You are on page 1of 300

‫مجلس األمناء‬

‫(بحسب الرتتيب األلفبايئ)‬

‫إندونيسيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬إظهار نوري‬

‫مصر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد الجزار‬

‫تونس‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬توفيق بن عامر‬

‫لبنان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬جاد حاتم‬

‫الجزائر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬زعيم خنشالوي‬

‫المغرب‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سيدي علي ماء العينين‬

‫اليمن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الله الفالحي‬

‫األردن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عامر عدنان الحافي‬

‫ماليزيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عزم الدين إبراهيم‬

‫السودان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الصادق الفقيه‬

‫سلطنة عمان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد السجواني‬

‫بلغاريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فيلين بيليف‬

‫العراق‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد حسين آل ياسين‬

‫تركيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمود إرول قليج‬

‫باكستان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد طاهر القادري‬

‫السنغال‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد المختار بن أحمد جيي‬

‫سوريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد أحمد علي‬

‫بروناي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬مول بادي‬

‫موريتانيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد سالم الصوفي‬

‫إيران‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يد الله يزدن بناه‬


‫رئيس التحرير‬
‫محمود حيدر‬

‫المجلس العلمي االستشاري‬


‫مصطفى الن ّ‬
‫شار‬ ‫سليمان أولوداغ‬ ‫سيد علي الموسوي‬

‫مدراء التحرير‬

‫إحسان الحيدري * الهذيلي المنصر * محمد علي ميرزائي‬


‫إدريس هاني * غيضان الس ّيد علي‬

‫مجلس التحكيم العلمي‬


‫تونس‬ ‫محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مصر‬ ‫صابر أبا زيد‬
‫موريتانيا‬ ‫محمد يحيى باباه‬ ‫العراق‬ ‫جعفر نجم نصر‬
‫إيران‬ ‫حبيب الله بابائي‬ ‫األردن‬ ‫أمين يوسف عودة‬
‫المغرب‬ ‫كنزة القاسمي‬ ‫لبنان‬ ‫هدى نعمة مطر‬
‫الجزائر‬ ‫ياسين بن عبيد‬ ‫سوريا‬ ‫بكري عالء الدين‬

‫التصميم واإلخراج الفني‬ ‫المدير المسؤول مدير التحرير التنفيذي‬

‫‪Red Design Company‬‬ ‫خضر إبراهيم حيدر‬ ‫قاسم الطفيلي‬

‫تواصل‬
‫‪ /‬اإليميل‪ilmolmabdaa@gmail.com :‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪www.ilmolmabdaa.com :‬‬
‫‪00989 – 355471498 / 009611 – 3867158 / 00964 – 7801877152 / 009611 – 305347‬‬ ‫هاتف‪:‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 113/5748 :‬ـ بيروت ـ لبنان‬
‫فهرس المحتويات‬
‫المع� ف� ُّ‬
‫دنو ِه وتعاليه ‪7...........................................................‬‬ ‫ن‬ ‫مفتتح‬
‫ي‬
‫محمود حيدر‬

‫المحور‬
‫ن‬
‫مع� بال نظرية‬
‫معا� األشياء ف� ُّ‬
‫تغ� دائم‬ ‫ن‬ ‫ين‬
‫ح� تكون‬
‫ي ي‬ ‫ي‬
‫ـ ستيفن يت�نر ‪20.......................................................................‬‬
‫ن ف‬ ‫َّ‬
‫"المع�" ي� أفعال هللا‬ ‫نظرية‬
‫ّ‬
‫لماهية اإلرادة اإللهية‬ ‫توضيح هشام بن الحكم‬
‫ن‬
‫سبحا� ‪40..........................................‬‬ ‫ق‬
‫ي‬ ‫ت�‬
‫كربايس‪ ،‬محمد ي‬
‫ي‬ ‫ـ ب‬
‫أك� أقوام‬
‫ن ف‬
‫اإلليه‬
‫ي‬ ‫المع� ي� القول‬ ‫سؤال‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫�فات النص إىل مشارف القرآن‬ ‫من شُ ُ‬
‫أم� معارز ‪58. ................................................................‬‬
‫ـ عباس ي‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫تنظ�‬
‫ي‬
‫ئ‬ ‫ّ‬ ‫ـ دراسة مقارنة ي ن‬
‫الطباطبا�‬
‫ي‬ ‫ب� تشارلز يب�س والعالمة‬
‫ين‬
‫حس� پركان ‪78.............‬‬ ‫حس� ش�ف الدين‪،‬‬
‫ين‬ ‫آرزو نيكوئيان‪ ،‬حميد پارسانيا‪،‬‬

‫المع� والفلسفات الثالث‬‫ن‬ ‫مع�‬‫ن‬


‫ف‬
‫محاكاة فلسفية ي� اللغة العلم والدين‬
‫ـ حبيب فياض ‪100.......................................................................‬‬
‫مع� اإلسم واسم الجاللة‬ ‫ن‬
‫ٌ َّ‬
‫أفعال دالة عىل األحدية من دون تقييد‬ ‫األسماء‬
‫عيل ‪110...................................................................‬‬
‫ـ محمد أحمد ي‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫يث�ه‬
‫الكيّل بما ي‬
‫إشكاليات المع� ي‬
‫َّ‬
‫إسمية العرص الوسيط ي ن‬
‫ب� أفالطون وأرسطو‬
‫عيل ‪124..................................................................‬‬
‫ـ حمادة أحمد ي‬
‫فهرس المحتويات‬

‫حفظ ِّ‬
‫الرس ومعناه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫اإلساليم‬
‫ي‬ ‫الرويح‬
‫ي‬ ‫تقنياته وتأويله ي� البحث‬
‫ـ أورخان يم� كازيموف ‪150. ........................................................‬‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫قوة الكلمات ف� ن‬
‫مع�‬ ‫ّ‬
‫ي‬
‫استكشاف الصلة الغامضة ي ن‬
‫ب� اللغة والفكر‬
‫ـ س‪.‬ك أوغدن ‪ /‬أ‪.‬آ‪ .‬ريتشاردز ‪162. ..............................................‬‬
‫المتعايل للحركة الجوهرية‬ ‫ن‬
‫المع�‬
‫ي‬
‫ف‬
‫ص�ورة نحو األتم ي� حكمة مال صدرا‬
‫العالم بوصفه ي‬
‫ن‬
‫ها� ‪184. ...................................................................‬‬
‫إدريس ي‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫ما وراء‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫خ�ة وجودية‬
‫يه ب‬‫اللغة بما ي‬
‫يز‬
‫ل�ا سعيد أبو زيد ‪202. .............................................................‬‬

‫حقول التنظير‬
‫ف‬
‫"واليويم"‬
‫ي‬ ‫الفلسفة الثانية ي� امتحان "اليوم"‬
‫ثان‬ ‫ف‬
‫فلس� ٍ‬
‫ي‬ ‫نحو مبدأ‬

‫ـ محمد أبو هاشم محجوب ‪218.........................................................‬‬


‫ّ‬ ‫ّ ف‬
‫التصوف‬ ‫العليم ي� دراسة‬
‫ي‬ ‫ـ ـ مناهج البحث‬
‫ً‬
‫اإلساليم مثاال‬
‫ي‬ ‫العر� ـ‬
‫بي‬ ‫المنجز‬

‫ـ ـ بكري عالء الدين ‪232...................................................................‬‬


‫فهرس المحتويات‬

‫ف ُّ‬
‫الصو�‬ ‫ُّ‬
‫النص‬ ‫ـ ـ ابستمولوجيا‬
‫ي‬
‫ا� كمثال معارص‬‫ن‬
‫أبو الوفا التفتاز ي‬
‫‪ 262..........................................................‬ات‬ ‫ّ‬
‫عطية‬ ‫ـ ـ أحمد عبد الحليم‬

‫مكنز الكتب‬

‫ن‬ ‫ف‬
‫للمع�‬ ‫ـ ـ ي� سبيل منطق‬
‫ف‬ ‫ُ‬
‫منطق اللغة ي� مشتغالتها الداللية‬
‫روب� مارتان ي ِ‬
‫الفرنيس ي‬
‫ي‬ ‫األكادييم‬
‫ي‬
‫ّ‬
‫حدارة ‪278...............................................................................‬‬ ‫ـ ديانا‬

‫ترجمة الملخصات‬
‫مفتـتح‬

‫املعنى يف ُدن ُِّو ِه وتعاليه‬

‫محمود حيدر‬
‫مفتتح‬

‫‪8‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪9‬‬
‫المعنى هو ما يحتضنه الوجود‬
‫مفتتح‬

‫‪10‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪11‬‬
‫المعنى هو ما يحتضنه الوجود‬
‫مفتتح‬

‫‪12‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪13‬‬
‫المعنى هو ما يحتضنه الوجود‬
‫مفتتح‬

‫‪14‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪15‬‬
‫المعنى هو ما يحتضنه الوجود‬
‫مفتتح‬

‫‪16‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪17‬‬
‫المعنى هو ما يحتضنه الوجود‬
‫المحور‬

‫معا� األشياء ف� ُّ‬


‫ن‬ ‫ّ‬
‫نظرية؛ ي ن‬ ‫ن‬
‫تغ� دائم‬‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ح� تكون‬ ‫مع� بال‬
‫ستيفن يت�نر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ن ف‬ ‫َّ‬
‫اإللهية‬ ‫لماهية اإلرادة‬ ‫"المع�" ي� أفعال هللا؛ توضيح هشام بن الحكم‬ ‫نظرية‬
‫ن‬
‫سبحا�‬ ‫ق‬
‫ت�‬
‫ي‬ ‫كربايس| محمد ي‬
‫ي‬ ‫أك� أقوام‬
‫ب‬
‫َّ‬ ‫المع� ف� القول اإلليه؛ من شُ ُ‬
‫�فات النص إىل َمشارف القرآن‬ ‫ن‬ ‫سؤال‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫أم� معارز‬
‫عباس ي‬
‫ئ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬
‫المع�؛ دراسة مقارنة ي ن‬
‫الطباطبا�‬
‫ي‬ ‫ب� تشارلز يب�س والعالمة‬ ‫تنظ�‬
‫ي‬
‫ين‬
‫حس� پركان‬ ‫حس� ش�ف الدين‪،‬‬
‫ين‬ ‫آرزو نيكوئيان‪ ،‬حميد پارسانيا‪،‬‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫المع� والفلسفات الثالث؛ محاكاة فلسفية ي� اللغة العلم والدين‬ ‫ن‬
‫مع�‬
‫حبيب فياض‬
‫ّ‬ ‫ٌ َّ‬ ‫ن‬
‫أفعال دالة عىل األحدية من دون تقييد‬ ‫مع� اإلسم واسم الجاللة؛ األسماء‬
‫ي‬ ‫محمد أحمد عيل‬
‫ن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬
‫يث�ه؛ إسمية العرص الوسيط يب� أفالطون وأرسطو‬
‫الكيّل بما ي‬
‫إشكاليات المع� ي‬
‫عيل‬
‫حمادة أحمد ي‬
‫ّ‬
‫اإلساليم‬ ‫ّ‬
‫الرويح‬
‫ف‬
‫تقنياته وتأويله ي� البحث‬ ‫حفظ ِّ‬
‫الرس ومعناه؛ َّ‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫م�كازيموف‬
‫ـ أورخان ي‬
‫ن‬
‫المع�؛ استكشاف الصلة الغامضة ي ن‬
‫ب� اللغة والفكر‬ ‫قوة الكلمات ف� ن‬
‫مع�‬ ‫ّ‬
‫ي‬
‫س‪.‬ك أوغدن ‪ /‬أ‪.‬آ‪ .‬ريتشاردز‬
‫المتعايل للحركة الجوهرية‬ ‫ن‬
‫المع�‬
‫ي‬
‫ف‬
‫ص�ورة نحو األتم ي� حكمة مال صدرا‬
‫العالم بوصفه ي‬
‫ن‬
‫ها�‬
‫إدريس ي‬
‫ن‬
‫المع�‬ ‫ما وراء‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫خ�ة وجودية‬
‫يه ب‬
‫اللغة بما ي‬
‫يز‬
‫ل�ا سعيد أبو زيد‬
‫ّ‬
‫نظرية‬ ‫معنى بال‬
‫حين تكون معاني األشياء في تغيُّ ر دائم‬

‫ستيفن يت�نر‬
‫ف‬
‫أم�كا‬
‫باحث ي� الفلسفة االجتماعية‪ ،‬جامعة فلوريدا‪ ،‬ي‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫هناك رصا ٌع جوهري دائر بني األفكار التقليدية حول «املعنى»‪ ،‬وبني‬
‫التغرُّي يف التاريخ‪ .‬تنشأ التفسريات التقليدية عىل‬
‫ُّ‬ ‫تغرُّي املعنى ومعنى‬
‫ظاهرة ُّ‬
‫جبهتي‪ ،‬أحدهام زماين أو جاذب ليش ٍء ثابت يعطى معنى‪ ،‬كالقاعدة أو‬
‫التغرُّي‪ .‬إن مفاهيم القاعدة‬
‫ُّ‬ ‫ال ُعرف؛ والذي يرتتب عليه مشاكل مألوفة عىل‬
‫وال ُعرف هي استعارات ليشء ضمني؛ وبالتايل فهي غري مفيدة يف تفسري‬
‫التغرُّيُّ ‪ ،‬فال يوجد يف التاريخ ما يُسمى بواضعي القاعدة أو األعراف‪.‬‬
‫تغرُّي مستمر‪ ،‬وهي جز ٌء من شبكة االعتقاد والنشاط العميل‬
‫فاملعاين يف ُّ‬
‫اللذين يتغريان باستمرار‪ .‬رمبا كان بوسعنا أن نقوم بتخليص بعض النقاط‬
‫من جاذبية األطر الثابتة إذا تعاملنا معها عىل أنها بني ذات الشكل‪« :‬كام لو»‪،‬‬
‫والتي تم تصميمها كركائز‪ ،‬لتمكيننا من تحسني القراءات الحرفية للنصوص‪،‬‬
‫وذلك من خالل زيادة فهم الروابط االستداللية واألهمية العملية ملضمونها‬
‫يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫***‬

‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬معنى‪ ،‬نظرية‪ ،‬الالنهايئ‪ ،‬التفسري‪ ،‬املفهوم الثابت‪،‬‬


‫األعراف‪ ،‬التاريخي‪ ،‬اللغة الالّزمانية‪.‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫[[[*‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫ال َّ‬
‫شك يف أ َّن الُّلغة التي ت ُستخدم عاد ًة لإلشارة إىل املعنى هي لغة ال زمان َّية ‪ ،a temporal‬وت ُشري‬
‫الخاصة باملعنى للر ِّد عىل تفسري “كريبك”‬‫َّ‬ ‫إىل يش ٌء ُمح ّدد‪ .‬وقد ت َّم تطوير التفسريات التقليديَّة‬
‫‪ Kripke‬حول مسألة ات ِّباع القاعدة[[[‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫بحسب تعبري “بول بوغوسيان” ‪“ ،Paul Boghossian‬إنَّ فكرة معنى يشء ما بكلمة هي فكرة‬
‫يئ‪ ،‬حيث ال توجد حرف ًّيا نهاية للحقائق حول كيف َّية تطبيق املُصطلح‪ ،‬إذا كنت‬ ‫ذات طابع ال نها ٍّ‬
‫سأستخدمه مبا يتوافق مع معناه‪ .”...‬وهذا ليس بالحقيقة التي ق َّدمها “كريبك”‪ ،‬واملأخوذة من‬
‫أي مفهوم” ‪ .‬يف املقابل‪ ،‬ال ميكن للت ُّ‬
‫رصفات‬ ‫علم الحساب ‪“ – arithmetic‬إنَّها تنطبق عىل ِّ‬
‫[[[‬

‫‪ Dispositions‬أن تقوم بتفسري املعاين‪ ،‬وذلك ملحدوديَّتها‪ ،‬أو ألنَّها جز ٌء من التاريخ الذي ال‬
‫إاَّل عىل الحياة العقل َّية ملؤ ِّرخي اليوم‪ ،‬يف حني أ َّن املعاين أزل َّية‪ ،‬أو كام يُقال‪ ،‬خارج الزمان‪.‬‬
‫رص َّ‬
‫يقت ُ‬
‫لقد ع َّول “كويننت سكيرن” ‪ Q. Skinner‬عىل خلف َّية فلسف َّية ُمامثلة عندما طالب بفكرة أنَّه عندما‬
‫َّف ما‪ ،‬يلجأ املرتجم إىل “األعراف” ‪ conventions‬التي ميكن الكشف عنها من‬ ‫يت ُّم تفسري مؤل ٍ‬
‫األقل شهرة للفرتة نفسها[[[‪ .‬كام مُيُكنه افرتاض أ َّن هذه األعراف‬‫ِّ‬ ‫خالل دراسة النصوص العاديَّة أو‬
‫املعني يف األصل‪ ،‬وأنَّه قد ع َّول عليها إلعطاء معنى‬ ‫َّ‬ ‫النص الذي كان‬
‫ِّ‬ ‫كانت مألوفة لدى مؤلِّف‬
‫تاريخي‬
‫ٍّ‬ ‫ط بيش ٍء‬
‫لنصه‪ ،‬حتى وإن كان الغرض منه هو هدم األعراف‪ .‬لذا‪ ،‬فال ُعرف هو مفهوم مرتب ٌ‬ ‫ِّ‬
‫بالنسبة إىل األشخاص الذين يتَّبعونه‪ ،‬ولكنه يف امل ُقابل‪ ،‬مفهو ٌم ثابت‪ ،‬وبهذا املعنى يقع يف مكانٍ‬
‫ما خارج اندفاع وأفعال مؤ ِّرخي اليوم‪ .‬وهكذا‪ ،‬يُق ِّدم “سكيرن”جدي ًدا يف طريقة التفسري عندما‬
‫يُ ِ‬
‫الحظ أ َّن “املفاهيم املختلفة املتن ِّوعة تالشت مع املُجتمعات املُختلفة املتن ِّوعة”[[[‪ .‬وبالتايل‪،‬‬
‫إاَّل أنَّها أشياء ُمنفصلة‪.‬‬
‫مث َّة ارتباط بني املفاهيم و“امل ُجتمعات”‪ ،‬وأن “زوالها” ال يعني َّ‬

‫ـ ستيفن ترينر‪ :‬هو باحث يف املامرسة االجتامعية‪ ،‬والنظرية االجتامعية والسياسية‪ ،‬وفلسفة العلوم االجتامعية‪ ،‬أستاذ البحوث العليا يف‬
‫قسم الفلسفة بجامعة جنوب فلوريدا‪ ،‬ويحمل أيضً ا لقب أستاذ جامعي متميز‪ .‬حصل ترينر عىل زمالة ‪ ،NEH‬هذا فضالً عن كونه أستاذًا‬
‫فخريًا يف جامعة مانشسرت‪ ،‬وحصل مرتني عىل زميل متقدم يف املعهد السويدي للدراسات املتقدمة‪.‬‬
‫ـ العنوان األصيل للمقال‪ ،Meaning without Theory :‬ونُرش يف مجلة ‪ ،Journal of the Philosophy of History‬يف عدد‬
‫‪ 5‬عام ‪.2011‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬د‪ .‬حامدة أحمد عيل‪.‬‬
‫‪[2]- S. Kripke, Wittgenstein on Rules and Private Language: An Elementary Exposition (Oxford:‬‬
‫‪Blackwell, 1982).‬‬
‫‪[3]- P. Boghossian, “The Rule-Following Considerations,” Mind 98, (1989), 507- 549, 509.‬‬
‫‪[4] - Q. Skinner, “Conventions and the Understanding of Speech Acts,” Philosophical Quarterly 20,‬‬
‫‪(1970), 118- 38, 135.‬‬
‫‪[5]- Q. Skinner, “Meaning and Understanding in the History of Ideas,” History and Theory 8:1, (1969),‬‬
‫‪3- 53, 53‬‬

‫‪21‬‬
‫المحور‬

‫إىل هذا‪ ،‬نظر املؤ ِّرخون من أتباع الكانط َّية الجديدة باملثل إىل العصور التاريخ َّية عىل أنَّها‬
‫عصور ُمختلفة يف البنى العقل َّية التي أنارت األذواق واملعتقدات‪ ،‬وحتى املعاين التي نسبوها إىل‬
‫ترسخت هذه الفكرة يف عقيد ٍة تاريخ َّية‪َّ ،‬‬
‫عرَّب‬ ‫عامل األحداث‪ ،‬والحقائق‪ ،‬واألدوات‪ .‬ولكن رسعان ما َّ‬
‫عنها جي ًدا “كارل بيكر” ‪ C. Becker‬يف دراسته للتنوير‪ ،‬عندما أطلق عىل هذا األمر ُمصطلح “ ُمناخ‬
‫الرأي” ‪ ،climate of opinion‬فرناه يقول‪:‬‬
‫حجج ‪ Arguments‬تحظى بالقبول أم بالرفض‪ ،‬فإن هذا يعتمد عىل املنطق‬ ‫“سواء كانت ال ُ‬
‫يجعل ُحجة “دانتي” أو‬ ‫َ‬ ‫الذي يحملها بقدر اعتامدها عىل ُمناخ الرأي الذي تتواصل فيه‪ .‬إنَّ ما‬
‫نقصا يف التفكري‪ ،‬وإمنا‬ ‫تعريف “القدِّ يس توما” بال معنى بالنسبة إلينا ليس املنطق الرديء أو ً‬
‫ُمناخ الرأي يف فرتة العصور الوسطى– تلك األفكار املُسبقة غريز ًّيا باملعنى الواسع‪ ،‬إنَّها رؤية‬
‫ً‬
‫استعاماًل فريدً ا من‬ ‫العامل ‪ Weltanschauung‬أو منط العامل‪ ،‬الذي فرض عىل دانتي والقدِّ يس توما‬
‫خاصا من املنطق‪ .‬وليك نفهم سبب عجزنا عن متابعة دانتي أو القدِّ يس توما بسهولة‪،‬‬ ‫الذكاء‪ ،‬ونو ًعا ًّ‬
‫الرضوري فهم (رمبا يكون أيضً ا) طبيعة هذا املُناخ من الرأي”[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كان من‬
‫أي شخص‪ ،‬ولكنها‪ ،‬إىل ٍ‬
‫حد‬ ‫وعليه‪ ،‬مل تَعد مناخات الرأي يف املايض “تفرض” نفسها عىل ِّ‬
‫ُفرِّس تفكري املايض من ناحية‪ ،‬ومُتُ كِّننا من تفسريه‬
‫ما‪ ،‬يف متناول أيدينا كموضوعات ‪ objects‬ثابتة ت ِّ‬
‫من ناحية أخرى‪.‬‬
‫يجدر القول أ َّن ُمشكلة الطابع الثابت لهذه املوضوعات‪ ،‬والتي ال تتض َّمن فحسب موضوعات‬
‫منح املعنى ‪ meaning-bestowing‬كرؤى كل َّية وإمَّنَّ ا الكلامت التي أعطت املعنى أيضً ا‪ ،‬هي من‬
‫املشاكل العميقة للغاية‪ ،‬إىل جانب املظاهر السطحية املتن ِّوعة التي تظهر جل ًّيا بشكلٍ شائع يف‬
‫تأريخ العلوم‪ .‬وق َّدم “بول فريابند”‪ P. Feyerabend‬يف ستينيَّات القرن العرشين ادعا ًء ثوريًّا مناهضً ا‬
‫األقل منها يف التط ُّور عن طريق‬ ‫ِّ‬ ‫ُفرِّس النظريَّات‬
‫للفكرة التي مفادها أ َّن النظريَّات األكرث تط ُّو ًرا ت ِّ‬
‫األقل مل تتناول اليشء الذي تناولته‬ ‫ِّ‬ ‫“االشتقاق” ‪ ،derivation‬وأ َّن بعض النظريَّات الكُربى عىل‬
‫النظريَّات التي سبقتها؛ أل َّن معاين امل ُصطلحات قد تغرَّيَّ ت خالل عمل َّية التق ُّدم[[[‪ .‬ولكن عىل يد‬
‫“توماس كون” ‪ ،T. Kuhn‬أصبحت هذه فرضيَّة بنظريَّة إيجابيَّة تعطي معاين امل ُصطلحات العلميَّة‬
‫من ِقبل النامذج اإلرشادية ‪ ،paradigms‬والتي كانت يف حد ذاتها ‪ -‬من بني أشياء أخرى‪ ،‬هي عبارة‬
‫معنَّي‪.‬‬
‫علمي َّ‬
‫ٌّ‬ ‫عن بنى من االفرتاضات التي يتقاسمها مجتمع‬

‫‪[1]- C. Becker, The Heavenly City of the Eighteenth-Century Philosophers (New Haven, CT: Yale‬‬
‫‪University Press, 1959 [1932]), 5.‬‬
‫‪[2]- P. Feyeraband, “Explanation, Reduction, and Empiricism” in H. Feigl and G. Maxwell (eds.),‬‬
‫‪Minnesota Studies in the Philosophy of Science: Scientific Explanation, Space, and Time, Vol. III‬‬
‫‪(Minneapolis: University of Minnesota Press, 1962), 28- 97, 33.‬‬

‫‪22‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫من الواضح أ َّن التفسريات السابقة مختلفة‪ ،‬ولكن يبدو أ َّن مث َّة تعارضً ا أساسيًّا بني الطابع الثابت‬
‫للحقائق التي تعطي املعنى‪ ،‬كاألعراف‪ ،‬والقواعد‪ ،‬واألُطر‪ ،‬وبني الحقائق املتعلِّقة بالتغيري ‪change‬‬
‫الذي كان من امل ُفرتض أن يُساعد يف تفسري املعنى‪ .‬فلم يكن باستطاعة “كون” أن يتص َّور هذه‬
‫تتغرَّي بطريقة طبيع َّية‪ ،‬بالطريقة نفسها التي‬ ‫َّ‬ ‫االفرتاضات التي تعطي املعنى عىل أنَّها افرتاضات‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫تغرَّيَّ ت بها امل ُعتقدات الرصيحة املألوفة يف مواجهة أدلَّة جديدة واعتبارات جديدة‪ .‬ومبا أنَّها –‬
‫فضاًل عن أنَّها تُشكِّل معنى األدلَّة الجديدة واالعتبارات‬‫ً‬ ‫ضمني‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫االفرتاضات ‪ -‬كانت عىل مستوى‬
‫أي تنقيح أو تعديل من ِقبل األدلَّة الجديدة أو االعتبارات‬ ‫حصنة من ِّ‬
‫الجديدة؛ فقد بدت بالرضورة ُم َّ‬
‫ٍ‬
‫افرتاضات بنيويَّة‬ ‫تتغرَّي إاَّلَّ كل ًّيا عن طريق الثورات التي وضَ عت‬
‫الجديدة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ال ميكن أن َّ‬
‫جديدة إلعطاء املعنى‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫ِّ َّ‬
‫بالاَّل ِّ‬ ‫ُ‬
‫(األزيل)‪:‬‬ ‫زماين‬ ‫املعاين واألطر‪ :‬التقاء الزماين‬
‫ت ُساهم القواعد‪ ،‬واألعراف‪ ،‬واألُطر‪ ،‬والرؤى الكليَّة‪ ،‬إلخ‪ ،‬يف تفسري املعاين‪ ،‬كام ت ُتيح لنا أيضً ا‬
‫فرِّسونها هي يف‬ ‫إاَّل أ َّن “املعاين” التي يُ ِّ‬
‫إمكان َّية الوصول إليها‪ ،‬وذلك لثبات وسائل الفهم والتفسري‪َّ .‬‬
‫أواًل‪ُ ،‬مشكلة التفسري‪ ،‬واالنحدار‬ ‫تتغرَّي؛ األمر الذي أ َّدى إىل ظهور ُمشكلتني‪ ،‬وهام‪ً :‬‬ ‫ح ِّد ذاتها أشياء َّ‬
‫التفسريي ‪ ،explanatory regresses‬وثان ًيا‪ُ ،‬مشكلة الوصول إىل املعنى‪ .‬ومن ث َّم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو الرتاجع‬
‫تأخذ مشكلة الوصول إىل املعنى شكلني من التساؤالت‪ :‬أ َّو ًاًل‪ ،‬من أين نحصل عىل الوصول إىل‬
‫معاين النصوص أو األفعال عرب التاريخ؟ ثان ًيا‪ ،‬كيف نحصل عىل الوصول إىل القواعد‪ ،‬واألعراف‪،‬‬
‫واالفرتاضات‪ ،‬إلخ‪ ،‬التي تحكم بدورها املعاين؟‪ .‬من الواضح أ َّن العالقة بني هاتني امل ُشكلتني يف‬
‫الوصول هي عالقة فوضويَّة أو ُمش ّوشة‪ ،‬وكذلك العالقة بني هذه املشاكل‪ ،‬و ُمشكلة تفسري حقائق‬
‫تحل بها بعضها البعض‪.‬‬ ‫القواعد‪ ،‬واألعراف‪ ،‬واألُطر‪ ،‬والطريقة التي تتغرِّيِّ أو ُّ‬
‫تكمن امل ُشكلة الرئيسة لدى املؤ ِّرخ يف الوصول إىل معاين النصوص والعبارات من ِقبل‬
‫الوكالء التاريخيني‪ .‬وعىل ح ِّد تعبري “سكيرن”‪ ،‬فإ َّن املؤ ِّرخني دو ًما ما يواجهون “صعوبة واضحة‬
‫تغرّي املعاين الحرف َّية لل ُمصطلحات األساس َّية مع مرور الوقت”[[[‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬فإنَّنا‪« :‬نكتشف‬‫يف ّ‬
‫من تاريخ الفكر أنَّه ال يوجد يف الواقع مثل هذا النوع من املفاهيم األزل َّية‪ ،‬ولكن توجد مفاهيم‬
‫ُمختلفة متن ِّوعة تالشت مع امل ُجتمعات امل ُختلفة املتن ِّوعة‪ ،‬فكان هذا االكتشاف مبثابة حقيقة عا َّمة‬
‫ال تتعلّق فحسب باملايض‪ ،‬وإمنا بأنفسنا أيضً ا»[[[‪.‬‬
‫كل مكان‪ ،‬وأ َّن املعنى “الحريف”‬
‫حاصل يف ِّ‬
‫ٌ‬ ‫املفاهيمي‬
‫َّ‬ ‫املفاهيمي والتن ُّوع‬
‫َّ‬ ‫التغرُّي‬
‫ُّ‬ ‫لذا‪ ،‬فإ َّن‬

‫‪[1] - Skinner, “Meaning and Understanding in the History of Ideas,” 31- 32.‬‬
‫‪[2] - Skinner, “Meaning and Understanding in the History of Ideas,” 53.‬‬

‫‪23‬‬
‫المحور‬

‫لنص ما من املايض‪ُ ،‬ر ّمّبا مل يكن له هذا املعنى يف السابق‪ .‬فكان هذا األمر مبثابة‬ ‫املفهوم حاليًّا ٍ‬
‫هديَّة أو فرصة‪ ،‬عىل ح ِّد قول “سكيرن”‪ ،‬بأن “القيمة الفلسف َّية الجوهريَّة‪ ،‬بل واألخالق َّية” بالنسبة‬
‫والسيايس”‪“ ،‬ال‬
‫ِّ‬ ‫واألخالقي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫االجتامعي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وخاص ًة املرتبطة بالفكر‬
‫َّ‬ ‫إىل “النصوص الكالسيك َّية‪،‬‬
‫األسايس لالفرتاضات‬
‫ِّ‬ ‫تُساعد يف الكشف – إذا سمحنا لها – عن التشابه األسايس‪ ،‬وإمَّنَّ ا عن التن ُّوع‬
‫املامرسة ‪ exercise‬مُيُكن أن‬ ‫األخالق َّية‪ ،‬وااللتزامات السياس َّية التي تقبل التطبيق”[[[‪ .‬والواقع‪ ،‬أ َّن ُ‬
‫ت ُخربنا شيئًا عن أنفسنا رمبا كان غائبًا ع َّنا يف السابق‪ ،‬وهي حقيقة أنَّنا افرتضنا إطا ًرا ُمختلفًا والتزمنا‬
‫به سياس ًّيا‪ .‬ويف كلتا الحالتني‪ ،‬نحن ُمضط ّرون ‪ -‬ليك نفهم الُّلغة كام كُتبت – إىل اإلشارة إىل يشء‬
‫يتغرَّي بالفعل‪ ،‬أي االفرتاضات‪ ،‬وااللتزامات‪ ،‬واألعراف‪ ،‬إلخ‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬يعود تفسري معنى‬ ‫آخر‪ ،‬يش ٌء َّ‬
‫الكلامت الحرفيَّة إىل اليشء الذي يتغرَّيَّ ‪ ،‬وهو اإلطار ‪.framework‬‬
‫حجج يف األصل‪ ،‬وقد نتساءل‬ ‫لقد كتب “سكيرن” أكرث من ذلك بكثري منذ أن قُ ِّدمت هذه ال ُ‬
‫تغرَّيت بطُرق تحدث أي فرق[[[‪ .‬والسؤال الرئيس هنا‪ :‬هل‬ ‫بشكلٍ معقول َّ‬
‫عاَّم إذا كانت آراؤه قد َّ‬
‫تخىَّل عن فكرة الحقائق التي تعطي معنى؟ يظهر من خالل ردوده السابقة عىل ُمنتقديه أنَّه كان‬ ‫َّ‬
‫ريا ملسألة واضحة مفادها أنَّه ليك ت ُفهم النصوص السابقة‪ ،‬فإ َّن املؤ ِّرخني بحاجة إىل‬ ‫ُمعاديًا كث ً‬
‫الرتجمة إىل ُمصطلحات مفهومة (واضحة) للجمهور الحايل‪ ،‬وهذه نقطة قد أثارها “هوليس”‬
‫جتي‪ ،‬ناقشت هذه النقطة من خالل ُمصطلحات “كواين” األكرث‬ ‫ح َّ‬
‫‪ Hollis‬و أنا أيضً ا[[[‪ .‬ولكن يف ُ‬
‫الخاصة‪ ،‬غري ُمقنع ٌة متا ًما‪.‬‬
‫َّ‬ ‫جة‪ ،‬وفقًا مل ُراسالتنا‬ ‫أو األقل شموليَّة‪ ،‬إىل أن وجد “سكيرن” أن هذه ال ُ‬
‫ح َّ‬
‫واآلن‪ ،‬يبدو أنَّه قد تب ّن َى الشمول َّية إىل ح ِّد أنَّه يتعامل معها عىل أنَّها نقطة رئيسة [[[‪ .‬ولكن بالنسبة‬
‫إىل الشمول َّية‪ ،‬فإنَّه ال توجد حقائق تعطي املعنى‪ ،‬وإمَّنَّ ا توجد شبكة من االعتقاد‪ ،‬وأ َّن املعاين‬
‫جة يف االستدالالت التي تؤلِّف شبكة االعتقاد‪ .‬وعىل النقيض‪ ،‬توفِّر‬ ‫ح َّ‬
‫إاَّل جوهر ملكان ال ُ‬ ‫ما هي َّ‬
‫التفسريات األساسيَّة حقيقة تعطي املعنى‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬يظهر لنا أ َّن كال النهجني متناقضان يف النظريَّة‪،‬‬
‫ويقومان بإنتاج أنواع مختلفة من الكتابة التاريخ َّية يف املامرسة العمل َّية[[[‪ .‬وهكذا‪ ،‬فضَّ ل “سكيرن”‬
‫استعامل مصطلح”ال ُعرف” يف السابق‪ ،‬حيث كان عمله الحايل يزخر بالعبارات من النوع نفسه‪:‬‬

‫‪[1]- Skinner, “Meaning and Understanding in the History of Ideas,” 52.‬‬


‫‪[2] - For useful discussions see R. Lamb, “Recent Developments in the Thought of Quentin Skinner‬‬
‫‪and the Ambitions of Contextualism,” Journal of the Philosophy of History 3:3, (2009), 246- 265 and‬‬
‫‪R. Lamb, “Quentin Skinner’s Revised Historical Contextualism: A Critique,” History of the Human‬‬
‫‪Sciences 22:3, (2009), 51- 73.‬‬
‫‪[3] -S. Turner, “‘Contextualism’ and the Interpretation of the Classical Sociological Texts,” Knowledge‬‬
‫‪and Society 4, (1983), 273 -291.‬‬
‫‪[4] - Q. Skinner, Visions of Politics (Cambridge: Cambridge University Press, 2002), 4- 5.‬‬
‫‪[5] - S. Turner, “Webs of Belief, Practices, and Concepts,” Archives européennes de sociologie/European‬‬
‫‪Journal of Sociology 3, (2010), 397- 421.‬‬

‫‪24‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫“نح ُن بالطبع ُمنغمسون داخل املُامرسات العمل َّية والتي نحن مق َّيدون بها”[[[‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬يعمل‬
‫فرِّس أو شارح يعطي املعنى‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬ ‫امل ُصطلح املُفضَّ ُل حديثًا وهو “الرؤية” ‪ vision‬ك ُم ِّ‬
‫سيايس‬
‫ٍّ‬ ‫“األيديولوجي املُبدع” الذي يقوم بتأليف ٍّ‬
‫نص‬ ‫ِّ‬ ‫يقرتح أ َّن استعامل الُّلغة املعياريَّة من ِقبل‬
‫االجتامعي”[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خاصة حول طريقة عمل ال َعامل‬ ‫َّ‬ ‫“سوف يعكس دو ًما الرغبة يف فرض رؤية أخالق َّية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الرضوري أن يقوم ُمصطلح الرؤية بتحديد املعاين‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫وما مل يكن هذا األمر باالستعارة الفارغة‪ ،‬فمن‬
‫وليك نفهم املعنى؛ فإنَّنا بحاجة إىل فهم ُمصطلح الرؤية الذي يقوم بتحفيز الكالم أو الخطاب‪.‬‬
‫التفسريي من مشكلة تغرُّيُّ املعنى باهتامم غريب‪ :‬فاليشء‬
‫ِّ‬ ‫يل للجزء‬
‫حل “سكيرن” األص ِّ‬
‫يأيت ُّ‬
‫يل للنص ‪ -‬يت ُّم تفسريه من خالل يشء آخر ثابت‪ ،‬أي من خالل مجموعة‬ ‫الثابت ‪ -‬املعنى األص ّ‬
‫من األعراف التي تختلف عن تلك التي لدينا اآلن‪ ،‬وامل ُرتبطة بطريقة ما مع مجتمع ُمختلف‪.‬‬
‫األمر الذي يؤ ّدي إىل تناقض‪ :‬فالوسائل التي منلكها للحديث عن املعنى تتض َّمن مفاهيم‪ ،‬مثل‬
‫القواعد‪ ،‬واالفرتاضات‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬هي وسائل ثابتة والزمان َّية‪ .‬حيث تختلف هذه الوسائل‪،‬‬
‫تتغرَّي‪ .‬لذا‪ ،‬فبينام يكمن املغزى من‬ ‫كام يقول “سكيرن”‪ ،‬بني امل ُجتمعات‪ ،‬لكنها هي نفسها ال َّ‬
‫تغرُّي املعنى‪ ،‬أو عىل األقل اختالف املعنى عرب التاريخ‪ ،‬فإ َّن هذا‬ ‫إثارة هذه املفاهيم يف تفسري ُّ‬
‫يدفع امل ُشكلة خُطوة إىل الوراء إىل النقطة التي يصبح فيها التغرُّيُّ ذاته بالُّلغز الغامض‪ ،‬وهو لغز‬
‫مبشكلة “املُجتمع” ‪ .society‬ومن ث َّم‪ ،‬اعرتف “سكيرن” مؤ َّ‬
‫خ ًرا بهذه امل ُشكلة‪ ،‬ويقول إنَّه‬ ‫ُمحاط ُ‬
‫نتيجة لدراسته “ ُمنظري البالغة الكالسيك َّية”‪ ،‬فإنَّه أصبح “يتشارك فهمهم األكرث تشكُّكًا للمفاهيم‬
‫املعياريَّة واملُفردات املائعة التي ُّ‬
‫يتم التعبري عنها اعتياديًّا”‪ ،‬ولـ “تقدير شعورهم بأنَّه سيكون هناك‬
‫دو ًما درجة من ( ُحسن الجوار)‪ ،‬كام يحلو لهم أن يس ُّموها‪ ،‬بني املُصطلحات التقييم َّية املُتضاربة‬
‫ظاهر َّيا”[[[‪.‬‬
‫بديل‪ ،‬مثل املفهوم الدينامييك للمعنى‪ ،‬والذي سوف‬ ‫فأين ترتكنا هذه االدِّعاءات؟ هل هناك ٌ‬
‫فرِّس تغري املعنى كظاهرة تاريخ َّية طبيع َّية؟ أم أنَّه ال يوجد بديل لنظريَّات املعنى التي‬ ‫يسمح و ُي ِّ‬
‫تعتمد عىل حقائق ُمفرتضة ُمنتجة للمعنى‪ -‬أي قواعد تختبئ وراء استخدامات تعطي املعنى‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬والتي هي يف ح ِّد ذاتها ثابتة‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬تُشري “لُغة امل ُ ُيو َعة” ‪language of fluidity‬‬
‫إاَّل أ َّن لجوءه امل ُستم َّر إىل ُمصطلحات‬
‫جه‪َّ ،‬‬
‫التي استخدمها “سكيرن” إىل رضورة وجود مثل هذا التو ُّ‬
‫“املُامرسات”‪“ ،‬الرؤية”‪ ،‬وامل ُصطلحات امل ُامثلة‪ ،‬ال يُشري إىل وجود بديل لالحتكام إىل بُنى تعطي‬
‫املعنى بشكل صارم‪ ،‬سواء أكانت ُمناخات الرأي أم األعراف‪ .‬وهكذا‪ ،‬تح َّولت كتابات “سكيرن”‬

‫‪[1]- Skinner, Visions of Politics, Vol.1, 7.‬‬


‫‪[2]- Skinner, Visions of Politics, Vol.1, 182.‬‬
‫‪[3]- Skinner, Visions of Politics, Vol.1, 182.‬‬

‫‪25‬‬
‫المحور‬

‫خ ًرا يف مقاله املعنون‪“ :‬الدولة‬ ‫تجسدت مؤ ّ‬


‫لتغرُّي املعنى‪ ،‬والتي َّ‬
‫سبي ُّ‬
‫األخرية إىل عمليَّة التفسري ال َّن ِّ‬
‫بأي أدلَّة؟ يف أحد الجوانب‪ ،‬مُيُثِّل هذا املقال‬ ‫السياديَّة‪ِ :‬علم الجينولوجيا”[[[‪ .‬فهل يز ِّودنا هذا ِّ‬
‫فكرة معكوسة‪ :‬حيث أسلوب الجدل‪ ،‬وتركيزه عىل فكرة الوحدة السياديَّة وتغرُّيُّ اتها‪ ،‬سوف يتناسب‬
‫بشكلٍ ُمريح مع عمل سابقه “آرثر أ‪ .‬لوفيجوي” ‪ ،Arthur O. Lovejoy‬بعنوان‪“ :‬الوحش األسود”‪.‬‬
‫الخاص بـ “سكيرن” هو إىل ح ٍّد كبري رس ٌد القتباسات حرفيَّة‪ :‬ما يحصل‬‫َّ‬ ‫إاَّلَّ أ َّن “علم الجينولوجيا”‬
‫عليه املرء هو التن ُّوع‪ ،‬ولك َّنه سيحصل عىل فهم بسيط ج ًّدا لبنية االستدالالت التي كانت فيها هذه‬
‫كل منهام اآلخر‪ .‬ويف‬ ‫التنويعات ذات معنى‪ ،‬أو املشاكل التي ت َّم حلُّها ملؤلّفيها‪ ،‬أو ملاذا يتبع ٌّ‬
‫[[[‬
‫ساَّمه بنفسه بـ”التنوع املُذهل للمعاين”‬
‫املقابل‪ ،‬فإ َّن تحقيقات “لوفيجوي” امل ُكتسبة حول ما َّ‬
‫مل ُصطلحات مثل الرومانسيَّة‪ ،‬تدور حول األفكار ذات الصلة‪ ،‬وحول املشاكل التي تنتجها عندما‬
‫تتالءم م ًعا‪ ،‬وحول كيفيَّة تفسري سبب ات ِّباع أحدهام لآلخر‪ ،‬وكيف تغرَّيَّ ت االستخدامات عندما‬
‫أصبحت يف أيدي أشخاص كانت أفكارهم املرتبطة مختلفة‪.‬‬

‫قابل األعراف‪:‬‬ ‫ُ‬


‫القواميس م ِ‬
‫ري‬
‫تلميح مث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هل نحن بحاجة إىل االستعانة بالبنى التي تُعطي املعنى عىل اإلطالق؟ هناك‬
‫لالهتامم حول ما ميكن أن يُق ِّدمه “ناثان تاركوف” ‪ Nathan Tarcov‬يف مراجعته للمجلَّد السابق‬
‫“كل نيص ]أي هدف شكاوي سكيرن‪،‬‬ ‫من كتابات “سكيرن” املنهجيَّة‪ ،‬ذلك عندما أشار إىل أ َّن َّ‬
‫قاموسا تاريخ ًّيا أو تعلّم لغات أجنب َّية‪ ،‬اتفق ضمن ًّيا مع‬
‫ً‬ ‫يُعني بالنسبة إلينا القارئ الحريف[ استخدم‬
‫سكيرن”[[[‪ ،‬ماَّمَّ يعطينا طريقة بديلة للتفكري يف املشكلة‪ .‬فالقواميس هي وثائق ثابتة بح ِّد ذاتها‪،‬‬
‫التغرُّي‪ ،‬وليس املقصود منها أن تكون كذلك‪ .‬بينام التعريف‬ ‫ُّ‬ ‫وليست بالوسائل التي تقوم بتفسري‬
‫يك الذي يسمح أو يُساعد عىل‬ ‫‪ definition‬هو بالضبط النوع نفسه من اليشء الثابت وغري الدينامي ِّ‬
‫التفسري‪ ،‬ولك َّنه ال يتوافق مع الحقيقة الديناميك َّية للمعنى‪ .‬لكن القواميس هي أنواع من الوثائق التي‬
‫وكل هذا مفي ٌد للتفسري‪:‬‬ ‫حا”‪ُّ .‬‬
‫معياري أو حتى “صحي ً‬‫ٍّ‬ ‫يل إىل يشء‬ ‫تتج َّرد شعوريًّا من االستخدام الفع ِّ‬
‫النص باعتباره‬
‫ِّ‬ ‫حا قد يُساعد يف فهم االستخدام غري امل ُالئم يف‬ ‫ملعرفة ما يُع ُّد استخدا ًما صحي ً‬
‫انتهاكًا‪ .‬غري أ َّن القواميس ال تعطي املعنى‪ ،‬بل تُعيد بناء املعاين من االستخدامات املوجودة‬
‫بالفعل‪ ،‬وت ُعيد بناء األفكار حول الدقَّة املوجودة بالفعل‪.‬‬

‫‪[1]- Q. Skinner, “The Sovereign State: A Genealogy” in Hent Kalmo (ed.), Sovereignty in Fragments:‬‬
‫‪The Past, Present and Future of a Contested Concept (Cambridge: Cambridge University Press, 2001),‬‬
‫‪26- 46.‬‬
‫‪[2]- A. O. Lovejoy, The Reason, the Understanding, and Time (Baltimore: Johns Hopkins Press, 1961), x.‬‬
‫‪[3]- N. Tarcov, “Quentin Skinner’s Method and Machiavelli’s Prince,” Ethics 92, (1982), 692- 709, 695 - 6.‬‬

‫‪26‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫يبدأ تعليق “تاركوف” يف إظهار طريقة للخروج من هذا االرتباك عن طريق الفصل بني شيئني‬
‫ضمنيًّا‪ :‬األول‪ ،‬الحقائق التاريخيَّة املزعومة حول االفرتاضات‪ ،‬و ُمناخ الرأي‪ ،‬والرؤى الكليَّة‪،‬‬
‫واألعراف‪ ،‬إلخ‪ ،‬والتي يعتمد عليها التفسري ظاهريًّا‪ .‬والثاين‪ ،‬األشياء امل ُبتذلة من تعريفات‬
‫يل‪ ،‬وذلك‬ ‫يل الفع ِّ‬ ‫القواميس التي تعمل كإعادة بناء (ترميم)‪ ،‬وتقريب‪ ،‬وتبسيط لالستعامل ِ‬
‫الدال ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫بالنظر إىل األهداف اإلرشاديَّة ملؤلِّفي القاموس‪ .‬ومبا أ َّن تعريفات القاموس تُساعد يف الوصول‬
‫إاَّل أ َّن ذلك االختصار الذي ال غنى عنه عمليًّا بالنسبة إىل امل ُتح ّدثني غري‬‫إىل معنى يشء ما‪َّ ،‬‬
‫الناطقني باللغة‪ ،‬ال ميكن اعتباره ُمالمئًا متا ًما كدليل‪ِ ،‬عوضً ا عن كونه حقيقة تتعلَّق بيشء ما داخل‬
‫الخاص بالوكالء التاريخيني الذين يت ُّم تفسري كلامتهم‪ .‬باختصار‪،‬‬‫ِّ‬ ‫العقول أو العامل االجتامعي‬
‫تقوم االفرتاضات‪ ،‬ومناخات الرأي‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬بواجب مزدوج كوسيلة تفسرييَّة توفِّر الوصول‬
‫إىل املعاين؛ وكمفاهيم تفسرييَّة (رمبا تكون زائفة)‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬فإ َّن تعريفات القاموس عبارة عن‬
‫ُفرِّس شيئًا‪ ،‬ولكنها تعريفات ت ُساعد يف الوصول إىل ما يعنيه الناس‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫تبسيطات الحقة ال ت ِّ‬
‫بأي طريقة تفسرييَّة عىل هذه التعريفات‪ ،‬وباألحرى‪ ،‬فإ َّن بناء التعريفات‬
‫فإ َّن ما يعنيه الناس ال يعتمد ِّ‬
‫يعتمد عىل ما يعنيه الناس‪.‬‬
‫ولعل هذا يسمح لنا بإعادة التفكري يف االرتباك الذي بدأ يف هذا القسم‪ .‬فمن الواضح‬ ‫َّ‬
‫أ َّن ُمشكلة الوصول إىل املعنى تتض َّمن أمرين ينبغي الوصول إليهام‪ ،‬وهام‪ :‬معاين النصوص أو‬
‫األفعال عىل َم ِّر التاريخ‪ ،‬وكذلك القواعد واألعراف‪ ،‬واالفرتاضات‪ ،‬إلخ التي تُنظِّم املعاين‪ .‬ومن‬
‫أواًل إىل األعراف‪ ،‬ثم استخدام هذه املعرفة يف‬‫القيايس إىل رضورة الوصول ً‬ ‫ُّ‬ ‫ث َّم‪ ،‬يرجع التفسري‬
‫تحديد معاين امل ُصطلحات وأفعال الكالم‪ .‬فنموذج القاموس‪ ،‬إذا كان ميكننا تسميته بذلك‪ ،‬يعمل‬
‫يل وإعادة بناء للتعريفات‪ ،‬وكيف يت ُّم تطبيق‬
‫بطريقة أخرى ُمعاكسة‪ :‬فهو يبدأ من االستخدام الفع ِّ‬
‫ومُيكن بعد ذلك إعادة استخدام التعريفات التي أُعيد بناؤها أو ترميمها من أجل‬ ‫امل ُصطلحات‪ُ .‬‬
‫فهم النصوص األخرى‪ .‬فالعمل َّية الفعل َّية لفهم النصوص‪ ،‬واألدوات التي يعمل عليها امل ُرتجم هي‬
‫نفسها يف كلتا الحالتني‪ :‬ال ميكن الوصول ُمبارشة إىل األعراف‪ ،‬والقواعد‪ ،‬واالفرتاضات‪ ،‬إلخ‪،‬‬
‫ستدل عليها ببساطة من خالل االستخدام‪ ،‬متا ًما كام هي تعريفات القاموس‪ .‬وهكذا‪ ،‬يكمن‬ ‫بل يُ ُّ‬
‫الفارق الوحيد يف وضع هذه األشياء باعتبارها موضوعات نظريَّة – أي كام هو موضح‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن‬
‫تعريفات القاموس هي تعريفات مثال َّية يف االستخدام؛ فاألعراف والقواعد هي أفضل املعاين التي‬
‫املعياري‪ .‬وال يه ُّم أن يكون تعريف القاموس‬
‫ّ‬ ‫فرِّسان االستخدام يف جانبه‬
‫تكمن وراءها‪ ،‬واللذان يُ ِّ‬
‫ثابتًا؛ فالتعريف يكون باالستعادة بوعي‪ ،‬رغم أ َّن هذه التعريفات ميكن أن ت ُؤخذ يف صورة معايري‪،‬‬
‫إذا اختار شخص ما أن يكون قد تعلَّم شيئًا حول الكالم الصحيح‪ .‬ومن امله ِّم أن تكون القواعد التي‬
‫تفرِّس عد ًدا ال حرص له من التطبيقات‬
‫تعطي املعنى‪ ،‬وكذلك األطر‪ ،‬إلخ‪ ،‬ثابتة‪ :‬من املفرتض أن ِّ‬

‫‪27‬‬
‫المحور‬

‫إاَّل مسألة من الحالة التفسرييَّة‪.‬‬


‫امل ُمكنة‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬فإ َّن االختالف بني االثنني ما هو َّ‬
‫غري أ َّن هذا ليس بالطريقة امل ُناسبة التي يقبلها ُمنظِّرو “القاعدة” للمعنى‪ .‬فبالنسبة إليهم‪ُ ،‬مج َّرد‬
‫إعادة البناء (الرتميم) ليست بالعمل َّية الكافية‪ .‬من الواضح أن تفكريهم‪ ،‬مام يدعو للغرابة‪ ،‬هو تفكري‬
‫رصون عىل يشء ُمامثل للقوى امل ُعادية‪ .‬وبالنسبة إليهم‪ ،‬ال يوجد معنى‬ ‫ين ‪ .temporal‬فهؤالء يُ ّ‬ ‫زما ٌّ‬
‫بال قواعد‪ ،‬أو يشء شبيه بالقواعد‪ ،‬والتي تكمن وراءها معنى للجملة أو املفهوم‪ ،‬مام يُربِّر عمل َّية‬
‫تطبيقها إىل ما ال نهاية‪ .‬لذا‪ ،‬يجب أن تكون هذه القواعد موجودة يف املقام األول‪ ،‬حتى ميكن‬
‫للمصطلح أن يعني شيئًا ما‪ .‬فالقواعد‪ ،‬أو ما يؤكِّد معانيها‪ ،‬تقع داخل نطاق الحقيقة‪ ،‬أو عىل األقل‬
‫خاصة – وهي رشح الحقيقة املعياريَّة‬ ‫َّ‬ ‫داخل نطاق الحقيقة املعياريَّة‪ ،‬والتي متلك وظيفة تفسرييَّة‬
‫التفسريي باألمر‬
‫ُّ‬ ‫ملعنى امل ُتح ِّدث‪ .‬وبالنسبة إىل هؤالء امل ُفكِّرين‪ ،‬يُع ُّد االنحدار أو الرتاجع‬
‫رصفات هي‬ ‫املركزي‪ :‬فالرأي الكامل لنظريَّة املعنى يكمن يف تقديم نوع صحيح من التفسري‪ .‬فالت ُّ‬ ‫ِّ‬
‫إاَّل أنَّها تفسريات‬
‫من نوع من التفسري الخاطئ‪ ،‬يف حني أ َّن القواعد هي نوع من التفسري الصحيح؛ َّ‬
‫غريبة نو ًعا ما‪ .‬فهذه التفسريات تعتمد عىل نوع خاص من التشابه أو التامثل‪ .‬ف ُمصطلحات مثل‬
‫االفرتاض‪ ،‬واالفرتاض امل ُسبق‪ ،‬والقاعدة‪ ،‬إلخ‪ ،‬هي ُمصطلحات ذات معنى ُمح ّدد‪ ،‬يت ُّم توسيعها‬
‫ضمني‪ ،‬وهو أمر يتعلَّق متا ًما بعنرص امل ُحلِّل‪ .‬كام أنَّه ال توجد‬
‫ٍّ‬ ‫لتصبح ُمصطلحات ذات معنى بشكل‬
‫كل ذلك يف‬ ‫ٍ‬
‫افرتاضات فعل َّية‪ ،‬مُتُ كّن املرء من وضع ِّ‬ ‫قاعدة رصيحة ت ُنظِّم االستخدام‪ ،‬وال حتى‬
‫ين‪ ،‬وال توجد اتفاقيَّات فعليَّة‪ ،‬كام هو الحال يف القانون الدويل‪ ،‬يت ُّم إجراؤها من خالل‬ ‫إجراء قانو ٍّ‬
‫الدخول يف عهود مع اآلخرين‪ .‬وبالتايل‪ُ ،‬مُيكن للمرء أن يعطي تعريفًا للكلمة‪ ،‬ولكن الكلامت‬
‫أي شخص‪ .‬و ِعوضً ا عن ذلك‪ ،‬فإ َّن هذه‬ ‫التي نستخدمها عاد ًة ال يتم “تعريفها” بالنسبة إلينا من ِقبل ِّ‬
‫امل ُصطلحات كلّها تشابهات‪ ،‬ت ُشري إىل حقائق ضمن َّية ُمفرتضة تُظلّل وتَعطي معنى لألشياء التي‬
‫تفرّسها‪ ،‬بداًلً من أنواع القواعد‪ ،‬واألعراف‪ ،‬واالفرتاضات التي ت ُوضع يف اللحظات التاريخيَّة عن‬ ‫ّ‬
‫عاَّم سيفرتضه املرء‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن هذا التشبيه‬ ‫طريق األفعال الزمان َّية للترشيع‪ ،‬واالتفاق‪ ،‬أو العبارات َّ‬
‫العادي لل ُمصطلح إىل فعل يقع داخل التاريخ؛ بينام يُشري‬ ‫ُّ‬ ‫غريب بطريقة أو بأخرى‪ :‬يُشري االستعامل‬
‫ٌ‬
‫االستعامل امل ُتشابه إىل نتائج فعل يقع خارج التاريخ‪.‬‬
‫إذن؛ كيف ترتبط القواعد‪ ،‬واألعراف‪ ،‬وما شابه هذا بالتاريخ أو داخل نطاق التاريخ؟ يكمن‬
‫الجواب يف أنَّنا إذا تت َّبعنا االستعامالت املجازيَّة‪ ،‬يف نوع ما من هذا القول‪ :‬قد يت ُّم االلتزام بهذه‬
‫االستعامالت أو افرتاضها من ِقبل أشخاص أو مجموعات مختلفة يف أوقات مختلفة‪ ،‬وهذه األفعال‬
‫تتغرَّي‬
‫الخاصة بااللتزام أو االفرتاض ت ُع ُّد تاريخ َّية‪ .‬وكموضوعات فكريَّة‪ ،‬فهي – األفعال ‪ -‬ساكنة وال َّ‬
‫َّ‬
‫الحقيقي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫تاريخ ًّيا‪ .‬ف ُمصطلحات مثل “اإللتزام” ‪ adhere‬تعمل يف الوقت نفسه كبدائل للتفسري‬
‫كام أنَّها ت ُشري إىل الطابع امل ُتشابه للصورة الكاملة من املفاهيم داخل املجتمع التي ت ُع ُّد جز ًءا‬

‫‪28‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫ين للمفاهيم التفسرييَّة نفسها‪ ،‬وحقيقة موقعها التاريخي يف‬


‫الاَّلزما ِّ‬
‫منها‪ .‬ولس ِّد الفجوة بني الطابع َّ‬
‫مجموعات‪ ،‬فإ َّن هذا يتطلب نو ًعا من التشابه مع التج ُّمعات التي تنتج األعراف‪ ،‬أو القامئني عىل‬
‫أسطوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ري‬
‫وضع القواعد ‪ .‬ولكن لألسف ال يوجد أحد من هؤالء؛ وهذا مبثابة تفس ٌ‬

‫ما وراء القاموس‪:‬‬


‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ميلك ُمنظِّرو “القاعدة” للمعنى وجهة نظر ميكن وضعها يف شكل سؤال‪ .‬ما اليشء الذي‬
‫تقوم بإعادة بنائه القواميس لتشكيل املعاين؟ كانت إجابتهم هي تلك‪“ :‬القواعد التي ت َّتبع سلوك‬
‫القصة‪ .‬ولكن هل من‬
‫أصياًل من َّ‬
‫ً‬ ‫الكالم”‪ .‬وهكذا‪ ،‬فبالنسبة إىل هؤالء‪ ،‬يجب أن تكون القواعد جز ًءا‬
‫محل القواعد؟ قد تكمن اإلجابة البديلة البسيطة التي تتناسب مع فكرة تعريفات‬
‫َّ‬ ‫يحل‬
‫بديل آخر ُّ‬
‫القاموس باعتبارها إعادة بناء لالستعامل يف‪ :‬الُّلغة “كال ٌم واضح”‪ .‬فنحن نفهم ما يقوله الناس‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك االستعامالت الواسعة‪ ،‬واالستعامالت “الخاطئة”‪ ،‬واالستعامالت الس ّيئة لل ُمصطلحات‪،‬‬
‫توسعات ُمتشابهة أو‬
‫التوسعات التطبيقيَّة التي نفهمها هي عبارة عن ُّ‬
‫ُّ‬ ‫إلخ‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن عديد من‬
‫مجازيَّة‪ .‬فأحيانًا نفهم ما يُقال لنا من خالل التعامل عىل أنَّه خطأ واضح‪ .‬وأحيانًا أخرى‪ ،‬ال يكون‬
‫التوسع عىل نطاقٍ‬
‫ُّ‬ ‫توسع واضح يف تطبيق امل ُصطلح‪ .‬ومبج َّرد أن يُستعمل‬
‫ريا‪ ،‬بل هو ُّ‬
‫ذلك خطأ كب ً‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ميكن إدخاله إىل القاموس‪ .‬فالقاموس ليس‬ ‫واسع أو استعامله من ِقبل أشخاص مناسبني‪،‬‬
‫إطا ًرا‪ ،‬أو عىل األقل ليس نو ًعا من اإلطار السابق للمعنى‪ ،‬ولكنه وسيلة من الوسائل التي تؤ ّدي إىل‬
‫التاريخي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوصول إىل معنى التعبري الذي استعمله شخص ما يف املايض‬
‫وعليه‪ ،‬فإ َّن معنى اللغة‪ ،‬باعتباره ما ُمُيكن فهمه يف وقت بعينه‪ ،‬يدخل يف نطاق التاريخ‪،‬‬
‫رصيح من تاريخ‬
‫ٌ‬ ‫األقل يف بعض األحيان‪ ،‬باعتباره موضو ًعا من موضوعات التاريخ‪ .‬إنَّه جز ٌء‬
‫ِّ‬ ‫عىل‬
‫القانون‪ ،‬وذلك لسبب بسيط‪ ،‬وهو لرضورة توسيع املفاهيم القانون َّية ليك ت ُط َّبق عىل حاالت جديدة‪.‬‬
‫مثااًل‬
‫التوسعات عواقب وخيمة‪ ،‬حيث ميكن للمرء أن يُعطي ً‬ ‫ُّ‬ ‫ففي بعض األحيان‪ ،‬يكون لهذه‬
‫التجاري[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ريا لالهتامم تاريخ ًّيا لفرض َّية “ماكس فيرب” ‪ Max Weber‬يف تاريخ القانون‬
‫منوذج ًّيا و ُمث ً‬
‫لقد متثّلت مشكلة” فيرب” يف تحديد العمليَّات التي يت ُّم من خاللها تطوير قانون الرشكات‪ ،‬والتي‬
‫هي أواًلً مسألة إبرام عقود توزيع املسؤول َّية‪.‬‬
‫ين‪ ،‬امت َّدت‬
‫مث َّة ُمشكلة ُمشابهة أخرى يف ما يتعلّق بتاريخ الشخص َّية القانون َّية‪ :‬ففي العرص الروما ِّ‬
‫الشخصيَّة القانونيَّة إىل أرسة الرجل الح ِّر كاملة‪ ،‬مبا يف ذلك أفراد عبيده‪ ،‬وزوجته‪ ،‬وأطفاله‪ .‬ومع‬

‫‪[1]- M. Weber, The History of Commercial Partnerships in the Middle Ages, trans. Lutz Kaelber‬‬
‫‪(Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2003).‬‬

‫‪29‬‬
‫المحور‬

‫ليحل محلَّه “شخص” متواضع آخر نراه اليوم‪ ،‬والذي أصبح‬


‫َّ‬ ‫مرور الوقت‪ ،‬اختفى هذا الشخص‬
‫حقُّه حتى يف الدفاع عن النفس محدو ًدا‪ .‬ولكن يف الوقت نفسه‪ ،‬حصلت فئات كثرية من الناس‬
‫عىل هذه الحقوق‪ .‬بالتايل‪ ،‬تتض َّمن مثل هذه الحاالت عمليَّة أخرى من تغيري املعنى التي تنطبق‬
‫أيضً ا بشكلٍ عام‪ :‬تغيريات يف امل ُعتقدات حول فئات الناس أو األشياء التي يرتت َّب عليها توسيع‬
‫املعنى بالنسبة إىل هذه األشياء‪ .‬ولقد ت َّم االعرتاض عىل أخالق العبوديَّة من ِقبل كتابات مثل رواية‬
‫“كوخ العم توم” ‪ ،Uncle Tom’s Cabin‬ألنَّها أضفت طاب ًعا إنسان ًّيا عىل العبد‪ ،‬ووضعتهم يف فئة‬
‫الكائنات التي ميكن أن ت ُطبَّق عليهم مفاهيم كالحقوق والكرامة اإلنسانيَّة بشكلٍ مناسب‪ُ .‬‬
‫ومُيكن‬
‫قول يشء ُمشابه حول تطبيق مفهوم كالنفس‪ :‬فبالنظر إىل املجموعات امل ُختلفة التي لديها نفوس‪،‬‬
‫تنطبق أيضً ا عىل أصحاب‬
‫ُ‬ ‫فإ َّن املعاين امل ُعتادة أو املألوفة التي تنطبق عىل أصحاب النفوس‪،‬‬
‫النفوس امل ُتعارف عليهم حديثًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أدبيات أخرى ُمثرية لالهتامم يف التاريخ نفسه حول نوع آخر من التغرُّيُّ ‪ ،‬وهي ُمشكلة‬ ‫هناك‬
‫(الرببري)‪ ،‬واملرتبطة‬
‫ِّ‬ ‫والهمجي‬
‫ِّ‬ ‫امل ُتنا ِقضات أو املفاهيم امل ُضا َّدة‪ ،‬كمفاهيم مثل امل ِّ‬
‫ُتحرِّض‬
‫ُ‬
‫واملستم َّدة بصورة معقولة من “كارل‬ ‫بـ “راينهارت كوسيليك” ‪،[[[ Rienhardt Koselleck‬‬
‫شميث”‪ .[[[ Carl Schmitt‬يقول “شميث”‪:‬‬
‫“إنَّ كلامت مثل الدولة‪ ،‬والجمهور َّية‪ ،‬واملُجتمع‪ ،‬والطبقة‪ ،‬وكذلك السيادة‪ ،‬والدولة الدستور َّية‪،‬‬
‫حكم املُطلق‪ ،‬والديكتاتوريَّة‪ ،‬والتخطيط االقتصادي‪ ،‬والدولة املُحايدة‪ ،‬إلخ‪ ،‬غري مفهومة إذا‬
‫وال ُ‬
‫كان املرء ال يعي بالضبط من الذي يتأثَّر‪ ،‬أو ُيقاوِم‪ ،‬أو ُيدحض‪ ،‬أو َينفي بهذه املُصطلحات”[[[‪.‬‬
‫السمة امل ُثرية لالهتامم يف هذه املفاهيم امل ُضا َّدة يف أنَّها مفاهيم باقية أو ُمستم َّرة‬
‫تكمن ِّ‬
‫‪ ،persist‬ألنَّها تق ِّدم نو ًعا من التمييز امل ُفيد أو النافع‪ .‬ولكن حني نقوم بوصف يشء ما باملامرسة‬
‫الهمج َّية أو الوحش َّية‪ ،‬فلم يعد يف أذهاننا الربابرة الذين عارضوا اإلغريق‪ ،‬وال حتى أولئك الذين‬
‫عارضوا الرومان‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن التميي ُز باقٍ ‪ ،‬بينام موضوعات التمييز هي التي تتغرِّيِّ ‪ ،‬وكذلك النوايا التي‬
‫تقف وراء استخدامها‪ :‬ال يت ُّم تحديد نوع اإلنكار أو التفنيد من خالل امل ُصطلح‪ ،‬وإمنا من خالل‬
‫االستخدام الواضح له‪ .‬فإ َّن إطالق صفة الربابرة (الهمجيَّة أو الوحشيَّة) عىل امل ُعارضني السياسيني‪،‬‬

‫‪[1]- R. Koselleck, Futures Past: On the Semantics of Historical Time, trans. Keith Tribe (New York:‬‬
‫‪Columbia University Press, 2004), 155- 191.‬‬
‫‪[2]- R. Koselleck, The Practice of Conceptual History: Timing History, Spacing Concepts, trans. Todd‬‬
‫‪Presner (Stanford, CA: Stanford University Press, 2002), 84 - 99.‬‬
‫‪[3]- C. Schmitt, The Concept of the Political, trans. George Schwab (New Brunswick, NJ: Rutgers‬‬
‫‪University Press), 30- 1.‬‬

‫‪30‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫غالبًا ما يكون مبثابة إعالن رصيح بأ َّن املرء لن يُعامل هؤالء بطريقة ُمهذَّبة‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬ينبغي القول أ َّن اآلل َّيات التي يت ُّم من خاللها توسيع امل ُصطلحات وتجميعها بطرقٍ‬
‫جديدة هي آل َّيات معروفة ج ّي ًدا‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬تنتهي االستعارات ‪ Metaphors‬إىل أنَّها استعامالت‬
‫رتيبة أو قدمية ‪ :mundane‬فامل ُصطلحات الفلسف َّية كالصواب واملعيار‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬هي‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ُمصطلحات ِحرف َّية‪ .‬أ َّما لغة النظريَّة السياس َّية والقانون‪ ،‬مبا يف ذلك مفاهيم مثل السيادة‪ ،‬واألجسام‪،‬‬
‫األ َّمة‪ ،‬إلخ‪ ،‬فهي عبارة عن مفاهيم ُمشتقَّة عن طريق خُطوات سابقة واضحة تقري ًبا من مفهوم‬
‫امللك‪ ،‬ومشكلة جسدي امللك يف العصور الوسطى‪ ،‬وكذلك االستعارات امل ُتعلِّقة بالعقود‪.‬‬
‫بالتايل‪ ،‬تدخل االستعارة‪ ،‬والتسمية (الكناية)‪ ،‬والقياس‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬واملجاز امل ُرسل‪ ،‬وما إىل ذلك‪،‬‬
‫يف استعامالت ُمج َّردة مع النظريَّات التي توفِّر شبكة من امل ُعتقدات التي تؤ ّدي فيها دو ًرا استدالل ًّيا‪،‬‬
‫حتى أنَّه أحيانًا تُنيس االستعامالت األصل َّية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن توسيع امل ُصطلحات واكتشاف النظريَّات‬
‫يسريان م ًعا يف هذه العمل َّية‪ ،‬مع إنشاء ُمعادالت جديدة من خالل تعديل االعتقاد وتغيري الفئات‪،‬‬
‫األخالقي‪ ،‬وحمل‬
‫ِّ‬ ‫فئات مثل القدرة عىل الشعور باألمل‪ ،‬وامتالك النفس‪ ،‬والقدرة عىل السلوك‬
‫الحقوق‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫يتمثَّل القاسم امل ُشرتك يف جميع حاالت تغرُّيُّ املعنى يف رضورة أن يكون التطبيق الجديد أو‬
‫حا يف الوقت الذي يُجري فيه التوسيع‪ .‬كام يجب أن يكون هذا التغرُّيُّ‬
‫التوسيع أو االستعامل واض ً‬
‫حا عىل األقل بالنسبة إىل امل ُتح ِّدث أو املؤلِّف‪ .‬فعاد ًة ما يت ُّم توجيه هذه االستعامالت إىل‬
‫واض ً‬
‫الحقيقي الذي سوف يفهمها أو ال يفهمها‪ .‬ولكن تخ َّيل خالف ذلك أ َّن يقوم املؤلِّف‬
‫ِّ‬ ‫الجمهور‬
‫عاَّم سيفهمه الجمهور – ما مل‬
‫بالكتابة لجمهور غري معروف! ولكن ما مل يكن لدى املؤلِّف فكرة َّ‬
‫الحقيقي الذي سيتلقَّى بسهولة امل ُصطلحات‬
‫ِّ‬ ‫يكن جمهو ًرا افرتاض ًّيا مبن ًّيا عىل منوذج الجمهور‬
‫بطرق معروفة – فإنَّه املؤلُّف سيواجه ُمشكلة التواصل مع الجمهور الذي قد يتلقَّى الكلامت بطرق‬
‫ص ِّممت ُمصطلحات‬
‫غري معروفة حتى اليوم‪ .‬وليس هذا بالخوف األجوف‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬فقد ُ‬
‫“نيتشة” امل ُضا َّدة للجينولوجيا ‪ counter-genealogies‬بهدف توضيح هذه النقطة‪ ،‬وغريها العديد‬
‫من الحاالت األخرى‪ُ :‬مصطلحات مثل املعاين املوضوع َّية والذات َّية املعكوسة يف مسار تاريخهم‪.‬‬
‫رصف ‪ manner‬تح َّولت من ُمصطلحات وصفيَّة للسلوك‬
‫ف ُمصطلحات مثل األ َدب ‪ ، propria‬والت ُّ‬
‫الفردي إىل ُمصطلحات مثل اآلداب ‪ proprieties‬واألخالق ‪ manners‬التي جاءت لوصف مقاييس‬
‫ِّ‬
‫كل خُطوة يف تط ُّور هذه امل ُصطلحات واضحة‪ ،‬مبعنى أنَّنا‬
‫معياريَّة ُمج َّردة غري فرديَّة‪ .‬بالتايل‪ ،‬ت ُع ُّد ُّ‬
‫التوسع مفهو ًما لدى مؤلِّفه‪ ،‬ولدى بعض الجمهور‬
‫ُّ‬ ‫ُمُيكن أن نُق ِّدم إعادة بناء للطريقة التي أصبح بها‬

‫‪31‬‬
‫المحور‬

‫التوسع[[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫املحتمل يف وقت‬
‫يرتكنا هذا األمر أمام مواجهة شديدة و ُمسبّبة للمشاكل‪ :‬بني اإلحساس باملعنى امل ُرتبط‬
‫بالعمليَّة املستم َّرة لجعل الكالم مفهوم‪ ،‬أي اإلحساس باملعنى يف تغرُّيُّ الكالم والفهم‪ ،‬وبني‬
‫اإلحساس الثابت للمعنى املأخوذ من خالل تحديد األعراف‪ .‬يكمن الفرق بني االثنني يف التمييز‬
‫النظري‪ .‬فالقدرة تكون يف حالة تغرُّيُّ ؛ أ َّما إعادة البناء فهي يف‬
‫ّ‬ ‫بني هذه القدرة العمل َّية وإعادة بنائها‬
‫حالة ثبات‪ ،‬بينام تفشل أيضً ا يف التع ُّرف عىل القدرة العمليَّة للفهم بشكلٍ مالئم‪.‬‬
‫النظري الخاطئ‬
‫ِّ‬ ‫أ َّما إذا تركنا املسألة بهذا الشكل من التناقض بني تغرُّيُّ املعنى وإعادة البناء‬
‫للمعنى بالرضورة‪ ،‬فإنَّنا ال نزال نواجه بعض التشويش‪ .‬فهناك تقلي ٌد طويل من التفكري بأ َّن املعاين‪،‬‬
‫مبج َّرد أن تنشأ‪ ،‬ال ميكن أن ت ُفقد‪ :‬أعطى “ ِمل” وصفًا لهذا الرأي‪ ،‬متأث ِّ ًرا بـ “كولريدج”‪ ،‬وميكن‬
‫للمرء العثور عىل أفكار مامثلة لدى العديد من الكُتاب اآلخرين‪ ،‬مبا فيهم “هايدغر”‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬
‫يعكس شغف القرن التاسع عرش بالفيلولوجيا ‪( philology‬فقه اللغة) نو ًعا من التص ُّوف حول‬
‫استعادة املعاين التي تنطوي عىل نوع من مفهوم املعنى امل ُختبئ يف بقايا النصوص‪ ،‬والتي ُمُيكن‬
‫الاَّلحق أن يكتشفها‪ .‬وهنا تظهر ُمشكلة‪ ،‬مهام كانت ُمش ّوشة‪ .‬فنحن نتعايش مع نصوص‬ ‫للقارئ َّ‬
‫ُفرِّسها من أجل أن نخاطبها ك ُمحاورين‪ ،‬ويف سياقات مختلفة‪ ،‬مبا يف ذلك‬ ‫من املايض؛ نقرأها‪ ،‬ون ِّ‬
‫األوساط القانون َّية والدين َّية‪ ،‬عىل أنَّها موثوقة‪ .‬وللوهلة األوىل‪ ،‬تنشأ هذه املشكلة من حقيقة وجود‬
‫وتغرُّي املعنى‪ ،‬كام‬
‫ُّ‬ ‫نصوص‪ :‬تواجه املجتمعات امل ُثقَّفة مشكلة التح َّول املستم ِّر للكالم الواضح‪،‬‬
‫يقصده ويفهمه امل ُتح ّدثون أوالناطقون‪ ،‬وكذلك الثبات املتناقض للكلمة املكتوبة‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬
‫شفهي (لساين) محض‪ ،‬حيث ال يت ُّم حفظ‬ ‫ٍّ‬ ‫هناك إحساس تتالىش فيه ُمشكلة املعنى إذا ك َّنا يف عامل‬
‫أي يشء ميكن أن يكون له معنى يختلف عن معاين الحارض‪ .‬ولكن حتى يف عامل الشفه َّية تظهر‬ ‫ِّ‬
‫ُمشكلة مامثلة‪ :‬فالقصائد امللحم َّية ‪ epicpoems‬التي تتك ّرر وفقًا للصيغة‪ ،‬تصبح عتيقة أو قدمية‪،‬‬
‫وهي تض ُّم محتويات قد ال تعني اليشء نفسه أو أي يشء عىل اإلطالق‪ .‬ولكن يف هذه الحالة‪،‬‬
‫ال يتعلَّق التشويش باملوضوعات النظريَّة‪ ،‬كـ “القواعد”‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬وإمنا يتعلَّق باألشكال‬

‫تم االستشهاد بها سابقًا‪ ،‬حول دوافع املُ بدعني األيديولوجيني‪ ،‬وهي «فرض الرؤية»‪ .‬هذه النظر َّية ال‬ ‫[[[‪ -‬ميلك «سكيرن» نظر َّية عا َّمة‪َّ ،‬‬
‫تتناسب بشكل ج ّيد مع نقده الضطهاد «ليو شرتاوس»‪ ،‬وف ِّن الكتابة (‪ ،)Glencoe, IL: The Free Press, 1952‬والذي تع َّرض يف الوقت‬
‫ُتعصبة دين ًّيا يف أوروبا ما‬
‫ذاته للهجوم نتيجة تقدميه داف ًعا عا ًّما‪ ،‬وهو الحاجة إىل الكتابة بطريقة تُج ّنبه االضطهاد يف مواجهة األنظمة امل ِّ‬
‫قبل الحداثة‪ ،‬ويف أماكن أخرى (‪ ،)Skinner, Visions of Politics, Vol. 1, 71‬رغم حذر ووضوح شرتاوس واالقرتاح الذي قدَّ مه‪.‬‬
‫واملسألة األكرث أهم َّية هي‪ :‬هل يتناسب تفسري سكيرن حول «التالعب» و «فرض الرؤية» مع حاالت مثل رواية «كوخ العم توم»‪ .‬بالتأكيد‪،‬‬
‫كانت هناك «رؤية» حول إنسان َّية العبيد‪ :‬ولكن أمل تكن هناك مشكلة فكريَّة وأخالق َّية حقيق َّية حول العبوديَّة كانت هذه الرؤية الرومانس َّية‬
‫للعبيد مبثابة استجابة واضحة لها؟ تظهر مسألة مامثلة مع رؤية إيان هاكينج لقصة إساءة معاملة األطفال‪ ،‬وللسبب نفسه‪ :‬االتهامات‬
‫يتم محو الحقائق الواضحة‬
‫إاَّل عندما ُّ‬ ‫بالتالعب ال معنى لها َّ‬
‫‪(S. Turner, “The Limits of Social Constructionism” in I. Velody and R. Williams (eds.), The Politics of‬‬
‫‪Constructionism (London: Sage, 1998), 109- 20).‬‬

‫‪32‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫العادي‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقيَّة للتعبري – القصائد امللحم َّية والنصوص – التي يت ُّم نقلها بطريقة ُمختلفة عن التغرُّيُّ‬
‫لالستعامل‪ ،‬والتي هي بعيدة عن املعرفة العمليَّة للمستخدمني األصليني‪.‬‬
‫أُحج َّية املعرفة العمل َّية ‪:Practical Knowledge‬‬
‫السفن الحرب َّية يف العصور القدمية‪ ،‬ت ُدعى “تريريم”‬
‫لنأخذ ُمشكلة تاريخ َّية حقيق َّية تتعلّق بإحدى ُ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أو “ثُالثية املجاذيف” ‪ .Trireme‬نحن نعلم الكلمة اإلغريق َّية “‪ ”Trireme‬من النصوص‪ ،‬حيث‬
‫ت ُشري إىل املستويات الثالثة للمجاذيف‪ .‬ونحن نعلم من السياق وما يُقال عنها أنَّها سفينة ذات‬
‫خصائص مح َّددة‪ .‬ولدينا كثري من الرسومات لهذا النوع من السفن عىل الفخَّار‪ ،‬لكننا يف املقابل‬
‫نفتقر إىل املعرفة العمل َّية التي كانت لدى اإلغريق أنفسهم حول صنع وعمل هذا النوع من األشياء‪،‬‬
‫ذلك نتيجة فُقدان املعرفة يف أواخر العصور القدمية‪ .‬ولكن يف مثانين َّيات القرن العرشين‪ ،‬حاول‬
‫أحد املرشوعات أن يقوم بإعادة بناء أو إحياء ثالثية املجاذيف‪ ،‬بالرجوع إىل املصادر القدمية‬
‫التي تض َّمنت صو ًرا وكم َّيات كبرية من املعلومات “الحرف َّية” ‪ literal‬التي ت َّم تسجيلها حول قدرات‬
‫السفينة‪ ،‬إىل جانب معرفة املهندسني البحريني الحال َّية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬خضعت سفينة “أوليمبياس”‬
‫‪ Olympias‬لتجارب بحريَّة‪ ،‬مبا يف ذلك تجربة مع طاقم مك َّون من ‪ 170‬فر ًدا‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬أظهرت‬
‫التجارب البحريَّة أنَّها تتمتَّع بالعديد من القدرات التي تُعزى إىل املجاذيف القدمية‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫جلة يف الخطوط املستقيمة‪ ،‬وكذلك قدرتها عىل الدوران برسعة ‪ 180‬درجة‪ .‬ويف‬ ‫رسعتها امل ُس ّ‬
‫املقابل‪ ،‬كان هناك بعض األشياء التي كان من الصعب تكرارها‪ ،‬ال سيام الحبال امل ُق َّوسة‪ ،‬والتي‬
‫نث مع هيكل السفينة مثلام فعل حبل األلياف‬ ‫الرضوري استبدالها بكابالت فوالذيَّة مل تن ِ‬
‫ِّ‬ ‫كان من‬
‫يل‪.‬‬
‫الطبيعي األص ّ‬
‫ُّ‬
‫هل نعلم اآلن ماذا تعني كلمة “‪ ”trireme‬حقًا؟ وهل نعلم أيضً ا ماذا تعني األوصاف البحريَّة‬
‫يل إلشارة‬‫والتفسريات املرتبطة باملعارك البحريَّة يف العرص القديم؟‪ ،‬وهل نعلم ما املعنى العم ُّ‬
‫املاَّلحني (الدفّاف) ‪ coxswain‬بـ “الريشة” ‪ ،feather‬أو ما يُعادلها قدميًا‪“ ،‬تُعني” بالنسبة إىل‬ ‫كبري َّ‬
‫ريا من امل ُجذّفني؟ أم أ َّن لدينا اآلن عىل األقل نظريَّة ومعرفة‬ ‫ثالثية املجاذيف أنَّها تض ُّم عد ًدا كب ً‬
‫عمل َّية أفضل بكثري‪ ،‬أل َّن النظريَّة واملعرفة العمل َّية التي لدينا اآلن تقوم بعمل أفضل من النظريَّات‬
‫جلة لهذه السفن القدمية؟‬ ‫السابقة يف تفسريها ألشياء‪ ،‬كالقدرات امل ُس َّ‬
‫فضاًل عن وجود بديل ج ّيد‬
‫ً‬ ‫يبدو من الواضح أ َّن اإلجابة تكمن يف أنَّنا لدينا بالفعل نظريَّة أفضل‪،‬‬
‫لبعض املعارف العمل َّية التي ت َّم فقدانها‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬أوليمبياس هي عبارة عن “كام لو أنَّها”‬
‫سفينة ثالثيَّة املجاذيف‪ ،‬متَّت إعادة بنائها “كام لو أنَّها” عىل غرار السفينة القدمية‪ .‬وهذا مبثابة‬
‫السفن القدمية‪ ،‬وامل ُص َّممة لتكون لها الخصائص نفسها‪ ،‬وأيضً ا لتُطابق الصور‬ ‫وظيفي لتلك ُ‬
‫ٍّ‬ ‫بديل‬

‫‪33‬‬
‫المحور‬

‫القدمية‪ ،‬وليك تتوافق مع الخصائص املوجودة يف النصوص القدمية‪ .‬وهكذا‪ ،‬أُعيد بناء السفينة‬
‫عن طريقنا‪ ،‬وبوساطة املوا ّد امل ُتاحة من األدلَّة املتاحة‪ .‬ولكن برصف النظر عن هذه االختبارات‪،‬‬
‫حيث ال ميكننا أب ًدا معرفة ما إذا كانت عمل َّية إعادة البناء صحيحة أم ال‪ .‬بالتايل‪ ،‬تقع السفينة التي‬
‫أُعيد بناؤها خارج دائرة املناقشة الواضحة واملعرفة العمل َّية التي انتهت يف أواخر العصور القدمية‪.‬‬
‫ومن هنا ُمُيكننا التخمني بأنَّها قريبة مبا يكفي العتبارها ثالثيَّة املجاذيف‪ ،‬ولكن هذا يعتمد عىل‬
‫حة النظريَّة واملعرفة العمليَّة التي تقوم عليها عمليَّة إعادة البناء‪ :‬إعادة بناء سفينة أخرى قد يرتت َّب‬
‫ص َّ‬
‫حارة‬‫حارة القُدامى مقبولة‪ ،‬يف حني يجدها ب َّ‬ ‫عليه سفينة ذات سامت مختلفة متا ًما بحيث يجدها الب َّ‬
‫أوليمبياس (التي أُعيد بناؤها) حالة الشاذة‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬يُصعب علينا اختبار فرض َّية املعنى‪.‬‬
‫يل من ثالث َّية املجاذيف القدمية الذي ميكننا‬
‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن أوليمبياس منوذج من النوع املثا ِّ‬
‫تجربته‪ .‬كام أنَّها ت َستخدم موا َّد مختلفة للخطوط‪ ،‬وبالتايل تنثني بشكل مختلف‪ .‬ولكن هذا‬
‫الخاصة‪ .‬فهناك كثري من األفعال الجسديَّة يف‬
‫َّ‬ ‫مبصطلحاتنا‬‫مبثابة نوع من االختالف الذي نفهمه ُ‬
‫التجذيف التي نفهمها أيضً ا‪ ،‬لذلك نحن نعرف االختالفات بني تجربتنا يف التجذيف وبني تجربة‬
‫حجاًم يف العامل القديم‪ .‬لذا‪ ،‬ففي بناء واستخدام هذا النموذج‪ ،‬نعتم ُد عىل خلف َّية‬
‫ً‬ ‫الرجال األصغر‬
‫تتغرَّي‪ ،‬وإىل ح ٍّد كبري ال تتعلَّق مبسألة النظريَّة‪ .‬فمن الواضح أ َّن الحركة‬
‫َّ‬ ‫‪ background‬ثابتة ال‬
‫الجسديَّة لفعل التجذيف‪ ،‬وسامت مياه البحر والرياح‪ ،‬جميعها أجزاء من خلف َّية ال نحتاج إىل‬
‫السفن الرشاعيَّة‪ ،‬ولدينا‬ ‫إاَّل القليل عن خصائص الخشب يف ُ‬ ‫تغيريها أو تفسريها‪ .‬فنحن ال نعلم َّ‬
‫يل‪ ،‬رغم أ َّن‬
‫قريب ج ًّدا من الخشب األص ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫األسباب لالعتقاد بأ َّن الخشب امل ُستخدم يف النموذج‬
‫إاَّل أنَّنا قُمنا باختبار‬
‫الحبال القويَّة امل ُستخدمة يف النموذج ليست هي نفسها امل ُستخدمة يف األصل‪َّ .‬‬
‫النظريَّة عىل هذا النموذج‪ ،‬وميكننا القول أنَّنا نعرف بشكلٍ أفضل ما تعنيه كلمة “‪ ”trireme‬نتيجة‬
‫لذلك‪ .‬بالتايل‪ ،‬نحن نثق أكرث يف معنى النصوص القدمية التي تتح َّدث عن املعارك البحريَّة‪ ،‬وقد‬
‫يكون بوسعنا أن نفهم املقاطع واال ِّدعاءات التي كانت غامضة يف السابق‪.‬‬
‫جا فحسب‪ ،‬وأنَّنا نفتق ُر إىل‬ ‫إاَّل منوذ ً‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬نحن نعلم أ َّن سفينة أوليمبياس ليست َّ‬
‫قدر كبري من املعرفة العمل َّية واملحتويات الشفويّة – ذلك النوع الذي ت َّم االحتفاظ به‪ ،‬عىل األقل‬
‫جزئ ًّيا‪ ،‬خالل الفرتة من ‪ 1800‬إىل ‪ 1813‬يف سلسلة (أوبرى‪-‬ماتورين) ‪ Aubrey-Maturin‬من‬
‫اإلنكليزي “باتريك أوبريان” ‪ ،Patrick O’Brian‬ومن خالل املعرفة‬ ‫ِّ‬ ‫الروايات التاريخ َّية للكاتب‬
‫حارة الذين واصلوا اإلبحار يف “سفن طويلة”‪ ،‬والتي ال تزال‬ ‫العمليَّة واملفردات التي تناقلها الب َّ‬
‫ظ بها معظم البحريَّة اليوم‪ .‬ونحن نعلم أيضً ا أ َّن التقن َّيات واملعرفة العمل َّية الب َّد وأن تكون‬ ‫تحتف ُ‬
‫تغرَّيت وتن َّوعت عىل مدى آالف السنني التي ت َّم خاللها استخدام ثالث َّية املجاذيف‪ ،‬وبني‬ ‫قد َّ‬
‫الق َّوات البحريَّة التي قامت باستخدمتها اليوم‪ .‬بالتايل‪ ،‬فإ َّن هذه الشبكة الواسعة من االستخدام‬

‫‪34‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫بدياًل لها ذات‬


‫ً‬ ‫واملعرفة‪ ،‬التي كانت شفويَّة‪ ،‬هي التي فُقدت‪ ،‬والتي أصبحت سفينتنا النموذجيَّة‬
‫الخاصة‪ ،‬وبالتأكيد تجاربنا الجسدية‬ ‫َّ‬ ‫قيمة محدودة‪ .‬فكان علينا أن نقوم باسرتداد تقاليدنا الشفويَّة‬
‫يف التجذيف تحت القيادة وإعطاء األوامر‪ ،‬ليك نحصل بالفعل عىل ثالث َّية املجاذيف من خالل‬
‫وظيفي لتلك التي‬‫ٍّ‬ ‫تجاربها البحريَّة ‪ -‬كان علينا أيضً ا أن نستخدم لُغتنا‪ ،‬ولُغتنا البحريَّة‪ ،‬كبديل‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يث التجذيف‪ ،‬إىل جانب معرفتنا الوظيفيَّة‬ ‫حارة القدماء‪ ،‬من أجل اإلبحار يف منوذج ثال ِّ‬ ‫امتلكها الب َّ‬
‫واملعرفة املخفيَّة يف األدوات واملوا ِّد التي استخدمناها يف إنشاء النموذج‪.‬‬
‫معىن بال َّ‬
‫نظرية؟‬
‫سفينة “أوليمبياس” عبارة عن منوذج مؤلَّف من مجموعة من العنارص الفيزيائ َّية (املا ّديَّة)‪،‬‬
‫بعضها قريب من تلك التي نعتقد بأنَّها من خصائص ثالث َّية املجاذيف يف العامل القديم‪ ،‬وبعضها‬
‫كل يشء‬ ‫اآلخر عبارة عن مجموعة من البدائل الوظيف َّية ذات الخصائص املختلفة‪ .‬بالتايل‪ ،‬ليس ُّ‬
‫مامثاًل‪ ،‬وال يجب أن يكون كذلك‪ ،‬للغرض الذي بني أيدينا اآلن‪ .‬إذن‪ ،‬ما هذا الغرض؟ ملعرفة‬ ‫ً‬ ‫يبدو‬
‫ما إذا كان النموذج الذي ت َّم بناؤه ميكن أن يؤ ّدي كام ذكرت املصادر القدمية إىل يشء ُمامثل‬
‫من ثالث َّية املجاذيف‪ ،‬وبالتايل إمكان اختبار نظريَّتنا يف بناء هذه الثالث َّية‪ .‬فمن خالل بناء النموذج‬
‫ميكن ملء بعض الحلقات املفقودة يف فهمنا للبحريَّة القدمية‪ .‬لك َّننا نعلم أيضً ا أ َّن هذا مبثابة‬
‫اصطناعي‪ .‬ونحن نعرف ما يكفي ليك نستنتج بشكل صحيح أ َّن بعض البدائل الوظيفيَّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منوذج‬
‫حا ولكنه مع‬ ‫مثل الكابالت الفوالذيَّة‪ ،‬لن تؤث ِّر عىل التجربة‪ .‬وهناك جانب‪ ،‬رمبا مل يكن أكرث وضو ً‬
‫البرشي من التجارب البحريَّة – اختبار ما إذا كان‬‫ُّ‬ ‫أسايس لطابعه باعتباره اختبار‪ ،‬وهو العنرص‬
‫ٌّ‬ ‫ذلك‬
‫بإمكان امل ُجذّفني الفعل ّيني يف الواقع أن يجعلوا من منوذج ثالث َّية املجاذيف (الذي ت َّم إعادة بناؤه)‬
‫جلته النصوص القدمية‪ .‬ومن ث َّم‪ ،‬كان امل ُجذّفون الحقيقيون بالطبع‬ ‫يؤ ّدي العمل الف ّذ الذي س َّ‬
‫حجاًم‪ ،‬مع‬‫ً‬ ‫يف ح ِّد ذاتهم “مناذج” مبعنى أو بآخر‪ :‬كان معروفًا أ َّن امل ُجذّفني القُدامى كانوا أصغر‬
‫رضورة أن يؤخذ هذا بعني االعتبار‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كان االختبار يتطلَّب قدرات مستحيلة جسديًّا‬
‫ككل سيفشل يف االختبار‪ .‬ولن نتمكَّن مرة أخرى من‬ ‫بالنسبة إىل امل ُجذّفني البارعني‪ ،‬فإ َّن النموذج ّ‬
‫القول بأننا عرفنا بشكل أفضل من ذي قبل ما تعنيه ثالثيَّة املجاذيف يف هذه النصوص القدمية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فإ َّن وضع َّية النموذج السابق مُتُ اثل الوضع َّية التي لدينا حول إثارة األعراف‪ ،‬واالفرتاضات‬
‫امل ُسبقة‪ ،‬إلخ‪ .‬فمن الواضح أنَّها وضعيَّة ُمصطنعة مثل السفينة أوليمبياس‪ .‬ولكن يف حالة أنَّهام‬
‫عملوا‪ ،‬يف تلك الحالة التي ت ُلقي الضوء عىل أنواع االستدالالت التي تجعل النصوص واضحة‬
‫بالنسبة إلينا‪ ،‬فإنهام يقومان بعملهام عىل أكمل وجه‪ ،‬وذلك يف رشح كيف ميكن للمؤلّفني أن‬
‫يُفكِّروا كام فعلوا بوضوح – من أجل الوصول إىل االستنتاجات الجديدة التي قام بها ميكيافيليل‬

‫‪35‬‬
‫المحور‬

‫وهوبز‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أو إىل االستنتاجات التقليديَّة ولكنها غريبة ملؤلِّفني آخرين‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫ُمُيكننا أن نستخدم األبنية “كام لو”‪ ،‬ونحن نقوم بذلك‪ :‬إن األمر “كام لو” كان الناس يتَّبعون‬
‫األعراف‪ ،‬وكام لو كانوا يتمتَّعون برؤى كل َّية ُمتامسكة‪ ،‬وكام لو كان للعلامء مناذج إرشاديَّة‪ ،‬وهل َّم‬
‫ج ًّرا‪ ،‬ما دامت هذه الركائز تقودنا إىل حيث نريد أن نذهب ‪ -‬إىل الحقائق حول ما يعنيه شخص‬
‫دعاًم إضافيًّا‪ ،‬من خالل فهم مزيد‬ ‫ً‬ ‫ما‪ .‬وهكذا‪ ،‬مبج َّرد إثبات هذه الفرضيَّات‪ ،‬فيمكن أن تتلقَّى‬
‫أقل عىل ِسقاالت عبارات “كام لو” التي كانت‬ ‫من النصوص‪ ،‬ويف نهاية املطاف تعتمد بشكل َّ‬
‫رضوريَّة إلعادة بناء املعنى يف املقام األول‪ .‬ومن شأن هذا الفهم العميق أن يسمح لنا بالكشف عن‬
‫الفوارق الدقيقة يف التغيري والتباين التي قد مُتُ ِكننا من االقرتاب أكرث من “املعاين” املائعة وامل ِّ‬
‫ُتغرِّية‬
‫التي يتَّسم بها الخطاب والتواصل الفعليان بني األشخاص الذين نخاطبهم عىل م ِّر التاريخ‪ ،‬والتي‬
‫متت ُّد جذورها إىل مجموعة مميَّزة من التجارب‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫هذا النوع من املعرفة ُمُيكِّننا من تقريب وضع َّية ذلك الشخص الذي كان قاد ًرا عىل التفاعل‬
‫مع املؤلّفني يف عرصهم‪ ،‬وكذلك امتالك املعرفة العمليَّة التي تعطي املعنى لل ُمصطلحات‪ ،‬مثل‬
‫ُمصطلح “الريشة”‪ .‬وكان هذا هو الهدف من استخدام امل ُجذّفني الفعليني من أجل القيام بعمل‬
‫امل ُجذّفني القدامى‪ ،‬لتوفري بدائل كانت قادرة عىل القيام مبا يقوم به امل ُجذّفون القُدامى‪ ،‬ليس‬
‫فحسب لرفع املجذاف‪ ،‬ولكن لالستجابة لألوامر‪ .‬وال َّ‬
‫شك يف أن قدرتنا عىل اختبار فهمنا ت ُع ُّد‬
‫محدودة‪ .‬فاملوىت ال يستطيعون الر ّد‪ ،‬وال ُمُيكننا التأكُّد من أ َّن عيِّنات املواد التي نعمل عليها‪،‬‬
‫النصوص‪ ،‬مُتُ ثِّل بوضوح التجارب التي ك َّنا سنجدها لو ك َّنا تفاعلنا‪ .‬حتى أننا أيضً ا أكرث محدوديَّة‬
‫عندما تكون املوا ُّد نفسها محدودة‪ ،‬كام هو الحال مع العامل القديم‪ .‬ولكن هذا األمر يُشكِّل فرقًا‬
‫كل جانب من جوانب‬ ‫يف الدرجة‪ :‬فالتفاعل مع األحياء أنفسهم ال يوفِّر سوى ع ِّينة‪ ،‬كام ال يخضع ّ‬
‫فهمنا لالختبار يف هذا النوع من التفاعالت‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ما الدَّ رس املُستفاد من ِّ‬
‫كل ما سبق؟‬
‫يبدو أ َّن االدعاءات التاريخ َّية حول ما قصده امل ُفكِّرون السابقون عىل أساس نظريَّة املعنى‬
‫األقل ميتافيزيقا املعنى‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫خاص من امليتافيزيقا‪ ،‬أو عىل‬ ‫ٍّ‬ ‫يجعل التاريخ يعتمد عىل صالح َّية نوع‬
‫ما يرتت َّب عليه فقدان استقالليَّتها عن الفلسفة‪ .‬لذلك‪ ،‬مث َّة خطورة تتمثَّل يف أ َّن املرء عندما يقوم‬
‫باستخدام مفاهيم مثل األعراف‪ ،‬كام يفعل سكيرن‪ ،‬فإنَّه يرتقي باللُّغة الفلسفيَّة (التي ال مفر من‬
‫مرورها) لعرص بعينه إىل مكانة الحقيقة التاريخية الكلية‪ .‬فمع كتابات سكيرن األصل َّية‪ ،‬رمبا يكون‬
‫هذا األمر قد حدث بالفعل‪ :‬كان عليه أن يقوم بتفسري تاريخ نظريَّة أفعال الكالم من أجل تفسري آرائه‬
‫السابقة وما ي َّدعيه اآلن‪ .‬بالتايل‪ ،‬إذا ك َّنا نتعامل مع اال ِّدعاءات املتعلِّقة باألعراف‪ ،‬وما إىل ذلك‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫معنى بال نظر ّية‬

‫عندئذ ميكننا أن نقبل فائدة هذه املفاهيم‪ ،‬إذا‬ ‫ٍ‬ ‫عىل أنَّها “كام لو” تخدم أغراضنا امل ُح ِّددة من الفهم‪،‬‬
‫تحسن يف فهم القراءة الحرفيَّة‪ ،‬أي إذا كانت النصوص واضحة تكشف‬ ‫كان هناك بالفعل مردود من ُّ‬
‫يل‪ .‬ولكن يجب أن نأخذ كلمة “حرف َّية” حرف ًّيا‬ ‫عن املزيد من الروابط يف شبكة االعتقاد والفعل العم ّ‬
‫لإلشارة إىل التباين بني الكتابة والكالم‪ .‬والواقع أ َّن مسألة استعادة ما يعنيه قول يشء ما عند نقطة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫معنَّي‪ ،‬هي مسألة تاريخيَّة حقًا‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن االلتفات إىل األعراف‪،‬‬ ‫سياق َّ‬‫ٌ‬ ‫بعينها يف املايض‪ ،‬وعند‬
‫لحل هذه املشاكل‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬من الوهم أ َّن‬ ‫إاَّل ركائز ِّ‬
‫والرؤى الكليَّة‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬ما هي َّ‬
‫ربرات لدى “براندوم” ‪،Brandom‬‬ ‫يكون هناك فعل ًّيا مجموعة من االفرتاضات امل ُشرتكة‪ ،‬وفضاء امل ُ ِّ‬
‫التي تتألَّف من عالقات لُغويَّة استدالل َّية معياريَّة‪ ،‬ونظام األعراف لدى “سكيرن”‪ ،‬وما إىل ذلك‪،‬‬
‫إاَّل أ َّن مناقشة هذه املسألة‬
‫أي لحظة تاريخيَّة‪َّ .‬‬ ‫التي تقع تحت اللُّغة الفعليَّة والتي تجعلها تعمل يف ِّ‬
‫ليست مه َّمة بالنسبة إىل املؤ ِّرخ‪ ،‬ألنَّها ليست حقائق تاريخيَّة‪ .‬ولك َّن األمر امله َّم هنا هو أن نعرف‬
‫ماذا كان يعني إعطاء يشء مثل “الريشة” عىل سفينة قدمية‪ ،‬أو امل ُطالبة باستقالل القضاء يف‬
‫أعقاب الحرب األهل َّية اإلنكليزيَّة‪ ،‬أو ما يعنيه التأكيد عىل وطن َّية املرء يف جمهوريَّة “فاميار” يف‬
‫الفرتة من عام ‪ 1920‬إىل ‪ .1933‬ففي هذه الحاالت نحن بحاجة إىل ُمحاكاة للمعرفة العمليَّة للعامل‬
‫حيث يت ُّم إجراء االستدالالت من أفعال الكالم والكتابة‪ .‬فإذا كان القيام بذلك يعني الوقوع يف ما‬
‫يل املشؤوم الذي يتمثَّل يف التدخُّل شعوريًّا يف وضع َّية اآلخرين‬ ‫يصفه سكيرن بأنَّه “الطموح التأوي ّ‬
‫ومحاولة (يف عبارة ر‪ .‬ج‪ .‬كولينجوود املؤسفة) التفكري يف أفكارهم بعد ذلك”[[[‪ .‬فرمبا حان الوقت‬
‫ليك يُدرك “سكيرن” أ َّن محاولة تحقيق مثل هذه الغاية أفضل من التعويل بال انتقاد عىل الروايات‬
‫التاريخيَّة امل ُلتبسة حول امل ُامرسات‪ ،‬واألعراف‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬

‫‪[1]- Skinner, Visions of Politics Vol. 1, 120.‬‬

‫‪37‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


1- S. Kripke, Wittgenstein on Rules and Private Language: An Elementary Exposition
(Oxford: Blackwell, 1982).

2- P. Boghossian, “The Rule-Following Considerations,” Mind 98, (1989).

3- Q. Skinner, “Conventions and the Understanding of Speech Acts,” Philosophical


Quarterly 20, (1970).

4- Q. Skinner, “Meaning and Understanding in the History of Ideas,” History and


Theory 8:1, (1969).

5 - C. Becker, The Heavenly City of the Eighteenth-Century Philosophers (New Haven,


CT: Yale University Press, 1959 [1932]),

6- P. Feyeraband, “Explanation, Reduction, and Empiricism” in H. Feigl and G. Maxwell


(eds.), Minnesota Studies in the Philosophy of Science: Scientific Explanation, Space, and
Time, Vol. III (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1962).

10- For useful discussions see R. Lamb, “Recent Developments in the Thought of
Quentin Skinner and the Ambitions of Contextualism,” Journal of the Philosophy of History
3:3, (2009), 246265- and R. Lamb, “Quentin Skinner’s Revised Historical Contextualism:
A Critique,” History of the Human Sciences 22:3, (2009).

11- S. Turner, “‘Contextualism’ and the Interpretation of the Classical Sociological


Texts,” Knowledge and Society 4, (1983).

12- Q. Skinner, Visions of Politics (Cambridge: Cambridge University Press, 2002),


4- 5.

13- S. Turner, “Webs of Belief, Practices, and Concepts,” Archives européennes de


sociologie/European Journal of Sociology 3, (2010).

17- Q. Skinner, “The Sovereign State: A Genealogy” in Hent Kalmo (ed.), Sovereignty in
Fragments: The Past, Present and Future of a Contested Concept (Cambridge: Cambridge
University Press, 2001).

38
‫معنى بال نظر ّية‬

18 - A. O. Lovejoy, The Reason, the Understanding, and Time (Baltimore: Johns


Hopkins Press, 1961), x.

19 - N. Tarcov, “Quentin Skinner’s Method and Machiavelli’s Prince,” Ethics 92, (1982),
692 - 709, 695- 6.
‫م‬2023 ‫هـ ــ ربيع‬1445 ‫العدد الخامس ــ‬

20 - M. Weber, The History of Commercial Partnerships in the Middle Ages, trans.


Lutz Kaelber (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2003).

21 - R. Koselleck, Futures Past: On the Semantics of Historical Time, trans. Keith Tribe
(New York: Columbia University Press, 2004).

22 - R. Koselleck, The Practice of Conceptual History: Timing History, Spacing


Concepts, trans. Todd Presner (Stanford, CA: Stanford University Press, 2002.

23 - C. Schmitt, The Concept of the Political, trans. George Schwab (New Brunswick,
NJ: Rutgers University Press), 30- 1.

،‫ حول دوافع امل ُبدعني األيديولوجيني‬،‫ ت َّم االستشهاد بها سابقًا‬،‫ ميلك «سكيرن» نظريَّة عا َّمة‬- 24
‫ وف ِّن الكتابة‬،»‫ هذه النظريَّة ال تتناسب بشكل ج ّيد مع نقده الضطهاد «ليو شرتاوس‬.»‫وهي «فرض الرؤية‬
،‫ والذي تع َّرض يف الوقت ذاته للهجوم نتيجة تقدميه داف ًعا عا ًّما‬،)Glencoe, IL: The Free Press, 1952(
‫ُتعصبة دينيًّا يف أوروبا ما قبل‬
ِّ ‫وهو الحاجة إىل الكتابة بطريقة ت ُج ّنبه االضطهاد يف مواجهة األنظمة امل‬
‫ رغم حذر ووضوح شرتاوس‬،)Skinner, Visions of Politics, Vol. 1, 71( ‫ ويف أماكن أخرى‬،‫الحداثة‬
‫ هل يتناسب تفسري سكيرن حول «التالعب» و «فرض‬:‫ واملسألة األكرث أهم َّية هي‬.‫واالقرتاح الذي ق َّدمه‬
‫ ولكن‬:‫ كانت هناك «رؤية» حول إنسان َّية العبيد‬،‫ بالتأكيد‬.»‫الرؤية» مع حاالت مثل رواية «كوخ العم توم‬
‫أمل تكن هناك مشكلة فكريَّة وأخالقيَّة حقيقيَّة حول العبوديَّة كانت هذه الرؤية الرومانسيَّة للعبيد مبثابة‬
‫ وللسبب‬،‫استجابة واضحة لها؟ تظهر مسألة مامثلة مع رؤية إيان هاكينج لقصة إساءة معاملة األطفال‬
‫إاَّل عندما يت ُّم محو الحقائق الواضحة‬
َّ ‫ االتهامات بالتالعب ال معنى لها‬:‫نفسه‬

(S. Turner, “The Limits of Social Constructionism” in I. Velody and R. Williams (eds.),
The Politics of Constructionism (London: Sage, 1998), 10920-).

25 - Skinner, Visions of Politics Vol. 1, 120.

39
‫َّ‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال الله‬
‫توضيح هشام بن الحكم لماهيّ ة اإلرادة اإللهيّ ة‬

‫ن‬ ‫ق‬
‫(**)‬
‫سبحا�‬
‫ي‬ ‫كربايس ‪ ،‬محمد ي‬
‫ت�‬ ‫(*)‬
‫ي‬ ‫أك� أقوام‬
‫ب‬

‫[[[‬
‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫وجودي يف تحليل وتبيني فعل الله وصفاته الفعل َّية‪،‬‬


‫ٌّ‬ ‫نظريّة “املعنى” هي اتجاه‬
‫وخصوصا هشام بن الحكم‪ .‬وت ُع ُّد اإلرادة‬
‫ً‬ ‫وقد تط َّرق إليها متكلّمو مدرسة الكوفة‪،‬‬
‫واحدة من أبرز هذه الصفات التي ع َّرفها وتح ّدث عنها يف تلك الفرتة تحت عنوان‬
‫“الحركة”‪.‬‬
‫يف هذا املقال‪ ،‬وعىل أساس منهج دراسة تاريخ الفكر‪ ،‬سيتَّضح أ َّن اإلرادة‬
‫اإلمامي الكبري‪ ،‬وإن كانت أم ًرا يصدر انطالقًا من القدرة‬
‫ُّ‬ ‫من وجهة نظر املتكلّم‬
‫واالختيار‪ ،‬تختلف عن باقي مخلوقات وأشياء العامل األخرى الناشئة من القدرة‬
‫عرَّب عنها‬
‫مستقاًّل عن ذات الله وفعله‪َّ ،‬‬
‫ًّ‬ ‫واالختيار‪ .‬فهو يعترب أ ّن لإلرادة وجو ًدا‬
‫بكلمة “املعنى”‪ .‬وقد اقتبس هذا الفهم من خالل مجموعة من الروايات التي‬
‫أشارت إىل أ ّن لإلرادة خلقًا ميتاز عن املخلوقات األخرى‪.‬‬
‫***‬

‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬اإلرادة‪ ،‬الفعل‪ ،‬صفات الفعل‪ ،‬الحركة‪ ،‬نظريَّة املعنى‪ ،‬هشام‬
‫بن الحكم‪.‬‬

‫*‪ -‬أستاذ مساعد‪ ،‬مركز دراسات العلوم والثقافة اإلسالم ّية‪ ،‬قم – إيران‪ ،‬الكاتب املسؤول‪.‬‬
‫**‪ -‬باحث يف الفكر اإلسالمي وأستاذ مساعد‪ ،‬مركز دراسات العلوم والثقافة اإلسالم ّية‪ ،‬قم – إيران‪.‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫وخصوصا يف املرحلة‬
‫ً‬ ‫ت ُق َّدم اليوم دراسات عديدة بهدف إعادة قراءة تاريخ الكالم عند اإلمام ّية‪،‬‬
‫اإلسالمي بعنوان “االستقالل‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالم َّية األوىل‪ .‬ويجري الحديث فيها عن مرحلة من تاريخ الكالم‬
‫واألصالة”‪ ،‬والتي تض ُّم املفكِّرين واملتكلِّمني املسلمني األوائل[[[‪ .‬وحصلت يف هذه املرحلة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫اإلمامي تط ُّورات مه َّمة تراوحت حركتها بني الصعود والهبوط‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تعترب‬
‫ِّ‬ ‫من تاريخ الكالم‬
‫اإلسالمي‪ .‬وقد بحثت‬
‫ّ‬ ‫الكالمي يف تاريخ الكالم‬
‫ِّ‬ ‫مدرسة الكوفة الكالم َّية‪ ،‬البداية األوىل للتنظري‬
‫التاريخي وخصائص الحركات الكالم َّية آنذاك يف مقال يحمل عنوان‬‫ِّ‬ ‫أهم َّية هذه املدرسة وموقعها‬
‫“مدرسة الكوفة الكالم َّية”[[[ (راجع‪ :‬اقوام كربايس‪.)1391 ،‬‬
‫بنا ًء عىل تلك الدراسة‪ ،‬ميكن القول أ َّن بعض أصحاب الصادقني‪ ‬من العلامء واملفكِّرين‬
‫املسلمني بدأوا بني األعوام ‪ 80‬هـ‪.‬ق و‪ 180‬هـ‪.‬ق‪ ،‬جهو ًدا علم َّية عىل مستوى مختلف العلوم‬
‫االعتقادي األول يعتمد عىل كلامت أهل البيت‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الدينيَّة‪ ،‬ومن جملتها علم الكالم‪ ،‬فكان اإلرث‬
‫ومن هذا املنطلق بدأوا التنظري للمعارف االعتقاديَّة‪.‬‬
‫بدأت حركة املتكلِّمني املنظِّرين يف هذه املدرسة‪ ،‬بهدف تحقُّق رسالتهم يف مجاالت التبيني‬
‫والدفاع‪ ،‬فعملت عىل االستفادة من هذه الفرصة املؤاتية خارج نصوص الوحي‪ ،‬ث َّم ق َّدمت مبادئ‬
‫وأُطُ ًرا نظريَّة تهدف إىل توضيح التعاليم الدين َّية وتفسريها والدفاع عنها‪ .‬وال نجايف الحقيقة إذا‬
‫التاريخي ميثّل اتّجا ًها عقل ًّيا يف تبيني االعتقادات الدين َّية‪ ،‬والذي حصل بني‬
‫َّ‬ ‫قلنا إ َّن هذا الحديث‬
‫شكاًل من أشكال النموذج‬ ‫ً‬ ‫صحابة األمئَّة للم َّرة األوىل يف الكوفة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬يعترب هذا العمل‬
‫خصوصا يف ما له عالقة باالرتباط بني العقل والوحي‪ ،‬والذي‬ ‫ً‬ ‫يف الذي ق َّدمته اإلماميَّة األوىل‪،‬‬
‫املعر ِّ‬
‫يشري إىل حضور العقالن َّية يف محرض الوحي أو حضور الوحي يف عمل َّية التعقُّل‪.‬‬
‫حاول هذا النموذج اإلشارة إىل أ َّن األفكار التي ق َّدمها متكلِّمو الكوفة بهدف توضيح وتحليل‬
‫والنص الذي يُفهم‬
‫ُّ‬ ‫ين؛ وهو الخطاب‬ ‫التعاليم االعتقاديَّة‪ ،‬تدور يف فلك وإطار الخطاب الوحيا ِّ‬
‫يف‪ ،‬عمل عىل إدخال‬ ‫يف‪ ،‬وانطالقًا من هذا االعتقاد املعر ِّ‬
‫بوساطة العقل فقط‪ .‬وكأ َّن املتكلِّم الكو َّ‬
‫نصوص الوحي يف عمل َّية التعقُّل‪ ،‬ويف الجهة األخرى عمل عىل إحضار العقل والتعقُّل بكامل‬
‫أي يشء من‬ ‫هويَّتهام (املفاهيم‪ ،‬املبادئ والقواعد) يف حركة فهم الوحي‪ ،‬من دون التخيِّلِّ عن ِّ‬
‫العقالن َّية وقيمها (ملراجعة مفاد هذا اال ِّدعاء‪ ،‬راجع‪ :‬املفيد‪1413 ،‬هـ‪.‬ق‪ ،‬ص‪45-44‬؛ الكراكجي‪،‬‬

‫ـ املصدر‪ :‬مجلّة «نقد ونظر»‪ ،‬فصل َّية علم َّية بحث َّية يف الفلسفة واإلله َّيات‪ ،‬العام الرابع والعرشون‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬شتاء ‪1398‬هـ‪.‬ش‪2020 /‬م‪.‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬د‪.‬عيل الحاج حسن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬السبحاين‪.)1391 ،‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬اقوام كربايس‪.)1391 ،‬‬

‫‪41‬‬
‫المحور‬

‫املنهجي يف عمليَّة االستنباط‬


‫ِّ‬ ‫‪1410‬ق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .)242‬وقد جرى الحديث عن هذا النموذج‬
‫يّص»‪.‬‬
‫االعتقادي تحت عنوان «التنظري ال َّن ّ ّ‬
‫ِّ‬
‫املتوقَّع أن تحمل نتائج هذا النموذج من التنظري اختالفات يف بعض الحاالت‪ ،‬ويتحقَّق الجدل‬
‫والنقاش يف املسائل االعتقاديَّة عندما يكون الطرفان من املنظِّرين واملختلفني يف تنظريهم‪ .‬وتشري‬
‫التقارير إىل اختالفات حصلت بني أصحاب مدرسة الكوفة حول أمور من قبيل االستطاعة‪ ،‬املعرفة‬
‫و‪ ...‬وقد ذكرت يف املصادر األوىل ما يشري إىل أ َّن هذه املدرسة كانت ساحة واسعة للمنظِّرين[[[‪.‬‬
‫جا بارزًا للمسائل االعتقاديَّة عند املسلمني‪ ،‬والتي بذل‬ ‫يف هذا اإلطار‪ ،‬تُع ُّد اإلرادة منوذ ً‬
‫متكلِّمو الكوفة اإلمام َّية جهو ًدا يف توضيحها‪ ،‬ث َّم ق َّدموا تنظرياتهم يف معناها ومفهومها‪ .‬وت ُع ُّد نظريّة‬
‫«املعنى» من أبرز التنظريات التي ق َّدمها املتكلِّم الكويف الكبري هشام بن الحكم يف تبيني الصفات‬
‫اإللهيَّة‪ ،‬حيث عملنا يف هذا املقال عىل توضيحها وتبيني دورها يف توضيح ماهيَّة إرادة الله‪ ،‬بادئني‬
‫بتقديم تقرير عن مختلف اآلراء يف مدرسة الكوفة‪ ،‬ث ّم نتابع يف تبيني وتحليل هشام بن الحكم حول‬
‫ماه َّية إرادة الله تعاىل‪.‬‬
‫شك فيه‪ ،‬أ َّن أقدم وأه َّم أثر تركه متكلِّمو القرون األوىل‪ ،‬هو مقاالت اإلسالميّني لألشعري‬ ‫ماَّم ال َّ‬
‫َّ‬
‫جا‬
‫حا للنظريَّات األربع التي راجت بني اإلمام َّية حتّى تاريخ تحرير كتابه‪ .‬لقد ات َّبع منه ً‬ ‫حيث ق َّدم رش ً‬
‫خاصا يف رسد نظريَّاته‪ ،‬فنسبها إىل الهشامني (هشام بن الحكم وهشام بن سامل)‪ ،‬وإىل بعض تالمذة‬ ‫ًّ‬
‫هشام وتالمذة تالمذته من قبيل أيب مالك الحرضمي وابن ميثم‪ ،‬القائلني باالعتزال واإلماميَّة‪ ،‬وإىل‬
‫مجموعة مجهولة االسم؛ حيث ترتبط الرؤيتان األوليان بهشام بن الحكم فقط؛ األوىل تعود إليه‬
‫حا نسبوه إىل أستاذهم‪ .‬أ َّما مفاد هاتني الرؤيتني‬ ‫مبارشة‪ ،‬والثانية إىل قراءة تالمذته الذين ق َّدموا رش ً‬
‫فعىل النحو اآليت‪:‬‬
‫«اختلفت الروافض يف إرادة الله سبحانه‪ ...‬فالفرقة األوىل منهم أصحاب هشام بن الحكم‬
‫وجل حركة وهي معنى‪ ،‬ال هي الله وال هي غريه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وهشام الجواليقي‪ ،‬يزعمون أ َّن إرادة الله ع َّز‬
‫وأنَّها صفة لله ليست غريه وذلك أنَّهم زعموا أ َّن الله إذا أراد اليشء تح َّرك فكان ما أراد‪ ،‬تعاىل عن‬
‫ذلك‪ .‬والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحرضمي وعيل بن ميثم ومن تابعهام يزعمون أ َّن إرادة الله‬
‫إاَّل أ َّن هؤالء خالفوه فزعموا أ َّن اإلرادة حركة وأنّها غري الله بها‬
‫غريه‪ ،‬وهي حركة لله كام قال هشام‪َّ ،‬‬
‫يتح َّرك»[[[‪.‬‬
‫يتبنَّيَّ من مضمون ما تق َّدم‪ ،‬أ َّن محور الكالم األساس هو مفهوم «الحركة»‪ ،‬وكأ َّن متكلِّمي الكوفة‬

‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬االشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬قسم الروافض)‪.‬‬


‫[[[‪ -‬األشعري‪ ،‬ص‪)41‬‬

‫‪42‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫عملوا عىل تبيني وتفسري اإلرادة من خالل استخدام مفهوم «الحركة»‪ .‬ويبنِّيِّ هذا األمر أ ّن إعادة‬
‫قراءة هذا املفهوم عند هؤالء املتكلّمني عىل درجة عالية من األهميَّة يف تبيني ماهيَّة إرادة الله‬
‫مهرب من الحديث حول معنى ومفهوم‬ ‫ٌ‬ ‫إاَّل أنَّنا سنالحظ يف هذا البحث أن ليس هناك‬
‫تعاىل‪َّ ،‬‬
‫«الفعل» ونظريَّة «املعنى»؛ لذلك سنحاول بداي ًة اإلشارة إىل مبادئ هذه النظريّة‪ ،‬ث ّم نعالج أصلها‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ِّ‬
‫‪« – 1‬احلركة» ومفهومها عند متكليم القرن الثاين‪:‬‬
‫من خالل ما ق َّدمه املتكلِّمون األوائل من أبحاث كالميَّة‪ ،‬يتبنَّيَّ أ َّن البحث عن ماهيَّة ومعنى‬
‫خاصة من األهم َّية‪ ،‬إىل جانب بعض األبحاث امله ّمة األخرى من قبيل الجزء‬ ‫َّ‬ ‫«الحركة» عىل درجة‬
‫الذي ال يتج ّزأ‪ .‬وميكن القول أ َّن فهم املتكلِّمني للحركة ال ينفصل عن مسألتي «الجزء الذي ال‬
‫يتج ّزأ» و«األعراض»‪ .‬ويشري إىل ذلك املقدار الكبري من األقوال حول املسألتني‪ ،‬حيث يصعب‬
‫استخالص نظريَّة واحدة منها حول الحركة تنسب إىل القائل بها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن التص ُّور الصحيح ملعنى ومفهوم الحركة عند متكلِّمي تلك املرحلة‪ ،‬الزم‬
‫ورضوري ملعرفة ذاك املفهوم بني متكلِّمي الكوفة اإلمام َّية‪ .‬يالحظ يف هذا البحث بشكل متك ِّرر‬
‫ٌّ‬
‫أ َّن املتكلِّمني املسلمني كلَّام تح َّدثوا حول الحركة أشاروا إىل املفهوم املضا ِّد لها؛ أي السكون‬
‫والسبب يف ذلك توضيحها عىل أحسن وجه‪.‬‬
‫ماَّمَّ ال َّ‬
‫شك فيه‪ ،‬أ َّن فهم املتكلِّمني للحركة والسكون يرتبط برؤيتهم العا َّمة لعامل املخلوقات‪.‬‬
‫والشاهد عىل ذلك أ َّن أغلبهم اعتربوا الحركة والسكون من جملة «األعراض»‪ ،‬ليؤلِّفوا منها إىل‬
‫جانب الجواهر الفرديَّة أساس رؤيتهم لعامل املخلوقات‪ .‬وأل َّن لوجود األعراض دو ًرا يف إثبات‬
‫الفكري الذي ق َّدمه املتكلِّمون‬
‫ِّ‬ ‫حدوث العامل ويف النهاية إثبات الخالق‪ ،‬كام هو الحال يف النظام‬
‫باألخص وأ َّن أغلب‬
‫ِّ‬ ‫بعد القرن األول؛ لذلك كان اعتبار الحركة والسكون عرضً ا عىل أهم َّية عالية[[[‪،‬‬
‫املتكلِّمني قد جعلوا الحركة والسكون يف عداد األعراض األربعة األساسيَّة (األكوان األربعة)؛‬
‫ين للعامل‪ .‬وقد تك َّررت‬ ‫ٍ‬
‫مستمسك عندهم إلثبات الحدوث الزما ِّ‬ ‫وهي املفاهيم التي شكَّلت أه َّم‬
‫يف املصادر األوىل الشواهد عىل الدخول إىل هذا املوضوع عند متكلِّمي الكوفة اإلماميَّة[[[‪.‬‬
‫أاَّل نغفل عن أ َّن البحث حول الحركة مه ٌّم يف هذا البحث‪ ،‬حيث تح َّدث عنها‬
‫طب ًعا‪ ،‬يجب َّ‬
‫متكلِّمي اإلمام َّية يف تبيني اإلرادة‪ .‬كام ال يجب يف هذا البحث الخروج عن امل َّدعى واعتبار‬
‫الحركة مج َّرد مسألة عند املتكلِّمني األوائل؛ بل هي مبثابة مفهوم استخدم يف تبيني اإلرادة‪ .‬ويجب‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬الباقالين‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪)42‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)355-354‬‬

‫‪43‬‬
‫المحور‬

‫أي فهم للحركة يف نظريَّة الهشامني‪ ،‬ال ب َّد من أن تدرج يف قالب نظريَّة «املعنى»‪،‬‬
‫االلتفات إىل أ َّن َّ‬
‫فقد نقل هشام وأتباعه قولهم‪:‬‬
‫«أ َّن إرادة الله سبحانه حركة‪ ،‬وأنَّه [ها] «معنى» ال هو وال غريه»[[[‪ .‬صحيح أ َّن هذه املجموعة‬
‫من الشواهد تعترب الحركة جوهر إرادة الخالق‪ ،‬إاَّلَّ أنَّهم يتح َّدثون عن نوع من الحركة‪ ،‬وتلك الحركة‬
‫هي «املعنى»‪ .‬أ َّما ما هو «املعنى» يف نظريَّة الهشامني وكيف ميكن فهمه عىل أساس الحركة‪،‬‬
‫فهذا ما سيتط َّرق إليه هذا املقال؛ لذلك ال ب َّد من معرفة مفهوم الحركة‪ .‬يف هذا اإلطار ينبغي‬
‫استحضار املفاهيم املشابهة لهذا املصطلح‪ ،‬وبالتايل االقرتاب من مفهوم الحركة عن طريقها؛‬
‫حل القضيَّة‪ .‬وقد ذكر‬ ‫لذلك سنتط َّرق إىل تقرير ق َّدمته اإلماميَّة حول مسألة خلق القرآن يساعد يف ِّ‬
‫األشعري هذا التقرير قبل أن يتع َّرض لذكر رأي اإلمام َّية‪ ،‬حيث يقول‪« :‬هشام بن الحكم وأصحابه‬
‫يزعمون أ َّن القرآن ال خالق وال مخلوق‪ ...،‬وحىك هشام بن الحكم أنَّه قال‪ :‬القرآن عىل رضبني‪ :‬إن‬
‫وجل الصوت املقطع‪ ،‬وهو رسم القرآن؛ فأ َّما القرآن‪ ،‬فهو‬ ‫َّ‬ ‫كنت تريد املسموع‪ ،‬فقد خلق الله ع َّز‬
‫[[[‬
‫فعل الله‪ ،‬مثل العلم والحركة‪ ،‬ال هو هو وال غريه»‪.‬‬
‫يتض َّمن التقرير املتق ِّدم جزئني‪ ،‬وميكن االطِّالع عىل مضمون الجزء األ َّول يف املصادر‬
‫األخرى[[[‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن املصادر األخرى مل تذكر ما نقله زرقان‪ .‬مع اإلشارة إىل أ َّن محتوى ما نُ ِقل عن‬
‫الفكري[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫زرقان ال يتعارض مع معتقد هشام؛ بل يتالءم ويتوافق مع مرشبه‬
‫يؤكِّد النقل الذي تق َّدم عىل أ ّن القرآن الكريم «فعل» الله تعاىل‪ ،‬وكذلك جرى تعريف «العلم»‬
‫يل والحركة‪ ،‬وهي ليست ذات الله‬
‫و«الحركة»‪ .‬وكأ َّن لفعل الله مصاديق كالقرآن‪ ،‬والعلم الفع ِّ‬
‫يل‪ ،‬يساهم يف فهم املقصود من‬ ‫كل من الفعل والعلم الفع ِّ‬‫الطبيعي أ َّن معرفة ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫وليست غريه‪ .‬من‬
‫الحركة أيضً ا‪ .‬وأُك ِّرر اإلشارة إىل أ َّن إعادة قراءة هشام للفعل والعلم الفع ِّ‬
‫يل بوساطة نظريَّة «املعنى»‪،‬‬
‫ممكن طبق قاعدة‪« :‬ال هي هو وال هي غريه»‪ .‬وهذا يعني أ َّن توضيح هشام للفعل يجب أن ينقلنا‬
‫إىل االهتامم بنظريته يف املعنى‪ ،‬ال بل يصبح الفعل ذو معنى إذا درس يف إطار نظريّة «املعنى»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫اإلمامية األوائل‪:‬‬ ‫يم‬
‫‪« – 2‬الفعل» وحقيقته عند متكل ي‬
‫اإلسالمي يف ما يتعلَّق بنظام‬
‫ِّ‬ ‫ال ب َّد من القول أ َّن دراسة إنجازات املتكلِّمني طوال تاريخ الفكر‬
‫التأثري والتأث ُّر يف العامل‪ ،‬يضع أمام الباحث ثالث مصطلحات مفتاح َّية وأساس َّية‪ ،‬وهي‪« :‬الفاعل َّية‪،‬‬
‫خاص‪ .‬الفعل‪ ،‬مبثابة عامل التأثري «املؤثِر» عىل‬ ‫ّ‬ ‫ولكل واحدة منها دور ومقتىض‬ ‫ِّ‬ ‫السبب َّية والعلّ َّية»‬
‫[[[‪ -‬القايض عبد الج َّبار‪1433 ،‬ق‪ ،‬ج‪5 :6‬؛ وأيضً ا‪ :‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪ 344 ،315 ،311 ،213 ،44 ،42 ،40 ،38 ،32‬و‪.)...‬‬
‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪ 40‬و‪.)584‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬البغدادي‪1401 ،‬ق‪ ،‬ص‪50‬؛ ابن مرتىض‪1409 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)124‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬رضايئ‪ ،1391 ،‬ص‪.)96-93‬‬

‫‪44‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫«املؤث َر» وكان له طيلة التاريخ قراءات وتحليالت متن ِّوعة‪ ،‬وذلك بسبب ابتناء التحليل عىل أحد‬
‫إاَّل أ َّن لبعض هذه املصطلحات الثالثة مفاهيم تختلف يف معناها‬ ‫أنظمة الفاعليَّة والسببيَّة أو العلّيَّة؛ َّ‬
‫عاَّم هو مذكور يف األنظمة الفلسف َّية‪ .‬ومبا أ َّن االتِّجاهات الفلسف َّية قد طغت طوال تاريخ الفكر‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمي عىل املفاهيم الكالم َّية‪ ،‬فيغلب الظ ُّن أ َّن معنى ومفهوم الفعل مل يخرج عن هذا اإلطار‬ ‫ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أي أساس ت َّم‬


‫الكالمي نحو القراءة الفلسفيَّة‪ .‬وهنا ميكن أن يطرح سؤال‪ :‬عىل ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫فانقلب من التحليل‬
‫توضيح هذا املفهوم يف تلك املرحلة الزمانيَّة التي حاول هذا املقال دراستها؟ وما هي مشخَّصات‬
‫هذا التبيني يف املقارنة مع القراءات والتوضيحات األخرى؟ واأله ّم من ذلك‪ ،‬ما هو وجه املساعدة‬
‫التي ميكن تقدميها يف هذا البحث؛ أي الحركة وإرادة الله؟‬
‫تاريخي‪ .‬وإذا حاول‬
‫ّ‬ ‫ال نجايف الحقيقة إذا قلنا إ َّن االت ِّجاهات الثالثة قد حرضت طبق ترتيب‬
‫ظل العل َّية الفلسف َّية؛ أي «الوجود واآلثار‬
‫املفكِّرون املسلمون اليوم‪ ،‬وصف فعل الله تعال يف ِّ‬
‫الخارج ّية»‪ ،‬فإ َّن املتكلِّمني األوائل قد نظروا بشكل آخر للفعل وتأثري املؤثِر عىل املؤث َر‪ .‬طب ًعا هذا‬
‫الكالم ال يعني أ َّن املتكلِّمني مل يتح َّدثوا عن العلَّة والعليَّة؛ فقد ذكر أبو الحسن األشعري عىل سبيل‬
‫األقل حول العلَّة عند متكلِّمى القرنني الثاين والثالث[[[‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن َّ‬
‫كل هذه‬ ‫ِّ‬ ‫املثال عرش نظريَّات عىل‬
‫الخاصة‪ .‬لذلك؛‬
‫َّ‬ ‫بأي نسبة مع العلَّة الفلسف َّية‬
‫األقوال تُبنِّيِّ أ َّن العلَّة عند أولئك املتكلِّمني مل ترتبط ِّ‬
‫ما هو مقصود املتكلِّمني من هذه املصطلحات‪ ،‬وما هي النسبة املوجودة بني العلّة والسبب‬
‫والفاعل؟‬
‫بشكل عام ميكن القول عند دراسة أنواع التأثري والتأث ُّر املختلفة عند املتكلِّمني املسلمني‪ ،‬أ َّن‬
‫قسموا هذا العامل إىل أقسام من جملتها ما يدور‬ ‫العلّة مبعناها العام عبارة عن العامل املؤثِر‪ .‬وقد َّ‬
‫خاصتَي «القدرة» و«االختيار»‪ .‬وإذا استخدمت القدرة أو االختيار‪ ،‬يف عامل ما‪ ،‬اعتربوا ذاك‬ ‫ّ‬ ‫مدار‬
‫كل رضورة يف تحقُّق املعلول‪ .‬يف املقابل‪،‬‬ ‫جبة‪ ،‬وبذلك تنتهي ُّ‬ ‫العامل أو العلَّة اختياريَّة أو غري مو َ‬
‫إذا كان العامل كاف ًيا لتحقيق املعلول‪ ،‬وغري محتاج لوساطة القدرة واالختيار يف التأثري‪ ،‬اعتربوا‬
‫جبًا أو اضطراريًّا[[[‪.‬‬
‫العامل أو العلَّة مو َ‬
‫ولكن السؤال‪ :‬ما هو النموذج الذي ات َّبعه الفعل طبق رؤية املفكِّرين املسلمني األوائل؟ هنا‬
‫يعترب كتاب «الحدود والحقائق يف رشح األلفاظ املصطلحة بني املتكلِّمني اإلماميَّة» وهو من‬
‫اآلثار األوىل يف بحث املصطلحات ملؤلِّفه القايض أرشف الدين صاعد الربيدي‪ ،‬أفضل من‬
‫يحيك عن هذه املفاهيم‪ .‬فهو يؤكِّد أ َّن العلّة خصيصة يف إيجاب صفة لغري املؤثر[[[‪ .‬وكتب‬

‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)389‬‬


‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)389‬‬
‫[[[‪ -‬الربيدي‪1970 ،‬م‪ ،‬ص‪.)233‬‬

‫‪45‬‬
‫المحور‬

‫يف تعريف السبب‪ :‬املسبِّب بالنسبة للسبب كاملعلول للعلّة‪ ،‬سوى أ َّن املسبِّب حقيقة وجوهر‪،‬‬
‫يَل «الفكر» و«الحركة» هام املثاالن املناسبان لتبيني االختالف بني‬ ‫واملعلول صفة ‪ .‬واعترب أ َّن فع َ‬
‫[[[‬

‫السبب والعلَّة؛ «العلم» يحصل عن الفكر‪ ،‬وهو ذات له سبب هو الفكر‪ ،‬والفكر يؤ ّدي إىل وجوده‪،‬‬
‫إاَّل أ َّن «تح ُّرك» القلم عندما تجول به اليد عىل الصفحة‪ ،‬فهو صفة للقلم وليست ذات َّية له‪ .‬هنا تكون‬ ‫َّ‬
‫معلواًل‪ .‬فإذا أوجد العامل ذاتًا كان «سببًا»‪ ،‬وإذا كان دوره النفي أو اإلثبات‪،‬‬
‫ً‬ ‫اليد علَّةً‪ ،‬وتح ُّرك القلم‬
‫الخاص[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عرَّب عنه بالعلَّة مبعناها‬
‫كان «صفة» و«حالة»‪ ،‬ويُ َّ‬
‫أي دور للقدرة واالختيار يف تعريف العلَّة والسبب‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن هاتني الخاص ّيتني‬ ‫حظ عدم وجود ِّ‬ ‫يال َ‬
‫كل عامل أع َّم من العلَّة‪ ،‬والسبب يستخدم القدرة واالختيار للتأثري‬ ‫ت ُنسبان إىل الفاعل‪ .‬والفاعل هو ُّ‬
‫يف فعله؛ لذلك تح َّدث الربيدي يف تعريف الفعل‪ :‬الفعل‪ ،‬وجود مسبوق بالعدم‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هو وجود‬
‫حة (القدرة واالختيار)[[[؛ لذلك ميكن القول أ َّن الربيدي قد أشار إىل أ َّن املتكلِّمني‬ ‫يرتتَّب عىل الص َّ‬
‫إاَّل أ َّن هذه التعاريف تبنِّيِّ ‪ :‬أ ّو ًاًل‬
‫محوري لإلرادة واالختيار يف التعريف‪َّ ،‬‬
‫ٍّ‬ ‫املتق ِّدمني يعتقدون بدور‬
‫فعاًل؛‬
‫أ َّن الفعل عند املتكلِّمني أمر حادث؛ أي مسبوق بالعدم وإذا مل يكن مسبوقًا بالعدم‪ ،‬لن يكون ً‬
‫حة»‪.‬‬‫وثان ًيا أ ّن حصول الفعل يكون «عىل جهة الص ّ‬
‫حة»‬‫هذه هي املسألة التي تشري إىل االختيار والقدرة يف تعريف الفاعل‪ .‬أ َّما مصطلح «الص ّ‬
‫أي يشء آخر‪ .‬يقول املتكلِّمون يف‬ ‫عند املتكلِّمني فيحيك عن أنَّه مرتبط بالقدرة واالختيار قبل ِّ‬
‫حة الفعل والرتك»[[[ ليلفتوا إىل أ َّن القدرة يف الكالم هي مبعنى إمكان‬
‫تعريف القدرة‪« :‬القدرة هو ص َّ‬
‫االختيار ووقوع كافَّة خيارات طرف االحتامل[[[؛ لذلك أكَّدوا يف تعريف الفعل «ال عىل جهة‬
‫الوجوب»[[[‪ ،‬ليشريوا إىل أ َّن الفعل يكون فعاًلً عندما يكون للفاعليَّة معنى؛ أي أن تكون مؤث ِّرة‪،‬‬
‫ح َّرة‪ ،‬فيعمل املختار عىل تحقُّق الفعل ويختار أحد طريف االحتامل؛ لذلك كتب الشيخ الطويس‬
‫يف تعريف الفعل‪« :‬الفعل ما وجد إن كان مقدو ًرا والفاعل من وجد مقدوره»[[[؛ حيث أراد بذلك‬
‫اإلشارة إىل أ َّن الفعل أثر حادث يأيت عىل أثر القدرة‪.‬‬
‫يبنِّي ما تق َّدم‪ ،‬كيف أ َّن تأثري املؤث ِّر عند أهل الكالم ليس عىل نحو الرضورة والتأكيد عىل‬
‫ِّ‬
‫حة» يف التعاريف‪ ،‬هو تأكيد مضاعف عىل االفرتاض واالبتعاد عن الخلط بني الفاعل َّية من‬ ‫«الص َّ‬

‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)217‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.)231‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)246‬‬
‫[[[‪ -‬التهانوي‪1996 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)120‬‬
‫[[[‪ -‬السبحاين‪1428 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)105‬‬
‫[[[‪ -‬عبيديل‪ ،1381 ،‬ص‪.)306‬‬
‫[[[‪ -‬الطويس‪1414 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)85‬‬

‫‪46‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫جهة والسببيَّة والعليَّة من جهة أخرى‪ .‬وقد أرشنا إىل أ َّن الفاعل أثناء التأثري‪ ،‬قادر عىل طرف االختيار‬
‫إاَّل أ َّن كيفيَّة تأثري املؤث ِّر عىل املؤث َّر‬
‫اآلخر‪ ،‬وميكن اختيار الطرف اآلخر انطالقًا من اختياره وإرادته‪َّ ،‬‬
‫يف السبب َّية والعلّ َّية عىل نحو اإليجاب والوجوب‪ ،‬وال قدرة واختيار لديه عىل انتفاء الخيارات‬
‫األخرى‪ .‬هنا ميكن االستنتاج أ َّن املناط واملعيار األساس لالختالف بني السبب َّية والفاعل َّية هو‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫القدرة واالختيار؛ لذلك بنى املتكلِّمون معنى الفعل والفاعليَّة عىل القدرة واالختيار‪.‬‬
‫املبني عىل الفاعل َّية‪ ،‬بحاجة إىل ركني الذات؛ أي‬
‫ِّ‬ ‫من امله ِّم القول أ َّن تحقُّق الفعل يف النظام‬
‫فاعل الفعل والقدرة‪ ،‬باإلضافة إىل أمرين آخرين؛ أي العلم واإلرادة‪ .‬ويعتقد أتباع هذا االتجاه أ َّن‬
‫الفاعل إ َّما قادر أو عامل أو ليس كذلك‪ .‬مع العلم أ َّن الفاعل القادر العامل‪ ،‬إ َّما أن يكون صاحب‬
‫املبني عىل الفاعل َّية‪ ،‬جمع األركان األربعة هذه من‬ ‫ِّ‬ ‫إرادة أو ال يكون‪ .‬يقتيض نظام تحقُّق الفعل‬
‫أجل إمتام فاعل َّية الفاعل‪ ،‬ويتحقَّق الفعل بعد وجود الجزء األخري؛ أي تنفيذ اإلرادة‪ .‬وهذا يعني‬
‫فاعاًل مع تحقُّق هذا ال ُّركن‪ .‬تجدر اإلشارة إىل أ َّن أتباع‬
‫ً‬ ‫أ َّن حقيقة الفعل هي اإلرادة والفاعل يصبح‬
‫نظام تحقُّق األفعال عىل أساس الفاعليَّة‪ ،‬يعتقدون أ َّن الله تعاىل عامل قبل خلق املعلومات وقادر‬
‫إاَّل أنَّهم ال يعرتفون بوجود تغيري واختالف يف العلم والقدرة السابقة والقدرة‬‫قبل خلق املقدورات‪َّ ،‬‬
‫والعلم بعد وجود املعلومات واملقدورات؛ لذلك يعتقدون أنَّه لو كان الله تعاىل وحده مع علمه‬
‫أي تغيري أو فعل أو حركة‬ ‫أي يشء يف العامل‪ ،‬ولن يكون باملستطاع تبيني ّ‬ ‫وقدرته‪ ،‬لن يحصل ُّ‬
‫وخلق؛ لذلك اعتربوا اإلرادة من جنس التغيري والحركة لتبيني أحداث وحوادث العامل‪.‬‬
‫نعود لدراسة رؤية هشام الذي اعترب اإلرادة حركة والحركة مع ًنى‪ .‬والسؤال‪ :‬ما هو املعنى؟‬
‫وكيف ميكن فهم الحركة عىل أساس هذه النظريَّة؟‬
‫ِّ‬
‫‪ – 3‬املقصود من «املعىن» عند متكليم الكوفة‪:‬‬
‫كل العبارات التي سنستفيد منها يف البحث‪،‬‬ ‫ما هو مفهوم «املعنى» من وجهة نظر هشام؟ تبنِّيِّ ُّ‬
‫أ َّن الجملة املحوريَّة «ال هي الله وال هي غريه»‪ ،‬والتي سيتك َّرر ما يشبهها‪ ،‬تشكِّل أساس فهم هشام‬
‫للصفات اإلله َّية[[[‪ ،‬وهي ترجمة وتفسري ملصطلح «املعنى»‪ .‬يبدو أ َّن فهم هذه الجملة املتناقضة‬
‫يف الظاهر‪ ،‬مفتاح بعض األبحاث الكالميَّة الدقيقة يف تلك املرحلة‪ ،‬أبحاث تتعلَّق باليشء‪،‬‬
‫الجسم‪ ،‬الجوهر‪ ،‬العرض‪...‬‬
‫ينبغي القول أ َّن بعض املفاهيم‪ ،‬من قبيل اليشء‪ ،‬الجسم‪ ،‬الجوهر‪ ،‬العرض و‪ ...‬هي أمور‬
‫اإلسالمي‪ .‬وقد عمد‬
‫ّ‬ ‫تشكِّل أركان نظام الرؤية الكونيَّة ملتكلِّمي تلك املرحلة من تاريخ الكالم‬

‫األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪ 222 ،55 ،41‬و‪.)...‬‬


‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬راجع‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫المحور‬

‫هؤالء املتكلِّمني إىل تبيني العامل املحيط بهم واألحداث التي تقع فيه عىل أساس هذه املجموعة‬
‫من املفاهيم‪ .‬ويتض َّمن مفهوم اليشء أوسع داللة من بينها؛ فقد ذكر املعتزلة عىل سبيل املثال‬
‫مع ًنى واس ًعا لليشء يتض َّمن املعدومات إضافة إىل املوجودات[[[‪ .‬ث َّم استخدم األشاعرة املصطلح‬
‫للداللة عىل املوجودات فقط‪ ،‬وأخرجوا املعدومات منه‪ ،‬وكأ َّن مفهوم الوجود عندهم مساوق‬
‫لليشء ومرادف له[[[‪.‬‬
‫وقد حملت هذه ال ُّرؤى إشكاالت للمتكلِّمني؛ فمن أصعب املسائل التي واجهتهم يف تلك‬
‫املرحلة توضيح االختالف بني الله واملوجودات األخرى؛ ألنَّهام مشرتكان يف «الوجوديّة»‪ .‬وبرزت‬
‫هذه املشكلة بشكل معقّد للغاية عند الذين اعتمدوا منهجيَّة قياس الشاهد عىل الغائب‪ .‬وتعود‬
‫جذور ظهور بعض املفاهيم الكالم َّية كالقديم والحديث إىل هذا النوع من املسائل املعقّدة‪.‬‬
‫العلمي يف تلك املرحلة هو الله تعاىل‪ ،‬وكل‬‫ِّ‬ ‫بشكل عام‪ ،‬إ َّن القديم من وجهة نظر املجتمع‬
‫مستقل يف وجوده وليس‬ ‫ٌّ‬ ‫حقائق العامل هي موجودات حادثة‪ ،‬تقسم إىل الجوهر والعرض‪ .‬الجوهر‬
‫بحاجة إىل الغري‪ .‬وقد يطلق هذا املفهوم من حيث املصداق عىل الجزء الذي ال يتج َّزأ وأيضً ا عىل‬
‫الجسم والجزء الذي ال يتج ّزأ[[[‪.‬‬
‫نلفت هنا إىل أ َّن العرض كالجوهر مفهوم يشري إىل مجموعة من الحقائق يف العامل‪ ،‬ولك ّنه‬
‫مستقل[[[‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫وجودي‬
‫ٌّ‬ ‫يخالفه يف أنّه غري قائم بذاته؛ بل إ َّن العرض قائم بجوهر؛ أل َّن ليس له أساس‬
‫يبدو أ َّن منوذج العامل وهيكله من وجهة نظر هشام يشء آخر‪.‬‬
‫حي الجوهر والعرض كانا معروفني ومستخدمني يف مرحلة مدرسة‬ ‫وميكن القول أ َّن مصطل َ‬
‫الكوفة عند املتكلِّمني املعتزلة[[[‪ ،‬إاّلّ أ ّن هشام ومتكلّمي الكوفة اإلمام َّية اآلخرين مل يتح ّدثوا‬
‫أسسوا لهيكل وبناء آخر‪ .‬لذا‪ ،‬ينبغي البحث عن هذا األمر يف مفهوم اليشء عند هشام‬ ‫عنهام؛ حيث ّ‬
‫الذي يقول‪:‬‬
‫«قال هشام بن الحكم‪ :‬معنى الجسم أنَّه موجود‪ ،‬وكان يقول إمّنّ ا أريد بقويل جسم‪ :‬أنّه موجود‬
‫وأنّه يشء وأنّه قائم بنفسه»[[[‪.‬‬
‫يبدو ماَّمَّ تق َّدم‪ ،‬أ َّن عبارات «الجسم»‪« ،‬اليشء»‪ ،‬املوجود» هي كلامت مرتادفة وقامئة بالذات‪،‬‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪519‬؛ العباد‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.)169‬‬


‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬الباقالين‪ ،1369 ،‬ص‪.)15‬‬
‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪307‬؛ القايض عبد الج ّبار‪1972 ،‬م‪ ،‬ص‪.)143‬‬
‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)...361 ،358 ،306‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪ 373 ،370 ،369 ،361 ،358 ،306‬و‪.)...‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)304‬‬

‫‪48‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫كل ما هو‬
‫جساًم؛ ألنّه يعتقد بأ َّن َّ‬
‫ً‬ ‫وليس ببعيد وانطالقًا من هذا الفهم أن يكون الله تعاىل عند هشام‬
‫موجود‪ ،‬فهو جسم قائم بالذات‪ .‬ميكن استنتاج جسميَّة الله عند هشام من خالل ما ذكره الكايف‬
‫الرشيف‪ .‬جاء يف الخرب أ َّن يونس بن ظبيان‪ ،‬دخل عىل اإلمام الصادق (ع) ونقل إليه عن اعتقاد‬
‫أيّن أخترص لك منه أحرفًا‪ ،‬فزعم‬ ‫إاَّل ّ‬
‫عظياًم َّ‬
‫ً‬ ‫قواًل‬
‫هشام بجسامن ّية الله‪ ...« :‬إ ّن هشام بن الحكم يقول ً‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أ ّن الله جسم؛ أل ّن األشياء شيئان‪ :‬جسم وفعل الجسم‪ ،‬فال يجوز أن يكون الصانع مبعنى الفعل‬
‫[[[‬
‫ويجوز أن يكون مبعنى الفاعل‪.»...‬‬
‫انطالقًا من الفهم املتق ِّدم لليشء والجسم‪ ،‬فهو يصدق عىل الله تعاىل؛ أل َّن الله موجود؛ لذلك‬
‫تبنِّي أ َّن األجسام من وجهة نظر هشام هي التي لها طول‬ ‫وجساًم‪ .‬ومث َّة شواهد ِّ‬
‫ً‬ ‫ميكن اعتباره شيئًا‬
‫حة هذه الشواهد خارج عن هدف هذا املقال‪ ،‬كام أ َّن‬ ‫وعرض وعمق‪ ،‬ومع ذلك فإ َّن البحث عن ص َّ‬
‫[[[‬
‫تبنّي فهم هشام للجسم وهي أقوى وميكن االعتامد عليها‪.‬‬ ‫مث َّة شواهد أخرى ّ‬
‫املسألة الجديرة باالهتامم أنّنا إذا اعتربنا «الجسم» هو املوجود القائم بالنفس‪ ،‬عند ذلك‬
‫تنتفي هذه الخصيصة عن «فعل الجسم»؛ مع العلم أ َّن مفهوم الشيئ َّية يف حديث ظبيان عنوان عا ٌّم‬
‫ح َّل هذه املسألة متوقَّف عىل تبيني وتحليل‬ ‫يتض َّمن الجسم وغري الجسم (فعل الجسم)‪ .‬يبدو أ َّن َ‬
‫ماهيَّة «فعل الجسم»‪ .‬من هنا ميكن االستفادة من حديث آخر يبنِّيِّ معتقد هشام وأصحابه‪ ...« :‬إ َّن‬
‫[[[‬
‫األفعال‪ ،‬صفات للفاعلني‪ ،‬ليست هي هم وال غريهم‪ ،‬وأنَّها ليست بأجسام وال أشياء‪.»...‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد أكّدت العبارات املتق ِّدمة بوضوح أ َّن األفعال هي صفات الفاعل‪ ،‬وهي فاقدة‬
‫للجسميَّة والشيئيَّة‪ .‬وعني هذا املحتوى الذي قرأناه عن يونس ميكن مشاهدته يف عبارات أخرى‪.‬‬
‫ذكر األشعري‪:‬‬
‫«قال هشام بن الحكم‪ :‬الحركات وسائر األفعال من القيام والقعود واإلرادة والكراهية والطاعة‬
‫واملعصية وسائر ما يثبت املثبتون األعراض أعراضً ا‪ ،‬أنّها صفات األجسام‪ ،‬ال هي األجسام وال‬
‫[[[‬
‫غريها أنّها ليست بأجسام فيقع عليها التغاير»‪.‬‬
‫وهنا يُطرح سؤال آخر‪ :‬ما هي الصفة وما هي خاص َّيتها الوجوديَّة التي من شأنها أن تجعل فعل‬
‫جساًم ومل تكن قامئة بالذات‪ ،‬فهل هي كاألعراض قامئة بالغري؟‬
‫ً‬ ‫الجسم صفة؟ إذا مل تكن الصفات‬
‫الحقيقي بني الصفات واألعراض؟ يوضح الكالم األخري أ َّن رؤية هشام تقع‬
‫ُّ‬ ‫وهنا‪ ،‬ما هو االختالف‬
‫يف مقابل الفهم الرائج‪ ،‬فلو كانت األفعال كام يظ ُّن البعض أعراضً ا‪ ،‬فاألفعال عند هشام صفة‬

‫[[[‪ -‬الكليني‪1407 ،‬ق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،106‬ح‪.)6‬‬


‫[[[‪ -‬أسعدي‪ ،1385 ،‬ص‪.)158‬‬
‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)44‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)344‬‬

‫‪49‬‬
‫المحور‬

‫للجسم‪ ،‬وكأنّه جعل «الصفات» من الناحية الوجوديَّة يف مقابل «األعراض» من حيث التصنيف‪.‬‬
‫وإذا أخذنا بعني االعتبار ما نقل سابقًا عنه فهي تذكر تحت عنوان «املعنى»‪ ،‬وأ ّن الصفة التي هي‬
‫ليست عني املوصوف وليست غريه[[[ قد استعملت لـ»املعنى»‪ .‬يقول األشعري‪:‬‬
‫«واختلف الناس يف املعاين القامئة باألجسام‪ ،‬كالحركات والسكون وما أشبه ذلك‪ ،‬هل هي‬
‫أعراض أو صفات؟ فقال القائلون‪ :‬نقول إنّها صفات وال نقول هي أعراض‪ ،‬ونقول‪ :‬هي معانٍ وال‬
‫[[[‬
‫نقول هي ألجسام وال نقول غريها؛ أل ّن التغاير يقع بني األجسام‪ ،‬وهذا قول هشام بن الحكم»‪.‬‬
‫يبدو أنَّه أراد القول أ َّن هذا الفهم للمعنى ال يجب أن يكون مساويًا ملفهوم العرض‪ .‬واستنتج‬
‫أ َّن الصفات أو املعاين ليست غري الجسم من خالل االستدالل بأ َّن التغاير واالختالف يقع بني‬
‫األجسام فقط‪ .‬ومع ذلك فإ َّن هذه الثنائ َّية املتناقضة ظاه ًرا يف عبارة «ال هي األجسام وال غريها»‬
‫ما زالت محاطة بهالة من اإلبهام؛ أل َّن هذه املعاين معتمدة عىل الجسم من جهة‪ ،‬وهي من جهة‬
‫أخرى غري الجسم‪.‬‬
‫يضاف إىل ذلك‪ ،‬أ ّن مفهوم العرض يحيك عن حقيقة تعتمد عىل الجوهر‪ ،‬ويف هذه النقطة‬
‫تشرتك مع مفهوم املعنى‪ .‬إذًا ما هي نقطة التاميز بني املعنى والعرض من وجهة نظر هشام؟‬
‫ميكن القول أ َّن هذا اإلبهام يقبل الدفع من خالل الرجوع إىل بعض املفاهيم املطروحة يف‬
‫الفلسفة اإلسالميَّة من قبيل «الوجود الربطي» و«الوجود الرابطي»‪ .‬وكأ ّن االختالف بني املعنى‬
‫الربطي‪ ،‬هو وجود‬
‫ِّ‬ ‫والعرض كاالختالف بني نحوي الوجود هذه‪ .‬املعنى يف هذا التفسري كالوجود‬
‫إاَّل أنَّه ليس عني الطرفني وليس جز ًءا منهام‪ .‬أ َّما‬ ‫ُّ‬
‫ينفك عنهام‪َّ ،‬‬ ‫ليس له حقيقة خارج طرفيه‪ ،‬فال‬
‫الربطي‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن وجوده ليس لنفسه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مستقل عىل خالف‬
‫ٌّ‬ ‫الرابطي‪ ،‬وهو وجود‬
‫ِّ‬ ‫العرض‪ ،‬فهو كالوجود‬
‫الرابطي‪ ،‬وجود ميكن انتزاع صفة منه ومن ث َّم نسبتها إىل الغري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بل لغريه؛ لذلك قالوا الوجود‬
‫ميكن دراسة نظريَّة املعنى من وجهة نظر اإللهيَّات أيضً ا‪ .‬وهو ا ِّدعاء متني يبنِّيِّ أ َّن رؤية هشام‬
‫جا مختلفًا عن النظريَّات املنافسة‪ .‬تح َّدث‬ ‫حول وجود الصفات (نظريَّة املعنى) ق ّدمت منوذ ً‬
‫[[[‬
‫وعرَّب عنهام بـ«الصفاتيَّة» و«املعطلة»‪.‬‬
‫الشهرستاين عن الرؤيتني يف بحث وجود الصفات َّ‬
‫يعتقد الصفائيَّة أ َّن لصفات الله حقيقة مستقلَّة عن الذات عارضة عىل الله‪ ،‬ومن جملة املعتقدين‬

‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)346‬‬


‫[[[‪( -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)369‬‬
‫[[[‪ -‬الشهرستاين‪ ،1364 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)104‬‬

‫‪50‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫بهذه الرؤية السلفيَّة‪ ،‬وأهل الحديث ومن ث َّم األشاعرة[[[‪ ،‬واعتربوا الصفات أزليَّة ومل يعرتفوا بوجود‬
‫اختالف بني صفات الذات وصفات الفعل؛ إاَّلَّ أ َّن هذه الرؤية تحمل معها تع ُّدد االعراض اإلله َّية‬
‫ما يؤ ّدي إىل إشكاالت عىل مستوى القول بوحدانيَّة الله‪ ،‬وأ َّما املعطّلة فحاولوا تج ّنب الوقوع يف‬
‫مشكلة كهذه فأنكروا حقيقة الصفات اإلله َّية‪ ،‬ث َّم نسبوا التعطيل إىل املعتزلة[[[‪ .‬ومن هذا املنطلق‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ظهرت ات ّجاهات «نيابة الذات عن الصفات»‪ ،‬أو «عينيَّة الذات والصفات»‪ ،‬وفتحت املجال أمام‬
‫البعض من قبيل أبو هذيل العالف‪ ،‬النظام وأبو عيل الجبايئ لتبيني آرائهم التي تقول إ َّن الله تعاىل‬
‫وحي وليس بوساطة الصفات الخارجة عن ذاته[[[‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫يف ذاته عامل‪ ،‬قادر‬
‫حا وسط ًّيا ال يؤ ّدي‬
‫عرض هشام نظريَّة املعنى وب َّينها بعبارة «ال هي الله وال هي غريه» فات ّخذ من ً‬
‫إىل تع ُّدد االعراض‪ ،‬كام يف األول وال إىل التعطيل كام يف الثانية‪ .‬يبعد الجزء األول من العبارة «ال‬
‫هي الله» مسألة عين َّية الذات للصفات وتنفي العبارة الثانية «ال هي غريه» أشكال تع ُّدد األعراض‬
‫وخدش قض َّية التوحيد‪ .‬وكأ ّن هشام أراد أن يبنِّيِّ صفات الله وجوديًّا‪ ،‬فاعترب أ َّن الصفات اإلله َّية‬
‫ليست عني الذات اإلله َّية وليست نافية لها‪.‬‬
‫من جملة ما يُستنتج من عبارة «ال هي الله وال هي غريه»‪ ،‬عدم ات ِّصاف الصفات بخصلتَي‬
‫«الحدوث وال ِقدم»‪ ،‬فالصفة عند هشام ال تقبل الوصف‪ .‬وهو يقول حول صفة العلم‪« :‬إ َّن العلم‬
‫صفة له‪ ،‬ليست هي هو وال غريه وال بعضه‪[ ،‬ال] يجوز أن يقال‪ :‬العلم محدث أو قديم؛ ألنَّه صفة‬
‫والصفة ال توصف»[[[‪ .‬ويصدق هذا القول عىل كافّة الصفات اإلله َّية‪ ،‬وليس عىل العلم فقط[[[‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن نظريَّة املعنى عند هشام يقصد بها صفات فعل الله تعاىل‪ ،‬وعندما يلجأ إىل‬
‫نظريَّة املعنى لتفسري الصفات املتق ِّدمة‪ ،‬فقد أزاح الستار عن الصورة الفعل ًّية لهذه الصفات‪ .‬الشاهد‬
‫عىل هذا اال ّدعاء‪ ،‬ما سلكه متكلِّمو الكوفة يف تفسري صفات الذات‪ .‬وإذا كانت صفات فعل الله يف‬
‫ُفرّس من خالل نظريَّة املعنى‪ ،‬فإ َّن صفات الذات كانت تُفرس عىل صورة السلب[[[‪.‬‬
‫مدرسة الكوفة ت ّ‬
‫انتقلت هذه املسألة إىل أتباع هشام‪ ،‬فتح َّدث األشعري أثناء توضيح رؤية اإلمام َّية حول‬
‫مسألة‪ :‬هل خلق اليشء يشء أم غري يشء‪ ،‬فقال‪« :‬أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أ َّن خلق‬

‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)105‬‬


‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬البغدادي ‪1401‬ق‪ ،‬ص‪93‬؛ األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪164‬؛ الشهرستاين‪ ،1364 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)57‬‬
‫[[[‪ -‬ملزيد من التفصيل راجع‪ :‬اعتصامي‪.)1395 ،‬‬
‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)37‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)38‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬اقوام كربايس ‪ ،1393‬ص‪.)169-163‬‬

‫‪51‬‬
‫المحور‬

‫اليشء صفة لليشء‪ ،‬ال هو اليشء وال هو غريه؛ ألنّه صفة لليشء والصفة ال توصف‪[[[»...‬؛ حيث‬
‫بأي صفة‬
‫أراد بذلك اإلشارة إىل أ َّن الصفة عند متكلِّمي الكوفة ليست اليشء؛ بل معنى ال يتَّصف ِّ‬
‫كالحدوث والقدم‪.‬‬
‫يُستنتج ماَّمَّ تق َّدم‪ ،‬أنَّه وطبق نظام ما بعد الطبيعة عند هشام بن الحكم‪ ،‬فإ َّن ما سوى عامل املخلوقات‬
‫واألشياء‪ ،‬وما سوى ذات الله املباينة للعامل بشكل كامل‪ ،‬هنا مقام آخر ذو خصوص َّيات متعلّقة به‪ ،‬هو‬
‫مقام ال تنسب إليه أحكام مقام ذات الله‪ ،‬ويف الوقت عينه‪ ،‬ال تصدق عليه أحكام عامل املخلوقات‬
‫واألشياء‪ ،‬وهو الذي أشار إليه هشام بعبارة «ال هي هو وال هي غريه»‪ ،‬والذي َع ّرّب عنه بـ«املعنى»‪.‬‬
‫خالصة القول أنَّه ميكن دراسة النسبة بني الله والصفات يف مقامني‪:‬‬
‫املقام األ ّول‪ :‬نسبة الذات إىل الصفات يف مقام الذات‪ ،‬وهو بحث يحتاج إىل دراسة مستقلّة‪،‬‬
‫ُبنّي أ َّن متكلِّمي الكوفة قد نفوا الصفات عن مرتبة ذات الله من الناحية الوجوديَّة‬
‫إاَّل أ َّن الشواهد ت ّ‬
‫َّ‬
‫ويف املعنى تح َّدثوا عن صفات الله من ال ُبعد السلبي[[[‪.‬‬
‫املقام الثاين‪ :‬وهو مقام فعل الله الذي تح َّدث عنه متكلِّمو الكوفة من خالل نظريَّة املعنى‪.‬‬
‫وجودي لصفات الفعل؛ لذلك مل يحاول الكوفيّون نفي الصفة‬
‫ٌّ‬ ‫الواضح أ َّن نظريَّة املعنى نظام‬
‫خاصة به‪ ،‬فال هي أحكام عامل املخلوقات‬
‫َّ‬ ‫الوجودي‪ ،‬مع العلم أ َّن لهذا املقام أحكا ًما‬
‫ِّ‬ ‫يف ال ُبعد‬
‫كالحدوث وال ِقدم وال أحكام ذات الخالق‪.‬‬
‫َّ‬
‫اإللهية‪:‬‬ ‫‪َّ – 4‬‬
‫نظرية هشام بن احلكم يف تبيني اإلرادة‬
‫تط ّرقنا إىل قول األشعري يف بيان نظريَّة هشام بن الحكم حول إرادة الله تعاىل؛ حيث يظ ُّن‬
‫هؤالء كام يقول أ َّن الله عندما يريد‪ ،‬يتح َّرك[[[‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬فاإلرادة عند هشام حركة‪،‬‬
‫و«حركة الباري» عنده هي «فعله اليشء»[[[‪ .‬وعليه؛ تكون الحركة «فعل» و«معنى»‪ ،‬وهي تغيري‬
‫أو عمل وأمر حادث‪ .‬طب ًعا‪ ،‬يجب فهم هذا التغيري يف إطار نظريّة املعنى‪ ،‬كام أ َّن ما ينتج منه ال‬
‫الخارجي وليس له عين ّية مع ذات الفاعل‪ .‬يف مقام تشبيه املعقول‬
‫ِّ‬ ‫يقع يف إطار املراد واملخلوق‬
‫َ‬
‫طريَف الفعل والرتك‬ ‫باملحسوس ميكن القول أ َّن املوجود صاحب القدرة‪ ،‬والذي بإمكانه اختيار‬
‫انطالقًا من العلم‪ ،‬فإذا مل يخرت الفعل أو الرتك‪ ،‬كان يف الحقيقة موجو ًدا ساك ًنا‪ .‬وعندما يستعمل‬

‫[[[‪ -‬األشعري‪1400 ،‬ق‪ ،‬ص‪.)55‬‬


‫[[[‪ -‬اعتصامي‪.)1395 ،‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)41‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)213‬‬

‫‪52‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫هذا املوجود قدرته ويرتك حالة السكون بإرادته الح َّرة ومييل نحو الفعل‪ ،‬وكأنّه قد تح َّرك‪ .‬والواقع‬
‫أ َّن هذا امليل للحركة ليس عني ذات الفاعل وهو حادث‪ ،‬إاَّلَّ أنَّه مل يؤ ّدي إىل الحركة يف الخارج‬
‫ليعترب غري الذات‪.‬‬
‫بنا ًء عىل نظريّة املعنى وما تق ّدم من توضيح‪ ،‬فاملقصود من الحركة‪ ،‬ليس الحركة املشاهدة يف‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫وخاص َّية للذات‪ ،‬وأطلق عليها الحركة باعتبار ما حصل فيها؛‬


‫ّ‬ ‫ساحة مخلوقات العامل؛ بل بيان كامل‬
‫تلق‪ ،‬وليست‬
‫أي الحركة املشاهدة يف عامل الخارج‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬الحركة يف هذا الفهم مصدر ٍّ‬
‫حاصل املصدر‪ .‬وهكذا هو الفعل يف رؤية هشام؛ حيث جرى تفسريه وتبيينه انطالقًا من نظريَّة‬
‫املعنى‪ ،‬من مثار هذه الرواية‪ ،‬أ َّن اإلرادة التي ُعرِّبِّ عنها بالحركة واعتُربت معنى‪ ،‬هي من مقولة‬
‫مصدري‪ ،‬وال يجب‬
‫ٌّ‬ ‫وجودي يطلق عليه اسم الفعل‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هذا الفعل فعل‬
‫ٌّ‬ ‫«التغيري» وهي عمل‬
‫اعتباره مساويًا للمراد (الفعل املصدري الحاصل) ليس ببعيد وبسبب عدم وجود مصطلحات‬
‫املصدري‪ ،‬قد جرى الحديث عن اإلرادة وكونها‬
‫ّ‬ ‫تناسب فحوى ومعنى هذا الفعل يف املعنى‬
‫ماَّم ال ّ‬
‫شك فيه‪ ،‬أ َّن هذا اإلشكال يبقى عىل ق َّوته‪،‬‬ ‫املصدري (املراد أو الحركة الخارج َّية)‪َّ .‬‬
‫َّ‬ ‫الحاصل‬
‫وأ َّن الصعوبة ما تزال موجودة حول نقل هذا املعنى واملفهوم‪ .‬من مثار تبيني اإلرادة يف نظريَّة‬
‫هشام انطالقًا من مقولة «ال هي الله وال هي غريه» أ ّن صفات الله الفعل َّية ليست عني ذاته‪ ،‬وليست‬
‫منفصلة عن ذاته‪ ،‬وأ َّما تالمذته ورغم محاوالته يف تبيني اإلرادة وأنّها الحركة‪ ،‬ات ّخذوا طريقًا مخالفًا‬
‫له‪ ،‬وقالوا بأ َّن اإلرادة غري ذات الله‪.‬‬
‫يقول األشعري يف تقرير مقولتهم‪« :‬والفرقة الثانية منهم‪ :‬أبو مالك الحرضمي وعيل بن ميثم ومن‬
‫تابعهام يزعمون أ َّن إرادة الله غريه‪ ،‬وهي حركة الله‪ ،‬كام قال هشام‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن هؤالء خالفوه فزعموا أ َّن‬
‫اإلرادة حركة وأنّها غري الله بها يتح ّرك»[[[‪.‬‬

‫يتبنَّيَّ عند املقارنة بني الرؤيتني أنّهام تؤكّدان أ َّن اإلرادة من سنخ «الحركة»‪ ،‬وتفرتقان يف عبارة‬
‫«بها (اإلرادة) يتح ّرك»‪ ،‬بينام شاهدنا هشام يعتقد «أ ّن الله إذا أراد اليشء تح ّرك‪ ،‬فكان ما أراد»‪ .‬وكأ ّن‬
‫الله تعاىل يف بيان هشام يتح َّرك مع اإلرادة‪ ،‬ويف هذا الوقت «كان ما أراد»‪ .‬وإذا كان يحاول من‬
‫إاَّل أ َّن أصحابه‬
‫أي أمر أو حركة داخل الذات عند اإلرادة‪َّ ،‬‬
‫خالل قيد «هي غريه» نفي فكرة حصول ِّ‬
‫أوضحوا القضيَّة عىل نحو آخر‪ .‬قد تكون الحركة ليست داخل الذات؛ بل أمر خارج عن الذات‪.‬‬
‫يوضح أتباع هشام أ ّن اعتبار اإلرادة خارجة عن الذات‪ ،‬مبعنى عدم السنخيَّة وبينونة اإلرادة للذات‪،‬‬

‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)41‬‬

‫‪53‬‬
‫المحور‬

‫وهي تحيك عن أ ّن إرادة الله‪ ،‬غري الله‪ ،‬والله يتح َّرك عن طريق اإلرادة‪ ،‬وعند السؤال عن ماه َّية‬
‫اإلرادة‪ ،‬يؤكِّدون أ َّن اإلرادة حركة ومن مقولة التغيري‪.‬‬
‫إ َّن إيجاد وخلق حركة بوساطة أمر هو حركة‪ ،‬صعب ومعقّد‪ ،‬وهو يحيك عاَّمَّ يفهم من بعض‬
‫خصوصا رواية‪« :‬خلق الله املشيئة بنفسها‪ ،‬ث ّم خلق األشياء باملشيئة»[[[؛ حيث قد‬
‫ً‬ ‫الروايات‬
‫خلق الله تعاىل كافّة األشياء باملشيئة‪ ،‬مع العلم أ ّن املشيئة مخلوقة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬ليس كام هو الحال‬
‫الحق‪ ،‬فال ميكن أن تكون إىل جانب‬
‫ّ‬ ‫يف األشياء األخرى‪ .‬كام أ َّن اإلرادة ومع أنَّها ليست عني‬
‫إاَّل أنَّها ليست من‬
‫املخلوقات األخرى‪ .‬والسبب يف ذلك‪ ،‬أ َّن اإلرادة فعل الله‪ ،‬وهي مخلوقة يقي ًنا؛ َّ‬
‫سنخ مخلوقيَّة األشياء‪ ،‬بل هي أمر غري الذات تخلق األشياء بوساطتها‪ .‬وقد أوضح أصحاب هشام‬
‫فكل تغيري يحصل يف هذا العامل‪ ،‬فهو بوساطتها‪ .‬إ ّن‬
‫أ َّن اإلرادة وإن كانت من سنخ التغيري والفعل‪ّ ،‬‬
‫كل هذه الجهود التي بذلها أصحاب هشام من أجل سلب إسناد الحركة إىل ذات الله‪ ،‬فقد أرادوا‬
‫ّ‬
‫توضيح مسألة أ َّن حقيقة اإلرادة‪ ،‬غري حقيقة العلم وغري حقيقة القدرة؛ أل َّن العلم والقدرة ليسا‬
‫إاَّل أ َّن الحركة والتغيري حارضان يف اإلرادة وعىل هذا النحو تحصل أحداث هذا العامل كافَّة‪.‬‬
‫حركة‪َّ ،‬‬

‫[[[‪ -‬الكليني‪1407 ،‬ق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)110‬‬

‫‪54‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫النتيجة‬
‫كل جهودهم‬ ‫بذل متكلّمو اإلمام ّية منذ البداية جهو ًدا يف توضيح املضامني العقائديَّة‪ ،‬وح ّولوا َّ‬
‫العلم َّية نحو هذا األمر امله ّم‪ .‬وقد ظهرت هذه املسألة بني اإلمام َّية للم ّرة األوىل يف الكوفة يف القرن‬
‫الثاين الهجري‪ .‬وقد عمل املتكلّمون من خالل ما ق َّدموه عىل توضيح معارف الوحي وإضفاء تبيني‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يل عىل املعتقدات الدين َّية‪ .‬بَ ّنّي هشام بن الحكم وهو من أبرز منظِّري مدرسة الكوفة‪ ،‬أ ّن إرادة‬ ‫عق ٍّ‬
‫الله تعاىل حركة واستعان يف هذا السبيل بنظريّة «املعنى»‪ .‬وهو يعتقد أ َّن الحركة والعلم والكالم‬
‫و‪ ...‬فعل الله وحقيقة فعل الله ليست أم ًرا آخر غري املعنى؛ أل َّن املعنى من وجهة نظره يف مرتبة‬
‫غري ذات الله‪ ،‬وهو مخلوق وحادث‪ ،‬وهكذا كانت حقيقة الفعل عند املتكلّمني األوائل‪.‬‬
‫وإذا كان هشام رفض وضع املعنى يف رديف مخلوقات العامل األخرى‪ ،‬فال ميكن أيضً ا وصفه‬
‫بالجوهر أو العرض‪ ،‬كام هو الحال يف خصوص موجودات العامل األخرى‪ .‬وقد تح َّدث هشام عن‬
‫نظريَّة «املعنى» مستعي ًنا مبقولة «ال هي هو وال هي غريه»‪ ،‬وكأنّه يف العمل تح َّدث عن مقام آخر‬
‫بعيد عن مرتبة ذات الله وعامل املخلوقات واألشياء؛ لذلك فال ميكن حمل أحكام الذات عليه‪،‬‬
‫وال خصائص عامل املخلوقات‪.‬‬
‫يعتقد متكلّمو الكوفة بشكل عام‪ ،‬أ َّن اإلرادة فعل الله والفعل ميكن تبيينه عىل أساس نظريَّة‬
‫املعنى‪ ،‬واعتربوا أ َّن الفعل عمل يصدر عن القدرة واالختيار‪ ،‬والفاعل يختار بإرادته طريف الفعل‬
‫أواًل عىل التغيري والفعل؛ لذلك ال ميكن أن تكون صفة ذات‪،‬‬ ‫يدل ً‬‫والرتك‪ .‬أ ّما الحركة فهي مصطلح ُّ‬
‫ففي مرتبة الذات ال إمكان للحركة والتغيري‪ .‬كام أ َّن الحركة من جهة أخرى تعرف باملعنى‪ ،‬فال‬
‫تحمل خصائص عامل املخلوقات‪.‬‬
‫كل ما تق َّدم أ َّن إرادة الله عند متكلِّمي الكوفة‪ ،‬حقيقة غري املراد واليشء املك ّون الخارجي‪،‬‬
‫يتبنَّيَّ من ِّ‬
‫كام اعتقد الحقًا أمثال الشيخ املفيد أو بعض املعتزلة‪ .‬ومن هذا املنطلق‪ ،‬فإ َّن مراد متكلِّمي الكوفة‬
‫املصدري؛ أي الفعاليَّة والخالقيَّة‪ ،‬وليس الفعل مبعنى حاصل‬
‫ِّ‬ ‫من اعتبار اإلرادة فعل‪ ،‬هو الفعل مبعناه‬
‫املصدر الذي يت ّم إيجاده يف الخارج‪ ،‬وهو الذي يحمل اسم املخلوق‪ .‬أراد متكلِّمو الكوفة من تبيني‬
‫اإلرادة اإللهيَّة‪ ،‬القول أ َّن اإلرادة من صفات الله الفعليَّة وهي حقيقة فعل الله‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.‬ابن حزم‪ ،‬عيل بن أحمد (‪1996‬م‪1416 /‬ق)‪ ،‬الفصل يف املِلل واألهواء وال ِّنحل‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫مح ّمد إبراهيم نرص وعبد الرحمن عمريه‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الجيل‪.‬‬
‫‪2.‬ابن مرتىض‪ ،‬أحمد بن يحيى (‪1409‬ق‪1988 /‬م)‪ ،‬طبقات املعتزلة‪ ،‬تحقيق‪ :‬سوسنة ديفلد‬
‫فلزر‪ ،‬بريوت‪ :‬دار مكتبة الحياة‪.‬‬
‫‪3.‬أسعدى‪ ،‬عيل رضا (‪ ،)1385‬هشام بن حكم‪ ،‬قم‪ :‬انتشارات مركز دراسات العلوم والثقافة‬
‫اإلسالم َّية‪.‬‬
‫‪4.‬األشعري‪ ،‬أبو الحسن عيل بن إسامعيل (‪1400‬ق)‪ ،‬مقاالت اإلسالميّني واختالف املصليني‪،‬‬
‫تصحيح‪ :‬هلموت ريرت و سيبادن‪ ،‬انتشارات فرانس شتايرن‪.‬‬
‫‪5.‬اعتصامى‪ ،‬عبد الهادي (‪ ،)1395‬رابطه ذات وصفات از منظر اصحاب اماميه [العالقة بني‬
‫الذات والصفات من وجهة نظر اصحاب اإلماميَّة] ‪ ،‬قراءات يف مدرسة الكوفة الكالميَّة‪،‬‬
‫قم‪ :‬دار الحديث‪.‬‬
‫‪6.‬اعتصامى‪ ،‬عبد الهادي (‪ ،)1395‬رابطه ذات وصفات از منظر معتزله [العالقة بني الذات‬
‫والصفات من وجهة نظر املعتزلة] ‪ ،‬مجلَّة “الدراسات الكالم َّية”‪ ،‬العدد‪.8‬‬
‫‪7.‬اقوام كرباىس‪ ،‬اكرب (‪ ،)1391‬مدرسه كالمى كوفه [مدرسة الكوفة الكالميَّة]‪ ،‬مجلَّة “نقد‬
‫ونظر”‪ ،‬العدد‪.65‬‬
‫‪8.‬اقوام كرباىس‪ ،‬اكرب (‪ ،)1393‬مؤمن الطاق‪ ،‬قم انتشارات مركز دراسات العلوم والثقافة‬
‫اإلسالم َّية‪.‬‬
‫‪9.‬الباقالىن‪ ،‬محمد بن طيب (‪1369‬ق‪1950 /‬م)‪ ،‬التمهيد يف الر ّد عىل امللحدة املعطلة‬
‫والرافضة والخوارج واملعتزلة‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محمد حضريي ومحمد عبد الهادي أبو‬
‫ريده‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الفكر العريب‪.‬‬
‫ ‪10.‬الربيدى آىب‪ ،‬أرشف الدين صاعد بن محمد (‪1970‬م)‪ ،‬الحدود والحقائق يف رشح األلفاظ‬
‫املصطلحة بني املتكلّمني من اإلمام ّية‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسني عيل محفوظ‪ ،‬بغداد‪ :‬مطبعة‬
‫املعارف‪.‬‬
‫ ‪11.‬البغدادي‪ ،‬عبد القاهر (‪1401‬ق)‪ ،‬أصول الدين (أصول اإلميان)‪ ،‬بريوت‪ :‬ال ن‪.‬‬
‫ ‪12.‬البغدادي‪ ،‬عبد القاهر (‪1408‬ق)‪ ،‬الفرق بني الفرق‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الجيل – دار اآلفاق‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫نظرية "المعنى" في أفعال اهلل‬
‫َّ‬

‫ ‪13.‬التهانوى‪ ،‬محمدعيل بن عيل (‪1996‬م)‪ ،‬موسوعة كشاف اصطالحات الفنون والعلوم‪ ،‬تقديم وإرشاف‬
‫ومراجعة‪ :‬رفيق العجم وعيل دحروج‪ ،‬الرتجمة‪ :‬جورج زيناىت‪ ،‬بريوت‪ :‬مكتبة لبنان‪.‬‬
‫ ‪14.‬الجرجاىن‪ ،‬مري سيد رشيف (‪1412‬ق)‪ ،‬التعريفات‪ ،‬تهران‪ :‬نارص خرسو‪.‬‬
‫ ‪15.‬رضايى‪ ،‬محمد جعفر (‪ ،)1391‬امتداد انديشه هاى كالمى هشام بن حكم تا شكل گريى مدرسه كالمى‬
‫بغداد [انتشار الفكر الكالمي عند هشام بن الحكم إىل تأسيس مدرسة بغداد الكالمية]‪ ،‬مجلة نقد ونظر‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫العدد‪.65‬‬
‫ ‪16.‬السبحاين‪ ،‬جعفر (‪1428‬ق)‪ ،‬محارضات يف اإللهيَّات‪ ،‬تلخيص‪ :‬عىل رباىن گلـﭘايگاىن‪ ،‬قم‪ :‬مؤسسه‬
‫االمام صادق (ع)‪.‬‬
‫ ‪17.‬السبحاين‪ ،‬محمد تقى (‪ ،)1391‬كالم اماميه؛ ريشه ها و رويش ها [كالم اإلمام َّية الجذور واالتجاهات]‪،‬‬
‫مجلَّة “نقد ونظر”‪ ،‬العدد‪.65‬‬
‫ ‪18.‬الشهرستاىن‪ ،‬محمد بن عبد الكريم (‪ ،)1364‬املِلل وال ِّنحل‪ ،‬ج‪ ،3‬صم‪ :‬الرشيف الريض‪.‬‬
‫مؤسسة النرش اإلسالمي‪.‬‬
‫ ‪19.‬الشيخ طوىس (أبو جعفر محمد بن حسن) (‪1414‬ق)‪ ،‬الرسائل العرش‪ ،‬قم‪َّ ،‬‬
‫ ‪20.‬الشيخ مفيد (محمد بن محمد بن نعامن) (‪1413‬ق)‪ ،‬أوائل املقاالت واملذاهب واملختارات‪ ،‬قم‪:‬‬
‫املؤمتر العاملي للشيخ املفيد‪.‬‬
‫الاَّلهوت يف نقد رشح الياقوت‪ ،‬تصحيح‪ :‬عيل اكرب ضيايى‪،‬‬
‫ ‪21.‬العبيدىل‪ ،‬سيد عميد الدين (‪ ،)1381‬إرشاق َّ‬
‫طهران‪ :‬مرياث مكتوب‪.‬‬
‫ ‪22.‬العياد‪ ،‬حبيب (‪2009‬م)‪ ،‬الكالم يف التوحيد‪ ،‬بريوت‪ :‬دار املدار اإلسالمي‪.‬‬
‫ ‪23.‬القاىض عبد الجبار (اسد آبادى‪ ،‬عبد الجبار بن أحمد) (‪2012‬م)‪ ،‬املغني يف أبواب التوحيد والعدل‪،‬‬
‫دراسة وتحقيق‪ :‬محمد خرض نبها‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب العلميَّة‪.‬‬
‫ ‪24.‬مجموعة من الباحثني (بإرشاف محمد تقى السبحاىن) (‪[ ،)1395‬جستارهايى در مدرسه كالمى كوفه‬
‫قراءات يف مدرسة الكوفة الكالمية] ‪ ،‬باهتامم‪ :‬اكرب اقوام كرباىس‪ ،‬قم‪ :‬دار الحديث‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬
‫من ُ‬
‫ش ُرفات َّ‬
‫النص إلى مَ شارف القرآن‬

‫أم� معارز‬
‫عباس ي‬
‫باحث وأستاذ الدراسات العليا ف� َّ‬
‫النصية القرآنية ـ جامعة القادسيةـ العراق‬ ‫ي‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫رئيسا من املرتكزات التي تنهض عليها املعرفة‬ ‫يُ ْع َنى البحث باملعنى‪ِ ،‬ب َع ِّد ِه مرتك ًزا ً‬
‫القرآن َّية‪ ،‬وذلك من حيث صلته بالفعل اإلدرايكِّ من جهة‪ ،‬ومن حيث صلته باإلجابة عن‬
‫ُّلغوي قرآنًا؟) من جهة ثانية‪ .‬فهو أصل تنبت فيه أو ضمن حقله‬ ‫ُّ‬ ‫سؤال (كيف صار الرتكيب ال‬
‫يف‪،‬‬‫يف بق َّية األصول اإلبستيم َّية بال منازع‪ .‬وبإجابته عن سؤال (القرآن َّية)‪ ،‬أصل معر ّ‬ ‫املعر ِّ‬
‫ين التي كان لها ويكون‪ ،‬لو أصغى‬ ‫ص القرآ ِّ‬ ‫ال يقوم عىل أرض رخوة‪ ،‬بل يثبت يف تربة ال ّن ِّ‬
‫الفلسفي‪ ،‬أن متنح املعرفة القرآن َّية مالمحها العا َّمة‪ ،‬بل‬ ‫ِّ‬ ‫الباحث عن املعنى إىل سؤالها‬
‫ين‬
‫النص القرآ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫يف‪ .‬فسؤال املعنى الذي وطَّأ له‬ ‫الحضاري والثقا ّ‬
‫َّ‬ ‫تؤسس لها امتيازها‬ ‫أن ِّ‬
‫يف انتظم بعضه إىل بعض وتتابعت مثاباته‪ ،‬مبا يعمل عىل‬ ‫نسق معر ٌّ‬‫أسبابه‪ ،‬وه َّيأ مساراته ٌ‬
‫الفلسفي ورافعته‬
‫ِّ‬ ‫منصة السؤال‬ ‫وصواًل إىل أن يصري القرآن ّ‬ ‫ً‬ ‫استيالد السؤال من السؤال‬
‫الكربى‪ .‬وهذا ما يوجب االحتكام إىل منهج َّية أخرى تستطيع أن توفِّر لنا إجابات تدفع ع ّنا‬
‫البرشي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مضطربات البحث عن إجاباتنا يف‬
‫وسؤال املعنى‪ ،‬بنسخ ِته القرآن َّية‪ ،‬هو منظوم ُة ف ْهمٍ وطريق ٌة يف النظر تنتمي إىل بيئتها‬
‫واالجتامعي‪ ،‬وهو بعد ذلك‪( ،‬ميكانيزم) إدراك يستم ّد سامته‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫الخاصة وفعلها الثقا ِّ‬ ‫َّ‬
‫النص البيانيَّة واللسانيَّة باملقام األ ّول‪ ،‬ما يعني أ َّن ه ّويّة املعنى‬
‫ِّ‬ ‫الخاصة من مرجعيَّات‬ ‫َّ‬
‫املؤسس أ ّو ًاًل‪ ،‬وه ّويّة الباحث عن املعنى ثان ًيا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مرتبطة ارتباطًا وثيقًا به ّويّة‬
‫***‬

‫ص‪ ،‬القرآن َّية‪.‬‬


‫ين‪ ،‬املعرفة القرآن َّية‪ ،‬طبق َّية ال ّن ّ‬
‫مفردات مفتاح ّية‪ :‬سؤال املعنى‪ ،‬املعنى القرآ ّ‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ً‬
‫أواًل‪ :‬القرآن‪ ،‬سؤال املعىن‪:‬‬
‫القرآن مثابة معرف َّية كربى‪ ،‬توجب عىل شتات اإلدراك أن يجتمع فيها‪ ،‬وت ُلزم ال َف ْهم أن يتَّخذ منه‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ريا وإجابة فلسفيَّة كربى يف الوقت‬ ‫سؤااًل فلسفيًّا كب ً‬


‫ً‬ ‫ِ‬
‫ومقاص َد ترشيعٍ‪،‬‬ ‫أدوات لغويَّ ًة و ِعل ََل رشائ َع‪،‬‬
‫ٍ‬
‫يحق لطالب املعرفة القرآن َّية أن يكون عنوانًا لتلك املثابة‪،‬‬ ‫نفسه‪ .‬وها هنا‪ ،‬ومبوجب هذه املثابة‪ُّ ،‬‬
‫ودااًّلًّ عليها دالل َة الصفة عىل املوصوف‪ ،‬ووريثًا حقيق ًّيا لتلك األسئلة الفلسف َّية والدين َّية الكربى‬
‫املنصات املعنويَّة الكربى التي حفظت لإلنسان هويَّته الروحان َّية وانسجامه‬ ‫َّ‬ ‫التي أرست دعائم تلك‬
‫ريا يف القرآن الكريم من‬ ‫النوعي وتساؤالته الكربى‪ .‬وإذا كان األمر كذلك وجب أن نعيد النظر كث ً‬ ‫َّ‬
‫بكل ما لهذا اإلنسان من دوا ٍع جديدة متاسس أصل الحكمة‬ ‫حيث هو مقصد اإلنسان املعارص‪ّ ،‬‬
‫من تديّنه‪ ،‬وتطالبه بأن يبعث تساؤالته القدمية م َّرة أخرى‪ ،‬وأن يستثري مكامنه القلقة املتسائلة عن‬
‫الحكمة من وجوده و َم ْن أوجده؟ وملاذا أوجده‪ ،‬وماذا يرتتّب عىل ما بعد وجوده املحسوس؟ وما‬
‫طرف الحبل الذي إذا أمسك به اطأمنّت نفسه وزال قلقه وأدرك قلبه أنه ليس محض روتني زائل بعد‬
‫تفسخه يو ًما ما؟‪.‬‬ ‫ّ‬
‫صاحب هذا الشعور الذي ينوء باملعاناة الوجوديَّة الكربى‪ ،‬وار ٌد فيه أن يعرف الحقيقة القرآنيَّة ثم‬
‫إاَّل إذا وقف عىل ناحيتها التي تستنهض فيه حامسته املعرفيَّة ثم متكِّنه من صياغة‬ ‫ال يكاد أن يُ ِق ُّر بها َّ‬
‫النقدي انطالقًا من تلك الناحية التي تهذّب مشاعره وتدفع ذاته املعنويَّة املسكونة بتساؤالت‬ ‫ِّ‬ ‫وعيه‬
‫املعنى إىل مزيد من البحث عن تجاربه املعرف َّية الزاخرة مبقاصده من إدامة عالقته بالذَّات واآلخر‬
‫والحياة‪ .‬وعند هذه املنزلة‪ ،‬نقول‪ ،‬إ َّن بحثًا يعامل القرآن معاملة السؤال ال يخلو من أحد أمرين أو‬
‫تخيّل الباحث عن إجابته السابقة‪ ،‬وثانيهام استيالد السؤال من السؤال وصواًلً إىل‬ ‫كليهام‪ ،‬أولهام ّ‬
‫الفلسفي ورافعته الكربى‪ .‬وهذا ما يوجب االحتكام إىل منهج َّية أخرى‬ ‫ِّ‬ ‫منصة السؤال‬ ‫أن يصري القرآن ّ‬
‫البرشي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫تستطيع أن توفِّر لنا إجابات تدفع ع ّنا مضطربات البحث عن إجاباتنا يف‬
‫ولعل نظر ًة هذا‬ ‫َّ‬ ‫البرشي مهام عال شأنه ما هو إاَّلَّ بحث عن اإلجابة وليس امتالك اإلجابة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫إذ‬
‫ماّم اختلط بها من رؤى ال َّرائني‪ ،‬وتستبدل بتفاصيل البحث‬ ‫شأنُها تقدر عىل متييز املثابة القرآنيَّة ّ‬
‫والسؤال بالسؤال‪ ،‬وأن تنظر يف القرآن إىل‬ ‫َ‬ ‫أتبعت الفكر َة بالفكرة‬
‫ْ‬ ‫إجامله‪ .‬وال يكون لها ذلك إاَّلَّ إذا‬
‫أكرث من ناحية من نواحيه‪ ،‬فإذا أحاطت بشهوده فال تغفل عن غيابه‪ .‬وألجل استحضار ما غاب منه‬
‫تجىّل من شهوده‬ ‫معرفيًّا الب َّد من االنتباه إىل أ َّن ما غاب منه ليس ما غيَّبَته النظرات القارصة‪ ،‬وأ َّن ما ّ‬
‫ج َمل نواحيه ال إىل االقتصار عىل‬ ‫إاَّل إذا كان انتزاع شهوده مستن ًدا إىل ُم ْ‬ ‫تجىّل حقًّا َّ‬
‫يف ليس ما ّ‬ ‫املعر ِّ‬
‫َّلفظي من نواحيه‪ ،‬ومن ث ّم الب َّد من االنتباه إىل أ َّن السؤال الذي يثريه القرآن‬
‫ِّ‬ ‫الحيّس ال‬
‫ّ ِّ‬ ‫ناحية الظهور‬

‫‪59‬‬
‫المحور‬

‫من حيث هو الواحد البسيط هو غري السؤال الذي يثريه من حيث هو الواحد املركّب‪ .‬وليس كسؤال‬
‫املعنى الغائب من أسئلة القرآن سؤال ٌّ‬
‫دال عىل القرآن؛ الواحد املركّب‪!.‬‬
‫سؤااًل أو يصلح أن يكون إجاب ًة؟‬
‫ً‬ ‫تُرى‪ ،‬هل للقرآن أن يكون‬
‫حا ألن يكون‪ ،‬يف ناحية من‬ ‫سؤااًل‪ ،‬ال بد من أن يكون صال ً‬ ‫ً‬ ‫ابتدا ًء‪ ،‬وحتى يصلح القرآن أن يكون‬
‫مجهواًل‪ .‬ذلك أ َّن البعد املجهول يف اليشء هو وحده القادر عىل أن يثري أسئلة ال‬ ‫ً‬ ‫نواحيه أو أكرث‪،‬‬
‫جت دفائنها‪ .‬أ َّما ما يصلح أن يكون إجابة‬ ‫ريت و ُهيِّ َ‬
‫إاَّل إذا أث َ‬
‫قدرة لها عىل أن تكشف عن إجاباتها َّ‬
‫فقط فإجاباته بديه َّية كتلك التي ميكن أن يق ِّدمها طفل‪ .‬ما يعني أ َّن بالغة السؤال ال تكمن يف إمكان‬
‫تقدميه إجابة بده َّية بل يف ما ينفتح عليه من إجابة عميقة ومختلفة‪ ،‬فإذا كان ذلك رقَّى السؤال إىل أن‬
‫يكون إمكانًا لتع ُّدد اإلجابة‪ ،‬وصار السؤال إمكانًا لوالدة تساؤل جديد‪ .‬وهذا ما يشتمل عليه القرآن‪،‬‬
‫وهو يدفع مبامرسة البحث عن املعنى إىل البحث عن مزيد من األسئلة التي تسبق اإلجابات‪ .‬فإن‬
‫يرق الباحث عن اإلجابة القرآن َّية يف مرقاة السؤال وصواًلً إىل عالئ َّية الحقيقة القرآن َّية يف التعامل‬ ‫مل َ‬
‫ضني‪ ،‬وينأى به عن إرادته الحكيمة‪.‬‬ ‫مع القرآن‪ ،‬فإنّه يق ِّزم القرآن ويجعله ِع ِ‬
‫من هنا‪ ،‬بإمكاننا القول أ َّن القرآن يق ِّدم تساؤالت قبل أن يق ِّدم إجابات‪ ،‬ويدعو إىل البحث‬
‫َب هو السائل‬ ‫جه ملخاط ٍ‬ ‫عن إجابة قبل أن يدعو إىل امتالكها‪ .‬وكل ذلك بلحاظ أنَّه خطاب مو ّ‬
‫واملسؤول يف الوقت نفسه‪ ،‬وأ ّن هذا السائل املسؤول ال يستطيع أن يدفع ما ك ّن فيه من مجاهيل‪،‬‬
‫وأيضً ا ال يستطيع أن يحيا حياة معرفيَّة طيّبة من دون أن يكون قاد ًرا عىل اإلجابة‪ .‬ولكن الب َّد لذلك‬
‫عاّم ميكن أن يفيض إليه ا ّدعاؤه‬ ‫الذي له القدرة عىل اإلجابة من أن يق َّر بتسليمه أنَّه ال ميتلك إجابة ّ‬
‫يف‪ ،‬ذلك أنَّه ال عالِم عىل وجه األرض يستطيع أن يقول إنَّه يق ِّدم‬ ‫تلك امللك َّية من تخليط معر ِّ‬
‫تساؤالت هي األخرى تطالب بإجابات‬ ‫ٍ‬ ‫فتح بعثُ اإلجابة‬‫اإلجابات كلّها‪ ،‬وأنَّه كلّام ابتعث إجاب ًة َ‬
‫تشعر املجيب أنَّه وج ًها لوجه قبالة املجهول الجديد الذي هو أوسع من الذي قبله‪ .‬وأنّه كلام‬
‫ماَّم سبق أ َّن‬
‫حل‪ .‬والبادي َّ‬ ‫الحل املقرتح إىل مشكالت أخرى تحتاج إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫حاًّل أفىض به‬
‫اقرتح ًّ‬
‫يعدم‬‫جه السائل بسؤاله إىل القرآن فإنه ال ِ‬ ‫اإلنسان كائن متسائل‪ ،‬واملتسائل يطلب إجابة‪ ،‬فإذا تو ّ‬
‫الحق التي‬
‫َّ‬ ‫إجابة مهام كان شأن تلك اإلجابة‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن ما يجب االعتقاد به والتسليم له هو أ َّن اإلجابة‬
‫لفظي بعينه‪،‬‬‫ٍّ‬ ‫يق ِّدمها القرآن أبعد ما تكون عن اإلجابة الجاهزة الناجزة الظاهرة املتحيِّزة يف موجو ٍد‬
‫يّص‪ ،‬وال يكون لطالبها‬ ‫ثم إنَّها ال إمكان لد ْر ِكها بالُّلجوء إىل ناحية بعينها من نواحي الوجود ال ّن ّ ِّ‬
‫ص َّية بني الكلمة والكلمة‪،‬‬ ‫الوقوف عىل ما يشري إليها وهو يغفل عن مراتبها املعنويَّة ومنازلها ال ّن ّ‬
‫ج َملٍ ومجمو ٍع آخر‪ .‬وهذا يعني أ َّن اإلجابة القرآن َّية تسفر‬ ‫وعند الجملة والجملة‪ ،‬وحيث مجموع ُ‬
‫إاَّل إذا انترش شعاع أسئلتها‪ ،‬وأنَّها ال‬ ‫يتجىّل نهارها َّ‬
‫ّ‬ ‫عن صبْحها بعد امتالء السؤال بظلمته‪ ،‬وأنَّها ال‬

‫‪60‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫إاَّل إذا تغشَّ اها بثائرة السؤال‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬القرآن ال يق ِّدم إجابة كامنة يف‬ ‫تكشف عن فتنتها للسائل َّ‬
‫أحشائه بل يهدي إىل اإلجابة التي تغشَّ تها اختالفات الكيفيَّة حواليه‪ ،‬فهو إبانة عن اليشء وليس‬
‫إاَّل‬
‫اليشء‪ ،‬واليشء حوايل القرآن وليس القرآن‪ .‬وما امتناع القرآن عن تقديم إجابة كاملة ناجزة َّ‬
‫الشخيص يف االستخالف يف األرض‪ ،‬وما هو‬ ‫ِّ‬ ‫دليل عىل احرتامه لحريَّة الفرد العقل َّية وملرشوعه‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الخاصة‪ .‬وألنَّه‬ ‫َّ‬ ‫ش التجربة الروحيَّة‬ ‫يف يك تنشِّ ط اإلمكانات العقليَّة‪ ،‬ويك يتحقَّق عيْ ُ‬ ‫إاَّل حثٌّ معر ٌّ‬‫َّ‬
‫بتقدميه إجابات كاملة يحرم طالب املعنى من امتيازه الكائن يف قدراته العقليَّة ومكامنه الروحيَّة‬
‫التي مت ّيزه من غريه من الكائنات الح َّية‪ .‬وإمَّنَّ ا الذي تحقَّق ألبينا آدم من أسئلته الكبرية وإجاباته‬
‫الخاصة بعد الخديعة املعرف َّية الشيطان َّية ما تحقَّق لوال نزوله إىل األرض‪ ،‬أي لوال أن عاش تجربته‬ ‫َّ‬
‫اجْلنَّة َفت َْش َقى‪. ‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خُي ِر َجنَّك َُاَم م َن َْ‬ ‫ك َف َاَل ُ ْ‬ ‫ك َولز َْو ِج َ‬ ‫ِ‬ ‫يف؛ ‪َ ‬يا َآ َد ُم إِ َّن َه َذا َعدُ ٌّو َل َ‬ ‫الخاصة وشقاءه املعر ّ‬ ‫َّ‬
‫[[[‬

‫ولكنه حينام كان يف ج ّنته ‪-‬ج َّنة املأوى‪ -‬قبل تلك الخديعة مل يكن ميتلك أسئلة قدر ما كان‬
‫ميتلك إجابة عن سؤال؛‪َ ‬ق َال َيا َآ َد ُم َأ ْنبِئ ُْه ْم بِ َأ ْس َاَمئِ ِه ْم َف َل َّاَّم َأ ْن َب َأ ُه ْم بِ َأ ْس َاَمئِ ِه ْم َق َال َأ َمَل ْ َأ ُق ْل َلك ُْم إِ ِّيِّن َأ ْع َل ُم‬
‫النبوي وهدايته املعرف َّية‬ ‫ون‪ .[[[‬أ َّما اجتباؤه‬ ‫ون َو َما ُكنْت ُْم َت ْكت ُُم َ‬ ‫ض َو َأ ْع َل ُم َما ُت ْبدُ َ‬ ‫ات َو ْاأْلَ ْر ِ‬ ‫َغيب الساَمو ِ‬
‫ُّ‬ ‫ْ َ َّ َ َ‬
‫فكانا ُعقَيب نزوله إىل األرض أي كان ُعقَيب وضعه نفسه يف غري موضع اإلجابة الناجزة‪ ،‬طم ًعا‬
‫منه باكتشاف املجهول الذي يفيض به إىل دوام البقاء وطأمنينته بعدما انتصب له هادي اإلجابة‬
‫َاب َع َل ْي ِه َو َهدَ ى‪ .[[[‬ويرتت َّب عىل ما سبق‪ ،‬رضورة االعتقاد بأننا‪ -‬نحن‬ ‫الخادعة؛ ‪ُ ‬ث َّم ْ‬
‫اج َت َبا ُه َر ُّب ُه َفت َ‬
‫األرض ّيني‪ -‬مبقدار كبري من الجهل وقليل من العلم‪!.‬‬
‫وحتى نكون يف منأى من هذه املساحة الواسعة من املجاهيل ال ب َّد من أن نسأل‪ .‬وال ب َّد‪ ،‬بعد‬
‫السؤال‪ ،‬من إجابة‪ .‬والقرآن يقول؛ أنا أق ِّدم لكم فرصة منهج َّية المتالك اإلجابة؛ ‪‬إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْر َآ َن َ ْهَي ِدي‬
‫لِ َّلتِي ِه َي َأ ْق َو ُم‪ .[[[‬والذي نفيده من اآلية‪ ،‬أن ال سؤال إاَّلَّ وله إجابة‪ ،‬وأن حضور السؤال يستلزم‬
‫حضور اإلجابة‪ ،‬مع فارق شهود اإلجابة يف لحظة شهود السؤال أو شهودها يف غيابها‪ .‬فإن غابت‬
‫فال يعني غيابها عدمها بل يعني خفاء وجودها الداعي إىل االهتداء إليها‪ .‬وأ َّما تحقّق االهتداء إليها‬
‫إيّن أنا‬
‫فمرشوط بالهادي إليها‪ ،‬ومدى حقّان َّيته يف أن ينصب نفسه هاديًا‪ .‬وهنا ينربي القرآن للقول؛ ّ‬
‫إاَّل هدايتكم‬ ‫الحق‪ ،‬أ َّما اإلجابات فكائنة فيكم‪ ،‬ويف املوجودات من حولكم‪ ،‬وما مه َّمتي َّ‬ ‫ّ‬ ‫الهادي‬
‫إىل اإلجابة األقوم من بني مجموع اإلجابات التي تفيض بها النصوص الدينيَّة السابقة أو التي‬
‫تقرتحها عقولكم أو يقرتحها العقل البرشي عليكم‪ .‬واإلجابات هذه ال تعدو أن تكون‪ ،‬عىل وفق‬
‫جة‪ ،‬أو قومية أو أقوم‪.‬‬‫جا‪ ،‬أو معو ّ‬ ‫ين‪ ،‬إ ّما أكرث اعوجا ً‬
‫املصطلح القرآ ِّ‬

‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.117‬‬


‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.122‬‬
‫[[[‪ -‬سورة االرساء‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬

‫‪61‬‬
‫المحور‬

‫الحاسة‬
‫َّ‬ ‫ماَّم سبق‪ ،‬نخلص إىل أ َّن غياب اإلجابة ال يعني عدم وجودها‪ .‬فغياب اليشء عن‬ ‫َّ‬
‫الحاسة عن دركه ال يعني أ َّن اليشء غري موجود‪ .‬وغياب حقيقة أ َّن األرض تدور قبل غاليلو‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وعجز‬
‫العلمي قبل نيوتن ال يعني أ َّن دوران األرض عد ٌم‪ ،‬وأ َّن قوانني‬
‫ِّ‬ ‫وأ َّن قوانني الجاذب َّية غائبة عن العقل‬
‫الجاذب َّية هرطقة‪ ،‬فدوران األرض كائن وإ ْن غاب عن الجميع‪ ،‬وقوانني نيوتن ليست ع َد ًما‪ ،‬وإنَّها‬
‫وصقاًل عقليًّا فائقًا‬
‫ً‬ ‫ّت‪ .‬وهكذا هي اإلجابات موجودة غائبة تنتظر تجربة روحيَّة عليا‬ ‫كائنة وإن تخف ْ‬
‫لتُكتَشف ال لتُوجد‪.‬‬
‫املعنوي هذا يطالبنا بأن نستكشف‬
‫ُّ‬ ‫وحني نسم القرآن بأنَّه سؤال املعنى الغائب‪ ،‬فسؤال الغيب‬
‫كل اإلجابات موجودة مهام تن َّوعت واختلفت‪،‬‬ ‫اإلجابة‪ ،‬وأن نضع يف أذهاننا مق ِّدمة أوىل مفادها أ َّن َّ‬
‫ومهام ظ َّن َمن ظ َّن أنَّه ال ميتلكها لش َّدة تخفِّيها‪ .‬وبنا ًء عىل هذا‪ ،‬قد يتم َّيز س من الناس من دون‬
‫الحاجة إىل زمن طويل ليمتلك إجابة وحاًّلًّ ملشكلة علم َّية أو فلسف َّية‪ ،‬وال يتم َّيز ص وإ ْن قىض‬
‫طوياًل يف البحث عن اإلجابة‪ .‬والعيب ليس يف اإلجابة نفسها بل يف طالب اإلجابة‪ .‬ومن ههنا‬ ‫ً‬ ‫زم ًنا‬
‫رصا يسيئون إليه‪ ،‬أل َّن مثَلهم كمثَل‬ ‫نستطيع القول أ َّن أولئك الذين ينظرون إىل القرآن نظرة لغويَّة ح ً‬
‫الروحي‬
‫ُّ‬ ‫من ينظر إىل اإلنسان نظرة ترشيح َّية متا ًما وينىس أن هنالك بع ًدا يف اإلنسان هو البعد‬
‫حق اإلنسان ويساويه ببق َّية الكائنات‪ .‬كذلك الذي ينظر إىل‬ ‫املعنوي‪ ،‬فيبخس بتلك النظرة َّ‬
‫ُّ‬ ‫أو‬
‫القرآن‪ ،‬بنا ًء عىل ما موجود فيه من آيات أحكام فقط‪ ،‬وينىس بُعده األرحب‪ ،‬هو أيضً ا ييسء إىل‬
‫القرآن‪ .‬فالقرآن قبل أن يكون سؤال عامل الشهادة‪ ،‬أي قبل أن ننظر إليه بِع ِّد ِه لغ ًة مشهودة مك َّونة‬
‫حى‬ ‫ح ّد‪ ،‬ودعوة املو َ‬ ‫املوحي التي ال ت ُ َ‬‫ِ‬ ‫من اسم وفعل وحرف‪ ،‬هو مكنون الوحي ومعانيه‪ ،‬وإرادة‬
‫ب ِفي ِه هُدً ى‬ ‫إليه ليك يكتشف ما غاب ال ليؤكّد ما شُ هِد‪ .‬و ﴿ذلك﴾ يف ﴿امل َذلِكَ الْ ِك َت ُ‬
‫اب َاَل َر ْي َ‬
‫ني‪‬يف اآلية الثانية من أ ّول سورة يف ترتيب املصحف بعد الفاتحة‪ ،‬وهي سورة البقرة‪ ،‬ال‬ ‫لِلْ ُم َّت ِق َ‬
‫يقف معناه عندهذا ِب َع ِّد ﴿ذلك﴾ اس َم إشارة للبعيد عىل حني املشار إليه قريب‪ ،‬وهو القرآن الذي‬
‫تفخياًم لشأن َّية القرآن ومكانته العظيمة‪ .‬نعم‪ ،‬هذه النظرة‬ ‫ً‬ ‫بني أيدينا‪ .‬وإنّه قد قال ذلك واملراد هذا‬
‫والغيبي‪ ،‬ومبقدار ما يت ُّم االكتفاء‬ ‫ِّ‬ ‫املعنوي‬
‫ِّ‬ ‫صحيحة‪ ،‬ولكنها كذلك مبقدار ما يت ُّم تغييب بُعد القرآن‬
‫حس ًّيا ال غري‪ ،‬كام أ َّن اإلنسان ليس تكوي ًنا بروتين ًّيا ال غري‪ .‬نعم‬
‫الشهودي‪ .‬فالقرآن ليس تكوي ًنا ّ‬
‫ّ‬ ‫ببعده‬
‫بروتيني‪ ،‬ولكن بلحاظ النظرة الترشيحيَّة‪ ،‬أ َّما االرتفاع عىل تلك النظرة فيوجب أن‬ ‫ٌّ‬ ‫اإلنسان تكوين‬
‫التكوينالربوتيني هو اإلبانة الوافية عن تلك الزيادة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يكون اإلنسان ذلك الربوتني وزيادة‪ ،‬وأن غاية‬
‫وإاَّل فالنظرة الترشيح َّية تلك ال متتلك اإلجابة الكاملة عن سؤال ما االنسان؟‪ .‬نعم‪ ،‬هي إجابة‬ ‫َّ‬
‫صحيحة‪ ،‬ولكنها ليست اإلجابة األقوم‪.‬‬
‫الربوتيني إىل‬
‫ِّ‬ ‫اللغوي املعادل للتكوين‬
‫ُّ‬ ‫فإذا أردنا البحث عن تلك الزيادة التي يدعونا التكوين‬
‫البحث عنها واستكشاف ج َنبة من جوانب غيبها‪ ،‬اتضح لنا أ َّن موضع ﴿امل﴾ يف آيتي سورة البقرة‬

‫‪62‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫يف يفيض بنا إىل ج َنبة الغيب يف‬ ‫السابقتني يل ِّوح لنا بحقيقة مه َّمة مفادها؛ أ َّن ﴿امل﴾ مبتدأ معر ٌّ‬
‫القرآن‪ ،‬وأ َّن اآليات عقيبة ‪‬امل﴾ تفصيل إلجامل‪ ،‬أو إظهار للقرآن من عامل الغيب إىل عامل الشهادة‪.‬‬
‫يل‬
‫الروحي والعق ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫فــ﴿امل﴾ بيان عامل الغيب هنا‪ ،‬وهذا الغيب يتفاوت يف بُ ُد ِّو ِه مبقدار التفاوت‬
‫يل والتجربة الروح َّية واالستضاءة بأصحاب التجارب السابقة‪.‬‬ ‫بني س وص من حيث الصقل العق ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫وصواًل إىل شخص بعينه سمت تجربته الروحيَّة وترقّت‬ ‫ً‬ ‫وهكذا تختلف منزالت الكشف واالكتشاف‬
‫وصقلت حتى بلغ مرتبة قاب قوسني أو أدىن‪ ،‬ثم إنَّه ببلوغه هذه املرتبة يصري القرآن بالنسبة‬ ‫وتكاملت ُ‬
‫يف مبستوى ﴿امل﴾ ‪ ،‬ويصري‬ ‫إىل قدرته عىل بلوغ هذه الجنبة أو تلك من جنبات الغيب املعر ِّ‬
‫يتوىَّل مبوجبها االنتقال بـ﴿امل﴾ وأمثالها من مستوى ج َنبة الغيب‬ ‫َّ‬ ‫تفصيل ما أج َملَتْه امل مه َّمته التي‬
‫حق‬ ‫إىل مستوى ج َنبة الشهادة‪ .‬فـ﴿امل﴾ خوارزميَّات القرآن التي ال أستطيع أنا أن ادركها‪ ،‬بل يدركها َّ‬
‫كاماًل وتجربة‬ ‫ً‬ ‫صقاًل ذهنيًّا‬
‫ً‬ ‫د ْركها من أ َّهله عامل الغيب إىل بلوغ ذلك الد ْرك‪ .‬أ َّما أنا أو أنت فامتالكنا‬
‫كل‬ ‫روح َّية كافية وسلوكًا عمل ًّيا منضبطًا بعد الوفاء برشط اإلميان بج َنبة الغيب يف القرآن‪ ،‬يجعلنا ُّ‬
‫للشك والريبة‪ ،‬وإنّنا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف بـ﴿امل﴾ ‪ ،‬وأنه ليس مدعاة‬ ‫ذلك مطمئنني إىل إبانة القرآن وتلويحه املعر ِّ‬
‫كاماًل‪ ،‬ال مينعنا غيبه من االعتقاد به‪ ،‬كام مل مينعنا عدم دركنا دوران‬ ‫ً‬ ‫وإ ْن عجزنا عن إدراك غيبه‬
‫األرض بأ ّم أعيننا من تصديق غاليلو ومن تبعه‪ .‬ولكنه‪ ،‬فيام لو اكتفى وهو يخاطبني مبستوى ﴿امل﴾‬
‫شك‪ .‬ولكن‪ ،‬وباملقدار نفسه الذي‬ ‫ومثيالتها‪ ،‬سيكون مصد ًرا لعجزي والنتابتني ال ّريبة بال أدىن ّ‬
‫شك‬ ‫يستويل االرتياب عىل بعضهم‪ ،‬رغم تفصيل القرآن‪ ،‬هنالك أشخاص بعينهم ال ميتلكون أدىن ٍّ‬
‫ِّ‬
‫الشك وال ّريبة‬ ‫كاماًل‪ .‬فالقرآن يوازي بني عدم‬ ‫ً‬ ‫يف غيوب ﴿امل﴾ ‪ ،‬وبال حاجتهم إىل تفصيل القرآن‬
‫هذا املرتت ِّب عىل التفصيل – سور القرآن جمي ًعا ‪ -‬أو املرتت ِّب عىل اإلجامل – الحروف املقطَّعة –‬
‫ُرْبا بتفصيالته‪ .‬والقرآن‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ويف موضع آخر‬ ‫حط خ ْ ً‬ ‫يشك بغيب ﴿امل﴾ وإن مل يُ ِ‬ ‫وهنالك من ال ُّ‬
‫ب فِ َيها‪ ،[[[‬وعدم ال ّريبة يف الكتاب؛‬ ‫فيقول‪:‬و َأ َّن َّ‬
‫السا َع َة َاَل َر ْي َ‬ ‫َ‬ ‫يساوي بني عدم ال ّريبة يف قيام الساعة‬
‫ب فِ ِيه‪ .[[[‬وهذا يعني أ َّن القرآن يف مرتبة واحدة متا ًما مع قيام الساعة‪ .‬وكام أ َّن‬ ‫َاب َاَل َر ْي َ‬
‫‪َ ‬ذلِ َ ِ‬
‫ك ا ْلكت ُ‬
‫عامل الشهادة مظهر محدود من مظاهر ما بعد املوت‪ ،‬حيث ال قدرة عىل تخيُّل تلك املظاهر كلّها‪،‬‬
‫لغوي‪ ،‬رشح ٌة من رشحات عامل املعنى‪ .‬وهذا ما يدعونا إىل‬ ‫ٌّ‬ ‫كذلك القرآن‪ ،‬من حيث هو شهو ٌد‬
‫القول؛ إذن ما مقدار هذا الغيب الذي يُ ِك ّنه القرآن؟ وما مقدار هذا املعنى الغائب الذي مل يُش َهد حتى‬
‫أنّه يصري معادال ملا مل يُشْ َهد بقيام الساعة وما بعد القيام؟‬
‫ُّ‬
‫نستدل‬ ‫الس َور‪ ،‬ونحن‬
‫وإذًا‪ ،‬القرآن‪ ،‬أصالةً‪ ،‬هو امل ومثيالتها من الحروف املقطّعة أوائل بعض ِّ‬
‫عليه بنسخته املش ّف َرة مهتدين بهذا التفصيل املتمثل مبائة وأربع عرشة سورة‪ .‬فاملساواة بني القرآن‬

‫[[[‪ -‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.21‬‬


‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬

‫‪63‬‬
‫المحور‬

‫املفصل ليس هو القرآن الذي‬ ‫ّ‬ ‫والساعة بضابطة الغيب‪ ،‬مع أ َّن القرآن موجود أمامنا‪ ،‬تعني أن القرآن‬
‫نستدل به عىل القرآن‪ .‬لذلك يرد يف موضع آخر‬ ‫ُّ‬ ‫أُح ِك َمت آياته‪ ،‬املكنون بجنبته الغيبيَّة بل هو ما‬
‫ت بِ ِه ْاأْلَ ْر ُض َأ ْو‬ ‫‪‬و َل ْو َأ َّن ُق ْر َآنًا ُس ِّرِّي ْت بِ ِه ِْ‬
‫اجْل َب ُال َأ ْو ُق ِّط َع ْ‬ ‫َ‬ ‫منه‪ ،‬وهو يل ّوح بتلك الجنبة الغيبية فيه بقوله‪َ :‬‬
‫ولك‪ ،‬مل يغب عن ذلك‬ ‫ُك ِّل َم بِ ِه ا َْمْل ْوتَى‪ ،[[[‬عىل أ ّن هذا الذي غاب من قدراته وإمكاناته بالنسبة يل َ‬
‫الذي عنده علم الكتاب‪ .‬أ ّما اقتصارنا عىل النظر إليه ِب َع ِّد ِه هذا الذي هو فعل وفاعل ومفعول وغريه‪،‬‬
‫بخس وتضييق ملساحاته الواسعة‪ ،‬شأنه شأن ذلك البيولوجي الذي يقرص اإلنسان عىل كتلته‬ ‫ٌ‬ ‫فهذا‬
‫ت ِم ْن َلدُ ْن َحكِي ٍم َخبِريٍ‪،[[[‬‬ ‫َاب ُأ ْحكِ َم ْ‬
‫ت َآ َيا ُت ُه ُث َّم ُف ِّص َل ْ‬ ‫ِ‬
‫الربوتين َّية‪ .‬وعليه‪ ،‬وعندما يقول القرآن؛ ‪‬الر كت ٌ‬
‫‪‬و َل ْو َأ َّن ُق ْر َآنًا ُس ِّرِّي ْت بِ ِه ِْ‬
‫اجْل َب ُال َأ ْو‬ ‫فهو يتحدث عن الجنبة الشهوديَّة يف القرآن‪ ،‬لكنه عندما يقول َ‬
‫َ‬
‫ت بِ ِه ْاأْلَ ْر ُض َأ ْو ُك ِّل َم بِ ِه ا َْمْل ْوتَى‪ ،[[[‬فهو يتح َّدث عن ج َنبة الغيب‪ .‬وبهذه الج َنبة ومن طريقها‪،‬‬ ‫ُق ِّط َع ْ‬
‫سؤااًل يف الغيب‪ ،‬ويهدي إىل التي هي أقوم يف اإلجابة‪ ،‬ويجيب عن‬
‫ً‬ ‫نستطيع القول أ َّن القرآن يق ِّدم‬
‫سؤال املعنى‪!.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ثاني�ا‪ :‬من ش ُرفات الن ِّص إىل مشارف القرآن‪:‬‬
‫ً‬

‫النص‪ ،‬وأن‬
‫ِّ‬ ‫ابتدا ًء‪ ،‬الب َّد من أن يثبت لنا أ َّن سؤال املعنى وفاقًا ملا ت َّم بيانه‪ ،‬سينعكس يف مفهوم‬
‫صياغة راجحة ملصطلح النص ال ميكن أن تحقق مقاصدها دومنا استعانة مبفهوم املعنى‪ .‬وعىل‬
‫النص مرشوطة بتحليله‪ ،‬وسيبدو أ َّن مقاصد تحقيقه مرشوطة بتأويله‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫هذا‪ ،‬سيبدو لنا أ َّن توسعة‬
‫ب بالنسبة إىل التأويل‪ ،‬وبالتحليل والتأويل‬ ‫فالنص عتب ٌة أوىل بالنسبة إىل التحليل‪ ،‬وفضاء ر ْ‬
‫ح ٌ‬ ‫ُّ‬
‫حا ألن يكون أداة تحليل َّية نفهم بهدي منها‬‫كليهام نستطيع أن نفهمه‪ .‬فإن كان كذلك صار صال ً‬
‫مشارف القرآن وأعايل القرآن َّية‪.‬‬
‫الوجودي‪ ،‬وهو يصدر من منابعه األوىل‪ .‬جاء يف اللُّغة[[[؛‬
‫ِّ‬ ‫وهاهنا‪ ،‬وابتدا ًء‪ ،‬تت ُّب ٌع لتاريخ املفهوم‬
‫وانتصت هي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َصها‬
‫لرُتى‪ .‬وقد ن َّ‬
‫واملنصة‪ :‬ما ت ُظ َه ُر عليه ال ُعروس ُ‬
‫َّ‬ ‫نصت الظبية جيدها‪ :‬رفعت ُه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ونص‬‫َّ‬ ‫لرُتى من بني النساء‪.‬‬ ‫ص عليها ُ‬‫نصة‪ ،‬وهي تنتَ ّ‬ ‫العروس فتُقعدها عىل املِ َّ‬ ‫َ‬ ‫تنص‬ ‫ِ‬
‫واملاشط ُة ّ‬
‫ونص اليش َء‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫وانتص اليشء وانتصب إذا استوى واستقام‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫نصا‪ :‬جعل بعضه عىل بعض‪.‬‬ ‫املتا َع ًّ‬
‫والنص‪ :‬استخراج الرأي‬ ‫ُّ‬ ‫ص‪ ،‬أصله منتهى األشياء ومبلغ أقصاها‪.‬‬ ‫ونص األمرِ‪ :‬شدت ّه‪ .‬وال َّن ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ح ّركَه‪.‬‬
‫ص التعيني عىل يشء ما‪ .‬وكل ما أُظهر فقد ن َّ‬
‫ُص‪.‬‬ ‫وإظهاره‪ .‬وال ّن ُّ‬
‫ص‪،‬‬
‫نص َ‬
‫ويج ُدر‪ ،‬عند هذه املثابة‪ ،‬أن نجري مقاربة معرف َّية‪ ،‬نفتح مبوجبها استعامالت كلمة َ‬
‫[[[‪ -‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬
‫[[[‪ -‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.1‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الرعد‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬
‫[[[‪ -‬ينظر؛ لسان العرب‪ ،‬ابن منظور؛ مادة نصص‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫ونؤسس بوساطتها‪ ،‬لرؤية جديدة ملفهوم النص‪ .‬وهاهنا مقاربات معرفيَّة أوىل‪:‬‬
‫ِّ‬
‫النص يكشف عن عدم استغناء املفهوم‬ ‫ِّ‬ ‫إ َّن استقراء بسيطًا ملفهوم اإلظهار املالزم ملفهوم‬
‫االجتامعي البسيط‬
‫ِّ‬ ‫اللغوي من مستوى الوجود‬
‫ِّ‬ ‫الثاين عن األول‪ ،‬بل إن االنتقال باليشء‪ /‬الرتكيب‬
‫شرَتط لتحقيق فعل‬ ‫الفلسفي البليغ مرشوط بكينونة فعل اإلظهار‪ .‬والذي يُ َ‬ ‫ِّ‬ ‫إىل مستوى الوجود‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫اإلظهار‪ ،‬استعداد امل ُراد إظهاره لإلظهار‪ ،‬ووجود فاعل قادر عىل إجراء فعل اإلظهار‪ .‬وعىل هذا‪،‬‬
‫اللغوي إىل مستوى الوجود البليغ ال يكون بأثر من الرتكيب نفسه بل بأثر م ّمن‬ ‫ِّ‬ ‫فاالنتقال بالرتكيب‬
‫يتوىَّل إظهار املعنى‬
‫َّ‬ ‫النص ابتداء‪ ،‬وهذا‬
‫ِّ‬ ‫يتوىَّل عمل َّية اإلظهار‪ .‬والذي يقوم بهذه العمل َّية هو صاحب‬ ‫َّ‬
‫من طريق اللُّغة‪ ،‬ووظائفها اإلبالغيَّة والبالغيَّة‪ .‬أ َّما املُظْهِر الثاين فهو املحلِّل‪ ،‬وهذا يُظْهِر املعنى‬
‫ص يف الُّلغة التداول َّية‬‫نصا‪ .‬وعىل هذا‪ ،‬يصري معنى الظهور الذي يعرف به ال ّن ّ‬ ‫من اللُّغة وقد صارت ًّ‬
‫مختلفًا اختالفًا تا ًّما عن مامرسة إظهار املعنى استنا ًدا إىل آل َّيات التحليل والتأويل‪ .‬وبإزاء فعل‬
‫اللغوي ض ّيقة‬
‫ِّ‬ ‫النص‪ .‬فداللة الرتكيب‬ ‫ِّ‬ ‫اإلظهار مث َّة فعل التحريك‪ ،‬واملقصد منه هو توسعة داللة‬
‫وتأوياًل‪،‬‬
‫ً‬ ‫النص‪ ،‬وهي ساكنة حتى تحريكها صناعة‬ ‫ِّ‬ ‫االجتامعي قبل تحريك‬
‫ِّ‬ ‫محدودة باستعاملها‬
‫النص‪ ،‬وأ َّن تحريك املعنى من حقل‬ ‫ِّ‬ ‫ح ِّركَت ظهرت‪ .‬وهذا يعني أ َّن املظهر النيصَّ رشط يف‬ ‫فإذا ُ‬
‫إىل حقل‪ ،‬مبا تسمح به خصائص اللُّغة‪ ،‬رشط يف اإلظهار‪ .‬أ َّما الصفة املم ّيزة لتحريك املعنى يف‬
‫نص وآخر‪ ،‬وصناعة وأخرى‪ ،‬وتأويل وتأويل‪ .‬وأما‬ ‫النص فصفة الكيف َّية والنسب َّية واالختالف بني ٍّ‬
‫ِّ‬
‫وكل تحريك ال يكون‬ ‫النص فكائ ٌن إذا ما تحقَّق نوع توافق بني التحريك واإلظهار‪ُّ ،‬‬‫كامل املعنى يف ِّ‬
‫نص ًّيا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تحريك قارص ّ‬ ‫عنه إظهار املعنى ليس سوى‬
‫عاّم فوقه أو‬ ‫مستقل ّ‬
‫ٌّ‬ ‫النص يشرتط الفوقيَّة‪ ،‬فال عنرص من عنارصه قائم بنفسه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وأل َّن تكوين‬
‫فالنص متح ِّرك‬
‫ُّ‬ ‫لعرائس ِه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ومنص ٌة‬
‫ّ‬ ‫النص نضيد ٌة بالنسبة إىل غريه‬ ‫ِّ‬ ‫كل يشء يف‬ ‫تحته أو حواليه‪ .‬وأل َّن َّ‬
‫نص امتيازه يف جعل بعض عنارصه عىل بعض‪.‬‬ ‫ولكل ٍّ‬
‫ّ‬ ‫غري ساكن‪ ،‬وعنارصه يُظْ ِه ُر بعضها بعضً ا‪.‬‬
‫النص ص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عروس‬
‫َ‬ ‫النص س ومجىل جامله‪ ،‬عىل حني يكون التشبيه‬ ‫ّ‬ ‫وقد تكون االستعارة عروس‬
‫ليحل التشبيه محلّها ال يعني خروج االستعارة مطلقًا من دائرة‬ ‫ّ‬ ‫املنصة‬
‫ّ‬ ‫حي االستعارة عن‬ ‫عىل أ ّن تن ّ‬
‫منصة العروس لتكون من ضمن املحتفالت بالعرس‪،‬‬ ‫النص بقدر ما يعني أ َّن االستعارة تنزل من ّ‬ ‫ِّ‬
‫املنصة‪ .‬وكذلك األمر إذا كانت العروس كناية أو نسقًا‬ ‫ّ‬ ‫املتحلِّقات حول العروس‪ ،‬ولكن أسفل‬
‫نحويًّا أو اختيا ًرا لفظ ًّيا‪ ،‬أو تركي ًبا أو أسلوبًا لغويًّا أو مظه ًرا صوت ًّيا أو ظاهرة لغويَّ ًة أو اشتقاقًا رصف ًّيا‪.‬‬
‫النص طرف بطونه وبطونه طرف ظهوره‪ ،‬وعرائسه ال تتناوب العدم والوجود بل تتناوب‬ ‫ِّ‬ ‫إلخ‪ .‬فظهور‬
‫املنصة بل ما متنحه العروس للمعنى كيام‬ ‫ّ‬ ‫الظهور والبطون‪ .‬واملهم‪ ،‬ليس كون العروس عىل‬
‫يظهر‪ ،‬وكينونتها مجىل املعنى وتجلِّياته‪ ،‬ومظهره وظاهرته‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫المحور‬

‫يب األه ِّم واملهيمن فيه‪،‬‬


‫النص غري امل ُك ِّون األسلو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ولعلَّنا ال نختلف يف أ َّن مجمل مك ِّونات‬
‫كام أ َّن صويحبات العروس وبقيَّة النسوة غري العروس‪ .‬فالعروس‪ ،‬وقد ال تكون األجمل‪ ،‬هي‬
‫الاَّليت قد تكون فيه ّن من هي أجمل منها‪ ،‬ولكنها ليست‬ ‫البنيوي لجمع اآلنسات األوانس َّ‬ ‫ّ‬ ‫الناظم‬
‫يل ينهض‬ ‫يف وجام ٍّ‬‫النص لعقد معر ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫العروس التي تته ّيأ لعالقة الزوج َّية‪ ،‬أي التي يته ّيأ بوساطتها‬
‫الكل بالجزء‪ ،‬ضمن‬
‫منصة الزوجيَّة‪ .‬وزيادة عىل ذلك‪ ،‬تبدو عالقة العروس ببقيَّة النسوة عالقة ّ‬ ‫عىل ّ‬
‫وأسه‬
‫الكل ّ‬
‫الكل ولكنها مقصد ِّ‬ ‫نظام مخصوص تتطلَّبه مناسبة العرس‪ ،‬تبدو فيه العروس جز ًءا من ِّ‬
‫يف ومركز دائرته‪.‬‬‫املعر ُّ‬
‫الكل‬
‫ّ‬ ‫الكل‪ ،‬ويف‬‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬هاهنا‪ ،‬عليه أن ينظر يف الجزء ضمن‬ ‫ِّ‬ ‫ومن شاء أن ينظر إىل ظاهرة‬
‫الكل هو الجزء‪ ،‬ولكن بلحاظ رشوط‬ ‫ِّ‬ ‫كل عنرص من‬ ‫املفيض إىل الجزء‪ ،‬ويف إمكان أن يكون ُّ‬
‫املنصة‪ ،‬أن مي ِّيز الجزء وقد تزيّ َن من الك ُّل‬
‫ّ‬ ‫نيّص مختلف‪ .‬وليس لناظر من بعيد‪ ،‬لوال‬
‫أخرى وعقد ّ ٍّ‬
‫إاَّل املاشطة التي ترفع العروس‬ ‫عروسا‪َّ ،‬‬‫ً‬ ‫الكل والجزء‪ ،‬ك ُُّل أولئك وار ٌد أن يكون‬‫َّ‬ ‫وقد تزيّ َن‪ ،‬أل ّن‬
‫املنصة فتُظْ ِه ُر‬
‫ّ‬ ‫فإنّها من الك ُّل وليست من الك ُّل يف الوقت نفسه‪ .‬ذلك أ ّن العروس باملاشطة تعلو‬
‫للنص مرتك ًزا أو‬ ‫ّ‬ ‫يل‪ .‬ومآل املقاربة‪ ،‬أ ّن‬ ‫النيص االحتفا ّ‬
‫ّ‬ ‫مبناها ومعناها‪ ،‬وتُظْهِر معنى ذلك املناخ‬
‫ص‪،‬‬ ‫النص‪ ،‬فإنه معرف ًّيا وجامل ًّيا‪ ،‬ما ألجله يتح ّرك ال ّن ّ‬
‫ِّ‬ ‫مرك ًزا يتحلّق حوله‪ ،‬وأ َّن املركز‪ ،‬وإن كان بعض‬
‫ص محيط الدائرة بالنسبة إىل املركز‪ ،‬والدائرة دائر ٌة باملركز واملحيط م ًعا‪،‬‬ ‫وأ ّن بق َّية مك ّونات ال ّن ِّ‬
‫وبني املركز واملحيط عالقة السكون والحركة‪ .‬وقد تكون الدائرة مرك ًزا ومحيطًا يف الوقت نفسه‪،‬‬
‫النص‪ .‬فإن يصعب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالدائرة مركز لدائرة أخرى‪ ،‬والدائرة الثانية مركز لثالثة‪ ،‬وهكذا تتوالد عرائس‬
‫ط‬ ‫املنصة‪ ،‬فمنو ٌ‬ ‫ّ‬ ‫انتصت عىل‬ ‫َّ‬ ‫النص التي‬ ‫ِّ‬ ‫وهو صعب حقًّا‪ ،‬عىل غري املحلل اكتشاف عرائس‬
‫باملحلّل اكتشافها‪ ،‬ومهمة املؤ ّول العبور إىل خالصاتها‪ ،‬مرو ًرا بدوائرها‪ ،‬وانتهاء بذوق عرائسها‪.‬‬
‫النص حتى انقضاء الحفل النيصِّ ‪ ،‬ثم يرجع أجنبيًّا‬ ‫ّ‬ ‫والب َّد للمحلّل املؤ ّول من أن يكون جز ًءا من‬
‫نصان َّية التحليل والتأويل‪.‬‬
‫عنه‪ ،‬إن شاء‪ ،‬ولكن بعد متام ّ‬
‫النص مك َّون من نصوص بعضها فوق بعض‪ ،‬فهو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نصانيّة املتاع‪ ،‬يتكشّ ف لنا أ َّن‬
‫وبالعود إىل ّ‬
‫نصوص‪ .‬قد تختلف يف الصفة واملظهر والنوع اختالف متا ٍع ما عن غريه‪ ،‬ولكنها متَّسقة‬ ‫ٍ‬ ‫إذًا‪ ،‬جام ُع‬
‫فالنص‬
‫ّ‬ ‫يتناص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نصوصا أو‬
‫ً‬ ‫والنص الظاهر منها يستبطن‬
‫ُّ‬ ‫منصة ملا فوقه‪.‬‬
‫نص منها ّ‬ ‫كل ٍّ‬‫مرتابطة‪ ،‬وإ ّن َّ‬
‫بقصد من واضعها‪ .‬ومه َّمة املحلّل‬‫ٍ‬ ‫وتناصها‬
‫ّ‬ ‫تراصها‬
‫نصوص جمعتها صفة واحدة‪ ،‬ونظمها ّ‬ ‫ُ‬ ‫الواحد‬
‫النص األخري‬
‫ّ‬ ‫املؤ ّول استظهار ما بطن منها‪ ،‬ولكن ال ألجل تفريقها بل ألجل تبيان إسهامها يف رفع‬
‫إاَّل ونصوص توازيه رفعته‪.‬‬ ‫لنص َّ‬
‫وإظهاره‪ .‬وعليه‪ ،‬ال ظهور ّ‬
‫اللغوي‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫كل يش ٍء منتها ُه وغايتُه ومبل ُغ أقصاه‪ ،‬كذلك األصل يف‬
‫نص ِّ‬
‫وكام أ َّن األصل يف ِّ‬

‫‪66‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫اللغوي إاَّلَّ إذا حقَّق رشط البالغة‪ .‬وبالغة‬


‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫منتهاه وغايته ومبلغ أقصاه‪ .‬وهذا ما ال يكون يف‬
‫النص‪ ،‬هاهنا‪ ،‬كائن ٌة يف إتقان صنعته وإحكام روابطه وسعة معانيه‪ ،‬وهذا ما ال يكون بيانه َّ‬
‫إاَّل إذا بالغ‬ ‫ِّ‬
‫النص واستقصائه وتت ّبع إسناد النصوص التي ك ّونته ‪.‬عىل أ َّن بالغته عند مظهره‬ ‫ّ‬ ‫املحلِّل يف مساءلة‬
‫إاَّل‬
‫تنتص َّ‬
‫َّ‬ ‫ص أن‬‫النص من رأي أو رؤيا‪ .‬وال يكون لبالغة ال ّن ّ‬
‫ُّ‬ ‫اللغوي بل تتجاوز املظهر إىل ما يك ّنه‬ ‫ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫النص بجزئه‪ ،‬وات َّسقت حركة جزئه مع حركة كلّه‪ .‬فإذا كان ذلك‪ ،‬وت ّم تحريكه بعد‬ ‫ِّ‬ ‫كل‬
‫إذا استقام ّ‬
‫يتعنّي‪ ،‬ولداللته‬
‫جبًا‪ ،‬ثم إذا سكن بعد اشتداد حركته‪ ،‬كان ملعناه أن ّ‬ ‫سكونه‪ ،‬استوى عىل ُسو ِق ِه ُم ْع ِ‬
‫ومنصتها‪ .‬فإذا اشت ّدت‬‫ّ‬ ‫أن ت ُْستَخ َرج‪ ،‬برشط أن الذي ما بني املعنى والشكل هو عني ما بني العروس‬
‫ص ض ّف َة الحقيق ِة إىل ضفّة املجاز‪ ،‬وآل باملجاز إىل الحقيقة‪ ،‬وصل َُح أن يكون‬ ‫عرَب ال ّن ّ‬
‫حركة املعنى َ َ‬
‫منص َة الشكل ورافعته‪ .‬وما االنسجام والتامهي الذي بني املعنى واملعنى من جهة‪ ،‬والذي‬ ‫املعنى ّ‬
‫املنصة من جهة أخرى‪ ،‬إاَّلَّ كمثل الذي بني جمع األوانس من جهة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بني جمع املعاين ومعنى‬
‫واملنصة من جهة أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬من ُش ُرفات القرآن إىل َ‬
‫طب ِق َّية الن ّص‪:‬‬
‫النص ومك ِّونِه‬ ‫ِّ‬ ‫النص من طريق مادة‬ ‫ِّ‬ ‫ماّم يتعلق مبفهوم‬‫بسط ما ميكن بسطُه ّ‬ ‫واآلن‪ ،‬وقد ت َّم لنا ْ‬
‫األوىل؛منصة اللُّغة أو تدفع‬ ‫ّ‬ ‫املنصة‬
‫ّ‬ ‫ج تؤكِّد صدق‬‫ذات ِع َو ٍ‬
‫منص ٍة غري ِ‬ ‫ين‪ ،‬نرانا بحاجة إىل ّ‬ ‫اللسا ِّ‬
‫َاب بِ َْ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬و َأ ْن َز ْلنَا إِ َل ْي َ‬
‫احْل ِّق ُم َصدِّ ًقا‬ ‫ك ا ْلكت َ‬ ‫دعواها‪ ،‬ولها الهيمنة عليها فهي تحتويها وتزيد عليها؛ َ‬
‫َاب َو ُم َه ْي ِمنًا َع َل ْي ِه‪،[[[‬‬
‫نْي َيدَ ْي ِه ِم َن ا ْلكِت ِ‬ ‫ِ‬
‫النص مرة أخرى‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نطل منها عىل مفهوم‬ ‫فاملنصة التي ّ‬
‫ّ‬ ‫َمِلا َب ْ َ‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن بلحاظ كونه عتب ْة تأسيس َّية وضابطة منهج َّية‪ ،‬هذه امل ّرة‪ ،‬وهو ما‬ ‫منصة القرآن ِ‬ ‫هي ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجا‪.[[[‬‬ ‫رِش َعة َومن َْه ً‬ ‫الشق الثاين من اآلية السابقة نفسها‪ ،‬إذ تقول؛ ‪‬لك ٍُّل َج َع ْلنَا م ْنك ُْم ْ‬ ‫ُّ‬ ‫يؤيّده‬
‫منصة القرآن‪ ،‬هنا‪ ،‬مر ُّده إىل أننا‪ ،‬ونحن نسعى لتأسيس املفاهيم واصطالحاتها‪،‬‬ ‫جه صوب َّ‬ ‫والتو ُّ‬
‫النص هي الغاية التي ليس بعدها غاية‪ ،‬أ َّما‬ ‫ِّ‬ ‫قد رشطنا عىل أنفسنا‪ ،‬ما مفاده؛ أ َّن املعرفة بوساطة‬
‫النص فهي غاية بقدر ما تهدينا إىل التي هي أقوم؛‪‬إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْر َآ َن َ ْهَي ِدي لِ َّلتِي ِه َي َأ ْق َو ُم‪.[[[‬‬ ‫ِّ‬ ‫معرفة‬
‫عىل أن نتذكّر أننا سبق لنا أن خلصنا إىل أن هذا الكون من ذ ّراته وما تحتها إىل مج ّراته وما فوقها ما‬
‫عالئق جد ٍل‬
‫َ‬ ‫كل ما يف هذا الكون يربط بعضه بعضً ا‪ ،‬وأن ما بني جزئه وكُلِّ ِه‬ ‫نص‪ ،‬بلحاظ أ َّن َّ‬ ‫هو إاَّلَّ ّ‬
‫بنيوي‪ ،‬وأ َّن ما بني الجزء والك ُّل اتساقًا وانسجا ًما‪ ،‬وأ َّن ظهور اتِّساقه مرشوط بكونه دائب الحركة‬ ‫ٍّ‬
‫النص ّية‪ ،‬وهو بالقدر‬ ‫لكل تلك املح ّددات ّ‬ ‫ؤوب حركة‪ ،‬وأ ّن القرآن تبيان ِّ‬
‫بعد سكون‪ ،‬وساك ًنا بعد ُد ِ‬
‫يؤسس أصولها ويلتزم بها التزام الخُالصة بالعرض‪ ،‬أ ّما هي فتخلص له إخالص‬ ‫يبنِّي عنها ّ‬
‫الذي ِّ‬

‫[[[‪ -‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.48‬‬


‫[[[‪ -‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬سورة اإلرساء‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬

‫‪67‬‬
‫المحور‬

‫ِ ِ‬ ‫اآللة لـكتلوكها‪ !.‬يقول تعاىل؛ ‪َ ‬ف َاَل ُأ ْق ِس ُم بِ َّ ِ‬


‫الش َفق * َوال َّل ْي ِل َو َما َو َس َق * َوا ْل َق َمر إ َذا ات ََّس َق * َل َ ْ‬
‫رَت َك ُب َّن‬
‫النص ّية‪،‬‬‫ون‪ .[[[‬وبلحاظ الرؤية ّ‬ ‫َط َب ًقا َع ْن َط َب ٍق * َف َاَم َُهَل ْم َاَل ُي ْؤ ِمن َ‬
‫ُون * َوإِ َذا ُق ِرئَ َع َل ْي ِه ُم ا ْل ُق ْر َآ ُن َاَل َي ْس ُجدُ َ‬
‫ين‪ ،‬خالصتني؛ أوالهام؛‬ ‫النيص القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‪ ،‬نرتشف من املقطع‬ ‫ومبقدار ما يعيننا يف تأسيس مفهوم ِّ‬
‫وس َق‪ ،‬إن مل يك ْن مث َّة حصول‬‫ليل وال َ‬
‫وس َق‪ .‬وال َ‬ ‫أن ال اتِّساق للقمر إن مل يكن مث ّة الليل وقد َ‬
‫غائب مجهول املعنى حتى يُربط مبا‬ ‫ٌ‬ ‫الشفق‪ .‬أما الثانية فمفادها أ َّن الركوب طبقًا عن طبق مج َم ٌل‬
‫تبنّي لنا أن منزالت الركوب طبقًا عن طبق هي عينها منزالت الضوء‪ ،‬بد ًءا باختالط‬ ‫قبله‪ ،‬فإذا ربطناه ّ‬
‫يئ السبعة‪ ،‬عند غروب الشمس‪ ،‬مرو ًرا‬ ‫ضوء النهار بسواد الليل وانحالله إىل ألوان الطيف الضو ِّ‬
‫لياًل‪ ،‬خلوصا إىل امتالء القمر باإلنارة‪ .‬فهي‪ ،‬إذًا‪ ،‬انحالل واختالط ثم‬ ‫باجتامع الظلمة واشتدادها ً‬
‫اجتامع واشتداد‪ ،‬ثم امتالء وبيان‪ ،‬عىل أن االمتالء باللون األبيض بالنسبة إىل القمر‪ ،‬متسق مع‬
‫اشتداد اللون األسود‪ ،‬متمث ًِّاًل بظلمة الليل‪ .‬والبادي‪ ،‬مبقاربة أوىل لسلسة املظاهر الكون َّية للضوء‪،‬‬
‫بد ًءا باختالطه‪ ،‬وانتهاء باشتداده‪ ،‬أ َّن املحلِّل بإزاء ثالث طبقات تسند بنيان النص‪ .‬وهذه هي‪:‬‬
‫ّْ‬
‫النص‪:‬‬ ‫الطبقة األوىل؛ اختالط املعىن باملعىن‪ ،‬وإرادة‬
‫ورد يف معرض متييز الفروقات اللغويَّة بني الشفقة والخشية؛ «الفرق بني الشفقة والخشية‪ :‬أ َّن‬
‫ترق‬‫الشفقة رضب من الرقَّة وضعف القلب ينال االنسان ومن ثم يقال لألم إنَّها تشفق عىل ولدها أي ّ‬
‫له وليست هي من الخشية والخوف يف يشء‪ ،‬والشاهد قوله تعاىل؛ « ِإنَّ ا َّل ِذي َن ه ُْم ِم ْن خَشْ َي ِة َربِّه ِْم‬
‫يحسن أن يقول يخشَ ون‬ ‫حسن أن يقول ذلك كام ال ُ‬ ‫ُمشْ ِفقُونَ »[[[‪ ،‬ولو كانت الخشية هي الشفقة ملا ُ‬
‫َوب شَ ِف ٌق إذا كان رقيقا وشُ ِّب َهت به ال َبدا ُة ألنها حمر ٌة‬ ‫من خشي ِة ربهم‪ .‬ومن هذا األصل قولُهم؛ ث ٌ‬
‫ج رقيق‪ ،‬أو بإزاء اختالط يشء بيشء‪ ،‬ابتداء؛ «الشَّ ف َُق‪:‬‬ ‫نس ٍ‬
‫ليست بالـ ُمحكَمة»[[[‪ .‬فنحن إذًا‪ ،‬بإزاء ْ‬
‫ينحل فيها املعنى‬ ‫ّ‬ ‫مس»[[[‪ .‬وهذه هي الطبقة التي‬ ‫ط ضو ِء ال ّنها ِر بِسوا ِد اللّيلِ عن َد ُغ ُر ِ‬
‫وب الشَّ ِ‬ ‫اخ ِتال ُ‬
‫النيّص ومعانيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعجمي إىل ألوان الطيف‬
‫بكل وضوحه وبياضه إىل‬ ‫ّ‬ ‫املعجمي‬
‫ِّ‬ ‫وهذا يعني‪ ،‬بالنسبة إىل املحلّل‪ ،‬العبور باملعنى‬
‫ومن ث َّم مالبسته مالبسة‬ ‫بكل غموضه املرشوع وعتمته الجامل َّية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫النيّص‬
‫ّ ِّ‬ ‫ضفَّة املعنى‬
‫وترق مقارنة مبنزلة ما بعدها‪ ،‬وتغمض مقارنة مبا قبلها من وضوح‪ .‬والذي يضبط‬ ‫ُّ‬ ‫تشف‬
‫ّ‬ ‫أوىل‬
‫يل‪ ،‬ورؤياه‬ ‫يل‪ ،‬ووعيه الجام ُّ‬ ‫النص‪ ،‬هو عقله التحلي ُّ‬‫ِّ‬ ‫مالمح هذه املنزلة‪ ،‬بالنسبة إىل محلِّل‬
‫الفلسفي‪ ،‬وانحيازاته الوجوديَّة‪ ،‬وحساسيَّته البالغيَّة‪ ،‬وع ّدته املعرفيَّة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫اإلبداعيَّة‪ ،‬وموقفه‬

‫[[[‪ -‬سورة االنشقاق‪ ،‬اآليات ‪.24-16‬‬


‫[[[‪ -‬سورة املؤمنون‪ ،‬اآلية ‪.57‬‬
‫[[[‪ -‬معجم الفروق اللغوية‪ ،‬أبو هالل العسكري‪ ،‬تحقيق بيت الله بيات‪ ،‬ومؤسسة النرش اإلسالمي؛ ص‪ ،300‬وسورة املؤمنون؛ ‪.57‬‬
‫[[[‪ -‬مفردات ألفاظ القرآن؛ ص‪.458‬‬

‫‪68‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫وخربته الفنيَّة‪ .‬وعند رشفات هذه املنزلة التي ينظر منها املحلل يبدو الواقع مختلطًا‬
‫ومأمواًل‪ ،‬يقظ ًة و ُ‬
‫حل ًُاًم‪ ،‬وساك ًنا ومتح ّركًا‪ .‬إلخ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حا و ُعتْ َمةً‪ ،‬وجو ًدا‬‫ولياًل‪ ،‬وضو ً‬
‫ً‬ ‫باملفرَتض‪ ،‬نها ًرا‬
‫ََ‬
‫وعند هذه الب ْي ِن ّية الوجوديَّة واملعرف َّية يصري لزا ًما عىل خيال املحلل وهو يجهد يف مقاربة‬
‫يل الكامن يف صلب تلك املخالطة أن يكون الفاتح أو الجندي‬ ‫يف والجام ِّ‬ ‫الوجودي واملعر ِّ‬
‫ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ط به فتْح أرض مل تطأها قدمه من قبل‪ .‬ويبقى مضمون البحث عن إرادة املثال واملطلق‬ ‫الذي أنِي َ‬
‫والفلسفي غاية ما تطمح رؤيا املحلّل إىل‬‫ِّ‬ ‫يف‬
‫والثوري والجديد واملعر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫يئ والجميل الجليل‬ ‫والعال ِّ‬
‫النص عليه‪ .‬أ َّما الوقوف عىل كيف َّية ظهوره‬ ‫ِّ‬ ‫تل ُّمسه وتل ُّمس مدى اشتامل هذه الطبقة من طبقات‬
‫تتوىَّل الطبقة الثانية بناء عالئق‬
‫َّ‬ ‫واستظهاره فمرشوط بض ّم هذه الطبقة إىل الطبقتني التاليتني‪ ،‬حيث‬
‫تتوىَّل الطبقة األوىل ترسيم مالمحه‪ ،‬وذلك بعد تحديد مسارات املعاين‬ ‫َّ‬ ‫النيّص الذي‬
‫ّ ّ‬ ‫املضمون‬
‫تتوىَّل‬
‫َّ‬ ‫محكاًم مبا يحقِّق مقاصد الطبقة األوىل‪ .‬عىل حني‬ ‫ً‬ ‫وضبط وجهاتها وس ْو ِقها سوقًا حس ًنا‬
‫ماّم تتو َّاَّله الطبقة الثانية‪ ،‬ولكن‪،‬‬‫الطبقة الثالثة ما يربط املعنى باملعنى معرف ًّيا وفلسف ًّيا وجامل ًّيا ّ‬
‫اللغوي املستند إىل إقامة العالئق اللغويَّة اللفظ َّية والرتكيب َّية الكاشفة‬ ‫ِّ‬ ‫هذه املرة‪ ،‬من طريق الربط‬
‫عن تلك العالئق املعنويًّة كشْ فًا بليغًا‪ .‬وهذا يعني أ َّن تصديق الرؤيا وتنزيلها عىل الواقع مرتبة‬
‫الحق ٌة ملرتبة اختالط الواقع بالرؤيا‪ ،‬وأ ّن بحث املحلل عن متثّل تلك املضامني الجميلة الجليلة‪،‬‬
‫تتقىّص عالقة‬
‫ّ‬ ‫النص من جهة‪ ،‬وتت ّبعها وهي‬ ‫ِّ‬ ‫ط بالفراغ من تت ُّبع املعاين وهي تتّسع ملقاصد‬ ‫مرشو ٌ‬
‫بـالنص َنصة‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫فتوسع ما ض ّيقه املعنى االجتامعي قبل الرشوع‬ ‫ّ‬ ‫املعنى بغريه‪،‬‬
‫لكل معنى باملعاين‬ ‫أواًل‪ ،‬وارتباط تلك املعاين التي ِّ‬ ‫الكيّل إىل معانيه الجزئيَّة‪ً ،‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫إ َّن انحالل املعنى‬
‫األسس املعرفيَّة والجامليَّة التي ستُبْ َنى‬ ‫الجزئيَّة املتعلِّقة بغريها من املعاين‪ ،‬ثانيًا‪ ،‬يعني توسعة ُ‬
‫وفاقًا لها طبقات النص‪ .‬عىل أن اختالط املعنى باملعنى‪ ،‬ابتداء‪ ،‬هو املرتكز الذي تقوم عليه بنية‬
‫النص األوىل‪ ،‬وهو أول الرشوع األنطولوجي يف الكينونة الجديدة للمعنى‪ ،‬بالنسبة إىل املحلّل‪،‬‬
‫يل الضيّق بغية تهيئته لوجود جديد‬ ‫اللغوي التداو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫وهو أ ّول رشوعه يف انتزاع روح املعنى من جسده‬
‫النص‪ ،‬أ َّما‬
‫ج َنبَتَي ّ‬‫منصة التأويل اإلبانة عنه الحقًا‪ .‬هذا من حيث الجنبة املضمونيَّة من َ‬ ‫تتوىَّل ّ‬
‫َّ‬ ‫ومتّسع‬
‫فينحل إىل عنارصه األول َّية‪ ،‬ومن ث َّم يختلط بأجساد أخرى‪ ،‬متثُّلها مفردات وتراكيب‬ ‫ّ‬ ‫جسد املعنى‬
‫النص‬‫ِّ‬ ‫تنحل يف غريها‪ ،‬بعد تلك اللحظة التي تتح َّرر فيها طموحات‬ ‫ّ‬ ‫وأساليب وأنساق‪ ،‬هي األخرى‬
‫ويتخىَّل الوضوح عن وضوحه لصالح الغموض‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫من ضيق اللغة التداوليَّة‪ ،‬فتتَّسع مثابات‬
‫يظل الباطن شافًّا عن ظاهره‪،‬‬‫ويرتاجع الحضور أمام الغياب‪ ،‬ويرتدي الظاهر ثوب الباطن‪ ،‬فيام ُّ‬
‫ويظل ثوب املعنى ضعيفًا نسجه كيام يعمل املؤ ّول عىل إعادته إىل أول َّيته الشاخصة بعد‬ ‫ّ‬ ‫رقيقًا‪،‬‬
‫النص ّية التي متنحه اتساقه‬
‫عبوره املنزلة الثانية إىل منزلة قمره الذي يتسق‪ ،‬أي بعد عبوره إىل كينونته ّ‬
‫يل الجديد‪.‬‬
‫النص وبالنص‪ ،‬ث َّم متنحه سياقه التأوي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ضمن‬

‫‪69‬‬
‫المحور‬

‫وتكون عالئق ِّ‬


‫النص ومساقاته‪:‬‬ ‫الطبقة الثاني�ة‪ْ :‬‬
‫قرء املعىن باملعىن‪ُّ ،‬‬

‫املفرِّسين يف « َواللَّ ْيلِ َو َما َو َس َق»‪ ،‬نخلص إىل أنَّهم ذهبوا فريقني‪ ،‬يف معنى‬
‫ِّ‬ ‫بالع ْو ِد إىل آراء‬
‫فكل من القسيمني‬ ‫والس ْوق[[[‪ٌ .‬‬
‫قسموا معنى ال َو َسق عىل الجمع َّ‬ ‫النص‪ .‬وهم بذهابهم هذا‪َّ ،‬‬ ‫الوسق يف ّ‬ ‫َ‬
‫وس َق التي جاءت صلة ملوصول معطوف عىل الليل‪ ،‬ما يعني أ ّن ترجيح أحد‬ ‫يشارك اآلخر داللة َ‬
‫بس ْوق معنى ال َو َسق إىل معنى الليل‪ ،‬ثم ض ّم املعيني إىل معنى‬ ‫املعنيني عىل اآلخر‪ ،‬عندهم‪ ،‬متأث ّر َ‬
‫املفرِّسين‪ ،‬أنَّنا بإزاء حالة جمع وض ّم لليشء‬
‫ِّ‬ ‫الشّ فَق‪ .‬والذي يتَّضح لنا من مجموع ما تف ّرق من أقوال‬
‫«وأوسقت النخلةُ‪َ ُ :‬‬
‫كرُث حملُها»[[[‪ ،‬وأ ّن ذلك الكثري كان قبل جمعه متف ّرقًا‪ .‬والوسق‬ ‫ْ‬ ‫املختلف الكثري‪،‬‬
‫«جمع املتف ّرق»[[[‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬وبلحاظ قراءة ذلك املجموع بعد فرقة‪ ،‬تحليل ًّيا‪ ،‬يتَّضح اآليت‪:‬‬
‫ُساق سوقًا إىل حيث‬ ‫أ َّو ًاًل‪ :‬إ َّن إجراء ذلك الجمع بفعل فاعل وبأثر من مؤث ّر‪ .‬وإن تلك الجموع ت ُ‬
‫كل إىل مأواه ومجتمعه بعد أن فارقه‪ .‬فإذا ت َّم إيواؤه امتنع املأوى أو أُ ْغلِق حتّى‬ ‫تجتمع ث َّم يأوي ٌّ‬
‫فالوسق مبعنى الطَّ ْرد‪ ،‬ومنه قيل‬
‫ُ‬ ‫ساق من يش ٍء إىل حيث يأوي‬ ‫زوال املؤث ِّر‪ .‬فـ ما وسق‪ ،‬أي «وما َ‬
‫للطريدة من اإلبل والغنم والحمر‪:‬‬
‫حملت وأغلقت رح َمها عىل املاء فهي ناق ٌة واسق»[[[‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ووسقت الناق ُة ِ‬
‫تس ُق وسقًا‪ :‬أي‬ ‫ْ‬ ‫وسيقة ‪...‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬إ َّن الذي يرتت َّب عىل ذلك الجمع من متف ّرق هو جمع جموع متع ِّددة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬إ َّن مساقات ما يُج َمع متع ِّددة بتع ُّدد أنواع الجموع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ملقصد معلوم‪ ،‬فهو ال يجري لغري ُهدى‪.‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬إ َّن حدث الجمع يجري‬
‫وسط يستوعبه‪ ،‬وإن من لوازمه‪ ،‬أنَّه يجري يف عتم ٍة من‬
‫ٍ‬ ‫خامسا‪ :‬إ َّن ذلك الجمع يجري ضمن‬
‫ً‬
‫البرصي بالنسبة إىل الناظر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الحيّس‬
‫ّ ِّ‬ ‫اإلدراك‬
‫واآلن‪ ،‬وقد كشفت لنا املعرفة بالقرآن عن زيادة معرفيَّة يشتمل عليها معنى الوسق ضمن سياق املقطع‬
‫خصوصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫النص عممو ًما‪ ،‬وبالطبقة الثانية من طبقاته‬ ‫ين‪ ،‬لنستأنف كال ًما فيه‪ ،‬يع ّرفنا‪ ،‬ثانيةً‪ ،‬بطبقات ِّ‬
‫القرآ ِّ‬
‫النص أ َّن املعنى يختلط باملعنى وبينهام‬ ‫ِّ‬ ‫تبنّي لنا‪ ،‬ونحن ننظر يف الطبقة األوىل من طبقات‬ ‫قد ّ‬
‫لينحل يف أجزائه فتختلط أجزاؤه‬‫ّ‬ ‫االجتامعي يتج َّرد من كلّ َّيته التداول َّية‬
‫َّ‬ ‫بينونة وتباعد‪ ،‬وأ َّن املعنى‬
‫بقصد شيوعه‪ ،‬وإذ يتخلّص من‬ ‫ِ‬ ‫بأجزاء غريه‪ .‬كذلك تبنَّيَّ أ َّن املعنى إذ يتج َّرد من استقالله فذاك‬

‫[[[‪ -‬ينظر؛ التبيان يف تفسري القرآن‪ ،‬الطويس؛ ‪ /10‬ص‪ ،201‬وروح البيان يف تفسري القرآن‪ ،‬إسامعيل حقّي‪ ،‬تحقيق عبداللطيف حسن عبد‬
‫الرحمن؛ ج‪/10‬ص‪ ،388‬والنكت والعيون‪ ،‬املاوردي‪ ،‬تحقيق السيد بن عبد املقصود بن عبد الرحيم؛ ج‪/6‬ص‪ ،237‬والجامع ألحكام‬
‫القرآن‪ ،‬القرطبي‪ ،‬تحقيق الدكتور عبدالله بن عبداملحسن الرتيك ؛ ج‪.169/22‬‬
‫[[[‪ -‬الجامع ألحكام القرآن؛ ج‪/22‬ص‪.169‬‬
‫[[[‪ -‬مفردات ألفاظ القرآن؛ ص‪871‬‬
‫[[[‪ -‬الجامع ألحكام القرآن ؛ ج‪/22‬ص‪.170‬‬

‫‪70‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫ضيقه فرغبة يف سعته‪ ،‬وأنه ليس مث ّة‪ ،‬بالنسبة إىل املحلّل‪ ،‬وجو ٌد لتامسك املعنى وصالبته بل‬
‫مث ّة رقّ ُة املعنى وشفوفه ومرآويته‪ ،‬وأن رقَّته تلك‪ ،‬بالنسبة إىل ذلك املحلِّل‪ ،‬تجعل منه طبيع ًة قابل ًة‬
‫النحالل غريه فيه‪ .‬ولكنه لن يبقى هكذا يف منزلة أخرى من منزالته وطبق ٍة جديدة من طبقات بنائه‪.‬‬
‫ري متعلِّق بأدواته التي تحقّقه‪،‬‬ ‫النص يف منزلته األوىل وطبقته السابقة متعلِّق بإرادة تحقّقه غ َ‬
‫َّ‬ ‫ذلك أ َّن‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫فالنص متعلّق بأدوات تحقّقه وتخلّقه‪ ،‬ولكن ال بلحاظ كيفيَّة التحقّق والتخلّق‪ ،‬أل َّن‬ ‫ُّ‬ ‫أ َّما هاهنا‪،‬‬
‫هذا ما سيعنى به املحلّل يف الطبقة الثالثة‪ ،‬بل بلحاظ مطلق التحقّق‪ ،‬ولكن بزيادة مفادها؛ تك ّون‬
‫وعالقات اجتام ِع ِه قُبال َة مج ّر ِد اختالط املعنى باملعنى ورقَّته وشفوفه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مجتمع‬
‫وال َّ‬
‫شك يف أ َّن بنيويَّة الجامعة املك َّونة من أفراد غري بنيويَّة املجتمع املك ّون من جامعات‬
‫بكل ما متتاز به تلك األخالط من‬
‫واملنتظم عىل وفق أنساق‪ .‬وكذلك الفارق بني أخالط املعنى‪ِّ ،‬‬
‫تباين ضمن الطبقة األوىل وبني أنساق املعنى وعالقاته الرتابط َّية ضمن الطبقة الثانية من طبقاته‪.‬‬
‫النص األوىل وعالئق َّية هذه الطبقة ليست ماميزة تفاضل بل‬ ‫ِّ‬ ‫واملاميزة بني عدم عالئق َّية طبقة‬
‫اللغوي يف الطبقة‬
‫ِّ‬ ‫شك يف أ َّن ما جرى للمعنى وقد تج ّرد من قالبه‬‫هو متايز املق ِّدمة ونتيجتها‪ .‬وال ّ‬
‫األوىل‪ ،‬مق ّدمة ما يجري للمعنى وهو يرشع يف بناء عالقاته اللغويَّة متهي ًدا لتك ّون الطبقة الثالثة‪،‬‬
‫يّص‪.‬‬
‫اللغوي الذي يفتقر إىل امتيازه ال ّن ّ ّ‬
‫ِّ‬ ‫النيص من الرتكيب‬
‫ُّ‬ ‫اللغوي‬
‫ُّ‬ ‫تلك التي سيمتاز فيها الرتكيب‬
‫أ َّما هويَّة املعنى ضمن هذه الطبقة فهي هويَّة جديدة‪ .‬نعم‪ ،‬ت َّم تثبيت مرتكزاتها يف الطبقة‬
‫األوىل‪ ،‬ولكنها وقد ثبتت مرتكزاتها صارت أكرث تعقي ًدا من مج َّرد اختالط املعنى باملعنى‪.‬‬
‫ذلك أ َّن املعنى الذي بال عالئق تربطه بغريه سابقًا سيجد عالئقه ُم َع ّد ًة يف هذه الطبقة‪ .‬وسيجد‬
‫يتقصاه ضمن مح َّددات غري تلك‪ .‬ومن جانب آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتقصاه‪ ،‬ملز ًما بأن‬
‫ّ‬ ‫املحلّل نفسه وهو‬
‫يبدو أن ال شيئ َّية ماديَّة أو طبيعة فيزيائ َّية للمعنى ليتامسك‪ ،‬وإمنا يجوز عىل املعنى التامسك‪،‬‬
‫ط باملا َّدة اللغويَّة‪ .‬وإن سمحنا ألنفسنا‪ -‬تج ُّوزًا واتّسا ًعا‬ ‫بلحاظ طبيعته النوعيَّة‪ ،‬إذا قبل االختال َ‬
‫يف الف ْهم‪ -‬قلنا إ َّن املعنى بالنسبة إىل املحلِّل كمثل الروح بالنسبة إىل الجسد‪ ،‬يجوز انتزاعه‬
‫اللغوي مظهر روح املعنى فإذا مل يكن مث َّة معنى ُع ِدم‬ ‫ُّ‬ ‫من الجسد كام ت ُ ْنتَزع الروح‪ .‬والجسد‬
‫بنيان الجسد وعادت عنارصه أخالطًا‪ .‬واملعنى‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬مقصد املحلّل الذي إذا أراد اإلمساك‬
‫اللغوي‪ .‬وال قدرة عىل التع ُّرف إىل شبكة العالقات‬ ‫ّ‬ ‫جه صوب الرتكيب‬ ‫مبظاهره ومتثّالته تو ّ‬
‫إاَّل واملالبسة الوجوديَّة الكائنة بني املعنى واللَّفظ من جهة‪ ،‬وبني‬ ‫التي تربط املعنى باملعنى َّ‬
‫اللَّفظ واللَّفظ من جهة أخرى‪ ،‬شاه ٌد عىل املعنى ودليل عىل سعته الوجوديَّة وعالقاته البنيويَّة‪.‬‬
‫النص ضمن هذه‬ ‫ِّ‬ ‫وينهض عىل هذه الحقيقة‪ ،‬أ َّن الطبيعة العالئق َّية التي ضبطت تكوين‬
‫النيّص الذي انحلّت فيه روح املعنى بأثر من إرادة‬ ‫ّ ِّ‬ ‫رئيس يف تعايل البنيان‬‫ٌ‬ ‫ط‬‫الطبقة رش ٌ‬

‫‪71‬‬
‫المحور‬

‫النيص‪ ،‬ثخونة اللَّفظ وفائضه‬


‫ِّ‬ ‫النص يف طبقته األوىل‪ .‬وليس رشطًا يف تحقُّق ذلك التعالق‬ ‫ِّ‬
‫اللفظي وزيادته الكميَّة‪ ،‬بل الرشط يف التعالق مدى ارتباط فائض العالقات الكائنة بني‬ ‫ُّ‬
‫النص‪ .‬وقد يتحقَّق ذلك االرتباط باملقصد من طريق حرف وال‬ ‫ّ‬ ‫املك ِّون وامل ُك ِّون مبقاصد‬
‫املجازي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتحقَّق من طريق استعارة‪ ،‬وقد يتحقَّق بلغة محايدة وال يتحقَّق بلغة مثقلة بحملها‬
‫النص ضمن هذه الطبقة سريى‬ ‫ِّ‬ ‫يتقىّص عالئقيَّة‬
‫ّ‬ ‫ماّم سبق كلّه‪ ،‬أ َّن املحلّل وهو‬
‫واألكرث أهميَّة ّ‬
‫النيّص وأسئلته الفلسفيَّة ومنوذجه‬
‫ّ ِّ‬ ‫النص بلحاظ إطاره‬
‫ِّ‬ ‫أ َّن املثابة التحليليَّة هاهنا هي النظر إىل‬
‫الوسق‪،‬‬
‫َ‬ ‫املفرِّسين يف‬
‫ِّ‬ ‫الخاص‪ .‬وبالع ْود إىل ما ات َّضح من مجموع ما تف َّرق من أقوال‬
‫ّ‬ ‫اإلدرايكّ‬
‫البرصي‬
‫ِّ‬ ‫الحيّس‬
‫ّ ِّ‬ ‫وتحدي ًدا‪ ،‬قولنا هناك؛ وإ ّن من لوازم ذلك االجتامع أن يجري يف عتمة من اإلدراك‬
‫النيّص‬
‫ّ ِّ‬ ‫النص يقرتح عىل املحلِّل‪ ،‬أن يقف عىل أفق الرتكيب‬ ‫َّ‬ ‫بالنسبة إىل الناظر‪ ،‬ننتهي إىل أ َّن‬
‫رصح‪ ،‬ويل ّوح فال يكشف‪ .‬فهو ال يقف عىل أناقة الظاهر فتشغله‬ ‫وهو يومض باملعنى‪ ،‬فيل ّمح وال ي ّ‬
‫وكل ذلك‪ ،‬واملحلّل‬ ‫ج ّية الظاهر‪ُّ .‬‬ ‫األناقة عن عمق الباطن‪ ،‬وأيضً ا ال يستبطن ذلك العمق زاه ًدا بح ّ‬
‫يضبط خطواته بضابط الوسط الذي يجري فيه س ْو ُق املعنى إىل مأواه‪ ،‬وجمعه بعد فرقته‪ ،‬وتكثريه‬
‫بعد قلّته‪ ،‬وتعليقه بغريه بعد تف ّرده‪ ،‬وحلّه بجزئيَّاته بعد اكتفائه بكلّيَّته‪ .‬وهذا يعني أ ّن مث َّة رشطًا الب َّد‬
‫نصا معلّقًا يف فراغ نيصٍّ أو يف‬ ‫النص‪ ،‬مفاده أنَّه ال يقرأ ًّ‬ ‫ّ‬ ‫للمحلّل من االلتزام به وهو يريد قراءة‬
‫يتخىَّل عن رشوط املحلّل ليستجيب إىل رشوط‬ ‫َّ‬ ‫رشقٍ ‪ ،‬بل يقرأ يف وسط يوجب عليه أن‬ ‫وسط م ِ‬ ‫ٍ‬
‫ني‪ ،[[[‬وليفكِّر يف‬ ‫أح َص ْينَا ُه ِيِف إِ َما ٍم ُمبِ ٍ‬ ‫النص وإمامته؛‪‬وك َُّل َ ٍ‬
‫النص ضمن هذه املثابة الوسطى‬ ‫ِّ‬ ‫يَشء ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫َاب َو ُأ َخ ُر‬ ‫ِ‬
‫حُمك ََاَم ٌت ُه َّن ُأ ُّم ا ْلكت ِ‬ ‫ِ‬
‫َاب منْ ُه َآ َي ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪‬ه َو ا َّلذي َأ ْنز ََل َع َل ْي َ‬
‫ات ُ ْ‬ ‫ك ا ْلكت َ‬ ‫القامئة بني إحكامه وتشابهه؛ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاء ت َْأ ِويله َو َما َي ْع َل ُم ت َْأ ِوي َل ُه إِ َّاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاء ا ْلف ْتنَة َوا ْبتغ َ‬ ‫ون َما ت ََشا َب َه منْ ُه ا ْبتغ َ‬ ‫ين ِيِف ُق ُل ِ‬
‫وهِبِ ْم َز ْيغٌ َف َي َّتبِ ُع َ‬ ‫ات َف َأ َّما ا َّلذ َ‬ ‫ُمت ََش ِ َ‬
‫اهِب ٌ‬
‫شك يف‬ ‫اب‪ .[[[‬وال َّ‬ ‫ون َآ َمنَّا بِ ِه ك ٌُّل ِم ْن ِعن ِْد َر ِّبنَا َو َما َي َّذك َُّر إِ َّاَّل ُأو ُلو ْاأْلَ ْل َب ِ‬ ‫ون ِيِف ا ْل ِع ْل ِم َي ُقو ُل َ‬
‫اسخُ َ‬ ‫اهَّللَُّ والر ِ‬
‫َ َّ‬
‫يل‪ ،‬يُلزم املحل َّل بأن ينظر‬ ‫ج ْن َبتَي املحكم واملتشابه هو وسط تأوي ٌّ‬ ‫النيص الكائن بني َ‬ ‫َّ‬ ‫أ َّن هذا الوسط‬
‫صغِّر عي َنيه‪ ،‬ليستثبت النظر‬ ‫النص كام ينظر أحدهم إىل الشمس من خلل السحاب‪ ،‬وأن يُ َ‬ ‫إىل مقاصد ِّ‬
‫بعيد يل ّمح بحقيقة من فيه ويل ّوح ويومض فيلمع ملعانًا خفيفًا‪.‬‬ ‫مأوى ٍ‬ ‫ً‬ ‫فينظر من خلل أجفانه إىل‬
‫وأ ّما إلجاء الرتكيب النيصِّ إىل مآويه املعنويَّة فليك يسكن بعد حركة‪ ،‬وليك يعلق برحمه‬
‫تخىّل فيه عن ُم ْستَ َق ّر معانيه‬ ‫املعنوي الجديد ف ُي ْستَو َد ُع يف أرحام األم ّهات بعد متام تحريكه الذي ّ‬ ‫ِّ‬
‫ض إِ َّاَّل َع َىَل اهَّللَِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أغطيتها؛‪‬و َما م ْن َدا َّبة ِيِف ْاأْلَ ْر ِ‬ ‫أطبقت عليه الطبقة األوىل‬ ‫ْ‬ ‫يف أصالب اآلباء‪ ،‬حيث‬
‫َ‬
‫ني‪ .[[[‬عىل أن هذا اإليواء إيوا ٌء مقصود أواًلً‪،‬‬ ‫َاب ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ِر ْز ُق َها َو َي ْع َل ُم ُم ْس َت َق َّر َها َو ُم ْست َْو َد َع َها ك ٌُّل ِيِف كت ٍ‬
‫وعىل أ َّن املعاين ت ُساق إىل مآويها سوقًا فتنساق كام ينساق السحاب بأثر الريح‪ ،‬وأنها تتساوق‬

‫[[[‪ -‬سورة يس‪ ،‬اآلية ‪.12‬‬


‫[[[‪ -‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬

‫‪72‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫كل سائق يحسن السوق‪ .‬وسياق اجتامع هذا وانضاممه غري‬ ‫ُ‬
‫فالسوق ليس واح ًدا‪ ،‬وليس ُّ‬ ‫متتابعة‬
‫تركيبي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫سياقي‬
‫ٌّ‬ ‫سياق ذاك‪ .‬وهذا ما يلجئنا طو ًعا إىل القول أ َّن املعنى ضمن هذه الطبقة معنى‬
‫وقد كان يف األوىل معنى فرديًّا معجم ًّيا‪ .‬وعىل املحلّل‪ ،‬هنا‪ ،‬أن ينظر يف انضامم املفردة إىل‬
‫النص بعد ض ّمه إىل آخره‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أختها واآلية إىل مجاورتها والسورة إىل عقيبتها‪ .‬كذلك أن ينظر يف أول‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫طل منها عىل أطرافها‪.‬‬


‫وينظر يف آخره بعد ض ّمه إىل أ ّوله‪ ،‬ثم يجعل من أواسط النصوص رشفة يُ ُّ‬
‫كل ذلك ينظر يف سياق امل ُك ِّون النيصِّ بعدما كان ينظر يف فرديَّة امل ُك ّون يف الطبقة‬ ‫واملحلِّل يف ِّ‬
‫أواًل‪ ،‬وهذا‬
‫ين ثالث طبقات هو اآلخر‪ .‬فهو ما يحيط باملك ّون الفرد ً‬ ‫األوىل‪ .‬وسياق امل ُك ِّون النيصِّ القرآ ِّ‬
‫يص من تراكيب‪ ،‬وهذا هو سياق السورة‪ .‬وهو ما يحيط بالك ِّون‬
‫هو سياق اآلية‪ .‬وهو ما يحيط بالرتكيب ال ّن ِّ‬
‫النيصِّ ويتعلَّق به ويعالقه‪ ،‬يف القرآن كلّه‪ ،‬وهذا هو السياق األكرب‪ ،‬سياق القرآن من فاتحته إىل الناس‪.‬‬
‫ُّلغوي للمعنى‪ ،‬أما إذا كان مقصده عمق السطح‬
‫ِّ‬ ‫الحيّس ال‬
‫ّ ِّ‬ ‫هذا إذا كان بدء املحلِّل من السطح‬
‫املعنوي فث ّمة سياق آخر‪ ،‬وهو كذلك بثالث طبقات أو منزالت‪ ،‬املنزلة األوىل منزلة املعنى‬ ‫ِّ‬
‫العالئقي الذي عل ََق بغريه من املعاين‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫واملنحل يف جزئيَّاته‪ ،‬ومنزلة املعنى‬
‫ِّ‬ ‫املفهومي القائم بذاته‬
‫ِّ‬
‫املفهومي أو يجاوره‪ ،‬وهذا معنى أش ّد تكوث ًرا وأكرث تعقي ًدا من سابقه‪ .‬أ َّما‬
‫ِّ‬ ‫ماّم يقع ضمن حقله‬
‫ّ‬
‫املعنى الثالث فهو املعنى األول نفسه‪ ،‬ولكن بعد بعثه من مثواه ومستودعه بحا ٍل غري الحال‬
‫يف وجوهريَّته النوع َّية هو هو‪.‬‬
‫األوىل‪ ،‬وإن كان من حيث أصله املعر ِّ‬
‫نص ًّيا يختلف عن الظهورين‬
‫كل منها ظهو ًرا ّ‬
‫وكأننا‪ ،‬واملعنى كذلك‪ ،‬بإزاء ثالث كيف َّيات يقتيض ٌ‬
‫كل ظهور مرتبطة مبعرفة اآلخر‪ .‬ومبوجبها‬
‫اآلخرين‪ .‬وأن هذا االختالف ينسجم مع حقيقة أن معرفة ِّ‬
‫يتب ّدى للمحلّل أ َّن الظهورين األول والثالث ناشئان من طريف املعنى أما الظهور الثاين فميدان‬
‫وصواًل إىل العود بها إىل‬
‫ً‬ ‫اختالط املعاين وانحاللها بعضها يف بعض ثم اشتدادها واتساعها‬
‫طرف ّيتها املقابلة لطرف ّيتها األوىل‪ .‬وكأننا واملعنى يتقلّب بني ظهور وآخر‪ ،‬فيام جوهريَّة املعنى‬
‫الفلسفي هو هو‪ ،‬كأننا بإزاء عصا موىس بكيفيّاتها الثالث بعد إلقائها‪ ،‬أي بعد‬
‫ُّ‬ ‫واحدة ولوغوسه‬
‫املعنوي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫نفخ روح املعنى فيها‪ ،‬وهي العصا اليابسة قبل إلقائها‪ .‬فهي مازالت عصا بلحاظ أصلها‬
‫ولكنها‪ ،‬ويف الوقت الذي تحتفظ فيه بحقيقتها األوىل‪ ،‬تتب َّدى ثالث ًا بعد إلقائها‪:‬‬
‫وسى َاَل َخَت ْ‬
‫َف‬ ‫ب َيا ُم َ‬ ‫اك َف َل َّاَّم َر َآ َها َ ْهَت َت ُّز ك ََأ َّهَّنَا َج ٌّ‬
‫ان َو َّىَّل ُمدْ بِ ًرا َو َمَل ْ ُي َع ِّق ْ‬ ‫؛‪‬و َأ ْل ِق َع َص َ‬
‫أواًل‪ :‬تهت ُّز كجا ٍّن يهت ّز َ‬ ‫ً‬
‫ون‪.[[[‬‬ ‫ي ا ُْمْل ْر َس ُل َ‬
‫اف َلدَ َّ‬ ‫إِ ِّيِّن َاَل َ َ‬
‫خَي ُ‬
‫تكرّثت وات َّسعت‪ ،‬ثعبان مبني يف حالتها الثانية؛‪َ ‬فأَلْقَى َع َ‬
‫صا ُه َفإِ َذا ِه َي ثُ ْع َبانٌ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬وهي‪ ،‬وقد ّ‬

‫[[[‪ -‬سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬

‫‪73‬‬
‫المحور‬

‫ني ‪.[[[‬‬
‫ُم ِب ٌ‬
‫ثالثًا‪ :‬ثم هي حيَّة تسعى يف الثالثة‪ ،‬وهي الحال ُة األقرب إىل أن ت ُر ّد فيها العصا‪ /‬الحية‪ ،‬عصا‬
‫اها َفإِ َذا ِه َي َح َّي ٌة ت َْس َعى * َق َال ُخ ْذ َها‬
‫وسى * َف َأ ْل َق َ‬
‫ِ‬
‫كام هو شأنها يف معناها األول؛ ‪َ ‬ق َال َأ ْلق َها َيا ُم َ‬
‫وىَل‪ .[[[‬وسريتها األوىل قبل نصنصتها أو قبل تنصيصها لدفع سحر‬ ‫َف َسن ُِعيدُ َها ِس َري َ َهَتا ْاأْلُ َ‬
‫َو َاَل َخَت ْ‬
‫السحرة‪ ،‬فهي سرية العصا وحقيقتها الثابتة التي مل تختلف عىل الرغم من الحاالت الثالث‪.‬‬
‫وسى * َق َال‬ ‫ك بِ َي ِمين ِ َ‬
‫ك َيا ُم َ‬ ‫‪‬و َما تِ ْل َ‬
‫وكام أ َّن العصا يف سريتها األوىل قبل اإللقاء عصا وليست حية؛ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى * َف َأ ْل َق َ‬
‫اها‬ ‫اي َأت ََوك َُّأ َع َل ْي َها َو َأ ُه ُّش ِ َهِبا َع َىَل َغنَمي َو ِ َيِل ف َيها َم َآ ِر ُب ُأ ْخ َرى * َق َال َأ ْلق َها َيا ُم َ‬
‫ه َي َع َص َ‬
‫َفإِ َذا ِه َي َح َّي ٌة ت َْس َعى‪ ،[[[‬كذلك الشأن مع كل معنى من املعاين التي سريتها ثابتة قبل اإللقاء‪ ،‬فإذا‬
‫وتغرّيت سريتها بأثر من س ْوقها طبقًا عن‬ ‫ّ‬ ‫أُلقيَت نصيًّا‪ ،‬بعد نفخ روح املعنى‪ ،‬طرأت عليها األحوال‬
‫طبق ومنزل ًة بعد منزلة يف الجهة األخرى من جهتَي املعنى؛ جهة الثبات ما قبل اإللقاء وجهة الحركة‬
‫يف الذي‬ ‫ما بعد اإللقاء‪ .‬وبهدي من إعادة املعاين سريتها األوىل نقول إن الذي يؤكِّده اإلطار املعر ُّ‬
‫النص ومثاباته التأويل َّية وبلحاظ منزالت التأسيس‬ ‫ِّ‬ ‫يحف باملامرسة التأويل َّية‪ ،‬عندنا‪ ،‬هو إن منطق‬ ‫ّ‬
‫يف السابقة كلها‪ ،‬يرتكزان عىل وحدة املعنى وثبوت حقيقته‪ ،‬وأن سرية املعنى تقيض بأن غاية‬ ‫املعر ِّ‬
‫املامرسة التأويلية إعادة املعنى إىل سريته األوىل‪ ،‬ولكن عرب تعدد الداللة بعد اإللقاء وليس عرب‬
‫استبعاده‪ .‬وذلك ألن استبعاد إلقاء عصا املعنى يعني انكفاء محاولة ف ْهم النص عىل ظاهره‪ ،‬فيرتتب‬
‫عليه عجز املعنى عن امتالك سعته األنطولوجية‪ ،‬ومن ثم تخلّيه عن رضورات املامرسة التأويلية‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى يفيض بنا التح ُّرك ضمن ذلك اإلطار إىل القول إن االكتفاء بالنظر إىل عصا املعنى‬
‫ضمن تح ُّوالته يف حقبة ما بعد اإللقاء واالكتفاء بتخييل املعنى يعني فقدان حقيقة ال ُملْقَى وعدميَّته‬
‫وتديّن منزلته الوجوديَّة الفاعلة‪ ،‬وعجزه عن تحقيق األثر املنشود من صناعته؛ ‪َ ‬قا ُلوا‬ ‫ّ‬ ‫الوجوديَّة‪،‬‬
‫خُي َّي ُل إِ َل ْي ِه ِم ْن‬
‫اهُل ْم َو ِع ِص ُّي ُه ْم ُ َ‬
‫ُون َأ َّو َل َم ْن َأ ْل َقى * َق َال َب ْل َأ ْل ُقوا َفإِ َذا ِح َب ُ‬
‫وسى إِ َّما َأ ْن ُت ْل ِق َي َوإِ َّما َأ ْن َنك َ‬ ‫َيا ُم َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْت ْاأْلَ ْع َىَل * َو َأ ْل ِق َما ِيِف‬ ‫َّك َأن َ‬
‫َف إِن َ‬‫وسى * ُق ْلنَا َاَل َخَت ْ‬ ‫س ْح ِره ْم َأ َّهَّنَا ت َْس َعى * َف َأ ْو َج َس ِيِف َن ْفسه خي َف ًة ُم َ‬
‫ث َأتَى‪ .[[[‬وهذا ما يجعل هذا‬ ‫اح ٍر و َاَل ي ْفلِح الس ِ‬ ‫ف ما صنَعوا إِنَّاَم صنَعوا َكيدُ س ِ‬ ‫َي ِمين ِ َ‬
‫اح ُر َح ْي ُ‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ك َت ْل َق ْ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫يل الذي يت ُّم تأسيسه هاهنا مرتك ًزا عىل االنطالق من ‪ -‬والعودة إىل ‪ -‬ثبوت الحقيقة‬ ‫النموذج التأوي َّ‬
‫يب الذي ينطلق من ‪ -‬ويعود‬
‫يل الغر ِّ‬
‫ووحدة املعنى وسم ّو منزلته الوجوديَّة مختلفًا عن النموذج التأوي ِّ‬
‫املفرَتض القائم عىل تخييل املعنى‪.‬‬
‫َ‬ ‫إىل‪ -‬مرتكز تع ُّدد الداللة ونسبية الحقيقة والوجود‬

‫[[[‪ -‬سورة الشعراء‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬


‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآليات ‪.21-19‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآليات ‪.20-17‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآليات ‪.69-65‬‬

‫‪74‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫ِّ‬
‫واتساق ّ‬
‫النص‪:‬‬ ‫الطبقة الثالثة‪ :‬إضمامة املعىن‬
‫ومنصته‬
‫َّ‬ ‫ينتص عليها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫منصة‬
‫تنتص عليها فتبدو بزينتها ظاهرة‪ ،‬كذلك للقمر َّ‬ ‫ُّ‬ ‫منصة‬
‫كام للعروس َّ‬
‫عتمة الليل وظلمته التي شملت مجاميع املوجودات عىل اختالفها‪ ،‬وهي ت ُساق إىل مآويها‪ .‬وكام‬
‫حا‪ ،‬ولكن ال بلحاظ هالل َّيته بل بلحاظ اكتامله قم ًرا‬
‫ينتص املعنى‪ ،‬وقد ظهر جل ًّيا واض ً‬ ‫ُّ‬ ‫ينتص القمر‬‫ُّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫عاَّم شملته بعتمتها قبل ظهور القمر‪ .‬وكذلك‬ ‫يبعث بنوره وسط الظلمة فتستجيب الظلمة له فتكشف َّ‬
‫كاماًل متَّسقًا بنفسه‬
‫ً‬ ‫منصة ليستوي‬ ‫انتص عن شبكة املعاين التي ُج ِعلَت له ّ‬ ‫َّ‬ ‫يكشف املعنى الذي‬
‫ولنفسه م َّرة ومتَّسقًا بغريه م َّرة أخرى‪.‬‬
‫املنصة هي العروس الوحيدة ضمن جمع النساء‪ ،‬كذلك القمر‬ ‫َّ‬ ‫انتصت عىل‬
‫وكام أ َّن املرأة التي َّ‬
‫منصتها‬
‫منصة الليل وما وسق‪ .‬فإذا تخلّت العروس عن َّ‬ ‫ينتص عىل َّ‬ ‫ُّ‬ ‫هو قمر األرض الوحيد الذي‬
‫تخىّل القمر عن‬ ‫منصة ما عادت العروس متتلك ظهورها الذي به متتاز‪ ،‬وكذلك إذا ّ‬ ‫أو مل يكن مث َّة َّ‬
‫أاَّل يكون‬‫تخيّل الليل عن ظلمته‪ .‬وبلحاظهام‪ ،‬يجوز عىل املعنى َّ‬ ‫هالاًل‪ ،‬أو بعد ّ‬
‫ً‬ ‫امتالئه بعد عودته‬
‫ص‬‫املركزي الذي تتحلَّق حوله بقيَّة املعاين أو املعنى املقصود الذي ألجله ت َّم بناء ال ّن ِّ‬
‫َّ‬ ‫هو املعنى‬
‫منصة‬
‫والفلسفي وتج َّرد من بالغته‪ ،‬أو إذا ما مل يكن مث َّة َّ‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫تخىَّل املعنى عن ات ِّساقه الجام ِّ‬
‫إذا ما َّ‬
‫ترفعه لريتفع ويعلو‪.‬‬
‫ومه َّمة املحلِّل‪ ،‬هاهنا‪ ،‬هي أن يبحث عن عرائس املعاين وأقامرها‪ ،‬ث َّم أن يبحث عن‬
‫منصة فهو‬ ‫معنوي بال َّ‬‫ٍّ‬ ‫املنصة فال قم َر‪ ،‬فإن كان مث َّة قمر‬
‫َّ‬ ‫تنتص عليها‪ .‬فإ َّن َع ِد َم‬ ‫ُّ‬ ‫املنصة التي‬
‫ّ‬
‫منصة وال قمر فث َّمة عجز أو عتمة إدراك أصابت املحلِّل‬ ‫قمر عارض غري أصيل‪ ،‬وإن كان مث َّة َّ‬
‫املنصة ليست بليغة‪ ،‬ولهذا قرصت عن غايتها املتمثِّلة بإظهار بالغة املعنى‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أو إ َّن صناعة‬
‫لغوي تتم َّنع معانيه عن أن ينض َّم بعضها‬ ‫ٍّ‬ ‫نصا بل تركيب‬ ‫نصا بال ات ِّساق ليس ًّ‬ ‫من هنا نقول‪ ،‬إ َّن ًّ‬
‫إىل بعض لعجز يف القدرة عىل ض ِّمها رغم قبولها مبدأ االنضامم‪ ،‬أو لعدم تناغمها وتساوقها‬
‫يل املنسجم‪ ،‬فإذا فقد‬ ‫النص منطقه الداخ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ولرفضها منطق االنضامم‪ ،‬ما يعني فقدان مرشوع‬
‫الحيّس عدم اتساق‬‫ّ ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫يف طفا ذلك الفقدان عىل سطح‬ ‫يل وإطاره املعر َّ‬ ‫النص منطقه الداخ َّ‬ ‫ُّ‬
‫النص وتح ُّوالت املعنى‪ ،‬يبدو أ َّن مطلق االت ِّساق‬ ‫ِّ‬ ‫وافتقا ًرا إىل األناقة‪ .‬وعىل الطرف اآلخر لسرية‬
‫الحيّس بال رشط املتَّسق ليس شيئَا ذا بال بالنسبة إىل املحلِّل‪ ،‬وإ َّن‬ ‫ّ ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫البادي عىل سطح‬
‫مج َّرد العناية باملعنى الظاهر بعي ًدا عن ات ِّساقه الكائن بينه مك ِّوناتها ذاتها م َّرة‪ ،‬وبني مك ِّوناته‬
‫ومنصته من جهة‪ ،‬واألرضيَّة املعنويَّة التي انحلّت كليَّتها‬ ‫ّ‬ ‫منصته م َّرة أخرى‪ ،‬وبينه‬ ‫َّ‬ ‫ومك ِّونات‬
‫النص‪ ،‬ويضبط‬ ‫ِّ‬ ‫يف جزئ َّياتها من جهة أخرى‪ .‬وهذه العناية ليست عناية محلّل يتخلَّق بأخالق‬
‫والفلسفي‪ ،‬ومقصده املنوط به بلوغه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يل‬
‫مجساته ومنطقه الجام ِّ‬ ‫َّ‬ ‫مجساته الذهن َّية بضابطة‬ ‫َّ‬

‫‪75‬‬
‫المحور‬

‫اللغوي الذي‬
‫ِّ‬ ‫النص من جملة الرتكيب‬ ‫ِّ‬ ‫ريا‪ ،‬بالنسبة إىل املحلّل الذي يجهد يف متييز جملة‬ ‫أخ ً‬
‫حل كليَّة املعنى الفرد يف‬ ‫مل ي ْر َق إىل مستواه‪ ،‬تبدو هذه الجملة وحد ًة دالليَّ ًة كربى‪ ،‬ترتكز عىل ِّ‬
‫جزئ َّياته بقصد رفع الحدود الفاصلة بني املعنى واملعنى أ َّو ًاًل‪ ،‬وض ّم املعنى إىل املعنى‪ ،‬وتعليق‬
‫املعنى باملعنى تعليقًا وجوديًّا ثان ًيا‪ ،‬واإلبانة عن املعنى بعد متام كوثرته ومالبسته ثالثًا‪ ،‬بحيث‬
‫املفهومي األول‪ ،‬ولكن بلحاظ كينونته التي نقلته من عتبة الهويَّة إىل مثابة‬ ‫َّ‬ ‫يبدو هو ذاته املعنى‬
‫الكيفيَّة وهو ينترش بامتداد الجملة بعوالقه الجديدة وصفاته الحافّة به‪ .‬وبهذا‪ ،‬وبهذا فقط‪ ،‬يق ِّدم‬
‫ت بعضها فوق بعض‬ ‫ُص ْ‬ ‫النص كلّه‪ ،‬وقد ن ُِض ّدت جمله الصغرى ون ّ‬ ‫َّ‬ ‫املحلِّل رؤية شاملة تستوعب‬
‫نص َّية تجمع صو ًرا متع ِّددة ضمن داخل صورة واحدة‬ ‫ضمن جملته الكربى‪ ،‬من حيث هي بانوراما ِّ‬
‫النص وهو يسعى التِّساقه فرشطها التتابع والتكرار‪ ،‬ور ّد الوسيلة‬ ‫ُّ‬ ‫كبرية‪ .‬أ َّما الوسائل التي يستعني بها‬
‫الاَّلحق عىل السابق وبالعكس‪ ،‬مبا يعمل‬ ‫الاَّلحق بالسابق ووصله به‪ ،‬وإحالة َّ‬ ‫عىل الوسيلة‪ ،‬وربط َّ‬
‫النص الكربى يف معاين الجمل املنضوية تحتها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الكيّل الذي ترتكز عليه جملة‬ ‫ّ ِّ‬ ‫حل املعنى‬‫عىل ِّ‬
‫حاًّلًّ يوازي فيه املعنى املعنى‪ ،‬ويستدير بهدي من استدارتقمره‪ ،‬وميت ُّد بامتداده‪ ،‬ومن ثم ميت ُّد فيه‬
‫النص الجديد‪ ،‬وقد ات َّسق‬ ‫ِّ‬ ‫فيزيد يف سعته‪ ،‬ويسهم يف بالغة ظهوره يف مآله األخري‪ .‬ومبوجب منطق‬
‫النيص مبجاوره‪ ،‬وسيك ِّرر املك ِّون‬ ‫ُّ‬ ‫وس ِّويَت تضاريسه الحا َّدة‪ ،‬سيتّصل املك ِّون‬ ‫الحيّس‪ُ ،‬‬
‫ّ ُّ‬ ‫سطحه‬
‫ح ْسن سوقه وإتقان‬ ‫النيص نفسه من طريق مامثله‪ ،‬وسيكون بإزائه موازيًا له نسقًا بنسق استنا ًدا إىل ُ‬ ‫ُّ‬
‫ص‪ ،‬ومبوجب بالغة ات ِّساقه‪ ،‬ستتَّسق املعاين‬ ‫مساوقته وسياقاته‪ .‬وعىل الطرف اآلخر من ج ْن َبتَي ال ّن ِّ‬
‫والدالالت فينض ُّم الض ُّد إىل الض ِّد حتى يتَّسقا بعد اتِّساع العالقة بينهام‪ ،‬كام تتَّسع الظلمة إىل‬
‫سينحل األول يف الثاين فيغادر‬ ‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫الضوء عند الغروب وساعة ظهور الشفق‪ .‬ومبوجب اتِّساق‬
‫املجمل إجامله طم ًعا بتفصيل ال يكون له بلوغه دومنا استعانة مبا ينض ُّم إليه معنى كان أو بنا َء‬
‫املنصة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بالنص عىل‬
‫ِّ‬ ‫َص امرأ ٌة من عموم النساء‬ ‫خصص العا ُّم كام تُخ ُّ‬ ‫معنى‪ .‬ومبوجب ات ِّساق النص يُ َّ‬
‫سبب ونتيج ٌة ضمن‬ ‫ٌ‬ ‫فكل معنى‬‫ويصري الثاين نتيجة بعدما كان سببًا ويصري سببًا بعدما كان نتيجة‪ُّ ،‬‬
‫دورة نصيَّة مستم َّرة بد ًءا بشفقيَّة املعنى‪ ،‬مرو ًرا بعتمة أ ْوساقه‪ ،‬وانتها ًء باتِّساق قمريَّته وبالعكس‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫سؤال المعنى في القول اإللهي‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.‬القرآن الكريم‬
‫‪2.‬التبيان يف تفسري القرآن‪ ،‬الطويس‪ ،‬تحقيق أحمد حبيب قصري العاميل‪ ،‬دار إحياء الرتاث‪،‬‬
‫بريوت‪ -‬لبنان‪ ،‬د‪.‬تا‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪3.‬تفسري روح البيان يف تفسري القرآن‪ ،‬إسامعيل حقّي‪ ،‬تحقيق عبداللطيف حسن عبد الرحمن‪،‬‬
‫دار الكتب العلميَّة‪ ،‬بريوت‪ -‬لبنان‪ ،‬ط‪.2018 ،4‬‬
‫مؤسسة‬
‫‪4.‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬القرطبي‪ ،‬تحقيق الدكتور عبدالله بن عبداملحسن الرتيك‪َّ ،‬‬
‫الرسالة‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪1427 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪5.‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ -‬لبنان‪ ،‬دون ط‪ ،‬تا‪.‬‬
‫مؤسسة النرش اإلسالمي‪،‬‬
‫‪6.‬معجم الفروق اللغويَّة‪ ،‬أبو هالل العسكري‪ ،‬تحقيق بيت الله بيات‪َّ ،‬‬
‫قم‪ ،‬ط‪1412 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪7.‬مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬الراغب األصفهاين‪ ،‬تحقيق صفوان عدنان داوودي‪ ،‬منشورات ذوي‬
‫القرىب‪ ،‬قم‪ ،‬ط‪1424 ،3‬هـ‪.‬‬
‫‪8.‬النكت والعيون‪ ،‬املاوردي‪ ،‬تحقيق السيد بن عبد املقصود بن عبد الرحيم‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلم َّية‪ ،‬بريوت‪ -‬لبنان‪ ،‬د‪ .‬ط‪ .‬تا‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫تنظير المعنى‬
‫ّ‬
‫والعالمة الطباطبائي‬ ‫دراسة مقارنة بين تشارلز بيرس‬

‫(****)‬ ‫ي ن‬
‫حس� پركان‬ ‫حس� ش�ف الدين(***)‪،‬‬
‫ي ن‬ ‫آرزو نيكوئيان(*)‪ ،‬حميد پارسانيا(**)‪،‬‬

‫ّ‬
‫[[[‬
‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫“املعنى” واح ٌد من أكرث موضوعات العلوم االجتامع َّية الحديثة وما بعد الحديثة انتشا ًرا‬
‫ِ‬
‫وسعة‪ ،‬وقد ق َّدم تشارلز ساندرز بريس أه َّم التفسريات له‪ .‬وانطالقًا من كون نظريَّة الداللة عنده‬
‫والوجودي عىل تحليل املعنى؛ لذلك يجري فهم‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫أسايس يف ال ُبعدين املعر ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫تعتمد بشكل‬
‫محوري يف فهمه للعامل‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫وكل ما فيه من هذه الزاوية‪ ،‬كام أ َّن فهمه للداللة‬
‫الكون ِّ‬
‫متتاز األُسس األوىل واملبنائ َّية للداللة عند بريس عن املقوالت األخرى كافَّة‪ ،‬فهو يعتقد‬
‫أنَّها تعتمد عىل أركان ثالثة هي‪ :‬اإلشارة‪ ،‬التعبري (التفسري) واليشء؛ ومن خالل الثالث ّية‬
‫املذكورة يجري الحديث عن نظريَّته يف املعنى‪ .‬وإذا كان من جملة الفالسفة والنقّاد الغرب ّيني‬
‫يئ واحد من الفالسفة املسلمني الذين ق َّدموا‬ ‫فالعاّلمة الطباطبا ُّ‬
‫ّ‬ ‫الذين اهت ّموا بدراسة املعنى‪،‬‬
‫العاّلمة‬
‫أفكا ًرا يف هذا الخصوص‪ .‬لذا‪ ،‬سنحاول يف هذا املقال التط ُّرق إىل نظريَّة املعنى عند ّ‬
‫يئ‪ ،‬وبالتايل التمهيد إلجراء مقارنة بني النظريّتني‪.‬‬
‫الطباطبا ّ‬
‫العاَّلمة نظريَّته حول املعنى أثناء الحديث عن املعرفة الحضوريَّة واملعرفة‬ ‫َّ‬ ‫عرض‬
‫االعتباري‪ ،‬وكذلك‬
‫َّ‬ ‫ين‬
‫الحصوليَّة‪ ،‬وعىل امتداد أبحاث االعتباريَّات‪ .‬فهو يعتقد أ َّن النظام اإلنسا َّ‬
‫اعتباري ال ب َّد من أن يعتمد‬
‫ّ‬ ‫كل‬
‫وحقيقي‪ .‬كام يعتقد أ ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫طبيعي‬
‫ٍّ‬ ‫املعنى‪ ،‬قامئان عىل أساس نظام‬
‫والتحرُّض فقط‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫االعتباري موجود يف ظرف االجتامع‬ ‫َّ‬ ‫ين‬
‫حقيقي‪ ،‬وأ َّن النظام اإلنسا َّ‬
‫ٍّ‬ ‫عىل أمر‬
‫***‬
‫يئ‪ ،‬بريس‪ ،‬مذهب أصالة العمل‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬املعنى‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬الطباطبا ّ‬
‫االعتباريَّات‪.‬‬

‫طالب ماجستري‪ ،‬فرع التبليغ واإلعالم‪ ،‬جامعة باقر العلوم (املؤلّف املسؤول)‪.‬‬ ‫*ـ‬
‫**ـ أستاذ مساعد يف كل ّية العلوم االجتامع ّية‪ ،‬جامعة طهران‪.‬‬
‫الخميني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫***ـ أستاذ مساعد يف قسم علم االجتامع‪ّ ،‬‬
‫مؤسسة اإلمام‬
‫****ـ طالب دكتوراه يف التخطيط الثقايفّ‪ ،‬جامعة باقر العلوم‪.‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫[[[*‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫يُع ُّد الكالم حول حقيقة املعنى والتنظري ملاه َّيته‪ ،‬من أبحاث فلسفة اللغة املحوريَّة واألساس َّية‪،‬‬
‫الفلسفي‪ .‬والهدف األساس لهذا املقال توضيح مباين‬ ‫ّ‬ ‫خصوصا لجهة ما له من عالقة بالسيامنتيك‬
‫ً‬
‫املعنى‪ ،‬وإبراز خصائصه يف علم الداللة عند بريس والعاّلّمة الطباطبايئ‪ .‬وسنحاول التع ُّرف عىل‬
‫[[[‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫السبب الذي دفع بريس إىل طرح موضوع املعنى والداللة‪ ،‬وما هو السؤال الذي حاول اإلجابة‬
‫عنه‪ ،‬وما هي اإلشكال َّية التي حاول حلَّها حتَّى طرح هذا البحث؛ وسنوضح مباين علم الداللة عنده‪.‬‬
‫ث ّم سنتط َّرق إىل املعنى وإىل العمل َّية التي تؤ ّدي إىل وجوده‪ ،‬وما هي الداللة من وجهة نظره؟ وكيف‬
‫تكون أوضاع املعنى املختلفة؟ وأسئلة من هذا القبيل‪ .‬وباإلضافة إىل ما تق ّدم‪ ،‬سنحاول التع ّرف‬
‫يئ‪.‬‬
‫عىل عمليّة إنتاج الداللة واملعنى‪ ،‬واملباين املعرفيَّة والنظريَّة للمعنى عند العاَّلَّ مة الطباطبا ّ‬

‫علم املعىن وعلم الداللة‪:‬‬


‫اللغوي يُشكِّل جز ًءا بسيطًا من‬
‫َّ‬ ‫علم الداللة هو علم إدراك املعنى‪ ،‬واملشهور أ َّن املعنى‬
‫ذلك‪ .‬وهو يكتسب عند بريس أبعا ًدا واسعة‪ ،‬كام ميكن اعتبار نظريَّته حولها من املبادئ األساس َّية‬
‫كل ما له عالقة بالتفهيم والفهم‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إ َّن لها استخدامات‬ ‫لفلسفته‪ .‬فالداللة ت ُطرح يف ّ‬
‫يل‪ .‬ومن جملة ما ميتاز به اإلنسان‬ ‫النظري أو العم ِّ‬
‫ِّ‬ ‫متن ّوعة‪ ،‬من أبرزها‪ :‬تفهيم اليشء يف املجال‬
‫إيجادها واالستفادة منها يف مختلف مجاالت الحياة؛ وعليه‪ ،‬ال يجب اعتبار علم الداللة عند بريس‬
‫جز ًءا من علم املعرفة عنده فقط‪ ،‬بل هو أحد أه ِّم مبانيه الفلسف َّية يف نظرته للعامل‪ .‬وهو يُع ُّد يف‬
‫طليعة الذين بذلوا جهو ًدا عىل مستوى تصنيف األمور الخاضعة للدراسة يف هذا العلم‪.‬‬
‫حرص‬‫يعترب بريس أ َّن دائرة اللغة والداللة اللغويَّة غري محدودة عىل اإلطالق‪ ،‬وال ميكن أن ت ُ ْ‬
‫الفكري العا ِّم وليس عىل التحليل‬
‫ِّ‬ ‫يف بناء نظريَّة يف هذا الشأن‪ .‬وتقوم نظريّته عىل أساس التحليل‬
‫واقعي[[[ يف مسألة وجود املفاهيم‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫اللغوي (‪ ،)Hoops, 1991, p11‬باعتبار أنّه‬
‫ّ‬

‫مباين علم الداللة عند بريس‪:‬‬


‫يرتبط علم الداللة عند بريس مبا ميتلكه من رؤى حول علم الوجود‪ ،‬معرفة الكون‪ ،‬علم املعرفة‬
‫ومعرفة اإلنسان؛ وذلك أل َّن العامل وما فيه من وجهة نظره‪ ،‬يُ ْع َرف من وجهة الداللة‪ ،‬وفهمه للداللة‪،‬‬
‫يل ألفكاره يبدأ من علم املعرفة (معرفة‬
‫ومحوري يف فهمه للكون‪ .‬وانطالقًا من أ ّن السري التكام َّ‬
‫ٌّ‬ ‫مؤث ّر‬
‫ـ املصدر‪ :‬فصل ّية اإلسالم والعلوم االجتامع ّية العلم ّية – البحث ّية‪ ،‬السنة ‪ ،9‬العدد ‪ ،18‬خريف وشتاء ‪1396‬هـ‪.‬ش‪2017 /‬م‪.‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬د‪ .‬عيل الحاج حسن‪.‬‬
‫‪[2]- Pierce.‬‬
‫‪[3]- Realist.‬‬

‫‪79‬‬
‫المحور‬

‫الكون) (اسكفلر[[[‪ ،1366 ،‬ص‪)31‬؛ لذلك ينبغي بداية الرشوع من علم املعرفة‪.‬‬
‫بدياًل عن مصطلح‬ ‫لقد ترجم مصطلح “‪ ”Semiotic‬من اليونانيَّة القدمية‪ ،‬واقرتح هذا املصطلح ً‬
‫رصح بأ َّن عمله هو الفلسفة‪ .‬مل يكن يرغب‬ ‫(‪[ )Knowledge discipline of‬علم االنضباط]‪ .‬وقد َّ‬
‫املوسع‬
‫َّ‬ ‫يف أن يكون عامل داللة؛ بل يعتقد بأ َّن ما نطلق عليه علم الداللة ليس سوى املنطق‬
‫الفلسفي (ﭙاكتجي‪ ،1389 ،‬ص‪ .)91‬من جهة‬ ‫ِّ‬ ‫(‪ )extended logic‬وهو جزء من الـ‪discipline‬‬
‫أخرى‪ ،‬يُع ُّد بريس من الباحثني واملحقّقني يف آثار كانط[[[ وهيغل[[[؛ حيث قرأ أبحاثهام باألملانيَّة‪،‬‬
‫خاصا نحو فلسفة جان دانز اسكوتوس (لچت[[[‪ ،1377 ،‬ص‪ .)45‬ومن جملة‬ ‫ًّ‬ ‫مياًل‬
‫وكان ميتلك ً‬
‫تنفك عن املنطق‪ ،‬واملنطق من وجهة نظره ويف معناه‬ ‫ُّ‬ ‫ما امتاز به أنَّه اعترب نظريَّته يف الداللة ال‬
‫الواسع‪ ،‬عبارة عن “الفكر الذي يصبح موجو ًدا عن طريق الداللة”‪ .‬وهذا يعني أ َّن الداللة ترتبط‬
‫باملنطق؛ أل َّن ُمجمل الفكر الذي قام بإيجاده هو عبارة عن الصور املنطقيَّة‪ .‬وقد أوضح املسألة‬
‫بقوله‪“ :‬الفكرة التي ميكن أن ت ُ ْعرف‪ ،‬هي الفكرة صاحبة الداللة‪ ،‬أ َّما الفكرة التي ال تعرف‪ ،‬فهي غري‬
‫موجودة؛ لذلك ال ب َّد من أن تظهر الفكرة عىل شكل الداللة” (لچت ‪ ،1377 ،‬ص‪.)50‬‬
‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬يدخل بريس من باب املنطق إىل علم الداللة‪ ،‬وعىل هذا النحو‪ ،‬فاملوضوع‬
‫األساس الذي اهت َّم به هو سعة مقوالت الداللة يف الكون‪ ،‬والنظريَّة التي ق ّدمها حول الدالالت‬
‫ت ُشكّل مبادئ علم الداللة األمرييكِّ لديه‪ .‬هو يعتقد أ َّن العامل بأكمله يتشكَّل من الدالالت‪ ،‬حتّى‬
‫أ َّن األفكار هي داللة أيضً ا‪ .‬الفكرة الوحيدة التي تُ ْعرف هي صاحبة الداللة‪ ،‬والفكرة التي ال ت ُ ْعرف‬
‫فكل فكرة ال بُ َّد من أن تكون عىل شكل داللة‪( .‬لچت‪ ،1377 ،‬ص‪ .)202‬ومن هنا‪،‬‬ ‫ليست موجودة‪ُّ ،‬‬
‫ين يتض َّمن العلوم األخرى كافّة‪.‬‬
‫ميكن القول أ َّن علم الداللة هو علم كو ٌّ‬
‫متتاز مبادئ الداللة عند بريس عن املقوالت األخرى كافَّة‪ ،‬وهو ُمُييِّز بني املقوالت األوىل‬
‫والثانية والثالثة؛ حيث يعتقد أ َّن أساس املعرفة تجربة اإلنسان وعمله‪ .‬وميكن رشح هذه املقوالت‬
‫كالتايل‪:‬‬
‫أي‬
‫املستقل عن ّ‬
‫ّ‬ ‫املقوالت األوىل‪ :‬هي عبارة عن املفاهيم التي يُراد بها الوجود أو املوجود‬
‫الخواص‬
‫ّ‬ ‫يشء آخر؛ أي التي ال يت ُّم إرجاعها إىل أشياء أخرى (مثال ذلك‪ :‬االستعداد الرصف أو‬
‫غري القابلة لالنفكاك)‪.‬‬
‫املقوالت الثانية‪ :‬هي عبارة عن االرتباط األول بالثانية أثناء املقارنة (مثال ذلك‪ :‬تجربة الزمان‬

‫‪[1]- Scolfler.‬‬
‫‪[2]- Kant.‬‬
‫‪[3]- Hegel.‬‬
‫‪[4]- Lechte, John.‬‬

‫‪80‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫واملكان)‪ ،‬هي املفاهيم التي تحيك عن النسبيّة ور ّدة الفعل التي تصدر من اليشء نحو يشء آخر‪.‬‬
‫املقوالت الثالثة‪ :‬هي االرتباط الثاين بالثالثة‪ .‬أي املفاهيم التي تنشأ بوساطة االرتباط باملفاهيم‬
‫األوىل والثانية (اسكفلر‪ ،1366 ،‬ص‪ ،)44‬وترتبط هذه املقولة بالحافظة والعادات والداللة‪.‬‬
‫لقد َع ّرف الداللة يف عالقتها بهذه املقوالت الثالث‪ ،‬وجعلها ضمن عمل َّية ثالث َّية باسم الداللة[[[‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يل؛ أي بعد مرحلة‬ ‫وهي‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬تحصل يف الحركة‪ ،‬العمل أو الحدث وعىل شكل مرح ٍّ‬
‫أخرى‪ .‬كام تعتمد عىل أركان ثالثة هي‪ :‬اإلشارة‪ ،‬التعبري (التفسري) واليشء‪( .‬رضايئ راد‪،1381 ،‬‬
‫ص‪ .)25‬فاإلشارة تقتبس “ماه َّية” ذاتها من املوضوع وتتح َّول إىل موضوع للتفسري؛ أي أنَّها تؤخذ‬
‫من املوضوع‪ ،‬وهي بح ِّد ذاتها موضوع من أجل التفكري والتفسري‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ميكن القول أ َّن‬
‫التفسري نوع من الداللة أيضً ا‪ ،‬هو الذي يتبادر بداية إىل الذهن عن طريق اإلشارة‪.‬‬
‫مل يعرض بريس نظريَّته حول الحقيقة؛ بل ق َّدمها ألجل املنطق؛ لذلك فإ َّن فهم املعنى يف‬
‫قسمه إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫الداللة عنده يتطلّب التع ّرف عىل منطقه الذي ّ‬
‫‪ .1‬املنطق الذي هو القاعدة اللغويَّة النظريَّة[[[‪.‬‬
‫النقدي[[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ .2‬املنطق‬
‫‪ .3‬املنطق الذي هو علم املعاين والبيان[[[‪.‬‬
‫فاملنطق املعني بالقواعد اللغويَّة والنظريَّة يدرسه ضمن مثلّث علم اللُّغة (العني‪ ،‬العرض‬
‫النقدي يُعنى بدراسة صدق وكذب‬ ‫ُّ‬ ‫واملفرّس)‪ ،‬ث ّم يشتغل بتحديد رشوط معنائ َّية الدالالت‪ .‬واملنطق‬
‫ّ‬
‫املعطيات عن طريق الربهان والقياس‪ ،‬وهو عىل عالقة بالرشوط الصوريَّة والحقيق َّية للداللة‪ ،‬ومن‬
‫جملتها نظريَّة أبداكسيون[[[‪( .‬رضوي فر وغفاري‪ ،1390 ،‬ص‪ .)5‬أ َّما القسم الثالث من منطقه فيُعنى‬
‫املختص برشوط املعنائ َّية وق َّوة تقديم الدالالت ورشوطها الصوريَّة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫النظري‬
‫ِّ‬ ‫بعلم املعاين والبيان‬
‫يعتقد بريس أ َّن معنى ال َّرمز واإلشارة يجب الحصول عليه من خالل الدراسة التجريبيَّة للنتائج‬
‫العمل َّية واستخداماته‪ ،‬وبالتايل فالتقرير الرباغاميتُّ يف املنطق هو لتوضيح العالقة بني الداللة‬
‫رضوري؛ وهي معرفة متتلك القابل َّية للتعلّم‬
‫ٍّ‬ ‫واملعنى‪ .‬كام يعتقد أ َّن معرفة الداللة يف النظريَّة شبه‬
‫واالنتقال عن طريق التجربة‪ .‬كذلك يعترب أ ّن املنطق هو تسمية أخرى لعلم الداللة؛ لذلك عرض‬
‫[[[‪ -‬عندما يكون الحديث عن الداللة فاملقصود العالقة بني الدال واملدلول اإليجايب‪ ،‬وال تنتهي بالعالقة البسيطة واملحدودة بني الدال‬
‫واملدلول‪ ،‬وتقسم من وجهة نظر بريس إىل أشكال ثالثة باعتبار نوع العالقة‪.‬‬
‫‪[2]- Speculative Grammar.‬‬
‫‪[3]- Critical Logic.‬‬
‫‪[4]- Speculative Rhetoric.‬‬
‫‪[5]- Abduction.‬‬

‫‪81‬‬
‫المحور‬

‫وأسس بالتايل‬
‫رؤيته يف املنطق واملعنى‪ ،‬فم َّهد الطريق لتوسيع الرباغامتيّة يف مجال الوصف‪َّ ،‬‬
‫للرواية األمريكيَّة حول علم الداللة‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬فالوصف يف املذهب الرباغاميتِّ هو نوع من‬
‫علم الداللة الذي أوجده‪ ،‬وال ينحرص بحدود الدالالت الكتب َّية أو القول َّية؛ بل تنطبق وتتَّسع لتشمل‬
‫أي ظاهرة يتطلَّب الوصول إىل نتائجها التجريب َّية‪ ،‬ومجموع هذه النتائج‬ ‫كل ظاهرة‪ .‬كام أ َّن وصف ِّ‬
‫َّ‬
‫عبارة عن معنى تلك الظاهرة أو بعبارة أخرى وصفها‪.‬‬
‫الكيفي‬
‫[[[‬
‫ِّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬أشار يف فهرس مقوالته إىل أساليب ثالثة من الوجود‪ ،‬األول َّية[[[ أو اإلمكان‬
‫أي من العالقات األخرى‪ ،‬من قبيل “البياض”‬ ‫التي تشتمل عىل األمور يف نفسها من دون لحاظ ٍّ‬
‫أو “اإلحساس بالفرح”‪ ،‬ومن دون السؤال عن علّتها؛ الثانويَّة[[[ أو ارتباط اليشء بيشء آخر‪ ،‬والتي‬
‫توضح العالقة بني مختلف األمور الجزئ َّية‪ ،‬من قبيل التأثري والتأث ُّر‪ ،‬والتي تحصل عىل أثر علَّة ما‪،‬‬
‫من أمثال “وجود أمل” بعد وجود علَّة مع َّينة؛ وهي ترتبط يف الغالب بحياة اإلنسان العمل َّية والتجربة‬
‫الشخص َّية‪ .‬الثالثة[[[ أو املقوالت ذات املعنى الواعي‪ ،‬والتي تحمل يف ط َّياتها الحكاية عن النتائج‬
‫(مح ّمد ﭙور‪ ،1389 ،‬ص‪.)215‬‬
‫كل‬
‫يرى بريس أ َّن األوىل عبارة عن املفاهيم التي يُراد بها الوجود أو املوجوديَّة املستقلَّة عن ّ‬
‫يشء آخر؛ وأ َّن الثانية عبارة عن املفاهيم التي تحيك عن النسبيّة‪ ،‬وعن ر ِّد فعل اليشء ات ّجاه اليشء‬
‫اآلخر؛ وأ َّن الثالثة هي املفاهيم التي تحصل بوساطة اجتامع األوىل والثانية وعن طريقها (اسكفلر‪،‬‬
‫‪ ،1377‬ص‪ .)18‬وعىل هذا النحو‪ ،‬يتّجه األ ّول (اإلحساس) نحو الثاين (األحداث الفعل َّية القابلة‬
‫للتكرار)؛ ليتكامل مع الثالث (القوانني)‪( .‬لچت ‪ ،1377 ،‬ص‪ .)44‬وتشتمل املقوالت األوىل والثانية‬
‫عىل األمور الكليَّة‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن أحدها يكون عىل نح ٍو ممكن‪ ،‬واآلخر عىل شكل القوانني الرضوريَّة‬
‫خاصة للمقوالت الثالثة؛ ألنّها ترتبط بالتفكُّر‬
‫َّ‬ ‫والعين َّية‪ .‬وهو‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬يعرتف يف علم دالالته بأهم َّية‬
‫الكيّل‪ ،‬ميكن‬
‫ّ ِّ‬ ‫والتص ّور والتصديق‪ ،‬وهي تشتمل عىل عمل َّية املعرفة أيضً ا‪ .‬وانطالقًا من هذا اإلطار‬
‫تصنيف مختلف الدالالت عىل أساس هذه املقوالت‪ .‬وقبل أن يجري تفسري الداللة تكون مج َّرد‬
‫ق َّوة واستعداد محض‪( .‬م‪ .‬ن)‪.‬‬
‫ّ‬
‫تبعية الدالالت‪:‬‬
‫من الواضح أ َّن الدالالت يصبح لها معنى عند ارتباطها بعضها ببعض‪ ،‬ويف عالقتها بعضها‬
‫ببعض؛ أل َّن الفكر بنفسه هو داللة من وجهة نظر بريس‪ .‬وعليه‪ ،‬فالفكرة التي توجد معرفة‪ ،‬تحتاج‬
‫‪[1]- Firstness.‬‬
‫‪[2]- Qualitative Possibility.‬‬
‫‪[3]- Secondness.‬‬
‫‪[4]- Thirdness.‬‬

‫‪82‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫رص عىل أن يؤكِّد أ ّن اإلدراك يبدأ من خالل حركة‬ ‫لتفرِّس بعضها البعض ‪ .‬وهو يُ ُّ‬
‫[[[‬
‫إىل أفكار أخرى؛ ِّ‬
‫أي تغيري آخر‪ ،‬حيث يصل بذلك إىل الخامتة والنهاية‪( .‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪-103‬‬ ‫وعمليَّة معيَّنة‪ ،‬من قبيل ِّ‬
‫‪ .)104‬فتكون األفكار االبتدائ َّية مبدأً لألفكار َّ‬
‫الاَّلحقة‪ .‬هي عمل َّية االستفادة من األفكار العقل َّية‬
‫وتوضيح واختيار أفضل التفاسري‪ .‬وقد أطلق عىل ذلك عنوان “الحدس” الذي يؤ ّدي دو ًرا مهاًّمًّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫للغاية يف علم الداللة‪ ،‬حيث يعتقد أ َّن معنى الدالالت يتَّضح يف االرتباط بغريها‪ ،‬فتصبح منشأً‬
‫تدريجي وأثناء العالقة بني مختلف الدالالت‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫للمعرفة‪ .‬وتحصل هذه املعرفة بشكل‬
‫يت للداللة عند بريس‪:‬‬
‫املعنى الرباغام ُّ‬
‫ظل‬
‫ترتبط براغامت َّية بريس مبسألة املعنى والداللة‪ ،‬كام أ َّن نظريَّته يف املعنى تقبل الفهم يف ِّ‬
‫يت يف فكره‪ ،‬وعلم الداللة‬
‫علم الداللة الذي ق َّدمه‪ ،‬وهذا يعني وجود ارتباط وثيق بني ال ُبعد الرباغام ِّ‬
‫الذي أراده‪ .‬هو يعترب أ َّن العقيدة تنشأ من الفكر وتقوم عىل أساس مبدئيَّة الفكر؛ لذلك يؤ ّدي علم‬
‫الداللة دو ًرا محوريًّا يف علم املعرفة لديه‪ .‬كذلك يقدم صورة عا َّمة للشمول َّية يف خصوص الفكر‪،‬‬
‫فتحصل النظريَّة من املعرفة‪ ،‬والتي ترتبط بالفلسفتني العقل َّية والتجريب َّية املختلفتني بعضهام عن‬
‫ّ‬
‫“الشك” و”الشعور”‪.‬‬ ‫بعض‪ .‬ويف هذه املسألة‪ ،‬يجري التأكيد عىل “العقيدة” بدل التأكيد عىل‬
‫يئ‪،‬‬‫يل للعقيدة؛ أي كونه حالة ذهن َّية مستقلَّة عن العامل الفيزيا ِّ‬
‫لقد رفض بريس املفهوم العق َّ‬
‫الشهودي‬
‫ِّ‬ ‫وربط العقيدة بالعمل‪ .‬ويف النهاية عارض الرؤية الكالسيك َّية التي تعرتف باإلدراك‬
‫معنّي‪ .‬وتتحقَّق “الفكرة” أو “التحقيق” مرو ًرا بالثانية (األحداث‬
‫واليقني‪ ،‬ورفض كاًّلًّ منهام بشكل ّ‬
‫الفعليَّة القابلة للتكرار)؛ لتتكامل مع الثالثة (القوانني)‪( .‬اسكفلر‪ ،1366 ،‬ص‪.)23‬‬
‫َّ‬
‫نظرية املعىن‪:‬‬
‫ربا أنَّه‪ :‬عند تعيني‬
‫يتح َّدث بريس حول األصل الرباغاميتِّ ونظريَّة املعنى يف فلسفته معت ً‬
‫مفهوم معقول عند اإلنسان‪ ،‬يجب البحث بداية عن النتائج العلم َّية الناشئة بالرضورة من صدق‬
‫كاماًل‬
‫ً‬ ‫ذاك املفهوم‪ ،‬وتشكِّل هذه النتائج معنى ذاك املفهوم؛ لذلك يكون للمفهوم معنى وتعريفًا‬
‫عند إخضاعه للتجربة واالختبار‪ .‬فإذا جرى تطبيق هذه املسألة يف العديد من املفاهيم واملسائل‬
‫الفلسف ّية‪ ،‬عندها ميكن إثبات عدم معنائ َّية الكثري من مفاهيم ما بعد الطبيعة والفلسف َّية‪ .‬ولقد اعترب‬
‫أ َّن هذا األصل وسيلة إلثبات املعنى‪ ،‬ث َّم بذل جهوده لتعريف املفاهيم وتوضيحها عن طريق‬
‫التجربة واالختبار (م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪)554‬؛ حيث ت ُع ُّد رؤيته هذه من جملة االستنتاجات الحديثة يف‬
‫أبحاث املعنى‪.‬‬

‫‪[1]- Abduction.‬‬

‫‪83‬‬
‫المحور‬

‫ّ‬ ‫َّ‬
‫املعنايئ‪:‬‬ ‫املثلث‬
‫بعد ما تق َّدم من مخترص حول املباين واملعرفة واملقوالت عند بريس‪ ،‬ميكن التط ُّرق إىل أصل‬
‫مستقل‬
‫ٌّ‬ ‫كل يشء يق ِّدم معرفة فهو داللة‪ ،‬وليس للداللة وجو ٌد‬ ‫علم الداللة عنده‪ .‬فهو يعترب أ َّن َّ‬
‫ومنفرد؛ بل لها أوجه ثالثة‪ .‬كام أنَّها النموذج األ ّول للكون‪ ،‬وموضوعها الثاين هو النموذج الثاين‬
‫للكون‪ ،‬وبوساطته ميكن تفسري النموذج الثالث[[[ (لچت‪ ،1377 ،‬ص‪)202‬؛ حيث يجري تحديد‬
‫العالقة بني الداللة‪ ،‬التفسري واملوضوع‪ .‬فالداللة تحصل عىل نحو كونها من املوضوع‪ ،‬وتتح َّول‬
‫إىل موضوع للتفسري‪ ،‬وهذا ما ميكن اإلشارة إليه بوساطة ال َّرسم اآليت‪:‬‬

‫هذا يعني أ َّن الداللة بنفسها مأخوذة من املوضوع‪ ،‬وهي يف الوقت نفسه موضوع للتفسري‬
‫واملفرّسات‪ ،‬وكذلك بني الدالالت وعامل‬‫ّ‬ ‫والتفكري‪ .‬وهنا يتح َّدث بريس عن العالقة بني الدالالت‬
‫الخارج‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ميكن القول أ َّن التفسري نوع من الداللة أيضً ا‪ ،‬وهو الذي يتبادر إىل الذهن‬
‫للم َّرة األوىل عند طريق الداللة‪ .‬التفسري‪ ،‬هو تأثري داللة أو تفكّر مرتبط بداللة معيّنة‪ ،‬وهي تنشأ من‬
‫الداللة‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬تصبح الفكرة املولِّدة داللة ث َّم تحصل دالالت وأفكار أخرى عن طريق‬
‫االرتباط بغريها من الدالالت‪ .‬لذلك؛ تُع ّد عمل َّية املعرفة‪ ،‬عمل ّية إنتاج الداللة‪ .‬فالفكرة عني الداللة‪،‬‬
‫فكل تفسري هو يف الحقيقة تحليل الدالالت‪.‬‬ ‫تدل عىل يشء يقتيض التفسري‪ُّ ،‬‬ ‫كل داللة ُّ‬
‫ومبا أ َّن َّ‬
‫لنلتفت إىل الرسم اآليت‪:‬‬

‫َّ‬
‫عملية إنت�اج الداللة‪:‬‬
‫يجدر القول أ َّن العالقة بني اليشء والتفسري هي رابطة اسرتجاع َّية بحيث ميكن أن يخضعا‬

‫[[[‪ -‬يعتمد هذا املطلب عىل فهم املقوالت الذي سيتّضح فيام يأيت‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫والواقعي مصد ًرا لإلرجاع أو اإلدراك يظهر‬


‫ِّ‬ ‫العيني‬
‫ِّ‬ ‫الاَّلمحدود‪ .‬من هنا ندرك أ َّن يف العامل‬
‫للتبادل َّ‬
‫عىل شكل داللة‪ ،‬والداللة بنفسها مح ِّرك لإلدراك والتفسري والتفكُّر الذي قد يشكِّل املعرفة تارةً‪،‬‬
‫العيني ميكن أن تشتمل عىل املصدر واملوضوع أو املرجع‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫والداللة املأخوذة من العامل‬
‫(نرسيسيانس‪ .)36 ،1385 ،‬لذلك؛ يجب إدراك الداللة عند بريس يف عمل َّية االرتباط بني الداللة‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫واملفرِّس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املدلول‬

‫َّ‬
‫عملية االرتب�اط بني الدالالت‪/‬‬
‫إذا حاولنا املقارنة بني أفكار سوسور[[[ وتعاليم بريس‪ ،‬سندرك أ َّن عمل “الدال” عند األول‬
‫كالدال عند الثاين‪ ،‬وأ ّن املدلول عند بريس كالرتجمة‪ ،‬حيث ميكن اإلشارة إىل هذه العالقة عىل‬
‫النحو اآليت‪:‬‬
‫الجدول ‪ :1‬تشابه املصطلحات املستخدمة بني سوسور وبريس‬

‫سوسور‬ ‫بريس‬
‫الدال‬ ‫=‬ ‫العالمة‪ ،‬الداللة‬
‫املدلول‬ ‫=‬ ‫الرتجمة‪ ،‬التفسري‬

‫الاَّلنهاية‪ ،‬رغم أ َّن عمل َّية معرفة‬


‫مبا أ َّن بريس عرض مسألة إنتاج الداللة من داللة أخرى إىل َّ‬
‫إاَّل أ َّن ذلك يصبح محدو ًدا عمليًّا من خالل العادة‪ .‬من هنا‪ ،‬أطلق عىل‬‫الداللة بالقوة غري متنا ٍه؛ َّ‬
‫خاص‬
‫ٍّ‬ ‫يئ عنوان “العادة”‪ .‬ويقصد من هذا املفهوم‪ ،‬ميل اإلنسان نحو نسبة معنى‬ ‫املفرِّس النها ِّ‬
‫ِّ‬
‫للداللة عىل أساس ما هو معروف بشكل أفضل ويُطلق عليه “العادة”‪ .‬مفهوم العادة هو الذي يبعث‬

‫‪[1]- Saussure.‬‬

‫‪85‬‬
‫المحور‬

‫املفرِّس وإىل الدالالت األخرى‪ ،‬وهي حقيقة ال ب َّد منها‪ ،‬فلو استم َّرت هذه‬
‫ِّ‬ ‫عىل إرجاع الداللة إىل‬
‫العمليَّة إىل ما ال نهاية‪ ،‬فلن يحصل إفهام وتفاهم بني الناس عىل اإلطالق‪ .‬فالعادة تؤ ِّدي إىل توقُّف‬
‫خاصا عىل الدالالت؛ ليتمكَّن البرش من مخاطبة بعضهم البعض‬ ‫ًّ‬ ‫هذه العمل َّية ما يضفي مع ًنى‬
‫وإفهام بعضهم البعض‪( .‬رضوى فر‪ ،1390 ،‬ص‪.)15‬‬

‫الداللة من وجهة نظر بريس‪:‬‬


‫تعتمد الداللة من وجهة نظر بريس عىل أركان ثالثة‪ :‬العالمة‪ ،‬التعبري واليشء‪ .‬وهذا يعني أ َّن‬
‫جهة وثالثيَّة األركان؛ لتصل إىل املقصد يف النهاية‪ .‬وهذا ميكن‬ ‫ظل عمليَّة مو َّ‬
‫الداللة تجري يف ِّ‬
‫اإلشارة إليه عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫‪Rep ® int ® ogj ® Repintobj‬‬
‫هذا يعني أ َّن الدالالت أحداث تؤخذ عىل أنَّها واحدة ومستقلّة وغري مرتبطة بعضها ببعض‪ .‬أ َّما‬
‫محل اهتامم‬
‫خصوصا من الناحية الفلسفيَّة‪ ،‬فليس َّ‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫الدال واملدلول‪،‬‬ ‫السؤال حول ماهيَّة العالقة بني‬
‫ِّ‬
‫الدال واملدلول ضمن‬ ‫علم الداللة املعارص؛ بل السؤال املطروح اليوم‪ :‬كيف تتشكَّل العالقة بني‬
‫نسق متالئم؟ وكيف يتعلَّم األفراد واملستخدمون هذه العالقة؟‬
‫ِّ‬
‫الدال‬ ‫إ َّن أه َّم عامل لتعلُّم الداللة هو كرثة التكرار أو استخدام األفراد العالقة الدالليَّة بني‬
‫واملدلول‪( .‬سجودى‪ ،1386 ،‬ص‪.)8‬‬

‫املعىن يف علم الداللة عند بريس‪:‬‬


‫يتشكَّل املعنى عىل أثر اجتامع ثالث َّية الظهور‪ ،‬التفسري واملوضوع‪ .‬أ َّما رؤية بريس يف عمل َّية‬
‫مفرِّس‪،‬‬
‫يئ)‪ ،‬فهي بحاجة إىل وجود ِّ‬ ‫حا يف مثلّثه املعنا ِّ‬‫إنتاج املعنى (والتي مل يتح َّدث عنها رصي ً‬
‫الذهني أو التفسري‪ ،‬وهذا ما يبعث عىل بروز‬
‫ِّ‬ ‫وتحل مكان التص ُّور‬
‫ُّ‬ ‫فيحرض تفسري الداللة يف املعنى‬
‫يل؛ بل هو معنى‬‫وشخوص عمل َّية االستدالل‪ .‬يف األساس‪ ،‬ليس معنى الداللة هو مضمونها الداخ ّ‬
‫يحصل عىل أثر عمل َّية تفسري تلك الداللة‪ ،‬بحيث يستلزم نو ًعا من اإلرجاع إىل املقصود‪.‬‬

‫أوجه التشابه‪:‬‬
‫يث‪ .‬وقد ق َّدم بريس تصنيفًا آخر لها وألساليب‬ ‫أنواع الداللة شبيهة باستخدامها‪ ،‬فهي ذات شكل ثال ٍّ‬
‫االرتباط بني الظواهر أو حوامل الدالالت وموضوعاتها أو موارد اإلرجاع‪ .‬ورسم العالقة بني ذهن‬
‫الخارجي‪ ،‬أو عمليَّة املعرفة عن طرق ثالثة‪ :‬الشامئليَّة‪ ،‬الظاهريَّة والرمزيَّة‪ .‬وقد‬
‫ِّ‬ ‫اإلنسان والعامل‬
‫ص ّنفها عىل النحو اآليت‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫َّ‬
‫* الرمز ‪ /‬الصورة الرمزية[[[‪:‬‬
‫تدل عىل املصداق عن طريق القانون‪ ،‬والذي يضفي عليها‬ ‫الرمز عبارة عن الداللة التي ُّ‬
‫ُّ‬
‫الدال عىل املصداق‪ .‬وعىل‬ ‫حا‪ .‬وهو نوع من تداعي املعتقدات عند العموم‪ ،‬وهو‬ ‫مع ًنى رصي ً‬
‫هذا األساس‪ ،‬فالرمز بنفسه نوع عام أو قانون؛ أي أنّه داللة وصف َّية‪ .‬هنا يجب تعلّم العالقة بني‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫مثاًل (األحرف الهجائ َّية)‪ ،‬األعداد‪ ،‬إشارات املرور و‪ ...‬وهو يستخدم يف‬ ‫ِّ‬
‫الدال واملدلول‪ :‬كالُّلغة ً‬
‫الحديث والكتابة‪ .‬ويشري الرمز عنده إىل ما استخلصه سوسور من العالقة االنتسابيَّة وغري العليَّة‬
‫كل ظاهرة رم ًزا[[[‪ ،‬إاَّلَّ إذا قبلت التفسري‪ .‬لذلك؛ ال ميكن الفصل بني‬ ‫ِّ‬
‫الدال واملدلول‪ ،‬وال تكون ّ‬ ‫بني‬
‫واملفرِّس[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ال َّرمز‬
‫ّ‬
‫الظاهري‪:‬‬ ‫* الظاهر ‪ /‬الوجه‬
‫حا‪ .‬لذلك؛ ال ميكن أن‬ ‫تدل عىل مصداق يضفي عليها حقيقة ومع ًنى رصي ً‬ ‫الظاهر هو داللة ُّ‬
‫مستقل عن األشياء األخرى‪ .‬أ َّما‬
‫ٌّ‬ ‫يكون داللة كيف َّية؛ أل َّن الكيف َّيات عبارة عن أشياء ال يكون لها وجود‬
‫الظاهرة فهي عبارة عن الداللة التي تحصل بني الصورة ومعناها عندما يتحقّق بينهام رابطة علّيّة‪ ،‬أو‬
‫عند تحقّق التأث ُّر باملوضوع حيث ميكننا فهم واستنتاج هذه الداللة عىل أثر ذلك‪ .‬هي يشء شبيه‬
‫ُّ‬
‫الدال هنا ال يكون اختياريًّا أو مخالفًا‬ ‫مبا يطلقون عليه يف االستخدام‪ ،‬الداللة الطبيع َّية‪( .‬م‪ .‬ن)‪.‬‬
‫للشامئل والصفات‪ ،‬وهي متتلك عالقة مرنة مع مدلولها‪ .‬والدالالت الطبيع َّية من قبيل (الدخان‪،‬‬
‫الرعد والربق)‪ ،‬عالئم املرض (رسعة رضبات القلب)‪ ،‬وسائل القياس (قياس مستوى الحرارة)‪...‬‬

‫التغي� ف ي� النسب‪:‬‬
‫ي‬ ‫*‬
‫انتقااًل من وجه إىل آخر‪ ،‬وكلّام‬ ‫ً‬ ‫يف ما يتعلَّق باألوجه الثالثة التي ذكرها بريس‪ ،‬فقد شهد التاريخ‬
‫اتّجهت الدالالت نحو العلّيَّة‪ ،‬أصبحت اكتسابيَّة يجب تعلُّمها‪ ،‬وكلَّام ات َّجهت نحو الظهور كانت‬
‫مثاًل‪ .‬وإذا كان بريس أعطى األهم َّية الكربى للدالالت غري اللغويّة‪ ،‬فإ َّن‬ ‫تشخيصا كأمل الرأس ً‬ ‫ً‬ ‫أكرث‬
‫سوسور أوىل األهم ّية للدالالت الظاهريَّة‪“ :‬الدالالت العموم َّية فقط هي الرمزيَّة ووجود الجمع‬
‫رضوري إلدراكها”‪( .‬بريس‪ ،1391 ،‬ج‪ ،3‬ص‪ .)363‬وقد أكّد أهميَّة أصل كونها اختياريَّة‪ ،‬ماَّمَّ يُبنِّيِّ تق ُّدم‬ ‫ّ‬
‫خاص‪( .‬م‪ .‬ن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدالالت الظاهريَّة‪ ،‬مع أ َّن بريس اعترب أ َّن “الذِّهن الذي يستخدم الرمز” صاحب امتياز‬
‫الظاهري من خالل هذه الرؤية‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ج‪ ،2‬ص‪ .)299‬وميكن فهم مسرية تح ُّول أنظمة الداللة نحو الوجه‬

‫يدل عىل يشء متتايل ومنظّم يقع يف إطار إيجاد العقد بني األفراد‬
‫[[[‪ -‬أشار بريس يف الجزء ‪ ،2‬املقطع ‪ ،297‬إىل أنّ الرمز يف األساس ّ‬
‫وهو يختلف عن ما أراده سوسور؛ ‪.Sign‬‬
‫نّي‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أي أنّ موضوع الرمز ليس سب ًبا الستعامل الرمز كرمز؛ بل نحن ننسب الرمز إىل موضوع مع ّ‬
‫معارصا‪ ،‬ص‪.204‬‬
‫ً‬ ‫[[[‪ -‬مقتبس من‪ :‬خمسون مفكّ ًرا‬

‫‪87‬‬
‫المحور‬

‫ساحات املعىن ِّ‬


‫املتنوعة‪:‬‬
‫بدايةً‪ ،‬وبعي ًدا عن بحث داللة الداللة واملعنى عند بريس‪ ،‬سنحاول أن نبنِّيِّ ماه َّية ساحات‬
‫وات ّجاهات املعنى ووجهات االختالف بينها‪.‬‬
‫ن‬ ‫َّ‬
‫المع� والعالم الخار�ج ي ّ ‪:‬‬ ‫* اللفظ‪،‬‬
‫ندرك من خالل العالقة بني اللَّفظ واملعنى أ َّن الخارج من سنخ اللَّفظ والداللة (الصوت َّية‬
‫واالرتكازي خري شاهد‬
‫َّ‬ ‫الشهودي‬
‫َّ‬ ‫تدل عىل يشء غري ذاتها‪ .‬كام أ َّن األمر‬‫والكتب َّية)؛ أي أ ّن الكلمة ُّ‬
‫عىل وجود يشء يطلق عليه املعنى‪ ،‬وهو ليس من جنس الصوت والكالم‪ ،‬وليس أم ًرا مكتوبًا؛ بل‬
‫هو حقيقة ُّ‬
‫تدل عليه الداللة اللَّفظ َّية والكتب َّية‪ .‬مثال ذلك أ ّن لفظة “الوردة” ال تحيك مبارشة ومن دون‬
‫طبيعي ومن دون وساطة بني‬ ‫ٌّ‬ ‫الخارجي واملوجودات العين َّية‪ ،‬وال يحصل اتّصال‬‫ِّ‬ ‫وساطة عن العامل‬
‫الخارجي من حيث كونه لفظًا؛ بل من‬
‫ِّ‬ ‫يدل عىل الواقع‬ ‫يك عنه يف الخارج‪ .‬اللَّفظ ال ُّ‬‫الَّلفظ واملح ِّ‬
‫الخارجي (هذا إذا كان للمعنى واملفهوم‬
‫ِّ‬ ‫يك‬
‫جهة كونه دااًّلًّ عىل املعنى‪ ،‬واملعنى يحيك عن املح ِّ‬
‫يك عنه يف عامل الخارج)‪.‬‬ ‫مح ٌّ‬
‫يعتقد علامء األصول املسلمون أ َّن العالقة بني اللَّفظ واملعنى ليست ذاتيَّة وال طبيعيَّة‪ ،‬بل هي‬
‫وخارجي يصدر‬
‫ٌّ‬ ‫إرادي‬
‫ٌّ‬ ‫عالقة وضع َّية (الصدر‪ ،‬أصول الشهيد الصدر‪ ،1394 ،‬ص‪)73‬؛ أي أ َّن األمر‬
‫يصح معه القول بوجود اتّحاد بينهام‪ .‬فاللَّفظ هو املعنى‬ ‫ُّ‬ ‫عن اإلنسان‪ ،‬وهو عميق إىل مستوى‬
‫ووجوده من وجه ما هو وجود املعنى‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬نجد أ َّن بعض املفاهيم من قبيل القُبح‬
‫حسن ترسي إىل بعضها البعض‪ ،‬وإذا كان املعنى واملضمون قبيحني يف املجتمع‪ ،‬قَبُ َح‬ ‫أو ال ُ‬
‫الوجودي بني اللَّفظ واملعنى ليس أم ًرا حقيق ًّيا؛‬
‫ُّ‬ ‫استخدام األلفاظ الدالَّة عليهام‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هذا االتّحاد‬
‫يل؛ أي أنَّه وجد بوساطة الوضع واالتفاق فظهر وجود اللَّفظ عىل أنَّه وجود‬ ‫يئ وتنزي ٌّ‬
‫بل هو ا ّدعا ٌّ‬
‫يئ‪ ،1380 ،‬ص‪20-19‬؛ وواعظي‪ ،1390 ،‬ص‪.)20‬‬ ‫املعنى‪( .‬الطباطبا ّ‬
‫بنا ًء عىل هذا التحليل‪ ،‬ميكن ال َّربط بني الساحات الثالث‪ :‬اللُّغة‪ ،‬الذِّهن والواقع‪ ،‬أو بني عوامل‬
‫املعنى‪ ،‬املعرفة وعامل الخارج‪ ،‬وهذا ما يدعو إىل عدم االبتعاد عن الواقع َّية‪.‬‬
‫ي ن‬
‫المسلم�‪:‬‬ ‫ن‬
‫المع� من وجهة نظر الفالسفة‬ ‫*‬
‫املعنى هويَّة انتزاع َّية وفرديَّة‪ ،‬وهو من سنخ املفهوم‪ ،‬ويحيك عن ذات األشياء واألشخاص من‬
‫الخارجي‪ .‬أ ّما األبعاد املضمونيَّة يف هذا التعريف للوجود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذهني أو‬
‫ِّ‬ ‫دون أن يكون مقيّ ًدا بالوجود‬
‫فهي عىل النحو اآليت‪ :‬املعنى ُهويَّة فرديَّة ومستقلَّة عن الهويَّات واألشياء األخرى؛ أي أ َّن املعنى‬

‫‪88‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫يشء يف عرض األمور األخرى‪ ،‬وال ينبغي تعريفه بحسب اليشء اآلخر‪ .‬وهذا يعني وجود يشء‬
‫مستقل عن عامل األلفاظ وعامل األشياء واملصاديق‪ .‬فاأللفاظ ُّ‬
‫تدل عىل‬ ‫ٍّ‬ ‫يُطلق عليه “عامل املعاين”‬
‫وكل األمور التي تكون نتيجة إلقاء املعاين‬ ‫املصاديق واملحك َّيات الخارج َّية بوساطة املعاين‪ُّ ،‬‬
‫بوساطة األلفاظ‪ ،‬تقع خارج حدود الهويَّة وماه َّية املعنى‪ .‬لذلك؛ فإ َّن للمعنى بذاته هويَّة وماه َّية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫مستقلَّة‪ ،‬ويجب أن يُ َع ّرف بنفسه وليس انطالقًا من اليشء اآلخر‪.‬‬


‫والتقليدي لنظريَّة املعنى املثال َّية والتص ُّوريَّة (جان الك[[[‪ ،‬ال تا‪ ،‬ص‪،)113‬‬
‫ِّ‬ ‫خالفًا للفهم البسيط‬
‫الذهني للمتكلِّم واملخاطَب‪ ،‬فنحن نعتقد أ َّن للمعنى‬
‫ِّ‬ ‫والتي تعترب املعنى هويَّة ذهن َّية مرتبطة بالوجود‬
‫والخارجي‪ .‬واملقصود أ َّن اللَّفظ وضع لطبيعة وذات‬‫ّ‬ ‫الذهني‬
‫ِّ‬ ‫“هوية انتزاعيَّة” مستقلَّة عن الوجود‬
‫أاَّل يكون املعنى مق ّي ًدا‬
‫املعنى ومل يج ِر وضعه للمعنى املوجود يف الذِّهن أو يف الخارج‪ ،‬وأ ّما َّ‬
‫الذهني‪ ،‬فهو يعطي إمكان َّية أن يحيك املعنى عن الخارج‪ ،‬وعىل هذا النحو ال يكون مق ّي ًدا‬ ‫ِّ‬ ‫بالوجود‬
‫الخاص‪ ،‬كام يف قولنا حافظ وسعدي‪ ،‬كلامت ذات معنى‪ ،‬مع العلم‬ ‫ُّ‬ ‫الخارجي‪ .‬االسم‬
‫ّ‬ ‫بالوجود‬
‫الخارجي‪ .‬أ َّما عبارة “االنتزاعي” يف‬
‫ّ‬ ‫أ َّن هؤالء األشخاص تُوفّوا منذ قرون‪ ،‬وانتفى عنهم الوجود‬
‫الخارجي‬
‫ِّ‬ ‫التعريف املختار‪ ،‬فتشري بشكل دقيق إىل أ َّن املعنى هويَّة فرديَّة ومستقلَّة عن الوجودين‬
‫ِّهني وإشارة إىل نفس الذات والطبيعة‪.‬‬
‫والذ ِّ‬
‫وال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن املعنى يصبح من سنخ ذات املفهوم (‪ )concept‬عندما يستخدم‬
‫أاَّل يكون‬
‫يف الحوار‪ ،‬وبالتايل فهو ليس من سنخ الصورة الذهن َّية (‪ .)image‬ويسهم هذا األمر يف َّ‬
‫ومختصة‪ ،‬كام ال يكون له تلك الخاص َّيات التي تعرض عىل أثر الحضور‬ ‫َّ‬ ‫للمعنى خاص َّية شخص َّية‬
‫كل‬
‫خاص‪ ،‬وبالتايل فهو أمر “قابل لالشرتاك”؛ ومن هنا يتمكَّن اآلخرون من فهم معنى ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫يف ذهن‬
‫لفظ‪ ،‬وهذا يعني أ َّن من خصوص َّياته أنَّه عام وقابل لالشرتاك‪ .‬وبسبب خاص ّية االشرتاك هذه يبادر‬
‫العارف إىل التخاطب واملحاورة والتفاهم بلغة طبيع ّية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬


‫الطباطبايئ‪:‬‬ ‫نظرية املعىن عند العاَّلمة‬
‫خاص‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن االطِّالع عىل آثاره‬
‫ٍّ‬ ‫يئ لدراسة نظريَّة املعنى بشكل‬ ‫العاَّلمة الطباطبا ُّ‬
‫مل يتع َّرض َّ‬
‫خصوصا تلك التي ترتبط بني املعنى واملعرفة‪ ،‬توضح أنَّه ال يقول بنظريَّة معنائيَّة‬ ‫ً‬ ‫ومبانيه الفكريَّة‪،‬‬
‫قسم املعرفة إىل قسمني‪:‬‬ ‫واحدة ألنواع املعرفة؛ بل تتشكَّل نظريَّات متع ِّددة بتع ُّدد املعارف‪ .‬وقد َّ‬
‫الحضوريَّة والحصول َّية‪.‬‬

‫‪[1]- John Locke.‬‬

‫‪89‬‬
‫المحور‬

‫ّ‬
‫الحضوري‪:‬‬ ‫ن ف‬
‫المع� ي� العلم‬ ‫*‬
‫العاَّلمة باملعرفة الحضوريَّة؛ لذلك ال ب َّد من توضيح املعنى‬
‫يرتبط جانب من نظريَّة املعنى عند َّ‬
‫املرتبط بهذه املعرفة‪.‬‬
‫الحضوري عندما يتحقّق العلم من دون وساطة الصورة؛ أي عندما‬
‫ِّ‬ ‫يئ عنوان العلم‬
‫يطلق الطباطبا ُّ‬
‫يحرض الواقع بعينه عند العالِم‪ .‬ومن منطلق هذا التعريف يعتقد بات ّحاد العامل واملعلوم وأن العلم‬
‫يئ‪ ،1387 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)239‬‬
‫الحضوري هو عبارة عن “حضور املعلوم عند العامل”‪( .‬الطباطبا ّ‬
‫ِّ‬
‫يل‪ .‬واملعلوم‬ ‫الحضوري مق َّدم عىل العلم الحصو ِّ‬
‫َّ‬ ‫يتّضح من خالل العبارة املتق ِّدمة أ َّن العلم‬
‫العاَّلمة ليس صورة اليشء وماهيَّته الخارجيَّة‪ .‬ويعترب الصور‬ ‫َّ‬ ‫الحارض عند العامل من وجهة نظر‬
‫يل وااللتفات إىل‬ ‫العلم َّية موجودات مج َّردة مثال َّية أو عقل َّية تحرض عند العامل قبل العلم الحصو ِّ‬
‫العاّلمة من جنس الوجود‬ ‫ماه َّية األشياء وآثارها الخارج َّية‪ .‬لذلك؛ فالذِّهن والعلم من وجهة نظر ّ‬
‫الخارجي‪ .‬أ َّما املداليل‬
‫ّ‬ ‫الحسيَّة للعامل‬
‫ّ‬ ‫الحضوري حتّى عند املواجهة‬‫ِّ‬ ‫املج َّرد‪ .‬ويعتقد بوجود العلم‬
‫ي‪ ،‬فالنفس ال عمل لديها يف هذا العامل‪ ،‬وبالتايل ال يكون‬ ‫الحقيقيَّة فهي يف عامل غري العامل املا ّد ِّ‬
‫بشكل مبارش متعلّقًا مبعرفة الفاعل؛ بل النفس ترتبط وتتعلَّق باملداليل املثال َّية والعقل َّية لهذه‬
‫األشياء‪ .‬يف هذه العمل َّية يتحقَّق “علم املج َّرد باملج َّرد”‪ ،‬وهو ال ب َّد وأن يكون حضوريًّا‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫الحيّس‪( .‬م‪ .‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.)55‬‬ ‫ّّ‬ ‫حضوري لألشياء الخارجيَّة أثناء اإلدراك‬
‫ٍّ‬ ‫يعتقد العاَّلَّ مة بتحقُّق إدراك‬
‫ي يحمل معه مجموعة من األفعال واالنفعاالت يف األجزاء‬ ‫نلفت إىل أ َّن االتصال بالعامل املا ّد ّ‬
‫العصبيَّة والدماغيَّة‪ ،‬فتكون هذه األمور مبثابة العلّة اإلعداديَّة املم ِّهدة للنفس يف وصولها إىل صور‬
‫العاَّلمة قد تكون متخيَّلة‪ ،‬وقد‬
‫اليشء املحسوس املج َّردة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فالصور املحسوسة عند َّ‬
‫تكون معقولة‪( .‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)239-224‬‬
‫الحضوري ال عالقة له باملداليل الخارجيَّة‬
‫ِّ‬ ‫يتَّضح يف نظريَّة املعنى هنا أ َّن فاعل املعرفة يف العلم‬
‫يل‬
‫املا ّديَّة‪ ،‬ويف الحقيقة‪ ،‬فارتباطه باملداليل املثال َّية هو يف األمور الجزئ َّية‪ ،‬والتي هي املبدأ الفاع ُّ‬
‫لألمور الجزئ َّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحصويل‪:‬‬ ‫ن ف‬
‫ي‬ ‫المع� ي� العلم‬ ‫*‬
‫يل‪ ،‬فهو يقول‪“ :‬العلم‬
‫العاَّلمة يف العلم الحصو ِّ‬
‫ميكن توضيح الوجه اآلخر لنظريَّة املعنى عند َّ‬
‫يل‬
‫يل أو عق ٌّ‬
‫الحضوري‪ ،‬وهو موجود مثا ٌّ‬
‫ِّ‬ ‫يل يضط ُّر إليه العقل‪ ،‬مأخوذ من العلم‬
‫يل اعتبار عق ٍّ‬
‫الحصو ُّ‬
‫الخارجي للمدرك”‪( .‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)239‬‬
‫ِّ‬ ‫حارض بوجوده‬
‫يل بعامل الطبيعة يحصل مبساعدة نشاط الق َّوة الوهم َّية‪،‬‬
‫إىل ذلك‪ ،‬يعتقد أ َّن العلم الحصو َّ‬

‫‪90‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫ي ما اكتسبه من صور مثاليَّة ومعقولة‪ ،‬وهذا يؤ ّدي‬


‫ينسب إىل العامل املا ّد ِّ‬
‫واإلنسان يف هذا العلم ُ‬
‫إىل إمكان الخطأ‪ .‬أيضً ا يعتقد أ َّن املعلوم الحارض يف الذِّهن‪ ،‬ال يحيك عن ماهيَّة وصورة اليشء‬
‫الخارجي التا َّمة‪.‬‬
‫يل وعلَّة للموجودات املا ّديَّة‪ ،‬وهي‬ ‫العاَّلمة أ َّن الصور العلميَّة املج َّردة‪ ،‬هي مبدأ فاع ٌّ‬
‫َّ‬ ‫يعتقد‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أي إشكال عىل مستوى حكايتها‬ ‫تحمل كامالتها كافَّة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬هذه املسألة ال تبعث عىل ِّ‬
‫يل يحمل‬‫من الواقع‪ ،‬فهي تحتوي عىل كامالتها كافّة‪ ،‬مع أنّه يجب االلتفات إىل أ َّن العلم الحصو َّ‬
‫ي للامه َّيات؛ أي أنَّه يكشف عن ماه َّية األشياء الخارج َّية‪ ،‬وعندما‬ ‫أخطا ًء يف الحكاية عن الواقع املا ّد ِّ‬
‫العاَّلمة العلم‬
‫َّ‬ ‫يقرتن علمنا بالصور املثاليَّة والعقليَّة مع األشياء الخارجيَّة‪ ،‬نقع يف الخطأ‪ .‬طب ًعا‪ ،‬بَنَّيَّ‬
‫االعتباري عىل نح ٍو آخر‪( .‬كياشمشىك‪ ،1391 ،‬ص‪.)23‬‬ ‫َّ‬ ‫يل‬
‫الحصو َّ‬
‫العاَّلمة هو املفاهيم والتص ُّورات‪ ،‬وانطالقًا من التوضيحات التي‬
‫َّ‬ ‫مبا أ َّن عنرص املعرفة عند‬
‫ق َّدمت حول تعريف الَّلفظ واملفهوم واملعنى (فيايض‪ ،1386 ،‬ص‪ ،)157-156‬ميكن القول أ َّن ما‬
‫يدل عليه‬ ‫يحصل من اللَّفظ يف الذِّهن هو املفهوم من ناحية فهم اللَّفظ‪ ،‬وهو املدلول من ناحية ما ُّ‬
‫اللَّفظ‪ ،‬وهو املعنى من ناحية اللَّفظ املقصود‪ .‬وهذا يعني أ َّن املفهوم واملعنى واملدلول أمر واحد‬
‫ويختلفون يف حيثيَّة االنتزاع‪( .‬فاضل توىن‪.)1386 ،‬‬
‫يعرَّب عنه‬
‫أدق يف علم أصول الفقه‪ ،‬واملقصود من اللَّفظ هناك هو ما َّ‬ ‫ظهر هذا البحث بشكل َّ‬
‫مجازي أو‬
‫ٍّ‬ ‫ي‪ ،‬ويكون مقصو ًدا استعامليًّا إذا استُخدم يف معنى‬
‫يف علم األصول باملقصود الج ّد ِّ‬
‫استعاري‪( .‬مصباح اليزدي‪ ،1389 ،‬ص‪.)98‬‬
‫ّ‬
‫يل إىل قسمني أيضً ا هام‪ :‬املاه ّيات‪،‬‬
‫يئ العلم الحصو َّ‬
‫العاَّلمة الطباطبا ُّ‬
‫َّ‬ ‫قسم‬
‫يف هذا اإلطار‪َّ ،‬‬
‫واالعتباريّات‪.‬‬
‫َّ‬
‫الماهيات‪:‬‬ ‫أ‪:‬‬
‫يل للحقائق املاديَّة والق َّوة‬‫العاَّلمة أ َّن الصور العلميَّة موجودات مج َّردة‪ ،‬وهي مبدأ فاع ٌّ‬
‫َّ‬ ‫يعترب‬
‫الوهم َّية عند اإلنسان تدفعه ليظ ّن أنّها حقائق ماديّة‪ .‬تحصل املاه ّية من خالل نسبة الصورة‬
‫الخارجي ومشاهدتها خالية من آثار األفراد‬ ‫ِّ‬ ‫ي‬‫املوجودة يف ظرف اإلدراك إىل الشخص املا ّد ِّ‬
‫(املا ّديَّة)‪ .‬وانطالقًا من هذه النسبة تتشكَّل مفاهيم ال تُحمل عليها اآلثار الخارجيَّة‪ ،‬وهذا يعني‬
‫وجود ماهيَّات تستوي نسبتها إىل الوجود والعدم‪ ،‬وعند ذلك تحمل عىل األفراد باعتبارها أمو ًرا‬
‫ذات َّية (الطباطبايئ‪ ،1387 ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .)71-70‬واملاه َّيات الخارج َّية معلولة الصور العقل َّية واملثال َّية‬
‫التي وجدت يف النفس‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫المحور‬

‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن عامل العقل من وجهة نظر العاَّلَّ مة هو مكان الكلّيَّات‪ ،‬وعندما يقوم الفاعل‬
‫يئ يف عامل املثال‪ ،‬يف هذا الوضع بالضبط يتمكَّن الفاعل من االنتقال يف‬ ‫حيّس لفرد جز ٍّ‬‫بإدراك ّ ٍّ‬
‫عامل العقل من جزئ َّية ذاك الفرد إىل كلّ ّيـته‪ .‬وعىل هذا النحو يف ما يتعلّق باملاه َّيات التي هي من‬
‫جنس املفاهيم الكلّ َّية‪ ،‬حيث يعتقد َّ‬
‫العاَّلمة أ َّن فاعل املعرفة ينتقل إىل مدلول هذا املصطلح بالعلم‬
‫الحضوري‪.‬‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫االعتباريات‪:‬‬ ‫ب‪:‬‬
‫العاَّلمة أ َّن االعتباريَّات ليست منفصلة عن الحقائق واملاهيَّات الحقيقيَّة‪ .‬وقد عرض يف‬
‫يعتقد َّ‬
‫كتاب “أصول الفلسفة” رؤية جديدة يف اكتشاف الحقائق واألمور الواقعيَّة‪ .‬من جملة أصول هذه‬
‫العاَّلمة كان ملتفتًا يف عامل الواقع‬
‫بنّي طرح هذا املوضوع أ َّن َّ‬
‫االعتباري‪ .‬ويُ ّ‬
‫ّ‬ ‫الواقع ّية قبول إدراك‬
‫إىل مستويات وطبقات رقيقة له‪ .‬فهو يعتقد أ َّن اإلنسان مبفرده غري قادر عىل تحصيل الكامالت‬
‫كل جهات نفسه إىل التكامل‪ ،‬كام أ ّن احتياجاته املعيشيَّة كثرية‬ ‫املالمئة لنفسه؛ ألنَّه محتاج يف ِّ‬
‫جرَب عىل‬‫تحصل الكامالت‪ .‬لذلك؛ فاإلنسان ُم َ‬ ‫ُّ‬ ‫ومتن ِّوعة‪ ،‬وهناك كثري من املوانع التي تحول دون‬
‫البرشي‪ .‬فقد‬
‫ّ‬ ‫والتحرُّض‪ ،‬ويصبح بحاجة إىل التفهيم والتف ُّهم مع وجود االجتامع‬
‫ُّ‬ ‫االجتامع والتعاون‬
‫عمل البرش بداية عىل االستعانة باإلشارة لتأمني االحتياجات‪ ،‬ث َّم لجأوا إىل األصوات‪ ،‬ث َّم تكاملت‬
‫محاوالتهم بعد القدرة عىل التمييز بني األصوات‪ .‬وتكامل استخدام األلفاظ بالتد ُّرج حتّى أصبحت‬
‫َّفظي للمعنى‪ ،‬بحيث يجري االلتفات إىل املعنى مبج َّرد إلقاء الَّلفظ‪.‬‬
‫الَّلفظة عبارة عن الوجود الل ِّ‬
‫حسن وقُبح املعنى إىل اللَّفظ وبالعكس (الطباطبايئ‪ ،1387 ،‬ص‪ .)54‬من جهته‪،‬‬ ‫لذلك؛ سننسب ُ‬
‫ق ّدم بريس بحثًا شبي ًها عندما أشار يف بحث الشامئل إىل رمزيَّة الدالالت‪ ،‬وقد ذكره تحت عنوان‬
‫“التغيري يف النسب”‪.‬‬
‫الطبيعي محفوف باملعاين الوهم َّية والباطلة التي ليس لها‬ ‫ِّ‬ ‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬فإ َّن نظام اإلنسان‬
‫الطبيعي بعي ًدا عن مجرى وحجاب هذه‬ ‫ِّ‬ ‫حقيقة يف الخارج‪ ،‬واإلنسان عاجز عن مشاهدة نظامه‬
‫املعاين‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬يتتبّع يف حياته وبشكل مستم ٍّر هذه املعاين االعتباريَّة ويطلبها ويرت ِّب‬
‫حياته عىل أساسها‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن املوجود يف الخارج هو األمور الحقيق َّية الخارج َّية (م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.)56‬‬
‫ويرتبط استمرار هذه املفاهيم واالعتباريَّات يف حياة اإلنسان باعتبار املعتربين‪ ،‬ومبا أنَّها أمور‬
‫داخليَّة وشائعة بني أفراد املجتمع‪ ،‬فهي تؤ ّدي إىل وجود مجموعة من القواعد تجرب األفراد عىل‬
‫العمل طبق قوالبها‪ ،‬وتظهر يف أدبيَّات علم االجتامع تحت عنوان الثقافة‪ .‬أ َّما استمرار هذه الثقافة‬
‫عىل امتداد األجيال‪ ،‬وكذلك إعادة إنتاجها عىل مستوى سلوك األفراد‪ ،‬فيؤ ّدي إىل تجذُّرها وق َّوتها‪،‬‬

‫‪92‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫فال يجري تصنيفها ضمن املعاين الوهميَّة والرسابيَّة؛ بل يُنظر إليها عىل أنَّها أمور حقيقيَّة وخارجيَّة‬
‫تدور مدار إدارة واعتبار البرش‪.‬‬
‫هذا األمر شبيه مبا حصل للمعنى طبق نظريَّة بريس‪ ،‬حيث تتح َّول املعاين بأكملها إىل معانٍ‬
‫اجتامعيَّة وذهنيَّة تعتمد عىل الثقافة املشرتكة وعىل أساس األفعال املتبادلة بني األفراد؛ والفارق‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫قلياًل ما تتح َّول إىل معانٍ اعتباريَّة‪ .‬وهنا تختلف رؤيته عن رؤية‬
‫أ َّن هذه املعاين الحقيق َّية عند بريس ً‬
‫يئ‪ ،‬والسبب يف ذلك أ ّن االعتباريّات من وجهة نظر العاَّلَّ مة تعتمد عىل حقيقة‪ ،‬بينام‬‫العاَّلَّ مة الطباطبا ِّ‬
‫ُصنع أثناء العالقة بني األذهان‪.‬‬ ‫كل املعاين يف العامل الثالث (الثقافة واملجتمع) ت ْ‬
‫يف نظريَّة بريس ُّ‬
‫العاَّلمة تعتمد عىل االحتياج‪ ،‬فإذا كانت االحتياجات‬ ‫يجدر القول هنا أ َّن املعاين االعتباريَّة عند َّ‬
‫ثابتة بقيت املفاهيم االعتباريَّة واملعاين ثابتة‪ ،‬أ ّما إذا تغرَّيَّ ت االحتياجات‪ ،‬تغرَّيَّ ت املفاهيم‬
‫االعتباري من وجهة نظره يعتمد عىل اعتبار الشخص؛ أي أنَّها تصبح‬ ‫ُّ‬ ‫االعتباريَّة واملعاين‪ .‬الوجود‬
‫موجودة عندما يعتربها الشخص والعكس صحيح (جوادي اآلميل‪ ،1372 ،‬ص‪ .)164‬صحيح أ َّن‬
‫إاَّل أنَّها ليست لغ ًوا وليس معدومة األثر؛ بل ترتك آثا ًرا‬
‫األمور االعتباريَّة من وجهة نظره غري حقيق ّية‪َّ ،‬‬
‫يئ‪ ،1387 ،‬ج‪ ،2‬ص‪.)166‬‬ ‫واقع َّية (الطباطبا ّ‬
‫قسم العاَّلَّ مة االعتباريَّات إىل قسمني‪ :‬االعتباريَّات ما قبل االجتامع‪ ،‬واالعتباريّات ما بعد‬ ‫لقد َّ‬
‫االجتامع‪ .‬صحيح أنّه ال ميكن إقامة دليل عىل معاين املصطلحات الدالّة عىل املفاهيم االعتباريَّة‬
‫‪ -‬سواء ما قبل االجتامع أم ما بعده‪ -‬إاَّلَّ أ َّن هذا الكالم ال يعني أنَّها ال تُبتنى عىل الواقع‪ ،‬وأنَّها ال ح َّ‬
‫ظ‬
‫لها من الحقيقة‪ ،‬فلو كان األمر كذلك ملا ساهمت يف رفع االحتياج‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال ميكن اعتبار‬
‫واقعي‪ ،‬فقد تكون احتياجات املجتمع ثابتة أو متغرِّيِّ ة‪ ،‬فهو ينظر إليها عىل أنَّها واقع‬ ‫ٍّ‬ ‫العاَّلمة غري‬
‫َّ‬
‫العاَّلمة هو األصل والذِّهن واللُّغة‬
‫أو حقيقة تقع وراء االستخدام واملفهوم واألوصاف‪ .‬الواقع عند َّ‬
‫ذات فاعليَّة ما داما مرتبطني بالواقع‪ ،‬وأ َّما عدم االلتفات إىل هذه املسألة فيؤ ّدي إىل نفي إمكان‬
‫التخاطب بني األفراد‪.‬‬
‫الخارجي‬
‫ِّ‬ ‫العاَّلمة باملعرفة الفرديَّة‪ ،‬ويوضح أ َّن بإمكان فاعل املعرفة أن يتع َّرف عىل العامل‬
‫يعتقد َّ‬
‫العاَّلمة‬
‫ماَّم يؤ ّدي إىل تحديد العينيَّة بني األذهان‪ .‬أ َّما السبب الذي يقف وراء رؤية َّ‬‫مستقل َّ‬
‫ٍّ‬ ‫بشكل‬
‫هذه أنَّه استخرجها من ط َّيات الوجود‪ ،‬ث َّم من املعرفة وانتقل بها إىل بحث املعاين (كياشمشىك‪،‬‬
‫‪ ،1391‬ص‪.)28-5‬‬

‫‪93‬‬
‫المحور‬

‫نقد َّ‬
‫نظرية الداللة واملعىن عند بريس‪:‬‬
‫يف‪ ،‬فقد تع َّرضت ملجموعة من‬ ‫أل َّن نظريَّة املعنى عند بريس قد عرضت يف ال ُبعد املعر ِّ‬
‫العاَّلمة‪ .‬وك َّنا قد أرشنا إىل أ َّن نظريَّة املعنى عند‬
‫االنتقادات‪ ،‬وهنا مكان االفرتاق بينه وبني رؤية َّ‬
‫كل هذه املعارف (املعاين) تحصل يف‬ ‫العاَّلمة متن ِّوعة ومتفاوتة بحسب أنواع املعرفة‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن َّ‬
‫َّ‬
‫االرتباط والعالقة مع الواقع‪ ،‬ولكن بريس‪ ،‬وانطالقًا من عمل َّية إيجاد نظريَّة املعنى‪ ،‬يبتعد عن هذه‬
‫املسألة‪.‬‬
‫ق ّ‬ ‫ي ن‬ ‫ف ُّ ً‬ ‫ي ن‬
‫المنط�‪:‬‬
‫ي‬ ‫اليق�‬ ‫من‬ ‫بداًل‬ ‫المعر�‬
‫ي‬ ‫اليق�‬ ‫*‬
‫انطالقًا من كون بريس فيلسوفًا براغامت ًّيا‪ ،‬فهو يعترب أ َّن معيار الصدق والكذب يعتمد عىل دراسة‬
‫العالقة بني املوضوع واملحمول‪ .‬ولذلك؛ يتميّز الصدق والكذب بنا ًء عىل العالقة بني املوضوع‬
‫النفيس‪ .‬يبدو أ َّن‬
‫ّ‬ ‫العلمي باليقني‬
‫َّ‬ ‫املنطقي واليقني‬
‫َّ‬ ‫أدق‪ ،‬يستبدل بريس اليقني‬ ‫واملحمول‪ .‬وبعبارة ّ‬
‫املعنى الصحيح ملا أراده هو مقدار الفائدة التي تعود للشخص‪ ،‬وكيف َّية الحضور أثناء العمل‪.‬‬
‫وعىل هذا األساس‪ ،‬تتدخَّل اإلرادة اإلنسان َّية يف الواقع وصدق وكذب القضايا‪ ،‬فيسعى الذهن‬
‫ليقول‪ :‬املعرفة واملعنى الصحيحان هام املفيدان للشخص‪ ،‬إذ يطابقان الفائدة عنده‪ .‬إذا اعتربنا‬
‫ين مرتبطة بهذا النوع‬‫أ َّن مبنائيَّة هذه املسألة خرجت من أجواء نفس األمر والطبيعة‪ ،‬فتصبح معا َ‬
‫من املعرفة‪ .‬مثال ذلك‪ :‬أ َّن العالقة بني الدين والعلم‪ ،‬ليست عالقة تضا ٍّد‪ ،‬بل الدين املقبول هو‬
‫املفيد لإلنسان؛ أل َّن اليشء الصادق من وجهة نظر بريس هو املفيد‪ .‬ولكن ما هو معيار الفائدة عند‬
‫اإلنسان من وجهة نظره؟ وكيف ت ُقاس هذه الفائدة؟ هل تحصل مبج َّرد التجربة؟ أم يتدخَّل العقل‬
‫بها؟‬
‫ّ‬
‫العميل‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫النظري إىل العقل‬ ‫َّ‬
‫الواقعية من العقل‬ ‫مع�‬ ‫* نز‬
‫ت�يل ن‬
‫ي‬
‫يل‪ .‬وهذا‬‫النظري إىل العقل العم ّ‬
‫ِّ‬ ‫يبدو أ َّن فلسفة بريس يف صدد تنزيل معنى الواقع َّية من العقل‬
‫يعني أ َّن العلم يدرس امليول اإلنسان َّية فقط‪ ،‬والعمل هو صاحب املعنى‪ .‬السبب يف ذلك‪ ،‬أ َّن بريس‬
‫ظل الدافع‪ .‬وأ ّما الجواب عىل هذا امل ّدعى‪ ،‬فهو أنَّنا يف‬
‫كل القضايا العلم َّية تتشكّل يف ّ‬
‫يعتقد بأ َّن َّ‬
‫القضايا التي نستخدمها نلتزم مبجموعة من البديهيَّات التي منتلك يقي ًنا بوجودها‪ ،‬وهي بالطبع‬
‫ين ذو‬
‫خارجة عن وجود أنفسنا؛ لذلك نشاهد بعض األوقات أ َّن الخارج عن الوجود والدافع اإلنسا ِّ‬
‫حقيقة‪.‬‬
‫ن‬
‫المع� والمفهوم‪:‬‬ ‫َّ ف‬
‫النسبية ي�‬ ‫*‬
‫يظهر مدى هذا التفكري يف نظريَّة الفعل‪ ،‬فيصبح معيار الصدق والكذب يف املجتمع مبن ًّيا عىل‬

‫‪94‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫البديهي يف هذه الحالة أن‬


‫ِّ‬ ‫البرشي‪ ،‬مع العلم أ َّن هناك حقيقة وراء هذا الفهم‪ .‬من‬
‫ِّ‬ ‫أساس الفهم‬
‫بأي حقيقة‪ .‬هنا تلغى‬
‫يصبح اإلنسان موجو ًدا صان ًعا وخالقًا للمعنى واملفهوم من دون االعرتاف ِّ‬
‫نظريَّة الكشف يف العلم واملعرفة‪ ،‬ويسيطر نوع من النسب ّية يف املعنى واملفهوم‪ .‬فاإلنسان ال‬
‫يكشف عن املعنى؛ بل يصنعه‪ .‬يرتتّب عىل هذه الرؤية نفي وجود الحقيقة املطلقة التي ميكن أن‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫تشكّل املبنى ملجموعة من املسائل العلميَّة واالجتامعيَّة‪.‬‬


‫انطالقًا من هذه املسألة‪ ،‬تعمل نظريّة بريس وأتباعها من الرباغامت ّيني عىل إدخال املفاهيم‬
‫والقضايا كافَّة إىل العلم‪ ،‬وهي مسألة ال يعتقد بها جميع أصحاب الفلسفة الوضع َّية‪ .‬فالدين عىل‬
‫مقبواًل؛ بل الدين‬
‫ً‬ ‫كل دين‬ ‫سبيل املثال يصبح صاحب استعداد للدخول إىل العلم‪ .‬طب ًعا‪ ،‬ليس ُّ‬
‫يحق له دخول العلم هو املفيد لإلنسان‪ ،‬كام يصبح للحقائق االجتامع َّية معانٍ تقبل الفهم‪.‬‬
‫الذي ُّ‬
‫فعندما تطلق السيارة بوقها عىل سبيل املثال‪ ،‬فليس املقصود الصوت العايل أو املنخفض؛ بل‬
‫إ َّن البوق رمز وإشارة إىل ما أراد السائق اإلشارة إليه يف الوقت واملوقع املناسبني‪ .‬وأ ّما معيار‬
‫أساسا من مجموعة الدوافع اإلنسانيَّة املشرتكة؛‬
‫ً‬ ‫تحديد ال َّرمز واإلشارة هذه‪ ،‬فهو املجتمع املك ّون‬
‫ين‪ ،‬وليس يف حاشية الفكر‬ ‫أل ّن العلم واملعنى ‪ -‬كام تق ّدم ‪ -‬يتشكّالن يف حاشية الدافع اإلنسا ِّ‬
‫كل معنى (معرفة) ومعرفة يعقلها ويدركها اإلنسان‪ ،‬فهي‬ ‫ين[[[‪ .‬ويعتقد العاَّلَّمة الطباطبايئ أ َّن َّ‬
‫اإلنسا ِّ‬
‫ين‪ ،‬وهو عىل نوعني‪:‬‬
‫تتشكّل يف حاشية الفكر اإلنسا ّ‬
‫إ ّما أن يكون مع ًنى له ما يطابقه يف الخارج‪ ،‬ومطابقة موجود يف الخارج بذاته‪ ،‬سواء تعقَّله‬
‫املدرك أم مل يتعقَّله؛ أي أ َّن وجوده ليس مرتبطًا بوجود اإلنسان وتعقُّله‪ .‬وهذا هو “املوجود‬
‫الحقيقي”‪ ،‬كالجواهر الخارجيَّة من قبيل الجامد والنبات والحيوان‪ ،‬أو أن يكون مفهو ًما موجو ًدا‬
‫ُّ‬
‫يف الخارج بعد تعقُّل اإلنسان واعتباره‪ ،‬فال يكون له وجود خارج تعقّله‪ ،‬كامللك واملالك ّية اللذين‬
‫يرجعان إىل حقيقة كاألرض اململوكة وإىل حقيقة أخرى كاإلنسان املالك‪ ،‬فامللك واملالك َّية ال‬
‫وجود لهام يف الخارج؛ بل وجودهام يف الخارج دائم بتعقّل واعتبار اإلنسان‪ ،‬فيكون هذا املعنى‬
‫ولكل‬
‫ٍّ‬ ‫واعتباري‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫حقيقي‬
‫ٍّ‬ ‫واعتباري؛ لذلك يُقْسم املوجود إىل قسمني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اعتباريًّا‪ .‬إنَّه معنى ووجود‬
‫من األمرين حقيقة ونفس األمريَّة يتمكّن اإلنسان من فهمها ومعرفتها‪ .‬إذا طابق هذا الفهم واملعرفة‬
‫حا‪ ،‬وإاَّلَّ فهو خطأ‪.‬‬
‫الحقيقة واألمر نفسه‪ ،‬كان صحي ً‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫بمع� االعتبار‪:‬‬ ‫* التعقل‬
‫يرتبط الكون والعدم االعتباريَّان بتعقُّل اإلنسان وعدمه من وجهة نظره‪ ،‬وهذا ال يعني أنَّهام أمران‬
‫الذهني؛ بل مبعنى أنَّهام يصبحان موجودين خارج ّيني مع تعقّل اإلنسان‬
‫ِّ‬ ‫ذهن َّيان وموجودان بالوجود‬

‫[[[‪ -‬مقتبس من تحليل األستاذ پارسانيا يف محارضة حول نظريّات فلسفة العلوم االجتامع ّية‪ ،‬جامعة باقر العلوم (ع)‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫المحور‬

‫خارجي‪ ،‬ومن هنا كان التعقُّل مبعنى االعتبار‪ .‬وبعبارة أخرى‪،‬‬‫ٌّ‬ ‫ومن دون تعقّله ال يكون لهام وجود‬
‫املقصود من التعقّل هو االعتبار‪ ،‬وأ َّما أنَّهم مل يستخدموا كلمة “االعتبار” يف تعريف االعتباريّات‪،‬‬
‫فهو للهرب من الدور‪ .‬كان بريس يسعى يف نظريّته املعنائ َّية باحثًا عن الحقيقة واملعنى‪ ،‬وأن تكون‬
‫الداللة مرادفة للفكر‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن االعتبار واملعنائ َّية التي يتح َّدث عنها فهي تختلف معرف ًّيا ووجوديًّا عن‬
‫يئ‪( .‬جوادي اآلميل‪ ،1393 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)124-103‬‬ ‫العاّلمة الطباطبا ّ‬‫نظريّة ّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫االعتبارية ليست ً‬ ‫ن‬
‫عدما محضا‪:‬‬ ‫المعا�‬
‫ي‬ ‫*‬
‫العاّلمة‪ ،‬عد ًما محضً ا؛ بل هي موجودات‬
‫ّ‬ ‫ليست املعاين واألمور االعتباريّة‪ ،‬من وجهة نظر‬
‫الخارجي هي عىل نحو يجعلها غري قابلة للمشاهدة واإلحساس‬
‫ِّ‬ ‫خارجيَّة‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن خصوصيَّة وجودها‬
‫العيني؛ بل هام مرتبة من‬
‫ِّ‬ ‫والذهني ال يحكيان عن الواقع‬
‫ِّ‬ ‫العلمي‬
‫ِّ‬ ‫املاديّني‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬فالوجود‬
‫مراتب الحقيقة التي تحصل باالعتبار‪.‬‬
‫واالعتباري‪ ،‬إىل توضيح‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقي‬
‫ِّ‬ ‫يئ‪ ،‬بعد تقسيم املوجود إىل‬ ‫العاَّلمة الطباطبا ُّ‬
‫َّ‬ ‫ولقد انتقل‬
‫العيني‪ ،‬فلو‬
‫ِّ‬ ‫والعلمي عىل الوجود‬
‫ُّ‬ ‫الذهني‬
‫ُّ‬ ‫اعتباري عىل حقيقة‪ ،‬كام يبتنى الوجود‬
‫ٍّ‬ ‫كل‬
‫مسألة ابتناء ِّ‬
‫والعلمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذهني‬
‫ُّ‬ ‫الخارجي مل يكن الوجود‬
‫ُّ‬ ‫مل يكن املوجود‬
‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫الجزئية‪:‬‬ ‫المعا�‬
‫ي‬ ‫تصور‬ ‫* ال يتحقق االعتبار من دون‬
‫تتحقَّق األمور االعتباريَّة عىل النحو اآليت‪ :‬تبدأ العمليَّة بإدراك وتص ُّور معانيها‪ ،‬وبعد فهمها‬
‫الذهني يتشكّل االعتبار‪ ،‬وتعتمد أغلبيَّة األمور االعتباريَّة عىل املعاين الجزئيَّة (أي‬
‫ِّ‬ ‫وإدراكها‬
‫الوهم َّية)‪ ،‬فتبدأ مع تص ُّور املعاين الجزئ َّية التي تدركها الواهمة‪( .‬م‪ .‬ن)‪.‬‬
‫االعتباري‪ ،‬ولكن‪ ،‬مبا أ َّن الوجود‬
‫ِّ‬ ‫الوهمي مختلف عن األمر واملوجود‬ ‫َّ‬ ‫صحيح أ َّن األمر‬
‫االعتباري ال يتحقّق من دون تص ُّور املعاين الجزئ َّية (الوهم َّية)؛ لذلك تكون املعاين املرتبطة‬
‫َّ‬
‫باإلنسان‪ ،‬وكذلك ارتباط هذه املعاين بعضها ببعض‪ ،‬جزئ ٍّيا واعتباريًّا‪ ،‬يف الوقت عينه؛ فيطلق عليها‬
‫االعتباريَّة بلحاظ اعتبار وتعقُّل الشخص لها‪ ،‬ويطلق عليها الجزئ َّية (الوهم َّية) باعتبار تص ُّورها يف‬
‫الذهن بوساطة الق َّوة الوهميَّة‪.‬‬
‫بيد أ َّن الذي يدفع اإلنسان وباعتباره موجو ًدا حقيق ًّيا لالرتباط بهذه املعاين واألمور االعتباريَّة‪،‬‬
‫هو محوريَّة احتياجه إىل االجتامع واملدنيَّة؛ ليتمكّن يف حياته االجتامعيَّة من جلب املنفعة والخري‬
‫رش‪( .‬م‪ .‬ن)‪.‬‬
‫رضة وال ّْ‬
‫ودفع امل َّ‬
‫ظل املعاين الوهميَّة واألمور االعتباريَّة‪ ،‬فيتص َّور‬
‫ين يف ِّ‬
‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬يسري نظام الحياة اإلنسا ُّ‬
‫بداية املعاين الجزئيَّة‪ ،‬ث َّم يعترب ويلحظ األمور االعتباريَّة املرتبطة بها‪ .‬أ َّما نظام العالقة الحاكمة بني‬

‫‪96‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫هذه املعاين الوهميَّة واألمور االعتباريَّة‪ ،‬فهي اعتباريَّة أيضً ا‪.‬‬


‫وحقيقي‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن‬
‫ٍّ‬ ‫طبيعي‬
‫ٍّ‬ ‫واالعتباري قائم عىل أساس نظام‬
‫َّ‬ ‫ين‬
‫ريا‪ ،‬صحيح أ َّن النظام اإلنسا َّ‬
‫أخ ً‬
‫طبيعي‬
‫ٍّ‬ ‫اعتباري‪ ،‬لك ّنه ينتمي يف الحقيقة والباطن إىل نظام‬
‫ٍ‬ ‫اإلنسان يف الظاهر يعيش مع نظام‬
‫االعتباري موجود يف ظرف االجتامع‬ ‫ُّ‬ ‫ين‬
‫حقيقي‪ ،‬والنظام اإلنسا ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫اعتباري متّكأ‬
‫ٍّ‬ ‫وحقيقي‪ ،‬فلكل‬
‫ٍّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫واملدن َّية فقط‪( .‬جوادي اآلميل‪ ،1393 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)124-103‬‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫ورضوري يف‬
‫ٍّ‬ ‫يل‬
‫يئ وآثاره وجود انسجام داخ ٍّ‬ ‫العاَّلمة الطباطبا ِّ‬
‫َّ‬ ‫يتّضح من خالل دراسة مباين‬
‫نظريَّـته بني األبعاد املعرف َّية والوجوديَّة واملعنائ َّية‪ ،‬حيث تعتمد هذه الرؤية عىل أساس الواقع َّية‪.‬‬
‫فقد بدأ البحث حول اللفظ واملعنى وعامل الخارج وعرض االعتباريَّات من دراسة موقعها‪ ،‬وبعدما‬
‫قسم املوجود‬ ‫اعترب املعاين روح األلفاظ‪ ،‬أكَّد أ َّن عامل الخارج منشأ املعاين االعتباريَّة‪ ،‬وبعدما َّ‬
‫والحقيقي‪ ،‬أوضح النقاط الثالث اآلتية‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫االعتباري‬
‫ِّ‬ ‫إىل‬
‫األوىل‪ :‬أ َّن أغلب املعاين املتعلِّقة بحياة اإلنسان الفرديَّة والجمعيَّة اعتباريَّة‪.‬‬
‫يل بني هذه املعاين (كامللك َّية والرئاسة وأحكام العالقات و‪)...‬‬
‫الثانية‪ :‬أ َّن االرتباط الداخ ُّ‬
‫اعتباري أيضً ا‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫الحقيقي عىل ارتباط وات ّصال بهذه االعتباريَّات واألمور االعتباريَّة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الثالثة‪ :‬أ َّن اإلنسان‬
‫يئ من حيث صناعة‬ ‫والعاّلمة الطباطبا ّ‬
‫ّ‬ ‫طب ًعا هناك أوجه شبه بني نظريَّتي املعنى عند بريس‬
‫املعنى‪ ،‬واعتبار املعاين يف الثقافة واالجتامع؛ ولكن ما يضع النظريّتني يف مواجهة بعضهام بعضً ا‬
‫هو أ ّواًلً االختالف يف املبادئ واملباين‪ ،‬وثانيًا ابتعاد نظريَّة املعنى واملعرفة عند بريس عن الحقيقة‬
‫ونفس األمريَّة واالكتفاء بالكفاية العمليَّة للمعنى‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬يقول أمربتو اكو‪“ :‬يعتقد بريس أ َّن‬
‫اإلشارات والرموز هي الوحيدة القابلة للتفسري‪ ،‬وهي الوحدة التي تشكِّل مناذج الثاليث األصيل؛‬
‫ألنَّها ال تقبل التفسري؛ أي أ َّن موضوع الرمز ليس سب ًبا الستخدامه‪ ،‬بل نحن الذين ننسب الرمز إىل‬
‫ذاك املوضوع”‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪ 1.‬اسکفلر‪ ،‬ارسائیل (‪ ،)۱۳۷۷‬چهار پراگامتیست [أربعة براغامتئيني]‪ ،‬ترجمة محسن حکیمی‪،‬‬
‫انتشارات مركز‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪2.‬اسكيدمور ويليام (‪ ،)۱۳۷۲‬تفکر نظری در جامعه شناسی [التفكري النظري يف علم اإلجتامع]‪،‬‬
‫ترجمة عيل محمد حارضی‪ ،‬سعید سبزیان‪ ،‬احمد رجب زاده‪ ،‬محمد مقدس‪ ،‬علی هاشمی‬
‫گیالين‪ ،‬فاضل توين‪ ،‬محمد حسین (‪ ،)۱۳۸۶‬منطق‪ ،‬طهران‪ :‬انتشارات مولی‪.‬‬
‫‪3.‬پاکتچی‪ ،‬احمد (‪« ،)۱۳۸۹‬آشنایی با مکاتب معارص معناشناسی» [اطاللة عىل اتجاهات املعنى‬
‫املعارصة]‪ ،‬مجلة‪ :‬نامه پژوهش فرهنگی‪ ،‬العام التاسع‪ ،‬العدد الثالث‪.‬‬
‫‪ 4.‬جوادي آميل‪ ،‬عبدالله (‪ ،)۱۳۷۲‬تحریر متهيد القواعد‪ ،‬صائن الدين عيل بن محمد الرتكه‪،‬‬
‫تصحيح‪ :‬حجة االسالم حمید پارسانیا‪ ،‬ال م‪ :‬انتشارات الزهراء‪.‬‬
‫‪ 5.‬جوادي آميل‪ ،‬عبدالله (‪ ،)۱۳۹۳‬تحرير رسالة الوالية شمس الوحي‪ .‬التربیزی السید محمد حسین‬
‫الطباطبایی‪ ،‬حمیدرضا ابراهیمی( تحقیق و تدوین)‪ ،‬قم‪ :‬ارساء‪ ،‬ج‪.۱‬‬
‫‪6.‬رضایی راد (‪ ،)۱۳۸۱‬محمد‪ ،‬نشانه شناسی سانسور سکوت سخن‪ ،‬ط‪ ،1‬طهران‪ :‬انتشارات طرح‬
‫نو‪.‬‬
‫‪7.‬رضوی فر‪ ،‬آميل وحسین غفاری (‪« ،)۱۳۹۰‬نشانه شناسی پرس در پرتو فلسفه معرفت شناسی‬
‫ونگرش وی به پراگامتیسم» [قراءة يف علم الداللة عند بريس يف اطار فلسفة علم املعرفة ورؤيته‬
‫الرباغامتية]‪ ،‬نرشة فلسفه‪ ،‬العدد ‪ ،۲‬الخريف والشتاء‪.‬‬
‫‪8.‬سجودی‪ ،‬فرزان (‪ ، )۱۳۸۶‬داللت از سوسور تا دریدا [الداللة من سوسور اىل دريدا]‪ ،‬باهتامم‪:‬‬
‫امیرعلی نجومیان‪ ،‬طهران‪ :‬فرهنگستان هرن‪.1386،‬‬
‫‪ 9.‬الصدر‪ ،‬السید محمد باقر (‪ ،)۱۳۹۴‬علم األصول‪ ،‬ترجمة‪ :‬حامد دالوری‪ ،‬مجمع الفكر‬
‫االسالمي‪ ،‬قم‪ ،‬ص ‪.۷۳‬‬
‫ ‪10.‬الطباطبايئ‪ ،‬السید محمد حسني (‪ ،)۱۳۸۷‬اصول فلسفه و روش رئالیسم [أصول الفلسفة‬
‫واملذهب الواقعي]‪ ،‬ط‪ ،1‬قم‪ :‬بوستان كتاب ‪.‬‬
‫ ‪11.‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسین (‪ ،)۱۳۸۰‬بداية الحكمة‪ ،‬ترجمة عيل شیرواين‪ ،‬مؤسسه انتشارات‬
‫دارالعلم‪ .‬قم ‪ ،‬ط‪.6‬‬
‫ ‪12.‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسین (‪ ،)۱۴۰۴‬نهاية الحكمة‪ ،‬قم‪ :‬مؤسسة النرش االسالمي‪.‬‬
‫ ‪13.‬فیاضی‪ ،‬غالمرضا (‪ ،)۱۳۸۶‬درآمدی بر معرفت شناسی [مدخل إىل علم املعرفة]‪ ،‬تدوین مرتضی‬

‫‪98‬‬
‫تنظير المعنى‬

‫رضایی واحمد حسین رشیفی‪ ،‬قم ‪ ،‬مؤسسة اإلمام الخميني التعليمية والبحثية‪.‬‬
‫ ‪14.‬کیا شمشکی‪ ،‬ابو الفضل (‪ ،)۱۳۹۱‬نسبت نظریات معنا با واقع گرایی با تاکید بر نظریه معنا نزد‬
‫عالمه طباطبایی [النسبة بني نظريات املعنى والواقعية مع التأكيد عىل نظرية املعنى عند العالمة‬
‫الطباطبايئ]‪ ،‬ذهن‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ ‪ 15.‬لچت‪ ،‬جان (‪ ،)۱۳۷۷‬پنجاه متفکر بزرگ معارص [خمسون مفكرا ً معارصا ً]‪ ،‬ترجمة محسن‬
‫حكيمي‪ ،‬طهران‪ :‬نرش خجسته‪.‬‬
‫ ‪16.‬محمد پور (‪ ،)۱۳۸۹‬احمد‪ ،‬روش در روش [املنهج يف املنهج]‪ ،‬انتشارات جامعه شناسان‪.‬‬
‫ ‪17.‬مصباح يزدي‪ ،‬محمد تقي (‪ )۱۳۸۹‬جستارهایی در فلسفه علوم انسانی از دیدگاه حرضت عالمه‬
‫آیت الله مصباح [قراءات يف فلسفة العلوم اإلنسانية من وجهة نظر آية الله مصباح اليزدي] ‪،‬‬
‫األمانة العامة ملؤمتراملباين الفلسفية للعلوم اإلنسانية‪ ،‬قم ‪ ،‬مؤسسة اإلمام الخميني التعليمية‬
‫والبحثية‪.‬‬
‫ ‪18.‬مهدي زاده‪ ،‬محمد (‪ ،)۱۳۹۱‬نظریه های رسانه اندیشههای رایج و دیدگاههای انتقادی‪ ،‬صحيفة‬
‫همشهری‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫ ‪19.‬نرسیسيانس‪ ،‬امليا (‪ ،)۱۳۸۷‬انسان‪ ،‬نشانه‪ ،‬فرهنگ‪[ ،‬اإلنسان‪ ،‬الداللة والثقافة]‪ ،‬تصحيح علی‬
‫رضا حسن زاده‪ ،‬نرش افكار‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ ‪20.‬واعظني احمد ‪ ،‬بازتاب هستی شناسی معنى در معرفت دينى [تأثري علم معرفة املعنى يف املعرفة‬
‫الدينية]‪ ،‬فصلية‪ :‬آیین حکمت‪ ،‬السنة األوىل‪ ،‬شتاء ‪ ،۱۳۸۸‬العدد‪. ۲‬‬
‫ ‪21.‬يانكرايپ (‪ )1378‬نظریه اجتامعی مدرن [نظريَّة علم اإلجتامع املعارصة] ‪ ،‬عباس مخرب‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫طهران‪ :‬آگاه‪.‬‬
‫‪22.‬‬ ‫‪Bergman, Mats, Pinces philos of Commbals Fow, continuum 2009‬‬
‫‪23.‬‬ ‫‪Bob Hale, Wright, Crispn,A companion to the philosophy of language Blackwell, 1997.‬‬
‫‪24.‬‬ ‫‪potter, Vincent G: Colapletro Vincent Michael, Purces Philosophical Perspectives‬‬
‫‪American Philosophy, fordham University press, 1996.‬‬
‫‪25.‬‬ ‫‪Short, T.L,Pierce s A Theory of sign, Cambridge press University, 2007‬‬
‫‪26.‬‬ ‫‪https://politicalthought. Blogfa.com/post-327.aspx.‬‬

‫‪99‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬
‫محاكاة فلسفيّ ة في اللغة العلم والدين‬

‫حبيب فياض‬
‫أستاذ فلسفة اللغة ف ي� الجامعة اللبنانية ـ لبنان‪.‬‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫الوجودي بني املبدأ واملنتهى‪ ،‬حول املعنى‪ .‬وليس‬‫ِّ‬ ‫يتمحور اإلنسان‪ ،‬يف مسريه‬
‫الحق‪ ،‬فهذا القول كلمة؛ وفيه ومنه وبه‬
‫ِّ‬ ‫املعنى سوى انبثاق لقول “كن” الحاصل بإرادة‬
‫ومعه وإليه وألجله يتمظهر املعنى عىل النحو األت ِّم واألكمل‪ ،‬حيث ال يعرتيه نقص يف‬
‫الداللة‪ ،‬وال يشوبه عيب يف املوجوديَّة‪ .‬فالكون معلول لكلمة تنبثق عن “إمنا أمره”‪،‬‬
‫وتنطوي عىل الكينونة كلِّها يف جلباب “كن فيكون”؛ وما اإلنسان يف هذه الكينونة‬
‫سوى الخليفة الذي يبدأ مسرية االستخالف بأداء األمانة؛ وزاده يف ذلك هو ما حباه الله‬
‫من معنى‪ ،‬ليجهد يف مراكمته وصواًلً إىل كشف الغطاء حيث البرص حديد‪.‬‬
‫املعنى أصل الوجود؛ واإلنسان روح املعنى‪ .‬يتحقَّق املعنى لإلنسان بـ “نفخت فيه‬
‫من روحي” حيث يبدأ بالبحث عن مت ِّمامته الوجوديَّة واالتصاف بها يف طريقه بني “ألست‬
‫وصواًل إىل مقام “فمالقيه”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الوجودي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بربكم”‪ ،‬و”وبىل”‪ ،‬مستم ًّرا يف مسار الكدح‬
‫فاملعنى هو النفخة اإللهيَّة التي يبدأ بها اإلنسان وجوده لريتقي بها من منزلة البرشيَّة إىل‬
‫مرتبة اإلنسانيَّة‪ ،‬ومن محدوديَّة الطني إىل رحابة الروح‪ ،‬ومن استوائيَّة اإلمكان بالذات‬
‫إىل واجبيَّة الوجود بالغري‪ ،‬ليحيل اإلنسان بذلك ملكاته الفطريَّة من طور الق َّوة إىل حيِّز‬
‫الفعل‪ ،‬ومن حال التق ُّرب إىل مقام القرب‪ ،‬ومن جعليَّة الخلقة إىل متاميَّة االستخالف‪،‬‬
‫ومن تج ُّرد املعرفة إىل فعليَّة العرفان‪ ،‬ومن التعلُّق باملثال إىل التمثُّل به‪.‬‬
‫***‬

‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬املعنى – معنى املعنى – فلسفة العلم – فلسفة اللغة – فلسفة‬
‫الدين – التحقق‪ -‬االمتثال‪.‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ال يشء يف عامل الوجود خارج ثنائ َّية املعنى وما ميكن أن يحيل إليه‪ .‬الوجود هو املعنى يف‬
‫يتجىَّل يف‬
‫َّ‬ ‫ِّ ً‬
‫متكرِّثا‬ ‫ذاته متمظه ًرا للغري‪ ،‬كام أ َّن املعنى هو الوجود يف غريه ظاه ًرا للذات‪ .‬فالوجود‬
‫ح ًدا يتجوهر يف الوجود‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن املسا َوقة بني الوجود واملعنى تتع َّدى‬ ‫املعنى‪ ،‬واملعنى متو ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫حد بني اإلثنني إىل إثنينيَّة الواحد‪.‬‬


‫التو ُّ‬
‫يتوىَّل ترسيم الحدود‬
‫َّ‬ ‫املاهوي الذي‬
‫ُّ‬ ‫التجيّل‬
‫ّ‬ ‫املعنى هو واحديَّة الوجود يف عني كرثته‪ ،‬وهو‬
‫بني تكرُّثُّ اته الطوليَّة والعرضيَّة‪ ،‬مبا يؤ ّدي م ًعا إىل تحقُّق هذه التكرُّثُّ ات يف ذاتها عىل نحو اإلمكان‪،‬‬
‫وإدراكها بغريها عىل سبيل التطابق بني الفكر والواقع‪ ،‬الذات واملوضوع‪ ،‬الذهن والخارج‪.‬‬
‫َّ‬
‫واملعنوية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫املعنائي�ة‬ ‫املعىن بني‬
‫ينطوي املعنى من حيث معناه عىل داللتني أساس َّيتني‪ ،‬األوىل هي املعنائ َّية مقابل األلفاظ‬
‫والكلامت‪ ،‬والثانية هي املعنويَّة مقابل املاديَّات واألشياء‪ ،‬ويف كلتا الداللتني يستوطن املعنى يف‬
‫تتوىَّل تظهري عامل الوجود‪ ،‬أ َّو ًاًل بوصفها تحيُّزات إفصاحيَّة تقوم عىل الكشف‬
‫َّ‬ ‫عامل املاهيَّات التي‬
‫والتمظ ُهر والتعبري‪ ،‬وثانيًا بوصفها طاقة حركيَّة تدفع عامل الوجود املمكن نحو التكامل والتغيّؤات‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬ال ب َّد من القول أ َّن مآالت الفلسفة يف تشكُّالتها الراهنة متحورت حول الُّلغة وما يرتبط بها‬
‫من املعنى‪ ،‬بحيث بات املعنى موضو ًعا للفلسفة تبحث فيه عن عوارضه الذات َّية وما يتَّصل به من‬
‫مناهج ومسائل ومبانٍ وغايات‪ ،‬وهذا ما يفيض لزو ًما إىل الخوض بحثًا حول معنى املعنى‪ ،‬أي‬
‫املعنى بوصفه ماهيَّة كليَّة‪.‬‬
‫إذا كانت الفلسفة هي إنتاج املفاهيم كام يقول جيل دولوز‪ ،‬فإ َّن املفاهيم ليست سوى مح َّددات‬
‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫تحت مظلَّة املعاين‪ .‬ومهام توزَّع القول يف املعنى بني كونه متق ّو ًما باملطابقة تب ًعا للفهم‬
‫التقليدي الذي متثّله بالعموم الفلسفة اليونان َّية‪ ،‬وكونه قامئًا بالرتابط كام تذهب االتجاهات‬ ‫ِّ‬
‫ريا عدم ًّيا بحسب االتجاهات الفلسف َّية السفطائ َّية بقدميها‬
‫الفلسف َّية الحديثة واملعارصة‪ ،‬أو كونه تأش ً‬
‫وحديثها‪ ،‬فإ َّن أيًّا من الفلسفات القدمية والجديدة مل تستطع تجاوز التمحور حول املعنى بدالالته‬
‫السالبة واملوجبة عىل ح ٍّد سواء‪.‬‬
‫بكل مباحثها ومقوالتها تدور بنحو أو بآخر حول املعنى‪ ،‬إذ‬ ‫مهام يكن األمر‪ ،‬فإ َّن الفلسفة ِّ‬
‫أينام اتجهنا‪ ،‬وكيفام بحثنا‪ ،‬فإ َّن البحث يدور حول املعنى‪ :‬الوجود والعدم‪ ،‬الحدوث وال ِقدم‪،‬‬
‫العلَّة واملعلول‪ ،‬الجوهر والعرض‪ ،‬الوجوب واإلمكان‪ ،‬البداهة والنظريَّة‪ ،‬الفكر والواقع‪ ،‬الذات‬
‫ّ‬
‫الدال واملدلول‪ ،‬الوقف واملواضعة‪ ،‬املا َّدة والصورة‪ ،‬الرابط‬ ‫والرتكيبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫واملوضوع‪ ،‬التحيلي ّ‬

‫‪101‬‬
‫المحور‬

‫واملستقل‪ ،‬املوضوع واملحمول‪ ،‬املفهوم واملصداق‪ ،‬التص ُّور والتصديق‪ ،‬املعقول واملنقول‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ي واملج َّرد‪ ،‬األسلوب‬
‫الحركة والسكون‪ ،‬الزمان واملكان‪ ،‬الثبات والثبوت‪ ،‬املبدأ واملعاد‪ ،‬املا ّد ّ‬
‫واملنهج‪ ،‬الطريقة والحقيقة‪ ،‬السؤال واملسألة‪ ،‬التحليل والتعليل‪ ،‬التأ ُّمل والتمثُّل‪ ،‬النفس والجسد‪،‬‬
‫املوت والحياة‪ ،‬الطبيعة وما بعدها‪ ،‬الفرح والحزن‪ ،‬العلم والجهل‪ ،‬اإلرادة واملشيئة‪ ،‬اإلميان‬
‫كل هذه‬
‫والاَّلمعنى‪ ،‬ذلك أ َّن َّ‬
‫َّ‬ ‫واإللحاد‪ ،‬الجرب والتفويض‪ ،‬القضاء والقدر‪ ،‬وصوال إىل املعنى‬
‫املقوالت يتوقَّف تعريفها يف ذاتها عىل تحديد معناها‪ ،‬كام يتوقَّف تعريفها بالقياس إىل غريها عىل‬
‫تحديد املعاين املنبثقة عنها بالقياس إىل الغري‪.‬‬
‫إىل ما تق َّدم‪ ،‬فإ َّن البحث يف املعنى هو العلَّة الستيالد فلسفة الُّلغة حيث صري إىل إخراجه من‬
‫حيّز الُّلغة وإدخاله إىل عامل الكينونة من طريق ثنائيَّات املاهيَّة والوجود[[[‪ ...‬املعنى‪ ،‬يف املباحث‬
‫ُّلغوي وما‬
‫ّ‬ ‫املعجمي ال‬
‫ِّ‬ ‫اللغويَّة‪ ،‬هو أحد طريف معادلة يشكِّل الَّلفظ طرفها اآلخر‪ ،‬وذلك يف اإلطار‬
‫يرتبط به من علوم البيان والبالغة والنحو والرصف‪ ،‬بينام «املعنى» يف إطار فلسفة الُّلغة هو أكرث‬
‫تداواًل وأه ّميَّة‪ ،‬بل إ َّن مث َّة ما يشبه اإلجامع عىل القول بكون املعنى هو املوضوع‬
‫ً‬ ‫املوضوعات‬
‫الذي تتمحور حوله مسائل هذه الفلسفة[[[‪ .‬يتساوى يف ذلك الذين اشتغلوا عىل إصالح الُّلغة‬
‫بوصفها أداة تعبري إلصالح الفلسفة‪ ،‬أو الذين اشتغلوا عىل الًّلغة بوصفها مساوقة للفكر‪ ،‬و‪ /‬أو‬
‫للواقع‪ ،‬حيث شكَّلت اللغة والحال هذه موضو ًعا ينبثق منه التفلسف لفهم املعرفة والوجود‪.‬‬

‫معىن املعىن‪:‬‬
‫هذا كلُّه‪ ،‬فتح الباب عىل مرصاعيه أمام الخوض يف تحديد معنى املعنى وماه َّيته‪ ،‬فشغلت هذه‬
‫املسألة الح ّيز األوسع من مباحث الفلسفة الُّلغويَّة تاريخ ًّيا وراه ًنا‪ ،‬بَد ًءا من أفالطون الذي رأى‬
‫الذهني‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أ َّن املعاين هي املثل‪ ،‬أو النامذج الخالدة‪ ،‬وأرسطو الذي اعترب أن املعنى هو االنتزاع‬
‫فضاًل عن رأي العرفاء واملتص ِّوفة‬
‫ً‬ ‫ين‪ ،‬هذا‬‫والرواقيني الذين قالوا بأ َّن املعنى هو التشخيص النفسا ّ‬
‫الوجودي للموجودات يف العوامل املمكنة‪ ،‬وعبد‬ ‫ُّ‬ ‫التجيّل‬
‫ّ‬ ‫الحقيقي للمعنى هو‬
‫ّ‬ ‫الذين ع ُّدوا املعنى‬
‫القاهر الجرجاين الذي رأى أن معنى املعنى عبارة عن منظومة استدالل عقل َّية‪ ،‬مرو ًرا بـ جان لوك‬
‫تدل عىل الكلامت‪ ،‬وجورج إدوارد مور (‪)Moore‬‬ ‫‪ )Locke‬الذي قال إ َّن املعاين هي األفكار التي ُّ‬
‫الذي حسب أ َّن املعنى هو التص ُّورات الرتادف َّية‪ ،‬ولودفيغ فتغنشتاين (‪ )Wittgenstein‬الذي ذهب‬
‫إىل احتساب أن معنى الكلمة هو استخدامها‪ ،‬وفريغه (‪ )Frege‬حيث تب َّنى مقولة أ َّن معنى اليشء هو‬
‫املشار إليه‪ ،‬وصواًلً إىل فرديناند دو سوسري (‪ )Ferdinandde Saussure‬الذي اعترب املعنى نسقًا‬
‫بنيويًّا‪ ،‬وبرتراند راسل (‪ )Bertrand Russell‬الذي رأى أ َّن املعنى أمناط من الفئات واألشياء‪ ،‬وليس‬

‫[[[‪ -‬حبيب فياض‪ ،‬بحث منشور تحت عنوان « التحيز امليتافيزيقي للُّغة»‪ ،‬فصلية املحجة العدد الثاين والعرشين‪ ،‬العام ‪.2011‬‬
‫[[[‪ -‬محمود فهمي زيدان‪ ،‬يف فلسفة الُّلغة (بريوت‪ :‬دار النهضة العرب َّية‪ ،)1985 ،‬الصفحة ‪.95‬‬

‫‪102‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬

‫لنتهاء مبارسيا ماركيز صاحب مقولة « الُّلعنة ما معنى املعنى؟!»‪.‬‬


‫فارق بني املعنى حسب ذاته واملعنى الذي يُفيده معنى‬ ‫ٌ‬ ‫خالصة القول‪ ،‬مث َّة يف فلسفة الُّلغة‬
‫فيتحصل بانتزا ٍع ثانٍ ‪ .‬املعنى األ ّول‬
‫َّ‬ ‫يتحصل بانتزاع ٍأ ّويل‪ ،‬أ ّما معنى املعنى‬
‫ّ‬ ‫املعنى؛ فاملعنى عموماً‬
‫عاد ًة يرتبط تعريفًا بأمو ٍر لغوي ٍة من قبيل الَّلفظ والداللة والتبادر واإلشارة والعالمة والنحو والرصف‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫والبالغة‪ .‬فيام املعنى الثاين غال ًبا ما يرتبط فلسف ًّيا ومنطق ًّيا بأمور من قبيل املفهوم واملصداق‬
‫واإلرجاع واإلحالة واملثال والتحقّق واالستخدام‪.‬‬
‫يل من داللة وتبادر‪ ،‬أ َّما معنى املعنى‬ ‫عمو ًما‪ ،‬نحن نرى أ َّن املعنى هو ما ينتج عنه بشكل أو ٍّ‬
‫الحقيقي املرتبط بحدوده الوجوديَّة[[[‪ ،‬وبالتايل هو ليس شيئًا سوى املاه َّية‪ ،‬فإذا‬
‫ُّ‬ ‫فهو التعريف‬
‫سألنا ما املعنى املستفاد من معنى املثلَّث‪ ،‬فإ َّن ما يقال يف جواب ذلك (من أ َّن املثلَّث هو شكل‬
‫يث األضالع تساوي مجموع زواياه ‪ 180‬درجة) ليس سوى املاه َّية؛ فاملاه َّيات هي املعاين التي‬ ‫ثال ٌّ‬
‫والخارجي؛‬
‫ِّ‬ ‫الذهني‬
‫ِّ‬ ‫ويتكرَّث من خاللها‪ ،‬وهي الباعثة عىل التطابق بني الوجودين‬ ‫َّ‬ ‫يتمظهر الوجود‬
‫واملاَّل صدرا (يف الشواهد‬
‫َّ‬ ‫لهذا نجد بعض الفالسفة من أمثال إبن سينا (يف اإلشارات والتنبيهات)‬
‫الربوب َّية) يستخدمون أحيانًا مصطلح املعنى للتعبري عن املاه َّية‪ ،‬لكون املاه َّيات هي اإلطار األع ُّم‬
‫الذي يندرج فيه التعريف واملفهوم واملصداق والتص ُّور والتصديق والح ِّد والرسم واملقوالت‬
‫الجوهريَّة والعرض َّية‪ ،‬إىل جانب الدالالت واإلشارات والعالمات واإلحاالت والتبادرات واألفعال‪.‬‬
‫يف املحصلة‪ ،‬إ َّن معنى املعنى يتخطَّى ارتباطه بالَّلفظ أو الذهن إىل ارتباطه بالواقع والفعل‪.‬‬
‫مثاًل أ َّن الفارايب يف كتابه «الحروف» يذهب إىل الربط بني املعنى والواقع‬
‫عىل هذه الخلفيَّة نرى ً‬
‫الخارجي الظاهر واملتبادر إىل الذهن من جهة‪ ،‬واملعنى الداخيل‬‫ِّ‬ ‫من خالل التفريق بني الَّلفظ‬
‫القائم يف الواقع من جهة ثانية‪ ،‬وكذلك نرى ابن سينا يف الشفاء يربط بني املعنى والفكر من خالل‬
‫حته يف عدم الوقوع يف الخطأ يف الفكر[[[‪.‬‬
‫اشرتاطه كون فن املنطق قامئًا عىل املعنى لوجوب ص َّ‬
‫ُّ‬
‫املعىن بني فلسفة اللغة وفلسفة العلم‪:‬‬
‫بدياًل من الوجود‬
‫ً‬ ‫توسل املعنى‬ ‫لقد أطاحت الفلسفة املعارصة بالفلسفة التقليديَّة عىل خلف َّية َّ‬
‫الوجودي يف الفلسفة بل‬
‫ِّ‬ ‫ومقوالته امليتافيزيق َّية‪ ،‬حيث مل تقف محاوالت تسييل املعنى عند الح ِّيز‬
‫العدمي‪ ،‬فأصبح املعنى معيا ًرا يف تحديد املعرفة وإمكانها‪ ،‬إضافة إىل مصادرها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تع َّدته إىل الح ِّيز‬
‫الفلسفي عىل مستوى العامل‪ ،‬حيث تلتقيان عىل محوريَّة املعنى‬ ‫َّ‬ ‫فتوالدت فلسفتان احتلَّتا املشهد‬
‫ومعياريَّته رغم ما بينهام من تباعد وخالف‪ ،‬وهام فلسفة اللغة وفلسفة العلم‪.‬‬

‫جة»‪ ،‬حبيب فياض‪ ،‬بحث منشور تحت عنوان « فلسفة الُّلغة والتأويل‪..‬معنى املعنى وفهم الفهم» العدد عرشين‪/‬‬ ‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬فصل َّية «املح َّ‬
‫العام ‪.2010‬‬
‫[[[‪ -‬راجع فصل َّية «الرك للفلسفة واللسان َّيات والعلوم اإلجتامع َّية»‪ ،‬عيل عبد الجبار عناد وساهرة حسني فيصل‪ ،‬داللة املعنى يف الفلسفة‬
‫اإلسالم َّية‪ ،‬الفارايب وابن سينا أمنوذجني‪ ،‬العدد التاسع عرش‪ ،‬العام ‪.2015‬‬

‫‪103‬‬
‫المحور‬

‫يجدر القول أ َّن املجالني األساسيَّني يف فلسفة الُّلغة متثَّال باتجاهني‪ :‬األول هو الفلسفة التحليليَّة‬
‫يث برتراند راسل وجورج مور ولودفيغ فتغنشتاين‪ ،‬وذلك يف إطار دراسة العالقة بني‬ ‫التي قادها الثال ُّ‬
‫الُّلغة والفكر‪ ،‬فيام متثَّل االتجاه الثاين بفلسفة التأويل التي قادها جورج هانز غادامر استكاماًلً ملا‬
‫بدأه أستاذه مارتن هايدغر يف إطار العالقة بني الفكر والواقع‪ ،‬من دون أن يغيب املعنى يف خض ِّم‬
‫الفلسفي مع الُّلغة‪ .‬ومن دون أن يغيب أيضً ا‬‫ِّ‬ ‫األسايس يف التعامل‬
‫َّ‬ ‫ذلك كلِّه عن كونه املوضوع‬
‫البنيوي (ممث ًَّاًل بفرديناند دي سوسري)‪ ،‬وهو اتجاه يراوح بني‬ ‫ّ‬ ‫ُّلغوي االتجاه‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي ال‬
‫ِّ‬ ‫عن املشهد‬
‫البنيوي‬
‫ِّ‬ ‫فلسفة الُّلغة واللسانيَّات‪ ،‬حيث أخرج سوسري املعنى من أحاديَّته الدالليَّة وربطه بالنظام‬
‫الذي ال يتحقَّق من دون عنارص مرتابطة يف ما بينها عىل نحو التكامل واالستغناء‪ ،‬وصواًلً إىل نعوم‬
‫التوليدي بهدف ثقف‬
‫ِّ‬ ‫بدياًل من النحو‬ ‫ً‬ ‫التوليدي‬
‫ِّ‬ ‫تشومسيك الذي عمل عىل إنتاج منظومة النحو‬
‫للنص إىل بنيته العميقة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املعنى الكامن يف الُّلغة متجاوزًا البنية السطحيَّة‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫َّأواًل‪( :‬املعىن يف فلسفة اللغة)‪:‬‬
‫الفلسفي للُّغة‬
‫ِّ‬ ‫مهام يكن من أمر‪ ،‬فإ َّن التح ُّول الذي طرأ عىل مفهوم «املعنى» يف سياق الفهم‬
‫من حيث دالالته ووظائفه أخرج هذا املفهوم من كونه تحت سقف الًّلغة إىل كونه معيا ًرا وضابطًا‬
‫لحركة الُلغة يف مختلف ات ّجاهاتها وحيث ّياتها[[[‪ ،‬وبالتايل تح ّوله إىل حالة قيم َّية ومعياريَّة تتحكَّم‬
‫مبعياريَّة الصدق – الكذب‪ ،‬وأكرث أه ّم َّية منها‪ ،‬ذلك أ َّن الجملة الخربيَّة يف الُّلغة العاديَّة تخضع يف‬
‫حتها وانطباقها عىل الواقع‪ ،‬بينام يتح َّول «املعنى» ذاته يف‬ ‫معناها ملعيار الصدق والكذب لناحية ص َّ‬
‫البت يف مدى أهل َّية اتِّصاف الجملة – القض َّية‬
‫ُّلغوي إىل معيار لديه صالح َّية ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي ال‬
‫ِّ‬ ‫سياق البحث‬
‫بالصدق والكذب‪ .‬إذ إ َّن إطالق حكم الصدق أو الكذب عىل الجملة متوقِّف عىل كونها ذات معنى‪.‬‬
‫أي كالم عن الصدق والكذب‬ ‫أي أ َّن افتقادها للمعنى يوازي عدم وجودها‪ ،‬بحيث يغدو يف هذا السياق ّ‬
‫حة املعنى‪ ،‬كام هو املألوف‬ ‫وبداًل من أن يج ّرنا مفهوم الصدق إىل ص َّ‬ ‫ً‬ ‫رضبًا من العبث واللهو‪،‬‬
‫الغض عن غل ِّو البعض يف‬ ‫ِّ‬ ‫حة الصدق[[[‪ .‬هذا مع‬ ‫والسائد‪ ،‬بات مفهوم املعنى هو الذي يقودنا إىل ص َّ‬
‫تضييق املؤرِّشِّ الذي يت ُّم عىل ضوئه التمييز بني ما له معنى‪ ،‬وما ال معنى له‪ ،‬وتحدي ًدا أصحاب النزعة‬
‫فضاًل عن أتباع حلقة ڤيينا‪.‬‬
‫ً‬ ‫التجريبي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التجريب ّية يف الفلسفة التحليل َّية‪ ،‬وأتباع املنطق‬
‫فإذا كانت الُّلغة هي املوضوع يف فلسفة الُّلغة عىل قاعدة أ َّن موضوع الفلسفة املضافة هو ما‬
‫تضاف إليه‪ ،‬فإ َّن الواقع هو كون املعنى‪ ،‬بوصفه لغويًّا ووجوديًّا‪ ،‬موضو ًعا لهذه الفلسفة لتموضعه‬
‫فيها محو ًرا يبحث فيه عن عوارضه الذاتيَّة‪ ،‬وهذا تحدي ًدا ما جعل معنى املعنى مبحثًا أساسيًّا يف‬
‫كل املسائل‬‫اللغوي‪ ،‬بسبب كون املعنى املنتزع من املعنى عارضً ا ذاتيًّا تتف َّرع منه ُّ‬
‫ِّ‬ ‫التفلسف‬
‫األخرى املبحوث حولها يف هذا السياق‪.‬‬
‫[[[‪ -‬انظر‪ ،‬لودفيك فتغنشتاين‪ ،‬تحقيقات فلسف َّية (بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪ ،)2007 ،‬الصفحة ‪ ،34‬الصفحات ‪ 60‬إىل ‪.62‬‬
‫عجمي‪ ،‬مقام املعرفة‪ ،‬فلسفة العقل واملعنى (بريوت‪ :‬دار كتابات‪ )2004 ،‬الصفحتان ‪.228 ،227‬‬ ‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬حسن‬

‫‪104‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬

‫ً‬
‫ثاني�ا (املعىن يف فلسفة العلم)‪:‬‬
‫يف مقابل فلسفة الُّلغة‪ ،‬شكّلت فلسفة العلم املجال اآلخر املتمحور حول املعنى يف إطار‬
‫[[[‬
‫الفلسفة الحديثة؛ حيث انبثق منها أيضً ا اتجاهان أساسيَّان متثَّل األول يف الوضعيَّة املنطقيَّة‬
‫(‪ )logical positivism‬التي قادها موريس شليك (‪ )Schlick‬وتبعه رودولف كارناب (‪)carnap‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫والاَّلمعنى يف العبارات الفلسفيَّة‬


‫جل اهتاممها حول التمييز بني املعنى َّ‬ ‫فانصب ُّ‬
‫َّ‬ ‫والفرد آير(‪،)ayerK‬‬
‫من خالل معيار التحقُّق‪...‬فيام متثَّل االتجاه الثاين بفلسفة كارل بوبر الذي شكَّلت انقالبًا عىل‬
‫الوضعيَّة املنطقيَّة من خالل منهجه املعروف بقابليَّة التكذيب بهدف تحديد املعنى الذي ميكن‬
‫والاَّلعلم‪.‬‬
‫من خالله التمييز بني العلم َّ‬
‫ففي مقابل الوضع َّية املنطق َّية جاء كارل بوبر (‪ )karl popper‬حيث أعاد ملعياريَّة الصدق‬
‫والكذب اعتبارها من خالل معيار قابل َّية التكذيب (‪ )falsifiability‬وليس من خالل معياريَّة‬
‫التصديق‪ ،‬حيث أطاح مبنهج التحقُّق املعتمد يف الوضع َّية املنطق َّية واستعاض عنه بالتكذيب‪،‬‬
‫والاَّلمعنى من خالل التحقُّق (‪)verification‬‬ ‫ذلك أ َّن أتباع الوضع َّية اعتربوا أ َّن التمييز بني املعنى َّ‬
‫أو قابل َّية التحقق (‪ )verifiability‬إمَّنَّ ا هو معيار سابق عىل التصديق من أجل الوصول إىل الصدق‬
‫يل للوصول إىل املعنى‪ ،‬فاملعيار عنده‬ ‫والكذب‪ ،‬يف حني أ َّن بوبر اعترب أ َّن معيار التكذيب رشط قب ٌّ‬
‫والاَّلعلم‪ ،‬وبني ما له معنى (‪ )meaningful‬وما ال معنى له (‪)meaningless‬‬ ‫يف التمييز بني العلم َّ‬
‫هو كون العبارة (أو القض َّية ‪ /‬الظاهرة‪ /‬النظريّة) قابلة للتكذيب‪ ،‬وذلك من خالل املنهج االستنباطي‬
‫وباالعتامد عىل الحدوس والفروض بعي ًدا من االستقراء حيث اعتربه من قبيل الخرافة‪ ،‬مع تأكيده‬
‫مختصات الذات؛ ما‬ ‫َّ‬ ‫مختصات الواقع واليقني الذي هو من‬ ‫َّ‬ ‫عىل التمييز بني الحقيقة التي هي من‬
‫املحصلة أ َّن التحقُّق املتَّبع يف الوضع َّية املنطق َّية إمَّنَّ ا يندرج يف إطار “التثبيت”‪ ،‬بينام‬
‫ِّ‬ ‫يعني يف‬
‫التكذيب املتَّبع يف نزعة العلم النقديَّة عند بوبر إمنا يندرج يف إطار”النفي”‪ .،‬ومبا أ َّن القضايا‬
‫دلياًل تكذيب ًّيا واح ًدا يكفي لدحض وإسقاط‬ ‫ً‬ ‫الفلسف َّية رضوريَّة وكل َّية ودامئة‪ ،‬فإ َّن بوبر إعترب أن‬
‫تصديقي ال يكفي إلثباتها‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫الصدق تجاه حتميَّة واضطراد ودوام أيَّة نظريَّة‪ ،‬يف حني أ َّن ألف دليل‬
‫بالجملة‪ ،‬لقد شكَّلت موضوعة املعنى تقاط ًعا محوريًّا بني فلسفة الُّلغة وفلسفة العلم‪ ،‬فيام‬
‫ظلَّت فلسفة الدين ‪ -‬رغم كونها الضلع الثالث من ثالث َّية الفلسفة الحديثة ‪ -‬إىل جانب الُّلغة والعلم‬
‫املعني األول للخوض يف املعنى نظ ًرا‬ ‫ُّ‬ ‫‪ -‬غائبة عن هذا التمحور‪ ،‬هذا يف حني أن فلسفة الدين هي‬
‫‪/‬الروحي الذي يضفيه‬
‫ِّ‬ ‫املعنوي‬
‫ِّ‬ ‫للغويَّة الوحي من جهة ارتباطه معنائ ًّيا بالفكر والواقع‪ ،‬ونظ ًرا لإلسباغ‬
‫الدين عىل املامرسة التديُّن َّية بشتَّى أبعادها‪ ،‬حيث تنبع املوجبات املعنائ َّية الوحيان َّية من رضورة‬

‫يل للعبارات الفلسف َّية‪ ،‬لكن الواقع هو‬ ‫[[[‪ -‬قد يرى البعض أن الوضع َّية املنطق َّية تنتمي إىل فلسفة الُّلغة لكونها تعمل عىل املنهج التحلي ِّ‬
‫اللغوي بهدف الوصول إىل فلسفة علم َّية عىل قاعدة أنَّ الفلسفة يف خدمة العلم‪ ،‬وأنَّ مث َّة إمكان َّية‬
‫َّ‬ ‫أنَّ الوضع َّية املنطق َّية استخدمت التحليل‬
‫النبثاق رؤية كون َّية باالستناد إىل العلم بعيدً ا عن املقوالت الفلسفية املعهودة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫المحور‬

‫فهم الدين‪ ،‬فيام ترتبط املوجبات املعنويَّة املستم َّدة من الوحي برضورات تطبيقه[[[‪.‬‬

‫املعىن وفلسفة الدين‪:‬‬


‫ال يخرج السؤال حول تحديد ماه َّية املعنى يف الدين‪ ،‬وماه َّية املعنى يف التديُّن‪ ،‬عن كونه‬
‫إشكالي ًة قامئ ًة بذاتها‪ ،‬الرتباطها أ َّو ًاًل بصالح َّيات الدين من خالل نصوصه املرتبطة باملعنى‪،‬‬
‫الواقعي املرتت ِّب عىل‬
‫ِّ‬ ‫الديني وموضعته‪ ،‬وذلك من خالل املعنى‬ ‫ِّ‬ ‫ولكونها ثان ًيا عىل صل ٍة بالواقع‬
‫املاهوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعنى‬
‫أقل إشكاليَّة‪ ،‬بوصفه حال ًة نظري ًة واحد ًة‬ ‫الديني‪ ،‬قد يكون تحديد معنى الدين َّ‬ ‫ِّ‬ ‫يف اإلطار‬
‫والنص املق ّدس‪ ،‬فيام اإلشكالية أكرث‬ ‫ّ‬ ‫مشكّكة[[[ وبسيطةً؛ إذ يدور املعنى هنا حول الوحي‬
‫ظل إمكان اختالف‬ ‫ّ‬
‫متكرّث ًة ومركّبةً‪ .‬ففي ّ‬ ‫حضورا يف تحديد معنى التديّن لكونه حال ًة تجريبي ًة‬
‫التجارب التدينية بني الناس وما ينتج عنها‪ ،‬ال ب ّد من البحث عن القدر املشرتك لتحديد معنى‬
‫حيانيّة»‪ ،‬فإ ّن معنى املعنى للدين هو التديّن‪،‬‬ ‫التديّن‪ .‬لذا‪ ،‬إذا كان معنى الدين هو «التعاليم ال َو ْ‬
‫أي هو االلتزام بهذه التعاليم وتطبيقاتها واستخداماتها؛ فمعنى الدين ذو دالل ٍة ديني ٍة ويتعلّق‬
‫مباهيته الوحيانية‪ ،‬أ ّما معنى املعنى للدين فيتامهى مع معنى التديّن ويتعلّق بكونه ماهية‬
‫املتحصل لدينا‬
‫ّ‬ ‫تجريبياً‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إذا أردنا النظر إىل الدين بذاته ومبعز ٍل عن التديّن‪ ،‬فإ ّن‬
‫املتحصل لدينا يف هذه الحالة‬ ‫ّ‬ ‫هو معنى الدين؛ أ ّما إذا نظرنا إىل الدين مع لحاظ التديّن‪ ،‬فإ ّن‬
‫هو معنى املعنى للدين الذي هو معنى التديّن‪ .‬ومن ث َ َّم فالدين ماهيّ ٌة قامئ ٌة بذاتها عىل أساس‬
‫يتأىّت هوويا من هذا‬ ‫ّ‬ ‫املعنى‪ ،‬يف حني أ ّن التديّن هو التحقّق الوجودي للدين عىل أساس ما‬
‫املعنى؛ وذلك رشيطة كون هذا التحقّق مطابقاً ملفادات الدين وغاياته‪ .‬فالتديّن هو التحقّق‬
‫جودي للدين من خالل إِضفاء معنى آخر عىل املعنى الديني[[[‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يل وال ُو‬
‫الفع ّ‬
‫ٍ‬
‫مفرتض بني الدين والتديُّن؛‬ ‫ماهوي‬
‫ٍّ‬ ‫هذه املق ِّدمة املتداخلة مبطالبها مطلوب ٌة للحديث عن تطابقٍ‬
‫معنى قائ ٌم يف موطن الثبوت والثبات‬ ‫ً‬ ‫وذلك من باب كون األول نظريًّا والثاين تطبيق ًّيا‪ .‬أي أ َّن الدين‬
‫الوجودي‪ .‬عىل هذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معنى عمل ًّيا يف موطن اإلثبات والتثبيت عرب التحقّق‬ ‫ً‬ ‫نظريًّا‪ ،‬وأ َّن التديُّن مينحه‬
‫يرتبط تحديد معنى التديُّن بتحديد طبيعة الفعل التديُّني من جهة األدوار املنوطة به والتوقُّعات‬
‫املنتظَرة منه‪ .‬واأله ُّم أ َّن مث ّة عالق ًة إنتاج َّي ًة متبادل ًة بني معنى الدين الذي يُنتج التديُّن ومعنى التديُّن‬
‫الديني‪ ،‬وهذا ما يجعل الذات املتديِّنة يف حال من الوعي بالتجربة الدين َّية‬ ‫ِّ‬ ‫الذي يُعيد إنتاج املعنى‬

‫[[[‪ -‬راجع‪ :‬حبيب فياض‪ ،‬فلسفة التد ُّين‪..‬الطرق إىل الله يف عامل متح ِّول‪ ،‬دار الفارايب ومركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬العام ‪ /2023‬الفصل‬
‫الرابع‪.‬‬
‫املنطقي الذي يفيد حمل املفهوم الواحد من حيث هو واحد عىل مصاديق كثرية متفاوتة طول ًّيا‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫[[[‪ -‬املقصود بالتشكيك هنا املعنى‬
‫الرضوري اإللفات إىل أنَّ مفهوم معنى املعنى للتديُّن ال يقع يف محذور التسلسل؛ إذ لن يبقى السؤال مفتو ًحا حول املعنى‬ ‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬من‬
‫الخارجي ً‬
‫مآاًل نهائ ًّيا للمعنى‬ ‫َّ‬ ‫الواقع‬ ‫يجعل‬ ‫ُّقي‬
‫ق‬ ‫التح‬ ‫الوجودي‬
‫ِّ‬ ‫إىل‬ ‫النظري‬
‫ِّ‬ ‫املاهوي‬
‫ّ‬ ‫ز‬ ‫ي‬
‫ِّ‬ ‫الح‬ ‫من‬ ‫الخروج‬ ‫ألنَّ‬ ‫وذلك‬ ‫معنى؛‬ ‫كل‬
‫ِّ‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫املتحص‬
‫ّ‬
‫كل ما بالعرض إىل ما بالذات‪.‬‬‫عىل قاعدة انتهاء ّ‬

‫‪106‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬

‫املستفادة عىل نح َوي الحضور والحصول‪ ،‬ويف حا ٍل من «اإلمكان الوقوعي»[[[ بني ماهيّة الدين‬
‫ووجود التديُّن‪.‬‬
‫حي)‪ ،‬أ َّما التديُّن كمعنى فهو ‪ -‬لكونه من‬ ‫يتجىَّلَّ معنى الدين من خالل الُّلغة والخطاب (ال َو ْ‬
‫يل‬‫تحقيق عم ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫كل فاعل ّي ٍة أو كينون ٍة ذات معنى‪ .‬فاملعنى التديُّ ّ‬
‫ني‬ ‫للتجيّل يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫قابل‬
‫س ْنخ التجربة ‪ٌ -‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫حي وواسط ٌة يف عروضه عىل املوضوعات والناس اآلخرين‪ ،‬وهو ما يُتيح إمكان كونه‬ ‫لخطاب الو ْ‬
‫قابل أن يكون مستوط ًنا الذاتَ املتديّن َة‬ ‫مشرتكًا من جهة الشعور مع غري املتديّنني؛ إذ املعنى ها هنا ٌ‬
‫قياًم «معنويَّةً»‪ ،‬من املمكن أن تكون‬ ‫فمثاًل القيم الدين َّية من جهة كونها شعوريَّة‪ ،‬ولكونها ً‬‫ً‬ ‫وغريها؛‬
‫كل الناس من متديِّنني وغريهم‪ .‬والفارق بني املتديِّن وغريه هو أ َّن األ َّول يستم ُّدها من‬ ‫مشرتكة بني ِّ‬
‫الدين‪ ،‬كام أنَّه ميتلك مخزونًا لغويًّا للتعبري عنها‪ ،‬أ َّما الثاين فيستم ُّدها من الوجدان والفطرة‪ ،‬ويفتقد‬
‫الديني عنها‪ .‬مبعنى أ َّن املتديّن ميتلك من الُّلغة الدين َّية ما يُتيح له التعبري عن مكنوناته‬
‫ِّ‬ ‫آل َّيات التعبري‬
‫املعنويَّة والوجدان َّية‪ ،‬فيام ال ميتلك غري املتديِّن نظري هذه الُّلغة‪( ،‬وهذا ما أملحنا إليه سابقًا من‬
‫الوجودي والفطرة املرتبطة بنفخة الروح)؛ فاأل َّول قد يلجأ إىل األذكار أو‬ ‫ِّ‬ ‫املساوقة بني املعنى‬
‫روحي‪ ،‬أو لحظة صفاء‬ ‫ّ‬ ‫معنوي أو ارتقاء‬
‫ٍّ‬ ‫النبي للتعبري عن سم ٍّو‬
‫ِّ‬ ‫الدعاء أو الحمدلة أو الصالة عىل‬
‫أمناط أخرى من قبيل الرياضات الروح َّية واملهارات‬ ‫ٍ‬ ‫وتجل‪ ،‬وهذا ما يفتقده الثاين فقد يلجأ إىل‬
‫املعنوي مع‬
‫ِّ‬ ‫حد يف الشعور‬ ‫التأ ُّمل َّية والفنون؛ فاملشرتك بني االثنني هو املعنى الذي يبعث عىل التو ُّ‬
‫االختالف يف املنشأ والُّلغة والداللة والتعبري‪.‬‬
‫عىل هذا‪ ،‬ومن قبيل املسامحة يف التعبري‪ ،‬يصبح معنى فعل التديُّن عىل نحوين‪ ،‬باملعنى‬
‫حي لكونه متعلّقًا مبا هو‬ ‫األخص وباملعنى األع ّم؛ فاأل َّول هو فعل «استجابة» مبارشة لتعاليم الو ْ‬ ‫ِّ‬
‫مح ّد ٌد مسبقًا من قبيل الصالة والصوم يف إطار «طاعة» الله‪ ،‬واآلخر هو فعل «تض ُّمني» لكونه ليس‬
‫كل ما ينتج‬ ‫حي‪ ،‬وهو ّ‬ ‫حي ولك ّنه متض ّم ٌن ما يريده الو ْ‬ ‫حاصاًل عىل نحو االمتثال املبارش لتعاليم الو ْ‬
‫ً‬
‫من اإلنسان يف إطار «مرضاة» الله‪ .‬وال يخفى أ َّن الفارق ما بني الطاعة واملرضاة هو أ ّن األوىل‬
‫اإللهي املتمثّل يف األوامر والنواهي‪ ،‬أ َّما الثانية فليست بالرضورة أ ْن تكون‬
‫ِّ‬ ‫تكون عن امتثا ٍل للطلب‬
‫فكل إنسان يتَّصف بالصدق‪ ،‬الوفاء‪ ،‬العفَّة‪،‬‬ ‫عن استجاب ٍة ملطالب الدين ولك َّنها تنسجم مع تعاليمه؛ ُّ‬
‫معنى من معاين التديُّن حتى لو مل يكن متديّ ًنا‬‫ً‬ ‫جسد‬
‫الشهامة‪ ،‬سالمة التفكري‪ ،‬اإلبداع امللتزم‪ ،...‬يُ ِّ‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باملعنى‬
‫يف العموم‪ ،‬العالقة بني الدين واملعنى قامئ ٌة عىل أساس كون املعنى حال ًة ح ّديَّ ًة بني الحقيقة‬
‫والحق الذي يُفرتض أ ْن‬ ‫ِّ‬ ‫حي‬‫والحق الذي نعمل به‪ ،‬أي الحقيقة املتمثِّلة يف الو ْ‬
‫ِّ‬ ‫التي نؤمن بها‬
‫جسده التديُّن‪ .‬لذا‪ ،‬فمعنى الدين أشبه بالُّلغة املتناهيَّة املح َّددة مهام بلغت سعتها‪ ،‬أ ّما معنى‬
‫يُ ّ‬

‫الوقوعي الذي يعني‬


‫ُّ‬ ‫الواقعي‪ ،‬واإلمكان‬
‫ُّ‬ ‫االستعدادي‪ ،‬اإلمكان‬
‫ُّ‬ ‫يت‪ ،‬اإلمكان‬
‫[[[‪ -‬فلسف ًّيا‪ ،‬مث َّة أنواع عديدة من اإلمكان‪ ،‬منها اإلمكان الذا ُّ‬
‫تحقُّق اليشء بعدما كان ممك ًنا‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫المحور‬

‫الاَّلمتناهي املنبثق منها‪ .‬فالدين متنا ٍه يف تعاليمه‪ ،‬ولك ّنام التديُّن غري متنا ٍه يف‬
‫التديُّن فأشبه بالكالم َّ‬
‫أفعاله امللتزمة بهذه التعاليم واملنبثقة منها‪.‬‬
‫يل‪ ،‬فيمكن إرجاعها إىل‬‫أما بالنسبة إىل معياريَّة املعنى يف الدين نظريًّا وما يرتبط به من تديُّن عم ٍّ‬
‫طبيعة التع ُّدديَّة املناط َّية لتعاليم الوحي‪ ،‬حيث ينطوي الوحي عىل ثالثة أنواع من التعاليم‪:‬‬
‫الحق والباطل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ .1‬العقائد واإلله َّيات ومناطُها‬
‫‪ .2‬األحكام الترشيعيَّة ومناطُها الحالل والحرام‪.‬‬
‫‪ .3‬القيم األخالق َّية والجامل َّية ومناطها القبح والحسن‪.‬‬
‫والاَّلهويتِّ‪ ،‬فيام الحلَّة‬
‫العقائدي َّ‬
‫ِّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن الحقَّانيَّة والبطالن هام ما يفيده املعنى يف اإلطار‬
‫يتحصل‬
‫َّ‬ ‫والحرمة هام ما ينبثق من املعنى يف إطار األحكام والترشيعات‪ ،‬أ َّما القبح والحسن فهام ما‬
‫يل[[[‪.‬‬
‫األخالقي والجام ّ‬
‫ِّ‬ ‫القيمي‬
‫ِّ‬ ‫من املعنى يف اإلطار‬

‫اخلالصة‪:‬‬
‫معنى متعاليًا‪ ،‬فيُح ّوله اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ين‬
‫الديني يُضفي عىل الفعل اإلنسا ِّ‬
‫َّ‬ ‫نخلص إىل القول أ َّن املعنى‬
‫املعنوي يف األفعال‪ ،‬ومينع البطالن عنها؛ وذلك‬ ‫َّ‬ ‫إىل قيم ٍة من خالل التجربة التديُّن َّية‪ ،‬فيمأل الخالء‬
‫بوصفه تح ُّققًا وجوديًّا هو تحقُّق األنا املتديِّنة وظيف ًّيا وغائ ًّيا عىل نحو االرتباط بالله‪ .‬واملعنى بهذا‬
‫ني مسا ًرا يجمع بني املراكامت اإلميانيَّة وراهنيَّة التجارب وسالمة‬ ‫النحو يتكفَّل بجعل الوجود التديُّ ِّ‬
‫ني فحال ٌة فرديَّة تنطوي‬ ‫النفس املطمئنة‪ ،‬فهو حال ٌة عا َّمة يشرتك بها املتديّنون‪ .‬أ َّما املعنى التديُّ ُّ‬
‫مشرتكات بني املتديّنني أنفسهم (إىل جانب املتديّنني وغريهم)‪ ،‬ولك ّنها تنطوي أيضً ا عىل‬ ‫ٍ‬ ‫عىل‬
‫واحد منهم متفاوت ًة مع اآلخر؛ لهذا نرى تفا ُوتًا بني متديّنٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫ات تجعل التجربة التديُّن َّية لدى ّ‬ ‫مختص ٍ‬
‫َّ‬
‫وآخر من حيث القابليَّات والخربات يف التعامل مع املشاكل الدنيويَّة النفسيَّة واملاديَّة‪ ،‬ويف القدرة‬
‫عىل تحصيل الطأمنينة واالستقرار النفسيّني والصرب عىل األذى وتح ُّمل مشقَّات الحياة؛ ذلك أ َّن‬
‫ني‪ ،‬بوصفه مصداقًاً ملفهوم معنى الدين‪ ،‬هو الذي مينح الذات املتديِّنة‪ ،‬يف مطلق‬ ‫املعنى التديُّ َّ‬
‫األحوال‪ ،‬قدر ًة عىل التح ُّمل والصرب واالستمرار وإنتاج الطاقة اإليجاب ّية يف النفس‪.‬‬

‫ىَّل القيم من خالل علم‬


‫ىَّل من خالل علم الفقه‪ ،‬بينام تتج َّ‬
‫ىَّل يف إطار علم الكالم‪ ،‬واألحكام والترشيعات تتج َّ‬
‫[[[‪ -‬العقائد واإلله َّيات تتج َّ‬
‫األخالق والجامل َّيات‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫معنى المعنى والفلسفات الثالث‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.‬حبيب فياض‪ ،‬بحث منشور تحت عنوان “ التحيز امليتافيزيقي للُّغة”‪ ،‬فصلية املحجة العدد الثاين‬
‫والعرشين‪ ،‬العام ‪.2011‬‬

‫‪2.‬محمود فهمي زيدان‪ ،‬يف فلسفة الُّلغة (بريوت‪ :‬دار النهضة العرب َّية‪.)1985 ،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫جة”‪ ،‬حبيب فياض‪ ،‬بحث منشور تحت عنوان “ فلسفة الُّلغة والتأويل‪..‬معنى‬ ‫‪3.‬فصليَّة “املح َّ‬
‫املعنى وفهم الفهم” العدد عرشين‪ /‬العام ‪.2010‬‬
‫‪4.‬راجع فصليَّة «الرك للفلسفة واللسانيَّات والعلوم اإلجتامعيَّة»‪ ،‬عيل عبد الجبار عناد وساهرة‬
‫حسني فيصل‪ ،‬داللة املعنى يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬الفارايب وابن سينا أمنوذجني‪ ،‬العدد‬
‫التاسع عرش‪ ،‬العام ‪.2015‬‬
‫‪5.‬انظر‪ ،‬لودفيك فتغنشتاين‪ ،‬تحقيقات فلسفيَّة (بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربيَّة‪.)2007 ،‬‬
‫عجمي‪ ،‬مقام املعرفة‪ ،‬فلسفة العقل واملعنى (بريوت‪ :‬دار كتابات‪.)2004 ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪6.‬حسن‬
‫‪7.‬حبيب فياض‪ ،‬فلسفة التديُّن‪..‬الطرق إىل الله يف عامل متح ِّول‪ ،‬دار الفارايب ومركز دراسات‬
‫فلسفة الدين‪ ،‬العام ‪ /2023‬الفصل الرابع‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬
‫ّ‬
‫األحدية من دون تقييد‬ ‫أفعال َّ‬
‫دال ٌة على‬ ‫ٌ‬ ‫األسماء‬

‫عيل‬
‫محمد أحمد ي‬
‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ق‬
‫العرفانية ـ سوريا‬ ‫حقو� وباحث ي� اإللهيات والدراسات‬
‫ي‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫تبحث هذه الدراسة يف معنى اإلسم واإلسم اإللهي عىل وجه التخصيص‪.‬‬
‫وقد ذهبت إىل التمييز بني معناه اإلجاميل تبعاً لالختبار الحيس والنظر العقيل‪،‬‬
‫وبني ما يختزنه إسم الله األعظم من أسامء وصفات وأفعال وتجلِّيات‪ .‬وألجل‬
‫هذه الغاية تفتح الدراسة عىل آفاق مفارقة يف فهم اإلسم اإللهي‪ ،‬استنادا ً إىل‬
‫حقول التأول التي امتألت بها مدونات العرفاء وما ورد يف األحاديث الرشيفة‬
‫واآليات الب ِّينات‪ .‬ومتيض الدراسة إىل تبيني حقائق اسم الله ومعناه يف صفاته‬
‫التعنّي يف املكان والزمان وبأنها مختصة بذاته‬‫ّ‬ ‫وأفعاله بكونها منزهة عن‬
‫القدسية وليس لها داللة عىل سواه‪ .‬وهي إن ذكرت فذكرها ٌ‬
‫دال عىل أفعال الله‬
‫وتدل عىل معنى األحدية من دون تقييد بيش‪.‬‬

‫مفردات مفتاحية‪ :‬معنى اإلسم – أسامء الله الحسنى‪ -‬الاَّلَّ ّ‬


‫تعنّي‪ -‬الصفات‪-‬‬
‫الحكمة املعصومة‪ -‬مفهوم الباطن‪.‬‬
‫* * *‬

‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬معنى اإلسم – أسامء الله الحسنى‪ -‬الاَّلَّ ّ‬


‫تعنّي‪ -‬الصفات‪-‬‬
‫الحكمة املعصومة‪ -‬مفهوم الباطن‪.‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫ّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يل‪.‬‬
‫الحيّس أو بالتع ُّرف العق ّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫مساَّمه بالَّلفظ أو بالكتابة أو بالفهم أو بالنظر‬ ‫َّ‬ ‫دل عىل‬‫اإلسم هو ما َّ‬
‫هذا من حيث تعريفه العا ِّم ومن حيث نحن وأسامئنا‪ .‬أ َّما أسامء الله الحسنى فال جهة لها تعيِّنها‪،‬‬
‫مختصة بالله وليس لها داللة عىل غريه‪ .‬وإن ُذكِ َرت‬ ‫َّ‬ ‫إاَّل أنَّها‬
‫وال ح َّد يح ُّدها‪ ،‬وال مكان يحويها‪َّ ،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫تدل عىل معنى واحد من دون تقييد اليشء‪ .‬ومن قبل أن نغادر‬ ‫كانت دالَّة عىل أفعال الله‪ ،‬وكلُّها ُّ‬
‫مساَّمه من حيث إطالقه ال من حيث تعيينه‪ ،‬وإن‬ ‫َّ‬ ‫التعريف باالسم نقول‪ :‬إنَّه بشكل عا ٍّم داللة عىل‬
‫فكل ما يف الكون من أسامء دالَّة بحقيقتها عىل قدرة‬ ‫التعنُّي‪ ،‬ومن حيث داللته‪ُّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫كان من مدلوالت‬
‫الله وعلمه ومشيئته‪ .‬إذ ال حول وال ق َّوة إاَّلَّ بالله‪.‬‬
‫فالله تعاىل ظهر بقدرته‪ ،‬وبطن بحكمته‪ ،‬وحجب ذاته عن عامل الشهادة بأسامئه وصفاته‪،‬‬
‫وكل ما يف الكون من موجودات من فعله سبحانه‪ .‬ومن خالل البحث عن‬ ‫وحجب صفاته بأفعاله‪ُّ ،‬‬
‫معنى اسم الله استوقفني ما تقدم به جم ٌع من العرفاء‪ ،‬ومنهم من هو يف القرن العرشين‪ ،‬ومنهم من‬
‫عرَّبوا عن الحقائق املعرف َّية بصورة متكاملة‪ .‬لذا آثرنا املكوث يف‬
‫سبقوهم من حيث الزمن‪ ،‬ولك َّنهم َّ‬
‫بعض كتبهم‪ ،‬ووجدت فيها ضالَّتي كدليل ومرشد أهتدي مبا أضاءوا من شموع معرف َّية‪ ،‬ووجدت‬
‫بكل االعتبارات‪ ،‬وإن تع َّددت األقوال يف املواضع لكنها ذات بنية‬ ‫أنَّهم قد أشاروا إىل االسم ِّ‬
‫واحدة‪ ،‬وإن تباينت من حيث الَّلفظ املرسوم عىل الورقة وفق موقع الكالم‪ ،‬واملتلقّي واملناسبة‬
‫لكل ما كَ ُمن يف االسم من معان ودالئل بحكمة العارف‪ ،‬وإتقان املحارض‪،‬‬ ‫تجدها متناغمة شاملة ِّ‬
‫وإشارات الشارح‪ .‬والحاصل وجود تع ُّينات يقرتب فهمها حتى لتكون واحدة من حيث املبنى مع‬
‫ين‪ ،‬وابتنينا مداميك معرفتنا عىل فُتات موائدهم العامرة بالعلوم‪،‬‬
‫أقوال سادة تربَّينا يف عرشهم العرفا ِّ‬
‫رغم تباعد الزمن ما بني مؤلَّفات العرفاء وبينها‪ ،‬والتي قد يصل إىل قرابة ألف عام تقري ًبا‪ ،‬منها كان‬
‫يف عرص أولئك السادة‪.‬‬
‫من تلك األقوال مجتمعة‪ ،‬ميكن للسالك أن يرحل يف خض ِّم بحر من املعرفة بني ط َّيات‬
‫والروحي للمطَّلع‪ .‬ففي مثل علوم كهذه‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫إشاراتها ودالالت مصطلحاتها‪ ،‬وفق االستعداد املعر ِّ‬
‫تجد البحر والزبد‪ ،‬وتجد الريح والنسيم العليل والعاصفة أيضً ا‪ ،‬إن متكَّنت من الثبات وتقريب‬
‫ذلك إىل ذهنك أشبعت روحك إن كانت متعطِّشة ملعلومة قد غابت عنها‪ .‬وعىل السائر نحوها‬
‫والتعصب‪ ،‬ويع ُمر نفسه‬
‫ُّ‬ ‫وفق نهج علومها أن يحسن االستعداد والتحصيل‪ ،‬وأن يبتعد عن الغرور‬
‫باإلميان‪ ،‬ويثق بحكمة ال َّرحمن‪ ،‬ويدع جان ًبا وسوسات الشيطان‪ ،‬ويبدأ يف البنيان مبداميك معرف َّية‬
‫شفَّافة تجلوها البصرية‪ ،‬ويحار فيها البرص‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫المحور‬

‫مفهوم الباطن‪:‬‬
‫بادئ األمر كان ال مناص حيال مواجهة (االسم واملعنى) من التع ُّرض بشكل وجيز إىل مفهوم‬
‫يف يف كتابه «الحدود»‪ ،‬عن‬ ‫التوحيدي الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الباطن‪ ،‬ومن املفيد هنا االسرتشاد برواية جابر بن ح َّيان‬
‫الخاص َّية‬
‫ّ‬ ‫الس َنن وأغراضها‬
‫اإلمام جعفر بن محمد الصادق قوله‪ :‬وح ُّد علم الباطن أنَّه العلم بعلل ُّ‬
‫الاَّلئقة بالعقول اإللهيَّة[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫يضيف‪ :‬وح ُّد العلوم اإلله َّية أنَّها علوم ما بعد الطبيعة من النفس الناطقة والعقل والعلّة األوىل‬
‫وخواصها‪ [[[.‬ويف كتاب «املاجد» يقول‪ :‬وح ُّد الباطن أنَّه الغرض املستور املراد بالظاهر‪ .‬وإذا كان‬ ‫ِّ‬
‫وإاَّل ك َّنا كمن طال حبسه تحت األرض‬ ‫األمر كذلك وجب أن نتد َّرج إىل العلوم العقليَّة أ َّو ًاًل فأواًلً ‪َّ ،‬‬
‫بحيث ال يرى ضو ًءا‪ ،‬وال يفرق بني الليل والنهار‪ ،‬وأخرج دفعة واحدة فنظر إىل عني الشمس أول‬
‫وأقل‬
‫جا لقد كان له ناف ًعا‪ُّ .‬‬
‫ما نظر فذهب برصه‪ ،‬فلم ينتفع مبا خرج إليه من ضياء‪ .‬ولو ُد ِّرج إليه تد ُّر ً‬
‫[[[‬
‫ما فيه من النفع أاَّلَّ يذهب برصه‪.‬‬
‫نورد وهذه األقوال لنوضح أن ما نقوم به اآلن من تد ُّرج يف فهم الدالالت واإلشارات يف علوم‬
‫أهل العرفان هو الخطوة األوىل والصحيحة لطالبي هذا العلم‪ ،‬إضافة إىل ما يُشاع من أقوال عن‬
‫مفهوم مغلوط لعلم الباطن‪.‬‬
‫ومن قبل أن منيض اىل متاخمة مفهوم االسم واملعنى‪ ،‬علينا أن نوضح مفهوم أسامء الله‬
‫ليصح معنا بحث‬ ‫َّ‬ ‫وخصوصا يف أنبيائه ورسله‪ ،‬وحقيقتها الواحدة مهام تع َّددت املظاهر‪،‬‬
‫ً‬ ‫املتع ِّددة‬
‫الاَّلتعنُّيُّ ‪ ،‬فكان‬
‫حا لهذا املفهوم فإن التعنُّيُّ األول باعتبار مقام الذات مقام َّ‬
‫االسم واملعنى‪ .‬وتوضي ً‬
‫املحمدي ( أول ما خلق الله نور نب ِّيك يا جابر) هو اسم الله األعظم‪ ،‬هو الواحد‪ ،‬وهو الحقيقة‬‫ُّ‬ ‫النور‬
‫املحمديَّة وإن تع َّددت الظهورات يف املظاهر‪ .‬ومهام تكرَّثَّ ت فهي واحد يف عني الوحدة ويف‬
‫وكل األعداد من مضاعفاته وال يختلف الواحد يف‬ ‫الحقيقة الغيبيَّة‪ .‬وأما الواحد فهو أصل األعداد‪ُّ ،‬‬
‫كل نوع أو جنس هو عنرص هذا الجنس‬ ‫أي عدد من األعداد عن الواحد األول‪ .‬وكذلك أن عدد ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الرقمي‪ .‬كذلك التع ُّدد يف املظاهر‪ ،‬فال ميكن أن نس ّميها نسخة طبق‬ ‫ِّ‬ ‫وأصله‪ .‬هذا من حيث العدد‬
‫وأي فيض من املظهر تكون إفاضته‬ ‫كل منها عني اآلخر‪ ،‬وهو الواحد األصل‪ُّ ،‬‬ ‫األصل باملطلق‪ ،‬بل ٌّ‬
‫بأي رسمٍ رسمته‪ ،‬أو شكل‬ ‫من األصل‪ ،‬ال بل هو األصل‪ .‬وعليه‪ ،‬يكون الواحد هو الدليل لبَدء الع ِّد ِّ‬
‫رأيته‪ ،‬أو صورة أبديتها‪ ،‬فهو يشري إىل نفسه بنفسه أنَّه الواحد مبا يعطي من داللة ومعنى إىل البداية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬جابر بن ح َّيان – كتاب الحدود – مكتبة نور – ‪ 2014-‬ص ‪.105‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع السابق – ص ‪.110‬‬
‫[[[‪ -‬جابر بن حيان‪ -‬كتاب املاجد – ص ‪.118‬‬

‫‪112‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫وأي واحد أخذته من ك ِّم العدد يعطي معنى الواحد‬


‫والنهاية مفتوحة إىل أن ينقطع العا ُّد للعدد‪ُّ .‬‬
‫األول يف مجموع العدد‪.‬‬
‫ويف السياق إياه نشري إىل ما ذكره الفيلسوف العارف عبد الرزاق الكاشاين يف «لطائف األعالم»‬
‫عن الواحد وهو االسم وعالقته مبعناه‪ ،‬يقول ان مظهر األحديَّة الجمعيَّة‪ :‬هو الحقيقة املحمديَّة‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫اختص نب ُّينا(ص) مبظهريَّتها ألنَّه ال يعلوه‬


‫َّ‬ ‫إاَّل الغيب‪ ،‬فلهذا‬ ‫أل َّن األحديَّة ليس وراها (وراءها) َّ‬
‫كل مظهر منها هو الواحد األصل بحقيقته‪ ،‬بالنور‬ ‫مظهر»‪ .‬وهنا يلزم القول يف املظاهر النبويَّة أ َّن َّ‬
‫الغيبي صاحب التكوين (النور املج َّرد)‪ ،‬وإ َّن تكرُّثُّ ها لحاجة املخلوقني إليها وفق حالة املجتمع‬ ‫ِّ‬
‫ين بأن ال نف ِّرق بني أحد من رسله‪ ،‬وإن كان االسم األول‬ ‫النص القرآ ُّ‬‫ُّ‬ ‫املطلبيَّة‪ ،‬مستن ًدا إىل ما جاء به‬
‫تتغرَّي‪،‬‬
‫فكلُّها من فيض نوره‪ ،‬فإن اختلفت الصفات املظهريَّة فالحقيقة الغيب َّية للمظاهر واحدة ال َّ‬
‫جل وعال بطاعة‬ ‫وخصوصا أ َّن الله سبحانه أمرنا أن نطيعه ورسوله‪ ،‬وقرن طاعته َّ‬ ‫ً‬ ‫فرشع الله واحد‪،‬‬
‫ماَّم يدعونا إىل القول‪:‬‬
‫رسله‪َّ ،‬‬
‫إ َّن الكرثة األسامئ َّية والصفات َّية بظهور الفيض األقدس يف كسوتها التعيين َّية ( مظاهرها) يف‬
‫محدث االسم‪ ،‬تشري إىل أنها كلّها واحديَّة‪ .‬وأنحلها باريها صفات األحديَّة لتبقى األحديَّة ذاك‬
‫ريا إىل قديم االسم‪.‬‬
‫الغيب املنيع مش ً‬
‫يف هذه الحالة التع ُّين َّية‪« :‬إذا ت َّم ظهور عامل األسامء والصفات ووقعت الكرثة األسامئ َّية كم شئت‬
‫بظهور الفيض األقدس يف كسوتها‪ ،‬فُ ِتحت أبواب صور األسامء اإللهيَّة إىل حرضة األعيان الثابتة‬
‫كل‬
‫كل صفة بصورة‪ ،‬واقتىض ُّ‬ ‫فتعنّي ّ‬
‫ّ‬ ‫يف النشأة العلميَّة والَّلوازم األسامئيَّة يف الحرضة الواح َّدية‪،‬‬
‫اسم الز ًما ما حسب مقام ذاته من الُّلطف والقهر والجالل والجامل والبساطة والرتكيب واألول َّية‬
‫[[[‬
‫واآلخريَّة والظاهريَّة والباطن َّية»‪.‬‬
‫هذه اإلشارة الَّلطيفة إىل عامل األسامء والصفات بتكرُّثُّ ظهورها مبظاهرها‪ ،‬أوقعتني بادئ ذي‬
‫فكري إىل أن فُ ِتحت يل أبواب يف أقوال الحقة‪ ،‬وأخذتني بالهجرة إىل الحرضة‬ ‫ٍّ‬ ‫بدء يف إرباك‬
‫املحمديَّة‪ ،‬وهنيئًا ملن يستطيع‪ ،‬فعدت إىل أبواب الصور واألسامء اإلله َّية‪ .‬فالقول بظهور األسامء‬
‫والصفات إمنا هو إشارة إىل ظهورها يف املظهر األت ِّم يف الحقيقة املحمديَّة‪ ،‬فتتك َّون صورة الكامل‬
‫الدال عىل قدميه‪ .‬وذلك بتلميحاته إىل الحرضة الواحديَّة يف‬ ‫ِّ‬ ‫للصفات اإلله َّية يف محدث االسم‬
‫كل‬
‫النشأة العلم َّية صاحبة علم الله الجامع يف عامل الشهادة‪ ،‬فهو الشهيد والشاهد عىل الناس ِّ‬
‫كل مظهر من املظاهر‪ ،‬وينفي التع ُّدد باالختالف‪،‬‬ ‫الناس‪ ،‬فاقتىض أن يكون هو الواحد األول يف ِّ‬
‫املاَّل صدرا( صدر املتألِّهني) بقوله‪« :‬تكرُّثُّ ‪ :‬والتكرُّثُّ يف‬
‫كام أشار إليها صاحب الحكمة املتعالية َّ‬

‫[[[‪ -‬ا ملرجع السابق – ص ‪.43‬‬

‫‪113‬‬
‫المحور‬

‫يتغرَّي‬
‫الواجبي‪ ،‬وال َّ‬
‫ُّ‬ ‫الظهورات والتفاوت يف الشؤونات ال يقدح وحدة الذات‪ ،‬وال ينثلم الكامل‬
‫عاَّم كان عليه‪ ،‬بل اآلن كام كان حيث كان مل يكن معه يشء‪ ،‬ولذا قيل‪:‬‬
‫يل َّ‬‫به الوجود الثابت األز ُّ‬
‫[[[‬
‫وما الوجه إاَّلَّ واحد غري أنَّه إذا أنت عددت املرايا تع َّددا»‪.‬‬
‫إ َّن التعدد باملظاهر هو لحاجة املخلوقني وما ات َّصفت بها من صفات الجالل والجامل‬
‫يبرِّش فيه‬
‫كل رسول جاء بلغة قومه ووفق الحاجة يف املجتمع الذي ِّ‬ ‫والجربوت والرحمة‪ ،‬كام أن َّ‬
‫يتغرَّي بحقيقته‪ .‬كمظهر‬ ‫ويدعو إىل الله مبا يتناسب مع ذاك الزمن الذي ظهر فيه‪ ،‬من دون أن يتب َّدل أو َّ‬
‫املاديَّة يف رشعة موىس (ع)‪ ،‬ومظهر الروحان َّية يف رشعة عيىس(ع)‪ ،‬واملاديَّة والروحان َّية يف رشعة‬
‫جة‪ .‬هذا من حيث املظهر‪ ،‬أ َّما الحقيقة الغيب َّية‬ ‫محمد(ص)‪ ،‬ليك ال يكون للناس عىل الله من ح َّ‬
‫للمظهر الباطنة والظاهرة واألول َّية واآلخريَّة‪ ،‬فهي بفيض النور األقدس فيها وحقيقتها واحدة‪ .‬وبهذا‬
‫فك رموزه‪ ،‬فكان الصمت أبلغ من الكالم يك ال نقع يف التخيُّالت‬ ‫وصلنا إىل رقم صعب يصعب ُّ‬
‫واألوهام‪ .‬ولنعد إىل ذكر أول التعنُّيُّ يف األنام آدم األول وآدم اآلوادم عليه السالم‪ ،‬وسيكون موضوع‬
‫محارضة مستقلَّة ألهمية املوضوع‪.‬‬

‫يف حقيقة اإلسم واملعىن‬


‫رغم بحثي الجا ِّد عن كلمة ( املعنى) منفردة‪ ،‬مل أجد لها أث ًرا يُذكر يف كتب الُّلغة ‪ -‬مختار‬
‫الصحاح – لسان العرب – املنجد – وكذلك يف كتب الفلسفة التي أملكها وليست بقليلة‪ .‬فقط‬
‫وخصوصا يف هامش الكتاب‪ ،‬إذ وضع مرتجمه أحمد الفهري‬ ‫ً‬ ‫رأيت لها ذك ًرا يف «مصباح الهداية»‬
‫حديثًا حول املفهوم نفسه بكلمة املس َّمى‪ .‬وكذلك وجدت لها أث ًرا غري ذي بال ال يقرتب من مفهوم‬
‫املصطلح الذي نحن بصدده عند الجرجاين‪ ،‬حيث رأى إىل املعاين مبا هي الصور الذهن َّية من‬
‫حيث إنَّه وضع بإزائها األلفاظ والصور الحاصلة يف العقل‪ ،‬فمن حيث إنَّها تقصد بالَّلفظ س ِّميت‬
‫ظ وإمنا هو‬ ‫معنى‪ .... .‬واملعنى هو ما يقصد بيشء‪ .‬واملعنوي‪ :‬هو الذي ال يكون للِّسان فيه ح ٌّ‬
‫[[[‬
‫معنى يُعرف بالقلب‪.‬‬
‫وأ َّما املعنى كحالة معرفيَّة من َّزهة عن األشكال والصور فقد قال فيها الشيخ الجليل محمد بن‬
‫عيل الجيل برواية ميمون بن القاسم الطرباين‪ :‬إ َّن املعنى جلَّت قدرته‪ ،‬وعظُمت ِم َّنتُه‪ ،‬وع َّزت‬
‫ورب املثاين‪ ،‬والغاية القصوى‪ ،‬والنهاية‬ ‫ُّ‬ ‫حي دائم‪ .‬معنى املعاين‪،‬‬ ‫مشيئته‪ ،‬أح ٌد فر ٌد صم ٌد ٌ‬
‫أزل ٌّ‬
‫ومعل العلل‪ ،‬و ُمؤزِّل األزل‪ ،‬كان وال مكان وال دهر وال زمان وال حركة وال سكون وال‬ ‫ُّ‬ ‫الكربى‪،‬‬
‫حد بذاته‪ ،‬من َّزه عن صفاته‪ ،‬ال يح ُّده ح ٌّد‪ ،‬وال يبلغه ع ٌّد‪ ،‬كان قبل‬
‫حس وال جوهر وال جنس‪ .‬متو ِّ‬ ‫ّ‬
‫[[[‪ -‬صدر املتألهني –الحكمة املتعالية – ج ‪ – 2‬ص ‪.347‬‬
‫[[[‪ -‬الجرجاين – كتاب التعريفات – فقرات‪.1756 – 1755 – 1753 /‬‬

‫‪114‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫األسامء والحجب وال ُّرسل والكتب‪ ،‬ال يحويه مكان وال يحرصه زمان ‪ ......‬ث َّم شاء بقدرته وحكمته‬
‫وإرادته ومشيئته وم ّنته أن يكون املكان فك َّونه من نور ذاته‪ ،‬وجعله أول مخرتعاته‪ ،‬وموضع صفاته‪،‬‬
‫[[[‬
‫ومحل تجلِّياته‪ ،‬ثم أظهر اسمه وحجابه ليظهر منه وبه آياته‪.‬‬
‫َّ‬
‫يل(ق ّدس) قصد باملعنى الذات اإللهيَّة‪.‬‬
‫وبهذا يكون الج ّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يف مكان آخر‪ ،‬وبالرواية نفسها‪ ،‬قال عن منزلة االسم من املعنى (املس َّمى) أي الذات‪ :‬كمنزلة‬
‫متثياًل بهذه األشياء ال تحقيقًا لها‪.‬‬
‫ً‬ ‫النطق من الناطق‪ ،‬والنظر من الناظر‪ ،‬والحركة من السكون‬
‫أل َّن املعنى تعاىل ال يحول وال يحويه مكان‪ ،‬وال يحرصه زمان‪ ،‬وال له شبيه وال نظري وال عديل‪،‬‬
‫والحجاب هو قدرة هي أكرب قدرة‪.»...‬‬
‫الخصيبي مرفو ًعا إىل اإلمام الصادق(ع)‪ ،‬جاء فيه‪ ( :‬يا‬
‫ِّ‬ ‫يل عن العارف بالله‬ ‫ويف خرب رواه الج ُّ‬
‫للجرسي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫الخصيبي‬
‫ُّ‬ ‫وماَّم قال‬
‫إاَّل بضياء القلوب ونور العقول»‪َّ .‬‬
‫حمران ( بن أعني) أ َّن النور ال يُدرك َّ‬
‫«فمن ف َّرق بني االسم واملعنى فقد كفر بالله‪ .‬منزلة االسم من معناه ال يبلغها أحد وإمَّنَّ ا يصف‬
‫املخلوق مخلوقًا مثله»‪.‬‬
‫وهنا يصري القول عن مفهوم املعنى ب ِّيناً‪ :‬ان كلمة (معنى) تعني املس َّمى للداللة عىل نفي‬
‫يدل عىل حقيقة االسم وقيامه فيه‪،‬‬ ‫الحرص والح ِّد عن مفهومها‪ .‬وهي يف الوقت نفسه مصطلح ُّ‬
‫الفلسفي ولكن نأخذ معنى استنباط الحقيقة‬ ‫َّ‬ ‫ونبسط مفهومها بأن نقول من دون أن نأخذ املعنى‬ ‫ِّ‬
‫يدل عىل املعنى رسم الحروف‬ ‫الحيّس‪ ،‬وهذا يعني املدلول َّية ال غري ذلك‪ ،‬فنقول‪ُّ :‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫من املظهر‬
‫فتدل كلمة الله بحروفها عىل معنى مج َّرد عن الشيئ َّية ال‬ ‫أو االسم‪ ،‬كأن تقول كلمة ( الله سبحانه) ُّ‬
‫حا اسم الله‪ .‬وهو حالة عقل َّية معرف َّية‪.‬‬
‫يوصف رغم أنَّك أطلقت عليه اصطال ً‬
‫حا لكلمة‬ ‫أي لغة تعطيك تعريفًا صحي ً‬‫ال ب َّد من اإلشارة هنا إىل أنَّه من الصعب أن ترى كلمة يف ِّ‬
‫يئ أو محسوس رغم استخدامنا األمثلة املحسوسة‪ ،‬ولقيام‬ ‫معنى سوى أنَّها تشري إىل موجود غري مر ٍّ‬
‫يل رغم أنَّه ُّ‬
‫يدل عىل مفهوم غري محدود بدقَّة التعبري‪ ،‬لك َّنه‬ ‫يف أو الفع ِّ‬
‫االسم تحت ح ِّد الرسم الحر ِّ‬
‫مح َّدد لجهة وغري مح َّدد لجهة أخرى‪ .‬ولتقريب األمر إىل الفهم نقول‪:‬‬
‫الحق‪ ،‬فننسب القدرة إىل القادر‪ ،‬ونضيفها إىل مظهرها ( الصورة)‪ ،‬فإن‬
‫ِّ‬ ‫الفعل منسوب إىل الفاعل‬
‫متعنّي موجود‬
‫ّ‬ ‫دل عىل‬‫الحقيقي‪ .‬واالسم هو ما َّ‬
‫ّ‬ ‫فعلنا نكون قد فهمنا معنى أن ننسب الفعل إىل فاعله‬
‫عقاًل‪ ،‬وداللته صاحبة التمكني يف معرفته‪ ،‬فاالسم بأحرف ال تعني شيئاً إن مل تأخذ يف العقل‬
‫حسا أو ً‬ ‫ًّ‬
‫شكل أو صورة ما‪ .‬فالظاهر طريق عبور للباطن‪ .‬واالسم يدل عىل املس ّمى‪.‬‬‫ً‬ ‫تصورا ً ما عن فعلٍ ما أو‬

‫[[[‪ -‬مخطوط خاص مبكتبة املحارض‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫المحور‬

‫يل حينام تكلَّم عن االسم واتصاله باملعنى (املس َّمى) قال‪ :‬بل نقول إنَّه عامل قاهر‪ ،‬مف َّوض‬ ‫الج ُّ‬
‫إليه العلم‪ ،‬ممنون به عليه‪ ،‬يجري من مواله األزل تعاىل مبنزلة مجرى الشعاع من القرص‪ ،‬وكاللهيب‬
‫من النار‪ ،‬وكالفيء من الشبح من غري متثيل وال تحديد‪ ،‬يُظْهر منه وبه اآليات والدالئل املبهرات‬
‫بغري مشورة وال واسطة وال مؤامرة‪ ،‬وال متَّصل به وال منفصل عنه ألنه متَّصل غري منفصل كاتصال‬
‫الشعاع بالقرص‪ .‬وإمنا معنى قولنا ال موصول وال مفصول أراد أنَّه ال متَّصل به اتصال مامزجة‬
‫ومطابقة وال مجانسة‪ ،‬وال منفصل عنه كانفصال انقطاع ومفارقة‪ ،‬وإمنا منزلة بني منزلتني‪ .‬وحالة بني‬
‫حالتني»‪ .‬يف «مصباح الهداثة» مثة إشارة إىل موضوع االسم واملس َّمى واملعنى بطريقة لطيفة يزيل‬
‫أي التباس بني املظاهر والحقائق بصورة ما‪ ،‬وأوضح االنتساب بينهام وما هو صادر عن االسم‬ ‫فيها َّ‬
‫فهو بحقيقته عائ ٌد إىل املس َّمى‪ .‬عىل أن تكون النسبة نسبة الظاهر مع الباطن مع نفي التعنُّيُّ للذَّات‬
‫وجل إىل حجابه بأسامئه‬ ‫بحقيقة الذّات الخارجة عن ح ِّد األسامء والصفات التي أنحلها الباري ع َّز َّ‬
‫وصفاته‪ .‬فالعبادة ملا أشار إليه االسم ال ملظهر االسم‪ ،‬وذلك ما يظهر القول التايل للمحقق‪:‬‬
‫االسمي‬
‫ِّ‬ ‫«وبالجملة‪ ،‬إن أراد بقوله أ َّن اليشء يفعل بتعيُّنه إنَّه ال يفعل ذاته بذاته بال التعنُّيُّ‬
‫املتعنّي‬
‫ّ‬ ‫حق كام عرفت تحقيقه لك َّنه ال يوجب نفي االنتساب إىل‬ ‫والصفايتِّ أو كسوة األعيان فهو ٌّ‬
‫التعنُّي‪ ،‬وإن أراد أن التعنُّيُّ فاعل فال وجه صحيح له‪ ،‬وإن‬ ‫ُّ‬ ‫املتعنّي حقيقة ال‬
‫ّ‬ ‫بل الفعل منسوب إىل‬
‫طي األنوار اإلله َّية أ َّن الذَّات يف كسوة التعينات‬
‫للمتعنّي فمع كونه خالف التحقيق يف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫أراد أنَّه آلة‬
‫األسامئية تتجىل عىل األعيان الثابتة[[[ ويف كسوتها عىل األعيان الخارجيَّة‪.‬‬
‫التجيّل ذات ًّيا ال رشيك له تعاىل يف الهيئة‪ ،‬وهذا أحد‬
‫ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬لعدم الحجاب وصفاء املرآة‪ ،‬كانت‬
‫معاين الحديث منقول مبعناه‪ ،‬واللفظ ليس كذلك‪ .‬الوارد عن أهل بيت العصمة سالم الله عليهم‬
‫الحقيقي بإيقاع االسم عىل املس َّمى وإاّلّ فعبادة االسم كفر‪ ،‬وعبادة االسم واملس َّمى‬
‫َّ‬ ‫أ َّن التوحيد‬
‫رِشك‪ ،‬صدق ويل الله»[[[‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عن أيب عبد الله (ع) قال‪ :‬من عبد الله بالتو ُّهم فقد كفر‪ ،‬ومن عبد االسم ومل يعبد املعنى فقد‬
‫كفر‪ ،‬ومن عبد االسم واملعنى فقد أرشك‪ ،‬ومن عبد املعنى بإيقاع األسامء عليه بصفاته التي وصف‬
‫بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه يف رسائره وعالنيته‪ ،‬فأولئك أصحاب أمري املؤمنني عليه‬
‫[[[‬
‫السالم‪ .‬ويف حديث آخر (هم املؤمنون حقًّا)‪.‬‬

‫[[[‪ -‬األعيان‪ :‬ما له قيام بذاته‪ ،‬ومعنى قيامه بذاته أن يتح َّيز بنفسه غري تابع تح ُّيزه لتح ُّيز يشء آخر‪ ،‬بخالف العرض فإنَّ تح ُّيزه تابع لتح ُّيز‬
‫الجوهر الذي هو موضوعه‪ ،‬أي محلّه الذي يقوم فيه‪.‬‬
‫الحق‬
‫الحق تعاىل‪ ،‬وهي صور حقائق األسامء اإلله َّية يف الحرضة العلم َّية ال تأخُّر لها عن ِّ‬ ‫[[[‪ -‬األعيان الثابتة‪ :‬هي حقائق املمكنات يف علم ِّ‬
‫إاَّل بال َّذات ال بالزمن‪ ،‬فهي أزل َّية وأبد َّية‪ ،‬واملعنى‪ :‬بإضافة التأخُّر بحسب ال َّذات ال غري‪ ( .‬كتاب التعريفات – الجرجاين)‪.‬‬
‫َّ‬
‫[[[‪ -‬الخميني – مصباح الهداية – ص ‪.101‬‬

‫‪116‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫الزاهري فقال‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫وي الحديث بطريق آخر عن محمد بن سنان‬
‫ُر َ‬
‫الكرخي عن إسامعيل بن عيل عن محمد بن صدقة عن محمد بن سنان الزاهري‬ ‫ِّ‬ ‫باإلسناد عن‬
‫الجعفي قال‪( :‬اإلمام جعفر الصادق (ع)‪« :‬من عرف املعنى من جهة االسم‬ ‫ِّ‬ ‫عن املفضل بن عمر‬
‫ماَّم علم‪ .‬ومن عبد االسم وجهل املعنى فقد كفر‪ .‬ومن عبد املعنى وجهل االسم‬ ‫فقد جهل أكرث َّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ضل‪ .‬ومن عبد املعنى واالسم فقد أرشك‪ .‬ومن قال إنَّه ال يُ َرى فقد أحاله عىل عدم‪ .‬ومن قال‬ ‫فقد ّ‬
‫إنَّه يدركه فقد ش َّبهه بخلقه‪ .‬ومن قال إنَّه يف خلقه فقد أحوجه( ويف نسخة أخرى‪ -‬أخرجه‪ )-‬إىل‬
‫مكان دون مكان‪ .‬ومن قال إنَّه خارج عنهم فقد نفى وجوده‪ .‬ومن عرفه بدالئله وإشاراته من حيث‬
‫أظهر ظهوراته وعالماته وآمن مبا شاهد من معجزاته فأولئك أصحاب أمري املؤمنني ح ّقاً الذين إذا‬
‫ُد ُعوا أجابوا ولبوا»[[[‪.‬‬
‫وعن ابن سنان (محمد بن سنان الزاهري) قال‪ :‬سألت اإلمام الرضا (ع) عن االسم ما هو؟‬
‫قال‪ :‬صفة املوصوف‪.‬‬
‫وعن هشام بن الحكم قال‪ :‬سألت أبا عبد الله (ع) عن أسامء الله واشتقاقها؟‬
‫مشتق من إله‪ ،‬وإله يقتيض مألو ًها‪ ،‬واالسم غري املس َّمى‪ ،‬فمن عبد االسم دون‬
‫ٌّ‬ ‫قال‪ :‬يا هشام الله‬
‫املعنى فقد كفر ومل يعبد شيئًا‪ .‬ومن عبد االسم واملعنى فقد أرشك وعبد إلهني اثنني‪ .‬ومن عبد‬
‫املعنى دون (بداللة) االسم فذلك التوحيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬زدين يا موالي‪.‬‬
‫كل اسم منها إل ًها‪ .‬ولكن الله‬
‫اساًم فلو كان االسم هو املس َّمى لكان ُّ‬
‫قال‪ :‬لله تسعة وتسعون ً‬
‫[[[‬
‫معنى ُّ‬
‫تدل عليه هذه األسامء‪.‬‬
‫التوحيدي‪« :‬وإيَّاك أن تعطي االسم ذات املعنى فتتعب‪ ،‬وإيَّاك أن تعطي املعنى‬
‫ُّ‬ ‫وقال أبو ح َّيان‬
‫رسم االسم فتكذب‪ ،‬وإيَّاك أن تف ّرق بينمها فتُتَّهم‪ ،‬وإيَّاك أن تجمع بينهام فتوهم»[[[‪.‬‬
‫قد يحصل التباس يف فهم املقصود من كلمة االسم واملعنى يف هذا الحديث عن اإلمام برواية‬
‫التوحيدي‪ ،‬فلتوضيحه أقول‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫أيب حيَّان‬
‫النبي أو‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫الدال عليه من حيث اآلية أو‬ ‫االسم كام أرشنا إليه سابقًا أ َّن اسم الله هو الدليل إليه أو‬
‫ال َّرسول أو اإلمام (ع)‪ .‬ولكن هنا‪ ،‬ويف هذا الحديث وما قبله أ َّن ( لفظة اسم ) تشري إىل من جرت‬

‫[[[‪ -‬هامش مصباح الهداية‪ -‬ص ‪ 110-‬طبعة األعلمي‪.‬‬


‫خاص لدى الكاتب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬محمد بن نصري – مخطوط‬
‫[[[‪ -‬الشيخ عيل الدرسونية‪ -‬كتاب االحتباك – مخطوط خاص لدى الكاتب‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫المحور‬

‫يك‬‫َاب َأنَا آتِ َ‬ ‫عىل يده القدرة الباهرة‪ .‬مثال توضيحي‪ :‬يف قوله تعاىل‪َ  :‬ق َال ا َّل ِذي ِعنْدَ ُه ِع ْل ٌم ِم ْن ا ْلكِت ِ‬
‫ك َف َل َّاَّم َرآ ُه ُم ْست َِق ّر ًا ِعنْدَ ُه َق َال َه َذا ِم ْن َف ْض ِل َر ِّيِّب لِ َي ْب ُل َو ِيِن َأ َأ ْشك ُُر َأ ْم َأ ْك ُف ُر َو َم ْن‬
‫ك َط ْر ُف َ‬ ‫بِ ِه َق ْب َل َأ ْن َي ْرتَدَّ إِ َل ْي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يم‪ .[[[‬وهذا القول منسوب إىل اسم ظاهر معروف‬ ‫َشك ََر َفإِن ََّاَم َي ْشك ُُر لنَ ْفسه َو َم ْن َك َف َر َفإِ َّن َر ِّيِّب غَن ٌّي ك َِر ٌ‬
‫يف جسم أعجز من يأيت مبثل هذه املعجزة‪ ،‬وكام ورد يف التفاسري أ َّن القائل هو آصف بن برخيا‪،‬‬
‫رِض عرش بلقيس ومل تنسب املعجزة إليه ( أي إىل آصف) بل إىل القدرة‬ ‫ح ِ‬ ‫وجرت املعجزة‪ ،‬وأُ ْ‬
‫فعاًل جرت بكن اإلله َّية‪ .‬بقول سليامن (ع)‪:‬‬ ‫اإلله َّية التي تجلَّت نطقًا عىل لسان آصف‪ ،‬ومن ثم ً‬
‫بتوسط االسم‬ ‫(هذا من فضل ريب) أي أ َّن سليامن(ع) نسب القدرة إىل مصدرها أال وهو الله القادر ُّ‬
‫املتجىَّل به أي االسم الذي جرت القدرة عىل يده‪.‬‬ ‫َّ‬
‫اإللهي باعتباره صاحب املعجزة فلقد كفر بالله‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التجيّل‬
‫ّ‬ ‫فمن عبد آصف بن برخيا وهو مظهر‬
‫ومن عبد املظهر آصف باعتباره رشيكاً لله بالقدرة فلقد أرشك مع الله صورة تجلّيه بآصف‪ ،‬ومن‬
‫عبد الله سبحانه صاحب القدرة بداللة املعجزة التي جرت من صورة آصف‪ ،‬أي من نسب القدرة‬
‫والحس‪ ،‬ومن ث َّم أضافها إىل الصورة التي‬
‫ِّ‬ ‫يئ وغري املحسوس بحدود الرؤيا‬ ‫إىل القادر غري املر ِّ‬
‫جرت القدرة عىل يدها‪ ،‬فهو عابد لله تعاىل وحده بدليل آصف وليس بآصف‪ ،‬أل َّن صورة آصف‬
‫محدودة‪ ،‬والصورة صفة من الصفات‪ ،‬فمن عبد صفة من الصفات جهل أصلها ومنبعها‪ ،‬فالعبادة‬
‫حد‪.‬‬
‫ملصدر الصفة وليس للصفَّة فهم املو ّ‬
‫يل للكلمة أو اإلشارة أو املعجزة‪ ،‬وما هو غري محدود‬
‫(املعنى ) إذًا‪ ،‬مصطلح يعني املفهوم العق َّ‬
‫وكل كلمة ُّ‬
‫تدل عىل معنى من تجمع‬ ‫وال مح َّدد وال رسم وال شكل له‪ ،‬هكذا هي املعاين بشكل عا ٍّم‪ُّ ،‬‬
‫بالحواس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حروفها برسمها املتَّفق عليه‪ ،‬وهو أشبه بالحركة العقليَّة التي تقودك إىل معنى مدرك‬
‫التوحيدي فنوضح معانيه‪ ،‬ولنقرأ الحديث وفق املفهوم السابق‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫لنعد إىل حديث أيب حيان‬
‫(وإيَّاك أن تعطي االسم ذات املعنى)‪ :‬ننطلق لفهم هذا العبارة من دليل ال يختلف عليه اثنان‬
‫فنقول‪ :‬إ َّن أحرف لفظة الجاللة وهي كلمة مشكَّلة من عدد من األحرف‪ ،‬ميكن أن تشكَّل منها كلمة‬
‫شكاًل مح َّد ًدا معروفًا عند الجميع‪ ،‬وهي (الله)‪ ،‬فليست حروف الكلمة ال مجتمعة‬ ‫ً‬ ‫أخرى أخذت‬
‫وال متف ِّرقة هي ذات الله‪ ،‬فكلمة الله بإمكانك أن ترى حروفها وتلفظها عىل لسانك وتلمسها بيدك‪،‬‬
‫وبأي خط رسمتها‪ ،‬وذات الله ال ميكن التفكري فيها‬ ‫ِّ‬ ‫بأي لغة كتبتها‪،‬‬
‫وهي محدودة الشكل والرسم ِّ‬
‫وال البحث عنها من حيث كنهها وال االدعاء بظهورها‪ ،‬وال أنَّها خف َّية مخف َّية‪ ،‬فالذات أظهر ما يف‬
‫دل عىل أو إىل‬‫كل يشء‪ ،‬فعني بطونها عني ظهورها‪ ،‬وإمَّنَّ ا اسم َّ‬ ‫حاسة‪ ،‬ويف ِّ‬
‫كل َّ‬ ‫الوجود وباطنة عن ِّ‬
‫معنى‪ ،‬واملعنى متعلِّق بثقافة من تلفَّظ بالكلمة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.40‬‬

‫‪118‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫حا لهذه الفكرة نقول‪:‬‬


‫توضي ً‬
‫وكل يشء قائم بالله‪ ،‬ولو‬ ‫كل يشء‪ُّ ،‬‬ ‫كل ما يف الكون قائم بعلم الله وقدرته‪ ،‬وهو القائم عىل ِّ‬ ‫ُّ‬
‫كل‬
‫كل يشء ويف ِّ‬ ‫صح ألن يكون يشء قامئًا بغري الله لكان يف الكون إلهان وقادران‪ ،‬فإن كان مع ِّ‬ ‫َّ‬
‫جا منه ليس كدخول اليشء باليشء‪ ،‬فال ميكن أن يكون‬ ‫داخاًل به‪ ،‬خار ً‬
‫ً‬ ‫يشء من دون حدود اليشء‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أي يشء وحتى رسم اسمه أو مظهر تجلّيه‪ ،‬فمن‬ ‫منظو ًرا‪ ،‬وال معلو ًما باإلحاطة‪ ،‬وال محدو ًدا يف ِّ‬
‫تتجىَّل بصورة املعجزة ميكن أن يرى غريها‪ ،‬فالقدرة غري منظورة بالعني وإمَّنَّ ا نقرأ‬
‫َّ‬ ‫رأى القدرة حينام‬
‫أثرها عىل املا َّدة لعجز الصورة من فعلها‪ ،‬فنق ُّر بالقدرة فكيف بالقادر‪.‬‬
‫فإن قلت إ َّن االسم ذات اليشء تعبت لتصل إىل حقيقة املس َّمى‪ ،‬فاسم اليشء ليس حقيقته‪.‬‬
‫(وإيَّاك أن تعطي املعنى رسم االسم فتكذب)‪ :‬هذه العبارة مك ِّملة للعبارة السابقة‪ ،‬ولكن ميكننا‬
‫أخذها يف معنى أكرث عالقة بعلوم العرفان‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أسامء الله هي الدالَّة عليه‪ ،‬وهنا أخرجنا كلمة (الله باعتبار الذات) من حساب البحث‪ ،‬وتح َّولنا‬
‫إىل األنبياء والرسل باعتبارهم الدليل عىل الله‪ ،‬وهم أسامؤه وحجبه‪ ،‬فإن قلت إ َّن محمد أو عيىس‬
‫البرشي هم الله باعتبار الذات فتكذب ألنَّهم أداَّلَّ ء عىل الله‬
‫ِّ‬ ‫نبي بظهوره‬
‫أي ٍّ‬
‫أو موىس (ع) أو َّ‬
‫أداَّلء عىل الله بإظهارهم صفاته من عامل الكمون يف النور املج َّرد إىل عامل الفعل‬ ‫وليسوا هم الله‪َّ ،‬‬
‫اإللهي‪ ،‬كام أ َّن اللسان الناطق بالحروف ليس هو‬
‫ِّ‬ ‫بالق َّوة باملوجود‪ ،‬كالقدرة وغريها من تبليغ األمر‬
‫رصف املستهلك بول ِّيه ومواله فأخرج‬ ‫الحروف‪ ،‬وال الكلامت‪ ،‬وال العقل الذي ترصف باللسان ت ُّ‬
‫النطق عنه إىل غريه‪.‬‬
‫(وإيَّاك أن تف ِّرق بينهام ف ُت َّتهم )‪ :‬هذه العبارة أيضً ا مت ِّممة للعبارة السابقة‪ ،‬فمن ف َّرق بني الله‬
‫ورسوله ات ُّهم بأنَّه ال يفهم معنى ال ِّرسالة وال ال َّرسول وال املرسل‪ ،‬وكذلك ميكننا العبور مبعناها‬
‫تدل عىل معنى هذه الحروف فتُتَّهم‬ ‫إىل رسم الحروف للكلمة‪ ،‬فإن قلت إ َّن رسم هذه الحروف ال ُّ‬
‫اساًم لهذا اليشء‪،‬‬
‫معنَّي فهو ليس ً‬
‫تدل عىل معنى يشري إىل نبات َّ‬ ‫بالخبل‪ ،‬فكلمة شجرة إن مل ّ‬
‫اساًم ليشء‪.‬‬
‫ولنبحث عن اسم آخر‪ ،‬فإن بقيت عىل هذه الحال فلن تجد ً‬
‫(وإياك أن تجمع بينهام فتوهم)‪ :‬وإن قلت االسم عني املس َّمى‪ ،‬وهذه العبارة مختلفة عن العبارة‬
‫األوىل بالداللة‪.‬‬
‫فاألوىل أشارت إىل الذات‪ ،‬وتكون قد أوقعت الذات تحت ح ِّد االسم والشكل‪ ،‬ولقد أعطت‬
‫العبارة معنى آخر وهو إن اعتربت االسم واملعنى شيئًا واح ًدا فأوقعت نفسك يف وهم األفكار‪،‬‬
‫فالناطق غري املنطوق‪ ،‬ومل نف ِّرق بني ما هو محسوس وما هو غري محسوس تو َّهمت بأ َّن الجسم‬

‫‪119‬‬
‫المحور‬

‫الذي أخرج القدرة هو عني القدرة فتجمع بني جسم وصورة آصف بن برخيا(ع) والقدرة التي‬
‫أي جهة من الجهات‪ ،‬فالجسم العاجز ال يستطيع أن‬ ‫أحرضت عرش بلقيس‪ ،‬وهذا غري صحيح من ِّ‬
‫ّ‬
‫بتجيّل القدرة اإلله َّية فيه ومنه وعليه‪ ،‬والقدرة بحدِّ ذاتها غري محسوسة وال ملموسة‬ ‫يأيت مبعجزة َّ‬
‫إاَّل‬
‫وغري مع َّينة حتى قدرة اإلنسان بحدِّ ذاته فكيف بقدرة الخالق‪ ،‬وكذلك ال تجمع بني القدرة والقادر‪،‬‬
‫مثااًل تقريبيًّا ال يختلف عىل فهمه عاقالن (عصا موىس(ع)‬ ‫فالقدرة فعل ظهر (أو بدا) ونعطي ً‬
‫خرجت القدرة عليها وليس منها‪ ،‬فهي ليست صاحبة القدرة وإمنا القدرة جرت عليها لتنقل صورة‬
‫الفعل)‪ ،‬فكانت من صورة تشري إىل القادر وليست هي القادر‪ ،‬أل َّن الله قدرة كلّه علم كلّه وعني‬
‫كل يشء‪ ،‬واألشياء قامئة بقدرة‬ ‫علمه عني قدرته‪ ،‬ولو كانت القدرة هي القادر فالقدرة موجودة يف ِّ‬
‫الخالق‪ ،‬وليست األشياء هي الخالق‪ .‬ولو كان غري ذلك لكان بتع ُّدد القدرات يف األشياء تع ُّدد الله‪،‬‬
‫حدين‪.‬‬
‫وهذا ُمحال ومخالف للعقل ولقانون املو ِّ‬
‫ال ب َّد من القول هنا أ َّن الروايات السابقة تشكِّل األساس الذي تُبنى عليه الجهة اإلميان َّية ومعرفة‬
‫عالقة االسم باملعنى‪ ،‬ومن ضمن هذه املعرفة معرفة املظهر حامل األسامء والصفات يف مبدعه‪.‬‬
‫ين املكزون السنجاري بقوله‪:‬‬
‫ولقد عقَّب عىل هذا الحديث األول الشيخ والشاعر العرفا ُّ‬
‫« شجرة أصلها األزل وفرعها األبد ومثرها الرسمد»‪.‬‬
‫فالعبادة لألصل الذي هو الشجرة‪ ،‬والفرع والثامر وجودها وجود تعلَّق فقط وال وجود لها‬
‫مستقل له‪ ،‬وال قيمة له إن مل يرش إىل معناه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بذاتها‪ ،‬وكذلك االسم ال وجود‬
‫كام رشحها الشيخ العارف أحمد محمد حيدر بقوله‪:‬‬
‫عيني‪ ،‬وإطالق االسم يف‬ ‫ٍّ‬ ‫يدل عليه من لفظ أو مفهوم أو جوهر‬ ‫« إ َّن أسامء الله عبارة عام ُّ‬
‫األخبار عىل الذوات العين َّية كثري‪ ،‬والفرق بني االسم والصفة إذا اعترب يف االسم معنى من املعاين‬
‫املشتق ومبدأ االشتقاق كالعلم والعامل‪ .‬فالعلم ال يدخل تحت رشط ألنَّه مج َّرد قائم‬
‫ِّ‬ ‫كالفرق بني‬
‫بذاته يض ُّم الرشوط كلَّها بخالف العامل‪ ،‬ولذلك ال يصدق عىل الذَّات املوصوفة به‪ .‬فال يُقال زيد‬
‫كل رشط‪ ،‬ولذلك يصدق عىل الذات املوصوفة به‪ .‬فيقال‪ :‬زيد عامل‪،‬‬ ‫علم‪ .‬والعامل يدخل تحت ِّ‬
‫املشتق ألنَّه إذًا عرض علم مج َّرد قائم بذاته يصدق عليه العامل‪ .‬وذات‬
‫ِّ‬ ‫وليست الذات معتربة يف‬
‫الباري علم قائم بذاته كام أنَّه عامل‪.‬‬
‫اعتباران لالسم‪:‬‬
‫حري القول أ َّن لالسم اعتبارين‪:‬‬
‫ٌّ‬
‫األ َّول‪ :‬كونه ً‬
‫اساًم ومرآة للمس َّمى‪ ،‬وبهذا االعتبار ال يكون له وجود مغاير للمس ِّمى‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫الثاين‪ :‬كونه رقيقة من املس َّمى ونفسيَّة له‪ .‬فقولك زيد ال يكون الحكم فيه إاَّلَّ عىل املس َّمى‪َّ .‬‬
‫إاَّل‬
‫إذا اعتربنا ألفاظه مثل الكلمة واملركَّب األحرف وغري ذلك‪ .‬فبهذا االعتبار ال يكون االسم مظه ًرا‬
‫دااًّل عليه‪.‬‬
‫وال ًّ‬
‫وإىل هذين االعتبارين أشار سبحانه وتعاىل بقوله(إن هي َّ‬
‫إاَّل أسامء)‪ ،‬يعني أ َّن األسامء برقَّتها‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ومستقاَّلت‬
‫َّ‬ ‫دال عىل يشء فهو اسم له ليست مس َّميات ومنظور إليها‬ ‫الدالَّة عىل الله‪ .‬وكل يشء ٍّ‬
‫مغايرات لله (س َّميتموها أنتم)‪ ،‬يعني أنكم رصتم محجوبني عن املس َّمى ناظرين إىل األسامء‪.‬‬
‫والناس يف هذا النظر إىل األسامء خمس ُة أقسام‪:‬‬
‫غافاًل عن وجودها وعن النظر إليها‪ ،‬أو شاع ًرا بالنظر‬
‫ً‬ ‫(‪ - )1‬ناظ ٌر إليها من حيث أنها أسامء الله‪،‬‬
‫ح ًدا‪.‬‬
‫إليها وهو الذي يعبد املس ّمى بإيقاع األسامء عليه ويكون مو ِّ‬
‫غافاًل عن املس ّمى‪ .‬وهو الذي يعبد االسم من دون‬
‫ً‬ ‫(‪ - )2‬وناظ ٌر إليها من حيث إنَّها مس َّميات‪،‬‬
‫املس َّمى ويكون كاف ًرا‪.‬‬
‫مستقاَّلت وإىل االسم مستقاًّلًّ عنها‪ ،‬وهو الذي يعبد االسم واملس َّمى‬
‫َّ‬ ‫(‪ - )3‬وناظ ٌر ينظر إليها‬
‫ويكون مرشكًا‪.‬‬
‫غافاًل عن نظره إليها وهو املجذوب الذي رفع عنه‬
‫ً‬ ‫(‪ - )4‬وناظ ٌر ينظر إليها من حيث إنَّها أسامء‪،‬‬
‫القلم وال حكم له يف الكرثات‪.‬‬
‫(‪ - )5‬وناظ ٌر إليها من حيث إنَّها أسامء**‪ ،‬شاع ًرا بنظره هو الكامل الجامع بني الطرفني‪.‬‬
‫والنظرات الثالث األخريات‪ ،‬األوىل منها هي الواقع يف النشأة املوسويَّة (وهي ما ّديَّة بحتة)‪،‬‬
‫والثانية هي الواقع بالنشأة العيسويَّة (وهي روحانيَّة بحتة)‪ ،‬والثالثة هي الواقع يف النشأة املحمديَّة‬
‫( وهي ما ّديَّة روحان َّية) وهي نظرة الكامل‪ .‬وإىل ذلك يشري بقوله سبحانه (محمد رسول الله والذين‬
‫معه)‪ ،‬واعترب ما ذكر من تقسيم االسم بحيث الكافر واملرشك واملجذوب والكامل‪ .‬ونشآت الكامل‬
‫الثالث باملرآة فقد تنظر إىل املرآة وهيئتها من غري صورة فيها‪ ،‬وقد تنظر إليها من حيث رؤية الصور‬
‫فقط من غري شعور بها وبشكلها‪ ،‬وقد تنظر إليها من استكاملها وصفاتها وإىل الصورة فيها‪ ،‬وقد‬
‫تنظر إىل عكس الصور فيها فقط شاع ًرا بنظرك‪ .‬وما ورد يف جواب هل الخلق يف الله أم الله يف‬
‫وكل ما ذُكر يف تقسيم األسامء عىل‬ ‫الخلق من قوله هل أنت يف املرآة أو املرآة فيك‪ ،‬يشري إىل هذا‪ُّ ،‬‬
‫[[[‬
‫عاَّم ذُكر يف الفئات الثالث»‪.‬‬
‫رتب السالك ال يخرج َّ‬
‫حد عن مقام التكثري‬
‫الخميني (ق ِّدس) حول غفلة املجذوب أو املو ِّ‬
‫ُّ‬ ‫وهذا ما أشار إليه اإلمام‬

‫[[[‪ -‬أبو حيان التوحيدي‪ -‬اإلشارات اإللهية‪ -‬عبد الرحمن بدوي‪ -‬ص ‪.140‬‬

‫‪121‬‬
‫المحور‬

‫وحكم الكرثة‪ ،‬فحجب عن الوصول إىل كامل التوحيد‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫إاَّل أ َّن عليه حكم الوحدة‬
‫«وبالجملة أ َّن مغزى مرامهم‪ ،‬وإن كان أم ًرا واح ًدا ومقص ًدا واح ًدا َّ‬
‫وسلطانها عىل قلب العارف بحجبه عن الكرثة‪ ،‬فاستغرق يف التوحيد‪ ،‬وغفل عن العاملني ومقامات‬
‫التكثري‪ ،‬وحكم الكرثة عىل الحكيم مينعه عن إظهار الحقيقة‪ ،‬ويحجبه عن الوصول إىل كامل‬
‫[[[‬
‫التوحيد وحقيقة التجريد»‪.‬‬
‫َرّص عن فهم حقيقة التوحيد‪ ،‬ومثله صاحب‬ ‫الرِّشك والكفر املُق ّ‬
‫الخميني (ق ِّدس) عن ِّ‬
‫ُّ‬ ‫أخرج اإلمام‬
‫النظرة األحاديَّة الجانب واملنبهر بوحدان َّية الخالق املته ِّيب من ذكرها وموقع صفاتها وحقيقة انبثاق‬
‫مشيئتها يف الكائنات‪ .‬وهذا مسار الناظر بعني الحقيقة املتلطِّف بأصحاب األفهام املتوقِّفة عند‬
‫حدود ال ُّرعب والخوف‪ ،‬ولهم العذر[[[‪.‬‬
‫إاَّل بالله‪ ،‬وحدود املعرفة بالله هي حدود معرفة مواقع الصفات‪ ،‬باعتبار أ َّن الصفات‬ ‫ال يُعرف الله َّ‬
‫عني الذات باعتبار املصدر‪ ،‬وغري الذات باعتبار املظهر‪( ،‬علم كلّه – قدرة كلّه – عني علمه – عني‬
‫قدرته)‪ .‬واالسم يشري إىل معنى يعطيه لفظه يف عقل املعتقد‪ ،‬فإن كان له رسم وشكل فليس للمعنى‬
‫رسم أو شكل مهام بالغت يف التص ُّور‪ .‬وغاية العابد واملتش ِّوق للمعرفة هي مواقع الصفة‪ .‬إذ إ َّن‬
‫جه إىل الصفات يكون من مواقعها مبواقعها‪.‬‬ ‫إاَّل متجلِّية مبظاهر إله َّية‪ ،‬فالتو ُّ‬
‫الصفات اإلله َّية ال تكون َّ‬
‫وقد قال اإلمام الصادق عليه السالم‪« :‬من عرف مواقع الصفة بلغ قرار املعرفة»‪ ،‬فإ ْن ربطنا هذا‬
‫الحديث بحالته املعرفيَّة يف ما سبق من أحاديث نجد أ َّن الغاية من املعرفة وح ِّدها وحدودها‪ ،‬أي‬
‫نهاية طلب الطالب‪ ،‬هي مواقع الصفات القامئة يف التجلِّيات‪ .‬فالله ال يُعرف َّ‬
‫إاَّل بذاته‪ ،‬وذاته ال تُعرف‬
‫ً‬
‫مجهواًل‪ ،‬وأحلناه إىل‬ ‫إاَّل بتجلِّياته‪ .‬فاالسم رسم ملعنى‪ .‬واملعنى غيب ال يُدرك فإن بقي غي ًبا أضحى‬ ‫َّ‬
‫عدم‪ .‬وارتسامه يف ُمخ ّيلة العابد العارف ليس ارتسام أشكال بل ارتسام معرفة الصفات يف التجلِّيات مع‬
‫إطالق الصفات‪« .‬فمن كانت تلك القدرة قدرته فليست تلك الصورة صورته»[[[‪.‬‬
‫لكل اسم حدو ًدا‪ُ ،‬م ْرت َسمه يف مظهره‪ .‬ومن‬
‫فمن عبد االسم وكان غايته فلقد عبد محدو ًدا أل َّن ِّ‬
‫عبد االسم واملعنى جعل عبادته الثنني منفصلني من حيث األول محدود‪ ،‬والثاين غيب ال يدرك‪،‬‬
‫مناف لوحدانيَّة الخالق‪ .‬ومن عبد املعنى بإيقاع األسامء والصفات عليه ليعرف كانت عبادة‬ ‫ٍ‬ ‫وهذا‬
‫الحس َّيات معابر للعقل َّيات فافهم تغتنم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العارف الذي دخل من باب املظاهر إىل الحقائق وجعل‬
‫كل وقت وحني والصالة والسالم‪ ،‬وأت ُّم التسليم عىل املبعوث رحمة للعاملني‪،‬‬ ‫والحمد لله يف ِّ‬
‫وعىل آله الطاهرين‪.‬‬
‫[[[‪ -‬الشيخ أحمد حيدر‪ -‬التكوين والتجيِّلِّ ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬الخميني – مصباح الهداية – ص ‪.61‬‬
‫[[[‪ -‬عيل بن محمد الرشيف الجرجاين‪ -‬كتاب التعريفات‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ -‬ط ‪.1983 1-‬‬

‫‪122‬‬
‫معنى اإلسم واسم الجاللة‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪2.‬صدر املتألهني –الحكمة املتعالية – ج ‪.2‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪3.‬أبو حيان التوحيدي‪ -‬اإلشارات اإللهية‪ -‬عبد الرحمن بدوي‪.‬‬


‫‪4.‬السيد روح الله الخميني – مصباح الهداية اىل الخالفة والوالية– مؤسسة األعلمي‬
‫للمطبوعات‪.‬‬
‫‪5.‬الشيخ أحمد حيدر‪ -‬التكوين والتجيِّلِّ ‪ -‬دار الشامل‪ -‬ط‪.1900 1-‬‬
‫‪6.‬الشيخ عيل الدرسونية‪ -‬كتاب االحتباك – مخطوط خاص لدى الكاتب‪.‬‬
‫‪ 7.‬جابر بن ح َّيان – كتاب الحدود – مكتبة نور – ‪.2014‬‬
‫‪8.‬عيل بن محمد الرشيف الجرجاين‪ -‬كتاب التعريفات‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ -‬ط ‪1-‬‬
‫‪.1983‬‬
‫خاص لدى الكاتب‪ .‬طب ‪ 2-‬نيسان ‪.2006‬‬
‫ّ‬ ‫‪9.‬محمد بن نصري – مخطوط‬

‫‪123‬‬
‫ّ‬
‫الكلي بما يثيره‬ ‫إشكاليات المعنى‬
‫إسميّ ة العصر الوسيط بين أفالطون وأرسطو‬

‫عيل‬
‫حمادة أحمد ي‬
‫ف‬
‫أستاذ الفلسفة ي� جامعة جنوب الوادي ‪ ،‬مرص‬

‫ّ‬
‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫فشل فرفريوس‪ ،‬من بعد أرسطو‪ ،‬يف تقديم املعاين الكلّيَّة‪ ،‬وصياغة عملها‬
‫واملنطقي‪ ،‬كام فشل يف معالجة أخطاء امليتافيزيقا األرسط َّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬
‫وكانت تعاليمه تطوي ًرا لألفالطون َّية‪ ،‬وأفكاره مدعاة ألن يتح َّول مفهوم املعنى‬
‫الكيّل من نظريَّة إىل إشكال َّية ميكن صياغتها كام وردت ىف القرنني التاسع‬ ‫ّ ِّ‬
‫والعارش امليالديَّني‪.‬‬
‫الكيّل عند أوكام عىل محاور أربعة‪:‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫وميكن مناقشة إشكال َّية املعنى‬
‫الكيّل‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫املحور األ َّول‪ :‬ماه َّية املعنى‬
‫املعنوي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلسمي أو‬
‫ِّ‬ ‫املحور الثاين‪ :‬صياغة مفهوم املعنى ّ ِّ‬
‫الكيّل باالت ِّجاه‬
‫الكيّل عند وليام األوكامي مبا هو‬
‫ّ ِّ‬ ‫املحور الثالث‪ :‬مناقشة مفهوم املعنى‬
‫يف ‪ -‬ينقسم إىل قسمني‪ :‬األول يتض َّمن أنواع العلم‪،‬‬ ‫أبستمولوجي ‪ -‬معر ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫محو ٌر‬
‫الكيّل‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫والثاين يتض َّمن أنواع املعرفة وعالقتها باملعنى‬
‫املحور ال َّرابع‪ :‬الجانب َّ‬
‫الاَّلهويتّْ‪.‬‬
‫* * *‬

‫ّّ‬
‫الكيّل‪ ،‬القصد األول‪ ،‬القصد‬ ‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬ميتافيزيقا‪ ،‬أوكام‪ ،‬املعنى‬
‫الثاين‪.‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫ِّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫خصوصا أفالطون‬
‫ً‬ ‫الكيّل –‬
‫ّ ِّ‬ ‫من نافل القول أ َّن معالجة السابقني عىل العرص الوسيط للمعنى‬
‫وأرسطو – أحدثت ردود فعل متباينة يف ذلك العرص‪ ،‬وذلك أل َّن تلك املعالجات مل تكن جامعة‬
‫مانعة‪ ،‬فقد تركت وراءها أوج ًها من القصور مثلام تركت أوج ًها إيجابيَّة ح َّركت املفكِّرين سلبًا أو‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫لكل ردود األفعال التي حدثت أل َّن محور هذه‬ ‫إيجابًا‪ .‬ونحن بطبيعة الحال‪ ،‬لن نستطيع أن نتع َّرض ِّ‬
‫كل من أفالطون وأرسطو و وليام‬ ‫الكيّل عند ٍّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫ينصب عىل التأثري الذي أحدثه مفهوم املعنى‬
‫ُّ‬ ‫الدراسة‬
‫األوكامي عىل وجه التحديد‪.‬‬
‫غري أ َّن هذا ال مينعنا من أن نبدأ هذا املقال باإلشارة املوجزة من قول إن فرفريوس قد فشل‬
‫واملنطقي‪ ،‬كام فشل يف‬
‫َّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫من بعد أرسطو يف تقديم املعاين الكلّ َّية‪ ،‬وصياغة عملها‬
‫معالجة أخطاء ميتافيزيقا أرسطو‪ ،‬وكانت تعاليمه تطوي ًرا لألفالطونيَّة‪ ،‬وأفكاره مدعاة ألن يصبح‬
‫الكيّل من موضوع إىل مشكلة ميكن صياغتها كام وردت ىف القرنني التاسع والعارش‬ ‫ّ ِّ‬ ‫مفهوم املعنى‬
‫تعرِّب عن‬
‫كالتايل‪ :‬هل أسامء األنواع مثل إنسان وحصان مج َّرد ألفاظ ال وجود لها بالفعل‪ ،‬أم أنَّها ِّ‬
‫يل‪ ،‬فهل هذه األنواع موجودة يف أفرادها (هذا اإلنسان‬
‫فعاًل؟ وإذا كان لها وجود فع ٌّ‬ ‫أنواع موجودة ً‬
‫النص‬
‫ِّ‬ ‫منفصاًل قامئًا بذاته – وقد يرجع الباحث هذه اإلشكالية عىل‬
‫ً‬ ‫وهذا الحصان) أم أ َّن لها وجو ًدا‬
‫عاَّم إذا كان لألجناس‬
‫الذي صاغه فرفريوس يف كتابه “إيساغوجي” الذي يقول فيه‪“ :‬لن أبحث َّ‬
‫واألنواع وجود يف األعيان أم أ َّن وجودها مج َّرد تص ُّورات يف األذهان؟ وإن كانت موجودة ىف‬
‫إاَّل يف املحسوسات‬‫ريا أهي مفارقة أم ال وجود لها َّ‬
‫األعيان أهي هيوالن َّية أم غري هيوالن َّية؟ وأخ ً‬
‫تفصياًل”[[[‪ .‬رمبا قد نجد هذا التفصيل‬
‫ً‬ ‫ومنها ترتكَّب‪ ،‬وهذه مسألة صعبة تحتاج إىل رشح آخر أكرث‬
‫عند أبيالرد وروسلينوس ودنس سكوت‪ .‬إال أن ما يعنينا هو صلب مفهوم اإلسمية عند أوكام‪ ،‬الذي‬
‫ميكن أن نبدأه مباهية املعنى الكىل عنده‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ماهية املعىن الكل ّي‬
‫اآلن نحن يف موقف يسمح لنا بالحديث عن املحاور األربعة التي تتض َّمن مذهب أوكام يف‬
‫الكيّل‪ ،‬ينحرص يف ثالثة‬
‫ّ ِّ‬ ‫الكيّل‪ .‬وعن ذلك نقول‪ :‬إ َّن املحور األول‪ ،‬وهو ماهيَّة املعنى‬ ‫ّّ‬ ‫املعنى‬
‫الكيّل محمول عىل كثريين‪ ،‬واإلطار الثاين‬ ‫ّ َّ‬ ‫األوكامي كيف أ َّن املعنى‬
‫ُّ‬ ‫أطر‪ :‬اإلطار األول يح َّدد فيه‬
‫الكيّل مقصد يف‬
‫ّ َّ‬ ‫يبنِّي كيف أ َّن املعنى‬
‫الكيّل ليس جوه ًرا‪ ،‬واإلطار الثالث ِّ‬
‫ّ َّ‬ ‫يوضح كيف أ َّن املعنى‬
‫النفس‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أميل برهييه‪ :‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬الجزء الثالث‪،‬ص‪.57‬‬

‫‪125‬‬
‫المحور‬

‫الكيّل يف اإلطار األول بأنَّه “ما يحمل عىل كثريين بخالف املفرد الذي‬‫ّ َّ‬ ‫لقد ح َّدد وليام املعنى‬
‫الكيّل يكون مفر ًدا[[[‪.‬‬
‫ّ َّ‬ ‫وكل يشء هو مفرد”‪ ،‬األمر الذي يعني أ َّن املعنى‬‫محمواًل لواحد فقط‪ُّ .‬‬
‫ً‬ ‫يكون‬
‫الكيّل هو ما يحمل عىل‬ ‫ّ َّ‬ ‫يف هذا التعريف‪ ،‬يتَّفق أوكام مع أفالطون وأرسطو عىل أ َّن املعنى‬
‫الشق الثاين من‬ ‫ِّ‬ ‫كثريين‪ ،‬وهذا االتفاق يفرضه املنطق والعقل‪ .‬ولك َّن الخالف يتب َّدى بينهم يف‬
‫يل للمفرد‪ ،‬وجعل املعنى‬ ‫كل يشء مفرد”‪ .‬فبينام جعل أوكام الوجود الفع َّ‬ ‫التعريف الذي يقول” إ َّن َّ‬
‫يل معاين دالليَّة عىل األشياء الفرديَّة‪ ،‬ويستند إليها يف القضيَّة‪ ،‬نجد أ َّن أفالطون مل يعط األشياء‬ ‫الك َّ‬
‫الكيّل الكائن يف عامل مفارق لعامل املا َّدة‪.‬‬
‫ّّ‬ ‫الحقيقي للمعنى‬
‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬وجعل الوجود‬ ‫أي وجود فع ٍّ‬‫الفرديَّة َّ‬
‫وعىل النقيض من اإلثنني نجد أرسطو مرت ِّد ًدا بشأن حقيقة األشياء الفرديَّة‪ ،‬هل هي الوجود بالفعل‬
‫الكيّل الذي يكون يف النفس؟ فهو جاء‬ ‫ّ ُّ‬ ‫الحقيقي هو املعنى‬
‫َّ‬ ‫يل مشاهد أم أ ّن الوجود‬ ‫ألنَّها وجود فع ٌّ‬
‫يل مالزم لألشياء الفردية[[[‪.‬‬ ‫برأي وسط ‪ -‬كام رأينا‪ -‬يقول بأ َّن املعنى الك َّ‬
‫يجدر القول أ َّن املفرد عند أوكام يأخذ ثالثة معانٍ ‪ :‬األول يطلق عندما يكون عدديًّا ليشء واحد‬
‫وليس ألشياء كثرية‪ .‬والثاين يطلق عىل يشء خارج النفس ويكون واح ًدا وليس متع ِّد ًدا وال يكون‬
‫الخاصة عىل واحد‬ ‫َّ‬ ‫يئ‪ .‬أ َّما الثالث فيُطلق لإلشارة‬
‫ألي يشء‪ ،‬ولذلك يطلق عليه اسم الجز ِّ‬ ‫داللة ِّ‬
‫بعينه‪ ،‬لذا يس َّمى معنى منفصل[[[‪.‬‬
‫خصوصا يف القسم الثالث أل َّن املفرد‬
‫ً‬ ‫تقسياًم خاطئًا‬
‫ً‬ ‫هذا التقسيم يع ُّد بالنسبة إىل فرفريوس‬
‫إذا كان محمواًلً لفرد واحد فقط فهذا ال ميكن فهمه باعتباره عن يشء موجود خارج النفس‪.‬‬
‫فاملوجود خارج النفس ال هو يف وضع موضوع وال يف وضع محمول‪ ،‬وهو املعنى نفسه الذي‬
‫تب َّناه أوكام كام سرنى‪.‬‬
‫كام أ َّن هذا التقسيم‪ ،‬عىل ح ِّد تعبري وليام‪ ،‬يفرتض نوعني للمعنى املشرتك‪ :‬األول الضامئر‬
‫املربهنة التي تأخذ معنى مشرتكًا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ :‬معنى»أبيض» فهو «هذا األبيض»‪ .‬والثاين‬
‫االفرتاض بالعرض كاألسامء العامة مثل سقراط وأفالطون‪.‬‬
‫يث‪ ،‬وجعل املفرد يحمل معنيني‪:‬‬
‫تقسياًم آخر غري هذا التقسيم الثال ِّ‬
‫ً‬ ‫وقد ق َّرر يف مجمل املنطق‬
‫كل يشء واحد وليس متع ِّد ًدا‪ ،‬وهذا املعنى يؤكِّده الذين يتش َّبثون‬
‫يدل عىل ِّ‬ ‫املعنى األول‪ُّ :‬‬
‫يل كيف َّية عقل َّية مع َّينة محمولة ألشياء متع ِّددة وليس لذاتها‪ ،‬ولكن لتلك األشياء‬
‫بأ َّن املعنى الك َّ‬

‫‪[1]- W.Ockham: Qoudlibet septem,Quodlibet 5, Translated from the Latin text Joseph.C, and Wey,ed‬‬
‫‪(Opera Theologica vol 9) st, Bonaventura. Ny: The Francis can Institute, 1980,question 12 Articlel (6- 12).‬‬
‫‪[2]- R.I.Arron: The theory of universals,Oxford at calrendon,1952,p10.‬‬
‫‪[3]- W.Ockham: Summae Logicae, Pars 1,Translated by Paul Vincert Spade – Indianpoils,Hackett,New‬‬
‫‪Yourk,1994,ch 14(35- 45).‬‬

‫‪126‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫لغوي ال يه ُّم مدى شائعيَّته‬


‫ٍّ‬ ‫أي سياق‬
‫كيّل هو مفرد‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫كل معنى ّ ٍّ‬
‫فرضوري أن يقولوا أ َّن َّ‬
‫ٌّ‬ ‫املتع ِّددة‪.‬‬
‫وأحادي يف العدد ‪ .Univocal‬عىل هذا‪ ،‬فإ َّن مقصد النفس ُّ‬
‫يدل‬ ‫ٌّ‬ ‫لدى العا َّمة ألنَّه مفرد يف الحقيقة‪،‬‬
‫عىل أشياء عديدة جوهريَّة ومفردة وأحاديَّة يف العدد‪ ،‬ألنَّها واحدة وليست متع ِّددة حتى لو كانت‬
‫ُّ‬
‫تدل عىل أشياء عديدة‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫كل يشء يكون أحاديًّا وليس متع ِّد ًدا‪ ،‬وال يكون إشارة‬ ‫املعنى الثاين‪ :‬هو أ َّن املفرد يحمل عىل ِّ‬
‫كل معنى‬
‫كيّل يكون مفر ًدا‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫ألشياء عديدة‪ .‬وأخذ املفرد بهذه الطريقة يعني أنَّه ليس هناك معنى ّ ٌّ‬
‫ومحمواًل ألشياء عديدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫كيّل مييل ألن يكون رم ًزا ألشياء عديدة‬
‫ّ ٍّ‬
‫لقد ذكرنا تعريفات املفرد عند أوكام ألنَّه ذكر يف التعريف السابق أ َّن املعنى ما يطلق عىل‬
‫كثريين‪ ،‬ويف الوقت نفسه هو مفرد‪ ،‬األمر الذي س َّبب نو ًعا من إغالق الفهم إلدراك ماه َّية املعنى‬
‫الكيّل مفرد‪ ،‬واملفرد‬
‫ّ َّ‬ ‫قائاًل‪”:‬إ َّن املعنى‬
‫الكيّل عنده تلك التي حاول أن يستجليها يف مجمل املنطق ً‬
‫ّ ِّ‬
‫يف العقل‪ .‬وذلك لثالثة أسباب‪:‬‬
‫األول‪ ،‬هو أ َّن املفرد كيفيَّة يف العقل وليس كيفيَّات متع ِّددة ‪.‬‬
‫الكيّل ال يكون‬
‫ّ َّ‬ ‫يل‪ ،‬وباملثل فإ َّن املعنى‬
‫أي يشء مهام كان خارج النفس معنى ك ٌّ‬
‫الثاين‪ ،‬هو أ َّن َّ‬
‫مفر ًدا يف العقل‪.‬‬
‫الكيّل عالقة إراديَّة أو طبيع َّية مشرتكة لكثريين وليست لواحد فقط‪.‬‬
‫ّ َّ‬ ‫الثالث‪ ،‬هو أ َّن املعنى‬
‫يل واح ًدا يف العدد‪ .‬لذلك فهو يقول إنَّه ليس هناك معنى‬ ‫مع ذلك‪ ،‬فإ َّن أوكام جعل املعنى الك َّ‬
‫يل ألنَّه يطلق‬
‫كيّل حني يكون هناك إساءة الستخدام الكلمة‪ .‬فحني يقال إ َّن لفظ”إنسان َّية” معنى ك ٌّ‬ ‫ّ ٌّ‬
‫عىل كثريين‪ ،‬فهذا يُع ُّد سخافة ألنَّه يجب أن يُقال إ َّن هناك معنى كل ًّيا وهو يشء مفرد واحد‪ ،‬وهذا‬
‫إاَّل بوساطة الداللة ألنَّه إشارة ألشياء عديدة‪.‬‬
‫املفرد ال يكون معنى كليًّا َّ‬
‫عرَّب عنه ابن سينا يف رشحه لكتاب “ميتافيزيقا أرسطو”(‪87rb‬‬ ‫ويؤكد أوكام أ َّن ما ذهب إليه هو ما َّ‬
‫‪.vicenma. Metaphysics.5‬حني قال”إ َّن الصورة الواحدة أمام العقل معادلة للكرثة‪ ،‬وهي يف هذه‬
‫أي من األشياء التي تنتقيها”‪ ،‬أو‪”،‬أ َّن‬
‫يتغرَّي يف ٍّ‬
‫يل‪ ،‬ألنَّها مقصد يف العقل مقارنة مبا ال َّ‬‫الحالة معنى ك ٌّ‬
‫هذه الصورة عند مقارنتها بالفرديَّات تكون معنى كل ًّيا‪ ،‬رغم أنَّه عند مقارنتها بالنفس املفردة التي‬
‫طبعتها تكون مفردة‪ ،‬ألنَّها صورة واحدة من بني الصور التي هي يف العقل[[[‪.‬‬
‫فردي‬
‫ٌّ‬ ‫يل هو مقصد‬ ‫األرسطي) قد رأى أ َّن املعنى الك َّ‬
‫ّ‬ ‫هذا األمر يعني أ َّن ابن سينا (الشارح‬
‫للنفس يف ذاتها‪ ،‬وهي جديرة بأن تكون محمولة عىل كثريين‪ .‬ويعني حملها عىل كثريين أنَّها ليست‬

‫‪[1]- Ibid: ch 14,(40 -50).‬‬

‫‪127‬‬
‫المحور‬

‫محمولة لذاتها‪ ،‬ولكن لألشياء الكثرية التي يطلق عليها معنى كليًّا‪ ،‬وهي إىل ح ٍّد بعيد صورة واحدة‬
‫موجودة فعليًّا يف العقل وتس َّمى مفرد‪.‬‬
‫قسم الداللة إىل أربعة‬ ‫الكيّل ُّ‬
‫يدل عىل كثريين – َّ‬ ‫ّ ُّ‬ ‫ويك يربز أوكام التعريف الذي ق َّدمه – املعنى‬
‫معانٍ ‪:‬‬
‫املعنى األول‪ ،‬هو أ َّن الداللة ت ُقال عىل يشء ما حينام يفرتض أو مييل لالفرتاض كاألبيض يدل‬
‫يدل عىل اإلنسان‪.‬‬‫عىل سقراط‪ ،‬أو العقيل ُّ‬
‫املعنى الثاين‪ ،‬هو أن تفرتض الداللة لقضايا عن املستقبل والحارض واملايض‪ ،‬كاألبيض ال‬
‫إاَّل عىل األبيض‪ ،‬أو ما ميكن أن يكون أبيض‪ ،‬أو محتمل أن يكون أبيض‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫يدل َّ‬
‫املعنى الثالث‪ُّ ،‬‬
‫يدل عىل املعنى األول وداللة ما يطابقها‪ ،‬أو الكالم الذي يواكب داللتها من‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خالل التغرُّيُّ الذي يف اليشء‬
‫املعنى الرابع‪ُّ ،‬‬
‫يدل عىل املعنى األول عن طريق التص ُّور أو مبدأ الكالم‪ ،‬فإنَّنا نقول األبيض ُّ‬
‫يدل‬
‫عىل البياض‪ ،‬وأ َّن إشارة أبيض ال تفرتض لهذا البياض‪.‬‬
‫يدل عىل كثريين فهو جنس أو نوع محمول لضمري يشري إىل بعض األشياء التي‬ ‫كيّل ُّ‬
‫كل معنى ّ ٍّ‬
‫ُّ‬
‫تدل عىل كثريين‪ ،‬باستثناء ما أخذت يف املعنيني األول والثاين للداللة‪ ،‬واملعاين الكل َّية املتبق َّية‬ ‫ال ُّ‬
‫تدل عىل أشياء كثرية يف املعنيني األول والثاين‪ .‬وأيضً ا بعض األشياء يف املعنيني الثالث والرابع‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يدل عىل يشء يف حالة اليقني‪ ،‬ويشء ما يف حالة غري مبارشة‪ .‬وهذا‬ ‫الكيّل اآلخر ُّ‬
‫ّ َّ‬ ‫أل َّن املعنى‬
‫واضح يف كلمتي»عقيل» و«ضاحك»[[[‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬املعاين الكليَّة عند أوكام هي معانٍ متص َّورة ‪ ،Termini concepti‬وترمز إىل األشياء املفردة‪،‬‬
‫الكيّل‬
‫ّ ُّ‬ ‫فردي‪ .‬املعنى‬
‫ٌّ‬ ‫تعرِّب عن حقيقة أ َّن اليشء يوجد فهو‬
‫وتستند إليها يف القضايا‪ .‬فاألشياء املفردة ِّ‬
‫حقيقي يف عضوين يف الوقت نفسه‪ .‬فعىل‬ ‫ٌّ‬ ‫إاَّل إذا كان موجو ًدا‪ ،‬وال يوجد وجود‬
‫ال يكون موجو ًدا َّ‬
‫أي إنسان آخر عندما يكون جوهره‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬الله يخلق اإلنسان من ال يشء‪ ،‬وهذا ال يؤث ِّر يف ِّ‬
‫يف االعتبار‪ .‬فالله ميكن أن يبيد اليشء املفرد من دون أن يؤث ِّر ذلك عىل يشء مفرد آخر‪ .‬لذلك‪ ،‬ال‬
‫لكل منهم طبيعة جوهريَّة مختلفة[[[‪.‬‬‫أي مشرتك لكليهام يك يُباد أل َّن ٍّ‬ ‫يوجد هنا ُّ‬
‫الطبيعي‪ ،‬أعني‬
‫ُّ‬ ‫الكيّل‬
‫ّ ُّ‬ ‫الكيّل إىل نوعني‪ :‬األول املعنى‬
‫ّ َّ‬ ‫عىل هذا األساس‪ ،‬يقسم أوكام املعنى‬
‫طبيعي عىل النار‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫محمواًل لألشياء العديدة‪ .‬فالدخان رمز‬
‫ً‬ ‫يل الذى يكون رم ًزا طبيع ًّيا‬
‫املعنى الك َّ‬

‫‪[1]- Ibid: ch33,(1- 4),(10 – 35).‬‬


‫‪[2]- Ninian Smart: World philosophy, Routledge,First publisher,London and New yourk, 1998,p565.‬‬

‫‪128‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫يل عىل‬
‫يل‪ .‬ويكون املعنى الك ُّ‬ ‫يدل عىل األمل‪ ،‬والضحك ُّ‬
‫يدل عىل الرسور الداخ ّ‬ ‫وأنني املرض ُّ‬
‫هذا مقص ًدا يف النفس وليس خارج النفس‪.‬‬
‫يل إىل وجود داخل النفس ووجود خارج النفس‪.‬‬ ‫هذا يعني أ َّن الوجود يقسم يف التقسيم األو ِّ‬
‫موضوعي داخل النفس ألنَّه يقع تحت قسم آخر‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫فالوجود داخل النفس ال يؤخذ ملا له وجود‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫مقسم إىل عرش مقوالت‪ ،‬واملوجودات تكون موضوع َّية تابعة ملقولة‬ ‫والوجود خارج النفس َّ‬
‫يت يف الطبيعة[[[‪.‬‬
‫الكيف‪ ،‬فالوجود يف النفس يؤخذ للموجود الخالص الذا ِّ‬
‫الخارجي إىل عرش‬
‫َّ‬ ‫هذا التقسيم عند أوكام تأث َّر فيه بأرسطو الذي‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬يقسم الوجود‬
‫إاَّل أ َّن‬
‫ين‪َّ .‬‬
‫يل األفالطو ّ‬
‫كل أنحاء الوجود‪ ،‬وهي كانت ر َّد فعل لالتجاه املثا ِّ‬ ‫مقوالت ت ُقال عىل ِّ‬
‫الجديد الذي أىت به أوكام يف هذا التقسيم أنَّه يف الوقت الذي يجعل فيه مقوالت الوجود تحمل‬
‫عىل الجوهر‪ ،‬فهو يجعل املقوالت التي هي خارج الوجود محمولة عىل مقولة الكيف أل َّن املعنى‬
‫ين‪.‬‬
‫يل عنده هو مقصد داخل النفس‪ .‬هذا التجديد هو ر ُّد فعل أيضً ا لالتجاه األسكويتِّ األفالطو ّ‬
‫الك َّ‬
‫النوع الثاين من املعاين الكليَّة عند وليام األوكامي هو النوع املتداول يف العرف كالكالم‬
‫املتح َّدث‪ ،‬الذي يكون له كيفيَّة واحدة عدديًّا‪ ،‬ألنَّه إشارة لداللة معروفة ُّ‬
‫تدل عىل أشياء عديدة‪،‬‬
‫يطلق عليها الكالم الشائع ‪ .Common‬لذلك ميكن أن يطلق عليها معنى كلّ ًّيا‪ .‬وهو يأيت من طبيعة‬
‫اليشء ومن اختيار الناس الذين عرفوه واعتادوا عليه[[[‪.‬‬
‫الكيّل هو ما يطلق عىل كثريين وهو مفرد أل َّن املفرد موجود يف‬ ‫ّ َّ‬ ‫خالصة القول‪ ،‬أ َّن املعنى‬
‫كل‬
‫العقل‪ ،‬ومعنى أنَّه موجود يف العقل هو أنَّه كيف َّية واحدة وليس كيف َّيات متع ِّددة‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ُّ ،‬‬
‫يشء موجود خارج النفس يكون معنى كلّ ًّيا‪ ،‬ولكن ير ُّد يف النهاية إىل مقولة الكيف‪.‬‬
‫يل عند أوكام‪ ،‬والذي رفض فيه أن يكون جوه ًرا‪ .‬ومن‬
‫أ َّما اإلطار الثاين يف ماهية املعنى الك ِّ‬
‫رشاحه يف عدم جوهريَّة املعنى‬
‫السهل عىل الباحث يف فلسفته أن يرى أنَّه استند إىل أرسطو و َّ‬
‫يل‪ ،‬وهو يشري إليه يف أكرث من موضع‪ .‬فأرسطو‪ ،‬كام رأينا يف الفصل السابق‪ ،‬نفى أن يكون‬ ‫الك ِّ‬
‫الجوهر معنى كلّ ًّيا يف كتاب «امليتافيزيقا» حيث يقول»من غري املمكن للجوهر أن يكون أي يشء‬
‫يقال كل ًّيا»[[[‪.‬‬
‫رشاحه ومنها “إذا مل تكن املعاين‬
‫وقد د َّون أوكام بعض النصوص التي استند إليها من أرسطو و َّ‬

‫‪[1]- Ockham: Summae Logicae,Ch 14,(60 -70).‬‬


‫‪[2]- Walter Chatton: Reportario I,d,3, q2 Wether any concept common and univocal to god and‬‬
‫‪creature?،، Translated from Geodn Gal, ،،Gualteri de chatton et Guillelmi de Ockham controversia de‬‬
‫‪natura consptus universails ،،Franciscan studies, x x x p 191.‬‬
‫‪[3]- Aristotle:Metaphysics, B7,ch 13, 1038 b(8- 9).‬‬

‫‪129‬‬
‫المحور‬

‫الكليَّة جوه ًرا كام قلنا يف مناقشة الجوهر والوجود وال يف ذاتها‪ ،‬فالجوهر يكون واح ًدا وراء‬
‫الكرثة”[[[‪.‬‬
‫ويقول ابن رشد”(‪“ rb 92( 7.t 44. Avreroes in Aristotic.Metaphysics‬دعنا نقول إ َّن من‬
‫ألي يشء حتى لو أنَّه يوحى أنَّه جوهر‬ ‫يل أن يكون جوه ًرا ِّ‬‫الغري ممكن ملا س َّميناه املعنى الك َّ‬
‫جنسا‬‫يل ال يكون جوه ًرا وال ً‬ ‫األشياء “‪ .‬ويقول أيضً ا ىف موضع آخر ‪“ )t.2.(99rb,8‬املعنى الك ُّ‬
‫يل ال يكون جوه ًرا‪ .‬فإنَّه واضح أ َّن‬
‫“‪ .‬ويك ِّرر ذلك يف الكتاب العارش‪ ”)t,6,(120rb,10‬املعنى الك ُّ‬
‫الوجود املشرتك ليس جوه ًرا موجود خارج النفس”‪.‬‬
‫كل املعاين الكل َّية أعراضً ا‪ ،‬وبالتايل‬
‫يل لو كان جوه ًرا‪ ،‬فذلك يجعل َّ‬‫ويرى أوكام أ َّن املعنى الك َّ‬
‫تكون كل املقوالت أعراضً ا‪ ،‬وبعض األعراض سوف تكون بذاتها أعىل من الجوهر‪ ،‬وسيكون من‬
‫أي‬
‫املتَّبع أ َّن الوجود نفسه سوف يكون أعىل من ذاته‪ ،‬وتلك املعاين الكليَّة سوف ال توضع يف ِّ‬
‫لكل املعاىن الكل َّية‪،‬‬
‫مكان باستثناء مقولة الكيف‪ ،‬حتى لو كانوا أعراضً ا‪ .‬فمقولة الكيف تصبح ِّ‬
‫الكيّل هو مقولة الكيف[[[‪.‬‬
‫ّ َّ‬ ‫ويكون من الشائع أ َّن املعنى‬
‫من املفيد القول هنا أ َّن ما ذهب إليه أوكام يف هذا اإلطار‪ -‬املعنى الكل ال يكون جوهر ‪ -‬وأورد‬
‫الكيّل جوه ًرا‬
‫ّ ِّ‬ ‫ريا من التفسريات والدوافع‪ ،‬قد خرج به عن اإلطار اﻷرسطى يف جعل املعنى‬ ‫له كث ً‬
‫يف املقوالت وتع ُّدد الجواهر يف امليتافيزيقا مستن ًدا يف ذلك مبا ذهب إليه أرسطو وشارحه ابن‬
‫رشد يف كتاب «امليتافزيقا»‪.‬‬
‫قسم املوجودات إىل موجودات داخل َّية داخلة يف النفس وموجودات خارج َّية عنها‪.‬‬ ‫كام أنَّه َّ‬
‫فاملوجودات الداخلة يف النفس ومأخوذة من موجودات حقيق َّية فيها‪ ،‬مثل العقالن َّية أو بعض‬
‫يقسم بها املوجود عن طريق الناس إىل أشياء ورموز‬ ‫الصفات األخرى يف العقل‪ ،‬بالطريقة التي ِّ‬
‫لألشياء‪ ،‬حيث أ َّن الرموز ما هي إاَّلَّ أشياء‪ .‬أكرث من ذلك‪ ،‬فاليشء يقسم إىل عرش مقوالت‪ ،‬والرموز‬
‫تندرج تحت مقولة واحدة وهي مقولة الكيف ‪ .category of quality‬لذلك‪ ،‬ميكن القول أ َّن‬
‫حي وغري‬ ‫هذه املقوالت ليست ثانويَّة بالطريقة التي تنتظم بها املقوالت التابعة‪ .‬فالجوهر منه ٌّ‬
‫حي‪ ،‬لك َّنهام ينظِّامن كاﻵيت املوجودات بعضها رموز واألخرى دالالت‪ .‬فبالنسبة إىل دالالت‬ ‫ّ‬
‫بعضها كيف َّيات‪ ،‬كام أ َّن الرموز يف ذاتها كيف َّيات‪ ،‬واألخرى جواهر‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن يف الحالة الراهنة‬
‫يجب القول أ َّن املوجود يقسم إىل موجود يف النفس وموجود خارج النفس‪ ،‬بعضها كيف َّيات مثل‬

‫[[[ )( ‪.)19-Ibid: Bx, ch 2,(1053 b)(17‬‬


‫[[[ )( ‪.Loc cit: and see also Qoudlibet 5, Qeuestion 13‬‬

‫‪130‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫املوجودات داخل النفس‪ ،‬وبعضها جواهر[[[‪.‬‬


‫يئ يف الوجود‪،‬‬ ‫يل الجز ِّ‬
‫األرسطي القائل مبالزمة املعنى الك ِّ‬
‫َّ‬ ‫لقد نقد أوكام يف هذا اإلطار‪ ،‬املبدأ‬
‫الفردي‬
‫ِّ‬ ‫عرَّب عنه أرسطو كام سبق وذكرنا يف كتاب «امليتافيزيقا»‪ ،‬من أ َّن بجانب اليشء‬ ‫وهذا ما َّ‬
‫الكيّل‪ ،‬وتكون عىل هذا األشياء الفرديَّة موضوعات يف القضايا الفرديَّة‬ ‫ّ ِّ‬ ‫هناك األشياء ذات املعنى‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الكيّل»[[[‪.‬‬
‫ّّ‬ ‫الكيّل‪ ،‬وهي أجزاء للمعنى‬
‫ّ ِّ‬ ‫ويف األشياء املدركة ذات املعنى‬
‫هذا املبدأ أو الرأي إىل الدرجة التي ميكن التمسك بها يقول إنَّه توجد أشياء ظاهريَّة بجانب‬
‫كل‬
‫وكل املعرفة و ِّ‬
‫لكل فلسفة أرسطو‪ِّ ،‬‬ ‫ريا ِّ‬
‫املفردات‪ ،‬وهي موجودة يف املفردات التي أعتربها تدم ً‬
‫الحقائق‪ .‬وهو أسوأ خطأ نقله إلينا أرسطو يف كتاب «امليتافزيقا»[[[‪.‬‬
‫يل هو فعل‬ ‫متسكه بأ َّن املعنى الك َّ‬
‫الكيّل هو ُّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫اإلطار الثالث الذي ح َّدد فيه أوكام ماهيَّة املعنى‬
‫فردي ألنَّه حقًّا كيف َّية مفردة يف العقل وليس كيف َّيات‬
‫ٌّ‬ ‫يّل‬ ‫العقل[[[‪ .‬وقد ع َّ‬
‫رَّب عنه بقوله «إ َّن املعنى الك َّّ‬
‫يل هو تص ُّور‪ ،‬وملا كان كذلك فإ َّن أوكام قد ح َّدد يف تعليقه‬ ‫متع ِّددة» ‪ .‬وهذا يعني أ َّن املعنى الك َّ‬
‫[[[‬

‫عىل كتاب «األحكام» ثالث نظريَّات‪:‬‬


‫واقعي يف العقل أو خارج العقل‪ ،‬بل هو وجود‬
‫ٍّ‬ ‫النظر َّية األوىل‪ :‬يكون التص ُّور فيها موجو ًدا غري‬
‫متسك به ديكارت يف‬‫مفهوم املوضوعات الخارج َّية‪ ،‬وهذا الرأي لبطرس أورليو ‪َّ Peter Aureal‬‬
‫املوضوعي للتص ّور يف الربهنة عىل وجود الله من فكرته عن الله‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫طي يف الوجود‬
‫التوس ِّ‬
‫ُّ‬ ‫استخدامه‬
‫النظر َّية الثانية‪ :‬تفرتض كيف َّية حقيق َّية يف النفس‪ ،‬استخدمت عن طريق العقل ألفراد هم تص ُّور‪،‬‬
‫متا ًما كام يف املعنى العا ِّم يف القضيَّة والذي استخدم لألفراد الذين لهم دالله‪.‬‬
‫النظر َّية الثالثة‪ :‬تب َّناها أوكام‪ ،‬وهي أ َّن التص ُّور مج َّرد فعل الفهم لألشياء الفرديَّة التي ت ُقال لتكون‬
‫أسست عىل مبدأ االقتصاد‪ ،‬أل َّن أيًّا من هذه النظريَّات تتطلَّب إدراك العقل‬ ‫تص ُّو ًرا‪ ،‬وهذه النظريَّة ِّ‬
‫لألفراد خارج العقل‪ ،‬وهذه الوظيفة ال يقوم بها سوى فعل فهم‪ ،‬من دون حاجة ألي أداة لفكرة عقليَّة‬
‫مساعدة تنيب عن املوضوعات[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Wiliam of Ockham: Commentary on Aristotle‘s on interpretataion prologue 3 -10 and comment ary‬‬
‫‪on(169 - 3- 6), Translated From Latin Text W.Ockham, Expositioniis in Libros, artis by Stephen Brown‬‬
‫‪and Boehner eds (Opera philosophica, vo12)st Bonaventure.N.Y:The Franciscan Institute,1978,section‬‬
‫‪7 325340-.‬‬
‫‪[2]- Aristotle: Metaphysics. Book 7,ch 13,(1038b)10.‬‬
‫‪[3]- Ockham: Commentary, section 8,(375 -370).‬‬
‫‪[4]- Ockham:Qoudibet3 From Copleston.part3,opcitp58.‬‬
‫‪[5]- Ockham:Qoudibet 5,question 12,Article 2.‬‬
‫‪[6]- Ernest.a.Moody: Op cit, d310.‬‬

‫‪131‬‬
‫المحور‬

‫بأي وسيلة مكان‬


‫يحل ِّ‬
‫نالحظ هنا أ َّن أوكام يشري‪ ،‬كام أشار هيوم مؤخ ًرا‪ ،‬إىل أ َّن النوع ال ُّ‬
‫يحل‬
‫موضوعات العقل املتشابهة إذا مل تعرف هذه املوضوعات فعليًّا‪ .‬فهو يقول متثال هريكليس ُّ‬
‫محل هريكليس‪ ،‬أو يدرك تشابهه لو أ َّن ال َّرايئ يرى هريكليس‪.‬‬
‫َّ‬
‫الكيّل مقصد ىف النفس‪ ،‬فإ َّن هذا القصد أو التص ُّور‬
‫ّ َّ‬ ‫وإذا ك َّنا قد تح َّدثنا من قبل عن أ َّن املعنى‬
‫أو االنفعال ما هو إاَّلَّ موضوع محمول أو موضوع يف العقل‪ ،‬حيث يوجد تطابق يف املوضوع‬
‫املحمول واملوضوع يف الكالم‪ .‬بوجه عام‪ ،‬إ َّن انفعال النفس أو مقاصدها أو تص ُّوراتها هي قضايا‬
‫يف العقل أو يف القياسات املنطق َّية أو أجزائها‪ ،‬ولكن تلك األشياء ليست صفات حقيق َّية يف العقل‪،‬‬
‫وليست أشياء حقيقيَّة موجودة ذاتيًّا يف النفس‪ ،‬ولك َّنها معرفة مؤكَّدة بواسطة النفس فقط‪.‬‬
‫يف هذا املعنى‪ ،‬ميكن القول أ َّن العقل عند إدراك املفرد يص ِّور مفر ًدا مشاب ًها يف العقل‪ ،‬وهذا‬
‫أي مكان آخر‪ .‬أكرث من ذلك‪ ،‬فإ َّن املتخيَّل صانع تلك التص ُّورات (يف‬ ‫املفرد املتخيَّل ال يوجد يف ِّ‬
‫العقل‪ ،‬وهي موجودة بالفعل قبل أن يقوم بإنتاجها‪ ،)....‬واألشياء املتص َّورة يطلق عليها املعنى‬
‫كل األشياء املعنويَّة بوساطة تلك العمل َّية من التكوين أو التصوير[[[‪.‬‬ ‫يل‪،‬ألنَّها ترجع إىل ِّ‬
‫الك ّ‬
‫الكىّل‬
‫ّ ِّ‬ ‫خالصة هذا املحور أ َّن أوكام ح َّدده بثالثة أطر‪ :‬يف اإلطار األول ق َّدم تعريفًا للمعنى‬
‫يعرِّب فيه عن وجه التجديد يف اإلشكال َّية ‪ -‬مفهوم املعنى‬
‫يتَّفق فيه معهم ويختلف معهم أيضً ا‪ ،‬وهو ِّ‬
‫الكيّل جوه ًرا‪ ،‬وىف اإلطار‬
‫ّ ِّ‬ ‫الكيّل‪ -‬ويف اإلطار الثاين خرج عىل مذهب أرسطو بعدم جعل املعنى‬ ‫ّّ‬
‫الكيّل تص ُّور وكيفيَّة مفردة يف العقل‪.‬‬
‫ّ َّ‬ ‫الثالث رأى أ َّن املعنى‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫إسمية املعىن الكل ّي‬
‫الكيّل هو صياغة هذا املفهوم باالتجاه‬‫ّ ِّ‬ ‫املحور الثاين الذي يعرض فيه أوكام مفهوم املعنى‬
‫املعنوي‪ .‬وهنا حرصه يف املعاين‪ .‬لذلك‪ ،‬ميكن تناول هذا االتجاه عىل أساسني‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫األسمى أو‬
‫األول‪ ،‬هو تقسيم املعاين‪ ،‬والثاين‪ ،‬هو تقسيم مقاصد النفس أو تص ُّورات النفس التي‪ ،‬وإن ك َّنا قد‬
‫الكيّل عنده‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫تح َّدثنا عنها من قبل‪ ،‬فقد تناولناها بيشء يسري يخدم ماه َّية املعنى‬

‫األساس األول‪:‬‬
‫األساس األول من إسمية أوكام‪ ،‬وهو تقسيم املعاين‪ ،‬مث َّة من جعله الكليَّات املعاين أو دالالت‬
‫إسناديَّة‪ ،‬أو دالالت للموضوعات الفرديَّة وفئات املوضوعات‪ .‬ولكن ال ميكن أن يكونوا موجودين‬
‫يف ذواتهم‪ ،‬أل َّن ما يوجد يجب أن يكون فرديًّا[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Ockham: Commentary on Aristotle, section 7,(360 -365).‬‬


‫‪[2]- Ernest.A.Moody: Willim of Ockham,p203.‬‬

‫‪132‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫ريا يف فلسفة أوكام لدرجة أ َّن مؤ ّرخي الفلسفة‬


‫من هذا املنطلق‪ ،‬احتلت نظريَّة املعاين حيّ ًزا كب ً‬
‫ير ُّدون إليه مذهب اإلسميَّة أو املعنويَّة‪ ،‬وسنجد أ َّن إميانه بنظريَّات املعنى نابع من اهتاممه البالغ‬
‫الكيّل‪ .‬فكلمة ح ّد أو معنى ‪ term‬عنده تأخذ ثالثة تفسريات‪:‬‬ ‫ّّ‬ ‫بإشكال َّية املعنى‬
‫التفسري األول‪“ :‬أ َّن َّ‬
‫كل يشء يطلق عليه معنى ميكن أن يكون رابطة أو قضيَّة مقوليَّة ‪cetegormatic‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫كل قض َّية أو جزء من‬


‫فعاًل يف هذه القضية‪ .‬ففي هذا التفسري ُّ‬
‫يكون موضوعها أو محمولها برهانًا أو ً‬
‫قض َّية ميكن أن يكون معنى‪ ،‬كقض َّية “اإلنسان حيوان” املحمول فيها معنى واملوضوع أيضً ا معنى‪.‬‬

‫التفسري الثاين‪ُّ :‬‬


‫أي تعبري مركَّب فهو معنى‪.‬‬
‫محمواًل‬
‫ً‬ ‫التفسري الثالث‪ :‬املعنى‪ ،‬باملعنى الضيق للكلمة‪ ،‬هو ما يكون دالليًّا‪ ،‬وميكن أن يكون‬
‫جب‪ ،‬وهذا املعنى يس َّمى باملقولة‬ ‫أو موضو ًعا يف القضيَّة‪ ،‬وال يكون رابطة أو ظرفًا أو صيغة تع ُّ‬
‫الدالل َّية ‪. [[[ syncategormatic‬‬
‫قسم أوكام الكالم ‪ Utterance‬إىل ثالثة أقسام ما بني منطوق ومكتوب وعقيل‪ ،‬فاملعنى‬ ‫وقد َّ‬
‫املنطوق هو جزء من قض َّية منطوقة بالفم ومسموعة باألذن‪ .‬واملعنى املكتوب هو جزء من قض َّية‬
‫يل) هو‬ ‫تخفّض قيمة املوضوعات الطبيع َّية التي ترى بالعني أو رؤيَت‪ .‬واملعنى املفهوم (العق ّ‬
‫مقصد أو انفعال للنفس ّ‬
‫دال أو مسلّم بيشء ما ميكن أن يكون خطوة لقض َّية عقل َّية[[[‪.‬‬
‫قسم أوكام الكالم‪ ،‬رأى أنَّه خاضع للتص ُّورات أو املقاصد التي هي يف النفس‪ ،‬ليس‬ ‫بعدما َّ‬
‫يدل عىل مقاصد أول َّية يف النفس‬‫خاص‪ ،‬ولكن أل َّن الكالم دامئًا ما ُّ‬
‫ّ‬ ‫لكون الكلمة داللة ملعنى‬
‫يدل تص ُّور عىل يشء‬‫ليدل عىل األشياء املتشابهة عن طريق تص ُّورات العقل‪ .‬لذلك ُّ‬
‫وهو مفروض ُّ‬
‫تغرَّيت‬
‫دال عن طريق تص ُّورات ىف العقل‪ ،‬وإذا َّ‬ ‫يدل عىل يشء ٍّ‬ ‫يل‪ ،‬والكالم هو حدث ُّ‬‫طبيعيس وأو ٍّ‬
‫ّ‬
‫يغرِّي داللته[[[‪.‬‬
‫أي حدس جديد ِّ‬ ‫داللة هذا التص ُّور‪ ،‬والكالم يف ذاته‪ ،‬فسيكون بهذه الحقيقة من دون ِّ‬
‫النص‪ ،‬كام يرى الباحث‪ ،‬ما هو إاَّلَّ تطوير ملا قال أرسطو يف كتاب «العبارة» حيث يقول‬ ‫ُّ‬ ‫هذا‬
‫«إ َّن الكالم دالالت النفعاالت النفس»‪ .‬ومن ث َّم فالكالم ُّ‬
‫يدل عىل تص ُّورات ‪ ،‬والتص ُّورات معانٍ‬
‫كل املفكِّرين حني يتح َّدثون عن الكالم ٍّ‬
‫كدال عىل‬ ‫كل َّية عىل ح ِّد تعبري أوكام‪ ،‬ووجهة التطوير هنا أ َّن َّ‬
‫يل ومنقول النفعاالت‬
‫انفعاالت أو دالالت‪ ،‬فهم يعنون أ َّن الكالم دالالت ثانويَّة دالَّة عىل ما هو أو ٌّ‬
‫النفس‪.‬‬
‫وإذا كان أوكام قد تح َّدث عن أنواع مختلفة للمعاين ميكن متييزها تقليديًّا من واحدة إىل‬

‫‪[1]- Ibid: p.203.‬‬


‫‪[2]- Ockham: Summae Logicae,ch1,(11- 18).‬‬
‫‪[3]- Loc cit.‬‬

‫‪133‬‬
‫المحور‬

‫أخرى‪ ،‬فإ َّن بعض املعاين تشري مبارش ًة إىل الواقعيَّة ولها معنى حتى عندما تكون قامئة بذاتها‪،‬‬
‫وهذه املعاين أطلق عليها معاين مقوليَّة‪ Categorymatic ،‬وبعضها يختلف ككلمة “كل” ‪every‬‬
‫خاصة عندما تكون قامئة يف العالقة مع املعاين القول َّية كام هو الحال يف‬‫َّ‬ ‫التى تكتسب إشارة مع َّينة‬
‫ين دالل َّية ‪ . cyncateagormatic‬وبعض املعاين‬ ‫عبارة ‪ ،house, every, on man‬ويطلق عليها معا َ‬
‫مطلقة مبعنى أنَّها دالَّة عىل يشء من دون اإلشارة إىل يشء آخر‪ ،‬بينام بعض املعاين األخرى‬
‫ين ضمنيَّة‪ connotative‬مثل كلمة أب وإبن وإبنة‪ ،‬وهي دالَّة عىل مفعول به يرتبط‬ ‫يطلق عليها معا َ‬
‫بيشء آخر[[[‪ ،‬إاَّلَّ أنَّه س َّمى املعاين املقول َّية مبعاين القصد األول‪ ،‬واملعاين الدالل َّية مبعاين القصد‬
‫الثاين‪ ،‬وهو األمر الذي سنناقشه يف األساس الثاين يف هذا املحور‪.‬‬
‫يبنّي أنواع الكالم‪ ،‬كام أوضحنا منذ قليل‪ ،‬فإنَّه يذكر االختالفات بينها‪ .‬فاالختالف‬
‫إذا كان أوكام ّ‬
‫يل ترجع يف معظمها إىل األعراض النحويَّة التي تتبع املعاين‬
‫بني املعنى املنطوق واملكتوب والعق ِّ‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العقل َّية‪ ،‬وبعضها يتبع املعاين املنطوقة واملكتوبة عىل وجه‬
‫لقد استنتج أ َّن املعنى املكتوب يخضع للمعنى املنطوق والذى يرجع بدوره إىل املعنى‬
‫رصا عىل أ َّن هذه األول َّية ال ينبغي أن يعرتيها سوء الفهم[[[‪.‬‬
‫يل‪ ،‬م ًّ‬
‫يل‪ ،‬وأعطى األول َّية للمعنى العق ِّ‬
‫العق ِّ‬
‫هذه األعراض النحويَّة املشرتكة للمعاين العقل َّية واملنطوقة تكون يف العدد والحالة ‪number‬‬
‫‪ ،and case‬فالقضايا املنطوقة “اإلنسان حيوان والبرش ليسوا حيوانات” مختلفة املحمول‪ ،‬األول‬
‫منها مفرد والثاين جمع‪ ،‬وكذلك القضايا العقليَّة مختلفة يف العدد‪ .‬فحينام أقول “ اإلنسان هو‬
‫اإلنسان”‪“ ،‬اإلنسان ليس هو اإلنسان” مختلفة “ املحمول والحالة‪ ،‬لذلك التشابه يجب أن يقال‬
‫للقضايا املتطابقة يف العقل‪.‬‬
‫الخاصة باملعاين املكتوبة واملنطوقة فهي يف الجنس ‪ gender‬من حيث التأنيث‬ ‫َّ‬ ‫أ َّما األعراض‬
‫والتذكري وتعريف األسامء ‪ ،declensions‬أل َّن مثل هذه األعراض ال تعمل للمعاين عىل حساب‬
‫حاجات الداللة‪ ،‬وهكذا يحدث أحيانًا أن يكون معنيان مرتادفني ومختلفني ىف الجنس أو مختلفني‬
‫الشخيص يف غنى عن أن يرجع لهذه الكرثة (الجنس‪ .‬وترصيف‬ ‫ِّ‬ ‫يف ترصيف األسامء‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫أي كرثة وتع ُّدديَّة ملثل هذه األعراض يف املعاين املرتادفة‬
‫األسامء) للدالالت الطبيعيَّة‪ ،‬وهكذا فإ َّن َّ‬
‫حل منها العقل[[[‪.‬‬
‫ميكن أن يُ ّ‬

‫‪[1]- F.Copleston: History of philosophy,vol 3,pp54- 5.‬‬


‫‪[2]- John Swinirski:”Anew presenteion of Ockham is Theory of Supposition with an evaluation of some‬‬
‫‪contenmporary criticisms”Franciscan studies,vol.30,the Franciscan Institute,Bonaventura University,‬‬
‫‪1970,p 184.‬‬
‫‪[3]- Ockham.Summae Logicae,ch 3(10- 22).‬‬

‫‪134‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫إاَّل أنه حينام يصف املعنى يساويه مع الفعل‪ ،‬وتناوله للمعنى‬


‫هذه اإلشكالية تناولها أرسطو‪َّ ،‬‬
‫والفعل كان يف إطار ضيّق‪ ،‬فهو يقول» ال أحد يفاجأ حينام أقول إ َّن بعض املعاين واألفعال تكون‬
‫عقل َّية»[[[‪.‬‬
‫موسعة للقضيَّة‬‫يل خطوة َّ‬‫لقد أظهر أوكام أ َّن من بني اختالفات هذه املعاين هو أ َّن املعنى العق َّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ويفرتض لليشء وليس داللة مثل( اإلنسان والحيوان واملا َّدة والجسم )‪ ،‬باختصار املعاين العقل َّية‪:‬‬
‫أشياء دالَّة وليست داللة[[[‪.‬‬
‫ويجب أن نالحظ كام يرى “جون سفرنسيك”[[[‪ SWinirski‬أ َّن التناقض الذي صنعه أوكام‬
‫أساسا عىل‬
‫ً‬ ‫بني املعاين املنطوقة واملكتوبة من ناحية واملعاين املنطوقة من ناحية أخرى‪ُّ ،‬‬
‫يدل‬
‫يل عىل داللة طبيع َّية ورضوريَّة‪ ،‬وهو مل يذكر أ َّن املعاين‬ ‫داللة تحكُّم َّية‪ ،‬فبالفهم ُّ‬
‫يدل املعنى العق ُّ‬
‫نعرِّب عن موقف‬ ‫تدل عىل دالالت‪ .‬وليك ِّ‬ ‫تدل عىل املعاين العقليَّة‪ ،‬والتي ُّ‬
‫املكتوبة واملنطوقة ُّ‬
‫يل يشمل املعاين‬ ‫أوكام من خالل علم املعاىن لفريجة‪ Frege՚s terminology‬نقول إ َّن املعنى العق َّ‬
‫أاَّل ننىس أ َّن املعنى يف ذاته يؤ ّدي وظيفته‪ ،‬كاملعاين يف القض َّية‬ ‫املكتوبة واملنطوقة‪ ،‬ويجب َّ‬
‫العقل َّية‪ .‬أكرث من ذلك‪ ،‬أ َّن أوكام حذَّرنا ليس لرفض املعنى والداللة‪ ،‬ولك َّنه أرص عىل أ َّن املعاين‬
‫يل له الداللة نفسها كام تفعل املعاين العقليَّة يف‬ ‫املكتوبة واملنطوقة خاضعة إلعطاء معنى عق ٍّ‬
‫ذاتها‪ .‬وليك نتح َّدث عن هذه النقطة يف علم املعاين عند فريجة‪ ،‬يجب أن نقول إ َّن داللة املعنى‬
‫املكتوب واملنطوق تتامثل مع داللة إدراك املعنى‪ ،‬وأ َّن جملة ( داللة املعنى)‪ ،‬عىل نحو ال ميكن‬
‫إنكاره غري متناسبة‪ ،‬وإيحاءها واضح يف أ َّن نظريَّة أوكام تساوت مع نظريَّة فريجة يف االنحراف‪.‬‬
‫بعد نقاش أوكام لهذه االختالفات املتع ِّددة للمعاين العقل َّية واملعاين املكتوبة واملنطوقة‬
‫استم َّرت مناقشة االختالفات الحقيق َّية لهذه املعاين الثالثة‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬االختالف بني‬
‫املعاىن أحاديَّة املعنى‪ univocal‬والالأحاديَّة املعنى‪ equnivocal‬ال يطبَّق عىل املعاين العقليَّة‪،‬‬
‫ولكن عىل املعاين املنطوقة واملكتوبة‪ ،‬وخالل فصوله يف مجمل املنطق يستخدم كلمة‪name‬‬
‫أكرث من كلمة معنى‪ term‬طبقًا الستنتاجه‪ ،‬وهي أ َّن تطبيقاته عىل املعاين املنطوقة واملكتوبة فقط‬
‫وليست عىل املعاين العقل َّية‪.‬‬
‫شك يف أوكام‬ ‫املعنوي أث َّرت بال ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫ويرى كوبلستون‪ Copleston‬أ َّن نظريَّة املنطق األسمى أو‬
‫ماَّم نسبه إىل نفسه من أدوات‪ ،‬ولكن مل يرد بالطبع أنَّه مل يط ِّور املنطق‬ ‫الذي أخذ من السابقني أكرث َّ‬
‫املعنوي كان مستعا ًرا من‬
‫ِّ‬ ‫املعنوي بشكل ملحوظ‪ ،‬ومل يرد أ َّن آراءه الفلسف َّية مع وضعه املنطق‬
‫َّ‬
‫‪[1]- Aristotle: De interpretation 2,Question 35,Article 7.‬‬
‫‪[2]- Ockham: Qoudlibet 4,Question 35,Article 7.‬‬
‫‪[3]- John Swinirski: op. cit, pp 184- 5.‬‬

‫‪135‬‬
‫المحور‬

‫مفكِّر مثل بييرت أوف سبان [[[‪.Peter of span‬‬


‫والناظر يف فلسفات القرنني الحادي عرش والثاين عرش‪ ،‬والتي ترجع يف أصولها إىل أرسطو يف‬
‫مناقشته مل ُثل أفالطون‪ ،‬يجد أ َّن ما انتهي إليه من أمر املعاين‪ ،‬كام ذكرنا من قبل‪ ،‬ليس بالجديد‪.‬‬
‫الكيّل يفرتض فيه أنَّه موجود يف ذاته‪ ،‬فمعنى ذلك أنَّه فرد‪ ،‬وهذا تضا ٌّد أو تناقض‪ ،‬واألهم‬
‫ّ َّ‬ ‫فبام أ َّن‬
‫ريا للموجودات‪ ،‬ولكنه مضاعف ًة لها‪ ،‬وهو‬ ‫يئ‪ ،‬وهذا ليس تفس ً‬
‫الكيّل لتفسري الجز ِّ‬
‫ّ َّ‬ ‫من ذلك أنَّه وضع‬
‫أاَّل تتع َّدد األشياء‬
‫خروج عن اإلطار الذي رسمه لنفسه يف النص ‪Reazor‬املنسوب إىل اسمه‪ -‬يجب َّ‬
‫بال رضورة‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬فهو ال يقول مثل‬ ‫نالحظ أيضً ا أ َّن الفرق بني أوكام وبني إسم َّية القرن الحادى عرش فرقًا كب ً‬
‫روسالن إ َّن املعنى”صوت يف الهواء”‪ ،‬بل يعرتف له مبفهوم يف العقل‪ ،‬وهذا يولّد فرقًا آخر بينه‬
‫الحيّس الحديث الذي ير ُّد املعنى إىل صورة خياليَّة‪ ،‬فمذهبه وسط بني املذهبني‪،‬‬‫ّ ِّ‬ ‫وبني املذهب‬
‫وهو أحرى أن يُس َّمى باملعنويَّة ‪.[[[ coneptualisme‬‬
‫خالصة القول أ َّن اعتبار أوكام الكلِّيَّات إشارات أو دالالت‪ ،‬قد تخطَّى ما صنعه أبيالرد من‬
‫قبل‪ ،‬من مسألة الطبيعيَّات إىل مسألة استعاملها يف املعرفة‪ ،‬وقوام هذا االستعامل الذي تستم ُّد منه‬
‫تدل عليها‪Supponere Proipsis Rebus‬‬ ‫وجودها كلَّه بحيث تنوب يف العبارة مناب األشياء التي ُّ‬
‫أي يشء من‬ ‫خيااًل كاذبًا‪ ،‬وإمنا هي صور ذهن َّية متثِّل ما مت ّيز اإلشارة َّ‬
‫ً‬ ‫وهاًم أو‬
‫ً‬ ‫‪ .‬فليست الكل َّيات‬
‫األشياء الجزئيَّة املتض َّمنة يف ما صدقها‪ ،‬ومن املمكن أن تس َّد اإلشارة مس َّد اليشء املشار إليه‪،‬‬
‫وكل ما هنالك أنَّه ال يجوز أب ًدا أن تغيب عن أنظارنا هذه اإلحالة إىل األشياء‪ ،‬بل ينبغى أن نتذكَّر‬ ‫ُّ‬
‫الكيّل مج َّرد محمول يصدق عىل أشياء ع َّدة‪ ،‬وأنه بالتايل ليس شيئًا مبقتىض املسلَّمة القائلة‬ ‫ّ َّ‬ ‫أ َّن‬
‫إ َّن اليشء ال يكون محمواًلً لليشء [[[‪ ،Des De Non Praedicature‬مبعنى أ َّن أسامء األشياء ال‬
‫تكون محمولة‪.‬‬
‫األساس الثاين‪:‬‬
‫األساس الثاين من إسم َّية أوكام يتعلَّق مبا ذهب إليه بأن هناك شيئًا مؤكَّ ًدا يف النفس يطلق‬
‫عليه مقصد النفس ‪ intention of soul‬أو تص ُّور النفس ‪ ،Soul Concept of‬أو انفعال النفس‬
‫‪ ، Passion of soul‬أو تشابه اليشء [[[‪ .likness of thing‬وهو ما أطلق عليه بؤثيوس يف تعليقه عىل‬
‫ميتاقيزيقي باعتبار‬
‫ٌّ‬ ‫كتاب «العبارة» الفهم ‪ understanding‬وهذا ليس مقص ًدا منطقيًّا بل هو عمل‬

‫‪[1]- F.Coplesnton: History of philosophy, vol 3,p 53.‬‬


‫[[[‪ -‬أ‪/‬يوسف كرم‪ :‬تاريخ الفلسفة األوربية ىف العرص الوسيط‪ ،‬ص‪.237‬‬
‫[[[‪ -‬أميل برهيية‪ :‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬ص‪،248‬وأنظر أيضاً أ‪/‬يوسف كرم‪ :‬تاريخ الفلسفة األوربية يف العرص الوسيط‪ ،‬ص ‪.237‬‬
‫‪[4]- Ockham: Summae Logicae, ch 12,(15- 20).‬‬

‫‪136‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫يل فقط‬
‫أ َّن االنفعال إ َّما نفس اليشء خارج النفس‪ ،‬أو يشء موجود داخل النفس‪ ،‬أو موجود خيا ٌّ‬
‫يف النفس[[[‪.‬‬
‫ويرى أوكام أ َّن هناك صعوبات تقف تجاه هذا الرأي هو أ َّن أرسطو يف كتاب «األخالق»(‪)19-20‬‬
‫(‪ b1105) Aristotle Nichomochean 2.4‬وضع يف النفس (عادات وانفعاالت – تص ُّورات –‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫فعاًل كام هي بالنسبة إىل هذا الرأي‪ ،‬وتلك‬ ‫وإرادة فقط‪ ،‬وتلك الكيف َّية ليست عادة أو إرادة أو ً‬
‫الكيف َّية ليست موضو ًعا للعقل‪ ،‬وانفعاالت النفس ليست موضوعة ملطابقة الكالم‪ ،‬مبعنى أ َّن اليشء‬
‫يكون مفهو ًما عندما يكون الكالم منطوقًا وتص ُّوره ذات داللته‪ .‬فعندما أقول”حيوان” وشخص آخر‬
‫يسمع ويعرف دالالت هذا الكالم‪ ،‬فإنه ال يفهم هذه الكيفيَّة ويبدو أنه فهم الحيوان بصفه عا َّمة‪،‬‬
‫وهذه الكيف َّية ال ميكن أن تكون حيوانًا بصفة عا َّمة‪ ،‬ولو كانت موضوعة فهي تختلف عن الحيوان‬
‫كالبياض أو الحرارة ىف عموم َّيتها‪.‬‬
‫الرأي الثاين الذي يرفضه أوكام هو القائل بأ َّن انفعال النفس ‪ -‬تص ُّورها ‪ -‬الذي يتح َّدث عنه‬
‫ومحمواًل يف قض َّية عقل َّية تطابق قض َّية يف الكالم‪ ،‬وهذا التص ُّور‬
‫ً‬ ‫الفالسفة ميكن أن يكون موضو ًعا‬
‫أو االنفعال نوع لليشء‪ ،‬أو متثيل له‪ .‬لذا‪ ،‬فهو يفرتض لليشء يف القض َّية‪.‬‬
‫هذا الرأي‪ ،‬من وجهة أوكام‪ ،‬غري معقول ألسباب ع َّدة‪ :‬أواًلً ‪ ،‬أل َّن هذا النوع ليس موضو ًعا وغري‬
‫رضوري‪ .‬ثانياً‪ ،‬ألنَّه ال يوجد يشء يف النفس مختلف عن النفس باستثناء العادات واألفعال‪ ،‬وهي‬ ‫ِّ‬
‫التي رفضها من قبل عند أرسطو يف كتاب “األخالق” إىل نيقوماخوس‪ .‬ثالثًا‪ ،‬أل َّن هذه التص ُّورات‬
‫أي يشء‪ ،‬وسوف تكون‬ ‫أو املقاصد سوف تبقى يف النفس حتى عندما ال تقوم النفس بالتفكري يف ِّ‬
‫أي يشء‪.‬‬ ‫يل عن ِّ‬ ‫قضايا يف النفس عندما ال يكون هناك تفكري فع ٌّ‬
‫ين القائل بأ َّن انفعال النفس أقىص‬
‫الرأي األخري الذي يرفضه أوكام هو الرأي األسكويتُّ األفالطو ُّ‬
‫يعرِّب عن حقيقة يف النفس مثل‬‫فعل للفهم‪ .‬وهذا الرأي كام يبدو هو األقرب إىل الصواب ألنَّه ِّ‬
‫الكيف َّيات الصحيحة لها‪ ،‬وهو أقرب اآلراء املتش ِّددة إىل االعتدال[[[‪.‬‬
‫لكل اآلراء ونقدها‪ ،‬يرجع أوكام مرة أخرى لنقد أرسطو فيقول» إ َّن انفعاالت أو‬ ‫بعدما عرض ِّ‬
‫تص ُّورات النفس التي تكلَّم عنها «أرسطو»‪ ،‬والقضايا والقياسات املنطق َّية واملعاين الكل َّية‪ ،‬ما هي‬
‫موضوعي يكون مفر ًدا وال يوجد يف الواقع‪ ،‬فيطلق عليه وهم‬‫ٌّ‬ ‫سوى وهم يف النفس له فقط وجود‬
‫‪ ،ficta‬وهي موجودات ليست حقيقيَّة‪ ،‬ويف هذه الحالة األشياء املؤكَّدة يف العقل وضعت مختلفة‬

‫‪[1]- Boethius: from his second commentary on Aristotle De Interpretation,7.17a(21).‬‬


‫‪[2]- Ibid: Section 4(3543-) and section 5(5064-) and see also Scotus: Ordinatio,1.d 27.9.9,1 -3 n29(Vaticana‬‬
‫‪ed, v1,p84).‬‬

‫‪137‬‬
‫المحور‬

‫كل املوجودات التي توجد يف املقوالت‪ .‬يف هذه الحالة‬ ‫كل املوجودات الحقيقيَّة متضا َّدة مع ِّ‬‫يف ِّ‬
‫كل الحقائق الزائفة مثل حيوان خرايف ‪ chimera‬ووعل املاعز ‪ Agoat stag‬وما شابهها‪،‬‬ ‫تكون ُّ‬
‫كموجودات يف العقل‪ .‬وموجودات العقل هذه يجب أن تكون وحدات كالقالع واملنازل واملدن‪،‬‬
‫الحقيقي ‪ ،......،‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التي يت ُّم ابتكارها بواسطة الفنان قبل أن يت َّم إنتاجها للوجود‬
‫الذهبي ال ميكن أن يوجد يف الواقع‪ ،‬ولكن ميكن ا ِّدعاؤه من منظر الجبل ومنظر الذهب‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الجبل‬
‫يف‬
‫من هنا‪ ،‬عىل اإلنسان أن مييّز بني نوعني من الوهم‪ :‬األول ال ميكن تحقيقه كالحيوان الخرا ِّ‬
‫‪ chimerea‬وما شابهه‪ ،‬والثاين ميكن أن يطبق عىل منوالهم‪ ،‬وهذا النوع يسمى معاين كل َّية[[[‪.‬‬

‫تقسيم املعاين‬
‫بعدما رشح أوكام االختالفات يف وجهات النظر حول تص ُّورات أو مقاصد النفس‪ ،‬وقام بنقدها‪،‬‬
‫يقسم معاين هذه املقاصد إىل نوعني هام‪ :‬معاين املقصد األول‪ ،‬ومعاين املقصد الثاين‪.‬‬
‫راح ِّ‬
‫كل داللة قصديَّة موجودة يف النفس غري دالَّة عىل‬
‫املقصد األول يأخذ معنيني‪ .‬باملعنى الواسع ُّ‬
‫مقاصد أو عالمات عىل وجه الضبط تس َّمى «مقصد أول» حيث إنَّها أخذت داللة ض ّيقة ملا ُّ‬
‫يدل يف‬
‫النفس‪ ،‬وهي خطوة يك تفرتض يف قضيَّة لها داللتها‪ ،‬أو أنَّها داللة أخذت معنى واس ًعا يف النفس‪،‬‬
‫وهو ما نس ّميه مقولة دالل َّية ‪ ،Syncatgormatic‬ويف هذا املعنى األفعال العقل َّية‪ ،‬واملقوالت‬
‫الدالل َّية العقل َّية والروابط وما مياثلها ميكن أن يطلق عليها املقصد األول‪ ،‬وباملعنى الض ِّيق هي‬
‫خطوة يك تفرتض لداللتها[[[‪.‬‬
‫لكل البرش الجزئيني‪ ،‬وميكن أن يفرتض‬‫يف هذا املعنى يكون تص ُّور أو مقصد «اإلنسان» داللة ِّ‬
‫وكل املقوالت الدالل َّية‬
‫لهم أو يكون جز ًءا من قض َّية‪ ،‬وتص ُّور»البياض واللون» يس َّمى القصد األول‪ُّ ،‬‬
‫‪ Syncategormatic‬مثل “ليس” ‪”not‬وبينام”‪ ”while‬ويكون”‪”is‬ويجرى”‪ ”runs‬ويقرأ “‪ Read‬وما‬
‫يشابهها تس َّمى املقصد األول‪.‬‬
‫واملقصد الثاين أيضً ا ُّ‬
‫يدل بالطبع عىل املقصد األول‪ .‬هذه املقاصد كالجنس والنوع والفصل‬
‫هي أمثلة ملصطلحات القصد الثاين‪.‬‬
‫لكل البرش‪ ،‬وهو محمول لهم كلهم بقولنا”هذا اإلنسان إنسان”‪this‬‬
‫والقصد الواحد مشرتك ِّ‬
‫لكل املقاصد التي ُّ‬
‫تدل وتفرض‬ ‫‪ ،man is man‬وهكذا‪ ،‬والقصد الواحد ميكن أن يكون مشرتكًا ِّ‬
‫محمواًل‬
‫ً‬ ‫لألشياء التي تكون محمولة لهم‪ ،‬مثااًلً “ النوع هو النوع‪ ،......،‬والقصد الواحد قد يكون‬

‫‪[1]- Ibid: section,10(550 -570).‬‬


‫‪[2]- Ockham: Summae Logicae,ch12,(35- 40).‬‬

‫‪138‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫محمواًل ملعان مختلفة[[[‪.‬‬


‫ً‬ ‫لقصد كقولنا “اإلنسان معنى”‪ ،‬و”الحامر معنى”‪ ،‬واملعنى الواحد يكون‬
‫يدل عىل دالالت عقل َّية دالَّة بالفهم‪ ،‬أل َّن تص ُّور»اإلنسان‬ ‫فتص ُّور النفس س ّمي بالقصد الثاين‪ ،‬حيث ُّ‬
‫كل البرش مثااًلً «هذا اإلنسان إنسان»‪ ،‬وهكذا التص ُّور املشرتك‬ ‫حمل عىل ِّ‬ ‫جنسا أو نو ًعا ُ‬
‫الذي يكون ً‬
‫مثااًل “اإلنسان نوع” و “الثور نوع”‪ ،‬ويف سبيل‬ ‫حمل للقصد األول‪ ،‬فيفرتض لألشياء ً‬ ‫هو قصد ثانٍ ُ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫مثااًل “اإلنسان معنى” و”البياض معنى”‪ ،‬لذلك فالقصد‬ ‫هذا االسم الواحد يحمل عىل معان مختلفة ً‬
‫يدل القصد األول عىل أشياء ظاهريَّة‬ ‫يدل عىل القصد األول‪ ،‬وميكن أن يفرتض له‪ ،‬متا ًما كام ُّ‬ ‫الثاين ُّ‬
‫وميكن أن يفرض لها[[[‪.‬‬
‫عندما ميعن الفرد يف املعاين اللغويَّة يالحظ أ َّن االختالف بني املعاين املقول َّية ‪Categorematic‬‬
‫واملعاين الدالل َّية ‪ syncotegorematic‬يكمن يف أ َّن املعاين الدالل َّية مطابقة للمعاين املنطق َّية‬
‫الخالصة‪ ،‬وهي ملعانٍ متَّصلة تكون مقوالت األشياء‪ .‬هذه األشياء األساسيَّة من مقوالت يف الفرد‬
‫ميكن توظيفها كموضوع أو محمول‪ ،‬ومقوالت األشياء ميكن أن تختلف بني القصد األول والقصد‬
‫تدل عىل‬ ‫تدل عىل املصطلحات غري اللغويَّة‪ ،‬ومعاين القصد الثاين ُّ‬ ‫الثاين‪ ،‬فمعاين القصد األول ُّ‬
‫الرموز اللغويَّة األخرى‪ ،‬أو التص ُّورات التي تطابق الرموز الطبيع َّية‪ ،‬ومعانٍ مثل معاين القصد الثاين‬
‫يل يعجز‬ ‫الواقعي لنظريَّة املعنى الك ِّ‬
‫َّ‬ ‫هي معانٍ كليَّة‪ ،‬ومن وجهه نظر أوكام‪ ،‬إ َّن الذي يعتنق الرأي‬
‫عاَّم هو مطلق و ما هو متض ّمن‪ ،‬فاملعاين‬ ‫عن رؤية أ َّن املعاين التي يف القصد األول تختلف َّ‬
‫يل ويشء‬ ‫تدل عىل يشء أو ٍّ‬‫كل الحاالت‪ ،‬بينام املعاين املتض َّمنة ُّ‬ ‫املطلقة ُّ‬
‫تدل عىل ما هو أوىل يف ِّ‬
‫ثانوي[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫آخر‬
‫ومن املالحظ أ َّن ما ذهب إليه أوكام يف هذا املحور بأساسيه األول ( تقسيم املعاين)‪ ،‬والثاين‬
‫الكيّل عند أرسطو ‪ -‬املقوالت‬
‫ّ ِّ‬ ‫املنطقي للمعنى‬
‫ِّ‬ ‫إاَّل تطوير للجانب‬
‫(تقسيم املقاصد)‪ ،‬ما هو َّ‬
‫الواقعي‪ ،‬وكر ِّد فعل عىل االتجاه‬
‫ِّ‬ ‫ليعرِّب عن اتجاهه‬
‫ِّ‬ ‫والكليَّات الخمس ‪ -‬الذي كان قد وضعه‬
‫ين‪ .‬فتقسيم املعاين عند أوكام يوازي تقسيم املقوالت عند أرسطو‪ ،‬وتقسيم املقاصد‬ ‫األفالطو ِّ‬
‫يوازي الكل َّيات الخمس‪.‬‬
‫ّْ‬
‫الكلي‬ ‫ابستمولوجيا املعىن‬
‫أبستمولوجي‬
‫ٌّ‬ ‫الكيّل عند وليام األوكامي‪ ،‬هو محور‬
‫املحور الثالث الذي نناقش فيه مفهوم املعنى ّ ِّ‬
‫قسمنا فيه أيضً ا أنواع املعرفة‬
‫قسمنا فيه أنواع العلم‪ ،‬والثاين َّ‬
‫يف ‪ -‬وينقسم إىل قسمني‪ :‬األول َّ‬
‫– معر ٌّ‬

‫‪[1]- Ockham: Summae Logicae,ch12,(45- 5).‬‬


‫‪[2]- Ockham: Qoudlibet 4,Question 35,Article 2.‬‬
‫‪[3]- D.W.Hamlyn:pengin History of Western philosophy,p118.‬‬

‫‪139‬‬
‫المحور‬

‫قسم أوكام‬‫الكيّل‪ ،‬باإلضافة إىل عالقة النوع باملعرفة الحدسيَّة‪ .‬يف القسم األول َّ‬ ‫ّ ِّ‬ ‫وعالقتها باملعنى‬
‫الحقيقي ‪Scientio Realis‬‬
‫ُّ‬ ‫يل‪ ،‬فالعلم‬
‫الحقيقي والعلم العق ُّ‬
‫ُّ‬ ‫العلم إىل منوذجني أساسيَّني‪ :‬العلم‬
‫يل باملعاين أو الحدود‪ Terms‬التي ال تستند‬ ‫يركِّز عىل الحقيقة يف العقل‪ ،‬بينام يهت ُّم العلم العق ُّ‬
‫مبارشة إىل األشياء الحقيق َّية‪ .‬ولهذا‪ ،‬فاملنطق يعالج معاين القصد الثاين مثل الجنس والنوع‪ ،‬لذا‬
‫يل‪ .‬وإذ يهت ُّم املنطق مبعاين القصد الثاين التي هي معانٍ كليَّة فهو يهت ُّم مبنطق‬ ‫فهو من العلم العق ّ‬
‫يل‪ .‬وقد‬
‫أنَّها ال ميكن أن تكون موجودة من دون العقل ‪ ،sineratione‬وهي تعالج باالختالق العق ّ‬
‫الكيّل كتص ُّورات أو كموجودات‬ ‫ّ ِّ‬ ‫قلنا من قبل إ َّن أوكام ال يوجب التح ُّدث عن مفاهيم املعنى‬
‫متخ َّيلة[[[‪.‬‬
‫يل يهت ُّم مع الُّلغة بنسق الدالالت‪ ،‬أو ميكن أن يستخدم ىف‬ ‫يجدر القول أ َّن املنطق كعلم عق ٍّ‬
‫صياغة الجمل الصحيحة والخاطئة عن األشياء الدالَّة عن طريق الدالالت‪ ،‬وتعبريات الُّلغة املكتوبة‬
‫يل للنفس‪ ،‬كام أنَّه‬
‫املؤسسة بالفهم ليعدل عىل ما هو دال بأفعال الفكر املبن َّية عىل الحديث الداخ ِّ‬
‫َّ‬
‫يل‪ .‬وقد ميَّز مناطقة العرص‬
‫يدرس خصائص تعبريات الُّلغة‪ ،‬ويتض َّمن الوظائف األساسيَّة للحديث العق ّ‬
‫مستقل‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫مستقل‪ ،‬فالدالالت املقول َّية ‪ categorematic‬لها معنى‬
‫ٌّ‬ ‫الوسيط دالالت اللغة التي لها رمز‬
‫ولها وظيفة كمحمول وموضوع القضايا‪ ،‬بينام الدالالت املقول َّية الدالل َّية ‪syncotegorematic‬‬
‫تخص الداللة املقول َّية‪ ،‬وهذا التمييز ينطبق‬
‫ُّ‬ ‫مستقل‪ ،‬ولكن لها وظيفة منطق َّية متع ِّددة‬
‫ٌّ‬ ‫ليس لها معنى‬
‫عىل ما يحدث يف املنطق الحديث بني الدالالت الوصفيَّة والدالالت املنطقيَّة[[[‪.‬‬
‫إ َّن تقسيامت أوكام املنطق َّية يف الداللة إىل دالالت مقول َّية ودالالت مقول َّية دالل َّية‪ ،‬تشبه ما‬
‫يوضع اآلن يف التمييز بني الدالالت الوصفيَّة ملوضوع الُّلغة‪ ،‬والدالالت الوصفيَّة ملا وراء الُّلغة‬
‫املدريس كمشكلة‬
‫ِّ‬ ‫‪ ،metalanguage‬وأ َّن معظم املتاهات امليتافيزق َّية يف القرن الثالث عرش‬
‫منطقي‪ ،‬ناتج من استدالل معاين القصد األول ‪Frist‬‬ ‫ٍّ‬ ‫الكل َّيات يف وجهة نظر أوكام نشأت من خطأ‬
‫‪ imtention‬كمعاين القصد الثاين ‪ .[[[ second intention‬وهذا الرأي فطن إليه أرسطو من قبل‬
‫فوضع جانبًا منطقيًّا للمعاين الكليَّة يتلخَّص يف املقوالت والكليَّات الخمس‪ ،‬كام عرضنا لها آنفاً‬
‫يف الفصل الثالث‪.‬‬
‫أي علم سواء‬‫الحقيقي يهت ُّم باألشياء التي ترتبط باألشياء الفرديَّة‪ .‬فقد رأى أوكام أ َّن َّ‬
‫ُّ‬ ‫والعلم‬
‫الحقيقي مرتبط باألشياء‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كان حقيقيًّا أم عقالنيًّا هو من القضايا‪ ،‬مبعنى آخر‪ ،‬عندما قال إ َّن العلم‬
‫متسك‬
‫الكيّل‪ ،‬ألنَّه َّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫فهو بذلك ال ينكر نظريَّة آرسطو طاليس التي تؤكِّد أ َّن العلم قائم عىل املعنى‬

‫‪[1]- Copleston: History of philosophy, vol 3, p59.‬‬


‫‪[2]- Ernest.A.Moody: William of Ockham, pp 311- 12.‬‬
‫‪[3]- Loc cit.‬‬

‫‪140‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫اآلرسطي القائل بأ َّن الفرديَّات فقط هي التي توجد[[[‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫باملذهب‬
‫الكيّل‪ ،‬وهذا واضح من خالل األمثلة التي أعطاها‬‫ّ ِّ‬ ‫الحقيقي يهت ُّم بقضايا املعنى‬
‫ُّ‬ ‫إذًا‪ ،‬العلم‬
‫وكل رجل قادر عىل التدريب حيث تستند املعاين الكل َّية عىل‬ ‫للقضايا «الرجل قادر عىل الضحك»‪ُّ ،‬‬
‫الكيّل املوجودة فوق التص ُّور العقيل ‪.extra-mentalty‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫األشياء الفرديَّة وليست عىل حقائق املعنى‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الحقيقي يهت ُّم باألشياء الفرديَّة عن طريق املعاين أو الحدود ‪،terms‬‬


‫َّ‬ ‫وإذا كان أوكام قال إ َّن العلم‬
‫الحقيقي ال يكون مرتبطًا باملوجودات الحقيقيَّة وهي األشياء الفرديَّة‪ ،‬حيث‬ ‫َّ‬ ‫فهو ال يعني أ َّن العلم‬
‫الحقيقي قض َّية صحيحة‪،‬إذا‬
‫ِّ‬ ‫حة أو بزيف القضايا‪ ،‬ولكن ميكن القول بأ َّن قض َّية العلم‬ ‫يهت ُّم العلم بص َّ‬
‫لكل معاين القضايا التي تكون دالالت طبيع َّية‪ .‬والفرق بني‬ ‫لكل األشياء الفرديَّة أو ِّ‬ ‫كانت مخالفة ِّ‬
‫ين يكمن يف أ َّن األجزاء التي تكون ملعاين القضايا ت ُعرف عن طريق‬ ‫الحقيقي والعلم العقال ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫العلم‬
‫الحقيقي املستند إىل األشياء والتي ال تكون حالة مرتبطة مبعاين القضايا املعروفة بوساطة‬ ‫ِّ‬ ‫العلم‬
‫ين‪ ،‬وهذه املعاين تستند إىل معانٍ أخرى‪.‬‬ ‫العلم العقال ِّ‬
‫كام أ َّن إرصار أوكام عىل األشياء الفرديَّة كموجودات نفسيَّة ال يعني أنَّه أنكر العلم املعتمد‬
‫الكيّل‪ ،‬أو أنكر أفكار آرسطو يف املبادئ املتعذّر إثباتها أو برهنتها‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫كمعرفة لقضايا املعنى‬
‫كل‬
‫املنطقي‪ ،‬ولكنه اعترب أنَّه يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫فهو مل يقصد أ َّن كل القضايا الحقيق َّية ميكن إثباتها بالقياس‬
‫املنطقي الجيِّد‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬هو أيَّد فكرة‬
‫ِّ‬ ‫الحاالت‪ ،‬تكون املعرفة العلميَّة مكتسبة من نتاج القياس‬
‫أرسطو يف نظريَّة الربهان‪ ،‬وهو يحمل جان ًبا للعقل عندما قال إ َّن العلم يهت ُّم بالقضايا‪ ،‬إذ مل يكن‬
‫بأي يشء عن‬ ‫يعني أ َّن العلم منفصل كل َّية عن الحقيقة‪ ،‬أو أ َّن نظريَّة الربهان ال تستطيع أن تخربنا ِّ‬
‫األشياء[[[‪.‬‬
‫يل‪ ،‬ولك َّنه أبدى سابقًا رفضه‬
‫الحقيقي ليم ّيزه عن العلم العق ِّ‬
‫َّ‬ ‫من هنا‪ ،‬نالحظ أ َّن أوكام قبل العلم‬
‫ين يدقِّق أكرث يف برهنة تض ُّمنات املعاين‬ ‫الحقيقي كعلم برها ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫للامه َّيات امليتافيزيق َّية‪ ،‬والعلم‬
‫الحقيقي‬
‫ِّ‬ ‫ري رصف‪ .‬ونتيجة القياس يف العلم‬ ‫واملق ِّدمات والتعريفات‪ ،‬ويحفظه مع عامل تص ُّو ٍّ‬
‫ميكن أن تحقِّق تجري ًبا‪ ،‬وليس هناك رضورة مطلقة لتحقُّق وجودها تجري ًبا‪ .‬وهو يرى أ َّن هذه وجهة‬
‫رض الفكر‬
‫نظر املسيح َّية الحقَّة يف فكرة الرضورة العل َّية التي لها جذورها يف الفلسفة الوثن َّية لت ّ‬
‫املسيحي[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫إىل ذلك‪ ،‬إذا كانت العلوم تهت ُّم بالعقل عند أوكام‪ ،‬فقد رأى أ َّن العقل يشء رائع‪ ،‬ولكن‬

‫‪[1]- Copleston: op cit, p 59.‬‬


‫‪[2]- Ibid: pp60- 1.‬‬
‫‪[3]- Ibid: pp60- 1.‬‬

‫‪141‬‬
‫المحور‬

‫استنتاجاته ال تكون لها معنى إاَّلَّ إذا كانت تشري إىل التجربة‪ ،‬أي إدراك الذات َّيات الفرديَّة أو إىل‬
‫وإاَّل فإ َّن استنتاجاته تكون من قبيل العبث‪ ،‬وقد تكون تجريدات خادعة‪ ،‬وما‬ ‫أداء األفعال الفرديَّة‪َّ ،‬‬
‫قواًل وكتابة بإساءة فهم األفكار عىل أنَّها أشياء‪ ،‬والتجريدات عىل أنَّها حقائق‪ ،‬فالفكرة‬ ‫أكرث الَّلغو ً‬
‫إاَّل عندما تؤ ّدي إىل بيّنات معيَّنة عن أشياء معيَّنة‪.‬‬
‫املج َّردة ال تقوم بوظيفتها َّ‬
‫امليتافيزيقي والعلم تعميامت مقلقة أل َّن تجربتنا ليست عن ذات َّيات‬
‫ِّ‬ ‫كاًّل من‬ ‫لقد أعلن أوكام أ َّن ًّ‬
‫معيَّنة يف مساحة وزمن محصورين يف نطاق ضيّق‪ .‬ولذلك‪ ،‬من الغرور أن تفرتض عىل وجه الشمول‬
‫حة القضايا والقوانني الطبيعيَّة التي تستم ُّدها من هذا القطاع الصغري من الحقيقة‪ ،‬فتُصاغ‬ ‫والدوام ص َّ‬
‫معرفتنا وتح َّدد بوسائلنا وطرقنا يف إدراك األمور(وهذا قال به كانط يف ما بعد)‪ ،‬وهي تبقى حبيسة‬
‫أي يشء[[[‪.‬‬
‫يف سجن عقولنا‪ ،‬ويجب أاَّلَّ يُ َّدعى أنَّها الحقيقة املوضوع َّية أو النهائ َّية عن ِّ‬
‫َّ‬
‫احلدسية‬ ‫املعرفة‬
‫الكيّل‪ ،‬ركَّز فيه أوكام عىل شقَّني‪:‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫األبستمولوجي ملفهوم املعنى‬
‫ِّ‬ ‫القسم الثاين من الجانب‬
‫األول‪ ،‬ميَّز فيه بني نوعني من املعرفة وهام املعرفة الحدسيَّة واملعرفة املج َّردة‪ .‬والثاين نفى فيه‬
‫دور النوع يف املعرفة الحدس َّية[[[*‪.‬‬
‫بالنسبة إىل املعرفة الحدسيَّة فهي توصف كفعل لإلدراك يف فاعليَّة ما يحكم عليه بأنَّه موضوع‬
‫مدرك موجود أو غري موجود‪ ،‬أو له كيف َّية جزئ َّية‪ ،‬أو ميتلكها‪ ،‬أعني‪ ،‬أنَّها فعل إدراك مبارش يف فعال َّية‬
‫الحقيقة اإلحتامل َّية التي ميكن أن تكون‪.‬‬
‫قبل أوكام بأ َّن املعرفة الحدسيَّة للموضوع غري املوجود منطقيَّا ممكنة‪ ،‬ألنَّها تسبَّبت بحضور‬
‫موضوعاتها‪ .‬لذلك‪ ،‬ليس من التناقض الذايتِّ أنَّها توجد من دون املوضوعات املوجودة‪ ،‬ولو‬
‫أي حقيقة ‪ Effect‬ميكن أن تكون ناتجة من طريق العلَّة املخلوقة التي أوجدها الله من‬ ‫افرتضنا َّ‬
‫دون العلَّة املخلوقة‪ ،‬فهذه احتامليَّة منطقيَّة أدركتها قدرة الله يف هذا الصدد‪ ،‬أل َّن الله يف االعتقاد‬
‫املسيحي ينتج املعرفة الحدسيَّة ملستقبل األشياء واألحداث عن طريق ما ميلكه األنبياء والق ّديسون‬ ‫ِّ‬
‫كل األشياء حدس ًّيا وليس تجريديًّا[[[‪.‬‬ ‫من معرفة ثابتة ملا ال يوجد بعد‪ ،‬وأ َّن الله بذاته الذي يدرك َّ‬
‫الكيّل يدرك حدس ًّيا ألنَّه غري موجود يف الطبيعة‪ ،‬إمنا وجوده‬ ‫ّ َّ‬ ‫وإذا كان أفالطون اعتقد أ َّن املعنى‬
‫يئ‬
‫يئ‪ ،‬ومعنى أنَّه غري مر ٍّ‬‫وجو ًدا عقليًّا‪ ،‬فإ َّن أوكام يجاريه يف ذلك بدافع الهويتٍّ وهو أ َّن الله غري مر ٍّ‬

‫‪[1]- Copleston: Medieval philosophy, the cloister library, New Yourk, 1962,p.134.‬‬
‫[[[‪ -‬يعنى الحدس لغوياً الظن والتخمني ىف معاىن الكالم واألمور‪ ،‬والنظر الخفى‪ ،‬والرضب‪ ،‬والذهاب ىف األرض عىل غري هدايا‪ ،‬والرمى‬
‫والرسعة ىف السري واملعنى عىل غري استقامة أو عىل غري طريقة مستمرة‪ .‬د‪-‬جميل صليبا‪ ،‬املعجم الفلسفى‪ .‬املجلد األول‪ .‬دار الكتاب‬
‫اللبناىن‪ .‬بريوت (مادة حدس) ص ‪.452-451‬‬
‫‪[3]- Ernest.A.Moody: William of Ockham, p 309.‬‬

‫‪142‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫ال يعني أنَّه غري موجود‪ ،‬إمَّنَّ ا يدرك وجوده حدسيًّا‪.‬‬


‫وذكر أوكام أ َّن املعرفة الحدس َّية شكل ملوضوع إدراك حارض لنا املعرفة به ميكن أن تكون‬
‫النوعي لإلنسان الذي هو‬
‫ّ‬ ‫يّل‪ ،‬والتص ُّور‬
‫يئ هو ما يفهم مبعرفة املعنى الك ِّّ‬ ‫ب ّينة[[[‪ .‬فاليشء الجز ُّ‬
‫حديس موجود‬
‫ٌّ‬ ‫تعقُّل فقط لسقراط وأفالطون والجزئيَّات األخرى[[[‪ ،‬فكلمة إنسان موضوع إدرايكٌّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫كيّل ميكن أن يكون متح ِّققًا تحقيقًا ب ِّي ًنا يف جزئ َّيات األسامء كأفالطون وسقراط‪.‬‬
‫كمعنى ّ ٍّ‬
‫وقد يكون الحدس تا ًّما حني يُبنى عىل الخربة املبارشة‪ ،‬وغري تا ٍّم حني تأيت الخربة مبثل معرفتها‬
‫عرَّب عنه سكوت يف أ َّن حدس َّيات األشياء تكون مضطربة ىف هذه الحياة لعدم‬ ‫لصاحبها‪ ،‬وهو ما َّ‬
‫كل املعارف املج َّردة نبعت من املعارف الحدس َّية‪ ،‬كام هو‬ ‫قدرتنا عىل فهم محتويات األشياء‪ ،‬وأ َّن َّ‬
‫كل األفكار نبعت من تطابق االنطباعات‪ ،‬وأنَّها تعتمد عىل تركيب يحصل عىل‬ ‫عند هيوم‪ ،‬من أ َّن َّ‬
‫قدرة أو عادة ‪ habitus‬لفهم املوضوع[[[‪.‬‬
‫الكيّل عنده مج َّرد عن الجزئ َّيات‬
‫ّ َّ‬ ‫هذا االتجاه هو نفسه الذي اتَّخذه أرسطو‪ ،‬حيث أ َّن املعنى‬
‫التي تأخذ انطباعاتها من الكلّيَّات‪ ،‬وأ َّن ما حدث هو أ َّن العقل ج َّرد الجزئيَّات بالحدس عن طريق‬
‫اإلدراك املبارش‪.‬‬
‫كاًّل من أفالطون وأرسطو وأوكام متَّفقون حول أ َّن وظيفة املعرفة الحدس َّية‬‫ماَّم سبق يتَّضح لنا أ َّن ًّ‬
‫َّ‬
‫هو إدراك املعاين الكليَّة‪ ،‬أ َّما إدراك الجزئيَّات فهو مخ َّول للمعرفة املج َّردة‪.‬‬
‫ورغم هذا االتفاق‪ ،‬كان أوكام يرفض املعرفة الحدس َّية العقل َّية األرسط َّية ويريض نفسه بتكرار‬
‫يل‪ ،‬أ َّن معرفة الجزئيَّات واملعرفة الحدسيَّة حيّزت‬ ‫جتني لسكوت لتأييد هذا االعرتاض األو ِّ‬ ‫ح َّ‬
‫باإلحساسات‪ ،‬وما هو ممكن للقدرة األدىن ممكن للقدرة العليا الثانية‪ ،‬أ َّن املعرفة التي تحوي‬
‫رشوط األشياء الزمان َّية واملكان َّية تكون كاملة أكرث من املعرفة التي ال تشمل هذه الرشوط‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن‬
‫كاماًل من املعرفة املج َّردة واإلحساسات قابلة للمعرفة الحدس َّية‪ ،‬وإذا كان‬‫ً‬ ‫املعرفة الحدس َّية أكرث‬
‫كاماًل من املعرفة‬
‫ً‬ ‫الحس ستكون أكرث‬
‫ِّ‬ ‫العقل ال يقبل بطريقة مامثلة للمعرفة الحدسيَّة‪ ،‬فإ َّن معرفة‬
‫العقل َّية[[[‪.‬‬
‫لقد أخطأ أوكام يف اعتبار أ َّن املعرفة الحدسيَّة عند أرسطو عقليَّة‪ ،‬ألنَّنا إذا بحثنا يف الرتاث‬
‫خصوصا يف النظريَّة األبستمولوجيَّة‪ ،‬نجد أ َّن نوع الحدس الذي استخدمه أرسطو من‬ ‫ً‬ ‫األرسطي‪،‬‬
‫ِّ‬

‫‪[1]- D.W.Hamlyn: op cit p118.‬‬


‫‪[2]- Gedeon Gal: Reportatio,3705- p 205.‬‬
‫‪[3]- Ernesr.A.Moody: op cit.p 309.‬‬
‫‪[4]- Sebastion J.day: intuitive cognition akey to the significance of the later scholastics Franciscan‬‬
‫‪Institute,Bonaventure N.Y,1997,p 196.‬‬

‫‪143‬‬
‫المحور‬

‫حدسا‬
‫ً‬ ‫بني أنواع الحدس املختلفة التي تح َّدث عنها فالسفة العرص الوسيط‪ ،‬لوجدنا أنَّه مل يكن‬
‫عقليًّا فحسب‪ ،‬ومل يكن هو ذلك الحدس املبارش الذي يتجاوز العقل‪ ،‬بل كان أقرب ما ميكن أن‬
‫الحيّس‪ ،‬إذ إ َّن خيطًا رفي ًعا يربط بني هذين املعنيني للحدس عند أرسطو[[[‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫يل‬
‫نس ّميه بالحدس العق ِّ‬
‫ويرى أوكام أ َّن املعرفة الحدسيَّة هي الصورة األوىل ملعرفتنا بالجزئيَّات‪ ،‬وتحدث من دون‬
‫توسط بني العقل واملوضوع‪ ،‬وهذه األشياء واقع َّية‪ ،‬واألشياء الواقع َّية هي جزئ َّيات‪ ،‬ث َّم إ َّن معرفتنا‬ ‫ُّ‬
‫تبدأ مبعرفة األشياء الجزئ َّية‪.‬‬
‫يئ يف ذاته ال ميكن أن يُج َّزأ باملا َّدة‪ ،‬وال نستطيع أن نبدأ‬
‫يئ هو جز ٌّ‬‫«كل يشء جز ٍّ‬ ‫كام يقول ُّ‬
‫الكيّل ونسأل كيف يج ّزئونه؟ ميكن أن نبدأ باألشياء الفرديَّة‪ ،‬ونسأل كيف أن التص ُّور‬
‫ّ ِّ‬ ‫بطبيعة املعنى‬
‫الذي نط ِّبقه لهم هو معانٍ كلية»[[[‪.‬‬
‫هذا التساؤل عن املعاين الكلّ َّية يجعلها مشكلة سيكولوج َّية ال مشكلة ميتافيزيق َّية‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف‬
‫يئ) يُعرف أ َّو ًاًل‬
‫أجاب أوكام عىل هذه املشكلة السيكولوج َّية؟!‪ ....‬أجاب بأ َّن « الجزء (اليشء الجز َّ‬
‫خاصة وبسيطة ‪ PROPER AND SIMPLE‬هي املعرفة الحدسيَّة[[[‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫مبعرفة‬
‫الرضوري‬
‫ِّ‬ ‫الخاص والبسيط‪ ،‬ميكن أن تكون مختلفة وليس من‬
‫ِّ‬ ‫وهذه املعرفة‪ ،‬بجانب املوجود‬
‫يل مهام كان‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إ َّن اليشء ميكن أن يعرف بطريقة‬
‫ألي معنى ك ٍّ‬ ‫أن تأخذ تص ُّو ًرا مختلفًا ِّ‬
‫يل ‪ ،[[[ ratio definitive‬لذا‪ ،‬فاليشء ميكن أن يعرف بطريقة عقليَّة‬‫مختلفة ومن دون وصفه العق ِّ‬
‫من دون أن يأخذ تص ُّو ًرا كل ًّيا له[[[‪.‬‬
‫الخاص والبسيط واملعرفة املختلفة للجزئيَّات بجانب‬
‫ِّ‬ ‫يقل عن‬
‫الكيّل ال ُّ‬
‫الواقع أ َّن مفهوم املعنى ّ ِّ‬
‫الخاصة والبسيطة للجزئ َّيات ننتقل‬
‫َّ‬ ‫البعدي له‪ posterior‬طبقًا لتعميمه‪ ،‬ومن هذه املعرفة‬ ‫ِّ‬ ‫الوجود‬
‫إىل املعرفة العقل َّية والكلّ َّية التي ت ُج َّرد من الوجود والحارض واالختالفات الفرديَّة للموضوعات‬
‫الفرديَّة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫الهوت املعىن الكل ّي‬
‫الاَّلهويتُّ‪ ،‬يك َّرر أوكام يف أكرث من‬
‫الكيّل‪ ،‬أو الجانب َّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫يف املحور الرابع‪ ،‬يف مفهوم املعنى‬
‫ي‬
‫يقسم الجوهر إىل ما ّد ٍّ‬
‫موضع منه أ َّن الوجود يقسم إىل موجودات فعليَّة وموجودات عقليَّة‪ ،‬كام ِّ‬

‫[[[‪ -‬د‪ /‬مصطفى النشار‪ :‬مدخل جديد للفلسفة‪ ،‬دار قباء للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪ ،1997‬ص‪.93‬‬
‫‪[2]- Ockham: Ordinitio.d.2q.4q from. Sebasrainj.day, op, p 108.‬‬
‫‪[3]- Ibid:d.3.q.5.‬‬
‫‪[4]- Ibid: d.3.q.7 and 9.5.‬‬
‫‪[5]- Ibid d.22.9.1.c.‬‬

‫‪144‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫وروحي‪ .‬واملوجودات العقليَّة والفعليَّة مختلفة أكرث من اختالف موجودين واقعيَّني‪ ،‬كام أ َّن الجوهر‬
‫ٍّ‬
‫والروحي مختلفان أكرث من اختالف جوهريَّني ماديني[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ي‬
‫املا ّد ِّ‬
‫وهو يق ِّرر أيضً ا أن هناك حاالت يكون فيها املوجود مختلفًا عن اآلخر‪ ،‬منها أنَّه مختلف كموجود‬
‫الواقعي‬
‫ِّ‬ ‫يل عن اآلخر‪ ،‬حينام يكون هناك اختالف يف العقل‪ ،‬ومنها أنَّه مختلف كاملوجود‬ ‫واحد عق ٍّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يل يف حالة االختالف الض ِّيق وليس اختالفًا يف العقل‪ ،‬ولك َّنه‬‫الواقعي عن املوجود الفع ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أو اليشء‬
‫يل‬
‫متوسط‪ ،‬وباملعنى الواسع يقال إ َّن هناك اختالفًا يف العقل‪ ،‬ومنها أنَّه اختالف يف إجام ِّ‬‫ِّ‬ ‫اختالف‬
‫الواقعي[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الواقعي أو موجود الفعل من الوجود‬
‫ِّ‬ ‫اليشء‬
‫نحل املشاكل األنطولوج َّية – املعاين الكلّ َّية‬
‫وإذا كان من غري املمكن عند دنس إسكوت أن َّ‬
‫يل أو االختالف كمتضا ٍّد مع االختالف‬ ‫والاَّلهوت َّية من دون ال ُّرجوع إىل التامثل الشك ِّ‬
‫والجزئ َّية – َّ‬
‫الواقعي الذي يسود بني األشياء الواقعيَّة واختالف العقل القائم عىل نشاطات العقل للفهم‪ ،‬ألنَّه‬ ‫ِّ‬
‫يرى أ َّن االختالف موجود يف الله بني كيان وكيان ‪ entity‬وبني حقيقة وحقيقة‪ ،‬حتى يف املوضوع‬
‫الواحد بني تص ُّورات وتص ُّورات[[[‪.‬‬
‫ين‪ ،‬ويناقض أيضً ا أفالطون نفسه حيث أ َّن الجزئيَّات‬
‫أوكام يرفض هذا الرأي اإلسكويتِّ األفالطو ِّ‬
‫الحقيقي هو وجود الكل َّيات التي‬
‫ُّ‬ ‫موضوعي‪ .‬والوجود‬
‫ّ‬ ‫تعرِّب عن وجود‬
‫عنده مختلفة لكرثتها وال ِّ‬
‫يشملها وجود الخري يف ذاته الذي ال يوجد فيه اختالف كاالختالف املوجود يف الفرديَّات الطبيع َّية‪.‬‬
‫وهو يوضح أ َّن االختالف بني الكل َّيات والجزئ َّيات يف العقل هو اختالف ضئيل‪ ،‬أل َّن الكل َّيات‬
‫يئ املوجود حقيقة يف الواقع يكون‬ ‫برأيه هي تص ُّورات فحسب‪ ،‬وال أحد ميكنه القول أ َّن الجز َّ‬
‫واقعي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫مج َّر ًدا يف العقل‪ ،‬لذا استنتج أ َّن املعنى يجب أن يكون يف العقل الذي ال يكون له وجود‬
‫أي من املظاهر‬ ‫ولكن يوجد كموضوع يف الفكر[[[‪ ،‬فليس من املسلَّم به أ َّن هناك أشكااًلً يف الله أو ٍّ‬
‫املاهويَّة ‪ ،Quidditative aspects‬أو أ َّن املظاهر املاهويَّة تزيد عن األشياء الواقع َّية املتع ِّددة‪،‬‬
‫ألي ما يكون‬ ‫وهكذا تكون املاه َّية واإلضافة – الله وثالوثه – وال يجب التسليم بأ َّن هناك كرثة ٍّ‬
‫موجو ًدا حقًّا يف الله مهام كان ما يس َّمى به أكرث من كرثة األشياء‪ ،‬لهذا ال توجد مناذج حقيق َّية أو‬
‫أشياء كثرية[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Ockham:ordination,Translated by p.Boehner (opera Theolgica),vol 21,st Bonventure N.y, the‬‬


‫‪Franciscan Institute, 1970,d-2-q-ot ii.55.‬‬
‫‪[2]- Marlyn Maccord Adams: Ockham on identity and distinotion, Franciscan studies Xiv, The‬‬
‫‪Franciscan Institute,ST.Bonaventure University, 1976,p21.‬‬
‫‪[3]- Ibid: p22.‬‬
‫‪[4]- Ibid: p21.‬‬
‫‪[5]- Ockham: ordination, d.2.q.11.OTT.371.‬‬

‫‪145‬‬
‫المحور‬

‫ال يعتقد أوكام بأ َّن تع َّدد الكيانات يأيت من حقيقة أ َّن املاهيَّة واألب َّوة مختلفان شكليًّا‪ ،‬فإذا كانت‬
‫شكاًل‪ ،‬فال يستلزم أنَّهام تص ُّورات مختلفة‪ ،‬وأن هناك اختالفًا وسطًا‪ ،‬حتى لو مل‬ ‫ً‬ ‫‪X‬و‪ Y‬مختلفني‬
‫شكاًل‬
‫ً‬ ‫يل‪ ،‬عندما يقال إ َّن املاه َّية واإلضافة مختلفان‬ ‫الحقيقي واملوجود الفع ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يكن بني املوجود‬
‫‪.[[[ Formally‬‬
‫أي ألوه َّية لالبن‪ ،‬فإ َّن كلمة الشكل َّية‬
‫وهنا تربز املقولة القائلة بأ َّن املاه َّية اإلله َّية تختلف شكل ًّيا عن ِّ‬
‫حقيقي أكرث من أنَّها تعمل كمقوالت دالل َّية ‪.[[[ Syn catearmatic‬‬ ‫ٍّ‬ ‫محل أي موجود‬ ‫تحل َّ‬‫هنا ال ُّ‬
‫كاًّل‬
‫فاملاه َّية اإلله َّية مختلفة عن النب َّوة والقدس َّية وتتامثل مع األب ألنَّهام مرتبطان‪ ،‬حيث أ َّن ًّ‬
‫منهم له صفاته التي ال تحمل عىل األخرى‪ ،‬ولكن املاه َّية اإلله َّية مشرتكة لألشخاص الثالثة واألبويَّة‬
‫فعاًل ولكن ليسوا متشابهني كاألب‪ ،‬وعىل ذلك‬ ‫ال تكون مشرتكة‪ .‬فاالبن والروح القدس متشابهان ً‬
‫تكون املاهيَّة اإللهيَّة مشرتكة لثالثة أشخاص كاليشء البسيط الواحد يكون متع ِّد ًدا ألشياء مختلفة‬
‫أو معنى كل ًّيا له جزئ َّياته املتف ِّردة‪ ،‬وهذا هو وجه اإلتقان‪ ،‬أ َّما االختالف فهو يف الشكل حيث أ َّن‬
‫األشخاص الثالثة هم واحد ولك َّنهم مختلفون يف الشكل[[[‪.‬‬
‫الكيّل ليس بجديد عند أوكام‪ ،‬فقد أىت به روسلينوس‬ ‫ّ ِّ‬ ‫الاَّلهويتُّ عىل املعنى‬‫هذا التطبيق َّ‬
‫يف تفسريه لعقيدة الثالوث املق َّدس فقال كام أ َّن أثفراد – وهي الجزئ َّيات – موجودة يف أنواع‬
‫املخلوقات (األنواع هي الكل َّيات) ‪ ،‬فإ َّن األقانيم هي املوجودة يف الله‪ ،‬فالله فيه من الجواهر بقدر‬
‫ما فيه من األقانيم بحيث نستطيع القول بثالثة آلهة لو أ َّن العرف يسمح بذلك[[[‪.‬‬
‫لقد وصل الح ُّد بأوكام وهو يشيد بهذه القدرة الكل َّية لله يف امتالك املعاين الكل َّية‪ ،‬إىل أن يقول‪:‬‬
‫والحق فضائل «[[[‪ ،‬وهو إذ يناقش قض َّية املعنى‬
‫ُّ‬ ‫« إ َّن الله لو شاء لخلق عامل ًا تكون فيه الرسقة والزنا‬
‫أي معرفة بالله ميكننا الوصول إليها‪.‬‬ ‫بالاَّلهوت فإنَّه يناقشها من أجل ِّ‬
‫يل وارتباطه َّ‬
‫الك َّ‬

‫تعقيب‬
‫الكيّل من خالل أربعة‬
‫ّ ِّ‬ ‫ماَّم سبق‪ ،‬ميكننا استنتاج أ َّن وليام أوكام تح َّدث عن مفهوم املعنى‬
‫َّ‬
‫محاور‪:‬‬
‫املحور األ َّول‪ :‬تح َّدث فيه أوكام عن ماهيَّته ضمن ثالثة أطر‪ :‬يف اإلطار األول ات َّفق مع أفالطون‬

‫‪[1]- Adams: op,cit,p 15.‬‬


‫‪[2]- Ockham: ordination,d.2, q11.OT11.375- 6.‬‬
‫‪[3]- Gedean Gal: o p.cit.p 196.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ /‬سعيد عبد الفتاح عاشور‪ :‬أوروبا العصور الوسطى‪ ،‬الجزء الثاىن‪ ،‬ص‪.161‬‬
‫[[[‪ -‬جونو وبوجوان‪ :‬تاريخ الفلسفة والعلم ىف أوروبا الوسيطية‪ ،‬ص‪.153‬‬

‫‪146‬‬
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

‫كل ما يحمل عىل كثريين‪ ،‬ولكن جاءت طرق املعالجة مختلفة‪ .‬فرغم هذا‬ ‫وأرسطو يف تعريفه وهو ُّ‬
‫يل بأنَّه مفرد أل َّن املفرد يكون يف العقل‪ ،‬وهو كيفيَّة واحدة وليست‬
‫االتفاق نراه يصف املعنى الك ُّ‬
‫قسم املفرد إىل ثالثة أنواع‪ .‬وعالوة عىل ذلك رأى أنَّه يكمن يف‬
‫متع ِّددة‪ ،‬وليك يصف هذه الطبيعة َّ‬
‫الكيّل‬
‫ّ ُّ‬ ‫فقسم الداللة إىل أربعة أقسام‪ .‬ويف اإلطار الثاين رفض أن يكون املعنى‬ ‫دالالت األشياء َّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫خصوصا الشَّ ارح‬


‫ً‬ ‫جوه ًرا مستن ًدا يف ذلك إىل نصوص كتاب امليتافيزيقا ألرسطو‪ ،‬ورشوح تالميذه‬
‫الكيّل جوه ًرا يف كتاب املقوالت‪ ،‬كام‬
‫ّ ِّ‬ ‫األكرب(ابن رشد)‪ ،‬رافضً ا بذلك رأي أرسطو يف جعل املعنى‬
‫أحل مقولة الكيف حمل مقولة الجوهر مخالفًا يف ذلك رأيه القائل بأ ّن الجوهر ما تحمل عليه‬ ‫أنّه َّ‬
‫باقي املقوالت العرش‪.‬‬
‫املعنوي‪ ،‬وقد ارتكز هذا املحور عىل‬
‫ِّ‬ ‫اإلسمي أو‬
‫ِّ‬ ‫املحور الثاين‪َّ :‬‬
‫يعرَّب فيه أوكام عن ات ِّجاهه‬
‫أساسني‪ :‬األساس األول هو تقسيم املعاين‪ ،‬واألساس الثاين هو تقسيم مقاصد النفس‪ ،‬يف القسم‬
‫يل‪ ،‬ورأى أ َّن معظم‬
‫قسم الكالم إىل مكتوب ومنطوق وعق ٍّ‬
‫فرَّس املعنى ثالثة تفسريات كام َّ‬ ‫األول َّ‬
‫االختالفات بينهام هي اختالفات نحويَّة‪.‬‬
‫وقسمناه إىل قسمني‪:‬‬ ‫الكيّل‪َّ ،‬‬
‫يعرِّب فيه أوكام عن الجانب األبستمولوجي للمعنى ّ ِّ‬ ‫املحور الثالث‪ِّ :‬‬
‫األول يدور حول تقسيم العلم‪ ،‬والثاين حول تقسيم املعرفة وسلب النوع‪ ،‬أي دور يف املعرفة‬
‫واقعي ‪Scienetio Realis‬‬‫ٌّ‬ ‫حقيقي‬
‫ٌّ‬ ‫الحدس َّية‪ .‬يف القسم األول م َّيز بني نوعني من العلم هام‪ :‬علم‬
‫يركِّز عىل الحقيقة يف العقل كاملنطق الذي يهت ُّم مبعاين القصد الثاين التي هي معانٍ كل َّية‪ ،‬وهو‬
‫يل‪ .‬كام‬
‫يهت ُم! بها من منطلق أنَّها ال ميكن أن تكون موجودة من دون العقل‪ ،‬وتعالج باالختالق العق ِّ‬
‫يل فيهت ُّم باملعاين التي ال تستند مبارشة‬
‫أنَّه يهت ُّم باألشياء التي تربط األشياء الفرديَّة‪ .‬أ َّما العلم العق ُّ‬
‫إىل األشياء الحقيق َّية‪.‬‬
‫املحور الرابع واألخري‪ :‬يرى فيه أوكام أ َّن الله بسيط‪ ،‬وهذه البساطة ال يدركها اإلنسان باألدلَّة‬
‫كيّل يجمع بني الخلق والله‪ ،‬حيث أ َّن كليهام له‬ ‫الجزئيَّة حتى وإن كان بالحدس ألنَّه ال يوجد معنى ّ ٌّ‬
‫رصف يف األرض طبقًا‬ ‫الخاص‪ .‬فالله يصنع طبقًا للمعاين الكلّ َّية التي يف عقله‪ ،‬واإلنسان يت َّ‬
‫ّ‬ ‫تص ُّوره‬
‫بالاَّلهوت جاءت من أجل إثبات القدرة‬ ‫ملا قذفه الله يف عقله‪ ،‬ومحاولة أوكام ربط املعاين الكلّ َّية َّ‬
‫إاَّل أ َّن الخطأ الذي وقع فيه هنا هو أ َّن مبدأ القدرة املطلقة والكلّيَّة لله مناقضً ا ملبدأ‬
‫الكلّيَّة لله‪َّ .‬‬
‫أاَّل تتع َّدد األشياء بال رضورة – الذي قال به من خالل فهمه للفلسفة‬ ‫االقتصاد يف الفكر – يجب َّ‬
‫األرسط َّية أل َّن الله يفعل يف الغالب بأكرب عدد من الوسائل‪ ،‬وبإمكانه أن يفعل بعدد أقل‪ ،‬وبذلك‬
‫التطبيقي عينه‪ ،‬فمبدأ االقتصاد ال ينظِّم فكرنا‪ ،‬وال يط َّبق‬
‫ُّ‬ ‫فليس للمبدأين القيمة نفسها وال املجال‬
‫إاَّل عىل ما هو قابل ألن يعرفه البرش‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪147‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


.1983 ،‫ دار الطليعة للطباعة والنرش‬،‫ جورج طرابييش‬:‫ ترجمة وتحقيق‬،‫ تاريخ الفلسفة‬:‫أميل برهيية‬1.
.)‫ بريوت (مادة حدس‬.‫ دار الكتاب اللبناىن‬.‫ املجلد األول‬.‫ املعجم الفلسفى‬،‫جميل صليبا‬2.
.‫ مؤسسة عز الدين‬،‫ تاريخ الفلسفة والعلم ىف أوروبا الوسيطية‬:‫جونو وبوجوان‬3.
.1959 -‫ مكتبة النهضة املرصية‬.‫ الجزء الثاىن‬،‫ أوروبا العصور الوسطى‬:‫سعيد عبد الفتاح عاشور‬4.
.1997 ‫ القاهرة‬،‫ دار قباء للطباعة والنرش والتوزيع‬،‫ مدخل جديد للفلسفة‬:‫مصطفى النشار‬5.

.2014 -‫ مؤسسة هنداوي‬.‫ تاريخ الفلسفة األوربية ىف العرص الوسيط‬:‫يوسف كرم‬6.


7. Aristotle: Metaphysics. Book 7,ch 13,(1038b)10.
8. Boethius: from his second commentary on Aristotle De Interpretation,7.17a(21).
9. Copleston: Medieval philosophy, the cloister library, New Yourk, 1962.
10. John Swinirski:”Anew presenteion of Ockham is Theory of Supposition with an
evaluation of some contenmporary criticisms”Franciscan studies,vol.30,the Franciscan
Institute,Bonaventura University, 1970.
11. Marlyn Maccord Adams: Ockham on identity and distinotion, Franciscan studies Xiv, The
Franciscan Institute,ST.Bonaventure University, 1976.
12. Ninian Smart: World philosophy, Routledge,First publisher,London and New yourk, 1998.
13. Ockham:ordination,Translated by p.Boehner (opera Theolgica),vol 21,st Bonventure N.y,
the Franciscan Institute, 1970,d-2-q-ot ii.55.
14. R.I.Arron: The theory of universals,Oxford at calrendon,1952.
15. Sebastion J.day: intuitive cognition akey to the significance of the later scholastics
Franciscan Institute,Bonaventure N.Y,1997.
16. W.Ockham: Qoudlibet septem,Quodlibet 5, Translated from the Latin text Joseph.C,
and Wey,ed (Opera Theologica vol 9)st, Bonaventura. Ny: The Francis can Institute,
1980,question 12 Articlel (612-).
17. W.Ockham: Summae Logicae, Pars 1,Translated by Paul Vincert Spade –
Indianpoils,Hackett,New Yourk,1994,ch 14.
18. Walter Chatton: Reportario I,d,3, q2 Wether any concept common and univocal to god

148
‫إشكاليات المعنى الكلّي بما يثيره‬

and creature?،، Translated from Geodn Gal, ،،Gualteri de chatton et Guillelmi de Ockham
controversia de natura consptus universails ،،Franciscan studies, x x x p 191.
19. Wiliam of Ockham: Commentary on Aristotle‘s on interpretataion prologue 310-
and comment ary on(1696-3-), Translated From Latin Text W.Ockham, Expositioniis
in Libros, artis by Stephen Brown and Boehner eds (Opera philosophica, vo12) st
‫م‬2023 ‫هـ ــ ربيع‬1445 ‫العدد الخامس ــ‬

Bonaventure.N.Y:The Franciscan Institute,1978,section

149
‫المحور‬

‫ِّ‬
‫السر ومعناه‬ ‫حفظ‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‬ ‫ّ‬
‫الروحي‬ ‫تقنيَّ اته وتأويله في البحث‬

‫م� كازيموف‬
‫أورخان ي‬
‫ف‬
‫باحث وأستاذ محا�ض ي� المدرسة التطبيقية للعلوم العليا ـ باريس ـ فرنسا‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫رس‪ ،‬فإ َّن أجزاء الرسِّ‬


‫رس امليتافيزيقي يهت ُّم مبوضوع ال ّ‬
‫إذا كان مفهوم ال ّ‬
‫“امل ُسا ّري” و”السيايس” تلقي نظرة خاطفة عىل أسباب وتقن َّيات حفظه عند‬
‫املسلمني‪ .‬وهذا التحليل تعقبه توليفة للنظريَّة والتطبيقات املتعلّقة به يف‬
‫النصوص الحروفيَّة‪ ،‬وهي التوليفة التي سبق وشهدنا عليها مثاالً تاريخياً يف‬
‫تأسست يف إيران يف خالل النصف الثاين من القرن‬ ‫إحدى الحركات التي َّ‬
‫الرابع عرش‪.‬‬
‫ما هو الرسُّ ؟ وملاذا وكيف يُحفظ؟ وإىل أي مدى ميكن تظهري مفهو َم ْي‬
‫الرس والحفظ يف حقول البحث الروحي اإلسالمي؟ حول هذه األسئلة الثالثة‬
‫وما يتفرع منها سوف يدور نقاشنا يف هذه املقالة‪.‬‬

‫رس‬
‫الروحي – النصوص الحروف َّية – ال ُّ‬
‫ّ‬ ‫رس‪ -‬البحث‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬معنى ال ّ‬
‫رس املسا ّري‪.‬‬ ‫يت – ال ُّ‬
‫الذا ُّ‬

‫‪150‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫[[[*‬
‫تقديم‬
‫‪‬و ِعندَ ُه َم َفاتِ ُح ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ب الَ َي ْع َل ُم َها إِالَّ ُه َو‪ .[[[‬ففي اإلسالم‪ ،‬كام يف الديانات‬ ‫ورد يف القرآن الكريم َ‬
‫أي يشء مصحوبًا بالرسِّ غري امل ُتاح امل ُتعلّق بالله‪ .‬والقرآن‪ ،‬باعتباره كال ًما‬ ‫األخرى‪ ،‬يكون الرسُّ قبل ِّ‬
‫النبي محمد‪ ،‬هو االستحضار الدائم له‪ .‬وهو‬ ‫ِّ‬ ‫يب‪ ،‬موحى إىل‬ ‫برشي‪ ،‬اللسان العر ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫إله ًّيا بلسان‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫النبي‪ ،‬مشحون بق َّوة هائلة‪ .‬كام أنَّه‪ ،‬بال ريب‪ ،‬يتض َّمن معنى ظا ِه ًرا‪،‬‬ ‫بالنسبة إىل املؤمنني برسالة ِّ‬
‫ين َمخ ِف ّية‪ ،‬وال يحتمل دامئًا قراءة حرف َّية‪ .‬وبينام يدعو إىل البحث عن الدالالت العميقة‪،‬‬ ‫ومعا َ‬
‫رأسا إىل التجربة الشخص َّية للقارئ حيث إنَّه يشتمل عىل سبعة مستويات‪ .‬وقد ورد يف‬ ‫يذهب ً‬
‫النبوي‪ :‬إ َّن للقرآن ظه ًرا وبط ًنا‪ ،‬ولبطنه بط ًنا إىل سبعة أبطن‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الحديث‬
‫وخفي‪ ،‬ال ميلك مفاتيح‬ ‫ٌّ‬ ‫رمزي‬
‫ٌّ‬ ‫يتض َّمن القرآن نوعني من الخطاب‪ ،‬أحدهام واضح‪ ،‬واآلخر‬
‫َاب َو ُأ َخ ُر‬ ‫حُّمك ََاَم ٌت ُه َّن ُأ ُّم ا ْلكِت ِ‬ ‫َاب ِمنْ ُه آ َي ٌ‬
‫ات ُّ ْ‬ ‫إاَّل الله‪ .‬قال تعاىل‪‬هو ا َّل ِذي َأنز ََل ع َلي َ ِ‬
‫ك ا ْلكت َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫تأويله َّ‬
‫ون َما ت ََشا َب َه ِمنْ ُه ا ْبتِغَاء ا ْل ِف ْتن َِة َوا ْبتِغَاء ت َْأ ِويلِ ِه َو َما َي ْع َل ُم ت َْأ ِوي َل ُه‬ ‫ين ِيِف ُق ُل ِ‬
‫وهِبِ ْم َز ْيغٌ َف َي َّتبِ ُع َ‬ ‫ِ‬
‫ات َف َأ َّما ا َّلذ َ‬ ‫ُمت ََش ِ َ‬
‫اهِب ٌ‬
‫ون آمنَّا بِ ِه ك ٌُّل من ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِالَّ اهَّللَُّ والر ِ‬
‫اب‪.[[[‬‬ ‫ند َر ِّبنَا َو َما َي َّذك َُّر إِالَّ ُأ ْو ُلو ْا األَ ْل َب ِ‬ ‫ِّ ْ‬ ‫ون ِيِف ا ْلع ْل ِم َي ُقو ُل َ َ‬
‫اسخُ َ‬ ‫َ َّ‬
‫التجاوزي‪ ،‬والذي ال تبلغه معرفة‬
‫ِّ‬ ‫األخروي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫خ ِف ِّي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬يُشار إىل الجانب ال َ‬
‫ِّ‬ ‫يف الاَّلَّ هوت‬
‫يت وكنهه الذي ال يعرفه َّ‬
‫إاَّل هو‪،‬‬ ‫رس الذا ُّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬بألفاظ من قبيل (الذات) (الغيب) (الباطن)‪ :‬هو ال ُّ‬
‫ولهذا كان مصونًا عن األغيار‪ ،‬مكنونًا عن العقول واألبصار‪ .‬وال يستطيع اإلنسان أن يعرف عن‬
‫قديس يقيم مواءمة بني الوحي والخلق‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫إاَّل ما يكشفه سبحانه وتعاىل له‪ .‬ومثّة حديث‬‫هذا الرسِّ َّ‬
‫الرئييس نفسه‪ ،‬الذي هو رغبة الله تعاىل بالتعريف عن نفسه‪ :‬كنت كن ًزا‬ ‫ِّ‬ ‫فكالهام ينجامن عن السبب‬
‫َمخف ًّيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليك أعرف‪ .‬وبذلك تكون املعرفة البرشيَّة محدودة‬
‫بالرضورة‪.‬‬
‫كل أرسار الخلق (أرسار الساموات واألرض)‪ .‬وحتى‬ ‫ينفك القرآن يُك ِّرر أ َّن الله وحده يعلم َّ‬ ‫ال ُّ‬
‫اإللهي‪ .‬والله تعاىل يخاطب محم ًدا يف القرآن فيقول ‪ُ ‬قل الَّ َأ ُق ُ‬
‫ول‬ ‫ِّ‬ ‫األنبياء ال ميلكون مجمل العلم‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك إِ ْن َأ َّتبِ ُع إِالَّ َما ُي َ‬
‫وحى إِ َ َّيَل‪.[[[‬‬ ‫ول َلك ُْم إِ ِّيِّن َم َل ٌ‬‫ب َوال َأ ُق ُ‬ ‫َلك ُْم عندي َخزَائ ُن اهَّللَِّ َوال َأ ْع َل ُم ا ْل َغ ْي َ‬

‫[[[‪ Orkhan Mir-Kasimov -‬أكادميي ومفكر فرنيس مسلم‪ ،‬وهو سليل عائلة مسلمة يف يف آسيا الغربية ‪ -‬مؤرخ وباحث يف املركز‬
‫الوطني للبحث العلمي ‪ CNRS‬يف فرنسا‪.‬‬
‫ـ العنوان األصيل للمقالة‪Techniques de garde du secret en islam :‬‬
‫ـ املصدر‪Revue de l’histoire des religions, numero 2, 2011 :‬‬
‫ـ نقله عن الفرنسية‪ :‬عامد أيوب‬
‫[[[‪ -‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬
‫[[[‪ -‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.50‬‬

‫‪151‬‬
‫المحور‬
‫ِّ‬
‫بني املتعايل واملتجلي‪:‬‬
‫ُتجيّل من‬
‫شك فيه أ َّن التمييز بني الجانب املتعايل للّه‪ ،‬أي ذاته‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبني الله امل ّ‬ ‫ماَّم ال َّ‬
‫َّ‬
‫اإلسالمي‪ .‬منذ القرون األوىل‬
‫ِّ‬ ‫الاَّلهوت‬
‫خالل أسامئه وصفاته من جهة أخرى‪ ،‬لهو أمر مشرتك يف َّ‬
‫التي تلت ظهور اإلسالم‪ ،‬أصبحت العالقة بني الذات والصفات‪ ،‬والكامنة يف ظهور املتعايل‬
‫واألبدي يف العامل الذي يقبل اإلبصار والفناء‪ ،‬أصبحت أحد املواضيع املركزيَّة يف النقاشات‬ ‫ِّ‬
‫الاَّلهوت َّية‪ .‬فبعد مناظرة قويَّة مع املحنة يف القرن التاسع‪ُ ،‬ع ّد القرآن برأي األغلب َّية كالم الله‬ ‫َّ‬
‫عرّب عن نفسه من‬ ‫اإللهي أن يُ ّ‬
‫ِّ‬ ‫ألسني‪ :‬كيف ميكن للفعل‬
‫ٍّ‬ ‫املوحى‪ ،‬وهذه املسألة تل ّونت عىل نح ٍو‬
‫البرشي‪ ،‬عىل غرار ما يحدث يف الرسائل النبويَّة ويف الكتب املق َّدسة؟ وكيف ميكن‬ ‫ِّ‬ ‫خالل الكالم‬
‫التجريبي؟‬
‫ّ‬ ‫األمبرييقي‬
‫ِّ‬ ‫لألعيان والحقائق أن ت ُحمل من خالل لغة البرش‪ ،‬وهي التي تتَّصف بالطابع‬
‫والبرشي‬
‫ِّ‬ ‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‪ِ ،‬‬
‫حظ َي السؤال عن الطبيعة املفارقة للخطاب‬ ‫ِّ‬ ‫من خالل التص ُّوف‬
‫القص؟ إىل وصف ما هو غري قابل لإلبصار \‬
‫ّ‬ ‫قص ما ال يقبل‬
‫بدراسة متم ِّعنة‪ .‬كيف السبيل إىل ِّ‬
‫أي شكل يجب أن يأخذه خطاب الرسِّ ؟‪ .‬ولقد بحث‬ ‫عاَّم ال يقبل التعبري؟ ُّ‬
‫غري منظور؟ والتعبري َّ‬
‫املتص ّوفة عن اإلجابة من خالل إعادة إنتاج التجربة النبويَّة وإعادة االتصال املبارش مبصدر الوحي‪،‬‬
‫فنتج من ذلك “الشطح”‪ ،‬وهو جملة عبارات تقع موقع املفارقة‪ ،‬وتأيت يف حالة الوجد و”النشوة‬
‫ويتوىّل الفم التعبري عنه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رأسا عىل عقب‪،‬‬
‫اإللهي األنا املتص ِّوفة ً‬
‫ُّ‬ ‫الروح َّية”عندما يقلب الحضور‬
‫ومث ّة عدد كبري من هذه العبارات التي أطلقها خطباء مسلمون يف القرون األوىل‪ ،‬وجمعها روزبهان‬
‫ين البارز الذي عاش يف القرن الثاين عرش‪ ،‬يف كتابه (رشح‬ ‫باقيل الشريازي‪ ،‬املتص ِّوف اإليرا ُّ‬
‫لإللهي‪ .‬وميتاز‬
‫ّ‬ ‫تجل‬
‫لكل ٍّ‬
‫الشطحيَّات)‪ .‬كذلك نعرث فيه عىل توسيع مميّز لنظريَّة االلتباس املالزمة ِّ‬
‫يب‬
‫عرَّب عنهام بلفظتني (تلبيس) و (التباس) املشتقّتني من الجذر العر ِّ‬ ‫هذا االلتباس بجانبني اثنني يُ َّ‬
‫نفسه مع االتحاد يف الداللة‪ :‬التخفّي ‪travestissement‬‬
‫ٍ‬
‫أمناط‬ ‫اإلسالمي يف حقب متأخِّرة عىل‬ ‫ُّ‬ ‫إضافة إىل اللغة املفارقة للشطح‪ ،‬اشتغل التص ُّوف‬
‫أخرى من الخطاب هي نتيجة املواجهة القامئة بني التجربة الروح َّية امل ُعاشة ووسائل الُّلغة العاديَّة‪.‬‬
‫خاصة‪ .‬فلغتها التي عكستها ُمؤلَّفات‬ ‫َّ‬ ‫وت ُشكّل القصيدة الصوف َّية الفارس َّية أحد األمثلة‪ ،‬وتكتيس أهم َّية‬
‫َّ‬
‫(املتوىَّف سنة ‪،)1492‬‬ ‫َّ‬
‫(املتوىَّف سنة ‪ ،)1151‬إىل عبد الرحمن الجامي‬ ‫كبار املتص ِّوفة من الغضنايف‬
‫َّ‬
‫شريازي(املتوىَّف سنة ‪ )1389‬والذي لُقّب بـ “لسان الغيب”‪.‬‬ ‫بلغت ذروتها مع حافظ‬
‫الفاريس أن يُقيم مطابقة بني مفردات الُّلغة اليوميَّة ومفردات الُّلغة‬
‫ُّ‬ ‫يف‬
‫لقد استطاع الشعر الصو ُّ‬
‫الشعريَّة من جهة‪ ،‬وبني الخطاب الذي يتناول الحقائق امليتافيزيقيَّة من جهة أخرى‪ .‬لذلك‪ ،‬مث ّة‬
‫مستويات مختلفة لقراءة هذا النوع من الشعر‪ .‬والقارئ الخامل يركن يف فهمها إىل الكلامت‪ ،‬أ َّما‬

‫‪152‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫القارئ الي ِقظ فيعرث فيها عىل مستويات مختلفة‪ .‬من املحتمل أ َّن ُمص ّنف (السوانح) الذي ألّفه‬
‫(تويّف سنة ‪ ،)1126‬والذي ُمُيثِّل أحد النصوص النظريَّة الها َّمة يف الشعر والنظريَّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أحمد الغزايل‬
‫النص التايل كيف صاغ‬‫ُّ‬ ‫بنّي لنا‬
‫يل داخل الُّلغة‪ .‬ويُ ّ‬
‫من املحتمل أنَّه تط َّرق إىل وظيفة التح ُّول الدال ِّ‬
‫اإللهي من خالل‬
‫ِّ‬ ‫يف عليها يف سريه نحو العشق‬ ‫الغزايل فكرة التعبري عن الحقائق التي اشتغل الصو ُّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫كلامت الُّلغة العاديَّة‪.‬‬


‫يف‪ .‬ومع‬ ‫إ َّن هذه الهوامش تنقسم إىل بضعة فصول ُمرتبطة بالدالالت التي يولّدها العشق الصو ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فإنّه ال ميكن للكلامت والعبارات العاديَّة أن تتض َّمن قصة العشق‪ ،‬أل َّن الدالالت التي تحملها‬
‫الُّلغة العاديَّة تشبه العذارى بحيث ال تقدر الكلامت عىل أن تطال طرف الحجاب‪ .‬ورغم أ َّن مه َّمتنا‬
‫تقوم عىل تزويج الدالالت العذارى من الكلامت الرجال يف الحجرات املغلقة للكالم‪ ،‬فإ َّن عبارات‬
‫الاَّليقني‪ .‬لك َّن وجود هذا‬ ‫قصة العشق إمَّنَّ ا هي إشارات إىل الدالالت املختلفة املتوارية خلف َّ‬ ‫َّ‬
‫الروحي‪ .‬وتنقسم قصة العشق إىل قصتني اثنتني‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫حرموا من الذوق‬ ‫الاَّليقني خاضع ألولئك الذين ُ‬ ‫َّ‬
‫إحداهام عن الدالالت التي ت ُشري إليها العبارات‪ ،‬واألخرى عن العبارات التي تُرتجم اإلشارات‪ .‬يف‬
‫صميم العبارات توجد السيوف ذات الح َّدين لك ّنها غري منظورة إاَّلَّ بعني الرؤية الروح َّية‪ .‬وإذا كان‬
‫يف هذه الفصول مث َّة أشياء غري قابلة للفهم‪ ،‬فإنّها مُتُ ثّل جز ًءا من هذه الدالالت الخف َّية‪.‬‬
‫الفلسفي ﻟ عامل الصور‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف‪ ،‬ارتسمت معامل التص ُّور‬
‫يف مقابل تط ُّور الُّلغة الرمزيَّة للشعر الصو ِّ‬
‫الخاص بالخيال امل ُبدع (عامل الخيال)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أو “عامل املثال” حسب تعبري هرني كوربان‪ ،‬أي العامل‬
‫ومن بني املفكِّرين الذين ساهموا يف بلورة هذا التص ُّور نذكر أسامء بارزة أمثال أبو نرص الفارايب‬
‫ّ‬
‫(املتوىّف سنة‬ ‫هروردي‬
‫ّ‬ ‫الس‬ ‫ّ‬
‫(املتوىّف سنة ‪ ،)1037‬شهاب الدين يحيى ّ‬ ‫ّ‬
‫(املتوىّف سنة ‪ ،)950‬ابن سينا‬
‫ّ‬
‫(املتوىّف سنة ‪ .)1240‬ومن املفيد القول أ َّن “عامل الصور” هو عامل وسيط حيث‬ ‫‪ ،)1191‬ابن عريب‬
‫الخاصة بالعامل املحسوس‪ .‬وميكن بلوغ‬ ‫َّ‬ ‫تلتقي الحقائق غري املنظورة للعامل املتسامي بالصور‬
‫هذا العامل عن طريق الخيال الفاعل‪ ،‬الذي هو َملَكة خاصة مُتُ ثّل بالنسبة إىل صور “عامل املثال”‬
‫عرّب عنها‬
‫ريا من تلك التي ّ‬
‫يئ‪ .‬هذه الفكرة تقرتب كث ً‬ ‫ما مُتُ ثّله العينان بالنسبة إىل أشياء العامل الفيزيا ّ‬
‫أحمد الغزايل يف املقطع الذي ك َّنا قد ذكرناه‪ .‬وليك نستعيد مفاهيمه ميكننا القول أ َّن “زواج”‬
‫الدالالت الروح َّية غري املنظورة بالكلامت والعبارات التي تُحيل إىل عامل التجربة املحسوسة‪،‬‬
‫إمَّنَّ ا يت ُّم يف (عامل الصور)‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فبالنسبة إىل الفالسفة واملتص ّوفة‪ ،‬ليست الداللة الروح َّية‬
‫يئ يف عامل املثال اعتباطيَّة أو ُمتح ِّررة ‪ -‬إنّها‪ ،‬عىل العكس‪ ،‬ت ُشكّل‬ ‫التي ت ُزيّن صور العامل الفيزيا ِّ‬
‫والجوهري لهذه الصور‪ ،‬والذي يبقى خف ًيا يف العامل املحسوس وراء‬ ‫ّ‬ ‫يل‬
‫األصح واألص ّ‬
‫ّ‬ ‫املعنى‬
‫االحتامالت واملشارطات‪ .‬بذلك ال يحتاج املتص ِّوف إىل الرجوع إىل أي “شيفرة” أو “رقم”‬
‫ُمصطنع لِيت َّم تخصيص معانٍ فلسف َّية أو روح َّية لكلامت الُّلغة العاديَّة ‪ -‬مع اإلشارة إىل تعلّق هذه‬

‫‪153‬‬
‫المحور‬

‫املعاين بالسليقة بالكلامت عىل نحو يخلو من اإلبهام لِ َمن ميلك الخيال امل ُِبدع‪ ،‬أو بتعبري أحمد‬
‫الروحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الغزايل‪ ،‬الذوق‬
‫يل‬
‫اعتباطي لالنتقال الدال ِّ‬
‫ُّ‬ ‫والاَّل‬
‫َّ‬ ‫الفاريس‪ ،‬هذا الطابع امل ُنتظم‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫يف ما يتعلَّق بالشعر الصو ِّ‬
‫للمفردات العاديَّة عىل مستوى عامل املثال‪ ،‬هذا الطابع جعل يف املتناول‪ ،‬طوال حقب متأخِّرة‪،‬‬
‫امليتافيزيقي للمفردات التي يستخدمها الشاعر‪ .‬ونورد‬
‫ِّ‬ ‫وضع معاجم حقيق َّية وظيفتها تحديد املعنى‬
‫نص مأخوذ من كتاب يحمل عنوان‬ ‫يف ما ييل بعض األمثلة املستقاة من أحد هذه املعاجم‪ ،‬بينها ّ‬
‫(مرآة العشاق) يعود تاريخه إىل القرن السادس عرش‪.‬‬
‫إمياءة حب‪ :‬االهتامم املصحوب بالحفاوة والو ِّد من الله تعاىل بالسائر‪ ،‬وذلك بتوفري الرشوط‬
‫الرضوريَّة لجذب قلب السائر إليه‪.‬‬
‫الزهرة‪ :‬نتيجة املعرفة التي تتفتَّح يف قلب السائر‪.‬‬
‫الطُ ْرفة‪ :‬املعنى الخالص الذي يستخرجه السائر من الكالم والعبارات‪.‬‬

‫الهدب‪ :‬التهاون الذي يُظهره القائل بالغنوص َّية يف أفعاله عندما ال يُخضعها للنظر الداخ ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫الجرس‪ :‬هو االستدعاء واالتّجاه امل ُعطيان لقوى النفس ورغباتها التي تنشأ يف اإلنسان‪ ،‬وذلك‬
‫بقصد إيصاله إىل إدراك اللذَّات الروح َّية‪.‬‬
‫الطوعي من الصالت التي تربطه بكينونته النسب َّية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اإلفراط‪ :‬يُ َ‬
‫قصد به تخليص السائر وإعفاؤه‬
‫طوعي يهت ُّم بأرسار الوحي والكالم املن َزل‪ .‬وبقدر‬ ‫ٍّ‬ ‫أي مسعى‬ ‫يف األمثلة التي ذكرناها‪ ،‬ليس مث ّة ّ‬
‫ين من‬ ‫الحقيقي للمقاصد التي تقع موقع املفارقة للعالِم الروحا ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ما يكون غري ُممكنٍ تحقيق املدى‬
‫دون أن يعيش التجربة التي أوجدتها تلك املقاصد‪ ،‬وبقدر ما ال يكون ُممك ًنا النفاذ إىل الدالالت‬
‫امليتافيزيقي بوج ٍه ما بصيانة نفسه‪ .‬ومن‬ ‫ُّ‬ ‫العميقة للُّغة الشعريَّة من دون الخيال الفاعل‪ ،‬يضطلع الرسُّ‬
‫أهاًل له‪ ،‬ويف النهاية‪ ،‬الله تعاىل وحده‬ ‫رس من دون أن يكون املرء ً‬ ‫غري املمكن الولوج إىل هذا ال ّ‬
‫ولعل موقف “الحركة السلمية العمياء”‪ ،‬عندما يسعى‬ ‫َّ‬ ‫يُق ِّرر َمن هو العبد الذي يُطلعه عىل الرسِّ ‪.‬‬
‫العالِم الروحاين جاه ًدا إىل تنقية نفسه والبقاء يَ ِقظًا يف انتظار الوحي‪ ،‬هو ما تُظهره اآلية القرآن َّية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪.[[[‬‬ ‫ب هَّلِلَِّ َفانتَظ ُروا إِ ِّيِّن َم َعكُم ِّم َن ا ُْمْلنتَظ ِر َ‬‫ون َل ْو َاَل ُأ ِنز َل َع َل ْيه آ َي ٌة ِّمن َّر ِّبه ۖ َف ُق ْل إِن ََّاَم ا ْل َغ ْي ُ‬
‫‪‬و َي ُقو ُل َ‬
‫التالية‪َ :‬‬
‫ِّ‬ ‫الم ّ‬ ‫ّ‬
‫السر ُ‬
‫ساري واإلنسان املتأله‪:‬‬
‫إضافة إىل العالقة املبارشة والشخصيَّة بني الله والباحث عن الحقيقة‪ ،‬عرف اإلسالم منطًا‬

‫[[[‪ -‬سورة يونس‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬

‫‪154‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫رس الذي ال يتيرَّسَّ لعا َّمة البرش االطِّالع‬


‫رس املسا ّري”‪ ،‬أي ال ّ‬‫رس ميكن دعوته “ال ّ‬
‫آخر من كتامن ال ِّ‬
‫إليه‪ ،‬إاَّلَّ أ َّن حفظه وعرضه مفروضان عىل َمن هو مؤ َّهل قانونيًّا لذلك‪ .‬بذلك‪ ،‬فإ َّن الهادي‪ ،‬امل َحبُ ّو‬
‫باملعارف والقدرات الخارقة‪ ،‬يؤ ّدي‪ ،‬من هذا املنظور‪ ،‬دور الوسيط بني الله واملؤمنني املؤ ّهلني‬
‫لتلقّي املعرفة املتسامية‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫رس‪ ،‬وإىل أشخاص‬ ‫‪ 1-‬مث ّة آيات قرآن َّية ميكن تفسريها بوصفها إشارات إىل هذا النمط من ال ِّ‬
‫خاصة‪ ،‬فيمكنهم بذلك أن يقوموا بدور الوسيط بني‬ ‫َّ‬ ‫أو فئات من الناس حباها الله تعاىل مبعرفة‬
‫َاب ِم ْن ُه‬ ‫الله وبقية الناس‪ .‬من ذلك اآلية السابعة من سورة آل عمران ‪‬هو ا َّل ِذي َأنز ََل ع َلي َ ِ‬
‫ك ا ْلكت َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ِيِف ُق ُل ِ‬
‫وهِبِ ْم َز ْيغٌ َف َي َّتبِ ُع َ‬
‫ون َما ت ََشا َب َه منْ ُه ا ْبتغَاء‬ ‫ات َف َأ َّما ا َّلذ َ‬‫اهِب ٌ‬ ‫َاب َو ُأ َخ ُر ُمت ََش ِ َ‬ ‫حُّمك ََاَم ٌت ُه َّن ُأ ُّم ا ْلكت ِ‬ ‫ات ُّ ْ‬‫آ َي ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َآمنَّا بِه ك ٌُّل ِّم ْن عند َر ِّبنَا َو َما‬ ‫ون ِيِف ا ْلع ْل ِم َي ُقو ُل َ‬
‫الراسخُ َ‬ ‫ا ْلف ْتنَة َوا ْبتغَاء ت َْأ ِويله َو َما َي ْع َل ُم ت َْأ ِوي َل ُه إِالَّ اهَّللَُّ َو َّ‬
‫اسخون يف العلم» الذين‪،‬‬ ‫اب‪ .[[[‬هذه اآلية تُشري إحدى قراءاتها إىل فئة «ال ّر ِ‬ ‫َي َّذك َُّر إِالَّ ُأ ْو ُلو ْا األَ ْل َب ِ‬
‫من دون بق َّية الناس‪ ،‬يعرفون التفسري الصحيح لآليات امل ُتشابهات‪ .‬ويحيك القرآن أ َّن الله خلق‬
‫آدم ليكون خليفته يف األرض (البقرة‪ ،‬اآليات ‪ ،)34-30‬ث ّم علّمه أسامء األشياء التي خلقها وأمره‬
‫أن يعرضها عىل املالئكة‪ .‬بذلك قام آدم بدور الوسيط يف عمل َّية نقل املعرفة‪ ،‬فسجد له املالئكة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬إِ َّاَّل إِبلِيس َأبى واس َتكْرَب وك َ ِ‬
‫خاصة يف القرآن ‪‬إِ َّن َاَم ا َْمْلس ُ‬
‫يح‬ ‫َّ‬ ‫ين‪ .[[[‬ولعيىس أيضً ا منزلة‬ ‫َان م َن ا ْلكَاف ِر َ‬ ‫ْ َ َ ٰ َ ْ ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وح ِّم ْن ُه‪ . ‬من جهة أخرى‪ ،‬يشتمل القرآن عىل‬ ‫[[[‬
‫ول اهَّللَِّ َوكَل َم ُت ُه َأ ْل َق َ‬
‫اها إِ َىَل َم ْر َي َم َو ُر ٌ‬ ‫يسى ا ْب ُن َم ْر َي َم َر ُس ُ‬
‫ع َ‬
‫معجم يُربز صورة تجسيميَّة لله تعاىل‪ ،‬وهي صورة ت ُثبتها األحاديث (املرفوعة إىل رسول الله ص‬
‫والصحابة)‪ .‬وتزعم أ َّن الله له يدان ورجالن وعينان وأذنان؛ ويسمع ويرى ويضحك ويغضب‪ .‬إ ّن‬
‫يف‪،‬‬‫الاَّلهوت َّية كام يف األدب الصو ِّ‬
‫بعض هذه األحاديث‪ ،‬التي جرى التعليق عليها يف النقاشات َّ‬
‫برشي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ت ُظهر الله تعاىل عىل شكل‬
‫أساسا من الكتاب امل ُق َّدس‪ ،‬ال ميكن وضعها موضع‬ ‫ً‬ ‫بديهي أ َّن سلطة القرآن‪ ،‬الذي هو ُمستَم ٌّد‬
‫ٌّ‬
‫الاَّلهوت إىل فريقني متعارضني‪،‬‬ ‫قسم علامء َّ‬
‫التشكيك‪ .‬لك ّن تأويل املعجم واملقاصد التجسيم َّية ّ‬
‫يف» وفق تعبري د‪ .‬جيامريه‪ .‬وقد‬ ‫يف»‪ ،‬وفريق «الرافضني للتفسري الحر ّ‬ ‫فريق «القائلني بالتفسري الحر ّ‬
‫اإلسالمي يجب‬
‫ِّ‬ ‫أكّد الفريق األول أ َّن األحاديث الواردة عن رواة ثقة والتي ت ُشكّل جز ًءا من الرتاث‬
‫ربا أنه من‬‫أن ت ُنقَل حرف ًّيا من دون عناء فهمها أو تأويلها‪ .‬بينام رفض الفريق الثاين هذا الرأي ُمعت ً‬
‫جساًم وأعضاء عىل غرار اإلنسان‪ .‬بالتايل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫غري املمكن تشبيه الله تعاىل بالخلق‪ ،‬والزعم بأ َّن له‬
‫مثاًل ت ُف َهم مبعنى‬
‫استعاري‪ ،‬ﻓ «يد الله» ً‬
‫ٍّ‬ ‫التجسيمي للقرآن يجب أن يؤخذ يف معنى‬ ‫َّ‬ ‫إ َّن املعجم‬

‫[[[‪ -‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬


‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.171‬‬

‫‪155‬‬
‫المحور‬

‫إجاماًل للرأي الرا ِفض للتجسيميَّة حيث فرض قيو ًدا عىل التفسريات‬ ‫ً‬ ‫«قدرة الله»‪ .‬وكانت الغلبة‬
‫القرآنيَّة واألحاديث النبويَّة‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬مل يندثر الرأي القائل بالتجسيميَّة بل عرف تط ُّو ًرا ملحوظًا‬
‫اإلسالمي «الرسمي»‪ ،‬ويف الصوف َّية والفلسفة‪ ،‬حتى وصل‬ ‫ِّ‬ ‫يف التيارات التي نشأت خارج اإلطار‬
‫إلينا اليوم بصور شتَّى‪.‬‬
‫يف القرون األوىل بعد الهجرة‪ ،‬أرست بعض الت َّيارات اإلسالم َّية أطروحة التجسيم وذلك بإيضاح‬
‫العادي‪ ،‬بل‬
‫َّ‬ ‫بديهي أنّها ال تتناول اإلنسان‬
‫ٌّ‬ ‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فكرة ألوه َّية اإلنسان القدمية ضمن السياق‬
‫“اإلنسان” الذي هو عىل الحقيقة الصورة‪ ،‬والجانب املنظور الذي ُمُيكن أن يُع َرف‪ ،‬وتجسيد‬
‫يتجىّل‬
‫ّ‬ ‫الصفات اإللهيَّة‪ُ .‬مُيثّل اإلنسان املتألِّه من الناحية األنطولوجيَّة‪ ،‬املكان والصورة اللذين‬
‫ويتجسد يف‬
‫َّ‬ ‫امليتافيزيقي‪ ،‬والوسيط بني الله الذي ال ميكن أن يُع َرف وبني العامل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫رس‬
‫فيهام ال ُّ‬
‫الشخص َّيات التاريخ َّية التي ت ُع ّد ال ُهداة الحقيقيني للبرشيَّة‪.‬‬
‫بحسب الظاهر‪ ،‬شكّلت فكرة اإلنسان املتعايل جز ًءا من اآلراء القدمية للشيعة‪ ،‬أكرب وأقدم أقل َّية‬
‫ُرشد الذي ميلك املعرفة املسا ّريَّة‪ .‬ال ميلك‬ ‫وأسست املكانة األنطولوج َّية لإلمام‪ ،‬امل ِ‬ ‫يف اإلسالم‪ّ .‬‬
‫األمئَّة فقط املعرفة املتسامية‪ ،‬بل ُمُيثّلون‪ ،‬هم أنفسهم‪ ،‬هذه املعرفة ويعكسون الجانب املنظور‬
‫لله تعاىل‪ .‬وقد أظهروا ذلك يف األحاديث التي ن ُِسبَت إليهم‪ ،‬وهي أحاديث غالباً ما وردت يف أقوال‬
‫العرفاء ونصوص املتصوفة نظري‪ :‬نحن عني الله ويده‪ ،‬نحن وجه الله وجنبه‪ ،‬نحن قلبه ولسانه أذنه‪.‬‬
‫عرَّبت عنها جملة من كتب‬ ‫رس املعرفة اإلله َّية‪ .‬وهذه الفكرة َّ‬‫فمعرفة اإلمام تنبع إذًا من النفاذ إىل ِّ‬
‫ّ‬
‫(املتوىّف‬ ‫الحديث امل ُس َندة إىل أمئَّة الشيعة‪ ،‬منها كتاب “بصائر الدرجات” للشيخ الصفار الق ّمي‬
‫وجل‪.‬‬
‫وجل‪ ،‬ومن أنكرنا فقد أنكر الله ع َّز ّ‬
‫سنة ‪ :)902‬من عرفنا فقد عرف الله ع َّز َّ‬
‫النبي‬
‫ِّ‬ ‫لقد كانت الوظيفة األساس َّية لألمئَّة هي املحافظة عىل رسيان املعرفة اإلله َّية بعد موت‬
‫ي‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬إذا كان النبي‬ ‫رس ّ‬
‫محمد‪ ،‬وتوفري الداللة العميقة للرسالة املحمديَّة وبعدها ال ّ‬
‫ُمكلّفًا بالتنزيل‪ ،‬فإ َّن مه َّمة األمئَّة عىل التأويل‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬ميلك أمئَّة أهل البيت علم تأويل القرآن‬
‫والكتب السامويَّة التي سبقته‪ ،‬إضافة إىل علم دالالتها األصل َّية كام وردت يف الوحي‪.‬‬
‫رسيَّة‪ ،‬الذي واكب أمئَّة الشيعة بد ًءا بأمري املؤمنني عيل بن‬
‫ينبغي أن نُنبِّه إىل أ َّن انتقال املعرفة ال ّ‬
‫ِض غال ًبا مبصطلحات تتناول جوهر اإلسالم‪ ،‬ومن‬ ‫النبي‪ ،‬وزوج ابنته فاطمة‪ُ ،‬عر َ‬ ‫ِّ‬ ‫أيب طالب‪ ،‬صهر‬
‫إاَّل ملك‬
‫الصعب حمل هذه الرسالة‪ .‬فقد ورد اإلمام قوله‪ :‬إ َّن أمرنا صعب مستصعب ال يحتمله َّ‬
‫رسا أودعه‬
‫رسية ً‬
‫مرسل‪ ،‬أو عبد قد امتحن الله قلبه لإلميان‪ .‬إذا ً‪ ،‬تُشكّل املعرفة ال ّ‬ ‫نبي َ‬ ‫مق َّرب‪ ،‬أو ٌّ‬
‫يصا لهذه الغاية فهم وحدهم‬ ‫خص ً‬‫خلِقوا ّ‬ ‫إاَّل للمخلصني الذين ُ‬‫الله لدى األمئَّة‪ ،‬وال ميكن إفشاؤه َّ‬
‫رس‪ .‬أ َّما بقية الناس فليسوا قادرين عىل استيعابه‪ .‬جاء يف الحديث‪:‬‬ ‫قادرون عىل االضطالع بهذا ال ّ‬

‫‪156‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫وجل ما‬
‫َّ‬ ‫وعلاًم من علم الله‪ ،‬أمرنا الله بتبليغه‪ ،‬فبلغنا عن الله ع َّز‬
‫ً‬ ‫رس الله‬
‫رسا من ِّ‬
‫«إ َّن عندنا ًّ‬
‫أهاًل وال حاَّمَّ لة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقوا ًما‪ ،‬خلقوا‬
‫أمرنا بتبليغه‪ ،‬فلم نجد له موض ًعا وال ً‬
‫خلِق منها محمد وآله وذريَّته(ع)‪ ،‬ومن نور خلق الله منه محم ًدا وذريَّته‪ ،‬وصنعهم بفضل‬ ‫من طينة ُ‬
‫صنع رحمته التي صنع منها محم ًدا وذريَّته‪ ،‬فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه‪ ،‬فقبلوه واحتملوا ذلك‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫وبلغهم ذكرنا فاملت قلوبهم إىل معرفتنا وحديثنا‪ ،‬فلوال أنهم خلقوا من هذا ملا كانوا كذلك‪ ،‬ال‬
‫والله ما احتملوه»‪.‬‬
‫يُستفاد من ذلك الحديث أ ّن الله تعاىل محا العقيدة اإلمام َّية من أذهان غري الشيعة‪ ،‬وأ َم َر األمئة‬
‫بإخفائها عن الناس‪ ،‬كذلك أوىص األمئَّة أتباعهم بذلك‪ .‬ومث َّة أحاديث تلحظ رشط التوافق بني‬
‫رس‪.‬‬
‫الرضوري لنقل ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ب)‪،‬‬‫املاه َّية والصلصال (الجوهريَّة املشرتكة بني جسد اإلمام وقلب امل ُِح ّ‬
‫ألي شخص‪ ،‬ليس ألسباب احرتاب َّية‬ ‫ال ريب يف أ َّن املعرفة التي ميلكها األمئَّة ال ميكن إفشاؤها ِّ‬
‫أو سياس َّية ‪-‬سنعود إليها‪ -‬وإمَّنَّ ا ألسباب تتعلَّق بطبيعة هذه املعرفة‪ .‬فاملعرفة التي تتطابق‪ ،‬كام‬
‫رسا َمصونًا ومحصو ًرا بأقلّ َّية من‬
‫أسلفنا‪ ،‬مع كينونة اإلمام بوصفه تجلّ ًيا للصفات اإلله َّية‪ ،‬تُشكّل ًّ‬
‫رس ال يفيده‬ ‫رس مسترت و ٌّ‬
‫امل ُسا ّرين‪ .‬ومث َّة أحاديث ع َّدة َمرويَّة عن األمئَّة تؤيّد ذلك‪ ،‬منها‪ “ :‬إ َّن أمرنا ٌّ‬
‫رس»‪.‬‬
‫رس مقنع ب ّ‬ ‫رس و ٌّ‬
‫رس عىل ٍّ‬ ‫رس و ٌّ‬
‫إاَّل ٌّ‬
‫َّ‬
‫والواقع أ َّن طابع العقيدة اإلمام َّية يرشح السبب الذي جعل من نظام التق َّية أحد العنارص املركزيَّة‬
‫الشيعي‪ .‬وسنعود إىل التجلّيات الخارجيَّة للتقيَّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لإلميان‬
‫ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫ّ‬
‫السر ُ‬
‫ساري يف أفقه السيايس‪:‬‬
‫رس يف اإلسالم‬‫عالوة عىل األسباب األنطولوجيَّة‪ ،‬املُتَّصلة بطبيعة املعرفة امل ُق َّدسة‪ ،‬فرض كتامن ال ّ‬
‫خاصة ‪ -‬ألسباب سياس َّية واجتامع َّية‪ .‬ومث َّة مجموعة رجال دين ذوي نزعة‬ ‫َّ‬ ‫نفسه أيضً ا ‪ -‬ورمبا بصورة‬
‫“وجديَّة” تع َّرضوا لالضطهاد‪ .‬ويندرج كالمهم امل ُبارش الذي يقع موقع املفارقة‪ ،‬عىل نحو س ّيئ‪،‬‬
‫ب من أيب الحسني‬ ‫ين‪ .‬يف عام ‪ ،877‬طُلِ َ‬ ‫يل مع جهازه العقال ّ‬ ‫الاَّلهوت الجد ِّ‬‫ضمن نطاق يتَّسم بح ّدة َّ‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫ريا ملذاهبهم‪،‬‬ ‫النوري (امل ُتوىَّفَّ سنة ‪ )907‬ومعه متص ِّوفون آخرون من بغداد‪ ،‬أن يق ِّدموا تفس ً‬ ‫ِّ‬
‫الاَّلهوت (غالم خليل املتوىَّفَّ سنة ‪.)888‬‬ ‫حول العالقة بالله تعاىل التي أثارت انزعاج بعض علامء َّ‬
‫الحاَّلج (امل ُتوىَّفَّ سنة ‪ ،)922‬والذي يُع ُّد الصورة الشهرية يف املذهب‬ ‫َّ‬ ‫وبعد محاكمة وإعدام منصور‬
‫رس‪ .‬والوقع أ َّن النزعة الوجديَّة‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ساد الت َّيار “املعتدل” الذي ال يُراعي إاَّلَّ الكتامن وال ّْ‬
‫ِّ‬ ‫الباطني‬
‫ِّ‬
‫الفاريس التي تح َّدثنا عنها‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫ال تختفي‪ ،‬بل تختار أشكال التعبري األكرث كتامنًا‪ ،‬مثل لغة الشعر الصو ِّ‬
‫الدنيوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العادي‬
‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي ُمق َّنع باستخدام املعجم‬
‫ُّ‬ ‫سابقًا‪ ،‬حيث املضمون‬

‫‪157‬‬
‫المحور‬

‫ال ب َّد من اإلشارة هنا إىل أ َّن علامء املنزع “املعتدل” ال يستحسنون دامئًا موقف الصوفيني‬
‫روحي‪ ،‬إفشاء الحقيقة التي يجب أن تبقى بني‬ ‫ٍّ‬ ‫“الوجديني”‪ ،‬واصفني كالمهم بأنَّه ين ُّم عن عدم نضج‬
‫إتيقي‪ :‬إ َّن املرتبة‬
‫ٌّ‬ ‫الله تعاىل وعبده‪ .‬وبحسب وجهة النظر هذه‪ ،‬فإ َّن واجب حفظ الرسِّ له أيضً ا بُع ٌد‬
‫يف ميكن أن يُق َّر بها أولئك الذين بلغوا املرتبة ذاتها‪ ،‬ولك َّنها يجب أن تبقى‬ ‫الروح َّية التي يبلغها الصو ُّ‬
‫محجوبة عن الناس العاديني‪ .‬فإفشاء الرسِّ أمام َمن هو غري قادر عىل فهمه ومنحه قيمته التي تليق‬
‫االجتامعي وساءت سمعتهم يف‬ ‫ِّ‬ ‫به إمَّنَّ ا يؤ ّدي إىل سوء الفهم‪ .‬ومل يفلح املالمتيُّون يف نيل الرضا‬
‫الروحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سبيل إخفاء اكتاملهم‬
‫يف ضوء ذلك‪ ،‬اكتسبت لفظة (شطح)‪ ،‬وهي عبارة ثيوبائيَّة مفارقة‪ ،‬شيئًا فشيئًا داخل بعض‬
‫الت َّيارات الصوف َّية اإلسالم َّية إيحا ًء سلب ًّيا نجده يف (كتاب التعريفات) للجرجاين الذي عاش يف‬
‫القرن الرابع عرش‪ .‬والشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهو من زاَّلَّ ت املحقّقني‪،‬‬
‫إلهي بطريق يُشعر بالنباهة‪.‬‬
‫بحق يُفصح بها العارف من غري إذن ٍّ‬‫كونه دعوى ٍّ‬
‫رس ألسباب إجتامعية وسياس َّية تفرض نفسها‪ ،‬منذ القرون‬ ‫من امله ِّم القول أ َّن رضورة صون ال ِّ‬
‫الهجريَّة األوىل‪ .‬ففكرة اإلنسان املعصوم‪ ،‬امل ُحاطة مبعرفة متسامية‪ ،‬ومعها فكرة استمرار النب َّوة‬
‫يف صلب األمئَّة الذين هم‪ ،‬بنظر األتباع واملخلصني‪ ،‬وحدهم ال ُهداة الرشعيون لعا َّمة املسلمني‪،‬‬
‫شكّلتا خط ًرا حقيق ًّيا عىل الخالفة‪ .‬ورغم أ َّن األمئَّة سعوا جاهدين للبقاء مبنأى عن السياسة ‪-‬‬
‫خصوصا بعد استشهاد ثالث األمئة اإلمام الحسني يف كربالء سنة ‪ 680‬م‪ ،‬فقد انشغل قادة الحركات‬ ‫ً‬
‫“األقلّويَّة” وعلامؤها منذ القرون الهجريَّة األوىل‪ ،‬برضورة إخفاء آرائهم من أجل اجتناب سوء الفهم‬
‫الاَّلهويتِّ وامل ُضايقات السياسيَّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫السواء‪ .‬ويقوم بصورة أساس َّية عىل‬‫يب لآلراء عىل َّ‬ ‫الشفاهي والنقل الكتا َّ‬
‫َّ‬ ‫يشمل الكتامن النقل‬
‫أاَّل يذيعها أمام امل ُخالِف‪ .‬وال َّ‬
‫شك‬ ‫جهة إىل التابع يجب َّ‬ ‫مقاربة انتقائيَّة لل ُم ِ‬
‫خاطبني‪ .‬فاملعرفة امل ُو َّ‬
‫خاصة‪ ،‬فقد كان بإمكان عموم املسلمني االطِّالع‬ ‫َّ‬ ‫يف أ َّن إخفاء اآلراء املكتوبة طرح معضالت‬
‫عليها‪ .‬لذلك ت ّم استخدام تقنيات ع َّدة للتشفري ملنع التابعني الجدد من االطِّالع عىل مضامني‬
‫فك شيفرتها‪ ،‬أو األكرث اندفا ًعا لرشحها‪.‬‬‫النصوص‪ ،‬بحيث ال يستطيع قراءتها إاَّلَّ َمن هو قادر عىل ِّ‬
‫واشتملت كتب الحديث الشيعيَّة القدمية والكتب الخيامويَّة املنسوبة إىل جابر بن حيَّان‪ ،‬وهو‬
‫الخاصة ﺑ “تبديد العلم”‪ .‬وتقتيض هذه التقنيَّة‬
‫َّ‬ ‫من أتباع اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬عىل أمثلة للتقنيَّة‬
‫خاص‬‫ٌّ‬ ‫النص ‪ .29‬ومث َّة مصطلح‬
‫ِّ‬ ‫القصدي ملسائل العقيدة يف مواضع مختلفة من‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫التشظية والتفريق‬
‫كان يُستع َمل من قبل املؤلِّفني الشيعة يف رشح بعض اآليات القرآن َّية من أجل حجب املواضيع‬
‫خاصة‪ ،‬يف الكتابات‬
‫َّ‬ ‫ولعل استخدام عالمات‬
‫الخالفيَّة بالنسبة إىل الس َّنة الذين يُشكّلون الغالبيَّة ‪َّ .30‬‬

‫‪158‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫ِ‬
‫املنترِشة يف جنوب شبه الجزيرة العربية هو ما تؤكِّده‬ ‫القدمية‪ ،‬مثل األبجديَّة النبطيَّة واألبجديَّة‬
‫والنصرييَّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫بعض النصوص اإلسامعيليَّة‬
‫َّ‬
‫احلروفية‪:‬‬ ‫احلركة‬
‫فضاًل عن عدم توفُّر نصوص تحظى بعناية أتباع األمئَّة‪ ،‬يُشكّل تطبيق تقن َّيات الكتامن أحد‬ ‫ً‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫األسباب التي ح َّدت من انتشار آراء األقل َّية الشيع َّية يف العامل اإلسالمي‪ .‬فكان الكتامن من أجل‬
‫رس يف النصوص الحروف َّية‪.‬‬‫الكشف‪ ،‬والهدم من أجل إعادة بناء املعنى‪ ،‬والفكرة وتقن َّيات ال ِّ‬
‫تأسست يف إيران يف النصف‬ ‫رساين‪َّ ،‬‬
‫نوضح هنا أ َّن الحركة الحروف َّية هي حركة ذات منزع َّ‬
‫(تويّف سنة ‪ )1394‬عىل غرار الكثري‬‫ّ‬ ‫االسرتابادي‬
‫ِّ‬ ‫الثاين من القرن التاسع عرش عىل يد فضل الله‬
‫جا بني عنارص إسالميَّة‬
‫من الحركات املشابهة التي انبثقت يف إيران يف ذلك الوقت‪ ،‬وهي تُقيم دم ً‬
‫مختلفة‪ ،‬ال س َّيام الشيعة والصوف َّية‪.‬‬
‫هذه الحركة تط َّورت يف فرتة مضطربة تخلَّلها رصاع عنيف بني مدارس ع َّدة تتنازع عىل دوائر‬
‫االسرتابادي بعقيدته التي ترتكز عىل النزوع إىل الخالص‪ ،‬وسعى‬
‫ُّ‬ ‫متسك‬
‫التأثري يف إيران‪ .‬وقد ّ‬
‫إلقناع القوى السياس َّية بأفكاره‪ .‬ث َّم واصل أوالده وأتباعه هذه االسرتاتيج َّية بعد موته‪ .‬ثم جرى تطوير‬
‫تقن َّيات الرسِّ يف كتب الحروفيني بهدف صون ونرش العقيدة الحروف َّية‪ .‬ومن املفيد التذكري هنا‬
‫رسّ‪:‬‬
‫بالتقنيَّات التي ترتبط بأنواع ال ْ‬
‫للمؤسس‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي ذات أه ّم َّية رئيس َّية من أجل إرساء السلطة الروح َّية‬
‫ِّ‬ ‫أ َّو ًاًل‪ :‬إ َّن الصلة بالرسِّ‬
‫االسرتابادي تلقّى عقيدته بصورة مبارشة من‬
‫َّ‬ ‫ويُش ِّدد أصحاب املدرسة الحروف َّية يف كتبهم عىل أ َّن‬
‫عادي‪ .‬بعد سلسلة أحالم ُمسا ّريَّة تلقّى بالتدريج علم التأويل باملعنى الواسع‪ .‬وبرأيه أ َّن‬ ‫ّ‬ ‫مصدر غري‬
‫علم التأويل َمب ِن ٌّي عىل معرفة الداللة امليتافيزيق َّية لحروف األبجديَّة‪ ،‬أي عىل إدراك صور الحروف‬
‫باعتبارها أماكن مظهر الفونيامت األوىل الصادرة عن الكلمة اإلله َّية‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬يف مظهرها املا ّد ِّ‬


‫ي تُعنَّيَّ األحرف بواسطة ‪ 28‬عالمة من األبجديَّة العرب َّية و‪ 32‬عالمة من‬
‫األبجديَّة العرب َّية‪-‬الفارس َّية‪.‬‬
‫يف‪ ،‬صورة الحرف هي الصورة األبسط‪ ،‬اللبِنات التي تتألّف‬ ‫ثالثًا‪ :‬تِب ًعا لعلم نشأة الكون الحرو ِّ‬
‫لكل يشء سواء أكان موجو ًدا بالفعل أم ُممك ًنا ال أكرث‪ ،‬يف حني أ ًّن االسم‬
‫منها الصورة الجسديَّة ِّ‬
‫وكل‬
‫األنطولوجي لليشء‪ ،‬االسم الذي يُشكِّل داللته امليتافيزيق َّية العميقة‪ ،‬يتألّف من فونَيامت‪ُّ .‬‬
‫َّ‬
‫أي شخص قادر عىل متييز أشكال الحروف من خالل صورة اليشء‪.‬‬ ‫يشء ميكن حرفيًّا “قراءته” من ِّ‬
‫راب ًعا‪ُ :‬مد ِركًا الرابط الذي ِ‬
‫يصل بني الحروف والفونيامت للكلمة اإلله َّية‪ ،‬بإمكان القائل بالحروف َّية‬

‫‪159‬‬
‫المحور‬

‫كل ما هو موجود بإرجاع الصور الجسديَّة إىل دالالتها األصليَّة يف الكلمة‪ ،‬املصدر األول‬ ‫“تأويل” ِّ‬
‫االشتقاقي لكلمة “تأويل”‪ :‬الرجوع إىل األصل)‪ .‬األمر نفسه ينطبق عىل‬ ‫ِّ‬ ‫لكل الخلق (تِب ًعا للمعنى‬
‫ِّ‬
‫تأويل الكتب املق َّدسة‪ :‬الصلة بالكلمة اإللهيَّة هي‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬أكرث رصاحة مبا أ َّن هذه الكتب‬
‫كل حرف لوحده‬ ‫ِ‬
‫املبارِش عن الكلمة اإللهيَّة يف الُّلغات البرشيَّة‪ .‬ومعرفة داللة ِّ‬ ‫ليست سوى التعبري‬
‫تسمح بالولوج إىل مستوى أعىل يف التأويل‪ ،‬والولوج إىل الحقائق الخ ِفيَّة وراء الداللة االصطالحيَّة‬
‫رس‬
‫يف‪ ،‬إ َّن امتالك ِّ‬‫للكلامت والعبارات للُّغة البرشيَّة العاديَّة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يف املنظور الحرو ِّ‬
‫يئ‪ .‬يجدر القول أ َّن الحروفيني استخدموا‬ ‫ين والنها ّ‬‫حروف األبجديَّة يعني امتالك علم التأويل الكو ِّ‬
‫السيايس”‪ ،‬والسبب وراء ذلك هو أن‬ ‫ِّ‬ ‫رس‬‫تقنيَّات عديدة لكتامن الرسِّ تفيدنا يف النقاش حول “ال ّ‬
‫مينعوا الولوج املبارش إىل نصوصهم من قبل خصومهم الذين يبحثون فيها عاَّمَّ ميكن توظيفه‬
‫خاصة هي مزيج من الفارسيَّة والَّلهجة املحلّيَّة‬ ‫َّ‬ ‫يف ات ِّهامهم‪ .‬ومث َّة كتب حروفيَّة قدمية كُ ِتبت بلغة‬
‫االسرتابادي وبعض مريديه)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القدمية (مدينة اسرتاباد‪ ،‬مسقط رأس فضل الله‬
‫هذه التقن َّيات ت ُشكِّل املستوى األوىل من الكتامن‪ .‬والقارئ املجتهد‪ ،‬بعد استيعابه الَّلهجة‬
‫املحلّ َّية وقراءة األحرف األوىل من الكلامت ‪ -‬وهي مه َّمة تكون سهلة من خالل املعاجم التي‬
‫بنيوي‪ .‬فبعض الكتب‬ ‫ّ‬ ‫تشتمل عليها بعض املخطوطات ‪ -‬يقف أمام تح ٍّد آخر‪ ،‬وهذه امل َّرة هو تح ٍّد‬
‫االسرتابادي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الحروف َّية العقديَّة القدمية‪ ،‬من بينها “الجافداناما” (كتاب الخلود)‪ ،‬الذي هو أه ُّم كتب‬
‫ويُع ُّد بنظر أتباعه كتابًا مق ّد ًسا‪ ،‬تُق ِّدم بنية مج َّزأة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬عوضً ا عن الوصف املتامسك‬
‫منطقي يف ما‬‫ٍّ‬ ‫أي رابط‬‫وامل ُنظَّم من حيث املوضوع‪ ،‬يجد القارئ يف هذا الكتاب فقرات تتتاىل بال ِّ‬
‫يقرب من ألف صفحة‪ .‬وبني الفقرات نجد مقاطع ُمشا ًرا إليها بخطوط أفق َّية أو بالبسملة‪ .‬هذه التقن َّية‬
‫حا ومبدأ تنظيم ًّيا يسمح برتميم‬ ‫امل ُستوحاة من كتاب (تبديد العلم) الذي أرشنا إليه آنفًا‪ ،‬تستلزم مفتا ً‬
‫العرض املتامسك ملضامينها‪ ،‬والولوج بالتايل إىل رشح العقيدة‪.‬‬
‫مث َّة فكرة تقول إ َّن البنية امل ُشظّاة ﻟ (الجافداناما) أو (كتاب الخلود) تُحايك بنية القرآن‪ .‬فاالنقطاع‬
‫النص القرآين‪ .‬لك َّن (الجافداناما) يتض َّمن مقاطع تفرتض جمع اآليات‬ ‫َّ‬ ‫السامت التي مُتُ ِّيز‬
‫هو إحدى ِّ‬
‫تختص باملوضوع ذاته‪ ،‬رغم أنَّها وردت يف مواضع مختلفة من القرآن‪ ،‬وهذا ما يخلق‬ ‫ُّ‬ ‫القرآن َّية التي‬
‫لدى القارئ فكرة أن يُط ِّبق النهج ذاته عىل ما ورد يف (كتاب الخلود)‪ .‬والواقع أ َّن فكرة محاكاة‬
‫أسسه فضل الله‬ ‫القرآن تؤيّدها رغبة (الجافداناما) بأن يصبح الكتاب الذي يحوي علم التأويل الذي ّ‬
‫يئ للقرآن‪ ،‬وهدايته من جديد إىل الكلمة اإلله َّية األصل َّية‪ .‬فحروف‬ ‫االسرتابادي‪ ،‬وهو التأويل النها ُّ‬
‫ِّ‬
‫خصوصا‪ ،‬تؤ ّدي دو ًرا رئيس ًّيا يف هذه الهداية‪.‬‬
‫ً‬ ‫رسيَّة‬
‫األبجديَّة عمو ًما‪ ،‬وحروف القرآن ال ّ‬
‫تشظية كتاب‬ ‫االسرتابادي كانوا يُدركون الُّلغز الكامن وراء ِ‬
‫ِّ‬ ‫مث َّة عنارص عديدة ت ُثبت أ َّن أتباع‬
‫نسقي ملضامينها‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫يف مؤلَّفات ع َّدة تسعى لتكون مبثابة عرض‬‫(الجافداناما)‪ .‬ويض ُّم األدب الحرو ُّ‬
‫بيد أ َّن هناك مالحظة من مجهول جاءت يف نهاية مخطوطة املكتبة الربيطانيَّة رقم ‪ ،5957‬وت ُق ّدم‬

‫‪160‬‬
‫السر ومعناه‬
‫ِّ‬ ‫حفظ‬

‫فص ًاًل لستَّة فصول يجري فيها تصنيف مقاطع الكتاب وتبويبه بحسب املوضوعات‪ .‬وعندما‬ ‫وصفًا ُم ّ‬
‫ِ‬
‫التشظية املعرفة املسبقة بنهج إعادة تنظيم الكتاب‪ ،‬طالبت كل َمن يرغب باالطالع‬ ‫افرتضت تقنيَّة‬
‫يض‪.‬‬
‫عىل اآلراء الحروفية ببذل جهد كبري من أجل صيانته من أي تأويل َع َر ّ‬
‫التشظية بُع ٌد “ ُمسا ّري”‪ .‬فهي من جهة‪ ،‬تحرص االطّالع عىل املضامني‬ ‫ِ‬ ‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬لتقنية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الشفاهي للعالِم‪ ،‬بإعادة بناء املقاطع امل ُشظَّاة‪ .‬ومن‬


‫ِّ‬ ‫العقديَّة بأقلّ َّية مع َّينة ترغب‪ ،‬يف غياب التلقني‬
‫النص والوصول إىل معناه األعمق‪ ،‬أي بني‬ ‫ِّ‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬يُقيم كتاب (الجافداناما) صل ًة بني تشظية‬
‫التشظية ونهج التأويل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫النبي موىس عليها السالم (سفر الخروج‪:32 ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫هذه الفكرة األخرية ترشحها األلواح التي تلقَّاها‬
‫‪ُ .)19‬مستن ًدا إىل نظريَّته يف التأويل التي ترتكز عىل معرفة الداللة األنطولوج َّية لألحرف األبجديَّة‪.‬‬
‫تأوياًل جدي ًدا لقصة األلواح يُحطِّم موىس األلواح فيها ألنَّه كان يريد إبراز الحروف‬
‫ً‬ ‫فالكاتب يق ِّدم‬
‫تجيّل” الفونيامت‬
‫التي تؤلِّفها‪ .‬وينبغي التذكري بأ َّن هذه الحروف هي‪ ،‬برأي االسرتابادي‪“ ،‬أماكن ّ‬
‫يئ باعتباره يؤ ّمن الوصول من كالم الوحي الذي‬ ‫األوىل للكلمة اإلله َّية‪ ،‬ومنطلقات التأويل النها ِّ‬
‫يل‪.‬‬
‫اإللهي األص ّ‬
‫ِّ‬ ‫يُصاغ بلغة برشيَّة إىل الكالم‬
‫النص من أجل الوصول إىل داللته الحقيقيَّة‪ .‬ومع عدم متكُّننا‬‫ِّ‬ ‫بحسب هذا التأويل‪ ،‬يجب هدم‬
‫سيايس‬
‫ٍّ‬ ‫من تأكيد ذلك‪ ،‬ميكننا افرتاض أ َّن التكوين امل ُشظّى يف (الجافداناما) ليس تقنيَّة “كتامن”‬
‫فلسفي أعمق لدى املؤلِّف‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫عرِّب أيضً ا عن تص ُّور‬
‫فحسب‪ ،‬بل يُ ِّ‬
‫لقد كان حفظ الرسِّ يف اإلسالم‪ ،‬ألسباب تتعلَّق باملامرسة والسياسة‪ ،‬بوصفه وسيلة لصيانة‬
‫ونرش األفكار التي ينبذها “املعتقد املستقيم”‪ ،‬وتط َّورت بالتدريج نحو صور أكرث تعقي ًدا‪ ،‬استنا ًدا‬
‫إىل عقائد الهوت َّية وفلسف َّية وصوف َّية‪ .‬وتسعى آراء ال ِفرق اإلسالم َّية املختلفة للتوفيق بني مختلف‬
‫رس التي قمنا بتخصيصها شكل ًّيا وميتافيزيق ًّيا و ُمسا ّريًّا وسياس ًّيا‪.‬‬
‫الخاصة بتقن َّيات حفظ ال ّ‬
‫َّ‬ ‫الجوانب‬
‫ففي عقائد بعض هذه ال ِفرق‪ ،‬عىل غرار ما رأيناه عند املدرسة الحروف َّية‪ ،‬تتوقَّف فكرة حفظ الرسِّ‬
‫واألسس‪،‬‬‫ُ‬ ‫والتقن َّيات الواقع َّية املستخ َدمة لهذا الغرض عىل املق ِّدمات النظريَّة التي تطال املبادئ‬
‫ريا إطار الكتامن الذي هو براغاميتٌّ بحت‪.‬‬‫وتتخطَّى كث ً‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪ -‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ّ‬
‫قوة الكلمات في معنى المعنى‬
‫استكشاف الصلة الغامضة بين اللغة والفكر‬

‫‪ /‬أ‪.‬آ‪ .‬ريتشاردز‬ ‫س‪.‬ك أوغدن‬


‫ ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫كام�يدج‬
‫فيلسوف وأستاذ اللغة ي� جامعة ب‬ ‫بريطا�‬
‫ي‬ ‫فيلسوف ولغوي‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫مسعى هذا النص البحث عن فلسفة املعنى يف حقل شَ ِغ َل الكثريين من علامء‬


‫ومفكري الغرب يف النصف األول من القرن العرشين املنرصم‪ ،‬وهو حقل اللسانيات‬
‫وفلسفة اللغة‪ .‬وهذا الفصل الذي اصطفينا تقدميه وترجمته هو أحد أبرز فصول‬
‫الكتاب الشهري الذي أصدره العاملان الربيطانيان تشارلز يك أوغدن (‪ 1889‬ـ ‪)1957‬‬
‫وإيغور أرمسرتونغ ريتشاردز (‪ 1893‬ـ ‪ )1979‬وجاء تحت عنوان‪ :‬معنى املعنى ـ‬
‫دراسة حول تأثري اللغة عىل التفكري وعلم الرموز‪.‬‬
‫يف واحد إىل استكشاف‬ ‫سعى الكاتبان اللذان يشرتكان يف ه ٍّم معر ٍّ‬
‫العالقة الرسية بني اللغة والفكر‪ .‬ومن هذا النحو يعد كتاب "معنى املعنى "‬
‫‪ The Meaning of Meaning‬من أهم الكالسيكيات الحديثة التي صدرت يف‬
‫أوروبا يف مجال اللغويات‪ .‬أما نظريته املحورية فهي تركز عىل استجابة القارئ‬
‫بداًل من نية الكاتب أو السياق التاريخي للنص‪.‬‬
‫للنص كمصدر رئيس للمعنى‪ً ،‬‬
‫وكذلك االعتقاد بأن معنى العمل األديب يتكون يف نطاق التفاعل بني القارئ والنص‪،‬‬
‫وعليه‪ ،‬جاء كتاب معنى املعنى من أجل أن يستظهر واحدة من أبرز نظريات املعرفة‬
‫يف فلسفة املعنى‪.‬‬
‫يف ما ييل تقديم إيضاحي ألهمية النظرية لهذا الفصل من الكتاب تليه الرتجمة‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬معنى املعنى ـ قوة الكلامت ـ اللغة والفكر ـ القارئ والنص ـ‬
‫نظرية املعرفة‪.‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫تقديم‪:‬‬
‫فصاًل من مجموعة فصول بُدئ بكتابتها كمقاالت متف ِّرقة منذ عام‬
‫ً‬ ‫ميثِّل املقال الذي بني أيدينا‬
‫‪ ،1910‬وت َّم جمعها ونرشها يف كتاب تحت عنوان‪« :‬معنى املعنى‪ :‬دراسة حول تأثري الُّلغة عىل‬
‫التفكري وعلم ال ُّرموز» عام (‪ ،)1923‬ومتَّت ترجمته إىل العرب َّية عام ‪ .2015[[[1‬وقد اعتمد املرتجم‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫عىل نسخة الكتاب املطبوعة عام ‪ ،1989‬والتي تحتوي عىل مق ِّدمة بقلم أمربتو إيكو الذي أكَّد‬
‫ربا أنَّه من كالسيك َّيات الفلسفة والُّلغة واللسان َّيات‪ ،‬ومرجع رئيس‬
‫األهمية الكربى للكتاب‪ ،‬معت ً‬
‫أدل عىل ذلك من عدد الطبعات الخمس التي ظهرت منه‪.‬‬ ‫للمهت ّمني بهذه املجاالت‪ ،‬وليس َّ‬
‫عرَّبت عن‬
‫صا بالُّلغة العربيَّة‪ ،‬لذا جاءت ترجمة الكتاب دقيقة للغاية‪َّ ،‬‬‫متخص ً‬
‫ِّ‬ ‫لقد كان املرتجم‬
‫املهارة والقدرة وامتالك ناصية اللغة‪ ،‬وقوة التعبري‪ ،‬وطالوة العبارة‪ ،‬وفخامة الرتاكيب الُّلغويَّة‪.‬‬
‫وهنا يربز سؤاالن‪ :‬ملاذا اخرتنا ترجمة هذا الفصل بالذات؟ وملاذا ترجمة ثانية؟‬
‫مث َّة سببان وراء اختيار هذا الفصل بالذات‪:‬‬
‫انغامسا فيها‪ ،‬ويتَّضح هذا األمر من‬
‫ً‬ ‫األ َّول‪ :‬أ َّن هذا الفصل هو أكرث الفصول ًّ‬
‫متاسا مع الفلسفة أو‬
‫املوضوعات الفلسف َّية الكثرية واملثرية التي ت َّم عرضها وامت َّدت لتشمل تاريخ الفلسفة بأرسه؛ من‬
‫اليونان‪ ،‬ومن قبلها مرص والهند والصني وغريها‪ ،‬باإلضافة إىل العديد من النصوص الدينيَّة‪ ،‬مرو ًرا‬
‫وصواًل إىل الفلسفة األوروبيَّة املعارصة‪.‬‬
‫ً‬ ‫يب الوسيط‪،‬‬
‫بالعرص األورو ِّ‬
‫الثاين‪ :‬أ َّن هذا الفصل يتناول الُّلغة كرتكيبات لغويَّة ومنطقيَّة‪ ،‬والتي ير ُّد عليها ويناظرها مقالنا‬
‫(املؤلِّف) يف العدد نفسه عن «ماوراء املعنى»‪ ،‬والذي يعرض للُّغة كخربة‪ ،‬كوحي‪ ...‬وهكذا نكون‬
‫ذوايَت رؤية واتجاه مختلفني‪ ،‬للموضوع ذاته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قد ق َّدمنا مقاربتني مختلفتني‪،‬‬
‫ملاذا الرتجمة الثانية؟‬
‫أ َّما عن السؤال‪ :‬ملاذا الرتجمة الثانية؟ فقد الحظنا أ َّن الرتجمة األوىل قد أ ْولَت عناية قصوى‬
‫ريا ما انرسب‬ ‫للدقَّة والسالمة الُّلغويَّة‪ ،‬والعبارات املنطقيَّة‪ ،‬وذلك عىل حساب املعنى‪ ...‬الذي كث ً‬
‫من بني أصابع األمانة اللفظ َّية يف الرتجمة‪ .‬أ َّما هذه الرتجمة‪ ،‬فقد راعينا أن تكون األولويَّة فيها‬

‫[[[ ‪ -‬أوغدن ورتشاردز‪ ،‬معنى املعنى‪ :‬دراسة ألثر الُّلغة يف الفكر ولعلم الرمزيَّة‪ ،)2015( ،‬ترجمة كيان أحمد حازم يحيى‪ ،‬دار الكتاب‬
‫الجديد املتَّحدة‪.‬‬
‫املصدر‪:‬‬
‫‪C. K. Ogden I. A. Richards, The Meaning of Meaning: a study of the influence of language upon thought‬‬
‫‪and of the science of symbolism,(1923), A Harvest Book Harcourt, Brace & World, Inc.New York.‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬ليزا سعيد أبو زيد – دكتوراه الفلسفة يف اآلداب‪ -‬جامعة القاهرة‪ -‬مرص‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫المحور‬

‫أساسا‬
‫ً‬ ‫للمعنى‪ ،‬مع اعتبار معقول للدقَّة الُّلغويَّة ومطابقة املنقول إليه للمنقول منه‪ ،‬فنحن هنا معن ُّيون‬
‫ُّلغوي‪ .‬ولقد يبدو األمر للعني العجىل‪ ،‬لونًا من خيانة أمانة الرتجمة‪ ،‬أ َّما‬
‫ّ‬ ‫باملعنى‪ ،‬وليس بالخطاب ال‬
‫من ميعن النظر فسوف يرى خالف ذلك؛ ألنَّه من األمانة أن يت َّم إيصال املعنى كام أراده املؤلِّف‬
‫قدر املستطاع‪ .‬كام أ َّن الكتاب يتناول املعنى ليبحث يف معناه (معنى املعنى)؛ لذلك بدا لنا أ َّن‬
‫اقتناص املعنى هو الهدف املنشود ما دمنا نبحث عن الفهم‪.‬‬
‫ونلفت نظر القارئ إىل مسألة متعلِّقة بوضع الهوامش‪ .‬فرغم أهميَّتها التوضيحيَّة‪ ،‬آثرنا أن نكتفي‬
‫التوسع فيها‪ ،‬ال سيام مع كتاب‬ ‫ُّ‬ ‫بالرضوري يف إغالق دائرة املعنى يف ذهن املتلقّي؛ أل َّن‬
‫ِّ‬ ‫منها‬
‫ح‬
‫كالذي ترجمنا عنه‪ ،‬وما تض َّمنه من سيل هادر من األعالم واملصطلحات‪ ..‬إلخ‪ ،‬قد يأخذه إىل منا ٍ‬
‫تشتِّته عن الغاية التي يقصدها املؤلِّفان‪ .‬وأ َّما عن األعالم‪ ،‬فقد اكتفينا برتجمتها مع كتابتها بالحروف‬
‫الاَّلتينيَّة كلَّام استلزم األمر؛ لسهولة البحث عنها ملن يرغب‪.‬‬
‫َّ‬
‫نلفت أيضً ا غىل أ َّن هذا املقال يدور حول فكرة أساس َّية‪ ،‬هي ما للكلامت واأللفاظ التي نستعملها‬
‫من أصول بدائ َّية ما زالت ضاربة بجذورها العميقة فينا حتى الَّلحظة‪ ،‬بل وحتى يف نصوص أكرث‬
‫املفكِّرين عمقًا وأش ِّدهم انرصافًا عن الوهم‪ .‬وهو يقوم عىل افرتاض أ َّن للكلامت قوى خفيَّة‪،‬‬
‫ساقت اإلنسان‪ ،‬عرب العصور‪ ،‬إىل أن ينزلها منزلة التقديس‪ ،‬ويحوطها بأسوار التحريم‪ ...‬أي يجعل‬
‫منها «تابو» يف الكثري من األحيان‪ .‬بل كان للكلمة جالل السحر؛ حيث كانت تُتَّخذ وسيطًا لألعامل‬
‫السحريَّة‪ ،‬كام كان االسم يُعترب تت َّمة لإلنسان‪ :‬فهو يناظر الروح وميكن أن يُستعاض عن اإلنسان‬
‫باسمه فحسب‪ ،‬سواء يف التعاويذ والتامئم السحريَّة‪ ،‬أ ِّم يف عالقته بالعامل اآلخر‪ .‬وإلظهار وجهة‬
‫رسد األمثلة وعرض النصوص الدين َّية وغري‬
‫خ طواًلً وعرضً ا ل ْ‬ ‫النظر هذه‪ ،‬يجوب املؤلِّفان التاري َ‬
‫الدين َّية التي ت ُؤيد ما ذهبا إليه‪.‬‬
‫خالصة ما أراد املؤلِّفان أن يُقنعانا به يف هذا الفصل‪ ،‬هو أنَّنا‪ ،‬عىل العموم‪ ،‬نُسلِّم أنفسنا لرتسانة‬
‫من األوهام الَّلفظ َّية‪ ،‬تلك التي ورثناها عن أسالفنا األقدمني‪ ،‬والتي مبقتضاها انرصفنا عن الواقع‬
‫واستعضنا عنه باأللفاظ‪ ...‬وهذه واحدة من أخطر ال ِفخاخ التي تُو ِقعنا فيها الكلامت؛ أل َّن األمر ال‬
‫الحقيقي للكلامت‪ ،‬وإمَّنَّ ا يتجاوزه‬
‫ِّ‬ ‫يقف عند ح ِّد االنفصال عن الواقع‪ ،‬عن املضمون أو املعنى‬
‫الحق الذي ال ريب فيه‪ ،‬وال ميكن‬ ‫ُّ‬ ‫إىل اعتبار أ َّن هذه الرتسانة الَّلفظ َّية التي ترضب رؤوسنا‪ ،‬هي‬
‫ظ سو ًءا‪ ،‬أ َّن للكلامت لقدرة عىل انتزاع العواطف‬ ‫وماَّم يزيد الح َّ‬
‫كل هذا محض هراء‪َّ .‬‬ ‫تص ُّور أ َّن َّ‬
‫أي مضمون أو معنى‪ ...‬مج َّرد سيمفون َّية متناغمة من األصوات نس ّميها‬ ‫من نفوسنا برغم فراغها من ِّ‬
‫ألفاظًا وكلامت‪ ،‬رغم أ َّن طبيعة األمور تقيض بأن تكون األفكار واملعاين واملفاهيم وحدها القادرة‬
‫عىل استدعاء العواطف! وهذه العواطف واالنفعاالت هي ما يشحن الكلامت باملعنى‪ ،‬ويُسبغ‬

‫‪164‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫عاَّم تنطوي عليه من فراغ ووهم‪.‬‬


‫عليها صفة «الحقيقيَّة»‪ ،‬ويُذهلنا َّ‬
‫ختا ًما‪ ،‬ال نزعم أ َّن الرتجمة التي نودعها يد القارئ هي األفضل‪ ،‬وإمَّنَّ ا هي مختلفة يف الرؤية‬
‫ملختصة‬
‫َّ‬ ‫مختص يف الُّلغة العرب َّية‪ ،‬أ َّما هذه الرتجمة فهي‬
‫ٌّ‬ ‫جه وحسب؛ فالرتجمة األصل َّية قام بها‬
‫والتو ُّ‬
‫يف مجال الفلسفة‪ .‬وبعد هذا التقديم‪ ،‬فإن خري ما نقوم به اآلن هو االنسحاب من املشهد‪ ،‬وإفساح‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫املجال للمقال ذاته‪.‬‬


‫َّ‬
‫قوة الكلمات‬
‫حي؛ فالكلمة هي اإليجاد‪ ،‬واإليجاد هو الله” (فكتور‬
‫حق قدرها‪ ،‬هي كيان ٌّ‬
‫“الكلمة‪ ،‬إذا قدَّ رناها َّ‬
‫هوجو)‪.‬‬
‫“أيها األثينيون‪ ،‬أراكم تُظهرون عظيم التبجيل لآللهة مهام اختلفت أحوالكم” (بولس‬
‫الطرسويس)‪.‬‬
‫“إنَّ من ينظر بعناية إىل هذه املسائل‪ ،‬سيجد أنَّ هناك سح ًرا أو جاذب َّية ما يف الكلامت‪ ،‬تجعلها‬
‫تعمل بق َّوة تتجاوز ما ميكننا رشحه يف الظروف الطبيع َّية” (روبرت ساوث)‪.‬‬
‫الرموز‪ ،‬التي استعملها البرش يف بناء أفكارهم وتسجيل منجزاتهم‪ ،‬كانت – منذ ال ِقدم – َمعي ًنا‬
‫إعجاب بخصائص الكلامت‬ ‫ٌ‬ ‫البرشي بأرسه‬
‫ُّ‬ ‫ال ينضب لألعاجيب واألوهام‪ .‬فقد متلَّك الجنس‬
‫ولعل للمرء أن‬
‫َّ‬ ‫كأدوات للتحكُّم يف األشياء‪ ،‬حتى لقد أُرجع إليها – عرب العصور – قوى خفيَّة‪.‬‬
‫ريا لدى مقارنته بني موقف املرصيني القدماء وموقف الشعراء املعارصين‪ .‬فهذا‬
‫يالحظ شب ًها كب ً‬
‫‪Walt‬مثاًل‪ ،‬يقول‪“ :‬الكلامت كلُّها روحيَّة”‪“ ،‬ليس مث َّة أكرث روحيَّة من‬
‫ً‬ ‫والت ويتامن ‪Whitman‬‬
‫الكلامت”‪ .‬ولنا أن نتساءل هنا‪ :‬من أين جاءت الكلامت؟ وكم من ألوف السنني استغرقتها لتصل‬
‫إلينا؟” وإذا مل ندرك ما للخرافات املتَّصلة بها من آثار بعيدة‪ ،‬فلن نفهم السبب وراء ثبات بعض‬
‫العادات الُّلغويَّة املنترشة‪ ،‬والتي ال تزال تفسد حتى أكرث أمناط التفكري حذ ًرا واحتياطًا‪.‬‬
‫ولقد تبلغ آثار ذلك اإلرث‪ ،‬يف اللغة‪ ،‬كام يف املجاالت األخرى‪ ،‬من السيادة‪ ،‬بحيث أننا “لو‬
‫تس َّنى لنا فتح رأيس رجلني ينتميان إىل الجيل نفسه والبلد ذاته‪ ،‬ولكنهام عىل طريف نقيض يف‬
‫جح أن نجد عقليهام يختلفان اختالفًا بعي ًدا كام لو كانا ينتميان‬
‫مستويات التفكري‪ ،‬لكان من املر َّ‬
‫ولعل ما يجعل الخرافات تحيا وتدوم‪ ،‬أنَّها عىل حني تصيب الفئات املستنرية‬
‫َّ‬ ‫إىل نوعني متباينني‪.‬‬
‫مبشاعر الصدمة‪ ،‬فهي – يف حقيقة األمر – يف وفاق مع أفكار ومشاعر اآلخرين الذين غلبتهم عىل‬
‫أمرهم رواسب الرببريَّة والهمجيَّة‪ ،‬رغم أ َّن ذوي الرأي واملكانة فيهم يلقون إليهم من الرؤى واآلراء‬

‫‪165‬‬
‫المحور‬

‫كمتحرِّضين”[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ما يجعلهم يبدون‬
‫وتعلياًم –‬
‫ً‬ ‫والواقع أ َّن هذه اآلثار تبلغ من الق َّوة والخفاء‪ ،‬بحيث تحجب حتى أرفع الناس ثقافة‬
‫ص ْوغ سلوكهم‪.‬‬ ‫عن رؤية هذه املوروثات الح َّية‪ ،‬كام تحجبهم عن رؤية أيادي املايض الطُوىل يف َ‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬يقول الدكتور چيمس چورج فريزر‪“ :Dr Frazer‬أولئك الذين قادتهم اهتامماتهم‬
‫ودراساتهم الستكشاف هذا املجال‪ ،‬هم وحدهم الذين يَ ُعون مدى هشاشة األرض التي نقف‬
‫عليها‪ ،‬ويُق ّدرون عمق اله َّوة التي خلّفتها قوى خف َّية تحت أقدامنا‪ ،‬إن جاز التعبري”‪.‬‬
‫هكذا يذهب األنرثوبولوجيون إىل أن سطح املجتمع‪ ،‬مثله كمثل سطح البحر‪ ،‬ميكن أن يكون‬
‫دائب الحركة‪ ،‬يف حني تبقى أعامقه البعيدة مستق َّرة تقري ًبا كأعامق املحيط‪ .‬ومن أجل التواصل‬
‫يتعنَّي‬
‫َّ‬ ‫يتعنَّي علينا الغوص الدائم إىل تلك األعامق‪ ،‬بل لقد‬ ‫َّ‬ ‫السليم والحميم مع أفراد املجتمع‪،‬‬
‫علينا يف بعض الحاالت‪ ،‬أن نتنازل عن املزايا التي مينحها النظام العلمي‪ ،‬مثل االستخدام الدقيق‬
‫ب من املجرى ذاته مبا يشتمله من شوائب‪ .‬ولنئ تراكمت فوق رؤوسنا غيوم التقاليد‬ ‫لل ُّرموز‪ ،‬وأن نَ ُع َّ‬
‫الَّلفظ َّية يف سعينا للتواصل والتفاهم‪ ،‬فإ َّن معظمنا مل يط ِّور حتى أدوات حامية أ َّول َّية‪.‬‬
‫ال ب َّد من القول هنا أ َّن ق َّوة الكلامت وسلطانها الطاغي يتجلَّيان يف قدرتها عىل االحتفاظ بتأثريها‬
‫ريا – يُ ِق ّرون بوجود وفاعل َّية تلك الَّلفائف الَّلفظ َّية‬
‫يف حياتنا؛ حتى لقد بدأ دارسو األنرثوبولوجيا – أخ ً‬
‫كل‬‫التي تكتنف وتك ِّبل الكثري من نشاطاتنا الذهن َّية‪“ .‬إ َّن لل ِّنظام املشرتك املوروث‪ ،‬لَي ٌد طوىل يف ِّ‬
‫طبيعي فال نستطيع له‬ ‫ٍّ‬ ‫ما حولنا؛ فألنَّه جاهز سلفًا‪ ،‬فإنَّنا نولد لننغمس فيه مبارشة‪ ،‬ونتلقّاه بشكلٍ‬
‫جم نشاطاتنا الذهنيَّة بطرق ال حرص لها‪ .‬معنى ذلك أنَّا‬ ‫ح ِّ‬
‫دف ًعا‪ ،‬كالهواء الذي نتنفَّسه‪ ،‬وهو لذلك يُ َ‬
‫رشب هذا النظام وتتش َّبع به أنسجتنا الذهن َّية قبل حتى أن نتمكَّن من البدء يف التفكري ألنفسنا‪،‬‬ ‫نت َّ‬
‫[[[‬
‫متأصل يف الُّلغة نفسها التي يجب أن نستخدمها للتعبري حتى عن أبسط أغراضنا”‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وذلك ألنه‬
‫أ َّما بنية الُّلغة‪ ،‬التي هبطت علينا من آبائنا األ َّولني‪ ،‬والتي تتحكَّم يف ذاك النظام املتوارث‪ ،‬فال‬
‫نستطيع حتى مج َّرد التفكري يف الفكاك من قبضتها الصارمة‪ .‬ورغم عرشات اآلالف من السنني‬
‫التي انرصمت منذ استقامت لنا إنسان َّيتنا‪ ،‬فام زلنا نستخدم يف تواصلنا وسيطًا صيغ ليل ّبي حاجات‬
‫دلياًل عىل بدائ َّية أصولها‪ ،‬فإ َّن ما ينتج من هذه‬ ‫ساكن األشجار‪ .‬ولنئ كانت أصوات الُّلغة وعالماتها ً‬
‫األصوات والعالمات من عادات التفكري‪ ،‬والتي منَت باالستخدام وباألنظمة التي هبطت علينا من‬
‫آبائنا األ َّولني‪ ،‬إمَّنَّ ا هي دالّة بالقدر نفسه عىل استمراريَّة ذات مغزى‪.‬‬
‫يئ أوهام قد تنتزع م َّنا الضحك‪ ،‬بيد أنَّنا نغفل أنَّه هو َمن ش َّيد هذه اآللة‬
‫ويف لغة الرجل البدا ِّ‬
‫‪[1]- J G Frazer, Psyche’s Task, p169.‬‬
‫‪[2]- F M Cornford, From Religion to Philosophy, p 45.‬‬

‫‪166‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫الَّلفظيَّة التي نستعملها من دون غضاضة‪ ،‬والتي ما زال ميتافيزيقيّونا يؤمنون أنَّهم يكشفون بها‬
‫أقل خطورة أو استحكا ًما‬ ‫عن حقيقة الوجود‪ ،‬بل لقد تكون مسؤولة عن أوهام أخرى رمبا ليست َّ‬
‫رسيَّة‪ ،‬والكلامت املح َّرمة بشتَّى‬
‫ماَّم كانت لديه‪ .‬ويكفينا تذكُّر انتشار املفردات املق َّدسة أو ال ّ‬ ‫َّ‬
‫أطيافها فام زالت معظم املجتمعات األوروب َّية تستطيع رسد حكايات عن بعض املفردات والتامئم‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫املساعدة يف إمتام زواج أمري‪ ،‬أو إحباط غول‪ ..‬إلخ‪ ،‬مثل هذه املفردات‪ ،Tom-Tit-Tot( :‬أو‬
‫‪ ،Vargaluska‬أو ‪ ،Rumpelstiltskin‬أو‪ ،Finnur‬أو‪ [[[.) Zi‬وهكذا‪ ،‬وبنا ًء عىل التط ُّورات الحديثة‬
‫للنزعة الرتابط َّية‪ )(،‬وبتأكيدها الصارم عىل دور الُّلغة يف الذاكرة والخيال‪ ،‬وما يرتت َّب عليها من إحالة‬
‫النفيس‪ ،‬كان االعتقاد‬
‫ِّ‬ ‫للسياق‪ ،‬نقول بنا ًء عىل ذلك‪ ،‬يتَّضح أنَّه يف الزمن السابق عىل شيوع التحليل‬
‫خاص من الكلامت النافذة التأثري كام لو كانت آلهة‪.‬‬‫ٍّ‬ ‫راسخًا بوجود عامل‬

‫الكلمات يف مصر القديمة‪:‬‬


‫يف مرص القدمية‪ ،‬ات ّخذت االحتياطات ملنع انقراض الروح الثامنة أو اإلسميَّة «‪،”Name-soul‬‬
‫والحفاظ عىل بقائها مع أسامء اآللهة؛ حيث نجد يف نصوص األهرام‪ ،‬إشارة إىل إله يدعى كرين‬
‫“‪ ،”Khern‬أي “الكلمة”‪ ،‬حيث للكلمة شخص َّية مثلام لإلنسان‪ .‬بل لقد أُرجع خلق العامل إىل‬
‫تأويل تحوت إلرادة اإلله بالكلامت‪ .‬والغالب َّية العظمى من البرش كانت قد آمنت يو ًما بأ َّن االسم هو‬
‫الجزء األصيل يف اإلنسان واملتَّحد مع الروح‪ ،‬وأ َّن هذا الجزء ليبلغ من األهميَّة بحيث ميكن أن‬
‫عاَّمل املصانع‪ .‬ويف سفر الرؤيا‬ ‫ككل‪ ،‬مثلام ت ُطلَق عبارة “األيدي العاملة” عىل َّ‬ ‫يُستبدل باإلنسان ّ‬
‫نقرأ‪“ :‬وقُ ِتل بال ّزلزلة أسام ٌء من الناس‪ :‬سبع ُة آالف”‪ ،‬كام جاء يف رسالة إىل كنيسة سار ِدس‪“ :‬عندك‬
‫جسوا ثيابهم»‪ .‬والوحش الخارج من البحر عىل رأسه «أسامء كفرية»‪.‬‬ ‫أسامء قليلة يف سار ِدس مل يُ َن ِّ‬
‫والكفر نفسه هو مثال عىل ذلك؛ حيث يُعتقد أ َّن اإلله يشعر باإلهانة شخصيًّا بسبب تدنيس اسمه‪.‬‬
‫صبي يف عهد امللك هرني الثامن؛ بسبب‬ ‫ٍّ‬ ‫بل لقد بلغ األمر إىل ح ِّد الحكم باملوت حرقًا عىل‬
‫كلامت تافهة حول أرسار دين َّية‪ ،‬صادفت أذنيه‪ ،‬فرت َّددت – بال وعي – عىل شفتيه[[[‪.‬‬
‫اس ِمي َو ُه َو عجيب؟»( أو‬ ‫ويف سفر القضاة‪ ،‬يقول مالك الرب لـمنوح (‪« :)13‬لِامذَا ت َْسأَ ُل َع ْن ْ‬
‫بتعبري جورج فوت مور‪ :‬ملاذا تسأل عن اسمي وهو أقدس من أن يذكر)‪ .‬وإن جميع الشعوب البدائ َّية‪،‬‬
‫تقري ًبا‪ ،‬ليمقتون ذكر أسامئهم‪ .‬ولقد كان أحد زعامء نيوزيلندا يُدعى «واي»‪ ،‬ومعناه املاء‪ ،‬وكيال‬
‫اساًم جدي ًدا‪ .‬ويف كتابه «الغصن الذهبي»‪،‬‬ ‫يكون اسمه جاريًا هكذا عىل األلسنة‪ ،‬تحتّم إعطاء املاء ً‬
‫جهات‪ .‬وال‬ ‫يجمع فريزر عد ًدا من األمثلة للكلامت املح َّرمة عىل نحو يُشري إىل عامل َّية هذه التو ُّ‬
‫‪[1]- J A Macculloch, The Childhood of Fiction, pp 26- 30.‬‬
‫[[[‪ -‬جيه‪ .‬أيه‪ .‬ماكولوش هو أخر من جمع املراجع حول هذه األمور‪ ،‬وربطها باملامرسة العامة للسحر اللفظي‪ ،‬متاماً كام فعل السيد‬
‫كلود يف كتابه «توم‪-‬تيت توت ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫المحور‬

‫فضاًل عن الكهنة الذين كان يُفرتض أ َّن اآللهة تسكُنهم‬ ‫ً‬ ‫يقترص األمر عىل الزعامء‪ ،‬بل إ َّن اآللهة أيضً ا‪،‬‬
‫(وهو اعتقاد دفع الكانتونيني لتسمية هذه الشخصيَّات «صناديق اآللهة»)‪ ،‬إمنا يُعتربون ضحايا لهذا‬
‫النطقي‪ .‬ونحن نعرف كيف رفض هريودوت ذكر اسم أوزيريس‪ .‬واسم الله األعظم رس‬ ‫ّ‬ ‫ال ِّرهاب‬
‫مكنون‪ [[[.‬واألمر نفسه نجده مع آلهة الرباهم َّية‪ [[[،‬واالسم الحقيقي لكونفوشيوس‪ [[[.‬ومن الواضح‬
‫أ َّن اليهود األرثوذكس يتج َّنبون متا ًما ذكر اسم «يهوه»‪ [[[،‬وميكننا مقارنة «الحمد لله» و«موربلو»[[[‪.‬‬
‫طفاًل‪ ،‬أن يس ّموا الطفل التايل‬ ‫ً‬ ‫وغريها من األلفاظ امللطّفة‪ .‬وقد اعتاد الهندوس عندما يفقدون‬
‫شك يف أ َّن الروح تعرف الناس‬ ‫باسم ُمهني‪ ،‬ف ُيطلق عىل الذكور اسم «كوريا»‪ ،‬أو « َدنجهِل» – وال َّ‬ ‫ْ‬
‫وىَس‪ :‬ألَن ََّك‬
‫ب لِ ُم َ‬ ‫كل إنسان باسمه‪« :‬فَق َ‬
‫َال ال َّر ُّ‬ ‫بأسامئهم‪ ،‬وتتجاهل التافهني‪ .‬كذلك‪ ،‬يعرف الله َّ‬
‫مرصي قديم اسامن‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ِاس ِم َك» (سفر الخروج ‪ .)17 :33‬وكان ِّ‬
‫لكل‬ ‫جدْتَ نِ ْع َم ًة ِ‬
‫يِف َعيْ َن َّي‪َ ،‬و َع َرفْتُ َك ب ْ‬ ‫َو َ‬
‫أحدهام للعامل‪ ،‬واآلخر للقوى العلويَّة‪ .‬وجرت العادة عند مسيحيّي الحبشة‪ ،‬أن يت َّم التكتُّم عىل‬
‫االسم الثاين الذي ُمُينحون إيَّاه عند التعميد‪ .‬وكان لإلله الحارس يف روما اسم غري قابل لإلفصاح‪.‬‬
‫ويف بعض أجزاء اليونان القديم‪ ،‬نُ ِقشت أسامء اآللهة الكرمية عىل ألواح من الرصاص‪ ،‬ثم أُغرقت‬
‫يف البحر لضامن عدم تدنيسها‪.‬‬
‫باسم اليشء مبارشة‬
‫وغال ًبا ما يتشابه األطفال يف الحرص عىل إخفاء أسامئهم‪ ،‬وهم دو ًما ما يطالبون ْ‬
‫(وليس ما إذا كان له اسم أم ال؟) ويرون يف هذا االسم كس ًبا مثي ًنا‪ .‬ونحن نعلم أن لجميع النجوم والكواكب‬
‫ب‪ .‬يَ ْد ُعو كُلَّ َها ِبأَ ْس َاَم ٍء‪( ».‬مز ‪ .)4 :147‬هنا ميكننا مالحظة املثل‬
‫يِص َع َد َد الْ َك َواكِ ِ‬
‫ح ِ‬‫أسامء‪ ،‬فقد قال «يُ ْ‬
‫لكل عمل يتناول الرموز‪ :‬ما يُس َّمى هو إلهي بحق‪.‬‬
‫الرائع الذي قد يظهر عىل صفحة العنوان ِّ‬
‫ماَّم عانت أي من‬ ‫يجدر القول أ َّن القرن العرشين ليُ َعاين من عبث هذه األوهام الَّلفظيَّة بأكرب َّ‬
‫العصور التي انقضت‪ .‬بيد أنه‪ ،‬وبسبب تط ُّور أساليب االتصال وإنشاء العديد من األنظمة الرمزيَّة‬
‫وبغض النظر عن الثبات املدهش للدفاعات‬ ‫ِّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬فقد اختلف شكل املرض بوضوح‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ماَّم كان عليه يف سابق األيام‪ .‬وتتض َّمن العوامل‬ ‫الدين َّية‪ ،‬فإنَّه قد راح يتح َّور ألشكال أكرث مك ًرا َّ‬
‫التي تؤ ّدي إىل االنتشار الواسع لهذا املرض‪ :‬تعقيد األدوات الرمزيَّة املحرية التي لدينا اآلن‪.‬‬

‫املربز “بافلوف”‪ ،‬وهو يذهب عىل‬ ‫العلمي املعارص – العالِم الرويس ّ‬ ‫ّ‬ ‫[[[‪ -‬الرتابط َّية أو االقرتان َّية‪ ،‬هو اتجاه يف التعلُّم وضع له األساس‬
‫الرشطي بني مثريين أو أكرث‪ :‬فإذا ارتبط أو اقرتن مثريان أو أكرث مرا ًرا‪ ،‬فإنَّ ظهور أحدهام بعد‬
‫ِّ‬ ‫العموم إىل أنَّ عمل َّية التعلُّم تقوم عىل االرتباط‬
‫أي لغة بعد ذلك‪ ،‬فإننا نذكر له‬‫ذلك يستدعي الثاين بالرضورة‪ .‬وبتطبيق ذلك عىل تعلّم الُّلغة‪ ،‬فإنَّ الطفل يف أول عهده بتعلّم لغته األم أو ِّ‬
‫مثاًل لفظ “قلم” مشريين له إىل القلم بهيئته املاديَّة؛ فصورة القلم أو هيئته‪ :‬مثري‪ ،‬والصوت املصاحب له‪ ،‬واملتمثّل يف الَّلفظ الذي نطلقه‬ ‫ً‬
‫عليه‪ :‬مثري أيضً ا‪ .‬ومبج َّرد أن نتلفّظ بكلمة “قلم” بعد ذلك‪ ،‬فإنَّ ذهنه رسعان ما يستجيب باستدعاء صورة القلم‪.‬‬
‫‪[2]- Budge, The Book of the Dead, pp Ixxxvi-xc.‬‬
‫‪[3]- Pike, History of Crime in England, Vol 11, p 56.‬‬
‫‪[4]- Sell, The Faxth of Islam, p 185.‬‬
‫‪[5]- Hopkins, Reltgxons of India, p 184.‬‬

‫‪168‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫وامتالك الصحفيني واألدباء مفردات فنيَّة هائلة‪ ،‬وعدم ت َوفُّر الفرصة أو الرغبة لديهم يف التحقُّق‬
‫من استخداماتها الصحيحة‪ .‬ونجاح املفكِّرين التحليليني يف املجاالت املجاورة للرياضيَّات‪،‬‬
‫حا‪ ،‬وامليل إىل إضفاء صفة الواقع َّية عىل‬ ‫حيث يكون االنفصال بني الرمز والواقع هو األكرث وضو ً‬
‫توسع املعرفة حول األشكال األول َّية للتقليد‬
‫هذا العالَم الرمزي – هو األكرث إغرا ًء‪ .‬كام يشمل ذلك ُّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الرمزي (القراءة والكتابة والحساب)‪ ،‬وذلك بالتزامن مع اتِّساع الفجوة بني الجمهور والتفكري‬
‫ريا‪ ،‬استغالل الصحافة ألغراض سياسيَّة وتجاريَّة عن طريق نرش وتكرار‬ ‫العلمي يف هذا العرص‪ .‬وأخ ً‬
‫ّ‬
‫الشعارات الرنَّانة‪ ،‬أو اإلكليشيهات‪.‬‬
‫الديني‪ ،‬وإمَّنَّ ا أيضً ا يف أعامل‬
‫ِّ‬ ‫امللح للنظرة الُّلغويَّة البدائيَّة‪ ،‬ليس فقط يف العامل‬
‫َّ‬ ‫إ َّن الحضور‬
‫بحق واحدة من أكرث السامت غرابة يف الفكر املعارص‪ .‬فلقد سيطر عىل‬ ‫«أعمق املفكِّرين»‪ ،‬هو ٍّ‬
‫بدل البحث املبارش يف الظواهر واألشياء برتسانة رمزيَّة معقَّدة‪،‬‬ ‫القرن التاسع عرش تقليد مثايل‪ ،‬واستُ ِ‬
‫وأبرز مثال لذلك هو الجدل الهيغيل[[[ الضخم‪ .‬أ َّما القرن العرشون‪ ،‬فقد استُهِل بتحليل دقيق لخفايا‬
‫الرياضيَّات بنا ًء عىل «أفالطونيَّة»[[[ أكرث رصاحة من تلك التي يعتنقها بعض الواقعيّني النقديّني يف‬
‫عام(‪ .[[[)1921‬ومن ث َّم‪ ،‬أصبحنا نقرأ اآليت‪:‬‬
‫«وكل ما ميكن أن يكون موضو ًعا للفكر‪ ،‬أو ما ميكن أن يرِد يف قضيَّة صادقة أو كاذبة‪ ،‬أو ميكن‬ ‫ُّ‬
‫أن يُع َّد واح ًدا‪ ،‬سأس ّميه «ح ًّدا»‪ ...‬فاأللفاظ‪ :‬رجل‪ ،‬لحظة‪ ،‬عدد‪ ،‬فصل‪ ،‬عالقة‪ ،‬والغول‪ ،‬أو أي يشء‬
‫باطاًل دامئًا‪ ...‬ففي‬
‫ً‬ ‫آخر ميكن ذكره‪ ،‬هي بكل تأكيد حد‪ .‬وإنكار أ َّن شيئًا ما هو ح ّد يجب أن يكون‬
‫كل حد ال‬ ‫الواقع نجد أ َّن الح ّد له جميع الخصائص التي ت ُنسب عادة للذوات أو املس َّميات‪ ...‬إن ّ‬
‫يتغرَّي وال ينعدم‪ .‬فالح ُّد هو الح ّد‪ ،‬وال ميكن أن نتص َّور تغي ً‬
‫ريا فيه ال يعدم شخصيَّته ويح ِّوله إىل ح ٍّد‬ ‫َّ‬
‫[[[‬
‫آخر‪ ...‬وميكن التمييز يف الحدود بني نوعني سأس ّميهام «أشياء» و«تص ُّورات»[[[ عىل الرتتيب‪.‬‬
‫اللفظي العجيب‪ُ ،‬ز ِعم تحقيق العديد من اإلنجازات امللموسة‪ .‬وبذلك‬
‫ِّ‬ ‫صل‬
‫وبفضل هذا ال ّن ْ‬
‫‪[1]- Friend, Folk-Lore Record, IV, p 76.‬‬
‫[[[‪ , Hereog-Plitt, Real-Encyclopddie, VI, p 501-‬وبالتايل‪ ،‬فإنَّ اسم «أدوناي»‪ ،‬الذي يقرأ بداًلً من االسم الذي ال ميكن نطقه‪،‬‬
‫اإللهي املقدَّ س‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تم الحصول عىل اسم (يهوه) من خالل إدخال حروف «أدوناي» داخل األربعة حروف العربية لالسم‬ ‫َّ‬
‫[[[‪« -‬موربلو» هي كلمة فرنس َّية قدمية تعني «حطَّت عليك الَّلعنة»‪ ،‬وهي تستخدم للتعبري عن الصدمة أو الغضب‪ ،‬كام أنَّها ُيراد بها استنزال‬
‫املعني من غري التو ُّرط يف ذكر اسم الله‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الَّلعنات من الله عىل الشخص‬
‫[[[‪ -‬يف مقارنته بني الجدل َّية يف فلسفة هيغل وفلسفة أفالطون‪ ،‬يالحظ بنجامني جوت أنَّه «رمبا ال يوجد عيب أكرب يف نظام هيغل من نقص‬
‫نظريَّة صحيحة للُّغة» ‪The Dialogues of Plato, Vol IV p 420-‬‬
‫[[[‪ُ -‬يشري إىل «برينكيبيا ماتيامتيكا»‪ ،‬أو أسس الرياض َّيات‪ ،‬ذلك املؤلّف الذي أنجزه الفيلسوف اإلنكليزي الفذ برتراند راسل منفردًا يف‬
‫العام ‪ ،1903‬وذلك قبل أن يعيد تطويره مع أستاذه وصديقه الفيلسوف ألفريد نورث وايتهيد يف ما بني عامي ‪ .1913 – 1910‬وقد كان راسل‬
‫واقعي مثل سائر األشياء‬ ‫ٍّ‬ ‫بادئ األمر يعتقد أنَّ رموز الرياض َّيات‪ ،‬مثل األعداد‪ ،‬وعالمات الجمع والطرح والتساوي‪ ...‬إلخ‪ ،‬تتمتَّع بوجود‬
‫امللموسة يف العامل (الشجرة والطاولة والجدار‪ ..‬إلخ)‪ ،‬وهذا هو مقصد املؤلِّفني من قولهام‪« :‬التحليل الريايض بناء عىل أفالطون َّية‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫وتأوياًل لها‪ ،‬قد اعتربوا أنَّ لألعداد كيانات مستقلَّة‬ ‫مذهب أفالطوين»؛ ألنَّ بعض تالميذ أفالطون‪ ،‬وانسجا ًما مع نظر َّية أستاذهم يف املُثُل‬
‫بذاتها قامئة يف عالَم املثل‪ .‬بيد أنَّ راسل رسعان ما انقلب عىل هذا املذهب عىل إثر حوار جرى بينه وبني وايتهيد‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫المحور‬

‫بأي اسم‬ ‫صفات أو توابع أو أشياء مثاليَّة أو ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل نظريَّة تقول إ َّن هناك‬ ‫«يظهر الخطأ والتناقض يف ِّ‬
‫أقل تطابقًا مع نفسها من املس َّميات الحقَّة»‪ [[[،‬ولهذا ت َّم استبعاد‬ ‫أقل وجو ًدا أو َّ‬
‫أقل ماديَّة أو َّ‬
‫تس ّميها‪َّ ،‬‬
‫العديد من النظم الفلسف َّية بالكامل‪ ،‬ألن «التسليم (املتض ّمن يف ِذكْر اإلنسان والغول) بالحدود‬
‫الكثرية يهدم مبدأ الواحديَّة»‪ [[[.‬وهكذا أُقيمت مج َّد ًدا أفالطون َّية معارصة‪ ،‬صيغ عىل أساسها‬
‫يقيني من «األشياء» املذكورة بواسطة «حدود»‪ ،‬عامل الكليَّات‪ .‬هنا‪ ،‬يبني العقل مسك ًنا‪« ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫عالَم‬
‫باألحرى يجد مسك ًنا أبديًّا‪ ،‬تتحقَّق فيه ُمثُلنا‪ ،‬وال ت ُع ّوق أع َّز أمانينا‪ .‬إنَّه فقط‪ ،‬عندما نُدرك متا ًما‬
‫االستقالل َّية الكاملة ألنفسنا‪ ،‬التي تنتمي إىل هذا العامل الذي يجده العقل – ميكننا إدراك أهم َّية‬
‫واملنطقي‬
‫ِّ‬ ‫يت‬
‫كل يشء «ثابت‪ ،‬صلب‪ ،‬دقيق‪ ،‬وممتع للرياض َّيا ِّ‬ ‫عميقة لجامله‪ [[[.‬ففي هذا املكان‪ُّ ،‬‬
‫ولكل من كان حبُّه للكامل أكرث من حبِّه للحياة»‪ .‬وقد كان هذا العامل‬ ‫ِّ‬ ‫وباين ال ُّنظُم امليتافيزيقيَّة‪،‬‬
‫الواقعي الذي يكون «عاب ًرا‪ ،‬غامضً ا‪ ،‬غري مح َّدد‬ ‫ِّ‬ ‫محل تفضيل اإلنسان الكادح‪ ،‬يف مقابل العامل‬ ‫َّ‬
‫كل األفكار واملشاعر»‪ .‬وكال‬ ‫ح ْنْي»‪ ،‬رغم أنَّه «يشمل َّ‬ ‫املعامل‪ ،‬ومن دون أي خطَّة أو ترتيب واض َ‬
‫أي منهام إمَّنَّ ا يرجع إىل أمناطنا‬
‫العاملني له القدر نفسه من الوجود وجدارة التأ ُّمل‪ ،‬و«تفضيلنا لتأ ُّمل ٍّ‬
‫[[[‬
‫املزاجيَّة»‪.‬‬
‫وماَّم يؤسف له أ َّن األفالطونيني املحدثني ناد ًرا ما يقتفون أثر أفالطون يف محاوالته لدراسة‬ ‫َّ‬
‫الاَّلفت للنظر حقًّا هو إدراكهم ألوارص القرىب بني نظريَّاتهم وبني الفكر‬ ‫الرموز دراسة علم َّية‪ ،‬بيد أ َّن َّ‬
‫املنطقي املعارص‬
‫ِّ‬ ‫اإلغريقي؛ إذ ينبع كالهام من العادات الُّلغويَّة نفسها تقريبًا‪ .‬ورغم أ َّن براعة‬‫ِّ‬
‫األسس بوضوح‪ .‬ولقد‬ ‫األسس الَّلفظ َّية لبنائه‪ ،‬فإ َّن الفلسفة اليونان َّية تكشف عن هذه ُ‬ ‫متيل إىل إخفاء ُ‬
‫امتألت كتابات األوائل باآلثار البدائ َّية لسحر الكلامت؛ إذ نجد أ َّن تصنيف األشياء مقرون بتسميتها‪،‬‬
‫وبالنسبة إىل السحر‪ ،‬فإ َّن اسم يشء أو مجموعة أشياء هو ذاته روحها‪ ،‬ومن ث َّم فإ َّن معرفة أسامئها‬
‫برشي‪ ،‬يفوق ق َّوة الكلامت‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫متكِّن من السيطرة عىل روحها‪ .‬وما من يشء‪ ،‬سواء أكان برشيًا أم فوق‬
‫ككل‪ .‬من هنا‪ ،‬جاء مبدأ‬ ‫إاّل تكرار‪ ،‬أو ِظ ٍّل‪ ،‬أو نسخة روح َّية – لبنية الواقع ّ‬ ‫فليست الُّلغة نفسها ّ‬
‫اللوغوس الذي فُهِم‪ ،‬بشتَّى األشكال‪ ،‬باعتباره الواقع األس َمى‪ ،‬وجوهر الروح اإلله َّية‪ ،‬و«املعنى»‬
‫[[[‬
‫لكل يشء‪ ،‬و«املعنى» أو جوهر االسم‪.‬‬ ‫أو السبب ِّ‬

‫‪[1]- Cf Chapter VIII, pp 164 ff.‬‬


‫‪[2]- B Russell, Ihe Principles of Mathematics (1903), Vol I, pp. 43- 44.‬‬
‫[[[‪ -‬هذه الرتجمة نقاًلًعن‪ :‬األستاذين‪ ،‬الدكتور محمد مريس أحمد والدكتور أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬والتي نقال فيها كتاب أصول الرياض َّيات‬
‫للفيلسوف راسل إىل العرب َّية‪.‬‬
‫‪[4]- Mysticism and Logic (1918), p 69.‬‬
‫‪[5]- B Russell, The Problems of Philosophy, Home University Library, p 156.‬‬

‫‪170‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫اليونانيون وعالم آخر للوجود‪:‬‬


‫الديني‪ ،‬الذي دمجه الفالسفة السابقون يف مذاهبهم الفلسف َّية عىل نحو واضح‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫لقد ساعد اإلرث‬
‫ساعد اليونانيني يف قبول فكرة عامل آخر من الوجود‪ .‬فهذا طاليس‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد اعترب أ َّن‬
‫الحس‪ ،‬وهذا ما كان ينسب عادة إىل األرواح واألشباح‪ ،‬إذ‬ ‫ِّ‬ ‫طبيعة األشياء‪ ،‬أي جوهرها‪ ،‬شيئ فوق‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يئ‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان لعامل الوجود‪ ،‬الذي تسكنه‬ ‫يختلف فقط عن الجسد يف كونه غري ملموس أو مر ّ‬
‫كيانات زائفة‪ ،‬ح ٌّد أدىن من املا ّديَّة‪ ،‬حيث ال ميكن تص ُّور أي يشء من دونه‪ .‬ولكن مع تط ُّور املنطق‬
‫وجذب املزيد من االهتامم لق َّوة الكلامت‪ ،‬فُقدت هذه املاديَّة تدريج ًّيا‪ ،‬حتى لقد بنى أفالطون‬
‫محاوريَت املأدبة وفيدون – بنى عامل ًا من املثال َّية النق َّية أو الخالصة‪ ،‬والذي ُوصف بـالوجود‬
‫َْ‬ ‫يف‬
‫الطبيعي؛ حيث تسكنه هذه النفوس العاقلة بحالتها النقيَّة‪ ،‬اإللهيَّة‪ ،‬الخالدة‪ ،‬الرسمديَّة‪ ،‬املتجانسة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫تغرُّي‪.‬‬
‫التي ال يعرتيها تحلُّل أو ُّ‬
‫خاص لتاريخ‬ ‫ٍّ‬ ‫وكان للفلسفة الفيثاغوريَّة ي ٌد يف تط ُّور املراحل الوسيطة املثرية لالهتامم بشكل‬
‫ال ُّرموز‪ .‬وقد كان هرياقليطس أول من استند إىل أ َّن الكلامت تجسي ٌد لطبيعة األشياء‪ ،‬ويتَّضح أثره يف‬
‫مل دائم التغرُّيُّ ‪،‬‬
‫أفالطون من خالل محاورة أقراطيلوس‪ ،‬حيث رأى أ َّن الُّلغة أكرث األشياء ثباتًا يف عا ٍ‬
‫ين‬
‫وهي تعبري عن تلك الحكمة املشرتكة لدى جيمع البرش‪ .‬وبالنسبة إليه‪ ،‬متثِّل بنية الكالم اإلنسا ِّ‬
‫انعكاسا لبنية العامل‪ ...‬إنَّها تجسيد لتلك البنية ‪ -‬و«الُّلوغوس محتوى فيها‪ ،‬حيث ميكن تضمني‬ ‫ً‬
‫[[[‬
‫معنى واحد يف رموز ع َّدة خارجيَّة مختلفة»‪.‬‬
‫يف الوقت عينه‪ ،‬كان الفالسفة الفيثاغوريون شديدي ال َّدهشة إزاء رموز األعداد‪ .‬فوفقًا ألرسطو‪:‬‬
‫عددي‪ ،‬وكانت األعداد هي األشياء‬ ‫ٍّ‬ ‫كل يشء يبدو مص َّم ًاًم بشخصيَّته الكاملة عىل أساس‬ ‫«نظ ًرا أل َّن َّ‬
‫كل يشء»()‪ .‬ويف‬ ‫املطلقة يف الكون بأرسه‪ ،‬فقد أصبحوا مقتنعني بأ َّن عنارص األعداد هي عنارص ِّ‬
‫الواقع‪ ،‬نجد أ َّن الفيثاغوريَّة يف مراحلها األخرية‪ ،‬قد انتقلت من نظرتها إىل العامل كانبثاق من األعداد‬
‫[[[‬
‫كل يشء من األرواح العدديَّة‪ ،‬والتي تَ ّدعي وجو ًدا خال ًدا ومستقاًّلًّ ‪.‬‬ ‫ابتدا ًء من الواحد‪ ،‬إىل بناء ِّ‬
‫بعد هرياقليطس‪ ،‬جاء بارمنيدس لتشغله مسألة ال ُّرموز السالبة‪ .‬فإذا كانت كلمة «بارد» تعني‬
‫فقط «ما ليس حا ًّرا»‪ ،‬وكلمة «ظالم» تعني «ما ليس ساط ًعا أو مضيئًا»‪ ،‬فكيف عسانا نتح َّدث عن‬
‫غياب األشياء؟‪ ،‬يقول بارمنيدس‪« :‬هناك جسامن اثنان يتَّفق البرش عىل تسميتهام‪ ،‬واحد منهام ما‬
‫لغوي خالص‪ ،‬إىل الكون املتص ّور يف كتابه «تحليل‬
‫ٍّ‬ ‫[[[‪ -‬تشري األجزاء من هذا العامل‪ ،‬التي رمبا يعرتف بها السيد راسل اليوم كأساس‬
‫وتم العثور عىل أحدث اعرتافاته يف صفحة ‪ 88‬من كتاب «فلسفة برتراند‬
‫العقل» عام ‪ ،1921‬كام يوحي ذلك يف صفحة ‪ 54‬من الكتاب‪َّ .‬‬
‫راسل» الصادر عام ‪ ،1944‬وصفحة ‪ 34‬من دوريَّة « ‪ polemic 2‬الصادرة عام ‪.1946‬‬
‫‪[2]- Cornford, op cit, From Rcltgton to Philosophy, pp 141, 186, 248.‬‬

‫‪171‬‬
‫المحور‬

‫كان ينبغي له أن يُ َس ّمى‪ ،‬وهذا ما ضلّوا طريقهم فيه»‪ .‬لقد أعطوا أسامء ألشياء ال وجود لها‪ ،‬ليست‬
‫جهت‬ ‫بأشياء‪ .‬ولكن باإلضافة إىل مشكلة الوقائع السالبة التي تنطوي عليها هذه الفكرة‪ ،‬والتي و َّ‬
‫اهتامم أفالطون إىل العالقة بني الفكر والُّلغة‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أورث بارمنيدس أفالطون األلغاز‬
‫األورفيَّة الغامضة بشأن الوحدة والتع ُّدد‪ ،‬والتي تستم ُّد جذورها أيضً ا من الُّلغة‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬كان‬
‫بغض النظر عن الصعوبات التي أثارها عامله‬ ‫ِّ‬ ‫سبب وجي ٌه يف انشغاله بالنظريَّة الُّلغويَّة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ألفالطون‬
‫يل‪ ،‬موطن النفوس العاقلة‪ ،‬وعالقته بعامل الطني والدم (الذي تر َّدد يف إدخال «املثُل» فيه‬ ‫املثا ُّ‬
‫الاَّلهوتيون يف ما إذا كان للزنوج أرواح)‪.‬‬ ‫ألسباب جامل َّية‪ ،‬متا ًما مثلام جادل َّ‬
‫وماَّم يؤسف له‪ ،‬أ َّن محاورة أقراطيلوس‪ ،‬التي بسط فيها أفالطون وجهات نظره يف الُّلغة‪ ،‬ت َّم‬ ‫َّ‬
‫إهاملها إىل هذا الح ِّد يف العرص الحديث‪ .‬ورغم أ َّن نظريَّته يف املثُل‪ ،‬أو النفوس العاقلة قد قُبِلت‬
‫إاَّل أ َّن أفالطون‪ ،‬كعامل‪ ،‬كان يعود باستمرار إىل مشكلة األسامء ومعانيها كواحدة‬
‫من الفيثاغوريني‪َّ ،‬‬
‫هائل ما قام به من تحليل‪ ،‬يف عرص مل يُع َرف‬
‫من أصعب البحوث التي ميكن القيام بها‪ .‬إنَّه إلنجا ٌز ٌ‬
‫فيه فقه الُّلغة والنحو وعلم النفس‪ ،‬ولك َّنه مل مي ِّيز باستمرار بني ال ُّرموز والفكر املرمز إليه‪.‬‬
‫َّلفظي‪ .‬وقد كتب‬‫ّ‬ ‫مخلصا للنهج ال‬
‫ً‬ ‫ظل‬‫اإلغريقي َّ‬
‫ِّ‬ ‫األسايس للفكر‬
‫َّ‬ ‫من املفيد القول هنا أ َّن التقليد‬
‫قائاًل‪“ :‬هناك سبيالن لفهم الطبيعة‪ :‬األول‪ ،‬هو فحص الكلامت‪ ،‬وما‬ ‫الدكتور ويول ‪ً Whewell‬‬
‫تستدعيها من أفكار‪ .‬والثاين‪ ،‬هو االنتباه للحقائق واألشياء التي تجلب هذه املفاهيم إىل الوجود‪.‬‬
‫وقد ات َّبع اإلغريق السبيل األول‪ ،‬الَّلفظ َّية أو الفكريَّة؛ ف َزلُّوا”‪ .‬وم َّرة أخرى نقول‪“ :‬إ َّن امليل للبحث‬
‫رمَّبا ت َّم اكتشافه يف فرتة مبكرة ج ًّدا؛‬
‫عاّم يكمن من مبادئ وراء االستعامالت الُّلغويَّة الدارجة‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مقبواًل‪ ،‬بشكل عا ٍّم‪ ،‬أ َّن فصائل‬
‫ً‬ ‫إذ نجده متح ِّققًا لدى أرسطو”‪ [[[.‬ومنذ زمن تريندلنبورغ‪ [[[،‬بات‬
‫ريا يف نظام أرسطو‪ ،‬ال ميكن دراستها مبعزل عن‬ ‫األصناف‪ ،‬والتمييزات املشابهة التي تلعب دو ًرا كب ً‬
‫ريا ما كان يسمح لنفسه‬ ‫خصائص الُّلغة اإلغريق َّية‪ .‬يف هذا السياق‪ ،‬يقول غومبريز‪“ :‬إ ّن أرسطو كث ً‬
‫بالخضوع ألشكال الُّلغة‪ ،‬وال يرجع سبب ذلك دامئًا إىل عدم قدرته عىل التح ُّرر من تلك القيود‪،‬‬
‫األقل بسبب متطلِّبات الجدل التي ما كانت لتسمح له مبغادرة ساحته‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يت ُّم‬ ‫ِّ‬ ‫ولكن عىل‬
‫الخاصة‪ ،‬استنا ًدا إىل حقيقة أ َّن موضوعات األخرية‬
‫َّ‬ ‫ط فاصل بني املعرفة بشكل عا ٍّم والعلوم‬ ‫رسم خ ٍّ‬
‫حكّم يف تصنيف أرسطو للمقوالت اعتبارات املالءمة الُّلغويَّة‪ ،‬وال‬ ‫ريا ما ت َ‬
‫متض َّمنة يف أسامئها‪ .‬وكث ً‬

‫‪[1]- Cornford, op at p 192.‬‬


‫‪[2]- Metaphysics, A 5, Trans A E Taylor.‬‬

‫‪172‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫[[[‬
‫َّ‬
‫شك يف أ َّن ذلك قد أبعده عن تطبيقها يف أغراض أنطولوجيَّة (واقعيَّة)”‪.‬‬
‫لكل لفظ معنى مح ّد ًدا وبسيطًا‪ .‬وهو األمر‬
‫وقد قام الجدل‪ ،‬يف عرص أرسطو‪ ،‬عىل التسليم بأ َّن ِّ‬
‫الذي نجده يف تعليقات أمونيوس عىل كتاب “العبارة” ‪ .De interpretathone‬ووفقًا لذلك يسأل‬
‫تستحق البالغة التقدير حقًّا؟”‪ ،‬ويف إحدى صور الُّلعبة‪ ،‬كان يُنتَظر من املجيب أن‬
‫ُّ‬ ‫أحدهم‪“ :‬هل‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يجيب ببساطة‪“ :‬نعم” أو “ال”‪ .‬وقد اعتُ ِرِبت بعض الكلامت متع ِّددة املعاين‪ ،‬ويرجع ذلك إىل‬
‫دراسة “أضدادها”‪ .‬ويف كتابه “الجدل” ‪ ،Topics‬يعرض أرسطو بعض القواعد املتعلِّقة مبسألة‬
‫اللَّبس‪ ،‬باإلضافة إىل إجراءات أخرى محتملة‪ ،‬يكون هدفها دفع الخصم إىل الوقوع يف شباك‬
‫َّلفظي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التناقض ال‬
‫الخاصة بالنفي واملقوالت‪ ،‬قد “جعلت من‬ ‫َّ‬ ‫يبنّي ماوثرن أ َّن آراء أرسطو‪،‬‬
‫مفصلة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫جة‬‫وبعد ح َّ‬
‫َحسبًا للح ِّ‬
‫ظ العاثر‪ ،‬كام لو كانت آلهة ت ُعبَد”‪ ،‬ث َّم علَّق بقوله‪:‬‬ ‫الصور الكالميَّة كائنات طقوسيَّة ت ُّ‬
‫أي كاتب آخر يف تاريخ الفلسفة‪ ،‬كان وف ًّيا للكلامت عىل‬ ‫ماَّم فعل ُّ‬
‫“لقد مات أرسطو ألنَّه‪ ،‬أكرث َّ‬
‫يف‪ .‬وحتى يف منطقه‪ ،‬كان معتم ًدا متا ًما عىل مصادفات الُّلغة‪ ،‬لغته األم‪ .‬ومل يَف ِقد تقديسه‬ ‫نحو خرا ّ‬
‫أي وقت من األوقات”‪ [[[.‬ومرة أخرى‪-:‬‬ ‫يف هذا‪ ،‬للكلامت‪ ،‬قيمته يف ِّ‬ ‫الخرا ُّ‬
‫البرشي يرزح تحت تأثري عبارات هذا الرجل‪ ،‬وهو تأثري كان له‬ ‫ُّ‬ ‫ظل الفكر‬
‫“أللفي سنة بتاممها‪َّ ،‬‬
‫لفظي ما أُتيح لهذا النظام من الق َّوة والتأثري”‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ألي نظام‬
‫أوخم العواقب‪ .‬ومل يُتَح ِّ‬
‫لفظي‬
‫ٍّ‬ ‫من املثري لالهتامم‪ ،‬أ َّن أرسطو ق َّدم يف كتابه (العبارة)‪ ،‬آراء يصعب التوفيق بينها وبني نهج‬
‫رص عىل أ َّن الكلامت هي عالمات للحاالت العقل َّية بصفة أول َّية‪ ،‬أ َّما األشياء‬
‫من هذا النوع؛ حيث ي ُّ‬
‫إاّل ثانويَّة[[[‪ .‬وقد قام بصياغة نظريَّة حول العبارة‪ ،‬رغم عدم‬ ‫ِ‬
‫املناظرة لهذه الحاالت العقل َّية‪ ،‬فليست ّ‬
‫ماَّم توحي به‬‫نقدي من الُّلغة بأكرث َّ‬
‫ٍّ‬ ‫إاَّل أنَّها تشري إىل موقف‬
‫اكتاملها وتسبُّبها يف ارتباك ال ينتهي‪َّ ،‬‬
‫حل السؤال الرئيس الذي أثاره أفالطون يف‬ ‫آلته املنطق َّية عىل العموم‪ .‬وال يجد أرسطو صعوبة يف ِّ‬
‫محاورة أقراطيلوس‪ .‬فهو يقول‪ :‬إ َّن جميع الكلامت ذوات املعاين‪ ،‬إمَّنَّ ا تستم ُّد معانيها هذه من‬
‫املواضَ عة (االصطالح بني الناس) فحسب‪ ،‬وليس من الطبيعة‪ ،‬وال باعتبارها أدوات طبيع َّية‪ .‬وهذا‬
‫ما جعله يهمل مالحظات أفالطون الثاقبة حول الدور الذي تلعبه املحاكاة الصوتيَّة يف األصول‬

‫[[[‪ -‬يقدِّ م الدكتور آر‪ .‬ألّيندي سجاًلً عن الفيثاغوريَّة واألنثموسوفيا بشكل عام يف ترجمة إىل اإلنكليزية‪Le Symbohsme des :‬‬
‫العددي‪ ،‬الذي‬
‫ِّ‬ ‫‪ « trombones, Essat d’Anthmosophte‬الصادر عام ‪ .1921‬وكان هدف املؤلِّف «فحص بعض جوانب املفتاح‬
‫مبقتضاه أخفت الفلسفة الدين َّية تعاليمها عرب جميع العصور وعىل اختالف املدارس‪ ...‬ومن هذا املنظور‪ ،‬يجب أن تشكِّل دراسة األعداد‬
‫الفوضوي الذي ينتج من ذلك‪ ،‬سيجد املطَّلعون أدلَّة‬
‫ِّ‬ ‫وكل الفلسفات الروح َّية ‪ .»Theosophy‬ويف الخليط‬ ‫لكل األدب َّيات الخف َّية ِّ‬
‫أساسا ِّ‬
‫ً‬
‫العددي كان شائ ًعا بالدرجة نفسها التي كان السحر الَّلفظي شائ ًعا بها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وافية عىل أنَّ السحر‬
‫‪[2]- Jixstory of the Inductive Sciencest I. pp 27. 29.‬‬
‫‪[3]- Kategonenlekre, p 209.‬‬

‫‪173‬‬
‫المحور‬

‫الَّلفظيَّة‪ .‬ففي كتاب “العبارة”‪ ،‬استُبعدت عم ًدا فئات مختلفة من الكلامت ذوات املعنى‪ ،‬ونحن‬
‫مدعوون هناك للنظر فقط يف ذلك النوع من الكلامت املس َّمى‪ :‬إخباريًّا‪ ،‬والذي ينتمي إىل املنطق‬
‫ربا عن الواقع بالصدق أو بالكذب‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن أساليب الكالم األخرى‪ ،‬مثل ال َّرجاء‪،‬‬ ‫ألنَّه يعطي خ ً‬
‫واألمر‪ ،‬واالستفهام‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬ميكن اعتبارها‪ ،‬عىل نحو أكرث طبيع َّية‪ ،‬جز ًءا من األساليب‬
‫[[[‬
‫البالغيَّة أو الشعريَّة‪.‬‬
‫ريا يف الفلسفة اإلغريق َّية‪ ،‬وذلك استنا ًدا‬ ‫لقد كان من املتوقَّع أن تلعب الخرافة الَّلفظ َّية دو ًرا كب ً‬
‫الرضوري افرتاض‬
‫ِّ‬ ‫اإلغريقي بشكل عا ّم‪ .‬ويجد فا ّرار ‪ Farrar‬أنَّه من‬ ‫ُّ‬ ‫إىل الدليل الذي يق ِّدمه األدب‬
‫أ َّن أسخيلوس وسوفوكليس‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال ب َّد من أن يكونا قد اعتقدا يف علم التنجيم‬
‫يئ‪ .‬بل حتى الرومان العمليون‪ ،‬كام يوضح‪ ،‬كانوا‬ ‫َّلفظي البدا ّ‬‫ِّ‬ ‫َّلفظي‪ ،‬الذي يرتبط دامئًا بالسحر ال‬
‫ِّ‬ ‫ال‬
‫ضحايا ملثل هذه املعتقدات‪ ،‬أولئك الذين سيصدحون جمي ًعا بلغة أوسونيوس‪-:‬‬
‫مؤرِّشا عىل الحظِّ‪ ،‬أو األخالق‪ ،‬أو املوت”‪.‬‬
‫“إ َّن تنجيم األسامء‪ ،‬هو أن يصري االسم ِّ ً‬
‫من جهته‪ ،‬يُخربنا شيرشون أنَّهم قد أَ ْولوا قوائم التجنيد عناية كبرية‪ ،‬بحيث “يكون أول ما يُدرج‬
‫فيها أسامء مثل‪ :‬فيكتور‪ ،‬وفيليكس‪ ،‬وفاوستوس‪ ،‬وسيكندوس‪ .‬وكانوا حريصني عىل استهالل‬
‫ين بكلمة ذات طالع سعيد‪ ،‬مثل سالفيوس فالرييوس‪ .‬ويشار يف هذا املجال‬ ‫سجل التعداد السكا ِّ‬
‫ِّ‬
‫أ َّن قيرص منح قيادة إسبانيا لشخص مغمور يُدعى سكيبيو‪ ،‬وذلك من أجل الطالع السعيد املتض َّمن‬
‫شخصا اسمه أتريوس أُ َ‬
‫مرَب‪ ،‬نظ ًرا ألنَّه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يف اسمه‪ .‬كذلك يع ّنف سكيبيو جنوده املتم ِّردين ألنَّهم اتَّبعوا‬
‫واىَس نفسه يف‬ ‫بحسب ما يدعوه به دي كوِينيس‪“ :‬ظالم حالك”‪ .‬أ َّما األمرباطور سيفريوس‪ ،‬فقد َ‬
‫خيانات زوجته األمرباطورة جوليا‪ ،‬بأنَّها تحمل االسم نفسه الذي حملته ابنة أوغسطس الساقطة”[[[‪.‬‬
‫يل أل َّن جميع األساقفة‬ ‫بالتخيّل عن اسمه األص ِّ‬
‫ّ‬ ‫وعندما أصبح أدريان السادس أُس ُقفًا‪ ،‬أقنعه كرادلته‬
‫الذين مل يفعلوا ذلك‪ ،‬ت ُوفُّوا يف السنة األوىل من واليتهم‪.‬‬
‫جهت اهتامم املفكِّرين اليونانيني‬ ‫يف ضوء ما سبق‪ ،‬عندما نفكِّر يف التأثريات التي قد تكون و َّ‬
‫والرومانيني إىل مشكالت لغويَّة‪ ،‬يبدو يف البداية مفاجئًا أ َّن العديد من الذين ش ّيدوا رصوحهم‬
‫أسس لفظيَّة‪ ،‬كانوا أيضً ا عىل دراية كاملة بالطابع املضلِّل لوسيلتهم الُّلغويَّة‪ .‬وكام‬‫الفكريَّة عىل ُ‬
‫دلياًل عىل التغيري‬
‫وصلَنا من محاورة أقراطيلوس‪ ،‬فإ َّن انجذاب الهرياقليطيني إىل الُّلغة باعتبارها ً‬ ‫َ‬
‫فضاًل عن املؤمنني باملُثُل‪ .‬وكذلك‬ ‫ً‬ ‫الدائم‪ ،‬قد القى أش َّد النقد من قبل املناطقة البارمنيديني‪،‬‬
‫كان أفلوطني مستع ًّدا لالعرتاف برضورة مناهضة فروض الُّلغة املس ّبقة‪ .‬ووفقًا ملنظور األفالطون َّية‬
‫‪[1]- T Gomperr, Greek Thinkers, IV, pp 40- 41.‬‬
‫‪[2]- Mauthner, Anstotle, English Translation, pp 84, 1034- Cf the same author’s Krtitlt der Sprache, Vol‬‬
‫‪III, p 4.‬‬

‫‪174‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫إاَّل بإجبارها عىل أغراض ال يفكِّر معظم‬‫تعرِّب عن طبيعة النفس َّ‬


‫املحدثة‪“ ،‬ال ميكن ج ْعل الُّلغة ِّ‬
‫إاَّل‬
‫الناس يف استخدامها من أجلها”‪ .‬وعالوة عىل ذلك‪“ ،‬ال ميكن وصف النفس عىل اإلطالق‪َّ ،‬‬
‫[[[‬
‫بعبارات ستكون بال معنى لو طُ ِّبقت عىل الجسد أو صفاته‪ ،‬أو عىل تحديدات أجسام بعينها”‪.‬‬

‫اعرتاض البوذيني‪:‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫إىل ذلك‪ ،‬عند معالجتهم مسألة “النفس”‪ ،‬تصاعد اعرتاض البوذيني عىل األشكال الُّلغويَّة‬
‫الخادعة إىل مستويات أعىل‪ .‬فسواء كان اسمها‪ :‬ساتا (الكائن) ‪ ،‬أتا (النفس) ‪ ،‬جتفا (املبدأ الحي)‪،‬‬
‫أو بوجد اال (الشخص)‪ ،‬مل يكن ذلك يه ّم‪:‬‬
‫“إنَّها ليست سوى تسميات‪ ،‬وتعابري‪ ،‬وأساليب للنطق‪ ،‬وتصنيفات يف االستخدام الشائع يف‬
‫بأاّل‬
‫حق ال ّنهل منها‪ ،‬وهي كفيلة ّ‬
‫العامل‪ .‬فمن بني هؤالء جمي ًعا‪ ،‬وحده من فاز بالحقيقة هو َمن له ُّ‬
‫[[[‬
‫تضيعه”‪.‬‬
‫يئ من الُّلغة‪ ،‬عىل استعداد تا ٍّم الستخدام العبارات‬
‫لقد كان البوذيون‪ ،‬أصحاب املوقف االستثنا ِّ‬
‫بأي تطوير ملقاربة دقيقة للمشكالت‬ ‫حا ما إذا قاموا ِّ‬ ‫الشعبي‪ ،‬بيد أنَّه ليس واض ً‬
‫ِّ‬ ‫الدارجة للتعبري‬
‫الخيال َّية[[[‪.‬‬
‫وخصوصا املدرسة الرواقيَّة التي كان لرؤيتها‬
‫ً‬ ‫تلت األرسطيَّة –‬
‫ورغم أ َّن جميع املدارس التي ْ‬
‫للُّغة تأثري كبري عىل القانونيني الرومان – ك َّرست بعض االهتامم لنظريَّة الُّلغة‪ [[[،‬رغم ذلك‪ ،‬ال نجد‬
‫دلياًل عىل أ َّن ذلك أ َّدى إىل دراسة ال ُّرموز عىل نحو ما فعل أفالطون وأرسطو‬‫يف العصور القدمية ً‬
‫أي محاولة للتعامل مع العالمات بصفة‬ ‫من قبل‪ .‬وكام سرنى‪ ،‬فإ َّن هذا إمنا يرجع إىل عدم وجود ِّ‬
‫مستقلَّة‪ ،‬وبالتايل فهم وظائف الكلامت املتعلِّقة بالحاالت اإلشاريَّة األكرث عموميَّة‪ ،‬التي يعتمد‬
‫يئ عىل يد املسيح َّية‪ ،‬كانت‬ ‫عليها الفكر بأكمله‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقبل إخامد الروح النقديَّة بشكل نها ٍّ‬
‫ين‪ ،‬وكان يت ُّم فحص املشكلة املركزيَّة بدقَّة‬
‫ين – الروما ِّ‬
‫هناك نقاشات حامية جرت يف العامل اليونا ِّ‬
‫قد تؤ ّدي إىل تط ُّورات علم َّية حقيق َّية‪ .‬وقد فطن الزعامء الدينيون إىل هذا الخطر الداهم‪ ،‬حتى‬
‫إ َّن هناك مقط ًعا لدى الق ّديس غريغوري النزيانزي‪ ،‬يشكو فيه من اإلشكال الحاصل منذ “أتيح‬
‫للسيكستونيني والبريونيني وروح التناقض أن يتطفّلوا مبكر عىل كنائسنا‪ ،‬مثل الطاعون الرشير‬
‫والحق أ َّن نظريَّة العالمات‪ ،‬بإجاملها‪ ،‬قد ف ُِحصت من قبل “أينيسيدميوس”‪ ،‬الذي أحيا‬‫َّ‬ ‫[[[‬
‫الخبيث”‪.‬‬

‫‪[1]- Ibid p 19 See also Appendix A for a discussion of the iuence of Anstotle on Grammar.‬‬
‫‪[2]- De Interpretahone, 16, 33.‬‬
‫‪[3]- In the Poetics (1456 b Margoliouth, p 198).‬‬
‫‪[4]- 1 F W Farrar, Language and Languages, pp 235- 6.‬‬
‫‪[5]- Whittaker, the Neo-Plaiontsis, p. 42.‬‬

‫‪175‬‬
‫المحور‬

‫إغريقي يدعى سكستوس بني عامي ‪ 100‬و ‪250‬‬ ‫ٍّ‬ ‫البريونيَّة يف اإلسكندريَّة‪ ،‬وكذلك من قبل طبيب‬
‫[[[‬
‫كل ما ظهر حتى القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫ميالديًّا‪ .‬وكان التحليل املعروض أكرث أساسيَّة من ِّ‬
‫كاف إلعطاء صورة معقولة عن طبيعة‬ ‫ين للُّغة‪ٍ ،‬‬‫ين الروما ِّ‬
‫هذا االستعراض القصري‪ ،‬للنهج اليونا ِّ‬
‫العلمي يف هذا املوضوع‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬كان أثرها يف‬ ‫ِّ‬ ‫تفكري املرحلة السابقة عىل العرص‬
‫يب املعارص أكرب حتى من تأثري النظريَّات الرشق َّية ذات التط ُّور الخصب‪ .‬ويبدو أ َّن‬ ‫الفكر األورو ِّ‬
‫َّلفظي الذي تط َّورت فيه معظم الفلسفة الهنديَّة‪ ،‬كان أكرث كثافة حتى من الج ِّو الذي عاش فيه‬ ‫َّ‬ ‫الج َّو ال‬
‫املدرسيون أو الجدليون اإلغريق‪ .‬ومن هذا املنظور‪ ،‬فإ َّن جدل امليامسا ‪ -‬النيايا‪ [[[،‬وفلسفة اليوغا‪،‬‬
‫أقل إثارة لإلعجاب من مذهب الكلمة‬ ‫وفئات الفيجنانافادا‪ [[[،‬والربابهاكارا مياممساكاس‪ [[[،‬ليس َّ‬
‫يف‪ [[[،‬والذي قام الدكتور كوي بإحياء بعض من سحره‪.‬‬ ‫َّلفظي الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫والسكْر ال‬
‫املق َّدسة ‪ُّ AUM‬‬
‫َّلفظي‪ ،‬سواء كان‬
‫ِّ‬ ‫َّلفظي‪ ،‬والطب ال‬‫ِّ‬ ‫ال ب َّد من اإلشارة هنا إىل أ َّن تاريخ التعاويذ‪ ،‬والسحر ال‬
‫معارصا‪ ،‬إمنا هو‬
‫ً‬ ‫امرسها ساحر الرتوبياند‪ [[[،‬أم كاه ًنا مرصيًّا لنصوص األهرامات‪ ،‬أو ميتافيزيق ًّيا‬ ‫ُم ُ‬
‫ص ِّمم كتوسعة‬‫موضوع قائم بذاته‪ ،‬ويت ُّم التعامل معه بتفصيل يف كتاب “سحر الكلمة”‪ ،‬الذي ُ‬
‫يئ من الكلامت – إاّلّ بإظهار االهتامم‬ ‫لهذا الفصل‪ .‬وال يظهر مدى استغالل ال ُّدهاة للموقف البدا ِّ‬
‫بدياًل من أساليب‬ ‫لبعض البُلَغَاء الساخرين يف املحاكم‪ ،‬أو عندما تكون بعض السخافات الواضحة ً‬
‫الصحف الس َّيارة‪ .‬بيد أ َّن هذه املواقف نفسها شائعة لدى‬ ‫ربا‪ ،‬والتي تفضِّ لها ُّ‬ ‫اإليحاء األكرث ص ً‬
‫العلمي الفائق غال ًبا ما يعجز عن‬‫َّ‬ ‫األطفال‪ ،‬وت ُع ِّززها النزعة الَّلفظ َّية السائدة بش َّدة‪ ،‬حتى إ َّن املِران‬

‫‪[1]- Igha N I 263, cf C A F. Rhys Davids, Bxtddhist Psychology, P32.‬‬


‫‪[2]- For an elaborate study of Eastern schools of thought and their behaviour with words,see op at,‬‬
‫‪Word Magic, by C K Ogden.‬‬
‫[[[‪ -‬فيجنانافادا هي مدرسة فلسف َّية بوذيَّة نشأت يف الهند حوايل القرن الرابع امليالدي‪ .‬وهي معروفة أيضً ا باسم يوغاشارا‪ ،‬والذي يعني‬
‫«مامرسة اليوغا»‪ ،‬وتشارك يف بعض األحيان يف لقب «املدرسة املركزيَّة»‪ .‬تع ِّزز فيجنانافادا دراسة الوعي واإلدراك وطبيعة الواقع‪ ،‬وتؤكِّد‬
‫يئ للحياة البرش َّية‬
‫أنَّ الوجود كلَّه يستند إىل الوعي أو العقل‪ ،‬وأنَّ الكائنات الخارج َّية مج َّرد تجسيدات للعقل‪ .‬ووفقًا لها‪ ،‬فإنَّ الهدف النها َّ‬
‫يئ والرحمة العامل َّية‪ .‬وقد أثَّرت فيجنانافادا‬ ‫هو تحقيق اإلنارة من خالل إدراك الطبيعة الحقيق َّية للواقع‪ ،‬والتي يقال إنَّها حالة من الوعي َّ‬
‫الاَّلثنا ِّ‬
‫وتم دمج أفكارها يف مختلف التقاليد البوذيَّة‪ ،‬مبا يف ذلك الزن‪.‬‬ ‫خصوصا يف رشق آسيا‪َّ ،‬‬‫ً‬ ‫تأثريًا كبريًا عىل الفكر واملامرسة البوذيَّة‪،‬‬
‫[[[‪ -‬الربابهاكارا مياممساكاس‪ ،‬املعروفة أيضً ا باسم البهاتشاريا‪ ،‬هي مدرسة فرع َّية من مدرسة مياممسا للفلسفة الهنديَّة‪ .‬وهم يحملون اسم‬
‫مؤسسهم‪ ،‬برابهاكارا‪ ،‬الذي عاش يف القرن السابع امليالدي‪ .‬وهي تؤكِّد أهم َّية الُّلغة والنحو يف تفسري الفيدا‪ ،‬وتنفي فكرة وجود إله خالق‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وترى أنَّ الفيدا أبديَّة وذات صالحية ذات َّية‪ ،‬وأنَّ معناها يُستمدُّ من قواعد الُّلغة والنحو‪ .‬كام ترفض هذه املدرسة فكرة التح ُّرر أو املوكشا‬
‫بداًل من ذلك عىل أهم َّية أداء واجبات الشخص أو الدارما‪ .‬ولقد أثَّرت تأثريًا كبريًا عىل الفلسفة الهنديَّة‬ ‫كهدف لحياة اإلنسان‪ ،‬وتؤكِّد ً‬
‫وساهمت يف تطوير مختلف املجاالت‪ ،‬مبا يف ذلك علم الُّلغة واملنطق‪.‬‬

‫;‪[5]- Keith, Indian Logic, Chapter V , Dasgupta, History of Indian Philosophy, Vol I, pp 148- 9, 345 - 54‬‬
‫‪Rama Prasad, Self-culture or the Yoga of Patdnjali, pp 88, 148, 152, 156, 215 , Vedanta SUtras, Sacred‬‬
‫‪Books of the East, Vbl XLVIII, p 148.‬‬
‫‪[6]- The Science of the Sacred Word (translated by Bhagavan Das), R A Nicholson, Studies in Islamic‬‬
‫‪Mysticism, pp 6- 9.‬‬

‫‪176‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫أقل خضو ًعا لوسائلهم‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬حتى أعتى املناطقة هم بالضبط‬ ‫جعل البالغني َّ‬
‫أولئك الذين انقادوا لتطوير أكرث األنظمة خياليَّة مبساعدة ع َّدتهم الَّلفظيَّة‪ .‬ويف املستقبل‪ ،‬قد يت ُّم‬
‫ين للعامل الذي‬ ‫الحقيقي‪ ،‬وذلك عندما يوضح األساس العقال ُّ‬ ‫َّ‬ ‫يف‬
‫املنطقي املعارص هو الصو َّ‬
‫ِّ‬ ‫اعتبار‬
‫العلمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يؤمن‪ ،‬تحت مجهر الفحص‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ّ‬ ‫َّ‬
‫لفظي‪:‬‬ ‫الهوس ال‬
‫حقيقي قوامه‬
‫ٍ‬ ‫جؤنا العثور عىل هراء‬ ‫ح أكرث عاطف َّية يف الفكر املعارص‪ ،‬لن يف ُ‬‫وباالنتقال إىل نوا ٍ‬
‫َّلفظي‪ .‬والعمليَّة التي اكتسبت بها األنظمة الَّلفظيَّة الخالصة – والتي تتَّسم بالتأ ُّمل األصيل‬
‫ّ‬ ‫الهوس ال‬
‫– أبعا ًدا هائلة‪ ،‬قد اختُ ِرِبت حديثًا من ِق َبل رينيانو‪ [[[.‬فالخصائص التي أظهرت التجارب تناقضها‪،‬‬
‫أي محتوى‬ ‫املادي‪ ،‬وحلَّت محلَّها “أغلفة لفظ َّية‪ ،‬خالية من ِّ‬‫ِّ‬ ‫ت َّم تجريدها – تدريج ًّيا – من طابعها‬
‫حتاًم من هذه الخصائص‪ ،‬وذلك إذا‬ ‫ً‬ ‫مفهوم‪ ،‬للقضاء عىل التعارض املتبادل والتثبيط الناتجني‬
‫ُسمح لهذه الخصائص بتقديم ما ّدة للخيال ولو ضئيلة”‪ .‬وبالتوازي مع هذا التجريد من الطابع‬
‫البرشي بعدم‬
‫ِّ‬ ‫يل هائل‪ ،‬مثلام كان للفلسفة املدرس َّية‪ ،‬بهدف إقناع العقل‬ ‫املادي‪ ،‬شُ ّيد رصح جد ٌّ‬
‫ِّ‬
‫[[[‬
‫منطقي يف أكرث السخافات سخفًا‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫وجود تناقض‬
‫لفظي محض من الصفات‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫بهذه الطريقة‪ ،‬قُل َ‬
‫ّصت فكرة األلوه َّية‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إىل “تجميع‬
‫أو تكاد‪ ”.‬وترت َّب عىل ذلك آخر األمر‪ ،‬كام يقول ول َيم جيمس‪“ ،‬أن تجمع الصفات امليتافيزيق َّية‬
‫يت الوجود؛ فهو واجب الوجود‬ ‫املتص َّورة من ِق َبل الَّالهو ِّ‬
‫يت” (حيث يكون الله هو العلَّة األوىل‪ ،‬ذا َّ‬
‫ين‪ ،‬بسيط ميتافيزيقيًّا‪ ،‬ال يعرتيه‬
‫ومطلق‪ ،‬ال تح ُّده الحدود‪ ،‬مطلق الكامل‪ ،‬هو واحد أحد‪ ،‬روحا ٌّ‬
‫كل مكان‪ ..‬إلخ‪“ ).‬ليست توليفة من صفات‬ ‫رسمدي‪ ،‬مطلق القدرة والعلم‪ ،‬حارض يف ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫التغرُّيُّ ‪،‬‬
‫الاَّلهوتيني ليست سوى مج َّرد مجموعة من األلقاب‬ ‫معجم َّية متحذلقة‪ ،‬يشعر املرء أنَّها يف أيدي َّ‬
‫محل الرؤية‪ ،‬واالحرتاف َّية‬
‫التي تم الحصول عليها مبعالجة آل َّية للمرتادفات‪ .‬فقد حلَّت النزعة الَّلفظية َّ‬
‫[[[‬
‫محل الحياة‪”.‬‬
‫َّ‬
‫وباملثل‪ ،‬يف التفكري امل ُتح َّدث عنه عادة باعتباره ميتافيزيق ًّيا‪ ،‬يكون لُّلغة الدور الرئيس يف توفري‬
‫لفظي راسخ‪ ،‬حتى يتس َّنى استدعاء املفاهيم غري الدقيقة والغامضة واملتقلِّبة‪ ،‬إىل الذِّهن كلَّام‬‫ٍّ‬ ‫“دعم‬
‫دعت الحاجة‪ ،‬من دون املساس مبرونة املفاهيم”؛ ولهذا الغرض‪ ،‬يت ُّم اختيار عبارات “غامضة‪،‬‬
‫وغامضة قدر اإلمكان‪ .‬ومن هنا تنشأ التعبريات “املكتوبة بعمق”‪ ،‬والتي أشار إليها “ريبو”‪،‬‬

‫‪[1]- Malinowski, Argonauts of the Western Pacific, pp 408- 10.‬‬


‫‪[2]- The psychology Reasoning, Chap XI, on Metaphysical Reasoning.‬‬
‫‪[3]- Cf Guignebert, « Le dogme de la Tnnitfi,” Scienha, Nos 32, 33, 37 14).‬‬

‫‪177‬‬
‫المحور‬

‫كل ما يرغبون يف ض ِّمه‪،‬‬


‫كل امليتافيزيقيني؛ نظ ًرا ألنَّها صيغت برباعة بحيث تحوي َّ‬ ‫واملفضَّ لة عند ِّ‬
‫كل التناقضات والسخافات الواردة يف املذاهب املستندة إىل هذه املفاهيم‪ ...‬وبالتايل‪،‬‬ ‫وت ُخفي َّ‬
‫قرسي‪ .‬ورغم أنَّه ال ميكن‬
‫ّ‬ ‫َّلفظي تتمثَّل يف إبقاء الصفات املتنافرة يف حالة اتحاد‬
‫ِّ‬ ‫فإ َّن وظيفة ال َّرمز ال‬
‫الرضوري أن يكون‬
‫ِّ‬ ‫استحضارها جمي ًعا يف الذِّهن يف الَّلحظة ذاتها؛ أل َّن بعضهام ينفي بعضً ا‪ ،‬فمن‬
‫امليتافيزيقي الوصول إليها الستنباط مجموعة من االستنتاجات أحيانًا‪ ،‬ومجموعة‬ ‫ِّ‬ ‫يف مستطاع‬
‫غريها أحيانًا أخرى‪ ،‬وذلك وفقًا للناحية التي يرغب فيها من الواقع”‪.‬‬
‫القشرة َّال َّ‬
‫لفظية‪:‬‬
‫محل الفكرة متا ًما‪ ،‬كام علَّق مي ِفستوفيليس ‪ً Mephistopheles‬‬
‫قائاًل‪:‬‬ ‫تحل الكلمة َّ‬ ‫يف نهاية األمر‪ُّ ،‬‬
‫لتحل محلَّها”‪ .‬وبشكل موفّق‪ ،‬يُشَ ّبه رينيانو هذه‬
‫“حينام تغيب املفاهيم‪ ،‬تأيت كلمة يف الوقت املناسب َّ‬
‫قرشي درعه الخارجي‪“ .‬فمن دون هذه القرشة الَّلفظ َّية‪ ،‬تختفي جميع املحتويات‬ ‫ٍّ‬ ‫العمل َّية بخلع كائن‬
‫أي أثر لوجود هذه املحتويات يف املايض‪ .‬ولكن بقاء القرشة يعني‬ ‫ماَّم يؤ ّدي إىل اختفاء ِّ‬‫الفكريَّة؛ َّ‬
‫دلياًل عىل وجود مفهوم كانت له حياة حقيق َّية يف املايض‪ ،‬وألنَّه أيضً ا‬‫بقاء يشء ذي قيمة؛ ألنَّه يُع ُّد ً‬
‫رسا قويًا بني‬‫مي ُّده بأسباب البقاء يف الحارض‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬ميثِّل هذا اليشء (القرشة الَّلفظ َّية) ج ً‬
‫محتوى فكري فارغ‪ ،‬وما يستدعيه من عاطفة‪ ،‬وهي عاطفة تكون من القوة بحيث ت َ ْع َمى عن حقيقة أن‬
‫[[[‬
‫هذا اليشء األثري لدينا (القرشة)‪ ،‬مل يعد يكسو ذاك املحتوى املحبوب‪.‬‬
‫كل‬
‫وهكذا فإ َّن هذه الدرع‪ ،‬القرشة الَّلفظ َّية‪ ،‬ليست مج َّرد جرس أو حلقة وصل أخرية ينتهي بعدها ُّ‬
‫يشء‪ ،‬وإمنا هي تتمتَّع بطاقة تر ُّددية معيَّنة‪“ ،‬تر ُّدد وجداين”‪ ،‬يتيح ملشيّد بناءات رمزيَّة‪ ،‬مثل املطلق‪،‬‬
‫ثقة واطمئنانًا بأ َّن جهوده لن تذهب ُسدى‪ .‬وقد قال بريكيل‪“ :‬عندما تصبح الُّلغة مألوفة‪ ،‬فإ َّن مج َّرد‬
‫سامع األصوات أو رؤية الحروف‪ ،‬خليق باستدعاء العواطف مبارشة‪ ،‬والتي مل يكن يستدعيها من‬
‫الرمزي للكلامت‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫قبل سوى األفكار التي ما عادت موجودة اآلن”‪ [[[.‬وهكذا يت ُّم تجاوز االستخدام‬
‫يل‪ .‬ويف ما يتعلَّق بالكلامت املستخدمة عىل هذا النحو‪ ،‬كام يف الشعر‪،‬‬ ‫إىل االستخدام االنفعا ّ‬
‫قائاًل‪“ :‬إ َّن هذه الكلامت مل تعد تعمل كعالمات‪ ،‬بل كأصوات‪ ..‬إنها نغامت موسيق َّية‬ ‫يعلّق ريبو ً‬
‫امليتافيزيقي‪ ،‬يف هذه الحدود املتط ِّرفة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫عاطفي”‪ [[[.‬ولنئ كان الفكر‬
‫ّ‬ ‫تدخل يف نطاق علم ٍ‬
‫نفس‬
‫عص ًّيا عىل الفهم‪ ،‬فإنَّه‪ ،‬كام يقول رينيانو‪“ :‬يستعيض عن ذلك بداللة انفعال َّية مت ّيزه‪ ،‬أي أنَّه يتح َّول‬
‫إىل نوع من الُّلغة املوسيقيَّة املحفِّزة للعواطف واالنفعاالت”‪ [[[.‬ويعود نجاحه بشكل كامل إىل‬

‫‪[1]- W James, The VaneUes of Religious Experience, pp. 439- 46.‬‬


‫‪[2]- Rignano, op cit, Chap XI.‬‬
‫‪[3]- Treatise, Introduction, § 20.‬‬
‫‪[4]- La Logique des Sentiments, p 187 Cf Erdmann, op cil, p 120.‬‬

‫‪178‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫يئ الذي ال‬


‫سيمفونيّة كاملة من الرت ُّددات العاطفيَّة‪ ،‬التي يُذعن لها العقل الساذج‪ ،‬والجانب البدا ُّ‬
‫ُّ‬
‫ينفك ير ِّدد أصداء الَّلغط الصاخب‪.‬‬
‫بأقل فاعل َّية يف الشؤون ال َع َمل َّية‪ ،‬بل عساها أفدح بكثري‪ .‬وتكفي اإلشارة‬ ‫ليست هذه التأثريات َّ‬
‫إىل ما ق َّدمه الراحل الدكتور كروكشانك ‪ ،Crookshank‬من زعم مع َّز ٍز بحشد من األدلَّة التفصيليَّة‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫مفاده أنَّه “تحت تأثري بعض املدارس الفكريَّة‪ ،‬وبعض عادات التعبري‪ِ ،‬بتْنا نَأْلَف الحديث والكتابة‬
‫الرضوري مقاومة هذه العادات الَّلفظ َّية الوخيمة؛‬
‫ِّ‬ ‫عن املرض كام لو كان شيئًا طبيع ًّيا”‪ [[[،‬ومن‬
‫حقيقي لألمراض؛ فليس من أمل يف إحراز تق ُّدم كبري يف مجال‬ ‫ٍّ‬ ‫جر االعتقاد بوجود‬‫ألنَّه “ما مل يُه َ‬
‫أي قدر من االتفاق مفيد ما‬ ‫الطب”؛ كام تجب مواجهة مشكلة الُّلغة عىل الفور‪ ،‬ألنَّه “لن يتحقَّق ُّ‬
‫القوي لوجهة نظرنا ال يسعنا رفضه‬ ‫ِّ‬ ‫قباًل بشأن مبادئ املنهج والفكر”‪ .‬ومثل هذا الدعم‬ ‫مل نتَّفق ً‬
‫بسهولة‪ ،‬وال س َّيام أنَّه صادر عن شخص له باع ثالثني عا ًما يف ف ِّن العالج‪ .‬ويف صفحة أخرى‪ ،‬يق ِّدم‬
‫الدكتور كروكشانك – نفسه – مزي ًدا من الحجج تؤ ّدي إىل أ َّن ذلك الرفض إمنا مبعثُه فشل يف تقدير‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫رشا للمشكلة‬ ‫حتى األزمنة املتأخِّرة‪ ،‬مل تظهر إاّلّ جهود متف ِّرقة هنا وهناك‪ ،‬تستهدف اقتحا ًما مبا ً‬
‫الجذريَّة وما يكتنفها من غموض‪ .‬ففي القرن الرابع عرش‪ ،‬ظهر التحليل االس ِمي لويليام أوكام‪ ،‬ويف‬
‫القرن السابع عرش ظهر عمل بيكون وهوبز‪ .‬ويبلغ البحث أقصاه مع الكتاب الثالث من مقالة لوك‪،‬‬
‫واهتامم ل ْيب ِنتز بلغة فلسف َّية كون َّية‪ .‬أ ّما بريكيل وكوندياك فقد أبْ َق َيا املسألة عىل قيد الحياة‪ .‬ومع هورن‬
‫توك وأشياعه نصل إىل حركة القرن التاسع عرش‪ ،‬الذي شهد جهود ِب ْنتام وتني وماوثرن‪ ،‬والتي تتمتَّع‬
‫[[[‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بأهميَّة‬
‫ولسنا بحاجة هنا لالهتامم باإلنجازات املخ ّيبة لآلمال يف فقه الُّلغة املقارن‪ ،‬ممثَّلة يف جهود‬
‫شتاينتال وماكس مولر وغريهام‪ ،‬والتي كانت موضع اهتامم عا ّم‪ .‬وما زالت مناهج فقه الُّلغة وعلم‬
‫االجتامع عاجزة عن توجيه املشتغلني يف امليدان‪ .‬ويف امللحق ‪ A‬يرتكَّز الحديث عىل فوىض‬
‫حويّني؛ أ َّما امللحق ‪ D‬فيشتمل‪ ،‬باإلضافة إىل ملخَّص ألعامل بريس‪ ،‬عىل مناذج ملا أنجزه‬ ‫ال ّن ْ‬
‫حل‪ ،‬باإلضافة إىل أولئك الذين يعتمدون بشكل رئيس‬ ‫اآلخرون الذين بحثوا يف املنطق عن ٍّ‬
‫عىل املصطلحات‪ .‬ويف الفصول املتبقّية‪ ،‬سيكرث انشغالنا بال ُكتَّاب املعارصين الذين استخدموا‬
‫املنهجني املتبقيَّني (من أصل املناهج السبعة الرئيسة) ‪ ،‬وهم امليتافيزيقيون وعلامء النفس‪ .‬أ َّما‬
‫غريهم‪ ،‬فقد بذلنا وسعنا يف اإلشادة مبن يستأهلها – ابتدا ًء بعمل ِ‬
‫أنسلم امل ُ َعن َون بــ “يف النحو”‪،‬‬

‫‪[1]- Influenza, 1922, pp 12, 6x, 512.‬‬


‫‪[2]- Infra, Supplement II, pp 344- 5.‬‬

‫‪179‬‬
‫المحور‬

‫ومرو ًرا ب َدلغارنو‪ ،‬ووِل ِكنز‪ ،‬وفريك‪ ...‬وانتهاء ِ‬


‫بسلبرير‪ ،‬وكتاب كاسرير املعن َون بــ “فلسفة األشكال‬
‫َّلفظي الذي ظهر بشكل متقطِّع يف‬
‫ِّ‬ ‫الرمزيَّة” – يف املسح العام لتق ُّدم اإلنسان نحو االستقالل ال‬
‫[[[‬
‫مجلَّة ‪ Psyche‬منذ سنة‪.1927‬‬
‫أاّل نغفل األشكال‬
‫الرضوري ّ‬
‫ِّ‬ ‫لكل هذه الجهود‪ ،‬أصبح علم الرموز ممك ًنا‪ ،‬ولكن من‬ ‫ونتيجة ِّ‬
‫الخاصة التي قد تتَّخذها ق َّوة الكلامت يف هذا العرص‪.‬‬
‫َّ‬
‫من يل بإنسانٍ من روحٍ وجسم‬
‫[[[‬
‫مل يهِم بالبهج ِة والنعم ِة وسح ِر االسم؟‬
‫“كل األصوات تستدعي مشاعر تجمع‬
‫هذا ما سأله شاعر بسيط منذ قرن‪ :‬أ َّما اليوم‪ ،‬يقول ييتس‪ُّ :‬‬
‫أحب أن أفكِّر‪ ،‬تستدعي بيننا قوى ما غري‬
‫ُّ‬ ‫بني الغموض والتحديد يف الوقت نفسه‪ ...‬أو‪ ،‬كام‬
‫مجسدة‪ ،‬نُطلق عىل وقع خطاها يف قلوبنا‪ :‬العواطف”‪.‬‬
‫َّ‬
‫“ولقد تكون املعتقدات القدمية ميتة‪ ،‬غري أ َّن الغريزة‪ ،‬أو األمل‪ ،‬قويَّة”‪-:‬‬
‫إيّن ألُؤمن‪،‬‬
‫“ ّ‬
‫عىل ال َّرغم من غياب الدليل‪،‬‬
‫بأنَّه قد تكون هناك كلامت هي يف جوهرها أشياء”‪.‬‬
‫وإنَّه ملن املكابرة القول بأ َّن ما نس ّميه زهرة “سيبعث الشذى نفسه لو أنَّه ت ََس َّمى باسم آخر”‪.‬‬
‫عىل أ َّن أتباع الراحل السيد كوي‪ ،‬سرت َّددون يف تنشُّ ق زهرة تحمل اسم الظربان املسحوق “‪The‬‬
‫‪ .”Squashed Skunk‬يقول برغسون‪“ :‬عندما أتناول طبقًا من الطعام يُفرتض أنَّه رائع‪ ،‬يأيت اسمه‬
‫وحيّس‪ .‬فقد أعتقد أ َّن مذاقه ألذّين‪ ،‬يف حني أ َّن قليل من‬
‫ّ‬ ‫الذي يوحي بأنَّه مقبول‪ ،‬ليَ ْن َدس بني و ْعيي‬
‫[[[‬
‫االنتباه سوف يُثبت العكس‪.‬‬
‫نتبنَّي طبيعة ق َّوتها‪.‬‬
‫حائاًل بيننا وبني شؤوننا بطرق دقيقة ال ت ُحىص‪ ،‬ما مل َّ‬
‫ً‬ ‫قد تقف الكلامت‬
‫فهي يف املنطق‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬تؤ ّدي إىل خلق كيانات وهميَّة‪ ،‬كالكليَّات‪ ،‬والخصائص‪ ،‬وما إىل ذلك‬
‫ماَّم سيكون لنا معها مزيد من البحث يف مواضع تالية من الكتاب‪ .‬كذلك تؤ ّدي‪ ،‬عرب جذبها‬ ‫َّ‬

‫‪[1]- For a detailed discussion of the linguistic achievements of Bacon. Hobbes and Berkeley, see Psyche.‬‬
‫‪1954. pp 9- 87.‬‬
‫‪[2]- See especially Vol XVllI (1946).‬‬
‫يل‪ ،‬وإمَّنَّا هي محاكاة شعريَّة له‪:‬‬
‫للنص األص ِّ‬
‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬ليست هذه ترجمة دقيقة‬
‫“ ?‪Who hath not owned, with rapture-smitten frame The power of grace, the magic of aname‬‬

‫‪180‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫لالنتباه إليها‪ ،‬إىل تشجيع الدراسة غري املجدية لألشكال التي فعلت الكثري لتشويه النحو؛ فمن‬
‫عقياًم يف املعتاد‪ .‬ومن خالل األمناط‬ ‫ً‬ ‫العاطفي‪ ،‬يصبح النقاش‬
‫ُّ‬ ‫خالل اإلثارة التي يُحدثها نفوذها‬
‫يب‪ ،‬يغدو قبول التسمية مفهو ًما‪ ،‬وشعور الق َّوة الذات َّية مع َّززًا‬
‫َّلفظي والكتا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫املختلفة من الهوس ال‬
‫بشكل مصطنع‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ريا ما‬
‫وال غرو‪ ،‬فمراعاة األساليب التي كانت الُّلغة‪ ،‬مبوجبها‪ ،‬خادمة للبرشيَّة يف املايض – كث ً‬
‫تؤ ّدي إىل ر ِّد فعل مرتاب‪ .‬ولقد لفت االنتباه إىل ذلك كاتب حاذق ولك َّنه مغمور‪ ،‬بقوله‪- :‬‬
‫الرَّشائِط ‪The gostak distims the‬‬ ‫قائاًل‪ :‬الجوستاك يُعالج َّ َ‬
‫شخصا ما يؤكِّد ً‬ ‫ً‬ ‫“لنفرتض أ َّن‬
‫‪ .dashes‬فال أنت وال أنا نعرف لذلك معنى‪ .‬ولكن إذا افرتضنا أ َّن لغة هذه العبارة هي اإلنكليزيَّة‪،‬‬
‫الرَّشائِط ت ُعال َُج بواسطة الجوستاك‬
‫فإنَّنا سنعرف أ َّن َّ َ‬
‫الرَّشائِط الواحد هو‬
‫‪ .The’dashes ate distimmed by the gostak‬ونعرف أيضً ا أ َّن معالج َّ َ‬
‫الجوستاك ‪ .one distimnier of dashes is a gostak‬زد عىل ذلك أنَّه إذا كانت الرشائط هي قطع‬
‫قامشيَّة مزكرشة‪ ،‬فنعرف أ َّن بعض هذه القطع تت ُّم معالجتها بواسطة الجوستاك‪ .‬وميكننا أن منيض‬
‫هكذا عىل هذا املنوال‪ ،‬بل نحن غالبًا ما منيض عىل هذا املنوال”‪.‬‬
‫م َّرة أخرى‪ ،‬إال َم تشري الكلامت التي نستخدمها يف الحياة اليوم َّية؟ “فغال ًبا ما ال يتاح لنا الحديث‬
‫خشبي وهو يتأبَّط‬
‫ٍّ‬ ‫زنجي من فوق سياج‬ ‫ٍّ‬ ‫حد‪ ،‬مثل عبور‬
‫كل مو ّ‬
‫عن جملة الظواهر املرتابطة يف ٍّ‬
‫بطيخة‪ ،‬بينام يتوارى القمر خلف الغيوم‪ .‬لكن إذا كانت هذه الظواهر تحدث كام هي مجتمعة‬
‫جح – كذلك – أن يؤث ِّر‬ ‫ريا‪ ،‬وكان من املر َّ‬ ‫عىل نحو متك ِّرر‪ ،‬وإذا كان لدينا سبب للحديث عنها كث ً‬
‫حدوثها يف سوق املال‪ ،‬فسنكون بحاجة إىل اسم مثل “‪ ”wousin‬لإلشارة إليها‪ .‬ومبرور الوقت‪،‬‬
‫خشبي؟‬‫ٍّ‬ ‫سيبدأ الناس يف الجدل حول ما إذا كان وجود “‪ ”wousin‬ينطوي بالرضورة عىل سياج‬
‫ويف ما إذا كان من املمكن استعامل الكلمة يف حال ت َّم العبور بوساطة رجل أبيض البرشة‪ ،‬ومن‬
‫صخري؟”[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فوق حائط‬

‫”‪[1]- A Ingraham, Suiatn School Lectures (1903), pp 121182-, on “ Nine Uses of Language‬‬

‫‪181‬‬
‫المحور‬

‫اخلالصة‪:‬‬
‫أي نتيجة‪ ،‬ما‬‫يف الخالصة‪ ،‬إ َّن “املسألة بأرسها مسألة كلامت”‪ ،‬أو “ال ميكننا الوصول إىل ِّ‬
‫دمت أنت تصيغ القضيَّة بطريقة‪ ،‬وأنا أصيغها بطريقة أخرى‪ ..‬فام يدرينا أنَّا نتح َّدث عن اليشء‬ ‫َ‬
‫نفسه؟”‪ ..‬تلك ُم هي االستنتاجات التي يصل إليها األشخاص الذين يواجهون صعوبات لغويَّة ألول‬
‫م َّرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن الفهم الشامل للطرق التي تنشأ بها هذه الصعوبات – والحالتان املذكورتان هام‬
‫أي أرض َّية للعدم َّية الُّلغويَّة‪.‬‬
‫ع َّينتان مالمئتان – ال يعطي َّ‬
‫وعليه‪ ،‬فإ َّن أفضل وسيلة للخالص من مثل هذه النزعة الش ّك َّية‪ ،‬وكذلك من التأثريات املن ّومة‬
‫مغناطيس ًّيا التي ك َّنا بصددها‪ ،‬إمنا تكمن يف التمييز الحازم بني أسلوب الرموز يف مامرسة الق َّوة‪،‬‬
‫وبني األساليب األخرى التي يُفرتض أ َّن الرموز تحمل معنى من خاللها‪ .‬وكخطوة أساسيَّة‪ ،‬نحن‬
‫حااًل‪ ،‬والذي سيمكننا من إدراك كيف “نعلم”‬
‫مواجهون بالحاجة إىل بيان ألبسط أمناط العالمات ً‬
‫أو “نفكِّر” عىل اإلطالق‪.‬‬
‫أواًل‪ ،‬سيُكتَشف أنَّها تلقي‬
‫ختا ًما‪ ،‬يجدر القول أ َّن النظريَّة السياقيَّة للعالمات‪ ،‬التي نتق َّدم بها ً‬
‫سحري‪ .‬فاالنبثاق املتزامن‬
‫ّ‬ ‫الضوء عىل الفكرة البدائ َّية التي تربط بني الكلامت واألشياء برباط‬
‫معنَّي‪ ،‬إمَّنَّ ا يتيح لل ُّرموز أن تلعب الدور‪ .‬امله ُّم يف‬
‫للرموز واألشياء‪ ،‬وارتباطهام م ًعا يف “سياق” َّ‬
‫لكل ما لنا من سلطة‬
‫جب فحسب‪ ،‬وإمَّنَّ ا أيضً ا مصدر ِّ‬ ‫حياتنا‪ ،‬والذي جعلها ليست مج َّرد مصدر للتع ُّ‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل العامل‬

‫‪182‬‬
‫ق ّوة الكلمات‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫ ترجمة‬،)2015( ،‫ دراسة ألثر الُّلغة يف الفكر ولعلم الرمزيَّة‬:‫ معنى املعنى‬،‫أوغدن ورتشاردز‬1.
.‫ دار الكتاب الجديد املتَّحدة‬،‫كيان أحمد حازم يحيى‬
2. A Ingraham, Suiatn School Lectures (1903), on “Nine Uses of Language”.
‫م‬2023 ‫هـ ــ ربيع‬1445 ‫العدد الخامس ــ‬

3. B Russell, Ihe Principles of Mathematics (1903), Vol I,


4. B Russell, The Problems of Philosophy, Home University Library.
5. For a detailed discussion of the linguistic achievements of Bacon. Hobbes
and Berkeley, see Psyche. 1954.
6. or an elaborate study of Eastern schools of thought and their behaviour with
words,see op at, Word Magic, by C K Ogden.
7. Igha N I 263, cf C A F. Rhys Davids, Bxtddhist Psychology,
8. Keith, Indian Logic, Chapter V , Dasgupta, History of Indian Philosophy, Vol
I, Rama Prasad, Self-culture or the Yoga of Patdnjali, Vedanta SUtras, Sacred
Books of the East, Vbl XLVIII,
9. Mauthner, Anstotle, English Translation, pp 84, 1034- Cf the same author’s
Krtitlt der Sprache, Vol III,
10. See also Appendix A for a discussion of the iuence of Anstotle on Grammar.
11. The psychology Reasoning, Chap XI, on Metaphysical Reasoning.
12. The Science of the Sacred Word (translated by Bhagavan Das), R A Nicholson,
Studies in Islamic Mysticism,
13. C. K. Ogden I. A. Richards, The Meaning of Meaning: a study of the influence
of language upon thought and of the science of symbolism,(1923), A Harvest
Book Harcourt, Brace & World, Inc.New York.

183
‫المحور‬

‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬


‫العالم بوصفه صيرورة نحو األتم في حكمة مال صدرا‬

‫ن‬
‫ها�‬
‫إدريس ي‬
‫ف‬
‫مفكر وباحث ي� الفلسفة ـ المغرب‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫مث َّة زعم يبتني مسعاه عىل مرشوعية النقد أو يستهدف مباين الحكمة املتعالية‪ .‬لكن النقاش‬
‫ليس يف املرشوعيَّة‪ ،‬بل يف املسؤوليَّة‪ ،‬ال ب َّد أ َّواًلً من معرفة حيثيَّات ومدارك هذا الزعم‪ ،‬فالتعايل‬
‫يف نقد الحكمة املتعالية قد يوقع يف التداين‪ .‬لنتأ َّمل روح الفلسفة من املشَّ اء حتى كانط‬
‫املفهومي‬
‫ِّ‬ ‫وحوارييه‪ ،‬يك ندرك أ َّن الحكمة املتعالية ومبانيها ما زالت متلك الكثري من االقتدار‬
‫والفلسفي‪ .‬مث َّة تراكتاتوس أشتغل عليه يتعاىل بالحكمة املتعالية عن شواغل التقليدان َّية‪ ،‬ومينحها‬‫ّ‬
‫تظل مرشو ًعا غري منجز‪ ،‬وال ب َّد كام ذكرتُ يف كتاب «املعرفة‬ ‫رصا‪ .‬فهي يف فهمي‪ُّ ،‬‬ ‫قوا ًما معا ً‬
‫واالعتقاد»‪ ،‬من‪ :‬الطريقة املتعالية لفهم الحكمة املتعالية‪ .‬وهي طريقة تكمن يف صلب النقاش‬
‫جا ساط ًعا عنه‪.‬‬
‫مناهجي الذي متنحنا هذه الحكمة منوذ ً‬ ‫ِّ‬ ‫العرب‪-‬‬
‫وجب التّذكري بأ َّن الحكمة املتعالية آبية لالنحصار يف تظهري مبانيها‪ ،‬فام خفي من ذوقها‬
‫كل إقامس عميق لدالء االستنباط‪.‬‬ ‫فلسفي‪ ،‬وعند ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫كل انحشار‬ ‫يئ كثري‪ ،‬وهو يظهر عند ِّ‬ ‫املبنا ِّ‬
‫أي محاولة للنقد هي مغامرة‪ ،‬وكذلك فإ َّن محاولة تقويض‬ ‫حا يف القول أيضً ا بأ َّن َّ‬ ‫وسأكون واض ً‬
‫هذه املباين بأدوات فلسفيَّة يفرض بعض الصعوبات‪ .‬وكم كنت أعتقد دامئًا بأ َّن الصدرائيَّة باحت‬
‫بكل هذه املباين‪ ،‬وأنَّها بارشت نق ًدا للفلسفة مل ينته بالعدم َّية بل ارتقى‬ ‫ببعض مبانيها وليس ِّ‬
‫الخاَّلق هو منتهى االقتدار‬‫َّ‬ ‫بالخطاب إىل االندماج‪ ،‬وهذا التلفيق الذي يعكس معنى الرتكيب‬
‫سقي‪ .‬لكن يبقى السؤال‪ :‬ما الجدوى وما القيمة املضافة إلعادة الرشخ بني أبعاد الحكمة‬ ‫ال ّن ِّ‬
‫املتعالية املشَّ ائيَّة‪-‬اإلرشاقيَّة؟‬
‫غاية هذا البحث بيان التهافت لدى النقاد املعارصين ملفهوم الحركة الجوهرية ومعانيها يف‬
‫فلسفة الحكيم اإللهي صدر الدين الشريازي‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬الحركة الجوهرية‪ -‬الحكمة التعالية – املعنى – الصريورة – األرسطية –‬
‫اإلرشاقية‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫تقديم‪:‬‬
‫حا برهان ًّيا كام جعل التّصالح بل االندماج غاية‪.‬‬
‫ماَّل صدرا سوى منح اإلرشاق سال ً‬‫مل يفعل َّ‬
‫وعليه‪ :‬هل سنحاول تدوير زوايا الزمن لنفتعل موقفًا ُرشديًّا قاض ًيا بفصل الرشيعة عن الحكمة‪ ،‬يف‬
‫فصل للخطاب مل يحسم ومل يفصل بعد؟ ما جدوى الرشديَّة التي سبقت يف شقاوة الفصل بحثًا‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫عن األرسطيَّة الخالصة‪ ،‬بينام يف جيوب السينويَّة كان البحث جاريًّا للظفر بالحكمة املتعالية خطوة‬
‫كل هذه الفصول من تاريخ الحكمة‪.‬‬ ‫خطوة‪ .‬فالحكمة املتعالية محصول ِّ‬
‫السابق بعدما أوجعته ووضعت اليد عىل الجرح‪،‬‬‫الفلسفي ّ‬
‫ِّ‬ ‫كل القول‬
‫لقد احتوت الصدرائيَّة َّ‬
‫كل املفاهيم معه‪ ،‬وهي اليوم عىل مسافة من الحركة يصعب اللّحاق‬
‫حيث ح َّركت الوجود فتح َّركت ُّ‬
‫بها‪ .‬فالجمود ال يق ِّوض الحركة‪ ،‬والثابت ال يجاري املتح ِّرك‪ ،‬وإذا كان الجوهر متح ِّركًا صدرائ ًّيا‪،‬‬
‫فاملباين ستكون متح ِّركة بالتّبع‪ ،‬فمن رام املباين الحكم َّية املتعالية أو تربُّص بها فعليه أن يتح َّرك‪،‬‬
‫ومن تح َّرك وهو صادر عن أصول ماهويَّة ثابتة انفرط عقده‪.‬‬
‫أيّن‬
‫سأقول م َّرة أخرى‪ ،‬أنا محارب أتقن الحركة واالنتقال الرسيع‪ ،‬لكن يف الحكمة أفضِّ ل التَّ ّ‬
‫والكمون وال ّرويَّة‪ ،‬فالذين راموا نقد الصدرائيَّة من أنصار املشَّ ائيَّة الخالصة أو اإلرشاقيَّة الخالصة‪،‬‬
‫يريدون اسرتجاع يشء مفقود‪ ،‬إمكانيَّة املصالحة مع متخاصمني أدركا نقطة ما به االشرتاك بينهام‪،‬‬
‫يئ سيكون مجازفة‪ ،‬أل َّن الحكمة املتعالية متح ِّركة‬ ‫يل مشّ ا ٍّ‬
‫فالدخول عىل الحكمة املتعالية بنقد أصو ٍّ‬
‫مبقوالتها واعتباراتها‪ ،‬وعليه‪ ،‬فنقادها الصادرون من هذه األصول َّية املشَّ ائ َّية أو اإلرشاق َّية الخالصة‬
‫إن شئت‪ ،‬هم يدورون مدار اله ِّم الذي تنتجه البنيات التقليديَّة نفسها‪ ،‬بينام محاولة تقويض‬
‫الصدرائية باملقاصد الحديثة‪ ،‬ال ميكن أن مت ّر إالّ عىل جثّة الظاهريات‪ ،‬بل تقتيض قتل هرني‬
‫‪-‬الهايدغريي‬
‫ِّ‬ ‫يئ‬
‫الربزخي الصدرا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫كوربان ونسف حمولته الفلسف َّية التي ندرك مذاقها يف هذا التقاطع‬
‫واإلبستيمولوجي‪ .‬فإذا ع َّمت عليك‬
‫ّ‬ ‫األنطولوجي‬
‫ِّ‬ ‫كل هذه املسافة من التَّأشكُل‬ ‫الذي يلخِّص َّ‬
‫الصدرائيَّة مبفاهيمها التي تحدث شب ًها مفهوميَّة إزاء املباين القدمية‪ ،‬ال سيَّام السينويَّة‪ ،‬فاقرأها يف‬
‫مرآة الهايدغرييَّة وامتداداتها‪.‬‬
‫فضاًل عن أنَّه زعم مكلف ملن رام ذلك من دون‬ ‫ً‬ ‫أزعم أ َّن محاولة اإلطاحة فلسف ًّيا بالصدرائ َّية‪،‬‬
‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫اعتامر مغفر يقي من نزالت سيف ذميوقليس‪ ،‬فإنَّها غواية أصوالنيَّة ترتبَّص بأمنت القول‬
‫والعودة إىل املباين الخالصة واملستغلقة‪ .‬ال يشء نعود إليه يف مدارك خرباتنا الفلسف َّية‪ ،‬فنهر‬
‫أي نقد‪ ،‬هو مرشوع بقدر ما يفتح من آفاق ال تعيدنا إىل‬ ‫الفلسفة ال يُستح ُّم فيه مرا ًرا‪ ،‬والنقد‪ُّ ،‬‬
‫البدايات الشّ ق َّية‪ .‬وسأكون واح ًدا من الذين سيعتربون اإلطاحة بالصدرائ َّية‪ ،‬إن حدث بأساليب‬
‫فلسفيَّة‪ ،‬هو إعالن للخروج من الفلسفة عنوة‪ .‬لكم كنت أحرتم من يناهض الصدرائيَّة من خارج‬

‫‪185‬‬
‫المحور‬

‫الفلسفي‪ ،‬أ َّما مناهضتها من داخل هذه القواعد‪ ،‬فسيغرقنا يف أخالف منطق َّية ومتاهات‬
‫ِّ‬ ‫قواعد القول‬
‫ومفارقات ال حدود لها‪ ،‬وسوف ال نجد بعد ذلك فلسفة مقنعة‪.‬‬
‫َّ‬
‫اجلوهراني�ة‪:‬‬ ‫راهني�ة العقبة‬
‫لطاملا قوبلت فلسفات الجواهر الثابتة باستهتار‪ ،‬وقد كنا يف بواكري الفلسفة الحديثة‪ .‬نشعر بهذا‬
‫ين الذي ل َّوحت العلوم الحديثة بتجاوزه‪ .‬رمَّبَّ ا بتنا أمام الجواهر كعائق‪ ،‬ولو تح َّدثنا‬
‫الرت ّدي الجوهرا ِّ‬
‫حسب غاستون باشالر عن العقبة الجوهرانيَّة‪ ،‬لوجدنا هذا االزدراء يف عبارات من قبيل أ َّن الفلسفة‬
‫وكل هذا صحيح‪ ،‬فثبات الجوهر ش َّوش عىل‬ ‫الجديدة تجاوزت فلسفات الجواهر والعلل األوىل‪ُّ .‬‬
‫ثبوته‪ ،‬وانتقام الفلسفة من الجوهر آلت إىل نبذه‪ ،‬فحينام يثبت الجوهر يفرز من حوله سامت‬
‫ين يف الواقع ليس كام ذهب إليه باشالر‬ ‫ومعامل مؤث ِّرة يف مصري املعرفة‪ .‬من هنا‪ ،‬فالعائق الجوهرا ُّ‬
‫وهو صادق يف ما ا َّدعاه‪ ،‬ولكن‪ ،‬إذا شئنا مزي ًدا من ال ّدقة‪ ،‬فإ َّن العائق هنا هو ثبات الجوهر ال ثبوته‪.‬‬
‫ماَّل صدرا عن النموذج الخالد ملفهوم الجواهر يف الفلسفة التقليديَّة‪ ،‬مستعي ًنا‬ ‫لقد خرج َّ‬
‫بالفلسفات ما قبل السقراطيَّة‪ ،‬حيث ألهمته الخروج من التبسيط الذي أدركت النيتشيَّة أنَّه بات عائقًا‬
‫يئ أقام الحكمة املتعالية‬ ‫مناهجي الصدرا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يف ح ِّد ذاته إلدراك التعقيد‪ .‬بهذا نعلم أ َّن املنحى العرب‪-‬‬
‫عىل فكرة التعقيد التي تقتيض استحضار االعتبارات املمكنة يف فهم الظاهرات‪.‬‬
‫حينام تح َّرك الجوهر تق َّوضت العقبة الجوهران َّية املزعومة باشالريًّا‪ ،‬أو باألحرى الصحيحة‬
‫بلحاظ الثبات ال الثبوت‪ ،‬ولرمبا ش َّوش الثبات ليس عىل الثبوت فحسب‪ ،‬بل عىل اإلثبات أيضً ا‪،‬‬
‫كل ما‬‫غرَّي َّ‬
‫الفلسفي خارج الثبات ومصداقه األبرز الجوهران َّية‪ .‬لك َّن تح ُّرك الجوهر َّ‬
‫ُّ‬ ‫فأصبح القول‬
‫يف جعبتنا من أحكام قيّمة‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن الحركة الجوهريَّة تق ِّوض نظام العالمات واآلثار الناجمة عن ثباته‪ ،‬ذلك‬
‫أل َّن الجوهر حينام يتح َّرك‪ ،‬تتح َّرك معه األعراض مبا فيها الفعل واالنفعال‪ ،‬األين واملتى‪ .‬فأن يفعل‬
‫وينفعل إزاء املتح ِّرك ليس معناه أن يفعل وينفعل إزاء الثّابت‪ .‬باألمس كانت األعراض تزهو بحركة‬
‫االسرتاتيجي‬
‫َّ‬ ‫مفصولة عن الجوهر‪ ،‬لكن الجوهر حني تح َّرك ق َّوض رشف األعراض‪ ،‬واستعاد دوره‬
‫يف الحكمة املتعالية‪.‬‬
‫لقد كانت رحلة الفلسفة دامئًا باتجاه مخرج متح ِّرك‪ ،‬حيث ساهم الجوهر الثابت يف موت‬
‫امليتافيزيقا التي كانت عبارة عن شبح يرتنَّح حول أشكال من العالمات املضلِّلة‪ .‬ليس هناك من‬
‫انقالب أعظم يف الفلسفة من الحركة الجوهريَّة‪ ،‬تلك التي جعلت املاه َّيات يف حراك وشؤون‬
‫تأصل أطلق رساح املاهيَّات‬
‫ومراتب من التنسيب‪ ،‬متكاملة مع الوجود الذي منحته مغزى متعاليًا يف ُّ‬

‫‪186‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫مذ منحها ح ّريَّة االعتبار‪ ،‬وأخرجها من ثباتها‪ .‬تبدو الكينونة خربة يف الوجود بالوجود‪ ،‬يف ُمنفتح‬
‫املاهيَّات املتح ِّركة يف اآلفاق‪ ،‬الكائن املتج ِّدد الوجود كتج ُّدد املعنى واإلنزال‪.‬‬
‫غني عن القول أ َّن الفلسفات الحديثة تجاوزت فكرة الجوهر‪ ،‬لكنها ما زالت منغمسة يف‬ ‫ٌّ‬
‫تداعيات الثبات‪ .‬فالجوهر غاب‪ ،‬لكن أيديولوجيا الثبات أو باألحرى عقبة الجوهرانيَّة الثابتة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الفلسفي‪ .‬هذا يعني أ َّن الفلسفة مدينة لصفة يشء تجاوزته‪ ،‬لكنها يف‬ ‫ّ‬ ‫ظلَّت حاكمة عىل القول‬
‫هذا الزعم مل تكن سوى يف حالة هروب‪ .‬فتداعيات وآثار األحكام التقليديَّة جامثة يف الفكر‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫والعلمي‪ ،‬وذلك قبل الثورة الكوانتيك َّية‪ ،‬تلك التي جرفت األعراض‪ ،‬وح َّركت َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬
‫ملتبسا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األشياء واملصفوفات والحقل والحيِّز والزمان‪ .‬ال يشء بقي ثابتًا‪ ،‬وال أقول ال يشء أصبح‬
‫يك هي ح ّيز واضح ج ًّدا حني نح ِّرك الجواهر‪ ،‬وحني ندرك أ َّن‬ ‫أل َّن ماه َّية الح ِّيز والزمان الكوانتي ِّ‬
‫إاَّل عالمة عىل حراك ذلك الجوهر الذي ندرك قيمته يف‬ ‫ين ما هو َّ‬ ‫الجزيئي واإللكرتو َّ‬
‫َّ‬ ‫هذا الطيش‬
‫حراك األعراض والعالمات‪ .‬إنّه يراسلنا مبنطق الحركة‪ ،‬ويؤكِّد باستمرار أ َّن الحركة هي القيمة الثابتة‬
‫الوحيدة التي يجب تعقُّلها لتفادي الرشود يف متاهة األعراض املتقلِّبة‪ .‬فقانون الحركة يتوقَّف عىل‬
‫استيعاب الجوهر املتح ِّرك‪ ،‬أ ّما األعراض فهي دالّة عىل تلك الحركة‪ ،‬ال بل هي عند الوقوف عندها‬
‫أاَّل‬
‫إاَّل فوىض‪ .‬وليك ندرك ال ّنظام‪ ،‬علينا إدراك الجوهر‪ ،‬كام علينا َّ‬‫من دون اعتبار الجوهر‪ ،‬لن تق ِّدم َّ‬
‫نجعله نقيضً ا للحركة‪ ،‬فالحركة ال تعني الفوىض‪ ،‬بل تعني النظام بعينه‪.‬‬
‫مل تو ِّدع الفلسفات الحديثة أباها أرسطو‪ ،‬ال يهم تفاصيل القول‪ ،‬بل املع َّول عليه يف حكمنا هو‬
‫جه إىل اآلثار الفلسف َّية العميقة التي‬
‫املوقف من الجوهر‪ .‬حتى اآلن مل يقم بحث يف الجوهر يتو َّ‬
‫خلَّفها القول بثباته‪ ،‬ليس يف الفلسفة فحسب‪ ،‬بل حتى يف العلم أيضً ا‪ .‬ما أريده من تحريك الجوهر‬
‫ليس انقالبًا يف إبستيمولوجيا الحركة‪ ،‬وال تقويضً ا لفلسفات الجواهر الثابتة‪ ،‬من دون أن يرسي‬
‫هذا االنقالب يف سائر مباحثها؛ إ َّن الحركة الجوهريَّة حتى اليوم هي مطلب يكاد يغرق يف منحاه‬
‫السكوالستييكِّ‪ ،‬ولكنه غري من َّزل عىل موضوعات ما زالت مدينة للقول بثباته‪ .‬أين يا ترى ميكن‬
‫امليافيزقي‪ ،‬يف سياستنا واجتامعنا وقيمنا‪ ،‬يف‬
‫ِّ‬ ‫أن تتن َّزل الحركة الجوهريَّة يف أنطولوجيَّتنا‪ ،‬يف قولنا‬
‫فيزيائنا؟‬
‫إنّني أملس يف الحركة املتاحة اليوم‪ ،‬إن فلسفيًّا أو فيزيائيًّا (ميكانيكيًّا) ماهية حركة األعراض‬
‫وليس ماهيَّة حركة الجوهر‪ .‬بدأت أحدس هذا امليز الخطري بني أنواع الحركة األصيلة والحركة‬
‫إاَّل‪،‬‬
‫ماَّل صدرا قدميًا‪ ،‬دالّة ليس َّ‬
‫العارضة‪ .‬ويف تقديري‪ ،‬فإ َّن حركة األعراض إذا مل نعتربها كام فعل َّ‬
‫ثانوي عىل الثَّبات‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫شكاًل آخر من الثبات‪ ،‬الحركة كعارض‬ ‫ً‬ ‫عىل حركة الجوهر‪ ،‬فإنّها ستكون‬
‫ما زال العامل غري قادر عىل األُنس بالحركة‪ ،‬إنَّه يرى السعادة يف الثبات‪ ،‬وينظر إىل االستقرار‬

‫‪187‬‬
‫المحور‬

‫كثبات‪ ،‬وهو َو ْه ٌم حتى يف منظور توازن قوى ميكانيكيًّا‪ ،‬فكم من نشاط تفرزه القوى لتحقيق التوازن‪،‬‬
‫االستقرار حركة‪ ،‬يف السياسة واالجتامع والقيم كام قلنا‪ .‬هذا الكائن يف خربة الوجود كمن مييش‬
‫فوق حبل يتطلَّب مهارة فائقة يف التوازن‪ ،‬يف عدم الوقوف‪ ،‬يف العبور‪ ،‬ممىش الوجود من الخطورة‬
‫بحيث أ َّن من «تثابت» سقط‪.‬‬
‫ال ريب يف أ َّن أسباب الخراب هي غياب التدافع‪ ،‬وأ َّن انهيار االستقرار هو تلكُّؤ الحركة وفسادها‪.‬‬
‫ريا محضً ا‪ ،‬وكلَّام تداىن الوجود‬
‫تبدو الحركة الجوهريَّة حقيقة يف الوجود‪ ،‬بها كان الوجود نفسه خ ً‬
‫وتك َّدر‪ ،‬انعكس ذلك عىل مراتب الحركة‪ ،‬فهي يف اإلرساع والبطء بحسب مراتب الوجود‪ ،‬وهي‬
‫الوجودي‪ ،‬وإذا تح ّرك الجوهر ظهرت منازل الوجود وحقائق املعرفة‪.‬‬‫ِّ‬ ‫تجل للخري‬
‫ٍّ‬
‫إن محاولتنا بسط القول يف الحركة الجوهرية لدى حكيم أصفهان صدر املتألِّهني الشريازي‪،‬‬
‫الغاية منها أيضً ا الجواب عن العقدة النيتشيَّة إزاء امليتافيزقا الهيلينيَّة التي حملت معها ذلك‬
‫التبسيط حتى العرص الحديث‪ .‬عىل هذا األساس ندرك أ َّن الثورة قامئة اليوم عىل إعادة التعقيد‬
‫إىل امليتافيزقا‪ ،‬التعقيد الذي مي ُّدنا بالرؤية الكاملة للظاهرة‪ ،‬باعتبارها متشابكة داخل نسق من‬
‫االعتبارات‪ ،‬وباعتبارها متح ِّركة جوهران ًّيا‪ .‬يف روح الحركة الجوهرية نقف عىل روح القطيعة‬
‫الجوهرانيَّة الرضوريَّة إلعادة اكتشاف ما ّديَّة املا َّدة‪ ،‬كام عند غاستون باشالر‪ ،‬وأيضً ا نقف عىل روح‬
‫يل وليس األول‪ ،‬تتناسب‬ ‫الكوانتيك َّية نفسها‪ ،‬التي سنجد أ َّن التن ّبؤ مبسارات الحركة يف كاملها الفع ِّ‬
‫يك إىل الحركة من‬ ‫فماَّل صدرا تجاوز الحركة من منظور ميكاني ٍّ‬ ‫مع احتامل الحركة الكوانتيك َّية‪َّ .‬‬
‫س الحركة يف األعراض‪ ،‬ومن جهة‬ ‫منظور كوانتييكٍّ‪ ،‬عىل األقل من ثالث زوايا‪ :‬من زاوية أنَّها أُ ُّ‬
‫كل األحوال – االختالف يف نفس ما به االشتباه‪ -‬ومن جهة ثالثة‪،‬‬ ‫ثانية‪ ،‬أ َّن املتح ِّرك هو ذاته يف ِّ‬
‫أ َّن الحركة هي من حيث كاملها األّول ال ُق َّووي‪ ،‬غري ما هي من حيث وصولها نهايتها أو تحقُّقها‬
‫جل‬‫يئ تبقى ذات أفق كوانتييكٍّ‪ ،‬وهذا ما نؤ ّ‬ ‫يل كام سرنى‪ .‬فاحتامالت الحركة مبدلولها الصدرا ِّ‬ ‫الفع ِّ‬
‫تفصياًل‪.‬‬
‫ً‬ ‫الخوض فيه‬
‫اجلوهرية أو العالم بوصفه صريورة حنو ّ‬
‫األتم‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫احلركة‬
‫سنتع َّرض هنا إىل أحد أه ِّم االبتكارات التي أتحفت بها الحكمة املتعالية تاريخ األفكار حول‬
‫استحق رائدها الحكيم ُم َّاَّل صدرا لقب «أب املشائيَّة وامليتافيزقا اإلسالميَّة» خالل‬
‫َّ‬ ‫الجوهر‪ ،‬وبها‬
‫الهجري‪ ،‬وهو ما يتعلَّق تحدي ًدا بنظريَّة الحركة الجوهريَّة‪ .‬هذا االبتكار الذي‬
‫ِّ‬ ‫القرن الحادي عرش‬
‫يب‬
‫أكسب الفلسفة اإلسالم َّية مزي ًدا من النضج واألهم َّية‪ ،‬ووضع خطواتها عىل طريق التفكري اإليجا ِّ‬
‫للعامل‪ .‬ورغم أ َّن هناك أكرث من موضوعة جديدة‪ ،‬ومبتكرة‪ ،‬يف فلسفة الشريازي‪ ،‬فقد فضّ لنا الرتكيز‬
‫عىل املجاالت األكرث نبوغًا والتي مثّلت قطيعة نهائيَّة مع من سبقه‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫ظل موضوع الحركة الجوهريَّة الثمرة الرئيسيَّة ملفهوم أصالة الوجود‪ ،‬مثلام كانت نظريَّة‬ ‫لقد َّ‬
‫يدل عىل استقالل تا ٍّم ومبدع للفيلسوف الشريازي‪ ،‬الذي‬ ‫دل فإمَّنَّ ا ُّ‬
‫اتحاد العاقل باملعقول‪ .‬هذا إن َّ‬
‫خصوصا يف الحركة الجوهريَّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خالف ابن سينا‪ ،‬وخطَّأه يف الفكرتني م ًعا‪ .‬ومخالفته لهذا األخري‪،‬‬
‫التي أنكرها ابن سينا عىل غرار أرسطو وباقي الفالسفة القدماء‪ ،‬راجع إىل ذلك اإلبهام الشديد‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الذي أحاطوا به نظريَّة الوجود‪ .‬فرغم تأكيدهم ضمنيًّا عىل أسبقيَّة املوجود‪ ،‬إاَّلَّ أنَّهم مل يتمكَّنوا‬
‫معنَّي من‬
‫لكل مبانيهم امليتافيزيقيَّة‪ .‬هذا إمَّنَّ ا يعني أ َّن الفلسفة تحتاج إىل قدر َّ‬ ‫أساسا ِّ‬
‫ً‬ ‫من جعلها‬
‫ماَّل صدرا يف إقامة نظريَّة أصالة الوجود عىل أمنت‬ ‫الوضوح‪ ،‬يف بناء تص ُّوراتها‪ .‬ويعود الفضل إىل َّ‬
‫األدلَّة والرباهني‪ ،‬وأوضح العبارات والرتاجيح‪ .‬كام استطاع‪ ،‬انطالقًا من هذا الوضوح‪ ،‬أن يعالج‬
‫تأصل الوجود‪.‬‬
‫باقي اإلشكاليَّات امليتافيزيقيَّة األخرى‪ ،‬ويقيمها عىل أساس ُّ‬
‫من املفيد القول أ َّن الحديث عن الحركة الجوهريَّة متش ّعب ومتداخل مع جملة من املطالب‬
‫حتاًم‬
‫األخرى‪ ،‬ونحن هنا نعرض للمعامل الكربى لهذه النظريَّة بقدر من االقتضاب‪ ،‬وهذا يتوقَّف ً‬
‫عىل بحث عدد من املق ِّدمات الرضوريَّة‪ :‬أ َّواًلً ‪ ،‬هناك «الحركة» وثانيًا هناك «الجوهر»‪ .‬ومعنى‬
‫ذلك‪ ،‬أ َّن مث َّة فعل «الحركة» يف ذاتها‪ ،‬وهو ما يستلزم الحديث عن مق ِّوماتها‪ ،‬كاملسافة واملتح ِّرك‬
‫أقل ‪ -‬معرفة‬‫والفاعل وما أشبه‪ ،‬وكذا «املقولة» التي تجري فيها الحركة‪ ،‬وهذا يقتيض منا ‪ -‬ال ّ‬
‫ماَّل صدرا يف تعريف الحركة والجوهر‪ ،‬وعالقة هذه النظريَّة‬ ‫التص ُّور الجديد‪ ،‬الذي ينطلق منه َّ‬
‫بأصالة الوجود‪.‬‬
‫لقد تب َّنى أرسطو تص ُّو ًرا مختلفًا عن مفهوم الحركة‪ ،‬خالف فيه كاُّلُّ من الفيثاغوريني واألفالطونيني‪.‬‬
‫فقد ع َّرفها بأنَّها فعل املمكن مبا هو ممكن[[[‪ ،‬أو هي خروج اليشء من الق َّوة إىل الفعل‪ .‬وفضاًلً عن‬
‫حل إشكال َّية الحركة ‪ -‬عمو ًما ‪ -‬فإنَّه‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬استطاع‬
‫حاساًم يف ِّ‬
‫ً‬ ‫أن تعريفًا كهذا‪ ،‬مل يكن‬
‫افرتاض نوع من البداية والنهاية للحركة‪ .‬وهو ما يعني إقرا ًرا لحقيقة السكون إىل جانب الحركة؛‬
‫تلك التي بذل «اإليليون» كامل جهدهم للربهنة عىل بطالنها‪.‬‬
‫األرسطي الذي سوف يكون منطلقًا أساس ًّيا للفالسفة املسلمني‬
‫ِّ‬ ‫قبل أن منيض يف هذا التعريف‬
‫خاصة‪ ،‬نرى من املفيد التع ُّرض إلشكال َّية الحركة يف حقيقتها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يف ما بعد‪ ،‬ولصدر املتألِّهني بصورة‬
‫أي‪ :‬هل هي حقيقة متعيّنة أم أنَّها مج َّرد وهْمٍ يفرتضه الذهن؟! طبعـًا‪ ،‬إ َّن مشكلة كهذه تجعل الحركة‬
‫الاَّلحقني‬
‫مستحياًل‪ ،‬هي إشكاليَّة التعريف ‪ -‬باألساس ‪ -‬وما انبنى عليها بعد ذلك عند الفالسفة َّ‬
‫ً‬ ‫أم ًرا‬
‫بكل من «زينون» و «بارمينديس» إىل إنكار الحركة‪ ،‬واعتبارها مج َّرد‬ ‫بأرسطو‪ .‬وهي مشكلة انتهت ٍّ‬
‫تراكم لسكونات متع ِّددة ليس أكرث‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أميل برهييه‪ ،‬تاريخ الفلسفة؛ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪. 265‬‬

‫‪189‬‬
‫المحور‬

‫الاَّلمتناهي‬
‫إذا كان املفروض من الحركة قطع مسافة مح َّددة‪ ،‬فال ب َّد من أن نأخذ باالعتبار فكرة َّ‬
‫يف أجزاء هذه املسافة‪ .‬وبنا ًء عىل هذه الفكرة رأى «اإليليون» من املستحيل أن نقطع مسافة من‬
‫تبنَّي أن فعل الحركة يجري بني قرارين‪ ،‬فإ َّن وصوله‬ ‫املبدأ إىل املنتهى‪ ،‬ألنَّنا لن نصل أب ًدا‪ .‬فإذا َّ‬
‫جه‬
‫إىل القرار الثاين يفرتض قبله املرور عىل نقطة ثالثة يف البني‪ .‬وإ َّن وجوده‪ ،‬وطب ًعا كالم كهذا مو َّ‬
‫األرسطي يف ثالثة مواقع‪ ،‬ليس أكرث من‬‫ِّ‬ ‫إىل القائلني بالحركة‪ ،‬وهو بالذات ينطبق عىل التعريف‬
‫اعتباره مج َّرد قرارات ثالثة‪ ،‬أي ثالثة سكونات‪ ،‬أل َّن ال معنى للحركة إذا مل يستق ّر بالنقطة يف البني‪.‬‬
‫فالحركة تفرض عىل املتح ِّرك اجتياز هذه املواقع الثالثة‪ .‬وإذا ثبت حصولها فيها‪ ،‬فمعناه‪ ،‬أنَّها‬
‫قا َّرة وساكنة‪ .‬وبالنتيجة‪ ،‬نكون أمام خُلف واضح‪ ،‬إ ْذ ينتهي تعريف الحركة إىل أ َّن املتح ِّرك ساكن‪،‬‬
‫شك يف أ َّن مناقشات كهذه‪ ،‬إمَّنَّ ا مرجعها إىل اإلشكاالت الَّلفظيَّة‪ ،‬وأيضً ا إىل‬ ‫وهذا تناقض‪ .‬فال َّ‬
‫بغض النظر عن ذلك‬ ‫ِّ‬ ‫املتخصصة عن تقديم معطيات علميَّة دقيقة عن الحركة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫تخلُّف العلوم‬
‫كلِّه‪ ،‬وقع «اإليليون» يف جملة من العوائق املعرف َّية‪ ،‬حدت بهم إىل نكران الحركة‪ .‬وهو إميانهم‬
‫كل جسم قابل للقسمة إىل ما ال نهاية‪ .‬فكيف ـ بالتايل ـ يعقل وجود الحركة‪ ،‬التي هي‬ ‫الشديد بأ َّن َّ‬
‫انتقال من مبدأ إىل منتهى‪ ،‬مع أ َّن أجزاء املسافة غري نهائيَّة‪ ،‬كام أ َّن آنات الزمن[[[‪ ،‬غري محدودة‪.‬‬
‫سيحل هذه‬‫ُّ‬ ‫وسوف نرى أ َّن «النظام»‪ ،‬وهو من أبرز متكلِّمي املعتزلة القريبني ج ًّدا من الفالسفة‪،‬‬
‫اإلشكال َّية بتخريج جديد‪ .‬وبخالف اإليليني ـ ورغم اتّفاقه معهم حول الجزء القابل للقسمة أب ًدا ـ‬
‫يبطل السكون‪ ،‬ويغلو يف إنكاره‪ ،‬إ ْذ قال بالحركة الشاملة لجميع املوجودات‪ .‬فكيف استقام رأيه‬
‫الاَّلتناهي؟ أجل‪ ،‬لقد قال بالطفرة التي كانت‬ ‫املتط ِّرف هذا يف ضوء إقراره بنظريَّة اإليليني يف َّ‬
‫مخرجه الوحيد إلمكانيَّة تحقق الحركة‪ .‬وليس السكون‪ ،‬يف نظره‪ ،‬سوى نوع آخر من الحركة‪ ،‬أسامء‬
‫الحركة االعتامديَّة[[[‪.‬‬
‫أمام هذا اإلنكار املتبادل بني أنصار السكون وبني أنصار الحركة‪ ،‬تأيت النظريَّة األرسطيَّة‪ ،‬التي‬
‫إاَّل أنَّها ‪ -‬وهو ما سار عليه أتباع أرسطو‪ ،‬كابن سينا ‪ -‬أنكرت وقوع‬ ‫رغم إقرارها مبدأ الحركة‪َّ ،‬‬
‫ماَّل صدرا برؤية جديدة للحركة تجعلها حركة‬ ‫الحركة يف مقولة الجوهر‪ .‬وسوف تنهض فلسفة َّ‬
‫دامئة وشاملة للجوهر أيضً ا‪ ،‬ويقدم أدلَّة وبراهني‪ ،‬هي مبثابة فتح جديد وحاسم يف هذا املضامر‬
‫خصوصا ملا نضع هذه النظريَّة‪ ،‬التي تعترب ‪ -‬أي الحركة يف الجوهر ‪ -‬قضيَّة‬ ‫ً‬ ‫املعريف املعقّد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عرصئذ‪ .‬فكام سبق وذكرنا‪ ،‬أ َّن‬ ‫يئ‬
‫يك الفيزيا ِّ‬
‫فلسف َّية بالدرجة األساس‪ ،‬يف سياق البحث امليكاني ِّ‬
‫جا‪ ،‬وعليه سار املشَّ اؤون‪ .‬فأثبتوا‬‫الحركة يف تعريف أرسطو هي فعل ما هو بالق َّوة مبا هو بالق َّوة تدري ً‬

‫[[[ ‪ -‬ألن الزمن ظرف الحركة‪.‬‬


‫[[[ ‪ -‬يقصد بالحركة االعتامدية‪ ،‬القسم الثاين للحركة‪ ،‬بعد حركة النقلة‪ .‬وهو أن الجسم قبل الخلق ً‬
‫مثال‪ ،‬ال يكون يف حالة سكون وإمنا هو‬
‫ذلك امليل الساكن يف الجسم‪ ،‬والذي يدفع به املانع‪ .‬وهو أمر يناقض قانون القصور الذايت‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫وجود الحركة بهذا املعنى‪ ،‬يف األعراض‪ ،‬وقسموها إىل أصناف مختلفة‪ ،‬مثل الحركة املكانيَّة التي‬
‫تجري يف مقولة األين‪ ،‬والحركة الوضعيَّة الواقعة يف مقولة «الوضع»‪ ،‬والحركة الكيفيَّة الواقعة يف‬
‫مقولة «الكيف»‪ ،‬وأخرى تقع يف مقولة «الكم»‪ .‬لك َّنهم رفضوا ثبوت الحركة يف الجوهر‪ ،‬نتيجة‬
‫لتلك العوائق اإلشكال َّية التي فرضتها عليهم عقيدة تَأَ ُّ‬
‫صل املاه َّية‪ ،‬أو نظ ًرا لذلك اللّبس الذي كان‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يحيط بحقيقة املوجود وأسبقيته‪.‬‬


‫ماَّل صدرا معالجته لهذه اإلشكال َّية‪ ،‬انطالقًا من تعريفها‪ .‬فالحركة والسكون الَّلذان ال‬
‫يبدأ َّ‬
‫تقاباًل تناقض ًّيا‪ ،‬هام من قبيل امللكة وعدمها‪ .‬فليس السكون شيئًا آخر يف مقابل الحركة‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫ميثِّالن‬
‫األرسطي ذاته‪ ،‬هام يف مقام‬
‫ِّ‬ ‫إنَّه انعدام هذه الحركة ذاتها‪ .‬فالحركة والسكون‪ ،‬وبنا ًء عىل التعريف‬
‫الق َّوة والفعل‪ ،‬وهام عوارض املوجود‪ .‬وانطالقًا من هذا املنظور الذي يقوم عىل أصالة الوجود‬
‫ماَّل صدرا لحقيقة الحركة‪ .‬فاملوجود إ َّما أن يكون وجو ًدا بالفعل‪ ،‬بصورة‬ ‫واملوجود‪ ،‬يبدأ تحليل َّ‬
‫تا َّمة‪ ،‬فال مجال ههنا للحديث عن الحركة ويستحيل عليه بعد ذلك‪ ،‬الخروج عاَّمَّ هو عليه‪ ،‬وإ َّما أن‬
‫حق املوجودات‪ .‬من هنا‪ ،‬سوف يقول برتكُّب الذات من‬ ‫يكون بالق َّوة بنحو تا ٍّم‪ ،‬وهو أمر ممتنع يف ِّ‬
‫ماَّم هو بالق َّوة إىل‬
‫األمرين م ًعا؛ بالقوة من جهة‪ ،‬وبالفعل من جهة أخرى‪ .‬والحركة تتحقَّق بالخروج َّ‬
‫ماَّل صدرا‬‫الفعل‪ ،‬بنحو متد ِّرج مع التأكيد عىل سبق جهة الفعل عىل جهة الق َّوة‪ ،‬وجوديًّا‪ .‬ويلفت َّ‬
‫األنظار إىل أ َّن املوجود بالفعل عىل وجه التامم‪ ،‬يستحيل خروجه عن حالته تلك‪ ،‬فال ب َّد من أن‬
‫كل األشياء واملوجودات‪ ،‬بنا ًء عىل أ َّن بسيط الحقيقة هو‬ ‫يكون بسيطًا حقيقيًّا‪ .‬وعليه‪ ،‬فسيكون هو َّ‬
‫كل األشياء‪ .‬وهذا خالف ملا هو بالق َّوة من وجه وبالفعل من وجه‪ .‬إذ من حيث هو بالق َّوة‪ ،‬يخرج‬ ‫ُّ‬
‫وإاَّل مل يكن ما بالق َّوة ما بالق َّوة»[[[‪.‬‬
‫إىل الفعل «بغريه من حيث هو هو غريه‪َّ ،‬‬
‫حقيقي بني جميع التعاريف‬‫ٍّ‬ ‫أي خالف‬ ‫ألي من تلك التعاريف‪ ،‬وال يرى َّ‬
‫ماَّل صدرا ٍّ‬ ‫يتعصب َّ‬
‫َّ‬ ‫ال‬
‫التي أطلقت عىل الحركة‪ .‬بل إنَّه يراها جمي ًعا عىل قدر من الصواب‪ .‬ومن هنا قام بتوجيهها ضمن‬
‫خطَّة منهج َّية جديدة‪ .‬فهو يرى أ َّن التدريج والدفعة يف تعريف الحركة ال يؤ ّدي إىل دور‪ ،‬كام ميكن‬
‫أن يتو َّهم بعضهم‪ ،‬حينام يرى أ َّن «الدفعة عبارة عن الحصول يف اآلن‪ ،‬واآلن عبارة عن طرف الزمان‪،‬‬
‫والزمان عبارة عن مقدار الحركة‪ .‬فقد انتهى تحليل تعريف الدفعة وهو جزء هذه التعاريف إىل‬
‫الحركة»[[[‪ .‬من هنا‪ ،‬يؤكِّد أ َّن معرفة الدفعة والتدريج‪ ،‬هو من قبيل األمور البديه َّية التي تدرك بواسطة‬
‫التدريجي أو الحصول‬
‫ّ‬ ‫الحس‪ .‬لذا‪ ،‬ال مشاحة عنده إذا َع َّرف الحركة بأنَّها هي هذا «الحدوث‬ ‫ّ‬
‫ريا‪ ،‬أو بالتدريج أو بالدفعة‪ ،‬وكل هذه العبارات صالحة‬ ‫ريا يس ً‬
‫أو الخروج من الق َّوة إىل الفعل يس ً‬
‫لتحديد الحركة»‪.‬‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.22‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.22‬‬

‫‪191‬‬
‫المحور‬

‫محاواًل إيجاد‬
‫ً‬ ‫ماَّل صدرا النظر يف التعاريف السابقة ‪ -‬أرسطيَّة وفيثاغوريَّة وأفالطونيَّة‪-‬‬
‫وقد أعاد َّ‬
‫أسايس يف تص ُّوره للحركة ‪-‬‬ ‫ٌّ‬ ‫األرسطي ‪ -‬وهو منطلق‬
‫ُّ‬ ‫نقاط االشرتاك‪ ،‬وخلق وفاق‪ ،‬بينها‪ .‬فالتعريف‬
‫كاماًل أول ملا هو‬
‫ً‬ ‫ينطوي عىل جانب من الحقيقة‪ .‬فمن جهة‪ ،‬يكون أرسطو مصي ًبا يف اعتبار الحركة‬
‫بالق َّوة من جهة ما هو بالق َّوة‪ ،‬فالجسم وهو يتح َّرك من مكان إىل آخر‪ ،‬ينطوي عىل إمكانني‪ :‬األول‪،‬‬
‫إمكان الحصول يف املكان اآلخر‪ ،‬الثاين‪ ،‬إمكان التوجيه إليه‪ .‬وما مل يصل الجسم إىل منتهاه‪ ،‬فال‬
‫يحقِّق كامله‪ .‬وإمكان التوجه إىل املكان اآلخر يسبق إمكان حصوله فيه‪ .‬لذا فإ َّن الحركة هي كامل‬
‫أول للجسم من جهة ما بالق َّوة وليس من جهة ما بالفعل‪ .‬أ َّما أفالطون الذي َع َّرف الحركة بالخروج‬
‫عن املساواة‪ ،‬وهو كون اليشء ال يساوي حاله يف آن‪ ،‬حاله يف آن آخر‪ ،‬فال يختلف عن فيثاغورس‬
‫جه ض َّد هذا التعريف من حيث هو‬ ‫ماَّل صدرا باالعرتاض الذي و ِّ‬
‫الذي عرفها بالغرييَّة‪ .‬وهنا ال يقبل َّ‬
‫كل آن يختلف حاله‬ ‫ال يحرز الدقَّة‪ .‬فهو يعتربه وج ًها قريبًا من تعريف أفالطون ذاته‪ .‬فالجسم يف ِّ‬
‫والتغرُّي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫عن أحواله يف اآلنات األخرى‪ ،‬أي يكون مغاي ًرا لحالته السابقة‪ .‬فالخروج عن املساواة‪،‬‬
‫يؤ ّديان إىل املعنى ذاته‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫يل فيه‪ ،‬فإ ّن اليشء‬
‫يدل عىل متام التعريف من أخذ التدريج االتصا ِّ‬‫«وميكن توجيه كالمهام مبا ُّ‬
‫كل حني فرض مخالفًا لحاله يف حني آخر قبله أو بعده كانت تلك األحوال املتتالية‬ ‫إذا كان حاله يف ِّ‬
‫عرَّب عن هذا املعنى بالخروج عن‬ ‫أمو ًرا متغايرة تدريج َّية عىل نعت الوحدة واالتصال‪ .‬فأفالطون َّ‬
‫عرَّب عنه بالغرييَّة واملقصود واحد»[[[‪.‬‬
‫املساواة‪ ،‬وفيثاغورس َّ‬
‫ماَّل صدرا هنا يتعاطى مع هذه اإلشكال َّية خارج تأثري الشورشة التي قام بها‬ ‫طب ًعا‪ ،‬ال ننىس أ َّن َّ‬
‫االنتلييش للحركة‪ -‬عارض‬
‫ِّ‬ ‫أرسطو يف ر ِّد التعريفني السابقني‪ .‬بل إنَّه‪ -‬رغم انطالقه من هذا املفهوم‬
‫كل من األفالطونيني والفيثاغوريني‪ ،‬ملفهو َمي‬ ‫السينوي الذي قال به ٌّ‬‫َّ‬ ‫األرسطي وأيضً ا‬
‫َّ‬ ‫املوقف‬
‫شك يف أ َّن أرسطو كان قد أساء فهم غرضهم من هذا التعريف‪ .‬وهو الخطأ‬ ‫الاَّلمساواة والغرييَّة‪ .‬فال َّ‬
‫َّ‬
‫ماَّل صدرا‬ ‫ذاته الذي وقع فيه ابن سينا‪ ،‬يف مورد الر ِّد عىل القائلني بالغرييَّة َّ‬
‫والاَّلمساواة‪ .‬والواقع أ َّن َّ‬
‫يتجرد من هذا التأثري األرسطي والسينوي‪ ،‬يك يعيد التعريفات الثالثة إىل ما به اشرتاكها‪ ،‬من حيث‬
‫إنَّها تلتقي جمي ًعا يف كون الحركة‪ ،‬هي هذا التغيري والخروج من حال إىل آخر‪ ،‬بصورة تدريج َّية‪.‬‬
‫إاَّل يف حالة بقاء يشء منها بالق َّوة‪.‬‬
‫ماَّل صدرا إىل أ َّن الحركة ال تتحقَّق َّ‬‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يلفتنا َّ‬
‫جه‬
‫فإذا تبنَّيَّ من خالل التعريف السابق أنَّها كامل أول ملا بالق َّوة من جهة ما هو بالق َّوة‪ .‬فإن تو َّ‬
‫جه الذي‬ ‫اليشء إىل منتهاه‪ ،‬إذا تحقَّق حصل الكامل‪ ،‬وحينها تنتهي الحركة‪ .‬فالحركة‪ ،‬هي هذا التو ُّ‬
‫ال يصل إىل نهايته‪ .‬ومعناه‪ ،‬أن يبقى منه يشء بالق َّوة‪« .‬فإ َّن املتح ِّرك إمنا يكون متح ِّركًا بالفعل إذا مل‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ 3‬ص‪.25‬‬

‫‪192‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫ماَّل صدرا يستثني هنا الحاالت‬‫يش بالق َّوة»‪ .‬لكن َّ‬


‫يصل إىل املقصود‪ .‬فام دام كذلك‪ ،‬فقد بقي منه ٌّ‬
‫الثابتة التي توجد بالفعل عىل النحو الكامل‪ ،‬نظري املربَّع الذي عند حصوله ال يبقى منه يشء‬
‫بالق َّوة‪ »،‬فإ َّن اليشء إذا كان مرب ًعا بالقوة صار مرب ًعا بالفعل»[[[‪ .‬فالحركة إذن‪ ،‬تجري يف املوجود مبا‬
‫هو مركَّب من القوة والفعل‪ .‬ويف هذه الحالة‪ ،‬فإ َّن حصول مثل املربع‪ ،‬ال ميكن أن يتم إالّ بالدفع‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫كل زمانها الذي تقع‬ ‫وهي عند مال صدرا يشء آخر عن الحركة‪ ،‬من حيث أن الحركة تتساوى يف ِّ‬
‫الدفعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيه‪ ،‬وليس لها آن واحد تختلف فيه عن باقي اآلنات‪ ،‬كام هو األمر‬

‫احلركة يف مقولة اجلوهر‪:‬‬


‫حقيقي عىل وقوع الحركة يف املقوالت األربع‪ ،‬بل وقوعها يف‬ ‫ٌّ‬ ‫يف تقديري‪ ،‬ليس مث َّة إجام ٌع‬
‫رمّبا ظهر‬
‫ماَّل صدرا‪ .‬بل ّ‬
‫الجوهر‪ .‬أ َّما الفضل يف القول بالحركة الجوهريَّة‪ ،‬فيعود ‪ -‬بال منازع ‪ -‬إىل َّ‬
‫من خالل جوهر فلسفته‪ ،‬أ ّن الحركة هي أمر شامل لجميع املقوالت العرش‪ .‬ويتعذّر استنباط نسق‬
‫ملاَّل صدرا‪ .‬ومل َّا نتح َّدث عن ال ّنسق‪ ،‬نتح َّدث عن‬
‫القول بالحركة الجوهريَّة من املتون السابقة َّ‬
‫تكامل الحركة الجوهريَّة مع سائر مق ِّومات وأركان الحكمة املتعالية‪ ،‬باملستوى نفسه من الوضوح‬
‫والتكامل واإلعالن الواعي بتفاصيل ونكات ال ّنسق‪.‬‬
‫وحتى نتمكَّن من ضبط مفهوم الجوهر واإلشكال املثار بهذا الخصوص‪ ،‬الب َّد من تحديد مفهوم‬
‫املقولة‪ .‬فلقد جرى اتفاق الفالسفة املشائ َّية عىل أ َّن املقوالت عرش‪ ،‬وهي‪ :‬الجوهر والكم والكيف‬
‫ج َّدة‪ ،‬واإلضافة وأن يفعل وأن ينفعل‪ .‬واعتربوها بسائط من حيث هي‬ ‫والوضع واألين واملتى وال ِ‬
‫فضاًل‬
‫ً‬ ‫أجناس ُعليا للامهيَّات‪ ،‬يصعب تعريفها بأجناس وفصول‪ ،‬ما دام ال يعلو عليها جنس‪ .‬وهي‬
‫عن كونها بسائط‪ ،‬مباينة لبعضها البعض‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬ال ميكن أن تتحقَّق املاه َّية يف أكرث‬
‫كل من واجب الوجود‪ ،‬واملمتنع‪ ،‬فيها‪ ،‬لكونهام أمرين ال ماه َّية لهام‪.‬‬
‫من مقولة‪ .‬كام ميتنع وجود ِّ‬
‫والجوهر بخالف هذه املقوالت التسع‪ ،‬إذا وجد‪ ،‬فال يوجد يف موضوع مستغن عنه‪ ،‬إذ هو قائم‬
‫بذاته خالفًا للعرض‪ .‬ومن جهة كونه يوجد ال يف موضوع مستغن عنه‪ ،‬موجود لنفسه ال لغريه‪.‬‬
‫معنَّي للجوهر يف بناء نظريَّته يف الحركة الجوهرية‪ ،‬يختلف عن‬ ‫ماَّل صدرا من تص ُّور َّ‬
‫ينطلق َّ‬
‫الاَّلنهايئ للجسم مثل النظام من املتكلِّمني‪ .‬هذا التص ُّور هو ما أثبتناه‬
‫الذ ّريني والقائلني باالنقسام َّ‬
‫أعاله‪ ،‬بحيث يعرف الجوهر لفظًا بأنه املوجود ال يف موضوع‪ .‬ويجب هنا أن منيِّز معه بني الوجود‬
‫أخص من املحل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف املوضوع‪ ،‬والوجود يف محل‪ .‬إ ْذ املوضوع ‪ -‬حسب ما سرنى من تحليله ‪-‬‬
‫محل‪ ،‬مثل الصورة واملا َّدة‪ ،‬وأخرى ال توجد‬ ‫ٍّ‬ ‫وهو عىل هذا األساس ينقسم إىل جواهر توجد يف‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.23‬‬

‫‪193‬‬
‫المحور‬

‫محاًّل لغريها‪ ،‬وبها تتق َّوم األشياء‪ .‬والجسم‪ ،‬هو حصيلة‬


‫ًّ‬ ‫محل‪ ،‬وهي الهيوىل‪ ،‬التي تكون بدورها‬ ‫يف ٍّ‬
‫تركب الهيوىل والصورة‪ ،‬والنفس‪ ،‬هي ما ال يكون مركبًا منهام‪ ،‬وهي تختلف عن العقل من حيث‬
‫ماَّل صدرا‪ ،‬أن يوجد اليشء يف محل دف ًعا للشبهات –‬ ‫عالقة االنفعال التي تربطها بالجسم‪ .‬ويرى َّ‬
‫املحل أن يكون وجوده يف يشء آخر ال كجزء منه مجام ًعا معه‬ ‫ِّ‬ ‫بقوله‪« :‬واملراد من كون اليشء يف‬
‫ال يجوز مفارقته منه»[[[‪.‬‬
‫ماَّل صدرا يؤكِّد عىل النظريَّة املشَّ ائ َّية يف أن املوضوع‬‫بنا ًء عىل ما سبقت اإلشارة إليه‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫محل‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ماَّم يكون يف‬‫املحل‪ ،‬وعليه‪ ،‬يكون ‪ -‬حسب مفهوم النقيض ‪ -‬الجواهر أع َّم َّ‬ ‫ّ‬ ‫أخص من‬ ‫ُّ‬
‫محل وقد ال يكون‪ ،‬وهذا مخالف‬ ‫ٍّ‬ ‫وماَّم ال يكون فيه‪ .‬عىل هذا املبنى‪ ،‬قد يكون الجوهر يف‬ ‫َّ‬
‫لوجوده يف موضوع‪ .‬وبتعبري أوضح‪ ،‬فإ َّن الوجود‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬منه ما يكون وجوده يف موضوع‬
‫أو ال يكون‪ ،‬وهو الوجود يف نفسه‪ .‬ويف حالة الوجود يف نفسه‪ ،‬يظهر تقسيم آخر‪ ،‬هو الوجود يف‬
‫نفسه لنفسه‪ ،‬والوجود يف نفسه لغريه‪ .‬واألول ينطبق عىل واجب الوجود ‪ -‬فقط ‪ -‬فهو وجود يف‬
‫ماَّل صدرا‪ ،‬أ َّن الجوهر هو «أقدم أقسام هذه‬ ‫نفسه لنفسه بنفسه‪ ،‬بينام الثاين‪ ،‬هو الجوهر‪ .‬وبتعبري َّ‬
‫املوجودات»[[[‪ .‬إذن‪ ،‬التقسيم أعاله‪ ،‬هو بإزاء املوضوع‪ .‬أ َّما الجوهر‪ ،‬ورغم أنَّه مستغن وقائم‬
‫محل‪ .‬من هنا نفهم كيف م ّيز بني الوجود يف املوضوع واملوجود يف املحل‪.‬‬ ‫بذاته‪ ،‬فقد يكون يف ّ‬
‫محل‪ ،‬وهو الصورة املاديَّة‪ ،‬وكائن‬ ‫ّ‬ ‫وعليه‪ ،‬إ ّن الجوهر بحسب هذا املنظور‪ ،‬ينقسم إىل كائن يف‬
‫محاًّل ليشء يتق َّوم به فهو الهيوىل‪ ،‬وإذا مل يكن كذلك‪ ،‬فهو جسم إن تركّب‬ ‫ًّ‬ ‫ال يف محل‪ ،‬إذا كان‬
‫نفسا إذا كان ذا عالقة انفعال َّية بالجسم أو ال يكون كذلك فهو‬ ‫وإاَّل فيكون إ َّما ً‬
‫من الهيوىل والصورة َّ‬
‫ريا آخر‪ ،‬لهذه األقسام‪ ،‬يتوخّى منها نو ًعا جدي ًدا من الوضوح‬ ‫ماَّل صدرا‪ ،‬فهو يق ّدم تفس ً‬ ‫العقل‪ .‬أ َّما َّ‬
‫والدقَّة‪ .‬فيع ِّرف الجسم بالجوهر القابل لألبعاد الثالثة‪ ،‬وما كان غري ذلك وكان جزء منه بالفعل‪ ،‬فهو‬
‫رصفًا يف الجسم باملبارشة فهو النفس‪،‬‬ ‫الصورة‪ ،‬أ َّما ما كان جزء منه بالق َّوة فهو املا َّدة‪ .‬وما كان مت ِّ‬
‫وإاَّل فهو العقل‪ .‬ونتساءل عاَّمَّ هي حقيقة املشكلة التي دارت بخصوص الحركة الجوهريَّة‪ ،‬بعدما‬ ‫َّ‬
‫كل من الحركة واملقولة والجوهر‪.‬‬ ‫تع َّرفنا عىل حقيقة ٍّ‬
‫محل اتفاق‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن حصول الحركة يف املقوالت األربع‪ ،‬السابقة الذكر‪ ،‬مل تكن َّ‬
‫جميع القائلني بالحركة‪ .‬فإذا تفادينا الحديث عن الحركة يف الوضع‪ ،‬التي قال بها ابن سينا مضيفًا‬
‫إيَّاها إىل الثالثة األُخر‪ ،‬فإن نقاشً ا حا ًّدا‪ ،‬كان قد جرى حول حصول الحركة يف مقولتي الكم‬
‫والكيف‪ .‬ويرجع سبب هذا اإلشكال إىل أن الحركة يف مقولتي الكم والكيف‪ ،‬وخالفاً للحركتني‪،‬‬
‫املكانية والوضعية‪ ،‬تفرتض حصول االشتداد والتض ُّعف فيهام‪ ،‬األمر الذي جعل بعضهم‪ ،‬ينكر‬
‫ماَّل صدرا‬
‫حصول مثل هذه الحركة‪ ،‬ألنها تؤ ّدي إىل ذهاب موضع الحركة‪ .‬وهو ما سيتص َّدى له َّ‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.229‬‬


‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.229‬‬

‫‪194‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫ورضوري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف دفاعه عن الحركة يف املقولتني السابقتني‪ ،‬أل َّن حسم النقاش يف ذلك األمر‪ ،‬مؤكّد‬
‫لتثبيت الحركة يف الجوهر‪.‬‬
‫ماَّل صدرا وج ًها مع َّي ًنا من الوجوه املحتملة ملعنى وقوع الحركة يف املقولة‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫يختار َّ‬
‫تدريجي‪ .‬فإذا ما افرتضنا‬
‫ّ‬ ‫تب ُّدل الجوهر من نوع تلك املقولة إىل آخر ومن صنف إىل آخر‪ ،‬عىل نحو‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫آنات ع َّدة للحركة‪ ،‬فإننا نستطيع يف حالة حصول الحركة يف املقولة‪ ،‬انتزاع نوع من أنواع املقولة أو‬
‫صنف من أصنافها من تلك اآلنات‪.‬‬
‫ور ًّدا عىل اإلشكال السابق والذي نسبه إىل الفخر الرازي‪ ،‬حول زوال املوضوع يف الحركة‬
‫يغرّي مناط الحركة الكيف َّية‪ .‬فليس التس ّود يف رأيه اشتداد ذات السواد‪ ،‬بل يف صفاته‪.‬‬
‫الكيف َّية‪ّ ،‬‬
‫وهذا يوافق تصوره السابق ملعنى حصول الحركة يف املقولة‪ .‬ويربهن عليه‪ ،‬بأن ذات السواد إذا‬
‫مل يحصل فيه أي صفة‪ ،‬فال تعترب هنا الش َّدة‪ ،‬أما لو حصلت صفة زائدة‪ ،‬فإ َّما أن تبقى ذاته كام‬
‫هي عليه‪ ،‬فيكون بالتايل السواد متعلِّقًا بالصفة‪ ،‬أ ّما لو مل يبق ذاته عند االشتداد ‪ -‬وهو خلف –‬
‫فمحل السواد‪ ،‬إذن‪ ،‬هو موضوع‬ ‫ُّ‬ ‫«فهو مل يشتد‪ ،‬بل عدم وحدث سواد آخر وهذا ليس بحركة»[[[‪.‬‬
‫دلياًل عىل نفي الحركة يف الكيف والكم‬ ‫ً‬ ‫الحركة وليس السواد نفسه‪ .‬وقد عرض الفخر الرازي‬
‫ماَّل صدرا ور ّد عليه ‪( :-‬واعلم أ َّن اإلمام الرازي ملا نظر يف‬
‫من خالل برهانه التايل‪ -‬كام عرضه َّ‬
‫«قولهم إن التس ُّود يخرج سوا ًدا من نوعه» زعم أ َّن معناه أن يخرجه إىل غري السواد‪ ،‬وألجل ذلك‬
‫كل آن كيف َّية‬
‫قال يف بعض تصانيفه إن اشتداد السواد يخرجه من نوعه ويكون للموضوع يف ِّ‬
‫بسيطة واحدة‪ ،‬لكن الناس يس ّمون جميع الحدود املقاربة من السواد سوا ًدا‪ ،‬وجميع الحدود‬
‫املقاربة من البياض بياضً ا‪ ،‬والسواد املطلق يف الحقيقة واحد وهو طرف خفي‪ ،‬والبياض كذلك‬
‫والحس ال مي ّيز فيظ ّن‬
‫ّ‬ ‫واملتوسط كاملمتزج لكن يعرض ملا يقرب من أحد الطرفني أن ينسب إليه‬‫ّ‬
‫أنها نوع واحد انتهى ما ذكر) ‪.‬‬
‫[[[‬

‫ويعقِّب عليه بقوله‪« :‬أقول‪ :‬فساده مام ال يخفي عىل من له اطّالع عىل هذه املباحث‪ ،‬ولست‬
‫كل واحد من تلك‬
‫أي ح ٍّد من حدود السواد سواد عنده والبواقي كلُّها غري سواد‪ ،‬مع أ َّن َّ‬
‫أدري ّ‬
‫فأي يشء كان»[[[‪.‬‬‫الحدود يوجد بالفعل عند الثبات والسكون‪ .‬وإذا مل يكن سواد ُّ‬
‫ماَّل صدرا من مناقشته للمعارضني للحركة الكيف َّية‪ ،‬هو أ َّن السواد يف اشتداده‬
‫ما كان يرمي إليه َّ‬
‫شك يف أ َّن الحركة هي هذا امليل نحو الكامل فالثابت‬ ‫جا عن نوعه‪ .‬وال َّ‬
‫كاماًل‪ ،‬وليس خرو ً‬
‫ً‬ ‫يحقّق‬
‫يل السابق عىل األنواع أو الوجودات اآلن َّية‬ ‫هو هذا الوجود املطلق السواد‪ ،‬وهو الوجود الفع ّ‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.70‬‬


‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ 70‬ـ ‪.71‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.71‬‬

‫‪195‬‬
‫المحور‬

‫ماَّل صدرا يف نفي الحركة‪ ،‬اعترب‬ ‫يل املطلق‪ .‬وحتى ال يقع َّ‬‫األخرى املنتزعة من ذاك الوجود الفع ِّ‬
‫هذه الوجودات املنتزعة بني الق َّوة والفعل‪ .‬أي أنها ليست قوة محضاً‪ .‬كام مل يعتربها فعالً محضاً‪،‬‬
‫حتى ال يسقط يف مشكلة تعدد هذه األنواع تبعاً لتشافع اآلنات‪ ،‬أو بتعبري أوضح‪ « :‬إن السواد ملا‬
‫ثبت أن له يف حالة اشتداده أو تضعفه هويَّة واحدة شخصيَّة‪ ،‬ظهر أنَّها مع وحدتها وشخصيَّتها‪،‬‬
‫تندرج تحت أنواع كثرية‪ ،‬وتتب َّدل عليه معانٍ ذاتيَّة وفصول منطقية حسب تب ُّدل الوجود يف كامليَّته أو‬
‫الظل‬
‫نقصه‪ .‬وهذا رضب من االنقالب‪ ،‬وهو جائز أل َّن الوجود هو األصل‪ ،‬واملاهيَّة تبع له كاتّباع ِّ‬
‫يخص الحركة يف املقدار فقد شهدت هي األخرى جداًلً بالدرجة نفسها من‬ ‫ُّ‬ ‫للضوء»[[[‪ .‬أ َّما ما‬
‫كل من السهروردي‪ ،‬وابن سينا‪ .‬ومر ُّد هذا اإلنكار كام عرضه‬ ‫األخذ والرد‪ .‬وقد ذهب إىل إنكارها ٌّ‬
‫ماَّل صدرا‪ ،‬هو قولهم‪« :‬إضافة مقدار إىل مقدار آخر يوجب انعدامه وكذا انفصال جزء مقداري عن‬ ‫َّ‬
‫حل هذه‬ ‫املتصل يوجب انعدامه؛ فاملوضوع لهذه الحركة غري باق» ‪ .‬كام نسب الرت ُّدد والعجز يف ِّ‬
‫[[[‬

‫يحل هذه املشكلة يف الحركة الكميَّة‪ ،‬فهو يرجع إىل أصل موضوع‬ ‫املشكلة إىل ابن سينا‪ .‬وحتى َّ‬
‫هذه الحركة‪ ،‬فيقدر أن موضوع هذه الحركة‪ ،‬هو الجسم املتشخّص ال املقدار املتشخّص» ‪ .‬وال‬
‫[[[‬

‫معنَّي‪ .‬وتقع الحركة يف خصوصيَّات املقادير ومراتبها‪ .‬أ َّما‬ ‫شك يف أ َّن تشخيص الجسم يلزمه مقدار َّ‬ ‫َّ‬
‫الفصل والوصل‪« ،‬فال يعدمان إاَّلَّ املقدار املتَصل املأخوذ بال ما َّدة»[[[‪ .‬ويقصد ماَّلَّ صدرا هنا ما‬
‫ساَّمه بالجسميَّة املج َّردة عن الصورة‪ .‬فوجودها عىل هذا النحو من التجريد‪ ،‬هو ما يتطلَّب مقدا ًرا‬ ‫َّ‬
‫لكل واحد‬ ‫معيَّ ًنا‪ .‬هكذا يكون «قولهم انضامم يشء مقداري إىل يشء يوجب إبطاله إمنا يصبح فيام ِّ‬
‫وجود بالفعل فأضيف أحدهام إىل اآلخر‪ ،‬وغري صحيح إذا كانا بالق َّوة إضافة تدريجيَّة»[[[‪.‬‬
‫ومفص ًاًل‪ ،‬ناقش من خالله جميع أسالفه‪ ،‬كابن سينا والرازي‬ ‫ّ‬ ‫ريا جدي ًدا‬
‫ماَّل صدرا تفس ً‬
‫لقد عرض َّ‬
‫أسايس‬
‫ٍّ‬ ‫والسهروردي‪ ،‬ليثبت مبا فيه الكفاية وقوع الحركة يف مقولتي الكيف والكم‪ .‬وكذلك كمدخل‬
‫إلثبات الحركة يف الجوهر‪ .‬لهذا نراه أكرث يف حديثه عن الحركة الكيف َّية والكم َّية‪ ،‬باعتبارهام ‪ -‬خالفًا‬
‫للحركة املكان َّية والوضع َّية الظاهرتني ‪ -‬وقع حولهام النزاع‪ .‬أ َّما مذهبه فهو القول بالحركة يف املقوالت‬
‫الخمس؛ أي األين والكم والكيف والوضع والجوهر‪ .‬ولنئ حدث جدل واسع بني املنكرين والقائلني‬
‫بالحركة يف الك ِّم والكيف وأيضً ا املشكّكني فيها‪ ،‬فإنَّه ال أحد ينكر أ َّن القول بالحركة الجوهريَّة هو‬
‫مختصات صدر املتألّهني‪ ،‬أحد املبدعني لهذه النظريَّة‪ .‬فقد بنى نظريَّته يف الحركة الجوهريَّة‬ ‫َّ‬ ‫من‬
‫عىل أساس نظريَّته السابقة يف الحركتني الكم َّية والكيف َّية‪ .‬كام ظلَّت نظريَّته يف أصالة الوجود‪ ،‬مبثابة‬
‫لكل براهينه‪ .‬نعم‪ ،‬لقد تفتَّق إبداعه بشكل كبري حول هذا املوضوع‪ ،‬فال ننىس‬ ‫املرجعي األعىل ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النظام‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ 3‬ص‪.84‬‬


‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ 89‬ـ ‪.90‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.92‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.93‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.93‬‬

‫‪196‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫خصوصا حينام أعلن عن عجزهم عن فهم حقيقة‬ ‫ً‬ ‫أنَّه وقف من أسالفه موقفًا‪ ،‬يتميّز بنوع من الق َّوة‪،‬‬
‫ينج من اتهامه هذا أحد من السابقني‪ ،‬مبن فيهم ابن‬ ‫النزاع الدائر حول موضوع الحركة الكميَّة‪ .‬ومل ُ‬
‫الفلسفي للمشَّ ائيني القدماء‪ ،‬من أصالة الوجود ‪ -‬حيث‬ ‫َّ‬ ‫سينا نفسه‪ .‬وميكننا القول هنا‪ ،‬أ َّن املوقف‬
‫ماَّل‬
‫فيه نوع من التلبس والرت ُّدد ‪ -‬هو ما جعلهم يرت َّددون يف إثبات الحركة الجوهريَّة‪ .‬لذا‪ ،‬ظلَّت مه َّمة َّ‬
‫صدرا يسرية يف ر ِّد شبهات املنكرين لها‪ ،‬وذلك من خالل إعادة تحديد منطلقات النظر وموضوعات‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫هذا املبحث‪ ،‬مبزيد من الدقة والوضوح‪ .‬فاألمر يف الحركة الكيفيَّة هو ذاته يف الحركة الجوهريَّة‪،‬‬
‫من حيث إنَّهام اشتداديَّتان‪ .‬فإذا عرفنا أن الحركة تتعلَّق يف منظور فيلسوفنا‪ ،‬بالوجود وليس املاهيَّة‪،‬‬
‫فإننا ندرك‪ ،‬أواًلً ‪ ،‬ملاذا؟ فالوجود هو األصل كام أسلفنا‪ ،‬وهو املتحقِّق العيني‪ .‬والحركة تقع فيام هو‬
‫عيني‪ ،‬وليس يف املاهيَّة مبا هي حقيقة ذهنيَّة انتزاعيَّة (تجريديَّة)‪ .‬والحركة أو االشتداد يحصل يف‬ ‫ّ‬
‫الوجود وليس يف املاهيَّة‪ .‬ومعنى تعلُّقها بالوجود‪ ،‬أي أن االشتداد فيه يفيد قابليَّته للمراتبيَّة‪ .‬فالوجود‬
‫كل آن من تفاوته ومراتبه‪ ،‬هناك صورة ما تنتزع‬ ‫يحصل بصورة متفاوتة‪ ،‬وإن كان يف جوهره واح ًدا‪ .‬ويف ِّ‬
‫منه‪ .‬إنها عبارة عن ماهيات مختلفة تنتزع بحسب مراتب الوجود‪ .‬هكذا وما دام أن الوجود متطور‪،‬‬
‫فإن املاهيَّات تتط َّور هي األخرى‪ ،‬بحسب الحركة الواقعة يف الوجود‪ .‬فالحركة ليست يف املاهيَّات‬
‫العقليَّة حتى يتو َّهم أ َّن الحركة فيها تؤ ّدي إىل تع ُّدد األنواع يف الحركة الواحدة‪ ،‬بل هي تابعة للوجود‬
‫املتط ِّور باتجاه كامله واشتداده‪.‬‬
‫يئ ـ ذاته ـ منذ‬ ‫ماَّل صدرا‪ ،‬هي تلك التي ميثِّلها الت َّيار املشَّ ا ُّ‬
‫إ َّن أه َّم االعرتاضات التي سوف تواجه َّ‬
‫أرسطو‪ ،‬وهو من أكرب املنكرين للحركة الجوهريَّة‪ .‬وهذا ألنَّه سوف يبني نظريَته هذه عىل املعطيات‬
‫الفلسف َّية املشَّ ائ َّية ذاتها‪ ،‬تقري ًبا؛ ال أقل فيام يتعلَّق باملفهوم االنتلييش (‪)ENTELECHIQUE‬‬
‫للحركة‪ ،‬وأيضً ا فكرة عدم وجود ض ّد للجوهر‪ .‬إن الحركة كام تص َّورها أرسطو‪ ،‬وسار عليها‬
‫املشَّ ائيون‪ ،‬هي انتقال من مبدأ معنَّيَّ إىل منتهى‪ ،‬ميثّل ض ًّدا له‪ .‬فالحركة الكيف َّية‪ ،‬وعىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬تنطلق من األبيض إىل األسود‪ .‬فاسوداد اليشء‪ ،‬معناه‪ ،‬أن أصله كان أبيض‪ ،‬كام أن يف‬
‫مثاًل‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫الحركة الكم َّية ننطلق من الصغري إىل الكبري‪ ،‬والحركة املكان َّية من األعىل إىل األسفل ً‬
‫فنحن أمام انتقال من موقع إىل ض ّده‪ .‬وكون األوضاع التي متثل منطلقًا وغاية للحركة من األضداد‬
‫ومعناه كونها من جنس واحد‪ .‬فأرسطو يقر منطلقًا وغاية بالحركة يف هذه املقوالت الثالث‪ .‬ويظهر‬
‫أنَّه ال يرى وقوع الحركة يف مقولة الوضع‪ .‬يف حني ينكر بصورة قطع َّية الحركة يف الجوهر‪ ،‬انطالقًا‬
‫الاَّلوجود إىل‬ ‫من التحليل أعاله‪ ،‬أي أ َّن وقوع مثل هذه الحركة‪ ،‬معناه‪ ،‬أ َّن الجوهر يف انتقال من َّ‬
‫انتقااًل من وضع إىل ض ِّده والحال أن ال ض َّد للجوهر‪ .‬لكن‬ ‫ً‬ ‫الوجود‪ ،‬أو العكس‪ ،‬يكون قد حقق‬
‫ماَّل صدرا ـ ورغم إقراره بعدم وجود ضد الجوهر ـ مل يستسلم لنتيجة هذا القول‪ ،‬يف نفي الحركة‬ ‫َّ‬
‫الجوهريَّة‪ .‬فال وجود للض َّدين إذا اجتمع عليه وبينهام غاية الخالف‪ .‬أ َّما ذات الجوهر‪ ،‬فهي خارجة‬
‫عن هذا القانون‪ ،‬نظ ًرا ملا سبق أن أكَّده‪ ،‬وهو أ َّن ذات الجوهر قابلة للتجديد والتفاوت‪ .‬أ َّما األدلَّة‬

‫‪197‬‬
‫المحور‬

‫ماَّل صدرا عىل إثبات الحركة الجوهريَّة‪ ،‬فإ َّن أه َّمها يتخلَّص يف ما ييل‪:‬‬
‫والرباهني التي ساقها َّ‬
‫بنا ًء عىل فرض َّية وقوع الحركة يف املقوالت األربع العرض َّية‪ ،‬التي أق َّر بعضها الفالسفة السابقون‪،‬‬
‫شك يف أ َّن‬‫ماَّل صدرا‪ ،‬يقرر أن وقوع الحركة هناك يؤكّد وقوعها هنا ‪ -‬أي يف الجوهر ‪ -‬فال َّ‬ ‫فإ ّن َّ‬
‫األعراض هي وجودات بغريها‪ .‬وهي بالتايل تابعة ملا تعرض عليه‪ ،‬أال وهو الجوهر‪ .‬فإذا افرتضنا‬
‫الثبات يف الجوهر‪ ،‬فكيف تحصل الحركة يف العرض‪ .‬وهذا أل َّن الحركة هنا معلولة لحركة الجوهر‪.‬‬
‫إ ْذ ال مناص من أن العرض تابع للجوهر يف الوجود والحركة م ًعا‪ .‬وهذا الدليل‪ ،‬بقدر ما هو مه ّم‪،‬‬
‫ينطوي عىل إشكاالت‪ ،‬اقتضت من فيلسوفنا‪ ،‬شيئًا من التفصيل والجهد يف دفع الشبهات املحيطة‬
‫به‪ .‬إ َّن ترتيب الحركة الجوهريَّة عىل أساس إثبات الحركة العرض َّية‪ ،‬بنا ًء عىل عالقة العلَّة باملعلول‪،‬‬
‫يدل هذا عىل ثبوت‬ ‫إشكااًل آخر يتعلَّق بسكون األعراض‪ .‬إ ْذ يف هذه الحالة‪ ،‬هل ُّ‬ ‫ً‬ ‫ميكنه أن يثري‬
‫شك‪ ،‬إ َّن اعرتاضً ا مثل هذا جدير بأن يشكِّل تح ّديًا ملن ال يرى الحركة أم ًرا دامئًا‬ ‫الجوهر؟! بال ّ‬
‫ماّل صدرا وهو يثبت هذا األمر‪ ،‬فإنَّه يستطيع الر ّد عىل مثل هذا االعرتاض‪،‬‬ ‫ومستم ًّرا يف األشياء‪ .‬أ َّما ّ‬
‫بغض النظر عن هذا التحليل‬ ‫ِّ‬ ‫بحيث إ َّن دوام الحركة يف العرض دليل دوامها يف الجوهر‪ .‬لكن‪،‬‬
‫املختزل‪ ،‬واملنسجم مع جوهر فلسفته‪ ،‬فإ َّن هناك ردو ًدا أخرى ضمن َّية أدرجت يف هذا املقام‪،‬‬
‫إاَّل أنَّها ليست علَّة تا َّمة للحركة‪ ،‬مبعنى أ َّن وجودها ال‬
‫وهي أ َّن الطبيعة الجوهريَّة‪ ،‬وإن ظلَّت فاعلة‪َّ ،‬‬
‫يحتّم وجود الحركة‪ .‬بل إ َّن تأثريها‪ ،‬رهني بانضامم رشوط من الخارج‪ .‬فإذا ما توفَّرت هذه الرشوط‬
‫تحقَّقت الحركة يف األعراض‪ .‬ث ّم إ ّن الحركة عكس السكون تحتاج يف تحقُّقها إىل علّة فاعلة‪ ،‬بينام‬
‫عدمي‪ ،‬فال حاجة له لفاعل‪ .‬وال ب َّد هنا من اإلشارة إىل أ َّن الحركة الجوهريَّة تختلف‬ ‫ٌّ‬ ‫السكون هو أمر‬
‫طبيعي عكس الثانية‪ ،‬وذلك أل َّن وجود‬‫ٍّ‬ ‫عن الحركة العرض َّية من حيث إ َّن األوىل ال تحتاج إىل فاعل‬
‫الحركة الجوهريَّة هو وجود الجوهر ذاته‪ ،‬فال يحتاج هذا األخري إاَّلَّ إىل جاعل للوجود‪ .‬هكذا ندفع‬
‫وماَّل صدرا كان دقيقًا ج َّدا وهو يعرض أكرث من برهان عىل نظريَّته‪،‬‬ ‫كل إشكال قد يرد بهذا الصدد‪َّ .‬‬ ‫َّ‬
‫كام يدفع جميع اإلشكاالت املمكن إثارتها بهذا الخصوص‪.‬‬
‫مبؤرّشة‬
‫ّ‬ ‫دليل آخر أورده فيلسوفنا عىل حصول الحركة يف الجوهر‪ ،‬وهذا ما ميكن أن نس ّميه‬ ‫مث َّة ٌ‬
‫الحركة الجوهريَّة‪ .‬وهو قريب ج ًّدا من الدليل السابق‪ ،‬من حيث إ َّن حصول الحركة يف األعراض‪،‬‬
‫تنفك عنه‪ ،‬وهي‬‫كل جوهر يستلزم وجود عوارض ال ُّ‬ ‫عالمة عىل وقوعها يف الجوهر؛ انطالقًا من أ َّن َّ‬
‫يف نسبتها إليه‪ ،‬كنسبة الفصول االشتقاق َّية إىل األنواع‪ .‬هذه األخرية التي تعترب مشخَّصات؛ وهي من‬
‫ماَّل صدرا عالمات للتشخُّص‪ .‬فالحركة الجارية يف هذه العوارض‪،‬‬ ‫شؤون وجود الجوهر‪ ،‬ويعتربها َّ‬
‫النص التايل‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫إمَّنَّ ا هي عالمة عىل التح ُّوالت التي تجري يف الجوهر‪ .‬ويخلص دليله يف‬
‫ين له نحو وجود مستلزم لعوارض ممتنعة االنفكاك عنه‪ ،‬نسبتها إىل الشخص نسبة‬ ‫«كلجوهرجسام ٍّ‬ ‫ُّ‬
‫املساَّمة باملشخَّصات عند الجمهور‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الاَّلزمة‪ ،‬هي‬
‫لوازم الفصول االشتقاقيَّة إىل األنواع‪ ،‬وتلك العوارض َّ‬
‫املعرَّب مبفهومه عن ذلك‪ ،‬كام‬
‫َّ‬ ‫والحق أنَّها عالمات للتشخُّص‪ ،‬ومعنى العالمة هاهنا‪ ،‬العنوان لليشء‬
‫َّ‬

‫‪198‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫وكالحساس للحيوان‪ ،‬والناطق‬ ‫َّ‬ ‫املنطقي كالنامي للنبات‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫االشتقاقي بالفصل‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقي‬
‫ِّ‬ ‫يعرَّب عن الفصل‬
‫َّ‬
‫لإلنسان‪ ،‬فإ َّن األول عنوان للنفس النباتيَّة‪ ،‬والثاين للنفس الحيوانيَّة‪ ،‬والثالث للنفس الناطقة‪ ،‬وتلك‬
‫كاًّل منها جوهر بسيط‬ ‫النفوس فصول اشتقاقيَّة‪ ،‬وكذا حكم سائر الفصول يف املركَّبات الجوهريَّة‪ ،‬فإن ًّ‬
‫خاصة‬ ‫َّ‬ ‫كيّل من باب تسمية اليشء باسم الزمة الذايتِّ‪ ،‬وهي بالحقيقة وجودات‬ ‫منطقي ّ ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫يعرَّب عنه بفصل‬ ‫َّ‬
‫بسيطة ال ماهيَّة لها‪ .‬وعىل هذا السؤال لوازم األشخاص يف تسميتها باملشخّص فإ َّن التشخُّص بنحو من‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الوجود إ ْذ هو املتشخِّص بذاته‪ ،‬وتلك الَّلوازم منبعثة من انبعاث الضوء من امليضء والحرارة من الحا ِّر‬
‫كاًّل أو بعضً ا كالزمان‬
‫ين يتب َّدل عليه هذه املشخَّصات ًّ‬ ‫كل شخص جسام ٍّ‬ ‫والنار‪ .‬فإذا تق َّرر هذا فنقول‪ُّ :‬‬
‫كل‬ ‫والك ِّم والوضع واألين وغريها فتب ُّدلها تابع لتب ُّدل الوجود املستلزم إيّاها بل عينه بوجه‪ ،‬فإ َّن وجود ِّ‬
‫ين لذاته‪ ،‬فتب ُّدل‬
‫الوضعي املتحيّز الزما ُّ‬
‫ُّ‬ ‫طبيعةجسامنيَّة يحمل عليه بالذات‪ ،‬إنَّه الجوهر املتَّصل املتك ِّمم‬
‫ين‪ ،‬وهذا هو الحركة يف‬ ‫الجوهري الجسام ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الشخيص‬
‫ِّ‬ ‫املقادير واأللوان واألوضاع يوجب تب ُّدل الوجود‬
‫الجوهر‪ ،‬إ ْذ وجود الجوهر جوهر‪ ،‬كام أ َّن وجود العرض عرض» ‪.‬‬
‫[[[‬

‫ماَّل صدرا بهذه األدلَّة والرباهني يف إثبات نظريَّته يف الحركة الجوهريَّة‪ .‬بل‬ ‫ِ‬
‫يكتف َّ‬ ‫مل‬
‫رسعان ما أردفها بدليل يكاد يغطي بأهم َّيته القصوى عىل جميع األدلَّة السابقة؛ وذلك من حيث‬
‫كونه برهانًا ينبني عىل مق ِّدمات أساس َّية‪ ،‬تتعلَّق بنظريَّته يف الزمان‪ .‬حيث تتكامل نظريَّته يف طبيعة‬
‫الزمن وصلته باألجسام‪ ،‬وأيضً ا نظريَّته يف أصالة الوجود؛ لتنتهي إىل إثبات الحركة الجوهريَّة عىل‬
‫نحو من الدقَّة واملثانة‪ .‬وحتى يتس َّنى لفيلسوفنا إثبات نظريَّته هذه‪ ،‬يق ِّدم معالجة جديدة‪ ،‬أيضً ا‪،‬‬
‫ملفهوم الزمان‪ ،‬تجعله بُع ًدا ك ّم ًّيا لألجسام‪ ،‬عىل شاكلة األبعاد املكان َّية األخرى للجسم‪ .‬فالزمان‪،‬‬
‫حسب رأيه‪ ،‬مقدار الطبيعة املتج ِّددة بذاتها من جهة تق ُّدمها وتأخُّرها الذات َّيني «كام أ َّن الجسم‬
‫وكمي؛ قابل للقسمة إىل ما ال‬‫ٌّ‬ ‫التعليمي مقدارها من جهة قبولها لألبعاد الثالثة»[[[‪ .‬فهو أمر ممت ٌّد‪،‬‬
‫َّ‬
‫نهاية‪ .‬وهو البعد الرابع لألجسام‪ ،‬إ ْذ «جميع املوجودات التي يف هذا العامل واقعة لذاتها يف الزمان‬
‫والتغرُّيُّ ‪ ،‬مندرجة تحت مقولة‪« ،‬متى»‪ .‬كام أنَّها واقعة يف املكان مندرجة تحت مقولة «أين»‪.[[[»..‬‬
‫ماَّل صدرا‪ ،‬عالقة وثيقة ج ًّدا‪ ،‬بحيث ال ميكن أن تحصل‬ ‫أ َّما عالقة الزمان بالحركة فهي‪ ،‬يف نظر َّ‬
‫رصمه‬ ‫حركة من دون زمان‪ ،‬أو أن يكون زمان من دون حصول الحركة‪ .‬والزمان الس َّيال هذا يف ت ُّ‬
‫ماَّل صدرا أسالفه‬ ‫ين‪ .‬ومل يق ّر َّ‬ ‫ٍ‬
‫حاك عن التغرُّيُّ الحاصل يف اليشء الزما ّ‬ ‫التدريجي‪ ،‬هو مج َّرد‬
‫ِّ‬
‫السابقني عىل اعتبار الحركة علَّة وجود الزمان أو العكس‪ ،‬أو أ َّن الحركة هي وساطة يف الثبوت‬
‫أو العروض بني األجسام والزمان‪ ،‬بل اعترب اتِّصاف األجسام بالحركة والزمان م ًعا‪ ،‬ات ِّصافًا حقيق ًّيا‪،‬‬
‫ورفض القول بالوساطة‪ .‬فالزمان هو بُعد أصيل يف األجسام كام هي األبعاد املكان َّية األخرى‪،‬‬

‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.104‬‬


‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪. 140‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪. 293‬‬

‫‪199‬‬
‫المحور‬

‫الحاكية عن وجوده‪ .‬ولهذه النسبة املبارشة للزمان عىل صعيد األجسام‪ ،‬أهميَّة كربى تنسجم مع‬
‫نسبتها إىل الجواهر‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬ميكننا القول أ ّن الزمان مثل األبعاد املكانيَّة هو من شؤون‬
‫ين‪ ،‬فال يعقل وجود جوهر من دونها‪ ،‬فإذا ما كان الزمان مق ّو ًما لوجود هذه األجسام‬
‫الجوهر الجسام ِّ‬
‫ماَّل‬
‫فمعنى ذلك أ َّن لهذه األخرية حصواًلً تدريجيًّا‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬ميكننا القول أ َّن َّ‬
‫صدرا ـ رمبا من دون وعي منه ـ أثبت الحركة يف جميع األجسام بال استثناء‪ ،‬وإن كان قد حرصها‬
‫يف املقوالت الخمس‪.‬‬
‫كل براهينه (عىل الحركة الجوهريَّة) عىل‬ ‫ماَّل صدرا يستند يف ِّ‬‫ال تفوتنا اإلشارة هنا إىل أ َّن َّ‬
‫مجموعة من النصوص الرشع َّية‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬تأكي ًدا عىل منهجه يف التوفيق بني الحكمة والرشيعة‪،‬‬
‫اإلرشاقي املتاخم لطريقته البحث َّية‪ .‬وهو يرى أنَّه ليس أول حكيم قال بذلك‪ ،‬بل‬ ‫ِّ‬ ‫وتعزي ًزا للمنظور‬
‫استلهمها من القرآن الكريم‪ ،‬الذي دلَّت آياته عىل هذه الحقيقة الباطن َّية لألشياء‪« .‬وأ َّما راب ًعا فقولك‬
‫هذا مذهب مل يقل به حكيم‪ ،‬كذب وظلم؛ فأول حكيم قال به يف كتابه العزيز هو الله سبحانه وهو‬
‫أصدق الحكامء»[[[‪.‬‬
‫وقد أورد جملة من اآليات القرآن َّية التي ُّ‬
‫تدل من بعيد أو قريب عىل حقيقة التغرُّيُّ واالستحالة‬
‫والتب ُّدل‪ .‬وهي كالتايل[[[‪:‬‬
‫(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي مت ُّر م ّر السحاب)‪.‬‬
‫(بل هم يف لبس من خلق جديد)‪.‬‬
‫(يوم تبدّ ل األرض غري األرض)‪.‬‬
‫(فقال لها ولألرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعني)‪.‬‬
‫(كل أتوه داخرين)‪.‬‬
‫(عىل أن نبدّ ل أمثالكم وننشئكم فيام ال تعلمون)‪.‬‬
‫(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)‪.‬‬
‫(وكل إلينا راجعون)‪.‬‬
‫(وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم ح َفظَ ًة حتى إذا جاء أحدكم املوت توفته رسلنا وهم ال‬
‫يفرطون)‪.‬‬
‫كل هذه اآليات ُّ‬
‫تدل بشكل أو بآخر‪ ،‬عىل أحد رضوب الحركة‪ .‬ورغم أ َّن جمهور أهل التفسري‬ ‫ُّ‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪. 110‬‬
‫[[[‪ -‬الحكمة املتعالية يف األسفار األربعة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ 110‬ـ ‪. 111‬‬

‫‪200‬‬
‫المعنى المتعالي للحركة الجوهرية‬

‫ماَّل صدرا هنا يف‬ ‫أرجعوا ظاهرة مرور الجبال يف اآلية األوىل‪ ،‬إىل أحداث يوم القيامة‪ ،‬فقد أوردها َّ‬
‫عامل الدنيا ـ وقد وفِّق لذلك ‪ -‬أل َّن حركة الجبال كام تحيك عنها اآلية األوىل‪ ،‬تتعلَّق بحركة غري‬
‫كل ما يتعلَّق بعامل القيامة ‪ -‬حسب املنصوص عليه يف أهوال يوم القيامة‪ -‬هو‬ ‫مشهودة‪ .‬والحقيقة‪ ،‬أ َّن َّ‬
‫قياسا تجريه اآلية بني حركة الجبال وحركة السحاب‪ ،‬أي أ َّن‬ ‫يئ‪ .‬ث َّم إ َّن مث َّة ً‬
‫مشهود ومحسوس ومر ّ‬
‫الحركتني لهام قاسم مشرتك من حيث هام م ًعا ليستا ذاتيَّتني‪ .‬فحركة السحاب ‪ -‬رغم حركتها الكميَّة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يل الجاري فيها‪ ،‬تبقى لها حركة أخرى‬ ‫ذاتها ‪ -‬معلولة لحركة الريح‪ .‬أيضً ا‪ ،‬الجبال‪ ،‬ورغم التغرُّيُّ الداخ ِّ‬
‫معلولة لألرض التي تع ُّد «أوتا ًدا» لها‪ .‬فمع ثباتها الظاهر هي متح ِّركة‪ .‬غري أنَّه يالحظ نو ًعا من الغموض‬
‫ماَّل صدرا ال يفوته‬ ‫يف مغزى اآلية األخرية‪ ،‬فيظهر أنَّها ال تؤ ّدي الغرض يف إثبات الحركة؛ لوال أ َّن َّ‬
‫إخضاعها إىل تأويل ممتاز‪ ،‬حيث يقول‪« :‬وجه اإلشارة إىل أ َّن ما وجوده مشابك لعدمه‪ ،‬وبقاؤه متض ِّمن‬
‫لدثوره‪ ،‬يجب أن يكون أسباب حفظه وبقائه بعينها أسباب هالكه وفنائه‪ .‬ولهذا كام أسند الحفظ إىل‬
‫التويّف إليهم بال تفريط يف أحدهام وإفراط يف األخرى»‪ .‬فهو هنا يشري إىل أ َّن الحركة مبا‬ ‫ّ‬ ‫ال ُّرسل أسند‬
‫متساهاًل يف أمثلته هذه‪ ،‬كام‬
‫ً‬ ‫هي سبب بقاء األجسام‪ ،‬هي أيضً ا سبب يف دثورها‪ .‬وال نعتقد أنَّه كان‬
‫يل يخرجها عن ظاهرها‪ .‬مع أ َّن هناك‬ ‫رأى بعضهم‪ ،‬بل هي أدلَّة موحية إذا ما أخضعناها إىل منظور تأوي ٍّ‬
‫ماَّل‬
‫دل مبا فيه الكفاية من الوضوح‪ ،‬عىل حصول الحركة والتب ُّدل يف األجسام‪ .‬وبهذا يكون َّ‬ ‫قساًم منها َّ‬
‫ً‬
‫شك يف‬ ‫ظل منقلبًا عىل رأسه‪ .‬كام ال َّ‬ ‫يئ ‪ -‬عىل رجليه‪ ،‬بعدما َّ‬ ‫الفلسفي ‪ -‬املشَّ ا َّ‬
‫َّ‬ ‫صدرا قد أوقف التفكري‬
‫أ َّن انقالبًا كهذا‪ ،‬ذو أهميَّة كربى عىل الفلسفة والعلوم م ًعا‪.‬‬
‫أساسا ملا ستشهده الثورة‬‫ً‬ ‫ماَّل صدرا مفعمة مبضامني علم َّية غزيرة‪ ،‬متثِّل‬ ‫لقد جاءت فلسفة َّ‬
‫كل من هايدغر وسارتر‪،‬‬ ‫أصل مفهوم الوجود قبل ٍّ‬ ‫الثقاف َّية واملعرف َّية يف تاريخنا املعارص‪ .‬فكان أن ّ‬
‫جر مفهوم الحركة الشاملة قبل الديالكتيك‬ ‫حينام قال بحقيقة املوجود وظهوره وزمان َّيته‪ .‬كام ف َّ‬
‫واملاركيس بقرون عديدة‪ .‬باإلضافة إىل ابتكارات أخرى كنظريَّته يف النشوء والتط ُّور‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يل‬
‫الهيغ ِّ‬
‫بحق ‪ -‬أحد أكرب املم ِّهدين املجهولني للثورة العلم َّية‬ ‫كل هذا يجعل من فيلسوفنا ‪ٍّ -‬‬ ‫وامليكانيكا‪ُّ .‬‬
‫املعارصة‪ ،‬حني جعلها يف مسار الحكمة املتعالية‪.‬‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫ـ أميل برهييه‪ ،‬تاريخ الفلسفة؛ الفلسفة اليونان َّية‪ -‬مكتبة نور‪ -‬الجزء ‪.2007 ،7-1‬‬
‫‪ 2-‬صدر الدين الشريازي‪ -‬األسفار األربعة‪ -‬دار إحياء الرتاث العريب‪ -‬الجزئني (‪.)4-3‬‬

‫‪201‬‬
‫المحور‬

‫ما وراء المعنى‬


‫َّ‬
‫وجودية‬ ‫ُّاللغة بما هي خبرة‬

‫يز‬
‫ل�ا سعيد أبو زيد‬
‫ف‬
‫باحثة ي� الفلسفة الحديثة ـ جامعة القاهرة ـ مرص‬

‫إجمايل‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫الُّلغة السليمة هي التي تتَّبع منطق الكلامت‪ ،‬بإتقانها نتَّجه صوب متانة الجملة‪،‬‬
‫وسالمة العبارة‪ ،‬وحسن البالغة والبيان‪ .‬وهنا يُنظر إليها ككلامت‪ ،‬سواء أكانت‬
‫منطوقة أم مكتوبة‪ ،‬وبذلك تتح َّدد ماه َّية اإلنسان فيها بأنَّه هو من ميلك القدرة عىل‬
‫التكلُّم والتكليم‪.‬‬
‫ولكن ماذا عن ماه َّية الُّلغة نفسها؟ بالطبع ليست هي الكلامت كام نظ ُّن أحيانًا‬
‫بحيث يت ُّم تجاهلها كخربة ومعايشة‪ ...‬واعتبارها موضو ًعا خارج ًّيا‪ ،‬يف حني أنَّها‬
‫الخاصة؛ وبيت الوجود كام قال هايدغر‪ .‬كذلك يت ُّم إغفال الجانب اآلخر‬ ‫َّ‬ ‫خربتنا‬
‫حرص االهتامم فيها صارت سج ًنا للُّغة‬ ‫منها‪ ،‬والذي ال يظهر يف الكلامت التي‪ ،‬إذا ُ‬
‫وسج ًنا لنا نحن أيضً ا؛ ما دامت هي مسكننا‪ :‬إننا بذلك نؤطِّرها مبا نريد لها ونرغب‬
‫جن يف سجنها وتكون هي الزنزانة الكربى‪ .‬وعليه‪ ،‬نسأل‪ :‬ما هي الُّلغة‬ ‫منها؛ ف ُنس َ‬
‫التي تكون بداخلنا يف فرتة الصمت التي تسبق الكالم‪ ،‬أي حينام نفكِّر ويختمر‬
‫ونظل لبعض الوقت نحاول التعبري يف كلامت؟ إنَّها خربتنا الحقيقيَّة بها؛‬ ‫ُّ‬ ‫املعنى‪،‬‬
‫فهي التي تتح َّدث‪ ،‬ونحن ننصت لنرتجم ما قالته لنا يف كلامت‪ ...‬وهنا يضطرب‬
‫وحي‬
‫ٌ‬ ‫نقي؛ ال وسيط له؛ حيث الُّلغة‬
‫املعنى ويختلف‪ .‬أ َّما املعنى الخالص فهو بك ٌر ٌّ‬
‫ال كلامت وال عبارات‪ ،‬وهو الذي يدور بنا من أفق معنى إىل أفق معنى آخر‪ .‬وليك‬
‫النقي‪ ،‬علينا اإلميان بأ َّن الُّلغة هي التي تستخدمنا ولسنا نحن من‬ ‫ِّ‬ ‫نصل إىل املعنى‬
‫نستخدمها؛ فنحن ننصت إليها‪ ،‬لكنها ال تنصت إلينا‪ .‬ولسرب أغوارها‪ ،‬كان علينا أن‬
‫ندرك أننا وسطاء‪ ،‬وأنَّها كينونة تا َّمة‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪( :‬املعنى – املعنى الخالص – ما وراء املعنى – الُّلغة – الخربة‬
‫الوجوديَّة)‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫تقديم‪:‬‬
‫ُتحصل‬
‫من أين يأيت املعنى؟ يأيت من الفهم‪ ،‬ومن أين يأيت الفهم؟ يأيت من املعرفة‪ .‬وأما كيف ت َّ‬
‫املعرفة‪ ،‬فهذا ما تصعب اإلجابة عنه اآلن‪ .‬ولكن بوج ٍه عا ّم‪ :‬ليك أف َهمك‪ ،‬عليك أن تتكلَّم وتوضح‬
‫لدي من وعي‪ ،‬مستوى من الفهم ملا ِ‬
‫أخرِبتُ عنه‪ .‬لذلك‪ ،‬فإفصاح أو‬ ‫صل مبا ّ‬ ‫ح ِّ‬‫يل ما تريده‪ ،‬ثم أُ َ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫حديث ال ُملْقي من خالل الكلامت (املنطوقة أو املكتوبة)‪ ،‬بالتضافر مع مستوى وعي وخربة‬
‫والرضوري فهم وسائل املعنى‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ومعرفة املتلقّي‪ ،‬إمَّنَّ ا املنوط بهام تحديد املعنى؛ فمن امله ِّم‬
‫قبل محاولتنا فهم املعنى نفسه‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فليك نُفهِم اآلخرين ونَفهم عنهم‪ ،‬سنكون بحاجة‬
‫للدخول يف مجال الُّلغة الذي تتشكَّل فيه أفكارنا؛ ما دامت اللغة هي أساس الفهم وأساس املعنى‪.‬‬
‫ونسأل‪ :‬هل ينتهي أمر املعنى عند فهم الُّلغة؟ إ َّن طبيعة الُّلغة بالغة التعقيد؛ فليست هي مج َّرد‬
‫كلامت ننظ ُمها وننطقها أو نكتبها‪ ،‬وإمَّنَّ ا هي تعبري عن ثقافة املجتمع وهويَّته‪ ،‬وهي تتفاعل عىل م ِّر‬
‫كل جوانب املجتمع‪ ،‬وبنا ًء عليها‪ ،‬تنمو وتتط َّور عىل نحو يختلف عن غريها من الُّلغات‬ ‫التاريخ مع ِّ‬
‫املعرِّبة عن مجتمعات أخرى‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يعرِّب عن نفسه ويتفاعل مع اآلخرين‪،‬‬ ‫تشكِّل الُّلغة هويَّة اإلنسان وحضوره يف العامل‪ ،‬وبها ِّ‬
‫وباضطرابها يحدث إرباك شديد يف التواصل‪ ،‬وحالة من التيه والتخبُّط‪ ،‬هذا لو اختزلناها ملج َّرد‬
‫قول وكلامت‪ .‬ولك ًّنها ال تتوقَّف عىل املَقُول فقط‪ ،‬وإمنا ‪ -‬أيضً ا ‪ -‬الذي مل يُقل‪ ...‬ذلك الذي ما‬
‫زال يقبع بداخلنا وما زلنا نفكِّر فيه‪ ،‬فنحن نعقد حوا ًرا داخل ًّيا معها أ َّواًلً لنفكِّر‪ ،‬ث َّم نصوغ الكلامت‪.‬‬
‫ويف هذا الفكر تتدخَّل عوامل الثقافة التي ننشأ فيها‪ ،‬فتختلف تعبرياتنا الختالف ثقافاتنا‪ .‬وليس‬
‫هذا فحسب‪ ،‬بل إنَّنا نجد أيضً ا إمياءات الجسد‪ ،‬والتي من املمكن أن تعطي معنى مغاي ًرا للمعنى‬
‫رصح به مريلوبونتي عنها باعتبارها إمياءة‪ .‬كام أنَّنا نجد الصمت‪،‬‬ ‫الذي تعطيه الكلامت‪ ...‬وهذا ما َّ‬
‫نعرِّب فيه بكلامت‪ ،‬يخربنا أيضً ا بالكثري‪ ،‬كام أوضح جادامر من خالل مقاله عن «الصورة‬ ‫الذي ال ِّ‬
‫الصامتة»‪ .‬زد عىل ذلك أنَّنا نجد األشخاص ذوي االنتامءات الُّلغويَّة املختلفة‪ ،‬يفهمون املعاين‬
‫عىل نحو مختلف؛ فالُّلغات املختلفة لها قواعد ومفردات وأساليب تعبري مختلفة؛ ومن ث َّم ميكن‬
‫لكل لغة أسلوبها املختلف لوصف اليشء نفسه‪.‬‬
‫أن يكون ِّ‬
‫هنا تظهر مشكلة «عامليَّة املعنى»‪ ،‬هل من أمل بتحقيقها؟ وهل بوسعنا االتفاق عىل معنى‬
‫كل هذه االختالفات؟ فالخلف َّية الثقاف َّية واالجتامع َّية والتاريخ ّية‬
‫ظل ِّ‬
‫مشرتك؟ وكيف يتأىت ذلك يف ِّ‬
‫والدين ّية لألشخاص‪ ،‬تؤث ِّر عىل فهمهم للمعاين‪ .‬وقد يكون من املمكن أن ت ُفهم الكلامت‬
‫معنَّي‪ ،‬بشكل مختلف لدى املجتمعات املختلفة‪ ،‬وميكن أن‬ ‫املستخدمة يف التعبري عن مفهوم َّ‬
‫تكون للكلامت دالالت إضافيَّة تختلف من ثقافة إىل أخرى‪ ...‬وهكذا‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫المحور‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬تبدو قضية املعنى شديدة التشابك والتعقيد‪ ،‬وتدخل الُّلغة يف صلبه‪ ،‬وهي‬
‫واألنطولوجي لألفراد‪ .‬ومن ث َّم فليس بوسعنا‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫بدورها تتداخل مع الثقافة والهويَّة والبناء املعر ِّ‬
‫الخروج برؤية مح َّددة للمعنى ما مل مُنُ ِعن يف الرجوع إىل الوراء‪ ...‬إىل ما وراء املعنى نفسه‪ .‬ومبا‬
‫أ َّن خلف املعنى يوجد معنى‪ ،‬فإ َّن لغة املعنى تختلف عن لغة ما وراء املعنى‪.‬‬
‫يف هذا املقال سنحاول عرض الُّلغة باعتبارها كلامت وعبارات‪ ،‬وكيف يؤث ِّر فهمنا لها يف فهمنا‬
‫النقي‪ ،‬إذا‬
‫ّ‬ ‫للمعنى‪ ،‬ثم نُ َع ِّرج عىل ما هو أع ُّم وأشمل‪ ،‬إىل ما وراء املعنى‪ ،‬أو إىل املعنى الخالص‬
‫جاز لنا التعبري‪ ،‬وهو الذي وإن كان يعتمد عىل الُّلغة‪ ،‬فهي ليست الُّلغة املتمثِّلة يف الكلامت أو‬
‫خارجي‪ ،‬وإمَّنَّ ا تتمثَّل فيها باعتبارها خربة داخليَّة‪ ،‬وباعتبارها إظها ًرا للموجودات‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫أي موضوع‬
‫يف ِّ‬
‫أي تلك التي وصفها هايدغر بأنَّها تجلب األشياء إىل الوجود‪ ،‬ودونها ال يوجد يشء‪ .‬وهذا ما عرب‬
‫عنه يف مقولته الشهرية‪« :‬جلب الُّلغة إىل الُّلغة بوصفها لغة»‪ ،‬وكلمة «الُّلغة» هنا ت ُحمل عىل معانٍ‬
‫مختلفة؛ لذلك فمعنى هذه العبارة هو «جلب الُّلغة (أي إظهار ماه َّيتها) بوصفها لغة (أي بوصفها‬
‫قواًلً ) داخل الُّلغة (أي يف الكلمة املنطوقة)»[[[‪ .‬هذا األمر يعني رضورة البحث يف ماهيَّتها بوصفها‬
‫لغة تتمثَّل يف القدرة عىل الكالم‪ ،‬وبوصفها خربة نختربها بأنفسنا‪ .‬ومن خالل فهم ماه َّيتها سنتعرض‬
‫الشعري؛ فننطلق من الفكر إىل الُّلغة والشعر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لفهم موضوع الفكر الذي يؤ ّدي بنا إىل التفكري‬
‫نسج الفهم وبناء‬
‫ويصب يف ْ‬
‫ُّ‬ ‫يف النهاية‪ ،‬نسأل‪ :‬أنختار املعنى أم ما وراء املعنى؟ أيُّهام يسهم‬
‫ين؟ وهل ت ُرانا نتَّفق ونجد املساحة املشرتكة للفهم‬
‫املعرفة البرشيَّة وصياغة وصيانة الوجود اإلنسا ّ‬
‫ماَّم وراء املعنى؟‬
‫من خالل املعنى أم َّ‬
‫ُّ‬
‫وجودية هايدغر واللغة‬
‫هي ويشء رخص مباح من فرط تداولها‪،‬‬ ‫حق الفهم‪ ،‬وأنَّها أمر ب َد ٌّ‬
‫الُّلغة‪ ،‬التي نظ ُّن أنَّنا نفهمها َّ‬
‫والتي –أيضً ا – أ ْو َسعها الُّلغويون والنحويون وفقهاء الُّلغة وفالسفة التحليل‪ ...‬إلخ‪ ،‬أوسعوها‬
‫وتحلياًل ومحاولة للوقوف عىل أرسارها ونُظُ ِمها ونشأتها وأهدافها ومدى مالءمتها كأداة‬ ‫ً‬ ‫فحصا‬
‫ً‬
‫لإلخبار عن الواقع أو للتعبري عن األغراض البرشيَّة‪ .‬نقول إ َّن هذه الُّلغة‪ ،‬عمل هايدغر ل ُيظهرها يف‬
‫حلَّة زاهية؛ فهو يَ ْعرب من فوق أسوار النحو والبالغة والرتاكيب املنطقيَّة‪ ،‬ليبحث يف‬ ‫ثوب قشيب و ُ‬
‫ماهيَّتها؛ ويقف عىل حقيقتها ومعايشتها كخربة‪ ،‬ويصل بنا إىل نتيجة مؤ َّداها أنَّها هي التي تتح َّدث‪،‬‬
‫وهي التي تستخدمنا‪ ،‬ال نحن من نستخدمها! الُّلغة تتح َّدث من خاللنا‪ ،‬وعلينا أن ننصت لحديثها‬
‫ونفسح لها املجال لتتح َّدث‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬أن «ننصت إىل الُّلغة عىل هذا النحو الذي نتيح فيه لها‬

‫املؤسسة الجامع َّية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.38‬‬


‫َّ‬ ‫[[[‪ -‬سعيد توفيق‪ ،‬يف ماه َّية الُّلغة وفلسفة التأويل‪،)2002( ،‬‬

‫‪204‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫وكل تص ُّور إمنا يكون متض ّم ًنا من قبل يف هذا الفعل»[[[‪ .‬وحديث‬
‫وكل إدراك ُّ‬
‫أن تقول قولها لنا‪ُّ ،‬‬
‫الُّلغة هنا ليس الكلامت املنطوقة‪ ،‬وإمنا اإلظهار‪ ،‬وجلب األشياء إىل الوجود‪ ،‬وإخراجها من طوايا‬
‫جب‪.‬‬‫التح ُّ‬
‫من الُّلغة إىل الفكر‪ ،‬يرشدنا هايدغر إىل رضورة معايشة الُّلغة كخربة‪ ،‬واإلنصات لصوتها‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫بداخلنا‪ ...‬فال ب َّد من تغيري طرائقنا يف التفكري‪ .‬ومن التفكري والُّلغة عىل هذا الوجه‪ ،‬نصل إىل فهم‬
‫للوجود يستدعي الُّلغة باملعنى «الهايدغري»؛ ليك يُفصح عن نفسه من خاللها‪ .‬فهي التي تضفي‬
‫املتعنّي‪ ،‬وهي‪ ،‬من ث َّم‪ ،‬بيت الوجود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحضور عىل املوجودات‪ ،‬وتكسبها وجودها‬
‫ولسوف يظهر لنا‪ ،‬بالتدريج‪ ،‬طبيعة الرؤية الهايدغريَّة الجديدة للُّغة وعالقتها بالتفكري‪ ،‬وما تؤ ّدي‬
‫ين‪ ،‬حينام‬‫بنا إليه من فهم للوجود والتعبري األمثل عنه من خالل الشعر‪ ،‬وما تتيحه للموجود اإلنسا ِّ‬
‫وتجيّل‬
‫ّ‬ ‫يصل لدرجة االنفتاح واإلنصات إىل الُّلغة واالستسالم للوجود‪ ،‬من حدوث اإلنارة له‪،‬‬
‫جب ليشهد ما ال ميكن التعبري عنه إاَّلَّ شع ًرا‪.‬‬
‫الحقيقة له من طوايا التح ُّ‬
‫الشعري‪ ،‬وعالقتهام بالوجود‪ ،‬ليسا مج َّرد أفكار فلسفيّة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ومن املفيد القول أ َّن الُّلغة والتفكري‬
‫أساسا للفلسفة‪ ،‬التي هي ‪ -‬بدورها ‪ -‬أساس للمعرفة عمو ًما‪ .‬فقد رشح هايدغر‬ ‫ً‬ ‫وإمنا هام ميثِّالن‬
‫كل منهام لآلخر‪ ،‬وتجلّيهام كأوضح ما يكون يف الشعر؛ حيث‬ ‫ماه َّية الفكر وماه َّية الُّلغة وحاجة ٍّ‬
‫أضحت الُّلغة‪ ،‬معه‪ ،‬خربة وتجربة معيشة‪ ،‬خالفًا ملا جرت به العادة يف الفلسفة من مقاربات علم َّية‬
‫خارجي‪ ،‬وهو ما يتب َّدى يف علومها من نحو وبالغة وفقه‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫للُّغة كموضوع‬
‫املنطقي للُّغة‪ ،‬وسليلتهم الرشع َّية (الوضع َّية املنطق َّية)‪ ،‬االتجاه األكرث‬
‫ِّ‬ ‫ويُع ُّد أصحاب التحليل‬
‫ومتثياًل لهذه النزعة؛ حيث نجدهم يعمدون إىل اختزال الفلسفة بر َّمتها إىل رضب واحد من‬ ‫ً‬ ‫بروزًا‬
‫الفلسفة دونها الَّلغو‪ ،‬وهي أ َّن الفلسفة علميَّة‪ ،‬وينبغي أن يكون ه ُّمها األول واألخري هو التحليل‬
‫املنطقي للقضايا العلم َّية‪ .‬والعالَم بالنسبة إليهم هو عامل الوقائع الذي يع ُّد مرجعنا يف التحقُّق‬
‫َّ‬
‫ربا‪ .‬وإلنجاز هذه املهام‪ ،‬اعتمدت الوضع َّية املنطق َّية عىل دعامتني‬ ‫من القضايا التي تحمل عنه خ ً‬
‫الريايض وما تسلَّح به من مضاء‬
‫ّ‬ ‫رئيستني‪ :‬العلم املعارص وما أنجزه من ثورة معرف َّية كربى‪ ،‬واملنطق‬
‫وحزم‪.‬‬
‫وها هو ألفرد آير‪ ،‬واحد من كبار ممثّيل هذا االتجاه‪ ،‬يحاول يف كتابه «الُّلغة والصدق واملنطق»‬
‫أن يحلِّل قضايا األخالق والدين والجامل‪ ،‬عىل نحو يستدرج القارئ من خالله إىل االقتناع بأ َّن‬
‫هذه القضايا خالية من املعنى؛ ألنَّها تق ِّدم مزاعم ال ميكننا االحتكام فيها إىل الواقع للتحقُّق منها‪،‬‬
‫خاصة قوامها‬ ‫َّ‬ ‫ومن ث َّم ال ميكننا الحكم عليها بالصدق أو الكذب؛ ألنَّها ببساطة تتعلَّق بخربة فرديَّة‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫المحور‬

‫العواطف واالنفعاالت‪ .‬وقل هذا يف األفكار املج َّردة‪ ،‬مثل الجوهر والعدم واملاهيَّة؛ فهي ليست‬
‫إاّلّ أفكا ًرا ميتافيزيقيَّة‪ ،‬أي مج َّرد لغو يف عرف هذا االتجاه‪ .‬لذلك فقد استبعد آير‪ ،‬شأنه شأن هذا‬
‫ككل‪ ،‬قضايا امليتافيزيقا لخل ِّوها من املعنى‪ ،‬ودعا إىل طرحها متا ًما من حلبة الفلسفة‪ ،‬وإن‬
‫الت َّيار ّ‬
‫أمكن إدراجها ضمن علم النفس وما سواه من العلوم التي تدرس الخربات الفرديَّة والشعوريَّة‪.‬‬
‫وخالصة آراء آير يف هذا الكتاب أ َّن امليتافيزيقا مستحيلة؛ أل َّن قضاياها خالية من املعنى‪.‬‬
‫والعبارة ال يكون لها معنى بالفعل ما مل تكن هناك وسيلة يتَّخذها اإلنسان لتعيني صدق أو كذب‬
‫[[[‬
‫واقعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذه العبارة‪ .‬وما مل تستطع التجربة حسم املشكلة‪ ،‬فإ َّن هذه املشكلة ليست بذات معنى‬
‫والعلمي؛‬
‫ِّ‬ ‫املنطقي‬
‫ِّ‬ ‫ماَّم ال ميكن الحكم عليه إذا ما اعتمدنا أسلوب التحليل‬
‫عىل أ َّن لغة هايدغر َّ‬
‫ألنَّها لغة تقف عىل النقيض من مثل هذا اللون من املنطق والتفكري‪ ،‬وهي لغة يجب فهمها كخربة‬
‫[[[‬
‫إبداعي يقودنا إىل خربة ما»‬
‫ٍّ‬ ‫يب‬
‫نص أد ٍّ‬ ‫معيشة؛ «فينبغي أن نتعامل مع لغة هايدغر مثلام نتعامل مع ٍّ‬
‫يف سبيلها إىل التكشُّ ف‪ .‬وهو خالفًا ملا سارت عليه أساليب تناول الُّلغة منذ ال ِقدم؛ إذ إنَّه «منذ‬
‫اإلغريقي متَّت تجربة الكائن بصفته ما هو حارض‪ ،‬ونظ ًرا أل َّن الُّلغة كائنة فإنَّها تنتمي (‪).....‬‬
‫ِّ‬ ‫الزمن‬
‫إىل ما هو حارض»‪ [[[.‬ومن هذا الفهم اختُزِلت يف الكالم والنطق‪ ،‬وتلخَّصت يف الدراسات النحويَّة‬
‫الخض ِّم ماهيَّتها وضاعت‪ ،‬بينام يحتاج فهم الوجود إىل فهم‬ ‫ت يف هذا ِ‬ ‫والبالغيَّة واملنطقيَّة‪ ،‬وما َع ْ‬
‫هذه املاه َّية ألنها مسكنه‪.‬‬
‫جلْو املعنى من خالل إصالح طرائق تفكرينا‪،‬‬ ‫وصواًل ل َ‬
‫ً‬ ‫مل يكن هايدغر يهدف من وراء ذلك‬
‫ككل‪ ،‬وإمَّنَّ ا متثَّل هدفه‬
‫ّ‬ ‫والتي تتطلَّب فهم ماهيَّة الُّلغة؛ وما سيعكسه ذلك عىل فهمنا للوجود‬
‫جلْوِه ّ‬
‫إاّل‬ ‫الحقيقي يف معايشة خربة الُّلغة‪ ...‬استحضار أبعادها األنطولوج َّية‪ .‬وما مسألة املعنى و َ‬‫ُّ‬
‫عارض يف سبيله لهذا الهدف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تشري ماه َّية الُّلغة عنده إىل أ َّن مشكالت املعنى أكرث‬‫ٌ‬ ‫أم ٌر‬
‫ماَّم تص َّورنا‪.‬‬
‫تعقي ًدا َّ‬
‫ُّ‬
‫أنطولوجيا اللغة‪:‬‬
‫ين‪ ،‬عىل دراسة وتحليل الُّلغة؛ أُهملت‬ ‫انصب اهتامم الفلسفة‪ ،‬يف العامل األنكلوسكسو ِّ‬
‫َّ‬ ‫حني‬
‫تلقائ ًّيا‪ ،‬أو عم ًدا‪ ،‬مقاربات فلسف َّية أخرى عىل قدر كبري من األهم َّية‪ ،‬مثل الدراسات الُّلغوية يف‬
‫الفينومينولوجيا والهريمنيوطيقا‪ .‬حيث تعمل فلسفتها عىل مرشوعني أو طرحني‪« :‬يتعلَّق الطرح‬

‫‪[1]- Alfred Jules Ayer, (1945), Language, Truth, and Logic, London: Gollancz, 2nd Edition, P (13 -16).‬‬
‫[[[‪ -‬سعيد توفيق‪ ،‬الُّلغة والتفكري الشعري عند هيدجر‪ ،)1998(،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬صـ ‪.17‬‬
‫[[[‪ -‬مارتن هايدغر‪ ،)2003( ،‬كتابات أساس َّية‪ ،‬الطريق إىل الُّلغة (‪ ،)6‬ترجمة وتحرير إسامعيل مصدق‪ ،‬القاهرة‪ :‬املجلس القومي للرتجمة‪،‬‬
‫الجزء الثاين‪ ،‬العدد‪ ،505‬صـ‪.264‬‬

‫‪206‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫[[[‬
‫األول بأهميَّة الُّلغة العاديَّة وخصوصيَّتها‪ ،‬والثاين باملنهجيَّة الفلسفية»‪.‬‬
‫ولقد حاول هايدغر أن مييط الِّلثام عن جوانب أخرى من ماه َّية الُّلغة‪ ،‬تختلف عن الجوانب‬
‫الفلسفي الذي‬
‫ِّ‬ ‫التقليدي‪ ،‬والذي تبدو معه الُّلغة عاجزة الرتباطها بالفكر‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫املعتادة يف الفكر‬
‫بلغت أزمته منتهاها؛ ولذلك طالب بنهاية الفلسفة وبداية الفكر‪ ...‬ذلك الذي يستوجب لغة جديدة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫تشمله‪.‬‬
‫تتجىَّل يف مفاهيم مثل «الوعي» و «األنا» و «اليشء»‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫«فالُّلغة الفاسدة للفلسفة التقليديَّة‪ ،‬والتي‬
‫إلخ‪ ،‬ليست مناسبة للتعبري عن هذه املنطقة الجديدة من البحث؛ فإذا أردنا أن نتأ ّمل الوجود‪،‬‬
‫كوجود‪ ،‬وليس مج َّرد موجود‪ ،‬كان لزا ًما علينا استخدام مفردات مختلفة‪ ،‬بل وبنا ًء مختلفًا يف بعض‬
‫األحيان‪ ...‬ولكن إىل أين نتَّجه؟ قد يتمثَّل أحد الحلول يف العودة إىل لغة السوق واملفردات‬
‫الواقعيَّة التي استخدمها سقراط يف حواراته وأفكاره»‪ [[[.‬ولكن حتى لغة السوق يف حوارات‬
‫سقراط ومحاورات أفالطون‪ ،‬ليست ذات مفاهيم واضحة يف الحياة اليوم َّية‪ ،‬فهي أيضً ا بحاجة إىل‬
‫إيضاحات لفهمها‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نعود م َّرة أخرى إىل الفلسفة التقليديَّة لنفهمها ج ّي ًدا أ َّو ًاًل‪ ،‬ث َّم‬
‫نتجاوزها‪.‬‬
‫يف املنظَّم‪.‬‬
‫الفلسفي‪ ،‬قبل البناء املعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ما يريده هايدغر هو العودة إىل الينابيع األوىل لالندهاش‬
‫فعيَل الكالم والكتابة‪ ،‬من دون أن ننتبه‬
‫جب من اعتيادنا الُّلغة عىل هذا النحو‪ ،‬واختزالها يف َ ْ‬ ‫وهو يتع َّ‬
‫إىل ما تثريه فينا‪ .‬فنحن حينام نجلس لنفكِّر ونكتب ال نعي ما يحدث‪ .‬فقط يدور الفكر يف الذِّهن‪،‬‬
‫يتبعه تعبري بالكلامت‪ ،‬نكتبها عىل الورق‪ ...‬ولكننا ال نتساءل أب ًدا عن هذه العمليَّة املذهلة التي‬
‫تضطرب فينا؛ ألنَّنا ببساطة اعتدنا الُّلغة فام عادت تثري فينا الدهشة أو التساؤل‪ ...‬هي عمل َّية نقوم‬
‫بها يف الطريق إىل يشء ما؛ األمر الذي يؤ ّدي بنا إىل الفشل يف تجربة أبعادها الكاملة‪ .‬ويتمثَّل قلقه‬
‫واندهاشه يف تجربتنا حني نبدأ بالتفكري‪ ،‬ومن ث َّم الكتابة‪ :‬كيف تستطيع الُّلغة التجاوب وإضفاء‬
‫عاَّم يجول بخاطرنا ويضطرب بداخلنا يف كلامت‬ ‫األسامء عىل األشياء‪ ،‬واالستجابة لنا بالتعبري َّ‬
‫معدودات؟ ملاذا ال تُصيبنا هذه العمل َّية بالدهشة؟ وما هي عالقتنا بالُّلغة‪ ،‬بحيث نجد أنفسنا ملزمني‬
‫[[[‬
‫بالفعل عندما نطرح رصاحة فكرة أو كلمة أو جملة؟‬
‫الُّلغة عند هايدغر ‪ -‬إذن ‪ -‬تجربة معيشة؛ فهي تسكننا وتشكِّل تجاربنا‪ ،‬وهو يريد منا أن نفهمها‬

‫[[[‪ -‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬نداء الحقيقة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صـ‪.152‬‬


‫‪[2]- Michael Inwood, (2000), A Heidegger Dictionary, Series: The Blackwell philosopher, Blackwell‬‬
‫‪Publishers, P2.‬‬
‫‪), Martin Heidegger: Key‬‏‪[3]- See, John T. Lysaker,Language and poetry , In Bret W. Davis2014(,‬‬
‫‪, Routledge, P(312 -315).‬‏‪Concepts‬‬

‫‪207‬‬
‫المحور‬

‫وندخل معها يف عالقة‪ .‬عىل أ َّن هذا الفهم يختلف يف جوهره عن فهم علامء الُّلغة؛ فالُّلغة التي‬
‫تتمثَّل يف الكلامت فقط إمَّنَّ ا هي عاجزة عن وصف الوجود؛ لذلك يلجأ إىل لغة الشعر‪ ،‬فهي األبعد‬
‫غو ًرا‪ ،‬واألكرث عونًا عىل حشد الكثري من املعاين يف القليل من الكلامت‪ ،‬والتعبري عن مكنون‬
‫عاَّم نعجز عن وصفه والتعبري عنه بالُّلغة الدارجة‪ ،‬وال حتى‬ ‫مشاعرنا يف سطور أو شطور معدودات‪َّ ،‬‬
‫بالُّلغة األكادمييَّة‪ .‬فالتفكري يف ماهيَّة الُّلغة يُلجئنا لطلب العون من الشعراء؛ نظ ًرا لعالقتهم املتميّزة‬
‫بها‪ .‬ففي تحليله لقصيدة «الكلمة» للشاعر الرمزي ستيفان جورج ‪)1933-Stefan George (1868‬‬
‫يحاول هايدغر التع ُّرف عىل عالقة الشاعر بالُّلغة‪ ،‬ومن خالل القصيدة يعلن أ َّن األسامء هي ما‬
‫اساًم‪ ،‬إمنا يعني جلبه من الغياب إىل الحضور؛ ذلك‬ ‫تضفي عىل األشياء وجودها؛ فإعطاء يشء ما ً‬
‫[[[‬
‫أ َّن «الكلمة هي التي ت ُظهر املوجود أمام الشاعر أو أمام غريه من الناس»‪.‬‬
‫ويف السياق نفسه‪ ،‬وبالنظر إىل عمل َّية إضفاء األسامء عىل األشياء‪ ،‬وما لشأنها من جالل خطر‪،‬‬
‫يب مالك بن نبي‪ ،‬يف كتابه «مشكلة الثقافة»‪ ،‬أ َّن االسم هو أول درجات املعرفة‪،‬‬ ‫يبني لنا املفكِّر العر ُّ‬
‫يت (شيئًا) فمعنى ذلك أنك تستخرج منه فكرة‬ ‫وهو «أول خطوة نخطوها نحو العلم‪ .‬فإذا س ّم َ‬
‫يغرّي‬
‫مع َّينة‪ ،‬أي أنك تؤ ّدي أول عمل من أعامل املعرفة بالنسبة إىل ذلك اليشء‪ ،‬وهو العمل الذي ّ‬
‫«حضوره» املج َّرد يف ذلك االمتداد الهائل الذي يحوط (األنا) إىل (وجود) تدركه (األنا)»‪« .‬ولو‬
‫الحق تبارك وتعاىل للمشهد الذي يدعو فيه آدم إىل تسمية األشياء بأسامئها يف‬ ‫ّ‬ ‫أنَّنا قرأنا وصف‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬و َع َّل َم آ َد َم ْاأْلَ ْساَم َء ُك َّل َها ُث َّم َع َر َض ُه ْم َع َىَل ا َْمْل َاَلئِك َِة َف َق َال َأ ْنبِئ ِ‬
‫ُويِن بِ َأ ْس َاَمء َه ُؤ َاَلء إِ ْن ُكنْت ُْم َصادق َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قوله‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫يم َْ‬ ‫ِ‬ ‫َّك َأن َ‬ ‫ِ‬
‫َك َاَل ع ْل َم َلنَا إِ َّاَّل َما َع َّل ْم َتنَا إِن َ‬
‫يم‪ – [[[‬فرمبا أخطأنا فلم ندرك معنى‬ ‫احْلك ُ‬ ‫ْت ا ْل َعل ُ‬ ‫َقا ُلوا ُس ْب َحان َ‬
‫اآلية إاَّلَّ عىل أنَّه يصف لنا مشه ًدا بسيطًا؛ واألمر عىل عكس ذلك متا ًما‪ ،‬فينبغي أن نرى هنا يف‬
‫ين حني يسيطر عىل األشياء‪ ،‬وهو يخلع عليها‬
‫جوهري للعقل اإلنسا ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫تلك الصورة الرمزيَّة أول عمل‬
‫أسامءها‪ ،‬األمر الذي مل تستطعه املالئكة»‪« .‬فاالسم إذن هو أول تعريف لليشء الذي يدخل يف‬
‫نطاق شعورنا‪ ،‬فهو تصديق عىل وجوده‪ ،‬وهو الق َّوة التي تستخرجه من الفوىض املبهمة فتسجله‬
‫[[[‬
‫يف عقلنا يف صورة حقيق َّية مح َّددة»‪.‬‬
‫وبالعودة إىل هايدغر‪ ،‬نجده يف ِّرق بني الكالم والقول‪ .‬فالكالم هو ماه َّية اإلنسان وليس ماه َّية‬
‫الُّلغة‪ ،‬وهو ما يظهر منطوقًا أو مكتوبًا‪ .‬أ َّما القول‪ ،‬فهو ليس املنطوق الذي نتح َّدثه فيظهر فقط‪ ،‬وإمَّنَّ ا‬
‫ويظل حبيس النفس‪ ،‬وهو ليس ماه َّية اإلنسان‪ ،‬وإمنا هو ماه َّية الُّلغة‪ .‬وهذه املاه َّية‬‫ّ‬ ‫أيضً ا ما مل يُقل‬
‫هي ما يدعونا هايدغر إىل التفكري فيها‪ .‬وهي تكمن يف قدرتها عىل إظهار وكشف هذا القول‬

‫[[[‪ -‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬نداء الحقيقة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صـ‪.152‬‬


‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآليتان ‪.32-31‬‬
‫[[[‪ -‬مالك بن نبي‪ ،‬مشكلة الثقافة‪ )1984( ،‬ترجمة عبد الصبور شاهني‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،4‬ص‪.21،20‬‬

‫‪208‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫الكامن يف الصمت؛ فالُّلغة «تتح َّدث بواسطة القول‪ ،‬أي بواسطة اإلظهار‪ ،‬فالقول بوصفه إظها ًرا هو‬
‫[[[‬
‫ماهيَّة الُّلغة عند هايدغر»‪.‬‬
‫يتأىَّت اإلظهار هنا إاَّلَّ باستسالم الذات إىل الُّلغة وتركها لتتح َّدث‪ ،‬وعالقة الذات بالُّلغة هنا‪،‬‬
‫وال َّ‬
‫واملتمثّلة يف الخضوع‪ ،‬هي عالقة سلبيَّة‪ ،‬ولكنه السلب الذي فيه منتهى اإليجاب؛ فليك تحصل‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الذات عىل الخربة بالُّلغة فهي بحاجة أل ْن تخضع لها‪ ،‬أن ت َُسلّم‪ ...‬ها هنا تحدث خربتها‪ .‬ولنئ‬
‫كانت «الُّلغة هي التي تح ِّدد ماه َّية اإلنسان باعتباره املوجود القادر عىل الكالم أو التح ُّدث‪...‬‬
‫فمه َّمتنا هي أن نتيح للُّغة أن تتح َّدث‪ ،‬أن نتيح للُّغة أن تكون لغة‪ ...‬تفصح عن ماه َّيتها كلغة يف فعل‬
‫الكالم»‪ [[[.‬علينا فقط أن ننصت إىل الصوت الكامن يف داخلنا للُّغة‪ ،‬أن نستمع إليها وهي تتح َّدث‬
‫خاصة نعيشها‪ ،‬ووطن نسكنه‪ ،‬وهي التي تح ِّدد وجودنا وتصفه‪« .‬ومن هنا‬ ‫َّ‬ ‫من خاللنا؛ فهي خربة‬
‫مقواًل (أي مسكوت ًا‬
‫ً‬ ‫يرى هايدغر أ َّن ما يقال ليس مج َّرد يشء ما ينقصه الصوت‪ ،‬إمَّنَّ ا هو ما يبقى ال‬
‫[[[‬
‫الحي بعد»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عنه)‪ ،‬ما مل يت ّم إظهاره بعد مل يبلغ مظهره‬
‫ين هي التي تتمثَّل يف الكالم املقول‪ ،‬ولك َّن‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن الُّلغة اليوم َّية للموجود اإلنسا ِّ‬
‫إاَّل شع ًرا؛ ملا تنوء به من‬
‫الُّلغة التي ال تقال‪ ،‬الكامنة يف الصمت‪ ،‬هي مقصدنا‪ ،‬وهي التي ال تنبلج َّ‬
‫ين ليفهم وجوده‪ ،‬ومن ث َّم الوجود‬ ‫جبها للموجود اإلنسا ِّ‬‫معانٍ ‪ ،‬وهي التي تتكشَّ ف وتخرج من تح ُّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ورمبا‬
‫ِّ‬ ‫يف يف الرتاث‬
‫لتتجىَّل له الحقيقة‪ .‬وهذا املوقف أشبه باملوقف الصو ِّ‬ ‫َّ‬ ‫العام نفسه‪،‬‬
‫ين كلِّه‪ .‬فهذا عبد الج َّبار النفَّري‪ ،‬وهو واحد من كبار الصوف َّية‪ ،‬يقول‪« :‬كلام‬ ‫يف الرتاث اإلنسا ِّ‬
‫يفرِّس لنا أ َّن كتابات الصوف َّية‪ ،‬ومصداقًا ملا يشري هايدغر‬
‫ات َّسعت الرؤية‪ ،‬ضاقت العبارة»‪ .‬وهذا ما ِّ‬
‫إليه ويؤكِّد عليه‪ ،‬تدفَّقت يف معظمها شع ًرا‪ ...‬حتى جالل الدين الرومي‪ ،‬الذي كان فقي ًها‪ ،‬مل‬
‫يج ِّرب يف حياته من قبل القريض‪ ،‬فإذا به‪ ،‬ويف تح ُّول حاسم اكتسح حياته‪ ،‬يرتفع إىل سامء الوجد‬
‫جد والوجود والحياة؛ فتُجري أنها ًرا من‬
‫جر فيه ينابيع الشعر لتكشف عن رؤاه يف ال َو ْ‬ ‫يف‪ ،‬فتتف َّ‬
‫الصو ِّ‬
‫أروع ما فاضت به القريحة اإلنسان َّية‪.‬‬
‫الشعري‪ ،‬والذي يعني به الشعر مبعناه الواسع‬
‫ِّ‬ ‫من أجل هذا كلِّه‪ ،‬وجد هايدغر ضالَّته يف التفكري‬
‫وليس مبعنى ف ِّن القصيدة فحسب؛ فهو حينام يتح َّدث عن خربة الشعر إمَّنَّ ا يقصد بها «خربة مامرسة‬
‫وكل تفكري أصيل باعتباره عمليَّة جلب وإظهار‬ ‫كل ف ٍّن‪ِّ ،‬‬
‫ماثاًل يف ِّ‬
‫ً‬ ‫الشعري‪ ،‬الذي يكون‬
‫ِّ‬ ‫التفكري‬
‫[[[‬
‫املوجود إىل مجال االنفتاح»‪.‬‬

‫[[[‪ -‬نقاًلً عن‪ :‬سعيد توفيق‪ ،‬الُّلغة والتفكري الشعري عند هايدغر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صـ‪..24‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬صـ‪.22‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬صـ‪.28‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬صـ‪.35‬‬

‫‪209‬‬
‫المحور‬

‫وهكذا‪ ،‬يق ِّدم لنا رؤية جديدة للُّغة‪ ،‬أو هو يعيد بعث رؤى قدمية أهيل عليها غبار النسيان‬
‫والتجاهل‪ ،‬حيث مل تعد الُّلغة موضو ًعا خارج الذات يخضع للمالحظة والدراسة‪ ،‬وإمنا أضحت‬
‫تجربة معيشة للكينونة‪ ،‬تتفاعل معها وتنفعل بها‪ .‬وتندرج محاولته لفهم جديد لفلسفة الُّلغة يف إطار‬
‫الهريمينوطيقا الفينومينولوج َّية‪ .‬وقد كان له أبلغ األثر يف أعالم التأويل يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬مثل‬
‫دل فإمنا ُّ‬
‫يدل‬ ‫غادامر وريكور ودريدا‪ ،‬بل لقد امت َّد تأثريه إىل الدراسات النقديَّة واألدبيَّة‪ ،‬وهذا إن َّ‬
‫عىل عظمة الفيلسوف؛ ألنَّها تتح َّدد‪ ،‬ال من خالل املجال الذي ينتمي إليه فحسب‪ ،‬وإمنا أيضً ا من‬
‫خالل آثاره خارج ميدان الفلسفة؛ أي من خالل اسرتشاد مجاالت أخرى بأعامله‪.‬‬
‫ُّ‬
‫من اللغة إىل الفكر إىل الوجود‪:‬‬
‫«ولد أرسطو‪ ،‬تعب ومات»‪ .‬هكذا افتتح هايدغر محارضته عن أرسطو؛ حيث تتلخَّص حياة‬
‫الفيلسوف يف فكره الذي يحاول من خالله فهم الحقيقة وفهم الوجود؛ فيحيا يف اله ِّم والقلق‬
‫وتنتهي حياته باملوت ويبقى الفكر‪ ...‬فحياة الفيلسوف هي فكره‪ ،‬وتجربته عىل طريق الحياة هي‬
‫[[[‬
‫تجربته عىل طريق الفكر»‪.‬‬
‫هو يرى أ َّن الفكرة ال ينبغي لها أن تبقى مج َّردة وبعيدة عن اإلنسان‪ ،‬وإمنا يجب أن تتغلغل يف‬
‫كيانه وتدخل يف صميم وجوده‪ ،‬ليكون لها القدرة عىل إحداث التح ُّوالت يف حياته‪ .‬من هنا كان‬
‫بداًل عن اعتامد الرؤية التقليديَّة يف الفلسفة‪ ،‬والتي اعتربت‬
‫التح ُّول الذي رغب فيه لفهم الوجود‪ً ،‬‬
‫فقط الوجود مبا هو موجود‪ ،‬ومل تو ِل اعتبا ًرا ملعنى الوجود نفسه‪ .‬من أجل ذلك وجد أ َّن الطريق‬
‫الصحيح هو التفكري يف اإلنسان من جهة الوجود ال العكس‪ ،‬أي «التفكري يف اإلنسان ويف الواقع‬
‫املتناهي بأكمله من جهة الوجود‪ ...‬وهي رجعة الفكر أو عودته للوجود نفسه»[[[‪ .‬فالفكر عند‬
‫هايدغر أصبح هو املح ِّدد لحياة الفيلسوف‪ ،‬فام حياته إاَّلَّ فكره؛ لذلك دعا إىل تحطيم الفلسفة‬
‫امليتافيزيقي وتجاوزها إىل فكر جديد‪« ،‬فكر ينبع من حقيقة وجودنا يف العامل‬
‫ِّ‬ ‫القامئة عىل الفكر‬
‫كل ما هو موجود‪ .‬أصبحت فك ًرا ال يسعى لغاية تحيط بها هالة‬ ‫ويفتِّش عن املعنى الكامن يف ِّ‬
‫[[[‬
‫غامضة كالعلم أو املعرفة‪ ،‬أل َّن غايته الوحيدة هي السعي نفسه‪ ،‬أي الحياة ذاتها»‪.‬‬
‫ين الوجود حتى يتكشَّ ف له من خالل اإلنارة‪ ،‬فهذا‬ ‫ويجدر القول أنَّه حني يرعى املوجود اإلنسا ُّ‬
‫التقليدي؛ ذلك أ َّن «فكر املستقبل لن يكون فلسفة وإمنا‬
‫ِّ‬ ‫رضب من الفكر فوق طاقة الفلسفة مبعناها‬
‫سيكون ‪ -‬عىل ح ِّد تعبري الفيلسوف وبلغته املنحوته بأزاميل ثقيلة ‪« -‬فك ًرا يف حالة الهبوط» يف فقر‬

‫[[[‪ -‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬نداء الحقيقة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صـ‪.51‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع سابق‪ ،‬صـ‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬صـ ‪.56‬‬

‫‪210‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫ماهيَّته املؤقَّتة‪ ،‬وسوف يكون عليه أن يجمع الُّلغة يف القول البسيط»[[[‪ .‬لقد تكلَّم هايدغر عن عجز‬
‫الُّلغة والفلسفة التقليديَّة يف وصف الوجود‪ ،‬لذلك دعا إىل فكر جديد يتجاوزهام‪ ،‬فكر جديد يكون‬
‫قريبًا من الشعر‪ ،‬وهو الذي ميكنه أن يفتح لنا أفق الوجود‪ ،‬وكان النموذج الذي رآه يتمثَّل يف شعر‬
‫وخصوصا بارمنيديس وهرياقليطس‪.‬‬
‫ً‬ ‫هلدرين ويف فلسفة الفالسفة السابقني عىل سقراط‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫إ َّن عالقة الفكر بالُّلغة عند هايدغر عالقة تواشج وتفاعل واندماج؛ فليست األفكار مج َّرد صور‬
‫نعرِّب عنها من خالل الُّلغة املنطوقة كام قد جرت العادة مبقاربة العالقة بينهام‪ ،‬وإمنا‬ ‫ذهن َّية مج َّردة ِّ‬
‫حد؛ ذلك أ َّن «الوجود نفسه يفكِّر فينا وبنا‪ ،‬أو هو يتعقَّل‬ ‫كل مو َّ‬
‫يرتبط لديه الفكر بالُّلغة والوجود يف ٍّ‬
‫ذاته من خالل لغتنا نفسها»؛[[[ فالتفكري ال يعني أن نضع األفكار يف قوالب الُّلغة‪ ،‬وإمنا هو لغة‬
‫الوجود غري املنطوقة‪ ،‬والوجود يتكلَّم من خاللنا‪ ،‬وفهم لغته وكالمه ال يعني ترجمتها إىل لغتنا‬
‫املنطوقة بقدر ما يعني اإلنصات والفهم؛ «وهذا هو السبب يف أ َّن هايدغر يختم رسالته عن النزعة‬
‫السحب ُسحب السامء»[[[‪ ،‬ذلك أ َّن ماه َّية الفكر‬ ‫اإلنسان َّية بقوله‪« :‬إمَّنَّ ا الُّلغة لغة الوجود‪ ،‬كام أ َّن ُّ‬
‫عنده ال تتمثَّل يف «التفكري الحاسب» الذي نعتمده يف حياتنا اليوم َّية‪ ،‬والذي نكون مكلَّفني فيه‬
‫بالقيام مبهام مع َّينة‪ ،‬مثل التكليفات األكادمي َّية بالكتابة يف موضوعات مح َّددة‪ .‬وإمنا تتمثَّل يف‬
‫كل‬
‫األسايس لإلنسان‪ ،‬وهو «التفكري التأ ُّميل»‪ ،‬حيث يقول‪« :‬هناك نوعان من التفكري‪ٌّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫التفكري‬
‫ورضوري‪ :‬الفكر الحاسب‪ ،‬والفكر املتأ ِّمل‪ ،‬وهو حينام نشري إىل أ َّن الفكر املتأ ِّمل‬
‫ٌّ‬ ‫منهام مرشوع‬
‫يسبح يف األعىل‪ ،‬وأن ال صلة له بالواقع‪ ،‬وأنه ال يساعد عىل إنجاز األعامل املألوفة‪ ،‬وال يساهم‬
‫الحقيقي الذي ال يسري وفق برنامج‬‫ُّ‬ ‫يل»‪ [[[.‬وهذا هو التفكري‬‫يف تحقيق اإلنجازات ذات الطابع العم ّ‬
‫أو خطَّة مح َّددة منذ البداية‪ ،‬وإمّنّ ا ننصت فيه إىل دواخلنا ونفكِّر يف ما يدهشنا لنق ِّدم ما خربناه يف‬
‫الشعري ‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫الشعري التأ ُّميل أو خربة التفكري‬
‫ِّ‬ ‫لغة شعريَّة؛ حيث يتكثَّف املعنى‪ .‬وهو ال يقصد بالتفكري‬
‫رصا‪ ،‬وإمَّنَّ ا يقصد الشعر مبعناه الواسع‪ ،‬الذي يجلب الحضور لألشياء‪:‬‬ ‫كام أسلفنا ‪ -‬ف ّن القصيدة ح ً‬
‫فإضفاء األسامء عىل األشياء يجلبها للوجود‪ .‬بهذا تصري الكلامت هنا وح ًيا وإلها ًما‪ ،‬بل وتصري‬
‫خلقًا إنسان ًّيا‪.‬‬
‫بهذا الخلق ينتقل الفكر إىل الوجود‪ ،‬وليك يفعل فهو بحاجة إىل اإلنسان؛ لذلك عمل هايدغر‬
‫جب الذي يتيح لنا فهم الوجود من خالل فهمنا‬ ‫الاَّل تح ُّ‬
‫عىل تحديد وفهم ماه َّية اإلنسان‪ .‬ويحدث َّ‬
‫للحقيقة‪ .‬ومن رشحه ملاه َّية الحقيقة‪ ،‬وصل بنا إىل تأويل ملاه َّية اإلنسان‪ ،‬والتي يجب بدورها أن‬
‫ت ُف َهم عىل أساس من فهمنا ملاه َّية الحقيقة‪ ،‬والتي تصل بنا إىل تحديد جديد للفلسفة‪ ،‬تلك التي‬
‫ستصبح فك ًرا جدي ًدا ينحو نحو الفالسفة السابقني عىل سقراط‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املرجع سابق‪ ،‬صـ‪.14‬‬


‫[[[‪ -‬زكريا إبراهيم‪ ،‬دراسات يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مرص‪ ،‬دار مرص للطباعة‪ ،‬صـ‪.421‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪،‬صـ‪.422‬‬
‫[[[‪ -‬مارتن هايدغر‪ ،‬السكينة‪ ،)2004(،‬ترجمة رشيدة السائحي‪ ،‬مجلة مدارات فلسفية‪ ،‬منشور عىل موقع حكمة‪ ،‬صـ‪.201‬‬

‫‪211‬‬
‫المحور‬

‫يتبنَّي أنَّه ملعرفة الوجود يجب فهم ماهيَّة الحقيقة التي أغفلتها امليتافيزيقا‪ ،‬ولفهم ماهيّة‬
‫هكذا َّ‬
‫جب‪ ،‬ينبغي تغيري طريقة التفكري‬ ‫الاَّل تح ُّ‬
‫جب إىل َّ‬
‫الحقيقة‪ ،‬بوصفها كشف وإظهار وخروج من التح ُّ‬
‫يف الوجود‪ ،‬والتي تستلزم أيضً ا لغة مختلفة؛ فالفكر مختبئ يف الُّلغة التي تعنى إنارة الوجود‪ ،‬وهكذا‬
‫ينتقل بنا هايدغر من الُّلغة إىل الفكر إىل الوجود‪.‬‬

‫اخلاتمة‪:‬‬
‫أرشنا سابقًا إىل أ َّن علينا اإلميان بأ َّن الُّلغة هي التي تستخدمنا ولسنا نحن من نستخدمها‪ .‬وهذا‬
‫قول يشبه يف ظاهره ما قاله فرانسيس بيكون من أ َّن الُّلغة التي يظ ُّن اإلنسان أنَّه يستخدمها وأنَّها طوع‬
‫أمره‪ ،‬إمَّنَّ ا هي التي تعود لتستخدمه؛ فيقع أسري أخطائها وأوهامها‪ .‬ومن املعروف أ َّن بيكون هذا هو‬
‫الج ُّد الذي انسلَّت منه املدرسة اإلنكليزيَّة التحليليَّة يف الُّلغة‪ ،‬والتي جعلتها ه َّمها األكرب‪ ،‬وتتناولها‬
‫خارجي‪ ،‬وهو ما يتناقض متا ًما مع الوجهة الهايدغريَّة التي ات َّخذناها لنا يف هذا املقال‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫كموضوع‬
‫ومل ّا كان بيكون يريد بتعبريه هذا أن يلفتنا إىل رضورة االنتباه ألوهام الُّلغة ملا يرتت َّب عليها من‬
‫يل‪ ،‬فإنه‪ ،‬شأنه شأن العرص الحديث بأرسه‪،‬‬ ‫سوء فهم واضطراب مفاهيم وتخ ُّبط يف الواقع العم ِّ‬
‫الخارجي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يريد أن يُحكم القياد عىل الُّلغة‪ ،‬وأن يُخضعها ويُسيطر عليها‪ ،‬ومن ثم عىل سائر العامل‬
‫سواء متثَّل هذا العامل يف الطبيعة‪ ،‬أم يف البلدان األخرى التي ميكن استعامرها‪ .‬ويكاد يكون‬
‫الفلسفي‪ ،‬إمَّنَّ ا هو هذه الرغبة‬
‫ِّ‬ ‫العلمي بأرسه‪ ،‬ومعظم املرشوع‬
‫ِّ‬ ‫والخفي وراء املرشوع‬
‫ُّ‬ ‫الباعث البعيد‬
‫اإلنسان َّية الدفينة يف السيطرة عىل األشياء‪ :‬إنَّها رغبة اإلنسان يف ارتقاء ق َّمة عالية مستقلَّة وث َّابة‪ ،‬يرقب‬
‫منها األحداث ماضيها وحارضها ومستقبلها‪ ،‬ويكون بإمكانه التن ُّبؤ بها والتحكُّم يف مسارها‪.‬‬
‫الظاهري بني بيكون وهايدغر‪ ،‬إاّلّ مبعرفة ماذا يفهم‬
‫ُّ‬ ‫حل هذا الّلبس وهذا التناقض‬‫يتأىَّت لنا ُّ‬
‫وال َّ‬
‫حا‪ ،‬وهي ما يتداوله‬ ‫كل منهام من لفظة «لغة»‪ .‬فعىل حني أخذها بيكون باعتبارها أم ًرا بديه ًّيا واض ً‬ ‫ٌّ‬
‫الناس يف األسواق‪ ،‬إذا بهايدغر يغوص فيها ليخرج لنا منها آللئ ال تق َّدر بثمن‪ .‬فإذا كانت العادة‬
‫قد جرت عىل البحث عن املعنى وراء الُّلغة‪ ،‬فإننا نجد مع هيدجر أن الوضع الصحيح هو البحث‬
‫عن اللغة من وراء املعنى؛ فام وراء املعنى‪ ،‬أو ما نحب أن نسميه باملعنى الخالص‪ ،‬إمنا هو معاناة‬
‫خربة الُّلغة‪ .‬هذه املعاناة هي ما ميكن أن يشرتك فيه بنو البرش رغم أي اختالف بينهم‪ ،‬ويصدق‬
‫يف‪« :‬من ذاق عرف»؛ أل َّن الخربة قد تتَّفق رغم اختالف الُّلغات والثقافات‪ .‬وقد‬ ‫عليها التعبري الصو ُّ‬
‫وأدق تعبري‪ ،‬وأبلغ أسلوب‪ ،‬ومع ذلك ال يفهمني سامعي‬ ‫َّ‬ ‫عاَّم أعانيه وأختربه خري حديث‪،‬‬ ‫أتح َّدث َّ‬
‫يف‪ ،‬يف حني يفهمني آخر مختلف عني مبج َّرد اإلشارة والتلميح واإلمياءة‪،‬‬ ‫ُّلغوي والثقا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫رغم اتفاقنا ال‬
‫بل حتى مبج َّرد الصمت!‬

‫‪212‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫وإذا كانت قد جرت العادة عىل مقاربة الُّلغة باعتبارها عالقة بني مفردات من ناحية‪ ،‬وأشياء أو‬
‫وقائع من ناحية أخرى‪ ،‬فإ َّن هايدغر يذهب إىل أ َّن الُّلغة هي عالقة بيننا وبني الوجود‪ :‬إنَّها وحي‬
‫الحقيقي ليست هي الوسيط بني األفراد‪ ،‬وبني بعضهم البعض‪ ،‬وإمنا هي‬ ‫ِّ‬ ‫الوجود؛ فالُّلغة مبعناها‬
‫وسيط بني اإلنسان الفرد‪ ،‬وبني الوجود العام‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬يطالب هايدغر باالستسالم والخضوع لها كام لو إنَّها دعوة للسكينة والسالم‪.‬‬
‫هذا يف مقابل الدعوة القدمية املعتادة لإلخضاع والسيطرة‪ ،‬وما جلبته عىل اإلنسان َّية من رشور‬
‫وويالت مل تنته حتى اآلن‪ .‬وإذا كان أول ما يُفهم من هذا الكالم هو رضورة أن يرتك الناس واقعهم‬
‫وحياتهم وأشغالهم ليعكفوا عىل ذواتهم‪ ،‬ويصريوا رهبانًا يف صوامع الُّلغة‪ ،‬وآذانًا صاغية لهمسات‬
‫الوجود؛ فإنَّنا نبادر إىل القول بأ َّن هذا أبعد ما يكون عن مرادنا‪ ،‬وأنَّه أيضً ا مستحيل التحقُّق‪ .‬غاية ما‬
‫هنالك أنَّها دعوة لكبح جامح الت َّيار الهادر السائد يف الُّلغة والفكر ذاك الذي ال يعرف سوى السيطرة‬
‫كل‬
‫للتأيّن والسكينة والسالم يف هذا العامل الذي صار فيه ُّ‬ ‫ّ‬ ‫التدريجي‬
‫ِّ‬ ‫والقهر والتملُّك‪ ،‬واإلحالل‬
‫الحق‪،‬‬
‫َّ‬ ‫قرسي ينال من إنسانيَّة اإلنسان وكرامته‪ ،‬ويسلبه وجوده‬ ‫ٌّ‬ ‫إنسان يلهث وراء رغبة‪ ...‬إنَّه اندفاع‬
‫ريا عاش عرصها‪ ،‬وما يدري أنَّه ينجرف بال‬ ‫كام يسلبه حريَّته التي ما فتئ يذود عنها‪ ،‬ويظ ُّن أنَّه أخ ً‬
‫هوادة نحو اسرتقاق متجدد يف ما يفرتضه العرص الجديد‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫المحور‬

‫قائمة باملصادر واملراجع‪:‬‬


‫المصادر‪:‬‬

‫‪1.‬مارتن هايدغر‪ ،‬ما الفلسفة؟ ما امليتافيزيقا؟ هيلدرين وماهيَّة الشعر‪ ،)1964(،‬ترجمة فؤاد‬
‫كامل عبد العزيز و محمود رجب السيد‪ ،‬مراجعة عبدالرحمن بدوي‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار النهضة‬
‫العربيَّة‪.‬‬
‫‪2.‬مارتن هايدغر‪ ،‬كتابات أساس َّية‪ ،)2003( ،‬ترجمة وتحرير إسامعيل مصدق‪ ،‬القاهرة‪:‬‬
‫املجلس القومي للرتجمة‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬العدد‪.505‬‬
‫‪3.‬مارتن هايدغر‪ ،‬كتابات أساس َّية‪ ،‬منبع األثر الفني‪ ،)2003(،‬الجزء األول‪ ،‬ترجمة وتحرير‬
‫إسامعيل مظهر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬ط‪ ،1‬عدد ‪.504‬‬
‫‪4.‬مارتن هايدغر‪ ،‬نهاية الفلسفة ومه َّمة التفكري‪ ،)2016(،‬ترجمة وعد عىل الرحية‪ ،‬تقديم‬
‫ومراجعة عىل محمد إسرب‪ ،‬سوريا‪ :‬دار التكوين للتأليف والرتجمة والنرش‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪5.‬مارتن هايدغر‪ ،‬الكينونة والزمان‪ ،)2012( ،‬ترجمة فتحي املسكيني‪ ،‬مراجعة إسامعيل‬
‫املصدق‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتاب الجديد املتَّحدة‪ ،‬الطبعة األويل‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫‪1.‬إبراهيم أحمد‪ ،)2008( ،‬أنطولوجيا الُّلغة عند هايدغر‪ ،‬الجزائر‪ :‬منشورات االختالف‪ ،‬الدار‬
‫العرب َّية للعلوم نارشون‪ ،‬الطبعة االويل‪.‬‬
‫‪2.‬زكريا إبراهيم‪ )1968(،‬دراسات يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مرص‪ ،‬دار مرص‬
‫للطباعة‪.‬‬
‫‪3.‬زكريا إبراهيم‪ ،)1972(،‬كانط أو الفلسفة النقديَّة‪ ،‬سلسلة عبقريَّات فلسفيَّة (‪ ،)1‬القاهرة‪:‬‬
‫مكتبة مرص‪ ،‬طبعة ثانية‪.‬‬
‫‪4.‬سعيد توفيق‪ ،‬الُّلغة والتفكري الشعري عند هايدغر‪ ،)1998(،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للنرش‬
‫والتوزيع‪.‬‬
‫‪ 10-5.‬سيلفان أورو‪ ،‬جاك ديشان‪ ،‬وأخرون‪ ،‬فلسفة الُّلغة‪ ،)2012(،‬ترجمة وتقديم بسام بركة‪،‬‬
‫مراجعة ميشال زكريا‪ ،‬بريوت‪ :‬املنظمة العربية للرتجمة‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫ما وراء المعنى‬

‫‪6.‬عبد الغفار مكاوي‪ ،،‬هلدرين‪ ،)1974(،‬سلسلة نوابغ الفكر الغريب (‪ ،)21‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫املعارف مبرص‪.‬‬
‫‪7.‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬نداء الحقيقة‪ ،)2010(،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصيَّة العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة‬
‫الفكر‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪8.‬فتحي املسكيني‪ ،‬التفكري بعد هايدغر أو كيف الخروج من العرص التأوييل للعقل؟‪،‬‬
‫(‪ ،)2011‬لبنان‪ :‬جداول للنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪9.‬ديفيد كريستال‪ ،‬مخترص تاريخ الُّلغة‪ ،)2018( ،‬ترجمة أحمد الزبيدي‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪،‬‬
‫العراق‪.‬‬

‫اإلنكل� َّية‪:‬‬
‫يز‬ ‫المراجع‬
‫‪1.‬‬ ‫‪Alfred jules Ayer, (1945),Language, Truth, and Logic, London: Gollancz, 2nd‬‬
‫‪Edition.‬‬
‫‪2.‬‬ ‫‪, Routledge.‬‏‪,(2014), Martin Heidegger: Key Concepts‬‏‪Bret W. Davis‬‬
‫‪3.‬‬ ‫‪Michael Inwood, (2000), A Heidegger Dictionary, Series: The Blackwell philosopher,‬‬
‫‪Blackwell Publishers.‬‬
‫‪4.‬‬ ‫‪Michael Wheeler, (2011), Martin Heidegger, The Stanford Encyclopedia of Philosophy,‬‬
‫‪First published Wed Oct 12.‬‬

‫‪215‬‬
‫المحور‬

‫ف‬
‫"واليويم"‬
‫ي‬ ‫"اليوم"‬ ‫امتحان‬ ‫�‬
‫الفلسفة الثانية ي‬
‫ثان‬ ‫ف‬
‫فلس� ٍ‬
‫ي‬ ‫نحو مبدأ‬
‫ـ محمد أبو هاشم محجوب‬
‫ّ‬ ‫ّ ف‬
‫التصوف‬ ‫العليم ي� دراسة‬
‫ي‬ ‫مناهج البحث‬
‫ً‬
‫اإلساليم مثاال‬
‫ي‬ ‫العر� ـ‬
‫بي‬ ‫المنجز‬
‫ـ ـ بكري عالء الدين‬
‫ف ُّ‬
‫الصو�‬ ‫ُّ‬
‫النص‬ ‫ابستمولوجيا‬
‫ي‬
‫ن‬
‫ا� كمثال معارص‬
‫أبو الوفا التفتاز ي‬
‫ّ‬
‫عطية‬ ‫ـ ـ أحمد عبد الحليم‬
‫‪ n‬محاضرة‬
‫ألقيت بتاري ــخ‬

‫الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي"‬


‫ثان‬
‫نحو مبدأ فلسفي ٍ‬

‫محمد أبو هاشم محجوب‬


‫ف‬
‫مفكر وأستاذ الفلسفة ي� جامعة المنار ـ تونس‬

‫إجمايل‬
‫ي‬ ‫ملخص‬

‫استعملت هذا‬
‫ُ‬ ‫مصطلح “الفلسفة الثانية” من دون تعليق‪ .‬كنت قد‬
‫ُ‬ ‫ال ميكن أن مي َّر‬
‫الفلسفي»‪ ،‬ومن امله ِّم اإلشارة هنا إىل‬
‫ّ‬ ‫امل ْع َرف (‪ )notion‬منذ كتايب «استشكال اليوم‬
‫العنوان الكامل لهذا املؤلَّف الذي صدر يف تونس سنة ‪ : 2021‬يف استشكال اليوم‬
‫الفلسفي‪:‬‬
‫ّ‬
‫وكنت قد أردفته بالرتجمة‬
‫ُ‬ ‫تأ ُّمالت يف الفلسفة الثانية من أجل إعادة التأسيس‬
‫الفرعي عىل هذا النحو‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫الفرنس َّية لعنوانه‬
‫‪Méditations de philosophie seconde pour la Re-fondation‬‬
‫الفرعي وترجمته الفرنس َّية)‬
‫ّ‬ ‫يجدر القول أ َّن هذا العنوان‪ ،‬مبختلف فروعه (العنوان‬
‫يستحق بعض املالحظات‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫أليّن ألفيتها ال تفي باملعاين التي كنت‬ ‫ِ‬
‫أكتف بالعبارة العرب َّية “الفلسفة الثانية” ّ‬ ‫مل‬
‫املصطلحي‪ .‬وتثري هذه املالحظة بوجه ما‬
‫ّ‬ ‫رص عليها يف رضب من العناد‬ ‫أقصدها‪ ،‬وأ ُّ‬
‫اعتبارات ترجميَّة‪ ،‬تتعلَّق مبذهب يف الرتجمة ما أزال أدافع عنه منذ رشعت عام ‪1984‬‬
‫يف االشتغال بالرتجمة‪.‬‬
‫* * *‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬الفلسفة الثانية‪ ،‬اليوم‪ ،‬اليومي‪ ،‬الرتجمة‪ ،‬امليتافيزيقا‪،‬‬
‫األنتوثيولوجي‪ ،‬مبدأ فلسفي‪.‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫تقويم‬
‫إ َّن عبارة “الفلسفة الثانية” هي بكل بساطة فلسفة تأيت بعد “الفلسفة األوىل”‪ .‬لكن‪ ،‬ما إن ننطق‬ ‫[[[‬

‫بها حتى تقف َز إىل الذهن تسمية ثانية ملا اعتدنا تسميته “ما بعد الطبيعة” أو “امليتافيزيقا”‪ .‬لقد كتب‬
‫ديكارت تأ ُّمالته‪ ،‬وجعل العنوان الكامل لها‪:‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫‪Meditationes de Prima Philosophia‬‬


‫يف ما ترجمه ال َّراحل عثامن أمني تحت عنوان‪« :‬التأ ُّمالت يف الفلسفة األوىل»‪.‬‬
‫الفلسفة األوىل هي استئناف للتسمية اإلغريقيَّة القدمية‪ ،‬والتي استخدمها أرسطو يف ما يُعرف‬
‫تقليديًّا باسم «ما بعد الطبيعة»‪ ،‬والسيام ضمن مقالتَي الجيم والهاء‪ ،‬حيث أطلقها عىل معنى الثيولوجيا‪،‬‬
‫ثم ضمن مقالة الكاف مطلقة عىل معنى علم الوجود مبا هو وجود‪ :‬يقول أرسطو يف كتاب الكاف‪،3 ،‬‬
‫‪ 1060‬أ‪ 31‬وما يليها‪« :‬إ َّن علم الفيلسوف هو علم الوجود من جهة ما هو وجود‪ ،‬مأخوذًا بالكليَّة ال يف‬
‫جزء من أجزائه»‪ .‬هذان املعنيان للفلسفة األوىل هام الَّلذان توارثتهام الفلسفة بعد ذلك‪ ،‬وحتى عندما‬
‫يؤسس ضمنه للرؤية الحديثة ضمن الكوجيتو‪،‬‬ ‫يكتب ديكارت تأ ُّمالته يف الفلسفة األوىل عىل نحو ِّ‬
‫فإنَّه يتح َّرك يف أفق الفلسفة األوىل مبا هي فلسفة موضوعها الوجود والله وإن تغرَّيَّ معناهام ومتثُّلهام‬
‫يل للحقيقة‪.‬‬ ‫اليقيني التّمثُّ َّ‬
‫َّ‬ ‫جذريًّا بحيث بات مطلوب الفلسفة األوىل هو األساس‬
‫من هنا‪ ،‬فإ َّن تأ ُّمالت ديكارت يف الفلسفة األوىل تواصل تقليد امليتافيزيقا األنتوثيولوجي‪ ،‬وإمَّنَّ ا‬
‫استعملت عبارة «الفلسفة الثانية» التي مل يكن‬
‫ُ‬ ‫إليه‪ ،‬وبالنظر إليه‪ ،‬وباملقارنة التي تح ِّدد املسافة عنه‪،‬‬
‫من املمكن إسامع مقصودها إاَّلَّ بالتذكري بأنَّها الصيغة املنقلبة عىل الفلسفة األوىل يف املعنى‬
‫األرسطي (‪ )prwvth filosofiva‬من جهة‪ ،‬والديكاريتِّ (‪ )prima philosophia‬من جهة ثانية‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫يت‬
‫الصو َّ‬ ‫ري ّ‬
‫فكأمَّنَّ ا أرادت إضافة الرتجمة الفرنس َّية للفلسفة الثانية (‪ )philosophie seconde‬التذك َ‬
‫تيني هو الذي نريد االبتعاد عنه باملرور إىل فلسفة «ثانية» ال تنطلق‬ ‫الاَّل َّ‬
‫والعالمي بأ َّن املعنى َّ‬
‫َّ‬
‫التميّش ذاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالرضورة من‬
‫ترجم ًّيا إذن‪ ،‬صارت «الفلسفة الثانية» مفهو ًما‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال ميكنه أن يكون كذلك إاَّلَّ بأن يصطنع‬
‫أرضه املك َّون َة من اإلحداثيَّات التي يريد االبتعاد عنها ومغادرتها (هنا الفلسفة‬ ‫وأطراف ِ‬ ‫َ‬ ‫أرضَ ه‪،‬‬
‫يل لليقني)‪ ،‬وأن يعمد يف املقام الثاين‬
‫األوىل مبعن َييها األرسط َّيني‪ ،‬وكذلك الديكارت َّية كتأسيس متثُّ ٍّ‬
‫إىل بناء أفق مقروئ َّية أول َّية‪.‬‬
‫بيد أ َّن هذه الفلسفة تحيل أيضً ا عىل وراثة إمكانيَّة فلسفيَّة تبدأ مع تلقّي الفلسفة عند الفارايب وابن‬

‫نص محارضة ألقيت عىل باحثي الدكتوراه يف املعهد العايل للدكتوراه بالجامعة اللبنان َّية بتاريخ‪......‬‬
‫ـ ّ‬

‫‪219‬‬
‫حقول التنظير‬

‫كل ذلك إمياءة فلسفيَّة ال ميكن إنكار أصالتها‪ ،‬وهي لهذا‬


‫رشد عىل وجه الخصوص‪ .‬وهي فوق ِّ‬
‫الغرض تذكِّر حرفيًّا بـ«اإلبحار الثاين» (‪ ،deutéron ploun‬حسب العبارة األفالطونيَّة املعروفة)‬
‫كتقن َّية‪ ،‬ولكن كذلك كعالقة باملوروث‪.‬‬
‫جاه بوسائل يت ُّم‬‫ليس شأننا يف العالقة مع املوروث أن نعيد «رؤيته»‪ ،‬أو أن نعيد قراءته‪ ،‬أو أن نته َّ‬
‫مثاًل‪ ،‬أو املاديَّة الجدل َّية عند تيزيني‪ ،‬أو‬
‫استتاحتها من هذا الحقل أو ذلك ( البنيويَّة عند الجابري ً‬
‫التّحديث َّية عند بدوي أو أركون‪ ،‬أو التأصيل والتأثيل عند طه عبد ال َّرحامن ‪ ،)..‬وإمَّنَّ ا أن نبحر ثانية‪،‬‬
‫الفلسفي هو‬
‫ِّ‬ ‫وجذريًّا‪ ،‬من حيث تأ ّدت تجرب ُة اإلنسان َّية الفكريَّ ُة إىل مضيق‪ .‬لذلك‪ ،‬فاستشكال اليوم‬
‫كل يشء فهم لليوم‪ ،‬بتمثُّل عنارصه‪ ،‬وتحديد غياباته‪ ،‬وتعيني االفرتاضات التي تتحكَّم بتلك‬ ‫قبل ِّ‬
‫الغيابات‪ .‬هو يح ِّدد غرضه بأنَّه االنخراط يف اليوم‪ ،‬ويسأل عن أسباب عدم فهمه له‪ ،‬ال كانتامء‬
‫يث يطالب بخصوص َّيته‪ ،‬وإمَّنَّ ا كانتامء إىل كون َّية جوهرها هو عدم الفهم‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن أداته‬ ‫يف ترا ٍّ‬
‫ثقا ٍّ‬
‫يف مواجهة عدم الفهم هي األداة التأويل َّية‪ ،‬مع َّرف ًة عىل أنَّها يف املعنى العا ِّم الذي يخرج عن حدود‬
‫التعريف الكالسييكِّ‪ ،‬تقنيَّ ٌة يف الفهم‪.‬‬
‫خ مشرتك تعيش فيه اإلنسان َّية يومها ضمن‬ ‫ال ب َّد من اإلشارة هنا إىل أ َّن تاريخ امليتافيزيقا هو تاري ٌ‬
‫فرض‬
‫صياغته وضمن مفهمته‪ ،‬ولك َّنها مفهمة ال تقدر اليوم عىل استيعاب اإلنسانيَّة‪ ،‬وغاية ما تبلغه ٌ‬
‫الرّشق َّية‪ ،‬وال العرب َّية وال األفريق َّية نفسها‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن تفكيك‬
‫ين ال تتع َّرف ضمنه ال الإنسان َّية ّ‬
‫للكو ِّ‬
‫اليوم هو أ َّول معاين االستشكال يف معن َيي االستشكال‪ :‬إدراك هذا اليوم كتشكُّل ومعرف ِة عنارصه‬
‫أ َّو ًاًل‪ ،‬وتفكيكه كإشكال بإجالء بنيته املتنافرة ثان ًّيا‪.‬‬
‫ُ‬
‫«تفكيك‬ ‫لغوي‪ :‬إنَّنا نقرأ هذه الجملة قراءة نحويَّة تقليديَّةً‪ .‬نقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫واسمحوا يل هاهنا باستطراد‬
‫اليوم‬
‫ِ‬ ‫اليوم هو أول معاين االستشكال»‪ .‬لنضع عالمات اإلعراب التي تتبادر إىل الذهن‪ :‬تفكيك‬
‫هو أول معاين االستشكال‪ .‬مثل هذه القراءة ممكنة طب ًعا‪ ،‬ولكنها ليست مقصودنا‪ :‬إنّنا نريد تفكيك‬
‫اليوم الذي هو اليو َم‪ ،‬هذا الزمان الذي ال يكفي لوصفه أنَّه الحارض‪ ،‬وإمّنّ ا هو الزما ُن الذي يفرتض‬
‫شك يف أ َّن قواعد النحو واإلعراب ال تتَّسع‬ ‫إنسانًا يشري إليه ويع ّينه اآلن وهنا عىل أنَّه اليو َم‪ .‬ال َّ‬
‫ملثل هذه القراءة‪ ،‬فلنق َنع فقط بهذه العبارة القلقة‪ ،‬التي ال يشري قلقها إىل خطإ يف املقصود وإمنا‬
‫إىل ضيق النحو عن املقصود‪ .‬وحدها مثل هذه القراءة القلقة واملقلقة تسمح لنا بأاَّلَّ نقرأ اليو َم‬
‫رص‪ ،‬الراه ُن‪ ،‬ما يجري‬ ‫عىل أنّه الجمل ُة الحاصل ُة من ساعاته األربع والعرشين‪ ،‬وإمَّنَّ ا عىل أنّه املعا ُ‬
‫كل ما يفعل فينا‪،‬‬ ‫اآلن‪ .‬وطب ًعا‪ ،‬هذا املعارص ليس آنًا يتطابق مع ما تشري إليه الساعات‪ ،‬وإمنا هو ُّ‬
‫ولو كان آت ًيا من األباعد الزمن َّية‪ .‬مث َّة مفهوم للمعارصة ال يقرص اآلن عىل ما هو واقع يف هذه‬
‫كل معارصة تواكبنا‪ .‬يعارصنا اليوم كثريون‪ :‬يعارصنا أبو الطيب‪ ،‬ويعارصنا‬ ‫الَّلحظة‪ ،‬وإمَّنَّ ا مي ُّده إىل ِّ‬

‫‪220‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫أبو متّام‪ ،‬ويعارصنا زهري والجاحظ وأبو حيَّان ‪ ..‬يعارصوننا بفهمهم لإلنسان‪ ،‬وباإلشارة إىل ما فيه‬
‫والجوهري‪ ،‬وينتمون بذلك إىل اليو َم‪ .‬سؤالنا‪ ،‬إذن‪ :‬ما الذي ندركه من يومنا هذا؟‬
‫ِّ‬ ‫األسايس‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫مل تتجاوز ال ّدراسات الفلسف َّية العرب َّية املعارصة إشكال َّيتَي املعرفة التاريخ َّية‪ :‬أعني تحقيب‬
‫الحدوس الفكريَّة يف عالقة بسياقاتها‪ ،‬وتفصيل القول يف تلك الحدوس عىل خلفيَّة تاريخيَّة‪ .‬ومن‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫دون أن أعترب هنا االهتاممات الجامع َّية التقليديَّة املعروفة‪ ،‬فليس من الغريب أن يكون الخطاب‬
‫ريا من املحاوالت التي‬ ‫حضاري»‪ :‬إ َّن كث ً‬
‫ّ‬ ‫يب خطابًا «شبه‬ ‫الفلسفي‪ ،‬املتفلسف يف العامل العر ِّ‬
‫ُّ‬
‫اندرجت ضمن ما يُس َّمى إجاماًلً مبشاريع القراءة‪ ،‬هي محاوالت إعادة قراءة‪ ،‬تقوم عىل «إعادة‬
‫السامت التي كنت قد أرشت إليها منذ حني‪.‬‬ ‫فكري وال تخرج عن ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫تأهيل» ملاض‬
‫كل‬
‫التأريخي» الكامن يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ما اقرتحته هو اسرتجاع فكرنا إىل دائرة الفكر‪ ،‬ومغادرة «الريفليكس‬
‫واحد منا‪ :‬إ َّن مفكِّرينا العرب الذين ينبغي يف هذه الحال إعادة االعرتاف بهم‪ ،‬هم ِقطع حيَّ ٌة يف‬
‫الحي‪ ،‬ولك َّنهم قطع متحفّية قد تدغدغ شعور الفخر فينا‪ ،‬ولكنها ال تغادره‪.‬‬‫ِّ‬ ‫ين‬
‫الفكري الكو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الجسد‬
‫يب ليس من زاوية القضايا واملفهومات التي يجعلونها ممكنة‬ ‫لذلك‪ ،‬أقرتح محاورة وجوه الفكر العر ِّ‬
‫كل واحد منهم‪ .‬علينا أن‬ ‫تخص َّ‬
‫ُّ‬ ‫النبات فينا فحسب‪ ،‬ولكن أيضً ا من زاوية اإلمياءة الفريدة التي‬
‫نحاورهم مبعارصتنا‪ ،‬ومبشاكلنا ال بوصفهم أصحاب حلول‪ ،‬وإمنا بوصفهم شهو ًدا نستدعيهم إىل‬
‫نئ إىل شهاداتهم‪ ،‬إىل الح ِّد الذي‬‫مقام الب ّينة‪ ،‬وتقديم الب ّينة‪ .‬ولكنهم شهود ثِقاتٌ ‪ ،‬ميكننا أن نطم َّ‬
‫ميكننا حتى أن نج ِّرح فيها من دون أن نخدشهم‪ :‬سيق ِّدمون لنا فقط‪ ،‬إذا ما جازت العبارة‪ ،‬روايتهم‬
‫ملا جرى‪ :‬ولكن الذي جرى هو الذي يجري اليوم‪ .‬فكأمَّنَّ ا نحن نطالبهم بأن يق ِّدموا روايتهم وهم‬
‫«يعلمون» مآل الحكاية‪ .‬ولك َّن ذلك ال يعني أ َّن شهادتهم هي الكلمة الفصل‪ .‬الكلمة الفصل هي‬
‫دامئًا كلم ٌة ت ُسرتجع منهم‪ ،‬ونسرت ُّدها نحن أل َّن دخولهم إىل املشهد‪ ،‬أعني إىل التفكري‪ ،‬كان بدعوة‬
‫منا‪ :‬إنَّنا ندعوهم ألسئلتنا نحن ال محالة‪ ،‬وهو ما يعني أنَّهم لن يقولوا لنا ما ألفوا قوله‪ ،‬بقدر ما‬
‫سيقولون لنا ما كانوا سكتوا عنه‪ ،‬وبوجه ما‪ ،‬هذا الذي بسبب سكوتهم عنه‪ ،‬نطلبهم للشهادة‪.‬‬
‫بنا ًء عىل ما سلف‪ ،‬يجدر القول أ َّن ما يعمد إليه كتاب االستشكال هو رضب من املسايرة التي‬
‫يحصل دامئًا من التاريخ‪ ،‬ومن املعرفة التاريخ َّية‪ ،‬إ َّما‬
‫ِّ‬ ‫تعاين أ َّن سؤال اليوم يف الفلسفة هو سؤال‬
‫ريا لتكون اليوم وتناضجه يف أحشاء املايض‪.‬‬ ‫عرب ًة تج ّرد آحاد األحداث ضمن صيغة عا َّمة‪ ،‬أو تفس ً‬
‫َّ‬
‫مطلقيت�ه‪.‬‬ ‫ليس يل مشكل مع التاريخ‪ ،‬ولكين ال أقبل‬
‫يخصصان كيفيَّات التعامل التقليديَّة مع مايض الفكر‪ :‬فإ َّما أن نتعامل معه كجملة‬
‫ِّ‬ ‫سبيالن اثنان‬
‫من األفكار الحاصلة واملكتملة والتي متَّت صياغتها صياغة مذهب َّية يف شكل «مقاالت» جاهزة‬

‫‪221‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ومغلقة‪ ،‬قابلة للوصف والتفصيل‪ ،‬أو تقابلنا تلك األفكار كتجربة حيَّة من االفرتاض والحجاج‬
‫ماَّم يحملنا عىل أن نتعامل‬
‫واالستنتاج والجدل تشقُّها مواقف معلنة أحيانًا وضمنيَّة أحيانًا أخرى‪َّ ،‬‬
‫مع هذه التجربة عىل أنَّها تجربة النهائ َّية املعنى ال ميكن استيفاؤها ضمن ثبت محدود‪ :‬عندما جمع‬
‫ديوجينس الاليرييس‪ ،‬أو فلوطرخس‪ ،‬أخبار الفلسفات السابقة ووصفوا أجزاءها وعنارصها‪ ،‬وعندما‬
‫استجمع الشهرستاين يف «املِلل وال ِّنحل» فلسفات اإلسالميني من ال ِفرق واألعالم‪ ،‬وفلسفات غري‬
‫الفلسفي عىل أنَّه خالصة من العناوين التي‬
‫ُّ‬ ‫مثاًل‪ ،‬فقد تح َّرى أن يق َّدم نظرهم‬
‫اإلسالميني من اإلغريق ً‬
‫ميكن نسبتها إىل أصحابها باعتبارها جملة ما قالوه‪ ،‬وجامع ما انتهوا إليه‪ ،‬والحاصل من تفكريهم‪.‬‬
‫مثاًل كان عمل الدوكسوغرافيني القدامى حينام نقلوا «مذاهب الفالسفة املرموقني»‪،‬‬ ‫هكذا ً‬
‫ولعل أقىص ما‬
‫َّ‬ ‫فذكروا عناوين تفكريهم من دون حيث َّياتها وال حرك َّيتها الذات َّية التي قادت إليها‪.‬‬
‫بلغوه يف نقل تلك األفكار أنَّهم يذكرون أحيانًا حجج الفالسفة وبعض الشواهد من آثارهم‪ .‬فالذي‬
‫يحكم هذه املامرسة القدمية هو منطق الشهادة (‪ )le témoignage‬ونقل األثر‪ .‬ولكنها ال تنتمي‬
‫بعد ال إىل متثُّل فكرة التق ُّدم التي تحكم تاريخ األفكار الحديث‪ ،‬وال إىل منطق تاريخ املشكالت‬
‫الذي يسعى ملواكبة نشوء املفهومات ومتايزها‪ ،‬وال إىل منطق االستشكال الذي يقيم الحوار بني‬
‫يهاَّمننا هنا‬
‫ويؤسس ما صار يُعرف بتاريخ الفلسفة‪ .‬أ َّما األمنوذجان الكبريان اللذان َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الفلسفات‬
‫يلف‬
‫التباسا ُّ‬
‫ً‬ ‫فهام أمنوذجا تاريخ األفكار وتاريخ الفلسفة‪ :‬وأريد من خالل عرضهام اليوم أن أرفع‬
‫يب املعارص‪.‬‬
‫الفلسفي يف الفكر العر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ص‬
‫التَّعامل مع ال ّن ِّ‬
‫ماَّم عاينته دامئًا من انخراط التعامل مع الفلسفة العرب َّية قدميها وحديثها‬‫مالحظتي األوىل تنطلق َّ‬
‫ضمن منطق «تاريخ األفكار»‪ .‬هذه املعالجة محرجة إىل ح ٍّد كبري إذا ما قارنَّاها مبناهج معالجة‬
‫يب عمو ًما‪ ،‬أعني ضمن أسلوب من االستشكال[‪ ]problématisation‬الذي يدرج مفكّريه‬ ‫الفكر الغر ِّ‬
‫حي‪ ،‬ال باملضامني واملقاالت التي‬ ‫وكتبه ومعارفه كأسئلة وكأجوبة ضمن إشكال َّيات ح َّية‪ .‬املفكِّر ٌّ‬
‫حي ألنَّه ينخرط يف حوار نابض ال يستظهر مبا قاله هو وال مبا قاله معارصوه‬ ‫أصدرها وإمَّنَّ ا هو ٌّ‬
‫بقدر ما يستظهر أيضً ا بافرتاضاتهم وضمنيَّاتهم‪ ،‬وبعبارة أخرى مبا مل يقولوه‪ .‬وميثِّل بول ريكور‬
‫إحدى صور هذه الحياة الفلسف َّية من خالل ما يعرف بالحوارات «الخيال َّية» [‪les dialogues fictifs/‬‬
‫‪ ]imaginaires‬التي يعمد ضمنها إىل الجمع بني مف ِّكرِين مل يتحاوروا بالرضورة ولكنه يستدرج‬
‫األجوبة املمكنة التي قد تنجم كنتائج واستتباعات ملا قالوه‪ :‬فكأمَّنَّ ا يتمثَّل املنهج هنا يف قاعدة‬
‫تعسفًا لخيا ٍل ينسب إىل هذا املؤلّف أو‬ ‫الاَّلمقول ليس ُّ‬ ‫الاَّلمقول‪ .‬عىل أ َّن َّ‬
‫االنطالق من املقول إىل َّ‬
‫ذاك ما شئنا من اآلراء واملواقف‪ ،‬وإمَّنَّ ا هو ترتيب عىل املقول‪ ،‬وانتقال منه إىل افرتاضاته‪.‬‬
‫شكاًل من أشكال التّحيني‪ ،‬أو نسبة املواقف من خالل معاودة القراءة‬
‫ً‬ ‫ال أعني‪ ،‬إذن‪ ،‬بالالّمقول‬

‫‪222‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫تأهياًل له لإلجابة عن سؤال ليس سؤاله‪ ،‬وإمَّنَّ ا أعني به الكشف عام يعوقه عن أن‬
‫ً‬ ‫لنص ما‪،‬‬
‫ألث ٍر أو ٍّ‬
‫فاعاًل يف يومنا‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن محاورة الفكر‪ ،‬مهام كانت صيغة ذلك الفكر‪ ،‬هي‬
‫ً‬ ‫رصا لنا أي‬
‫يكون معا ً‬
‫فتح ألفق املعارصة معه أي الكشف عنه كعنرص من عنارص تفكُّر يعنينا‪.‬‬
‫إىل هذا انتهيت يف أحد نصويص َّ‬
‫السابقة‪:‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يظل مح َّد ًدا هنا هو إذن تفكرينا نحن الذين نستعيد تاريخ فكرنا‪ :‬ونحن بإزاء هذه الوضع َّية‪،‬‬
‫«ما ُّ‬
‫الكيّل‬
‫ّ‬ ‫وبال َّنظر إىل هذا الغرض‪ ،‬نفكِّر بهؤالء الذين يك ِّونون معطى لتفكرينا‪ .‬كيف؟ باستنطاق عنرص‬
‫املحصالت‪ ،‬ينبغي إدراج مفكِّرينا كحدوس تتجاوز‬ ‫ِّ‬ ‫فيهم‪ .‬وإذن‪ ،‬فعىل العكس من عادة إقامة‬
‫بكل بساطة‪ ،‬مفكّرةً»‪.‬‬
‫املحيّل‪ ،‬لتكون‪ِّ ،‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫انتامءها إىل اإلرث‬
‫تظل مقارباتنا‬
‫نص يعود إىل سنوات الثامنني‪ :‬ملاذا ُّ‬
‫سألت نفيس مرات ع َّدة‪ ،‬ومنذ أمد بعيد‪ ،‬ويف ٍّ‬
‫التاريخي‪ ،‬محكومة مبنطق «العجيبة املتحف َّية»؟ ويف أحسن األحوال مبنطق‬
‫ِّ‬ ‫العرب َّيةُ‪ ،‬يف املعنى‬
‫العجائبي‬
‫ِّ‬ ‫ولعل واحدة من أوضح الصيغ التي عربت عن هذا املنطق‬ ‫يل» إىل فكرة ما؟ َّ‬
‫السبق «البطو ِّ‬
‫نصا له عن الفارايب يف كتابه عن الرتاث والثورة‪:‬‬
‫هي الجملة التي اختتم بها محمد عابد الجابري ًّ‬
‫لقد تطلَّعت البورجوازيَّة الفرنس َّية يف القرن الثامن عرش إىل تشييد دولة الحريَّة واإلخاء‬
‫املعرَّب عن تلك التطلُّعات‪ ،‬فلامذا‬
‫َّ َ‬ ‫االجتامعي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫واملساواة‪ ،‬دولة العدل والعقل‪ ،‬وكان روسو‪ ،‬بعقده‬
‫روسو العرب يف القرون الوسطى؟‬ ‫ال نرى يف الفارايب ّ‬
‫املغالطي الذي أساسه قض َّية كربى مفادها أ َّن املقالة الفلسف َّية إمَّنَّ ا تؤخذ‬
‫ِّ‬ ‫مثل هذا القياس‬
‫يخصص‪ ،‬يف شبابه ال‬ ‫ِّ‬ ‫مبقولها ال بافرتاضها هو نفسه ما نجده عن الراحل محمد أركون الذي‬
‫يب من خالل جدل مسكويه‬ ‫كاماًل للحديث عن «اإلنسيَّة»‪ ،‬أو «املنزع اإلنساين» العر ِّ‬
‫ً‬ ‫محالة‪ ،‬كتابًا‬
‫مثاًل‪.‬‬
‫والتوحيدي يف الهوامل والشوامل ً‬
‫ِّ‬
‫فعاًل يف هذه املواقف التي تصدر عن جامعة من أعظم مفكِّرينا‪ ،‬بل من الذين‬ ‫حرَّيين ً‬
‫إ َّن ما َّ‬
‫رصح به‬
‫صاغوا شبابنا ورافقوا تطلُّعاتنا الفلسف َّية الكربى‪ ،‬هو أنَّها تأخذ املواقف باملقول فيها‪ ،‬مبا َّ‬
‫الفالسفة الذين يدرسونهم ويؤ ّرخون لتفكريهم‪ .‬بل هم ال يحرتسون حتى من كون الكلامت ليست‬
‫حاملة لالفرتاضات نفسها‪ .‬لقد تكلَّم اليونان عن اإلنسان واستعمل ديكارت وكنط هذه الكلمة‬
‫ين يحمله تص ُّور يجعله‬
‫نفسها للتّدليل عىل هذا املوجود الذي نحن إيَّاه‪ .‬ولك َّن األنرثوبوس اليونا َّ‬
‫يتلقَّى من العامل معيار معرفته وعلمه‪ ،‬يف حني يتح َّول هذا األنرثوبوس إىل متمثِّل للعامل‪ ،‬وحاكم‬
‫عليه‪ ،‬ومخضع له إىل لغة الرياض َّيات التي كان غالييل قد تح َّدث عنها‪.‬‬
‫يل) بعصوف‬
‫طرحت عىل نفيس هذا السؤال وأنا املزدوج الثقافة‪ ،‬املتم ِّرس (أو هكذا يُخيَّل إ َّ‬

‫‪223‬‬
‫حقول التنظير‬

‫حدوسا متع ِّددة ال تنتمي إىل العرص نفسه‪ ،‬وال‬


‫ً‬ ‫الجداالت الفلسفيَّة التي قد تستحرض يف فقرة واحدة‬
‫إىل السياق ذاته‪ .‬طرحته وأنا املثقل بأسئلة أعرف تاريخها‪ ،‬أو ميكنني أن أعرف تاريخها‪ ،‬من دون‬
‫معرفة إعادة ترصيفها‪ ،‬أي استحضارها عىل جهة غري الجهة «التاريخ َّية»‪ .‬كيف ميكننا تخصيص‬
‫التاريخي‪ ،‬وأعني مبغادرة هذا‬
‫ِّ‬ ‫«الجهة التاريخ َّية» [‪ ]la modalité‬؟ وكيف ميكننا مغادرة املنظور‬
‫املنظور إلزامه بحدود جهة املعرفة التي هي من شأنه‪ ،‬وعدم إغالق اإلمكان الذي تفتحه الفلسفة‬
‫يف إعادة تنشيط الحدوس‪ ،‬أعني يف فتق [‪« ]rupture/rompre‬مشيمتها»‪ ،‬و«غشائها» اللّذين‬
‫ألزمتها بهام املعرفة التاريخ َّية؟‬
‫ما سأقوله اآلن سأقوله بشكل مختزل ج ًّدا‪ ،‬ويف الحدود التي يسمح بها عرض حدس محدود‬
‫كل يشء من البداية‪ .‬ما سأقوله إذن‪ ،‬ال يتجاوز منزلة‬
‫يف الرؤية‪ ،‬ومحكوم بلياقة عدم اإلفصاح عن ِّ‬
‫الفرض َّيات‪:‬‬
‫احلدس َّ‬
‫األول‪:‬‬
‫التاريخي بتاريخ الفكر عندنا ليس راج ًعا إىل الطبيعة التاريخ َّية لهذا الفكر‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إن االضطالع‬
‫وإمَّنَّ ا إىل أ َّن املعرفة التاريخيَّة كانت – ولعلَّها ما تزال – املعرفة الوحيدة الجاهزة والعمليَّة التي‬
‫الفكري وتلقّيه وتحقيبه وتنزيله يف السياق الوحيد املمكن لها‪ ،‬أعني‬ ‫ِّ‬ ‫ميكنها استيعاب تاريخنا‬
‫واالجتامعي‪ .‬لذلك يتطلَّب التفكري عندنا‪ ،‬وتتطلَّب الفلسفة عندنا‪ ،‬نزع‬‫ّ‬ ‫السيايس‬
‫َّ‬ ‫سياق التاريخ‬
‫مثاًل موريس مرلو بونتي يف تقريظ الحكمة‪ .‬إ َّن فرض‬ ‫مطلق َّية التاريخ عىل املعنى الذي تح َّدث به ً‬
‫سطحي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫ماركيس‬
‫ٌّ‬ ‫ماركيس‪ ،‬ولك َّنه درس‬
‫ٌّ‬ ‫التاريخ عىل أنَّه هو العلم الجامع‪ ،‬وهو‪ ،‬يا للغرابة‪ ،‬درس‬
‫وانعكاسا لألشياء‪ .‬رمبا كان اعرتاض‬
‫ً‬ ‫هذا الفرض يجعل التعامل مع الفكر ال يتجاوز اعتباره أث ًرا‬
‫مرلوبونتي أش َّد اعرتاض عىل هذا الفهم عندما كتب مع ِّق ًبا عىل ماركس وعىل املاركسيني‪ ،‬الذين‬
‫رصنا نحن اليوم إيَّاهم من دون وعي‪:‬‬
‫إ َّن ماركس بجحده ق َّوة االستيفاء عن الفلسفة‪ ،‬ال يقدر‪ ،‬كام اعتقد الذين من بعده‪ ،‬ورمبا كام‬
‫اعتقد هو نفسه‪ ،‬عىل أن يح ِّول جدل َّية الوعي إىل جدل َّية للام َّدة او لألشياء‪ .‬فعندما يقول إنسان إ َّن‬
‫إاَّل يف األشياء من جهة ما يعقلها هو‪ ،‬ولَـهذه املوضوعيَّ ُة يف‬‫مث َّة جدليَّة يف األشياء‪ ،‬فذلك ال يكون َّ‬
‫نهاية األمر ق ّمة الذاتيانيَّة – مثلام كان أظهر ذلك مثال هيغل‪ .‬ال يح ّول ماركس إذن ‪ /‬الجدليَّة نحو‬
‫البرشي ومن حيث هم منخرطون‬ ‫ِّ‬ ‫بكل ما لهم طب ًعا من جهازهم‬‫األشياء وإمنا يح ِّولها نحو البرش ِّ‬
‫وهاًم‪ :‬إنَّها علم‬
‫ً‬ ‫يغرّي الطبيعة والعالقات االجتامع َّية‪ .‬فليست الفلسفة‬
‫عماًل وثقافة ضمن مرشوع ّ‬ ‫ً‬
‫جرب التّاريخ‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫احلدس الثاين‪:‬‬
‫قامت يف الجامعات العرب َّية بدرجات متفاوتة صناعة حديثة نسب ًّيا اختارت أن تس ّمي نفسها‬
‫بال ّدراسات الحضاريَّة‪ ،‬وهي إىل اليوم يف نوع من الحوار الصامت مع املعرفة التاريخ َّية التي‬
‫املوسعة عىل‬
‫َّ‬ ‫تستلف منها وتعتمدها بحيث أصبحت الدراسات الحضاريَّة تبدو مبثابة التعليقات‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ما تكتفي الدراسات التاريخيَّة بأن تشري إليه من دون التوقُّف عنده ألنَّه ليس من شأنها‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫ليس من الوجيه إفراد هذه “الحضاريَّات” بالدرس حني تقع محاورة الجذر الذي تنتمي إليه‪ ،‬أعني‬
‫التاريخي”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫“الوعي‬

‫احلدس الثالث‪:‬‬
‫يف هذا السياق “نتأت” – يف الجامعات ‪ -‬ال ّدراسات الفلسف َّية‪ ،‬ومل تتمكَّن لح ِّد اليوم من‬
‫الخروج عن اإلشكاليَّتني الَّلتني طرحتهام املعرفة التاريخيَّة‪ :‬أعني تحقيب الحدوس الفكريَّة يف‬
‫عالقة بسياقاتها‪ ،‬وتفصيل القول يف تلك الحدوس عىل خلفيَّة تاريخيَّة‪ .‬ومن دون أن اعترب هنا‬
‫الفلسفي‪ ،‬املتفلسف‬
‫ُّ‬ ‫االهتاممات الجامع َّية التقليديَّة املعروفة‪ ،‬فليس من الغريب أن يكون الخطاب‬
‫ريا من املحاوالت التي اندرجت ضمن ما يس َّمى‬ ‫حضاري”‪ :‬إ َّن كث ً‬
‫ّ‬ ‫يب خطابًا “شبه‬
‫يف العامل العر ِّ‬
‫فكري وال‬
‫ٍّ‬ ‫إجاماًل مبشاريع القراءة‪ ،‬هي محاوالت إعادة قراءة‪ ،‬تقوم عىل “إعادة تأهيل” ملاض‬ ‫ً‬
‫السامت التي كنت أرشت إليها يف ما تَق َّدم‪.‬‬ ‫تخرج عن ِّ‬
‫إ َّن تعاملنا مع الفلسفة مل يغادر إىل اليوم مقاالت الطريقة وأحاديث املنهج‪ .‬أعني أنَّه ما يزال‬
‫استنقاصا من املنهج‪ ،‬وال تهوي ًنا من قيمته‪ ،‬وإمنا أقوله ألنَّه‬
‫ً‬ ‫التفلسف‪ .‬ال أقول هذا‬‫ُ‬ ‫يرت َّدد يف ما قبل‬
‫آن األوان ليك نتفلسف واق ًعا يف ما بعد املنهج‪ ،‬وما بعد االحتياطات التقن َّية املختلفة‪ .‬آن األوان‬
‫ليك يصبح املنهج من موضوعات التفكري ال من املسبقات عليه‪ .‬حان الوقت ليك يتح َّول التفكري‬
‫يتعنَّي مساءلتها هو حدود‬
‫ولعل أول املوضوعات التي َّ‬ ‫من تطبيق للمنهج إىل خلق له أثناء التفكري‪ّ .‬‬
‫االنتساب إىل التاريخ‪ :‬هل نحن فقط أثر منه؟ أليس من الغريب أن يكون مفكِّرونا الفالسفة يف‬
‫كثري من األحيان من املؤ ِّرخني‪ ،‬أعني من جامعي ال ِعرب؟ أليس من الغريب أن يتح َّول عنرص من‬
‫يل وأدواته إىل مرجعه الوحيد؟ من حاول يف فلسفتنا العرب َّية اليوم أن يتجاوز‬ ‫عنارص الوعي التأوي ِّ‬
‫والحضاري؟ أال يخىش من ذلك التباس التفكري باإليديولوجيا حني يكون دور‬ ‫َّ‬ ‫التاريخي‬
‫َّ‬ ‫الطرح‬
‫كل طرح لسؤال الحداثة‬ ‫الحقيقي هو تكذيب أوهام اإليديولوجيا؟ أليس من الغريب أ َّن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الفلسفة‬
‫تحل به الحداثة كائ ًنا‬
‫يب منذ عقود) قد افرتض اإلنسان الذي ُّ‬ ‫فلسفي عر ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫(وهي لَ َعمري أه ُّم سؤال‬
‫كل ما يفد عليه مهام كان شكل استعداده‬ ‫تجريب ًّيا يف معنى التجريب َّية البسيطة التي تجعله يتعلَّم َّ‬
‫مثاًل يف أه ِّم كتبه عىل اإلطالق يف رأيي‪ ،‬وهو كتاب السنة‬ ‫لتلقّيها؟ فام ينتهي إليه عبد الله العروي ً‬

‫‪225‬‬
‫حقول التنظير‬

‫واإلصالح‪ ،‬هو أ َّن اإلنسان الذي سينتقل من رسديَّة الس َّنة إىل رسديَّة اإلصالح هو إنسان قائم ضمن‬
‫كل ما يفد عليه‪ ،‬مستع ٌّد لتقبُّل مناذج الحداثة من دون إشكال‪ ،‬ومن‬ ‫تجريبيَّة جذريَّة ومستع ٌّد لتقبُّل ِّ‬
‫كاّل‪ .‬إ َّن‬
‫كل ما يحتاجه يف رأيه هو القدرة عىل التق ُّبل‪ّ .‬‬ ‫دون أن تعوقه بنيته القدمية عن التق ُّبل أل َّن َّ‬
‫تق ُّبل ال ّنامذج القدمية للمحاكاة إمَّنَّ ا يت ُّم ضمن بنية روح َّية تفرتض اإلنسان موضو ًعا ال ذات ًا‪ .‬وأ َّما‬
‫إنيس (‪ ،)humanisme‬وإ َّن‬ ‫ٍّ‬ ‫تقبُّل مناذج الحداثة فيفرتض اإلنسان ذات ًا متمثِّلة‪ ،‬قامئة ضمن تص ُّور‬
‫عدم استعداد اإلنسان‪ ،‬الذي هو نحن يف هذه الحضارة‪ ،‬لِهذه البنية الذاتيانيَّة (‪ )subjectiviste‬ال‬
‫إاَّل أن يجعل عالقتنا بالحداثة عالقة بأشيائها فقط دومنا روح ودومنا بنية‪ .‬ال يقرأ العروي‬ ‫ميكن َّ‬
‫حسابًا للمكر الذي هو مكر الراهن‪ ،‬والذي يجعلنا ‪ -‬يف عني حضور األشياء الحديثة إلينا ‪ -‬مبحرض‬
‫“حداثة” خارجيَّة [ ‪ ]une modernité extérieure‬هي حداثة أشياء ال حداثة روح‪.‬‬
‫األسايس اليوم‪ ،‬وهو السؤال الذي ال تتطارحه فلسفاتنا‪ ،‬هو سؤال اإلنسان‪ .‬وعندما نطرح‬ ‫ُّ‬ ‫سؤالنا‬
‫أب أو ج ٌّد قال يو ًما ما‪“ :‬إ َّن اإلنسان‬
‫هذا السؤال فإنَّنا رسعان ما نلوذ برتاثنا الدافئ ونتذكَّر أنَّه كان لنا ٌ‬
‫فرق هو الفرق الذي بني الحداثة والقدامة‪.‬‬ ‫قد أشكل عليه اإلنسان”‪ .‬مث َّة بني اإلنسان واإلنسان ٌ‬
‫ماَّم ال تجرؤ فلسفاتنا العرب َّية اليوم عىل طرحه وعىل استشكاله‪ ،‬أل َّن ذلك يقتيض أ َّواًلً وضع‬
‫وهذا َّ‬
‫بعض املطلقات التقليديَّة موضع سؤال‪ .‬ولكن وضعها موضع السؤال‪ ،‬ال يعني نفيها وال االستغناء‬
‫عنها‪ ،‬بل يعني فقط االستعداد لها استعدا ًدا آخر‪ ،‬وتلقّيها‪ ،‬وأعني اإلميان والتديُّن تحدي ًدا‪ ،‬تل ّق ًيا‬
‫آخر‪.‬‬
‫الفكرة األخرية التي أريد اآلن أن أعرضها عليكم هي أ َّن الفلسفة تقُوم وتستق ُّر مبوجب رضب‬
‫اليومي‪ :‬رف ًعا لكرثته إىل وحدة مثاليَّة (سقراط يف املحاورات)‪ ،‬أو تكذيبًا لدعواه‬ ‫ِّ‬ ‫من التّعايل عىل‬
‫باسم جوهريَّة ما (أفالطون وأرسطو) أو متث ًّاًل له وفق شبكة رياض َّية أو فيزيائ َّية (ديكارت ضمن‬
‫تأوياًل‬
‫ً‬ ‫كتاب أهواء النفس)‪ ،‬أو استكنا ًها لحقيقته ض َّد مظهره البادي واملبارش (ماركس ‪ -‬فرويد)‪ ،‬أو‬
‫كل هذه املواقف تح ِّدد الفلسفة عىل أنَّها‬
‫ملعناه الذي ال ينتهي (التأويل َّيات مبختلف تلويناتها)‪ .‬إ َّن َّ‬
‫“ماوراء” اليومي (‪ ،)méta-quotidien‬وتضع عالمة تحقّقها يف مغادرة هذا املظهر‪ ،‬أو هذه العبارة‬
‫التي هي اليومي‪ ،‬نحو رضب من األساس هو تحدي ًدا هذا املاوراء‪.‬‬
‫اليومي‪ ،‬ومبارشيَّته‪ ،‬ومغالِطيَّته‪ ،‬وبني جوهريَّة‬
‫ِّ‬ ‫الصامت بني جزئيَّة‬‫الرّصاع ّ‬
‫مث َّة إذن‪ ،‬رضب من ّ‬
‫كل رصاع‪ .‬مث ّة‬
‫الرّصاع‪ ،‬مثلام هو الشّ أن يف ِّ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬وكلّيّتها‪ ،‬وتفسرييَّتها أو تأويليَّتها‪ .‬ويف هذا ّ‬
‫رضبان من الخطاب‪ :‬أحدهام خطاب ظاهر‪ ،‬مهيمن‪ ،‬هو خطاب الفلسفة‪ ،‬والثاين خطاب ال يقبل‬
‫ريا عرض ًّيا‪ ،‬هو نوع من الحضور الذي يغالط هيمن َة القول‬ ‫االنسحاب متا ًما‪ ،‬ويعرِّبِّ عنه نفسه تعب ً‬
‫تحيُّاًل عىل رقابة املفهوم (‪.)censure du concept‬‬ ‫ً‬ ‫تسلُّاًل إىل السطح‪ ،‬ويتحيَّل‬
‫ً‬ ‫الفلسفي‪ ،‬ويتسلّل‬
‫ِّ‬

‫‪226‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫الفلسفي‪ ،‬ليحرض إىل املشهد‪ ،‬فإنَّه‬ ‫َّ‬ ‫اليومي‬


‫ُّ‬ ‫عىل أنَّه حتى يف هذه الصورة‪ ،‬وحتى عندما يراوغ‬
‫تقتص له‬ ‫ُّ‬ ‫ال يتمكَّن من تسجيل حضوره إاَّلَّ برضب من الفلسفة الثانية‪ ،‬الفلسفة األخرى‪ ،‬التي‬
‫وتتوىَّل التعبري عنه كحالة من حاالت حدود الفلسفة‪ :‬هذا الخطاب الثاين‬ ‫َّ‬ ‫من إرادة نسيانه وكبته‪،‬‬
‫هو مقصود هذه الورقة متثيل ًّيا‪ ،‬أعني من خالل تقديم مثال أو مثالني‪ ،‬تبدو فيه الفلسفة وكأمَّنَّ ا‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫اليومي‪ ،‬أو بساطة‬


‫َّ‬ ‫التقليدي الذي نس ّميه اليوم‬
‫ِّ‬ ‫املنيس‬
‫ِّ‬ ‫تع ِّدل نفسها‪ ،‬باعرتافها بهذا املكبوت‪ ،‬بهذا‬
‫اليومي‪ ،‬ولكن ميكننا من دون حرج أن نس ّميه «الواقع»‪ ،‬أو «تجربة الوجود البسيطة»‪ ،‬إلخ‪ .‬هذا‬ ‫ِّ‬
‫املعنى هو الذي نقصده كلَّام تح َّدثنا عن الفلسفة الثانية‪ .‬ليست الفلسفة الثانية مذه ًبا فلسف ًّيا‪ ،‬وال‬
‫معنَّي‪ ،‬وإمَّنَّ ا هي منهج ًّيا إمياءات عديدة ميكن أن نذكر منها إمياءات‬ ‫موقفًا جدي ًدا ذا مضمون َّ‬
‫باليومي الذي باسمه يت ُّم‬
‫ِّ‬ ‫وكل ذلك يتعلَّق‬
‫التكذيب‪ ،‬واالستدراك‪ ،‬والتذكري‪ ،‬والتحيني‪ ،‬والتحييث ‪ُّ ..‬‬
‫رفع هذه اإلمياءات جمي ًعا‪.‬‬
‫فإيّن أقرتح أن تكون سبيلنا سبيل‬
‫كيّل عا ٍّم‪ّ ،‬‬
‫ومل َّا كنت يف الوقت الحارض ال أريد صياغة موقف ّ ٍّ‬
‫التمثيل بأمثلة ميكن الحقًا استجامع دروسها‪.‬‬
‫سأقترص هنا‪ ،‬ويف الحدود التي يتيحها وقت املحارضة‪ ،‬عىل مثال كنت قد تح َّدثت عنه سابقًا‬
‫يف أحد نصويص‪ ،‬وهو مثال التوحيدي ومسكويه‪.‬‬
‫“الهوامل والشوامل” كتاب اشرتك فيه أبو حيان التوحيدي (‪ )-1023 923‬ومسكويه‬
‫ساَّمها “الهوامل”‪ ،‬إىل مسكويه الذي أجاب عنها‬ ‫التوحيدي َّ‬
‫ِّ‬ ‫(‪ ،)1030-932‬وقد احتوى أسئلة من‬
‫التوحيدي أراد بأسئلته‬
‫َّ‬ ‫التوحيدي نفسه‪“ :‬الشوامل”‪ .‬ذهب بعضهم يف تأويله إىل أ َّن‬ ‫ُّ‬ ‫ساَّمه‬
‫يف ما َّ‬
‫أن يحرج مسكويه يف رضب من امتحان معرفته الفلسف َّية‪ ،‬تلك املعرفة التي سيقول عنها يف الليلة‬
‫فلاَّم‬
‫طوياًل بالكيمياء‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫الثانية من اإلمتاع واملؤانسة إنَّها معرفة متأخِّرة لكون صاحبها انشغل عنها‬
‫إاَّل شاديًا (محاكيًا ومقلّ ًدا وآخذًا باألطراف)‪ ،‬وذهب البعض اآلخر (أركون‬ ‫جاء إىل الفلسفة مل يكن َّ‬
‫حة واملعاندة‪ ،‬وبني برود الحكمة‬ ‫مثاًل) إىل أ َّن الكتاب قد جمع بني أسئلة الوجدان الثائرة واملل َّ‬ ‫ً‬
‫كل‬ ‫التوحيدي مفكِّر االستنكار واإلحراج والتح ّدي واستهجان ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫و”موضوع َّيتها” ومدرس َّيتها‪ .‬لقد كان‬
‫العبثي دومنا خجل وال توقري‪ ،‬وال يتخلَّف عن ِّ‬
‫أي‬ ‫َّ‬ ‫اليومي الذي يطاول‬
‫ِّ‬ ‫البداهات‪ ،‬كان مفكِّر مأساة‬
‫فرصة تتيحها له األسئلة ليتسلَّل إىل السطح فيفضح سكوت العقل البارد عن مظامل الحياة‪ ،‬وقيام‬
‫اليومي‪ ،‬وإعالء العربة املج َّردة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العلم عىل رضب من تهميش العيان‪ ،‬وازدراء‬
‫كل‬
‫التوحيدي مبسكويه‪ ،‬وال يف رسم مالمح شخص َّية ٍّ‬‫ِّ‬ ‫للتوسع يف تأويل لقاء‬
‫ُّ‬ ‫مجااًل‬
‫ً‬ ‫ليس هذا‬
‫منهام‪ .‬وكنت قد كتبت عن هذا الكتاب ما سينرش قريبًا يف مناقشة مفهوم الـ” ‪»Humanisme arabe‬‬
‫أصاًل‪ ،‬بعبارة «األنسنة العرب َّية»‪،‬‬
‫ً‬ ‫الذي ترجمه هاشم صالح‪ ،‬يف ‪ ،1997‬ترجمة ركيكة‪ ،‬غري فاهمة‬

‫‪227‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يب‪.‬‬
‫ألنَّه‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬قام عىل متثُّل أركوين مبتور وفضفاض للمفهوم الغر ّ‬
‫التوحيدي‬
‫ِّ‬ ‫الرئييس ضمن هذا املثال «املضغوط» هو أنَّنا مع جدل‬ ‫َّ‬ ‫حري القول أ َّن حدسنا‬‫ٌّ‬
‫أرسطي‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫ين‬
‫سقراطي ضمن الثقافة العرب َّية‪ ،‬وتقليد أفالطو ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ومسكويه‪ ،‬مبحرض جدل بني تقليد‬
‫نسقي‪ ،‬ال ينتمي بعد إىل تقاليد‬‫ٍّ‬ ‫السقراطي بكونه تقلي ًدا غري‬
‫َّ‬ ‫نخصص التقليد‬ ‫ِّ‬ ‫سنكتفي هنا بأن‬
‫الفلسفة النسق َّية‪ ،‬بل هو أقرب إىل رضب من «اإليثيقا الجدل َّية» كام سيقول غادامري‪ ،‬يف حني‬
‫كل أجزائها بحسب‬ ‫األرسطي بكونه تقليد الفلسفة النسق َّية التي تتح َّدد ُّ‬
‫َّ‬ ‫ين‬
‫نخصص التقليد األفالطو َّ‬
‫التوحيدي هو الذي ميثّل هذا التقليد‬
‫َّ‬ ‫وحدسنا أ َّن‬
‫ُ‬ ‫مبدإٍ يتحكَّم فيها وتكون هي مستنتَجة منه‪.‬‬
‫السقراطي الذي تنخرط ضمنه وجوه فلسفيَّة سنأيت إىل الكشف عنها الحقًا‪ ،‬وأ َّن مسكويه هو‬ ‫َّ‬
‫لليومي ضمن‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫األرسطي‪ ،‬أعني تقليد الرفع (‪)sublimation‬‬
‫َّ‬ ‫ين‬
‫الذي ميثِّل التقليد األفالطو َّ‬
‫املفهوم‪.‬‬
‫التوحيدي صادرة عن نفس ثائرة ال ترت َّدد يف رفع التناقضات وفضحها وكشف‬ ‫ِّ‬ ‫الواضح أَ َّن أسئلة‬
‫حرج أمام الفلسفة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫رشا من غري مداورة‪ ،‬فليس من ذلك يف ح ِّد ذاته‬ ‫رش ًّ‬ ‫تفاصيلها‪ ،‬ويف تسمية ال ِّ‬
‫ذلك بأ َّن مه َّمتها قد تح َّددت دو ًما يف عدم الته ُّرب من األسئلة‪ .‬ولكن الحرج يكون حقيق ًّيا عندما‬
‫يعمد الناطقون باسمها إىل التخفّي وراء رضب من «اإللغازيَّة» العا َّمة التي تعمد كام قال مريلوبونتي‪،‬‬
‫ريا أدىن»‪ .‬إنَّنا‬ ‫محياًل يف التقريظ عىل برغسون‪ ،‬إىل إعالء «الحكمة اإلله َّية التي تجعل من ال ِّ‬
‫رش خ ً‬ ‫ً‬
‫هاهنا أمام إشكال َّية مركزيَّة يف الفلسفة‪ :‬هي إشكال َّية العدل‪ ،‬الذي ليس فقط عدل مجازاة األفعال‬
‫عىل قدر األذيَّة‪ ،‬وليس إنصاف الناس بحقوقهم‪ ،‬وإمنا هو الصورة النموذج َّية للعدل‪ ،‬أعني العدل‬
‫مقاباًل للنقص‪.‬‬
‫ً‬ ‫مقاباًل للفضيلة‪ ،‬والحرمان‬
‫ً‬ ‫اإللهي‪ ،‬أعني عدالة اإلعطاء‬
‫َّ‬
‫التوحيدي‬
‫ِّ‬ ‫تقليدي‪ ،‬وأ َّن هذا السؤال مل يُ َرَث فقط بني‬
‫ٌّ‬ ‫نحن نعرف ج ّي ًدا أ َّن هذا املبحث مبحث‬
‫ومسكويه‪ ،‬بل هو سؤال العدل لدى فيلسوف مل يقبل حتى بأن يستمع إىل رصخة محاوره التي ال‬
‫أي عقل‪.‬‬‫تخفى وجاهتها عىل ِّ‬
‫قال التوحيدي يف املسألة ‪ 88‬من «الهوامل والشّ وامل» مخاط ًبا صديقه مسكويه الفيلسوف ما‬
‫نخترصه يف هذا املقطع‪:‬‬
‫حلق‪،‬‬ ‫«ح ِّدثني عن مسألة هي ملكة املسائل والجواب عنها أمري األجوبة‪ ،‬وهي الشّ جا يف ال َ‬
‫الصدر‪ ،‬والوقْر عىل الظَّ ْهر‪ُّ ،‬‬
‫والس ُّل يف الجسم‪ ،‬والحرس ُة يف النفس‬ ‫ُصة يف َّ‬
‫والقَذى يف العني‪ ،‬والغ ّ‬
‫‪( ...‬وهذه املسألة) هي حرمانُ الفاضل و إدراكُ الناقص؛ ولهذا املعنى خَلع ابن الراوندي ِربْقة‬
‫حد «فالن» يف اإلسالم‪ ،‬وارتاب فالن يف الحكمة‪»...‬‬ ‫ال ّدين وقال أبو سعيد الحصريي بالشّ ك‪ ،‬وأَلْ َ‬

‫‪228‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫التوحيدي مثال أيب عيىس الوراق‪ ،‬منتهيًا إىل أ َّن «البحث يف هذا الرسِّ واجب‪ ،‬فإنَّه‬
‫ُّ‬ ‫ويرضب‬
‫حة العقل ‪. »..‬‬ ‫باب إىل ر ْوح القلب وسالمة الصدر‪ ،‬وص ّ‬
‫الاَّلمحدود‬
‫التوحيدي‪ ،‬وبحثه َّ‬
‫ِّ‬ ‫ويعلّق محمد أركون عىل هذا املقطع تحدي ًدا بأنَّه يحمل جرأة‬
‫عن فائض روح وفائض حقيقة‪ .‬ولكن جرأته هذه يف رأينا ال تقف عند هذا الح ِّد‪ :‬إنَّها تتمثَّل‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫فلسفي‪ :‬لذلك ال ميكن أن نهمل‬ ‫ٍّ‬ ‫خصوصا يف تأهيل املوضوعات اليوم َّية لتكون موضوعات تأ ُّمل‬
‫ً‬
‫مثاًل عن استنكار بعضهم انتقال اإلنسان من مذهب إىل مذهب‪ ،‬بل واستقراره يف حال من‬ ‫سؤاله ً‬
‫عموم عدم الحقيقة واليقني‪ ،‬وال ميكن أن نهمل سؤاله (يف املسألة ‪ )82‬عن الحكمة من اعتبار‬
‫الناس من جهة متساوين يف الرشف مع أنَّهم من جهة ثانية متباينون‪ :‬أليس يلجئنا هذا التباين إىل‬
‫االعرتاف بأنَّهم إ َّما مقهورون أو ج َهلة؟ وال ميكن أن نتغافل عن سؤاله (املسألة ‪ :)142‬مل صار‬
‫الحظْر يثقل عىل اإلنسان؟ أو عن سؤاله (املسألة ‪ )65‬عام يدفع اإلنسان إىل قتل نفسه بسبب‬
‫ج ُد ملا يطلب ‪..‬‬ ‫اإلخفاق أو الحاجة والعجز أو عدم مؤاتاة ما ي ِ‬
‫كل تلك أسئلة ال تنطلق من كتب الفالسفة‪ ،‬وليس من عادتهم الخوض فيها‪ .‬إ َّن ما يج ُّد مع‬ ‫ُّ‬
‫اليومي إىل أسئلة الفلسفة عىل نحو محرج‪ ،‬مستن ِكر‪ :‬هي أسئلة محرجة‬ ‫ِّ‬ ‫أيب حيان هو دخول الوعي‬
‫ترسخت الفلسفة‬ ‫خاصة محرجة للفلسفة‪ ،‬ألنَّها غري تقليديَّة فيها‪ .‬لقد ّ‬ ‫َّ‬ ‫للملّة‪ ،‬ولألخالق‪ ،‬ولكنها‬
‫عىل أن تجيب عن أسئلتها؛ وهي مل تتع َّود بعد أن تجيب عن أسئلة ال هي تستطيع أن تنكر إمكانها‪،‬‬
‫إاَّل مبداورات كربى‪ .‬هذه املداورات هي التي نريد أن نج ِّربها عىل‬ ‫وال هي تستطيع أن تجيب عنها َّ‬
‫املسألة ‪ 88‬التي تطرح قض َّية العدل كإنصاف‪ ،‬تفرتض أنَّه مطلوب بحسب معيار استحقاق هو‬
‫الفضيلة‪ :‬كيف ميكن أن يكون الفاضل محرو ًما؟ والناقص مدركًا مبسوطًا؟‬
‫الفلسفي الذي ننتظر أن يكون من شأن مسكويه اضطال ًعا‬ ‫ُّ‬ ‫يف ضوء ما سلف‪ ،‬يبدو االضطالع‬
‫كل خوض فيها‪ .‬وهو ثانيًا يعتذر بأنَّه‬ ‫مخيّبًا لالنتظار‪ :‬فهو أو ًَّاًل يحيل عىل “الكالل” و”السآمة” من ِّ‬
‫ال يعرف يف هذه املسألة “كال ًما مبسوطًا” ملن سبق من املتق ِّدمني‪ .‬وعندما مي ُّر مسكويه إىل جواب‬
‫كل منها وفق غاية وكامل‪ ،‬لينتهي‬ ‫املسألة فإنَّه يحيل عىل ما تشرتك فيه املوجودات من ترتيب ٍّ‬
‫إىل أ َّن غاية وجود اإلنسان ليست “االستكثار من القنية والتمتُّع باملآكل واملشارب”‪ ،‬وإمَّنَّ ا غايته‬
‫تحصيل العلوم واملعارف‪ ،‬وإعامل ال ّرويَّة والفكر واختيار األفضل‪ ،‬أي ما تكمل به صورة اإلنسانيَّة‬
‫التوحيدي حالة‬
‫ُّ‬ ‫لبلوغ املنازل الرشيفة التي ال يباح بها لغري أهلها‪ ،‬مام يجعل القُنيات التي شخّص‬
‫الحرمان يف عدم تحصيلها ال تكون من جوهر الغاية التي ألجلها ك ِّون اإلنسان‪.‬‬
‫ربر حرمان الفاضل بكون ما يطلبه ليس من شأنه‪ ،‬وإدراك الناقص‬
‫إذن‪ ،‬إجابة مسكويه هذه ت ِّ‬
‫بكون ما يحصله هو من طبيعته وجوهره املخصوص‪ .‬ال حاجة يب إىل أن أستقرئ مدى اقتناع‬

‫‪229‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يستحق؟ وإذا كان االستكثار‬


‫ّ‬ ‫التوحيدي بجواب مسكويه‪ .‬هل العدالة أن ال ينال اإلنسان بحسب ما‬
‫ِّ‬
‫جا عن جوهر اإلنسان فلم جعل الله جزاء اآلخرة يكاد‬ ‫من القنيات والتمتُّع باملآكل واملشارب خار ً‬
‫التوحيدي أل َّن “الهوامل والشّ وامل” كتاب أسئلة وأجوبة وليس‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ينحرص فيها‪ .‬تلك أسئلة ال يطرحها‬
‫كام ظ َّن أركون‪ ،‬شبي ًها بحوار من الحوارات السقراط َّية التي تقفز فيها األسئلة ض َّد األجوبة وض َّد‬
‫أجوبة األجوبة‪ .‬إنَّنا هاهنا داخل بنية فلسفة تقوم عىل اإلجابة املبكّتة ال عىل استئناف السؤال‪.‬‬
‫رب عدالة يُراد لنا أن نستأنف بها أنفسنا‪ ،‬جوه ُر رسالتها أ َّن الذين ميلكون إمَّنَّ ا شأنهم أن ميلكوا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وأن الذين ال ميلكون إمَّنَّ ا أجرهم عىل الله‪ .‬ال أعرف إن كانت هذه األجوبة تريض الجموع املحرومة‬
‫والشباب الهادر يوميًّا‪ ،‬هذا الشباب الذي بات يو ُمه حارقًا فأجبناه بفلسفة محروقة‪ .‬سأعود إىل‬
‫يب ميكن‬ ‫مسكويه‪ :‬لقد اجتهد أركون يف أن يستنبت يف “الهوامل والشوامل” ت َّيا َري منزع إنسا ٍّ‬
‫ين عر ٍّ‬
‫والتوحيدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ين مل يكن منز ًعا يتقاسمه مسكويه‬ ‫الرجوع إليه استئنافًا ألنفسنا‪ :‬مل ي َر أ َّن املنزع اإلنسا َّ‬
‫كل ما ال ينضبط إىل العقل‬ ‫التوحيدي ميثِّل اليوم املفعم باألسئلة‪ ،‬والوعي املعرتض عىل ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فقد كان‬
‫الكيّل التي ال يشء مينعها من أن تتجاوز‬‫ّ ِّ‬ ‫السليم‪ .‬أ َّما مسكويه فلم يكن يرى أبعد من حكمة الخري‬
‫الكيّل‪ :‬تلك الحيث َّيات الصغرية التي تحمل فاقد‬ ‫ّّ‬ ‫رش الحيث َّيات الصغرية باسم ذلك الخري‬
‫مشهد ِّ‬
‫“الكسرْية اليابسة والبق ْيلة الذاوية‪ ،‬والقميص املرقَّع‪،‬‬
‫ْ‬ ‫األمل عىل أن ينتحر‪ ،‬والفاضل عىل أن يتح َّمل‬
‫وسذَاب درب الر ّواسني” (اإلمتاع‪ ،‬الليلة ‪.)40‬‬ ‫يل درب الحاجب‪َ ،‬‬ ‫وباق ّ‬
‫ين؟ لنفهم م َّرة واحدة أنَّه ليس فقط منزع السؤال عن اإلنسان‬ ‫وبعد‪ ،‬فام هو املنزع اإلنسا ُّ‬
‫التوحيدي ومل يربع فيه مسكويه‪ :‬الهوامل والشوامل‪ ،) 68 ،‬وإمنا هو القرار‬ ‫ُّ‬ ‫(وحتى هذا فقد برع فيه‬
‫الفلسفي الحاسم بأ َّن اإلنسان هو الذي يتمثَّل العامل ويريده و يح ِّدد القيم فيه‪ ،‬ألنَّه هو مركزه‪ .‬لن‬‫ُّ‬
‫كل ذلك بفلسفة‬ ‫نذهب إىل أيَّة حداثة حضاريَّة وال سياس َّية وال اجتامع َّية وال ثقاف َّية‪ ،‬لن نذهب إىل ِّ‬
‫كيّل‪ ،‬وطبيعة مرسومة يف األشياء واملوجودات‪ .‬سنذهب إىل‬ ‫ربر ما يوجد باسم عدالة عليا‪ ،‬وخري ّ ٍّ‬ ‫ت ِّ‬
‫الكيّل‪،‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫تلك الحداثة وإىل تلك املركزيَّة اإلنسان َّية بإحراج تلك العدالة العليا‪ ،‬وإقالق ذلك الخري‬
‫وزحزحة ذلك املعنى الجاثم‪ ،‬أعني باستنباتها يف اإلنسان بعدما طال مقامها خارجه‪ .‬مثل تلك‬
‫األسئلة هي التي طرحها أبو ح َّيان ومل يطرحها مسكويه الذي كان مشغواًلً فقط بإطفاء الحرائق‪.‬‬
‫مثااًل مبا يف ذلك الشعرة‬
‫لكل يشء ً‬ ‫‪“ ...‬عاتب برمانيدس سقراط عىل تر ُّدده يف أن يجعل ِّ‬
‫والقاممة والطني‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك أنَّك ماتزال شابًا يا سقراط‪ ،‬ومل تتمكَّن منك الفلسفة بع ُد مثلام‬
‫بأي من هذه األشياء‪ .‬وأ َّما اآلن فأراك‪ ،‬بسبب س ِّنك‪،‬‬
‫ستفعل يو ًما ما‪ ،‬حني لن تستخف ٍّ‬
‫ُ‬ ‫أحسب أنها‬‫َ‬
‫كثري التّوقري آلراء الناس‪( ”...‬برمانيدس‪ 130 ،‬ه)‪.‬‬
‫ما الذي يجعل شيئًا ما فلسف ًّيا؟ ما الح ُّد الفاصل بني “فلسف َّية” هذا اليشء و”الفلسف َّية” اليشء‬

‫‪230‬‬
‫"الفلسفة الثانية في امتحان "اليوم" و"اليومي‬

‫نعنّي للفلسفة موضوعات تكون بحسب طبيعتها منتمية إليها‪ ،‬وموضوعات‬ ‫اآلخر؟ هل ميكن أن ّ‬
‫أخرى تستبعدها الفلسفة وال تعرتف بها وال تتناولها؟‬
‫للفلسفة‪ ،‬أعني للميتافيزيقا التي هي االسم اآلخر لها‪ ،‬موضوعاتُها التّقليديَّة‪ ،‬ح ّددها الفالسفة‬
‫السقراطيني بعبارات األيناي‪ ،‬واللّوغوس‪ ،‬وال ّنوس‪ ،‬والبسويك‪ ،‬والكوسموس ‪...‬‬ ‫منذ نطق ما قبل ّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ثم جعلها أفالطون وأرسطو موضوعات غرض َّية للتفكري‪ .‬ال يتعلق األمر إذن‪ ،‬بأن ننكر عىل الفلسفة‬
‫موضوعاتها التقليديَّة‪ ،‬ولكنه ال يتعلَّق كذلك بأن نعاود رسد مقاالتها‪ ،‬أعني مقاالت الفالسفة حول‬
‫هذه املوضوعات التقليديَّة‪ .‬ما نو ُّد الخوض فيه عوضً ا من ذلك هو تلك الحصاة التي ح َملتها أوىل‬
‫رشقات انتفاضة املقهورين يف مظلمة التاريخ الحديث عىل األرض املق َّدسة يف فلسطني‪ ،‬والتي‬
‫الصبية الذين ك َّنا‪ ،‬والتي مل تلتفت إليها الفلسفة‬ ‫حملت رمزيَّة الغنم والخرسان الفرديَّني يف ألعاب ِّ‬
‫الاَّلشعور‪ ،‬والتي روى بعضهم أ َّن هيغل نظر إىل أكداسها‬ ‫النفيس يف خ َّزان َّ‬
‫ُّ‬ ‫دسها التحليل‬
‫دامئًا بعدما ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫أي غُنم للنظران الجد ّ‬ ‫مستعظاًم تلك الجبال‪ ،‬ومطمئ ًنا نفسه بأنَّها ال متثِّل َّ‬
‫ً‬ ‫مرتاكمة يف جبال األلب‬
‫عماًل له يجد فيه‬
‫ولك ّن هيغل عاد يف االستتيقا لريى يف الدوائر التي يحدثها الطفل برميها يف املاء ً‬
‫انعكاسا لنفسه وإعادة إنشاء لها‪ ،‬متا ًما كام عاد مرلوبونتي يف تقريظ الحكمة إىل االستدراك من خالل‬ ‫ً‬
‫برغسون بأنَّنا لنئ مل نكن تلك الحصاة‪ ،‬فإنَّها «حني نراها توقظ يف جهازنا اإلدرايكِّ أصداء‪ ،‬فينكشف‬
‫كرتق منه إىل الوجود لذاته‪ ،‬وكاستنقاذ منا لذلك اليشء‬ ‫إدراكنا إىل نفسه كسليل من تلك الحصاة‪ ،‬أو ٍّ‬
‫الضمني‪ ،‬ذلك اليشء األخرس‬ ‫ِّ‬ ‫رشع يف نرش وجوده‬ ‫األخرس الذي ما أن يدخل علينا حياتنا حتى ي َ‬
‫الذي ينكشف إىل نفسه عربنا نحن»‪ .‬فإذا بهذا «الذي ك َّنا مطابق ًة ظن ّناه‪ ،‬معايش ًة وجدناه»‪.‬‬
‫نريد إذن‪ ،‬أن نتح َّدث عن الحصاة‪ ،‬ال عن الحصاة بعينها‪ ،‬وإمنا عنها بوصفها براديغام املهمل‬
‫اليومي الذي تح َّددت الفلسفة دامئًا بالقطيعة معه‪ .‬ونريد‪ ،‬يف مقابل ذلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف الفلسفة‪ ،‬وأمنوذج‬
‫الفلسفي برفعه إىل منهج التأ ُّمل واالعتبار‬
‫ِّ‬ ‫املنيس‪ ،‬واستدراكه إىل‬
‫ِّ‬ ‫التفلسف يف هذا املهمل‬ ‫ُ‬
‫الفلسف َّيني‪.‬‬
‫ماَّم قد يكون قاله الفالسفة‬ ‫سأعترب الفلسفة ال من جهة ما هي خطاب عن املهمل يُستخلص َّ‬
‫هنا أو هناك‪ ،‬يف هذا الركن أو يف هذا املنعطف من جملة من جملهم‪ ،‬أو من فقرة من فقراتهم‪،‬‬
‫وإمَّنَّ ا من جهة ما هي إمياءة وأسلوب‪ .‬وسأبحث عن معاودة ذلك األسلوب خارج املوضوع الذي‬
‫أسايس‪ ،‬أي بتهجريها‬
‫ٍّ‬ ‫أشتغل عليه‪ .‬ما سأعمد إليه إذن‪ ،‬هو رضب من مؤارضة اإلمياءة عىل نحو‬
‫الفلسفي‪ ،‬أل َّن‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي هو أ َّو ًاًل يشء‬
‫َّ‬ ‫خارج تربتها وبالنظر إىل األفق الذي نظرت إليه‪ :‬إ ّن اليشء‬
‫إاَّل يف معنى ثانٍ لعلَّه‬
‫الفلسفة ال تعي نفسها جوهريًّا كفلسفة أشياء‪ ...‬بل هي ال تعي نفسها كذلك َّ‬
‫من بني مقصودات ما أس ّميه «فلسفة ثانية»‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫ّ‬
‫التصوف‬ ‫ّ‬
‫العلمي في دراسة‬ ‫مناهج البحث‬
‫ً‬
‫مثاال‬ ‫المنجز العربي ـ اإلسالمي‬

‫بكري عالء الدين‬


‫ّ‬ ‫ّ ف‬
‫التصوف ـ سوريا‬ ‫باحث ومحقق ي� مناهج دراسات وبحوث‬

‫ّ‬
‫إجمايل‬
‫ي‬ ‫ص‬ ‫ملخ‬

‫التوسع يف معرفة أصول وتط ُّور‬


‫ُّ‬ ‫العلمي‬
‫ِّ‬ ‫يقتيض تت ُّبع املناهج العلم َّية يف البحث‬
‫اإلسالمي املتعلِّق بالتص ُّوف والعرفان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫العلوم املدروسة‪ .‬ويف حال الرتاث العر ِّ‬
‫بكل‬
‫تزداد املسألة تعقي ًدا‪ ،‬ألنَّنا ندخل مجال "ما وراء طور العقل"‪ .‬وهنا تربز الذاتيَّة ِّ‬
‫يف ويف النصوص "املستغلَقة"‪ ،‬كام هو الحال‬ ‫وخصوصا يف الشعر الصو ِّ‬
‫ً‬ ‫أبعادها‬
‫ماَّم دعا بعض املثقَّفني‬
‫يب‪ ،‬ويف القصص الرمزيَّة البن سينا‪َّ ،‬‬ ‫يف نصوص ابن العر ِّ‬
‫إىل وصف هذه التجربة بـ"الرسياليَّة"‪ ،‬أل َّن الوقع الرنّان لهذه الكلمة يخفي عجزنا‬
‫عن فهم ما وراء طور العقل‪ ،‬وتجربة الوجد والشهود‪.‬‬
‫العلمي يف دراسة التص ُّوف والعرفان‬ ‫ِّ‬ ‫تناولنا يف مقالنا حول مناهج البحث‬
‫خاص ٍة باملوضوع‬
‫َّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬يك نثبت أصالة العرب يف ابتكار منهجيَّ ٍة‬
‫َّ‬ ‫الجانب‬
‫التاريخي إىل الجانب‬
‫ِّ‬ ‫املدروس‪ .‬ويتسلسل األمر من دراسة الحديث واألثر‬
‫العلمي البحت كام هو الحال يف فكر البريوين وابن الهيثم من القرن الرابع ‪/‬‬‫ِّ‬
‫عيص عىل االستيعاب ملن مل تكن‬
‫ٌّ‬ ‫الخامس للهجرة‪ .‬أ َّما التص ُّوف فموضوعه‬
‫لديه معرفة مسبقة أو تجربة شخصيَّة مؤكّدة‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬الشعر الصويف‪ ،‬مناهج البحث‪ ،‬النصوص املستغلقة‪ ،‬ابن‬
‫عريب‪ ،‬االسترشاق‪ ،‬الوجود والشهود‪.‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫تمهيد‬
‫الروحي‬
‫ِّ‬ ‫الحاَّلج واملخزون‬
‫َّ‬ ‫بدأت بواكري املنهج َّية يف التص ُّوف تظهر مع الغزايل بعد شطحات‬
‫مفصاًل تاريخ ًّيا يف‬
‫ً‬ ‫اإللهي عند رابعة العدويَّة‪ .‬وميثِّل كتاب املنقذ من الضالل للغزايل‬
‫ِّ‬ ‫يف الحب‬
‫كل من أىت بعده من الصوف ّية حيث حاول الغزايل عرض‬ ‫استظل يف ربوعه ُّ‬‫َّ‬ ‫هذا املوضوع‪ .‬وقد‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يف‪.‬‬
‫لف لفَّهم من نقَّاد الفكر الصو ّ‬
‫بكل أبعادها من دون هيجان الفقهاء ومن ّ‬ ‫التجربة الصوفيَّة ِّ‬
‫كل محاوالت ابن تيم َّية يف نقد التص ُّوف وتكفري أعالمه ترت ُّد عليه أل َّن جذور‬
‫ال ب ّد من القول أ ّن َّ‬
‫التجربة الصوفيَّة عميقة يف الرتاث اإلسالمي‪ :‬القرآن والحديث‪ ،‬وهذا األمر م َّهد الطريق أمام ابن‬
‫يب يف فتوحاته ويف كتابه األشهر فصوص الحكم‪ .‬وعادت خصومات الفقهاء والسلفيَّة إىل‬ ‫العر ِّ‬
‫الظهور مع طبعة الفتوحات املك ّية يف القاهرة سنة ‪ 1971‬بتحقيق عثامن يحيى‪َّ ،‬‬
‫ماَّم دعا رئيس‬
‫الجمهوريَّة أنور السادات إىل التدخُّل شخص ًّيا يك تستم َّر طباعة األجزاء األخرى من هذا الكتاب‪.‬‬
‫ري من الباحثني عىل خصوص ّية التجربة الصوف َّية قائلني إنَّها مرتبطة الجذور بالذات َّية‬‫لقد أكّد كث ٌ‬
‫املحضة‪ ،‬كام فعل الدكتور عادل العوا‪ ،‬وتبعه عىل النهج نفسه الدكتور عيل حرب‪ ،‬وذلك برفع‬
‫سالح التأويل ض َّد خصوم هذه التجربة‪ .‬وما يزال الشقاق قامئًا بني الذين يؤمنون بالعقل‪ ،‬ويرجمون‬
‫"العقل املستقيل"‪ ،‬وبني الذين يرون غنى التجربة الصوفيّة وإطاللها عىل الروح املطلق سوا ٌء‬
‫من الصوف َّية العرب أم من عاملقة العرفان منذ ظهور أبيات املثنوي بالُّلغة الفارس َّية‪ .‬وقد شكَّل‬
‫الرومي‪ ،‬الجرس الذي عرب عليه‬‫ِّ‬ ‫صدر الدين القونوي شارح تائّية ابن الفارض صديق جالل الدين‬
‫"العرفان" يك مينح السيِّد حيدر اآل ُميل وعىل إثره ُمالّ صدر الشريازي‪ ،‬تكوين فلسف ٍة عرفانيَّة قامئة‬
‫عىل "املعرفة الحضوريَّة" التي أسكرت هرني كوربان‪ ،‬والذوق املتمكِّن من رؤية ما يجري عىل‬
‫صفحة القلب‪ ،‬وجو ًدا وشهو ًدا‪.‬‬
‫سوف نقترص يف هذه الدراسة عىل ما كُتب بالُّلغة العربيَّة يف التص ُّوف‪ ،‬أو يف أه ِّم ما كُتب حوله‬
‫العلمي‪ ،‬سواء من‬
‫ِّ‬ ‫بقلم املسترشقني ودارسيهم بالعرب َّية‪ .‬ونرجع إىل ما كُتب عن املنهج يف البحث‬
‫املسترشقني أم من العرب‪.‬‬
‫املنهجي يف التص ُّوف إىل أربعة أقسام‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ميكن تقسيم البحث‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫املنهجية لدى املؤلفني العرب القداىم‪:‬‬ ‫القسم األول‪:‬‬
‫نفكِّر هنا بعلامء الحديث يف كتب "الجرح والتعديل"‪ ،‬ويف كتب املؤ ِّرخني مثل الطربي‬
‫(ت‪310‬هـ) يف كتابه تاريخ األمم وامللوك‪ ،‬واملسعودي (ت‪323‬هـ) يف كتابه مروج الذهب‪،‬‬
‫والبريوين (ت‪440‬هـ) يف مق ِّدمة كتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وأخريا املقدِّ مة البن خلدون‪(.‬ت‬


‫ً‬ ‫ومعارص البريوين ابن الهيثم (ت‪432‬هـ) يف كتابه الشكوك[[[‪...‬‬
‫‪ 808‬هـ ‪1406/‬م)‪.‬‬

‫وقد وجد بعض الباحثني منهج َّية مبكرة يف التأريخ لكتب التص ُّوف كام وردت يف كتاب ابن‬
‫خلدون نفسه شفاء السائل يف تهذيب املسائل‪ .‬يقول محقِّق الكتاب محمد مطيع الحافظ تحت‬
‫عنوان منهجه ومحتواه‪« :‬وقد نهج ابن خلدون يف كتابه هذا كعادته يف كتبه "املنهج العلمي"‬
‫جته‪،‬‬
‫ولكل رأي ح َّ‬
‫ِّ‬ ‫لكل مسألة دليلها‪،‬‬
‫املعتمد عىل العرض والتحليل واالستنتاج واملناقشة‪ُ ،‬مور ًدا ِّ‬
‫لينتهي بعد ذلك إىل النتائج التي ساق إليها البحث الجا َّد املؤ ّدي إىل القناعة العلم َّية والغاية‬
‫مهاًّم يف علم التص ُّوف‪.[[[ »...‬‬
‫الصحيحة‪ .‬وبذلك يكون الكتاب مرج ًعا ًّ‬
‫هذا مجال فسيح يقود إىل البحث يف منهج َّيات مؤ ِّرخي التص ُّوف‪ ،‬أ َّما ما كتبه الصوف َّية أنفسهم‬
‫للتعبري عن تجربتهم الشخصيَّة فال ميكن الحديث فيه عن منهجيَّة معيَّنة‪ ،‬أل َّن التجربة الصوفيَّة هي‬
‫كل تجربة‬
‫إاَّل عن طريق ال ُّرموز ورضب األمثال شأنها شأن ِّ‬
‫تجربة ذات َّية ال ميكن نقلها إىل اآلخرين َّ‬
‫دين َّية أو روح َّية‪ .‬كذلك فإ َّن الطرق يف التص ُّوف تتَّبع قواعد يف السلوك مطلوب من املريدين تطبيقها‬
‫خاصا يف الحثِّ عىل‬
‫ًّ‬ ‫جا‬
‫لكل طريقة شيخًا ينهج نه ً‬
‫كام هو الحال يف العبادات عا َّمةً‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن ِّ‬
‫الروحي"‪ .‬من هنا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الخلوة والذِّكر واألوراد التي تساعد املريدين عىل بلوغ "الكشف"‪ ،‬أو "الفتح‬
‫يت وتجربته الفريدة ضمن الطريقة‪ .‬وقد تكاثرت الطرق يف‬
‫الخاص وذوقه الذا َّ‬
‫َّ‬ ‫يف فتحه‬
‫لكل صو ٍّ‬
‫فإ َّن ِّ‬
‫ين‪ .‬ورغم اإلطار العا ِّم للطرق الصوف َّية املتع ِّددة فإ َّن‬
‫وخصوصا يف العرص العثام ّ‬
‫ً‬ ‫العصور املتأخِّرة‬
‫لكل سالك أو مريد يطغى عليها الجانب الذايتّ‪ .‬يقول الصوف َّية إ َّن الطرق‪" :‬بعدد‬
‫التجربة الصوف َّية ِّ‬
‫الروحي‬
‫ِّ‬ ‫أنفاس الخالئق"‪ .‬ومل يكن هذا التن ُّوع إفقا ًرا للتص ُّوف بشكل عا ٍّم‪ ،‬بل هو إغناء يف الرتقّي‬
‫تراكمي يف مؤلَّفاتهم‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫والسامع التي خلَّفها الصوف َّية بشكل‬
‫من خالل الشعر واألوراد واألذكار َّ‬
‫ِّ‬
‫العليم احلديث‪:‬‬ ‫َّ‬
‫املنهجية باملعىن‬ ‫القسم الثاين‪:‬‬
‫املنهجي والتق ُّيد به إىل ديكارت خالل القرن السابع عرش يف كتابيه‬
‫ِّ‬ ‫يعود اكتشاف وضبط الفكر‬

‫[[[‪ -‬أنظر مقدمة محمد عبد الهادي أبو ريدة‪« ،‬مقالة عن مثرة الحكمة»‪ ،‬القاهرة‪1411‬ه‪1991/‬م‪ .‬حيث يرى أبو ريدة أنَّ منهج ابن الهيثم هو‬
‫كل ما كتب عن األقدمني وما صدر عنهم‪ .‬وينقل عنه أبو ريدة قوله (ص‪« :)10-9‬فخضت لذلك يف رضوب‬ ‫نقدي قائم عىل الشكِّ يف ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫منهج‬
‫جا‪ ،‬وال إىل الرأي اليقيني مسلكاً جدداً‪،‬‬ ‫اآلراء واالعتقادات وأنواع علوم الديانات‪ ،‬فلم َ‬
‫أحظ من يشء منها بطائل‪ ،‬وال عرفت منه للحق منه ً‬
‫إاَّل فيام قرره أرسطو طاليس‬‫فرأيت أين ال أصل إىل الحق إال من آراء يكون عنرصها األمور الحسية وصورتها األمور العقلية‪ ،‬فلم أجد ذلك َّ‬
‫كل ه ِّمه معرفة «الحق»»‪.‬‬
‫من علوم املنطق والطبيع َّيات واإلله َّيات التي هي دون غريهم‪ ،‬وكان ُّ‬
‫[[[‪ -‬تُراجع طبعة دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،1997‬ص‪.12‬‬

‫‪234‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫مقالة يف املنهج‪ ،‬ومبادئ الفلسفة‪ ،‬وتبعه يف القرن التاسع عرش جون ستيوارت مل[[[ يف كتبه‬
‫ماَّم‬
‫املنطقيَّة‪ .‬ث َّم تط َّورت يف القرن العرشين بعد اكتشاف طبيعة املا َّدة وتطبيقاتها العلميَّة يف الذ َّرة‪َّ ،‬‬
‫الاَّلحتم َّية والنسب َّية‪ .‬وهذا ما قاد إىل تعميم مؤث ِّراتها يف العلوم اإلنسان َّية‪ .‬ويف‬
‫دعا إىل تب ّني مناهج َّ‬
‫النصف الثاين من القرن العرشين منت املناهج مثل الفطر بكرثتها بد ًءا من الوجوديَّة والشخصان َّية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫النقدي‪ ...‬إىل مناهج التأويل‬ ‫ِّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬واملنهج‬


‫ِّ‬ ‫والتكامليَّة والبنيويَّة والتفكيكيَّة واملنهج‬
‫يل‪ .‬أ َّما‬
‫كل هذه املناهج ترت ُّد إىل املنهج التحلي ّ‬ ‫والفينومينولوجيا‪ .‬وكام يقول أحد الفالسفة فإ َّن َّ‬
‫عن التباهي والتفاخر بأفضل َّية بعض املناهج عىل ما سبقها من اكتشافات‪ ،‬فقد حسم هايدغر األمر‬
‫ورأى أنَّه «ليس يف املناهج التي تتناول األشياء منهج يعلو عىل سائر املناهج»[[[‪.‬‬
‫وقد سقط التم ُّيز الذي كانت ت َّدعيه الت َّيارات اليساريَّة واملاركس َّية بتف ُّوق منهج "املاديَّة الجدل َّية"‬
‫يدل عىل خطورة املزج بني املنهج واأليديولوجيا‪،‬‬ ‫ماَّم ُّ‬
‫يت‪َّ ،‬‬
‫عىل بق َّية املناهج بسقوط االتحاد السوفيا ِّ‬
‫أو بني العلم والسياسة‪.‬‬
‫وخصوصا التاريخ والعلوم‬
‫ً‬ ‫القاعدة األوىل التي رافقت الدراسات املنهج َّية يف العلوم اإلنسان َّية‪،‬‬
‫اإلسالم َّية والتص ُّوف‪ ،‬يف العرص الحديث‪ ،‬هي قاعدة تحقيق املخطوطات‪ ،‬وذلك لضبط النصوص‬
‫ميرَّسة مدعوم ًة باملعلومات الدقيقة لتحصيل املتون األساسيَّة يف‬ ‫ححة َّ‬ ‫ونقلها إىل القارئ مص َّ‬
‫العلوم اإلنسان َّية كالتاريخ‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والفقه‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والحديث‪ ،‬والتص ُّوف‪ .‬وصار املثل األعىل‬
‫لبلوغ الحقيقة هو "املوضوع َّية" سواء يف العلوم املا ّديَّة أو اإلنسان َّية‪.‬‬
‫يف ما ييل ملخَّص ألشهر هذه الدراسات يف تحقيق املخطوطات[[[‪:‬‬
‫يعود الدكتور صالح الدين املنجد يف رسالته حول قواعد تحقيق املخطوطات‪ ،‬وهي األداة‬
‫ٍ‬
‫نصوص صحيحة ملا كتبه املتص ِّوفة انطالقًا من املخطوطات املنتقاة‬ ‫التوصل إىل‬
‫ُّ‬ ‫األساسيَّة يف‬
‫حسب هذه القواعد‪ ،‬ويستعرض ما كُتب يف هذا املوضوع لدى املسترشقني الغربيني ُمعربًا عن‬
‫األخص‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تب ّنيه لنتائج أحدث أبحاثهم وعىل‬
‫«قواعد النرش التي تثبتها جمع َّية غيوم بوده يف النصوص العرب َّية يف كتاب د‪ .‬بالشري وجان‬
‫سوفاجيه‪ ،‬بعنوان‪ :‬قواعد للتحقيق وترجمة النصوص العرب َّية باريس‪.”1945‬‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬موسوعة الفلسفة‪ ،‬بريوت ‪ ،1984‬ج‪ ،2‬ص‪ .471-469‬حيث لخَّص املؤلف نظر َّية جون ستيوارت مل يف‬
‫االستقراء والقوانني التي تضبط إجراءه حتى يؤدي إىل املعرفة العلمية الصحيحة إىل خمسة قوانني وهي‪ :‬منهج االتفاق‪ ،‬ومنهج االفرتاق‪،‬‬
‫التغرُّيات واملساوقة‪ ،‬واملنهج املشرتك (لالتفاق واالفرتاق)‪ ،‬ومنهج البواقي‪ .‬ويعقب عىل ذلك ً‬
‫قائاًل بأنَّ كثرياً من املناطقة رأوا «أن‬ ‫ُّ‬ ‫ومنهج‬
‫جا مستقاًّلًّ قامئًا بذاته‪.‬‬
‫ال فارق بني منهج البواقي هذا وبني منهج االفرتاق‪ ،‬ولذلك أسقطوه منه ً‬
‫[[[‪ -‬مارتن هايدغر‪ ،‬ما املتفيزيقا؟‪ ،‬ترجمة فؤاد كامل‪ ،‬دار الثقافة القاهرة ‪ ،1974‬ص‪.102‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬صالح الدين املنجد‪ ،‬قواعد تحقيق املخطوطات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3‬ب ت‪ ،‬ص‪.5-3‬‬

‫‪235‬‬
‫حقول التنظير‬

‫توصل إىل صياغة نظريَّة ونهج من املؤسسات العلميَّة لتحقيق‬ ‫يتابع الدكتور املنجد‪ :‬أول من َّ‬
‫يب بدمشق‪ .‬فعندما أراد نرش تاريخ مدينة دمشق‪ ...‬جمع لجنة‬ ‫العلمي العر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫نص قديم هو املجمع‬
‫ٍّ‬
‫جا موج ًزا‪ ...‬جاء فيه‪ :‬إ َّن الغاية من تحقيق الكتاب‬
‫من العلامء‪ ،‬كنا أحد أعضائها‪ ،‬فوضعت منه ً‬
‫صح منها‪ ،‬ويراعي‬‫نص صحيح‪ ،‬لذلك يجب أن يُعنى باختالف الروايات‪ ،‬وأن يثبت ما َّ‬ ‫هو تقديم ٌّ‬
‫الفهارس وأدوات التنقيط‪.‬‬
‫ث َّم ُعقدت لجنة مامثلة يف القاهرة‪ ،‬برئاسة الدكتور إبراهيم مدكور يف تحقيق كتاب الشفاء البن‬
‫“النص املختار”‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫سينا‪ .‬وقد آثرت الَّلجنة يف النرش طريقة‬

‫أنواع املتون‪:‬‬
‫هنا‪ ،‬علينا أن منيِّز بني أنواع مختلفة من املتون القدمية‪:‬‬

‫مؤس َّسة‪:‬‬
‫الـ ِ‬ ‫َّأو ًاًل‪ :‬المتون ُ‬

‫طُبعت هذه املتون ابتدا ًء من القرن التاسع عرش يف القاهرة وبريوت والجزائر من مثل مؤلَّفات‬
‫الحارث بن أسد املحاسبي (ت‪243‬ه‪857/‬م)‪ ،‬وكتاب اللُمع للطويس (ت‪378‬ه‪ ،)988/‬وكتاب التع ُرف‬
‫للكالبادي (ت‪380‬ه‪990/‬م)‪ ،‬وكتاب قوت القلوب أليب طالب امليك (ت‪388‬ه‪998/‬م)‪ ،‬والرسالة‬
‫الاَّلحقة ما كتبه الغزايل (ت‪505‬ه‪1111/‬م) يف إحياء‬
‫للقشريي (ت‪465‬ه‪1073/‬م)‪ .‬وتبعه يف املتون َّ‬
‫ريا مشكاة األنوار‪ .‬ث َّم السهروردي (ت‪632‬ه‪1235/‬م) يف كتابه‬‫علوم الدين‪ ،‬واملنقذ من الضالل‪ ،‬وأخ ً‬
‫عوارف املعارف‪ ،‬وما ترجم عن الفارس َّية مثل كشف املحجوب للهجويري (ت‪465‬ه‪1077/‬م)‪،‬‬
‫وتحفة األولياء لفريد الدين العطار (ت‪1221‬م)‪ ،‬واملثنوي لجالل الدين الرومي (ت‪672‬ه‪1273/‬م)‪.‬‬
‫وتف َّرد الدكتور عثامن يحيى بتحقيق ونرش كتاب الفتوحات املكّ َّية البن عريب مبفرده‪ ،‬وكان تحقيقه‬
‫ماَّم أطال صدور األجزاء األربعة عرش من أصل السبعة والثالثني بحسب تقسيم ابن‬ ‫متمي ًزا ودقيقًا َّ‬
‫عريب لكتابه‪ .‬وقد ساعد املركز القومي للبحث العلمي الفرنيس ما ّديًّا بنرشه تحت إرشاف الدكتور‬
‫إبراهيم مدكور‪ ،‬وصدر الجزء األول يف القاهرة سنة ‪1971‬م‪ .‬وتبع ذلك الضجة التي ثارت يف‬
‫السلفي‪ ،‬ولكن التدخُّل‬
‫ِّ‬ ‫مجلس الشعب املرصي الذي طالب بإيقاف نرش الكتاب تحت تأثري الفكر‬
‫السيايس سمح مبتابعة النرش يف الهيئة املرصيَّة للكتاب‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫الفلسفية‪:‬‬ ‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬النصوص‬
‫والسهروردي املقتول ويف ضمنها‬
‫ِّ‬ ‫نصوصا فلسفيَّة للفارايب وابن سينا‬
‫ً‬ ‫أدرج إبراهيم مدكور‬

‫‪236‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫يف[[[ ماَّمَّ جعله يربط التص ُّوف بقاعدة فلسفيَّة ما‪ .‬وهو يقول‪« :‬إذا تتبَّعنا‬
‫النصوص ذات الطابع الصو ِّ‬
‫يخل واح ٌد منها من نزعة صوفيَّة‪ .‬وها هو ذا أرسطو‬ ‫املذاهب الفلسفيَّة عىل اختالفها وجدنا أنَّه مل ُ‬
‫الذي كان واقع ًّيا يف بحثه وطريقته‪ ،‬ورجل مشاهدة وتجربة يف مالحظاته واستنباطاته‪ ،‬قد انتهى‬
‫به األمر إىل أن بنى دراسته النفس َّية عىل يشء من الفيض واإللهام‪ ...‬حقًا إ َّن اإلدراكات الروح َّية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫النظري‪ ،‬واشتغل‬‫ِّ‬ ‫واإللهامات القلبيَّة قد تكون غري يقينيَّة‪ ...‬وقدميًا م َّر الغزايل مبراحل من البحث‬
‫بدراسات كثرية‪ .‬ولكن مل تطب نفسه إاَّلَّ للمعرفة الصوفيَّة‪ ...‬لسنا نحاول هنا التح ُّدث عن التص ُّوف‬
‫نفصل القول يف نزعة صوف َّية سادت الفلسفة اإلسالم َّية»‪.‬‬ ‫يف جملته‪ ...‬وإمنا نريد فقط أن ِّ‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫التصوف والفقه‪:‬‬ ‫ثالثا‪:‬‬
‫استعرض الباحث محمد بن الطيب العالقة بني الفقه والتص ُّوف‪ ،‬بد ًءا من الحارث بن أسد‬
‫املحاسبي (ت ‪243‬هـ ‪ 857/‬م)‪ .‬وحتى عبد الكريم القشريي (ت ‪ 465‬هـ‪ .)1073 /‬كام ع َّرج‬
‫عىل الغزايل (ت‪ 505‬هـ‪1111/‬م)‪ ،‬واستعرض لديه قسمة التص ُّوف إىل « علم املعاملة « و «علم‬
‫املكاشفة «‪ .‬وبعدما ركز عىل الفصل «املنهجي» التا ِّم بني الفقه والتص ُّوف استق َّر رأيه عىل أ َّن علم‬
‫املكاشفة هو ‪ « :‬عبارة عن نور يظهر يف القلب عند تطهريه وتزكيته من صفاته املذمومة »‪ ،‬فهو‬
‫ين الذي يقذفه الله يف الصدر إلها ًما وكشفًا [[[‪.‬‬
‫العلم الَّلد ُّ‬
‫ويتابع املؤلِّف دراسة الشاطبي للتص ُّوف بالرتكيز عىل الفكرة األساس َّية « املقاصديَّة « التي‬
‫الدال عىل شخصه‪ .‬ويقول يف تلخيص تأصيل التص ُّوف من خالل مقاصد الرشيعة‪:‬‬ ‫أصبحت املنهج َّ‬
‫يف‬
‫« إ َّن تأصيل التص ُّوف يف الرشيعة هو املقصد األسنى الذي يسعى إليه الشاطبي‪ ،‬الفقيه الصو ُّ‬
‫التجديدي يف أصول الفقه‪ ،‬وعنايته مبقاصد‬
‫ِّ‬ ‫الذي كان شاه ًدا عىل عرصه‪ ،‬ورام من خالل مجهوده‬
‫يحل مشكالت عرصه‪ ،‬وأن يكون موفِّقًا بني املختلفني‪ ،‬جام ًعا بني املتنازعني‪ .‬ورغم‬ ‫الرشيعة‪ ،‬أن َّ‬
‫يل أن‬
‫اإلسالمي‪ ،‬استطاع الفقيه األصو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫املتأصلة بني الفقهاء واملتص ِّوفة عىل مدار التاريخ‬
‫ِّ‬ ‫العداوة‬
‫الشاطبي قد‬
‫ُّ‬ ‫يدمج التص ُّوف يف الرشيعة‪ ،‬ويجعلها مهيمنة عليه حاكمة»[[[‪ .‬ولسنا ندري إن كان‬
‫حا تا ًّما يف دمج التجربة الصوفيَّة يف الفقه كام كان يتأ َّمل؟‬
‫نجح نجا ً‬
‫ويقول الباحث محمد بن الطيب يف ختام بحثه‪« :‬إ َّن اختالف ال َّناهلني من منبع الشاطبي ل ُّ‬
‫َيدل‬
‫كل ذلك جعل جوانب مه َّمة يف فكره حيَّة‬ ‫عىل ثراء فكر الرجل وتن ُّوعه وج َّدته وطرافته وعمقه‪ُّ .‬‬
‫أسس من القيم‬ ‫صالحة للبقاء‪ ،‬يجد فيها املصلحون معي ًنا لدعوات اإلصالح والتجديد عىل ُ‬

‫منهج وتطبيقه‪ ،‬القاهرة (ط‪ ،1968 )2‬ص‪ 32‬وما بعدها‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫[[[‪ -‬ابراهيم مدكور‪ ،‬يف الفلسفة اإلسالمية‪،‬‬
‫[[[‪ -‬محمد بن الطيب‪ ،‬فقه التصوف‪( ،‬بحث يف املقاربة األصولية الفقهية عند أيب اسحاق الشاطبي)‪ ،‬بريوت ‪ ،2010‬ص ‪.18 17-‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.89‬‬

‫‪237‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ح أخرى‪ ،‬فال يعني ذلك‬ ‫اإلسالم َّية األصيلة‪ .‬ولنئ اهتممنا بناحية من نواحي تفكريه واهت َّم غرينا بنوا ٍ‬
‫استنفاد فكره‪ ،‬بل هو معني لدراسات أخرى لجوانب من تجديده‪ ،‬مثل مسألة البدع وقض َّية االجتهاد‬
‫[[[‬
‫والتقليد واملد ّونة الفقه َّية‪» ...‬‬
‫ر ً‬
‫ابعا‪ :‬الشعر‪:‬‬
‫يُع ُّد الشعر من أكرث النصوص الصوف َّية املتَّصلة بال َّرمز واملجاز للغوص يف أعامق هذه التجربة‪،‬‬
‫ورافقت بعض املقطوعات الشعريَّة بدايات التص ُّوف كام هو الحال عند رابعة العدويَّة‪ ،‬والشبيل‪،‬‬
‫يف يف الشعر وبلغت ذروتها مع ابن الفارض‪ ،‬وابن عريب‪،‬‬ ‫والحاَّلج‪ ،‬ث َّم منت لغة التعبري الصو ِّ‬
‫َّ‬
‫والششرتي‪ ،‬وقصيدة الربدة للبوصريي‪ ،‬وأشعار الشاذل َّية من مثل سيدي عيل وفا‪.‬‬
‫ً‬
‫خامسا‪ :‬النصوص المستغلقة‪:‬‬
‫إاَّل يف الدائرة‬
‫جا َّ‬‫يعود الفضل يف التعبري عن التجربة الصوف َّية الذات َّية إىل كتابات مل تلق روا ً‬
‫مثاًل جدي ًرا بالتنويه هو نصوص‬
‫الض ِّيقة للصوف َّية ومن تَـ َمـثَّلها من املفكِّرين العرب‪ ،‬ونسوق هنا ً‬
‫اإلنكليزي أربري وتابعه يف تحقيقها األب‬
‫ُّ‬ ‫املواقف واملخاطبات للنفَّري‪ ،‬والتي نرشها املسترشق‬
‫بولص نويا‪ ،‬وتندرج «الشطحات» الصوف َّية يف هذا السياق ملا استدعته من رشوح مل تكن مقنعة‬
‫إاَّل للصوف َّية أنفسهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫النقدية‪:‬‬ ‫ً‬
‫سادسا‪ :‬النصوص‬
‫شكَّلت الشطحات والنصوص املستغلقة‪ ،‬والدعوة إىل التأويل لفهمها‪ ،‬أرضً ا خصبة لهجوم‬
‫الفقهاء عىل الصوفيَّة‪ ،‬مثل كتاب تفليس ابليس البن الجوزي‪ .‬وزاد األمر سو ًءا مع ابن تيميَّة الذي‬
‫وخصوصا يف كتابه مجموعة الفتاوى‪ ،‬وهذا ما أعطى جرأ ًة ومتاديًا يف التكفري‬
‫ً‬ ‫أمعن يف «التكفري»‬
‫نصوصا أخرى نقديَّة خففت من لهجة التكفري مثل نصوص‬ ‫ً‬ ‫نجدها يف مؤلَّفات أتباعه‪ .‬غري أ َّن‬
‫الشاطبي[[[ وكتاب شفاء السائل يف تهذيب املسائل البن خلدون[[[ ألنَّها دافعت عن شكل معتدل‬
‫من التص ُّوف‪ .‬أضف إىل ذلك أ َّن الصوفيني أنفسهم من مثل ابن عريب هاجموا مامرسات بعض‬
‫كل‬
‫انصب النقد عىل ِّ‬
‫َّ‬ ‫كالسامع‪ ،‬وصحبة النساء والغلامن ووجودهم يف حلقاتهم‪ ،‬كام‬
‫َّ‬ ‫الصوفيَّة‪:‬‬
‫من تناول املخدرات كالحشيش الذي انترش أكله ثم استخدامه يف التدخني يف بعض األوساط‬
‫الصوف َّية بد ًءا من النصف الثاين من القرن السادس عرش للهجرة‪.‬‬
‫وظهرت يف العصور الحديثة نزعات تلفيق َّية من مفكِّري العرب املحدثني الذين أعجبوا‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق ص‪.148‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬محمد بن الطيب‪ ،‬فقه التصوف‪( ،‬بحث يف املقاربة األصول َّية الفقه َّية عند أيب اسحاق الشاطبي)‪ ،‬بريوت ‪.2010‬‬
‫[[[‪ -‬تحقيق د‪ .‬محمد مطيع الحافظ‪ ،‬دار الفكر املعارص‪ ،‬دمشق‪( 1996‬له طبعة ثانية سنة ‪1417‬ه‪1997 /‬م)‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫بالنصوص املستغلقة والشطحات أكرث من إعجابهم بأخالقيَّات التص ُّوف وروحانيَّته ذات الطابع‬
‫املق َّدس‪ .‬فقد ذهب األمر ببعضهم إىل اعتبار التص ُّوف نو ًعا من الرسياليَّة‪ ،‬وجاهر برضورة «نفي‬
‫التخيّل عنه‪ .‬يف هذا السياق‪ ،‬يقول إبراهيم مدكور‪« :‬فمن ينكر الوحي يرفض اإلسالم‬‫ّ‬ ‫الوحي» أو‬
‫يف جملته‪ ،‬أو يهاجمه عىل األقل يف أساسه ويهدم دعامئه األوىل والرئيس َّية؛ وتلك جرمية شنعاء‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫قل أ ْن يجرؤ عليها أشخاص عاشوا فوق أرض اإلسالم وتحت سامئه»[[[‪.‬‬ ‫َّ‬
‫املاركيس نو ًعا من التضليل والسطح َّية يف فهم التص ُّوف تحت شعار‬ ‫ِّ‬ ‫كذلك مارس مؤ ِّرخو الفكر‬
‫مقااًل بعنوان «اختيار‬
‫املا ّديَّة الجدل َّية والعلم واإللحاد‪ .‬وكنت قد نرشت يف مجلَّة «املعرفة» بدمشق ً‬
‫الرتاث» وذلك يف عام ‪( 1977‬العدد ‪ ،180‬ص‪ ،)17‬إثر صدور كتاب مرتجم عن الروسية بعنوان‬
‫موجز تاريخ الفلسفة[[[‪ .‬يقول املؤلِّفون تحت عنوان الصوف َّية ما ييل‪« :‬جاءت الصوف َّية ‪،))Sufism‬‬
‫والفلسفة الدين َّية الغيب َّية املحافظة‪ ،‬مبثابة ر ٍّد عىل انتشار األفكار املا ّديَّة والعقالن َّية‪ .‬والصوف َّية –‬
‫الحس َّية والعقالن َّية عىل‬
‫ّ‬ ‫مذهب قريب للغاية من األفالطون َّية الجديدة – فهي تنفي يقين َّية املعرفة‬
‫دنيوي‪ .‬إ َّن املعرفة الحقَّة‪ ،‬يف رأي الصوفيَّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما هو‬
‫السواء‪ ،‬وتدعو إىل الزهد‪ ،‬واالنرصاف عن ِّ‬
‫اإللهي الذي يت ُّم بات ِّحاد روح اإلنسان بالله»[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫التجيّل‬
‫ّ‬ ‫تتحصل من خالل‬ ‫َّ‬
‫نصا من تأليف الشيخ عبد الغني‬ ‫ور ًّدا عىل بعض األفكار التي وردت يف الكتاب السابق‪ ،‬ق َّدمنا ًّ‬
‫عرَّب عنه يف كتاب الوجود الحق الذي ت َّم تأليفه يف نهاية القرن السابع عرش‪ ،‬يقول فيه باسم‬ ‫النابليس َّ‬
‫متص ِّوفة العرص العثامين‪« :‬اعلم بأنَّنا قاطعون جازمون بأن األشياء كلَّها‪ :‬املحسوسات واملعقوالت‪،‬‬
‫كل‬
‫والحس كام ذكرناه غري م َّرة‪ ،‬وك َّررنا ذكره ليتَّضح عند ِّ‬
‫ِّ‬ ‫موجودات متحقِّقات ثابتات يف نظر العقل‬
‫والحس يف جميع ما نقوله يف هذا الكتاب‬ ‫ِّ‬ ‫أحد‪ .‬وليس مرادنا نفي األشياء وكونها عد ًما عند العقل‬
‫وغريه من كتبنا‪ .‬ونحن مع العقالء يف إثبات وجود األشياء من املحسوسات واملعقوالت من غري‬
‫أصاًل»[[[‪.‬‬
‫ً‬ ‫فرق بيننا وبينهم‬
‫ص به الصوفيَّة هو علم «من وراء طور العقل‪ ،‬ألنَّه فوق‬
‫ويتابع النابليس بأ َّن «العلم» الذي اختُ َّ‬
‫املادي تخالف النظرة السائدة يف القرن‬
‫ِّ‬ ‫العقل»‪ .‬وطور ما وراء العقل هذا له نظرة أخرى إىل العامل‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪ .69‬يقصد بذلك النزعات املاديَّة واإللحاديَّة التي ظهرت يف عرص النهضة وخصوصاً االتجاه املاركيس‪ ،‬والعدمي يف‬
‫النظرة إىل الرتاث‪ .‬وعىل رأس هؤالء الشاعر أدونيس الذي تط َّرق إىل رضورة نفي الوحي يف محارضة ألقاها بدمشق يف املعهد الفرنيس‬
‫للدراسات العربية‪ ،‬عام ‪ .2009‬وتابع بنفس االتجاه فيام نرشه باللغة الفرنسية مع الدكتورة حورية عبد الواحد يف كتابهام النبوة والحكم‪،‬‬
‫العنف واإلسالم‪ ،‬ج‪ ،2‬باريس‪ .2019‬والدكتورة حورية عبد الواحد تتب َّنى منهج «التحليل النفيس» الذي استخفَّه «الكتاب األسود يف التحليل‬
‫النفيس» الصادر سنة ‪2005‬م يف باريس بإرشاف كاترين م ّيري‪ ،‬ورأى مؤلّفوه أنه ال يستقيم علم ّياً ملداواة اإلنسان وال لتعميمه واعتامده منفرداً‬
‫يف الطب النفيس‪.‬‬
‫[[[‪ -‬تأليف جامعة من األساتذة السوفيات‪ ،‬ترجمة توفيق ابراهيم سلوم‪ ،‬دار الجامهري العرب َّية‪ ،‬دمشق ‪.1976‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.150‬‬
‫[[[‪ -‬كتاب الوجود الحق‪ ،‬مخطوط الظاهريَّة بدمشق رقم ‪ ،6069‬ق‪68‬أ‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫حقول التنظير‬

‫السابع عرش‪ ،‬إنَّها نظرة تقرتب من حقيقة املا َّدة التي ينظر إليها علامء الذ َّرة مبدارسهم املختلفة‪.‬‬
‫ويضيف شع ًرا[[[‪:‬‬
‫بظهورها واالختفاء‬ ‫إ َّن العوامل كلَّها‬
‫مثل الكتابة يف الهواء‬ ‫يف رسعة وتقلُّب‬
‫أنوارها مثل الهباء‬ ‫وكل الخلق يف‬
‫شمس ُّ‬
‫ٌ‬

‫ص به الصوف َّية هو علم «من وراء طور العقل‪ ،‬ألنَّه فوق‬ ‫ويتابع النابليس بأ َّن «العلم» الذي اختُ َّ‬
‫املادي تخالف النظرة السائدة يف القرن‬
‫ِّ‬ ‫العقل»‪ .‬وطور ما وراء العقل هذا له نظرة أخرى إىل العامل‬
‫السابع عرش‪ ،‬إنَّها نظرة تقرتب من حقيقة املا َّدة التي ينظر إليها علامء الذ َّرة مبدارسهم املختلفة‪.‬‬
‫ويضيف شع ًرا[[[ ‪:‬‬
‫بظهورها واالختفاء‬ ‫إ َّن العوامل كلَّها ‬
‫مثل الكتابة يف الهواء‬ ‫ ‬
‫يف رسعة وتقلُّب‬
‫أنوارها مثل الهباء‬ ‫ ‬
‫وكل الخلق يف‬
‫شمس ُّ‬
‫ٌ‬

‫كل املتص ِّوفة‪،‬‬


‫كل ما هو دنيوي»‪ ،‬فهذا ال ينطبق عىل ِّ‬‫أ َّما الدعوة إىل «الزهد» و «االنرصاف عن ِّ‬
‫وكثري من املتص ِّوفة كانوا من املجاهدين أو املرابطني‪ .‬وكيف ميكن القول عن زهد األمري عبد‬
‫ورجعي؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دنيوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما هو‬
‫سلبي؟ أو أنَّه انرصاف عن ِّ‬
‫ّ‬ ‫القادر الجزائري (ت بدمشق‪ )1883‬بأنَّه زهد‬
‫وهو قائد أول ثورة عرب َّية يف العصور الحديثة‪ ،‬وقد لعب دو ًرا بارزًا يف دمشق عام ‪1860‬م عندما‬
‫حا دين ًّيا مشهو ًرا‪ ،‬يف حامية النصارى والتص ّدي للرعاع يف‬ ‫أخمد الفتنة الطائف َّية‪ ،‬وأظهر تسام ً‬
‫مخالفتهم لسامحة اإلسالم وحامية أهل الذ َّمة‪ .‬ومن يطَّلع عىل كتابه ذكرى العاقل وتنبيه الغافل‬
‫يرى فيه نظرة تق ِّدس العقل وتذ ُّم التقليد[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫الدعوي‪:‬‬ ‫ً‬
‫سابعا‪ :‬المنهج‬
‫نُرشت مؤلَّفات عديدة حول التص ُّوف وأعالمه من دون االلتفات إىل موضوع «املنهج َّية» يف‬
‫[[[‬
‫املرصي أحمد خريي يف كتابه إزالة الشبهات‬
‫ُّ‬ ‫مثااًل عىل ذلك ما كتبه الباحث‬
‫التأليف‪ ،‬ونرضب ً‬

‫[[[‪ -‬ديوان الدواوين‪ ،‬مخطوط الظاهريَّة بدمشق رقم ‪ ،7210‬ق‪67‬أ‪.‬‬


‫[[[‪ -‬ديوان الدواوين‪ ،‬مخطوط الظاهريَّة بدمشق رقم ‪ ،7210‬ق‪67‬أ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬مجلَّة «املعرفة» بدمشق‪ ،‬العدد ‪ ،180‬ص‪.26‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد خريي‪ ،‬إزالة الشبهات‪ ،‬عن قول األستاذ‪« :‬كنا حروفاً عاليات»‪ ،‬القاهرة ‪1370‬ه‪ ،‬ص‪.72-71‬‬

‫‪240‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫‪ .‬وهو يحاول يف هذا الكتاب رشح قصيدة ابن عريب‪:‬‬


‫متعلّقات يف ذرى أعىل القلل‬ ‫«كنا حروفاً عاليات مل نُقل‬
‫ ‬
‫والكل يف ُه َو ُه ْو فسل ع َّمن وصل»‬ ‫ ‬
‫أنا أنت فيه ونحن أنت وأنت هو‬
‫أيّن ممن فُتح لهم غامض كالم الشيخ األكرب‪ ...‬ولكني‬ ‫يقول أحمد خريي‪« :‬لست بامل َّدعي ّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫فإيّن‪ ،‬اعتام ًدا عىل حبّي له وتعلُّقي به‪،‬‬ ‫كل ما يقول‪ ...‬لذا ّ‬ ‫محب للشيخ‪ ...‬مسلِّ ٌم له يف ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫رجل‬
‫ٌ‬
‫سأرشع يف الغوص وراء معاين أقواله»‪ .‬وهو يعرتف يف مق ِّدمة كتابه بأنه مل يقرأ شيئًا البن عريب‪،‬‬
‫كام أنَّه مل يدرس كتبه الدراسة الوافية‪ .‬إمنا قىض ساعات مع األستاذ محمد عبد الوهاب املحامي‪،‬‬
‫ريا من معلوماته حول ابن عريب[[[ ‪ .‬نفهم من ذلك أ َّن هذه الدراسة ال تعتمد عىل فهم‬ ‫استفاد منها كث ً‬
‫رشا بل تلقيها مشافهة عن أحد محبّي ابن عريب املخلصني‪ .‬واملؤلِّف‬ ‫فهاًم مبا ً‬
‫نصوص ابن عريب ً‬
‫يوظِّف ثقافته اإلسالم َّية املوسوع َّية يف فهم األبيات الغامضة البن عريب‪ .‬وحني يتع َّرض خريي‬
‫ملسألة وحدة الوجود فإنَّه يحاول الرجوع بهذه املسألة إىل الفلسفات الصين َّية والهنديَّة واليونان َّية‪،‬‬
‫ث َّم يع ِّرج عىل املؤلِّفني املسلمني الذين تع َّرضوا ملا يس ّميه أساس مذهب وحدة الوجود‪ ،‬ويعزوها‬
‫نقاًل عن أستاذه الكوثري الذي يحيل عىل كتاب مشكاة األنوار للغزايل‪.‬‬ ‫الحاَّلج ً‬
‫َّ‬ ‫إىل‬
‫َّ‬
‫الغربي�ة‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫التصوف واستعراض املناهج‬ ‫ُّ‬
‫العليم يف فهم‬ ‫القسم الثالث‪ :‬االجتاه‬
‫(‪ )1‬الدكتور محمود قاسم‪:‬‬
‫يقول الدكتور محمود قاسم يف مؤلَّفاته‪ ،‬املنطق الحديث ومناهج البحث[[[‪،‬‬
‫العلمي‪« :‬وقد انتهت بنا محاولتنا‬
‫ّ‬ ‫بعد اختياره املنهج «االستنتاجي» كأدا ٍة مفضل ٍة يف البحث‬
‫االستنتاجي الذي‬
‫ُّ‬ ‫الفريض‬
‫ُّ‬ ‫العلمي الصحيح هو املنهج‬ ‫َّ‬ ‫هذه إىل فكرة مح َّددة‪ ،‬وهي أ َّن املنهج‬
‫يتحقَّق يف أكمل صورة يف العلوم الرياضيَّة‪ ،‬والذي بدأ يتط َّرق إىل ح ٍّد كبري أو قليل يف بقيَّة العلوم‬
‫األخرى‪ ،‬مع ظهور بعض الفروق الدقيقة بني مناهج البحث يف هذه العلوم بسبب الظواهر التي‬
‫كل علم منها»‪( .‬ص‪)4‬‬ ‫يدرسها ُّ‬

‫(‪ )2‬عادل العوا‪:‬‬


‫يف‬
‫بحث خاص بالتص ُّوف يف كتاب الفلسفة يف مئة عام‪« :‬الصو ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫يقول الدكتور عادل العوا[[[ يف‬
‫الخاص‪ ،‬فال يخضع ملعايري منهج َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫املبدع يحيا تجربته الصوف َّية‪ ،‬عىل طريقته الشخص َّية وبأسلوبه‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫[[[‪ -‬انظر‪ :‬طبعة القاهرة (مكتبة األنجلو املرص َّية)‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫[[[‪ -‬كتاب خليل الجر وآخرين‪ ،‬الفكر الفلسفي يف مئة سنة‪ ،‬بريوت ‪ ،1962‬يقع البحث بني صفحتي ‪359 - 298‬‬

‫‪241‬‬
‫حقول التنظير‬

‫إاَّل‬
‫حيث ال معيار‪ ،‬وإمَّنَّ ا يحرص يف كثري من األحيان عىل التح ُّرر من فكرة املنهج بالذات‪ ،‬الَّلهم َّ‬
‫إذا كان يُ َعلِّم غريه أسلوب هذا التح ُّرر‪ ،‬فيحمل املريدين عىل اتِّباع منهجه يف عدم التقيُّد بنهج»‪.‬‬
‫(ص ‪.)298‬‬

‫عيل حرب‪ ،‬التأويل والحقيقة[[[‪:‬‬


‫(‪ )3‬ي‬
‫نصا وأم ًرا يف الثقافة العرب َّية‪ .‬فإ َّن هذا‬
‫النبوي كان بد ًءا ومرج ًعا‪ ،‬أي ًّ‬
‫َّ‬ ‫يؤكِّد عيل حرب أ َّن «األصل‬
‫يب نهج‬ ‫يل‪ ،‬أي مبا هو منبع الداللة‪ ،‬مل يُلغِ العقل‪ ...‬وإذا كان العقل العر ُّ‬ ‫األصل مبا هو مرجع دال ٌّ‬
‫وغوص عىل الباطن‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نصب للداللة‪ ...‬واستنبا ٌ‬
‫ط‬ ‫ٌ‬ ‫جا تأويليًّا بالدرجة األوىل‪ ،‬فإ َّن التأويل مبا هو‬
‫نه ً‬
‫يل ال ينضب‪( .‬ص‪)11‬‬ ‫هو مبثابة إمكانٍ عق ٍّ‬
‫ونص‪ .‬ولكنه ليس مرج ًعا‬
‫ٌّ‬ ‫ومعنى ال ينفد‪...‬إنَّه حقًّا مرج ٌع‪ ،‬مبا هو أم ٌر‬
‫ً‬ ‫فهو كال ٌم ال ينضب‬
‫سلطويًّا وحسب‪ ،‬بل هو أيضً ا مرجع الداللة وينبوع املعنى‪( .‬ص‪.)8‬‬
‫التأويل إمَّنَّ ا هو إعادة تعريف األشياء‪ ،‬ومن ضمنها إعادة تعريف الفكر والعقل والحقيقة واملنهج‬
‫املؤ ّدي إليها‪( »...‬ص‪)11-10‬‬
‫من هنا تستبعد القراءة التأويل َّية‪ ،‬التصنيفات الشائعة واملألوفة لألفكار والنصوص‪ ...‬وبالفعل‬
‫فإ َّن تأمل ثنائيَّة العقل والنقل يقود إىل استكشاف معقوليَّة النقل وال معقوليَّة العقل‪ .‬إذ ال وجود‬
‫لعقل خالص‪ ،‬كام ال وجود لنقل خالص‪( .‬ص‪)13‬‬
‫صوا بالتأويل والغوص‬ ‫ويُضيف حرب رأيه بأعامل املتص ِّوفة‪« :‬مل َّا كان الصوفيَّة هم الذين اختُ ُّ‬
‫يل بامتياز‪.‬‬‫يف ميثِّل يف نظرنا املنهج التأوي َّ‬ ‫عىل الباطن أكرث من غريهم من الفرق‪ ،‬فإن العرفان الصو َّ‬
‫فمع العرفان‪ ،‬مبا هو تأويل‪ ،‬يتقاطع البيان والربهان‪ ،‬والحدس واالستدالل‪ ،‬والوحي والنظر‪ ...‬وبه‬
‫الحق يف الحقائق‪ .‬ولذا‪ ،‬فإنَّنا نرى أ َّن‬
‫ُّ‬ ‫طل الظاهر عىل الباطن‪ ،‬ويظهر‬ ‫والواقعي‪ ،‬ويُ ُّ‬
‫ُّ‬ ‫الرمزي‬
‫ُّ‬ ‫يتصالح‬
‫خاص) ليس «استقالة العقل» كام قد يُظ ّْن‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫العرفان (عىل حسب ما نجده عند ابن عريب عىل نحو‬
‫وإمَّنَّ ا هو يف الحقيقة تأ ُّمالت الفكر‪ ،‬و«فتوحات» العقل»‪( ...‬ص‪)14‬‬
‫قائاًل‪:‬‬
‫ويأخذنا عيل حرب إىل أبعاد جديدة يف التأويل‪ ،‬ويح ِّدثنا عن «التأويل الحق»‪ ،‬ويستطرد ً‬
‫وقوف عىل حقائق جديدة‪ ،‬وفهمٍ جديد للعامل‪ .‬ومن شواهد ذلك‪ ،‬وهو ما أوصلنا‬ ‫ٌ‬ ‫الحق‬
‫ُّ‬ ‫«فالتأويل‬
‫يطل عىل التحليل‬ ‫يف ُّ‬
‫إليه تأ ُّملنا لبعض املسائل ونظرنا يف بعض املجاالت إ َّن العرفان الصو َّ‬
‫مثاًل قد تع ِّمق‬
‫النفيس‪ .‬فالعلامن يقومان عىل «مجاهدة» النفس ومعالجتها‪ .‬ولذا‪ ،‬فإ َّن قراءة يونغ ً‬
‫ّ‬

‫[[[‪ -‬عيل حرب‪ ،‬التأويل والحقيقة‪ ،‬قراءات تأويلة يف الثقافة العرب َّية‪ ،‬بريوت‪ ،1985‬املنهج والحقيقة‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫فهمنا البن عريب وتضاعف معرفتنا به‪( .‬ص‪.)16‬‬


‫فاملسألة ليست إذن‪ ،‬مسألة عقل أو نقل‪ ،‬بل مسألة كيف ننظر إىل األصل وننهج يف فهمه‪.‬‬
‫«وهكذا فالتأويل حوار يف صميم الكينونة‪ ،‬حوار ال مجال فيه للفصل التا ِّم بني الذات‬
‫معنى ليشء مل يكن له معنى‪ .‬وال نصب داللة‬ ‫ً‬ ‫واملوضوع‪ ...‬وبتعبري آخر‪ ،‬ليس التأويل إيجاد‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ملوضو ٍع يبحث عن داللته وإمنا هو إحالة من داللة إىل أخرى‪ ،‬وإعادة تأ ُّول معنى سابق‪ ...‬ليس‬
‫ٌ‬
‫مجال للفهم يتيح القول‬ ‫التأويل مج َّرد تقنيَّة للبحث أو أداة للمعرفة أو طريق إىل الحقيقة‪ .‬وإمنا هو‬
‫يف الوجود من جديد ويسمح بإعادة تعريف األشياء‪ .‬فاملنهج ليس طريقًا إىل الحقيقة وحسب‪،‬‬
‫سبيل إىل تجديد فهمنا للحقيقة ذاتها‪ .‬وبذلك تتضاعف داللة الوجود ويتَّسع معنى‬ ‫ٌ‬ ‫ولكنه أيضً ا‬
‫الحق»‪( .‬ص‪.)20-19‬‬
‫قائاًل «أ َّما الصوف َّية فكانت‬
‫وينهي عيل حرب تحليله يف التأويل يف الحديث عن العقل والق َّوة ً‬
‫إاَّل‬
‫أكرث الحركات مأساويَّةً‪ .‬وبالفعل فنحن ال ميكن أن نفهم الوجد العارم الذي نلحظه عند الجنيد َّ‬
‫إحساس هائل بالتناقض‪ ...‬مث َّة تناقض ال ب َّد من تجاوزه‪ ...‬فإ َّن التناقض يُفهم عند الجنيد‬ ‫ٌ‬ ‫عىل أنَّه‬
‫يصح النظر إىل التص ُّوف عىل أنَّه نقيض‬ ‫ُّ‬ ‫عىل أنَّه نزا ٌع بني الذَّات الـ ُمتشيّئة والحق‪ ...‬هكذا ال‬
‫ويحس ويرغب‪...‬‬‫ّ‬ ‫يحصل‬
‫ِّ‬ ‫ري عن مأزق هذا العقل الذي مل تتح له إمكان َّية أن يتعقّل ما‬ ‫للعقل‪ ،‬إنَّه تعب ٌ‬
‫فاندفع يف أفق الوهم»‪( .‬ص‪)288-286‬‬
‫قائاًل‪« :‬وبالفعل لقد فصل ابن خلدون بشكل‬ ‫ويختم حرب بحثه بالرجوع إىل ابن خلدون ً‬
‫والعيني‬
‫ُّ‬ ‫الحس وميدان الغيب‪ ،‬واعترب أ َّن مجال العقل هو املجال املحسوس‬ ‫ِّ‬ ‫قاطع بني ميدان‬
‫اإللهي» وعلم ما بعد‬
‫ّ‬ ‫الحس‪ ،‬ويس ّمونه «العلم‬
‫ِّ‬ ‫فقط‪ .‬وأ َّما ما كان منها يف املوجودات التي وراء‬
‫التوصل إليها والربهان عليها‪ ،‬أل َّن تجريد املعقوالت‬
‫ُّ‬ ‫رأسا وال ميكن‬
‫الطبيعة‪ ،‬فإ َّن ذواتها مجهولة ً‬
‫من املوجودات الخارج َّية الشخص َّية إمَّنَّ ا هو ممكن فيام هو مدرك لنا‪ .‬ونحن ال ندرك الذوات‬
‫الروحان َّية حتى نج ِّرد منها ماه َّيات أخرى»‪( .‬ص‪.)289-288‬‬
‫ق‬
‫عر�[[[‪:‬‬
‫شو� زين‪ ،‬ابن ب ي‬
‫ي‬ ‫(‪ )4‬محمد‬
‫يستلهم شوقي زين رؤي ًة جديدة يف فهم ابن عريب بوصف الشيخ األكرب من أكرث الصوف َّية تعقي ًدا‬
‫وعصيانًا عىل الفهم‪ ،‬ويرى أنَّه‪« :‬ميكننا القول بأ َّن مذهب ابن عريب ليس مثاليًّا وال واقعيًّا‪ ،‬بل مذهبًا‬
‫تخييليًّا ‪ .Imaginalisme‬ولهذا‪ ،‬فإ َّن مذهب الشيخ األكرب ال تت ُّم قراءته بلغة النظريَّة العقليَّة‪ ،‬بل بلغة‬
‫محل نظريَّة املعرفة‬ ‫َّ‬ ‫تحل‬
‫لطيفة ‪ subtile‬الخاطر وسط َّية وخيال َّية‪ ...‬هل تستطيع األبستمولوجيا أن َّ‬

‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬العرفان وظهور الوجود‪ ،‬الدار العرب َّية للعلوم‪ ،‬نارشون بريوت‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪.2010‬‬

‫‪243‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يك تق ِّدم لنا درجات من القراءة ومفاتيح مفاهيميَّة؟ األبستمولوجيا هي نظريَّة العلم الذي يحاول‬
‫تحديد األسس واملناهج ومواضيع وأهداف العلم‪ ...‬فهي إذن‪ ،‬خطاب حول العلم‪ .‬والتص ُّوف‬
‫علاًم‪ ،‬ميلك التجربة يف رشع َّيته ويف قواعده ‪ endogene‬الباطنة‪ ،‬يف التحقُّق والتث ُّبت‬
‫ً‬ ‫بوصفه‬
‫إاَّل بتجربتها عرب أمناط االكتساب واإلدراك عن طريق‬‫‪ .Corroboration‬هذه املعايري ال ت ُعرف َّ‬
‫رصا ‪( eminbmment‬بشكل كامل)‪.‬‬ ‫السلوك ح ً‬
‫الفينومينولوجي للكلمة‪ ،‬اليشء‬
‫ِّ‬ ‫عاَّم إذا كانت العودة إىل األشياء نفسها باملعنى‬
‫ويتساءل زين َّ‬
‫بذاته أو نفس األمر‪( .‬ص‪.)14-13‬‬
‫َّ‬
‫اإلسالمية[[[‪:‬‬ ‫(‪ )5‬ن‬
‫ه�ي كوربان‪ ،‬تاريـ ــخ الفلسفة‬
‫يدعو عارف تامر الباحثني العرب للدخول إىل مدرسة هرني كوربان لالطِّالع عىل النظريَّات‬
‫الجديدة يف البحث‪( .‬ص‪)6‬‬
‫يوافق اإلمام موىس الصدر هرني كوربان الذي جعل «التش ُّيع الينبوع الوحيد األصيل للتص ُّوف»‪،‬‬
‫ولكنه رفض تفسري كوربان للوالية بوصفها «باطن النب َّوة» ويقول‪ :‬إ َّن الوالية سلطة إلهيَّة‪ ،‬وهي‬
‫النص بذلك‪ .‬وهي مقام عظيم ال يبلغه إاَّلَّ من ميثِّل‬
‫ُّ‬ ‫النص حسب رأي الشيعة‪ ،‬وقد ورد‬ ‫ِّ‬ ‫تحتاج إىل‬
‫صاحب الرسالة‪ .‬إ َّن فكرة الوالية داحضة لفكرة معارضة التش ُّيع للتصوف‪( .‬ص‪)22‬‬
‫الحديث عن التشيُّع والتص ُّوف يبدو غريبًا ج ًّدا‪ ،‬حيث إ َّن كلامت فقهاء الشيعة ومح ّدثيهم‬
‫رسبت إىل‬‫ومتكلّميهم وحتى فالسفتهم مليئة بنفي أي شبه‪ ...‬إن التص ُّوف مدرسة مستقلَّة عامل َّية ت َّ‬
‫اإلسالمي كلَّه‪ ،‬وبعدما دخلت يف عقائد املسيحيني بصورة واضحة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الشيعة بعدما غزت العامل‬
‫يختص‬
‫ُّ‬ ‫حا النفتاح جميع األديان واملذاهب بعضها عىل بعض‪ ،‬وال‬ ‫حتى أ َّن التص ّوف اآلن يُع ُّد مفتا ً‬
‫بالتشيُّع تب ًعا وال سن ًدا‪( .‬ص‪)24‬‬
‫َّ‬
‫الصوفية أنفسهم‪:‬‬ ‫القسم َّ‬
‫الرابع‪ :‬مناهج‬
‫ايل‪:‬‬
‫(‪ )1‬الطريقة بحسب الغز ي‬
‫وخصوصا يف إحياء علوم‬
‫ً‬ ‫جة اإلسالم الغزايل ب َّدد مذهبه يف مؤلَّفاته كافَّة‪،‬‬
‫من املعروف أ َّن ح َّ‬
‫الشك املوصل إىل اليقني‪ ،‬فهو املنقذ من الضالل‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الدين‪ .‬أ َّما الكتاب الذي يعالج منهجه يف‬

‫[[[‪ -‬ترجمة اإلمام موىس الصدر واألمري عارف تامر‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار عويدات ‪1966‬م‪.‬‬
‫صدر الجزء األول من هذا الكتاب باللغة الفرنس َّية يف باريس باملشاركة مع سيد حسني نرص وعثامن يحيى‪ ،‬يف دار غاليامر سنة ‪،1964‬‬
‫بعنوان‪ :‬الفلسفة اإلسالم َّية منذ البداية وحتى وفاة ابن رشد (ت‪1198‬م)‪ .‬وتبعه الجزء الثاين يف موسوعة البلياد سنة ‪( 1974‬الصفحات‬
‫‪ .)1188-1067‬ويعالج موضوع الفلسفة اإلسالم َّية بعد وفاة ابن رشد إىل أيامنا‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫لقد رأى بعد معانا ٍة طويلة وتجرب ٍة فريدة أ َّن الحقيقة ال تأيت كامل ًة عن طريق العقل بل عن طريق‬
‫الكشف‪ ،‬وهو نو ٌر يقذفه الله يف القلب‪ .‬وعرض يف هذا الكتاب أيضً ا مسريته يف التص ُّوف‪ ،‬حيث‬
‫امليّك‪ ،‬وكتب الحارث‬
‫ّ‬ ‫يقول يف فصل «طرق الصوف َّية» بأنَّه قرأ كتاب قوت القلوب أليب طالب‬
‫املحاسبي‪ ،‬واملتف ِّرقات املأثورة عن الجنيد والشبيل وأيب يزيد البسطامي‪ ،‬وغريهم من املشايخ‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫والسامع‪ ،‬فظهر له أ َّن ما ال ميكن الوصول إليه‬‫يحصل من طريقهم بالتعلُّم َّ‬ ‫ِّ‬ ‫حصل ما ميكن أن‬‫وأنَّه َّ‬
‫أخص صفات التجربة الصوفيَّة‪ .‬ويُع ُّد كتابه هذا من أكرث‬‫ُّ‬ ‫بالتعلُّم بل بــ «الذوق» و«الحال»‪ ،‬وهام‬
‫ريا عن «منهج» الصوف َّية أنفسهم‪.‬‬
‫الكتب تعب ً‬
‫يصف الغزايل يف كتابه طريقة تحصيل علم التص ُّوف‪ ،‬ويرى أنَّه بخالف بقيَّة العلوم التي ميكن‬
‫تعلُّمها بالدراسة عن طريق املشايخ والكتب‪ ،‬فإ َّن هذا العلم يُدرك بشكل ذايتٍّ عن طريق السلوك‬
‫اليقيني بالله تعاىل وبالنب َّوة وباليوم اآلخر عن طريق الذوق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والذوق‪ .‬وهو نفسه وصل إىل اإلميان‬
‫معنَّي مح َّرر‪ ،‬بل بأسباب وقرائن وتجارب ال تدخل تحت الحرص تفاصيلها‪ .‬فبداية‬ ‫وليس «بدليل َّ‬
‫يف لديه هي «استغراق القلب بالكليَّة بذكر الله»‪ ،‬ونهايته «الفناء بالكليَّة يف الله»‪.‬‬
‫الطرق الصو ِّ‬
‫يرى الغزايل أيضً ا أ َّن املكاشفات واملشاهدات تبتدئ من أول الطريق‪« :‬ماذا يقول قائلون‬
‫وجل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عاَّم سوى الله ع َّز‬ ‫يف طريق ٍة طهارتها‪ ،‬وهي أول ٍ‬
‫رشط من رشوطها‪ ،‬تطهري القلب بالكليَّة َّ‬
‫وجل‪ ،‬وآخرها‬ ‫ّ‬ ‫ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصالة‪ ،‬استغراق القلب بذكر الله ع َّز‬
‫الفناء بالكل َّي ِة يف الله‪ .‬هذا آخرها باإلضافة إىل ما ال يكاد يدخل تحت االختيار والكسب من‬
‫قرب يكاد يتخ ّيل‬‫أوائلها‪ ...‬ومن أول الطريق تبتدئ املكاشفات‪ ...‬وعىل الجملة ينتهي األمر إىل ٍ‬
‫منه طائف ٌة الحلول‪ ،‬وطائفة االتحاد‪ ،‬وطائفة الوصول‪ُّ ،‬‬
‫وكل ذلك خطأ» [[[‪.‬‬
‫يل عن الرشيعة‪،‬‬ ‫ولقد م َّيز أبو حامد يف كتابه بني «علم املعامالت»‪ ،‬وهو التعبري العم ُّ‬
‫يف‪ ،‬وفضَّ لها عىل الرشيعة ألنَّها هي الحقيقة‪.‬‬
‫و«املكاشفات» وهي الثمرة املرج َّوة من الطريق الصو ِّ‬
‫وخصوصا إذا ترقَّى‬
‫ً‬ ‫يف هي التعبري عن هذه املكاشفات واملشاهدات‬ ‫وأهم مشكلة تعرتض الصو َّ‬
‫إاَّل اشتمل لفظه عىل‬ ‫يعرِّب عنها َّ‬
‫إىل الدرجات التي «يضيق عنها نطاق النطق‪ ،‬فال يحاول معرب أن ِّ‬
‫قائاًل‪« :‬وبالجملة‪ ،‬فمن‬
‫خطأ رصيح ال ميكنه االحرتاز عنه»‪ .‬ويختتم الغزايل أفكاره حول التص ُّوف ً‬
‫إاَّل االسم»‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن من مل يرزق هذا‬
‫مل يرزق منه شيئًا بالذوق فليس يدرك من حقيقة النب َّوة َّ‬
‫الذوق فعليه التيقُّن بالتجربة والتسامح‪ ،‬وصحبة الصوفيَّة ومجالستهم يك يصل إىل القبول بتجربة‬
‫حسن الظ ِّن يقول يف بيت ابن‬ ‫حسن الظ ِّن يقوده إىل اإلميان‪ ...‬وحول ُ‬ ‫من سبقه من الصوف َّية‪ ،‬و ُ‬
‫املعتز (ت‪908‬ه) املشهور‪:‬‬

‫[[[‪ -‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املنقذ من الضالل‪ ،‬حققه قاسم النوري وزميله‪ ،‬دمشق ‪1991‬م‪ ،‬ص ‪.132-131‬‬

‫‪245‬‬
‫حقول التنظير‬

‫فظ َّن خريا ً وال تسأل عن الخربِ»‬ ‫ ‬


‫ماَّم لست أذكر ُه‬
‫«وكان ما كان َّ‬
‫السهروردي املقتول (ت‪587‬ه) بعد الغزايل بثامنني سنة‪ ،‬حول‬ ‫ُّ‬ ‫قريب من هذا ما سوف يؤكِّده‬
‫رضورة ال ُّرجوع إىل سلوك وعقيدة املتص ِّوفة‪ .‬فإن مل تكن صوف ًّيا فعليك أن تتش َّبه بهم‪ ،‬أو أن تتمتَّع‬
‫حسن الظ ِّن بهم‪ .‬يقول السهروردي‪:‬‬ ‫ب ُ‬
‫فالح‬
‫ُ‬ ‫إ َّن التش ُّبه بالكرام‬ ‫ ‬
‫فتش َّبهوا إن مل تكونوا منه ُم‬
‫املنهج يف التص ُّوف إذًا‪ ،‬هو تجربة ذات َّية يصعب نقلها إىل اآلخرين من دون ارتكاب األخطاء أو‬
‫يف تقوم عىل معرفة سلوكه وأخالقه‪ ،‬واالطِّالع‬ ‫الوقوع يف الشطح‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فإ َّن داللة صدق الصو ِّ‬
‫حة أفكاره املعروضة يف مؤلَّفاته[[[‪.‬‬
‫حسن الظ ِّن به‪ ،‬واعتقاد ص َّ‬
‫عىل مؤلَّفاته التي قد تؤ ّدي إىل ُ‬
‫عر�‪:‬‬
‫(‪ )2‬الطريقة بحسب ابن ب ي‬
‫يلخِّص ابن عريب ألحد أتباعه «الطريقة الرشيفة املوصلة السالك عليها إىل الله تعاىل بأقرب‬
‫توصل إليه شيخه ابن عريب‬ ‫عبارة وأوجز لفظ»‪ ،‬ويع ُّده تلميذه بأنَّه سوف يعمل حتى يصل إىل ما َّ‬
‫الخاصة من املؤمنني الطالبني‬ ‫َّ‬ ‫الذي يقول‪« :‬فاعلم أ َّن الطريق إىل الله تعاىل الذي سلكت عليه‬
‫نجاتهم دون العا َّمة الذين شغلوا أنفسهم بغري ما خلقت له أنَّه عىل أربع شعب بواعث ودوا ٍع وأخالق‬
‫وحقائق‪ ،‬والذي دعاهم إىل هذه الدواعي والبواعث واألخالق والحقائق ثالثة حقوق تفرض عليهم‬
‫فالحق الذي للّه تعاىل عليهم أن يعبدوه وال يرشكوا به شيئاً‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وحق للخلق‪.‬‬ ‫وحق ألنفسهم‪ٌّ ،‬‬ ‫حق للّه‪ٌّ ،‬‬ ‫ٌّ‬
‫كف األذى كلِّه عنهم ما مل يأمر به رشع من إقامة ح ٍّد‪ ،‬وصنائع املعروف‬ ‫والحق الذي للخلق عليهم ُّ‬ ‫ُّ‬
‫معهم عىل االستطاعة واإليثار ما مل ين َه عنه رشع‪ ،‬فإنَّه ال سبيل إىل موافقة الغرض إاَّلَّ بلسان الرشع‪،‬‬
‫والحق الذي ألنفسهم عليهم أن ال يسلكوا بها من الطرق إاَّلَّ الطريق التي فيها سعادتها ونجاتها‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وإن أبت فلجهل قام بها أو سوء طبع‪ ،‬فإ َّن النفس األبيَّة إمنا يحملها عىل إتيان األخالق الفاضلة دين‬
‫أو مروءة‪ ،‬فالجهل يضا ُّد الدين‪ ،‬فإ َّن الدين علم من العلوم‪ ،‬وسوء الطبع يضا ُّد املروءة‪ .‬ثم نرجع إىل‬
‫السببي‪ ،‬ويس َّمى نفر الخاطر‪ ،‬ثم اإلرادة‪ ،‬ث َّم العزم‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الشعب األربع فنقول الدواعي خمسة‪ :‬الهاجس‬
‫ث َّم اله َّمة‪ ،‬ث َّم النيَّة والبواعث‪ .‬لهذه الدواعي ثالثة أشياء رغبة أو رهبة أو تعظيم‪ ،‬والرغبة رغبتان‪:‬‬
‫رغبة يف املجاورة ورغبة يف املعاينة‪ ،‬وإن شئت قلت رغبة فيام عنده ورغبة فيه‪ ،‬والرهبة رهبتان‪:‬‬
‫رهبة من العذاب ورهبة من الحجاب‪ ،‬والتعظيم إفراده عنك وجمعك به ‪ .‬واألخالق عىل ثالثة‬
‫أنواع خلق متع ٍّد‪ ،‬وخلق غري متع ٍّد‪ ،‬وخلق مشرتك‪ .‬فاملتع ّدي عىل قسمني‪ :‬متع ٍّد مبنفعة كالجود‬
‫رضة كالعفو والصفح واحتامل األذى مع القدرة عىل الجزاء والتمكُّن منه‪،‬‬ ‫والفت َّوة‪ ،‬ومتع ٍّد بدفع م َّ‬

‫[[[‪ -‬يراجع فصل «طرق الصوفية» من كتاب املنقذ من الضالل لحجة اإلسالم أيب حامد الغزايل‪ ،‬تحقيق وتقديم د‪ .‬جميل صليبا و د‪ .‬كامل‬
‫عياد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،1960 ،6‬ص‪.105-97‬‬

‫‪246‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫وغري املتع ّدي كالورع والزهد والتوكُّل‪ .‬وأ َّما املشرتك فكالصرب عىل األذى من الخلق وبسط الوجه‪.‬‬
‫وأ َّما الحقائق فعىل أربع‪ :‬حقائق ترجع إىل الذات املق َّدسة‪ ،‬وحقائق ترجع إىل الصفات املن َّزهة‬
‫وهي النسب‪ ،‬وحقائق ترجع إىل األفعال وهي كن وأخواتها‪ ،‬وحقائق ترجع إىل املفعوالت وهي‬
‫األكوان واملك ِّونات‪ .‬وهذه الحقائق الكون َّية عىل ثالث مراتب‪ُ :‬علويَّة وهي املعقوالت‪ ،‬وسفل َّية‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫فكل مشهد يقيمك الحق فيه‬ ‫وهي املحسوسات‪ ،‬وبرزخيَّة وهي املخيَّالت‪ .‬فأ َّما الحقائق الذاتيَّة ُّ‬
‫فكل مشهد‬ ‫من غري تشبيه وال تكييف ال تسعه العبارة وال تومئ إليه اإلشارة‪ ،‬وأ َّما الحقائق الصفاتيَّة ُّ‬
‫يقيمك الحق فيه تطَّلع منه عىل معرفة كونه سبحانه عاملاً قادرا ً مريدا ً ح ّياً‪ ،‬إىل غري ذلك من األسامء‬
‫والصفات املختلفة واملتقابلة واملتامثلة‪ .‬وأ َّما الحقائق الكون َّية فكل مشهد يقيمك الحق فيه تطَّلع‬
‫منه عىل معرفة األرواح والبسائط واملركَّبات واألجسام واالتصال واالنفصال‪ .‬وأ َّما الحقائق الفعليَّة‬
‫خاص لكون العبد ال‬ ‫ٍّ‬ ‫فكل مشهد يقيمك فيه تطَّلع منه عىل معرفة كن وتعلُّق القدرة باملقدور برضب‬ ‫ُّ‬
‫فعل له وال أثر لقدرته الحادثة املوصوف بها‪ .‬وجميع ما ذكرناه يس َّمى األحوال واملقامات‪ ،‬فاملقام‬
‫كل صفة تكون فيها‬ ‫يصح التنقُّل عنها كالتوبة‪ .‬والحال منها ُّ‬
‫ُّ‬ ‫كل صفة يجب ال ُّرسوخ فيها وال‬
‫منها ُّ‬
‫كالسكر واملحو والغيبة والرىض‪ ،‬أو يكون وجودها مرشوطاً برشط فتنعدم لعدم‬ ‫يف وقت دون وقت ُّ‬
‫رشطها‪ ،‬كالصرب مع البالء‪ ،‬والشكر مع النعامء‪ ،‬وهذه األمور عىل قسمني‪ :‬قسم كامله يف ظاهر‬
‫اإلنسان وباطنه كالورع والتوبة‪ ،‬وقسم كامله يف باطن اإلنسان‪ ،‬ث َّم إن تبعه الظاهر فال بأس كالزهد‬
‫والتوكُّل وليس ث َّم يف طريق الله تعاىل مقام يكون يف الظاهر دون الباطن‪.‬‬
‫ث َّم إ َّن هذه املقامات منها ما يتَّصف به اإلنسان يف الدنيا واآلخرة كاملشاهدة والجالل والجامل‬
‫واألنس والهيبة والبسط‪ ،‬ومنها ما يتَّصف به العبد إىل حني موته إىل القيامة إىل أ َّول قدم يضعه‬
‫يف الجنة ويزول عنه‪ ،‬كالخوف والقبض والحزن وال َّرجاء‪ ،‬ومنها ما يتَّصف به العبد إىل حني موته‬
‫والتحيّل عىل طريق القربة‪ ،‬ومنها ما يزول‬ ‫ّ‬ ‫والتخيّل‬
‫ّ‬ ‫كالزهد والتوبة والورع واملجاهدة والرياضة‬
‫لزوال رشطه ويرجع لرجوع رشطه‪ ،‬كالصرب والشكر والورع‪ ،‬فهذا وفَّقنا الله وإيَّاك قد ب َّينت لك‬
‫الطريق مرت َّب املنازل‪ ،‬ظاهر املعاين والحقائق‪ ،‬عىل غاية االيجاز والبيان واالستيفاء العا ِّم‪ ،‬فإن‬
‫سلكت وصلت‪ ،‬والله سبحانه يرشدنا وإيَّاك»[[[‪.‬‬
‫باإلضافة إىل الكشف‪ ،‬يستخدم ابن عريب مصطلح «الفتوح»‪ ،‬والفرق بينهام هو مت ُّيز الفتح‬
‫إاَّل‬
‫بثالثة أنواع‪ :‬فتح العبارة‪ ،‬وفتح الحالوة‪ ،‬وفتح املكاشفة‪ .‬ويبدو أ َّن هذا الفتح الذي ال يناله َّ‬
‫اإللهي قد متيَّز به ابن عريب من دون سائر الصوفيَّة‪ .‬وهو يرشح لنا فتح‬
‫ِّ‬ ‫رجل من أهل الله بالعطف‬
‫معنوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حاسة الذوق أو «الوجدان يف الباطن» بأ َّن هذه الحالوة أمر‬
‫الحالوة رابطًا بينه وبني َّ‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.34-33‬‬

‫‪247‬‬
‫حقول التنظير‬

‫فتح العبارة‪ :‬وصاحب هذا الفتح الصدق يف جميع أحواله‪ ،‬فزمان تص ُّوره لألفكار هو زمان نطقه‬
‫بها‪ .‬وزمان قيام ذلك املعنى يف نفسه هو الزمان عينه الذي تص َّور به صاحب الفتح ذلك اللَّفظ‪.‬‬
‫«وليس لغري صاحب هذا الفتح هذا الوصف‪ ،‬ويكون التن ّزل عىل صاحب هذا الفتح من املرتبة التي‬
‫خاصة‪ ،‬من كونه قرآنًا ال من كونه فرقانًا‪ .‬ويتابع ابن عريب‪« :‬وال من كونه كالم الله‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫نزل فيها القرآن‬
‫النبي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫يل ما ت ُيل عليه مثلام ينظر‬‫فإ َّن كالم الله ال يزال ينزل عىل قولب أولياء الله تالوة‪ ،‬فينظر الو ُّ‬
‫النبي ما أنزِل عليه‪ ...‬ولهذا التن ُّزل يف‬
‫ُّ‬ ‫فيام أُنزِل عليه‪ .‬فيعلم ما أريد به يف تلك التالوة كام يعلم‬
‫يل حالوة‪ ...‬فال تقع التالوة لصاحب هذا الفتح إاَّلَّ من كون املتل ّو قرآناً ال غري‪ ،‬فيفتح الله‬ ‫قلب الو ِّ‬
‫له يف العبارة‪ .‬فيعرب بقلمه أو بلفظه عام يف نفسه‪ ،‬بحيث أن يوضح املقصود عند السامع‪ ،‬إذا كان‬
‫السامع ممن ألقى السمع‪ .‬ومن عالمة صاحب هذا الفتح عند نفسه‪ :‬استصحاب الخشوع وتوايل‬
‫االقشعرار عليه يف جسده بحيث أن يحس بأجزائه قد تفرقت‪ .‬فإن مل يجد ذلك يف نفسه فيعلم أنه‬
‫ليس ذلك الرجل املطلوب وال هو صاحب هذا الفتح‪ .‬وهذا فتح ما رأيت يف عمري فيمن لقيته‬
‫[[[‬
‫من رجال الله أثرا ً يف أحد»‪.‬‬
‫اإللهي عليه رزقه الله وجدان هذه الحالوة يف باطنه فيجذبه‬ ‫ُّ‬ ‫فتح الحالوة‪ :‬فإذا ورد العطف‬
‫إليه تعاىل‪ ...‬ومن أش ُّد حالوة من هذا الفتح هو ما م َّر عىل ابن عريب يف الزمان الذي ت ُيل عليه (ن‬
‫يل‪ ،‬ثم إنَّه‬
‫والقلم وما يسطرون)‪ ،‬ويتابع وصف هذه الحالوة بقوله‪« :‬فهذه أعظم برشى وردت ع ّ‬
‫يل م َّرتني يف زمانني متتابعني‪ .‬فزادين إعجاباً بها تكرار التالوة ع ّ‬
‫يل بها‪ .‬وتكرار التالوة فينا‬ ‫ت ُليت ع ّ‬
‫مثل تكرار نزول اآلية أو السورة عىل الرسول م َّرتني‪ .‬كام جاء يف نزول سورة «واملرسالت» وغريها‪،‬‬
‫الحق عىل عبده بهذه الحالوة فجذبه إليه بها‪ ،‬ليمنحه علامً مل يكن‬ ‫ُّ‬ ‫أنه نزلت م َّرتني‪ .‬فإذا عطف‬
‫عنده؛ فإن مل يجد علامً فليس بجذب وال تلك حالوة فتح»[[[‪.‬‬
‫إاَّل‬
‫أجل وأعىل من أن يعرف يف نفسه‪َّ .‬‬
‫الحق ُّ‬
‫َّ‬ ‫الحق‪ ،‬علامً بأ َّن‬
‫ِّ‬ ‫فتح املكاشفة‪ :‬هو سبب معرفة‬
‫أنَّه حسب ما يقول ابن عريب‪« :‬يعرف يف األشياء‪ ...‬واألشياء عىل الحق كالستور‪ ،‬فإذا رفعت وقع‬
‫النبي صىل الله عليه وسلم‬
‫الحق يف األشياء كشفاً‪ ،‬كام يرى ُّ‬ ‫َّ‬ ‫الكشف ملا وراءها‪ ...‬فريى املكاشف‬
‫من وراءه من خلف ظهره‪ .‬فارتفع يف حقِّه السرت وانفتح الباب مع ثبوت الظهر والخلف‪ .‬فقال‪« :‬إين‬
‫أراكم من خلف ظهري» [[[‪.‬‬
‫ويؤكِّد ابن عريب بعد حمده لله‪ ،‬بأنه ذاق هذا املقام‪ .‬ويتابع حول فتح املكاشفة فيقول‪ :‬إ َّن‬
‫أعظم درجة فيه هي أن يرى الصويف الحق‪ ،‬فيكون عني رؤيته إيَّاه عني رؤيته العامل‪ ،‬لالرتباط‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.506‬‬


‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.507-506‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.507‬‬

‫‪248‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫يف‬
‫املحقَّق‪ .‬فيكشف العامل من رؤيته الله تعاىل‪ .‬وهو مييّز بني كشف الفيلسوف وكشف الصو ِّ‬
‫فيقول‪« :‬ولكن هذه الدقيقة ليست ألهل النظر»[[[‪ ،‬أي الفالسفة‪ .‬أل َّن النظر ليس يف ق ّوته ذلك‪ ،‬وإمنا‬
‫هو من خصائص الكشف‪ .‬هنا يؤكِّد م َّرة أخرى أن مث َّة شبهاً بني الفيلسوف والصو ِّ‬
‫يف‪ ،‬لك َّن هذا‬
‫يف التي ال ينالها الفيلسوف أو «صاحب النظر»‪ .‬وهذا‬ ‫الشبه غرضُ ه التأكيد عىل املرتبة األعىل للصو ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يف والفيلسوف‪.‬‬
‫والخاص مبقارنة معراج الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ما نراه يف نهاية الباب ‪ ،167‬من الفتوحات‬
‫العلمي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫التص ُّوف بحسب ابن عريب تجربة وذوق ال تخضع لالستقراء‬
‫يقول ابن عريب يف مق ِّدمة كتابه التدبريات اإلله َّية‪« :‬التص ُّوف‪ ،‬صافاك الله‪ ،‬أمره عجيب وشأنه‬
‫رسه لطيف‪ ،‬ليس ُمُينح إاَّلَّ لصاحب عناية وقدم صدق‪ ...‬فاعلم ‪ -‬رشح الله سبحانه صدرك‬ ‫غريب و ُّ‬
‫– أ َّن مبنى هذا الطريق عىل التسليم والتصديق»[[[‪.‬‬
‫يف إذا نصحه خصوم التص ُّوف‬
‫وهو ينصح املسرتشد الذي يتع َّرض ملن ينفِّره عن الطريق الصو ِّ‬
‫أن يطالب الصوف َّية «بالدليل والربهان» يف ما يتكلَّمون فيه من األرسار‪ .‬يقول له‪ :‬أعرض عنهم وقل‬
‫وخرّبين‬
‫لهم يف مقابلة ذلك «ما الدليل عىل حالوة العسل؟ ما الدليل عىل لذَّة الجامع وأشباههام؟ ّ‬
‫عن ماهيَّة هذه األشياء‪« ،‬فالبد أن يقول لك‪ :‬هذا علم ال يحصل إاَّلَّ بالذوق‪ ،‬فال يدخل تحت ح ٍّد‪،‬‬
‫وال يقوم عليه دليل» فقل له‪ :‬وهذا مثل ذلك» [[[‪.‬‬
‫ويؤكِّد ابن عريب أ َّن هذه التجربة الصوفيَّة يت ُّم نقلها ع َّمن ذاقها أو شهدها‪ ،‬وبالتايل فالواجب‬
‫علينا التسليم والتصديق فيام ا َّدعاه‪ ،‬وتحسني الظ ِّن به‪ ،‬وترك االعرتاض عليه‪ .‬واملطلوب من‬
‫كل حجاب يحجبها عن‬ ‫يف أن يعمد «إىل مرآة قلبه فيجلوها من صدأ األغيار‪ ،‬ومييط عنها َّ‬ ‫الصو ِّ‬
‫تجىَّل‬
‫َّ‬ ‫تجيّل صور املعقوالت واملغ َّيبات‪ ،‬بأنواع الرياضات واملجاهدات‪ .‬فإذا صفت وتجلَّت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫عاَّم شاهد ووصف ما رأى‪.[[[»...‬‬ ‫كل ما قابلها من املغيَّبات‪ ،‬فنطق َّ‬ ‫فيها ُّ‬
‫يف من قبيل الجائز‪...‬‬ ‫ويرى الشيخ األكرب أ َّن غاية املسلم العاقل «أن يجعل ما نطق به هذا الصو ُّ‬
‫يف بالجائز أو مبوافقات العقول‪ ،‬إذ النب َّوة والوالية فوق طور العقل‪ ،‬فالعقل إ َّما‬‫فإذا أىت هذا الصو ُّ‬
‫يقف أو يج ّوز بأنَّه ما أىت بيشء يه ُّد به ركناً من أركان التوحيد وال ركناً من أركان الرشيعة»[[[‪.‬‬
‫ويؤكِّد‪ ،‬شأنه شأن الصوفيَّة يف عرصه‪ ،‬عىل رضورة التزام «املريد» أو السالك الجديد لطريق‬
‫يضل الطريق‪ .‬يقول‪« :‬اعلم أيُّها املريد نجاة نفسك أنَّه أول‬
‫التص ُّوف بالتد ُّرب عىل يد شيخ يك ال َّ‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.508‬‬


‫[[[‪ -‬التدبريات اإلله َّية‪ ،‬تحقيق نيربغ‪ ،‬ليدن ‪ ،1919‬ص‪.113-112‬‬
‫م ن‪ ،‬ص‪.114‬‬
‫[[[‪-‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.116‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.117‬‬

‫‪249‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يبرِّصك عيوب نفسك‪ ،‬ويخرجك من طاعة نفسك‪ ،‬ولو‬ ‫كل يشء طلب أستاذ ِّ‬ ‫ما يجب عليك قبل ِّ‬
‫رحلت يف طلبه إىل أقىص األماكن‪ ،‬وأنا أوصيك إن شاء الله ما تفعله يف م َّدة طلبك الشيخ حتى‬
‫تجده فإذا وجدته فانقد إليه واصدق يف خدمته‪ ،‬فالحارض أبرص من الغائب‪ ،‬فكن بني يديه كامليت‬
‫بني يدي الغاسل‪ ،‬وال يخطر لك عليه خاطر اعرتاض ولو عاينته قد خالف الرشيعة فإ َّن اإلنسان‬
‫ليس مبعصوم»[[[‪.‬‬
‫التجيّل يخرج عن حكم االستقراء‪ ،‬من وجه عدم التكرار‪ .‬وبالتايل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬يرى ابن عريب أ َّن‬
‫إاَّل أنَّه سقيم‬
‫فإ َّن «االستقراء» هو‪ ،‬باإلضافة إىل االستنتاج‪ ،‬أكرث أدوات املنطق استخدا ًما يف العلم َّ‬
‫كام يقول عند تناول العلم بالله‪ ،‬أو علوم األحوال واملقامات يف التص ُّوف‪ .‬ويجدر القول أ َّن‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫املناهج العلم َّية القامئة عىل املنطق والعقل تعتمد عىل االستنتاج واالستقراء والقياس‪،‬‬
‫عىل التجربة التي تقبل التحقُّق واإلعادة كأداة لبلوغ اليقني‪ ،‬يف حني أ َّن علوم القلب أو التص ُّوف ال‬
‫تخضع لهذه املعايري العلم َّية (الفتوحات‪ ،‬الباب ‪.)56‬‬
‫إ َّن امللَكة التي تس َّمى قل ًبا هي الق َّوة التي تدرك طور «ما وراء العقل»‪ ،‬استنا ًدا إىل اآلية القرآن َّية‬
‫اإللهي يف الصور»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ب‪[‬ق‪ .]37:‬فالتقليب كام يقول ابن عريب «نظري التح ُّول‬ ‫الكرمية ‪َ ‬مِل ِ ْن ك َ‬
‫َان َل ُه َق ْل ٌ‬
‫الحق إاَّلَّ بالقلب‪ ،‬ال بالعقل‪ ،‬ثم يقبلها العقل من القلب كام يقبل من‬ ‫ِّ‬ ‫الحق من‬‫ِّ‬ ‫«فال تكون معرفة‬
‫الفكر»[[[ ‪.‬‬
‫يف يقوم عىل تصفية وصقالة وطهارة القلب‪ ،‬وذلك لبلوغ ما وراء‬
‫كل «املنهج» الصو ِّ‬
‫والواقع أ َّن َّ‬
‫يستقل به األنبياء وكبار األولياء‪ .‬وخالصة تحصيل هذا العلم بالنسبة إىل‬
‫ُّ‬ ‫طور إدراك العقل الذي‬
‫الصوف َّية تعتمد عىل‪:‬‬
‫الرب‪.‬‬
‫‪ - 1‬مراقبة القلب عند باب ّ‬
‫‪ - 2‬الحضور مع طهارة الظاهر والوقوف عند الحدود املرشوعة‪ ،‬وصيانة السمع والِّلسان واليد‬
‫عاَّم نهى عنه الرشع‪.‬‬
‫والرجل والبطن والفرج َّ‬
‫املحل من النظر يف املمكنات‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ - 3‬صقالة القلوب باألذكار وتالوة القرآن وتفريغ‬
‫يف باألذكار املرشوعة لتحقيق صفاء القلوب وطهارتها من‬ ‫‪ - 4‬الخلوات التي يلتزم فيها الصو ُّ‬
‫الحق‪ .‬أل َّن مثة قاعدة تقول بأنَّه «ال‬
‫ِّ‬ ‫إاَّل يف املحدثات‪ ،‬ال يف ذات‬
‫دنس الفكر‪ ،‬أل َّن املفكِّر ال يفكِّر َّ‬
‫الحق وصفة العبد حد واحد»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يجمع صفة‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.227-226‬‬


‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪,289‬‬

‫‪250‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫يف إىل الله بكلِّه‪ ،‬عندها كام يقول ابن عريب‪« :‬أفاض الله‬‫جه الصو ِّ‬ ‫‪ - 5‬وأه ُّم من ذلك كلِّه هو تو ُّ‬
‫والتجيّل ال يقبله كون وال ير ُّده»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عليه من نوره علامً إلهيّاً‪ ،‬عرفه بأ َّن الله تعاىل من طريق املشاهدة‬
‫يُستفاد من ذلك بأ َّن ابن عريب ال ينكر يف منهج َّيته العلوم القامئة عىل املنطق والتجريب‪ ،‬بل‬
‫ي‪ ،‬والثانية من اختصاص‬‫مييّز بينها وبني علوم القلب‪ .‬فاألوىل هي من اختصاص العامل املا ّد ِّ‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫يف‪.‬‬
‫الروحي والصو ّ‬
‫ِّ‬ ‫العامل‬
‫النظري» والفلسفة ضمن حدودهام‪ ،‬ولكنه يعيل من شأن‬ ‫ِّ‬ ‫إنَّه يعرتف إذًا‪ ،‬مبرشوعيَّة «العلم‬
‫التجربة الدين َّية املتمثّلة يف التص ُّوف ضمن الحدود التي رسمها كبار الصوف َّية وعىل رأسها «تخلية‬
‫عاَّم سوى الله‪ ،‬وتزكيته باألذكار والعبادات املرشوعة‪.‬‬
‫القلب» َّ‬
‫ُّ‬
‫التصوف‪:‬‬ ‫(‪ )3‬نقد مناهج املستشرقني يف‬
‫يتب َّنى محمد عابد الجابري يف دراسته للرؤيا االسترشاق َّية يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬دراسة االسترشاق‬
‫الفلسفي والر َّد عىل املشتغلني بالفلسفة من املفكِّرين العرب‪ ،‬ويركِّز عىل منهجيَّة الشيخ مصطفى‬ ‫ِّ‬
‫يب الحديث بعدما‬ ‫عبد الرازق والدكتور إبراهيم مدكور باعتبارهام حاوال إحياء الفلسفة يف الفكر العر ِّ‬
‫ظلَّت «مقموعة» طيلة عرص االنحطاط‪ ،‬منذ وفاة ابن رشد‪ .‬ويبدأ الجابري بذكر الشيخ مصطفى‬
‫عبد الرازق يف كتابه متهيد لتاريخ الفلسفة اإلسالم َّية الذي ظهر ألول م َّرة سنة ‪ ،1944‬وهو عبارة‬
‫عن دروس ألقاها يف الجامعة املرصيَّة يف أواخر الثالثينيَّات من القرن العرشين‪ .‬لقد بقي اهتامم‬
‫الشيخ عبد الرازق محصو ًرا «يف عرض وتفنيد اآلراء التي تطعن يف قدرة العرب عىل التفلسف‪،‬‬
‫خصوصا نظريَّة الفيلسوف‬
‫ً‬ ‫والتي تنكر بالتايل وجود أيَّة أصالة يف الفلسفة اإلسالم َّية»‪ .‬وطال نقده‬
‫الفرنيس رينان (ت ‪ )1892‬التي تتنكَّر ألصالة الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬وتنظر إليها نظرة ال تخلو من‬ ‫ِّ‬
‫العنرصيَّة ال ِعرقيَّة التي كانت سائدة يف القرن التاسع عرش‪ ،‬حيث يق ِّرر‪ :‬بأ َّن علينا أ ْن ال نتوقَّع وجود‬
‫الجابري إىل بعض املناهج التي استخدمها‬ ‫ُّ‬ ‫دروس فلسفيَّة عند الجنس السامي[[[‪ .‬وقد أملح‬
‫التاريخي الذي يصعد بنا إىل األصول األوىل‪« ...‬وبواسطته ميكن استعادة‬ ‫ِّ‬ ‫املسترشقون كاملنهج‬
‫املايض وتكوين أجزائه البالية وعرض صورة منه تطابق الواقع ما أمكن»‪ ،‬واملنهج املقارن الذي‬
‫«يسمح مبقابلة األشخاص واآلراء وج ًها لوجه ويعني عىل كشف ما بينها من شبه أو عالقة»[[[‪ .‬وال‬
‫الفينومينولوجي الذي طبَّقه هرني كوربان يف دراسته للفلسفة والتص ُّوف يف اإلسالم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ننىس املنهج‬
‫الجابري عىل هذا املنهج كام فعل محمد شوقي زين يف كتابه ابن عريب‪...‬‬
‫ُّ‬ ‫من دون أن يعلِّق‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬م ن‪ ،‬ص‪.289-271‬‬
‫[[[‪ -‬تراجع الفكرة يف محمد عابد الجابري‪ ،‬مناهج املسترشقني يف الدراسات العرب َّية اإلسالم َّية (املنظَّمة العرب َّية للرتبية والثقافة والعلوم)‪،‬‬
‫ج‪ ،1‬الرياض ‪ ،1985‬ص‪.309‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.314‬‬

‫‪251‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يقول محمد عابد الجابري يف بحثه ضمن كتاب مناهج املسترشقني بعنوان «الرؤيا االسترشاقيَّة‬
‫يف الفلسفة اإلسالميَّة‪ :‬طبيعتها ومك ِّوناتها األيديولوجيَّة واملنهجيَّة‪« :‬من أجل الغرب إذًا وبوحي‪،‬‬
‫بل وبضغط من أزمته الفكريَّة يف فرتة ما بني الحربني‪ ،‬انرصف هرني كوربان يبحث يف «الفلسفة‬
‫اإلسالم َّية» عن حلول النعكاسات تلك األزمة يف نفسه‪ .‬لقد ذهب إىل الرشق يحمل معه أزمة‬
‫السهروردي وتالمذته‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الغرب الروحيَّة ورصاعاته الفكريَّة‪ ...‬وقد وجد يف فلسفة اإلرشاق فلسفة‬
‫فتمسك بها وانغمس يف خياالتها وشطحاتها‪ .‬ولو وقف هرني كوربان‬ ‫َّ‬ ‫الفلسفة النقيض لفكر هيغل‬
‫يخصه وحده‪ ،‬وملا كان يجوز لنا أن نؤاخذه عىل يشء من ذلك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫عند هذه النقطة لكان األمر‬
‫إرشاقي وبطريقة‬
‫ٍّ‬ ‫غنويص‬
‫ٍّ‬ ‫اإلسالمي من منظور‬
‫ِّ‬ ‫ولك َّنه تخطَّى هذه النقطة وانطلق «يؤ ِّرخ» للفكر‬
‫التجيّل األسمى لحقائق النب َّوة‬ ‫ّ‬ ‫تجعل فلسفة اإلرشاق السهرورديَّة الهرمسيَّة الطابع واألصول هي‬
‫كل من الفلسفة‬ ‫التجيّل األسمى لحقائق ٍّ‬
‫ّ‬ ‫يف اإلسالم مقلِّ ًدا يف ذلك هيغل الذي جعل فلسفته هي‬
‫يب الذي تعامل‬ ‫والدين يف الغرب‪ .‬وهكذا فإذا كان هيغل قد مارس أمربيال َّية عىل تاريخ الفكر الغر ِّ‬
‫يل‪ ،‬ولكن ال عىل‬ ‫معه كفكر للعامل كلِّه‪ ،‬فإ َّن كوربان قد مارس عدوانًا وأمربيال َّية عىل النمط الهيغ ِّ‬
‫االسترشاقي» مع‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالمي‪ ...‬وذلك هو حقيقة «التعاطف‬ ‫ِّ‬ ‫يب بل عىل الفكر العريب‬ ‫الفكر الغر ِّ‬
‫الروحانيَّة اإلرشاقيَّة يف اإلسالم»[[[‪.‬‬
‫ويعلِّق الجابري عىل أهم َّية كتاب الشيخ عبد الرازق فيقول‪« :‬مل يكن مصطفى عبد الرازق إذًا‬
‫يعاين من «عقدة االسترشاق»‪ ،‬بل ميكن القول أنَّه مل يكن يعي متام الوعي طبيعة الرؤيا االسترشاقيَّة‬
‫لعل مفهوم «االسترشاق» كام يتح َّدد مضمونه اليوم يف الفكر‬ ‫جهاتها‪ ،‬بل َّ‬‫ودوافعها ومك ِّوناتها وتو ُّ‬
‫رضا يف ذهنه‪ ...‬من أجل هذا كان البديل الذي يقرتحه صاحب التمهيد‬ ‫يب املعارص مل يكن حا ً‬ ‫العر ِّ‬
‫املستقل‪ ،‬ويثبت‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫هو سلوك «منهج» يربز قدرة املفكِّرين املسلمني عىل مامرسة التفكري العق ِّ‬
‫يل يف اإلسالم قبل تدخُّل العوامل األجنبيَّة» [[[‪.‬‬‫أسبقيَّة البحث العق ِّ‬
‫ويف عرضه لكتاب الدكتور إبراهيم مدكور بعنوان الفلسفة اإلسالم َّية‪ :‬منهج وتطبيق‪ ،‬يتساءل‬
‫الجابري عن نوع املنهج الذي يقرتحه مدكور يف كتابه‪ .‬ويلفت النظر إىل أ َّن فكرة أو كلمة استرشاق‬ ‫ُّ‬
‫مل تكن واردة يف هذا الكتاب‪ .‬كام يؤكِّد أ َّن «املؤلّفني املحرتمني» (عبد الرازق ومدكور) مل يكونا‬
‫الجابري الذي قدم نظرة نقديَّة لكتاب إمييل بريهيه‬‫ُّ‬ ‫قد تح َّررا من هيمنة الرؤيا االسترشاق َّية‪ .‬وينتهي‬
‫بعنوان تاريخ الفلسفة يف سبعة مجلَّدات‪ ،‬إىل القول‪« :‬يف إطار هذه املركزيَة األوروب َّية املفرطة‬
‫متَت إذن عمليَّة إعادة بناء تاريخ الفلسفة األوروبيَّة الذي أصبح يُقَد ُم عىل أنَّه تاريخ الفلسفة العا ِّم‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مناهج املسترشقني يف الدراسات العربية اإلسالم َّية (املنظَّمة العرب َّية للرتبية والثقافة والعلوم)‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫الرياض ‪ ،1985‬ص‪.334‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.311‬‬

‫‪252‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫العاملي للفلسفة‪ .‬نعم‪ ،‬مل يكن مؤ ّرخو الفلسفة يف أوروبا‪ ،‬سواء يف القرنني املاضيني أم‬ ‫ِّ‬ ‫أو التاريخ‬
‫يف القرن الحايل‪ ،‬يصدرون عن فلسفة واحدة يف التفكري أو يستندون إىل منهج واحد‪ .‬ولكن تن ُّوع‬
‫رؤاهم الفلسف َّية ومناهجهم‪ ،‬واختالفها مل يكن أب ًدا خارج اإلطار الذي كانوا يتح َّركون داخله والذي‬
‫كانوا يعملون جمي ًعا عىل تقويته وتعزيزه‪ :‬إطار املركزيَّة األوروب َّية» [[[‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ين ديبور بعنوان تاريخ الفلسفة يف اإلسالم‪ ،‬ويعلِّق‬ ‫الجابري كتاب املسترشق األملا ِّ‬
‫ُّ‬ ‫ث َّم يستعرض‬
‫بعد تحليل أبواب الكتاب السبعة بأ َّن االنطباع األول الذي يرتكه يف نفس القارئ «سيكون انطبا ًعا‬
‫كاماًل»‪ ،‬لك َّنه يعطي رأيًا مخالفًا بعد فحص مضمون الكتاب وبنيته الداخل َّية عىل ضوء ما‬ ‫ً‬ ‫إيجاب ًّيا‬
‫الخاصة‪ .‬يقول‪« :‬يتب َّنى ديبور إذن من دون تر ُّدد وال‬
‫َّ‬ ‫قاله عن طبيعة الرؤية االسترشاقيَّة ومك ِّوناتها‬
‫بكل ما تحمله من مضامني عنرصيَّة‪ ،‬وبالتايل فالحكم عىل الفلسفة العرب َّية‬ ‫مواربة نظريَّة رينان ِّ‬
‫اإلسالم َّية حكم مسبق‪ :‬ذلك ألنَّه ما دامت تنتمي إىل شعب من «الجنس السامي» فهي ال ميكن‬
‫أن تكون أصيلة‪ ،‬وال أن تشتمل عىل عنارص جديدة‪ ،‬أل َّن «األصالة» و «ال ِ‬
‫ج َّدة» يف الفكر والفلسفة‬
‫اآلري وحده» [[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مقصورتان عىل الجنس‬
‫الجابري بالتذكري مبا سبق أن قاله عن طبيعة الرؤية االسترشاق َّية يف الفلسفة‪ ،‬وأنها تصدر‬
‫ُّ‬ ‫ويعلِّق‬
‫عن «املركزيَّة األوروبيَّة» وتعمل عىل تعزيزيها وتكريسها‪« .‬إ َّن الهدف عند ديبور كام عند غريه‬
‫من املسترشقني ليس فهم الفلسفة اإلسالم َّية لذاتها‪ ،‬بل استكامل فهمهم للفلسفة اليونان َّية وللفكر‬
‫يب عا َّمةً‪ .‬والنموذجان التاليان يؤكِّدان هذه الحقيقة من جوانب أخرى» [[[‪.‬‬
‫األورو ِّ‬
‫من املؤلَّفات امله َّمة التي يعرض لها األستاذ الجابري سنحاول تلخيص ما كتبه بصدد كتاب‬
‫الدكتور بينس بعنوان مذهب الذ َّرة عند املسلمني وعالقته مبذاهب اليونان والهنود حيث يصف‬
‫ريا عىل النصوص‪ ،‬ويتابع‪« :‬أ َّما‬ ‫الفيلولوجي بـ«النظرة التجزيئ َّية» التي متارس «عدوانًا خط ً‬
‫َّ‬ ‫منهجه‬
‫كل فكرة إىل «أصل» سابق عليها فيعني‪ ،‬كام الحظنا سابقًا‪ ،‬الصدور‬ ‫حرص هذا املنهج عىل ر ِّد ِّ‬
‫عن فكرة مسبقة‪ ،‬بل عن حكم عام مسبق قوامه إنكار قدرة املفكِّر عىل اإلبداع واالتيان بجديد‪...‬‬
‫الفيلولوجي يطمس جوانب اإلبداع والخلق يف املنظومات الفكريَّة عندما يحرص‬ ‫ُّ‬ ‫وإذا كان املنهج‬
‫مثاًل‪ ،‬فإنَّه يبقي مع ذلك اإلبداع قامئًا داخل هذه‬
‫نطاق بحثه داخل ثقافة مع َّينة كالثقافة األوروب َّية ً‬
‫الثقافة ولدى من يعتربون «أصواًلً » لألفكار واألنساق املج ّزئة‪ ...‬فذلك يعني إنكار اإلبداع ليس‬
‫الفيلولوجي‬
‫ُّ‬ ‫عىل األشخاص فحسب‪ ،‬بل أيضً ا عىل الثقافة التي ينتمون إليها‪ .‬وهكذا ينتهي املنهج‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.319‬‬


‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.323‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.324‬‬

‫‪253‬‬
‫حقول التنظير‬

‫تعسفًا وعدوانيَّ ًة من ِّ‬


‫أي منهج آخر» [[[‪.‬‬ ‫إىل حكم عام أكرث ُّ‬
‫وينتقل الجابري إىل نقد مناهج املسترشقني يف الفلسفة والتص ُّوف‪ ،‬ويش ُّن هجو ًما متع ِّدد‬
‫الفرنيس هرني كوربان‪ ،‬فيصف كتابه بعنوان تاريخ الفلسفة اإلسالم َّية بأنَّه‬ ‫ِّ‬ ‫األفكار عىل املسترشق‬
‫ين يف الفلسفة الذي‬ ‫انقالب عىل تاريخ الفلسفة يف اإلسالم‪ ،‬ألنَّه يهمل عن عمد الجانب العقال ِّ‬
‫الهرميس‪ ،‬أي «فلسفة‬ ‫ِّ‬ ‫عمل عليه ابن رشد‪ ،‬ويظهر كوربان يف كتابه الفلسفة الدين َّية ذات الطابع‬
‫الشيعي ويقارنها‬‫ِّ‬ ‫املخصصة للعرفان‬
‫َّ‬ ‫العقل املستقيل»‪ .‬ويوازن الجابري بني عدد صفحات الكتاب‬
‫املخصصة لعلم الكالم والفلسفة العقالن َّية يف اإلسالم‪ ،‬فيجد أ َّن الصفحات‬ ‫َّ‬ ‫بعدد الصفحات‬
‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫املخصصة للفكر‬
‫َّ‬ ‫الشيعي والفلسفة اإلرشاقيَّة هي أضعاف الصفحات‬ ‫َّ‬ ‫التي تعالج الفكر‬
‫ين‪ .‬وينتقد الرؤية الغنوص َّية (العرفان َّية) لهرني كوربان كام عرضها تلميذه كريستيان جامبيت‬ ‫العقال ِّ‬
‫يف كتابه منطق الرشقيني‪ ،‬حيث يكتشف يف هذا الكتاب مرشو ًعا فلسف ًّيا «يعني كوربان وتلميذه يف‬
‫خصوماته الفكريَّة يف بلده (فرنسا)»[[[‪ .‬ويضع كوربان يف سياق فرتة ما بني الحربني العامل َّيتني التي‬
‫يب تحت تأثري «نتائج الحرب العامليَّة األوىل املد ِّمرة وكابوس الحرب‬ ‫متيَّزت بوقوع الفكر األورو ِّ‬
‫يب كام يقول‪ ،‬إىل إبراز جوانب أخرى يف اإلنسان‪ ،‬غري‬ ‫العامل َّية الثانية»‪ ،‬حيث اتَّجه الفكر األورو ُّ‬
‫جانب العقل‪ ،‬وتضخيم دورها عىل حسابه‪ ،‬مثل معطيات الشعور عند برغسون‪ ،‬وفلسفة هايدغر‬
‫قائاًل‪« :‬مل يسلم االسترشاق‬ ‫ً‬ ‫بالاَّلشعور عند فرويد وأتباعه‪ .‬ويتابع‬‫وياسبريز‪ ،‬إضافة إىل االهتامم َّ‬
‫بدوره من تأثري هذه الظاهرة‪ ،‬ظاهرة «الثورة» عىل العقالنيَّة» [[[‪.‬‬
‫الجابري دراسته بتوجيه النصائح لداريس الفلسفة العرب َّية من العرب واملسلمني بقوله‪:‬‬‫ُّ‬ ‫يختم‬
‫«نحن ال ننكر مجهودات كثري من املسترشقني الذين ساهموا يف نرش وتحقيق عدد مه ٍّم ج ًّدا من‬
‫ريا من األضواء عىل جوانبه‪ ...‬ولكن يجب أن‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬والذين سلَّطوا كث ً‬
‫ِّ‬ ‫كتب الرتاث العريب‬
‫نكون واعني يف الوقت ذاته إىل أ َّن اهتاممهم بهذا الرتاث سواء عىل مستوى التحقيق والنرش‪ ،‬أم‬
‫أي وقت من األوقات‪،‬‬ ‫عىل مستوى الدراسة والبحث‪ ،‬مل يكن يف أيَّة حال من األحوال‪ ،‬وال يف ِّ‬
‫من أجلنا نحن العرب واملسلمني‪ ،‬بل كان دو ًما من أجلهم هم‪ .‬إذن‪ ،‬فيجب أن نتعامل معهم عىل‬
‫هذا األساس‪ .‬وإذا شعرنا يف وقت من األوقات برضورة الر ِّد عليهم فيجب أن يكون ذلك ال بصب‬
‫اللعنات عليهم من الخارج بل بتحليل فكرهم من داخله والكشف عن دوافعه وأهدافه‪ ...‬يبقى بعد‬
‫ذلك كلِّه أ َّن تاريخ الثقافة العرب َّية‪ ،‬مبا يف ذلك تاريخ الفلسفة يف اإلسالم‪ ،‬مل يكتب بعد‪ .‬فجميع ما‬
‫كتب يف هذا املوضوع هو إ َّما تكرار لطريقة مفكِّرينا القدماء‪ ،‬وإ َّما استنساخ لطريقة املسترشقني‪،‬‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.325‬‬


‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.331‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.332‬‬

‫‪254‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫نب ال واع ألهدافهم وإشكاالتهم»[[[‪.‬‬


‫وبالتايل ت ٍّ‬
‫وعىل عكس الرؤية النقديَّة ملناهج املسترشقني يقول الدكتور حامد طاهر يف كتابه «معامل‬
‫«منطقي منظَّم من البحث‬
‫ٌّ‬ ‫اإلسالمي»‪ ،‬إ َّن منهج البحث لدى املسترشقني هو منهج‬
‫ِّ‬ ‫التص ُّوف‬
‫العلمي»[[[‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫اخلـــاتـمــــــة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫والتصوف‪:‬‬ ‫الحكمة‬
‫ظ له يف هذا الَّلقب‪.‬‬ ‫حكياًم ذا حكمة‪ ،‬وإن مل يكن فال ح َّ‬
‫ً‬ ‫من رشط املنعوت بالتص ُّوف أن يكون‬
‫قوي من‬ ‫أخالق‪ ،‬وهي تحتاج إىل معرفة تا َّمة وعقلٍ راجح وحضور ومتكُّن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فإنَّه حكمة كله‪ ،‬فإنه‬
‫نفسه‪ ،‬حتى ال تحكم عليه األغراض النفسيَّة‪ .‬وليجعل القرآن إمامه‪ :‬صاحب هذا املقام ينظر إىل‬
‫أي حالة وصف نفسه بذلك الذي وصف نفسه‪ ،‬ومع من رصف‬ ‫الحق به نفسه‪ ،‬ويف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ما وصف‬
‫يف بهذا الوصف بتلك الحالة مع ذلك الصنف‪،‬‬ ‫ذلك الوصف الذي وصف به نفسه‪ .‬فليقم الصو ُّ‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫سهل ملن أخذه بهذا الطريق‪ ،‬وال يستنبط لنفسه أحكا ًما ويخرج عن ميزان‬ ‫فأمر التص ُّوف أم ٌر ٌ‬
‫ضل سعيهم يف الحياة الدنيا وهم‬ ‫يف ذلك‪ .‬فإنه من فعل ذلك لحق ﴿باألخرسين أعامالً الذين َّ‬
‫يحسبون أنهم يحسنون صنعاً﴾ (الكهف ‪ .)104‬فإ َّن الله ال يقيم له يوم القيامة وزنًا‪ ،‬كام أنَّهم مل‬
‫للحق هنا وزنًا فعادت عليهم صفتهم فام عذبهم بغريهم‪ ،‬فتأ َّمل قوله تعاىل يف كتابه فإنَّه ما‬ ‫ِّ‬ ‫يقيموا‬
‫ذكر صفة قهر وش َّدة إاَّلَّ وإىل جانبها صفة لطف ولني حيثام كان من كتاب الله [[[‪.‬‬
‫يف من قام يف نفسه ويف خلقه ويف خلقه قيام الحق يف كتابه‪ ،‬وىف كتبه فام أصابك من‬ ‫فالصو ُّ‬
‫حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‪ ،‬فقد رميت بك عىل الطريق‪ ،‬وليس التص ُّوف‬
‫زائد عند القوم سوى ما ذكرته لك وبيَّنته‪ ،‬ولكن الله أنزل امليزان والعلم باملواطن وباألحوال‬‫بيش ٍء ٍ‬
‫فال تخرج شيئًا عن مقتىض ما تطلبه الحكمة وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنني‪.‬‬
‫النفيس‪ .‬الب َّد من ذلك ولكن للمؤمنني وال يزيد الظاملني‬
‫ّ‬ ‫فالتخلُّق به والوقوف عنده يزيل املرض‬
‫ويخصصون‬‫ّ‬ ‫الخاص‬
‫َّ‬ ‫إاَّلَّ خسارا ً ألنهم يعدلون به عن موطنه‪ ،‬يح ِّرفون الكلِم عن مواضعه فيع ّممون‬
‫ري كثريا ً﴾‬
‫العا َّم فس ّموا ظاملني قاسطني والحكامء هم املقسطون ﴿ومن أويت الحكمة فقد أويت خ ً‬
‫(البقرة‪ .)269‬وما وصفه الله بالكرثة فإ َّن القلّة ال تدخله وسبب وصفه بالكرثة أل َّن الحكمة سارية يف‬
‫املوجودات وأل َّن املوجودات وضعها الله ثم خلق اإلنسان وحملّه األمانة بإن جعل له النظر يف‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.335‬‬


‫[[[‪ -‬ص ‪18‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ج‪ ،2‬الباب‪ 164‬يف معرفة مقام التص ُّوف‪ ،‬ص‪.266‬‬

‫‪255‬‬
‫حقول التنظير‬

‫كل يشء خلقه‬ ‫حق حقَّه‪ ،‬كام أ َّن الله أعطى َّ‬
‫كل ذي ٍّ‬
‫رصف فيها باألمانة ليؤ ّدي إىل ِّ‬
‫املوجودات والت ُّ‬
‫فجعل اإلنسان خليفة يف األرض دون غريه من املخلوقني‪ ،‬فهو أمني عىل خلق الله‪ ،‬فال يعدل بهم‬
‫يف‪ ،‬وإن مل‬
‫عن س َّنة الله‪ .‬فاملوجودات بيد اإلنسان أمانة عرضت عليه فحملها‪ ،‬فإن أداها فهو الصو ُّ‬
‫يؤ ّدها فهو الظلوم الجهول‪ .‬والحكمة تناقض الجهل والظلم‪ ،‬فالتخلُّق بأخالق الله هو التص ُّوف‪.‬‬
‫بنَّي العلامء التخلُّق بأسامء الله الحسنى‪ ،‬وبيَّنوا مواضعها وكيف تنسب إىل الخلق وال تحىص‬ ‫وقد َّ‬
‫كرثة‪... [[[ .‬‬
‫نص آخر بشكل غري مبارش عىل رضورة «حب الحكمة «‪ ،‬ونحن نعرف‬ ‫ويؤكِّد ابن عريب يف ٍّ‬
‫ين هو «حب الحكمة»‪ ،‬ويقول‪« :‬ثبت يف الصحيح أ َّن رسول‬
‫الفلسفي لألصل اليونا ِّ‬
‫َّ‬ ‫أ َّن التعريف‬
‫جميل أن نحبه‪ ،‬فانقسمنا يف ذلك عىل‬ ‫ٌ‬ ‫حب الجامل»‪ ،‬فن ّبهنا بقوله‬ ‫جميل يُ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫الله ﷺ قال‪« :‬إ َّن الله‬
‫كل يشء‬ ‫كل يشء‪ ،‬أل َّن َّ‬ ‫قسمني‪ :‬فم ّنا من نظر إىل جامل الكامل‪ ،‬وهو جامل الحكمة فأح َّبه يف ِّ‬
‫إاَّل هذا الجامل املق َّيد‬ ‫محكم وهو صنعة حكيم‪ .‬وم َّنا من مل تبلغ مرتبته هذا وما عنده علم بالجامل َّ‬
‫املوقوف عىل الغرض وهو يف الرشع موضع قوله‪ :‬أعبد الله كأنك تراه‪ ،‬فجاء بـ «كاف الصفة»‬
‫فتخ َّيل هذا الذي مل يصل إىل فهمه أكرث من هذا الجامل املق َّيد‪ ،‬فق َّيده به كام ق َّيده بالقبلة‪ ،‬فأح َّبه‬
‫إاّل‬
‫نفسا ّ‬‫لجامله وال حرج عليه يف ذلك فإنَّه أىت بأمر مرشوع له عىل قدر وسعه‪ .‬وال يكلّف الله ً‬
‫وسعها‪ .‬وبقي علينا ح ّبه تعاىل للجامل‪ .‬فاعلم أ َّن العامل خلقه الله يف غاية اإلحكام واإلتقان كام‬
‫قال اإلمام أبو حامد الغزايل من أنَّه «مل يبق يف اإلمكان أبدع من هذا العامل»‪ .‬فأخرب أنَّه تعاىل خلق‬
‫آدم عىل صورته‪ .‬واإلنسان مجموع العامل‪ ،‬ومل يكن علمه بالعامل تعاىل إاَّلَّ علمه بنفسه‪ ،‬إذ مل‬
‫فلاَّم أظهره يف عينه كان مجاله‪ ،‬فام رأى فيه‬ ‫إاَّل هو‪ .‬فال ب َّد أن يكون عىل صورته‪َّ ،‬‬
‫يكن يف الوجود َّ‬
‫إاَّل جامله‪ .‬فأحب الجامل‪ ،‬فالعامل جامل الله‪ .‬فهو الجميل املحب للجامل‪ ،‬فمن أحب العامل‬ ‫َّ‬
‫إاَّل جامل الله‪ .‬فإ َّن جامل الصنعة ال يُضاف إليها وإمنا‬ ‫أحب َّ‬
‫ّ‬ ‫بهذا النظر فقد أحبه بحب الله وما‬
‫دقيق أعني جامل األشياء‪ ،‬وذلك أن‬ ‫يضاف إىل صانعه‪ .‬فجامل العامل جامل الله‪ ،‬وصورة جامله ٌ‬
‫الصورتني يف العامل وهام مثال شخصان م َّمن يحبهام الطبع‪ ،‬وهام جاريتان أو غالمان قد اشرتكا‬
‫يف حقيقة اإلنسانية‪ ،‬فهام مثالن وكامل الصورة التي هي أصول من كامل األعضاء والجوارح‪.‬‬
‫كل من رآه‪،‬‬ ‫وسالمة املجموع واآلحاد من العاهات واآلفات‪ ،‬ويتَّصف أحدهام بالجامل‪ ،‬فيحبّه ُّ‬
‫ويتَّصف اآلخر بالقبح فيكرهه كل من رآه» [[[‪.‬‬
‫هذه الحكمة أو الفلسفة تختلف عن الفلسفة األرسطيَّة‪ ،‬إنَّها حكم ٌة نبويَّة حيث ميتزج الحب‬
‫والجامل بالخلق والخالق‪ .‬إنها نو ٌع من «أسلمة الفلسفة» كام يقول املرحوم عثامن يحيى يف‬

‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.267‬‬


‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.345‬‬

‫‪256‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫مقدمته لتحقيق الفتوحات املكيَّة البن عريب‪:‬‬


‫بكل تجلّياتها‬
‫«أ َّما ابن عريب فيدهشنا فيه أنَّنا نجد أنفسنا أمام شاع ٍر جذبه جامل الحقيقة املطلقة ِّ‬
‫رثا‬
‫عرَّب عنها يف سائر املجلَّدات ن ً‬
‫وعرَّب عنها بشع ٍر ممتاز‪ ،‬كام َّ‬
‫والحس َّية‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الفكريَّة والعمل َّية واألدب َّية‬
‫ممتا ًزا ًد‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫إنَّه ظاهرة فريدة من نوعها يف تاريخ الحضارة اإلسالم َّية‪ ،‬ويف تاريخ الحضارة اإلنسان َية‪ .‬ومن‬
‫األهميَّة مبكان أن نذكر أيضً ا يف هذا الصدد‪ ،‬ونلفت األنظار‪ ،‬إىل أ َّن موسوعة الفتوحات تتناول‬
‫املعارف اإلنسان َّية واملعارف الدين َّية‪ ،‬بهذا الطابع الفريد‪ ،‬الذي ميكن تعريفه بأسلمة املعارف‬
‫اإلنسان َّية‪ ،‬وأنسنة املعارف الدين َّية‪ ،‬بطريقة يتالقى فيها الله باإلنسان‪ ،‬واإلنسان بالله‪ ،‬عىل مستوى‬
‫املعرفة والفكر‪ .‬وهذه ظاهرة فكريَّة مل يسبقه فيها أحد»[[[ ‪.‬‬
‫ُّ‬
‫والتصوف‪:‬‬ ‫القونوي‬
‫يستهل صدر الدين القونوي (ت‪673‬ه) يف كتابه إعجاز البيان يف تأويل أم القرآن[[[ مبق ِّدم ٍة‬ ‫ُّ‬
‫طويل ٍة تذكِّرنا باملق ِّدمات التي درجت كتابتها كمدخلٍ لـــ «رشح التائيَّة الكربى» البن الفارض‪،‬‬
‫الكيّل»‪ ،‬وهو يتض َّمن اآلراء‬
‫ّّ‬ ‫ومبق ِّدمة ابن خلدون‪ ،‬ويس ِّمي ربيب ابن عريب هذه املق ِّدمة‪« :‬التمهيد‬
‫والقواعد الكلّ َّية التي سبقت رشحه القائم عىل فكر ابن عريب‪ .‬وهو يؤكِّد يف هذا التمهيد عىل‬
‫التفرقة بينها وبني منهج الفلسفة األرسطيَّة القامئة عىل املنطق الذي يطلق عليه تسمية «امليزان»‪.‬‬
‫األرسطي القائم عىل العقل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وعي بأ َّن التجربة الصوف َّية ال تخضع للميزان‬
‫ٍ‬ ‫كان القونوي عىل‬
‫بل إنَّه نهج طريق الصوف َّية الذي يقوم عىل طور «ما وراء العقل»‪ .‬وهذا الطور ال يُهمل العقل‬
‫خارج عن نطاق‬ ‫ٌ‬ ‫بل يتجاوزه‪ .‬وهو يستشهد بفكر ابن سينا الذي يؤكِّد أ َّن «إدراك حقائق األشياء»‬
‫الفلسفي‪ .‬ويرى‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬وبالتايل فإنَّه يستبعد الُّلجوء إىل املوازين واألقيسة التي يستند إليها الفكر‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ َّن األنبياء أقاموا حججهم عىل الفطرة السليمة‪ ،‬واإلميان الصحيح‪ ،‬والكشف والوحي‬
‫الحق النبويَّة اآلخذين عن ربِّهم‪ .‬ويقول‪« :‬إ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫ويؤكِّد أ َّن الصوف َّية هم السالكون عىل منهاج الرشيعة‬
‫مل من الشكوك الفكريَّة‬ ‫إقامة األدلَّة النظريَّة عىل املطالب وإثباتها بالحجج العقليَّة عىل وج ٍه سا ٍ‬
‫واالعرتاضات الجدل َّية متع ّذ ٌر‪ .‬فإ َّن األحكام النظريَّة تختلف بحسب تفاوت مدارك أربابها‪ .‬واملدارك‬
‫جهات تابعة للمقاصد التابعة الختالف العقائد والعوائد واألمزجة‬ ‫جهات املدركني‪ ،‬والتو ُّ‬ ‫تابعة لتو ُّ‬
‫واملناسبات‪ .‬وسائرها تاب ٌع يف «نفس األمر» الختالف آثار التجلّيات األسامئ َّية املتع ّينة واملتع ِّددة‬

‫[[[‪ -‬أنظر مقدِّ مة الطبعة الثانية للفتوحات املك َّية‪( ،‬طبعة ثانية منقَّحة ومزيدة)‪ ،‬حلب ‪1414‬هـ‪1993/‬م‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫[[[‪ -‬طُبع هذا الكتاب يف حيدر آباد الدكن (الهند) سنة ‪1368‬ه‪1949/‬م‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يف مراتب القوابل‪( »...‬ص‪ .)16‬هذه التفرقة بني إدراك الحقيقة عن طريق التص ُّوف وليس عن طريق‬
‫عرَّبا عنه بالفلسفة أم بعلم الكالم‪ ،‬كام يقول يف «الرسالة الـ ُمفصحة» ضمن كتاب‬‫الفكر سوا ٌء كان ُم َّ ً‬
‫الفكري» املرجوع إليه عند أهل الفكر هم‬
‫ّ‬ ‫املراسالت بينه وبني نصري الدين الطويس بأ َّن «القانون‬
‫اختالف كثري لسنا ممن يشتغل بإيراده‪ ...‬وين ّبه إىل قول أصحاب‬ ‫ٌ‬ ‫مختلفون فيه‪« ،‬ولهم فيام ذكرنا‬
‫الفكر بأنَّهم يجدون الغلط لكثريٍ من الناس بكثريٍ من األمور»[[[ ‪.‬‬
‫قائاًل‪« :‬ات َّضح ألهل البصائر والعقول‬
‫ويتابع القونوي الحديث عن التفرقة بني الفكر والكشف ً‬
‫السليمة أ َّن لتحصيل املعرفة الصحيحة طريقني‪ :‬طريق الربهان بالنظر واالستدالل‪ ،‬وطريق ال ِعيان‬
‫جه إىل‬ ‫الحق‪ ...‬فتعني الطريق اآلخر وهو التو ُّ‬
‫الحاصل لذوي الكشف‪ ،‬بتصفية الباطن وااللتجاء إىل ّ‬
‫الحق بالتعرية واالفتقار التا ّم‪ ،‬وتفريغ القلب بالكلّية من سائر التعلُّقات الكون َّية والعلوم والقوانني‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ولـاَّم تعذَّر استقالل اإلنسان بذلك يف أول األمر‪ ،‬وجب عليه اتّباع من سبقه باالطِّالع من ساليك‬ ‫َّ‬
‫جة الوصول وفاز بنيل البغية واملأمول» ‪ .‬وهنا نشعر بأ َّن القونوي‬
‫[[[‬
‫طريقه تعاىل‪ ،‬م َّمن خاض لُ ّ‬
‫يستلهم يف آنٍ م ًعا أفكار الغزايل وابن عريب‪.‬‬
‫ويشري ربيب الشيخ األكرب يف إعجاز البيان إىل أ َّن معرفة حقائق األشياء من حيث بساطتها‬
‫وتج ُّردها يف الحرضة العلميَّة‪ُ ...‬متعذَّر وذلك لتعذُّر إدراكنا شيئًا من حيث أحديَّتنا‪ ...‬ويستشهد‬
‫ببيت من الشعر أشار إليه ابن عريب يف قصيد ٍة إله َّي ٍة يقول يف أثنائها‪:‬‬
‫[[[‬
‫وكيف أدركُ ُه وأنت ُم في ِه‬ ‫ ‬ ‫ولست أُ ُ‬
‫درك يف يش ٍء حقيقتَ ِه‬
‫ويُلخص ربيب ابن عريب التجربة الصوف َّية القامئة عىل الذوق والكشف يف كتابه إعجاز البيان‬
‫الذوقي الصحيح من جهة الكشف الكامل الرصيح‬ ‫ِّ‬ ‫يف تأويل أم القرآن فيقول‪« :‬إن حصول العلم‬
‫يتوقَّف بعد العناية اإللهيَّة عىل تعطيل القوى الجزئيَّة الظاهرة والباطنة من الترصيفات التفصيليَّة‬
‫كل يشء ما عدا‬ ‫كل علم واعتقاد بل عن ِّ‬ ‫املحل عن ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫املختلفة املقصودة ملن تنسب إليه‪ ،‬وتفريغ‬
‫يل مق َّدس عن سائر التع ُّينات‬ ‫يل جم ٍّ‬‫جه ك ٍّ‬‫الحق‪ .‬ث َّم اإلقبال عليه عىل ما يعلم نفسه بتو ُّ‬
‫ّ‬ ‫املطلوب‬
‫العاديَّة واالعتقاديَّة واالستحسانات التقليديَّة والتعشُّ قات النسب َّية عىل اختالف متعلِّقاتها الكون َّية‬
‫حد العزمية والجمعيَّة واإلخالص التا ّم واملواظبة عىل هذا الحال عىل الدوام‪ ،‬أو‬ ‫وغريها‪ ،‬مع تو ُّ‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ تتم املناسبة بني النفس‬ ‫تقسم خاطر‪ ،‬وال تشتُّت عزمية‬ ‫يف أكرث األوقات‪ ،‬من دون فرتة‪ ،‬وال ُّ‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬املراسالت بني صدر الدين القونوي ونصري الدين الطوس‪ ،‬تحقيق كودرون شوبرت‪ ،‬بريوت ‪1995‬ن‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫[[[‪ -‬م ن‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر إعجاز البيان‪ ،‬ص‪ ،29-28‬قارن مع املراسالت مع الطويس ص‪ .41‬حيث يوثق كودرون شوبرت بيت الشعر البن عريب يف ديوانه طبعة بوالق‬
‫‪1271‬ه‪ ،‬ص‪.180‬‬

‫‪258‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫اإللهي وحرضة القدس الذي هو ينبوع الوجود» [[[‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫وبني الغيب‬
‫ونالحظ هنا تداخل األفكار نفسها بني كتاب إعجاز البيان و«الرسالة املفصحة» من تاليفه‪.‬‬
‫وين ِّبهنا القونوي إىل أصلٍ عظيمٍ من أصول املتص ِّوفة‪ ،‬به يتم َّيزون به عن بق َّية أهل الفكر من‬
‫الفالسفة واملتكلِّمني والفقهاء‪ .‬إنه يظهر يف مسألة عدم الخالف بني املتمكّنني من أهل الله‪ .‬وأ َّن‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫إاَّل فوقها طا َّمة‪ ،‬ولهذا‬


‫علمهم املوهوب وكشفهم التا ُّم املطلوب ليس الغاية التا َّمة‪« :‬فام من طا َّمة َّ‬
‫التحقُّق واالسترشاف مل يقع بني الرسل واألنبياء وال ُك ّمل من األولياء خالف يف أصول مأخذهم‬
‫ونتائجها‪ ،‬وما ب َّينوه من أحكام الحرضات األصل َّية اإلله َّية وإن تفاضلوا يف االطِّالع والبيان‪ ،‬وما‬
‫نقل من الخالف عنهم‪ ،‬فإمَّنَّ ا ذلك يف جزيئات األمور واألحكام اإلله َّية املرشوعة‪ ،‬لكونها تابعة‬
‫ألحوال املكلّفني وأزمانهم‪.[[[ »...‬‬

‫من احلكمة إىل احلكمة املتعالية‪:‬‬


‫بزج « النب َّوة « يف صميم التجربة الصوفيَّة‪ ،‬بل استفاض يف دورها واستكمله‬
‫مل ينفرد القونوي ِّ‬
‫املاَّل صدر الدين الشريازي بأن أضاف إليه دور «الوالية» تحت تأثري ابن عريب الذي‬
‫َّ‬ ‫يف ما بعد‬
‫ق َّدم نفسه بوصفه «خاتم األولياء»‪ ،‬واستفاض حيدر اآلميل بتلك املواضيع‪ ،‬وأكَّد بإلحاح عىل‬
‫الشيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االنسجام والتكامل بني ابن عريب والعرفان‬
‫النقدي‪ ،‬ومن ثم شيخ‬
‫ِّ‬ ‫إ َّن التالقح والتالقي بني الفلسفة والتص ُّوف كان قد م َّهد له الغزايل بفكره‬
‫السهروردي املقتول‪ ،‬ويليه ابن عريب وابن سبعني والقونوي‪ ،‬الذي رفع هذا الدور إىل‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاق‬
‫يل جديد يف «الفلسفة املتعالية» عند صدر الدين الشريازي يف‬ ‫«هيئة اجتامع َّية»‪ ،‬أي برتكيب جد ٍّ‬
‫ين لدى الشيعة دف ًعا جدي ًدا‬
‫ماَّم أعطى الفكر العرفا َّ‬
‫كتبه‪ ،‬مثل «األسفار األربعة» و «املشاهد اإللهيَّة» َّ‬
‫استم َّر حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫يف كالكشف والنور الذي يقذفه‬ ‫لقد ارتفع بنيان «املعرفة الحضوريَّة»من لبنات املصطلح الصو ِّ‬
‫محل‬
‫َّ‬ ‫لتحل‬
‫َّ‬ ‫الله يف القلب‪ ،‬وأصبحت هذه املفردات متض َّمنة يف «علوم الوهب» عند ابن عريب‬
‫الوهبي ال يحصل عن سبب‪ ،‬بل من لدنه سبحانه»‬ ‫ُّ‬ ‫املكتسبة عن طريق النظر والفكر‪« .‬فالعلم‬
‫َ‬ ‫العلوم‬
‫الحضوري» عند الشريازي هم أهل «الكشف والوجود» لدى ابن عريب‪ ،‬والوجود‬ ‫ِّ‬ ‫[[[‪ .‬فأهل «العلم‬
‫تعرِّب‬
‫هنا يعني درجة أعىل من الوجد‪ ،‬وهو الذي ينقل املعرفة الوجدانيَّة من خالل الشهود‪ .‬وال ِّ‬
‫هذه املصطلحات يف ذروتها إاَّلَّ عن عناوين ملا سيغدو الحقًا مذاهب متباينة مثل وحدة الوجود‬

‫[[[‪ -‬إعجاز البيان يف تأويل أم القرآن‪ ،‬طبعة حيدر آباد الدكن ‪1949‬م‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫[[[‪ -‬إعجاز البيان‪ ،‬ص ‪45‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات ج‪،1‬ص‪254‬‬

‫‪259‬‬
‫حقول التنظير‬

‫املاَّل صدرا تحت مصطلح «املعرفة الحضوريَّة»‪.‬‬


‫ووحدة الشهود‪ ،‬فظهرت مع َّ‬
‫ماَّل‬
‫يعرض الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي يف مقاله «نظرية الحركة الجوهرية عند َّ‬
‫صدرا يف سياق الفكر اإلسالمي»‪ ،‬منهج الشريازي (ت ‪1050‬هـ ‪1640/‬م) الذي انعكس بوضوح يف‬
‫يل يف‬ ‫أفكاره ‪ .‬فهو يقول‪ « :‬لقد استطاع ماَّلَّ صدرا أن يجمع يف تناسق وتكامل بني التفلسف العق ِّ‬
‫[[[‬

‫الحلبي‬
‫ِّ‬ ‫السهروردي‬
‫ِّ‬ ‫يف يف نزعته اإلسترشاق َّية لدى‬
‫يئ وأصوله اإلغريق َّية‪ ،‬والعرفان الصو ِّ‬‫ت َّياره املشَّ ا ِّ‬
‫الكالمي لدى أعالمه البارزين‬
‫ِّ‬ ‫والفكري األكرث أصالة لدى ابن عريب وغريه‪ ،‬والنظر‬
‫ِّ‬ ‫الرتبوي‬
‫ِّ‬ ‫وتراثه‬
‫وخصوصا لدى نصري الدين الطويس وغريه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عن طريق شيخه حيدر اآلميل (ت ‪ 794‬هـ ) والداماد‪،‬‬
‫فكري يتدفَّق يف وضوح وق َّوة يف األسفار وغريه‪ .‬وذلك‬ ‫ٍّ‬ ‫حد بني هذه الروافد كلِّها يف مزيج‬ ‫بل و َّ‬
‫أ َّن الرجل كان يؤمن بأ َّن حقيقة الوجود تحتاج ‪ -‬يف إدراكها والربهنة عليها‪ -‬إىل مجموع هذه‬
‫املناهج املعرف َّية جمي ًعا‪ ..‬تحتاج إىل الوحي أو الدين‪ ،‬وإىل العقل أو الفلسفة‪ ،‬وإىل اإللهام أو‬
‫التص ُّوف‪.[[[»...‬‬
‫ويركِّز الدكتور الشافعي عىل اكتشاف «الحركة الجوهريَّة» التي بنى عليها مذهبه‪ ،‬ويضيف بأ َّن‬
‫املاَّل صدرا أنشأ مدرسة جديدة ثالثة يف تاريخ الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬بعد الحكمة املشَّ ائ َّية والحكمة‬ ‫َّ‬
‫اإلرشاقيَّة‪ ،‬هي مدرسة «الحكمة املتعالية» (ص‪ .)292‬لذا ينتقد إهامل دور ابن عريب يف كتاب‬
‫هادي العلوي حول هذه النظريَّة الجديدة‪ ،‬ويح ِّدثنا عن الرسِّ يف إحساس حكيم شرياز بال َّدين‬
‫يئ‪ ،‬الذي نشأ يف األندلس‪ ،‬وعاش يف قونية‪ ،‬وثوى يف سفح قاسيون‬ ‫الحامتي الطا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫للشيخ األعرا ِّ‬
‫بدمشق عام‪638‬هـ‪ .‬فجاء صدر املتألِّهني بعد أربعة قرون ليتوفَّر عىل فكرته‪ ،‬ويسبغ عليها من‬
‫رصح‬ ‫فكري أصيل متكامل‪ .‬وإذا َّ‬‫ٍّ‬ ‫أساسا ملذهب‬
‫ً‬ ‫عبقريَّته ما يح ِّولها إىل نظريَّة كاملة‪ ،‬بل يجعلها‬
‫إاَّل أن نر ِّدد‪:‬‬
‫املاَّل صدرا مبصدر إلهامه فليس لنا َّ‬‫َّ‬
‫فإ َّن القول ما قالت حزا ُم « (ص‪.)299‬‬ ‫« إذا قالت حزام فص ِّدقوها‬

‫[[[‪ -‬أنظر بحوث مؤمتر ماَّلَّ صدرا‪ ،‬اإليراين العريب طهران‪ 1425‬هـ‪ ،‬ص‪291‬ومابعدها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.299-298‬‬

‫‪260‬‬
‫العلمي في دراسة التص ّوف‬
‫ّ‬ ‫مناهج البحث‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫منهج وتطبيقه‪ ،‬القاهرة (ط‪.1968 )2‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ .2‬ابراهيم مدكور‪ ،‬يف الفلسفة اإلسالمية‪،‬‬
‫‪ .3‬ابن عريب‪ ،‬العرفان وظهور الوجود‪ ،‬الدار العربيَّة للعلوم‪ ،‬نارشون بريوت‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫الجزائر‪.2010‬‬
‫‪.4‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املنقذ من الضالل‪ ،‬حققه قاسم النوري وزميله‪ ،‬دمشق ‪1991‬م‪ ،‬ص ‪.132-131‬‬
‫‪ .5‬أحمد خريي‪ ،‬إزالة الشبهات‪« ،‬كنا حروفاً عاليات»‪ ،‬القاهرة ‪1370‬هـ‪.‬‬
‫‪ .6‬إعجاز البيان يف تأويل أم القرآن‪ ،‬طبعة حيدر آباد الدكن ‪1949‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬إعجاز البيان‪ ،‬صدر الدين محمد القونوي‪ -‬مكتبة نور‪2011 -‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬تأليف جامعة من األساتذة السوفيات‪ ،‬ترجمة توفيق ابراهيم سلوم‪ ،‬دار الجامهري العربيَّة‪ ،‬دمشق‬
‫‪.1976‬‬
‫‪ .9‬التدبريات اإلله َّية‪ ،‬تحقيق نيربغ‪ ،‬ليدن ‪.1919‬‬
‫‪ .10‬ترجمة اإلمام موىس الصدر واألمري عارف تامر‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار عويدات ‪1966‬م‪.‬‬
‫‪ .11‬ديوان الدواوين‪ ،‬مخطوط الظاهريَّة بدمشق رقم ‪ ،7210‬ق‪67‬أ‪.‬‬
‫‪ .12‬صالح الدين املنجد‪ ،‬قواعد تحقيق املخطوطات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3‬ب ت‪.‬‬
‫‪ .13‬طرق الصوفية ‪ -‬كتاب املنقذ من الضالل لحجة اإلسالم أيب حامد الغزايل‪ ،‬تحقيق وتقديم د‪.‬‬
‫جميل صليبا ود‪ .‬كامل عياد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.1960 ،6‬‬
‫‪ .14‬عيل حرب‪ ،‬التأويل والحقيقة‪ ،‬قراءات تأويلة يف الثقافة العرب َّية‪ ،‬بريوت‪ ،1985‬املنهج والحقيقة‪.‬‬
‫‪.15‬الفتوحات‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ج‪ ،2‬الباب‪ 164‬يف معرفة مقام التص ُّوف‪.‬‬
‫‪.16‬كتاب خليل الجر وآخرين‪ ،‬الفكر الفلسفي يف مئة سنة‪ ،‬بريوت ‪.1962‬‬
‫‪ .17‬مارتن هايدغر‪ ،‬ما املتفيزيقا؟‪ ،‬ترجمة فؤاد كامل‪ ،‬دار الثقافة القاهرة ‪.1974‬‬
‫‪ .18‬مجلَّة «املعرفة» – تقديم‪ :‬ناظم مهنا‪ -‬وزارة الثقافة السورية ‪ -‬دمشق‪ ،‬العدد ‪.180‬‬
‫‪ .19‬محمد بن الطيب‪ ،‬فقه التصوف‪( ،‬بحث يف املقاربة األصولية الفقهية عند أيب اسحاق الشاطبي)‪،‬‬
‫بريوت ‪.2010‬‬
‫‪ .20‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مناهج املسترشقني يف الدراسات العربية اإلسالميَّة (املنظَّمة العربيَّة‬
‫للرتبية والثقافة والعلوم)‪ ،‬ج‪ ،1‬الرياض ‪.1985‬‬
‫‪ .21‬محمد مطيع الحافظ‪ ،‬دار الفكر املعارص‪ ،‬دمشق‪( 1996‬له طبعة ثانية سنة ‪1417‬هـ‪1997 /‬م)‪.‬‬
‫‪ .22‬املراسالت بني صدر الدين القونوي ونصري الدين الطوس‪ ،‬تحقيق كودرون شوبرت‪ ،‬بريوت‬
‫‪1995‬ن‪.‬‬
‫‪ .23‬الوجود الحق‪ ،‬مخطوط الظاهريَّة بدمشق رقم ‪ ،6069‬ق‪68‬أ‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫ُّ‬
‫الصوفي‬ ‫ُّ‬
‫النص‬ ‫ابستمولوجيا‬
‫أبو الوفا التفتازاني كمثال معاصر‬

‫َّ‬
‫عطية‬ ‫أحمد عبد الحليم‬
‫ف‬
‫مفكر وأستاذ الفلسفة ي� كلية اآلداب بجامعة القاهرة‪ -‬مرص‬

‫ّ‬
‫إجمايل‬
‫ي‬ ‫ص‬ ‫ملخ‬

‫التوسع يف معرفة أصول وتط ُّور‬


‫ُّ‬ ‫العلمي‬
‫ِّ‬ ‫يقتيض تت ُّبع املناهج العلم َّية يف البحث‬
‫اإلسالمي املتعلِّق بالتص ُّوف والعرفان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫العلوم املدروسة‪ .‬ويف حال الرتاث العر ِّ‬
‫بكل‬
‫تزداد املسألة تعقي ًدا‪ ،‬ألنَّنا ندخل مجال "ما وراء طور العقل"‪ .‬وهنا تربز الذاتيَّة ِّ‬
‫يف ويف النصوص "املستغلَقة"‪ ،‬كام هو الحال‬ ‫وخصوصا يف الشعر الصو ِّ‬
‫ً‬ ‫أبعادها‬
‫ماَّم دعا بعض املثقَّفني‬
‫يب‪ ،‬ويف القصص الرمزيَّة البن سينا‪َّ ،‬‬ ‫يف نصوص ابن العر ِّ‬
‫إىل وصف هذه التجربة بـ"الرسياليَّة"‪ ،‬أل َّن الوقع الرنّان لهذه الكلمة يخفي عجزنا‬
‫عن فهم ما وراء طور العقل‪ ،‬وتجربة الوجد والشهود‪.‬‬
‫العلمي يف دراسة التص ُّوف والعرفان‬ ‫ِّ‬ ‫تناولنا يف مقالنا حول مناهج البحث‬
‫خاص ٍة باملوضوع‬
‫َّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬يك نثبت أصالة العرب يف ابتكار منهجيَّ ٍة‬
‫َّ‬ ‫الجانب‬
‫التاريخي إىل الجانب‬
‫ِّ‬ ‫املدروس‪ .‬ويتسلسل األمر من دراسة الحديث واألثر‬
‫العلمي البحت كام هو الحال يف فكر البريوين وابن الهيثم من القرن الرابع ‪/‬‬‫ِّ‬
‫عيص عىل االستيعاب ملن مل تكن‬
‫ٌّ‬ ‫الخامس للهجرة‪ .‬أ َّما التص ُّوف فموضوعه‬
‫لديه معرفة مسبقة أو تجربة شخصيَّة مؤكّدة‪.‬‬
‫مفردات مفتاح َّية‪ :‬الشعر الصويف‪ ،‬مناهج البحث‪ ،‬النصوص املستغلقة‪ ،‬ابن‬
‫عريب‪ ،‬االسترشاق‪ ،‬الوجود والشهود‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫تمهيد‬
‫الس ِّن َّي يف التص ُّوف املرتبط‬
‫ين نزعة روح َّية صوف َّية أخالق َّية نابعة من تب ِّنيه االت ِّجاه ُّ‬ ‫جمع التفتازا ُّ‬
‫بتص ُّور شامل للعلوم اإلسالم َّية الرشع َّية إىل جانب البحث الدقيق العميق‪ .‬وقد تجلَّت هذه النزعة يف‬
‫اإلسالمي الذي التزم به يف الحياة العا َّمة‪ ،‬وكان تجسي ًدا للتص ُّوف‬ ‫ِّ‬ ‫نفسه الراضية املطمئ َّنة‪ ،‬وسلوكه‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫والعلمي‪ ،‬وعند الصوفيَّة هناك عالقة قويَّة بني هذين الجانبني؛ فقد كان ور ًعا زاه ًدا‬ ‫ِّ‬ ‫النظري‬
‫ِّ‬ ‫بجانبيه‬
‫[[[‬
‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫جا وواق ًعا ح ًّيا للخلق‬
‫مثااًل ومنوذ ً‬‫فاحصا مح ِّققًا مدقِّقًا ً‬ ‫ً‬ ‫عاب ًدا مطمئ ًّنا‪ ،‬كام كان باحثًا‬
‫يل يف (املنقذ من الضالل)‪ ،‬ومؤكِّ ًدا مثل القشريي صاحب (الرسالة) والطويس‬ ‫محتذيًا صورة الغزا ِّ‬
‫صاحب (اللمع) وغريهام‪ :‬أ َّن الجانب امله َّم من التص ُّوف هو الخلق‪ ،‬وأ َّن هذا الجانب من الحياة‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫الروحيَّة ميثِّل علم األخالق‬
‫الس ِّن ِّي املعتدل املرتبط بالكتاب والس َّنة‪،‬‬
‫يف داخل إطار هذا االت ِّجاه ُّ‬‫نصه الصو َّ‬‫يؤصل التفتازاين َّ‬
‫ِّ‬
‫والذي وجد يف القرآن وحياة الرسول وس َّنته والصحابة والتابعني والز َّهاد والصوفيَّة األوائل البداية‬
‫جة اإلسالم‪ ،‬وتح َّددت يف‬ ‫يل ح َّ‬‫عرَّب عنها بصدق اإلمام الغزا ُّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬والتي َّ‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقيَّة للتص ُّوف‬
‫خصوصا الشاذيل وتالميذه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الرتبوي لدى أصحاب الطُّرق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫التص ُّوف العم ِّ‬
‫رسة وابن‬ ‫ينطلق األستاذ من هذه املرجعيَّة يف بحثه للتيَّار املتفلسف من الصوفيَّة لدى ابن م َّ‬
‫اإلسالمي الذين ح َّددوا مجاله‪ ،‬ورت َّبوا‬
‫ِّ‬ ‫عريب وابن سبعني‪ .‬وهو يُعترب من أه ِّم علامء التص ُّوف‬
‫موضوعاته‪ ،‬وكشفوا النقاب عن شخص َّياته‪ ،‬وصاغوا األُطُر النظريَّة له‪ .‬وقد أبان عن تاريخه وأبعاده‬
‫وظل‬
‫العلمي لدراستها‪َّ ،‬‬‫َّ‬ ‫النظريَّة والعمليَّة‪ ،‬وعرف بالتجربة الصوفيَّة وخصائصها‪ ،‬وأوضح املنهج‬
‫اإلسالمي‪ ،‬منذ وفاة أيب العال عفيفي يف أكتوبر‬
‫ِّ‬ ‫أكرث من خمسة وعرشين عا ًما أه َّم باحثي التص ُّوف‬
‫‪ 1966‬ومحمد مصطفى حلمي يف فرباير ‪ ،1969‬وحتى وفاته‪ ،‬وامت َّد ذلك لدى تالميذه‪.‬‬
‫ين العديد من الدراسات التاريخيَّة والسيكولوجيَّة واألبستمولوجيَّة يف التص ُّوف‬
‫ق َّدم التفتازا ُّ‬
‫يف مق ِّدمتها ثالوثه الشهري‪( :‬ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه) [[[‪ ،1955‬و(ابن سبعني وفلسفته‬
‫تخصصه أقرب إىل‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالمي) [[[‪ ،1973‬والتي تع ُّد يف‬
‫ِّ‬ ‫الصوف َّية) [[[‪ ،1961‬و (املدخل إىل التص ُّوف‬
‫يل الخالص‪ ،‬ونقد ملكة‬‫النظري الخالص‪ ،‬ونقد العقل العم ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ثالوث كانط ‪ Kant‬الشهري‪ :‬نقد العقل‬
‫النظري‬
‫َّ‬ ‫الفلسفي‬
‫َّ‬ ‫يل (ابن عطاء الله) ‪،‬‬‫الس ِّن َّي العم َّ‬
‫الحكم‪ ،‬أي أنَّها تشمل مجاالت التص ُّوف الثالثة‪ُّ :‬‬

‫رشفني‬
‫[[[‪ -‬هذا الوصف هو اإلهداء الذي صدرت به دراستي وترجمتي لكتاب األخالق والحياة األخالق َّية عند املسلمني لدى بور الذي َّ‬
‫أستاذي مبراجعته وتقدميه‪ ،‬والصادر عن دار النرص‪ ،‬القاهرة‪.1995 ،‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه‪ ،‬األنجلو املرصيَّة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1969 ،2‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن سبعني وفلسفته الصوف َّية‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪.1973 ،‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1979 ،3‬‬

‫‪263‬‬
‫حقول التنظير‬

‫اإلسالمي (املدخل)‪ .‬فقد غطَّت هذه األبحاث‬ ‫ِّ‬ ‫(ابن سبعني)‪ ،‬والتص ُّوف العا َّم أو تاريخ التص ُّوف‬
‫يل عند‬
‫الس ِّن ُّي الشاذ ُّ‬
‫نصه؛ وهو التص ُّوف ُّ‬ ‫تأسس حوله ُّ‬ ‫الثالثة بلغة هيغل الجدل َّية املوضوع الذي َّ‬
‫بكل اتجاهاته‬
‫اإلسالمي ِّ‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي عند ابن سبعني‪ ،‬واملركَّب بينهام التص ُّوف‬
‫ُّ‬ ‫ابن عطاء الله ونقيضه‬
‫وتاريخه ومدارسه وأعالمه (املدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي)‪.‬‬
‫ين‪ :‬موضوعه ومنهجه‪ ،‬لغته وأسلوبه‪ ،‬مق ِّدماته‬
‫يف التفتازا َّ‬
‫النص الصو َّ‬
‫سوف نتناول يف هذه القراءة َّ‬
‫ونتائجه‪ ،‬وحججه وبراهينه‪ ،‬من خالل تحليل كتاباته املختلفة التي تكون مجمل هذا النص‪.‬‬
‫ُّ‬
‫التصوف‪:‬‬ ‫قضايا‬
‫موضوع الفقرة الحالية قضايا التص ُّوف‪ :‬معناه وطبيعته وتعريفه ومراحله واتجاهاته وأُ ُسسه‬
‫ين للتص ُّوف؛ الذي شغل به‬
‫السيكولوجيَّة ونظريَّاته األبستمولوجيَّة‪ ،‬التي نبدأها ببيان تعريف التفتازا ِّ‬
‫نصه‪.‬‬
‫يف مراحل متعاقبة من دراساته ويف أجزاء متع ِّددة من ِّ‬
‫ين للتص ُّوف‪ ،‬حيث يح ِّدده بقوله‪:‬‬ ‫النفيس عىل تعريف مبكر ق َّدمه التفتازا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫أ ) يغلب التفسري‬
‫«هو صفاء النفس البرشيَّة‪ ،‬وهو تربية روحيَّة‪ ،‬وفلسفة عمليَّة أساسها املعرفة بالله أ َّواًلً وآخ ًرا‪.‬‬
‫واملتص ُّوف هو ذلك الشخص الذي استطاع أن ير ِّوض نفسه ويقاوم شهواته ليتح َّرر من سلطان‬
‫جا‬
‫البدن وليصل إىل املعرفة اليقينيَّة ألرسار الكون وموجده»[[[‪ .‬ويف دراسة تالية يجعل منه منه ً‬
‫خاص به يتَّضح يف قوله‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫كاماًل يف الحياة يربط حياة الفرد باملجتمع‪ ،‬حيث تبلور لديه تعريف‬
‫ً‬
‫يف املحقِّق هو الذي ال يرى تعارضً ا بني حياته‬
‫«والتص ُّوف يف رأينا منهج كامل يف الحياة‪ ،‬والصو ُّ‬
‫التع ُّبديَّة وحياة املجتمع الذي عاش فيه‪ ،‬بل هو الذي يستعني بحياة التع ُّبد عىل حياة املجتمع وما‬
‫فيها من مشقَّة وكفاح‪ .‬والتص ُّوف بهذا االعتبار يُع ُّد (فلسفة إيجابيَّة) تضفي عىل حياة اإلنسان معنى‬
‫سام ًيا»[[[‪.‬‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن هذا التعريف الذي يطالعنا به يف مق ِّدمة الطبعة األوىل من (ابن عطاء الله‬
‫السكندري وتص ُّوفه) يختلف عن التعريف األول الذي ق َّدمه يف دراسته املبكرة (اإلدراك املبارش‬
‫عند الصوف َّية) ‪1949‬م يف مسألتني‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬تتعلَّق باملوضوع‪ ،‬حيث يعالج يف (اإلدراك املبارش عند الصوف َّية مسألة معرف َّية‬
‫جهات مجلَّة «علم النفس» التي كان يرشف عليها الدكتور يوسف‬ ‫ذات طبيعة نفس َّية يف إطار تو ُّ‬
‫مراد يف نهاية األربعينيَّات (نرشت املقالة ‪1949‬م) ‪ ،‬والتعريف الثاين يف مق ِّدمة دراسته عن ابن‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬اإلدراك املبارش عند الصوف َّية‪ ،‬مجلَّة «علم النفس التكاميل»‪ ،‬املجلد الرابع‪ ،‬العدد الثالث ‪ ،1949‬ص ‪.396‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ك‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫الرتبوي القائم عىل العمل‬


‫َّ‬ ‫األخالقي‬
‫َّ‬ ‫الس ِّن َّي‬
‫يل ُّ‬
‫عطاء الله السكندري الذي يق ِّدم لنا التص ُّوف الشاذ َّ‬
‫واملعامالت والعالقة باآلخرين‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬تتعلَّق بتاريخ كتابة ٍّ‬
‫كل من الدراستني األوىل عام ‪ 1949‬قبل ثورة يوليو‪ ،‬والثانية‬
‫بعدها عام ‪ ،1958‬حيث ظهرت أهميَّة املجتمع والحياة العا َّمة لألفراد داخل املجتمع‪ ،‬والشعور‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ين بذلك وهو العالِم الذي شارك بشكل ما يف الحياة العا َّمة بعد ذلك من خالل عضويَّته‬ ‫التفتازا ِّ‬
‫مبجلس الشورى‪.‬‬
‫شاماًل للتص ُّوف مح ِّد ًدا إيَّاه بأنه‬
‫ً‬ ‫يق ِّدم لنا األستاذ كذلك يف دراسة من أخريات أعامله تعريفًا‬
‫األخالقي‪ ،‬واالتصال مببدأ‬ ‫ِّ‬ ‫(فلسفة حياة‪ ،‬وطريقة مع َّينة يف السلوك يتَّخذهام اإلنسان لتحقيق كامله‬
‫أسمى‪ ،‬وعرفان بالحقيقة‪ ،‬وتحقيق سعادته الروح َّية)‪ .‬والتص ُّوف يف هذا التعريف مشرتك بني ديانات‬
‫يف عن تجربته يف‬ ‫كل صو ٍّ‬‫يعرِّب ُّ‬
‫الطبيعي أن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫وفلسفات وحضارات متباينة يف عصور مختلفة‪ ،‬ومن‬
‫إطار ما يسود مجتمعه من عقائد وأفكار‪ ،‬ويخضع تعبريه عنها أيضً ا ما يسود عرصه من اضمحالل‬
‫وازدهار»[[[‪.‬‬
‫اإلسالمي فحسب‪ ،‬وهو‬
‫َّ‬ ‫ين هنا عىل تعريف التص ُّوف عمو ًما‪ ،‬وليس التص ُّوف‬ ‫يحرص التفتازا ُّ‬
‫يجمع فيه بني الفرديَّة (التجربة الصوف َّية) واملجتمع والعرص (ما يسود مجتمعه) وباإلضافة إىل ذلك‬
‫فالتعريف يحتوي عىل الخصائص العا َّمة للتص ُّوف التي ح َّددها لنا يف كتابه (املدخل) ويف دراسته‬
‫(التص ُّوف) يف خمس خصائص نفسيَّة وأخالقيَّة وأبستمولوجيَّة تنطبق عىل مختلف أنواع التص ُّوف‪،‬‬
‫الذوقي املبارش‪ ،‬الطأمنينة أو السعادة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫األخالقي‪ ،‬الفناء يف الحقيقة املطلقة‪ ،‬العرفان‬
‫ُّ‬ ‫هي‪ :‬الرتقِّي‬
‫الرمزيَّة يف التعبري‪.‬‬
‫ظل محافظًا عىل جوهره‬ ‫وإذا كان تعريف التص ُّوف تط َّور يف كتابات التفتازاين املتع ِّددة‪ ،‬ولو َّ‬
‫باعتباره صفاء للنفس وسلوكًا أخالق ًّيا‪ ،‬فإ َّن بناء العلم وموضوعاته كام نجده لديه‪ -‬كام يف (املدخل)‬
‫والذي يتناول التص ُّوف‪ :‬تعريفه وتسميته‪ ،‬نشأته ومراحله‪ ،‬اتجاهاته ومدارسه‪ ،‬نجد أصوله يف كتاب‬
‫محمد مصطفى حلمي (الحياة الروح َّية يف اإلسالم)‪ ،‬وإن كان أستاذنا قد ح َّدد العلم بدقَّة‪ ،‬وأضاف‬
‫ريا من نظريَّات الفالسفة الغربيني‬
‫وتوسع يف أعالمه‪ ،‬وناقش كث ً‬ ‫َّ‬ ‫إىل موضوعاته‪ ،‬وفصل يف مراحله‪،‬‬
‫يف التص ُّوف مثل‪ :‬راسل يف دراسته (التص ُّوف واملنطق)‪ ،‬ووليم جيمس يف كتابه (أنواع مختلفة‬
‫خصوصا يف الجدل الذي أثري يف القرن التاسع‬ ‫ً‬ ‫من الخربة الدين َّية)‪ ،‬ورده عىل آراء املسترشقني‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهل هو مردود إىل مصادر أجنب َّية‪ ،‬وهذا ينقلنا من التعريف إىل‬‫ِّ‬ ‫عرش حول التص ُّوف‬
‫املوضوع نفسه‪ ،‬التص ُّوف‪ :‬نشأته ومراحل تط ُّوره‪.‬‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مادة تص ُّوف‪ ،‬املوسوعة الفلسف َّية العرب َّية‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬لبنان ‪.1988‬‬

‫‪265‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ين مشكلة أصل التص ُّوف ومصادره‪ ،‬وهو يتابع جهود الر َّواد‪ :‬مصطفى‬ ‫نص التفتازا ِّ‬
‫ب) يواجه ُّ‬
‫عبد الرازق ومحمد مصطفى حلمي وأيب العال عفيفي يف مناقشة آراء الجيل السابق من مسترشقي‬
‫خارجي أو أكرث‪ .‬وهو يالحظ‬
‫ٍّ‬ ‫اإلسالمي جملة إىل مصدر‬ ‫َّ‬ ‫القرن التاسع عرش م َّمن ر ُّدوا التص ُّوف‬
‫أساسا مع التسليم بوجود‬
‫ً‬ ‫إسالمي‬
‫ٍّ‬ ‫أ َّن املسترشقني املعارصين ير ُّدون نشأة التص ُّوف إىل مصدر‬
‫تأثريات يف عرص متأخِّر من حضارات سابقة‪ ،‬كام يرى (ترمنغهام) يف كتابه (الطرق الصوفيَّة يف‬
‫املسيحي‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالم)‪ .‬ويرى أ َّن التص ُّوف الذي يذكره ترمنغهام‪ ،‬الذي وصلته إشعاعات من التص ُّوف‬
‫أو من األفالطون َّية املح َدثة أو من الغنوص َّية‪ ،‬هو نوع واحد من التص ُّوف‪ ،‬وهو الذي اصطُلح عىل‬
‫إسالمي‬
‫ُّ‬ ‫الس ِّن ُّي الذي ميثِّله غالب َّية صوف َّية اإلسالم فهو‬
‫الفلسفي ‪ .‬أ َّما التص ُّوف ُّ‬
‫ِّ‬ ‫تسميته بالتص ُّوف‬
‫النشأة والتط ُّور[[[‪.‬‬
‫يوضح األستاذ هذا الرأي الذي يق ِّدمه يف تفسري نشأة التص ُّوف سمة مه َّمة يف كتاباته‪ ،‬وهي‬
‫السمة السجال َّية التي تربز يف العديد من أعامله‪ ،‬وتؤ ِّدي به يف هذه القض َّية إىل التأكيد عىل أ َّن‬
‫األجنبي‬
‫َّ‬ ‫نظريَّات متق ِّدمي املسترشقني يف مصدر التص ُّوف مل تكن صحيحة أو منطقيَّة‪ ،‬وأ َّن األثر‬
‫يف ميدانه مل يظهر إالَّ يف وقت متأخِّر من تاريخ اإلسالم‪ ،‬وأنَّه محدود للغاية وعند طائفة قليلة من‬
‫رجاله‪.‬‬
‫اإلسالمي ذا مصدر‬
‫َّ‬ ‫ين يف موقفه هذا يشيد برأي ماسينيون يف كون التص ُّوف‬ ‫ونالحظ أ َّن التفتازا َّ‬
‫إسالمي‪ ،‬وقد اجتهد يف تأكيد هذه الحقيقة‪ .‬كام أنَّه يرتبط بالنشأة التط ُّور‪ ،‬فقد م َّر مبراحل متع ِّددة ‪،‬‬‫ّ‬
‫لكل مرحلة ووفقًا ملا م ّر به من ظروف مفاهيم متن ِّوعة‪.‬‬ ‫وتورادت عليه ظروف مختلفة‪ ،‬واتخذ تب ًعا ِّ‬
‫فاملرحلة األوىل من التص ُّوف وهي مرحلة الزهد‪ ،‬وإن كنا منيل إىل اعتبارها مرحلة مستقلَّة‬
‫االصطالحي‪ ،‬التي تقع يف القرنني األول والثاين‪ ،‬وراءها عامالن‬
‫ِّ‬ ‫سابقة عىل التص ُّوف مبعناه‬
‫أساسيَّان سبَّبا ظهورها هام‪ :‬القرآن الكريم الذي تض َّمن آيات كثرية تدعو إىل الزهد‪ ،‬والعامل الثاين‬
‫ريا من أتقياء املسلمني إىل‬
‫ماَّم دفع كث ً‬
‫األحوال السياسيَّة واالجتامعيَّة واضطرابها بعد مقتل عثامن‪َّ ،‬‬
‫إيثار العزلة والعبادة‪.‬‬
‫ين حرصه الشديد‪ ،‬سواء يف تتبُّعه لنشأة التص ُّوف أم لتط ُّور مراحله عىل الربط‬
‫نص التفتازا ِّ‬
‫يؤكِّد ُّ‬
‫بينه وبني الرشيعة‪ ،‬ومن هنا تفرقته بني ات ِّجاهني ظهرا يف القرنني الثالث والرابع للتص ُّوف؛ الذي‬
‫أصبح طريقًا للمعرفة بعدما كان طريقًا للعبادة‪ :‬األول ميثِّله صوف َّية معتدلون يف آرائهم يربطون بني‬
‫تص ُّوفهم وبني الكتاب والس َّنة بصورة واضحة‪ ،‬والثاين ميثِّله صوفية انطلقوا من حال الفناء إىل‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مادة تص ُّوف‪ ،‬ص ‪ ،259‬اهتم التفتازاين بكتابات ترمنغهام وحلل كتاباته وناقش أعامل مثل»أثر اإلسالم عىل‬
‫أفريقيا» العدد األول‪ ،‬مجلد «عامل الفكر»‪ ،‬الكويت‪ ،1970 ،‬ص ‪.215 – 201‬‬

‫‪266‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫حا باالتحاد أو الحلول‪ ،‬ويؤكِّد التفتازاين عىل استمرار االتجاه األول (الس ِّن ِّي) أثناء القرن‬
‫القول شط ً‬
‫الخامس الهجري‪ ،‬عىل حني اختفى الثاين أو كاد اثناء هذا القرن‪ .‬ويرجع ذلك إىل غلبة مذاهب‬
‫أهل الس َّنة والجامعة الكالم َّية‪ ،‬ويُع ُّد القشريي (ت ‪465‬هـ) والهروي األنصاري (ت ‪ 481‬هـ) من‬
‫أبرز صوف َّية هذا القرن الذي نحوا بالتص ُّوف هذا املنحى‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫ين أه َّم صوف َّية هذا القرن أبا حامد الغزايل (ت ‪ 505‬هـ)‪ ،‬والذي يظهر كأكرب‬ ‫نص التفتازا ِّ‬‫ويربز ُّ‬
‫األسايس للحديث عن املعرفة‬
‫ُّ‬ ‫مدافع عن التص ُّوف الس ِّن ِّي يف كثري من دراساته‪ ،‬وكتبه هي املصدر‬
‫الصوف َّية املبارشة[[[‪ .‬وهو يتم َّيز ع َّمن سبقه من الصوف َّية بأنه جعل التص ُّوف طريقًا إىل املعرفة‬
‫بالله واضح املعامل‪ ،‬فتح َّدث عن موضوعات أفاض فيها الحديث مثل‪ :‬املعرفة الصوفيَّة من‬
‫حيث أدواتها ومناهجها وغاياتها‪ ،‬وقد كان صوف ًّيا إيجاب ًّيا عني بشئون عرصه‪ ،‬فقد وقف يف وجه‬
‫املذاهب الفكريَّة املنحرفة بق َّوة ونقدها نق ًدا علم ًّيا دقيقًا‪ ،‬وكان من املمكن لهذه املذاهب أن‬
‫تق ِّوض دعائم املجتمعات اإلسالم َّية يف عرصه‪ ،‬وبعده لو تركت وشأنها[[[ وهو ما فعله يف ر ِّده عىل‬
‫إسالمي يف تدريس الفلسفة األوروبيَّة الحديثة واملعارصة‬
‫ٍّ‬ ‫وجوديَّة سارتر‪ ،‬أو يف بيانه ملعامل (منهج‬
‫األسايس لهذا النص‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫جه‬
‫نصه والتو ُّ‬
‫يف الجامعة)[[[‪ ،‬وهو ما ميكن أن نعلِّق عليه الغاية من مجمل ِّ‬
‫ين يف تحديد تيَّارين يف التص ُّوف ظهرا يف القرنني السادس والسابع‪ ،‬أحدهام‬ ‫نص التفتازا ِّ‬‫مييض ُّ‬
‫يل‪ ،‬يتمثَّل األول بوضوح عند متفلسفة الصوف َّية‪ ،‬واآلخر عند أصحاب الطريق‪،‬‬ ‫فلسفي واآلخر عم ٌّ‬
‫ٌّ‬
‫خصص‬ ‫الفلسفي؛ الذي َّ‬
‫ُّ‬ ‫حا القضايا الرئيس َّية التي يدور حولها التص ُّوف‬
‫لكل منها موض ً‬ ‫ويعرض ِّ‬
‫وخص أبرز أعالمه‬
‫َّ‬ ‫ألحد أعالمه رسالته للدكتوراه وهو عبد الحق ابن سبعني املريس (ت‪668‬هـ)‪،‬‬
‫التذكاري‬
‫ِّ‬ ‫محيي الدين بن عريب (ت‪638‬هـ) بدارسة مستفيضة عن (الطريقة األكربيَّة) يف الكتاب‬
‫الذي صدر عنه)[[[‪.‬‬
‫يل) تيَّار الصوفيَّة من أصحاب الطرق – بالغزايل ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬ويفيض‬
‫يرتبط التيَّار الثاين (العم ُّ‬
‫ويخصص له دراسته يف املاجستري عن (ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه) ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف الحديث عنه‪،‬‬

‫[[[‪ -‬راجع التفتازاين‪ :‬مدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي ص ‪ ،184 – 152‬سيكولوج َّية التص ُّوف‪ ،‬مجلَّة «علم النفس» أكتوبر ‪1949‬م‪ ،‬وفرباير‬
‫‪1950‬م‪ ،‬املعرفة الصوف َّية‪ :‬أدواتها ومنهجها‪ ،‬مجلَّة «الرسالة» ‪1950‬م‪ ،‬ص ‪ ،554 – 550‬اإلدراك املبارش عند الصوف َّية‪ ،‬مجلَّة «علم النفس»‪،‬‬
‫املجلد الرابع‪ ،‬العدد الثالث ‪ ،1949‬وكلك العدد الرابع من مجلَّة «الجمع َّية الفلسف َّية املرص َّية»‪ ،‬ديسمرب ‪1995‬م‪.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة ‪ ،1979‬ص ‪.1984‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬منهج إسالمي يف تدريس الفلسفة األوروب َّية الحديثة واملعارصة يف الجامعة‪ ،‬مجلة «املسلم املعارص»‪ ،‬بريوت‬
‫‪ ،979‬وكذلك دراسته اإلسالم ووجوديَّة سارتر‪ ،‬العدد األول من مجلَّة «الجمع َّية الفلسف َّية املرصيَّة»‪ ،‬القاهرة‪ ،1993 ،‬ص ‪.20 – 7‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الطريقة األكرب َّية‪ ،‬الكتاب التذكاري عن محيي الدين بن عريب‪ ،‬الهيئة املرص َّية العامة للتأليف والرتجمة والنرش‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،1969 ،‬ص ‪.353 – 295‬‬

‫‪267‬‬
‫حقول التنظير‬

‫و(ابن عباد الرندي)[[[‪ ،‬ويكتب عن أه ِّم أعالمه يف (معجم أعالم الفكر اإلنساين)[[[‪.‬‬
‫ين‪ ،‬ولنا عليها مالحظتان‪:‬‬
‫اإلسالمي التي عرضها التفتازا ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫تلك هي بنية وموضوعات التص ُّوف‬
‫والفلسفي يف العصور الوسطى عند أه ِّم‬
‫ِّ‬ ‫الس ِّن ِّي‬
‫اإلسالمي باتجاهيه ُّ‬
‫َّ‬ ‫األوىل‪ :‬أنَّها تناولت التص ُّوف‬
‫أعالمه من دون التط ُّرق إىل التص ُّوف يف العرص الحديث‪ ،‬ألَّله َّم إالَّ يف بعض موا ِّد معجم أعالم‬
‫ينّ‪.‬‬
‫الفكر اإلنسا ْ‬
‫الثانية‪ :‬أ َّن األستاذ من خالل تالميذه ك َّون مدرسة متميِّزة من الباحثني استوفت معظم جوانب هذا‬
‫العلم‪ ،‬سواء يف موضوعاته أم تاريخه أو أعالمه‪ ،‬بحيث ميكن القول ‪ :‬إ َّن ما ق َّدمه األستاذ من خالل‬
‫أي باحث آخر يف هذا امليدان‪ ،‬وتلك يف نظري – وإن كانت‬ ‫دراساته ودراسات تالميذه يفوق جهد ِّ‬
‫شك أحد هوامشه املكثَّفة أو ظالله الوارفة‪.‬‬ ‫النص التفتازاين – فهي بال ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫ال تدخل يف منت‬
‫ين ويتض َّمن مجموعة من القضايا األبستمولوج َّية والسيكولوج َّية‪ ،‬يعرض‬‫نص التفتازا ِّ‬
‫جـ) يق ِّدم ُّ‬
‫يف إحدى دراساته لنظريَّة املعرفة وأداتها ومنهجها وموضوعها عند الصوف َّية‪ ،‬ويف الدراسات‬
‫األخرى للجوانب النفسيَّة من التص ُّوف باعتباره حاالت وجدانيَّة‪ .‬وقد ق َّدم هذه الدراسات يف فرتة‬
‫مبكرة من حياته‪ ،‬ورمبا قبيل تخ ُّرجه وحتى حصوله عىل املاجستري‪ ،‬وذلك يف مجلَّتي «الرسالة»‬
‫و»علم النفس» عام ‪1950 – 1949‬م‪.‬‬
‫السيكولوجي‪ ،‬حيث يعتمد يف العديد من‬ ‫َّ‬ ‫ين االهتامم الكبري بدراسة الناحية‬ ‫نص التفتازا ِّ‬
‫يظهر ُّ‬
‫دراساته عىل مراجع علامء النفس‪ ،‬ويذكر ويستشهد بكتابات الباحثني املعارصين فيه‪ ،‬ويخضع‬
‫الصوف َّية وأقوالهم لتحليالت علم النفس‪ ،‬كام نجد يف دارستيه عن (ابن عطاء الله السكندري)‬
‫و(الطريقة األكربيَّة)‪ ،‬ويخصص دراسة مستفيضة نرشها يف عددين مبجلة «علم النفس» عن‬
‫حا أ َّن التص ُّوف رغم أنَّه – كمذهب – يختلف باختالف األديان‬ ‫(سيكولوجيَّة التص ُّوف)‪ ،‬موض ً‬
‫جمي ًعا‪ ،‬ومن العسري أن نجد له تعريفًا جام ًعا مان ًعا من نواحيه الدين َّية والفلسف َّية واألخالق َّية‪ ،‬فهو‬
‫من الوجهة السيكولوج َّية من املمكن تعريفه بأنَّه سلسلة متَّصلة الحلقات من الحاالت الوجدان َّية‬
‫االستنباطي يف علم النفس[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ريا عىل املنهج‬ ‫الخاصة‪ ،‬وإن دراسته تعتمد اعتام ًدا كب ً‬
‫َّ‬
‫يف بوجه عا ٍّم‪،‬‬
‫يحاول األستاذ أن يرسم صورة عامة واضحة املعامل للطريق الذي يسلكه الصو ُّ‬
‫وأن يص ِّنف هذه الحاالت الوجدان َّية التي ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬بحيث يخضع التص ُّوف‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عباد الرندي حياته ومؤلَّفاته‪ ،‬مجلَّة «معهد الدراسات اإلسالم َّية يف مدريد»‪ ،‬املجلد السادس‪ ،‬العدد ‪،2 – 1‬‬
‫عام ‪ ،1958‬ص ‪.258 – 221‬‬
‫[[[‪ -‬راجع مواد‪ :‬ابن عطاء الله السكندري أحمد زروق (ت ‪ 899 – 846‬هــ)‪ ،‬أحمد الدردير(‪ 1201 – 11217‬هــ)‪ ،‬أحمد بن إدريس (‪1173‬‬
‫– ‪ 1253‬هــ)‪ ،‬أحمد بن الرشقاوي(‪ 1316 – 1250‬هــ)‪ ،‬معجم أعالم الفكر اإلنساين‪.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬سيكولوج َّية التصوف‪ ،‬مجلَّة «علم النفس»‪ ،‬أكتوبر‪ ،1949 ،‬ص ‪.291‬‬

‫‪268‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫حد بني املتص ِّوفة عىل اختالفهم‪ .‬وهو يحلِّل حاالت املتص ِّوف‬
‫سيكولوجي عا ٍّم ميكن أن يو ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫لقانون‬
‫النفسيَّة يف أربعة أُ ُسس هي‪:‬‬
‫يت‪ ،‬وغال ًبا ما‬
‫الخارجي أو الذا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يف الذي قد ينشأ عن اإليحاء‬
‫النفيس الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أ) حالة االستعداد‬
‫مهاًّم يف ظهور هذا االستعداد‪ ،‬وهو هنا يعتمد عىل تحليل كالم‬ ‫عاماًل ًّ‬
‫ً‬ ‫تكون الصدمات النفسيَّة‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫حا أ َّن هذه املرحلة ترتكَّب‬


‫الغزايل يف (املنقذ من الضالل) الذي يقارنه بالق ِّديس أوغسطني موض ً‬
‫النفيس والكآبة‪ ،‬والحزن العميق‪ ،‬والخوف من أشياء‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫كالشك والقلق‬ ‫من حاالت وجدان َّية ع َّدة‬
‫مجهولة‪ ،‬ومحاولة إدراك حقيقة الكون‪ ،‬وكشف املحجوب‪ ،‬وإحساسات أخرى مبهمة غامضة‬
‫تنتهي جميعها بواسطة اإليحاء باالتجاه نحو الله وسلوك طريق التص ُّوف‪.‬‬

‫ب) العاطفة الصوف َّية وتكوينها‪ ،‬فالحب الصو ُّ‬


‫يف هو الحالة الوجدان َّية التي تصدر عنها‬
‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫الرئييس الذي تدور حوله موضوعات التص ُّوف‬
‫ُّ‬ ‫سائر الحاالت األخرى‪ ،‬وهو املحور‬
‫خاص من العواطف التي تتَّخذ امل ُثل‬
‫ٍّ‬ ‫واملسيحي عىل السواء‪ ،‬وأ َّن هذه العاطفة الصوف َّية من نوع‬
‫ِّ‬
‫العليا موضو ًعا لها‪.‬‬

‫جـ) رضورة وجود شيخ‪ :‬والشيخ كام يصفه يف حقيقة األمر طبيب نفسا ٌّ‬
‫ين بارع[[[‪ ،‬فهو يلجأ‬
‫السيكولوجي‬
‫ِّ‬ ‫النفيس لتعرف أحوال النفس وتشخيص أمراضها‪ ،‬ويشري إىل التصنيف‬ ‫ِّ‬ ‫إىل التحليل‬
‫يختص بقوى اإلنسان وملكاته النفس َّية‪ ،‬ويذكر أربع قوى هي‪:‬‬‫ُّ‬ ‫الذي ذهب إليه الصوف َّية يف ما‬
‫ولكل منها وظيفة معيَّنة‪ ،‬فالنفس عندهم مركز للشهوات واألفعال‬‫ِّ‬ ‫النفس والروح والقلب والرس‪،‬‬
‫محل للمشاهدة‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫محل للمعرفة‪ ،‬والرس‬
‫ٌّ‬ ‫املذمومة‪ ،‬والروح مبدأ للحياة واألفعال الحميدة‪ ،‬والقلب‬
‫ويرى أنَّنا ال نستطيع أن نضع حدو ًدا فاصلة بني هذه القوى إذ إنها ذات تأثري متبادل ومرتبطة ببعضها‬
‫ارتباطًا وثيقًا‪.‬‬
‫د) املجاهدة النفس َّية‪ ،‬هي سمة التص ُّوف وبداية طريقه وأساسها هو قمع امليول والنزعات التي‬
‫ال توافق املبادئ األخالق َّية‪ ،‬وهذا القمع يكون قم ًعا شعوريًّا إراديًّا يف ما يرى التفتازاين‪ ،‬الذي يؤكِّد‬
‫الكف وتركيز االنتباه يف‬
‫ِّ‬ ‫إرادي يتم َّيز بالقدرة عىل‬
‫ٌّ‬ ‫عىل أن سلوك املتص ِّوف يف املجاهدة سلوك‬
‫معنَّي مرسوم‪.‬‬
‫اتجاه َّ‬
‫ويف هذا السياق‪ ،‬يرى األستاذ أ َّن املجاهدة النفسية وسيلة من وسائل اإلعالء للغرائز اإلنسان َّية‪.‬‬
‫واألخالقي إىل قواعد مه َّمة يف ما‬
‫ِّ‬ ‫السيكولوجي‬
‫ِّ‬ ‫ويؤكِّد أ َّن الصوفيَّة توصلوا من اهتاممهم بالجانب‬

‫ولكل منها وظيفة مع َّينة‪ ،‬فالنفس عندهم مركز للشهوات واألفعال املذ َّمة والروح‬
‫ٍّ‬ ‫[[[‪ -‬ويذكر أربع قوى هي‪ :‬النفس والروح والقلب والرس‬
‫مبدأ للحياة واألفعال الحميدة‪ ،‬والقلب محل للمعرفة‪ ،‬والرس محل للمشاهدة‪ ،‬ويرى أننا ال نستطيع أن نضع حدودًا فاصلة بني هذه القوى‬
‫ألنها ذات تأثري متبادل ومرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫حقول التنظير‬

‫األخالقي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫يتعلَّق بالسلوك‪ ،‬وأشاروا عىل مريديهم باألخذ بها لإلتِّصاف بالكامل‬
‫النفيس حني تناول رضورة الشيخ للمريد يف دراسته‬
‫ِّ‬ ‫يفيض التفتازاين يف الحديث عن الجانب‬
‫للطريقة األكربيَّة‪ ،‬حيث يؤكِّد أ َّن الشيخ هو الطبيب (النفيس) املعالج للمريد السالك[[[‪ ،‬فاالستعداد‬
‫أسايس للتص ُّوف[[[ (فاملريد كام ص َّوره لنا ابن عريب هو بتعبري علم النفس الحديث‬ ‫ٌّ‬ ‫النفيس رشط‬
‫ُّ‬
‫جه سلوكه وفق اتجا ٍه مثا ٍّ‬
‫يل مرسوم‪ ،‬ويرى أ َّن الرياض َّيات‬ ‫خاضع عىل الدوام إليحاء شيخه الذي يو ِّ‬
‫العمل َّية التي كان يستخدمها ابن عريب يف سلوكه وينصح بها مريديه‪ ،‬ذات تأثري قوي عىل تكوين‬
‫املريد من الناح َّية النفس َّية[[[‪.‬‬
‫ين عد ًدا من شخص َّيات الصوف َّية مختلفي االتجاهات‪ ،‬فمنهم صوف َّية‬ ‫النص التفتازا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫يتض َّمن‬
‫خصص لهم بعض‬ ‫الس ِّن ِّي من شيوخ الطرق‪ ،‬ومنهم متفلسفة‪ ،‬ومنهم شعراء َّ‬ ‫من أصحاب االتجاه ُّ‬
‫الدراسات الطويلة مثل‪ :‬ابن عطاء الله‪ ،‬وابن سبعني‪ ،‬أو أبحاث مستفيضة مثل‪ :‬ابن عباد الرندي‪،‬‬
‫النص‪،‬‬‫ُّ‬ ‫نتبنَّي نوعني من األبحاث يقتسمها هذا‬
‫وابن الفارض‪ ،‬وابن مرسة‪ ،‬والبسطامي‪ ،‬مام يجعلنا َّ‬
‫األول يعرض فيه لقضايا صوف َّية‪ ،‬والثاين يتناول فيه األعالم‪.‬‬
‫نص التفتازاين عىل أعالم الصوفيَّة بل يض ُّم أعالم الفالسفة والكالم‪ ،‬فمن كتاباته‬ ‫وال يقترص ُّ‬
‫املبكرة (دراسات يف الفلسفة اإلسالم َّية)[[[‪ ،‬يعرض لت َّيارها ومدارسها وأعالمها‪ ،‬وأبحاثه املختلفة‬
‫يف (الفكر الفلسفي يف مجال العلوم الرشع َّية)[[[ و(ابن طفيل وأثره عىل الغرب)[[[‪( ،‬إخوان الصفا‬
‫ودورهم يف التفكري اإلسالمي)[[[ و(ابن رشد وموقفه من التص ُّوف)[[[ كام كتب عن (الوهابيَّة‬
‫والتص ُّوف)[[[ و(الشيعة والس َّنة والصوفيَّة)‪ .‬ويه ُّمنا أن نعرض ملوقفه من الس َّنة والشيعة والصوفيَّة‬
‫يل (وسائل الشيعة)‪ ،‬وكتاب «املستدرك» للمحقِّق املريزا حسني‬ ‫الذي ق َّدم به كتاب الح ِّر العام ِّ‬

‫يل‬
‫جه سلوكه وفق اتجاه مثا ٍّ‬
‫[[[‪« -‬فاملريد كام ص َّوره لنا ابن عريب هو بتعبري علم النفس الحديث خاضع عىل الدوام إليحاء شيخه الذي يو ِّ‬
‫مرسوم»‪ ،‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الطريقة األكرب َّية‪ ،‬الكتاب التذكاري البن عريب‪ ،‬ص ‪.223‬‬

‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.223‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 235‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬التفتازاين‪ :‬دراسات يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬مكتبة القاهرة الحديثة‪ ،‬القاهرة‪.1957 ،‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الفكر الفلسفي يف مجال العلوم الرشع َّية‪ ،‬مجلَّة «الهدي اإلسالمي»‪ ،‬جامعة محمد عىل السنويس‪ ،‬ليبيا العددان‬
‫‪ ،3 – 2‬أغسطس ‪1964‬م‪ ،‬والعددان ‪ ،5 – 4‬يناير وفرباير ‪1965‬م‪.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬التفتازاين‪ :‬ابن طفيل وأثره عىل الغرب‪ .‬كرى ابن طفيل يف كتاب تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي يف الوطن العريب‪ ،‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪1990 ،‬م‪ ،‬ص ‪.372 367-‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬إخوان الصفا ودورهم يف التفكري اإلسالمي‪ ،‬مجلَّة «الهالل» بالقاهرة‪ ،‬سبتمرب‪ ،1972 ،‬ص ‪ .77 - 66‬ص ‪415‬‬
‫– ‪.419‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن رشد والتص ُّوف‪ ،‬باإلنكليزيَّة‪ ،‬يف كتاب ابن رشد مفكِّ ًرا عرب ًّيا ورائدً ا لالتجاه العقيل‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‬
‫بالقاهرة‪1993 ،‬م‪ ،‬ص ‪.419 – 415‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الوهاب َّية والتص ُّوف‪ ،‬مجلَّة «التص ُّوف واإلسالم»‪ ،‬العدد األول ‪.1958‬‬

‫‪270‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫النوري‪ ،‬وهو يرى يف نرش هذين الكتابني ما يحقِّق غاية التقريب بني الس َّنة والشيعة‪ ،‬وإيجاد نوع‬
‫كل فريق منهام إىل اآلخر نظرة إنصاف وتقدير[[[‪.‬‬ ‫من الفهم املتبادل بينهام فينظر ُّ‬
‫ويتوقف األستاذ عند أخطاء الباحثني يف أحكامهم عن الشيعة‪ ،‬والعوامل التي أ َّدت إىل عدم‬
‫إنصافهم‪ ،‬منها الجهل الناشئ من عدم االطِّالع عىل املصادر الشيع َّية واالكتفاء باالطِّالع عىل مصادر‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫حا رضورة االعتامد عىل تراثهم أو تح ِّري الصدق يف الروايات التاريخيَّة التي‬
‫خصومهم‪ ،‬موض ً‬
‫يل‬
‫يجدها الباحث يف كتب خصومهم ‪ ،‬وهو يرى أنَّهم عمو ًما يستندون يف تش ُّيعهم إىل اإلمام ع ٍّ‬
‫[[[‬

‫ريض الله عنه إىل شواهد من الكتاب والس َّنة‪ ،‬وبني االتفاق بني الس َّنة والشيعة يف أصول العقائد‪،‬‬
‫وذلك إذا ما استثنينا مسألة اإلمامة واالتفاق بينهام يف األحكام الفقه َّية باستثناء الخالف حول بعض‬
‫األحكام الفروعيَّة مثل (نكاح املتعة)‪ ،‬ومصدر االتفاق بينهام يف أصول العقائد واألحكام الفقهيَّة‬
‫هو الكتاب والس َّنة[[[‪ ،‬وما الخالف املوجود بينهام بأبعد من الخالف بني مذه َبي اإلمام مالك‬
‫وأتباعه من أهل الرأي والقياس‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬كام يرى التفتازاين فال ينبغي أن يغفل املسلمون من غري‬
‫الشيعة عن قيمة تراث الشيعة يف العقائد ويف الفقه‪ ،‬فهذا الرتاث يروي عن آل البيت وهم أمئَّة يف‬
‫الفقه والترشيع وسادة لهم فضلهم ومكانتهم يف قلوب املسلمني عىل اختالفهم‪.‬‬
‫يل عند الصوفيَّة منزلة رفيعة‪ ،‬فهم يع ُّدونه‬
‫إن بني التص ُّوف والتشيُّع صالت قويَّة‪ ،‬ولإلمام ع ٍّ‬
‫مثاًل أعىل يف الزهد والتقوى‪ ،‬كام أ َّن شيوخ الصوف َّية من أصحاب الطرق من جلَّة علامء الس َّنة من‬
‫ً‬
‫الصوفيَّة يرجعون يف أسانيد طرقهم إىل أمئَّة أهل البيت‪ ،‬وهناك يف كتب أهل الس َّنة أنفسهم شواهد‬
‫كثرية عىل خصوص َّية اإلمام عيل يف العلم[[[‪.‬‬
‫إ َّن موقف التفتازاين من الرتاث والفكر والفلسفة اإلسالم َّية والعلوم والفرق اإلسالم َّية مهم‪،‬‬
‫وهو يقوم إحياء هذا الفكر وتلك العلوم‪ ،‬وتحديد العالقات بينهام يف مواجهة العلوم والتيَّارات‬
‫تفهُّاًم ملاضينا‪ ،‬وأكرث وع ًيا بقيمة وأصالة ذلك الرتاث‪،‬‬
‫ً‬ ‫واملذاهب الغرب َّية‪ ،‬فهذا يجعلنا أكرث‬
‫الفكري من شأنه أن ينري أمامنا السبيل ويوضح لنا الرؤية يف حارضنا ومستقبلنا عىل‬
‫ِّ‬ ‫واستلهام تراثنا‬
‫السواء‪ ،‬وبذلك تبقى لنا شخص َّيتنا املستقلَّة ومق ِّوماتنا الذات َّية‪.‬‬
‫(يتعنَّي علينا أن نذكر دامئًا أ َّن الطاقات الروحيَّة التي تستم ُّدها‬
‫َّ‬ ‫يف سبيل نهضة مجتمعنا الراهن‬

‫[[[‪ -‬د‪ .‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الس َّنة والشيعة والصوف َّية‪ ،‬مقدِّ مة كتاب الح ّر العاميل‪ ،‬وسائل الشيعة ونرشها السيد مرتىض الرضوى يف كتابه‬
‫مع رجال الفكر‪ ،‬مطبعة النجاح‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،4‬عام ‪ ،1979‬ص ‪.173‬‬
‫[[[‪ -‬السيد مرتىض الرضوى‪ :‬ص ‪.166 – 165‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.177-167‬‬

‫‪271‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الحضاري‪ ،‬قادرة عىل صنع‬


‫ِّ‬ ‫الشعوب من ُمثُلها العليا النابعة من أديانها السامويَّة أو من تراثها‬
‫املعجزات)[[[‪.‬‬
‫ين أه ِّم َّية القيم والعوامل األخالق َّية والروحان َّية التي نجدها يف‬ ‫نص التفتازا ِّ‬ ‫هنا تظهر يف ِّ‬
‫التص ُّوف والعلوم الرشعيَّة اإلسالميَّة يف بناء املجتمع‪ ،‬وهو ما يتَّضح يف تعريفه للتص ُّوف وما أشار‬
‫ماَّم دعاه إىل الر ِّد عىل كثري من الت َّيارات الفلسف َّية الغرب َّية‬
‫إليه يف مق ِّدمة دراسته عن علم الكالم ‪َّ ،‬‬
‫األيديولوجي بني أصحاب االتجاهات املختلفة‬ ‫ِّ‬ ‫ويف مق ِّدمتها الوجوديَّة‪ .‬ففي دراسته عن (الرصاع‬
‫يف قض َّية الهويَّة العرب َّية‪ ،‬والرتاث وانعكاساته عىل الثقافة) نجد أوضح تعبري عن موقفه وعن الهدف‬
‫جهاته‪.‬‬‫نصه وأه ِّم تو ُّ‬
‫والغاية من ِّ‬
‫ين‪ ،‬ففي مثل واقع الرصاع‬ ‫نص التفتازا ِّ‬ ‫التوفيقي هو السمة األساس َّية التي مت ِّيز َّ‬
‫َّ‬ ‫إ َّن اإلت ِّجاه‬
‫حة إىل فهم ثقافات‬ ‫يب بحاجة مل َّ‬ ‫اإليديولوجي الذي مييِّز عرصنا يشعر املواطن يف العامل العر ِّ‬
‫والحضاري حتى ال يفقد هويَّته أو ذات َّيته كام‬ ‫ِّ‬ ‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫عرصه عىل اختالفها واملالءمة بينها وبني تراثه‬
‫يرى التفتازاين‪ .‬ومن هنا فهو يعرض لالتجاهات الفكريَّة املختلفة منذ أوائل القرن الحايل إىل اآلن‪،‬‬
‫وما كان بينها من رصاعات ‪ ،‬وأثر ذلك عىل محاولة إيجاد هويَّة عرب َّية إسالم َّية متم ِّيزة‪.‬‬
‫أواًل لدعاة الحفاظ عىل املوروث‪ ،‬وما يطلق عليه دعاة التغريب (القوميني‬ ‫هو يعرض ً‬
‫واملاركسيني)‪ ،‬ودعاة املالءمة بني القديم والحديث (ومنوذجه محمد عبده)‪ .‬كام يق ِّدم لنا تص ُّو ًرا‬
‫يتَّسم بالتوفيقيَّة لصياغة ثقافة مرصيَّة جديدة يتمثَّل يف النقاط التالية‪:‬‬
‫النظر إىل مذاهب الفلسفة يف عاملنا املعارص‪ ،‬واأليديولوج َّيات السياس َّية واالجتامع َّية عىل أنها‬
‫اجتهادات قابلة للصواب والخطأ‪ ،‬وال يجوز أن نستورد أو نتَّبع فلسفات هي نتاج عرصها وبيئتها وال‬
‫تصلح لغري هذه البيئة وذلك العرص‪.‬‬
‫الطبيعي واإلسالم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ليس مث َّة تعارض بني العلم‬
‫املعرفة املوضوع َّية باملذاهب والت َّيارات الفكريَّة املعارصة عىل أن ميكِّن يف الوقت نفسه من‬
‫نقدها عىل أساس منهج العقل‪ ،‬ثم كذلك عىل أساس من عقائد اإلسالم ورشيعته وقيمه الخلق َّية‪.‬‬
‫رضورة تدريس الفلسفة األوروب َّية الحديثة واملعارصة يف جامعاتنا عىل أساس مدى نجاحها أو‬
‫يل لها يف املجتمعات التي ظهرت فيها‪.‬‬ ‫إخفاقها عند التطبيق العم ِّ‬
‫الفكري عند تدريس مذاهب الفلسفة األوروب َّية الحديثة واملعارصة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عدم إغفال تراثنا‬

‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫التأكيد يف تكوين الثقافة عىل أهميَّة القيم الدينيَّة يف بناء الفرد واملجتمع‪.‬‬
‫التأكيد عىل أهم َّية اإلنسان وتكرميه ودوره يف هذا الكون الذي نعيش فيه[[[‪.‬‬
‫رضوري يف نظر األستاذ‪ ،‬ولكن الب َّد من االعتامد يف‬ ‫ٌّ‬ ‫االنفتاح عىل فكر العرص وثقافاته أمر‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ تجمع ثقافاتنا بني األصالة من ناحية‬ ‫والحضاري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والفكري‬
‫ِّ‬ ‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫الوقت نفسه عىل تراثنا‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫واملعارصة من ناحية أخرى‪ ،‬وتكثِّف موقفه يف التأكيد عىل مجموعة من القيم األساس َّية التي تلخِّص‬
‫نصه وهدف كتاباته‪ ،‬وهي أنَّه ال ميكن لشبابنا أن يستق َّر نفسيًّا ويبدع يف الخلق واالبتكار يف‬ ‫مغزى ِّ‬
‫كل املجاالت العلم َّية والثقاف َّية واألدب َّية‪ ،‬ويتمتَّع بحريَّته يف التعبري‪ ،‬وبكرامته يف مجتمعه‪ ،‬وبأ َّن له‬
‫رسالة يف هذه الحياة يحيا من أجلها ‪ ،‬فال تبع َّية للغري‪ ،‬وال جمود عىل قديم يف الوقت نفسه‪ ،‬وهنا‬
‫تتحقَّق له هويَّته الحضاريَّة املتم ِّيزة التي ألقت عليها الرصاعات األيديولوج َّية املعارصة بظالل من‬
‫الشك فلم يعد يتبيَّنها يف وضوح‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫إاَّل أن يتح َّول‬
‫النص هو أنَّه بدأ معرف ًّيا ومل يستطع بحكم طبيعته َّ‬
‫ِّ‬ ‫ومالحظتنا األساس َّية عىل هذا‬
‫نصا مشب ًعا باإليديولوجيا‪ ،‬أو عىل األقل تتداخل فيه الجوانب العمليَّة مع النظريَّة بحكم‬ ‫ليصبح ًّ‬
‫سيايس عا ّْم‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫يل من جهة ثانية‪ ،‬ليكتمل يف إطار‬ ‫األخالقي العم ِّ‬
‫ِّ‬ ‫توفيقيَّته من جهة‪ ،‬وطابعه‬

‫[[[‪ -‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.176-173‬‬

‫‪273‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪1.‬ابن عطاء الله السكندري أحمد زروق (ت ‪ 899 – 846‬هــ)‪ ،‬أحمد الدردير(‪1201 – 11217‬‬
‫هــ)‪ ،‬أحمد بن إدريس (‪ 1253 – 1173‬هــ)‪ ،‬أحمد بن الرشقاوي(‪ 1316 – 1250‬هــ)‪،‬‬
‫معجم أعالم الفكر اإلنساين‪.‬‬
‫‪2.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن رشد والتص ُّوف‪ ،‬باإلنكليزيَّة‪ ،‬يف كتاب ابن رشد مف ِّك ًرا عرب ًّيا ورائ ًدا‬
‫لالتجاه العقيل‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة بالقاهرة‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪3.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن سبعني وفلسفته الصوف َّية‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪.1973 ،‬‬
‫‪4.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عباد الرندي حياته ومؤلَّفاته‪ ،‬مجلَّة «معهد الدراسات اإلسالميَّة يف‬
‫مدريد»‪ ،‬املجلد السادس‪ ،‬العدد ‪ ،2 – 1‬عام ‪.1958‬‬
‫‪5.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه‪ ،‬األنجلو املرصيَّة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪.1969‬‬
‫‪6.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬ابن عطاء الله السكندري وتص ُّوفه‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ،‬ك‪.‬‬
‫‪7.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬إخوان الصفا ودورهم يف التفكري اإلسالمي‪ ،‬مجلَّة «الهالل» بالقاهرة‪،‬‬
‫سبتمرب‪.1972 ،‬‬
‫‪8.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬اإلدراك املبارش عند الصوف َّية‪ ،‬مجلَّة «علم النفس التكاميل»‪ ،‬املجلد‬
‫الرابع‪ ،‬العدد الثالث ‪.1949‬‬
‫‪9.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الس َّنة والشيعة والصوف َّية‪ ،‬مق ِّدمة كتاب الح ّر العاميل‪ ،‬وسائل الشيعة‬
‫ونرشها السيد مرتىض الرضوى يف كتابه مع رجال الفكر‪ ،‬مطبعة النجاح‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،4‬عام‬
‫‪.1979‬‬
‫ ‪10.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الطريقة األكربيَّة‪ ،‬الكتاب التذكاري عن محيي الدين بن عريب‪ ،‬الهيئة‬
‫املرصيَّة العامة للتأليف والرتجمة والنرش‪ ،‬القاهرة‪.1969 ،‬‬
‫ ‪11.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الفكر الفلسفي يف مجال العلوم الرشع َّية‪ ،‬مجلَّة «الهدي اإلسالمي»‪،‬‬
‫جامعة محمد عىل السنويس‪ ،‬ليبيا العددان ‪ ،3 – 2‬أغسطس ‪1964‬م‪ ،‬والعددان ‪ ،5 – 4‬يناير‬
‫وفرباير ‪1965‬م‪.‬‬
‫ ‪12.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬الوهاب َّية والتص ُّوف‪ ،‬مجلَّة «التص ُّوف واإلسالم»‪ ،‬العدد األول ‪.1958‬‬

‫‪274‬‬
‫الصوفي‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ابستمولوجيا‬

‫ ‪13.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬سيكولوجيَّة التصوف‪ ،‬مجلَّة «علم النفس»‪ ،‬أكتوبر‪.1949 ،‬‬
‫ ‪14.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مادة تص ُّوف‪ ،‬املوسوعة الفلسف َّية العرب َّية‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬لبنان‬
‫‪.1988‬‬
‫ ‪15.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مادة تص ُّوف‪ ،‬اهتم التفتازاين بكتابات ترمنغهام وحلل كتاباته وناقش‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫أعامل مثل»أثر اإلسالم عىل أفريقيا» العدد األول‪ ،‬مجلد «عامل الفكر»‪ ،‬الكويت‪.1970 ،‬‬
‫ ‪16.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪.1979 ،3‬‬
‫ ‪17.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬مدخل إىل التص ُّوف اإلسالمي‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة‬
‫‪.1979‬‬
‫ ‪18.‬أبو الوفا التفتازاين‪ :‬منهج إسالمي يف تدريس الفلسفة األوروب َّية الحديثة واملعارصة يف‬
‫الجامعة‪ ،‬مجلة «املسلم املعارص»‪ ،‬بريوت ‪ ،979‬وكذلك دراسته اإلسالم ووجوديَّة سارتر‪،‬‬
‫العدد األول من مجلَّة «الجمع َّية الفلسف َّية املرصيَّة»‪ ،‬القاهرة‪.1993 ،‬‬
‫ ‪19.‬التفتازاين‪ :‬ابن طفيل وأثره عىل الغرب‪ .‬كرى ابن طفيل يف كتاب تدريس الفلسفة والبحث‬
‫الفلسفي يف الوطن العريب‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫ ‪20.‬التفتازاين‪ :‬دراسات يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ ،‬مكتبة القاهرة الحديثة‪ ،‬القاهرة‪.1957 ،‬‬

‫‪275‬‬
‫المحور‬

‫ن‬ ‫ف‬
‫للمع�‬ ‫ي� سبيل منطق‬
‫ف‬ ‫ُ‬
‫منطق اللغة ي� مشتغالتها الداللية‬
‫روب� مارتان ي ِ‬
‫ي‬
‫َّ‬
‫ديانا حدارة‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬
‫روبير مارتان ُي ِ‬
‫منطق اللغة في مشتغالتها الداللية‬

‫َّ‬
‫ديانا حدارة‬
‫ف‬
‫باحثة وأستاذة ي� قسم الفلسفة ـ الجامعة اللبنانية‬

‫يف كتابه «يف سبيل منطق للمعنى»[[[‪ ،‬بطبعته الثانية التي صدرت‬
‫الفرنيس وأستاذ الِّلسانيَّات‬
‫ُّ‬ ‫ُّلغوي‬
‫ُّ‬ ‫عام ‪ ،1992‬أراد روبري مارتان‪ ،‬ال‬
‫العا َّمة والُّلغويَّات الفرنسيَّة يف جامعة «السوربون» بني عامي ‪-1979‬‬
‫‪ ،1997‬استئناف ما ُس ِكت عنه يف الطبعة األوىل والصادرة عام ‪.1983‬‬
‫الشاق يف كثري من األحيان‪ ،‬تكمن أهمية هذا‬ ‫ِّ‬ ‫ورغم تقن َّيته وطابعه‬
‫الكتاب يف أنَّه استطاع بطبيعته املقيَّدة أن يكون مرج ًعا لجمهور‬
‫املتخصصني والباحثني الشباب يف علم الُّلغة‪ ،‬فالقضايا امل ُثارة‬ ‫ِّ‬
‫متس عمق اآلل َّيات الدالل َّية‪ .‬وقد ترجم إىل العرب َّية ضمن خطَّة‬‫ُّ‬ ‫فيه‬
‫عمل بحث َّية تتمثَّل يف تعريب نصوص تأسيس َّية يف مختلف مجاالت‬
‫املعرفة الِّلسانيَّة الحديثة‪ ،‬مع ما يتَّصل بها من قضايا مثل التكلُّس‬

‫[[[ ‪« -‬يف سبيل منطق للمعنى»‪ :‬املؤلِّف‪ :‬روبري مارتان‪.‬‬


‫ترجمة وتقديم‪ :‬الط ّيب البكّوش وصالح املاجري‪.‬‬
‫صادر عن‪ :‬املنظَّمة العرب َّية للرتجمة‪ .‬توزيع‪ :‬مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪.‬‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬

‫والِّلسانيَّات‪ ،‬وهي قضايا ما زال االهتامم بها محدو ًدا يف العربيَّة لحداثة االشتغال بها يف الِّلسانيَّات‬
‫العا َّمة‪.‬‬
‫البرشي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أسس التواصل‬ ‫تكمن مساهمة مارتان األساس َّية بعلم الُّلغة يف رغبته بإعادة التفكري يف ُ‬
‫تحلياًل مع َّمقًا للنظريَّات‬
‫ً‬ ‫ٌّلغوي‪ .‬وهو يف كتابه هذا يق ِّدم‬
‫ّ‬ ‫من خالل تح ِّدي املفاهيم التقليديَّة للمعنى ال‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫والسياق يف إنشاء املعنى‪ .‬كام‬ ‫ماَّم يربز أهم َّية الدقَّة والوضوح ِّ‬
‫السيميائ َّية والدالل َّية والرباغامت َّية‪َّ ،‬‬
‫يستكشف األبعاد األخالق َّية والسياس َّية للُّغة‪ ،‬ويسلِّط الضوء عىل ق َّوة الكلامت وقدرتها عىل التأثري‬
‫جع الق َّراء عىل تب ّني منطق للمعنى‪،‬‬ ‫يف األفراد واملجتمعات‪ .‬ومن خالل نهج مدروس ودقيق‪ ،‬يش ِّ‬
‫األسايس للُّغة يف بناء فهمنا للعامل‪ .‬كام يفتح عمله‬‫ِّ‬ ‫وتجاوز الحدود التقليديَّة لالتصال‪ ،‬وفهم الدور‬
‫الرائد آفاقًا جديدة للباحثني واملهتمني بقوة الُّلغة البرشيَّة وتعقيداتها‪.‬‬
‫إ َّن الفكرة املركزيَّة التي تقول بأ َّن مفهوم الحقيقة‪ ،‬مثلام هو يف املنطق‪ ،‬يُع ُّد أحد مفاتيح االشتغال‬
‫التخيّل‬
‫ّ‬ ‫ورمَّبا أه َّمها‪ ،‬هذه الفكرة ال تفرض نفسها للوهلة األوىل‪ ،‬حتى أ َّن يف اإلمكان‬ ‫يل‪َّ ،‬‬
‫الدال ِّ‬
‫عنها مبدئ ًّيا‪ ،‬وهو ما يفعله أغلب الِّلسانيني‪ .‬ورغم ذلك فإ َّن لها فضل تأسيس دالل َّية تخضع أكرث‬
‫من غريها ملقتضيات الحساب والشَّ ْكلَ َنة‪ .‬يضاف إىل ذلك أ َّن عد ًدا من اآلل َّيات الِّلسان َّية توضح‬
‫املساَّمة بـ«ظروف الحقيقة»‪ ،‬وهو ما يسعى الكتاب للربهنة عليه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫باملقارنة‬
‫األرسطي بني النطق وواقع األشياء‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف كتاب «يف سبيل منطق للمعنى»‪ ،‬ال يتعلّق األمر بالتناظر‬
‫ين أن يكون «لفيظٌ» ما موضوعيًّا‬‫كام يؤكِّد روبري مارتان نفسه يف املق ِّدمة‪ .‬فبحسبه‪ ،‬ال يه ُّم اللسا َّ‬
‫باطاًل‪ ،‬أو أن يكون املتكلِّم يقول الحقيقة‪ ،‬أم يخطئ‪ ،‬أم حتى يكذب‪ .‬فالحقيقة هنا من نوع‬ ‫ً‬ ‫حقًّا أم‬
‫كل لفيظ يحمل يحمله‬ ‫آخر؛ وتتمثّل يف «الحقائق َّية» ويف «ظروف الحقيقة»‪ .‬والحقائق َّية هي أ َّن َّ‬
‫الحق‪ .‬وصحيح أ َّن يف إمكانه تعديل قوله‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نشئه عىل عاتقه بطبيعته‪ ،‬فاملتكلِّم يزعم أنَّه يقول‬ ‫ُم ِ‬
‫وات ّخاذ جميع االحتياطات التي يراها الزمة‪ ،‬لكنه بالرضورة مسؤول عن ذلك‪ .‬فتأكيد يشء ما يعني‪،‬‬
‫إاَّل إذا كان‬
‫حق‪ .‬أ َّما ظروف الحقيقة‪ ،‬فتفرض أنَّه ليس للفيظ ما معنى َّ‬ ‫وفق آليَّة الحقائقيَّة‪ ،‬إنتاج لفظ ّ‬
‫ممك ًنا أن نقول ما يجب أن يكون حقًّا حتى يكون اللفيظ ذاته حقًّا‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ليس معنى لفيظ‬
‫ما إاَّلَّ مجموع الظروف التي يجب أن تتحقَّق حتّى يكون حقًّا‪.‬‬
‫مخلصا للدالالت الرشط َّية التي من بينها الحساب‬
‫ً‬ ‫ظل مارتان‬
‫يف الطبعة الثانية من هذا الكتاب‪َّ ،‬‬
‫رشك فحص الظواهر الظرف َّية املرتبطة‬ ‫ِ‬ ‫يحتل مكانًا مركزيًّا‪ ،‬متج ِّن ًبا الوقوع يف‬
‫ُّ‬ ‫املنطقي الذي‬
‫ُّ‬
‫خصوصا بالعبارات التي ال تفلت‪ ،‬كام نعلم‪ ،‬من املناهج التخاطب َّية‪ .‬ومل مينع هذا اإلخالص‬ ‫ً‬
‫يئ للصواب‬‫االهتامم بصقل املفاهيم األساسيَّة‪ ،‬تلك التي تجعل من املمكن تجاوز املنطق الثنا ِّ‬
‫والخطأ‪ ،‬والذي ت َّم التع ُّرف إىل رسعته الكبرية ج ًّدا‪ ،‬يف مواجهة الحقائق الُّلغويَّة‪ ،‬من االستنباط‪،‬‬

‫‪279‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫التضا ِّد وإعادة الصياغة‪ .‬أ َّما املفهوم الرئيس فهو مفهوم كون املعتقد امل ُع َّرف «محيط املجموع‬
‫غري املح َّدد من األقوال التي يعتربها املتكلِّم‪ ،‬يف الوقت الذي فيه حقًا أو التي يريد أن ت ُعتمد‬
‫كذلك» (ص ‪ ،)52‬لكنه يجعل املوضوع من املك ِّمالت املختلفة‪.‬‬
‫يبنّي مارتان بوضوح شديد‬ ‫يف تناول الصياغة التي ت َّم االحتفاظ بها بالفعل يف منطق االعتقاد‪ّ ،‬‬
‫العوامل املحتملة يف ما يتعلَّق بعامل اإلميان‪ :‬إنَّه مييز العوامل املحتملة التي تتم َّيز بحقيقة أنَّها ال‬
‫تحتوي عىل افرتاض متناقض مع عامل ما هو موجود‪ ،‬عىل الجانب اآلخر‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يحفظ‬
‫املفهوم القديم للكون املضا ِّد‪ ،‬والذي يُفضَّ ل اآلن أن يكون للواقع املضا ِّد (والذي له‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املخصصة لبعض االستعامالت الرشطيَّة‪ .‬كام ت َّم أيضً ا‬ ‫َّ‬ ‫املثال‪ ،‬تأثري عىل الصفحات ‪،)233-226‬‬
‫االفرتايض الذي يُع َّرف بأنَّه مجموعة القضايا التي يستطيع املتح ِّدث يف‬
‫ِّ‬ ‫تقديم متييز بني الكون‬
‫يل الذي يُع َّرف بأنَّه مجموعة من االفرتاضات التي‬ ‫لحظة مع َّينة تحديد رشوط الحقيقة‪ ،‬والكون الفع ِّ‬
‫يكون فيها املتح ِّدث‪ ،‬يف لحظة معينة‪ ،‬يف وضع إسناد قيمة حقيق َّية بشكل ف َّعال‪ .‬هذا التمييز يسمح‬
‫االفرتايض‪ ،‬أو‬
‫ِّ‬ ‫بتصنيف مثري لالهتامم‪ ،‬العبارات املنحرفة‪ ،‬إ َّما عن طريق عدم االنتامء إىل الكون‬
‫يل‪.‬‬
‫عن طريق عدم االنتامء إىل الكون الفع ّ‬
‫الرضوري تعديل‬
‫ِّ‬ ‫الحيوي بحيث يكون من‬‫ِّ‬ ‫يل يف مرحلة من االنفعال‬‫لقد دخل التأ ُّمل الدال ُّ‬
‫ما يكتبه املرء باستمرار «‪ ،‬كام يؤكد روبرت مارتان يف ختام عمله الجديد (ص ‪ .)247‬ويف هذه‬
‫أي وقت مىض إىل األعامل التي تق ِّدم نظرة عا َّمة‪.‬‬ ‫املرحلة من تط ُّور العلم‪ ،‬نحن بحاجة أكرث من ِّ‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإ َّن األمل كبري بأنَّنا نقرتب من قراءة «منطق املعنى»‪ .‬لن نخيب! إنه امتداد لالستدالل‬
‫والتضا ِّد وإعادة الصياغة‪ ،‬الذي نُرش عام ‪ ،1976‬وقام املؤلِّف أيضً ا بدمج بعض أعامله الحديثة يف‬
‫التقدميي‪ .‬قد يكون هذا النهج جعل الكتاب غري متجانس إىل ح ٍّد ما‪ ،‬لك َّن االنعكاسات‬ ‫ّ‬ ‫عرضه‬
‫املختلفة مرتبطة بعضها ببعض متا ًما من خالل عدد محدود من األفكار األساس َّية التي تكمن وراء‬
‫النص بأكمله‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬أصبحت النتيجة مساهمة أصيلة وأساس َّية يف التط ُّور الرسيع للنظريَّة‬ ‫ِّ‬
‫الدالليَّة‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ َّن فكرة صورة الكون‪ ،‬التي ت َّم تقدميها يف الطبعة األوىل عن طريق الكون‬
‫املغاير والكون املضا ِّد‪ ،‬تكتسب يف الثانية نطاقًا معرف ًّيا أكرب؛ مل يعد مناس ًبا لتفسري ظواهر الخطاب‬
‫النسبي فحسب‪ ،‬ولكن أيضً ا لرشح مفارقة الخيال‬ ‫ِّ‬ ‫أو الترصيحات التي ت َّم اإلبالغ عنها ذات الوسيط‬
‫الرسدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫يناقش مارتان يف هذ الكتاب مفاهيم السيميائ َّية فيدرس العالمات والرموز‪ ،‬ويبحث يف كيف َّية‬
‫ُّلغوي‪ ،‬وال س َّيام‬
‫ِّ‬ ‫متكني العالمات الُّلغويَّة من بناء املعنى‪ .‬ث َّم يدرس املناهج املختلفة للمعنى ال‬
‫النظريَّات الدالليَّة والرباغامتيَّة‪ .‬ويستكشف كيف تكتسب الكلامت والعبارات معنى يف سياق‬

‫‪280‬‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬

‫الحقيقي من‬
‫ِّ‬ ‫معنَّي‪ .‬كام يحاول تبيان كيفيَّة ارتباط الكلامت والتعابري الُّلغويَّة باألشياء يف العامل‬
‫َّ‬
‫خالل نظريَّات املرجع‪ ،‬مبا يف ذلك نظريَّة األوصاف ونظريَّة العوامل املمكنة‪ .‬وهو يتناول مسألة‬
‫تفسري الُّلغة وكيف تؤث ِّر العوامل املختلفة مثل السياق والثقافة ونوايا املتح ِّدث يف فهمنا لل َّرسائل‬
‫ُّلغوي فحسب‪ ،‬وإمَّنَّ ا أيضً ا عىل‬
‫ِّ‬ ‫الُّلغويَّة‪ .‬ث َّم يناقش كيف أ َّن معنى الكالم ال يعتمد عىل محتواه ال‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫نيَّته التواصليَّة وتأثريه يف املحاورين‪.‬‬

‫فصول الكتاب‪:‬‬
‫يتك ّون الكتاب من ستة فصول‪ ،‬تعترب أجزاء ع َّدة منها نسخًا مح َّررة من املقاالت التي يرجع‬
‫تاريخها إىل عا َمي ‪ 1980‬و ‪ .1981‬ورغم أنَّه يعترب دالالت الُّلغة الطبيع َّية من منظور املفاهيم‬
‫الفلسف َّية الكالسيك َّية‪ ،‬وال س َّيام فكرة «الحقيقة» ‪ ،‬ليس من الواضح عىل اإلطالق أنَّه يزيد معرفتنا‬
‫يئ التكافؤ‪.‬‬
‫إىل النظام الذي يربط الجمل بتفسرياتها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن مارتان مل يتو ّرط يف منطق ثنا ِّ‬
‫من هنا كانت اإلشكاليَّة الرئيسة للكتاب هي إظهار أ َّن الدالليَّة‪ ،‬وتلك االفرتاضات التحليليَّة‪ ،‬وتلك‬
‫االفرتاضات املسبقة‪ ،‬واألوضاع الرشط َّية واملقوالت الرشط َّية واملح َّددة وغري املح َّددة‪ ،‬ال ميكن‬
‫كاف ضمن الفصل الصارم بني الصواب والخطأ‪ .‬فاملؤلِّف يط ِّور تحليالته من‬ ‫توسيعها بشكل ٍ‬
‫منظور الحقيقة الغامضة‪ ،‬والعوامل واألكوان املحتملة من االعتقاد‪.‬‬
‫َّ‬
‫أساسية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الداللية و احلقيقة ‪ -‬مفاهيم‬ ‫الفصل َّ‬
‫األول‪:‬‬
‫املفاهيمي للنموذج‪ ،‬يريد مارتن‪ ،‬يف البداية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف الفصل األ َّول الذي زاد حجمه بسبب التنقيح‬
‫تربير الفكرة القائلة بأ َّن دالالت الُّلغة الطبيع َّية يجب أن تشمل مفهوم الحقيقة‪ ،‬فيشري إىل أ َّن املعنى‬
‫والحقيقة ليسا مفهومني منفصلني‪ ،‬أل َّن الجملة التي ليس لها معنى ليس لها قيمة أيضً ا‪ .‬عالوة عىل‬
‫ذلك‪ ،‬فهو يعترب أ َّن هذه املفاهيم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬مبا أنَّه يتب َّنى األطروحة الفلسف َّية الكالسيك َّية‬
‫حا‬
‫التي تح ِّدد معنى «أ» يشري البيان «ج» إىل تحديد الرشوط التي ميكن أن يكون «ج» مبوجبها صحي ً‬
‫أو مزيَّفًا‪ .‬وبرصف النظر عن صعوبة هذا العمل كام أكَّده املؤلِّف نفسه‪ ،‬هناك العديد من الُّلغويني‬
‫التوضيحي ملفهوم الحقيقة نفسها‪ .‬وبشكل عام‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مبن فيهم هورنشتاين (‪ ،)1983‬شكَّكوا يف الدور‬
‫يفرِّس قدرة املتكلِّمني عىل‬ ‫يخربنا مفهوم الحقيقة‪ ،‬القليل ج ًدا عن خصائص الُّلغة الطبيع َّية وال ِّ‬
‫كل البعد عن الوضوح‪ .‬يف املقابل‪،‬‬ ‫تفسري جمل جديدة باستمرار‪ .‬ناهيك بأ َّن مفهوم الحقيقة بعيد َّ‬
‫يرفض املؤلِّف مرشوع دالالت رشط َّية حقيقية لصالح دالالت حقيق َّية عالئق َّية من شأنها أن تهدف‪،‬‬
‫بطريقة أكرث واقع َّية‪ ،‬إىل تحديد فئة الجمل االستدالل َّية املرتبطة لغويًّا بكل جملة «ج» من الُّلغة‬
‫(عىل سبيل املثال‪ ،‬االستدالالت‪ ،‬إعادة الصياغة‪ ،‬املعكوسة أو املقلوبة)‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن وجهة‬

‫‪281‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫نظره هذه ال تزال مرتبطة مبفهوم الحقيقة‪ ،‬طاملا أنَّه يح ِّدد الدالالت العالئقيَّة الحقيقيَّة عىل أنَّها‬
‫بغض النظر عن‬ ‫ِّ‬ ‫دالالت العالقات التحليليَّة بني الجمل‪ ،‬أي العالقات التي تبقى دامئًا صحيحة‬
‫أي وقت‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يسلِّط مارتان الضوء عىل حقيقة أ َّن هذه الحقيقة نسب َّية‪ ،‬وأنَّها‬ ‫املتح ِّدث ويف ِّ‬
‫مرتبطة بالعوامل املمكنة (م)‪ ،‬وهذا ينطبق عىل عامل االعتقاد عند املتكلِّم‪ .‬لذلك‪ ،‬يت ُّم تعريف‬
‫يل «ج‪-‬أ» عىل النحو التايل‪ )1( :‬ح ‪ ،#‬ح م‪ ،‬ج أ‪ .‬إذًا ‪ / l‬هي مجموعة القضايا‪،‬‬ ‫االقرتاح التحلي ِّ‬
‫رصيحة أو ضمنيَّة‪ ،‬التي يرى املتح ِّدث أنَّها صحيحة يف الوقت الذي يعرِّبِّ فيه عن نفسه ض َّد ‪-‬‬
‫الكون‪ ،‬بأنَّها مجموعة االفرتاضات التي‪ ،‬رغم كونها خاطئة يف لحظة النطق‪ ،‬ميكن أن تكون يف‬
‫واقعي مخالف‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫كون‬
‫يؤسس هذا الفصل املفاهيم األساس َّية للدالل َّية الواقع َّية‪ ،‬يُظهر أ َّن الحقيقة يف الُّلغة‬
‫وبينام ِّ‬
‫الطبيع َّية‪ ،‬ليست مطلقة أب ًدا‪ .‬ويختمه املؤلِّف بأ َّن العوامل املمكنة يجب إخضاعها للمحيطات‬
‫ح ِفظ يف العوامل املمكنة ال يكون كذلك بالرضورة يف جميع املحيطات‪ .‬وتربز‬ ‫املعتقديَّة‪ ،‬فام ُ‬
‫املعتقدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حينئذ ثالث قيم هي‪ :‬الحق والباطل وعدم االنتامء إىل املحيط‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫التحليلية والتعريف اللساين‪:‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬ظروف احلقيقة‬
‫يدرس روبري مارتان يف هذا الفصل مسائل تع ُّدد املعاين‪ ،‬واألصول الدالل َّية‪ ،‬والعالقة التحليل َّية‪،‬‬
‫فيق ِّدم تصنيفًا لتعريف األشكال التي ميكن أن تكون مفيدة ملؤلِّف املعاجم‪ ،‬ومي ّيز بني شكلني‬
‫عا َّمني من التعريفات‪ :‬األول ‪ paraphrastique‬الصوغي‪ ،‬أي إعادة الصياغة‪ ،‬حيث ميكن استبدال‬
‫التعريف للمصطلح املح َّدد (عىل سبيل املثال أثار‪ :‬اإلثارة بشتّى املضايقات والطرق االستفزازيَّة)‬
‫ص(‪ ،)72‬أ َّما الشكل الثاين من التعريفات‪ ،‬فيس َّمى الو َرلسانية‪ ،‬وهو ال يسمح باالستبدال‪ ،‬ولكن‬
‫يخرب عن عالقات املصطلح املح َّدد باملصطلحات األخرى يف الُّلغة (عىل سبيل املثال يأيت‪:‬‬
‫ميثِّل حركة تنتهي يف املكان الذي توجد فيه) ص(‪.)73‬‬
‫ين‪ ،‬بعضها كناية‪ ،‬والبعض‬
‫ُّلغوي الو َرلسا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫مي ّيز املؤلِّف أيضً ا أنوا ًعا فرع َّية تندرج تحت التعريف ال‬
‫فرعي‪ ،‬إضافة إىل محتويات‬‫ّ‬ ‫كل نوع‬ ‫تقريبي ويعرض أشكال ِّ‬ ‫ّ‬ ‫مجازي‪ ،‬والبعض اآلخر‬‫ّ‬ ‫اآلخر‬
‫التعريف‪ ،‬والتي تختلف بشكل كبري من متح ّدث إىل آخر‪ .‬إنَّه تن ّوع تعريفات األشكال واملحتويات‬
‫الخاصة بالُّلغة الطبيعيَّة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تفرّس غموض العالقة التحليليَّة‬ ‫التي من شأنها أن ّ‬
‫ث َّم يناقش املؤلِّف تع ُّدد املعاين من حيث «العالقات املنطق َّية التي تربط تعريفات الكلمة نفسها‬
‫املشتق من الدالليَّة‬
‫ّ‬ ‫« (ص‪ ،)74 .‬ويح ِّدد أنواعها املختلفة من حيث إضافة وطرح مفهوم «سيم»‪، 2‬‬
‫ماَّم يؤث ِّر يف األسامء والعنارص الَّلفظ َّية‪ .‬وميكن أن‬
‫البنيويَّة‪ .‬وتتاميز أنواع مختلفة من تع ُّدد املعاين َّ‬

‫‪282‬‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬

‫َّلفظي يف «سيم” ‪ ،3‬كام هو الحال مع تع ُّدد املعاين املرتبط باألسامء‪ ،‬ولكن‬


‫ّ‬ ‫يؤث ِّر تع ُّدد املعاين ال‬
‫يل‬
‫املنطقي الدال ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أيضً ا «الفاعلني» أو الحاالت العميقة‪ ،‬التي يوضحها املؤلِّف من خالل املخطَّط‬
‫للبنية العميقة التالية‪(:‬سيم ‪ 2‬وكيل) – (ج موضوع) املرسل إليه‪.‬‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن تع ُّدد املعاين يؤث ِّر يف موضوع الفعل الذي يجب تعلّمه‪ ،‬يف األمثلة «عل ِّم‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫شخصا ما رقصة جديد»‪ ،‬ولكن يف «تعلُّم الرقص وتعلَّم الرقصة»‪ ،‬يتم اختيار‬ ‫ً‬ ‫ما الرقص وعلِّم‬
‫نحوي‪ .‬ورغم أنَّه من السهل فهم الحدس وراء هذا التحليل‪ ،‬ال يح ِّدد املؤلِّف‬
‫ّ‬ ‫املتلقّي كموضوع‬
‫بأي معنى يجب فهمها‪ ،‬هل عىل أنَّها «بنية عميقة» و»حاالت مج َّردة»!‪ ،‬كام مل يح ِّدد القواعد‬ ‫ِّ‬
‫واملبادئ املعنيَّة‪ ،‬لذلك من الصعب أن نرى بوضوح ما هو مقرتح‪.‬‬
‫ث َّم يتح َّول النقاش إىل البدائ َّية الدالل َّية‪ ،‬والتي ستجعل من املمكن إضفاء البديه َّية عىل ال ُّنظم‬
‫املعجميَّة‪ ،‬وتج ُّنب االستدارة التي تنطوي عليها حقيقة تعريف املصطلحات من قبل اآلخرين‪.‬‬
‫ويذكِّر املؤلِّف بالصعوبات املرتبطة بتحديد البدائ َّيات‪ ،‬ويقرتح اعتبارها عمل َّيات كون َّية من املمكن‬
‫بداًل من البدائ َّيات نفسها‪ .‬وتشكِّل هذه املعاجم العامل َّية جز ًءا من‬
‫عزلها (مثل التحلّل وإعادة البناء) ً‬
‫يل ‪ ،logico-semantic‬وستجعل من املمكن توليد املعجم بأكمله‪.‬‬ ‫املنطق الدال ِّ‬
‫يف نهاية هذا الفصل‪ ،‬يؤكِّد املؤلِّف الصعوبات املتعلِّقة بأنظمة التعريفات لغموض الُّلغة‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬قد يتفاجأ املرء بعدم القيام بذلك العمل عىل الدالالت املعجم َّية التي ت َّم تطويرها‬
‫التوليدي (مثل ‪Katz and Fodor 1963، Katz and Postal1964، Jackendoff‬‬ ‫ِّ‬ ‫النحوي‬
‫ِّ‬ ‫يف اإلطار‬
‫‪ 1972‬و ‪ 1976‬و ‪ )1983‬التي تتعلّق بالبدائيَّات والخصائص البينيَّة للتعريفات‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الفصل الثالث‪ :‬احلق يف العوالم املمكنة ويف محيطات املعتقد‪:‬‬
‫املخصص للعوامل املمكنة ومحيطات املعتقد‪ ،‬عىل املع َّدل بوصفه فرض َّية‬ ‫َّ‬ ‫يركز هذا الفصل‬
‫عمل يف دالل َّية عالقات الحقيقة ينتمي إىل املركّبة الدالل َّية املنطق َّية للُّغة التي يكون لبنيتها‬
‫اإلجامل َّية الشكل التايل‪ :‬م= (ع أ ب ‪( .)...‬ص ‪.)123‬‬
‫املنطقي‬
‫َّ‬ ‫هناك أنواع ع َّدة من املشغِّالت ت ُنشئ م‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن عامل النطق ع أ «يُصلح الفضاء‬
‫ويتجىَّل من خالل النامذج هنا‪ ،‬اآلن‪ ،‬أنا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الذي تعمل فيه املك ِّونات األخرى للمح ِّول» (ص ‪.)123‬‬
‫امل ُك ِّمل (إذا‪ ،‬ذلك‪ )... ،‬هو م وظيفته «تعليق قيمة الحقيقة للعرض ج الذي يق ِّدمه‪ .‬يت ُّم تحديد قيمة‬
‫ج بالكامل بواسطة دالالت عنرص اإلدخال (فعل أو ارتباط) «(ص ​​‪ .)127‬يتعلق ُمع ِّدل الصيغة –‬
‫والزمن بالعالقة ر‪ ،‬واملشغل بإحدى الحجج‪ ،‬وظروف النطق (عىل سبيل املثال ‪ ،‬برصاحة ‪ ،‬حقًا)‬
‫هي أيضً ا م‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫الفرنيس الذي يستخدم املفاهيم م و‬


‫ِّ‬ ‫تحلياًل للرشط واملستقبل والرشط‬ ‫ً‬ ‫يق ِّدم املؤلِّف بعد ذلك‬
‫‪ / 1 °‬و ‪ #‬املعرفة يف الفصل األول‪ .‬وهو ينتقد أ َّواًلً تحليل غوستاف غيوم ‪ G. Guillaume‬الذي‬
‫يوصف الرشط من حيث «ممكن» ‪ ،‬ث َّم يق ِّدم تص ُّو ًرا لهذا الوضع حيث تتدخَّل فكرة العامل املمكن‬
‫الرشطي هو الوضع الذي يشري إىل االنتامء ليس إىل عامل م‪.‬ق‪ .‬ملا هو‬ ‫ّ‬ ‫بداًلً من ذلك‪« :‬الرشط‬
‫موجود‪ ،‬ولكن إىل العوامل املمكنة ‹(ص ‪ .)130‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬يالحظ املؤلِّف أ َّن فكرة الكون‬
‫ولعل التحليل الذي‬ ‫ّ‬ ‫املضا ّد ‪ #‬تجعل من املمكن تحديد معنى العديد من االستخدامات للرشط‪.‬‬
‫يق ِّدمه للمستقبل واملرشوط ‪ ،‬باإلضافة إىل مناشدته ملفاهيم العوامل املمكنة وأكوان االعتقاد‪،‬‬
‫يقوم عىل فكرة «غيوم» عن «الحرك َّية» (نوع من االستمراريَّة مع القطب َّية)‪ .‬كذلك يؤكِّد أ َّن الوظائف‬
‫املختلفة للمستقبل‪ ،‬الوظيفة العامليَّة‪ ،‬سأعرتف بأن ‪ ،...‬الوظيفة الزمنيَّة‪ ،‬يف عرش دقائق ستكون‬
‫الساعة الواحدة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تأيت من الحرك َّية التي تنتقل من م إىل م ‪ .0‬عالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫فإ َّن االستخدامات املختلفة للرشط ال تندرج تحت ترتيب اليقني‪ ،‬بل تندرج تحت نظام التخمني‪.‬‬
‫الرشطي والجمع بني‬
‫ّ‬ ‫الرشطي‪ ،‬و م‬
‫ّ‬ ‫هنا مرة أخرى‪ ،‬مي ّيز املؤلِّف بني االستخدامات املختلفة‪ :‬ج ج‬
‫الرشطي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرشطي ‪ / l °‬و م‬
‫ّ‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫الضبابي�ة األكرث أو األقل حقا‪:‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬الدلولة‬
‫يف هذا الفصل‪ ،‬يعتمد املؤلِّف م َّرة أخرى عىل فكرة ‪ Guillaume‬عن الحركيَّة‪ ،‬والتي يربطها‬
‫مبفاهيم من املنطق والبنيويَّة‪ .‬وهو يط ِّور فكرة أ َّن دالالت املح ّددات الفرنس َّية ميكن متييزها من‬
‫حيث التناقضات املنفصلة والدالالت الغامضة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن املوا َّد غري املح ّددة‪ ،‬وال سيام‬
‫املا َّدة األوىل‪ ،‬تفرتض مسبقًا أ مجموعة من العنارص مسبقة الصنع والتي يت ُّم تنفيذ عمليات اإلسناد‬
‫واالستخراج املختلفة عليها ‪ ،‬والتي تم جمعها أدناه‪:‬‬
‫يئ‪.‬‬
‫يئ غري العشوا ّ‬
‫تخصيص االستخراج العشوا ّ‬
‫غري مح َّدد‪ ،‬غري مح َّدد محتمل‪ ،‬غري مح َّدد‪.‬‬
‫هذا التصنيف يجعل من املمكن التمييز بني استخدامات ع َّدة لواحد‪ :‬هذا كتاب (اإلسناد)؛‬
‫اشرتيت كتابًا (استخراج)؛ الرسوم التوضيح َّية مه َّمة يف كتاب األطفال (غري مح َّدد)؛ يريد بيري أن‬
‫يتزوج امرأة برتغال َّية (محتملة) و ‪ //‬تز َّوج من امرأة برتغال َّية أعرفها (غري محدد بدقة) ‪ //‬تز َّوجت من‬
‫امرأة برتغاليَّة ال أعرفها (انتهت ألجل غري مس َّمى غري مح َّددة)‪.‬‬
‫بينام يعمل أ عىل كائنات سابقة البناء‪ ،‬يبني كائ ًنا فري ًدا ويعرض التناقضات التالية‪:‬‬
‫التمدُّ د املكثَّف عا ّم غري عا ّم‪ :‬هذا التصنيف يجعل من املمكن التمييز بني الجانب املكثَّف ‪5‬‬

‫‪284‬‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬

‫التوسع عا ًّما (الدب هو حيوان‬ ‫ُّ‬ ‫التوسعي ‪ :6‬ميكن أن يكون‬‫ُّ‬ ‫بالنسبة إىل مفهوم (‪ //‬مييش)‪ ،‬للوجه‬
‫ثديي) أو مح َّد ًدا (رئيس الجامعة مييش يف حديقة)‪ .‬ث َّم يؤكِّد املؤلِّف أ َّن العمليَّات التي يطلقها‬
‫ريا حلمه‪ ،‬فقد تز َّوج من امرأة برتغال َّية»‪ ،‬باإلضافة‬
‫النموذج هي سلسلة متَّصلة‪« .‬وهكذا‪ ،‬أدرك زيد أخ ً‬
‫إىل قراءات مح َّددة وغري مح َّددة وغري مح َّددة‪ ،‬قراءة محتملة‪ ،‬أل َّن هذه الجملة تفرتض مسبقًا أ َّن‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫زي ًدا أراد لفرتة طويلة أن يتز َّوج امرأة برتغاليَّة من دون أن يعرفها‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬تكون الحدود غري‬
‫واضحة بني املكثَّف والعام وغري املح َّدد يف استخدامات معيَّنة‪.‬‬
‫يبنِّيِّ هذا الفصل بوضوح أ َّن منطق الُّلغة الطبيع َّية ليس منطق الصواب والخطأ‪ ،‬ولك َّنه باألحرى‬
‫يئ التكافؤ‪.‬‬‫جا أفضل لالستعارة من املنطق الثنا ِّ‬
‫منطق غامض‪ ،‬والذي يق ِّدم عالوة عىل ذلك‪ ،‬نه ً‬
‫َّ‬
‫التداولية‪ :‬حقيقة الكون‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الداللية إىل‬ ‫الفصل اخلامس ‪ :‬من‬
‫يب واملك ِّون الرباغاميتُّ‬‫يتناول هذا الفصل بعض حقائق التفسري التي يدعمها املك ِّون الخطا ُّ‬
‫يب فهو مكان‬ ‫الذي يشكِّل‪ ،‬إىل جانب مك ِّون الجملة‪ ،‬النموذج املعتمد بأكمله‪ .‬أ َّما املك ِّون الخطا ُّ‬
‫يت هو مكان الحقيقة والخطأ يف البيان‪ ،‬والذي يت ُّم تفسريه يف‬ ‫النيّص‪ ،‬واملك ِّون الرباغام ُّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫التامسك‬
‫يب‪ ،‬يتعامل املؤلِّف مع تحديد موضوع‬ ‫ما يتعلَّق مبعرفة الكون‪ .‬ومن أجل توضيح املك ِّون الخطا ِّ‬
‫املحيّل الذي‬
‫ّ ُّ‬ ‫السياقي‬
‫ُّ‬ ‫الكالم ومفهوم «املوضوع» (عىل عكس القافية) الذي يع ِّرفه بأنَّه االفرتاض‬
‫املحيّل‬
‫ّ َّ‬ ‫يئ أو نفي املك ِّون‪ .‬وهو يختار االفرتاض‬ ‫ت َّم الحصول عليه من خالل االستجواب الجز ِّ‬
‫السياقي كافرتاض مسبق أحد اآلثار التي تنقلها الجملة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن موضوع الجملة «التي انض َّم‬ ‫َّ‬
‫إليها زيد وصويف هذا الصباح» ميكن أن يكون اإلجابة عن السؤال الذي هو‪« :‬لقد انض َّم زيد إىل‬
‫يؤسس املؤلِّف العالقات بني مفهومي املوضوع و»املوضوع» التي‬ ‫شخص ما هذا الصباح»‪ .‬ث َّم ِّ‬
‫ترتك شيئًا مرغوبًا فيه‪.‬‬
‫إنَّه من قبيل املفارقة التاريخيَّة أن نؤكِّد‪ ،‬كام فعل املؤلِّف بعد اقتباس تشومسيك (‪ ،)1965‬أ َّن‬
‫سطحي أعمق «(ص ‪ .)260‬دعونا‬ ‫ٍّ‬ ‫«الحقائق املوضوع َّية هي حقائق سطح َّية أو تأيت من استغالل‬
‫نتذكَّر أنَّه يف إطار القواعد التوليديَّة الحال َّية (‪ Chomsky 1981 ، 1984‬و ‪،)Higginbotham 1983‬‬
‫النحوي‬
‫ِّ‬ ‫يل يف بنية عميقة أو يف بنية السطح‪ ،‬ولكن بشكل جيِّد من املستوى‬ ‫ال يت ُّم التفسري الدال ُّ‬
‫الاَّلحق للبنية السطحيَّة‪.‬‬
‫املنطقي َّ‬
‫ِّ‬ ‫للشكل‬
‫يل‪ ،‬يناقش مارتان فكرة فعل الكالم املوروثة من أعامل أوسنت وسريل‪،‬‬ ‫ولتوضيح املك ّون العم ِّ‬
‫فيدافع عن األطروحة القائلة بأ َّن براغامتيَّة البيان هي املكان الذي يت ُّم فيه تفسري البيان وإعادة‬
‫تفسريه‪ .‬وهو مي ِّيز بني براغامت َّية الجملة التي يع ِّرفها بأنَّها «التن ّبؤ بالكالم كعمل» (ص ‪،)270‬‬

‫‪285‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫خاص من خالل القوانني الخطابيَّة‬ ‫ٍّ‬ ‫والرباغامتيَّة الخطابيَّة حيث تت ُّم إعادة تفسري الكالم بشكل‬
‫مثل قواعد املحادثة لغريس‪ .‬هذا األخري يجعل من املمكن التنبُّؤ ببعض إعادة تفسري البيانات‪.‬‬
‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإ َّن بعض عنارص املعجم‪ ،‬وظروف النطق مثل الوصالت الواقع َّية والصادقة‪،‬‬
‫أو املوصالت الرباغامت َّية (مثل ولكن)‪ ،‬تساهم يف جعل جوانب مع َّينة من الرباغامت َّية للكالم قابلة‬
‫تظل غري متوقَّعة‪.‬‬
‫للتنبّؤ‪ ،‬مبا يف ذلك جوانب ع َّدة مرتبطة بحالة التنازل ُّ‬
‫يب‪ .‬ويؤكِّد املؤلِّف أنَّه‬
‫وعليه‪ ،‬يوضح هذا الفصل أ َّن تفسري الكالم يعتمد عىل املوقف الخطا ّ‬
‫ُّلغوي هو الحقيقة التي تنشأ من التطبيق الوحيد‬
‫ِّ‬ ‫يف دالالت العالقات الواقع َّية «ما يه ُّم يف نظر ال‬
‫للقواعد‪ ،‬أي قول الحقيقة التحليليَّة» (ص ‪ ، )245‬ولكن حقيقة الُّلغة الطبيعيَّة هي حقيقة مرتبطة‬
‫بالعوامل املمكنة وأكوان االعتقاد واملواقف الخطاب َّية‪ .‬وينتهي مارتان بذكر الحاجة إىل ربط‬
‫حقيقي» يف نظريَّة لغويَّة حيث «البناء‬
‫ّ‬ ‫مفهومي «صحيح إىل ح ٍّد ما» و «رمبا صحيح» بـ «بناء جملة‬
‫ٍّ‬
‫العميق هو قواعد النموذج» (ص ‪.)247‬‬
‫َّ‬
‫املفارقية‪:‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬من حقيقة الكون إىل احلقائق‬
‫يف هذا الفصل يتع َّمق روبري مارتان مبفهوم إعادة التفسري‪ ،‬الذي ت َّم تقدميه عام ‪ 1983‬يف الفصل‬
‫املوضعي (التي تؤ ّدي إىل تعديل املحتوى) وإعادة‬
‫ِّ‬ ‫تبنَّي أ َّن مفاهيم إعادة التفسري‬
‫الخامس‪ :‬ولقد َّ‬
‫(ماَّم يؤ ّدي إىل تعديل األفعال املنجزة‪ ،‬كام يحدث يف األفعال غري املبارشة)‪ ،‬غري‬ ‫الخطي َّ‬
‫ِّ‬ ‫التفسري‬
‫املنطقي‬
‫ِّ‬ ‫مناسبة لتفسري ظواهر السخرية والخيال والتي من أجلها يستخدم مفهوم إعادة التفسري‬
‫(ماَّم أ َّدى إىل تعديل قيم الحقيقة‪ ،‬وهو نفسه مرتبط بالتضمني يف عامل آخر من املعتقدات)‪ .‬يتعلَّق‬ ‫َّ‬
‫اإلثراء أيضً ا بالفصل الثاين الذي يتعامل مع الدالالت املعجم َّية‪ :‬تصنيف التعاريف املعجم َّية‬
‫ماَّم يجعل من املمكن‬ ‫النمطي‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اآلن يفسح املجال لتمييز جديد بني التعريف األدىن والتعريف‬
‫يل («الخصائص النمط َّية هي خصائص ت َّم التحقُّق منها بواسطة‬ ‫االنضامم إىل مفهوم النموذج األو ّ‬
‫معظم الكائنات التي تندرج تحت التعريف والتي يت ُّم التع ُّرف عليها عىل هذا النحو يف معظم عامل‬
‫املعتقدات‪ ،‬هناك أشياء منوذج َّية إىل ح ٍّد ما للفئة التي يح ِّددها التعريف‪ .‬تس َّمى هذه الكائنات‬
‫النموذج َّية «النامذج األول َّية»‪ :‬ص‪ )75 .‬بعي ًدا عن االنغالق عىل منهجه ومنوذجه للُّغة املعدن َّية‬
‫رغم ق َّوتها التفسرييَّة‪ ،‬من اآلن فصاع ًدا‪ ،‬يت ُّم االهتامم بها من خالل مفاهيم الحقائق نفسها املتعلِّقة‬
‫بدالالت املعجم‪ ،‬والدالالت النحويَّة‪ ،‬والدالالت املنطقيَّة ودالالت األرقام ‪ -‬مبا يف ذلك األخري‬
‫حتى ظاهرة القراءة والكتابة‪.‬‬
‫ال يتوقَّف مارتان عن مواجهة نهجه ومصطلحاته مبقاربات ومصطلحات أخرى‪ .‬ويشهد هذا‬
‫النظري املستم ِّر من خالل استحضار املفاهيم الخطابيَّة واملحادثة واملعرفيَّة‬
‫ِّ‬ ‫الفصل عىل االهتامم‬

‫‪286‬‬
‫في سبيل منطق للمعنى‬

‫ربر نجاحه بال ّ‬


‫شك‪ ،‬ربط أصالة الفرضيَّات وعملها‬ ‫أقل مزايا هذا العمل‪ ،‬الذي ي ِّ‬
‫للسخرية‪ .‬ليس من ِّ‬
‫النظري عن بعد‪ .‬من خالل هذا‪ ،‬وأيضً ا بفضل االهتامم الدائم باملثال الذي‬
‫ِّ‬ ‫بهذا االهتامم بالحوار‬
‫ت َّم العثور عليه ج ّي ًدا‪ ،‬والذي ت َّم التعليق عليه بشكل ممتع‪ ،‬ميكن أن يصبح هذا الكتاب خالصة‬
‫وافية للدالالت العا َّمة‪.‬‬
‫العدد الخامس ــ ‪1445‬هـ ــ ربيع ‪2023‬م‬

‫خالصة‪:‬‬
‫باختصار‪« ،‬يف سبيل منطق للمعنى» كتاب عن دالالت الُّلغة الطبيع َّية‪ ،‬ورغم أنَّه يشري إىل‬
‫مفاهيم املنطق‪ ،‬فهو يتميَّز بسهولة قراءته من قبل غري املنطقيني‪ .‬كام يعرض دراسات حالة تتَّسم‬
‫بالتفصيل الج ّيد وتؤ ّدي إىل التصنيفات‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬سيالحظ املرء الجهد الذي بُذل‬
‫الرسمي عىل دمج مفاهيم العامل املحتمل وكون املعتقد‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫لوصف الحقائق الدالل َّية وإضفاء الطابع‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال يزال العديد من التحليالت يعتمد عىل دالالت الحقيقة‪ ،‬والتي ال نعرف بعد دورها‬
‫فضاًل‬
‫ً‬ ‫النحوي جيّ ًدا‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬كان من املرغوب فيه أن تتغلُّب عىل أعامل التصنيف‪،‬‬ ‫َّ‬
‫املفاهيمي املوروث من الدالالت البنائ َّية‪ ،‬وأن تؤ ّدي إىل بيان املبادئ التي تح ِّدد‬
‫ِّ‬ ‫عن التقليد‬
‫يل املطروح‪.‬‬
‫املنطقي الدال ِّ‬
‫ِّ‬ ‫خصائص النموذج‬
‫ويجدر القول أ َّن ال َّرغبة امل ُع َرب عنها يف الخامتة يف ربط الدالالت بـ «بناء جملة حقيقي»‬
‫هي‪ ،‬من منظور مختلف متا ًما‪ ،‬يف طور التحقيق‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يلقي العمل األخري‪ ،‬يف القواعد‬
‫جح أن‬‫يل‪ ،‬الضوء عىل العالقة بني الشكل واملعنى‪ .‬من املر َّ‬
‫التوليديَّة عىل شكل التفسري الدال ِّ‬
‫تنتمي القواعد واملبادئ املقرتحة فيه إىل نظريَّة لغويَّة تفسرييَّة أكرث من غريها‪ .‬وبقدر ما يكون‬
‫تربيرها نحويًّا حرصيًّا‪ ،‬ال يتض َّمن مفاهيم لغويَّة مثل مفهوم الحقيقة الذي مل يت ّم بعد إظهار دوره‬
‫التوضيحي يف النظريَّة الُّلغويَّة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫«يف سبيل منطق للمعنى» يق ِّدم رؤية عامليَّة للنظريَّة الدالليَّة‪ ،‬إذ يشكِّل مساهمة مه َّمة للغاية‬
‫غني باملالحظات الدقيقة والتأ ُّمالت املوحية‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫يف التط ُّور الرسيع لهذا العلم‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫األقل‪ ،‬ذلك أ َّن الدراسات الدالل َّية يف الِّلسان َّيات العا َّمة الحديثة‬
‫ّ‬ ‫الرضوري قراءته م َّرتني عىل‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫خصوصا أ َّن‬
‫ً‬ ‫ال تخلو من الصعوبة‪ ،‬فتجريدها ونسبيَّتها يجعالن إخضاعها للشَّ ْكلَنة أم ًرا غري يسري‬
‫الذهني حديثة ج ًّدا يف الغرب‪ ،‬فيام تكاد تكون غائبة يف العامل‬ ‫ِّ‬ ‫أمثال هذه املباحث ذات الطابع‬
‫يب‪ .‬لذلك‪ ،‬فإ َّن تعريب هذا الكتاب شكّل تح ِّديًا كام يؤكِّد مرتجامه الط ّيب البكّوش وصالح‬ ‫العر ِّ‬
‫يب‪ ،‬ذلك أل َّن القيود‬
‫الفرنيس تختلف عن بنية املصطلح العر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫املاجري‪ .‬فالبنية الصيغ َّية للمصطلح‬
‫الصيغيَّة متبايتة بني لسان وآخر‪ .‬من هنا‪ ،‬عمد املرتجامن إىل تعريب مصطلحات تقابل مفاهيم‬
‫خاصة بالفرنسيَّة وال تحتاجها العربيَّة مبدئيًّا‪ ،‬وذلك ‪ -‬بحسب املرتجمني ‪ -‬لتسهيل فهمها عىل‬ ‫َّ‬

‫‪287‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫القارئ العريب‪ .‬ولكن بفضل أسلوب املؤلِّف والتزامه‪ ،‬يقرأ املرء الكتاب يف امل َّرة األوىل كأنَّه‬
‫قصة بوليسيَّة مليئة باأللغاز والعبارات املشفَّرة؛ وهو أمر جيّد‪ ،‬ألنَّه يسمح للقارئ بتكوين نظرة‬ ‫َّ‬
‫النص‬
‫َّ‬ ‫عا َّمة عن مزايا العمل‪ ،‬ويف القراءة الثانية‪ ،‬يكتشف ثراء التحليالت ودقَّتها‪ .‬وميكن اال ِّدعاء أ َّن‬
‫ريا يف جعل فكرة املؤلِّف مفهومة‬ ‫ماَّم يساعد كث ً‬
‫وتعليمي وميلء باملخطَّطات السينوبتيك َّية‪َّ ،‬‬
‫ٌّ‬ ‫واضح‬
‫حديس‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ويف رأيي‪ ،‬يذهب مارتان بعي ًدا يف استعامله للرموز األمر الذي يربك‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫القارئ أحيانًا ويلزمه العودة إىل الصفحات األوىل من الكتاب حيث ُوضعت قامئة الرموز ومخترص‬
‫عناوين القواميس املعتمدة‪ ،‬الواردة يف متون النصوص‪ ،‬بهدف تسهيل فهمها عىل القارئ‪ ،‬فهذه‬
‫الرموز التي غال ًبا اخرتعها املؤلِّف نفسه‪ ،‬مل يت ّم رشحها ج ّي ًدا دامئًا‪ .‬يبدو يل أ َّن معظمها ترجمة‬
‫لتعابري لغويَّة أكرث منها صياغة حقيقيَّة‪ ،‬وأعتقد أنَّه كان ميكن الوصول إىل عمل أفضل لو كان‬
‫استخدام الرموز أكرث تقيي ًدا‪.‬‬

‫‪288‬‬
Abstract

in the influence of Heidegger’s thought on post-modernist


movements and trends of criticism of civilization in all parts of the
world.
* * *
.Fifth Issue- 1445 A.H. – Spring 2023 A.D

Fields of Theorization: Methodological Rectifications of Michel


Chodkiewicz’s Writings on Ibn Arabi
Abdol-Baqi Meftah
Despite the importance of the study, research and examination
of the work of Ibn Arabi in Western circles, they include many
methodological and documental flaws. This is a result of numerous
factors, one of which is connected to the cultural and ideological
background of the orientalist who is studying Ibn Arabi’s work
and which governs the examined text through its own logic, while
another factor is the difficulty in understanding the esoteric and
symbolic language which distinguishes Ibn Arabi’s work. A third
factor is the variety in the original sources and the additions
made to these sources by Muslim scholars throughout the ages.
An additional factor is insertion and exposition, which sometimes
led to a problem in discriminating the original work of the author
from what expositors have recorded as if it were an idea of Ibn
Arabi himself.
* * *

289
ILMOLMABDAA

striven to achieve in his intellectual career. In this essay, Kochler


strives to clarify one of the most prominent problems in the
philosophy of existence according to Heidegger: being and divinity,
and specifically what he names the personal God. Furthermore,
Kochler suggests that Heidegger’s aim was to undermine the
ontological foundations of Christian theology.
* * *
Interview with the Contemporary Austrian Philosopher Hans
Kochler: “Heidegger Did Not Contemplate or Discuss Anything
Other than God”
Interview conducted in Vienna by: Hamid Lashhab
In this interview, the Austrian philosopher Hans Kochler delves
into Heidegger’s philosophy with the aim of understanding his
thought before explaining and interpreting it. This has enabled
him, as many have acknowledged, to present a unique and
original understanding of Heidegger’s thought in many aspects
of his philosophy. Perhaps what distinguishes Kochler from many
interpreters of Heidegger’s thought among German-speaking
philosophers is the spirit of criticism, despite the fact that he
defended Heidegger in many instances and rectified the prejudiced
opinions of some expositors of Hidegger’s thought.
In this interview, we read that analyses of Heidegger’s thought
are rooted in the interest in essential ontology which has become
the basis for liberal ideologies, especially in the context of modern
criticism of technology and the environmental movement.
Heidegger’s philosophy has gained a global importance within
various cultures, going beyond the narrow academic framework of
traditional academic western philosophy. This is also emphasized

290
Abstract

* * *
The Metaphysics of the Muthanna: The Path of the Mystics
toward the Unity of God and the Unity of the World
Mahmoud Haidar
.Fifth Issue- 1445 A.H. – Spring 2023 A.D

The aim of this essay is to introduce one of the most important


dilemmas in ontology: the manner in which the First Creation and
the appearance of numerous beings is approached. Due to the
fact that the requirement is clarifying the reality of this Creation,
the essay is based on the hypothesis of a First Creation from which
the presence of different and numerous entities has arisen. The
First Creation is referred to here as the Muthanna, the unique
entity which combines between simplicity and complexity at the
same time. Thus, we face an ontological problem which reveals
foundational flaws in metaphysics. Non-revelatory philosophies
have frequently mixed this entity with God, and thus a problem
has arisen due to dwelling on its essence and the manner of its
appearance, and forgetting that it is an entity whose existence
relies on its Creator.
* * *
“The Problem of God in the Metaphysics of Martin Heidegger”:
The Concept of Being and the Issue of the Personal God
Hans Kochler
The purpose of translating the essay “The Problem of God in
the Thought of Martin Heidegger” is to bring different intellectual
and philosophical domains closer together for providing means
of dialogue and cooperation for a better human future. This
is specifically what the Austrian philosopher Hans Kochler has

291
ILMOLMABDAA

divine mercy descends upon the heart of the ‘ārif, leading to his
witnessing of what may not be fathomed through reason.
The main aim behind the ‘ārif’s structuring of his worldview is
monotheism, the ultimate goal. This perspective is founded on
the two following essential questions: What is monotheism? Who
is the Creator? According to the ‘ārif, there is an in-depth form of
monotheism, with its own foundation, methodology and results-
which is named tawhīd al-wujūdī (monotheism in existence),
and the one who adopts it is called al-insān al-kāmel (the perfect
human being).
* * *
The Metaphysical Status of the Natural Object in the
Philosophy of Mullā Ṣadrā: A Comparative Study on the Constant
Transformation of Atoms
Farid Hojjati, Mahdi Monfared, Habibollah Razmi
This essay draws upon main sources on the philosophy of Mullā
Ṣadrā and modern physics for the purpose of comparing between
the metaphysics of the sage Mullā Ṣadrā and modern physics. The
essay aims to prove that the transformation of the natural object
in the philosophy of Mullā Ṣadrā does not indicate the presence or
the absence of existence. The same applies to the transformation
and alteration of quantum atoms, or the birth and demise of
essential atoms, where it is possible to compare between the two
matters based on the theory of quantum mechanics. It can also
be considered from the point of view which does not consider the
quantum theory to be definitive and where the atom preserves a
single state in two time periods, and from the theory of substantial
motion which clarifies motion according to time.

292
Abstract

from the time of Aristotle’s experiments on the structures of First


Philosophy up until the successive philosophies of modernism.
The content of the essay reveals Rasoul’s unique approach, driven
by his rare passion for philosophical texts, and his effort to fathom
their ontological element and historical transformation.
.Fifth Issue- 1445 A.H. – Spring 2023 A.D

* * *
Metaphysics of Waḥdat al-Wujūd according to Stoics and
Plotinus: A Comparative Study of Theoretical Principles
Mostafa al-Nashar
There is some common ground between Stoics and Plotinus
on Waḥdat al-Wujūd (Unity of Existence) regarding the concept,
but differences arise in theorization. This essay compares the
concept of Waḥdat al-Wujūd according to the two philosophical
schools of thought for the purpose of demonstrating the points of
convergence and divergence between them.
* * *
Metaphysics of Ḥuḍūr and Mushāhada: Study of the Principles
of the Mystical Worldview
Fadi Nasser
Worldviews differ according to the difference in the
epistemological methodologies one follows. Like all Islamic fields
of knowledge, ‘irfān, presents a certain worldview, and this
arises from its epistemological methodology which is founded
on kashf (unveiling) and mushāhada (spiritual witnessing) which
are accomplished through the qalb, the ‘ārif’s main tool in
acquiring ḥuḍūrī knowledge. This knowledge, ‘ilm al-ladunī (inner
knowledge), is referred to in the Holy Quran and occurs when

293
ILMOLMABDAA

Abstract
Synopses of Essays in the Fourth Issue of
‘Ilmol-Mabda’
In what follows is a brief overview of essays in the fourth issue
of the scholarly journal ‘Ilmol-Mabda’:
Nūrī Metaphysics: Establishment of the Ontology of Existence
in Suhrawardī’s Ḥikmat al-Ishrāq
Yadollah Yazdan Penah
The theory of the nūrī (lightened) system according to the
sage Shihāb al-Din Suhrawardī forms the pivotal discussion in his
philosophy of Ḥikmat al-Ishrāq (Wisdom of Illumination). This
essay on nūrī metaphysics examines one of the most prominent
theoretical foundations of ontology from the perspective of
Suhrawardī. In this line, the essay considers Suhrawardī’s opinion
on Wājib al-Wujūd (the Necessarily Existent Being) and bodily
resurrection, as well as highly philosophical topics such as the
iʿtibārī nature of second categories and aṣālat al-māhiyyah
(primacy of quiddity).
* * *
Reflections on Metaphysics: Aristotle’s Experiments in Building
Metaphysical Knowledge
Rasoul Mohammad Rasoul
This essay by the late Iraqi philosopher Rasoul Mohammad
Rasoul, demonstrates the origin of metaphysics as a term and
concept, and reviews the confusion surrounding metaphysics

294
Table of Contents

Treasure Trove of Books

- The French academic Robert Martin


make the language is logics in its semantic functions
‫ ـ‬Diana HadaraDiana Hadara ..............................................278

Translation of Synopses................................................. 294


Table of Contents
- Keeping the secret`alsair` and its meaning
Its techniques and interpretation in Islamic spiritual research
‫ ـ‬Orkhan Mir-Kasimov . ..................................................150
- The power of words
Exploring the mysterious link between language and thought
‫ ـ‬S.K. Ogden, Richards ..................................................... 162
- The transcendent meaning of substantial motion
The cosmos as a continuity towards the most complete in the
wisdom of Mulla Sadra
‫ ـ‬Idris Hani .......................................................................184
- beyond meaning
Language as an existential experience
terview Section
‫ ـ‬Lisa Said ........................................................................202

Fields of Theorization

- The second philosophy in the 'today' and 'daily'


exam
Towards a second philosophical principle

‫ ـ‬Muhammad Abu Hashem Mahjoub ................................. 218

- Scientific research methods in Sufism


The Arab-Islamic achievement as example

‫ ـ‬Bakri Aladdin. ................................................................ 232

- The epistemology of the Sufi text


Abu Al-Wafa Al-Taftazani as a contemporary example

‫ ـ‬Ahmed Abdel Halim Attia................................................ 262


Table of Contents
Introduction
- Prologue: Meaning is what being embraces,
- Mahmoud Haidar......................................................... 7

Issue Folder

- - Meaning without theory


When the meanings of things are constantly changing,
- Stephen Turner ............................................................... 20
- The 'meaning' theory of Allah's actions
Hisham Ibn Al-Hakam's commentary of the Divine Will

‫ ـ‬Akram Akwam Karbasi, Muhammad Taqi al-Din Sobhani ....... 40


The question of meaning in divine saying
‫ ـ‬From the excesses of the text to the heights of the Qur’an
Abbas Amir Maarez......................................................... 58

- theorization of meaning
A comparative study between Charles Peirce and A`llameh Tabatabai
‫ ـ‬Azur Nikoyan, Hamid Parsania, Hussein Sharaf Al-ddin,
Hussein Burkan. ................................................................78

- The meaning of meaning and the three philosophies


Philosophical simulation in science and religion
‫ ـ‬Habib Fayyad . ..................................................................100
- The meaning of the name and the name of
Majesty`Algalala`
Names are a function of oneness without restriction
‫ ـ‬Muhammed Ahmed Ali....................................................110
- The problems universals with what it raises
The middle age`s nominalism between Plato and Aristotle
‫ ـ‬Hamada Ahmed Ali ..........................................................124
Board of Trustees

Pr. Izhar Nuri Indonesia

Pr. Ahmed Jazzar Egypt

Pr. Toufiq Bin Amer Tunisia

Pr. Jad Hatem Lebanon

Pr. Zaim Khanshalawi Algeria

Pr. Sidi Ali Maaulainain Morocco

Pr. Abdullah Falahi Yemen


Pr. Azmuddine Ibrahim Malaysia

Pr. AlSadeq AlFakih Sudan

Pr. Fouad Sajwani Sultanate of Oman

Pr. Velin Belev Bulgaria

Pr. Muhammad hussain Al Yasin Iraq

Pr. Mahmud Erol Kılıç Turkey

Muhammad Taher Al-Qadri Pakistan

Pr. Muhammad El-Mokhtar Jieye Senegal

Pr. Muhammad Ahmad Ali Syria

Pr. Mol Badi Brunei

Pr. Muhammed Salem Al-Sufi Mauritania

Pr. Yadullah Yazdan Banah Iran


Editor-in-Chief
Mahmoud Haidar

Scholarly Advisor
Sayed Ali Moussawi Suleyman Uludag Mustafa Al-Nashar

Managing Editors
Ihsan Haidari – AlHuthaili AlMansar
Mohammad Ali Mirzaii – Idriss Hani – Ghaidhan Sayyed Ali

Scientific Peer-revision Council


Mohamed Mahjoub (Tunis) Saber Aba Zeid (Egypt)
Muhammad Yahya Babah (Mauritania)
Habibullah Babaii (Iran) Jaafar Najm Nasr (Iraq)
Kenza AlQassmi (Morocco) Amin Youssef Audeh (Jordan)
Yassin Bin Obeid (Algeria)
Hoda Niimah Matar (Lebanon)
Bakri Alaa Addin (Syria)

Director-in-Charge Executive Editor


Qassem Toufaili Khodor Ibrahim Haidar

Design and Art Direction


Red Design Company

For Contact
Website: www.ilmolmabdaa.com
Email: ilmolmabdaa@gmail.com
Tel: 009611 – 305347 00961 – 13540762 00961 – 1908993
PO Box: 113/ 5748 – Beirut, Lebanon

You might also like