما ننعته اليوم باإلسالم‬
‫الفرنيس‪ ،‬وهذا ال يطعن فيها كطريقة صوف َّية ولكن‬
‫ِّ‬ ‫نعلم أ َّن بعض الطرقيني كانوا مبارِكني للمستعمر‬
‫علينا أن ندرك التفاوت واالختالف بني مرحلة وأخرى‪.[[[...‬‬
‫وقد تزامنت مواقف بعض املتص ِّوفة وأحكامهم الفقه َّية‪-‬الباطن َّية مع قيام بعض االنتفاضات‬
‫واستغلَّها املستعمر‪ ،‬كمنشور محمد املوسوم (‪ 3‬فيفري ‪ )1883‬الذي يح ِّرم عىل أتباعه الثورة‪،‬‬
‫ويلغي من يتدخَّل يف السياسة‪ ،‬كام استعمل الفرنسيون سمعة الشاذل َّية وطلبوا تأييدها يف حربهم‬
‫سنة ‪ 1914‬فقد أصدر شيخ زاوية قرص البخاري فتوى مضمونها طاعة الفرنسيني ألنَّهم (أولو األمر)‬
‫فس أولو األمر بأنَّهم الحكام الفرنسيون‪ ،‬وقد كان أول الخارجني عن ثورة بوعاممة عام ‪1881‬‬
‫وهنا ِّ‬
‫أتباع الزيَّانيني والتيجانيَّة [[[‪.‬‬

‫[[[‬
‫[[[‪ -‬بومدين بوزيد‪ ،‬التص ُّوف والسلطة‪ :‬جدل املقاومة والسلم ورمز َّية صاحب الوقت‪ ،‬دائرة األ َّمة‪ ،‬الجزائر‪ ،2012 ،‬ص‪.85‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪140‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫السيايس‬
‫ِّ‬ ‫وعليه‪ ،‬ميكن القول أ َّن املتص ِّوفة والعرفاء األوائل كانوا كأفراد هم أكرث مواجهة لألمر‬
‫ُّرقي‪ ،‬ولهذا األمر داللة واضحة من جهة أ َّن نفي املصالح بوجود‬ ‫من التنظيامت أو اإلسالم الط ِّ‬
‫الجامعة صعب بالنسبة إىل بعض الطرق وزعامئها وليس جميعهم أل َّن بعضهم دخل يف مواجهة‬
‫االستعامري كام نعلم أمثال (السنوس َّية) وغريهم‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة اخرى فإ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫مع امل ِّد‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫صلة تجربة الباطن بالنسبة إىل العارف مع عامل الظاهر (الدنيا وشؤونها) ستكون تجربة فرديَّة‬
‫خاصة‪ ،‬ال تؤثر فيها الضغوط الحياتيَّة التي ميكن مصادفتها يف الطرق التي أصبحت مرتبطة‬ ‫َّ‬ ‫ذوقيَّة‬
‫اقتصاديّاً بحسب اتّساع عدد أرس املريدين والذين مل تكتمل لديهم عمل َّية السري والسلوك كام لدى‬
‫كبار العرفاء‪ ،‬ولهذا كانوا يتأث َّرون رسيعاً بالضغوط السياس َّية‪ ،‬ويخضعون لها إالَّ البعض منهم وهم‬
‫عدد ضئيل بطبيعة الحال‪.‬‬
‫ال ريب يف أ َّن املسألة معقَّدة للغاية‪ ،‬وال ميكن اختزالها بسببني أو علَّتني‪ ،‬وذلك ألن الكثري من‬
‫االمور متداخلة ضمن سياقات اجتامع َّية وسياس َّية واقتصاديَّة فرضت نفسها عىل الكثري من الطرق‬
‫الصوفيَّة والعرفاء‪ ،‬ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع بقدر ما نبحث عن مشهديَّة سياسيَّة متع ِّددة األوجه‬
‫ملامرسة العرفاء واملتص ِّوفة يف عصور متفاوتة‪.‬‬
‫تسي شؤونهم إن كان ضمن م َديات‬ ‫يف قبالة ذلك كلِّه‪ ،‬نجد أ َّن هنالك دولة أو سلطة روحيَّة ّ‬
‫الروحي‬
‫ِّ‬ ‫عالقة العرفاء بعضهم ببعض‪ ،‬أو من خالل عالقة املريدين املخلصني بول ّيهم أو شيخهم‬
‫(شيخ الطريقة)‪ ،‬ولقد تح َّدث الباحث حسن محمد الرشقاوي عن هذا األمر فأطلق عىل عامل‬
‫السياسة الباطن َّية هذا ومتعلِّقاته اسم (الحكومة الباطن َّية)‪ ،‬وقال‪ :‬لهؤالء الصالحني‪ ،‬دولة وحكومة‪،‬‬
‫ونظام رئاسة‪ ،‬وطاعة وإخالص‪ ،‬وأحكام‪ ،‬واتصاالت‪ ،‬ومجالس واجتامعات‪ ،‬وأوامر وتعليامت‪،‬‬
‫وسلطات واختصاصات‪ ،‬وليس كام نراها يف الحكومات املدن َّية‪ ،‬أو يف القوانني الوضع َّية‪ ،‬أو يف‬
‫الدساتري والقواعد القانون َّية‪ ،‬وإمنا دستورهم مل يضعه من البرش أحد‪ ،‬وقانونهم مل يضعه أحد من‬
‫الحق تعاىل إله العباد [[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫خص ُه رب الناس‪ ،‬وخالق املوجودات‪،‬‬ ‫الناس‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫املبشات‪ ،‬وهي رؤى يراها‬ ‫ِّ‬ ‫ال بد من اإلشارة إىل أ َّن األولياء يتصل بعضهم ببعض عن طريق‬
‫جه رغم بعد الزمان واملكان‪ ،‬ويُل َهمون إلهاماً باملغ َّيبات‪،‬‬
‫املؤمن فتتحقَّق له‪ ،‬ويتقابلون بطريق التو ُّ‬
‫وحلول املشكالت‪ ،‬ودولتهم تقوم عىل مصادر ثالثة‪ :‬الرؤيا‪ ،‬والطاعة‪ ،‬واالخالص‪ ،...،‬ويتأكد‬
‫للدولة الباطنية وجودها مبا يفيض الله عىل اعضائها من كشوفات وانتصارات وفتوحات‪،‬‬
‫وفيوضات‪ ،‬وما ُي ُّن عليهم من نِعم و ِمنن وعطايا ومشاهدات وتجلّيات‪ ،‬وما يتوالَّهم الله برعايته‬
‫من رحامت‪ ،‬فيفتح عليهم‪ ،‬فيصبحون يف عباده املخلصني‪ ،‬إذا قالوا صدقوا‪ ،‬وإذا وعدوا أنجزوا‪،‬‬

‫املؤسسة الجامعية للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1992 ،1‬ص‪.20‬‬


‫َّ‬ ‫[[[‪ -‬حسن محمد الرشقاوي‪ ،‬الحكومة الباطن َّية‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫المحور‬

‫لهم فراسات وتوسُّامت‪ ،‬ورؤى وكرامات‪ ،‬وحكم ومعارف‪ ،‬وعلوم إرشاقيَّة عجز عنها الوصف‬
‫ويقف أمامها العقل حائرا ً [[[‪.‬‬
‫خاصة ال ترسي سلطاتها الروح َّية عىل أفراد‬‫َّ‬ ‫بطبيعة الحال‪ ،‬إ َّن الحديث هنا عن حكومة روح َّية‬
‫املجتمع كافَّة‪ ،‬إذ هي مخصوصة بأبناء الطرق الصوفيَّة وجملة العرفاء املوجودين‪ ،‬ولكن السؤال‬
‫املحوري الذي يطرح هنا هو‪ :‬هل لهذ ِه الحكومة الباطن َّية تأثري عىل الدولة وسلطتها السياس َّية‬‫َّ‬
‫املؤسسات املرتبطة بها؟‪ :‬وهل هؤالء أعضاء هذ ِه الحكومة الباطن َّية لهم أدوار أو وظائف‬ ‫َّ‬ ‫وسائر‬
‫سياس َّية‪ ،‬ومن ث َّم لديهم مواقف سياس َّية واضحة؟‪.‬‬
‫ال ميكن أن يكون لها أثر سيايس أو نشاط سيايس مبارش وواضح ولكن انعزالها وانسحابها‬
‫عن املشهد السيايس بالرضورة سيكون ذا صيغة معارضة بطبيعة الحال‪ ،‬ولعل السلطات السياسية‬
‫يف الكثري من البالد تسعى إىل إرضائها‪ ،‬ملا لها من دور كبري يف العملية االنتخابية كام يف مرص‬
‫واملغرب والجزائر عىل وجه الخصوص‪ ،‬ومن ثم فإن دورهم سلبي بنح ٍو ما‪ ،‬ولكن احدى‬
‫ايجابياتهم هي ترشيد سلوك أعضائها أو مريديها الذين ينترشون بني املدن واالرياف بنح ٍو كبري‪،‬‬
‫ولعل السلبية السياسية هي الطاغية عليهم عموماً‪.‬‬
‫الهجري إىل القرن املعارص كان وال يزال عىل العرفاء‬ ‫ِّ‬ ‫ولكن املع ّول دامئاً من ُذ القرن الثالث‬
‫املتف ِّرقني هنا وهناك يف العامل اإلسالمي‪ ،‬وهذا األمر أشار إليه وأكَّده العارف األكرب الشيخ محي‬
‫فصل يف‬‫َ‬ ‫يل) العارف‪ .‬وهذا ما‬ ‫الدين بن عريب‪ ،‬من خالل حديثه الدائم عن الوالية املطلقة لـ(الو ِّ‬
‫ربز يف هذا الشأن (التدبريات اإللهيَّة يف إصالح‬ ‫وظائفه ومن جملته الوظائف السياسيَّة يف كتابه امل َّ‬
‫اململكة اإلنسان َّية) والذي يقابل فيه بني العوامل املا ّديَّة واالجتامع َّية والباطن َّية‪ ،‬وقد وصفه قائالً‪:‬‬
‫وهو مشتمل عىل مق ِّدمة ومتهيد وواحد وعرشين باباً من دقائق التوحيد يف تدبري امللك الذي ال‬
‫الخاص‬
‫ُّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬وجاء غريباً يف شأنه ممزوجاً رمزه ببيانه‪ ،‬يقرأه‬ ‫ِّ‬ ‫الحكمي والنظام‬
‫ِّ‬ ‫يبيد عىل الرتتيب‬
‫كل أناس مرشبهم)‬ ‫والعا ُّم ومن كان يف الحضيض األوهد ومستوى الجالل واإلكرام‪( .‬قد علم ُّ‬
‫للخواص إشارة الئحة وللعوا ِّم طريقة واضحة‪ ،‬وهو لباب التص ُّوف‪ ،‬وسبيل التع ُّرف بحرضة‬ ‫ِّ‬ ‫ففيه‬
‫الرت ُّؤف والتعطُّف‪ ،‬يلهج به الواصل والسالك‪ ،‬ويأخذ حظَّه منه اململوك واملالك‪ ،‬يُعرب عن حقيقة‬
‫اإلنسان و ُعل ِّو منصبه عىل سائر الحيوان‪ ،‬وأنه مخترص من العامل املحيط‪ ،‬مركَّب من كثيف وبسيط‪،‬‬
‫مل يبق يف األماكن يشء إالَّ أودع فيه أول منشئه ومبانيه‪ ،‬حتى برز عىل غاية الكامل‪ ،‬وظهر يف‬
‫الربازخ بني الجالل والجامل [[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.20‬‬


‫[[[‪ -‬محي الدين بن العريب‪ ،‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ ،‬دراسة وتحقيق وتعليق‪ :‬د‪ .‬محمد عبد الحي العدلوين‬
‫اإلدرييس الحسني‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪.70‬‬

‫‪142‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫ويقابل الشيخ األكرب بني املاملك الثالث‪ :‬عامل األفالك واألجرام‪ ،‬وعامل الطبيعة (النبات‬
‫والحيوان)‪ ،‬وعامل اإلنسان كيام يصل بني تداخله َّن ومتازجه َّن وتشابهه َّن‪ ،‬ولكنه يويل لعامل‬
‫الحصة األوفر ملقام اإلنسان (خليفة الله)‪ ،‬وهنا تظهر مالمح الرؤية‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسان أو اململكة اإلنسان َّية‬
‫الباطني لإلنسان الكامل أو الساعي‬
‫ِّ‬ ‫ين والعامل‬‫السياس َّية لديه والتي تتمظهر بحسب املنطق العرفا ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫السيايس) الذي ال يغيب عنه‪ .‬ويف هذا يقول‪ :‬ومل َّا‬


‫ُّ‬ ‫للكامل ضمن شؤونه كافَّة ومن ضمنها (الشأن‬
‫أردنا أن نأخذ يف مقابلة النسختني العامل األكرب واألصغر عىل اإلطالق يف جميع األرسار العا َّمة‬
‫والخاصة‪ ،‬رأينا أن ذلك يطول وغرضنا من العلوم ما يوصل إىل النجاة يف اآلخرة‪ ،‬إذ الدنيا فانية‬ ‫َّ‬
‫ويتمش مع ُه املراد الذي بنينا عليه كتابنا وهو‪ :‬أنا نظرنا‬ ‫َّ‬ ‫داثرة‪ ،‬فعدلنا إىل أم ٍر يكون فيه النجاة‬
‫مم توعد ب ِه وتخليصه ملا وعد‬ ‫ٍ‬
‫ووعيد‪ ،‬فسعينا يف نجاته ّ‬ ‫اإلنسان فوجدناه مكلَّفاً مسخَّرا ً بني ٍ‬
‫وعد‬
‫الله فاضط َّرنا الحال يف إقامة القسطاس عليه من العامل األكرب‪ ،‬فقلنا‪ :‬أين ظهرت الحكمة من‬
‫الخطاب والوعد والوعيد من العامل األكرب؟ فرأينا ذلك يف حرضة األمر والنهي وحرضة اإلمامة‬
‫ومق ّر الخالفة‪ ،‬فوجدنا الخليفة شاهدا ً‪ ،‬فيه ظهرت الحكمة وأثر األسامء وعىل يديه تنفعل أكرث‬
‫ظ اإلنسان من هذه الحرضة‬ ‫فتقصينا األثر وأمع َّنا النظر يف ح ِّ‬ ‫َّ‬ ‫املك ّونات املخلوقة للباري تعاىل‪.‬‬
‫ج وجبايات‪ ،‬وأعواناً ومقابلة‬‫اإلماميَّة‪ ،‬فوجدنا يف اإلنسان خليفة ووزيرا ً وقاضياً وكاتباً‪ ،‬وقابض خرا ٍ‬
‫محل اإلرث‪ ،‬ويف األنبياء‬‫ُّ‬ ‫أعداء‪ ،‬وقتالً وأرسا ً إىل أمثال هذا مام يليق بحرضة الخالفة التي هي‬
‫الكل لسلطانها[[[‪.‬‬ ‫انترشت راياتها والحت عالمتها‪ ،‬وأذعن ُّ‬
‫مؤسساتها باختالف العصور وبني‬ ‫الخاص بأدواتها أو َّ‬
‫ِّ‬ ‫هي مقابلة تا َّمة بني الدولة باملعنى‬
‫اإلنسان الحاوي لذات تلك األدوات‪ ،‬فالخليفة عنده هو الروح‪ ،‬والذي يضع لها واجبات ومشاغل‬
‫خاصة‪ ،‬والوزير عنده هو العقل‪ ،‬والقايض هو العدل‪ ،‬وهكذا يستمر ابن العريب يف بيان معامل تلك‬ ‫َّ‬
‫ليبي أن إصالح‬
‫الدولة أو الحكومة الباطنية التي تقابل عامل الظاهر والحس يف الدنيا‪ ،‬وما مراده إالَّ ّ‬
‫ومؤسساتها الراعية لها‪ ،‬ونحيل القارئ‬
‫َّ‬ ‫الباطن كفيل بإصالح الظاهر والتي يف مق ِّدمتها (السلطة)‬
‫إىل الكتاب للمراجعة والبحث عن املامثلة واملطابقة بني ما قاله ابن عريب وبني الدولة يف صيغتها‬
‫الواقع َّية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ثاني ً�ا‪َّ :‬‬
‫املجتمعية‪:‬‬ ‫املسؤولية‬ ‫الفتوة عند النوريس‪ /‬من تهذيب الذات إىل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فإ َّن عمليَّة رصدها ورسدها‬
‫ِّ‬ ‫إذا كانت الفت َّوة وأخالقيَّاتها املتع ِّددة هي مدار التص ُّوف‬
‫النوريس (‪ ،)1960-1877‬أم ٌر غاية يف املشقَّة‪ ،‬ولكن التوقُّف عند‬
‫ِّ‬ ‫من خالل سرية حياة العارف‬
‫محطَّات مع َّينة منها وهي كثرية للغاية يكفينا مؤونة تفصيالتها الهائلة من عمره الرشيف‪ .‬ونعتقد‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.77‬‬

‫‪143‬‬
‫المحور‬

‫أ َّن الفت َّوة يف حياته اقرتنت بثالثة أمناط أو صيغ للتص ُّوف‪ ،‬والتي نقتبسها عن حسن حنفي الذي‬
‫يل له ‪ ،‬وهذه األنواع‬
‫واالصطالحي واملراح ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ُّغوي‬
‫تح َّدث عن ثالثة أنواع للتص ُّوف ألجل الضبط الل ِّ‬
‫هي‪:‬‬
‫ين ‪،... ،‬‬
‫كل خلق د ٍّ‬‫سني‪ ،‬والخروج من ِّ‬‫كل خلق ٍّ‬ ‫أ‪ -‬التص ُّوف الخلقي‪ :‬ويعني الدخول يف ِّ‬
‫والتخل عن‬
‫ّ‬ ‫وال يؤخذ التص ُّوف فيه من القيل والقال‪ ،‬لكن من الجوع أي من التجربة وترك الدنيا‪،‬‬
‫[[[‬
‫املألوف واملستحسن‪ ،‬التص ُّوف صفاء املعاملة مع الله والعزوف عن الدنيا‪.‬‬
‫ومجاهد أغر مثل األستاذ النوريس املتَّخذ األنبياء (عليهم السالم) قدوة ورائدا ً يف التج ُّرد‬
‫اليومي‬
‫ِّ‬ ‫واالستغناء يالزمه االقتصاد حتى يصبح شيمته الفطريَّة وخصلته العاديَّة‪ ،‬فيكفيه من القوت‬
‫قليل من الحساء وكأس من املاء وقطعة من الرغيف‪ ،‬فهو يحرص اقتصاده يف املأكل واملرشب‬
‫وامللبس وما إليها من األمور البسيطة‪ ،‬بل وسعه بعدم اإلرساف بالقيم املج َّردة واألمور املعنويَّة‬
‫[[[‬
‫مثل الفكر واالستعداد والقابل َّية والوقت والزمن والنفس‪.‬‬
‫يف الكاذب الغنى بعد‬
‫يف ليس من هذا العامل مثل ملكوت بوذا‪ ،‬وعالقة الصو ِّ‬ ‫فملكوت الصو ِّ‬
‫الذل‪ ،‬والشهرة بعد الخفاء‪ ،‬والتح ُّول من اآلخرة إىل الدنيا‪ .‬والتص ُّوف فقر ٌّ‬
‫وذل‬ ‫الفقر‪ ،‬والع ُّز بعد ِّ‬
‫التمسك بالفقر واالفتقار‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وخفاء‪ ،‬عزلة وتواضع وكمون‪ .‬هو التح ُّول عن العامل والق َّوة والشهرة‪ .‬وهو‬
‫ِّ‬
‫بالذل واإليثار وترك التع ُّرض واالختيار[[[ ‪.‬‬ ‫والتحقُّق‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫النوريس الذي مل‬
‫ِّ‬ ‫طريق ال حياد عنه‪ ،‬وهذا ما حدث لدى‬ ‫ٌ‬ ‫إ َّن مسلك الفت َّوة بق َّوة وبصدق‪،‬‬
‫سمه (عودة الصحوة الروح َّية)‬ ‫يف والعالمات املشهورة فيه‪ ،‬بل ذهب نحو ما َّ‬ ‫مبظهريَّة العلم الصو ِّ‬
‫الروحي التا ِّم سنة ‪1919‬م‪:1336/‬‬‫ِّ‬ ‫وهو الفعل والعمل املبارش(الفت َّوة العلم َّية)‪ ،‬إذ قال عن تح ُّوله‬
‫ورأيت شعريات بيضاء يف رأيس‬ ‫ُ‬ ‫بأن أسعد إنسان يف العامل‪ ،‬نظرت إىل املرأة‪،‬‬ ‫أحس ّ‬
‫ُّ‬ ‫وبينام كنت‬
‫ويف لحيتي‪ ،‬وإذا بتلك الصحوة الروح َّية التي أحسست بها يف األرس يف جامع (قوصتورما) تبدأ‬
‫كنت أرتبط بها قلب ّياً‪ ،‬وكنت أظ ُّنها‬ ‫بالظهور‪ .‬فأخذت أنعم النظر وأفكِّر مدقِّقاً يف تلك الحاالت التي ُ‬
‫أنها مدار السعادة الدنيويَّة‪ .‬فام من حالة أو سبب دقَّقت النظر فيه‪ ،‬إالَّ رأيت أنَّه سبب تافه وخادع‪،‬‬
‫يستحق التعلُّق به وال االرتباط معه‪ ،...‬كل ذلك أ َّدى إىل النفرة واالمتعاض من الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ال‬
‫فقلت لقلبي‪ :‬يا ترى هل أنا منخدع كلّ ّياً فأرى الكثريين ينظرون إىل حياتنا التي يرىث لها من زاوية‬
‫الحقيقة نظر الغبطة؟ فهل ج ّن جنون جميع هؤالء الناس؟ أم أنا يف طريقي إىل الجنون‪ ،‬لرؤيتي‬

‫[[[‪ -‬حسن حنفي‪ ،‬من الفناء إىل البقاء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.845-844‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬سرية ذات َّية (كل َّيات رسائل النور)‪ ،‬إعداد وترجمة‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلر للنرش‪ ،‬القاهره‪،‬‬
‫ط‪ ،2011 ،6‬ص‪.47-46‬‬
‫[[[‪ -‬حسن حنفي‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.846‬‬

‫‪144‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫هؤالء املفتونني بالدنيا مجانني بلهاء؟! وعىل كل حال‪...‬فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية‬
‫التفت إىل نفيس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشيب جعلتني أرى أوالً فناء ما ارتبط به األشياء املعرضة للفناء والزوال ثم‬
‫فوجدتها يف منتهى العجز!‪ .‬عندها رصخت روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وقد تثبتّت‬
‫فأي فائدة أرجوها‬ ‫دمت فانية جسامً ُّ‬
‫ُ‬ ‫باألشياء الفانية متو ِّهمة فيها البقاء‪ ،‬رصخت من أعامقها‪ :‬ما‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫دمت عاجزة فامذا أنتظر من العاجزين؟‪ ..‬فليس لدايئ دواء إالَّ عند الباقي‬ ‫من هذه الفانيات؟ وما ُ‬
‫الرسمدي‪ ،‬عند القدير األزيل[[[ ‪.‬‬
‫أ َّما النوع اآلخر عند حسن حنفي فهو‪:‬‬
‫ب‪ -‬التص ُّوف النفيس‪ :‬وهو املعنى الذي يبدأ من النفس لسلوك الطريق بداية بالوقت أي‬
‫كل وقت مبا هو أويل به يف‬ ‫باللَّحظة‪ ،‬لحظة التوبة‪ .‬واختيار التح ُّول هو أن يكون اإلنسان يف ِّ‬
‫الوقت‪ ،‬التص ُّوف علم لبواطن القلوب‪ .‬فمن اعتنى بظاهرة فإن باطنه خراب‪ .‬هو اسرتسال النفس مع‬
‫يف بداية التص ُّوف النفيس[[[‪.‬‬
‫الله علمها ما يريد‪ ،‬وتسليم االنقياد له‪ ،،،.‬فالطريق الصو ُّ‬
‫إ َّن طريق الفت َّوة باملعنى النفيس هو انكشاف حقيقة النفس من جهة وانكشاف حقيقة العامل‬
‫أو الدنيا من جهة أخرى‪ ،‬وبذلك النحو يبدأ املسري يف سلوك طريق أهل الله (املتص ِّوفة)‪ ،‬وهنا‬
‫النوريس‪ :‬ثم نظرت إىل (الدنيا)‬
‫ُّ‬ ‫تظهر تجلّيات علم الباطن عىل السالك‪ ،‬وعن هذ ِه املعاين قال‬
‫فرأيت بنور القرآن الكريم أن هناك ثالث دىن كل َّية قد تداخل‬
‫ُ‬ ‫التي عشقها أكرث الناس‪ ،‬وابتلوا بها‪،‬‬
‫بعضها يف البعض اآلخر‪:‬‬
‫جهة إىل األسامء اإلله َّية الحسنى‪ ،‬فهي مرآة لها‪.‬‬
‫األوىل‪ ،‬هي الدنيا املتو ّ‬
‫جهة نحو اآلخرة‪ ،‬فهي مزرعتها‪.‬‬
‫الثانية‪ ،‬هي الدنيا املتو ِّ‬
‫جهة إىل أرباب الدنيا وأهل الضاللة فهي لعبة أهل الغفلة ولهوهم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬هي الدنيا املتو ِّ‬
‫خاصة به‪ ،‬فهناك إذن دىن متداخلة بعدد‬ ‫َّ‬ ‫ورأيت كذلك أن لكل أحد يف هذه الدنيا دنيا عظيمة‬
‫كل شخص قامئة عىل حياته الشخص َّية‪ ،‬فمتى ما ينهار جسم شخص فإ َّن دنياه‬ ‫البرش‪ ،‬غري أ َّن دنيا ِّ‬
‫الخاصة بهذه الرسعة الخاطفة؛‬ ‫َّ‬ ‫تته َّدم وقيامته تقوم‪ .‬وحيث أن الغافلني ال يدركون انهدام دنياهم‬
‫شك يف أ َّن يل‬‫فهم يفتنون بها‪ ،‬ويظ ّنونها كالدنيا العا َّمة املستق َّرة من حولهم‪ .‬فتأ َّملت قائالً‪ :‬ال َّ‬
‫الخاصة إذن يف عمري القصري‬ ‫َّ‬ ‫خاصة –كدنيا غريي‪ -‬تته َّدم برسعة فام فائدة هذه الدنيا‬ ‫َّ‬ ‫أيضاً دنيا‬
‫الخاصة –بالنسبة إيل ولغريي‪ -‬ما هي إالَّ متجر‬‫َّ‬ ‫جدا ً؟!‪ ...‬فرأيت بنور القرآن الكريم أن هذه الدنيا‬

‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬سرية ذات َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ,‬ص ‪.182-181‬‬
‫[[[‪ -‬حسن حنفي‪ ،‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪849-848‬‬

‫‪145‬‬
‫المحور‬

‫كل يوم وت ُخىل‪ ،‬وهي سوق مقامة عىل الطريق لتجارة الغادين والرائحني‪،‬‬‫مؤقَّت‪ ،‬ودار ضيافة تُ أل َّ‬
‫[[[‬
‫وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ املصور‪ ،‬فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمه‪.‬‬
‫أما النوع أو اللَّفظ األخري من التص ُّوف عند حسن حنفي فهو‪:‬‬
‫ج‪ -‬التص ُّوف الفلسفي‪ :‬والتص ُّوف أيضاً قول يف املعرفة والتوحيد‪ .‬وأرفع العلوم فيه علم األسامء‬
‫والصفات‪ ،‬ومتيز الخالف عن االختالف‪ .‬والتص ُّو هوف الفناء عن الذات والبقاء بالله (أن مييتك‬
‫الحق عنك‪ ،‬ويحييك بك)‪ ،‬واملوت عن الذات فناؤها‪ ،‬واإلحياء بالله بقاؤها بقواها الذاتيَّة‪ .‬ومثن‬
‫التص ُّوف الفناء فيه ث َّم البقاء فيه أي األبد‪ ،‬أل َّن الفناء عن الحس بقاء مبشاهدة املطلوب إىل األبد‬
‫[[[‬
‫يعني الفناء يف التص ُّوف اإلخالص له‪ ،‬والبقاء للمشاهدة‪...،‬‬
‫الفلسفي اقرتنت بحياته الشخصيَّة ذاتها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ونالحظ أن للنوريس انتقالة عجيبة يف عامل التص ُّوف‬
‫وهي‪ ،‬بحسب تعبرياته‪ ،‬انتقال ُه من (سعيد القديم) إىل (سعيد الجديد) صاحب النهضة الروح َّية‬
‫الخاصة‪ ،‬والتي فرضت عليه مراجعة العلوم الفلسف َّية الغرب َّية التي أعاقت‬‫َّ‬ ‫الذات َّية واالجتامع َّية‬
‫الحق سبحانه‪ ،‬وهو يقول متح ِّدثاً عن (سعيد القديم) وإعجابه‬ ‫ِّ‬ ‫الروحي وسريه نحو‬
‫َّ‬ ‫ومنعت رقيَّه‬
‫بالفلسفة الغربيَّة‪:‬‬
‫“ولكن كنت – ويالألسف ‪ -‬أي ذلك الوقت مغرتفاً من العلوم اإلسالم َّية مع العلوم الفلسف َّية‬
‫الرقي والتكامل ومحور الثقافة وتن ُّور‬
‫ِّ‬ ‫ظ َّناً م ّني – ظ َّناً خطأ جدا ً‪ -‬أ َّن تلك العلوم الفلسفيَّة هي مصدر‬
‫الفكر‪ ،‬بينام تلك املسائل الفلسف ّية هي التي ل َّوثت روحي كثريا ً‪ ،‬بل أصبحت عائقة أمام سم ّوي‬
‫[[[‬
‫املعنوي”‪.‬‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي مرضاً ينبغي التخلُّص منه‪ ،‬وال ميكن ذلك إالَّ بالرتياق‬‫َّ‬ ‫بل هو يع ُّد العلم‬
‫املعالج لذلك القلب السقيم الذي تأث َّر بتلك الفلسفة الغرب َّية‪ ،‬وبحسب قوله‪:‬‬
‫الفلسفي يف ازدياد املرض‪ ،‬كام رأيت ازدياد املرض يف ازدياد العلم‬ ‫ِّ‬ ‫“قد شاهدت ازدياد العلم‬
‫يل‪ .‬فاألمراض املعنويَّة توصل إىل علوم عقل َّية‪ ،‬كام أ َّن العلوم العقل َّية تولِّد أمراضاً قلب َّية‪ ،‬إذ‬
‫العق ّ‬
‫حينام سار (سعيد الجديد) يف طريق التأ ُّمل والتفكُّر‪ ،‬انقلبت تلك العلوم األوروب َّية الفلسف َّية وفنونها‬
‫التي كانت مستق َّرة إىل ح ٍّد ما يف أفكار (سعيد القديم) إىل أمراض قلبيَّة‪ ،‬نشأت منها مصاعب‬
‫ومعضالت كثرية يف تلك السياسة القلبيَّة‪ ،‬فام كان من (سعيد الجديد) إالَّ القيام بتمخيض فكره‬

‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.189-188‬‬


‫[[[‪ -‬حسن حنفي‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.851‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.182‬‬

‫‪146‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫[[[‬
‫والعمل عىل نفضه من أدران الفلسفة املزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة”‪.‬‬
‫وهنا يأتيه الخالص عرب نور القرآن الكريم الذي كشف له عن معاين ودالالت التوحيد واملعرفة‬
‫اإلله َّية الحقّة‪“ :‬وبينام كنت يف هذه الحالة‪ ،‬إذا بحكمة القرآن املق َّدسة تسعفني‪ ،‬رحم ًة من الع ِّ‬
‫يل‬
‫القدير‪ ،‬وفضالً وكرماً من عنده سبحانه‪ ،‬فغسلت أدران تلك املسائل الفلسفيَّة‪ ،‬وطهرت روحي‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الروحي املنبثق من العلوم الفلسف َّية‪ ،‬يغرق‬


‫ُّ‬ ‫مبي يف كثري من الرسائل‪ -‬إذ كان الظالم‬ ‫منها –كام هو َّ‬
‫جه بنظري يف تلك املسائل فال أرى نورا ً وال أجد‬ ‫روحي ويطمسها يف الكائنات‪ ،‬فأينام كنت أتو َّ‬
‫قبساً‪ ،‬ومل أمتكَّن من التنفس واالنرشاح‪ ،‬حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم‬
‫الذي يلقّن ( ال إله إالَّ هو) فم َّزق ذلك الظالم وب َّدد ُه”[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫تلقي َّ‬
‫الفتوة من منبعها‪:‬‬ ‫ثمرة اإلعداد الرويح‪:‬‬
‫النوريس يف صورة متكاملة من صور الفت َّوة‪،‬‬‫ِّ‬ ‫الروحي الذايتِّ لدى‬
‫ِّ‬ ‫لقد انعكست معامل اإلعداد‬
‫الخلقي) ليغ ّيب الذَّات أو األنا عرب فرط إحسانه مبن حوله ضمن‬ ‫َّ‬ ‫كيف ال وهو اخترب (التص ُّوف‬
‫النفيس) وهو الولوج املستم ُّر يف طريق‬
‫ِّ‬ ‫مدارات سلوك َّية غاية يف اإلنسان َّية‪ ،‬ثم جاء اختبار(التص ُّوف‬
‫السري والسلوك والتوقُّف يف محطَّات األحوال واملقامات تهذيباً وتزكية أكرث فأكرث‪ ،‬وال يكتمل‬
‫ٍ‬
‫بعدئذ‪.‬‬ ‫الشهودي وتنفرج له حقيقة نفسه الكل َّية وحقيقة العامل‬
‫َّ‬ ‫األمر لديه حتى ينال العلم‬
‫وينبغي القول أنَّه من دون هذا اإلعداد ال يكتمل لديه منطق (الفت َّوة) الذي من أوىل محاسنه‬
‫الروحي لتلقّي الحقائق اإللهيَّة عربه‪ ،‬أال وهو صاحب الفت َّوة املطلقة‬
‫ِّ‬ ‫أنَّه كان وثيق الصلة باملعنى‬
‫بعدئذ‪ ،‬وهو بصدد الدفاع‬ ‫ٍ‬ ‫اإلمام عيل بن ايب طالب‪ ،‬وهذا ما أورده ع َرضاً يف محكمة (دنيزيل)‬
‫عن نفسه‪ ،...،”:‬قلت لهم يف املحكمة‪ :‬إنني ال أستطيع أن أع َّد نفيس من آل البيت حيث إ َّن‬
‫األنساب مختلطة يف هذا الزمان مبا ال ميكن متيُّزها‪ ،‬بينام مهدي آخر الزمان سيكون من آل البيت‪،‬‬
‫َّيت درس الحقيقة منه‪.[[[”..،‬‬
‫رغم أنَّني مبثابة ابن معنوي لسيدنا عيل ك َّرم الله وجهه وتلق ُ‬
‫يقول كذلك يف مكان من (املالحق)‪“ :‬إ َّن اإلمام عل ّياً ريض الله عنه هو أستاذ رسائل النور‪،‬‬
‫وهو الذي يويل اهتامماً بالغاً برسائل النور يف قصيدته(البديعيَّة) بإشارات رمزيَّة‪ ،‬وهو أستاذي‬
‫الخاص يف الحقائق اإلميان َّية”[[[‪.‬‬
‫ُّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.182‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.183‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬سرية ذاتية‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬كل َّيات‪ ،‬رسائل النور (املالحق)‪ ،‬ت‪ ،‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلر للنرش‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪،2011 ,6‬‬
‫ص‪.280‬‬

‫‪147‬‬
‫المحور‬

‫إن الكلامت التي قالها النوريس ذات مغزى عظيم وتفتح األفق عىل فضاءات معرفيَّة ذوقيَّة عالية‬
‫كل وجوهها يف مقالنا هذا‪ ،‬ولكن األمر امله َّم‬‫ومتع ِّددة يف آن واحد‪ ،‬لعلَّنا ال نستطيع الوقوف عىل ِّ‬
‫هو صلتها مبوضوعة (الفت َّوة)‪.‬‬
‫ولو توقَّفنا قليالً عند إشارات كامل مصطفى الشيبي حول الفت َّوة وصلتها بشخص اإلمام عيل‬
‫النوريس يحيل إىل معاين الفت َّوة الحقَّة ومنابعها‪ ،‬التي التصق بها هو‬‫َّ‬ ‫بن ايب طالب‪ ،‬لوجدنا أ َّن‬
‫شخص ّياً‪ ،‬وكانت بالنسبة إليه مصدرا ً من مصادر تلقّي (الحقائق اإلله َّية)‪ ،‬األساس َّية والجوهريَّة‪.‬‬
‫يقول الشيبي‪« :‬لقد تن َّبه الدكتور أبو العال عفيفي إىل أ َّن عل ّياً وأهل بیته وصفوا بالفت َّوة اعتبارها‬
‫أخصها الكرم والسخاء واملروءة‪ ،‬مت ّيز املتَّصف بها من غريه من الناس»‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫مجموعة من الفضائل‬
‫يقول (معلِّقاً)‪ :‬ومن املالحظ أن هذا هو خلق اإلمام عيل الرجل الشجاع املؤثِر عىل نفسه زمال َءه‬
‫يف الخالفة‪ ،‬الذي مل يرث ومل يعارض إالَّ تغليباً للمصلحة العا َّمة وتغلُّباً عىل املصلحة الشخصيَّة‪،‬‬
‫يل بالسخاء واملروءة‬
‫صف ع ٌّ‬ ‫النبي‪ ‬ليلة الهجرة‪ .‬وقد ُو ِ‬‫الذي ع َّرض نفسه للموت مببيته يف فراش ِّ‬
‫َ ُ ْ ُ َ َّ َ َ َ َ‬
‫أخص صفات الفت َّوة ‪ -‬يف القرآن ودارت حوله اآلية الكرمية‪ :‬ويطعِمون الطعام على‬ ‫ُّ‬ ‫‪ -‬وهام‬
‫ً ََ ً ََ ً‬
‫ُح ّبِهِ م ِْسكِينا ويتِيما وأسِيرا‪( ‬سورة الدهر‪ ،‬اآليتان‪ ،)9-8‬ويشارك عل ّياً يف ذلك فاطمة وجارية‬
‫لهام اسمها فضَّ ة‪ ،‬وقد يضاف إليهم الحسن والحسني‪ .‬والقصة تدور حول السخاء واإليثار إذ كان‬
‫املعنيون باآلية صامئني وجادوا بإفطارهم عىل مسكني ويتيم وأسري[[[‪.‬‬
‫يل رأساً للفت َّوة وسيّدا ً لها ‪ -‬باعتبارها مرشباً جديدا ً يجتمع يف االنتامء إليه طائفة‬
‫وقد صار ع ٌّ‬
‫معيَّنة من الناس‪ ،‬ويف ذلك يقول ابن ايب الحديد‪ :‬فإن أربابها (يعني أصحاب الفت َّوة) نسبوا أنفسهم‬
‫إليه‪ ،‬وص َّنفوا يف ذلك كتباً‪ ،‬وجعلوا لذلك إسنادا ً أنهوه إليه وقرصوه عليه وس ّموه سيد الفتيان‬
‫‪ ،.......‬وقد نسب الشيخ الذي ألبس النارص لدين الله العباس لباس الفت َّوة سنة ‪578‬ه‪-1182 /‬‬
‫‪1183‬م الفت َّوة إىل عيل بن ايب طالب‪ ،‬وذكر أنَّ‪ :‬أرباب الفتوة يسندونها بالعنعنة إىل أمري املؤمنني‬
‫[[[‬
‫عيل بن ايب طالب‪ ،‬وناهيك بذلك رشفاً وفخرا ً وعظمة وقدرا ً‪.‬‬
‫جوهري مشهور للغاية غابت معانيه عن أجيال كثرية‪ ،‬مل تلتفت‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بعدئذ يحيل إىل أمر‬ ‫والشيبي‬
‫يل‪ ‬إذ قال‪ :‬وهناك أمر مه ٌّم ج ّدا ً يصل عليّاً بالفت َّوة‪ ،‬ذلك أنَّه قد‬ ‫بعضها إىل صلة الفت َّوة باإلمام ع ٍّ‬
‫قيل عنه‪( :‬ال فتى إالَّ عيل) فوصف بالفت َّوة إىل القدر الذي ال يصل إليه فتى آخر‪ ،‬وذلك عىل أ َّن‬
‫[[[‬
‫الصطالح الفت َّوة نفسه صلة بهذه العبارة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬الصلة بني التص ُّوف والتش ُّيع‪ ،‬املجلَّد (‪ ،)1‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.528-527‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.529-528‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.529‬‬

‫‪148‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫معنوي لإلمام‬
‫ٌّ‬ ‫النوريس أنَّه ابن‬
‫ِّ‬ ‫وبذلك النحو يتَّضح جزء من املعاين والدالالت العميقة لقول‬
‫لعل املنطق لهذا يشري إىل تلقّيه أخالقيَّات‬ ‫عيل بن ايب طالب‪ ،‬وأنَّه تلقَّى الحقيقة منه‪َّ ،‬‬
‫جهة ومرشد ًة له طوال حياته‪ ،‬وأنَّها كانت املعني له يف‬ ‫الفت َّوة بالدرجة األوىل منه‪ ،‬وأنها كانت مو َّ‬
‫املسؤول َّيات االجتامع َّية والسياس َّية التي التزم بها‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ُّ‬
‫القرآين عند النوريس‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الفتوة واجليل‬
‫ين عرب م ِّده بتقن َّيات‬
‫أخالقي ‪ /‬قرآ ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫روحي ‪/‬‬
‫ٍّ‬ ‫النوريس عنايته وتركيزه الشديد نحو تربية جيل‬
‫ُّ‬ ‫جه‬
‫لقد و َّ‬
‫(التزكية) الروحيَّة‪ ،‬التي هي يف صميمها تعبري دقيق عن مرشوع (الفت َّوة)‪ ،‬وخصائصها وسامتها‪ ،‬فهو‬
‫عبت عنه (رسائل النور) من جهة التفسريات الروح َّية واملعارصة‬ ‫يكتف مبستوى التنظري الذي َّ‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫ين‪ ،‬بل سعى ألن تحتوي تلك الرسائل منهجاً روح ّياً اخالق ّياً (متكامالً) لصياغة أجيال‬ ‫للنص القرآ ِّ‬
‫ِّ‬
‫املوضوعي التا ُّم ملسألة (الفت َّوة) لديه حسبام نعتقد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫جديدة حاملة للتزكية الفعل َّية التي هي املعادل‬
‫النوريس من أساس َّيات (الفت َّوة)‪ ،‬وهي ال َّرحمة وتح ُّمل الناس وعدم تعيريهم‪ ،‬واألخذ‬
‫ُّ‬ ‫ينطلق‬
‫بأيدي قويّهم وضعيفهم‪ ،‬واملرونة التا َّمة معهم‪ ،‬بعد أن تختفي لديه (األنويَّة) وتظهر (الغرييَّة)‪،‬‬
‫بأجىل متظ ُهراتها األخالقيَّة‪ ،‬إذ قال بهذا الصدد‪ :‬للوصول إىل الله سبحانه وتعاىل طرائق كثرية‪،‬‬
‫وسبل عديدة‪ ،‬ومورد جميع الطرق الحقَّة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم‪ .‬إالَّ أ َّن بعض‬
‫هذه الطرق أقرب من بعض وأسلم وأت ّم‪ .‬وقد استفدت من فيض القرآن الكريم ‪ -‬بالرغم من فهمي‬
‫القارص ‪ -‬طريقة قصريا ً وسبيالً سويّاً هو طريق الله العجز‪ ،‬الفقر‪ ،‬الشفقة‪ ،‬التفكُّر‪ .‬نعم‪ ،‬إن العجز‬
‫كالعشق طريق موصل إىل الله‪ ،‬بل أقرب وأسلم‪ ،‬إذ هو يوصل إىل املحبوبيَّة بطريق العبوديَّة ‪...‬‬
‫والفقر مثله يوصل إىل اسم الله (الرحمن) ‪ ...‬وكذلك الشفقة كالعشق موصل إىل الله إالَّ أنَّه أنفذ‬
‫منه يف السري وأوسع منه مدى‪ ،‬إذ هو يوصل إىل اسم الله (الرحيم) ‪ ...‬والتفكُّر أيضاً كالعشق إالَّ أنَّه‬
‫[[[‬
‫أغنى منه وأسطع نورا ً وأرحب سبيالً‪ ،‬إذ هو يوصل السالك إىل اسم الله (الحكيم)‪.‬‬
‫النوريس عىل املد َّونات الصوف َّية‪ ،‬ليك‬
‫ُّ‬ ‫وميكن نفتتح بهذه اإلشارات امله َّمة التي قال بها‬
‫نتل َّمس وحدة املوضوع واملامرسة الروح َّية(التزكية) الساعية لتوليد (الفت َّوة)‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫يدل عىل أنَّهم‬
‫كانوا متوافقني من جيل إىل جيل يف عامل الصوفيَّة‪ ،‬وهذا ما نقارنه مع ما جمعه الباحث إيريك‬
‫جوفروا يف كتابه (التص ُّوف‪ :‬طريقة اإلسالم الجوانيَّة) إذ قال‪ :‬وعىل األتباع أن يتحلَّوا بال َّرحمة‬
‫واإلخالص واإليثار‪ .‬وإذا ما رأى أحدهم عيباً يف أخيه سرته وال يكشفه أما عندما يكره أحدهم فال‬
‫ب َّد أن يحاسب نفسه‪ ،‬وأن يجد يف أعامق ذاته السبب لذلك التنافر‪ .‬صحيح أنَّه ميكن أن يشعر‬

‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬كل َّيات رسائل النور (الكلامت)‪ ،‬ت‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلز للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،2011 ،6‬‬
‫ص‪.549‬‬

‫‪149‬‬
‫المحور‬

‫مبيل لهذا أو ذاك من اإلخوان ‪ ،‬ولكنه ال ب َّد أن يحرص عىل أالَّ يكون ذلك امليل ظاهرا ً‪ ،‬فالتعاون‬
‫كل مناحي الحياة‪ :‬يرشد املريد البصري الطالب الجديد ويظهر شفقة به‪ ،‬ويف املقابل‪،‬‬ ‫مطلوب يف ِّ‬
‫فإ َّن هذا األخري الب َّد أن يسارع بخدمة الجامعة‪ ،‬أل َّن ذلك جزء من تربيته ال وجود ملكان لألنان َّية يف‬
‫يف (ال يقرض وال يقرتض)‪.‬‬ ‫صلب الجامعة‪ .‬يقول أحد الشيوخ‪ :‬ال صحبة ملن قال (نعيل)‪ .‬والصو ُّ‬
‫[[[‬
‫خاصة وهو يحاول ترك صفات األنانيَّة؟ ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يتمسك بأغراض‬ ‫فهو مل يعد ميلك شيئاً لنفسه‪ .‬كيف َّ‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن النوريس يؤكِّد عىل مامرسة (الفت َّوة) ألجل مواجهة (األنويَّة) أي األنا‬
‫ولعل أهم ما قاله املتص ِّوفة عن (الفت َّوة) يف‬
‫َّ‬ ‫العاصفة واملهيمنة عىل ذهن اإلنسان وقلبه وسلوكه‪،‬‬
‫هذا الصدد هو ما أورده القشريي‪« ...:‬سمعت الفضول يقول الفت َّوة الصفح عن عرثات اإلخوان‪.‬‬
‫قيل الفت َّوة أن ال ترى لنفسك فضالً عىل غريك‪.[[[»..،‬‬
‫شخيص تع َّرض فيه لإلهانة والتحقري من أحدهم فقال إثره‪ :‬قلت‬ ‫ٍّ‬ ‫وهو يرضب مثاالً مبوقف‬
‫فلريض الله عنه‬
‫َ‬ ‫تخص شخيص ونفيس بالذات‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫لنفيس! إن كان تحقريه وما أورده من نقائض‬
‫إذ أطلعني عىل عيوب نفيس‪ ،‬فإن كان صادقاً فسوف يسوقني اعرتاضه إىل تربية نفيس األ َّمارة‬
‫وتأديبها‪ ،‬فهو إذن يعاونني يف النجاة من الغرور‪ ،‬وإن كان كاذباً‪ ،‬فهو عون يل أيضاً للخالص من‬
‫[[[‬
‫الرياء‪ ،‬ومن الشهرة الكاذبة التي هي أساس الرياء‪.‬‬
‫الحقيقي‬
‫ُّ‬ ‫يف‬
‫املعنوي) الذي هو الفتى الصو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫سمه بـ (الشخص‬ ‫ولهذا‪ ،‬فهو يؤكِّد دامئاً عىل ما َّ‬
‫قائالً‪« :‬إن هذا الزمان ‪ -‬ألهل الحقيقة‪ .‬زمان الجامعة‪ ،‬وليس زمان الشخصيَّة الفرديَّة وإظهار الفرديَّة‬
‫املعنوي الناشئ من الجامعة هو الذي ينفِّذ حكمه ويصمد تجاه األعاصري‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫واألنانيَّة‪ .‬فالشخص‬
‫فألجل الحصول عىل حوض عظيم‪ ،‬ينبغي للفرد إلقاء شخص َّيته وأنان َّيته التي هي كقطعة ثلج يف‬
‫ذلك الحوض وإذابتها فيه‪ ،‬وإالَّ فستذوب حتامً تلك القطعة من الثلج‪ ،‬وتذهب هباء‪ ،‬وتفوت‬
‫[[[‬
‫الفرصة من االستفادة من ذلك الحوض أيضاً‪.‬‬
‫وهو يعلِّم تالميذه ومريديه أ َّن الفت َّوة مبن َّية عىل العمل ودميومته وأ َّن التوفيق من الله‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫«إن وظيفتنا العمل لإلميان والقرآن بإخالص‪ ،‬أما إحراز التوفيق وحمل الناس عىل القبول ودفع‬
‫مم يتوالَّه الله سبحانه‪ .‬نحن ال نتدخَّل فيام هو موكول إىل الله‪ ،‬حتى إذا غلبنا فال‬ ‫املعارضني‪ ،‬فهو َّ‬
‫[[[‬
‫يؤثر هذا يف قوانا املعنويَّة وخدماتنا»‪.‬‬

‫[[[‪ -‬إيريك جوفروا‪ ،‬التص ُّوف‪ :‬طريقة اإلسالم الجوان َّية‪ ،‬ت‪ :‬عبد الحق الزموري‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬أبو ظبي‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪.154‬‬
‫[[[‪ -‬ينظر تفاصيل أكرث‪ :‬أيب القاسم القشريي‪ ،‬الرسالة القشرييَّة يف علم التص ُّوف‪ ،‬دار الرتبية للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بغداد‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.177‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬كل َّيات رسائل النور (املكتوبات)‪ ،‬ت‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلر للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،2011 ،6‬‬
‫ص‪.82‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر السابق نفسه‪( ،‬املالحق)‪ ،‬ص‪.154‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر السابق نفسه‪( ،‬املالحق)‪ ،‬ص‪.327‬‬

‫‪150‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫أليس هذا هو عني (الفت َّوة)‪ ،‬التوكُّل الدائم عىل الله سبحانه ودميومة الشكر واإليثار‪ ،‬أي أ َّن‬
‫تفت من عضدهم (الجيل القرآين)‪ ،‬جيل رسائل النور‪ ،‬ونقرأ عن الفت َّوة يف هذا السياق‬ ‫الصعاب ال ُّ‬
‫وقيل‪ :‬سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد (الصادق) عن الفت َّوة فقال‪ :‬ما تقول أنت فقال شقيق إن‬
‫أُعطينا شكرنا وإن ُمنعنا صربنا‪ .‬قال جعفر‪ ،‬الكالب عندنا باملدينة كذلك تفعل‪ ،‬فقال شقيق يا بن‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫[[[‬
‫بنت رسول الله ما الفت َّوة عندك‪ ،‬فقال‪ :‬إن أُعطينا آثرنا وإن ُمنعنا شكرنا‪.‬‬
‫إنَّه يرى أ َّن جوهر الفت َّوة بالنسبة إليه وإىل تالميذه هي (العمل اإليجايب الب َّناء)‪ ،‬وهذا ما أكَّده‬
‫السلبي اله َّدام‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يب الب َّناء وليس السعي للعمل‬
‫يف أحد دروسه األخرية‪ :‬إن وظيفتنا هي العمل اإليجا ُّ‬
‫اإللهي من دون التدخُّل مبا هو موكول أمره‬ ‫ِّ‬ ‫ومه َّمتنا القيام بالخدمة اإلميانيَّة ضمن نطاق الرىض‬
‫كل ضيق ومشقَّة تواجهنا وذلك بالقيام‬ ‫إىل الله‪ ،‬إننا مكلَّفون بالتج ُّمل بالبرص والتقلُّد بالشكر تجاه ِّ‬
‫[[[‬
‫بالخدمة اإلميان َّية الب َّناءة التي تثمر الحفاظ عىل األمن واالستقرار الداخيل‪.‬‬
‫خاص‬
‫ٍّ‬ ‫سيايس)‬
‫ٍّ‬ ‫النوريس إىل صياغة (عرفان‬
‫َّ‬ ‫يب الب َّناء قاد‬
‫من املفيد القول أ َّن العمل اإليجا َّ‬
‫سمه بـ(سعيد الجديد)‪.‬‬‫الشخيص تحت ما َّ‬
‫ِّ‬ ‫ودقيق‪ ،‬ميارس السياسة بنحو غري مبارش بعد تح ُّوله‬
‫لقد وجد أ َّن املواجهة املبارشة مع السلطة السياس َّية تؤ ّدي إىل الفوىض من ناحية واىل ذهاب‬
‫األنفس من ناحية أخرى‪ ،‬فضالً عن كونها تق ّوض روح التسامح واإلخاء ودعوى التقارب والتحاور‬
‫خدمة للمجتمع بر َّمته‪ ،‬فاألصل لديه هو البناء ال الهدم؛ ولعلَّنا سنحاول الوقوف عىل بعض محطَّات‬
‫يل مالمح املرشوع‬‫لنتبي بنحو ج ٍّ‬
‫َّ‬ ‫صح التعبري‪،‬‬
‫السيايس) أو (الفت َّوة السياس َّية)‪ ،‬إن َّ‬
‫ِّ‬ ‫هذا (العرفان‬
‫األخالقي األكرب لديه (التزكية) و(بناء اجيال اخالقية) و(حفظ املجتمع من الفرقة والفوىض)‬ ‫ِّ‬
‫و(مواجهة م ِّد اإللحاد والعلمنة)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫االجتماعية إىل َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫السياسية‪:‬‬ ‫الفتوة‬ ‫املسؤولية‬ ‫ثالثا‪ :‬من‬
‫مث َّة من يتساءل‪ :‬هل إ َّن املتص ِّوفة مشغولون ومنه ُّمون يف مد َّوناتهم بحكومة الباطن أكرث من‬
‫حكومة الظاهر؟ أم أن لألمر وجهة نظر أخرى؟ أو توجد مواقف أخرى عن مواجهة العرفاء أو‬
‫التص ّدي للشؤون السياس َّية وتح ُّوالتها إن كانت لحاكم من أبناء البلد أو كان غازياً؟ بطبيعة الحال‬
‫السيايس وعىل مراحل تاريخيَّة متباينة‪ .‬فلقد واجه‬
‫ِّ‬ ‫نحن ن َّوهنا عن ألوان وصيغ التعاطي مع الشأن‬
‫النوريس أعتى وأبشع أشكال إنهاء الحياة الروحيَّة وإقصاء الدين عن الدولة واملجتمع إالَّ وهي‬‫ُّ‬
‫سياسات (العلمنة) التي اعتمدها كامل أتاتورك وأسالفه (‪ ،)1938-1881‬ألجل الوقوف عن معاين‬
‫سيايس) مارس ُه األستاذ إىل ساعة رحيله‪ ،‬وهو يتح َّدى ويقارع تلك السياسات‬ ‫ٍّ‬ ‫ودالالت (عرفان‬

‫[[[‪ -‬القشريي‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.179‬‬


‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪( ،‬املالحق)‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.400‬‬

‫‪151‬‬
‫المحور‬

‫واألخالقي (رسائل النور)‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫والروحي‬
‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫التي استدعت من ُه نهضة روحيَّة بثَّها يف مرشوعه‬
‫النوريس ض َّد علمنة الدولة العثامن َّية بعد‬
‫ُّ‬ ‫يجدر القول أنَّه يف حدود املواجهة املبارشة‪ ،‬كان‬
‫وتول أتاتورك الحكم كرئيس جمهوريَّة‪ ،‬ولكن يف حقيقة األمر أ َّن املواجهة التي‬ ‫ّ‬ ‫سقوط الخالفة‬
‫أقامها إزاء العلامن َّية كانت تنتمي إىل حدود وفضاءات أوسع ألنَّه جعل من مركزيَّة القرآن الكريم‬
‫ظل يعمل عليه إىل حني وفاته‪ ،‬وهذا ما‬ ‫مواجهة للمركزيَّة الغرب َّية ويف شتَّى القضايا‪ ،‬وهذا األمر َّ‬
‫أكَّدته (رسائل النور)‪.‬‬
‫ولعل الجدير باألهم َّية والتأ ُّمل أ َّن مؤلف رسائل النور قد حدث له انقالب مهم يف حوايل سنة‬ ‫َّ‬
‫‪1899‬م (‪1316‬ه)‪ ،‬إذ كان يهت ُّم بالعلوم املتن ِّوعة إىل هذا التاريخ ألجل استيعاب العلوم واالستنارة‬
‫بها‪ ،‬أما بعده فقد علم من الوايل املرحوم (طاهر باشا) أ َّن أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬إذ سمع من ُه أ َّن وزير املستعمرات الربيطاين قد قال‪( :‬ما دام هذا القرآن بيد املسلمني فلن‬
‫وغي اهتاممه من‬ ‫نحكمهم حكامً حقيق ّياً‪ ،‬فلنس َع إىل نزعه منهم)‪ ،‬فثارت ثائرته واحت َّد وغضب‪َّ ...‬‬
‫الفكري فيه‪ ...‬جاعالً جميع العلوم املتن ِّوعة املخزونة يف ذهنه مدارج للوصول‬ ‫ِّ‬ ‫ج َّراء هذا االنقالب‬
‫إىل إدراك معاين القرآن الكريم وإثبات حقائقه‪ ،‬ومل يعرف بعد ذلك سواه هدفاً لعلمه وغاية لحياته‪،‬‬
‫وأصبحت املعجزة املعنويَّة للقرآن دليالً ومرشدا ً وأستاذا ً له حتى أنه أعلن ملن حوله‪( :‬ألبرهن َّن‬
‫للعامل بأن القرآن شمس معنويَّة ال يخبو سناها وال ميكن إطفاء نورها)[[[‪.‬‬
‫تبي لنا كيف‬
‫للنوريس بأطوار مختلفة ينبغي اإلشارة إليها‪ ،‬ألنها ِّ‬
‫ِّ‬ ‫السيايس‬
‫ُّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬م َّر النشاط‬
‫السيايس‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫املحك بالشؤون السياس َّية بنح ٍو مبارش‪ ،‬وكيف تح َّول النشاط‬ ‫تح َّول من رجل كان عىل‬
‫سمه هو يف مذكراته بني (سعيد القديم)‬ ‫السيايس)‪ ،‬وبطريقة مغايرة ملا َّ‬
‫ِّ‬ ‫لديه عرب انتقاله إىل (العرفان‬
‫جوهري من جهة أ َّن تركيزه عىل القرآن الكريم وتلمذة أتباعه‬
‫ٌّ‬ ‫و(سعيد الجديد)‪ ،‬ولهذا األمر مغزى‬
‫يف أجواء الفهم الجديد للقرآن أو استخراج جواهره املتن ِّوعة‪ ،‬استدعى منه فهامً جديدا ً ملعنى أن‬
‫يكون مواجهاً السلطات آنذاك‪.‬‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن مرحلة (سعيد القديم) تبدأ من السنوات املبكرة لشبابه حتى نفيه إىل‬
‫النوريس خدمة اإلسالم عرب االنخراط يف الحياة‬
‫ُّ‬ ‫(بارال) سنة (‪1926‬م)‪ ،‬وخالل هذ ِه املرحلة حاول‬
‫والتعليمي يف عهد السلطان عبد‬
‫ِّ‬ ‫السيايس‬
‫ِّ‬ ‫السياس َّية ومحاولة التأثري فيها‪ ،‬وعرب دعوته لإلصالح‬
‫الحميد‪ ،‬وإلقائه الخطب يف الجوامع والساحات‪ ،‬ونرشه للمقاالت السياسيَّة العنيفة يف جريدة‬
‫(وولقان)‪ ،‬ومحاولته استاملة رجال االتحاد والرتقّي وتسخريهم لخدمة اإلسالم‪ ،‬وتص ّديه للت َّيارات‬
‫امل ُعادية للدين[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬كل َّيات رسائل النور‪ ،‬سرية ذات َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.89-88‬‬
‫[[[‪ -‬إبراهيم سليم أبو حليوه‪ ،‬بديع الزمان النوريس وتحدّ يات عرصه‪ ،‬مركز الحضارة لتنمية الفكر اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪.30‬‬

‫‪152‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫والشك يف رجال االتحاد والرتقّي وكان يتَّهمهم بالتغريب‬ ‫ِّ‬ ‫لقد كان األستاذ ينظر بعني الريبة‬
‫عبت عنه مواقفه إبَّان إعالن املرشوطيَّة التي أيَّد دالالتها‬ ‫وسحق الهويَّة اإلسالميَّة‪ ،‬وهذا ما َّ‬
‫وأه ّميتها يف إدارة الدولة‪ ،‬ولكن كان يخىش من سطوة الحريَّة املنفلتة‪ ،‬التي يتز َّعمها رجال االتحاد‬
‫والرتقّي‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬إ َّن أصحاب األفكار الفاسدة يريدون االستبداد واملظامل تحت شعار الحريَّة‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫فألجل أالَّ نشاهد م َّرة أخرى تلك االستبدادات التي دفنت يف حفر املايض وال تلك املظامل التي‬
‫جرت يف سيل الزمان‪ ،...،‬إ َّن هذا االنقالب لو أعطى الحريَّة التي ولَّدها ألحضان الشورى الرشعيَّة‬
‫لرتبّيها فتُبعث أمجاد املايض لهذ ِه األ َّمة قويَّة حاكمة‪ ،‬بينام لو صادفت تلك الحريَّة األغراض‬
‫تفسوا‬‫الشخص َّية‪ ،‬فستنقلب إىل استبداد مطلق‪ ،‬فتموت تلك املولودة يف مهدها‪ ،‬يا أبناء الوطن‪ ،‬ال ّ‬
‫الحريَّة تفسريا ً سيّئاً‪ ،‬يك ال تفلت من أيديكم‪ ،‬وال تخنقونا بسقي االستعباد السابق الفاسد يف إناء‬
‫آخر‪ ،‬وذلك أل َّن الحريَّة إمنا تزدهر مبراعاة األحكام الرشعيَّة وآدابها والتخلُّق باألخالق الفاضلة[[[‪.‬‬
‫وخاصاً للغاية‪ ،‬إذ ين ّوه‬
‫ّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬ال تغيب املركزيَّة الغرب َّية عن ناظريه حتى لو كان الشأن داخل ّياً‬
‫وكل‪ ..‬إ َّن الجهل‬
‫عنها قائالً‪ :‬إ َّن أوروبا تظ ُّن أ َّن الرشيعة هي التي مت ُّد االستبداد بالق َّوة وتعينه‪ ،‬حاىش َّ‬
‫والتعصب املتفشّ يني فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أ َّن الرشيعة تعني االستبداد‪ ،‬لذا‬ ‫ُّ‬
‫َّمت كثريا ً من أعامق قلبي عىل ظ ِّنهم الس ّيئ هذا بالرشيعة‪.[[[....‬‬ ‫تأل ُ‬
‫ولعل األمر يبدو كمفارقة للوهلة األوىل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫النوريس موقفاً مغايرا ً من السياسة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬ات َّخذ‬
‫ولكن من يتم َّعن يدرك أ َّن مامرسة املوقف من السياسة والسياسيني بطريقة جديدة نالحظها بوضوح‬
‫ولعل هذه املفارقة تظهر ملن يرى جوابه عن السؤال‬ ‫َّ‬ ‫شديد بعد وصول أتاتورك إىل س َّدة الحكم‪،‬‬
‫اآليت‪ :‬مل انسحبت من ميدان السياسة وال تتق َّرب إليها قط؟ قال مجيباً‪ :‬لقد خاض سعيد القديم‬
‫غامر السياسة ما يقارب عرش سنوات علَّه يخدم الدين والعلم عن طريقها‪ ،‬فذهبت محاولته أدراج‬
‫يل‪،‬‬
‫الرياح‪ ،‬إذ رأى أ َّن تلك الطريق ذات مشاكل‪ ،‬ومشكوك فيها‪ ،‬وأ َّن التدخُّل فيها فضول‪ -‬بالنسبة إ َّ‬
‫فهي تحول بيني وبني القيام بأه ِّم واجب‪ ،‬وهي ذات خطورة‪ ،‬وأن أغلبها خداع وأكاذيب‪ .‬وهناك‬
‫األجنبي من دون أن يشعر‪ ،‬وكذا فالذي يخوض غامر السياسة إما‬ ‫ِّ‬ ‫احتامل أن يكون الشخص آلة بيد‬
‫يل فضول وال‬ ‫أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها‪ ،‬فإن كنت موافقاً فالتدخُّل فيها بالنسبة إ ّ‬
‫ٍ‬
‫‪-‬عندئذ‪ -‬ملامرستي‬ ‫يغنيني بيشء‪ ،‬حيث إنَّني لست موظَّفاً يف الدولة وال نائباً يف برملانها‪ ،‬فال معنى‬
‫يل ألتدخَّل فيها‪ ،‬وإذا دخلت ضمن املعارضة أو السياسة‬ ‫األمور السياس َّية وهم ليسوا بحاجة إ َّ‬
‫املخالفة للدولة‪ ،‬فالبد من أن أتدخَّل إما عن طريق الفكر أو عن طريق الق َّوة‪ ،‬فإن كان التدخُّل‬
‫يل أيضاً‪ ،‬ألن األمور واضحة جدا ً‪ ،‬والجميع يعرفون املسائل مثيل‪،‬‬ ‫فكريّاً فليس هنالك حاجة إ َّ‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.106-105‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪.107‬‬

‫‪153‬‬
‫المحور‬

‫فال داعي إىل الرثثرة‪ .‬وإن كان التدخُّل بالقوة‪ ،‬أي بأن أظهر املعارضة بإحداث املشاكل ألجل‬
‫الوصول إىل هدف مشكوك فيه‪ ،‬فهناك احتامل الولوج يف آالف من اآلثام واألوزار‪ ،‬حيث يُبتىل‬
‫الكثريون بجريرة شخص واحد‪ ،‬فال يرىض وجداين الولوج يف اآلثام وإلقاء األبرياء فيها بناء عىل‬
‫احتامل أو احتاملني من بني عرشة احتامالت‪ ،‬ألجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها‬
‫الدنيويَّة وقراءة الجرائد‪.[[[...‬‬
‫السيايس‪ ،‬بل كل أعامله قبل موقفه اآلنف‬ ‫ِّ‬ ‫النوريس إسقاط النظام‬
‫ِّ‬ ‫مل يكن الهاجس الدائم عند‬
‫الذكر وبعده‪ ،‬إمنا يقوم عىل رضورة اإلصالح الدائم وبذل النصح‪ ،‬لكنه كان يدرك ببصريته الثاقبة أ َّن‬
‫املعارضة املسلَّحة وتغيري النظام بالق َّوة يقودان إىل الفوىض وإسالة الدماء‪ ،‬وهذا ما رفضه بشكل‬
‫السيايس كان يدور‬‫ُّ‬ ‫قاطع‪ ،‬ولذا مل يشارك بالثورة التي تزعمها سعيد بريان ‪ .1925[[[/2/13‬فعرفان ُه‬
‫يف فلك إصالح الباطن كمق ِّدمة إلصالح الظاهر عرب إنشاء وإعداد جيل كامل تحت تربيته عىل‬
‫املعاين الكل َّية يف القرآن الكريم‪.‬‬
‫إ َّن التح ُّوالت الهائلة التي حدثت بعد إنهاء الخالفة وتأسيس الجمهوريَّة الرتكيَّة الحديثة‪ ،‬دفعت‬
‫النوريس إىل اتخاذ مواقف سياس َّية متع ِّددة‪ ،‬السيام بعد القرارات التي أقصت الدين عن الدولة‬ ‫َّ‬
‫بكل ما ملكت يداه وما من شأنه‬ ‫واملجتمع عىل ح ٍّد سواء‪ ،‬إذ قام أتاتورك إىل حني وفاته عام ‪ِّ 1938‬‬
‫اإلسالمي يف مختلف مجاالت الحياة‪ ،‬ألغى الخالفة واملحاكم الرشع َّية‪ ،‬وع َّدل‬ ‫ِّ‬ ‫إنهاء الحضور‬
‫كل الفرق والطرق الدينيَّة‪ ،‬وقام بتغيريات تطمس‬ ‫الدستور إللغاء الدين من نصوصه‪ ،‬وحظر نشاط ِّ‬
‫إسالمي‪ ،‬مثل إلغاء الطربوش والحجاب‪ ،‬واألبجديَّة العرب َّية‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫حتى بعض املظاهر الدالَّة عىل ٍ‬
‫ماض‬
‫الهجري‪ ،‬وعطلة يوم الجمعة‪ُ ...‬مق ًرا ً‪ ،‬بدالً منها‪ ،‬مظاهر غرب َّية مثل‪ :‬الق َّبعة والحرف الالَّتيني‬
‫ِّ‬ ‫والتقويم‬
‫امليالدي والتعطيل يو َمي السبت واألحد‪ .‬ومىض أتاتورك أبعد من ذلك عندما فرض مبدأ‬ ‫ِّ‬ ‫والتقويم‬
‫مؤسسات تابعة للدولة ترشف عىل الشؤون الدينيَّة‪ ،‬و(تضبط) حركة‬ ‫العلامنيَّة يف الدستور‪ ،‬وأنشأ َّ‬
‫األمئَّة والو َّعاظ الذين تح َّولوا موظَّفني عند الدولة‪ ،‬كام ألغى الدروس الدين َّية من املدارس مبوجب‬
‫قانون (توحيد التدريس)‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد وضع ترك َّيا عىل سكَّة (العلمنة والتغريب)[[[‪.‬‬
‫كل من رأت منه عدم االمتثال لها‪،‬‬ ‫بوج ٍه عام‪ ،‬حاربت السلطة الجديدة الدين‪ ،‬وطال اضطهادها َّ‬
‫فأعدمت عددا ً كبريا ً من علامء اإلسالم‪ ،‬وأصدرت بحقِّهم قانون الخيانة الوطن َّية‪ ،‬وهو القانون نفسه‬
‫جة قيامهم‬ ‫الذي ت َّم مبوجبه إعدام (الشيخ سعيد بريان)‪ ،‬وسجنت أربعني عاملاً من أصحابه بح َّ‬
‫بحركة مقاومة كرديَّة مدعومة من قبل اإلنكليز‪ ،‬يف حني كانت يف حقيقتها حركة إسالميَّة ض َّد النظام‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.241ً ،‬‬


‫[[[‪ -‬ينظر تفاصيل أكرث‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.243‬‬
‫[[[‪ -‬محمد نور الدين‪ ،‬قبعة وعاممة‪ :‬مدخل إىل الحركات اإلسالم َّية يف تركيا‪ ،‬دار النهار للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص‪.20‬‬

‫‪154‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫ين‪ ،‬كام أُعدم كثريون غريهم‪ ،‬وسجن وعذب آخر يف محاكم االستقالل التي أنشئت لتصفية‬
‫العلام ِّ‬
‫الخصوم[[[‪.‬‬
‫النوريس‬
‫ِّ‬ ‫ين الجديد ذا القبضة الحديديَّة والعنيفة‪ ،‬فرض عىل األستاذ‬ ‫السيايس العلام َّ‬
‫َّ‬ ‫إ َّن االستبداد‬
‫خاصة‪ ،‬إذ بعد فشل ثورة‬
‫َّ‬ ‫والنقدي ضمن سياقات‬
‫ِّ‬ ‫الروحي‬
‫ِّ‬ ‫مامرسة تق َّية سياس َّية ألجل مترير خطابه‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يب األناضول من أعامل‬ ‫مم دفع السلطات إىل نفيه إىل قرية نائية يف غر ِّ‬ ‫الشيخ بريان اتُّهم بدعمها َّ‬
‫(إسبارطة) اسمها (بارال)‪ ،‬وكان تحت املراقبة الدامئة‪ ،‬وكام قال كاتب السرية‪ :‬كانت عيون السلطة‬
‫ترتصد األستاذ وتراقب حركاته وسكناته‪ ،‬لذا كان األهايل يتج َّنبون االقرتاب منه والتح ُّدث إليه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فصل الربيع والصيف إىل جبل وجام‪ ،‬ويختيل هناك‬ ‫َ‬ ‫فكان يقيض أكرث وقته يف البيت‪ ،‬أو يخرج يف‬
‫بنفسه يف ق َّمة الجبل بني األشجار متأ ِّمالً ومتعبِّدا ً[[[‪.‬‬
‫ولكن رويدا ً رويدا ً‪ ،‬بدأ الناس يتج َّمعون حوله بعدما بنى مسجدا ً يف هذ ِه القرية وبدأ يف مرشوعه‬
‫العاكف عىل تجريد فهم آيات القرآن واستخراج املعاين والدالالت الكون َّية والروح َّية واألخالق َّية‬
‫النوريس‪ :‬أخذتني األقدار نفياً من مدينة إىل أخرى‪ ...‬ويف‬ ‫ُّ‬ ‫واالجتامعيَّة منها‪ ،‬وعن ذلك األمر قال‬
‫هذ ِه األثناء تولَّدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم‪ ...‬أمليتُها عىل‬
‫من حويل من األشخاص‪ ،‬تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم (رسائل النور) انبعثت ح َّقاً من‬
‫ين‪ ،‬فأنا عىل قناعة تا َّمة ويقني جازم بأن هذ ِه‬
‫نور القرآن الكريم‪ ،‬لذا نبع هذا االسم من صميم وجدا ٍّ‬
‫إلهي[[[‪.‬‬
‫الرسائل ليست مام مضغته أفكاري وإمنا هي إلهام ّ‬
‫وعب‬
‫ولكن هذه الرسائل ال ميكن أن تستمر من دون هذه التق َّية السياس َّية التي مارسها األستاذ ّ‬
‫أسس ثابتة‪ ،‬حتى‬
‫عنها مببادئ معيَّنة قائالً‪ :‬يف زمن عجيب كزماننا هذا‪ ،‬ال ب َّد من تطبيق خمسة ُ‬
‫ميكن إنقاذ البالد وإنقاذ الحياة االجتامعية بأبنائها من الفوىض واالنقسام‪ ،‬وهذه املبادئ هي‪:‬‬
‫‪1.1‬االحرتام املتبادل‬
‫‪2.2‬الشفقة وال َّرحمة‬
‫‪3.3‬االبتعاد عن الحرام‬
‫‪4.4‬الحفاظ عىل األمن‬
‫‪5.5‬نبذ الفوىض والغوغائ َّية‪ ،‬والدخول يف الطَّاعة[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬إبراهيم سليم أبو حليوه‪ ،‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.65‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬سرية ذاتية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.259‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.277‬‬
‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬كل َّيات رسائل النور‪ ،‬الشعاعات‪ ،‬املجلَّد (‪ ،)4‬مصدر سباق‪ ،‬ص‪.384‬‬

‫‪155‬‬
‫المحور‬

‫النوريس يتوخَّى نرش فكره وكسب األتباع واملريدين عرب هذه الرسائل التي ال ميكن‬ ‫ُّ‬ ‫لقد كان‬
‫نرشها عىل نطاق واسع من دون االعتامد عىل هذ ِه املبادئ‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬والدليل عىل أ َّن رسائل‬
‫النور يف نظرتها إىل الحياة االجتامع َّية قد ظلَّت تبثُّ وتحكم هذه األسس الخمسة وتحرتمها احرتاماً‬
‫جا ّدا ً محافظة بذلك عىل الحجر األساس ألمن البالد‪ ،‬وهو أن الرسائل استطاعت يف مدى عرشين‬
‫عاماً أن تجعل أكرث من مائة ألف رجل أعضاء نافعني للبالد والعباد من دون أن يتأذَّى أو يت َّ‬
‫رضر بهم‬
‫ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموين خري شاهد وأبرز دليل عىل صدق ما نقول[[[‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أحد من الناس‪،‬‬
‫من يتم َّعن جيدا ً برسائل النور وبجملة املواضيع التي غطَّتها من ُذ انطالقها واهتامم الناس بها‪،‬‬
‫تعب عن مضامني‬ ‫ومن كل الفئات والطبقات‪ ،‬يتأكّد له أ َّن األستاذ النوريس أراد لتلك الرسائل أن ِّ‬
‫كل شؤون الحياة والوجود بشكلٍ عام كيام تكون هي (املعادل‬ ‫القرآن الكريم املتع ِّددة والتي تغطّي َّ‬
‫املوضوعي) لسياسات العلمنة وثقافتها التي ابتلعت جوانب الحياة كافَّة آنذاك يف تركيا‪.‬‬
‫أسست جيالً واسعاً من الشباب الالَّدينيني الذين‬ ‫ولعل الالَّفت للنظر هنا أ َّن علمنة الدولة الرتك َّية َّ‬
‫َّ‬
‫أخالقي عمل األستاذ عىل إعداده وتهذيبه‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫روحي‪/‬‬
‫ٍّ‬ ‫كانوا يناصبون األستاذ النوريس العداء‪ ،‬قبالة جيل‬
‫ولهذا كانت هنالك حرب مجتمعيَّة خفيَّة بني هذين الجيلني‪ ،‬جيل (العلمنة) وجيل (رسائل النور)‪،‬‬
‫ين ومن خلفه السلطات السياس َّية واألمن َّية املراقبة لنشاطات األستاذ‬ ‫جه الجيل العلام ُّ‬ ‫ويف سياقها و َّ‬
‫رسيَّة‪ ،‬والقيام بأعامل ض َّد النظام الحاكم وما يهدم‬ ‫ين الجديد)‪ ،‬تهمة تشكيل جمع َّية ّ‬ ‫وجيله (القرآ ِّ‬
‫أسسه‪ ...‬وأمثالها من التهم‪ .‬وعىل إثر هذا أُ ِخذ األستاذ النوريس وطالَّبُه يف ‪ 1935/4/25‬وسيقوا‬
‫مكبَّيل األيدي إىل (أسيك شهر) ملحاكمتهم‪ ،‬وكانت هنالك خشية من السلطات من حدوث ثورة‬
‫واسعة‪ ،‬ولهذا كانت األجهزة األمن َّية برئاسة رئيس الوزراء آنذاك (عصمت إينونو) تراقب خطورة‬
‫املوقف[[[‪.‬‬
‫وهكذا اقتيد األستاذ النوريس ومائة وعرشون من طالَّبه إىل سجن أسيك شهر‪ ،‬ووضعوا يف‬
‫االنفرادي والتجريد املطلق‪ ،‬وبدأت عمل َّيات التعذيب الرهيب تنهال عليهم‪ ،‬لكن األستاذ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫السجن‬
‫رغم الظروف الشاقَّة‪ ،‬استم َّر يف اإلرشاد والتوجيه‪ ،‬فتح َّول كثري من املسجونني إىل ذوي صالح‬
‫وتقوى[[[‪.‬‬
‫وبعدما قىض م َّدة محكوم َّيته يف سجن (أسيك شهر) ت َّم نفيه إىل مدينة قسطموين التي بقي‬
‫فيها مثاين سنوات‪ ،‬وهو يكتب رسائل النور‪ ،‬ويرشد املجتمع‪ ،‬ويستم ُّر يف تهذيب األفراد آنذاك‬
‫ين الذي عكف عىل تهذيبه قبالة جيل الالَّدينيّني‪ ،‬ث َّم يستم ُّر‬
‫ين‪/‬النورا ِّ‬
‫كيام ينض ّموا إىل الجيل القرآ ِّ‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.385-384‬‬
‫[[[‪ -‬ينظر‪ :‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬سرية ذات َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.296-295‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.296‬‬

‫‪156‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫رسيَّة) تح ِّرض الشعب عىل الحكومة‬‫مسلسل االتهامات له ولتالميذه وأتباعه بأنَّهم يؤلِّفون (جمعيَّة ّ‬
‫جال و(السفياين)[[[‪.‬‬
‫العلامنيَّة‪ ،‬ومحاولة قلب نظام الحكم‪ ،‬ث َّم تسمية مصطفى أتاتورك بـ(الد َّ‬
‫ولقد حاولوا مرارا ً وتكرارا ً تسميم طعامه‪ ،‬ولكن بعض تالميذه كانوا ينقذونه ويستمر النفي تلو‬
‫النفي‪ ،‬والسجن تلو السجن‪ ،‬تحت دعاوى االتهام ذاتها التي تتك َّرر‪ ،‬وما خشيتهم منه ومن رسائل‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫السيايس بنح ٍو من التق َّية املكثَّفة تحت مظلَّة‬


‫َّ‬ ‫ين ميارس العرفان‬
‫النور ومن تالميذه إالَّ ألنَّهم جيل قرآ ٌّ‬
‫نرش معارف القرآن الكريم املتع ِّددة‪.‬‬
‫ما نريد أن نختم ب ِه هو القول بأ َّن األستاذ النوريس عىل سرية األولياء والعرفاء ويف مق ِّدمتهم‬
‫ذهب نحو أ َّن إصالح الباطن مق ِّدمة جوهريَّة ال مهرب منها إلصالح الظاهر‪ ،‬فإصالح‬ ‫َ‬ ‫إبن العريب‪،‬‬
‫الدولة ال يت ُّم من دون أفراد صالحني يقودون هذا األمر ويولونه أهم َّيته‪ ،‬ومن دون هذ ِه املعادلة ال‬
‫طائل من االندكاك بالعمل السيايس‪.‬‬

‫[[[‪ -‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬سرية ذات َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.375‬‬

‫‪157‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬ابراهيم سليم أبو حليوه‪ ،‬بديع الزمان النوريس وتحدّ يات عرصه‪ ،‬مركز الحضارة لتنمية الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪.2010 ،1‬‬

‫‪2.2‬أيب القائم القشريي‪ ،‬الرسالة القشري َّية يف علم التص ُّوف‪ ،‬دار الرتبية للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بغداد‪.‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪3.3‬إيريك جوفروا‪ ،‬التص ُّوف‪ :‬طريقة اإلسالم الجوان َّية‪ ،‬ت‪ :‬عبد الحق الزموري‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬أبو ظبي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2010‬‬

‫‪4.4‬بديع الزمان النوريس‪ ،‬كليات‪ ،‬رسائل النور (املالحق)‪ ،‬ت‪ ،‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلر للنرش‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪.2011 ،6‬‬

‫‪5.5‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬سرية ذات َّية (كل َّيات رسائل النور)‪ ،‬إعداد وترجمة‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار‬
‫شوزلر للنرش‪ ،‬القاهره‪ ،‬ط‪.2011 ،6‬‬

‫‪6.6‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬كل َّيات رسائل النور (الكلامت)‪ ،‬ت‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار سوزلز للنرش‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪.2011 ،6‬‬

‫‪7.7‬بديع الزمان سعيد النوريس‪ ،‬عمل َّيات رسائل النور (املكتوبات)‪ ،‬ت‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار شوزلر‬
‫للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2011 ،6‬‬

‫‪8.8‬بومدين بوزيد‪ ،‬التص ُّوف والسلطة‪ :‬جدل املقاومة والسلم ورمزيّة صاحب الوقت‪ ،‬دائرة األ َّمة‪ ،‬الجزائر‪.2012 ،‬‬

‫‪9.9‬حسن حنفي‪ ،‬من الفناء إىل البقاء‪ :‬محاولة إلعادة بناء علوم التص ُّوف‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الوعي املوضوعي‪ ،‬دار‬
‫املدار اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬

‫املؤسسة الجامع َّية للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬


‫َّ‬ ‫‪1010‬حسن محمد الرشقاوي‪ ،‬الحكومة الباطن َّية‪،‬‬
‫‪.1992‬‬

‫‪1111‬خليل عبد الكريم‪ ،‬شدد الربابة بأحوال مجتمع الصحابة‪ ،‬دار مرص املحروسة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2011 ،1‬‬

‫‪1212‬سليامن بشري ديان‪ ،‬الصويف والدولة‪ ،‬مقالة يف كتاب‪ :‬ما وراء الغرب العلامين‪ ،‬تحرير‪ :‬عقيل بلغرامي‪ ،‬ت‪:‬‬
‫عبيدة عامر‪ ،‬الشبكة العرب َّية لألبحاث والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2018 ،1‬‬

‫‪1313‬عيل سامي النشار‪ ،‬نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1977 ،7‬‬

‫‪158‬‬
‫كمية‬
‫ح َّ‬ ‫ال ُف َّ‬
‫توة ال ِ‬

‫‪1414‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬الصلة بني التص ُّوف والتش ُّيع‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬منشورات الجمل‪-‬بريوت‪-‬بغداد‪.2011 ،‬‬

‫‪1515‬محمد بن الطيب‪ ،‬من وجوه مقاومة التص ُّوف للتط ُّرف‪ ،‬فصالة يف كتاب‪ :‬التص ُّوف والعنف‪ ،‬ملجموعة باحثني‪،‬‬
‫إرشاف‪ :‬صابر سوييس ‪ ،‬مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪.2021 ،1‬‬

‫‪1616‬محمد نور الدين‪ ،‬قبعة وعاممة‪ :‬مدخل إىل الحركات اإلسالم َّية يف تركيا‪ ،‬دار النهار للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪.1997‬‬

‫‪1717‬محي الدين بن العريب‪ ،‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ ،‬دراسة وتحقيق وتعليق‪ :‬د‪ .‬محمد عبد‬
‫الحي العدلوين اإلدرييس الحسني‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪.2015 ،1‬‬

‫‪1818‬هادي العلوي‪ ،‬مدارات صوف َّية‪ :‬تراث الثورة املشاع َّية يف الرشق‪ ،‬دار املدى للثقافة والنرش‪ ،‬دمشق ‪ -‬بغداد‪،‬‬
‫ط‪.2007 ،2‬‬

‫‪159‬‬
‫المحور‬

‫الفتوة يف القرآن والعرفان‬


‫َّ‬
‫دالالت املعنى‬

‫أحمد ماجد‬
‫ف‬ ‫ف‬
‫الفلس� ـ معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية ‪ -‬لبنان‬
‫ي‬ ‫أكاديم وباحث ي� الفكر‬
‫ي‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ‬
‫لكيفية‬ ‫“الفتوة”‪ ،‬ويبدأ بمقاربة رسيعة‬ ‫َّ‬ ‫ُيعالج هذا البحث داللة مفهوم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫اجتماعية كالصدق والوفاء وإغاثة الملهوف‬ ‫الجاهلية من خالل قيم‬ ‫حضوره ي�‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫ه المروءة‪،‬‬ ‫وإكرام الضيف‪ ،‬ويوضح أن هذه الدالالت تجتمع ي� قيمة أساسية ي‬
‫أقرت هذا‬ ‫ال� َّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ال� يَّ ز‬ ‫ت‬
‫م�تها عن “الصعلكة”‪ ،‬ثم ينتقل إىل المرحلة اإلسالمية ي‬ ‫ي‬
‫َّ ف‬ ‫الدينية‪ ،‬وربطت بينه ي ن‬ ‫َّ‬ ‫ن‬ ‫َّ‬
‫النبوة ي�‬ ‫وب� حركة‬ ‫بالمعا�‬
‫ي‬ ‫المفهوم ولكنها أشبعته‬
‫ف‬ ‫اإلنسا�‪ .‬من هنا‪ ،‬يذهب لينظر إىل َّ‬ ‫نّ‬
‫كيفية حضور المفهوم ي� الدالالت‬ ‫ي‬ ‫االجتماع‬
‫ت‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫تعط صورة واضحة عنه‪ .‬وبعد أن‬ ‫ي‬ ‫ال�‬
‫القرآنية‪ ،‬فيستعرض عددا من األمثلة ي‬
‫الصوفية ورصد حضور المفهوم فيها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يرسم اإلطار‪ ،‬ينتقل إىل‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫ـ”الفتوة”‬ ‫الخاصة ب‬ ‫التاريخية‬ ‫ي� المقابل‪ ،‬يؤثر البحث عدم الدخول ي� القراءة‬
‫َّ ف‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫اإلسالمية ي�‬ ‫ال� عرفتها المجتمعات‬ ‫انطالقا من وجهة نظر ترى أن حركاتها ي‬
‫السياس الذي عمل عىل‬ ‫ِّ‬ ‫ه ذات صلة بالرصاع‬ ‫ن‬ ‫ين‬
‫ي‬ ‫الثا� والثالث للهجرة‪ ،‬ي‬ ‫القرن� ي‬
‫أرضيتها قاعدة للسلطة أو المعارضة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ن‬
‫ليب� عىل‬ ‫َّ‬
‫االستثمار بالمفاهيم اإلسالمية ي‬
‫وبالتال‪ ،‬فمجال البحث فيها ليس هذا المورد الذي نشتغل عليه‪.‬‬ ‫ي‬

‫الن�‪ ،‬األنبياء‪ ،‬ب ُّ‬


‫الن�‬ ‫َّ‬
‫الجاهلية‪ ،‬اإلسالم‪ ،‬ب ّ‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬المروءة‪،‬‬ ‫مفردات‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫الق َيم‪.‬‬ ‫يوسف‪ ،‬ب ُّ‬
‫الن� إبراهيم‪ ،‬أهل الكهف‪ِ ،‬‬
‫ي‬

‫‪160‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫يقود الحديث عن الفت َّوة يف اإلسالم إىل التص ُّوف‪ ،‬وإن كان ال يحرص فيه‪ ،‬فهذا املصطلح أكرث‬
‫سعة بحيث يشمل “فت َّوة الفرسان” و”فت َّوة العيارين” و”فت َّوة الصوفية” و”فت َّوة املاجنني”‪ ،‬وهذه‬
‫معي‪،‬‬
‫يؤش إىل حالة اجتامعيَّة تجتمع حول غرض َّ‬ ‫جهات تتَّصل يف ما بينها بالشكل الذي ِّ‬ ‫التو ُّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ولك ّنها تفرتق يف الغايات التي تسعى بها‪.‬‬


‫يف‪ ،‬حتى ال يلتبس األمر‬‫وهذا األمر يقودنا إىل تحديد حقل البحث وحرصه يف املجال الصو ِّ‬
‫عىل القارىء‪ ،‬وهو سيعمل عىل تبيني كيف َّية ظهور التسمية‪ ،‬وإبراز العالقة بينها وبني التص ُّوف عرب‬
‫تحديد املعايري التي يت ُّم من خاللها إطالق هذه التسمية عىل مجموعة مح َّددة‪.‬‬

‫حتديد سريع ألصل املفهوم‪:‬‬


‫تدل عىل مرحلة عمريَّة مع َّينة‪ ،‬وعندما يُقال ف ِت ّي ‪-‬بالكرس‪ -‬يُراد منها‬
‫الفت َّوة من األلفاظ العرب َّية التي ُّ‬
‫يل‪،‬‬
‫بالتوسع يف الشعر الجاه ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فتي الس ِّن‪ ،‬الذي يتميَّز بالنشاط والحيويَّة‪ ،‬ولكن هذه الداللة أخذت‬ ‫ُّ‬
‫يتحل بها اإلنسان‪ ،‬وهذا ما يظهر‬ ‫َّ‬ ‫ُؤش إىل جملة من الخصال التي يجب أن‬ ‫لتحمل مفاهيمٍ قيم َّية ت ِّ‬
‫من خالل قول طرفة بن العبد‪:‬‬
‫عيت فلم أكسل ومل أتبل َِّد‬
‫ُد ُ‬ ‫خلت أنَّني‬
‫ُ‬ ‫إذا القوم قالوا من فتًى‬
‫ولكن متى يسرتفد القوم ِ‬
‫أرفد‬ ‫بحل ِل التِّال ِع مخاف ًة‬
‫ولست َّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تصطد‬
‫[[[‬ ‫ِ‬
‫الحوانيت‬ ‫فإ ْن تب ِغني يف حلق ِة القوم تلقَني وإن تلت ْمسني يف‬
‫ومن خالل أبياته هذه نالحظ أ َّن الفت َّوة تحمل معنى نجدة اآلخر‪ ،‬واملشورة الصالحة‪ ،‬واإلقدام‬
‫عىل مواجهة األعداء‪ ،‬كام أنّها تقرتن بالَّلهو والَّلذة واالستمتاع برشب الخمرة يف الحوانيت‪.‬‬
‫يف السياق عينه‪ ،‬يقول مسكني الدارمي‪:‬‬
‫أن جام ُعها‬ ‫لست ُمطلِ َع بعضهم عىل ِّ‬
‫رس بعض غري ّ‬ ‫ُ‬ ‫وفتيان صدقٍ‬
‫وموض ُع نجوى ال يرا ُم اطال ُعها‬ ‫لكل أمرئٍ ِش ْع ٌ‬
‫ب من القلب فار ٌغ‬ ‫ِّ‬
‫[[[‬
‫إىل صخر ٍة أعيا ال ّر َ‬
‫جال انصدا ُعها‬ ‫يظلَّون شتَّى يف البال ِد ورسُّهم‬
‫وهنا أضاف الشاعر الصدق إىل الفتيان‪ ،‬وجعل نفسه حافظًا لألرسار‪ ،‬فكان كالعقد الذي يجمع‬

‫مؤسسة الهنداوي‪ ،2018 ،‬الصفحة ‪.84‬‬


‫[[[‪ -‬أحمد بن أمني الشنقيطي‪ ،‬املعلَّقات العرش وأخبار شعرائها‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬
‫مؤسسة الهنداوي‪ ،2018 ،‬الصفحة ‪.10‬‬‫[[[‪ -‬أحمد أمني‪ ،‬الصعلكة والفت َّوة يف اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬

‫‪161‬‬
‫المحور‬

‫ولكل رجل جانب من قلبه ينفرد به عن غريه‪ ،‬ال يطَّلع عليه آخر‪ ،‬وهو من خالل قوله هذا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الح َّبات‪،‬‬
‫رس‪.‬‬
‫وضع صفة جديدة للفت َّوة‪ ،‬هي حفظ ال ّ‬
‫بدوره‪ ،‬يقول كعب بن زهري‪:‬‬
‫ل‬ ‫ني قَ ٍّو ف ُ‬
‫َالس َ ِّ‬ ‫َمصا ِر َع بَ َ‬ ‫َشيت َعىل أُ َ ٍّ‬
‫ب‬ ‫ل َعم ُر َك ما خ ُ‬
‫ح ِّي‬ ‫جري َر َة ُر ِ‬
‫مح ِه يف ك َُّل َ‬ ‫َ‬ ‫َشيت َعىل أُ َ ٍّ‬
‫ب‬ ‫َولَ ِك ّني خ ُ‬
‫َوأَ َما ٌر ِب ِإرشا ٍد َوغ َِّي‬ ‫ِم َن ال ِفتيانِ ُمحلَو ٍل ُم ِم ٌّر‬
‫[[[‬
‫يات َعىل أُ َ ِّ‬
‫ب‬ ‫َهف الباكِ ِ‬
‫َول َ‬ ‫أَال ل َ‬
‫َهف األَرا ِملِ َوال َيتامى‬
‫يخش عىل الرجل أن يُرصع بني هذين املوضعني‪ ،‬أي أن ميوت‬ ‫َ‬ ‫يعترب الشاعر هنا أنَّه مل‬
‫«ومحل الشاهد يف أنَّه وصفه بأنَّه سهل‬
‫ُّ‬ ‫خيش عليه جرائره وطعنه يف األحياء‪:‬‬ ‫َ‬ ‫حتف أن ِفه‪ ،‬وإنَّ ا‬
‫َ‬
‫الخلق وطيّب الجانب‪ ،‬يتناهى يف الحالوةـ وإن استدعت الظروف‪ ،‬يتناهى يف املرارة إن استدعت‬
‫الخي‬
‫ّ‬ ‫بالغي‪ ،‬وهذا الوصف بالصعلوك‬ ‫ّ‬ ‫الظروف‪ ،‬وأنَّه نافذ اإلرادة‪ ،‬يأمر أحيانًا بال َّرشاد‪ ،‬وأحيانًا‬
‫أشبه»[[[‪.‬‬
‫إىل هذا‪ ،‬يقول امرؤ القيس‪:‬‬
‫[[[‬
‫األرض مثلَه أب َّر مبيثاقٍ وأوىف وأصربا‬
‫ُ‬ ‫فتى مل تحملِ‬
‫عليها ً‬
‫وهنا يح ُّدد بقوله صفات الفت َّوة التي تتمثَّل بالوفاء والصرب‪.‬‬
‫وسعت من داللة الفت َّوة‬‫الصفات التي تح َّدث عنها الشعراء يف الجاهليَّة‪ ،‬نالحظ أنَّها َّ‬ ‫إذا نظرنا إىل ِّ‬
‫لتشمل عناوين تدخل يف إطار الفضائل األخالق َّية باستثناء ما يتعلَّق بالنساء والخمرة والرسقة والنهب‪،‬‬
‫رصا مي ّيز بينهام‪،‬‬
‫وهذا الجانب األخري كان أكرث التصاقًا بفكرة «الصعلكة»‪ ،‬بل من املمكن أن نراه عن ً‬
‫حيث تصبح الفت َّوة لصيقة بالخصال الحميدة يف حني أ َّن الثانية تدخل فيها العنارص التي سبق أن‬
‫ولعل‬
‫ذكرناها‪ ،‬وهي ال تقدح يف الشخصيَّة الجاهليَّة التي كانت ال تنظر إليها باعتبارها أمو ًرا مستغ َربة‪ّ .‬‬
‫معنوي تدور عليه األخالق الكرمية من حيث‬ ‫ٌّ‬ ‫هذا ما دفع املسترشق غولدتسهري إىل اعتبار أنَّها‪« :‬مبدأ‬
‫السخاء والوفاء وحفظ الجوار واألخذ بالثأر»[[[‪ ،‬وتجتمع تحت عنوان واحد هو‬ ‫أنَّها كانت تجمع بني َّ‬
‫املروءة‪ ،‬وإن كان أبو الريحان البريوين يعترب أنَّ‪« :‬املروءة تقترص عىل ال َّرجل يف نفسه وذويه وحاله‪،‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة ‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬امرىء القيس‪ ،‬ديوان امرىء القيس‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الصفحة ‪.65‬‬
‫[[[‪ -‬الكساندر خاتشاتريان‪ ،‬أهل الفت َّوة والفتيان يف املجتمع اإلسالمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح زهر الدين‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز العريب لألبحاث‬
‫والتوثيق‪ ،1998 ،‬الصفحة ‪.20‬‬

‫‪162‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫والفت َّوة تتع َّداه وإياها إىل غريه‪ ،‬واملرء ال ميلك غري نفسه وقيمته التي ال ينازع يف أنَّها له‪ ،‬فإذا احتمل‬
‫أحل اللّه له وح َّرمه عىل من سواه فهو الفتى‬ ‫َّ‬
‫املشاق يف إراحتهم‪ ،‬ومل يض ّن مبا َّ‬ ‫مغارم الناس وتح َّمل‬
‫ح ِّددت الفت َّوة بأنَّها برش مقبول‪ ،‬ونائل مبذول‪ ،‬وعفاف معروف‪،‬‬ ‫الذي اشتهر بالقدرة عليها [‪ ،]...‬ولهذا ُ‬
‫وأذى مكفوف»[[[‪ .‬وبهذا يرى البريوين أ َّن املروءة فضيلة ذات َّية لإلنسان يف حني أ َّن الفت َّوة تتع َّداها‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يل‪ ،‬فتنعكس من خالل سلوكيَّات مع اآلخرين‪.‬‬ ‫بات ِّجاه الواقع العم ِّ‬
‫وينبغي القول هنا أ َّن اإلسالم الذي جاء بثورة شاملة عىل الجاهل َّية‪ ،‬مل يلغِ الفت َّوة بل أق َّرها وعمل‬
‫يل بني الفت َّوة الجاهل َّية واإلسالم َّية‬ ‫عىل تعميمها‪ ،‬وأدخلها يف صلب تعاليمه‪ ،‬وال يوجد فرق ج ٌّ‬
‫الديني الطاهرة‪ ،‬وغدت إحدى املثل‬ ‫ِّ‬ ‫من حيث سعيهام إىل الفضائل‪ ،‬وإن اكتسبت مزايا الخلق‬
‫النبي يصف نفسه بهذه التسمية‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫اإلسالمي[[[ ‪ ،‬وتورد الكتب أحاديث عن‬
‫ّ‬ ‫الرئيس َّية العليا للدين‬
‫السالم‪ ،‬قال‪ :‬إ َّن‬
‫«ففي معاين األخبار‪ ،‬بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن ج ِّده عليهم ّ‬
‫يل كأنك فتى!!‬ ‫أعراب ًّيا أىت رسول اللَّه‪ ‬فخرج إليه يف رداء ممشّ ق فقال‪ :‬يا محمد لقد خرجت إ َّ‬
‫[[[‬

‫يب أنا الفتى بن الفتى وأخو الفتى‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد أ َّما الفتى فنعم وكيف ابن‬ ‫فقال‪ :‬نعم يا أعرا ّ‬
‫قال لَ ُه إِبْرا ِهي ُم‏﴾[[[ فأنا‬
‫﴿س ِم ْعنا فَتًى يَ ْذكُ ُر ُه ْم يُ ُ‬
‫وجل يقول‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫الفتى وأخو الفتى؟ أما سمعت اللَّه ع َّز‬
‫إل‬
‫ابن إبراهيم‪ ،‬وأما أخو الفتى فإ ّن مناديًا نادى يف السامء يوم أحد‪ :‬ال سيف إلَّ ذو الفقار وال فتى َّ‬
‫فحينئذ يكون معناه السالم عليكم يا أهل بيت الفت َّوة‪ ،‬وأ َّما كونهم أهل‬ ‫ٍ‬ ‫عيل‪ ،‬فعيل أخي وأنا أخوه‪،‬‬
‫وأبي من األمس كام ال يخفى»[[[‪ .‬وإىل هذا املعنى‬ ‫املجد والرشف والحسب فأظهر من الشمس َ‬
‫الصدر األول منه يف بالد الع َرب‬ ‫يشري أبو العال عفيفي حني يقول‪ُ « :‬و ِج َدت الفُت َّوة قبل اإلسالم ويف َّ‬
‫وأهل بَيته‪ .‬ولك َّنها كانت إىل ذلك العهد أم ًرا فرديًّا ال وجود‬ ‫ُ‬ ‫يل بن أيب طالب‬ ‫وفارس‪ .‬وبها لُق َ‬
‫ِّب ع ُّ‬
‫له يف جامع ٍة ُمنظَّمة»[[[‪.‬‬
‫النبي‪ ‬باعتبارها خري ممثِّل للفت َّوة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أي حال‪ ،‬بقيت هذه التسمية فاعلة‪ ،‬ويُنظر إىل حياة‬ ‫عىل ِّ‬
‫حيث تعكس حياته ذلك الرتابط العميق بني األبعاد الروح َّية واألخالق َّية والجسديَّة‪ ،‬وتالقي الظاهر‬
‫والحس باملعنى‪ ،‬يف السرية النبويَّة هو ارتباط الظاهر بالباطن‪ ،‬ارتباط الجسم بال ُّروح‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بالباطن‬

‫[[[‪ -‬أبو الريحان البريوين‪ ،‬الجامهر يف معرفة الجواهر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة املتن ّبي‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الصفحة ‪ .4‬استخدمنا طبعة إلكرتونية عىل هذا الرابط‬
‫‪https://turkistanilibrary.com/ar/content/ktb-ljmhr-fy-mrf-ljwhr.‬‬
‫‪[2]- MM. Bravmann, The spiritual Background of Early of Early Islam and the History of its principal‬‬
‫‪concepts, Leiden, pp. 17-.‬‬
‫[[[‪ -‬مصبوغ باملشق وهو طني أحمر يستعمل للصبغ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.39‬‬
‫مؤسسة األعلمي‪ ،2007 ،‬الجزء‪ ،1‬الصفحة ‪.304‬‬ ‫َّ‬ ‫بريوت‪،‬‬ ‫الجامعة‪،‬‬ ‫الزيارة‬ ‫رشح‬ ‫يف‬ ‫الساطعة‬ ‫األنوار‬ ‫الكرباليئ‪،‬‬ ‫[[[‪ -‬جواد بن عباس‬
‫مؤسسة هنداوي‪ ،2017 ،‬الصفحة ‪.23‬‬ ‫[[[‪ -‬أبو العال عفيفي‪ ،‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬

‫‪163‬‬
‫المحور‬

‫ف الْ ِعلْمِ َوالْج ِْسمِ ﴾[[[‪ ،‬حيث تتح َّدث‬


‫الحس باملعنى‪ ،‬مصداقًا لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وزَادَهُ بَ ْسطَ ًة ِ‬‫ِّ‬ ‫ارتباط‬
‫النبي‪ ،‬تجمع بشكل وفري الظاهر املتمثِّل بالجسم والباطن املتمثّل‬ ‫هذه اآلية عن معايري ُوج َدت يف ِّ‬
‫بالعلم‪ ،‬فإذا كانت الفت َّوة هذه الجامع َّية املتمثِّلة بالفروس َّية واإلقدام والباطن والعلم والبذل والعطاء‬
‫النبي الخاتم هو التمثُّل األت َّم‪ ،‬وهذا األصل هو الذي جعل «ابن عريب»‬ ‫ُّ‬ ‫واإليثار والنشاط‪ ،‬يكون‬
‫النبي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يعترب أ َّن مقام الفت َّوة هو مقام الق َّوة‪« :‬ومن ال ق َّوة له ال فت َّوة له»[[[‪ ،‬وهذا ما يلتقي مع قول‬
‫وأحب إىل الله من املؤمن الضعيف‪ ،‬ويف كل خري احرص عىل ما ينفعك»[[[‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫القوي خري‬
‫ُّ‬ ‫«املؤمن‬
‫وإذا نظرنا إىل كالم السيدة خديجة عليها السالم عندما جاءها مخرب بنزول الوحي‪ ،‬نستطيع أن‬
‫بحق صفات الفتيان‪ ،‬إذ قالت‪« :‬أبرش يا‬ ‫نتع َّرف عىل بعض الصفات والخصال الحميدة التي هي ٍّ‬
‫نبي هذه األ َّمة‪ ،‬والله ال يخزيك‬‫إن ألرجو أن تكون َّ‬ ‫نفس خديجة بيده‪ّ ،‬‬ ‫ابن العم واثبت‪ ،‬فوالذي ُ‬
‫الكل‪ ،‬وتقري الضيف‪ ،‬وتعني عىل النوائب»[[[‪.‬‬ ‫أب ًدا‪ ،‬إنَّك لتصل الرحم‪ ،‬وتصدق الحديث‪ ،‬وتحمل َّ‬
‫يل عليه السالم رسول الله بأنّه‪« :‬جليل املشاش‬ ‫وت ُستكمل هذه الصورة مبا وصف اإلمام ع ّ‬
‫والكتد‪ ...‬ششن الكفني والقدمني‪ ...‬أي أ ّن عظام رؤوس املفاصل وخاصة ما بني الكتفني فيها‬
‫دليل عىل ق َّوتهم‪ .‬ووصفه من الناحية الخلق َّية مبا تتض َّمنه‬
‫جالل وق َّوة‪ ،‬غليظ الكفَّني والقدمني ً‬
‫الفت َّوة املعنويَّة من صفات وذلك يف قوله‪« :‬أجود الناس كفًّا وأجرأ الناس صد ًرا‪ ،‬وأصدق الناس‬
‫لهجة‪ ،‬وأوىف الناس ذ َّمة‪ ،‬وأل َينهم عريكة‪ ،‬وأكرمهم عرشة‪ ،‬من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن خالطه أحبه»[[[‪.‬‬
‫إ َّن الكالم الذي ُسقناه‪ ،‬يؤكِّد عىل إقرار اإلسالم للفت َّوة‪ ،‬بل إ َّن هذا املفهوم ورد يف القرآن‬
‫بكل‬
‫خاصة‪ ،‬ووصله بحركة النب َّوة‪ ،‬وهذا ما يجعل منه مفهو ًما إسالم ًّيا ّ‬
‫َّ‬ ‫الكريم‪ ،‬ولك ّنه أعطاه دالالت‬
‫ما للكلمة من معنى‪.‬‬
‫َّ‬
‫للفتوة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫القرآني�ة‬ ‫الدالالت‬
‫نالحظ أ َّن لفظ الفت َّوة ورد يف أكرث من مورد يف القرآن الكريم‪ ،‬وحمل دالالت متع ِّددة‪ ،‬وهي‬
‫ْ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫ارتبطت بحركة النب َّوة والصالحني‪ ،‬كام يف اآلية الكرمية‪﴿ :‬قالوا َس ِم ْع َنا ف ًتى يَذك ُره ْم ُيقال ل ُه ٓۥ‬
‫ِيم﴾[[[‪ ،‬حيث ورد لقب «فتى» عىل ألسنة ع َبدة األصنام‪ ،‬وهم عندما س ُّموه بهذا الَّلقب‪ ،‬أرادوا‬ ‫إب ْ َرٰه ُ‬
‫ِ‬
‫فالنبي إبراهيم عليه السالم جاهر يف دعوته‪ ،‬وص َّعد‬ ‫ُّ‬ ‫إظهار وقوفه مبواجهتهم وإنكاره ملا هم عليه‪،‬‬

‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.247‬‬


‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة صادر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الجزء ‪ ،4‬الصفحة ‪.53‬‬
‫[[[‪ -‬رواه مسلم يف كتاب‪ :‬القدر‪ ،‬باب‪ :‬يف األمر بالق َّوة وترك العجز‪ ،‬واالستعانة بالله‪ ،‬وتفويض املقادير لله‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن هشام‪ ،‬السرية النبويَّة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الكل َّيات األزهريَّة‪ ،1974 ،‬الجزء ‪ ،1‬الصفحة ‪.122‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬الجزء‪ ،2‬الصفحة ‪.35‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬

‫‪164‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫من مواجهته من أجل الله‪ ،‬وهذا األمر يوضحه الكاشاين بقوله‪« :‬أ ّول نقطة الوالية ومفتتحها الذي‬
‫انترش منه الوحدة وظهر عليه الفت َّوة والوالية هي النفس املق َّدسة اإلبراهيميَّة‪ ،‬إذ كان خليل الله عليه‬
‫وتخل عن زينتها وشهواتها واعتزل عن أبيه وقومه وتح َّمل‬ ‫ّ‬ ‫السالم أ َّول من تج َّرد عن الدنيا ولذَّاتها‪،‬‬
‫املشاق واملتاعب يف مح َّبة ربِّه وهاجر إىل الله عن األهل واألع َّزة واألوطان واملألوفات وامللذَّة‬ ‫َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫جع بكرس األصنام ومخالفة القوم حتى شهد له أعداؤه بالفت َّوة‪،‬‬ ‫وصرب عىل الغربة واملجاهدة وتش َّ‬
‫كام حىك الله – تعاىل‪ ]...[ -‬والفضل ما شهد به األعداء! فهو منبع الق َّوة ومظهرها باط ًنا وظاه ًرا‬
‫أول وآخ ًرا‪ ،‬ولهذا س ّن الضيافة والقرى‪ ،‬ونذر أن ال يأكل وحده إىل أن‬ ‫ومؤسس قواعدها ومشدها ً‬ ‫ِّ‬
‫توف‪ ،‬وبلغ من فت َّوته إىل املبارشة لذبح الولد والخروج عن جميع املال عند طيب الخلد بسامع‬ ‫يُ ّ‬
‫ذكر الخليل وتحقريه يف جنب اسمه الجليل»[[[‪.‬‬
‫للنبي إبراهيم عليه السالم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ال ريب يف أ َّن الكالم الذي أشار إليه الكاشاين من خالل وصفه‬
‫يُظهر أ َّن الفت َّوة تحمل الدالالت التالية‪:‬‬
‫وجل بحيث ال يرى يف الكون سواه‪.‬‬
‫الخضوع التا ّم لله ع َّز َّ‬
‫كل نفيس حتى التضحية باألبناء‪.‬‬
‫جعل الله هو املقصد والغاية التي يهون يف سبيلها ُّ‬
‫الكرم والبذل يف سبيل الله‪.‬‬
‫كل ملذَّات الدنيا‪.‬‬
‫االبتعاد عن ِّ‬
‫قائل‪« :‬أ َّما مبدأ الفت َّوة ومنشؤها‪ ،‬فإبراهيم الخليل‪ ،‬خليل الله‬ ‫ويوضح أبو املكارم هذا األمر ً‬
‫الرحمن‪ ،‬وهو أبو الفتيان‪ ،‬حيث كرس األصنام‪ ،‬وأعرض عن األنام‪ ،‬حني قال له جربائيل‪ :‬هل لك‬
‫ُْ‬
‫فتول الحق قضاء حاجته بنفسه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬قل َنا‬ ‫َّ‬ ‫حاجة؟ وقد ألقوا به إىل النار‪ ،‬فقال أما إليك فال‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ار ُكون بَ ْر ًدا َو َسلَ ً‬
‫ِيب﴾‬
‫ُ‬
‫ِيم أ َّواهٌ ّمن ٌ‬
‫حل ٌ‬ ‫ِيم ل َ‬ ‫ِيم﴾[[[‪ ،‬ومدحه فقال‪﴿ :‬إ ّن إب ْ َراه َ‬ ‫اما َعلَ ٰى إب ْ َراه َ‬ ‫يَا نَ ُ‬
‫[[[‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ َ ُْ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ ََ َ‬
‫ِين﴾[[[ ملا قام‬ ‫ك َرم َ‬ ‫ووصف أضيافه بأنَّهم مكرمون‪ ،‬فقال‪﴿ :‬هل أتىٰك َحدِيث ضيْ ِف إِبرٰهِيم ٱلم‬
‫[[[‬
‫عىل خدمتهم بنفسه‪ ،‬ولقيهم بوجه طلق»‬
‫ُ ُ َ َ‬
‫يز ت َراوِد ف َتاها َعن‬ ‫ز‬‫ع‬‫ت الْ َ‬‫ام َرأَ ُ‬
‫ِينة ْ‬ ‫﴿وقَ َال ن ِْس َوةٌ ف ِي ال ْ َمد َ‬
‫وورد لفظ الفتى يف اآلية الكرمية‪َ :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫مؤسسه نرش میراث مکتوب‪ ،1379 ،‬الصفحة ‪.539‬‬ ‫[[[‪ -‬محسن فيض الكاشاين‪ ،‬مجموعة رسائل ومص َّنفات موىل محسن‪ ،‬طهران‪َّ ،‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.69‬‬
‫[[[‪ -‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.75‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬
‫[[[‪ -‬عبد الله محمد بن أيب املكارم‪ ،‬كتاب الفتوة‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصطفى جواد‪ ،‬محمد تقي الدين الهاليل‪ ،‬عبد الحليم نجار‪ ،‬أحمد ناحي‬
‫القييس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬كطبعة شفيق‪ ،1958 ،‬الصفحة ‪.141 140-‬‬

‫‪165‬‬
‫المحور‬

‫َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ُ ًّ َّ َ َ َ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫ال ّمبِينٍ﴾[[[‪ ،‬والفت َّوة هنا تقوم عىل مبدأ إيثار املشقَّة يف‬ ‫سهِ قد شغفها حبا إِنا لنراها ف ِي ضل ٍ‬ ‫نف ِ‬
‫ل ِم َّم يَ ْد ُعونَ ِني‬
‫ب إِ َ َّ‬ ‫ج ُن أَ َ‬
‫ح ُّ‬ ‫الس ْ‬‫ب ِّ‬ ‫الله تعاىل عىل لذَّة نفسه‪ ،‬وذلك مصداقًا لقوله تعاىل‪« :‬ق َ‬
‫َال َر ِّ‬
‫ني»[[[‪ ،‬فهكذا‪« :‬ينبغي للعبد أن يكون؛‬ ‫ب إِلَ ْي ِه َّن َوأَكُن ِّم َن الْ َ‬
‫جا ِهلِ َ‬ ‫َص ِْف َع ِّني كَ ْي َد ُه َّن أَ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫إِلَ ْي ِه ۖ َوإِلَّ ت ْ‬
‫نعيم‬
‫ب صرب ساعة أورثت ً‬ ‫طويل‪ ،‬و ُر َّ‬
‫ً‬ ‫ب شهوة ساعة أورثت حزنًا‬ ‫يختار ما يبقى عىل ما يفنى؛ ف ُر َّ‬
‫النبي يوسف عليه السالم‪ ،‬تتمثَّل‬ ‫ِّ‬ ‫جزيل»[[[‪ ،‬فخصائص الفت َّوة التي ميكن أن نستخلصها من خالل‬ ‫ً‬
‫بالعفَّة واألمانة والصرب‪ ،‬الذي يقسم إىل أنواع متع ِّددة‪:‬‬
‫الجب بقصد إهالكه‪ ،‬وقد أخربنا‬ ‫ِّ‬ ‫أ‪ -‬صرب عىل إيذاء أخوته له‪ ،‬وتجريده من ثوبه‪ ،‬وإلقائه يف‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وس َف أو ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫الحق تعاىل بهذا املوقف من جانب أخوة يوسف يف قوله تعاىل‪﴿ :‬اق ُتلوا يُ ُ‬
‫اط َر ُحوهُ أ ْرضا‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫َ َ َ ٌ ُّْ ْ َ َُُْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬
‫ين * قال قائِل مِنهم لا تقتلوا يوسف‬ ‫ح َ‬ ‫يخل لكم َوجه أبِيكم َوتكونوا مِن بع ِده ِ قوما صال ِ ِ‬
‫ِين﴾[[[‪.‬‬‫نت ْم فَا ِعل َ‬ ‫ارة ِ إن ُك ُ‬ ‫َّ‬
‫الس َّي َ‬ ‫ض‬
‫َ َ َ ْ ُ ّ َ َْ ْ ُ َ ْ ُ‬
‫ع‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫ط‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫اب‬ ‫ي‬‫غ‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫َو َألْ ُقوهُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ َ َ ْ ُ َ ۢ ََ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وش َر ْوهُ بِث َم ٍن بَخ ٍ ۢس درٰهِم معدود ٍة وكنوا‬ ‫السوق‪ :‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫ب‪ -‬صرب عىل اسرتقاقه وبيعه يف ُّ‬
‫ٱلزٰهِد َ‬ ‫َ َّ‬
‫ِين﴾[[[‪.‬‬ ‫فِيهِ مِن‬
‫إل أنَّه تغلَّب‬
‫كل جانب َّ‬ ‫ج‪ -‬صرب عىل الشهوة‪ :‬وقد ُهيِئت له طائفة من املغريات ُّ‬
‫تحف به من ِّ‬
‫عليها بعون الله وقدرته‪.‬‬
‫كل جانب‪ ،‬آثر دخول‬ ‫د‪ -‬الصرب عىل الحبس والسجن‪ :‬عندما أحاطت املغريات بيوسف من ِّ‬
‫مم يدعونه إليه‪ .‬ليس هذا‬ ‫أحب إليه َّ‬
‫ُّ‬ ‫السجن خوفًا من هذه اإلغراءات‪ ،‬إذ إ َّن السجن يف هذه الحالة‬
‫فحسب‪ ،‬إنَّ ا رفض أيضً ا الخروج من السجن بعد تأويل رؤيا امللك ما مل تظهر الحقيقة‪ ،‬ويعلم‬
‫ََ َ ْ ُ‬
‫﴿وقال ال َمل ِك‬ ‫ظلم وكي ًدا من جانبها‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬‫امللك موقفه من امرأة العزيز‪ ،‬وأنّه دخل السجن ً‬
‫َ َّ ْ َ َ ْ َ ُ َّ َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ َّ ُ ُ َ َ ْ ْ َ َ ّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ ّ ْ َ َّ‬ ‫ُْ‬
‫جع إِل ٰى ربِك فاسأله ما بال النِسوة ِ اللات ِي قطعن أيدِيهن ۚ إِن‬
‫ون بِهِ ۖ فلما جاءه الرسول قال ار ِ‬ ‫ائت ِ‬
‫كيْ ِده َِّن َعل ٌ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِيم﴾[[[‪ ،‬فهو رفض الخروج من السجن قبل براءته‪ ،‬حتى ال يكون امل ّن للملك‬ ‫ر ِب ب ِ‬
‫يف إخراجه منه‪ ،‬بل يكون الله صاحب الفضل‪ .‬لقد كان عليه السالم يرى يف القض َّية املسجون بها‬
‫حا لعدالته‪ ،‬وهذا ما يش ِّوه عصمته‪ ،‬ويُضعف موقف املؤمنني بالله‪ ،‬وهو رفض الحضور بني يدي‬ ‫قد ً‬
‫امللك حتى ال يُقال إ َّن الحكم نتيحة الحياء منه‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬


‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫[[[‪-‬أحمد بن عجيبة الحسني‪ ،‬البحر املديد‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد الله القريش الرسالن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬حسن عباس زيك‪ ،1419 ،‬الجزء‪ 2‬الصفحة ‪.594‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآليتان ‪.10-9‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.50‬‬

‫‪166‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫للنبي يوسف‪ ،‬ال ب َّد من التوقُّف عند خصيصة أخرية‪ ،‬وهي العفو‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫إضافة إىل الخصائص السابقة‬
‫فبعدما خرج من السجن‪ ،‬ومكَّن الله له األرض يف مرص‪ ،‬وجعله عىل خزائنها‪ ،‬مل يُعامل أخوته‬
‫مثلام عاملوه‪ ،‬بل قابل رشهم بإحسان‪ ،‬وقد أخرب الله عن ذلك‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬قَ َال لَا َتثْر َ‬
‫يب‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ُ َ ُ ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ ّ َٰ‬
‫[[[‬
‫عليكم ٱليوم ۖ يغفِر ٱلل لكم ۖ وهو أرحم ٱلر ِ‬
‫ح ِمين﴾‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫قص القرآن الكريم سرية أهل الكهف‪ ،‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫وورد لفظ الفت َّوة يف َسورة الكهف‪ ،‬حيث ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ٌ‬
‫ح ّ ِق ۚ إِن ُه ْم ف ِت َية آمنوا بِرب ِ ِهم وزِدناهم هدى﴾[[[‪ .‬يف هذه اآلية‬
‫َّ‬ ‫ك َن َبأ ُهم بالْ َ‬ ‫َّ ْ ُ َ ُ ُّ َ َ ْ َ‬
‫﴿نحن نقص علي‬
‫ِ‬
‫وجل بالفت َّوة ألنَّهم‪« :‬آمنوا من غري مهلة‪ ،‬مل ّا أتتهك دواعي الوصلة‪ .‬ويُقال فتية ألنّهم‬ ‫وصفهم ع َّز َّ‬
‫قاموا لله‪ ،‬وما استقروا حتى وصلوا إىل الله»[[[‪ ،‬وأظهر النص خصائص هؤالء‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬إ َّن ُهمْ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ََ ُُ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫ف ِتْ َي ٌة َ‬
‫آم ُنوا ب ِ َر ّب ِ ِه ْم َوزِدناه ْم ه ًدى َو َر َب ْط َنا عل ٰى قلوب ِ ِه ْم﴾[[[‪ .‬ويقول القشريي يف رشح هاتني اآليتني‪:‬‬
‫أول النبيني‪ ،‬ثم رقَّاهم‬ ‫«الطَفهم بإحضارهم‪ ،‬ث َّم كاشف يف أرسارهم‪ ،‬مبا زاد من أنوارهم‪ ،‬فلقاهم ً‬
‫ََ ُُ‬
‫﴿و َر َب ْط َنا عل ٰى قلوب ِ ِه ْم﴾ بزيادة اليقني حتى متع نهار معارفهم[[[‪،‬‬ ‫عن ذلك باليقني‪[ .‬وقوله تعاىل] َ‬
‫واستضاءت شموس تقديرهم‪ ،‬ومل يبق للرت ُّدد بحال يف خواطرهم [‪ [[[]...‬يف التجريد أرسارهم‪،‬‬
‫َ ُُ‬
‫قال﴿و َر َب ْط َنا َعل ٰى قلوب ِ ِه ْم﴾‪ :‬بأن أفنيناهم عن األغياؤ‪ ،‬وأغنيناهم عن‬ ‫َ‬
‫ومتَّت سكينة قلوبهم‪ .‬ويُ‬
‫ْ‬ ‫َ ََْ َ ََ ُُ‬
‫التبص ويُقال﴿وربطنا عل ٰى قلوب ِ ِهم﴾ مبا أسك ّنا فيها من شواهد‬ ‫ُّ‬ ‫التفكُّر مبا أوليناهم من أنوار‬
‫[[[‬
‫الغيب‪ ،‬فلم تسنح فيها هواجس التخمني وال وساوس الشياطني»‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ َ ْ ًَ ََّ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ َ‬ ‫ْ ْ ُ َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ئ ل َنا م ِْن أ ْم ِرنا‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إِذ أ َوى الفِت َية إِلى الك ْه ِف فقالوا َر ّب َنا آت َِنا مِن لدنك رحمة وه ِي‬
‫ََ ً‬
‫س القشريي هذه اآلية بقوله‪« :‬آواهم إىل الكهف‪ ،‬وقام عنهم فأجرى عليهم األحةال‬ ‫رشدا﴾ ‪ ،‬ف َّ‬
‫[[[‬

‫ةهم غائبون عن شواهدهم‪ .‬وأخرب عن ابتداء أمرهم[‪ ]...‬أنّهم أخذوا يف التربي من حولهم وقوتهم‪،‬‬
‫ورجعوا إلىى الله بصدق فاقتهم‪ ،‬فاستجاب لهم دعوتهم‪ ،‬ودفه عنهم رضورتهم‪ ،‬وبوأهم يف كنف‬
‫[[[‬
‫اإليواء مقيال حس ًنا»‬
‫بالتايل‪ ،‬نرى من خالل ما ُعرض أ ّن الفتوة‪ ،‬تقوم عىل مبدأ التسليم التام الله‪ ،‬بحيث ال يرى‬
‫كل خبيث‪ ،‬وجعل الله هو املقصد والغاية النهائية‪،‬‬
‫العبد سواه يف هذا الكون‪ ،‬وتطهري النفس من ّ‬

‫[[[‪ -‬سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.92‬‬


‫[[[‪ -‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪« ،‬لطائف اإلشارات»‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم بسيوين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العا َّمة للكتاب‪ ،200 ،‬الجزء ‪ ،3‬الصفحة ‪.380‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الكهف‪ ،‬اآليتان ‪.15-14‬‬
‫[[[‪ -‬متوع النهار اصطالح يأيت يف مذهب القشريي بعد الَّلوائح والظالع واللوامع‪ ،‬وهو يلتقي يف املعنى من حيث الُّلغة (يُقال متع النهار‬
‫أي بلغ غاية ارتفاعه)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يقول محقِّق الكتاب‪ :‬مشتبهة وهي قريبة يف ال َّرسم من «واتخذوا» ومصوبة يف الهامش «وانحدروا»‪ ،‬ألجل هذا مل نستطع أن نحسم‬
‫وإل مل حدثت سكينة يف قلوبهم‪.‬‬ ‫فيها برأي‪ ،‬وهي عىل العموم كلمة تفيد خلوص أرسارهم يف التجريد َّ‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ ،‬لطائف اإلشارات‪ ،‬املصدر نفس‪ ،‬الجزء ‪ 3‬الصفحة ‪.381‬‬
‫[[[‪-‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ ،‬لطائف اإلشارات‪ ،‬املصدر نفس‪ ،‬الجزء ‪ ،3‬الصفحة ‪.379‬‬

‫‪167‬‬
‫المحور‬

‫كل ذلك عىل العبد أن يثق بباريه بأنّه حافظه‬


‫وإذا اقتىض األمر اعتزال الناس والتربي منهم‪ ،‬ويف ّ‬
‫وموصله إىل ما يسعى إليه‪.‬‬
‫يل‪ ،‬أ َّن أصول املفهوم‬ ‫من خالل ما استعرضنا‪ ،‬وسنكتفي بهذا املقدار‪ ،‬يظهر لدينا بشكل ج ٍّ‬
‫كل دعوة‬ ‫موجود يف القرآن الكريم‪ ،‬بل ويذهب النابليس إىل القول أ َّن الفت َّوة موجودة يف أصل ِّ‬
‫نبويَّة‪ ،‬ويقول‪« :‬وقال اللّه تعاىل عن إبراهيم الخليل‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ -‬إنَّه قال للنمرود اللعني‬
‫َ َْ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َّ‬
‫الش ْ‬ ‫َ َّ َّ َ ْ‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫غ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫م‬‫ال‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫عى الربوب َّية مع اللّه تعاىل‪﴿ :‬فإِن الل يأ ِ‬
‫ب‬ ‫ِي‬ ‫ت‬
‫َ‬
‫ملا ا َّد‬
‫َ َ َ َُ ْ ُ ً ّ َ ً َُ ْ َ َ ُّ ْ َْ َْ ُ َ ُ‬ ‫ََ‬ ‫ّ‬ ‫َف ُبه َ‬
‫ون قالوا‬ ‫جع ‏‬ ‫ِ‬ ‫ت الذِي كف َر﴾[[[‪ ،‬و قال تعاىل‪﴿ :‬فجعلهم جذاذا إِلا كبِيرا لهم لعلهم إِليهِ ير‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ َُْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ ْ ًَ َْ ُُُ ْ ُ ُ َ‬ ‫َّ ُ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َََ‬
‫ى يذكرهم يقال له إِبراهِيم‏ قالوا فأتوا بِهِ‬ ‫ين قالوا س ِمعنا فت ‏‬ ‫من فعل هذا بآل ِهتِنا إنه ل ِمن الظال ِ ِم ‏‬
‫ير ُهمْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ ُ َّ ِ َ َ َّ ِ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ُ َ َ‬
‫ِيم قال بل فعله كب ُ‬
‫ِ‬ ‫اس لعلهم يشهدون‏ قالوا أ أنت فعلت هذا بِآل ِهتِنا يا إِبراه ُ‏‬ ‫على‏ أعي ِن الن ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ك ُسوا‬ ‫ون ث ّم ن ِ‬ ‫س ِه ْم فقالوا إِنك ْم أن ُت ُم الظال ُِم ‏‬ ‫ون ف َر َج ُعوا إِلى‏ أنف ِ‬ ‫هذا ف ْس َئلوه ْم إِن كانوا َين ِطق ‏‬
‫ت ما هؤلاءِ َين ِطقون﴾[[[‪ .‬ونحو هذا ىف القرآن والس َّنة ممَّ حكاه اللّه تعاىل‬
‫ْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َعلى‏ ُر ُؤ ِسه ْم لَ َق ْد َعل ِْم َ‬
‫ِ‬
‫مم وقع بني األنبياء وأممهم‪ ،‬و كان من الحكمة اإللهيَّة أ َّن اللّه تعاىل مل يرسل نبيًّا وال‬ ‫ورسوله َّ‬
‫رسول إىل أ َّمة من األمم ىف حمية من قومه وعصبة من جامعته ينصفونه ممن يكذبه‪ ،‬و كان اللّه‬ ‫ً‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫حياة ِ ّ‬ ‫ْ‬
‫آم ُنوا ف ِي ال َ‬ ‫ِين َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫يتول النرصة وحده كام قال سبحانه‪﴿ :‬إنا ل َنن ُص ُر ُر ُسلنا َو الذ َ‬
‫الدنيا َو‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫تعاىل‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يَ ْو َم َي ُق ُ‬
‫وم الأشهاد﴾[[[[‪ ]...‬وهذا املعنى كثري ىف القرآن‪ ،‬ثم ملا أرسل اللّه تعاىل محم ًدا ‪ ‬وجعله‬
‫خاتم النبيني أيده بعصابة من قومه باملهاجرين واألنصار‪ ،‬وجعل له أتبا ًعا و أعوانًا‪ ،‬وأيدهم عىل‬
‫الحق»[[[‪.‬‬
‫السلمي إىل القول بأ ّن الفت َّوة أصل يف الدعوة الدينيَّة‪ ،‬ويُنقل عنه‪[« :‬الله] جعل منهاج‬
‫ّ‬ ‫ويذهب‬
‫كل حسن واجب‪ ،‬ون َّزهها عن الفواحش واملعايب‪،‬‬ ‫الفت َّوة واضح املالحب‪ ،‬يؤول ويرشد إىل ِّ‬
‫كل من كتب اسمه‬ ‫وأرقاها إىل أعىل املراتب؛ وارتىض لها من أنبيائه املرسلني وأصفيائه املق َّربني َّ‬
‫جالسا عىل مراتبه‪ .‬فأول من أجاب‬ ‫ً‬ ‫الحق؛ فقام بواجبه‪ ،‬ودام‬
‫ِّ‬ ‫عىل صفاء لوح الصدق‪ ،‬وبان له طريق‬
‫املشتق من أديم األرض‬
‫ّ‬ ‫اىل دعوة الفتوة‪ ،‬وحبا مكرمات املر ّوة آدم بديع الفطرة‪ ،‬رفيع االرسة‪،‬‬
‫محل اإلرادة رسمه؛ الساكن ىف دار الحشمة‪ ،‬املؤيّد باألنوار والعصمة؛ املت َّوج‬ ‫ِّ‬ ‫اسمه‪ ،‬الثابت ىف‬
‫الحال بدار السالمة‪ ،‬وقبل بها هابيل ملا طرد عنه قابيل؛ ودام بحقّها شيث‪ ،‬ون ّزهها‬ ‫ّ‬ ‫بتاج الكرامة‪،‬‬
‫ىل إدريس‪ ،‬فنجا من كيد إبليس؛ وبح ّبها كرثت نياحة‬ ‫كل أمر خبيث ورفع بها إىل املكان الع ّ‬ ‫عن ّ‬
‫نوح وكان نورها عليه يلوح وتس َّمى بها عاد [‪ ،]..‬ولقّب بها ابراهيم الخليل‪ ،‬فكرس رؤوس األصنام‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.258‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنبياء‪ ،‬اآليات من ‪ 58‬حتى ‪.65‬‬
‫[[[‪ -‬سورة غافر‪ ،‬اآلية ‪.51‬‬
‫[[[‪ -‬عبد الغني النابليس‪ ،‬كتاب الوجود‪ ،‬تحقيق‪ :‬السيد يوسف أحمد‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ ،1424 ،‬الصفحة ‪.145‬‬

‫‪168‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫ورقي بها لوط إىل مقام ليس بعده هبوط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والتامثيل؛ وفدى بها اسمعيل‪ ،‬بأمر امللك الجليل‪،‬‬
‫رض أيوب‪ .‬سلك بها‬ ‫وكان بها إسحق‪ ،‬قامئًا إىل يوم التالق‪ ،‬ونهض بأسبابها يعقوب‪ ،‬وكشف بها ّ‬
‫يوسف الص ّديق أكرم طريق‪ ،‬ودام له بها التوفيق‪ ،‬وانقاد ذو الكفل إىل رتبتها العلياء‪ ،‬وقام بأمورها‬
‫كل ريب وعيب‪ ،‬رفل لها موىس أرفاال‪ ،‬وأجاب‬ ‫املرض ّية الحسناء‪ ،‬وحاز قصباتها شعيب‪ ،‬فن ّزه عن ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫هارون فأحسن مقاال‪ .‬رشف بها أهل الكهف والرقيم‪ ،‬ففازوا بدار النعيم‪ ،‬عمر بها قلب داود‪ ،‬ولذلّه‬
‫حت ليونس رشوطها‬ ‫بها الركوع والسجود‪ ،‬وورثها منه سليامن‪ ،‬وسخّر له بها اإلنس والجانّ‪ ،‬وص َّ‬
‫الصفا‪ ،‬وص ّدق بها يحيى فنجا من الغ ّم‪ ،‬وعظم بها ملا ه ّم فام اهت ّم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فوف‪ ،‬وورد بها زكريّا مورد ّ‬
‫مل‪ ،‬وجالبها العسعس عيىس بال ّنور الرصيح‪ ،‬ولقّب بها ال ّروح واملسيح‪ ،‬وفتح بها‬ ‫وباألمل ما أ ّ‬
‫حا مبي ًنا فجعل عليها أخاه وابن ع ّمه أمري املؤمنني عليّا أمي ًنا»[[[‪.‬‬
‫ملح ّمد‪ ‬فت ً‬
‫ّ‬
‫اإلساليم‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫التصوف‬ ‫َّ‬
‫الفتوة أصل يف‬
‫تلقَّف املتص ِّوفة باك ًرا مفهوم الفت َّوة‪ ،‬وأفردوا له مساحة واسعة يف منظومتهم الفكريَّة‪ ،‬لذلك‬
‫سنالحظ حضوره ابتدا ًء من القرن الثاين للهجرة وقبل أن يكتمل التص ُّوف كعلم‪ ،‬ويف هذا املجال‬
‫الثوري عن الفت َّوة‬
‫َّ‬ ‫الخاص به‪ .‬وقد ُسئل أ ّن سفيان‬
‫ِّ‬ ‫ميل تنظرييًّا باتجاه تحديد اإلطار العا ِّم‬
‫نالحظ ً‬
‫فقال‪« :‬العفو عن زلل اإلخوان»[[[‪ .‬وأورد السلمي أنَّها‪« :‬أن يحفظ الفتى عىل نفسه هذه الخمسة‬
‫والصدق‪ ،‬واألخ َّوة الصالحة‪ ،‬وإصالح الرسيرة»[[[‪ ،‬واعترب أ َّن من‬
‫ّ‬ ‫أشياء‪ ،‬وهي‪ :‬األمانة‪ ،‬والصيانة‪،‬‬
‫ض َّيع واحدة منه َّن‪ ،‬فقد خرج عن رشط الفت َّوة‪ .‬وقال عىل لسان بعض الحكامء‪« :‬من ُو ِج َدت فيه‬
‫ست خصال‪ ،‬فاحكم له بالفت َّوة التا َّمة؛ وهو أن يكون شاك ًرا للقليل من النعمة‪ ،‬صاب ًرا عىل الكثري‬
‫ُّ‬
‫من الشدائد‪ ،‬يداري الجاهل بحلمه‪ ،‬ويؤ ّدب البخيل بسخائه وال يطلب عوضً ا كام يطلبه أحد من‬
‫الناس‪ ،‬وال ينقض ما كان بناه من اإلحسان من قبل»[[[‪ .‬ونقل عن عمرو بن عبيد[[[‪« :‬ال تكمل مروءة‬
‫عم يف أيدي الناس‪ ،‬ويسمع األذى فيحتمله‪،‬‬
‫الرجل حتى تجتمع فيه ثالث خصال‪ :‬يقطع رجاءه َّ‬
‫ويحب للناس ما يح ُّبه لنفسه»[[[‪.‬‬
‫ُّ‬

‫[[[‪ -‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسني السلمي‪ ،‬مجموعة آثار السلمي‪ ،‬طهران‪ ،‬مركز النرش الجامعي‪ ،1411 ،‬الجزء‪ ،2‬الصفحة ‪.225‬‬
‫[[[‪ -‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسني السلمي‪ ،‬تسعة كتب يف أصول التصوف والزهد‪ ،‬تحقيق‪ :‬سليامن إبراهيم آتس‪ ،‬النارش للطباعة‬
‫والنرش والتوزيع واإلعالن‪.329 ،1414 ،‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬املعطيات نفسها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬املعطيات نفسها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يف األصل عمر‪ .‬وهو عمرو بن عبيد بن باب التميمي‪ -‬موالهم‪ -‬أبو عثامن البرصي (‪ 244‬ه‪ 858 /‬م)‪ ،‬رأس املعتزلة عىل زهده‪ .‬كان‬
‫ولعل الذي ج َّر ذلك عليه هو االعتزال‪ .‬وكان املنصور العبايس‬
‫ّ‬ ‫نسا ًجا‪ ،‬ثم صار رشط الحجاج‪ .‬وقد تركوا حديثه‪ ،‬بل رموه بالكذب‪.‬‬
‫أبوه ّ‬
‫يعتقد صالحه‪( .‬خالصة تذهيب تهذيب الكامل‪.)247 :‬‬
‫[[[‪ -‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسني السلمي‪ ،‬تسعة كتب يف أصول التصوف والزهد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الصفحة ‪.330‬‬

‫‪169‬‬
‫المحور‬

‫كام نالحظ أ ّن هناك اقرتاب للداللة الصوفيَّة يف بدايتها األوىل من الداللة القرآنيَّة‪ ،‬ولكن‬
‫الحلج أخذ املفهوم بات ِّجاه جديد‪ ،‬حيث يربز مناظرة بينه وبني إبليس وفرعون حول الفت َّوة يف‬ ‫َّ‬
‫كتابه «الطواسني» ورد فيها‪ " :‬تناظرت مع إبليس وفرعون يف الفت َّوة؛ فقال إبليس‪ :‬إن سجدت سقط‬
‫ع ّني اسم الفت ّوة‪ ،‬وقال فرعون‪ :‬إن آمنت برسوله سقطت من منزل الفت ّوة‪ .‬وقلت أنا‪ :‬إن رجعت عن‬
‫ريا‪ ،‬وقال فرعون‪:‬‬ ‫دعواي سقطت من منزل الفت ّوة‪ ،‬وقال إبليس‪ :‬أنا خري منه حني مل يراء (ير) غريه غ ً‬
‫الحق والباطل‪ .‬وقلت أنا إن مل‬‫ّ‬ ‫ما علمت لكم من إله غريي‪ ،‬حني مل يعرف يف قومه من مييّز بني‬
‫بالحق حقًا[‪.]...‬‬
‫ّ‬ ‫ين ما زلت أب ًدا‬
‫تعرفوه فاعرفوا آثاره‪ ،‬وأنا ذلك األثر وأنا الحق‪ ،‬أل ّ‬
‫رباين وأنكر حايل‬‫الحلج ذكر بنفسه أنه طاملا ات ُّهم بالزندقة يف قوله‪« :‬املنكر يف دائرة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ومع أن‬
‫سمين وبالسوء رماين»[‪ ،]...‬مل يرد يف محارض املحاكمة يش‏ء‬ ‫حني مل يراين (يرين) وبالزندقة ّ‬
‫يف‬
‫يتّصل مبسؤول َيته عن تلك العبارة وال هذا الرأي‪ .‬والنتيجة أن املوت صار الحكم عىل هذا الصو ِّ‬
‫حي يف سبيل من تحب‪ ،‬وهو يف ذلك ق َّدم نفسه‬ ‫املتّهم[[[‪ ،‬وهذا يعني أن الفت َّوة هو أن تستسلم وتُض ّ‬
‫قربانًا لله‪ ،‬وهذا ما دفعه يف لحظة املوت أن يخاطب الله بلغة العاشقني‪.‬‬
‫ولكن مع الضبط الذي حصل يف نهاية القرن الثالث للهجرة‪ ،‬سرنى أ َّن الفت َّوة ستعيد عالقتها‬
‫خاصا يف كتابه «منازل السائرين»‪ ،‬وقال‪« :‬نكتة الفت ّوة أن ال‬‫ًّ‬ ‫األنصاري الذي أفرد بابًا‬
‫ِّ‬ ‫بالنص مع‬
‫ِّ‬
‫فضل‪ ،‬وال ترى لك حقًّا‪ .‬وهي عىل ثالث درجات‪ :‬الدرجة األوىل ترك الخصومة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تشهد لك‬
‫والتغافل عن الزلّة‪ ،‬ونسيان األذيَّة‪ .‬والدرجة الثانية أن تق ّرب من يقصيك‏‪ ،‬وتكرم من يؤذيك‪ ،‬وتعتذر‬
‫حا ال مصابرة‪ .‬والدرجة الثالثة‪ :‬أن ال تتعلّق يف املسري‬‫كظم‪ ،‬وبرا ً‬
‫ً‬ ‫حا ال‬
‫إىل من يجني عليك‪ ،‬سام ً‬
‫بدليل‪ ،‬وال تشوب إجابتك بعوض‪ ،‬وال تقف يف شهودك عىل رسم‪ .‬واعلم أ ّن من أحوج عد ّوه إىل‬
‫شفاعة‪ ،‬ومل يخجل من املعذرة إليه‪ ،‬مل يش ّم رائحة الفت َّوة‪ .‬ث ّم يف علم الخصوص‪ ،‬من طلب نور‬
‫يحل له دعوى الفت ّوة أب ًدا»[[[‪ .‬ومن خالل هذه املقاربة‪ ،‬نرى أن‬‫الحقيقة عىل قدم االستدالل‪ ،‬مل ّ‬
‫األنصاري يُقرب هذا املفهوم من املروءة‪.‬‬
‫َّ‬
‫ومفهوم املروءة الذي قارب من خالله سيتح َّول مع الغزايل إىل كلمة مفتاحيَّة لفهم الفت َّوة‪،‬‬
‫حيث اعترب أنها‪« :‬ترجع إىل أخالق املروءة‪ ،‬فمن قام بواجب الرشع وواجب املروءة فهو الفتى‪،‬‬
‫ومن شارك أبناء الدنيا فيام هم فيه فال فت َّوة له وال مروءة»[[[‪ ،‬يف هذا الكالم ربط الغزايل بني املروءة‬
‫والرشع‪ ،‬وجعل الثاين عبارة عن واجبات وأفعال يقوم بها اإلنسان‪ .‬هذا وقسم الفت َّوة إىل أنواع‪:‬‬
‫‪ -‬فت َّوة العا َّمة باألموال‪.‬‬
‫الخاصة باألموال واألفعال‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬وفت َّوة‬
‫[[[‪ -‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬رشح ديوان الحلَّج‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬الصفحة ‪.6‬‬
‫[[[‪ -‬عبد الله األنصاري‪ ،‬منازل السائرين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عيل شريواين‪ ،‬طهران‪ ،‬دار العلم‪ ،1417 ،‬الصفحتان ‪.80-89‬‬
‫[[[‪ -‬أبو حامد محمد الغزايل‪ ،‬مجموعة رسائل اإلمام الغزايل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الفكر‪ 1416 ،‬ه‪ ،‬الصفحة ‪.156‬‬

‫‪170‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫الخواص بهام وباألحوال‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫خاص‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬فت َّوة‬
‫‪ -‬فت َّوة األنبياء بهام وباألرسار‪ ،‬وهو الذي ليس يف باطنه دعوى وال يف ظاهره تصنع ومراءاة‪،‬‬
‫ورسُّه الذي بينه وبني اللّه تعاىل ال يطلع عليه صدره‪ ،‬فكيف الخلق‪.‬‬
‫السخط‬
‫ويصل إىل القول‪« :‬من شأن الفتى النظر إىل الخلق بعني الرىض وإىل نفسه بعني َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه وال يتع َّرض إلخوانه بزلَّة أو حقرة أو كذب‪ ،‬وينظر إىل‬
‫الخلق كأنهم أولياء غري مستقبح منهم»[[[‪.‬‬
‫من جانبه‪ ،‬يذهب ابن عريب إىل اعتبار الفت َّوة مقا ًما يعبِّ عن القوة‪ ،‬ويقول يف «الفتوحات‬
‫املكيَّة»‪« :‬اعلم أ َّن للفت َّوة مقام القوة وما خلق اللَّه من الطبيعة أقوى من الهواء وخلق اإلنسان أقوى‬
‫من الهواء إذا كان مؤم ًنا»‪ ،‬فبالنسبة إليه أ ّن هذا املقام ال يصل إليه إال من سلّم نفسه لربِّه وبذل يف‬
‫وجل‬‫كل ما ميلك من مال‪ ،‬ومن أجل إثبات هذه الفكرة‪ ،‬يرادف بني الفت َّوة والرازقيَّة‪ ،‬فالله ع َّز َّ‬ ‫سبيله ّ‬
‫َّ َّ َ ُ َ َّ َّ ُ ُ ْ ُ َّ‬
‫وجل‪﴿ :‬إِن الل هو الرزاق ذو القوة ِ‬ ‫يرزق الناس مع كفرهم به‪ ،‬ولهذا وصف تعاىل نفسه بقوله ع َّز ّ‬
‫ين﴾[[[‪ ،‬فهو ال مينع عنهم الرزق واإلنعام واإلحسان بكفرهم مع أ ّن الكفر بال ِّنعم سبب مانع‬ ‫ال ْ َمت ِ ُ‬
‫مينع النعمة فال يرزق الكافر مع وجود الكفر منه ملا رزقه إلَّ من له الق َّوة‪ ،‬فلهذا نعته بذي الق َّوة‬
‫املتني‪ ،‬فإ َّن املتانة يف الق َّوة تضاعفها‪ .‬وما اكتفى سبحانه بالق َّوة حتى وصف نفسه بأنَّه املتني فيها‬
‫القوي فوصف نفسه باملتانة و‪« :‬هذه صفة أهل الفت َّوة‪ ،‬فإ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫إذ كانت لق َّوة لها طبقات يف التمكُّن من‬
‫الفت َّوة ليس فيها يش‏ء من الضعف‪ ،‬إذ هي حالة بني الطفولة والكهولة‪ ،‬وهو عمر اإلنسان من زمان‬
‫بلوغه إىل متام األربعني من والدته»[[[‪.‬‬
‫خالصة القول‪ ،‬أ َّن الفت َّوة‪ ،‬كام رأينا من خالل هذا البحث‪ ،‬ال تشري إىل داللة عمريَّة إنَّ ا هي‬
‫عبارة عن مرتبة من مراتب الكامل يصل إليها عرب اإللتزام باألوامر الرشع َّية‪ ،‬يبذل نفسه وماله من‬
‫دون أن يكون له مصلحة يف ما يقوم به‪ ،‬وهي وإن حملت معامل املروءة‪ ،‬ولك ّنها تجعلها خدمة‬
‫لهدف أسمى هو الوصل بالله‪ .‬وما ورد يف هذا البحث آثر االبتعاد عن أمرين األول الذهاب باتجاه‬
‫اإلسالمي للنظر إىل من أُطلق عليهم اسم «الفت َوة»‪ ،‬فهذا مورد بحث منفصل بحاجة إىل‬ ‫ِّ‬ ‫التاريخ‬
‫خاصة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كثري من التدقيق‪ ،‬وهو وإن استفاد من مفهوم الفت َّوة‪ ،‬ولك ّنه جعله خدمة ألهداف سياس َّية‬
‫وهذا ما يجعل دراسة هذه الظاهرة تحتاج إىل تدقيق وفرز ليس هنا مورد القيام به‪ ،‬كام أنَّنا آثرنا عدم‬
‫التوسع يف رشح «الفتوة» والدخول يف تفصيالت قد تكون منهكة للمتابع‪ ،‬كام أنَّها قد ال تستويف‬ ‫ُّ‬
‫وال تعطي املوضوع حقه‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة ‪.157‬‬


‫[[[‪ -‬الذاريات‪.58 :‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الجزء‪ ،1‬الصفحة ‪.242‬‬

‫‪171‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪2.2‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة صادر‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬الجزء ‪.4‬‬

‫‪3.3‬ابن هشام‪ ،‬السرية النبويَّة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الكل َّيات األزهريَّة‪ ،1974 ،‬الجزء ‪.1‬‬

‫‪4.4‬أبو الريحان البريوين‪ ،‬الجامهر يف معرفة الجواهر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة املتن ّبي‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫مؤسسة هنداوي‪.2017 ،‬‬


‫‪5.5‬أبو العال عفيفي‪ ،‬املالمت َّية والصوف َّية وأهل الفت َّوة‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬

‫‪6.6‬أبو حامد محمد الغزايل‪ ،‬مجموعة رسائل اإلمام الغزايل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الفكر‪ 1416 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪7.7‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسني السلمي‪ ،‬تسعة كتب يف أصول التصوف والزهد‪ ،‬تحقيق‪ :‬سليامن‬

‫إبراهيم آتس‪ ،‬النارش للطباعة والنرش والتوزيع واإلعالن‪.1414 ،‬‬

‫‪8.8‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسني السلمي‪ ،‬مجموعة آثار السلمي‪ ،‬طهران‪ ،‬مركز النرش الجامعي‪،1411 ،‬‬

‫الجزء‪.2‬‬

‫مؤسسة الهنداوي‪.2018 ،‬‬


‫‪9.9‬أحمد أمني‪ ،‬الصعلكة والفت َّوة يف اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬

‫مؤسسة الهنداوي‪.2018 ،‬‬


‫‪1010‬أحمد بن أمني الشنقيطي‪ ،‬املعلَّقات العرش وأخبار شعرائها‪ ،‬القاهرة‪َّ ،‬‬

‫‪1111‬أحمد بن عجيبة الحسني‪ ،‬البحر املديد‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد الله القريش الرسالن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬حسن عباس‬

‫زيك‪ ،1419 ،‬الجزء‪.2‬‬

‫‪1212‬امرىء القيس‪ ،‬ديوان امرىء القيس‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫مؤسسة األعلمي‪،2007 ،‬‬


‫‪1313‬جواد بن عباس الكرباليئ‪ ،‬األنوار الساطعة يف رشح الزيارة الجامعة‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫الجزء‪.1‬‬

‫‪1414‬عبد الغني النابليس‪ ،‬كتاب الوجود‪ ،‬تحقيق‪ :‬السيد يوسف أحمد‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪.1424 ،‬‬

‫‪1515‬عبد الله األنصاري‪ ،‬منازل السائرين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عيل شريواين‪ ،‬طهران‪ ،‬دار العلم‪.1417 ،‬‬

‫‪1616‬عبد الله محمد بن أيب املكارم‪ ،‬كتاب الفتوة‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصطفى جواد‪ ،‬محمد تقي الدين الهاليل‪ ،‬عبد‬

‫الحليم نجار‪ ،‬أحمد ناحي القييس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة شفيق‪.1958 ،‬‬

‫‪172‬‬
‫الفت َّوة في القرآن والعرفان‬

‫‪1717‬القشريي‪“ ،‬لطائف اإلشارات”‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم بسيوين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العا َّمة للكتاب‪،200 ،‬‬

‫الجزء ‪.3‬‬

‫َّ‬
‫الحلج‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪.‬‬ ‫‪1818‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬رشح ديوان‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪1919‬الكساندر خاتشاتريان‪ ،‬أهل الفت َّوة والفتيان يف املجتمع اإلسالمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح زهر الدين‪ ،‬بريوت‪،‬‬

‫املركز العريب لألبحاث والتوثيق‪.1998 ،‬‬

‫مؤسسه نرش میراث مکتوب‪،‬‬


‫‪2020‬محسن فيض الكاشاين‪ ،‬مجموعة رسائل ومص َّنفات موىل محسن‪ ،‬طهران‪َّ ،‬‬
‫‪1379‬هـ‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫المحور‬

‫الروس ألكسندر كنيش‬


‫ي‬ ‫المفكر‬
‫ف‬
‫عر� سبق هيغل بستة قرون ي� إبداع المفاهيم‬
‫ابن ب ي‬
‫ت‬
‫اللوا�‬ ‫أنشأ الحوار ونقله إىل العربية‪ :‬هادي محمد‬
‫ي‬
‫املفكر الرويس ألكسندر كنيش‬
‫ف‬
‫عر� سبق هيغل بستة قرون ي� إبداع المفاهيم‬
‫ابن ب ي‬

‫ت‬
‫اللوا�‬
‫ي‬ ‫أنشأ الحوار ونقله إىل العربية ‪ :‬هادي محمد‬
‫ّ‬
‫مقدس‬ ‫ش‬
‫أعده للن�‪ :‬جاد‬
‫ي‬

‫تقديم‪:‬‬
‫ ‬
‫يتخذ هذا الحوار مع املفكر واألكادميي الرويس الكسندر كنيش‪ ،‬سمة املفارقة من‬
‫أوجه عدة‪ .‬فهو من جو ٍه يطل عىل الشخيص من سريته الذاتية والعلمية‪ ،‬ومن وج ٍه ثانٍ‬
‫تد ّرجه املعريف الذي اتخذ دربة مخصوصة اجتمعت فيها مشاغل البحث العلمي والتدريس‬
‫األكادميي وثالثاً‪ ،‬توجه ُه الصويف كتجربة حياة‪ ،‬وكمنهج لفهم الوجود وإدراك خفاياه‪.‬‬
‫جرى الحوار عىل نحو املحادثة املفتوحة حول قضايا شتى‪ ،‬لتجيء اإلجابات‬
‫ضمن قوالب السهل املمتنع‪ .‬فلقد استوى التعقيد والتكثيف واالختصار مع البساطة‬
‫ويرس األداء عىل نشأة واحدة‪ .‬حتى لكأنك ‪-‬وأنت تستمع إليه‪ ،‬أو تقرأ كلامته ‪-‬أمام مفكر‬
‫أن تعددت مراتبها وطبقاتها‪.‬‬ ‫أفلح يف بيان مقاصده بوساطة لغة تبلغ األفهام جميعاً َّ‬
‫من البيِّ ان القضايا التي قوربت يف الحوار الذي أنشأه وأداره مدير قناة «حرية»‬
‫املتخصصة بالفلسفة واإللهيات األستاذ هادي محمد اللّوايت‪ ،‬هي وليدة حقول شديدة‬
‫الخصوصية والتخصص‪ ،‬وال سيام حني يتعلق األمر مبفاهيم صوفية وعرفانية ومعارف‬
‫ميتافيزيقية كان للربوفسور كنيش اختبارات بحثية وذوقية يف فضاءاتها املتعالية‪.‬‬
‫إىل إنشغاله بعامله الخاص‪ ،‬يعمل الربوفسور كنيش هذه األيام كأستاذ للدراسات‬
‫اإلسالمية يفجامعة ميشيغان بالواليات املتحدة األمريكية؛ ولديه عرشات الكتب يف حقول‬
‫الفلسفة والتصوف وتاريخ األديان‪ .‬وقد صدر له مؤخَّرا ً كتابان َّ‬
‫مهمن هام‪“ :‬اإلسالم من‬
‫املنظور التاريخي”‪ ،‬و”التص ّوف‪ :‬تاريخجديد للتصوف اإلسالمي”‪ ،‬كام ترجم إىل الروسية‬
‫“الرسالة القشريية” يف علم التص ُّوف أليب القاسم القشريي‪ .‬فضالً عن ذلك لديه مقاالت‬
‫مهمة عديدة‪ ،‬تدور مدار األبعاد السوسيولوجية واألنرثوبولوجية والفلسفية للتصوف‪ ،‬ومنها‬
‫ما صدر حديثاً تحت عنوان‪“ :‬ترشيح الدراسات الصوفية يف الغرب ويف روسيا”‪.‬‬
‫لقد تركز الحوار مع الدكتور كنيش‪ ،‬فضالً عام أفصح عنه من محطات يف مسريته‬
‫اللفتة‪“ :‬من التجربة‬
‫العلمية ومعايشاته املعنوية عىل أبرز األفكار الواردة يف دراسته َّ‬
‫الصوف َّية إىل علم الغنوص َّية الصوف َّية”‪ ،‬ناهيك عن قضايا راهنة ومحورية يف عامل‬
‫الفلسفة والتص ُّوف والروحان َّيات‪.‬‬
‫وفيام يأيت وقائع الحوار‪:‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫ونستهل حوارنا معكم بالحديث عن اهتاممكم بدراسة تاريخ‬


‫ُّ‬ ‫* نر ِّحب بكم دكتور كنيش‪،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬والس َّيام الصوف َّية والتص ُّوف‪ ،‬كيف بدأ ذلك؟ وكيف تط َّور من خالل انخراطك يف املجال‬
‫األكادميي؟‬
‫ّ‬
‫انطلقت منها يف بحويث يف مجال التص ُّوف‪ .‬البداية‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬يسعدين أن أتح َّدث إليكم عن الخلفيَّة التي‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫عادي‪ ،‬واألوضاع فيه‬ ‫ٍّ‬ ‫كانت غري اعتياديَّة‪ ،‬أل َّن االتحاد السوفيايتَّ آنذاك‪ ،‬كام تعلمون‪ ،‬كان بل ًدا غري‬
‫كل يشء‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ذلك بأ َّن َّ‬
‫ِّ‬ ‫يب أو العامل‬
‫عم هي عليه يف الغرب أو يف العامل العر ِّ‬ ‫ريا ّ‬
‫مختلفة كث ً‬
‫الفوقي‪ ،‬حيث ُيىل عىل اإلنسان ما يجب فعله من قبل الدولة‪ .‬وعليه‪ ،‬فقد‬ ‫ِّ‬ ‫كان خاض ًعا للنظام‬
‫وخصوصا أعامل الكاتب واألديب‬
‫ً‬ ‫يب املعارص‪،‬‬‫بدأتُ مسرييت األكادمييَّة كمد ِّرس لألدب العر ِّ‬
‫يب ينال جائزة نوبل لآلداب‪ .‬كان محفوظ ال‬ ‫املرصي نجيب محفوظ‪ ،‬الذي كان أول كاتب عر ٍّ‬ ‫ِّ‬
‫وخصوصا‪:‬‬
‫ً‬ ‫يزال عىل قيد الحياة حني طُلب مني‪ ،‬من قبل املرشف عىل رسالتي‪ ،‬دراسة أعامله‪،‬‬
‫“ثرثرة فوق النيل”‪ ،‬و”اللص‬
‫و”مريامار”‪،‬‬ ‫والكالب”‪،‬‬
‫وبعض الروايات األخرى منها‬
‫معرفة هللا متأتية من الذوق والشهود‪،‬‬ ‫حاذ”‪ .‬متحورت دراستي‬ ‫“الش َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫لك يعرف أن يتخلق ذوقا‬ ‫فعىل المرء ي‬ ‫حول سعيه يف البحث عن‬
‫ً‬ ‫الروحانيَّة‪ ،‬وكانت تلك امل َّرة‬
‫وشهودا‪.‬‬
‫األوىل التي أكتشف فيها‬
‫بعض الروابط بينه والصوف َّية‬
‫ألنَّه كان منخرطًا يف بحث‬
‫يف عن الله‪ ،‬ورحمة الله‪ ،‬والتن ُّور‪ ،‬ومن هنا كانت بداية تع ُّريف عىل التص ُّوف‪.‬‬ ‫صو ٍّ‬
‫كنت حينها يف السنة الرابعة من مرحلة الليسانس‪ ،‬ث َّم أكملت مرحلة املاجستري‪ .‬وبعد التخ ُّرج‬
‫عملت يف الجامرك التزا ًما بنظام كان سائ ًدا يف االت ِّحاد السوفيايتِّ يوجب عىل املتخ ِّرج أن يعمل‬
‫يف مكان ترسله إليه الدولة‪ ،‬كونها تكفَّلت بدفع تكاليف تعليمه‪ ،‬وهكذا أصبحت موظَّفًا لثالث‬
‫سنوات يف جامرك مطار “بولكوفو” الذي كان مق َّر املالحة الجويَّة الرئيس َّية ملدينة “لينينغراد” يف‬
‫يل وهو “سانت بطرسربغ”‪.‬‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬وهي التي استُعيد الحقًا اسمها األص ُّ‬
‫األكادميي يف الدراسات اإلسالم َّية والصوف َّية؟‬
‫ِّ‬ ‫* وكيف انطلقت بعملك‬
‫‪ -‬ذات يوم من العام ‪ ،1979‬ناداين أستاذي السابق الربوفسور أنس خالدوف‪ ،‬والذي كان عامل ًا‬
‫مسلم‪ ،‬وقال يل‪ :‬هل تعبت من البحث يف حقائب املسافرين يف الجامرك؟ إذا كنت كذلك‪ ،‬فتعال‬ ‫ً‬

‫‪177‬‬
‫محاورات‬

‫اإلسالمي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ظل الكثري من التط ُّورات يف العامل‬
‫معي وسيكون لدينا مرشوع جديد‪ .‬حدث ذلك يف ِّ‬
‫أبرزها‪ - :‬الثورة اإليرانيَّة عا َمي ‪ .1979-1978‬واحتالل السوفيات ألفغانستان‪.‬‬
‫كانت السلطات السوفيات َّية مهت َّمة بقدرة املسلمني عىل املقاومة‪ ،‬وتحاول معرفة األصول‬
‫أسايس مهت ّمني باإلسالم‬
‫ٍّ‬ ‫األيديولوجيَّة التي كانت ترتكز عليها مقاومتهم‪ ،‬ولك َّنهم كانوا بشكل‬
‫التقليدي‪ ،‬لذلك أع ّدوا مجموعة من‬
‫ِّ‬ ‫متخصصون يف اإلسالم‬‫ِّ‬ ‫املعارص‪ ،‬واكتشفوا أنّه مل يكن لديهم‬
‫الباحثني لهذه الغاية‪ ،‬وأذكر أنَّني ذهبت وثالثة شبان إىل مكتب مدير معهد الدراسات الرشق َّية يف‬
‫املتخصصني يف الُّلغة العرب َّية والدراسات اإلسالم َّية‪ .‬سألهم‬
‫ِّ‬ ‫“لينينغراد” فألفيناه ُمحاطًا بعدد من‬
‫عن‪ :‬املجاالت األساسيَّة للدراسات اإلسالميَّة‪ ،‬فأبلغوه بتوفُّر ثالثة اختصاصات هي‪ :‬الدراسات‬
‫القرآن َّية‪ ،‬دراسات علم الحديث‪ ،‬والدراسة الصوف َّية‪ .‬عندها قال للشاب األول‪ ،‬وكان اسمه إيفيم‪:‬‬
‫سوف تدرس القرآن‪ ،‬وقال للثاين واسمه دميرتي ماركوف‪ :‬سوف تدرس علم الحديث‪ ،‬وبعدها‬
‫أي يشء عن التص ُّوف؟ فأجبته‪ :‬نعم‪ ،‬لقد قرأت لنجيب محفوظ‪ ،‬فاملصطلح‬ ‫سألني‪ :‬هل تعلم َّ‬
‫جه إىل الربوفسور خالدوف‪،‬‬ ‫يل‪ ،‬فقال يل‪ :‬سوف تدرس التص ُّوف‪ ،‬ومن ث َّم تو َّ‬ ‫مألوف بالنسبة إ َّ‬
‫وسأله‪ :‬من هي الشخص َّية الرئيس َّية يف الصوف َّية‪ ،‬فقال‪ :‬ابن عريب‪ .‬عندها قال يل‪ :‬سوف تدرس‬
‫الصوف َّية من خالل أعامل ابن عريب‪ .‬لقد كان ذلك نو ًعا من القدر‪ ،‬وميكنك تسميته صدفة‪ ،‬ومنذ‬
‫ريا يف مجال التص ُّوف‪.‬‬
‫ذلك الوقت أصبحت خب ً‬
‫* يف الحقيقة‪ ،‬هذا مثري لالهتامم‪ ،‬ولكن قبل الدخول عميقاً إىل عامل التصوف‪ ،‬نعود معك إىل‬
‫َ‬
‫شهادت الليسانس واملاجستري يف االتحاد السوفيايت؟‬ ‫أيام دراستك وحصولك عىل‬
‫يت‬
‫نلت شهاديتَّ من جامعة “لينينغراد” الحكوم َّية‪ ،‬وكانت جامعة رئيس َّية يف االتحاد السوفيا ِّ‬ ‫‪ُ -‬‬
‫يل‪،‬‬ ‫يف ذلك الوقت‪ ،‬إىل جانب جامعة موسكو الحكوم َّية‪ ،‬ولكن بعد استعادة املدينة اسمها األص ِّ‬
‫قوي‬
‫أصبح اسم جامعتي القدمية “جامعة سانت بطرسربغ الحكوميَّة‪ .‬كان لدينا برنامج لغة عربيَّة ٌّ‬
‫عت كالكثريين باسم‬ ‫وغني ج ًّدا‪ ،‬ت َّم تأسيسه يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش‪ ،‬ورمبا َس ِم َ‬
‫ٌّ‬
‫يب‪ ،‬وواح ًدا من‬ ‫الربوفسور إغناطيوس كراشكوفسيك‪ ،‬الذي كان من أعظم علامء األدب العر ِّ‬
‫املسترشقني عىل ضفاف نهر “نيفا”‪ ،‬حيث تقع مدينة “سانت بطرسربغ”‪ .‬وقد بدأت مع أستاذي‬
‫رويس‪ ،‬ويريغاس كراشكوفسيك‪ ،‬وميدنيك وآخرين ك ُُث‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ين‬
‫الربوفسور روزن وهو عامل أملا ٌّ‬
‫ذكرت أنَّ أول من أثَّر فيك هو نجيب محفوظ واألدب العريب‪ ،‬فهل تؤمن بهذا النوع من‬ ‫َ‬ ‫*‬
‫األدب‪ ،‬السيام أنَّ لدى محفوظ أيضً ا أبعادًا صوف َّية عميقة؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ .‬محفوظ يستخدم الكثري من الرموز واإلشارات الصوف َّية‪ ،‬لكن باملقابل‪ ،‬نفذت إىل‬
‫الرشقي‬
‫ِّ‬ ‫ريا لالهتامم‪ ،‬بني أعالم الفكر‬
‫جا مث ً‬
‫ذهنه األفكار الغرب َّية‪ ،‬الوجوديَّة‪ ،‬لذا فهو ميثِّل مزي ً‬

‫‪178‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫واإلسالمي‪ ،‬ور َّواد الفلسفة الغرب َّية أمثال‪ :‬سارتر‪ ،‬سيمون دي بوفوار‪ ،‬وغريهام من الوجوديني‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫لذلك‪ ،‬أرى أ َّن دراستي له مثمرة ج ًّدا‪ ،‬وتعلَّمت منها الثقافة اإلسالم َّية كام يف “أوالد حارتنا”‪ ،‬مثلام‬
‫تعلَّمت الكثري من األفكار الفلسفيَّة الغربيَّة كالبنيويَّة‪ ،‬والوجوديَّة‪ ،‬وغريها من الفلسفات التي كانت‬
‫رائجة يف الدراسات الغربيَّة والدراسات اإلنسانيَّة‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫* يف بعض الدراسات الحديثة‪ ،‬الس َّيام الدراسات املقارنة العرفان َّية‪ ،‬هناك من تناولوا الفلسفة‬
‫اإلسالمي وهايدغر أو غريه من الوجوديني‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫الوجوديَّة‪ ،‬ووجدوا تشاب ًها بني العرفان‬
‫‪ -‬أوافقك الرأي متا ًما‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬حني تقرأ هيغل ترى أنَّه يعشق الَّلعب عىل الكالم‪،‬‬
‫وكذلك يفعل ابن عريب إذ يقول‪ :‬الوجود هو أن تكون‪ ،‬ولكن أيضً ا هو يستعمل كلمة اإليجاد‪،‬‬
‫وبذلك يلعب عىل معنى جذر الكلمة‪ ،‬ولكن أذكِّرك بأنّه قام بذلك قبل هيغل بخمسة أو ستَّة قرون‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬هو يستخدم هذه القدرة‬
‫ليعب‬
‫ِّ‬ ‫عىل امتالك الُّلغة‬
‫عن الرتكيبة األعمق ألفكار‬
‫وتجارب اإلنسان يف وقت‬
‫ليس بإمكان المتصوفة أن يكملوا‬
‫ميتاف� ق‬ ‫مبكر ج ًّدا‪ ،‬وضمن سياق‬
‫ي�‬ ‫يز‬ ‫نظام‬ ‫دون‬ ‫من‬ ‫اإللهية‬ ‫معارفهم‬
‫ي‬ ‫الثقافة اإلسالم َّية‪.‬‬
‫* أرشت إىل الصلة بني‬
‫الوجود واإليجاد‪ ،‬فهل تقصد‬
‫ان إبن عريب يربط الوجود‬
‫بال َوجد والوجدان؟‬
‫ين‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هو يستخدم عبارات مثل‪ :‬وجود‪ ،‬تواجد‪ ،‬النشوة‪ ،‬التجارب الوجدان َّية‪ ،‬التواجد العرفا ّ‬
‫يف سياق تبيني نظامه املعريف حول الوجود واإليجاد‪...‬‬
‫* يف مقالتك عن الذوق أرشت يف املقدِّ مة إىل الثورة اإلسالم َّية يف إيران عام ‪ ،1979‬والتي‬
‫خصوصا أنّ‬
‫ً‬ ‫كانت لها تأثريات أكرب عىل األشخاص الذين كانوا يدرسون اإلسالم أو التص ُّوف‪،‬‬
‫لبعض قادة الثورة جذو ًرا عرفان َّية وصوف َّية‪...‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬اإلمام الخميني تواصل عرب رسالته الشهرية لغورباتشوف‪ ،‬وحاول هذان القائدان العظيامن‬
‫إيجاد أرضيَّة مشرتكة بني الحضارة اإلسالميَّة والحضارة الروسيَّة‪ ،‬وإمكان التصالح بينهام عىل‬
‫قاعدة الروحان َّية‪ .‬فكلتا الحضارتني روحان َّيتان‪ ،‬وميكنني القول إ ّن كلتيهام غري عمل َّيتني‪ ،‬بخالف‬

‫‪179‬‬
‫محاورات‬

‫الغرب الرباغاميت ج ًّدا‪ .‬وأشري هنا إىل أ َّن اجتياح أفغانستان أظهر للسوفيات أنَّهم يعرفون القليل عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولذلك كانوا يجهلون متا ًما ملاذا يقاوم املسلمون الشاه يف إيران؟ وملاذا ق َّرروا إسقاط‬
‫محبوب أمريكا الذي كان يقوم بإصالحات واسعة تُس َّمى بالثورة البيضاء؟ ومل يفهموا ملاذا كان‬
‫مجاهدو أفغانستان يقاومونهم‬
‫برشاسة‪ ،‬وما الذي دفعهم‬
‫األحوال يمكن أن تحدث للمبتدئ‬ ‫إىل ذلك؟ لقد تأث َّرت بجانب‬
‫ٍّ ًّ‬ ‫ف‬ ‫من الجوانب بهذه التط ُّورات‬
‫الذي هو ي� مقام متدن جدا‪ ،‬أو لشخص ال‬
‫ألن الحالة لمحة قد ض‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫التي كام سبق وذكرت‪ ،‬وهي‬
‫تف�‬
‫ي‬ ‫يستحق ذلك‪.‬‬
‫إىل االهتداء وتبديل الوجهة‪.‬‬ ‫تطورات حاسمة ومصرييَّة‪ ،‬إىل‬
‫غيت مسار حيايت‬ ‫حد أنها َّ‬
‫وحياة الكثري من الناس‪ .‬لقد‬
‫قرأت رسالة اإلمام الخميني‬
‫للرئيس األسبق غورباتشوف‪ ،‬خصوصاً لجهة دعوته املفكِّرين واألكادمييني الروس لدراسة أعامل‬
‫العرفاء املسلمني أمثال إبن سينا وإبن عريب والسهروردي‪ .‬ومن جانبي أبديت استعدادا ً لذلك‪.‬‬
‫ولقد سافرت إىل طهران منذ سنتني فقط ألحصل عىل جائزة عن كتايب من رئيس الجمهوريَّة السيد‬
‫حسن روحاين‪.‬‬
‫* هل كانت هناك إستجابة حقيق َّية لتلك الرسالة أو ذلك التفاعل بني األكادمييني الروس‬
‫واألكادمييني اإليرانيني؟‬
‫‪ -‬مع انهيار االتحاد السوفيايتِّ‪ ،‬ت َّم إنشاء الكثري من املراكز الثقاف َّية اإليران َّية يف روسيا الجديدة‪،‬‬
‫فضل عن العديد من‬ ‫ً‬ ‫“مؤسسة ابن سينا”‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مؤسسة يف موسكو اسمها‬ ‫وكانت نشطة ج ًّدا‪ ،‬ومث َّة َّ‬
‫املراكز يف مدن أخرى‪ .‬إذًا‪ ،‬كانت إيران فاعلة وناشطة وتنرش ثقافتها مبا يف ذلك الثقافة التي‬
‫ترتكز عىل التص ُّوف‪ ،‬وكذلك ثقافة الشعر من الرومي‪ ،‬إىل حافظ‪ ،‬فالجامي‪ ،‬ومعروف أ َّن الرموز‬
‫غيوا دينهم واعتنقوا مذهب أهل البيت‬ ‫أشخاصا روسيني َّ‬
‫ً‬ ‫الصوف َّية متغلغلة فيها‪ .‬حتى أ َّن هناك‬
‫مثل عبد القادر تشارنينكا‪ .‬وال ريب ان هذه ظاهرة منترشة ج ًّدا اليوم‪ ،‬ولكن ال بد من اإلشارة إىل‬
‫وجود ثقافات أخرى ناشطة من خالل مراكز عربية يقوم بها تونسيون‪ .‬كام بات لألتراك حضور‬
‫قوي قبل وبعد أزمة فتح الله غولن‪ ،‬ومث َّة مراكز رسميَّة لدراسة الثقافة الرتكيَّة يف املدن الريفيَّة منها‬ ‫ٌّ‬
‫“روستوف” عىل نهر “الدون” يف جنوب روسيا‪ ،‬ويف املقابل أنشأت روسيا مراكز يف اسطنبول‬
‫لنرش الثقافة الروس َّية بني األتراك‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫* األكادمييون أو املؤ ِّرخون عادة حياديّون‪ ،‬ولك َّنهم حني ينخرطون يف هذا النوع من املعرفة‪،‬‬
‫األخالقي يف الحياة‪ ،‬أو األسئلة‬
‫ِّ‬ ‫أال يرتك فيهم ذلك تأثريًا عىل فهم الحياة املعنويَّة‪ ،‬أو املسار‬
‫املصرييَّة حول الوجود؟‬
‫‪ -‬نعم بالتأكيد‪ .‬ال ميكنك أن تبقى مني ًعا تجاه تأثري التص ُّوف‪ ،‬ألنك تغوص يف ذلك البحر‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كل تلك األفكار والقيم‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يف حيايت الشخص َّية أمارس‬ ‫وينغمس وجودك يف ِّ‬
‫العديد من قيم التص ُّوف واحدة منها التوكُّل‪ .‬ومث َّة قيمة أخرى هي الرضا‪ ،‬أي الرضا عن الظروف‬
‫عم إذا كانت تلك الظروف معاكسة أو مالمئة‪ .‬كام أحاول أن أمارس‬ ‫بغض النظر َّ‬
‫التي تطرأ عليك‪ِّ ،‬‬
‫الحلم‪ ،‬فال أغضب عىل الناس‪ .‬أنا أدرس التص ُّوف ولكن أحصل عىل الكثري من القيم من النصوص‬
‫واألساتذة الذين درست أعاملهم‪ .‬هي إذًا‪ ،‬عملية تبادل‪ ،‬فليس بالرضورة أن تصبح متص ِّوفًا ولكنك‬
‫تتأث َّر بالصوفيني حتى تصبح مثلهم‪.‬‬
‫مهم‬
‫* أثناء دراستك الطويلة للتص ُّوف والعرفان‪ ،‬أي مفهوم سواء كان نظريًّا أم عمل ًّيا‪ ،‬تعتقد أنّه ٌ‬
‫أي مفهوم أثَّر يف حياتك غري تلك القيم األخالق َّية الثالث التي ذكرتها؟‬‫جدً ا‪ ،‬أو باألحرى ُّ‬
‫كل هذه املقامات مه َّمة‪ .‬فرحلتك إىل‬ ‫‪ -‬هناك مقامات صوفيَّة فحواها‪ :‬كيف تصل إىل الله‪..‬وقط ًعا ُّ‬
‫الله تبدأ من التوبة‪ ،‬تتوب ومن ث َّم تتَّجه نحو الزهد‪ ،‬وتسري يف االتجاه املعاكس للعامل‪ ،‬وتدير ظهرك‬
‫حص روحك‪ ،‬وتحاول أن تفهم دوافعك‪،‬‬ ‫للدنيا‪ ،‬بعدها تدخل يف عمل َّية املراقبة‪ ،‬واملحاسبة‪ ،‬تتف َّ‬
‫وكام تعلم‪ ،‬بحسب ما ورد يف الحديث املشهور‪“ ،‬األعامل بالنيَّات”‪ .‬إذًا تحاول فهم نيَّاتاك الحقيقيَّة‪.‬‬
‫إ َّن األهداف النهائ َّية يت ُّم وصفها من قبل الصوفيني بنحو مختلف أل َّن لديهم تجارب مختلفة‪.‬‬
‫حق اليقني‪ ،‬والبعض اآلخر يقول إنّه الفناء‪ ،‬الفناء يف الله‬ ‫فالبعض يقول إنّه اليقني‪ ،‬عني اليقني‪ُّ ،‬‬
‫تعاىل‪ ،‬ومث َّة من يقول إنّه البقاء مع الله تعاىل‪ ،‬ومنهم من يقول إنّها الحقيقة‪ ،‬الحقيقة املطلقة‪،‬‬
‫وهناك أيضً ا من يقول إنّها املشاهدة‪ ،‬املشاهدة املبارشة لله‪ .‬هذه املفاهيم ت ُع ُّد أساس َّية‪ ،‬إىل جانب‬
‫األبعاد العمل َّية مثال‪ :‬كيف تصل إىل الله؟ ما الذي متارسه؟ مبعنى األحوال واملقامات‪ .‬هناك أيضً ا‬
‫فكرة مختلفة واستثنائ َّية حول الكون‪ ،‬كيف تشكَّل‪ ،‬وكيف حدث‪ ،‬تُس َّمى امليتافيزيق َّية باإلنكليزيَّة‬
‫واللتينيَّة بالطبع وباليونانية‪ ،‬ولكن ميكنك تسميتها الفلسفة الصوفيَّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫* يف الُّلغة العرب َّية ميكن القول الرؤية الكون َّية أو الرؤية الوجود َّية‪...‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬أجل‪ ،‬إنَّها الرؤية الكون َّية‪ ،‬أو الرؤية الشاملة للكون‪ ،‬إذًا األبعاد العمل َّية وامليتافيزيق َّية‬
‫موجودة م ًعا‪ ،‬وقد ناقشت ذلك يف مقالتي “الذوق والرشب والري”‪.‬‬
‫* إ ًذا‪ ،‬فلندخل أكرث إىل عمق هذه املقالة الكتشاف الجامل َّيات التي عرضتها‪ .‬فالصوفيون‬

‫‪181‬‬
‫محاورات‬

‫السكر‪ ،‬وكلُّها ت َّتصل مبسألة الرشب‬


‫يستخدمون هذه املصطلحات التي هي الذوق‪ ،‬الرشب‪ ،‬الري‪ُّ ،‬‬
‫الروحي للحياة‪ .‬ومنذ القرن الخامس لإلسالم‪ ،‬بدأوا‬
‫ِّ‬ ‫ّي‪ ،‬ولكنها تنطبق أيضً ا عىل البعد‬ ‫باملعنى املاد ِّ‬
‫الخاصة التي شاهدوها يف الحقائق اإلله َّية‪ ،‬ولكن يف ما‬
‫َّ‬ ‫يتحدَّ ثون عن تجاربهم الروح َّية والصوف َّية‬
‫خاص يف مدرسة ابن عريب‪ ،‬هذه املفاهيم اتخذت شكل امليتافيزيقيا‪ ،‬كيف ميكننا‬ ‫ٍّ‬ ‫بعد‪ ،‬وبشكل‬
‫مقاربة هذه الفكرة؟‬
‫توف يف العام ‪،1962‬‬ ‫‪ -‬لست أنا أول من يقول ذلك‪ ،‬فالعامل الفرنيس لويس ماسينيون‪ ،‬الذي ّ‬
‫الحلج‪ ،‬وك َّرس حياته كلَّها لدراسة تجربته التي كان‬ ‫َّ‬ ‫يف حسني بن منصور‬ ‫كان يعشق الشيخ الصو َّ‬
‫يعتقد أنَّها الذروة يف التجربة الصوفيَّة‪ .‬وأل َّن الصوفيني الذين تعاقبوا بعده كانوا مهت ّمني بامليتافيزيقيا‬
‫حول نشوء الكون‪ ،‬كان يعتقد أن أفكارهم اصطناع َّية ومنفصلة عن التجربة الصوف َّية األصيلة التي‬
‫الحلج‬
‫َّ‬ ‫كان ينسبها إىل‬
‫وأناس آخرين أمثال أبو‬
‫نحن َّ‬ ‫حسني النوري‪ ،‬ومن ثم‬
‫نتذوق األشياء الموجودة‪ ،‬بينما هللا‬
‫الشبيل‪ ،‬املحاسبي‪ ،‬الجنيد‬
‫ه عىل وشك الظهور‪،‬‬ ‫ال�‬ ‫َّ‬
‫يتذوق األشياء ت‬
‫ًّ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫حد ما أيضً ا‪ .‬وهو حني‬ ‫إىل ٍ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫ويعطيها وجودا مستقل‪ ،‬ألن ذوقه ينتج‬ ‫قارن امليتافيزيقيا الصوف َّية‬
‫األشياء‪.‬‬ ‫بالتجربة الصوفيَّة ق َّرر أ َّن‬
‫اصطناع َّية‪،‬‬ ‫امليتافيزيقيا‬
‫بكل بساطة استعارة من‬ ‫وهي ِّ‬
‫األفالطون َّية الحديثة‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ألنَّه كان يعتقد أ َّن التص ُّوف بأكمله‬
‫ِّ‬ ‫إذًا‪ ،‬هي ليست أصيلة نسب ًة إىل الفكر العر ِّ‬
‫يب‬
‫ميكن استنباطه من القرآن من دون الرجوع إىل مصادر خارج َّية‪ ،‬كام كان يعتقد بأ َّن االستعارة من‬
‫الثقافات األخرى كالثقافة األفالطونيَّة واألفالطونيَّة الحديثة‪ ،‬يف املقابل‪ ،‬كان املفكِّرون املسلمون‬
‫أمثال ابن عريب والسهروردي وغريهم يقلّلون من شأن التجربة األصيلة للتص ُّوف‪ .‬قد ميكنك أن‬
‫مهتم بهذه املقابلة بعدما قرأت دراسة ماسينيون‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫توافق عىل ذلك أو ال توافق‪ ،‬ولكنني أصبحت‬
‫ورحت أجادله ألنَّني أؤمن بأ َّن التجربة الصوف َّية والرؤية الكون َّية‬
‫ُ‬ ‫فهو عامل كبري‪ ،‬وبالتأكيد أث َّر يب‪،‬‬
‫الصوفيَّة شديدتا االرتباط بعضهام ببعض‪ .‬يف الواقع‪ ،‬عىل الصوفيني أن يفهموا مكانهم يف العامل‬
‫وليس فقط تجربتهم الخاصة‪ ،‬كام عليهم أن يكونوا منطقيني بشأن ما يقومون به‪ ،‬وقد اكتشفوا أ َّن‬
‫كل يشء هو تجلٍ لإلله املطلق‪ ،‬للحقيقة املطلقة أو الحق‪.‬‬ ‫كل مكان‪ ،‬وأ َّن َّ‬
‫الله يف ِّ‬
‫ال ب َّد من القول إ َّن الصوفيني يؤمنون بأنّهم يعيشون الحالة الحقيقيَّة لشؤون العامل‪ ،‬والخطوة‬
‫‪182‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫ين‪ ،‬ومحاولة فهم ملاذا لديهم مثل هذه التجربة‪ ،‬وبعدها ال‬
‫التالية بعدها هي وضعها يف سياق كو ٍّ‬
‫ميكنك أن تكمل من دون امليتافيزيقيا‪ ،‬فأنت تحتاج ألن تشكِّل رؤية شاملة حول الحقيقة حتى‬
‫الخاصة ج ًدا يف سياق خاص‪ .‬بعبار ٍة أخرى‪ ،‬وبخالف ما يقوله‬
‫َّ‬ ‫تتمكَّن من وضع تجربتك الفرديَّة‬
‫مانسينيون‪ ،‬مل يكن بإمكان الصوفيني أن يكملوا معارفهم من دون تشكيل ميتافيزيقا‪ .‬فاملتكلّمون‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كانت لهم رؤيتهم الخاصة للعامل‪ ،‬من خالل نظام الجواهر واألعراض‪ .‬والفالسفة كانت لديهم‬
‫الخاصة حول العامل‪ .‬وأثناء‬
‫َّ‬ ‫نظرتهم الخاصة للعامل‪ ،‬لذا كان عىل الصوفيني أن يشكِّلوا نظرتهم‬
‫تشكيل نظرتهم أخذوا بعض األفكار من املتكلّمني وكذلك من الفالسفة لكنهم أوجدوا سياقاً‬
‫صوف ًّيا فريدا ً من تجاربهم املبارشة كالذوق واملشاهدة واملراقبة‪.‬‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬يقول الصوفيون إ َّن أفكارنا أفضل ألنّها ليست أفكا ًرا مج َّردة فهي مدعومة‬
‫بتجاربنا ورياضاتنا‪ ،‬كالرياضات الروح َّية‪ ،‬واملجاهدات‪ .‬إذًا‪ ،‬يجب أن تط ِّهر نفسك حتى تصبح‬
‫اإللهي‪ ،‬بعدها تحصل عىل معرفة العامل يف شكلها األنقى‬
‫ِّ‬ ‫مرآةً‪ ،‬وهذا ما يقوله الغزايل حول الفيض‬
‫الذي يتجاوز قدرة العقل ويتجاوز أيضً ا املعرفة النقل َّية‪.‬‬
‫يف الُّلغة العربية إنَّها تتجاوز العقل والنقل‪ ،‬بل هي أفضل من كليهام‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬العلامء والفقهاء‬
‫ليسوا سعداء بذلك‪ ،‬ومل يريدوا أن يحتلّوا املرتبة الثانية‪ ،‬لذلك عارضوا الصوفيني‪ ،‬ألنّهم ا َّدعوا أ ّن‬
‫لديهم اتصالً بالحقيقة غري موجود لدى الفقهاء واملحدثني واملتكلِّمني‪ .‬وقد كان ذلك سببًا رئيسيًّا‬
‫املتخصصني الدينيني‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لالختالف بني الصوفيني وغريهم من‬
‫رس واملعنى‬
‫* لنتحدَّ ث عن حقيقة الذوق‪ ،‬وبعدها نتط َّرق إىل العالقة بني الذوق والسامع وال ِّ‬
‫والطهارة؟‬
‫يقول الصوفيون إ َّن الذوق واملشاهدة (الرؤية املبارشة) يسمحان لهم برؤية حقيقة األشياء‬
‫خلف الظواهر‪ ،‬ج َّردوا أنفسهم عن الظواهر ودخلوا إىل الباطن‪ ،‬وهنا يقرتبون مام يقوله الشيعة‬
‫الخفي فيه والتي ميكن فقط لألشخاص‬ ‫ِّ‬ ‫حول الباطن حيث يركِّزون عىل أرسار الوحي والبعد‬
‫الذين ميلكون البصرية أن يكتشفوها‪ .‬فإن مل يكن لديك بصرية فلن تتمكن من رؤية الباطن‪ .‬الشيعة‬
‫يعتقدون بأ َّن أمئَّتهم هم األولياء‪ ،‬والصوفيون يعتقدون أ ّن أساتذتهم ومشايخهم هم األولياء‪ .‬إنّهم‬
‫يستخدمون الكلمة نفسها ولكنهم يقصدون أشياء مختلفة‪ .‬يف التشيُّع البصرية تنتقل عرب النسب‪،‬‬
‫الخاصة لتطهري النفس ولتجعل قلبك مستع ًّدا‬
‫َّ‬ ‫وعند الس َّنة ت ُكتسب من خالل رياضاتك ومجاهداتك‬
‫لتلقّي الفيوضات اإلله َّية‪ ،‬والتجلّيات‪.‬‬
‫* ولكن هل تعتقد بأنّه يوجد ارتباط عميق بني التش ُّيع والتص ُّوف كام يظ ُّن العلامء حني يقارنون‬
‫بني العقيدتني‪ ،‬ويرون أنّه يوجد الكثري من املشرتكات؟‬

‫‪183‬‬
‫محاورات‬

‫‪ -‬إنّه مسار خطري‪ ،‬ألنّك ال تريد أن تقلِّل من شأن التص ُّوف يف عيون الس َّنة‪ ،‬وبشكل خاص ال‬
‫جة إضافيَّة للسلفيَّة الذين يقولون إ َّن التص ُّوف هو تشيُّع مق َّنع يف اإلسالم الس ّني‪ .‬ولكن‬
‫تعطي ح َّ‬
‫حتم يركّز‬
‫يجب أن نعرتف بأ َّن اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬وهو السادس يف سلسلة أمئة أهل البيت‪ ،‬كان ً‬
‫الباطني للقرآن‪ ،‬لك َّنه كان محاطًا بأناس‬
‫ِّ‬ ‫املخفي‬
‫ِّ‬ ‫عىل الباطن ويق ّدم التعليقات األوىل حول املعنى‬
‫من شيعة عيل الذين كانوا يتبعون أهل البيت‪ ،‬وكذلك بأناس كانوا يحبّون األرشاف والسادة لك َّنهم‬
‫بقوا س ّنة عىل املستوى اإليديولوجي‪.‬‬
‫الشيعي‪ ،‬ويف‬
‫ِّ‬ ‫يف‪ ،‬واحدة ترجع إىل اإلسالم‬ ‫إذًا‪ ،‬من دائرته برزت ساللتان من التفكري الصو ِّ‬
‫األغلب ترجع إىل اإلثني عرشيَّة ولكن أيضً ا إىل اإلسامعيليَّة وكالهام يركزان عىل الباطن‪ .‬أ َّما‬
‫يف العامل الس ّني‪ ،‬فإ َّن األولياء الصوفيني أيضً ا يركِّزون عىل الباطن‪ ،‬وي ّدعون أ ّن معرفته مت ّيزهم‬
‫عن اآلخرين أل ّن الناس يتح َّركون فقط عىل السطح‪ ،‬وال يرون حقيقة األشياء التي ت ُرى من خالل‬
‫القلب‪ ،‬وأل َّن قلوبهم نق َّية فهم يتلقّون املعرفة األكرث دقَّة من املصادر اإلله َّية‪ ،‬ويستطيعون أن يروا‬
‫دوافع الناس الحقيقيَّة فقط من خالل النظر إىل وجوههم‪ ،‬بينام املحدثون واملتكلّمون والفالسفة‬
‫ال ميكنهم أن يفعلوا ذلك ألنّهم محدودون باملعرفة التقليديَّة أو العقل َّية‪ ..‬والرؤية العقل َّية للعامل‪.‬‬
‫بعض العلامء أمثال العامل الفرنيس هرني كوربان‪ ،‬رأوا أنّه توجد ثالثة مذاهب باطنيَّة يف اإلسالم‬
‫بغض النظر عن االختالفات‪ .‬ولكن‬ ‫هي‪ :‬اإلسامعيل َّية واإلثنا عرشيَّة والصوف َّية‪ ،‬وينبغي أن تُدرس م ًعا‪ِّ ،‬‬
‫ألي إنسان‪ ،‬من دون أن يكون هناك رابطة‬ ‫هناك من يقول ال‪ ،‬التص ُّوف هو أكرث دميقراط َّية‪ ،‬ويسمح ِّ‬
‫ن ََسب َّية بينه وبني الرسول‪ ،‬أن يعيش حياة الباطن‪ ،‬وأن يصل إىل حقائق العامل من خالل تزكية النفس‪.‬‬
‫* هذا ما قصدته من سؤايل بأنَّ بعض العلامء يجدون تشاب ًها عميقًا بني التش ُّيع والتص ُّوف‬
‫ليس من الناحية املذهب َّية‪ ،‬أو الناح َّية األيديولوج َّية‪ ،‬أو املذاهب والفرق والت َّيارات األيديولوج َّية‪،‬‬
‫ولكن مبعنى الناس الذي يسعون للوصول إىل الله من خالل التجارب املعنويَّة العميقة لألولياء‬
‫تجل يف علامء‬ ‫َّ‬ ‫تجل يف األمئَّة االثني عرش ألهل البيت‪ ،‬وأيضً ا‬ ‫َّ‬ ‫واالصفياء والصدّ يقني‪ ،‬فهذا‬
‫الصوف َّية العظامء عىل امتداد التاريخ‪ .‬ونجد أن هؤالء العلامء هم إ َّما أبناء أهل البيت أو أخذوا‬
‫علمهم عن أهل البيت‪ .‬إ ًذا‪ ،‬من وجهة النظر هذه ميكن أن نرى تشاب ًها‪ ،‬ومن ثم فإنّ الطريق مفتوح‬
‫لكل الطالبني الذين يريدون سلوك هذا الطريق‪...‬‬ ‫ِّ‬
‫‪ -‬التشابه واضح عىل مستوى مقاربة القرآن‪ ،‬فالشيعة يبحثون فيه عن الباطن‪ ،‬أو يستنبطون الباطن‬
‫عم يرجع إىل‬ ‫السيايس‪ ،‬وبدور األمئَّة‪ ،‬ويبحثون َّ‬
‫ِّ‬ ‫ويستخدمون التأويل‪ ،‬كام يهت ّمون أكرث بال ُبعد‬
‫الخاص ألهل البيت‪ .‬والصوفيون يفعلون اليشء نفسه‪ ،‬ويستخدمون التأويل أيضً ا‪ ،‬ولكنهم‬ ‫َّ‬ ‫الدور‬
‫يبحثون عن األبعاد الروح َّية للباطن‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫وخصوصا يف القرون األخرية‪ ،‬نجد أنَّ البعدين‬


‫ً‬ ‫* ولكن بالنسبة إىل العديد من الصوفيني‪،‬‬
‫والسيايس مرتابطان‪ ،‬من خالل محاربتهم الظلم الذي حصل نتيجة احتالل الغرب أو‬
‫َّ‬ ‫الروحي‬
‫َّ‬
‫الفرنسيني لبالد كتونس واملغرب ً‬
‫مثل‪...‬‬
‫‪ -‬ألن الصوفيني كانوا مؤث ِّرين ج ًدا يف مجتمعاتهم‪ .‬فالعامل األمرييك الكبري مارشال هودجسون‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫االجتامعي‬
‫ِّ‬ ‫الرئييس لل ِّنظام‬
‫ُّ‬ ‫من جامعة شيكاغو‪ ،‬والذي ّ‬
‫توف باك ًرا‪ ،‬يقول‪ :‬إ َّن التص ُّوف هو العامد‬
‫اإلسالمي الحديث وعامل ما قبل الحداثة‪ ،‬وكان ُمحقًّا‪ .‬فالصوفيون كانوا يف كل مكان‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف العامل‬
‫ونجد يف كل مدينة أو قرية أحياء لهم فيها زاويا وحلقات وخانقاه‪ .‬كام كانوا مه ّمني يف الحياة‬
‫االقتصاديَّة‪ ،‬ويق ِّدمون الخدمات التي مل تكن الحكومة قادرة عىل تقدميها‪ ،‬فيطعمون الفقراء‪،‬‬
‫ويستقبلون املسافرين يف خانقاهاتهم والزوايا‪ ،‬لذلك حقَّقوا شعب َّية كبرية‪ ،‬وكان كرث منهم قادرين‬
‫عىل تحريك الناس ليقاوموا‪ .‬لذلك نجد قادة مهمني ج ًدا يف الحركات الوطن َّية التح ُّرريَّة‪ ،‬منهم‬
‫األمري عبد القادر الجزائري الذي حارب الفرنسيني‪ ،‬وتم اعتقاله ونُفيه إىل دمشق‪ .‬وأيضً ا شمويل أو‬
‫الحقيقي صموئيل‪ ،‬وكان قائ ًدا للجيوش املسلمة التي‬
‫ُّ‬ ‫شامل املعروف يف املصادر العربيَّة‪ ،‬واسمه‬
‫الرويس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫دافعت عن شامل القوقاز من االحتالل‬
‫كان الصوفيون فاعلني أيضً ا يف وسط آسيا ويقاومون االعتداءات الروسيَّة‪ ،‬ولكن كانوا حتى‬
‫أكرث أهم َّية بالنسبة إىل الربيطانيني يف السودان‪ .‬فاملهدي عىل سبيل املثال وخلفاؤه‪ ،‬قتلوا الجرنال‬
‫غوردون يف معركة أم درمان‪ .‬كام أنّهم كانوا نشطني يف مقاومة الصينيني يف "إيغورستان"‪ ،‬أو‬
‫"سنجان" كام يسميها الصينيون‪ .‬لكن‪ ،‬تنبغي اإلشارة إىل أ َّن الصوفيني مختلفون يف ما بينهم‪،‬‬
‫وبعضهم اختار أن يتعاون مع الفرنسيني‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬مث َّة فرقة من التيجانية كانت قنا ًة‬
‫للسياسات االستعامرية الفرنس َّية‪ ،‬حتى أ ّن قائد الطريقة متزوج من امرأة فرنس َّية‪ .‬ويف غرب أفريقيا‬
‫كانت الطريقة املريدية من أتباع أحمد مببا‪ ،‬بعضهم وقف بجانب الفرنسيني وبعضهم واجههم‪،‬‬
‫كل شيخ بأن يقاوم أو يستسلم‪ .‬ولكن السلفيني اليوم‬ ‫ريا لالهتامم ألنه خيار ِّ‬ ‫وهذا ما وجدته مث ً‬
‫حا‪ .‬والدليل ما ذكرناه عن‬ ‫يقولون بأ ّن الصوفيني مؤيّدون لالستعامر بشكل كامل وهذا ليس صحي ً‬
‫القادة املناهضني لالحتالل كعبد القادر الجزائري‪ ،‬واملهدي يف السودان‪.‬‬
‫* وعمر املختار يف ليبيا وغريه‪...‬‬
‫‪ -‬عمر املختار والسنوس َّية التي كان يقودها قاوموا اإليطاليني إىل النهاية‪ ،‬وت َّم شُ نقه بسبب ذلك‪.‬‬
‫* بالعودة إىل نقطة ذكرتها عن أنّ اإلمام جعفر الصادق كان لديه تركيز عىل التأويل والباطن‪ ،‬رمبا‬
‫تقصد كتاب "مصباح الرشيعة" املنسوب إليه‪...‬‬

‫‪185‬‬
‫محاورات‬

‫سمه "حقائق‬
‫املتوف سنة ‪1021‬هـ‪ ،‬ألَّف كتابًا من ‪ 100‬صفحة َّ‬ ‫َّ‬ ‫السلمي‬
‫‪ -‬أبو عبد الرحمن ُ‬
‫كل األحاديث التي قيلت بشأن الباطن‪ ،‬بد ًءا باإلمام جعفر الصادق‪ ،‬ثم الحسن‬ ‫التفسري"‪ ،‬جمع فيه َّ‬
‫البرصي‪ ،‬ومن ثم انتقل إىل عرصه‪ ،‬كام استخدم تعليقات الجنيد‪ ،‬والتسرتي‪ ،‬والرتمذي وغريهم‪.‬‬
‫لكن يف الواقع‪ ،‬كان اإلمام الصادق املصدر األساس لهذا الكتاب الذي نرشت نسخة مخترصة منه‬
‫يب‪ ،‬من قبل الربوفسور بريفرينغ‪ ،‬وكذلك توجد طبعات غري منقحة عديدة‬ ‫يف بريوت مع نص عر ِّ‬
‫كل‬
‫يف إيران والعامل العريب‪ .‬ولقد أراد الربوفسور بريفرينغ أن يقدم نسخة منقَّحة وحاول جمع ِّ‬
‫املخطوطات‪ ،‬لكنه مل يستطع أن يجدها كلَّها فتوقَّف مسعاه‪.‬‬
‫رساج‪ ،‬يف "اللُمع" يستخدم التشبيه‬ ‫* يف سياق الحديث عن مسألة الذوق تذكر أنَّ أبا نرص ال ّ‬
‫الروحي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والسكْر‬
‫ّي لرشب الخمر ُّ‬ ‫بالخمرة ليصف الحضور املبارش لله‪ ،‬فهو يقارن بني التأثري املاد ِّ‬
‫وأعتقد هنا أنَّكم تقصدون الفناء يف تجربة لقاء الله‪ .‬كام أنّه يستخدم مصطلح الرشب من خالل‬
‫السكْر(املحو)‬‫القول إذا كان الجسد يرشب املاء فإنّ القلب يرشب الَّلذة املعنويَّة‪ ،‬وتذكر أيضً ا ُّ‬
‫الذي يتس َّبب يف أن يفقد املرء شعوره بنفسه ومبحيطه‪ ،‬بينام الصحو يق ّوي وعيه لذاته ولألشياء‬
‫والسكْر؟‬
‫هل رشحتم لنا معنى فكرة الرشب ُّ‬‫املحيطة به‪َّ ،‬‬
‫‪ -‬تعلمون أ ّن الخمريَّات تعود إىل ما قبل اإلسالم‪ ،‬وكان لها ممثّلون كُرث‪ ،‬وأشهرهم أبو نواس‬
‫الروحي ألشعاره‪ .‬نعم‪ ،‬إذا كنت‬
‫ِّ‬ ‫الذي يحب الصوفيون أن ينقلوا عنه‪ ،‬إال أنهم يركِّزون عىل البعد‬
‫قري ًبا من الله فإنّك تعيش النشوة وحتى التواجد أو املواجد‪ ،‬ومن ثم تفقد وعيك‪ ،‬لذا فقد قارنوا‬
‫الطبيعي‪ .‬لكن هذا‬
‫ّ‬ ‫بالسكر الذي يحدثه الخمر‬ ‫هذه الحالة من فقدان الوعي بالذات واملحيط ُّ‬
‫عب عن هذه الفكرة أو هذه التجربة بشكل ج ّيد ج ًّدا رغم أنّها تخالف الرشيعة‪ .‬ويقول‬ ‫التشبيه َّ‬
‫البعض إ َّن أبا نواس استخدمها فقط من باب املعنى‪ ،‬وكانت بالنسبة إليه نو ًعا من االستعارة‪ ،‬ومنهم‬
‫جيمس مونتغومري الذي يؤكِّد أنَّه مل يرشب الخمر أب ًدا‪ ،‬وأنّه يستخدم هذا التشبيه من أجل نقل‬
‫تجربته يف الحياة فحسب‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬الصوفيون قاموا باليشء نفسه‪ ،‬مل يرشبوا الخمر‪ ،‬بل شعروا فقط بأنَّهم ُسكارى بالتجربة‬
‫التي عاشوها‪ ،‬وهم استخدموا التشبيه بالخمريَّات لينقلوا شعورهم بالعامل‪ ،‬كم يشعرون بالدوار‪،‬‬
‫الدنيوي‬
‫ِّ‬ ‫كم يشعرون بالضياع والحرية حني يغفلون عن محيطهم‪ .‬اليشء نفسه ينطبق عىل الحب‬
‫بحب امرأة عاديَّة‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬نرى قصائد الحب وقصائد‬ ‫ِّ‬ ‫تحب الله‪ ،‬وتقارن حبك له‬
‫ُّ‬ ‫المرأة‪ ،‬فأنت‬
‫خاص بشأن التص ُّوف يف اليمن أذكر‬ ‫ٌّ‬ ‫لدي مقال‬
‫الخمر قد كُ ِّرست من قبل الصوفيني‪ .‬وباملناسبة‪َّ ،‬‬
‫فيه كيف تط َّورت قصائد الحب وقصائد الخمر هناك خالل املرحلة العثامنيَّة األوىل‪ ،‬واتَّخذتُ‬
‫مثالً قصيدتني أليب مخرمة والصويل‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫بحب الله‪ ،‬من ترى من الشعراء ركَّز كثريًا عىل هذه املسألة؟‬
‫ِّ‬ ‫* تتحدَّ ث عن املرأة وترميز ح ِّبها‬
‫الفاريس‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫ين‬
‫‪ -‬شعر الرومي ميلء بهذه املسائل‪ ،‬وأيضً ا ابن عريب‪ ،‬والعطار واألدب العرفا ُّ‬
‫يحب امرأة فارس َّية‬
‫ُّ‬ ‫الجامي‪ ،‬حافظ‪ ،‬السنايئ‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬نرى ابن عريب يف "ترجامن األشواق"‬
‫اسمها نظام‪ ،‬وال نعلم إن كانت من بنات خياله أم أنها امرأة حقيقيَّة‪ .‬تحيك القصة أن هذه املرأة‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫جميل‪،‬‬‫ً‬ ‫حا‬
‫كانت تطوف يف محيط الحرم الرشيف مبكة حني رآها وأصبح مول ًعا بها‪ ،‬فكتب فيها مدي ً‬
‫علم أ َّن نقّاده يقولون إ َّن عالقته بها كانت مح َّرمة‪ ،‬معتربين أنَّه مل يكن يُفرتض به أن يقرتب منها‪،‬‬
‫ً‬
‫ووصفوه بالزنديق والفاسق‪.‬‬
‫وقد ر َّد عىل هذه االنتقادات‬
‫ُّ‬
‫عر�‬ ‫ال أعلم عىل وجه التيقن ما إذا كان ابن ب ي‬ ‫من خالل ديوانه "ترجامن‬
‫َّ ّ‬
‫قد فكر بأنه قد بلغ مرماه حيث حصل عىل‬ ‫األشواق"‪ ،‬حيث يرشح املعاين‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫صورة شاملة للحقيقة أو الحق‪ ،‬فأحيانا يصعب‬ ‫الروح َّية لذلك‪ .‬ومع الزمن‬
‫ف‬ ‫ً ف‬ ‫َّ‬
‫أن ترصده بدقة إذ يقول شيئا ي� أحد األبيات ي�‬ ‫أصبحت "نظام" نظام العامل‪،‬‬
‫ً‬
‫شيئا آخر‪.‬‬ ‫فهي ليست مج َّرد امرأة إنَّ ا‬
‫ديوانه ومن ثم يقول‬
‫تجل‬
‫ٍّ‬ ‫رمز لالنسجام الذي هو‬
‫للحكمة اإلله َّية‪.‬‬
‫السكر تذكر ذا النون املرصي حيث يقول‪ :‬حني يعطي الله‬ ‫* يف سياق الحديث عن مفهوم ُّ‬
‫أول ذوق ل َّذته‪ ،‬ورشحة من حالوته‪ ،‬ما الذي تقصده بذلك؟‬
‫املحبني رشبة من كأس حبه يعطيهم ً‬
‫‪ -‬إنّه يجذب الناس من خالل إعطائهم قطرة من الحالوة‪ ،‬يريدهم أن يصبحوا واعني لعظمة تلك‬
‫كل رغباتهم‪ ،‬ويغرقون فيه مثلام يغرقون يف‬ ‫التجربة بأن يكونوا مع الله‪ ،‬فيصبح الله الهدف من وراء ِّ‬
‫الروحي‬
‫ُّ‬ ‫السكر‬
‫البحر‪ ،‬ويخرجون الرغبات األخرى‪ .‬لهذا يقول إ َّن الذوق هو بداية تلك التجربة‪.‬هذا ُّ‬
‫منعش ج ًّدا‪ ،‬يرتقي به الناس عاليًا‪ ،‬ويبدأون بالرتكيز عىل الله بطريقة أحاديَّة التفكري‪ ،‬رمبا هذا هو‬
‫الذي يقصده حني يتح َّدث عن الرشب‪ ،‬والري‪ .‬لكأننا نشتهي نو ًعا معي ًنا من الطعام‪ ،‬والصوفيون‬
‫املعنوي‪ ،‬ويريدون منه أكرث فأكرث‪ ،‬ويف النهاية يصبحون منجذبني متا ًما إىل‬ ‫ِّ‬ ‫يتوقون إىل هذا الطعام‬
‫يئ كام لو أنهم فقدوا عقولهم‪ ،‬مثلام فعل القلندريون والدراويش‪.‬‬ ‫الله‪ ،‬ومن ث َّم يترصفون بنح ٍو عشوا ٍّ‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬يقول الجنيد‪ :‬ال ينبغي أن تتوقَّف عند ذلك‪ ،‬بل يجب أن ترجع إىل العامل‪ ،‬وهو‬
‫حا ال يهت ُّم سوى بخالصه هو‬ ‫البقاء بعد الفناء‪ .‬يجب أن ترجع إىل البقاء وإلَّ ستصبح مجنونًا جام ً‬
‫فقط‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن هذه التجربة يجب أن يت َّم نرشها ألنَّها عظيمة‪.‬‬
‫* مقام البقاء أعىل من مقام الفناء‪ ،‬ألنَّك يف املقام األول تأخذ بأيدي اآلخرين‪ ،‬بينام يف املقام‬

‫‪187‬‬
‫محاورات‬

‫الحق؟ رمبا أنت‬


‫ِّ‬ ‫الحق بني الخلق وليس فقط مشاهدة‬
‫ِّ‬ ‫الثاين تصل وحدك‪ .‬فهل ميكننا مشاهدة‬
‫تشاهد تجلّ ًيا أعظم؟‪...‬‬
‫‪ -‬أنت مع الله ولكن أنت أيضاً يف هذا العامل‪ .‬هذا ما يفعله النقشبنديون حني يديرون تجارتهم‪،‬‬
‫بينام يركّزون عىل معرفة الله‪ ،‬ولديهم رابطة بالشيخ‪ .‬لقد اعتقد الجنيد وعدد من الصوفيني بأن البقاء‬
‫الحلج والخرقاين وعني القضاة الهمداين‪ ،‬اعتقدوا بأ ّن‬
‫َّ‬ ‫هو مرتبة أعىل‪ ،‬ولكن بعضهم اآلخر أمثال‬
‫عقل واح ًدا بل لديهم مفاهيم مختلفة حول كيف‬ ‫الفناء هو التجربة النهائ َّية‪ .‬إذًا‪ ،‬الصوفيون ليسوا ً‬
‫رصف بشكل مسؤول أو غري مسؤول‪ ،‬وإذا ما كان يجب أو ال يجب أن‬ ‫يجب عىل اإلنسان أن يت َّ‬
‫يكشفوا عن املعجزات وهو ما يُس َّمى بإفشاء الكرامات‪ .‬لقد اتُهم الحالج بذلك حيث مىش يف‬
‫جنيد فلم يحب‬ ‫الشوارع‪ ،‬وذهب إىل السوق ليقوم بالكرامات أمام األعني فيجذب الناس‪ ،‬أ َّما ال ُ‬
‫كل يشء‪ ،‬أو يجب أن تشارك تجربتك مجموعة ُمختارة من الناس‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬وقال بأ َّن عليك أن تخفي َّ‬
‫لديهم تجربتك نفسها‪.‬‬
‫* عني القضاة مثالً‪ ،‬كان قاض ًيا يتفاعل اجتامع ًّيا مع الناس حتى وإن كان قد آمن أكرث بالفناء‪.‬‬
‫لقد كان متح ِققًا بالبقاء أيضً ا ويشاهد الحق داخل املجتمع‪...‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولكن أفكاره حول النفس اإلنسانية هي باألساس نفس إله َّية‪ ،‬وهذه فكرة خطرة‪ .‬ذاتك‬
‫هي ذات الله‪ .‬إذًا‪ ،‬ميكن أن أقول إ َّن الهمداين صنع الكثري من األعداء نتيجة عمله مع الناس‪ ،‬مع‬
‫الحلج أيضً ا كان‬
‫َّ‬ ‫املؤسسة الحاكمة‪ ،‬حتى أنَّهم استخدموا أفكاره الباطنيَّة ض َّده من أجل أن يقتلوه‪.‬‬
‫َّ‬
‫ط األنظار‪ ،‬ويُنظر إليه من قبل الوزراء عىل أنَّه يلهم الناس لتثور‪ ،‬ويشكِّل تهدي ًدا للسلطة‪ ،‬لذلك‪،‬‬ ‫مح َّ‬
‫جنيد داخل محيطه‪ ،‬ومل يكشف عن كراماته لآلخرين‪ ،‬لبقي آم ًنا‪.‬‬ ‫كان عليهم عزله‪ .‬فلو بقي مثل ال ُ‬
‫* كذلك أُعدموا السهروردي‪...‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد أُعدم بأمر من صالح الدين األيويب‪ ،‬وكلَّف ابنه بقتله‪ .‬كان صالح الدين يظ ُّن أ َّن عىل‬
‫أل يهت ّموا باألفكار التي كانت تنترش ويعتربها مف ِّرقة وخطرية‪ ،‬وأن يتَّحدوا حول هدف‬ ‫املسلمني َّ‬
‫واحد هو الجهاد ض َّد الصليبيني‪ ،‬أو اإلفرنج كام كانوا يس ّمونهم يف ذلك الوقت‪ ،‬وكان يعتقد أ ّن مثل‬
‫ُفس أفكارهم عىل أنَّها توحيد بني‬‫هؤالء األشخاص الباطنيني غري العاديني يزلزلون القواعد‪ ،‬ورمبا ت َّ‬
‫جميع معتقدات األديان‪ ،‬وعندها ملاذا نقاتل املسيحيني إذا ك َّنا نؤمن باألفكار األساس َّية نفسها؟‬
‫إنها فكرة خطرية‪.‬‬
‫* ولكن حياة األنبياء هكذا أيضً ا‪ ،‬كانوا يأتون ليزلزلوا قواعد املجتمعات والتقاليد‪ ،‬والكثري منهم‬
‫قُتلوا لهذا السبب‪ ،‬هل ميكننا املقارنة بهذه الطريقة؟‬

‫‪188‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫‪ -‬نعم إنَّها الثورة الكاريزماتيَّة‪ ،‬كام يس ّميها عامل اإلجتامع األمرييك من أصل أملاين ماكس فيرب‪.‬‬
‫نبي يأيت بقانون جديد كان يرفض الطرق السابقة‪ .‬وكذلك املسيح‪ ‬رفض الف ّريسيني‪،‬‬ ‫فكل ٍّ‬
‫ُّ‬
‫ومح َّمد‪ ‬رفض الوثن َّية‪ ،‬وقبلهام موىس‪ ‬رفض عبادة األصنام والوثن َّية‪ ،‬وكذلك إبراهيم‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬هذه الشخص َّيات الوحيانية الكاريزمات َّية أحدثت ثورة‪ ،‬ولكن الحقًا كُبح الدافع لتلك الثورة‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫حتى تح َّول إىل ض ِّده‪ .‬لذلك هناك حاجة للتجديد واملج ِّدد‪.‬‬
‫والسكْر‪ ،‬مبقام الحرية‪ ،‬والصوفيون‬
‫* دكتور كنيش‪ ،‬ذكَّرتني عند حديثك عن الفناء والرشب ُّ‬
‫ريا عن الحرية التي يشعر املرء بفضل الله الواسع وتجلِّياته العظيمة‪ ،‬ما تعليقك عىل‬
‫يتحدَّ ثون كث ً‬
‫هذا األمر؟‬
‫‪ -‬إنّها حالة للعقل ميدحها ابن عريب ألنّه يعتقد أنّها اآللة األفضل ل ُيمسك بالشؤون املتح ِّولة‬
‫كل‬
‫كل دقيقة‪ ،‬يف ِّ‬ ‫تتجل يف ِّ‬
‫َّ‬ ‫باستمرار للمق َّدس املطلق‪ .‬فالله املطلق لديه شؤونات مختلفة كثرية‬
‫لحظة‪ ،‬يف خلق جديد‪ .‬إذا فكَّرت بالله كاملعتزلة فإنَّك تفكِّر بذات مج َّردة ال ميكن أن توصف‬
‫يت‪ .‬وإذا فكَّرت بالله عىل أنّه رجل كبري يجلس عىل غيمة أو عىل ذاك العرش فإنّه يقول‬ ‫بوصف ثبو ٍّ‬
‫متسك ببعد من أبعاده‪ ،‬كلُّها صحيحة‪ .‬لكن الصوفيني ينتقلون من واحد‬ ‫إ َّن هذه الفكرة عن الله َّ‬
‫حرية أل َّن هذه هي أفضل طريقة‬ ‫كل لحظة‪ ،‬لذلك فهم يف حالة مستم َّرة من االرتباك وال َ‬ ‫إىل آخر يف ِّ‬
‫ملواكبة أشكال وجود اإلله املطلق‪ .‬لذا‪ ،‬أعتقد أنها فكرة عظيمة تعكس الصورة الديناميك َّية للكون‬
‫التي ال نجدها عند املعتزلة أو األشعريَّة أو الفالسفة‪.‬‬
‫السلبي الذي يحصل حني أكون ملي ًئا بالشكّ ‪ ..‬إنّه أمر مختلف‬
‫ِّ‬ ‫* هذا ليس تحيُّ ًا باملعنى‬
‫متا ًما‪...‬‬
‫‪ -‬إنّها آلة ملعرفة الله‪ ،‬ومواكبة تجلّياته املتب ِّدلة بشكل مستم ّر‪.‬‬
‫* كام يغرقك شخص بالكثري من الجامل والفضل‪...‬‬
‫‪ -‬تشعر أنك مغمور بالعظمة اإلله َّية‪ ،‬لهذا تحتار‪ ،‬فإذا ربطت نفسك بتجلٍ خاص فإنّك تعلق‬
‫فيه‪ ،‬وعندها سوف تبدأ بالحكم عىل التجلِّيات األخرى عىل أنَّها خاطئة‪ .‬حتى األصنام تعكس‬
‫بعض األبعاد‪ ،‬الجمود عىل سبيل املثال‪ ،‬للوجود املطلق تأخذه عىل أنّه من التجلّيات الطبيعيَّة‬
‫لله‪ .‬ميكنك أن تجد الله يف معبد األصنام‪ ،‬يف الكنيسة‪ ،‬يف الكعبة‪ ،‬ويف الحب‪ ،‬وابن عريب يقول‬
‫هذا يف واحدة من القصائد املشهورة يف "ترجامن األشواق"‪.‬‬
‫يل واملعرفة التي نكتسبها من خالل الشهود والذوق‪ ،‬ومثَّة من‬‫* نلحظ اختالفًا بني الفهم العق ِّ‬
‫الحضوري‪ ،‬فكيف ميكننا الحصول عىل أدلَّة‬
‫ِّ‬ ‫يل‪ ،‬واملعرفة العقل َّية‪ ،‬والعلم‬
‫مي ّيز بني العلم الحصو ِّ‬

‫‪189‬‬
‫محاورات‬

‫َّ‬
‫لنستدل عىل أنَّ مثل هذا العلم علم الذوق أو علم املشاهدة هو مرتبة لفهم الحقيقة أعىل من‬ ‫ج ّيدة‬
‫املرتبة العقل َّية أو التص ُّوريَّة‪ ،‬هل هو يشء مختلف‪ ،‬هل هو نوع آخر من املشاهدة‪ ،‬كيف ميكننا‬
‫إثبات أنَّه مرتبة أعىل من الفهم؟‬
‫حس التذ ُّوق‬
‫‪-‬هذه هي املشكلة‪ ،‬ال ميكننا إثبات ذلك‪ .‬بالنسبة إىل أولئك الذين يعيشون َّ‬
‫يعتربون أنه أمر محسوم ومسلّم به‪ ،‬أ َّما الذين يرفضونه فال ميكنك أن تقنعهم به ألنّه ال ميكنهم أن‬
‫يج ِّربوه‪ ،‬وال يحاولون حتى أن يج ِّربوه ويقولون إنّه يشء من اختالق الخيال ويك ِّررون ما يقوله قادة‬
‫يب من أ َّن املعرفة العقل َّية هي املعرفة الوحيدة الصحيحة‪ ،‬ولكن بالنسبة إىل إسالم ما‬ ‫التن ُّور األورو ِّ‬
‫يف قد ُوجد وكان قانونيًّا ولكنهم اختلفوا حول حقيقته‪ .‬فإبن تيميَّة‬ ‫قبل الحداثة فإ َّن اإلدراك الصو َّ‬
‫بكل شخص‪ ،‬وانه تعبري عن تص ُّوراته الخيال َّية‪ ،‬بينام آخرون من أكابر‬ ‫خاص ِّ‬‫ٌّ‬ ‫مثالً كان يقول إنّه إدراك‬
‫عرفاء الصوفية مثل ابن عريب كانوا يعتربونها املعرفة الوحيدة الحقيق َّية‪.‬‬
‫مقتبسا من ويليام تشيتيك يف هذا السياق حيث تقول‪ :‬ان االهتامم‬
‫ً‬ ‫* لفتنا أنَّك تذكر كال ًما‬
‫يل للوجود‪ ،‬بل أن تعيش وجود الله وتتذ َّوق‪ ،‬وأن تجد‬
‫األسايس البن عريب ليس املفهوم العق َّ‬
‫ُّ‬
‫الوجود‪ ،‬وأن تكون الحق‪...‬‬
‫‪ -‬هذه هي الحرية‪ ،‬فأنت يف حالة من البحث الدائم والتحيُّ عىل أمل أن تحصل يف النهاية عىل‬
‫الصورة الكاملة‪ .‬إنّها العمل َّية التي ته ُّم وليس املشاهدة النهائ َّية ألنَّك حيت تصل إىل املشاهدة‬
‫بكل عظمتها‪،‬‬
‫جب ترتفع وترى الحقيقة ِّ‬ ‫النهائيَّة ‪ -‬يقول ابن عريب يف مكانٍ ما من الفتوحات‪ -‬كل ال ُ‬
‫ح ُ‬
‫ولكن هذا يحصل فقط يوم القيامة‪.‬‬
‫* برأيك‪ ،‬ملاذا طالب املعرفة ال يعيش تجربة الري؟ ففي عقيدة ابن عريب‪ ،‬سوف يتذ َّوق‪ ،‬ومن‬
‫ثم سيبدأ بالرشب‪ ،‬فلامذا ال يصل إىل هذه الدرجة؟‬
‫الحق ال محدود‪ ،‬وشؤون الله ال تنقيض‪ ،‬لذلك ال ميكن لشخص‬ ‫َّ‬ ‫‪ -‬أل َّن ابن عريب يقول إ َّن‬
‫اللمتناهية لله‪ ،‬فالله يفاجئ الناس بشكل دائم بتجلّيات‬ ‫كل تلك التجلّيات َّ‬ ‫أن يج ِّرب ويعيش َّ‬
‫جديدة ومتجددة‪ ...‬وحتى يصل الفرد إىل الهدف النهايئ ينبغي أن يكون يف حالة دامئة من التحيُّ‬
‫مستحيل‪ .‬حني تصبح مدم ًنا تقري ًبا عىل توقُّع معرفة جديدة‪ ،‬كام أذكر‬
‫ً‬ ‫والدهشة‪ ،‬وهذا يكاد يكون‬
‫يف املقال‪ ،‬تحصل عىل معرفة مع َّينة ته ّيئك الستقبال صورة أخرى لله‪ ،‬وبعد أن تحصل عىل تلك‬
‫الصورة تتهيَّأ الستقبال صورة أخرى‪ ،‬وهذا أمر ال متناهي‪.‬‬
‫* تقول بشكل أسايس إنّك كلام رشبت عطشت أكرث‪..‬‬
‫‪-‬صحيح‪ ،‬ميكن أن أقول ذلك‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫* تذكر أنَّ قلب الشخص يصبح مثل املحيط الذي ال شاطئ له‪ ،‬ألنَّه يبدأ باكتشاف الحقائق‬
‫َّ‬
‫اللمتناهية املتجلّية يف الطبيعة‪ ،‬وحقائق الروح التي هي أيضً ا غري محدودة‪ ،‬كام يذكر عني القضاة‬
‫الروح م َّتصلة َّ‬
‫باللمحدود‪ ،‬وأنَّها نفخة من روح الله فكل يش مرتبط بالتجلّيات والروح‪...‬‬
‫كل شؤون العامل يف نفسك‪ ،‬وروحك هي‬ ‫اللمحدوديَّة‪ُّ ،‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنت تحمل يف ذاتك تلك َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫انعكاس روح الله التي هي المحدودة‪ ،‬أل َّن الله المتناهي يف األحاديث‪ ،‬وال ميكن أن يستنفد‬
‫الشؤون املوجودة فيها‪.‬‬
‫* تتحدَّ ث أيضً ا عن فرادة القضامت املختلفة‪ ،‬وتذكر ً‬
‫مثال أكل تفاحة‪ ،‬لتقول‪ :‬إنَّ كل قضمة‬
‫لها مذاق مختلف‪ ،‬فال تكرار يف املذاق‪...‬‬
‫‪ -‬بالضبط‪ ،‬املذاق دامئًا مختلف‪.‬‬
‫ين‪...‬‬
‫* فلنقدِّ م إذاً‪ ،‬خالصة حول الرشب يف املذهب العرفا ّ‬
‫‪ -‬عرفاء الصوفية يستخدمون الذوق والرشب من أجل أن ينقلوا هذه األفكار كرموز ألشكال‬
‫مختلفة من اإلدراك يعتربها الصوفيون األكرث عمقًا واألكرث أصالةً‪ ،‬ويقابلون أصالة الذوق وفهم‬
‫الحقائق بالطرق األخرى ملعرفة الله والعامل‪ ،‬فيعتربونهم صحيحني‪ ،‬لكن يعتربون طريقتهم هم يف‬
‫املعرفة أعىل مرتبة‪ ،‬ونتيجة لذلك يع ِّرضون أنفسهم للنقد بسبب تفخيم عباراتهم من قبل الفقهاء‬
‫واملتكلّمني وبالطبع الفالسفة الذين مل يدركوا حقيقة كرامات األولياء من املعتزلة‪..‬‬
‫إذن‪ ،‬استخدم الصوفيون املفاهيم املجازيَّة واملفاهيم املاديَّة لنقل تجربتهم للكون‪ ،‬بخالف‬
‫اآلخرين الذين استخدموا الحديث كوحدة للمعرفة أو الجوهر‪ ،‬ومفهوم الذ َّرة‪ ،‬لتشكيل العامل‪،‬‬
‫شكل‬
‫ً‬ ‫ولينقلوا فهمهم له‪ ،‬أو استخدموا العقل كطريقة للتجربة‪ .‬إنهم يستخدمون الذوق ويعتربونه‬
‫أعىل للفهم ولرؤية العامل‪ ،‬إىل جانب صور أخرى كاملشاهدة املبارشة املكاشفة أيضً ا‪.‬‬
‫التجل‪،‬‬‫ّ‬ ‫* أعتقد أنَّ لديهم مرتادفات مختلفة مثل الذوق‪ ،‬الكشف‪ ،‬املشاهدة‪ ،‬اإللهام‪ ،‬اإللقاء‪،‬‬
‫ليعبوا عن الفكرة نفسها‪ .‬برأيكم‪ ،‬هل يستخدمون‬ ‫علم البصرية‪ ،‬ويستخدمون مصطلحات مختلفة ِّ‬
‫كل مصطلح يعكس تجلّ ًيا مع َّي ًنا أو أسامء مع َّينة‬
‫هذه املرتادفات من أجل إنشاء كلامت أكرث‪ ،‬أم أنَّ َّ‬
‫ً‬
‫أحوال مع َّينة؟‬ ‫أو‬
‫الحس‬
‫ّ ِّ‬ ‫‪ -‬هذا صحيح‪ ،‬مث َّة الكثري من املرتادفات‪ ،‬وأنا ركزت عىل تلك التي لها عالقة باإلدراك‬
‫النفيس والدالالت واألبعاد العاطف َّية‬
‫ِّ‬ ‫ريا لالهتامم‪ .‬كيف يبدأون باليشء‬
‫للذوق ألنَّني وجدت األمر مث ً‬
‫تدريجي طريقة ميتافيزيق َّية لرؤية العامل أو جعله أم ًرا تص ُّوريًّا‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫للذوق‪ ،‬وكيف يصبح األمر بشكل‬
‫فالله أيضً ا له ذوق‪ ،‬ولديه وحده ذوق خلق األشياء الذي ال ميكن لآلخرين أن ميتلكوه ألنَّه وحده‬

‫‪191‬‬
‫محاورات‬

‫هو الخالق‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ َّن ذوق الله مختلف عن ذوق البرش‪ ،‬وال ميكننا أب ًدا أن نعرف كيف يتذ َّوق‬
‫األشياء* النقطة التي ذكرتها هنا مت ِّيز مقاربة ابن عريب ملصطلح الذوق عن مقاربة الصوفيني الذين‬
‫أتوا بعده‪ ،‬فهو يقول إنَّ الذوق يبدأ من عند الله حني ينجز الخلق‪ ،‬وبهذا يستخدم مصطلح الذوق‬
‫من ضمن صفات الله‪...‬‬
‫ريا بطريقة استخدامه هذه حيث أراد أن يؤكِّد عىل فرادة علم الله وتجربته‪.‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد أُعجبت كث ً‬
‫فذوقه تعاىل مختلف من ناحية أنَّه ينتج العامل يف حني أ َّن البرش ال ميكنهم تذ ُّوق ذلك الذوق‪.‬‬
‫* وألنَّ معرفة الله من الذوق والشهود‪ ،‬فعىل املرء أن يحاول أن يتخلَّق أو يتألَّه من خالل الذوق‪،‬‬
‫أو هذا النوع من املعرفة‪..‬‬
‫‪ -‬بالضبط‪.‬‬
‫بكل األحوال أو الحقائق التي يدركها الصوفيون‪ ،‬وأعتقد‬
‫* حرضتك تربط مصطلح الذوق أيضً ا ِّ‬
‫أنك تذكر يف مقالتك هذه املصطلحات‪ :‬املحو واإلثبات‪ ،‬الفناء والبقاء‪ ،‬التلوين والتمكني‪،‬‬
‫كل هذه الحاالت العرفان َّية‬
‫الصحو واملحو‪ ،‬القبض والبسط‪ ،‬الهيبة واألنس‪ ،‬الجمع والفرقة‪ ،‬فهل ُّ‬
‫ترتبط بحقيقة الذوق؟‬
‫‪ -‬نعم إىل ح ٍّد ما‪ ،‬فأنت تتذ َّوق الحاالت املختلفة لعقلك‪ ،‬والحاالت النفس َّية‪ .‬فعىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬قد تتذ َّوق املحو‪ :‬أنا ال يشء‪ ،‬ومن ث َّم تشعر بالحقارة وبأنَّه ال قيمة لك‪ ،‬وبعدها تصحو‬
‫عىل عامل الكرثة وجامل‪ ،‬وتشعر أنك جزء من هذا العامل العظيم‪ ،‬وتشعر بالرضا عن نفسك‪ .‬أنت‬
‫هنا تحصل عىل مذاقات مختلفة حتى يف داخلك‪ .‬يف ما يتعلَّق بالقبض والبسط‪ ،‬فأنت تشعر بخيبة‬
‫أمل‪ ،‬وبأنَّك مضغوط وحزين‪ ،‬وبعدها تعيش تلك الحالة من العظمة فتتق َّبل العامل وتشعر بأنك‬
‫ممتلئ به‪ ،‬وال تعود تشعر بتقلُّصات القبض‪ ،‬أل َّن روحك تصبح محيطة بالعامل مبجموع التجلّيات‬
‫وكل من هذه الثنائ َّيات‬
‫اإلله َّية كلِّها‪ .‬األمر نفسه ينطبق عىل ثنائ َّية ال َّرجاء والخوف وما إىل ذلك‪ٌّ .‬‬
‫مستقل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يحتاج ألن يُدرس بشكل‬
‫خاصة بالصوفيني الذين وصلوا إىل مقامات عالية من الروحان َّية‪ ،‬أم أنَّ مثَّة‬
‫َّ‬ ‫* هل هذه األمور‬
‫تجلّيات بحسب اختالف قلوب الناس‪ ،‬واختالف األرواح‪ ،‬واختالف املراتب؟ وهل ميكن للناس‬
‫العاديني أن يشهدوا مثل هذه املقامات‪ ،‬بحسب املرتبة التي يصلون إليها؟‬
‫ألي شخص أن يعيش مثل هذه التجربة‪ ،‬وميكن لسفَّاح أو قاتل‬ ‫‪ -‬الصوف ّيون يقولون أنَّه ميكن ِّ‬
‫أن يتوقَّف عن القيام بأفعال سيِّئة أل َّن الله قد أرسل إليه إشارة وعمل بها‪ .‬إذًا‪ ،‬فاالستفادة من هذه‬
‫التجربة هو األمر امله ّم‪ .‬لقد أجاد عرفاء الصوفية التقاط اإلشارات من الله‪ ،‬ثم بدأوا بعد ذلك‬

‫‪192‬‬
‫المفكر الروسي ألكسندر كنيش‬

‫بزرعها؛ مبعنى أنَّهم عاشوا األحوال أ َّو ًل‪ ،‬ثم عملوا عىل تصفيتها من الشوائب ألجل تثبيتها‪ ،‬أو‬
‫عب عنه بالُّلغة العربيَّة بـ"التمكني"‪ .‬يريدونها أن تثبت لتصبح مقامات‪ .‬مبعنى أوضح‪ ،‬ميكن‬ ‫ما يُ َّ‬
‫شخصا آخر يريد أن‬ ‫ً‬ ‫لشخص أن ينىس األمر‪ ،‬وينتقل يف الَّلحظة التالية إىل عمله وشؤونه‪ ،‬وقد نرى‬
‫حال آخر ويريد أن يثبته‬ ‫يج ِّرب ذلك م َّرة أخرى ليثبته وميكن أن يصبح مقا ًما دامئًا‪ ،‬بعدها يج ِّرب ً‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫وينتقل إىل املقام التايل‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ َّن األحوال واملقامات مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا‪.‬‬
‫* لذلك مي ّيزون بني أحوال السالكني ومقامات العارفني‪..‬‬
‫‪ -‬صحيح‪.‬‬
‫* إنها إشارات من الله ملختلف الناس‪ ،‬وحتى اإلشارات ذات مراتب‪ ،‬فالقلب الناضج له‬
‫حظوظ أعىل من القلب العادي‪...‬‬
‫‪ -‬نعم الناضح بالنضوج‪ ،‬ولكن ما هو الفت يف عامل التص ُّوف‪ ،‬ولدينا الكثري من القصص يف‬
‫أخلء الله‪،‬‬‫ريا عن الناس الذين ت َّم ازدراؤهم من قبل الجميع وهم َّ‬ ‫"الرسالة القشرييَّة"‪ ،‬أنَّه يتح َّدث كث ً‬
‫مبن فيهم املخ َّنثون‪ .‬فهو يقول إ َّن الله يعمل بطرق غري متوقَّعة‪ ،‬وميكن أن يكون األشخاص الذين‬
‫أخلء الله لكنهم مغمورون‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬يقول ابن عريب إ َّن القطب الذي صادفه‬ ‫يزدريهم الناس َّ‬
‫يف شامل أفريقيا كانت يده مشلولة‪ ،‬والجميع كانوا يظ ّنون أنَّه مج َّرد متس ِّول‪ ،‬أ َّما هو فأدرك ببصريته أنَّه‬
‫يل األعىل لعرصه‪ ،‬واألولياء الحقيقيون ميكن أن يسترتوا خلف مظاهر غري الئقة أب ًدا‪.‬‬ ‫قطب الزمان الو ُّ‬
‫لذلك‪ ،‬فإ َّن الصوفيني ال يحكمون عىل الناس من خالل مظهرهم‪ ،‬بل يحاولون أن يروا ما هو موجود‬
‫يف الباطن‪ ،‬بينام السلف ّيون وفرق أخرى‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يعتربون التزامك بالرشيعة يرتكز عىل طول‬
‫لحيتك‪ ،‬وعىل حلق أو عدم حلق شاربيك‪ ،‬وعىل طول بنطالك‪ ،‬وهو ما يعلِّمنا الصوفيون أن نتجاهله‬
‫ألنَّنا يجب أن ننظر إىل الباطن‪ ،‬فرمبا يكون وراء هذا املظهر املتواضع ج ًّدا ق ّديس عظيم‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫المحور‬

‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬


‫ٍ‬ ‫بداية‬
‫استقراء المقبل‬

‫داقل‬
‫ي‬ ‫ـ كانر‬

‫ُّ‬ ‫االست�اق ث‬
‫ش‬
‫للتصوف‬ ‫ج ي‬
‫وبولو�‬‫األن�‬
‫مسىع انتقادي‬
‫ـ ـ صابر أبا زيد‬
‫بداية نظا ٍم جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫استقراء املقبل‬

‫(*)‬
‫داقل‬
‫ي‬ ‫كانر‬
‫أم�كا‪.‬‬
‫نيوجرس‪ ،‬ي‬
‫ي‬ ‫بروفسور الدراسات الدينية ـ جامعة برنستون‪،‬‬

‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�جمات ّ‬ ‫تَّ‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالمية‪،‬‬ ‫القيمة للتقاليد‬ ‫شهد العقدان الماضيان العديد من الدراسات‬
‫ّ‬ ‫ز َّ‬ ‫والل َّ‬ ‫ّ‬ ‫والص َّ‬ ‫الفلسفية‪ّ ،‬‬‫َّ‬
‫إمكانية الوصول‬ ‫اإلنكل�ية اآلن‬ ‫ي‬ ‫هوتية‪ .‬ولدى القارئ باللغة‬ ‫وفية‪،‬‬
‫ّ‬
‫أساسي ي ن‬ ‫ّ‬
‫عر�‪ ،‬والسهروردي‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وابن ب ي‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫الغ‬ ‫أمثال‬ ‫من‬ ‫�‬ ‫رين‬ ‫مفك‬ ‫إىل كتابات‬
‫و�ح معناها مستمرٌّ‬ ‫اإلنكل�ية ش‬‫ز َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ي‬ ‫وغ�هم‪ .‬والواقع أن تحويل كتاباتهم إىل اللغة‬ ‫ومل صدرا ي‬
‫ين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بعض من أعمق أبعاد‬ ‫ٍ‬ ‫أدوات لفهم‬ ‫ٍ‬ ‫الغربي�‬ ‫بوت�ٍة متسارعة ويوفر لجمهور المفكرين‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫توف� إمكانية الوصول إىل العلماء الذين ليس لديهم‬ ‫التقاليد اإلسالمية‪ .‬وإىل جانب ي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فإن هذه‬ ‫أوغ�ها من اللغات‬ ‫الفارسية ي‬ ‫العربية أو‬ ‫عملية باللغات‬ ‫معرفة‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تّ‬
‫األصلية‬ ‫بحثي ٍة ألولئك الذين يفهمون اللغة‬ ‫دات‬‫ال�جمات والدراسات تعمل كمساع ٍ‬
‫ت‬ ‫ِّ‬ ‫الت َّ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬
‫ال� يجب عىل المرء‬ ‫المتخصصة ي‬ ‫قنية والمفاهيم‬ ‫ولكنهم ضاعوا ي� حقل المفردات‬
‫ٌ‬ ‫ف ّْ‬ ‫مفك ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ق ِّ‬ ‫ُ‬
‫صو�‪ .‬هذا الكالم صحيح‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫الحقي� لما يقوله فيلسوف أو‬ ‫ي‬ ‫إتقانها لتحصيل الفهم‬
‫ّ َّ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ّ‬
‫واألهم َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً ف‬
‫واسع النطاق‪ ،‬إل أنه ال‬ ‫ي‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫التأث�‬
‫ي‬ ‫ذي‬ ‫عر�‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ابن‬ ‫مثل‬ ‫ف‬ ‫مؤل‬ ‫خصوصا ي� حالة‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُيمكن قراءة عمله بشكل عام من دون إعداد كب�‪ ،‬تّ‬
‫ح� بالنسبة إىل الذين يتقنون اللغة‬ ‫ٍ ي‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العربية بشكل تام‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإن جهود علماء مثل ويليام شيتيك‪ ،‬الذي ترجم مئات‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والقراء بعضا من أفضل األدوات الممكنة لتعلم‬ ‫عر�‪ ،‬وقدم للعلماء‬ ‫الصفحات من ابن ب ي‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫كب�ة‪.‬‬ ‫كيفية قراءته‪ ،‬هو عمل ذو قيمة ي‬
‫* * *‬
‫ف‬
‫الفلس� الجديد ـ الدراسات‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬التقاليد الفلسفية ـ النظام‬
‫ي‬
‫عر� ـ السهروردي ـ مال صدرا‪.‬‬ ‫ت‬
‫ال�جمية ـ إبن ب ي‬

‫رشكيس‪ ،‬أستاذ مساعد يف مجال الدراسات الدينية يف كلية الصليب املقدس يف‬
‫ّ‬ ‫* ‪ -‬كانر داقيل‪ ،‬أمرييك من أصل‬
‫ورسرت‪ ،‬ماساتشوستس‪.‬‬
‫ـ العنوان األصيل للبحث‪.On Beginning a New System of Islamic Philosophy :‬‬
‫ـ ترجمة‪َ :‬رنوة املوسوي‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫[[[‬
‫تمهيد‬
‫من امله ِّم القول أ َّن الرتجمة الفلسف ّية‪ ،‬يف أفضل حاالتها‪ ،‬ال تُعطينا القدرة عىل دراسة املفكّرين‬
‫الفلسفي وجعل أنفسنا‬
‫ِّ‬ ‫فعل يف العمل‬‫من لغة وزمن آخ َرين فحسب‪ ،‬بل تسمح لنا أيضً ا باالنخراط ً‬
‫جمهو ًرا إضافيًّا‪ ،‬عىل غرار ما يتوقّعه الكاتب الّذي ينوي من عمله أن يُفهم ويُهضم‪ ،‬وليس مج َّرد أن‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫فرتات وت َّي ٍ‬
‫ارات تاريخ َّية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يُص ّنف إىل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فهناك نوعان من‬‫ِّ‬ ‫يف‬
‫والصو ِّ‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫أ ّما بال ّنسبة إىل ترجامت ودراسات الفكر‬
‫أسايس باألفكار نفسها‬‫ٍّ‬ ‫الجمهور بشكلٍ عام‪ ،‬أحدهام يهت ّم بتاريخ األفكار واآلخر يهت ّم بشكلٍ‬
‫اريخي بقدر ما يُلقي الضوء عىل هذه األفكار‪ .‬ورغم االهتامم املتزايد بالفلسفة‬ ‫ِّ‬ ‫وبالسياق التّ‬
‫ّ‬
‫املتخصصني يف الفالسفة اإلسالميني‬ ‫ِّ‬ ‫اإلسالم َّية كفلسفة‪ ،‬يبقى ذلك إىل ح ٍّد كبري من جانب‬
‫يب أو‬‫أنفسهم‪ ،‬وهذا يعني أنّنا مل نصل بعد إىل النقطة الّتي عاد ًة ما يستشري فيها الفيلسوف الغر ُّ‬
‫املل صدرا كمجموعة ذات صلة وجذّابة من األفكار الفلسف ّية‪،‬‬ ‫يب أو ّ‬ ‫يني أعامل ابن عر ّ‬ ‫املفكِّر ال ّد ُّ‬
‫كام يفعلون مع كانط وديكارت‪ .‬ويرجع ذلك جزئ ًّيا إىل جيل الشّ باب يف إطار مرشوع جعل‬
‫املتخصصون يتجادلون يف معنى وعرض املفردات‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنصوص متاح ًة باللّغات الغرب َّية‪ .‬إذ ال يزال‬
‫التجمة العالي ِة الجود ِة‬
‫املتخصصة للفلسفة اإلسالميّة‪ ،‬وال يزال اهتامم ذوي األهليَّة بإنتاج أعامل ّ‬ ‫ِّ‬
‫حكمِ عليها بشكلٍ عاد ٍل ً‬
‫قليل نسب ًّيا‪.‬‬ ‫وال ُ‬
‫ح للتّقاليد العظيمة‬
‫أكتب هذا املقال من وجهة نظر شخص يضع قيمة كبرية يف ترجمة رش ٍ‬
‫للفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬ولكن أو ّد أن أستكشف إمكان َّية أخذ هذه ال ّرغبة يف الذهاب بهذا التّقليد العظيم‬
‫خطو ًة إىل األمام‪ .‬أو ّد أن أبدأ بال ّنظر إىل الوراء ألرى العالقة التّاريخية بني مختلف ت ّيارات الفلسفة‬
‫الفلسفي‬
‫ُّ‬ ‫ريا ما يُتّخذ ال ّنظام السابق أو ال ّنسق‬
‫اإلسالم َّية‪ .‬ففي إطار التقاليد الفلسف َّية اإلسالم َّية‪ ،‬كث ً‬
‫خاصة به‪ ،‬ولك َّنه غالبًا ما يحتفظ بالعديد من املفاهيم‬‫َّ‬ ‫السابق كنقطة انطالق لنظام جديد له هويَّة‬ ‫ّ‬
‫واملصطلحات الف ّن َّية لل ِّنظام األ َّول‪ .‬غري أ َّن استمرارية املصطلحات واملفاهيم هذه ال ينبغي أن‬
‫تؤخذ عىل أنَّها تعبِّ بأ ّن التَّقليد األخري ليس أصل ًّيا وذا مصداق ّية يف ح ّد ذاته‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫اإلسالمي (وأنا هنا أشري إىل الفلسفة‬
‫ِّ‬ ‫يل لالنخراط يف الفلسفة يف العامل‬
‫إ َّن الكثري من ال ّزخم األص ِّ‬
‫اللهوت) نتج من ترجمة الفالسفة اليونانيني‪ .‬فقد كان العمل مرتك ًزا إىل ح ٍّد‬
‫وليس علم الكالم أو َّ‬

‫ـ نُرشت هذه الدراسة "للباحث كانر داقيل يف مجلّة "العالَم اإلسالمي" ‪ The Muslim WORLD‬يف ‪ 14‬كانون الثاين من عام ‪2004‬‬
‫تكريسا لتعزيز ونرش البحوث العلمية عن اإلسالم واملجتمعات اإلسالم ّية‬
‫ً‬ ‫املجلد ‪ ،94‬العدد ‪ .1‬وقد تأسست املجلة يف عام ‪،1911‬‬
‫والجوانب التاريخية والحالية للعالقات اإلسالمية ‪ -‬املسيحية‪ .‬وتعود هذه املجلّة لجامعة هارتفورد األمريكية للدّ ين والسالم ‪Hartford‬‬
‫رصف تيمور يوسكايف ‪Timur Yuskaev‬‬ ‫‪ International University for Religion and Peace‬وقد ّ‬
‫تم نرش املقال بت ّ‬
‫ومتخصص بالتص ّوف والفلسفة اإلسالمية وحوار األديان‪ ،‬والدراسات القرآنية‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪197‬‬
‫حقول التنظير‬

‫كبريعىل ترجمة أفالطون وأرسطو بالنسبة إىل مفكّرين مثل الكندي والفارايب وابن سينا حيث بدأوا‬
‫بالتقاليد املشائ َّية ‪ Peripatetic tradition‬يف اللُّغة العرب َّية‪ ،‬وأنشأوا لغة تواصل مشرتكة ‪lingua‬‬
‫‪ franca‬للفلسفة العرب َّية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كانوا يف مفاهيمهم وطريقة عرضهم يعتمدون بشكل كبري‬
‫ين املرتجم‪ ،‬كمرجعيَّة حاكمة يف املجال‪ ،‬ولكن رغم ذلك‪ ،‬فُقد‬ ‫عىل شكل ومحتوى العمل اليونا ِّ‬
‫االت ّصال برسعة كبرية‪ ،‬وأصبحت أعامل ابن سينا واملراجع الالَّحقة مثل نصري الدين الطويس هي‬
‫يب‪.‬‬
‫ال ُّنصوص ذات املرجع َّية للتّقاليد املشائ َّية يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬وليس أعامل أرسطو العر ِّ‬
‫كام يشري جون والربيدج‪“ ،‬كانت أقدم التَّ جامت العرب َّية لل ّنصوص الفلسف َّية والعلم َّية اليونان َّية‬
‫مليئة باملصطلحات املرتجمة ترجم ًة صوتيَّة ‪ ،transliteration‬لك ّنها اختفت إىل ح ٍّد كبري من‬
‫اللحقة ومن جميع ال ّنصوص الفلسف َّية اإلسالم َّية املستقلَّة باستثناء أقدم النصوص”[[[‪،‬‬ ‫التجامت َّ‬ ‫ّ‬
‫الخاصة وعىل‬ ‫ّ‬ ‫وهذا يعكس حقيقة أن هؤالء املفكّرين بدأوا يف التّفلسف يف سياق بيئتهم الفكريّة‬
‫ال ّنحو الّذي تح ّدده طبيعة اللّغة العرب ّية‪ .‬لقد بدأوا من داخل الحضارة اإلسالمية ومن داخل نظرة‬
‫عامليّة وثقافة مختلفة متا ًما عن يونانيّة أفالطون وأرسطو‪ .‬األ ّول كان يف األساس توحيديًّا‪ ،‬ساميًّا‪،‬‬
‫يب‪ ،‬املتع ِّدد اآللهة ‪.‬‬
‫ومتع ّدد الثّقافات‪ ،‬أ ّما األخري فكان يعتنق الح ّيز الهندو‪-‬أورو ّ‬
‫ميكن للمرء أن يشري إىل عدم وجود رابط باللّغة العربيَّة‪ ،‬والّذي يرتبط بصورة وثيقة بامليتافيزيقيا‬
‫اليونان ّية‪ ،‬كواحدة من الحقائق البسيطة للّغة التي تتطلّب أن تكون األفكار وال ّرؤى املعبَّ عنها‬
‫باللُّغة العرب َّية مختلفة متا ًما عن ال ّنقاط الّتي ت َّم طرحها يف اليونان َّية‪ .‬بدأت التقاليد املشائية باللُّغة‬
‫العرب َّية مع اللّبِنات األساس ّية ألرسطو ولك ّنها أصبحت تقاليد مستقلّ ًة ذات مفاهيم خاصة بها‪“ .‬إذا‬
‫أرصرنا عىل التّفكري يف أ ّن الفالسفة كانوا يفتقدون اليونانيّة‪ ،‬فيمكننا بسعادة تجاهل رؤيتهم الغربيَّة‬
‫والعودة إىل ال ّنسخ األصل َّية اليونان َّية‪ ،‬وهو” من الواضح “ما كان يدور يف ذهنهم… مل يعرفوا‬
‫اليونان َّية‪ ،‬وأرادوا التّعبري عن أفكار حقيق َّية من حيث أ ّن معارصيهم ميكن أن يتعاملوا معها‪ .‬ما قد‬
‫يعنيه أرسطو بـ ‪ x‬والّذي أصبح اآلن ‪ y‬بالعرب َّية و ‪ z‬بالفارس َّية ‪ -‬هو يف الغالب غري ذي صلة بهم‪،‬‬
‫رغم أنّهم دامئًا ما يك ّرمونه يف أعىل تقدير باسم «املعلِّم األول»‪ .‬ما أرادوا فعله هو رشح طبيعة‬
‫األشياء لألطراف املعن ّية‪ ،‬وليس الستعادة أفكار اليونانيني الّذين ماتوا منذ فرتة طويلة‪ .‬كانوا سعداء‬
‫ريا مبا إذا كان ما يحاولون قوله متزام ًنا مع‬ ‫باستخدام األدوات األرسط َّية‪ ،‬لك ّنهم مل يكونوا يهت ُّمون كث ً‬
‫ما كان يحاول أرسطو قوله‪ .‬حتّى ابن رشد (‪ ،)Averroes‬الّذي حاول جاه ًدا أكرث من غريه استعادة‬
‫مقاصد أرسطو الحقيقيّة‪ ،‬كان ببساطة يستخدمه كانعكاس آخر لغروره‪ .‬هذا‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬هو ما يفعله‬
‫أولئك الّذين يك ّيفون تقاليد املايض بها‪ .‬قد يتعلّمون بالفعل الكثري من هذه التقاليد‪ ،‬ولكن عندما‬

‫[[[‪ -‬جون والربيدج‪ :The Leaven of the Ancients ،‬سهروردي وتراث اليونان (نيويورك‪.15 ،)2000 ،‬‬

‫‪198‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫يتعلّق األمر برشح ما تعلّموه‪ ،‬فإ ّن ما تعلّموه هو بالضّ بط ما يت ّم رشحه[[[‪.‬‬


‫هذا ما يصف اآلن عالقة التقاليد املشائ َّية اليونان َّية ألرسطو بالتقاليد املشائ َّية العرب َّية البن سينا‪،‬‬
‫ين أفضل الدين‬ ‫الطّويس‪ ،‬وابن رشد‪ .‬ميكن أيضً ا توضيح نقطة مامثلة حول عالقة الفيلسوف اليونا ِّ‬
‫يب‪ .‬كان‬
‫يئ الغر ِّ‬ ‫كاشاين أو بابا أفضل‪ ،‬الذي مل يكن معروفًا جي ًدا حتّى مؤخ ًرا يف الوسط العلام ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫رصا للسهروردي وابن عريب تقري ًبا‪ ،‬وبالتّايل عاش يف وقت ت ّم فيه بالفعل إنشاء املصطلحات‬ ‫معا ً‬
‫بدل من كتابة األطروحات‬ ‫التّقن َّية واملواضيع املفاهيم َّية للفلسفة اإلسالم َّية العرب َّية واستخدامها‪ً .‬‬
‫الفلسف َّية باللُّغة العرب َّية‪ ،‬كتب أعامله الرئيس َّية باللّغة الفارس َّية التي تنقل األفكار الفلسف َّية يف‬
‫يب (أو‬ ‫أي مصدر عر ّْ‬ ‫انسجام مع عبقريَّة اللُّغة الفارسيَّة ومن دون الشعور بااللتزام باالعتامد عىل ِّ‬
‫اليونان َّية يف هذا الشأن) كمعيار‪ ،‬رغم أن العديد من أفكاره كانت مامثلة إىل ح ٍّد كبري ألولئك‬
‫الفالسفة الذين كتبوا باللُّغة العرب َّية‪ .‬بالنسبة إىل الجزء األكرب‪ ،‬كان طالب وقراء بابا أفضل من‬
‫اإليرانيني املتعلِّمني الذين مل يكن لديهم مستوى عا ٍل من اللُّغة العرب َّية وكانوا يف األساس مبتدئني‬
‫معي» لدى ق َّرائه‪ ،‬ولكن‬ ‫عندما يتعلَّق األمر بالفلسفة‪ .‬استخدم الفارسيَّة الفصيحة «إليقاظ وعي َّ‬
‫قائل عن كتاب ترجمه من‬ ‫أكرث من ذلك‪ ،‬رأى بعض املزايا الجوهريَّة يف استخدام الفارس َّية‪ً ،‬‬
‫الفاريسّ»[[[‪ .‬مثال‬
‫ْ‬ ‫وأقل غموضً ا يف قامشة الكالم‬ ‫حا َّ‬‫العرب َّية والفارس َّية «أصبحت معانيه أكرث وضو ً‬
‫السهروردي‪ ،‬الذي كتب باللُّغتني الفارس َّية والعرب َّية‪ ،‬رغم أ َّن أعامله الفارس َّية‬
‫ّ‬ ‫آخر وثيق الصلة هو‬
‫أسايس من «تالوات كاشفة» أو «الوهم الفلسفي» كام يصفها شيتيك‪ .‬األعامل‬ ‫ٍّ‬ ‫تتك َّون بشكل‬
‫الفلسف َّية مثل “حكمة اإلرشاق” (‪ )The Wisdom of Illumination‬هي باللًّغة العرب َّية وغال ًبا ما‬
‫السهروردي يستخدم هذه املفاهيم واملواضيع املشائ َّية‬ ‫َّ‬ ‫يئ رغم أن‬
‫تكون مكتوبة باألسلوب املشا ِّ‬
‫عىل وجه التحديد لالختالف مع ابن سينا ومدرسته يف العديد من األسئلة امله َّمة‪ .‬رغم أنَّه كان‬
‫الخاصة‪ ،‬فقد صاغ‬ ‫َّ‬ ‫ميتلك إتقان التقاليد الفلسفيَّة يف عرصه‪ ،‬ودمج أجزاء مه َّمة منها يف كتاباته‬
‫بدل‬
‫السهروردي وصفًا غاية يف األصالة وذايتّ الثّبوت لطبيعة الواقع‪ ،‬بنا ًء عىل ميتافيزيقيا النور ً‬ ‫ُّ‬
‫من ميتافيزيقيا الكينون َّية أو الوجود[[[‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬أولئك الذين يهت ّمون بالفلسفة اإلسالم َّية والتص ُّوف كفلسفة وتص ُّوف هم يف وضع ال‬

‫[[[‪ -‬وليام شيتيك‪ ،‬قلب الفلسفة اإلسالم َّية ) أكسفورد‪.18-17 ،)2001 ،‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.14-13 ،‬‬
‫[[[‪ -‬بالنسبة إىل املقال املطروح‪ ،‬ال يسع املرء إلَّ أن يذكر كتاب “مبادئ نظر َّية املعرفة يف الفلسفة اإلسالم َّية” بقلم مهدي هعريي يزدي‬
‫هروردي‪ ،‬ويخطو خطوات‬
‫ّ‬ ‫الس‬
‫خصوصا كام يفهمها ّ‬ ‫ً‬ ‫(ألباين‪ ،‬نيويورك‪ ،)1992 ،‬الذي يتناول عىل نطاق واسع مفهوم «املعرفة بالوجود»‪،‬‬
‫الصلة مفهومة يف لغة الفلسفة الحديثة‪ .‬ميكن أخذ هذا الكتاب كنموذج لتحليل‬ ‫كبرية يف جعل هذه األفكار وغريها من األفكار ذات ِّ‬
‫تم استكشافها يف‬
‫ودراسة املواضيع الرئيس َّية يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬ولكن كام سيظهر أدناه‪ ،‬فإنَّ أهدافه تختلف إىل حدٍّ ما عن تلك التي َّ‬
‫هذا املقال‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يختلف عن الوضع الذي خاطبه بابا أفضل‪ .‬كان يعرف ويفهم األفكار باللُّغة العربيَّة ولكن جمهوره‬
‫املختار‪ ،‬الناطق بالفارسيَّة يف املقام األول من املثقّفني‪ ،‬مل يفعلوا‪ .‬كان من املمكن أن يرتجم بابا‬
‫أفضل األعامل العرب َّية إىل فارس َّية وقد قام بالفعل‪ ،‬لكنه مل يتوقَّف عند هذا الحد‪ .‬وذهب إىل أبعد‬
‫فكري‬
‫ٍّ‬ ‫أي نظام‬
‫من ذلك بالتح ُّدث عن طبيعة األشياء بالطريقة التي مل تكن يف شكلها مشتقَّة من ِّ‬
‫آخر‪ .‬ميكن للمرء أن يتح َّدث عن االشتقاق فقط مبعنى أن تعلم البابا أفضل ودراسته للفلسفة‬
‫مثال عىل فن الرتجمة‪ ،‬بل كانت‬ ‫اليونانيَّة والعربيَّة لهام عالقة كبرية بفهمه لألشياء‪ .‬مل تكن فلسفته ً‬
‫مثال عىل ف ِّن الرتبية وموهبة يف التقاط األفكار بلغته املختارة‪.‬‬
‫ً‬
‫اآلن إذا كان شخص مثل بابا أفضل يعيش اليوم وكانت لغته األم إنكليزيَّة بدلً من فارسيَّة‪ ،‬فامذا‬
‫كان سيفعل؟ من أجل استكشاف إجابة واحدة ممكنة عىل هذا السؤال‪ ،‬أود أن أفحص كيف أن نفس‬
‫تعب عن نفسها بطرق مختلفة‪ ،‬وهنا سأناقش التقاليد األكربيَّة[[[ التي ولّدها‬ ‫البصرية امليتافيزيقية ّ‬
‫ابن عريب و«الحكمة املتعالية» (‪ )transcendent philosophy‬لصدر الدين الشريازي‪ ،‬املعروف‬
‫باملل صدرا‪ .‬رغم ارتباط ابن عريب بق َّوة بعبارة وحدة الوجود‪ ،‬فإ َّن مفهوم الوجود يف الواقع ليس‬ ‫ّ‬
‫رضوريًّا مليتافيزيق َّيته‪ .‬والواقع أن الشيخ األكرب قادر عىل إعطائنا روايته امليتافيزيق َّية الكاملة من‬
‫دون اللُّجوء إىل مفهوم الوجود عىل اإلطالق‪ .‬عىل سبيل املثال‪“ ،‬عني” هو املفهوم األم الذي هو‬
‫أساس لغة ميتافيزيق َّية تختلف لكن ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة التي تعترب “وجود” املفهوم األم لها‪.‬‬
‫عني‪ ،‬مثل وجود (الوجود أو الكينونة أو اإليجاد أو الحضور) هي كلمة أخرى من تلك الكلامت‬
‫املعروفة بصعوبة ترجمتها‪ ،‬وقد قُ ِّدمت ككيان وجوهر وهويَّة‪ .‬اآلن‪ ،‬ميكن للمرء أن يصف طبيعة‬
‫الواقع من حيث الوجود واملاه َّية[[[‪ ،‬ولكن ميكنه أيضً ا وصفه من حيث الهويّة (‪ )Identity‬أو‬

‫فلسفي أكرث‪ ،‬بد ًءا بصدر الدين قونوي (ت‪ )1274 .‬وصولً‬ ‫ٍّ‬ ‫[[[‪ -‬هنا أفكِّر بشكل خاص يف التّقليد الّذي أخذ فكر ابن عريب يف اتّجاه‬
‫إىل مفكّرين مثل “عبد الرزاق كاشاين” (د‪ ،)1330 .‬وداوود القيرصي (ت‪ .)1350 .‬أنظر و‪ .‬شيتيك “مدرسة ابن العريب”‪ .‬تاريخ الفلسفة‬
‫اإلسالمية‪ .‬سيد حسني نرص وأوليفر ليامن‪ ،‬محرر‪ .‬لندن‪.23-510 ،1996 ،‬‬
‫[[[‪ -‬كانت هذه هي الُّلغة الفلسف َّية التي ورثتها شخص َّيات مثل الفارايب وابن سينا‪ ،‬الذين صاغوا الكثري من فلسفتهم من حيث مفاهيم‬
‫مثل الوجود (الكائن أوالكينونة)‪ ،‬ماه َّية (كنه أو جوهر)‪ ،‬وجوب (رضورة)‪ ،‬إمكان (احتامل أو طارئ)‪ ،‬وامتناع (استحالة أو عبث َّية)‪ .‬يف‬
‫الخاصة‪ .‬ميكن للمرء‬‫َّ‬ ‫وخصوصا أرسطو‪ ،‬رغم أنَّ فلسفتهم تط َّورت وفقًا لصبغتها‬
‫ً‬ ‫الصدد‪ ،‬اعتمدوا بشكل كبري عىل الفلسفة اليونان َّية‪،‬‬
‫هذا ّ‬
‫اللحقني رشح فكرهم من دون استخدام الُّلغة‬ ‫أن يتفق أو يختلف مع ابن سينا‪ ،‬ولكن سيكون من املستحيل عىل الفالسفة اإلسالميني َّ‬
‫ومل صدرا‪ ،‬الّذين تجد كثريًا من كتاباتهم «مشائ ّي ًة» يف لغتهام إن مل‬ ‫املشائ َّية‪ .‬هذا صحيح حتّى بال ّنسبة إىل رموز بارزة مثل السهروردي َّ‬
‫مل صدرا‪ ،‬ألباين‪ ،‬نيويورك‪ )1976 ،‬بوضوح‬ ‫يكن يف استنتاجاتهام الفلسف َّية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ُ ،‬يظهر كتاب ف‪ .‬رحامن عن صدرا (فلسفة َّ‬
‫تام مدى ارتباط رشح صدرا إىل حدّ كبري بلغة التّواصل الفرنس َّية املشرتكة التي أنشأها ابن سينا‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫عي (‪ .[[[)self-identification, or auto-determination‬اللَّفت‬ ‫جل ((‪ self-disclosure‬أو التّ ُّ‬


‫التّ ّ‬
‫الفردي‬
‫ِّ‬ ‫أن كلتا اللُّغتني أو النظامني يفهامن بعضهام البعض من دون الحاجة إىل نوع من التوافق‬
‫بني املفاهيم‪ .‬امليتافيزيقيون الصوفيون مثل صدر الدين قنوي وداود القيرصي‪ ،‬والفالسفة أو‬
‫الثيوصوفيون اإلسالميون (الحكامء)[[[ مثل امللَّ صدرا‪ ،‬هم أبناء عمومة مق َّربون فلسف ًّيا‪ ،‬وغال ًبا ما‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يشريون بسهولة إىل مفاهيم بعضهم البعض‪ ،‬رغم عدم اعتبار أن هذا يعني أن املفاهيم املقابلة لها‬
‫دامئًا النطاق نفسه من املعنى[[[‪.‬‬

‫امليتافيزيقي يتوقَّف حول “عني” (الهويَّة)‬


‫ِّ‬ ‫تقري ًبا‪ ،‬يستخدم هؤالء العرفاء منطًا من التعبري‬
‫و”تجل” (الكشف عن الذات)‪ ،‬بينام يستخدم الحكامء نظا ًما يركِّز عىل مفاهيم “وجود” و”ماهيَّة‪/‬‬ ‫ّ‬
‫ذات” (‪ ،....‬جوهر)[[[‪ .‬وأو ُّد أن أدرسها بإيجاز باستخدام مثال مشكلة الوحدة والتع ُّدد‪ .‬بال ّنسبة‬
‫كل يشء من تجربتنا هو هويَّة (عني)‪ ،‬ولكن هذا يعني أ َّن هناك فئات واسعة من‬
‫إىل العرفاء فإ َّن ّ‬
‫الهويَّات‪ .‬يشار إىل األجسام املوجودة يف عامل املكان والزمان بالهويَّات الخارج َّية (عني خارج َّية)‪.‬‬
‫ولكن نظ ًرا أل َّن اليشء ال ميكن أن يكون يف الخارج إلَّ عندما يتعلَّق بيشء ما يف الداخل‪ ،‬فيجب‬

‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ..‬رشح أعمق عقيدة ممكنة من الوجود ومظاهره بطريقة‪ ،‬باملعنى الدقيق‪ ،‬غ ّنوص َّية وميتافيزيق َّية بدلً من مج َّرد فلسف َّية‬
‫تجل) وما شابه ذلك‪ ،‬ومل‬ ‫ّ‬ ‫اإللهي (الذات) واألسامء والصفات‪ ،‬الثيوفان َّية (‬
‫ِّ‬ ‫باملعنى املعتاد للكلمة‪ .‬تحدَّ ث ابن عريب عن الجوهر‬
‫يستخدم لغة الفالسفة اإلسالميني الذين تعاملوا مع الوجود‪ .‬رشح ما وراء الطبيعة التي تتجاوز علم األنطولوجيا‪ ،‬والتي تبدأ باملبدأ‪،‬‬
‫الشح الثّاقب ملعنى‬ ‫الخاصة به ّ‬
‫َّ‬ ‫الضورة‬
‫(تعي)‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تض ّمنت عقيدة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫والوقوف فوق الوجود‪ ،‬والذي يعترب الوجود هو التحديد األول‬
‫كل‬
‫الوجود عىل أنَّه الكائن والكينونة‪ ،‬حتّى لو نظر إىل املشكلة من زاوية مختلفة عن رؤية الفالسفة‪ .‬كان البن عريب التأثري العميق عىل ٍّ‬
‫خصوصا يف ما يتعلَّق بدراسة الوجود‪ .‬كان هو أول من صاغ عقيدة “الوحدة املتسامية‬ ‫ً‬ ‫اللحق والفلسفة اإلسالم َّية َّ‬
‫اللحقة‪،‬‬ ‫من التّص ُّوف َّ‬
‫معي ق َّمة املذاهب امليتافيزيق َّية اإلسالم َّية‪“ .‬‬ ‫اللحقة للوجود ومتثِّل مبعنى َّ‬ ‫للوجود”‪( ،‬وحدة الوجود) التي تت ّوج تقري ًبا جميع الدراسات َّ‬
‫سيد حسني نرص‪« ،‬فلسفة ما بعد ابن سينا اإلسالم َّية ودراسة الوجود»‪ ،‬يف فلسفات الوجود‪ ،‬تحرير بارفيز مورويدج (نيويورك‪.338 ،)1982 ،‬‬
‫[[[ ‪“ -‬غال ًبا ما تُستخدم [الحكمة والحكيم] كمرادفات للكلامت املستعارة اليونان َّية فيلسوف وفلسفة‪ ...‬كانت أقدم الرتجامت العرب َّية‬
‫اللحقة ومن جميع‬ ‫للنصوص الفلسف َّية والعلم َّية اليونان َّية مليئة باملصطلحات املرتجمة صوت ًّيا‪ ،‬لك ّنها اختفت إىل حدٍّ كبري من الرتجامت َّ‬
‫النصوص الفلسف َّية اإلسالم َّية املستقلَّة باستثناء أقدم النصوص‪ .‬يف وقت مبكر من القرن العارش‪ ،‬استخدم الفارايب وأمريي “الحكيم”‬
‫واللدين‪ ،‬والّتي فضّ ل‬ ‫و”الحكمة” كـ«فيلسوف» و «فلسفة»‪ .‬رسعان ما اكتسب «فيلسوف» و «فلسفة» داللة غري مرغوبة عن االغرتاب َّ‬
‫حتى الفالسفة أنفسهم تج ّنبها‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬ميكن أيضً ا استخدام الحكيم والحكمة يف سياقات ليست فلسف َّية ‪ -‬لإلشارة إىل الحكمة‬
‫الغنوم َّية التقليديَّة‪ ،‬عىل سبيل املثال “‪ .‬جون والربيدج‪ :The Leaven of the Ancients ،‬السهروردي وتراث اليونانيني‪ ،‬نيويورك‪،‬‬
‫‪.15 ،2000‬‬
‫[[[‪ -‬ما يشار إليه يف مصطلحات الفالسفة باسم “العقل املج َّرد” يشار إليه يف مصطلحات أهل الله باسم «الروح» وبالتايل يس ّمي املرء‬
‫الفكر األول ال ّروح القدس‪ .‬ما يس ّميه الفالسفة (نفس مج َّرد) يس ّميه جامعة الله «القلب» (قلب)‪ ،‬ألنّ العموم َّيات رصيحة يف هذه الروح‪،‬‬
‫وهذه الروح تشهدها بشكل ملموس‪ .‬عندما يقولون «روح»‪ ،‬فإنهم يشريون إىل روح الحيوان الصوريَّة (النفس املنطبعة)‪ .‬داوود القيرصي‪،‬‬
‫مطلع خصوص الكلم يف معاين فصوص الحكم حرره محمد حسن السعدي إيران ‪ .27-26 ،1995‬الحدود بني املصطلحات يف مثل‬
‫هذه التسلسالت الهرم َّية ليست متشابهة متا ًما‪ ،‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬هناك بعض الروابط التي يولِّدها مصطلح “الروح”‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬و‬
‫ال يولدها مصطلح “العقل” والعكس صحيح‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنّ هذه الُّلغات قادرة عىل فهم بعضها البعض وكالهام يعتقد أنهام يف الواقع‬
‫يشريان إىل اليشء نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يُعرف نظام صدرا بشكل أكرث تحديدً ا باسم الحكمة املتعالية‪ .‬هذا مصطلح يعود استخدامه عىل األقل إىل داوود القيرصي‪ ،‬الذي‬
‫استخدمه يف رسالة يف علم التّص ّوف (انظر الرسائل لداوود القيرصي) ‪،‬حرره محمد بريقدار (قيرصي‪.116 ،)1997 ،‬‬

‫‪201‬‬
‫حقول التنظير‬

‫أيضً ا أن تكون هناك هويَّة داخليَّة يشار إليها غالبًا باسم الهويَّة الثابتة (عني ثابتة)‪ .‬الهويَّة الثابتة هي‬
‫الهويَّة كام هي يف معرفة الله‪ ،‬يف حني أ َّن الهويَّة الخارج َّية هي الهويَّة التي نختربها يف عامل املكان‬
‫والزمان‪ .‬بني قطبي الداخل يف الله والظهور يف العامل توجد مستويات عديدة من الداخل والخارج‬
‫ألي هويَّة معيَّنة‪ ،‬يت ُّم التح ُّدث عنها أحيانًا من حيث درجات مختلفة من الكشف عن الذات‪ .‬امله ُّم‬
‫ِّ‬
‫هو أن الهويَّة الخارجيَّة(‪ )outward identity‬والهويَّة الثابتة (‪ )inward identity‬هام اليشء نفسه‪،‬‬
‫ج ّية يف عامل‬
‫معي عىل أنَّه هويَّة‪ ،‬خار َ‬
‫وهذا يعني أنَّهام متطابقان‪ .‬وهكذا‪ ،‬ميكن النظر إىل إنسان َّ‬
‫املكان والزمان ولك ّنها ثابتة يف معرفة الله‪ ،‬وهذان ليسا شيئني متف ِّرقني‪ .‬وهناك وجهة نظرنقوم عربها‬
‫واقعي‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإ َّن تحديد‬
‫ّ‬ ‫بالتّمييز‪ ،‬ووجهة نظر أخرى تنظر إىل هذا التمييز عىل أنَّه غري‬
‫كل يشء متطابق مع الله من إحدى‬
‫الهويَّة أكرث عمقًا‪ ،‬ألنَّه يف النهاية ال توجد سوى هويَّة واحدة‪ُّ .‬‬
‫(تجل)‬
‫ّ‬ ‫وجهات النظر‪ ،‬بينام من وجهة نظر أخرى هناك العديد من الهويَّات بحكم أ َّن الله يكشف‬
‫الخاصة‪ .‬هذه إحدى طرق معالجة مسألة الوحدة والتع ُّدد أو التّشابه واالختالف‪ .‬بالنسبة إىل‬
‫َّ‬ ‫هويَّته‬
‫معي عىل الوجود‬
‫كل يشء من التجربة هو مثال َّ‬
‫الحكامء أو مامريس “الحكمة املتعالية”‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫أو “موجود”‪ .‬هناك فئات واسعة من األشياء املوجودة‪ ،‬وهذا يعني أنوا ًعا عدة من الوجود‪ُ ،‬مرت ّبة‬
‫من حيث التّبع َّية واالستقالل‪ ،‬أو من حيث الق َّوة والضَّ عف‪ .‬من وجهة نظر الحكامء‪ ،‬هناك وجود‬
‫واحد فقط‪ ،‬ولكن من وجهة نظر أخرى‪ ،‬هذا الوجود له العديد من األمناط واملستويات التي نحن‬
‫عىل دراية بها من خالل جوهرها أو جوانبها‪ .‬هذه الجوانب مشتقّة بالكامل من الوجود نفسه‪ ،‬وهذا‬
‫كل ذلك‬
‫اللنهائيَّة التي تجعل الوجود ما هو من دون أن يصبح ُّ‬
‫يعني أنّها تهدف إىل وصف الطّرق َّ‬
‫حكامء قادرون عىل التّمييز بني املوجودات‬
‫ممث ًّل للكرثة‪ .‬من خالل وجهات ال ّنظر املتغرية‪ ،‬فإن ال ُ‬
‫مقسم وغري قابل للتجزئة‪ .‬إ َّن وحدان َّية الوجود (وحدة‬
‫وجوهرها مع التأكيد عىل أ ّن الوجود غري َّ‬
‫الوجود) واعتامد الجوهر هي الطريقة الرئيسيَّة التي يعالج بها الحكامء مسألة الوحدة والكرثة‪.‬‬

‫عند التّعامل مع وحدان َّية وتع ُّدديَّة األشياء‪ ،‬يؤكِّد كال ال ّنظامني أ َّن هناك طريقة تختلف بها األشياء‬
‫حقيقي‪ .‬ال يحتاج‬
‫ّْ‬ ‫عن بعضها البعض وطريقة أخرى غري متناقضة مع سابقتها ال ترى وجود فرق‬
‫العرفاء إىل التح ُّدث عن الوحدة إطالقًأ (رغم أنّهم غال ًبا ما يفعلون)‪ ،‬ولكن ميكن أن يستخدموا‬
‫(تجل) أوالتّعريف الذّايت‬
‫ّ‬ ‫خطاب الهويَّة ‪( Identity‬عني) والكشف الذّايت ‪Self-disclosure‬‬
‫يحل الحكامء‬
‫مفاهيمي ُمتامسك من تلقاء نفسه‪ّ .‬‬
‫ٌّ‬ ‫(تعي) للهويّة‪ ،‬وهو نظام‬
‫ُّ‬ ‫‪Self-identification‬‬

‫‪202‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫[[[‬
‫املشكالت امليتافيزيقيَّة نفسها (بال ّروحيَّة نفسها) بخطاب الوجود وأساليب الوجود والجوهر‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬تعاملت امليتافيزيقيا اإلسالميَّة يف مدرسة وحدة الوجود مع امليتافيزيقيا من‬
‫خالل التّح ُّدث عن الواقع املطلق باعتباره الكائن األعىل ‪ [[[.Supreme object‬إنّه يتعامل بشكل‬
‫موضوعي يتح َّدث عن‬
‫ٌّ‬ ‫مكثَّف مع األشياء كموضوعات‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لك ّن نقطة البداية هي حساب‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫األشياء كام هي عليه يف الخارج أ ّو ًل‪ ،‬ث ّم يف إمنائه وإمتامه للموضوع يعطينا نظرة ثاقبة حول‬
‫إسالمي جديد يبدأ ويستند إىل الذّات‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ميتافيزيقي‬
‫ٍّ‬ ‫طبيعته‪ .‬ما أستكشفه هنا هو إمكان َّية وجود نظام‬
‫ويتعامل مع محتوى امليتافيزيقيا من خالل رؤية الواقع كذات ح َّية واحدة من وجهة نظر والعديد‬
‫من الذّوات الح َّية من وجهة نظر أخرى‪ .‬وهذا يتوافق يف نظام الوجود مع وحدان َّية الوجود من‬
‫ناحية وتع ُّدد وجوهه من ناحية أخرى‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يبدأ املرء بقطب املوضوع ويكشف عن‬
‫ميتافيزيقيا يعطينا اكتاملها رؤية ثاقبة لطبيعة الكائن من خالل معرفة طبيعة املوضوع‪ .‬تشبه املسألة‬
‫ُمحاذاة الجبل نفسه ولكن من الجانب اآلخر‪.‬‬
‫بدأت هذا املقال مبقارنة العرفان والحكمة بإيجاز يف مسألة الوحدة والتّعدد‪ ،‬وكان الغرض‬
‫من ذلك هو اإلشارة إىل أنّه ميكن للمرء مناقشة امليتافيزيقا باستخدام تسلسلني هرميني مفاهيميني‬
‫مختلفني يتشاركان مع ذلك بال ّروحيَّة نفسها ويتّسامن بالشفافيّة مع بعضهام البعض‪ .‬ما ييل أدناه‬
‫مل صدرا‪ ،‬ليس فقط بلغة الوجود‪ ،‬ولكن من خالل لغة‬
‫هو مناقشة امليتافيزيقيا التي تحدث عنها َّ‬

‫[[[ ‪ -‬يجب التأكيد مرة أخرى عىل أنَّ هذا تقسيم مصطنع‪ ،‬مبعنى أنَّه يف مدرسة ابن عريب‪ ،‬خطاب “العني” و”الوجود”غال ًبا ما يتداخالن‬
‫عبارات مثل “عني موجودة”)‪ .‬هذا التّقاطع واالنتقال ينتج من حقيقة أنَّ املوضوع هو نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫ويرشح أحدهام اآلخر‪ ) .‬كام هو الحال يف‬
‫وسام كـالوجود‪ .‬رغم أنّ “الوجود”‬ ‫ٍ‬ ‫يف النهاية‪ ،‬ليس انطالقًا من رضورة أنّ األشياء يجب تفسريها يف نهاية املطاف من خالل مفهوم فائق‬
‫أي يشء‪ ،‬وهو يفعل ذلك يف نهاية املطاف بحكم ما يع ّينه املفهوم‪ ،‬والذي ميكن‬ ‫يفسه ُّ‬
‫كل يشء وال ّ‬ ‫ميكن أن يأخذ دور ذلك الذي يفسِّ َّ‬
‫الصوفيني والفالسفة‪“ ،‬املستوى الثالث من الوجود هو الوجود‬ ‫مثال آخر عىل التّفاهم املتبادل بني ّ‬ ‫تكريسه يف أفكار أخرى أيضً ا‪ .‬لنأخذ ً‬
‫يت ال يشبه عموم َّية القواعد الطبيع َّية‪ ،‬وخصوص َّيته ليست مثل خصوص َّية األفراد‬ ‫وتوسعه الذا َّ‬
‫ُّ‬ ‫الذايت التّوسع (الوجود املنبسط)‪ .‬إنّ شموله‬
‫املص ّنفني عىل أنهم فصائل وطبائع عا َّمة‪ .‬بل كام هو معروف من قبل العارفني الّذين يس ُّمونه “أنفاس ال َّرحمة” (النفس الرحامين)‪ .‬هذا ما‬
‫مل صدرا‪،‬‬ ‫كل حسب مستواه”‪َّ .‬‬ ‫كل الساموات واألرض‪ٌّ ،‬‬ ‫أول من املسبب األول‪ .‬إنه مبدأ وحياة العامل‪ ،‬وهو ال ّنور الذي ينبعث عرب ِّ‬ ‫يخرج ً‬
‫الشّ واهد ال ّرباع َّية‪ ،‬ح َّرره جالل الدين أشتياين (مشهد‪.70 ،)1967 ،‬‬
‫موضوعي لألشياء‪ ،‬واآلخر يستند‬
‫ٍّ‬ ‫[[[ ‪ -‬يصف فريثجوف شون فئتني واسعتني من األنظمة امليتافيزيق َّية التقليديَّة‪ ،‬يستند أحدهام إىل فهم‬
‫يت لألشياء‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كتب‪“ ،‬النزعة الدميورج َّية متص َّورة يف فيدانتا كهدف‪ ،‬ويف الصوف ّية [يف إشارة إىل مدرسة وحدة‬ ‫إىل فهم ذا ٍّ‬
‫الهندويس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫خالصا كام هو الحال يف املنظور‬ ‫ً‬ ‫الوجود] يُنظر إليها عىل أنَّها تف ّرد‪ ،‬وهكذا يف الواقع من الناحية الذات َّية‪ ،‬الله ليس «موضو ًعا»‬
‫يصح من دون القول أنَّ «موضوع»‬ ‫ُّ‬ ‫ولكن «كائن» خالص‪« ،‬هو« الذي ال تحدّ منه أيّة رؤية الذات َّية‪ .‬هذا االختالف يكمن فقط يف الشكل‪ ،‬ألنَّه‬
‫فردي وأنّ «الكائن» الصويفَّ ليس سوى تأثري «الجهل»‪ .‬أطامع الّذات هي «هو« ألنَّها «موضوع َّية بحتة» بقدر ما‬ ‫ٍّ‬ ‫فيدانتا ليس سوى قرار‬
‫الصوف َّية (ال أنا وال أنت)‪:‬‬
‫كل الهدف‪ .‬الصيغة ّ‬ ‫كل الفرديَّة و «هو«‪« .‬هو« هي «الذات» وبالتايل «ذات َّية بحتة» مبعنى أنَّها تستبعد َّ‬ ‫تستبعد َّ‬
‫هو تعادل بالتّايل صيغة األوبانيشاد “تأت‪-‬تفام‪-‬ايس” (ذلك وهذا)‪ ”.‬وجهات النظر الروح َّية والحقائق اإلنسان َّية”‪ ،‬ميدلسكس‪،‬اململكة‬
‫املتَّحدة‪ 1987 ،‬ص ‪.102‬‬

‫‪203‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الذات[[[ والذاتويَّة والحياة والوعي‪ .‬من خالل ال ّنظر يف طبيعة الفضاء وتجربته والوقت يف فلسفة‬
‫مل صدرا‪ ،‬أستكشف كيف ميكن أن يبدو النظام القائم عىل نقطة انطالق ذات َّية يف حضن التقاليد‬
‫َّ‬
‫امليتافيزيقيَّة اإلسالميَّة[[[‪ .‬من خالل البدء بإحساسنا بالذات‪ ،‬ميكن إلقاء الكثري من الضوء عىل‬
‫ينّ‪.‬‬
‫ين والزما ْ‬
‫عقائد صدرا املتعلِّقة بالزمان واملكان وآثارها عىل الذات التي تسافرعربالعامل املكا ِّ‬
‫الطبيعي والجوهر والحوادث واالستمراريَّة واالنقطاع واملوضوع‬ ‫ِّ‬ ‫يتم تناول مفاهيم القانون‬
‫والكائن من أجل معرفة كيف ترتبط جميعها ارتباطًا وثيقًا بفكرة الذات وتجربتها‪ .‬يتم ذلك يف سياق‬
‫األسايس لصدرا‪ ،‬بنا ًء عىل الوحدانيَّة (الوحدة) ‪ oneness‬واإلمارة (األصالة)‬
‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫اإلطار‬
‫‪ principality‬والتد ُّرج أو تع ُّدد الوجوه (التشكيك)[[[ يف الوجود ‪. polyvocality‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫المادة والتمدد ‪: Matter and Extension‬‬
‫ميكن ال ّنظر إىل املكان وال ّزمان عىل أنّهام منطان من االمتداد‪ ،‬واالمتداد بحكم التّعريف‬
‫يستلزم االنقسام واالنفصال‪ .‬أي يشء موجود فيه يف مرحلة ما‪ ،‬سواء كان مكان ًيا أم زمان ًيا‪ ،‬ال ميكن‬
‫أن يكون موجو ًدا يف وقت واحد يف مرحلة أخرى من دون مخالفته لالمتداد وانهياره إىل وحدة‬
‫بال أبعاد‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يستلزم االنقسام واالنفصال وجود عالقة؛ ذلك أ ّن وجود كيانني يف‬
‫معي له عالق ٌة مع‬
‫ّ‬ ‫أي جسمٍ‬ ‫بالضورة أ َّن االثنني مرتبطان بعالقة ما‪ .‬يف الفضاء‪ُّ ،‬‬
‫االمتداد نفسه يعني ّ‬
‫كل جسم آخر‪ ،‬وهذا يعني أنّه ميكننا ربط األشياء بـ «أعاله» و «أدناه» وما إىل ذلك‪ .‬باإلضافة إىل‬ ‫ّ‬
‫كل جزء آخر من هذا الجسم‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬كل جزء من هذا اليشء‪ ،‬بحكم امتداد الفضاء‪ ،‬لديه عالقة مع ِّ‬
‫مبرور الوقت‪ ،‬كل حدث أو مجموعة من األحداث يف لحظة معينة لها عالقة مع جميع األحداث‬
‫األخرى يف لحظات أخرى‪ ،‬يف املايض واملستقبل‪ ،‬مبوجب االمتداد الّذي ميثّله الوقت‪ .‬إ ّن‬
‫[[[‪ -‬يف كتابه ابن عريب والفكر الحديث (أنقا للنرش‪ ،‬أكسفورد‪ ،)2002 ،‬بيرت كوتس يفحص امليتافيزيقيا البن عريب ويك ِّرس الوقت‬
‫نفيس‪ ،‬بينام هديف هو مناقشة‬
‫ٍّ‬ ‫لفحص ما ميكنه إخبارنا به عن الدراسة الحديثة لل ّذات‪ ،‬لكن مناقشته للذات موجهة بشكل عام نحو فهم‬
‫أنطولوجي وكقطب واحد للواقع‪.‬‬‫ٍّ‬ ‫الذات ككيان‬
‫[[[‪ -‬مقدِّ مة ترجمتي وتعليقايت القادمة عىل فصص الحكم البن عريب (أحجار الحكمة‪ ،‬شيكاغو‪ )2003 ،‬يحتوي أيضً ا عىل عرض من‬
‫ّ‬
‫والتجل‪.‬‬ ‫خاص نحو رشح ابن عريب «ميتافيزيقيا» العني‬ ‫ٍّ‬ ‫حيث الذات والذاتويَّة‪ ،‬ولكن هناك النقاش موجه بشكل‬
‫املنهجي للوجود‬
‫ِّ‬ ‫الغموض‬ ‫َّه‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫عىل‬ ‫ّشكيك‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫إىل‬ ‫الرحمن‬ ‫فضل‬ ‫يشري‬ ‫صدرا‪،‬‬ ‫ل‬
‫َّ‬ ‫مل‬ ‫[[[ ‪ -‬وقد ترجم هذا املفهوم الهام طرق عدَّ ة‪ .‬يف دراسته‬
‫ورغم مزايا هذا الكتاب‪ ،‬فإنَّ هذه الرتجمة متيل إىل إخفاء مفهوم واضح املعامل‪ .‬استخدم سيد حسني نرص مصطلح «التدرج القيايس»‬
‫(أنظر عىل سبيل املثال صدر الدين الشريازي والثيوصوفيا املتعالية‪ ،‬طهران‪ ،)107 ،1997 ،‬الذي يقرتب كثريًا من التعبري عن االستخدام‬
‫الفلسفي للتشكيك‪ .‬واإلحتامالت األخرى املتاحة هي «االنتقال» و «التعديل» و«التسلسل الهرمي»‪ .‬مع أخذ إشارة من اقرتاح حسني زياي‬
‫للتعبري عن التشكيك باستخدام كلمة «ملتبس»‪ ،‬أستخدم حال ًيا كلمة متعدِّ د البؤر‪ ،‬والتي تعني أنَّ الوجود ال يقال عن األشياء بالطريقة‬
‫مم يجعلها غري محور َّية‪ ،‬بل يقال عن أشياء من نواحٍ كثرية‪ ،‬ألنّ التشكيك يتناول مفهوم الوجود وواقعه‪ .‬يف إشارة إىل أطروحته‬ ‫نفسها‪ّ ،‬‬
‫«حواس» مركزيَّة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الخاصة‪ ،‬كتب سجاد رضوي‪“ ،‬آخذا إشارايت من القول املأثور األرسطي بأن” يقال من نواحٍ كثرية‪“ ،‬أركز عىل ثالث‬ ‫َّ‬
‫يل ولغة الوجود‪ .‬الفكرة املركزيَّة لألطروحة هي‬ ‫لكوين [وجود] يف الفلسفة اإلسالم َّية كام قدَّ مه صدرا‪ ،‬وهي حقيقة الوجود والكائن العق ِّ‬
‫املل صدرا الشريازي‪ ،‬الفلسفة املتعالية‪ ،‬املجلَّد ‪،)2001( 2‬‬ ‫الحواس”‪ .‬االقرتاب من دراسة َّ‬ ‫ّ‬ ‫كل من هذه‬ ‫فكرة التعديل التي يخضع لها ٌّ‬
‫الفلسفي للتشكيك يف‬
‫ِّ‬ ‫االستخدام‬ ‫يف‬ ‫س‬ ‫ر‬
‫َّ‬ ‫مك‬ ‫يشء‬ ‫كل‬
‫ِّ‬ ‫إىل‬ ‫تصل‬ ‫أن‬ ‫ميكن‬ ‫)‬ ‫‪polyvocality‬‬ ‫(‬ ‫كلمة‬ ‫أنّ‬ ‫السطر نفسه أعتقد‬
‫‪ )64-63‬ويف ّ‬
‫فكر صدرا‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫الخاصة‪ ،‬يف مكان ما وليس يف مكان آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجود الكيانات بالنسبة إىل بعضها البعض بهذه الطريقة‬
‫الشء نفسه ينطبق عىل الوقت‪ .‬وأن تكون الكيانات متتابعة بعضها‬ ‫ين‪ّ .‬‬ ‫يفس حقيقة االمتداد املكا ّ‬ ‫ّ‬
‫خلف بعض‪ ،‬وأن يوجد بعضها مع بعض يف هذا الشّ كل من االمتداد هو الحقيقة الواقع َّية لل ّزمن‬
‫ذاته‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ميكن للمرء أن يقلّص مفاهيم ًّيا من حقيقة االمتداد إىل واقع العالقة واالنفصال‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الثابت يف حالة الفضاء‪ ،‬والدينامييك يف حالة الزمن‪ .‬أ ّما اآلن‪ ،‬فتتطلَّب العالقة واالنفصال أمناطًا‬
‫معي فقط يف نقطة معيَّنة من املكان أو‬ ‫من التّحديد (التّقييد)‪ .‬فإذا كان من املمكن وجود جسم َّ‬
‫متأصل يف حالة ذلك الجسم‪ .‬االنفصال هو منط من الحرص‪ ،‬مبعنى أ َّن الكيان‬ ‫ِّ‬ ‫الزمان‪ ،‬فهذا ح ٌّد‬
‫ين‪ ،‬فإنّه ال‬ ‫ين‪ -‬زما ّ‬
‫املعني محصوربـ «متى» و «أين» الذي يجد نفسه فيها؛ بقدر ما هو جسم مكا ٌّ‬ ‫ّ‬
‫كل زمان من دون إبطال جوهر املكان والزمان‪ .‬إ َّن جوهر أو‬ ‫كل مكان أو يف ِّ‬ ‫ميكن أن يكون يف ِّ‬
‫ماهيَّة اإلمتداد‪ ،‬أكان مكانيًّا أو زمانيًّا‪ ،‬يتشكّل تحدي ًدا من اإلنفصال والقيود والعالقات‪.‬‬
‫ال ب َّد ن القول أ َّن جميع األشكال[[[ (صور‪ ،‬مفرد صورة) املوجودة يف املكان والزمان تنشأ من‬
‫العقل (‪ )Intellect‬أو الروح (‪ ،)Spirit‬وتجد يف نهاية املطاف أساسها يف الله‪ .‬يف الفكر‪ ،‬هذه‬
‫األشكال ليست مق ّيدة بالفصل والتّعاقب بطريقة املكان والزمان‪ ،‬إنَّ ا هي كلّها موجودة يف حالة‬
‫أشار إليها إيكهارت بأنّها «مندمجة ولك ّنها ليست ُمختَلَطة» (‪ .)Fused but not confused‬لنرشح‪،‬‬
‫دعونا نتذكّر أ َّن األشياء املوجودة يف املكان وال ّزمان متتلك أشكالً ‪ ،‬يت ُّم تعريف «الشكل» بأنّه ما‬
‫يجعل اليشء عىل ما هو عليه‪ .‬ميكن أن تكون بعض هذه األشكال مشرتكة م ًعا يف ال ّنطاق‪ ،‬مثل‬
‫الخشب ّية والكرويَّة يف الكرة الخشب َّية‪ .‬الشكالن ُمندمجان ولكن ال يتم الخلط بينهام‪ ،‬أل َّن الكائن‬
‫والكروي موجودان يف االمتداد ولكن ليس يف حالة التّعاقب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ليس هذا النوع‬ ‫ّ‬ ‫الخشبي‬
‫ّ‬
‫من االت ّحاد ممك ًنا دامئًا‪ ،‬وهذه الحالة من االنفصال ومن ث َ َّم العالقة هي التي تُ ّيزعامل املكان‬
‫والزمان‪ .‬يف العقل‪ ،‬األشكال ليست «بجانب» بعضها البعض‪ ،‬وال هي قبل أو بعد بعضها البعض‪.‬‬
‫إنّهام عىل ما هام عليه متا ًما‪ ،‬حارضان متا ًما لبعضهام البعض‪ ،‬من دون أن يؤدي هذا الحضور إىل‬
‫مل ال تكون فيه الكُرات أب ًدا خشب ّية والخشب‬‫أي خلط أو تغيري لطبيعتهام (‪ .)Denaturing‬ففي عا ٍ‬ ‫ّ‬
‫ال يكون كرويًّا أب ًدا‪ ،‬فإ ّن الكرة الخشب ّية ستمثّل نو ًعا من االندماج من دون خلط‪ .‬هذا تشبي ٌه محدو ٌد‬
‫لالختالف بني األشكال املوجودة يف العقل وهذه األشكال نفسها عندما توجد يف العامل‪.‬‬
‫الشء (‪ )matter‬كجزء من تفسري عالقات اإلنفصال والحدود بني‬ ‫يشري صدرا إىل وجود ّ‬
‫األشكال حيث مل يكن هناك أي يشء منها يف األصل‪ .‬يف املكان والزمان‪ ،‬ت َّم ض ُّم األشكال إىل‬
‫ين‬
‫ين والزما ُّ‬
‫[[[ ‪ -‬الشكل كلمة ميكن أن تشري يف املفردات الفلسف َّية اإلسالم َّية إىل الجوهر (اليشء) وأيضً ا إىل حالة أن يكون الجسم املكا ُّ‬
‫ميتلك حوادث مثل اللون والشكل والبعد‪ .‬يف الحالة األوىل‪ ،‬ميكن أن تشري إىل تعريف اليشء‪ ،‬بينام يف الحالة الثانية‪ ،‬تتعارض مع روح‬
‫أو “معنى” كائن ينقله الشكل إىل البداية‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫حقول التنظير‬

‫املا ّدة وأصبحت مركّبة (‪ )compounded‬من املا ّدة والشّ كل‪ .‬تُع ّرف املا ّدة يف هذا املعنى بأنّها‬
‫صاف‪ ،‬وإمكانيَّة ألن يصبح األمر شيئًا ما‪ .‬وتُع َّرف الحركة بأنّها انتقال يشء ما من حالة‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫احتامل‬
‫الفعال َّية أو الجهد (الق ّوة) إىل حالة العمل أو ال ّنشاط (الفعل)‪ .‬الطبيعة (‪ ،)nature‬التي سننتقل إليها‬
‫الحقًا‪ ،‬هي التي من خاللها تحدث الحركة‪ .‬الشّ كل هو قُطب الكيانات املركّبة (أي املركّبة من‬
‫املا ّدة والشّ كل) والّتي ميكن معرفتها‪ ،‬يف حني أن املا َّدة متثّل غموض األشياء وعدم معرفتها‪ .‬يف‬
‫أسايس‪ ،‬ألنّه إذا كان من املمكن معرفتها فستكون ما هي عليه‬ ‫ٍّ‬ ‫الواقع‪ ،‬املا ّدة غري معروف ٍة بشكلٍ‬
‫ومن ثم ستصبح شكالً‪ .‬بحكم تعريفها‪ ،‬ستتوقّف عن كونها ما ّدة‪ ،‬عىل أنّها ليست شكالً‪ ،‬بل محض‬
‫الكريس وكتلة الخشب التي‬
‫ّ‬ ‫إمكان ّية‪ .‬ت ُستخدم أمثل ٌة شائعة لوصف العالقة بني الشكل واملا ّدة‪ ،‬مثل‬
‫كريس‬
‫ّ‬ ‫الكريس‪ ،‬حيث من املحتمل أن يكون هناك‬ ‫ّ‬ ‫يتم نحتها منها‪ .‬كتلة الخشب هي ما ّد ٌة لشكل‬
‫داخل تلك الكتلة من الخشب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن الخشب نفسه له شكله‪« ،‬خشبيّته»‪ ،‬بالطّريقة نفسها‬
‫الكريس بخاص َّية كونه كرس ًّيا‪ .‬ويف مثا ٍل من هذا القبيل‪ ،‬املا ّدة هي ما ّد ٌة ّ‬
‫بالضورة[[[‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫التي يتمتّع بها‬
‫الخاص بها‪ .‬واملقصود بهذه األمثلة أن توصلنا‪ ،‬من خالل سلسلة من‬ ‫ُّ‬ ‫لكل ما ّدة فيزيائ ّية شكلُها‬
‫إذ ّ‬
‫املوسع‪ ،‬إىل مفهوم الفعاليّة الخالصة من دون شكل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القياس‬
‫تحقيق لإلمكان‪ .‬من حالة اإلمكان‪ ،‬ينتقل اليشء إىل حالة الفعل‪ .‬الحركة‬
‫ٌ‬ ‫ذُكر أ َّن الحركة هي‬
‫ٍ‬
‫ملموس خارج‬ ‫(ذهني) ؛ يشري إىل عدم وجود كيانٍ‬
‫ٌّ‬ ‫ومفاهيمي‬
‫ٌّ‬ ‫يف)‬
‫عالئقي بحت (إضا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫هي يش ُء‬
‫العقل‪ .‬قد يقول املرء إنّه ليس له ما ّدة‪ ،‬وهو وصف للعالقة بني األشكال يف سياق االمتداد ال ّزمني‪.‬‬
‫أي‬
‫اآلن‪ ،‬إذا كانت الحركة هي العالقة بني الفعال َّية والفعل فقط‪ ،‬فيبقى أن نرى ما هو الفعل ومن ّ‬
‫ق َّوة نشأ‪ .‬من الواضح أ َّن الفعل هو وجود شكلٍ ما‪ ،‬مهام كانت صيغة وجوده‪ .‬وتُعزى اإلمكانات‬
‫املوجودة داخل األشياء إىل قطب املا َّدة‪ ،‬لكن املا َّدة ليست شيئًا ميكن أن ينشأ منه أي يشء أو‬
‫يتغي‪ .‬إ َّن االحتجاج باملسألة كإمكانيَّة ال يجيب حقًا عىل السؤال حول مكان وجود هذه‬ ‫ميكن أن ّ‬
‫الفعال َّية بالفعل‪.‬‬
‫(االعتباري) للام َّدة‪ ،‬ويف الواقع الشكل أيضً ا‪ ،‬يت ّم تعزيزه بشكل أكربعرب‬
‫ُّ‬ ‫هذا الوضع االفرتايضُّ‬
‫تجزئة األسباب األربعة بني الوجود واملاه ّية‪ ،‬حيث يكون الفاعل (‪ agent‬والغاية (‪)purpose‬‬
‫سببني للوجود‪ ،‬والشكل واملا ّدة علّتني للجوهر[[[‪ .‬هذا التقسيم هو نفسه التقسيامت األخرى‬
‫الرضوري والطارئ‪ ،‬التي ال‬
‫ُّ‬ ‫اللحق‪ ،‬السبب والنتيجة‪،‬‬
‫للوجود‪ ،‬أي التّقسيم إىل األولويَّة واألثر َّ‬

‫محط نقاش‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ما إذا كان أرسطو قد تب َّنى أي فكرة عن املادَّة الرئيس َّية أم ال‪ ،‬أو إذا كان عندما تحدَّ ث عن املادَّة‬ ‫ّ‬ ‫[[[ ‪ -‬إنَّه‬
‫يقصد بعض املادة أو غريها‪ ،‬مثل الربونز يف متثال برونزي‪ .‬وفقًا ملثل هذا الرأي‪ ،‬فإنَّ الربونز لديه القدرة عىل تلقّي شكل التمثال‪ ،‬لكن‬
‫أي نوع من املادَّة الرئيس َّية أو اإلمكان َّية الخالصة‪.‬‬
‫هذا ال ميكن إرجاعه إىل ِّ‬
‫[[[‪ -‬أنظر الشواهد الربوب ّية‪.77-76 ،‬‬

‫‪206‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫تغي حقيقة أ َّن الهدف من هذه التّوصيفات ليس سوى الحقيقة الوحيدة للوجود‪ .‬إنّها جمي ًعا ُمج َّردة‬ ‫ّ‬
‫( ُمنتزعة) من هذا الواقع الواحد‪ .‬يجب أن نتذكّر أنّه عند تقسيم العلل األربع بني الوجود واملاهيَّة‪،‬‬
‫فإ ّن املرء يشري إىل الوجود بقدر ما ميكن أن يكون إسنا ًدا لبعض ماه ّيته‪ .‬هذا يعني أ ّن “الفاعل”‬
‫و”الغاية” هام علّتان لـ “مفهوم الوجود”بقدر ارتباطها بالجوهر‪ .‬ألنّه عند الحديث عن العلل األربع‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫للعامل والغاية والشّ كل واملا ّدة‪ ،‬فقد ات ّخذ املرء بالفعل نقطة البداية ملاهيّ ٍة نُسب إليها الوجود‬
‫يل‪ ،‬يف حني أنّه من‬ ‫انعكاس مؤقّت للوضع الفع ّ‬
‫ٌ‬ ‫بالفعل‪ .‬هذا يسمح للمرء مبناقشة املاهيَّات ولك ّنه‬
‫املمكن التّح ُّدث عن الوجود عىل أنّه سمة من سامت املاه ّية يف العقل‪ ،‬إلّ أ ّن األمر كذلك فقط‬
‫أل َّن املاه َّيات نفسها مج َّردة من واقع‪ ،‬وليس من مفهوم الوجود‪ .‬فقط يف مجال املكان والزمان‬
‫تكون األسباب األربعة هي أربعة يف العدد‪ ،‬ألنّه يف عامل الفكر ال توجد ما ّدة والسبب األ ّول متطابق‬
‫السبب النهايئ أو الغرض النهايئ‪ .‬هذا يعني أنه ال يوجد إمكان و «لِم» هي ذاتها «ماذا»‪ .‬يف‬ ‫مع ّ‬
‫يئ وقوة‬ ‫اللنها ّ‬
‫النهاية‪ ،‬يجب أن تكون هذه القوة التي ينتقل منها اليشء إىل الفعل هي االحتامل َّ‬
‫كل شكل موجود يف املكان وال ّزمان ينبع من الله‪.‬‬ ‫الله‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫الصفة ليست شيئًا مثل األشياء األخرى ولكن ميكن اعتبارها‬ ‫املا ّدة الرئيس َّية أو اإلمكانات ّ‬
‫متثيل للحالة‪ ،‬أي أ َّن الله لديه القدرة عىل إظهاراألشياء يف مجال املكان والزمان‪ ،‬مجال االنقسام‬ ‫ً‬
‫ألي قيو ٍد أو انفصا ٍل أو نسب ّية‪.‬‬
‫واالنفصال‪ .‬األشكال يف العقل ُمج ّردة من املا ّدة‪ ،‬وبالتايل ال تخضع ِّ‬
‫رصف يف حالة يت ُّم فيها «الكشف» متا ًما عن بعضها البعض‪ .‬ميثّل مفهوم‬ ‫جميعها موجودة وتت َّ‬
‫املادة األول َّية أو اإلمكانات البحتة حقيقة أن األشكال موجودة أيضً ا يف عامل تخضع فيه للتقييد‬
‫والزمني أو التّعاقب‪ [[[.‬وبالتايل‪ ،‬فإ ّن ما نفشل يف معرفته عن‬‫ِّ‬ ‫ين‬
‫والعالقة ‪ -‬عامل االمتداد املكا ِّ‬
‫يشء ما ليس شيئًا عىل هذا النحو‪ ،‬ولك ّنه جهل بعالقته بأشكال أخرى متعاقبة‪ ،‬سواء أكانت مكان ّية‬
‫رضا بالكامل لجميع األشكال األخرى‪ ،‬حيث ت ُقيّد بعضها عن‬ ‫معي ليس حا ً‬ ‫أم زمانيّة‪ .‬أي شكل ّ‬
‫يفس مجهول األشياء واألحداث يف ح ِّد ذاتها‬ ‫البعض يف املكان والزمان‪ .‬هذا الفصل هو الّذي ّ‬
‫يف العامل‪ .‬فنحن نس ّمي األمور غامض ًة ألنّنا ال نفهم أهم َّيتها أو معناها الكامل يف السياق الذي‬
‫وتظل املا َّدة مجهولة لألبد ألنّها ليست شيئًا يجب معرفته‪ :‬إنّها حقيقة أ ّن األشكال‬ ‫ّ‬ ‫نجدها فيه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ذُكر سابقًا أنَّ مفهوم الوجود ليس رضوريًّا مليتافرييقيا ابن عريب‪ ،‬وأنا هنا أقرتح أنَّ مسألة املادَّة األول َّية أو اإلمكانات النق َّية ميكن إعادة‬
‫املل صدرا‪ ،‬فإن استخدام مفهوم اإلمكانات الخالصة‬ ‫صياغتها خارج قالب الهيلومورفيزم‪ .‬رغم أنَّ الفضاء ال يسمح‪ ،‬وهو ما أحاجج لدى َّ‬
‫الرئييس للتقاليد املشائ َّية‪ ،‬وجزء من عبقريَّة صدرا‬
‫ُّ‬ ‫واملادَّة الرئيس َّية ليس رضوريًّا باملثل‪ ،‬وهو يف الواقع نتيجة لحقيقة أنَّ صدرا هو الوريث‬
‫الخاصة‪ .‬يستخدم صدرا يف الواقع طرقًا مختلفة ملعالجة العالقة بني‬ ‫َّ‬ ‫هو يف دمج مفاهيم مختلف املسارات الفكريَّة يف رؤيته امليتافيزيق َّية‬
‫األشكال‪ .‬من بينها الزوج املفاهيمي الصورة واملعنى‪ ،‬الشائعة يف الصوف َّية والفلسفة‪ ،‬والتي تقسم اليشء إىل خالصات شكل َّية وخالصات‬
‫التوسع (الوجود‬
‫ُّ‬ ‫غري شكل َّية ترسلها‪( .‬أتعامل مع هذا السؤال بإسهاب أكرب يف ترجمتي لـ الفصوص) كام أنَّ مفهوم الوجود الذايت‬
‫املنبسط) الذي سبق ذكره‪ ،‬والذي يتوافق إىل حدٍّ كبري مع أنفاس الرحمة (نفس الرحمن) يف التص ُّوف‪ ،‬يضع طريقة للتعامل مع وجود العامل‬
‫من دون اللُّجوء إىل التشكُّل الهيلوموريف‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫حقول التنظير‬

‫تواجه بعضها البعض‪ ،‬كام كانت‪ ،‬من مسافة أنطولوجيَّة‪ .‬وهي عندما تدخل يف مجال ما يتم حجبها‬
‫عن بعضها البعض‪ ،‬بينام يف العقل‪ ،‬تنكشف متا ًما‪ .‬مبعنى ما‪ ،‬ما نفشل يف معرفته هو الشكل أو‬
‫املعنى الذي يح ّدد طبيعة هذا االنفصال والتّعاقب‪ .‬يقول صدرا يف املشاعر‪”،‬املعرفة ليست سوى‬
‫حضور الوجود من دون حجاب‪ [[[”.‬ميكن ال ّنظر إىل املا ّدة عىل أنّها الحجاب الّذي مينع حدوث‬
‫هذا الحضور‪ ،‬وبالتّايل املعرفة‪ .‬عندما تنبثق األشكال من العقل‪ ،‬فإنّها ترتك حالة االندماج من‬
‫دون الخلط‪ ،‬وتبدأ هذه املسافة األنطولوجيَّة يف التّطور بينها‪ .‬وتدخل األشكال يف حالة التّعاقب‬
‫والتّكرار‪ ،‬سواء يف وضع دينامييك (الزمان) أم يف وضع ثابت (املكان)‪.‬‬
‫تفس الظّروف‬
‫هذه العملية املتض ّمنة خروج األشكال من العقل واالبتعاد عن بعضها البعض ّ‬
‫املكان ّية‪-‬ال ّزمان ّية وظروف واالنفصال والعالقة والتّكرار والتعاقب‪ .‬وبرؤية املسألة وفهمها من‬
‫خالصا‪ ،‬يشري هذا يف النهاية إىل حالة الذات أو املوضوع الذي مل يكتمل‬ ‫ً‬ ‫منظور كون املا ّدة إمكانًا‬
‫يتلق كامل وجوده من الله يف اللّحظة ال ّزمن َّية الّتي يجد نفسه فيها‪( .‬سنعود إىل هذه‬ ‫بعد‪ ،‬أي الذي مل َّ‬
‫النقطة األخرية عند مناقشة الحركة الجوهريّة)‪ .‬هذه هي الظّروف الّتي تصبح فيها املا ّدة املفهوم‬
‫الشامل‪ .‬وهذا ال يد ّمر فائدته كمفهوم‪ ،‬وال يهدف إىل معالجة االستخدامات األخرى لكلمة «ما ّدة»‬
‫يف كتابات صدرا‪ ،‬والّتي ال تشري إىل اإلمكان ّية البحتة‪.‬‬

‫الديمومة واالنفصال‬
‫ميكن أيضً ا الحديث عن االنفصال والتّعاقب من حيث االنفصال أو االنقطاع‪ .‬تعاين الكينونات‬
‫املختلفة يف املكان والزمان من عدم االستمراريَّة بسبب وجود االمتداد ذاته‪ ،‬حيث يت ّم فصلها عن‬
‫بدرجات متفاوت ٍة يف املكان والزمان‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬من الصحيح أيضً ا أ ّن الكيانات‬ ‫ٍ‬ ‫بعضها البعض‬
‫املوزّعة عرب املكان والزمان تتفاعل وتتغلّب عىل حالة انفصالها‪ ،‬وتقع يف ترتيب ميكن فهمه‬
‫السبب وال ّنتيجة‪ .‬نحن اآلن‪ ،‬نعمل عاد ًة وفق االفرتاض أ ّن‬ ‫ٍ‬
‫عالقات ميكن التّن ّبؤ بها بني ّ‬ ‫ُمظهر ًة‬
‫تفس استمراريَّة العامل وغياب الفوىض الكاملة‪ .‬يهدف مفهوم القانون‬ ‫قوانني املكان والزمان ّ‬
‫رض لكون‬ ‫الطبيعي إىل تزويدنا بتفسري لالستمراريَّة وال ّنظام‪ ،‬ولكن ناد ًرا ما يت ّم تقديم تفسري ُم ٍ‬
‫ِّ‬
‫هذه القوانني عىل حقيقتها‪ ،‬أو من أين أتت‪ ،‬أو ملاذا تعمل دامئًا‪ .‬كام هو مفهوم بشكلٍ عام‪ ،‬هذه‬
‫تعميامت للسلوك املرصود‪ .‬وإنّها ليست تفسرييّةً‪ ،‬بل وصف َّية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫القوانني يف الواقع ليست أكرث من‬
‫الص ّمء التي ال حياة فيها[[[‪.‬‬
‫يبدأ التّصور الحديث للعامل املا ّدي من فكرة «املا ّدة» ّ‬

‫[[[‪ -‬أنظر هـ‪ .‬كوربن كتاب االخرتاقات امليتافيزيق َّية‪ ،‬طهران ‪ -‬باريس‪.1964 ،‬‬

‫الفلسفي الدقيق لذلك الذي يتلقَّى‬


‫ِّ‬ ‫ّي‪ ،‬عىل عكس التعريف‬
‫يتم استخدام املادَّة باملعنى الحديث لكونها «أشياء» العامل املاد َّ‬
‫[[[‪ -‬هنا‪ُّ ،‬‬
‫شكل يشء ما‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫ميكننا فحص هذا االفرتاض يف ضوء تجربتنا الذّاتية وإظهار أنّه نقطة انطالق اعتباطيّة‪ .‬تجربتنا‬
‫األكرث فوريّ ًة ومركزي ًة متثّل وعينا وحياتنا ذات َهام‪ .‬فاملوضوع ‪ -‬ذاتنا – تعيش‪ ،‬وتعرف‪ ،‬وتشاء‪.‬‬
‫يل أو ال ّرؤية الكون ّية الّتي نبنيها يف خيالنا‪ ،‬فالشّ خص الّذي يفرتض أ ّن‬
‫بغض ال ّنظر عن اإلطار العق ِّ‬ ‫ّ‬
‫األسايس أو األصالة‬
‫ِّ‬ ‫حي وواعي‪ .‬إ ّن تعيينه للواقع‬ ‫العامل ما ّدة ال حياة فيها يفعل ذلك كموضو ٍع ٍّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫غي حقيقة أنّه هو الّذي يفعل ذلك‪ ،‬وأ ّن «هو« أو «أنا» الّذي‬ ‫(‪ )principality‬لفكرة خارج نفسه ال يُ ّ‬
‫أسايس خاضع للعمل هنا‪:‬‬‫ٌّ‬ ‫انعكاس‬
‫ٌ‬ ‫يفعل ذلك ال ميكنه الهروب من وعيه وحياته وإرادته‪ُ .‬هناك‬
‫كل من الحياة والوعي من تلك الّتي ال حياة لها وال وعي بها ‪ ،‬وهو استنتاج يبدأ يف ح ِّد‬ ‫ينشأ ٌّ‬
‫حي وينتهي بأولويّة «املا ّدة» الغب ّية الّتي ال حياة فيها‪ .‬يُنظر إىل الوعي والحياة عىل‬
‫وعي ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫ذاته من‬
‫الخاصة‪ ،‬تسبق حياتنا‬
‫َّ‬ ‫أنّهام ظاهرتان مصاحبتان للنشاط – تذكُّ ٌر بال حياة ‪ -‬للام ّدة‪ .‬لكن يف تجربتنا‬
‫بالضورة فكرة املا َّدة العمياء‪ .‬مبعنى ما‪ ،‬ال‬‫ّ‬ ‫أي فكرة عن انعدام الحياة‪ ،‬وكذلك يسبق وعينا‬ ‫ذات ُها ّ‬
‫ميكن للمرء إلّ أن يختار افرتاض أن األشياء يف العامل بال حياة من خالل إنكاراالختيار‪ ،‬ألنّه ال‬
‫الجزيئي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معي من ال ّنشاط‬
‫يوجد مقياس مشرتك بني أنفسنا الح َّية كام نعرفها ومفهوم الحياة كنوع ّ‬
‫ال ميكن أن تكون العالقة بني االثنني أب ًدا أكرث من عالقة ارتباط‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ميكن اعتبار العامل‬
‫ي ظاهرة من ظواهر فعل الحياة (حياة الله)‪ ،‬بدالً من أن يُنظر إىل الحياة عىل أنّها ظاهرة نشاط‬ ‫املا ّد ِّ‬
‫املا ّدة‪ .‬هذا التح ّول لالنعكاس يتوقَّف عىل الّتمييز بني مفهوم الحياة الذي نكتسبه من الخارج‬
‫وواقع الحياة الذي نختربه بحكم العيش‪ .‬إنّها مسألة االنتقال من مفهوم اليشء إىل واقعه‪ ،‬كام هو‬
‫مطلوب يف كثري من األحيان يف دراسة فلسفة صدرا[[[‪.‬‬
‫كل‬
‫وكل األشياء تحيى من خالل حياة الله‪ .‬الله يعلم َّ‬ ‫الحي‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫كل يشء هو‬ ‫إ ّن الله أ ّو ًل وقبل ِّ‬
‫وكل األشياء ت ُعرف من خالل معرفة الله‪ .‬هناك العديد من املوضوعات العارفة واألشياء‬ ‫يشء‪ُّ ،‬‬
‫كل املعرفة هي حقًا معرفة الله‪ ،‬كام يرشح‬ ‫املعروفة‪ ،‬والعديد من األعامل املعرفيَّة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫صدرا ببالغ ٍة يف املشاعر ويف األعامل األخرى‪ ،‬واملعرفة هي حضور الوجود بدون حجاب‪.‬‬
‫ين للمعرفة‪ ،‬ميكننا القول أنّه كلّام كان هناك كيان ما (أي حالة فرديَّة‬ ‫وبد ًءا من هذا املفهوم الكو ّ‬
‫خ ٍر يف العامل «من دون حجاب»‪ ،‬فإنّه يتع ّرف عليه أو يُدركه بقدر ما يكون‬ ‫رضا آل َ‬‫من الوجود) حا ً‬
‫رضا له يف العامل‪ ،‬فيكون إدراكه أو معرفته بطريقة تتناسب مع مستوى الوجود‬ ‫هذا املوجود حا ً‬
‫بالضورة تصلح من وجهة نظر التّع ُّدد‪ ،‬ألنّه من وجهة نظر الله‪ ،‬ال توجد‬ ‫ّ‬ ‫الخاص به‪ .‬هذه العبارة‬
‫مرتاصة ومتجانسة‪ ،‬فسيبدو هذا التأكيد عبث ًّيا‪ .‬من‬
‫ّ‬ ‫حجب‪ .‬إذا كان يُنظر إىل املعرفة عىل أنّها حقيقة‬
‫الرضوري تص ّور املعرفة عىل أنّها مشقّقة (‪ ،)gradated‬وهي واحدة يف الحقيقة إنّ ا تحتوي عىل‬ ‫ِّ‬

‫[[[‪ -‬ولالطِّالع عىل مناقشة مفصلة لهذا املوضوع‪ ،‬أنظر توشيكو ايسوتزو مفهوم الوجود وواقعه‪ ،‬توكيو ‪.1971‬‬

‫‪209‬‬
‫حقول التنظير‬

‫والقوي للمعرفة عىل أنّها حضور من‬


‫ّ‬ ‫مستويات وأمناط متن ّوعة‪ .‬كام سرنى‪ ،‬تعريف صدرا ال ّراقي‬
‫دون حجاب‪ -‬الذي يرقى يف النهاية إىل االتحاد (‪ )union‬بني العارف واملعرفة واملعروف ‪-‬يفتح‬
‫الباب أمام فهم طبيعة الكينونات أثناء تفاعلها يف املكان والزمان‪.‬‬
‫إذا استطعنا تص ُّور أ ّن املعادن متتلك وعيًا وحيا ًة متناسبني مع نوعها يف الوجود‪ ،‬لن يكون عص ًّيا‬
‫عندئذ تص ّور أنّها متلك إرادة‪ .‬هذه اإلرادة ليست مثل إرادتنا بالطّبع‪ ،‬لك ّنها ليست مختلفة متا ًما‪،‬‬
‫الصعب تص ُّورها عىل‬
‫أل ّن جميع أعامل اإلرادة يف الواقع هي إرادة الله‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬ليس من ّ‬
‫أنّها متتلك سلط ًة لتنفيذ هذه اإلرادة‪ ،‬كام نفعل نحن‪ .‬وم ّر ًة أخرى‪ ،‬ستكون هذه اإلرادة تتناسب مع‬
‫املعني‪ ،‬ويف ال ّنهاية ميكن أن تكون قوة الله فقط‪ .‬وأن يكون لزا ًما عىل‬
‫ّ‬ ‫مستوى أو أسلوب الكائن‬
‫الصفات أن تكون عىل تعاون مستفيض ينبع من وحدانية الوجود‪.‬‬ ‫هذه ّ‬
‫رصف‪ .‬إذ ليست األشياء يف هذا‬ ‫رصف الكينونات يف العامل كام تت َّ‬ ‫هذا يجيب عىل إشكاليَّة ت ِّ‬
‫رصف‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪،‬‬ ‫العامل عميا ًء أو بال حياة عىل اإلطالق‪ .‬إنّ ا هي ح َّية وقادرة عىل اإلدراك والتّ ُّ‬
‫الخاص َّية‬
‫ّ‬ ‫خاص َّية املعرفة الحارضة يف جامدات العامل أن ت ُقيم يف‬ ‫ّ‬ ‫مستحيل بال ّنسبة إىل‬
‫ً‬ ‫سيكون‬
‫أي فعل من اإلدراك هو عمل من أعامل‬ ‫الفيزيائ َّية لهذه الجامدات‪ .‬كام نرى يف حالة اإلنسان‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫االندماج‪ ،‬ويجب أن يتجاوز املوضوع املتص َّور االمتداد‪ ،‬الّذي تندمج أجزاؤه املتباينة يف فعل‬
‫[[[‬
‫الوعي بطريق ٍة ما‪ .‬مهام كان اليشء بدائ ًّيا أو بسيطًا‪ ،‬يجب أن يكون له جانب من الذكاء أو املعرفة‬
‫رصف وفقًا لطبيعته‪ .‬ميكن للمرء أن يقول إ ّن الصخرة تعرف أنّها‬ ‫الذي مبوجبهام يبقى كام هو ويت ّ‬
‫الصخري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املادي‬
‫َّ‬ ‫الصخرة‪ ،‬وهذه املعرفة منخفضة املستوى ال تزال تتجاوز الجسم‬ ‫رصف مثل ّ‬ ‫تت َّ‬
‫كل األشياء‪ ،‬من الحيوانات إىل املعادن‪ ،‬واملعادن التي تدخل يف تكوين جسم الحيوان‪ ،‬تطيع‬ ‫ُّ‬
‫الفطرة‪ ،‬أو القاعدة البدائ َّية (‪ .)primordial norm‬إ ّن اإلنسان وحده‪ ،‬ممتلكًا «إرادة متعالية» قادر‬
‫للسلوك الواعي لجميع‬ ‫وصف ّ‬ ‫ٌ‬ ‫عىل معارضة الفطرة‪ .‬ميكن ال ّنظر إىل القوانني الفيزيائ ّية عىل أنّها‬
‫كل ما يدخل يف تكوين‬ ‫رصف وفقًا للطبيعة التي منحها الله لها‪ُّ .‬‬ ‫الكينونات يف الوجود‪ ،‬الّتي تت ّ‬
‫«يعرف» أن يطري بعي ًدا عند مواجهة مطرق ٍة متأرجحة‪ .‬إن وجود الصخرة وذاك للمطرقة يدرك‬ ‫ُ‬ ‫صخر ٍة‬
‫رص ّف إزاء بعضه بوعي‪ .‬ونظ ًرا ألنّها ال تخرج عن الفطرة‪ ،‬فإ ّن كيانات الوجود‬ ‫بعضه بعضً ا ويت َّ‬
‫كل م ّرة‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬لدى هذه الكيانات فقط أضعف شكل من‬ ‫رصف بنفس الطّريقة يف ّ‬ ‫املادي تت ّ‬
‫ّ‬
‫ين‪ ،‬يكون تكرار األشكال عند الح ِّد األقىص‬ ‫أشكال الوعي‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬والق ّوة‪ .‬عىل املستوى املعد ِّ‬

‫يتم تحريكه كمالئكة‪ ،‬والتي غال ًبا ما‬


‫كل كائن يف الكون ُّ‬
‫التقليدي عندما يقول املرء أن َّ‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬هذا هو املقصود يف علم الكون َّيات‬
‫يتم التحدُّ ث عنها يف امليتافيزيقيا الصوف َّية والفلسفة اإلسالم َّية عىل أنَّها أرواح وفكر خالص‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪210‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫الصفات‬‫بينام تكون الهويَّة الشخصيَّة عند الح ِّد األدىن‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن األشياء املا ّديَّة متتلك هذه ّ‬
‫رصف يف‬ ‫حكم كونِها وجو ًدا‪ ،‬وكونها حقيقيَّة‪ .‬يف ال ّنهاية‪ ،‬الله هو الّذي يعرف نفسه ويت َّ‬ ‫إىل ح ٍّد ما ب ُ‬
‫الخارجي للعامل هو مظه ٌر‬
‫ُّ‬ ‫بغض ال ّنظر عن طريقة متظهر هذا الوجود‪ .‬االنسجام‬ ‫ي‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫حدث ما ّد ٍّ‬ ‫كل‬
‫ّ‬
‫اإللهي والجامل‪ .‬وهكذا‪ ،‬نبدأ بحياة الله‬
‫ِّ‬ ‫ووعي يتكشّ ف عن التّناغم‬
‫ٌ‬ ‫من مظاهر حكمة وطبيعة الله‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ووعيه وننتهي بالقوانني الفيزيائيَّة‪ ،‬بدالً من البدء بالقوانني الفيزيائيَّة املوجودة مسبقًا واملواد التي‬
‫ال حياة لها للوصول بطريقة ما إىل الحياة والوعي‪.‬‬
‫الطبيعي من مسألة س ّد الثّغرات أو االنقطاعات ال ّناجمة عن‬
‫ِّ‬ ‫بدأت هذه املناقشة للقانون‬
‫االنفصال والتّعاقب‪ .‬من وجهة نظر اإلنسان‪ ،‬ميكن االستمراريَّة يف املكان والزمان من خالل قوى‬
‫معي ككل‪ ،‬ليس فقط‬ ‫حس ّ‬ ‫أو قدرات روحه‪ .‬يف الفضاء‪ ،‬يكون اإلنسان قاد ًرا عىل إدراك مجال ّ ٍّ‬
‫حاسة ال ّرؤية لدى اإلنسان تعمل كسلسلة من ردود الفعل‬‫كسلسلة من األجزاء‪ .‬اآلن‪ ،‬قد نزعم أ ّن ّ‬
‫الرسيَّة التي إن أُخذت م ًعا يف الحسبان تشكّل ّ‬
‫حاسة البرص لدينا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن هذا ال يأخذ يف‬
‫ين أو الثّابت‪ .‬قد تكون اآللة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قادرة عىل «تخزين»‬ ‫االعتبار تجربة الكامل املكا ِّ‬
‫يئّ‪.‬‬
‫ح ّيز واسع من اإلدراك‪ .‬ميكن تركيز الصورة الكبرية عىل مساحة صغرية‪ ،‬أو تحويلها إىل رمز ثنا ْ‬
‫كل حالة‪ ،‬يستم ُّر النشاط «شيئًا فشيئًا»‪ ،‬ويحايك الكامل فحسب من خالل تنظيم‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬يف ِّ‬
‫هذه األجزاء من املعلومات مبعدل رسعة مرتفع‪ .‬املرآة‪ ،‬إلرداف مثال آخر‪ ،‬تعكس صور ًة كاملة‪،‬‬
‫لك ّنها تعكس ذلك كسلسل ٍة من األجزاء‪ .‬حتى لو كانت كلّيّة البرص لدينا عىل املستوى املا ّد ِّ‬
‫ي‬
‫يفس تجربة الكامل نفسها‪ .‬االستمراريَّة أو الكامل جزء من وعينا‪ ،‬الذي‬ ‫ك ّم ّية بطريق ٍة ما‪ ،‬فإ ّن هذا ال ّ‬
‫املادي فقط‪ ،‬أل ّن األشياء‬
‫ِّ‬ ‫املادي‪ .‬ال ميكن حساب هذه الكامل من قبل العامل‬ ‫ّ‬ ‫يتجاوز املجال‬
‫رسا من داخل االمتداد‪.‬‬ ‫منفصلة عن بعضها البعض بقدر ما هي ما ّديّة‪ .‬ال ميكن للمرء أن مي ّد ج ً‬
‫يجب أن يأيت فعل االندماج من وراء االمتداد‪ .‬إنّه من خالل قوى الروح‪ ،‬الّتي تتجاوز املجال‬
‫ي‪ ،‬ميكن للمرء أن يُدرك الكامل يف الفضاء دون مرور الوقت‪.‬‬ ‫املا ّد َّ‬
‫ت ُشكّل ال ّروح أيضً ا استمراريَّ ًة خارج ال ّزمن‪ .‬ميكن أن تفشل ذاكرة املرء بدرجات مختلفة‪ ،‬ولكن‬
‫ال يجد املرء أب ًدا م ّدة أقل من اللّحظات التي ال تشكّل سلسلة متَّصلة ميكن متييزها‪ .‬من خالل‬
‫قدرتها عىل تخزين األشكال التي تدركها واستعادتها‪ ،‬تشكّل ال ّروح استمراريَّ ًة بني اللّحظة املاضية‬
‫مم‬
‫واللّحظة الحال ّية‪ .‬باإلضافة إىل ذاكرتها‪ ،‬متتلك ال ّروح قدرة خيال َّية لخلق أشكال داخل نفسها‪ّ ،‬‬
‫الخاصيّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يسمح لها بعالقة مع اللّحظة املستقبليَّة وكذلك مع اللّحظات األخرى‪ .‬من دون هذه‬
‫إل يف اتجاه‬ ‫ستنهار اللَّحظة الحال َّية إىل األبد يف املايض؛ مبعنى ما‪ ،‬لن تكون هناك استمراريَّة َّ‬
‫زمني واحد‪ .‬مبعنى ما‪ ،‬لن تكون هناك استمراريَّة إلّ يف اتجا ٍه ٍّ‬
‫زمني واحد‪ .‬إ ّن مجموع هذه الكلّ ّيات‬ ‫ٍّ‬

‫‪211‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يفس استمراريَّة تجربتنا ال ّزمن َّية ‪ -‬املايض والحارض واملستقبل‪ .‬أوضح مظهر لهذه‬ ‫هو الّذي ّ‬
‫الصوت‪ُ .‬يكن لنغمة أو صوت أن يوجد فقط يف إطار فرتة زمن ّية ونظ ًرا‬ ‫االستمراريَّة هو تجربتنا مع ّ‬
‫إلدراكنا املستم ّر لتلك الفرتة‪ .‬من دون الذّاكرة‪ ،‬فإ ّن العالقات بني األحداث يف ال ّزمن‪ ،‬كاهتزازات‬
‫مثل‪ ،‬لن تصل إىل يشء وكذلك تجربتنا مع الصوت‪ .‬من دون الخيال‪ ،‬سيكون هذا التّص ّور‬ ‫القصب ً‬
‫إل كمسألة ذاكرة‪.‬‬ ‫الصوت يف اللّحظة الحال ّية موجو ًدا َّ‬
‫إىل ح ٍّد ما سلب ًّيا متا ًما‪ ،‬ولن يكون معنى ّ‬
‫الصوت وعيش «العالقة بني اللّحظات» يف تلك اللّحظات‪ .‬وهذا يعني أ ّن‬ ‫يتيح لنا خيالُنا «توقّع» ّ‬
‫ُ‬
‫بع ًدا من االستمراريَّة مع اللَّحظة املستقبل َّية يت ّم إنشاؤه ألنّنا من خالل كلّ ّية الخيال لدينا القدرة عىل‬
‫جلب ق ّوة متكاملة إىل التّص ّور‪.‬‬

‫المادة واحلوادث يف الذات والعالم‪:‬‬


‫ُيكن لإلنسان أن ينظر إىل املكان وال ّزمان عىل أنّهام أكرث من مج ّرد سلسلة من األجزاء أل ّن‬
‫اإلنسان نفسه يشكّل وحدة كاملة‪ ،‬سواء يف املكان أو يف ال ّزمان وخارجهام‪ .‬اإلنسان ال يعرف‬
‫الخاص‪ .‬يف املكان يعرف روحه‬ ‫ّ‬ ‫فحسب‪ ،‬بل يعرف نفسه أيضً ا ويعرف أنّه يعرف‪ .‬إنّه يدرك وعيه‬
‫ككل‪ ،‬وليس مجموعة من الكلّيّات‪ ،‬ويف ال ّزمان هو شاه ٌد دائ ٌم عىل روحه طوال مرور اللّحظات‪.‬‬
‫تظل هي نفسها‬ ‫كل من هذين التص ّو َرين ولديها تص ّورات جديدة بينام ّ‬ ‫تتغي الذّات التي ت َعرف ّ‬
‫ّ‬
‫الذّات الّتي تعرف‪ .‬ماه ّية اإلنسان (الجوهر) هو هذا الوعي ال ّدائم الطّواع ّية له ومحورمزاياه تلك‪.‬‬
‫تدل عىل أنّه يخضع لها كروح‪.‬‬ ‫إ ّن الحوادث («أعراض») االنسان هي التّح ّوالت املختلفة الّتي ّ‬
‫االستمرارية أو الكامل الذي يجمع هذه الجوانب العرضية للذات هو الجانب األسايس للذّات‪.‬‬
‫الجملة‪« ،‬أعرف نفيس»‪ ،‬هي تعبري عن العالقة بني املادة والحوادث داخل اإلنسان‪ .‬الـ«أنا» حارضة‬
‫تتغي‪ ،‬ولكن حقيقةً‪« ،‬أنا نفيس»‪ .‬إنّها نفس واحدة‪ ،‬يُنظر إليها عىل أنّها ما ّدة من‬
‫دامئًا بينام «نفيس» ّ‬
‫وجهة نظر وحادث من وجهة نظر أخرى‪.‬‬
‫إ ّن البدء من الذّات ِعوضً ا عن يشء ما من الجامدات يف العامل ملناقشة املا ّدة والحوادث‬
‫يُسلّط الضّ وء عىل هذه الطّريقة املع ّينة لتحليل الجامدات يف تجربتنا‪ .‬عىل أساس استمراريَّة ذاتنا‪،‬‬
‫ميكننا إصدار أحكام مثل‪« ،‬زيد الطفل هو نفس زيد البالغ»‪.‬ميكننا اإلدالء مبثل هذه األقوال ألنّني‬
‫طفل‪ ،‬رغم أ ّن «أنا» ُمختلف ٌة من نوا ٍ‬
‫ح كثرية‪ .‬بنا ًء عىل‬ ‫«أنا» نفس «أنا» الّتي كنت عليها عندما كنت ً‬
‫هذه املقاربة عىل أنفسنا‪ ،‬من ّيزهذه االستمراريَّة لدى الرجال اآلخرين‪ .‬ماذا يحدث إذن عندما نأيت‬
‫ط الفاصل بني املا ّدة والحادث‪ ،‬أو بني ما ّدتني‬ ‫إىل األشياء األخرى يف العامل ؟ أين نرسم الخ ّ‬
‫مختلفتني؟ يف الجدار األبيض‪ ،‬نقول إ ّن الجدار هو املا ّدة بينام البياض ميثّل الحادث‪ ،‬أل ّن الجدار‬
‫أي يشء ليكون جدا ًرا بينام البياض يتطلّب شيئًا أبيض‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكن للمرء أن‬ ‫ال يعتمد عىل ّ‬

‫‪212‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫يأخذ الجدار واألرضيّة م ًعا بسهولة كام ّدة واحدة‪ ،‬ويستم ّر بهذه الطّريقة حتّى يُنظر إىل العامل بأرسه‬
‫وأي جسم نح ّدده كام ّدة بهذه الطّريقة ال يسمح‬ ‫عىل أنّه ما ّدة واحدة مؤ ّهلة بحوادث ال حرص لها‪ّ .‬‬
‫ري الحكمِ عىل حدو ِدها ميكن‬ ‫بهذا التّعريف إال مؤقّتًا؛ وال ميكن اعتباره ما ّدة بطريق ٍة مطلقة أل ّن معاي َ‬
‫دامئًا إثبات أنّها مسأل ٌة تفضيل ّية[[[‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫تتغي وال‬
‫نقول هذا أل ّن العالقة األوىل بني املواد والحوادث الّتي نعرفها هي عن أنفسنا‪ ،‬والّتي ّ‬
‫تتغي‪ .‬وعندما نحاول متييز العالقة نفسها يف العامل‪ ،‬فإنّنا نفشل يف النهاية ألنّنا ننظر إىل الكيانات‬ ‫ّ‬
‫أساس العالقة بني املواد والحوادث كام نراها‬ ‫ُ‬ ‫يف العامل كجامدات‪ ،‬كأشياء‪ ،‬ماثلة ببساطة أمامنا‪.‬‬
‫يف أنفسنا هو طبيعة وعينا‪ ،‬وهو موضوع ُمدرِك ويعرف نفسه‪ ،‬ويكون فب الوقت نفسه موضو ًعا‬
‫(‪ )subject‬وجام ًد (‪ . )object‬من املستحيل نقل مثل هذه العالقة إىل ما هو مج ّرد جامد (‪،)object‬‬
‫السبب يف أ ّن الحدود الّتي‬
‫وهي عادة الطّريقة التي يُنظر بها إىل «ما ّدة» مع ّينة يف العامل‪ .‬هذا هو ّ‬
‫نرسمها للمواد يف العامل‪ ،‬إذا كان يُنظر إليها ببساطة عىل أنّها موجودة‪ ،‬ميكن أن تكون سارية‬
‫السبب يف أنّها ستنهار دامئًا من ال ّناحية املفاهيميَّة إىل ما ّدة واحدة‪ .‬وعليه‬‫باالت ّفاق‪ ،‬وهذا أيضً ا هو ّ‬
‫ال توجد قابل َّية للتّناسب بني التّمييز بني املواد والحوادث عىل أساس معرفة الذّات والجسم املاثل‬
‫يف العامل الّذي يخضع لتغيريات يف الجودة‪ ،‬واملوقع‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ...‬ويف الحالة األوىل‪ ،‬ميكن‬
‫حا من الذّات‬‫تحديد املا ّدة بسهولة؛ إذ ال ميكن أن تفوت املرء‪ ،‬ألنّه ال يوجد يش ٌء أكرث وضو ً‬
‫تتغي‪ .‬األجسام يف العامل‪ ،‬إذا كان يُنظر إليها عىل أنّها‬ ‫املتغية باستمرار‪ ،‬أو الذّات الثّابتة التي ّ‬
‫ّ‬
‫البديهي‬
‫ّ‬ ‫كائنات فقط‪ ،‬ال متتلك مثل هذا الح ّد‬
‫للام ّدة‪ .‬يت ّم حل هذا التّفاوت من خالل فقه‬
‫التد ّرج (تشكيك) وتت ُّم إضاءة املزيد من خالل‬
‫فقه الحركة الجوهريَّة‪ .‬سرنى أن مفهوم املا ّدة‬
‫ٍ‬
‫هادف عىل األشياء الفرديّة‬ ‫ميكن تطبيقه بشكلٍ‬
‫املوجودة خارجنا إذا كان يستند إىل متييز بني‬
‫املوضوع والجامد مامثلة لتلك الّتي تقوم عليها‬
‫ما ّديتنا وعرضيّتنا‪ .‬واأله ُّم من ذلك‪ ،‬يجب أن‬
‫نفهم كيف تجد هذه العالقة أصلها يف الله‪.‬‬

‫الخاصة به يف ما‬
‫َّ‬ ‫األشعري للجوهر من أجل اإلشارة إىل أوجه القصور‬‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬يف فصوص الحكم‪ ،‬يناقش ابن عريب يف الواقع املفهوم‬
‫الخاصة‪ .‬طبقًا له‪ ،‬فهم محقّون يف قولهم إنَّ العامل مادَّة واحدة‪ ،‬لك َّنهم يخطئون يف االعتقاد بأنّه يشء منفصل متا ًما عن الله‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يتعلَّق بنظر َّيته‬

‫‪213‬‬
‫حقول التنظير‬

‫َّ‬
‫اإللهيان‪:‬‬ ‫املوضوع والكائن‬
‫تجل (‪)self-disclosure‬‬‫يف العامل‪ ،‬العالقة بني املا َّدة والحدث هي فيض (‪)emanation‬أو ٍّ‬
‫والصفات (‪.)sifat‬‬ ‫ّ‬ ‫اإللهي (‪ )al-Dhat‬واألسامء اإلله َّية ((‪”asma‬‬
‫ّ‬ ‫للعالقة بني الذّات أوالجوهر‬
‫والصفات اإلله ّية؛‬
‫ّ‬ ‫والصفات موجود أل ّن الجوهر يعرف نفسه بأنّه األسامء‬ ‫ّ‬ ‫التّمييز بني الجوهر‬
‫اإللهي ‪ ،Divine) (Object‬أي أ ّن الذّات‬ ‫َّ‬ ‫اإللهي (‪)Divine Subject‬يعرف الكائن‬ ‫ُّ‬ ‫املوضوع‬
‫الصفات اإلله ّية هي حقيقة واحدة‪ ،‬لك ّن فقه‬ ‫وكل صفة من ّ‬ ‫تعرف نفسها‪ .‬الجوهرهو حقيقة واحدة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مستويات وأمناطًا متع ّددة‪ .‬وبالتّايل‪ ،‬فإ ّن العالقة بني الجوهر‬ ‫التّد ّرج يذكّرنا بأ ّن هذه الوحدة تشمل‬
‫وتفس العالقة بني املا ّدة والحوادث يف العامل‪ .‬إن فعل الله مبعرفة‬ ‫ّ‬ ‫نفسها متد ّرجة‪،‬‬‫والصفات هي ُ‬ ‫ّ‬
‫نفسه ينبعث أو يكشف عنه وميثّل كل العالقات بني املوضوع والكائن يف العامل‪ .‬أل ّن الوجود‬ ‫َ‬
‫واحد ومتد ِّرج أو متع ِّدد البؤر‪ .‬إ ّن الجوهر يف ح ّد ذاته ليس ما ّد ًة تتع َّرض للحوادث؛ بل إ ّن املواد‬
‫الصفات هي‬ ‫تصقلها الحوادث يف العامل بحكم أن الجوهر مؤ ّهل بالصفات اإلله َّية‪ .‬يف العامل‪ّ ،‬‬
‫حوادث أل ّن الشّ خص الّذي يتلقّى هذه الحوادث يخضع لظروف املكان وال ّزمان‪ .‬ويف ما يتجاوز‬
‫يتغي‪ ،‬ألنّه ال توجد م ّدة زمنيّة‪ ،‬ويف‬
‫املكان والزمان‪ ،‬ال ت ُطرح مسألة الذّات أو املوضوع الذي ّ‬
‫الفضاء ال توجد العالقة واالستبعاد واالنفصال التي تقوم عليها فئات الحوادث‪ .‬ميكن ال ّنظر إىل‬
‫الصفات اإلله َّية كام هي معروفة و ُمختربة من خالل‬ ‫يت عن ّ‬
‫حوادث العامل عىل أنّها الكشف الذّا ُّ‬
‫الكشف عن الّذات اإلله َّية يف العامل‪ .‬مبعنى ما‪ ،‬نحن نعرف األشياء فقط من خالل حوادثها‪ ،‬لك ّن‬
‫هذه األشياء تعرف حوادثها بالطّريقة الّتي نعرف بها أنفسنا ككائنات‪ .‬هذا صحيح من اإلنسان إىل‬
‫املعدن‪ .‬ال ميكن أن تكون الذّات عىل هذا النحو جام ًدا‪ ،‬وعىل أعىل مستوى‪ ،‬لهذا السبب ال‬
‫اإللهي أو الذّات‪ ،‬ألنّه موضوع خالص‬ ‫َّ‬ ‫ميكننا أن نعرف ‪ -‬كموضوع ينظر إىل كائن ما ‪ -‬الجوهر‬
‫وليس شيئًا ميكن معرفته[[[‪.‬‬
‫من خالل الكشف عن نفسه وكشف جوهره نحو العدم‪ ،‬يت ُّم إدراك االحتامالت التي مل يكن‬
‫باملقدور تحقيقها لو مل يحدث هذا اإلفصاح أو الكشف عن الذات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن هذا الظهور‬
‫الجوهراإللهي ال ميثّل سوى نصف دائرة التّمظهر‪ .‬إذا اعتربنا الكيانات املنبثقة مج ّرد‬
‫ِّ‬ ‫ألشياء من‬
‫أشياء ماثلة أمامنا‪ ،‬فلن يكون هناك ما ينقذها من االنفصال والعدم الذي ت ّم إلقاؤها فيه‪ .‬سوف تغرق‬
‫صب‬
‫كل يشء يعود إىل الله‪ ،‬ولكن يجب أن يخرج من الله فقط للعودة إليه كعمل ّية ّ‬
‫يف ظالم دامس‪ُّ .‬‬
‫الصعود يختلف عن قوس الهبوط الذي ميثّل مظه ًرا من مظاهر األسامء‬ ‫وعودة هادفتني‪ ،‬أل ّن قوس ّ‬
‫والصفات اإللهيَّة يف مستويات متتالية من الفصل والقيود والحجاب‪ .‬قوس الصعود هو فعل الوعي‬‫ّ‬
‫[[[ ‪ -‬من وجهة نظر أخرى‪ ،‬ميكن للمرء أن يقول إنَّ الذات هي أيضً ا اليشء األعىل الذي ال يوجد قبله موضوع ميكنه معرفته‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫رضا‬
‫املفرد بأكمله (ومن وجهة نظر أخرى‪ ،‬هو العديد من أفعال الوعي‪ ،‬ألنّه متد ّرج هو اآلخر) حا ً‬
‫جا بينها وكاشفًا ال ّنقاب عنها وبالتّايل‬
‫يف جميع مستوياته وأوضاعه‪ ،‬سا ًّدا الفجوات بني األشياء‪ ،‬دام ً‬
‫جرس الفصل بني األشياء أو يشكّل‬ ‫إعادتها إىل الله‪ .‬يف كل م ّرة يقوم فيها تص ّور أو فعل وعي ب َ‬
‫استمراريَّة من االنقطاع‪ ،‬تصبح عالقة هذه األشياء معروفة لله‪ ،‬وبشكل ما تعود العالقة إىل الوحدة‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ريا «يُجعل واح ًدا» (التوحيد) أو يُدمج من خالل فعل الوعي‪ .‬إ ّن أي عمل معريف نسبي‬ ‫ما كان كث ً‬
‫هو يف الحقيقة فعل من الله العامل بكل االحتامالت املتن ّوعة لتفاعل أسامئه وصفاته‪.‬‬

‫اجلوهرية ّ‬
‫والطبيعة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫احلركة‬
‫حا بني الجوهر والحدث هي تجربتنا الذّاتيَّة‪ :‬موضوع‬ ‫كام سبق وذكرنا‪ ،‬فإ َّن العالقة األكرث وضو ً‬
‫متغيا‪ .‬ميكننا استخدام هذه التجربة أو املعرفة‬‫ًّ‬ ‫أو ذات ثابتة والتي تكون يف الوقت عينه كائ ًنا‬
‫بالذات‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬كنموذج لفهم كل من التّغيري والدميومة يف العامل‪ ،‬استمراريَّته وانقطاعه‪ .‬من‬
‫نقطة البداية للذّات ميكننا اكتساب فهم ملبدأ الحركة الجوهريَّة وق ّوتها‪ ،‬كمفهوم لرشح معنى التّغيري‬
‫والغرض منه يف عامل ال ّزمان واملكان‪.‬‬
‫عاد ًة ما يكون الحديث عن التّغيري يف ما ّدة اليشء موضع إشكال أل َّن ال ّنظر إىل املا َّدة بالشكلٍ‬
‫العادي‪ ،‬يؤ ّدي إىل تغيري يف فئة املوا ِّد إىل تغيري يف العنرص الثّابت الوحيد لليشء‪ .‬يف الواقع‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫بالضورة أ ّن التّغيري أو الحركة يف‬
‫ّ‬ ‫حا‬‫إذا كان يُنظر إىل اليشء عىل أنّه كائن فقط‪ ،‬سيكون صحي ً‬
‫الجوهر ستؤ ّدي إىل ظهور يشء مختلف متا ًما‪ ،‬أل ّن االستمراريَّة تكون قد تد َّمرت‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا‬
‫بتغيات‪ ،‬فإ ّن هذه املشكلة‬‫نظرنا إىل العالقة بني املا َّدة والحدث عىل أنَّها عالقة ذات َّية ثابتة مت ُّر ُّ‬
‫ال تنشأ‪ .‬من امله ِّم أن نتذكّر أنّنا نبني هذه املناقشة عىل التّجربة الفعليّة للذّات‪ ،‬وليس عىل مفهوم‬
‫الذّات‪ .‬األخري هو موضوع الفكر‪ ،‬وإذا ت ّم النظرإليه بهذه الطريقة فحسب‪ ،‬سيواجه املرء املشاكل‬
‫حا‬ ‫املذكورة أعاله يف ما يتعلَّق بحدود املا ّدة‪ .‬توفّر تجربة الذّات‪ ،‬الّتي متثّل هويَّتنا ذاتها‪ ،‬مفتا ً‬
‫بأي حا ٍل من األحوال وجود تلك‬ ‫لفهم فكرة الحركة الجوهريَّة أو التّغيري‪ .‬إ ّن منو الذّات ال يد ِّمر ِّ‬
‫الذّات كموضو ٍع لذلك ال ّنم ِّو‪ ،‬ال ّنابع من طبيعة ما يعنيه أن تكون ذاتًا‪ .‬مع من ِّو الذّات‪ ،‬تصبح أفعالها‬
‫اإلدراكيَّة‪ ،‬من أدىن مستوياتها إىل أعىل مستوياتها‪ ،‬أكرث فعاليّة‪ .‬إ ّن قدرتها عىل جرس االنقطاعات‬
‫يف تص ُّورها لنفسها وألشياء العامل وجعل الوحدة من التّع ُّدد تزداد ق َّوة‪ .‬ويتكثّف وع ُيها وانتبا ُهها‪.‬‬
‫بعي ًدا عن التّوقُّف عن الوجود نتيجة لهذه التّغيريات‪ ،‬تدرك الذّات يف ح ِّد ذاتها أنَّها أصبحت يف‬
‫الواقع نفسها أكرث‪ .‬هذا التّغيري والوجود ال ّدائم موجودان يف حالة اندماج من دون اختالط‪ .‬ات ّحا ٌد‬
‫كهذا بني متناقضني‪ ،‬التّغيري وال ّدميومة‪ ،‬يتحقّق من خالل الذّات‪ .‬إنّها تجربة ال ميكن اختزالها‬

‫‪215‬‬
‫حقول التنظير‬

‫إىل مفاهيم عقل َّية‪ .‬ميكن للمرء أن يكون لديه ما َّدة تتغيَّ أل َّن قول ما ّدة يعني يف الواقع قول ذات أو‬
‫موضوع‪ ،‬وطبيعة الذّات نفسها يف املكان والزمان (يف حالة اإلنسان) هي اتّحاد الثّبات والتّغيري‪،‬‬
‫تظل الحوادث عىل ما هي عليه‪ ،‬باستثناء أنّه يُنظر إليها اآلن‬ ‫الخاصة‪ّ .‬‬
‫َّ‬ ‫كام تشهد عىل ذلك تجربتنا‬
‫لذات ثابت ٍة تشهد عىل هذه التّغيريات‪ .‬من هنا ميكن للمرء أن يقول‬ ‫ٍ‬ ‫كل يشء عىل أنّها تغيرياتٌ‬ ‫يف ِّ‬
‫تتغي وتلتزم‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬الطّبيعة هي التي تحدث فيها‬ ‫إنّه يف املكان وال ّزمان من طبيعة الذّات أن ّ‬
‫الحركة أو التّغيري‪ ،‬ليس يف الحدث فحسب ولكن أيضً ا يف املا ّدة‪ .‬وأثناء إجراء التّغيري والحركة‪،‬‬
‫ميكن للذّات أن ت ُصبح أكرث اكتاملً ‪ ،‬وهذا التّح ُّرك نحو هويَّتها الحقيق َّية أصبح ممكنا بفضل حقيقة‬
‫أ ّن الله قد منح هذه الذّات طبيع ًة معيَّنة الّتي لها أن تُدرك نفسها بالكامل يف الوقت الّذي تجد فيه‬
‫نفسها‪ .‬إنه من خالل أفعال االنتباه‪ ،‬والوعي‪ ،‬واملستويات واألساليب العديدة لإلدراك‪ ،‬أ ّن الذّات‬
‫هي ما هي وتصبح كام هي عليه‪ .‬من خالل أعامل أكرث ق َّوة من االندماج واالندماج الذّايت‪ ،‬فإ ّن‬
‫تجس حالة‬ ‫ُ‬ ‫جوهر الذّات هو أكرث من الذات‪ ،‬ويُصبح نفسها بحكم طبيعته‪ .‬الطّبيعة يف الذّات‬
‫الفعاليَّة وحالة الواقع‪ .‬إنّه يسمح بانبثاق الوجود من الله إىل الذّات الّتي‪ ،‬يف عامل املكان وال ّزمان‪،‬‬
‫أصبحت نفسها أكرث‪ .‬خالل الرحلة عرب املكان وال ّزمان‪ ،‬فإ ّن طبيعة الذّات هي الّتي تسمح لها بأن‬
‫أقل من نفسها‪.‬‬ ‫تصبح نفسها بالكامل‪ ،‬ولكن يف حالة اإلنسان عىل األقل ميكن أن تُصبح الذّات ّ‬
‫الصلة بني الذّات الّتي مل تصلح نفسها بالكامل والذّات الحقيق ّية‪ .‬واقع‬ ‫وبالتّايل‪ ،‬فإ ّن الطّبيعة هي ّ‬
‫املتغي‬
‫ّ‬ ‫غي والتّج ُّدد أل ّن كنهها الوحيد هو البلوغ باألوىل إىل األخرية‪ ،‬لض ّم‬ ‫الطبيعة ذاته هو التّ ُّ‬
‫إىل الثّابت‪ .‬إ ّن حقيقة الحركة الجوهريّة هو بلوغ الذّات ذاتها الحقيق َّية بحكم الطّبيعة‪ .‬يف «أعرف‬
‫املتغية‪ ،‬وهو نفس الواقع الذي ال ميكن اختزاله‪ .‬األنا الثّابتة هي‬ ‫ّ‬ ‫نفيس»‪ ،‬هناك األنا الثّابتة ونفيس‬
‫تظل هي نفسها)‪.‬‬ ‫تتغي الذّات بأكملها (ومع ذلك ّ‬ ‫ال ّروح (أو ال ّنشاط) الذي يعمل عىل «نفيس» حتى ّ‬
‫تغيين‪ ،‬لك ّنها من خالل طبيعتي‬ ‫العقل قادر عىل تحقيق التّغيري بالتّحديد من خالل الطّبيعة‪ .‬روحي ّ‬
‫لدي للتّغيري‪ .‬يعمل الفكر عىل ال ّروح لتغيريها‪،‬‬
‫تفعل ذلك‪ .‬طبيعتي هي مجموعة االحتامالت الّتي ّ‬
‫ولكن من وجهة نظر مع ّينة فإ ّن العقل وال ّروح هام شيئان منفصالن‪ .‬من إحدى وجهات ال ّنظر‪ ،‬يكون‬
‫رصفان يف ال ّروح رديفًا للحديث عن مآل ال ّروح‪.‬‬ ‫الحديث عن أ ّن العقل وال ّروح ّية يت ّ‬
‫إ َّن الطّبيعة هي الّتي تسمح بإمكان َّية تحقيق املعرفة يف مجال االمتداد‪ .‬أ ّن ذات ًا ما ليست نفسها‬
‫ٌ‬
‫احتامل غري قابلٍ لالختزال ميكن تفعيله فقط يف ميدان املكان‬ ‫بالكامل ث ّم تنمو يف وجودها هو‬
‫وال ّزمان‪ .‬مبعنى ما‪ ،‬املعرفة بالجهل جانب من جوانب املعرفة‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإ ّن معرفة العبور‬
‫من الجهل إىل املعرفة‪ ،‬ليس عىل سبيل املقارنة فحسب بل أيضً ا عىل سبيل تجربة الذات‪ ،‬هو‬
‫إل يف مظهره‪ ،‬إذا‬ ‫يتجل ّ‬
‫ّ‬ ‫ألي يشء آخر‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫شكل من أشكال الوجود غري قابل لالختزال ِّ‬
‫كان بإمكان املرء التّعبري عن نفسه بهذه الطّريقة‪ .‬يت ّم تذ ّوق طعم املعرفة عرب غيابها بطريقة خاصة‬

‫‪216‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫مع مرور الوقت‪ ،‬رغم أ ّن هذا الطعم ميكن أن يستم ّر يف حاالت تتخطَّى إطار الزمن‪ .‬إنَّه منط من‬
‫الوعي الّذي أصبح ممك ًنا بفضل عالقة االمتداد‪.‬‬

‫الفضيلة واجلمال‪:‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫يف ال َّنفس البرشيَّة‪ ،‬والتّي تبدأ حيث تنتهي روح الحيوان‪ ،‬تظهر الصفات اإللهيَّة عىل أنّها فضائل‬
‫صنع يف صورة الله‪ .‬ويقال أيضً ا إ َّن الكون ككل‬
‫السبب يُقال إن اإلنسان ُ‬
‫وقوى ال ّروح البرشيَّة‪ .‬لهذا ّ‬
‫رجل كبري‬
‫والصفات اإللهيَّة‪ .‬اإلنسان عالَم صغري (‪ )microcosm‬والعالَم ٌ‬
‫ّ‬ ‫تجل لألسامء‬
‫هو موضع ٍّ‬
‫محي للغاية يف البداية أل ّن روح اإلنسان ال تحمل أدىن تشابه‪ ،‬كام يبدو‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫(‪ ،)macrocosm‬وهو أم ٌر‬
‫مع عامل بأرسه‪ .‬العامل ميلء باأللوان واألشكال واألصوات‪ ،‬لكن يبدو أن ال ّروح ليست أيًّا منها‪ .‬يت ّم‬
‫الصفات‪ ،‬مثل الوجود‪ ،‬هي واقع واحد ت ّم تخريجه يف العديد من‬
‫حل التّفاوت الواضح إذا تذكّرنا أ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫املستويات واألوضاع‪ .‬الصفات أو الفضائل اإلنسانيّة‪ ،‬وكذلك قوى ال ّروح‪ ،‬ليست حقائق تنتمي‬
‫للصفات اإللهيَّة يف صيغة املا َّدة الّتي تشكّل اإلنسان‪.‬‬
‫إىل الحالة البرشيَّة وحدها‪ .‬بل إنّها مظاه ٌر ّ‬
‫كل مكان يف العامل بطريقة‬
‫الصفات التي نقيّدها عادة بالحالة اإلنسانيَّة موجودة يف ِّ‬
‫الفضائل أو ّ‬
‫الكل (عىل‬
‫ّ ِّ‬ ‫جبًا‪ ،‬ولكن كام أ ّن وعي الكائنات يف العامل محدود ونسبي عند مقارنته بالوعي‬
‫أكرث تح ُّ‬
‫الصفات التي تظهر بطريقة محدودة ونسبيّة‪ .‬هذا القيد هو يف‬
‫األقل املحتمل) لإلنسان‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫إل أنّه يسمح بأمناط ظهور نسبيّة حيث ميكن لصفات الله أن‬
‫الحقيقة تط ّور‪ ،‬رغم أنه يتطلّب تقيي ًدا‪ّ ،‬‬
‫مركزي‪ ،‬ويُظهر صفات‬
‫ّ‬ ‫تكشف عن نفسها بكل اكتاملها‪ .‬الفرق بني العامل واإلنسان هو أ ّن اإلنسان‬
‫الصفات‬
‫وكل‪ ،‬ويُظهر ّ‬
‫مركزي ّ‬
‫ٍّ‬ ‫الله بطريقة مركّبة وكلّيّة‪ ،‬يف حني أ ّن العامل هو ّ‬
‫كل يشء باستثناء‬
‫بطريقة تكشفها جزئيًّا وبشكل محدود‪ .‬جميع الفضائل البرشيَّة لها نظرياتها يف مجاالت مختلفة من‬
‫الصوت واللّون والشّ كل واللّغة والحيوانات وال ّنباتات وما إىل ذلك‪ ...‬كل الفضائل‬
‫الظّهور‪ -‬يف ّ‬
‫كل من اإلنسان والعامل‪ .‬وهي واضحة عىل ال ّنحو الذي تح ِّدده‬
‫هي فضائل الله‪ ،‬الّذي يُظهرها يف ّ‬
‫صيغة املا ّدة أو الجوهر الذي تؤ ّهله‪.‬‬

‫الصفات‬
‫كشف وح ٌّد من ّ‬
‫ٌ‬ ‫كل يشء فيه هو‬
‫لهذا السبب ميكن لإلنسان أن يعرف العامل بأرسه‪ ،‬أل َّن ّ‬
‫السابقة الكثري عن تجربة الجامل‪ .‬هي تنشأعندما‬
‫التي ميتلكها يف نفسه إجاملً ‪ .‬تخربنا االعتبارات ّ‬
‫تقدم حقائق األشياء نفسها إلدراكنا أو وعينا بطريقة تجعل االنفصال واالنقطاع أكرث قابل َّية للتجسري‬
‫واالندماج‪ .‬إنّه االنسجام الّذي نجد يف حضورالوحدة يف الكرثة‪ .‬يوجد هذا االنسجام أو الجامل‬

‫‪217‬‬
‫حقول التنظير‬

‫السبب يف أ ّن الحقيقة جميلة‪:‬‬


‫كل مجال‪ :‬اللَّون والصوت والشكل واإليقاع واللُّغة‪ .‬هذا هو ّ‬
‫يف ِّ‬
‫خصيصا‪ ،‬كام كانت‪ ،‬لفعل التّكامل من خالل الوعي‪ .‬الجامل موجود‬
‫ً‬ ‫األفكار املنفصلة ُمص ّممة‬
‫الصفات ال تقترص علينا فحسب‪ ،‬بل‬
‫عندما تظهر الفضائل بشكل كامل يف العامل‪ ،‬مع تذكُّر أ ّن هذه ّ‬
‫كل مكان بعدد ال حرص له من الطّرق‪ .‬الفضاء هو املكان الذي تتكشّ ف فيه الّصفات‬
‫توجد أيضً ا يف ّ‬
‫اإللهيَة من خالل اللّون والشّ كل‪ ،‬يف الفنون التّشكيلية لل ّرسم وال ّنحت والعامرة‪ ،‬يف حني أ ّن الوقت‬
‫الصوت واللّغة‪ ،‬من خالل املوسيقى والشّ عر‪ .‬يف جميع الحاالت‬
‫الصفات يف ّ‬
‫تتجل فيه ّ‬
‫ّ‬ ‫هو الّذي‬
‫السبب الجامل‬
‫هناك صدى بني العامل وروح اإلنسان‪ .‬كل صدى هو إيقاظ لجزء من الذّات‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫هو ما هو عليه‪ .‬يف تجربة الجامل والحقيقة‪ ،‬من بينهام الجامل ذو ال ّرونق‪ ،‬يبلغ اإلنسان غاية نفسه‬
‫الصدى فيه‪ .‬إذ لديه رغبة فطريّة يف البحث عن الجامل والهروب من القبح‪،‬‬
‫بحكم ما يوقظه هذا ّ‬
‫متّب ًعا طبيعته الحقيقيَّة ليبلغ نفسه أكرث‪.‬‬

‫كامل مبفردات تقن َّية‬


‫ً‬ ‫تسلسل هرم ًّيا مفاهيم ًّيا‬
‫ً‬ ‫بدأت هذه الورقة بالتح ٌّدث عن «نظام»‪ ،‬أعني به‬
‫السياقات امليتافيزيق َّية الواسعة فحسب‬
‫كاملة ومح َّددة جي ًدا تسمح للمرء بالتّعامل ليس مع ّ‬
‫املفاهيمي ذا‬
‫َّ‬ ‫الهرمي‬
‫َّ‬ ‫ولكن أيضً ا مع املنطق والجامل ّيات وما إىل ذلك‪ ،‬وكلّها تستخدم التّسلسل‬
‫رئييس‬
‫ٌّ‬ ‫مل صدرا هي يف ح ِّد ذاتها مثال‬
‫املصطلحات والعالقات املتبادلة املعروفة متا ًما‪ .‬فلسفة َّ‬
‫والروحي‪ .‬آمل أن يكون مثل هذا ال ّن َسق باللُّغة‬
‫ّْ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫عىل ذلك‪ ،‬رغم أنّه تم إنشاؤها يف سياقه‬
‫يل وق َّوته التّفسرييَّة‪،‬‬
‫مستقل متا ًما وأن ميتلك املرجع ّية الّتي تأيت من متاسكه ال ّداخ ِّ‬
‫ًّ‬ ‫اإلنكليزيَّة‬
‫يف مختلف‪ .‬مثل هذا ال ّنسق سيكون‬
‫لغوي وثقا ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫السابقة لعامل‬
‫وليس فقط من إخالصه إىل ال ّنصوص ّ‬
‫خال ًيا متا ًما من املشاكل الغريبة التي يجب عىل املرتجم معالجتها عند رشح أفكار مفكِّر آخر‪.‬‬
‫خاص‪ ،‬نظ ًرا أل َّن االتِّساق حاسم للغاية وغال ًبا ما يكون من‬
‫ٍّ‬ ‫حة بشكل‬
‫مشاكل ترجمة الفلسفة مل َّ‬
‫املفاهيمي مرتبط‬
‫ِّ‬ ‫يك عىل ذلك)‪ ،‬وأل ّن الكثري من الوزن‬
‫املستحيل تحقيقه («الوجود» كمثال كالسي ٍّ‬
‫بكلامت منفردة‪.‬‬

‫فعلت مط ّو ًل يف هذا‬
‫ُ‬ ‫ملاذا إذن االهتامم بال ّنظر إىل فلسفة صدرا من نقطة انطالق ذات َّية‪ ،‬كام‬
‫املقال ؟‬

‫السامت البارزة والقيمة كفلسفة‪ ،‬ومن بينها الطريقة التي تعالج‬


‫تتميَّز مدرسة وحدة الوجود ببعض ِّ‬
‫بها مشكلة الوحدة والكرثة‪ ،‬والتّمييز بني امللموس واملج َّرد‪ ،‬ونظريَّتها العا َّمة للمعرفة واإلدراك‬

‫‪218‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫وحي‪ ،‬ولكن ت ُرشح هذه األفكار بطرق مختلفة‪ ،‬كام متَّت مناقشتها بإيجاز سابقًا‪ .‬وهناك الكثري‬
‫ال ّر ِّ‬
‫مل صدرا‪ ،‬ال سيَّام‬
‫من القيمة يف كتابات ابن عريب ومدرسته التي ال توجد يف التقليد الذي افتتحه َّ‬
‫يل للقرآن والحديث ومامرسة الحياة املعنويَّة بشكلٍ عام[[[‪.‬‬
‫األسئلة التي تتناول املعنى ال ّداخ َّ‬
‫القوي والوضوح‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ُّ‬ ‫مع ذلك‪ ،‬فإ ّن ما ينقص بشكل عام لدى ابن عريب هو نوع التّامثل‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫املوجود لدى صدرا الذي من فضائله العظيمة أنّه مبج ّرد فهم نظامه‪ ،‬يكون لدى املرء أساس‬
‫راسخ إىل ح ٍّد ما لالنغامس يف عامل ابن عريب‪ ،‬وإحدى وظائفه الفكريّة (بالنسبة إىل هذا املؤلِّف‪،‬‬
‫املرب لرؤية الشيخ األكرب من خالل املعالجة الفلسف َّية للوجود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل األقل) هي أن يكون مبثابة‬
‫كام لوحظ أعاله‪ ،‬فإ َّن الوجود ليس الكلمة األخرية يف فكر ابن عريب‪ ،‬ولكن بقدر ما يفهم املرء‬
‫ما يقوله صدرا عن الوجود‪ ،‬سيفهم املرء لغته حول الوجود أيضً ا‪ ،‬وهو أمر مفيد للغاية إلدراج‬
‫الخاصة به يف موضعها الصحيح‪ .‬صدرا مبعنى ما‬
‫َّ‬ ‫العديد من الجوانب األخرى يف امليتافيزيقيا‬
‫املنطقي وال ّدقيق الذي سيصل إليه املرء إذا بدأ من ال ّرؤية امليتافيزيق َّية البن عريب‬
‫ُّ‬ ‫هو االستنتاج‬
‫خصوصا إذا نظر املرء إىل كتابات‬
‫ً‬ ‫ورغب يف كشفها من حيث الوجود‪ .‬أعتقد أن هذا واضح متا ًما‪،‬‬
‫األسايس‬
‫ُّ‬ ‫املتح ّدرين «فلسف ًّيا» من ابن عريب مثل القونوي والكاشاين والس َّيام القيرصي‪ .‬الهدف‬
‫من هذا املقال هو إظهار أنه من املمكن تص ُّور تقليد شقيق لوحدة الوجود باللُّغة اإلنكليزيَّة‪ ،‬وهو‬
‫ليس مج ّرد ترجمة ولك ّنه يأخذ ال ّرؤى األساس َّية لوحدة الوجود ويعيد صياغتها وفقًا لـ الخيال‬
‫املفاهيمي الحديث[[[‪ .‬ال ّنسق الّذي أناقشه هنا سيكون مستقلًّ ولك ّنه ال يزال جز ًءا من العامل‬
‫ِّ‬

‫إسالمي يفعل ذلك‪ .‬أنظر سيد حسني نرص وصدر الدين‬ ‫ٍّ‬ ‫تفسريا قرآن ًّيا غري مكتمل وإن كان مك َّثفًا‪ ،‬كأول فيلسوف‬ ‫ً‬ ‫[[[ ‪ -‬كتب صدرا‬
‫شريازي وثيوصوف َّيه املتعالية (طهران‪ 135-123 )1997 ،‬وتفسري القرآن الكريم حرره محمد خواجوي (قم‪ .)1990 ،‬ومع ذلك‪“ ،‬تفاين صدرا‬
‫والنظري ظاهر ًّيا للدين‪ ،‬إىل جانب صمته شبه الكامل يف ما يتعلَّق بطقوس أو وصفات ترشيع َّية مع َّينة والبنية‬ ‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫الحرصي للجانب‬
‫الرشعي للقرآن والتقاليد‪ ،‬هي جوانب حاسمة يف كتاباته التي تصلح م ًعا ملجموعة متن ِّوعة من التفسريات‪ .‬فهي تشكّل‬ ‫ِّ‬ ‫املقبولة للتفسري‬
‫ألي قارئ أن يتجاهلها بسهولة “‪(.‬ج‪ .‬موريس‪ ،‬حكمة العرش‪ ،‬برينستون‪ )21 ،1981 ،‬عىل النقيض من ذلك‪ ،‬كتب ابن‬ ‫صعوبات ال ميكن ِّ‬
‫الخارجي واألهم َّية الداخل َّية ألركان اإلسالم (الصالة‪ ،‬الصيام‪ ،‬الحج‪ ،‬الصدقات) مأل بها كت ًبا عدة‪ .‬يذهب ابن‬ ‫ِّ‬ ‫عريب ما يكفي عن الشكل‬
‫عريب ومدرسته أيضً ا إىل حدِّ مناقشة طبيعة االختالف بني املدارس الرشع َّية‪ ،‬وتفسري هذا االختالف يف ضوء إمكان َّية املعرفة املبارشة من‬
‫لكل من صدرا وابن‬ ‫الحقيقي‪ ،‬من وجهة النظر التقليديَّة ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫محل سالسل النقل العاديَّة‪ .‬الفهم‬ ‫تحل َّ‬ ‫دون الوساطة بآية قرآن َّية أو حديث‪ ،‬بطريقة ُّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬يتطلَّب ذلك فهامً معقوالً للجوانب الخارج َّية‬ ‫ِّ‬ ‫اللحقة‪ .‬ويف السياق‬ ‫أي حال فصله عن املامرسة الروح َّية َّ‬ ‫عريب‪ ،‬ال ميكن عىل ِّ‬
‫الباطني‪ .‬لدى صدرا‪ ،‬هذه الجوانب‪ ،‬كام يقول‬ ‫ّْ‬ ‫الخاصة والقواعد السلوك َّية التي تعمل كواسطة وكحامية لإلدراك‬ ‫َّ‬ ‫للدين‪ ،‬أي العبادات‬
‫يل لإلميان مفرتض من وجهة نظر صدرا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫العم‬ ‫للبعد‬ ‫والفهم‬ ‫ّمسك‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫هذا‬ ‫أنَّ‬ ‫الواضح‬ ‫من‬ ‫َّه‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫أزعم‬ ‫ّني‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫رغم‬ ‫توضيحها‪،‬‬ ‫يتم‬
‫موريس‪ ،‬مل ّ‬

‫أي تأثري عىل اإلطالق – يجب أن يعمل مع الرموز الناشطة بالفعل يف‬
‫[[[ ‪ -‬يكتب موريس‪“ :‬إنَّ تواصل [ابن عريب] ‪ -‬إذا أراد أن يكون له ُّ‬
‫بأي طريقة جادة من دون‬
‫حياة وأرواح الجمهور واألفراد الّذين يخاطبهم‪ ...‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال ميكن للمرء أن يبدأ يف إيصال أفكار ابن عريب ِّ‬
‫التحقيق املستمر ثم إعادة اكتشاف تلك الرموز النشطة والفعالة لألشخاص الذين يتفاعل معهم املرء “‪« .‬ابن» عريب يف «أقىص الغرب»‪:‬‬
‫التأثريات املرئ َّية وغري املرئ َّية مجلَّة جمعية محيي الدين بن عريب د – ‪.)2001( ٢٩‬‬

‫‪219‬‬
‫حقول التنظير‬

‫جا عضويًّا له بالطّريقة نفسها التي يكون بها ابن عريب وصدرا[[[‪ ،‬ونأمل أن‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وسيكون نتا ً‬
‫ِّ‬
‫والصدريَّة كام هام هاتان اللّغتان لبعضهام‬
‫ّ‬ ‫يكون الكالم بلغة شفّافة وذات مغزى كاللّغتني األكربيَّة‬
‫البعض‪ .‬لقد ناقشت بالفعل إمكانيَّة إعادة صياغة هذه الرؤية امليتافيزيقيَّة من حيث املوضوع‬
‫الفلسفي لل ّرؤية‬
‫ِّ‬ ‫ولعل فلسفة صدرا هي أفضل نقطة انطالق لل ّدخول يف الفهم‬
‫ّ‬ ‫بدلً من الكائن‪.‬‬
‫تفاهم وعالقة مع‬
‫ً‬ ‫امليتافيزيقيَّة لوحدة الوجود‪ ،‬لك ّنني أعتقد أ ّن ال ّنظام القائم عىل املوضوع سيفتح‬
‫كتابات كتّاب أكرث «تجربة» مثل ابن عريب أيضً ا‪ .‬من ال ّناحية العمل ّية‪ ،‬إذا ك ّنا نهدف إىل نظام شفّاف‬
‫وذي مغزى لهذا التّقليد‪ ،‬يبدو من املفيد للغاية فحص وفهم نظام صدرا «القائم عىل الكائن» من‬
‫فلسفي أوسع‪ ،‬فإ ّن مثل‬
‫ٍّ‬ ‫أي مرشوع‬
‫حيث املفاهيم الّتي تأخذ املوضوع كمحور لها‪ .‬وبال ّنسبة إىل ِّ‬
‫إل أرضيّ ًة وبحثًا‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ربا يوضح‬ ‫هذا التحليل لصدرا وعقيدة وحدة الوجود ال ميكن اعتبارهام َّ‬
‫ويستحق املتابعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لنا أ ّن مثل هذا املرشوع ممكن بالفعل‬
‫ناقشت سبب متتُّع هذا التّ ّيار من الفلسفة اإلسالم َّية ببعض املزايا الهيكل َّية‬
‫ُ‬ ‫يف موضع آخر‪،‬‬
‫والتّاريخ َّية يف ما يتعلّق بالفلسفات التّقليديّة األخرى التي متكّنها من العمل بشكل ج ّيد يف الوسط‬
‫الفكري الحديث وملاذا يكون ملثل هذا ال ّنظام املقرتح القدرة عىل أن يكون عامل ًّيا وصام ًدا بحكم‬
‫ِّ‬
‫حلّ ًّيا للتقاليد امليتافيزيق َّية اإلسالم َّية‪ ،‬لذلك لن أناقش هذه األسئلة هنا‪ [[[.‬وسأختتم‬
‫جا م ّ‬
‫كونه نتا ً‬
‫امليض قُ ُد ًما يف مامرستنا للفلسفة‬
‫َّ‬ ‫بياين باإلشارة إىل سببني وجيهني للغاية يجعالننا نواصل‬
‫التّقليديّة وفهمنا لها‪:‬‬
‫أ ّو ًل‪ّ ،‬‬
‫لعل املشكلة األكرث رض ًرا من وجهة ال ّنظر اإلسالم َّية واملعنويَّة هو فقدان اإلحساس‬
‫رصين‪ .‬والعديد من املشاكل التي تُثقل‬
‫باملق َّدس والشّ عور بالغموض يف الحياة والفكر املعا َ‬
‫كاهلنا اآلن تسري جن ًبا إىل جنب مع تص ُّور للعامل يرى بشكلٍ متزايد ّ‬
‫كل يشء من حيث الفعل ور ّد‬
‫املسلوب الحياة‪ ،‬من عامل الطّبيعة إىل الوعي البرشي‪« .‬الحياة» يف هذا املفهوم هي يف‬
‫َْ‬ ‫الفعل‬

‫طبيعي من األبعاد الداخل َّية للدين‪ .‬يف الحديث عن‬ ‫ٍّ‬ ‫[[[ ‪ -‬جزء من قيمة صدرا وابن عريب هو حقيقة أن ق َّوتهام الفكريَّة تتدفَّق بشكل‬
‫يتم التأكيد بق َّوة عىل ُبعد العامل َّية‬
‫ُّ‬ ‫اإلرشاق)‪...‬‬ ‫(حكمة‬ ‫املضيئة»‬ ‫فضائل دراسة ابن عريب اليوم‪ ،‬كتب جيمس موريس‪« ،‬بحكمة السهروردي‬
‫اإلسالمي والتقاليد‬
‫ِّ‬ ‫جذري إىل التفاصيل امللموسة للوحي‬ ‫ٍّ‬ ‫الفلسف َّية عىل األقل ‪ --‬ولكن يف أشكال التعبري واملامرسة التي ال تستند بشكل‬
‫فلسفي‬
‫ٍّ‬ ‫واملامرسة الروح َّية‪ .‬الخطر الواضح واملتك ِّرر يف هذه الحالة (مع السهروردي) هو أنّ تعليمه ميكن أن يتح َّول بسهولة إىل نظام‬
‫واالجتامعي الذي ال غنى عنه) التي مل يتوقّف السهروردي نفسه عن التأكيد‬ ‫ِّ‬ ‫التاريخي‬
‫ِّ‬ ‫آخر‪ ،‬منقطع عن جذور املامرسة الروح َّية (وسياقها‬
‫إسالمي آخر يقدّ م فكره شيئًا مثل املزيج نفسه‬ ‫ٌّ‬ ‫ِّر‬ ‫ك‬ ‫مف‬ ‫يوجد‬ ‫ال‬ ‫“ببساطة‬ ‫عريب‬ ‫ابن‬ ‫يف‬ ‫ًا‬
‫ق‬ ‫الح‬ ‫أسايس مسبق لفهم نهجه “‪ .‬ويقول‬
‫ٍّ‬ ‫عليها كرشط‬
‫من قبول اإلبداع ومرونة التفسري مقرتنة بإخالص ملموس وشامل للمصادر التاريخ َّية املكشوفة لذلك التقليد‪ .‬ج‪ .‬موريس “‪ ...‬إال وجهه”‪:‬‬
‫األبعاد السياس َّية والجامل َّية لرتاث «ابن عريب»‪ .‬مجلَّة جمع َّية محيي الدين بن عريب د ‪.)1998(٢٣ -‬‬
‫إسالمي بالُّلغة اإلنكليزيَّة»‪ ،‬يف منارة املعرفة‪ ،‬حرره محمد فغفوري‪ ،‬لويزفيل‪ ،‬كنتايك‪( .‬يصدر‬ ‫ٍّ‬ ‫فلسفي‬
‫ٍّ‬ ‫[[[‪« -‬حول إمكان َّية وجود تقليد‬
‫قري ًبا)‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫األساس فئة عشوائيّة من هذه األفعال وردود األفعال‪ .‬العامل ليس عىل قيد الحياة‪ ،‬لك ّنه كذلك ليس‬
‫بدل من م ّد انعدام الحياة الستيعاب‬
‫حي أو م ّيت حقًا‪ً .‬‬
‫ميتًا حقًّا‪ .‬من دون املعنى املق ّدس‪ ،‬ال يشء ّ‬
‫يئ الشديد التّعقيد)‪ ،‬ميكن‬
‫معي من التّفاعل الكيميا ِّ‬
‫الحياة كواحدة من فئاتها الفرعيَّة (أي‪ ،‬كنوع َّ‬
‫لكل يشء بطريقته‬
‫للميتافيزيقيا الف ّعالة إطالة العمر بقوة (كام نعرف ما هو أن تكون عىل قيد الحياة) ّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ّْ‬
‫العقائدي‪ .‬عىل سبيل‬ ‫الخاصة‪ ،‬من دون االنزالق إىل نوع من العاطفة الضعيفة الذّهن أو الجمود‬
‫ّ‬
‫املثال‪ ،‬ميكن أن تؤ ّدي امليتافيزيقيا املتكاملة والف ّعالة إىل طرق أفضل لتص ُّور ما يس َّمى مبشكلة‬
‫«العقل والجسد» يف الفلسفة‪ ،‬وكذلك يف الفيزياء‪ 13‬وعلم األحياء العصبيَّة‪ .‬عندما يتعلَّق األمر‬
‫مبسألة العقل يف علم األحياء العصبي والحاالت األنطولوج َّية غري القابلة للمالحظة يف الفيزياء‪،‬‬
‫تقل أه ّميّ ًة عن البيانات نفسها‪ .‬ال يزال الفيزيائيون يناقشون «انهيار»‬
‫فإن االفرتاضات امليتافيزيقيَّة ال ّ‬
‫ال ّدالّة املوج َّية كمسألة فلسفة‪ ،‬حيث ال يوجد خالف عام حول البيانات‪ .‬وال تزال هذه الفكرة‬
‫حتى اآلن غري مثبتة أو ُمخطّأة بالتّجربة‪ .‬وباملثل‪ ،‬رغم االدعاءات املعاكسة‪ ،‬فإ ّن العالقة بني‬
‫البرشي ليست مفهومة ج ّي ًدا عىل اإلطالق من وجهة ال ّنظر البيولوج َّية‪ .‬علم‬
‫ِّ‬ ‫ي والوعي‬
‫ال ّدماغ املا ّد ِّ‬
‫األعصاب الحديث‪ ،‬بقدر ما يتعامل مع ال ّدماغ‪ ،‬ال ميكنه إثبات أو دحض الكثري حول طبيعة الروح‬
‫السياق)‪.‬‬
‫(أو العقل‪ ،‬كام يشري إليه معظمهم يف هذا ّ‬
‫ثان ًيا‪ ،‬برصف ال ّنظر عن مدى شمول َّية أو مدى صقل امليتافيزيقيا‪َّ ،‬‬
‫لعل األيام قد ولَّت لتؤخذ‬
‫رصا من قبل الفيلسوف املحرتف باعتبارها جديرة باالهتامم‪ .‬الفلسفة الحقيق َّية‬
‫األعامل املكتوبة ح ً‬
‫كل ما يفكِّر فيه ‪ -‬الف ّن واألخالق‬
‫ستكون أداة إعامل للفكر‪ ،‬ويجب أن تساعد اإلنسان عىل التفكري يف ِّ‬
‫الفلسفي أن يفرتض بيئة مق َّدسة حيث يعيش الناس‬
‫ِّ‬ ‫والحب واملوت والله‪ .‬مل يعد بإمكان ال ّنسق‬
‫ّ‬
‫وفقًا للحقيقة باإلضافة إىل التّفكري فيها‪ .‬لقد كانت مثالً عن بيئة‪ ،‬عن ثقافة مق َّدسة ُمعطّرة بالهدف َّية‪،‬‬
‫أل‬
‫توفّرها حضارة تقليديَّة مثل اإلسالم‪ ،‬كنوع من البيئة الّتي يفتقر إليها معظم العامل الحديث‪ .‬يجب َّ‬
‫الحس املق َّدس والكينونة‬
‫ِّ‬ ‫تكون الفلسفة رس ًدا فحسب‪ ،‬بل يجب أن تحتوي أيضً ا يف داخلها عىل‬
‫الداخل َّية والغموض‪ .‬ميكن أن تكون الفلسفة منطق َّية ودقيقة وشاملة مع االعرتاف بحدودها كنظام‬
‫كل يشء من حيث‬
‫فكري‪ ،‬وكأداة للتفكري‪ .‬خطأ األنظمة الحديثة واألنظمة التَّابعة هو اال ّدعاء برشح ِّ‬
‫ِّ‬
‫مم تعجزعن تفسريه بالكثري من الكلامت‪ .‬هذا هو بالضبط غياب‬
‫بأي يشء‪َّ ،‬‬
‫نفسه وعدم السَّامح ِّ‬
‫الحس بالقداسة والغموض‪ ،‬وكالهام موجود بق َّوة يف التقاليد امليتافيزيق َّية اإلسالم َّية‪.‬‬
‫ِّ‬
‫كُتب هذا املقال بافرتاض أ َّن التّقاليد الفكريَّة اإلسالميَّة ال تقترصعىل الكثري الّذي تق ِّدمه لنا‬
‫فلسف ًّيا وروح ًّيا‪ ،‬بل وأيضً ا تتيح ما هو ممكن ومرغوب بالفعل لجهة بدء وتنظيم طريقة جديدة‬

‫‪221‬‬
‫حقول التنظير‬

‫للحديث عن القضايا الفلسفيَّة وال ّروحيَّة ال ّدامئة‪ .‬إذا مت ّك ّنا يف الغرب من تشكيل تقليد شقيق‬
‫يل وليس مج َّرد محاكاة واشتقاق‬
‫الشق‪ -‬كنتاج مح ٍّ‬
‫للتّقاليد الحال َّية والح َّية للميتافيزيقيا اإلسالم َّية يف ّ‬
‫السياق فحسب‪ ،‬ولكن أيضً ا عىل‬
‫‪ -‬سنكون قادرين ليس عىل االستفادة بشكل أكرث ثرا ًء من هذا ّ‬
‫محسنة ملعالجة املشاكل الفكريَّة وال ّروح َّية الفريدة يف عرصنا‪ .‬وكانت‬
‫ّ‬ ‫امتالك أدوات مفاهيم َّية‬
‫هذه محاولة متواضعة لبدء تلك العمليَّة يف إحدى االتّجاهات املمكنة؛ ما أقرتحه ليس مرشو ًعا‬
‫ريا‪ ،‬ولكن سيكون من املفيد إذا سمح لنا باالستفادة من حكمة املايض من دون الحاجة إىل‬
‫صغ ً‬
‫الصفر‪.‬‬
‫مزي من ِّ‬
‫املفاهيمي وال ّر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫إعادة إنشاء خيالنا‬

‫‪222‬‬
‫نظام جديد للفلسفة اإلسالمية‬
‫ٍ‬ ‫بداية‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫املصادر بالُّلغة العرب َّية‪:‬‬
‫جون والربيدج‪ :The Leaven of the Ancients ،‬السهروردي وتراث اليونانيني‪ ،‬نيويورك‪.2000 ،‬‬ ‫‪.1‬‬

‫‪ .2‬سيد حسني نرص‪« ،‬فلسفة ما بعد ابن سينا اإلسالم َّية ودراسة الوجود»‪ ،‬يف فلسفات الوجود‪ ،‬تحرير بارفيز‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مورويدج (نيويورك‪.)1982 ،‬‬

‫َّ‬
‫املل صدرا الشريازي‪ ،‬الفلسفة‬ ‫‪ .3‬صدر الدين الشريازي والثيوصوفيا املتعالية‪ ،‬طهران‪،)107 ،1997 ،‬‬
‫املتعالية‪ ،‬املجلَّد ‪.)2001( 2‬‬

‫‪ .4‬يف كتابه ابن عريب والفكر الحديث (أنقا للنرش‪ ،‬أكسفورد‪.)2002 ،‬‬

‫‪ .5‬ك‪ .‬داقيل‪ ،‬نظر َّية املعرفة َّ‬


‫ملل صدرا وفلسفة الفيزياء‪ .‬الفلسفة املتعالية املجلَّد ‪.)2000( 1:2‬‬

‫‪َّ .6‬‬
‫مل صدرا‪ ،‬الشّ واهد ال ّرباع َّية‪ ،‬ح َّرره جالل الدين أشتياين (مشهد‪.)1967 ،‬‬

‫‪ .7‬هـ‪ .‬كوربن كتاب االخرتاقات امليتافيزيق َّية‪ ،‬طهران ‪ -‬باريس‪.1964 ،‬‬

‫‪ .8‬و‪ .‬شيتيك "مدرسة ابن العريب"‪ .‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية‪ .‬سيد حسني نرص وأوليفر ليامن‪ ،‬محرر‪ .‬لندن‪،‬‬
‫‪.1996‬‬

‫‪ .9‬وجهات النظر الروح َّية والحقائق اإلنسان َّية"‪ ،‬ميدلسكس‪،‬اململكة امل َّتحدة‪.1987 ،‬‬

‫‪ .10‬وليام شيتيك‪ ،‬قلب الفلسفة اإلسالم َّية ) أكسفورد‪.)2001 ،‬‬

‫املصادر بالُّلغة اإلنكليزيَّة‪:‬‬

‫‪11. See especially his Sufi Path of Knowledge and The Self-Disclosure of God‬‬
‫‪(Albany, NY, 1989, 1998).‬‬
‫‪12. John Walbridge, The Leaven of the Ancients: Suhrawardi and the Heritage of‬‬
‫‪the Greeks (New York, 2000).‬‬
‫‪13. William Chittick, The Heart of Islamic Philosophy (Oxford, 2001).‬‬
‫‪14. See H. Corbin, Le Livre des penetrations metaphysiques, Tehran-Paris, 1964.‬‬

‫‪223‬‬
‫للتصوف‬
‫ُّ‬ ‫االسترشاق األنثروبولوجي‬
‫مسعى انتقادي‬

‫صابر أبا زيد‬


‫ف‬
‫بروفسور التصوف ي� كلية اآلداب بجامعة جنوب الوادي ـ جمهورية مرص العربية‬

‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ش‬
‫المست� ي ن‬ ‫َّ‬
‫ع� تاريخهم الطويل من خالل أعمال وإسهامات‬ ‫ق� ب‬ ‫تتمثل جهود‬
‫عديدة‪ ،‬سواء كانت من خالل التدريس بالجامعات العربية واإلسالمية أم‬
‫ون�ها‪ ،‬أو ت‬ ‫علميا ش‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ال�جمة‬ ‫جمع المخطوطات وفهرستها وتحقيقها تحقيقا‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫العربية‬ ‫األوروبية‪ ،‬والتأليف ي� العديد من الدراسات‬ ‫العربية إىل اللغات‬ ‫من‬
‫َّ‬ ‫َّ ف‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ونخص بالذكر ما تم ي� مجال الفلسفة بصفة عامة‪ ،‬والفلسفة‬ ‫واإلسالمية‪،‬‬
‫أخص‪ ،‬هذا باإلضافة إىل‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم بصفة‬ ‫ُّ‬
‫والتصوف‬ ‫اإلسالمية بصفة َّ‬
‫خاصة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ي‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وفالسفة اإلسالم‪ .‬ومن المهم‬ ‫َّ‬ ‫رؤيتهم لعلم الكالم ودراسة الفرق‬
‫ِّ‬ ‫نز‬
‫االست�اق تختلف وتتباين بحسب ال�وع الفكري ‪/‬‬ ‫ش‬ ‫اإللفات إىل أن رؤية‬
‫تحليلية أو مقارنة… إلخ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫نقدية أم‬ ‫للمست�ق سواء كانت رؤية‬ ‫ش‬ ‫ج ِّ‬
‫اإليديولو�‬
‫ي‬
‫ت‬ ‫ف‬
‫ال� قدمتها الدراسات‬ ‫مسعانا ي� هذه الدراسة الوقوف عىل المعطيات ي‬
‫اإلسالم ونقد ما تنطوي عليه من معاثر‬ ‫اإلست�اقية الغربية حيال التصوف‬ ‫ش‬
‫ي‬
‫ق� الذين‬ ‫ش‬
‫المست� ي ن‬ ‫معرفية وتوظيفات إيديولوجية وال سيما لدى أولئك‬
‫وبولو�‪.‬‬ ‫درسوا التصوف وفق المنهج ث‬
‫ج ي‬ ‫األن�‬
‫* * *‬
‫اإلست�اق ث‬ ‫ش‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫ج ي‬
‫وبولو�‪ -‬اإليديولوجيا‪ -‬الدراسات‬‫األن�‬
‫ش‬
‫اإلست�اق‪.‬‬ ‫اإلسالمية – ماسينيون – الحالج‪ -‬تاري ــخ‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫كل‬
‫االسترشاق هو علم الرشق أو علم العامل الرشقي‪ ،‬وكلمة مسترشق باملعنى العام ت ُطلق عىل ِّ‬
‫يب يشتغل بدراسة الرشق كلِّه يف لغاته وحضاراته وأدب َّياته وفلسفاته‪ .‬لقد وظهر مفهوم‬ ‫عالِمٍ غر ٍّ‬
‫مسترشق ‪ Orientalist‬يف إنكلرتا عام ‪1779‬م‪ ،‬ويف فرنسا عام ‪1799‬م وأُدرِج مفهوم االسترشاق‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪ Orientalism‬يف قاموس األكادمييَّة الفرنسيَّة عام ‪1838‬م [[[‪.‬‬


‫امله ُّم يف األمر هو بداية الدراسات العرب َّية اإلسالم َّية يف أوروبا‪ ،‬واالهتامم باإلسالم والحضارة‬
‫اإلسالميَّة سواء كان ذلك بالقبول أم الرفض‪ ،‬ولو تجاوزنا تاريخ االسترشاق يف مراحله األوىل‬
‫اإلسالمي يف القرون الوسطى عىل‬
‫ِّ‬ ‫يب والرشق‬ ‫املسيحي الغر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫والتي تتمثَّل يف الرصاع بني العامل‬
‫واإليديولوجي – فيمكن القول بأ َّن القرن التاسع عرش والقرن العرشين امليالديَّني‬
‫ِّ‬ ‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫الصعيدين‬
‫الحقيقي للحركة االسترشاق َّية‪ ،‬ففي مارس ‪1795‬م قامت الحكومة الثوريَّة يف‬ ‫ِّ‬ ‫ميثِّالن عرص االزدهار‬
‫باريس بإنشاء مدرسة اللُّغات الرشقيَّة الحيَّة‪ ،‬وبدأت حركة االسترشاق يف فرنسا تتَّجه نحو اتخاذ‬
‫[[[·‬
‫الفرنيس سلفسرت دي سايس (ت ‪1838‬م) ‪Silvestre de Sacy‬‬ ‫ِّ‬ ‫علمي عىل يد املسترشق‬
‫ٍّ‬ ‫طابع‬
‫الذي أصبح إما ًما للمسترشقني يف عرصه وإليه يرجع الفضل يف جعل باريس مرك ًزا للدراسات‬
‫كل مكان‪.‬‬‫العرب َّية‪ ،‬ونقطة محوريَّة للتالميذ والباحثني والعلامء من ِّ‬
‫سمه “التحفة السن َّية يف علم العرب َّية”‬
‫وقد ألَّف دي سايس عام ‪1810‬م كتابًا ها ًّما يف العرب َّية َّ‬
‫(أصل كتاب بالفرنس َّية ومعنون بالعرب َّية موجود بخزانة الكتب العرب َّية مبكتبة الكوليج دي فرانس‬
‫بباريس ‪ Collége de France‬ولقد اطَّلعت عليه أثناء وجودي هناك)‪ .‬ويف عام ‪1895‬م أي بعد مائة‬
‫اإلسالمي وهي (مجلة‬
‫ِّ‬ ‫خاصة للعامل‬
‫َّ‬ ‫عام من الثورة‪ ،‬ظهرت يف باريس مجلَّة متنح اهتاممها بصفة‬
‫اإلسالم)‪ ،‬وقد خلفتها يف عام ‪1906‬م مجلَّة (العامل اإلسالمي)‪ ،‬ثم تح َّولت إىل مجلة (الدراسات‬

‫[[[‪ -‬للمزيد من التفاصيل عن االسترشاق وتط ُّوره ورجاله وجهود املسترشقني يف امليزان أنظر يف ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬د‪ / .‬نجيب العقيقي – املسترشقون – دار املعارف مبرص – ثالثة أجزاء – الطبعة الرابعة – ‪ 1982‬م‪ .‬والكتاب فيه جهد واضح عن‬
‫االسترشاق‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬عبد الحميد حمدان – طبقات املسترشقني – مكتبة مدبويل – القاهرة – الطبعة األوىل – ‪ 2000‬م – ص ‪.8‬‬
‫‪ -‬مكسيم رودنسون – الصورة الغرب َّية والدراسات العرب َّية اإلسالم َّية – تراث اإلسالم ج‪ – 1‬تصنيف جوزيف شاخت وكلفورد بوزورث –‬
‫ترجمة د‪ .‬محمد زهري‪ ،‬د‪ .‬حسني مؤنس – تعليق وتحقيق د‪ .‬شاكر مصطفى – راجعه د‪ .‬فؤاد زكريا – سلسلة عامل املعرفة – الكويت – العدد‬
‫‪ – 233‬مايو ‪ 1998‬م – ص ‪.59‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬صابر أبا زيد – دراسات فلسف َّية يف الحوار واالسترشاق – سلسلة الفكر اإلسالمي (‪ – )2‬دار الوفاء بدنيا الطباعة والنرش – إسكندريَّة‬
‫– الطبعة األوىل ‪ 2010‬م – ص ‪ 147‬ما بعدها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ولد ديسايس يف باريس ‪ 1758 / 9 / 21‬م وتويف عام ‪ ،1838‬بدأ دروسه يف املنزل ودرس األدب اللَّتيني واألدب اليوناين وتعرف عىل‬
‫عي عض ًوا ملجمع العلوم لنرش املخطوطات الرشق َّية وعض ًوا يف أكادمي َّية‬‫يهودي مقيم يف باريس فزادة تضلُّ ًعا يف الُّلغتني العربيَّة والعرب َّية‪ِّ ،‬‬
‫ٍّ‬
‫أهم كتبه "يف مجلَّدين‬‫أهم مؤلَّفاته‪ :‬مختارات عرب َّية‪ -‬مقامات الحريري – عرض لديانة الدروز – كليلة ودمنة‪ ،‬ولكن َّ‬ ‫النقوش واآلداب‪ ،‬ومن ِّ‬
‫الخاصة بالُّلغات الرشقية"‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عنوانه‪ :‬النحو العريب – الستعامل تالميذ املدرسة‬
‫‪Grammaire arabe àI' usage des éléves de I' Ecole Spéciale des langues orientales‬‬

‫‪225‬‬
‫حقول التنظير‬

‫اإلسالميَّة)‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك فقد عقد أ َّول مؤمتر للمسترشقني يف باريس عام ‪1873‬م‪ .‬وقد كان‬
‫اإلسالمي دور كبري يف تحديد طبيعة النظرة األوروبيَّة إىل الرشق‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫االستعامري يف العامل‬
‫ِّ‬ ‫للم ِّد‬
‫امليالدي‪ ،‬وهناك أمثلة عديدة سنذكرها يف مقالنا‬
‫ِّ‬ ‫وخصوصا ما بعد منتصف القرن التاسع عرش‬‫ً‬
‫هذا عن ارتباط االسترشاق باالستعامر يف البالد املختلفة‪ ،‬وسرنكِّز عىل دور فرنسا وانكلرتا اللتني‬
‫كان فيهام عدد كبري من املسترشقني يعملون كمستشارين لوزارة املستعمرات الفرنسيَّة واإلنكليزيَّة‬
‫يف شئون شامل أفريقيا‪ ،‬وعىل سبيل املثال كان املسترشق الكبري دي سايس هو من ترجم البيان‬
‫جه إىل الجزائريني‪ ،‬وكان يُستشار بانتظام يف جميع املسائل املتعلِّقة بالرشق من قبل وزارة‬ ‫املو َّ‬
‫الخارج َّية‪ ،‬ويف حاالت مع َّينة من قبل وزير الحرب َّية أيضً ا‪.‬‬
‫الفرنيس لويس ماسينيون (‪(1883/1962‬م ‪Louis Massignon‬‬
‫ُّ‬ ‫وإىل عهد قريب‪ ،‬كان املسترشق‬
‫مستشا ًرا لإلدارة االستعامريَّة الفرنس َّية يف الشئون اإلسالم َّية‪ ،‬وهو مسترشق وعامل إسالم َّيات‬
‫وخصوصا أبو منصور الحالج‪ ،‬وقد ولد‬
‫ً‬ ‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫ومهت ٌّم بدارسة الفلسفة اإلسالم َّية والتص ُّوف‬
‫بباريس ويعترب من أبرز أعضاء املجمعني العربيني يف دمشق والقاهرة‪ ،‬وتويف يف باريس تاركًا‬
‫لنا العديد من املؤلَّفات والرتجامت والتحقيقات والدراسات‪ ،‬كام أسهم مبجهود وافر يف عقد‬
‫مؤمترات دول َّية للمسترشقني وتاريخ األديان وساهم فيها مساهمة ف َّعالة‪ ،‬ويف عام ‪1909‬م بارش‬
‫الفلسفي وذلك‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫بحوثه ودراساته الفلسف َّية واإلسالم َّية حول شخص َّية الحالج املتص ِّوف‬
‫يف مكتبات اسطنبول برتكيا‪ ،‬ث َّم غادر إىل القاهرة للدراسة يف األزهر‪ ،‬وألقى محارضات يف جامعة‬
‫القاهرة يف شتاء عامي ‪1913 / 1912‬م حول تاريخ األديان والعقائد الفلسف َّية واإلسالم َّية وتاريخ‬
‫املصطلحات الفلسف َّية‪ ،‬وأصبح بعد ذلك مدي ًرا ملجلَّة “العامل اإلسالمي” التي أصبحت مجلَّة‬
‫للدراسات اإلسالم َّية منذ عام ‪1927‬م‪ ،‬واستهوته دراسة الفلسفة اإلسالم َّية مثل أستاذه املسترشق‬
‫يف والعرفان‪ ،‬ونرش دراسات جديدة عن‬ ‫اإلسالمي والوجد الصو َّ‬
‫َّ‬ ‫وخصوصا التص ُّوف‬
‫ً‬ ‫هرني كوربان‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وكتب عن شخص َّيات عديدة يف اإلسالم مثل أبو منصور الحالج وابن سبعني‬ ‫ِّ‬ ‫التص ُّوف‬
‫األندليس وسلامن الفاريس يف كتاب “ شخص َّيات قلقة يف اإلسالم “ الذي قام برتجمته د‪ .‬عبد‬
‫خصوصا القرامطة والنصرييَّة والشيعة‪،‬‬‫ً‬ ‫الرحمن بدوي ‪ -‬وكتب لويس ماسينيون يف الفرق اإلسالم َّية‬
‫وعن فالسفة اإلسالم من أمثال الكندي وابن سينا[[[ … إلخ‪.‬‬

‫وخصوصا لدى أبو منصور الحالج‪.‬‬


‫ً‬ ‫[[[‪ -‬يراجع بخصوص لويس ماسينيون ورؤيته النقدية للتصوف‬
‫‪- La passion de Husayn Ibn-Mansûr Al-Hallâj mortyr mystique de I’Islam, execute a Bagdad Ie 26 Mars‬‬
‫‪622- E’tude d’Histoire Religieuse, Nouvelle E’dition, 4 tomes E’di: Gallimard – Paris – 1975.‬‬
‫‪ -‬وقد صدرت الطبعة األوىل من هذا الكتاب الهام ‪ 1922‬م‪.‬‬
‫‪ -‬للمزيد من التفاصيل حول املسترشق الفرنيس وحياته وعرصه ومؤلَّفاته وجهوده يف الجوانب َّ‬
‫اللهوت َّية والتأثريات املبارشة يف الرؤية‬
‫اإلسالمي والطرق الصوف َّية (الحالج منوذ ًجا)‪ .‬يراجع يف ذلك‪ :‬د‪ .‬صابر أبا زيد‪ :‬لويس ماسينيون‬
‫ِّ‬ ‫الفكر َّية لإلسالم‪ ،‬وكذا يف التص ُّوف‬
‫اإلسالمي – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنرش – الطبعة األوىل اإلسكندرية ‪ – 2004‬ص ‪.67 – 54 ،29 – 16‬‬
‫ِّ‬ ‫وجهوده يف الفكر الفلسفي‬

‫‪226‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫‪ .1‬رؤية االستشراق ومفهوم األنرثوبولوجيا‪:‬‬


‫يدور مقالنا هذا حول نقد رؤية االسترشاق األنرثوبولوجي للتص ُّوف‪ ،‬وقد تختلف ال ُّرؤى وأدوات‬
‫الفرنيس يختلف عن االسترشاق‬
‫ُّ‬ ‫كل عىل حده‪ ،‬فاالسترشاق‬ ‫الطرح اإليديولوجي للمسترشقني ًّ‬
‫يل يف الطرح وال ُّرؤى بالنقد والتحليل‪.‬‬
‫ين وعن اإليطا ِّ‬
‫اإلنكليزي واألملا ِّ‬
‫ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫وطاملا أ َّن موضوع املقال بهذا العنوان كان لزا ًما علينا توضيح اآلراء النقديَّة للمسترشقني بصفة‬
‫الفرنيس – للتص ُّوف والصوف َّية من الناحية األنرثوبولوج َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫عا َّمة ‪ -‬حتى لو كان الرتكيز عىل االسترشاق‬
‫وميكن لنا أن نق ِّرر أنها دراسة للمجتمعات اإلنسانيَّة من منطلق أن األنرثوبولوجيا هو علم اإلنسان‬
‫مبا هو إنسان ودراسة عاداته وتقاليده ولغته ومعيشته وفنه ومأكله ومرشبه… أي دراسته اجتامعيًّا من‬
‫كل الجوانب‪ .‬كام كان الب َّد من وقفة حول تأصيل مفهوم األنرثوبولوجيا وت َّياراتها وأقسامها – كام‬ ‫ِّ‬
‫ومؤسس هذا العلم يف مرص والعامل العريب املرحوم أ‪ .‬د ‪ /‬أحمد‬ ‫ِّ‬ ‫درسناها عىل يد أستاذنا القدير‬
‫علمي لنفسه‪ ،‬فهو‪ ،‬كدراسة لإلنسان‬ ‫ٍّ‬ ‫كتخصص‬ ‫ُّ‬ ‫أبو زيد[[[ – حيث يقول‪“ :‬إنَّه اختار األنرثوبولوجيا‬
‫يف مختلف أبعاده البيوفيزيقيَّة واالجتامعيَّة والثقافيَّة‪“ ،‬علم شامل يجمع بني مجاالت وميادين‬
‫البرشي‬
‫ِّ‬ ‫مثل عن تاريخ تط ُّور الجنس‬ ‫متع ِّددة ومختلفة بعضها عن بعض كاختالف علم الترشيح ً‬
‫والجامعات العرق َّية وعن دراسة ال ُّنظم االجتامع َّية من سياس َّية واقتصاديَّة وقانون َّية ودين َّية وقراب َّية وما‬
‫الفكري‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ين يف مجاالت الثقافة املتن ِّوعة التي تشمل الرتاث‬ ‫إليها”[[[‪ ،‬وكذلك عن اإلبداع اإلنسا ِّ‬
‫ين‬
‫والفني‪ ،‬والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك اإلنسا ِّ‬ ‫َّ‬ ‫يب‬
‫وأمناط القيم‪ ،‬وأنساق الفكر‪ ،‬واإلبداع األد َّ‬
‫يف املجتمعات البرشيَّة‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن هناك أنوا ًعا ثالثة من األنرثوبولوجيا هي‪ :‬الثقافيَّة واالجتامعيَّة والدينيَّة‪ ،‬والرتكيز‬
‫وخصوصا ما يدور يف املوالد واالحتفاالت الدين َّية إلحياء ذكرى مولد أو‬ ‫ً‬ ‫يف‬
‫عىل املجتمع الصو ِّ‬
‫وفاة أحد األولياء الصالحني من أقطاب الصوف َّية أو تالميذهم أو مريديهم‪ ،‬وكام درسناها أيضً ا عىل‬
‫[[[‪.‬‬
‫يد أ‪ .‬د ‪ /‬فاروق أحمد مصطفى‬
‫نعود إىل نقطة تأصيل األنرثوبولوجيا لنقول إ َّن رجال االسترشاق الجدد يحتلّون مكانة مه َّمة‬
‫يب لنقد التص ُّوف ومامرساته األسطوريَّة األنرثوبولوج َّية العجائب َّية‪ ،‬ولهم يف‬ ‫يف الخطاب الغر ِّ‬
‫ذلك مناهج عديدة وتعريفات ت ُع ُّد ضمن األنرثوبولوجيا العا َّمة‪ ،‬أ َّما األنرثوبولوجيا االجتامع ّية‬

‫[[[‪ -‬األستاذ يف كل َّية اآلداب ومؤسس قسم االنرثوبولوجيا جامعة اإلسكندرية يف منتصف السبعين َّيات وبداية الثامنين َّيات ويُعدُّ رائدً ا لتأصيل‬
‫علم األنرثوبولوجيا‪.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أحمد أبو زيد – الطريق إىل املعرفة – كتاب العريب بالكويت – الطبعة األوىل – ‪ 2001‬م – الكتاب (‪ – )46‬ص‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬األستاذ يف قسم األنرثوبولوجيا بكل َّية اآلداب جامعة اإلسكندر َّية – رحمه الله – يف كتاب هام صدر بعنوان ‪“ -‬املوالد” دراسة للعادات‬
‫والتقاليد الشعب َّية يف مرص (‪ 1980‬م)‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫حقول التنظير‬

‫فيمكن تعريفها بأنَّها علم اإلنسان باعتباره كائ ًنا اجتامعيًّا‪ ،‬أو كام قال أرسطو قدميًا‪“ :‬اإلنسان‬
‫حيوان اجتامعي”‪ ،‬ولكن املشكلة تكمن – كام يذكر حسني فهيم – يف تع ُّدد فروع األنرثوبولوجيا‪،‬‬
‫تخصصات رئيس َّية هي‪ :‬األنرثوبولوجيا الطبيع َّية‪ ،‬واألنرثوبولوجيا االجتامع َّية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ويح ِّددها يف ثالثة‬
‫[[[‪.‬‬
‫واألنرثوبولوجيا الثقاف َّية‬
‫يبدو أن العتبة األوىل يف هذا الحقل من العلوم اإلنسانيَّة – والتص ُّوف اإلسالمي منها – هو‬
‫ربا لألنرثوبولوجيا كام يذهب كثري من املسترشقني والعلامء إىل التأكيد عىل‬ ‫امليدان بوصفه مخ ً‬
‫أي منوذج من النامذج التي تعتمد عىل البحث‬ ‫هذا األمر‪ ،‬وهذا ما سوف يتَّضح لنا لو قمنا بدراسة ِّ‬
‫ين يف بناء التص ُّورات وال ُّرؤى كام يف دراسة ظاهرة املوالد وزيارة األولياء واالحتفاالت‬
‫امليدا ِّ‬
‫الصوفيَّة التي ال تتوافق مع الرشع‪ ،‬كام أوضحت ذلك يف أحد مؤلَّفايت عن التص ُّوف اإلسالمي[[[‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬يذهب املسترشق إمييل دور كايم ‪ E. Durkheim‬عامل االجتامع املعروف‬
‫(‪ 1917 – 1958‬م) إىل أ َّن عىل الباحث الذي يقوم بدارسة وبحث حقول األنرثوبولوجيا‪ ،‬أن يختار‬
‫ع ّينات الدراسة من خالل فحص ووصف شعوب مع َّينة كانت متثِّل منطًا من أمناط العيش والحياة‬
‫العضوي – أم غري‬
‫ِّ‬ ‫يك إىل أشكال التضامن‬
‫سواء كانت بدائ َّية – تقوم عىل أشكال التضامن امليكاني ِّ‬
‫يئ وذلك يف التأسيس ملفاهيم انقسام َّية ‪ Segmantarite‬يف ميدان علم االجتامع [[[ ومناهجه‪،‬‬ ‫بدا ٍّ‬
‫األنرثوبولوجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا ما نجده يف منهج البحث‬
‫إذن‪ ،‬ميكن القول أ َّن نشأة علم االجتامع ونظريَّاته السوسيولوجيَّة جاءت يف تحليالت أوغست‬
‫الفرنيس (‪ )1857 – 1798‬التطوريَّة وتص ُّوراته الوضعيَّة الكالسيكيَّة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫كومت ‪ A. Comte‬العامل‬
‫وتص ُّورات هربرت سبنرس العامل الربيطاين (‪ )H. Spencer 1820 – 1903‬العضويَّة البيولوجيَّة‪،‬‬
‫وتفسريات دوركايم الواقعيَّة أو غريه من العلامء[[[‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬لو قمنا بتطبيق هذه املناهج عىل دراسة ونقد التص ُّوف والصوف َّية‪ ،‬وهذا ما نجده يف‬
‫منهج البحث األنرثوبولوجي إذ يذهب الباحث إىل موطن الشعب الذي اختاره موضو ًعا للدراسة‬
‫(امليدان)‪ ،‬ليك يقوم بعمله‪ ،‬فيستمع إىل أحاديثهم ويزور بيوتهم‪ ،‬ويحرض طقوسهم‪ ،‬ويالحظ‬
‫سلوكهم العادي … ويسألهم عن تقاليدهم‪ ،‬ويتآلف مع طريقة حياتهم حتى تصبح لديه فكره شاملة‬
‫عن ثقافتهم‪ ،‬فهذه الدراسات ال تعدم أمرين‪:‬‬

‫[[[‪ -‬حسني فهيم‪ :‬قصو األنرثوبولوجيا فصول يف تاريخ علم اإلنسان – عامل املعرفة – املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب – الكويت‬
‫– الطبعة األوىل – ‪ – 1986‬ص‪.18‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬صابر أبا زيد – التص ُّوف اإلسالمي بني الحقائق واألباطيل – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنرش – اإلسكندريَّة – الطبعة األوىل ‪2021‬‬
‫– يراجع الفصل السابع‪.‬‬
‫[[[‪ -‬إمييل دور كايم – قواعد املنهج يف علم االجتامع – ترجمة د‪ .‬محمود قاسم – دار املعارف – القاهرة – الطبعة األوىل – ‪ – 1950‬ص ‪.39‬‬
‫[[[‪ -‬يراجع يف ذلك د‪ .‬عبد الله محمد عبد الرحمن – النظر َّية يف علم االجتامع (النظر َّية الكالسيك َّية) دار املعرفة الجامع َّية – اإلسكندر َّية‬
‫‪ – 2003‬ص ‪.24‬‬

‫‪228‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫األمر األ َّول‪ :‬أ َّن لها غاية سياسيَّة تسعى من أجلها‪ ،‬فهي تقوم عىل دراسة الشعوب ليس من أجل‬
‫علمي عن طبيعة تلك‬
‫ٍّ‬ ‫غايات علميَّة فحسب‪ ،‬بل هناك أيضً ا مس ّوغات سياسيَّة من أجل تقديم تص ُّور‬
‫الشعوب حتى تسهل للدول الداعمة للبحوث من أجل تسهيل الطريق أمامها يف السيطرة عليها من‬
‫قبل الدول الغرب َّية‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫األمر الثاين‪ :‬أنَّها ال تقوم بعملها من دون خلف َّية علم َّية سابقة تقوم عليها برامج البحث يف‬
‫ميا عىل أساس ما‬
‫امليدان‪ .‬فالبحوث إ َّما أنَّها تؤكِّد عىل الفرض َّيات السابقة‪ ،‬أو تق ِّدم لها نق ًدا وتقو ً‬
‫يظهر يف امليدان من نتائج‪.‬‬
‫دعم‬
‫ً‬ ‫السيايس الذي يق ِّدم‬
‫ِّ‬ ‫أما عىل الصعيد األ َّول فيجعل البحث العلمي مرته ًنا للخطاب‬
‫ويسخِّر جهود الباحثني من أجل غايات الهيمنة عىل مق َّدرات اآلخر‪ ،‬عندما عمدت األنرثوبولوجيا‬
‫األنكلوسكسونيَّة وبالتحديد الربيطانيَّة إىل دراسة مجتمعات حوض البحر األبيض املتوسط‬
‫رئييس عىل ظاهرة السلطة داخل هذه‬ ‫ِّ‬ ‫مثل‪ ،‬إذ ركَّزت بشكل‬
‫وأفريقيا بعد الحرب العامل َّية الثانية ً‬
‫املجتمعات‪ .‬ولكن‪ ،‬هل هناك سلطة لدى الصوف َّية يف هذا املضامر‪ ،‬حيث أ َّن السلطة هنا تتمثَّل‬
‫يف إخضاع املريدين للشيخ‪ ،‬ومن هنا نراهم يأتون مبامرسات ما أنزل الله بها من سلطان‪.‬‬
‫يف‬
‫جه هذا الحقل املعر َّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن مقالنا هذا يؤكِّد عىل إبراز الغايات األنرثوبولوج َّية التي تو ِّ‬
‫فضل عن االسرتاتيج َّية الصوف َّية‬‫ً‬ ‫الذي ي َّدعي االستقالل َّية فإنَّه يظهر لنا بأنَّه محكوم باألحكام املسبقة‬
‫لدى جامعات وفرق الصوفيَّة وطوائفها التي تؤكِّد عىل توجيه البحث من أجل معرفة اآلخر‪ ،‬ومن‬
‫االسترشاقي القديم الذي عمل يف املغرب‬ ‫ِّ‬ ‫أجل تحقيق أهداف دنيويَّة‪ ،‬وهو بهذا جزء من املرشوع‬
‫مبراحل طويلة‪ .‬لكن من سامت هذا املنهج أنَّه جزء من منظّمة مدعومة من قبل بريطانيا من‬
‫يب التي هي جزء‬ ‫وخصوصا يف منطقة املغرب العر ِّ‬ ‫ً‬ ‫أجل تحقيق مقاصدها السياس َّية يف الرشق‬
‫يب‪ ،‬وهذا ما عمدت إليه األنرثوبولوجيا األنكلوسكسونيَّة‪ ،‬وبالتحديد‬ ‫من مرشوع االسترشاق الغر ِّ‬
‫ولعل أبرز مسترشقي بريطانيا هو أرنولد نيكلسون الذي كتب عن التص ُّوف والصوفيَّة‬ ‫َّ‬ ‫الربيطانيَّة‪.‬‬
‫صفحات وصفحات‪.‬‬
‫َّ‬
‫االستشراقية‪:‬‬ ‫‪ .2‬منهج االنقسام وأبعاده‬
‫يع ُّد مفهوم االنقسام من أه ِّم سامت هذا املنهج‪ ،‬إذ أعاد “ بول باسكون “ (‪1985 – 1923‬م)‬
‫بعد بحث واستقصاء‪ ،‬مفهوم (االنقسام َّية) إىل معنى ال يقرتب إىل مجال الفيزياء والعلوم بل وجده‬
‫مفهو ًما مأخوذًا من مصطلحات علم الحيوان‪.‬‬
‫ويُعترب إميل دوركايم أ َّول باحث وظَّف مفهوم “ االنقسام َّية “‪ ،‬حيث رأى أ َّن عامل االنشطار‬

‫‪229‬‬
‫حقول التنظير‬

‫كل عىل ِحده –‬ ‫يفهم حني يصبح الجيل الواحد مصد ًرا ألجزاء جديدة‪( :‬أبناء)‪ ،‬وهؤالء بدورهم – ٌّ‬
‫يشكِّل (وحدة سالليَّة) جديدة‪ ،‬تتف َّرع منها هي األخرى وحدات سالليَّة جديدة‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫وهذا ما يُطلَق عليه علم السالالت البرشيَّة يف الجغرافيا واألنرثوبولوجيا‪ ،‬وهي تعادل نظريَّة التب ّني‬
‫األنرثوبولوجي للتص ُّوف من‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وهذه من نقاط النقد‬
‫ِّ‬ ‫الروحي وامل ُريد والشيخ يف التص ُّوف‬
‫ِّ‬
‫قبل املسترشقني‪.‬‬
‫أ َّما عامل االنصهار‪ ،‬فيبدو حني يصبح هذا االنشطار نفسه مصد ًرا لتعيني “أجزاء” أو “أقسام”‬
‫جسد مستوى‬ ‫كل جيل من األجيال يُ َّ‬ ‫االنقسامي‪ .‬بهذا الشكل‪ ،‬إذن‪ ،‬يصبح ُّ‬
‫ِّ‬ ‫جديدة من داخل النسق‬
‫من االنقسام والتداخل‪ :‬فاملستوى األ َّول هو القبيلة‪ ،‬واملستوى الثاين هو القسمة أو الفرع القب ُّ‬
‫يل‪،‬‬
‫وصول إىل أدىن مستوى أي‬ ‫ً‬ ‫ويُصطَلح عليه “الخمس”‪ ،‬واملستوى الثالث هو الوحدة السالل َّية‬
‫الوحدة العائل َّية ثم الفرد‪.‬‬
‫كل من آل َّيتي “االنشطار” و”االنصهار” هاتني‬ ‫لكن‪ ،‬يبقى السؤال املطروح هو‪ :‬كيف تشتغل ٌّ‬
‫(سوسيولوج ًّيا)؟ وكيف تعمالن عىل بنية (‪ )Structuration‬مستويات الحياة االجتامع َّية والسياس َّية‬
‫االنقسامي وفق هاتني‬
‫ُّ‬ ‫أدق‪ ،‬كيف يعمل النسق‬‫االنقسامي؟ أو مبعنى ّ‬
‫ِّ‬ ‫وأشكالها من داخل املجتمع‬
‫اآلليَّتني عىل إنتاج وإعادة إنتاج نفسه‪ ،‬رغم عوامل الرصاع والتوتُّر التي تته َّدده؟ هنا بالذَّات يقدم‬
‫االنقسامي‬
‫ِّ‬ ‫تؤسس لل َّنسق‬‫االنقساميون مقولتي (التعارض) و (التحالف) كنموذج للتحليل‪ ،‬وكقاعدة ِّ‬
‫االنقسامي‬
‫ُّ‬ ‫ومت ُّده برشوط االستمراريَّة‪ .‬فإذا كانت الرصاعات وأشكال النزاع التي يشهدها املجتمع‬
‫– عرب مختلف مستوياته البنائ َّية – متثِّل واق ًعا مرتبطًا أش َّد االرتباط ببنيات ذلك املجتمع‪ ،‬وتناقضاته‬
‫الداخليَّة – كام يؤكِّد االنقساميون أيضً ا – فإ َّن ذلك ال ينفي وجود أشكال من التامسك واالتحاد‪،‬‬
‫فالرصاع يف مستويات أدىن وهذا ال ينفي وجود أشكال من التعاون والتحالف يف مستويات أعىل‬
‫وبصورة تلقائ َّية [[[·‪.‬‬
‫كانت الدراسات امليدانيَّة هي التي أكَّدت عىل هذا املفهوم‪ ،‬وبعد مرور حوايل عرش سنوات‬
‫ق َّدم املسترشقون دراسات عديدة وطرحوا موضوعات جديدة حول املجتمعات العرب َّية التي تتَّسم‬
‫بالقبل َّية والعرق َّية (مثل مرص واملغرب) مع الباحثني األنكلوسكسونيني من خالل االعتامد عىل‬
‫االنقسامي ومنطلقاته‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فرديَّات األمنوذج‬
‫يل جديد للمجتمعات الربيَّة وتحليل ميارس‬‫ولقد برز يف ميدان األنرثوبولوجيا منوذج تحلي ٌّ‬
‫لجاذب َّية وإغراء ال يُستهان بهام يف مجال العلم األنكلوسكسوين والذي سيبلغ أوجه يف التطبيق‬
‫عىل يد ثلَّة مه َّمة من الباحثني األنرثوبولوجيني من أمثال جيلرن‪ ،‬وجون واتر بويل (‪ 1939‬م) ورميون‬

‫أهم نتائج الطرح االنقسامي بخصوص رؤيته النقديَّة للقبيلة املغرب َّية يف دراسات عدَّ ة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ولقد قدَّ م املفكِّر املغريب لطفي اإلدرييس َّ‬

‫‪230‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫جاموس وجاك بريك وروبري منطاي وبول باسنت… إلخ [[[‪ ،‬إلَّ أنه عىل صعيد األحكام املسبقة جرى‬
‫إسقاط خطابات فكريَّة غربيَّة عىل شعوب أُخَر‪ ،‬وهذا االسقاط يفقد تلك البحوث قيمتها التجريبيَّة‪،‬‬
‫ويجعلها مرتهنة لألحكام الثقاف َّية والحضاريَّة التي انطلق منها الباحث سواء كان عامل ًا بها كباحث‬
‫يفّ‪.‬‬
‫وخصوصا يف رؤية النقد الصو ْ‬
‫ً‬ ‫ج ًها سياس ًّيا‪ ،‬وهذا ما ذكرناه من قبل‬
‫يخدم مرشو ًعا غرب ًّيا أم مو َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أ َّما موقف الباحثني العرب يف مجال األنرثوبولوجيا‪ ،‬فنلمسه من االصطالح‪ ،‬إذ من املالحظ‬
‫أ َّن مفهوم االنقساميَّة عندما انتقل إىل الُّلغة العربيَّة مل يصادف توافقًا بني الباحثني يف ما يتعلَّق‬
‫باملصطلح‪ .‬ونالحظ هنا أ َّن بعض التفاوت قد يحدث بني املفهوم واملصطلح والسيام لدى علامء‬
‫مقابل له‪ ،‬ويف املغرب ع َّربه عبد الكبري‬
‫ً‬ ‫يب‪ ،‬ففي تونس استعمل مصطلح “التجزؤيَّة”‬
‫املغرب العر ِّ‬
‫الخطيبي بلفظ “التجزيئة”‪ ،‬بينام استعمل أحمد التوفيق عبارة “االنقسام َّية” وهي التي نالت املوافقة‬
‫لدى العديد من املؤ ِّرخني‪.‬‬
‫هذا عىل مستوى االصطالح‪ ،‬أ َّما عىل مستوى النظريَّة فإ َّن النظريَّة االنقساميَّة تقوم عىل مبدأين‬
‫أساس َّيني‪:‬‬
‫األفقي‬
‫ِّ‬ ‫ـ مبدأ التعارض األفقي املؤ ّدي إىل التوتُّر والرصاع بني الوحدات املتساوية يف املستوى‬
‫من ضمن املنظَّمة االنقساميَّة‪.‬‬
‫العمودي وتحالفها‬
‫ِّ‬ ‫ـ مبدأ التكامل املفيض إىل التعاون بني الوحدات املتسلسلة يف املستوى‬
‫مع جهة أخرى‪.‬‬
‫من هنا ميكن لنا استحضار املقولة الشهرية يف نظام العصبيَّة الخلدونيَّة (ابن خلدون يف‬
‫املق ِّدمة)‪ ،‬وقد تع َّرضت هذه النظريَّة لكثري من النقد من قبل باحثني مغاربة وغري مغاربة نذكر منهم‬
‫الخاصة‪ ،‬أ َّما‬
‫َّ‬ ‫كل من منطلقاته‬
‫جرمان عياش وعبد الله حمودي واملفكر الكبري عبد الله العروي ٌّ‬
‫جه إليها فهو أنَّها نشأت لتعالج مجتمعات تفتقر إىل بنية الدولة األساس َّية‪،‬‬
‫األسايس الذي و ِّ‬
‫ُّ‬ ‫النقد‬
‫يئ أن استعمل‬
‫وتبي بعد ذلك أنَّه باإلمكان تجاوز هذه النظريَّة مع االستفادة منها فظهر من اإلجرا ِّ‬
‫َّ‬
‫عبارة الدولة االنقسام َّية بتوصيف الدولة املخزن َّية قبل االستعامر‪ ،‬وهي بطبيعة الحال دولة تتك َّيف‬
‫ولعل ما يرسي عىل املغرب ينطبق‬ ‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬وتلك هي أدوار األنرثوبولوجيا االجتامعيَّة‪.‬‬ ‫مع النظام القب ِّ‬
‫جل األولياء الصالحني ورواد الصوف َّية الذين أتوا إىل مرص‪ ،‬وعاشوا فيها‪ ،‬وأفادوا‬ ‫عىل مرص أل َّن َّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وماتوا و ُدفنوا مبرص‪ ،‬كانوا مغاربة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وكتبوا وعلَّموا وتركوا لنا تراث ًا زاخ ًرا من التص ُّوف‬

‫[[[‪ -‬محمد زاهد‪ ،‬إيت ورياغر‪ :‬قبيلة من الريف املغريب – أسئلة األنرثوبولوجيا ومداخل االسنوجرافيا‪.‬‬
‫‪ -‬أنظر ايضً ا ج‪ .‬آربري‪ .‬املسترشقون الربيطانيون – تعريب ‪ /‬محمد الدسوقي النويهي – لندن ‪ 1946‬م ‪ -‬ص‪.8‬‬

‫‪231‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يجدر القول أ َّن أغلب الدراسات االنقساميَّة والتي كانت تعتمد عىل النسب والقبليَّة كانت تؤكِّد‬
‫عىل أمرين‪:‬‬

‫األمر األ َّول‪ :‬أنَّه يق ِّدم الحلول للمشاكل التي تظهر عن اإلدارة والحكم املح ِّ‬
‫يل يف املجتمعات‬
‫يكّ‪.‬‬
‫البدائيَّة واملحليَّة التي تعتمد عىل التضامن امليكاني ْ‬
‫الحضاري الرسيع يف هذه املجتمعات واملساعدة‬ ‫ِّ‬ ‫األمر الثاين‪ :‬أنَّه يق ِّدم معالجة مشكالت التغيري‬
‫نص هام لعامل األنرثوبولوجيا”… وليك‬ ‫يف التكيُّف املناسب‪ ،‬وهنا يذكر مربوك بوطقوقت يف ٍّ‬
‫يحقِّق عامل األنرثوبولوجيا النجاح ألهدافه وبحوثه ودراساته‪ ،‬وقد جرى التقليد أن يقوم بأبحاثه‬
‫التاريخي للثقافة األورو – أمريك َّية‪ ،‬أو‬
‫ِّ‬ ‫امليدان َّية لدى الشعوب البدائ َّية[[[· التي تعيش خارج الت َّيار‬
‫املتحضة التي تعرف الكتابة وذلك للمقارنة وإيجاد أوجه التشابه واالختالف يف‬ ‫ِّ‬ ‫الثقافات األخرى‬
‫السياقات التاريخيَّة التط ُّوريَّة للثقافات اإلنسانيَّة املختلفة”[[[‪.‬‬
‫صا علم ًّيا يبحث يف أصول‬ ‫تخص ً‬
‫ُّ‬ ‫إنطالقًا من ذلك‪ ،‬أصبح علم األنرثوبولوجيا بشكل عا ٍّم‬
‫الشعوب املختلفة وخصائصها وتوزُّعها وعالقتها بعضها ببعض‪ ،‬ويدرس ثقافاتها دراسة تحليليَّة‬
‫مقارنة ترصد األنرثوبولوجيا انتظام وتغيُّ العقائد واألعراف والتقاليد يف مجتمع تسوده مواجهات‬
‫يف والصوف َّية يف القلب منها كام سيتَّضح عند عرضنا‬
‫دين َّية أو اجتامع َّية أو عرق َّية‪ ،‬واملجتمع الصو ُّ‬
‫لألنرثوبولوج َّيا الدين َّية‪.‬‬
‫َّ‬
‫الديني�ة‪:‬‬ ‫‪ .3‬حول األنرثوبولوجيا‬
‫األنرثوبولوجيا الدين َّية هي دراسة مع َّمقة للشعوب ومعتقداتها‪ ،‬وكيف تعمل هذه املعتقدات‬
‫ين‪ ،‬ويف هذا املضامر ال تشكِّل دراسة‬ ‫يف التشكيلة الثقافيَّة لشخصيَّة اإلنسان يف املجتمع املد ِّ‬
‫الهوت َّية (علم الكالم يف اإلسالم)‪ ،‬وال تشكِّل أيضً ا دراسة حول الحقيقة اإلله َّية للدين‪ ،‬بقدر ما هي‬
‫إل‬
‫دراسة لإلنسان‪ ،‬ما يعتقد به وما يشكِّل بالنسبة إليه حقيقة مطلقة‪ ،‬رغم عدم وجود حقيقة مطلقة َّ‬
‫اإللهي األسمى‪ ،‬والحقيقة غال ًبا نسب َّية وليست مطلقة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫يف الوجود‬
‫والديانة واملعتقدات ليست أشياء ما ّديَّة نتعامل معها‪ ،‬ذلك أ َّن مثل هذه املفاهيم املعنويَّة‬
‫تتشابك مع مفاهيم معنويَّة أخرى نتعامل معها كالعادات‪ ،‬والقيم‪ ،‬واملعايري‪ ،‬واألخالق‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫[[[‪ -‬هناك تقسيم ينظر إىل تاريخ البرشية وتطورها بالشكل اآليت‪ :‬املرحلة الوحشية وتتم َّيز بالعيش عىل النباتات والحيوانات الرب َّية‬
‫واستعامل آالت العرص الحجري‪ .‬واملرحلة الثانية واملرحلة الرببريَّة والتي تتميز بظهور الزراعة واآلالت املعدن َّية ونو ًعا من الحياة الجامع َّية‬
‫يف القرى والحوارض‪ .‬واملرحلة املتمدنة والتي بدأت عندما اكتشف اإلنسان فن الكتابة والقراءة – أنظر يف ذلك أشيل منتاجيو‪ :‬البدائية –‬
‫ترجمة الدكتور ‪ /‬محمد عصفور – سلسلة عامل املعرفة – الكويت – ص ‪.54‬‬
‫[[[‪ -‬مربوك بوطقوقة – املنهج األنرثوبولوجي والدراسات امليدان َّية‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫تدل عليها وتشري‬‫إل من خالل الكلامت والسلوكيَّات التي ُّ‬ ‫جميع هذه مفاهيم غري ما ّديَّة ال نعرفها َّ‬
‫األنرثوبولوجي للتص ُّوف من زاوية املامرسات السلوكيَّة‬
‫ِّ‬ ‫إليها‪ .‬ومن هنا كانت رؤية نقد االسترشاق‬
‫يف املوالد واالحتفاالت الصوف َّية بأولياء الله الصالحني مثل الطرق الصوف َّية املتع ِّددة‪ ،‬وقليل من‬
‫الخاص بهذه املامرسات‪ ،‬كام أ َّن القليل منهم ينظر إليها من‬
‫ِّ‬ ‫املسترشقني هم الذين يهت ّمون بالجزء‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ج ُّل اهتاممهم بدراسة الفلسفة اإلسالميَّة‬


‫خالل الرؤية األنرثوبولوجيَّة للتص ُّوف‪ ،‬ومن هنا كان أيضً ا ُ‬
‫اإلسالمي بعي ًدا عن نظرتهم األنرثوبولوجيَّة التي تدخل ضمن دراسة األنرثوبولوجيِا‬ ‫ِّ‬ ‫والتص ُّوف‬
‫الدين َّية والخلط بني الدين والثقافة بصفة عا َّمة‪.‬‬
‫نلفت هنا إىل أنَّه قد وقع االختالف يف اآلراء حول مدى التفاعل ما بني الدين والثقافة‪ ،‬وهل أ َّن‬
‫الثقافة ترتكز عىل الديانة وأ َّن الديانة هي أصل الثقافة؟ أم أ َّن الديانة هي إحدى املك ِّونات لثقافة‬
‫الفرد واملجتمع؟‪ .‬وتأيت هذه االختالفات انطالقًا من كون الديانة يف لحظة ما تصبح منسوجة‬
‫بالثقافة‪ ،‬كام أ َّن الثقافة تصبح مندمجة مع الرؤية الدين َّية بحيث يصعب الفصل يف ما بينهام‪ .‬كام أ َّن‬
‫مم يقع عىل مفهوم الديانة‪ ،‬ويذكر‬ ‫الرتكيز يف األنرثوبولوجيا الدينيَّة يقع عىل مفهوم الحضارة أكرث َّ‬
‫ليث العتايب أنَّه ميكننا أن نذهب إىل أبعد من ذلك لنقول‪“ :‬إ َّن اهتامم األنرثوبولوجيا الدين َّية يرتكَّز‬
‫عىل الخصائص االجتامع َّية للدين‪ .‬وعندما نتكلم عن الديانة هنا فإننا نتكلم عن ديانة مجموعة‬
‫إنسانية لها ثقافة مع َّينة (الصوف َّية) كام هو الحال يف الحديث عن الحضارة‪ .‬والديانة هي دامئًا‬
‫ديانة مجموعة من الناس (اإلسالم)‪ ،‬فحني نتكلَّم عن ديانة الفرد فإننا نفكِّر بديانة الجامعة التي‬
‫ريا من املفكّرين‬ ‫املؤسف له أ َّن كث ً‬
‫َ‬ ‫ينتمي إليها ذلك الفرد‪ ،‬والتي يشاركها حضارتها أو ثقافتها‪ .‬ومن‬
‫يغفلون عن أهم َّية االرتباط بني ظاهرة الدين وجامعة مع َّينة من الناس”[[[‪.‬‬
‫لقد شكَّلت الظاهرة الدين َّية محو ًرا أساس ًّيا يف الدراسات الرائدة يف العلوم االجتامع َّية مثل علم‬
‫االجتامع واألنرثوبولوجيا‪ ،‬وذلك أل َّن الرواد األوائل لهذين ال ِعلمني يف أوروبا كانوا مدفوعني بدافع‬
‫املؤسسات الدين َّية بسبب الثورة الصناع َّية والثورة السياس َّية التي‬
‫َّ‬ ‫البحث عن بدائل لالنهيارات يف‬
‫حصلت منتصف القرن الثامن عرش‪ ،‬وكأنَّهم كانوا يبحثون عن علم أخالق بديل لألخالق التي‬
‫حا‬
‫األخالقي يف اإلسالم فإنَّنا نجده واض ً‬
‫ِّ‬ ‫حصنا يف البديل‬ ‫كانت تفرضها املنظومات الدين َّية‪ .‬وإذا مت َّ‬
‫يف علم التص ُّوف وضوح الشمس يف كبد السامء‪ ،‬وأ َّن املا َّدة التي استخدمها العلامء الر َّواد يف‬
‫مجال األنرثوبولوجيا ودراسة الظواهر الدين َّية‪ ،‬هي تقارير استخدمها هؤالء العلامء من أجل تثبيت‬
‫اإلسالمي‪ ،‬حتى‬
‫ِّ‬ ‫وخصوصا يف مجال التص ُّوف‬
‫ً‬ ‫نظريَّاتهم متَّفقني يف ذلك مع فالسفة االسترشاق‬
‫وإن اختلفت حقول الدراسة امليدان َّية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬نقلً عن إدوارد إيفان إفانز – نظريات الدين البدايئ – ص‪.152‬‬

‫‪233‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ال ب َّد من القول أ َّن هذه التقارير مل تكن مليئة باملغالطات فحسب‪ ،‬بل كانت انتقائيَّة متا ًما‬
‫كل‬
‫حالة واملغامرون والضباط االستعامريون كانوا يبحثون عن ِّ‬ ‫وهذا هو صلب املوضوع‪ .‬فالر َّ‬
‫يب لريكِّزوا عليه مالحظاتهم‪ ،‬ومذكَّراتهم‪ ،‬وهكذا كان للسحر‬ ‫ما هو غريب وجذَّاب للمجتمع الغر ِّ‬
‫الحصة األكرب يف هذه الكتابات‪ ،‬بل نستطيع القول أنَّها شكَّلت‬
‫َّ‬ ‫والطقوس الدين َّية البدائ َّية والغيب َّيات‬
‫تسعة أعشار دراسة املجتمعات البدائيَّة[[[‪.‬‬
‫االفرتايض والظ ّن ِّي‪ ،‬وهذا أوقعهم‬
‫ِّ‬ ‫لقد اعتمد الرواد األوائل يف علم األنرثوبولوجيا عىل التاريخ‬
‫التصاعدي للمجتمعات اإلنسان َّية من‬
‫ِّ‬ ‫ط التط ُّور‬ ‫يف كثري من األخطاء‪ ،‬ألنَّهم كانوا يحاولون رسم خ ِّ‬
‫أسفل درجات سلَّم التط ُّور الذي اعتربوا أوىل خطواته هي املجتمعات البدائيَّة املعارصة لهم‪،‬‬
‫جرات االجتامع َّية (أو التابو)‪ ،‬معتمدين عىل طريقة قياس‬ ‫وتعاملوا معها عىل أنَّها نوع من املتح ِّ‬
‫أُثبِت خطلها وخطأها‪ ،‬وهي أ َّن املجتمعات املختلفة تقن ًّيا الب َّد وأن تكون نظُمها االجتامع َّية بدائ َّية‬
‫يئ كانت متط ِّورة‬
‫ريا من نُظُم وأنساق املجتمع البدا ِّ‬ ‫اللحقون أ َّن كث ً‬
‫مثل تقن َّياتها‪ ،‬بينام أثبت العلامء َّ‬
‫مثل كان متط ِّو ًرا إذا ما تعامل معه الناقد مبوضوعيَّة‪ ،‬وكذلك نُظُم اإلدارة‬
‫يئ ً‬‫وعمليَّة‪ .‬فالف ُّن البدا ُّ‬
‫والحريَّات الفرديَّة التي يعيشها الفرد يف ضمن بيئته االجتامع َّية[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫اإلسالمية‪:‬‬ ‫‪ .4‬إرنست جيلرن ومنهجه يف األنرثوبولوجيا‬
‫األنرثوبولوجي إرنست جيلرن (‪،)1995 – 1925‬‬
‫ُّ‬ ‫إ َّن من أبرز األمثلة عىل هذا املنهج هو املسترشق‬
‫يهودي – تشيكوسلوفايكّْ‪ ،‬هاجرت عائلته من باريس إىل براغ‪ ،‬وبعد الغزو‬ ‫ٍّ‬ ‫ولد يف باريس من أصل‬
‫جهت إىل لندن وهو يف الثالثة عرشة من عمره‪ ،‬وقد درس‬ ‫النازي لتشيكوسلوفاكيا سنة ‪ 1939‬م تو َّ‬
‫ِّ‬
‫الفلسفة والعلوم السياس َّية واالقتصاديَّة يف كل َّية بليول (‪ Balliol Collége‬جامعة أوكسفورد ‪)Oxford‬‬
‫بداية من ‪1947‬م‪ ،‬دخل مجال التدريس يف الجامعات اإلنكليزية‪ ،‬وعمل يف جمعية لندن‪ ،‬وتط َّور‬
‫وتخصص يف‬ ‫َّ‬ ‫يف مسريته العلم َّية من الفلسفة العا َّمة إىل علم االجتامع‪ ،‬ومنها إىل األنرثوبولوجيا‪،‬‬
‫األنرثوبولوجيا االجتامعيَّة‪ ،‬وانطالقًا من عام ‪ 1954‬قام بالعديد من الرحالت إىل شامل أفريقيا –‬
‫كام فعل املسترشق الفرنيس لويس ماسينيون – لينجز عد ًدا من البحوث حول جامعة األمازيغ يف‬
‫يب‪ ،‬وأع َّد منها موضوع رسالته للدكتوراه بعد إرشاف األستاذ جون ماك‬ ‫جبال األطلس باملغرب العر ِّ‬
‫خالصا يتح َّدث فيها عن الزوايا‬ ‫ً‬ ‫مرياي (‪ )John Mac Murray‬سنة ‪1961‬م وحملت عنوانًا صوف ًّيا‬
‫وال ُربط والخنقاوات “الزاوية لدى الرببر‪ :‬تنظيمها ودورها”‪ ،‬وجامعة الرببر أيضً ا جامعة مثلهم مثل‬
‫فضل عن احتكاكه املبارش بالثقافة اإلسالم َّية وتع ُّرفه‬ ‫ً‬ ‫يب‪ ،‬هذا‬
‫األمازيغ موجودون يف املغرب العر ِّ‬

‫[[[‪ -‬املرجع نفسه – ص ‪.153‬‬


‫[[[‪ -‬إشيل مونتياجو‪ :‬البدائية – مرجع سابق ص ‪ – 252 – 250‬أنظر أيضً ا موقع اإلنرتنت‪https://www.aranthropos.com - .‬‬

‫‪234‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫عىل عادات وتقاليد املسلمني وعقائدهم‪ .‬وقد ألَّف يف هذا الغرض مؤلَّفات ع َّدة منها كتاب أولياء‬
‫األطلس (‪ )Saints of Atlas‬عام ‪1969‬م‪.‬‬
‫عن ارتباطه باألنرثوبولوجيا اإلسالم َّية ذكر إرنست جيلرن يف كتابه “مجتمع مسلم”‪ ،‬وبشكل‬
‫تفسريي لدراسة املجتمعات اإلسالميَّة والعربيَّة بشكل‬ ‫ٍّ‬ ‫واضح‪ ،‬أنَّه يسعى لتقديم نظريَّة أو منوذج‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ريا وفضفاضً ا فإ َّن ما أكَّد عليه يف ثنايا منت الكتاب إذ كان يعتقد‬ ‫عا ٍّم‪ ،‬ورغم كون هذا الطموح كب ً‬
‫من متكُّنه من إنجاز مس َّودة أول َّية مه َّمة يف هذا االتجاه‪ ،‬وبطبيعة الحال هو يرى أ َّن ما يق ِّدمه ميثِّل‬
‫منظو ًرا ينطلق من مفاهيم أو نظريَّات ومناذج العلوم االجتامع َّية عمو ًما‪ ،‬وعىل وجه الخصوص‬
‫جه األنرثوبولوجيني الربيطانيني نحو‬ ‫األنرثوبولوجي عىل الطريقة الربيطانيَّة من منطلق تو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫املنظور‬
‫التجريبي عمو ًما (فلسفة كانت وهيغل)‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫االجتامعي والوظيف َّية قد جاء متأث ّ ًرا باالت ّجاه‬
‫ِّ‬ ‫دراسة البناء‬
‫جهت املدرسة‬ ‫خصوصا (أوجست كونت)‪ ،‬وهكذا تو َّ‬ ‫ً‬ ‫وبأفكار املدرسة الفرنس َّية لعلم االجتامع‬
‫االسترشاق َّية األنرثوبولوج َّية الربيطان َّية نحو دراسة األنساق االجتامع َّية ‪ Social Systems‬والبناءات‬
‫مم جعل مفهوم األنرثوبولوجيا الثقافيَّة عندهم يتطابق مع مفهوم‬ ‫االجتامعيَّة ‪َّ Social Structures‬‬
‫األنرثوبولوجيا االجتامع َّية ‪ Social Anthropology‬عىل خالف املدرسة األمريك َّية التي ات َّخذت‬
‫موقفًا متط ِّرفًا حيال التمييز بني األنرثوبولوجيا الثقاف َّية واألنرثوبولوجيا االجتامع َّية كام يبدو ذلك‬
‫االجتامعي‪ ،‬وكام نجد ذلك يف‬‫ِّ‬ ‫جل ًّيا من تركيزهم عىل دراسات الثقافة وإهامل دراسة السلوك‬
‫أعامل املسترشقني األمريكيني مثل رالف لنتون وكالك كهون وبواس…إلخ [[[‪.‬‬
‫ومبا أنَّنا لسنا يف مجال تناول مسألة األنرثوبولوجيا اإلسالم بصفة عا َّمة ولكننا أمام نقد رؤية‬
‫علمي‬
‫ٍّ‬ ‫خاصة من خالل اإلمكانيَّات واألهميَّة كموضوع‬ ‫َّ‬ ‫األنرثوبولوجي للتص ُّوف بصفة‬
‫ِّ‬ ‫االسترشاق‬
‫ميكن تقدميه بالدراسة والنقد والتحليل‪ .‬ولقد تناول ذلك العديد من النقاد والباحثني أبرزهم د‪.‬‬
‫طالل أسد[[[· – يف نقده لكتاب إرنيست جيلرن الذي نتح َّدث عنه يف هذه الجزئ َّية‪ ،‬وهو يوردها لنا‬
‫االسترشاقي‬
‫ِّ‬ ‫جا واح ًدا متشاب ًها يف أنحاء العامل‬
‫باملفرد وليس بالجمع عىل اعتبار أنها تشكل منوذ ً‬
‫النظري‪ ،‬وكيف وظفه يف قراءته‬ ‫َّ‬ ‫كافة‪ ،‬وهو عبارة عن تساؤل‪ :‬كيف ق َّدم جيلرن منوذجه أو منهجه‬
‫للمرجع َّيات؟‬
‫محوري عىل مق ِّدمة‬
‫ٍّ‬ ‫لقد اعتمد جيلرن عىل مصادر عديدة يف تقدميه ألمنوذجه‪ ،‬وركَّز بشكل‬
‫التونيس الذي عاش يف مرص فرتة طويلة‪ .‬ولقد وظَّف قضيَّة‬ ‫ِّ‬ ‫يب‬
‫ابن خلدون عامل االجتامع العر ِّ‬
‫التأويل ملسألة العصب َّية التي تُع َّرف عاداتنا وتقاليدنا العرب َّية اإلسالم َّية بالعصب َّية‪ ،‬لكن هذا التأثري‬

‫[[[‪ -‬أنظر يف ذلك د‪ .‬عيىس شامس – مدخل إىل علم اإلنسان – اتحاد الكتاب العرب – دمشق سوريا – ‪ 2004‬م – ص ‪.16‬‬
‫[[[‪ -‬هو أستاذ األنرثوبولوجيا الربيطانية‪ ،‬له العديد من املؤلَّفات منها األنرثوبولوجيا واالستعامر‪ ،‬ودراسة عن بدو الكبابيش يف السودان‬
‫ً‬
‫فضل عن كونه مح ِّر ًرا من مح ّرري االقتصاد واملجتمع‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫حقول التنظير‬

‫جهات القراءة االسترشاقيَّة التي‬‫مل يكن اعتباطيًّا بل كانت له مقاصده املنهجيَّة الثانويَّة أو حتى مو ِّ‬
‫تعتمد عىل املنهج االنقسام وأحكامه املسبقة والتي تح َّدثت عنها من قبل واملتولِّدة من قراءات‬
‫سابقة يف أماكن أخرى يف العامل‪ ،‬لهذا جاء عىل تص ُّور مح َّدد (يكون يف األساس انطالقًا من أن‬
‫يل‬
‫آراء وتفسريات ابن خلدون ملجتمعات شامل أفريقيا “املغرب العريب” إمنا يعتمد عىل البناء القب ِّ‬
‫القائم عىل العصبيَّة القبليَّة والغزو ومن ث َّم االنقساميَّة املستم َّرة) [[[‪.‬‬
‫إ َّن العصب َّية التي درسها ابن خلدون والتي تقوم عىل توصيف العصب َّية (األفراد الذين تجمع‬
‫بينهم رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الوالء)‪ ،‬باإلضافة إىل رشط املالزمة بينهم من أجل أن يت َّم‬
‫االجتامعي‪ ،‬وتبقى مستم َّرة ومتف ِّرعة بوجود هؤالء األفراد واستمرار تناسلهم‪ ،‬فينشأ بني‬ ‫ُّ‬ ‫التفاعل‬
‫يتعصبون لبعضهم بعضً ا حينام يكون هناك دا ٍع‬ ‫َّ‬ ‫أفرادها شعور يؤ ّدي إىل املحاماة واملدافعة‪ ،‬وهم‬
‫للتعصب‪ ،‬ويشعر الفرد بأنَّه جزء ال يتج َّزأ من أهل عصبته‪ ،‬ويف هذه الحالة يفقد شخص َّيته الفرديَّة إذ‬ ‫ُّ‬
‫جامعي مشرتك لدى أفراد العصبة‪ ،‬فهو ذو صبغة جمع َّية‬ ‫ٌّ‬ ‫تذوب يف شخص َّية الجامعة‪ ،‬وهو شعور‬
‫أساسيَّة بني الفرد واملجموعة‪ ،‬ويف حال تع ُّرض العصبة لعدوان يظهر “الوعي” بالعصبيَّة‪ ،‬وهذا‬
‫الوعي هو الذي يش ُّد أفراد العصبة إىل بعضهم بعضً ا‪ ،‬وهو ما يس ّميه ابن خلدون “بالعصب ّية” التي‬
‫بها تكون الحامية واملدافعة واملطالبة وكل أمر تجتمع عليه الجامعة أو الفرقة‪ .‬فالعصب ّية تكون من‬
‫“االلتحام بالنسب أو ما يف معناه” ومن الوالء والتحالف والصحبة‪ .‬وابن خلدون يرى “النسب أم ًرا‬
‫وهميًّا ال حقيقة له‪ ،‬ونفعه إمنا يف هذه الوصلة وااللتحام)[[[؛ فالتأكيد عىل الرابطة فيها تص ُّور إىل‬
‫تحول وليس ثابتًا كام تريد أن تؤكّد عليه الدراسات االستعامريَّة‪ ،‬ومنها دراسة جيلرن يف هذا الكتاب‬
‫يصح القول بأ ّن تص ُّوراته تنتمي اىل (تلك النصوص بوصفها قراءات‬ ‫ُّ‬ ‫الذي نتح َّدث عنه‪ .‬من هنا‬
‫استعامري تقوم عىل منطق الثبات والهويَّة‪ ،‬باملقابل يق ِّدم ف ّن املنطق الجديد ممكنات‬ ‫ٍّ‬ ‫وليدة فضاء‬
‫املتغية بحسب تغيُّ املحيط‪ ،‬فالقيم البدويَّة‬
‫ّ‬ ‫بالنسبي والعالقة‬
‫ِّ‬ ‫تقوم عىل مفهوم نقد الثبات والقول‬
‫ليست سلب َّي ًة يف ذاتها بل كانت تستجيب لتح ّديات مع َّينة مل تعد تستجيب ملنطق الحداثة والعلم‪،‬‬
‫لهذا تح َّولت إىل عائق أمام بناء ثقافة تع ُّدديَّة)[[[‪.‬‬
‫األنرثوبولوجي تنحرص‬
‫ِّ‬ ‫األنرثوبولوجي ايفانز بريتشارد ‪ [[[ E. Pritchard‬يرى أ َّن مه َّمة‬
‫ُّ‬ ‫كان العامل‬
‫االجتامعي الذي يتّخذ غال ًبا شكل نظم وأنساق اجتامع َّية كنظام العائلة ونسق‬ ‫ِّ‬ ‫يف دراسة السلوك‬

‫[[[‪ -‬أنظر يف ذلك د‪ .‬عبد الرحمن املودن – بعض مفاهيم العلوم اإلنسانية من منظور املؤرخ – دراسات يف نوفمرب ‪ 2015‬م – ص ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬ابن خلدون‪ ،‬املقدِّ مة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار القلم‪1989 ،‬م‪ .‬ص‪130‬‬
‫[[[‪ -‬عبد العزيز قباين‪ ،‬العصب ّية بن ّية املجتمع العريب‪ ،‬دار اآلفاق الجديد‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪ ،1‬ص‪ 19‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬هو عامل أنرثوبولوجيا إنكليزي كبري أسهم يف تطوير األنرثوبولوجيا االجتامع ّية‪ .‬كان بروفيسو ًرا يف األنرثوبولوجيا االجتامع ّية يف‬
‫رضا يف جامعة القاهرة سنة ‪ 1932‬م‪ .‬أجرى دراسات وأبحاثًا مه َّمة عن قبيلة‬ ‫جامعة أوكسفورد يف إنكلرتا من سنة ‪1970 – 1946‬م‪ .‬عمل محا ً‬
‫األزاندي والنوير ىف أفريقيا‪ .‬أنظر يف ذلك موقع‪https://arz.wikipedia.org/wiki - :‬‬

‫‪236‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫السيايس واإلجراءات القانونيَّة والعبادات الدينيَّة وغريها من ال ُّنظم واإلجراءات‬


‫ِّ‬ ‫القرابة والنظام‬
‫إىل جانب دراسة العالقة بني تلك ال ُّنظم واألنساق‪ .‬وقد ق َّدم هذا العامل نسخة منقَّحة من النظريَّة‬
‫االنقسام َّية التي تح َّدثنا عنها‪ ،‬وهي النظريَّات االنقسام َّية األكرث شيو ًعا وشعب َّية يف السبعين َّيات‪،‬‬
‫تفس لنا حقل املجتمعات املغارب َّية‪ .‬إذ حاول جيلرن أن يستلهم أفكار بريتشارد يف‬ ‫والتي كانت ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫األفريقي أن يحاول استلهامها يف توصيف املجتمع‬ ‫ِّ‬ ‫تطبيق تلك األفكار املستم َّدة من املجتمع‬
‫يل متنقِّل حاول تشخيصه بالسامت‬ ‫الصحراوي وإقليمه القائم عىل التنقُّل يف املغرب كمجتمع قب ٍّ‬
‫ِّ‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫السمة األوىل‪ :‬إ َّن اإلسالم ذو رسالة إلهيَّة كاملة وخامتة مام يحول دون تقديم بعض مجاالت‬
‫الحياة إىل سلطات دين َّية‪ .‬ثم صعوبة إمكان ًّية تقديم صور بديلة للنظام يف دفاعه عن موقف اإلسالم‬
‫من الحضارة والرصاع بينهام‪ ،‬إذ مجمل التغيُّ ات التي طرأت عىل اإلسالم ج َّراء الحداثة هي تغيُّ ات‬
‫متس الجذور‪ ،‬والصحيح أنَّه ليس مصد ًرا للحداثة إلَّ أنَّه املستفيد منها‪ ،‬وذلك ما يدعوه‬
‫طارئة ومل ّ‬
‫[[[‬
‫الديني كمنهجيّة وليس كعقيدة يف تحليل كثري من استنتاجاته وتفسريها‪.‬‬‫َّ‬ ‫إىل أن يعالج الفكر‬
‫السمة الثانية‪ :‬إنَّه كان أمي ًنا يف املرجع َّيات الغرب َّية التي كان يقوم بإسقاطها عىل واقع مختلف‬
‫اذ اعتمد جيلرن كذلك عىل مجموعة متباينة من املفاهيم واألفكار من مصادر متع ِّددة مختلفة من‬
‫اإلنكليزي ديفيد هيوم وآرائه يف الدين [[[‪ ،‬إذ يرى أ َّن الدين يف املجتمع‬
‫ِّ‬ ‫خالل مصادر الفيلسوف‬
‫يتأرجح بني فكرة التوحيد (وحدة الوجود) الصوف َّية والتع ُّدديّة (فرق إسالم َّية)‪ ،‬وتب ًعا لذلك يرى‬
‫جيلرن أ ّن هذه الصورة من أقوى االستعارات التي ميكن من خاللها فهم حركة التديُّن يف املجتمع‬
‫اإلسالمي تاريخيًّا‪ ،‬وأن ما متيزت به الحركة التاريخيّة للمجتمعات اإلسالميّة يف العرص الحديث‬ ‫ِّ‬
‫النص[[[ وإىل توليفة توفيق َّية ملفاهيم عامل‬
‫ّ ِّ‬ ‫يل ‪/‬‏‏‏‬
‫هو تح ُّرك البندول يف اتجاه طرف اإلسالم األصو ِّ‬
‫االجتامع ماكس فيرب أيضً ا الذي كان له أث ٌر يف كثري من الدراسات االجتامع َّية واألنرثوبولوجيا اذ‬
‫كل أعامله عىل عامل واحد هو (الدين)‪ ،‬وكانت تتَّخذ مسارين اثنني‪:‬‬‫انص َّبت ُّ‬
‫األول‪ :‬تبيان اإلسهامة اإليجاب َّية للمسيح َّية‪ ،‬أو إلحدى تأويالتها‪ ،‬يف تشكيل مصري الرأسامل َّية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬تبيان املعوقات التي أسهمت بها الديانات األخرى (طبقًا لديانته سواء كانت إسالميَّة أم‬
‫[[[‬
‫غريها مثل البوذيَّة والجين َّية)‪ ،‬يف منع بروز الرأسامل َّية‪ ،‬يف مناطق أخرى غري أوروبا‪.‬‬
‫ولعل هذا ما يظهر يف كتابة األخالق الربوتستانتيَّة التي استعرض بها بروز “التقليد” املتعلِّق‬
‫َّ‬

‫[[[‪ -‬آرنست جيلنز‪ :‬الشخص ّية العراق ّية وانرثوبولوجيا الدين ‪ -‬يف ضوء أطروحاته‪:‬‬
‫[[[‪.Hume ,A Treatise of Human Nature.Edited by LA Selted - Bigge) Oxford:the Clarendon pres,1896( -‬‬
‫[[[‪ -‬عبدالله بن عبد الرحمن الوهيبي‪ ،‬حول االسترشاق الجديد مقدِّ مات أول َّية‪ ،‬مجلَّة «البيان»‪ ،‬ط‪ ،1‬الرياض‪1435 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪. 105‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬د‪ .‬عيل ليلة‪ ،‬ماكس فيرب‪ :‬البحث املضاد يف أصل الرسامل ّية‪ ،‬املكتبة املرصيّة‪ ،‬ط‪ ،1‬اإلسكندريّة‪2004 ،‬م ص‪.12‬‬

‫‪237‬‬
‫حقول التنظير‬

‫مثل عىل ذلك العالقة بني روح الحياة االقتصاديَّة الحديثة‬ ‫معي من االقتصاد‪ ،‬وقد أخذ هذا ً‬ ‫بشكل ّ‬
‫وبني األخالق العقالنيَّة لدى الربوتستانتيَّة النسكيَّة [[[ (الزهديَّة الصوفيَّة يف اإلسالم وهو ما يعادل‬
‫الرشقي القديم)‪( .‬ومن ث َّم كانت موضوعات‬ ‫ِّ‬ ‫الرهبنة يف املسيح َّية واملعاناة يف فلسفات الفكر‬
‫الدين والتديُّن قد ظهرت جل ًّيا لدى ماكس فيرب يف تناوله “السلطة الكاريزم َّية” التي سوف يكون‬
‫اإلسالمي)‪ ،‬فهذه السلطة تقوم عىل‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫يب (العر ِّ‬‫لها أثرها يف آراء جيلرن عند توصيفه للمجتمع املغر ِّ‬
‫يل‪ ،‬أو القطب‪ ،‬أو اإلمام يف الفكر‬‫أساس وجود شخص ميتلك صفات استثنائيّة غري اعتياديّة كالو ِّ‬
‫لكل‬
‫قوي بأ َّن هذه القدرة يتمتَّع بها كأنه حاكم ِّ‬
‫اإلسالمي حيث لديهم قدرة روح َّية واعتقاد ٌّ‬‫ِّ‬ ‫يف‬
‫الصو ِّ‬
‫يشء وتظهر بواسطته معجزاته وانتصاراته‪.‬‬
‫حة الصفات‬ ‫ولكن مثل هذه السلطة قد تتالىش إذا مل يكن هناك يشء من الدالئل عىل ص َّ‬
‫كل ما ذكرناه‪ ،‬ونالحظ أ َّن األمثلة التي يوردها ماكس‬ ‫الخارقة أو غري االعتياديَّة التي يتمتَّع بها ُّ‬
‫والسحرة والقادة املشهورين‪ ،‬ورؤساء بعض‬ ‫فيرب عىل مامريس هذه السلطة تشمل األنبياء وال ُّرسل َّ‬
‫يف ومن يتبعهم من األفراد‪ ،‬وهذا التميُّز بالق َّوة الخارقة أو‬ ‫األحزاب وأولياء الله يف الطريق الصو ِّ‬
‫املبني عىل هذه القداسة التي تدفع األعضاء إىل‬ ‫ِّ‬ ‫الخاص َّية املق َّدسة لشخص الزعيم وبالنظام‬
‫ّ‬
‫التسليم بالقيمة الخارقة لرجل أو لفرد يتم َّيز بهذه السلطة [[[‪ .‬وأقصد هنا السلطة الدين َّية يف إطار‬
‫األنرثوبولوجيا اإلسالم َّية ومن مامرسات رجال الصوف َّية وأوليائهم عىل م ِّر العصور‪.‬‬
‫أ ّما تأث ُّره بإميل دوركايم (‪ 1917-1858‬م) فكان بسبب أن له رؤية نقديَّة حاول من خاللها تفسري‬
‫نشأة املجتمع وما يجعله ممك ًنا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى إىل تسليط الضوء عىل دور املجتمع يف‬
‫املنطقي‪ .‬ويراهن دوركايم عىل الدين كمفتاح لحل هاتني اإلشكاليَّتي‪ ،‬إذ يؤكد عىل أ ّن‬
‫ّْ‬ ‫انبثاق الفكر‬
‫جا تجريب ًّيا حاول من خالله استخالص تلك اإلجابات‬ ‫التمثُّالت الدين َّية متثُّالت جمع ّية‪ ،‬وتب ّنى منه ً‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫من دراسات ميدان َّية‪ ،‬تناولت باألساس الحياة الدين َّية ملا يس َّمى باملجتمعات “البدائ ّية”‪،‬‬
‫املامرسات الطقوس َّية الطوطم َّية‪ .‬ويف كتابه األشكال األول َّية للحياة الدين َّية يعرب دوركايم عن قناعته‬
‫كل العنارص‬
‫بأ َّن الدين يشكِّل الرحم الذي ولدت فيه الحضارة‪ ،‬فهو يتض َّمن يف نفسه منذ البدايّة َّ‬
‫التي أ ّدت إىل انبثاق مختلف متظ ُهرات الحياة االجتامع َّية‪.[[[”..‬‬
‫تلك املرجعيَّات كانت حارضة ومتحكِّمة يف فكر جليرن‪ ،‬وهذا ما ظهر يف كتابه عن اإلسالم يف‬
‫املغرب‪ ،‬قد تبدو يف الوهلة األوىل متطابقة متا ًما مع التيار العام السائد بني املسلمني‪ .‬فبالنسبة‬

‫[[[‪ -‬ماكس فيرب‪ ،‬األخالق الربوتستانت ّية وروح الرأسامل َّية‪ ،‬ترجمة‪ ،‬محمد عيل مقلد‪ ،‬مركز االمناء القومي‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬ص‪. 12‬‬
‫‪[2]- J. Beckford, Religion and Advanced Industrial Society (London: Unwin-Hyman, 1989) p:32.‬‬
‫‪[3]- (LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado: The Davies‬‬
‫‪Group, Second Ed., p. 236‬‬

‫‪238‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫اجتامعي‪ ،‬تعاليم اإلسالم فيه تفصيليَّة وتغطي نواحي‬


‫ٍّ‬ ‫إليه‪ ،‬يقدم اإلسالم كمس َّودة اجتامعيَّة لنظام‬
‫الحياة كافَّة‪ .‬وهذه املس َّودة ذات الطبيعة القانونيَّة األخالقيَّة‪ ،‬تتطلَّب من املسلمني االلتزام بها‬
‫جهاتها‪ .‬وبذلك يتشكّل املجتمع وتت ُّم صورته عىل هذا األساس‪ .‬واإلسالم يف نظر‬ ‫واإلذعان ملو ِّ‬
‫جيلرن يتم َّيز عن غريه من األديان يف قدرته وتف ُّوقه عىل فرض تعاليمه ومعتقداته عىل أتباعه‪ ،‬وهو‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫رصفات أتباعه يف نصوصه املق َّدسة التي ال ميكن لكائن من كان تغيريها‬ ‫ذو شخصيَّة مستقلَّة عن ت ُّ‬
‫النظري إذ‬
‫ِّ‬ ‫كل هذا ميكن رصده يف كتابة (املجتمع املسلم) بقسميه‬ ‫أو تحويرها أو العبث بها‪ُّ .‬‬
‫رصد الباحثون بها تع ُّد ًدا يف املوضوعات‪ ،‬وهذا ما جاء يف الفصل األ ّول ويف الفصول األخرى‬
‫املتبق ّية‪ ،‬ومر ُّد هذا اىل ما عرف عن جيلرن من تع ُّدد يف االهتاممات‪ ،‬فهو باإلضافة إىل أنّه من أبرز‬
‫علامء األنرثوبولوجيا الربيطانيني‪ ،‬فقد كان أيضً ا معروفًا بإسهاماته الفلسفيَّة وبالذات يف حواره‬
‫ونقده للمدرسة اإلنكليزيَّة العاملة يف مجال فلسفة الُّلغة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫واملتحول‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الديني�ة بني الثابت‬ ‫‪ .5‬األنرثوبولوجيا‬
‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫باإلضافة إىل ما سبق‪ ،‬فإن جيلرن ق َّدم جهو ًدا معروفة يف مجال دراسة علم االجتامع‬
‫وعىل وجه الخصوص اهتاممه بالبداوة يف وسط آسيا ومقارنتها ببداوة الرشق األوسط عمو ًما‪ .‬كام‬
‫وخصوصا يف‬‫ً‬ ‫كان له اهتامم متم ِّيز بقضايا الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬فهو من أكرب نقّادها وأبرزهم‪،‬‬
‫عالقتها بالدين‪ ،‬ورمبا كانت مداخلته وجدله مع أكرب أحمد[[[· يف أحد كتبه األخرية عن‪“ :‬العقل‬
‫والدين وما بعد الحداثة”‪ ،‬ويف هذا الكتاب تكامل مع كتابه السابق من خالل الرؤية التي ينطلق‬
‫منها نحو فهم اإلسالم‪ ،‬وهي الرؤية التي تؤكِّد عىل الثابت‪ ،‬وهو الرشيعة وتهمل املتح ِّول وهي‬
‫اللذع للنسبويّة الغرب َّية املطلقة‪ ،‬وكذلك‬ ‫الطقوس‪ ،‬لذا فهو يسعى يف الوقت نفسه ألن يق ِّدم فيها نقده َّ‬
‫األصوليَّة الوثوقيَّة اإلقصائيَّة لآلخرين‪ ،‬والتي يرى أن أفضل من ميثِّلها هو اإلسالم السيايس‪ ،‬وهذا‬
‫املركزي‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالمي بالقول‪ “ :‬قد يكون املق ِّوم‬
‫ِّ‬ ‫ما يظهر يف كتابه الثاين‪ ،‬فهو يصف بن َية املجتمع‬
‫نخبوي رفيع ميثِّل ثقافته العليا الفقهاء‬ ‫ٍّ‬ ‫فعل يف اإلسالم هو انشطاره داخل ًّيا اىل إسالم‬
‫واألكرث أهم ّية ً‬
‫قاعدي ميثِّل العا َّمة ثقافته الدنيا “‪ .‬فهو يحلِّل هذا القول عرب‬ ‫ٌّ‬ ‫شعبوي‬
‫ٌّ‬ ‫والعلامء واملفكّرون‪ ،‬وإسالم‬
‫تأكيده عىل التغيُّ ات التي أصابت البنيَة السياسيَّة يف اإلسالم يف حقبة التحديث وظهور االستقالل‬
‫بالقول‪“ :‬كان الخطر الذي يداهم الحاكم املسلم متمث ًِّل يف اندماج وتكتُّل هاتني الق َّوتني‪ :‬حركة‬
‫رص عىل الحفاظ عىل الحقيقة الدين َّية املتش ِّددة يؤازرها دعم مجتمعات محل َّية ريف َّية ذات َّية‬ ‫إحيائ َّية ت ُّ‬
‫الحكم‪ ،‬متالحمة ومسلَّحة ومتلك الخربة العسكريَّة مارست هذه املجتمعات املحل َّية يف العادة‬
‫(الشعبي)‪ ”.‬مبعنى أنّه يرصد التح ُّوالت الحديثة؛ ألنها‬ ‫ِّ‬ ‫القاعدي‬
‫ِّ‬ ‫شكل ثقافيًّا مختلفًا من اإلميان‬
‫ً‬

‫[[[‪ -‬وهو فيلسوف ومفكر باكستاين معروف وصاحب كتاب هام جدً ا بعوان " اإلسالم اليوم "‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الرشعي بإطاره العام كام هو‬


‫ِّ‬ ‫إصالحي إىل جانب محافظتها عىل الفكر‬
‫ٍّ‬ ‫تحديثي‬
‫ٍّ‬ ‫جمعت بني فكر‬
‫الشعبي كام هو يف الطرق الصوفيَّة واألولياء وكرامتهم‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫املؤسسات الدينيَّة اىل جانب اإلسالم‬
‫َّ‬ ‫يف‬
‫وكل ذلك يُع ُّد من أباطيل التص ُّوف‪ ،‬وبالتايل فهو‬
‫واملوالد وطقوسها‪ ،‬ومامرسات بعض الصوف َّية‪ُّ ،‬‬
‫رسمي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫شعبي وتراث‬
‫ٍّ‬ ‫يريد إرجاع الرصاعات داخل اإلسالم إىل منط من الرصاع بني تراثني‪ :‬تراث‬
‫النخبوي عىل الطبيعة التوحيديَّة‪ ،‬أ َّما اإلسالم العام أو اإلسالم‬
‫ِّ‬ ‫يش ِّدد هذا النمط الرفيع من اإلسالم‬
‫الشعبي بثقافته الدنيا فمختلف متا ًما‪ .‬وإذا ما عرف القراءة والكتابة فهو يفعل ذلك بشكل‬ ‫ُّ‬ ‫القاعدي‬
‫ُّ‬
‫رئييس يستعمل الكتابة ألغراض السحر‪ ،‬وليس كأداة للعلم والثقافة‪ ،‬وهو يش ِّدد عىل الشعوذة أكرث‬ ‫ٍّ‬
‫يف أكرث من التعقيد بالقانون والنظام[[[‪.‬‬ ‫من التعلُّم‪ ،‬والنشوة والوجد واالنجذاب الصو ِّ‬
‫هذا الكتاب يدعم كتابه األ ّول ويؤازره يف التأكيد عىل الجانب الثابت والصلب أي الرشيعة‪،‬‬
‫وهي التي تعارض الحداثة والقوانني الوضعيَّة‪ ،‬لهذا نجده يقول‪“ :‬الفكرة الرئيسة‪ ،‬أو النظريَّة التي‬
‫يعب عن وجود مجموعة‬ ‫اجتامعي ألنه ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫يتمحور حولها الكتاب تقول إ َّن اإلسالم يشكِّل مس َّود ًة لنظام‬
‫من القواعد األزل َّية واملنزلة املستقلَّة عن إرادة البرش التي تح ِّدد النظام الصحيح للمجتمع‪ ،‬وهي‬
‫مم ينفي‬ ‫القواعد املوجودة واملحفوظة واملتاحة للجميع وليست يف يد طبقة أو هرم َّية دين َّية‪َّ ،‬‬
‫الحاجة إىل “كنيسة” من دون أن يلغي هذا وجود “الفقهاء” يف املجتمع”[[[‪ ،‬وتلك هي وجهة نظر‬
‫مسيحي وما يقابله لدينا يف اإلسالم أنه ال اختالف بني الرشيعة والحقيقة‪ ،‬فهي‬ ‫ٍّ‬ ‫أنرثوبولوجي‬
‫ٍّ‬ ‫عامل‬
‫من الثوابت كأصول دين َّية‪ ،‬أ َّما املتح ِّولة والتي ذكرها بالطقوس فهي مامرسات من طوائف مح َّددة‬
‫وغالبيتهم من أصحاب ورواد الطرق الصوف َّية الذين ينترشون يف رشق البالد وغربها‪.‬‬
‫َّ‬
‫النقدية من املنهج االنقسايم لدى إرنست جيلرن‪:‬‬ ‫‪ .6‬املواقف‬
‫وخصوصا كتابه عن “األنرثبولوجيا يف اإلسالم”‬ ‫ً‬ ‫كان الكاتب إرنست جيلرن الذي نتناول فكره‬
‫معروفًا يف األوساط العلميّة‪ ،‬وموضو ًعا لدراسات وانتقادات تناولت جوانب عديدة مام ق َّدمه‪.‬‬
‫فهو يعرض أفكاره بوصفها أفكا ًرا “موضوع ّية” نزيهة من أي تح ُّيز أو تحامل عىل املجتمعات‬
‫التي يدرسها‪ ،‬بل إ ّن بعض علامء األنرثوبولوجيا املسلمني كانوا يع ُّدونه من أبرز املنارصين‬
‫للرأي املسلم‪ ،‬أو عىل األقل املدافعني عنه واملتفه ّمني لدوافعه! وما يجعل ملثل هذه اآلراء‬
‫ولعل‬
‫َّ‬ ‫أهميَّتها أ َّن جيلنز كان دائم الحضور يف املحافل السياسيَّة الربيطانيَّة واألوروبيَّة امله َّمة‪،‬‬
‫شغله ملنصب كريس الدراسات األنرثوبولوج ّية يف جامعة كمربيدج‪ ،‬ومن ثم إبراز اهتاممه بدراسة‬
‫عامل مه ٌّم للغاية يف تاريخ الدراسات األنرثوبولوج َّية عمو ًما‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اإلسالم واملسلمني ومنهم الصوفية‪،‬‬

‫[[[‪ -‬إرنست‪ ،‬جيلرن‪ ،‬العقل والدين وما بعد الحداثة‪ ،‬دار املدى للطباعة والنرش‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬محمد م األرناؤوط‪ :‬عرض لكتاب مجتمع مسلم إلرنست جيلرن‪ ،‬ترجمة أبو بكر أحمد باقادر ‪2005‬م‪ ،‬موقع أرنرتوبوس‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫ويف تاريخ هذه الجامعة عىل وجه الخصوص![[[‪ .‬وسنعرض هنا ثالثة مناذج من املواقف النقديَّة‬
‫االنرثوبولوجي لإلسالم واملسلمني وهم‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫للمنهج الصو ِّ‬

‫طالل أسد‪:‬‬
‫يف مقاله “البحث عن مفهوم ألنرثوبولوجيا اإلسالم”‪ ،‬يرى طالل أسد أ َّن جيلرن بسط اإلشكال َّية‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مخل‪ ،‬وتجا َهل حيويَّة تاريخ املسلمني وطبيعة تعاملهم مع النصوص اإلسالم َّية‬ ‫التي يدرسها بشكل ٍّ‬
‫نص مق َّدس يعمل يف الهواء‪ ،‬إذ غ َّيب املسلمني بوصفهم‬ ‫األساس َّية‪ ،‬وهو يرى أ ّن ما ق َّدمه عبارة عن ٍّ‬
‫النص املق َّدس‪ .‬ويقرتح يف هذا املضامر إعادة النظر يف نوعيَّة‬ ‫ِّ‬ ‫كائنات تتفاعل وتعيش تعاليم‬
‫اإلسالمي بر َّمته‪ ،‬األمر الذي يتجاهله جيلرن يف نظره‪ ،‬ويرى أ ّن من أه ِّم مم ّيزات هذا‬‫ِّ‬ ‫الخطاب‬
‫فضل عن السوابق‬ ‫ً‬ ‫النص املق َّدس (القرآن والس َّنة)‬
‫ِّ‬ ‫تراكمي عىل‬
‫ٌّ‬ ‫تفسريي‬
‫ٌّ‬ ‫الخطاب أنَّه استطراد‬
‫التاريخ َّية والظروف والسياقات االجتامع َّية واالقتصاديَّة والسياس َّية التي مي ُّر بها املجتمع‪ ،‬ومن‬
‫تفاعل هذه األمور تتولَّد عمليَّة التفاعل مع النصوص املق َّدسة والتعامل معها‪.‬‬
‫يب‬
‫وحاول أسد أن يؤكِّد عىل نقده يف توظيف املسترشقني ملفهوم االنقسام َّية يف املجتمع املغر ِّ‬
‫التقليدي مبنيَّة عىل أساس‬
‫ِّ‬ ‫والذي استم َّر عليه جيلرن عندما أكّد عىل أ َّن سامت املجتمع املسلم‬
‫املعياري هو “ دين الدراويش واملرابطني “ أي الصوف َّية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ثالثة مفاهيم مختلفة ج ًّدا‪ .‬فدين القبيلة‬
‫يتجسد لنا مفهوم دوركايم يف األعياد‪ ،‬ويجعلها مبهمة كيشء مق َّدس ومرئ َّية رائعة‬
‫َّ‬ ‫ويف كلامت جيلرن‬
‫وأصيلة لذا فإ َّن مفهوم الدين يشمل هنا اإلشارة إىل قراءة الطقوس الجامع َّية عىل اعتبار كونها ً‬
‫عمل‬
‫متثيل رمزيًّا للبنيات االجتامعيَّة والكونيَّة‪.‬‬
‫ً‬ ‫مق َّد ًسا – واألمر نجده كذلك عند دوركايم باعتبار الدين‬
‫مشتق بوضوح‬ ‫ٌّ‬ ‫أ َّما يف املفهوم املستعمل لوصف دين فقراء الحرض فهو مختلف كل ًّيا وهو‬
‫من الكتابات املبكرة لكارل ماركس عن الدين والذي قال إن (الدين أفيون الشعوب)‪ ،‬وذلك عىل‬
‫“وعي زائف”‪ ،‬فيكتب جيلرن‪“ :‬للمدينة فقراؤها وهم من دون جذور وغري مستق ّرين‬ ‫ٌ‬ ‫أساس أ َّن الدين‬
‫ومغرتبني وما يحتاجونه من الدين هو االندماج والتامسك أو الهروب‪ ،‬وذوقهم مييل إىل القساوة‬
‫الديني والذي هو نسيان أيضً ا”‪ .‬وحني نلتفت إىل دين الربجوازيَّة‬
‫ِّ‬ ‫واإلثارة مع انخراط يف الطرف‬
‫نواجه أفكا ًرا تنظيميَّة نجدها جديدة أيضً ا‪ ،‬إذ يعلِّق جيلرن فيقول‪“ :‬إن الربجوازي الحرض الذي هو‬
‫أبعد ما يكون عن تذ ُّوق االحتفاالت العا َّمة‪ ،‬ويفضِّ ل املتعة العاقلة يف التقوى التي تقوم عىل‬
‫تجانسا مع كربيائه ورسالته التجاريّة”[[[‪ .‬وهنا نستطيع القول أنَّه من املمكن‬
‫ً‬ ‫العلم‪ ،‬وهو ذوق أكرث‬

‫[[[‪ -‬محمد م األرناؤوط‪ :‬عرض لكتاب مجتمع مسلم إلرنست جيلرن‪ ،‬ترجمة أبو بكر أحمد باقادر ‪2005‬م‪ ،‬موقع أرنرتوبوس – مرجع سابق‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬طالل أسد‪ ،‬فكرة أنرثوبولوجيا اإلسالم‪ ،‬ضمن الفصل الثاين من تحرير وترجمة أبو بكر أحمد باقادر‪ ،‬أنرثوبولوجيا اإلسالم‪ ،‬دار‬
‫الهادي‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪2005 ،‬م‪ ،‬ص ‪. 53-49‬‬

‫‪241‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ّْ‬
‫بالزي‪.‬‬ ‫رسمي كام نرى صوفيًّا درويشً ا بجلباب مم َّزق‪ ،‬فال عالقة للتديُّن‬
‫ٍّ‬ ‫بزي‬
‫أن نرى صوفيًّا ٍّ‬
‫والحرضي –‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫هنا يقول طالل أسد‪“ :‬هذه الطرق املختلفة يف الحديث عن الدين – القب ِّ‬
‫هي ليست مج َّرد جوانب مختلفة لليشء نفسه‪ .‬إنها بناءات وصيغ مختلفة تحاول أن تق ِّدم أشياء‬
‫ربر‬
‫مختلفة‪ ،‬وترفض افرتاضات مختلفة حول‪( :‬طبيعة الحقيقة االجتامعيَّة وأصول االحتياجات وم ِّ‬
‫املعاين الثقاف ّية)‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬هي ليست مج َّرد تقدميات مختلفة‪ ،‬بل إنَّها بناءات متباينة‪ ،‬وعند‬
‫اإلشارة اليها فإننا ال نقارن بني متشابهات”[[[‪.‬‬
‫التلفيقي الذي تعامل به املسترشق جيلرن يف دراسة‬
‫َّ‬ ‫مم ت َق َّدم‪ ،‬نرى أ َّن أسد ينتقد األسلوب‬
‫َّ‬
‫املجتمعات الشامل أفريق َّية الذي يق ِّدمه يف كتابه‪ ،‬وعىل وجه الخصوص كيف َّية استخدامه مفهوم‬
‫الدين ووظائفه عند ماركس ودوركايم وفيرب‪ ،‬وجعلها كام لو كانت مفاهيم منفصلة ميكن استعارتها‬
‫التناصات من دون أن يدرس‬
‫َّ‬ ‫بعي ًدا عن املنظومة النظريَّة‪ .‬وهو ق َّدم نق ًدا آخر لجيلرن حيث أنَّه وظَّف‬
‫اإلسالمي وقام بعمل َّية إسقاط من دون مراعاة تباين البيئات‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫البيئي لبالد املغرب العر ِّ‬
‫َّ‬ ‫املحيط‬
‫يب‪ ،‬وهذا إسقاط متولِّد من مجتمع مختلف نقلها‬
‫الثقاف َّية واالجتامع َّية بني الغرب وبالد املغرب العر ِّ‬
‫إىل مجتمع مختلف يف املدخالت واملخرجات‪.‬‬

‫سايم زبي�دة‪:‬‬
‫ينتقد جيلرن انطالقًا من زاويّة مختلفة متا ًما‪ ،‬فهو يرى أ َّن منوذجه أو أطروحته‪ ،‬إن صدق فإنَّ ا‬
‫يصدق عىل املجتمعات البدويَّة يف شامل أفريقيا التي درسها يف األصل ابن خلدون والتي مل‬
‫يضف جيلرن الكثري إليها عىل ما ق َّدمه ابن خلدون! ومن ثم تعميم أطروحته عىل املجتمعات‬
‫اإلسالم َّية أمر يحتاج إىل إثبات‪ .‬ويف الواقع يق ِّدم زبيدة اعرتاضاته الواحد تلو اآلخر مؤكِّ ًدا عىل أ َّن‬
‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫املجتمعات البدويَّة ال تشكِّل سوى جزء أو صنف من أصناف أخرى ظهرت يف العامل‬
‫والرشق األوسط عىل وجه الخصوص‪ .‬ويف هذا السياق يق ِّدم “املجتمع العثامين” كنموذج‪ ،‬وهو‬
‫حرضي مركَّب متم ِّيز ببريوقراط َّية واسعة وحياة حرضيَّة‬
‫ٍّ‬ ‫وسيايس‬
‫ٍّ‬ ‫اجتامعي‬
‫ٍّ‬ ‫مجتمع مت َّيز بنظام‬
‫مركَّبة‪ .‬صحيح أ َّن مثل هذا املجتمع ق َّدم مناذج نظريَّة لدراسته من مثل مجتمعات االستبداد‬
‫فضل عن إمكانيَّة دراسة أمثال‬ ‫ً‬ ‫اآلسيوي وخالفه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الرشقي أو املجتمعات املائيَّة أو أسلوب اإلنتاج‬
‫ِّ‬
‫هذا املجتمع‪ ،‬ورغم تع ُّدد صوره ومناذجه‪ ،‬بوصفها مجتمعات أمرباطوريَّة‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬ميكننا‬
‫االجتامعي املختلف‪ ،‬وكذلك مجتمعات‬ ‫ِّ‬ ‫إضافة مجتمعات الجزيرة العرب َّية ذات البناء والتاريخ‬
‫جنوب وجنوب رشق آسيا وكذلك وسط آسيا‪ ،‬واألقل ّيات املسلمة يف آسيا وأوروبا وأفريقيا‪ ،‬والتي‬

‫[[[‪ -‬طالل أسد فكرة أنرثوبولوجيا اإلسالم – مرجع سابق‪.70 ،‬‬

‫‪242‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫تحليل‬
‫ً‬ ‫تق ِّدم مناذج مجتمعيَّة رمبا كان من الصعب أن نتص َّور أ ّن أمنوذج جيلرن ميكن أن يق ِّدم‬
‫لبنيتها وأسلوب الحياة فيها‪ .‬ويرى محمد األرناؤوطي أثناء عرضه لكتاب “مجتمع مسلم” إلرنست‬
‫كل ما‬‫جيلرن أ ّن آراء زبيدة يف هذا الخصوص صائبة وتتَّفق معها د‪ .‬ليىل أبو اللغد ‪ -‬وإن كان ُّ‬
‫تفعله أنّها تجعل أطروحة جيلرن محصورة يف دراسة مجتمعات شامل أفريقيا![[[‪ ،‬والتي متثل بالد‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫وخصوصا الذين رحلوا منها إىل مرص يف عصور مختلفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يب مصدر أغلب الصوفيَّة‬
‫املغرب العر ِّ‬

‫عبد هللا حمودي‪:‬‬


‫ظهرت مجموعة أخرى من الدراسات النقديَّة من الباحثني املغاربة الذين اعرتضوا عىل‬
‫االنقسامي لدراسة مجتمعات شامل أفريقيا‪ ،‬مق ِّدمني يف نقدهم العديد من‬
‫ِّ‬ ‫صالح َّية األُمنوذج‬
‫األمثلة التاريخ َّية واالجتامع َّية عىل عدم صالح ّية النموذج النظري أو مصداق ّيته لتفسري ما كان يجري‬
‫فعل يف تلك املجتمعات‪ ،‬وإن كان النقد مركز عىل األدوات واملفاهيم وليس مبجمل األطروحة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ومن تلك املالحظات عىل األدوات نذكر‪:‬‬
‫أ‌‪ -‬إسقاط األمنوذج‪ :‬ونعني بذلك أ َّن االنقسام َّية سقطت يف فخ األمنوذج الذي كان دوركايم‬
‫قد رسم معامله يف ما سبق واستكمل إنجازه ايفا نز بريترشد يف إطار مجتمع نييل له خصوصيَّات‬
‫اإلسالمي يف منطقة برقة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مت ّيزه عن املجتمع‬
‫االجتامعي‪ :‬يضاف إىل ما سبق أ َّن التناقض البارز الذي‬
‫ّْ‬ ‫التاريخي والرتاتب‬
‫ِّ‬ ‫ب‌‪ -‬إهامل البعد‬
‫وقع فيه االنقساميون هو التناقض مع واقع القبائل التي قاموا بدراستها‪ ،‬وهذا ما أ َّدى بهم إىل فصل‬
‫التاريخي العام‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫القبائل عن سياقها‬
‫فضل عن ذلك‪ ،‬إن ما يبعث عىل االستغراب والدهشة لدى الباحثني‬ ‫ً‬ ‫ج‪ -‬إهامل أشكال امللك َّية‪:‬‬
‫االنقسامي إهاملهم ملسألة تحليل أشكال امللك َّية داخل املجتمعات القبل َّية؛‬ ‫ِّ‬ ‫ذوي املنحى‬
‫البت يف تأثري اإلسالم عىل نظام امللك ّية‪.‬‬‫وذهولهم الشديد عن ِّ‬
‫د‪ -‬نقد نظريَّة الجد املشرتك‪ :‬حينام ركَّزت النظريَّة االنقسام َّية عىل مسألة الج ِّد املشرتك الذي‬
‫مجال لالرتياب‪ ،‬أ َّن‬
‫ً‬ ‫ريا‪ ،‬فالواقع يثبت مبا ال يدع‬ ‫تنحدر منه القبيلة فإنها بذلك جانبت الصواب كث ً‬
‫الجد املشرتك املزعوم قد ال يكون ج ًّدا فعل ًّيا‪.‬‬
‫للمؤسسة‬
‫َّ‬ ‫مم سبق أ ّن جليرن يعطي أهم َّية قصوى‬ ‫هـ‪ -‬املرابطون وطوىب التحكيم‪َّ :‬‬
‫يتبي َّ‬
‫املرابط َّية يف الحفاظ عىل توازن القبيلة؛ يف حني تفيد بعض الدراسات التي أنجزت يف حقل‬
‫يب بأ ّن الصلحاء كانوا رجال حرب من الدرجة األوىل؛ فقد كانوا يكلّفون‬
‫االجتامعي املغر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫التاريخ‬

‫[[[‪ -‬محمد م األرناؤوط‪ ،‬عرض لكتاب مجتمع مسلم إلرنست جيلرن‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫حقول التنظير‬

‫مبهام إخامد الفنت؛ وش ّد أزر السلطان عرب التعاون مع ممثّيل املخزن املحلّيني إلخضاع السكان‬
‫إ َّما بالرتهيب أو بالرتغيب‪.‬‬
‫بي كيف‬‫هذه املالحظات تناولها عبد الله حمودي يف دراسته النقديَّة النقسام َّية جيلرن حيث َّ‬
‫أ َّن هذا األخري مل يفطن ألمر وجود عائالت كربى تحظى بالتقدير الكبري من لدن العطاويني وهم‬
‫املعروفون بـــ “اختارن” مفرد “أختار” وتعني الكلمة الشيخ أو الكبري‪ /‬كبري القوم‪ .‬فـ “اختارن” هم‬
‫الذين يحتكرون الرئاسة؛ نظ ًرا لعراقة نسبهم وكرمهم‪ .‬يقول حمودي يف هذا اإلطار‪“ :‬يح ّدد النسب‬
‫ظاهريًّا القسامت االجتامع َّية باعتبارها مفهومة للمجموعات البرشيَّة وملستويات االنقسام التي‬
‫تحتلُّها وكذلك لنقاط االنصهار واالنشطار”‪.‬‬
‫أ َّما بخصوص الرصاعات فريى حمودي أنَّه بسبب الرصاعات القبل َّية املستم َّرة يحدث أن تستويل‬
‫قبيلة ما عىل أدوار أو عىل قبيلة أخرى فيت ُّم إدماج املجموعات املغلوبة من ضمن املجموعات‬
‫حق الُّلجوء‪ ،‬والضيافة ويف نهايّة املطاف إعطاء أسامء جديدة للمناطق التي‬ ‫الغالبة؛ ومنح أعضائها َّ‬
‫ربر الغزاة رشع َّية وجودهم واستحواذهم عىل أرايض‬ ‫قائل‪“ :‬بهذا األسلوب ي ِّ‬
‫ت َّم إخضاعها‪ .‬ويردف ً‬
‫القريّة‪ ،‬كام يحاولون إعطاء صورة متجانسة بالنسبة إىل الخارج عن املجموعة التي يشكّلونها مع‬
‫“مستقبليهم”‪ ،‬ويف النقطة التي تناولت توظيف جيلرن ملفهوم “الصلحاء” يرى حمودي أ ّن صلحاء‬
‫زاوية التي درسها كانوا يتم َّيزون بقدرة هائلة عىل إخامد الفنت بالقتال الضاري اليشء الذي يج ُّرنا‬
‫حق‬
‫عسكري يقود جموعه التي يرتكب بها أحيانًا مجازر وحش ّية يف ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫إىل القول بأ َّن “األكرام” زعيم‬
‫املعارضني‪ ،‬األمر الذي يضحى معه خط ًرا عىل السلطان نفسه‪ ،‬وهو ما يدفعنا إىل القول بأ َّن مساملة‬
‫تظل يف تقديرنا يف غايَة النسبيَّة‪ ،‬كام الحظ‬
‫الصلحاء وأدوارهم التحكيميَّة بني القسامت املتنازعة ُّ‬
‫جيلرن‪.‬‬

‫إدوارد سعيد‪:‬‬
‫هو من أه ِّم الذين كتبوا يف االسترشاق وعن املسترشقني‪ ،‬ولعلَّه يُع ُّد من أشهرهم‪ ،‬وبطبيعة‬
‫الحال ال ب َّد لنا من التعريج وبشكل رسيع عىل الجدل الساخن الذي دار بينه وبني وجيلرن والقائم‬
‫الشخيص بني طرفني‪ ،‬والذي يوضح كيف أن كليهام حاول أن يكون‬ ‫ِّ‬ ‫اإليديولوجي‬
‫ِّ‬ ‫عىل التناول‬
‫الرسمي لوجهة النظر التي يق ِّدمها أو يتب َّناها‪ ،‬وال حرج يف أن يلحق باآلخر الغمز يف‬
‫َّ‬ ‫“املمثل”‬
‫النوايا أو الطعن يف عمق املعرفة وعلم ّية التناول‪.‬‬
‫رغم أ َّن علامء األنرثوبولوجيا ال يع ُّدون أنفسهم من املسترشقني‪ ،‬وغالبًا ما ينظرون اىل‬
‫املسترشقني التقليديني بازدراء؛ وسبب ذلك هو أ ّن تدريبهم داخل حقل علم األنرثوبولوجيا أقوى‬

‫‪244‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫من تدريبهم يف (لغات وآداب وتاريخ الرشق األوسط)‪ ،‬لكنهم مع ذلك يقعون من ضمن تعريف‬
‫إدوارد سعيد للمسترشق‪“ :‬كل من يدرس أو يكتب أو يبحث يف أمور الرشق”[[[‪ ،‬ثم إنّه يع ِّرف‬
‫وإبستمولوجي بني “الرشق” وبني‬
‫ٍّ‬ ‫أنطولوجي‬
‫ٍّ‬ ‫االسترشاق بوصفه “أسلوبًا للتفكري يعتمد عىل تفريق‬
‫“مؤسسة منظمة للتعامل مع الرشق تعليمه ووصفه بل‬ ‫ّ‬ ‫“الغرب”‪ ،‬ويرى أ ّن االسترشاق عبارة عن‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫[[[‪.‬‬
‫وحكمه”‬
‫إ ّن االختالف يف مستوى املنهج وتقدميه عىل مناهج املسترشقني ال يعني تربئة األنرثوبولوجيا‬
‫من ارتباطها باالسترشاق الجديد‪ ،‬وارتباطها به وبالسلطات الداعمة للبحوث والغايات القامئة‬
‫عىل معرفة اآلخر نفسها ومن ثم حكمه والهيمنة عىل مقدراته‪ .‬لهذا نجد أ ّن رجال االسترشاق‬
‫يب يف رسم االسرتاتيج َّيات واحتالل مكانة مه َّمة يف‬ ‫الجديد يحتلّون مكانة مه َّمة يف الخطاب الغر ِّ‬
‫املؤسسات الغرب َّية السياس َّية والعلم َّية‪ .‬ومن هنا ميكن أن يكون العريف سعيد يشمل االسترشاق‬ ‫َّ‬
‫خصوصا‪ ،‬فالرجل له ارتباط كبري باالسترشاق إذ ُعرف بتع ُّدد اهتامماته وبسبب‬ ‫ً‬ ‫الجديد عمو ًما وجيلرن‬
‫أسلوبه الذي ال يخلو من نربة أنويّة‪ ،‬وأسلوب كتاباته الذي يسعى فيها إلسقاط أحكام وتنبُّؤات عىل‬
‫املستقبل‪ ،‬وليس فقط إىل تناول الواقع وبنربة وثوق ّية بها قدر كبري من الجرأة واالعتزاز بالنفس‪ .‬وإذا‬
‫األكادميي الذي شغله جيلن‪ ،‬فسندرك كم هو مه ٌّم‬
‫ِّ‬ ‫ما أخذنا بنظر االعتبار املكانة العلم َّية واملنصب‬
‫أن نق ِّدر صدى وقيمة ما يعرضه من أفكار وآراء سواء يف كتبه أم مقاالته الصحف ّية أحيانًا ‪.‬‬
‫ثارت طائفة كبرية من الجدل والنقد يف كتاب االسترشاق وأعامل إدوارد سعيد األخرى‪ ،‬فقد رأى‬
‫إرنست جيلرن “أ ّن زعم إدوارد سعيد بأ ّن الغرب قد سيطر عىل الرشق مل َّدة أكرث من ‪ 2000‬عام أمر‬
‫مستحيل‪ ،‬فلقد كانت األمرباطوريَّة العثامنيّة حتى أواخر القرن السابع عرش امليالدي ت ُشكِّل خط ًرا‬
‫ريا عىل أوروبا‪.‬‬
‫كب ً‬
‫األنرثوبولوجي للتص ُّوف من املسائل الغامضة‬ ‫ِّ‬ ‫ريا نو ُّد أن نوضح أن نقد رؤية االسترشاق‬
‫وأخ ً‬
‫أساسا كانت منصبَّة عىل‬ ‫ً‬ ‫يف تن ُّوع واختالف أنواع التص ُّوف ورجال الصوفيَّة‪ ،‬وأل َّن رؤية االسترشاق‬
‫خصوصا‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمي عمو ًما والفلسفة اإلسالم َّية وعلم الكالم وفالسفة اإلسالم وفرقها‬
‫ِّ‬ ‫الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬كام ذكرنا من قبل‪ ،‬من الناح َّية الفلسف َّية والكالم َّية‪ ،‬أ َّما‬
‫ِّ‬ ‫ركز الكثري منهم عىل التص ُّوف‬
‫من الناحية األنرثوبولوجيَّة فالدراسات فيها قليلة ج ًّدا‪ ،‬ومن هنا فالرؤية ضبابيَّة‪ ،‬ولذا قيل إ َّن علامء‬
‫األسايس هو امليدان أو‬‫َّ‬ ‫األنرثوبولوجيا ال يع ُّدون أنفسهم من املسترشقني التقليديني أل َّن عملهم‬
‫يف الشائع‪.‬‬
‫الشارع أو الساحة باملعنى الصو ِّ‬

‫[[[‪ -‬ليىل أبو اللغد‪ ،‬املجاالت النظر ّية يف أنرثوبولوجيا العامل العريب‪ ،‬ص ‪ .89‬وانظر إدوارد سعيد‪ ،‬االسترشاق‪ ،‬ص ‪ – 269‬مرجع سابق ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬ابن خلدون‪ ،‬املقدِّ مة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار القلم‪1989 ،‬م‪.‬‬

‫‪2.2‬أحمد أبو زيد – الطريق إىل املعرفة – كتاب العريب بالكويت – الطبعة األوىل – ‪ 2001‬م – الكتاب (‪.)46‬‬

‫‪3.3‬إرنست‪ ،‬جيلرن‪ ،‬العقل والدين وما بعد الحداثة‪ ،‬دار املدى للطباعة والنرش‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪.‬‬

‫‪4.4‬األستاذ يف قسم األنرثوبولوجيا بكل َّية اآلداب جامعة اإلسكندريَّة – رحمه الله – يف كتاب هام صدر بعنوان‬
‫‪“ -‬املوالد” دراسة للعادات والتقاليد الشعب َّية يف مرص (‪ 1980‬م)‪.‬‬

‫‪5.5‬أشيل منتاجيو‪ :‬البدائية – ترجمة‪ :‬محمد عصفور – سلسلة عامل املعرفة – الكويت‪.‬‬

‫‪6.6‬أنظر‪ :‬د‪ .‬عيل ليلة‪ ،‬ماكس فيرب‪ :‬البحث املضاد يف أصل الرسامل ّية‪ ،‬املكتبة املرصيّة‪ ،‬ط‪ ،1‬اإلسكندريّة‪،‬‬
‫‪2004‬م ص‪.12‬‬

‫‪7.7‬إمييل دور كايم – قواعد املنهج يف علم االجتامع – ترجمة د‪ .‬محمود قاسم – دار املعارف – القاهرة –‬
‫الطبعة األوىل – ‪.1950‬‬

‫‪8.8‬ج‪ .‬آربري‪ .‬املسترشقون الربيطانيون – تعريب ‪ /‬محمد الدسوقي النويهي – لندن ‪ 1946‬م‪.‬‬

‫‪9.9‬حسني فهيم‪ :‬قصو األنرثوبولوجيا فصول يف تاريخ علم اإلنسان – عامل املعرفة – املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب – الكويت – الطبعة األوىل – ‪.1986‬‬

‫‪1010‬زهري‪ ،‬د‪ .‬حسني مؤنس – تعليق وتحقيق د‪ .‬شاكر مصطفى – راجعه د‪ .‬فؤاد زكريا – سلسلة عامل املعرفة‬
‫– الكويت – العدد ‪ – 233‬مايو ‪ 1998‬م‪.‬‬

‫‪1111‬صابر أبا زيد – التص ُّوف اإلسالمي بني الحقائق واألباطيل – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنرش – اإلسكندريَّة‬
‫– الطبعة األوىل ‪ – 2021‬يراجع الفصل السابع‪.‬‬

‫‪1212‬صابر أبا زيد – دراسات فلسف َّية يف الحوار واالسترشاق – سلسلة الفكر اإلسالمي (‪ – )2‬دار الوفاء بدنيا‬
‫الطباعة والنرش – إسكندريَّة – الطبعة األوىل ‪ 2010‬م‪.‬‬

‫اإلسالمي – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنرش –‬


‫ِّ‬ ‫‪1313‬صابر أبا زيد‪ :‬لويس ماسينيون وجهوده يف الفكر الفلسفي‬
‫الطبعة األوىل اإلسكندرية ‪.2004‬‬

‫‪1414‬طالل أسد‪ ،‬فكرة أنرثوبولوجيا اإلسالم‪ ،‬ضمن الفصل الثاين من تحرير وترجمة أبو بكر أحمد باقادر‪،‬‬
‫أنرثوبولوجيا اإلسالم‪ ،‬دار الهادي‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪2005 ،‬م ‪.‬‬

‫‪ 1515‬عبد الحميد حمدان – طبقات املسترشقني – مكتبة مدبويل – القاهرة – الطبعة األوىل – ‪ 2000‬م‪.‬‬

‫‪1616‬عبد الرحمن املودن – بعض مفاهيم العلوم اإلنسانية من منظور املؤرخ – دراسات يف نوفمرب ‪ 2015‬م‪.‬‬

‫‪1717‬عبد العزيز قباين‪ ،‬العصب ّية بن ّية املجتمع العريب‪ ،‬دار اآلفاق الجديد‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪.1‬‬

‫‪246‬‬
‫االستشراق األنثروبولوجي للتص ُّوف‬

‫‪1818‬عبد الله محمد عبد الرحمن – النظريَّة يف علم االجتامع (النظريَّة الكالسيك َّية) دار املعرفة الجامع َّية –‬
‫اإلسكندريَّة ‪.2003‬‬

‫‪1919‬عبدالله بن عبد الرحمن الوهيبي‪ ،‬حول االسترشاق الجديد مقدِّ مات أول َّية‪ ،‬مجلَّة «البيان»‪ ،‬ط‪ ،1‬الرياض‪،‬‬
‫‪1435‬هـ‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪2020‬عيىس شامس – مدخل إىل علم اإلنسان – اتحاد الكتاب العرب – دمشق سوريا – ‪ 2004‬م‪.‬‬

‫‪2121‬ليىل أبو اللغد‪ ،‬املجاالت النظريّة يف أنرثوبولوجيا العامل العريب‪ ،‬ص ‪ .89‬وانظر إدوارد سعيد‪ ،‬االسترشاق‪.‬‬

‫‪2222‬ماكس فيرب‪ ،‬األخالق الربوتستانت ّية وروح الرأسامل َّية‪ ،‬ترجمة‪ ،‬محمد عيل مقلد‪ ،‬مركز االمناء القومي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫بريوت‪.‬‬

‫‪2323‬مربوك بوطقوقة – املنهج األنرثوبولوجي والدراسات امليدان َّية‪.‬‬

‫‪2424‬محمد م األرناؤوط‪ :‬عرض لكتاب مجتمع مسلم إلرنست جيلرن‪ ،‬ترجمة أبو بكر أحمد باقادر ‪2005‬م‪،‬‬
‫موقع أرنرتوبوس‪.‬‬

‫‪2525‬مكسيم رودنسون – الصورة الغرب َّية والدراسات العرب َّية اإلسالم َّية – تراث اإلسالم ج‪ – 1‬تصنيف جوزيف‬
‫شاخت وكلفورد بوزورث – ترجمة د‪ .‬محمد زهري‪.‬‬

‫‪2626‬نجيب العقيقي – املسترشقون – دار املعارف مبرص – ثالثة أجزاء – الطبعة الرابعة – ‪ 1982‬م‪ .‬والكتاب‬
‫فيه جهد واضح عن االسترشاق‪.‬‬

‫‪27.‬‬ ‫‪J. Beckford, Religion and Advanced Industrial Society (London: Unwin-Hyman, 1989.‬‬

‫‪28.‬‬ ‫‪(LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora,‬‬
‫‪Colorado: The Davies Group, Second Ed.‬‬

‫‪29.‬‬ ‫‪(Hume ,A Treatise of Human Nature.Edited by LA Selted - Bigge) Oxford:the‬‬


‫‪Clarendon pres,1896.‬‬

‫‪30.‬‬ ‫‪La passion de Husayn Ibn-Mansûr Al-Hallâj mortyr mystique de I’Islam, execute a‬‬
‫‪Bagdad Ie 26 Mars 622- E’tude d’Histoire Religieuse, Nouvelle E’dition, 4 tomes E’di:‬‬
‫‪Gallimard – Paris – 1975‬‬

‫‪247‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫التجليات الوجودية للحروف‬
‫َّ‬ ‫َّ ُّ‬
‫العرفانية عند الشيخ العالوي‬ ‫تأويلية اللغة‬
‫ق‬
‫رز� بن عومر‬
‫ي‬
‫التج ِّليات الوجود َّية للحروف‬
‫تأويل َّية ال ُّلغة العرفان َّية عند الشيخ العالوي‬

‫ق‬
‫رز� بن عومر‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ف‬
‫والتصوف وأستاذ ي� جامعة وهران ـ الجزائر‬ ‫باحث متخصص ي� الفلسفة‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ُّ‬ ‫اللغة ف� العرفان‪ٌ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫دائر مدار البدايات والنهايات‪ ،‬بحيث ال تنفك حركة‬ ‫ي‬ ‫الحديث عن‬
‫ت‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ه‬‫ال� ي‬ ‫العارف مذ كان مريدا وصار سالكا‪ ،‬ثم عارفا محققا‪ ،‬عن أن تجعله ابن هذه اللغة ي‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الحق تعاىل‪.‬‬ ‫ه مرتبة من مراتب تجليات‬ ‫لغة الوجود والكينونة‪ ،‬بما ي‬
‫َّ‬ ‫الخاصة من أهل العرفان بلوغ نز‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫مخبآت الحروف‬ ‫م�لة الكشف عن‬ ‫ولعل ما أهل‬
‫ن‬ ‫ف‬
‫المع� الذي يجمعهم‬ ‫العمل والمعنوي ي� البحث عن‬ ‫ي‬ ‫والكلمات والعبارات هو منهجهم‬
‫ئ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ف‬
‫ممتل بالحكمة‬ ‫عىل الحقيقة‪ ،‬ويبقيهم ي� مجال التحقيق الوجودي‪ .‬فالوجود عندهم‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫َّ‬
‫�ء يظهر ي� ساحته إال وفيه إشارة‬ ‫والقدرة‪ ،‬وال مجال فيه للفراغ والعبثية؛ بل ما من ي‬
‫ّْ‬
‫والخط‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫ي‬ ‫الرقم‬
‫ي‬ ‫إىل الوجود الحق‪ ،‬وكل ما له عالقة به من صفات وآثار بما فيها الوجود‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫وفعل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫خواص مخلوقاته وأعمالهم ش�ط أن‬ ‫وأثر يكشف فيه عن‬ ‫وللحق وجود وصفة‬
‫ُ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫العارف�‪ ،‬وماهية‬ ‫ين‬ ‫خاص َّية الحضور ي� دوحة األلوهية‪ .‬وذلك َس ْمت األولياء‬ ‫تتوفر فيهم ِ‬
‫ّْ‬ ‫ِّ‬
‫اإلله‪.‬‬‫ي‬ ‫اإلنسان المتحقق بالكمال‬
‫يخصص‬ ‫يعمل هذا البحث عىل مقاربة أبعاد ودالالت الحروف ف� لغة العرفاء‪ ،‬وهو ِّ‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫ف‬
‫مصط� العالوي‪ ،‬ويقيمها‬ ‫لهذه الغاية أعمال وكتابات العارف باهلل الشيخ أحمد بن‬
‫ف‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ال� وردت ي� الكالم‬ ‫حقال معرفيا لبيان التجليات الوجودية للحروف وال سيما تلك ي‬
‫اإلله‪.‬‬
‫ي‬
‫* * *‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬تجليات الحروف‪ -‬علم األسماء‪ -‬التحقيق الوجودي‪ -‬الوجودي‬ ‫مفردات‬
‫ف‬
‫الخطِّ ي ‪ -‬العارف الكامل‪ -‬الحضور ي� األلوهية‪.‬‬
‫َّ‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫‪ .1‬يف الطريق إىل لغة الوجود‪:‬‬
‫يف أدب العرفاء نجد أ َّن قول “بسم الله من العارف نظري كلمة “كُن” من الحق ع ِّز وجل”‪ .‬فهي‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫كلمة أثبتت املفعول‪ ،‬وضمري الباء أثبت الفاعل‪ ،‬وضمريها هو ضمري اإلنسان الكامل‪ ،‬أو نقول‬
‫روح الوجود”[[[‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن “بسم الله” عند العارف هي كلمة إيجاد عىل الحقيقة‪ .‬وهذا يكشف عن‬
‫خاصة يعقدها العارف باللُّغة‪ ،‬مع كونه مل يجلس يف بساط التعليم ليك يتعلَّم رسمها‪ ،‬أو‬
‫َّ‬ ‫عالقة‬
‫يحصل خصائصها ومعانيها فيحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬كام يفعل غريه من علامء الرسوم‪ .‬فالعارف‬
‫ِّ‬
‫يف مرحلة التكوين كان يهذِّب ملكاته باسم الله ويتمثَّلها‪ ،‬ويتج َّرد بتج ُّرد االسم‪ .‬كان يستَ ِكن املعنى‬
‫وال ينهي مرحلة التكوين حتى يكون مظهرا ً السم الله تعاىل‪ ،‬أي بوصفه عارفاً كامالً‪.‬‬

‫يرى العارف بالله الشيخ عبد الكريم الجييل‪ ،‬أ َّن مقصود العرفاء يف اس ِتكْناه الحروف والكلامت‬
‫الحق تعاىل وكامالته‪“ :‬والكالم عليها (البسملة)‪ ،‬يف منافعها‬
‫ِّ‬ ‫هو الكشف عن الحقائق الدالَّة عىل‬
‫وأرسارها‪ ،‬ولسنا بصدد يشء من ذلك يف وجوه‪ ،‬بل كالمنا عليها من وجه معاين حقائقها يف ما يليق‬
‫الحق سبحانه وتعاىل”[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫بجناب‬

‫بهذا االعتبار‪ ،‬تكون عالقة العارف باللُّغة هي عالقة ات ِّحاد بالوجود‪ ،‬يتجذَّر وجوديَّاً برزخاً بني‬
‫اللَّفظ واملعنى‪ ،‬فهو مع معنى املعاين بباطنه ومع األلفاظ واألكوان بظاهره‪ ،‬وهذه خاصيَّة اكتسبها‬
‫أ َّوالً يف مرحلة اإلرادة بالذِّكر مع وجود شيخ يسلك به مقامات الكامل والوجود من الفرق إىل‬
‫الجمع‪ ،‬وصوالً إىل الفرق الثاين‪ .‬وأه ُّم سبيل يف الرتبية الذِّكر باالسم املفرد (الله)‪ ،‬والتد ُّرب يف‬
‫نطقه مبا يحقِّق الفناء فيه‪ ،‬وتخيُّل رسمه حتى تتم َّدد أنواره لتشمل اآلفاق‪.‬‬

‫َّوي توضح ذلك‪ ،‬فبعد ذكر حقيقة الشيخ يذكر مه َّمته‪:‬‬


‫نكتفي بأبيات للشيخ العال ِّ‬
‫جــل وتعالـى‬
‫َّ‬ ‫بـــذلك وجــــ َه الله‬ ‫للـــحق قاصــدا ً‬
‫ِّ‬ ‫السبيل‬
‫َ‬ ‫يوضح َ‬
‫لك‬ ‫ُ‬
‫ويض ُع َ‬
‫لك قدمـاً يف السري إىل املوىل‬ ‫بك يف الحـا ِل عند لقائــ ِه‬
‫وينهض َ‬
‫ُ‬

‫َ‬
‫الحروف يف اآلفاق تُجىل‬ ‫إىل أن ترى‬ ‫الحروف تحظى بفضل ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فبتشخيص‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالَّوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن ‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫[[[‪ -‬الجييل‪ ،‬عبد الكريم‪ ،‬الكهف والرقيم يف رشح بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬تحقيق‪ :‬قاسم الطهراين‪ ،‬دار مكتبة الهالل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2008‬ص ‪.54‬‬

‫‪251‬‬
‫أفنان‬

‫تـــرتحل الغفـــــــال‬
‫ُ‬ ‫وبتمكُّنِ االسمِ‬ ‫َ‬
‫قلبـــك‬ ‫وليس لها ظهــــــور إالَّ يف‬

‫وارس ْمها عىل الجمــيعِ علويَّاً ُ‬


‫وسفـال‬ ‫َ‬
‫وسعــــــــك‬ ‫َ‬
‫الحروف بقد ِر‬ ‫فعظِّمن‬
‫[[[‬
‫إىل أن تفنى األكــوا ُن َ‬
‫عنك وتــــــــزوال‪.‬‬ ‫تشخيص االسمِ ترقى بنـور ِه‬
‫ِ‬ ‫وبعد‬

‫اإللهي قاهرا ً لجميع املراتب‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫قبل أن يصل املريد إىل مرتبة التحقيق‪ ،‬وبالتايل شهود الوجود‬
‫و ُمستوياً عليها‪ ،‬وظاهرا ً فيها (شهود الوحدة يف الكرثة والكرثة يف الوحدة)‪ ،‬مي ُّر بفرتة التكوين‬
‫والتدريب عىل يد شيخ سلك الطريق نفسه‪ ،‬ومتكَّن من معامله كلِّها‪ ،‬فيعلِّمه االعتبار مبفهومه‬
‫يف‪ ،‬بحيث يتد َّرج يف الخروج من الوهم الذي كان نتيجة الغفلة عن الحقيقة عرب الذِّكر‬
‫الصو ِّ‬
‫حاسة البرص‪ ،‬جاعالً إيَّاها تابعة لالت ِّصال بالباطن بعد إغامضها‬
‫لحواسه السيَّام َّ‬
‫ِّ‬ ‫والتفكُّر فيه‪ ،‬مهذِّباً‬
‫يف حاالت الذِّكر يف البداية‪« ،‬أ َّما السري الغالب الذي كان يعتمده‪ ،‬واعتمدناه نحن من بعده أيضاً‪،‬‬
‫فهو أن يكلَّف املريد بذكر اإلسم املفرد مع تشخيص حروفه‪ ،‬حتى ترتسم الحروف يف مخ َّيلته‪ ،‬ث َّم‬
‫يأمره ببسطها وتعظيمها إىل أن متأل الخافقني‪ ،‬ويديم الذِّكر عىل تلك الهيئة إىل أن تنقلب صفاتها‬
‫إىل شبه النور»[[[‪ .‬ويبدأ الشيخ يف تدريج املريد إىل أن يصل به إىل االستغراق يف عامل اإلطالق‪،‬‬
‫فيتمكَّن من شهود النور املج َّرد‪ ،‬وبعد ذلك يتن َّزل املريد عرب املراتب حتى يشعر بوجوده‪ ،‬ويرجع‬
‫إىل عامل الشهادة‪ ،‬فيصري يرى ببرصه ما تراه بصريته أل َّن برصه يف هذا الحال هو عني بصريته[[[‪.‬‬
‫وهكذا تجتمع له الرؤيتان القلبيَّة والبرصيَّة‪.‬‬

‫ويجدر القول أ َّن هذا األمر ال يكون إالَّ إذا انعكست األبصار بصائر‪ ،‬فريى املريد ببرص ملكه‬
‫الحق املج َّرد‪ .‬لك َّن هذه الرؤية‬
‫َّ‬ ‫املك ِّونات والحروف والكلامت من جملتها‪ ،‬ويرى ببرص ملكوته‬
‫الحق يف املك ِّونات‪ ،‬وسبب‬
‫ِّ‬ ‫ممتنعة لدى عموم الناس (رؤية املطلق يف املق َّيد)‪ ،‬أو لنقل ظهور‬
‫امتناعها ليس كونها مستحيلة يف ذاتها‪ ،‬و«إنَّ ا االمتناع متوقَّع من عدم استعداد األبصار‪ ،‬لذلك قال‬
‫الحق يف هذه الدار هو عدم معرفة الخلق له‪ ،‬وإالَّ فإنَّهم يرون‬
‫ِّ‬ ‫بعض األكابر‪ :‬إ َّن املانع من رؤية‬
‫الحق‪ ،‬فيكون الحجاب متوقَّعاً من قبيل البالدة‬
‫ُّ‬ ‫يئ لهم هو‬
‫وال يرونه‪ ،‬أي فال يعرفون أ َّن ذلك املر َّ‬
‫[[[‬
‫ال غري»‪.‬‬

‫يف الذِّكر يت ُّم التعامل مع الحروف لفظاً ورسامً لتكون مرقاة إىل فضاء الوجود املطلق واملق َّيد‪،‬‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬الديوان‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫[[[‪ -‬بن تونس‪ ،‬عدة‪ ،‬الروضة السن َّية يف املآثر العالويَّة‪ ،‬املطبعة العالويَّة‪ ،‬مستغانم‪ ،‬ط‪( ،2‬د‪ .‬ت)‪ .‬ص‪.25‬‬
‫[[[‪ -‬انظر‪ ،‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪252‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫يتجل‬
‫َّ‬ ‫لذلك ينعكس يف النهاية بأن يكون الحرف باعتباره بسيط الكلامت‪ ،‬يحمل يف ذاته نورانيَّة‬
‫الحق تجلِّياً ِّ‬
‫بكل مراتبه‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫فيها‬

‫‪ .2‬من التدوين إىل التكوين‪:‬‬


‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ألي حقيقة‪ ،‬بحيث‬


‫أي معنى ِّ‬
‫ال ب َّد من القول أ َّن فهم معاين الحروف عند الصوف َّية‪ ،‬شأنه شأن ِّ‬
‫يف فهمها من الله تعاىل ليس فيه تعمل تفكري وال توظيف حافظة‪ ،‬لك َّن القارئ لنصوصهم‬
‫يتلقَّى الصو ُّ‬
‫يف هذا املجال يتلقَّى هذه املعاين حفظاً وتحصيالً‪ ،‬ففي رسالة الشيخ العالَّوي بعنوان األمنوذج‬
‫«إن جمعت هذه السطور حسبام سمح يل به‬
‫يستهل الكالم بقوله‪ِّ :‬‬
‫ُّ‬ ‫الفريد املشري لخالص التوحيد‬
‫الشعور‪ ،‬والباعث عىل تحريرها رغبتي يف هذا الف ِّن العظيم‪ ،‬واهتامماً مبا ورد يف األثر الفخيم من‬
‫كل ما يف الصحف األوىل منط ٍو يف نقطة بسم الله الرحمن الرحيم»[[[‪ ،‬وكان الكتاب يبحث‬
‫«أ َّن َّ‬
‫يف املعاين التوحيديَّة التي تتض َّمنها حروف البسملة جرياً عىل نهج الشيخ عبد الكريم الجييل يف‬
‫كتابه «الكهف وال َّرقيم يف رشح بسم الله الرحمن الرحيم»‪ ،‬اكتفى الشيخ العالوي بتجلية معاين‬
‫النقطة واأللف والباء فحسب‪ ،‬من ِّبهاً إىل أنَّه «من املمكن ذكر ِّ‬
‫كل حرف عىل حدة‪ ،‬واإلتيان ببعض‬
‫مكنوناته‪ ،‬وملا يف ذلك من التطويل نقترص عىل القليل من القليل‪ ،‬وقد تق َّدم ما لأللف من اإلحاطة‬
‫بكل حرف‪ ،‬فإحاطته بها من حيث األوليَّة واآلخريَّة إحاطة دوريَّة‪ ،‬ومن حيث الظهور‬
‫والشمول ِّ‬
‫[[[‬
‫والبطون إحاطة عينيَّة‪.»...‬‬

‫يف سياق آخر‪ ،‬ويف تفسريه للقرآن الكريم من خالل كتابه «البحر املسجور يف تفسري القرآن‬
‫مبحض النور»‪ ،‬يتع َّرض لتوضيح الرواية القائلة إ َّن للقرآن أربعة وجوه هي‪ :‬ح ٌّد ومطلع وظهر وبطن‪،‬‬
‫كل آية‬
‫نب هذه الوجوه توجد يف كتاب الله من حيث اإلجامل‪ ،‬كال‪ ،‬إنَّ ا هي يف ِّ‬
‫ويقول‪« :‬وال تحس َّ‬
‫جل ذكره‪:‬‬
‫كل حرف‪ .‬فالحرف قرآن‪ ،‬كام أ َّن عموم الكتاب قرآن‪ ،‬ولهذا قال َّ‬
‫وكلمة‪ ،‬إن مل نقل يف ِّ‬
‫فعب بالقول من دون‬
‫َّ‬ ‫(سنلقي عليك قوالً ثقيال)‪ .‬وقال‪( :‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)‪.‬‬
‫فكل جزء من كتاب الله‬
‫اللَّفظ‪ ،‬والكالم ليشمل الكلمة والحرف‪ ،‬أل َّن القول عا ٌّم يف جميع ذلك‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫ويستدل عىل ذلك‬ ‫ـ وإن تج َّزأ ـ فهو ثقيل‪ ،‬باعتبار ما جمع فيه من املعاين التي تفوق الحرص»[[[‪،‬‬
‫بقوله ‪ :‬من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة‪ ،‬والحسنة بعرش أمثالها‪ .‬ويستنتج أ َّن الحرف بانفراده‬
‫قرآن‪ ،‬وبالتايل قول ثقيل بالنظر إىل ما اشتمل عليه من املعاين‪ ،‬فهذه سرية القوم يف التعامل مع‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان ‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬البحر املسجور يف تفسري القرآن مبحض النور‪ ،‬ص ص ‪.18 17-‬‬

‫‪253‬‬
‫أفنان‬

‫ولعل رعايتهم‬
‫النبوي له‪ ،‬وملا عهدوه يف تعاملهم مع القرآن الكريم‪َّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫الحروف ملا وجدوه يف التنبيه‬
‫بالحروف هي من طريق رعاية القرآن الكريم لها‪ ،‬وقد ابتدأ سورا ً بحروف مقطَّعة مثل قوله تعاىل أمل‬
‫وحم وغريها من الحروف املقطَّعة‪.‬‬

‫لقد اعتنى الصوف َّية بامتياز بالحروف وداللتها ومرموزاتها ـ عىل غري ما نجده عند غريهم من‬
‫العلامء مبن فيهم أهل السيمياء – ألنَّها يف اصطالحهم هي الحقائق البسيطة يف ساحة العلم‬
‫قسمها الشيخ عبد الكريم الجييل يف كتابه «اإلنسان‬
‫العيني‪ .‬وقد َّ‬
‫ّْ‬ ‫اإللهي قبل انصباغها بالوجود‬
‫ِّ‬
‫اإللهي‪ ،‬والحروف امله َملة التي تتعلَّق‬
‫ِّ‬ ‫الكامل» إىل حروف منقوطة وهي األعيان الثابتة يف العلم‬
‫بها الحروف وال تتعلَّق هي بها‪ .‬أ َّما الشيخ عبد الرزاق القاشاين فاعتربها الحقائق البسيطة من‬
‫األعيان‪ ،‬والحروف العاليات مبثابة الشؤون الذات َّية الكامنة يف غيب الغيوب وغريها من الحقائق‬
‫التي تنطوي عليها الحروف‪.‬‬

‫مم ال َّ‬
‫شك فيه أ َّن ما أ َّهل الصوف َّية للكشف عن مخ َّبآت الحروف هو منهجهم يف الحياة القائم‬ ‫َّ‬
‫الوجودي ذلك‬
‫ِّ‬ ‫عىل التفتيش عن املعنى الذي يجمعهم عىل الحقيقة ويبقيهم يف مجال التحقيق‬
‫أ َّن الوجود ال يخلو من الحكمة والقدرة‪ ،‬وال مجال للفراغ والعبث َّية بل ما من يشء يظهر يف ساحة‬
‫الحق وكل ما له عالقة به من صفات وآثار‪ ،‬حتى الوجود الرقمي‬
‫ِّ‬ ‫الوجود إالَّ وفيه إشارة إىل الوجود‬
‫خواص وأفاعيل‬
‫َّ‬ ‫وللحق وجود وصفة وفعل وأثر‪ ،‬فيكشف فيه عن‬
‫ِّ‬ ‫للحق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والخطي ففيه ظهور‬
‫اإللهي يف املستعمل‪ ،‬وهو‬
‫ِّ‬ ‫ينعكس عنها تكميل وعالج وإيجاد‪ ،‬رشط أن تتوفَّر خاصيَّة الحضور‬
‫اإللهي‪ .‬ونجد من أدب َّياتهم قولهم أ َّن «بسم الله من العارف ككلمة‬
‫ِّ‬ ‫هنا اإلنسان املتحقِّق بالكامل‬
‫وجل‪ ،‬فهي كلمة أثبتت املفعول‪ ،‬وضمري الباء أثبت الفاعل‪ ،‬وضمريها هو ضمري‬
‫الحق ع َّز َّ‬
‫ِّ‬ ‫كن من‬
‫[[[‬
‫اإلنسان الكامل أو نقول روح الوجود»‪.‬‬

‫جه‪ ،‬فهذا‬
‫فكيف إذا لقيت الحروف عناية إله َّية بفعل الكتب املن َزلة بها‪ ،‬هذا يؤكِّد علم َّية هذا التو ُّ‬
‫رس من أرسار الله تعاىل‬
‫رصح‪« :‬فاعلموا وفَّقكم الله أ َّن الحروف ٌّ‬
‫الشيخ محيي الدين ابن عريب ي ِّ‬
‫والعلم بها من أرشف العلوم املخزونة عند الله تعاىل‪ ،‬وهو العلم املكنون املخصوص به أهل‬
‫[[[‬
‫الرتمذي‪ ،‬علم األولياء»‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫القلوب الطاهرة من األنبياء واألولياء‪ ،‬وهو الذي يقول فيه الحكيم‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫رس الحروف ومعانيها‪ ،‬تحقيق‪ ،‬عبد الحميد صالح حمدان‪ ،‬املكتبة‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب محيي الدين‪ ،‬رسالة الحروف‪ ،‬ضمن‪ ،‬رسالتان يف ِّ‬
‫األزهريَّة للرتاث‪(،‬د‪.‬ط) (د‪.‬ت)‪ ،‬ص ‪.14‬‬

‫‪254‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫الظاهر هنا وجوب التحقُّق باالستعداد لتلقِّي هذه األرسار‪ ،‬والتعامل مع الحروف باعتبارها‬
‫مجىل لها كام بق َّية أشياء العامل‪ .‬ويكمن هذا االستعداد يف التحقُّق بالطهارة املؤ ِّهلة للوالية أل َّن‬
‫اإللهي‪ .‬وهذا االستعداد يتطلَّب‬
‫ّْ‬ ‫النص رشطُه الوالية ولنقل التحقُّق بالكامل‬
‫ِّ‬ ‫هذا العلم املذكور يف‬
‫مجاهدة تقيض بالخروج من الوهم الحاكم عىل اإلنسان يف حالة فرقه وشعوره بوجوده املستقل‪،‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أو لنقل الخروج من الكرثة املالئة لشعوره‪ ،‬فال مناص لهذا الخروج إالَّ الفناء التام‪ ،‬والكشف عن‬
‫الحق‪ ،‬ووهم َّية ما سواه‪ ،‬إذ غريه ليس إالَّ هو‪ .‬بعبارة‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقة التي تقيض بوجود واحد وهو وجود‬
‫فالكل‬
‫ُّ‬ ‫الحق ذاتاً وصف ًة وفعالً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أخرى يغدو ما كان يُتو َّهم وجودا ً‪ ،‬مبثابة مرآة حاكية عن الوجود‬
‫مرايا تتفاوت يف الجالء والكدورة فحسب أل َّن املرآة ال يشء وال ال يشء فال فرق بني حيوان‬
‫لفظي إالَّ من جهة استعداده لحمل األسامء اإللهيَّة‪ ،‬وهذا‬
‫ٍّ‬ ‫خطي أو‬
‫ٍّ‬ ‫رسمي أو وجود‬
‫ٍّ‬ ‫وجامد ووجود‬
‫االستعداد يحكمه الفيض األقدس وما يقتضيه من عني ثابتة يف علمه تعاىل‪ .‬فتحقُّق رشط الوالية‬
‫وعلمي يسمع فيه عن الله إذ ال غري يف ساحة إدراكه فال يرى إالَّ الله‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫فهمي‬
‫ٍّ‬ ‫يف يف مقام‬
‫يجعل الصو َّ‬
‫الحق تكشف عنه تعاىل وعن‬
‫ِّ‬ ‫وال يسمع إالَّ منه‪ ،‬وال يخاطب سواه‪ ،‬ويغدو الخلق حروف كلامت‬
‫وجل هو حقيقة الوجود ال محالة‪ ،‬ولوال ظهوره قي املك ِّونات ملا وقع عليها‬
‫َّ‬ ‫«الحق ع َّز‬
‫ُّ‬ ‫كامالته‪،‬‬
‫البرص أل َّن األشياء من ذواتها العدم املحض‪ ،‬والبرص ال يتعلَّق باملفقود‪ .‬إيَّاك أن يقع برصك عىل‬
‫املوجودات فتتو َّهم أنَّه وقع عىل وجودها لذاتها‪ ،‬وذا محال‪ ،‬إنَّ ا وقع عىل وجود موجودها الذي‬
‫هو معار إليها‪ ،‬خلقها ث َّم ظهر فيها‪.‬‬

‫الحق تبارك وتعاىل هو حقيقة الوجود كام تق َّدم لعدم حقيقة تضاهي حقيقته‪،‬‬
‫َّ‬ ‫حاصل األمر أ َّن‬
‫فثم وجه الله وما عىل هذا البيان من مزيد»[[[‪ ،‬فأينام‬
‫‪ ...‬أي ليس هناك إالَّ وجود الله فأينام تولُّوا َّ‬
‫فثم وجه الله هي قاعدة وضابطة لالعتبار الصو ِّ‬
‫يف‪ ،‬فإذا كان األين حرفاً فث َّم وجه الله‪ ،‬أي ث َّم‬ ‫تولُّوا َّ‬
‫تعبدي واجب يف‬
‫ٌّ‬ ‫حقيقة من حقائقه تعاىل ال يجوز الغفلة عنها‪ ،‬وبالتايل علم الحروف هو مجال‬
‫حق املحقِّقني‪ ،‬وهنا نن ِّبه إىل أ َّن الحروف عند العارف ال يجوز أن تحيل إىل الغري‪ ،‬فام يهت ُّم به أهل‬
‫ِّ‬
‫خواص الحروف العالجيَّة وغريها هي اهتاممات خلقيَّة تؤول إىل اللَّهو املذموم‪ ،‬كام‬
‫ِّ‬ ‫السيمياء يف‬
‫الطب والحكمة عند األكرثيَّة مجاالً يؤول إىل اللَّهو وال يجني منه متعاطيه إالَّ الجهل ما دام‬
‫ُّ‬ ‫أصبح‬
‫يحيل إىل الغري الذي هو محض عدم عند العارف‪ ،‬فال غري والكل خري فال رش‪.‬‬

‫«اعلم أ َّن القوم ال يفهمون مخاطبة الخلق لهم إالَّ عن الله‪ ،‬وذلك ما يقتضيه مقامهم ال يستعملونه‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املواد الغيث َّية الناشئة عن الحكم الغوث َّية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ص ‪.22 21-‬‬

‫‪255‬‬
‫أفنان‬

‫يف أنفسهم‪ ،‬فال تستغرب يا أخي من فهمهم من الكلمة الواحدة املوضوعة عىل معنى مخصوص‬
‫معنى آخر‪ ،‬فإ َّن ذلك عندهم من أرشف املقامات وأعظم الدرجات لكونهم يفهمون األمور عن الله‪،‬‬
‫وقد أجمع أهل الله عىل أ َّن الفهم عن الله عىل قدر مقام العبد عند الله‪ ،‬ومل يختلفوا يف أ َّن الكلمة‬
‫الواحدة الدالَّة عىل معنى مخصوص قد يفهم منها معاين كثرية ال تُحىص‪ ،‬وغرائب ال ت ُستقىص‪...‬‬

‫إ َّن القوم وإن اشرتكوا مع غريهم يف ظاهر اللَّفظ مختلفون يف القصد‪ ،‬كام أنَّهم اشرتكوا يف‬
‫املشهود‪ ،‬واختلفوا يف الشهود‪ ،‬فكذلك اشرتكوا يف املسموع واختلفوا يف األسامع‪ ...‬فقد يسمع‬
‫يف ما ال يسمع الغري وال يأخذ من القول إالَّ أحسنه‪ ...‬ولهذا صاروا يسمعون غري اليشء‬
‫الصو ُّ‬
‫املسموع حتى صار أحدهم يأخذ علمه من أصغر األشياء يف عيون الناس‪ ،‬وال حقارة عند هؤالء‬
‫كل ما يف الوجود يشري لوحدان َّية املعبود»[[[‪ .‬وهذا ما نلمسه يف اعتبارهم لألمور‪،‬‬
‫الناس بل عندهم ُّ‬
‫السيَّام الصوامت منها أو لنقل األعجمية منها من كائنات حية وما نعتربها غري حية كالجامدات‬
‫والحيوانات واملسطور واملسموع من األمور‪.‬‬
‫ُّ‬
‫األنطولويج للحروف‪:‬‬ ‫‪ُ .3‬‬
‫البعد‬
‫النبي‬
‫النبوي الذي يقول فيه ُّ‬
‫ِّ‬ ‫يف تحقيقات الشيخ العالَّوي الوجوديَّة يف الحروف يقف عىل األثر‬
‫وكل‬
‫وكل ما يف القرآن فهو يف الفاتحة‪ُّ ،‬‬
‫«كل ما ورد يف الكتب املنزلة فهو يف القرآن‪ُّ ،‬‬
‫‪ ‬رواية عنه ُّ‬
‫«كل ما يف الباء فهو يف النقطة التي‬
‫ما يف الفاتحة فهو يف بسم الله الرحمن الرحيم»‪ .‬وورد أيضاً‪ُّ :‬‬
‫تحتها»[[[‪.‬‬

‫ولقد تناول يف نصوصه الكشف عن التجلِّيات الوجوديَّة للتوحيد من خالل الحروف الس َّيام‬
‫األلف والباء من بسملة القرآن الكريم‪:‬‬

‫أ ـ النقطة‪:‬‬

‫للنقطة مرموزات تشري إىل وحدة الشهود‪ ،‬كام تشري إىل أ ِّم الكتاب لعدم وجوده من دونها‪ ،‬إذ‬
‫«والكل مندرج‬
‫ُّ‬ ‫لوالها ملا كانت الكلمة‪ ،‬ولوال الكلمة ملا كان الكالم‪ ،‬ولوال الكالم ملا كان الكتاب‬
‫لكل كتاب ميحو‬
‫املعب عنها بالنقطة‪ ،‬فهي أ ٌّم ِّ‬
‫َّ‬ ‫– كام يقول الشيخ العالَّوي ـ تحت وحدة الشهود‪،‬‬
‫الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»[[[‪ .‬فالنقطة مستهلَكة فيها جميع الحروف قبل تجلِّيها‪ ،‬وبعد‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املنح القدوس َّية يف رشح املرشد املعني بطريق الصوف َّية‪ ،‬ص ص ‪.17–16‬‬
‫نقال عن‪ :‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.18‬‬‫[[[‪ً -‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان ‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪256‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫التجل أل َّن الظاهر حقيقة هو املداد‪ .‬أ َّما ما يبدو‬


‫ِّ‬ ‫التجل فالحرف يف الحقيقة ال وجود له ولو بعد‬
‫ِّ‬
‫من خصوص َّية الرسم الذي يأخذه الحرف فال كينونة له من دون الحرب الذي هو النقطة‪ ،‬والحرف‬
‫يف الحقيقة هو ميل النقطة واعوجاجها ال غري‪ ،‬وليس له ح ٌّ‬
‫ظ من الوجود باستقالله‪ .‬بهذا االعتبار‪،‬‬
‫التجل وبعده ال فرق يف ذلك‪« ،‬كانت النقطة يف كنزيَّتها قبل‬
‫ِّ‬ ‫كل الحروف مستهلَكة يف النقطة قبل‬
‫ُّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫تجلِّيها بذات األلف‪ ...‬وكانت الحروف مستهلكة يف كنزيَّتها قبل تجلِّيها بذات األلف‪ ...‬وكانت‬
‫الغيبي‪ ،‬إىل أن ظهرت‪ ،‬مبا بطنت وتجلَّت مبا استرتت‪ ،‬فتشكَّلت يف‬
‫ِّ‬ ‫الحروف مستهلَكة يف كنهها‬
‫املعب عنها بالنقطة»[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مظاهر الحروف‪ ...‬وإذا تحقَّقت مل تجد إالَّ ذات املداد‬

‫إ َّن الظاهر هو املداد وهو النقطة‪ ،‬والباطن هو الحرف‪ ،‬لكن بفعل الغفلة نعتقد الظهور للحرف‬
‫حقيقي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اعتباري غري‬
‫ٌّ‬ ‫بينام النقطة هي الظاهرة‪ .‬أما الحروف فلها وجود معقول‪ ،‬أو نقول إنَّه وجود‬
‫للحق أ َّما الخلق فهو محض اعتبار ومج َّرد ماهيَّات‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقي هو‬
‫ِّ‬ ‫وهكذا األمر يف الوجود فالوجود‬
‫معبة‬
‫لها وجود يف وهمنا‪ ،‬بينام يف الخارج ال موجود إالَّ الله‪ .‬من هنا اعترب الشيخ العالَّوي النقطة ِّ‬
‫عن وحدة الشهود‪ ،‬وهو ال يف ِّرق بني وحدة الوجود ووحدة الشهود‪.‬‬

‫الحقيقي‪ ،‬كذلك لها صفة التنزيه‪ .‬وهنا يقول الشيخ‬


‫ِّ‬ ‫كام للنقطة صفة الوحدة الحقيق َّية والظهور‬
‫العالَّوي‪« :‬جاءت النقطة عىل خالف ما يف الحروف ليس كمثله يشء وهو السميع البصري‪ ،‬فلهذا‬
‫كل ما يوجد يف الحرف‬
‫ال يقع عليها ح ُّد التعريف كام يقع عىل غريها من الحروف‪ ،‬فهي من َّزهة عن ِّ‬
‫من طول وقرص واحتداب‪ ،‬فال تعقل مبا يعقل به الحرف رسامً ولفظاً‪ ،‬فبينونتها من الحرف معقولة‪،‬‬
‫وكينونتها فيه مجهولة إالَّ ملن كان برصه حديدا ً»[[[‪.‬‬

‫وكام كنه ذات البارئ تعاىل ال ميكن التعبري عنها لعدم وجود لفظ يسعها‪ ،‬بحيث كلَّام أراد‬
‫العارف أن يصفها بنعت التنزيه صدر منه من العبارات ما يفيد التشبيه والتعطيل‪ ،‬وهو ليس مبقصود‬
‫من العارف‪ ،‬فمقصوده هو التعبري عن التوحيد املحض‪ ،‬لكن ضيق العبارة يؤول إىل هذه املساقط‬
‫والقلب عىل غري ما تلفَّظ به العارف‪ .‬فكذلك النقطة ال وجود للفظ يحمل معناها ويعرب عنها‪،‬‬
‫فكلَّام أردنا وصفها والتلفُّظ مبا يعكس ماهيَّتها نطق بحروف ليست من ذاتها‪ ،‬وهي النون والقاف‬
‫والطاء والتاء‪ .‬وهذه الحروف عىل تشابه يف ما بينها من حيث ال َّرسم‪ ،‬فالتَّاء مثالً تشبه الثاء والباء‬
‫وغريها‪ ،‬إالَّ أنَّها تباين النقطة من حيث الرسم‪ ،‬فال شبيه للنقطة يف ال َّرسم‪ ،‬وال حامل لها يف التلفُّظ‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.25 24-‬‬

‫‪257‬‬
‫أفنان‬

‫ب ـ األلف‪:‬‬

‫«أ َّول ما تجلَّت به النقطة وظهرت ظهورا ً يقتيض التعريف هو وجود األلف‪ ،‬فجاء صورة التنزيه‬
‫كل الحروف‪ ،‬بصفته مبايناً بحقيقته»[[[‪ ،‬أل َّن األلف يف‬
‫أقرب منه إىل التشبيه ليكون موجودا ً يف ِّ‬
‫الحقيقة ال يحتاج إىل قلم يك نربزه‪ ،‬أو لنقل ليك نكتبه ال نحتاج إىل وسيلة خارج الحرب ذاته‪.‬‬
‫فاأللف يف الحقيقة هو ميالن وسيالن الحرب عموديَّاً فريتسم‪ ،‬وإن استعملنا القلم يف رسمه فليس‬
‫من باب فقره لهذه الواسطة‪ ،‬أي واسطة القلم‪ ،‬وإمنا يبقى األلف غن َّياً عن القلم بل القلم نفسه هيئته‬
‫ألف‪« ،‬فيكون ظهور األلف بنفسه لنفسه ال غري‪ ...‬األلف كناية عن واحد الوجود‪ ،‬فظهور النقطة‬
‫التجل فال توصف بذلك‪ ،‬كام ال توصف باآلخريَّة»[[[‪ .‬أ َّما‬
‫ِّ‬ ‫املسمة باألوليَّة‪ ،‬أ َّما قبل‬
‫َّ‬ ‫باأللف هي‬
‫األلف فلكونه ظهور هذه النقطة وتجلِّيها األول ثبتت له األول َّية‪ ،‬ولزوماً يقتيض ثبوت اآلخرية له‪،‬‬
‫وهو الذي نجده مط َّبقاً يف حروف الهجاء يبدأ باأللف وينتهى به أيضاً‪ ،‬ويس َّمى همزة‪.‬‬

‫إ َّن ظهور األلف يف الحروف معقول لكن ال تراه األبصار إذ هو باطن فيها‪ ،‬فمثالً امليم رسمه‬
‫مينع من إدراكه بسبب االستدارة حيث يت َّعقل يف امليم وال يُرى‪ ،‬واالستدارة هي امليم‪ ،‬وهي‬
‫لكل من‬
‫وجل ظهوره يف الوجود معقول «وهكذا يقع ِّ‬
‫َّ‬ ‫الحجاب نفسه‪ ،‬فكذا يف املقابل الله ع َّز‬
‫محل للظهور‪ ،‬وهناك موانع ع َّدة أبرزها‪ :‬املانع‬
‫الحق يف هذا العامل‪ ،‬مع علمه بأنَّه ُّ‬
‫ِّ‬ ‫تغفل عن ظهور‬
‫األول عدم الشعور‪ ،‬واملانع الثاين سوء الفهم وعدم العلم‪ ،‬وبالجملة هو تحجرينا عىل األلوه َّية‪،‬‬
‫حيث ق َّيدناها بأوصاف مخصوصة‪ ،‬وألزمناها أالَّ تخرج عنها‪ ،‬ففاتنا خري بق َّية الصفات التي تجلَّت‬
‫والكل عنها مبعزل‪ ،‬إالَّ من أىت الله بقلب سليم‪ ،‬وعرف األلف‬
‫ُّ‬ ‫بها اآلن‪ ،‬وقبل اآلن‪ ،‬وبعد اآلن‪،‬‬
‫يف دائرة امليم»[[[‪ ،‬ومعرفة األلف يف دائرة امليم يقابله معرفة الله يف التشبيه كام عرف يف التنزيه‪.‬‬
‫فقد عرفه الرسول ‪ ‬كام ُروي عنه يف صورة شاب أمرد‪ ،‬ورآه إبراهيم‪ ‬يف صور األفالك‪ ،‬وغري‬
‫تجل لهم يف الحرش يف‬
‫حق معرفته‪ ،‬فإذا َّ‬
‫األنبياء والعرفاء من العوا ِّم يشتبه عليهم ألنَّهم مل يعرفوه َّ‬
‫الصورة التي ال يعرفونه بها فينكرونه وهو هو‪.‬‬

‫واملانع كام ُعلم يف األلف أنَّه ال يدرك يف الحروف‪ ،‬بينام الحروف تستم ُّد وجودها من ما َّدته‬
‫واستطالته‪ ،‬وهنا يقول سلطان العاشقني‪:‬‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪258‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫َ‬
‫سواك‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫بك ق َّرت وما‬ ‫سواك لِع ٍ‬
‫ني‬ ‫َ‬ ‫فرتاءيت يف‬
‫ُ‬
‫[[[‬
‫َ‬
‫األفالك‪.‬‬ ‫راقب‬
‫َ‬ ‫طرفَ ُه حني‬ ‫َّب قبيل‬
‫الخليل قل َ‬
‫ُ‬ ‫وكذلك‬

‫كام لأللف ش َّدة يف الظهور يف بعض الحروف‪ ،‬ويخفى يف البعض بينام هو هو‪ ،‬فمثالً يف الالَّم‬
‫تكاد تظهر صورته الحقيقيَّة كام يف باء البسملة‪ .‬أما يف غريها من بعض الحروف فيصعب التع ُّرف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫بكل‬
‫املتجل ِّ‬
‫ِّ‬ ‫عىل األلف‪ ،‬وهكذا األمر مع األلوه َّية يقول العالَّوي‪« :‬وإذا فهمت أ َّن األلف هو‬
‫الخاصة‪ ،‬كالَّ‪ ،‬فحقيقة األلف مل‬
‫َّ‬ ‫حرف‪ ،‬فهل ذلك نقصان يف مرتبته التنزيه َّية مع إبقائه عىل صفته‬
‫تزل عىل حقيقتها‪ ،‬وال أرى نقصاناً يف ذلك‪ ،‬بل أراه من كامالته‪ ،‬وأرى النقصان ‪ -‬والله أعلم ـ يف‬
‫من ألزمه صفة ال يتع َّداها إىل غريها‪ ،‬فقد حرصه وقيَّده وجهله وشبَّهه وجعله شيئاً كبقيَّة األشياء‪،‬‬
‫فالكل ألف تجده‬
‫ُّ‬ ‫وحقيقة املعرفة الالَّئقة مبقامه‪ ،‬هو أن ترى األلف متجلِّياً ِّ‬
‫بكل لفظ وتصنيف‪،‬‬
‫بكل وصف‪ ،‬حائزا ً مراتب الوجود»[[[‪.‬‬
‫بكل حرف‪ ،‬ظاهرا ً ِّ‬
‫متل ِّوناً ِّ‬

‫ويوظِّف الشيخ العالَّوي نصوصاً نبويَّة يف تجلية املعاين اإلله َّية من الحروف‪ ،‬فحتى يثبت‬
‫األول َّية واآلخريَّة لله الظاهرة إشارتها يف األلف يقول‪« :‬قال عليه الصالة والسالم‪ :‬كان الله وال يشء‬
‫معه‪ ،‬فتأ َّمل هذه الكينونة إن كانت تفيد الدوام واالستمرار فام تقول؟ فهل تتو َّهم وجود الغري أيُّها‬
‫العاقل؟ بل لو تع َّمدته الت َّضح عندك أ َّن األلف هو األول واآلخر‪ ،‬والظاهر والباطن وال مينعك من‬
‫فكل لحكمة يخفيها الشهود عن الشهيد»[[[‪.‬‬
‫معرفة األلف ما تراه من اعوجاج الحروف‪ٌّ ،‬‬

‫ج ـ الباء‪:‬‬

‫يتجل به يف غريها‪ ،‬أي بصفتها‬


‫َّ‬ ‫تجل فيها مبا مل‬
‫«الباء هي أول صورة ظهر بها األلف‪ ،‬ولهذا َّ‬
‫الخاصة‪ ،‬وسبب ذلك عدم الواسطة بينهام‪ ،‬وما قارب اليشء يعطي حكمه‪ ،‬فكان قاب قوسني أو‬
‫َّ‬
‫أدىن فأوحى إىل عبده ما أوحى‪ ،‬وقد يظهر يف القريب ما ال يظهر يف البعيد‪ ...‬فلهذا جاءت الباء‬
‫بأوصافه خلق آدم عىل صورته‪ .‬وليس املراد بآدم إالَّ اإلنسان األول‪ ،‬وهو روح الوجود‪ ،‬فلهذا خلفه‬
‫يف أرضه‪ ،‬وأمر املالئكة بالسجود إليه»[[[‪.‬‬

‫الباء يف البسملة ‪ -‬كام يرى الشيخ العالَّوي ـ عظمتها عظمة األلف‪ ،‬ولذا يليق بها نيابته‪ .‬فصورتها‬

‫[[[‪ -‬عمر ابن الفارض‪ ،‬ديوان ابن الفارض‪ ،‬ص ‪.25‬‬


‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪259‬‬
‫أفنان‬

‫يف البسملة هي صورة األلف عىل غريها يف غري البسملة‪ ،‬وهو نفسه مقام محمد ‪ ‬من الوجود‪،‬‬
‫الحق تعاىل وهو اإلنسان الكامل يقول الشيخ العالَّوي‪« :‬فالباء يف البسملة قامئة مقام‬
‫ِّ‬ ‫إذ هو نائب‬
‫األلف‪ ،‬ولهذا قال عليه الصالة والسالم‪ :‬يل وقت ال يسعني فيه غري ريب‪ ،‬وأنت ترى أن الباء ال‬
‫يسعها يف بعض األوقات إالَّ األلف‪ ،‬صورة ونقطة‪ ،‬إالَّ أ َّن نقطة األلف من أعاله‪ ،‬ونقطة الباء من‬
‫وكل لحكمة يعقلها العاملون»[[[‪ .‬إ َّن نيابة الباء عن األلف املحذوفة فيه إشارة إىل نيابة‬
‫أسفلها‪ُّ ،‬‬
‫اإلنسان الكامل عن الله يف خلقه‪ ،‬فوجودها فوق النقطة مبثابة حجاب الله األعظم القائم بني يديه‬
‫تعاىل‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬جرياً عىل هذا الفهم‪ِّ ،‬‬


‫يفس الشيخ العالَّوي الحروف املقطَّعة لسورة البقرة‪ ،‬وهو الذي‬
‫رشع يف تفسري القرآن‪ ،‬وأوقفه األجل عند اآلية ‪ 207‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫أمل‪« :‬تفيدنا أ َّن األلف من اسم الله‪ ،‬والالَّم من جربيل وامليم من محمد‪ ،‬وإذا وصلت‬
‫الحروف ببعضها جاءتك اإلشارة قائلة‪ :‬أمل يكن ذلك الحق؟ بىل؛ الله الذي أنزل الكتاب إىل محمد‬
‫بواسطة جربيل‪ ...‬كان القرآن متعلِّقاً باأللف‪ ،‬ث َّم ات َّحد مع الالَّم‪ ،‬ث َّم استجمع يف دائرة امليم‪...‬‬
‫ووجه اختصاص األلف بإشارته لأللوه َّية الستقامته‪ ،‬وكونه أول الحروف الهجائ َّية وآخرها همزة‪...‬‬
‫والالَّم يشري إىل جربيل لقربه من األلف من جهة الصورة ال من جهة الج ِّر واالنعطاف‪ ،‬وامليم تشري‬
‫[[[‬
‫إىل محمد‪ ‬النتهائه يف دائرة العبوديَّة‪ ،‬فهو العبد عىل الحقيقة»‪.‬‬
‫ّْ‬
‫الوجودي‪:‬‬ ‫‪ 4‬ـ اللُّغة والتأويل‬

‫من املفيد القول أ َّن عمل َّية فهم املعاين من األلفاظ والكلامت والحروف تتأطَّر وفق مقام‬
‫العارف من الوجود‪ ،‬وبحسب جهة متوقُعه‪ ،‬فيتلقَّى اللَّفظ الذي يحيله إىل املعنى وذلك حسب‬
‫باطنه‪ .‬فمه َّمة العارف هي كيف يربط بني اللَّفظ املنطوق واملعنى الذي يتحقَّق به‪ ،‬وينزل عليه‬
‫مبثابة املطابقة الرضوريَّة‪ ،‬وذلك من دون تكلُّف‪ ،‬كام هو الشأن عند علامء الظاهر‪.‬‬

‫الدرقاوي كان ما َّرا ً مع جامعة من مريديه عىل مغ ٍّن يقول‪« :‬راحت‬


‫َّ‬ ‫يب‬
‫يُحىك أ َّن موالي العر َّ‬
‫الهائجة وخلت الفائجة» (ذهبت الهائجة وخلَّفت وراءها الفائجة)‪ ،‬فذهب إليه الشيخ وأطرق‬
‫جوا عليه كيف يستمع إىل‬
‫يستمع إليه‪ ،‬وبعدها أعطاه دراهم معدودة‪ ،‬وملا ابتعد مع مريديه‪ ،‬احت ُّ‬
‫يحل سامعه‪ ،‬فقال لهم كيف ال أستمع من ينشدين عن الهائجة التي ذهبت وتركت الفائجة‪،‬‬
‫ما ال ُّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬


‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬البحر املسجور يف تفسري القرآن مبحض النور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.51 50-‬‬

‫‪260‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫وأشار بذلك إىل نفسه حيث ذهبت واسرتاح من معالجتها[[[‪.‬‬

‫ونلفت إىل أ َّن قصصاً كثرية من هذا النوع حدثت لل ُعرفاء‪ .‬وهي أحوال ترد عليهم حيث يقهرهم‬
‫املعنى الذي يكونون عليه نتيجة مناسبة تقرتن به‪ ،‬ويس ُّمون هذه اإلحالة إىل املعنى الباطن املقرتن‬
‫يف يرصف وجه قلبه‪ ،‬عند استامع اللَّفظ أو‬
‫بسمع كلمة أو عبارة‪ ،‬أو نداء‪ ،‬بالفهم عن الله‪« ،‬فالصو ُّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫قراءته‪ ،‬ال إىل معاجم اللُّغة ومجازها ورموزها بل إىل الله تعاىل‪ ،‬وينتظر أن يعلِّمه ما مل يكن يعلم‪،‬‬
‫غافال‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫مبناسبة السامع والقراءة»[[[‪ .‬وهذه الحالة مطلوبة لديهم بحيث يع ُّد من ال يتحقَّق بها‬
‫الذي مي ِّيزهم عن غريهم من العلامء‪« ،‬اعلم أ َّن القوم ال يفهمون مخاطبة الخلق لهم إالَّ عن الله‬
‫وذلك ما يقتضيه مقامهم ال يستعملونه يف أنفسهم‪ ،‬فال تستغرب يا أخي من فهمهم من الكلمة‬
‫الواحدة املوضوعة عىل معنى مخصوص معنى آخر فإ َّن ذلك عندهم من أرشف املقامات وأعظم‬
‫الدرجات‪ ...‬وقد أجمع أهل الله عىل أ َّن الفهم عن الله عىل قدر مقام العبد عند الله‪ ...‬فإ َّن القوم‪،‬‬
‫وإن اشرتكوا مع غريهم يف ظاهر اللَّفظ‪ ،‬مختلفون يف القصد كام أنَّهم اشرتكوا يف املشهود‪،‬‬
‫واختلفوا يف الشهود‪ ،‬فكذلك اشرتكوا يف املسموع واختلفوا يف األسامع»[[[‪ .‬وهذا ما نلمسه يف‬
‫اعتبارهم لألمور‪ ،‬الس َّيام الصوامت منها أو لنقل األعجم َّية من كائنات ح َّية وما نعتربها غري ح َّية‬
‫كالجامدات والحيوانات‪ ،‬واملسطور‪ ،‬واملسموع من األمور‪.‬‬

‫بل إ َّن التأويل الذي يرجع فيه ظاهر اللَّفظ إىل معنى باطن يكاد يكون أمرا ً اعتباط َّياً‪ ،‬بحيث قد‬
‫ين‪ ،‬يكشف عن مستويات‬
‫يستخرج من اللَّفظ ض َّد معناه‪ ،‬وما هو ض َّد معناه‪ ،‬وإنَّ ا التأويل العرفا ُّ‬
‫دالل َّية ُّ‬
‫تدق فيها القرينة املرجع َّية يف السري من الظاهر إىل الباطن‪ ،‬مبا يؤ ِّدي إىل االعتقاد بأ َّن التأويل‬
‫يل للنصوص واأللفاظ حتى تؤول إىل املعنى امل ُراد‪ ،‬بينام األمر يف العرفان عىل غري ما يفهمه‬
‫هو ٌّ‬
‫املتمسكون بالحرف َّية يف الفهم‪ ،‬فأمر الفهم عند العارف معكوس‪ ،‬بحيث ت ُع ُّد األصول اللُّغوية‬
‫ِّ‬
‫النص وفهمه هام‬
‫ِّ‬ ‫مؤسسة له كام الشأن عند علامء اللُّغة‪« ،‬إ َّن تأويل‬
‫وقواعدها شاهدة لفهمه ال َّ‬
‫يف‬
‫من جملة املواهب اإلله َّية التي تفجأ اإلنسان‪ ،‬لكأنَّهام يتن َّزالن يف قلبه‪ .‬وهذا ال يعني أ َّن الصو َّ‬
‫َّ‬
‫يستدل باألصول إلنتاج معرفته‬ ‫ُمعفى من النظر يف األصول اللُّغويَّة والرشع َّية‪ ،‬بل يعني ذلك أنَّه مل‬
‫التأويل َّية‪ ،‬وإنَّ ا قامت هذه األصول بدور الشاهد عىل التأويل ومرشوع َّيته»[[[‪ ،‬ألن عامل املعاين‬

‫رصف عن‪ ،‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املنح القدوس َّية يف رشح املرشد املعني بطريق الصوف َّية‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫[[[‪ً -‬‬
‫نقال بت ُّ‬
‫[[[‪ -‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬إبداع الكتابة وكتابة اإلبداع‪ ،‬دار الرباق‪ ،‬بريوت‪ ،2004 ،‬ص ‪.40‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالَّوي‪ ،‬املنح القدوس َّية يف رشح املرشد املعني بطريق الصوف َّية‪ ،‬ص ‪.17–16‬‬
‫[[[‪ -‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ّ ،‬إبداع الكتابة وكتابة اإلبداع‪ ،‬ص ‪.41 – 40‬‬

‫‪261‬‬
‫أفنان‬

‫األسايس باطن اإلنسان ال املفردات‪ ،‬إذ هي مج َّرد مظاهر تختزن تحتها‬


‫ُّ‬ ‫ال يكاد ينحرص‪ ،‬وأصله‬
‫املرجعي يف الداللة هي ارتباط اإلنسان باملعنى وحضوره‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫من املعاين ما ال حرص‪ ،‬والعنرص‬
‫«وإذا استق َّر يف ذهنك أيها القارئ اللبيب أ َّن نقطة الباء جامعة لسائر األحكام والرسوم‪ ،‬واملعارف‬
‫أي يشء شاؤوا تالله‬
‫والفهوم‪ ،‬فمن باب أوىل وأحرى الكلمة‪ ...‬فلهم أن يستخرجوا ما شاؤوا من ِّ‬
‫الحي من امليت ومخرج امليت‬
‫َّ‬ ‫الخل لفعل؛ «والله يخرج‬
‫ِّ‬ ‫لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من‬
‫من الحي»(سورة األنعام‪ :‬اآلية ‪ُّ .)95‬‬
‫كل ذلك دليل عىل ما منحهم الله من األرسار واملعارف‬
‫واألنوار»[[[‪ .‬وما يُقال عن فهم القوم من األلفاظ يُقال كذلك عن فهمهم للوجود ومظاهره‪ ،‬حيث‬
‫تحقَّقوا أ َّن الكرثة الكون َّية هي كاشفة عن وحدة حقيق َّية‪ ،‬واعتربوا أ َّن الوجود واحد ال كرثة فيه‪،‬‬
‫واستطاعوا أن يتحقَّقوا بهذه الوحدان َّية‪ ،‬إىل غريه من الفهوم‪ ،‬املفارقة ملا عهده أهل االختصاص‬
‫كل يف مجاله‪ ،‬من فقهاء ومتكلِّمني وفالسفة وعلامء اللُّغة‪ ،‬والبيان‪« ،‬فإ َّن القوم وإن اشرتكوا مع‬
‫ٍّ‬
‫غريهم يف ظاهر اللَّفظ فإنَّهم مختلفون يف القصد‪ ،‬كام أنَّهم اشرتكوا يف املشهود واختلفوا يف‬
‫الشهود‪ ،‬كذلك اشرتكوا يف املسموع واختلفوا يف األسامع»[[[‪.‬‬

‫ال ب َّد من القول أ َّن قاعدة العرفاء يف فهم املعاين هي أولويَّة علم الباطن‪« ،‬لكونهم ال يقفون مع‬
‫ِّ‬
‫الدال عىل امل ُراد وال يلتفتون إىل اللَّحن وال إىل إعراب‬ ‫ظاهر األلفاظ وإمنا ينظرون إىل املعنى‬
‫بل يأخذون املعنى حيث وجدوه فهم ناظرون إىل إشارة األرواح غافلون عام يتلفظ به اللِّسان»[[[‪،‬‬
‫ذلك أنه ال معنى إلصالح اللِّسان مع خراب الجنان‪ ،‬ويع ُّدون من يصلح قلبه من دون لسانه فقد حاز‬
‫كامالً من دون كامل‪ ،‬وال يت ُّم كامله إالَّ باإلثنني أي بإصالح القلب واللِّسان‪.‬‬

‫وقد يصل األمر عند ال ُعرفاء إىل سامع ما ال يسمع‪ ،‬فيأخذون علمهم من أحقر األشياء‪ ،‬وهم‪،‬‬
‫طبعاً ال يرون أيَّة حقارة يف ما هو موجود‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫كل موجود يشري إىل وحدان َّية املعبود‪ ،‬وال قبيح بل‬
‫اإللهي‪« ،‬ولهذا صاروا يسمعون غري اليشء املسموع حتى صار أحدهم يأخذ‬
‫ِّ‬ ‫الكل مظهر للجامل‬
‫ُّ‬
‫كل ما يف الوجود‬
‫علمه من أصغر األشياء يف عيون الناس‪ ،‬وال حقارة عند هؤالء الناس بل عندهم ُّ‬
‫يشري إىل وحدان َّية املعبود ويصري اللفظ القبيح يف أسامعهم محمودا ً»[[[‪.‬‬

‫نحن نستطيع القول أ َّن العارف هو املعنى وهو املرجع‪ ،‬لعدم انفكاكه عن معنى املعاين أي‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املنح القدوس َّية يف رشح املرشد املعني بطريق الصوف َّية‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املنح القدوس َّية‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪17‬‬

‫‪262‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫كل مفردة يف فهمه ويسهل تطويعها حتى تكون دالَّة عىل معنى‬
‫يلي َّ‬
‫الحق تعاىل‪ ،‬وبالتايل هذا ِّ‬
‫َّ‬
‫ُّغوي يف فهم العارف‪ ،‬مع‬
‫وجودي‪ ،‬فال إشكال يف البحث عن املعجم َّية والتواضع الل ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫يل أو‬
‫كام ٍّ‬
‫العلم أ َّن االنتقال من الظاهر إىل الباطن ومن اللَّفظ إىل املعنى‪ ،‬هو عمل َّية رضوريَّة واالرتباط بني‬
‫يب‪ ،‬وليس أمرا ً احتامليَّاً وظنيَّاً‪ ،‬بحيث‬
‫رضوري‪ ،‬ووجو ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫الظاهر والباطن واللَّفظ واملعنى كذالك‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ميكن خالفه‪ .‬فمثالً ينصح الشيخ العالَّوي املطَّلع عىل تفسريه للقرآن‪ ،‬من خالل البحر املسجور‪،‬‬
‫أالَّ يقيس ما يقرأه مبا عهده وتعلمه‪« ،‬أل َّن كالم الروح يباين كالم البدن‪ ،‬فأكرثه جاء بلسان الخصوص َّية‬
‫جه والتلقِّي من حرضة الله‪ ،‬واملعنى أنَّه‬
‫الذي ليس لنا فيه كبري اكتساب‪ ،‬إالَّ ما كان من قبيل التو ُّ‬
‫والتعسف»[[[‪ ،‬أللَّهم إالَّ أن يكون معنى أرقى يف املستوى يكشف عن عل ِّو‬
‫ُّ‬ ‫ليس من قبيل التكلُّف‬
‫مقام صاحبه‪ ،‬فهنا يقع اإلذعان لألعىل‪.‬‬

‫ويجدر القول هنا أ َّن االختالف قد يقع بني ال ُعرفاء يف الفهم‪ ،‬وهذا االختالف ال يكون مبقام‬
‫اختالف تضا ٍّد‪ ،‬بحيث يكون بني املعنيني تعاند‪ ،‬وإنَّ ا االختالف يكون اختالفاً طول َّياً بالنظر إىل‬
‫وحل هذا األمر يكون باإلذعان لصاحب الفهم األعمق‪.‬‬
‫تفاوت املراتب‪ُّ ،‬‬

‫فيستقل فيها مستوى اللُّغة عن مستوى الوجود‪ ،‬فهي لغة القال ال لغة الحال‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أ َّما لغة أهل الفكر‬
‫أي لغة تحيل إىل غياب ال إىل حضور‪ ،‬عىل عكس ما تثريه عند العارف‪ ،‬فكام يتح َّدث الشيخ‬
‫العالَّوي عن تجربته يف التعامل مع القرآن يقول‪« :‬وهكذا الواحد منا مهام تق َّوى يقينه وانرشح باطنه‬
‫ُّ‬
‫يستدل عليه إالَّ‬ ‫يف ما يسمعه من ألفاظ القرآن‪ ،‬فال يراه إالَّ كالماً يكلِّمه الله به يف ذلك الحال‪ ،‬وال‬
‫به‪ ،‬ملا يجده يف قلبه من تأثري النزول ورعدة الزواجر‪ ...‬وهكذا ملا ينزل به عىل محمد ‪ ‬يحصل‬
‫له من تأثري النزول ما ترتعد به مفاصله‪ ،‬ولن يزال هكذا مهام م َّر عىل قلب فارغ من الكدورات إالَّ‬
‫ويحدث فيه من تأثري النزول‪ ،‬وقد كان يل نصيب من ذلك ـ والحمد لله ـ فكنت مهام يطرق سمعي‬
‫كأن أسمع حسيساً من بقيَّة صلصلة الجرس‪ ،‬وكنت‬
‫كالم الله فرتتعد بوادري عن الفحص‪ ،‬حتى ِّ‬
‫نب ما رسمته هو‬ ‫إذا تناولت املصحف الكريم‪ ...‬نراه كتاباً وصل إ َّ‬
‫يل من حكيم عليم‪ ...‬وال تحس َّ‬
‫مجموع ما فهمته‪ ،‬بل وال عشوره»[[[‪.‬‬

‫كل قول‪ ،‬ال يفرق العارف بني قول إنسان‪ ،‬أو نطق بهيمة‪ ،‬أو‬
‫وما يُقال عن القرآن يقول عىل ِّ‬
‫طبيعي من ريح‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬وكذلك ما يُقال عن األقوال والكتب‪ ،‬واألكوان‪ ،‬فهي كلُّها‬
‫ٍّ‬ ‫صوت‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬البحر املسجور يف تفسري القرآن مبحض النور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬البحر املسجور يف تفسري القرآن مبحض النور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.24‬‬

‫‪263‬‬
‫أفنان‬

‫الحق تعاىل‪ ،‬لذلك قال الشيخ العالَّوي‪ ،‬كام ذكرنا سابقاً‪ ،‬أ َّن القوم يستخرجون‬
‫ِّ‬ ‫ت ُحيل إىل وجود‬
‫فبالحق ظهر‪ ،‬وعىل‬
‫ِّ‬ ‫كل ما ظهر‬
‫حق‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫الج َّد من الهزل‪ ،‬وال فرق عندهم بني كالم باطل وكالم ٍّ‬
‫كل صفحة‪ ،‬سواء صفحة التكوين‪ ،‬أم صفحة التدوين‪ ،‬أو صفحة‬
‫الحق يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يل أن يفهم خطاب‬
‫الو ِّ‬
‫لكل هذا‪ ،‬أنَّها برزت وما ليس مبوجود ال يعرف‬
‫كل مفردة‪ ،‬والجامع ِّ‬
‫التلوين‪ ،‬أو صفحة القول‪ ،‬أي َّ‬
‫الحق تعاىل يف مرايا الكون َّيات واالعتباريَّات‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الربوز‪ ،‬وما برز إالَّ‬

‫هكذا يفهم العارف اللُّغة مهام كانت‪« ،‬ليس الشأن أن ترفع برصك للخلق‪ ،‬إنَّ ا الشأن أن ترى‬
‫الحق‪ ،‬ما خلقت األشياء لرتاها ولكن ترى فيها موالها‪ ،‬حتى إذا عرفت الله يف األشياء كانت األشياء‬
‫َّ‬
‫وجل‪ ،‬ورمبا تنوب عنه يف بعض األمور‬
‫َّ‬ ‫معك‪ ،‬وأنت مع الله‪ ،‬فتصري أمريا ً عليها بإضافتك لله ع َّز‬
‫كام ينوب املضاف عن املضاف إليه»[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املواد الغيث َّية الناشئة عن الحكم الغوث َّية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪152‬‬

‫‪264‬‬
‫التجلِّيات الوجود َّية للحروف‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫رس الحروف ومعانيها‪ ،‬تحقيق‪ ،‬عبد الحميد‬
‫‪1.1‬ابن عريب محيي الدين‪ ،‬رسالة الحروف‪ ،‬ضمن‪ ،‬رسالتان يف ِّ‬
‫صالح حمدان‪ ،‬املكتبة األزهريَّة للرتاث‪(،‬د‪.‬ط) (د‪.‬ت)‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫‪2.2‬أحمد بن مصطفى العالَّوي املستغامني‪ ،‬منهل العرفان يف تفسري البسملة وسور من القرآن‪ ،‬املطبعة‬
‫العالويِّة مبستغانم‪ ،1997 ،‬ط ‪.5‬‬
‫‪3.3‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬البحر املسجور يف تفسري القرآن مبحض النور املطبعة العالوية‪ ،‬ج‪– 2‬‬
‫‪.1982‬‬
‫‪4.4‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املنح القدوس َّية يف رشح املرشد املعني بطريق الصوف َّية‪ ،‬تحيق‪ :‬سعود‬
‫الق َّواص‪ ،‬تحقيق ابن زيدون للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪1987 ،1‬‬
‫‪5.5‬أحمد بن مصطفى العالوي‪ ،‬املواد الغيث َّية الناشئة عن الحكم الغوث َّية‪ ،‬ج‪ ،2‬املطبعة العالويِّة‪.2012 -‬‬
‫‪6.6‬بن تونس‪ ،‬عدة‪ ،‬الروضة السن َّية يف املآثر العالويَّة‪ ،‬املطبعة العالويَّة‪ ،‬مستغانم‪ ،‬ط‪( ،2‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫‪7.7‬الجييل‪ ،‬عبد الكريم‪ ،‬الكهف والرقيم يف رشح بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬تحقيق‪ :‬قاسم الطهراين‪ ،‬دار‬
‫مكتبة الهالل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬
‫‪8.8‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬إبداع الكتابة وكتابة اإلبداع‪ ،‬دار الرباق‪ ،‬بريوت‪.2004 ،‬‬
‫‪9.9‬عمر ابن الفارض‪ ،‬ديوان ابن الفارض‪ ،‬مكتبة القاهرة‪ ،‬مطبعة حجازي‪.1951 ،‬‬

‫‪265‬‬
‫المحور‬

‫ً‬
‫الغر�”‬
‫بي‬ ‫ريتشارد تارناس كاشفا “آالم العقل‬
‫تراجيديا الحضارة المتشائمة‬
‫العل‬
‫ي‬ ‫قراءة وتعليق‪ :‬خالد‬

‫يز‬
‫ف�ياء اإليمان‬
‫ن‬
‫الدي�‬ ‫والوح‬ ‫الطبيع‬ ‫إمكان رفع التناقض ي ن‬
‫ب� العلم‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫نعيم تلحوق‬
‫ريتشارد تارناس كاشف ًا “آالم العقل الغربي”‬
‫تراجيديا احلضارة املتشائمة‬

‫العل‬
‫ي‬ ‫قراءة وتعليق‪ :‬د‪ .‬خالد‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫السويرسي من أصل‬
‫ِّ‬ ‫قد يكون كتاب “آالم العقل الغريب” للمفكِّر‬
‫أمرييك ريتشارد تارناس من أبرز األبحاث املعارصة التي تناولت‬
‫يب الحديث بالنقد والتحليل واملراجعة‪ .‬ونظرا ً إىل املكانة‬ ‫الفكر الغر َّ‬
‫التي استحوذ عليها هذا العمل بني النخب الفكريَّة واألكادمي َّية يف‬
‫حشد من الكتب‬ ‫ٍ‬ ‫أمريكا وأوروبا‪ ،‬فقد حظي بتعليقات تكاد تتف َّوق عىل‬
‫والدراسات املشابهة منذ صدور الكتاب الشهري للمفكِّر واملؤ ِّرخ‬
‫ين أوسفالد شبينغلر‪“ :‬تدهور الحضارة الغرب َّية”‪ ،‬أو انحدار‬ ‫األملا ِّ‬
‫الغرب” (‪ )Der Untegang des Abendlades‬يف العام ‪.1918‬‬
‫ففي هذا الكتاب كان شبينغلر تن َّبأ مبكرا ً انهيار الحضارة الرأسامل َّية‬
‫يب رغم‬ ‫يب يحترض‪ ،‬وأ َّن اإلنسان األورو َّ‬ ‫األوروب َّية‪ ،‬وذكر أ َّن العامل الغر َّ‬
‫شعوره بالتف ُّوق عىل إنسان األمم والشعوب األخرى‪ ،‬إالَّ أنَّه كائن‬
‫مأساوي يفتقد إىل غاية حقيقيَّة ميكنه الوصول إليها‪.‬‬ ‫ٌّ‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫وبقطع النظر عن طبيعة املباين الفلسفيَّة التي انتهت إىل ظهور أعطال وتناقضات تكوينيَّة كامنة‬
‫يب‪ ،‬فإ َّن ما حمل شبينغلر عىل القول بانهيار واضمحالل الحضارة‬
‫يف أصل نشوء وتك ُّون العقل الغر ِّ‬
‫ومؤشات مريبة‪ .‬فإذا كان‬
‫ِّ‬ ‫الغربيَّة هو ما أسفرت عنه عمليَّاً وقائع ومامرسات الحداثة من نتائج‬
‫كتابه قد وضع املق ِّدمات النظريَّة ملسار تص ُّدع وانهيار الحضارة الحديثة‪ ،‬فإ َّن ما ذهب إليه مؤلِّف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫والفلسفي ليبيِّ الجذور الفلسفيَّة‬


‫ِّ‬ ‫األنرثوبولوجي‬
‫ِّ‬ ‫“آالم العقل الغريب” هو أنَّه مىض إىل العمق‬
‫ِ‬
‫يكتف املؤلِّف بنقد الحقبة التاريخ َّية التي ظهرت فيها فلسفة‬ ‫والفكريَّة والنفس َّية لهذا املسار‪ .‬مل‬
‫الحداثة‪ ،‬بل انطلق من فَ َرضيَّة تأسيسيَّة مفادها أ َّن معضلة فلسفة الحداثة التي شقَّت طريقها مع‬
‫عرص النهضة األوروب َّية يف القرن الرابع عرش‪ ،‬وبدأت إرهاصاتها مع نهاية القرون الوسطى‪ ،‬إنَّ ا‬
‫تعود بأصولها إىل الحقبة اليونانيَّة حيث أرىس اإلغريق مبادئها األوىل وهندساتها الكربى‪ .‬وهكذا‬
‫سيعمل تارناس عىل ربط معضلة الحداثة مبايض أسالفها عىل مدى أكرث من خمسة وعرشين قرناً‬
‫املؤسسة يف الحضارة الغربيَّة ونَ َق َد‬
‫ِّ‬ ‫مضت‪ .‬فقد تع َّرض يف حكايته التاريخيَّة ألصحاب العقول‬
‫أفكارهم املحوريَّة‪ ،‬بدءا ً من سقراط وأفالطون وأرسطو‪ ،‬إىل ديكارت وكانط وهيغل‪ ،‬ومن القديس‬
‫أوغسطني إىل نيتشه‪ ،‬ومن كوبرنيك إىل فرويد وماركس وفوكو وسواهم من فالسفة ما بعد الحداثة‪.‬‬
‫يب‪ ،‬وبيان اآلثار املؤملة الناجمة عن هذا العجز‪،‬‬‫وليك يبيِّ مقصده لناحية عجز العقل الغر ِّ‬
‫عميق‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مم قاله “فيلسوف األمل والعدم” فريدريك نيتشه يف هذا املضامر‪ :‬إ َّن العامل‬
‫يقتبس تارناس َّ‬
‫وهو أعمق من أن يستطيع النهار إدراكه”‪ .‬وما من ٍّ‬
‫شك يف أ َّن اقتباسه هذا بدا كام لو أنَّه يستوحي من‬
‫يب يف التع ُّرف عىل‬
‫تأ ُّمالت نيتشه يف “هكذا تكلَّم زرادشت” الدرجة التي بلغها إخفاق العقل الغر ِّ‬
‫حقيقة العامل‪ ،‬وبالتايل عىل إدراك ماه َّيته وحقيقته الذات َّية الحضاريَّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫تراجيدية لتاريخ الغرب‪:‬‬ ‫الكتاب كحكاية‬
‫حسب تارناس أ َّن عمله هذا يق ِّدم سرية موجزة لتاريخ نظرة الغرب إىل العامل‪ ،‬من صيغتها‬
‫ظل منحرصا ً أساساً يف‬
‫يث‪ .‬إالَّ أ َّن هدفه ‪ -‬كام يقول ‪َّ -‬‬
‫اإلغريقيَّة القدمية إىل طورها املا بعد حدا ّ‬
‫املتغي للواقع‪ .‬ومنذ البداية يطرح جملة‬
‫ِّ‬ ‫يب وإدراكه‬
‫توفري رواية متامسكة لقصة تط ُّور العقل الغر ِّ‬
‫من األسئلة املفتاحيَّة ميكن إجاملها بسؤالني أساسيني‪:‬‬

‫األ َّول‪ :‬كيف وصل العامل الحديث إىل وضعه الحا ِّ‬
‫يل؟‬
‫الثاين‪ :‬كيف نجح العقل الحديث بالوصول إىل األفكار األساس َّية واملبادئ العمل َّية التي متارس‬
‫كل هذا التأثري العميق عىل عامل اليوم؟‬
‫َّ‬

‫‪269‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫حان هام اللَّذان يواجهان حضارة الغرب الحاليَّة ويشكِّالن قضيَّة محوريَّة‬ ‫هذان السؤاالن امللِ َّ‬
‫يف هذه الدراسة‪ .‬ومن أجل مقاربتهام يرى تارناس أنَّه ال ب َّد من إعادة استكشاف جذورنا‪ ،‬ال من‬
‫َّنقدي آلراء العصور الغابرة و ِقيَمها‪ ،‬بل من أجل التع ُّرف عىل املنابع التاريخيَّة‬
‫منطلق االحرتام الال ِّ‬
‫الرضوري للتعامل مع مآزقنا الراهنة‬
‫ِّ‬ ‫لحضارتنا‪ .‬فنحن ال نستطيع ان نحلم باكتساب الفهم الذايتِّ‬
‫يب‬
‫األسس األصليَّة لعاملنا ونظرتنا إىل العامل‪ .‬وهكذا يكون التاريخ الغر ُّ‬‫ما مل نبادر إىل استحضار ُ‬
‫يخص جملة‬‫ُّ‬ ‫والفكري قادرا ً عىل أن يشكِّل نوعاً من املرحلة التعليم َّية اإلعداديَّة يف ما‬
‫ُّ‬ ‫يف‬
‫الثقا ُّ‬
‫التح ّديات التي تواجهنا جميعاً‪.‬‬
‫علقت أمالً عىل أن أكون قادرا ً ‪ -‬من خالل هذا الكتاب ‪ -‬عىل جعل جزء‬
‫ُ‬ ‫يضيف تارناس‪ :‬لقد‬
‫العادي‪ .‬ذلك بأ َّن تاريخ الثقافة الغرب َّية‬
‫ّ‬ ‫أسايس من ذلك التاريخ أقرب فهامً بالنسبة إىل القارئ‬
‫ٍّ‬
‫طاملا بدا منطوياً عىل جملة آل َّيات‪ ،‬وآفاق‪ ،‬وجامل َّيات دراما ملحم َّية عظيمة‪ :‬من اليونان القدمية‬
‫الكالسيك َّية‪ ،‬إىل الحقبة الهلنست َّية وروما األمرباطوريَّة‪ ،‬ومن الديانة اليهوديَّة إىل انبثاق املسيح َّية‪،‬‬
‫الديني‪ ،‬والثورة العلم َّية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ومن الكنيسة الكاثوليك َّية إىل العصور الوسطى‪ ،‬وعرص النهضة‪ ،‬واإلصالح‬
‫يب املستدامة‪،‬‬ ‫والتنوير والرومنطيك َّية‪ ،‬وصوالً إىل زماننا الحايل‪ .‬لقد ظلَّت محاولة العقل الغر ِّ‬
‫والكاسحة واملهيبة‪ ،‬الرامية اىل إدراك طبيعة الواقع‪ ،‬متم ِّيزة بحشد من الرصاعات الدرام َّية املثرية‬
‫والحلول املذهلة‪ ،‬من طاليس وفيثاغوراس إىل أفالطون وأرسطو‪ ،‬ومن كلمنت وبويثيوس إىل‬
‫توما األكويني وأوكام‪ ،‬وكذلك من بطليموس إىل كوبرنيك ونيوتن‪ ،‬ويف حقبة الحداثة سوف متت ُّد‬
‫املحاولة مع بيكون وديكارت إىل كانط وهيغل‪ ،‬ومن جميع هؤالء اىل دارون‪ ،‬وآينشتاين‪ ،‬وفرويد‪.‬‬
‫الخ[[[‪...‬‬
‫يل يعمل من‬
‫فكري تأصي ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫من هذا التوصيف للغاية من كتابه‪ ،‬ينطلق ريتشارد تارناس نحو مرشوع‬
‫أسسه ومك ِّوناته وتداعياته‪ .‬وهو ما نالحظه يف تقسيمه للكتاب‬
‫يب يف ُ‬
‫خالله عىل نقد العقل الغر ِّ‬
‫إىل سبعة أجزاء تناولت الكلّ َّيات الكربى ملباين الحضارة الغرب َّية الحديثة‪ .‬وقد جاءت هذه األجزاء‬
‫ضمن العناوين التالية‪1- :‬نظرة اإلغريق إىل العامل‪2- -‬تح ُّول الحقبة الكالستيك َّية وانحطاط العقل‬
‫اليهودي وتأليه التاريخ‪4- -‬القرون الوسطى‬
‫ُّ‬ ‫اإلغريقي‪3- -‬النظرة املسيح َّية إىل العامل‪ ،‬التوحيد‬
‫واليقظة السكوالستك َّية‪5- -‬النظرة الحديثة إىل العامل‪( ،‬النهضة‪ ،‬اإلصالح الديني‪ ،‬الثورة العلم َّية)‪-‬‬
‫‪ 6-‬تح ُّول الحقبة الحديثة وانتصار النزعة العلامن َّية – ‪7-‬عقل ما بعد الحداثة ومأزق املعرفة‪.‬‬
‫امليتافيزيقي للعقل الحديث‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫املأزق‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬مقدِّ مة الكتاب – ص ‪.25‬‬

‫‪270‬‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫يب‪ ،‬أنَّه تع ُّرض يف حقبته املتأخِّرة لنوع من‬


‫امليتافيزيقي للعقل الغر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫من أبرز عالمات املأزق‬
‫أي تح ُّول آخر يف تاريخ الحداثة‪ .‬هنا يعتقد‬
‫الدوري‪ .‬وهو تح ُّول رمبا كان بضخامة تضاهي َّ‬
‫ِّ‬ ‫التح ُّول‬
‫تارناس أن ليس باستطاعتنا املشاركة بذكاء يف ذلك التح ُّول إالَّ مبدى ما نكون خرباء يف التاريخ‪،‬‬
‫جيل من أن يعاين ويقلِّب مرة أخرى‪،‬‬
‫لكل ٍّ‬
‫لكل عرص من أن يتذكَّر تاريخه من جديد‪ ،‬وال ب َّد ِّ‬
‫إذ ال ب َّد ِّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الخاص‪ ،‬جملة األفكار التي شكَّلت فهمه للعامل‪ .‬ومه َّمة الفكر هنا ليست إالَّ‬
‫ِّ‬ ‫من موقعه املميَّز‬
‫أن نقوم بهذا من منظور أواخر القرن العرشين املشحون بقد ٍر كبري من التعقيد والرتكيب‪ .‬فلقد‬
‫الزمني‪ ،‬وانطالقاً من وجهات النظر‬
‫ِّ‬ ‫يب من منطلق التسلسل‬
‫جرى تنظيم الرواية التاريخيَّة للعقل الغر ِّ‬
‫العامل َّية الثالث املعطوفة عىل األحقاب الثالث الرئيسة التي جرى متييزها تقليديّاً يف تاريخ الغرب‬
‫يف وهي الحقبة – الكالسيكيَّة‪ ،‬والقرون الوسطى‪ ،‬والحديثة‪.‬‬
‫الثقا ِّ‬
‫أي تقسيم للتاريخ إىل «أحقاب» و«وجهات نظر‬
‫ما يجدر القول به يف هذا املجال‪ ،‬هو أ َّن َّ‬
‫يب خالل هذه القرون‪.‬‬
‫عامل َّية»‪ ،‬ال يستطيع وحده أن ينصف التعقيد والتن ُّوع الفعليني للفكر الغر ِّ‬
‫غري أ َّن عىل املرء‪ ،‬يك يناقش مثل هذا الك ِّم الهائل من امل َواج عىل نحو مثمر‪ ،‬أن يبادر أوالً إىل‬
‫اعتامد بعض املبادئ التنظيم َّية املؤقَّتة‪ .‬ومن قلب هذه العموم َّيات الطاغية ميكننا أن نتناول‪ ،‬عىل‬
‫نحو أفضل ‪ -‬كام يقول تارناس‪ -‬جملة املضاعفات واملالبسات الغامضة‪ ،‬وسلسلة النزاعات‬
‫الداخل َّية والتغيريات غري املتوقَّعة التي مل تكف يوماً عن طبع تاريخ العقل الغر ِّ‬
‫يب بطابعها‪ .‬ويف‬
‫الهليني الذي‬
‫ُّ‬ ‫سعيه لبيان أصول ومرتكزات الحضارة الحديثة يرى تارناس أن اإلغريق‪ ،‬هو العامل‬
‫يف الخارق الذي دشَّ ن فجر‬
‫أقدم‪ ،‬منذ نحو خمسة وعرشين قرناً‪ ،‬عىل استحداث ذلك االزدهار الثقا ِّ‬
‫الحضارة الغربية‪ .‬ويف ظل الوضوح واإلبداع البدائيني الظاهريني‪ ،‬نجح قدماء اإلغريق يف تجهيز‬
‫يب‪ .‬فالعلوم الحديثة‪ ،‬والهوت َّيات القرون الوسطى‪ ،‬والنزعة اإلنسان َّية الكالسيك َّية‪ ،‬مثقلة‬
‫العقل الغر ّ‬
‫اإلغريقي بالنسبة إىل كوبرنيك وكبلر‪ ،‬وكذلك بالنسبة‬
‫ُّ‬ ‫جميعاً بديونهم وأفضالهم‪ .‬مل يكن الفكر‬
‫كل من شيرشون وبرتارك‪ .‬ومنط التفكري‬ ‫أقل أهم َّية َّ‬
‫مم هو بالنسبة إىل ِّ‬ ‫إىل أوغسطني واإلكويني‪َّ ،‬‬
‫يب الحديث ما زال إغريق ّياً حتى النخاع من حيث املنطق الذي يقوم عليه‪ .‬يبدو هذا إىل درجة‬
‫الغر ِّ‬
‫أ َّن علينا‪ ،‬قبل أن نتمكَّن من البدء بالتقاط طابع فكرنا بالذات‪ ،‬ننظر إىل طابع فكر اإلغريقيني‪.‬‬
‫فهؤالء يبقون أساسيني بالنسبة إلينا‪ :‬إنهم عشَّ اق التعلُّم‪ ،‬والتجديد والنقد‪ ،‬وكثيفو االنخراط يف‬
‫أرسار الحياة ودهاليز املوت‪ ،‬ودامئو البحث عن النظام واملعنى‪ ،‬مع بقائهم يف الوقت نفسه‬
‫بالشك إزاء املسلَّامت التقليديَّة‪ .‬هؤالء هم اإلغريقيون الذين كانوا ُمط ِلقي قيم فكرة ذات‬
‫ِّ‬ ‫مسكونني‬
‫أهم َّية اليوم تضاهي أهم َّيتها يف القرن الخامس قبل امليالد‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫الفلسفي‪ ،‬فسينطلق مسار متج ِّدد ومستأنف‬


‫َّ‬ ‫أ َّما يف حقبة الحداثة التي وضع ديكارت مرتكزها‬
‫يك سريى‬
‫من الوالء املطلق للعقل املحض‪ .‬فالربنامج الديكاريتُّ القائم عىل التحليل امليكاني ِّ‬
‫أ َّن الطريقة الفضىل لفهم اإلنسان هي النظر إليه كام لو كان آلة‪ ،‬متاماً كام هو الحال مع فهم‬
‫الكون مبجمله‪ .‬كام رأى أ َّن سلوك اإلنسان وعمل العقل ليسا سوى اثنني من األفعال املنعكسة‬
‫القامئة عىل مبدأي التحريض واالستجابة‪ .‬وعىل هذا النحو يبقى اإلنسان وهو الخاضع لسلطات‬
‫الحتم َّيات اإلحصائ َّية موضوعاً مناسباً لدائرة نفوذ نظريَّة االحتامالت‪ .‬فمستقبل هذا الكائن وجوهره‬
‫أي مشكلة هندسيَّة‪ .‬ورغم أنَّها مل تكن‪،‬‬ ‫بالذات‪ ،‬يبدو طارئاً وعاديّاً من دون ِّ‬
‫أي غرابة أو ألغاز مثل ِّ‬
‫باملعنى الدقيق للعبارة‪ ،‬إالَّ فرض َّية تنظيم َّية‪ ،‬فإ َّن األطروحة الرئيسة أو املق ِّدمة الكربى الواسعة‬
‫تتفس‪ ،‬آخر‬
‫َّ‬ ‫العاملي‪ ،‬من شأنها أن‬
‫ِّ‬ ‫البرشي ونظريه‬
‫ِّ‬ ‫االنتشار التي ترى أ َّن جميع تعقيدات الوجود‬
‫املطاف‪ ،‬من منطلق مبادئ العلوم الطبيع َّية عىل نحو متزايد‪ ،‬وإن بصورة الوعية‪ ،‬ارتدت‪ ،‬هي‬
‫نفسها‪ ،‬ثوب مبدأ علم راسخ الثبات‪ ،‬مع ذيول ومضاعفات ميتافيزيقيَّة عميقة‪ [[[.‬أ َّما النتيجة املرتت ِّبة‬
‫الفكري لإلنسان الحديث تتمثَّل‬
‫ِّ‬ ‫عىل هذه السريورة ‪ -‬كام يوضح تارناس‪ -‬هي أ َّن مفارقة التق ُّدم‬
‫بأ َّن عبقريَّة اإلنسان اكتشفت سلسلة متعاقبة من املبادئ الحتميَّة‪ -‬الديكارتيَّة‪ ،‬النيوتنيَّة‪ ،‬الدارونيَّة‪،‬‬
‫الخاصة‪ ،‬مع‬
‫َّ‬ ‫املاركس َّية‪ ،‬الفرويديَّة‪ -‬التي دأبت عىل إضعاف اإلميان بحريَّته العقالن َّية واإلراديَّة‬
‫هاميش وطارئ‬
‫ٍّ‬ ‫أي يشء أكرث من مج َّرد حادث‬
‫العمل يف الوقت نفسه عىل استئصال اإلحساس بأنَّه ُّ‬
‫[[[‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من حشد ماليني حوادث التط ُّور‬
‫ُّ‬
‫الفزييايئ كبديل من امليت�افزييقا‪:‬‬ ‫العلم‬
‫يذهب ريتشارد تارناس إىل إيضاح واحدة من أه ِّم الحقائق يف تاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬عنينا بها‬
‫يئ) بديالً للميتافيزيقا‪ ،‬األمر الذي‬
‫(الريايض والفيزيا َّ‬
‫َّ‬ ‫عمل َّية التحويل الكربى التي ستجعل العلم‬
‫كل من ديفيد هيوم وإميانويل كانط وقبلهام ديكارت يف هذا‬
‫تؤكِّده االنعطافة الفلسفيَّة التي أجراها ٌّ‬
‫البرشي‪ ،‬ونجاح العلم‬
‫ِّ‬ ‫السياق‪ .‬وهكذا‪ ،‬فمع إسحق نيوتن انطلق التنوير من ثقة غري مسبوقة بالعقل‬
‫الطبيعي أث ّر يف جهود الفلسفة عىل صعيدين‪ :‬صعيد رؤية أساس املعرفة‬
‫ِّ‬ ‫الجدي يف تفسري العامل‬
‫ِّ‬
‫ي‪ ،‬أوالً؛ وصعيد توجيه اهتامم الفلسفة إىل نوع‬
‫اإلنسان َّية يف عقل اإلنسان وتشابكه مع العامل املا ّد ِّ‬
‫يف‪ ،‬ثانياً‪.‬‬
‫من تحليل العقل املؤ َّهل لتحقيق مثل هذا النجاح املعر ِّ‬
‫كان جون لوك‪ ،‬معارص نيوتن ووريث بيكون‪ ،‬أول من ح َّدد املزاج املناسب أو اللَّحن املتناغم‬

‫[[[‪ -‬آالم العقل الغريب‪ -‬ص ‪.395‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.396‬‬

‫‪272‬‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫أي يشء يف العقل مل يكن من‬


‫األسايس‪ :‬مبدأ ليس مث َّة ُّ‬
‫ِّ‬ ‫مع التنوير‪ ،‬عرب تأكيد مبدأ التجريب‬
‫الحواس (نيهيل إست إن أنتلكتو كود نون آنتيا فويرت إن سنسو)‪ .‬مقبالً عىل الفلسفة‬ ‫ّ‬ ‫قبل يف‬
‫بحفز من قراءة ديكارت‪ ،‬ولكن متأث ّرا ً أيضاً بالعلوم التجريبيَّة املعارصة ٍّ‬
‫لكل من نيوتن‪ ،‬وبويل‪،‬‬
‫والجمع َّية امللك َّية‪ ،‬ومتأث ّرا ً يف الوقت نفسه باألفكار الفطريَّة‪ .‬ففي تحليل لوك ال ب َّد ِّ‬
‫لكل املعارف‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الحسيَّة‪ ،‬عرب عمليَّات الجمع والرتكيب‬


‫ّ‬ ‫عن العامل من أن تكون مستندة‪ ،‬آخر املطاف‪،‬ـ إىل التجربة‬
‫الحس َّية البسيطة أو «األفكار» (مح َّددة عىل أنَّها مضامني ذهن َّية) وإدخالها يف‬
‫ّ‬ ‫لجملة االنطباعات‬
‫يتوصل إىل استنتاجات‬
‫َّ‬ ‫أطر ومفاهيم أكرث تعقيدا ً‪ ،‬إذ عرب التأ ُّمل بعد اإلحساس‪ ،‬يستطيع العقل أن‬
‫صحيحة‪.‬‬
‫يل لهذه االنطباعات‪« :‬االثنان هام نبعا املعرفة اللَّذان‬
‫حس َّية وتأ ُّمل داخ ٌّ‬
‫يضيف‪ :‬مث َّة انطباعات ّ‬
‫يتدفق منهام جميع ما لدينا‪ ،‬أو ميكنها طبيع ّياً أن تكون لدينا‪ ،‬من أفكار»‪ .‬ليس العقل يف البداية إالَّ‬
‫سلبي لتجربته‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫لوحاً أبيض‪ ،‬صفحة بيضاء‪ ،‬تكتب عليها التجربة‪ .‬ليس‪ ،‬من حيث الجوهر‪ ،‬إالَّ متلقٍ‬
‫حس َّية ذريَّة تتمثَّل جملة األشياء املا ّديَّة الخارج َّية التي تحدثها‪ .‬ومن هذه‬
‫وهو يتلقَّى انطباعات ّ‬
‫النظري عن طريق عمل َّياته االستبطان َّية الرتكيب َّية‪ .‬صحيح‬
‫َّ‬ ‫االنطباعات يستطيع العقل أن يشكل فهمه‬
‫أ َّن للعقل قوى فطريَّة‪ ،‬إالَّ أنَّه ال ميلك أفكارا ً فطريَّة‪ ،‬تبدأ املعرفة باإلحساس[[[‪ .‬عىل سبيل املثال‪:‬‬
‫يئ للمعرفة عن‬
‫الحس َّية املصدر النها َّ‬
‫ّ‬ ‫ين القايض بجعل التجربة‬
‫التجريبي الربيطا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫لقد جاء الطلب‬
‫ين السائد يف القارة (األوروب َّية)‪ ،‬الذي لخَّصه ديكارت وأنطقه‬ ‫العامل متضارباً مع التو ُّ‬
‫جه العقال ِّ‬
‫سبينوزا واليبنتز بلهجتني مختلفتني‪ .‬وهذا الرأي هو الذي يرى أ َّن العقل هو وحده القادر‪ ،‬عرب‬
‫تع ُّرفه عىل حقائق واضحة‪ ،‬مميزة‪ ،‬وبده َّية‪ ،‬عىل بلوغ معرفة يقين َّية‪ .‬أ َّما بنظر التجريبيني‪ ،‬فإ َّن مثل‬
‫التجريبي فهي أشبه ‪ -‬كام سبق لبيكون أن قال‪ -‬بقيام العنكبوت‬
‫ِّ‬ ‫هذه العقالن َّية املفتقرة إىل األساس‬
‫الحس َّية‬
‫ّ‬ ‫الخاصة‪ .‬فالرضورة املم َّيزة للتنوير ترى أ َّن العقل بحاجة اىل التجربة‬
‫َّ‬ ‫بإنتاج شباكه من ما ّدته‬
‫لعل أفضل معايري الحقيقة من اآلن‬
‫الخاصة‪َّ .‬‬
‫َّ‬ ‫أي يشء عن العامل باستثناء تلفيقاته‬
‫ليتمكَّن من معرفة ِّ‬
‫حتها العقالن َّية املتجذِّرة الواضحة‪،‬‬
‫الحس َّية‪ -‬ال مج َّرد ص َّ‬
‫ّ‬ ‫وصاعدا ً هو أساسها الورايث – يف التجربة‬
‫التجريبي الالَّحق‪ ،‬تزايد حرص النزعة العقالن َّية يف إطار‬
‫ِّ‬ ‫التي من شأنها أن تكون زائفة‪ .‬ويف الفكر‬
‫الحس ال يستطيع العقل امتالك معرفة العامل‪ ،‬إالَّ أنَّه يستطيع‬
‫ّ ِّ‬ ‫دعاواها املرشوعة‪ :‬ففي غياب الدليل‬
‫فقط أن يخ ِّمن‪ ،‬وأن يح ِّدد منطلقات‪ ،‬أو يجري عمل َّيات رياض َّية ومنطق َّية‪ .‬وباملثل‪ ،‬فإ َّن اإلميان‬
‫ين بأ َّن العلم قادر عىل تحصيل معرفة يقين َّية عن حقائق عا َّمة عن العامل أخىل مكانه عىل‬
‫العقال َّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.397‬‬

‫‪273‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫أقل ات ّصافاً باإلطالق‪ ،‬ما أوحى بأن العلم عاجز عن الكشف عن البنية الحقيقيَّة‬
‫نحو متزايد ملوقف َّ‬
‫لألشياء‪،‬ـ وال ميكنه أن يلقي الضوء‪ ،‬باالستناد إىل فرض َّيات مرتكزة عىل املظاهر‪ ،‬إالَّ عىل حقائق‬
‫التجريبي كانت جليَّة من البداية يف الصعوبات التي‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الشك الوليدة يف املوقف‬ ‫محتملة‪ .‬لكن نزعة‬
‫واجهها لوك مع نظريَّته املعرف َّية‪.‬‬
‫أي ضامن لكون جميع األفكار اإلنسان َّية عن األشياء مشابهة ح َّقاً‬ ‫لقد أق َّر لوك بعدم وجود ِّ‬
‫لألشياء الخارج َّية التي يُفرتض أنَّها متثّلها‪ .‬كام مل يكن قادرا ً عىل اختزال جميع األفكار املعقَّدة‪،‬‬
‫مثل فكرة الجوهر أو الكُنه‪ ،‬إىل أفكار بسيطة أو إحساسات‪ .‬مث َّة يف عمل َّية املعرفة اإلنسان َّية ثالثة‬
‫املادي‪ ،‬واملالحظة أو الفكرة التي متثِّل ذلك املوضوع يف العقل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عوامل‪ :‬العقل‪ ،‬املوضوع‬
‫فاإلنسان ال يعرف املوضوع إالَّ بالواسطة‪ ،‬عرب الفكرة‪ ،‬وخارج إدراك اإلنسان ليس مث َّة إالَّ عامل‬
‫الخارجي التي ميارسها اإلنسان يف‬
‫ِّ‬ ‫من الجواهر املتح ِّركة؛ وفيض االنطباعات املختلفة عن العامل‬
‫عمل َّية املعرفة ال ميكن إثبات انتامئها إىل العامل بح ِّد ذاته عىل نح ٍو مطلق[[[‪.‬‬
‫ين لفلسفة الحداثة يوضح تارناس أنَّه بعد لوك جاء القس‬
‫ويف سياق حكايته عن املسار العقال ِّ‬
‫البرشي‪ ،‬األول َّية منها‬
‫ُّ‬ ‫جلها العقل‬ ‫بريكيل ليبيِّ أ َّن من الواجب االعرتاف بأن سائر الخصاص التي يس ِّ‬
‫للتوصل إىل‬‫ُّ‬ ‫والثانويَّة‪ ،‬معاشة‪ - ،‬آخر املطاف‪ ،‬بوصفها أفكارا ً يف العقل‪ ،‬وليس مث َّة ُّ‬
‫أي إمكان َّية‬
‫استنتاج حاسم حول ما إذا كانت بعض تلك الخصائص متثِّل موضوعاً خارجياً أو تشبهه‪ ،‬إذا ما تم‬
‫أي استنتاج‬
‫إيصال التحليل التجريبي للمعرفة اإلنسان َّية إىل خامتته برصامة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬لن يكون مث َّة ُّ‬
‫يخص حتى وجود عامل أشياء ماديَّة خارج العقل تنتج تلك األفكار‪ .‬فليس هناك‬
‫ُّ‬ ‫حاسم يف ما‬
‫أي وسيلة قابلة للتسويغ يستطيع املرء استخدامها ليتمكَّن من التمييز بني األشياء واالنطباعات‬
‫ُّ‬
‫ي مبا يجعل األخري‬
‫أي فكرة يف العقل ميكن ع ُّدها «شبيهة» بيشء ما ّد ٍّ‬
‫الحس َّية‪ ،‬وليس‪ ،‬من ث َّم ُّ‬
‫ّ‬
‫«ممثّالً» لدى العقل‪ .‬ومبا أ َّن املرء غري قادر باملطلق عىل الخروج من العقل ليعقد مقارنة بني‬
‫يل فإ َّن مفهوم التمثيل كلَّه بال أساس‪ .‬الحجج ذاتها استخدمها لوك ض َّد الدقَّة‬
‫الفكرة واليشء الفع ِّ‬
‫التمثيليَّة للمواصفات أو الخصائص الثانويَّة‪ ،‬أل َّن منطَي الخصائص كليهام يجب ع ُّدهام‪ ،‬يف‬
‫النهاية‪ ،‬من تجارب العقل‪.‬‬
‫يف إىل مداه األقىص‪ ،‬موظِّفاً‬
‫التجريبي املعر َّ‬
‫َّ‬ ‫بعد بريكيل‪ ،‬جاء ديفيد هيوم الذي دفع النقد‬
‫رؤية بريكيل مع العمل عىل توجيهها وجهة أكرث متييزا ً للعقل الحديث – أكرث عكساً لتلك النزعة‬
‫ِّ‬
‫الشك متزايدة الظهور من مونتاين إىل بايل والتنوير‪ .‬وبوصفه تجريباً أسند‬ ‫العلامن َّية القامئة عىل‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.398‬‬

‫‪274‬‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫الحسيَّة‪ ،‬اتفق هيوم مع توجه لوك العام‪ ،‬واتفق أيضاً مع نقد‬


‫ّ‬ ‫املعرفة اإلنسانيَّة كلَّها إىل التجربة‬
‫حل بريكيل املثايل‪ .‬إ َّن التجربة اإلنسان َّية هي‬
‫بريكيل لنظريَّة التمثيل عند لوك؛ غري أنَّه اعرتض عىل ِّ‬
‫أي سبيل للتأكُّد يقينيّاً‬
‫الحسيَّة‪ .‬إالَّ أنَّه مل يكن هناك ُّ‬
‫ّ‬ ‫ظاهري فقط‪ ،‬مع االنطباعات‬
‫ٌّ‬ ‫بالفعل مع ما هو‬
‫الروحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الروحي وغري‬
‫ِّ‬ ‫الحس َّية‪ ،‬عىل الصعيدين‬
‫ّ‬ ‫مم هو خلف االنطباعات‬
‫َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫منجهته‪ ،‬مل يستطع هيوم قبول قيام بريكيل مبامهات األشياء الخارج َّية باألفكار الداخل َّية‪ ،‬املتجذِّرة‬
‫الحس َّية‬
‫ّ‬ ‫الرب‪ .‬وللرشوع يف تحليله‪ ،‬م َّيز ‪ -‬كام يوضح املؤلف ‪ -‬بني االنطباعات‬
‫آخر املطاف يف عقل ّ‬
‫أي معرفة‪ ،‬وتأيت بق َّوة وحيويَّة تجعالنها فريدة‪ .‬أ َّما األفكار‬
‫الحس َّية هي أساس ِّ‬
‫ّ‬ ‫واألفكار‪ :‬فاالنطباعات‬
‫فهي نسخ باهتة عن تلك االنطباعات‪ .‬يقول هيوم‪ :‬إذا كان العقل يحلّل من دون تص ُّور مسبق‪ ،‬فعليه‬
‫يئ متواصل من اإلحساسات املتف ِّردة‪ ،‬وبأ ّن‬
‫كل معرفته املفرتضة مستندة إىل وابل عشوا ٍّ‬
‫أن يعرتف بأ َّن َّ‬
‫العقل يفرض عىل حشد هذه اإلحساسات نظاماً من صنعه هو‪ .‬يستج ُّر العقل من تجربته تفسريا ً يكون‬
‫مستم ّدا ً يف الحقيقة من العقل نفسه‪ ،‬ال من التجربة‪ .‬فالعقل ال يستطيع‪ ،‬بالفعل‪ ،‬أن يعرف السبب‬
‫الكامن وراء اإلحساسات‪ ،‬ألنَّه ال يخترب «السبب» إحساساً باملطلق‪ .‬يخترب فقط انطباعات بسيطة‪،‬‬
‫األصح هو أ َّن‬
‫َّ‬ ‫لعل‬
‫ظواهر متشظّية‪ ،‬والسبب َّية بح ِّد ذاتها ليست إحدى تلك إالَّ اإلنطباعات البسيطة‪َّ .‬‬
‫البرشي‬
‫ِّ‬ ‫العقل يقوم‪ ،‬عرب نوع من املزاوجة بني األفكار – وليست تلك إالَّ واحدة ومن عادات الخيال‬
‫فكل ما لدى اإلنسان ليسند معرفته إليه‬
‫حس‪ُّ .‬‬‫أي انطباع ّ ٍّ‬
‫– بافرتاض عالقة سبب َّية غري ذات أساس يف ِّ‬
‫هو رصيد االنطباعات يف عقله‪ ،‬وهو ال يستطيع افرتاض معرفة ما هو موجود خلف االنطباعات‪ .‬كام‬
‫ين وعاداته الداخل َّية‪ .‬ال ب َّد من رؤية السبب عىل أنَّه‬
‫ال ميكن الزعم بأنَّها موجودة خارج العقل اإلنسا ِّ‬
‫الحدوث املج َّرد لنوع من الرتابط املتك ِّرر بني أحداث مع َّينة يف العقل‪ .‬حتى فكرتا املكان والزمان‬
‫ليستا‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬حقيقتني مستقلّتني‪ ،‬كام افرتض نيوتن‪ ،‬بل هام ببساطة نتيجة اختبار تعايش أو‬
‫خاصة‪ .‬وزمن التجارب املتك ِّررة التي هي من هذا النوع‪ ،‬يت ُّم تجريد مفهو َمي‬
‫َّ‬ ‫تعاقب أشياء جزئ َّية‬
‫الزمان واملكان من قبل العقل‪ ،‬غري أ َّن الزمان واملكان ليسا‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬إالَّ طريقتني الختبار األشياء‪.‬‬
‫جميع املفاهيم العا َّمة تنشأ بهذه الطريقة‪ ،‬مع انتقال العقل من تجربة انطباعات جزئ َّية إىل فكرة عالقة‬
‫بني تلك االنطباعات‪ ،‬فكرة ال يلبث العقل‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬أن يفصلها ويش ّيئها‪ .‬غري أ َّن املفهوم العا َّم‪،‬‬
‫وأي‬
‫الفكرة‪ ،‬ليست إالَّ نتيجة عادة املزا َوجة والربط لدى العقل‪ .‬أساساً‪ ،‬ال يخترب العقل إالَّ الجزئ َّيات‪ُّ ،‬‬
‫عالقة بني تلك الجزئ َّيات يحبكها العقل يف نسيج من تجربته هو‪ .‬وقابل َّية العامل للفهم تعكس عادات‬
‫درج عليها العقل‪ .‬ال طبيعة الواقع[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬تارناس ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.401‬‬

‫‪275‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫النيوتني وانتصاراته اىل درجة جعلته واثقاً‬


‫ِّ‬ ‫كان كانط ‪ -‬حسب تارناس ‪ -‬شديد القرب من العلم‬
‫ظل مع ذلك يشعر مبدى ق َّوة تحليل هيوم‬
‫من قدرة اإلنسان عىل امتالك املعرفة اليقين َّية‪ .‬غري أنَّه َّ‬
‫البرشي‪ .‬كان هو أيضاً قد بات معدوم الثقة باملعطيات املطلقة حول طبيعة‬
‫ّ‬ ‫القايس والصارم للعقل‬
‫العامل‪ ،‬التي مل تكن ت َّدعي أهل َّية إعالنها سوى امليتافيزيقا التأ ُّمل َّية العقالن َّية الخالصة‪ ،‬والتي كانت‬
‫للحل عىل ما بدا‪ .‬وحسب كالم كانط‪ ،‬فإ َّن االطّالع‬
‫ِّ‬ ‫يئ وغري قابل‬
‫قد وقعت بشأنها يف رصاع ال نها ٍّ‬
‫عىل كتابات ليبنتز كان قد أيقظه من «غفلته الدوغامئ َّية» تلك الغفلة املتبقّية من تدريبه الطويل‬
‫األكادميي‪ .‬بات اآلن يق ُّر بأ َّن‬
‫ّ‬ ‫يف مدرسة وولف العقالنيَّة األملانيَّة املهيمنة‪ ،‬مدرسة ُممنهج ليبنتز‬
‫أي استنتاجات ميتافيزيق َّية ذات عالقة بالطبيعة‬
‫اإلنسان ال يستطيع أن يعرف إالَّ ما هو ظاهرايتّ‪ ،‬وبأ َّن َّ‬
‫والكون ومتجاوزة لتجربته غري ذات أساس‪ .‬وقد بني كانط أ َّن من شأن مثل هذه األطروحات الصادرة‬
‫منطقي‪ .‬فكلَّام حاول العقل تأكيد‬
‫ّ‬ ‫الفوري بوصفها مدعومة بخطاب‬
‫َّ‬ ‫عن العقل أن تلقى االعرتاض‬
‫الرب‪ ،‬وخلود الروح‪ ،‬أو ال نهائيَّة الكون – كان يجد‬
‫ِّ‬ ‫الحسيَّة‪ -‬من‬
‫ّ‬ ‫ورود أشياء معيّنة خلف التجربة‬
‫نفسه‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬أسري التناقض أو الوهم‪ .‬وهكذا فإ َّن تاريخ امليتافيزيقا مل يكن إالَّ سجالًّ حافالً‬
‫تراكمي‪ .‬ال ب َّد للعقل من توافر األدلَّة التجريبيَّة يك‬
‫ّ‬ ‫باال ّدعاءات والتش ُّوشات‪ ،‬خالياً كلّياً من ِّ‬
‫أي تق ُّدم‬
‫يصبح قادرا ً عىل املعرفة‪ ،‬غري أنَّه من املتعذِّر عىل ِّ‬
‫الرب‪ ،‬الخلود‪ ،‬وغريهام من القضايا املاورائية‬
‫(امليتافيزيقية) املشابهة إال أن تصبح ظواهر؛ فهي ليست تجريبية‪ .‬تبقى امليتافيزيقا‪ ،‬إذا ً‪ ،‬بعيدة عن‬
‫البرشي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متناول العقل‬
‫ْ‬
‫عل َمنة امليت�افزييقا‪:‬‬
‫يذكر املؤلِّف أ َّن مثة تط ٌّورات موازية يف الفلسفة جرت خالل هذه القرون وشكَّلت دعامً للمسرية‬
‫ظل الدين محتفظاً‬
‫العلامن َّية نفسها‪ .‬ففي أثناء الثورة العلم َّية واملراحل املبكرة من عرص التنوير‪َّ ،‬‬
‫العلمي‪ .‬تفضيالً عىل مسيحيَّة‬
‫ّ‬ ‫مبوقعه لدى الفالسفة‪ ،‬إالَّ أنَّه بدأ يتح َّول تحت تأثري طابع العقل‬
‫إنجيل َّية تقليديَّة راح ربوبيون تنويريون مثل فولتري يدعون إىل «دين عقالين» أو «دين طبيعي»‪ .‬وكان‬
‫من شأن مثل هذا الدين أن يكون مناسباً ال لإلحاطة العقالنية بنظام الطبيعة ورشط وجود سبب‬
‫كوين أول وحسب‪ .‬بل ولتالقي الغرب مع أديان ثقافات أخرى وأنظمتها األخالق َّية – وهو لقاء‬
‫يوحي لكثريين بوجود حساسيَّة دينيَّة كونيَّة شاملة متجذِّرة يف التجربة اإلنسانيَّة املشرتكة‪ .‬ويف مثل‬
‫خاص‪ .‬فف ُّن عامرة‬
‫ّ‬ ‫بأي امتياز‬
‫هذا السياق‪ ،‬مل تكن اال ِّدعاءات املطلقة للمسيح َّية قادرة عىل التمتُّع ِّ‬
‫رب كهذا ال ميكن اشتقاقها إالَّ من‬
‫ين‪ ،‬ولكن خصائص ٍّ‬
‫نيوتن الكونيَّة تتطلَّب وجود معامر كو ٍّ‬
‫املعاينة التجريب َّية لخلقه‪ ،‬بعيدا ً عن املبالغات املفرطة الواردة يف الوحي‪ .‬وعىل هذا النحو باتت‬

‫‪276‬‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫التص ُّورات الدينيَّة السابقة‪ -‬البدائيَّة‪ ،‬اإلنجيليَّة‪ ،‬يف القرون الوسطى‪ -‬قابلة لالعرتاف بها عىل أنَّها‬
‫يتول‬
‫َّ‬ ‫خطوات طفول َّية يف مسرية متواصلة باتجاه فهم حديث أكرث نضجاً إلله عقال ٍّ‬
‫ين ال شخيص‬
‫ين رسعان ما‬
‫الرب العقال َّ‬
‫َّ‬ ‫رئاسة خلق منتطم»‪ .‬لكن املالحظة املميَّزة التي يبديها تارناس هي أ َّن‬
‫الرب كان قد ت َّم إثباته‪ ،‬مع ديكارت‪ ،‬ال عرب اإلميان بل من خالل‬
‫الفلسفي‪ .‬فوجود ِّ‬
‫ّ‬ ‫بدأ يفقد تأييده‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الرب املؤكَّد‪ ،‬عىل ذلك األساس‪ ،‬إىل أجل غري مسمى‪ ،‬مل تكن‬
‫ِّ‬ ‫العقل؛ إالَّ أ َّن إدامة فكرة وجود‬
‫ممكنة‪ ،‬كام الحظ فيلسوفا التنوير الكبريان هيوم وكانط بأسلوبيهام املختلفني‪ .‬وشديد الشبه مبا‬
‫تبي أ َّن الفلسفة العقالنيَّة عاجزة عن االنخراط يف الكالم عن أمور‬
‫حذَّر منه أوكم قبل أربعة قرون‪َّ ،‬‬
‫التجريبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شديدة التعايل عىل الذكار ذي األساس‬
‫التجريبي عرب‬
‫َّ‬ ‫يف بداية التنوير‪ ،‬أواخر القرن السابع عرش‪ ،‬كان لوك قد ات َّبع منهج ّياً توجيه بيكون‬
‫الحسيَّة والتأ ُّمل الالَّحق عىل أساس تلك التجارب‪ .‬كانت ميوله‬
‫ّ‬ ‫إسناد معرفة العامل كلِّها إىل التجربة‬
‫املنطقي من خالل مسلَّامت‬
‫ِّ‬ ‫الرب قابل لإلثبات‬
‫الخاصة ربوب َّية‪ ،‬وقد احتفظ ديكارت بيقني أ َّن وجود ِّ‬
‫َّ‬
‫تول ريادتها حرصت بالرضورة قدرة عقل اإلنسان عىل املعرفة‬
‫حدسيَّة بدهيَّة‪ .‬إالَّ أ َّن التجريبيَّة التي َّ‬
‫مبا هو قابل لالختبار بالتجربة امللموسة‪ .‬ومع قيام فالسفة متعاقبني باستخالص نتائج أكرث رصامة‬
‫التجريبي‪ ،‬بات واضحاً أ َّن الفلسفة مل تعد قادرة عىل إطالق تأكيدات قابلة للتدبري حول‬
‫ِّ‬ ‫من األساس‬
‫الرب‪ ،‬حول خلود الروح وحريَّتها‪ ،‬أو حول أطروحات أخرى متعالية عىل التجربة امللموسة[[[‪.‬‬

‫مأزق العلم احلديث‪:‬‬


‫املرتسخة مع‬
‫ِّ‬ ‫بسبب من التداعيات املذكورة‪ ،‬بدت الفلسفة الحديثة السائرة قُ ُدماً وفق املبادئ‬
‫التقليدي الذي تجلس عليه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ديكارت ولوك يف حالة مأزق َّية‪ .‬إذ ما لبثت أن بادرت إىل قطع الغصن‬
‫وتقليص أهميَّة علَّة وجودها التقليديَّة‪ .‬ففي حني يتمثَّل الكيان اإلشكايل بالنسبة اىل الكائن البرشي‬
‫الحديث بالعامل املادي الخارجي عرب تجريده من الصفة اإلنسانية‪ ،‬كان العقل البرشي نفسه وما‬
‫ينطوي عليه من آليات معرفية غامضة قد أصبح عقالً عاجزا ً عن انتزاع الثقة والتأييد الكاملني‪:‬‬
‫فاإلنسان مل يعد قادرا ً عىل تبني تفسري عقله للعامل وع ِّده انعكاساً مرآت ّياً لألشياء كام هي يف الواقع‬
‫املتخصصني بدراسة أعامق النفس زادوا كثريا ً‬
‫ّ‬ ‫يل‪ .‬يضاف إىل ذلك أ َّن رؤى فرويد والعلامء‬
‫الفع ّ‬
‫من اإلحساس بأ َّن تفكري اإلنسان بالعامل محكوم بعوامل ال عقالن َّية‪ ،‬ال ميكنه التحكُّم بها‪ ،‬كام‬
‫ال ميكنه أن يعيها وعياً كامالً‪ .‬من هيوم وكانط وصوالً إىل دارون‪ ،‬وماركس‪ ،‬وفرويد ومن جاؤوا‬
‫بعدهم‪ ،‬مث َّة استنتاج باعث عىل القلق بدا محتوماً ال مهرب منه‪ :‬إن فكر اإلنسان مح َّدد‪ ،‬ومهيكل‪،‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.99‬‬

‫‪277‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫متأصلة ولكن غري مطلقة‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫ومش َّوه حسب أقوى االحتامالت‪ ،‬بحشد من العوامل املتشابكة‪ :‬مفاهيم‬
‫الشخيص‪ ،‬الالَّوعي‬
‫ّ‬ ‫عادات‪ ،‬تاريخ‪ ،‬ثقافة‪ ،‬طبقة اجتامع َّية‪ ،‬بيولوجيا‪ ،‬لغة‪ ،‬خيال‪ ،‬عاطفة‪ ،‬الالَّوعي‬
‫البرشي بوصفه حكامً دقيقاً بالنسبة إىل الواقع‪ .‬مل‬
‫ِّ‬ ‫الجامعي‪ .‬يف النهاية يتعذَّر التعويل عىل العقل‬
‫يعد الدفاع عن اليقين َّية الديكارت َّية األصل َّية‪ ،‬تلك التي سبق لها أن شكَّلت أساساً للثقة الحديثة بعقل‬
‫اإلنسان ممكناً‪.‬‬
‫رث اتّصافاً بالصفة التقن َّية‪ -‬الفن َّية‪ ،‬وأش َّد أهتامماً بعلم املنهج‬
‫ومع صريورة الفلسفة أك َ‬
‫بالسامت األكادمي َّية البحث َّية‪ ،‬ومع تزايد كتابة الفالسفة‬
‫التحل ّ‬
‫ّ‬ ‫(امليثودولوجيا)‪ ،‬وأقوى نزوعاً إىل‬
‫ال للجمهور بل لبعضهم بعضاً‪ ،‬فإ َّن اختصاصها فَ َق َد جزءا ً كبريا ً من خطورته وأهم َّيته السابقتني‬
‫يف السابق‪ ،‬بات‬ ‫العادي الذيكِّ‪ ،‬ففقد‪ ،‬من ث َّم‪ ،‬جزءا ً كبريا ً من نفوذه الثقا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫بالنسبة إىل الشخص‬
‫الفلسفي من جملة التأ ُّمالت الكل َّية – الكون َّية‬
‫ِّ‬ ‫علم الدالالت (السيامن ِتكس) أوثق صلة بالوضوح‬
‫املتخصصني من املحرتفني‬
‫ّ‬ ‫السابقة‪ ،‬غري أ َّن علم دالالت األلفاظ هذا ال ينطوي بالنسبة إىل غري‬
‫إالَّ عىل قدر محدود ج ّدا ً من األهم َّية‪ .‬مهام يكن‪ ،‬فإ َّن تفويض الفلسفة ووضعه التقليديني قد ت َّم‬
‫يل‬ ‫كل الشمول أو متعا ٍل أو أص ٌّ‬
‫أعمق ّ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫أي نظام‬
‫التخل عنهام ج َّراء تط ُّورهام الخاص‪ :‬ليس مث َّة ُّ‬
‫ّ‬
‫يف الكون ميكن لعقل اإلنسان أن ي َّدعي‪ ،‬عىل نح ٍو مرشوع‪ ،‬امتالك معرفته‪ .‬أ َّما مع وصول ٍّ‬
‫كل من‬
‫الفلسفة والدين إىل هذه الحالة اإلشكال َّية‪ ،‬فلم يت َّبق‪ ،‬عىل ما بدا‪ ،‬سوى العلم إلنقاذ العقل الحديث‬
‫من سيل الالَّيقني الجارف‪ .‬فالعلم حق ََّق عرصا ً ذهب ّياً يف القرن التاسع عرش وأوائل القرن العرشين‪،‬‬
‫وأكادميي واسع‬
‫ٍّ‬ ‫يس‬
‫مؤس ٍّ‬
‫إذ متكَّن من قطع أشواط غري عاديَّة يف سائر فروعه الرئيسة مع تنظيم ِّ‬
‫املنهجي بني‬
‫ِّ‬ ‫االنتشار للبحث‪ ،‬ومع جملة من التطبيقات العمل َّية املنترشة برسعة من منطلق الربط‬
‫العلم والتكنولوجيا‪ .‬وتفاؤل العرص ما لبث أن ارتبط عىل نحو مبارش بالثقة يف العلم وقدرته عىل‬
‫حة‪ ،‬وال َّرخاء العا ّم‪.‬‬
‫تحسن بال حدود يف وضع اإلنسان عىل أصعدة املعرفة‪ ،‬والص َّ‬
‫تحقيق ُّ‬
‫غري أ َّن تق ُّدم العلم املستمر‪ -‬بل واملتسارع يف الحقيقة ‪ -‬كان مؤكَّدا ً من دون أدىن ّ‬
‫شك‪ .‬فا ّدعاء‬
‫األخري ملعرفة العامل‪ ،‬وإن بقي عرض ًة لنقد فلسفة ما بعد كانط‪َّ ،‬‬
‫ظل يبدو ليس معقوالً وحسب بل‬
‫أيضاً غري قابل للمساءلة‪ .‬ويف مواجهة فاعل َّية العلم املعرف َّية املتف ِّوقة والدقَّة املوضوع َّية الصارمة‬
‫لبُناه التفسرييَّة‪ ،‬اضط َّر الدين والفلسفة إىل تحديد موقعيهام نسبة إىل العلم‪ ،‬متاماً كام سبق للعلم‬
‫والفلسفة‪ ،‬يف القرون الوسطى‪ ،‬أن اضط ّرا إىل أن يفعال اليشء نفسه نسبة إىل جملة تص ُّورات‬
‫الدين األقوى ثقافيّاً‪ .‬فبالنسبة إىل العقل الحديث كان العلم هو الذي يق ِّدم صورة العامل األكرث‬
‫واقع َّية وجدارة بالثقة‪ -‬وإن بقيت تلك الصورة محدودة باملعرفة «التقن َّية» للظواهر الطبيع َّية‪ ،‬ورغم‬

‫‪278‬‬
‫”ريتشارد تارناس كاشفاً “آالم العقل الغربي‬

‫مضاعفاتها التمزيقيَّة وجوديّاً‪ .‬غري أ َّن تط ُّورين يف مسار القرن العرشين ما لبثا أن أحدثا تغيريا ً جذريّاً‬
‫ذرائعي‬
‫ٌّ‬ ‫نظري ومن داخل العلم‪ ،‬والثاين‬
‫ٌّ‬ ‫يف‪ ،‬أحدهام‬
‫يف والثقا ِّ‬
‫يف مكانة العلم عىل الصعيدين املعر ِّ‬
‫(براغاميتٌّ) ومن الخارج‪.‬‬
‫عىل أيَّة حال‪ ،‬نرانا حيال هذه املطالعة النقديَّة املفارقة أمام طور متج ِّدد بل ومفارق من النقد‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫الجذري لحضارة الحداثة‪ .‬وليس من ريب أ َّن كتاب «آالم العقل الغريب» شكَّل عالمة فارقة يف‬
‫ِّ‬
‫أسس الحضارة الغرب َّية الحديثة ومرجع َّيتها اإلغريق َّية‪ .‬فقد جمع ما ال‬
‫التحليل والنقد الذي طاول ُ‬
‫يب‬
‫حرص له من املعطيات املكثَّفة ليبيِّ مدى اآلالم الناجمة من االختالالت التأسيس َّية للفكر الغر ِّ‬
‫الذي قام أساساً عىل علامن َّية حا َّدة أطاحت بعامل املعنى‪ ،‬وأخلدت إىل التقن َّية ومرجع َّية العقل‬
‫األدايتّْ‪.‬‬

‫‪The Passion of the Western Mind:‬‬


‫‪Understanding the Ideas that Have Shaped Our World View‬‬

‫‪Author: Richard Tarnas‬‬


‫)‪Publisher: ‎Ballantine Books; Reprint edition (March 16, 1993‬‬

‫‪279‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫فزي ياء اإليمان‬


‫إمكان رفع التناقض بني العلم الطبييع والويح الديين‬

‫ن‬
‫لبنا�‬
‫ي‬ ‫نعيم تلحوق‪ ،‬شاعر وكاتب‬

‫يشري بعض العلامء إىل وجود نظريَّة فيزيائيَّة جديدة هي نتيجة‬


‫معي من الحقيقة‪-‬‬
‫تط ُّور نظريَّة آينشتاين النسبية‪ ،‬ويظهر فيها مستوى َّ‬
‫كل عالئم‬
‫له مرادف املعقتد الديني الله ‪ -‬وهذه الحقيقة التي متتلك َّ‬
‫األلوه َّية‪ ،‬يس ّميها غ‪.‬ي شيبوف «العدم املطلق»‪ ،‬والبعض يدعوه‬
‫باملطلق باعتباره شأناً ال محدوديّاً وأبديَّاً للطاقة‪ ،‬ويعطي الحياة ِّ‬
‫لكل‬
‫ما هو موجود تتولّد منه األفكار (الفيزيايئ األمرييك إي‪ .‬مريتون)‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬صدر كتاب «فيزياء اإلميان» للعامل َني الروسيني‬
‫ف‪.‬يو‪ .‬تخيبوالف وت‪.‬س‪ .‬تخيبوالف‪ ،‬ليشعل الرصاع حول مفاهيم‬
‫وأكادميي‪ ،‬وينطلق‬
‫ٌّ‬ ‫وبحثي‬
‫ٌّ‬ ‫علمي‬
‫ٌّ‬ ‫يصعب تصديقها‪ ،‬مع أ َّن الكتاب‬
‫من تجارب ووقائع وأحداث كان لها الدور الفعيل يف نقل التص ُّورات‬
‫والتهيّؤات البرصيَّة إىل أفكار علميَّة‪ ،‬ثم إىل مالمسة منطقيَّة ملعادالت‬
‫رس الكون‪ ،‬وعلَّته األوىل‪.‬‬
‫بُنيت عىل العلم يف سبيل الوصول إىل ّ‬
‫ولعل ما يحمل القارئ عىل الدعوة إىل قراءة هذا العمل هو أهميته‬ ‫ّ‬
‫االستكشاف ّية ملعارف علم ّية جديدة يف فضاء الفيزياء الحديثة‪ ،‬والحثّ‬

‫‪280‬‬
‫فيزياء اإليمان‬

‫انطالقي إلزالة الرصاع الطويل األمد بني العلم والدين‪ .‬وقد استعنت‬
‫ٍّ‬ ‫عىل نرشه وتداوله كأساس‬
‫بشواهد وأمثوالت من خارج الكتاب‪ ،‬ألثبت أ َّن هذا الرصاع ليس بني العلم والدين فحسب‪ ،‬وإمنا‬
‫أيضاً بني العلم والعلم نفسه‪ ،‬وبني العلم والفلسفة‪ ،‬بني والعلم والشعر كذلك‪...‬‬
‫ونشري هنا إىل أ َّن بعض األفكار التي تؤيّد الفكرة التي بُني عليها الكتاب‪ ،‬تؤكِّد غري مرة أ َّن‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫مصالحات كثرية تبدأ بني العلم والدين والفلسفة والشعر‪ ،‬وأن الكون غري مرتوك لنا‪ ،‬وإنَّ ا هناك‬
‫من يديره ويحافظ عىل معناه‪ ،‬وذلك ليك ننتج منه املعنى من وجودنا‪ ،‬عرب فتح طريق لالعرتاف‬
‫يئ والذي يدفعنا إىل فتح مم َّرات‬ ‫بالعامل الباطن من قبل العلم‪ .‬إنَّه العامل املوازي لعاملنا الفيزيا ِّ‬
‫بني هذين العاملني املتوازيني‪.‬‬

‫بني العلم والعلم‪:‬‬


‫اإلنكليزي جوزيف طومسون عىل جائزة نوبل للفيزياء إلثباته أ َّن‬ ‫ُّ‬ ‫عام ‪ ،1906‬حاز العامل‬
‫اإللكرتونات تسلك سلوك الجسيامت املاديَّة‪...‬وبعد مثانية وعرشين عاماً (أي يف العام ‪)1937‬‬
‫حاز ابنه جورج عىل الجائزة نفسها‪ ،‬ولكن إلثباته أ َّن اإللكرتونات تسلك سلوكاً َم ْوج ّياً ما يناقض‬
‫نظريَّة والده ‪...‬‬
‫العلمي؟‪..‬‬
‫ّ‬ ‫التاريخي للعلم والذي هو تجريب يتح َّول إىل معرفة حني ينجح السياق‬
‫ُّ‬ ‫إنَّه التط ُّور‬
‫ما يفيد أ َّن الخطأ ال يلغي الصواب‪...‬وإمنا يعني أ َّن عىل الحياة اإلكثار من تجاربها يك تصيب‪...‬‬
‫إذا ً‪ ،‬العقل هو مساحة العلم الوحيدة يك ننقذ الكوكب من االندثار‪ ،‬وهو إثبات أكيد أ َّن النظريَّة‬
‫شك إىل أن تثبت إبداعها ونجاحها لتخلق مع مرور الوقت‪...‬‬‫محل ٍّ‬
‫العلم َّية تبقى َّ‬
‫بعد أقل من ثالثني عاماً‪ ،‬وبني األب وابنه‪ ،‬يبحث العلم عن تحديد ماه َّية املنطق يف املعادالت‬
‫الرياض َّية والفيزيائ َّية لتقرتن الصورة بالفعل‪ ،‬والخيال بالواقع‪ ،‬والفكرة بالتجريد‪ ،‬والوهم بالحقيقة‪...‬‬
‫البرشي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إن عرب نظريَّة آينشتني النسبيَّة‪ ،‬أو عرب االفرتاضات العلميَّة التجريبيَّة‪ ،‬أو سلوكيَّات العقل‬

‫بني الفلسفة والشعر‪:‬‬


‫هذا األمر يحيلنا إىل رسديَّة الفلسفة والشعر‪ ،‬فالفلسفة تسأل «ماذا تقول؟»‪ ،‬والشعر يحيل‬
‫السؤال إىل صورة جامل َّية «كيف تقول ملاذا؟»‪ ،‬واملرسح يشخّص الصورة إىل «أين ومتى؟» تقول‬
‫اللامذا والكيف؟!‬
‫افرتايض يبني تص ُّورات جديدة‬
‫ٌّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن املعادلة األدب َّية تذهب إىل نظريَّة علم َّية‪ ،‬وهي منطق‬
‫تستم ُّد حركتها من الحياة أو الوجود‪ ،‬فالخيال يف العلم يساوي الوحي يف الدين‪ ،‬يساوي الفكر يف‬

‫‪281‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫نص‪ ،‬والعقل قبول‪.‬‬


‫العقل‪ ،‬يساوي الشعر يف الجامل‪...‬يعني أ َّن الوحي إله‪ ،‬والكلمة ٌّ‬
‫من هنا‪ ،‬يبحث الفيلسوف عن الحقيقة املطلقة‪ ،‬أ َّما الشاعر فيبحث عن الجامل املطلق‪ ،‬أل َّن‬
‫ّ‬
‫الشك سبيالً إىل اليقني‪ ...‬أما الشاعر فيكتفي بأثري‬ ‫األول ال يقبل بالحقائق الجاهزة‪ ،‬وإنَّ ا يتَّخذ‬
‫نجواه‪ ،‬ويبحث عن صور جامليَّة واقعيَّة تسكن قلبه وروحه‪ ،‬أو متخيّلٍ يتناز ُع ال وعيه‪...‬وكالهام‬
‫نسبي بالتأكيد‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫حني التقى العامل الشهري آينشتاين صاحب النظريَّة النسبيَّة بفيلسوف الهند الكبري طاغور يف‬
‫أملانيا عام ‪1930‬م‪ ،‬جرى بينهام حديثٌ ُمع َّمق هذه خالصته‪:‬‬
‫نسبي‪ ،‬ألنَّك إذا أنكرتَ‬
‫ٌّ‬ ‫نسبي والحقيقة مطلقة‪ ...‬فر َّد عليه طاغور‪« :‬بل كالهام‬
‫ٌّ‬ ‫قال آينشتاين‪ :‬الواقع‬
‫يل‪ ،‬وأنا بداخل الكون‪ ،‬وال يوج ُد جامل‬ ‫الواقع ستنكر الحقيقة‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬فالكون بأكمله بداخ ٌّ‬
‫العبقري‬
‫ِّ‬ ‫إالَّ بوجود معجب به‪ ،‬وال توجد حقيقة إالّ بوجود ُمص ّدق لها»‪ ..‬فانبه َر آنشتاين من هذا الكالم‬
‫وأنت اآلن أكملتَها بإثباتك أ َّن الحقيقة ليست‬‫َ‬ ‫لطاغور‪ ،‬وقال له‪« :‬قبل لحظات كانت نظريَّتي ناقصة‪،‬‬
‫اجتمعت اللّامذا بالكيف‪ ،‬اجتمع كام العلم باألدب‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مطلقة»‪ ...‬هنا اجتمعت الفلسفة بالشعر‪،‬‬
‫هذه الفكرة نفسها أكَّدها الفيلسوف األملاين آرثر شوبنهاور بالقول أ َّن عىل الفيلسوف أالَّ يكتفي‬
‫بالبحث عن حقائق العامل الخارجي‪ ،‬بل يتساءل أيضاً عن حقيقة الذات‪ .‬فإذا كانت الفلسفة تتَّىكء‬
‫عىل الحجج والرباهني‪ ،‬والشعر يتَّكئ عىل إثارة املشاعر واالنفعاالت‪ ،‬فإ َّن الوسيلة الوحيدة‬
‫لجمعهام هي اللُّغة يف سياق تط ُّور مفرداتها‪ .‬الشعر يغذّي الذائقة الجامل َّية باللُّغة التي ال يجب أن‬
‫تكون وظيفة أدات َّية مج َّردة فحسب‪ ،‬وإمنا تضاف أيضاً إىل أغراض فن َّية وجامل َّية تكرس اله َّوة بني‬
‫الشعر والفلسفة كون الشعر يعكس العاطفة واملشاعر التي متور يف األعامق‪ ،‬أ َّما الفلسفة فهي‬
‫يل ونظرة شموليَّة للحياة والكون‪.‬‬ ‫تأ ُّمل عق ٌّ‬
‫من جانبه‪ ،‬يقول ت‪.‬اس‪.‬إليوت إ َّن الشعر يوهمك بأنَّه يتض َّمن نظرة إىل الحياة كام هومريوس‬
‫وفريجيل وشكسبري ودانتي‪ ،‬فتجنح إىل االعتقاد بأنَّنا نتابع شيئاً ميكن التعبري عنه فكريّاً‪ ،‬ما يعني‬
‫انفصاله عن الفلسفة والفكر‪ ...‬وقد عكس هايدغر نظرة إليوت حول طبيعة العالقة بني اإلثنني‬
‫الشعري أن يحمل بذور التفكري‬
‫ِّ‬ ‫للنص‬
‫ِّ‬ ‫يل يكون شعرا ً كام ميكن‬ ‫فلسفي تأ ُّم ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫معتربا ً أ َّن َّ‬
‫كل تفكري‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪...‬وهنا نسأل‪ :‬هل تت ُّم املصالحة بني الفلسفة والشعر؟‬
‫والقصة القصرية بأن تكونا مرسحاً للشعر ومل نفعل ذلك مع الفلسفة والحكمة؟‬
‫َّ‬ ‫وكيف سمحنا للرواية‬
‫هل أل َّن أفالطون يف كتابه «الجمهوريَّة» استهزأ بالشعراء وطردهم من جمهوريَّته باعتبارهم‬

‫‪282‬‬
‫فيزياء اإليمان‬

‫مقلِّدين غري مبدعني وكاذبني ومفتنني‪ ،‬وال ميكن أن يرقَوا إىل مستوى الفالسفة!؟‬
‫لقد تصالح العامل آنشتاين مع الشاعر الفيلسوف طاغور‪ ،‬فهل ستت ُّم مصالحة العلم والشعر كام‬
‫فعل العلم مع الفلسفة ؟!‬
‫أسئلة قد نجد أجوبتها يف مكامن الزمن‪.‬‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫بني العلم والدين‪:‬‬


‫يشري كتاب «فيزياء اإلميان» إىل دعوة تصالح َّية بني العلم والدين‪ ،‬وذلك عرب مفهومني أساسيني‪:‬‬
‫الدين بال برهان‪ ،‬والعلم بال إميان‪ .‬وضمن هذين التحديدين تندرج معطيات أساسيَّة وكثرية لتميط‬
‫اللّثام عن الرصاع القائم بني الدين والتطورات العلميّة‪.‬‬
‫لقد جاء العلم ليتقاسم مع الدين سلطة البحث عن اإلله‪ ،‬وذلك بطريقة اعتمد فيها التجريب من‬
‫ي‬
‫دون افرتاض وجوده‪ ..‬لكنه توقف يف البحث عن الحقيقة بعد إدراج محاوالته ضمن سياق ما ّد ٍّ‬
‫كل دروس الفيزياء والكيمياء والرياض َّيات ليجعلها علامً يقوم عىل مبدأ البحث‬ ‫بحت وهو الذي أخرج َّ‬
‫ربر الوسيلة»‪ ،‬ونافياً‬
‫عن الطبيعة الكون َّية ومفهوم اإلله‪ ،‬مبيحاً لنفسه تدمري الكوكب عرب مقولة «الغاية ت ِّ‬
‫أي دور لألخالق يف العلم والتي اعتربها العلم نظريَّة دين َّية وقد جاءت القرون الوسطى األوروبية‬ ‫َّ‬
‫لترضم النار عرب محاكم التفتيش‪ ،‬لتأخذ العالقات بني العلم والدين سباقاً عدائيّاً‪.‬‬
‫يجيء الباحثان تخيبوالف يف كتابهام هذا ليرشحا فكرة أنَّه ال ب َّد من االعرتاف بعدم التناقض‬
‫بني الفرضيَّة العلميَّة والتفكري بالعامل الباطن والله‪ ،‬عرب محاولة ربط العلم بالحدس ‪...‬فجاء الغرب‬
‫(العلم) ليق ِّدم معارف دقيقة ومحدودة ‪ ،‬بينام( الرشق) اكتفى باإلميان لفهم العامل واإلنسان‪ .‬هذا ما‬
‫ح َّدده العامل األملاين ألربت آينشتاين بأن العلم من دون دين ناقص‪ ،‬أ َّما الدين فمن دون علم أعمى‪.‬‬
‫وهذا ما أكده ايضاً العامل الفرنيس شيوريه يف نهاية القرن التاسع عرش حني اعترب أ َّن الدين يجيب عىل‬
‫أسئلة القلب‪ ،‬ومن هنا تنبع ق َّوته السحريَّة‪ ،‬أ َّما العلم فيجيب عىل استفسارات العقل‪ ،‬ومن هنا تنبع ق َّوته‬
‫التي ال ت ُقهر‪...‬فالدين بال برهان والعلم بال إميان يتواجهان بغري ثقة يف ما بينهام وبصورة عدائ َّية‪ ،‬وهام‬
‫غري قادرين عىل أن يتغلّب أحدهام عىل اآلخر‪.‬‬
‫لذا اعترب أكرث الحكامء واملفكرين بعيدي النظر يف الرشق والغرب ‪ ،‬أنه ال ب ّد من ربط املعارف‬
‫العلم َّية باملعارف األدب َّية‪ ،‬واملساواة يف “الحقيقة” بني ما هو حاصل بنتيجة الوحي أو اإللهام‪،‬‬
‫املنطقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫مستدل عليه بالتجربة الدقيقة والبناء‬ ‫وبني ما هو‬
‫يئ الرويس غ‪.‬ي‪ .‬شيبوف‪ ،‬حول‬ ‫ويذهب الباحثان إىل عالقة العلم والعامل الباطن عرب الفيزيا ِّ‬
‫يئ وحقول الفتل‪ ،‬وقد‬
‫حقل الدوران الذايت (السنني أو حقل الفتل) وتثبيت مفهوم الخالء الفيزيا ِّ‬

‫‪283‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫يئ فيه‬
‫توصلت الفيزياء إىل «رضورة قبول العقل األعىل املطلق‪-‬الله ‪ ،‬الذي يلعب الوعي االبتدا ُّ‬
‫الدور الحاسم عىل مستوى الواقعيَّة األوىل‪ ،‬ويقوم بدور البداية الف َّعآلة من دون أن يخضع الله‬
‫يل»‪.‬‬
‫للوصف التحلي ّ‬
‫إ َّن االعرتاف بالطبيعة الفتليَّة للوعي يلغي السؤال األول املعروف يف الفلسفة‪ :‬أيُّهام ظهر أوالً‪...‬‬
‫الروحي الما‬
‫َّ‬ ‫يئ دافيد بوم يف العام ‪ 1989‬حني قال إ َّن الزعيم‬
‫الوعي أم املادة؟ وهو ما عرضه الفيزيا ُّ‬
‫قال ‪« :‬نحن البوذيني نعترب أ َّن يف الطبيعة قوتني أساس َّيتني‪ :‬املادة والوعي‪ ،‬وبال ٍّ‬
‫شك يتعلَّق الوعي‬
‫تغي املا َّدة يتعلَّق بالوعي‪ ،‬لذا فأنا أعتقد أ َّن البحوث يف مجال الفيزياء‬
‫إىل ح ٍّد كبري باملا َّدة‪ ،‬وأن ّ‬
‫وعلم األعصاب ميكنها أن تعيدنا إىل اكتشافات جديدة ال مثيل لها» (ص ‪.)35‬‬
‫هذا الكتاب‪“ ،‬فيزياء اإلميان” ‪ ،‬يورد أفكارا ً موضوع َّية ومنطق َّية يف فهم صريورة الكون األقرب‬
‫إىل املعادلة الوظيفيَّة يف خدمة الوجود والكائنات الحيَّة فيه‪ ،‬بدءا ً باحرتاف العلم بالخالق‪ ،‬مرورا ً‬
‫بالجوانب العلم َّية ألرسار الكون (تقلُّبات األثري‪ ،‬وتجربة فيزو ومايكلسون وآينشتاين‪ ،‬وامليكانيك‬
‫الكوانتي‪ ،‬ونظرة بل والجسيامت املضا َّدة واإلفرتاضية‪،‬واستقطاب الخالء وصفاته ‪،‬ومستويات‬
‫يئ‬
‫ين عرب ثالث حركات‪ :‬العدم املطلق‪ ،‬وحقل الوعي يف الكون‪ ،‬والخالء الفيزيا ِّ‬ ‫حقيقة البناء الكو ِّ‬
‫الفرنيس أ‪.‬ي‪.‬فيزو التي تقول إ َّن املادة‬
‫ِّ‬ ‫يئ‬
‫إىل حقول الفتل)‪ .‬وإذا كانت التجربة العلميَّة عند الفيزيا ِّ‬
‫املتح ِّركة عىل األرض ال تجذب إليها األثري املحيط باألرض‪ ،‬وإمنا هذا األثري هو وحده الساكن‬
‫ين بكامله‪.‬‬
‫بالنسبة إىل األرض من دون اقرتاح فرض َّية حول سكون األثري الكو ِّ‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن تجربة مايكلسون تُعترب التجربة السلبيَّة األعظم يف تاريخ العامل حول‬
‫حقيقي‪ ،‬وأنَّه بقدر ما تتح َّرك األرض يف‬
‫ٍّ‬ ‫رسعة الضوء بالنسبة إىل األثري الساكن بعديم وزنه كجوهر‬
‫يدل دورانها حول الشمس‪ ،‬بقدر ما تتح َّرك يف األثري‪ ،‬قياس رسعة شعاع الضوء‬ ‫الفراغ‪ ،‬وعىل هذا ُّ‬
‫املتح ِّرك باتجاه متطابق مع أنحاء حركة األرض مع اتجاه الجريان يف األثري‪ ،‬وكذلك رسعة شعاع‬
‫الضوء املعاكس( عكس اتجاه الجريان يف األثري )‪ ،‬فمن السهل التأكُّد من الفرق بني الرسعتني‪.‬‬
‫ين الساكن‬
‫هنا ينشأ استنتاج واحد هو أنَّه ال حركة لألرض عرب األثري‪ ،‬وبالتايل فإ َّن فرض َّية األثري الكو ِّ‬
‫التي علَّقت عليها الفيزياء الكالسيك َّية آماالً كبرية‪ ،‬غري صحيحة‪.‬‬
‫إذا ً‪ ،‬القول بأ َّن مثة جملتني إحداث َّيتني مرتبطتني باألرض يف تجربة مايكلسون‪ ،‬وجملة ساكنة يف‬
‫تجربة فيزو‪ ،‬ماهو إالَّ يشء باطل ال معنى له‪.‬‬
‫وكذلك األمر حول مبدأ عدم التعيني عند نيلسن بور وتفسريه للنظريَّة الكوانت َّية إ َّن الفيزياء تصف‬
‫الكون‪ ،‬واآلن نعرف أن الفيزياء تصف ما تستطيع قوله عن الكون‪ ،‬حيث تفرتض هذه املدرسة أ َّن‬
‫سحري جعل آينشتاين يقول عن هذه النظريَّة «إذا كان‬ ‫ٍّ‬ ‫البرشي بشكل‬
‫ُّ‬ ‫وجود الكون الذي يبتدعه الفكر‬

‫‪284‬‬
‫فيزياء اإليمان‬

‫الراصد املرصود كليّاً أو جزئيّاً‪ ،‬فإ َّن بإمكان الفأر أن يعيد ببساطة تشكيل الكون ملج َّرد النظر إليه‪ ،‬هذا‬
‫األمر يبدو سخيفاً‪ ،‬وأ َّن هذه الفيزياء الكوانتيَّة تحتوي عىل خلل ما مجهول وكبري»‪ .‬وهناك آراء أخرى‬
‫وقعت يف أساس الطبيعة رضب من رضوب الحتمية (اليقني) الذي ما زال يفلت من حقل الرؤية‬
‫متسك به بالنك‪ ،‬وآينشتاين‪ ،‬ودي برويل‪ ،‬ورشودنغر‪ ،‬ولورنتس ص ‪.72‬‬ ‫للباحثني‪ ،‬وهذا الرأي َّ‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫أما جون س بل فأكَّدت نظريَّته عىل الصلة التي تربط معادالت امليكانيك الكوانتية ومتاثلها‬
‫موضعي بني جسيمتني دخلتا يف وقت‬‫ٍّ‬ ‫بنيويّاً مع الكون ذلك بأن اتصاالً ما موجودا ً بشكل غري‬
‫مىض يف متاس بينهام ‪.‬‬
‫ونلفت هنا إىل أ َّن إنجميع النامذج ما قبل الكوانتية للكون‪ ،‬مبا فيها نظريَّة آينشتاين النسب َّية (انحناء‬
‫أي ارتباطات وجوديَّة تتطلَّب عالقات متبادلة‪ ،‬بدءا ً من فيزياء نيوتن(ميكانيك ّياً‬ ‫الفراغ)‪ ،‬افرتضت أ َّن َّ‬
‫ويقينيّاً) الرتموديناميك والكهرطيسيَّة (تقاطع أو تفاعل الحقول) والنسبية (املكان)‪.‬‬

‫الوعي والروح ‪:‬‬


‫بعد جهد الفيزيائيني يف تحديد ورشح الق َّوة الخامسة للكون‪ ،‬يذهب الداالي الما إىل «اعتبار أ َّن‬
‫كل يشء يف نهاية املطاف يتك ّون بالوعي‪ ،‬وأن مستويات الوعي متع ِّددة‪ ،‬وأرفعها أبدي»‪ .‬هنا يبدأ‬ ‫َّ‬
‫البرشي مدار اللُّعبة الكون َّية‪ ،‬وذهب‬
‫ِّ‬ ‫البحث عن الق َّوة الكامنة والباطنة‪ ،‬وهو ما أدخل علم النفس‬
‫علمي فاستبدل الدكتور بادروس يف كتابه «التنويم‬ ‫ٍّ‬ ‫املغناطييس ليرشح الالَّوعي مبنظور‬
‫ُّ‬ ‫التنويم‬
‫املغناطييس» مفهوم الوعي ‪ -‬الجسد مبفهوم الوحدة النفسيَّة الجسديَّة»‪ ،‬كام آينشتاين يف مفهوم‬
‫املكان‪-‬الزمان يف فصل واحد (الزمكان)‪.‬‬
‫يل لإلنسان يدور إىل اليمني‪ ،‬وميكن أن يوجد‬ ‫يل الك َّ‬
‫توصل العلم الحديث إىل أ َّن الحقل الفت َّ‬ ‫لقد َّ‬
‫يل ذو دوران إىل اليسار‪ ،‬وميكن أن يؤث ِّر عىل حقله‬ ‫لدى شخص واحد من بني ماليني األشخاص حقل فت ٌّ‬
‫رس يكمن يف االنصباب نحو حركة الواجد ال املوجود‪ ،‬ومنه تبدأ الرؤية العلم َّية‪.‬‬ ‫مم يعني أ َّن ال َّ‬
‫يت‪َّ ،‬‬
‫الذا ّ‬
‫حس َّية واستنتاجات نُفّذت يف معهد‬ ‫ويف هذا الصدد يذهب كتاب (فيزياء اإلميان) إىل وقائع ّ‬
‫والرسيري ألكادمي َّية العلوم الروس َّية‪ ،‬فيعترب أ َّن “املا َّدة الح َّية (الروح) ت ُص ِّمم يف‬
‫ِّ‬ ‫التجريبي‬
‫ِّ‬ ‫الطب‬
‫ِّ‬
‫(مجسم)‪ ،‬وعىل أساس هذا النمط تحديدا ً تبني املا َّدة‬ ‫ّ‬ ‫البدء نفسها عىل شكل منط هولوغرايف‬
‫لها جسامً بيوكيميائيّاً أرضيّاً مح ّددا ً‪...‬يعني أ َّن مث َّة جانبني للحياة أولهام هو الجانب الهولوغرا ُّ‬
‫يف‬
‫يل”‪.‬‬
‫الحق ُّ‬
‫موجي‬
‫ٍّ‬ ‫حي ينشأ وفقاً لربنامج‬
‫كل مخلوق ٍّ‬
‫العامل الرويس ب‪.‬ب‪.‬غاريايف ينربي إىل القول «أ َّن َّ‬
‫ُمعطى مسبقاً‪ ،‬كالحمل الظاهر يف (الكتاب املق َّدس) ولّدت مريم عندما نقل الروح القدس إىل‬

‫‪285‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫صبغيّاتها الهولوغراما املوجيّة للذات اإللهيَّة»‪ .‬ولقد بحث غاربايف ومساعده غ‪.‬ترييشيني فكرة‬
‫الوصول إىل الربوتينات والـ ‪DNA‬و‪ RNA‬والتي تتج ّمع يف جسم معقّد‪ ،‬وات َّجها إىل قضية مريم‬
‫العذراء (الحبل بال دنس) فق َّررا االحتكام إىل التجربة واختبار إمكان َّية الحمل الربيء‪ ،‬فامذا لو سلّط‬
‫جه الشعاع املنبعث من السائل إىل فتاة شابة؟‬ ‫الذكري ‪ ،‬ومن ثم و ِّ‬
‫ِّ‬ ‫املنوي‬
‫ِّ‬ ‫شعاع الليزر عىل السائل‬
‫املنوي داخل املوجة الساكنة يعطي ومضات برق خيال َّية‬
‫ُّ‬ ‫مل يتم استدعاء الفتاة‪ ،‬وأخذ السائل‬
‫بكل األلوان املمكن‪ ،‬وهنا ق َّرر العاملان أنهام أوجدا الضوء الصانع للحياة (‪.‬ص ‪ .).138‬هنا‬ ‫ِّ‬
‫يتساءل غاريايف قائالً‪ :‬ولكن‪ ،‬ماذا لو مل تكن ضوءا ً وظ َّنناها كذلك‪ ،‬رمبا هو “النور” الذي يخلق‬
‫لكل يشء؟‪..‬‬‫خالق ِّ‬
‫ٌ‬ ‫كل يشء‪ ،‬ألنَّه هو نفسه‬
‫نفسه من ِّ‬
‫من املهم القول أ َّن املعرفة اإليحائ َّية هي الضوء الصانع للحياة‪ ،‬وليس البرش إنساناً ألنَّه مل‬
‫تتجسد املعرفة الوحيانيَّة املا َّدة فيها‬
‫ّ‬ ‫يكتمل بعد‪ .‬ملاذا صورة “عىل خلقه ومثاله” إذا ً؟! وهنا ال‬
‫ماديّاً وإمنا نُقلت عن بُعد من العامل الباطن‪...‬إنها قدس األقداس‪ ،‬وإذا ما ق َّرر العلم أن يتابع أبحاثه‬
‫بجديَّة ألنه ال يجب أن يقف‪ ،‬يك ال تبدأ الحضارة باملراوحة يف املكان‪ ،‬فيجب أن يبقى بعيدا ً عن‬
‫رسِّ الروح ‪-‬الله ؟!‬
‫إذا كانت الفيزياء قد حقَّقت برهانها بالكوانتات التي تولّد االهتزازات وتختفي‪ ،‬ويهت ُّز الحقل‬
‫ين‪ ،‬وتظهر ميزونات يب وتختفي‪ ،‬وهكذا‪...‬‬ ‫الكهرطييس‪ ،‬وتولد الفوتونات وتنفذ‪ ،‬ويهت ُّز الحقل البيو ُّ‬
‫ُّ‬
‫يل ليك يرسم لنا هذا الكون‪ ،‬هي الروح‪.‬‬‫فهذا يعني أ َّن قوة خارج الفيزياء تدفع الحقل الفت َّ‬
‫يئ أتاحت إبراز سبعة مستويات‬ ‫وكام يقول غ‪.‬ي‪.‬شيبوف ‪« :‬حلول دقيقة حول الخالء الفيزيا ِّ‬
‫يئ هو الناقل للتفاعالت الفتل َّية‪...‬‬
‫ين ووصفتها رياض ّياً»‪ .‬ويُعترب الخالء الفيزيا ُّ‬
‫للحقيقة يف البناء الكو ِّ‬
‫هنا يربز سؤال بوضوح‪ ،‬وهو‪ :‬هل استسلم العلم لرأي الله‪ ،‬أو أنَّه يرغب باملصالحة معه؟ فيام‬
‫تبقى املحاوالت جميعها‪ ،‬فيزيائ ّياً وميتافيزيق ّياً‪ ،‬تبحث عن جوهر واحد من العلم والفلسفة والشعر‬
‫لندخل ملكوت املعبد األخري؟‬
‫إذا ً‪ ،‬يجدر القول أ َّن علم الروح ال يعرفه إالَّ املبدع األول ‪ -‬الله ‪ ،‬وما يقوله الربوفسور إي‪ .‬ب‪.‬‬
‫وتجسد الحالة النفسيَّة‬
‫ُّ‬ ‫فولكوف بصدد الروح هو اآليت‪« :‬إن جسد اإلنسان هو ظاهرة العامل الكثيف‬
‫حدها أو يف ّرقها‬
‫لإلنسان (الروح‪ ،‬التمثُّل بالجسد) يف ذاتها قوانني العامل الباطني‪ ،‬ولكن يوجد ما يو ّ‬
‫حد‪ ،‬فهي تعمل بال أخطاء‪.‬‬‫يئ املتسامي‪ -‬الروح»‪ ،‬وس ّيان أن تف ّرق الروح أو تو ّ‬
‫كاملبدأ الفضا ِّ‬
‫وتغي من صفاتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويعتقد فولكوف أيضاً أ َّن الروح تفارق الجثة بعد موت اإلنسان بيولوجيّاً‪،‬‬
‫الوظيفي بانتظار‬
‫َّ‬ ‫وتواصل بقاءها بأشكال أخرى يف العامل الباطن تبعاً للقوانني التي تحكم أداءها‬
‫ُ‬

‫‪286‬‬
‫فيزياء اإليمان‬

‫تجسيد أريضٍّ آخر لها‪ ،‬وأنَّها تغادر الجسم ال بشكل سلس وإمنا عىل دفعات (ص ‪. )148‬‬
‫وحول تجربة مغادرة الروح الجسد‪ ،‬قرر الطبيب الفرنيس إيبوليت باراديوك القيام مبحاولة‬
‫خاصاً‪ ،‬ليلتقط التغيُّ ات الخارج َّية الحاصلة‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫رؤية الروح املغادرة‪ ،‬مستعمالً جهازا ً ضوئ ّياً‬
‫تس ّنى له ذلك حني وافت زوجته املنيَّة‪ ،‬فأظهرت الصورة أنَّه بعد ‪ 15‬دقيقة من الوفاة‪ ،‬ثم بعد‬
‫العدد الثالث ــ ‪1444‬هـ ــ خريف ‪2022‬م‬

‫ساعة‪ ،‬ثم بعد ‪ 9‬ساعات‪ ،‬رأى ضباباً نصف شفاف‪ ،‬ث َّم سحابة غطّت كامل الصورة حتى أصبحت‬
‫وإهليلجي الشكل‬
‫ِّ‬ ‫طاقي نصف شفاف‬ ‫ٍّ‬ ‫السحابة قطعاً من الضباب املتبعرث‪ .‬كام ت َّم تسجيل جسم‬
‫ينفصل عن اإلنسان لحظة وفاته‪ ،‬بعد ذلك يتوارى الجسم يف الفراغ (الفضاء)‪(.‬ص ‪.)170‬‬
‫كل العلامء والفالسفة والشعراء‪ ،‬وهو يدور الجدوى من وجودنا‬ ‫عيص عىل ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫وجودي‬
‫ٌّ‬ ‫يبقى سؤال‬
‫يف هذا الكون العظيم‪ ،‬ومباذا نؤث ِّر نحن يف فيزياء الخالء؟ حيال هذه األسئلة وسواها الكثري‬
‫يبقى الفضاء مفتوحاً لفهم رس الوجود من خالل اللقاء الحميم بني استكشافات الكوزومولوجيا‬
‫واملعارف اإللهية‪.‬‬

‫«فيزياء اإلميان»‬
‫ـ املؤلفان‪ :‬ف‪.‬يو‪.‬تخيبوالف و ت‪.‬س‪ .‬تخيبوالف‬
‫ـ ترجمة‪ :‬د‪.‬رشيف الحواط‪.‬‬
‫ـ النارش‪ :‬دار عالء الدين ـ طبعة أوىل دمشق ‪ 2014‬م‪.‬‬

‫‪287‬‬
ILMOLMABDAA

concentrating specifically on the work of Sheikh Ahmad bin


Mustafa al-Allawi and clarifying the existential manifestations
of the ḥurūf, especially those which are present in the divine
word. The writer considers that what qualified the prime
mystics to reach the status of kashf (uncovering) of the hidden
aspects of the ḥurūf, words, and expressions is these mystics’
moral and practical methodology in search of the meaning
which unites them in the truth and keeps them in the domain
of existential investigation.

* * *

The “Treasure Trove of Books” section contains two analytical


essays. The first essay by Khaled al-Ali analyzes Richard Tarnas’s
book The Pain of the Western Mind which touches on the
tragedy of the pessimistic civilization. The second essay by the
Lebanese writer and poet Naim Talhouq examines the book
Physics of Faith by the two Russian scholars F.U. Tkhipolav
and T.S. Tkhipolav, pointing to the possibility of removing
contradiction between natural science and revelation.

288
Abstract

traditions throughout the past two decades. English readers


are now able to access the work of prominent intellectuals such
as Ghazali, Ibn Sina, Ibn Arabi, Sahrawardi, Mulla Sadra, and
others. The efforts of a number of scholars are highly valuable,
such as William Chittick who translated hundreds of pages of
.Third Issue- 1444 A.H. – Autumn 2022 A.D

Ibn Arabi’s work and provided scholars and readers with some
of the best possible tools to learn how to read this work.
* * *
Anthropological Orientalism on Sufism: A Critique
Saber Aba Zaid[1]
This essay examines the information presented by
Western orientalist studies on Islamic Sufism. It criticizes the
epistemic flaws and ideological implementations present
in these studies, especially in the work of orientalists who
have studied Sufism from an anthropological methodology.
The essay draws the attention of the reader to the fact that
orientalist viewpoints –whether they are critical, analytical or
comparative- differ depending on the intellectual/ideological
disposition of the orientalist.
* * *
Existential Manifestations of the Ḥurūf: Interpretation of
the Mystic Language according to Sheikh Allawi
Rizqi Bin Awmar[2]
This essay provides an approach to the dimensions and
significance of the ḥurūf in the language of Islamic mystics,

[1]- Professor of Sufism in the Department of Literature at South Valley University, Egypt.
[2]- Researcher on Philosophy and Sufism, Oran University, Algeria.

289
ILMOLMABDAA

Islamic societies during the second and thirds centuries of the


hijra were connected to the political struggle of that time.
* * *
Ibn Arabi Preceded Hegel by Six Centuries in the Innovation
of Concepts
Interview with Russian Intellectual Alexander Knysh
Interview conducted and translated to Arabic by: Hadi
Mohammad al-Lawaty
Interview prepared for publication by: Jad Maqdisi
In this interview, Russian intellectual and academic Alexander
Knysh discusses topics derived from highly specialized
disciplines, especially when the topic matters are related to
Sufi and mystic concepts, in addition to metaphysical fields of
knowledge which he has researched and formed opinions on.
The interview provides insight into Knysh’s personal biography,
his academic pursuit with the activity of scholarly research
and instruction, and finally his Sufi inclination.
* * *
Beginning of a New System of Islamic Philosophy: Exploring
the Future
Caner Dagli[1]
This essay strives to explore what shall be forthcoming
with the beginning of a new system of Islamic philosophy
by shedding light on the influence of valuable studies and
translations of Islamic, philosophical, Sufi, and theological

[1]- Professor of Religious Studies, Princeton University, New Jersey, United States.

290
Abstract

Futuwa of Wisdom: Examining Political ‘Irfān According to


Said Nursi
Jaafar Nasr[1]
This essay sheds light on the concept of political futuwa
.Third Issue- 1444 A.H. – Autumn 2022 A.D

according to the mystic Bediuzzaman Said Nursi, which


forms a continuation of the ḥalaqāṭ established by Sufis and
mystics throughout the ages. Nursi was distinguished by his
adherence to ethical traditions for the purpose of confronting
the serious political transformations in Turkey during the era
of Kamal Ataturk and the following phase. This essay studies
how Nursi and his students strove to spread the Risale-i Nur
book collection to confront the secular tide which had swept
over spiritual values and had championed western culture.
* * *
Futuwa in the Quran and ‘Irfān: Significance of the Meaning
Ahmad Majed[2]
This essay examines the significance of the concept of
futuwa, a term which, from an Islamic aspect, has been
recognized, infused with religious meanings, and linked with
the duties of prophecy in human society. The essay explores
the presence of this concept in the Quran, providing several
examples before moving on to examining futuwa within Sufism.
However, the writer does not delve into a historical review
of futuwa, as he considers that the movements of futuwa in

[1]- Researcher on Philosophy and Professor of Anthropology of Religion, Mustansiriya University,


Iraq.
[2]- Academic and Researcher on Philosophical Thought. Al-Maaref al-Hekmiya Institute for Religious
and Philosophical Studies, Lebanon.

291
ILMOLMABDAA

encompassed the political and social domains. Throughout


history, the futuwas have occupied a place in Islamic society
and the market-place. They have been present among the
classes of craftsmen and have imposed proprieties and
standards of behavior which have become intertwined with
the intellectual composition of these classes. Futuwas have
been able to project the spirit of civic civilizational life on Sufi
concepts, with new concepts and terminologies emerging,
the most prominent of which is Civic Sufism. This essay
presents evidence on this hypothesis and its soundness in the
epistemological and sociological field.
* * *
Mystic Ribāṭ: The Status of Futuwa in Resistance to
Colonialism in Africa
Redwan Mohammad Said Ezoli[1]
This essay examines the concept of futuwa in ribāṭ, shedding
light on the position of Sufism and the role of Sufi masters
in resisting European colonialism in Africa. The essay also
focuses on clarifying historical facts regarding this role which
has been ignored by historians. This study mentions a number
of Sufi ṭarīqas which have contributed to resisting imperialism
and reforming society, such as the Sanousi movement, and
the Qadiri, Shadhili, Rahmani, Tijani and Darqawi ṭarīqas. It
also mentions a number of the leaders of these orders such
as Omar al-Mukhtar, Abdul-Qader al-Jaza’iri, Mohammad Ali
al-Sanousi, al-Jabarti, Ma’ al-‘Aynayn and others.
[1]- Researcher on the Sociology of Sufism and Associate Professor at Al- Balqa’ Applied University,
Jordan.

292
Abstract

The Futuwa of the Spirit in the Futuḥāt of Ibn Arabi:


Between True Existence and the Vanishing of Non-Existence
Laila Abdul-Karim Khalifa[1]
The concept of futuwa –which requires high ethics, strength,
.Third Issue- 1444 A.H. – Autumn 2022 A.D

and ability- meets with the concepts of prophecy, wisdom and


knowledge in the ideology of Ibn Arabi. Ibn Arabi considers the
“fata spirit” as the heart possessing “noble divine attribution,
the lofty entity position; and his generosity is deduced from
his futuwa.” This essay focuses on the futuwa of the spirit as
presented in the book al-Futuḥāt al-Makkiya by Ibn Arabi and
contains an examination of the concept by exploring metaphor
and truth, revelation and Sharia, inbā’ and i’tibār.
* * *
Futuwa in its Expression of Civic Sufism: A Socio-Cultural
Approach
Ali Mohammad Moatheni [2]
Fatima Mehri[3]
Futuwa is considered by some to be a form of general Sufism,
but this conception appears insufficient in clarifying the role
and influence of futuwa on the growth and development
of social and civilizational life. There is no doubt that this
behavioral course adopted by Sufis and mystics has exerted a
huge influence on civic life in Islamic societies. This influence
was not only confined to the intellectual domain, but also

[1]- Researcher on the History of Civilizations, University Professor specialized in the thought of Ibn
Arabi, Jordan.
[2]- Professor at Tehran University.
[3]- PHD student at Tehran University.

293
Abstract
Manifestations of Futuwa in Islamic Sufism: A Review of
Theorization on the Concept
Quwaidary al-Akhdar[1]
The ethics of futuwa are considered among the essential
foundations of tazkiya according to Sufis, and one of the basic
passageways to gain knowledge of God. Sufism necessarily
entails a conduct of mercy toward all creation. It is impossible
for a Sufi to establish a connection with God while possessing
a heart which bears grudges and hatred toward others. In
summary, the journey through the stations of ‘irfān must be
accompanied with high ethics, overflowing with mercy and
love to all creatures.
* * *
Messages of Futuwa: Mystic Conduct and Its Influence on
Innovation in Craftsmanship
Mohammad Shakibadel[2] Reda al-Musawi al-Kilani[3]
The “messages of futuwa” influence artistic innovation,
according to the ṭarīqa of the murīid and the murād. This essay
sheds light on how craftsmen in historical Islamic and Iranian
culture adopted the “messages of futuwa” for proceeding on
the path of Truth and instructing student artists. The purpose
of this study is to establish the concept of futuwa from a
scholarly viewpoint rooted in Sufism and Islamic ‘irfān.
[1]- Professor in the Department of Philosophy, University of Amar Telidji University, Laghouat,
Algeria.
[2]- PHD student in the Philosophy of Art, University of Religions and Denominations, Iran.
[3]- Member of the Scholarly Committee, University of Religions and Denominations, Iran.
Table of Contents

Branches of Knowledge

‫ ـ ـ‬Existential Manifestations of the Ḥurūf


Interpretation of the Mystic Language according to Sheikh Allawi

‫ ـ‬Rizqi Bin Awmar.......................................................... 250

Treasure Trove of Books

‫ ـ ـ‬Richard Tarnas on the “Pains of the Western Mind”


Tragedy of the Pessimistic Civilization
‫ ـ‬Review and Commentary: Khaled al-Ali . ..........................268

‫ ـ ـ‬Physics of Faith: The Possibility of Removing Contradiction


Between Natural Science and Religious Revelation
‫ ـ‬Naim Talhouq......................................................................280

Translation of Synopses ................................................ 294


Table of Contents

Interview Section

-Interview with Russian Intellectual Alexander Knysh:


“Ibn Arabi Preceded Hegel by Six Centuries in Innovating
Concepts”
‫ ـ‬Interview conducted and translated to Arabic by Hadi
Mohammad al-Lawaty . ............................................................. 176

Fields of Theorization
- Paradoxes of Existential Duality in Ibn Arabi’s
Thought
Beginning of a New System of Islamic Philosophy
Exploring the Future

‫ ـ‬Caner Dagli................................................................... 196

‫ ـ ـ‬Anthropological Orientalism on Sufism


A Critique

‫ ـ‬Saber Aba Zaid.............................................................. 224


Table of Contents
Introduction
- The Fata in the Divine Rahmāniya
- Mahmoud Haidar......................................................... 7

Issue Folder

- Manifestations of Futuwa in Islamic Sufism


A Review of Theorization on the Concept
- Quwaidary al-Akhdar ................................................. 18
- Messages of Futuwa
Mystic Conduct and Its Influence on Innovation in Craftsmanship
‫ ـ‬Mohammad Shakibadel, Reda al-Musawi al-Kilani... 38
- The Futuwa of the Spirit in the Futuḥāt of Ibn Arabi
‫ ـ‬Between True Existence and the Vanishment of Non-Existence
Laila Abdul-Karim Khalifa.............................................56
- Futuwa as an Expression of Civic Sufism
A Socio-Cultural Approach
‫ ـ‬Ali Mohammad Moatheni, Fatima Mehri.....................92
- Mystic Ribāṭ
The Status of Futuwa in Resistance to Colonialism in Africa
‫ ـ‬Redwan Mohammad Said Ezoli.....................................112
- Futuwa of Wisdom
Examining Political Irfān According to Said al-Nursi
‫ ـ‬Jaafar Najm Nasr..........................................................134
- Futuwa in the Quran and Irfān
Significations of the Meaning
‫ ـ‬Ahmad Majed.................................................................160
Board of Trustees

Pr. Izhar Nuri Indonesia

Pr. Ahmed Jazzar Egypt

Pr. Toufiq Bin Amer Tunisia

Pr. Jad Hatem Lebanon

Pr. Zaim Khanshalawi Algeria

Pr. Sidi Ali Maaulainain Morocco

Pr. Abdullah Falahi Yemen


Pr. Azmuddine Ibrahim Malaysia

Pr. AlSadeq AlFakih Sudan

Pr. Fouad Sajwani Sultanate of Oman

Pr. Velin Belev Bulgaria

Pr. Muhammad hussain Al Yasin Iraq

Pr. Mahmud Erol Kılıç Turkey

Muhammad Taher Al-Qadri Pakistan

Pr. Muhammad El-Mokhtar Jieye Senegal

Pr. Muhammad Ahmad Ali Syria

Pr. Mol Badi Brunei

Pr. Muhammed Salem Al-Sufi Mauritania

Pr. Yadullah Yazdan Banah Iran


Editor-in-Chief
Mahmoud Haidar

Scholarly Advisor
Sayed Ali Moussawi Mustafa Al-Nashar

Managing Editors
Ihsan Haidari – AlHuthaili AlMansar
Mohammad Ali Mirzaii – Idriss Hani – Ghaidhan Sayyed Ali

Scientific Peer-revision Council


Mohamed Mahjoub (Tunis) Saber Aba Zeid (Egypt)
Muhammad Yahya Babah (Mauritania)
Habibullah Babaii (Iran) Jaafar Najm Nasr (Iraq)
Kenza AlQassmi (Morocco) Amin Youssef Audeh (Jordan)
Yassin Bin Obeid (Algeria)
Hoda Niimah Matar (Lebanon)
Bakri Alaa Addin (Syria)

Director-in-Charge Executive Editor


Qassem Toufaili Khodor Ibrahim Haidar

Design and Art Direction


Red Design Company

For Contact
Website: www.ilmolmabdaa.com
Email: ilmolmabdaa@gmail.com
Tel: 009611 – 305347 00961 – 13540762 00961 – 1908993
PO Box: 113/ 5748 – Beirut, Lebanon

You might also like