You are on page 1of 378

‫"خبز وحب"‬ ‫مطلوعة‬

‫تأليف‪ :‬عبد الباســط باني‬


‫مطلوعة‬
‫"خبز وحب"‬

‫عبد الباسط باني‬

‫الثاني ‪2022 /‬‬

‫سمير محرز‬

‫‪978 - 9931 - 777 - 61 - 8‬‬


‫إلى كل من ّ‬
‫يربون األمل‬
‫إلى األموات على قيد الحياة‬
‫كل الشخصيات واألحداث الواردة في هذا الكتاب‬

‫ّ‬
‫محشو ة بالحقيقة‬ ‫ّ‬
‫حقيقية مطلية بالخيال‪ ،‬أو خيالية‬ ‫ّإما‬

‫كل تشابه مع الواقع قد ال يكون صدفة‬

‫هذه الرواية ال يكفيها الواقع وال يرضيها الخيال‪.‬‬


‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫حامية‪ ،‬شافية‪ ،‬عامية‬


‫يتوقــف الرجــل عــن ّ‬‫ّ‬
‫يتجمــد فــي مكانــه‪ ،‬ثـ ّـم يلتفــت خلفــه فيجــد الفتــى قــد‬
‫الضــرب‪ّ ،‬‬
‫حادا‪ ،‬يهوي الرجل قتيال‪ ،‬يسقط على األرض مثل عمارة تنهاربهزة‬ ‫مقصا ًّ‬‫غرز في ظهره ًّ‬
‫زلزاليــة قويــة‪ ،‬فــي مشــهد دمــو ّي؛ خـ ُّـد الرجــل ملتصــق علــى األرضيــة وعينــاه جاحظتــان‬
‫ّ‬
‫تبلــل ّ‬ ‫أمامــه‪ ،‬بركــة مــن ّ‬
‫كل مالبســه‪ .‬تخـ ّـرالزوجــة بجنبــه تبكــي‬ ‫الدمــاء تســيح علــى األرض‬
‫متجمد في مكانه كتمثال دون روح‪،‬‬ ‫وتنحب‪ ،‬تضرب بيديها على األرض بقوة‪ّ .‬أمـا الفتى ّ‬
‫ّ‬
‫املقص‬ ‫والدماء تقطرمن‬ ‫شاخص وغارق في شرود بعيد ال يقوى على تصديق فعلته‪ّ ،‬‬
‫الرســمة ّ‬
‫املمزقــة فــي األرض‪.‬‬ ‫فــي يــد الطفــل الصغيــرة املرتعشــة وتســقط علــى ّ‬
‫تصرخ ّ‬
‫السيدة ملء حنجرتها‪:‬‬
‫_مات‪ ،‬مات‪ ..‬آه ربي يا لهواري‪ ..‬راجلي مات‪ ..‬اجروا لي يا ناس راجلي مات‪ ..‬قتلو‪..‬‬
‫قتلــو‪..‬‬
‫ـوة إلــى الخلــف‪ ،‬ثـ ّـم يهــرب مسـ ً‬ ‫ً‬
‫ـرعا يحمــل املقــص فــي يــده يجــر‬ ‫يتراجــع الفتــى خطـ‬
‫عباءته مباعدا بين ساقيه متجها لواد بوغولة‪ ،‬يصل فيركب فوق صخرة كبيرة تقابل‬
‫ّ‬
‫الــواد‪ ،‬يتخلــص مــن املقــص فــي مجــرى الــواد ويغســل يديــه مــن الدمــاء والدمــوع تنهمــرمن‬
‫عينيــه بغـزارة لتختلــط بدمــاء أبيــه وامليـ ِـاه الضحلــة فــي الــواد‪.‬‬

‫***‬

‫‪7‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬
‫ينظرالطبيب إلى الرجل ويسأله‪:‬‬
‫_ كم عمره؟‬
‫ّ‬
‫بنبرة ال مبالية ودون أن يلتفت إلى الطبيب‪ :‬ثمانية ســنوات أو تســعة‬
‫يرد الرجل ٍ‬
‫أو‪...‬‬
‫يرد الطبيب بمالمح مستغربة‪:‬‬
‫– غريب! أال تعرف كم ُ‬
‫عمرابنك!‬
‫_أعرف‪.‬‬
‫_إذن ملاذا تركته إلى هذه السن املتأخرة ؟‬
‫_نسيت‪.‬‬
‫_وهل تن�سى ختان ابنك!‬
‫_اســمع‪...‬ال دخــل لــك فــي أمــوري العائليــة‪ ..‬دعنــا مــن هــذه الثرثــرة وقــم بعملــك أو‬
‫اعطنــي املقــص ودعنــي أقــوم بــه بــدال منــك‪.‬‬
‫_حسنا‪...‬حسنا‪...‬هذه حقنة خمس مئة دينار‪ ،‬وهذه حقنة ألف دينار‪ ،‬بأي منهما‬
‫تريــد أن أخـ ّـدره؟‬
‫– ال هذي‪...‬وال تلك‪.‬‬
‫_ما قصدك؟‬
‫يحس ّأنه رجل ّ‬
‫بحق‪.‬‬ ‫_ افعلها كما فعلناها نحن‪ّ ،‬‬
‫حتى ّ‬
‫– هل تقصد دون ّ‬
‫مخدر!‬
‫_نعم‬

‫‪8‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬
‫سيتحمل‪.‬‬ ‫أظن ّأن جسد ابنك الصغير‬
‫_ هل جننت؟ هل تعرف درجة األلم؟ ال ّ‬
‫– هــل ســمعت مــا قلتــه لــك‪ ،‬ابنــي ليــس ًّ‬
‫طريــا‪ ،‬وســيفعلها مثلمــا فعلهــا جــده وأبــوه‪.‬‬
‫بالطريقــة التقليديــة‪.‬‬
‫‪ -‬الطريقة التقليدية!‬
‫‪ -‬نعــم قــد أخبرتــك أن تقــوم بعملــك وتصمــت‪ ،‬وإن كنــت ً‬
‫جبانــا أعطنــي املقـ ّ‬
‫ـص‬
‫وس��أريك ّ‬
‫خف��ة الي��د‪ ،‬هك��ذا أريح��ك وأري��ح نفــ��ي م��ن ثرثرت��ك وم��ن مصروف��ك‪.‬‬
‫سكت الطبيب لبرهة ّ‬
‫ثم واصل عمله‪:‬‬
‫_ال ال‪ ..‬فقط ثبتا رجليه جيدا‪ ،‬وأمسكه أنت من يديه ورأسه‪.‬‬
‫***‬
‫الطبيب بنبرة هادئة يهمس في أذن الفتى ويمسح على رأسه‪:‬‬
‫– ال تخف يا عزيزي سنجعل األمرسريعا‪.‬‬
‫الفتــى الصغيــرال يفهــم مــا يحــدث حولــه بعينيــن مفزوعتيــن ينظــرإلــى وجــه الطبيــب‬
‫الــذي يواصــل كالمــه ويقــول للفتــى‪:‬‬
‫_أنظرللسقف هناك‪ ،‬هل ترى ذلك العصفور؟‬
‫يرد الفتى بنبرة خافتة تتخللها رعشة في صوته‪:‬‬
‫– ن‪..‬ن‪...‬ن‪ .....‬نع‪...‬نعم‬
‫تنفــس ببــطء وتخيــل ّأنــك تركــب العصفــور‬ ‫– جيــد‪ ،‬جيــد‪ ،‬أغمــض عينيــك اآلن‪ّ ،‬‬
‫وهــو يحلــق بــك إلــى أجمــل مــكان تتمنــى الذهــاب إليــه وقــد‪..‬‬
‫حادة وخاطفة خادعة"‪.‬‬ ‫ثم تشك! "ضربة مقص ّ‬

‫‪9‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يــرى الفتــى العصفــور يفــرد جناحيــه وينظــر إليــه بعينيــن جاحظتيــن يتطايــر‬
‫الشــرر منهمــا‪.‬‬

‫صرخــة طويلــة‪ ،‬معــدن حــاد بــارد يقطــع جلــدة مــن اللحــم‪ ،‬الفتــى يتخبــط مثــل‬
‫َّ‬
‫مجاهــد يعــذب علــى كر�ســي كهربائــي‪ ،‬جســده الهزيــل يرتـ ّـج‪ ،‬يرتعــش‪ ،‬عينــاه تفيضــان‬
‫ّ‬ ‫مدامعــا علــى شــطآن خديــه املشمشــيتين‪ ،‬يلــوي رقبتــه للــوراء‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫يتخبــط مثــل قــط فــي‬
‫حبــة طماطــم‪،‬‬‫بركــة مــاء‪ ،‬عــروق رقبتــه تنتفــخ‪ ،‬تــكاد تتقطــع‪ ،‬وجهــه يحمـ ّـروينتفــخ مثــل ّ‬
‫يتخبــط‪ ،‬يحــاول اإلفــات مــن بيــن ذراعــي أبيــه وقبضــة جــده‪ ،‬لكــن دون جــدوى!‬ ‫ّ‬

‫يــرى فــي مــا يــرى املختــون العصفــور ينفــض ريشــه ويتقــدم نحــوه بخيــط أســود‬
‫طويــل يحملــه فــي منقــاره‪.‬‬

‫مدببــة متبوعــة بخيــط أســود تختــرق جلــده‪،‬‬ ‫صرخــة مبحوحــة ومتقطعــة‪ ،‬إبــرة ّ‬
‫ّ‬
‫يضرب قفى رأسه على السريرالحديدي‪ ،‬يتألم داخل األلم‪ ،‬يركل بقدميه املصبوغتين‬
‫يكمــم فمــه‪ ،‬يــكاد يخنقنــه بقبضــة‬‫بالحنــاء‪ ،‬يعــض علــى شــفتيه‪ ،‬يشــتم بفحــش‪ ،‬أبــوه ّ‬
‫يــده الخشــنة‪ ،‬يــرد عليــه بعضــة حليبيــة مســنونة‪ ،‬ال تجــدي‪ ،‬ثـ ّـم يعــود الفتــى ّ‬
‫للســباب‬
‫بنعــرة أكبــريلعــن أبــاه وجــد أبــاه‪ ،‬يلعــن الطبيــب ويلعــن يــوم خــرج مــن بطــن أمــه دون تــاء‬
‫مربوطــة‪ ..‬ذك ـرا‪..‬‬

‫يرى العصفور يحط بين ساقيه‪ ،‬يحضن بيضتيه تحت جناحيه‪ ،‬يمد منقاره‬
‫ّ‬
‫األصفرالطويل وينقررأس ذكره‪ ،‬كنق ِارخشب ينحت جذع شجرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ثـ ّـم صرخــة حـ ّـادة ذابلــة الصــدى‪ ،‬محلــول مــن الكحــول ودواء أحمــراللــون يصــب‬
‫فــوق جرحــه املفتــوح‪ ،‬يعتصــرمــن األلــم‪ ،‬يتخبــط مثــل أفعــى يريــد أن ينســلخ مــن جلــده‪،‬‬
‫يحاول ركل الطبيب األصلع‪ ،‬يتفل في وجهه‪ ،‬لكن ذراع األب القوية تضغط على رجليه‬
‫ّ‬ ‫تمنعــه مــن الحـراك‪ ،‬يتعــذب‪ ،‬يتلــوى‪ ،‬يصــرخ‪ ،‬يفتــح فمــه ّ‬
‫حتــى تبــرز كــرزة حلقــه‪ ،‬تتســع‬
‫ثم بعد عشرغرزات ُم ّرة‪ ،‬يفترببطء ويئن بصوت خافت طالبا‬ ‫حدقتا عينيه ّ‬
‫البنيتين‪ّ ،‬‬

‫‪10‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جده‪ّ ،‬‬ ‫الرحمة من الطبيب‪ ،‬ينظرفي عيني ّ‬


‫يترجاه أن ينقذه‪ ،‬أن يوقف عذابه‪ ،‬كأنه قد‬
‫أشــف الطبيب ليســرع في خياطة جرح بشــولته‪.1‬‬
‫ويرى وال يكاد يرى العصفور يحلق بعيدا وقد أخذ ً‬
‫جزءا من ذكره‪.‬‬

‫***‬
‫ّ‬
‫– مبروك عليكم‪ ،‬سلم على جدك‪ ،‬زد على أبيك!‬

‫خفه األبيض‪ ،‬يباعد‬ ‫يجر ّ‬ ‫وضعوا الطربوش األحمرفوق رأســه‪ ،‬خرج من الغرفة ّ‬
‫بين ساقيه النحيلتين مثل بطريق صغيرخرج لتوه من بركة ماء‪ ،‬تعالت زغاريد النساء‬
‫الفرحــات فــي ســاحة الــدار‪ّ ،‬أمــه فخــورة تشــير لــه بالبنــان‪ ،‬يم�شــي تحــت برنــوس أبيــه‬
‫والنظـرات املتأللئــة ترمقــه‪ ..‬والبطريــق يتمتــم بنبــرة خافتــة‪:‬‬
‫ُ َّ‬
‫– آه أيتها اليهوديات لو تعرفن شـ ّـدة األلم الذي أشــعربه‪ ..‬أفضل أن أ َول َد خمس‬
‫مـرات علــى أن أصــارع ألــم الختــان مــرة واحدة‪..‬‬
‫ويصادف صديقه مختبئا في الزاوية يشد بطنه من الضحك‪:‬‬

‫_اضحك يا "بلوطة" الكلب اضحك‪ ...‬انتظرحتى أشفى وسأعيد ختانك بيدي‪...‬‬

‫ثــم يمســكه جــده فــي زاويــة ويخــرج شــيئا مــن جيبــه‪ ،‬يضــع تلــك القــادة علــى رقبــة‬
‫حفيــده‪ ،‬ويوجــه إليــه كالمــه بنبــرة خشــنة وهادئــة وعينــاه تلمــع مباشــرة فــي عينــي حفيــده‪:‬‬

‫– هذي حامية وشافية وعامية‪.‬‬

‫– ّردد ورائي‬

‫‪ - 1‬اسم يطلق على ذكرالطفل الصغيرفي اللهجة الجزائرية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫"وأعاد رفقة حفيده الجملة ببطء وشرود"‬


‫ثـ ّـم كـ ّـرر الفتــى جملــة جـ ّـده وهــو يتألــم مــن الوجــع ولــم يحــاول أن يفهــم معناهــا أو‬
‫املغــزى منهــا‪:‬‬
‫– حامية‪ .‬شافية‪ .‬عامية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الالز يربح‬

‫فــي كــوخ كاره للحيــاة‪ ،‬مــن الطــوب والقصــب‪ ،‬محمــول علــى أربعــة أعمــدة نحيفــة‬
‫ّ‬
‫من الحطب‪ ،‬تغطيها حبات قرمود أحمر‪ ،‬نصفها متشـ ّـقق ونصفها اآلخردامع‪ ،‬ذا هو‬
‫الســقف كمــا أراده ربــي أن يكــون‪.‬‬

‫علــى شــمعتين مرتجفتيــن ترتعشــان مــن البــرد إثــر كل نفخــة مــن بطــن الجــدران‬
‫القصيــرة‪ .‬كان هنــاك فــي الزاويــة يمــد رجليــه القصيرتيــن املزينتيــن بالحنــاء‪ ،‬يســتلقي علــى‬
‫ّ‬
‫ظهــره صــوب الحائــط العــاري‪ ،‬ببرنــوس أبيــض رث يميــل إلــى الصفــرة‪ ،‬وجهــه شــاحب‬
‫ّ‬
‫يميــل إلــى لــون كرتونــة مبللــة‪ ،‬يرفــع البرنــوس بيــده خشــية أن يالمــس مــا بيــن فخذيــه‪،‬‬
‫ً‬ ‫يعـ ّ‬
‫ـض علــى شــفته الســفلى ويئــن بصــوت خافــت مــن األلــم‪ ،‬يحمــل فــي يــده األخــرى ورقــة‬
‫وقلــم صــاص‪ ،‬يبــدو ّأنــه يرســم شــيئا ّ‬
‫حتــى يتنا�ســى أملــه‪ ،‬أمامــه مباشــرة ينظــر داخــل‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطربــوش األحمــراململــوء ببعــض الدنانيــرفيخــف أملــه قليــا‪ ،‬تقتــرب منــه أمــه وبيدهــا‬
‫ً‬
‫قطعــة كســرة وكأس لبــن‪ ،‬تمســح علــى شــعرالفتــى متمتمــة ببعــض اآليــات مــن الق ـرآن‬
‫وبعــض األدعيــة للحفــظ مــن العيــن‪.‬‬

‫– أنظري أمي هل تكفيني هذه ألشتري دراجة مثل دراجة بلوطة؟‬


‫حتــى إن لــم تكفيــك ســأبيع بعــض الدجاجــات ونشــتري‬ ‫– نعــم يــا ولــدي‪ ،‬نعــم‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الدراجــة‪ ،‬ال تقلــق‪ ..‬ك ْل فقــط لتكبــر‪ ..‬ك ْل يــا بنــي هــذه اللقمــة‪.‬‬
‫يهــزالفتــى النحيــل رأســه وهــو يغمــس قطعــة الكســرة فــي اللبــن ويمضــغ دون أن يـ ّ‬
‫ـرد‬
‫علــى ّأمــه‪..‬‬

‫تمسح على شعرابنها بفخر‪:‬‬


‫ً‬
‫– سعدي وفرحي بولدي كبروصاررجل‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ً‬ ‫ّ‬
‫ثم تنهض لتبلل بعض الكسرة اليابسة وتخلط معها بعض الزيت للعشاء‪ ،‬تاركة‬
‫ابنها ليستمتع بأمله اللذيذ‪.‬‬

‫وهلة نحيفة‪ ،‬ينكسرذلك الهدوء املسالم‪ ،‬يدفع الباب بثقل كتفه ويقتحم‬ ‫بعد ٍ‬
‫ً‬
‫الكــوخ‪ ،‬يم�شــي متثاقــا‪ ،‬يقــف وســط الكــوخ وال يــكاد يحمــل بعضــه بعضــا‪ ،‬يقتــرب رأســه‬
‫من دعامات السقف‪ ،‬ينظرهنا وهناك باشمئزاز‪ ،‬يعصرعينيه بحمرة الغضب‪ .‬شفته‬
‫السفلى مرتخية‪ ،‬اللعاب يسيل من فمه كحصان سباق‪ ،‬رائحة شراب "الروج" تفوح‬
‫يترنح يكاد يهوي‪ ،‬وال تكـاد سـاقاه الطويلتان تقوى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منه كأنه قد استحم في برميل منه‪،‬‬
‫ثم فجأة يندفع‬ ‫على حمل ثقل جســده الخشــن‪ ،‬يتمايل كناطحة ســحاب تهزها الريح‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫نحو األمام ويضرب بيديه الهواء كأنه يصارع أحدهم بنبرة ثقيلة ومبحوحة‪:‬‬

‫– هاك‪ ،‬يا لوهراني الكلب‪ ،‬هاك خذ للعين‪ ،‬هاك للكرش‪ ،‬تفووه‪.‬‬

‫– الوهراني الخداع‪ ..‬الوهراني الخداع‪..‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اللز ً‬ ‫ّ‬
‫دائما يربح‪ ..‬اللزيا لوهراني عمره ال خسر‪..‬‬ ‫– اللزيربح‪..‬‬
‫ـدوه الوهمــي‪ّ ،‬يتجــه لزاويــة مــن الكــوخ ويســتلقي فــوق‬ ‫ثـ ّـم بعــد أن أنهكــه ص ـراع عـ ّ‬
‫هيــدورة بيضــاء‪ ،‬ينظــرباشــمئزازنحــو الفتــى املقرفــص أمامــه‪ ،‬والــذي ال يـزال يعـ ّـد قطــع‬
‫ثم يبتسم ويغمس‬ ‫النقود ويضعها في الطربوش األحمرأمامه‪ ،‬يفتح أصابعه ّ‬
‫ويعدها‪ّ ،‬‬
‫بعــض الكســرة فــي اللبــن معيــدا الحســاب كـ ّـرة أخــرى‪ ،‬ينهــض الكهــل املمتلــئ‪ ،‬يتجشــأ‬
‫ويتقـ ّـدم نحــو الفتــى بعينيــن تشــتعالن مــن حمــرة الســكرة‪ ،‬رائحــة الكحــول الكريهــة‬
‫املنبعثــة مــن الرجــل تنتــن املــكان‪.‬‬

‫يمسك الفتى من شحمة أذنه‪:‬‬


‫– ذاك الوهراني الكلب ّ‬
‫الخداع‪ .‬ال يعرف من هو أبوك‪ ،‬ال يعرف مع من يلعب‪ .‬ال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يعرف من هو هواري اللز‪ ،‬وهل تعرف أنت؟ هل تعرف أن اللزدائما يربح؟‬

‫‪14‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫"هـ ّـزالفتــى رأســه باإليجــاب‪ ،‬وقــد ّ‬


‫تجمــد جســده النحيــل تحــت ظـ ّـل أبيــه املحقــون‬
‫ً‬
‫غيظ��ا وحق ً��دا عل��ى ه��ذا الوهران��ي"‪.‬‬
‫– ســأنتقم لكــم‪ ،‬هــل تفهــم هــذا‪ ..‬ســأنتقم ويعــرف مــن هــو العروبــي ابــن العروبــي‪.‬‬
‫"قاله��ا بص��وت جه��وري مخي��ف‪ .‬أف��زع ّ‬
‫حت��ى زوجت��ه ف��ي املطب��خ"‪.‬‬
‫علي بهذا من أجل أن أحمل نف�سي‪.‬‬ ‫– وإلى ذلك الحين‪ّ ،‬‬

‫ثــم يفـ ّـك الطربــوش مــن بيــن ذراعــي الفتــى الضعيــف‪ .‬يتشـ ّـبث بــه بقــوة ويتلـ ّـوى علــى‬
‫ـوط صغيـ ٍـر‪ ،‬لكـ ّـن الرجــل ال يفتــأ يســحب الطربــوش بعنــف ويفرغــه‬ ‫الرجــل كأخطبـ ٍ‬ ‫ســاقي ّ‬
‫وترتج شفته السفلى‬ ‫ثم يرميه فوق حجرالفتى‪ ،‬ترتجف ّ‬ ‫في جيب سرواله الفضفاض ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لينفجــر ً‬
‫مضجــا عفت ــها أمامهــا عنــوة وقهـ ًـرا‪ ،‬يبكــي‬ ‫باكيــا بنبــرة شــاهقة‪ ،‬كفتــاة اغتصبــت‬
‫املختــون‪ ،‬يصــرخ ويتـ ّـأوه‪ ،‬يصيــح‪ ،‬يضــرب بيديــه علــى األرض‪ ،‬يحــاول النهــوض الســترجاع‬
‫نقــوده لكــن دون جــدوى‪ ،‬فجــرح ختانــه ال يـزال جديــدا‪ ،‬يمنعــه‪.‬‬
‫مــن املطبــخ تســمع ّ‬
‫األم بــكاء ابنهــا‪ ،‬تهــب مســرعة‪ ،‬تفهــم مــن كالم الفتــى املختلــط‬
‫بالبكاء ما حدث‪ ،‬تحاول إقناع الرجل بإرجاع النقود البنها‪ ،‬تنحني له وتقبل يديه‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫ّ‬ ‫الشــفقة بنبــرة ّ‬ ‫ّ‬
‫متوس ــلة متقطعــة‪ .‬يدفعهــا نحــو الخلــف‪:‬‬ ‫تخـ ّـرلتقبــل رجليــه‪ ،‬تطلــب‬
‫‪ -‬ابتعدي يا بنت الكلبة‪..‬‬
‫‪ -‬يا لهواري بجاه األولياء الصالحين أرجعهم له‪ .‬عندك ابن واحد فقط‪.‬‬
‫‪ -‬عندي الهم والفقرومعزة جربا‪ ..‬مثلك‬
‫‪ -‬يا لهواري حق العشرة التي بيننا أرجعهم له‪ ،‬بجاه الصالحين!‬
‫ينظــرلهــا بــازدراء نظــرة مطولــة‪ ،‬يصمــت لبرهــة‪ ،‬يبصــق علــى األرض‪ ،‬ثـ ّـم يمســكها‬
‫وجههــا يــكاد يمـ ّـزق وجنتيهــا‬
‫وإبهامــه علــى ِ‬
‫ِ‬ ‫بقبضتــه القويــة مــن ذقنهــا ويضغــط بسـ ّـباب ِته‬
‫وهــو يرفعهــا مــن األرض نحــو وجهــه‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– الوهراني خدعني‪ ..‬خدعني‪ ..‬أنت ال تفهمين يا جاهلة‪ .‬ال أحد يفهم!‬

‫ثـ ّـم يرميهــا ويدفعهــا بقبضتــه للخلــف ليباغتهــا بصفعــة خاطفــة‪ ،‬تطيــرمعهــا عصابة‬
‫ّ‬
‫رأســها الحمراء‪ ،‬فتســقط كأس اللبن على ورقة الرســم‪ ..‬ينظرنحو الفتى تحته‪ ،‬ينحني‬
‫نحــوه ويضــع إصبعــه علــى جبهتــه‪ ،‬بنبــرة خشــنة وبطيئــة‪:‬‬

‫– أنت ومالك ألبيك! أنت ومالك ألبيك! هل فهمت هذا؟‬


‫ثم أعاد الجملة وهو ّ‬
‫يهزه منتظرا جوابا من الفتى‪ :‬أنت ومالك ملن؟‬
‫ممـا سيفعله به أو ّ‬ ‫ً‬
‫خوفا ّ‬
‫بأمه إن لم يجبه‪..‬‬ ‫خفت بكاء الفتى وابتلع ريقه‬

‫– ألبيك!‬

‫‪ -‬تفوه يا ابن الكلبة‬

‫وبصق الرجل في وجه الفتى ذي العينين الوديعتين‬


‫– ألبــي! هــل تفهــم أيهــا الجــرو األجــرب؟ ألبــي‪ ،‬هكــذا يجيبــون! هــل أنــا أتكفــل بنفقــة‬
‫حتــى كيــف تكمــل جملــة صحيحــة‪ّ .‬أم ــا هــذه الدريهمــات مقابــل‬ ‫تدريســك وأنــت ال تعــرف ّ‬
‫حتى تصيرملا صرت عليه اآلن‪.‬‬ ‫مصاريف ختانك‪ .‬ولوحسبنا كم خسرت من تعب ومال ّ‬
‫لن تسدد دينك ولو عملت حياتك كلها‪ .‬عليك أن تضع هذا في رأسك‪ .‬هل فهمتني‪ .‬لقد‬
‫ً‬
‫باردة‪.‬‬
‫كنــت خطــأ فــي ليلـ ٍـة ٍ‬
‫ثـ ّـم أمســك وجــه الفتــى الصغيــر بيمينــه‪ ،‬فتــح فكيــه‪ ،‬لــوك كتلــة النخــام داخــل‬
‫حنجرتــه رفعهــا نحــو لســانه ومــأ بهــا فمــه‪ ،‬ثـ ّـم بصقهــا بقــوة داخــل فــم الفتــى الصغيــر‪.‬‬
‫حتــى يحــرص علــى أن يبلعهــا‪.‬‬ ‫وكمــم فمــه ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -‬خخخخخم تفوووه‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬ ‫‪ -‬هكذا ّ‬
‫حتى تجيد الكالم وينطلق لسانك وتصيبك بالغة الالز‪.‬‬

‫ثم انسحب لينام في مكانه جثة سكرانة نتنة‪..‬‬


‫األم بصــوت‬ ‫انبطــح الرجــل علــى فراشــه دون أن ينــزع مالبســه أو حذائــه‪ ..‬همســت ّ‬
‫خافــت وهــي تلــم شــعرها البنهــا ليقتــرب منهــا‪ ،‬راحــت تمســح وجهــه مــن البصــاق ليهــدأ مــن‬
‫ّ‬
‫بكائــه وأنينــه‪ ،‬ســلمته كــوب مـ ٍـاء‪ ،‬أزاحــه مــن أمامــه‪ ،‬شــعربتقـ ّـزز مــن املــذاق الحامــض‬
‫ّ‬
‫العالــق فــي فمــه‪ ،‬راح يســعل ويصــدرفحيحــا مــن حنجرتــه يريــد أن يتخلــص مــن الطعــم‬
‫َ‬
‫األم تحبــس دموعهــا أمــام ولدهــا الــذي ُسـ ِـرقت أحالمــه مــن بيــن‬
‫الكريــه العالــق فــي حلقــه‪ّ ،‬‬
‫يديــه قبــل أن ينــام‪ ،‬نــام والغيــض يتطايــر مــن عينيــه الغارقتــان فــي الدمــوع‪ ،‬وقبــل أن‬
‫ّ‬
‫اللبــن دون أن يريهــا ّ‬
‫ألمــه‪ ،‬التــي وعدتــه‬ ‫ينــام‪ ،‬بطــرف مــن برنوســه هـ ّـم يجفــف رســمته مــن‬
‫ّأل تراهــا ّ‬
‫حتــى يقــوم بإكمالهــا‪.‬‬
‫ـوت حنــو ٍن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األم تســحب ابنهــا نحــو حجرهــا‪ ،‬تربــت علــى شــعره األســود وتغنــي لــه بصـ ٍ‬
‫ـادئ‪:‬‬
‫هـ ٍ‬

‫"نني نني يا بشة‬


‫نني نني يابشة‬
‫واش نديرو للعشا‬
‫نديرو شخشوشة بالدبشة‬
‫و ال محجوبة بالحشوة‬
‫ويجي وليدي يتع�شى‬

‫‪17‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫نني نني جاك النوم‬


‫أمك ڨمرة وبوك نجوم‬
‫وأنت تمرة في عرجون‬
‫و حوتة في بحرها تعوم‬
‫و هالل في أول يوم‬

‫الناس كلها تراعيله‬


‫يسلم ولدي ونحكيله‬
‫يكبرويفوز في جيله‬
‫يديرحويش نمشيله‬

‫نني نني جاك نعاس‬


‫أمك فضة وبوك نحاس‬
‫و أنت غزال بين الناس‬
‫و وردة في كاس‬
‫حصوة في عنين الخناس‬
‫قل أعوذ برب الناس‪...‬‬

‫‪18‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وين كان ووين كان؟‬


‫متغذي فحوش السلطان‬
‫جايني حجره مليان‬
‫جوهروعقيق ومرجان‬
‫و أنا نفرق عالجيران‬

‫برافو عليه وخموس عليه‬


‫سيدي ربي يحميه‬
‫واملوت الشينة ماتجيه"‬

‫***‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرت ثالث ليالي من البرد والجوع‪ ،‬الزوج ال يصحو من السكروال يكف عن ضرب‬
‫زوجتــه وتعنيفهــا أمــام ناظــري الفتــى‪ ،‬الفتــى يشــتاط غيضــا مــع كل صرخــة تخــرج مــن‬
‫ّ‬
‫حنجــرة أمــه‪ ،‬يحــزن مــع كل َع َبــرة تذرفهــا عيناهــا‪ ،‬يبكــي لبكائهــا ويتقطــع لحزنهــا‪.‬‬
‫ثـ ّـم فــي ذات ليلــة ماطــرة‪ ،‬نهــض الصبــي مفزوعــا علــى صــوت ص ـراخ ّأمــه وتدحــرج‬
‫متتبعــا ّ‬
‫الصــوت‪ ،‬انـ ّ‬
‫ـدس فــي الزاويــة بقــرب املطبــخ وراح يراقــب ذلــك املشــهد‬ ‫ً‬ ‫مــن ســريره‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املرعــب‪ ،‬أبــوه الســكران يشــد أمــه مــن شــعرها‪ ،‬يضربهــا علــى الحائــط محــاول أن ينتــزع‬
‫كل مهرهــا فــي زواجهــا‪ ،‬تحتفــظ بهــا ّ‬
‫األم لتبيعهــا وقــت‬ ‫منهــا سلســلتها الذهبيــة والتــي كانــت ّ‬
‫الحاجــة القصــوى‪ ..‬الـ ّـزوج يريــد أن يرهنهــا ويسـ ّـدد بهــا ديونــه ويصرفهــا علــى الشــرب‬
‫والقمــارفــي القريــة مثلمــا فعــل بدراهــم ختــان ابنــه‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الرجــل عــن ّ‬ ‫ّ‬


‫يتجمــد فــي مكانــه‪ ،‬ثـ ّـم يلتفــت خلفــه فيجــد الفتــى قــد‬
‫الضــرب‪ّ ،‬‬ ‫يتوقــف ّ‬
‫غــرز فــي ظهــره مقصــا حــادا‪ ،‬يهــوي الرجــل قتيــا‪ ،‬يســقط علــى األرض مثــل عمــارة تنهــار‬
‫خد الرجل ملتصق على األرضية وعيناه جاحظتان‬ ‫بهزة لزالية قوية‪ .‬في مشهد دمو ّي ّ‬
‫ز‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أمامــه‪ ،‬بركــة مــن الدمــاء تســيح علــى األرض تبلــل كل مالبســه‪ ،‬تخــرالزوجــة بجنبــه تبكــي‬
‫وتنحب‪ ،‬تضرب بيديها على األرض بقوة‪ّ .‬أم ــا الفتى متجمد في مكانه كتمثال دون روح‬
‫شاخص وغارق في شرود بعيد ال يقوى على تصديق فعلته‪ ،‬والدماء تسيح من املقص‬
‫فــي يــد الطفــل الصغيــرة املرتعشــة وتســقط علــى الرســمة ّ‬
‫املمزقــة فــي األرض‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرســمة التــي ســخر لهــا ثالثــة أيــام مــن حياتــه‪ ،‬ليحــرص علــى رســمها علــى أكمــل‬
‫حد الثمالة‪ ،‬خطفها‬ ‫ثم أهداها ألمه قبل أن ينام‪ ،‬وعلى بغتة فاجأها زوجها على ّ‬ ‫وجه‪ّ ،‬‬
‫فرحــة وأنســتها أن تعـ ّـد لــه العشــاء‪.‬‬
‫مــن يدهــا ومزقهــا بعدمــا راحــت األم تتأملهــا ِ‬
‫امل ـرأة كاملجنونــة تنــدب وجههــا وتضــرب علــى األرض‪ ،‬تهـ ّـززوجهــا لينهــض‪ ،‬شــعرها‬
‫ملطختــان بالدمــاء‪ ،‬تصــرخ وتنحــب مـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـرددة‪:‬‬ ‫األســود مبعثــرفــي الهــواء ويداهــا‬
‫_مات‪ ،‬مات‪ ..‬آه ربي يا لهواري‪ ..‬راجلي مات‪ ..‬اجروا لي يا ناس راجلي مات‪ ..‬قتلو‪..‬‬
‫قتلــو‪..‬‬
‫يتراجــع الفتــى خطــوة إلــى الخلــف‪ ،‬ثـ ّـم يهــرب مسـ ً‬
‫ـرعا يحمــل مقـ ّ‬
‫ـص ختانــه فــي يــده‬
‫جهــا لــواد بوغولــة‪ ،‬يصــل فــوق حجــرة الغولــة‪،‬‬ ‫ويجـ ّـر عباءتــه مباعــدا بيــن ســاقيه‪ّ ،‬‬
‫مت ً‬
‫ّ‬ ‫يتخلص من املقص في مجرى الواد ويغسل يديه من ّ‬ ‫ّ‬
‫تستمرباالنهمار‬ ‫الدماء والدموع‬
‫مــن عينيــه بغ ـزارة لتختلــط بدمــاء أبيــه وميـ ِـاه الــواد أمامــه‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ينــدس عنكبــوت صغيــر بيــن أغصــان الزعــرور‪ ،‬تدمــع الســماء‪ ،‬يتهــاوى‬


‫العنكبــوت‪ ،‬يهــوي العنكبــوت‪ ،‬تدمــع الســماء‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ما يبقى في الواد غيرحجاره‬


‫ّ‬ ‫تفاجأت بجسد يصرخ ً‬
‫عالقا بين أغصان األشجاراملتدلية داخل مجرى الوادي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يلوح بيده‪ ،‬يصعد تارة فوق املاء وينزل تارة أخرى‪ ،‬يلفظ أنفاسه األخيرة على ما يبدو‪.‬‬
‫ّ‬
‫هممــت أثبــت رجلــي علــى األرض ألتخــذ وضعيــة انطــاق َعـ ّـداء‪ ،‬ســحبت نفســا‬
‫عميقــا‪ ،‬حســبت املســافة بينــي وبيــن الــوادي وكانــت ســتة أمتــارتقريبــا‪ ،‬انطلقــت أجــري‪،‬‬
‫أتســارع‪ ،‬أقفــز‪ ،‬أشـ ّـق ســطح املــاء بأصابعــي‪ ،‬أغطــس مباشــرة‪ ،‬أمســك أنفا�ســي‪ ،‬أبقــى‬
‫تحــت املــاء ألقــاوم التيــارالجــارف‪ ،‬أدفــع برجلــي عكــس اتجــاه التيــارالــذي كان ًّ‬
‫قويــا‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫ّ‬
‫ـوان ألجــد أن ــي قــد جرفــت بســرعة نحــو الخلــف‪ ،‬الرجــل علــى بعــد أربعــة‬ ‫أرفــع رأ�ســي بعــد ثـ ٍ‬
‫ّ‬
‫أمتــارتقريبــا‪ .‬ثـ ّـم رحــت أســبح بقــوة ألقتــرب منــه‪ ،‬أجــد نف�ســي الزلــت فــي مكانــي‪ ،‬التيــارات‬
‫عميقــا وغطســت مجـ ّـددا ألتحـ ّـدى‬ ‫تســحبني نحــو الخلــف بقــوة أكثــر‪ ،‬ســحبت َنف ًســا ً‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬
‫مجدفــا عكــس مجــرى الــواد‪ ،‬الســيل جــارف يســحب جســدي يبعدنــي‬ ‫أطنانــا مــن امليــاه ِ‬
‫ّ‬ ‫عنــه‪ّ ،‬‬
‫أثبــت نف�ســي‪ ،‬أجمــع أنفا�ســي أكثــر‪ .‬أغمــض عينــي وأســتعين بســمعي ألتبــع صــوت‬
‫ّ‬
‫متقطعــة ســمعته يصــرخ ويقــول‪:‬‬ ‫الرجــل بكلمــات ِ‬
‫***‬
‫هــا هــي ذي ســاعات النهــاراألخيــرة تلفــظ أنفاســها علــى كتــف طريــق قريــة "البلبــال"‬
‫ّ‬
‫واملطبــات العنيــدة‪ .‬الطريــق الترابيــة التــي خلقتهــا أقــدام أهــل القريــة‬ ‫ّ‬
‫املعجنــة بالجــروح‬
‫وحفتهــا حوافــردوابهــا‪ ،‬الطريــق عجــوز طاعنــة لــم تعــد تبالــي ال بمــن ذهــب وال بمــن أتــى‪،‬‬
‫ّ‬
‫متجعــدة‬ ‫تمـ ّـد لســانها لتســخرمــن أشــجارالدفلــى املغــرورة النابتــة علــى حافتيهــا‪ ،‬الطريــق‬
‫املالمــح أكل عليهــا الدهــروشــربت منهــا الســاعات الســمينة‪ ،‬تطــول ممتـ ّـدة مــن حنجــرة‬
‫ترسمت‬ ‫القرية الرطبة إلى جبهة املدينة لتقبل معدنها متعرجة وممتدة دون تفرعات‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الصبــار البـ ّـري‬ ‫حدودهــا ببعــض الحجــارة املكدســة علــى قارعتيهــا املضجرتيــن‪ ،‬نبــات‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫منتفخــا علــى ســواحلها ومــن جلــده األخضــر تنبثــق ّ‬ ‫ّ‬
‫حب ــات مــن التيــن الشــوكي‬ ‫يعشــش‬
‫ُ‬
‫املك�وـرة‪ ،‬تش��هد علـ�ى املر ّــوم�نـ َم َّ��روعب��ر‪ .‬زجاجــات الشـراب الخضـراء‬‫الصف��راء ّ‬‫برؤوســها ّ‬

‫‪22‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫السدر‬‫تطل برؤوسها دون خجل‪ ،‬أكواخ من الفقر‪ ،‬إطارعجلة محراث‪ ،‬نبات ّ‬ ‫الفارغة ّ‬
‫يعــرض أكياســه البالســتيكية الفارغــة‪ ،‬كالب تنبــح وتجــري وراء الشــاحنات الخارجــة‬
‫مــن مقلــع الحجــارة‪ ،‬فتيــان يبحثــون بيــن أكــوام املزابــل‪ ،‬ينتظــرون كل شــاحنة نفايــات‬
‫جديــدة ّ‬
‫لتتقيــأ لهــم نفايــات أصحــاب املدينــة‪ ،‬ينقضــون بيــن أكــوام مــا تفرغــه الشــاحنة‬
‫ّ‬
‫مثــل الــكالب الجائعــة‪ ،‬يحملــون خطافــات يدويــة الصنــع لتســاعدهم فــي نبــش أكيــاس‬
‫حتــى بعــض الكهــول الكبــار تجدهــم‬ ‫القمامــة والبحــث داخلهــا عــن حاجــات مفيــدة‪ّ .‬‬
‫هنــاك‪ ،‬يبحثــون عــن ّ‬
‫أي �شـ ٍـيء قــد يكــون ذا قيمــة‪ ،‬نحــاس‪ ،‬أملنيــوم‪ ،‬ألبســة‪ ،‬أغطيــة‪،‬‬
‫ألعــاب أطفــال صغــارمكســورة‪ ،‬أحذيــة‪ ،‬بعــض أدوات الزينــة‪ ،‬يتدافــع فتيــة القريــة علــى‬
‫كومة الخردة والنفايات ويقتحمونها بأذرعهم وأنوفهم‪ .‬معتادون على الرائحة الكريهة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يسبحون داخلها على أمل إيجاد ّ‬
‫أي �شيء يصلح للبيع أو اللبس أو األكل أو االستعمال‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعاثــرالحــظ مــن يقحــم يــده فيمســك حفاظــات أطفــال‪ ،‬أو زجــاج مكســور يدمــي يــده‪.‬‬
‫"زوبية مقران" بمثابة مصدررزق للكثيرمن عائالت القرية‪.‬‬
‫تتلبــد ســماء القريــة املنخفضــة وترتــدي وشــاحها األســود‪ ،‬تتســارع الحمائــم إلنهــاء‬‫ّ‬
‫هــا ّ‬ ‫ّ‬
‫الدافئــة‪ ،‬تنبــح‬ ‫طقــوس الغــزل فــوق قرميــد أكــواخ الطــوب‪ ،‬مذيعــة الدخــول ألوكار‬
‫ّ‬
‫الــكالب دون توقــف‪ ،‬تنبــح وتتناحــب‪ .‬فــي محــور الطريــق تتدحــرج كريــات األعشــاب‬
‫اليابسة املشكلة من خليط من الحلفاء والديس اليابس‪ ،‬تدفعها أرجل الريح العاتية‪،‬‬
‫حبــات مطــرتعــزف بألحان ربانية‪،‬‬ ‫تقبــل وجهــي‪ّ .‬‬
‫حبــات مطــرخجولـ ٍـة بــاردة ّ‬ ‫ثـ ّـم هــا هــي ذي ّ‬
‫ٍ‬
‫عطرا ســقط من أيدي مالك يتطهر‬ ‫تعانق األرض وتضاجع التراب بلهفة وغنج‪ ،‬تفوح ً‬
‫فــي عــدن‪ ،‬رائحــة امت ـزاج املطــر بالت ـراب يبعــث عــن رائحــة تثيــر النشــوة والقشــعريرة فــي‬
‫النصــارى‪ ،‬التــي‬‫ـرش الغبــارعلــى شــواهد القبــور املســيحية ملقبــرة ّ‬
‫حبــات مطــرتـ ّ‬‫الجســد‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫كل جهــة برؤوســها األرجوانيــة‪ ،‬هنــاك ِحــذ َاء الطريــق قبالــة‬ ‫تظللهــا أشــجارالدفلــى مــن ّ‬
‫تبدو املقبرة النصرانية صامتة في غربة ووحشة‪ ،‬صلبانها تطل برؤوسها البيضاء بثقة‬
‫علــى الطريــق تنــادي بلغــة غيــرمفهومــة ال أحــد يســمعها أو ينتبــه لهــا‪ ،‬موصــدة مــذ ذاك‬
‫ّ‬
‫العــام‪ ،‬بغمــوض ال متنــاه يثيــرفــي جســدي الرعــب كلمــا عبــرت جوارهــا‪ ،‬فــي الجانــب اآلخــر‬
‫الساحة الترابية الصغيرة وراء املقبرة‪ ،‬أين كنا نلهو بلعب كرة القدم أيام‬ ‫حذاءها تلك ّ‬
‫املتوسـ�طة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫نفــرمــن صبيــة القريــة املشــاغبين ال نملــك كــرة قــدم حقيقيــة وبدلهــا ّ‬


‫كنــا نحــن مــن‬
‫نصنــع كرتنــا‪ ،‬كرتنــا عبــارة عــن جــورب محشــو بجــوارب أخــرى مكــور ومربــوط بإحــكام‪،‬‬
‫أو فــي بعــض األحيــان كيــس حليــب بالســتيكية نمألهــا بالقــش املبلــول أو بأكيــاس أخــرى‬
‫نحدد املرمى بصخرتين بعدهما عن بعضهما حوالي‬ ‫ثم ّ‬ ‫املهم نحشوها بأي �شيء طري‪ّ ،‬‬
‫عشــرة أقــدام فتــى قــروي‪ ،‬وطــول امللعــب حوالــي العشــرة أمتــار‪ ،‬ننقســم إلــى فريقيــن مــن‬
‫ســتة أوالد وحــارس‪ ،‬أنــا الحــارس‪ ،‬أطيــرمثــل القــط وأقفــزألصـ ّـد الكــرة‪ .‬أقصــد الجــورب‬
‫املبلــول‪ ،‬بوجهــي وأنفــي وأي طــرف آخــرمــن جســدي‪ ،‬أتصـ ّـدى للكـرات بحـرارة وتضحيــة‬
‫مــن أجــل نشــوة الفــوز ومــن أجــل أن ال أضطــرلدخــول الجبانــة وجلــب الكــرة التائهــة بيــن‬
‫األيــام‪ ،‬ويــا حســرتاه علــى "علــي الكيلــو"‪ ،‬فتــى قصيــر‬ ‫قبــور أبنــاء الرومــي‪ ،‬يــا حســرتاه علــى ّ‬
‫خفيــف الــوزن‪ ،‬ذو رجــل ذهبيــة وتســديدات ثاقبــة‪ ،‬مهاجــم مهــاري مــن الــدوري القــروي‬
‫ّ‬
‫املحتــرف‪ ،‬حــذاؤه الكــروي عبــارة عــن فردتيــن مــن حذائيــن مختلفيــن شــكل وماركــة ومــع‬
‫خاصــة عندمــا يضــع كالــة الشــمة تحــت شــاربه‪ ،‬يتســاقط‬ ‫ذلــك ال يخطــأ املرمــى أبــدا‪ّ ،‬‬
‫الفتيــة بيــن أرجلــه كالذبــاب املصــروع‪ ،‬هــو الوحيــد الــذي كان يجبرنــي علــى جلــب الكــرة‬
‫مــن املقبــرة‪ ،‬وأعــزأصدقائــي "بلوطــة" حكــم اللقــاء‪ ،‬ال يملــك صفــارة وإنمــا يملــك أصابــع‪،‬‬
‫ال يملــك بطاقــة حم ـراء وصف ـراء وإنمــا يملــك قطعتيــن مــن غالفــي ك ـراس‪ ،‬كثي ـرا مــا كان‬
‫يتعــرض لنطحــات أس جـراء قرا اتــه التحكيميــة املتسـ ّـرعة‪ ،‬كنــا نلعــب دون وقــت ّ‬
‫حتــى‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ينهــارأحــد الفريقيــن أوتغــرب الشــمس‪ ،‬الفريــق الخاســريحمــل الفريــق الرابــح علــى ظهــره‬
‫علــى طــول الطريــق‪ ،‬وأحيانــا نلعــب علــى قــارورة "ڨــازوز" حمـراء بــاردة‪ ،‬عشــرين دينـ ًـارا‪،‬‬
‫كل واحد يضع عشرين دورو ويلعب كأنه وضع نصف رزقه على طاولة امللعب‪ ،‬لذلك‬
‫ّ‬ ‫نلعــب بشراســة ّ‬
‫الرمــق األخيــر‪ ،‬إيــه يــا الدنيــا‪ .‬كــم أحـ ّـن لتلــك األيــام وكلمــا عبــرت مــن‬
‫حتــى ّ‬
‫هنــا تعــود بــي خيــوط الذاكــرة لركــن مثيــرمــن الزمــن‪.‬‬
‫يزيــد انهمــاراملطــروينكســرزجــاج الســماء ليعكــس بريــق الحســناء‪ ،‬فيشـ ّـق أمامــي‬
‫املخبــئ فــي ضبــاب جيــب الجبــل العتيــق‪.‬‬ ‫أفــق القريــة ّ‬

‫أباعد خطاي‪ ،‬أسارع في مشيتي‪ ،‬أنا في الثلث األخيرمن الطريق‪ ،‬تزمجرالسماء‪،‬‬


‫تنــوح علــى رأ�ســي‪ ،‬تبكــي بــكاء طفلــة صغيــرة‪ ،‬لــم تبــك منــذ مــدة‪ ،‬أمطــار الخيــر‪ ،‬أمطــار‬
‫متأخــرة مــن فصــل الشــتاء يســميها القرويــون "صالحــة النــوادر"‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫‪ -‬يا ربي افتح علينا يا رزاق الغوابر‪..‬‬


‫أداعــب قط ـرات املطــربيــن أصابعــي‪ ،‬أرفــع رأ�ســي ثـ ّـم أغمــض عينــي أتــرك األمطــار‬
‫تســقط لتبلــل جــدارعينــي وشــعري املغبــر‪ ،‬أمــد لســاني ألتقــط قطـرات املطــر‪ ،‬أبتلعهــا‪،‬‬
‫عطشــانا‪ ،‬أفتــح فمــي‪ ،‬أشــرب قط ـرات املطــر‪ ،‬التــي ال تزيدنــي ســوى عطشــا‪.‬‬
‫ثـ ّـم وأنــا فــي طريقــي نحــو دارنــا‪ ...‬وإذ بــي أصــادف رجــا يظهــرعليــه أنــه غريــب‪ ،‬خــرج‬
‫مــن مزرعــة الحر ـكـي املهجــورة التــي ال يدخلهــا ســوى أقويــاء القلــوب واملتشــردين والجــن‬
‫والسكارى‪ ،‬املزرعة ذي على حسب قول الحاج عدة أن املكان يعود لحقبة االستعمار‬
‫الفرن�سي‪ ،‬حيث كانت مقرا للتعذيب والتنكيل باملجاهدين الجزائريين‪ ،‬حكى لي الحاج‬
‫عــدة ذات ليلــة أن هــذه املزرعــة كانــت مق ـرا لتعذيــب املجاهديــن بشــتى الطــرق التــي ال‬
‫يتخيلهــا العقــل‪ ،‬والتــي تضــرب حقــوق اإلنســان بالعقــب علــى الحائــط‪ ،‬داخــل مزرعــة‬
‫والصراخ‪ ،‬وذكريات من دم يسلخ فيها املجاهدون من جلودهم‬ ‫الدم ّ‬ ‫الحركي تاريخ من ّ‬
‫وهــم أحيــاء ويــرش امللــح فــوق أجســادهم املســلوخة العاريــة‪ ،‬وبعــض املجاهديــن تقلــع‬
‫جلــدة رأســهم بشــعرها‪ ،‬وبعــض الضبــاط الفرنســيين الغاشــمين‪ ،‬أشــهرهم الضابــط‬
‫الفرن�سي "ڨامبو" ‪" “ Gambou‬الذي سميت القرية املجاورة لقريتي على اسمه يحمل‬
‫خاصــا باألشــجار يســتعمله خصيصــا النت ـزاع أظافــر املجاهديــن مــن‬ ‫مقصــا ًّ‬
‫فــي جيبــه ًّ‬
‫ّ‬
‫أصابعهــم‪ ،‬ظفـرا بظفــرحتــى يفشــوا أسـرارالجبهــة التحريريــة ومقــراختبــاء املجاهديــن‪،‬‬
‫ناهيــك عــن الصعــق بالكهربــاء والتحرشــات الجنســية الفظيعــة‪ ..‬انتهــاك صريــح لحقــوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬حيــث أن املســؤول عــن تعذيــب املجاهديــن داخــل هــذه املزرعــة عبــارة عــن‬
‫حركي"خائــن"‪ ،‬لذلــك يطلــق علــى املــكان مزرعــة الحر ـكـي‪ ،‬ال يدخلهــا ســوى املشــردين‬
‫أو األشــباح أو أنــا و"أوالد شــعيبي"‪ ،‬بأكيــاس الحليــب الفارغــة وعلــب الغ ـراء الصغيــرة‪،‬‬
‫ـتد بنــا الفـراغ والبــؤس مــن أجــل أن نــدوخ بالباتاكــس‪ ،1‬حيــث‬ ‫كنــا نــزوراملــكان حينمــا يشـ ّ‬
‫نقوم بإفراغ علب الباتاكس داخل أكياس الحليب الصغيرة الفارغة التي نخرجها من‬
‫الزبالــة ونستنشــق الغـراء ّ‬
‫حتــى تصيبنــا الدوخــة والنقــرة‪ ،‬النقــرة هــي تلــك الصافــرة التــي‬

‫‪ - 1‬ماركــة قديمــة للغـراء‪ .‬تســود هــذه الظاهــرة فــي األحيــاء الشــعبية الفقيــرة‪ .‬ظاهــرة استنشــاق‬
‫الغـراء مــن أجــل الحصــول علــى نشــوة االنتشــاء‬

‫‪25‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كنــا نســمعها حينمــا نبــدأ بفقــدان الوعــي مــن الدوخــة التــي يســببها نقــص األوكســجين‬
‫ورائحــة الغ ـراء الشــديدة‪ ،‬كان لنــا الباتاكــس عبــارة عــن مخــدرات رخيصــة‪ ،‬مبتكــرة‬
‫ومبهجــة‪ ،‬وحيــن كنــا ال نجــد الغـراء‪ ،‬نســتبدله بالوقــود‪ ،‬وهــذا األخيــرهــو أقــوى مفعــوال‬
‫مــن الغـراء‪ ،‬وبمــا أننــا كنــا صغــارا ويمنــع علينــا شـراء الوقــود مــن املحطــة‪ ،‬كان "للســوكو"‬
‫أكبرنــا وأغبانــا‪ ،‬ســيارة ‪ R4‬نلــم الدراهــم خمســتنا‪ ،‬ونملــئ خزانهــا الصغيــر كامــا‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫نمتص من خزانها الوقود‪ ،‬ونخزنه في قواريراملاء‪ ...‬ونستنشــقه كلما تمكن منا الفراغ‪.‬‬
‫كتفــا هــذا الرجــل أمامــي عريضتــان ومشــيته مريبــة وحتــى العــكازة فــي يــده ال تبــدو‬
‫غريبــة عنــي‪..‬‬
‫– السالم عليكم‪.‬‬
‫‪– "………".‬‬
‫لم ينبس ببنت شفة‪.‬‬
‫الرجل نحيف‪ ،‬يرتدي قشابية وبرية بلون ّبني قاتم‪ ،‬يضع قلنسوتها الكبيرة فوق‬
‫رأســه لتغــرق داخلهــا مالمــح وجهــه‪ ،‬مــن قصــر القشــابة‪ ،‬تبــرز ربلــة ســاقيه‪ ،‬نحيفتيــن‬
‫كســاقي ديــك عروبــي أحمــر‪ ،‬بحــذاء أســود‪ ،‬مطــوي عنــد كعــب رجلــه‪ ،‬ال ينتعلــه كامــا‪،‬‬
‫ويكتفــي بإدخالــه فــي رجلــه وجــره‪ ،‬فــوق رأســه قبعــة مــن القــش تظلــل معظــم مالمحــه‪،‬‬
‫ّ‬
‫تغــرق داخلهــا عينــاه‪ ،‬عليهــا آثــارالحــرق فــي جــزء مــن حوافهــا ورغــم طــول ســاقيه‪ ،‬إال أنــه‬
‫كان يم�شي ببطء‪ ،‬يضم يديه وراء مؤخرته‪ ،‬حيث يقفل يدا ويضم بها األخرى‪ ،‬مطأطأ‬
‫الـرأس‪ ،‬ينظــرنحــو األرض يتثاقــل فــي مشــيه‪ ،‬رغــم غـزارة تهاطــل األمطــاركان يقصــد فــي‬
‫مش��يه‪ ،‬ل��م يغي��رم��ن س��رعته‪.‬‬
‫‪ -‬أض‪...‬ال‪...‬طفي‪....‬ض‪ ،‬ما‪.....‬ي‪..‬ق‪....‬في‪...‬الواد‪..‬غ‪..‬حج‪...‬ره‪.‬‬
‫‪.....-‬‬
‫كان يتمتــم بكلمــات مبهمــة مــا إن تصــل مجــال ســمعي ّ‬
‫حتــى تتال�شــى مــع صــوت‬
‫هطـ�ول املطـ�ر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مربجانب الطريق عجوز يحمل‬ ‫تعمدت أن أتباطأ وأقترب منه‪ ،‬ألسترق السمع‪ّ ..‬‬
‫براميــل املــاء فــوق بغلتــه القصيــرة‪ .‬ثـ ّـم عبــربجانبــي كلــب ســلوقي يعــرج برجـ ٍـل مكسـ ٍ‬
‫ـورة فــي‬
‫فم��ه قطع��ة قم��اش‪ .‬قب��ل أن أص��ل الرج��ل‪.‬‬
‫‪ -‬أضرب النح وطفي الضو‬
‫‪...‬ما‪.‬ي‪..‬ق‪....‬في‪...‬الواد‪..‬غ‪..‬حج‪...‬ره‪.‬‬
‫‪ -‬آه!‬
‫‪ -‬ما يبقى في الواد غيرحجاره‪.‬‬
‫‪ -‬يــا ربــي أيــن ســمعت هــذه الجملــة مــن قبــل ثـ ّـم وأنــا أحــاول معرفــة مالمــح الرجــل‪،‬‬
‫ّ‬
‫شـ ّـد ضغــط أصابعــه علــى عصــاه الخيزرانيــة معقوفــة الطــرف املربــوط بســلك نحــاس‬
‫رقي��ق‪ ،‬وزاد م��ن س��رعة مش��يه ليختف��ي ف��ي ضب��اب طري��ق القري��ة الهالم��ي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعرق جبيني‪ ،‬وزادت نبضات قلبي‪ ،‬تجمدت رقبتي‪.‬‬
‫تزداد قفزات قلبي‪ ،‬تتدافع أنفا�سي‪ ،‬العرق البارد يتساقط من على جبيني‪ ،‬ساد‬
‫مصطحبا خوفي معه وزادني هذا العروبي طويل الركائب‬ ‫ً‬ ‫الظالم في األرجاء‪ ،‬جاء الليل‬
‫ً‬
‫كشهب ينعكس نورها‬ ‫ٍ‬ ‫خوفا‪ ،‬الطريق شبه خالية‪ ،‬من بعيد أضواء القرية أمامي تبدو‬
‫ّ‬
‫وتتصلب‪ّ ،‬‬ ‫في كوكب عيني‪ ،‬يتثاءب الجليد وينسف في ّ‬
‫أقبل‬ ‫كفي‪ ،‬تنكمش أصابع يدي‬
‫يزف برده الذي اح بالكف والسنداد يدهس أصابع رجلي البريئة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫النافذة‬ ‫ر‬ ‫الليل باكرا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مفتوحــة مــن الثقــب املوجــود فــي حذائــي "صابــر"‪ .‬هطــول املطــريــزداد‪ ،‬ويزيــد طرديــا معــه‬
‫تكمشــت ودخلــت فــي بع�ضــي‪ ،‬ســحبت جثتــي البــاردة دخلــت‬ ‫إيقــاع أنفا�ســي‪ ،‬مــن الخــوف ّ‬
‫ـرة كبيـ ٍـرة بيــن أشــجار الصنوبــر العريضــة‬ ‫ـدر صخـ ٍ‬
‫بيــن األشــجار واندسســت تحــت صـ ِ‬
‫ّ‬
‫كعنكبــوت صغيــرينــدس حيــن تدمــع السم ــاء‪ ،‬كانــت تلــك صخــرة الغولــة هــي نفســها التــي‬
‫يأخذنــي الحــاج قــدور لنصطــاد فوقهــا أيــام ّ‬
‫الصيــف‪ ،‬وهــا أنــا اآلن تحتهــا فــي هــذا الشــتاء‬
‫وتمنيت‬‫بأن بطني فارغ‪ّ .‬‬ ‫الشديد‪ ،‬في انتظارشفقة األم الطبيعة ورحمة الرب‪ ،‬شعرت ّ‬
‫لــو ّأنــي كنــت أملــك ّولعــة أو علبــة كبريــت‪ّ ،‬‬
‫تمنيــت لــو كنــت أملــك سـ ً‬
‫ـقفا‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫علــى األرض إطــار كبيــر لعجلــة مح ـراث خلفيــة قعــدت فوقــه‪ ،‬أســندت ظهــري‪،‬‬
‫ً‬
‫شديدا‬ ‫ابيضتا ً‬
‫بياضا‬ ‫مددت رجلي قليال‪ ،‬وضعت محفظتي‪ ،‬ورحت أنفخ في يدي وقد ّ‬
‫ّ‬
‫وتبللــت كل ثيابــي‪ ،‬قمي�صــي الجديــد بــدأ يفقــد جمالــه‪ ..‬تفقــدت محفظتــي لحســن حظــي‬
‫وحبات من التين ّ‬ ‫ً‬
‫قليل ّ‬ ‫ّ‬
‫املجفف ال أعلم من أين جاءت‪ ،‬أسكتت‬ ‫وجدت بقايا خبزتبلل‬
‫ّ‬
‫بهـ�ا عصافيـ�ربطنـ�ي قليـلاـ‪.‬‬
‫_فجأة؟‬
‫وبينمــا أنــا شــارد فــي خليــط الظــام واألمطــارواألشــجار‪ ،‬البــرد أمامــي أكاد أعانقــه‬
‫وأترجــاه‪ ،‬أمامــي علــى األرض العشــبية املبللــة علــى بعــد متريــن‪ ،‬حلــزون ســمين يتزلــج‬
‫بالعــرض البطــيء‪ ،‬الحلــزون مزيــت يلمــع بحجــم إبهامــي علــى ظهــره يحمــل منزلــه املتنقــل‬
‫َّأن شــاء حــط الرحــال‪ ،‬بــا مبــاالة يمــد قــرون استشــعاره‪ ،‬ليعــرف الطريــق أمامــه‪ ،‬يبــدو‬
‫أن آخــراهتماماتــه هــو الوقــت‪ ،‬ال أعلــم كــم تعيــش هــذه املخلوقــات لكنهــا حتمــا تعيــش‬
‫كل لحظــة مــن حياتهــا الحلزونيــة البطيئــة بدقــة‪ ،‬ال تحــرق ســعرات حراريــة كثيــرة لذلــك‬
‫ال يوجــد حلــزون نحيــف وطعمهــا لذيــذ‪ ،‬خصوصــا عندمــا يطهوهــا جــدي علــى البخــارمــع‬
‫الســبانخ والبيــض‪ ،‬حيــث أنــه فــي أحيــان كثيــرة كنــت أذهــب للصيــد معــه‪ ،‬بجانــب هــذه‬
‫الصخــرة‪ ،‬جــدي يكلفنــي أثنــاء ذهابنــا للصيــد بنبــش التربــة الحمـراء وجمــع بعــض ديــدان‬
‫التربــة الطويلــة التــي نســتعملها كطعــم للصيــد‪ ،‬ثـ ّـم كنــت أثنــاء عودتنــا للمنــزل أجمــع‬
‫الحلزونــات مــن علــى األرض لتكــون علــى طبــق العشــاء رفقــة بعــض الســمك مــن الــذي‬
‫نصطــاده مــن هــذا النهــر‪ ،‬آه يــا حضــرة الحلــزون لــو تقابلنــا فــي زمــان غيــرذا الزمــان لكنــت‬
‫ف��ي طب��ق عش��ائي‪.‬‬
‫ثــم فجــأة وأنــا أتأمــل اللوحــة الزلجــة الحلزونيــة أمامــي تناهــى لســمعي‪ ،‬ص ـراخ‬
‫متقطـ�ع‪.‬‬
‫– أش‪.....‬أن‪...‬أل‪...‬مح‪..‬رس‪.‬‬
‫الصوت لم يكن يبدو بعيدا‪ ،‬لكنه غيرواضح‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تناهى لخيالي أن جدي رفقتي فوق الصخرة وهو يروي لي حكاية الغولة التي كانت‬
‫تأكل أوالد القرية في يوم ختانهم‪ ،‬وتسرق أعضائهم الذكرية وترميها في الواد‪...‬‬
‫– أه يا سيدي ربي فرجها على خير‪ ،‬الحمد هلل أنا اآلن مختون ومصون‪.‬‬
‫ثارت حكايات جدي وسرب األفكارالغريبة واملخيفة حامت داخل رأ�سي‪ ،‬حشرت‬
‫رأ�ســي بيــن ركبتــي‪ ،‬تكــورت علــى نف�ســي وســحبت أمامــي محفظتــي‪ ،‬واحتميــت داخــل إطــار‬
‫عجلــة محـراث فــي انتظــارمرورالعاصفة‪.‬‬
‫– الحمد هلل رب العاملين‪.....‬قل هو هللا‪...‬قل أعوذ‪ ...‬تبارك الذي‪...‬‬
‫شــرعت بق ـراءة الق ـرآن والدعــاء فــي صــوت خافــت‪ ،‬اســتحضرت كل مــا كنــت‬
‫أحفظــه مــن آيــات فــي الزاويــة "الهبريــة البلقائديــة" بالقريــة قبــل أن أدخــل للمتوســطة‬
‫وأحتــك بالشــياطين وشــر النــاس‪.‬‬
‫وح ّدة الصراخ تزيد مع كل سورة أنهيها‪..‬‬ ‫بدأ املطريخف مع كل آية أقرأها‪ِ ،‬‬
‫ثــم بعــد لحظــات خــف انهمــاراملطــر‪ ،‬ألنهــض بحــذرمــن حلقــة اإلطــار وأخــرج مــن‬
‫تحت الصخرة الصماء‪ ،‬وال يزال صوت الصراخ يقترب أكثر‪ ،‬شدني الفضول والطريق‬
‫ألتبعــه‪ .‬رحــت أم�شــي بخطــوات قــط علــى حافــة الــواد‪.‬‬
‫ابتلعــت ريقــي‪ ..‬حينئــذ تذكــرت أنــي نســيت محفظتــي داخــل إطــارالعجلــة‪ ،‬قبــل أن‬
‫أولــي أدراجــي‪ ،‬كســرت عــرف صنوبــرنزعتــه ألحمــي نف�ســي مــن الحيوانــات املفترســة ومــن‬
‫شــر مــا خلــق‪ ،‬مــن علــى األرض حملــت بيــن أصابعــي صخــرة ملســاء متوســطة الحجــم‪،‬‬
‫وعــدت لجلــب املحفظــة‪.‬‬
‫الظــام أرخــى ســتائره علــى املــكان وأنــا علــى ضفــة النهــر الطينيــة الزلقــة‪ .‬متشــجع‬
‫أقــاوم الخــوف وخيالــي الخصــب‪.‬‬
‫عاد الصراخ مجددا‪...‬تقدمت نحو حافة النهرأكثر‪ .‬بدى لي الصوت أكثروضوحا‪.‬‬
‫يعكره سيران مياه الواد الجارفة التي ارتفع مستواها جراء نزلة األمطاراألخيرة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– أش‪...‬أ‪...‬ال‪...‬إل‪..‬مح‪...‬رس‪..‬ا‬
‫صعــدت فــوق جــذوع شــجرة الصنوبــر‪ّ ،‬‬
‫حتــى أوســع مجــال رؤيتــي‪ ،‬ألرى ســطح‬
‫مجــرى الــواد‪.‬‬
‫الصدمة!‬
‫تفاجأت بجسد يصرخ عالقا بين أغصان األشجاراملتدلية داخل مجرى الوادي‪،‬‬
‫يلوح بيده‪ ،‬يصعد تارة فوق املاء وينزل تارة أخرى‪ ،‬يلفظ أنفاسه األخيرة على ما يبدو‪.‬‬
‫نزلت من الشــجرة بعدما حددت مكان الصوت‪ ،‬اقتربت من حافة الواد‪ ،‬الرجل‬
‫يصــارع املــوت‪ ،‬يضــرب بيــده فــي ميــاه الــواد الضحلــة وصــوت صراخــه املتقطــع يمتــزج‬
‫بغرغــرة انســياب امليــاه داخــل فمــه‪ ،‬يغرغــر‪ ،‬يتخبــط‪ ،‬يتلــوى‪ ،‬ينــزل‪ ،‬يصعــد‪ ،‬يصــرخ‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫عيد دورة املوت تلك‪ .‬بيد يعانق صخرة ملساء زلجة كانت الكتسائها بصوف الجران‪،‬‬
‫بيده األخرى يتشــبث بغصن شــجرة طري رقيق قد ينقطع في أي لحظة‪ ،‬تســحبه املياه‬
‫الجارفــات الســاحقات دون هــوادة واملخلــوق يصــرخ بقــوة طالبــا النجــدة‪.‬‬
‫فركت عيني ألتأكد مما أراه أمامي‪ ،‬جسد يتخبط كالقط في برميل ماء‪ ،‬تكاد تخر‬
‫قــواه وتخونــه ذراعــاه‪ ،‬هــذا يبــدو مــن صراخــه الــذي يخفــت صرخــة بعــد صرخــة‪ ،‬تـراءت‬
‫لــي فكــرة أن أذهــب نحــو القريــة لالســتنجاد بأحدهــم ليقــدم املســاعدة‪ .‬ثـ ّـم عرفــت أنــه ال‬
‫وأن هذا الرجل أمامي لن يقاوم أكثرولم يعد باستطاعته أن يتمسك‬ ‫جدوى من ذلك‪َّ ،‬‬
‫ملدة أطول بتلك الصخرة‪ ،‬وحتما إن بقي هكذا ملدة وجيزة ستجرفه مياه النهرالهائجة‬
‫وســيلقى حتفــه ال محالــة‪ .‬يعنــي أنــه ال فائــدة مــن االســتنجاد بآخريــن‪ ،‬وعلــي أن أتصــرف‬
‫لــم يعــد أمامــي خيــارســوى أن ألعــب دور البطــل‪.‬‬
‫رميــت جــذع الشــجرة داخــل املجــرى ألتفقــد ســرعة امليــاه‪ ،‬ومــا كاد يالمــس الجــذع‬
‫حتــى اختفــى مــع الســيل فــي ملحــات مــن البصــر‪ .‬تنهــدت‪ ،‬ورجعــت للخلــف‬ ‫ســطح املــاء ّ‬
‫ثــاث خطــوات علــى وجــه الخــوف‪ ،‬نزعــت محفظتــي وضعــت فوقهــا الصخــرة التــي كانــت‬
‫بيدــي‪ ،‬ثب��ت كي��س أدوات��ي وأوراقــي مخافــة هبــوب الريــح وتعريــت مــن نصــف مالب�ســي‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كانــت األمطــار دافئــة والريــح بــاردة تنخــر ســاقي‪ ،‬حشــرت مالب�ســي داخــل محفظتــي ثـ ّـم‬
‫فركــت كفــي‪ ،‬وهــا أنــا أســتعد للقفــزة‪ ،‬نســيت البــرد ونســيت الطريــق‪ ،‬كل مــا كان أمامــي‬
‫هوــإنقاــذ ه��ذا الرج��ل‪ ،‬رجعـ�ت للخلـ�ف خطوتي��ن علـ�ى مقيــاس الشــجاعة واملخاطــرة ّ‬
‫حتــى‬
‫أزيــد ســرعة قفزتــي‪ ،‬أجريــت فــي الحســبان ســرعة النهــرالقويــة إضافــة إلــى ســرعة الريــح‬
‫وسرعة جريي مع شدة تبلل ضفة الواد‪ ،‬إذ ال حل أمامي سوى أن أقفزبمسافة أمامه‬
‫وأسبح تاركا مجرى تدفق الواد يسحبني بمسارمائل نحوه‪ .‬إذ كلما سقطت أقرب منه‬
‫كان هــذا مــن صالحــي ومــن صالحــه‪ .‬فهــذا مــن خبرتــي التــي أخذتهــا فــي الصيــف هنــا‪ ،‬حيــث‬
‫أعــرف واد بوغولــة جيــدا‪.‬‬
‫هممــت أثبــت رجلــي علــى األرض ألتخــذ وضعيــة انطالقــة عــداء‪ ،‬ســحبت نفســا‬
‫عميقــا‪ ،‬حســبت املســافة بينــي وبيــن الــوادي وكانــت ســتة أمتــارتقريبــا‪ ،‬انطلقــت‪ .‬أجــري‪،‬‬
‫أتســارع‪ ،‬أقفــز‪ ،‬أشــق ســطح املــاء بأصابعــي‪ ،‬أغطــس مباشــرة‪ ،‬أمســك أنفا�ســي‪ ،‬أبقــى‬
‫تحــت املــاء ألقــاوم التيــارالجــارف‪ ،‬أدفــع برجلــي عكــس اتجــاه التيــارالــذي كان قويــا‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫أرفــع رأ�ســي بعــد ثــوان ألجــد أنــي قــد جرفــت بســرعة نحــو الخلــف‪ ،‬الرجــل علــى بعــد أربعــة‬
‫أمتــارتقريبــا‪ .‬ثـ ّـم رحــت أســبح بقــوة ألقتــرب منــه‪ ،‬أجــد نف�ســي الزلــت فــي مكانــي‪ ،‬التيــارات‬
‫تســحبني نحــو الخلــف بقــوة أكثــر‪ ،‬ســحبت نفســا عميقــا وغطســت مجــددا ألتحــدى‬
‫أطناناــ م��ن امليـ�اه مجدف��ا عك��س مجـ�رى ال�وـاد‪ .‬الســيل جــارف يســحب جســدي يبعدنــي‬
‫عنــه‪ ،‬أثبــت نف�ســي‪ ،‬أجمــع أنفا�ســي أكثــر‪ .‬أغمــض عينــي وأســتعين بســمعي ألتبــع صــوت‬
‫الرجــل بكلمــات متقطعــة ســمعته يصــرخ ويقــول‪:‬‬
‫– آه آ‪..‬أشه‪...‬أن‪..‬ال‪...‬آه‪...‬مح آه‪...‬‬
‫– آه أشه‪ ...‬أن… ال… إل… محم‪...‬ر‬
‫عرفت أني في املسارالصحيح‪ .‬دفعت برجلي أكثر‪.‬‬
‫– أشهد‪ ..‬أن‪ ..‬ال إله‪ ..‬محم‪ ..‬آه‪ ...‬رس‪ ..‬ال‪ ..‬آه‬
‫تابعت وزدت دفعا بذراعي‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمد رسول هللا‬


‫عرفــت أنــي وصلــت ملــا بــدا الصــوت لــي مفهومــا وواضــح كان يذكــرالشــهادتين‪ ،‬كان‬
‫مذعــورا يائســا‪.‬‬
‫ثم تشبثت بالصخرة أمامه‪.‬‬ ‫رفعت رأ�سي وأمسكت بكمه وكتفه من الخلف ّ‬

‫– ششششت‪...‬اهدأ‬
‫– أ‪...‬م‪...‬ي‪..‬م‪..‬ة‪....‬أه‪...‬آه‪..‬آه‪...‬أم‪..‬ي‪..‬‬
‫يردد اسما لم أتذكره تحديدا‪.‬‬ ‫والذي فاجأني حينما وصلت إليه بدأ بالبكاء‪ ،‬كان ّ‬
‫ولــم أتمكــن مــن التعــرف علــى مالمــح وجهــه بســبب الظلمــة والفــزع الشــديد الــذي كانــا‬
‫يعتريانــه‪ ...‬تشــبث بــي بقــوة‪.‬‬
‫يلتف حول‬‫ّ‬ ‫أحاط بي بذراعيه كاد يخنقني‪ .‬كبل يدي لم َ‬
‫أقو على التجديف‪ .‬كان‬
‫يتشبث بفريسته‪.‬‬‫الضخم كأخطبوط ّ‬ ‫جسدي الصغيربجسده ّ‬

‫أتخبــط‪ ،‬أغــرق والرجــل يغــرق معــي‪ ،‬التيــار يجرفنــا للمنحــدر بشـ ّـدة‪ ،‬املــاء‬ ‫أنــا ّ‬
‫ّ‬
‫يدخــل مــن أنفــي‪ ،‬مــن حلقــي‪ ،‬املــاء يسـ ّـد أذنــي‪ ،‬تقلصــت أنفا�ســي‪ ،‬أحسســت ببــرد رهيــب‬
‫فــي أطـراف أصابــع رجلــي‪ ،‬أســعل‪ ،‬أختنــق‪ ،‬الرجــل يعصرنــي بيــن ذراعيــه أكثــر‪ ،‬يســحقني‬
‫حتى أذني‪ ،‬أرفع رأ�سي ألصطاد الهواء‪ ،‬أتصارع مع‬ ‫طرية‪ ،‬املاء يغمرني ّ‬ ‫كسمكة سردين ّ‬
‫الرجــل ومــع النهــرومعــي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فكرت في نف�سي‪ ،‬هل أنزلق من بين ذراعيه وأتركه للموت‪ ،‬هكذا ّربما أتمكن من‬
‫ّ‬ ‫الوصــول ّ‬
‫للضفــة وأنجــو‪ .‬لكــن إن أنــا ســلمته للمــوت ملــاذا تكبــدت عنــاء إنقــاذه مــن املــرة‬
‫ِ‬
‫األولــى أصــا! تكالبــت ضوضــاء مــن أنصــاف األفــكارداخــل رأ�ســي‪ ،‬تضاربــت علـ ّـي مشــاعر‬
‫الفــزع والخــوف والشــجاعة‪ ،‬أدركــت حينهــا ّأن علــى املــرء أن يعيــش مــن أجــل هــدف ّإم ــا‬
‫أن يحققه أو أن يموت لتحقيقه‪ .‬وبمقابل ذلك وجدت نف�ســي في الفراغ ال أملك شــيئا‬
‫ّ‬ ‫ولــم أرد مــن املــوت أن يأخذنــي هكــذا ً‬
‫معدمــا‪ ،‬ال ألنــي أردت الحيــاة ومتاعهــا‪ .‬وإنمــا أردت‬
‫العيــش مــن أجــل ش ــيء يســتحق املــوت ألجلــه أو العيــش لتحقيقــه‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫نغرق بعضنا في املاء‪،‬‬ ‫ّ في تلك األثناء تذكرت كيف كنت ألعب مع بلوطة حين كنا ِ‬
‫تذكــرت الطريقــة التــي كنــت أحبــس بهــا أنفا�ســي تحــت املــاء عندمــا يريــد أن يغرقنــي ثـ ّـم‬
‫أنــزل تحتــه‪ ،‬أمســكه مــن رجليــه وأوقــع بــه‪.‬‬
‫حبســت أنفا�ســي كمــا كنــت أفعــل‪ .‬فــي تلــك األثنــاء أحسســت ّأن الرجــل بــدأ بتحريــر‬
‫ألتنفــس قليــا‪ .‬جدفــت برجلــي بســرعة ودفعــت بيــدي بقــوة نحــو الضفــة‬ ‫يــدي‪ ،‬صعــدت ّ‬
‫القريبــة‪ ،‬صمــت الرجــل‪ ،‬ارتخــى ومــال نحــوي بكامــل جثتــه‪ ،‬وبذلــك سـ ّـهل علـ ّـي املهمــة‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بعــد صـراع وتخبــط وابتــاع الكثيــرمــن ميــاه النهــراملعكــرة تمكنــت مــن إخراجــه‪.‬‬
‫مددته على الضفة‪ ،‬تفقدت نبضه‪ .‬ال يزال حيا‪ .‬كان رجال ضخم الجثة ال أعرف‬ ‫ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حتــى أنــي لــم أســتطع ســحبه ألضعــه تحــت‬ ‫حقــا كيــف تمكنــت مــن إخراجــه مــن امليــاه‪،‬‬
‫الصخــرة التــي كنــت أحتمــي بهــا‪.‬‬
‫كان الليــل حالــكا واألشــجارترخــي ظاللهــا علــى ضفتــي الــوادي‪ ،‬ضــوء خفيــف مــن‬
‫القمــرالــذي ينعكــس علــى ســطح الضفــة الطينيــة للــوادي يعطيهــا ملعانــا غامضــا وفاتـرا‪،‬‬
‫أســندته فــي مــكان غيــربعيــد مــن الضفــة‪ .‬رميــت فوقــه بعــض أوراق األشــجار‪ ،‬وأغصانهــا‬
‫ألخفيــه مــن الحيوانــات الليلــة وأحميــه مــن األمطــار‪ ،‬ثـ ّـم انطلقــت مســرعا ألحضــربعــض‬
‫املســاعدة مــن القريــة أجــري وألهــث وأســعل امليــاه التــي شــربتها‪.‬‬
‫دخلت الهثا إلى مقهى بلهاشمي في مدخل القرية‪.‬‬
‫– يا عماراجري‬
‫– غيرالخير‪ ،‬غيرالخير!‬
‫– أحضرمعك الجماعة واتبعني هيا‬
‫– يا طفل‪ ،‬ارتاح‪ ..‬ارتاح‪ ..‬احكي لنا على مهلك‪ ،‬تريث‪.‬‬
‫– الرجل يموت‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– يموت! أين!‬
‫– هيا بنا‪..‬‬
‫ملــا وصلــت املــكان مــع نفــرمــن قريتــي‪ ،‬لــم أجــد شــيئا‪ ،‬الرجــل اختفــى‪ ،‬ال أثــرلــه‪ّ ،‬‬
‫كأن‬
‫األرض بلعتــه‪.‬‬
‫– أين هذا الرجل الذي يموت؟‬
‫– كان هنا‪ ،‬أقسم بربي يا إخوتي!‬
‫– هل تحسبنا أطفال؟‬
‫– ال ال!‬
‫– وهللا فــي طريقــي إلــى املنــزل القيتــه يغــرق داخــل الــواد‪ ،‬فقفــزت ألنقــذه‪ ،‬مددتــه‬
‫هنــا‪ ،‬وجئتكــم طالبــا املســاعدة‪.‬‬
‫– أظنك جننت على ما يبدو!‬
‫و آخروهو يضع الفأس من يده‬
‫– ياخي مهبول ياخي‪.‬‬
‫و أضاف عاشور القهواجي‪:‬‬
‫– اسمعوا يا جماعة هذا املكان فيه ذوك الناس‬
‫_ذوك الناس!‬
‫_أشششت يسمعونا! نعم مسكونة‪ ،‬وساكنتها جنية رومية‪ ،‬حكى لي الحاج عدة‬
‫ّ‬
‫مـ ّـرات ّأنهــم عندمــا كانــوا يمـ ّـرون مــن هنــا مــع الليــل يــرون األضــواء مشــتعلة علــى طــرف‬
‫الــواد ويســمعون أصــوات أطفــال صغــاروزغاريــد نســاء‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫‪ -‬قل وهللا! هيا ام�شي نخرج من هنا‪ ،‬قبل ما يضربنا جان‪.‬‬


‫‪ -‬لكني قد شفته بعيني هاتين اللتين يأكلهما الدود والتراب‪..‬شفت الرجل يا ناس‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما ورثته عن الالز‪ .‬الكذب فقط‪.‬‬
‫‪ -‬هيا تحرك‪ ،‬تحرك‪ ،‬أو نتركك وحدك هنا‪ ..‬تتزوج بيك الروحانية‪...‬‬
‫‪ -‬يا جماعة وأ‪..‬‬
‫‪ -‬ابقى تتخايل هنا لوحدك! وداعا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظـ ّـن ســكان القريــة أنــي أكــذب وحيــن قصصــت عليهــم مــا حــدث رحلــوا ضاحكيــن‬
‫وتركونــي وحيـ ًـدا‪..‬‬
‫ّ‬
‫رجعــت املنــزل متأخ ـرا ومتعبــا‪ ،‬بعــد يــوم طويــل وغريــب‪ ،‬حيــن شــرعت بتغييــر‬
‫مالب�ســي ألدخــل فرا�شــي شــعرت أن هنــاك شــيئا مــا ينقصنــي‪.‬‬
‫ثم حين وضعت رأ�سي على وسادتي تذكرته‬
‫وضعت يدي على صدري ولم أجدها!‬
‫‪ -‬حامية‪ ،‬شافية‪ ،‬عامية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬ ‫بين الورق ّ‬


‫والريش بين املخلب والطحلب بين البذور والطيور‬
‫***‬
‫ّ‬
‫للمتأمــل عضوا حميميــا مــن أعضــاء األم الطبيعــة‪ ،‬جدرانــه نديــة مــن حطــب‬ ‫يبــدو‬
‫قديم يبعث الدفء في أعين الناظرين‪ ،‬تزين خصره طحالب تلبس ثوبا أخضرا خفيفا‪،‬‬
‫عــاري الصــدر‪ ،‬ينفــث بخــارمــاء خفيــف ومكثــف‪ ،‬األعشــاب تتســلق جلــده كأخطبــوط‬
‫صغيريعانق أباه بأذرعه املتشعبة ويضع رأسه على كتفه مخافة هروبه أو البعد عنه‪.‬‬
‫يتنفــس العجــوز ويســعل مــن حيــن آلخــر‪ ،‬يقــف صامــدا بصمــت مهيــب‪.‬‬
‫***‬
‫ّ‬
‫ينتظرعبور غريب يدله على طريق العودة‪ .‬تاه وال أحد أتاه‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫َّ‬
‫البل ــبال‬

‫حبــات املطــر الخجولــة‪ ،‬ونســيم هــواء منعــش‬ ‫بيــن ســحاب هالمــي حزيــن‪ ،‬يغــازل ّ‬
‫يدهن حناجرطيور الحجل واملقنين‪ 1‬لتعزف ألحانها الرنانة‪ ،‬فتلطخ بها خلفية اللوحة‬
‫التشــكيلية فــي ســماء فســيحة تتدلــى منهــا عناقيــد بنفســجية‪ ،‬تقبــل رأس جبــل "دوي"‬
‫ّ‬
‫املهيــب منتصــب القامــة‪ ،‬كإلــه صغيــريحمــي القريــة مــن الريــح ويغشــاها بظاللــه‪ ،‬يتفنــن‬
‫بســكونه الحكيــم‪ ،‬تــارة يمســك ريشــته ويخلــط األلــوان حيــن تحــزن اللوحــة وتبكــي ليلهــا‪،‬‬
‫السماء ليقود الجوقة املوسيقية الخضراء‪ ،‬من‬ ‫يلوح بها في ّ‬ ‫وتارة أخرى يمسك عصاه‪ّ ،‬‬
‫آالت نفخيــة وصخريــة عرعاريــة‪ ،‬صنوبريــة‪ ،‬بخاريــة وقصبيــة‪ ،‬بلبليــة‪ ،‬لوزيــة وحلبيــة‪،‬‬
‫تعــزف علــى أوتــار ميــاد كل فجــر جديــد‪ .‬وحينمــا ّ‬
‫يتبجــل ويلبــس معطفــا أبيضــا ّبراقــا‬
‫بهيجــا‪ ،‬يقــود الســمفونية الســحرية الهادئــة‪ ،‬فــي أثنــاء تلويــح خادمتــه الشــمس بأشـ ّـعتها‬
‫الدافئــة‪ ،‬فــوق رأســه وأكتافــه‪ّ ،‬‬
‫فتعريــه مــن ثوبــه‪ ،‬عشــاقة الشــقية تلــك‪ ،‬تشــتاق ملظهــره‬
‫العــاري الشــهي‪ ،‬كفتــاة بريئــة فــي ليلــة دخلــة‪.‬‬
‫***‬
‫ينــدس عنكبــوت صغيــربيــن أغصــان الزعــرور‪ ،‬تدمــع الســماء‪ ،‬يتهــاوى العنكبــوت‪،‬‬
‫يهــوي العنكبــوت‪ ،‬تدمــع الســماء‪.‬‬
‫حشوة!‬

‫***‬

‫‪ - 1‬طائرالحسون باللهجة الجزائرية‬

‫‪37‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تتخبــى "جــدة قونــدة‪ ،" 1‬تتخبــى كقطعــة طريــة مــن اإلســمنت‪ ،‬تتخبــى بيــن حبــات‬
‫البلــوط‪ ،‬تتلــوى‪ ،‬كطفلــة غريــرة‪ ،‬يحرســها جنــود مــن البلــوط بقبعــات وبريــة رماديــة‪،‬‬
‫فــي ثكنــات مــن حطــب‪ ،‬يشــتهون رائحــة املــوت‪ ،‬تطحــن الجنــود لتصنــع كسكســا شــهيا‬
‫حتــى يحمــرجلــده‪ ،‬يصلــى علــى نــارذات شــهب زرقــاء‪ ،‬وجمــرأحمــرمتــأأل‬‫وبعضهــا يشــوى ّ‬
‫كحبــات اللؤلــؤ امللتهبــة‪.‬‬
‫نشوة!‬
‫***‬
‫دعســوقة فخمــة‪ ،‬ســمينة مكــورة ملاعــة‪ ،‬بجناحيــن ســوداوين مغلفيــن بغطــاء‬
‫أحمر‪ ،‬أملس ملطخ ببقع حمراء‪ ،‬ال تبالي‪ ،‬ما على بالها �شيء تطيربين الزهرة والوردة‪،‬‬
‫تقلــب نفســها وتتدحــرج علــى املــرج األخضــر‪.‬‬
‫لوعة!‬
‫***‬
‫خنفوســة شــقية ‪/‬غزالــة فقــدت أمهــا الخنفســاء‪ ،‬علــى املنحــدرتتســلل بجانــب دار‬
‫زبيــدة‪ ،‬تكـ ّـور وتكـ ّـور وتدفــع‪ ،‬تدفــع! صاعــدة املنحــدر الزلــق‪ ،‬تثبــت ســاقيها الخلفيتيــن‬
‫القصيرتين في الطين وتدفع بذراعيها وصدرها ملطخ بالطين والشقاء‪ ،‬تجركرة الروث‬
‫املتماســكة بهندســة متقنــة‪.‬‬
‫تفلــت منهــا حبــة الــروث‪ ،‬تتدحــرج إلــى أســفل املنحــدر‪ ،‬تنزلــق الخنفوســة بكرشــها‬
‫املنتفخــة‪ ،‬مــن دون تكلــل أو تزمــل وتلحــق بهــا‪ ،‬تعيــد الكــرة وتدحــرج الكــرة‪ ،‬كأن شــيئا‬
‫لــم يحــدث‪.‬‬

‫‪ - 1‬حشرة السرعوف أو فارس النبي‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫إرادة!‬
‫***‬
‫بغلــة رماديــة صبــورة‪ ،‬نبــاح الــكالب يمتــزج بعــواء الذئــاب ليبطــن فضــاء القريــة‪،‬‬
‫رنيــن حشــرة الــزش ينبعــث مــن شــجرة الخــروب الشــامخة فــي وســط القريــة‪.‬‬
‫معزوفة!‬
‫***‬
‫أشــجارالكاليتــوس تعانــق الجبــال فــي شــموخها‪ ،‬الخروبــة عتيقــة ّ‬
‫حتــى الســحابة‪،‬‬
‫تدمــع معجونــا أصفــريخــرج مــن بيــن تجاعيدهــا الحكيمــة أيــن خصرهــا العريــض‪ ،‬تخفــي‬
‫حكايــا أبطــال احتمــوا تحــت ظلهــا ودوي رعــود جيــوش وأمطــاررصــاص ف�ضــي وانفــاق‬
‫حناجــر دمويــة وصرخــات أوب ـرا ثوريــة تفــوح بعطــر الرجولــة‪ ،‬الشــهامة والتضحيــة‪،‬‬
‫فــي جوفهــا تحبــل صــدى مــات قبــل أن يولــد‪ ،‬يســمعه مــن عــاش أيــام الثــورة والجهــاد‬
‫والبطولــة عبــارات وعب ـرات‬
‫ال�سي املخفي والحاج عدة والحاج يحي وأحمد البغل‪.‬‬
‫و حكايا جدات وحكايا‪.‬‬
‫وراء الخروبة الطويلة‪ .‬بعشرين قدما على وجه الحميمية الفنية‪ ،‬ينبت مغازلها‪.‬‬
‫مخلــوق اللــوز األبيــض البســام بهــدوء أوراقــه الطويلــة ونــواره األبيــض املنتحــرواملتهــاوي‬
‫على أرض بكر‪ ،‬خصبة‪ ،‬تبلغ ذروة نشوتها بطلقات من الريح العاتية والنسيم الفحل‪،‬‬
‫واألمطــار املتالطمــة التــي تعطــي األكســير الســحري لشــبق حيــاة القريــة واســتمرارية‬
‫طهورهــا وصفوتهــا وغنجهــا‪.‬‬
‫بين الورق والريش بين املخلب والطحلب بين البذور والطيور‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تخلــق شــوارع مجتمــع مــن العصافيــر املهذبــة والحش ـرات الفنانــة والزواحــف‬
‫األنيقــة والصراصيــر املضيئــة ســهرانة الليــل‪ ،‬فراشــات متأنقــة ترقــص وتغنــي علــى‬
‫أوركســترا الــورود املزركشــة وتعانقهــا عيــن شــمس ذهبيــة مــن خســرها‪ ،‬والتــي ترتمــي‬
‫بخيــوط شــعرها الذهبــي األشــقرلتثيــرســطح ذاك املنــزل الريفــي العريــق‪ ،‬الــذي يتوســط‬
‫اللوحــة الفنيــة التشــكيلية ويقــود الجوقــة املوســيقية‪ ،‬كعجــوز اعتــزل الفــن وتــاه‪ ،‬وظــل‬
‫طريــق العــودة لبيتــه‪ ،‬قعــد فــي مكانــه يفكــر مــن أيــن جــاء‪ ،‬يتكــئ علــى شــجرة الخــروب‪،‬‬
‫وينتظــر عبــور غريــب يدلــه علــى طريــق العــودة‪ .‬تــاه وال أحــد أتــاه‪.‬‬
‫يبــدو للمتأمــل عضوا حميميــا مــن أعضــاء األم الطبيعــة‪ ،‬جدرانــه نديــة مــن حطــب‬
‫قديم يبعث الدفء في أعين الناظرين‪ ،‬تزين خصره طحالب تلبس ثوبا أخضرا خفيفا‪.‬‬
‫عاري الصدر‪ ،‬ينفث بخارماء خفيفا كثيفا‪ .‬األعشاب تتسلق جلده كأخطبوط صغير‬
‫يعانـ�ق أبـ�اه بأذرعـ�ه املتشـ�عبة ويضـ�ع رأسـ�ه علـ�ى كتفـ�ه مخافـ�ة هروبـ�ه أو البعـ�د عنـ�ه‪.‬‬
‫يتنفــس العجــوز ويســعل مــن حيــن آلخــر‪ ،‬يقــف صامــدا بصمــت مهيــب‪.‬‬
‫رأســه ملفــوف بعمامــة حمـراء مطـ ّـرزة بقطيفــة خضـراء‪ ،‬يتصاعــد دخــان خفيــف‬
‫من قلبه‪ ،‬ذاك الذي ينبض بحطب أحمرطازج‪ ،‬يضع كرسيا وجريدة ورجال على رجل‬
‫ويتأمــل اللوحــة الفنيــة البديعــة املحيطــة بــه‪ ،‬ينفــث دخانــا فحميــا مــن منخــاره املجــوف‬
‫بســهاد كربــون منعــس‪.‬‬
‫يراقــب الســيدة التــي تجلــس محتــارة قبالتــه‪ ،‬تنتظــر العجــوز ليشــرفها أحــد مــن‬
‫ســكانه بارتشــاف دالء مــن جوفهــا العاتــم‪ ،‬صامتــة وتتبــادل النظ ـرات فــي انتظــار ذلــك‬
‫الدلــو ليداعبهــا وتســقيه مــن ريقهــا‪.‬‬
‫بالجانــب اآلخــر كتلــة عجيبــة مــن الطيــن تحمــل فــي فمهــا بعــض الحطــب األحمــر‬
‫الشــهي‪ .‬هــي ذي "الكوشــة"‪ ،‬فــرن يــدوي الصنــع إلعــداد خبــزالــدارواملطلــوع قابعــة علــى‬
‫أرض خصبة خفيفة العشب‪ ،‬متشققة الوجه‪ ،‬حذاءها تضع صينيات مستديرة من‬
‫حديد‪ ،‬بجوارها شباك صيد نصفها ممزق ومهترأ الخيوط ونصفها اآلخرمتشابك مع‬
‫بعضــه‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كل هــذا املزيــج الفنــي يحيــط بالكــوخ الشــاحب‪ ،‬كل جــزء مــن القريــة يســرد قصــة‬
‫فــي حــد ذاتــه‪ ،‬يبعــج الزمــن ببســاطته وبأصالتــه‪ ،‬كلوحــة فنيــة كقصيــدة شــعرية شــعبية‪.‬‬
‫مســرحية غيــرمكتملــة ّ‬
‫حتــى يكملهــا ســقوط نهــاريــوم جديــد علــى الكــوخ الصامــد‪.‬‬
‫صيــاح الديــك منبــه موثــوق فــي قريــة "البلبــال "تســتيقظ الحرائــرمــن النســاء أوال‬
‫إلعــداد فطــور الصبــاح‪ ،‬قــدح مــن الحليــب كامــل الدســم مــع بعــض خبـزات مــن الكســرة‬
‫أو املطلوع وفي بعض األحيان تمرولبن‪ .‬األطفال الصغاريتوجهون للمدرســة ســيرا على‬
‫األقدام بوجوه صدئة وأقدام نصف حافية‪ .‬مآزر حائلة اللون ومحافظ رثة‪ ،‬ويتوجه‬
‫الرجــال إلــى العمــل فــي امل ـزارع أو فــي مقلــع الحجــارة أو شــد الحيطــان وارتشــاف الف ـراغ‬
‫القاتــل‪.‬‬
‫جدة قوندة‪:‬‬
‫حشــرة اليعســوب أو فــرس النبــي‪ ،‬لعــل مــن األســباب التــي جعلــت أطفــال القريــة‬
‫ّ‬
‫يســمونها بالجــدة أو ســؤالهم لهــا عــن أخوالهــم هــو شــعور شــوق يتولــد فــي األم التــي عــادة‬
‫مــا تكــون بعيــدة عــن أهلهــا‪ ،‬فتالعــب أبناءهــا وتحبــب لهــم أخوالهــم بطريقــة مرحــة‬
‫عينة أسهل من السرعوف الساكن الذي يتيح لك ّ‬
‫التأمل‬ ‫يزدادون بها شوقا لهم‪ .‬وأي ّ‬
‫ومحادثتــه‪.‬‬
‫كان األطفــال يفرحــون بلقائهــا وينزلــون عليهــا بوابــل مــن األســئلة‪ ،‬فيســألونها عــن‬
‫القبلة‪ ،‬منا وال منا؟” أو يسألونها عن‬ ‫القبلة ويغنون لها “آ سيدي الحاج قلنا وين راهي ِ‬
‫أحبائهــم “ويــن راه فــان مــن وال مــن؟” أو أخوالهــم “بوشــعيرة ويــن راهــم خوالــي”‪“ ،‬يــا مــا‬
‫عيشــة خوالــي هــاك وال هــاك؟” أو عــن أشــيائهم املفقــودة أو أحبائهــم‪ ،‬ويتــوددون لهــا “يــا‬
‫اللــة عــودة ناســك مــن وال مــن؟“‪ .‬فتتفاعــل معهــم بحركاتهــا الرشــيقة والغامضــة وتنحنــي‬
‫نحو أحد االتجاهات أو تشيربطرفها أو تهزرأسها أو قرون استشعارها نحوه‪ .‬فيتبعون‬
‫االتجــاه الــذي تشــيرلهــم بــه‪.‬‬
‫فهــي بوصلــة الطفولــة‪ّ ،‬‬
‫حتــى قيــل “ ـكـي تهمــل ومــا تعرفــش داركــم ويــن راهــي سق�ســي‬
‫بوشــعيرة”‪" .‬عندمــا تضيــع وال تعــرف طريــق الرجــوع ســل اليعســوب" ويتخيــل غيرهــم‬

‫‪41‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مســرحية غنائيــة‪“ :‬جيــدة عريبــة مايــن كنتــي‪ ..‬ويتخيلونهــا تــرد قائلــة‪ :‬كنــت نغســل‬
‫لوليداتي … كنت نمسح لوليداتي … كنت نمشط لوليداتي … جيدة عريبة واين كنتي‪..‬‬
‫فتــرد كنــت نجــري ورا وليداتــي”‪.‬‬
‫وقد يحمله بعض الفتية من وسطه كي يسألوه‪ ،‬بينما يقبل عليه البقية والبنات‬
‫خاصة ليســألوه بلطف عن جهة زواجهم ويترقبون حركته بفارغ الصبركي يشــيربأحد‬
‫أطرافه األمامية ليريهم الجهة التي يسكنها فارس أحالمهن‪.‬‬
‫ويغلوا بعضهم ويسأله‪:‬‬
‫_ يا جدة وين نروحو للجنة وال للنار؟‬
‫"يا جدة أين نذهب للجنة أم للنار؟ "‬

‫‪42‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫في زاوية من زوايا البيت الريفي البديع‪ ،‬تســمع دندنة "عيشــة "وهي تدندن أغاني‬
‫شــعبية قديمة في نغمات متوازنة أكثرها لحنا من كلمات‪..‬‬
‫وهنــاك بيــن أحضــان الهيــدورة الدافئــة يرقــد بوضعيــة جنيــن‪ ،‬فتــى نحيــل يميــل‬
‫للســمرة بشــعر أســود وجبهــة واســعة‪ ،‬يضاجــع وســادته بلــذة وألفــة‪ ،‬وســادة حبلــى‬
‫بصوف األغنام والخرفان حيث يستراملشهد الحميمي حنبل أمازيغي أصيل من الوبر‬
‫املزركــش باألحمــر واألصفــر‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫صابر‬

‫أسمع صوتا خافتا آتيا من بعيد‪...‬أشعربيد تحط على كتفي‪:‬‬


‫– لقمان! لقمان!‬
‫– أممم‪...‬أممم‬
‫– انهض يا ولدي انهض‪ ..‬وقت املدرسة‬
‫– دقيقة‪ ..‬دقيقة فقط‪ ....‬أعدك!‬
‫بعد مرورخمس دقائق أو أكثر‪.‬‬
‫أشــعر بنســمة بــاردة تجتاحنــي بدايــة مــن أصابــع رجلــي متســللة ألســفل ظهــري‪،‬‬
‫فعلت فعلتها وسحبت الفراش كعادتها ألنهض متثاقال كحلزون ينزلق على أرض مبللة‬
‫بعــد توقــف املطــريبحــث عــن عشــب أو حلزونــة‪.‬‬
‫أســتيقظ بعــد ليــل طويــل ال أح�صــي منــه أشــياء كثيرة‪..‬متكاســا أجــر جســدي‬
‫املتثاقــل النحيــل‪ ،‬أحملــه ويحملنــي باتجــاه املوقــد فــي الجانــب اآلخر‪..‬ألدفــئ نف�ســي قليــا‪.‬‬
‫بعــد لحظــات تأتينــي القهــوة وبعــض الفطيــر فــي صينيــة مــن نحــاس قديــم أصفــر‬
‫باهــت‪ ،‬وإبريــق أنيــق يلقبونــه بالبقـراج يشــبه مصبــاح عــاء الديــن لكنــه أكبــرمنــه حجمــا‬
‫وأقــدم منــه قدمــا‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحبها‪...‬كل وال تنس إخراج زبيدة في طريقك‪.‬‬ ‫– هاك يا ولدي‪ ،‬ساخنة كما‬
‫– أين املقروط قبل هذا؟‬
‫– هــا هــو! والكســرة دافئــة أظــن هــذا يكفيــك ّ‬
‫حتــى تحمــل نفســك‪ّ ،‬‬
‫كل منــه وقــت‬
‫الفطــور‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بعينيــن ناعســتين‪...‬وجوارب مثقوبــة وهيــدورة تحتــي‪ ،‬وأمــي أمامــي بعينيهــا‬


‫الخضراويــن الداكنتيــن وتجاعيــد خفيفــة تختبــئ بيــن مالمحهــا‪ ،‬أفهــم معناهــا دون أن‬
‫أســألها عــن حالهــا وأرهقهــا بســؤالي همــي لهمومهــا وشــقائها‪.‬‬
‫– شكرا يا أمي‪..‬ربي يحفظك!‬
‫بعــد لحظــات معــدودة أنهــض مــن مكانــي‪ ،‬أنفــض بقايــا النــوم عنــي‪ .‬أم�شــي خطــوات‬
‫باحثــا عــن‪...‬‬
‫– أين هو؟ أين رميته البارحة يا ترى؟ هيا أين أنت الوقت على املدرسة!‬
‫– أ ميييييي‪ ،‬أين صابر؟‬
‫ترد على سؤالي وهي تحمل بين يديها محفظتي وتضع داخلها كيسا بالستيكيا‪.‬‬
‫– شوف تحت سريرك أو عند عتبة الباب‪.‬‬
‫***‬
‫في آخرأيام رمضان قبل خمس أعوام من الشتاء والبرد شديد‪ ،‬واقفا أبيع كسرة‬
‫املطلوع في سوق الخضراملركزية في البلدة‪ ،‬ال أكف أنفخ في يدي وأمسك أصابع رجلي‬
‫ألدفئهــا بهــا مــن البــرد القــارص‪ ،‬جاءتنــي ام ـرأة تبــدوا عليهــا عالمــات الث ـراء‪ ،‬اشــترت منــي‬
‫خبزتين وأعطتني ورقة نقدية من الفئة الكبيرة‪ ،‬أخبرتها أن تنتظرهنا سأذهب إلحضار‬
‫الفكــة وأرجــع‪ ،‬وملــا رجعــت وجــدت الســيدة قــد حلــت وتركــت لــي علبــة‪ ،‬فتحتهــا فوجــدت‬
‫هــذا الحــذاء األنيــق‪ ،‬ولــم أعــرف مــن تلــك الســيدة لحــد اآلن وملــاذا فعلــت هــذا؟ كان‬
‫صابــرأول حــذاء رســمي أنتعلــه فــي حياتــي‪ ،‬إذ كل مــا أجمعــه فــي بيــع املطلــوع يذهــب بيــن‬
‫مصاريــف الــدارواملدرســة‪.‬‬
‫أصبــح هــذا الحــذاء ال يفــارق رجلــي ويشــاركني فــي متاعــب الحيــاة لذلــك ســميته‬
‫صابــر‪ ،‬مثلمــا يســمي األثريــاء القطــط والــكالب واآلالت الفاخــرة أنــا اســمي حذائــي هــل‬
‫هــذا غريــب عليكــم؟‬
‫***‬

‫‪45‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أقــع أرضــا منبطحــا بوضعيــة جنــدي‪ .‬متقيــد بأمــر مــن ســلطة أمــي الحكيمــة فــي‬
‫معرفــة أماكــن تواجــد األشــياء‪.‬‬
‫– هــا هــو‪ ،‬أخــرج! هيــا صابر‪...‬دعنــا نتم�شــى‪ ،‬همم‪...‬همــم كيــف أخرجــه مــن هنــاك‬
‫اآلن؟‬
‫كان بعيــدا عــن متنــاول يــدي‪ ،‬نزلــت الســلم حافيــا مســرعا نحــو القبــو‪ ،‬أحضــرت‬
‫ع�صــى جــدي الخيزرانيــة وأخرجتــه بعــد مــد لســان‪.‬‬
‫الغريــب فــي األمــرأنــي كثيـرا مــا أجــد الفردتيــن منــه كل واحــدة فــي جهــة‪ ،‬برغــم ذلــك‬
‫وبغض النظرعن ذلك كنت أحترمه وأقدره‪ ،‬وأنفض عنه الغباروال أقتحم به املزرعة‬
‫ألفســده بالطيــن واألوحــال‪.‬‬
‫هــا هــو ذا بنــي اللــون ذو رأس مســطحة وحــواف قصيــرة علــى جوانــب قاعدتــه‬
‫املنخفضــة‪ ،‬يشــده خيــط قصيــر يســهل ربطــه مصنوعــا مــن الجلــد‪ ،‬يبــدو كبي ـرا علــى‬
‫مقاس رجلي "رغم أن مقاس رجلي كان في عمررجل بالغ‪ ،‬الشعريمأل ساقي‪ ،‬كان إصبع‬
‫رجلــي األكبــرطويــا بعــض ال�شــيء" إال أنــه كان مريحــا علــى مقا�ســي‪ ،‬يناســب أصابــع رجلــي‬
‫التي يبرز منها إصبعي األكبرفي تسلل واضح‪ ،‬مع مرورالوقت تشكل على هندسة رجلي‬
‫ونمــط تـراص أصابعــي ليناســب قدمــي‪ ،‬هــذا مــع الوقــت أيضــا ولألســف حفــرلنفســه فــي‬
‫جلد الحذاء حفرة يتنفس منها‪ .‬كبيرإخوته‪ ،‬يطل على العالم الخارجي دون أن يستحي‪،‬‬
‫وهل هناك غيرهذا الحذاء ليحمل هذه الرجل الجميلة؟ وهذه األصابع الغريبة لذلك‬
‫ينبغــي علــي أن أحترمــه وأقــدره وأذكــره لكــم‪.‬‬
‫***‬
‫ألبس صابرباحترام متبادل‪ ،‬أشد عمامته بخيط أسود متين متوسط‪.‬‬
‫أضــع القشــابية املدرعــة بالجلــد والوبــرعلــى كتفــي‪ ،‬علــى صــدري قالدتــي الفضيــة‬
‫التــي ال تفارقنــي ولــم تفارقنــي بمثابــة الحــرز عنــدي‪ ،‬علــى ظهرهــا مجموعــة مــن الرمــوز‬
‫القديمــة‪ ،‬هديــة مــن جــدي يحــي الصابــري‪ ،‬يــوم ختانــي‪ ،‬عرفــت بعدهــا أنهــا ترجــع لخالــي‬

‫‪46‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بوعــام الصابــري‪ .‬جــد جدي‪ .‬وهــي متوارثــة أبــا عــن جــد فــي العائلــة‪ .‬وهــذا ســرقدوســيتها‬
‫و�شــيء آخــرال أعرفــه ولــم يــرد جــدي أن يخبرنــي بــه وبمعنــى الكلمــات التــي قالهــا لــي عندمــا‬
‫وضعهــا علــى رقبتــي‪.‬‬
‫أقبل رأس عيشة التي تقف عند الباب‪ ،‬منذ أن كنت صغيرا وهي تفتح لي الباب‪،‬‬
‫تقبلني كل صباح عند خروجي ال أدري متى ستستمرفي فعل هذا‪...‬حقا ال أدري!‬
‫– اعتني بنفسك يا أمي‪..‬‬
‫– يعتني بنا ربي‪ ..‬رد بالك على نفسك!‬
‫أجــرنف�ســي وأجــرزبيــدة لتتنــاول فطــور الصباح‪...‬تــاركا ورائــي عيشــة وهــي تمخــض‬
‫فــي الشــكوة‪ ،1‬تهزهــا جيئــة وذهابــا لتشــكل زبــدة طازجــة تســيل اللعــاب عنــد رؤيتهــا‪.‬‬
‫هــزشــاب نشــيط فــي أوج عطائــه كانــت امـرأة فــي األربعينات‪...‬أمــا شــكلها يوحــي بأنهــا‬
‫فــي الثالثيــن أو لــم تقــارب مــن عمرهــا‪ ...‬بعينيــن وهاجتيــن مخضرتيــن‪ ،‬ذاك اللــون املعكــر‬
‫الطحلب��ي‪ ،‬يق��ارب الرمــادي ويمي��ل إل��ى األزرق‪.‬بشــعر طويــل أســود فحمــي تضــع فوقــه‬
‫منقطــة باألصفــر‪ .‬ضحتكهــا تطلــع معهــا الشــمس وتزهــراملقابــر‪.‬‬ ‫قطعــة قمــاش ّ‬

‫‪ - 1‬آلــة مصنوعــة مــن جلــد املاعــز تســتخدم فــي خــض اللبــن حيــث تعتبــر الشــكوة حــا جيــدا لحفــظ‬
‫الحليــب وتحويلــه ألــى لبــن حامــض وزبــدة منــذ القــدم‪ ،‬كمــا تســتخدم أيضــا لتخزيــن الســمن والعســل‬
‫والتمــر‪.‬‬
‫وتصنــع الشــكوة مــن جلــد صغــاراملاعــزبعــد ذبــح الشــاه‪ ،‬فبعــد الذبــح يتــم قطــع ال ـرأس وفتــح فتحــة‬
‫بمقــدار‪ 30‬ســم لكــى يتحكــم الجـزارباســتخراج جســم الذبيحــة‪ ،‬ويســتخدم فــي الســلخ آلــة حــادة واليــد‬
‫هي من تقوم بسلخ الشاه من الداخل بفصل الجسم عن الجلد بطريقة ال تترك أي شوائب أو دهون‬
‫فــى جلــد الذبيحــة مــن الداخــل وبعــد االنتهــاء مــن الســلخ تســتخرج الذبيحــة مــن جهــة الرقبــة مــع املــكان‬
‫املخصص لها‪ ،‬ثم بعدها مرحلة الدبغ وهي املرحلة الثانية بعد مرحلة السلخ واستخراج الذبيحة ثم‬
‫بعــد ذلــك تبــدأ عمليــة الدبــغ باســتخدام أوراق الزيتــون ونبــات الشــعرة‪ ،‬حيــث يتــم وضــع امليــاه فــي إنــاء‬
‫كبيــريســع حجــم الجلــد وتضــاف أوراق الزيتــون أو نبــات الشــعرة وينقــع الجلــد فــي امليــاه ملــدة تزيــد عــن‬
‫‪ 10‬أيام حسب ما يتطلبه الجلد من وقت وما يراه املصنع‪ ،‬ثم بعدها يتم استخراج الجلد من املياه‪،‬‬
‫فميــاه الزيتــون تقــوم بتســهيل التخلــص مــن الشــعر وإزالــة رائحــة الجلــد وإفرازاتــه تمامــا كمــا تعطــى‬
‫الجلــد ملمــس خــاص ال يتفاعــل مــع اللبــن أو الزبــدة‪ ،‬وبعــد االنتهــاء مــن عمليــة الدبــغ يتــم غســل ُالجلــد‬
‫باملاء واملنظفات ما يقارب عن ‪ 5‬مرات مع مراعة التجفيف في الشمس عقب كل مرة ثم أخيرا تصبح‬
‫جاهــزة لالســتخدام بعــد فركهــا بالحلبــة وامللــح املطحــون‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بفم صغيرومالمح تدل على التعب واالطمئنان‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وتلك الجفون الثقيلة‬
‫تغمــض بهــدوء مــع ابتســامة عريضــة ترســمها شــفتان مرســومتان بقلــم رصــاص رقيــق‪،‬‬
‫تللك االبتسامة مسجلة في أرشيف ذاكرتي‪ ،‬كل ما اقتربت من الباب ألودعها صباحا‪،‬‬
‫إال وأظهرتهــا لــي ـكـي أطمــأن علــى حالهــا‪ .‬حكايتــي مــع عيشــة حكايــة‪.‬‬
‫ملــا أعــرف أنهــا راضيــة عني‪...‬فيرتــاح بالــي وأشــد طريقــي‪ .‬وأذهــب أيــن مــا شــاء هللا لــي‬
‫أن أذهــب‪.‬‬
‫قبــل خروجــي أقبلهــا علــى جبينهــا‪ ،‬فتحــرص أن تــدس داخــل محفظتــي بعــض قطــع‬
‫الكســروالجبنــة وتيــن جــاف‪.‬‬
‫بمــكان غيــر بعيــد هــا هــي ذي زبيــدة فــي حجرتهــا املصنوعــة مــن جــذوع األشــجار‬
‫املغروســة بإحــكام فــي األرض ســقفها هــو عبــارة عــن قصبــات جافــة مصطفــة بمحــاذات‬
‫بعضهــا البعــض‪.‬‬
‫مطأطــأة الـرأس‪ ،‬واســعة العينيــن‪ ،‬بيضــاء ببقــع ســوداء أو ســوداء ببقــع بيضــاء ال‬
‫زلــت أتســاءل‪!...‬‬
‫بأهداب طويلة وأنف عريض أسود وفم مملوء باللعاب اللزج يدل على أنها بقرة‬
‫حلــوب‪ ،‬يــدل علــى أنهــا جائعــة وهــي تغــرس حافرهــا علــى األرض‪ ،‬كأنهــا تقول‪...‬لقــد أطلــت‬
‫القــدوم اليــوم!‬
‫– هيا نذهب أنا جائعة!‬
‫أضع برفق الحبل الطويل على رأسها "و برقبتها جرس أصفركبيرمشدود بإحكام‬
‫ولطف‪ ،‬يحدث نغما جميال عند مشيها"‪...‬مداعبا رأسها‪:‬‬
‫– حسنا عزيزتي‪ ،‬هيا بنا‬
‫وجهتنا إلى مرج "العابد" لترعى‬

‫‪48‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أشــد حبل رقبتها تســيرورائي‪ .‬أنا أصفروأدفع الح�صى الصغيرة برجلي‪ ،‬إلى غاية‬
‫أن أصــل إلــى مــرج أخضــر غنــي بالعشــب علــى مســافة نصــف ســاعة مــن امل�شــي أربطهــا‬
‫بإحــكام إلــى وتــد حديــدي أغــرزه فــي األرض‪ ،‬وأســتودعها فــي رعايــة "بارجــي "علــى أمــل أن‬
‫نلتقــي فــي املســاء علــى طاولــة املغيــب أنــا وزبيــدة "وبارجــي "والشــمس‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب_‬
‫السيد سميربن عودة‬
‫***‬

‫خــرج ســميرمــن القاعــة واتجــه ليقابــل املحقــق املاحــي مباشــرة‪ .‬نــزع قبعتــه وجلــس‬
‫جزء منها وسلمه لسمير‪.‬‬ ‫على الكر�سي‪ .‬قابل املحقق الذي يحمل تفاحة في يده‪ .‬قسم ً‬

‫– اسكوبارصديقي‪ ،‬أين اختفيت مؤخرا‪ ،‬كيف حال الحاج عدة أبيك‪.‬‬

‫_هو بخير‪.‬‬

‫_الحظت اختفاءك من حومة ديارالسوق! أين كنت تذهب؟‬

‫– مــاذا تقصــد‪ ،‬أنــا مــع الدراســة‪ ،‬مــاذا أخذنــي لتلــك الحومــة‪ ،‬أصــا أنــا ال أحــب‬
‫أوالد تلــك الحومــة!‬
‫_حسنا خذ ّ‬
‫كل بعض التفاح فهو مفيد لصحتك فأنت هزيل مثل قط‪.‬‬

‫ســكت ســمير وأكل قطعــة التفــاح‪ ،‬قضمهــا بجنــب فمــه األيســر‪ ،‬ألن أســنانه‬
‫األماميــة شــبه متآكلــة مــن الكيــف والشــرب‪ ،‬ثـ ّـم تابــع املحقــق كالمهــم وهــو يقســم نصفــا‬
‫آخــر مــن التفاحــة ويــأكل منــه‪:‬‬

‫– أنــت لــم تعــد تحبهــم! نعــم بطبيعــة الحــال أنــت علــى حــق‪ ،‬ألن البيــع فــي امليــاه‬
‫العكرة ال يناســبك‪ ،‬أنت تعوم في املياه الصافية تحت ظل هذه املدرســة‪...‬هل حســبت‬
‫أنــك بعيــد عــن عينــي؟ والعيــن عمرهــا مــا تعــا علــى الحاجــب‪ .‬اآلن أخبرنــي مــا هــي عالقتــك‬
‫بالضحيــة؟‬

‫– هي مجرد عالقة سطحية فقط‪ ،‬تستطيع القول أنه زميلي في القسم فقط‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– زميلك‪.‬فقط! حسنا ال علينا‪ .‬أخبرني متى كانت آخرمرة تحدثت معه فيها!‬
‫– ال أتذكرربما منذ ثالثة أيام‪ ،‬ال ال يومين‪..‬‬
‫– يومين أو ثالثة أيام‪ ،‬أنت تكذب‪ ،‬لقد تمت مشاهدتكم في غرفة تغييراملالبس‬
‫قرب ملعب كرة السلة وأنتما تتشاجران بعدها سلمته شيئا وخرجت‪.‬‬
‫– نعــم‪ ،‬أثنــاء املبــاراة أصبتــه بالكــرة دون قصــد‪ ،‬فنــزف أنفــه‪ ،‬وثــارغضبــه منــي‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫عنــد انتهــاء حصــة الرياضــة البدنيــة‪ ،‬تبعتــه للحمــام ألعتــذرمنــه فلــم يتقبــل اعتــذاري‪،‬‬
‫وبــدأ فــي شــتمي‪ .‬أعطيتــه منديــا ليمســح أنفــه وخرجــت!‬
‫– هل أنت متأكد من أنه منديل ولم يكن شيئا آخر؟‬
‫– نعم أنا متأكد!‬
‫ثــم أخــرج املحقــق مــن جيبــه كيســا صغي ـرا يحمــل مــادة بيضــاء ووضعهــا علــى‬
‫الطاولــة!‬
‫– هل هذا هو املنديل الذي تقصده!‬
‫"و نظرات املكرتبدوا على وجه املحقق"‬
‫–‪.....‬‬
‫– ماذا هل ابتلعت ريقك اآلن؟‬
‫– ال أعرف ما هذا وال أعرف من أين جاءت!‬
‫– هاه‪ ،‬لكني أعرف في املحكمة أنك ستعترف بأنك قتلته ألنه لم يدفع لك!‬
‫– مــاذا تقــول ســيدي أنــا بــريء‪ ،‬أصــا أنــا لــم أدخــل هــذه املكتبــة ســوى مرتيــن فــي‬
‫حياتــي مــع فــارس‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–نعم األولى دخلت لتراقبه‪ ،‬والثانية دخلت لتقتله‪.‬‬

‫–ال �سي‪....‬‬

‫–تستطيع االنصراف اآلن‪ ،‬شكرا‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ال أريد من الحب غيرالبداية‪.‬‬


‫محمود درويش‬

‫‪53‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أول يوم درا�سي‬

‫آخرسنة دراسية في الثانوية‪ ،‬أول ساعة دراسية أقفل الحارس الباب في وجهي‪،‬‬
‫قفزت فوق السور الخلفي واقتحمت بهو الساحة‪ ،‬ال �شيء تغيرفي ثانوية "غالمي عبد‬
‫القــادر"‪ ،‬مثــل بدايــة كل عــام جديــد‪ ،‬البنــات فــي الســاحة يصرخــن يجريــن هنــا وهنــاك‬
‫ليعانقــن بعضهــن كأنهــن أطلقــن مــن ســجن‪ ،‬األوالد يشــكلن جماعــات حســب الفئــات‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬طبقــة املجتهديــن أو "الخباشــين" كمــا يطلــق عليهــم‪ ،‬تجدهــم فــي الغالــب‬
‫أمــام األقســام مباشــرة‪ ،‬ينتظــرون قــدوم األســتاذ لحمــل حقيبتــه‪ ،‬تميزهــم بمــآزر مغلقــة‬
‫ونظــارات دائريــة يحملــون علــى ظهورهــم محافــظ ســمينة والجديــة تطبــع مالمحهــم‬
‫الســخيفة‪ ،‬ثـ ّـم الطبقــة الوســطى تلقاهــم يتجولــون فــي وســط الســاحة الكبيــرة‪ ،‬أغلبهــم‬
‫ذو شــهرة واســم مميــز‪ ،‬خليــط مــن أوالد األثريــاء وأبنــاء رجــال األعمــال وأبنــاء األســاتذة‬
‫واملوظفيــن‪ ،‬تميــزأغلبهــم مــن مالبســه األنيقــة واألحذيــة الرياضيــة األصليــة حــد قولهــم‪،‬‬
‫ّأمـا الطبقة الثالثة تنتشرفي زوايا املدرسة أوفي املراحيض "يطلق عليهم "الصراصير"‪،‬‬
‫تتميــزهــذه الطبقــة بقلــة عــدد أفرادهــا التــي تكــون عصابــات صغيــرة ألهــداف متعــددة‪،‬‬
‫في أغلب األحيان يتهربون من ارتداء املآزر ورفع العلم الوطني‪ ،‬ويتهربون من الساعات‬
‫الدراسية األخيرة‪ ،‬مآزرهم مقطوعة األكمام عن األكتاف تحمل رسومات يعبرون بها‬
‫عن أنفســهم‪ ،‬تنانين‪ ،‬وجوه أبطال أندية كرة القدم‪ ،‬ســجائرحشــيش بوب مارلي‪ ،‬وأنا‬
‫أرسم لهم أي �شيء مقابل املال هذه موهبتي ومهنتي‪ ،‬الرسم على املآزر وهل ترون هذه‬
‫الرســمات الجداريــة والعبــارات الثقافيــة واآليــات القرآنيــة املوزعــة فــي أرجــاء الثانويــة‪،‬‬
‫معظمهــا مــن رســمي إن لــم أقــل كلهــا ولــم تكــن موجــودة قبــل أن أدخــل هــذه الثانويــة‪.‬‬
‫تســتطيع تمييــز جماعــة الصراصيــر مــن ألبســتهم امللونــة‪ ،‬الس ـراويل املقطعــة‬
‫والقبعــات الرياضيــة وتحليقــات الشــعر الغريبــة وبعــض األوشــام "أينمــا كان الرســم‬
‫أكــون" وأقـراط األذن‪ ،‬لهــم عالقــات كثيــرة مــع الطبقــة الثانيــة‪ .‬طبقــة أصحــاب النفــوذ‪،‬‬
‫عالقــة عــداء فــي الظاهــرلكنهــا عالقــة تكامليــة فــي خباياهــا‪ ،‬الصراصيــريســتغلون نفــوذ‬
‫املدللين واملدلين يســتغلون قوة الصراصيروشــجاعتهم‪ ،‬يســتفيدون من تلطيخ أيديهم‬

‫‪54‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من أجل بعض الدراهم وقضايا مختلفة‪ .‬نفس األحداث‪ ،‬نفس العباد‪ ،‬نفس الروتين‬
‫املمــل يتكــرر نقــف فــي صفــوف لرفــع العلــم الجزائــري‪ ،‬هنــا تســهل عليكــم املالحظــة‪،‬‬
‫أنظــروا معــي الطبقــة األولــى "الخباشــين" فــي املقدمــة‪ ،‬ثـ ّـم الطبقــة الثانيــة "املدلليــن"‬
‫فــي الوســط وفــي آخــر الكتيبــة الطبقــة الســفلى "الصراصيــر"‪ .‬الفتيــان باملــآزر الزرقــاء‬
‫والفتيــات باملــآزر الورديــة الفاتحــة بعــد أن أنهينــا نشــيد "قســما “‪ ،‬انســحبت مــن وســط‬
‫الحشــود والضجيــج‪.‬‬
‫تمشــيت مــن جهــة مخبــر املدرســة ســمعت صوتــا حــادا‪ ،‬تبعتــه‪ ،‬فالحظــت أن‬
‫هنــاك شــجار باأليــدي‪ ،‬علــى كل حــال مثــل هــذه األمــور عاديــة فــي هــذه الثانويــة وكثيــرة‬
‫حتى أفكرأحيانا أنه ال يفصل بيننا وبين السجناء سوى القضبان الحديدية‬ ‫الحدوث ّ‬
‫واالختــاط بالفتيــات‪ ،‬هنــا مثــل الســجن تمامــا هنــاك جــدران عاليــة مســيجة وســاحة‬
‫فنــاء كبيــرة‪ ،‬باإلســقاط نجــد أن غــرف األقســام بمثابــة زنزانــات‪ .‬بحيــث تحمــل تقريبــا‬
‫نفــس العــدد بيــن الثالثيــن واألربعيــن شــخصا‪ ،‬فقــط ال يوجــد حـراس األبـراج لكــن عوضا‬
‫عنهــم هنــاك املســاعدين اإلدارييــن املنتشــرين فــي كل مــكان‪ .‬إدارة صارمــة القوانيــن وكثيــر‬
‫حتى تتم التربية على أكمل‬ ‫من التشــابهات بين املؤسســة العقابية واملؤسســة التربوية‪ّ ،‬‬
‫وج�هـ يج��ب أن يكــون هن��اك عقـ�اب‪ .‬والعقــاب أســلوب مــن أســاليب التربيــة‪.‬‬
‫وسط الشجارأمامي رأيت فتى ضخم الجثة أصلع الرأس‪ ،‬يرتدي سرواال قصيرا‬
‫ومحفظــة بحـزام واحــد‪ ،‬ينهــال لكمــا فــوق فتــى أشــقرطويــل‪ ،‬يخنقــه تحــت ذراعــه القويــة‬
‫مــرددا كلمــات غاضبــة‪.‬‬
‫_آه قلها‪ ،‬تكلم‪ ،‬تفووه‪ ،‬حڤار‪..‬‬
‫ثم ينتبه إلي‪ ،‬ينطح خصمه بآخرنطحة ّ‬
‫ثم يفلته‪.‬‬ ‫ّ‬

‫_ال تتحرك‪ ،‬مازالت رقصتنا مستمرة‪.‬‬


‫يقترب مني وهو يمسح شفته من بعض الدم‪..‬‬
‫– أيها الوغد!‬

‫‪55‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يعانقني ويضرب على كتفي‪:‬‬


‫– أنت تبدو نحيال بعض ال�شيء‪ ،‬ألم تأكل في الصيف؟‬
‫– كيف حالك صديقي؟‬
‫– الحمد هلل على الصحة والباقي ال يهم‬
‫_ هل ما زلت تستعمل هذه الجملة؟ اشتقت لك يا طارق صديقي‪.‬‬
‫– يشتاق لك الخير‪ .‬املهم‪ ،‬سأنهي بعض الحسابات وألتحق بك‪..‬‬
‫لكمني مجددا على كتفي بقوة أكثرهذه املرة وانصرف‪...‬‬
‫أكملــت مشــيي وقــد كان الجــو حــارا والســماء صافيــة‪ ،‬شــعرت أن مثانتــي ممتلئــة‬
‫فتوجهــت مباشــرة نحــو املرحــاض ألتبــول‪ ،‬أول مــا الحظتــه أنهــم قامــوا بدهــن الســقف‬
‫واســتبدال األبــواب لكنهــا بالرغــم مــن مســاحيق التجميــل ال تـزال مثــل املعتــاد‪ ،‬مكتظــة‪،‬‬
‫مقــززة‪ ،‬مــن أربعــة غــرف‪ ،‬غرفــة واحــدة فقــط تتوفــرعلــى املــاء‪ ،‬وبــاق الغــرف للتدخيــن‬
‫والتبــول بالوقــوف‪ ،‬غيــوم الدخــان تملــئ املــكان‪.‬‬
‫كان هنــاك فــي الزاويــة تحــت م ـرآة الحائــط الوحيــدة‪ ،‬يقعــد القرفصــاء‪ ،‬أســمر‪،‬‬
‫نحيــف‪ ،‬بلحيــة خفيفــة وعيــون مرتخيــة‪ ،‬تحليقــة شــعر مارينــز مشــوكة‪ ،‬يلبــس حــذاء‬
‫أســود ماركــة ‪ ARINIE‬وقميــص أبيــض ماركــة ‪ la couste‬ســروال جينــز ممــزق عنــد‬
‫الركبتين وعلى خصره ساكوشة زرقاء "حقيبة خصرصغيرة" مثل تلك التي يستعملها‬
‫جامعــوا التذاكــرفــي الحافــات‪ ،‬يتجمــع فــوق رأســه حوالــي ســبعة فتيــة يفــرش محفظتــه‬
‫فــي الجانــب علــى األرض‪:‬‬
‫_ هــاك الخيــر هــاك‪ ..‬هــذا العــام أبكــي علــى جيبك‪...‬هــاك الحم ـرا‪ ،‬الــروش‪،‬‬
‫طرامادول‪ ،Lcd24 ،‬الغبرة‪ ،‬ليكستا‪ ،‬دومينو‪ .‬تاك�سي‪" .‬هاك أنظرصاحبي السلعة ذي‬
‫تخليــك تطيــر‪ ،‬عالــم آخــر"‪" ،‬أنــت مــن الشــلة أعرفــك مئــة وخمســين وحبــة مــن عنــدي"‬
‫"آيــا روجــي هــاك ســلعتك تنعنــع‪ ،‬مــن تيميمــون‪ ،‬مــن الحــدود‪".‬‬

‫‪56‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_الشيكوالتة هاك ذق ّ‬
‫البنة‪ ..‬سلعة كتامة هنا‪ ...‬كتامة بورقتها الخضراء"‬
‫ثم عندما الحظ تواجدي‪ ،‬نهض مباشرة‪:‬‬
‫– أووه من هنا! يوووو مطلوعة!‬
‫ثم التفت إلى الفتية خلفه‪:‬‬
‫_خالص‪ ،‬روحوا اآلن! رفعت الجلسة‪.‬‬
‫أغلق محفظة ظهره تقدم نحوي مبتسما وقبل أن يصل أمامي ينادي عليه أحد‬
‫الفتية من الخلف‪.‬‬
‫– يالفاريالفااااااار! عندي أربعين ألف هذا ما في رزقي‪ ،‬وغدا أزيدك‪...‬‬
‫و دون أن يلتفت نحو الفتى رد بنبرة مبحوحة‪:‬‬
‫– قل لطارق يعطيك رقمي واتصل بالحصة صديقي‪ ،‬طارق سيتكفل بك‪.‬‬
‫وضع يده على كتفي‪:‬‬
‫– مطلوووعة ياه! انقطعت أخبارك‪ ،‬أين اختفيت في الصيف؟‬
‫– يا سمير‪ ،‬أنت بالهاتف قد تطورت‪ ،‬لم تصبح متاحا لنا!‬
‫– آ ذي هــي الدنيــا صديقــي‪ ،‬مــا أكســبه فــي النهــارأصرفــه علــى رأ�ســي فــي الليــل‪ ،‬أنــت‬
‫تعــرف كــم ليلنــا ثقيــل‪.‬‬
‫– وكعادتك ال تزال تجري وراء املوضة‪.‬‬
‫– بــدون أن أحكــي لــك‪ .‬فقـراء وزعمــاء‪ .‬ال نلبــس غيــراألصلــي‪ ،‬األصلــي‪ ،‬قلــب الحبة‪،‬‬
‫أنت‪ .‬تعرف‪ .‬قد اشتريتها من عند مروان على كل حال بنصف الثمن‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم أشــعل ســيجارة وناولنــي ســيجارة أخــرى‪ ،‬فابتســمت ابتســامة ســمينة‪ ،‬تعبي ـرا‬
‫عــن الرفــض‪ ،‬نظــر نحــوي بنصــف عيــن مــد يــده فــي الحقيبــة علــى خصــره وأخــرج منهــا‬
‫ســيجارة حشــيش وهــو يبتســم "أو هــل تريــد هــذه؟"‪.‬‬
‫– ملاذا هذه النظرة‪ ،‬أنا أمزح يا ممل‪ ،‬املهم أنظرهذه السلعة الجديدة!‬
‫…‪–.‬‬
‫ثم من جيبه الخلفي‪ ،‬أخرج صفيحة أقراص بيضاء‪.‬‬
‫– أمزح‪ ،‬أمزح صديقي بدون هذا الوجه العابس!‬
‫…‪_..‬‬
‫– باملناسبة كيف حال خالتي عيشة؟‬
‫– الحمد هلل على كل حال‪ .‬وعمي عدة كيف حاله هل شفي من ألم ظهره؟‬
‫– هو مع الصحة و‪..‬‬
‫ثم بسرعة ّ‬
‫غيراملوضوع حين سألته عن صحة أبيه‪.‬‬
‫– املهم‪ .‬أنظرداخل هذه الحقيبة هنا‪ ،‬نوعية أصلية‪ ،‬حبة واحدة وتحلق لعالم‬
‫آخــر‪" ،‬ليريــكا "صاحبــي‪ ،‬إذا قــال لــك أحدهــم علــى الصــاروخ أرســله لصديقــك وعنــدك‬
‫منــي هديــة علــى كل شــخص ترســله لــي‪.‬‬
‫– الصاروخ!‬
‫– إيــه هكــذا يقولــون لحبــة ليريــكا الصــاروخ‪ ...‬هنــاك ال‪ 150‬ملغ ـرام وال ‪300‬‬
‫ملغرام‪ ،‬الطرواســو صاحبي حبة واحدة فقط تدوخك‪ .‬إلى املريخ مباشــرة‪ .‬هذا آخرما‬
‫وصلنــا مــن الحلويــات‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم تابع مبتسما‪:‬‬


‫– ال تســتغرب صديقــي هــذه ليريــكا هــي فــي األصــل دواء مخــدر‪ ،‬يوصــف مــن قبــل‬
‫الطبيــب للتخفيــف مــن ألــم العظــام عنــد الكســرأو عنــد العمليــات الجراحيــة‪.‬‬
‫– أنــت مستشــفى متنقــل يــا صاحبــي‪ ،‬صدقنــي إن بقيــت هكــذا ســتفتح صيدليــة‬
‫هنــا‪.‬‬
‫ضحــك ســمير وظهــرت أســنانه املتســاقطة ج ـراء الكيــف ومختلــف األنــواع مــن‬
‫املهلوســات واملخــدرات‪...‬‬
‫– إيه قل لي‪ ،‬هل رأيت "املارطو "؟ أحتاجه‪.‬‬
‫_من طارق؟ نعم لقد تركته أمام املختبريطحن في أحدهم‪...‬‬
‫– هههــه‪ .‬مثــل عادتــه كتلــة عضليــة متحركــة دون عقــل‪ ،‬عنــده طاقــة زائــدة‪ ،‬إذا لــم‬
‫يخرجهــا فــوق حلبــة املالكمــة‪ ،‬يخرجهــا فــي الشــجار! املهــم أنــا ســأتركك ألكمــل مــا تبقــى‬
‫لــي مــن الحلويــات وإذا احتجتنــي أنــت تعــرف املــكان‪ .‬أو أعطيــك رقمــي الجديــد إن أردت‬
‫ههههــه‪...‬‬
‫ضحــك ســمير ثـ ّـم غمزنــي وانصــرف‪ .‬بمشــية متعرجــة بســبب حــذاءه الريا�ضــي‬
‫الضيــق علــى رجلــه‪.‬‬
‫خرجــت مــن املرحــاض ألصادفــه أمــام املكتبــة يحمــل بيــن ذراعيــه مجموعــة مــن‬
‫الكتــب‪.‬‬
‫_أوووه فارس هل ما زلت‪....‬‬

‫‪59‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هل سقطت من الجنة؟‬

‫صريرأبواب‪ ،‬جركرا�سي‪ ،‬أصوات أطفال‪ ،‬تمتمة بنات‪ ،‬حفيف أوراق كراريس‪،‬‬


‫ضحــكات‪ ،‬كلمــات شــتم متقطعــة‪ ،‬صــورة مضببــة‪ ،‬خــد مخــدر‪ ،‬لعــاب يســيل‪ ،‬قلــم‬
‫رصــاص يخزنــي فــي جنبــي‪.‬‬
‫_مطلوعة مطلوعة!‬
‫– هاه همم‪.‬‬
‫– انهض‪ ،‬انهض‪...‬إنه‪ ..‬جاء األستاذ‪...‬‬
‫– أزيد قليال يا أمي‪...‬قليال‬
‫_أمك؟‬
‫_خمس دقائق ربي فقط!‬
‫– ماذا تقول؟ األستاذ هنا‪ .‬كفاك حلما هيا‪ ..‬انهض قبل أن يطردك‪.‬‬
‫نهضــت مصروعــا بعــد وخـزات متكــررة‪ ،‬كأنــي لــم أنــم البارحــة‪ ،‬ورأيــت فيمــا يــرى‬
‫النائــم‪.‬‬
‫_مروان!‬
‫_ال أمك ههه‪.‬‬
‫فــي القســم تحديــدا فــي الطاولــة األخيــرة‪ ،‬أبعــد مــا يكــون علــى مكتــب األســتاذ‪ ،‬تيمنــا‬
‫بقولــة الشــيخ يحــي "ابعــد عــن الشــر يبعــد عنــك "‪ ،‬أربعــة صفــوف‪ ،‬فــي كل صــف أربــع‬
‫طــاوالت‪ ،‬ثمانيــة وعشــرون تلميــذا مــن قســمي العــام املا�ضــي وأربعــة جــدد‪ ،‬وتفاصيــل‬
‫أخــرى خيــرمهمــة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثـ ّـم يدخــل البيزنطــي ‪ /‬أقصــد أســتاذ التاريــخ والجغرافيــا كمــا تلقبونــه‪ ،‬تنتظــره‬
‫ســارة بنــت القا�ضــي عنــد البــاب‪ ،‬بضفائــر شــعرها الســخيفة ومقــوم أســنانها النجمــي‪.‬‬
‫– صباح الخيرأستاذ!‬
‫وتحمل محفظته تضعها على املكتب‪.‬‬
‫يصعــد البيزنطـ�ي ف�وـق املس�طـبة بقامتــه الفارهـ�ة ورأســه األصلــع وحذائــه الكبيــر‬
‫الغريــب‪:‬‬
‫– كما تعرفون‪...‬‬
‫ثم رفع سرواله وشد حزامته‪ ،‬كح مستديرا ّ‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫– الدولة التي ال تملك تاريخ ليست دولة و‪...‬‬
‫تمتمت في سري‪:‬‬
‫– بــارك هللا فيــك يــا شــيخ‪ .‬التاريــخ يكتبــه الغالــب وليــس املغلــوب‪ .‬لذلــك أنــا أكمــل‬
‫نومــي‪..‬‬
‫– درسنا اليوم‪ ..‬على‪ ..‬الحض‪.‬ر‪..‬‬
‫– مروان إذا أتى من هنا األستاذ نبنهي‪ .‬سأنام‬
‫أسند خدي على سطح الطاولة‪ ،‬أراقب مروان وهو يحشرسبابته في أنفه يبحث‬
‫عن الفهامة ّ‬
‫ثم بعد لحظات قليلة‪:‬‬
‫_وقوف!‬
‫غمزني مروان‪ ،‬غمزة بلهاء يزم فمه ويرفع حاجبيه‪ .‬مال نحوي هامسا‪.‬‬
‫_انهض‪ ..‬املديرهنا ومعه‪..‬‬

‫‪61‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– معه‪!...‬‬
‫– قم لترى بنفسك‪.‬‬
‫نهضت متكاسال‪ ،‬من بين الرؤوس واملآزر الزرقاء أملحت املشهد‪.‬‬
‫اقترب مديراملدرسة من أذن البيزنطي‪ ،‬في موقف سخيف‪ ،‬املديرقصيرذو كرش‬
‫مكــورة وشــكل غريــب واألســتاذ طويــل لحــد العيــاء‪ ،‬انحنــى البيزنطــي‪ ،‬ليســمع املديــر‪،‬‬
‫ابتســم البيزنطــي وهــزرأســه ثـ ّـم أشــاراملديــربإصبعــه نحــو البــاب وقبــل أن يتــم حركتــه‪.‬‬
‫نطق البيزنطي‪:‬‬
‫– رحبوا معي بزميلتكم الجديدة‪.‬‬
‫دخلت القسم كعارضة أزياء بخطوات موزونة ومتناسقة‪ .‬وقفت أمامنا كدمية‬
‫"باربــي" خرجــت لتوهــا مــن العلبــة‪ ،‬انزحــت مــن مكانــي بيــن الصفيــن‪ ،‬ألقابلهــا مباشــرة‪.‬‬
‫تجمــدت‪ ،‬تســمرت‪ .‬كانت‪.....‬ت‪...‬شــعرت‪...‬ه‪ ..‬انحنت‪...‬كنهوىــي تبــي بــي ككوتــخ تجكــت‪.‬‬
‫مخااحــح نالــق‪.‬‬
‫توقف! توقف! شد‪..‬شد‪ ..‬هربت الحروف‪ ،‬لم أجد الكلمات‪ ،‬كيف أصفها لكم؟‬
‫كراقصــة بالــي محترفــة قدمــت لنــا التحيــة‪ ،‬الحــت‪ ،‬أشــرقت‪ ،‬تفتحــت‪ ،‬أنــارت‪،‬‬
‫توهجت‪ ،‬متوسطة الطول جسدها منحوت‪ ،‬بتنورة زرقاء ليلية ممشوقة ومتوسطة‬
‫القامة وفي رجليها املالئكيتين حذاء كالسيكي ملاع بربطة أنيقة‪ ،‬دخلت في بع�ضي حينما‬
‫أبصرتهــا‪ ،‬اقتربــت منهــا خطــوة علــى وجــه الهيــام‪ ،‬ســبحان رب مــن نحــت هــذه العيــون‬
‫الخالــدة‪ ،‬ســبحان مــن رســم هــذه الشــفاه العنبيــة املمتلئــة‪ ،‬شــقراء كأن شــعرها الــذي‬
‫يصــل ألســفل ظهرهــا مدهــون بمــاء الذهــب‪ ،‬شــامة فــي رقبتهــا كأنهــا توقيــع الــرب عندمــا‬
‫انتهــى مــن رســمها‪ .‬عظــام رقبتهــا بــارزة مثــل منبــت أجنحــة كأن خالقهــا كان ســيخلقها ثـ ّـم‬
‫ســواها بشـرا‪ .‬أنا أتســاقط مع كل رمشــة من عينيها بلون الربيع واملرج األخضر‪ .‬بيضاء‬
‫بلون حليب زبيدة‪ ،‬وجهها صغيرخدودها موردة وعيونها خضراء بحجم فمها‪ ،‬اقتربت‬

‫‪62‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫منها خطوتين على وجه الفضول والجمال‪ ،‬رائحتها شهية‪ ،‬تتوسط ذقنها فلقة الحسن‬
‫وفــي رقبتهــا وحمــة ســوداء صغيــرة غامضــة‪ ،‬رائحتهــا منعشــة كأنهــا تتوضــأ بالنعنــاع‬
‫وتســتحم بدمــوع املالئكــة‪ ،‬بيضــاء طريــة شــهية مثــل عجينــة املطلــوع فــي قصعــة عيشــة‪،‬‬
‫اقتربت منها خطوة أكثر‪ ،‬أغرق داخل أنفاسها أكثر‪ ،‬في الواقع تبدو عليها مالمح الثراء‪.‬‬
‫هـ�ل سـ�قطت مـ�ن الجنـ�ة؟ حاشـ�ا أن تدخليـ�ن املرحـ�اض أنـ�ت! أفروديـ�ت‪ .‬أمامـ�ي‪.‬‬
‫ثــم بعــد وهــات مــن الهيــام‪ ،‬يســحب منــي الواقــع بســاط الخيــال‪ ،‬وأرجــع بالعــرض‬
‫الخلفــي البطــيء‪ ،‬وأجــد أنــي الزلــت متجمــدا فــي مكانــي‪ ،‬أضغــط علــى الطاولــة‪ .‬متأمــا‬
‫اللوحــة الفنيــة أمامــي‪ .‬وكــم فنــان قــد ألهمتــه ليعيــد رســمها أو عزفهــا أو كتابتهــا أو نحتهــا‬
‫كــم يــا تــرى؟‬
‫– جلوس‬
‫قعــد الجميــع وأنــا ال أزال واقفــا‪ ،‬أتأمــل الشــمس حيــن تغــرب‪ ،‬خصــص لهــا األســتاذ‬
‫الطاولة األولى مباشرة أمام مكتبه‪ ،‬دخولها رفقة املديروتعامل البيزنطي معها بلطف‬
‫واملقعــد األول دليــل علــى أن هــذه الفتــاة ذات شــأن‪.‬‬
‫يشدني مروان من كمي‪.‬‬
‫_أقعد أقعد‪..‬‬
‫– آه آسف‪ ،‬قد نسيت روحي‪.‬‬
‫– هل وقعت في حبها من أول نظرة!‬
‫– وقعت؟‬
‫– الرجال ال يقعون يا صديقي‪.‬‬
‫_ لكنك وجهك أصبح وجه طفل صغير‪ .‬أو خيل لي؟‬

‫‪63‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ تفاصيلهــا فنيــة‪ .‬كأنهــا هاربــة مــن لوحــة تشــكيلية‪ .‬تشــهي األلــوان وتثيــرانتصــاب‬
‫الريشــة لتغتــرف مــن حوافهــا املنحوتــة‪.‬‬
‫_ أظنك عشقتها يا صديقي‬
‫_ سبحانك قد خلقت الجمال وقلت اتقوا‪ ..‬فكيف نرى الجمال وال نعشق؟‬
‫ضحك مروان‪.‬‬
‫– يظهرعليها الثراء‬
‫– نعم‬
‫– أظنها بنت رجل أعمال أو سيا�سي ما‪.‬‬
‫–سنبحث عن تفاصيل الحسناء‬
‫قال مروان بعدما لحظة من الصمت‪:‬‬
‫– "يا مزين من برا كيف حالك من الداخل "‬
‫– ماذا تقصد؟‬
‫– ال تتعب نفسك معها‪ .‬مطلوعة‪ ،‬لي ما هو ليك غيريعييك‪.‬‬
‫– إذن سأقوم بإعيائه قبل إعيائي‬
‫– أنت عنيد‪ .‬دعنا منها وركزمع الدرس‪..‬‬
‫– نعم‪ .‬أنت محق أنت ركزمع الدرس وأنا سأركزفي الدرس‪.‬‬
‫_هههه‪ .‬لقد خطفت قلبك‪ ..‬واآلن ستخطف عقلك‪.‬‬
‫***‬

‫‪64‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب_‬
‫السيد فارس باني‬
‫***‬
‫– اجلس يا شكسبير‪.‬‬
‫_لم نلتق منذ مدة‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_هل تأكل التفاح!‬
‫_ال شكرا‪.‬‬
‫– أخبرني ماهي عالقتك باملرحوم‪ .‬وهل قتلته؟‬
‫– هــو زميلــي فــي القســم‪ ،‬وبعــد الــدوام زميلــي فــي الــدروس الخصوصيــة‪...‬ال ال لــم‬
‫أقتلــه‪ ،‬وال ســبب يدعونــي لفعــل ذلــك!‬
‫– آه ال سبب يدعوك‪ ،‬لكن قد تكون مشاركا في قتله!‬
‫– مشاركا في قتله!‬
‫– نعــم‪ ،‬حســب كالم صديقــات أميمــة‪ ،‬أنهــن قــد ســمعنه يحدثهــا عــن روايــة تحــت‬
‫عنــوان "رحــل مــن دون وجــه" وهــذه الروايــة هــي نفســها التــي كانــت ملقــاة جنــب الضحيــة‬
‫وســبحان هللا هــل مــن الصدفــة أن تكــون نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لشــخصية‬
‫الضحيــة فــي الروايــة هــي نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لضحيتنــا !‬
‫_ال أدري‪.‬‬
‫_ ما هو تفسيرك إذن؟‬

‫‪65‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هناك الكثيرمن الروايات في املكتبة ربما تصادف أن كانت تلك الرواية بجنبه‬
‫عندمــا تــم طعنــه تلــك الخمــس طعنــات ولســت أنــا الوحيــد الــذي يقـرأ الروايــات‪ ،‬الــكل‬
‫يق ـرأ الروايــات وأرى أن اتهامــك لــي بشــكل مباشــر بالقتــل عــن طريــق ربطــك للحادثــة‬
‫بمجــرد روايــة بوليســية هــو اســتنتاج غريــب مــن رجــل ذ ـكـي مثلــك‪ ،‬ولــه شــهرة تســبقه فــي‬
‫فك ألغازجرائم قتل معقدة كتبت عنها الكثيرمن الجرائد‪ .‬أوأن هناك خلفيات أخرى‬
‫أنــت تخفيهــا عنــي وعنــا جميعــا‪.‬‬
‫_خلفيات! ماذا تقصد؟‬
‫_لنكــن واقعييــن يــا ســيد ماحــي‪ ،‬كيــف ملحقــق بشــهرتك أن ال يكــون علــى عالقــة‬
‫برجــل ثــري مثــل ال�ســي عثمــان أب الضحيــة والــرب عالــم بخفايــا األمــور‪.‬‬
‫ثــم تغيــرت مالمــح املحقــق وغيــرمــن وضعيــة جلوســه‪ .‬قســم التفاحــة إلــى نصفيــن‬
‫وغــرز الســكين بقــوة علــى الطاولــة‪.‬‬
‫_أخبرني من يحقق مع اآلخرهنا‪ ،‬أنت تحقق معي أم أنا أحقق معك؟‬
‫_أنت معلم ومنك نتعلم‪.‬‬
‫_اسمع‪ .‬هل تتذاكى علي أم ماذا! هل أجعلك تجلس في مكاني!‬
‫_وهل تخاف األفعى من سمها! من يعلم أنه ال يوجد في بطنه التبن ال يخ�شى من‬
‫النــار‪.‬‬
‫– إذن هذه هي خطتك! أن تماطل علي‪ ،‬وتريد أن تأخذ املحاورة إلى منحى آخر‪،‬‬
‫اســمع إذن يــا ولــد حميــد بيــن الخبــرة واملعرفــة‪ ،‬تغلــب املعرفــة فــي عالــم النظــري وتغلــب‬
‫التجربــة فــي عالــم التطبيــق‪ ،‬أنــت تحتــاج ملزيــد مــن الخبــرة ـكـي تحــور اســتجوابي وتصــل‬
‫إلثــارة عواطفــي‪ ،‬أنــت هــو القاتــل! ليــس هنالــك غيــرك فــي املدرســة علــى مــا أعتقــد يعــرف‬
‫أن أميــربطــل روايــة رحــل مــن دون وجــه‪ ،‬طعــن خمــس طعنــات!‬
‫–حتى املرحوم قرأ الرواية أيضا! وهي بأفكارسوداوية ثقيلة وقد يكون ا‪...‬‬ ‫ّ‬

‫‪66‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– انتحر! هل تظن هذا! أم تريد أن تبرأ نفسك! تحت شهادة زمالئه املرحوم فتى‬
‫عقالنــي وســجله الطبــي والنف�ســي طبيعــي‪ّ ...‬أم ــا أنــت فنحــن نعلــم حكايتــك مــع األطبــاء‬
‫النفســيين بعــد حادثــة أمــك التــي‪..‬‬
‫أطلق فارس زفرة طويلة‪:‬‬
‫_ال تذكرأمي على لسانك‪.‬‬
‫ثم تغيرت مالمح املحقق كليا وهو يوجه كالمه إلى فارس‪:‬‬
‫_آســف لكــن التاريــخ ال يرحــم‪ .‬قــد ذبحهــا أبــوك مــن الشــريان إلــى الشــريان قبــل‬
‫ثمانيــة أعــوام مــن اآلن وكنــت املحقــق فــي تلــك القضيــة ورأيــت مالمحــك حيــن رأيــت أمــك‬
‫تسبح في بركة من الدماء وتابعت تصرفاتك وكان القاتل ّإمـا أنت أو أبوك ومن املرجح‬
‫حتى يغطي‬ ‫أن يكون أنت وقد تســترعليك أبوك وأخفى ســاح الجريمة في جيب ســترته ّ‬
‫عليــك‪ .‬وعــدم زيارتــك ألبيــك حميــد فــي الســجن مــا تكــون ســوى تمثيليــة قمتمــا بهــا ســويا‪،‬‬
‫وهــذا يبقــى احتمــال وارد‪ .‬ومشــاكلك مــع جــدك الــذي يربيــك ويتعــب مــن أجلــك رغــم‬
‫انحنــاء ظهــره ألنــك ترفــض زيــارة طبيبــك النف�ســي وأخــذ أدويتــك‪.‬‬
‫رد فارس بطريقة هادئة وهو ينظرفي عيني املحقق مباشرة‪:‬‬
‫– ال أظن أن ذكرك لهذه القصة يدخل في التحقيق في جريمة قتل الفتى!‬
‫_نعم هو يدخل وبشدة‪.‬‬
‫_ال أظن هذا‪.‬‬
‫ابتسم املاحي ابتسامة خفيفة ثم قال بلهجة تميل االستهزاء والسخرية‪:‬‬
‫_ذكرتــك بهــذه القصــة فقــط ّ‬
‫حتــى أشــير لــك بــأن فــي عائلتكــم دمــا إجراميــا وأنــت‬
‫تعــرف املثــل الــذي يقــول مــن شــابه أبــاه فمــا ظلــم‪ ،‬أي أن بعــض الصفــات مثــا تنتقــل‬
‫بشــكل تلقائــي‪ ،‬أظنكــم درســتم هــذا فــي مــادة العلــوم الطبيعيــة "اســمه االنتقــال الوراثــي‬
‫"أم أنــك تهتــم بالفلســفة أكثــر‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ال أظــن أن هــذا هــو هدفــك‪ .‬ومــن غيــر الالئــق أن تســتند علــى قضيــة قــد مضــت‬
‫منــذ أعــوام وتحشــرها داخــل قضيــة آنيــة وأرى أن ذكــرك لقضيــة مقتــل أمــي رحمهــا هللا‬
‫لــه غايــة نفســية بحتــة‪ .‬وهــي إرضــاء لجــرح نف�ســي قــد خــدش أثنــاء حوارنــا‪ .‬أمــا أنــا طبيعــي‬
‫وال أعانــي مــن أي مــرض نف�ســي‪ ،‬األطبــاء النفســيون هــم املجانيــن ويريــدون إخراجــي مــن‬
‫عقلــي بأدويتهــم القــذرة هــذا كل مــا فــي األمــر‪ .‬ولــكل واحــد فينــا جانــب مجنون يخفيه وراء‬
‫القنــاع الــذي يرتديــه كل صبــاح‪ ،‬أو لــم تكــن يومــا كذلــك يــا �ســي املاحــي؟ علــى كل حــال أنــا‬
‫علــى األقــل أعــرف أصلــي رغــم كســري‪.‬‬
‫صمت املحقق لبرهة وبلع ريقه‪:‬‬
‫_ ما الذي تشيرإليه هنا‪.‬‬
‫_أنت تعرف وأنا أعرف وعلينا أن نلعب دور من ال يعرف‪.‬‬
‫– حسنا دعنا منا‪ .‬ولنرجع إلى موضوعنا األصلي‪.‬‬
‫_نعم‬
‫_ بذكرك للجنون‪ ،‬أخبرني ماهي نسبة جنون صديقك سمير؟‬
‫– سمير!‬
‫_نعم‬
‫_هو هو‪ ،‬وأنا أنا‪.‬‬
‫صمت املحقق ينتظرإجابة أخرى من فارس‪.‬‬
‫_في الحقيقة إن كل شخص منا له نسبة معينة من الجنون و‪....‬‬
‫قاطــع املحقــق فــارس قبــل أن يفلســف جوابــه مــرة أخــرى ويحــور الحديــث إلــى جهــة‬
‫أخــرى‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– فــي الرابــع مــن مــاي الســاعة الخامســة‪ ،‬مــن صيدليــة ديــار الســوق! اشــتريت‬
‫علبتيــن مــن دواء ليريــكا‪..‬‬
‫صمت فارس لبرهة ينتظرمن املحقق أن يكمل كالمه‪.‬‬
‫– وفي نفس اليوم ألقينا القبض على سميربعلبة ليريكا فارغة! زعم أنها من أجل‬
‫بحث مدر�سي! هل هذا صدفة أيضا!‬
‫– نعــم لقــد اشــتريت علبتيــن‪ ،‬علبــة وصفهــا لــي الطبيــب تحــت ضغــط مــن جــدي‬
‫ألبقــى نائمــا ويرتــاح مــن مشــاكلي‪ ،‬وعلبــة أخــرى مــن أجــل جدتــي التــي تعانــي مــن آالم‬
‫الظهــر‪ ،‬وأنــت تعلــم أن دواء ليريــكا مصنوعــا خصيصــا للتخفيــف مــن ألــم العظــام‪.‬‬
‫وجــدي وجدتــي همــا الوحيــدان اللــذان أعيــش معهمــا فــي املنــزل وعلــي أن أعــرف كل‬
‫األدويــة الخاصــة بهمــا‪.‬‬
‫– جدتــك تــأكل ليريــكا‪ ،‬ســبحان هللا! هــل لجــدك حســاب فيــس بــوك أيضــا؟ ال‬
‫أظــن‪ ،‬ومــاذا تقصــد بكلمــة "يرتــاح مــن مشــاكلي"؟ إذن أنــت تعتــرف أن لــك مشــاكل‬
‫نفســية‪ ،‬ربمــا أردت أن تســتدرج املرحــوم وتقتلــه بنفــس الخطــة التــي فــي الروايــة‪ ،‬القتــل‬
‫مثــل الروايــات تجربــة جديــدة ممتعــة أليــس كذلــك!‬
‫_أظن أن هذا استنتاج غيرمنطقي و بعيد عن الواقع‪.‬‬
‫_ال يهم رأيك على كل حال‪ ،‬أخبرني أنت تذكرفي نهاية الرواية ماذا حدث للمجرم‬
‫أليــس كذلك!‬
‫– نعم أعتقد ذلك‪.‬‬
‫– إذن ال تقلق ستكون لك نفس النهاية يا عزيزي‪.‬‬
‫_هناك فرق كبيربين القاتل وصانع القاتل‪.‬‬
‫_ماذا تقصد بصانع القاتل؟‬

‫‪69‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_صانع القاتل أشد خبثا وخطرا من القاتل‪.‬‬


‫_ رغم هذا يبقى التحقيق ليكشف كل الجرائم‪.‬‬
‫_وهــل ســيصل مســتوى تحقيقــك ألن يميــزبيــن مــن يحقــق فــي القتــل ومــن يحقــق‬
‫القتــل ومــن يحــق للقتــل‪.‬‬
‫_ماذا تقصد؟‬
‫_ هــذه جملــة ذكــرت علــى لســان بطــل الروايــة‪ .‬اق ـرأ الروايــة ربمــا ســتتمكن مــن‬
‫فهمهــا ذات يــوم‪.‬‬
‫_اقرأ الجغرافيا أكثروستعرف أن مكانك بجوارأبيك‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بلوطة‬

‫يا لرايح وين مسافرتروح تعيا وتولي‬


‫شحال ندموا العباد الغافلين قبلك وقبلي‬
‫أغنية شعبي للمطرب دحمان الحرا�شي‬

‫قبل أسبوع‬
‫طــارالنعــاس مــن عينــي‪ ،‬فقــررت أن أخــرج ألستنشــق بعــض الهــواء كان القمــرفــي‬
‫القريــة يتأرجــح فــي الســماء فــوق رأس جبــل "دوي "كلؤلــؤة ت�ضــئ الكــون‪ ،‬اتــكأت فــوق‬
‫كومــة تبــن ّ‬
‫حتــى بــدى أمامــي ظــا طويــا بيــن الضبــاب ملحــت مــن بعيــد رجــل يضــم يديــه‬
‫خلفه ويحمل متاعه على ظهره‪ ،‬كان املخلوق يسيرفي خطى متمايلة ويردف رأسه نحو‬
‫األرض شدني فضول قط‪ ،‬فاقتربت منه أكثرألعرفه من قشابيته السوداء التي تميزه‪،‬‬
‫وقفــت أمامــه!‬
‫– غيرالخيرخويا وين رايح؟‬
‫– أنا أبقيك على خيريا مطلوعة‪ .‬وداعا‪.‬‬
‫– اصبراصبر‪ ،‬احكي لي‪ ،‬ما لذي أصابك؟‬
‫وضــع يــده علــى كتفــي‪ ،‬وأزاحنــي ببــطء مــن طريقــه وعالمــات الحــزن تتلــون فــي وجــه‬
‫الشــاحب تحــت ضــوء القمــر‪ .‬لــم يــرد وأكمــل مشــيته‪ .‬تبعتــه وأوقفتــه‪:‬‬
‫– اسمع أمين بيننا عشرة طويلة‪ ،‬أنت أخي احكي لي!‬

‫‪71‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تدحرجت دمعة سمينة على خده اليابس‪.‬‬


‫– وليد الكلب‪ ،‬الع‪...‬‬
‫– من هذا؟‬
‫‪_.....‬‬
‫– اقعد‪ ،‬اقعد‪ ،‬افهمني القصة بهدوء‪.‬‬
‫سحبته نحو الخروبة الكبيرة القريبة وسط ساحة الشيوخ‪...‬‬
‫وضــع متاعــه مــن علــى ظهــره‪ ،‬اســتلقى علــى جــذع الخروبــة‪ ،‬قعدنــا وكان الهــواء‬
‫خفيفا دافئا وهدوء غامض يشقه نباح كالب القرية‪ ،‬وصياح الديك من بعيد يتال�شى‬
‫يغلفــه صــوت الشــيخ بوعــام مــؤذن مســجد القريــة‪.‬‬
‫وضــع يــده فــي جيبــه وأخــرج ســيجارة مــرة مــن علبــة "ريــم "كانــت تبــدوا أنهــا آخــر‬
‫ســجائره وأشــعلها بعــود ثقــاب ثـ ّـم رمــى العلبــة خلفــه نظــر نحــو الســماء املتأللئــة‪:‬‬
‫– شوف أنت خويا مطلوعة‪ ،‬سأحكي لك وهنا ستموت الكلمات‪...‬‬
‫‪_.....‬‬
‫هززت رأ�سي بأي نعم‪..‬‬
‫قبــل يوميــن‪ .‬وكاملعتــاد وأنــا أجــول فــي أرجــاء القريــة أبيــع املحاجــب‪ ،‬أنــت تعــرف‬
‫أخيــك قليــل املدخــول‪ ،‬لقمــة مــن هنــا ولقمــة مــن هنــاك‪ ،‬وآكل مــن عــرق جبينــي‪.‬‬
‫– آه يــا بلوطــة‪ .‬هــل أنــت تحكــي لــي عــن نفســك وقــد تربينــا فــي حجــرواحــد ورضعنــا‬
‫مــن صــدرواحــد‪ .‬هــل نســيت األيــام‪ ،‬أنــت الحليــب واملحاجــب وانــا املطلــوع والبيــض‪ ،‬يــا‬
‫حصراه‪...‬أزيــدك يــوم نطحــك علــي الكيلــو بـرأس مــن وقــف معــك‪ .‬هــل تذكــرهــذه!‪.‬‬
‫ابتسم ابتسامة حزينة‪ ،‬وعدل من جلسته‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ البارحــة كمــا املعتــاد كنــت أتجــول بقفتــي ودلــو الحليــب‪ ،‬دخلــت مقهــى بالهاشــمي‬
‫بالقريــة‪.‬‬
‫– في أي وقت!‬
‫– مــع املســاء املهــم‪ .‬قلــت لــك وأنــا أطــوف وأبــرح وســط املقهــى‪ ،‬رأيــت رجــا يجلــس‬
‫لوحــده فــي زاويــة املقهــى يدخــن النرجيلــة وحولــه غمامــة مــن الدخــان‪ ،‬كان الرجــل يبحلق‬
‫فـ َّـي بنظــرة غريبــة‪ ،‬حســب بذلتــه وتســريحة شــعره األنيقــة وحذائــه الالمــع‪ ،‬يبــدو ثريــا‪،‬‬
‫اقتربــت مــن جهتــه أكثــر‪ ،‬علــى طاولتــه علبــة ســجائرحمـراء مارلبــورو مــن النــوع الفاخــر‬
‫وجمـرات للشيشــة‪ ،‬كنــت أبحلــق فــي الرجــل مثلمــا يبحلــق فــي‪ ،‬كأنــه يتحدانــي‪ ،‬لــم أنــزل‬
‫عينــي مــن عينيــه‪.‬‬
‫– أيا محاجب‪...‬محاجب سخونين وحارين‬
‫– أيا يالجيعان‪ ،‬البنة بعشرين دينار‬
‫– محااااااجب‪ ،‬محاااا‪....‬‬
‫أشارنحوي بيده‪.‬‬
‫نزع نظارتيه لتظهرعيني قط خضراء حادة وجاحظة‪ ،‬فوق عينه اليمنى ندبة‪.‬‬
‫– شحال عمي‪ ،‬زوج‪ ،‬ثالثة‪ ،‬قل!‬
‫–‪.....‬‬
‫لم يرد وواصل ينظرفي عيني مباشرة‪ .‬نظرات غريبة‪.‬‬
‫حك ذقنه وقال‪:‬‬
‫_ أقعد‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وأشــار نحــو الكر�ســي أمامــه‪ ،‬وضعــت القفــة بجانبــي‪ .‬ســلمني أنبــوب النرجيلــة‪،‬‬
‫تــرددت فــي إمســاكها‪.‬‬
‫– همم‪ ....‬ال تدخن!‬
‫–‪.....‬‬
‫سكت!‬
‫أشارللنادل بيده‪.‬‬
‫– كأس شاي منعنع بالعسل للرجل هنا‪.‬‬
‫استغربت!‬
‫نظــرت نحــو علبــة املارلبــورو فــوق الطاولــة‪ ،‬تناولهــا الرجــل‪ ،‬وأخــرج منهــا ســيجارة‬
‫وقدمهــا لــي‪ ،‬لــم أتــردد فــي أخــذ الفرصــة‪ ،‬أخــرج والعــة مــن جيبــه‪ ،‬والعــة حديديــة‪ ،‬لــم أر‬
‫مثلهــا قبــا‪ ،‬رأســها علــى شــكل فــم أفعــى كوبـرا‪ ...‬ثـ ّـم أشــعل لــي الســيجارة‪.‬‬
‫– استرخي يا عزيزي‪ .‬خذ وقتك‪ ،‬فمن أراد الربح فالعام طويل‪.‬‬
‫اســتغربت يــا مطلوعــة‪ ،‬مــن معاملــة الرجــل الغريــب لــي وطريقــة كالمــه معــي‪.‬‬
‫واســتغربت أكثــر مــن تلــك القطعــة الفضيــة التــي يحركهــا بيــن أصابعــه برشــاقة‪.‬‬
‫بعدهــا توقــف عــن تحريكهــا وعرضهــا أمامــي ببــطء‪ ،‬لــم أرمثــل تلــك القطعــة مــن‬
‫قبــل‪ .‬ثــم ابتســم ابتســامة غريبــة معجنــة بالخبــث علــى حــد معاملتــه الغريبــة لــي‪.‬‬
‫طرة أم نقش؟‬
‫– كيف؟‬
‫– كتابة أم رسم؟ اخترهذه الجهة أم هذه الجهة؟‬

‫‪74‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–‪.....‬‬
‫و أضاف‪:‬‬
‫أنظــرأنــا ال أملــك كل الوقــت ولكنــي أملــك املــال وأنــت تملــك الكثيــرمــن الوقــت وال‬
‫تملك املال‪ ،‬أنظرعزيزي سنقوم بهذا الرهان‪ .‬إن أنت فزت ستأخذ كل املال والشيكات‬
‫التــي أضعهــا فــي جيــب ســترتي الداخلــي‪ ،‬كلهــا‪ ،‬هــل تــدري معنــى كلهــا‪ .‬وابتســم مجــددا تلــك‬
‫االبتســامة البــاردة التــي تتــأأل بنجــوم فمــه البيضــاء رغــم التهامــه للكثيــرمــن الدخــان‪.‬‬
‫سألته مترددا‪:‬‬
‫– وإذا خسرت؟‬
‫_حينهــا ســتضع كل املحاجــب وقــارورة الحليــب وتغــادر مــن دون عــودة وال تنظــر‬
‫ورائــك‪.‬‬
‫نظــرت فــي عينيــه الحادتيــن الباردتيــن وهــو يحــرك القطعــة النقديــة بيــن أصابعــه‬
‫التــي تحمــل خواتــم فضيــة مرصعــة بأحجــاركريمــة‪ .‬وبتــردد أجبتــه يــا ســيدي‪.‬‬
‫– ال‪.‬‬
‫صمت لبرهة‪ّ .‬‬
‫ثم اقترب مني على بعد شبرين من وجهي‪:‬‬
‫– هل تعلم نحن البشريطحن أحالمنا الخيال قبل أن تنبت على أرض الواقع‪.‬‬
‫– لم أفهمك لكنها تبدوا فكرة مجنونة‪ .‬ال؟‬
‫رفع الرجل حاجبيه وزم شفتيه وبنبرة ساخرة‪:‬‬
‫– ولدت بائع محاجب فقيروستموت بائع محاجب فقير‪.‬‬
‫ثم صمت أمين وتنهد بعمق‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– تعرف ذاك املثل الذي يقول من خاف سلم‪..‬‬


‫– إيه وبعد ذلك‪..‬‬
‫وفــي اليــوم الــذي يليــه‪ ،‬التقيــت بالرجــل نفســه قــرب جســرواد بوغولــة ‪ ,‬ملــا عرفتــه‬
‫اقتربــت منــه‪ ،‬ال أكــذب عليــك أنــا الغبــي‪ ،‬جرنــي الطمــع والجشــع فعــدت نحــوه‪ ،‬طمعــا فــي‬
‫أن يمــن علــي بســيجارة مــن تبغــه الرفيــع‪.‬‬
‫– محاجب‪...‬محاجب!‬
‫– محاااج‪....‬‬
‫– كيف حال الخواف؟‬
‫– أحسن منك ولست خواف وإنما عاقل‪.‬‬
‫– يــا بنــي‪ ،‬لــم تعــرف شــيئا مــن هــذه الدنيــا وال تـزال ترضعــك فــي حليبهــا‪ .‬أنتظــر ّ‬
‫حتــى‬
‫تنبــت أســنانا وســترى‪ .‬كيــف ترميــك‪.‬‬
‫– أعرف هذا‪ .‬وأنت ال تعرف أن هناك من ولدوا بأسنانهم‪.‬‬
‫رد بنبرة هادئة بطريقة مستفزة‪:‬‬
‫– تعرف كيف ترد‪ .‬لكنك لست مو�سى وال تعرف أن الخواف رزقه قليل!‬
‫– لست خوافا قلت لك!‬
‫و شــددت نبــرة صوتــي واتخــذت مــع الحقيــر موقــف نــد لنــد‪ .‬ثبــت عينــي فــي عينيــه‬
‫متحديــا‪ ،‬دون أن يزيــح عينيــه مــن عينــي‪ ،‬ومجــددا أخــرج القطعــة الفضيــة نفســها‪.‬‬
‫– هذه املرة سأعطيك آخرفرصة وسيكون العرض أكبر‪.‬‬
‫ثم واصل كالمه وهو يرمي السيجارة من فمه ويسحقها تحت حذائه الالمع‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– أخبرني‪...‬ماهي كل ممتلكاتك؟‬
‫فاســتغربت مــن ســؤاله ولكنــي أجبتــه باختصــارألعــرف مــاذا يرمــي إليــه مــن ســؤاله‬
‫لكنــي مشــيت معــه فــي الحكايــة‪:‬‬
‫– كوخ‪ ،‬بقرة‪ ،‬وعشرين ألف دينارودعاوي الخير‪...‬‬
‫صمــت الرجــل صمتــا مرعبــا‪ ،‬وســادت لحظــة صمــت مخيفــة‪ّ ،‬‬
‫حتــى رفــع الرجــل يده‬
‫الثقيلــة وضعهــا علــى قفــاي وســحبني نحوه‪.‬‬
‫– خوااف‪.‬‬
‫– …‪..‬‬
‫عرقت جبتهي واستفزني أسلوبه‪.‬‬
‫– ماذا تريد مني؟‬
‫– ال �شيء‪...‬فقط أنت تذكرني بنف�سي حين كنت في عمرك‪.‬‬
‫– أذكرك بنفسك؟‬
‫– نعم‬
‫و راح الرجــل يحكــي وأنــا فــي أشــد انتبــاه لحديثــه الــذي لــن أنســاه هــل تعــرف مــاذا‬
‫حكــى لــي؟‬
‫…‪_..‬‬
‫قال لي‪:‬‬
‫_ هــل تــرى ســيارة الجاكــوارهنــاك وهــذه الســاعة الفخمــة بيــدي وكل هــذه الثيــاب‬
‫األنيقــة؟ هــل تظنهــا نزلــت علــي مــن الســماء! وحتــى إن ولــدت بأســنانك مثــل مو�ســى فلــن‬

‫‪77‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يكون لك ملك مثل ملك فرعون‪ ،‬اسمعني مليح وافتح أذنيك‪ .‬اسمع إني قد ُ‬
‫كنت أشد‬
‫منــك بؤســا يومــا فــي زمــن م�ضــى‪ ،‬أذكــرأنــي كنــت أضــع الخبــزاليابــس فــي املــاء وآكلــه وأضــم‬
‫ركبتــي إلــى صــدري أتكمــش فــوق كرتونــة باليــة وأنــام تحــت الجســور وفــي األزقــة املظلمــة‬
‫وفوق الكرا�سي في الحدائق العامة وأنام على الرصيف البارد‪ ،‬هل تعلم معنى أن ينام‬
‫حتى‬‫املرء في ليلة ممطرة في العراء وفخذك تلتصق مباشرة بأرضية الرصيف الباردة؟ ّ‬
‫تتخــدر رجــاك إلــى أن ال تقــوى علــى النهــوض‪ ،‬طبعــا ال‪ ،‬مــا يحــس بالجمــرة ســوى مــن‬
‫كوتــه‪ ،‬إيــه يــا ولــدي أتذكــرذلــك اليــوم كأنــه البارحــة وكيــف لــي أن أنســاه؟‬
‫يــوم اشــتد بــي الجــوع فــي ســاحة مــن ســاحات وهـران خطفنــي الليــل ولفنــي البــرد‪،‬‬
‫فتكمشــت فــي زاويــة مظلمــة‪ ،‬فــي إحــدى الشــوارع العبقــة بالشــروروالجــرذان العمالقــة‬
‫التي قد تقرض لك إصبعا أو أذنا إن غفلت عنها‪ ،‬أتمدد بطولي على الرصيف‪ ،‬وألصق‬
‫خدي على الكرتونة البالية تحتي‪ ،‬ليس ببعيد عن مكاني تصلني أضواء حانة صاخبة‪،‬‬
‫تنعكــس علــى شــعري األشــعث ولحيتــي الطويلــة الوســخة وثيابــي الرثــة النتنــة التــي ال‬
‫تصلــح ّ‬
‫حتــى لتنــام فوقهــا الــكالب‪.‬‬
‫أســمع أصــوات املوســيقى تخــرج مــن الحانــة الصاخبــة فــي الجانــب املقابــل مــن‬
‫الطريــق‪ ،‬أغانــي ال ـراي تمتــزج بتأوهــات فتيــات الهــوى‪ ،‬طالبــا رحمــة النــاس وشــفقتهم‬
‫مقه�وـر الحــال والجــوع يــكاد يفتــك بــي كأنــي رجــل هــرب مــن الحــرب العامليــة الثانيــة ولــم‬
‫يجــد شــيئا أمامــه‪.‬‬
‫نزعــت قبعتــي وضعتهــا فــوق الرصيــف واســتلقيت علــى الحائــط ضامــا ركبتــي إلــى‬
‫صــدري‪ ،‬ثـ ّـم تذكــرت أن تحــت الكرتونــة مزمــارا وجدتــه فــي إحــدى مكبــات القمامــة‪ ،‬التــي‬
‫قــد يرمــي داخلهــا النــاس كل �شــيء إال أنفســهم‪ ،‬أخرجــت املزمــار‪ ،‬ورحــت أعــزف وأحلــق‬
‫فــي ألحــان الغيضــة والغايطــة‪.‬‬
‫ال�شيء الوحيد الذي كنت أراه حينها هو األحذية السوداء الكالسيكية وهي تعبر‬
‫أمامــي‪.‬‬
‫ثم فجأة وأثناء انغماري بين ألحاني‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫توقــف زوج مــن األحذيــة أمامــي‪ ،‬بجنبــه حــذاء عالــي الكعــب‪ ،‬وقــد أطــاال الوقــوف‬
‫واالســتماع أللحانــي فــزدت النفــخ ورفعــت اللحــن‪ ،‬ع�ســى أن يمنــا علــي ببعــض دراهــم‪.‬‬
‫رفعــت رأ�ســي ألراهمــا‪ ،‬كهــا قــوي البنيــة يلبــس مالبــس ســوداء غريبــة كأنهــا تعــود لجيــل‬
‫التســعينات كانــت رائحــة الكحــول املمتــزج بالعطــر الذكــوري الفاخــر تفــوح مــن ثيابــه‬
‫الراقيــة الغريبــة‪.‬‬
‫يمسك تحت ذراعه شابة في العشرينيات من عمرها تلبس فستانا قصيرا‪ ،‬عاري‬
‫الصــدرووشــاحا أســود‪ ،‬تضــع أحمــرشــفاه شــديد الحمــرة‪ ،‬شــعرها أصفــرفوقــه قبعــة‬
‫ســوداء محنيــة األطـراف‪.‬‬
‫صعد فوق الرصيف ليقابلني مباشرة ونصف ابتسامة ترتسم على وجهه‪.‬‬
‫– أكمل عزفك!‬
‫ما كان مني إال أن متابعة العزف ‪ /‬النزف رغم أن أصابعي لم تقو على شد املزمار‬
‫وأنفا�ســي تخونني بين كل نفخة ونفخة‪.‬‬
‫الحظــت أن الرجــل يومــئ برأســه وينظــرنحــو الفتــاة كأنــه يقــول لهــا هــل تســمعين‪.‬‬
‫كان رجــا متذوقــا للفــن علــى مــا يبــدوا وهــذا ربمــا مــا جذبــه نحــوي‪.‬‬
‫وخانتنــي أنفا�ســي فــي النهايــة ألتوقــف‪ .‬دنــا الرجــل منــي بخطــوة وبريــق عينيــه يزيــد‬
‫اشــتعاال مــن أثــرالكحــول أو �شــيء آخــرتخبــأه نفســه يدريــه هللا وحــده فقــط‪.‬‬
‫ثــم بحركــة خاطفــة أدخــل يــده فــي جيبــه ليخــرج هــذه القطعــة الفضيــة التــي أحملها‬
‫ثم بثقة وضع يده‬ ‫اآلن بين أصابعي‪ ،‬نظرنحو الفتاة وجرها من وشاحها ليلقيها بجانبي ّ‬
‫في جيبه اآلخرليلتقط مسدســا أبيض صغيرا‪.‬‬
‫نظرمباشرة نحوي بعينين محمرتين‪:‬‬
‫– إن خسرت أيها البطل ستموت برصاصة واحدة هنا!‬
‫مشيرا لجبتهي‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_و إن فزت‪ ...‬فستموت الفتاة وتكسب أنت نصف ثروتي هل أنت موافق؟‬
‫عــدت إلــى نف�ســي وإلــى حالــي التــي يشــفق عليهــا ورأيــت أن موتــي خيــرمــن حياتــي‪ .‬إن‬
‫بقيــت علــى هــذه الحالــة‪.‬‬
‫نظرت نحوه ساخرا من ذلك املسدس الذي يحمله بين أصابعه فلم يعد لي �شيء‬
‫آخــرألخســره غيــرحياتــي‪ ،‬الغريــب فــي تلــك اللحظــة يــا صديقــي أنــي لــم أشــعربالخــوف أو‬
‫ـس ب�شــيء وهــل يســتطيع املــرء أن يفقــد‬ ‫يمتلكنــي الرعــب كمــا تظـ ّـن‪ ،‬ببســاطة لــم أعــد أحـ ّ‬
‫لكنــي أدركــت حينهــا أن قيمــة الحيــاة تختصــربمــا نعيــش مــن‬ ‫اإلحســاس دون أن يمــوت؟ ّ‬
‫أجلــه‪ ،‬وأنــا لــم أعــد أملــك شــيئا إال روحــي لتزهــق أمامــي فــي طلقــة واحــدة‪ ،‬العيــش بــدون‬
‫هــدف كالعيــش بــدون روح‪ ،‬ذلــك البريــق الــذي يلمــع فــي عينــي الرجــل أظنــه مــن امت ـزاج‬
‫لــذة القتــل بلــذة الخمــرتقابلهــا امتـزاج لــذة الالمبــاالة بلــذة املــوت وهــل للمــوت لــذة؟ ّربمــا‬
‫يكــون كذلــك حينمــا تتمنــى املــوت لتوقــف األلــم بداخلــك‪ ،‬أذكــرذلــك للصرصور األســود‬
‫ّ‬
‫الغامــض‪ ،‬كان أمامــي بجانــب قــدم الرجــل‪ ،‬جامــد دون حـراك كأنــه ينتظــرنهايتــي‪ ،‬ذلــك‬
‫الصرصــور يملــك جناحــا واحــد علــى مــا أتذكــر‪ ،‬وأظـ ّـن ّأن س ــبب وقوفــه ليشــاهد تلــك‬
‫اللقطــة مــا يكــون إال أنــه تمنــى املــوت ذات مــرة ألنــه ســيصبح مشــوها وحكـرا علــى جماعــة‬
‫ّ‬
‫الصراصيــر‪ ،‬ألنــه يملــك جناحــا واحــد فــا بـ ّـد لــه أنــه قـ ّـرر أن ينهــي حياتــه ذات يــوم ولــم‬
‫يستطع وها هوذا أمامي اآلن‪ ،‬يتمنى لي املوت على ما أظن‪ ،‬وهذا ما سارفي خاطري تلك‬
‫الليلــة وملــا يكــون ذلــك الصرصــور هنــاك هكــذا فقــط!‬
‫ليس سهال أن تنهي حياتك مثلما تريد‪ .‬صدقني!‬
‫األصعــب مــن املــوت هــو محاولــة معرفــة متــى نمــوت وكيــف نمــوت‪ .‬إن التفكيــرفــي‬
‫املوت ال يؤجل املوت بل يؤجل الحياة‪ .‬والجحيم أعد للمنتحرين ألنهم جبناء ال يريدون‬
‫املواصلــة ويهربــون مــن مواجهــة الحيــاة وأهوالهــا‪ ،‬الجنــة ليســت للجبنــاء والضعفــاء‪.‬‬
‫ثم بابتسامة مجنون رفعت رأ�سي وبثقة‪:‬‬
‫– نعم‪ ،‬أختارطرة‪ ...‬ال يهم‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ليرمي الرجل القطعة الفضية في الهواء فتسقط فوق سطح كفه‪ ،‬رفع مسدسه‬
‫وصوبه نحو رأ�ســي مباشــرة‪.‬‬
‫ظننت في تلك اللحظة أني خسرت وأني ميت ال محالة إنها نهايتي وسأحقق أمنية‬
‫الصرصور‪ ،‬وال أعرف إن كانت أمنية خفية في جانب من جوانب نف�سي الغامض التي‬
‫طاملــا تلــذذت باأللــم وجذبتنــي لأللــم عــن قصــد أغمضــت عينــي أللقــى مصيــري ال مباليــا‬
‫بمــاذا يحــدث بعدهــا أيــن أذهــب؟ أو مــاذا يحــدث؟ اعترتنــي رغبــة عارمــة فــي أن أعــرف‬
‫شعور املوت ذلك الشعور حين تحس أن روحك تخرج من جسدك! كيف يكون ومن‬
‫جربــه ليرجــع مــن املــوت ويســرده أو يكتــب فيــه مخطوطــات وكتــب وربمــا يؤلــف كتابــا‬
‫بعنــوان" إحســاس املــوت" يكــون اإلهــداء فيــه لروحــه املفقــودة – اشــتقت لــك – أليــس‬
‫ذلك ضربا من خيال! أليس ذلك ما عجزنا عن الوصول إليه! كيف نفقد اإلحســاس‪،‬‬
‫وهــل نســتطيع أن نتخيــل إحساســا لــم نجربــه ولــم نصــل إليــه؟ أو نتج ـرأ ونكتــب فيــه‬
‫ونتطرق لندرسه‪ ،‬أنه املوت‪ ،‬الحق‪ ،‬النهاية‪ ،‬أو ربما البداية‪ ،‬أين تذهب الروح؟ وماهي‬
‫الــروح أصــا؟ نبقــى نتخبــط ونمــوت قبــل أن نمــوت‪ ،‬نمــوت بأســالتنا املبهمــة التــي مهمــا‬
‫ادعينــا العلــم والفهــم‪ ،‬ال نســتطيع حلهــا أو الوصــول لتحليلهــا والخــروج بفرضيــات‬
‫مقنعــة تشــفي غليلنــا وتعطشــنا للمعرفــة‪..‬‬
‫ّ‬
‫أغرقتنــي دوامــة مــن التســاؤالت‪ ،‬وســرحت بذهنــي ثـ ّـم تملكنــي بــرد رهيــب فــي رجلــي‬
‫وأطرافــي‪ ،‬أحسســت بفــروة رأ�ســي تنمــل وبتخــدرفــي فكــي الســفلي بحيــث لــم أســتطع أن‬
‫أحركــه مــن فــرط ذهولــي ودهشــتي حيــن ســمعت دوي الرصاصــة بقربــي‪ ،‬فتحــت عينــي‬
‫ألجــد الفتــاة مــرداة قتيلــة علــى األرض والدمــاء تســيل مــن رأســها‪ ،‬ثـ ّـم بعــد ثــوان ســاد‬
‫ّ‬
‫الهــدوء والصمــت املرعــب يتخللــه الف ـراغ القاتــل‪.‬‬
‫منــي‪ .‬همــس فــي أذنــي محدثــا بنبــرة‪ ،‬جافــة مــن‬ ‫أخــرج الرجــل قلمــا وشــيكا واقتــرب ّ‬
‫املشــاعر كأنهــا نبــرة انتقــام بــارد تــدل علــى الســخرية والشــفقة‪:‬‬
‫– هل تدري أيها املخبول أنك قد خسرت في الرهان‪.‬‬
‫و لكن هل تعلم من هذه الفتاة؟‬

‫‪81‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫حــرك رأســه قليــا نحــواليميــن ليبصــق فــي املــكان الــذي كان فيــه الصرصــور‪ ،‬هنــاك‬
‫الحظت أن الصرصور اختفى ربما أرعبه سماع دوي الطلقة‪ .‬أكمل كالمه مشيرا نحو‬
‫الفتــاة بيــده‪ ،‬صارمــا شــفته العلويــة نحــواليســار‪.‬‬
‫– هذه حبيبتي‪....‬نعم هي حبيبة عمري سارة‪.‬‬
‫بعــد هــذه الكلمــات‪ ،‬صمــت لبرهــة تمكــن فيهــا أن يهــدأ مــن روعــه وتابــع قائــا بوجــه‬
‫رجــل متحصــرحزيــن‪ .‬عرفــت ذلــك الوجــه ألنــي رأيتــه ســابقا ولــم أنســاه‪...‬و كأنــه يريــد أن‬
‫يبــث حزنــه‪.‬‬
‫– هذه الجميلة الهامدة اآلن بجنبك هل تعرف الذي فعلته؟ هل تدرك أي فعل‬
‫تقوم به املرأة بحق الرجل ال غفران له سوى القتل؟‬
‫أقتــرب منــي أكثــرووضــع يــده علــى كتفــي أحسســت بيــد بــاردة أكثــرمــن األرض التــي‬
‫حتــى تتخــدرأطرافــي‪ .‬ورفــع صوتــه فــي وجهــي ّ‬
‫حتــى كادت تخنقنــي رائحــة‬ ‫كنــت أنــام عليهــا ّ‬
‫الكحــول املنبعــث مــن ثغــره‪:‬‬
‫_ال أظنك تدري أيها البائس الغبي؟‬
‫ثــم تابــع والدمــوع تنهمــر مــن عينيــه "دمــوع رجــل مقهــور يــا صديقــي دمــوع يخــاف‬
‫الشــعراء مــن وصفهــا ويهــاب الرســامون رســمها"‪.‬‬
‫– البارحة قد كذبت وأخبرتها أنني قد خسرت كل ثروتي في جلسة قمار‪.‬‬
‫– هل تدري ماذا فعلت هذه الجميلة الحسناء؟‬
‫_أعلنت االنفصال عني بعد يوم من إخباري لها بالحادثة نعم بكل برودة أخبرتني‬
‫أنها ال تريدني وبنفس البرودة أطلقت النارعلى رأسها‪ .‬ال تتعجب من دموعي‪...‬ألنك لم‬
‫تجــرب هــذا الشــعور أيهــا البائــس الفقيــروأتمنــى لــك أن ال تجربــه أبــدا‪ .‬عرفــت أنهــا كانــت‬
‫تحبنــي مــن أجــل مالــي وفقــط‪ .‬إن أردت أن تعــرف صــدق امـرأة فــي حبهــا لــك جربهــا باملــال‬
‫أو بالخــوف‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وهــي قــد ظهــرت علــى حقيقتهــا ولقيــت جزائهــا ولــم تكــن أنــت ســوى وســيلة لذلــك‬
‫ونصــف ثروتــي ســتكون لــك فقــط‪ .‬فقــط ألنــك قبلــت التحــدي وراهنــت بحياتــك كلهــا‬
‫دفعــة واحــدة والشــجعان مثلــك ال يليــق بهــم الفقــر والنــوم علــى أرصفــة الشــوارع‪.‬‬
‫ثم سلمني الشيك والقطعة النقدية قائال‪:‬‬
‫_الحياة مجازفة أو ال �شيء‬
‫ثم انصرف الكهل وهو يعرج على عصاه الخشبية‪.‬‬
‫_واآلن هل عرفت معنى الشجاعة ومعنى‪...‬‬
‫أنظرها أنا أمامك بكل خير‪ ،‬ثريا بين ليلة وضحاها وها أنا ذا أعرض عليك نفس‬
‫التحدي فإن وقعت القطعة على الوجه الذي اخترته أنت ستفوز بكل ثروتي‪ ،‬وإن لم‬
‫تقــع علــى الوجــه الــذي اخترتــه ستخســركل ثروتــك‪ ،‬ثروتــي مقابــل ثروتــك‪ ،‬أليــس هــذا‬
‫رائعــا‪ ،‬خيــاران متعاكســان أمامــك فــي كفــة متوازنــة‪ ،‬خيــرواختــار‪.‬‬
‫_يــا مطلوعــة‪ ،‬صاحبــي فــي تلــك اللحظــة وضعــت قفــة املحاجــب مــن يــدي وفكــرت‬
‫فــي مــا قالــه لــي البارحــة‪ ،‬أنــي ولــدت فقيـرا وســأموت فقيـرا وبلغــت فــي رأ�ســي كلماتــه هــذه مــا‬
‫بلغــت‪.‬‬
‫– ماذا تختار؟‬
‫– قررت املغامرة واخترت مثلما اختارعندما ربح الكهل‪ ...‬طرة‪.‬‬
‫جحضت عيني وابتلعت ريقي‪ .‬وبلوطة يتابع الحكاية‪.‬‬
‫ابتعــد الرجــل بخطــوة للــوراء ليرمــي القطعــة الفضيــة فــي الهــواء‪ ،‬فــي تلــك اللحظــة‬
‫كنــت فــي أتــم تركيــزي‪.‬‬
‫ومراقبتــي لــدوران القطعــة فــي الهــواء‪ ،‬ســقطت القطعــة علــى األرض وليتهــا مــا‬
‫ســقطت ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أصابتنــي الدهشــة وتجمــدت مكانــي وعرقــت جبتهــي واشــتد خفقــان قلبــي وابتلعــت‬
‫ريقــي‪.‬‬
‫فجأة صمت بلوطة‬
‫– إيه‪....‬كيف وقعت القطعة؟‬
‫–‪........‬‬
‫– زد أكمل‪...‬تكلم‬
‫–‪.....‬‬
‫– هاااااي‬
‫هززته ليكمل‬
‫– اوووف القطعــة‪ ،‬القطعــة‪ ،‬ال أدري كيــف وهللا و‪...‬وقعــت علــى حافتهــا متوازنــة‬
‫بيــن الجهتيــن ال طــرة وال نقــش‪ ،‬تجمــدت لــم أفهــم الــذي يحــدث‪.‬‬
‫– نظرت نحوه بفم مفتوح‪.‬‬
‫ابتسم الرجل ابتسامته الخبيثة كاملة هذه املرة‪:‬‬
‫–لــم أكمــل لــك الحكايــة‪ .‬بعــد لقائــي بالرجــل اســتغرقت خمــس أعــوام وأنــا أتــدرب‬
‫على رمي هذه القطعة لتسقط متوازنة ما بين الجهتين وهذا ما أكسبني ضعف نصف‬
‫ثــروة الرجــل العجــوز التــي ربحتهــا فــي الرهــان معــه‪.‬‬
‫يــا مطلوعــة صديقــي لــم أعــرف مــا أفعلــه فــي تلــك اللحظــة وحيــث كان الرجــل يقــف‬
‫علــى حافــة الجســر‪ ،‬فدفعتــه ليســقط داخــل واد بوغولــة وهربــت مســرعا‪.‬‬
‫و هــا أنــا ذا راحــل وال أعلــم أيــن؟ ألتــرك لــك بارجــي وزبيــدة فاعتنــي بهمــا فســأعود‬

‫‪84‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يوما ما سأعود يا صديقي‪ّ ،‬‬


‫ثم نهض ونظرنحوي نظرات منكسرة وضع يده على كتفي‪.‬‬
‫– نلتقي في ساعة خير‪ ،‬وغيرالجبال التي ال تلتقي‪.‬‬
‫ثـ ّـم رفــع ســرة رحلــه علــى كتفــه ورحــل فــي اتجــاه الشــمس مــع خيــط أول إشـراقة‪،‬‬
‫انتصبــت فــي مكانــي أراقــب أعــز صديــق لــي راحــا‪ ،‬يــذوب فــي طريــق القريــة تــاركا إيــاي‬
‫شــاخصا حيرانــا أســفا‪ ،‬أربــط األحــداث داخــل رأ�ســي‪.‬‬

‫***‬

‫شعرت برأ�سي يدور كزوبعة صغيرة‪ .‬وداخل أذني صوت مستمر‬


‫زننننننننننننننننننننننننننن‪ .‬زنننننننننن ‪.‬‬
‫كصــوت صفعــة ضخمــة مباشــرة علــى أذنــك‪ ،‬أو انفجــارقنبلــة أمــام وجهــك‪ .‬رأ�ســي‬
‫يــدور وســمعي يتلقــف أصواتــا غريبــة مختلطــة ال أكاد أبيــن‪ ،‬ص ـراخ‪ ،‬صيــاح‪ ،‬صــوت‬
‫منشــار‪ ،‬عویــل امـرأة‪ ،‬بــكاء رضيــع‪ ،‬أذان صــاة‪ ،‬تــاوة قـرآن‪ ،‬محــرك توليــد الكهربــاء فــي‬
‫امل ـزارع‪ ،‬هللا أكبــرهللا أكبــر‪ ،‬أهــدر‪ ،‬قــر‪ ،‬ويــن راهــم صحابــك‪ ،‬تفــووووه‪...‬‬
‫‪ ،salaud, merde‬هــاي‪ ،‬هــاي‪ ،‬هــاي‪ ،‬خطفتنــي األرض تتحـ ّـرك‪ ،‬نحــو كل الجهــات‪،‬‬
‫األبقــار تزقــزق‪ ،‬الجمــال تطيــر‪ ،‬الجــدران تســيل‪ ،‬أنفــي يطــول مثــل مكنســة‪ّ .‬‬
‫أتلمــس‬
‫ّ‬
‫دقــات قلبــي تتعالــى‪ ،‬رأيــت فــي مــا يــرى‬ ‫تحــت يــدي علــى األرض أعــواد التبــن‪ ،‬عرقــي بــارد‪،‬‬
‫"املباتاك�ســي"‪ ،‬يقفــزأمامــي حلــزون بحجــم الكلــب‪ ،‬يمســك فــي قــرون استشــعاره ملعقــة‬
‫وســكينا بنفســجي اليــد‪ ،‬بجنبــه ذبابــة بحجــم دجاجــة عــرب كبيــرة عاريــة الرقبــة‪ ،‬عيونهــا‬
‫الشــبكية جاحظــة بحجــم فنجــان قهــوة‪ ،‬تحمــل تحــت جناحيهــا ذبابتيــن زرقاويــن‬
‫غليظتيــن ســمينتين‪.‬‬
‫***‬

‫‪85‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ذئب بوجه خروف‬

‫ودعت بلوطة صديقي كلي حزنا وأ�سى‪ ،‬ومع ذلك الصباح الذي يعانق الليل‬
‫ويودعه ليحزم حقائبه راحال‪ ،‬بين حقول القمح املمتدة التي تقابل رؤوسا بقبعات‬
‫قش تصعد تارة وتنزل تارة أخرى‪ ،‬فالحون يعملون بجد وكد يحملون مناجل‬
‫معقوفة الطرف يتقنون استخدامها بتفنن وبراعة‪ ،‬السماء فوق رؤوسهم قاتمة‬
‫اللون وكأنها تشفق عليهم وبرفق تسقط أشعة شمسها على رؤوسهم البيضاء‬
‫ّ‬
‫املتعرقة‪ .‬بعضهم يغني واآلخريحدث نفسه وفي الناحية‬ ‫الشائبة وجباههم الحمراء‬
‫األخرى أطفال يحملون املاء وبعض الكسرة إلطعام آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم‪،‬‬
‫وفوق الجميع يبدو كالفارس مبجل فوق محراثه على رأسه قبعة قش واسعة وبين‬
‫شفاهه يحمل سنبلة يابسة واالبتسامة تعلو محياه‪ ،‬الغريب من أمرعمي عدة‪ ،‬أنه‬
‫يعمل طيلة النهاروال أذكرأني يوما رأيته يشتكي أو يمل من عمله‪ ،‬إذ قل ما كنت أراه‬
‫يتكلم‪ .‬ألقي عليهم التحية وأعبرهم ليشدني الرحال كاملعتاد‪.‬‬
‫جاء املساء خرجت من املنزل وفي يدي قفة املطلوع متوجها نحو السوق كعادتي‪.‬‬
‫وأنــا فــي طريقــي إلــى الســوق الحظــت وجــود ســيارة جاكــوار ســوداء قــرب كــوخ بلوطــة‪،‬‬
‫اقتربــت ألتطلــع علــى األمــر‪ ،‬رأيــت رجــا ببذلــة ســوداء رســمية يضــع نظــارات ســوداء علــى‬
‫عينيــه وســاعة بــارزة مــن يــده‪ .‬يقــف منتصــب القامــة عريــض الكتفيــن نــادى علــي‪ ،‬دون‬
‫أن يتحــرك‪...‬‬
‫– هاي أنت!‬
‫– من أنا؟‬
‫– نعم أنت‪ ،‬هل تسكن هنا؟‬
‫– ومن أنت؟‬

‫‪86‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم كرر سؤاله بنبرة أكثرهدوء‪ .‬أشرت بيدي إلى املنزل املقابل‪:‬‬

‫– نعم هناك أنا قريب من هنا‪..‬‬

‫– لكن ملاذا‪ ،‬وماذا تريد؟‬

‫– أنت تسأل أكثرمني يا فتى‪ ،‬رغم أني غريب عن املنطقة‬

‫– آه براني‪..‬‬

‫– ماذا!‬

‫– ال �شيء‪ .‬ال �شيء‪..‬‬


‫ّ‬
‫ثم حين سألني إن كنت أملك عمال وماهي ثروتي؟‬

‫فقفــزت للخلــف مذعــورا ملــا عرفــت أنــه نفــس الرجــل الــذي حدثنــي عنــه أميــن‪.‬‬
‫لذلــك كنــت أعــرف بقيــة القصــة والحديــث!‬
‫– ال ال‪�...‬سي‪...‬تو‪.‬‬

‫ما بك ال تخف يا بني اقترب وعندما اقتربت الحظت الخواتم على أصابعه وحينها‬
‫تأكــدت أنه هو‪.‬‬

‫– قل لي ماذا تعمل كيف تكسب رزقك؟‬

‫–‪.....‬‬

‫– مدخول!‬

‫– ال ال‬

‫‪87‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– حســنا املهــم أنــا أحتــاج ألحدهــم آمنــه علــى هــذا الكــوخ‪ ،‬فقــد قــررت أن أشــتريه و‬
‫أشتري األرض التي بجانبه ألستثمرفيهما‪ ،‬إني أرى هذي القطعة تصلح مزرعة جميلة‬
‫وال أعــرف كثيـرا مــن النــاس فــي هــذه القريــة ألنــي جديــد فــي املنطقــة‪.‬‬
‫…_‬
‫_عذرا نسيت أن أعرفك بنف�سي أعذرني يا بني‪ ،‬يالي من وقح‪.‬‬
‫ومد يده بلباقة ليصافحني‪:‬‬
‫– جمــال جديــد هنــا فــي الواليــة‪ ،‬صاحــب محــات ‪ OM‬للمجوه ـرات‪ .‬إن كنــت‬
‫ســمعت بهــا مــن قبــل‪ !...‬آاا علــى مــا يبــدو أنــك غيــر مهتــم باملوضــة‬
‫– وأنت!‬
‫– مطلو‪....‬آ لقمان‪.‬‬
‫– متشرفين لقمان يظهرعليك أنك فتى خلوق‪ ،‬وجه الخروف معروف‬
‫– خروووف!‬
‫– الال أقصد أنك تبدو فتى طيب‪.‬‬
‫– طيب! …‪.‬اسمي لقمان قلنا‪ .‬وليس الطيب‪.‬‬
‫– هههــه‪ ،‬املهــم هــذي بطاقتــي‪ ،‬خــذ‪ .‬إن كنــت مهتمــا بالفرصــة وتريــد أن تكســب‬
‫مصروفــا جيــدا‪ ...‬اتصــل بــي‪.‬‬
‫ثم ركب في سيارته الجاكواروأطلق عجالته للريح‬
‫_ذيــب بوجــه خــروف يبــدو وديعــا أكثــر ممــا وصفــه لــي أمين‪...‬ســبحان هللا وجــوه‬
‫مالئكــة وقلــوب شــياطين‪..‬‬
‫***‬

‫‪88‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم أســرع املحقــق نحــو الشــاب‪ .‬ودعــاه للجلــوس علــى ســطح مكتــب فــارغ فــي املكتبــة‬
‫ثـ ّـم رمــى لــه التفاحــة بيــن يديــه وبــدأ باســتجوابه‪:‬‬
‫– يبدوا أنك مكتبي املدرسة؟‬
‫– ال سيدي‪ .‬أنا عامل فيها فقط‪.‬‬
‫_ماذا تقصد بعامل ما هو دورك؟‬
‫_أنــا خــازن الكتــب‪ .‬أقــوم بترتيــب الكتــب ونقلهــا ووضعهــا فــي الرفــوف وفــي املخــزن‬
‫وأحــرص علــى توفيرهــا مــن خــارج املدرســة وأحيانــا أنــوب علــى املكتبــي وأســجل التالميــذ‬
‫الذيــن قامــوا بإعــارة الكتــب‪.‬‬
‫_إذن ملاذا لم تنب اليوم على املكتبي؟‬
‫_ال أدري لم أكن أعلم أنه سيغيب عن العمل اليوم‪.‬‬
‫_حســنا سأســألك بعــض األســئلة يــا رحيــم‪ ،‬ال تعتبــره تحقيقــا وإنمــا حديــث بيــن‬
‫شــخصين مهنييــن يتعارفــان لتوهمــا‪.‬‬
‫– طبعا سيد‪...‬‬
‫– املحقق محي الدين سعدي‪ ..‬يمكنك مناداتي املاحي‪.‬‬
‫– هــل أنــت املحقــق الــذي ألقــى القبــض علــى حميــد البغــل‪ ،‬أكبــراللصــوص فــي حــي‬
‫ميلــودي‪ ،‬شــاهدت لقــاءك فــي التلفــاز‪ ،‬تشــرفت بــك‪.‬‬
‫– جميل‪ ،‬أنت تتابع أحداث املدينة مؤخرا‪ ،‬أنت مهتم بعالم اإلجرام والتحريات‬
‫إذن!‬
‫– ال‪ .‬أقصــد أن الجميــع قــد ســمع بالحادثــة‪ ،‬علــى كل حــال‪ .‬أنــت مشــهور نوعــا مــا‬
‫أليــس كذلــك؟‬

‫‪89‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬
‫ثم مد يده ليصافح املحقق‪.‬‬
‫– رحيم الشاوي عامل في مكتبة املدرسة‪.‬‬
‫– تشرفنا يا رحيم لندخل في املوضوع مباشرة‪ .‬منذ متى وأنت تعمل هنا؟‬

‫– منذ عامين تقريبا‪.‬‬


‫– أين كنت عندما اتصل بك املدير؟‬
‫صمت رحيم قليال ّ‬
‫ثم أجاب‪:‬‬
‫_كنت في امللعب‪.‬‬
‫– ماذا كنت تفعل؟‬
‫_ال �شيء فقط كنت جالسا وأقرأ في كتاب‪.‬‬
‫_ال �شيء هاه‪ ..‬تقرأ في كتاب فقط هل أنت واثق؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_أي كتاب؟‬
‫_رواية الالزللطاهروطار‪.‬‬

‫ثم نظراملحقق للشاب وهو يستمرفي تدوين مالحظاته‪:‬‬


‫– جميل‪ .‬أخبرني هل لك عالقة بالضحية؟‬
‫– ال سيدي ال أعرفه‪.‬‬
‫_حسنا و ماهي عالقتك باملطالعة‪...‬الروايات؟‬

‫‪90‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_نعم أنا أحب القراءة‪ .‬لذلك اخترت أن آخذ هذا العمل‪ .‬بدل أن أجلس في املنزل‬
‫أقرأ الكتب من دون عمل‪ .‬أنا أق�ضي وقتي بين الكتب وآخذ راتبا ال بأس به‪.‬‬
‫_إذن أنت تعرف معظم عناوين الكتب املوجودة في املكتبة حسب كالمك؟‬
‫_في معظمها نعم؟‬
‫_إذن هل تعرف رواية تحت عنوان "رحل من دون وجه "‪.‬‬
‫_رحل من دون وجه؟ من كاتبها؟‬
‫_هذه الرواية أقصد!‬
‫ثم عرض املحقق الرواية أمام رحيم‪.‬‬
‫_كاتبها اسمه "فارس ياني"‪.‬‬
‫_لم أسمع به من قبل‪.‬‬
‫_ هــل أنــت مــن وضعتهــا بجنــب جثــة الضحيــة أو فــي الــرف الــذي وقعــت بجنبــه‬
‫الضحيــة؟ باملناســبة هــي الروايــة الوحيــدة املوجــودة هنــاك‪.‬‬
‫_ال لست أنا‪ .‬وهذه الرواية ليست من روايات املكتبة‪.‬‬
‫– هل أنت واثق من هذا؟‬
‫_نعــم أنــا واثــق‪ .‬فلــو كانــت كتابــا مدرســيا تعليميــا لشــككت فــي ذلــك‪ .‬لكــن بمــا أنهــا‬
‫روايــة فالروايــات املوجــودة فــي املكتبــة ال تتجــاوز املئــة عنــوان وأنــا مطلــع علــى معظمهــا‬
‫وهــذه الروايــة لــم تكــن هنــا مؤخـرا‪.‬‬
‫_مؤخرا! منذ متى لم تتفقد الكتب املوجودة في قسم الروايات؟‬
‫_أسبوع تقريبا ألني كنت مشغوال بالكتب التي في املخزن واألرشيف‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_غريب‪.‬‬
‫_هل هي رواية بوليسية!‬
‫_نعم‪ .‬وكيف عرفت ذلك؟‬
‫_من العنوان فقط‪.‬‬
‫_هل أنت متأكد من ذلك؟‬
‫_نعم دعنا نبحث عنها في جوجل‪.‬‬
‫بعدمــا بحــث املاحــي عــن عنــوان الروايــة فــي محــرك بحــث جوجــل عقــد حاجبيــه‬
‫وغــرق يفكــر فــي صمــت لبرهــة‪.‬‬
‫– من معه مفتاح املكتبة غيرك؟‬
‫– ال أحــد‪ ،‬أقصــد مــا عــدى املكتبــي‪ .‬ومديــراملدرســة طبعــا ألنــي أضــع نســخة مــن‬
‫املفتــاح فــي إدارة املدرســة‪.‬‬
‫– همم‪ ،‬وماهي آخرمرة غيرت فيها مالبسك وتركت املفتاح داخلها؟‬
‫– ال أذكــر‪ ،‬لكــن ربمــا آخــرمــرة عندمــا دعانــي بعــض األوالد ألديــرمبــاراة كــرة قــدم‬
‫وإللحاحهــم علــي‪ ،‬وبمــا أنــي كنــت ألعــب مــن قبــل كــرة القــدم وأنــا حكــم ســابق‪ ،‬قــررت أن‬
‫أشــارك فــي املبــاراة معهــم‪.‬‬
‫– مع من لعبت؟‬
‫ثم ذكرله العامل األشخاص املشاركين في اللقاء وشكره على تعاونه وانصرف‪.‬‬
‫***‬

‫‪92‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قبل عشرين عاما‬

‫مدينة وهران الباهية‪.‬‬


‫بيــن العمــارات الشــاهقة واملحــات التجاريــة املبهرجــة‪ ،‬بيــن املســاجد واملــدارس‬
‫بيــن الكباريهــات والحانــات‪ ،‬املينــاء ونوارســه ومناراتــه‪ ،‬الصيــادون بصنارتهــم وشــباكهم‪،‬‬
‫العشــاق بالهــوى والكلمــات املتراقصــة والوعــود املثيــرة‪ ،‬رصيــف" فلونــد مــار" يطــل علــى‬
‫مينــاء وهـران الباهيــة‪ ،‬رجــل قصيــرالقامــة أشــيب الشــعررفقــة ولديــن صغيريــن‪ ،‬بيــده‬
‫خيــط يمتــد فــي الســماء لطائــرة ورقيــة‪ ،‬عجــوز قصيــرمحنــي الظهــربنظــارة طبيــة غريبــة‬
‫الشكل يرتدي قميصا أبيض شديد النظافة ويقف أمام عربة صغيرة بعجالت دراجة‬
‫ناريــة يرتــب العلــب البيضــاء الصغيــرة‪ ،‬ليبيــع داخلهــا حبــات قلــب اللــوز‪ ،‬بعــده بخطــوات‬
‫علــى الرصيــف يقــف رجــل أســود‪ ،‬أنفــه كبيــر مكــور وأســنانه شــديدة البيــاض‪ ،‬يرتــدي‬
‫عبــاءة زرقــاء وعلــى رأســه عمامــة بلــون أرجوانــي غامــق‪ ،‬يحمــل علــى ذراعــه إبريــق شــاي‬
‫فــوق موقــد جمــر فــي يــد وفــي يــده األخــرى ســلة بالســتيكية‪ ،‬ممتلئــة بأكيــاس مختلفــة‬
‫األلــوان‪ .‬الجــو دافــئ بطريقــة غريبــة يبعــث االســترخاء فــي الجســد‪ ،‬رائحــة عطــر خفيفــة‬
‫تســبح غيــربعيــد تعبــق ليــل وهـران الطويــل‪ ،‬يقــف وســط الطريــق‪ ،‬عينــاه ذابلتــان فــوق‬
‫رأســه قبعــة زرقــاء يضعهــا باملقلــوب‪ ،‬يحمــل بيــده مضخــة صغيــرة يــرش بهــا املــارة وتحــت‬
‫ذراعــه مجموعــة مــن قــارورات العطــرالبالســتيكية الصغيــرة‪ ،‬مــن العطــراملميــع الــذي‬
‫يرش به املارة‪ ،‬كل املاشــين على واجهة رصيف فلوند مارذوي بشــرة ســمراء‪ ،‬يتمشــون‬
‫ببــطء‪ ،‬يبتســمون‪ ،‬هــل يبتســم النــاس هنــا كل يــوم؟ لهجــة وهرانيــة معجنــة تنبعــث‬
‫مــن فــم كتــل الجماعــات املشــكلة علــى طــول الرصيــف‪ ،‬أكثرهــا كلمــة "واه" وتعنــي نعــم‬
‫وهــذا يميــزالغــرب الجزائــري‪ ،‬مثــل كلمــة "يــا خــو" التــي تميــزالعاصمــة الجزائريــة وكلمــة‬
‫"هيه" التي تميزالشرق‪ ،‬أصوات البواخروهي تغادرامليناء‪ ،‬وهديرمحركات الدراجات‬
‫الناريــة‪ ،‬أضــواء الســيارات فــي تللــك الطــرق املزدحمــة التــي تتعكــربرائحــة بخــاراملصانــع‬
‫وســيارات األجــرة املوثقــة وغيــراملوثقــة‪ ،‬فــي واحــدة مــن ليالــي ينايــرالبــاردة‪ ،‬مطــرخفيــف‬
‫يحــط فــوق أســطح البنايــات ذات اللمســة الفرنســية مــن حقبــة االســتعمار بمعمارهــا‬

‫‪93‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الكالســيكي املحــدث‪ ،‬مطــريحــط فــوق رؤوس العشــاق علــى رصيف‪"...‬فلونــد مــار"مطــر‬


‫ينتحــرويــذوب بيــن عبــق الكلمــات‬
‫يذوب‬
‫يذو‬
‫يذ‬
‫ي‪.‬‬
‫ها هو ذا تمثال القديســة صوفيا يفرد يده للســماء‪ ،‬بلونه األســود يتوســط شــارع‬
‫العقيد لطفي‪ ،‬قرب امليترو الذي يشق سرة مدينة وهران بهدوء واتزان‪ ،‬وهران ال تنام‬
‫وهران جمرة مشتعلة على لهيب الفن وريح الذكريات‪.‬‬
‫علــى رصيــف فلونــد مــاركلــب كانيــش تجــره ســيدة مــن حبــل رقيــق مربــوط برأســه‪،‬‬
‫ممشــوقة القــوام بســاقين نحيلتيــن تنتعــل حــذاء ذو كعــب عــال‪ ،‬علــى رأســها قبعــة‬
‫فرنســية ســوداء وواســعة تتدلــى مــن علــى حوافهــا شراشــف ســوداء شــفافة تشــبه تلــك‬
‫التي في العروض الليلة‪ ،‬ونظارات شمســية ســوداء وحقيبة يد حمراء صغيرة في وســط‬
‫يدهــا األخــرى‪ ،‬الســيدة لتوهــا نزلــت مــن الســيارة‪ ،‬رمــت املفتــاح داخــل حقيبــة يدهــا‬
‫أقفلــت البــاب بعقــب رجلهــا‪ ،‬عدلــت مــن ثوبهــا القصيــراألحمــر‪ ،‬خفضتــه علــى ركبتيهــا‪،‬‬
‫اقتربــت مــن محــل لبيــع املثلجــات فــي الزاويــة‪ ،‬جاءهــا النــادل مســرعا إذ بــدى أنــه معتــاد‬
‫على التعامل معها‪ ،‬خصص لها طاولة جانب حديقة املحل الصغيرة في الهواء الطلق‪.‬‬
‫ثم بإشارة من يدها عاد النادل مسرعا بزيه األبيض واألسود وربطة عنق حمراء‬
‫جميلــة‪ ،‬الشــاب أســمرأنيــق الشــعرمرتــب الهنــدام‪ ،‬يتكلــم بانضبــاط وإحــكام‪ ،‬خاطبتــه‬
‫الســيدة بنبــرة أنثويــة خافتــة‪.‬‬
‫_نعم سيدتي سارة‪.‬‬
‫_مثل املعتاد رنجيلة‪ .‬و�شيء أبرد به حلقي وطعام "ريو "‬

‫‪94‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هــزبرأســه بجديــة ثـ ّـم عــاد بعــد ملحــات مــن البصــرحامــا فــي يــده علبــة طعــام كالب‬
‫صغيــرة فتحهــا وضعهــا فــي األرض أمــام الكانيــش‪ ،‬وضــع الشيشــة وبعــض املثلجــات علــى‬
‫الطاولــة أمــام الســيدة‪ ،‬لــم تبـ ِـد الســيدة أيــة ردة فعــل‪ ،‬وإنمــا فقــط وضعــت رجــا فــوق‬
‫رجل ليبرز قوامها الرشيق والنحيل من ذلك الفستان القصيركأنها تقوم بعرض أمام‬
‫املــارة‪ ...‬وال تنتظــرأن يأتــي أحــد‪.‬‬
‫تشــعل الســيدة ســيجارة وتدخــن بتأنــي وتفكيــر طويــل قبــل أن تمســك أنبــوب‬
‫الرنجيلة‪ ،‬تعبرأمام السيدة فتاة بيضاء قصيرة تلبس سروال جينزضيقا أزرق اللون‬
‫يــكاد ينفجــر مــن فــوق فخضيهــا‪.‬‬
‫حتى للصباح على حساب رامي!‬ ‫– اليوم السهرة ّ‬

‫– اتصلــي بأبيــك‪ ،‬اصنعــي لــه حجــة‪ ،‬قولــي لــه أن فتيحــة دخلــت املستشــفى وعلــي‬
‫أن أبقــى معهــا‪.‬‬
‫يتابعان طريقهما‪ ،‬ليمرا بجنبهما رجل جاد املالمح عريض الكتفين‪ ،‬يسعل سعال‬
‫غيرطبيعي‪ .‬يكاد يسقط من السعال ّ‬
‫حتى تمسكه الفتاة‪:‬‬
‫– هل أنت بخيرهل نستطيع مساعدتك؟‬
‫يشيربيده للرفض وينهض متثاقال في مشيته وينصرف‪.‬‬
‫تنظرالفتاة لصديقتها‪:‬‬
‫–هل رأيت ماذا سعل على األرض!‬
‫– نعم ربي يشفيه مسكين‪.‬‬
‫يكمالن مشيتهما فيصطدمان بسيدة‪ .‬وتسقط حقيبتها على األرض‬
‫***‬

‫‪95‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫علــى الرصيــف تســير ســيدة عريضــة الوجــه خشــنة الهيئــة‪ ،‬وجههــا ملطــخ بشــتى‬
‫مســاحيق التجميــل‪ ،‬تصطــدم بفتاتيــن مســرعتين‪ ،‬تســقط منهــا حقيبــة يدهــا‪ ،‬تعــذر‬
‫منهــا البنتــان‪ .‬تقبــل اعتذراهمــا‪ ،‬وتواصــل طريقهــا وهــي تجرجــربيدهــا فتى ســمين الجســم‬
‫منتفــخ الوجــه‪.‬و الفتــى يبكــي يأبــى امل�شــي‪ ،‬تبــدو الســيدة متعبــة منــه والعــرق يتصبــب مــن‬
‫جبينهــا‪:‬‬
‫– أيها الحمارتحرك تحرك وإال لن تخرج معي ثانية‪..‬‬
‫يبكي الفتى مجددا‪ ،‬ويجلس على األرض‪.‬‬
‫عــادت الســيدة مســرعة لتحملــه مــن علــى األرض فأبــى‪ .‬الحظــت بقربهــا فــي جانــب‬
‫الســور‪ .‬متســولة بجانبهــا فتــى كئيــب املالمــح‪ ،‬تنهــدت الســيدة قليــا ووضعــت يدهــا فــي‬
‫حتى تعطيها له كخدعة منها لينهض ولتعلمه‬ ‫حقيبتها لتخرج بعض العمالت املعدنية‪ّ ،‬‬
‫شــيئا آخــر‪ .‬فتحــت الســيدة حقيبتهــا‪ ،‬ثـ ّـم صرخــت بهســتيريا‪:‬‬
‫– هاتفي ي ي ي ي أين هاتفي!‬
‫ثم خرت على األرض تنوح‪.‬‬
‫– سرقوني يا ناس سرقووووني اجروا لي‪...‬‬
‫انصرفت السيدة املسروقة تجرابنها وتصفعه‪ ،‬تخرج فيه جل غضبها‪.‬‬
‫املتســولة ذات العجــارتراقــب الســيدة املفزوعــة‪ ،‬وترتــب أوراق الكرتــون تحتهــا‪،‬‬
‫بجنبها قطة سوداء مبتورة األذن نائمة قرب فتى نحيل يخفي مقصا صغيرا تحت يده‬
‫ويســند ظهــره إلــى الجــدارضامــا رجليــه بيــده نحــو صــدره‪ ،‬أشــعث الشــعر‪ ،‬يصــرشــفتيه‬
‫ونظـرات الخــوف باديــة عليــه‪.‬‬
‫حافــي القدميــن وفــوق جســده الهزيــل بعــض األســمال الرماديــة الباليــة واملثقوبــة‬
‫من كل جهة‪ ،‬ساكنا من دون حركة كأنه إعتاد على الجلوس في تلك الوضعية‪...‬الدهر‬
‫حفــره والدنيــا آملتــه كثيـرا‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كانــت تلــك الســيدة تبــدو غامضــة تخفــي مالمحهــا بعجــارأســود يمتــد ّ‬


‫حتــى ذقنهــا‪،‬‬
‫وعلى رقبتها وحمة على شكل نصف قلب‪ ،‬جسدها هزيل تغطيه بحجاب أسود باهت‬
‫اللــون‪ ،‬بيمينهــا القطــة والفتــى الكئيــب‪ ،‬وفــي حجرهــا تحمــل رضيعــة صغيــرة ذات شــعر‬
‫ذهبي تشع جماال وعلى يسارها صحن فارغ أزرق اللون داخله بعض العمالت النقدية‬
‫الصغيــرة‪ ،‬تجمــع فيــه مــا شــاء هللا أن تجمــع مــن صدقــات مــن بقــي فــي هــذه املدينــة مــن‬
‫املحســنين وذوي القلــوب الرحيمــة‪ .‬وعنــد فراغهــا مــن جمــع التبرعــات داخــل الصحــن‪،‬‬
‫تفتــت بعــض الخبــز واملــاء أو بقايــا طعــام داخــل ذلــك الصحــن لتطعــم القطــة مبتــورة‬
‫األذن والفتــى الصغيــر‪.‬‬

‫***‬

‫‪97‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كل يوم سكران نندب فوق الكونتوار‬


‫سبابي العديان جرحوا قلبي بالكالم‬
‫مقطع من أغنية راي للشاب حسني‬

‫نــزل مــن ســيارته الســوداء الفخمــة‪ ،‬يرتــدي معطفــا جميــا مــن الفــرو وحـ ً‬
‫ـذاء‬
‫كالسـ�يكيا المعـ�ا‪ ،‬يسـ�يرببـ�طء قابـ�ل الفتـ�ة مكتوبـ�ة بأحـ�رف فرنسـ�ية مضيئـ�ة �‪DJAWHA‬‬
‫‪ + RA‬مالمــح وجهــه تعبــرعــن الثقــة والخشــونة‪ ،‬شــعره أصفــرالمــع مدهــون بمرهــم‪ ،‬شــق‬
‫طريقــه نحــو مدخــل امللهــى‪ .‬وكان أمامــه رجــان ضخمــان يقفــان عنــد البــاب وبمجــرد أن‬
‫اقتــرب منهمــا أفســحا لــه املجــال‪ .‬ونظــرأحدهمــا لآلخــرليرفــع لــه الســتاراملعلــق فــي املدخل‪.‬‬
‫يبدوثابت الخطى لم يغيرمن مساره‪ ،‬الضجيج يمأل املكان وأضواء الحانة تنعكس على‬
‫وجــه الســيد وتظهــرشــاربه الطويــل ولحيتــه الخفيفــة‪ ،‬رائحــة التبــغ املمتزجــة بالكحــول‬
‫تعطــراملــكان‪ ،‬امللهــى مشــكل مــن عــدة طوابــق‪ ،‬فــي الطابــق الســفلي كانــت هنــاك املخمــرة‬
‫وخشــبة الرقــص ومــكان مخصــص لتدخيــن الشيشــة ّأم ــا فــي الطابــق الثانــي كانــت هنــاك‬
‫الكثيــرمــن الغــرف‪ .‬وفــي الطابــق األخيــركان املســبح‪.‬‬
‫م�شــى الرجــل قبالــة وجلــس علــى كر�ســي مرتفــع متحــرك أمــام الكونتــواروضــع ذراعه‬
‫فــوق لــوح الكونتــوار‪ ،‬لتظهــر يــد مرصعــة بأربعــة خواتــم تحمــل علــى ظهرهــا قطــع مــن‬
‫األحجــار الكريمــة خض ـراء وحم ـراء وزرقــاء واألخيــرة كانــت ال تظهــر جيــدا ألن معطفــه‬
‫الطويــل يغطيهــا‪ ...‬اقتــرب منــه الســاقي ليقــوم بعملــه؛ بنبــرة خشــنة‪.‬‬
‫و مبحوحة‪:‬‬
‫– كأس ويسكي مع بعض الثلج من فضلك!‬
‫– حاضر‪ ،‬أمرك سيدي‪.‬‬
‫أحضــرالســاقي الــكأس ووضعهــا أمــام الرجــل وهــو يمســح ســطح الكونتــواربقطعــة‬
‫مــن القمــاش ويعــدل ربطــة عنقــه‪...‬‬

‫‪98‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– كأسا أخرى‪....‬كح كح!‬


‫قالها الرجل بعدما ارتشف الكأس دفعة واحدة كأنه شرب كأس ماء‪.‬‬
‫وضــع الســاقي الــكأس الثانيــة أمــام الرجــل وقبــل أن يزيــح يــده خطفهــا الرجــل وكبهــا‬
‫في فمه‪...‬ثم أرخاها على ســطح املخمرة وكان الرجل يبدو شــارد التفكير‪..‬و قبالته نظرة‬
‫الحيرة واالســتغراب تمأل الســاقي الشــاب الوســيم عريض الحاجبين أبيض الوجه‪...‬‬
‫يسعل الرجل!‬
‫– كح كح كح‪!...‬‬
‫ثم يواصل كالمه بنبرة صوت مبحوحة وعالية‬
‫– أحضرلي‪.....‬ال‪....‬ك‪..‬ا‪..‬م‪!...‬‬
‫ثم يضع يديه على وجهه‪ ،‬يعض على شفته السفلية‪ ،‬يتوجع من ألم غيرظاهر!‬
‫بحركة نصف دائرية من يده يشيرلقارورة كانت بجانب الشاب‪ ،‬يستديرالشاب‬
‫نحو الحائط اململوء بمختلف أنواع الشراب‪ ،‬يضع يده فوق قارورة بيضاء ذات رأس‬
‫طويلة‪ ،‬على سطحها كتبت بحروف أجنبية "‪...vodka‬ثم نظرنحو النادل‪.‬‬
‫هزالرجل رأسه دون أن يتكلم واكتفى بإشارة بيده‬
‫الساقي بلهجة ال مبالية كأنه ينبه الرجل‪:‬‬
‫– أن تشــرب الويســكي ّ‬
‫ثم تتبعه الفودكا كأنك تضع روســيا واســكتلندا في حجرة‬
‫واحــدة‪.‬‬
‫ثم صمت قليال والحظ أن الرجل لم يلتفت نحوه فرفع صوته قليال‪:‬‬
‫– أنت تعلم الذي سيحدث أليس كذلك؟‬

‫‪99‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫و ضــع الرجــل يــده األخــرى علــى ســطح املخمــرة وبنصــف ضحكــة ســاخرة مــن دون‬
‫أن يرفــع رأســه قــال‪:‬‬
‫– أنا أحب السفركح‪...‬كح‪...‬كح! صب‪..‬صب‪..‬‬
‫واصل الرجل نوبة سعاله ّ‬
‫ثم التفت نحو النادل‪:‬‬
‫– أووووف‪...‬و أنت ال تعلم ذلك!‬
‫– أحضرلي زجاجة الفودكا‪ ...‬وأسمعني صمتك!‬
‫ابتســم الشــاب ابتســامة ســاخرة وحائــرة فــي نفــس الوقــت واضعــا زجاجــة الفــودكا‬
‫أمام الرجل بعدما أدخل الرجل يده في جيبه ليســتل ســيجارة‪ .‬نظرهنا وهناك بعينين‬
‫ذابلتين يضم السيجارة بين شفتيه يمسح عقبها بلسانه ليبللها‪ .‬ينظرفي األرجاء باحثا‬
‫عــن �شــيء مــا‪.‬‬
‫يلحــظ فــي الزاويــة رجــا أصلعــا أعــور العيــن‪ .‬أشــارلــه بحركــة مــن يــده إن كان يملــك‬
‫والعة‪...‬لم يســتجب األصلع‪ ،‬كان يعبث بهاتف ينعكس ضوء شاشــته على وجهه ليبرز‬
‫أنفــه الكبيــر وأســنانه الصف ـراء البشــعة‪ ،‬أعــور العيــن وذا حاجبيــن خفيفيــن باهتيــن‬
‫ووجهــه مائــل للشــحوب‪...‬ال يكــف عــن حــك أنفــه ومســح املخــاط علــى ســرواله‪ .‬يهــزرأســه‬
‫ويضغــط علــى الهاتــف ثـ ّـم يقــرب الهاتــف مــن وجهــه ليتمكــن مــن ق ـراءة مــا كتــب علــى‬
‫شاشــة الهاتــف‪ .‬بأصابــع تحمــل أظافــرطويلــة متســخة "تركيــزه مــع الكتابــة علــى لوحــة‬
‫املفاتيــح دعــاه ليخــرج لســانه مــن بيــن شــفتيه الرقيقتين"ليشــكل رقمــا نقلــه مــن ورقــة‬
‫صغيرة‪ .‬تارة يقرب الورقة من وجهه وتارة أخرى يعود للهاتف ليدون الرقم الذي كتب‬
‫على الورقة بحركة بطيئة‪...‬مع مرورالوقت بدأ صوت املوسيقى باالنخفاض تدريجيا‪.‬‬
‫على الجدارســاعة كبيرة معلقة مباشــرة فوق زجاجات الكحول تحتها مباشــرة مجســم‬
‫ســفينة مصنوعة بالخشــب القديم‪ ،‬وفي منتصف الجداراملطلي باألســود الفاتح‪ ،‬تلك‬
‫حتى‬‫اللوحة الفنية لصورة امرأة عارية نحيلة الجسد بشعرأصفرطويل يتدلى واصال ّ‬
‫األرض‪...‬ذات نهدين صغيرين تخفيهما بذراع واحدة وترفع ذراعها األخرى نحو السماء‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وعلــى رأســها تــاج مصنــوع مــن األزهــار‪ .‬عنــد رجليهــا يزحــف رجــل ضخــم وعــاري الجســد‬
‫على بطنه‪ ،‬يبدوعريض الكتفين ولحيته تحت رجل تلك املرأة‪"...‬كانت ترتدي في أسفل‬
‫ســاقها النحيلــة امللســاء عنــد عظمــة الرجــل بالتحديــد خلخــاال تتدلــى مــن عليــه خيــوط‬
‫قصيــرة مــن النحــاس‪."...‬‬
‫و من ساقها األخرى يمسكها الرجل الضخم‪ ،‬ليمنعها من املسير‪ ...‬وبعض الغبار‬
‫يمأل شعرالرجل األشقراألشعث‪...‬كأنها استطاعت أن تجره من ورائها‪ ،‬محدثة الغبار‬
‫فوق األرض الترابية واألشجاروالسماء سوداء ترسم أفق الصورة‪ ....‬املزيج مذهل من‬
‫األلــوان‪."...‬‬
‫بعــد لحظــات توقــف صــوت املوســيقى كليــا‪ ،‬يبــدو أن الســهرة انتهــت هنــاك فــي‬
‫األعلــى‪ ،‬فجــأة تتعالــى ضحــكات وأصــوات نقــر باألحذيــة كانــت آتيــة مــن أعلــى الســلم‪،‬‬
‫ليظهــرمجموعــة مــن الشــباب إحداهــن كانــت فــي حالــة ســكريرثــى لهــا حيــث أنهــا لــم تقــو‬
‫علــى امل�شــي‪ ،‬اقتــرب منهــا أحدهــم ورفعهــا فــي الهــواء مــن خصرهــا وألقاهــا علــى كتفه‪...‬فــي‬
‫حيــن أنهــا كانــت تــردد كلمــات متلعثمــة‪:‬‬
‫– أنــا أحبــث شــامي‪ ،‬أنــا أتيــر‪ ...‬واه ويأيه‪"..‬ثــم بــدأت تضــرب ظهــرالشــاب ورجالهــا‬
‫تلوحــان فــي الســماء أمــام وجهــه مباشــرة"‪.‬‬
‫بقي الرجل شاخصا في مكانه‪...‬ال يحرك له ساكنا‪ ،‬سيجارته في فمه‪ ،‬فجأة تظهر‬
‫يــد مــن خلفه‪.‬يــد رقيقــة أضافرهــا مطليــة باألحمــر‪ ..‬تحمــل والعــة مــن حديــد غطائهــا علــى‬
‫شــكل رأس أفعى كوبرا أشــعلت ســيجارة الرجل‪ ...‬وجلســت بالكر�ســي جانبه‪:‬‬
‫– يقولون شكرا!‬
‫رد الرجل وهو يأخذ نفسا طويال من سيجارته‪:‬‬
‫و دون أن ينظرنحو الفتاة‪:‬‬
‫– شكرا ألنك أنقصت من عمري‪!...‬‬

‫‪101‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–‪...‬‬
‫لــم تــرد وواصلــت النظــر مباشــرة فــي عينــي الرجــل وضعــت رجــا علــى رجــل ليبــرز‬
‫فخضاها وسيقانها الطويلة وهي ترتدي "جوارب شبكية سوداء شفافة طويلة وتنتعل‬
‫حــذاء المــع أحمــرذا كعــب عالي"‪..‬بعــد وهلــة وجيــزة اقتــرب الشــاب الســاقي منهــا‪:‬‬
‫– نعم سيدتي!‬
‫– عصيرليمون‪.‬‬
‫ثم وهي تتم حديثها نظرت نحو الرجل تفترسه من أخمس قدميه ألعلى رأسه‪.‬‬
‫– و�شيء ألبرد به حلقي‪.‬‬
‫الرجل يشرب ويدخن ويسعل‪ .‬غيرآبه بالسيدة جنبه‪ ،‬يفتح ربطة عنقه السوداء‬
‫الطويلــة املتدليــة فــوق صــدره العريــض‪ ،‬أنهــى ســيجارته األولــى فــي أنفــاس معــدودة‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫بدأ بالبحث في جيبه عن ســيجارة ثانية‪...‬أخرج العلبة ليجدها فارغة‪ ،‬اعتصرها بيده‬
‫وبقبضته القوية رماها على األرض ورائه‪ ،‬ارتسمت على مالمح الرجل عالمات الحيرة‪.‬‬
‫حــرك رأســه هنــا وهنــاك يبحــث فــي األرجــاء‪ ...‬نهــض مــن مكانــه واتجــه نحــو الرجــل األصلــع‬
‫فــي الركن‪...‬حيــث كان ذلــك الرجــل ال يـزال يحــاول تســجيل ذلــك الرقــم بشــكل صحيــح‪...‬‬
‫ضــرب بيــده علــى الكونتــوارونهــض متجهــا مباشــرة نحــو الرجــل األعــور مــد يــده بحركــة‬
‫خاطفــة ويأخــذ منــه الهاتــف والورقــة‪.‬‬
‫ســجل لــه الرقــم املــدون علــى الورقــة بســرعة‪ .‬ورد الهاتــف لــه وتركــه جامــدا فــي‬
‫مكانــه‪ ،‬لــم ينبــس ببنــت شــفة "ظهــراألعــور محدبــا لذلــك لــم يعــدل مــن وضعيــة جلوســه‬
‫واســتمر ينظــر للرجــل فوقــه بنصــف عيــن"‬
‫– اآلن هل معك سيجارة؟‬
‫أجــاب الرجــل األعــور وهــوينظــرللرقــم ودون أن يعيــراهتمامــا للرجــل الواقــف فوق‬
‫رأســه‪.‬بنبرة تلم على نوع من االســتهزاء والســخرية‪...‬‬

‫‪102‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هــل أنــت ســكران أم مــاذا؟ كيــف أملــك ســيجارة وأنــا ال أملــك والعــة واخبرتــك‬
‫بهــذا منــذ دقيقــة!‬
‫– لم أكن أقصد منك من قبل أن كنت تحمل والعة؟‬
‫واصل وهمس بضحكة هادئة ومنخفضة‪:‬‬
‫– هيه هيه‪....،‬بل أردت مساعدتك في تسجيل الرقم‪ ،‬ألني حقا انزعجت مكانك‬
‫وأثــرت أعصابي‪.‬‬
‫لم يرد الرجل األعور واستمرفي تفقد الرقم الذي كتب له!‬
‫– أعور يملك هاتفا‪-...‬خص الفرطاس غيرحك الراس‪-...‬‬
‫ثــم عــاد ليجلــس مكانــه‪ .‬كان ال ي ـزال هنــاك بعــض الش ـراب املتبقــي فــي زجاجتــه‬
‫فأفرغهــا فــي فمــه وقــد شــمر علــى منكبيــه‪ ،‬التفــت فجــأة لينظــر نحــو الفتــاة الجالســة‬
‫بجنبــه‪ ،‬وهــي تقــدم لــه ســيجارة مبتســمة حيــث التقــت نظـرات الرجــل بنظـرات الفتــاة‪.‬‬
‫بقــي صامتــا يمــد يــده نحــو يدهــا كأنــه لتــوه الحــظ وجودهــا‪ ،‬بــدى فــي تلــك اللحظــة أنــه‬
‫صحــى لتــوه مــن سكرته‪...‬أمســك الســيجارة وفــي نفــس الوقــت مــد يــده يتلمــس متعمــدا‬
‫ســطح يــد الفتــاة وعجــل فــي ســحب يــده‪:‬‬
‫– شكرا‪.‬‬
‫ثم صمت قليال وأتبع قائال‪:‬‬
‫– آنسة‪...‬‬
‫و كأنه ينتظرمنها أن تخبره أسمها!‬
‫– ال تقل لي شكرا‪ ،‬ألني أنقصت من عمرك بهذه السيجارة أليس كذلك!‬
‫مال الرجل إلى الخلف قليال وهو ينظرنحو الفتاة نظرة إعجاب وحيرة‪:‬‬

‫‪103‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ما لذي أحضرفتاة جميلة ومحترمة مثلك إلى هنا‪ ،‬أتعجب من أمرك حقا!‬
‫ثم قاطعته الفتاة مبتسمة وهي ترتشف من عصيرالليمون في يدها‪.‬‬
‫– كان هنــاك رجالن‪...‬قــرر الرجــل األول أن يذهــب للمســجد والثانــي أن يذهــب‬
‫للحانة‪ .‬من هو الرجل الطيب ومن هو الرجل السيئ في رأيك؟ نعم أنت تظن أن الرجل‬
‫األول هورجل طيب‪ ..‬والثاني رجل �سيء أليس كذلك؟ "وأمالت رأسها بحركة صبيانية"‬
‫لكن في الحقيقة ال! لو أخبرك أن الرجل األول دخل للمســجد ليســرق األحذية والثاني‬
‫دخل للحانة ليدعي أنه يشرب ويعض الناس ويساعدهم ليتوقفوا عن الشرب‪...‬أجل!‬
‫أجل! نحن مجتمع نقيس األشــخاص حســب مظاهرهم‪.‬‬
‫رد الرجل كأنه معجب بكالم الفتاة مناديا على الساقي‪.‬‬
‫_فاتح!‬
‫_نعم سيدي‬
‫_أحضركأسا لآلنسة هي على حسابي‬
‫قاطعته الفتاة‪:‬‬
‫– ال ال داع‪ ،‬لهذا فأنا ال أشرب‪ ،‬وال أقبل الهدايا من أشخاص غرباء‪ ،‬وخاصة إن‬
‫كانوا سكيرين‪"...‬واصلت كالمها وهي ترسل نظرة حادة تحمل الشفقة‪".‬‬
‫– أنا يا عزيزتي عندما أريد أن أصحو أسكر‪.‬‬
‫– الرجــال كلهــم همهــم الوحيــد هــو الجنــس وإن لــم يحصلــوا عليــه يخدعــون وإن‬
‫حصلــوا عليــه يخدعــون‪ .‬الرجــال خداعــون فــي كل األحــوال‪.‬‬
‫بنبرة واثقة قاطعها الرجل!‬
‫– وهل جربتهم كلهم يا عزيزتي ّ‬
‫حتى تعرفي هذا؟‬

‫‪104‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال ولكن‪....‬‬
‫– ولكن ماذا! تكلمي؟‬
‫ّ‬
‫ثم أطرقت الفتاة وجهها شاخصة نحو األرض‪.‬‬
‫و بالتحديد في تللك األثناء بدأ الرجل األعور بالصراخ‪.‬‬
‫و إحداث أصوات وقد تمكن أخيرا من إجراء اتصاله يضرب على الطاولة أمامه‬
‫وهو يتحدث في الهاتف كأنه سمع خبرا غيرسار‪...‬‬
‫– فتيحة دخلت املستشفى‪ ،‬متى؟‬
‫–‪......‬‬
‫– لكن! ماذا حدث لها؟‬
‫–‪....‬‬
‫– واه‪ ،‬واه هل اتصلت بأمك؟‬
‫–‪......‬‬
‫– هاتفها مغلق! ال ال أعرف منذ متى تغلق هاتفها!‬
‫ثم صمت وهدوء يكسره بكاء الرجل األعور في الزاوية‪ .‬وهو يشرب من فم قارورة‬
‫الخمرمباشرة‪ .‬بحرقة‪.‬‬
‫نظرت الفتاة نحو الرجل نظرات طفلة بريئة منكسرة‪...‬‬
‫–اسمع ليس األمرمثلما تعتقده‪.‬‬
‫–أعتقده!‬
‫–نعــم‪ ..‬فــإن التقينــا هنــا ال تظــن بــي ســوء وال تحســبني مثــل الفتيــات األخريــات‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ســأجيبك عــن التســاؤالت التــي تــدور فــي رأســك بخصو�صــي اآلن‪ .‬إن تعجبــت عندمــا‬
‫أخبرتــك أنــي ال أشــرب فــا تتعجــب إن أخبرتــك أنــي ال أدخــن وال أفعــل الكثيــرمــن األشــياء‬
‫األخــرى‪ ،‬أمــا بخصــوص الوالعــة فقــد نســيتها فــي محفظــة يــدي وذلــك كان أثنــاء إشــعال‬
‫الشــموع فــي حفلــة عيــد ميــاد صديقــة لــي والــذي كان قبــل لحظــات فقــط لذلــك خرجنــا‬
‫لنحتفل‪ ،‬أرسلت لي رسالة تخبرني عن مكانها وأنا أعلم من طيشها ما لذي سيحل بها‪،‬‬
‫فحتــى هــي األخــرى لــم تعتــد الدخــول إلــى مثــل هــذه األماكــن‪ .‬وإنمــا جرهــا "منيــر" الكلــب‪،‬‬
‫الــذي نصحتهــا بــأن تبتعــد عنــه وإال ســتجني علــى نفســها فــي األخيــرســوء العاقبــة‪ .‬بحثــت‬
‫عنها ولم أجدها‪...‬تعبت من البحث فأردت أن أحت�سي شيئا يخفف عني قلقي ال أكثر‪...‬‬
‫أمــا هــذه الســيجارة التــي فــي فمــك اآلن أنظــر للعالمــة التجاريــة التــي تحملهــا اآلن‪ ...‬هــي‬
‫نفســها التــي تحملهــا الســيجارة فــي فــم الســاقي‪...‬أنظرجيــدا يــا ســيدي وإن كنــت تتســاءل‬
‫متــى تــم ذلك‪...‬فســأترك لــك املجــال للتفكيــرمتــى غفلــت عنــي أو نهضــت مــن مقعــدك‪.‬‬
‫صمت الرجل قليال ثم استرسل قائال‪:‬‬
‫– حسنا‪ ،‬حسنا‪ ،‬ربما أخطأت الظن بك‪ .‬ولكنك حتما أخطأت الظن بي أيضا‪...‬‬
‫ليــس ألنــي أشــرب أمامــك اآلن فأنــا شــخص �ســيء وفاشــل ربمــا حقــا مــكان تواجــدي هنــا‬
‫باألصــل أمــرخاطــئ‪ .‬ربمــا أنــا حقــا ثمــل ولكنــي فــي كامــل وعيــي‪.‬‬
‫فضحكت الفتاة من آخرجملة قالها الرجل وأخفت ضحكتها بيدها!‬
‫واصــل الرجــل حديثــه واضعــا يــده جنبــه وهــو يــزم شــفتيه‪ .‬يشــد الضغــط علــى‬
‫زجاجة الفودكا بيده‪ ،‬يقاوم األلم‪ ،‬اقتربت منه الفتاة لتســاعده ونظرة خوف وشــفقة‬
‫باديــة علــى وجههــا‪ ،‬منعهــا الرجــل بحركــة لطيفــة بيــده ثـ ّـم فتــح ربطــة عنقــه قليــا‪.‬‬
‫كانــت األضــواء خافتــة والنســيم الليلــي البــارد يتســرب إلــى داخــل الحانــة انطفــأت‬
‫ســيجارة الرجــل الثانيــة وقبــل أن تنتهــي‪ ،‬أخــذ منهــا الرجــل نفســين متتاليــن بش ـراهة‪...‬‬
‫نهــض مــن مقعــده واقتــرب مــن الفتــاة بخطــوات شــبه مترنحــة وبعينيــن تكتســيها حمــرة فــي‬
‫الجانبيــن‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– مشاعرباردة‪ ،‬آه آه آه‪...‬هل تقصدين هذا ال�شيء "و أشارلقلبه"‬


‫اســمعي يــا صغيرتــي لــو كان هــذا بــاردا حقــا ملــا كنــت هنــا‪ ،‬لــو كان بــاردا مــا شــربت‬
‫يومــا‪ ،‬ولــو كان بــاردا كمــا تقوليــن ملــا كنــت أتألــم اآلن بســبب كبــدي اللعينــة التــي هشــمتها‬
‫بشــربي املتواصــل‪ .‬ورئتــي التــي أحرقتهــا بالتدخيــن والتدخيــن لــو كان بــاردا لبكيــت أمامــك‬
‫اآلن واســتطعت البــكاء‪ ،‬هــل تعلميــن ملــاذا ال يبكــي الرجــال بســهولة؟ ألن قلبهــم حــاروإن‬
‫بــكا الرجــال فألنهــم خســروا أشــياء صنعــت منهــم رجــاال‪.‬‬
‫مثلمــا يبكــي ذلــك األعــور هنــاك بعيــن واحــدة‪ .‬ألنــه رجــل ويحــس أكثرمنك ومني ربما‬
‫وربمــا أنــا أنســحق اآلن أمامــك ولكنــك ال تدركيــن وربمــا تظنيــن أننــي بــارد مشــاعر! جبــال‬
‫الثلج يا عزيزتي‪ .‬جبال الثلج يظهرفقط منها جزء صغيريطفوا على السطح ولكن أنت‬
‫ال تدركين ما تحمله تحتها‪ ،‬وما أشد عمقها‪ ،‬وكذلك ال تدركين إلى أي حد يمكنني إخفاء‬
‫حتى أني عندما أنظرفي املرآة أرى شــخصا واحدا بنفس تقاســيم‬ ‫مشــاعري وعواطفي‪ّ ،‬‬
‫الوجــه كل يــوم‪ .‬بنفــس الضحكــة‪ ،‬أصبحــت أملــك ضحكــة واحــدة‪ ،‬جافــة وبــاردة أقابــل‬
‫بهــا الجميــع‪ ،‬وال�ســيء فــي كل هــذا‪ .‬أخبرنــي الطبيــب أنــي مصــاب بســرطان الرئــة ولــم يتبــق‬
‫لــي كثيـرا وأغــادرالحيــاة وأن�ســى كأنــي لــم أكن‪.‬‬
‫"عاش ما كسب‪ ،‬مات ما خلى"‬
‫أنا ميت على كل حال فلما ال أشرب؟‬
‫هــل تعلميــن شــيئا آخــر‪ .‬أنــا محظــوظ ألنــي علــى األقــل أعــرف تقريبــا موعــد موتــي‪...‬‬
‫ليــس مثــل الكثيريــن يجــرون وراء الدنيــا كأنهــم خالدون‪...‬حتــى يتخطفهــم املــوت وهــم‬
‫غافلــون‪ ،‬كــح كــح كــح! صدقينــي إن قلــت لــك أننــي أحــس بكبــدي يتمــزق ويتناثــرداخلــي‬
‫مــع كل شــربة وشــربة‪ ،‬كل هــذا األلــم الــذي ال يطــاق ال يحزننــي بقــدرحزنــي أنــي وحيــد‪،‬‬
‫وهــل تدركيــن معنــى أن يكــون املــرء وحيــدا فــي هــذه الحيــاة أن ال يجــد شــخصا يحــن إليــه‬
‫ويبكي على صدره ويتألم حزنا أمامه‪ ،‬ال ال طبعا ال تدركين هذا! برغم مالي وما أملك من‬
‫ثــروة الزلــت أشــعرأنــي حزيــن‪ .‬ألنــي أنــام وحيــدا وأنهــض وحيــدا وأشــرب وحيــدا وســأموت‬
‫وحيــدا‪ .‬آه وتبــا مــن يحضــرجنازتــي! ســوى الغربــاء ال أملــك صديقــا يحــزن بعــد رحيلــي أو‬

‫‪107‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّأم ــا تبكــي علــي بحـرارة علــى فقــدان فلــذة كبدهــا أوأبــا يذكرنــي بمحاســني ويتفاخــربــي بيــن‬
‫أقرانــه وإن حــزن أحدهــم علــى موتــي حقــا‪ ،‬فلــن يكــون ســوى الطبيــب والصيدلــي وبائــع‬
‫السجائروصاحب املخمرة‪ .‬يحزنون لفقد جزء كبيرمن مدخولهم هذا كل ما في األمر‪.‬‬
‫آه يــا عزيزتــي كيــف ال يبــرد قلــب املــرء هكــذا؟ أخبرينــي بربــك كيــف؟ ولــو كان هــذا‬
‫الــذي فــوق كبــدي اللعينــة "ثــم توقــف ليســعل يســعل ويســعل‪ !...‬وهــو يشــد علــى جنبيــه‬
‫ناحيــة كبــده ويعــض علــى شــفتيه ويعتصــرعينيــه مــن األلــم‪ ،‬واصــل بعــد أن هــدء قليــا‬
‫وعــدل مــن وضعيــه جلوســه ليجلــس مقابــا الفتــاة مباشــرة"‪.‬‬
‫و بنبرة هادئة‪:‬‬
‫لو كان قلبي باردا حقا‪ .‬ملا شعرت أني أحبك منذ أول نظرة في عينيك وأنا ثمل‪.‬‬
‫فأنا أثمل ليبرد قلبي وأنا أعرف أني اآلن في حالة يرثى لها من السكر‪ ،‬وأحسست‬
‫أنــي أحبــك فمــاذا لــو صحــوت مــن ســكرتي هــذه ورأيتك‪...‬ربمــا لــن أتذكــراســمك ولكنــي‬
‫حتمــا لــن أن�ســى وجهــك ولــن أن�ســى ابتســامتك ولــن أن�ســى فعلتــك مــن أجلــي‪ ،‬أنــا ال أعلــم‬
‫ســبب أفعالــك اتجاهي‪...‬رغــم أنــي شــخص �ســيء وعربيــد‪ .‬عندمــا أحــزن أشــرب وعندمــا‬
‫أفــرح أشــرب وعندمــا أصحــوا أشــرب‪ .‬أتمنــى أن تنتهــي ثروتــي مــن شــربي للخمــرلكنهــا ال‬
‫تنتهــي‬
‫_تبا‪ ..‬كح كح كح!‬
‫"و يبصق على األرض ويواصل كالمه متقطعا"‬
‫أنا حز‪......‬ين وال أري‪...‬د شيئا‪ ..‬س‪ ..‬وى‬
‫ثم لم يكمل كالمه ويسقط مغما عليه‪.‬‬
‫و فــي الصبــاح يجــد الرجــل نفســه ممــدا علــى أريكــة امللهــى‪ ...‬صــداع داخــل رأســه‬
‫يســتيقظ علــى صــوت النــادل‪ .‬يتفقــد نفســه فيجــد حــذاءه وربطــة عنقــه موضوعيــن‬
‫بجانبــه وال يتذكــر مــن ليلــة امــس ســوى وجــه تلــك الفتــاة‪..‬‬

‫‪108‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يلبــس حــذاءه مســرعا ويرتــب ربطــة عنقــه أمــام زجاجــة الفــودكا التــي ال تـزال فــوق‬
‫ســطح املخمــرة ثـ ّـم يتجــه نحــو الشــاب ليســأله عــن الفتــاة‪ .‬كل مــا يخبــره أنــه فقــد وعيــه‬
‫وســقط مغشــيا عليــه‪ .‬فلــم تتمكــن الشــابة مــن ســحبك إلــى هنــا‪ ،‬فنــادت علــى الرجــل‬
‫األعــور الــذي كان يجلــس علــى األريكــة هنــاك ليســاعدها فــي حملــك‪.‬‬
‫ثم قاطعه الرجل قائال‪:‬‬
‫– أتعرفها؟ ألم تخبرك شيئا؟ أو تترك عندك رسالة‪ .‬أو �شيء من هذا القبيل‪.‬‬
‫– ال سيدي!‬
‫قالها الشاب وهو يقوم بتنظيف األرضية وترتيب الكرا�سي‬
‫حمــل الرجــل نفســه وخــرج مــن امللهــى‪ ،‬وصــل إلــى مــكان ركنــه ســيارته وضــع يــده ليخــرج‬
‫حتــى تفاجــأ بورقــة موضوعــة فــي جيبــه‪ .‬فتحهــا وقـرأ بخــط جميــل‪.‬‬ ‫مفتــاح ســيارة‪ّ ،‬‬

‫– القني في نفس املكان بعد أسبوع‪.‬‬


‫‪#‬سارة‬
‫علــم الرجــل علــى فــوره أنهــا تلــك الفتــاة واســمها ســارة‪ .‬شــغل ســيارته وانطلــق‬
‫منتظ ـرا ليمــر هــذا األســبوع بشــغف وشــوق مرهــف ليلقاهــا‪.‬‬
‫مــرأســبوع مثــل عــام علــى الرجــل‪ .‬انتظرهــا وأقســم أن ال يشــرب قطــرة خمــر ّ‬
‫حتــى‬
‫يراهــا صاحيــا ويتمعــن فيهــا جيــدا ويغازلهــا ويعبــرعــن إعجابــه بهــا‪.‬‬
‫دخلــت الفتــاة نفســها إلــى الحانــة مجــددا بفســتان أســود وحــذاء أحمــر كاملعتــاد‬
‫وعلــى رقبتهــا وشــاح أبيــض مــن الفــرو‪ ...‬يغطــي رقبتهــا وجـ ً‬
‫ـزء مــن صدرهــا‪..‬‬
‫تحدثــا وضحــكا وتســامرا‪ .‬ليبوحــا فــي األخيــربحــب بعضهمــا لبعــض‪ .‬ثـ ّـم بعــد أشــهر‬
‫تطــورت عالقتهمــا‪.‬‬
‫وفــي يــوم مــن األيــام‪ ...‬اســتدعى الرجــل فتاتــه فــي موعــد مفاجــئ‪ .‬وســرد لهــا فاجعــة‬

‫‪109‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أصابتــه‪ .‬حيــث أعلمهــا أنــه خســرمعظــم ثروتــه ومــا عــاد يملــك فلســا اآلن‪ .‬وأنــه ال يملــك‬
‫ّ‬
‫حتــى ثمــن مــا يدفــع بــه مــن أجــل البيــرة التــي كان يحملهــا وهــو يســرد لهــا قصــة خســارته‬
‫لثروتــه‪ .‬فــي جلســة القمــارتلــك‪.‬‬
‫ظهــرت علــى الفتــاة عالمــات الخــوف واالرتبــاك‪ ،‬تلعثمــت فــي كالمهــا‪ .‬ابتعــدت عنــه‬
‫قليــا‪ .‬ثـ ّـم قالــت‪:‬‬
‫– يعني أنك ال تملك ماال؟‬
‫أجاب وهو يثبت نظراته في عينيها‪:‬‬
‫– نعم يا عزيزتي! قد خسرت كل �شيء‪ ،‬بقيتي لي أنت فقط‪.‬‬
‫نهضت من مكانها‪ ،‬ونظرت نحوه بنظرات اشمئزازواستحقارأدهشت الرجل‪:‬‬
‫– أنت سكيروستبقى سكيرا‪...‬تعبت وأنا أنصحك بأن تكف عن الشرب وأنت لم‬
‫تسمع لكالمي‪ّ ،‬أمـا اآلن فوداعا‪ .‬هذه القطرة التي أفاضت الكأس‪.‬‬
‫أمسكها الرجل من ثوبها‪ ،‬بنظرات انكسار يترجاها أن ال ترحل‪:‬‬
‫– توقفــي أرجوك‪...‬علــى األقــل قبــل ذهابــك‪ !...‬ادفعــي مقابــل هــذه البيــرة‪ ...‬بجــاه‬
‫األيــام الجميلــة بيننــا وبجــاه كل مــا أنفقــت عليــك مــن مــال ولــم أحدثــك عنــه يومــا ولــم‬
‫أشــعر بالنــدم ألنــي أنفقــت عليــك‪.‬‬
‫وضعت يدها على حقيبتها وبنبرة صوت ساخرة تتصنع التأسف‪:‬‬
‫– ال أملك نقودا‪ ...‬هيا وداعا‪!...‬‬
‫تبعهــا الرجــل‪ ،‬أمســكها مــن رقبتهــا مباشــرة وشــد الخنــاق علــى قبضتهــا‪ .‬استســلمت‬
‫الفتاة‪ ،‬وقادها إلى جانب مظلم من الشارع‪ ...‬سمع لحن مزمارحزين تبع الصوت آلخر‬
‫الرصيف‪ ،‬قابل متشردا رث الثياب أشعث الشعر‪ .‬يعزف ألحان حزن كأن لم يبق له‬

‫‪110‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أمــل فــي الحياة‪...‬فجــأة دفــع الرجــل الفتــاة بجانــب ذلــك املتشــرد واســتل مسدســا صغيـرا‬
‫أبيضــا مــن جيبــه وبــدأ فــي الحديــث مــع ذلــك املتشــرد كأنــه يوجــه لــه ســؤاال مــا‪ .‬وبعدهــا‬
‫أخرج الرجل قطعة فضية من جيبه "كانت تلك القطعة كلما وجده في حقيبة الفتاة"‬
‫ورماهــا فــي الهــواء‪ ،‬وقعــت علــى كــف الرجــل‪ ،‬لتكــون بعــد لحظــات الفتــاة مــرداة قتيلــة‪.‬‬
‫اقتــرب الرجــل مــن املتشــرد ليكتــب لــه فــي ورقــة‪ ،‬يســلمها لــه وينصــرف لحالــه يجــر‬
‫معطفــه األســود بمشــية عرجــاء هادئــة يختــرق الظــام ويختفــي وســط الشــارع‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب _‬
‫السيد مروان مقدمي‬
‫***‬
‫عندما جلس مروان أمام املحقق‪ ،‬دفع املحقق حبة التفاح أمام مروان‪ .‬أمسكها‬
‫مــروان ووضعهــا بجنبــه‪ ،‬نظــر املحقــق فــي عينيــه لبرهــة وجيــزة يختبــر تواصلــه البصــري‬
‫معــه‪ ،‬هــزرأســه ثـ ّـم ســأله‪:‬‬
‫– أين كنت أثناء وقوع الجريمة؟‬
‫– كنت في املرحاض‬
‫– هل دخلت املكتبة اليوم؟‬
‫– ال لم أدخل هنا‪.‬‬
‫– رفقة من كنت في املرحاض؟ ومتى آخرمرة رأيت فيها املرحوم؟‬
‫– كنــت رفقــة لقمــان وبعــض األوالد اآلخريــن‪ .‬كنــا ندخــن ســيجارة نتنــاوب عليهــا‪،‬‬
‫حتى ســمعنا الصرخة املدوية‪ ،‬فهرعنا مســرعين إلى املكتبة‪ ،‬وكانت آخرمرة رأيته فيها‬ ‫ّ‬
‫وهــو يدخــل القســم صباحــا‪ ،‬وباملناســبة لــم يحضــرآخــرحصــة صباحيــة‪.‬‬
‫_آخرحصة‪ .‬هل تقصد من الساعة ال ‪ 11:00‬إلى ‪12:00‬؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫– ملاذا برأيك؟‬

‫‪112‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال علــم لــي‪ ،‬لكــن عالمــات القلــق كانــت تبــدو ظاهــرة علــى وجهــه‪ .‬كأنــه يخفــي شــيئا‬
‫مــا! أو يخطــط لفعلــه؟‬
‫– يخطط لفعل �شيء ما‪ ،‬ما لذي كان يخطط له برأيك؟‬
‫_ال أدري؟‬
‫_إذن كنت رفقة لقمان‪ ،‬هو صديقك املقرب هكذا!‬
‫– نعــم يجلــس معــي فــي القســم‪ .‬كنــا ندخــن ســيجارة كمــا أخبرتــك عندمــا ســمعنا‬
‫الصرخــة‪.‬‬
‫– هل أنت متأكد أنكما كنتما في املرحاض ولم تكونا في مكان آخر؟‬
‫– نعم‪ ،‬وماذا تقصد بمكان آخر!‬
‫– لقــد شــوهدتما وأنتمــا تحــاوالن الف ـرار مــن فــوق ســور املدرســة الخلفــي‪ ،‬هــل‬
‫اختلطــت عليكمــا الخطــة؟‬
‫سكت مروان ملدة وجيزة‪ ،‬غيرمن نبرة صوته وأجاب بثقة‪:‬‬
‫– حسنا أنت على حق نسبيا‪ .‬لكن الحقيقة ليست مثلما تتوقعه‪.‬‬
‫_إذن ما هي الحقيقة؟‬
‫_ الحقيقــة أن حصــة الفرنســية هــي حصــة مملــة وثقيلــة ال تســتهويني ال أنــا وال‬
‫لقمان‪ ،‬لذلك قررنا الهروب كالعادة من السور الخلفي‪ ،‬ألن الباب الرئي�سي مغلق ّ‬
‫حتى‬
‫الساعة األخيرة من الدوام املدر�سي‪ ،‬وحين وضعت رجلي على السور سمعنا الصرخة‪.‬‬
‫– لكنــك اآلن قلــت أنكمــا كنتمــا فــي املرحــاض حيــن ســمعتما الصرخــة‪ ،‬أنــت‬
‫متناقــض فــي كالمــك أنــت ال تجيــد الكــذب يا�ســي مــروان‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعم أعرف هذا لكن‪...‬‬


‫وصمت مروان‪ .‬بعدها عرض املحقق مخططا أمامه على الطاولة‪.‬‬
‫– هذا مخطط قسمكم‪ ،‬أريني مكانك بالضبط ومكان جلوس املرحوم‪.‬‬
‫– هنــا‪ ،‬أقعــد أنــا فــي الطاولــة األخيــرة فــي الصــف املقابــل للبــاب‪ّ ،‬أم ــا هــو فيجلــس فــي‬
‫نفــس الصــف‪ ،‬بعدمــا غيــرمكانــه‪ ،‬مــن الطاولــة األولــى قــرب املكتــب رفقــة أميمــة‪.‬‬
‫– غيرمكانه إذن؟‬
‫_نعم‬
‫_هذا خيط جيد‪ ،‬أخبرني منذ متى غيرمكانه وما سبب ذلك في رأيك؟‬
‫– منذ أسبوع تقريبا‪ ،‬ال أدري السبب حقا‪.‬‬
‫– أنت تكذب مجددا‪ ،‬أتقصد أنه ال دخل لك في عالقة املرحوم بأميمة!‬
‫– ليس تماما‪ ،‬وهذه العالقات ال تخصني‪ ،‬لكن ما دخل هذا في موته‪.‬‬
‫– لقمان صديقك‪ ،‬وبطبيعة الحال ستساعده إن احتاج لك أليس كذلك؟‬
‫– نعم هذا ما يفعله األصدقاء لبعضهم‪.‬‬
‫– بالضبــط! إذن أنظــر فــي عينــي اآلن‪...‬أخبرنــي بصــدق هــل ستســاعد لقمــان فــي‬
‫القتــل لــو كان ذلــك فــي ســبيل صداقتكــم؟‬
‫ابتلع مروان ريقه و تعرق جبينه وأجاب بنبرة خافتة‪:‬‬
‫_ال‪.‬‬
‫_ وإن كنت مضطرا أو تحت التهديد هل ستفعل هذا؟‬

‫‪114‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هو صديقي حقا‪ ،‬لكن ال‪.‬‬


‫_ملاذا؟‬
‫_ ألني لست قاتال‪ .‬بالرغم من الرابط الذي يجمعني به لن أفعل ذلك‪.‬‬
‫_هل تخفي عني شيئا ما يا مروان؟‬
‫_ال سيدي‪.‬‬
‫– هل عندك ما تضيفه!‬
‫– ال سيدي‬

‫‪115‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الحج بعيد على صاحب الحمار‬

‫يا فتاح يا رزاق‪.‬‬


‫هــا أنــا قــد وصلــت الســوق باكـرا محتميــا بظــل الــرب وظــل إشــارة الوقــوف الحمـراء‬
‫فــي منعطــف الطريــق فــي مدخــل الســوق فــوق رأ�ســي‪ ،‬أمــزق كرتونــة‪ ،‬نصفهــا أفرشــه علــى‬
‫االرض أضــع فوقــه قفــة املطلــوع‪ ،‬ونصفهــا اآلخــر أطويــه ألقعــد عليــه‪ ،‬أخــرج املطلــوع‬
‫الســاخن املغطــى بقطــع قمــاش حمـراء وصفـراء عليهــا بعــض البلــل املشــكل مــن البخــار‬
‫املنبعــث مــن املطلــوع الســاخن‪ ،‬قفتــي تحمــل عشــرين مطلوعــة‪ ،‬أضــع دلــو اللبــن تحــت‬
‫حتى ال يفسد‪ ،‬أختاراملطلوعتين األكبرواألجمل تلكما اللتان تحمالن بعض‬ ‫ظل القفة ّ‬
‫الحمرة الجذابة وأعرضهما على ســطح الســلة‪ ،‬أحرص على أن تبقى وريقات "الدوم"‬
‫ملتصقــة بســطحهما‪ ،‬فذلــك يضفــي علــى املطلــوع منظ ـرا شــهيا‪ ،‬حيــث يبــدو مطــرزا‬
‫بخيــوط الــدوم اليابســة‪.‬‬
‫الســوق الشــعبية تقــع وســط املدينــة‪ ،‬بمحــاذاة أقــدم املعالــم املعماريــة املشــهورة‬
‫واملميزة" مسجد الخضراء" املسجد الكبيرفي قلب والية عين الدفلى‪ ،‬الذي أخذ اسمه‬
‫مــن لونــه األخضــر‪ ،‬بعدمــا كان فــي األصــل كنيســة فــي حقبــة االســتعمارالفرن�ســي ثـ ّـم أعيــد‬
‫ترميــه بطريقــة إســامية ليصبــح مســجدا‪ .‬رواد الســوق مــن مختلــف طبقــات املجتمــع‪،‬‬
‫الســوق مخصصــة لبيــع الخضــاروالفواكــه‪ ،‬تزدهــر فــي هــذا الشــهرمــن العــام بالتحديــد‪،‬‬
‫شــهر رمضــان حيــث كمــا هــو شــهرعبــادة هــو شــهرعمــل والعمــل عبــادة‪ ،‬لهــذا فــي شــهر‬
‫رمضــان أبيــع ثالثــة أضعــاف مــا أبيعــه فــي بــاق الشــهور‪ ،‬وعيشــة املســكينة يشــيب رأســها‬
‫إذ فــي هــذا الشــهر تعمــل مثــل اآللــة دون توقــف حيــث تحلــب البقــرة وتخــض الشــكوة‬
‫دون أن ترتــاح "النــاس تطــورت اآلن أصبحــت تملــك آالت عاملــة فــي امل ـزارع تتكفــل‬
‫بحلــب األبقــارومخــض الحليــب وأمــي ال ت ـزال تعتمــد علــى ذراعيهــا لفعــل كل �شــيء‪ ،‬هــي‬
‫األم واألب" تحطــب األشــجارفــي الغابــة إلشــعال الكوشــة‪ ،‬تعجــن املطلــوع‪ ،‬وتحضــرلنــا‬
‫اإلفطــار البســيط‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫فــي هــذا الوقــت تحديــدا قبــل الغــروب بنحــوســاعة‪ ،‬تكتــظ الســوق آلخرهــا‪ ،‬تســمع‬
‫مختلــف األصــوات‪:‬‬
‫"شاربات بوفاريك برد يا عطشان‪".‬‬
‫"أيا الهندي والهندي واملاء واملوس من عندي "‬
‫"أيا الدالع‪ ،‬بطيخ‪ ،‬بطيخ"‬
‫تشــم خليطــا مــن الروائــح تعبــق الســوق‪ ،‬رائحــة أعشــاب البقدونــس‪ ،‬رائحــة باعــة‬
‫البهــارات‪ ،‬تمتــزج هــذه الروائــح بالبخــاراملتصاعــد مــن طناجــرربــات البيــوت فــي العمــارات‬
‫املجــاورة‪.‬‬
‫ينتشــرفــي رمضــان باعــة الحلويــات التقليديــة املخصصــة ملثــل هــذا الشــهر‪ ،‬مثــل‬
‫حلــوى قلــب اللــوز أو الشــامية كمــا يلقبهــا أهــل الجنــوب الزالبيــة‪ ،‬البقــاوة‪ ،‬القطايــف‪،‬‬
‫الشــاربات‪ ،‬باعــة الســمك الجوالــون وباعــة أعشــاب التتبيــل‪ ،‬بعــض الســيارات تحــاول‬
‫العبــور بصعوبــة بيــن النــاس‪ ،‬ألن الســوق فــي األصــل هــي عبــارة عــن طريــق للســيارات‬
‫يصطــف علــى أرصفتهــا كل الكثيــرمــن الباعــة لــكل طريقتــه فــي اإلشــهارلســلعته‪.‬‬
‫– آيا مطلوع سخون مطلوع سخون!‬
‫– مطلوع محمرعلى حطب كندا‪.‬‬
‫مثلما ينادي بائع الشاربات‪ ،‬شاربات بوفاريك تيمنا باملنطقة املشهورة بصناعتها‬
‫لنوعية ممتازة من العصائرمنذ القدم الحتواء أراضيها على الحمضيات ذات الجودة‪.‬‬
‫و مثلما ينادي بائع التين الشوكي‪:‬‬
‫_هيا الهندي‪ ،‬الهندي واملاء واملوس من عندي‪.‬‬
‫أنــادي أنــا بطريقتــي‪ ،‬بحيــث أن لــكل بائــع طريقتــه لإلشــهاربســلعته‪ ،‬ال يهــم أن تغنــي‬
‫أو تهــرج‪ ،‬املهــم أن ال تبــور ســلعتك واألهــم أن تبيــع هنــا‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– مطلوع كندي ولبن البقرة الضاحكة هنا‪ ،‬قرب يا عطشان‪...‬‬


‫رغــم أن اإلشــهارمبالــغ فيــه‪ ،‬والنــاس تعــرف هــذا‪ ،‬إال أنــه نــداء خــاص بــي‪ ،‬يجــذب‬
‫النــاس بطريقــة غريبــة وحقــوق التأليــف محفوظــة لصالــح البائــع‪ ،‬مــن طــرف كبــارباعــة‬
‫الســوق هنــا‪.‬‬
‫– مطلــوع محمــرعلــى نــاركندية‪...‬لبــن البقــرة الضاحكــة سيدتي‪...‬كالســيوم طبيعي‬
‫قــوي عظــام ابنــك‪ ،‬يكبــرويرجــع لك مالك‪.‬‬
‫– ياهلل ياهلل‬
‫– هاك عمي‪ ،‬أنظرإلى البخارسيدي‪ .‬خارجة من الكوشة لتوها‪ ،‬تشهي!‬
‫– هاك هاك! قرب قرب!‬
‫أمامــي علــى الرصيــف املقابــل رجــل عجــوز ذو لحيــة بيضــاء طويلــة بعبــاءة بيضــاء‬
‫مصفــرة‪ ،‬محنــي الظهــريســتند فــي وقفتــه علــى ع�صــى خيزرانيــة‪ ،‬نظراتــه صــوب األرض‪،‬‬
‫يرفــع عصــاه أمامــه ليعبــر الطريــق ببــطء وهيبــة مغبــرة‪ ،‬كأنــه فــي وســط ســاحة الوغــى‪،‬‬
‫يحمــل رمحــه ويصيــح بــاهلل عليكــم ارحمونــي فأنــا عبــد مأمــور‪ ،‬كالمــه الخافــت كأنــه‬
‫مصحــوب بضجــة الطبــول واملنجنيــق وهــو يتســبب عرقــا كاملغ�شــي عليــه أو كمثــل مــن‬
‫أصابــه مــس يتخبــط بينهــم كالهــارب مــن الســجن ورمــاح وســهام تالحقــه‪ ،‬يقطــع الطريــق‬
‫ويمســك خبــزة محروقــة الجوانــب أخذهــا مــن قفــة عاشــور‪ .‬يصيــح كشــخص ينقــب عــن‬
‫الذهــب "كــم ثمــن هــذه الخبــزة؟ "فيــرد عاشــور بنبــرة طفوليــة يشــوبها بعــض الخــوف‪:‬‬
‫_" ضعها‪ ،‬ليست للبيع "‬
‫ليســت للبيــع جملــة مســمومة ارتطمــت بطبلــة أذن العجــوز وتلــك الوحيــدة قليلــة‬
‫الســمع‪ ،‬كأنــه أصيــب بســهم قاتــل يالحقــه كالصــاروخ فيســقط فــارغ الكفيــن يطأطــئ‬
‫رأســه ويحنــي ظهــره ويتابــع مشــيته املميــزة ببــطء‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أناديه بصوت عال ّ‬


‫حتى يسمعني‪.‬‬
‫_عمي املخفي‪...‬عمي املخفي‪...‬‬
‫ألــوح لــه بيــدي مشــيرا ثـ ّـم أغمــد لــه خبــزة مطلــوع وأســلمها لهــا‪ ،‬يعلقهــا فــي طــرف‬
‫عصــاه الخيزرانيــة وينصــرف "املخفــي "مناديــا بعبارتــه املشــهورة التــي يعرفهــا الصغيــر‬
‫والكبيــر فــي الســوق‪:‬‬
‫_"ما يبقى في الواد غيرحجاره‪".‬‬
‫_" ما يبقى في الواد غيرحجاره "‬
‫ما أغرب هذا الرجل حين يقف أمامك تتعجن داخلك املشاعر‪ ،‬مشاعرالخوف‬
‫والشفقة‪ ،‬اإلعجاب والتعجب‪ ،‬الضعف والقوة‪..‬‬
‫املخفــي‪ ،‬أســطورة زمانــه‪ ،‬عمامتــه الصف ـراء ترمــز للصمــود واملقاومــة‪ ،‬وعباءتــه‬
‫الباهتــة تلــك ترمــزللديــن واألصالــة‪ ،‬يــا تــرى كيــف لرجــل هزيــل الجســم مثلــه أن يحمــل‬
‫رشاشــا بطولــه ويشــن حــرب عصابــات ويرعــب جيــش فرنســا املدجــج بطائراتــه ودبابتــه‪،‬‬
‫بمكحلــة وبغلــة وعمامــة ومطلوعــة وكأس لبــن‪ .‬حتمــا إن لــم تكــن تحــارب معــه الجــن‬
‫كمــا حكــى لــي جــدي‪ ،‬فهنــاك قــوى علويــة تنصــره‪ ،‬ومــا هــو إلــى وســيلة إلعــاء كلمــة الحــق‪،‬‬
‫يتــركك املخفــي حيرانــا‪.‬‬
‫توجه نحوي عاشور كأنه يريد االستفسارعن �شيء ما‪.‬‬
‫– مطلوعة أريد أن أسألك‪.‬‬
‫– هل تريد أن أعطيك صرف العملة‪ ،‬أم اختلط عليك الحساب مجددا!‬
‫– ال ال‪ ،‬قــل لــي عندمــا لــم أقــدم الخبــزة للحــاج املخفــي‪ ،‬قــال لــي جملــة لــم أعــرف‬
‫معنا هــا‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_جملة!‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_ماذا قال لك؟‬
‫_أظنه قال‪" :‬املذبوحة تطمع في املسلوخة"‪.‬‬
‫_هههه‬
‫_ملاذا تضحك هاه! أنا خائف يامطلوعة‪.‬‬
‫_من ماذا أنت خائف؟‬
‫_ من إن كان قد دعا علي بأن تبور سلعتي‪ ،‬فهو حافظ للستين ودعوته مقبولة‪.‬‬
‫– ال يــا عاشــور ال تخــف‪ ،‬فهــذا مثــل قديــم يتداولــه الكبــار‪ ،‬معنــاه أنــك أســوء منــه‬
‫حــاال وهــو يطمــع فــي أن يأخــذ منــك‪ ،‬أي أنــك أنــت املســلوخة وهــو املذبوحــة‪.‬‬
‫– هــااااي‪ ،‬يــا ربــي تقصــد أن الحــاج املخفــي يريــد أن يذبحنــي‪ ،‬عرفتهــا مــن األول‪،‬‬
‫ذلــك العجــوز مجنــون‪ ..‬مجنــون‪.‬‬
‫ثم انصرف عاشور مسرعا نحو مكانه حمل قفة املطلوعة وانصرف ً‬
‫خائفا‪.‬‬
‫عاشــور أحــد الفتيــة األربعــة هنــا بجانبــي‪ ،‬فتــى فــي الرابعــة عشــر مــن العمــر‪،‬‬
‫فــي الصيــف يبيــع قواريــر املــاء البــارد فــي محطــات نقــل املســافرين ويظــل يحــوم حــول‬
‫الحافــات تحــت أشــعة الشــمس الحارقــة مناديــا “ســعيدة بــاردة”‪ ،‬املســكين قــد توقــف‬
‫عــن الدراســة منــذ ســنوات‪ ،‬فبعــد أن كان يعمــل خــال العطــل فقــط‪ ،‬فضــل التوقــف‬
‫تمامــا عــن الدراســة ليتفــرغ للعمــل طــوال الســنة‪ ،‬وفــي كل مــرة يغيــرمجــال تجارتــه‪ ،‬فمــن‬
‫التجــول فــي األســواق لبيــع األكيــاس وغيرهــا خــال الشــتاء‪ ،‬يحــول النشــاط فــي الصيــف‬
‫إلــى بيــع امليــاه املعدنيــة البــاردة التــي يجنــي مــن خاللهــا ‪ 5‬دج فــي القــارورة الواحــدة‪ ،‬وهــو‬

‫‪120‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مبلــغ ليــس بالهيــن بالنســبة لــه‪ ،‬فهــو كفيــل بتوفيــرقــوت عائلــة كاملــة‪ .‬ويبيــع خبــزالــدارفــي‬
‫رمضــان‪.‬‬
‫ّأم ــا الفتى بجنبه هو الهواري‪ ،‬فتى أســمرفي عمرالثالثة عشــررمضانا‪ ،‬قد التحق‬
‫بعالــم الشــغل كبائــع لألكيــاس البالســتيكية‪ .‬وهــي تجــارة جيــدة ملثــل مــن هــم فــي ســنه‬
‫وغالبــا مــا يدخــل النــاس الســوق دون أن يلتفتــوا إلــى األكيــاس التــي يحملهــا الهــواري فــي‬
‫مدخل الســوق‪ ،‬لكنهم يبحثون عنه بأنفســهم عند الخروج من الســوق خاصة النســاء‬
‫اللواتي يحرصن على شراء “سا�شي شباب“ حكى لي الكثيرمن الطرائف مع السيدات‪،‬‬
‫فمنهــن مــن يناديهــا بأختــي ومنهــن مــن ال يتــردد بمناداتهــا “أمــي أو عمتــي" فيــرق قلبهــا نحــوه‪.‬‬
‫ويضيــف أن الكثي ـرات يدفعــن لــه قطعــة ‪ 20‬دج ويتنازلــن عــن الباقــي عــن طيــب نفــس‬
‫وخاطــر‪ ،‬وهنــاك مــن تعطــف عليــه وتمنحــه قطعــة نقديــة خلســة وكأنهــا تخفــي صدقتهــا‬
‫حتــى ال تحرجــه‪ ،‬خاصــة فــي أوقــات عصيبــة كالبــرد الشــديد أو الحــر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مثلــه مثــل ابــن عمــه الطاهــر‪ ،‬والــذي مــازال يتمتــع بنــوع مــن الحيــاء فــي التعامــل مــع‬
‫الزبائــن كونــه جديــدا فــي امليــدان‪ ،‬هــو مــن بيــن الفتيــان القلــة اللذيــن مــا زالــوا يحافظــون‬
‫على العمل والدراسة‪ ،‬كثيرا ما أساعده في حل بعض املسائل الرياضية على حد علمي‬
‫هــو يــدرس الخامســة ابتدائــي وال يبيــع األكيــاس إال عنــد خروجــه مــن املدرســة فــي عشــية‬
‫اإلثنيــن والخميــس ألنهمــا وقــت راحــة‪ ،‬كثي ـرا مــا يأتينــي خجــوال يختبــئ ورائــي ويقــول إنهــا‬
‫آنســتي‪ ،‬آنســتي‪ ،‬ويقصــد معلمتــه‪ ،‬خاصــة وأنهــا غيــرراضيــة عــن عملــه هــذا‪ ،‬وقــد ســبق‬
‫وأن حــذرت والدتــه مــن إرســاله إلــى الســوق للعمــل ألن هــذا ســيؤخره عــن الدراســة‪،‬‬
‫حســب مــا أخبرنــي بــه‪ ،‬لكــن الطاهــريؤكــد لــي دائمــا بأنــه يحــب املدرســة وال ينــوي مغــادرة‬
‫مقاعدها‪ ،‬لكن الفقرهو الذي دفع به إلى امتهان بيع األكياس البالستيكية التي يجلبها‬
‫لــه والــده ـكـي يســاعده فــي مصــروف البيــت‪ ،‬يقــول أيضــا أن والــده يشــتريها بالجملــة وهــي‬
‫رخيصة بثمن الجملة‪ ،‬لكن التجزئة تجعل فيها ربحا وغالبا ما تفرح به والدته‪ ،‬خاصة‬
‫في املناسبات وعلى رأسها شهررمضان األخيرالذي عمل فيه وكسب جيدا ليس فقط‬
‫فــي بيــع األكيــاس‪ ،‬بــل “املطلــوع“ أيضــا و "الديــول” مثــل جميــع الفتيــة اآلخريــن الذيــن‬
‫يأخــذون هــذه املهنــة فــي هــذا الشــهر‪ ،‬رغــم ذلــك أنــا أســاعدهم فــي البيــع وال يزاحموننــي‬
‫أبــدا ألنــي أبيــع املطلــوع طــوال العــام ولــي زبائنــي الخاصــون‪ ،‬يبيــع الطاهــرباجتهــاد ّ‬
‫حتــى‬

‫‪121‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يكســب بعــض املدخــول يشــتري بــه مالبــس عيــد الفطــرويتفاخــربهــا بيــن أقرانــه‪ ،‬أمــا عــن‬
‫أيام البرد والحرالشديد‪ ،‬فيقول الطاهر“والدتي تخاف على صحتي وترفض أن أعمل‬
‫حيــن يســقط املطــر‪ ،‬خاصــة وأننــي أعانــي مــن الحساســية الصدريــة والبــرد واملطــريزيــد‬
‫حالتــي سـ ً‬
‫ـوء‪.‬‬
‫الطاهــرفتــى هزيــل ونحيــف‪ .‬لذلــك هــوعرضــة للمضايقــات فــي الســوق وهذا العالم‬
‫هنــا ملــيء باملجرميــن‪ ،‬إن لــم تكــن ذئبــا أكلتــك الذئــاب والبائــع الجديــد مثلــه يتعــرض إلــى‬
‫حتى ال يزاحم القدامى في عملهم‪ ،‬هذا من ناحية‪ ،‬كما أنه من ناحية أخرى‬ ‫املضايقات ّ‬
‫معرض هو اآلخرإلى السرقة عند نهاية اليوم أي عند استواء الغلة التي يجمعها ليعود‬
‫بهــا إلــى أهلــه‪ .‬ويضيــف الطاهــرأن الباعــة القدامــى الذيــن يرفضــون تواجــده هــم الذيــن‬
‫تآمــروا علــى ســرقته عــدة مـرات فــي بدايــة التحاقــه بالعمــل فــي ســوق الخضــرة هنــا‪ ،‬وذلــك‬
‫مــن أجــل أن يســأم هــذا العمــل ويتــرك املــكان‪ ،‬لكنــه أصــرعلــى البقــاء ألنــه وجهــة أهــل كل‬
‫املدينــة هنــا‪ ،‬ومصــدررزق لكثيــرمــن العائــات‪.‬‬
‫كمــا أخبرنــي الطاهــرذات مــرة أنــه يتمنــى أن يكمــل تعليمــه ويجيــد الحســاب مثلــي‬
‫وأال يضيع في الشــوارع كهؤالء الذين يســكنون األســواق منذ مطلع الفجرإلى أن تغرب‬
‫الشــمس‪ ،‬لهــذا هــم يكرهونــه وال يحتملونــه‪ ،‬ألنهــم يعلمــون أنــه متمســك باملدرســة‬
‫والتعليــم وليــس ”ضائــع”‪.‬‬
‫ويعترف الطاهرأيضا وبراءة األطفال في عينيه بأن النجاح في هذا العمل يتطلب‬
‫حتى يستعطف الزبائن‪ ،‬لكن‬ ‫أن يكون البائع حسن الكالم “ظريفا مثلك يا مطلوعة ” ّ‬
‫لألســف أنــا أعــرف أن الدافــع األول ألغلــب الزبائــن للشـراء منــه هــو الشــفقة والعطــف‬
‫عليــه وعلــى غيــره مــن الباعــة الصغــاروليــس الحاجــة املاســة لذلــك الكيــس البالســتيكي‪.‬‬
‫أمثــال الهــواري وعاشــور والطاهــر الذيــن ال يتعــدون العشــر ســنوات كثيــرون‬
‫وتكتــظ بهــم األســواق اليوميــة الفوضويــة والنظاميــة فــي املدينــة‪ ،‬فضلــوا بيــع األكيــاس‬
‫البالســتيكية علــى أي ســلعة أخــرى ألنهــا تضمــن لهــم الحركــة بحريــة تامــة مــن مــكان إلــى‬
‫آخــر ومــن ســوق إلــى ســوق‪ ،‬كمــا أنهــا بضاعــة وزنهــا خفيــف وربحهــا معقــول وال تفســد‬
‫أو يصيبهــا العطــب‪ ،‬كل ذلــك جعــل مــن بيــع األكيــاس البالســتيكية مهنــة أدمــن عليهــا‬

‫‪122‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫العش ـرات مــن أطفــال األســر املعــوزة والفقيــرة‪ ،‬أو تلــك التــي تعانــي مــن غيــاب املعيــل‬
‫بســبب اليتــم أو الطــاق أو التفــكك األســري‪.‬‬
‫هــؤالء األربعــة زمالئــي فــي العمــل كنــت مثلهــم ذات يــوم وال أزال‪ ،‬أعــرف جيــدا أنــه‬
‫رغــم صغــرســنهم‪ ،‬إال أنهــم حفظــوا عــن ظهــرقلــب أســعاراملــواد الغذائيــة وكلمــا ارتفعــت‬
‫أعلمهــم بذلــك وكأنهــم املســؤولين عــن البيــت وامليزانيــة‪ .‬دائمــا مــا يجلــس الطاهــربجنبــي‬
‫ويقــول لــي “أنــه يغــار حينمــا يــرى أوليــاء أصدقائــه وأقربائــه حريصيــن عليهــم وعلــى‬
‫دراســتهم‪ ،‬ورغــم صغــرســنهم أقســم علــى أنــه لــن ينجــب أطفــاال فــي املســتقبل إال إذا وفــر‬
‫لهــم اإلمكانيــات لعيــش كريــم”‪.‬‬
‫وأخبــره ّأنــه علــى حـ ّـق فاإلنجــاب قيمــة ســلبية عندمــا يكــون الفــرد فقيـرا‪ ..‬كمــا يقول‬
‫جــدي الفقــرينجــب قتلــة ومجرميــن واملــال ينجــب طغــاة متمردين‪.‬‬
‫***‬
‫ّإنهــا فرصتــي ألكمــل كل خب ـزات املطلــوع قبــل أن يأتــي "حميــدة القــط" يزاحمنــي‬
‫بمطلوعــه الصابــح‪.‬‬
‫بعد لحظات سمعت صوتا رقيقا فوق رأ�سي‪:‬‬
‫– أعطني زوج!‬
‫دون أن أرفع رأ�سي‬
‫– حاضر‬
‫اختــرت مطلوعتيــن مــن أســفل الســلة‪ ،‬لففتهمــا داخــل أوراق جريــدة وضعتهمــا‬
‫داخــل الكيــس‪ ،‬فعــت رأ�ســي ثـ ّـم تجمــدت مكانــي!‬
‫–‪.....‬‬

‫‪123‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قالت بصوت أنثوي لذيذ‪:‬‬


‫– بكم!‬
‫–‪.....‬‬
‫كررت سؤالها مبتسمة‪:‬‬
‫– بكم‪ ،‬بكم!‬
‫–‪.....‬‬
‫حيــن التقــت نظراتــي بنظراتهــا‪ ،‬غرقــت وشــلت حركــة لســاني وابتلعــت مــاء الجمــال‬
‫والفتنــة‪ .‬لــم أســتطع الــكالم‪ ،‬غصــت فــي الصمــت داخــل بحــرعينيهــا‪.‬‬
‫– خمس‪ ،‬خم خم‬
‫– عفوا؟‬
‫– ستة آالف‪.‬‬
‫ســلمتني قطعــة نقديــة مــن فئــة العشــرة آالف دينــار‪ ،‬ســلمتها الكيــس‪ ،‬أمســكته‬
‫وملســت أطـراف أظافرهــا ســطح يــدي‪ .‬شــعرت بنقــرة خفيفــة‪ .‬أشــعلت فتيــل مشــاعري‪.‬‬
‫قالت وهي ترجع خصلة شعرفوق أذنها بحركة سحرية‪:‬‬
‫– احتفظ بالباقي‪.‬‬
‫– شك‪...‬شش‪.‬شكرا‬
‫ابتسمت وأنا أمضغ الحروف داخل فمي‪.‬‬
‫– هللا يعينك‬

‫‪124‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قالتها بابتسامة عريضة ووهج خفيف يلمع في عينيها‪ .‬اقبتها ّ‬


‫حتى ركبت في سيارة‬ ‫ر‬
‫الجاكوارالسوداء واختفت وسط الشارع‪ .‬اقترب مني حميدة ووضع قفته جنبي‪.‬‬
‫– متى صاراملطلوع يجذب الفراشات!‬
‫– هل تعرفها؟‬
‫– ال أول مرة‪ ،‬أراها هنا‪.‬‬
‫– لكــن ملــاذا اشــترت مــن عنــدي أنــا بحــد الــذات والســوق ممتلئــة بباعــة املطلــوع‬
‫اآلخريــن‪.‬‬
‫تركتني وهذه اللماذا تحوم داخل رأ�سي‪.‬‬
‫قال حميدة مربتا على كتفي‪:‬‬
‫– يا صاحبي طارالحمام‪.‬‬
‫– أنت محق‪ ،‬أنا خواف!‬
‫– خــواف! هــل رأيتهــا! أراهنــك أنهــا لــم تتلــق ضربــة شــمس فــي حياتهــا‪ ،‬ليســت مثلــك‬
‫أنــت‪ ،‬محــروق مــن كل جهــة‪ ...‬بني‪...‬صدئ‪..‬ههــه‪.‬‬
‫– ههه‪...‬اسكت اسكت‪.‬‬
‫– ال تقلق يا صديقي‪.‬‬
‫– غيرالجبال ما يتلقاو‪..‬ش "الجبال فقط ال تلتقي"‬
‫– جبل "دوي" أبدا لن يلتقي بجبل الهماليا يا مطلوعة صديقي‪.‬‬
‫– الدنيا صغيرة يا حميدة‪ .‬وكل �شيء باملكتوب‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_إذن هــذا النــوع مــن البنــات لســن مكتوبيــن للصعاليــك أمثالنــا‪ ،‬هوائهــم وهوائنــا‬
‫ليس واحد‪ .‬هم يروونا مجرد حشـرات أو حيوانات أليفة ال مشــاعرلها‪ .‬ربما تحب قطا‬
‫أليفــا أو كلبــا وتعطيــه اســما وتحــزن ملرضــه ولــن تحــب صعلــوكا مثلــك أو مثلــي باختصــار‬
‫الحــج بعيــد علــى صاحــب الحمــار‪.‬‬
‫_وأبعد ملن صاحبه حمار‪.‬‬
‫_ههه الحماريعرف أخوه الحمار‪.‬‬
‫_ماذا تقصد ؟‬
‫***‬
‫شاردا في تفكيري وجالسا على أطالل روحي‪ .‬أراقب مترددا تلك الفتاة الغريبة‪ .‬ال‬
‫أعلم كيف أنا أستغرق كل هذا الوقت غارقا في أدق تفاصيلها‪ ،‬أترجى أن تبادلني نظرة‬
‫واحــدة تكفينــي‪ .‬وقبــل أن أقطــف خيــط حلــم‪ ،‬تقطعــه رائحــة عطرهــا الفاخروتعاكســني‬
‫ألــوان ثيابهــا األنيقــة واملطــرزة بدقــة‪ ،‬أنــا أمامهــا أقتــرب منهــا أكثــر‪ ..‬أكثــر‪ ..‬ثـ ّـم أمســكها‬
‫مــن يدهــا الطريــة أنقلهــا إلــى عالــم الســحر‪ ،‬أنــا وأنــت والــرب والشــيطان أدنــو همســا مــن‬
‫شــحمة أذنهــا الشــهية أطارحهــا الحــب وأصارحهــا الســروأريهــا العجــب العجــاب‪ ،‬أعتــرف‬
‫لــك أنــي فتنــت بــك ال أعــرف كيــف ومــا هــذا الشــعور لكــن هكــذا‪ ،‬ال أدري‪ .‬نرمــي الــورود‬
‫والحبــق فــي الهــواء وأعانقــك وأشــم رائحتــك وآه اآله مــن عينيــك‪.‬‬
‫و آح اآلح مــن تلــك الغمازتيــن إن أنــت ابتســمت ملكــت روحــي وأشــرقت شــمس‬
‫نهــاري ‪.‬‬
‫ورب ليلــى مــا صنعــت مــن طيــن وصلصــال مــن حمــئ مســنون‪ ،‬ســقطت مــن الجنــة‪.‬‬
‫لــو تــرون معــي تلــك الحركــة التــي تفعلهــا بعينيهــا عندمــا تفكــر‪ ،‬كأنهمــا محارتــان فــي زاويــة‬
‫مــن زوايــا بحــرلجــي‪ ،‬أســهو كثي ـرا فــي أتفــه تفاصيلهــا ال أدري أهــذا جــرم أم خطــأ أم حــج‬
‫بعيــد مثلمــا قــال حميــدة‪ ،‬حــج مشــاعرمرهــق‪ ،‬ملــاذا تثــاركل مشــاعري اتجــاه هــذه البنــت‬
‫بالرغــم مــن أنــي لــم أكلمهــا ولــم أجـرأ علــى ذلــك؟ ال أعــرف مــا تخبئــه وتخفيــه مــن أسـرار‬

‫‪126‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هــي غامضــة ككتــاب مغبــرمــن كتــب جــدي‪ ،‬أبقــي هكــذا ال تتغيــري‪ ،‬يكفينــي طيلــة اليــوم‬
‫أحملك في مخيلتي وأضعك فوق وسادتي أداعبك قبل أن أنام وأقبلك أووه نعم أقبلك‬
‫واملــوت يحلــو لــي بعــد ذلــك وأخبــأك بيــن أضلعــي وأغــار عليــك مــن أضلعــي إن خدعتنــي‬
‫وأســرتك وتركتنــي وحيــدا‪.‬‬
‫تيك‬
‫تيك‬
‫تاك‬
‫تيك‬
‫تاك‬
‫أعــود إلــي‪ ،‬لتباغتنــي صفعــة الواقــع وأجدنــي أنــا وحذائــي الــرث وثيابــي القديمــة‬
‫وشعري األشعث‪...‬من قرية بعيدة وعائلة فقيرة‪ .‬أدون هذه املذكرات السخيفة‪ .‬أكتب‬
‫مــا أشــعربــه بصراحــة مطلقــة أدون كيــف كان يومــي وأجدنــي عندمــا أصــل لوصفهــا أمــأ‬
‫خمس صفحات دون أن أشعر‪ ،‬ثم أعود إلي مرة أخرى بصفعة أخرى من الواقع الذي‬
‫يعــارض كل أحالمــي الســخيفة البلهــاء وحروفــي الطريــة الناعمــة‪ .‬كــم مــن فتــى يفكــرمثلــي‬
‫وكــم مــن أبنــاء األثريــاء يريدهــا‪ .‬لطاملــا كنــت فتــى حاملا‪...‬ولكــن هــذه املــرة اســتغرقت كثيـرا‬
‫وجدتنــي أغــرق فــي حلــم بعيــد‪ .‬لنفتــرض أنهــا أمامــي اآلن ثـ ّـم مــاذا؟ هــل لــي الجـرأة ألقابلهــا‬
‫وأصارحهــا بمشــاعري‪ ،‬مــاذا لــو ق ـرأت مذكراتــي هــذه؟ مــاذا ســتقول ومــاذا ســيكون رد‬
‫فعلهــا‪ .‬أطــوي دفتــرمذكراتــي‪ .‬أتنهــد ثـ ّـم الصــورة تتضبــب‪.‬‬
‫يــرن جــرس الخــروج مــن املدرســة‪ .‬أتتبعهــا‪ ،‬أتحا�شــى أن تالحــظ أنــي ورائهــا ألحقهــا‬
‫حتــى البــاب‪ .‬غيــربعيــد أقــف وســط الســاحة متســمرا فــي مكانــي‪ ،‬أرى الســائق يفتــح لهــا‬ ‫ّ‬
‫الســائق الشــخ�صي باب الســيارة‪ ،‬تركب ال مبالية غيرمالحظة ما يحدث حولها‪ .‬أراقبها‬
‫حتــى تتبخــرفــي وســط الشــارع‪ ،‬تغــرب وتغــرب معهــا شــمس نهــاري‪ ،‬ثـ ّـم وأنــا شــارد فــي ذلــك‬ ‫ّ‬
‫املوقــف أشــعربيــد فــوق كتفــي تســحبني بقــوة ثـ ّـم‪...‬‬
‫***‬

‫‪127‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أب أوالدي‬

‫استلقيت على سريري الخشبي القصيرألرتطم بليلي الثقيل‪ ،‬عندي هذه املرة بما‬
‫أقابلــك يــا ليــل فتمطــى‪ ،‬شــمرت علــى ســاقي‪ ،‬ودخلــت قصــرأفــكاري‪ ،‬أيــن تنتظرنــي أميرتــي‬
‫املبجلــة‪ ،‬لكــن هــل يليــق أن أقابلهــا بهــذه املالبــس؟ حينهــا خطفــت خيــط فكــرة وتذكــرت‬
‫مــا قالــه لــي مــروان فــي ســاحة املدرســة‪ ،‬لكــن مــن أيــن ســأحضراملــال! بعــد تفكيــرطويــل‬
‫الحت أمامي في الرف على الحائط بطاقة الرجل‪ ،‬وتذكرت عرضه‪ ..‬قفزت من سريري‬
‫حملــت البطاقــة بيــد والهاتــف بيــد أخــرى‪ ،‬أتصــل أو ال أتصــل! أتصــل أو ال أتصــل‪ .‬بقيــت‬
‫متــرددا بيــن عــرض الرجــل وكالم مــروان بيــن وجــه فتــاة أحالمــي ووجــه بلوطــة ثـ ّـم غرقــت‬
‫فــي أفــكاري‪.‬‬
‫كانــت ليلــة مــن الليالــي البيضــاء‪ ،‬القمــريتمــدد فــي الســماء والنجــوم ترقــص حولــه‪،‬‬
‫والريــح هادئــة كأنهــا تنتظــرشــيئا مــا‪ ،‬ضــوء القمــريتســرب مــن نافذتــي ليملــس خــده علــى‬
‫طاولــة مــن خشــب فوقهــا بعــض أقــام التلويــن وممحــاة وصحــن فــارغ‪ ،‬بجنبــه قلــة مــن‬
‫الصلصــال األحمــر‪ .‬ضــوء القمــريقتحــم غرفتــي مــن نافــذة مفتوحــة علــى الــدوام‪ .‬قفلهــا‬
‫مكســور‪ ،‬علــى حافــة النافــذة قطــة تجثــم فــي ســكون تبــدو عيناهــا مشــعة فــي الظــام‪.‬‬
‫تنظــرنحــوي وأنــا ممــدد فــوق الســريروهــويــأن ويــأن‪ .‬ثيابــي مرميــة هنــا وهناك‪ .‬مثل غرفة‬
‫ســكير‪ ،‬فرشــات أســناني فــوق الــرف بجانبهــا بعــض الكتــب‪ ،‬غرفتــي ضيقــة ثالثــة أمتــار‬
‫على ثالثة أمتار‪ ،‬وارتفاع السقف حوالي املترين‪ ،‬تتدلى منه ملبة صفراء رخيصة تصدر‬
‫ضــوء أصف ـرا باهتــا‪ ،‬األرض إســمنتية بــاردة‪ ،‬لونهــا يشــبه الجــدران‪ ،‬خزانــة زرقــاء مــن‬
‫حديد‪ ،‬أمامي في الجداراملقابل‪ ،‬لوحة بحارقديم أو كهل خشن املالمح أشيب الشعر‬
‫ح��اد العيني��ن علىــ الحائ�طـ اآلخــركوم��ة منــ الكت��ب الصفـراء القديم��ة والكثي��رم��ن أوراق‬
‫الرس��م والرســومات‪.‬‬
‫كانــت لــي عــادة ســيئة وهــي أن معظــم الكتــب التــي أملكهــا ّإم ــا قــد ســرقتها مــن مكتبــة‬
‫املدينــة أو أعرتهــا مــن عنــد فــارس صديقــي‪ ،‬فعندمــا أكمــل قراءتهــا أردهــا لــرف مكتبــة‬
‫املدرســة‪ ،‬وبعــض هــذه الكتــب ال أرجعهــا ألنــي تعلقــت بهــا بشــدة‪ ،‬الشــخص الوحيــد‬

‫‪128‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الــذي كان يفهــم هــذا الشــعور هــو فــارس صديقــي الــذي كلمــا أعارنــي كتابــا ال يطالبنــي‬
‫بإرجاعــه وعندمــا أرجعــه الكتــاب ين�ســى أنــه أعارنــي إيــاه لكثــرة مــا يقـرأ مــن كتــب‪.‬‬
‫القطة ال تزال في مكانها عند النافذة‪ ،‬لم تتحرك‪ .‬لوال عينيها املشــعتين لحســبتها‬
‫كيســا أســودا‪ .‬الجــو هــادئ‪ .‬أوركســترا الصراصيــرفــي شــجرة الكاليتــوس بجــوارنافذتــي‪،‬‬
‫تضفــي علــى الجــو طابعــا فنيــا مــن املوســيقى الطبيعيــة الخفيفــة التــي تحمــل الــروح‬
‫بنغماتهــا املتنوعــة‪ ،‬وصريــرالبــاب‪ ،‬قصيــدة أخــرى مــن قصائــد ليلــي الطويــل الســرمدي‬
‫األواه‪.‬‬
‫بعد لحظات من التأمل في باب قصري أحسست بيد دافئة تمسك يدي وصوت‬
‫هادئ يقترب من أذني‪ ،‬لتمأل القشعريرة جميع أطراف جسدي‪ .‬بنبرة مالئكية‪:‬‬
‫_انتظرتك كثيرا يا لقمان ولم تتقدم نحوي‪.‬‬
‫_ماذا تفعلين هنا؟‬
‫_ ال أدري حقا‪ .‬ولكن كل ما أعرفه أنك ستذهب معي لنختارفستانا لعرسنا‪.‬‬
‫_عرس‪...‬‬
‫– شششت ال تتكلم‪ ،‬هيا انهض واتبعني فقط‪.‬‬
‫شعرت بالدهشة وبالسعادة‪ ،‬غمرتني ابتسامة عريضة ال محل لها من الوصف‪،‬‬
‫أمســكتني مــن يــدي وركبنــا فــي ســيارتها‪ .‬ســرنا وتركنــا الغبــارورائنــا مــن الطريــق الترابيــة‬
‫يتطايــر‪ .‬وصلنــا إلــى املدينــة‪ .‬دخلنــا أول امحــل مالبــس‪ ،‬بــدأت أميمــة باختيــارالفســاتين‬
‫التــي ســتجربها وكان صاحــب املحــل شــخصا أنيقــا ويحســن الــكالم‪ ،‬أميمــة تجــرب‬
‫الفســتان تلــوى اآلخــروتطلــب رأيــي‪ ،‬وبالرغــم مــن أننــي ال أفقــه شــيئا فــي األمــور النســوية‬
‫إال أننــي أختــارحســب معرفتــي التشــكيلية باأللــوان‪ .‬جربــت فــي األول فســتانا أحمـرا‪ .‬و ملــا‬
‫خرجــت أمامــي أدهشــتني بجمالهــا كــوردة أقحــوان‪ ،‬ثـ ّـم تدخــل وتخــرج ومجــددا بفســتان‬
‫أبيــض مطــرز تطريـزا عربيــا قــد ناســب قوامهــا املمشــوق وخصرهــا املنحــوت‪:‬‬

‫‪129‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– آه آه‪...‬هل تتحدثين معي؟‬


‫– نعم ليس لدي ما أضيفه‪...‬كأنه صنع خصيصا لك‪.‬‬
‫– حقا!‬
‫– أنت من زدته جماال‪.‬‬
‫– ماذا‬
‫– العصفور يزيد من جمال الشجرة أم الشجرة تزيد من جمال العصفور؟‬
‫– همم‪ ،‬العصفور ولكن‪...‬‬
‫– يعني أي فستان ترتدينه يناسبك ألنك أنت من تزيدنه جماال‪.‬‬
‫احمرت وجنتاها خجال وابتسمت ابتسامة عريضة‪:‬‬
‫– املهــم أنــه قــد نــال إعجابــك‪ ...‬يــا أب أوالدي الجبــان الــذي تــردد فــي أن يظهــرحبــه‬
‫ألمهــم‪.‬‬
‫ابتلعــت ريقــي وراء كلمــة أب أوالدي ونهضــت مــن مكانــي‪ .‬توجهــت نحــو بــاب املحــل‬
‫حيــث الدفــع‪ .‬بعــد مــدة قصيــرة خرجــت أميمــة مــن حجــرة تبديــل املالبــس فــي الزاويــة‬
‫املقابلة من املحل‪ .‬أمسكتني من ذراعي وضغطت على أصابعي لتضع رأسها على كتفي‬
‫أمــام صاحــب املحــل‪ ،‬الــذي كان يبادلنــا ابتســامة شــخص ينتظــرأن يمســك الكثيــرمــن‬
‫النقــود‪:‬‬
‫– هل رأيت لم يتبق الكثيريا حبيبي‪ ،‬لم يتبق الكثيرهذه أول خطوة فقط‪.‬‬
‫قالت هذه الجملة األخيرة وما زادتني سوى رعبا وفزعا‪:‬‬
‫قــام صاحــب املحــل بعمليــة حســابية بســيطة وبســرعة‪ .‬وتذكــرت أنــي قـرأت الفتــة‬

‫‪130‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مكتــوب عليهــا تخفيضــات فخــف قلقــي نوعــا مــا‪...‬‬


‫ثم استرسل قائال بلهجة غريبة لكنها تبدو جادة‪:‬‬
‫– سبعة ماليين وخمسين ألف‪.‬‬
‫رجت شفتي وأحسست بضيق في صدري‪:‬‬
‫– ومع التخفيض؟‬
‫– طبعا هذا الثمن مع التخفيض‪..‬‬
‫نظــرت نحــوي أميمــة نظــرة طفلــة ألبيهــا‪ .‬كنــت أعــرف أن جيبــي فــارغ وأنــي لــو عملــت‬
‫أشهرا في بيع املطلوع والعمل عند ال�سي جمال ما كنت ألوفرهذا املبلغ الكبير‪ .‬طأطأت‬
‫رأ�ســي ونظــرت نحــو صاحــب املحــل الواقــف بجديــة وبابتســامة ســمينة مصطنعــة‪ ,‬نظــرة‬
‫فقيربائس نظرة منكسرة تقول أرجوك ارحمني ليس اآلن‪...‬قل شيئا‪...‬هيا نبتعد قليال‬
‫لنتناقــش فــي األمــرعلــى انفـراد‪.‬‬
‫بعــد لحظــات مــن الصمــت‪ ،‬تغيــرت مالمــح صاحــب املحــل وظهــرت تكشــيرة مــن بيــن‬
‫حاجبيــه الطويليــن العريضيــن ليســتل مــن الــدرج بيــده اليمنــى مسدســا ويصوبــه نحــو‬
‫رأس أميمــة‪ .‬نظــرة الغضــب تعلــو وجهــه وأنفاســه الحــارة تصــل إلــى وجهــي‪ ،‬جحضــت‬
‫عينــي واتســعت فتحــة حلقــي‪ ،‬ســبابة إصبعــه علــى الزنــاد مباشــرة‪ ،‬لــم أقــوعلــى الحـراك‪،‬‬
‫عصــرت عينــي طأطــأت رأ�ســي منكسـرا‪ ،‬ألســمع صوتــا قادمــا مــن بعيــد‪.‬‬
‫_ لقمان‪ ،‬لقمان‪..‬‬
‫***‬

‫‪131‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– لقمــان‪ .‬لقمــان‪ ..‬انهــض يــا وليــدي‪ ،‬جــدك يناديــك‪ ،‬يحتاجــك‪ ،‬قــد خمــرت مــن‬
‫الرقــاد‪.‬‬
‫– آه‪ ،‬آه توقف توقف‪!...‬‬
‫– بسم هللا بسم هللا‪ ،‬خيريا ولدي خير‪ ،‬هاك اشرب املاء‪...‬‬
‫– آههههه‪ ،‬آههه‪ ،‬اس‪...‬‬
‫– استغفروشهد‪ ،‬استغفر‪ ،‬من الشيطان‪ .‬من الشيطان‬
‫اســتيقظت مرعوبــا مفزوعــا اللعــاب يخــرج مــن فمــي والحمــى البــاردة تلســع‬
‫جســدي‪ ،‬رقبتــي تؤلمــي‪ ،‬صــداع فــي رأ�ســي وغطــاء ســريري مرمــي علــى األرضيــة‪ .‬النافــذة ال‬
‫تـزال مفتوحــة‪ ،‬الريــح تفتحهــا ثـ ّـم تغلقهــا‪ .‬البــاب تئــن والقطــة قــد اختفــت‪ ،‬الحلــم يتكــرر‬
‫فــي رأ�ســي‪ .‬الســاعة تشــيرإلــى الســابعة صباحــا‪ ،‬لــم أســتطع النهــوض كان فرا�شــي دافئــا‪،‬‬
‫عــدت ألســتلقي علــى ظهــري ووجهــي يقابــل الفتحــة فــي الســقف ألفكــرفــي ذلــك الكابــوس‪..‬‬
‫ثم لوهلة سمعت صوتا يناديني من بعيد‪.‬‬
‫***‬
‫– أووه‪ ،‬أوففف‪ ..‬وغد! لقد أفزعتني‬
‫– أنت في طريق الجنون! لم يبق لك الكثير‬
‫– أسكت‪ ،‬ليس وقتك اآلن‪.‬‬
‫– هههه‪ .‬ما خطبك!‬
‫– حسنا‪ .‬أخبرني ماذا نفعل لها؟‬
‫– من هي!‬

‫‪132‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ومن غيرها!‬
‫ثم قهقه مروان وهو يضرب يديه مع ركبتيه من الضحك‪.‬‬
‫– بهذه القشابية! وهذا الحذاء الغريب‪ ،‬سارة بنت القا�ضي ولن تنظرإليك‪.‬‬
‫– احترم نفسك إال حذائي!‬
‫يحوم مروان حولي وسط الساحة مثل الثعبان‪ ،‬يتكلم ببطء ونبرة هادئة رزينة‪:‬‬
‫– املهم يا صديقي يلزمك أن تكون أنيقا‪ ،‬وحسن املظهر‪ ،‬هكذا لن تفعل شيئا‪...‬‬
‫البنات ينجبن للفتى حسن املظهرأنيق امللبس‪.‬‬
‫– ما العمل إذن!‬
‫– صديقي لن أكذب عليك‪ ،‬يلزمك تحول شامل في شكلك‪ .‬أنظر!‬
‫ثــم هــز حاجبيــه وابتســم ابتســامة خبيثــة وحــك ســبابته مــع ابهامــه بحركــة ترمــز‬
‫للنقــود‪..‬‬
‫– ملاذا؟‬
‫– بدل اللوك يحبوك‪.‬‬
‫– ما معناها!‬
‫– سنشتري لك بعض املالبس الجديدة ونجري بعض التغييرات الجمالية‬
‫إذن أظهردراهم املطلوع وأترك الباقي علي‪.‬‬
‫– إنه مطلوع وليس ذهبا‪.‬‬
‫_املهــم فكــروأنــا هنــا فــي أي وقــت ملســاعدتك صديقــك مختــص بأحــدث صيحــات‬

‫‪133‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم تركني وسط الساحة وانصرف بمشيته املميزة‬ ‫املوضة أنت تعرفني دون أن أخبرك‪ّ .‬‬
‫كعــارض أزيــاء‪ .‬يباعــد بيــن الخطــوة واألخــرى ويحــرك رأســه بيــن كتفيــه يســارا ويمينــا‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب_‬
‫السيد طارق فاروق‬
‫***‬
‫– اجلبوا كرسيا أكبر"ملحمد علي‪" 1‬هنا‪..‬‬
‫ثم رمى املحقق تفاحة لطارق‪.‬‬
‫_هاك أمسك! كل بعض التفاح فهو مفيد لصحة ريا�ضي مثلك‪.‬‬
‫التقــط طــارق التفاحــة ووضعهــا بجنبــه‪ ،‬لكنــه لــم يقضــم منهــا‪ ،‬ابتســم املحقــق‬
‫ومــال نحــو طــارق بنظــرة تنــم علــى املكــر‪:‬‬
‫_ال تخف هي ليست مسمومة‪.‬‬
‫سكت طارق ولم يرد‪:‬‬
‫_أخبروني أن لك ضربة يد يمنى قاتلة هل يخافك التالميذ هنا من أجلها!‬
‫رد طارق بنبرة بطيئة وخشنة‪:‬‬
‫– كذبــوا عليــك إذن‪ ،‬يــا ســيدي أنــا ال أضــرب ســوى داخــل الحلبــة‪ ،‬وخارجهــا انــا‬
‫مجــرد تلميــذ بســيط‪.‬‬
‫– تلميذ بسيط‪ ،‬تلميذ يتوعد بالقتل والترهيب في منتصف النهارفي القسم!‬
‫– ماذا تقصد بيتوعد بالقتل؟‬

‫‪ - 1‬مالكم عالمي أمريكي مسلم مشهور‬

‫‪135‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– طــارق أنظــر فــي عينــي‪ ،‬هــل تــرى هــذا الوجــه؟ قــد أدخــل آالف الرجــال قبلــك‬
‫الســجن‪ ،‬بعضهــم لقــي حتفــه وبعضهــم ال ي ـزال يتعفــن بيــن القضبــان‪.‬‬
‫– وهل هذا ما تسميه "بالرجولة" في أن تحرم أشخاصا أبرياء من حريتهم؟‬
‫– حريــة! هــل تعلــم معنــى الحريــة؟ الحريــة عندمــا تتحــدث بصــدق دون أن تخ�شــى‬
‫لومــة الئــم‪ ،‬البــريء الــذي يكــذب هــو فــي نظــري مجــرم‪ ،‬يجــب علــى القانــون معاقبتــه‪ ،‬وإن‬
‫كنــت تريــد أن ال تشــاهد أصدقائــك يفــوزون بشــهادة البكلوريــا وأنــت خلــف القضبــان‬
‫تعض على أصابعك من الغيظ أخبرني‪ ،‬ماذا همست إلسحاق آخرمرة التقيته؟ فقد‬
‫شــاهدتكم أســتاذة الفرنســية وأنــت تهــدده‪..‬‬
‫– أستاذة الفرنسية! ال �شيء‪ ،‬فقط‪...‬‬
‫– طارق!‬
‫– حسنا لقد أمرته باالبتعاد عن أميمة!‬
‫– ملاذا! ما عالقتك بأميمة!‬
‫– ال عالقة لي ‪ ,‬فقط من أجل لقمان صديقي فهو يحبها‪ ،‬بل هو مجنون بها ولكن‬
‫املرحــوم وقــف فــي طريقــه ألنهــا برفقتــه‪ ..‬لكــن صدقنــي أنــي لــم أقتلــه ولــم أفكــرســوى فــي‬
‫تخويفــه ليبتعــد عنهــا مــن أجــل لقمــان‪.‬‬
‫– إذن هل تظن أن لقمان هو من قتله؟‬
‫– ال أعرف‪ ،‬ال أظن‪..‬صدقني أنا بريء‪...‬‬
‫– هل دخلت املكتبة اليوم؟‬
‫– ال ال لم أدخل هنا منذ مدة‪.‬‬
‫– أين كنت أثناء الحادثة؟‬

‫‪136‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– في القسم‪.‬‬
‫–حسنا أنظرهذا مخطط القسم‪ ،‬أريني مقعدك ومع من تجلس؟‬
‫– هنا في الطاولة ما قبل األخيرة في الصف املجاور للحائط أين الباب‪.‬‬
‫– ورائك من يجلس؟‬
‫– هنا لقمان وهنا مروان‪..‬‬
‫صمــت املاحــي لبرهــة وحمــل قلــم رصــاص وبــدأ يســجل فــي مــكان قعــود التالميــذ فــي‬
‫القســم‪.‬‬
‫– هل أستطيع االنصراف اآلن؟‬
‫– ملاذا؟ هل أنت قلق!‬
‫– ال سيدي ولكن عندي تدريبات رياضية يجب أن أحضرها في الوقت‪.‬‬
‫– هل تعلم أن هناك ضربة قوية وجهت لرأس الضحية ونحن ال نظن أن هناك‬
‫أحدا غيرك بإمكانه تسديد تلك الضربة‪ ،‬ما هو تفسيرك لهذا!‬
‫فــي تلــك اللحظــة ظهــرالطبيــب يحمــل كيســا أبيــض شــفافا داخلــه‪ ،‬يلهــث ويعيــد فــي‬
‫كالمــه‪:‬‬
‫– سيدي‪ ،‬سيدي !‬
‫– نعم تحدث ماذا كانت النتيجة؟‬
‫– حتما ستبهرك! لقد كانت شطيرة مسمومة!‬
‫– هاه‪ ،‬هل تقول مسمومة!‬

‫‪137‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعم وهو سم منزلي رخيص يستخدم يستعمل عادة لقتل الفئران والقوارض‪.‬‬
‫– ياللغرابــة‪ ،‬إذن لقــد ســمم املكتبــي ّ‬
‫حتــى ال يحضــر ويكــون شــاهدا علــى جريمــة‬
‫القتــل وبذلــك نســتنتج أن القاتــل قــد خطــط للجريمــة مــن قبــل جيــدا وخطــط لحســاب‬
‫كل صغيــرة وكبيــر‪ ،‬وحتــى ربمــا يكــون قــد نســج قصــة تغلــف القصــة الحقيقــة‪ ،‬وبذلــك‬
‫يكــون قــد تــدرب جيــدا علــى مــا يقولــه حيــن يخضــع لالســتجواب‪.‬‬
‫ثم نظراملحقق لطارق يعرض عليه السندويتش‪:‬‬
‫_هل تريد أن تتذوق قليال يا طارق؟‬
‫– ال ال شكرا!‬
‫– أنــت تحــب األكل أليــس كذلــك؟ ومــن غيــرك يعــرف هــذه األمــور والســموم التــي‬
‫تضــرالجســد أخبرنــي؟‬
‫_سيدي أنا‪...‬‬

‫‪138‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الحفلة املدرسية‬

‫أقيــم حفــل فــي الثانويــة للمواهــب الشــابة‪ ،‬وكنــت مــن بيــن الحاضريــن لكــن ليــس‬
‫باملعنى الكلي فقد كانت تذكرة الدخول كفيلة بسد حاجيات يومي ملدة أسبوع كامل‪،‬‬
‫لذلــك تســللت خفيــة ألصعــد فــوق ســور املدرســة الخلفــي‪ .‬رميــت محفظتــي فــوق الســور‬
‫ثـ ّـم تبتعهــا ليبــدو لــي مســرح املدرســة مكتظــا إلــى آخــر صفوفــه‪ ،‬فــي البدايــة تقــدم فريــق‬
‫كــرة القــدم ثـ ّـم نــادي العــزف "شــاين" ثـ ّـم فريــق املســرح "املبدعــون الصامتــون" لتقديــم‬
‫مســرحية ثـ ّـم بعــد لحظــات ســلب انتباهــي بفتــاة صعــدت علــى الخشــبة بفســتان أســود‬
‫وتسريحة شعرذيل الحصان‪ ،‬تحمل بيدها عودا أصيال‪ ،‬جلست على الكر�سي‪ .‬وقربت‬
‫امليكرفــون منهــا وبــدأت بعــزف مثيــر‪ ،‬غيــرت مــن وضعيــة جلو�ســي فــوق الســور ألراقبهــا‬
‫جيدا وخشية أن أسقط ألني أعرف أني سأن�سى بأني فوق سور‪ .‬وقد بدأت بغناء تلك‬
‫األغنيــة بــكل هــدوء ورزانــة‪:‬‬
‫الزوالي وفحل نموت‬
‫و مانحملش الذل‬
‫سق�سي واسأل درب‬
‫و صحرا وزيد التل‬
‫فــي تلــك اللحظــة ســارعت بتنــاول ورقــة ألرســمها والعــود بيــن أصابعهــا البيضــاء‬
‫الناعمــة وهــي فــي ذلــك الجمــال علــى خشــبة املســرح‪ .‬انطفــأت كل أنــواراملســرح فــي عينــي‬
‫وبقيــت وحيــدة كأنهــا تغنــي لــي وحــدي وأنــا أمامهــا كالطفــل أغــرق فــي صوتهــا الشــجي‪،‬‬
‫تحملنــي نغمــات أناملهــا علــى أوتــارذلــك العــود وليتنــي كنــت العــود وهنــاك أبقــى وال أعــود‪.‬‬
‫غنــت بأعــذب صــوت وأحلــى طــرب وبينمــا أنــا غــارق فــي رســمتي‪ ،‬أطيــربأعــذب لحــن‪.‬‬
‫ســمعت صوتــا خشــنا‪:‬‬

‫‪139‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هاااااااي أنت هناك‪ ،‬انزل إلى هنا‪ ،‬توقف مكانك!‬


‫أمســكني حــارس املدرســة مــن رجلــي‪ ،‬فأنفلــت منــه بأعجوبــة ووقعــت علــى األرض‬
‫خارج املدرســة‪ ،‬ســقطت من يدي الرســمة في الداخل‪ ،‬أصبت بجرح في يدي‪ّ .‬‬
‫ثم هربت‬
‫مســرعا وســط الظــام‪.‬‬

‫***‬
‫يقفــزأمامــي حلــزون بحجــم الكلــب‪ ،‬يمســك فــي قــرون استشــعاره ملعقــة وســكينا‬
‫بنفســجي اليــد‪ ،‬بجنبــه ذبابــة بحجــم دجاجــة برتقاليــة الريــش كبيــرة عاريــة الرقبــة‪،‬‬
‫عيناهــا شــبكيتان جاحظتــان بحجــم فنجــان قهــوة‪ ،‬تحمــل تحــت جناحيهــا ذبابتيــن‬
‫زرقاويــن غليظتيــن ســمينتين‪.‬‬
‫يتقــدم الحلــزون نحــوي ببــطء‪ ،‬تفــرد الدجاجــة جناحيهــا تخــرج مــن تحتهمــا‬
‫الذبابتان واحدة تبدو مصابة في جناحها األيسرواألخرى مبتورة الجناحين‪ .‬مثل دودة‬
‫طائــرة وعلــى ظهرهــا األزرق القاتــم بقــع حــرق‪.‬‬
‫وفــي الجــدارأمامــي رؤوس رجــال تقطــربالــدم‪ ،‬أنــا غيــرقــادرعلــى الحـراك‪ ،‬اشــتممت‬
‫رائحة القهوة‪ ،‬رائحة الدخان‪ ،‬تناهى إلى سمعي طنين ضربات جناح الذبابة يتصاعد‪،‬‬
‫ســمعت صــوت خطــوات يتقــدم نحــوي‪ ،‬رفعــت عينــي أمامــي كأنــي أرفــع قاطــرة محـراث‪،‬‬
‫ملحــت قدمــا تســحق الذبابــة بكعبهــا‪ .‬كادت تعفــس الحلــزون لكنــه فــرهاربــا بســرعة نملــة‬
‫حمـراء‪ ،‬رفعــت رأ�ســي ألرى صاحــب الرجــل‪.‬‬
‫صورة مضببة‪.‬‬
‫***‬

‫‪140‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كل السرفي التفاصيل‬

‫أنتظرها‬
‫إن جاءت بعد موعدها فأنتظرها‬
‫محمود درويش‪.‬‬

‫– ملــاذا لــم تخبرنــي يــا مطلوعــة أنــك ســتحضرالحفلــة رغــم أنــي ســألتك إن كنــت‬
‫ســتأتي وأجبــت بالنفــي‪.‬‬
‫– نعم‪...‬ال‪...‬لم أكن مع الجمهور‪.‬‬
‫– كيف لم تكن مع الجمهور؟‬
‫– ال �شيء‬
‫– همم‪ ،‬لكن الرسمة أعجبتها بل نهضت من مكانها وسألتني عمن رسمها‪.‬‬
‫– الرسمة‪...‬كيف!‬
‫– على مهلك‪ ،‬يجب عليك أن تشكرني أوال!‬
‫– أشكرك!‬
‫– نعــم! ســأحكي لــك‪ ،‬اليــوم صباحــا كنــت فــي إدارة املدرســة‪ ،‬مــن أجــل حادثــة‬
‫حتــى دخــل علينــا حميــدة الثعلــب‪ ،‬وفــي يــده‬ ‫ســمير‪ ،‬أنــا واملديــريعيــد لــي دروس األخــاق‪ّ ،‬‬
‫رســمة وضعهــا أمــام املديــر‪ ،‬وأتبــع كالمــه متباهيــا أمــام املديــر بإنجــازه الكبيــر‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ سيدي إن هذه الرسمة سقطت من يد لص كنت أطارده البارحة قرب األمانة‬


‫العامة أثناء الحفل‪ .‬تعاركت معه وأوسعته ضربا هكذا "وبدأ يضرب في الهواء ويصف‬
‫للمديرالضربات التي سددها للص"‪.‬ثم‪..‬‬
‫قال املدير‪:‬‬
‫_ثم ماذا؟‬
‫_ثم غفلت عنه في رمشة عين ليفلت من يدي‪.‬‬
‫أتبع مروان‪:‬‬
‫– أبــو ك��رش الك�ذـاب‪ ،‬ه��و حت��ى ظلـ�ه و يخـ�اف منــه‪ .‬وبعدمــا رأيــت الرســمة عرفــت‬
‫أنهــا مــن ســمك‪ .‬لذلــك تركــت املديــر ّ‬
‫حتــى يخــرج مــع الحــارس يهنئــه علــى عملــه البطولــي‬ ‫ر‬
‫الوهمــي‪ ،‬وخبأتهــا فــي محفظتــي ثــم‪...‬‬
‫– لكن أين الخبراملفرح هنا؟‬
‫– دعني أكمل‪ ،‬أخذت الرسمة ل‪...‬‬
‫ثم نظرمروان نحو الطاولة األولى بجانب املكتب‪.‬‬
‫– ال أنت تمزح‪ .‬ال تقل لي أنك‪...‬‬
‫– نعــم نعــم يــا صديقــي وقــد أعجبتهــا كثي ـرا‪ ،‬وعندمــا أخبرتهــا أن صديقــي هــو مــن‬
‫رســمها‪ ،‬فرحــت كثي ـرا ورغبــت فــي مقابلتــك والتعــرف عليــك‪.‬‬
‫– مروان‪ ،‬انتظر‪ ،‬لم أفهم‪ .‬هل تقصد تقابلني أنا!‬
‫– نعــم أنــت يــا صديقــي‪ ،‬ألــم أقــل لــك أرينــا دراهــم املطلــوع وأتــرك الباقــي علــي‪ .‬هــم‬
‫رأس مالهــم املــال ونحــن رأس مالنــا الكلمــة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال أدري‪ ،‬ولكن‪..‬‬
‫وضع مروان يده على كتفي‪:‬‬
‫– وأزيدك على هذا‪ ،‬رتبت لكما موعدا األسبوع القادم‪.‬‬
‫– وهل أخبرتها أنني صاحب الرسمة!‬
‫– ال ال طبعــا‪ ،‬ليــس قبــل أن نحســن مــن مظهــرك‪ ،‬فــأول انطبــاع هــو مــن يعلــق فــي‬
‫الذهــن‪.‬‬
‫– ال أعلم ما أقوله لك!‬
‫– املهــم عنــدك يوميــن فــي يــدك‪ ،‬موعدنــا مــع االفتتــاح الجديــد ملحــات املنــور‬
‫للمالبــس‪ ،‬ســيضع تخفيضــات علــى الســلعة وســتكون فرصتنــا‪.‬‬
‫– كم يلزمنا؟‬
‫…‪_..‬‬

‫***‬
‫– آلو!‬
‫– نعم!‬
‫– عمي جمال أنا لقمان‪.‬‬
‫– لقمان؟ آه حسنا تذكرتك‪.‬‬
‫– لقد فكرت في عرضك وأنا موافق‪..‬‬

‫‪143‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– جميل أحسن ما فعلت‪.‬‬


‫– لكن‪ ،‬بشرط!‬
‫***‬
‫القيت ال�سي جمال وطلبت منه دفعة مسبقة عن راتبي الشهري‪.‬‬
‫– كم تريد!‬
‫– ثالث ماليين‬
‫– وماذا تريد أن تفعل بهذا املبلغ!‬
‫– أحتاجه سيدي!‬
‫– يجــب أن أعــرف أيــن يذهــب مالــي! عليــك أن تصارحنــي لكــي تكــون الثقــة متبادلــة‬
‫بيننــا فــي العمــل وإال‪.‬‬
‫– حسنا في املدرسة قد‪...‬‬
‫***‬
‫– إذن هذه هي الحكاية!‬
‫– نعم سيدي‪.‬‬
‫– بدأت تعجبني يا فتى وتذكرني بشبابي‪.‬‬
‫– سأعطيك املبلغ لكن بشرطين!‬
‫– نعم‬

‫‪144‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– الشــرط األول‪ .‬غــدا عليــك أن تباشــرالعمــل فــي مقهــى بــن هاشــمي فهــو ملكــي اآلن‬
‫وأحتــاج إلــى عامــل أســتطيع أن أثــق فيــه‪.‬‬
‫– والشرط الثاني!‬
‫– اقترب! "ثم همسني في أذني"‬
‫ابتسم وغمزني‪ّ ،‬‬
‫ثم رحل وتركني وفي يدي أربعة ماليين‪.‬‬
‫***‬
‫– مرحبا أنا لقمان‬
‫–‪.....‬‬
‫– نعم‪ .‬أنا زميلك في القسم‬
‫–‪.....‬‬
‫– أعرف‪ .‬أنت من وهران أليس كذلك‪ ،‬تعجبني لهجتكم على فكرة‪.‬‬
‫–‪.....‬‬
‫– نعــم أنــا أرســم مــن حيــن آلخــر‪ ،‬أنــا أحــب الفــن‪ ،‬أرســم األشــياء الجميلــة‪ ،‬أرســم‬
‫فقــط التــي تعجبنــي وأميــل إليهــا وخاصــة إن كانــت ذات عينيــن ســاحرتين وضحكــة فاتنــة‬
‫و‪...‬أوففففففــف‬
‫***‬
‫– مرحبا أنا لقمان‬
‫–‪.....‬‬

‫‪145‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعم أنا زميلك في القسم‬


‫–‪.....‬‬
‫– أعرف وأنت من وهران‪ ،‬تعجبني لهجتكم على فكرة‪.‬‬
‫–‪......‬‬
‫– نعــم نعــم أرســم مــن حيــن آلخــر‪ ،‬أنــا أحــب الفــن‪ ،‬أرســم األشــياء الجميلــة‪ ،‬أرســم‬
‫فقطــ الت��ي تعجبنــي وأميــل إليهــا وخاصــة إن كانــت ذات عينيــن ســاحرتين‪ .‬وضــح‪......‬‬
‫أوووووووه‬
‫***‬
‫– يا لقمان!‬
‫– نعم أمي!‬
‫– مع من تتحدث؟‬
‫– ال أحد! تعالي أحتاجك‪.‬‬
‫– أدخلي الباب مفتوح‬
‫– هللا على ولدي الغزال‪ ،‬هللا على األناقة والجمال‪ ..‬ما كل هذا؟‬
‫– شــكرا أمــي‪ ،‬هــل تعرفيــن كيــف تربطيــن هــذا ال�شــيء‪ ،‬قــد مضــت ســاعة وأنــا‬
‫أعلكهــا علــى رقبتــي لكــن لــم تثبــت‪ ،‬هــا ســاعدتني‪.‬‬
‫–طبعا عزيزي‪.‬‬
‫أمســكت أمــي ربطــة عنقــي‪ ،‬وراحــت تثبتهــا خلــف ظهــري‪ ،‬وانعــكاس صورتــي وأمــي‬
‫ورائــي علــى املـرآة الطويلــة‪ .‬همســت فــي أذنــي بنبــرة ناعمــة‪:‬‬

‫‪146‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–منذ ختانك لم أرك ببذلة أنيقة مثل هذه‪ ،‬من أين لك بها؟‬
‫–ال يهم أمي‪ ،‬لقد استعرتها‪ ،‬املهم أن ابنك أنيق‪.‬‬
‫–يا ترى أي موعد يستحق كل هذا الترتيب واالهتمام‪.‬‬
‫–ال �شيء مهم فقط من أجل الصورة املدرسية لقسم التخرج‪..‬‬
‫–ومن هي سعيدة الحظ التي ستصورك!‬
‫– أمي‪.....‬‬
‫ثم عانقتني أمي من الخلف‪ ،‬استدرت‪ ،‬قبلتها على جبهتها وخرجت من املنزل‬
‫***‬
‫ربطــة عنــق بيضــاء غريبــة‪ ،‬بذلــة ســوداء أنيقــة‪ ،‬حــذاء كالســيكي أســود‪ ،‬شــعرملــاع‬
‫مسرح للخلف‪ ،‬كنت أشعرببعض الضيق حول رقبتي أنا مضغوط داخل هذه البذلة‬
‫الجديــدة‪ ،‬كأننــي مربــوط بســلك فــي الكر�ســي الخشــبي تحتــي‪ ،‬أحــس بالحــر والضيــق‪،‬‬
‫نبضــات قلبــي تتســارع‪ ،‬إبطــي يتعــرق‪ ،‬راحــة يــدي تتعــرق‪ ،‬جبتهــي تســيل‪ ،‬الكر�ســي فــارغ‬
‫أمامــي وصــوت الشــاب حســني يصــدح فــي املقهــى‪ ،‬بعــد لحظــات مــن االنتظــارتقتــرب منــي‬
‫النادلــة بتنورتهــا القصيــرة والصينيــة تلمــع فــي يدهــا‪ ،‬تعــرض علــي إن كنــت أريــد شــيئا مــا!‬
‫ألخبرهــا أنــي فــي انتظــارأحدهــم وســآخذ بطلبهــا عندمــا يحظــر‪.‬‬
‫كانت كل الطاوالت في املقهى من الخشب‪ ،‬على بعد أربع طاوالت فتى أسمرطويل‬
‫القامــة يدخــن النرجيلــة وبجنبــه فتــاة ســمينة تضــع علــى وجههــا الكثيــر مــن مســاحيق‬
‫التجميــل‪ ،‬وتثرثــر كثي ـرا‪ ،‬الفتــى األســمر يبــدو أنــه غيــر منصــت لحديثهــا‪ ،‬علــى طاولتهمــا‬
‫قــارورة كــوكا كــوال وعلبتيــن مــن الدخــان وقداحــة‪.‬‬
‫علــى طاولتــي كأس شــاي بــردت‪ ،‬تقابلنــي علــى الجانــب املقابــل مــن ســطح طاولتــي‬
‫ذبابــة ممتلئــة‪ ،‬تنظــر نحــوي بعينيــن زرقاويــن وجناحيــن المعيــن‪ ،‬تحــرك رأســها ببــطء‬

‫‪147‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وتقتــرب منــي بســاقيها النحيفتيــن‪ ،‬كأنهــا تحــاول التذكــرأيــن رأتنــي مــن قبــل‪ ،‬أنــا هــو نعــم‪،‬‬
‫هــل قتلــت لــك زوجــك أم ابنتــك‪ ،‬آه كــم اشــتهي ســحقك علــى الطاولــة‪" ،‬هوايتــي الثانيــة‬
‫بعــد الرســم هــي صيــد الذبــاب" لكــن أنــت محظوظــة حقــا‪ .‬زادت ضربــات جنــاح الذبابــة‬
‫من توتري‪ ،‬أعد أنفا�سي‪ ،‬أنتظر‪ ،‬أنظرإلى ساعتي الجديدة هي تشيرإلى السابعة مساء‪،‬‬
‫واملوعد كان على الســاعة السادســة والنصف‪ .‬ال يزال الفتى األســمريطاوعني بنظرات‬
‫مريبــة‪ ،‬مــاذا يريــد منــي يــا تــرى! النادلــة تطــوف حولــي‪ ،‬والذبابــة تســتفزني‪.‬‬
‫بعــد عشــرين رفــة مــن جنــاح الذبابــة‪ ،‬تيبســت مكانــي فــي الزاويــة ابتلعــت ريقــي ملــا‬
‫ظهرت بين الطاوالت بثوبها األبيض القصيروحقيبة يدها الصغيرة ونظاراتها السوداء‪،‬‬
‫كانت تبدو في أتم جمالها‪ ،‬برفقتها شاب أشقربعينين زرقاوين‪ ،‬يبدو وجهه لي مألوفا‪،‬‬
‫يرتــدي بذلــة زرقــاء أنيقــة يلــوح بيــده بمفتــاح ســيارة‪ .‬كانــت هــي كالبــدرفــي طلتــه‪.‬‬
‫ألقــت علــي التحيــة وابتســمت وظهــرت غمازتيهــا‪ ،‬التــي كادت أن تغرقنــي داخلهمــا‪،‬‬
‫هــي جلســت ومشــاعري نهضــت‪ ،‬والشــاب رفقتهــا ذهــب ليحضــركرســيا‪.‬‬
‫– أميمة‪.‬‬
‫ومدت يدها لتصافحني‬
‫_لقمان "كدت أقول مطلوعة‪ .‬لكني انتبهت لنف�سي"‬
‫_لقمان يبدو وجهك مألوف‪ ،‬أين التقينا من قبل؟‬
‫– ال أدري الدنيــا كبيــرة "و أنــا أدعــوا هللا أن ال تتذكــر أنــي بعتهــا مطلوعتيــن فــي‬
‫الســوق "‬
‫–إذن نحن ندرس في نفس القسم‪.‬‬
‫–نعم أنا أجلس في الطاولة األخيرة رفقة مروان‪..‬‬
‫– مروان‪ .‬نعم‪" ،‬كأنها تتذكرذلك املن�سي الذي يقعد بجانب مروان"‪.‬‬
‫–املهم اعذرني على التأخر‪ ،‬أنت تعرف االزدحام و االنشغاالت‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– عادي "وأنا قلبي يلهث‪ ،‬قلبي سيقفزمن صدري"‬


‫–لكــن صدقنــي أنــي انبهــرت ملــا رأيــت رســمتك‪ ،‬ولــم أتوقــع أبــدا أن تملــك موهبــة‬
‫مثــل هــذه‪ .‬كنــت أرى مثــل تلــك الرســمات فقــط فــي املتاحــف التــي يأخذنــي أبــي لزيارتهــا فــي‬
‫العاصمــة‪ .‬فأنــا أعشــق الفــن التشــكيلي علــى فكــرة وأبــي كذلــك وهــو كذلــك‪.‬‬
‫–شكرا‪"..‬أسمع دقات قلبي تزيد‪ .‬بووم‪...‬بوم‪....‬بووووم"‬
‫_ طبعا يسرني أن أتعرف عليك‪ ،‬وعلى موهبتك!‬
‫ثــم أخرجــت الرســمة مــن حقيبــة يدهــا‪ ،‬وبرفقتهــا قلــم رصــاص‪ ،‬وضعتهــا علــى‬
‫الطاولــة‪.‬‬
‫–حقيقة يا لقمان ال أعرف ما لغريب في هذه الرسمة لكن فيها شيئا ما يخصني‪.‬‬
‫مثــل طاقــة روحيــة ال أدري كيــف أشــرح لــك‪ .‬فيهــا بعــض التفاصيــل التــي أعجــز عــن‬
‫وصفهــا‪.‬‬
‫–كل السرفي التفاصيل‪.‬‬
‫–أعجبتني الجملة‪.‬‬
‫بعــد لحظــات قعــد الشــاب الــذي حضــر معهــا‪ ،‬اندهــش ملــا رآنــي وتمالكــت نف�ســي‬
‫ملــا رأيتــه ولعبنــا دور غريبيــن يلتقيــان أول مــرة أمــام أميمــة‪ ،‬صافحنــي متصنعــا ابتســامة‬
‫صفراء أمامها‪ .‬وضع الكر�سي وجلس معنا اكتفينا بالصمت بعدما راح يرمقني بنظرات‬
‫استحقارغيرمريحة وهو يلوك علكة في فمه‪ ،‬بقيت أتساؤل مالذي أحضرهذا الوغد‬
‫إلــى هنــا ومــا عالقتــه بأميمــة ؟ ثـ ّـم ســألتني بصــوت رقيــق وهــادئ‪.‬‬
‫–لم تخبرني يا لقمان ملاذا لم تكمل الرسمة؟‬
‫سكت ولم أرد أن أخبرها بالقصة الخلفية‪.‬‬
‫–حســنا‪ ،‬أنا أعلم أن لكل فنان هواه‪ ،‬لكن يســعدني لو أكملتها من أجلي ألضعها‬
‫فــي إطــاروأعلقهــا علــى جدارغرفتي‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ناولتنــي الرســمة ورفقتهــا قلــم رصــاص وملــا وضعــت القلــم علــى الورقــة‪ .‬نطقــت‬
‫قائلــة‪:‬‬
‫– يالي من حمقاء‪ .‬قد نسيت أن أعرفك بإسحاق‪.‬‬
‫رفعت رأ�سي ألراه يبتسم ابتسامة تخفي ورائها خبثا وغطرسة‪.‬‬
‫–اسحاق هذا لقمان يدرس معي في نفس القسم‪.‬‬
‫_لقمان هذا إسحاق خطيبي‪.‬‬
‫ابتســم إســحاق ابتســامة شــيطانية طويلــة‪ ،‬كأنــه كان فــي انتظــار أن تقــول هــذه‬
‫الجملــة‪.‬‬
‫بعــد ســماعي آلخــرمــا قالتــه شــلت حركــة يــدي وأحسســت أن قلبــي قــد ســقط بيــن‬
‫ســاقي‪ .‬وضعــت القلــم مــن يــدي‪ ،‬أرجعــت لهــا الرســمة‪ ،‬ســحقت الذبابــة علــى الطاولــة‬
‫وخرجــت مــن املقهــى مســرعا وأنــا أطــارد مشــاعري وأنفا�ســي وأفــك فــي ربطــة العنــق‬
‫الســخيفة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫نارالجن‬

‫بعــد املغــرب تســللنا داخــل املزرعــة أنــا وســميرالفــار‪ ،‬دخلنــا البنايــة الكبيــرة التــي‬
‫املخصصــة ملبيــت الحيوانــات‪ ،‬اســتلقينا علــى بعــض القــش قــرب حائــط يتــآكل جلــده‪،‬‬
‫أخرجنــا علبــة غ ـراء وكيــس حليــب‪ ،‬أفرغنــا الغ ـراء داخــل الكيــس‪ ،‬نظــر نحــوي ســمير‪،‬‬
‫وأخــرج علبــة كبريــت مــن جيبــه‪ ،‬كانــت تلــك الليلــة مــن أصعــب الليالــي علينــا‪ ،‬حيــث كان‬
‫ســميرمطــرودا مــن املنــزل ألن أبــوه اإلمــام وجــد فــي جيبــه ســيجارة دخــان‪ .‬وأنــا قلبــي خائب‬
‫وأحالمــي مقهــورة‪ .‬دخلنــا املزرعــة عازميــن علــى أن نن�ســى كل �شــيء‪ ،‬أشــعل ســميرالغـراء‬
‫حتــى تنطفــئ النــار‬‫داخــل كيــس الحليــب مــى عــود الثقــاب‪ ،‬وأغلــق الكيــس علــى الغـراء ّ‬
‫ر‬
‫ويتفاعــل الغـراء مــع الحـرارة "أذكــرأن هــذا الســؤال الوحيــد الــذي أجــاب عنــه ســميرفــي‬
‫حصــة الكيميــاء‪ ،‬ماهــي العوامــل املســاهمة فــي زيــادة ســرعة التفاعــل؟"‪.‬‬
‫ســلمني ســمير الكيــس ســاخنا‪ ،‬أقحمــت رأ�ســي داخلــه واستنشــقت الغ ـراء‪ ،‬أول‬
‫نفــس أحسســت بــه يختــرق عــروق أنفــي ليحــدث ش ـرارة داخــل أعصــاب مخــي‪ .‬كانــت‬
‫األصــوات تتناطــح داخــل رأ�ســي‪ ،‬بعدهــا حشــرســميررأســه داخــل آلــة الزمــن ثـ ّـم رفــع يــده‬
‫فــي الهــواء وتلــك اإلشــارة مفهومــة بيننــا‪ ،‬حيــث هــي مقيــاس علــى مــدى وعــي" املباتك�ســي"‬
‫قربــك‪ ،‬إذ كلمــا نزلــت يــده نحــو األرض كلمــا غــاب عــن الوعــي أكثــر‪ ،‬التفــت ببــطء نحــو‬
‫سميروجدته مصروعا‪ ،‬وكان يبدوبعيدا‪ ..‬غائصا‪ .‬يده تكاد تبلغ األرض‪ ،‬خطفت كيس‬
‫الحليب من يده‪ .‬نظرإلي وهو يحك أنفه‪ ،‬عيناه مرتخيتان ذابلتان كتينتين مجففتين‪،‬‬
‫وجفنــاه نازليــن‪.‬‬
‫أقحمــت رأ�ســي وأنفــي داخــل کیــس الحليــب‪ ،‬رفعــت يــدي وبــدأت بالغــرق‪ ،‬عصــرت‬
‫عيني مقاوما الرائحة املدوخة‪ .‬شعرت برأ�سي يدور كزوبعة صغيرة‪ .‬وداخل أذني صوت‬
‫مســتمرزننننننننننننننننننننننننننن‪ .‬زنننننننننن‬
‫كصــوت صفعــة ضخمــة مباشــرة علــى أذنــك‪ ،‬أو انفجــارقنبلــة أمــام وجهــك‪ .‬رأ�ســي‬
‫يــدور وســمعي يتلقــف أصواتــا غريبــة مختلطــة ال أكاد أبيــن‪ ،‬ص ـراخ‪ ،‬صيــاح‪ ،‬صــوت‬

‫‪151‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫منشــار‪ ،‬عویــل امـرأة‪ ،‬بــكاء رضيــع‪ ،‬أذان صــاة‪ ،‬تــاوة قـرآن‪ ،‬محــرك توليــد الكهربــاء فــي‬
‫امل ـزارع‪ ،‬هللا أكبــرهللا أكبــر‪ ،‬أهــدر‪ ،‬قــر‪ ،‬ويــن راهــم صحابــك‪ ،‬تفــووووه‪...‬‬
‫‪ ،salaud, merde‬هــاي‪ ،‬هــاي‪ ،‬هــاي‪ ،‬خطفتنــي األرض تتحــرك‪ ،‬نحــو كل الجهــات‪،‬‬
‫األبقــار تزقــزق‪ ،‬الجمــال تطيــر‪ ،‬الجــدران تســيل‪ ،‬أنفــي يطــول مثــل مكنســة‪ .‬أتلمــس‬
‫تحــت يــدي علــى األرض أعــواد التبــن‪ ،‬عرقــي بــارد‪ ،‬قــات قلبــي تتعالــى‪ ،‬رأيــت فــي مــا يــرى‬
‫"املباتاك�ســي"‪ ،‬يقفــزأمامــي حلــزون بحجــم الكلــب‪ ،‬يمســك فــي قــرون استشــعاره ملعقــة‬
‫وســكينا بنفســجي اليــد‪ ،‬بجنبــه ذبابــة بحجــم دجاجــة عــرب كبيــرة عاريــة الرقبــة‪ ،‬عيونهــا‬
‫الشــبكية جاحظــة بحجــم فنجــان قهــوة‪ ،‬تحمــل تحــت جناحيهــا ذبابتيــن زرقاويــن‬
‫غليظتيــن ســمينتين‪.‬‬
‫يتقــدم الحلــزون نحــوي ببــطء‪ ،‬تفــرد الدجاجــة جناحيهــا تخــرج مــن تحتهمــا‬
‫الذبابتــان‪ ،‬واحــدة تبــدو مصابــة فــي جناحهــا األيســر واألخــرى مبتــورة الجناحيــن‪ .‬مثــل‬
‫دودة طائــرة وعلــى ظهرهــا األزرق القاتــم بقــع حــرق‪.‬‬
‫وفــي الجــدار أمامــي رؤوس رجــال تقطــر بالــدم‪ ،‬أنــا غيــر قــادر علــى الح ـراك‪ ،‬اشــتم‬
‫رائحة القهوة ممتزجة برائحة الدخان‪ ،‬ويتناهى إلى سمعي طنين ضربات جناح الذبابة‬
‫يتصاعــد‪ ،‬أســمع صــوت خطــوات يتقــدم نحــوي‪ ،‬أرفــع عينــي أمامــي كأنــي أرفــع قاطــرة‬
‫محراث فأملح قدما تسحق الذبابة بكعبها‪ .‬تكاد تعفس الحلزون لكنه يفرهاربا بسرعة‬
‫نملــة حمـراء‪ ،‬أرفــع رأ�ســي مجــددا ألرى صاحــب القــدم ثــم‪....‬‬
‫صورة مضببة و أعود للغرق‪...‬‬
‫قشــة التبــن ترقــص‪ ،‬رأســها يشــتعل‪ ،‬الكيــس يــرن فــي يــدي‪ ،‬صــورة البقــرة علــى‬
‫كيــس الحليــب تتحــرك و تضحــك معــي‪ ،‬أبادلهــا الضحــكات‪.‬‬
‫تظهــرلــي قــرون مــن الكيــس‪ ،‬ثـ ّـم عينــان كبيرتــان ثـ ّـم حوافــر‪ ،‬ثـ ّـم تخــرج بقــرة أمامــي‪.‬‬
‫كأنهــا تشــبه "زبيــدة"‪ ،‬ترقــص مــع القشــة املشــتعلة‪ .‬أنظــرداخــل كيــس الحليــب‪ ،‬يظهــر‬
‫قعــره بعيــدا‪ .‬أبعــد مــن قعــرجــب‪ .‬أصابعــي تبــدو طويلــة مثــل ســيقان قصــب املــاء‪ .‬أنظــر‬

‫‪152‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم يركله برجله ليرتطم بالحائط‪،‬‬ ‫نحوسميرأجده من دون رأس‪ ،‬رأسه بين يديه يكوره ّ‬
‫ثـ ّـم تهــرب رجــاه لتتبــع رأســه‪ ،‬يبتلعهمــا الحائــط‪ ،‬القشــة تخفــت مــن وتيــرة رقصهــا تــكاد‬
‫تنطفــئ‪ .‬زبيــدة تواصــل رقصتهــا كســيدة فــي عــرس ابنتهــا الوحيــدة‪.‬‬
‫املشــهد يتضبــب أمامــي ببــطء‪ ،‬لعابــي يســيل بخــط غيــرمتقطــع‪ .‬أشــعربخــدرعلــى‬
‫قفــى رقبتــي‪ .‬حلقــي جــاف متجمــد‪ ،‬كل األشــياء تتحــرك أمامــي بالعــرض البطــيء‪ ،‬كل‬
‫األشــياء تتداعــي‪ .‬أشــعرأنــي أطفــو فــي الهــواء‪ ،‬أرى مــن بعيـ ٍـد نــارا عظيمــة‪ ،‬ثـ ّـم يــدا ناعمــة‬
‫تشــدني مــن رأ�ســي وتســحبني نحوهــا وأنــا أقــاوم وأقــاوم‪ ،‬ال أكاد أدرك وأعــي‪.‬‬
‫فــي معصــم تلــك اليــد أبصــرت قالدتــي املفقــودة‪ .‬والنــار عجيبــة تــزداد اشــتعاال‪،‬‬
‫تقتــرب منــي أكثــر‪.‬‬
‫تســحبني اليــد مــن شــعري وتجرنــي نحــو الحلــزون فــي الخــارج‪ ،‬يقتــرب منــي الحلــزون‬
‫الكبيــربغضــب‪ ،‬يضــع مزلجتــه الرخــوة علــى وجهــي‪ ،‬لعابــه يســيل فوقــي وأنــا أتخبــط علــى‬
‫األرض‪...‬‬
‫***‬
‫اســتيقظت مفزوعــا وفوقــي "بارجــي" يلعقنــي بلســانه‪ ،‬فــي رأ�ســي صــداع رهيــب وآثــار‬
‫ســلخ علــى فخــذي‪ ،‬طعــم مــرتحــت لســاني‪ ،‬مثــل طعــم املعــدن‪.‬‬
‫–صباح الخيرأمي!‬
‫–صباح الخيرولدي البارحة أين كنت ؟ لم تدخل باكرا‪.‬‬
‫–كنت مع‪.....‬‬
‫–أنا أعرفك يا بني! شممت رائحة الدخان في فراشك و‪..‬‬
‫–دخان!‬

‫‪153‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–ال يا أمي!‬
‫–نعم وأعرف أيضا أن شخصا بقواه العقلية‪ ،‬ال يقول أمي أفر�شي لي ألتع�شى‪.‬‬
‫– أمي ال تشغلي بالك‪ ،‬الوقت على املدرسة‪...‬‬
‫ثم تركت أمي غاضبة مني‪ ،‬قبلت رأسها‪ ،‬وضعت محفظتي على ظهري وانصرفت‪.‬‬
‫***‬
‫–صباح الخيرمروان!‬
‫–صباح الخيرما بها ذراعك! خيرا إن شاء هللا؟‬
‫_ال أمرمهم! سقطت من شجرة الخروب!‬
‫–الخروب! قل لي هل سمعت األخبار؟‬
‫_أي أخبار؟‬
‫–نحن نسكن في قرية صغيرة واألخبارتم�شي أسرع من النارفي القش‬
‫–أي أخبار؟‬
‫–البارحة في املزرعة اندلع حريق كبير‪.‬‬
‫–حريق في الليل! سم‪.‬ير‪ ،‬النا‪..‬ر‪ ،‬البطاك‪....‬س‪.‬‬
‫–ما لذي تهمس به يا لقمان!‬
‫–ال �شيء‪ ،‬ال �شيء! ومن أخبرك بحادثة الحريق!‬
‫–كيف من أخبرني‪ ،‬القرية كلها تتحدث‪ ،‬ولوال تتدخل السكان هناك‪ ،‬وإطفائهم‬
‫للنارالعجيبة لكانت قد حصلت كارثة والتهمت الناركل القرية‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–نارعجيبة؟‬
‫–نعــم‪ ،‬بشــهادة القروييــن هنــاك‪ ،‬أن املزرعــة مســكونة‪ ،‬والنــارليســت نــارا عاديــة‪،‬‬
‫هــي نــارجــن‪ ،‬هللا يحفــظ ويســتر‪...‬‬
‫–نارجن!‬
‫–إيــه‪ ،‬يقولــون أن الجــن أشــعلتها‪ ،‬بشــهادة أحــد القريبيــن مــن املزرعــة‪ .‬يقــول‬
‫أنــه ســمع صراخــا فــي الداخــل وخــرج لــه مــن وســط الدخــان الكثيــف رجــان يمشــيان‬
‫بطريقــة غريبــة لهــرب مســرعا‪ ،‬وكل محــاوالت إخمــاد النــاربــاءت بالفشــل‪ّ ،‬‬
‫حتــى جــاءوا‬
‫بــذاك "املخفــي"‪.‬‬
‫–الشيخ "املخفي "!‬
‫–نعــم هــو ذا‪ .‬بصــوت مــؤذن ق ـرأ الق ـرآن داخــل صهريــج مــاء كبيــر ملح ـراث أحــد‬
‫املزارعيــن‪ ،‬وســبحان هللا ملــا رشــوه علــى النــار انطفــأت فجــأة!‬
‫–أاااو هل‪ ...‬هك‪....‬ذا‪...‬‬
‫–إيه‪ ،‬كما أقول لك! ألم تسمع بهذا البارحة؟‬
‫–ال‪ ،‬أنا أسمع من عندك اآلن‪.‬‬
‫–هل كنت تحت األرض؟‬
‫–بل أسوء‪ ،‬كنت ال أعرف حتى أين األرض؟‬
‫– ماذا تقصد؟‬
‫–ال �شيء‪ ،‬ال تشغل بالك في هذا‪.‬‬
‫–أمرك غريب‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–املهم نسيت أن أخبرك في املساء هناك اجتماع خاص‪.‬‬


‫–اجتماع خاص!‬
‫–تعال في املساء ستفهم‪.‬‬

‫***‬

‫‪156‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫اجتماع الخمسة‬

‫دق جرس الراحة املدر�ســي‪ ،‬الســاعة في يدي كانت تشــيرللرابعة مســاء‪ .‬في جانب‬
‫الســاحة يقــف أربعــة فتيــة‪ ،‬ال يشــبهون بعضهــم يقلبــون أط ـراف الحديــث‪ ،‬أتقــدم‬
‫وســطهم أحييهــم‪..‬‬
‫– يســرني حضوركــم هنــا كالعــادة لــم تخيبونــي‪ ،‬املهــم بــدون إطالــة عليكــم‪ ،‬أدخــل‬
‫لكــم فــي املفيــد مباشــرة‪...‬عندي مهمــة لكــم لكــن ال أعــرف كيــف أشــرح لكــم األمــر‪..‬‬
‫بعدما صمت لوهلة‪ ،‬خطف مني مروان الكالم‪.‬‬
‫–أنتم تعرفون تلك البنت الجديدة؟‬
‫–هل تقصد تلك الشقراء؟ "نطق فارس وهويمسح نظاراته بطرف من قميصه"‬
‫–نعم هل تعرفها؟‬
‫–سمعتهم يتحدثون عنها فقط!‬
‫تكلم طارق بنبرة خشنة‪:‬‬
‫–بنت جديدة! كم م�ضى على قدومها املدرسة؟‬
‫رد مروان‪:‬‬
‫–أسبوعين‬
‫أضاف سميربنبرة مبحوحة وهو يقلب والعته بين أصابعه‪:‬‬
‫– وماهي حكايتها!‬

‫‪157‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫رد مروان وهو يدخل وسط الحلقة‪:‬‬


‫–أعجبته‪ ،‬يكاد يجن بها‪،‬كل يوم يتحدث عنها صباحا ومساء لقد مأل رأ�سي بها‪.‬‬
‫طارق بنصف ابتسامة وهو يهزلقمان‪:‬‬
‫–آه يا مطلوعة‪ ،‬أنت تعشق‪ ،‬لم أكن أعلم أنك أصبحت طريا‪.‬‬
‫ثم يضيف سميرمبتسما ابتسامة عريضة!‬
‫– غريب مرأسبوعان و لم تتقدم لها‪ .‬لم أكن أظنك جبان لهذا الحد‪ .‬في عادتك‬
‫أن تتقدم من دون تردد وهذا البارحة فقط في املزرعة‪.‬‬
‫نطق مروان مقاطعا سمير‪.‬‬
‫_املزرعة!‬
‫غمزلقمان سمير ّ‬
‫حتى يبلع لسانه‪:‬‬
‫_ال �شــيء‪ .‬فقــط أعــرف أن مطلوعــة ليــس جبانــا وهــو أو مــن أدخلنــا إلــى مزرعــة‬
‫الحر ـكـي التــي يخشــاها الجميــع‪ .‬أال تذكــرون ذلــك؟‬
‫ثم ألتفت لقمان ليرى أميمة في الساحة رفقة سارة‪:‬‬
‫بنبرة همس اآلخرين‪:‬‬
‫_مــن دون أن تثيــروا االنتبــاه التفتــوا بالواحــد‪ .‬هــي هنــاك قــرب املكتبــة‪ .‬مــع ثالثــة‬
‫بنــات هــي التــي تحمــل بيدهــا مصنــف أوراق أزرق‪ ،‬الطويلــة ذات الشــعراألشــقر‪.‬‬
‫ثم التفت األربعة في آن واحد‪.‬‬
‫–ليس هكذا يا حمقى لقد كشفتمونا‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بعدها أمسكني سميرمن ذراعي وراح يدفعني ألذهب نحوها‪.‬‬


‫–اذهب نحوها مباشرة هيا‪ ...‬النساء تحب رجال شجاعا‪.‬‬
‫ثــم أضــاف فــارس بنبــرة هادئــة وهــويعــدل مــن نظارتــه الطبيــة حول عينيه ويدفعها‬
‫باتجــاه جبهتــه بحركــة مميزة‪:‬‬
‫_إن أصعــب خطــوة هــي الخطــوة األولــى‪ ،‬حيــث تكســرحاجــزالخــوف‪ ،‬وأنــت لســت‬
‫غريب عنها ألنك زميلها في القسم هذا في صالحك هذا هورأس الخيط ومربط الفرس‪،‬‬
‫توجــه نحوهــا وافتــح الحــوارمعهــا بأمــور الدراســة‪ ،‬أخبرهــا مثــا أنــك لــم تكمــل الــدرس أو‬
‫أنــك لــم تفهــم الــدرس األخيــرجيــدا ومــن الدراســة ســتفتح الكثيــرمــن املواضيــع األخــرى‪،‬‬
‫أنصــت لهــا جيــدا فقــط‪.‬‬
‫ثم قاطعه سمير‪:‬‬
‫–اســمع صديقــي هــذه الطريقــة يفعلهــا شــخص لــه خبــرة وتجربــة وليــس مــن‬
‫خبرتــه شــبه معدومــة‪ ،‬وعندمــا تقابلهــا ســتبدأ بالتلعثــم وتبلــع لســانك ولــن تصلــح معــك‬
‫الطريقــة‪ ،‬لذلــك عنــدي الحــل لــك‪ .‬خــذ نصيحــة مجــرب وال تأخــذ نصيحــة طبيــب‪.‬‬
‫–لكن‪...‬‬
‫–شششت…دعني أكمل يا روميو‪ ،‬عندي الحل!‬
‫–لكن‪ .‬هناك �شيء ال تعرفونه‪.‬‬
‫_ما هو؟‬
‫_في الحقيقة قد قابلتها منذ يومين‪ .‬ومروان هو ل‪..‬‬
‫تكلم مروان‪:‬‬
‫_نعم كنت في مكتب املديرووجدت رسمة مطلوعة ف‪...‬‬

‫‪159‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم سرد لهم مروان الحكاية من أولها آلخرها‪.‬‬


‫–بعــد ذلــك رتبــت لــه موعــدا معهــا‪ .‬ولكنــه لــم يخبرنــي كيــف صــارت األمــور وال أعلــم‬
‫ملــاذا؟‬
‫يصمت الجميع وهم ينظرون إلى لقمان ينتظرون منه أن يفسرلهم األمر‪:‬‬
‫_إنها مخطوبة‪.‬‬
‫نطق الجميع بصوت واحد‪:‬‬
‫_مخطوبة!‬
‫_نعــم مخطوبــة لذلــك جمعتكــم اليــوم فــي خصــوص هــذا األمــرومــن أجــل أن نجــد‬
‫حــا‪.‬‬
‫رد مروان مستغربا‪:‬‬
‫_من يكون خطيبها؟‬
‫–إسحاق‪.‬‬
‫–هل تقصد إسحاق ولد مرصلي؟‬
‫–نعم هو ذاك‪.‬‬
‫فارس بنبرة خافتة‪:‬‬
‫_اآلن أصبحت القصة مشوقة أكثر‪.‬‬
‫طارق وهو يضغط على معصم يده‪:‬‬
‫–قل لنا من األول هو ذلك الوغد املدلل!‬

‫‪160‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫سميرمبتسما‪:‬‬
‫_اذهــب اذهــب نحوهــا مباشــرة وقلهــا اجعلنــي حبيبــك الثانــي ونتفاهــم علــى اإليقــاع‬
‫بحبيبــك األول‪ .‬ههههــه‪.‬‬
‫ثم نظرفارس نحو سميربنبرة جدية‪.‬‬
‫–أســكت أنــت‪ ،‬ليــس وقــت مزاحــك الثقيــل‪ ،‬أنــت ال تفهــم مثــل هــذه األمــور‪ .‬أنــت ال‬
‫تعرف شعور الحب‪ .‬طول اليوم فاقد للوعي‪ .‬مزطول‪ ،‬مصروع‪ .‬دائخ‪ .‬كل همك رأسك‪.‬‬
‫ال تفقــه فــي املشــاعر‪.‬‬
‫ثم تقدم سميرنحو فارس يدفعه بذراعه‪.‬‬
‫– اسمعوا من يتكلم‪ ،‬أرسطوالفاشل في العالقات‪ ،‬غريب األطوار‪ ،‬هل تريد مني‬
‫أن أحكــي لهــم القصــة‪ ..‬آه قل‪....‬هيــا تحــدث! هــل تحســب أن الحــب الــذي تقـرأ عنــه فــي‬
‫تلــك الروايــات الســخيفة التــي تطالعهــا كل يــوم موجــود فــي الواقــع‪ .‬قــل لــي‪ .‬وكيــف مللحــد‬
‫أن يؤمــن باملشــاعرأصــا!‬
‫–إن كنــت ترانــي ملحــدا‪ .‬فنعــم أنــا ملحــد‪ ..‬ملحــد بالــرب الصغيــر املوجــود فــي‬
‫رؤوسكــم‪ .‬و إن كنــت تريــد أن تكشــف القصــص فلــكل منــا قصتــه حتــى قصــة الحــاج‬
‫عــدة و‪...‬‬
‫_إياك وأن تذكرأبي على لسانك مجددا أيها‪...‬‬
‫وأمســك ســمير فــارس مــن فتحــة عنــق قميصــه والغضــب يتطايــر مــن وجهــه‪،‬‬
‫ليتدخــل طــارق ويفصــل بينهمــا‪ .‬ويقــول مــروان‪:‬‬
‫– هــاي‪ .‬توقفــوا ليــس وقــت الدخــول فــي هــذا الحــوار‪ .‬دعونــا نركــزفــي موضوعنــا و‬
‫نســمع مــا يقولــه مطلوعــة‪.‬‬
‫يتنهد مطلوعة بعمق ويتكلم بنبرة خافتة‪:‬‬

‫‪161‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– يا جماعة نحن نعرف بعضنا منذ أن كنا صغارا وأنتم تعرفون أن الحياة التي‬
‫عشــتها لــم تتــرك لــي وقتــا ألحــب أو أصاحــب فتــاة‪ .‬لكــن ال أعــرف كيــف ومــن أيــن! منــذ أن‬
‫رأيتها في السوق وبعتها خبزة املطلوع وأنا أفكرفيها كل وقت‪ ،‬لم أكن أظن أني سألتقيها‬
‫مــرة أخــرى بعــد أول لقــاء جمــع بيننــا‪ ،‬هــي ال تتذكرنــي حتــى‪ .‬ولكنــي لــم أســتطع إخ ـراج‬
‫تفاصيلهــا مــن رأ�ســي‪.‬‬
‫رد فارس وهو ينظرنحو السماء‪:‬‬
‫_ جاءت معذبتي في غياهب الغسق‬
‫كأنها الكوكب الدري في األفق‬
‫طارق وهو يكسرأصابع يده‪.‬‬
‫– هــذا اإلســحاق‪ ،‬سأســحق ضلوعــه‪ ،‬أو ربمــا لــدي فكــرة ملــاذا‪ ،‬ال نهـ ّـدده ّ‬
‫حتــى‬
‫ينفصــل عنهــا‪ .‬سـ ّ‬
‫ـأتصرف فــي األمــر‪.‬‬
‫قاطعه فارس‪:‬‬
‫– لكــن كيــف‪ ،‬هــل ستمســكه وتجبــره علــى كــره الفتــاة‪ ،‬ربمــا يكــون يحبهــا‪ ،‬أو ربمــا‬
‫تكــون هــي مــن تحبــه‪ .‬وكيــف تســتطيع أن تمســكه وهــو يظــل تحــت حمايــة "الســوكو"‬
‫وجماعتــه مــن أقــذر الصراصيــر!‬
‫مروان بنبرة هادئة وواثقة‪:‬‬
‫–ال أظن أنها تحبه‪ .‬وسنجد حال لهذا االسحاق‪ .‬وسنضع حدا لتطاوله علينا كل‬
‫هذه األعوام‪ .‬عصفورين بطارق واحد‪.‬‬
‫رد طارق‪:‬‬
‫_طارق‪...‬مابه طارق !‬

‫‪162‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ضحك فارس ولم يفهم طارق‪.‬‬


‫ثم فارس بسؤال ملروان‪:‬‬
‫_ وأنت كيف عرفت أنها ال تحبه؟‬
‫–عندمــا ســألتها أثنــاء مــا أريتهــا الرســمة‪ ،‬إن كانــت ســتأتي مــع أحدهــم أثنــاء اللقــاء‪،‬‬
‫أخبرتنــي أنهــا ســتأتي لوحدهــا‪ ،‬حيــث لــم يــرد فــي حديثهــا أنهــا ســتطلع إســحاق باملوعــد‪.‬‬
‫فارس‪:‬‬
‫_إذن هنا الثغرة‪.‬‬
‫لقمان‪:‬‬
‫–ما هو الحل برأيكم؟‬
‫ثــم صمــت الجميــع لبرهــة بعدهــا استرســل فــارس فــي كالمــه وهــو يدفــع نظاراتــه‬
‫الطبيــة املربعــة "نظــارات شمســية أنيقــة ذات زجــاج طبــي شــفاف" ثبتهــا بيــن حاجبيــه‬
‫الكثيفيــن بإبهامــه بحركــة مميــزة‪:‬‬
‫–اذا بقيت هكذا ستجن يا صديقي‪ ،‬هل تعرف قصة امللك وابنه؟‬
‫–ال ال‬
‫–كان هنــاك ملــك لــه ولــد وحيــد ويقــال أن ذلــك امللــك هــو داوود عليــه الســام‪،‬‬
‫مرض الولد ذات يوم مرضا شديدا‪ ،‬فحزن امللك ملرض ابنه األميرحزنا عريضا وأغلق‬
‫الباب على نفسه‪ ،‬ومنع من الدخول عليه‪ ،‬مرت األيام واألميرعلى فراش املرض وامللك‬
‫يــزداد حزنــه يومــا بعــد يــوم‪ ،‬ثـ ّـم بعــد شــهرمــن الص ـراع مــع املــرض توفــي األميــر‪ ،‬اجتمــع‬
‫الخــدم والحــرس فــي القصــرليختــاروا مــن يبلــغ امللــك بمــوت ابنــه األميــر‪ ،‬لــم يجــرؤ أحــد‬
‫علــى نقــل هــذا الخبــراملفجــع للملــك‪ ،‬وإذ هــم فــي حلقــة وســط االجتمــاع خــرج امللــك مــن‬
‫غرفتــه‪ ،‬عيونــه ذابلــة مــن الدمــع والحــزن‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–هل مات؟‬
‫خفض الخدم رؤوسهم ورفعوا قبعاتهم‪ ،‬إشارة للعزاء‪.‬‬
‫–حضروا لي الحمام وطاولة الغداء!‬
‫اســتغرب الخدم من ردة فعل امللك‪ ،‬دخل امللك الحمام‪ ،‬اســتحم‪ ،‬ســرح شــعره‪،‬‬
‫لبــس ثيابــه‪ ،‬وجلــس ليــأكل‪ ،‬كأن شــيئا لــم يحــدث‪..‬‬
‫جلس الوزيرأمام امللك مستغربا‪ ،‬وسأله‪:‬‬
‫– جاللتــك كنــا نخــاف أن نطلعــك علــى خبــر وفــاة ابنــك خشــية أن يحــدث لــك‬
‫مكروه‪ ،‬فعندما مرض كدت تموت من الحزن‪ ،‬فكيف إذا ما عرفت أنه مات‪ ،‬ما لذي‬
‫ســتفعله فــي نفسك‪...‬ســيكون حتمــا‪.‬‬
‫قاطعه امللك في هدوء وقال‪:‬‬
‫– علــى كل حــال كلنــا ســنموت وأنــت تعــرف ذلــك‪ ،‬مــا كان حزنــي وهمــي إال ألنــي لــم‬
‫أكــن أعــرف إن كان ابنــي سيشــفى مــن مرضــه أو ال‪ ،‬هــل ســيموت أم ال‪ ،‬وإلــى متــى؟‬
‫كنــت معلقــا فــي تلــك الحالــة ال أعــرف مــا لــذي أفعلــه‪ ،‬األســوأ مــن املــوت هــوأن نربــي‬
‫األمــل فــي الحيــاة‪ .‬األســوأ مــن الفعــل هــو البقــاء والتفكيــرفــي احتمــاالت وقــوع الفعــل مــن‬
‫عدمــه‪.‬‬
‫قال طارق مندفعا بعدما حفزته قصة فارس على إبداء رأيه هو اآلخر‪:‬‬
‫– وأنا مثال عندما أصعد فوق حلبة املالكمة‪ ،‬هل تعرف كيف أفوز؟‬
‫– أفوز بمواعدة خصمي مثلما يقول لي مدربي‪.‬‬
‫–ماذا تقصد؟‬

‫‪164‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعــم أواعــد خصمــي‪ ،‬بالصبــر‪ ،‬أتلقــى لكمــات وال أفكــر فــي أي �شــيء ســوى أنــي‬
‫ســأنجح فــي إســقاط خصمــي‪ ،‬أقــوم بالدفــاع وأدرس حــركات خصمــي فــي نفــس الوقــت‬
‫ثـ ّـم أنتظــرالفرصــة ّ‬
‫حتــى يتعــب فــي الجــوالت األخيــرة‪ ،‬ثـ ّـم أنهــال عليــه بالكلمــات ألســقطه‬
‫وأفــوز‪ ،‬الصبــر والتأنــي والتحليــل‪.‬‬
‫سميروهو يبحث عن �شيء في جيبه‪:‬‬
‫–مــاذا تقــول يــا ملارطــو مــاذا تقــول‪ ،‬الســيد خســر بالضربــة القاضيــة فــي الجولــة‬
‫األولــى‪ .‬وأنــت تقــول لــه أدرس خصمــك! هــذا الخصــم مــن الــوزن الثقيــل يلزمــه أســلوب‬
‫حبــة "صــاروخ" مــن عنــدي‬ ‫جديــد‪ .‬وخطــة محكمــة لنصيــد هــذا الحقيــر‪ ..‬آه هــا هــي ذي‪ّ ..‬‬
‫ّ‬
‫أنت صديقي‪ ،‬ستتكلم باملقلوب‪ ،‬ستقول لها شعرا أفضل من الذي يكتبه فارس‪ ،‬نزار‬
‫قبانــي ســينبت علــى لســانك‪.‬‬
‫طارق وهو يحك باطن كفه!‬
‫_اسمعوا يا جماعة أظن أن عندي فكرة‪.‬‬
‫– لقــد م�ضــى وقــت لــم نلعــب! وغــدا ســتبدأ الــدورة الكرويــة وســيكون الجميــع‬
‫حاضريــن فيهــا‪ ،‬ومــن بينهــم أميمــة‪.‬‬
‫مروان‪:‬‬
‫– نعم‪ .‬نعم‪ .‬أنا سأخبرسارة بأن تطلعها على املباراة وتجبرها على الحضور معها‪.‬‬
‫فارس‪:‬‬
‫– هذه هي فرصتك لتظهرنفسك‪ ،‬أعلم أنك حارس جيد‪.‬‬
‫سمير‪:‬‬
‫–طــارق‪ ،‬علــى الخامســة نلتقــي عنــد بــاب املدرســة‪ ،‬ننتظــررحيــم الزربــوط‪ ،‬فهــو‬
‫حكــم اللقــاء‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–تقني الصيانة في املدرسة؟‬


‫–نعم هو‬
‫–و املطلوب!‬
‫–أنــت قــف أمامــه واســمعه صــوت طرطقــة أصابعــك‪ ،‬وأنــا آخــذ منــه الصفــارة‬
‫واألوراق الصف ـراء والحم ـراء‪ .‬وشــارة الحكــم‪.‬‬
‫– ههه‪ ،‬ومن سيكون الحكم إذن؟‬
‫–فارس!‬
‫– ههه هل أنت جاد؟‬
‫– طبعا‪ ،‬فأصحاب حي الزون‪ ،‬محترفون‪ ،‬وفارس ال يدخل امللعب كثيرا وسيتنكر‬
‫قليــا ولــن يكتشــفه أحــد‪ ،‬وزد علــى ذلــك هــل تريــد أن تفــوز ومعــك مهاجــم مثــل مــروان‪.‬‬
‫يخاف على مالبســه من أن تتســخ عندما يركل الكرة‪.‬‬
‫التفت مروان نحو سميربضحكة صفراء‪..‬‬
‫ضحك الجميع بمرح‪:‬‬
‫– اتفقنا‪ ،‬نلتقي عند الباب‪ ،‬جهزوا أنفسكم يا أوالد علينا الفوز‪...‬‬
‫ثم أضاف فارس‪:‬‬
‫_نلتقي يوم الخميس آخرساعة من الدوام أنا أملك خطة أخرى‪.‬‬

‫***‬

‫‪166‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– سمير!‬
‫– ههه‪ ،‬هههه‪ ،‬هههه‪ ،‬هههه‪..‬‬
‫– ملاذا تضحك هل سمعت ماذا يقولون؟‬
‫– هههه‪ ،‬حق ربي‪ ،‬كدنا نموت!‬
‫– أنت كالبغل‪ ،‬كدت تشوينا حيين‪ ،‬أنت من رميت عود الثقاب‪.‬‬
‫– ششششت‪ ،‬تعال هنا‪ ،‬الحيطان عندها آذان‪...‬‬
‫– أنا ال أذكرشيئا من البارحة صدقني يا لفار‪.‬‬
‫– اسكت‪ ،‬اسكت‪ ،‬أنت مدين لي بحياتك‪ ..‬لم أرفي حياتي شخص ينت�شي مثلك‪.‬‬
‫– بعدما نزعت منك الكيس‪ ،‬وحشرت رأ�سي داخله ب‪..‬‬
‫– يــا مطلوعــة‪ّ ،‬‬
‫حتــى أنــا ال أذكــر كثي ـرا مــن البارحــة‪ ،‬ســوى أنــك أمســكت كيــس‬
‫الحليــب بقــوة‪ ،‬ولــم أســتطع ســحبه مــن يــدك‪ ،‬كنــت تتشــبث بــه بقــوة‪ ،‬لذلــك صفعتــك‬
‫بقــوة ّ‬
‫حتــى تركتــه‪ ،‬هههــه‪.‬‬
‫–ملاذا تضحك؟‬
‫–أميمة!‬
‫–أميمة! كيف؟ ماذا تقصد؟‬
‫–نعم سمعتك تردد اسمها ملا نزعت من فمك كيس الحليب‬
‫–ها هممم‪ ،‬ال أعلم‪ ،‬إيه قل لي كيف خرجنا!‬
‫–ربــي حفظنــا‪ ،‬ملــا نزعــت الكيــس مــن فمــك كنــت تشــيربإصبعــك للدخــان أمامنــا‬

‫‪167‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫والنــاربــدأت تــأكل األرضيــة املبطنــة بالقــش تحتنــا‪ ،‬ثـ ّـم ســحبتك مــن يــدك فلــم تســتطع‬
‫النهــوض‪ ،‬لذلــك جريتــك مــن ذراعــك علــى األرض‪ ،‬وبصعوبــة رفعتــك علــى كتفــي وخرجنــا‬
‫مــن املزرعــة‪،‬‬
‫–ربي ودعوات الخير‪ ،‬كنا نمو‪....‬‬
‫– هههههه‪.‬‬
‫– ملا خرجنا من املزرعة‪ ،‬اســتلقينا على جانب الطريق‪ّ ،‬‬
‫ثم التفت نحوي‪ ،‬وقلت‬
‫لي‪ :‬أمي أفر�شــي لي أتع�شــى‪..‬‬

‫‪168‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫العبث باألقدار‬

‫اســتيقظت علــى صــوت ارتطــام املطــربســطح حجرتــي‪ ،‬يحــدث نغمــات متناســقة‬


‫حيــن ارتطامــه بالقرميــد األحمــر والزنك‪...‬يبعــث فــي جســدي قشــعريرة خفيفــة ودفئــا‬
‫عذبــا‪ ...‬أحــس بألــم خفيــف فــي ظهــري ال أدري ســببا له‪...‬ربمــا وضعيــة نومــي البارحــة لــم‬
‫تكــن جيدة‪...‬يبــدو أن هــذا املنبــه الســخيف لــم يوقظنــي مجــددا ربمــا أصبــح عاجـزا قبــل‬
‫أســبوع مــن اليــوم لــم يعــد يــرن فــي الصبــاح كمــا كان يفعــل ليوقظنــي‪ .‬الســقف األحمــق‬
‫املصــاب يبعــج رأســه كعادتــه يفترســني بنظراتــه البــاردة الشــاخصة التــي كنــت أقيســها‬
‫علــى حســب حالتــي الشــعورية وحتــى ألــوان غرفتــي تتغيــرحســب مزاجــي يالــي مــن مراهــق‬
‫غبــي‪ .....‬كأنــه مــرعلــى أصابعــي ودهســها بثقــل مــا يحملــه مــن متاعــب نفســية‪...‬بصعوبة‬
‫ســحبت جثتــي ألنهــض مــن ســريري‪...‬وقفت منتصــب القامــة مرتخــي اليدين‪...‬جفونــي‬
‫ثقيلــة وجســدي كذلك‪...‬كحلــزون كســول أتــم حركــة اســتيقاظي مــن فرا�شــي ومــا لبثــت‬
‫سوى بضع ثوان نحو العشرة ثواني‪...‬واقفا أمام فرا�شي‪...‬ألتهاوى في األخيرجالسا على‬
‫طــرف ســريري مقابــا نافذتــي الصغيــرة التــي تطــل علــى القريــة‪.‬‬
‫– وجهك يبدو شاحبا ما خطبك؟‬
‫– كح‪ ،‬ال �شيء‬
‫– كيف ال �شيء وأنت تسعل مثل عجوز بقي له شربة ماء ويموت!‬
‫– زكام الشتاء فقط‪.‬‬
‫– زكام آه! زكام نعم!‬
‫كانــت الســاعة األخيــرة مــن اليــوم الدرا�ســي‪ ،‬كنــت متوت ـرا‪ ،‬أشــعر بألــم رهيــب‬
‫يعشعش في صدري‪ ،‬شارد الذهن‪ ،‬تنبح داخل رأ�سي األفكار‪ ،‬اختفت جميع األلوان في‬
‫حتى سال حبرها فوق الطاولة‬ ‫عيني‪ ،‬من شدة توتري كسرت السيالة الزرقاء في يدي‪ّ ،‬‬
‫وســال علــى يــد مــروان‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ما خطبك‪ ،‬أنظرلقد لطختني بالحبر‪..‬‬


‫–‪......‬‬
‫صــوت مــروان متقطــع‪ ،‬صــوت األســتاذ بــن جازيــة يشــرح درس ســرعة التفاعــات‬
‫الكيميائيــة‪ ،‬يغــرق داخــل أذنــي كأنــه يتكلــم داخــل كهــف‪ ،‬كان األســتاذ بــن جازيــة هــو‬
‫املســؤول عــن قســمنا‪ ،‬وضــع الطبشــور مــن يــده‪.‬‬
‫–ستبدأ األعمال املخبرية‪ ،‬ونريدكم أن تنقسموا ألفواج من شخصين‪،‬‬
‫بدأت الوشوشات والهمسات تنتشربين التالميذ‪ ،‬التفت األستاذ بن جازية وهو‬
‫يرسم على السبورة جدول تقسيم األفواج‪:‬‬
‫–سيتم األمربالقرعة‪ ،‬انهض يا مروان‪ ،‬تعال هنا!‬
‫ســلم األســتاذ بــن جازيــة مــروان علبــة وأمــرمــن فــي الصفيــن املقابليــن ملكتبــه بكتابــة‬
‫أســمائهم داخــل لفافــة ورق صغيــرة ووضعهــا داخــل العلبــة‪ ،‬وبهــذا يتــم اختيــارشــركائهم‬
‫مــن قبــل زمالئهــم فــي الصفيــن الباقييــن‪.‬‬
‫حمــل مــروان العلبــة وبــدأ باملــروربيــن الصفــوف‪ ،‬بــدأ بالصــف الــذي كنــت أجلــس‬
‫فيــه‪ ،‬عــرض أمامــي العلبــة‪ ،‬نظــرت داخــل العلبــة‪ ،‬وبيــن تلــك اللفافــات‪ ،‬كانــت هنــاك‬
‫لفافــة ملطخــة بالحبــرالــذي أوقعتــه علــى يــد مــروان‪ ،‬رفعــت رأ�ســي ألنظــرنحــو مــروان‪،‬‬
‫غمزنــي وابتســم‪ ،‬أخــذت لفافــة الــورق امللطخــة‪ ،‬ظنــا منــي أنهــا ورقــة مــروان‪.‬‬
‫عاد مروان وجلس بجنبي‪:‬‬
‫–هل سننجح يا ترى في املختبر‪ ،‬بن جازية سيطردنا حتما إن عرف أنك غششت‬
‫فــي القرعة‪.‬‬
‫– ومن قال لك أني غششت يا فهمان‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–كيف؟‬
‫–ال تقلق لن يطردنا بن جازية‪ ،‬ألن لن تكون زميلي في املختبر‪ ،‬أعرف أنك حابس‬
‫في طلعة‪ ...‬افتح الورقة التي اخترتها‪.‬‬
‫–أميمة!‬
‫–قلت لك لدي فكرة‪ ،‬هذه هي فرصتك‪ ،‬ال تضيعها‪..‬‬
‫رن جرس نهاية اليوم املدر�سي‪.‬‬
‫مشــيت نحوها كانت ال تزال منكبة تســجل الدرس من الســبورة‪ ،‬وضعت الورقة‬
‫أمامهــا‪..‬‬
‫– إذن نحن في فوج واحد‪...‬‬
‫دون أن تهزرأسها نحوي أو تنظرإلي‪.‬‬
‫– نعم‪ ،‬يبدو ذلك‪.‬‬
‫في تلك األثناء لوح لي طارق من باب القسم‪.‬‬
‫– هيا أسرع لقد تمكنا من أخذ الصافرة وأوراق التحكيم‪ .‬علينا اآلن بالتحضير‪،‬‬
‫مبــاراة الغــد ليســت ســهلة ضــد فريــق الصراصيــر الــذي يلعــب معهــم إســحاق‪ ،‬وهــذه‬
‫أفضل فرصة لتظهرقدراتك أمام فراشــتك‪ .‬هل فهمتك ســنلعب بتشــكيلتنا املعتادة‪،‬‬
‫مرعلي في املساء لنجد لك حذاء رياضيا الئق بالطبع لن تدخل املباراة بحذائك الطائر‬
‫ذاك‪ ...‬هيــا اعتنــي بنفســك ونلتقــي فــي املســاء‬
‫ثم كعادته لكمني على كتفي وانصرف‪...‬‬
‫***‬

‫‪171‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ضربة جزاء لصالح فريق الصراصير‬


‫الدقيقة الثمانون من عمراملباراة‪.‬‬
‫إسحاق يسدد الكرة بقوة إلى الزاوية البعيدة من املرمى‪ .‬مطلوعة يقفزفي الهواء‬
‫يحاول أن يصد الكرة القوية ثم‪....‬‬
‫***‬
‫– أين أنا؟‬
‫بصوت ناعم وهي تمسح على شعري‪:‬‬
‫– اهدأ يا عزيزي‪..‬‬
‫رأيت فوق رأ�سي ضوء أبيض خافت‪:‬‬
‫– ماذا حدث؟ كيف أنا هنا؟‬
‫سمعت بجنبي صوت أكاد أعرفه‪:‬‬
‫– لقــد ســقطت أثنــاء املبــاراة‪ ،‬حملــك طــارق وســمير إلــى املستشــفى ومــن هاتفــك‬
‫اتصلنــا بأمــك ّ‬
‫حتــى ال تتحيــر عليــك‪.‬‬
‫–آوووه مروان وكيف! هل ربحنا!‬
‫– فــي آخــرالدقائــق انســحبت مــن املبــاراة بعدمــا صديــت ضربــة جـزاء‪ ،‬خرجــت مــن‬
‫املبــاراة واتجهــت راكضــا نحــو املرحــاض‪.‬‬
‫ثم قاطعه سمير‪:‬‬
‫لقــد أفزعتنــي فقــد وجدتــك علــى األرض تســعل ســعاال دمويــا ثـ ّـم فجــأة ســقطت‬
‫مغشــيا عليــك‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_و هل ف‪.....‬؟‬
‫ثم فجأة فتح الباب بقوة ودخل فارس وطارق‪.‬‬
‫–لقد فزنا يا ااااي‪ ،‬يا بطل‪ ،‬ياااي‪.‬‬
‫ســيدتي هــذه ميداليــة ابنــك وليــس هنالــك أولــى منــك لتكريــم ابنــك نجــم املبــاراة‬
‫دون منــازع‪.‬‬
‫رأيت ابتسامة طويلة على وجه أمي وهي تضع امليدالية حول رقبتي تحت تصفيق‬
‫أصدقائي األربعة‪.‬‬
‫– آه ظهري أحس أنه مكسور! هل هناك مسكن ألم هنا؟‬
‫قال سميروهو يهم بإشعال سيجارة من الكيف خفية‪:‬‬
‫– طبعا طلبك موجود!‬
‫فينزعهــا طــارق مــن فمــه بمناســبة الحديــث عــن الــدواء ومســكنات األلــم لقــد‬
‫حضرنــا لــك أفضــل دواء‪:‬‬
‫تغامزاألربعة فوق رأ�سي‬
‫همسني مروان في أذني!‬
‫–‪......‬‬
‫–هل أنت متأكد؟‬
‫–طبعا وسأطلعك على التفاصيل عندما تعود للقسم‪.‬‬
‫ودعنــي أصدقائــي علــى أمــل أن نلتقــي فــي املدرســة وخرجــوا ثـ ّـم تركونــي رفقــة أمــي‪،‬‬
‫التــي بــدأت عالمــة الفرحــة تتال�شــى عــن وجههــا مــع كالمهــا‪:‬‬

‫‪173‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–متحيرة عليك يا ولدي‪ ،‬أخبرني ما لذي حدث لك!‬


‫–ال تقلقــي نفســك أمــي‪ ،‬كمــا ســمعت مــن أصدقائــي ال �شــيء مهــم‪ .‬فقــط مجــرد‬
‫ســعال‪.‬‬
‫–كيــف ال �شــيء مهــم والطبيــب‪ ،‬أعطانــي موعــدا مــع طبيــب خــاص يقــول أنــه‬
‫صديقــه‪ ،‬وقــال أن األمــر عاجــل بالنســبة البنــك!‬
‫–كيف هذا! عاجل! أنا بخير‪...‬أنظري‪.‬‬
‫–ال أعــرف وهللا يــا ولــدي ال أعــرف‪ ،‬إال أن صحتــك أهــم‪ ،‬وســنذهب لعيــادة هــذا‬
‫الطبيــب غــدا!‬

‫‪174‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مذكرات مشعة‬

‫هل أنا شخص مريض حقا؟‬

‫اســتيقظت علــى صــوت ارتطــام املطــر بســطح حجرتــي‪ ،‬يحــدث أنغامــا متناســقة‬
‫حيــن يرتطــم بالقرميــد األحمــروالزنــك‪ ،‬يبعــث فــي جســدي قشــعريرة حميميــة ومشــاعر‬
‫دافئــة‪ .‬صــرت مؤخـرا أشــعربألــم خفيــف فــي ظهــري ال أدري ســببا لــه‪ ،‬أعتقــد أنــه يرجــع‬
‫لوضعيــة نومــي الســيئة‪ ،‬علــى بطنــي‪ ،‬يبــدو أن هــذا املنبــه الســخيف لــم يوقظنــي مجــددا‬
‫ربمــا أصبــح عاجـزا قبــل أســبوع مــن اليــوم لــم يعــد يــرن فــي الصبــاح كمــا عادتــه‪ .‬حتــى ال‬
‫أفوت أخذ زبيدة للمرج وتفقد أمور املقهى وسادتي البيضاء متسخة نوعا ما لكني لم‬
‫أرد إخبــارأمــي بذلــك ّ‬
‫حتــى تقــوم هــي بدورهــا بغســلها ألنــي كنــت اســتمتع نوعــا مــا برائحــة‬
‫النــوم التــي يحملهــا الوبــراملحشــو بهــا‪ .‬الســقف األحمــق املصــاب يبعــج فــي رأســه كعادتــه‬
‫يفترســني بنظراتــه البــاردة الشــاخصة التــي كنــت أقيســها علــى حســب حالتــي الشــعورية‪.‬‬
‫بصعوبــة ســحبت جثتــي ألنهــض مــن ســريري‪ ،‬وقفــت منتصــب القامــة مرتخــي اليديــن‪.‬‬
‫جفونــي ثقيلــة وجســدي كذلــك كحلــزون كســول أتــم حركــة اســتيقاظي مــن فرا�شــي ومــا‬
‫لبثت سوى بضع ثوان نحو العشرة ثواني‪ .‬واقفا أمام فرا�شي‪ ..‬ألتهاوى في األخيرجالسا‬
‫على طرف سريري مقابال نافذتي الصغيرة التي تطل على القرية وأكتب هذه املذكرات‬
‫أو تكتبنــي ال أعــرف إن لــم أفــرغ كل هــذه املشــاعرفــي الرســم أو الكتابــة مــاذا ســيحل بــي‪.‬‬
‫داخــل هــذه املذكـرات أتعــرى مــن جســدي وأقابــل روحــي مباشــرة وأعتــرف بــكل �شــيء‪.‬‬
‫اليــوم علــي زيــارة هــذا الطبيــب‪ .‬وأظـ ّـن ّأن زيــارة الطبيــب موضــوع غيــرمشــوق وربمــا‬
‫ال يســتحق أن أخلــده فــي مذكراتــي‪.‬‬
‫الطريــق الترابيــة أمامــي‪ .‬تثائــب ثـ ّـم تثائــب وأتثــاءب‪ .‬أحــدق فــي غرفتــي كأننــي ألول‬
‫مرة أراها‪ .‬جدران غيرمطلية وطاولة من خشب قديم لها رجل غيرثابتة‪ ...‬خزانة ثيابي‬
‫كالقنبلــة املؤقتــة‪ ،‬مشــحونة باملالبــس املتســخة والرثــة وثيــاب العمــل‪ .‬وتحتهــا صنــدوق‬

‫‪175‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من حطب أين أضع صابر‪ ،‬كأني أربيه مثلما يربي أصحاب املدينة حيواناتهم األليفة‪.‬‬
‫الفــرق بيــن صابــروقططهــم وكالبهــم أن صابــر‪ .‬يعيــش باملجــان وال يتغــوط وال يمــرض‪.‬‬
‫حبات املطرالتي تعانق زجاج نافذتي تدفعني للنهوض متجها نحو نافذتي‪ .‬أحمل‬
‫مذكراتي وأكتب أمام النافذة‪ .‬يثيرني انبعاث رائحة املطراملمتزج بالتراب‪ ،‬لو كان عطرا‬
‫الشــتريته وأهديتــه ألمــي‪ .‬اليــوم ماطــروالضبــاب يغطــي زجــاج نافذتــي‪ ،‬الدخــان يتصاعــد‬
‫من مداخن بيوت القرية‪ .‬وكرات التبن واملزابل وأسمدة املزارع املكونة من روث األبقار‬
‫والخرفــان‪ ،‬أظنــه يومــا يصلــح للنــوم أوالتأمــل أكثــرممــا يصلــح لزيــارة الطبيــب‪ ،‬هــذه أول‬
‫مــرة ســأزورفيهــا طبيبــا فأنــا ال أعــرف معنــى املــرض ســوى إن أصبــت ببعــض الحمــى أو‬
‫الســعال أمــي هــي طبيبــي وأعشــاب جــدي هــي دوائــي‪.‬‬
‫الطريــق الترابيــة فــي القريــة مــع األمطــارتصبــح طريقــا طينيــة‪ .‬مشــقة الوصــول إلــى‬
‫عيادة الطبيب مشيا‪ ،‬تصعب علي وعلى أمي أكثر‪ ،‬ال نملك سيارة وال نملك مظلة تقي‬
‫رؤوســنا‪ ،‬نملــك فقــط الصبــرالــذي يصبــرعلينــا بقــدرمــا نصبــرعليــه‪ .‬و أنــا ال أملــك ســوى‬
‫قشــابية مــن الوبــر‪ .‬تحتــوي علــى قلنســوة رأس واســعة‪ .‬تغطــي رأ�ســي وكتفــي ويزعجنــي‬
‫أكثرأنها ال تغطي أمي وصابروال�شيء اآلخرالذي يزعجني أكثرهو ضيق التنفس‪ .‬الذي‬
‫صرت أحس به مؤخرا‪ ،‬حيث أني أشعربانسداد في رئتي‪ .‬كأنهما أصبحتا عاجزتين عن‬
‫ضــخ الهــواء‪ .‬وهــذا أصابنــي مؤخـرا مــع رجوعــي للمدرســة‪ .‬أيكــون هــذا مــن هــواء املدينــة‬
‫امللــوث؟ ولكنــي ال أعتقــد ذلــك ألنــه لــو كان ذلــك حقــا صحيحــا‪ .‬لظهــر األمــر معــي قبــل‬
‫أعــوام مــن مزاولتــي الدراســة فــي تلــك الثانويــة‪ .‬أو ربمــا يكــون مرضــا وراثيــا‪ .‬ال أدري حقــا‪.‬‬
‫األمــرحقــا بــات يرهقنــي ويزعجنــي‪ .‬خلــل فــي جهــازي التنف�ســي هــذا مــا كان ينقصنــي‪ .‬أشــعر‬
‫اآلن بــدواروصــداع فــي مقدمــة رأ�ســي‪ .‬ذهنــي مشــوش للغايــة أنــا أكتــب هــذا وعاجــزعــن‬
‫التحــدث فــي األمــرألي أحــد أو ربمــا ليــس عجـزا وإنمــا فقــط تحفــظ فهــل يتحفظــون علــى‬
‫املــرض يــا تــرى؟‬
‫إنما أظن أن تلك الصورة وأنا أبعث حزني وخلجتي لشخص آخرصورة سخيفة‬
‫حمقاء‪ .‬مثيرللشفقة‪ ،‬ال أريد أن أرى أحدا يلعب دور املنقذ لي‪ ،‬دور البطل أمامي‪ ،‬إن‬
‫صــح تمثيلــي لذلــك األمــرأو قــارب لــه‪ ،‬املحيــرفــي أمــري أنــي ال أريــد أن أزورالطبيــب اليــوم‬

‫‪176‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫رغم إصرارأمي ألن الطبيب بالنسبة لي شخص يضع نظارات ويبيع الكالم قبل الدواء‬
‫هــو شــخص عاجــزمثلــه مثلــي‪ .‬إن توجهــت نحــوه أنــا بمر�ضــي سأخســرفــي طريقــي نحــوه‬
‫ثقتــي بنف�ســي وأتال�شــى معنويــا كمــا أنهــاراآلن جســديا‪.‬‬
‫ال أبــدا! لــن أذهــب وأجلــس فــي طابــور طويــل مــن املر�ضــى الطاعنيــن فــي الســن‬
‫واملصابيــن بالجــدري والحمــى القالعيــة‪ .‬آه واملصابــون أيضــا بالجــرب أعلــم أنــه مــرض‬
‫معـ ٍـد‪ ،.‬إن لــم ينقــل لــي أحدهــم الجــرب‪ .‬فربمــا أصــاب بالقمــل‪ .‬أوووه! ألهــذا منــذ‬
‫اســتيقاظي وأنــا أحــك فــي جلــدة رأ�ســي! هــل ترانــي قــد أصبــت بالقمــل أيضــا؟‬
‫ال‪ .‬لســت مضطربــا عقليــا أو مجنونــا‪ ،‬ليــس األمــركليــا هكــذا أنــا شــخص منطقــي‬
‫ألبعــد الحــدود فقــط‪ ،‬حيــن أفكــرفــي حالــي وأنظــرلجســدي املتهــاوي هــذا مــا كان ينقصنــي‬
‫القمــل‪.‬‬
‫يــا ربــي مــا هــذه املـرارة التــي تحــت لســاني‪ .‬أشــعربمــذاق صــدئ وبحرقــة مزعجــة فــي‬
‫حتى تخف تلك الحرقة الخطمية‬ ‫حلقي‪ .‬تجتاحني رغبة غريبة ببلع لعابي املزيد واملزيد ّ‬
‫فــي حنجرتــي‪ .‬مــا هــذا الشــعور الغريــب يــا هللا!‬
‫هل هذه أعراض مرض ال رب و‪!...‬‬
‫يا إلهي! قد نطقت تلك الكلمة‪ ،‬وأنا الذي قد كنت أسمعها قبل فقط في التلفاز‬
‫أو في املدينة‪ ،‬تبا! لن أزورهذا الطبيب ولن أخبرأحدا بحالتي‪ ،‬أفضل أن أموت هنا في‬
‫غرفتــي الكئيبــة ذي علــى أن يشــفق النــاس لحالــي‪ ،‬أوووف مــن البشــر‪ ،‬يبــدون الشــفقة‬
‫علــى حالــك ويقذفونــك بشــتى عبــارات املواســاة واملــؤازرة‪ ،‬وإن كنــت تظــن هــذا مــن أجــل‬
‫أن ترتاح من معاناتك ويخف أملك ومصيبتك فأنت مخطأ حتما‪ ،‬نحن نخالف أنفسنا‬
‫حتى على أنفسنا‪ ،‬وإن كان األجدربالقول أننا ال نكف نخدع‬ ‫ونغطي الحقيقة املطلقة ّ‬
‫أنفســنا واملقــزز فــي األمــرأننــا نصــدق ذلــك ويصــل بنــا األمــرإلــى غايــة أن نؤمــن بــه حتــى‪.‬‬
‫تلــك اللــذة الخفيــة عندمــا نبــدي الشــفقة والحــزن واملــؤازرة إبــان أحدهــم‪ ،‬نظهــرالحزن‬
‫واأل�ســى‪ .‬تلــك العبــارات مقــززة بنظــري‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫"أنــت تقطــع قلبــي‪ ،‬أنــا حزيــن ألنــك حزيــن"‪ .‬البــكاء والعناقــات الحــارة إنمــا هــي فقــط‬
‫لنرمم أنفسنا املنكسرة وربما نحن من نحتاجها أكثرلذلك نقدمها ملن يبدون حاجتهم‬
‫بهــا‪ ،‬وهكــذا يكــون الفعــل متبــادال‪ ،‬هــل اإلنســان مجــرد آلــة تجرهــا الشــهوة وامللــذات‬
‫الغريزيــة فقــط؟‬
‫مثــل تلــك اللــذة الخبيثــة الالإداركيــة والتــي نخفيهــا عنــد إبدائنــا الحــزن واملواســاة‬
‫ألحدهــم‪ ،‬تنت�شــي بهــا أنفســنا لحــد بعيــد‪ ،‬هــذا حقيــربالنســبة لــي‪ ،‬لــن يشــعرأحــد بتلــك‬
‫اللــذة علــى حســابي ال وأبــدا‪.‬‬
‫لكن ماذا سأفعل؟‬
‫هل سأخفي األمر؟‬
‫هل أتجاهله؟‬
‫ملن أبث حزني وألمي يا ترى؟‬
‫إن لــم أقبــل أن أجعــل نف�ســي ســببا فــي أن ينت�شــي أحدهــم ملعرفــة دخيلــة نف�ســي‪.‬‬
‫كيــف ســأخفف عنــي؟ وإن كان الــكل علــى هــذا النحــو‪ .‬ملــن امللجــأ؟ إن أصعــب وأق�ســى‬
‫�شــيء فــي هــذه الدنيــا أن ال يكــون للمــرء مــكان يذهــب إليــه‪ .‬أفــكارتســحب أفــكارا تنجبهــا‬
‫أفــكارأخــرى تلــد بدورهــا أفــكارا أقــل مــن األولــى حيــرة لكنهــا أحقــرمنهــا وأصعــب حــا وهــذا‬
‫إن كان لهــا حــل أصــا‪.‬‬
‫يــا إلهــي مــا لــذي أصابنــي؟ األفــكارال تكــف داخــل رأ�ســي تتالطــم كمــوج البحــرعلــى‬
‫جــدران منــارة‪ ،‬هــذا يرعبنــي أكثــرمــن فكــرة تقبــل أنــي أتنفــس بصعوبــة وأكثــرمــن تقبــل‬
‫حتــى وأصعــب ّ‬
‫حتــى مــن أن يخبرنــي أبــو نظـرات ذاك أنــي مصــاب‬ ‫فكــرة الذهــاب للطبيــب ّ‬
‫بمرض الربو‪ .‬ويقولها بكل برودة وهويستدعي أحد املر�ضى اآلخرين الواقفين ينتظرون‬
‫تشــخيصهم مــن قبله‪...‬يــا لــه مــن أمــر فظيــع‪ .‬ولكنــه علــى األقــل يلطمــك بالحقيقــة‬
‫مباشــرة‪ ،‬دون أن يدعــي الشــفقة ويتلــذذ علــى حســاب مالمحــك التــي يصيبهــا الشــحوب‬
‫والعبــوس فــي تلــك اللحظــة‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أنا شخص مريض‪.‬‬


‫هذه الفكرة ترهقني وتؤثرعلى نفسيتي أكثرمما ستؤثرعلى جسدي‪.‬‬
‫علــي أن أصبــر‪ ،‬هــذا كل مــا اعتــدت علــى فعلــه فــي حياتــي‪ .‬الصبــروبلــع الحــزن‪ .‬أنــا‬
‫شخص صبور أكثرمن صابرأنا مثل الصبارولكني أنهارضربة واحدة وال أتجزء ألجزاء‬
‫صغيــرة عنــد انهيــاري‪ .‬أنــا كحائــط مبنــي بقالــب واحــد مــن اإلســمنت‪.‬‬
‫قالت جهزنفسك لنرى الطبيب غدا فاألمرمستعجل‪.‬‬
‫محــال أن أذهــب أنــا لســت ضعيفــا ولــن أكــون مثيـرا للشــفقة أبــدا‪ .‬أنــا ابــن الحجــر‬
‫والشــجر ولكــن إن ســقطت وكنــت وحيــدا وأصبــت باالختنــاق مــن ســينقذني‪ .‬حتمــا‬
‫ســأموت‪ .‬هــل ســأموت حقــا‪ .‬هكــذا بــكل بســاطة‪ .‬أريــد أن أشــيخ مثــل جــدي‪ .‬أريــد أن‬
‫تصبــح لــي حكايــا مثــل املخفــي‪ .‬أريــد أن يــرى كل العالــم رســماتي وأصبــح مثــل ســلفادور‬
‫دالــي!‬
‫كــم هــو محــزن أن تمــوت وحيــدا‪ ،‬تن�ســى كأنــك لــم تكــن‪ ،‬هــل خلقــت مــن أجــل أن‬
‫أموت أم أن أجل أن أحيا؟ لو كان أبي حيا اآلن لرفعت به محظرا عند قســم الشــرطة‬
‫ألنــه أنجبنــي لهــذه الحيــاة ليعذبنــي‪ .‬ولــم يطلــب موافقتــي‪ .‬هــل حقــا أنــا خطــأ جئــت فــي ليلــة‬
‫بــاردة مثلمــا كان يقــول لــي؟‬
‫كل ما أعرفه أني أغرق في الفراغ العبثي بأفكاري املستعصية عن الحل‪ ،‬مراهق‬
‫كئيــب‪ .‬لســت مريضــا‪ .‬ومــا تكــون هــذه ســوى مزحــة مــن أمــي ومقلــب ســمج مــن أصدقائــي‬
‫األوغــاد‪.‬‬
‫فأصحــاب الريــف ال يمرضــون‪ ،‬أنــا آكل التيــن املجفــف وخبــز الشــعير واملطلــوع‬
‫األصيــل وأشــرب لبــن زبيــدة الغنــي بالدســم الصحيــة وأتنفــس هــواء نقيــا مــن أشــجار‬
‫العرعــاروالصنوبــرالحلبــي والكاليتــوس‪ّ .‬‬
‫حتــى أنــي أشــرب زيــت الزيتــون كل يــوم‪ .‬مــا ســبب‬
‫مر�ضــي يــا تــرى؟‬

‫‪179‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أنــا شــخص موســوس إلــى حــد كبيــرفــي تفكيــري‪ .‬تراودنــي أفــكارغريبــة‪ ،‬ال أدري مــن‬
‫أين تأتي‪ ،‬ليتني أعرف منبعها ألسده وأمنع تدفقها بشكل نهائي‪ .‬قد أصبح األمرينهكني‬
‫حقــا‪ ،‬مؤخ ـرا أصبحــت منعــزال وانطوائيــا لحــد كبيــر أريــد الذهــاب للمدرســة اليــوم‪ ،‬أو‬
‫الذهــاب للطبيــب والتخلــص مــن فكــرة الشــك التــي تتأرجــح داخــل رأ�ســي أو ربمــا أعــود‬
‫لفرا�شــي وأكمــل نومــي ولكــن هــل بنومــي ســأتوقف عــن التفكيــر؟ ربمــا أتوقــف عــن‬
‫اإلحســاس بألــم جســدي ولكنــي حتمــا لــن أتخلــص مــن ألمــي النف�ســي وأفــكاري الحمقــاء‬
‫الرهيبــة‪ !...‬ال أدري حقــا مــا علــي فعلــه‪ ،‬أتحا�شــى أن أواجــه الواقــع األليــم‪ ،‬أن يعطينــي‬
‫ذلــك الرجــل ذو النظ ـرات املــدورة تلــك البخاخــة البيضــاء ذات الســدادة الزرقــاء وأنــا‬
‫الــذي ال يراهــا ســوى فــي املدينــة‪ ،‬يحملهــا بعــض مــن التالميــذ األثريــاء ال أبــدا لــن أصبــح‬
‫واحــدا منهــم! لــن أحمــل فــي جيبــي بخاخــة صغيــرة ســخيفة إنــه فــي نظــري ل�شــيء اصطناعــي‬
‫لحد الســذاجة‪ .‬أن تحشــرداخل تلك اآللة الطبية رأســك‪ ،‬لتســتعيد حياتك وتركيزك‪.‬‬
‫أشــعربالشــفقة علــى حالــي إن أصبحــت مثلهــم‪.‬‬
‫كم هو �سيء وبغيض أن تحس أنك ال تستطيع أن تتنفس سوى بصعوبة مجرد‬
‫التفكيــرفــي ذلــك يجعلنــي حزينــا حقا‪...‬كيــف لشــاب فــي عمــرالزهــور مثلــي أن يصيبــه هــذا‬
‫املــرض؟‬

‫‪180‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫سبعة أشهر‬

‫الحكيم اللوناس محمود‬


‫طبيب خاص باألمراض الصدرية‪ ،‬محلف لدى مجلس القضاء‬

‫جلســت رفقــة أمــي فــي غرفــة االنتظــار‪ ،‬مطأطــأ ال ـرأس‪ ،‬أحــدق فــي حــذاء عيشــة‬
‫األزرق البالســتيكي الــرث‪ ،‬كانــت تلبــس حجابهــا الرمــادي الوحيــد وفــي يدهــا ورقــة نقديــة‬
‫مــن فئــة األلــف دينــار‪ ،‬أظنهــا بالضبــط ثمــن الزيــارة والفحــص‪ ،،‬أمــي تمســكني مــن يــدي‪،‬‬
‫أشــعر أن يدهــا تعــرق‪ ،‬أشــعر أنهــا خائفــة ال أعــرف ملــاذا‪ ،‬وال أعــرف تمامــا مــا أخبرهــا‬
‫الطبيــب فــي املستشــفى‪.‬‬
‫قاعة االنتظارمملة وصامتة‪ ،‬وســطها طاولة مســتطيلة من حطب وســطحها من‬
‫زجاج فوقه رضاعة حليب ومجموعة من الجرائد القديمة‪ ،‬أوراق ملساء بيضاء‪ ،‬على‬
‫الحائط املقابل الساعة تشيرإلى الواحدة والنصف‪ ،‬وصورة امرأة شقراء قاعدة على‬
‫العشــب وأبنائهــا يعانقونهــا ويبتســمون‪ ،‬بجنبهــا صــورة بيانيــة للجهــاز التنف�ســي‪ ،‬فجــأة‬
‫يــرن هاتــف الرجــل العجــوز‪ ،‬ال يجيــب‪ ،‬يــرن طويــا‪ ،‬ال يحــرك ســاكنا‪ ،‬ســتة أرائــك بنيــة‬
‫مريحــة‪ ،‬فــي الجانــب املقابــل فتــاة صغيــرة نائمــة علــى كتــف أبيهــا النحيــل كئيــب املالمــح فــي‬
‫يده ملف أزرق محشوباألوراق‪ ،‬بجنبه سيدة شديدة السمنة تقرأ الجريدة‪ ،‬ومقابلها‬
‫فتى صغيرأبيض وأشقرالشعر‪ ،‬صغيرالعينين‪ ،‬تراقبه أمه الجميلة‪ ،‬يستنشق الهواء‬
‫مــن بخاخــة‪ ،‬ورجــل أســمريســعل بطريقــة غريبــة‪ ،‬تفــوح مــن الغرفــة رائحــة تشــبه رائحــة‬
‫سـ�م الفئران‪.‬‬
‫الســاعة اآلن تشــيرإلــى الثالثــة مســاء‪ .‬لــم يبــق ســوى الرجــل األســمرفــي القاعــة وأنــا‬
‫رفقــة أمــي‪ .‬بعــد لحظــات خرجــت املمرضــة مجــددا ونــادت علينــا‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_لقمان صابري!‬
‫دخلنــا غرفــة الطبيــب كان رجــا يبــدو فــي الخمســين مــن عمــره‪ ،‬شــديد البيــاض‪،‬‬
‫شــعره أشــيب خفيــف يرجعــه للخلــف‪ ،‬يشــابك أصابعــه علــى مكتبــه‪:‬‬
‫–إذن أنت لقمان على ما أظن‪ ،‬الذي أرسلك زميلي محمود ألفحص حالتك‪.‬‬
‫–ن‪...‬نعم‬
‫ســجل الطبيــب عمــري وبعــض البيانــات الشــخصية األخــرى ثـ ّـم أدخلنــي داخــل آلــة‬
‫مســح ضوئية‪ ،‬كانت تشــبه قبرا بارد ســطحها يتحرك بي نحو الداخل‪ ،‬األشــعة الزرقاء‬
‫ّ‬
‫تمســح جســدي مثلمــا تفعــل الطابعــة بــاألوراق حيــن تنســخها‪ ،‬شــعور غريــب تملكنــي فــي‬
‫الداخل هل يريد أن ينسخني يا ترى‪ ،‬أنا أكره األطباء وأكره آلتهم الغريبة‪ ،‬هل يريد أن‬
‫يســرق كليتــي؟ أواه‬
‫خرجت من آلة األشعة‪ ،‬لبست مالب�سي‪ ،‬وقعدت جنب أمي الحيرانة أمام مكتب‬
‫الطبيب‪ ،‬بعد لحظات عاد الطبيب يحمل في يده راديو األشعة‪ ،‬صمت قليال‪.‬‬
‫نطقت أمي!‬
‫–خير‪ .‬يا دكتور!‬
‫–ابنك‪..‬‬
‫ثم صمت قليال وحك جبهته‪:‬‬
‫_ أعلم أن تقبل األمرليس سهال في البداية‪ ،‬لكن مع الوقت سيعتاد على البرنامج‬
‫الذي أقدمه له‪ ،‬كما أن هناك العديد من الجمعيات الخيرية للمساعدة‪.‬‬
‫أمي ردت بصوت منكسرونظرات الخوف تمأل عينيها‪.‬‬
‫–دكتور! أي أمرماذا تقصد؟‬

‫‪182‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هناك الكثيرمن األشــخاص يعانون من نفس حالة ولدك ويســتطيع التعايش‬


‫معهــا‪ ،‬بأخــذ جرعــات مــن العالج الكيميائي‪.‬‬

‫_وضح أكثرماذا تريد أن تقول؟‬

‫–سيدتي إن ابنك مصاب بسرطان الرئة‪.‬‬

‫أمــي تنفجــرباكيــة‪ ،‬تعانقنــي وتبكــي بحرقــة‪ ،‬أنــا متجمــد مثــل الجثــة مــن دون روح‪،‬‬
‫كأنــه ثقبنــي مــن روحــي بســكين جليــد وروحــي تتســرب مــن جســدي الشــاحب‪ ،‬أنظــرإلــى‬
‫الطبيــب وهــو يتابــع ذبحــه ‪ /‬كالمــه‪.‬‬

‫– يا سيدتي ال تقلقي‪ ،‬سنجد حال فقد أصبح العالج الكيميائي متوفرا‪ ،‬وسنقوم‬
‫حتــى يتحســن‪ ،‬وســأحرص علــى التخفيــف فــي‬ ‫بمتابعــة ابنــك ومراقبــة حالتــه الصحيــة ّ‬
‫ثمــن املتابعــة الطبيبــة‪ ،‬ســنجري لــه أشــعة النانوج ـرام واملوجــات فــوق الصوتيــة‪،‬‬
‫ونراقــب تطــور املــرض‪ ،‬وهــذه الحالــة‪ ،‬الســرطان‪ ،‬الفشــل التنف�ســي‪ ،‬املعنويــة‪ ،‬الحــاالت‬
‫املصاحبــة‪ ،‬املتابعــة‪ ،‬الوصفــة‪ ،‬الككمتلــى‪ ،‬ممــااة ولغهــت لبرتــه عخخــو عاىلقــوو‬
‫تتةىغــوو تممــك ومــاة ههــزنــت ونــوو هتوةبتــو وو ووخخببوو‪،‬هكمم‪..،‬و‪...‬بــووك‪..‬وو‪.....‬‬
‫كيييييبب‪....‬ظكط‪.....‬رمك‪،‬رســمتت منهكــد‪.‬‬

‫األرض تدور حولي‪ ،‬كالم الطبيب معجن‪ ،‬غيرمفهوم‪ ،‬أمي تبكي وتناجي الطبيب‪،‬‬
‫وأنــا أشــعرأنــي أتفــكك‪ ،‬أنهــار‪ ،‬قلبــي يــكاد يخــرج مــن بيــن أضلعــي‪ ،‬يــدب بقــوة‪ ،‬كســجين‬
‫املتعرقــة ّ‬
‫متجمــدة مثــل قطعــة ثلــج‪ ،‬الطبيــب‬ ‫ّ‬ ‫يريــد الهــروب مــن زنزانتــه‪ ،‬يــدي فــي يــد أمــي‬
‫يســتمرفــي تحريــك شــفتيه‪ ،‬عقــارب الســاعة أمامــي تــدور ببــطء شــديد‪.‬‬

‫نهضــت مــن الكر�ســي‪ ،‬جلســت فــي قاعــة االنتظــاروتركــت أمــي مــع الطبيــب‪ ،‬الرجــل‬
‫األســمرال يزال هناك‪ ،‬هاتفه توقف عن الرنين‪ ،‬الرجل األســمريبتســم ببرود‪ .‬ال أعرف‬
‫مــا لــذي يحــدث لــي‪ ،‬عــدت ببــطء فــي الــرواق أســتند علــى الحائــط فــي مشــيتي‪ ،‬اقتربــت مــن‬
‫حجــرة الطبيــب ســمعته يقــول ألمــي‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_لــو تــم تشــخيص حالــة ابنــك مبكـرا لكنــا قــد تمكنــا مــن تثبيــط انتشــارالســرطان‬
‫فــي األعضــاء املجــاورة مثــل الكبــد والغــدد الليمفاويــة‪ ،‬لــن أكــذب عليــك إن الســرطان فــي‬
‫املرحلــة الثالثــة‪ ،‬أي املرحلــة قبــل األخيــرة‪ .‬ولــن يصمــد جســده أكثــرمــن ســبعة أشــهرإن‬
‫لــم يقــم بإجـراء العمليــة‪.‬‬
‫أمي ترد باكية‬
‫_سبعة أشهر‪ .‬ال ال محال هناك خطأ ما‪.‬‬
‫صوت الطبيب يصلني متقطعا‪:‬‬
‫_خمســمائة مليــون ســنتيم ثمانيــة جرعــات فــي املعتــاد تدفــع بالتقســيط والجرعــة‬
‫التاســعة علــى حســابي إذا لــم تتحســن حالــه‪ ،‬ألن الطبيــب محمــود أوصانــي عليكــم‪.‬‬
‫نزلــت مــن خــدي دمعــة بــاردة‪ ،‬مــن ســنوات عجــاف لــم أبــك‪ ،‬عندمــا ســمعت أمــي‬
‫تقــول‪:‬‬
‫_يا دكتور عندي ولد واحد‪ ،‬إن مات سأموت معه‪.‬‬
‫الطبيب يرد بنبرة هادئة‪:‬‬
‫_ ال يا سيدتي ال تقولي هذا باألعماربيد هللا‪...‬‬
‫مســحت دموعــي‪ ،‬جمعــت نف�ســي‪ ،‬يجــب أن أبــدو فــي أحســن حــال أمــام أمــي‪ ،‬ـكـي ال‬
‫تتحطــم أكثــروتحطمنــي معهــا‪ ،‬فتحــت البــاب ودخلــت‪ ،‬ابتســمت للطبيــب ابتســامة باردة‬
‫وشــكرته‪ ،‬ســحبت أمي من ذراعها وخرجنا من العيادة عائدين ســيرا على األقدام نحو‬
‫القريــة‪ ،‬صامتيــن علــى طــول الطريــق‪ ،‬أنــا منشــق مــن الصدمــة‪ ،‬وأمــي ال تكــف دموعهــا‬
‫عــن االنهمــار‪ ...‬وتضغــط علــى يــدي بقــوة‪ ،‬ثـ ّـم تعانقنــي فــي وســط الطريــق‪.‬‬
‫– يا أمي العزيزة ال تخافي لن أموت غدا‪ ،‬األعماربيد هللا‪ ...‬سنجد حال‬
‫نظرت نحوي أمي بعينين مغرورقين بالدموع ولهجة متلهفة كأنها وجدت الحل‪:‬‬

‫‪184‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعم سأبيع ذهبي وخاتم زواجي ونزيد البقرة‪ ،‬وكل يوم أخبزلك مئة مطلوعة‪..‬‬
‫هكــذا نلــم مبلــغ العملية ‪.‬‬
‫عانقــت أمــي وقبلتهــا علــى جبهتهــا‪ ،‬وأنــا أعتصــرمــن األلــم‪ ،‬أحبــس ســعاال رهيبــا‪ ،‬ال‬
‫أســعله أمامهــا‪ ،‬أعــرف أنــي ســأمزقها مــع كل كحــة‪:‬‬
‫– آه يــا ميمتــي‪ ،‬يفرجهــا العالــي "كــم عنــدك ذهــب‪ ،‬زوج مــن األقـراط وخاتــم‪ ،‬بكــم؟‬
‫حتى ثلث املبلغ لجلسة عالج كيمائية واحدة"‪.‬‬ ‫ومئة مطلوعة أوألف مطلوعة‪ ،‬ال تصل ّ‬

‫ال أدري‪ ،‬كيــف ملــاذا أنــا‪ ،‬أشــعر هكــذا‪ ،‬كأن صخــرة موضوعــة فــوق صــدري‪ ،‬ال‬
‫أكــف أســعل وأســعل‪ ،‬قلبــي يــكاد يخــرج مــن بيــن أضلعــي‪ ،‬ملــاذا يــا ربــي؟ مــن يرعــى زبيــدة‬
‫اآلن مــن يحــرث األرض‪ ،‬رســماتي للمســتقبل تلطخــت‪ ،‬أنــا أختنــق‪ ،‬نفســيا جســديا أنــا‬
‫محطــم‪ ،‬البارحــة ســعلت دمــا‪ ،‬كنــت أتمنــى أن يكــون ربــوا‪ ،‬لكــن ســرطان‪ .‬ال ال‪ ،‬ســأموت‬
‫آه يــا ربــي‪ ،‬ســيعرف كل النــاس بأمــري‪ ،‬سيشــفقون علــي‪ ،‬يروننــي عالــة علــى املجتمــع‪ ،‬ال‬
‫لن يعرف أحد‪ ،‬سأجبرأمي على كتمان السر‪ ،‬وأعاني في صمت خيرمن نظرات الناس‬
‫املشــفقة اتجاهــي‪.‬‬
‫أوووف ربــي‪ ،‬أريــد إمســاك جزيئــات الهــواء وإقحامهــا داخــل رئتــي‪ .‬ألتنفــس بشــكل‬
‫صحيــح‪ ،‬أواه ربمــا الطبيــب يكــذب!‬
‫كم بقي لي ألعيشه؟ كم بقي من دموع ألبكيها؟ املشكلة ليست في املوت ولكنها في‬
‫الطريقة التي تموت بها‪ ،‬أن تتكوم على هذا السريرالناعم وتشعربروحك تتسرب منك‬
‫ببطء‪ ،‬والبطارية بدأت باالنخفاض‪ ،‬ووفود الناس تروح وتأتي ال تحمل معها شاحنا‪،‬‬
‫بل تســتنزف بطارية حياتك أكثرال تحمل معها ســوى مصمصة الشــفاه املعتادة وكلمة‬
‫يــا حـرام‪ ،‬مســكين التــي تقفــزإلــى قلبــك مثــل الســكين‪ ،‬تعجــزعــن رفــع ســيفك لتقاتــل ألن‬
‫عدوك انتشاره سريع وأنت دفعاتك ضعيفة‪ ،‬واإلمدادات الخارجية ال تسمن وال تغني‬
‫من جوع ألنهم لم يخترعوا الدواء بعد‪ ،‬فتجد نفسك مضطرا للموت ككلب مات على‬
‫زوبيــة‪ ،‬ترحــل فــي املشــهد الــذي تمنيــت أال تنــزل معــه الكتابــة فــي آخــرالفيلــم‪ .‬أضــم ركبتــي‬
‫لصــدري وأبكــي بحرقــة أبكــي علــى كل �شــيء‪ ،‬أبكــي علــي أنــا وحيــد عيشــة‪ ،‬كيــف أتركهــا‬
‫وحيدة في هذه الداراملوحشــة‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب_‬
‫السيدة أميمة حراج‬
‫***‬
‫– ملاذا تبكين؟‬
‫_خذي تفاحة‪ .‬هي مهدأ جيد‪.‬‬
‫لم ترد أميمة‪.‬‬
‫– حســنا أرى أن لــك عالقــة قويــة بالضحيــة‪ ،‬أم أنــك مفزوعــة مــن املشــهد الــذي‬
‫رأيتــه؟‬
‫بقيــت أميمــة ســاكتة مطأطــأة الـرأس تئــن بصمــت وشــعرها منســدل علــى وجههــا‪،‬‬
‫نهــض املحقــق مــن كرســيه واقتــرب مــن وجههــا ليوجــه الســؤال لهــا بنبــرة صارمــة وجــادة‪:‬‬
‫– متى تعرفت على إسحاق وما هي عالقتك به؟‬
‫– عرفتــه‪ ،‬عرفتــه‪ ،‬ع ر ف ت‪"....‬كانــت كلمــات أميمــة متقطعــة دون أن تنظــر فــي‬
‫وجه املحقق‪ ،‬ناولها الطبيب قارورة ماء صغيرة شربت منها وتابعت كالمها بوضوح" في‬
‫حفل أقامته عائلته‪ ،‬كان حفال بمناسبة افتتاح عائلتهم لشركة إنتاج األجبان‪ ،‬حضر‬
‫الحفــل الكثيــرمــن رجــال األعمــال والشــخصيات املهمــة‪.‬‬

‫– هــل أنــت ابنــة الســيدة جمــال ح ـراج صاحــب شــركة ‪ om‬لألجبــان و‪om‬‬
‫للمجو هــرا ت ؟‬
‫– نعم‪.‬‬
‫ثم توسعت حدقتا املحقق وتغيرت نبرة صوته‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ّ‬
‫ثم بعد ذلك‪ .‬واصلي‪..‬‬
‫– عرضنــي أبــي علــى بعــض األشــخاص املهميــن ومــن بينهــم أب إســحاق‪ .‬الــذي كان‬
‫رفقــة ابنــه وبذلــك تعرفــت علــى إســحاق‪.‬‬
‫– لم تكملي إجابتك على سؤالي‪ ،‬ماذا يكون إسحاق بالنسبة لك؟‬
‫– خرجنــا فــي عــدة مواعيــد‪ ،‬وكنــا قريبيــن لبعضنــا‪ ،‬لكــن لــم تكــن العالقــة رســمية‪،‬‬
‫يعنــي أصدقــاء فــي عالقــة مفتوحــة‪.‬‬
‫– ماذا تعنين بأصدقاء في عالقة مفتوحة‪.‬‬
‫ثــم التفــت املحقــق للطبيــب خلفــه ينتظــرمنــه شــرحا حــول هــذا املصطلــح الجديــد‬
‫الــذي يســتعمله هــؤالء املراهقــون‬
‫– كنا نتواعد‪ .‬وكنت حبيبته!‬
‫– كنت؟‬
‫_حبيبته فقط‪.‬‬
‫_حسنا‪ ...‬وقد تقدم لخطبتي‪ .‬ليس رسميا‪ .‬لكن قد وضع علي اليد‪.‬‬
‫_وضع عليك اليد!‬
‫_يعني قد أعطى كلمة ألبي بخصو�صي‪.‬‬
‫_حسنا قد فهمتك وبعدها!‬
‫– بعدها لم تدم العالقة وانفصلنا‪.‬‬
‫_ملاذا؟‬

‫‪187‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫صمتت أميمة ملدة‪:‬‬


‫_ال أدري‪ .‬املكتوب‪.‬‬
‫– املكتوب آه‪..‬حسنا احكي لي ما لذي أخذك للمكتبة وكيف وجدت الجثة؟‬
‫– طلبت من األستاذة اإلذن بالخروج من القسم وكان ذلك من أجل أن أستعير‬
‫كتابــا مــن املكتبة‪.‬‬
‫– ما نوع هذا الكتاب؟‬
‫– كان رواية‪.‬‬
‫_أية رواية‪...‬ما عنوانها؟‬
‫_ رحل من دون وجه‪.‬‬
‫هــل تقصديــن هــذه الروايــة ثـ ّـم أخــرج املاحــي الروايــة مــن بيــن أوراق جريدتــه‬
‫وعرضهــا علــى الطاولــة أمــام أميمــة‪.‬‬
‫_هل تقصدين هذه الرواية؟‬
‫_نعم هذه هي‪.‬‬
‫_ملاذا هذه الرواية بالتحديد‪.‬‬
‫_ ال أعلم‪.‬‬
‫_وهل هناك من يقرأ كتابا وال يعلم ملاذا يقرأه؟‬
‫_ربما فقط عندما رأيت إسحاق يقرأها‪ ،‬انتابني الفضول ألعرف محتواها‪.‬‬
‫– جيد‪ ،‬ملاذا انتابك الفضول وهي مجرد رواية؟‬

‫‪188‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ال أعرف‪.‬‬
‫_ملاذا؟‬
‫_ألن إسحاق ليس من النوع الذي يقرأ الروايات إذ ربما هذه أول مرة أراه يحمل‬
‫روايــة‪ ،‬لذلــك انتابنــي الفضــول ألعــرف مــا لــذي جذبــه لق ـراءة الكتــاب‪ ،‬انتظرتــه ّ‬
‫حتــى‬
‫يفــرغ مــن قراءتهــا ألذهــب وأحضرهــا‪.‬‬
‫– كيــف عرفــت أنــه أنهــى قراءتهــا وأنــه ســيضعها فــي املكتبــة فــي ذلــك الوقــت‬
‫بالضبــط؟ وملــاذا لــم تطلبيهــا منــه مباشــرة ملــاذا انتظرتــه ّ‬
‫حتــى يذهــب إلــى املكتبــة وتبعتــه‬
‫خفيــة ؟‬
‫– لــم أتبعــه خفيــة وإنمــا عرفــت أنــه أنهاهــا ألنــه معــي فــي القســم وكنــت أراقبــه حيــن‬
‫يخرجهــا ويقـرأ‪ ،‬ولــم أطلبهــا منــه ألننــا كنــا متشــاجرين‪ ،‬هــذا فقــط وليــس شــيئا آخــر‪.‬‬
‫– كنت تراقبينه! ماذا تقصدين بهذا؟‬
‫– نعم كما أخبرتك لقد كنا في عالقة وأردت أن أعرف ما لذي يفعله في غيابي‪.‬‬
‫– لكنه كان يجلس معك في نفس الطاولة أليس كذلك؟‬
‫– لكنه غيرمكانه‪.‬‬
‫_ملاذا فعل هذا برأيك؟‬
‫_عندما سألته لم يجبني‪.‬‬
‫_حسنا‪ ..‬حسنا‪ .‬هناك زر مفقود من مئزرك! ما لسبب؟‬
‫– آه زر ال أذكر‪ ،‬اآلن فقط الحظت أني فقدت زرا من مئزري!‬
‫ثــم صمــت املحقــق لبرهــة راح يضــرب الجريــدة علــى كــف يــده ببــطء ويفكــر ثـ ّـم‬
‫التفــت املحقــق للطبيــب وطلــب منــه أن يحضــر لــه كأس مــاء‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_وقبل أن تذهب أعطني ذلك الزر‬


‫_حسنا ها هو سيدي‪.‬‬
‫وسلم املحقق الزر الوردي ألميمة‪:‬‬
‫– هل هذا زر مئزرك؟‬
‫تفقدت أميمة الزر وقارنته بأزرارمئزرها األخرى‪:‬‬
‫_نعم أظنه الزر الذي سقط من مئزري‪.‬‬
‫ثم أرجعت الزر للماحي‪ ،‬أمسكه وسأل أميمة وهو يميل رأسه نحوها‪:‬‬
‫_هل تعرفين أين وجدنا هذا الزر؟‬
‫– ال‪.‬‬

‫– عند رجلي الضحية‪.‬‬


‫تغيــرت مالمــح أميمــة‪ ،‬شــابكت أصابعهــا وراحــت تلوكهــا علــى بعضهــا وقــد الحــظ‬
‫املاحــي هــذا‪ ،‬ثـ ّـم تكلمــت بنبــرة ســريعة دفاعيــة‪:‬‬
‫_ال أعــرف حقــا ملــاذا كان هنــاك‪ ،‬كل مــا أعرفــه أنــي عندمــا دخلــت املكتبــة ومشــيت‬
‫ثم فجأة‬ ‫حتى آخذ الرواية دون أن يعرف‪ّ ،‬‬ ‫بين رفوف املكتبة جلســت أ اقب إســحاق‪ّ ،‬‬
‫ر‬
‫غــاب عــن ناظــري ولــم أعــرف أيــن اختفــى‪ ،‬حســبته أنــه خــرج مــن املكتبــة بعدمــا وضــع‬
‫الروايــة فــي الــرف‪ ،‬اتجهــت للقســم املخصــص للروايــات أبحــث عــن الروايــة ولــم أجدهــا‪،‬‬
‫وفي تلك األثناء رأيت أحدهم يخرج من باب املكتبة حسبته هو‪ ،‬لكني تفاجأت عندما‬
‫رأيــت إســحاق ســاقطا علــى األرض"وراحــت تكمــل جملتهــا بصعوبــة تختلــط بالبــكاء"‬
‫والدمــا‪....‬ء تس‪....‬يــل‪ .‬م‪..‬ن رأ‪..‬ســه‪ ،‬فلــم أعــر‪..‬ف مــا لــذي أفع‪...‬لــه‪ ،‬فهر‪....‬عــت بالبــكاء‪،‬‬
‫"ثــم تمالكــت نفســها ورفعــت رأســها وأرجعــت شــعرها للخلــف" فــي تلــك اللحظــة ربمــا‬
‫ســقط منــي الــزر دون أن أحــس‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_هل أنت متأكدة من أنك رأيت اسحاق وهو يرجع الرواية إلى مكانها!‬
‫_ليس تماما‪ .‬ألني لم أجدها هناك‪.‬‬
‫_هل تقصدين أن الرواية كانت بحوزته عندما تلقى الضربة‪.‬‬
‫_نعم هذا احتمال كبير‪.‬‬
‫_ولست أنت من تركها بجنبه؟ أو أوقعتها من يدك!‬
‫_ال‪.‬‬
‫_هــل أوقعتهــا مــن الــرف الــذي بجنــب الضحيــة مثــا‪ .‬ألنهــا كانــت واقعــة فــي الجهــة‬
‫اليمنــى مــن الضحيــة بينهــا وبيــن رف املكتبــة‪.‬‬
‫_ال أعتقد هذا‪.‬‬
‫– حســنا قد أخبرتنا أنك رأيت أحدهم يخرج من املكتبة قبل أن تجدي اســحاق‬
‫ميتــا علــى األرض‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_من الذي رأيته يخرج من املكتبة؟‬
‫– لم يظهرلي شكله بوضوح!‬
‫– من رأيته يخرج من املكتبة‪ ،‬كيف كان يبدوا‪ ،‬ملن يشبه من زمالئك في القسم‪.‬‬
‫– ال ال أعرف‪ ،‬لكني أظنه‪...‬‬
‫– من؟ تكلمي!‬
‫– لقمان‬

‫‪191‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– لقمان الصابري هكذا!‬


‫– حســب شــهادة إحــدى صديقاتــك‪ ،‬لقــد حــدث شــجاربينــك وبيــن إســحاق قبــل‬
‫يوميــن‪ ،‬مــا هــو ســبب الشــجار؟‬
‫– إســحاق أحبنــي‪ ،‬وقــد أعمــاه الحــب لدرجــة أنــه أراد أن يتملكنــي وغيرتــه علــي‬
‫أصبحت تزعجني كثيرا‪ ،‬لذلك لم نتفاهم‪ ،‬وكل ذهب في طريقه‪ ،‬مكتوب كما يقولون‪.‬‬
‫– مكتــوب! مــوت إســحاق حبيبــك الســابق بمجــرد أن انفصــل عنــك هــو مكتــوب‬
‫أيضــا! هــل أردت االنتقــام منــه ألنــه صفعــك أمــام وســط الســاحة‪ ،‬أم مــن أجــل لقمــان‪.‬‬
‫– ال ال مــاذا تقــول‪ ،‬لــم أفعلهــا‪ ،‬لقــد انفصلنــا ملــدة فقــط‪ ،‬لكنــي أصارحــك‪....‬أن‪...‬‬
‫حتــى تجعــدت مالمــح وجههــا"‪.‬‬ ‫"ثــم انفجــرت بالبــكاء شــاهقة ّ‬

‫ثم سكتت أميمة لحظة قصيرة‪ ،‬استجمعت قواها وتكلمت بنبرة واضحة‪:‬‬
‫_أحبه يا سيدي‪ ..‬أحبه ولم أحب رجال مثلما أحببته‪ ،‬لذلك أردت أن أعرف ّ‬
‫حتى‬
‫الكتاب الذي يقرأه‪ ،‬ولو يرجع للحياة سأعتذرمنه ألف اعتذار‪ .‬ألني ال أصدق أنه قد‬
‫مــات ال أصــدق‪ ،‬هــو خطيبــي وقــد قررنــا أن نتــزوج بعدمــا ننجــح فــي امتحــان البكلوريــا‪،‬‬
‫كان دائمــا يخبرنــي أننــا ســنتخرج فــي كليــة الطــب مــع بعــض لكــن‪...‬‬
‫ثم انفجرت بالبكاء وبإشارة من يد املحقق حملها طارق وأخرجها‪:‬‬
‫ثم التفت املحقق للطبيب‪ ،‬يسأله‪:‬‬
‫_ما رأيك في ما قالته!‬
‫– ال أدري يــا ســيدي بحــق‪ ،‬أنــا ال أفهــم كثيـرا فــي العالقــات العاطفيــة لهــذا الجيــل‪،‬‬
‫لكــن! ربمــا قــد أحبتــه حقــا وربمــا تكــون دمــوع تماســيح فقــط‪.‬‬
‫– لــو أحبتــه حقــا ملــا تركتــه وبدلتــه بفتــى أقــل منــه مكانــة ومــاال وجمــاال‪ ...‬عندمــا‬

‫‪192‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تتــركك ام ـرأة مــن أجــل رجــل وأنــت تعــرف أنــه ال يملــك ال مــاال وال جمــاال أكثــرمنــك وكل‬
‫مــا هــو موجــود لديــه أنــت تملكــه‪ ،‬اعلــم حينهــا أنهــا لــم تحببــك مــن األصــل وكل مــا عاشــته‬
‫معــك كان مجــرد تمثيليــة فقــط‪ .‬وهــذه الفتــاة تبــدو ممثلــة بارعــة حقــا‪ .‬خصوصــا إذا‬
‫خدعتك مع فتى اســمه لقمان‪ ،‬لقمان مطلوعة‪ .‬مقطوع من شــجرة ال مال وال جاه وال‬
‫نســب وال حســب‪.‬‬
‫– هل تقصد أنها قد تقتله من أجله؟‬
‫– اثنان ال تثق فيهما يا صديقي شمس الشتاء وقلب النساء‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أهرب تجري ورائك‬

‫– لقمان‪..‬لقمان!‬
‫أسمع جدي ينادي علي‪:‬‬
‫_ نعم جدي‪.‬‬
‫_ سأسبقك ولتلحق بي‪.‬‬
‫نهضــت مســرعا وضعــت بعــض األســمال علــى جســدي فتحــت البــاب‪ ،‬وجــدت‬
‫أمــي تحمــل الحطــب لتضعــه داخــل فوهــة "الكوشــة" ســاعدتها فــي كســربعــض الحطــب‬
‫وحمــل بعــض الصينيــات إلــى أمــام ذلــك الوحــش الطينــي الصغيــرالــذي يخــرج الدخــان‬
‫ثم ســرت‪.‬ألجده بمحاذاة البئرجالســا على حافتها منتعال‬ ‫من رأســه‪ ،‬قبلتها على جبينها‪ّ .‬‬
‫ـذاء كالســيكيا قديمــا بنــي اللــون وســرواال عربيــا باجيــا عريضــا ذو جـراب واســع ناحيــة‬ ‫حـ ً‬
‫فخذيــه‪ .‬وحزامــا مــن الجلــد املدبــوغ‪ .‬جيليــه زرقــاء قصيــرة مــن الجيــن ومــا يميــزجــدي يحــي‬
‫عصــاه النصــف دائريــة عنــد املقبــض املكســو بجلــد املاعــزاملثبــت عليهــا بســلك نحا�ســي‬
‫رقيــق‪ ،‬ملتــف فــوق الجلــد علــى املقبــض بإحــكام‪ ،‬وطربوشــه األحمــرذو الخيــط الذهبــي‬
‫الــذي يتوســط ســطحه متدليــا مــن عليــه‪ .‬عجــوزا فــي الســتين مــن عمــره‪ ،‬لــو رآه غريــب‬
‫لظنه في األربعين أو الخمسين قوي البنية رغم متوسط وزنه عريض الكتفين ذو وجه‬
‫مثلــث‪ .‬ذوجبــه عريضــة ولحيــة طويلــة وحــادة‪ ،‬عينــاه مختبئتــان تحــت حاجبيــن أبيضيــن‬
‫عريضيــن‪ ،‬عينــان كزيتونتيــن ســوداوتين مهيبتيــن‪.‬‬
‫معظــم أســنانه ال ت ـزال فــي فمــه لــه نصــف ضحكــة غيــر ممتــدة وتجاعيــد خفيفــة‬
‫حــول عينيــه وشــعرمتوســط الطــول متعــرج النهايــات‪ ،‬بيــده ســلة مصنوعــة مــن الــدوم‬
‫يحمــل فيهــا خب ـزا يابســا وبعــض العنــب ولفافــة بالســتيكية ســوداء وأمامــه علــى األرض‬
‫شــبكة صيــد بيضــاء وصنارتــي ســيدي واحــدة زرقــاء بيمينــه واألخــرى بيضــاء أقصــرمــن‬
‫األولــى‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_احمــل الشــبكة وخيــط الصيــد‪ ،‬هــو تحــت رجلــك واتبعنــي‪ ،‬أدعــوا هللا أن يكــون‬
‫الحــظ حليفنــا اليــوم‪.‬‬
‫مشينا قرابة العشرين دقيقة لنصل إلى واد "بو غولة" حيث صخرة الغولة‪.‬‬
‫فــوق الصخــرة الكبيــرة فــي ضفــة النهــر املرتفعــة بأربعــة أمتــار علــى ســطحه‪ ،‬فتــح‬
‫جــدي الســلة وأخــرج منهــا بعــض معــدات الصيــد وفتــح العلبــة البالســتيكية وبحركــة‬
‫تشــبه حركــة نقــرالديــك لــدودة أشــاربرأســه نحــوالنهــر‪ ،‬وملــا رفــع يــده ليرينــي الطعــوم التــي‬
‫اشــتراها مؤخ ـرا‪ ،‬ظهــرمــن تحــت ســترته مســدس أســود صغيــريخفيــه داخــل حزامتــه‪:‬‬
‫أنظرلقد اشــتريت طعوم صيد جديدة‪ .‬إن أســماك النهرأصبحت تتذمر وتتزمل‬
‫مــن الديــدان التــي كنــت تأتينــي بهــا من املزرعة‪.‬‬
‫فحتــى هــي لــم تعــد غبيــة مثــل الســابق وأصبحــت تعــرف أن تلــك الديــدان األرضيــة‬
‫املعلقــة بخطــاف صيــد هــي مجــرد فــخ وضــع أمامهــا فقاطعتــه قائــا‪:‬‬
‫_أو‪...‬‬
‫و قبل أن أتمم كالمي نظرنحوي بعينين تعكسان صفاء النهرأمامنا‪:‬‬
‫–أو ربما أنا من فقدت موهبتي!‬
‫ناولتــه صنــارة الصيــد البيضــاء ليحكــم ربــط الطعــم فــي الخطــاف ب ـرأس الخيــط‬
‫ويناولنــي بــدوره الصنــارة الزرقــاء ويخــرج مــن جيــب ســرواله العربــي العريــض دودة‪...‬و‬
‫يرميهــا بجانبــي‪:‬‬
‫أمسك ضع هذه في صنارتك‪...‬‬
‫ممازحا أياي بهيئة واثقة‪.‬‬
‫هكذا ليكون لنا صيد متنوع من األسماك املثقفة واألسماك الغبية‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ضحكــت‪ ،‬رمــى جــدي صنارتــه قبلــي وتبعتــه بــدوري وجلســت بمقربــة منــه ودون أن‬
‫أفكــر‪ .‬قلــت لــه‪:‬‬
‫_ما زالت البركة يا جدي‬
‫نظرنحوي‪ ،‬بنبرة تسودها القليل من الحسرة املمتزجة باأللم‪:‬‬
‫_هــذه العبــارة بالتحديــد هــي الدليــل علــى أننــي كبــرت‪ .‬ألننــي عندمــا كنــت صغي ـرا‬
‫بــدوري كنــت أقولهــا لجــدي املتقــدم فــي الســن الــذي كان يبــدوا لــي خرفــا وهــا أنــا ذا صــرت‬
‫مثل��ه اليـ�وم‪ .‬آه يــا ولــدي ّ‬
‫"حتــى املخفــي وينحنــي‪" .‬‬
‫_ماهي قصة هذا املخفي يا جدي؟‬
‫– قل ماهي حكاياته‪ .‬يا حصراه من أين أبدأ لك‪ ،‬املخفي هذا‪.‬‬
‫"ثم شرد جدي في حديثه يسرد قصة املخفي"‬
‫_هذا ال�سي املخفي تروى عنه حكايات كثيرة لكن ال أحد يعرف حكايته الحقيقية‬
‫وملاذا جن‪ .‬لكنه بطل ثوري وأنا أشهد له بذلك‪.‬‬
‫حكاية املخفي والستين‪:‬‬
‫يحكى أنه حفظ ستين حزبا من القرآن في في ستين يوما‪.‬‬
‫حكاية املخفي وحسنة العورة‪:‬‬
‫يحكــى أنــه كان هنــاك فتــاة اســمها خيــرة مليحــة القــد شــديدة الجمــال فــي زمــن‬
‫املخفــي‪ ،‬عيبهــا الوحيــد أنهــا عــوراء العيــن‪ ،‬أحبــت املخفــي وأحبهــا وعاشــا أجمــل قصــص‬
‫الحــب وذات يــوم دواهــا بــأن دفــل فــي عينيهــا‪ ،‬وحيــن أتــه أحبتــه حبــا شــديدا‪ّ .‬‬
‫حتــى ماتــت‬ ‫ر‬
‫مــن حبهــا لــه‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫حكاية املخفي والجن العاشق‪:‬‬


‫هذا املخفي يا بني‪ ،‬قد أوتي حكمة من األجداد إلخراج الجن‪ ،‬وذات يوم في جلسة‬
‫رقيــة‪ ،‬اســتحضراملخفــي هــذا الجــن الســاكن فــي إحــدى فتيــات القريــة بعدمــا عانــت تلــك‬
‫الفتــاة مــدة طويلــة مــن العــذاب وجــرت معركــة بيــن املخفــي وهــذا املــارد العمــاق الــذي‬
‫وصــل طولــه إلــى طــول الخروبــة ّ‬
‫حتــى ظــن مــن فــي القريــة أن هــذا املــارد ســيهلك كل مــن‬
‫فــي القريــة‪ ،‬إال أن املخفــي اح يقـرأ بعــض األدعيــة والقـرآن ّ‬
‫حتــى أحرقــه فــي الهــواء أمــام‬ ‫ر‬
‫شــهود عيــان مــن شــيوخ القريــة‪.‬‬
‫حكاية املخفي وحجرة الغولة‪:‬‬
‫_حجرة الغولة! هل تقصد‪.....‬‬
‫– نعــم يــا ولــدي هــذه الصخــرة التــي هــي تحتنــا‪ ،‬يحكــى أن املخفــي يومــا كان يتلــوا‬
‫الق ـرآن فــي املغــارة داخــل هــذه الصخــرة‪ ،‬لتبــدأ الصخــرة باالرتفــاع مــن فوقــه‪ ،‬وفجــأة‬
‫تحررت من داخلها جنية مسلمة وكجزاء له على صنيعه‪ ،‬سخرت له الجنية الصخرة‬
‫ليطيــربهــا ويذهــب إلــى الحــج ويرجــع‪.‬‬
‫_انتظرال تخبرني أنها نفس تلك الغولة التي تسرق قض‪...‬‬
‫– جنية وليست غولة‪.‬‬
‫– وما الفرق بين الجنية والغولة يا جدي؟‬
‫– يقال جنية إن كانت مسلمة‪ّ ،‬أمـا إن كانت كافرة فهي غولة‪.‬‬
‫– ولكن إن كانت هذه الجنية مسلمة كيف تفعل الذي تفعله! أظنها غولة حقا‪.‬‬
‫– أظن أن املخفي حين قرأ عليها القرآن تابت عن فعلها وأسلمت‪.‬‬
‫– وملاذا لم تحرق مثل ذلك الجن العاشق ألنها كافرة مثله‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– الجــن العاشــق ليــس كافــريــا بنــي‪ ،‬فالعاشــق يصبــح روحــا بــا جســد ال طاقــة لــه‬
‫فــي التحكــم بأفعالــه‪.‬‬
‫– وهذا العشق يا جدي حرام أو حالل؟‬
‫– هيه يا ولدي ملاذا هذا السؤال؟‬
‫– فقــط عنــدي صديقــي فــي املدرســة‪ ،‬وقــع فــي حــب فتــاة‪ ،‬أصبــح يكلمنــي عنهــا ليــا‬
‫ونهــارا‪ .‬كلمــا طلــب منــي النصيحــة لكــي تبادلــه الحــب‪ ،‬ال أعــرف مــا لــذي أجيبــه!‬
‫– يا ولدي الحب حرب الرابح فيها هو الذي ينسحب أوال‪.‬‬
‫– ماذا تقصد؟‬
‫– مثلما يقول الرومي‪:‬‬
‫‪Fuis le il te suit، suis le il te fuit‬‬
‫– يعني!‬
‫– أهــرب تجــري وراءك‪ ،‬اجــري وراءهــا تهــرب منــك‪ ،‬عالقــة العشــق مثــل خيــط‬
‫مطاطــي يشــده شــخصان‪ ،‬إن أفلتــه أحدهــا يتألــم اآلخــر‪ ،‬يعنــي أن فــي أي عالقــة حــب‬
‫حتــى ير�ضــي املعشــوق الــذي يجلــس‬ ‫هنــاك عاشــق ومعشــوق‪ ،‬العاشــق يتجرجــرويتألــم ّ‬
‫ويســتمتع بعــذاب العاشــق الولهــان املغلــوب علــى أمــره‪ .‬كمــا يقولــون العاشــق مذلــول يــا‬
‫لقمــان ولــدي‪ ،‬العاشــق مذلــول‪.‬‬
‫– آه يا جدي‪ ،‬أين قرأت كل هذا‪ ،‬يبدوا أنك كنت قيس زمانك‪.‬‬
‫– يــا بنــي هنــاك مدرســة أكبــرمــن املدرســة التــي تذهــب إليهــا‪ ،‬هــي مدرســة الحيــاة‪،‬‬
‫تعلمــك دروســا ثمينــة واملقابــل هــو أن تأخــذ منــك ســنين عمــرك وتحرقهــا أمامــك‪ .‬أخبــر‬
‫صديقــك هــذا أن يركــز علــى دراســته‪ ،‬فالحميضــة وســط الحلفــة تحســب نفســها‬

‫‪198‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ياســمينة‪ .‬أنــت اآلن يــا لقمــان أصبحــت رجــا وأنــت تذكرنــي بوالــدك حيــن كان فــي ســنك‬
‫كان طائشــا مشــاغبا معظــم قرارتــه متهــورة‪ .‬لكنــه كان ينجــو بأعجوبــة مــن مواقــف ال‬
‫نجــاة فيهــا‪.‬‬
‫لقــد صــرت رجــا بعدمــا كنــت فتــى صغي ـرا تخــاف أن تخــرج مــن البيــت وتكتفــي‬
‫باللعب في ســاحة املنزل‪ .‬ألن أبوك كان يخاف عليك من علي الكيلو وأصحابه وأطفال‬
‫القريــة اللصــوص الصغــار‪ .‬أذكــر أنــي وجدتــك ذات يــوم‪...‬‬
‫وفي تلك األثناء بدأ خيط الصنارة باالهتزاز‪.‬‬
‫غيرجدي من وضعيته وصاح‪:‬‬
‫_إنها سمكة‪...‬إن هذا الطعم مفيد حقا‪.‬‬
‫و أضاف وملعة تلهف بادية في عينيه‪:‬‬
‫– هيا عزيزتي تعالي ألعانقك هيا أخرجي‪.‬‬
‫يهتزالخيط أكثر‪.‬‬
‫ثــم فجــأة بعــد لحظــات يفلــت جــدي الخيــط ويتــرك الســمكة تهــرب منــه ويجلــس‬
‫ليلتقــط أنفاســه‪.‬‬
‫بحيرة سألته‪:‬‬
‫_ملــاذا يــا جــدي ؟ أظنــك كنــت قــادرا علــى أن تصطــاد تلــك الســمكة لــو بذلــت جهــدا‬
‫أكثــرقليــا؟‬
‫ضحــك ضحكــة ســخرية واســتهزاء‪ .‬بصــق فــي األرض ونظــر نحــوي بنفــس الحركــة‬
‫برأســه التــي أرانــي بهــا الطعــم‪:‬‬
‫_نعــم كنــت أســتطيع أن أصطادهــا حقــا مثلمــا قلــت‪ ،‬لكــن هــل تعلــم ملــاذا أفلتــت‬
‫منــي هــذه الســمكة؟‬

‫‪199‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هل ألنك لم تشدها جيدا!‬


‫– ال بــل العكــس‪ ،‬ألنــي ســحبتها أكثــر ممــا يجــب‪ .‬وهكــذا هــو كل شــخص فــي هــذه‬
‫الحياة عندما تعطيه أكثرمما يستحقه‪ ،‬ينفرمنك ويبتعد‪ .‬ومن جهة أخرى لم أرد أن‬
‫أبــذل معهــا جهــدا أكثــرممــا تســتحقه الجهــد الــذي كنــت ســأبذله اتجاههــا ســيكفيني ألن‬
‫أصطــاد عشــرســمكات أخــرى أو أكثــرمثلهــا لذلــك تذكــرجيــدا أن كل األســماك تســتحق‬
‫الصيــد‪ .‬لكــن ليســت كل األســماك تســتحق التضحيــة‪.‬‬
‫ثــم رمــى صنارتــه مجــددا وأخــرج ســيجارة مــن جيبــه وضعهــا بيــن شــفتيه‪ .‬ثــم الحــظ‬
‫أن والعتــه ليســت فــي جيبــه‪:‬‬
‫ثم نزع السيجارة من فمه ليعود لكالمه‪ ،‬وبنفس النبرة كأن شيئا لم يحدث عاد‬
‫لحكايتــه‪:‬‬
‫_أتذكــرذات يــوم أنــي وجدتــك فــي ســاحة البيــت تلعــب وحيــدا‪ ،‬فتحــت لــك البــاب‬
‫وأخرجتــك لتلعــب مــع الفتيــة ثـ ّـم فــي املســاء عــدت باكيــا وعينــك منتفخــة تشــكي أمــك‪..‬‬
‫جاءتنــي أمــك وقالــت‪:‬‬
‫– أنظرماذا فعلت للطفل‪ ،‬أال تعرف أنهم طائشون وصعاليك ال يفهمون سوى‬
‫لغــة العنف؟‬
‫فأجبتها‪:‬‬
‫– أنت ال تربين أنثى على ما أعتقد!‬
‫و كلمــا كنــت أجــدك تلعــب وحيــدا فتحــت لــك البــاب‪ ،‬لتخــرج تلقائيــا مــن نفســك‬
‫فيضربــوك مجــددا لتعــود باكيــا‪ .‬ثـ ّـم ذات يــوم كنــا فــي طريقنــا لســوق الجمعــة وأريتنــي‬
‫الفتية الذين سخروا منك‪ ،‬أمسكتك من يدك وحملتك نحوهم وأخرجت رئيس تلك‬
‫العصابــة مــن الصغــاراســمه طــارق علــى مــا أتذكــر‪.‬‬
‫_طارق املارطو هو صديقي اآلن هههه‪..‬‬

‫‪200‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ايه يا الدنيا‪ ،‬أمرتك بأن تعاركه أمامي وأخبرتكم بأني لن أتدخل‬


‫فمســح برأســك األرض وضحكــوا عليــك‪ .‬و ّأم ــا أمــك عيشــة كانــت كثيــرة التذمــرممــا‬
‫كنت أعرضك له من مخاطر‪ ،‬وكلما ذهبنا إلى السوق كنت تذهب ملعاركة طارق‪ ،‬كان‬
‫يذيقــك مـرا ويهزمــك مـرارا ألنــه أضخــم منــك وأكبر‪...‬حتــى أصبحــت ال تخــاف ألنــه لــم يعــد‬
‫لديــك �شــيء لتخســره كرامتــك فــي الت ـراب ولــم تعــد فــي البيــت محروســا مــن طــرف أمــك‪،‬‬
‫فأضحيــت كلمــا القيــت طــارق تنقــض عليــه مثــل القــط فــي كل مــكان وكل زمــان أينمــا‬
‫حتــى أصبــح يتحاشــاك وأصبــح الفتيــة اآلخــرون يفعلــون كذلــك‪.‬‬ ‫القيتــه ّ‬

‫"اضرب الرأس تتألم البقية أحكم الرأس تحكم البقية "‬


‫هذا ماكنت أخبرك به كلما ازرقت عينك ونزف أنفك من لكمات طارق‪.‬‬
‫فأضحيــت تخــرج مرفــوع الـرأس ال تخــاف أحــدا وأصبحــت رجــا حـرا منــذ صبــاك‪،‬‬
‫الضربــة التــي ال تقتلــك مــاذا تفعــل لــك؟‬
‫– تقويك‪.‬‬
‫– أحســنت يــا بنــي‪ ،‬ال تنتظــر مــن هــذا العالــم أن يصنــع منــك رجال‪...‬اصنــع عاملــا‬
‫يجعــل منــك رجــا يــا بنــي‪.‬‬
‫_أريد أن أسألك ياجدي‪ ،‬ما قصة املسدس الذي تحمله‪ .‬وكلما ذهبنا إلى الصيد‬
‫تحضــره معك!‬
‫ثم أمسك جدي املسدس وأخرجه من جيبه‪:‬‬
‫_هذا املسدس أنقذني من املوت مرات عديدة‪ ،‬وكاد أن يقتلني أول مرة‪ ،‬سأحكي‬
‫لك كيف بقي معي وربما لن تصدق القصة‪:‬‬
‫_عــام ‪ 1960‬قبــل انــدالع الثــورة التحريريــة‪ ،‬كنــت مجاهــدا ضمــن جبهــة التحريــر‬
‫الوطنيــة فــي جبــل دوي‪ .‬اختطفنــي مجموعــة مــن الفرنســيين وجعلونــي خادمــا عندهــم‬

‫‪201‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫فــي بــاركانــوا يتســلون فيــه ســهرة كل مســاء وهــو نفــس البــارالــذي هــو مقهــى اآلن والــذي‬
‫علــق فيــه املخفــي رأس الضابــط ڨامبــو‪ ،‬كانــت آخــر ليلــة فيــه حيــن دخــل خمســة مــن‬
‫الجنود الفرنسيين الباروكانوا في حالة سكريرثى لها‪ .‬وقرروا أن يلعبوا لعبة الروليت‬
‫الروســية‪.‬‬
‫_الروليت الروسية‬
‫_نعــم الروليــت الروســية هــي لعبــة حــظ مميتــة نشــأت فــي روســيا‪ .‬يقــوم الشــخص‬
‫الذي يود القيام بها بوضع رصاصة واحدة في املســدس‪" ،‬ثم فتح جدي املســدس وبدأ‬
‫يرينــي كيــف تتــم" ثـ ّـم يقــوم بتدويــراألســطوانة هكــذا "وأغلــق املســدس بخفــة يــد ودور‬
‫ماســورته" التــي يمكــن أن تحمــل ســت رصاصــات‪ ،‬يديــراملاســورة عــدة مـرات بحيــث ال‬
‫ثم يوجه املسدس نحو رأسه "ووضع‬ ‫يعرف ما إذا كانت الرصاصة ستطلق أم ال‪ ،‬ومن ّ‬
‫املســدس فــي رأســه" ويســحب الزند"ثــم وضعهــا فــي رأ�ســي وضغــط الزنــاد وكان املســدس‬
‫فارغــا‪ .‬شــعرت بشــعور غريــب ومريــب ال أســتطيع وصفــه" فــإذا وضــع رصاصــة واحــدة‬
‫فــإن احتمــال موتــه هــو ‪ 1‬مــن ‪ ،6‬أي ‪.% 16‬‬
‫_لكن ملاذا يلعبون هذه اللعبة؟‬
‫_ تســتخدم هــذه اللعبــة لعــدة أســباب‪ ،‬منهــا االنتحــارأو إثبــات الشــجاعة‪ .‬نشــأت‬
‫اللعبــة فــي روســيا عندمــا لعبهــا الجنــود الــروس إلثــارة بعضهــم البعــض‪ .‬وهــذا مــا نقلــه‬
‫عنهــم الجنــود الفرنســيين تقليــدا كمــا تعتبــر لعبــة الروليــت الرو�ســي إحــدى وســائل‬
‫املقامــرة وتكــون بتحــدي بيــن شــخصين يتناوبــون اإلطــاق‪ ،‬لحيــن مــوت أحدهــم‪ ،‬فيأخــذ‬
‫مــن نجــا أمــوال الــذي أطلــق النــار علــى نفســه‪ .‬وفــي تلــك الليــة كانــوا عازميــن علــى لعبهــا‬
‫لتســوية حســابات عالقــة بينهــم وبمــا أنهــم كانــوا خمســة واللعبــة تلعــب بالزوجيــن وحتــى‬
‫يكونوا ثالثة أزواج‪ .‬أرغموني على اللعب معهم‪ .‬فكانت الرؤوس تنفجرأمامي وأنا أنجو‬
‫بأعجوبــة كل مــرة‪ .‬ومــن بيــن الســتة كنــت أنــا الناجــي الوحيــد‪ .‬هربــت مــن الحانــة وأخــذت‬
‫املســدس معــي وكلمــا رأيتــه أتذكــرتلــك الليلــة ولــن أنســاها‪.‬‬
‫_وهل لعبتها مجددا!‬

‫‪202‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_نعم!‬
‫_وما هو سرنجاتك في كل مرة‪.‬‬
‫_حامية‪ .‬حامية‪.‬‬
‫_ماذا؟‬
‫_أكمل‪...‬حامية وش‪..‬‬
‫_حامية‪ ،‬شافية‪ ،‬عامية‪.‬‬
‫_نعم هي حامية‪.‬‬
‫_لكن كيف هذا يا جدي؟‬
‫_ستعرف سرتلك القالدة يوما يا ولدي‪.‬‬
‫_أريد أن أعرف اآلن‪.‬‬
‫ثم ابتسم ووضع املسدس في يدي‪:‬‬
‫_هل تريد أن تلعب معي ّ‬
‫حتى تعرف كيف؟‬

‫‪203‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫حامية‪ .‬شافية‪ .‬عامية‬

‫– هل علي أن أكتب كل هذا؟‬


‫سألتها وهي غارقة تنقل كتابة الدرس من السبورة‪ .‬أجابت دون أن تلتفت نحوي‪:‬‬
‫– نعــم هكــذا قــد اتفقنــا علــى تقســيم العمــل‪ .‬أنــت تهتــم بالرســومات البيانيــة‬
‫والتعليــق عليهــا فــي شــرح مختصــر‪ .‬وأنــا أهتــم بالباقــي‪ .‬أظنــك تحــب الرســم أليــس كذلــك؟‬
‫– طبعا أحب الرسم وأشياء أخرى مثلك أنت‪...‬‬
‫– ماذا قلت؟‬
‫– ال �شيء‪ .‬فقط قصدت أني أحب الرسومات الفنية وليس هذه الوثائق البيانية‬
‫للجهــازالتناســلي لــدى الفــأروعلــى فكــرة ملــاذا لــم يأخــذوا جهــازتناســلي لإلنســان وندرســه‬
‫فهــذا يكــون أقــرب للفهــم وأوضــح‪ .‬أوووف مــن هــذه املنظومــة التربويــة يدخلــون الديــن‬
‫والسياســة فــي كل �شــيء‪.‬‬
‫ردت مبتسمة في وجهي بأسنان ثلجية مصطفة ومتراصة كأزراربيانو‪.‬‬
‫– أكمل الكتابة وكفانا فلسفة‪ .‬فليس وقتها!‬
‫تذكــرت ملــا كنــت مــع مــروان أنــي كنــت فــي نعمــة‪ .‬كنــا نكتــب أســمائنا فقــط والعمــل‬
‫اآلخــرتتكفــل بــه ســارة التــي كانــت ال ترفــض ملــروان طلبــا‪.‬‬
‫ثم بعد لحظات‪ .‬التفتت نحوي وكانت ترتدي نظارة زادتها رقة وأنوثة‪:‬‬
‫– حسنا سأكمل كتابة كل الدروس وأنت تتكفل فقط بالرسومات‬
‫ملا سمعتها طارت الفرحة من عيني لكني لم أبدها لها ألني أعرف أن هذه الجملة‬
‫ســيتبعها شرط‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– لكن‪.‬‬

‫و من محفظتها أخرجت الرسمة‪.‬‬

‫– عليك أن تكمل رسمتي‬

‫فــي تلــك اللحظــة أحسســت بــأن تلــك الرســمة هــي مفتاحــي الوحيــد نحــو التقــرب‬
‫منهــا‪ ،‬وتذكــرت نصائــح جــدي بــأن أجعلهــا هــي الحديــدة وأنــا املغناطيــس‪.‬‬

‫– ال‪.‬‬

‫نظــرت نحــوي بنظــرة غريبــة صمتــت معهــا أنفاســها ومالمحهــا‪ .‬أزاحــت بعــض‬
‫خصــات الشــعراملنســدلة علــى وجههــا وواصلــت الكتابــة دون أن تقــول شــيئا‪ .‬ثـ ّـم بعــد‬
‫لحظــات‪ .‬وضعــت ورقــة فارغــة أمامــي وبجنبهــا قلــم رصــاص‪.‬‬

‫– إذن أرسم أي �شيء من أجلي‪ .‬أريد أن أراك وأنت ترسم هيا!‬


‫– أنا أكتب!‬

‫– ال تقلق أنا سأنهي لك كتابة الدرس في املنزل!‬


‫فكــرت أنهــا صفقــة مربحــة علــى الجهتيــن‪ .‬أمســكت الورقــة وبــدأت أخربــش بــأول‬
‫�شيء خطرعلى بالي وأميمة بجنبي ورجلها تكاد تلمس رجلي وهي تضع يدها على خدها‬
‫وتراقــب بصمــت وقــد نزعــت نظاراتهــا ووضعتهــا علــى الطاولــة‪ .‬كنــت أتعــرق مــع كل خــط‬
‫أرســمه‪ .‬أحــاول إخفــاء تســارع أنفا�ســي أمامهــا‪ ،‬دائمــا مــا أظهــرلهــا الفتــى الهــادئ صاحــب‬
‫الكاريزميــة وليــس ذاك الفتــى القــروي صاحــب األفــكارالهائجــة‪.‬‬

‫أتمــت الرســمة بدقــة‪ .‬ألنــي فضلــت أن أرســم شــيئا أحفــظ شــكله جيــدا مثلمــا‬
‫أحفــظ شــكل وجــه املشــاهدة الحســناء‪ .‬لذلــك اختــرت أن أرســم قالدتــي التــي فقدتهــا فــي‬

‫‪205‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تلــك الحادثــة يــوم أنقــذت الرجــل مــن الغــرق وملــا أتممتهــا وضعتهــا أمامهــا‪ ،‬فبــدت‬
‫ثم بلهجة مندهشة ومفزوعة وهي تضع يدها على‬ ‫على وجهها مالمح الدهشة والحيرة‪ّ .‬‬
‫صدرهــا للتفقــد شــيئا مــا‪.‬‬
‫– قالدتي!‬
‫– ماذا تقصدين؟‬
‫– هــذه قالدتــي‪ .‬كيــف عرفــت شــكلها وأنــا لــم أظهرهــا ألحــد هنــا! كيــف عرفــت كل‬
‫هــذه التفاصيــل التــي فيهــا؟‬
‫تعجبت من كالمها وحاولت أن أتبين صحته‪.‬‬
‫– ما خطبك‪ ،‬هذه قالدتي أنا‪.‬‬
‫– آه‪ .‬آه انتظر! ربما لك قالدة مثل قالدتي‪ .‬أنظرها هي قالدتي‪.‬‬
‫ثـ ّـم فتحــت أزرار مئزرهــا وأرتنــي القــادة‪ ،‬اســتغربت مــن األمــر ألنهــا كانــت نفــس‬
‫قالدتــي وتحمــل نفــس الرمــوز وبذلــك تيقنــت أنهــا قالدتــي وليســت نســخة عنهــا‪ .‬وهــي‬
‫متوارثــة فــي عائلتــي فقــط‪ ،‬أردت أن أعــرف أيــن وجدتهــا‪ .‬فمشــيت معهــا فــي فكــرة أننــا ربمــا‬
‫نملــك نفــس القــادة‪ .‬فســألتها‪:‬‬
‫– ومن أين حصلت عليها‬
‫– قصة طويلة!‬
‫– احكي لي أنا أسمعك أميمة "و كانت تلك أول مرة أنطق فيها أسمها مباشرة"‬
‫– فــي الحقيقــة إنهــا هديــة مــن أبــي ســلمها لــي يــوم عــاد إلــى املنــزل مبلــا بالكامــل‬
‫وهــو يســعل ويكــح والدمــاء تســيل مــن رأســه‪ .‬أمســكته وقــد ســقط عنــد البــاب‪ .‬قبــل أن‬
‫يفقــد وعيــه ظننــت أنــه ســيموت فرحــت أبكــي علــى صدره‪.‬حتــى فتــح ذراعــي وســلمني هــذه‬

‫‪206‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫القــادة‪ ،‬وأخبرنــي أن هــذه القــادة ســتحميك مــن كل شــر وأذى مثلمــا حمتنــي أنــا‪ .‬ثـ ّـم‬
‫عندمــا اســتيقظ حكــى لــي القصــة وكيــف أن أحدهــم دفعــه مــن علــى الجســرفســقط فــي‬
‫حتــى تدخــل أحدهــم فجــأة لينقــذه‬ ‫ميــاه النهــر فــة وتشــبث بصخــرة يواجــه املــوت‪ّ .‬‬
‫الجار‬
‫وأخبرنــي أبــي أنــه مديــن لذلــك الشــخص بحياتــه‪ .‬وهــذا كل مــا وجــده فــي املــكان عندمــا‬
‫اســتيقظ ولــم يجــد ذلــك الشــخص وكل مــا تبقــى منــه هــو هــذه القــادة‪.‬‬
‫–ســبحان هللا تلــك هــي نفــس الكلمــات التــي قالهــا جــدي وهــو يهدينــي القــادة يــوم‬
‫ختانــي‪.‬‬
‫_ماذا قال لك جدك!‬
‫_هذه القالدة ستحميك من كل شر‪.‬‬
‫–هل تقصد أن هذه قالتك؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_إذن أنت من أنقذت أبي؟‬
‫قالتها وهي تنظرنحوي بعينين المعتين‬
‫هززت رأ�سي بنعم‪.‬‬
‫– نحــن مدينــون لــك بالكثيــريالقمــان‪ .‬وأبــي ســيفرح عندمــا يلتقيــك ألنــك أنقــذت‬
‫حياتــه‪.‬‬
‫ثم نزعت القالدة من رقبتها وفتحت كفي وأرجعتها لي‪.‬‬
‫– ال‪ .‬لن آخذها‪.‬‬
‫_إنها هدية من جدك‪ .‬عليك أن تحافظ عليها‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_إنها هدية من أبيك عليك املحافظة عليها‬


‫_إذن‬
‫_عندي فكرة‪.‬‬
‫ثم عقدت حاجبيها مستغربة‪.‬‬
‫ثــم وقفــت مــن ورائهــا‪ .‬أزحــت شــعرها الذهبــي مــن علــى رقبتهــا‪ .‬وكانــت تلــك أول مــرة‬
‫أالمــس شــعرها الحريــري و يــدي تالمــس رقبتهــا املنحوتــة‪ ،‬بحركــة بطيئــة كســرت القــادة‬
‫إلى نصفين أخذت نصفا وتركت نصفا في الخيط‪ .‬تشــجعت ألقترب من أذنها وبصوت‬
‫خافــت‪ .‬وضعــت القــادة حــول رقبتهــا‪:‬‬
‫–هذي حامية وشافية وعامية‪.‬‬
‫رددي ورائي‪:‬‬
‫رفعت حاجبيها مستغربة من الكلمات التي قلتها‪.‬‬
‫_حامية وشافية وعامية‪.‬‬
‫كررتها بنبرة هادئة كطفل صغيريحاول تعلم الحروف أول مرة ثم التفتت نحوي‬
‫وقفــزت لتعانقنــي دون تــردد‪ .،‬رأســها وقــع علــى صــدري ألول مــرة‪ .‬وروحهــا علــى روحــي‬
‫ورائحــة شــعرها تســكرني‪ .‬شــعرت بذراعيهــا وهمــا تضغطــان علــى ظهــري‪ .‬وأنــا متجمــد‬
‫كجبل من غباء وزجاج ال أعرف ماذا أفعل في تلك اللحظة‪ .‬وملا انسابت حرارة جسدها‬
‫نحــو جســدي‪ .‬ضغطتهــا بيــن ذراعــي أكثــر‪ .‬كأنــي أعانــق العالــم‪ .‬كأنــي ولــدت مــن جديــد‪ .‬لــم‬
‫أكن أتوقع من أن تهدئ دقات قلبي لو حدثت تلك اللقطة‪ ،‬لكن أحسست أنه خفيف‬
‫وال يــكاد يخفــق‪ .‬بــدت الســبورة الخضـراء أمامــي مرجــا أخضـرا وقطــع الطباشــيرنعجاتــي‬
‫وأنا أرعى بهم وأعانق أميمتي بين ذراعي وأهش على غنمي‪ .‬أحسست أني مو�سى قبل أن‬
‫يصعــق‪ .‬ونــوح ملــا نجــى مــن الغــرق‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫توقف الزمن في ذاك العناق وأصبحت كل األشياء تذوب في عيني‪ ،‬أحسست أني‬
‫طفــل بيــن أحضانهــا أحسســت أنــي ريشــة حمامــة تلعــب بهــا أيــادي الريــح‪ .‬أحسســت أنــي‬
‫حــي ألول مرة‪.‬‬
‫***‬
‫وأنــا عائــد إلــى القريــة بــروح طفــل صغيــر قــد ولــد لتــوه وجــدت ثالثــة أشــخاص‬
‫يرتــدون بــدالت ســوداء رســمية ويضعــون نظـرات شمســية ســوداء‪ .‬يقرعــون بــاب املنــزل‪.‬‬
‫يحملــون فــي أيدهــم مجموعــة مــن األوراق‪.‬‬
‫– نعم ماذا هناك!‬
‫– هل أنت لقمان ابن الهواري الصابري؟‬
‫– نعم أنا هو‪.‬‬
‫– دون أن نطيل عليك‪ .‬أعلم أن أبوك الهواري قبل أن يموت قد رهن هذا املنزل‬
‫وقــد خســرفــي الرهــان أمــام ســيدي‪ .‬وهــا هــي أوراق ملكيــة املنــزل واالتفــاق مم�ضــي مــن‬
‫طــرف أبيــك‪ ،‬ونظـرا لحالتكــم قــد يقبــل ســيدي بمبلــغ مالــي مقابــل املنــزل‪.‬‬
‫– منــزل‪ .‬مبلــغ! "لــم أفهــم مــاذا يقولــه الرجــل‪ .‬لكنــه كان يتحــدث بجديــة وصرامــة‬
‫ولــم يبــدو عليــه أنــه كان يبالــغ فــي كالمــه"‬
‫– نعــم فــي التقديــر‪ .‬علــى حســب املوقــع وحالــة البنــاء‪ .‬املنــزل يقابــل خمســمائة‬
‫مليــون ســنتيم‪.‬‬
‫– آه ماذا تقول خمسمائة مليون‪ .‬هل تعرف أن‪ ...‬من أين‪...‬و‪...‬‬
‫ثــم وضــع األوراق فــي يــدي وهــم باالنصـراف قائــا بــا مبــاالة كأن هــؤالء النــاس مثــل‬
‫الروبوتــات مبرمجــون علــى كل مــا يقولنــه دون مشــاعر‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– أسبوعان في يدك‪.‬‬
‫ثــم ركبــوا ســيارة ســوداء وانصرفــوا بعدمــا تركونــي وســط الغبــاروفــي يــدي األوراق‬
‫ومتاعــب أبــي الــذي ال تـزال تلحقنــي ّ‬
‫حتــى بعــد مماتــه‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مذكرات مشعة‬

‫الحدائد للشدائد‬

‫منــذ اليــوم االول الــذي عرفــت أنــي مصــاب بســرطان الرئــة أصبــت بالذهــول‪ .‬لــم‬
‫أصــدق‪ .‬لــم أكــن أشــعربأنــي مريــض‪ ،‬رفضــت أن أرضــخ قلــت لنف�ســي أنــه مــن غيــراملمكــن‬
‫أن يصيبني هذا املرض إنه يصيب اآلخرين فقط‪ .‬يصيب من يأكلون األغذية الصناعية‬
‫املعلبة‪ ،‬يصيب من يستنشقون غازاملصانع والسيارات وهواء املدينة امللوث‪ .‬لم أقبل‬
‫بــأن أفقــد الحــق فــي الحلــم بالغد‪.‬‬
‫قررت أن من سيخضع للعالج هو البديل مني‪.‬‬
‫هل فكرتم مرة في أن من يعاني من مرض السرطان يشعربالخجل أمام األصحاء‪،‬‬
‫وكأنــه فقــد حقــه فــي تحــدي الحيــاة؟ يق ـرأ فــي عيونهــم شــفقة ال يحاولــون إخفاءهــا‪ ،‬لــم‬
‫أكــن فــي حالــة قبــول للواقــع‪ ،‬إلــى أيــن أذهــب؟ الواقــع يطبــق علـ ّـي ويفــرض علــي بروتوكــوال‬
‫جديدا يحدد تحركاتي وتصرفاتي وضوابط جســدية تحد حريتي‪ .‬ال أعرف كيف يجب‬
‫أن أتعامــل مــع املوضــوع‪ .‬غريبــة هــي الدنيــا وغــدارة‪ .‬كــدت أقــف اليــوم فــي وســط املقهــى‬
‫ألقــول للجميــع‪ :‬انظــروا إلــي جيــدا‪ ،‬هــذه الحلقــات الســود التــي تكحــل عينــي‪ ،‬إنهــا بســبب‬
‫الســرطان الــذي ســكن داخــل عظــام قف�صــي الصــدري وتوســد رئتــي الزهريــة‪ ،‬ليســت‬
‫ســوداء مثــل رئــة مدخــن‪ ،‬أنــا ال أدخــن حتــى! ملــاذا يــا ربــي!‬
‫اليــوم صادفــت أمــي فــي الطريــق‪ ،‬تبعتهــا وقبــل أن أصــل عندهــا‪ ،‬دخلــت محــا لبيــع‬
‫املجوهـرات‪ ،‬انتظرتهــا أمــام املحــل ّ‬
‫حتــى خرجــت‪ ،‬أمســكتها مــن ذراعهــا‪:‬‬
‫– ماذا تفعلين‪ ،‬هل جننتي!‬
‫– أنت من جننت‪ ،‬هل تريدني أتركك لتموت؟‬

‫‪211‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– لكن يا أمي هذا كل ما تملكين! أرجعي ذهبك!‬


‫– ال تشغل بالك يا عزيزي‪ ،‬الصح في صحتك و“الحدايد للشدايد” هيا نتم�شى‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫لوحة من الفن والتراث‬

‫أحمل القفة وأضع قشابيتي الوبرية البنية على ظهري‪ ،‬أنزلق من البيت كحلزون‬
‫ينتظــرتبلــل األرض ليخــرج ويزهــو‪ ،‬طريــق القريــة تزدحــم بالحلزونــات فــي فصــل الشــتاء‪،‬‬
‫تصبــح معبــرحــب للحلزونــات البريــة علــى العشــب فــي حــواف الطريــق بــا مبــاالة تداعــب‬
‫بعضها‪ ،‬تتقلب وتمارس الحب بشغف تحت حبات املطراملتأللئة فوق سطوح جلدها‬
‫األملــس‪ .‬لتطفــي ملعانــا وبريقــا كأنــه قفــزمــن عصــراإلغريــق والطقــوس الســحرية‪ .‬أتمنــى‬
‫في كثيرمن األحيان أن أكون حلزونا أحمل بيتي على ظهري وأتمرغ أينما شئت‪ ،‬أمارس‬
‫حياتــي بالعــرض البطــيء‪ .‬حيــاة الحلزونــات طويلــة ماتعــة بالرغــم مــن أن مــدى عمرهــا‬
‫قصيــر‪.‬‬
‫هذا الهواء الصباحي وهذه األكواخ الخشبية وهذه الطرق املحفرة التي تلد حفر‬
‫املاء الضحلة وهذه األزهاراملسترخية مشبعة باملاء راكعة كأنها تعبد هللا وتحمده على‬
‫هــذا الصيــب النافــع‪ ،‬هــي هويــة لقريــة البلبــال العريقــة‪ ،‬رائحــة الخبــزالصباحــي واملطلــوع‬
‫الطازج كثورة لذيذة تحتل حاسة شمي فتثيرلذة مالحة ومخمرة تحت لساني‪.‬‬
‫عابــربيــن البيــوت بيــن ثرثــرة األوالد الصغــاريلعبــون الغميضــة والشــيوخ كعادتهــم‬
‫قــدام مقهــى "بــن هاشــمي "يلعبــون الدامــة ويحتســون الشــاي األخضــر‪ ،‬ويتحدثــون عــن‬
‫أخبــارالقريــة والبلــد‪.‬‬
‫ببطء أخترق بخاراألفران ومداخن األكواخ والكوشات الطينية الحزينة‪.‬‬
‫– صباح الخير يا ولدي!‬
‫قالهــا الشــيخ عــدة خارجــا مــن كوخــه الترابــي‪ ،‬يلــف عمامتــه الصف ـراء علــى رأســه‬
‫ويرفــع ســرواله العربــي "يطلقــون عليــه تســمية ســروال لوبيــة لشــكله الشــبيه بحبــة‬
‫الفاصوليــاء أو اللوبيــة" حيــث أن لــه جيبــا واســعا عريضــا بيــن الفخذيــن‪..‬‬

‫‪213‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– صباح الخيرعمي عدة‪...‬كيف أصبحت؟‬


‫أقولهــا وأنــا أقبــل رأســه بعدمــا لــف عمامتــه وعصــب بهــا رأســه‪ .‬تقبيــل رأس الكبــار‬
‫احترامــا هــي عــادة متوارثــة‪:‬‬
‫– وهللا يا ابني حالي ما تعجب‪.‬‬
‫– غيرالخير؟‬
‫– فاتني الفجروما قويت أنهض له‪...‬أحس بروحي تعبان شوية‪.‬‬
‫ثم واصل كالمه وأقحم يده يبحث عن �شيء في جيبه!‬
‫– املهــم‪ .‬يبــدو لــي أنــك فــي طريقــك للســوق‪ ،‬هــاك خــذ‪ ،‬فــي طريقــك أحضــرلــي معــك‬
‫كيلــو كســكس والباقي‪..‬عندمــا تلحــق للــدارأحضــرلــي قــارورة لبــن‪.‬‬
‫قالها وهو يحك بطنه املنتفخة‪ .‬ثم استرسل يقول‪:‬‬
‫– أنت تعرف من دون اللبن الذي تخضه أمك ال يحلو لي الكسكس‬
‫ابتسمت ّ‬
‫ثم ودعته متجها نحو السوق‪.‬‬
‫الســوق األســبوعية ككل يــوم جمعــة يجتمــع فيهــا ســكان القريــة وســكان املدينــة‪،‬‬
‫سكان الدواروسكان القرى املجاورة "بوراشد‪ ،‬املخاطرية‪ ،‬عريب‪ ،‬العطاف‪ ،‬بطحية‪،‬‬
‫الحســنية‪ ،‬بلعــاص الخ‪"..‬باعــة الخضــروباعــة البقــول‪ ،‬باعــة املاشــية وباعــة الخــردوات‪،‬‬
‫باعة العقاقير‪ .‬الدجالون واللصوص وباعة الوهم واألخيارواألشراركل �شيء يباع هنا‪.‬‬
‫أو كمــا يقــول لــي جــدي‪:‬‬
‫– كل �شيء يباع في سوق الجمعة ما عدى أمك وأبوك!‬
‫كانــت الســوق تقــع بيــن املدينــة وقريــة البلبــال أي هنــاك يجتمــع األثريــاء والفقـراء‪،‬‬
‫باباهــا حديــدي واســع‪ ،‬بجنبــه الفتــة كتــب عليهــا دعــاء الدخــول للســوق‪ ،‬عنــد عتبــة بــاب‬
‫الســوق أول مــا يتناهــى لســمعك‪..‬‬

‫‪214‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ياهلل‪ ...‬عمردارك يالزوالي‪....‬عمرداااارك!‬


‫كان عنــد جانــب البــاب الواســع واقفــا وســط كومــة مــن األوانــي والصحــون والــدالء‬
‫البالســتكية يلــوح بغربــال ومقــاة ويــردد بصوتــه املبحــوح‪.‬‬
‫املــكان مكتــظ مختنــق ال تــكاد تــرى أيــن تضــع رجليــك مــن فــرط الزحــام‪ .‬بعــد أمتــار‬
‫أخــرى‪:‬‬
‫– أرفد أرفد سلعة اليوم ما �شي كل يوم!‬

‫و جاره من هناك‪ ،‬يردد في ميكرفون ويعلى صوته على الجميع بفضل القليل من‬
‫التكنلوجيا القديمة والبسيطة من نوعها إلى أنها أحدثت الفرق‪:‬‬
‫–دواء‪...‬الطومبات‪...‬الفيران‪...‬البرغوث‪...‬البعاعش‪...‬الزرزومية‪...‬‬
‫القرالوات‪...‬الناموس‪ .‬لي عنده القملة في الراس‪ .‬لي عنده الحكة في الجلد‪.‬‬
‫كان يعلن عن سلعه من األدوية الكيماوية والخلطات العجيبة ويلتف من حوله‬
‫نفــرمــن األع ـراب‪ .‬ليــس ألنهــم يعانــون مــن مشــكلة الفئ ـران أو الحش ـرات‪ .‬بــل فقــط مــن‬
‫أجــل الفضــول ومــن أجــل أن يحشــروا أنوفهــم فــي تلــك املعمعــة مــن خــذ وهــات‪.‬‬
‫و هو بدوره يستغل املوقف كإعالن مختلف لسلعته‪.‬‬
‫يــرد علــى أســئلتهم حامــا ميكروفونــا بيــده‪ .‬وعندمــا يالحــظ أن عــدد املشــترين بــدأ‬
‫باالنخفاض والناس بدأت تمل منه يعاود الكرة‪ .‬يعاود التبراح من جديد وبنبرة جديدة‬
‫ونغــم ملفــت‪ .‬يلحــن جملــه قليــا ويقولهــا كأبيــات مــن الشــعرامللحــون وهــذا مــا يتشــعب‬
‫فــي رأس‪ .‬و يلصــق لحنــه علــى املرتاديــن للســوق‪ .‬وتـراث أهــل الباديــة وهكــذا يســتغل قلــة‬
‫حيلتهــم يشــدهم مــن أقــرب خيــط لذهنهــم املتبــل باالمتثــال والحكــم مــن شــعر وحكايــا‬
‫وخرافات شعبية‪ ،‬تكاد هذه الهرطقات والبدع أن تكون مقدسة عندهم والذي يحيد‬
‫عنهــا يــرى بمنظــارالتمــرد وينــزع عنــه وســام األصالــة‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫و يبدو في عيونهم غريبا ألنه لم يتبع بركة الجدود والجدات واألولياء الصالحين‪.‬‬
‫وهــذا البائــع مشــهور بتبراحــه بكلمــات إنجليزيــة وفرنســية ـكـي يبــدوا فــي نظرهــم‬
‫شــخصا مثقفــا لذلــك ينادونــه بحميــد الرومــي‪.‬‬
‫– إني هنا!‬
‫– ‪!je suis la‬‬
‫–! ‪i am hire‬‬
‫تحصــل علــى هــذا اللقــب فقــط ألنــه يكــرر جملــة مــن كلمتيــن بلغتيــن مختلفتيــن‬
‫يســتغل جهــل الشــعب‪.‬‬
‫علــي اخت ـراق كل هــؤالء الباعــة الدجاليــن ألصــل ملكانــي املعهــود‪ ،‬قــرب حلقــة‬
‫مضاربــة الع�صــي الخيزرانيــة‪.‬‬
‫جرب ّ‬
‫جرب في البالص تريح‪...‬عرق السان‪...‬البرد في الركايب لي ينوض في الليل‬ ‫– ّ‬
‫ولي ضاربو حمارالليل‪..‬الخلطة فعالة ومجربة‪.‬‬
‫ذاك الشــيخ بــن ميــرة أو كمــا يحلــو لبعضهــم تلقيبــه "ميــرة بــن ســينا" كان هنــاك‬
‫تدافع وتطابع وهرج ومرج كثيرمن حوله ضرب بالع�صي لشراء تلك املراهم والخلطات‬
‫الغريــب والعجيبــة‪.‬‬
‫"تحت شعاركور وأعطي لألعور "‬
‫اآلن عندما كبرت فهمت قول جدي‪:‬‬
‫كل �شيء يباع في سوق الجمعة‪.‬‬
‫كان عجــوزا طاعنــا فــي الســن مشــمرا علــى منكبيــه ويخطــف األوراق النقديــة مــن‬
‫أيــدي الشــيوخ الكبــار‪ّ ،‬‬
‫حتــى الرجــال منهــم املتزوجــون بحجــة أن هــذه الخلطــات تعيــد‬

‫‪216‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الخصوبــة ألصالبهــم أو تعيــد إحيــاء أرحــام زوجاتهــم‪ ،‬غريــب وعجيــب أمــر بنــي جلدتــي‬
‫هــؤالء‪ .‬حقــا يفعــل الجاهــل بنفســه مــا ال يفعــل العــدو بعــدوه‪.‬‬
‫بلــغ منتصــف النهــاروالشــمس فــي كبــد الســماء‪ ،‬بــدأ النــاس فــي الرحيــل مــن الســوق‪،‬‬
‫وقــت الغــداء وبعــده وقــت صــاة الجمعــة‪ ،‬بعــت مطلوعــة واحــدة‪ ،‬وذلــك ألن ال�ســي‬
‫املخطــار‪ ،‬صاحــب املخبــزة أحضــرســات الخبــزووضعهــا بجنبــي وباعهــا بنصــف الثمــن‬
‫الــذي تبــاع بــه فــي املخبــزة‪ ،‬ألنــه خبــزصابــح‪ ،‬عــدوي اللــدود هــذا املخطــار‪ ،‬يبيــع وينظــرإلــى‬
‫بنظــرة استشــفاء‪ ،‬حملــت قفــة املطلــوع وانصرفــت‪ ،‬يفرجهــا ربــي فــي املســاء ســأبيع فــي‬
‫ســوق الخضــار باملدينــة‪.‬‬
‫– بيننا األيام يا خبيث‪.‬‬
‫ينظرإلي نظرة اشمئزاز‪:‬‬
‫– ما زلت قديما‪ .‬بقيت أنت وأمك فقط من تأكلون هذا املطلوع السخيف!‬
‫اقتربت منه بهدوء‪ ،‬نظرت في عينيه‪ ،‬ماذا قلت؟‬
‫_أنت وأ‪....‬‬
‫قبل أن يكمل جملته قفزت ونطحته برأ�سي على أنفه "كان أطول مني"‪.‬‬
‫– هذه من أجل املطلوع!‬
‫ثــم ضربتــه بيــن ســاقيه أوقعتــه أرضــا‪ ،‬ليتدخــل النــاس بيننــا مــن أجــل الحــد مــن‬
‫العــراك‪.‬‬
‫– وهذه من أجل أمي‪ ،‬يا رخيص!‬
‫مشــيت أجــر قفتــي والغيــض يتطايــر مــن عينــي‪ ،‬شــعرت بالجــوع‪ ،‬دخلــت إحــدى‬
‫الخيمــات فــي وســط الســوق‪ ،‬التــي يبــاع فيهــا الســفنج "الخفــاف"‪ ،‬أدخلــت يــدي فــي جيبــي‬

‫‪217‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أخرجت عشرين ديناروسعرحبة السفنج ثالثين دينار‪ ،‬اقتربت من البائع وأخبرته أن‬
‫لدي عشرين دينارفقط‪ ،‬لم يلتفت نحوي البائع منتفخ البطن‪ ،‬بدى مشغوال بزبائنه‪.‬‬
‫هــذا كل مــا أملكــه ال �شــيء عنــدي أعطيــك ســوى دراســتي أو فنــي‪ ،‬ســوف أفيــدك فــي‬
‫مســألة حســابية أو أســتطيع أن أعطيك رســمة أو أرســمك نعم أســتطيع أن أرســمك‪.‬‬
‫– لو كان فنك هذا ينفع لكسبت نصف دينارمن أجل إكمال سعرحبة "سفنج‬
‫"وهذه الرسومات حرام هل تعلم أن الرسم حرام‪.‬‬
‫اذهب وانقع رسماتك باملاء واشربه ّ‬
‫حتى تشبع!‬
‫كانت كلمات البائع أشد من ضرب الحسام على نف�سي‪ ،‬فخرجت من محل البائع‬
‫وأنــا أجــرأذيــال الخيبــة "نعــم صحيــح لــو كان علمــي ينفــع لكنــت أملــك ســعرحبــة خفــاف‬
‫ســخيفة‪ .‬ملــاذا أدرس علــى كل حــال؟"‬

‫‪218‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ال يعرف قيمة الذهب إلى الصاغة‬

‫بعد أسبوع‪.‬‬
‫الحظ األستاذ بن جازية مقعد مطلوعة فارغا‪ .‬سأل تالمذته عن سبب تغيبه؟‬
‫فرد عليه التالميذ إنه تخلى عن املدرسة ليتفرغ للعمل في مقهى القرية‪.‬‬

‫استغرب األستاذ بن جازية وسأل عن مكان إقامته‪.‬‬


‫أخــذ األســتاذ عنــوان مقهــى بــن هاشــمي أيــن يعمــل مطلوعــة ودخــل املقهــى وأمــر‬
‫بكأس شــاي‪ .‬ســمع مطلوعة النداء‪ .‬حمل كأس الشــاي للرجل ليفاجئ بأســتاذه‪ ،‬طأطأ‬
‫رأســه خجــا‪ ،‬أمــره األســتاذ بالقعــود‪:‬‬
‫– ملاذا تركت املدرسة يا ولدي قل لي؟‬
‫فــرد عليــه مطلوعــة ســاردا القصــة كاملــة وحــزن فراقــه للمدرســة يظهــر فــي نبــرة‬
‫صوتــه‪.‬‬
‫– إذن هذه هي القصة‪ ،‬خذ إليك خاتمي هذا اذهب وبعه وأصلح به حالك قليال‬
‫إلى حين يفتح عليكم ربي‪.‬‬
‫رد مطلوعة‪:‬‬
‫– ليســت القصــة قصــة خاتــم ونقــود إنمــا أنــا كرهــت املدرســة ألنــي لــم أنتفــع منهــا‪،‬‬
‫وكرهت الفن ألنه ال يسد جوعي وال يداوي مر�ضي الجسدي بقدرما هو يداوي مر�ضي‬
‫الروحــي‪.‬‬
‫– وحتــى هــذا الخاتــم ليــس مــن أجــل العــودة إلــى دروســك بــل مــن أجــل أن تفــك‬
‫الضيــق عنــك قليــا فقــط‪ ،‬وســتعرف مقصــدي منــه لــو بعــد حيــن‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫فقبــل مطلوعــة هديــة أســتاذه وســار إلــى محــات الصاغــة وهنــاك عــرض الخاتــم‬
‫للبيــع‪.‬‬
‫استغرب الصائغ وقال‪:‬‬
‫– أشتري منك الخاتم بعشرة آالف دينارولكن من أين لك هذا الخاتم؟‬
‫فقال‪:‬‬
‫– كيف من أين لي بهذا الخاتم‪ ،‬هو هدية لي من عند أستاذي "بن جازية"‪.‬‬
‫قال الصائغ‪ :‬هذه الخاتم نادروثمين ال أظنه هدية! وشــكلك ال يوحي بأنك تعرفه‬
‫ومالبســك رثة! أخبرني من أين ســرقت الخاتم؟‬
‫فرد مطلوعة غاضبا من تشكيك الصائغ به‪:‬‬
‫– هيا معي إلى أستاذي إذن من أجل أن تصدق أنه هدية منه‪.‬‬
‫حتى اطمئن من صدق مطلوعة‪.‬‬‫وذهب الصائغ مع مطلوعة وقابال األستاذ ّ‬

‫أعطى الصائغ ثمن الخاتم إلى مطلوعة وتوجه إلى أستاذه ليشكره‪.‬‬
‫فالتفت األستاذ ملطلوعة وهو يضع يده على كتفه‪:‬‬
‫– قل لي يا بني أين ذهبت عندما أردت بيع الخاتم؟‬
‫– إلى محالت الصاغة بالطبع‪.‬‬
‫– ملاذا ذهبت إلى محالت الصاغة؟‬
‫– هناك يثمنون الخواتم واملعادن الثمينة!‬
‫فرد عليه األستاذ متعجبا‪:‬‬

‫‪220‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_و ملــاذا إذا قبلــت أن يثمنــك بائــع ســفنج فــي الســوق ويثمــن فنــك؟ هــل يثمــن بائــع‬
‫"خفــاف "فنــك؟‬
‫_اســمعني يــا بنــي ال يثمــن ال�شــيء ســوى مــن يعــرف قيمتــه‪ .‬وال يثمــن قيمــة الذهــب‬
‫إلــى الصاغــة‪.‬‬
‫وأنــا أثمــن أنــك مــن أذ ـكـى طالبــي يــا بنــي‪ .‬فــا تــدع مــن ال يعــرف قيمتــك يثمنــك‪.‬‬
‫التثميــن يكــون مــن صاحــب الخبــرة ومــن يعــرف قــدرك‪ ،‬ارجــع إلــى املدرســة وأنا بانتظارك‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫املخفي‬

‫ضاقــت علــي الدنيــا بمــا رحبــت وتآمــرالوجــود ضــدي أنــا ابــن الهــواري الــاز‪ ،‬الــذي‬
‫أورثــه هرموناتــه بمــا فيهــا مــن أم ـراض أورثتهــا لــه الســموم التــي كان يشــربها ويتناولهــا‪،‬‬
‫أورثني حظه العاثر‪ .‬لم يورثني وصية بها مال أو أرض كما الناس بل أورثني دينا ثقيال‪.‬‬
‫آه يالهــواري أنــت مــا تســمح لــي تحــت التـراب وأنــا مــا أســمح لــك فــوق التـراب‪.‬‬
‫في مقهى السيد جمال "بن هاشمي "الذي أصبح ملكا لل�سي جمال‪.‬‬
‫أوقات فراغي من العمل كنت أجلس أمام نافذة تفصل بين املقهى والقرية‪ .‬بين‬
‫املدينــة والقريــة ومــن هنــاك أنظــرللمدينــة وأتســاءل عــن حــال مدرســتي وحــال أصدقائــي‬
‫وحــال أميمتــي‪.‬‬
‫أجلــس وحيــدا أنظــر للطريــق الوطنــي الــذي يفصــل بيــن قريتــي العجــوز واملدينــة‬
‫َّ ُ‬
‫حولوهــا‬ ‫املمشــوقة‪ ،‬ألجــد كل الجزائــر تتحــرك أمامــي بشــكل جميــل‪ ،‬تراهــا مازالــت أم‬
‫كمــا تحولــت الكثيــرمــن األماكــن الجميلــة جعلوهــا أكثــرحداثــة‪ ،‬البلــد كلــه أصبــح يقتلــع‬
‫األشــياء واألماكــن‪ ،‬تـراه ملــاذا هــذه العــداوة الغريبــة لذاكرتنــا‪ ،‬ملــاذا نطمــس كل تاريخنــا‬
‫بالرخــام‪ ،‬ملــاذا ال ت ـزال قريتــي تحافــظ علــى عروبتهــا رغــم بداوتهــا‪ ،‬وال ت ـزال تحافــظ‬
‫املدينــة علــى تفرنســها رغــم التمــدن‪ ،‬هنــا النــاس بســطاء رغــم فقرهــم تالحــظ الســعادة‬
‫علــى محياهــم نــاس النيــة والتعــاون‪ّ ،‬أم ــا فــي املدينــة ورغــم رخــاء ســكانها تراهــم يجــرون‬
‫وراء الحيــاة الهثيــن وعلــى مالمحهــم يبــدون لــك أنهــم يثرثــرون ويختالــون علــى بعضهــم‬
‫بعــض‪ ،‬قانــون البقــاء ال ينطبــق فــي قريتــي رغــم أنهــا غابــة فــي طبيعتهــا ولكنــه ينطبــق حتمــا‬
‫فــي املدينــة‪.‬‬
‫َّ‬
‫فــي املســاء تعــج املقهــى بمجاهــدي القريــة تراهــم َي َت َحل ُقــون حــول "الشــيخ عــدة‬
‫"سمعت من جدي أنه كان محاربا كبيرا وقاسيا‪ ،‬كان يكفي أن يوقع ألحد ورقة صغيرة‬
‫لتعطيــه الدولــة شــهادة املشــاركة فــي الثــورة‪ ،‬كان "الشــيخ عــدة" غريبــا لــم أره يحضــر‬
‫االحتفــاالت املخلــدة لألعيــاد الوطنيــة‪ ،‬ســمعته يقــول أنــه ال يحــب املتاجــرة بالدمــاء التــي‬

‫‪222‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ســقطت لوجــه هللا واألرض‪ ،‬ال يجــب أن يــرى أصحــاب الكــروش املنتفخــة وال املنافقيــن‬
‫يلعبــون بتلــك الدمــاء ليحولوهــا إلــى مصــدر ســرقة للتاريــخ‪ ،‬لقــد اســتقال "عمــي عــدة"‬
‫مــن كل �شــيء إال مــن الذاكــرة‪ ،‬ال�شــيء الوحيــد الــذي ال يمكننــا االســتقالة منــه هــي ذاكــرة‬
‫الوطــن‪.‬‬
‫الزال شاشــه األصفــر وعصــاه الجوزيــة وجلســته التركيــة تــدوي بقــوة ذاكرتــي‪،‬‬
‫يكفــي أن يقــول كلمــة واحــدة لتجــد العش ـرات ملتفيــن حولــه‪ ،‬مــا زلــت أذكــر قصتــه لــي‬
‫حيــن ســألته يومــا عــن اســم شــارعنا‪ ،‬آســف لــم تكــن تنطبــق علــى شــوارعنا تلــك الصفــة‪،‬‬
‫كان عبــارة عــن دروب صغيــرة تقودنــا إلــى دورنــا التــي تشــبه ْ‬
‫"الحــواري القديمــة"‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬

‫عمي عدة‪ ،‬ملاذا سمي حينا ب "البلبال "؟‬


‫فقال لي‪:‬‬
‫_قصة طويلة يا بني‪ .‬أحضرلي مشروبي كالعادة وتعالى أقصها عليك؟‬
‫أحضرت له زنجبيله بالليمون وقعدت بجانبه‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫_هل تعرف ما لذي دفع املجاهدين للصعود إلى الجبل؟‪.‬‬
‫أجبته‪:‬‬
‫_حب الوطن طبعا‪.‬‬
‫رد مبتسما‪:‬‬
‫_ال يابني‪ .‬قبل هذا النخوة والشرف والحرمة‪...‬‬

‫‪223‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم صمت قليال وأتبع كالمه‪:‬‬


‫_عندنــا النيــف ياولــدي عندنــا النيــف‪ .‬عندمــا تــرى أوالد الروميــة يقتحمــون دارك‬
‫وينتهكــون عرضــك وحــرم عائلتــك أمــام وجهــك تشــتعل مــن الداخــل وتريــد اإلنتقام ألجل‬
‫عائلتــك ألجــل حبهــا‪ ،‬فهــذا الوطــن لــم يعطنــا شــيئا وكانــت عائالتنــا هــي وطننــا وهــي كل مــا‬
‫نملكــه أو ليســت العائلــة وطنــا صغيـرا؟‬
‫"ما يبقى في الواد غيرحجاره "‬
‫“ما يبقى في الواد غيرحجاره "‬
‫ثــم صمــت الحــاج عــدة قليــا وراح يســمع النــداء ويراقــب املخفــي وهــو يجــرعصــاه‬
‫الخيزرانيــة‪ّ .‬‬
‫حتــى اختفــى مــن مرآنــا‪.‬‬
‫ســتفهم مــا قصدتــه لــك بــأن مــا دفــع الرجــال للجهــاد قبــل حــب الوطــن هــو حــب‬
‫وطنهــم الصغيــر هــو النخــوة والشــرف والنيــف والنيــف‪.‬‬
‫هــل تــرى هــذا الدرويــش الــذي عبــرأمامنــا اآلن كان عظيمــا بقــدرجهــاده‪ ،‬لــم يكــن‬
‫يتصور الفرنسيون أن عين الدفلى هذه املدينة الجميلة سيحولها "املخفي" إلى مدينة‬
‫دمــوع‪ ،‬كان كل يــوم يقــوم بعمليــة تجعــل فرنســا تبحــث عــن شــبح‪ ،‬أو كأنهــا تطــارد ِظــا‬
‫لــم تكــن تعــرف أن مجموعــة مــن ثالثــة أشــخاص هــي مــن تقــوم بذلــك‪ ،‬أنــا وهــو وجــدك‪،‬‬
‫إلــى أن جــاء ذلــك اليــوم الــذي تعرفــوا عليــه‪ ،‬داهمــوا بيتــه ليجــدوا زوجتــه "حســنة "تلــك‬
‫الشابة الجميلة‪ ،‬وجدوها بين أوالدها تناغي هذا وتالحق ذلك‪ ،‬لم تعرف املسكينة أن‬
‫مصي ـرا مجهــوال ينتظرهــا‪.‬‬
‫ســمعت الص ـراخ‪ ،‬ضجيجــا‪ ،‬ســكت األوالد‪ ،‬كان" املخفــي "دائمــا يضــع بندقيــة‬
‫صغيــرة بالبيــت لالحتيــاط‪ ،‬بســرعة فائقــة وضعتهــا فــي قمــاط ولدهــا الصغيــر صاحــب‬
‫الشــهور املعــدودة لففتــه جيــدا‪ ،‬لتقتحــم أرجــل العــدوبــاب البيــت‪ ،‬لــم تفهــم شــيئا ســوى‬
‫أصــوات العســكر‪ ،‬والص ـراخ‪ ،‬وبعــض الجنــود يفتشــون البيــت إلــى أن جــاء الضابــط‬
‫الفرن�ســي قائــا‪:‬‬

‫‪224‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ أين زوجك؟‬
‫حسنة واجمة من املشهد املرعب‪.‬‬
‫ليعيد الضابط‪:‬‬
‫_ أين املخفي؟‬
‫تقول مرتجفة‪ ،‬تحتضن أوالدها‪.‬‬
‫_ال أعرف ال أعرف‪...‬‬
‫يعود جنديان صغيران يمثالن أمام سيدهما‪.‬‬
‫_لم نجد شيئا سيدي‪.‬‬
‫الضابط بنظرات خبيثة‪:‬‬
‫_أحضروا هذه الكلبة‪.‬‬
‫اقتلــع الجنديــان حســنة مــن حضــن أوالدهــا‪ ،‬بكاؤهــم يعلــو‪ ،‬تضــع حســنة ولدهــا‬
‫الرضيــع فــي حضــن أختــه الصغيــرة‪ُ ،‬لتحمــل إلــى مركــزالتعذيــب‪.‬‬
‫هنــاك ياولــدي فــي قريــة الحر ـكـي‪ ،‬ال يـزال صـراخ حنجرتهــا يعانــق الحيطــان لــم تكــن‬
‫لتبالــي بنفســها هــي التــي لــم تكــن تعــرف أن زوجهــا مجاهــد‪ ،‬إلــى أن اكتشــفت يومــا تلــك‬
‫البندقيــة التــي ترقــد فــي حضــن ولدهــا الرضيــع‪ ،‬لــم تقــل شــيئا استســلمت للقــدروكفــى‪.‬‬
‫للثــورة أس ـرارها الفظيعــة التــي تضطــرك أن تخفــي أمــر انضمامــك لهــا ّ‬
‫حتــى عــن‬
‫زوجتــك أو أبيــك أو أمــك‪ ،‬قــدر رهيــب وصعــب‪ ،‬تلــك امل ـرأة العنيــدة‪ ،‬تعرضــت ألق�ســى‬
‫حتــى أصبحــت صلعــاء ورأســها‬ ‫أنــواع التعذيــب‪ ،‬تخيــل أنهــم نتفــوا شــعرها مــن جلدتــه ّ‬
‫مثــل كــرة دم‪ .‬وهــذا الضابــط "ڨانبــو "الكلــب‪ ،‬بكالبتــه اقتلــع رباعيــة أســنانها ّ‬
‫حتــى تف�شــي‬
‫مــكان اختبــاء املخفــي زوجهــا‪ ،‬ولــم تفعــل‪ .‬ال أعــرف‪ ،‬حيــن تكــون جزائريــا تفهــم ملــاذا هــذا‬
‫اإلص ـرار‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بعــد أيــام خرجــت حســنة مــن العــذاب منهكــة‪ ،‬غائــرة‪ ،‬لتجــد أوالدهــا‪ ،‬التحقــوا‬
‫بالجبــل‪ .‬تبعــوا والدهــم بحثــا عنــه وبحثــا عــن وطنهــم املســلوب‪ ،‬فرنســا أحرقــت كل جبــل‬
‫حتــى أطلقــت عليــه اســم املخفــي‪ ،‬ومــا كان مــن هــذا‬‫"دوي "و لــم تجــد أثـرا لهــذا البطــل‪ّ ،‬‬
‫الضابــط الفرن�ســي الحقيــرإال أن يقــوم بخطــة يســتدرج بهــا املخفــي إلــى كميــن ّ‬
‫حتــى يظهــر‪.‬‬
‫فقام بإحضارزوجته حسنة ووضعها في حقل الرماية هناك "و أشارالحاج عدة بيده‬
‫إلــى مقلــع الحجــارة"‪ .‬أحضــر جنــوده وأمرهــم بالتصويــب علــى حســنة ومــن يصيبهــا فــي‬
‫رأســها‪ .‬ســيقوم بترقيتــه‪.‬‬
‫علــى بعــد املئــة متــرحســنة تركــض حافيــة ممزقــة الثيــاب والضابــط النــذل يبتســم‬
‫ويكشــرعــن أنيابــه وهــو يشــرب قــارورة البيــرة‪ .‬وعندمــا يصيبهــا أحــد الضبــاط فــي رأســها‪،‬‬
‫يطلــق جملتــه الشــهيرة بالفرنســية‪.‬‬
‫‪–_Belle balle‬‬
‫و لهــذا ســميت القريــة فــي الحقبــة االســتعمارية "بــال بــول "ومعناهــا بالفرنســية‬
‫"طلقــة جميلــة›‪ .‬ثـ ّـم عجنــت علــى ألســنة القروييــن بعــد الثــورة لتصبــح "بلبــال "ورغــم‬
‫أن الدولــة غيــرت أســماء األحيــاء واملــدن إلــى العربيــة‪ ،‬فــي األوراق اإلداريــة يدعــى هــذا‬
‫املــكان حــي املرقــب "ســموه هكــذا ألنــه يراقــب املدينــة أي يطــل عليهــا مــن فــوق"‪ .‬إال أن‬
‫اســمه الفرن�ســي ال يـزال متجــذرا فــي لســان عامــة النــاس وهــو الشــائع واملتــداول مــن بعــد‬
‫االســتقالل‪ .‬كــم هــو صعــب أن تنتشــل مخلفــات فرنســا مــن عقــول الجزائرييــن‪.‬‬
‫املهم أكمل لك قصة ال�سي املخفي‪.‬‬
‫املخفــي كان هنــاك فــي مقلــع الحجــارة حيــث رأى زوجتــه وهــي تجــري حافيــة علــى‬
‫مــد رمايــة األوغــاد الفرنســيس‪ ،‬ثـ ّـم مــن تلــك الحادثــة فقــد عقلــه وجــن وكل مــا وضعــه‬
‫نصــب عينــه هــو اإلنتقــام لزوجتــه وأوالده‪ .‬وذات ليلــة قــام بغــارة رفقــة جــدك "الحــاج‬
‫يحي "وباغت الضابط الفرن�ســي وهو يعمه في ســكرته هنا حيث كانت هذه املقهى حانة‬
‫يرتادهــا كل الضبــاط الفرنســيين‪ ،‬وكان جــدك نــادال هنــا‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫انتقــم املخفــي لزوجتــه شــرانتقــام حيــث ذبــح الضابــط "ڨانبــو" مــن قفــاه وقطــع‬
‫رأســه وســمره فــي مدخــل البــاب"و أشــار الحــاج عــدة بيــده املرتجفــة إلــى البــاب" هنــاك‬
‫ليـراه الجنــود الفرنســيون فــي الصبــاح ويكــون عبــرة للذكــرى وبعدمــا تعفنــت جثتــه ربطهــا‬
‫فــوق بغلــة وأرســله للقاعــدة العســكرية فــي املدينــة‪ .‬الزلــت أتذكــرتلــك الحادثــة التــي هــزت‬
‫الجيــش الفرن�ســي‪ .‬هــذا املخفــي الرجــل الشــبح الــذي ال يملكــون ّ‬
‫حتــى صــورة لــه‪.‬‬
‫أحسســت أن دمعــة تـراود رمــش "عمــي عــدة "ليفســح لهــا الطريــق للخــروج‪ ،‬وهــو‬
‫يتحــدث عــن "حســنة "و"انتقــام املخفــي لهــا "‪ ،‬ليلتفــت إلــى ويقــول‪_ :‬تفهــم اآلن يــا ولــدي‬
‫ملــاذا كان الثمــن باهظــا ألن النســاء كـ ّـن نســاءا بحــق والرجــال رجــاال بحــق‪.‬‬
‫أتــرك عمــي عــدة لذكرياتــه‪ ،‬وأنــزوي أنــا إلــى تلــك النافــذة الزجاجيــة التــي صنعــت‬
‫عالقاتــي بالقريــة‪ ،‬منهــا شــاهدت الكثيــر مــن أصحــاب الوجاهــة يتــوددون للشــيخ عــدة‬
‫وحتــى ال�ســي جمــال رب عملــي واحــد منهــم‪ ،‬منهــا تعرفــت علــى القريــة‪ ،‬علــى وجهائهــا‬
‫وأوباشــها‪ ،‬تعرفــت علــى كل عمــال مقلــع الحجــارة املجــاور للمقهــى فــي الجهــة املقابلــة‪،‬‬
‫تعرفت على ِشجاراتهم على ألفاظهم البذيئة التي كانت تصدرعنهم بكل طيبة‪ ،‬تعرفت‬
‫علــى مآ�ســي الشــباب‪.‬‬
‫لقــد ّ‬
‫عرفتنــي علــى زوايــا العالــم الخمســة‪ ،‬هنــاك ربطــت عالقــات قويــة بــكل أبنــاء‬
‫قريتــي حيــث كنــت أجلــس هنــاك لســاعات طويلــة‪ ،‬فيأخذنــي الحنيــن إلــى مدرســتي‪ .‬وكل‬
‫مــن فيهــا وكل وجــع علــى وجــع وليــس معــي إال قلمــي األســود وأوراقــي البيضــاء الصغيــرة‪،‬‬
‫وأرســم وأرســم وأعلــق بعــض اللوحــات الفنيــة علــى جــدران املقهــى‪.‬‬
‫فجأة يلتفت كل الحشــود لباب املقهى‪ .‬يتوقف الجميع عن الكالم‪ .‬وســطهم تمر‬
‫وضــرب حذائهــا ذي الكعــب العالــي يســمع بوضــوح مــن الصمــت املخيــم‪ .‬تلبــس معطفــا‬
‫وبريــا بنيــا وتضــع نظــارات شمســية‪ .‬متجهــة نحــوي مباشــرة وأنــا أمســح فــي الكونتــوار‬
‫وفــي يــدي قطعــة قمــاش مبللــة‪ .‬أمســكتني مــن ذراعــي وســحبتني للخــارج‪ .‬تحــت نظ ـرات‬
‫وهمســات من في املقهى‪ .‬خرجت معها وأعلم أن الحكايات الخيالية التي ستنســج وراء‬
‫ظهــري أكثــرمــن الحكايــات التــي نســجت حــول ال�ســي "املخفــي "‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫دخلنا سيارتها وقبل أن أسألها عن سبب قدومها‬


‫– ماذا هل سنبقى هنا‪ .‬أال ترحبون بالضيوف؟‬
‫ســرنا بســيارتها وســط القريــة تحــت أعيــن ســكان القريــة املندهشــين والفتيــة‬
‫الصغــارالذيــن راحــوا يجــرون وراء الســيارة يحاولــون اللحــاق بهــا‪ .‬وصلنــا قبالــة البيــت‪.‬‬
‫دخلنــا وناديــت علــى أمــي وقــد كانــت تضــع صينيــات الخبــز داخــل الكوشــة‪.‬‬
‫تفاجــأت أمــي ملــا رأت الفتــاة أول مــرة‪ .‬قعدنــا علــى الحصيــرة وأميمــة تضــع رأســها‬
‫خجــا‪ .‬ســلمت عليهــا أمــي أربعــا‪ .‬ابتســمت أميمــة مــن كثــرة تقبيــل أمــي لهــا‪ .‬قعدنــا نحــن‬
‫الثالثــة‪.‬‬
‫– يا عمري من هذه الرومية يا ولدي‪..‬‬
‫خجلــت أميمــة ولــم تفهــم كلمــة الروميــة التــي قصــدت بهــا أمــي أن جمالهــا مثــل‬
‫جمــال األجنبيــات‪.‬‬
‫– زميلتي أميمة نحن ندرس مع بعض في نفس القسم‬
‫– كي‪..‬ف سماك هللا يا بنتي‪ .‬يامينة!‬
‫– أميمة‪.‬‬
‫– آ صحا بنتي حليمة‪.‬‬
‫ثم ضحتك وابتسمت أميمة وضحكت أمي لضحكنا‪.‬‬
‫_أميمة يا أمي‪ ...‬اسمها أميمة‬
‫– اسمك جميل مثل اسم جدة هللا يرحمها كانت مطبوعة مثلك في الزين والقد‪.‬‬
‫لكن كانت عندها الصحة عليك‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم التفتــت أمــي نحــوي متســائلة وهــي تضــع يدهــا علــى كتفــي بنبــرة خافتــة كأننــا‬
‫وحد نــا‪:‬‬
‫– أال تأكل في منزلهم‪ .‬تكاد تموت!‬
‫ابتســمت مجــددا ولــم أعــرف كيــف أقنــع أمــي واعتقادهــا بــأن كل مــا زاد الشــخص‬
‫ســمنة زاد قــوة وصحــة وأن بنــات املدينــة ليســت مثــل بنــات الريــف‪.‬‬
‫ثم أرادت أميمة أن تغيراملوضوع فسألت أمي عن الوشم املوجود في جبهتها‪.‬‬
‫فاسترســلت أمــي الحديــث وأمســكت أميمــة مــن ذراعهــا وراحــت تســرد لهــا القصــة‬
‫التي ســردتها لي ألف مرة قبل النوم كان هناك ضابط فرن�ســي اســمه "ڨانبو "كان يأخذ‬
‫كل فتــاة تعجبــه ويمــارس عليهــا التعذيــب واالســتعباد‪ .‬ثـ ّـم ذات ليلــة وكنــت لتــوي قــد‬
‫وصلــت ســن البلــوغ‪ .‬فــي ذلــك الصبــاح عندمــا اســتيقظت وجــدت الوشــامة تقــف فــوق‬
‫رأ�سي وهي تحمل اإلبرة واملشرط‪ .‬كسرت أمي جزءا من الطاجين وامسكتني من رأ�سي‬
‫والوشــامة تغــرز االبــرة فــي جبتهــي وتمســح الدمــاء التــي تســيل مــن جبتهــي بطــرف خمارهــا‪،‬‬
‫ثم عندما انتهت الوشامة من تطريزالوشم‬ ‫وأنا فتاة صغيرة ال أعرف ماذا يحدث حولي ّ‬
‫فــي جبتهــي‪ .‬حكــت لــي أمــي بطــرف ســبابتها فحــم الطاجيــن علــى جبتهــي وعصبــت لــي رأ�ســي‬
‫بقطعــة قمــاش‪ .‬ثـ ّـم وضعــت الوشــامة رأ�ســي داخــل دف وراحــت تضــرب وتغنــي وتنشــد‪:‬‬
‫ها عيشة بنتي ها أنا‬
‫ربي يحميك من الشرومن العديان ااا‬
‫ها عيشة بنتي ها أنا‬
‫تكبري وتولي سيدة النسوان ااا‬
‫ها عيشة بنتي ها أنا‬
‫ثــم فــي تلــك الليلــة وأنــا أتخبــط مــن األلــم وجبتهــي تســيل دمــا أســودا يمتــزج بدموعــي‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫اقتحــم الضابــط الكلــب "ڨانبــو "هــذي الــدار وراح يأمــر جنــوده بأخــذ كل فتــاة عزبــاء‬
‫وعندمــا وصــل عنــدي نظــر فــي وجهــي نظــرة خنزيــر أحمــر‪ .‬ورأى الدمــوع الســوداء التــي‬
‫تلطــخ وجهــي والوشــم فــي جبتهــي‪ .‬فظــن أنــي ام ـرأة كبيــرة ومتزوجــة‪ .‬فتركنــي‪.‬‬
‫ثم ضحكت أمي وقالت‪:‬‬
‫يالهــم مــن أغبيــاء كانــت حيلــة الوشــم تفــوت عليهــم ويظنــون أن كل فتــاة موشــومة‬
‫هــي فتــاة متزوجــة وكبيــرة‪.‬‬
‫في تلك الليلة أخذو كل الفتيات بسني ونجوت بقدرة الرب وسعدة الوشامة‪.‬‬
‫و قــد كانــت أميمــة غارقــة مــع ســرد أمــي وهــي تحكــي لهــا الحكايــة‪ .‬كانتــا تتكلمــان فــي‬
‫انســجام بديــع كأنمــا قــد تعارفتــا منــذ زمــن وأميمــة ال تكــف عــن الضحــك وهــزرأســها‪.‬‬
‫أعــدت لنــا أمــي الكســكس وأكلنــا‪ .‬ثـ ّـم خرجــت رفقــة أميمــة وقعدنــا تحــت الخروبــة‬
‫الكبيــرة بجانــب الــدار‪ .‬كانــت هنــاك أرجوحــة معلقــة فــي الخروبــة‪ .‬ركبــت أميمة األرجوحة‬
‫مثــل فتــاة صغيــرة وأمرتنــي بدفعهــا فــي الهــواء‪.‬‬
‫بعدها استلقت وظهرها على الخروبة‪.‬‬
‫– عليك أن تعود للمدرسة فلم آت إلى هنا إال من أجل أن أعود وأنت معي‪.‬‬
‫– ال‪ ،‬قــد قــررت وفــات األوان‪ .‬هنــاك أمــور أهــم علــي القيــام بهــا‪ .‬وال أســتطيع‬
‫الذهــاب مجــددا إلــى هنــاك‪..‬‬
‫– قــد علمــت مــن مــروان صديقــك قصــة رهــن املنــزل وأنــا هنــا مــن أجــل املســاعدة‪.‬‬
‫قــد تكلمــت مــع أبــي وقــد وافــق علــى مســاعدتك مــن أجــل ســد الديــون التــي عليكــم‪ .‬ومــن‬
‫أجــل مرضــك‪.‬‬
‫–‪....‬‬

‫‪230‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعــم نعــم‪ ...‬أنــا أعــرف هــذا أيضــا لذلــك عليــك أن تســارع بالعــاج قبــل أن ينتشــر‬
‫الــورم‪.‬‬
‫– ال سأتكفل باألمر‪ .‬ال داع لذلك‪.‬‬
‫– أنظــر مطلوعــة‪" ..‬وكانــت أول مــرة أســمع هــذه الكلمــة تخــرج مــن فمهــا"‪ .‬مثلمــا‬
‫أنقذت أبي من املوت هو مدين لك بحياته وقد راسلته أمس وهو في اجتماع في وهران‬
‫وعن قريب سيكون هنا وهو متشوق ملقابلتك‪ّ .‬أمـا هذا املبلغ اعتبره من أجل أن تكمل‬
‫رســمتي التــي لــم تكملهــا هــا هــي أنظــر‪.‬‬
‫ً‬
‫مملوء باألصفارفي يدها األخرى‪.‬‬ ‫ثم أخرجت تلك الرسمة وقلما وشيكا‬
‫– ّإمـا أن آخذ النقود ّإمـا أن أكمل رسمك وال آخذ النقود اختاري! فأنا ال أمارس‬
‫الفن من أجل املال ولم أفكرأبدا بفعل ذلك‪.‬سكتت لبرهة وأعطتني الشيك والرسمة‬
‫ثم ركبت سيارتها وانطلقت وسط غبارالقرية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪231‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫رحل من دون وجه‬

‫كانــت عقــارب ســاعة القســم تشــيرللرابعــة والنصــف مسـ ًـاء‪ ،‬آخــرحصــة فــي اليــوم‬
‫وقــد كانــت حصــة اللغــة الفرنســية‪ ،‬فجــأة‪ .‬انطلقــت صرخــة قادمــة مــن املكتبــة‪ ،‬أفزعــت‬
‫كل مــن فــي املدرســة‪.‬‬
‫في املكتبة‪.‬‬
‫أميمة وهي ال تزال جاثمة على ركبتيها ترتعش وتبكي‪ ،‬تنحب أمام الجسد الهامد‬
‫على األرض‪ ،‬تدخل بعض املوظفين لسحبها‪ ،‬وإبعاد التالميذ عن مسرح الجريمة‪ ،‬ساد‬
‫الذعــروالخــوف بيــن التالميــذ وبعــد لحظــات وصلــت الشــرطة‪ ،‬ســيجوا موقــع الحادثــة‬
‫بشريط الصق أحمر‪ ،‬وبسرعة دخل املوقع خمسة من رجال الشرطة يلبسون بدالت‬
‫بيضــاء علــي ظهرهــا كتــب باألســود شــرطة علميــة‪ ،‬يتقدمهــم رجــل قصيــرأشــيب الشــعر‬
‫يبــدو فــي الخمســين مــن عمــره ويرتــدي مئــزرا أبيــض‪ ،‬أشــارلشــرطيين بجمــع البصمــات‬
‫وعينــات الــدم وشــرطيين آخريــن بالتقــاط صــورا للضحيــة وللمكتبــة‪.‬‬
‫ثـ ّـم بعــد لحظــات مــن البــاب ظهــر رجــل أســمر غريــب املالمــح متوســط القامــة‪،‬‬
‫يرتــدي حمالــة ســروال‪ ،‬هندامــه أشــبه بهنــدام تشــارلي تشــابلين علــى املســرح‪ ،‬أنفــه‬
‫طويل ونظاراته مربعة‪ ،‬يحمل بيده جريدة وبيده األخرى تفاحة يرميها في الهواء ويعيد‬
‫امســاكها بحركــة شــبه تلقائيــة دون أن ينظــر لهــا‪ .‬يم�شــي بخطــوات قصيــرة ومتقاربــة‪،‬‬
‫ويحــوم برأســه الطويــل متفقــدا املــكان‪.‬‬
‫بعدما رآه الرجل القصيرهرع نحوه بلهفة‪:‬‬
‫– أهال سيدي‬
‫– أهال دكتور‪ ،‬كم م�ضى على قدومكم هنا؟ وأين الجثة؟‬
‫– عشردقائق تقريبا‪...‬هناك‪....‬من هنا سيدي‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وقــف الرجــل أمــام الجثــة‪ ،‬نــزل علــى األرض ليتفقدهــا عــن كثــب‪ ،‬حــك ذقنــه‬
‫الســوداء والتف��ت نح��و الطبي��ب مستفس��را‪:‬‬
‫_هل تم تغيير�شيء في هذه املكتبة؟‬
‫_ لم يلمس �شيء‪ ،‬وقد كنت حريصا على أال أحرك الجثة أثناء فح�صي لها‪.‬‬
‫_كم م�ضى على موته؟‬
‫_حسب حرارة جسد الضحية‪ ،‬حوالي الساعتين على األكثر‪.‬‬
‫_هل دخل أحدهم أو خرج إلى املدرسة في آخرساعتين؟‬
‫_مــن كالم البــواب‪ .‬لــم يفتــح البــاب الرئي�ســي للمدرســة فــي آخــرســاعتين‪ .‬ســوى مــرة‬
‫واحــدة عندمــا خــرج املديــر‪.‬‬
‫_هل هناك مدخل آخرللمدرسة‪.‬‬
‫_ال سيدي‪.‬‬
‫هزاملحقق رأسه ونظرحوله ّ‬
‫ثم نادى بنبرة خشنة‪:‬‬
‫_أحضــر لــي البــواب ومخطــط املدرســة‪ ،‬أغلقــوا بــاب املكتبــة‪ ،‬ال تســمحوا‪ ،‬ألحــد‬
‫بالخــروج علينــا تمشــيط كل املــكان‪ ،‬أيــن املديــر هنــا؟‬
‫بعد لحظات تقدم املديرنحو الرجل‪ ،‬تصافحا‪:‬‬
‫– على ما يبدوا أنك املدير!‬
‫يرد املديربنبرة منخفضة‪:‬‬
‫– نعم‬

‫‪233‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ملاذا ربطة عنقك مفتوحة‪ ،‬هل أنت متوتر؟‬


‫– ال ال‪ ،‬أنــا لســت‪ ...‬أقصــد نعــم مــس‪" ...‬اضطــرب املديــربعدمــا وجــه لــه املحقــق‬
‫هــذا الســؤال املباشــر‪ .‬ثـ ّـم تمالــك نفســه بــأن يتفــادى الســؤال بســؤال مثلــه"‬
‫_ ومن أنت حضرتك؟ هل أنت رئيس قسم الشرطة؟‬
‫– ال‪.‬‬
‫_من املفروض أن الشرطة هي التي تدخل املكان أوال هذه هي اإلجراءات‪.‬‬
‫ثــم رفــع املحقــق نبــرة صوتــه ومــس كتــف املديــربالجريــدة واتبــع قائــا يعــرف بنفســه‬
‫بتفاخــر‪.‬‬
‫_هل انزعجت من وجودي هنا؟‬
‫_ال ال‪.‬‬
‫_أنــت محــق االجـراءات تقــوم علــى أن الشــرطة هــي مــن تتدخــل قبلــي‪ .‬لكــن صــادف‬
‫أن كنــت قريبــا مــن هنــا وأنــا أشــعربامللــل لذلــك جئــت ألتســلى قليــا‪ .‬هــل مانــع فــي هــذا؟‬
‫رد املديربتردد وخوف‪:‬‬
‫_ال ال يشرفنا حضورك سيدي‪...‬‬
‫– فخرالدين املاحي‪.‬‬
‫سكت املديريفكرلبرهة‪:‬‬
‫– ألــم تســمع مــن قبــل باملاحــي‪ ،‬املحقــق؟ يــا أســتاذ حميــد بســكري! ال أعتقــد أنــك‬
‫تق ـرأ الجرائــد!‬

‫‪234‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫عقــد املديــرحاجبيــه وهــزرأســه كأن هــذا االســم قــد مــرعليــه مــن قبــل واســتغرب‬
‫كيــف أن املفتــش يعــرف اســمه الكامــل‪.‬‬
‫– كم من قسم تبقى في املدرسة؟‬
‫– قسمان فقط‪.‬‬
‫_ أين كنت عندما جرت الحادثة؟‬
‫حتى سمعت الصراخ‪.‬‬‫_كنت في مكتبي‪ّ .‬‬

‫_هل خرجت من املدرسة في املساء؟‬


‫تردد املديرفي اإلجابة‪:‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_كم من مرة؟ في أي ساعة؟ وأين ذهبت؟‬
‫_خرجــت مــرة واحــدة حوالــي الســاعة الثانيــة‪ .‬بعدمــا دخــل التالميــذ إلــى أقســامهم‪.‬‬
‫وذهبــت ألشــتري قهــوة كعادتــي‪.‬‬
‫– كعادتــك آه‪...‬حســنا عليــك أن تحضــر لــي امللــف املدر�ســي للضحيــة وأعتقــد أن‬
‫بحوزتكــم امللــف الطبــي أيضــا!‬
‫–طبعا سيدي ككل تلميذ آخرفي املدرسة‪.‬‬
‫_وفــي طريقــك يمكنــك أن تحضــرلــي ملفــات كل زمــاء الضحيــة فــي القســم وكل مــن‬
‫كانــت لهــم عالقــة بــه مؤخـرا أليــس كذلــك؟‬
‫بدى املديرمستاء من كثرة طلبات املحقق إضافة إلى طريقة كالمه املستفزة‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–سيدي‪...‬ســيدي‪ .‬امللفــات فــي األرشــيف‪...‬و هــذا ليــس عملــي ويصعــب علــي العثــور‬
‫عليهــا وحــدي دون مســاعدة عامــل املكتبــة؟‬
‫–و أين عامل املكتبة؟‬
‫–غائــب اليــوم‪ ،‬اتصلنــا بــه وردت زوجتــه تعتــذر عــن غيابــه بســبب أنــه أصيــب‬
‫بوعكــة صحيــة‪ ،‬وغــدا ســيتمكن مــن الرجــوع للعمــل ونتمكــن مــن فتــح خزنــة األرشــيف‪.‬‬
‫– ال نملــك وقتــا هنــا تصــرف‪ ،‬اآلن‪...‬تســتطيع كســرالخزنــة علــى مــا يبــدو مــن قــوة‬
‫ذراعــك وقــد تســتطيع فعــل مــا هــو أكثــر! أليــس كذلــك؟‬
‫اقترب املحقق من املديريلوح بجريدته في وجه مبتسما ابتسامة ماكرة‪:‬‬
‫– أم أنت خائف من فتحها!‬
‫صمت املديروعرق جبينه‪ ،‬لم يرد!‬
‫– حسنا‪ ،‬جيد‪ .‬شكرا لتعاونك سيدي‪.‬‬
‫قالهــا املحقــق ماحــي وهــو يتراجــع للخلــف مبتســما للمديــرابتســامة بــاردة‪ ،‬ثـ ّـم وضــع‬
‫الجريدة تحت ذراعه ورفع كلتا يديه في الهواء وصفق بقوة ليثيرانتباه الحضور نحوه‪،‬‬
‫رفــع صوتــه بنبــرة عاليــة واضحة‪:‬‬
‫– اســمعوا يــا أوالد! نحتــاج شــهادة كل شــخص فــي املدرســة ملعرفــة املجــرم املختبــئ‬
‫بينكــم‪ .‬ال تقلقــوا لــن يطــول األمــرفحســب علمــي تبقــى قســمان فقــط فــي املدرســة‪ ،‬حوالــي‬
‫الثمانيــن شــخص زائــد أربعــة معلميــن وحارســين ومديــر‪ ،‬مستشــار توجيــه‪ ،‬وعاملــة‬
‫النظافــة‪ ،‬وأرجــوا أن تتعاونــوا مــع القانــون‪.‬‬
‫كان أول شــ�يء يح��س ب��ه املـ�رء داخ��ل املكتب��ة ه��وبرــودة امل��كان‪ ،‬فق��د كان��ت النافـ�ذة‬
‫مفتوحـ�ة إلـ�ى آخرهـ�ا والس�تـائر مس�حـوبة‪ .‬ارتجـ�ف املاحـ�ي مـ�ن البرــد‪ ،‬فابتسـ�م الطبيـ�ب‬
‫وقــال‪:‬‬

‫‪236‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_لم أشأ أن أغلقها‬


‫تفحص املحقق النافذة بحرص ّ‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫– أن��ت عل��ى ح��ق‪ .‬ال يبــدوا أن أحده��م خـ�رج منه��ا لك��ن ربم��ا أري��د م��ن فت��ح النافـ�ذة‬
‫أن يعتق��د املـ�رء ذل��ك‪ ،‬ولك�نـ‪ ،‬إن كان هـ�ذا صحيحــا‪ ،‬فق��د أخف��ق القات��ل ف��ي هدف��ه هــذا‪.‬‬
‫فحص إطارالنافذة بحرص ّ‬
‫ثم أخرج علبة صغيرة من جيبه ونفخ‬
‫بعض املسحوق األبيض عليها‪:‬‬
‫– ال توجد بصمات أبدا‪ ،‬مما يعني أنها قد مسحت وحتى لو وجدت بصمات فلن‬
‫تخبرن��ا إال بالقلي��ل‪ ،‬فه��ي ّإم ـ�ا أن تك��ون بصم��ات املكتب��ي أو عامل��ة النظاف��ة فاملجرم��ون ال‬
‫يرتكبـ�ون مث��ل هـ�ذه األخطـ�اء ف��ي أيامن��ا ه��ذه‪ ،‬خصوص��ا إن كانـ�وا يدرسـ�ون الرياضيــات‬
‫والفيزياء والفلسفة فبإمكان هؤالء الطلبة األبرياء في نظرك‪ ،‬يا دكتور رشيد التحايل‬
‫عليـ�ك بأذ ـك�ى الطـ�رق‪ ،‬فقـ�د يس��تعملون الكيميــاء إلخفــاء البصم�اـت والعلــوم لقتـ�ل‬
‫الضحيـ�ة بس�هـولة الس��تهداف جسـ�د الضحيـ�ة فـ�ي أماكـ�ن حسـ�اس ويلجؤــون ألحاديـ�ث‬
‫فلس��فية لتدويخ��ك وتظليل��ك أثن��اء االســتجواب‪.‬‬
‫ثم ضحك الطبيب مضيفا‪:‬‬
‫_ حق��ا ه��ذا الجي��ل عبقـ�ري‪ ،‬ق��د ســبقنا بكثي��رلك��ن الخب��رة له��ا دور كبي��ري��ا ســيدي‬
‫وهـ�ل تظـ�ن أن مراهقـ�ا يمكنـ�ه التفكيـ�رفـ�ي مسـ�ح البصمــات مـ�ن النافــذة او تضليلنـ�ا بتركهـ�ا‬
‫مفتوحــة؟‬
‫بنبرة ساخرة رد املحقق املاحي‪:‬‬
‫– ه��ؤالء األوالد يقـ�رؤون كت��ب الجريم��ة ويحل��ون ألغ��از أجاث��ا كريس��تي قب��ل أن‬
‫تحله��ا عن��د وق��وع الجريمـ�ة وإن كن��ت تتح��دث ع��ن الخب��رة ي��ا رشـ�يد‪ ،‬فإنه��م يشـ�اهدون‬
‫أعقد الجرائم في األفالم واملسلسالت البوليسية ما لم أصادفه في حياتي كلها‪ ،‬األفالم‬
‫البوليســية شــحنت رؤوس هــؤالء بالخيــال وكل الخطــط التــي ال تأتــي علــى بالــك‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ّ‬
‫ثم أضاف بنبرة جدية‪:‬‬
‫_لق��د ســبقونا بالتكنولوجي��ا لق��د س��بقونا‪..‬وبما أن األم��ركذل��ك فم��ن األفض��ل أن‬
‫نغلق النافذة‪ ،‬ونجمع كل األدلة املتاحة هنا وال نقلل من ذكاء القاتل‪ ،‬فعلى شيبتي لن‬
‫يخدعن��ي اب��ن البارحة‪.‬ث��م ق��ام بإغ�لاق النافذــة وأض��اف بثقة‪.‬‬
‫_ليس كل من يأكل التفاح من املالح‪.‬‬
‫ثـ�م حــول انتباه�هـ‪ ،‬وللمــرة األولـ�ى نحـ�و تمثــال الفتـ�ى املم�دـ وامللتصـ�ق بخــده علـ�ى‬
‫األرض‪ ،‬مم��دد عل��ى بطن��ه وعل��ى مئـ�زره األزرق تنتش��ربق��ع دم حم��راء‪ .‬كان��ت أزرارمئـ�زره‬
‫مفتوح��ة وق��د تكش��ف مئ��زره الداخل��ي ع��ن صــدره‪.‬‬
‫أوضح له الطبيب قائال‪:‬‬
‫_كان علي أن أرى طبيعة الجراح كما تعلم‪ .‬لذلك فتحت مئزره‪.‬‬
‫أومأ املحقق برأسه موافقا ومال فوق الجثة‪ّ ،‬‬
‫ثم انتصب واقفا وهو يعبس قليال‬
‫وقال‪:‬‬
‫_ ليـ�س باملنظـ�رالجميـ�ل‪ .‬ال بـ�د وأن أحدهـ�م وقـ�ف هنـ�ا وطعنـ�ه مــرة بعـ�د أخــرى‪ .‬كـ�م‬
‫عــدد الجرــاح بالضبــط؟‬
‫_ أعتبرها أربعة جروح‪.‬‬
‫_اعتبرتها؟‬
‫_نعم‪..‬باإلضاف��ة إل��ى ج��رح طفي��ف ف��ي الكت��ف يمك��ن اعتبـ�اره خـ�دش‪ ،‬الجـ�روح‬
‫األربعـ�ة علـ�ى األقـ�ل يمكـ�ن ألي واحـ�د منهـ�ا أن يســبب املوــت‪ .‬هنـ�ا فـ�ي قفـ�ى الرــأس مثـلا‪ ،‬قـ�د‬
‫تلقـ�ى ضربـ�ة قويـ�ة مـ�ن الخلـ�ف أفقدتـ�ه وعيــه‪.‬‬
‫_ والجرح الخامس؟‬

‫‪238‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هنـ�ا أنظـ�رمباشــرة فـ�ي وريـ�د الرقبـ�ة تبــدو لـ�ك طعنـ�ة صغيــرة لكنهـ�ا ضربـ�ة دقيقـ�ة مـ�ن‬
‫ي��د خبيـ�رة‪ ،‬عل��ى األرج��ح أنه��ا كان��ت السـ�بب ف��ي املـ�وت مقارن��ة بالضربـ�ات األخـ�رى‪ ،‬هـ�ذه‬
‫حتى املوت!‬‫الطعنة تكون من أداة حادة ومدببة أصابت الوريد الوداجي وتركته ينزف ّ‬

‫_هل تقصد مدورا مثال!‬


‫_نعم يمكن ذلك‪ ،‬أو ابرة خياطة‪.‬‬
‫ثم تنهد الطبيب وبدت عالمات الحيرة على وجهه!‬
‫_ ما األمر؟‬
‫أوضح الطبيب قائال وهو يشيربيده‪:‬‬
‫_أتــرى هذيـ�ن الجرحي��ن‪ ،‬هــذا وهذــا؟ إنهمـ�ا عميق��ان‪ ،‬وال بـ�د مـ�ن أن كل واحـ�د منهمـ�ا‬
‫قـ�د قطـ�ع بعـ�ض الش��رايين‪ ،‬ولكـ�ن علـ�ى الرغـ�م مـ�ن ذلـ�ك فإنهمـ�ا غيـ�رمفتوحيـ�ن ولـ�م ينزفـ�ا‬
‫كم��ا يتوق��ع املـ�رء منهمــا‪.‬‬
‫‪ -‬وعلى ماذا يدل هذا؟‬
‫‪ -‬يـ�دل عل��ى أن الرج��ل كان ق��د مـ�ات قب��ل مـ�دة م��ن توجي��ه هاتي��ن الطعنتي��ن إليــه‪،‬‬
‫ولك��ن ه��ذا يب��دو شـ�اذا جــدا‪.‬‬
‫قال املحقق مفكرا‪:‬‬
‫_نعم يبدو األمركذلك‪ .‬إال إذا فكرالقاتل أنه لم ينجزمهمته على الوجه األكمل‬
‫فعاد ليتأكد من إتمام األمر‪ .‬ولكن هذا يبدو غيرمعقول أبدا‪ .‬هل من �شيء آخر؟‬
‫_نعم أمرواحد‪.‬‬
‫_وهو؟‬

‫‪239‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ أتــرى هــذا الجــرح هنـ�ا أســفل ال�ذـراع األيمـ�ن قــرب الكتــف؟ الضرب��ة مـ�ن الخلـ�ف‬
‫حتم��ا‪ ،‬هــاك خـ�ذ قلمـ�ي هــذا‪ .‬هـ�ل تس�تـطيع أن توجـ�ه مثـ�ل هــذه الطعنـ�ة بيــدك اليمنــى؟‬
‫رفع املحقق يده وقال‪:‬‬
‫_ لقد فهمت اآلن إنها ضربة صعبة جدا باليد اليمنى وتكاد تكون مستحيلة‪ ،‬على‬
‫املرء أن يضرب ويده ملوية للخلف‪ .‬حتما هذه الضربة وجهت باليد اليسرى‬
‫_تماما يا سيدي‪ .‬من املؤكد تقريبا أن هذه الضربة أنجزت باليد اليسرى‬
‫_قاتلنا أعسرإذن؟‬
‫_ إال أن األمرأعقد من هذا‪.‬‬
‫– كما قلت ياسيدي إن بعض الضربات األخرى كانت يمينية بكل وضوح‪.‬‬
‫تمتم املحقق املاحي‪:‬‬
‫– شخصان؟ لقد عدنا إلى نظرية الشخصين من جديد!‬
‫أضاف الطبيب‪:‬‬
‫_ماذا تعني؟‬
‫رد املحقق‪:‬‬
‫– لدين��ا هن��ا فرضي��ة القات��ل األول والقات��ل الثان��ي كم��ا كان م��ن ش��أن شكسـ�بير‬
‫أن يسمــيها الدالل��ة الثنائي��ة الحتميةــ‪ ،‬ض�رـب القات��ل األول ضحيت��ه عل��ى رأسـ�ه وخـ�رج‬
‫مغ�اـدرا املكتب��ة‪ ،‬ث ّ��م أتـ�ى القاتـ�ل الثان��ي ووجـ�د الضحيـ�ة تتخبـ�ط علـ�ى األرض فانهــال عليهـ�ا‬
‫بالطعنــات ولـ�م يعلـ�م أو تعلمــ‪ "...‬أن العمـ�ل قـ�د أنجزــ‪ ،‬فطعـ�ن علـ�ى األقـ�ل مرتيـ�ن فـ�ي جثـ�ة‬
‫ميتـ�ة‪ .‬هـ�ل يفسـ�رهــذا األمــر؟‬

‫‪240‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قال الطبيب ب�شيء من الحماسة‪:‬‬


‫_عظيم!‬
‫ملعت عينا املحقق وقال‪:‬‬
‫_ أتظـ�ن ذلــك؟ أنـ�ا سعــيد بهــذا‪ ،‬ولكـ�ن يبــدو لـ�ي أن هــذا التحليـ�ل هـراء وهـ�ل يوجـ�د‬
‫تحليـ�ل آخــر؟‬
‫رد الطبيب‪:‬‬
‫_ال أعرف حقا‪ .‬ربما لها تفسيرآخر‪.‬‬
‫_هــذا مـ�ا أســأل عنـ�ه نف�س��ي‪ ،‬هـ�ل لدينـ�ا هنـ�ا صدفـ�ة أم م�اـذا؟ وه��ل سنــجد املزيـ�د‬
‫من املتناقضات التي تشيرإلى تورط شخصين في املوضوع؟أو ربما أكثرأظنني أستطيع‬
‫الجــواب باإليجـ�اب هـ�ذه الجريم��ة مخط��ط له��ا بإحــكام فكم��ا قل��ت لكــ إن بع��ض هـ�ذه‬
‫الضربــات تشــيرإلـ�ى ضعـ�ف أو إلـ�ى نق��ص ّإم ـ�ا فـ�ي القــوة فـ�ي العزيمــة وقـ�د ترــدد القاتـ�ل فـ�ي‬
‫الضربـ�ة‪ ،‬لق��د كان��ت ضربـ�ات ضعيف��ة جـ�دة‪ّ .‬أمـ��ا هـ�ذه هنــا‪ ،‬وهـ�ذه أيض��ا أنظ��رفـ�إن قـ�وة‬
‫كبي��رة كان��ت وراءهاــ‪ ،‬إذ أنه��ا اخترق��ت العضــات‪.‬‬
‫إذن هي ضربات فتى قوي برأيك؟‬
‫_ بالتأكيد‪.‬‬
‫_و أال يمكن أن تكون امرأة فعلت ذلك؟‬
‫_ ربما‪ ،‬إذا كانت شابة رياضية قوية‪ ،‬وخاصة إذا كانت تحت تأثیرفورة عاطفية‬
‫جامحــة‪.‬‬
‫سأل الطبيب املحقق‪:‬‬
‫_وأي سيناريو تراه واقعيا أكثر؟‬

‫‪241‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ القات��ل فت��ى يمتل��ك ق��وة كبيــرة‪ ...‬والقات��ل ضعيفـ�ا‪ ...‬القات��ل فتـ�اة تح��ت ثـ�ورة‬
‫عواطـ�ف والقات�لـ وج��ه ضربتهــ م��ن الخل��ف والقات��ل خ��رج م��ن الب��اب ولي��س م��ن النافــذة‪.‬‬
‫ال أدري حقــا مــا أقولــه لــك‪.‬‬
‫ثم نظرحوله وهو يتابع كالمه‪:‬‬
‫_سنتحدث في ذلك الحقا‪ .‬دعنا نتأكد أوال من أننا رأينا كل ما يجب علينا أن نراه‬
‫ثم انحنى املحقق وفتش جيوب مالبس الفتى امليت مرة أخرى وبسرعة أخرج من‬
‫جي��ب س��رواله الخلف��ي كي��س مس��حوق أبي��ض‪ ،‬وعل��ى األرض وج��د الطبي��ب زرا وردي‪،‬‬
‫عرضـ�ه علـ�ى الطبي��ب دون أن يحملـ�ه‬
‫_أنظر! هنا!‬
‫_يبدو أنه زر مئزر أنثوي!‬
‫_إذن فرضية وجود فتاة قد تكون صحيحة!‬
‫_افحصه إن كان عليه بصمات‬
‫أخــرج الطبيـ�ب مـ�ن جيبـ�ه مصباحـ�ا صغي ـرا وحمـ�ل الــزر بملقــط ووضعـ�ه داخـ�ل‬
‫علب��ة مظلمـ�ة وس��لط علي��ه أش��عة زرق��اء م��ن املصبـ�اح ثـ ّـم وضع��ه ف��ي كي��س صغيـ�روأعطاه‬
‫للمحقــق‪.‬‬
‫_ال بصمات عليه سيدي‬
‫ه��زاملحق��ق رأس��ه بحرك��ة بطيئ��ة وه��و يســتمربالبح��ث ف��ي ثيـ�اب الفت��ى بع��د لحظـ�ات‬
‫وق��ف املدي��رف��وق رأس��ه يحم��ل بيدي��ه امللفــات‪:‬‬
‫_شكرا لتعاونك سيدي‪ ،‬ضعها فوق الطاولة هناك‪.‬‬
‫ثم نظراملحقق لوجه املديرواستغرب من مالمح وجه املتوهجة!‬

‫‪242‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كان املديرمنتفخ البطن يبدوا واقفا بصعوبة فسأله املحقق برقة‪:‬‬


‫_�شيء ما يبدو لك غريبا د أليس كذلك؟ تكلم يا صديقي‪ ،‬أيوجد �شيء يحيرك؟‬
‫نظراملحقق نحو املديردون أن يتحدث‪ ،‬رد املديروهو يستخدم يديه للكالم‪.‬‬
‫_هل يمكنك أن تستدعي عامل املكتبة!‬
‫_املكتبي إنه غا‪...‬‬
‫_ال أقصد العامل اآلخر‬
‫أجاب املديريهزرأسه‪:‬‬
‫_ نعم بكل تأكيد‪.‬‬
‫ثــم أســرع املحقــق نحــو الشــاب‪ .‬ودعــاه للجلــوس علــى ســطح مكتــب فــارغ فــي املكتبــة‬
‫ثـ ّـم رمــى لــه التفاحــة بيــن يديــه وبــدأ باســتجوابه‪:‬‬
‫– يبدوا أنك مكتبي املدرسة؟‬
‫– ال سيدي‪ .‬أنا عامل فيها فقط‪.‬‬
‫_ماذا تقصد بعامل ما هو دورك؟‬
‫_أنــا خــازن الكتــب‪ .‬أقــوم بترتيــب الكتــب ونقلهــا ووضعهــا فــي الرفــوف وفــي املخــزن‬
‫وأحــرص علــى توفيرهــا مــن خــارج املدرســة وأحيانــا أنــوب علــى املكتبــي وأســجل التالميــذ‬
‫الذيــن قامــوا بإعــارة الكتــب‪.‬‬
‫_إذن ملاذا لم تنب اليوم على املكتبي؟‬
‫_ال أدري لم أكن أعلم أنه سيغيب عن العمل اليوم‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_حســنا سأســألك بعــض األســئلة يــا رحيــم‪ ،‬ال تعتبــره تحقيقــا وإنمــا حديــث بيــن‬
‫شــخصين مهنييــن يتعارفــان لتوهمــا‪.‬‬
‫– طبعا سيد‪...‬‬
‫– املحقق محي الدين سعدي‪ ..‬يمكنك مناداتي املاحي‪.‬‬
‫– هــل أنــت املحقــق الــذي ألقــى القبــض علــى حميــد البغــل‪ ،‬أكبــراللصــوص فــي حــي‬
‫ميلــودي‪ ،‬شــاهدت لقــاءك فــي التلفــاز‪ ،‬تشــرفت بلقائــك‪.‬‬
‫– جميل‪ ،‬أنت تتباع أحداث املدينة مؤخرا‪ ،‬أنت مهتم بعالم اإلجرام والتحريات‬
‫إذن!‬
‫– ال‪.‬أقصــد فلــكل قــد ســمع بالحادثــة‪ ،‬علــى كل حــال‪ .‬أنــت مشــهور نوعــا مــا أليــس‬
‫كذلــك؟‬
‫ّ‬
‫ثم مد يده ليصافح املحقق‪.‬‬
‫– رحيم الشاوي عامل في مكتبة املدرسة‪.‬‬
‫– تشرفنا يا رحيم لندخل في املوضوع مباشرة‪ .‬منذ متى وأنت تعمل هنا؟‬

‫– منذ عامين تقريبا‪.‬‬


‫– أين كنت عندما اتصل بك املدير؟‬
‫صمت رحيم قليال ّ‬
‫ثم أجاب‪:‬‬
‫_كنت في امللعب‪.‬‬
‫– ماذا كنت تفعل؟‬

‫‪244‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ال �شيء فقط كنت جالسا وأقرأ في كتاب‪.‬‬


‫_ال �شيء هاه‪ ..‬تقرأ في كتاب فقط هل أنت واثق؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_أي كتاب؟‬
‫_رواية الالزللطاهروطار‪.‬‬

‫ثم نظراملحقق للشاب وهو يستمرفي تدوين مالحظاته‪:‬‬


‫– جميل‪ .‬أخبرني هل لك عالقة بالضحية؟‬
‫– ال سيدي ال أعرفه‪.‬‬
‫_حسنا أخبرني ماهي عالقتك باملطالعة‪...‬الروايات؟‬
‫_نعم أنا أحب القراءة‪ .‬لذلك أخترت أن آخذ هذا العمل‪ .‬بدل أن أجلس في املنزل‬
‫أقرأ الكتب من دون عمل‪ .‬أنا أق�ضي وقتي بين الكتب وآخذ راتبا ال بأس به‪.‬‬
‫_إذن أنت تعرف معظم عناوين الكتب املوجودة في املكتبة حسب كالمك؟‬
‫_في معظمها نعم؟‬
‫_إذن هل تعرف رواية رحل من دون وجه "‪.‬‬
‫_رحل من دون وجه؟ من كاتبها؟‬
‫_هذه الرواية أقصد!‬
‫ثم عرض املحقق الرواية أمام رحيم‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_كاتبها فارس ياني‪.‬‬


‫_لم أسمع به من قبل‪.‬‬
‫_ هــل أنــت مــن وضعتهــا بجانــب جثــة الضحيــة أو فــي الــرف الــذي وقعــت بجنبــه‬
‫الضحيــة؟ باملناســبة هــي الروايــة الوحيــدة املوجــودة هنــاك‪.‬‬
‫_ال لست أنا‪ .‬وليست من روايات املكتبة‪.‬‬
‫– هل أنت واثق من هذا؟‬
‫_نعــم أنــا واثــق‪ .‬فلــو كانــت كتابــا مدرســيا تعليميــا لشــككت فــي ذلــك‪ .‬لكــن بمــا أنهــا‬
‫روايــة فالروايــات املوجــودة فــي املكتبــة ال تتجــاوز املئــة عنــوان وأنــا مطلــع علــى معظمهــا‬
‫وهــذه الروايــة لــم تكــن هنــا مؤخـرا‪.‬‬
‫_مؤخرا! منذ متى لم تتفقد الكتب املوجودة في قسم الروايات؟‬
‫_أسبوع تقريبا ألني كنت مشغوال بالكتب التي في املخزن واألرشيف‪.‬‬
‫_غريب‪.‬‬
‫_هل هي رواية بوليسية!‬
‫_نعم‪ .‬وكيف عرفت ذلك؟‬
‫_من العنوان فقط‪.‬‬
‫_هل أنت متأكد من ذلك؟‬
‫_نعم دعنا نبحث عنها في جوجل‪.‬‬
‫ثــم نــادى املاحــي علــى الطبيــب وأمــره أن يبحــث عــن عنــوان الروايــة فــي محــرك‬
‫البحــث‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ملا قرأ املاحي نتيجة البحث عقد حاجبيه وغرق يفكرفي صمت لبرهة‪.‬‬
‫– من معه مفتاح املكتبة غيرك؟‬
‫– ال أحــد‪ ،‬أقصــد مــا عــدى املكتبــي‪ .‬ومديــراملدرســة طبعــا ألنــي أضــع نســخة مــن‬
‫املفتــاح فــي إدارة املدرســة‪.‬‬
‫– همم‪ ،‬وماهي آخرمرة غيرت فيها مالبسك وتركت املفتاح داخلها؟‬
‫– ال أذكــر‪ ،‬لكــن ربمــا آخــرمــرة عندمــا دعانــي بعــض األوالد ألديــرمبــاراة كــرة قــدم‬
‫وإللحاحهــم علــي‪ ،‬وبمــا أنــي كنــت ألعــب مــن قبــل كــرة القــدم وأنــا حكــم ســابق‪ ،‬قــررت أن‬
‫أشــارك فــي املبــاراة طبعــا‪.‬‬
‫– مع من لعبت؟‬
‫ثم ذكرله العامل األشخاص املشاركين في اللقاء وشكره على تعاونه وانصرف‪.‬‬
‫***‬
‫فتــح املاحــي الروايــة وراح يقـرأ فــي آخــرالصفحــات منهــا بعدمــا قـرأ عنهــا ملخصــا ورد‬
‫علــى ظهــره غالفهــا وعــرف تقريبــا قصتها‪.‬‬
‫ثم أخرج من جيبه ورقة ماصة‬ ‫خبأ املحقق الكتاب بين صفحات جريدته‪ ،‬تنهد‪ّ ،‬‬
‫ولفهــا بيــن أصابعــه وباليــد األخــرى حشــاها بالتبــغ املجفــف صنــع كــرة شــمة ووضعهــا‬
‫تحــت شــاربه‪.‬‬
‫– ليست القضية سهلة‪ ،‬يا رشيد خويا‪ ،‬ليست سهلة‪.‬‬
‫_ماذا استنتجت؟‬
‫_ الرجــل بــدى هادئــا فــي أجوبتــه‪ ،‬رغــم أن جوابــه عــن عــدم معرفتــه بالضحيــة‬
‫وطريقــة رده املباشــرة والســريعة كأنــه كان ينتظــرأن يطــرح عليــه هــذا الســؤال مشــبوه‬

‫‪247‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫فيهــا‪ ،‬يعنــي أنــه لــم يكــن عفويــا بطريقــة كليــة فــي إجاباتــه‪ ،‬وهــذه الروايــة هــي الروايــة‬
‫الوحيــدة فــي ذلــك الــرف‪ .‬وهــي روايــة بوليســية‪ ،‬ولــم أجــد لهــا نتيجــة فــي محــرك البحــث‪.‬‬
‫وعلــى يبــدو مــن ملخصهــا أنهــا تحكــي قصــة شــاب مقتــول بخمــس طعنــات‪ .‬أال يوحــي لــك‬
‫هــذا بــأي �شــيء!‬
‫رد الطبيب مستغربا وعلى وجهه بدت معالم الحيرة‪:‬‬
‫_نعم‪..‬نعم‪ ..‬هي نفس عدد الطعنات التي تلقتها ضحيتنا‪.‬‬
‫_هــل هــي مجــرد صدفــة أم أنهــا إشــارة مــن القاتــل لنــا‪ّ ،‬‬
‫حتــى يختبــر ذكائنــا ويلعــب‬
‫لعبتــه معنــا‪.‬‬
‫سكت الطبيب ولم يعرف كيف يرد واكتفى بالصمت‪.‬‬
‫– أحضرلنا عاملة النظافة هنا‪.‬‬
‫– حسنا‬
‫***‬
‫كانــت عاملــة النظافــة ســيدة تبــدو فــي األربعيــن مــن عمرهــا نحيفــة الجســد‪ ،‬لكنهــا‬
‫تبدوا بصحة جيدة من نظارة وجهها واستقامة قامتها‪ ،‬كانت تتكئ على املكنسة وتجر‬
‫دلوهــا األزرق‪ ،‬تضــع يديهــا علــى جانبيهــا وعلــى رأســها فــوالرة زرقــاء‪.‬‬
‫– هــل يمكنــك الجلــوس ســيدتي ولــن يطــول األمــرال تقلقــي ســنطرح عليــك بعــض‬
‫األســئلة الخفيفــة‪.‬‬
‫– نعم‪ ،‬نعم ّ‬
‫حتى ظهري يؤملني قليال اليوم آه‪.‬‬
‫– طبعا‪ ،‬طبعا تفضلي‪ ،‬إرتاحي!‬
‫_خذي بعض التفاح فهو مفيد لصحتك‬

‫‪248‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ال شكرا‪..‬‬
‫ثم ساد الصمت لبرهة‪:‬‬
‫_عندي السكريا ولدي‬
‫_آه عذرا ربي يشفيك‪.‬‬
‫_هل يمكنك إخباري باسمك الكامل‬
‫_نعيمة الحرا�شي‪.‬‬
‫_هل أنت من هنا سيدة نعيمة؟‬
‫_ال من وهران‪.‬‬
‫_منذ متى وأنت هنا وما لذي دفعك لتغييرمكان اقامتك؟‬
‫_منذ أن تزوجت‪ .‬عشرون عاما تقريبا‪ .‬الدنيا جاءت بي هنا‪.‬‬
‫–الدنيا آه‪...‬حسنا منذ متى وأنت تعملين هنا؟‬
‫– منذ مدة طويلة‪ ،‬أنا ال أذكر‪ ،‬هللا غالب أنت تعرف خبزة العيش غالية‪...‬‬
‫– هل أنت متزوجة؟‬
‫– نعم‪.‬‬
‫– وزوجك!‬
‫– في السجن‬
‫_كم لك من أوالد‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_اثنان‪ .‬طفل وطفلة‪.‬‬


‫_هل هما يعيشان معك!‬
‫_ال‪ ،‬قد رحال عني منذ مدة‪.‬‬
‫_رحال؟‬
‫سكتت عاملة النظافة لبرهة ووضعت يدها على ظهرها‪ .‬تشكو ألم العمل‪ .‬وحين‬
‫طأطأت رأسها الحظ املحقق الشامة املوجودة في جنب رقبتها‪.‬‬
‫– حســنا‪ ..‬ســنختصراملوضــوع ســيدتي‪ ،‬حوالــي الرابعــة مســاء مــن رأيتــه يدخــل إلــى‬
‫املكتبــة‪.‬‬
‫– كانت تقريبا املكتبة فارغة‪ ،‬سوى حوالي أربعة تالميذ الحظت دخولهم هنا‪.‬‬
‫– هل كان إسحاق بينهم؟‬
‫– مــن! هــل تقصــد‪ ...‬أنــا ال أعــرف أســماءهم يــا ســيدي‪ .‬أنــا أذكرهــم مــن وجوههــم‬
‫فقــط‬
‫– حســنا سنســهل عليــك األمــر ونريــد مســاعدتك‪ ،‬ســنعرض عليــك صــور بعــض‬
‫التالميذ والذي تعتقدين أنك رأيته داخل املكتبة أشيري إليه‪ .‬هل يمكنك مساعدتنا؟‬
‫_حسنا‬
‫ثــم بــدأ املحقــق بعــرض مجموعــة مــن الصــور أمــام عاملــة النظافــة ويراقب في تغير‬
‫مالمــح وجههــا مــع كل صــورة يعرضهــا أمامهــا‪.‬‬
‫_هل أنت متأكدة من اختياراتك؟‬
‫– نعم‪ ....‬هم هؤالء األربعة‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم التفت املحقق للطبيب بابتسامة عريضة وعينين مشعتين‪.‬‬


‫– إنهم األربعة الباقون‪ ،‬لم يكذب علينا عامل املكتبة ولم يخطئ ظني‪.‬‬
‫– حســنا ســيدة نعيمــة أيــن كنــت متوجهــة عندمــا خرجــت مــن املكتبــة فــي الرابعــة‬
‫مسـ ًـاء؟‬
‫– لقد أخبرتك أني خرجت من املكتبة قبل الرابعة‪ ،‬وكنت ذاهبة باتجاه املطعم‪.‬‬
‫_املطعم على الرابعة!‬
‫_قلت لك باتجاه املطعم ألن هناك حاوية قمامة كبيرة ذهبت ألفرغ فيها القمامة‬
‫التي تركها األوالد في املكتبة‪.‬‬
‫– هل أنت متأكدة أنك كنت ذاهبة إلفراغ القمامة وليس شيئا آخر؟‬
‫– ال‬
‫– كيف ال إذن‪!...‬‬
‫– إضافة إلى سلة املهمالت كنت أحمل الخبزالذي وجدته في املكتبة هذا الصباح‬
‫حيث من غيرالالئق أن ترمى نعمة ربي في سلة النفايات إذ أنا معتادة على أن أفصلها‬
‫وأضعهــا لوحدهــا‪ ،‬بعدهــا أقــوم بجمعهــا ثـ ّـم أبيعهــا لألصحــاب األغنــام والحيوانــات‪،‬‬
‫ليقومــوا بتحويلهــا ألكل لحيواناتهــم وأنــت تعــرف مدخــول قليــل لســيدة تعيــش وحيــدة‪.‬‬
‫وهــذا أفضــل مــن أن ترمــى‪.‬‬
‫– خبزهنا!‬
‫– نعــم لقــد وجــدت نصــف شــطيرة وقــارورة مشــروب غازيــة‪ .‬وبالضبــط حيــن‬
‫فتحــت الكيــس ألضعهــا فــي الداخــل ســمعت الصرخــة‪.‬‬
‫– وهل تلك الشطيرة ال تزال هناك‪ ،‬هل بإمكاننا إحضارها؟‬

‫‪251‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعــم‪ ،‬أظــن ذلــك لقــد كانــت آخــرمــا أرميــه داخــل الكيــس إن لــم تأكلهــا القطــط‬
‫طبعــا‪.‬‬
‫– هيا نذهب إلحضارها سيدتي من فضلك‪.‬‬
‫اتجه املحقق وعاملة النظافة والطبيب يتبعهما نحوحاوية قمامة خضراء ورائها‬
‫كيــس بالســتيكي أســود‪ ،‬اقتربــت عاملــة النظافــة ببــطء مــن الكيــس‪ ،‬فتحتــه وأخرجــت‬
‫الش��طيرة‪ ،‬أمس��كها املحق��ق وتفحصه��ا‪.‬‬
‫– يبدوأنها جديدة أنظرالسلطة املوجودة داخلها ال تزال خضراء‪ ...‬خذ افحصها‬
‫فــي املخبر‪.‬‬
‫ثم أخذها الطبيب إلى مخبراملدرســة بســرعة وأضاف عليها بعض املواد من أجل‬
‫أن يــرى تفاعلهــا ويحللــه‪.‬‬
‫– شكرا على تعاونك سيدتي‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_االستجواب_‬

‫ليس كل من يأكل التفاح ِم َن ا ِملالح‬

‫في زاوية فارغة مضاءة من املكتبة أخذ املحقق ماحي كرسيا ووضع جريدته فوقه‬
‫وجلــس عليــه‪ ،‬أخــرج علبــة مــن التبــغ املجفــف ودك رفعــة شــمة تحــت شــاربه الرقيــق‪،‬‬
‫ثم أخذ دفترا وبدأ باستجواب األشخاص غيراملشكوك‬ ‫مسح يديه على الكر�سي تحته ّ‬
‫فيهــم أوال‪...‬و تــرك األشــخاص األقــرب مــن الضحيــة فــي األخيــر‪.‬‬
‫الســاعة تشــير للســابعة والنصــف تقريبــا‪ .‬فــي قاعــدة املطالعــة قعــدت الوجــوه‬
‫بمواجهــة بعضهــا‪ .‬لقمــان ومــروان‪ ،‬فــارس‪ ،‬طــارق‪ ،‬ســمير‪ ،‬أميمــة‪ .‬وســاد صــوت مرعــب‬
‫كســره بــكاء أميمــة فــي حضــن صديقتهــا ســارة!‬
‫انفتح الباب وظهرالطبيب ونادى‪:‬‬
‫السيد سميربن عودة‬
‫***‬
‫خــرج ســميرمــن القاعــة واتجــه ليقابــل املحقــق املاحــي مباشــرة‪ .‬نــزع قبعتــه وجلــس‬
‫علــى الكر�ســي‪ .‬قابــل املحقــق الــذي كلــن يحمــل تفاحــة فــي يــده‪ .‬قســم جـ ً‬
‫ـزء منهــا وســلمه‬
‫لســمير‪.‬‬
‫– اسكوبارصديقي‪ ،‬قد انقطعت أخبارك‪ .‬كيف حال الحاج عدة؟‬
‫_هو بخير‪.‬‬
‫_الحظت اختفاءك من حومة ديارالسوق! أين كنت تذهب؟‬

‫‪253‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– مــاذا تقصــد‪ ،‬أنــا مــع الدراســة‪ ،‬مــاذا أخذنــي لتلــك الحومــة‪ ،‬أصــا أنــا ال أحــب‬
‫أوالد تلــك الحومــة!‬
‫_خذ كل بعض التفاح فهو مفيد لصحتك فأنت هزيل مثل قط‪.‬‬
‫ســكت ســمير وأكل قطعــة التفــاح‪ ،‬قضمهــا بجنــب فمــه األيســر‪ ،‬ألن أســنانه‬
‫األماميــة شــبه متآكلــة مــن الكيــف والشــرب‪ ،‬ثـ ّـم تابــع املحقــق كالمهــم وهــو يقســم نصفــا‬
‫آخــر مــن التفاحــة ويــأكل منــه‪:‬‬
‫– أنــت لــم تعــد تحبهــم؟ نعــم بطبيعــة الحــال أنــت علــى حــق‪ ،‬ألن البيــع فــي امليــاه‬
‫العكرة ال يناســبك‪ ،‬أنت تعوم في املياه الصافية تحت ظل هذه املدرســة‪...‬هل حســبت‬
‫أنــك بعيــد عــن عينــي؟ والعيــن عمرهــا مــا تعــا علــى الحاجــب‪ .‬اآلن أخبرنــي مــا هــي عالقتــك‬
‫بالضحيــة؟‬
‫– عالقة سطحية فقط‪ ،‬تستطيع القول أنه زميلي في القسم فقط‪.‬‬
‫– زميلك‪.‬فقط! حسنا ال علينا‪ .‬أخبرني متى كانت آخرمرة تحدثت معه فيها!‬
‫– ال أتذكرربما منذ ثالثة أيام‪ ،‬ال ال يومين‪..‬‬
‫– يومين أو ثالثة أيام‪ ،‬أنت تكذب‪ ،‬لقد تمت مشاهدتكم في غرفة تغييراملالبس‬
‫قرب ملعب كرة السلة وأنتما تتشاجران بعدها سلمته شيئا وخرجت‪.‬‬
‫– نعــم‪ ،‬أثنــاء املبــاراة أصبتــه بالكــرة دون قصــد‪ ،‬فنــزف أنفــه‪ ،‬وثــارغضبــه منــي‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫عنــد انتهــاء حصــة الرياضــة البدنيــة‪ ،‬تبعتــه للحمــام ألعتــذرمنــه فلــم يتقبــل اعتــذاري‪،‬‬
‫وبــدأ فــي شــتمي‪ .‬أعطيتــه منديــا ليمســح أنفــه وخرجــت!‬
‫– هل أنت متأكد من أنه منديل ولم يكن شيئا آخر؟‬
‫– نعم أنا متأكد!‬

‫‪254‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم أخــرج املحقــق مــن جيبــه كيســا صغي ـرا يحمــل مــادة بيضــاء ووضعهــا علــى‬
‫الطاولــة!‬
‫– هل هذا هو املنديل الذي تقصده!‬
‫"و نظرات املكرتبدوا على وجه املحقق"‬
‫–‪.....‬‬
‫– ماذا هل ابتلعت ريقك اآلن؟‬
‫– ال أعرف ما هذا وال أعرف من أين جاءت!‬
‫– هاااه‪ ،‬لكني أعرف في املحكمة أنك ستعترف بأنك قتلته ألنه لم يدفع لك!‬
‫– مــاذا تقــول ســيدي أنــا بــريء‪ ،‬أصــا أنــا لــم أدخــل هــذه املكتبــة ســوى مرتيــن فــي‬
‫حياتــي مــع فــارس‪.‬‬
‫–نعم األولى دخلت لتراقبه‪ ،‬والثانية دخلت لتقتله‪.‬‬
‫–ال �سي‪....‬‬
‫–تستطيع االنصراف اآلن‪ ،‬شكرا‪.‬‬

‫***‬
‫انفتح باب القاعة مجددا وأطل الطبيب برأسه مناديا‪:‬‬

‫‪255‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب_‬
‫السيد فارس باني‬
‫***‬
‫– اجلس يا شكسبير‪.‬‬
‫_لم نلتق منذ مدة‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_هل تأكل التفاح!‬
‫_ال شكرا‪.‬‬
‫– أخبرني ماهي عالقتك باملرحوم‪ ،‬وهل قتلته؟‬
‫– هــو زميلــي فــي القســم‪ ،‬وبعــد الــدوام زميلــي فــي الــدروس الخصوصيــة‪...‬ال ال لــم‬
‫أقتلــه‪ ،‬وال ســبب يدعونــي لفعــل ذلــك!‬
‫– آه ال سبب يدعوك‪ ،‬لكن قد تكون مشاركا في قتله!‬
‫– مشاركا في قتله!‬
‫– نعــم‪ ،‬حســب كالم صديقــات أميمــة‪ ،‬أنهــن قــد ســمعنه يحدثهــا عــن روايــة تحــت‬
‫عنــوان "رحــل مــن دون وجــه" وهــذه الروايــة هــي نفســها التــي كانــت ملقــاة جنــب الضحيــة‬
‫وســبحان هللا نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لشــخصية الضحيــة فــي الروايــة هــو نفــس‬
‫عــدد الطعنــات املوجهــة إلســحاق! هــاه مــا هــو تفســيرك؟‬
‫– ال أعــرف‪ ،‬هنــاك الكثيــر مــن الروايــات فــي املكتبــة ربمــا تصــادف أن كانــت تلــك‬
‫الروايــة بجنبــه عندمــا تــم طعنــه تلــك الخمــس طعنــات ولســت أنــا الوحيــد الــذي يق ـرأ‬

‫‪256‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الروايــات‪ ،‬الــكل يق ـرأ الروايــات وأرى أن اتهامــك لــي بشــكل مباشــر بالقتــل عــن طريــق‬
‫ربطــك للحادثــة بمجــرد روايــة بوليســية هــو اســتنتاج غريــب مــن رجــل ذ ـكـي مثلــك‪ ،‬ولــه‬
‫شــهرة تســبقه فــي فــك ألغــاز جرائــم قتــل معقــدة كتبــت عنهــا الكثيــر مــن الجرائــد‪ .‬أو أن‬
‫هنــاك خلفيــات أخــرى أنــت تخفيهــا عنــي وعنــا جميعــا‪.‬‬
‫_خلفيات! ماذا تقصد؟‬
‫_لنكــن واقعييــن يــا ســيد ماحــي‪ ،‬كيــف ملحقــق بشــهرتك أن ال يكــون علــى عالقــة‬
‫برجــل ثــري مثــل ال�ســي عثمــان أب الضحيــة والــرب عالــم بخفايــا األمــور‪.‬‬
‫ثــم تغيــرت مالمــح املحقــق وغيــرمــن وضعيــة جلوســه‪ .‬قســم التفاحــة إلــى نصفيــن‬
‫وغــرز الســكين بقــوة علــى الطاولــة‪.‬‬
‫_أخبرني من يحقق مع اآلخرهنا‪ ،‬أنت أم أنا؟‬
‫_أنت معلم ومنك نتعلم‪.‬‬
‫_اسمع‪ .‬هل تتذاكى علي أم ماذا! هل أجعلك تجلس في مكاني!‬
‫_وهل تخاف األفعى من سمها! من ال يوجد في بطنه التبن ال يخ�شى من النار‪.‬‬
‫– إذن هذه هي خطتك! أن تماطل علي‪ ،‬وتريد أن تأخذ املحاورة إلى منحى آخر‪،‬‬
‫اســمع إذن يــا ولــد حميــد بيــن الخبــرة واملعرفــة‪ ،‬تغلــب املعرفــة فــي عالــم النظــري وتغلــب‬
‫التجربــة فــي عالــم التطبيــق‪ ،‬أنــت تحتــاج ملزيــد مــن الخبــرة ـكـي تحــور اســتجوابي وتصــل‬
‫إلثــارة عواطفــي‪ ،‬أنــت هــو القاتــل! ليــس هنالــك غيــرك فــي املدرســة علــى مــا أعتقــد يعــرف‬
‫أن أميــربطــل روايــة رحــل مــن دون وجــه‪ ،‬طعــن خمــس طعنــات!‬
‫حتى املرحوم قرأ الرواية أيضا! وهي بأفكارسوداوية ثقيلة وقد يكون ا‪...‬‬ ‫– ّ‬

‫– انتحر! هل تظن هذا! أم تريد أن تبرأ نفسك! تحت شهادة زمالئه املرحوم فتى‬
‫عقالنــي وســجله الطبــي والنف�ســي طبيعــي‪ّ ...‬أم ــا أنــت فنحــن نعلــم حكايتــك مــع األطبــاء‬
‫النفســيين بعــد حادثــة أمــك التــي‪..‬‬

‫‪257‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أطلق فارس زفرة طويلة‪:‬‬


‫_ال تذكرأمي على لسانك‬
‫_آســف لكــن التاريــخ ال يرحــم‪ .‬قــد ذبحهــا أبــوك مــن الشــريان إلــى الشــريان قبــل‬
‫ثمانيــة أعــوام مــن اآلن وكنــت املحقــق فــي تلــك القضيــة ورأيــت مالمحــك حيــن رأيــت أمــك‬
‫تسبح في بركة من الدماء وتابعت تصرفاتك وكان القاتل ّإمـا أنت أو أبوك ومن املرجح‬
‫حتى يغطي‬ ‫أن يكون أنت وقد تســترعليك أبوك وأخفى ســاح الجريمة في جيب ســترته ّ‬
‫عليــك‪ .‬وعــدم زيارتــك ألبيــك حميــد فــي الســجن مــا تكــون ســوى تمثيليــة قمتمــا بهــا ســويا‪،‬‬
‫وهذا يبقى احتمال وارد‪ .‬ومشاكلك مع جدك ألنك ترفض زيارة طبيبك النف�سي وأخذ‬
‫أدويتــك‪.‬‬
‫– ال أظن أن ذكرهذه القصة يدخل في التحقيق في جريمة قتل الفتى!‬
‫_ال بل يدخل وبشدة‬
‫_ال أظن هذا‪.‬‬
‫_ذكــرت لــك هــذه القصــة فقــط ّ‬
‫حتــى أشــير بــأن فــي عائلتكــم دمــا إجراميــا وأنــت‬
‫تعرف املثل القائل "من شابه أباه فما ظلم"‪ ،‬أي أن بعض الصفات مثال تنتقل بشكل‬
‫تلقائي‪ ،‬أظنكم درستم هذا في مادة العلوم الطبيعية "اسمه االنتقال الوراثي "أم أنك‬
‫تهتــم بالفلســفة أكثــر‪.‬‬
‫_ال أظــن أن هــذا هــو هدفــك‪ .‬ومــن غيــر الالئــق أن تســتند علــى قضيــة قــد مضــت‬
‫منــذ أعــوام وتحشــرها داخــل قضيــة آنيــة وأرى أن ذكــرك لقضيــة مقتــل أمــي رحمهــا هللا‬
‫لــه غايــة نفســية بحتــة‪ .‬وهــي إرضــاء لجــرح نف�ســي قــد خــدش أثنــاء حوارنــا‪ .‬أمــا أنــا طبيعــي‬
‫وال أعانــي مــن أي مــرض نف�ســي‪ ،‬األطبــاء النفســيون هــم املجانيــن ويريــدون إخراجــي مــن‬
‫عقلــي بأدويتهــم القــذرة هــذا كل مــا فــي األمــر‪ .‬ولــكل واحــد فينــا جانــب مجنون يخفيه وراء‬
‫القنــاع الــذي يرتديــه كل صبــاح‪ ،‬أو لــم تكــن يومــا كذلــك يــا �ســي املاحــي؟ علــى كل حــال أنــا‬
‫علــى األقــل أعــرف أصلــي رغــم كســري‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫صمت املحقق لبرهة وبلع ريقه‪:‬‬


‫_ ما الذي تشيرإليه هنا‪.‬‬
‫_ال �شيء‪.‬‬
‫– حســنا دعنــا نرجــع إلــى موضوعنــا األصلــي بذكــرك للجنــون‪ ،‬أخبرنــي ماهــي نســبة‬
‫جنــون صديقــك ســمير؟‬
‫– سمير!‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_هو هو‪ ،‬وأنا أنا‪.‬‬
‫صمت املحقق ينتظرإجابة أخرى من فارس‪.‬‬
‫_في الحقيقة إن كل شخص منا له نسبة معينة من الجنون و‪....‬‬
‫قاطــع املحقــق فــارس قبــل أن يفلســف جوابــه مــرة أخــرى ويحــور الحديــث إلــى جهــة‬
‫أخــرى‪.‬‬
‫– فــي الرابــع مــن مــاي الســاعة الخامســة‪ ،‬مــن صيدليــة ديــار الســوق! اشــتريت‬
‫علبتيــن مــن دواء ليريــكا‪..‬‬
‫صمت فارس لبرهة ينتظرمن املحقق أن يكمل كالمه‪.‬‬
‫– وفي نفس اليوم ألقينا القبض على سميربعلبة ليريكا فارغة! زعم أنها من أجل‬
‫بحث مدر�سي! هل هذا صدفة أيضا!‬
‫– نعــم لقــد اشــتريت علبتيــن‪ ،‬علبــة وصفهــا لــي الطبيــب تحــت ضغــط مــن جــدي‬
‫ألبقى نائما ويرتاح من مشاكلي‪ ،‬وعلبة أخرى من أجل جدتي التي تعاني من آالم الظهر‪،‬‬
‫وأنت تعلم أن دواء ليريكا مصنوعا خصيصا للتخفيف من ألم العظام‪ .‬وجدي وجدتي‬
‫هما الوحيدان اللذان أعيش معهما في املنزل وعلي أن أعرف كل األدوية الخاصة بهما‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– جدتــك تــأكل ليريــكا‪ ،‬ســبحان هللا! هــل لجــدك حســاب فيــس بــوك أيضــا؟ ال‬
‫أظــن‪ ،‬ومــاذا تقصــد بكلمــة "يرتــاح مــن مشــاكلي"؟ إذن أنــت تعتــرف أن لــك مشــاكل‬
‫نفســية‪ ،‬ربمــا أردت أن تســتدرج املرحــوم وتقتلــه بنفــس الخطــة التــي فــي الروايــة‪ ،‬القتــل‬
‫مثــل الروايــات تجربــة جديــدة ممتعــة أليــس كذلــك!‬
‫_أظن أن هذا استنتاج غيرمنطقي و بعيد عن الواقع‪.‬‬
‫_ال يهم رأيك على كل حال‪ ،‬أخبرني أنت تذكرفي نهاية الرواية ماذا حدث للمجرم‬
‫أليــس كذلك!‬
‫– نعم أعتقد ذلك‪.‬‬
‫– إذن ال تقلق ستكون لك نفس النهاية يا أخي‪.‬‬
‫_هل تعلم هناك فرق كبيربين القاتل وصانع القاتل‪.‬‬
‫_ماذا تقصد بصانع القاتل؟‬
‫_صانع القاتل أشد خبثا وخطرا من القاتل‪.‬‬
‫_ رغم هذا يبقى التحقيق ليكشف كل الجرائم‪.‬‬
‫_وهــل ســيصل مســتوى تحقيقــك ألن يميــزبيــن مــن يحقــق فــي القتــل ومــن يحقــق‬
‫القتــل ومــن يحــق للقتــل‪.‬‬
‫_ماذا تقصد؟‬
‫_ هــذه جملــة ذكــرت علــى لســان بطــل الروايــة‪ .‬اق ـرأ الروايــة ربمــا ســتتمكن مــن‬
‫فهمهــا ذات يــوم‪.‬‬
‫***‬

‫‪260‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫السيد طارق فاروق‬


‫***‬
‫– اجلبوا كرسيا أكبر"ملحمد علي‪" 1‬هنا‪..‬هههه‪.‬‬
‫ثم رمى املحقق تفاحة لطارق‪:‬‬
‫_هاك التقط! كل بعض التفاح فهو مفيد لصحة ريا�ضي مثلك‪.‬‬
‫التقطهــا طــارق وضعهــا بجنبــه‪ ،‬لكنــه لــم يقضــم منهــا‪ ،‬ابتســم املحقــق ومــال نحــو‬
‫طــارق بنظــرة تنــم علــى املكــر‪:‬‬
‫_ال تخف هي ليست مسمومة‪.‬‬
‫سكت طارق ولم يرد‪:‬‬
‫_حسنا‪ .‬أخبروني أن لك ضربة يد يمنى قاتلة هل يخافك التالميذ هنا من أجلها!‬
‫رد طارق بنبرة بطيئة وخشنة‪:‬‬
‫– كذبــوا عليــك إذن يــا ســيدي أنــا ال أضــرب ســوى داخــل الحلبــة‪ ،‬وخارجهــا انــا‬
‫مجــرد تلميــذ بســيط‪.‬‬
‫– تلميذ بسيط‪ ،‬تلميذ يتوعد بالقتل والترهيب في منتصف النهارفي القسم!‬
‫– كيف يتوعد بالقتل؟‬
‫– طــارق أنظــر فــي عينــي‪ ،‬هــل تــرى هــذا الوجــه؟ قــد أدخــل آالف الرجــال قبلــك‬
‫الســجن‪ ،‬بعضهــم لقــي حتفــه وبعضهــم ال ي ـزال يتعفــن بيــن القضبــان‪.‬‬

‫‪ - 1‬مالكم عالمي أمريكي مسلم‬

‫‪261‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– وهل هذا ما تسميه "بالرجولة" في أن تحرم أشخاصا أبرياء من حريتهم؟‬


‫– حريــة! هــل تعلــم معنــى الحريــة؟ الحريــة عندمــا تتحــدث بصــدق دون أن تخ�شــى‬
‫لومــة الئــم‪ ،‬البــريء الــذي يكــذب هــو فــي نظــري مجــرم‪ ،‬يجــب علــى القانــون معاقبتــه‪ ،‬وإن‬
‫كنــت تريــد أن ال تشــاهد أصدقائــك يفــوزون بشــهادة البكلوريــا وأنــت خلــف القضبــان‬
‫تعض على أصابعك من الغيظ أخبرني‪ ،‬ماذا همست إلسحاق آخرمرة التقيته؟ فقد‬
‫شــاهدتكم أســتاذة الفرنســية وأنــت تهــدده‪..‬‬
‫– أستاذة الفرنسية! ال �شيء‪ ،‬فقط‪...‬‬
‫– طارق!‬
‫– حسنا لقد أمرته باالبتعاد عن أميمة!‬
‫– ملاذا! ما عالقتك بأميمة!‬
‫– ال عالقــة لــي ‪ ,‬مــن أجــل لقمــان صديقــي فهــو يحبهــا‪ ،‬بــل هــو مجنــون بهــا ولكــن‬
‫إســحاق وقــف فــي طريقــه ألنهــا برفقتــه‪ ..‬لكــن صدقنــي أنــي لــم أقتلــه ولــم أفكــرســوى فــي‬
‫تخويفــه ليبتعــد عنهــا مــن أجــل لقمــان‪.‬‬
‫– إذن هل تظن أن لقمان هو من قتل إسحاق؟‬
‫– ال أعرف‪ ،‬ال أظن‪..‬صدقني أنا بريء‪...‬‬
‫– هل دخلت املكتبة اليوم؟‬
‫– ال ال لم أدخل هنا منذ مدة‪.‬‬
‫– أين كنت أثناء الحادثة؟‬
‫– في القسم‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–حسنا أنظرهذا مخطط القسم‪ ،‬أريني مقعدك ومع من تجلس؟‬


‫– هنا في الطاولة ما قبل األخيرة في الصف املجاور للحائط أين الباب‪.‬‬
‫– ورائك من يجلس؟‬
‫– هنا لقمان وهنا مروان‪..‬‬
‫صمــت املاحــي لبرهــة وحمــل قلــم رصــاص وبــدأ يســجل فــي مــكان قعــود التالميــذ فــي‬
‫القســم‪.‬‬
‫– هل أستطيع االنصراف اآلن؟‬
‫– ملاذا هل أنت قلق!‬
‫– ال سيدي ولكن عندي تدريبات رياضية يجب أن أحضرها في الوقت‪.‬‬
‫– هل تعلم إن هناك ضربة قوية وجهت لرأس الضحية ونحن ال نظن أن هناك‬
‫أحدا غيرك قد يتمكن من تسديد تلك الضربة‪ ،‬ما هو تفسيرك لهذا!‬
‫فــي تلــك اللحظــة ظهــرالطبيــب يحمــل كيســا أبيــض شــفافا داخلــه‪ ،‬يلهــث ويعيــد فــي‬
‫كالمــه‪:‬‬
‫– سيدي‪ ،‬سيدي‬
‫– نعم تحدث ماذا كانت النتيجة؟‬
‫– حتما ستبهرك! لقد كانت شطيرة مسمومة!‬
‫– هاه‪ ،‬هل تقول مسمومة!‬
‫– نعم وهو سم يستخدم رخيص منزلي يستعمل عادة لقتل الفئران والقوارض‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ياللغرابــة‪ ،‬إذن لقــد ســمم املكتبــي ّ‬


‫حتــى ال يحضــر ويكــون شــاهدا علــى جريمــة‬
‫القتــل وبذلــك نســتنتج أن القاتــل قــد خطــط للجريمــة مــن قبــل جيــدا وحســب حســاب‬
‫كل صغيــرة وكبيــرة وربمــا يكــون قــد نســج قصــة تغلــف القصــة الحقيقــة‪ ،‬وتــدرب جيــدا‬
‫علــى مــا يقولــه حيــن يخضــع لالســتجواب‪.‬‬
‫ثم نظراملحقق لطارق‪:‬‬
‫_هل تريد أن تتذوق قليال يا طارق؟‬
‫– ال ال شكرا!‬
‫– أنــت تحــب األكل أليــس؟ كذلــك ومــن غيــرك يعــرف هــذه األمــور والســموم التــي‬
‫تضــرالجســد هــاه أخبرنــي؟‬
‫_سيدي أنا‪...‬‬
‫***‬

‫‪264‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_استجواب _‬
‫السيد مروان مقدمي‬
‫عندما جلس مروان أمام املحقق‪ ،‬دفع املحقق حبة التفاح أمام مروان‪ .‬أمسكها‬
‫مــروان ووضعهــا بجنبــه‪ ،‬نظــر املحقــق فــي عينيــه لبرهــة وجيــزة يختبــر تواصلــه البصــري‬
‫معــه‪ ،‬هــزرأســه ثـ ّـم ســأله‪:‬‬
‫–أين كنت أثناء وقوع الجريمة؟‬
‫–كنت في املرحاض‬
‫–هل دخلت املكتبة اليوم؟‬
‫–ال لم أدخل هنا‪.‬‬
‫–رفقة من كنت في املرحاض؟ ومتى آخرمرة رأيت فيها املرحوم؟‬
‫–كنــت رفقــة لقمــان وبعــض األوالد اآلخريــن‪ .‬كنــا ندخــن ســيجارة‬
‫نتنــاوب عليهــا‪ّ ،‬‬
‫حتــى ســمعنا الصرخــة املدويــة‪ ،‬فهرعنــا مســرعين إلــى‬
‫املكتبــة‪ ،‬وكانــت آخــر مــرة رأيتــه فيهــا وهــو يدخــل القســم صباحــا‪،‬‬
‫وباملناســبة لــم يحضــر آخــر حصــة صباحيــة‪.‬‬
‫_آخرحصة‪ .‬هل تقصد من الساعة ال ‪ 11:00‬إلى ‪12:00‬؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫–ملاذا برأيك؟‬
‫–ال علــم لــي‪ ،‬لكــن عالمــات القلــق كانــت تبــدو ظاهــرة علــى وجهــه‪ .‬كأنــه‬
‫يخفــي شــيئا مــا! أو يخطــط لفعلــه؟‬
‫–يخطط لفعل �شيء ما‪ ،‬ما لذي كان يخطط له برأيك؟‬
‫_ال أدري؟‬
‫_إذن كنت رفقة لقمان‪ ،‬هو صديقك املقرب هكذا!‬

‫‪265‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–نعم يجلس معي في القسم‪ .‬كنا ندخن سيجارة كما أخبرتك عندما‬
‫سمعنا الصرخة‪.‬‬
‫–هل أنت متأكد أنكما كنتما في املرحاض ولم تكونا في مكان آخر؟‬
‫–نعم‪ ،‬وماذا تقصد بمكان آخر!‬
‫–لقــد شــوهدتما وأنتمــا تحــاوالن الف ـرار مــن فــوق ســور املدرســة‬
‫الخلفــي‪ ،‬هــل اختلطــت عليكمــا الخطــة؟‬
‫سكت مروان ملدة وجيزة‪ ،‬غيرمن نبرة صوته وأجاب بثقة‪:‬‬
‫–حسنا أنت على حق نسبيا‪ .‬لكن الحقيقة ليست مثلما تتوقعه‪.‬‬
‫_إذن ما هي الحقيقة؟‬
‫_ الحقيقــة أن حصــة الفرنســية هــي حصــة مملــة وثقيلــة ال تســتهويني ال أنــا وال‬
‫لقمان‪ ،‬لذلك قررنا الهروب كالعادة من السور الخلفي‪ ،‬ألن الباب الرئي�سي مغلق ّ‬
‫حتى‬
‫الساعة األخيرة من الدوام املدر�سي‪ ،‬وحين وضعت رجلي على السور سمعنا الصرخة‪.‬‬
‫–لكنــك اآلن قلــت أنكمــا كنتمــا فــي املرحــاض حيــن ســمعتما الصرخة‪،‬‬
‫أنت متناقض في كالمك أنت ال تجيد الكذب يا�ســي مروان‪.‬‬
‫–نعم أعرف هذا لكن‪...‬‬
‫وصمت مروان‪ .‬بعدها عرض املحقق مخططا أمامه على الطاولة‪.‬‬
‫–هــذا مخطــط قســمكم‪ ،‬أرينــي مكانــك بالضبــط ومــكان جلــوس‬
‫املرحــوم‪.‬‬
‫ّ‬
‫–هنــا‪ ،‬أقعــد أنــا فــي الطاولــة األخيــرة فــي الصــف املقابــل للبــاب‪ ،‬أم ــا هــو‬
‫فيجلــس فــي نفــس الصــف‪ ،‬بعدمــا غيــر مكانــه‪ ،‬مــن الطاولــة األولــى‬
‫قــرب املكتــب رفقــة أميمــة‪.‬‬
‫–غيرمكانه إذن؟‬

‫‪266‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_نعم‬
‫_هذا خيط جيد‪ ،‬أخبرني منذ متى غيرمكانه وما سبب ذلك في رأيك؟‬
‫–منذ أسبوع تقريبا‪ ،‬ال أدري السبب حقا‪.‬‬
‫–أنــت تكــذب مجــددا‪ ،‬أتقصــد أنــه ال دخــل لــك فــي عالقــة املرحــوم‬
‫بأميمــة!‬
‫–ليس تماما‪ ،‬وهذه العالقات ال تخصني‪ ،‬لكن ما دخل هذا في موته‪.‬‬
‫–لقمان صديقك‪ ،‬وبطبيعة الحال ستساعده إن احتاج لك‪.‬‬
‫–نعم هذا ما يفعله األصدقاء لبعضهم‪.‬‬
‫–بالضبــط! إذن أنظــر فــي عينــي اآلن‪...‬أخبرنــي بصــدق هــل ستســاعد‬
‫لقمــان فــي القتــل لــو كان ذلــك فــي ســبيل صداقتكــم؟‬
‫ابتلع مروان ريقه و تعرق جبينه وأجاب بنبرة خافتة‪:‬‬
‫_ال‬
‫_ وإن كنت مضطرا أو تحت التهديد هل ستفعل هذا؟‬
‫–هــو صديقــي حقــا‪ ،‬لكــن ال‪ ،‬فلســت قاتــا‪ ،‬رغــم الرابــط الــذي كان‬
‫يجمعنــي بــه لــن أفعــل ذلــك‪.‬‬
‫_هل تخفي عني شيئا ما يا مروان؟‬
‫_ال سيدي‪.‬‬
‫–هل عندك ما تضيفه!‬
‫–ال سيدي‬
‫***‬

‫‪267‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫السيدة أميمة حراج‬


‫***‬
‫– ملاذا تبكين؟‬
‫_خذي تفاحة‪ .‬هي مهدأ جيد‪.‬‬
‫لم ترد أميمة‬
‫– حســنا أرى أن لــك عالقــة قويــة بالضحيــة‪ ،‬أم أنــك مفزوعــة مــن املشــهد الــذي‬
‫رأيتــه؟‬
‫بقيــت أميمــة ســاكتة مطأطئــة الـرأس تئــن بصمــت وشــعرها منســدل علــى وجههــا‪،‬‬
‫نهــض املحقــق مــن كرســيه واقتــرب مــن وجههــا ليوجــه الســؤال لهــا بنبــرة صارمــة وجــادة‪:‬‬
‫– متى تعرفت على إسحاق وما هي عالقتك به؟‬
‫– عرفتــه‪ ،‬عرفتــه‪ ،‬ع ر ف ت‪"....‬كانــت كلمــات أميمــة متقطعــة دون أن تنظــر فــي‬
‫وجه املحقق‪ ،‬ناولها الطبيب قارورة ماء صغيرة شربت منها وتابعت كالمها بوضوح" في‬
‫حفل أقامته عائلته‪ ،‬كان حفال بمناسبة إفتتاح عائلتهم لشركة إنتاج األجبان‪ ،‬حضر‬
‫الحفــل الكثيــرمــن رجــال األعمــال والشــخصيات املهمــة‪.‬‬

‫– هل أنت بنت السيدة جمال حراج صاحب شركة ‪ OM‬للمجوهرات؟‬


‫– نعم‪.‬‬
‫ثم توسعت حدقتا املحقق وتغيرت نبرة صوته‪.‬‬
‫– ّ‬
‫ثم بعد ذلك‪ .‬واصلي‪..‬‬
‫– عرضنــي أبــي علــى بعــض األشــخاص املهميــن ومــن بينهــم أب إســحاق‪ .‬الــذي كان‬
‫رفقــة ابنــه وبذلــك تعرفــت علــى إســحاق‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– لم تكملي إجابتك على سؤالي‪ ،‬ماذا يكون إسحاق بالنسبة لك؟‬


‫– خرجنــا فــي عــدة مواعيــد‪ ،‬وكنــا قريبيــن لبعضنــا‪ ،‬لكــن لــم تكــن العالقــة رســمية‪،‬‬
‫يعنــي أصدقــاء فــي عالقــة مفتوحــة‪.‬‬
‫– ماذا تعنين بأصدقاء في عالقة مفتوحة‪.‬‬
‫ثــم التفــت املحقــق للطبيــب خلفــه ينتظــرمنــه شــرحا حــول هــذا املصطلــح الجديــد‬
‫الــذي يســتعمله هــؤالء املراهقــون‬
‫– كنا نتواعد‪ .‬وكنت حبيبته!‬
‫– كنت؟‬
‫_حبيبته فقط‪.‬‬
‫_حسنا‪ ...‬وقد تقدم لخطبتي‪ .‬ليس رسميا‪ .‬لكن قد وضع علي اليد‪.‬‬
‫_وضع عليك اليد!‬
‫_يعني قد أعطى كلمة ألبي بخصو�صي‪.‬‬
‫_حسنا قد فهمتك وبعدها‪.‬‬
‫– بعدها لم تدم العالقة وانفصلنا‪.‬‬
‫_ملاذا؟‬
‫صمتت أميمة ملدة‪:‬‬
‫_ال أدري‪ .‬املكتوب‪.‬‬
‫– املكتوب آه‪..‬حسنا احكي لي ما لذي أخذك للمكتبة وكيف وجدت الجثة؟‬

‫‪269‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– طلبت من األستاذة اإلذن بالخروج من القسم وكان ذلك من أجل أن أستعير‬


‫كتابــا مــن املكتبة‪.‬‬
‫– ما نوع هذا الكتاب؟‬
‫– كان رواية‪.‬‬
‫_أية رواية‪...‬ما عنوانها؟‬
‫_ رحل من دون وجه‪.‬‬
‫هــل تقصديــن هــذه الروايــة ثـ ّـم أخــرج املاحــي الروايــة مــن بيــن أوراق جريدتــه‬
‫وعرضهــا علــى الطاولــة أمــام أميمــة‪.‬‬
‫_هل تقصدين هذه الرواية؟‬
‫_نعم هذه هي‪.‬‬
‫_ملاذا هذه الرواية بالتحديد‪.‬‬
‫_ ال أعلم‪.‬‬
‫_وهل هناك من يقرأ كتابا وال يعلم ملاذا يقرأه؟‬
‫_ربما فقط عندما رأيت إسحاق يقرأها‪ ،‬انتابني الفضول ألعرف محتواها‪.‬‬
‫– جيد‪ ،‬ملاذا انتابك الفضول وهي مجرد رواية؟‬
‫_ال أعرف‪.‬‬
‫_ملاذا؟‬
‫_ألن إسحاق ليس من النوع الذي يقرأ الروايات إذ ربما هذه أول مرة أراه يحمل‬

‫‪270‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫روايــة‪ ،‬لذلــك انتابنــي الفضــول ألعــرف مــا لــذي جذبــه لق ـراءة الكتــاب‪ ،‬انتظرتــه ّ‬
‫حتــى‬
‫يفــرغ مــن قراءتهــا ألذهــب وأحضرهــا‪.‬‬
‫– كيــف عرفــت أنــه أنهــى قراءتهــا وأنــه ســيضعها فــي املكتبــة فــي ذلــك الوقــت‬
‫بالضبــط؟ وملــاذا لــم تطلبيهــا منــه مباشــرة ملــاذا انتظرتــه ّ‬
‫حتــى يذهــب إلــى املكتبــة وتبعتــه‬
‫خفيــة ؟‬
‫– لــم أتبعــه خفيــة وإنمــا عرفــت أنــه أنهاهــا ألنــه معــي فــي القســم وكنــت أراقبــه حيــن‬
‫يخرجهــا ويقـرأ‪ ،‬ولــم أطلبهــا منــه ألننــا كنــا متشــاجرين‪ ،‬هــذا فقــط وليــس شــيئا آخــر‪.‬‬
‫– كنت تراقبينه! ماذا تقصدين بهذا؟‬
‫– نعم كما أخبرتك لقد كنا في عالقة وأردت أن أعرف ما لذي يفعله في غيابي‪.‬‬
‫– لكنه كان يجلس معك في نفس الطاولة أليس كذلك؟‬
‫– لكنه غيرمكانه‪.‬‬
‫_ملاذا فعل هذا برأيك؟‬
‫_عندما سألته لم يجبني‪.‬‬
‫_حسنا‪ ..‬حسنا‪ .‬هناك زر مفقود من مئزرك! ما لسبب؟‬
‫– ال أذكر‪ ،‬اآلن فقط الحظت أني فقدت زرا من مئزري!‬
‫ثــم صمــت املحقــق لبرهــة راح يضــرب الجريــدة علــى كــف يــده ببــطء ويفكــر ثـ ّـم‬
‫التفــت املحقــق للطبيــب وطلــب منــه أن يحضــر لــه كأس مــاء‪.‬‬
‫_وقبل أن تذهب أعطني ذلك الزر‬
‫_حسنا ها هو سيدي‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وسلم املحقق الزر الوردي ألميمة‪:‬‬


‫– هل هذا زر مئزرك؟‬
‫تفقدت أميمة الزر وقارنته بأزرارمئزرها األخرى‪:‬‬
‫_نعم أظنه الزر الذي سقط من مئزري‪.‬‬
‫ثم أرجعت الزر للماحي‪ ،‬أمسكه وسأل أميمة وهو يميل رأسه نحوها‪:‬‬
‫_وهل تعرفين أين وجدناه؟‬
‫– ال‪.‬‬

‫– لقد كان عند رجلي الضحية‪.‬‬


‫تغيــرت مالمــح أميمــة‪ ،‬شــابكت أصابعهــا وراحــت تلوكهــا علــى بعضهــا وقــد الحــظ‬
‫املاحــي هــذا‪ ،‬ثـ ّـم تكلمــت بنبــرة ســريعة دفاعيــة‪:‬‬
‫_ال أعــرف حقــا ملــاذا كان هنــاك‪ ،‬كل مــا أعرفــه أنــي عندمــا دخلــت املكتبــة ومشــيت‬
‫ثم فجأة‬ ‫حتى آخذ الرواية دون أن يعرف‪ّ ،‬‬ ‫بين رفوف املكتبة جلســت أ اقب إســحاق‪ّ ،‬‬
‫ر‬
‫غــاب عــن ناظــري ولــم أعــرف أيــن اختفــى‪ ،‬حســبته أنــه خــرج مــن املكتبــة بعدمــا وضــع‬
‫الروايــة فــي الــرف‪ ،‬اتجهــت للقســم املخصــص للروايــات أبحــث عــن الروايــة ولــم أجدهــا‪،‬‬
‫وفي تلك األثناء رأيت أحدهم يخرج من باب املكتبة حسبته هو‪ ،‬لكني تفاجأت عندما‬
‫رأيــت إســحاق ســاقطا علــى األرض"وراحــت تكمــل جملتهــا بصعوبــة تختلــط بالبــكاء"‬
‫والدمــا‪....‬ء تس‪....‬يــل‪ .‬م‪..‬ن رأ‪..‬ســه‪ ،‬فلــم أعــر‪..‬ف مــا لــذي أفع‪...‬لــه‪ ،‬فهر‪....‬عــت بالبــكاء‪،‬‬
‫"ثــم تمالكــت نفســها ورفعــت رأســها وأرجعــت شــعرها للخلــف" فــي تلــك اللحظــة ربمــا‬
‫ســقط منــي الــزر دون أن أحــس‪.‬‬
‫_هل أنت متأكدة من أنك رأيت اسحاق وهو يرجع الرواية إلى مكانها!‬

‫‪272‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ليس تماما‪ .‬ألني لم أجدها هناك‪.‬‬


‫_هل تقصدين أن الرواية كانت بحوزته عندما تلقى الضربة‪.‬‬
‫_نعم هذا احتمال كبير‪.‬‬
‫_ولست أنت من تركها بجنبه؟ أو أوقعتها من يدك!‬
‫_ال‪.‬‬
‫_هــل أوقعتهــا مــن الــرف الــذي بجنــب الضحيــة مثــا‪ .‬ألنهــا كانــت واقعــة فــي الجهــة‬
‫اليمنــى مــن الضحيــة بينهــا وبيــن رف املكتبــة‪.‬‬
‫_ال أعتقد هذا‪.‬‬
‫– حســنا قد أخبرتنا أنك رأيت أحدهم يخرج من املكتبة قبل أن تجدي اســحاق‬
‫ميتــا علــى األرض‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_من الذي رأيته يخرج من املكتبة؟‬
‫– لم يظهرلي شكله بوضوح!‬
‫– من رأيته يخرج من املكتبة‪ ،‬كيف كان يبدوا‪ ،‬ملن يشبه من زمالئك في القسم‪.‬‬
‫– ال ال أعرف‪ ،‬لكني أظنه‪...‬‬
‫– من تكلمي‪ .‬من؟‬
‫– لقمان‬
‫– لقمان الصابري هكذا!‬

‫‪273‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– حســب شــهادة إحــدى صديقاتــك‪ ،‬لقــد حــدث شــجاربينــك وبيــن إســحاق قبــل‬
‫يوميــن‪ ،‬مــا هــو ســبب الشــجار؟‬
‫– إســحاق أحبنــي‪ ،‬وقــد أعمــاه الحــب لدرجــة أنــه أراد أن يتملكنــي وغيرتــه علــي‬
‫أصبحت تزعجني كثيرا‪ ،‬لذلك لم نتفاهم‪ ،‬وكل ذهب في طريقه‪ ،‬مكتوب كما يقولون‪.‬‬
‫– مكتــوب! مــوت إســحاق حبيبــك الســابق بمجــرد أن انفصــل عنــك هــو مكتــوب‬
‫أيضــا! هــل أردت االنتقــام منــه ألنــه صفعــك أمــام وســط الســاحة‪ ،‬أم مــن أجــل لقمــان‪.‬‬
‫– ال ال مــاذا تقــول‪ ،‬لــم أفعلهــا‪ ،‬لقــد انفصلنــا ملــدة فقــط‪ ،‬لكنــي أصارحــك "ثــم‬
‫حتــى تجعــدت مالمــح وجههــا"‪.‬‬ ‫انفجــرت بالبــكاء شــاهقة ّ‬

‫ثم سكتت أميمة لحظة قصيرة‪ ،‬استجمعت قواها وقالت بنبرة واضحة‬
‫_أحبــه يــا ســيدي‪ ..‬أحبــه ولــم أحــب جــا مثلمــا أحببتــه لذلــك أردت أن أعــرف ّ‬
‫حتــى‬ ‫ر‬
‫الكتــاب الــذي يقـرأه‪ ،‬ولــو يرجــع للحيــاة العتــذرت منــه ألــف اعتــذار‪ .‬ألنــي ال أصــدق أنــه‬
‫قد مات ال أصدق‪ ،‬هو خطيبي وقد قررنا أن نتزوج بعدما ننجح في امتحان البكلوريا‪،‬‬
‫كان دائمــا يخبرنــي أننــا ســندرس فــي كليــة الطــب مــع بعــض لكــن‪...‬‬
‫ثم انفجرت بالبكاء وبإشارة من يد املحقق حملها طارق وأخرجها‪:‬‬
‫ثم التفت املحقق للطبيب‪ ،‬يسأله‪:‬‬
‫_ما رأيك في ما قالته!‬
‫– ال أدري يــا ســيدي بحــق‪ ،‬أنــا ال افهــم كثيـرا فــي العالقــات العاطفيــة لهــذا الجيــل‪،‬‬
‫لكــن! ربمــا قــد أحبتــه حقــا وربمــا تكــون دمــوع تماســيح فقــط‪.‬‬
‫– لــو أحبتــه حقــا ملــا تركتــه وبدلتــه بفتــى أقــل منــه مكانــة ومــاال وجمــاال‪ ...‬عندمــا‬
‫تتــركك ام ـرأة مــن أجــل رجــل وأنــت تعــرف أنــه ال يملــك مــاال أو جمــاال أكثــرمنــك وكل مــا‬
‫هــوموجــود لديــه هــوعنــدك‪ ،‬اعلــم أنهــا لــم تحبــك مــن البدايــة وكانــت تمثــل فقــط‪ .‬وهــذه‬

‫‪274‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الفتــاة تبــدو ممثلــة بارعــة حقــا‪ .‬خصوصــا إذا خدعتــك مــع فتــى اســمه لقمــان‪ ،‬لقمــان‬
‫مطلوعــة‪ .‬مقطــوع مــن شــجرة ال مــال وال جــاه وال نســب وال حســب‪.‬‬
‫– هل تقصد أنها قد تقتله من أجله؟‬
‫– اثنان ال تثق فيهما يا أستاذ رشيد‪ ،‬شمس الشتاء وقلب النساء‪.‬‬

‫***‬

‫‪275‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫السيد لقمان الصابري‬


‫***‬
‫_هل تحب التفاح!‬
‫_ال‬
‫_ماذا تحب إذن؟‬
‫صمت لقمان‪.‬‬
‫_هل تحب املطلوع‪.‬‬
‫لم يرد لقمان واستمرفي صمته‪:‬‬
‫_هل تحب أميمة؟‬
‫أمــال لقمــان رأســه‪ ،‬حــرك رجلــه‪ ،‬وفــرك أصابــع يديــه اللتــان كانتــا فــوق الطاولــة‬
‫ظاهرتيــن أمــام املحقــق الــذي الحــظ انزعاجــه مــن ســؤاله األخيــر‪.‬‬
‫_فهمتك‪ .‬علي أن ال أطرح عليك هذا السؤال ألنه واضح وال يستحق إجابة‪ ،‬لكن‬
‫أخبرني أرى أنك خائف ملاذا يا ترى؟‬
‫هزمروان رأسه ورد بنبرة سريعة وواضحة‪:‬‬
‫– ال‪ ،‬لست خائفا!‬
‫_هل أنت متأكد؟‬
‫_نعم‪.‬‬
‫وأمراملحقق لقمان بأن يثبت يده أمامه ّ‬
‫حتى يقيس درجة توتره من ارتجاف يده‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– اذن ارفع يدك وافتحها‪ ،‬ضعها أمامك هكذا‪...‬‬


‫– ملاذا يدك ترتعش هكذا! إذن!‬
‫لقمان يسترجع بعض ذكرياته‪:‬‬
‫األم واقعة على األرض تصرخ وتبكي‪.‬‬
‫الطربوش األحمريتأرجح على األرض‪.‬‬
‫الولد الصغيرشاخص العيون ومالمحه ككرتونة مبللة‪.‬‬
‫الدماء تسيل من رأس الرجل كان جثة من دون روح جاثما في األرض على بطنه‪،‬‬
‫خــده ملتصــق علــى األرضيــة وعينــاه جاحظتــان أمامــه فــي منظــرمرعــب‪ ،‬بركــة مــن الدمــاء‬
‫تسيح على األرض وتبلل مالبسه‪ ،‬الفتى متجمد في مكانه‪ ،‬يتراجع خطوة للخلف‪ ،‬ينظر‬
‫للمقــص امللطــخ بالدمــاء فــي يــده ثـ ّـم ينظــرببــطء ألمــه وهــي تنــدب وجههــا وتضــرب علــى‬
‫األرض‪ ،‬تهــز زوجهــا لينهــض‪ ،‬شــعرها األســود مبعثــر فــي الهــواء ويديهــا ملطختــان بدمــاء‬
‫زوجهــا‪ ،‬تصــرخ وتنحــب مــرددة‪:‬‬
‫_مــات‪ ،‬مــات‪ ...‬مــااااات‪ ،‬مــاااات‪ ،‬قتلتــه‪ ،‬قتلــه آااااه ربــي يــا لهــواري‪ ..‬يالهــواري‪..‬‬
‫راجلــي مــات‪ .‬راجلــي مــات‪ ..‬قتلــو‪ ..‬قتلــو‬
‫ثــم يهــرب الفتــى مســرعا يحمــل املقــص فــي يــده يجــر عباءتــه مباعــدا بيــن ســاقيه‪.‬‬
‫متجهــا لــواد بوغولــة‪ ،‬يصــل فــوق حجــرة الغولــة‪ ،‬يرمــي املقــص فــي مجــرى الــواد ويغســل‬
‫يديــه مــن الدمــاء والدمــوع التكــف تنهــرمــن عينيــه بغـزارة تختلــط بالدمــاء علــى أصابعــه‪.‬‬

‫***‬

‫‪277‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال ال‪ ،‬لست خائفا فقط أنا‪!....‬‬


‫– ماذا!‬
‫– ال �شيء!‬
‫– هل لديك �شيء تريد قوله‪ ،‬هل هناك ما تريد إخباري به! ال تخف سرك في بئر‪.‬‬
‫– البئريسقي كثيرمن األشخاص العطشانة لألسرار‪.‬‬

‫– ماذا قلت!‬
‫– قلت ال يوجد �شيء فقط أنا ال أحتمل النظرإلى الدم‬
‫– هــاه‪ ،‬ال تحتمــل النظــرإلــى الــدم إذن! أم أنــت ال تحتمــل تذكــرالــدم! أنظــرجيــدا‬
‫يــا مطلوعــة أنــا أعرفــك جيــدا وأعــرف حكايتــك‪ ،‬أو باألحــرى أعــرف صحــة الحكايــة التــي‬
‫حكتهــا لنــا أمــك فــي قســم الشــرطة عــن القاتــل الــذي دخــل للمنــزل وطعــن الهــواري أبــوك‬
‫ألنــه لــم يرجــع لــه أموالــه التــي ربحهــا فــي جلســة قمــار‪ .‬وأنــه اســتلف منــه مــاال حتــى يســكر‬
‫بــه ولــم يرجــع لــه‪ ..‬لذلــك قتلــه وهــرب واختفــى‪ ،‬وقــد فتحنــا تحقيقــا فــي قســم الشــرطة‬
‫ومشطنا كل القرية ولم نجد رجال باملواصفات التي أعطتنا اياها أمك‪ ،‬وهل بالصدفة‬
‫أنــك لــم تكــن موجــودا فــي املنــزل ليلــة الحادثــة وكنــت عنــد صخــرة الغولــة أمــام النهــر‬
‫وبرنوسك ملطخ بالدم‪ ،‬وذلك الدم ال أظنه دم ختان‪ ،‬كنت تغسله في النهرأليس منو‬
‫الغريــب أن فتــى جرحــه ال يـزال جديــدا يذهــب للنهــر!‬
‫– مــاذا تقــول أنــت لســت مــن القريــة وال تعــرف شــيئا عــن صخــرة الغولــة‪ ،‬ومــاذا‬
‫يحكــى عنهــا‪ ،‬يومهــا كنــت صغيـرا وكنــت أؤمــن بكثيــرممــا يقولــه املشــايخ فــي القريــة لذلــك‬
‫حتــى تأخذهــا الغولــة و ال تأخــذ شــيئا‬ ‫قــد ذهبــت مــي الجلــدة التــي نزعــت منــي فــي النهــر ّ‬
‫ألر‬
‫آخــرمنــي‪ ،‬ثـ ّـم غســلت برنو�ســي مــن الــدم الــذي ســال منــي عندمــا انزلقــت رجلــي وســقطت‬
‫علــى طــرف الــواد‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫–نعــم هــذه قصتــك التــي لــم تدخــل رأ�ســي ال هــي‪ ،‬وال قصــة أمــك‪ ،‬وهــذه هــي نفــس‬
‫املالمــح التــي رأيتهــا علــى وجهــك أثنــاء رؤيتــك ألبيــك ممــددا علــى األرض‪ ،‬وال أظنــك رميــت‬
‫الجلــدة‪ ،‬وإنمــا فــي الحقيقــة أنــت رميــت ســاح الجريمــة فــي الــواد‪ ،‬لذلــك لــم أجــد الدليــل‬
‫علــى إدانتــك فــي ذلــك الوقــت ولألســف لــم يصــدق أحــد كالمــي‪.‬‬

‫– هــل أحضرتنــي هنــا لتقــص علــي حكايــة فاتــت وتخبرنــي بــكالم ال يتقبلــه العقــل‪،‬‬
‫وتقــول أنــي قتلــت أبــي بطعنــة ســكين!‬

‫– ال علينــا الــذي فــات قــد مــات‪ ،‬لكنــي ذكرتــك فقــط‪ ،‬ـكـي تعــرف أنــي ال أخــرج مــن‬
‫قضيــة إال وقــد حللتهــا وعرفــت املجــرم‪ ،‬مهمــا كان ذكائــه واآلن كل الدالئــل هنــا تشــيرإلــى‬
‫أنــك أنــت القاتــل!‬

‫– أي دالئل تقصد!‬

‫– حسنا لنبدأ‪ .‬ما هي عالقتك بإسحاق؟‬


‫– عالقة سطحية‪ ،‬هو زميلي في القسم ليس إال‪.‬‬

‫– زميلــك أم عــدوك الــذي كنــت تغــارمنــه ألن الفتــاة التــي أحببتهــا كانــت خطيبتــه !‬
‫ّ‬
‫حتــى تدخلــت أنــت وكالعــادة أفســدت كل األمــور‪.‬‬

‫– أي فتاة‪ ،‬هل تقصد أميمة؟‬

‫– نعم‪ ،‬أميمة ما هي عالقتك بها يا �سي لقمان؟‬

‫– هي صديقتي‪ ،‬وزميلتي في نفس فوج األعمال التطبيقية‪.‬‬

‫– إذن كنــت تق�ضــي وقتــا معهــا‪ ،‬لكنــك تعــرف أنهــا كانــت برفقــة إســحاق لذلــك كان‬
‫إســحاق بمثابة العائق بالنســبة لك‪ .‬ولهذا كان عليك التخلص منه‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– حقيقــة أميمــة كانــت تعجبنــي ولطاملــا أردت أن أتقــرب منهــا‪ ،‬وحقــا كنــت أكــره‬
‫إســحاق ليــس ألنــه حبيبهــا فقــط‪ ،‬بــل ألنــه لــم يكــن يســتحق فتــاة مثــل أميمــة ألنــه‪....‬‬

‫– ملاذا سكت أكمل‪ ،‬ألنه ماذا!‬


‫– النــه كان يظــن أنــه يســتطيع أن يشــتري الــكل بأموالــه وســلطة أبيــه‪ ،‬أعمــاه مالــه‬
‫ونفــوذه لذلــك كان يــرى كل مــن هــو أدنــى منــه مــاال‪ ،‬يـراه صغيـرا وحقيـرا‪.‬‬
‫***‬
‫– أرني ما هذا‪ ،‬أخبروني أنك ترسم جيدا؟‬
‫– ماذا تريد مني؟‬
‫– أنظــروا‪ ،‬مــاذا يرســم بيكاســو‪ ،‬دراجــة هوائيــة‪ ،‬صحــن فــارغ‪ ،‬حقــل قمــح‪ ،‬بقــرة‬
‫وكلــب‪ ،‬مــا هــذا ال�شــيء؟‬
‫– أظنها قربة ماء يا زعيم‬
‫– ما ذا تعني بقربة!‬
‫– هــي عبــارة عــن كيــس مصنــوع مــن جلــد املاعــز‪ ،‬تعلــق فــي أعمــدة خشــب وتهزهــا‬
‫حتــى تفصــل الزبــدة عــن الحليــب‪ ،‬وفــي الصيــف يوضــع فيهــا املــاء ليبقــى بــاردا‪،‬‬‫النســاء ّ‬
‫أعــرف هــذا ألن أبــي كان يأخذنــا عنــد جدتــي فــي الباديــة فــي الصيــف وعرفنــي بهــا‪.‬‬
‫– ههــه ههــه ههــه‪ ...‬هــل تقصــد أنهــم يشــربون مــن جلــد املاعــز‪ ،‬كــم أنــت مقــرف أيهــا‬
‫مملوء وتأكل منه وتسد جوعك‬ ‫ً‬ ‫البدوي املتخلف‪ ،‬أنتم وعاداتكم‪ ،‬ملاذا ال ترسم طبقا‬
‫قليــا‪ ،‬هيــا اضحكــوا ههــه هــه ههــه‪.‬‬
‫– أعطني أوراقي‪ ،‬أعطني أوراقي‪..‬‬
‫– انتظرسأمأل لك بعض املاء لتشربه في الطريق‪ ،‬هيا التفتوا‬

‫‪280‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم فتــح إســحاق حزامــة ســرواله وتبــول فــوق رســمة القربــة ووضعهــا وســط‬
‫الرســمات األخــرى‪.‬‬
‫– خــذ هــاك ســتبرد فــي الطريــق وعندمــا تعطــش أشــرب منهــا‪ ،‬ههــه‪ ،‬ههــه اضحكــوا‬
‫هيــا‪ ،‬انصــرف اآلن‪ ...‬ام�شــي‪ ...‬دعــوه يمــر‪.‬‬
‫***‬
‫– وألنــه كان يعتمــد علــى أمــوال أبيــه فــي كل �شــيء‪ ،‬كان يرشــو ّ‬
‫حتــى بعــض األطفــال‬
‫مــن جماعــة الصراصيــرلحمايتــه‪.‬‬
‫– إذن كنــت تريــد النيــل منــه مــن قبــل‪ ،‬لكــن الفرصــة لــم تواتيــك فقــط‪ ،‬وليــس‬
‫هنالــك مــكان مناســب أكثــر مــن املكتبــة الفارغــة فــي املســاء أليــس كذلــك!‬
‫– ال ال‪ ،‬رغم أنه كان شخصا ال يعجبني إال أني لم أفكرفي قتله أبدا‪.‬‬
‫– حسنا أخبرني على الساعة الرابعة وعشرين دقيقة أين كنت؟‬
‫– كنت في املرحاض‪.‬‬
‫– هل أنت متأكد أنك كنت في املرحاض ولم تكن في مكان آخر؟‬
‫– نعــم كنــت فــي املرحــاض مــع مــروان‪ ،‬وكنــا نخطــط للهــروب مــن الســور ّ‬
‫حتــى ال‬
‫نحضــر حصــة الفرنســية اململــة‪ .‬أخبــرت مــروان بــأن يخــرج ثـ ّـم تبعتــه‪.‬‬
‫– ملاذا لم تخرج معه؟‬
‫– ألن الحــارس ســيالحظ خروجنــا‪ ،‬فلــو خرجنــا دفعــة واحــدة سنســتغرق وقتــا‬
‫أطــول‪.‬‬
‫– لكنك لم تخرج‪ ،‬لم تتبعه‪ ،‬أنت تكذب أين ذهبت؟‬

‫‪281‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال لست أكذب‪.‬‬
‫– هل تعرف أن كل هذا التضليل سيلعب ضدك في املحكمة‪.‬‬
‫_تضليل!‬
‫_نعم‪ ،‬ألنني أعرف أنك في تلك اللحظة قد توجهت للمكتبة لتتعقب إسحاق‪.‬‬
‫صمت لقمان لبرهة ثم أجاب‪:‬‬
‫– فــي الحقيقــة نعــم قــد توجهــت للمكتبــة‪ ،‬لكنــي لــم أتبــع إســحاق‪ ،‬بــل قــد كنــت‬
‫واقفــا أمــام حنفيــة املــاء قــرب املرحــاض‪ ،‬الحظــت دخــول إســحاق للمكتبــة لــم أعــره‬
‫انتباهــا‪ ،‬لكــن بعــده بلحظــات أيــت أميمــة تتبعــه‪ .‬لذلــك دفعنــي الفضــول فتبعتهــا ّ‬
‫حتــى‬ ‫ر‬
‫أرى مــاذا ســيفعالن داخــل املكتبــة؟‬
‫– ملاذا تبعتها؟‬
‫– ألنهــا كانــت فــي عالقــة معــي وقــد أخبرتنــي أنهــا لــم تعــد تحبــه وقــد قطعــت عالقتهــا‬
‫بــه مــن أجلــي‪.‬‬
‫– من أجلك إذن‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_ لكنك قتلته‪.‬‬
‫– ال‪ ،‬لم أقتله‪.‬‬
‫– أميمــة هــي مــن رأتــك تغــادر املكتبــة وبعــدك بلحظــات وجــدت إســحاق مقتــوال‬
‫علــى األرض‪ .‬إذن األمــر واضــح أنــت هــو القاتــل‪ ،‬أنصحــك باالعت ـراف وهــذا ســيكون فــي‬
‫مصلحتــك فــي املحكمــة‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال ال‪ ،‬ال تفهم األمور هكذا‪ ،‬سأشرح لك األمر‪.‬‬


‫_تفضل!‬
‫_ عندمــا تبعــت أميمــة إلــى املكتبــة رأيتهــا مــن جهــة قســم الروايــات‪ ،‬متخفيــة بيــن‬
‫الرفــوف تراقــب إســحاق‪ ،‬فــي تلــك اللحظــة عرفــت أنهــا ال ت ـزال تحبــه وهــي تهتــم بــكل مــا‬
‫يفعله صغيرة وكبيرة‪ ،‬هناك استنتجت أنها قررت أن تكون معي فقط من أجل أن تثير‬
‫حتــى تنســاه فقــط‪ ،‬قلبــي لــم يهــدأ مــن جهتهــا‪ ،‬أحسســت أنهــا تخفــي‬ ‫غيــرة إســحاق أو ربمــا ّ‬
‫حتى رأيت نظراتها له في املكتبة وهذا إن دل على �شــيء إنما يدل على أنها ال‬ ‫شــيئا عني‪ّ ،‬‬
‫تـزال تحبــه‪ ،‬ولــم أرد أن أفســد األمــرعليهمــا وتركتهمــا لوحدهمــا فــي الداخــل ثـ ّـم خرجــت‬
‫مــن املكتبــة مســرعا وهــذه هــي القصــة كاملــة‪.‬‬
‫– تقصــد أنــك تبعــت أميمــة ولــم تتبــع إســحاق‪ ،‬هــل تعــرف أنــه مــن الحــب مــا قتــل‪،‬‬
‫وحســب كالمــك أنــك تســتطيع أن تفعــل أي �شــيء مــن أجــل أميمــة ّ‬
‫حتــى تثبــت لهــا بأنــك‬
‫تحبهــا‪ ،‬ألنــك ال تملــك املــال الــذي يملكــه إســحاق لكنــك تملــك شــجاعة القتــل الــذي ال‬
‫يملكهــا إســحاق‪.‬‬
‫_ال سيدي لم أقصد أن‪...‬‬
‫_ شكرا‪..‬شكرا‪..‬قد انتهينا اآلن‪ ،‬يمكنك االنصراف اآلن‪ .‬وخذ هذه التفاحة هدية‬
‫منــي‪.‬‬
‫رمــى املحقــق التفاحــة ليلتقطهــا لقمــان‪ ،‬ثـ ّـم نهــض املاحــي مــن الكر�ســي يقــوم‬
‫بطرطقــة عظــام ظهــره‪.‬‬

‫***‬

‫‪283‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قال املحقق متنهدا بصوت متعب‪:‬‬


‫– أوف لقد أرهقني هؤالء األوغاد‪..‬لقد كان تحقيقا طويال‪.‬‬
‫رد الطبيب وهو يجلس في الكر�سي أمام املحقق‪:‬‬
‫– إذن ما الذي استنتجته يا سيدي‪ ،‬من هو املجرم في رأيك؟‬
‫– فــي الحقيقــة لــكل شــخص فيهــم دوافــع للقيــام بعمليــة القتــل‪ ،‬غيــرة‪ ،‬حــب‪،‬‬
‫انتقــام‪ ،‬هاجــس نف�ســي‪ ،‬صداقــة‪ ،‬حقد‪...‬لــكل شــخص فيهــم دليــل يورطــه فــي الجريمــة‬
‫بطريقــة مباشــرة أو غيــرمباشــرة‪ ،‬وفــي نفــس الوقــت لــكل منهــم حجــج وبراهيــن يدافــع بهــا‬
‫عن نفسه‪ّ ،‬إمـا بنفيه التام ملا قيل عنه أو بإبعاده الشك عنه بخلق شكوك في شخص‬
‫آخــر‪ ،‬وعندمــا يشــك كل واحــد فــي اآلخــرواآلخــريشــك فــي غيــرالشــخص الــذي شــك فيــه‪،‬‬
‫تختلــط علينــا االحتمــاالت وال أظــن أن هــذا مــن عمــل الصدفــة فقــط!‬
‫– إذن!‬
‫– أظن أن العمل مدبرومخطط له مسبقا من أجل تضليلنا في التحقيق‪.‬‬
‫_أال تظن يا سيدي أنك قد تكون بالغت في األمرقليال!‬
‫_ماذا تقصد ببالغت؟‬
‫_مــن وجهــة نظــري هــم فــي األخيــر مجــرد أطفــال‪ ،‬ومراهقــون بالتحديــد تســيطر‬
‫عليهــم مشــاعرهم ونزاوتهــم وهــي مــن تدفعهــم للقيــام بالجرائــم‪ .‬وليــس‪...‬‬
‫ابتســم املحقــق ابتســامة عريضــة فــي وجــه الطبيــب وقــال بنبــرة جــادة وعينيــن‬
‫ســارحتين فــي التفاحــة أمامــه‪:‬‬
‫_أطفــال‪ ..‬نعــم أنــت محــق فــي مــا قلتــه عــن دافــع األطفــال للقيــام بالجرائــم حيــث‬
‫تقودهــم شــهواتهم ونزواتهــم وهرموناتهــم غيــر املســتقرة لفعــل ذلــك وهــذا املعتــاد فــي‬
‫معظــم الجرائــم التــي مــرت علينــا مــن قبــل‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قال الطبيب‪:‬‬
‫_إذن‪....‬‬
‫_لكن صدقني أن هؤالء ليسوا مجرد أطفال عاديين‪ ،‬لكل منهم شخصية متميزة‬
‫ـاض مملــوء بالخيبــات واأللــم‪ .‬منهــم مــن عرفتــه منــذ زمــن ومنهــم مــن عرفــت‬
‫ولــكل منهــم مـ ٍ‬
‫أقاربــه ومنهــم مــن عرفــت شــخصيته النرجســية املتحايلــة وأشــياء أخــرى‪ ،‬صدقنــي أنهــم‬
‫ليسوا مجرد أطفال حتى ملفاتهم املدرسية تقول أشياء كثيرة غيرمتطابقة مع الواقع‪.‬‬
‫_كيف ذلك! هل تقصد أنه تم تعديلها أو العبث بها؟‬
‫_نعــم هــو احتمــال كبير‪.‬حتــى الروايــة لــم تكــن هنــاك عبثــا‪ ،‬كأنهــا لعبــة مخطــط لهــا‬
‫من قبل كأنهم يريدون أن يتحدوني‪ .‬لكنهم لألسف ال يعرفون من هو املاحي بل سمعوا‬
‫عنــي فقــط‪.‬‬
‫ثــم قضــم املاحــي قضمــة مــن التفاحــة وســاد الصمــت لبرهــة فــي القاعــة‪ .‬ليكســره‬
‫الطبيــب ويوجــه كالمــه للماحــي الشــارد فــي تفكيــره‪.‬‬
‫– أظنك يا سيدي قد نسيت أمرضربة اليد اليسرى والشخص األعسر‪.‬‬
‫– ال تقلق يا دكتور فلم أنسها‪.‬‬
‫_لكن لم أرك تسألهم أثناء االستجواب عن اليد التي يستعملونها أكثر‪.‬‬
‫_بال قد فعلت ذلك‪ ،‬لكن بطريقة مباشرة‪.‬‬
‫_كيف وملاذا اعتمدت على طريقة غيرمباشرة؟‬
‫_ألنه لوكان األمرعن طريق طرح السؤال‪ ،‬ربما سيتعمد املجرم الكذب ويضللنا‪.‬‬
‫لذلك أخبرني التفاح‪.‬‬
‫_التفاح!‬

‫‪285‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_نعم السرفي التفاح‪ .‬وليس كل من يأكل التفاح من املالح‪.‬‬


‫_ماذا تقصد؟‬
‫_قد ظهرت حتى أنت ال تعرفني يا دكتور رغم عالقتنا التي تمتد ألكثرمن خمسة‬
‫أعــوام‪.‬‬
‫ضحك الدكتور وقال‪:‬‬
‫_ماذا تقصد؟‬
‫رد املاحي وهو يقلب التفاحة بين يديه‪.‬‬
‫_لــو الحظــت عندمــا كنــت أســتجوبهم كنــت أعــرض عليهــم أكل التفــاح ّإم ــا أرميــه‬
‫لهــم أو أقســم لهــم جــزء منــه‪ .‬وأثنــاء ذلــك كنــت أالحــظ أي يــد يمســكون بهــا التفــاح‬
‫وأيضــا طريقــة امســاكهم لــه‪ ،‬فهــذا يعكــس كثي ـرا مــن نفســيتهم الخفيــة‪ ،‬ومــن ال يــأكل‬
‫التفاح أعطي له ورقة ليسجل اسمه وعنوانه بالرغم أني أعرف كل ذلك من ملفاتهم‬
‫املدرسية‪ ،‬ومن يتقدم ليصافحني ال أختبره بأي �شيء مما سبق‪ ،‬فمسكة يده كافية ألن‬
‫أعــرف الكثيــر‪ .‬وبذلــك قــد عرفــت اليــد التــي يكتــب بهــا كل واحــد فيهــم‪ .‬وكيــف يســتخدم‬
‫قبضتــه‪.‬‬
‫عقــد الطبيــب حاجبيــه وابتســم مــن الطريقــة التــي اســتخدمها املحقــق للكشــف‬
‫عــن الشــخص األعســر بينهــم‪:‬‬
‫_ههــه طريقــة ذكيــة يــا أســتاذ‪ ،‬أنــا أعرفــك منــذ ســنوات وأعــرف أن التفــاح ال‬
‫يفارقــك لكنــي كنــت أظنــك تحــب أكلــه فقــط‪ .‬والحظــت بعدهــا أنــك تــأكل التفــاح فقــط‪.‬‬
‫عندمــا تحقــق مــع اآلخريــن‪ .‬ولــم أكــن أعلــم أنــه خدعــة تعــرف بهــا كل هــذا!‬
‫_هــذا وأكثــر‪ ..‬ونعــم أنــا أحــب التفــاح‪ ...‬وهــي مهــدأ جيــد لألعصــاب باملناســبة وأنــا‬
‫أســتخدمه فــي أشــياء أخــرى غيــرهــذه التــي كشــفتها لــك اآلن‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ماهي يا أستاذ؟‬
‫_لــن أقولهــا لــك‪ .‬فســتنتبه لهــا أثنــاء التحقيــق وتصبــح غيــر صالحــة‪ ،‬فمثــا لــو‬
‫أخبرتــك عــن خدعــة إمســاك التفــاح‪ .‬حتمــا عينــك ســتنحرف باتجــاه التفاحــة مــن حيــن‬
‫آلخــر وســيالحظ الــذي اســتجوبه أن فــي األمــر خدعــة مــا‪ .‬هــل فهمتنــي اآلن‪.‬‬
‫_نعم أنت محق‪.‬‬
‫_واآلن تذكرفقط أنه ليس كل من يأكل التفاح من املالح‪.‬‬
‫– حسنا‪ .‬إذن من هو الشخص األعسرمن بينهم!‬
‫– ال تفاجئ‪ ،‬لكن ال أحد فيهم يكتب بيسراه‪.‬‬
‫– لكن ربما قد‪...‬‬
‫ثم قاطع املحقق الطبيب وهو يلوي جريدته ويضعها في جيبه الخلفي‪:‬‬
‫– هــل تريــد القــول أن هنــاك شــخصا قــد تعلــم الكتابــة بيديــه االثنتيــن! ال ال أظــن‬
‫أن هــذا وارد‪ ،‬ولهــذه الدرجــة ســيفكرقبــل الجريمــة‪ ،‬ألنــك تعلــم أن ذلــك قــد يســتغرق‬
‫أعواما من املمارسة‪ .‬لكن ال تقلق كل �شيء سيظهرفي املحكمة‪ .‬وهذا املجرم قد خطط‬
‫لــكل �شــيء بإحــكام ودرس خطــة القتــل جيــدا‪ ،‬كأنــه يريــد أن يختبــر ذكائــه معنــا‪ .‬كلهــم‬
‫أذكيــاء وأذكاهــم مــن يتغبــى بذكائــه‪.‬‬
‫_إذن حســب كالمهــم ومــا جمعنــاه مــن أدلــة لحــد اآلن مــن ت ـراه املشــتبه األول فــي‬
‫قتــل إســحاق؟‬
‫ابتسم املحقق وأخرج تفاحة أخرى من جيبه قضم منها ورماها للطبيب‪:‬‬
‫_ليس كل من يأكل التفاح من املالح‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أحمد البغل واملاحي‬

‫فتحت عيني على أصوات عراك وشتيمة‪ ،‬وجدت نف�سي نائما على أرض إسمنتية‬
‫بــاردة‪ ،‬أول مــا رأيــت شــعاع شــمس الصبــاح يتســلل خلــف قضبــان النافــذة الصغيــرة‬
‫فوق رأ�سي‪ ،‬رائحة العرق تمأل املكان‪ ،‬أسرة حديدة حوالي العشرة الواحد فوق اآلخر‪،‬‬
‫رأيــت قــرب بــاب الزنزانــة جماعــة مــن خمــس أشــخاص بينهــم عجــوز وشــاب فــي عمــري‪،‬‬
‫يتعاركــون علــى عقــب ســيجارة مــن ســيكون لــه آخــرنفــس‪ ،‬الرطوبــة شــديدة‪ ،‬أشــعرأنــي‬
‫أختنــق ال أعلــم كيــف نمــت البارحــة وفــوق رأ�ســي هــذا املرحــاض القــذرمباشــرة‪ .‬يبعــث‬
‫قذارتــه‪ ،‬ليلــة كاملــة وأنــا أســمع خريــرامليــاه‪ ،‬ظننــت أنــي أحلــم وظننــت أن املطــريصــب فــي‬
‫الخــارج‪ ،‬شــعرت بطعــم مـرارة صــدئ تحــت لســاني‪ ،‬ظهــري متشــنج ومتصلــب‪.‬‬
‫ســعلت‪ ،‬وســعلت بقــوة أكثــر‪ .‬كنــت ألبــس قميصــا داخلــي أبيــض بالــي‪ ،‬ووجهــي‬
‫شاحب يميل لوجه جثة‪ ،‬تدحرجت من مكاني وقفت أمام القضبان متوجها للحارس‬
‫حتــى أتمكــن مــن االتصــال بأحدهــم ليحضــرلــي دوائــي‪ ،‬قاومــت ذلــك ولــم أرد أن أتصــل‬ ‫ّ‬
‫بأمــي ّ‬
‫حتــى ال أقلقهــا‪ ،‬ناديــت علــى الحــارس الطويــل وقــد كان يضــع رجــا علــى رجــل ويقـرأ‬
‫جريدة‪ ،‬لم يستجب في املرة األولى‪ ،‬قرعت القضبان بكأس حديدة ولم يستجب‪ ،‬بعد‬
‫لحظات من النداء على الحارس دون جدوى‪ ،‬اقترب مني أحد من املساجين الذين لم‬
‫يتم إصدارالحكم في حقهم بعد كان رجال أصلع‪ ،‬يبدو في األربعينات من عمره‪ ،‬ضخم‬
‫الجثــة‪ ،‬علــى ذراعــه وشــم امـرأة حامــل‪ .‬بنبــرة خشــنة ومبحوحــة‪:‬‬
‫– ال تتعــب نفســك فهــو يضــع ســماعات فــي أذنــه ولــن ينهــض إال للتبــول فقــط أو‬
‫األكل‪.‬‬
‫ثــم أســندت ظهــري للقضبــان ألتلقــى الخيبــة وتنطحنــي التســاؤالت عــن حــال‬
‫أصدقا ئــي‪.‬‬
‫قال السجين‪:‬‬

‫‪288‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– سرقة‪ ,‬حشيش‪ ،‬سكر‪ ،‬شجار‪ ،‬تزويرهوية أم ال �شيء مما سبق!‬


‫– ال �شيء مما سبق‪.‬‬
‫– إذن أظنهــا جريمــة إلكترونيــة فهــذا أصبــح منتش ـرا بكثــرة هــذه األيــام عنــد‬
‫املراهقيــن‪ ،‬هــي طريقــة مســاملة لحــد كبيــر أفضــل مــن القتــل والتيتيــم مــن أجــل أمــور‬
‫ســخيفة‪ ،‬اســتخدام العقــل أفضــل مــن اســتخدام القــوة‪ ،‬ليتنــي تعلمــت ودخلــت‬
‫املدرســة مثلكــم‪.‬‬
‫– كيف عرفت أني أدرس ومن أنت؟‬
‫– ال تقلق يا بني‪ ،‬هذا واضح من الحبرعلى سروالك‪ ،‬وال يهم ملاذا أتحدث معك‪،‬‬
‫وراء هذه القضبان وبعد مدة لك وأنت هنا‪ ،‬تعتاد على تقشيرالكلمات‪.‬‬
‫_تقشيرالكلمات!‬
‫_نعــم‪ ..‬تعتــاد علــى قتــل الوقــت بــأي �شــيء كان قبــل أن يقتلــك‪ ،‬لذلــك هنــا وبيــن‬
‫هــذه القضبــان ال �شــيء أمتــع بالنســبة لنــا مــن قصــة جديــدة نهضــم بهــا ســاعات الحبــس‬
‫الجافــة‪ ،‬وكل وافــد جديــد هــو قصــة جديــدة‪.‬‬
‫صمت قليال‪ّ .‬‬
‫ثم تابع كالمه واضعا يده على كتفي‪:‬‬
‫– أو زوجة جديدة‪...‬‬
‫_ماذا تعني‪ .‬انزع يدك عني‪...‬‬
‫عندمــا ســمعت آخــرمــا قالــه ابتعــدت للخلــف وشــددت قبضتــي علــى كأس الحديــد‬
‫فــي يــدي‪.‬‬
‫–ههههــه‪ ...‬ال تخــف أنــا أمــزح معــك فقــط‪ ،‬منــذ ماتــت زوجتــي عقــدت العــزم أن ال‬
‫أملــس أحــدا بعدهــا وأن ال أعشــق بعدهــا‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أردت أن أستدرجه في الكالم ألعرف نيته‪:‬‬


‫– كيف ماتت زوجتك؟‬

‫– ال أعرف!‬
‫_وهل أنت نادم على ما فعلته!‬
‫_كنــت ســكرانا ال أذكــرمــا حــدث فــي تلــك الليلــة‪ .‬ومــاذا عنــك هــل أنــت نــادم علــى‬
‫قتلــه؟‬
‫– من تقصد؟‬
‫– زميلك في املدرسة‪.‬‬
‫– كيف عرفت أن‪...‬‬
‫– الحراس هنا من أجل سيجارة فقط‪ ،‬قد يعطونك ملف أي سجين‪.‬‬
‫– إذن تستطيع أن تعرف ما حل بأصدقائي؟‬
‫– هل تقصد سميروطارق ومروان وفارس‪.‬‬
‫_نعم‪.‬‬
‫– ال أعرف‪.‬‬
‫_كيف ال تعرف وأنت تعرف أسماءهم و‪...‬‬
‫– أنظرهنا لكل زنزانة "بيفو" خاص بها‪ ،‬والبيفو هو الرجل الذي ينقاد ألمره كل‬
‫مــن فــي الزنزانــة أي أنــه رئيــس الدولــة هنــا وال تخفــى عليــه خافيــة‪ ،‬وأنــا البيفــو هنــا‪ .‬وحيــن‬
‫تخبرنــي كيــف قتلتــه وملــاذا قتلتــه‪ ،‬حينهــا يمكننــا أن نتحــدث جيدا‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_حسنا أخبرني أنت أوال‪..‬هل قتلتها حقا؟‬


‫– أنظــرهنــا "و أشــارألســفل عينــه" هــذه الدمعــة تشــيرلخســارة شــخص عزيــزعلــى‬
‫القلــب‪.‬‬
‫– لكن هناك دمعتان‪.‬‬
‫– نعم‪ ،‬هذه دمعة كبيرة من أجل زوجتي وهذه دمعة صغيرة من أجل ولدي‪.‬‬
‫– هل تقصد أنك قتلت زوجتك وولدك؟‬
‫– ال ال‪.‬‬
‫فــي تلــك اللحظــة تملكنــي الذعــروشــعرت أنــي أمــام كتلــة بشــرية مــن دون مشــاعرأو‬
‫عواطــف‪.‬‬
‫– لكنــي أحببتهــا مــن أعمــاق هــذا القلــب املتحجــر ولــن أن�ســى قصــة الحــب التــي‬
‫عشــتها معهــا أبــدا‪.‬‬
‫– وكيف إن احببتها حقا‪ ،‬هل تقتلها؟‬
‫– اســمع هنــاك بعــض األمــور يبتلينــا بهــا الــرب ألننــا وصلنــا ألن نحــب عبــدا مثــل‬
‫حبنــا هلل‪ ،‬وبذلــك يريــك هللا قدرتــه ويحرمــك مــن ذلــك العبــد وأشــد االبتــاء أن يحرمــك‬
‫منــه بيديــك أنــت‪.‬‬
‫تابعت أسمع للرجل في شرود وذهول وأكاد أفهم تلميحاته ّ‬
‫ثم ال أكاد‪...‬‬
‫حتى بدأ يسرد عليه قصته‪.‬‬‫الحظت وشم امرأة حامل في ذ اعه ولم أفهمها ّ‬
‫ر‬
‫_فتيحــة كانــت أحــب ام ـرأة لقلبــي‪ ،‬حينمــا كنــت بعمــرك‪ ،‬كنــت أذهــب كل يــوم‬
‫حتى النخاع وذات مرة‬ ‫للثانوية ال من أجل الد اسة بل من أجل رؤيتها فقط‪ ،‬عشقتها ّ‬
‫ر‬
‫أعلنــت لهــا حبــي وأعلنــت حربــا ألتزوجهــا وفعلــت ذلــك‪ ،‬ورحلنــا إلــى هــذا املــكان بالضبــط‬

‫‪291‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫فــي ســفح جبــل اســمه جبــل زكار‪ ،‬عشــنا كل شــهورنا عســا‪ ،‬ذات مســاء شــتوي بــارد وأنــا‬
‫عائــد مــن الصيــد رأيــت رجــا يرتــدي برنوســا ويقتــرب مــن بيــت فتيحــة‪ ،‬شــحنت بندقيتــي‬
‫وصوبــت نحــو ظهــره مباشــرة ألســقطه أرضــا وأرتمــي فوقــه ألكمــل عليــه‪ ،‬وملــا نزعــت عنــه‬
‫غطاء رأسه ألرى من هو الوغد الذي أراد أن يطال محبوبة القلب‪ .‬وجدت أنها فتيحة‪.‬‬
‫_زوجتك‪ ...‬لكن كيف؟‬
‫_نعــم فتيحــة‪ .‬بعدمــا كانــت تدخــل املالبــس التــي نشــرتها فــي الخــارج لبســت برون�ســي‬
‫مــن أجــل أن تحتمــي مــن املطــرومــن أعيــن اآلخريــن‪ .‬فلــم أعرفهــا مــن تخفيهــا ومــن املطــر‬
‫أيضــا‪.‬‬
‫بعدمــا أصبتهــا برصاصــة فــي ظهرهــا‪ .‬أســرعت بهــا إلــى املستشــفى وقــد كانــت حامــا‬
‫بابنــي‪ ،‬اســتطاعوا فــي املستشــفى أن ينقــذوا ولــدي لكــن هــي توفيــت‪ ،‬بعدهــا أصبحــت‬
‫الدنيا ظالما في وجهي‪ ،‬وضعت ابني في ميتم‪ .‬وقررت االنتحار‪ .‬وبعدما فشلت محاولة‬
‫انتحــاري هجــرت البلــد‪ ،‬ثــم مــرت الشــهور واألعــوام‪ ،‬واســتجمعت نف�ســي وقــرت أن أفتــح‬
‫صفحــة جديــدة فتزوجــت مــن جديــد‪ ،‬وأنجبــت طفــا ســميته فــارس‪ .‬هــل تقصــد أنــت‬
‫أب‪!...‬‬
‫_نعم فارس ولدي‪.‬‬
‫_لكن كيف دخلت السجن‪.‬‬
‫_بعــد أعــوام شــكلت عائلــة صغيــرة‪ ،‬وتخطيــت املا�ضــي ونســيته‪ .‬وذات يــوم وصلنــي‬
‫محضــرمــن الشــرطة تســتدعيني‪ .‬دخلــت إلــى الشــرطة وهنــاك التقيــت بمحقــق فتــح لــي‬
‫ملفــا قديما‪..‬يورطنــي فــي جريمــة قتــل زوجتــي‪ .‬وهــل تعــرف مــن يكــون ذلــك املحقــق!‬
‫_ال تقل لي هو املاحي نفس املحقق الذي حقق معنا‪.‬‬
‫_نعم وهل تعرف من يكون املاحي هذا ؟‬
‫_ال تقل لي أنه!‪..‬‬

‫‪292‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_نعم هو ذلك الفتى الذي نسيته في امليتم‪ ،‬عاد ليصبح محققا وينتقم مني و على‬
‫ما فعلته به وبأمه‪.‬‬

‫_ينتقم منك‪ .‬ماذا تقصد‪.‬‬

‫_عندمــا اســتدعاني الــى مقــر الشــرطة‪ .‬لــم يكــن يملــك األدلــة الكافيــة ليكشــف‬
‫جريمــة قتــل أمــه‪ .‬لكنــه بحــث عنــي لســنوات‪ ،‬هــل تصــدق أنــه أصبــح محققــا فقــط مــن‬
‫حتى التحق بسلك‬ ‫أجل أن يجد قاتل أمه‪ ،‬وبدأ البحث والتحري منذ أن كان في امليتم‪ّ .‬‬
‫الشرطة‪ .‬ليحل قضية قتل أمه الغامضة والتي صرحت حينها أن من قتلها هو جارلنا‪.‬‬
‫حتــى يصــل إلــي ويجــد الحيــاة الهادئــة التــي أعيشــها‪ ،‬فــأراد‬ ‫اســتدل املاحــي بذلــك الخيــط ّ‬
‫أن يذيقنــي مــا أذقتــه‪ .‬وقتــل زوجتــي أمــام عينــي ولفــق لــي تهمــة قتلهــا‪.‬‬

‫_لفق لك تهمة قتلها‪ .‬كيف!‬

‫_قضية معقدة هو القاتل واملحقق فيها‪ .‬لذلك ال أمل من محاولة تبرأتي‪.‬‬


‫_لن يضيع حقك ال تقلق‪ ،‬سينكشف يوما‪.‬‬

‫_ال‪ .‬هذا هو حقي‪ .‬أنا أستحق ما أنا فيه‪ .‬يجب علي أن أسدد ديني وأنا اآلن أفعل‬
‫ذلــك‪.‬‬

‫_وهل سردت عليهم قصتك‪.‬‬

‫_نعــم‪ ،‬أخبرتهــم أنــي لســت القاتــل ولكــن الســكين وجــد فــي جيبــي‪ ،‬وضــع ســاح‬
‫الجريمــة فــي جيبــي وأنــا نائــم‪ .‬وحيــن اســتيقظ فــارس تفاجــأ أمــه جثــة مذبوحــة أمامــي‪.‬‬
‫والدمــاء تســيل مــن يــدي وأنــا متجمــد مكانــي‪ .‬بعدهــا داهمــت الشــرطة املــكان فــي طرفــة‬
‫عيــن اتصــل‪ .‬وهكــذا لفقــت لــي الجريمــة‪.‬‬

‫_أمرمؤلم حقا‪...‬‬

‫‪293‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ صدقني أن أكثرما يؤملني هو أن فارس ولدي يراني قاتال‪ .‬ومنذ ذلك العام دخل‬
‫فــي حالــة نفســية صعبــة جــدا‪ .‬ولــم أروجهــه منــذ أعــوام ّ‬
‫حتــى رأيتــه يدخــل الســجن أمامــي‬
‫اليــوم فلــم أصــدق عينــي‪ .‬فــارس ولــدي قــد كبــروصــاررجــا‪ .‬لــم أره منــذ عشــرة أعــوام‪.‬‬
‫وحتــى أنــت تغيــرت كثيـرا‪...‬‬
‫_ إذن قد كنت‪...‬‬
‫_نعــم أتذكــرك ملــا كنــت تلعــب مــع فــارس كــرة القــدم‪ .‬كنــت صديقــه املقــرب‪ .‬هــل‬
‫ت ـزال كذلــك‪.‬‬
‫_طبعــا فــارس مثــل أخــي‪ .‬اآلن عرفــت ملــاذا كل مــا ســألته عــن أبيــه يتغيــر وجهــه‪.‬‬
‫ويكتفــي بقــول أنــه فــي الخــارج‪.‬‬
‫_في الخارج!‬
‫_نعم‬
‫_ال ألومه‪ .‬فقد كذبوا عليه مثلما كذبوا علي‪.‬‬
‫_كم بقي لك من عام حكم!‬
‫_عشرة أعوام أخرى‪.‬‬
‫_ربي معك‪.‬‬
‫– الســجن يــا بنــي ليــس فقــط للمجرميــن والقتلــة‪ ،‬الســجن أيضــا ملــن خانهــم الحــظ‬
‫وابتالهــم الــرب‪ ،‬وتعــرف مــاذا يقولــون "الحبــس للرجــال "‪ .‬هــذا هــو عمــك "أحمــد بانــي‬
‫"القاعــد أمامــك‪ ،‬الــذي تداولــت الصحــف قضيــة قتلــه لزوجتــه بــدم بــارد وأصبــح املاحــي‬
‫بطــا فــي تلــك الروايــة‪.‬‬
‫_كم هو حقير‪ .‬لم أرتح له منذ البداية‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_دعنا منه‪ ،‬اآلن دورك‪.‬‬


‫_دوري‪.‬‬
‫_ماهي قصتك!‬
‫–حسنا‪..‬اسمها أميمة وقد التقيتها أول مرة في سوق الخضاربعتها خبزة مطلوع‪،‬‬
‫وقعــت فــي حبهــا مــن أول نظــرة لكنهــا مــن طبقــة ثريــة‪ ،‬كيــف لهــا أن تكــون مــن نصيــب بائــع‬
‫مطلــوع بائــس‪ .‬ثـ ّـم فــي املدرســة‪.........‬وأنقــذت‪ ......‬القالدة‪...‬ثــم‪....‬‬
‫_هل تقول بأن الرجل الذي أنقذته هو أبوها وهو نفسه رهن أبوك املنزل له بعد‬
‫موتــه‪.‬‬
‫_نعم ّ‬
‫ثم بعد ذلك‪ ..................‬سبعة أشهر‪....‬و أمي ت‪.....‬‬
‫– ّ‬
‫ثم ماذا جرى حينما أصبت بالسرطان؟‬
‫_قلت‪...........‬علينا‪.......................................................................‬‬
‫– إذن قررت أن تقتله؟‬
‫– ال أعــرف لكننــا اجتمعنــا نحــن األربعــة بعــد نهايــة الــدوام املدر�ســي فــي القســم أنــا‪،‬‬
‫فارس ومروان وسميروطارق‪ ...‬وبدأنا بمناقشة الخطة التي سطرها فارس للنيل منه‪.‬‬
‫_لكن ملاذا قررت فعل ذلك في املدرسة وليس في مكان آخر!‬
‫_ ألنــه كان يحمــي نفســه بجماعــة مــن الصراصيــركانــوا بمثابــة الحــارس الشــخ�صي‬
‫لــه‪ ،‬وخــارج املدرســة نفــوذه أقــوى منــا بكثيــر‪ ،‬لذلــك اقترحنــا أن يكــون املــكان بعيــدا عــن‬
‫األعيــن وكان ذلــك مــن اقتـراح ابــن أيضــا‪.‬‬
‫_ماهي الخطة؟‬

‫‪295‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ ســميريبيعــه بعــض املهلوســات"ليظهرحيــن موتــه أنــه انتحــرإثــرجرعــة زائــدة مــن‬


‫وأمـا كيف ندخله للمكتبة فهذا عمل فارس الذي دبرلعمل ذلك‪ ،‬بأن يغريه‬ ‫املخدر"‪ّ .‬‬
‫بروايــة بوليســية بطلهــا ينتحــرفــي األخيــرولفعــل ذلــك عليــه أن يتبــادل ورقــة امتحانــه مــع‬
‫إســحاق ويحصــل لــه علــى النقطــة الكاملــة وقــد تمكــن مــن فعــل ذلــك وســلمه الروايــة‬
‫وذكــره بتاريــخ إعادتهــا لرفــوف املكتبــة ليبــدوا األمــرعاديــا‪.‬‬
‫وكان يجــب علــى مــروان أن يســتغل عامــل املكتبــة ليســرق مفتــاح املكتبــة ويقــوم‬
‫بمراقبــة تحركاتــه خــارج املدرســة فالحــظ حبــه لكــرة القــدم‪ ،‬وتمكــن مــن أن يختلــس‬
‫املفاتيــح مــن جيــب ســترته فــي غرفــة تغييــراملالبــس بعدمــا دعونــاه ليشــاركنا مبــاراة كــرة‪.‬‬
‫ّأمـا طارق فهو الذي قام بتسميم شطيرة للمكتبي قبل موعد الجريمة بيوم‪:‬‬
‫– يالهــا مــن خطــة عبقريــة‪ ،‬لــم أســمع بهــذا الــذكاء فــي حياتــي الغبيــة مــن قبــل‪ ،‬ولــم‬
‫يقصــص علــي ســجين مثــل هــذه القصة‪...‬أكمــل أكمــل‬
‫و ّأمـا أنا فبقي لي آخرجزء وهو النيل منه‪.‬‬
‫_وهل حقا كنت تريد أن تقتله‪.‬‬
‫_ال أكــذب عليــك‪ .‬كنــت أعمــى ال أعــرف مــا كنــت ســأفعله فــي تلــك اللحظــة‪ .‬لكنــي‬
‫كنــت متــرددا فــي ذلــك‪ .‬لهــذا دخنــت ســيجارة حشــيش مــن ســمير ّ‬
‫حتــى ال أتــردد أكثــر‪ .‬وال‬
‫أذكــرمــا فعلتــه‪ .‬انتظــرت فــي املرحــاض أدخــن وأراقبــه حيــن يدخــل املكتبــة‪ ،‬وحيــن دخلهــا‬
‫تبعتــه‪.‬‬
‫– ّ‬
‫ثم ماذا؟‬
‫_وقع ما لم يكن في الخطة وما لم يكن في الحسبان‪.‬‬
‫_ماذا وقع ؟‬
‫_رأيت أميمة وهي تراقبه من بعيد‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– تراقبه!‬
‫– نعم وجدتها هناك في املكتبة قبل دخولي‪.‬‬
‫_ملاذا؟‬
‫_ال أعرف حقا‪.‬‬
‫_وهل قتله أنت ؟‬
‫_ال‬
‫_كيف إذن!‬
‫_وجدته ميتا‪.‬‬
‫_وكيف ذلك؟‬
‫_ال أدري لكن كل ما أعرفه أني حين اقتربت منه ألجهزعليه وجدته ميتا‪ ،‬فهربت‬
‫ثم بعد خروجي مباشرة سمعت صرخة أميمة‪.‬‬ ‫مسرعا من باب املكتبة‪ّ ،‬‬

‫– إذن من تظنه القاتل؟‬


‫– ال أعرف هذا الذي يشغل بالي!‬
‫– هل تظنها أميمة!‬
‫– ال أعرف لكن‪...‬‬
‫_ملــاذا تبعتــه إلــى املكتبــة وقــد انفصــل عنهــا وأهانهــا وســط الســاحة حيــن صفعهــا‬
‫أمــام الجميــع‪.‬‬
‫– ال أظــن أن أميمــة بمقدورهــا أن تقتــل نحلــة‪ ،‬لكــن مــا زاد ارتيابــي هــو حينمــا كنــا‬
‫داخــل القســم نخطــط لقتــل إســحاق ســمعنا صــوت ســقوط كر�ســي عنــد البــاب‪...‬‬

‫‪297‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هل تظنها كانت تعرف خطتكم وقررت أن تتم رأس الخطة لتنتقم من إسحاق‬
‫وتلفق لك القضية‬
‫– ال أعرف حقا‪ ،‬وكل الذي أعرفه أن حبها لعنة لن تفارقني‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫يوم املحاكمة‬

‫كنــا خمســتنا أمــام القا�ضــي‪ ،‬أمــي تكتــم دموعهــا بيــن أحضــان جــدي وســط‬
‫الحاضريــن‪ ،‬ونظ ـرات الحــزن باديــة علــى وجههــا أحسســت أن العالــم كلــه قــد تواطــأ‬
‫ضــدي‪ ،‬ليجعلنــي أتهــم بالقتــل وأصــاب بالســرطان وأصــاب بالعشــق وأصــاب بما�ضــي‬
‫مســخوط مــن القــدر‪ .‬رغــم كل الفقــر الــذي نعيشــه‪ .‬قــد تكفلــت أمــي وجــدي بتوكيــل‬
‫محامــي ليدافــع عــن قضيتــي‪.‬‬
‫و بيــن الحضــور تفاجــأت بال�ســي جمــال بيــن الحاضريــن‪ ،‬يتابــع مجريــات املحاكمــة‬
‫بدقــة وعالمــات القلــق باديــة علــى وجهــه‪.‬‬
‫مضت الساعات ثقيلة على قلبي وكثيرمن األدلة كانت تشيرضدي‪.‬‬
‫و فــي األخيــر رفــع القا�ضــي مطرقتــه فــي الهــواء‪ ،‬وقبــل أن يصــدر الحكــم اقتحمــت‬
‫املكان سيدة يبدووجهها مألوفا‪ ،‬تجاوزت الشرطيين الواقفين في مدخل قاعة املحاكة‬
‫ومــرت أمــام الــكل وقفــت وســط القاعــدة ورفعــت صوتهــا وقالــت‪:‬‬
‫–‪........‬‬

‫‪299‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مذكرات مشعة‬

‫ياربي حررني مني‪.‬‬

‫كل يــوم أذهـ�ب إل��ى املستش��فى‪ ،‬ترافقنـ�ي أمـ�ي دائمـ�ا نصـ�ل إلـ�ى الطبقـ�ة الثالثـ�ة تحـ�ت‬
‫األرض‪.‬أدخـ�ل إلـ�ى بطـ�ن املبنـ�ى‪ .‬بالضبــط إل��ى مركـ�ز“الراديوتيرابــي‪ .‬هــذا الســيناريو أصبــح‬
‫يتكــرر كثيــرحــد امللــل البــارد‪.‬‬
‫املــرة األولـ�ى حيـ�ن وقفـ�ت أمــام البــاب‪ .‬شعــرت بأنـ�ي ال أسـ�تطيع أن أتنفـ�س قلـ�ت‬
‫لنف�سي أنه علي أن أتنفس مثلما يفعل غارق في البر‪ ،‬أتنفس بصعوبة‪ .‬أخاف‪ ،‬أرتجف‪.‬‬
‫أختنـ�ق تحـ�ت األرض‪ ،‬عينـ�ا أمـ�ي تشـ�ع تحـ�ت عجارهـ�ا والحــزن ينبعـ�ث مـ�ن مالمحهـ�ا‪.‬‬
‫يس�تـقبلني رج��ال يلبس��ون البران��س البي��ض وأس��ماءهم مطرــزة علــى صدورهــم‬
‫باللغـ�ة الفرنســية بخيـ�ط أزرق‪ .‬هندامهـ�م حســن وبش�رـتهم بيضاــء‪ ،‬يرتدــون فـ�ي أرجلهـ�م‬
‫أحذي��ة بالس�تـيكية زرقـ�اء‪.‬‬
‫كل شــ�يء بـ�دأ ببع��ض “ السعــالت “ م��ن الـ�دم‪ .‬اعتق��دت بأن��ه مج��رد م��رض عاب��ر‪.‬‬
‫حاولــت تناــ��ي األم��ر‪ .‬لك��ن املــرة التاليـ�ة كان��ت أكثـ�رجديـ�ة‪ ،‬فقرــرت أن أراجـ�ع الطبيـ�ب‬
‫اللون��اس نصحن��ي باستش��ارة اختصا�ص��ي آخ��ر‪ ،‬جرتن��ي أم��ي‪ .‬ووصلن��ا هن��ا إل��ى طبقة ثالثة‬
‫تحـ�ت األرض‪ .‬بعـ�د فحــوص وركـ�ض مـ�ن اختصاصــ�ي إلـ�ى آخـ�روأنـ�ا فـ�ي حــال إنفصــال عـ�ن‬
‫ذاتيــ‪ ،‬ال أصـ�دق م��ا يجـ�ري‪ .‬كأنن��ي شــاهد مفـ�رغ م��ن كل إحسـ�اس‪ .‬وج��وه‪ .‬أوراق‪ .‬دهالي��ز‪.‬‬
‫مراك��زمتخصص��ة‪ .‬ممرض��ات ممرض��ون‪ ،.‬أوراق��ي‪ ،‬اس��مي‪ .‬بطاق��ة الهوي��ة‪ .‬بطاقة التأمين‬
‫الطب��ي‪ .‬وجـ�وه م��ن حول��ي تأمرن��ي بخل��ع ثياب��ي‪.‬‬
‫إلب��س البرن�ـس‪ ،‬ألب��س البرن��س األبي��ض الســخيف ألدخ��ل إل��ى مــكان صغي�ـرـ وألخـ�رج‬
‫منه إلى ممرفسيح تهجم منه موجة من الصقيع الذي يقزز األسنان‪ .‬من جديد أوامر‪:‬‬

‫‪300‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫اخلع‬
‫قف‬
‫ارفع يدك‬
‫ال تتنفس‪.‬‬
‫ّ‬
‫تنفس طويال‪.‬‬
‫انتظرقليال‪.‬‬
‫شكرا‪.‬‬
‫البس‪.‬‬
‫على سالمتك‪.‬‬
‫يقوله��ا وه��و يفك��ر بالرق��م التال��ي‪ .‬ك��م الســاعة؟ ال يه��م‪ .‬يـ�ردد األوام��ر كالببغ��اء‪.‬‬
‫الرغب��ات‪ .‬ل��كل م��ن يدخـ�ل إلـ�ى مملكتـ�ه السـ�قيمة‪.‬‬
‫يا ربي حررني مني‪.‬‬
‫هذا الوسواس الغيب ال يكف عن املماطلة بدحرجة أفكاري الثقيلة‪ ،‬وأنا أكتب‬
‫هــذه املذكـرات الســخيفة التــي لــن أعــود لقراءتهــا‪ ،‬و بــي رغبــة عارمــة فــي نــزع كل مالب�ســي‬
‫أريــد التخلــص مــن هــذا الجســد املريــض الــذي أتعبنــي وأتعــب أمــي أكثــرمنــي‪ ،‬أشــعرأنــي‬
‫أذوب مــن األلــم‪ ،‬أتفتــت مــن الداخــل‪ ،‬أحيانــا أشــعرأنــي أختنــق‪ ،‬أغــرق‪ ،‬رئتــي ثقيلتــان‬
‫كصخرتين‪ ،‬أضغط على نف�سي إلخفاء األمرلكن في الحقيقة قد تعبت من إظهارهذه‬
‫الصالبة أمام عيشــة‪ ،‬خشــية أن أغبنها معي‪ ،‬بي رغبة أخرى بالخروج عاريا تحت هذا‬
‫املطروالتجوال أحمرالجلدة مثلما ولدتني أمي‪ ...‬مثلما كنت صغيرا‪ .‬أهرب ألمي عندما‬
‫كانــت تحممنــي داخــل قصعــة املــاء الزرقــاء‪ .‬يحــرق عينــي شــامبو الغســيل‪ ،‬أبكــي وأمــي ال‬
‫تبالــي‪ ،‬أبكــي حيــن يســقط داخــل عينــي ثـ ّـم أهــرب مثــل فــرخ زاوش فــرمــن عشــه‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أنزلــق مــن بيــن أصابعهــا وأفــردون وجهــة فقــط ألخــرج مــن قصعــة املــاء‪ .‬الجميــل‬
‫أنــي أتذكــر هــذا كأنــه البارحــة‪ .‬وال�ســيء فــي األمــر إنــي نســيت إحســاس أن يتجــول املــرء‬
‫عاريــا‪ ،‬ال يبالــي بنظ ـرات النــاس أو بعــادات وتقاليــد تحــده وتحــول بينــه وبيــن الوصــول‬
‫لتجربــة أحاســيس متلبــدة عنــه وإدراك تجــارب حيــة غريزيــة والتمتــع بهــا‪ ...‬تراودنــي‬
‫هــذه الفكــرة كثيــرة‪ ،‬امل�شــي ح ـرا عاريــا ومطــاردة حبــات املطــر الصغيــرة الجــري والتعثــر‬
‫والســقوط والج ـراح فــي ركبتــي واملشــاجرة والحيــاة غيــرالرســمية‪ ،‬أكل الت ـراب األحمــر‪،‬‬
‫ولعــب الغميضــة والجــري وراء الشــاحنات املتوجهــة للمفرغــة‪ ،‬التمــرغ فــي الوحــل مثــل‬
‫األيام الخوالي‪ .‬كحلوف صغيرال أبالي ال أعرف معنى صنع صورة مناســبة في عين أبناء‬
‫جلدتــي وشــخصية محترمــة ثـ ّـم تبــا لــكل هــذه الحــدود املصطنعــة‪.‬‬
‫قضايــا وآراء واعتقــادات وقوانيــن فقــط التجــرد مــن كل �شــيء‪ ...‬كطائــر مقنيــن‬
‫مغــرد بيــن أشــجار العرعــار والصنوبــر‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫املجابهة األولى‪.‬‬

‫تسجــيل‪ .‬انتظــار‪ .‬أمـ�ي تنظـ�ر نح��وي‪ ،‬ال أس�تـطيع مبادالتهـ�ا النظرــات ألنـ�ي حتمـ�ا‬
‫س�أـتحطم أكث��ر‪ .‬تقـ�ول ل��ي رب��ي معن��ا‪ .‬رب��ي كبيـ�ر‪.‬‬
‫أجيبها بصوت خافت‪ :‬ايه‪ ،‬ربي كبير‪ .‬ربي كبير‪.‬‬
‫كرس�يـينا‪ .‬النـ�اس يدخلـ�ون‪ .‬يطلبـ�ون نتائ��ج صوره��م‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الساــعات تم��ر ونح��ن عل��ى‬
‫يسجلون أسماءهم للتصوير‪ .‬عالم جديد غريب عجيب‪ .‬أتابع بعيني حركة مستديمة‪.‬‬
‫ونحن نتفتت ببطء سمين بال أكل‪ .‬بال شرب‪ .‬بال شراع‪ .‬ال نعرف أين قد تقلنا السفينة‬
‫الت�يـ س�تـأتي‪ .‬أفكـ�ر كيـ�ف تعيـ�ش كل هــذه الوجــوه‪ .‬هـ�ل هـ�م يتوقعــون األسوــأ؟ هـ�ل هـ�م‬
‫يخافـ�ون مثل��ي‪ .‬ترتج��ف يـ�دي‪ .‬أح�اـول أن أخف��ي هلع��ي‪ .‬أم��ي تعـ�رف جيـ�دا أنن��ي محطــم‪،‬‬
‫رغـ�م محافظتـ�ي عل��ى صمتـ�ي‪ .‬ال تجـ�د الكلمــات التـ�ي تهدئنـ�ي‪ .‬أعتقـ�د بأنهـ�ا مرعوبـ�ة‪ .‬مرعوبـ�ة‬
‫يمكن أكثرمني‪ .‬األمهات رأس��هن يش��تغل بس��رعة كبيرة عندما يكون الحدس قد تجاوز‬
‫لديه��م ح��ال االسـ�تنفار‪.‬‬
‫_السيد لقمان تفضل‬
‫أمـ�ي تمسـ�ك يــدي‪ .‬ليتهـ�ا تس�تـطيع أن تزيـ�ل البالطـ�ة التـ�ي تضغـ�ط علـ�ى رأســ�ي‪ .‬مـ�ن‬
‫هن��ا‪ .‬أدخ��ل إل��ى ه��ذه الغرفة‪.‬اخل��ع ثياب��ك‪ .‬الب��س ه��ذا البرن��س‪ .‬أخ��رج وأغل��ق املقص��ورة‪.‬‬
‫ستــدخل بع��د لحظــات‪.‬‬
‫_ أدخل أين؟‬
‫يدلني بإصبعه على املكان الذي سأدخله‪.‬‬
‫_ هل الوضع مخيف؟‬
‫أتمنى من كل قلبي أن يقول لي‪ :‬ال‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ مزعج قليال‬
‫تص��ل ممرض��ة وتق��ول ل��ي أنن��ي سـ�أخضع للتصوي��ر مرتي��ن ف��ي كل م��رة تسـ�تغرق‬
‫الصـ�ورة م��ن نص��ف سـ�اعة إل��ى أربعي��ن دقيق��ة ح��ول الص��درف��ي الرقب��ة والكبــد وعشــرين‬
‫دقيق��ة ملنطق��ة البط��ن‪ .‬أنظ��رإل��ى أم��ي‪ .‬تبتس��م وه��ي تقـ�ول ل��ي أن��ا هن��ا عزيــزي‪.‬‬
‫أدخل في وسط الغرفة‪ ،‬شبه سريرضيق‪ .‬أحدهم يقول لي اجلس‪ .‬استلقي‬
‫‪ .‬أنظرإلى الوحش املبروم الذي سيدخلونني إليه ببطء‪ .‬أصرخ‪:‬‬
‫_ لن أدخل إلى هذا التابوت‬
‫أحدهم يرد علي‬
‫_أغم��ض عيني��ك‪ .‬ل��ن ندخل��ك كثيـ�را‪ .‬يج��ب أن نصـ�ور صــدرك‪ .‬يج��ب أن نعـ�رف‬
‫وضع��ك‪ .‬مضطري��ن" ثم ّــ يناولن��ي كبس�وـلتين ويقـ�ول ل��ي "ضعهم��ا ف��ي أذني��ك” ويخـ�رج‪.‬‬
‫أتنفس بس��رعة‪.‬أحاول أن أعد من الواحد إلى املئة‪ّ ،‬‬
‫ثم املئتين‪ ،‬لم أعد أسـ�تطيع‬
‫تحري��ك ش��فتي‪ .‬أصغ��ي إل��ى ص��وت الس��ريروه��و يدخ��ل بب��طء تح��ت الوح��ش‪ .‬ال أزال أرى‬
‫جز ً‬
‫ــء مـ�ن الســقف‪ .‬أتحمـ�ل‪ .‬أعاــود العـ�د‪.‬‬
‫يفتـ�ح البــاب‪ .‬أســمع صــوت أمــي‪ .‬مفزوعـ�ة وهـ�ي تــرى اآللـ�ة تبتلعنــي‪ ،‬ال أعلــم فــي تلــك‬
‫اللحظــة ملــاذا راودتنــي ذكريــات مــن طفولتــي‪:‬‬
‫***‬
‫الطبيب بنبرة هادئة يهمس في أذن الفتى ويمسح على رأسه‪:‬‬
‫– ال تخف! أنظرللسقف هناك‪ ،‬هل ترى ذلك العصفور؟‬
‫– ن‪.‬نع‪ ....‬نعم! "قالها الفتى بنبرة خافتة مع رعشة في صوته"‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– جيــد‪ ،‬جيــد‪ ،‬هكــذا‪ .‬أغمــض عينيــك اآلن‪ ،‬تنفــس ببــطء وتخيــل أنــك تركــب‬
‫العصفــور وهــو يحلــق بــك إلــى أجمــل مــكان تتمنــى الذهــاب إليــه وقــد‪...‬‬
‫ثم تشك! "ضربة مقص حادة وخاطفة خادعة"‪.‬‬
‫يــرى الفتــى العصفــور يفــرد جناحيــه وينظــر إليــه بعينيــن جاحظتيــن يتطايــر‬
‫الشــرر منهمــا‪.‬‬
‫صرخــة طويلــة‪ ،‬معــدن حــاد بــارد يقطــع جلــدة مــن اللحــم‪ ،‬الفتــى يتخبــط مثــل‬
‫مجاهــد يعــذب علــى كر�ســي كهربائــي‪ ،‬جســده الهزيــل يرتــج‪ ،‬يرتعــش‪ ،‬عينــاه تفيضــان‬
‫مدامعا على شطآن خديه املشمشيتين‪ ،‬يلوي رقبته للوراء‪ ،‬يتخبط مثل قط في بركة‬
‫ماء‪ .‬عروق رقبته تنتفخ‪ ،‬تكاد تتقطع‪ ،‬وجهه يحمروينتفخ مثل حبة طماطم‪ ،‬يتخبط‪،‬‬
‫يتحرحــز‪ ،‬يحــاول اإلفــات مــن بيــن ذراعــي أبيــه وقبضــة جــده‪ ،‬لكــن دون جــدوى!‬
‫يــرى فــي مــا يــرى املختــون العصفــور ينفــض ريشــه ويتقــدم نحــوه بخيــط أســود‬
‫طويــل يحملــه فــي منقــاره‪.‬‬

‫***‬
‫استــرجعت ذكري��ات مؤمل��ة جدــا منــ طفولت��ي املجروح��ة‪ ،‬ل��م تك��ن التجرب��ة سـ�هلة‬
‫حت��ى دخلـ�وا وحاولـ�وا أن يهدئون��ي‪.‬‬ ‫رفض��ت أن يدخلون��ي أكث��رف��ي التابـ�وت‪ .‬صرخـ�ت ّ‬
‫أبـ�دا‪.‬‬
‫لكننـ�ي رفضـ�ت‪ .‬قلـ�ت لـ�ن أخضـ�ع‪ .‬أريـ�د أن أوقـ�ف كل �شــيء‪ .‬لـ�ن أتابـ�ع‪ .‬لـ�م تقنعنـ�ي أمـ�ي التـ�ي‬
‫دخل��ت ه��ي أيض��ا‪ .‬قل��ت له��ا بصـ�وت تعبـ�ان متذم��ر‪“ :‬ال تحاول��ي أن تقنعين��ي فل��ن أرض��خ‪.‬‬
‫أريـ�د العوــدة إلـ�ى البيـ�ت”‪ .‬عنده�اـ أقنعون��ي بأــن وعدونـ�ي بــأن أمـ�ي س�تـبقى معـ�ي‪ ،‬تمسـ�ك‬
‫يـ�دي‪ ،‬تملـ�س شــعررأســ�ي تهدئنــي‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أمي وأميمة‬

‫مـ�ن أصدــق؟ مـ�ن هـ�و األفضــل؟ نحمـ�ل امللفــات ونركـ�ض مـ�ن موعـ�د إلـ�ى موعـ�د ومـ�ن‬
‫طبي��ب متخص��ص إل��ى آخ��ر‪ .‬أميم��ة ترافقنــي وتســأل عنــي وعــن كل األخصائييــن املتاحين‪،‬‬
‫تحــزن لحزنــي وتمســكني مــن يــدي عندمــا تغيــب أمــي تكــون حاضــرة ملســاندتي بضحكتهــا‪،‬‬
‫تمســح علــى شــعري كأنهــا أمــي الثانيــة‪ ،‬أســتيقظ فــي الصبــاح ألجدهــا قــد نامــت علــى‬
‫األريكــة قــرب ســريري وفوقهــا مالئــة خفيفــة تدفئهــا مــن بــرد املستشــفى‪ ،‬وفــي يدهــا كتــاب‬
‫يتكلــم عــن مــرض الســرطان وكيفيــة التعايــش معــه‪ ،‬كانــت كل ليلــة تحكــي لــي قصــة مــن‬
‫الكتاب‪ ،‬ألحد املر�ضى الذين شــفوا من الســرطان وتســرد لي القصة فرحة ومستبشــرة‬
‫بشــفائي‪ ،‬تحــاول أن تحيينــي وتبعــث فـ َـي األمــل‪ ،‬هــي تســرد لــي القصــة وأنــا أتأمــل تقاســيم‬
‫وجههــا املالئكــي‪ ،‬وأغــرق داخــل عينيهــا‪ ،‬وأهمــل القصــة‪ ،‬وحيــن أرخــي جفنــي وتشــعربأنــي‬
‫نمــت‪ .‬تقبلنــي علــى جبينــي مثــل الرضيــع الصغيــروتذهــب لتنــام علــى األريكــة‪.‬‬
‫كثي ـرا مــا كنــت أغمــض عينــي متظاه ـرا بالنــوم فقــط مــن أجــل أن أشــعر بــدفء‬
‫شــفتيها وهومــا يوقعــان علــى جبينــي‪.‬‬
‫تستــمع إلـ�ى ش��روح األطب��اء أكث��رمنـ�ي‪ .‬لـ�م نعـ�د نعــرف ماــذا نفعــل؟ ال�شــيء الوحيـ�د‬
‫ال��ذي يعل��ق ف��ي الذه��ن ه��و أن العملي��ة غي��ر واردة ألن ال��ورم يبل��غ خمســة ســنتمترات‬
‫يعن��ي أن الحـ�ل يتلخـ�ص بجلســات راديوتيرابـ�ي وش��يميو ِترابي‪ .‬ومنــ ث ّ��م يقــرر مـ�ا إذا كانـ�ت‬
‫العملي��ة ضروري��ة‪ .‬أي أن سرــطان الرئ��ة م��ن املمك��ن الشــفاء من��ه نهائي��ا‪ .‬أول مـ�رة أسـ�مع‬
‫كلمة شفاء‪ .‬لم أهتم كثيرا للشروح الطبية‪ .‬لكنني تأكدت بأن الشيميوترابي سيتسبب‬
‫بسقــوط شعــري‪ .‬س�أـخضع للعــاج مهمـ�ا كان‪ .‬سأس�تـعيد حقـ�ي فـ�ي الحلـ�م بالغــد وبرؤيــة‬
‫أميمــة‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مذكرات مشعة‬

‫أول تجربة‬
‫االثنين ‪ 12‬تموز‬
‫قابلت الطبيب اللوناس‪ .‬فحصني‪ .‬قال أن وضعي جيد‪ ،‬وإذا تجاوبت مع العالج‬
‫سأشـ�فى‪ .‬ث ّ��م قـ�ال تحت��اج إل��ى خمس��ة وعش��رين جلس��ة م��ن الراديوتيراب��ي‪ .‬نبـ�دأ األربعـ�اء‬
‫باملرــوربجلسـ�ة “الس�كـانر” وبجلسـ�ة “سيموالسيــون” لنأخـ�ذ القياســات للمنطقـ�ة التـ�ي‬
‫ســتخضع لألش��عة ثـ ّـم بجلس��ة تجرب��ة نهائيــة اســمها ‪.MEP‬‬
‫الجمعة قبل أن يبدأ العالج الفعلي اإلثنين التالي‪.‬‬
‫لم أعرف ماذا كان ينتظرني‪.‬‬
‫أول جلسـ�ة “راديـ�و تيرابـ�ي” كانـ�ت تشــبه األفــام الخياليـ�ة‪ .‬شبــاب باللبــاس األبيـ�ض‬
‫ي��دورون مـ�ن حولـ�ي‪ .‬أوامـ�ر‪ .‬تمنيــات‪ .‬ترتيبــات‪ .‬وحــدة قاتلـ�ة علـ�ى سرــيرضيـ�ق يعلـ�و ويهبـ�ط‬
‫بحس��ب الطل��ب‪ .‬وأن��ا وح��دي تح��ت آل��ة ضخم��ة تـ�دور حـ�ول صــدري املش��رع عل��ى األش��عة‪.‬‬
‫ل��م أعـ�د أملـ�ك حريـ�ة التصــرف بأنفا�ســي‪ ،‬يتلمســون صدــري‪ .‬يس�مـعون أرقامـ�ا‪ .‬مرجعهـ�م‬
‫هـ�و حبــات مـ�ن الرصــاص زرعـ�ت عنـ�د الحدــود التـ�ي س�تـخضع لألشــعة‪ .‬إنهـ�ا كالوشـ�م فـ�ي‬
‫منطقة واسعة من جهة صدري اليسرى من جهة قلبي يحركون أجزاء من صدري‪ .‬يأمر‬
‫صــوت‪ .‬ال تتحــرك‪ .‬أنظـ�روأنـ�ا متجمــد علـ�ى ظهــري إلـ�ى الســقف‪ .‬هنــاك خطــوط أفقيـ�ة فـ�ي‬
‫الس��قف كالخطوط الحمرالتي تزيح األوراق املهيأة للهدايا‪ .‬أس��مع أنينا من �ش��يء يدور‬
‫ثم أعد وأنا أتنفس بصعوبة من واحد إلى‬ ‫حول صدري‪ .‬أقرأ بعض اآليات من القرآن‪ّ .‬‬
‫ثم أتوقف‪ .‬أنتظر‪ .‬يدخل أحدهم‪ .‬يغيرأسطوانة‪ .،‬يخرج‪ .‬هذا فيلم مستقبلي‪.‬‬ ‫ثالثمئة ّ‬
‫سأــراه ف��ي الحل��م أو ف��ي الكابـ�وس حتمــا‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم يضاء املكان وأسمع صوتا يقول‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_على سالمتك يا بطل‬


‫يس��اعدني عل��ى الجل��وس ثـ ّـم أخرــج‪ ،‬جــاء دور غيــري‪ .‬هكــذا طيلـ�ة النهــار معـ�ي‬
‫ومـ�ع هؤــالء الذي��ن أراهـ�م جالســين فـ�ي صالـ�ة االنتظــار‪ .‬يقــول أحده��م إل��ى الغـ�د‪ .‬وأدخــل‬
‫املقصـ�ورة‪.‬‬
‫ثم بعد غد والذي بعده‪...‬‬
‫أخلع البرنس‬
‫ألبس ثيابي‬
‫أخرج‬
‫و تتعاود حلقة املرض الخ‪..‬‬
‫بعدم��ا جربـ�ت عـلاج الش��يميوترابي بدــأت الك�وـارث‪ .‬منـ�ذ األسبــوع األول أصابنـ�ي‬
‫إسـ�هال ح��اد وحت��ى الي��وم ل��م يتوق��ف نهائي��ا‪ .‬إسـ�هال مصح��وب بأوج��اع ف��ي املصاري��ن ال‬
‫تحتم��ل‪ .‬لكنن��ي ل��م أفه��م ف��ي البدايةــ أن��ه بس��بب “الشـ�يميوتيرابي”‪ .‬كن��ت أعتق��د ب��أن كل‬
‫�شــيء يمـ�ر مـ�ن دون تفاعــات جانبيـ�ة‪ .‬كانـ�ت” الكريــزة” األولـ�ى مســاء الجمعـ�ة‪ .‬تحملـ�ت‬
‫الوج��ع‪ .‬بكي��ت تذمـ�رت‪ .‬أم��ي تنظ��رإل��ي وأن��ا أتلـ�وى م��ن الوج��ع‪ .‬أق��ول له��ا‪ :‬ملــاذا هـ�ذا الوجـ�ع؟‬
‫حت��ى نهاي��ة الع�لاج‪.‬‬‫ال أع��رف إن كن��ت سأــتحمل ّ‬

‫وهي تستمرفي تشجيعي قائلة‪:‬‬


‫– قد انهيت األسبوع األول ولم يبق الكثير‪...‬‬
‫ما تتحمله أمي يوازي ما أتحمله تقريبا‪ .‬تعاني مثلي أشعربأنها ستختنق‪ .‬أصمت‪،‬‬
‫أقول لها سأرسم فأمسك بيدي اليسرى صدري وأرسم باليد اليمنى‪ .‬أميمة في الكر�سي‬
‫أمامي‪ ،‬في وضعية جلسة فاتنة إلحدى عارضات األزياء املثيرات تقول‪:‬‬

‫‪308‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_ أرسمني هيا‬
‫وتلح على أن أرسمها وأنا أعجزعن فعل ذلك‪ ،‬وأكتفي بتأملها وهي أمامي ال أريد‬
‫أن أضيع تلك اللحظة بالنظرلورقة الرســم‪ ،‬أصورها بعيني ّ‬
‫ثم ال أرســمها ألني أخ�شــى‬
‫أن ال أتمكــن مــن إخ ـراج جمالهــا مثلمــا هــي فــي الحقيقــة ال أبــدا‪ ،‬لــن أســتطيع مضاهــاة‬
‫الــرب فــي خلقــه‪.‬‬
‫عج��زي ع��ن الحياــة يجعلنـ�ي أشتــم األطبــاء والعالـ�م كلـ�ه‪ .‬أتساــءل كيـ�ف يتحمـ�ل‬
‫جمي��ع الذي��ن يتبع��ون ه��ذا الع�لاج أوجاعه��م الرهيب��ة‪ .‬وفج��أة عرف��ت مل��اذا يسـ�تلقون‬
‫ً‬
‫عل��ى األسـ ّـرة عندم��ا يخضعـ�ون لجلس��ة “الشيــميو”‪ .‬خصوصـ�ا هــؤالء الذي��ن يتحملـ�ون‬
‫جلسات عدة في األسبوع وبنسب أكبربكثيرمما يسري في عروقي في الجلسة األسبوعية‬
‫الواحـ�دة‪.‬‬
‫ب��دأت أح��اول التأقلـ�م قرــرت التحكـ�م بــكل �شــيء رغـ�م الواقـ�ع الــذي أعيـ�ش‪ .‬ولـ�م‬
‫أفق��د عقل��ي ول��م أستسـ�لم لليــأس حي��ث تصرف��ت وكأنن��ي ف��ي حـ�ال منفصل��ة ع��ن واقعــي‪،‬‬
‫لدرجة أني كنت عندما أشاهد أحدهم وأنا أخرج الى العالج ويسألني بطريقة روتينية‪:‬‬
‫_كيف حالك؟‬
‫أجيبه أنني بخيرفي شكل طبيعي ليس فيه أي خبث‪.‬‬
‫املشــكلة ليس��ت ف��ى املـ�وت ولكنه��ا ف��ى الطريقــة الت��ي سـ�تموت به�اـ‪ .‬أن تتكـ�وم عل��ى هـ�ذا‬
‫السرــيرالناعـ�م وتشــعربروحـ�ك تتســرب منكــ‪ ،‬ووفــود النــاس تـ�روح وتأتـ�ي حاملـ�ة معهـ�ا‬
‫مصمصـ�ة الشفــاه املعتــادة‪ ،‬وكلمــة‪:‬‬
‫_ مسكين‪.‬‬
‫الت��ي تقف��ز إل��ى قلب��ك مث��ل الس��كين‪ ،‬دون أن ترف��ع سـ�يفك لتقات��ل ألن عـ�دوك‬
‫انتشاــره سرــيع وأنـ�ت دفعاتـ�ك ضعيف��ة‪ ،‬واإلم��دادات الخارجيـ�ة ال تســمن وال تغنـ�ي مـ�ن‬
‫جـ�وع ألنه��م ل��م يخترعـ�وا الدــواء بعــد‪ ،‬فتج��د نفس��ك مضطـ�را للمـ�وت كم��ا ل��م تك��ن تحــب‪،‬‬
‫وتــدرك حقــا أن الصحــة تــاج فــوق رؤوس األصحــاء ال ي ـراه إلــى املر�ضــى‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بدأت بالبحث عن العالج الكيميائي وعن تأثيره وما يفعله بالجسم‪ .‬كل ما قرأت‬
‫لــم يكــن مثلمــا كانــت تقـرأه لــي أميمــة وتضــع لــه املكيــاج لتجعلــه مرضــا عاديــا مثــل الــزكام‬
‫ً‬
‫أو الحمـ��ى‪ ،‬في الواقع ما قرأته كان مرعبا! �ش��يء ما بداخلي أخبرني أن العالج الكيميائي‬
‫س�يـقتلني‪ .‬شـ�عرت بأن��ي منته��ك أوأن��ه ت��م االعتـ�داء عل��ي بع��د كل م��ا قـرأت‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫"هم يضحك ّ‬
‫وهم يبكي"‬ ‫ّ‬

‫يستمرمحلول الكيماوي بلونه الفاقع في االنسياب داخل أوردتي عبرآلة تعذيب‬


‫ُ‬
‫تس��مى "الكاني��وال"‪ ،‬ث ّ��م يسـ�تمرلس��تة سـ�اعات أخ��رى محل��ول آخ��ريس��مى "املابثيـ�را"‪ .‬مـ�اذا‬
‫تفيـ�د األس�مـاء؟‪ .‬محاليـ�ل تليـ�ق بمريـ�ض أورام يريـ�د منهـ�ا أن تقتـ�ل خاليــاه‪ّ .‬‬
‫يتقبـ�ل القتـ�ل‬
‫بص��دررح�بـ‪ ،‬مهم��ا تس��بب القت��ل ف��ي تس��اقط شـ�عر‪ ،‬أو أل��م بط��ن‪ ،‬أو ش��عور بغثيـ�ان‪ ،‬أو‬
‫إحسـ�اس بعج��ز‪ .‬وأن��ا أه��م بمغاــدرة الغرف��ة ف��ي حال��ة إعي�اـء‪ ،‬وزوج��ة ذاك الرج��ل الـ�ذي‬
‫هدأت املقصات في بطنه‪ ،‬ترمقني بنظرة التي عرفت أنني مريض أورام‪ ،‬وتنظرلزوجها‬
‫بصــوت خافــت لكنــي أســمع حسيســه‪:‬‬

‫_ شوف على األقل احمد ربك الذي عافاك مما ابتلى به جارك‪.‬‬
‫ّ‬
‫أشـ�د أنوــاع االبتــاء فـ�ي املــرض أنـ�ه يسلــبك القدــرة علـ�ى ممارسـ�ة حياتـ�ك‪ .‬تلــك‬
‫املمارسـ�ة الطبيعيـ�ة التـ�ي ال مجهــود فيهـ�ا‪ .‬أن تمكـ�ث فـ�ي الخاــرج لس�اـعات عقـ�ب املسـ�ح‬
‫ال��ذري‪ ،‬ألن جســدك أصبـ�ح مشع ًــا بمـ�ا يمن��ع اختالط��ك بالناــس‪ ،‬جهــازاملسـ�ح الذــري هـ�و‬
‫ً‬
‫آل��ة تعذي��ب نفــ��ي ال تؤل��م جسدــيا‪ .‬أكث��رمم��ا تسـ�تنزفك نفس��يا‪ ،‬م��ن ساــعات االنتظـ�ار‬
‫الس�خـيفة بيـ�ن وجــوه مرضــ�ى س�رـطان مرتعبيـ�ن‪ .‬ال يتحدثــون إال لترديـ�د أحجيـ�ة مـ�ن‬
‫يستــعد لطــرق عزرائيـ�ل علـ�ى البــاب‪ .‬تحملـ�ك املمرضـ�ة البائسـ�ة وهـ�ي تحادثـ�ك بطبقـ�ة‬
‫ّ‬
‫صــوت منكســرة محاولـ�ة إبدــاء التعاطـ�ف ألنـ�ك‬

‫"مسكين مريض بالسرطان"‬

‫تجلسـ�ك علـ�ى سرــيرمعدنـ�ي ضيقــ‪ ،‬ترــى كت��ل شـ�حم تتناثـ�رعلـ�ى الطرفيـ�ن ملـ�ن هـ�م‬
‫م��ن محب��ي الطع��ام أو املصابي��ن بالسـ�منة‪ .‬ســتكون س��يئ الح��ظ أكث��رم��ن عش��ق الشـ�اعر‬
‫محمــود دروي��ش‪ ،‬لـ�و خضعـ�ت للمسـ�ح الذــري فـ�ي الشــتاء مثلمــا مــا أقــوم بــه اآلن وحســب‬
‫القص��ص الت��ي س��معتها ت��روى بي��ن املرــ��ى‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بعد لحظات تشبك ذراعيك خلف رأسك في وضع تعذيب مثالي‪ ،‬ويخبرك صوت‬
‫تتحرك قيد أنملة‪.‬‬‫مشوش أال ّ‬ ‫املمرض‪ /‬الطبيب عبرميكروفون ّ‬

‫فن��ي األشـ�عة جسـ�دك‬ ‫رغم��ا عنــك‪ ،‬يحـ ّـرك ّ‬


‫يسـ�ري صقي��ع ف��ي الغرف��ة ترتج��ف بفعل��ه ً‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وذهاب��ا لك��ي تتمك��ن األشـ�عة م��ن سـ�بر أغــوار جس��دك‪ ،‬حي��ث تني��ر املــادة املشـ�عة‬ ‫جيئ��ة‬
‫ً‬
‫باللــون األحمـ�رفـ�ي املنطقـ�ة التـ�ي تحمـ�ل أورامــا س��رطانية‪ .‬يستــمرهــذا الطقـ�س التعذيبـ�ي‬
‫لنحـ�و أربعيـ�ن دقيقـ�ة‪ .‬بينمـ�ا أرتــدي مالبســ�ي وأســعل مـ�ن شــدة الب��رد‪ ،‬وألن الوــرم خاصتـ�ي‬
‫مهما ملفردات العالج‪،‬‬ ‫جاثم على قصبتي الهوائية‪ ،‬أسأل املمرضة عن إن كان الصقيع ً‬
‫فتجي��ب ف��ي سخــرية مريـ�رة‪:‬‬
‫الجهــازغالــي وحســاس‪ .‬يعنــي أن أي حركــة ونخســراملالييــن مــن أجــل إصالحــه وفــي‬
‫ذلــك الوقــت يكــون قــد مــات الكثيــرمــن املر�ضــى بســبب هــزة مــن ذراعــك‪.‬‬
‫يضيف الطبيب ميت القلب‪ّ ،‬إن كالمها منطقي متبعا‪:‬‬
‫ّ‬
‫_الجهــازالســلك فيـ�ه فقـ�ط باهـ�ض‪ ،‬لذلـ�ك هـ�و غيـ�رمتوفـ�ربــكل مراكـ�زاألشـ�عة‪ ،‬وهـ�ي‬
‫مجـ ّـرد دقائ��ق بالنسـ�بة إلي��ك لك��ي ترحــل‪ .‬إذن ال تتحــرك ّ‬
‫حتــى ال تقتــل غيــرك‬
‫ملاذا نخ�شى األمراض الخطيرة؟‬
‫ليس إال ّ‬
‫ألنها تزيد من فرص املوت‪ ،‬واملوت يسبب الفقد‪ ،‬والفقد يسبب الكآبة‪،‬‬
‫والكآب��ة تجعلن��ا نضي��ق بالحيـ�اة ونش��ك ف��ي أســباب وجودن��ا‪ .‬لك��ن املـ�وت ال يحتـ�اج املـ�رض‬
‫لك��ي يــزورأصحابــه‪ ،‬يزوره��م ف��ي الطـ�رق الســريعة‪ ،‬وف��ي مجـ�ال عملهــم‪ ،‬وبينم��ا يضحكـ�ون‬
‫ويعبثـ�ون‪ .‬أخبرون��ي أن العـلاج النفــ��ي ف��ي أهمي��ة العـلاج الكيميائ��ي‪ .‬ربم��ا ألن قــدرة املـ�رء‬
‫علـ�ى االحتمــال ت�زـداد بشــكل طرــدي مـ�ع الحالـ�ة النفســية‪ .‬كان أكثـ�ر مـ�ا يثيـ�ر كآبتـ�ي هـ�و‬
‫التعامـ�ل بشــكل يثيـ�رالشفــقة معـ�ي‪ .‬النظـ�رإلـ�ى أننـ�ي فاقـ�د لجــزء مـ�ن أهليتـ�ي ملجــرد إصابتـ�ي‬
‫بمرض يجفل الناس من ذكراسمه‪ .‬في بداية إصابتي أعلمت أصدقائي املقربين فقط‪.‬‬
‫كان م��ن يســألني ع��ن شـ�عري الغائ��ب‪ ،‬وأن��ا املعت��اد بوجـ�وده أجي��ب‪" :‬نيولـ�وك"‪ .‬نظـ�رات‬
‫التعاطف والكثيرمن "ال حول وال قوة إال هللا" و"أعرف ناس كانوا مثلك وشـ�فوا" تزيد‬

‫‪312‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ً‬
‫مـ�ن إحســاس بكونـ�ي مريض��ا‪ ،‬وأنـ�ا ال أريـ�د لهــذا اإلحســاس أن يتعاظـ�م‪.‬‬
‫قتلني انتشــاركلمة "مســكين" داخل رأ�ســي‪ ،‬أكثرمن ما قتلني انتشــارالســرطان في‬
‫جســدي‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫في الجحيم تولد املالئكة‬

‫الحادية عشرصباحا ‪ /‬سجن النساء ‪ /‬بعد أسبوعين من املحاكمة‬

‫– نعيمة الحرا�شي‪.‬‬
‫_نعم‬
‫_عندك زائر!‬
‫استغربت نعيمة وعقدت حاجبيها ألنها منذ أن دخلت السجن لم يزرها أحد‪.‬‬
‫من وراء الزجاج في غرفة الزيارة يظهرلها فتى وجهه يبدو مألوفا فرحت بالزيارة‪،‬‬
‫إال أنها أرادت أن تخفي فرحتها مثلما اعتادت طيلة حياتها‪:‬‬
‫– ماذا أتى بك إلى هنا‪ .‬هذا ليس مكانا تأتي إليه؟‬
‫– بل أنت التي ال تنتمين إلى هذا املكان‪.‬‬
‫– ال يابني أنا مرتاحة هنا‪ .‬وهنا سأكمل حياتي‪.‬‬
‫– ملاذا فعلت هذا‪ .‬لم أفهم مالذي دفعك للقيام بهذا‪ .‬لقد‪...‬‬
‫– شوف يا مطلوعة‪ .‬األسباب عديدة ومتعددة‪ .‬لكن ما فعلته هو الصحيح وكان‬
‫علي أن أفعل هذا‪ .‬على األقل ألريح ضميري ولو قليال‪.‬‬
‫– وهل تريحين ضميرك بالقتل؟‬
‫***‬

‫‪314‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫قبل عشرين عاما‬

‫مدينة وهران‬
‫كان الجوباردا والضباب يغطي تلك الفيال اإلسبانية املزركشة بزخرفات معمارية‬
‫متقنة الصنع ذات هندســة بهية‪ ،‬تغلف حيطانها األعشــاب الخضراء املتســلقة لنبات‬
‫اللواي األخضر‪ ،‬وأمام مدخلها البارز أزهاراألقحوان‪.‬‬
‫و الياســمين والبنفســج يرســم لوحــة تشــكيلية لونيــة خالبــة مثبتــة بأشــجارمقلمــة‬
‫األعراف واألوراق‪ ،‬واحدة على شــكل دلفين واألخرى هناك بشــكل رجل يمســك مرشــا‪.‬‬
‫وعــروس تطلــق ثوبهــا األبيــض‪ .‬يتعالــى خريــرصوتهــا‪ .‬فــي املنتصــف نافــورة تحيــط بهــا ســبع‬
‫مــن حوريــات البحــرتقــذف املــاء مــن خياشــيمها الصغيــرة فــي الســماء بدقــة وانتظــام‪..‬‬
‫األمطــار تتناطــح فــي ســماء ممســوحة النجــوم لتســقط برفــق علــى تللــك األرصفــة‬
‫والطــرق اإلســفلتية‪ ،‬لتلمــع هــي األخــرى وتنطــط قطـرات املطــرالبــاردة التــي تتهــاوى فوقهــا‬
‫لتنتهــي فــي األخيــرداخــل املجــاري علــى حــواف الطريــق‪.‬‬
‫بيــن تلــك الظلمــة الحالكــة واألمطــاراملتســابقة والضبــاب الهالمــي األبيــض كطيــف‬
‫يحــرس مدينــة وهـران الباهيــة ليــا‪ ،‬بيــن مواقــف الحافــات‪.‬‬
‫بالتحديــد مــن جهــة ســوق الحمــري بمــكان ليــس ببعيــد عــن محطــة القطــار فــي‬
‫جامعــة ســينيا‪ ،‬كانــت تقبــع تلــك الفيــا الجميلــة‪.‬‬
‫ليــل ممطــرصامــت‪ ،‬كانــت هنــاك مثــل ســندريال عندمــا انتهــت مــن حفلتهــا عائــدة‬
‫إلى املنزل من نبيلة إلى خادمة بعجارها األسود املسدول على وجهها الصغير‪ ،‬وجسمها‬
‫الهزيــل‪.‬‬
‫***‬

‫‪315‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫املتســولة ذات العجــار تراقــب الســيدة املفزوعــة‪ ،‬وترتــب أوراق الكرتــون تحتهــا‪،‬‬
‫بجنبها قطة سوداء مبتورة األذن نائمة قرب فتى نحيل يخفي مقصا صغيرا تحت يده‬
‫ويســند ظهــره إلــى الجــدارضامــا رجليــه بيــده نحــو صــدره‪ ،‬أشــعث الشــعر‪ ،‬يصــرشــفتيه‬
‫ونظـرات الخــوف باديــة عليــه‪.‬‬
‫حافــي القدميــن وفــوق جســده الهزيــل بعــض األســمال الرماديــة الباليــة واملثقوبــة‬
‫من كل جهة‪ ،‬ساكنا من دون حركة كأنه إعتاد على الجلوس في تلك الوضعية‪...‬الدهر‬
‫حفــره والدنيــا آملتــه كثيـرا‪.‬‬
‫كانــت تلــك الســيدة تبــدو غامضــة تخفــي مالمحهــا بعجــارأســود يمتــد ّ‬
‫حتــى ذقنهــا‪،‬‬
‫حجابهــا أســود ســميك يغطــي جســدها الهزيــل‪ ،‬بيمينهــا القطــة والفتــى الكئيــب‪ ،‬وفــي‬
‫حجرهــا تحمــل رضيعــة صغيــرة ذات شــعرذهبــي تشــع جمــاال وعلــى يســارها صحــن فــارغ‬
‫أزرق اللــون داخلــه بعــض العمــات النقديــة الصغيــرة‪ ،‬تجمــع فيــه مــا شــاء هللا أن تجمــع‬
‫مــن صدقــات مــن بقــي فــي هــذه املدينــة مــن املحســنين وذوي القلــوب الرحيمــة‪ .‬وعنــد‬
‫فراغهــا مــن جمــع التبرعــات داخــل الصحــن‪ ،‬تفتــت بعــض الخبــز واملــاء أو بقايــا طعــام‬
‫داخــل ذلــك الصحــن لتطعــم القطــة مبتــورة األذن والفتــى الصغيــر‪.‬‬
‫تنهض السيدة حاملة بيدها سلتها املنسوجة من الدوم اليابس‪ .‬تنظرهنا وهناك‬
‫تلتفــت يمينــا وشــماال لتقطــع الطريــق‪ .‬وتصــل إلــى ســور الحديقــة‪ ،‬تدفــع البــاب بحــذر‬
‫وتقتحــم مســاحة الفيــا بخطــوات القــط متختلــة علــى أصابعهــا‪ ،‬تقــف قليــا وتنظــر‬
‫ورائهــا كأنهــا تفكــرفــي الرجــوع‪ ،‬ثـ ّـم تســتمرفــي مشــية اللــص إلــى أن تصــل إلــى بــاب الفيــا‪.‬‬
‫تتفقــد ســلتها الباهتــة املنســوجة للمــرة األخيــرة‪ ،‬تصعــد الســلم املكــون مــن أربعــة درجــات‬
‫لتضعهــا فــي األخيــرعنــد عتبــة البــاب وتطرقــه طرقــا قويــا‪.‬‬
‫كانــت رجلهــا اليمنــى علــى الســلم كأنهــا فــي وضعيــة تســتعد للهــروب بســرعة عنــد‬
‫طرقهــا للبــاب‪.‬‬
‫طرقــت البــاب حوالــي خمــس طرقــات ثـ ّـم انصرفــت تاركــة الســلة ورائهــا‪ .‬اختبــأت‬
‫املـرأة بيــن أشــجارحديقــة البيــت ومــا ظهــرمنهــا ســوى قدميهــا شــبه الحافيتيــن‪ ،‬انتظــرت‬

‫‪316‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫متخفيــة تحــت الســور ولــم يخــرج أحــد‪ ،‬فعــادت مجــددا لتالحــظ هــذه املــرة وجــود جــرس‬
‫عنــد البــاب‪ .‬اقتربــت مــن الجــرس وقرعتــه وأرخــت أذنهــا لتســمع وقــع أقــدام قادمة بتراخي‬
‫متجهــة لتفتــح البــاب‪.‬‬
‫التفــت املـرأة وهربــت مســرعة تســحب حجابهــا الــذي يعرقــل جريهــا‪ ،‬تركــض قليــا‬
‫ثـ ّـم تتعرقــل وتتهــاوى ملقــاة علــى األرض ثـ ّـم تنهــض متلقفــة أنفاســها املتقطعــة وتعــود‬
‫مجددا للركض‪ ،‬كانت األمطارتسقط عنها خمارها وتتبعثرعلى جبهتها الناصعة‪ ،‬لتقع‬
‫في األخيرعلى حجابها املبلل املتشبع باملاء الذي يلتصق بها ليظهرجسدا نحيفا وهزيال‪.‬‬
‫تبتعــد املـرأة لتختفــي وتتبخــرفــي ظــام الشــارع‪ ،‬فــي األخيــربعدمــا تأكــدت مــن إتمامها‬
‫ملهمتهــا وانتظارهــا خــارج ســور الحديقة‪.‬‬
‫بعينين باكيتين ويدين مرتعشتين تراقب بمكان غيربعيد‪.‬‬
‫خرجــت ســيدة طويلــة القامــة بشــعرها األصفــر تلبــس بجامــة النــوم‪ .‬حملــت‬
‫السلة‪ ،‬نظرت هنا وهناك ولم تشاهد أحدا سوى الصمت‪ ،‬نادت رجال أسمرا عريض‬
‫الكتفيــن خــرج حافــي القدميــن وأمســك بالســلة‪ .‬فتحهــا‪ ...‬كانــت املفاجئــة تظهــرفــي عينــي‬
‫السيد والسيدة‪...‬أخرج من السلة لحافة بيضاء ولحافة صفراء تلفان داخلهما جسد‬
‫فتــاة صغيــرة‪ ،‬مكــورة اليديــن ذات أصابــع صغيــرة وضحكــة مالئكيــة‪ .‬لــون عينيهــا أزرق‬
‫بلــون الزمــرد البــارد‪ .‬وشــعرحريــري أصفــرخفيــف ســاقط علــى جبهتهــا امللســاء البراقــة‪.‬‬
‫عنــد عتبــة البيــت ومصبــاح ينيــراملدخــل يعكــس ضوئــه علــى مشــهد امـرأة ورجــل يحمــل‬
‫مــاكا صغيـرا بيــن يديــه حمــل الرجــل الرضيعــة بيــن يديــه عانقتــه الســيدة والتصقــت به‪،‬‬
‫عيناهــا تلمعــان خوفــا وحبــا تناولتهــا الســيدة وحملتهــا بيــن ذراعيهــا‪.‬‬
‫فجأة الحظ الرجل وجود ورقة مخبأة داخل السلة‪ ،‬فتحتها وبدا بالقراءة‬
‫بنبرة خشنة وبطيئة‪:‬‬
‫إلى السيد جمال‬

‫‪317‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ها أنا وكلي يتقطع حزنا وأســفا وكأني أذبح من الشــريان إلى الشــريان‪ .‬أرســل لكم‬
‫هــذه الرســالة ويكتبهــا بــدال عنــي شــيخ طيــب وجدتــه فــي الشــارع‪ .‬ألنــي ال أجيــد الكتابــة‬
‫والق ـراءة‪.‬‬
‫ـزء مــن كبــدي وأتخلــى عــن أنفــاس عميقــة مــن‬ ‫أنــا ام ـرأة أميــة ومعدمــة‪ ،‬أقــص جـ ً‬
‫روحــي‪ ،‬وأحشــرها داخــل هــذه الســلة وأناشــدكم هــذه الصبيــة وتربيتهــا وع�ســى هللا‬
‫أن تجــد بيــن أحضانكــم املــاذ والــدفء الــذي لــم تجــده فــي حضنــي والــذي لــن تجــده فــي‬
‫الشارع‪ .‬هللا وحده يدري كم أحبها وكم قاسيت من أجلها وحملتها تسعة أشهرفي بطني‬
‫وحملــت معهــا الجــوع واملــرض‪.‬‬
‫و صبرت على البرد ونظرات الناس وكلمات الشفقة التي يرمونها في وجهي وال أحد‬
‫وقف بجنبي مثلما فعلت أنت يا سيدي جمال‪ ،‬كنت القابلة واملستشفى والعائلة التي‬
‫لم أجدها برفقتي يوم جاءني املخاض‪ ،‬لم أجد أحدا سواك يا سيدي "الشحاذ عازف‬
‫املزمار" وكم أنت طيب وشجاع لن أن�سى تلك الليلة التي وجدتني ساقطة تحت حاوية‬
‫حتى على الصراخ كجثة‬ ‫القمامة في ذلك الزقاق املظلم‪ ،‬أعاني املخاض ولم أكن أقوى ّ‬
‫بــدون روح أنتظــرمــاك املــوت ليخطــف روحــي‪ ،‬بجنبــي "مبــارك" ولــدي الرضيــع اآلخــر‪،‬‬
‫أرخيت جسدي وأنا أعتصرأملا أنتظرمالك املوت وأدعوه أن يأتي مسرعا ليريحني من‬
‫حتــى ظهــرت أنــت وقــد حســبتك هــو‪ّ .‬‬
‫حتــى أعــرف‬ ‫األلــم الرهيــب الــذي يقطــع أحشــائي‪ّ ،‬‬
‫بعدهــا أن مــاك الحيــاة‪ ،‬أتذكــر كيــف هرعــت مســرعا نحــوي ودون أن تنتظــر مزقــت‬
‫قميصــك وأفرشــته تحــت ظهــري ولــم تجــد شــيئا آخــرتضعــه داخــل فمــي ســوى مزمــارك‬
‫أعــض عليــه ألتحمــل ألــم الــوالدة‪ ،‬و لــن أن�ســى كيــف أمســكت يــدي وضغطــت علــى كفــي‬
‫وهمست في أذني وتللك الكلمات التزال تترقرق في أذني كأنها البارحة "أغم�ضي عينيك‬
‫وتخيلــي أنــك فــي الجنــة‪ ،‬وبعــد لحظــات ســتقابلين املالئكــة "‬
‫كلماتــك تلــك بعثــت فــي جســدي قــوة رهيبــة ســاعدتني ألخرجهــا مــن بيــن أحشــائي‪،‬‬
‫ولــن أن�ســى كيــف كســرت زجاجــة الكحــول املرميــة بجوارنــا وقطعــت بهــا حبــل الســرة‪،‬‬
‫ســامحني ســيدي ألنــي كســرت مزمــارك مــن شــدة األلــم وهــا أنــا ســيدي أكتــب لــك ولــم‬
‫أستطع أن أقابلك بعدها خجال من فضلك علي وأقول لك‪ :‬أغمضت عيني كما قلت لي‬

‫‪318‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وجلبت املالئكة من الجنة‪ ،‬لكن يا سيدي املالئكة ال تعيش في الشارع‪ .‬وال أحد أطمئن‬
‫لحــال فلــذة كبــدي عنــده مثلــك أنــت ألنــك رجــل بحــق‪ .‬إنــي وضعتهــا بيــن يديــك أنثــى‬
‫وسميتها أميمة وأتركها أمانة بين يديك إلى يوم الدين‪ ،‬ربها مثل ابنتك واستمرفي‬
‫العزف لها مثلما كنت تعزف أمام الحانة تلك الليلة وجاءك ذاك الرجل الغريب وفتح‬
‫عليك أبواب الخيرومن يومها رحلت عنا واشتقتنا لعزفك وألحانك التي كنت تواسينا‬
‫بها في ليلنا الطويل البائس‪.‬‬
‫ســأدعو لهــا الــرب بــأن يحميهــا ويرزقهــا العيــش الطيــب ويبعــد عنهــا كل املصائــب‪،‬‬
‫وســأدعو لكــم معهــا علــى أمــل أن نلتقــي فــي الجنــة‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫السيدة نعيمة‪.‬‬

‫***‬
‫– وهل تريحين ضميرك بالقتل؟‬
‫– ال‪ .‬لن تفهمني‪ .‬لكن مكاني هنا‪ .‬حقا‪ .‬ألني ال أستحق الحرية‬
‫– ماذا تقصدين‪.‬‬
‫_لقد فعلت ذلك من أجل أن أحافظ على حياة ابنتي‪.‬‬
‫ثــم تنهــدت وبعمــق راحــت تســتطرد فــي كالمهــا ومطلوعــة يحــاول‪ .‬أن يجمــع مــا بيــن‬
‫الســطور‪:‬‬
‫– أذكــر يومــا أنــي كنــت أتقطــع مــن الجــوع عندمــا رمــى بــي إســحاق فــي الشــارع‪.‬‬
‫ذلــك الفتــى الضــال‪ .‬املتعجــرف‪ .‬فقــط ألنــي غســلت ســرواله وقــد ن�ســي داخلــه ســيجارة‬
‫حشــيش‪ .‬بــدأ بمعاملتــي مثــل الحيــوان‪ .‬أمــام صمــت أبيــه‪ .‬الــذي ال يــرد لــه طلبــا‪.‬‬
‫***‬
‫الســيدة نعيمــة تتذكــر عندمــا كانــت عاملــة نظافــة وإســحاق يرمــي لهــا مالبســه‬
‫الداخليــة علــى وجههــا‪ .‬وملــا أخبــرت أب إســحاق بأمــر الســيجارة التــي وجدتهــا فــي جيبــه‪.‬‬
‫ضربنــي إســحاق ورمانــي فــي الشــارع بعدمــا صبــرت أشــهر علــى الــذل واملهــان مــن قبلــه‪.‬‬
‫و فــي إحــدى املـرات وأنــا علــى شــفيراملــوت مــن الجــوع‪ .‬دخلــت حانوتــا فــي الســوق وملــا‬
‫رأيتنــي‪ .‬أذكــرأنــك كنــت تملــك خبــزة مــن املطلوعــة‪ .‬اقتســمتها معــي‪ .‬وأعطيتنــي خمســين‬
‫دينــارا وابتســمت فــي وجهــي ومضيــت‪ .‬عرفــت أنــك كنــت بأمــس الحاجــة لتلــك الخبــزة‪.‬‬
‫وأن حالك ليســت بعيدة عن حالي‪ .‬وقد تذكرت فعلك ذاك ولم أنســه ما حييت لذلك‬
‫قــررت أن أنفــذ بــدال منــك الخطــة‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– الخطة!‬
‫– نعــم‪ .‬كنــت هنــاك فــي ذلــك املســاء‪ .‬أقــوم بتنظيــف األقســام‪ .‬عندمــا ســمعتك‬
‫ورفاقــك األربعــة داخــل القســم‪ .‬تتهامســون وتبــدو علــى مالمحكــم الجديــة‪.‬‬
‫فرحت استرق السمع من الباب‪ .‬وعرفت كل خطتكم وكيف ستنفذونها‪.‬‬
‫***‬
‫مطلوعــة يتذكــرأنــه ســمع صــوت ضجيــج قــادم مــن عنــد البــاب‪ .‬كأن أحدهــم أوقــع‬
‫شــيئا وعندمــا فتــح البــاب ليتفقــد الــرواق بيــن األقســام لــم يجــد أحــدا‪.‬‬
‫و بذلــك قــررت أن أكــون مكانــك‪ .‬ســت الخطــة جيــدا ّ‬
‫حتــى ال يكــون مشــكوكا فــي‬ ‫ودر‬
‫أمــري‪.‬‬
‫– لكن هل كل هذا من أجل اإلنتقام؟‬
‫– من أجل أشياء كثيرة‪ .‬تضحية وتكفيرعن ذنب قديم‪.‬‬
‫– ماذا تقصدين بذنب قديم؟‬
‫– هنــاك بعــض األخطــاء‪ .‬عندمــا تقــع ال نســتطيع أن نصلحهــا لكــن نســتطيع أن‬
‫نخطــأ مــن أجلهــا ّ‬
‫حتــى ال نزيدهــا ســوءا‪.‬‬
‫– أخطاء من أي نوع!‬
‫– عندمــا كنــت شــابة أخطــأت مــع أحدهــم وأنجبــت منــه توأميــن‪ .‬البنــت لــم أرد لهــا‬
‫أن تعيــش حيــاة الفقــرالتــي عشــتها أنــا‪ .‬لذلــك تركتهــا أمــام بيــت عائلــة ثريــة بعدمــا تركــت‬
‫لهــم رســالة ليربياهــا ويجعالهــا ابنــة لهمــا‪ .‬تركتهــا أمــام منــزل ذلــك الرجــل الــذي فتــح هللا‬
‫عليــه بيبــان الخيــربعدمــا كان أشــد فق ـرا وحاجــة منــي‪ .‬وقــد كان هــو الــذي ســاعدني فــي‬
‫والدة أميمــة‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_أميمة!‬
‫_نعم أميمة بنتي‪.‬‬
‫صمــت مطلوعــة وبلــع لســانه واســتمرفــي االنصــات لــكالم نعيمــة وهــي تســرد قصتهــا‬
‫بــكل ألــم‪.‬‬
‫_ثم بعدها هجرت مدينة وهران ألسكن هنا‪.‬‬
‫_لقد قلت أنك أنجبت توئما! إذن أين‪!...‬‬
‫_نعــم حيــن دخلــت إلــى مدينــة عيــن الدفلــى وجــدت إحــدى العرافــات التــي تملــك‬
‫بيتا تضم فيه املهمشــين والطالبات واملومســات ومن ال مأوى لهم‪ .‬آوتني" خيرة الكحلة‬
‫"وملــا رأت الولــد وقــد كان فــي أشــهره األولــى‪ .‬ولــد بحلمتيــن زائدتيــن وقــدم أطــول مــن قــدم‪.‬‬
‫أخبرتنــي أن ابنــي هــو "وريــث الشــيطان "وأن علــي التخلــص منــه ألنــه ابــن زنــى بعدمــا‬
‫جاءتهــا رؤيــا فــي الحلــم بأنــه سيتســبب فــي موتــي‪ ،‬فتركتــه فــي ســلة أمــام "مســجد الخضـراء‬
‫"وســط مدينــة عيــن الدفلــى‪ .‬عملــت كخادمــة فــي البيــوت ألعــوام‪ .‬ثــم وجــدت أخيـرا عمــا‬
‫فــي مدرســتكم‪ .‬وطويــت صفحــة كبيــرة مــن حياتــي‪ .‬ومــع بدايــة هــذا تفاجــأت بفتاة جديدة‬
‫حسناء‪ .‬كانت لطيفة معي بشكل كبير‪ ،‬ذات يوم ساعدتني في غسل األرضية‪ ،‬ملا كانت‬
‫تنحني الحظت وشمة على رقبتها مثل الوشمة التي في رقبتي أنظر"وأرت مطلوعة جزءا‬
‫مــن رقبتهــا كانــت نفــس الوشــمة املميــزة علــى شــكل نصــف قلــب"‪.‬‬

‫قفــزقلبــي مــن مكانــه ألرى ابنتــي بعــد أعــوام بعدمــا قــد هجرتهــا وتركتهــا بيــن أيــادي‬
‫ال�ســي جمــال والــرب‪.‬‬
‫– وهل أخبرتها أنك‪!...‬‬
‫– ال‬

‫‪322‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم صمتت قليال وتابعت كالمها وقد تغيرت نبرة صوتها لتميل إلى الحزن أكثر‪.‬‬
‫– كنــت عــدة مـرات أريــد أن أصارحهــا‪ .‬وأعانقهــا وأطلــب منهــا املغفــرة عــن مــا فعلتــه‬
‫بها وعن طعم األمومة الذي حرمته منها‪ .‬لكن لم أقدروعندما رأيت ما هي فيه من رغد‬
‫العيش في رعاية ال�سي جمال لم أرد أن أفتح لها جرحا لم تعتقد بوجوده‪.‬‬
‫– وهل هي تعرف الحقيقة‪ .‬بأن والديها ليسا حقيقين!‬
‫– ال أعــرف‪ .‬لكنــي أظنهــا تجهــل األمــر‪ .‬ألنــي فــي رســالتي كتبــت لهمــا بــأن تربياهــا مثــل‬
‫حتى ال تجعالها تحس أنها ناقصة دوما‪ .‬كنت كل يوم عندما‬ ‫ابنتكما وال تخبراها باألمر ّ‬
‫أراها أتآكل ببطء أريد أن أرمي دلو املنظفات من يدي وأجري ألعانقها وسط الساحة‪،‬‬
‫ثم ابتســمت ابتســامة باردة وثقيلة‪.‬‬ ‫وكنت أحزن أكثرملا أراها رفقة إســحاق‪ّ .‬‬

‫– “ كيف للشوك أن يكون مع "حب امللوك "‬


‫لذك يا مطلوعة ولدي‪ .‬عندما وقعت الجريمة لم أردها أن تدخل السجن بتهمة‬
‫لــم ترتكبهــا ولــن يرتكبهــا غيــري أنــا‪ .‬لــم أرد أن أخطــأ أكثــروحــان األوان ألحاســب علــى مــا‬
‫فعلتــه‪ .‬لذلــك قلــت لــك أن مكانــي املناســب هــو هنــا‪.‬‬
‫_لكن ماذا تقصدين بأنك فعلت هذا من أجل أن تحافظي على حياة ابنتك‪.‬‬
‫_بعدمــا ســمعت خطتكــم املدرســة بيــوم وصلتنــي رســالة مــن دون مرســل‪ .‬عندمــا‬
‫تق ـرأ الرســالة ســتفهم‪.‬‬
‫قبــل أن تكمــل كالمهــا ســمعت حــارس الســجن ينــادي بــأن وقــت الزيــارة قــد انتهــى‬
‫وضعــت الرســالة بيــن يــدي مطلوعــة وانصرفــت‪.‬‬
‫ثم عند باب السجن قابل مطلوعة املاحي‪.‬‬
‫قال مطلوعة‪:‬‬

‫‪323‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– هل هي حقا من فعلت ذلك؟‬


‫– تقبل األمركان صعبا بالنسبة لي‪ .‬و تفاجأت ملا قاطعت املحاكمة في آخرلحظة‬
‫واعترفــت بأنهــا القاتلــة‪ .‬شــككت فــي األمــر‪ .‬لكــن هــل تعــرف ال�شــيء الــذي كان ســببا فــي‬
‫إنقــاذك مــن أن تكــون خلــف القضبــان اآلن‪ .‬أنــت وجماعتــك‪ .‬هــو الحــظ فقــط‪.‬‬
‫– الحظ!‬
‫– نعم ألن السيدة نعيمة غيرمتعلمة‪ .‬يعني أنها ال تجيد الكتابة والقراءة‪.‬‬
‫– وما دخل هذا في أن تتأكد بأنها الفاعلة!‬
‫– أثنــاء التحقيــق كنــت أســتعمل بعــض الطــرق التــي ال تبــدولكــم ألعــرف فقــط مــن‬
‫هــو الشــخص األعســربينكــم ألن الضربــة القاتلــة التــي تلقاهــا الضحيــة كانــت فــي الجهــة‬
‫اليســرى مــن رأســه ويســتحيل علــى شــخص أيمــن اليــد فعــل ذلــك‪ .‬وفــي املحكمــة قبــل‬
‫أن تخــرج الســيدة نعيمــة أعطيتهــا قلمــا لتمســكه فالحظــت أنهــا تمســكه بيســارها و ـكـي‬
‫أتأكد أكثرأمرتها بأن تكتب اســمها فأخبرتني أنها غيرمتعلمة‪ .‬فقلت لها أن توقع فقط‬
‫فاستعملت يدها اليسرى في التوقيع‪ .‬حين ذلك أكدت لي حقا أنها هي الفاعلة رغم أني‬
‫مــا لــت أشــك أنهــا تلقــت شــوة أو تهديــدا مــا ّ‬
‫حتــى تقــدم علــى فعلتهــا‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ز‬
‫_تهديد!‬
‫_نعم‪.‬‬
‫_ماذا تقصد‪ .‬مثل ماذا؟‬
‫_هــذا مــا أبحــث عنــه‪ .‬وبعــد مــا تعمقــت فــي التحقيــق أكثــروجــدت أن الســيدة نعيمة‬
‫كانــت تعمــل خادمــة فــي بيــت اســحاق وكان يعاملهــا بطريقــة ســيئة‪ .‬ربمــا دافــع االنتقــام‬
‫هو الذي دفعها لقتله‪ .‬لكن ملاذا تقتله في املدرسة! هذا السؤال الذي دفعني ألن أفكر‬
‫بــأن لهــا عالقــة بأحــد املتهميــن فــي التحقيــق الــذي أعلمهــا بوقــت وقــوع الجريمــة لتجهــز‬
‫عليــه‪ .‬ألن الســيدة نعيمــة هــي التــي وجهــت الضربــة القاتلــة فقــط‪ .‬وقبلهــا قــد وجهــت أربــع‬

‫‪324‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ضربــات للضحيــة قويــة لكنهــا غيــر قاتلــة والضربــة القاتلــة هــي ضربــة املــدور فــي الجهــة‬
‫اليمنــى األماميــة فــوق عظمــة الرقبــة مباشــرة‪ ،‬وهــي ضربــة نعيمــة حتمــا‪.‬‬
‫لكــن مــن أعلمهــا بالوقــت الــذي ســتتم فيــه الجريمــة‪ .‬ألن احتمــال كبيــريرجــح أن‬
‫ضربــة نعيمــة كانــت هــي األخيــرة‪ .‬حيــث ملــا وصلــت وجــدت اســحاق ســاقطا علــى األرض‬
‫مغشــيا عليــه وبتلــك الوضعيــة ســهل عليهــا توجيــه الضربــة القاتلــة‪ .‬ألن الســيناريو الــذي‬
‫شكلته في رأ�سي وهو األقرب للمنطق‪ .‬أن الضربة األولى أوقعته أرضا وأرجح بأنها كانت‬
‫ضربــة طــارق ألنــه أقواكــم‪ .‬وبعدمــا ســقط اســحاق علــى األرض لــم يكــن قــد فقــد وعيــه‬
‫بعــد‪ .‬دخــل مــروان ووجــه لــه ضربــة علــى رأســه ب�شــيء ثقيــل أفقــده وعيــه وأســال الدمــاء‬
‫مــن رأســه‪ .‬وتبعــه مباشــرة ســميرالــذي علــى األرجــح وجــد اســحاق يســبح بيــن دمائــه قــام‬
‫بالتأكــد مــن نبضــه فوجــد أنــه ال ي ـزال حيــا فأخــرج آداة حــادة مــن جيبــه وطعنــه تلــك‬
‫الطعنــة التــي الحظنــا وجودهــا بجانــب صــدره‪ .‬ورغــم ذلــك ال أظــن أن تلــك الضربــة قــد‬
‫كانــت كافيــة لقتلــه‪ .‬لكــن الضربــة الرابعــة كانــت هــي الضربــة القاتلــة باملــدور‪ .‬واملتســبب‬
‫بهــا هنــا شــخص كان تحــت ثــورة مــن العواطــف حتمــا ألن الضربــة قــد وجهــت للرقبــة‬
‫مباشــرة وهــذا الشــخص حســب نفســية املشــتبه بهــم‪ .‬أرجــح بأنــه ّإم ــا أميمــة أو أنــت يــا‬
‫مطلوعــة‪ .‬ولــم أكــن أتوقــع أبــدا أن تكــون الســيدة نعيمــة هــي الطــرف الثالــث فــي القضيــة‪.‬‬
‫وهي القاتلة‪ .‬لذلك أنا أرجح بأنك أنت من قمت بتهديدها وإجبارها على القيام بجريمة‬
‫القتــل‪ .‬ألنــك تخــاف الــدم منــذ حادثــة أبيــك وقــد أصبحــت عقــدة بالنســبة لــك وغيــره‬
‫الكثيــرمــن نفســيتك التــي ترجــح غيــرك بــأن يســتعين بشــخص آخــر‪ .‬شــخص يكــون بعيــدا‬
‫حتــى تبقــى جريمــة القتــل غامضــة‪ .‬وهــذا هــو رأيــي‪ .‬ورغــم هــذا أظنــه ال‬ ‫عــن كل الشــكوك‪ّ .‬‬
‫يهــم فقــد مســح ســاح الجريمــة كلــه فــي نعيمــة‪.‬‬
‫ثــم صمــت املحقــق قليــا أخــرج مــن جيبــه علبــة تبــغ وضــع دكــة شــمة تحــت شــاربه‬
‫مــن دون ماصــة‪ .‬نفــض يديــه وتابــع كالمــه‪:‬‬
‫_لكــن هنــاك قطعــة ناقصــة فــي القضيــة‪ ..‬وحتمــا سأكتشــفها عاجــا أم آجــا‪ .‬وأنت‬
‫يا مطلوعة ســتقع بين يدي يوما وتخلصها غالية غالية‪ ...‬واأليام بيننا‪.‬‬
‫ثم أخرج مطلوعة الرسالة التي من جيبه وأعطاها للمحقق‪:‬‬

‫‪325‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_أعطتنــي اياهــا الســيدة نعيمــة‪ .‬ربمــا قــد تســاعدك فــي أن تجــد هــذه القطعــة‬
‫الناقصة التي تتحدث عنها‪ .‬وتعرف أني لم أقتل اسحاق‪ .‬وأن السيناريوالذي في رأسك‬
‫ليــس حقيقيــا‪.‬‬
‫أمسك املحقق الرسالة وقرأ على ظهرها بالخط العريض‪.‬‬
‫هذه الرسالة خاصة ويقرأها لها يحي الصابري‬
‫هذا عنوانه‪ :‬حي البلبال أمام البيت بجنب الخروبة الكبيرة‬
‫سئل املحقق مطلوعة‪:‬‬
‫_هل فتحتها من قبل؟‬
‫فتح املحقق الرسالة وبدأ قراءتها بصوت مسموع‪.‬‬
‫الســيدة نعيمــة الحرا�شــي أنــا أعــرف أن أميمــة ابنتــك وأعــرف كيــف كانــت‬
‫معاملــة اســحاق لــك عندمــا كنــت خادمــة فــي بيتهــم‪ ،‬إن أردت أن تحافظــي علــى حيــاة‬
‫ابنتــك فعليــك بــأن تقتلــي اســحاق مرصلــي وذلــك علــى الســاعة الثالثــة والنصــف‬
‫بمكتبــة املدرســة التــي تعمليــن بهــا حيــث ســتكون املهمــة مجهــزة لــك‪ .‬وإال ســتموت‬
‫ابنتــك‪.‬‬
‫أغلق املحقق الرسالة ونظرإلى مطلوعة‪:‬‬
‫_هل أخبرتك من أرسلها لها؟‬
‫_ال‬
‫_يحي الصابري‬
‫_له نفس لقبك!‬

‫‪326‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_هو جدي‪.‬‬
‫_نعم قد تذكرته‪.‬‬
‫_نحــن اآلن أمــام احتماليــن ّإم ــا أن تكــون الســيدة نعيمــة تجيــد الكتابــة والق ـراءة‬
‫وقــد كتبــت هــذه الرســالة فــي الســجن لنفســها‪ّ .‬‬
‫حتــى تخفــف الحكــم عليهــا أمــام القانــون‬
‫بعدما ندمت على فعلتها وأرادت أن تخلق لنفسها قصة القتل تحت اإلكراه والتهديد‪.‬‬
‫وهــذا مرجــح بــأن مــن أرغمهــا ســيفكربمــا أفكــربأنــي ســأفكربهــذا ويجعلنــي أعتقــد هــذا‬
‫االحتمــال وأورط الســيدة نعيمــة أكثــر‪.‬‬
‫ثم وضع املاحي يده على قفاه وحك خلف رقبته ليفكر‪..‬‬
‫سأله مطلوعة‪:‬‬
‫_واالحتمال الثاني‪.‬‬
‫_االحتمــال الثانــي هــو أن أحدكــم كتــب هــذه الرســالة لهــا حقــا وأرادك أن ال تقتــل‬
‫اســحاق وأن تقــوم نعيمــة هــذا بــدال منــك‪ّ .‬إم ــا أن تكــون أميمــة بســبب حبهــا لــك وبســبب‬
‫أنهــا تعــرف أن نعيمــة أمهــا بطريقــة مــا‪ ،‬لذلــك أرادت االنتقــام منهــا ألنهــا تخلــت عنهــا‪ .‬وإمــا‬
‫أن يكــون أحــد أصدقائــك بســبب الصداقــة‪ .‬وإمــا أنــت‪.‬‬
‫_كيف تشك بي وأنا أعطيتك الرسالة دون أفتحها وأقرأ ما فيها‪.‬‬
‫حتى تصنع لي قصة أخرى في‬ ‫_نعم يبقى احتماال واردا أن تكون أنت الذي كتبتها ّ‬
‫التحقيــق وتبعدنــي عــن القصــة الرئيســية‪ .‬وهــذه الرســالة بطريقــة أو بأخــرى هــي رســالة‬
‫تحــدي لــي‪ ،‬كأن الـرأس املخطــط للجريمــة كان يعلــم بــأن هــذه الرســالة ســتقع بيــن يــدي‬
‫عاجال أم آجال وأني سأذهب ألزورجدك وأحقق معه وربما أيضا أجد أنه لقنه الكالم‬
‫الــذي ســيقوله أثنــاء تحقيقــي معــه ويرمينــي إلــى قصــة أخــرى أبعــد مــن هــذه القصــة‪ .‬لكن‬
‫تذكــرأن حبــل الكــذب قصيــر‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثــم أخــرج املحقــق حبــة تفــاح مــن جيــب معطفــه‪ .‬قضــم منهــا‪ .‬وقســم منهــا جـ ً‬
‫ـزء‬
‫أعطــاه ملطلوعة‪...‬فقضــم مطلوعــة قضمــة مــن التفاحــة‪:‬‬
‫_ألم تخبرني أنك ال تحب التفاح؟‬
‫***‬
‫انطلق املاحي متجها للتحقيق مع السيد يحي الصابري‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫غدروه!‬

‫و أنــا عائــد مــن ســجن النســاء وبــي دهشــة مــن الحقائــق التــي أخبرتنــي بهــا الســيدة‬
‫نعيمــة‪ .‬ألفاجــئ بمجموعــة مــن األشــخاص عنــد بــاب الــدار‪ .‬اقتربــت ألجــد جــدي ســاقطا‬
‫على األرض في حجرأمي والدماء تسيل من رأسه‪ .‬أحدهم يصرخ من بعيد أن اإلسعاف‬
‫قــادم‪.‬‬
‫أمــي تبكــي وتصــرخ وعبــاءة جــدي ملطخــة بالدمــاء‪ .‬جثــوت علــى ركبتــي وأمســكت‬
‫رأسه ولحيته متشبعة بالدماء التي تسيل من رأسه‪ .‬الحظت وجود مسدس صغيربين‬
‫حتى ال يراه أحد‪ .‬بسرعة وقبل أن تصل سيارة‬ ‫أصابعه‪ .‬نزعته من يده وخبأته في جيبي ّ‬
‫اإلســعاف كان املاحــي فــي املــكان رفقــة مســاعدين مــن الشــرطة‪ ،‬نبــاح الكلــب غيــرطبيعــي‪،‬‬
‫أمــي تبكــي وتصــرخ ملــئ حنجرتهــا‪.‬‬
‫_ غدروه‪ ...‬غدروه‪ ..‬الخونة‪ ...‬قتلووووووه يا ناس من أجل بقرة‪ ...‬قتلوووه‪.‬‬
‫فهمــت مــن بــكاء أمــي أن أتبــاع النــذل جمــال هــم مــن فعلــوا هــذا وعندمــا تصــدى‬
‫لهــم جــدي أردوه قتيــا وأخــذوا البقــرة‪ .‬ونهــروا الكلــب‪.‬‬
‫نهضــت وعينــاي تفيضــان بالحقــد والشــر علــى مــن قتــل جــدي وقابلــت املاحــي‬
‫مباشــرة فــوق رأ�ســي‪:‬‬
‫_مات ومات معه سرالقاتل‬
‫_هل هذا ما يهمك‪ .‬هل أنت بشري! هل أنت تحس؟‬
‫_إن هذا القاتل قد‪...‬‬
‫قاطع مطلوعة املاحي وأمسكه من كتفه‪:‬‬
‫_جمال حراج من قتله‪ .‬هيا اسرع لنقبض عليه‪ .‬هيا‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مطلوعــة يجــر فــي املاحــي مــن كتفــه‪ .‬لكــن املاحــي ال يتحــرك ويســتمر بجمــع األدلــة‬
‫والبحــث فــي جيــوب الضحيــة‪:‬‬
‫_ أنتم كالب الدولة تسكتون على الحق‪ ..‬تطبقون القانون على الفقراء فقط‪.‬‬
‫ثـ ّـم دفعــت املاحــي وانطلقــت ألبحــث عــن الوغــد جمــال‪ .‬وضعــت فــي جيبــي املســدس‬
‫الصغيرلجدي‪ .‬وكان يحمل داخله رصاصة واحدة‪ .‬قعدت فوق صخرة الغولة وبدأت‬
‫أتفتت من الحزن واأللم على فراق جدي‪ .‬انفجرت باكيا وصرخت بقوة وســط النهر‪.‬‬
‫بقيــت أتأمــل أحــداث حياتــي التــي تجــري بســرعة جريــان ميــاه النهــر‪ .‬ال أعــرف ملــاذا‬
‫التاريــخ يكــرر نفســه‪ .‬نفــس الحادثــة التــي حدثــت معــي قبــل أعــوام هــا هــي تعــاود نفســها‪.‬‬
‫***‬
‫الفتى الصغيرأمام النهر‪ .‬يحمل في يده مقصا تقطرالدماء منه‪.‬‬
‫الفتى كبروها هو أمام النهرفي نفس املكان يحمل في يده مسدسا‪.‬‬
‫***‬
‫مســحت دموعــي وتأملــت النهــر وأحزانــي تســيل أمامــي‪ .‬أتنفــس بصعوبــة جســدي‬
‫يختنــق وروحــي تختنــق‪ ..‬أنــا أغــرق فــي البــر وكل الغابــة تذبــل أمامــي وزرقــة املــاء تحــول‬
‫لحمــرة داخــل ذاكرتــي وفــي عينــي‪.‬‬
‫فتحت املسدس فوجدت رصاصة واحدة كأنها إشارة واضحة من القدرأن على‬
‫أحدهم أن يموت اآلن‪ .‬وقفت فوق صخرة الغولة‪ .‬وضعت الرصاصة داخل ماسورة‬
‫املســدس التــي تحمــل ســتة ثقــوب‪ .‬وتذكــرت لعبــة الروليــت التــي حكــى لــي جــدي عنهــا ذات‬
‫مــرة هنــا‪ .‬وأرانــي كيــف ألعبهــا‪.‬‬
‫وضعــت الرصاصــة داخــل ماســورة املســدس‪ .‬نســبة موتــي هــي واحــد مــن ســتة أي‬
‫‪ 1/6‬يعني ‪ 16%‬احتمال موتي‪ .‬في الحقيقة والفكرة العامة هي نسبة جيدة أفضل من‬

‫‪330‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫التــي أخبرنــي بهــا الطبيــب ّ‬


‫حتــى ال أمــوت بالســرطان‪ .‬أنــا ميــت علــى قيــد الحيــاة علــى كل‬
‫حال‪ ،‬لم يتبق لي ســوى أمي‪ .‬التي ســأريحها مني وأريح نف�ســي مني من أجلها ومن أجلي‪.‬‬
‫ثم أغمضت عيني‪ ،‬وضعت املسدس مباشرة في رأ�سي ثم‪...‬‬

‫‪331‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫إنسان مضغوط‬

‫" ياربي حررني مني"‬

‫أنــا مكتــظ بالفـراغ ومختنــق بالعبــث إلــى حــد األلــم‪ .‬لــم أســتطع أن أكــون مــا أريــد‪،‬‬
‫حتــى إن أصبحــت مــا ال أريــد‪ .‬أنــا مجــرد شــخص معتــوه وبليــد إلــى منهــى‬ ‫ولــم أعــرف ّ‬
‫الســخط علــى هــذه الحيــاة‪ .‬حياتــي التــي تطحننــي ثـ ّـم تعجننــي مثــل خبــزة مخمــرة باألمــل‪.‬‬
‫أريــد أن أقــدم اســتقالتي مــن هــذه الحيــاة العبثيــة املغريــة‪.‬‬

‫أنــا أشــعربروحــي متورمــة داخــل جســدي علــى وشــك التقيــح‪ .‬ومشــاعري أصبحــت‬
‫صدئــة مــن مطــرالحــب‪ ،‬وحيــد أنــا مثــل صرصــور ليــل مبتــور األقــدام يعبــرالطريــق إلــى‬
‫الالمكان‪ .‬لم ترحمني الحياة بنت الكلب ولم يرحمني أي من بنيها‪ .‬أشعربالظلم والحقد‬
‫حتى الجنون أم أرثوني شأوالشهقة؟‬ ‫على نف�سي في كل لحظة‪ ،‬فهل أضحك على نف�سي ّ‬
‫وهــل أنتحــرأم أســتمرفــي محاولــة الحــب؟‬
‫األلم لسعة الحياة وثقب اإلدراك والوعي الوجودي‪ ،‬ذلك الوعي السمي املفرط‪،‬‬
‫يهلكنــي‪ ،‬يمرضنــي‪ ،‬ويضغــط املشــاعرداخــل روحــي املجوفــة‪ .‬وكــم تخنقنــي معرفــة أنــي‬
‫ســأقتل هــذا املخلــوق املضغــوط‪ ،‬علــى كل حــال هــذا ال يهــم‪ ،‬ألنهــم ســيبكون علــى عــدم‬
‫وجــودي أيامــا أو أشــهرا‪ ،‬ثــم يواصلــون تواجدهــم املمــل‪ .‬وإنمــا الحيــاة تيــارمســتمرمــن‬
‫األلــم‪ .‬واملــوت قاطعــة تيــارعاديــة‪ّ ،‬أم ــا اإلنتحــارفمقــص مــن حديــد يقــص الخيــط‪ .‬كل‬
‫الوجــود ينهــارأمامــي واملســدس بــارد فــي يــدي مثــل قطعــة ثلــج‪ .‬ميــت أنــا علــى قيــد الحيــاة‪،‬‬
‫وحياتــي قيــد اإلص ـرار والتحــدي الوهمــي العســير علــى حالتــي الصحيــة والنفســية‪ .‬أنــا‬
‫مضغــوط باأللــم واملــرض والحــب والكــره واالنتقــام وامللــل واألمــل والف ـراغ‪.‬‬
‫فهل لحياتي هذه معنى! أم أنا مجرد ذرة في فراغ متكاسل غيرآبه ّ‬
‫حتى بوجوديتي‬
‫املوحشة؟‬

‫‪332‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أشــعر أنــي فــي مقلــب ســخيف مــن مقالــب الكامي ـرا الخفيــة وســيخرج لــي أحدهــم‬
‫عندمــا أضــع املســدس فــي رأ�ســي ويكشــف املقلــب‪ .‬أو أننــي ضحيــة لتجربــة علميــة‪ ،‬تجربــة‬
‫ضغط األلم النف�سي داخل الجسد وهناك من يراقبني ويدرس انفعاالتي وتجاوبي مع‬
‫األلــم ويحقننــي بجرعــة أكبــر‪ .‬حتمــا هــذه ليســت حياتــي‪ .‬ال أذكــرأنــي فرحــت يومــا واحــدا‬
‫فرحة كاملة‪ .‬ال �شــيء ســوى جرعات األلم املتزايدة‪ .‬وفي بعض األحيان الطويلة‪ ،‬أشــعر‬
‫أني شخصية في رواية سوداوية لكاتب مريض يريد أن ينتقم من حياته اململة فخلقني‬
‫من أجل أن أمثل األلم على طول الصفحات‪ .‬كاتب شريرال يستطيع عيش حياته يريد‬
‫أن يشــفي غليلــه ويتلــذذ بتعذيبــي وتمزيقــي ليشــعربر�ضــى نف�ســي وراحــة داخليــة مــن نــوع‬
‫خــاص‪ .‬لــو كنــت أمســك ذاك القلــم لصنعــت لنف�ســي رئــة جديــدة وحيــاة ســعيدة وامـرأة‬
‫تحبنــي‪.‬‬
‫ســيدي ال ـراوي أكتــب فــي آخــر الروايــة أن هــذه الشــخصية هربــت وقفــزت مــن‬
‫الورقــة أو أنهــا انتحــرت‪ .‬صدقنــي يــا ســيدي إنــي مــا عــدت أبالــي وال أهتــم بتلــك الشــخوص‬
‫التــي صنعتهــا فــي حياتــي وال بتلــك العالقــات والروابــط التــي شــكلتها لــي‪ .‬أعلــم أنهــا وهميــة‬
‫ومطليــة بالخيــال‪ .‬أعلــم أننــي غيــر موجــود ســوى إلرضــاء شــهوتك املرضيــة الســادية فــي‬
‫التلذذ بألم اآلخرين‪ ،‬أنت حقيروأعرف أنك جعلتني أتحدث فقط من أجل أن تبث في‬
‫شخصيتي بعدا حيا آخر‪ ،‬لكنك كاتب فاشل ألنك لست أدرى بنف�سي مني ولن تمنعني‬
‫مــن وضــع هــذا املســدس فــي رأ�ســي‪ ،‬بــكل بســاطة ألنــي أدرك أن حياتــي وهميــة وعبثيــة‬
‫إلــى حــد مفضــوح‪ ،‬وأنــت مــا يدريــك ربمــا تكــون شــخصية كاتــب فــي روايــة كاتــب آخــرمــن‬
‫عالــم مختلــف‪ .‬هــل تظــن أنــك تســيرني بمحــض إرادتــك وتمنعنــي مــن أكــون مخي ـرا؟ هــل‬
‫أنــت ربــي أم أنــا أهــذي أم أنــت أنــا وأنــت موجــود فقــط فــي خيالــي؟ ربمــا أنــت غيــرموجــود‬
‫وأنــا صنعتــك اآلن وخلقتــك وجعلتــك ترانــي‪ .‬أو ربمــا أنــا وأنــت لســنا ســوى شــخوص مــن‬
‫عامليــن متوازييــن نتشــارك فــي خيــط خيــال وألــم‪ .‬هيــا ال داعــي لــكل هــذا ولننتحــرفقــط‪،‬‬
‫أمــوت اآلن وأنهــي الروايــة فليــس مــن اإلنســانية أنــك تعذبنــي أكثــر‪ .‬هــل تــدرك معنــى أن‬
‫تعيش بحطام ذاكرة أسود أن تتخيل أبوك يسقط أمامك بطعنة مقص من يدك كل‬
‫يــوم‪ .‬أن تعيــش فقيـرا معدومــا‪ .‬وأن تصــاب بمــرض قاتــل وأنــت تمــوت داخــل موتــك الحــي‬
‫ببطء‪ ،‬لو أنهيت حياتي في األول أحسن‪ ،‬لكنك رجل مريض وبغيض تصنع مني فتى في‬

‫‪333‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ثم تجعلني أصاب بمرض ال صلة‬ ‫قرية من غباروفقر‪ ،‬وتسلط علي شتى أنواع العذاب ّ‬
‫لــي بــه‪ ،‬حبكــة ســخيفة مــن كاتــب ســخيف يعتمــد علــى صدفــة القــدروعبيثتــه مــن أجــل‬
‫بنــاء ســرد روائــي قــوي‪ ،‬ثـ ّـم مــن وحشــيتك أن تجــرب إدخــال الحــب فــي حياتــي‪ ،‬وتزرعــه‬
‫داخــل قلبــي‪ .‬أنــت لســت ربــا ولــن تجاريــه فــي خلقــه‪ .‬تفــوووه عليــك إن كنــت تعتبــرنفســك‬
‫إنسانا‪ ،‬فقط تعذبني من أجل أن تسلي قراءك في بضع صفحات وأنت غيرمدرك أنها‬
‫حياتي التي تكتبها وأنا أحس هنا وأشعر‪ .‬أنا من دم ولحم وروح‪ ،‬أنا موجود وأفكروأعي‬
‫وكــم هــذا مؤلــم؟‬
‫هــل تســمعني هنــاك هــاي‪ ...‬هــا توقفــت لحظــة أرجــوك‪ ،‬توقــف بــاهلل عليــك وبحــق‬
‫مــا تؤمــن بــه‪ .‬أقتلنــي أو اجعلنــي حج ـرا ال يحــن ل�شــيء أو اصنــع منــي صرصــورا طائشــا‬
‫يدهســني بطــل الروايــة تحــت رجلــه دون أن يحــس‪ .‬ردنــي إلــى قطــرة مطــرتنتحــرفــي عاشــر‬
‫صفحــة‪ ،‬أو ذرة مــن هــواء تؤثــث مشــهدا جانبيــا فــي روايــة منســية‪ ،‬أو حولنــي إلــى شــعاع‬
‫جزء من الفراغ فراغ البداية في أول السطرمثال‪� ،‬شيء جميل أعدك أني لن‬ ‫شمس أو ً‬
‫أتحــرك ولــن أشــتكي ولــن أهــرب وســأبقى فارغــا للفـراغ فقــط‪.‬‬
‫أقتلنــي أرجــوك فمــا عــدت أحتمــل أن أخســر أحبائــي أكثــر‪ .‬مــا عــدت أقــوى علــى‬
‫املتابعة في روايتك هذه‪ .‬لقد حملتني ما ال أستطيع‪ .‬صدقني دعني أرمي نف�سي في النهر‬
‫وســتكون نهايــة عبثيــة لــم يجــرؤ كاتــب قبلــك علــى التفكيــربهــا‪ .‬أو دعنــي أضــع املســدس‬
‫داخــل رأ�ســي وأنتحــروتكــون نهايتــك تراجيديــة بذلــك تغــدوشكســبيرزمانــك‪ ،‬وأعــدك أني‬
‫ســأقوم باالنتحــاربمشــهد يقطــع األنفــاس وال يمحــى مــن ذاكــرة مــن يقـرأ روايتــك‪ .‬مــا رأيك‬
‫فــي هــذا هــل نجــرب؟‬
‫على كل حال هل تعلم ماهي أمنيتي قبل أن تنهي شخصيتي؟‬
‫أمنيتــي هــي أن تجعلنــي أحــس بذلــك اإلحســاس الــذي تحســه وأنــت تتلــذذ بألــم‬
‫غيــرك عندمــا تنهــي شــخوصهم وتضــع حــدا لحياتهــم لســبب يخــدم متــن الســرد وحقــن‬
‫التشــويق‪ .‬لكــن مــن العبثيــة أنــك قتلــت جــدي ال أعلــم هــل تريــد أن تصبــح ربــا أم تريــد أن‬
‫تزيــد التشــويق فــي متــن الحكايــة أم عبثــا فقــط‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ال أرى أي ســبب يخــدم الحبكــة أو شــخصية طيبــة مثــل شــخصية جــدي تســتحق‬
‫املــوت؟ هــل حياتــك غيــرعادلــة مثــل حياتــي؟‬
‫دعنــي أخبــرك وأكــن صريحــا معــك مــن اآلن وصاعــدا أنــي ســأتمرد علــى مــا تكتــب‪.‬‬
‫وســأحاول إنهــاء شــخصيتي مــع كل حــدث‪ .‬ألنــي أعلــم أنــي مخيــر ولســت مســيرا فتبــا لــك‬
‫مــن إنســان مريــض‪.‬‬
‫سأموت في النهاية وهذا ما كتبه في مخطوط الرواية‪.‬‬
‫هل تعلم فنيا ال فائدة لك مني اآلن بعدما فضحت نهايتي للقراء‪ .‬لست شخصية‬
‫مشــوقة اآلن‪ .‬هــل رأيــت أنــا أتمــرد علــى عقيــدة صمــت الشــخوص وتطبيقهــا للمخطــوط‬
‫واملكتــوب‪ .‬أنــا أعــرف مكتوبــي لكنــك ال تعــرف مكتوبــك‪ .‬عجــل فــي مماتــي اآلن وأنــت‬
‫تســتطيع إكمــال الروايــة مــن دونــي عنــدك الكثيــرمــن الشــخوص الغامضــة واملشــوقة‬
‫غيــري‪ .‬فدعنــي أمــوت وشــأني‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الطلقة األولى‬

‫فتحت املسدس فوجدت رصاصة واحدة كأنها إشارة واضحة من القدرأحدهم‬


‫يجــب أن يمــوت‪ .‬وقفــت فــوق صخــرة الغولــة‪ .‬وضعــت الرصاصــة داخــل ماســورة‬
‫ّ‬
‫املســدس التــي تحمــل ســتة ثقــوب‪ .‬وتذكــرت لعبــة الروليــت التــي حكــى لــي جــدي عنهــا ذات‬
‫مــرة هنــا‪ .‬وأرانــي كيــف ألعبهــا‪.‬‬
‫وضعت الرصاصة داخل ماسورة املسدس ذات الستة طلقات على وجه املوت‪.‬‬
‫نســبة موتــي هــي واحــد مــن ســتة أي ‪ 1/6‬يعنــي ‪ 16%‬احتمــال موتــي‪ .‬فــي الحقيقــة والفكــرة‬
‫حتــى ال أمــوت بالســرطان‪.‬‬ ‫العامــة هــي نســبة جيــدة أفضــل مــن التــي أخبرنــي بهــا الطبيــب ّ‬
‫أنــا ميــت علــى قيــد الحيــاة علــى كل حــال‪ ،‬لــم يتبــق لــي ســوى أمــي‪ .‬التــي ســأريحها منــي وأريــح‬
‫نف�ســي منــي لهــا ومنــي‪.‬‬
‫أغمضت عيني‪ ،‬وضعت املسدس مباشرة في رأ�سي ثم‪...‬‬
‫شــعرت أن مثانتــي ممتلئــة‪ .‬نزلــت تحــت الصخــرة ألتبــول فــي النهــر‪ .‬فمــن غيــرالالئــق‬
‫أن أمــوت وأنــا غيــرمرتــاح‪.‬‬
‫وحين كنت أتبول تذكرت الروليت التي حكى لي جدي عنها وكيف لعبنها بمسدس‬
‫فــارغ ذات مــرة هنــا‪ .‬أتممــت بولتــي وصعــدت فــوق الصخــرة‪ .‬نزعــت حذائــي "صابــر"فمــن‬
‫غيــرالالئــق لــه أن ينتهــي األمــربــه فــي رجلــي منتحــرجبان مثلي‪.‬‬
‫أغمضــت عينــي تنفســت بعمــق وقلبــي يخفــق بشــدة وخنقــة شــديدة علــى صــدري‬
‫كأن أحدهــم يضــع "كوشــة "فــوق صــدري قبــل أن أضغــط الزنــاد‪.‬‬
‫ثم تذكرت أن املنتحرمصيره النارفنســفت هذه الفكرة ألن‬ ‫تذكرت الشــهادتين‪ّ .‬‬
‫حالهــا مثــل أن تشــرب مــاء زمــزم فــي زجاجــة ويســكي وتقــول بســم هللا قبــل أن تســكرها‪.‬‬
‫عصــرت عينــي ألتلقــى الرصاصــة داخــل جمجمتــي‪...‬‬

‫‪336‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_تك‪...‬‬
‫قبــل أن تــدور ماســورة املســدس فــي ثالثــة أج ـزاء مــن الثانيــة علــى وجــه الدقــة‬
‫االنتحاريــة‪.‬‬
‫رأيت شريط حياتي يمرأمامي بالعرض البطيء‪.‬‬
‫الفتــى الصغيــربطربوشــه األحمــريجــري بيــن املــروج الخضـراء‪ ،‬يرعــى الغنــم ويتمــرغ‬
‫فــي الحشــيش‪ .‬يلعــب فــوق دراجتــه ويفتــح ذراعيــه للهــواء وللحيــاة كأنــه يعانــق الكــون‪،‬‬
‫يحملــه أبــوه فــوق ظهــره ويمــر بــه وســط القريــة‪ ،‬يعلمــه جــده كيــف يصطــاد فــي النهــر‪.‬‬
‫كيــف يصــاد األرانــب والحجــل فــي الغابــة‪ .‬يلعــب الكــرة بجــورب ممــزق‪ ،‬يقفــزفــي الهــواء‪،‬‬
‫يتذكــرأمــه وهــي تعجــن الخبــز‪ .‬الســوق والقريــة‪ .‬املدرســة واملدينــة‪ .‬أميمــة والحــب‪ ،‬عــدة‬
‫واملخفــي‪ .‬بلوطــة‪ ،‬فــارس واملارطــو‪ ،‬ســمير ومــروان‪ .‬وكل الكــون كان يســير داخــل عينــه‬
‫ببــطء ســام‪.‬‬
‫انزلقــت دمعــة مــن عينــي وارتجــت شــفتي‪ ..‬أحسســت ببــرد رهيــب ينقــر ســاقي‪،‬‬
‫تنفســت بعمــق وشــهقت‪...‬ضغطت علــى الزنــاد‪.‬‬
‫تك‪...‬طلقة فارغة‬
‫جبينــي يعــرق وإصبعــي يرتجــف فــوق الزنــاد‪ .‬ســعلت وتذكــرت ســخرية القــدرمنــي‪.‬‬
‫تبــول الحيــاة فــوق مصيــري‪ ...‬ابتســمت‪ .‬انفلتــت منــي نصــف ضحكــة غريبــة متصاعــدة‬
‫ثم انقطعت‪ ..‬لتحول إلى بكاء مضغوط‪ .‬مثل رضيع أخذوا‬ ‫بسرعة نحو سماء الجنون‪ّ .‬‬
‫منــه ألعابــه تلــك اللحظــة التــي تســبق انفجــاره‪ .‬تلكمــا العينــان الشــاخصتان اللتــان‬
‫تظهـران تلــك الحيــرة فــي وجهــه حيــن ال يفهــم مــا يحــدث حولــه‪ .‬كانــت تعلــو محيــاي‪.‬‬
‫كيــف لــم أمــت لحــد اآلن؟ هــل هــو الحــظ أم أن القــدريســخرمنــي ويعذبنــي أكثــر‪.‬‬
‫الطلقــة الثانيــة أشــعرأنــي علــى وشــك أن أالمــس حافــة الجنــون أو حافــة الشــجاعة‪ .‬هــل‬
‫االنتحــارهــو قمــة الشــجاعة أم قمــة االنكســاروالهــوان؟‬

‫‪337‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وهل هذه الحياة حقا تستحق أن تعاش؟ وتستحق أن أبكي عليها أو باألحرى أن‬
‫أبكي على نف�سي وأنا أفارقها بهذه الطريقة؟ ال لن أحزن‪ .‬فال أحالم لي ألتركها تتبخر‪ .‬وال‬
‫رابــط لــي مــع هــذه الدنيــا الدنيئــة‪ .‬عندمــا أقابــل الــرب ســأخبره أنــي انتظــرت أن يطلــع علــي‬
‫ضوء الصبح ذات يوم‪ .‬لكن طال انتظاري في غياهب الفقروالحزن ومع الوقت بدأت‬
‫أدرك أن كل حياتي ماهي سوى ليل طويل كلما زاد طوله كلما زاد برده‪.‬‬
‫وضعت فوهة املســدس داخل فمي تذوقت طعم الصدئ تحت لســاني أغمضت‬
‫عيني‪ ،‬تقدمت أكثر ّ‬
‫حتى أســقط داخل النهر‪...‬ضغطت الزناد بقوة‪.‬‬
‫تك‪ ..‬طلقة فارغة‪.‬‬
‫كأن الحيــاة تضحــك علــي وأنــا أمــوت مــع كل ضغطــة فــوق الزنــاد دون أن أمــوت‪.‬‬
‫كل ضغطــة تأخــذ شــطرا مــن روحــي وتقتــل داخلــي أطنانــا مــن املشــاعروتجمــد الكثيــرمــن‬
‫اإلنســان داخلــي‪.‬‬
‫عضضت على شفتي بقوة‪ .‬غيرت مكان املسدس ألضعه في وسط جبتهي‪ ،‬أمسكته‬
‫بكلتــا يــدي وســبابتي‪ .‬مــن ســخافة األمــر‪ .‬إصبــع الســبابة هــذا لــه ســركبيــرفقــد يأخــذك‬
‫للجنــة مثلمــا قــد يدخلــك النــار‪ .‬بــدأت أفــكاري تنهشــني وتتالطــم داخــل رأ�ســي واألصــوات‬
‫تنبــح فــي الفـراغ‪ ،‬والضــوء يتكاســل أمــام عينــي‪ ،‬األشــجارتــذوب وميــاه النهــرتغلــي‪ .‬تذكرت‬
‫أمي وصرخت‪...‬تذكرت أميمة وعينيها وكيف سأخرج من حياتها ألن أمثالي ال يليقون‬
‫بأمثالهــا‪ .‬أنــا دمــاروظــام‪ .‬أنــا النحــس وأنــا مــن تســبب بقتــل الكثيــرمــن األرواح علــي أن‬
‫أنتقــم منــي اآلن‪ .‬نعــم هــذه هــي النهايــة جثــوت علــى ركبتــي‪ ..‬تذكــرت جــدي ملــا أعطانــي‬
‫القــادة وأخبرنــي أنهــا حاميــة وعاميــة وشــافية‪..‬ضغطت الزنــاد بــا مبــاالة بــاردة‪..‬‬
‫تك‪ ....‬طلقة فارغة‪.‬‬
‫تفوووه على الحظ وتفووه على عبثية الوجود‪.‬‬
‫أمسكت تلك القالدة‪ ،‬تأملتها لوهلة وتذكرت ما قاله جدي‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هــل يــا تــرى مــا قالــه عنهــا صحيــح‪ ...‬هــل هــي التــي حمتنــي مــن املــوت اآلن وهــل هي التي‬
‫حمتنــي مــن دخــول الســجن؟ وهــل هــي التــي كانــت تحمينــي عــدة مـرات مــن املــوت املحتــم؟‬
‫أم أنــه مجــرد حــظ‪...‬‬
‫تك‪...‬طلقة فارغة‪...‬‬
‫تك‪...‬طلقة فارغة…‬
‫آخرطلقة في املسدس‪.‬‬
‫استسلمت أخيرا وأنا أعرف أن هذه نهايتي‪.‬‬
‫قبل أن أضغط على الزناد شعرت أن يدا تمسكني من الخلف‬
‫التفت ألجد "املخفي "بشحمه ولحمه‪.‬‬
‫بنظــرة جــادة لــم أره مــن قبــل فــي تلــك الجديــة عينــان ملتهبتــان تكلــم بنبــرة واضحــة‬
‫وشــديدة‪:‬‬
‫_" جدك مات رجال فمت رجال "‬
‫ثم م�ضى في طريقه دون أن يزيد كلمة أو يلتفت نحوي‬
‫مكررا جملته املشهورة‪:‬‬
‫"ما يبقى في الواد غيرحجاره "‬
‫“ما يبقى في الواد غيرحجاره "‬
‫عجيب أمرهذا املخفي بجملة واحدة قلب كل أفكاري‪.‬‬
‫"جــدك مــات رجــا" يعنــي أنــه مــات مدافعــا عــن شــرفه وحرمــة بيتــه‪ .‬فمــت رجــا‪...‬‬
‫فيجــب علــي أن أمــوت مثلــه مدافعــا علــى رجولتــي‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫املخفــي أوحــى لــي بفكــرة جهنميــة‪ .‬حيــث أخرجــت الرصاصــة مــن املســدس تأملتهــا‬
‫"لـ�م يعـ�د لـ�ي شــ�يء ألخسـ�ره"‪.‬‬
‫اتصلت بطارق وفارس ومروان وسميروأخبرتهم بالخطة‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الطلقة الثانية‬

‫نصبنــا كمينــا للســيد جمــال فــي جلســة قمــار بعدمــا تســللنا للفنــدق الــذي يقامــر‬
‫داخلــه ويلعــب البوكــر ويغــش بطرقــه الخبيثــة‪.‬‬
‫انتحــل فــارس شــخصية الفتــى الثــري والطائــش الــذي يملــك الكثيــر مــن النقــود‬
‫ويريــد أن يقامــر بهــا وهــو يبحــث عــن شــخص ثــري ليدخــل معــه التحــدي‪ .‬فــارس هــو‬
‫الطعــم‪ .‬وطــارق هــو حارســه الشــخ�صي‪ .‬طــارق خيــط الصنــارة‪ّ .‬أم ــا مــروان مــكان النــادل‬
‫الــذي يضــع الحبــوب املنومــة داخــل كأس ال�ســي جمــال‪ .‬مــروان يلعــب دور العصــا التــي‬
‫تهــزالخيــط لتجهــد قــوى الســمكة فــي شــد الخيــط‪ ،‬وســميريحــرص علــى أن تكــون املبــاراة‬
‫مغلقــة وأن ال يتدخــل أحــد مــن الخــارج‪ .‬ســميريلعــب دور الخطــاف الــذي يثبــت الســمكة‬
‫وال يدعهــا تهــرب‪ .‬وال�ســي جمــال هــو الســمكة التــي علــي أنــا الصيــاد أن أخلــص النهــرمنهــا‬
‫ومــن وحشــيتها واســتبدادها‪ .‬فــارس كان يجيــد لعبــة البوكــرجيــدا وكل األلعــاب األخــرى‬
‫التــي تعتمــد علــى الــذكاء كان ذو ذكاء غيــرطبيعــي‪ .‬وملــا أحــس ال�ســي جمــال بــأن خســارته‬
‫بدأت بالتضاعف وخدعه لم تعد تفلح أمام فارس‪ .‬لجأ لحيلته املشهورة‪ .‬وأخرج تلك‬
‫القطعــة الفضيــة وبــدأ بتحريكهــا بيــن أصبعــه‪ .‬وهنــا أيــن ابتلعــت الســمكة الطعــم‪.‬‬
‫وقبل أن يعرض مقامرته الكبرى على سميرعرض عليه مروان الشراب املنوم‪.‬‬
‫ثبته الخطاف وسحبه الخيط‪ ،‬وجاء في وعاء الصياد‪.‬‬
‫نجحت الخطة ونام ال�سي جمال على طاولة القمار‪ .‬حمله طارق وأدخله الغرفة‬
‫املجــاورة‪ .‬أقعــده قبالتــي‪ .‬صفعــه ســميرعلــى رقبتــه ّ‬
‫حتــى يســتيقظ‪ .‬أراد النهــوض فوجــد‬
‫نفســه محاصـرا بنــا نحــن الخمســة‪.‬‬
‫– هــل تريــد أن نقامــر هــاه‪ ..‬ليــس نصــف مــا تملــك وليــس كل مــا تملــك لنقامــر‬
‫بحياتــك إذن هيــا‪...‬‬

‫‪341‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– ال ال! ماذا تفعل؟ توقف‪ ..‬أنت ال تعرفني جيدا!‬

‫– كفانا نحن نعرف بعضنا وواحد منا يخرج حي من هنا‪.‬‬

‫– ملــا نلعــب علــى كل حــال‪ .‬هيــا اقتلنــي مباشــرة‪ .‬فحتــى لــو تمكنــت منــك ومــت أنــت‪،‬‬
‫ســيقتلني أصدقائــك بعــدك هــذا واضــح‪.‬‬

‫– أن تموت وتخرج روحك خيرمن أن تموت وأنت على قيد الحياة‪.‬‬

‫ال تخــف لــن نقتلــك فأصدقائــي رجــال ونحــن الفق ـراء رأس مالنــا كلمتنــا‪ .‬ليــس‬
‫مثلكــم أيهــا األثريــاء األنــذال رأس مالكــم هــو مالكــم‪ .‬لكــن لــن أضمــن لــك انتقامهــم منــك‬
‫بعــد أن تخــرج مــن هنــا‪ .‬عليــك اللعــب إن أردت أن تعيــش فقــط العــب هيــا لنبــدأ اللعبــة‪.‬‬

‫ثم بإشارة من يد مطلوعة أغلق طارق فم ال�سي جمال‪:‬‬

‫– شــوف فــي هــذه الغرفــة واحــد منــا ســيخرج علــى قيــد الحيــاة‪ّ .‬إم ــا أنــا أو أنــت‪ .‬هــذا‬
‫الكــون ال يتســع لكليــا‪ .‬يــا لوهرانــي‪ .‬أنــت قاتــل وأنــا قاتــل والقاتــل البــارد هــومــن يربــح‪ ..‬أنــت‬
‫تســتحق املــوت وأنــا أســتحق املــوت‪.‬‬

‫فتــح مطلوعــة املســدس وضــع رصاصــة واحــدة داخلــه وأداراملاســورة ثـ ّـم أغلقــه‪.‬‬
‫أداره فــوق الطاولــة‪ .‬لتقــع فوهــة املســدس موجهــه نحــومطلوعــة‪ .‬حمــل جمــال املســدس‬
‫وضعــه مباشــرة فــي وجــه مطلوعــة الــذي قابــل فوهــة املســدس بــكل بــرود وابتســامة‬
‫منطفئــة‪ .‬كأنــه ميــت علــى قيــد الحيــاة‪.‬‬

‫وضع يده على الزناد وضغط بقوة‪.‬‬

‫تك‪ ...‬مطلوعة لم ترمش عينه‪ .‬كان مثل كتلة جليد صلبة‪.‬‬

‫طلقة فارغة‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫ابتلــع جمــال ريقــه ونظــرفــي عينــي هــذا القــروي الــذي كان كل حلمــه أن يبيــع كل مــا‬
‫فــي ســلته مــن مطلــوع‪ .‬هــذا الفتــى القــروي لــم يعــد لــه �شــيء ليخســره‪ .‬كيــف للخــادم أن‬
‫يقتــل ســيده؟‬
‫أمســك مطلوعــة املســدس وببــطء مرعــب شــمر علــى ســاعديه‪ .‬مباشــرة وضــع‬
‫املســدس علــى بعــد ســنتمترات مــن جبهــة ال�ســي جمــال‪ .‬ثـ ّـم تكلــم بنبــرة هادئــة وبطيئــة‪:‬‬
‫_هذه من أجل أبي هواري الالزالذي به كنت سببا في صنع قاتل ومقتول في ليلة‬
‫واحــدة‪.‬‬
‫***‬
‫قبل ثالثة عشرعاما‪.‬‬
‫أمــام عينــي الفتــى الصغيــر صاحــب الطربــوش األحمــر‪ .‬األب يترنــح وســط الكــوخ‬
‫ورائحــة الخمــر تفــوح مــن مالبســه وبصــوت مبحــوح يقــول‪:‬‬
‫_الوهراني الكلب‪ ...‬خدعتني في داري وصحتي‪ ...‬الهواري الكلب‪.‬‬
‫***‬
‫ثم يفتح مطلوعة عينيه ويضغط على الزناد‪.‬‬
‫تك‪ ...‬طلقة فارغة‬
‫يعصــر جمــال عينيــه وتــكاد روحــه تخــرج قبــل أن يتلقــى الطلقــة‪ .‬جبينــه يعــرق‬
‫وأنفاســه تتصاعــد بتواتــر واضــح‪ ،‬تــكاد روحــه تخــرج منــه قبــل أن تخــرج روحــه‪.‬‬
‫يضــع مطلوعــة املســدس أمــام ال�ســي جمــال‪ .‬يتــردد فــي حمــل املســدس فيضغــط‬
‫طــارق علــى كتفــه مــن الخلــف‪ .‬فيحملــه بيــد مرتعشــة‪ .‬يفتــح ربطــة عنقــه ويباعــد بيــن‬
‫ســاقيه‪ ،‬ضاغطــا علــى أســنانه‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مطلوعــة يبتســم ابتســامة عريضــة تبــث الرعــب فــي قلــب جمــال‪ .‬ثـ ّـم يضغــط الزنــاد‬
‫حتــى يطمــس هــذه االبتســامة املرعبــة عــن وجهــه‪ .‬وقبــل أن يفعــل ذلــك التفــت ليتفقــد‬ ‫ّ‬
‫األربعة الجاثمين وراءه على الحائط‪ .‬يزداد مطلوعة قوة مع كل رصاصة ال تقتله‪ .‬كأنه‬
‫يطبــق مــا قالــه لــه جــده املرحــوم‪.‬‬

‫"الضربة التي ال تقتلك تقويك "‬

‫ضغط على الزناد بكلتا يديه‬

‫تك‪ ...‬طلقة فارغة‬

‫لم يتبق في املسدس سوى أربع رصاصات‪ .‬ال�سي جمال يعرق بشدة ووجه محمر‪.‬‬
‫حلقــه جــاف‪ .‬وعــروق رقبتــه بــارزة مــن الضغــط الــذي يكتمــه داخلــه‪ .‬املصبــاح يتدلــى مــن‬
‫فــوق الطاولــة يعكــس ضــوءه الخافــت علــى ســطح املســدس ا ذي الفــم القصيــر‪ .‬املــوت‬
‫شــبح ثقيــل يصــرخ فــي جــو الغرفــة‪ .‬األيــادي تعــرق والقلــوب تخفــق بســرعة مــاك املــوت‬
‫متعطــش لقبــض روح التـزال ســاخنة خارجــة مــن جســدها لتوهــا‪.‬‬
‫يحمل مطلوعة املســدس بأنفاس باردة ومالمح متصلبة يضع فوهة املســدس في‬
‫وســط جبهــة جمــال‪.‬‬

‫نظرخلفه نحو الباب‪ .‬كأنه قد سمع تحركا في الخارج‪.‬‬

‫بنبرة بطيئة ومبحوحة قال مطلوعة‪:‬‬

‫_هذه من أجل صديقي بلوطة الذي أخذت منه كل ما يملك‪.‬‬

‫و من أجل جدي الذي أعطاك الحرية لتنعم في هذا الوطن‬

‫ثم ضغط على الزناد‪:‬‬

‫‪344‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تك‪ ...‬دماء على الحائط‪ ...‬طلقة تخترق الجمجمة‪...‬ال�سي جمال جثة هامدة على‬
‫الكر�سي‪ .‬أخذ منه مطلوعة القطعة الفضية وخرج الجميع ليتركوا ال�سي جمال غارقا‬
‫بين دماءه وخده ملتصق بطاولة القماروضوء املصباح فوق رأسه ينعكس على دماءه‬
‫القانيــة فــوق الطاولة‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫الطلقة الثالثة‬

‫فــي تلــك الليلــة لــم أســتطع النــوم بعدمــا تذكــرت مــا قالتــه لــي أميمــة ولــم أســتخلص‬
‫مــن كالمهــا شــيئا إال مــن بعــد مــا انتقمــت مــن ال�ســي جمــال‪.‬‬
‫***‬
‫إنهــا هديــة مــن أبــي ســلمها لــي يــوم عــاد إلــى املنــزل مبلــا بالكامــل وهــو يســعل ويكــح‬
‫والدمــاء تســيل مــن رأســه‪ .‬أمســكته وقــد ســقط عنــد البــاب‪ .‬قبــل أن يفقــد وعيــه ظننــت‬
‫أنــه ســيموت فرحــت أبكــي علــى صــدره‪ّ .‬‬
‫حتــى فتــح يــدي وأهدانــي هــذه القــادة ثـ ّـم أخبرنــي‬
‫أنهــا ســتحميك مــن كل شــروأذى مثلمــا حمتنــي أنــا‪ .‬وعندمــا اســتيقظ حكــى لــي القصــة‬
‫وكيــف أن أحدهــم دفعــه مــن علــى الجســر فســقط فــي ميــاه النهــر الجارفــة وتشــبث‬
‫حتــى تدخــل أحدهــم فجــأة وأنقــذ حياتــه‪ .‬أخبرنــي أبــي أنــه مديــن‬ ‫بصخــرة يواجــه املــوت ّ‬
‫لذلــك الشــخص بحياتــه‪ .‬وهــذا كل مــا وجــده فــي املــكان عندمــا اســتيقظ ولــم يجــد ذلــك‬
‫الشــخص قــد اختفــى وكل مــا تبقــى منــه هــو هــذه القــادة‪.‬‬
‫***‬
‫يعنــي أن ال�ســي جمــال هــو أب أميمــة الــذي هــو فــي الحقيقــة مــن رباهــا فقــط وليــس‬
‫أبوهــا الحقيقــي وهــذا حســب مــا قالتــه نعيمــة التــي هــي أمهــا‪.‬‬
‫وأميمــة ال تــدري أن ال�ســي جمــال ليــس أبوهــا الحقيقــي‪ .‬إذن هــي تعتقــد أنــي قتلــت‬
‫أبوهــا‪ .‬جاءنــي خبــربــأن املاحــي يبحــث عنــي وأنــي متهــم فــي قضيــة قتــل‪ ..‬وانتشــراســمي فــي‬
‫الصحــف والجرائــد‪.‬‬
‫تســللت فــي الليــل نحــو القريــة دخلــت ملنزلنــا قبلــت أمــي فــي جبينهــا تركــت لهــا تحــت‬
‫وســادتها كل النقــود التــي أخذتهــا مــن ال�ســي جمــال قبــل أن أقتلــه‪ .‬ومضيــت نحــو املدينــة‬
‫تحــت جنــح الظــام‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫انتظــرت أميمــة بعدمــا كانــت عائــدة مــن قســم الشــرطة‪ .‬أمــام عتبــة املنــزل أمســكتها‬
‫حتى ال تتمكن من الصراخ‪ .‬أمرتها بأن ال تصرخ‪ .‬كان‬ ‫من الخلف وضعت يدي على فمها ّ‬
‫الشرر يتطايرمن عينيها لتضربني‪ .‬أرخيتها ببطء بعدما الحظت أنها كفت عن املقاومة‬
‫لتباغتنــي بصفعــة خاطفــة‪ ،‬تلقيتهــا كجثــة ميتــة‪ .‬أرادت أن تضربنــي فلويــت ذراعهــا وثبتها‬
‫بإحكام تحتي‪ .‬رأيت كل مالمح الحقد في عينيها أغلقت فمها مرة أخرى‪.‬‬
‫– دعيني أوضح لك األمر! لقد‬
‫حتــى كادت أن تقتلعــه‪ ،‬عجبــا أيــن هــي‬ ‫قبــل أن أكمــل جملتــي عضتنــي مــن إصبعــي‪ّ .‬‬
‫تلــك الفتــاة الوديعــة‪ ،‬راحــت تلعننــي وتدعــو علــي وكل مــا تكــرره‬
‫– أنت قاتل‪ ..‬قتلت أبي‪ ...‬ملاذا! ملاذا؟‬
‫أردت أن أخبرها الكثيرمن األمور لكنها لم ترد أن تسمعني‪.‬‬
‫انتبــه الجي ـران لصراخهــا وبكاءهــا‪ .‬ولــم أرد أن يقبــض علــي بعــد‪ .‬ليــس اآلن‪ ...‬ثـ ّـم‬
‫هربــت مســرعا‪.‬‬
‫بعــد عشــرين يومــا كنــت متهمــا بجريمــة قتــل واملاحــي يمشــط كل القريــة بحثــا عنــي‪.‬‬
‫كان اختطــاف أميمــة هــو آخــرمهمــة علــي القيــام بهــا قبــل‪...‬‬
‫***‬
‫ربطتهــا علــى الكر�ســي مــن رجليهــا ويديهــا‪ .‬وضعــت املســدس علــى الطاولــة‪ ،‬انتظــرت‬
‫اســتيقاظها‪ .‬رحــت أغــرق فــي تفاصيــل وجههــا وهــي نائمــة‪.‬‬
‫استيقظت مفزوعة وزاد فزعها ملا وجدت نفسها مقيدة على الكر�سي واملسدس‬
‫أمامها على الطاولة‪.‬‬
‫– اآلن ستســمعين كل مــا ســأقوله لــك‪ّ ،‬‬
‫حتــى أمــوت وضميــري مرتــاح ونعــرف هــل‬
‫أحببتنــي حقــا أم ال!‬

‫‪347‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– أنت مجنون قد فقد عقلك‪ ..‬أنت مجنون‪ ...‬اتركني‪...‬‬


‫انتظرتهــا ّ‬
‫حتــى تفــرغ كل دموعهــا وتصــرخ ملــئ حنجرتهــا وتخــرج غضبهــا فــي الصـراخ‬
‫والشــتيمة‪.‬‬
‫– ال تتعبي نفسك بالصراخ فهذه املزرعة اسمها مزرعة الحركي وهنا كان يعذب‬
‫الفرنســيون املجاهديــن وكانــوا يحتســون أقــداح الشـراب فــي الغرفــة املجــاورة مــن هــذه‬
‫الغرفة‪ ،‬لذلك هي مصممة خصيصا لعزل الصوت‪ .‬فال داع لتتعبي أنفاسك بالصراخ‪.‬‬
‫فنحــن وحدنــا هنــا‪ .‬أنــا وأنــت والــرب ورصاصــة واحــدة داخــل هــذا املســدس‪.‬‬
‫–ماذا تريد بعد هذا فقد قتلت أبي بدم بارد‪ ..‬أنت وحش لم أكن أعرف أن هذه‬
‫حقيقتك‪ ،‬أنت وحش حقا وقد فقدت عقلك‪ .‬تفووو قاتل‪.‬‬
‫مســح مطلوعــة وجهــه مــن البصــاق‪ ،‬وابتســم ابتســامة بــاردة وحزينــة‪ .‬أمســك‬
‫املســدس أخــرج الرصاصــة مــن جيبــه وضعهــا داخــل عجلــة املســدس ولــف العجلــة‬
‫بســرعة ثـ ّـم أغلــق املســدس بحركــة خاطفــة‪ ،‬ووجهــه مباشــرة نحــو وجــه أميمــة‪ .‬ابتلعــت‬
‫ثم يكف‪ .‬ينهض من كرسيه‪،‬‬ ‫ريقها وكفت عن الكالم‪ .‬يكاد يضغط مطلوعة على الزناد ّ‬
‫يحــوم حــول أميمــة‪ ،‬يقــف فــوق رأســها‪ ،‬يمســك خصلــة مــن شــعرها‪ ،‬يتفقــد القــادة فــي‬
‫رقبتهــا فــا يجدهــا‪.‬‬
‫_أين القالدة!‬
‫أميمة ال ترد فينزع القالدة من رقبته ويضعها حول رقبتها‪ّ ،‬‬
‫ثم يهمس في أذنها‪:‬‬
‫– هذي حامية‪ ،‬شافية‪ ،‬عامية‬
‫يرجع ملكانه‪.‬‬
‫حتــى املــوت‪ّ ،‬‬
‫حتــى يحيينــا الحــب أو يقتلنــا‬ ‫– ســنلعب هــذه املــرة يــا روحــي ســنلعب ّ‬
‫الحــب ومــن الحــب مــا قتــل وبمــا أنــك روحــي‪ ،‬ســألعب مــع روحــي بــدال منــك ّ‬
‫حتــى أخــرج‬
‫روحــك أو أخــرج مــا فــي روحــك‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_أتركني‪ ...‬النجدة‪ ...‬النجدة‪ .‬أنت مجنون‪.‬‬


‫أميمــة تعــود للص ـراخ والبــكاء بقــوة أكثــروالدمــوع تمتــزج مــع كحــل عينيهــا لتســيل‬
‫علــى خديهــا وتصــب علــى أط ـراف شــفتيها‪.‬‬
‫_ال تخافــي فالحاميــة فــي رقبتــك‪ ،‬مثلمــا حمتنــي مــن املــوت عــدة م ـرات ســتحميك‬
‫تحمنــي مــن املــوت فيــك حبــا ولــم أجــد ملــرض حبــك دواء‪ ،‬حبــك أســوأ مــن‬
‫أنــت‪ .‬لكنهــا لــم ِ‬
‫الســرطان الــذي يخنــق رئتــي‪ ،‬حبــك يخنــق روحــي ويمزقنــي مــع كل خيــال لــك يمــرأمامــي‪،‬‬
‫يحــرق أنفا�ســي ويحرقنــي كل مــا رأيتــك مــع غيــري‪ ،‬ولــن تكونــي لغيــري وأنــا ال أســتطيع‬
‫العيــش إال وأنــت بجنبــي‪ ،‬أنــت كل مــا تبقــى لــي فــي هــذه الحيــاة بعدمــا خســرت كل �شــيء‪،‬‬
‫حتــى أســمع منــك تصريحــا بأنــك تحبيننــي ووعــد‬‫نحــن وجهــان لعملــة واحــدة‪ .‬لــن أتوقــف ّ‬
‫بــأن ال تكونــي لغيــري‪.‬‬
‫_قولي أحبك فقط‪.‬‬
‫ال ترد أميمة‪.‬‬
‫ثم رفع مطلوعة املسدس ووضعه في صدره‪.‬‬
‫أول طلقة‪.‬‬
‫يضغط مطلوعة على الزناد ويقول بنبرة هادئة‪:‬‬
‫_ قولي أحبك فقط‪.‬‬
‫_تك‪.‬‬
‫طلقة فارغة‪.‬‬
‫بعدها يوجه املسدس مباشرة لرأس أميمة "أميمة تبكي وتتنفس بصعوبة"‪.‬‬
‫_قولي أحبك‬

‫‪349‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫تسكت أميمة‪.‬‬
‫ال تخافــي يــا روحــي فقــد أخبرتــك أنــي ســألعب مــع روحــي ثـ ّـم وجــه املســدس للجــدار‬
‫وضغــط الزنــاد‪.‬‬
‫– قبل أن أموت أريد أن أعطيك بعض الحقائق التي يجب عليك معرفتها‪.‬‬
‫_حقائق!‬
‫_نعم أمك لم تمت بمرض السرطان‪ .‬أمك ال تزال حية وهي في السجن‪.‬‬
‫"زمت أميمة شفتيها‪ ،‬فتحت عينيها وعقدت حاجبيها مستفهمة"‬
‫_ماذا تقول‪ ...‬ماذا تقصد أنت تكذب!‬
‫ثــم وضــع مطلوعــة املســدس فــي وســط جبهتــه ينتظــر مــن أميمــة كلمــة تنطــق بهــا‬
‫ليتوقــف‪ .‬لــم تتكلــم أميمــة وبقيــت مندهشــة ممــا أخبرهــا بــه مطلوعــة‪ .‬بعدمــا عقــد‬
‫الصمــت والخــوف لســانها‪.‬‬
‫_قولي أحبك‪.‬‬
‫ال ترد أميمة‪ .‬يضغط مطلوعة على الزناد‪.‬‬
‫_تك‪".‬تصرخ أميمة صرخة مرعبة"‬
‫الطلقة الثانية فارغة‪.‬‬
‫يوجه مطلوعة الطلقة الثالثة للحائط خلفها‪.‬‬
‫_قولي أحبك‪.‬‬
‫تبتلع أميمة ريقها وتكتفي بالصمت‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_حسنا‪ .‬أنت ال تريدين الكالم‪ .‬أنت ال تحبينني قد عرفت هذا‪ .‬على كل حال هذه‬
‫آخــرطلقــة وســتنتهي داخــل رأ�ســي‪ .‬ورغــم أنــك ال تحبيننــي ســأترك لــك بعــض الحقيقــة‬
‫ّ‬
‫حتــى ال تعي�شــي الوهــم فــي حياتــك‪ .‬مثلمــا عشــته أنــا فــي حبــك‪.‬‬
‫_قولي أحبك‪.‬‬
‫أميمة تصرخ‪.‬‬
‫_تك‪...‬‬
‫الطلقة الثالثة فارغة‪.‬‬
‫ثم يضع مطلوعة املسدس على جبهته‪.‬‬
‫_أرجوك توقف يا لقمان أرجوك‪.‬‬
‫– ال�سي جمال ليس أبوك‪ ...‬ال�سي جمال أو مثلما يلقبونه بالوهراني‪ ،‬هو السبب‬
‫فــي رهــن أبــي للمنــزل وهــو الســبب فــي مقتــل جــدي‪ ،‬وعاملــة النظافــة نعيمــة هــي أمــك التــي‬
‫عندما زرتها في السجن كانت تحمل وحمة مثل التي تحملينها في أسفل رقبتك‪ ،‬وأمرتني‬
‫بــأن ال أخبــرك‪ .‬وألنهــا فعلــت ذلــك لتحافــظ علــى حياتــك فقــد وصلتهــا رســالة تهددهــا‬
‫بقتلــك إن لــم تنفــذ هــي مهمــة قتــل إســحاق‪ .‬ومــن أجــل أن تنقذنــا مــن الســجن قامــت‬
‫بفعلتهــا ألن إســحاق فتــى بغيــض وكان يســتحق املــوت بيديهــا ألنــه لطاملــا أهانهــا وأذلهــا‬
‫ّ‬
‫مثلما حكت لي‪ .‬وباملناسبة إسحاق قد أحبك فقط ألنك من الطبقة االجتماعية وأبوه‬
‫هو صديق ال�ســي جمال مربيك‪ .‬إســحاق ال يســتحقك يا أميمة ال يســتحقك‪ ...‬أنا الذي‬
‫أستحقك وأنا الذي ضحيت بكل �شيء من أجلك‪ .‬أنا الذي أستحقك لكنك لم تقدري‬
‫وجــودي معــك‪.‬‬
‫_أنا أحبك يا أميمة‪ .‬أحبك‪.‬‬
‫يضغط على الزناد بقوة‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫_تك‪.‬‬
‫الطلقة الرابعة فارغة‬
‫يصــوب باتجــاه الحائــط ورائهــا الطلقــة الخامســة‪ .‬وكانــت تلــك آخــرفرصــة ليعيــش‬
‫مطلوعــة يعيــش بكلمــة واحــدة فقــط مــن أميمــة‪.‬‬
‫_تك‪...‬‬
‫الطلقة الخامسة فارغة‪.‬‬
‫_الوهرانــي هــو الســبب فــي أن أفقــد أعــزصديقــي لــي‪ ...‬هــو الــذي أخــذ كل مــا يملــك‬
‫وجعلــه يهجــرالقريــة‪ ..‬ذلــك الفتــى الــذي دفعــه مــن الجســرهــو أعــزصديــق لــي‪ .‬وأنــا الــذي‬
‫أنقذت أبوك ولم أعرف أنه هو أبوك؟ وأنا الذي قتلت أبوك ولم أكن أعرف أن ال�سي‬
‫جمــال هــو أبــوك ولكنــك لــم تدعــي لــي الفرصــة ألشــرح لــك ذلــك اليــوم‪ .‬ولكنــه يســتحق‬
‫املــوت وهــو لــم يكــن أبــوك فــي الحقيقــة‪ ...‬الوهرانــي غشــاش وقاتــل يســتحق املــوت وأنــا‬
‫أســتحق املــوت أنــت فقــط مــن تســتحق الحيــاة‪.‬‬
‫وضــع مطلوعــة املســدس علــى رأســه ونظــرفــي عينــي أميمــة الدامعتيــن كانــت تلــك‬
‫الطلقــة السادســة واألخيــرة فــي املســدس وحتمــا ســتكون فــي رأس مطلوعــة‪.‬‬
‫_قولي أحبك‪.‬‬
‫وقبل أن يضغط الزناد صرخت أميمة‪:‬‬
‫– أحبك‪..‬أحبك‪..‬‬
‫_لم أسمعك جيدا‪.‬‬
‫_أنا أحبك‪ ...‬توقف أرجوك‪ ..‬توقف‬
‫ابتسم مطلوعة وملع بريق شديد في عينيه وكأن الحياة دبت في وجهه من جديد‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أغمض عينيه‪ .‬ووضع املسدس على صدره مباشرة‪.‬‬


‫_حسنا إذن‪..‬وداعا‪.‬‬
‫_ال توقف‪.‬‬
‫_وداعا‬
‫_ال آااه يا ربي ال تفعل هذا‪.‬‬
‫_نعــم هــذا الــذي ســيريحني ســأقتل نف�ســي وأقتــل الســرطان وأقتــل قلبــي وأقتــل‬
‫حبــك داخــل هــذا القلــب‪.‬‬
‫أميمة تصرخ وتبكي وتردد‪:‬‬
‫_ أحبك أرجوك توقف‪.‬‬
‫يضغط مطلوعة الزناد‬
‫الطلقة السادسة‪.‬‬
‫_تك‪...‬‬
‫***‬
‫– ّ‬
‫ثم بعد ذلك ماذا حدث؟‬
‫يسأل أحمد البغل متشوقا ملعرفة بقية القصة‪:‬‬
‫– كيف لم تمت؟ هل ضغطت على الزناد حقا؟‬
‫يرد مطلوعة مبتسما‪:‬‬

‫‪353‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫– نعم لقد ضغطت على الزناد‪.‬‬


‫– كيف هذا!‬
‫– كانت الطلقة فارغة‪.‬‬
‫_كيف ذلك‪ .‬وقد أخبرتني أنك وضعت رصاصة داخل املسدس‪.‬‬
‫_نعم‪ .‬لكن!‬
‫_لكن ماذا!‬
‫_ قبل أن أديرماسورة املسدس خطفت الرصاصة وأوهمت أميمة بأني وضعتها‬
‫داخل املســدس‪.‬‬
‫_وكيف تمكنت من إيهامها بهذا؟‬
‫_ قــد تدربــت علــى هــذه الحركــة مثلمــا تــدرب أبوهــا علــى حركــة القطعــة الفضيــة‬
‫وهــذا فقــط مــن أجــل أن أعــرف منهــا إن كانــت تحبنــي أم ال؟‬
‫–وماذا استنتجت؟‬
‫–نعم هي تحبني‪ .‬وسأخرج من هنا وأتزوجها ولن تكون لغيري أبدا لن تكون‪.‬‬
‫–و كيف أمسكوا بك؟‬
‫–املاحــي تبعنــي ملزرعــة الحر ـكـي وأوقــع بــي وهــذا كان هدفــه مــن البدايــة مــن قضيــة‬
‫إســحاق وحتــى لــو لــم يوقــع بــي‪ .‬كان ســيلفق لــي جريمــة قتــل مثــل التــي أوقــع بهــا أب فــارس‬
‫صديقــي‪ .‬املاحــي ذاك محقــق فاســد ومجنــون أكثــرممــا تتخيلــه‪.‬‬

‫***‬

‫‪354‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫بعد عشرة أعوام‬

‫نحن أحياء هذا الصباح‪..‬هنا لم نزل‬


‫قد بكينا طويال‬
‫طوال الظالم على من بكى وعلى من قتل‬
‫و كنا على ثقة‬
‫ليس أق�سى علينا من اليأس إال األمل‬
‫ابراهيم نصرهللا‬

‫‪355‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مسنة واأليام توائم‬ ‫هنا الوقت يتكاسل ويم�شي بأرجل حلزون سمين‪ ،‬الساعات ّ‬
‫مــن ضــرع واحــد‪ ،‬حركــة الكــون مقعــرة إلــى الداخــل واأللــوان تبهــت مــع كل نومــة‪ ،‬الــكل‬
‫يحمــل قصــة تالزمــه كظلــه العنيــد الهــارب مــن الحريــة‪ ،‬قــد مــرت عشــرة أعــوام عجــاف‬
‫ّ‬
‫تنســحب فــوق أضلعــي لتعقبهــا مطبــات الذاكــرة املحفــرة‪ ،‬أربعــة حيطــان بلــون الــاذوق‪،‬‬
‫تحمــل فــي جيدهــا رســماتي املبتــورة مــن لوحــة حياتــي املباغتــة‪ ،‬الفتــى يحمــل طربوشــا‬
‫أحمــربيــن يديــه يعــد الدنانيــر‪ ،‬الدمــوع تتغرغــرفــي عينيــه‪ ،‬دمــوع الظلــم والقهــروالقــدر‬
‫املكشــر أنيابــه فــي جلــدي منــذ طراوتــه‪ ،‬ال أزال أدس ذلــك الفتــى الهــش فــي زاويــة مغبــرة‬
‫مــن مقبــرة قلبــي‪ ،‬مثلمــا كانــت تــدس لــه أمــه حبــات التمــروالتيــن املجفــف فــي محفظتــه‪،‬‬
‫ال يـزال يضحــك ويحلــم بدراجــة هوائيــة أشــعربــه يســيرداخلــي‪ ،‬فــوق كبــدي يتمــرغ‪ ،‬ثـ ّـم‬
‫يم�شــي بحــذرعلــى رئتــي املحفــرة‪ ،‬ال يـزال هنــاك معانقــا أطـراف برنــوس روحــي الرثــة‪ ،‬بيــن‬
‫القضبــان أنــا وبيــن األضلــع هــو‪ ،‬فــي مقبــرة الذاكــرة ال زال يبحــث عــن أزهــار الحميضــة‬
‫بين القبور املســيحية املنســية في مقبرة النصارى بالقرية‪ ،‬الزال يركض وراء شــاحنات‬
‫املحجركل صباح‪ ،‬ويحمل قفة املطلوع ويبكرإلى سوق الجمعة‪ ،‬ال يزال يحلم بدراجة‬
‫هوائيــة يرســمها علــى الورقــة ثـ ّـم يمحيهــا بدمــوع عينيــه‪ ،‬ال يـزال هنــاك بيــن القبــور يبحــث‬
‫عــن حــب مســتحيل‪ ،‬عــن وطــن ضائــع وعــن مســتقبل مضبــب‪ ،‬مضــت ذي الســنون علــى‬
‫جــرح الذاكــرة ونســيت كأنــي لــم أكــن يومــا‪ ،‬هنــا فــي الســجن ال يحســب الوقــت باأليــام وال‬
‫بالســاعات‪ ،‬بــل يحســب باألنفــاس والضحــكات هــل أنــا أســتحق كل هــذا يــا تــرى؟ هــل أنــا‬
‫أســتحق العيــش بعــد كل هــذا؟‬

‫وهــل هــذه حيــاة تســتحق أن تعــاش؟ وهــل أنــا مخلــوق مــن أجــل األلــم أم أن األلــم‬
‫مخلوق من أجلي! أسئلة بليدة تنفخ في وجه شمعة األمل بالحياة‪ ،‬قطارالحياة يمربي‬
‫مسرعا‪ ،‬ال أركبه بل تعلق فيه رجلي ويجرجرني ورائه وأنا أصرخ وأصرخ لكن القطارال‬
‫ّ‬
‫يتوقــف وال احــد يســمعني‪ ،‬ال أمــوت وال أســتطيع‪ .‬وكلمــا أردت أن أســحب رجلــي العالقــة‬
‫فــي مؤخــرة القطــارأزداد أملــا وتعلقــا‪ ،‬هنــاك يــد مــن بعيــد أراهــا تمتــد نحــوي ولكــن ال أمــل‬

‫‪356‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مــن الركــوب فــي قطــارربمــا يكــن مخصصــا لركوبــي مــن األصــل‪ .‬هاهنــا أنــا أتمنــى الحيــاة‬
‫ولكنــي ال أســتطيع بهــا لحاقــا‪ ،‬حجــارة الحيــاة تخــدش روحــي وأنــا أصــرخ والدمــع األحمــرفــي‬
‫عينــي وال ملجــئ لــي ســوى هوامــش ســكة القطــارلتقطــع جســدي بــدال مــن تهشــمه حجــارة‬
‫الحياة‪.‬‬
‫***‬
‫بعدمــا ألقــى املاحــي القبــض علــي‪ ،‬واصلــت عالجــي الكيميائــي فــي الســجن‪ .‬ومــرت‬
‫علــي أيــام ســوداء وكوابيــس مرعبــة يعلمهــا الــرب فقــط‪ ،‬وبعــد عاميــن صــرت مثــل كلــب‬
‫سلوقي‪ .‬جلدا على العظم‪ ،‬ميت على قيد الحياة رأ�سي أصلع مثل حبة بيض مسلوقة‪،‬‬
‫وســقط معظــم الشــعرفــي وجهــي‪ .‬رمو�شــي أهدابــي ولحيتــي‪ .‬مشــاعري ذبلــت‪ ،‬أســتمرفــي‬
‫الحيــاة فقــط مــن أجــل أن ال أقتــل أمــي وهــي ال تـزال علــى قيــد الحيــاة‪.‬‬
‫ثم ذات ليلة مريرة تبقى موشومة على ذاكرتي‪ ،‬تلقيت خبروفاتها‪ ،‬ماتت العزيزة‬ ‫ّ‬
‫وخــات مطلوعــة حزيــن‪ ،‬ماتــت عيشــة‪ ..‬نقــل إلــي الحــارس الخبــر بقلــب بــارد‪ ،‬شــعرت‬
‫عندمــا ســمعت خبــروفــات أمــي التــي ضحــت بنفســها مــن أجــل أن تربينــي وتجعلنــي رجــا‬
‫بأن كل الكون قد سقط فوق صدري‪ ،‬بنجومه وشره وبئسه‪ .‬بكيت أليام وأيام وذقت‬
‫املــروتجرعــت ألــم اليتــم والفـراق‪.‬‬
‫و عندمــا رفضــوا طلبــي فــي الســجن مــن أجــل حضــور جنــازة أمــي ّ‬
‫حتــى أتمكــن مــن‬
‫تقبيــل جبهتهــا ورؤيتهــا لآلخــرمــرة‪ ،‬كرهــت كل البشــروشــعرت أن شــيئا قــد مــات داخلــي‪،‬‬
‫أظنــه قلبــي‪ ،‬شــعرت أنــي وحيــد جــدا‪ ،‬وحيــد مثــل قــط ميــت علــى حافــة طريــق معزولــة‪،‬‬
‫وحيد مثل قطرة مطرة بعد صحوة الســماء‪ ،‬أخربش على ذا الجداروذا الجدار‪ ،‬أبكي‬
‫والــدم يتالطــم علــى شــطآن خــدي‪ ،‬رحمــاك يــا مــن صنعتنــي‪ ،‬طينــك ينشــق مــن األلــم‪،‬‬
‫ارفعــه عنــدك ميــت أنــا أو حــي حــد ســواء‪.‬‬
‫فــي تلــك الليلــة عندمــا جاءنــي مأمــور الســجن بق ـرار الرفــض ورمــاه لــي مــن بيــن‬
‫القضبــان بــدم بــارد‪ ،‬شــعرت أنــي أختنــق بروحــي وأنــي لــم أعــد أقــوى علــى املقاومــة أكثــر‬
‫من هذا لذلك قررت أن أضع حدا لحياتي الباهتة‪ ،‬فقمت وعقدت عقدة من فرا�شي‬

‫‪357‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫وصنعت منه حبال‪ ،‬لففته حول رقبتي‪ ،‬صعدت فوق سريري‪ ،‬وكدت أن ألحق أمي لوال‬
‫أن أنقذنــي أحمــد البغــل‪ ،‬بعدمــا عــرف قصتــي وعرفــت مــن قصتــه أنــه هــواألب الحقيقي‬
‫ألميمــة والســيدة نعيمــة هــي زوجتــه‪ ،‬أمســكني مــن ذراعــي وهدأنــي‪ ،‬ووقــف بجنبــي طــوال‬
‫هــذه األعــوام أعطانــي حنــان األب الــذي لــم أحــظ بــه‪ ،‬وعلمنــي الكثيــرمــن األشــياء التــي‬
‫سـ�اعدتني علـ�ى أن أقـ�اوم وال أغـ�رق داخـ�ل أحزاني‪،‬ومـ�ع الوقـ�ت والحكايـ�ات الطويلـ�ة‪.‬‬
‫تأكــدت حقــا بــأن أحمــد البغــل هــو زوج الســيدة نعيمــة وهــو أب أميمــة الحقيقــي‪.‬‬
‫وقــف معــي وقفــة رجــال وشــجعني علــى مقاومــة الســرطان‪ .‬وبعدمــا توفيــت أمــي لــم‬
‫يعد لي من يقوم بالتكفل بجلسات العالج الكيماوي‪ ،‬استلقيت على سريري في انتظار‬
‫ملــك املــوت ليأخــذ روحــي‪ ،‬وأنــا فــي انتظــاره أصبــح الوقــت ثقيــا وطويــا يعذبنــي ويجعــل‬
‫روحي تسيح من جسدي بالتقطير‪ .‬وأنا أتعذب أكثر‪ ،‬حينها أدركت أن األسوأ من املوت‬
‫هــو أن تبقــى معلقــا بيــن املــوت والحيــاة‪ ،‬هــو أن تمــوت روحــك قبــل أن يمــوت جســدك‪.‬‬
‫بعدمــا قــررت االستســام كليــا‪ ،‬جاءنــي أحمــد البغــل مســرعا ونظـرات الفــرح باديــة‬
‫علــى وجهــه‪ ،‬يحمــل ظرفــا بيــن يديــه‪ ،‬فتــح الظــرف وق ـرأ لــي أن متبرعــا لــم يــرد أن يذكــر‬
‫اســمه‪ ،‬قــد تكفــل بإجـراء عمليتــك الجراحيــة‪ ،‬الســتئصال الــورم‪ ،‬أحيانــي مــن جديــد‪،‬‬
‫وشجعني أحمد البغل على أن أقوم بالعملية‪ ،‬وفي الليلة التي كنت سأدخل فيها غرفة‬
‫العمليــات همــس لــي فــي أذنــي‪:‬‬
‫_" أسرع بالشفاء يا صهري "‬
‫ثم نجحت العملية بأعجوبة ورجعت إلى السجن ألكمل فترة نقاهتي‪ .‬وسجني‪.‬‬
‫بعــد أيــام بلغتنــا رســالة مــن الســيدة نعيمــة مفادهــا أن أميمــة لــم تــرد أن تزورهــا‬
‫فــي الســجن وقــد قــررت مغــادرة البــاد لتتابــع دراســتها فــي الخــارج وتعيــش حيــاة جديــدة‪،‬‬
‫هدأنــي أحمــد البغــل عندمــا ق ـرأ علــي الرســالة وأخبرنــي أنــه عنــد خروجــه ســيبحث‬
‫عنهــا‪ .‬وأقنعنــي أكثــرعندمــا قــال لــي‪ :‬ال شــك أنهــا هــي املتبــرع املجهــول وقــد قامــت بالتكفــل‬
‫بعمليتــك بطريقــة غيــرمباشــرة‪ ،‬ألنهــا تحبــك ومحــال أن تن�ســى املـرأة مــن أحبتــه بصــدق‪.‬‬
‫أقنعنــي بهــذا فعــدت ألربــي األمــل مــن جديــد‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫كتبــت لهــا العديــد مــن الرســائل‪ ،‬طيلــة األعــوام التــي قضيتهــا فــي الســجن‪ ،‬لكــن لــم‬
‫يصلنــي حتــى جــواب منهــا‪ ،‬يــا تــرى هــل ق ـرأت تلــك الرســائل التــي كتبتهــا لهــا‪ ،‬أو أنهــا لــم‬
‫تصلهــا؟‬
‫خرج أحمد البغل قبلي من السجن‪ .‬ودعني وأخبرني أنه ينتظرني بالخارج‪ ،‬ترك لي‬
‫فراغــا كبيـرا وصــرت ال أكلــم أحــدا مــن الســجناء‪ .‬انطويــت علــى نف�ســي أنتظــرأن تنق�ضــي‬
‫مدة سجني‪ ،‬األيام تتمدد كلما بقيت وحيدا للصمت‪ ،‬العزلة تهلك الروح قبل أن يهلك‬
‫الوقت الجسد‪ ...‬صرت أتفتت ببطء وأتفكك من األلم كلما تذكرت أصدقائي وحالهم‬
‫وأخبارهم‪ ،‬صرت كل يوم أنتظررسالة من أحدهم لتؤنسني في عزلتي الباهتة‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫رسائل من الحياة‬

‫من بلوطة إلى مطلوعة‬


‫عزيــزي وأخــي مطلوعــة أنــا أكتــب لــك هــذه الرســالة وال أعلــم مــن أيــن أبــدأ لــك‪ .‬وال‬
‫أعلــم كيــف ســارت هــذه األعــوام بيننــا وانقطعــت أخبــارك‪ .‬ونحــن مــن كنــا ننقــع الخبــزفــي‬
‫املــاء وننــام تحــت الخروبــة ونســرق البرتقــال مــن حــوش الحــاج عــدة‪ ،‬يــا تــرى هــل مــا زال‬
‫علــى قيــد الحيــاة؟‬
‫الدنيا بنت الكلب فرقت بيننا يا خويا مطلوعة لكنها لم تفرق بين قلوبنا وعمري‬
‫مــا نســيت العشــرة واألخــوة التــي بيننــا‪ .‬أنــا فــي الغربــة نعــم قــد غــادرت الوطــن وركبــت‬
‫البحــر‪ ،‬قــد ســألت عنــك كثي ـرا وبحثــت عنــك فــي مواقــع التواصــل االجتماعــي لكــن لــم‬
‫حتــى تلقيــت خب ـرا مــن فــارس بأنــك دخلــت الســجن وعرفــت هــذا عندمــا‬ ‫أجــد لــك أثـرا‪ّ ،‬‬
‫توفيــت أمــك‪ ،‬أنــا أعزيــك فــي خالتــي عيشــة تلــك املـرأة الفحلــة التــي صنعــت منــك رجــا‪.‬‬
‫ّأم ــا إن كنــت تســأل عــن أخبــاري ومــاذا حــدث لــي بعدمــا فارقــت القريــة‪ ،‬فأنــا قــد هجــرت‬
‫البــاد وأنــا ال أملــك فلســا واحــدا قطعــت البحــروهجــرت إلــى اليونــان ومــن اليونــان إلــى‬
‫فرنســا‪ ،‬رأيــت الفقــروالظلــم مثلمــا لــم أره فــي قريــة البلبــال‪ ،‬كــدت أمــوت ذات ليلــة إثــر‬
‫عضــة جــرذ وأنــا نائــم علــى الرصيــف فــي شــارع مــن شــوارع باريــس قــد رأيــت الويــل‪ ،‬ومــع‬
‫مــروراأليــام اضطــررت للعــودة لبيــع املحاجــب للجاليــة املقيمــة فــي مارســيليا‪ ،‬ال تتخيــل‬
‫كــم هــم كثــرهنــا وال تتخيــل فرحتهــم عندمــا يأكلــون املحاجــب يقولــون لــي أنهــا تفكرهــم فــي‬
‫"ريحــة البــاد"‪ ،‬الغربــة صعبــة يــا مطلوعــة خويــا‪ .‬بعــد أشــهروفــرت بعــض املــال وفتحــت‬
‫حانوتــا صغي ـرا لبيــع املحاجــب واألكالت التقليديــة األخــرى كســكس‪ ،‬حريــرة‪ ،‬شــربة‪،‬‬
‫حتى املطلوع‪ ،‬ال تعلم كم يحب الفرنسيون املطلوع لكني أعرف أنه ليس مثل املطلوع‬ ‫ّ‬
‫الــذي كانــت تعــده أمــك‪ ،‬ثـ ّـم قمــت بتشــغيل بعــض الحراڨــة الجزائرييــن ألقــوم بتوســيع‬
‫ثم بدأت ببعض االســتثمارات مع محالت تجارية رأيت أن املغتربين الجزائريين‬ ‫املحل‪ّ ،‬‬
‫يدخلونهــا كثيـرا ألوســع التجــارة وأفتــح شــركة مختصــة بالعجائــن وهــل تعلــم يــا صديقــي‬
‫أنــي قــد ســميت تلــك الشــركة علــى اســمك‪" ،‬شــركة مطلوعــة للعجائــن "‪ .‬وأنشــأت تجــارة‬

‫‪360‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫مربحة والحمد هلل في هذه اللحظة التي أنا أكتب لك هذه الرسالة لقد اشتريت تذكرة‬
‫لــي ولزوجتــي وأنــا قــادم لزيارتــك‪ .‬آه نعــم لــم أخبــرك لقــد تزوجــت هنــا وقــد صــارلزواجــي‬
‫أربعــة أعــوام مــن فتــاة جميلــة مــن الجزائــروباملناســبة هــي طبيبــة مختصــة بالســرطان‪،‬‬
‫لهــا قصــة تشــبه قصتــي إنهــا يتيمــة وال أحــد لهــا فــي هــذه الحيــاة غيــري أنــا الــذي صــرت‬
‫ســندا لهــا تزوجنــا فــي آخــر املطــاف ورزقنــا بولــد جميــل اتفقنــا علــى أن نســميه لقمــان‪.‬‬
‫نعــم مثلــك كمــا هــويشــبهك ويذكرنــي بــك لحــد بعيــد ال أعــرف ملــاذا؟ املهــم أخــي الغالي لقد‬
‫وكلــت محاميــا مرموقــا ليتكفــل بقضيتــك ونســتطيع أن نخرجــك بكفالــة فــي أقــرب وقت‪،‬‬
‫وهكــذا ســتكون حاض ـرا فــي ختــان لقمــان ابنــي ألنــي قــررت أن يكــون ختانــه فــي الجزائــر‬
‫حسب تقاليد أهل البالد‪ ،‬وتكون تلك فرصة للم الشمل مجددا مع كل األصدقاء بعد‬
‫غيــاب طويــل‪ .‬و إن شــاء هللا لــن يكــون ختــان لقمــان ابنــي مثــل ختانــك هههه‪....‬هــل تذكــر‬
‫يــوم ختانــك دون مخــدركيــف كنــت تتلــوى وتصــرخ وأنــا عنــد البــاب أتمــرغ مــن الضحــك‪.‬‬
‫صديقــي أنــا أنتظــررؤيتــك فــي القريــب العاجــل‪ ،‬اعتنــي بنفســك لذلــك الحيــن فأنــت‬
‫كل مــا تبقــى لــي مــن ما�ضـ َـي القاحــل ويــا تــرى مــاذا حــل بزبيــدة وبارجــي؟‬

‫صديقك املخلص بلوطة‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مطلوعة إلى بلوطة‬


‫صديقــي وأخــي الــذي لــم تنجبــه أمــي بلوطــة‪ .‬قــد اســتلمت رســالتك البارحــة‬
‫وقــد ســعدت بهــا كثي ـرا عندمــا قـرأت بأنــك املرســل‪ .‬وفرحــت أكثــرألنــك تعلمــت القـراءة‬
‫والكتابة‪ .‬إن كنت تسأل عني فأنا بخيريا صديقي أنا أق�ضي ما تبقى لي من أيام سجني‪.‬‬
‫وباملناســبة مبــارك زواجــك وربــي يرزقــك الذريــة الصالحــة‪ ،‬أنــت رجــل طيــب وتســتحق‬
‫كل خيــر‪ ،‬لقــد أخــذت لــك الثــأرمــن الوغــد جمــال الــذي نهــب كل رزقــك وكان ســببا فــي‬
‫هجرك للقرية‪ .‬وهكذا ضميري مرتاح من جهتك‪ ،‬ورغم هذا أظنه كان خيرا لك عندما‬
‫هجــرت البــاد‪ ،‬فلــو بقيــت هنــا ملــا وصلــت إلــى مــا وصلــت عليــه‪ ،‬أنــا أتــوق لرؤيتــك وإلعــادة‬
‫لــم الشــمل مــع أصدقــاء الطفولــة‪ ،‬ســنلتقي فــي القريــب العاجــل يــا أخــي فقــد اشــتقت إلــى‬
‫طعم املحاجب التي تعدها‪ ،‬يا ترى هل ما زلت تعدها مثل زمان أم أن شــركة مطلوعة‬
‫قــد ألهتــك هههــه‪.‬‬
‫صديقك املخلص مطلوعة‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من سميرالفارإلى مطلوعة‬


‫مطلوعة كيف حالك وكيف حال صحتك؟ أعلم أنك تستطيع أن تدبرأحوالك‬
‫وأمــورك ال أخــاف عليــك فلطاملــا كنــت أقوانــا وأشــجعنا‪ ،‬اشــتقت لــك واشــتقت أليــام‬
‫حتى وصلت للهذيان وأحرقنا‬ ‫الثانوية ومزرعة الحركي‪ ،‬هل تذكرآخرمرة انتشينا فيها ّ‬
‫املزرعة وهربنا‪ .‬أنا أبتسم كل ما تذكرت تلك الحادثة‪ ،‬وقد فرحت كثيرا عندما عرفت‬
‫أنــك نجــوت مــن الســرطان‪ّ ،‬أم ــا أنــا فبعــدك اجتــزت امتحــان البكلوريــا ونجحــت بتقديــر‬
‫جيــد بفضــل هللا وبفضــل املديــراملكلــف بمركــزاالمتحــان الــذي عرفــت مــن عينيــه علــى‬
‫أنه مدمن على الحشيش فأذقته سلعتي الخارقة وأغمض عينيه من جتهي‪ .‬وأنت تعلم‬
‫التفاصيــل األخــرى‪ ،‬بعدهــا ســجلت فــي قســم الصيدلــة ونجحــت فيهــا بطــرق أخــرى‪ ،‬هــل‬
‫تذكــريــوم قلــت لــي مازحــا ونحــن فــي مرحــاض املدرســة‪ ،‬أنــي إن اســتمريت فــي بيــع األدويــة‬
‫املهلوســة للتالميــذ ســأفتح صيدليــة‪ ،‬وهــو كذلــك يــا صديقــي وقــد حققــت ذلــك الحلــم‪،‬‬
‫وأتممــت دراســتي وتمكنــت مــن فتــح صيدليــة‪ ،‬ووظفــت فيهــا بعضــا مــن الطلبــة لبيــع‬
‫الــدواء وأنــا تكفلــت بأدويــة أخــرى ألشــخاص آخريــن‪..‬‬
‫ودون أن أقول لك‪ .‬السلعة التي يدخنونها هناك على يد من تمر!‬
‫املهم أنا متشوق لرؤيتك عن قريب‬
‫اعتني بنفسك وبرأسك يا صديقي‬
‫تقبل تحيات أخيك الصيدلي املزطول‪.‬‬
‫‪#‬الفار‬

‫‪363‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مطلوعة إلى سمير‬


‫خويــا ســميرإن شــاء هللا تكــون بخيــر‪ ،‬أنــا أحمــد ربــي عندمــا أرى أن أصدقائــي لــم‬
‫ينســوني رغــم التغيـرات التــي حدثــت فــي حياتهــم‪ ،‬أنــا فرحــان بــك كثيـرا‪ ،‬ولطاملــا آمنــت بــك‬
‫وآمنــت أنــك ســتصل إلــى مبتغــاك ليــس لذكائــك وحيلتــك فأنــت لســت فــارس شكســبير‬
‫طبعــا هههــه‪ ،‬بــل لطيبــة قلبــك‪ .‬علــى طــول عشــرة أعــوام كانــت تصلنــي الســجائر التــي‬
‫ترســلها لي وأنا ممتن لك ألنك لم تنســني‪ .‬رغم أني حذرتك من تلك الشــوكوالتة امللغمة‬
‫إال أنك ال تتغيروتستمرفي التباهي بسلعتك آه خويا‪ .‬أنا متشوق لرؤية صيدليتك وإن‬
‫شــاء هللا ال تكــون وك ـرا للحشــيش فقــط‪ .‬وأتمنــى أكثــرأنــك لــم تتوهــم قصــة الصيدليــة‬
‫وكتبــت لــي آخــررســالة وأنــت مزطــول‪ .‬أعلــم أنــك تفعــل ذلــك كثيـرا‪.‬‬
‫حتــى أخــرج مــن الســجن ونعيــد‬ ‫ال تشــغل نفســك بــي يــا صديقــي فلــم يبــق لــي الكثيــر ّ‬
‫لــم الشــمل مثــل األيــام الخوالــي‪ .‬وإلــى ذاك الحيــن اعتنــي بصحتــك مــن أجلــي‪ .‬وســأو�صي‬
‫حتــى تســتعيد بعضــا مــن لياقتــك فأنــت‬ ‫حتــى يدخلــك إلــى صالــة الرياضــة ّ‬ ‫عليــك طــارق ّ‬
‫تبــدو مثــل القــط‪ .‬فــي آخــر صــورة أرســلتها لــي رفقــة فــارس ومــروان وطــارق‪ .‬لكنــك تبــدو‬
‫وســيما أيهــا الوغــد وأنــت تبســم بــكل ثقــة بعدمــا رممــت أســنانك‪ .‬هــذا مــا يــدل علــى أنــك‬
‫فــي حالــة ماديــة جيــدة‪ .‬أتمنــى أن تبقــى تلــك االبتســامة علــى وجهــك ّ‬
‫حتــى نلتقــي‪ .‬دمــت فــي‬
‫رعايــة هللا وحفظــه‪.‬‬
‫صديقك املحب مطلوعة‬

‫‪364‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من فارس إلى لقمان مطلوعة‬


‫أيها الطيب أنا أكتب لك هذه الرسالة بعدما كتبت عنك الكثيرمن الكلمات قبل‬
‫هذا‪ ،‬صديقي املميزمطلوعة‪ ،‬أشتاق لرؤيتك شوق سجين لحريته‪ ،‬وها قد مضت بنا‬
‫األعــوام وفرقنــا الزمــن البغيــض لكــن ال تـزال منقوشــا علــى جــرح الذاكــرة وال أزال أكتــب‬
‫عنــك فــي كتبــي‪ ،‬ســتصلك نســخة عــن قريــب مــن روايتــي الثانيــة والتــي ســميتها "مطلوعــة‬
‫"خبزوحب" "والتي كنت فيها شخصية رئيسية‪ .‬جاءتني فكرة كتابتها بعد كتابتي لروايتي‬
‫األولــى "رجــل مــن دون وجــه "حيــث ألهمتنــي األحــداث التــي جــرت لــك فــي حياتــك والتــي‬
‫أخذتهــا مــن مذكراتــك ومــن معرفتــي بــك وبأصدقائنــا ألنســج خيــوط الروايــة‪ ،‬وأبســط‬
‫تكريــم لــك هــوأن أعطيهــا اســمك‪ .‬بعدمــا أصــدرت الروايــة حــازت علــى أكبــرجائــزة وطنيــة‬
‫في الرواية في الجزائرجائزة رئيس الجمهورية "جائزة علي معا�شي "وقد أحدثت ضجة‬
‫كبيــرة فــي الوســط األدبــي بعنوانهــا الغريــب وســمع بهــا الصغيــروالكبيــر‪ .‬ومــن ناحيــة أخــرى‬
‫قــد كتبــت الروايــة لتكــون بمثابــة أمــل لــكل مر�ضــى الســرطان ومر�ضــى الحــب واألمــل‪،‬‬
‫وســهرت الليالــي حرصــا علــى أن تكــون عمــا أدبيــا يرقــى إلــى املســتوى املطلــوب‪ ،‬فبعدمــا‬
‫توفيــت أمــك رحمهــا هللا وكانــت ام ـرأة فحلــة ورم ـزا لــكل نســاء الجزائــر املكافحات‪،‬قــد‬
‫حرصــت علــى أن أخلدهــا فــي الروايــة‪ ،‬قبــل أن يغلقــوا منزلكــم دخلــت لغرفتــك ألجــد‬
‫حتى ألهمتني‬ ‫مذكراتك‪ .‬وهنا أعتذرمنك ألني أخذتها دون اذنك وقرأتها مرات ومرات‪ّ ،‬‬
‫ألصنــع منهــا روايــة تشــارك النــاس بعــض آالمهــم وأحزانهــم وقــد قــررت أن تكــون أول‬
‫طبعــة مجانيــة أوزعهــا ملر�ضــى الســرطان فــي املستشــفى الــذي كنــت تذهــب للعــاج فيــه‬
‫و لتكــون قــدوة للمر�ضــى فــي اإلص ـرار واملقاومــة وتحــدي املــرض‪ ،‬وقــد ســاعدني مــروان‬
‫بتكفلــه بمصاريــف الطبــع والنشــر‪ .‬ورغــم كل هــذا أنــت أعظــم مــن أن أخلــدك فــي كتــاب‬
‫يا مطلوعة أنت رمزللكفاح والحب واألمل وســيبقى اســمك مخلدا على كل لســان يقرأ‬
‫الروايــة وســتصبح رمـزا مطبوعــا فــي ذاكــرة األدب الجزائــري‪.‬‬
‫وإن كنــت تســأل عــن أحوالــي االجتماعيــة فقــد تخرجــت مــن معهــد الهندســة‬
‫املعمارية وصرت مهندسا كبيرا وأنا اآلن دكتور في الجامعة وكلما ذكرت لطلبتي مثاال‬
‫عــن العزيمــة واإلصـرار‪ ،‬أذكــرك أنــت صديقــي العزيــز‪ .‬و باملقابــل قــد درســت تخصصــا‬
‫آخــرهــو علــم النفــس واآلن لــي عيــادة خاصــة كطبيــب نف�ســي‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أتمنــى أن نلتقــي فــي القريــب العاجــل ألعرفــك علــى طلبتــي املتشــوقين للقائــك‬
‫ومعرفتــك شــخصيا‪.‬‬
‫و أختم لك بهذين البيتين لعلهما يلخصان ما أريد قوله لك‪:‬‬
‫ُّ َ‬
‫الد ْنيا أ َح ُّب َلناظري‬ ‫ال َ‬
‫�ش ْي َء في‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ‬
‫ص َحاب‬ ‫واأل ْ‬ ‫من َم ْنظرالخالن‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫وألذ ُموسيقى ت ُس ُّر َم َسامعي‬
‫َ‬ ‫ص ْو ُت َ‬
‫بع ْو َدة األ ْح َباب‬
‫البشير َ‬ ‫َ‬

‫تلميذك في الحياة الدكتور فارس‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مطلوعة إلى فارس‪.‬‬


‫هــل أقــول لــك الدكتــور فــارس أم الطبيــب فــارس أم الروائــي فــارس‪ ،‬املهــم أنــك‬
‫حقا مفخرة لنا‪ ،‬وقد رفعت علمنا عاليا‪ ،‬كنت أعلم يا صديقي أنك ستصل إلى البعيد‬
‫كيــف ال وأنــت أذكانــا‪ .‬وإن كان أحدهــم يســتحق أن يكــون بطــا للروايــة التــي كتبتهــا فهــو‬
‫أنــت يــا صديقــي فليــس مثلــك فــي الكفــاح مــن أجــل الحيــاة واألمــل بعدمــا‪ .‬فقــدت عائلتــك‬
‫فــي ســن مبكــرفــي ذلــك الحــادث املؤلــم‪ .‬الــذي ال طاملــا أردت أن أفتــح معــك موضوعــا فــي‬
‫خصوصــه وربمــا لــم أســتطع ذلــك عندمــا كنــت تزورنــي فــي الســجن وتقابلنــي‪ .‬وربمــا هــذه‬
‫فرصــة ألقــول لــك شــيئا ربمــا أنــت ال تعرفــه ورغــم أن هــذه الحكايــة قــد مضــت عليهــا‬
‫أعوامــا إال يجــب أن ال تبقــى طــي النســيان والكتمــان وكل شــاة تعلــق مــن ســاقها ولكــن‬
‫بعــض الشــاة لــم تعلــق يــا صديقــي بــل فعلــت ولفقــت ونجــت بذكائهــا وخبثهــا‪.‬‬
‫فــي الســجن التقيــت "بأحمــد بانــي" أبيــك وأخبرنــي قصتــه مــن األول وأخبرنــي أنــه‬
‫بــريء مــن دم أمــك‪ .‬وأن املحقــق املاحــي هــو مــن لفــق لــه تلــك الجريمــة ّ‬
‫حتــى ينتقــم منــه‬
‫ألنــه املاحــي هــو ابــن حميــد أبــوك أي هــو أخــوك‪ .‬أخــوك الــذي أنجبــه مــن ام ـرأة أخــرى‬
‫قتلها بالخطأ بعدما أنجبت املاحي الذي تركه في ميتم وكبراملاحي وأصبح محققا فقط‬
‫مــن أجــل أن يجــد الــذي قتــل أمــه ورمــاه فــي امليتــم‪ّ .‬‬
‫حتــى وصــل إلــى مــكان أبيــه فوجــد أنــه‬
‫يعيــش حيــاة ســعيدة‪ .‬فاســتدعاه إلــى قســم الشــرطة وأمــره بــأن يعتــرف بأنــه قاتــل أمــه‪.‬‬
‫فلــم يعتــرف أبــوك بفعلتــه‪ ،‬ولــم يجــد املحقــق دليــا يثبــت تهمــة أبيــك فــي قتــل أمــه‪ .‬لذلــك‬
‫أراد أن ينتقــم منــه‪ ،‬فقتــل زوجتــه وأدخلــه الســجن‪ .‬املاحــي هــو مــن قتــل أمــك يــا فــارس‬
‫حتى تعرف أن أبوك بريء‪ .‬وتنزع من قلبك ذلك الحقد من‬ ‫وأردت أن أخبرك هذا فقط ّ‬
‫جهتــه أتمنــى أن تقابلــه فهــو مشــتاق لرؤيتــك ولعناقــك فأنــت ابنــه الوحيــد‪.‬‬
‫مع محبتي مطلوعة صديقك ومجرد شخصية ثانوية في روايتك‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من طارق املارطو إلى مطلوعة‬


‫كيف حالك أيها الشجاع‪ ،‬أظنك بخيرفأنت ال تموت مثل القط بسبعة أرواح‪،‬‬
‫قــد اشــتقت إلــى أيامنــا الجميلــة‪ .‬أيهــا الحــارس القــط هــل يــا تــرى ال تـزال تمــارس الرياضــة‬
‫هنــاك؟ فأنــا بانتظــارك بالخــارج أللقنــك درســا‪ ،‬أنــا أكتــب لــك هــذه الرســالة وغــدا هــو‬
‫يــوم مهــم بالنســبة لــي ألنهــا املبــاراة النهائيــة للبطولــة الوطنيــة فــي املالكمــة وســأنتصر‬
‫وأعدك أني سأهدي لك فوزي‪ .‬وأضيف حزام البطولة للكؤوس األخرى التي أحرزتها‪،‬‬
‫لــم يكتــب لــي هللا أن أنجــح فــي امتحــان البكلوريــا مثــل فــارس ولــم أرد أن أغــش مثلمــا‬
‫فعــل ســمير‪ ،‬ولكنــي اتخــذت طريقــي فــي الرياضــة وبــدأت أتمــرن صبــح مســاء ألصــل إلــى‬
‫مــا وصلــت إليــه اآلن مــن إشــهاريات رياضيــة ومقابــات تلفزيونيــة‪ ،‬والحمــد هلل بعدمــا‬
‫كنت أهوم بين املباريات غيرالقانونية التي تلعب في املدينة وأحيانا أخرى أضع نف�سي‬
‫كيســا مالكمــة للعديــد مــن األبطــال املحلييــن الكبــار‪ ،‬مــن أجــل أن أوفــراملــال ألشــارك فــي‬
‫املســابقات الرســمية والدنيــا تــدور يــا مطلوعــة‪ .‬مــن كان يقــول أن طــارق املارطــو الــذي‬
‫كان يعمــل كيــس مالكمــة بشــريا يصيــربطــل الجزائــرفــي الــوزن الثقيــل‪.‬‬
‫ومــن أجلــك ومــن أجــل قصتــك قــررت أن أتبــرع بقيمــة هــذه الجائــزة لجمعيــة‬
‫متكفلــة باألطفــال املصابيــن بمــرض الســرطان‪.‬‬
‫سأزورك في أقرب وقت‪ .‬كل جيدا وال تنس ممارسة الرياضة‬
‫اعتني بنفسك أيها الشجاع‬
‫صديقك املخلص طارق‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مطلوعة إلى طارق‬


‫صديقي البطل أنا ســعيد من أجلك وأفتخربك وال زلت أتبع الحمية التي كتبتها‬
‫لــي مؤخـرا وبرنامــج يــب الــذي خصصتــه لــي‪ ،‬وقــد الحــظ ّ‬
‫حتــى الســجناء نومــا بــارزا في‬ ‫التدر‬
‫عضالتــي والفضــل يعــود لــك يــا أخــي‪.‬‬
‫وزد مــن فضلــك وخــذ معــك ســميرالفــارأدخلــه إلــى النــادي ّ‬
‫حتــى يبتعــد قليــا عــن‬
‫املخــدرات وأنــا أراهــن علــى أنــك ســتغيره قبــل أن أخــرج‪ .‬هــذا هــو تحديــك الجديــد‪ .‬وحتــى‬
‫مــروان أخبرنــي أنــه يحتــاج لحــارس شــخ�صي فصديقنــا قــد أصبــح مــن أثريــاء املدينــة‪ .‬أنــا‬
‫فــي انتظــارلــم الشــمل مــن جديــد اعتنــي بالجماعــة مــن أجلــي إلــى ذلــك الحيــن‪.‬‬
‫مع كل محبتي‬
‫صديقك الضعيف مطلوعة‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مروان إلى مطلوعة‬


‫مطلوعــة صديقــي العزيــز أتمنــى أن تكــون بصحــة جيــدة‪ ،‬قــد اشــتقت لرؤيتــك‬
‫واشــتقت لتلــك املغامـرات مــع بعــض‪ ،‬هللا يصبــرك فــي غربتــك يــا أخــي الغالــي مكانــك دائمــا‬
‫محفــور فــي الذاكــرة وكل الرســمات التــي رســمتها ال أزال أحتفــظ بهــا وقــد عملــت علــى أن‬
‫أضعهــا بيــن األيــادي التــي تقــدرالفــن‪ ،‬والحمــد هلل الــذي أنعــم علــي بالــرزق بعدمــا كنــت‬
‫استثمرفي أشياء صغيرة‪ ،‬لم أنجح في اجتيازشهادة البكلوريا لألسف‪ .‬لكني لم أتوقف‬
‫عنــد ذلــك الحــد ودخلــت ميــدان التجــارة وبالتدريــج بــدأت باالحتــكاك بأشــخاص أثريــاء‬
‫وذوي شــأن فــي عالــم األعمــال التجاريــة واملشــاريع التنمويــة‪ .‬واليــوم قــد أنشــأت شــركة‬
‫كبيرة لأللبسة وابتكرت ماركة خاصة بي أسميتها"‪“ matlouâa‬مطلوعة"‪ ،‬ومن سخرية‬
‫القــدرأنــي لــم أدخــل الجامعــة مثلمــا فعــل اآلخــرون‪ ،‬إال أنــي أشــغل فــي شــركتي العديــد‬
‫مــن خريجــي الجامعــة مــن بينهــم ســارة الخباشــة أظنــك تذكرهــا! وصديقنــا فــارس أصبــح‬
‫دكتــورا فــي الفلســفة وكاتبــا معروفــا وأنــا مديــرأعمالــه‪ ،‬ونحــن نحظــرلــك مفاجئة جميلة‬
‫عندما تخرج‪ ،‬وصديقنا طارق قد تكفلت بمصاريف تدريباته الرياضية وأصبح عارض‬
‫وأمـا أنت يا صديقي فلم أنسك‬ ‫أزياء في شركتي وسميرقد مولته باألدوية في الصيدلية‪ّ ،‬‬
‫وكيــف لــي أن أفعــل‪ .‬هــل تذكــركل تلــك اللوحــات التــي قمــت برســمها فــي مقهــى بلهاشــمي‪،‬‬
‫أخذتهــا بعــد تلــك الحادثــة وقمــت باالحتفــاظ بهــا‪ ،‬إال أن شــاءت األقــدار والزمــن أن‬
‫أعرضها باسمك في الكثيرمن املتاحف العاملية وبجانب هذه الرسالة كل املقاالت التي‬
‫كتبت في الجرائد عن لوحاتك الفنية التي أثارت إعجاب كثيرمن الفنانين التشكيليين‬
‫البارزين وهم يتوقون ملعرفتك ولقاءك شخصيا وعندما تخرج سنلم الشمل في منزلي‬
‫ونجتمــع نحــن الخمســة مثــل األيــام الخوالــي‪ ،‬أنــا فــي انتظــارلقــاءك بفــارغ الصبــر‪.‬‬
‫مروان صديقك إلى األبد‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫من مطلوعة إلى مروان‪.‬‬


‫صديقي املخلص مروان‪ .‬أنا ســعيد من أجلك فأنت تســتحق كل الخيروأشــكرك‬
‫على املالبس التي أرسلتها لي فهي أنيقة لدرجة أن السجناء هنا قد يشتهونك إن لبستها‬
‫كلها دفعة واحدة وخرجت إلى الساحة هههه‪.‬‬
‫وأشــكرك لوقوفــك بجنــب أصدقائنــا‪ ،‬هــذا ليــس غريبــا منــك فهــذه شــمة مغــروزة‬
‫فـ�ي شــخصيتك وأخالقكــ من��ذ أن كن�اـ ف��ي املدرس��ة وكنتــ تجلســ بجنبـ�ي هــل تذكــرحيــن‬
‫دخلــت أميمــة أول مــرة ورتبــت لــي معهــا موعــدا وذهبنــا لنشــتري مالبــس لــي‪ .‬وغيــرت مــن‬
‫هيئتي لن أن�سى تلك األيام يا صديقي‪ .‬أنا أرجوا لقاءك في أقرب وقت ويسعدني أن نلم‬
‫حتى يلتقينا فتواصل‬ ‫حتى بلوطة أخبرني أنه قادم من فرنسا ّ‬ ‫الشمل مجددا في بيتك‪ّ .‬‬
‫معــه‪ .‬وأخبــره عــن مــكان تواجــدك لنلتقــي مجــددا‪ .‬فضلــك علــي كثيــر يــا صديقــي‪ .‬وقــد‬
‫فرحت كثيرا بخصوص رسماتي وما فعلت لها‪ .‬فلم أتوقع يوما أن تحقق ذلك النجاح‬
‫الــذي تحدثــت لــي عنــه‪ .‬إن الفــن ملجــأي وال ي ـزال هــو مهربــي الوحيــد الــذي أنفســه بــه‬
‫عــن أحزانــي‪ .‬وأنــت اآلن قــد أشــهرت حزنــي للنــاس فنــا‪ .‬ومــا يفعــل هــذا ســوى األشــخاص‬
‫املبدعيــن واملقدريــن للفــن ولآلخريــن‪.‬‬
‫على أمل أن نلتقي في القريب العاجل‪ .‬اعتني بنفسك من أجلي‪.‬‬
‫صديقك مطلوعة‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫هل ما تزال تحبك؟‬

‫فــي زنزانــة كبيــرة يجلــس القرفصــاء فــي املنتصــف‪ ،‬يلتــف حولــه مجموعــة مــن‬
‫الســجناء ينصتــون لقصــة مطلوعــة التــي كان يقــص لهــم منهــا كل ليلــة جـ ً‬
‫ـزءا‪ ،‬ينتظرهــا‬
‫الســجناء بفــارغ الصبــر والســجائر ليســمعوا بقيــة القصــة‪ ،‬كانــت تلــك نهايــة القصــة‪،‬‬
‫كانــوا متأثريــن ومطلوعــة يقـرأ لهــم الرســائل التــي كتبتهــا لــه أصدقائــه مــن خــارج الســجن‬
‫يترقبــون اإلف ـراج عنــه‪.‬‬
‫ثم يسأله أحد السجناء وهو يدخن سيجارة ببطء‪:‬‬
‫–و ماذا عن أميمة هل أرسلت لك شيئا!‬
‫مطلوعة نظرلباب الزنزانة وشرد في خياله‪.‬‬
‫ولم يرد!‬
‫فأضاف السجين‪:‬‬
‫– قصدي هل ما تزال تحبك‪...‬مثلما تحبها!‬
‫رد مطلوعة دون أن يلتفت إلى السجين‪:‬‬
‫– هل ترى هذه القطعة النقدية‪.‬‬
‫_نعم‬
‫_سنســأل الحــظ‪ ..‬هــذا الوجــه طــرة يعنــي أنهــا ال ت ـزال تحبنــي‪ .‬وهــذا الوجــه نقــش‬
‫يعنــي أنهــا لــم تعــد تحبنــي‪.‬‬
‫ثم رمى مطلوعة القطعة في الهواء لتسقط على األرض أمام أنظارالسجناء‪.‬‬
‫فسقطت متوازنة في املنتصف على حافتها‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫لقمان أم إسحاق!‬

‫ســلمني حــارس الســجن عنــد بوابــة املدخــل صندوقــا خشــبيا فيــه أغرا�ضــي التــي‬
‫ترجــع ألعــوام خلــت‪ ،‬مالب�ســي وأشــيائي التــي أخذوهــا منــي عندمــا دخلــت الســجن قبــل‬
‫عشــرة أعــوام‪ ،‬فتحــت الصنــدوق وجــدت حذائــي‪ ،‬أمســكت "صابــر"الــذي ال يـزال علــى‬
‫حالــه‪ ،‬لبســته باحت ـرام متبــادل مثلمــا اعتــدت أن أفعــل مــن قبــل قــد صــارضيقــا نوعــا‬
‫مــا علــى رجلــي مثلمــا ضاقــت علــي الدنيــا مــن قبــل‪ ،‬لكــن حتمــا ســيالئم رجلــي بقليــل مــن‬
‫املشــية‪ ،‬مثلمــا قــررت أن أســتمر فــي الحيــاة التــي ســأجعلها تالئمنــي وأنــا أقابلهــا بــروح‬
‫جديــدة‪ ،‬روح تولــد مــن جديــد‪ ،‬ســألتأم و أفتــح صفحــة بيضــاء جديــدة هــذا مــا قـ ّـررت‬
‫فعلــه‪.‬‬
‫فــي الصنــدوق رأيــت تلــك الرســمة التــي لــم أكملهــا‪ ،‬رســمة أميمــة وهــي تحمــل آلــة‬
‫العــود فــي يدهــا‪ ،‬نســيت أنــي رميتهــا داخــل الصنــدوق ّ‬
‫حتــى رجعــت بــي الذاكــرة إلــى الــوراء‪،‬‬
‫إلــى أول مــرة أحببــت فيهــا‪ ،‬إلــى أول مــرة شــعرت أنــي موجــود‪ ،‬وأدركــت بعــد كل مــا مــربــي‬
‫فــي الســجن وفــي الحيــاة‪ ،‬أن كل مــرة أكاد أمــوت فيهــا يحيينــي الحــب‪ ،‬الحــب فقــط هــو مــا‬
‫يجعلنــا نواصــل الحيــاة‪.‬‬
‫ســلمني الحــارس أوراق إطــاق سـراحي املشــروط ألوقــع عليهــا‪ ،‬أعــرت مــن الحــارس‬
‫قلــم رصــاص‪ ،‬اســتغرب مــن طلبــي لكنــه ســلمني القلــم‪.‬‬
‫فتــح لــي البــاب وابتســم فــي وجهــي‪ ،‬رأيــت نــور الشــمس وهــواء الخــارج كأنــي لــم أره‬
‫مــن قبــل ملســت قدمــاي رصيــف الطريــق بعــد عشــرة أعــوام‪ ،‬وقفــت وســط الطريــق‪،‬‬
‫النــاس تمــرحولــي مســرعة مهرولــة‪ ،‬الكثيــرمــن الــكالم الكثيــرمــن الصخــب‪ ،‬الحيــاة فــي‬
‫الخــارج أصبحــت تم�ضــي بســرعة علــى عكــس الســجن‪ ،‬أيــن تعلمــت أن أقــدركل لحظــة‬
‫تمــر بحياتــي أقــدر كل حــدث كل ثانيــة‪ ،‬أعيــش عم ـرا صغي ـرا مــع كل ضحكــة أتالقاهــا‬
‫دون مقابــل وأدون كل ذكــرى ســعيدة ألن تلــك اللحظــات فــي حياتــي نــادرة‪ ،‬قعــدت علــى‬
‫طــرف الرصيــف‪ ،‬أخرجــت قلــم الرصــاص مــن جيبــي‪ ،‬هممــت أرســم‪ .‬قــررت أن أكمــل‬

‫‪373‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫رسمة أميمة التي رسمتها قبل عشرة أعوام‪ ،‬أغمضت عيني ألسترجع تلك الليلة‪ ،‬تلك‬
‫الحفلــة املدرســية وأميمــة فــوق الخشــبة وبيدهــا آلــة العــود‪ ،‬الحظــت أنــي رســمت تلــك‬
‫الرســمة بطريقــة ســريعة وبخطــوط هاويــة حيــث مــن الصعــب علــي اآلن أن أقلــد خــط‬
‫يدي بعدما مضت عشرة أعوام‪ .‬بعدما احترفت الرسم في الزنزانات وفي وشم أجساد‬
‫السجناء‪ .‬إن األصعب من أن تكون محترفا هو أن تكون محترفا وتحاول أن ترسم مثل‬
‫هاو‪ ،‬ولن تكون محترفا حقيقيا إن لم تســتطع فعل ذلك‪ ،‬أن ترجع إلى فنك البســيط‪.‬‬
‫أتم ٍمــت الرســمة وحاولــت أن ال يكــون الفــرق متباينــا فــي مــا أضفتــه للرســمة ّ‬
‫حتــى أكملهــا‪.‬‬
‫ســوى ِقـ َـدم الخــط الــذي لــم أرد أن أهشــرفوقــه ألتــرك بصمتــي الفنيــة للذكــرى‪ ،‬وحتــى‬
‫تستطيع أميمة أن تالحظ الفارق وتعرف أنها نفسها تلك الرسمة التي كانت تصرعلى‬
‫أن أكملهــا لهــا قبــل عشــرة أعــوام‪.‬‬
‫ثـ ّـم وأنــا علــى الرصيــف الحظــت فتــى صغي ـرا يقطــع الطريــق إلــى الجهــة األخــرى‬
‫وشــاحنة رمــي النفايــات راجعــة إلــى الخلــف باتجاهــه مباشــرة‪ ،‬حتمــا ستدهســه إن لــم‬
‫حتــى القريبيــن منــه‪،‬‬‫أتصــرف بســرعة‪ ،‬الغريــب أنــه ال أحــد انتبــه لــه أو تحــرك مــن جهتــه‪ّ .‬‬
‫كل النــاس تحشــر رأســها داخــل هواتفهــا‪ ،‬حيواتهــم الســريعة ال تســمح لهــم باالنتبــاه‬
‫لألشــياء البســيطة‪ ،‬قبــل أن تصــل الشــاحنة للفتــى الصغيــر‪ ،‬نهضــت مســرعا وارتميــت‬
‫ألنقــذه بأعجوبــة مــن تحــت عجــات الشــاحنة‪ ،‬حملــت الطفــل الصغيــربيــن ذراعــي وكان‬
‫جميــا أســود الشــعربعينيــن خضراويــن‪ ،‬الفتــى الصغيــريبكــي وينــادي علــى أمــه مشــيرا‬
‫للمحــل املقابــل بيــده لســيدة مفزوعــة تركــض باتجاهــي لتلتقــط ابنهــا‪ ،‬حيــن اقتربــت مني‪،‬‬
‫تجمــدت ملــا رأتنــي وأنــا صعقــت حيــن التقــط نظراتنــا‪ ،‬شــعرت أن قلبــي يخفــق بشــدة يــكاد‬
‫يخــرج مــن صــدري وأنفا�ســي تتســارع بشــكل ملحــوظ‪ ،‬رأيــت الدمــوع متحجــرة فــي عينــي‬
‫الســيدة‪ ،‬ســاد صمــت رهيــب بيننــا‪ .‬وهــدئ الولــد بيــن ذراعــي كحمــل وديــع‪،‬‬
‫فــي الجانــب املقابــل مــن الطريــق يعبــرزوجــان مســنان‪ ،‬العجــوزة تحمــل باقــة ورد فــي‬
‫يدهــا والعجــوز يحمــل خبــزة وع�صــى‪.‬‬
‫لم أســتطع التحرك حين ســقطت عيني في عينها‪ .‬شــعرت بخدروصعقة كهربائية‬
‫داخــل رأ�ســي ملــا رأيــت تلــك القــادة علــى رقبــة الفتــى‪ ،‬أصبحــت كتمثــال حجــري مــن دون‬

‫‪374‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫روح ولــم أســتطع أن أســلمها الولــد الــذي يضــع رأســه علــى كتفــي‪ ،‬وفــي تلــك اللحظــة‬
‫مــن الصمــت املوحــش‪ ،‬اختفــى الزوجــان وخــرج رجــل أنيــق مــن املحــل الــذي ظهــرت منــه‬
‫السيدة أمامي‪ ،‬بدى لي وجه الرجل مألوفا من بعيد وقد كان يحمل بين يديه مجموعة‬
‫مــن األكيــاس البالســتيكية وعندمــا اقتــرب منــه عرفتــه ليهــم مســرعا مبتســما باتجاهــي‪:‬‬
‫– أووه مطلوعة صديقي العزيزها أنت ذا‪....‬‬
‫– ب‪...‬ب‪...‬ب‪..‬بلوطــة! "قلتهــا بصعوبــة وبصــوت متقطــع وأنــا أقلــب النظـرات بينــه‬
‫وبي��ن الس��يدة أمام��ي والس��يدة تس��تمرللنظ��رف��ي الرس��مة الت��ي كن��ت أحمله��ا ف��ي ي��دي"‪.‬‬
‫– نعم هذا أنا بلوطة صديقك‪ .‬أنظرلنفسك لم تتغيركثيرا منذ آخرمرة‪.‬‬
‫لم أستطع تحريك لساني من شدة الدهشة والذهول‪:‬‬
‫_يبدو أن إسحاق قد نام بين ذراعيك‪.‬‬
‫_إسحاق!‬
‫– آه نســيت أن أعرفك على عائلتي‪ .‬هذا ولدي إســحاق الذي أخبرتك أنه يشــبهك‬
‫وهــذه زوجتــي أميمة‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫‪376‬‬
‫مطلوعة (خبز وحب)‬

‫أترك أثرا هنا‪:‬‬


‫‪..........................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪..................................................................................................................‬‬
‫‪............................................................‬‬

‫‪377‬‬
‫‪ 24‬جانفي‪2021‬‬
‫للتواصل مع الكاتب‪:‬‬
‫‪Basset01bani@gmail.com‬‬

You might also like