Professional Documents
Culture Documents
سمير محرز
ّ
محشو ة بالحقيقة ّ
حقيقية مطلية بالخيال ،أو خيالية ّإما
***
7
مطلوعة (خبز وحب)
ّ
ينظرالطبيب إلى الرجل ويسأله:
_ كم عمره؟
ّ
بنبرة ال مبالية ودون أن يلتفت إلى الطبيب :ثمانية ســنوات أو تســعة
يرد الرجل ٍ
أو...
يرد الطبيب بمالمح مستغربة:
– غريب! أال تعرف كم ُ
عمرابنك!
_أعرف.
_إذن ملاذا تركته إلى هذه السن املتأخرة ؟
_نسيت.
_وهل تن�سى ختان ابنك!
_اســمع...ال دخــل لــك فــي أمــوري العائليــة ..دعنــا مــن هــذه الثرثــرة وقــم بعملــك أو
اعطنــي املقــص ودعنــي أقــوم بــه بــدال منــك.
_حسنا...حسنا...هذه حقنة خمس مئة دينار ،وهذه حقنة ألف دينار ،بأي منهما
تريــد أن أخـ ّـدره؟
– ال هذي...وال تلك.
_ما قصدك؟
يحس ّأنه رجل ّ
بحق. _ افعلها كما فعلناها نحنّ ،
حتى ّ
– هل تقصد دون ّ
مخدر!
_نعم
8
مطلوعة (خبز وحب)
ّ
سيتحمل. أظن ّأن جسد ابنك الصغير
_ هل جننت؟ هل تعرف درجة األلم؟ ال ّ
– هــل ســمعت مــا قلتــه لــك ،ابنــي ليــس ًّ
طريــا ،وســيفعلها مثلمــا فعلهــا جــده وأبــوه.
بالطريقــة التقليديــة.
-الطريقة التقليدية!
-نعــم قــد أخبرتــك أن تقــوم بعملــك وتصمــت ،وإن كنــت ً
جبانــا أعطنــي املقـ ّ
ـص
وس��أريك ّ
خف��ة الي��د ،هك��ذا أريح��ك وأري��ح نفــ��ي م��ن ثرثرت��ك وم��ن مصروف��ك.
سكت الطبيب لبرهة ّ
ثم واصل عمله:
_ال ال ..فقط ثبتا رجليه جيدا ،وأمسكه أنت من يديه ورأسه.
***
الطبيب بنبرة هادئة يهمس في أذن الفتى ويمسح على رأسه:
– ال تخف يا عزيزي سنجعل األمرسريعا.
الفتــى الصغيــرال يفهــم مــا يحــدث حولــه بعينيــن مفزوعتيــن ينظــرإلــى وجــه الطبيــب
الــذي يواصــل كالمــه ويقــول للفتــى:
_أنظرللسقف هناك ،هل ترى ذلك العصفور؟
يرد الفتى بنبرة خافتة تتخللها رعشة في صوته:
– ن..ن...ن .....نع...نعم
تنفــس ببــطء وتخيــل ّأنــك تركــب العصفــور – جيــد ،جيــد ،أغمــض عينيــك اآلنّ ،
وهــو يحلــق بــك إلــى أجمــل مــكان تتمنــى الذهــاب إليــه وقــد..
حادة وخاطفة خادعة". ثم تشك! "ضربة مقص ّ
9
مطلوعة (خبز وحب)
يــرى الفتــى العصفــور يفــرد جناحيــه وينظــر إليــه بعينيــن جاحظتيــن يتطايــر
الشــرر منهمــا.
صرخــة طويلــة ،معــدن حــاد بــارد يقطــع جلــدة مــن اللحــم ،الفتــى يتخبــط مثــل
َّ
مجاهــد يعــذب علــى كر�ســي كهربائــي ،جســده الهزيــل يرتـ ّـج ،يرتعــش ،عينــاه تفيضــان
ّ مدامعــا علــى شــطآن خديــه املشمشــيتين ،يلــوي رقبتــه للــوراءّ ، ً
يتخبــط مثــل قــط فــي
حبــة طماطــم،بركــة مــاء ،عــروق رقبتــه تنتفــخ ،تــكاد تتقطــع ،وجهــه يحمـ ّـروينتفــخ مثــل ّ
يتخبــط ،يحــاول اإلفــات مــن بيــن ذراعــي أبيــه وقبضــة جــده ،لكــن دون جــدوى! ّ
يــرى فــي مــا يــرى املختــون العصفــور ينفــض ريشــه ويتقــدم نحــوه بخيــط أســود
طويــل يحملــه فــي منقــاره.
مدببــة متبوعــة بخيــط أســود تختــرق جلــده، صرخــة مبحوحــة ومتقطعــة ،إبــرة ّ
ّ
يضرب قفى رأسه على السريرالحديدي ،يتألم داخل األلم ،يركل بقدميه املصبوغتين
يكمــم فمــه ،يــكاد يخنقنــه بقبضــةبالحنــاء ،يعــض علــى شــفتيه ،يشــتم بفحــش ،أبــوه ّ
يــده الخشــنة ،يــرد عليــه بعضــة حليبيــة مســنونة ،ال تجــدي ،ثـ ّـم يعــود الفتــى ّ
للســباب
بنعــرة أكبــريلعــن أبــاه وجــد أبــاه ،يلعــن الطبيــب ويلعــن يــوم خــرج مــن بطــن أمــه دون تــاء
مربوطــة ..ذك ـرا..
يرى العصفور يحط بين ساقيه ،يحضن بيضتيه تحت جناحيه ،يمد منقاره
ّ
األصفرالطويل وينقررأس ذكره ،كنق ِارخشب ينحت جذع شجرة.
ُ ٌ
ثـ ّـم صرخــة حـ ّـادة ذابلــة الصــدى ،محلــول مــن الكحــول ودواء أحمــراللــون يصــب
فــوق جرحــه املفتــوح ،يعتصــرمــن األلــم ،يتخبــط مثــل أفعــى يريــد أن ينســلخ مــن جلــده،
يحاول ركل الطبيب األصلع ،يتفل في وجهه ،لكن ذراع األب القوية تضغط على رجليه
ّ تمنعــه مــن الحـراك ،يتعــذب ،يتلــوى ،يصــرخ ،يفتــح فمــه ّ
حتــى تبــرز كــرزة حلقــه ،تتســع
ثم بعد عشرغرزات ُم ّرة ،يفترببطء ويئن بصوت خافت طالبا حدقتا عينيه ّ
البنيتينّ ،
10
مطلوعة (خبز وحب)
***
ّ
– مبروك عليكم ،سلم على جدك ،زد على أبيك!
خفه األبيض ،يباعد يجر ّ وضعوا الطربوش األحمرفوق رأســه ،خرج من الغرفة ّ
بين ساقيه النحيلتين مثل بطريق صغيرخرج لتوه من بركة ماء ،تعالت زغاريد النساء
الفرحــات فــي ســاحة الــدارّ ،أمــه فخــورة تشــير لــه بالبنــان ،يم�شــي تحــت برنــوس أبيــه
والنظـرات املتأللئــة ترمقــه ..والبطريــق يتمتــم بنبــرة خافتــة:
ُ َّ
– آه أيتها اليهوديات لو تعرفن شـ ّـدة األلم الذي أشــعربه ..أفضل أن أ َول َد خمس
مـرات علــى أن أصــارع ألــم الختــان مــرة واحدة..
ويصادف صديقه مختبئا في الزاوية يشد بطنه من الضحك:
ثــم يمســكه جــده فــي زاويــة ويخــرج شــيئا مــن جيبــه ،يضــع تلــك القــادة علــى رقبــة
حفيــده ،ويوجــه إليــه كالمــه بنبــرة خشــنة وهادئــة وعينــاه تلمــع مباشــرة فــي عينــي حفيــده:
– ّردد ورائي
11
مطلوعة (خبز وحب)
12
مطلوعة (خبز وحب)
الالز يربح
فــي كــوخ كاره للحيــاة ،مــن الطــوب والقصــب ،محمــول علــى أربعــة أعمــدة نحيفــة
ّ
من الحطب ،تغطيها حبات قرمود أحمر ،نصفها متشـ ّـقق ونصفها اآلخردامع ،ذا هو
الســقف كمــا أراده ربــي أن يكــون.
علــى شــمعتين مرتجفتيــن ترتعشــان مــن البــرد إثــر كل نفخــة مــن بطــن الجــدران
القصيــرة .كان هنــاك فــي الزاويــة يمــد رجليــه القصيرتيــن املزينتيــن بالحنــاء ،يســتلقي علــى
ّ
ظهــره صــوب الحائــط العــاري ،ببرنــوس أبيــض رث يميــل إلــى الصفــرة ،وجهــه شــاحب
ّ
يميــل إلــى لــون كرتونــة مبللــة ،يرفــع البرنــوس بيــده خشــية أن يالمــس مــا بيــن فخذيــه،
ً يعـ ّ
ـض علــى شــفته الســفلى ويئــن بصــوت خافــت مــن األلــم ،يحمــل فــي يــده األخــرى ورقــة
وقلــم صــاص ،يبــدو ّأنــه يرســم شــيئا ّ
حتــى يتنا�ســى أملــه ،أمامــه مباشــرة ينظــر داخــل ر
ّ ّ
الطربــوش األحمــراململــوء ببعــض الدنانيــرفيخــف أملــه قليــا ،تقتــرب منــه أمــه وبيدهــا
ً
قطعــة كســرة وكأس لبــن ،تمســح علــى شــعرالفتــى متمتمــة ببعــض اآليــات مــن الق ـرآن
وبعــض األدعيــة للحفــظ مــن العيــن.
13
مطلوعة (خبز وحب)
ً ّ
ثم تنهض لتبلل بعض الكسرة اليابسة وتخلط معها بعض الزيت للعشاء ،تاركة
ابنها ليستمتع بأمله اللذيذ.
وهلة نحيفة ،ينكسرذلك الهدوء املسالم ،يدفع الباب بثقل كتفه ويقتحم بعد ٍ
ً
الكــوخ ،يم�شــي متثاقــا ،يقــف وســط الكــوخ وال يــكاد يحمــل بعضــه بعضــا ،يقتــرب رأســه
من دعامات السقف ،ينظرهنا وهناك باشمئزاز ،يعصرعينيه بحمرة الغضب .شفته
السفلى مرتخية ،اللعاب يسيل من فمه كحصان سباق ،رائحة شراب "الروج" تفوح
يترنح يكاد يهوي ،وال تكـاد سـاقاه الطويلتان تقوى ّ ّ
منه كأنه قد استحم في برميل منه،
ثم فجأة يندفع على حمل ثقل جســده الخشــن ،يتمايل كناطحة ســحاب تهزها الريحّ ،
ّ
نحو األمام ويضرب بيديه الهواء كأنه يصارع أحدهم بنبرة ثقيلة ومبحوحة:
14
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم يفـ ّـك الطربــوش مــن بيــن ذراعــي الفتــى الضعيــف .يتشـ ّـبث بــه بقــوة ويتلـ ّـوى علــى
ـوط صغيـ ٍـر ،لكـ ّـن الرجــل ال يفتــأ يســحب الطربــوش بعنــف ويفرغــه الرجــل كأخطبـ ٍ ســاقي ّ
وترتج شفته السفلى ثم يرميه فوق حجرالفتى ،ترتجف ّ في جيب سرواله الفضفاض ّ
ً ّ ً لينفجــر ً
مضجــا عفت ــها أمامهــا عنــوة وقهـ ًـرا ،يبكــي باكيــا بنبــرة شــاهقة ،كفتــاة اغتصبــت
املختــون ،يصــرخ ويتـ ّـأوه ،يصيــح ،يضــرب بيديــه علــى األرض ،يحــاول النهــوض الســترجاع
نقــوده لكــن دون جــدوى ،فجــرح ختانــه ال يـزال جديــدا ،يمنعــه.
مــن املطبــخ تســمع ّ
األم بــكاء ابنهــا ،تهــب مســرعة ،تفهــم مــن كالم الفتــى املختلــط
بالبكاء ما حدث ،تحاول إقناع الرجل بإرجاع النقود البنها ،تنحني له وتقبل يديهّ ،
ثم
ّ الشــفقة بنبــرة ّ ّ
متوس ــلة متقطعــة .يدفعهــا نحــو الخلــف: تخـ ّـرلتقبــل رجليــه ،تطلــب
-ابتعدي يا بنت الكلبة..
-يا لهواري بجاه األولياء الصالحين أرجعهم له .عندك ابن واحد فقط.
-عندي الهم والفقرومعزة جربا ..مثلك
-يا لهواري حق العشرة التي بيننا أرجعهم له ،بجاه الصالحين!
ينظــرلهــا بــازدراء نظــرة مطولــة ،يصمــت لبرهــة ،يبصــق علــى األرض ،ثـ ّـم يمســكها
وجههــا يــكاد يمـ ّـزق وجنتيهــا
وإبهامــه علــى ِ
ِ بقبضتــه القويــة مــن ذقنهــا ويضغــط بسـ ّـباب ِته
وهــو يرفعهــا مــن األرض نحــو وجهــه:
15
مطلوعة (خبز وحب)
ثـ ّـم يرميهــا ويدفعهــا بقبضتــه للخلــف ليباغتهــا بصفعــة خاطفــة ،تطيــرمعهــا عصابة
ّ
رأســها الحمراء ،فتســقط كأس اللبن على ورقة الرســم ..ينظرنحو الفتى تحته ،ينحني
نحــوه ويضــع إصبعــه علــى جبهتــه ،بنبــرة خشــنة وبطيئــة:
– ألبيك!
-خخخخخم تفوووه.
16
مطلوعة (خبز وحب)
ّ -هكذا ّ
حتى تجيد الكالم وينطلق لسانك وتصيبك بالغة الالز.
17
مطلوعة (خبز وحب)
18
مطلوعة (خبز وحب)
***
ّ ّ
مرت ثالث ليالي من البرد والجوع ،الزوج ال يصحو من السكروال يكف عن ضرب
زوجتــه وتعنيفهــا أمــام ناظــري الفتــى ،الفتــى يشــتاط غيضــا مــع كل صرخــة تخــرج مــن
ّ
حنجــرة أمــه ،يحــزن مــع كل َع َبــرة تذرفهــا عيناهــا ،يبكــي لبكائهــا ويتقطــع لحزنهــا.
ثـ ّـم فــي ذات ليلــة ماطــرة ،نهــض الصبــي مفزوعــا علــى صــوت ص ـراخ ّأمــه وتدحــرج
متتبعــا ّ
الصــوت ،انـ ّ
ـدس فــي الزاويــة بقــرب املطبــخ وراح يراقــب ذلــك املشــهد ً مــن ســريره
ً ّ ّ
املرعــب ،أبــوه الســكران يشــد أمــه مــن شــعرها ،يضربهــا علــى الحائــط محــاول أن ينتــزع
كل مهرهــا فــي زواجهــا ،تحتفــظ بهــا ّ
األم لتبيعهــا وقــت منهــا سلســلتها الذهبيــة والتــي كانــت ّ
الحاجــة القصــوى ..الـ ّـزوج يريــد أن يرهنهــا ويسـ ّـدد بهــا ديونــه ويصرفهــا علــى الشــرب
والقمــارفــي القريــة مثلمــا فعــل بدراهــم ختــان ابنــه.
19
مطلوعة (خبز وحب)
20
مطلوعة (خبز وحب)
21
مطلوعة (خبز وحب)
22
مطلوعة (خبز وحب)
السدرتطل برؤوسها دون خجل ،أكواخ من الفقر ،إطارعجلة محراث ،نبات ّ الفارغة ّ
يعــرض أكياســه البالســتيكية الفارغــة ،كالب تنبــح وتجــري وراء الشــاحنات الخارجــة
مــن مقلــع الحجــارة ،فتيــان يبحثــون بيــن أكــوام املزابــل ،ينتظــرون كل شــاحنة نفايــات
جديــدة ّ
لتتقيــأ لهــم نفايــات أصحــاب املدينــة ،ينقضــون بيــن أكــوام مــا تفرغــه الشــاحنة
ّ
مثــل الــكالب الجائعــة ،يحملــون خطافــات يدويــة الصنــع لتســاعدهم فــي نبــش أكيــاس
حتــى بعــض الكهــول الكبــار تجدهــم القمامــة والبحــث داخلهــا عــن حاجــات مفيــدةّ .
هنــاك ،يبحثــون عــن ّ
أي �شـ ٍـيء قــد يكــون ذا قيمــة ،نحــاس ،أملنيــوم ،ألبســة ،أغطيــة،
ألعــاب أطفــال صغــارمكســورة ،أحذيــة ،بعــض أدوات الزينــة ،يتدافــع فتيــة القريــة علــى
كومة الخردة والنفايات ويقتحمونها بأذرعهم وأنوفهم .معتادون على الرائحة الكريهة،
ّ يسبحون داخلها على أمل إيجاد ّ
أي �شيء يصلح للبيع أو اللبس أو األكل أو االستعمال.
ّ
وعاثــرالحــظ مــن يقحــم يــده فيمســك حفاظــات أطفــال ،أو زجــاج مكســور يدمــي يــده.
"زوبية مقران" بمثابة مصدررزق للكثيرمن عائالت القرية.
تتلبــد ســماء القريــة املنخفضــة وترتــدي وشــاحها األســود ،تتســارع الحمائــم إلنهــاءّ
هــا ّ ّ
الدافئــة ،تنبــح طقــوس الغــزل فــوق قرميــد أكــواخ الطــوب ،مذيعــة الدخــول ألوكار
ّ
الــكالب دون توقــف ،تنبــح وتتناحــب .فــي محــور الطريــق تتدحــرج كريــات األعشــاب
اليابسة املشكلة من خليط من الحلفاء والديس اليابس ،تدفعها أرجل الريح العاتية،
حبــات مطــرتعــزف بألحان ربانية، تقبــل وجهــيّ .
حبــات مطــرخجولـ ٍـة بــاردة ّ ثـ ّـم هــا هــي ذي ّ
ٍ
عطرا ســقط من أيدي مالك يتطهر تعانق األرض وتضاجع التراب بلهفة وغنج ،تفوح ً
فــي عــدن ،رائحــة امت ـزاج املطــر بالت ـراب يبعــث عــن رائحــة تثيــر النشــوة والقشــعريرة فــي
النصــارى ،التــيـرش الغبــارعلــى شــواهد القبــور املســيحية ملقبــرة ّ
حبــات مطــرتـ ّالجســدّ ،
َ ّ
كل جهــة برؤوســها األرجوانيــة ،هنــاك ِحــذ َاء الطريــق قبالــة تظللهــا أشــجارالدفلــى مــن ّ
تبدو املقبرة النصرانية صامتة في غربة ووحشة ،صلبانها تطل برؤوسها البيضاء بثقة
علــى الطريــق تنــادي بلغــة غيــرمفهومــة ال أحــد يســمعها أو ينتبــه لهــا ،موصــدة مــذ ذاك
ّ
العــام ،بغمــوض ال متنــاه يثيــرفــي جســدي الرعــب كلمــا عبــرت جوارهــا ،فــي الجانــب اآلخــر
الساحة الترابية الصغيرة وراء املقبرة ،أين كنا نلهو بلعب كرة القدم أيام حذاءها تلك ّ
املتوسـ�طة.
23
مطلوعة (خبز وحب)
24
مطلوعة (خبز وحب)
- 1ماركــة قديمــة للغـراء .تســود هــذه الظاهــرة فــي األحيــاء الشــعبية الفقيــرة .ظاهــرة استنشــاق
الغـراء مــن أجــل الحصــول علــى نشــوة االنتشــاء
25
مطلوعة (خبز وحب)
كنــا نســمعها حينمــا نبــدأ بفقــدان الوعــي مــن الدوخــة التــي يســببها نقــص األوكســجين
ورائحــة الغ ـراء الشــديدة ،كان لنــا الباتاكــس عبــارة عــن مخــدرات رخيصــة ،مبتكــرة
ومبهجــة ،وحيــن كنــا ال نجــد الغـراء ،نســتبدله بالوقــود ،وهــذا األخيــرهــو أقــوى مفعــوال
مــن الغـراء ،وبمــا أننــا كنــا صغــارا ويمنــع علينــا شـراء الوقــود مــن املحطــة ،كان "للســوكو"
أكبرنــا وأغبانــا ،ســيارة R4نلــم الدراهــم خمســتنا ،ونملــئ خزانهــا الصغيــر كامــا ،ثـ ّـم
نمتص من خزانها الوقود ،ونخزنه في قواريراملاء ...ونستنشــقه كلما تمكن منا الفراغ.
كتفــا هــذا الرجــل أمامــي عريضتــان ومشــيته مريبــة وحتــى العــكازة فــي يــده ال تبــدو
غريبــة عنــي..
– السالم عليكم.
– "………".
لم ينبس ببنت شفة.
الرجل نحيف ،يرتدي قشابية وبرية بلون ّبني قاتم ،يضع قلنسوتها الكبيرة فوق
رأســه لتغــرق داخلهــا مالمــح وجهــه ،مــن قصــر القشــابة ،تبــرز ربلــة ســاقيه ،نحيفتيــن
كســاقي ديــك عروبــي أحمــر ،بحــذاء أســود ،مطــوي عنــد كعــب رجلــه ،ال ينتعلــه كامــا،
ويكتفــي بإدخالــه فــي رجلــه وجــره ،فــوق رأســه قبعــة مــن القــش تظلــل معظــم مالمحــه،
ّ
تغــرق داخلهــا عينــاه ،عليهــا آثــارالحــرق فــي جــزء مــن حوافهــا ورغــم طــول ســاقيه ،إال أنــه
كان يم�شي ببطء ،يضم يديه وراء مؤخرته ،حيث يقفل يدا ويضم بها األخرى ،مطأطأ
الـرأس ،ينظــرنحــو األرض يتثاقــل فــي مشــيه ،رغــم غـزارة تهاطــل األمطــاركان يقصــد فــي
مش��يه ،ل��م يغي��رم��ن س��رعته.
-أض...ال...طفي....ض ،ما.....ي..ق....في...الواد..غ..حج...ره.
.....-
كان يتمتــم بكلمــات مبهمــة مــا إن تصــل مجــال ســمعي ّ
حتــى تتال�شــى مــع صــوت
هطـ�ول املطـ�ر.
26
مطلوعة (خبز وحب)
مربجانب الطريق عجوز يحمل تعمدت أن أتباطأ وأقترب منه ،ألسترق السمعّ ..
براميــل املــاء فــوق بغلتــه القصيــرة .ثـ ّـم عبــربجانبــي كلــب ســلوقي يعــرج برجـ ٍـل مكسـ ٍ
ـورة فــي
فم��ه قطع��ة قم��اش .قب��ل أن أص��ل الرج��ل.
-أضرب النح وطفي الضو
...ما.ي..ق....في...الواد..غ..حج...ره.
-آه!
-ما يبقى في الواد غيرحجاره.
-يــا ربــي أيــن ســمعت هــذه الجملــة مــن قبــل ثـ ّـم وأنــا أحــاول معرفــة مالمــح الرجــل،
ّ
شـ ّـد ضغــط أصابعــه علــى عصــاه الخيزرانيــة معقوفــة الطــرف املربــوط بســلك نحــاس
رقي��ق ،وزاد م��ن س��رعة مش��يه ليختف��ي ف��ي ضب��اب طري��ق القري��ة الهالم��ي.
ّ
تعرق جبيني ،وزادت نبضات قلبي ،تجمدت رقبتي.
تزداد قفزات قلبي ،تتدافع أنفا�سي ،العرق البارد يتساقط من على جبيني ،ساد
مصطحبا خوفي معه وزادني هذا العروبي طويل الركائب ً الظالم في األرجاء ،جاء الليل
ً
كشهب ينعكس نورها ٍ خوفا ،الطريق شبه خالية ،من بعيد أضواء القرية أمامي تبدو
ّ
وتتصلبّ ، في كوكب عيني ،يتثاءب الجليد وينسف في ّ
أقبل كفي ،تنكمش أصابع يدي
يزف برده الذي اح بالكف والسنداد يدهس أصابع رجلي البريئةّ ، ّ
النافذة ر الليل باكرا
ً ّ
مفتوحــة مــن الثقــب املوجــود فــي حذائــي "صابــر" .هطــول املطــريــزداد ،ويزيــد طرديــا معــه
تكمشــت ودخلــت فــي بع�ضــي ،ســحبت جثتــي البــاردة دخلــت إيقــاع أنفا�ســي ،مــن الخــوف ّ
ـرة كبيـ ٍـرة بيــن أشــجار الصنوبــر العريضــة ـدر صخـ ٍ
بيــن األشــجار واندسســت تحــت صـ ِ
ّ
كعنكبــوت صغيــرينــدس حيــن تدمــع السم ــاء ،كانــت تلــك صخــرة الغولــة هــي نفســها التــي
يأخذنــي الحــاج قــدور لنصطــاد فوقهــا أيــام ّ
الصيــف ،وهــا أنــا اآلن تحتهــا فــي هــذا الشــتاء
وتمنيتبأن بطني فارغّ . الشديد ،في انتظارشفقة األم الطبيعة ورحمة الرب ،شعرت ّ
لــو ّأنــي كنــت أملــك ّولعــة أو علبــة كبريــتّ ،
تمنيــت لــو كنــت أملــك سـ ً
ـقفا.
27
مطلوعة (خبز وحب)
علــى األرض إطــار كبيــر لعجلــة مح ـراث خلفيــة قعــدت فوقــه ،أســندت ظهــري،
ً
شديدا ابيضتا ً
بياضا مددت رجلي قليال ،وضعت محفظتي ،ورحت أنفخ في يدي وقد ّ
ّ
وتبللــت كل ثيابــي ،قمي�صــي الجديــد بــدأ يفقــد جمالــه ..تفقــدت محفظتــي لحســن حظــي
وحبات من التين ّ ً
قليل ّ ّ
املجفف ال أعلم من أين جاءت ،أسكتت وجدت بقايا خبزتبلل
ّ
بهـ�ا عصافيـ�ربطنـ�ي قليـلاـ.
_فجأة؟
وبينمــا أنــا شــارد فــي خليــط الظــام واألمطــارواألشــجار ،البــرد أمامــي أكاد أعانقــه
وأترجــاه ،أمامــي علــى األرض العشــبية املبللــة علــى بعــد متريــن ،حلــزون ســمين يتزلــج
بالعــرض البطــيء ،الحلــزون مزيــت يلمــع بحجــم إبهامــي علــى ظهــره يحمــل منزلــه املتنقــل
َّأن شــاء حــط الرحــال ،بــا مبــاالة يمــد قــرون استشــعاره ،ليعــرف الطريــق أمامــه ،يبــدو
أن آخــراهتماماتــه هــو الوقــت ،ال أعلــم كــم تعيــش هــذه املخلوقــات لكنهــا حتمــا تعيــش
كل لحظــة مــن حياتهــا الحلزونيــة البطيئــة بدقــة ،ال تحــرق ســعرات حراريــة كثيــرة لذلــك
ال يوجــد حلــزون نحيــف وطعمهــا لذيــذ ،خصوصــا عندمــا يطهوهــا جــدي علــى البخــارمــع
الســبانخ والبيــض ،حيــث أنــه فــي أحيــان كثيــرة كنــت أذهــب للصيــد معــه ،بجانــب هــذه
الصخــرة ،جــدي يكلفنــي أثنــاء ذهابنــا للصيــد بنبــش التربــة الحمـراء وجمــع بعــض ديــدان
التربــة الطويلــة التــي نســتعملها كطعــم للصيــد ،ثـ ّـم كنــت أثنــاء عودتنــا للمنــزل أجمــع
الحلزونــات مــن علــى األرض لتكــون علــى طبــق العشــاء رفقــة بعــض الســمك مــن الــذي
نصطــاده مــن هــذا النهــر ،آه يــا حضــرة الحلــزون لــو تقابلنــا فــي زمــان غيــرذا الزمــان لكنــت
ف��ي طب��ق عش��ائي.
ثــم فجــأة وأنــا أتأمــل اللوحــة الزلجــة الحلزونيــة أمامــي تناهــى لســمعي ،ص ـراخ
متقطـ�ع.
– أش.....أن...أل...مح..رس.
الصوت لم يكن يبدو بعيدا ،لكنه غيرواضح.
28
مطلوعة (خبز وحب)
تناهى لخيالي أن جدي رفقتي فوق الصخرة وهو يروي لي حكاية الغولة التي كانت
تأكل أوالد القرية في يوم ختانهم ،وتسرق أعضائهم الذكرية وترميها في الواد...
– أه يا سيدي ربي فرجها على خير ،الحمد هلل أنا اآلن مختون ومصون.
ثارت حكايات جدي وسرب األفكارالغريبة واملخيفة حامت داخل رأ�سي ،حشرت
رأ�ســي بيــن ركبتــي ،تكــورت علــى نف�ســي وســحبت أمامــي محفظتــي ،واحتميــت داخــل إطــار
عجلــة محـراث فــي انتظــارمرورالعاصفة.
– الحمد هلل رب العاملين.....قل هو هللا...قل أعوذ ...تبارك الذي...
شــرعت بق ـراءة الق ـرآن والدعــاء فــي صــوت خافــت ،اســتحضرت كل مــا كنــت
أحفظــه مــن آيــات فــي الزاويــة "الهبريــة البلقائديــة" بالقريــة قبــل أن أدخــل للمتوســطة
وأحتــك بالشــياطين وشــر النــاس.
وح ّدة الصراخ تزيد مع كل سورة أنهيها.. بدأ املطريخف مع كل آية أقرأهاِ ،
ثــم بعــد لحظــات خــف انهمــاراملطــر ،ألنهــض بحــذرمــن حلقــة اإلطــار وأخــرج مــن
تحت الصخرة الصماء ،وال يزال صوت الصراخ يقترب أكثر ،شدني الفضول والطريق
ألتبعــه .رحــت أم�شــي بخطــوات قــط علــى حافــة الــواد.
ابتلعــت ريقــي ..حينئــذ تذكــرت أنــي نســيت محفظتــي داخــل إطــارالعجلــة ،قبــل أن
أولــي أدراجــي ،كســرت عــرف صنوبــرنزعتــه ألحمــي نف�ســي مــن الحيوانــات املفترســة ومــن
شــر مــا خلــق ،مــن علــى األرض حملــت بيــن أصابعــي صخــرة ملســاء متوســطة الحجــم،
وعــدت لجلــب املحفظــة.
الظــام أرخــى ســتائره علــى املــكان وأنــا علــى ضفــة النهــر الطينيــة الزلقــة .متشــجع
أقــاوم الخــوف وخيالــي الخصــب.
عاد الصراخ مجددا...تقدمت نحو حافة النهرأكثر .بدى لي الصوت أكثروضوحا.
يعكره سيران مياه الواد الجارفة التي ارتفع مستواها جراء نزلة األمطاراألخيرة.
29
مطلوعة (خبز وحب)
– أش...أ...ال...إل..مح...رس..ا
صعــدت فــوق جــذوع شــجرة الصنوبــرّ ،
حتــى أوســع مجــال رؤيتــي ،ألرى ســطح
مجــرى الــواد.
الصدمة!
تفاجأت بجسد يصرخ عالقا بين أغصان األشجاراملتدلية داخل مجرى الوادي،
يلوح بيده ،يصعد تارة فوق املاء وينزل تارة أخرى ،يلفظ أنفاسه األخيرة على ما يبدو.
نزلت من الشــجرة بعدما حددت مكان الصوت ،اقتربت من حافة الواد ،الرجل
يصــارع املــوت ،يضــرب بيــده فــي ميــاه الــواد الضحلــة وصــوت صراخــه املتقطــع يمتــزج
بغرغــرة انســياب امليــاه داخــل فمــه ،يغرغــر ،يتخبــط ،يتلــوى ،ينــزل ،يصعــد ،يصــرخّ ،
ثم
عيد دورة املوت تلك .بيد يعانق صخرة ملساء زلجة كانت الكتسائها بصوف الجران،
بيده األخرى يتشــبث بغصن شــجرة طري رقيق قد ينقطع في أي لحظة ،تســحبه املياه
الجارفــات الســاحقات دون هــوادة واملخلــوق يصــرخ بقــوة طالبــا النجــدة.
فركت عيني ألتأكد مما أراه أمامي ،جسد يتخبط كالقط في برميل ماء ،تكاد تخر
قــواه وتخونــه ذراعــاه ،هــذا يبــدو مــن صراخــه الــذي يخفــت صرخــة بعــد صرخــة ،تـراءت
لــي فكــرة أن أذهــب نحــو القريــة لالســتنجاد بأحدهــم ليقــدم املســاعدة .ثـ ّـم عرفــت أنــه ال
وأن هذا الرجل أمامي لن يقاوم أكثرولم يعد باستطاعته أن يتمسك جدوى من ذلكَّ ،
ملدة أطول بتلك الصخرة ،وحتما إن بقي هكذا ملدة وجيزة ستجرفه مياه النهرالهائجة
وســيلقى حتفــه ال محالــة .يعنــي أنــه ال فائــدة مــن االســتنجاد بآخريــن ،وعلــي أن أتصــرف
لــم يعــد أمامــي خيــارســوى أن ألعــب دور البطــل.
رميــت جــذع الشــجرة داخــل املجــرى ألتفقــد ســرعة امليــاه ،ومــا كاد يالمــس الجــذع
حتــى اختفــى مــع الســيل فــي ملحــات مــن البصــر .تنهــدت ،ورجعــت للخلــف ســطح املــاء ّ
ثــاث خطــوات علــى وجــه الخــوف ،نزعــت محفظتــي وضعــت فوقهــا الصخــرة التــي كانــت
بيدــي ،ثب��ت كي��س أدوات��ي وأوراقــي مخافــة هبــوب الريــح وتعريــت مــن نصــف مالب�ســي،
30
مطلوعة (خبز وحب)
كانــت األمطــار دافئــة والريــح بــاردة تنخــر ســاقي ،حشــرت مالب�ســي داخــل محفظتــي ثـ ّـم
فركــت كفــي ،وهــا أنــا أســتعد للقفــزة ،نســيت البــرد ونســيت الطريــق ،كل مــا كان أمامــي
هوــإنقاــذ ه��ذا الرج��ل ،رجعـ�ت للخلـ�ف خطوتي��ن علـ�ى مقيــاس الشــجاعة واملخاطــرة ّ
حتــى
أزيــد ســرعة قفزتــي ،أجريــت فــي الحســبان ســرعة النهــرالقويــة إضافــة إلــى ســرعة الريــح
وسرعة جريي مع شدة تبلل ضفة الواد ،إذ ال حل أمامي سوى أن أقفزبمسافة أمامه
وأسبح تاركا مجرى تدفق الواد يسحبني بمسارمائل نحوه .إذ كلما سقطت أقرب منه
كان هــذا مــن صالحــي ومــن صالحــه .فهــذا مــن خبرتــي التــي أخذتهــا فــي الصيــف هنــا ،حيــث
أعــرف واد بوغولــة جيــدا.
هممــت أثبــت رجلــي علــى األرض ألتخــذ وضعيــة انطالقــة عــداء ،ســحبت نفســا
عميقــا ،حســبت املســافة بينــي وبيــن الــوادي وكانــت ســتة أمتــارتقريبــا ،انطلقــت .أجــري،
أتســارع ،أقفــز ،أشــق ســطح املــاء بأصابعــي ،أغطــس مباشــرة ،أمســك أنفا�ســي ،أبقــى
تحــت املــاء ألقــاوم التيــارالجــارف ،أدفــع برجلــي عكــس اتجــاه التيــارالــذي كان قويــا ،ثـ ّـم
أرفــع رأ�ســي بعــد ثــوان ألجــد أنــي قــد جرفــت بســرعة نحــو الخلــف ،الرجــل علــى بعــد أربعــة
أمتــارتقريبــا .ثـ ّـم رحــت أســبح بقــوة ألقتــرب منــه ،أجــد نف�ســي الزلــت فــي مكانــي ،التيــارات
تســحبني نحــو الخلــف بقــوة أكثــر ،ســحبت نفســا عميقــا وغطســت مجــددا ألتحــدى
أطناناــ م��ن امليـ�اه مجدف��ا عك��س مجـ�رى ال�وـاد .الســيل جــارف يســحب جســدي يبعدنــي
عنــه ،أثبــت نف�ســي ،أجمــع أنفا�ســي أكثــر .أغمــض عينــي وأســتعين بســمعي ألتبــع صــوت
الرجــل بكلمــات متقطعــة ســمعته يصــرخ ويقــول:
– آه آ..أشه...أن..ال...آه...مح آه...
– آه أشه ...أن… ال… إل… محم...ر
عرفت أني في املسارالصحيح .دفعت برجلي أكثر.
– أشهد ..أن ..ال إله ..محم ..آه ...رس ..ال ..آه
تابعت وزدت دفعا بذراعي.
31
مطلوعة (خبز وحب)
– ششششت...اهدأ
– أ...م...ي..م..ة....أه...آه..آه...أم..ي..
يردد اسما لم أتذكره تحديدا. والذي فاجأني حينما وصلت إليه بدأ بالبكاء ،كان ّ
ولــم أتمكــن مــن التعــرف علــى مالمــح وجهــه بســبب الظلمــة والفــزع الشــديد الــذي كانــا
يعتريانــه ...تشــبث بــي بقــوة.
يلتف حولّ أحاط بي بذراعيه كاد يخنقني .كبل يدي لم َ
أقو على التجديف .كان
يتشبث بفريسته.الضخم كأخطبوط ّ جسدي الصغيربجسده ّ
أتخبــط ،أغــرق والرجــل يغــرق معــي ،التيــار يجرفنــا للمنحــدر بشـ ّـدة ،املــاء أنــا ّ
ّ
يدخــل مــن أنفــي ،مــن حلقــي ،املــاء يسـ ّـد أذنــي ،تقلصــت أنفا�ســي ،أحسســت ببــرد رهيــب
فــي أطـراف أصابــع رجلــي ،أســعل ،أختنــق ،الرجــل يعصرنــي بيــن ذراعيــه أكثــر ،يســحقني
حتى أذني ،أرفع رأ�سي ألصطاد الهواء ،أتصارع مع طرية ،املاء يغمرني ّ كسمكة سردين ّ
الرجــل ومــع النهــرومعــي.
ّ ّ
فكرت في نف�سي ،هل أنزلق من بين ذراعيه وأتركه للموت ،هكذا ّربما أتمكن من
ّ الوصــول ّ
للضفــة وأنجــو .لكــن إن أنــا ســلمته للمــوت ملــاذا تكبــدت عنــاء إنقــاذه مــن املــرة
ِ
األولــى أصــا! تكالبــت ضوضــاء مــن أنصــاف األفــكارداخــل رأ�ســي ،تضاربــت علـ ّـي مشــاعر
الفــزع والخــوف والشــجاعة ،أدركــت حينهــا ّأن علــى املــرء أن يعيــش مــن أجــل هــدف ّإم ــا
أن يحققه أو أن يموت لتحقيقه .وبمقابل ذلك وجدت نف�ســي في الفراغ ال أملك شــيئا
ّ ولــم أرد مــن املــوت أن يأخذنــي هكــذا ً
معدمــا ،ال ألنــي أردت الحيــاة ومتاعهــا .وإنمــا أردت
العيــش مــن أجــل ش ــيء يســتحق املــوت ألجلــه أو العيــش لتحقيقــه.
32
مطلوعة (خبز وحب)
33
مطلوعة (خبز وحب)
– يموت! أين!
– هيا بنا..
ملــا وصلــت املــكان مــع نفــرمــن قريتــي ،لــم أجــد شــيئا ،الرجــل اختفــى ،ال أثــرلــهّ ،
كأن
األرض بلعتــه.
– أين هذا الرجل الذي يموت؟
– كان هنا ،أقسم بربي يا إخوتي!
– هل تحسبنا أطفال؟
– ال ال!
– وهللا فــي طريقــي إلــى املنــزل القيتــه يغــرق داخــل الــواد ،فقفــزت ألنقــذه ،مددتــه
هنــا ،وجئتكــم طالبــا املســاعدة.
– أظنك جننت على ما يبدو!
و آخروهو يضع الفأس من يده
– ياخي مهبول ياخي.
و أضاف عاشور القهواجي:
– اسمعوا يا جماعة هذا املكان فيه ذوك الناس
_ذوك الناس!
_أشششت يسمعونا! نعم مسكونة ،وساكنتها جنية رومية ،حكى لي الحاج عدة
ّ
مـ ّـرات ّأنهــم عندمــا كانــوا يمـ ّـرون مــن هنــا مــع الليــل يــرون األضــواء مشــتعلة علــى طــرف
الــواد ويســمعون أصــوات أطفــال صغــاروزغاريــد نســاء.
34
مطلوعة (خبز وحب)
35
مطلوعة (خبز وحب)
36
مطلوعة (خبز وحب)
َّ
البل ــبال
حبــات املطــر الخجولــة ،ونســيم هــواء منعــش بيــن ســحاب هالمــي حزيــن ،يغــازل ّ
يدهن حناجرطيور الحجل واملقنين 1لتعزف ألحانها الرنانة ،فتلطخ بها خلفية اللوحة
التشــكيلية فــي ســماء فســيحة تتدلــى منهــا عناقيــد بنفســجية ،تقبــل رأس جبــل "دوي"
ّ
املهيــب منتصــب القامــة ،كإلــه صغيــريحمــي القريــة مــن الريــح ويغشــاها بظاللــه ،يتفنــن
بســكونه الحكيــم ،تــارة يمســك ريشــته ويخلــط األلــوان حيــن تحــزن اللوحــة وتبكــي ليلهــا،
السماء ليقود الجوقة املوسيقية الخضراء ،من يلوح بها في ّ وتارة أخرى يمسك عصاهّ ،
آالت نفخيــة وصخريــة عرعاريــة ،صنوبريــة ،بخاريــة وقصبيــة ،بلبليــة ،لوزيــة وحلبيــة،
تعــزف علــى أوتــار ميــاد كل فجــر جديــد .وحينمــا ّ
يتبجــل ويلبــس معطفــا أبيضــا ّبراقــا
بهيجــا ،يقــود الســمفونية الســحرية الهادئــة ،فــي أثنــاء تلويــح خادمتــه الشــمس بأشـ ّـعتها
الدافئــة ،فــوق رأســه وأكتافــهّ ،
فتعريــه مــن ثوبــه ،عشــاقة الشــقية تلــك ،تشــتاق ملظهــره
العــاري الشــهي ،كفتــاة بريئــة فــي ليلــة دخلــة.
***
ينــدس عنكبــوت صغيــربيــن أغصــان الزعــرور ،تدمــع الســماء ،يتهــاوى العنكبــوت،
يهــوي العنكبــوت ،تدمــع الســماء.
حشوة!
***
37
مطلوعة (خبز وحب)
تتخبــى "جــدة قونــدة ،" 1تتخبــى كقطعــة طريــة مــن اإلســمنت ،تتخبــى بيــن حبــات
البلــوط ،تتلــوى ،كطفلــة غريــرة ،يحرســها جنــود مــن البلــوط بقبعــات وبريــة رماديــة،
فــي ثكنــات مــن حطــب ،يشــتهون رائحــة املــوت ،تطحــن الجنــود لتصنــع كسكســا شــهيا
حتــى يحمــرجلــده ،يصلــى علــى نــارذات شــهب زرقــاء ،وجمــرأحمــرمتــأألوبعضهــا يشــوى ّ
كحبــات اللؤلــؤ امللتهبــة.
نشوة!
***
دعســوقة فخمــة ،ســمينة مكــورة ملاعــة ،بجناحيــن ســوداوين مغلفيــن بغطــاء
أحمر ،أملس ملطخ ببقع حمراء ،ال تبالي ،ما على بالها �شيء تطيربين الزهرة والوردة،
تقلــب نفســها وتتدحــرج علــى املــرج األخضــر.
لوعة!
***
خنفوســة شــقية /غزالــة فقــدت أمهــا الخنفســاء ،علــى املنحــدرتتســلل بجانــب دار
زبيــدة ،تكـ ّـور وتكـ ّـور وتدفــع ،تدفــع! صاعــدة املنحــدر الزلــق ،تثبــت ســاقيها الخلفيتيــن
القصيرتين في الطين وتدفع بذراعيها وصدرها ملطخ بالطين والشقاء ،تجركرة الروث
املتماســكة بهندســة متقنــة.
تفلــت منهــا حبــة الــروث ،تتدحــرج إلــى أســفل املنحــدر ،تنزلــق الخنفوســة بكرشــها
املنتفخــة ،مــن دون تكلــل أو تزمــل وتلحــق بهــا ،تعيــد الكــرة وتدحــرج الكــرة ،كأن شــيئا
لــم يحــدث.
38
مطلوعة (خبز وحب)
إرادة!
***
بغلــة رماديــة صبــورة ،نبــاح الــكالب يمتــزج بعــواء الذئــاب ليبطــن فضــاء القريــة،
رنيــن حشــرة الــزش ينبعــث مــن شــجرة الخــروب الشــامخة فــي وســط القريــة.
معزوفة!
***
أشــجارالكاليتــوس تعانــق الجبــال فــي شــموخها ،الخروبــة عتيقــة ّ
حتــى الســحابة،
تدمــع معجونــا أصفــريخــرج مــن بيــن تجاعيدهــا الحكيمــة أيــن خصرهــا العريــض ،تخفــي
حكايــا أبطــال احتمــوا تحــت ظلهــا ودوي رعــود جيــوش وأمطــاررصــاص ف�ضــي وانفــاق
حناجــر دمويــة وصرخــات أوب ـرا ثوريــة تفــوح بعطــر الرجولــة ،الشــهامة والتضحيــة،
فــي جوفهــا تحبــل صــدى مــات قبــل أن يولــد ،يســمعه مــن عــاش أيــام الثــورة والجهــاد
والبطولــة عبــارات وعب ـرات
ال�سي املخفي والحاج عدة والحاج يحي وأحمد البغل.
و حكايا جدات وحكايا.
وراء الخروبة الطويلة .بعشرين قدما على وجه الحميمية الفنية ،ينبت مغازلها.
مخلــوق اللــوز األبيــض البســام بهــدوء أوراقــه الطويلــة ونــواره األبيــض املنتحــرواملتهــاوي
على أرض بكر ،خصبة ،تبلغ ذروة نشوتها بطلقات من الريح العاتية والنسيم الفحل،
واألمطــار املتالطمــة التــي تعطــي األكســير الســحري لشــبق حيــاة القريــة واســتمرارية
طهورهــا وصفوتهــا وغنجهــا.
بين الورق والريش بين املخلب والطحلب بين البذور والطيور.
39
مطلوعة (خبز وحب)
تخلــق شــوارع مجتمــع مــن العصافيــر املهذبــة والحش ـرات الفنانــة والزواحــف
األنيقــة والصراصيــر املضيئــة ســهرانة الليــل ،فراشــات متأنقــة ترقــص وتغنــي علــى
أوركســترا الــورود املزركشــة وتعانقهــا عيــن شــمس ذهبيــة مــن خســرها ،والتــي ترتمــي
بخيــوط شــعرها الذهبــي األشــقرلتثيــرســطح ذاك املنــزل الريفــي العريــق ،الــذي يتوســط
اللوحــة الفنيــة التشــكيلية ويقــود الجوقــة املوســيقية ،كعجــوز اعتــزل الفــن وتــاه ،وظــل
طريــق العــودة لبيتــه ،قعــد فــي مكانــه يفكــر مــن أيــن جــاء ،يتكــئ علــى شــجرة الخــروب،
وينتظــر عبــور غريــب يدلــه علــى طريــق العــودة .تــاه وال أحــد أتــاه.
يبــدو للمتأمــل عضوا حميميــا مــن أعضــاء األم الطبيعــة ،جدرانــه نديــة مــن حطــب
قديم يبعث الدفء في أعين الناظرين ،تزين خصره طحالب تلبس ثوبا أخضرا خفيفا.
عاري الصدر ،ينفث بخارماء خفيفا كثيفا .األعشاب تتسلق جلده كأخطبوط صغير
يعانـ�ق أبـ�اه بأذرعـ�ه املتشـ�عبة ويضـ�ع رأسـ�ه علـ�ى كتفـ�ه مخافـ�ة هروبـ�ه أو البعـ�د عنـ�ه.
يتنفــس العجــوز ويســعل مــن حيــن آلخــر ،يقــف صامــدا بصمــت مهيــب.
رأســه ملفــوف بعمامــة حمـراء مطـ ّـرزة بقطيفــة خضـراء ،يتصاعــد دخــان خفيــف
من قلبه ،ذاك الذي ينبض بحطب أحمرطازج ،يضع كرسيا وجريدة ورجال على رجل
ويتأمــل اللوحــة الفنيــة البديعــة املحيطــة بــه ،ينفــث دخانــا فحميــا مــن منخــاره املجــوف
بســهاد كربــون منعــس.
يراقــب الســيدة التــي تجلــس محتــارة قبالتــه ،تنتظــر العجــوز ليشــرفها أحــد مــن
ســكانه بارتشــاف دالء مــن جوفهــا العاتــم ،صامتــة وتتبــادل النظ ـرات فــي انتظــار ذلــك
الدلــو ليداعبهــا وتســقيه مــن ريقهــا.
بالجانــب اآلخــر كتلــة عجيبــة مــن الطيــن تحمــل فــي فمهــا بعــض الحطــب األحمــر
الشــهي .هــي ذي "الكوشــة" ،فــرن يــدوي الصنــع إلعــداد خبــزالــدارواملطلــوع قابعــة علــى
أرض خصبة خفيفة العشب ،متشققة الوجه ،حذاءها تضع صينيات مستديرة من
حديد ،بجوارها شباك صيد نصفها ممزق ومهترأ الخيوط ونصفها اآلخرمتشابك مع
بعضــه.
40
مطلوعة (خبز وحب)
كل هــذا املزيــج الفنــي يحيــط بالكــوخ الشــاحب ،كل جــزء مــن القريــة يســرد قصــة
فــي حــد ذاتــه ،يبعــج الزمــن ببســاطته وبأصالتــه ،كلوحــة فنيــة كقصيــدة شــعرية شــعبية.
مســرحية غيــرمكتملــة ّ
حتــى يكملهــا ســقوط نهــاريــوم جديــد علــى الكــوخ الصامــد.
صيــاح الديــك منبــه موثــوق فــي قريــة "البلبــال "تســتيقظ الحرائــرمــن النســاء أوال
إلعــداد فطــور الصبــاح ،قــدح مــن الحليــب كامــل الدســم مــع بعــض خبـزات مــن الكســرة
أو املطلوع وفي بعض األحيان تمرولبن .األطفال الصغاريتوجهون للمدرســة ســيرا على
األقدام بوجوه صدئة وأقدام نصف حافية .مآزر حائلة اللون ومحافظ رثة ،ويتوجه
الرجــال إلــى العمــل فــي امل ـزارع أو فــي مقلــع الحجــارة أو شــد الحيطــان وارتشــاف الف ـراغ
القاتــل.
جدة قوندة:
حشــرة اليعســوب أو فــرس النبــي ،لعــل مــن األســباب التــي جعلــت أطفــال القريــة
ّ
يســمونها بالجــدة أو ســؤالهم لهــا عــن أخوالهــم هــو شــعور شــوق يتولــد فــي األم التــي عــادة
مــا تكــون بعيــدة عــن أهلهــا ،فتالعــب أبناءهــا وتحبــب لهــم أخوالهــم بطريقــة مرحــة
عينة أسهل من السرعوف الساكن الذي يتيح لك ّ
التأمل يزدادون بها شوقا لهم .وأي ّ
ومحادثتــه.
كان األطفــال يفرحــون بلقائهــا وينزلــون عليهــا بوابــل مــن األســئلة ،فيســألونها عــن
القبلة ،منا وال منا؟” أو يسألونها عن القبلة ويغنون لها “آ سيدي الحاج قلنا وين راهي ِ
أحبائهــم “ويــن راه فــان مــن وال مــن؟” أو أخوالهــم “بوشــعيرة ويــن راهــم خوالــي”“ ،يــا مــا
عيشــة خوالــي هــاك وال هــاك؟” أو عــن أشــيائهم املفقــودة أو أحبائهــم ،ويتــوددون لهــا “يــا
اللــة عــودة ناســك مــن وال مــن؟“ .فتتفاعــل معهــم بحركاتهــا الرشــيقة والغامضــة وتنحنــي
نحو أحد االتجاهات أو تشيربطرفها أو تهزرأسها أو قرون استشعارها نحوه .فيتبعون
االتجــاه الــذي تشــيرلهــم بــه.
فهــي بوصلــة الطفولــةّ ،
حتــى قيــل “ ـكـي تهمــل ومــا تعرفــش داركــم ويــن راهــي سق�ســي
بوشــعيرة”" .عندمــا تضيــع وال تعــرف طريــق الرجــوع ســل اليعســوب" ويتخيــل غيرهــم
41
مطلوعة (خبز وحب)
مســرحية غنائيــة“ :جيــدة عريبــة مايــن كنتــي ..ويتخيلونهــا تــرد قائلــة :كنــت نغســل
لوليداتي … كنت نمسح لوليداتي … كنت نمشط لوليداتي … جيدة عريبة واين كنتي..
فتــرد كنــت نجــري ورا وليداتــي”.
وقد يحمله بعض الفتية من وسطه كي يسألوه ،بينما يقبل عليه البقية والبنات
خاصة ليســألوه بلطف عن جهة زواجهم ويترقبون حركته بفارغ الصبركي يشــيربأحد
أطرافه األمامية ليريهم الجهة التي يسكنها فارس أحالمهن.
ويغلوا بعضهم ويسأله:
_ يا جدة وين نروحو للجنة وال للنار؟
"يا جدة أين نذهب للجنة أم للنار؟ "
42
مطلوعة (خبز وحب)
في زاوية من زوايا البيت الريفي البديع ،تســمع دندنة "عيشــة "وهي تدندن أغاني
شــعبية قديمة في نغمات متوازنة أكثرها لحنا من كلمات..
وهنــاك بيــن أحضــان الهيــدورة الدافئــة يرقــد بوضعيــة جنيــن ،فتــى نحيــل يميــل
للســمرة بشــعر أســود وجبهــة واســعة ،يضاجــع وســادته بلــذة وألفــة ،وســادة حبلــى
بصوف األغنام والخرفان حيث يستراملشهد الحميمي حنبل أمازيغي أصيل من الوبر
املزركــش باألحمــر واألصفــر.
43
مطلوعة (خبز وحب)
صابر
44
مطلوعة (خبز وحب)
45
مطلوعة (خبز وحب)
أقــع أرضــا منبطحــا بوضعيــة جنــدي .متقيــد بأمــر مــن ســلطة أمــي الحكيمــة فــي
معرفــة أماكــن تواجــد األشــياء.
– هــا هــو ،أخــرج! هيــا صابر...دعنــا نتم�شــى ،همم...همــم كيــف أخرجــه مــن هنــاك
اآلن؟
كان بعيــدا عــن متنــاول يــدي ،نزلــت الســلم حافيــا مســرعا نحــو القبــو ،أحضــرت
ع�صــى جــدي الخيزرانيــة وأخرجتــه بعــد مــد لســان.
الغريــب فــي األمــرأنــي كثيـرا مــا أجــد الفردتيــن منــه كل واحــدة فــي جهــة ،برغــم ذلــك
وبغض النظرعن ذلك كنت أحترمه وأقدره ،وأنفض عنه الغباروال أقتحم به املزرعة
ألفســده بالطيــن واألوحــال.
هــا هــو ذا بنــي اللــون ذو رأس مســطحة وحــواف قصيــرة علــى جوانــب قاعدتــه
املنخفضــة ،يشــده خيــط قصيــر يســهل ربطــه مصنوعــا مــن الجلــد ،يبــدو كبي ـرا علــى
مقاس رجلي "رغم أن مقاس رجلي كان في عمررجل بالغ ،الشعريمأل ساقي ،كان إصبع
رجلــي األكبــرطويــا بعــض ال�شــيء" إال أنــه كان مريحــا علــى مقا�ســي ،يناســب أصابــع رجلــي
التي يبرز منها إصبعي األكبرفي تسلل واضح ،مع مرورالوقت تشكل على هندسة رجلي
ونمــط تـراص أصابعــي ليناســب قدمــي ،هــذا مــع الوقــت أيضــا ولألســف حفــرلنفســه فــي
جلد الحذاء حفرة يتنفس منها .كبيرإخوته ،يطل على العالم الخارجي دون أن يستحي،
وهل هناك غيرهذا الحذاء ليحمل هذه الرجل الجميلة؟ وهذه األصابع الغريبة لذلك
ينبغــي علــي أن أحترمــه وأقــدره وأذكــره لكــم.
***
ألبس صابرباحترام متبادل ،أشد عمامته بخيط أسود متين متوسط.
أضــع القشــابية املدرعــة بالجلــد والوبــرعلــى كتفــي ،علــى صــدري قالدتــي الفضيــة
التــي ال تفارقنــي ولــم تفارقنــي بمثابــة الحــرز عنــدي ،علــى ظهرهــا مجموعــة مــن الرمــوز
القديمــة ،هديــة مــن جــدي يحــي الصابــري ،يــوم ختانــي ،عرفــت بعدهــا أنهــا ترجــع لخالــي
46
مطلوعة (خبز وحب)
بوعــام الصابــري .جــد جدي .وهــي متوارثــة أبــا عــن جــد فــي العائلــة .وهــذا ســرقدوســيتها
و�شــيء آخــرال أعرفــه ولــم يــرد جــدي أن يخبرنــي بــه وبمعنــى الكلمــات التــي قالهــا لــي عندمــا
وضعهــا علــى رقبتــي.
أقبل رأس عيشة التي تقف عند الباب ،منذ أن كنت صغيرا وهي تفتح لي الباب،
تقبلني كل صباح عند خروجي ال أدري متى ستستمرفي فعل هذا...حقا ال أدري!
– اعتني بنفسك يا أمي..
– يعتني بنا ربي ..رد بالك على نفسك!
أجــرنف�ســي وأجــرزبيــدة لتتنــاول فطــور الصباح...تــاركا ورائــي عيشــة وهــي تمخــض
فــي الشــكوة ،1تهزهــا جيئــة وذهابــا لتشــكل زبــدة طازجــة تســيل اللعــاب عنــد رؤيتهــا.
هــزشــاب نشــيط فــي أوج عطائــه كانــت امـرأة فــي األربعينات...أمــا شــكلها يوحــي بأنهــا
فــي الثالثيــن أو لــم تقــارب مــن عمرهــا ...بعينيــن وهاجتيــن مخضرتيــن ،ذاك اللــون املعكــر
الطحلب��ي ،يق��ارب الرمــادي ويمي��ل إل��ى األزرق.بشــعر طويــل أســود فحمــي تضــع فوقــه
منقطــة باألصفــر .ضحتكهــا تطلــع معهــا الشــمس وتزهــراملقابــر. قطعــة قمــاش ّ
- 1آلــة مصنوعــة مــن جلــد املاعــز تســتخدم فــي خــض اللبــن حيــث تعتبــر الشــكوة حــا جيــدا لحفــظ
الحليــب وتحويلــه ألــى لبــن حامــض وزبــدة منــذ القــدم ،كمــا تســتخدم أيضــا لتخزيــن الســمن والعســل
والتمــر.
وتصنــع الشــكوة مــن جلــد صغــاراملاعــزبعــد ذبــح الشــاه ،فبعــد الذبــح يتــم قطــع ال ـرأس وفتــح فتحــة
بمقــدار 30ســم لكــى يتحكــم الجـزارباســتخراج جســم الذبيحــة ،ويســتخدم فــي الســلخ آلــة حــادة واليــد
هي من تقوم بسلخ الشاه من الداخل بفصل الجسم عن الجلد بطريقة ال تترك أي شوائب أو دهون
فــى جلــد الذبيحــة مــن الداخــل وبعــد االنتهــاء مــن الســلخ تســتخرج الذبيحــة مــن جهــة الرقبــة مــع املــكان
املخصص لها ،ثم بعدها مرحلة الدبغ وهي املرحلة الثانية بعد مرحلة السلخ واستخراج الذبيحة ثم
بعــد ذلــك تبــدأ عمليــة الدبــغ باســتخدام أوراق الزيتــون ونبــات الشــعرة ،حيــث يتــم وضــع امليــاه فــي إنــاء
كبيــريســع حجــم الجلــد وتضــاف أوراق الزيتــون أو نبــات الشــعرة وينقــع الجلــد فــي امليــاه ملــدة تزيــد عــن
10أيام حسب ما يتطلبه الجلد من وقت وما يراه املصنع ،ثم بعدها يتم استخراج الجلد من املياه،
فميــاه الزيتــون تقــوم بتســهيل التخلــص مــن الشــعر وإزالــة رائحــة الجلــد وإفرازاتــه تمامــا كمــا تعطــى
الجلــد ملمــس خــاص ال يتفاعــل مــع اللبــن أو الزبــدة ،وبعــد االنتهــاء مــن عمليــة الدبــغ يتــم غســل ُالجلــد
باملاء واملنظفات ما يقارب عن 5مرات مع مراعة التجفيف في الشمس عقب كل مرة ثم أخيرا تصبح
جاهــزة لالســتخدام بعــد فركهــا بالحلبــة وامللــح املطحــون.
47
مطلوعة (خبز وحب)
بفم صغيرومالمح تدل على التعب واالطمئنان ،كيف ال ،وتلك الجفون الثقيلة
تغمــض بهــدوء مــع ابتســامة عريضــة ترســمها شــفتان مرســومتان بقلــم رصــاص رقيــق،
تللك االبتسامة مسجلة في أرشيف ذاكرتي ،كل ما اقتربت من الباب ألودعها صباحا،
إال وأظهرتهــا لــي ـكـي أطمــأن علــى حالهــا .حكايتــي مــع عيشــة حكايــة.
ملــا أعــرف أنهــا راضيــة عني...فيرتــاح بالــي وأشــد طريقــي .وأذهــب أيــن مــا شــاء هللا لــي
أن أذهــب.
قبــل خروجــي أقبلهــا علــى جبينهــا ،فتحــرص أن تــدس داخــل محفظتــي بعــض قطــع
الكســروالجبنــة وتيــن جــاف.
بمــكان غيــر بعيــد هــا هــي ذي زبيــدة فــي حجرتهــا املصنوعــة مــن جــذوع األشــجار
املغروســة بإحــكام فــي األرض ســقفها هــو عبــارة عــن قصبــات جافــة مصطفــة بمحــاذات
بعضهــا البعــض.
مطأطــأة الـرأس ،واســعة العينيــن ،بيضــاء ببقــع ســوداء أو ســوداء ببقــع بيضــاء ال
زلــت أتســاءل!...
بأهداب طويلة وأنف عريض أسود وفم مملوء باللعاب اللزج يدل على أنها بقرة
حلــوب ،يــدل علــى أنهــا جائعــة وهــي تغــرس حافرهــا علــى األرض ،كأنهــا تقول...لقــد أطلــت
القــدوم اليــوم!
– هيا نذهب أنا جائعة!
أضع برفق الحبل الطويل على رأسها "و برقبتها جرس أصفركبيرمشدود بإحكام
ولطف ،يحدث نغما جميال عند مشيها"...مداعبا رأسها:
– حسنا عزيزتي ،هيا بنا
وجهتنا إلى مرج "العابد" لترعى
48
مطلوعة (خبز وحب)
أشــد حبل رقبتها تســيرورائي .أنا أصفروأدفع الح�صى الصغيرة برجلي ،إلى غاية
أن أصــل إلــى مــرج أخضــر غنــي بالعشــب علــى مســافة نصــف ســاعة مــن امل�شــي أربطهــا
بإحــكام إلــى وتــد حديــدي أغــرزه فــي األرض ،وأســتودعها فــي رعايــة "بارجــي "علــى أمــل أن
نلتقــي فــي املســاء علــى طاولــة املغيــب أنــا وزبيــدة "وبارجــي "والشــمس.
49
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب_
السيد سميربن عودة
***
خــرج ســميرمــن القاعــة واتجــه ليقابــل املحقــق املاحــي مباشــرة .نــزع قبعتــه وجلــس
جزء منها وسلمه لسمير. على الكر�سي .قابل املحقق الذي يحمل تفاحة في يده .قسم ً
_هو بخير.
– مــاذا تقصــد ،أنــا مــع الدراســة ،مــاذا أخذنــي لتلــك الحومــة ،أصــا أنــا ال أحــب
أوالد تلــك الحومــة!
_حسنا خذ ّ
كل بعض التفاح فهو مفيد لصحتك فأنت هزيل مثل قط.
ســكت ســمير وأكل قطعــة التفــاح ،قضمهــا بجنــب فمــه األيســر ،ألن أســنانه
األماميــة شــبه متآكلــة مــن الكيــف والشــرب ،ثـ ّـم تابــع املحقــق كالمهــم وهــو يقســم نصفــا
آخــر مــن التفاحــة ويــأكل منــه:
– أنــت لــم تعــد تحبهــم! نعــم بطبيعــة الحــال أنــت علــى حــق ،ألن البيــع فــي امليــاه
العكرة ال يناســبك ،أنت تعوم في املياه الصافية تحت ظل هذه املدرســة...هل حســبت
أنــك بعيــد عــن عينــي؟ والعيــن عمرهــا مــا تعــا علــى الحاجــب .اآلن أخبرنــي مــا هــي عالقتــك
بالضحيــة؟
– هي مجرد عالقة سطحية فقط ،تستطيع القول أنه زميلي في القسم فقط.
50
مطلوعة (خبز وحب)
– زميلك.فقط! حسنا ال علينا .أخبرني متى كانت آخرمرة تحدثت معه فيها!
– ال أتذكرربما منذ ثالثة أيام ،ال ال يومين..
– يومين أو ثالثة أيام ،أنت تكذب ،لقد تمت مشاهدتكم في غرفة تغييراملالبس
قرب ملعب كرة السلة وأنتما تتشاجران بعدها سلمته شيئا وخرجت.
– نعــم ،أثنــاء املبــاراة أصبتــه بالكــرة دون قصــد ،فنــزف أنفــه ،وثــارغضبــه منــي ،ثـ ّـم
عنــد انتهــاء حصــة الرياضــة البدنيــة ،تبعتــه للحمــام ألعتــذرمنــه فلــم يتقبــل اعتــذاري،
وبــدأ فــي شــتمي .أعطيتــه منديــا ليمســح أنفــه وخرجــت!
– هل أنت متأكد من أنه منديل ولم يكن شيئا آخر؟
– نعم أنا متأكد!
ثــم أخــرج املحقــق مــن جيبــه كيســا صغي ـرا يحمــل مــادة بيضــاء ووضعهــا علــى
الطاولــة!
– هل هذا هو املنديل الذي تقصده!
"و نظرات املكرتبدوا على وجه املحقق"
–.....
– ماذا هل ابتلعت ريقك اآلن؟
– ال أعرف ما هذا وال أعرف من أين جاءت!
– هاه ،لكني أعرف في املحكمة أنك ستعترف بأنك قتلته ألنه لم يدفع لك!
– مــاذا تقــول ســيدي أنــا بــريء ،أصــا أنــا لــم أدخــل هــذه املكتبــة ســوى مرتيــن فــي
حياتــي مــع فــارس.
51
مطلوعة (خبز وحب)
–ال �سي....
52
مطلوعة (خبز وحب)
53
مطلوعة (خبز وحب)
آخرسنة دراسية في الثانوية ،أول ساعة دراسية أقفل الحارس الباب في وجهي،
قفزت فوق السور الخلفي واقتحمت بهو الساحة ،ال �شيء تغيرفي ثانوية "غالمي عبد
القــادر" ،مثــل بدايــة كل عــام جديــد ،البنــات فــي الســاحة يصرخــن يجريــن هنــا وهنــاك
ليعانقــن بعضهــن كأنهــن أطلقــن مــن ســجن ،األوالد يشــكلن جماعــات حســب الفئــات
االجتماعيــة ،طبقــة املجتهديــن أو "الخباشــين" كمــا يطلــق عليهــم ،تجدهــم فــي الغالــب
أمــام األقســام مباشــرة ،ينتظــرون قــدوم األســتاذ لحمــل حقيبتــه ،تميزهــم بمــآزر مغلقــة
ونظــارات دائريــة يحملــون علــى ظهورهــم محافــظ ســمينة والجديــة تطبــع مالمحهــم
الســخيفة ،ثـ ّـم الطبقــة الوســطى تلقاهــم يتجولــون فــي وســط الســاحة الكبيــرة ،أغلبهــم
ذو شــهرة واســم مميــز ،خليــط مــن أوالد األثريــاء وأبنــاء رجــال األعمــال وأبنــاء األســاتذة
واملوظفيــن ،تميــزأغلبهــم مــن مالبســه األنيقــة واألحذيــة الرياضيــة األصليــة حــد قولهــم،
ّأمـا الطبقة الثالثة تنتشرفي زوايا املدرسة أوفي املراحيض "يطلق عليهم "الصراصير"،
تتميــزهــذه الطبقــة بقلــة عــدد أفرادهــا التــي تكــون عصابــات صغيــرة ألهــداف متعــددة،
في أغلب األحيان يتهربون من ارتداء املآزر ورفع العلم الوطني ،ويتهربون من الساعات
الدراسية األخيرة ،مآزرهم مقطوعة األكمام عن األكتاف تحمل رسومات يعبرون بها
عن أنفســهم ،تنانين ،وجوه أبطال أندية كرة القدم ،ســجائرحشــيش بوب مارلي ،وأنا
أرسم لهم أي �شيء مقابل املال هذه موهبتي ومهنتي ،الرسم على املآزر وهل ترون هذه
الرســمات الجداريــة والعبــارات الثقافيــة واآليــات القرآنيــة املوزعــة فــي أرجــاء الثانويــة،
معظمهــا مــن رســمي إن لــم أقــل كلهــا ولــم تكــن موجــودة قبــل أن أدخــل هــذه الثانويــة.
تســتطيع تمييــز جماعــة الصراصيــر مــن ألبســتهم امللونــة ،الس ـراويل املقطعــة
والقبعــات الرياضيــة وتحليقــات الشــعر الغريبــة وبعــض األوشــام "أينمــا كان الرســم
أكــون" وأقـراط األذن ،لهــم عالقــات كثيــرة مــع الطبقــة الثانيــة .طبقــة أصحــاب النفــوذ،
عالقــة عــداء فــي الظاهــرلكنهــا عالقــة تكامليــة فــي خباياهــا ،الصراصيــريســتغلون نفــوذ
املدللين واملدلين يســتغلون قوة الصراصيروشــجاعتهم ،يســتفيدون من تلطيخ أيديهم
54
مطلوعة (خبز وحب)
من أجل بعض الدراهم وقضايا مختلفة .نفس األحداث ،نفس العباد ،نفس الروتين
املمــل يتكــرر نقــف فــي صفــوف لرفــع العلــم الجزائــري ،هنــا تســهل عليكــم املالحظــة،
أنظــروا معــي الطبقــة األولــى "الخباشــين" فــي املقدمــة ،ثـ ّـم الطبقــة الثانيــة "املدلليــن"
فــي الوســط وفــي آخــر الكتيبــة الطبقــة الســفلى "الصراصيــر" .الفتيــان باملــآزر الزرقــاء
والفتيــات باملــآزر الورديــة الفاتحــة بعــد أن أنهينــا نشــيد "قســما “ ،انســحبت مــن وســط
الحشــود والضجيــج.
تمشــيت مــن جهــة مخبــر املدرســة ســمعت صوتــا حــادا ،تبعتــه ،فالحظــت أن
هنــاك شــجار باأليــدي ،علــى كل حــال مثــل هــذه األمــور عاديــة فــي هــذه الثانويــة وكثيــرة
حتى أفكرأحيانا أنه ال يفصل بيننا وبين السجناء سوى القضبان الحديدية الحدوث ّ
واالختــاط بالفتيــات ،هنــا مثــل الســجن تمامــا هنــاك جــدران عاليــة مســيجة وســاحة
فنــاء كبيــرة ،باإلســقاط نجــد أن غــرف األقســام بمثابــة زنزانــات .بحيــث تحمــل تقريبــا
نفــس العــدد بيــن الثالثيــن واألربعيــن شــخصا ،فقــط ال يوجــد حـراس األبـراج لكــن عوضا
عنهــم هنــاك املســاعدين اإلدارييــن املنتشــرين فــي كل مــكان .إدارة صارمــة القوانيــن وكثيــر
حتى تتم التربية على أكمل من التشــابهات بين املؤسســة العقابية واملؤسســة التربويةّ ،
وج�هـ يج��ب أن يكــون هن��اك عقـ�اب .والعقــاب أســلوب مــن أســاليب التربيــة.
وسط الشجارأمامي رأيت فتى ضخم الجثة أصلع الرأس ،يرتدي سرواال قصيرا
ومحفظــة بحـزام واحــد ،ينهــال لكمــا فــوق فتــى أشــقرطويــل ،يخنقــه تحــت ذراعــه القويــة
مــرددا كلمــات غاضبــة.
_آه قلها ،تكلم ،تفووه ،حڤار..
ثم ينتبه إلي ،ينطح خصمه بآخرنطحة ّ
ثم يفلته. ّ
55
مطلوعة (خبز وحب)
56
مطلوعة (خبز وحب)
_الشيكوالتة هاك ذق ّ
البنة ..سلعة كتامة هنا ...كتامة بورقتها الخضراء"
ثم عندما الحظ تواجدي ،نهض مباشرة:
– أووه من هنا! يوووو مطلوعة!
ثم التفت إلى الفتية خلفه:
_خالص ،روحوا اآلن! رفعت الجلسة.
أغلق محفظة ظهره تقدم نحوي مبتسما وقبل أن يصل أمامي ينادي عليه أحد
الفتية من الخلف.
– يالفاريالفااااااار! عندي أربعين ألف هذا ما في رزقي ،وغدا أزيدك...
و دون أن يلتفت نحو الفتى رد بنبرة مبحوحة:
– قل لطارق يعطيك رقمي واتصل بالحصة صديقي ،طارق سيتكفل بك.
وضع يده على كتفي:
– مطلوووعة ياه! انقطعت أخبارك ،أين اختفيت في الصيف؟
– يا سمير ،أنت بالهاتف قد تطورت ،لم تصبح متاحا لنا!
– آ ذي هــي الدنيــا صديقــي ،مــا أكســبه فــي النهــارأصرفــه علــى رأ�ســي فــي الليــل ،أنــت
تعــرف كــم ليلنــا ثقيــل.
– وكعادتك ال تزال تجري وراء املوضة.
– بــدون أن أحكــي لــك .فقـراء وزعمــاء .ال نلبــس غيــراألصلــي ،األصلــي ،قلــب الحبة،
أنت .تعرف .قد اشتريتها من عند مروان على كل حال بنصف الثمن.
57
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم أشــعل ســيجارة وناولنــي ســيجارة أخــرى ،فابتســمت ابتســامة ســمينة ،تعبي ـرا
عــن الرفــض ،نظــر نحــوي بنصــف عيــن مــد يــده فــي الحقيبــة علــى خصــره وأخــرج منهــا
ســيجارة حشــيش وهــو يبتســم "أو هــل تريــد هــذه؟".
– ملاذا هذه النظرة ،أنا أمزح يا ممل ،املهم أنظرهذه السلعة الجديدة!
…–.
ثم من جيبه الخلفي ،أخرج صفيحة أقراص بيضاء.
– أمزح ،أمزح صديقي بدون هذا الوجه العابس!
…_..
– باملناسبة كيف حال خالتي عيشة؟
– الحمد هلل على كل حال .وعمي عدة كيف حاله هل شفي من ألم ظهره؟
– هو مع الصحة و..
ثم بسرعة ّ
غيراملوضوع حين سألته عن صحة أبيه.
– املهم .أنظرداخل هذه الحقيبة هنا ،نوعية أصلية ،حبة واحدة وتحلق لعالم
آخــر" ،ليريــكا "صاحبــي ،إذا قــال لــك أحدهــم علــى الصــاروخ أرســله لصديقــك وعنــدك
منــي هديــة علــى كل شــخص ترســله لــي.
– الصاروخ!
– إيــه هكــذا يقولــون لحبــة ليريــكا الصــاروخ ...هنــاك ال 150ملغ ـرام وال 300
ملغرام ،الطرواســو صاحبي حبة واحدة فقط تدوخك .إلى املريخ مباشــرة .هذا آخرما
وصلنــا مــن الحلويــات.
58
مطلوعة (خبز وحب)
59
مطلوعة (خبز وحب)
60
مطلوعة (خبز وحب)
ثـ ّـم يدخــل البيزنطــي /أقصــد أســتاذ التاريــخ والجغرافيــا كمــا تلقبونــه ،تنتظــره
ســارة بنــت القا�ضــي عنــد البــاب ،بضفائــر شــعرها الســخيفة ومقــوم أســنانها النجمــي.
– صباح الخيرأستاذ!
وتحمل محفظته تضعها على املكتب.
يصعــد البيزنطـ�ي ف�وـق املس�طـبة بقامتــه الفارهـ�ة ورأســه األصلــع وحذائــه الكبيــر
الغريــب:
– كما تعرفون...
ثم رفع سرواله وشد حزامته ،كح مستديرا ّ
ثم قال:
– الدولة التي ال تملك تاريخ ليست دولة و...
تمتمت في سري:
– بــارك هللا فيــك يــا شــيخ .التاريــخ يكتبــه الغالــب وليــس املغلــوب .لذلــك أنــا أكمــل
نومــي..
– درسنا اليوم ..على ..الحض.ر..
– مروان إذا أتى من هنا األستاذ نبنهي .سأنام
أسند خدي على سطح الطاولة ،أراقب مروان وهو يحشرسبابته في أنفه يبحث
عن الفهامة ّ
ثم بعد لحظات قليلة:
_وقوف!
غمزني مروان ،غمزة بلهاء يزم فمه ويرفع حاجبيه .مال نحوي هامسا.
_انهض ..املديرهنا ومعه..
61
مطلوعة (خبز وحب)
– معه!...
– قم لترى بنفسك.
نهضت متكاسال ،من بين الرؤوس واملآزر الزرقاء أملحت املشهد.
اقترب مديراملدرسة من أذن البيزنطي ،في موقف سخيف ،املديرقصيرذو كرش
مكــورة وشــكل غريــب واألســتاذ طويــل لحــد العيــاء ،انحنــى البيزنطــي ،ليســمع املديــر،
ابتســم البيزنطــي وهــزرأســه ثـ ّـم أشــاراملديــربإصبعــه نحــو البــاب وقبــل أن يتــم حركتــه.
نطق البيزنطي:
– رحبوا معي بزميلتكم الجديدة.
دخلت القسم كعارضة أزياء بخطوات موزونة ومتناسقة .وقفت أمامنا كدمية
"باربــي" خرجــت لتوهــا مــن العلبــة ،انزحــت مــن مكانــي بيــن الصفيــن ،ألقابلهــا مباشــرة.
تجمــدت ،تســمرت .كانت.....ت...شــعرت...ه ..انحنت...كنهوىــي تبــي بــي ككوتــخ تجكــت.
مخااحــح نالــق.
توقف! توقف! شد..شد ..هربت الحروف ،لم أجد الكلمات ،كيف أصفها لكم؟
كراقصــة بالــي محترفــة قدمــت لنــا التحيــة ،الحــت ،أشــرقت ،تفتحــت ،أنــارت،
توهجت ،متوسطة الطول جسدها منحوت ،بتنورة زرقاء ليلية ممشوقة ومتوسطة
القامة وفي رجليها املالئكيتين حذاء كالسيكي ملاع بربطة أنيقة ،دخلت في بع�ضي حينما
أبصرتهــا ،اقتربــت منهــا خطــوة علــى وجــه الهيــام ،ســبحان رب مــن نحــت هــذه العيــون
الخالــدة ،ســبحان مــن رســم هــذه الشــفاه العنبيــة املمتلئــة ،شــقراء كأن شــعرها الــذي
يصــل ألســفل ظهرهــا مدهــون بمــاء الذهــب ،شــامة فــي رقبتهــا كأنهــا توقيــع الــرب عندمــا
انتهــى مــن رســمها .عظــام رقبتهــا بــارزة مثــل منبــت أجنحــة كأن خالقهــا كان ســيخلقها ثـ ّـم
ســواها بشـرا .أنا أتســاقط مع كل رمشــة من عينيها بلون الربيع واملرج األخضر .بيضاء
بلون حليب زبيدة ،وجهها صغيرخدودها موردة وعيونها خضراء بحجم فمها ،اقتربت
62
مطلوعة (خبز وحب)
منها خطوتين على وجه الفضول والجمال ،رائحتها شهية ،تتوسط ذقنها فلقة الحسن
وفــي رقبتهــا وحمــة ســوداء صغيــرة غامضــة ،رائحتهــا منعشــة كأنهــا تتوضــأ بالنعنــاع
وتســتحم بدمــوع املالئكــة ،بيضــاء طريــة شــهية مثــل عجينــة املطلــوع فــي قصعــة عيشــة،
اقتربت منها خطوة أكثر ،أغرق داخل أنفاسها أكثر ،في الواقع تبدو عليها مالمح الثراء.
هـ�ل سـ�قطت مـ�ن الجنـ�ة؟ حاشـ�ا أن تدخليـ�ن املرحـ�اض أنـ�ت! أفروديـ�ت .أمامـ�ي.
ثــم بعــد وهــات مــن الهيــام ،يســحب منــي الواقــع بســاط الخيــال ،وأرجــع بالعــرض
الخلفــي البطــيء ،وأجــد أنــي الزلــت متجمــدا فــي مكانــي ،أضغــط علــى الطاولــة .متأمــا
اللوحــة الفنيــة أمامــي .وكــم فنــان قــد ألهمتــه ليعيــد رســمها أو عزفهــا أو كتابتهــا أو نحتهــا
كــم يــا تــرى؟
– جلوس
قعــد الجميــع وأنــا ال أزال واقفــا ،أتأمــل الشــمس حيــن تغــرب ،خصــص لهــا األســتاذ
الطاولة األولى مباشرة أمام مكتبه ،دخولها رفقة املديروتعامل البيزنطي معها بلطف
واملقعــد األول دليــل علــى أن هــذه الفتــاة ذات شــأن.
يشدني مروان من كمي.
_أقعد أقعد..
– آه آسف ،قد نسيت روحي.
– هل وقعت في حبها من أول نظرة!
– وقعت؟
– الرجال ال يقعون يا صديقي.
_ لكنك وجهك أصبح وجه طفل صغير .أو خيل لي؟
63
مطلوعة (خبز وحب)
_ تفاصيلهــا فنيــة .كأنهــا هاربــة مــن لوحــة تشــكيلية .تشــهي األلــوان وتثيــرانتصــاب
الريشــة لتغتــرف مــن حوافهــا املنحوتــة.
_ أظنك عشقتها يا صديقي
_ سبحانك قد خلقت الجمال وقلت اتقوا ..فكيف نرى الجمال وال نعشق؟
ضحك مروان.
– يظهرعليها الثراء
– نعم
– أظنها بنت رجل أعمال أو سيا�سي ما.
–سنبحث عن تفاصيل الحسناء
قال مروان بعدما لحظة من الصمت:
– "يا مزين من برا كيف حالك من الداخل "
– ماذا تقصد؟
– ال تتعب نفسك معها .مطلوعة ،لي ما هو ليك غيريعييك.
– إذن سأقوم بإعيائه قبل إعيائي
– أنت عنيد .دعنا منها وركزمع الدرس..
– نعم .أنت محق أنت ركزمع الدرس وأنا سأركزفي الدرس.
_هههه .لقد خطفت قلبك ..واآلن ستخطف عقلك.
***
64
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب_
السيد فارس باني
***
– اجلس يا شكسبير.
_لم نلتق منذ مدة.
_نعم.
_هل تأكل التفاح!
_ال شكرا.
– أخبرني ماهي عالقتك باملرحوم .وهل قتلته؟
– هــو زميلــي فــي القســم ،وبعــد الــدوام زميلــي فــي الــدروس الخصوصيــة...ال ال لــم
أقتلــه ،وال ســبب يدعونــي لفعــل ذلــك!
– آه ال سبب يدعوك ،لكن قد تكون مشاركا في قتله!
– مشاركا في قتله!
– نعــم ،حســب كالم صديقــات أميمــة ،أنهــن قــد ســمعنه يحدثهــا عــن روايــة تحــت
عنــوان "رحــل مــن دون وجــه" وهــذه الروايــة هــي نفســها التــي كانــت ملقــاة جنــب الضحيــة
وســبحان هللا هــل مــن الصدفــة أن تكــون نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لشــخصية
الضحيــة فــي الروايــة هــي نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لضحيتنــا !
_ال أدري.
_ ما هو تفسيرك إذن؟
65
مطلوعة (خبز وحب)
– هناك الكثيرمن الروايات في املكتبة ربما تصادف أن كانت تلك الرواية بجنبه
عندمــا تــم طعنــه تلــك الخمــس طعنــات ولســت أنــا الوحيــد الــذي يقـرأ الروايــات ،الــكل
يق ـرأ الروايــات وأرى أن اتهامــك لــي بشــكل مباشــر بالقتــل عــن طريــق ربطــك للحادثــة
بمجــرد روايــة بوليســية هــو اســتنتاج غريــب مــن رجــل ذ ـكـي مثلــك ،ولــه شــهرة تســبقه فــي
فك ألغازجرائم قتل معقدة كتبت عنها الكثيرمن الجرائد .أوأن هناك خلفيات أخرى
أنــت تخفيهــا عنــي وعنــا جميعــا.
_خلفيات! ماذا تقصد؟
_لنكــن واقعييــن يــا ســيد ماحــي ،كيــف ملحقــق بشــهرتك أن ال يكــون علــى عالقــة
برجــل ثــري مثــل ال�ســي عثمــان أب الضحيــة والــرب عالــم بخفايــا األمــور.
ثــم تغيــرت مالمــح املحقــق وغيــرمــن وضعيــة جلوســه .قســم التفاحــة إلــى نصفيــن
وغــرز الســكين بقــوة علــى الطاولــة.
_أخبرني من يحقق مع اآلخرهنا ،أنت تحقق معي أم أنا أحقق معك؟
_أنت معلم ومنك نتعلم.
_اسمع .هل تتذاكى علي أم ماذا! هل أجعلك تجلس في مكاني!
_وهل تخاف األفعى من سمها! من يعلم أنه ال يوجد في بطنه التبن ال يخ�شى من
النــار.
– إذن هذه هي خطتك! أن تماطل علي ،وتريد أن تأخذ املحاورة إلى منحى آخر،
اســمع إذن يــا ولــد حميــد بيــن الخبــرة واملعرفــة ،تغلــب املعرفــة فــي عالــم النظــري وتغلــب
التجربــة فــي عالــم التطبيــق ،أنــت تحتــاج ملزيــد مــن الخبــرة ـكـي تحــور اســتجوابي وتصــل
إلثــارة عواطفــي ،أنــت هــو القاتــل! ليــس هنالــك غيــرك فــي املدرســة علــى مــا أعتقــد يعــرف
أن أميــربطــل روايــة رحــل مــن دون وجــه ،طعــن خمــس طعنــات!
–حتى املرحوم قرأ الرواية أيضا! وهي بأفكارسوداوية ثقيلة وقد يكون ا... ّ
66
مطلوعة (خبز وحب)
– انتحر! هل تظن هذا! أم تريد أن تبرأ نفسك! تحت شهادة زمالئه املرحوم فتى
عقالنــي وســجله الطبــي والنف�ســي طبيعــيّ ...أم ــا أنــت فنحــن نعلــم حكايتــك مــع األطبــاء
النفســيين بعــد حادثــة أمــك التــي..
أطلق فارس زفرة طويلة:
_ال تذكرأمي على لسانك.
ثم تغيرت مالمح املحقق كليا وهو يوجه كالمه إلى فارس:
_آســف لكــن التاريــخ ال يرحــم .قــد ذبحهــا أبــوك مــن الشــريان إلــى الشــريان قبــل
ثمانيــة أعــوام مــن اآلن وكنــت املحقــق فــي تلــك القضيــة ورأيــت مالمحــك حيــن رأيــت أمــك
تسبح في بركة من الدماء وتابعت تصرفاتك وكان القاتل ّإمـا أنت أو أبوك ومن املرجح
حتى يغطي أن يكون أنت وقد تســترعليك أبوك وأخفى ســاح الجريمة في جيب ســترته ّ
عليــك .وعــدم زيارتــك ألبيــك حميــد فــي الســجن مــا تكــون ســوى تمثيليــة قمتمــا بهــا ســويا،
وهــذا يبقــى احتمــال وارد .ومشــاكلك مــع جــدك الــذي يربيــك ويتعــب مــن أجلــك رغــم
انحنــاء ظهــره ألنــك ترفــض زيــارة طبيبــك النف�ســي وأخــذ أدويتــك.
رد فارس بطريقة هادئة وهو ينظرفي عيني املحقق مباشرة:
– ال أظن أن ذكرك لهذه القصة يدخل في التحقيق في جريمة قتل الفتى!
_نعم هو يدخل وبشدة.
_ال أظن هذا.
ابتسم املاحي ابتسامة خفيفة ثم قال بلهجة تميل االستهزاء والسخرية:
_ذكرتــك بهــذه القصــة فقــط ّ
حتــى أشــير لــك بــأن فــي عائلتكــم دمــا إجراميــا وأنــت
تعــرف املثــل الــذي يقــول مــن شــابه أبــاه فمــا ظلــم ،أي أن بعــض الصفــات مثــا تنتقــل
بشــكل تلقائــي ،أظنكــم درســتم هــذا فــي مــادة العلــوم الطبيعيــة "اســمه االنتقــال الوراثــي
"أم أنــك تهتــم بالفلســفة أكثــر.
67
مطلوعة (خبز وحب)
_ال أظــن أن هــذا هــو هدفــك .ومــن غيــر الالئــق أن تســتند علــى قضيــة قــد مضــت
منــذ أعــوام وتحشــرها داخــل قضيــة آنيــة وأرى أن ذكــرك لقضيــة مقتــل أمــي رحمهــا هللا
لــه غايــة نفســية بحتــة .وهــي إرضــاء لجــرح نف�ســي قــد خــدش أثنــاء حوارنــا .أمــا أنــا طبيعــي
وال أعانــي مــن أي مــرض نف�ســي ،األطبــاء النفســيون هــم املجانيــن ويريــدون إخراجــي مــن
عقلــي بأدويتهــم القــذرة هــذا كل مــا فــي األمــر .ولــكل واحــد فينــا جانــب مجنون يخفيه وراء
القنــاع الــذي يرتديــه كل صبــاح ،أو لــم تكــن يومــا كذلــك يــا �ســي املاحــي؟ علــى كل حــال أنــا
علــى األقــل أعــرف أصلــي رغــم كســري.
صمت املحقق لبرهة وبلع ريقه:
_ ما الذي تشيرإليه هنا.
_أنت تعرف وأنا أعرف وعلينا أن نلعب دور من ال يعرف.
– حسنا دعنا منا .ولنرجع إلى موضوعنا األصلي.
_نعم
_ بذكرك للجنون ،أخبرني ماهي نسبة جنون صديقك سمير؟
– سمير!
_نعم
_هو هو ،وأنا أنا.
صمت املحقق ينتظرإجابة أخرى من فارس.
_في الحقيقة إن كل شخص منا له نسبة معينة من الجنون و....
قاطــع املحقــق فــارس قبــل أن يفلســف جوابــه مــرة أخــرى ويحــور الحديــث إلــى جهــة
أخــرى.
68
مطلوعة (خبز وحب)
– فــي الرابــع مــن مــاي الســاعة الخامســة ،مــن صيدليــة ديــار الســوق! اشــتريت
علبتيــن مــن دواء ليريــكا..
صمت فارس لبرهة ينتظرمن املحقق أن يكمل كالمه.
– وفي نفس اليوم ألقينا القبض على سميربعلبة ليريكا فارغة! زعم أنها من أجل
بحث مدر�سي! هل هذا صدفة أيضا!
– نعــم لقــد اشــتريت علبتيــن ،علبــة وصفهــا لــي الطبيــب تحــت ضغــط مــن جــدي
ألبقــى نائمــا ويرتــاح مــن مشــاكلي ،وعلبــة أخــرى مــن أجــل جدتــي التــي تعانــي مــن آالم
الظهــر ،وأنــت تعلــم أن دواء ليريــكا مصنوعــا خصيصــا للتخفيــف مــن ألــم العظــام.
وجــدي وجدتــي همــا الوحيــدان اللــذان أعيــش معهمــا فــي املنــزل وعلــي أن أعــرف كل
األدويــة الخاصــة بهمــا.
– جدتــك تــأكل ليريــكا ،ســبحان هللا! هــل لجــدك حســاب فيــس بــوك أيضــا؟ ال
أظــن ،ومــاذا تقصــد بكلمــة "يرتــاح مــن مشــاكلي"؟ إذن أنــت تعتــرف أن لــك مشــاكل
نفســية ،ربمــا أردت أن تســتدرج املرحــوم وتقتلــه بنفــس الخطــة التــي فــي الروايــة ،القتــل
مثــل الروايــات تجربــة جديــدة ممتعــة أليــس كذلــك!
_أظن أن هذا استنتاج غيرمنطقي و بعيد عن الواقع.
_ال يهم رأيك على كل حال ،أخبرني أنت تذكرفي نهاية الرواية ماذا حدث للمجرم
أليــس كذلك!
– نعم أعتقد ذلك.
– إذن ال تقلق ستكون لك نفس النهاية يا عزيزي.
_هناك فرق كبيربين القاتل وصانع القاتل.
_ماذا تقصد بصانع القاتل؟
69
مطلوعة (خبز وحب)
70
مطلوعة (خبز وحب)
بلوطة
قبل أسبوع
طــارالنعــاس مــن عينــي ،فقــررت أن أخــرج ألستنشــق بعــض الهــواء كان القمــرفــي
القريــة يتأرجــح فــي الســماء فــوق رأس جبــل "دوي "كلؤلــؤة ت�ضــئ الكــون ،اتــكأت فــوق
كومــة تبــن ّ
حتــى بــدى أمامــي ظــا طويــا بيــن الضبــاب ملحــت مــن بعيــد رجــل يضــم يديــه
خلفه ويحمل متاعه على ظهره ،كان املخلوق يسيرفي خطى متمايلة ويردف رأسه نحو
األرض شدني فضول قط ،فاقتربت منه أكثرألعرفه من قشابيته السوداء التي تميزه،
وقفــت أمامــه!
– غيرالخيرخويا وين رايح؟
– أنا أبقيك على خيريا مطلوعة .وداعا.
– اصبراصبر ،احكي لي ،ما لذي أصابك؟
وضــع يــده علــى كتفــي ،وأزاحنــي ببــطء مــن طريقــه وعالمــات الحــزن تتلــون فــي وجــه
الشــاحب تحــت ضــوء القمــر .لــم يــرد وأكمــل مشــيته .تبعتــه وأوقفتــه:
– اسمع أمين بيننا عشرة طويلة ،أنت أخي احكي لي!
71
مطلوعة (خبز وحب)
72
مطلوعة (خبز وحب)
_ البارحــة كمــا املعتــاد كنــت أتجــول بقفتــي ودلــو الحليــب ،دخلــت مقهــى بالهاشــمي
بالقريــة.
– في أي وقت!
– مــع املســاء املهــم .قلــت لــك وأنــا أطــوف وأبــرح وســط املقهــى ،رأيــت رجــا يجلــس
لوحــده فــي زاويــة املقهــى يدخــن النرجيلــة وحولــه غمامــة مــن الدخــان ،كان الرجــل يبحلق
فـ َّـي بنظــرة غريبــة ،حســب بذلتــه وتســريحة شــعره األنيقــة وحذائــه الالمــع ،يبــدو ثريــا،
اقتربــت مــن جهتــه أكثــر ،علــى طاولتــه علبــة ســجائرحمـراء مارلبــورو مــن النــوع الفاخــر
وجمـرات للشيشــة ،كنــت أبحلــق فــي الرجــل مثلمــا يبحلــق فــي ،كأنــه يتحدانــي ،لــم أنــزل
عينــي مــن عينيــه.
– أيا محاجب...محاجب سخونين وحارين
– أيا يالجيعان ،البنة بعشرين دينار
– محااااااجب ،محاااا....
أشارنحوي بيده.
نزع نظارتيه لتظهرعيني قط خضراء حادة وجاحظة ،فوق عينه اليمنى ندبة.
– شحال عمي ،زوج ،ثالثة ،قل!
–.....
لم يرد وواصل ينظرفي عيني مباشرة .نظرات غريبة.
حك ذقنه وقال:
_ أقعد.
73
مطلوعة (خبز وحب)
وأشــار نحــو الكر�ســي أمامــه ،وضعــت القفــة بجانبــي .ســلمني أنبــوب النرجيلــة،
تــرددت فــي إمســاكها.
– همم ....ال تدخن!
–.....
سكت!
أشارللنادل بيده.
– كأس شاي منعنع بالعسل للرجل هنا.
استغربت!
نظــرت نحــو علبــة املارلبــورو فــوق الطاولــة ،تناولهــا الرجــل ،وأخــرج منهــا ســيجارة
وقدمهــا لــي ،لــم أتــردد فــي أخــذ الفرصــة ،أخــرج والعــة مــن جيبــه ،والعــة حديديــة ،لــم أر
مثلهــا قبــا ،رأســها علــى شــكل فــم أفعــى كوبـرا ...ثـ ّـم أشــعل لــي الســيجارة.
– استرخي يا عزيزي .خذ وقتك ،فمن أراد الربح فالعام طويل.
اســتغربت يــا مطلوعــة ،مــن معاملــة الرجــل الغريــب لــي وطريقــة كالمــه معــي.
واســتغربت أكثــر مــن تلــك القطعــة الفضيــة التــي يحركهــا بيــن أصابعــه برشــاقة.
بعدهــا توقــف عــن تحريكهــا وعرضهــا أمامــي ببــطء ،لــم أرمثــل تلــك القطعــة مــن
قبــل .ثــم ابتســم ابتســامة غريبــة معجنــة بالخبــث علــى حــد معاملتــه الغريبــة لــي.
طرة أم نقش؟
– كيف؟
– كتابة أم رسم؟ اخترهذه الجهة أم هذه الجهة؟
74
مطلوعة (خبز وحب)
–.....
و أضاف:
أنظــرأنــا ال أملــك كل الوقــت ولكنــي أملــك املــال وأنــت تملــك الكثيــرمــن الوقــت وال
تملك املال ،أنظرعزيزي سنقوم بهذا الرهان .إن أنت فزت ستأخذ كل املال والشيكات
التــي أضعهــا فــي جيــب ســترتي الداخلــي ،كلهــا ،هــل تــدري معنــى كلهــا .وابتســم مجــددا تلــك
االبتســامة البــاردة التــي تتــأأل بنجــوم فمــه البيضــاء رغــم التهامــه للكثيــرمــن الدخــان.
سألته مترددا:
– وإذا خسرت؟
_حينهــا ســتضع كل املحاجــب وقــارورة الحليــب وتغــادر مــن دون عــودة وال تنظــر
ورائــك.
نظــرت فــي عينيــه الحادتيــن الباردتيــن وهــو يحــرك القطعــة النقديــة بيــن أصابعــه
التــي تحمــل خواتــم فضيــة مرصعــة بأحجــاركريمــة .وبتــردد أجبتــه يــا ســيدي.
– ال.
صمت لبرهةّ .
ثم اقترب مني على بعد شبرين من وجهي:
– هل تعلم نحن البشريطحن أحالمنا الخيال قبل أن تنبت على أرض الواقع.
– لم أفهمك لكنها تبدوا فكرة مجنونة .ال؟
رفع الرجل حاجبيه وزم شفتيه وبنبرة ساخرة:
– ولدت بائع محاجب فقيروستموت بائع محاجب فقير.
ثم صمت أمين وتنهد بعمق:
75
مطلوعة (خبز وحب)
76
مطلوعة (خبز وحب)
– أخبرني...ماهي كل ممتلكاتك؟
فاســتغربت مــن ســؤاله ولكنــي أجبتــه باختصــارألعــرف مــاذا يرمــي إليــه مــن ســؤاله
لكنــي مشــيت معــه فــي الحكايــة:
– كوخ ،بقرة ،وعشرين ألف دينارودعاوي الخير...
صمــت الرجــل صمتــا مرعبــا ،وســادت لحظــة صمــت مخيفــةّ ،
حتــى رفــع الرجــل يده
الثقيلــة وضعهــا علــى قفــاي وســحبني نحوه.
– خوااف.
– …..
عرقت جبتهي واستفزني أسلوبه.
– ماذا تريد مني؟
– ال �شيء...فقط أنت تذكرني بنف�سي حين كنت في عمرك.
– أذكرك بنفسك؟
– نعم
و راح الرجــل يحكــي وأنــا فــي أشــد انتبــاه لحديثــه الــذي لــن أنســاه هــل تعــرف مــاذا
حكــى لــي؟
…_..
قال لي:
_ هــل تــرى ســيارة الجاكــوارهنــاك وهــذه الســاعة الفخمــة بيــدي وكل هــذه الثيــاب
األنيقــة؟ هــل تظنهــا نزلــت علــي مــن الســماء! وحتــى إن ولــدت بأســنانك مثــل مو�ســى فلــن
77
مطلوعة (خبز وحب)
يكون لك ملك مثل ملك فرعون ،اسمعني مليح وافتح أذنيك .اسمع إني قد ُ
كنت أشد
منــك بؤســا يومــا فــي زمــن م�ضــى ،أذكــرأنــي كنــت أضــع الخبــزاليابــس فــي املــاء وآكلــه وأضــم
ركبتــي إلــى صــدري أتكمــش فــوق كرتونــة باليــة وأنــام تحــت الجســور وفــي األزقــة املظلمــة
وفوق الكرا�سي في الحدائق العامة وأنام على الرصيف البارد ،هل تعلم معنى أن ينام
حتىاملرء في ليلة ممطرة في العراء وفخذك تلتصق مباشرة بأرضية الرصيف الباردة؟ ّ
تتخــدر رجــاك إلــى أن ال تقــوى علــى النهــوض ،طبعــا ال ،مــا يحــس بالجمــرة ســوى مــن
كوتــه ،إيــه يــا ولــدي أتذكــرذلــك اليــوم كأنــه البارحــة وكيــف لــي أن أنســاه؟
يــوم اشــتد بــي الجــوع فــي ســاحة مــن ســاحات وهـران خطفنــي الليــل ولفنــي البــرد،
فتكمشــت فــي زاويــة مظلمــة ،فــي إحــدى الشــوارع العبقــة بالشــروروالجــرذان العمالقــة
التي قد تقرض لك إصبعا أو أذنا إن غفلت عنها ،أتمدد بطولي على الرصيف ،وألصق
خدي على الكرتونة البالية تحتي ،ليس ببعيد عن مكاني تصلني أضواء حانة صاخبة،
تنعكــس علــى شــعري األشــعث ولحيتــي الطويلــة الوســخة وثيابــي الرثــة النتنــة التــي ال
تصلــح ّ
حتــى لتنــام فوقهــا الــكالب.
أســمع أصــوات املوســيقى تخــرج مــن الحانــة الصاخبــة فــي الجانــب املقابــل مــن
الطريــق ،أغانــي ال ـراي تمتــزج بتأوهــات فتيــات الهــوى ،طالبــا رحمــة النــاس وشــفقتهم
مقه�وـر الحــال والجــوع يــكاد يفتــك بــي كأنــي رجــل هــرب مــن الحــرب العامليــة الثانيــة ولــم
يجــد شــيئا أمامــه.
نزعــت قبعتــي وضعتهــا فــوق الرصيــف واســتلقيت علــى الحائــط ضامــا ركبتــي إلــى
صــدري ،ثـ ّـم تذكــرت أن تحــت الكرتونــة مزمــارا وجدتــه فــي إحــدى مكبــات القمامــة ،التــي
قــد يرمــي داخلهــا النــاس كل �شــيء إال أنفســهم ،أخرجــت املزمــار ،ورحــت أعــزف وأحلــق
فــي ألحــان الغيضــة والغايطــة.
ال�شيء الوحيد الذي كنت أراه حينها هو األحذية السوداء الكالسيكية وهي تعبر
أمامــي.
ثم فجأة وأثناء انغماري بين ألحاني.
78
مطلوعة (خبز وحب)
توقــف زوج مــن األحذيــة أمامــي ،بجنبــه حــذاء عالــي الكعــب ،وقــد أطــاال الوقــوف
واالســتماع أللحانــي فــزدت النفــخ ورفعــت اللحــن ،ع�ســى أن يمنــا علــي ببعــض دراهــم.
رفعــت رأ�ســي ألراهمــا ،كهــا قــوي البنيــة يلبــس مالبــس ســوداء غريبــة كأنهــا تعــود لجيــل
التســعينات كانــت رائحــة الكحــول املمتــزج بالعطــر الذكــوري الفاخــر تفــوح مــن ثيابــه
الراقيــة الغريبــة.
يمسك تحت ذراعه شابة في العشرينيات من عمرها تلبس فستانا قصيرا ،عاري
الصــدرووشــاحا أســود ،تضــع أحمــرشــفاه شــديد الحمــرة ،شــعرها أصفــرفوقــه قبعــة
ســوداء محنيــة األطـراف.
صعد فوق الرصيف ليقابلني مباشرة ونصف ابتسامة ترتسم على وجهه.
– أكمل عزفك!
ما كان مني إال أن متابعة العزف /النزف رغم أن أصابعي لم تقو على شد املزمار
وأنفا�ســي تخونني بين كل نفخة ونفخة.
الحظــت أن الرجــل يومــئ برأســه وينظــرنحــو الفتــاة كأنــه يقــول لهــا هــل تســمعين.
كان رجــا متذوقــا للفــن علــى مــا يبــدوا وهــذا ربمــا مــا جذبــه نحــوي.
وخانتنــي أنفا�ســي فــي النهايــة ألتوقــف .دنــا الرجــل منــي بخطــوة وبريــق عينيــه يزيــد
اشــتعاال مــن أثــرالكحــول أو �شــيء آخــرتخبــأه نفســه يدريــه هللا وحــده فقــط.
ثــم بحركــة خاطفــة أدخــل يــده فــي جيبــه ليخــرج هــذه القطعــة الفضيــة التــي أحملها
ثم بثقة وضع يده اآلن بين أصابعي ،نظرنحو الفتاة وجرها من وشاحها ليلقيها بجانبي ّ
في جيبه اآلخرليلتقط مسدســا أبيض صغيرا.
نظرمباشرة نحوي بعينين محمرتين:
– إن خسرت أيها البطل ستموت برصاصة واحدة هنا!
مشيرا لجبتهي.
79
مطلوعة (خبز وحب)
_و إن فزت ...فستموت الفتاة وتكسب أنت نصف ثروتي هل أنت موافق؟
عــدت إلــى نف�ســي وإلــى حالــي التــي يشــفق عليهــا ورأيــت أن موتــي خيــرمــن حياتــي .إن
بقيــت علــى هــذه الحالــة.
نظرت نحوه ساخرا من ذلك املسدس الذي يحمله بين أصابعه فلم يعد لي �شيء
آخــرألخســره غيــرحياتــي ،الغريــب فــي تلــك اللحظــة يــا صديقــي أنــي لــم أشــعربالخــوف أو
ـس ب�شــيء وهــل يســتطيع املــرء أن يفقــد يمتلكنــي الرعــب كمــا تظـ ّـن ،ببســاطة لــم أعــد أحـ ّ
لكنــي أدركــت حينهــا أن قيمــة الحيــاة تختصــربمــا نعيــش مــن اإلحســاس دون أن يمــوت؟ ّ
أجلــه ،وأنــا لــم أعــد أملــك شــيئا إال روحــي لتزهــق أمامــي فــي طلقــة واحــدة ،العيــش بــدون
هــدف كالعيــش بــدون روح ،ذلــك البريــق الــذي يلمــع فــي عينــي الرجــل أظنــه مــن امت ـزاج
لــذة القتــل بلــذة الخمــرتقابلهــا امتـزاج لــذة الالمبــاالة بلــذة املــوت وهــل للمــوت لــذة؟ ّربمــا
يكــون كذلــك حينمــا تتمنــى املــوت لتوقــف األلــم بداخلــك ،أذكــرذلــك للصرصور األســود
ّ
الغامــض ،كان أمامــي بجانــب قــدم الرجــل ،جامــد دون حـراك كأنــه ينتظــرنهايتــي ،ذلــك
الصرصــور يملــك جناحــا واحــد علــى مــا أتذكــر ،وأظـ ّـن ّأن س ــبب وقوفــه ليشــاهد تلــك
اللقطــة مــا يكــون إال أنــه تمنــى املــوت ذات مــرة ألنــه ســيصبح مشــوها وحكـرا علــى جماعــة
ّ
الصراصيــر ،ألنــه يملــك جناحــا واحــد فــا بـ ّـد لــه أنــه قـ ّـرر أن ينهــي حياتــه ذات يــوم ولــم
يستطع وها هوذا أمامي اآلن ،يتمنى لي املوت على ما أظن ،وهذا ما سارفي خاطري تلك
الليلــة وملــا يكــون ذلــك الصرصــور هنــاك هكــذا فقــط!
ليس سهال أن تنهي حياتك مثلما تريد .صدقني!
األصعــب مــن املــوت هــو محاولــة معرفــة متــى نمــوت وكيــف نمــوت .إن التفكيــرفــي
املوت ال يؤجل املوت بل يؤجل الحياة .والجحيم أعد للمنتحرين ألنهم جبناء ال يريدون
املواصلــة ويهربــون مــن مواجهــة الحيــاة وأهوالهــا ،الجنــة ليســت للجبنــاء والضعفــاء.
ثم بابتسامة مجنون رفعت رأ�سي وبثقة:
– نعم ،أختارطرة ...ال يهم.
80
مطلوعة (خبز وحب)
ليرمي الرجل القطعة الفضية في الهواء فتسقط فوق سطح كفه ،رفع مسدسه
وصوبه نحو رأ�ســي مباشــرة.
ظننت في تلك اللحظة أني خسرت وأني ميت ال محالة إنها نهايتي وسأحقق أمنية
الصرصور ،وال أعرف إن كانت أمنية خفية في جانب من جوانب نف�سي الغامض التي
طاملــا تلــذذت باأللــم وجذبتنــي لأللــم عــن قصــد أغمضــت عينــي أللقــى مصيــري ال مباليــا
بمــاذا يحــدث بعدهــا أيــن أذهــب؟ أو مــاذا يحــدث؟ اعترتنــي رغبــة عارمــة فــي أن أعــرف
شعور املوت ذلك الشعور حين تحس أن روحك تخرج من جسدك! كيف يكون ومن
جربــه ليرجــع مــن املــوت ويســرده أو يكتــب فيــه مخطوطــات وكتــب وربمــا يؤلــف كتابــا
بعنــوان" إحســاس املــوت" يكــون اإلهــداء فيــه لروحــه املفقــودة – اشــتقت لــك – أليــس
ذلك ضربا من خيال! أليس ذلك ما عجزنا عن الوصول إليه! كيف نفقد اإلحســاس،
وهــل نســتطيع أن نتخيــل إحساســا لــم نجربــه ولــم نصــل إليــه؟ أو نتج ـرأ ونكتــب فيــه
ونتطرق لندرسه ،أنه املوت ،الحق ،النهاية ،أو ربما البداية ،أين تذهب الروح؟ وماهي
الــروح أصــا؟ نبقــى نتخبــط ونمــوت قبــل أن نمــوت ،نمــوت بأســالتنا املبهمــة التــي مهمــا
ادعينــا العلــم والفهــم ،ال نســتطيع حلهــا أو الوصــول لتحليلهــا والخــروج بفرضيــات
مقنعــة تشــفي غليلنــا وتعطشــنا للمعرفــة..
ّ
أغرقتنــي دوامــة مــن التســاؤالت ،وســرحت بذهنــي ثـ ّـم تملكنــي بــرد رهيــب فــي رجلــي
وأطرافــي ،أحسســت بفــروة رأ�ســي تنمــل وبتخــدرفــي فكــي الســفلي بحيــث لــم أســتطع أن
أحركــه مــن فــرط ذهولــي ودهشــتي حيــن ســمعت دوي الرصاصــة بقربــي ،فتحــت عينــي
ألجــد الفتــاة مــرداة قتيلــة علــى األرض والدمــاء تســيل مــن رأســها ،ثـ ّـم بعــد ثــوان ســاد
ّ
الهــدوء والصمــت املرعــب يتخللــه الف ـراغ القاتــل.
منــي .همــس فــي أذنــي محدثــا بنبــرة ،جافــة مــن أخــرج الرجــل قلمــا وشــيكا واقتــرب ّ
املشــاعر كأنهــا نبــرة انتقــام بــارد تــدل علــى الســخرية والشــفقة:
– هل تدري أيها املخبول أنك قد خسرت في الرهان.
و لكن هل تعلم من هذه الفتاة؟
81
مطلوعة (خبز وحب)
حــرك رأســه قليــا نحــواليميــن ليبصــق فــي املــكان الــذي كان فيــه الصرصــور ،هنــاك
الحظت أن الصرصور اختفى ربما أرعبه سماع دوي الطلقة .أكمل كالمه مشيرا نحو
الفتــاة بيــده ،صارمــا شــفته العلويــة نحــواليســار.
– هذه حبيبتي....نعم هي حبيبة عمري سارة.
بعــد هــذه الكلمــات ،صمــت لبرهــة تمكــن فيهــا أن يهــدأ مــن روعــه وتابــع قائــا بوجــه
رجــل متحصــرحزيــن .عرفــت ذلــك الوجــه ألنــي رأيتــه ســابقا ولــم أنســاه...و كأنــه يريــد أن
يبــث حزنــه.
– هذه الجميلة الهامدة اآلن بجنبك هل تعرف الذي فعلته؟ هل تدرك أي فعل
تقوم به املرأة بحق الرجل ال غفران له سوى القتل؟
أقتــرب منــي أكثــرووضــع يــده علــى كتفــي أحسســت بيــد بــاردة أكثــرمــن األرض التــي
حتــى تتخــدرأطرافــي .ورفــع صوتــه فــي وجهــي ّ
حتــى كادت تخنقنــي رائحــة كنــت أنــام عليهــا ّ
الكحــول املنبعــث مــن ثغــره:
_ال أظنك تدري أيها البائس الغبي؟
ثــم تابــع والدمــوع تنهمــر مــن عينيــه "دمــوع رجــل مقهــور يــا صديقــي دمــوع يخــاف
الشــعراء مــن وصفهــا ويهــاب الرســامون رســمها".
– البارحة قد كذبت وأخبرتها أنني قد خسرت كل ثروتي في جلسة قمار.
– هل تدري ماذا فعلت هذه الجميلة الحسناء؟
_أعلنت االنفصال عني بعد يوم من إخباري لها بالحادثة نعم بكل برودة أخبرتني
أنها ال تريدني وبنفس البرودة أطلقت النارعلى رأسها .ال تتعجب من دموعي...ألنك لم
تجــرب هــذا الشــعور أيهــا البائــس الفقيــروأتمنــى لــك أن ال تجربــه أبــدا .عرفــت أنهــا كانــت
تحبنــي مــن أجــل مالــي وفقــط .إن أردت أن تعــرف صــدق امـرأة فــي حبهــا لــك جربهــا باملــال
أو بالخــوف.
82
مطلوعة (خبز وحب)
وهــي قــد ظهــرت علــى حقيقتهــا ولقيــت جزائهــا ولــم تكــن أنــت ســوى وســيلة لذلــك
ونصــف ثروتــي ســتكون لــك فقــط .فقــط ألنــك قبلــت التحــدي وراهنــت بحياتــك كلهــا
دفعــة واحــدة والشــجعان مثلــك ال يليــق بهــم الفقــر والنــوم علــى أرصفــة الشــوارع.
ثم سلمني الشيك والقطعة النقدية قائال:
_الحياة مجازفة أو ال �شيء
ثم انصرف الكهل وهو يعرج على عصاه الخشبية.
_واآلن هل عرفت معنى الشجاعة ومعنى...
أنظرها أنا أمامك بكل خير ،ثريا بين ليلة وضحاها وها أنا ذا أعرض عليك نفس
التحدي فإن وقعت القطعة على الوجه الذي اخترته أنت ستفوز بكل ثروتي ،وإن لم
تقــع علــى الوجــه الــذي اخترتــه ستخســركل ثروتــك ،ثروتــي مقابــل ثروتــك ،أليــس هــذا
رائعــا ،خيــاران متعاكســان أمامــك فــي كفــة متوازنــة ،خيــرواختــار.
_يــا مطلوعــة ،صاحبــي فــي تلــك اللحظــة وضعــت قفــة املحاجــب مــن يــدي وفكــرت
فــي مــا قالــه لــي البارحــة ،أنــي ولــدت فقيـرا وســأموت فقيـرا وبلغــت فــي رأ�ســي كلماتــه هــذه مــا
بلغــت.
– ماذا تختار؟
– قررت املغامرة واخترت مثلما اختارعندما ربح الكهل ...طرة.
جحضت عيني وابتلعت ريقي .وبلوطة يتابع الحكاية.
ابتعــد الرجــل بخطــوة للــوراء ليرمــي القطعــة الفضيــة فــي الهــواء ،فــي تلــك اللحظــة
كنــت فــي أتــم تركيــزي.
ومراقبتــي لــدوران القطعــة فــي الهــواء ،ســقطت القطعــة علــى األرض وليتهــا مــا
ســقطت .
83
مطلوعة (خبز وحب)
أصابتنــي الدهشــة وتجمــدت مكانــي وعرقــت جبتهــي واشــتد خفقــان قلبــي وابتلعــت
ريقــي.
فجأة صمت بلوطة
– إيه....كيف وقعت القطعة؟
–........
– زد أكمل...تكلم
–.....
– هاااااي
هززته ليكمل
– اوووف القطعــة ،القطعــة ،ال أدري كيــف وهللا و...وقعــت علــى حافتهــا متوازنــة
بيــن الجهتيــن ال طــرة وال نقــش ،تجمــدت لــم أفهــم الــذي يحــدث.
– نظرت نحوه بفم مفتوح.
ابتسم الرجل ابتسامته الخبيثة كاملة هذه املرة:
–لــم أكمــل لــك الحكايــة .بعــد لقائــي بالرجــل اســتغرقت خمــس أعــوام وأنــا أتــدرب
على رمي هذه القطعة لتسقط متوازنة ما بين الجهتين وهذا ما أكسبني ضعف نصف
ثــروة الرجــل العجــوز التــي ربحتهــا فــي الرهــان معــه.
يــا مطلوعــة صديقــي لــم أعــرف مــا أفعلــه فــي تلــك اللحظــة وحيــث كان الرجــل يقــف
علــى حافــة الجســر ،فدفعتــه ليســقط داخــل واد بوغولــة وهربــت مســرعا.
و هــا أنــا ذا راحــل وال أعلــم أيــن؟ ألتــرك لــك بارجــي وزبيــدة فاعتنــي بهمــا فســأعود
84
مطلوعة (خبز وحب)
***
85
مطلوعة (خبز وحب)
ودعت بلوطة صديقي كلي حزنا وأ�سى ،ومع ذلك الصباح الذي يعانق الليل
ويودعه ليحزم حقائبه راحال ،بين حقول القمح املمتدة التي تقابل رؤوسا بقبعات
قش تصعد تارة وتنزل تارة أخرى ،فالحون يعملون بجد وكد يحملون مناجل
معقوفة الطرف يتقنون استخدامها بتفنن وبراعة ،السماء فوق رؤوسهم قاتمة
اللون وكأنها تشفق عليهم وبرفق تسقط أشعة شمسها على رؤوسهم البيضاء
ّ
املتعرقة .بعضهم يغني واآلخريحدث نفسه وفي الناحية الشائبة وجباههم الحمراء
األخرى أطفال يحملون املاء وبعض الكسرة إلطعام آبائهم وإخوانهم وعشيرتهم،
وفوق الجميع يبدو كالفارس مبجل فوق محراثه على رأسه قبعة قش واسعة وبين
شفاهه يحمل سنبلة يابسة واالبتسامة تعلو محياه ،الغريب من أمرعمي عدة ،أنه
يعمل طيلة النهاروال أذكرأني يوما رأيته يشتكي أو يمل من عمله ،إذ قل ما كنت أراه
يتكلم .ألقي عليهم التحية وأعبرهم ليشدني الرحال كاملعتاد.
جاء املساء خرجت من املنزل وفي يدي قفة املطلوع متوجها نحو السوق كعادتي.
وأنــا فــي طريقــي إلــى الســوق الحظــت وجــود ســيارة جاكــوار ســوداء قــرب كــوخ بلوطــة،
اقتربــت ألتطلــع علــى األمــر ،رأيــت رجــا ببذلــة ســوداء رســمية يضــع نظــارات ســوداء علــى
عينيــه وســاعة بــارزة مــن يــده .يقــف منتصــب القامــة عريــض الكتفيــن نــادى علــي ،دون
أن يتحــرك...
– هاي أنت!
– من أنا؟
– نعم أنت ،هل تسكن هنا؟
– ومن أنت؟
86
مطلوعة (خبز وحب)
ثم كرر سؤاله بنبرة أكثرهدوء .أشرت بيدي إلى املنزل املقابل:
– آه براني..
– ماذا!
فقفــزت للخلــف مذعــورا ملــا عرفــت أنــه نفــس الرجــل الــذي حدثنــي عنــه أميــن.
لذلــك كنــت أعــرف بقيــة القصــة والحديــث!
– ال ال�...سي...تو.
ما بك ال تخف يا بني اقترب وعندما اقتربت الحظت الخواتم على أصابعه وحينها
تأكــدت أنه هو.
–.....
– مدخول!
– ال ال
87
مطلوعة (خبز وحب)
– حســنا املهــم أنــا أحتــاج ألحدهــم آمنــه علــى هــذا الكــوخ ،فقــد قــررت أن أشــتريه و
أشتري األرض التي بجانبه ألستثمرفيهما ،إني أرى هذي القطعة تصلح مزرعة جميلة
وال أعــرف كثيـرا مــن النــاس فــي هــذه القريــة ألنــي جديــد فــي املنطقــة.
…_
_عذرا نسيت أن أعرفك بنف�سي أعذرني يا بني ،يالي من وقح.
ومد يده بلباقة ليصافحني:
– جمــال جديــد هنــا فــي الواليــة ،صاحــب محــات OMللمجوه ـرات .إن كنــت
ســمعت بهــا مــن قبــل !...آاا علــى مــا يبــدو أنــك غيــر مهتــم باملوضــة
– وأنت!
– مطلو....آ لقمان.
– متشرفين لقمان يظهرعليك أنك فتى خلوق ،وجه الخروف معروف
– خروووف!
– الال أقصد أنك تبدو فتى طيب.
– طيب! ….اسمي لقمان قلنا .وليس الطيب.
– هههــه ،املهــم هــذي بطاقتــي ،خــذ .إن كنــت مهتمــا بالفرصــة وتريــد أن تكســب
مصروفــا جيــدا ...اتصــل بــي.
ثم ركب في سيارته الجاكواروأطلق عجالته للريح
_ذيــب بوجــه خــروف يبــدو وديعــا أكثــر ممــا وصفــه لــي أمين...ســبحان هللا وجــوه
مالئكــة وقلــوب شــياطين..
***
88
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم أســرع املحقــق نحــو الشــاب .ودعــاه للجلــوس علــى ســطح مكتــب فــارغ فــي املكتبــة
ثـ ّـم رمــى لــه التفاحــة بيــن يديــه وبــدأ باســتجوابه:
– يبدوا أنك مكتبي املدرسة؟
– ال سيدي .أنا عامل فيها فقط.
_ماذا تقصد بعامل ما هو دورك؟
_أنــا خــازن الكتــب .أقــوم بترتيــب الكتــب ونقلهــا ووضعهــا فــي الرفــوف وفــي املخــزن
وأحــرص علــى توفيرهــا مــن خــارج املدرســة وأحيانــا أنــوب علــى املكتبــي وأســجل التالميــذ
الذيــن قامــوا بإعــارة الكتــب.
_إذن ملاذا لم تنب اليوم على املكتبي؟
_ال أدري لم أكن أعلم أنه سيغيب عن العمل اليوم.
_حســنا سأســألك بعــض األســئلة يــا رحيــم ،ال تعتبــره تحقيقــا وإنمــا حديــث بيــن
شــخصين مهنييــن يتعارفــان لتوهمــا.
– طبعا سيد...
– املحقق محي الدين سعدي ..يمكنك مناداتي املاحي.
– هــل أنــت املحقــق الــذي ألقــى القبــض علــى حميــد البغــل ،أكبــراللصــوص فــي حــي
ميلــودي ،شــاهدت لقــاءك فــي التلفــاز ،تشــرفت بــك.
– جميل ،أنت تتابع أحداث املدينة مؤخرا ،أنت مهتم بعالم اإلجرام والتحريات
إذن!
– ال .أقصــد أن الجميــع قــد ســمع بالحادثــة ،علــى كل حــال .أنــت مشــهور نوعــا مــا
أليــس كذلــك؟
89
مطلوعة (خبز وحب)
ّ
ثم مد يده ليصافح املحقق.
– رحيم الشاوي عامل في مكتبة املدرسة.
– تشرفنا يا رحيم لندخل في املوضوع مباشرة .منذ متى وأنت تعمل هنا؟
90
مطلوعة (خبز وحب)
_نعم أنا أحب القراءة .لذلك اخترت أن آخذ هذا العمل .بدل أن أجلس في املنزل
أقرأ الكتب من دون عمل .أنا أق�ضي وقتي بين الكتب وآخذ راتبا ال بأس به.
_إذن أنت تعرف معظم عناوين الكتب املوجودة في املكتبة حسب كالمك؟
_في معظمها نعم؟
_إذن هل تعرف رواية تحت عنوان "رحل من دون وجه ".
_رحل من دون وجه؟ من كاتبها؟
_هذه الرواية أقصد!
ثم عرض املحقق الرواية أمام رحيم.
_كاتبها اسمه "فارس ياني".
_لم أسمع به من قبل.
_ هــل أنــت مــن وضعتهــا بجنــب جثــة الضحيــة أو فــي الــرف الــذي وقعــت بجنبــه
الضحيــة؟ باملناســبة هــي الروايــة الوحيــدة املوجــودة هنــاك.
_ال لست أنا .وهذه الرواية ليست من روايات املكتبة.
– هل أنت واثق من هذا؟
_نعــم أنــا واثــق .فلــو كانــت كتابــا مدرســيا تعليميــا لشــككت فــي ذلــك .لكــن بمــا أنهــا
روايــة فالروايــات املوجــودة فــي املكتبــة ال تتجــاوز املئــة عنــوان وأنــا مطلــع علــى معظمهــا
وهــذه الروايــة لــم تكــن هنــا مؤخـرا.
_مؤخرا! منذ متى لم تتفقد الكتب املوجودة في قسم الروايات؟
_أسبوع تقريبا ألني كنت مشغوال بالكتب التي في املخزن واألرشيف.
91
مطلوعة (خبز وحب)
_غريب.
_هل هي رواية بوليسية!
_نعم .وكيف عرفت ذلك؟
_من العنوان فقط.
_هل أنت متأكد من ذلك؟
_نعم دعنا نبحث عنها في جوجل.
بعدمــا بحــث املاحــي عــن عنــوان الروايــة فــي محــرك بحــث جوجــل عقــد حاجبيــه
وغــرق يفكــر فــي صمــت لبرهــة.
– من معه مفتاح املكتبة غيرك؟
– ال أحــد ،أقصــد مــا عــدى املكتبــي .ومديــراملدرســة طبعــا ألنــي أضــع نســخة مــن
املفتــاح فــي إدارة املدرســة.
– همم ،وماهي آخرمرة غيرت فيها مالبسك وتركت املفتاح داخلها؟
– ال أذكــر ،لكــن ربمــا آخــرمــرة عندمــا دعانــي بعــض األوالد ألديــرمبــاراة كــرة قــدم
وإللحاحهــم علــي ،وبمــا أنــي كنــت ألعــب مــن قبــل كــرة القــدم وأنــا حكــم ســابق ،قــررت أن
أشــارك فــي املبــاراة معهــم.
– مع من لعبت؟
ثم ذكرله العامل األشخاص املشاركين في اللقاء وشكره على تعاونه وانصرف.
***
92
مطلوعة (خبز وحب)
93
مطلوعة (خبز وحب)
94
مطلوعة (خبز وحب)
هــزبرأســه بجديــة ثـ ّـم عــاد بعــد ملحــات مــن البصــرحامــا فــي يــده علبــة طعــام كالب
صغيــرة فتحهــا وضعهــا فــي األرض أمــام الكانيــش ،وضــع الشيشــة وبعــض املثلجــات علــى
الطاولــة أمــام الســيدة ،لــم تبـ ِـد الســيدة أيــة ردة فعــل ،وإنمــا فقــط وضعــت رجــا فــوق
رجل ليبرز قوامها الرشيق والنحيل من ذلك الفستان القصيركأنها تقوم بعرض أمام
املــارة ...وال تنتظــرأن يأتــي أحــد.
تشــعل الســيدة ســيجارة وتدخــن بتأنــي وتفكيــر طويــل قبــل أن تمســك أنبــوب
الرنجيلة ،تعبرأمام السيدة فتاة بيضاء قصيرة تلبس سروال جينزضيقا أزرق اللون
يــكاد ينفجــر مــن فــوق فخضيهــا.
حتى للصباح على حساب رامي! – اليوم السهرة ّ
– اتصلــي بأبيــك ،اصنعــي لــه حجــة ،قولــي لــه أن فتيحــة دخلــت املستشــفى وعلــي
أن أبقــى معهــا.
يتابعان طريقهما ،ليمرا بجنبهما رجل جاد املالمح عريض الكتفين ،يسعل سعال
غيرطبيعي .يكاد يسقط من السعال ّ
حتى تمسكه الفتاة:
– هل أنت بخيرهل نستطيع مساعدتك؟
يشيربيده للرفض وينهض متثاقال في مشيته وينصرف.
تنظرالفتاة لصديقتها:
–هل رأيت ماذا سعل على األرض!
– نعم ربي يشفيه مسكين.
يكمالن مشيتهما فيصطدمان بسيدة .وتسقط حقيبتها على األرض
***
95
مطلوعة (خبز وحب)
علــى الرصيــف تســير ســيدة عريضــة الوجــه خشــنة الهيئــة ،وجههــا ملطــخ بشــتى
مســاحيق التجميــل ،تصطــدم بفتاتيــن مســرعتين ،تســقط منهــا حقيبــة يدهــا ،تعــذر
منهــا البنتــان .تقبــل اعتذراهمــا ،وتواصــل طريقهــا وهــي تجرجــربيدهــا فتى ســمين الجســم
منتفــخ الوجــه.و الفتــى يبكــي يأبــى امل�شــي ،تبــدو الســيدة متعبــة منــه والعــرق يتصبــب مــن
جبينهــا:
– أيها الحمارتحرك تحرك وإال لن تخرج معي ثانية..
يبكي الفتى مجددا ،ويجلس على األرض.
عــادت الســيدة مســرعة لتحملــه مــن علــى األرض فأبــى .الحظــت بقربهــا فــي جانــب
الســور .متســولة بجانبهــا فتــى كئيــب املالمــح ،تنهــدت الســيدة قليــا ووضعــت يدهــا فــي
حتى تعطيها له كخدعة منها لينهض ولتعلمه حقيبتها لتخرج بعض العمالت املعدنيةّ ،
شــيئا آخــر .فتحــت الســيدة حقيبتهــا ،ثـ ّـم صرخــت بهســتيريا:
– هاتفي ي ي ي ي أين هاتفي!
ثم خرت على األرض تنوح.
– سرقوني يا ناس سرقووووني اجروا لي...
انصرفت السيدة املسروقة تجرابنها وتصفعه ،تخرج فيه جل غضبها.
املتســولة ذات العجــارتراقــب الســيدة املفزوعــة ،وترتــب أوراق الكرتــون تحتهــا،
بجنبها قطة سوداء مبتورة األذن نائمة قرب فتى نحيل يخفي مقصا صغيرا تحت يده
ويســند ظهــره إلــى الجــدارضامــا رجليــه بيــده نحــو صــدره ،أشــعث الشــعر ،يصــرشــفتيه
ونظـرات الخــوف باديــة عليــه.
حافــي القدميــن وفــوق جســده الهزيــل بعــض األســمال الرماديــة الباليــة واملثقوبــة
من كل جهة ،ساكنا من دون حركة كأنه إعتاد على الجلوس في تلك الوضعية...الدهر
حفــره والدنيــا آملتــه كثيـرا.
96
مطلوعة (خبز وحب)
***
97
مطلوعة (خبز وحب)
نــزل مــن ســيارته الســوداء الفخمــة ،يرتــدي معطفــا جميــا مــن الفــرو وحـ ً
ـذاء
كالسـ�يكيا المعـ�ا ،يسـ�يرببـ�طء قابـ�ل الفتـ�ة مكتوبـ�ة بأحـ�رف فرنسـ�ية مضيئـ�ة �DJAWHA
+ RAمالمــح وجهــه تعبــرعــن الثقــة والخشــونة ،شــعره أصفــرالمــع مدهــون بمرهــم ،شــق
طريقــه نحــو مدخــل امللهــى .وكان أمامــه رجــان ضخمــان يقفــان عنــد البــاب وبمجــرد أن
اقتــرب منهمــا أفســحا لــه املجــال .ونظــرأحدهمــا لآلخــرليرفــع لــه الســتاراملعلــق فــي املدخل.
يبدوثابت الخطى لم يغيرمن مساره ،الضجيج يمأل املكان وأضواء الحانة تنعكس على
وجــه الســيد وتظهــرشــاربه الطويــل ولحيتــه الخفيفــة ،رائحــة التبــغ املمتزجــة بالكحــول
تعطــراملــكان ،امللهــى مشــكل مــن عــدة طوابــق ،فــي الطابــق الســفلي كانــت هنــاك املخمــرة
وخشــبة الرقــص ومــكان مخصــص لتدخيــن الشيشــة ّأم ــا فــي الطابــق الثانــي كانــت هنــاك
الكثيــرمــن الغــرف .وفــي الطابــق األخيــركان املســبح.
م�شــى الرجــل قبالــة وجلــس علــى كر�ســي مرتفــع متحــرك أمــام الكونتــواروضــع ذراعه
فــوق لــوح الكونتــوار ،لتظهــر يــد مرصعــة بأربعــة خواتــم تحمــل علــى ظهرهــا قطــع مــن
األحجــار الكريمــة خض ـراء وحم ـراء وزرقــاء واألخيــرة كانــت ال تظهــر جيــدا ألن معطفــه
الطويــل يغطيهــا ...اقتــرب منــه الســاقي ليقــوم بعملــه؛ بنبــرة خشــنة.
و مبحوحة:
– كأس ويسكي مع بعض الثلج من فضلك!
– حاضر ،أمرك سيدي.
أحضــرالســاقي الــكأس ووضعهــا أمــام الرجــل وهــو يمســح ســطح الكونتــواربقطعــة
مــن القمــاش ويعــدل ربطــة عنقــه...
98
مطلوعة (خبز وحب)
99
مطلوعة (خبز وحب)
و ضــع الرجــل يــده األخــرى علــى ســطح املخمــرة وبنصــف ضحكــة ســاخرة مــن دون
أن يرفــع رأســه قــال:
– أنا أحب السفركح...كح...كح! صب..صب..
واصل الرجل نوبة سعاله ّ
ثم التفت نحو النادل:
– أووووف...و أنت ال تعلم ذلك!
– أحضرلي زجاجة الفودكا ...وأسمعني صمتك!
ابتســم الشــاب ابتســامة ســاخرة وحائــرة فــي نفــس الوقــت واضعــا زجاجــة الفــودكا
أمام الرجل بعدما أدخل الرجل يده في جيبه ليســتل ســيجارة .نظرهنا وهناك بعينين
ذابلتين يضم السيجارة بين شفتيه يمسح عقبها بلسانه ليبللها .ينظرفي األرجاء باحثا
عــن �شــيء مــا.
يلحــظ فــي الزاويــة رجــا أصلعــا أعــور العيــن .أشــارلــه بحركــة مــن يــده إن كان يملــك
والعة...لم يســتجب األصلع ،كان يعبث بهاتف ينعكس ضوء شاشــته على وجهه ليبرز
أنفــه الكبيــر وأســنانه الصف ـراء البشــعة ،أعــور العيــن وذا حاجبيــن خفيفيــن باهتيــن
ووجهــه مائــل للشــحوب...ال يكــف عــن حــك أنفــه ومســح املخــاط علــى ســرواله .يهــزرأســه
ويضغــط علــى الهاتــف ثـ ّـم يقــرب الهاتــف مــن وجهــه ليتمكــن مــن ق ـراءة مــا كتــب علــى
شاشــة الهاتــف .بأصابــع تحمــل أظافــرطويلــة متســخة "تركيــزه مــع الكتابــة علــى لوحــة
املفاتيــح دعــاه ليخــرج لســانه مــن بيــن شــفتيه الرقيقتين"ليشــكل رقمــا نقلــه مــن ورقــة
صغيرة .تارة يقرب الورقة من وجهه وتارة أخرى يعود للهاتف ليدون الرقم الذي كتب
على الورقة بحركة بطيئة...مع مرورالوقت بدأ صوت املوسيقى باالنخفاض تدريجيا.
على الجدارســاعة كبيرة معلقة مباشــرة فوق زجاجات الكحول تحتها مباشــرة مجســم
ســفينة مصنوعة بالخشــب القديم ،وفي منتصف الجداراملطلي باألســود الفاتح ،تلك
حتىاللوحة الفنية لصورة امرأة عارية نحيلة الجسد بشعرأصفرطويل يتدلى واصال ّ
األرض...ذات نهدين صغيرين تخفيهما بذراع واحدة وترفع ذراعها األخرى نحو السماء.
100
مطلوعة (خبز وحب)
وعلــى رأســها تــاج مصنــوع مــن األزهــار .عنــد رجليهــا يزحــف رجــل ضخــم وعــاري الجســد
على بطنه ،يبدوعريض الكتفين ولحيته تحت رجل تلك املرأة"...كانت ترتدي في أسفل
ســاقها النحيلــة امللســاء عنــد عظمــة الرجــل بالتحديــد خلخــاال تتدلــى مــن عليــه خيــوط
قصيــرة مــن النحــاس."...
و من ساقها األخرى يمسكها الرجل الضخم ،ليمنعها من املسير ...وبعض الغبار
يمأل شعرالرجل األشقراألشعث...كأنها استطاعت أن تجره من ورائها ،محدثة الغبار
فوق األرض الترابية واألشجاروالسماء سوداء ترسم أفق الصورة ....املزيج مذهل من
األلــوان."...
بعــد لحظــات توقــف صــوت املوســيقى كليــا ،يبــدو أن الســهرة انتهــت هنــاك فــي
األعلــى ،فجــأة تتعالــى ضحــكات وأصــوات نقــر باألحذيــة كانــت آتيــة مــن أعلــى الســلم،
ليظهــرمجموعــة مــن الشــباب إحداهــن كانــت فــي حالــة ســكريرثــى لهــا حيــث أنهــا لــم تقــو
علــى امل�شــي ،اقتــرب منهــا أحدهــم ورفعهــا فــي الهــواء مــن خصرهــا وألقاهــا علــى كتفه...فــي
حيــن أنهــا كانــت تــردد كلمــات متلعثمــة:
– أنــا أحبــث شــامي ،أنــا أتيــر ...واه ويأيه"..ثــم بــدأت تضــرب ظهــرالشــاب ورجالهــا
تلوحــان فــي الســماء أمــام وجهــه مباشــرة".
بقي الرجل شاخصا في مكانه...ال يحرك له ساكنا ،سيجارته في فمه ،فجأة تظهر
يــد مــن خلفه.يــد رقيقــة أضافرهــا مطليــة باألحمــر ..تحمــل والعــة مــن حديــد غطائهــا علــى
شــكل رأس أفعى كوبرا أشــعلت ســيجارة الرجل ...وجلســت بالكر�ســي جانبه:
– يقولون شكرا!
رد الرجل وهو يأخذ نفسا طويال من سيجارته:
و دون أن ينظرنحو الفتاة:
– شكرا ألنك أنقصت من عمري!...
101
مطلوعة (خبز وحب)
–...
لــم تــرد وواصلــت النظــر مباشــرة فــي عينــي الرجــل وضعــت رجــا علــى رجــل ليبــرز
فخضاها وسيقانها الطويلة وهي ترتدي "جوارب شبكية سوداء شفافة طويلة وتنتعل
حــذاء المــع أحمــرذا كعــب عالي"..بعــد وهلــة وجيــزة اقتــرب الشــاب الســاقي منهــا:
– نعم سيدتي!
– عصيرليمون.
ثم وهي تتم حديثها نظرت نحو الرجل تفترسه من أخمس قدميه ألعلى رأسه.
– و�شيء ألبرد به حلقي.
الرجل يشرب ويدخن ويسعل .غيرآبه بالسيدة جنبه ،يفتح ربطة عنقه السوداء
الطويلــة املتدليــة فــوق صــدره العريــض ،أنهــى ســيجارته األولــى فــي أنفــاس معــدودة ،ثـ ّـم
بدأ بالبحث في جيبه عن ســيجارة ثانية...أخرج العلبة ليجدها فارغة ،اعتصرها بيده
وبقبضته القوية رماها على األرض ورائه ،ارتسمت على مالمح الرجل عالمات الحيرة.
حــرك رأســه هنــا وهنــاك يبحــث فــي األرجــاء ...نهــض مــن مكانــه واتجــه نحــو الرجــل األصلــع
فــي الركن...حيــث كان ذلــك الرجــل ال يـزال يحــاول تســجيل ذلــك الرقــم بشــكل صحيــح...
ضــرب بيــده علــى الكونتــوارونهــض متجهــا مباشــرة نحــو الرجــل األعــور مــد يــده بحركــة
خاطفــة ويأخــذ منــه الهاتــف والورقــة.
ســجل لــه الرقــم املــدون علــى الورقــة بســرعة .ورد الهاتــف لــه وتركــه جامــدا فــي
مكانــه ،لــم ينبــس ببنــت شــفة "ظهــراألعــور محدبــا لذلــك لــم يعــدل مــن وضعيــة جلوســه
واســتمر ينظــر للرجــل فوقــه بنصــف عيــن"
– اآلن هل معك سيجارة؟
أجــاب الرجــل األعــور وهــوينظــرللرقــم ودون أن يعيــراهتمامــا للرجــل الواقــف فوق
رأســه.بنبرة تلم على نوع من االســتهزاء والســخرية...
102
مطلوعة (خبز وحب)
– هــل أنــت ســكران أم مــاذا؟ كيــف أملــك ســيجارة وأنــا ال أملــك والعــة واخبرتــك
بهــذا منــذ دقيقــة!
– لم أكن أقصد منك من قبل أن كنت تحمل والعة؟
واصل وهمس بضحكة هادئة ومنخفضة:
– هيه هيه....،بل أردت مساعدتك في تسجيل الرقم ،ألني حقا انزعجت مكانك
وأثــرت أعصابي.
لم يرد الرجل األعور واستمرفي تفقد الرقم الذي كتب له!
– أعور يملك هاتفا-...خص الفرطاس غيرحك الراس-...
ثــم عــاد ليجلــس مكانــه .كان ال ي ـزال هنــاك بعــض الش ـراب املتبقــي فــي زجاجتــه
فأفرغهــا فــي فمــه وقــد شــمر علــى منكبيــه ،التفــت فجــأة لينظــر نحــو الفتــاة الجالســة
بجنبــه ،وهــي تقــدم لــه ســيجارة مبتســمة حيــث التقــت نظـرات الرجــل بنظـرات الفتــاة.
بقــي صامتــا يمــد يــده نحــو يدهــا كأنــه لتــوه الحــظ وجودهــا ،بــدى فــي تلــك اللحظــة أنــه
صحــى لتــوه مــن سكرته...أمســك الســيجارة وفــي نفــس الوقــت مــد يــده يتلمــس متعمــدا
ســطح يــد الفتــاة وعجــل فــي ســحب يــده:
– شكرا.
ثم صمت قليال وأتبع قائال:
– آنسة...
و كأنه ينتظرمنها أن تخبره أسمها!
– ال تقل لي شكرا ،ألني أنقصت من عمرك بهذه السيجارة أليس كذلك!
مال الرجل إلى الخلف قليال وهو ينظرنحو الفتاة نظرة إعجاب وحيرة:
103
مطلوعة (خبز وحب)
– ما لذي أحضرفتاة جميلة ومحترمة مثلك إلى هنا ،أتعجب من أمرك حقا!
ثم قاطعته الفتاة مبتسمة وهي ترتشف من عصيرالليمون في يدها.
– كان هنــاك رجالن...قــرر الرجــل األول أن يذهــب للمســجد والثانــي أن يذهــب
للحانة .من هو الرجل الطيب ومن هو الرجل السيئ في رأيك؟ نعم أنت تظن أن الرجل
األول هورجل طيب ..والثاني رجل �سيء أليس كذلك؟ "وأمالت رأسها بحركة صبيانية"
لكن في الحقيقة ال! لو أخبرك أن الرجل األول دخل للمســجد ليســرق األحذية والثاني
دخل للحانة ليدعي أنه يشرب ويعض الناس ويساعدهم ليتوقفوا عن الشرب...أجل!
أجل! نحن مجتمع نقيس األشــخاص حســب مظاهرهم.
رد الرجل كأنه معجب بكالم الفتاة مناديا على الساقي.
_فاتح!
_نعم سيدي
_أحضركأسا لآلنسة هي على حسابي
قاطعته الفتاة:
– ال ال داع ،لهذا فأنا ال أشرب ،وال أقبل الهدايا من أشخاص غرباء ،وخاصة إن
كانوا سكيرين"...واصلت كالمها وهي ترسل نظرة حادة تحمل الشفقة".
– أنا يا عزيزتي عندما أريد أن أصحو أسكر.
– الرجــال كلهــم همهــم الوحيــد هــو الجنــس وإن لــم يحصلــوا عليــه يخدعــون وإن
حصلــوا عليــه يخدعــون .الرجــال خداعــون فــي كل األحــوال.
بنبرة واثقة قاطعها الرجل!
– وهل جربتهم كلهم يا عزيزتي ّ
حتى تعرفي هذا؟
104
مطلوعة (خبز وحب)
– ال ولكن....
– ولكن ماذا! تكلمي؟
ّ
ثم أطرقت الفتاة وجهها شاخصة نحو األرض.
و بالتحديد في تللك األثناء بدأ الرجل األعور بالصراخ.
و إحداث أصوات وقد تمكن أخيرا من إجراء اتصاله يضرب على الطاولة أمامه
وهو يتحدث في الهاتف كأنه سمع خبرا غيرسار...
– فتيحة دخلت املستشفى ،متى؟
–......
– لكن! ماذا حدث لها؟
–....
– واه ،واه هل اتصلت بأمك؟
–......
– هاتفها مغلق! ال ال أعرف منذ متى تغلق هاتفها!
ثم صمت وهدوء يكسره بكاء الرجل األعور في الزاوية .وهو يشرب من فم قارورة
الخمرمباشرة .بحرقة.
نظرت الفتاة نحو الرجل نظرات طفلة بريئة منكسرة...
–اسمع ليس األمرمثلما تعتقده.
–أعتقده!
–نعــم ..فــإن التقينــا هنــا ال تظــن بــي ســوء وال تحســبني مثــل الفتيــات األخريــات.
105
مطلوعة (خبز وحب)
ســأجيبك عــن التســاؤالت التــي تــدور فــي رأســك بخصو�صــي اآلن .إن تعجبــت عندمــا
أخبرتــك أنــي ال أشــرب فــا تتعجــب إن أخبرتــك أنــي ال أدخــن وال أفعــل الكثيــرمــن األشــياء
األخــرى ،أمــا بخصــوص الوالعــة فقــد نســيتها فــي محفظــة يــدي وذلــك كان أثنــاء إشــعال
الشــموع فــي حفلــة عيــد ميــاد صديقــة لــي والــذي كان قبــل لحظــات فقــط لذلــك خرجنــا
لنحتفل ،أرسلت لي رسالة تخبرني عن مكانها وأنا أعلم من طيشها ما لذي سيحل بها،
فحتــى هــي األخــرى لــم تعتــد الدخــول إلــى مثــل هــذه األماكــن .وإنمــا جرهــا "منيــر" الكلــب،
الــذي نصحتهــا بــأن تبتعــد عنــه وإال ســتجني علــى نفســها فــي األخيــرســوء العاقبــة .بحثــت
عنها ولم أجدها...تعبت من البحث فأردت أن أحت�سي شيئا يخفف عني قلقي ال أكثر...
أمــا هــذه الســيجارة التــي فــي فمــك اآلن أنظــر للعالمــة التجاريــة التــي تحملهــا اآلن ...هــي
نفســها التــي تحملهــا الســيجارة فــي فــم الســاقي...أنظرجيــدا يــا ســيدي وإن كنــت تتســاءل
متــى تــم ذلك...فســأترك لــك املجــال للتفكيــرمتــى غفلــت عنــي أو نهضــت مــن مقعــدك.
صمت الرجل قليال ثم استرسل قائال:
– حسنا ،حسنا ،ربما أخطأت الظن بك .ولكنك حتما أخطأت الظن بي أيضا...
ليــس ألنــي أشــرب أمامــك اآلن فأنــا شــخص �ســيء وفاشــل ربمــا حقــا مــكان تواجــدي هنــا
باألصــل أمــرخاطــئ .ربمــا أنــا حقــا ثمــل ولكنــي فــي كامــل وعيــي.
فضحكت الفتاة من آخرجملة قالها الرجل وأخفت ضحكتها بيدها!
واصــل الرجــل حديثــه واضعــا يــده جنبــه وهــو يــزم شــفتيه .يشــد الضغــط علــى
زجاجة الفودكا بيده ،يقاوم األلم ،اقتربت منه الفتاة لتســاعده ونظرة خوف وشــفقة
باديــة علــى وجههــا ،منعهــا الرجــل بحركــة لطيفــة بيــده ثـ ّـم فتــح ربطــة عنقــه قليــا.
كانــت األضــواء خافتــة والنســيم الليلــي البــارد يتســرب إلــى داخــل الحانــة انطفــأت
ســيجارة الرجــل الثانيــة وقبــل أن تنتهــي ،أخــذ منهــا الرجــل نفســين متتاليــن بش ـراهة...
نهــض مــن مقعــده واقتــرب مــن الفتــاة بخطــوات شــبه مترنحــة وبعينيــن تكتســيها حمــرة فــي
الجانبيــن.
106
مطلوعة (خبز وحب)
107
مطلوعة (خبز وحب)
ّأم ــا تبكــي علــي بحـرارة علــى فقــدان فلــذة كبدهــا أوأبــا يذكرنــي بمحاســني ويتفاخــربــي بيــن
أقرانــه وإن حــزن أحدهــم علــى موتــي حقــا ،فلــن يكــون ســوى الطبيــب والصيدلــي وبائــع
السجائروصاحب املخمرة .يحزنون لفقد جزء كبيرمن مدخولهم هذا كل ما في األمر.
آه يــا عزيزتــي كيــف ال يبــرد قلــب املــرء هكــذا؟ أخبرينــي بربــك كيــف؟ ولــو كان هــذا
الــذي فــوق كبــدي اللعينــة "ثــم توقــف ليســعل يســعل ويســعل !...وهــو يشــد علــى جنبيــه
ناحيــة كبــده ويعــض علــى شــفتيه ويعتصــرعينيــه مــن األلــم ،واصــل بعــد أن هــدء قليــا
وعــدل مــن وضعيــه جلوســه ليجلــس مقابــا الفتــاة مباشــرة".
و بنبرة هادئة:
لو كان قلبي باردا حقا .ملا شعرت أني أحبك منذ أول نظرة في عينيك وأنا ثمل.
فأنا أثمل ليبرد قلبي وأنا أعرف أني اآلن في حالة يرثى لها من السكر ،وأحسست
أنــي أحبــك فمــاذا لــو صحــوت مــن ســكرتي هــذه ورأيتك...ربمــا لــن أتذكــراســمك ولكنــي
حتمــا لــن أن�ســى وجهــك ولــن أن�ســى ابتســامتك ولــن أن�ســى فعلتــك مــن أجلــي ،أنــا ال أعلــم
ســبب أفعالــك اتجاهي...رغــم أنــي شــخص �ســيء وعربيــد .عندمــا أحــزن أشــرب وعندمــا
أفــرح أشــرب وعندمــا أصحــوا أشــرب .أتمنــى أن تنتهــي ثروتــي مــن شــربي للخمــرلكنهــا ال
تنتهــي
_تبا ..كح كح كح!
"و يبصق على األرض ويواصل كالمه متقطعا"
أنا حز......ين وال أري...د شيئا ..س ..وى
ثم لم يكمل كالمه ويسقط مغما عليه.
و فــي الصبــاح يجــد الرجــل نفســه ممــدا علــى أريكــة امللهــى ...صــداع داخــل رأســه
يســتيقظ علــى صــوت النــادل .يتفقــد نفســه فيجــد حــذاءه وربطــة عنقــه موضوعيــن
بجانبــه وال يتذكــر مــن ليلــة امــس ســوى وجــه تلــك الفتــاة..
108
مطلوعة (خبز وحب)
يلبــس حــذاءه مســرعا ويرتــب ربطــة عنقــه أمــام زجاجــة الفــودكا التــي ال تـزال فــوق
ســطح املخمــرة ثـ ّـم يتجــه نحــو الشــاب ليســأله عــن الفتــاة .كل مــا يخبــره أنــه فقــد وعيــه
وســقط مغشــيا عليــه .فلــم تتمكــن الشــابة مــن ســحبك إلــى هنــا ،فنــادت علــى الرجــل
األعــور الــذي كان يجلــس علــى األريكــة هنــاك ليســاعدها فــي حملــك.
ثم قاطعه الرجل قائال:
– أتعرفها؟ ألم تخبرك شيئا؟ أو تترك عندك رسالة .أو �شيء من هذا القبيل.
– ال سيدي!
قالها الشاب وهو يقوم بتنظيف األرضية وترتيب الكرا�سي
حمــل الرجــل نفســه وخــرج مــن امللهــى ،وصــل إلــى مــكان ركنــه ســيارته وضــع يــده ليخــرج
حتــى تفاجــأ بورقــة موضوعــة فــي جيبــه .فتحهــا وقـرأ بخــط جميــل. مفتــاح ســيارةّ ،
109
مطلوعة (خبز وحب)
أصابتــه .حيــث أعلمهــا أنــه خســرمعظــم ثروتــه ومــا عــاد يملــك فلســا اآلن .وأنــه ال يملــك
ّ
حتــى ثمــن مــا يدفــع بــه مــن أجــل البيــرة التــي كان يحملهــا وهــو يســرد لهــا قصــة خســارته
لثروتــه .فــي جلســة القمــارتلــك.
ظهــرت علــى الفتــاة عالمــات الخــوف واالرتبــاك ،تلعثمــت فــي كالمهــا .ابتعــدت عنــه
قليــا .ثـ ّـم قالــت:
– يعني أنك ال تملك ماال؟
أجاب وهو يثبت نظراته في عينيها:
– نعم يا عزيزتي! قد خسرت كل �شيء ،بقيتي لي أنت فقط.
نهضت من مكانها ،ونظرت نحوه بنظرات اشمئزازواستحقارأدهشت الرجل:
– أنت سكيروستبقى سكيرا...تعبت وأنا أنصحك بأن تكف عن الشرب وأنت لم
تسمع لكالميّ ،أمـا اآلن فوداعا .هذه القطرة التي أفاضت الكأس.
أمسكها الرجل من ثوبها ،بنظرات انكسار يترجاها أن ال ترحل:
– توقفــي أرجوك...علــى األقــل قبــل ذهابــك !...ادفعــي مقابــل هــذه البيــرة ...بجــاه
األيــام الجميلــة بيننــا وبجــاه كل مــا أنفقــت عليــك مــن مــال ولــم أحدثــك عنــه يومــا ولــم
أشــعر بالنــدم ألنــي أنفقــت عليــك.
وضعت يدها على حقيبتها وبنبرة صوت ساخرة تتصنع التأسف:
– ال أملك نقودا ...هيا وداعا!...
تبعهــا الرجــل ،أمســكها مــن رقبتهــا مباشــرة وشــد الخنــاق علــى قبضتهــا .استســلمت
الفتاة ،وقادها إلى جانب مظلم من الشارع ...سمع لحن مزمارحزين تبع الصوت آلخر
الرصيف ،قابل متشردا رث الثياب أشعث الشعر .يعزف ألحان حزن كأن لم يبق له
110
مطلوعة (خبز وحب)
أمــل فــي الحياة...فجــأة دفــع الرجــل الفتــاة بجانــب ذلــك املتشــرد واســتل مسدســا صغيـرا
أبيضــا مــن جيبــه وبــدأ فــي الحديــث مــع ذلــك املتشــرد كأنــه يوجــه لــه ســؤاال مــا .وبعدهــا
أخرج الرجل قطعة فضية من جيبه "كانت تلك القطعة كلما وجده في حقيبة الفتاة"
ورماهــا فــي الهــواء ،وقعــت علــى كــف الرجــل ،لتكــون بعــد لحظــات الفتــاة مــرداة قتيلــة.
اقتــرب الرجــل مــن املتشــرد ليكتــب لــه فــي ورقــة ،يســلمها لــه وينصــرف لحالــه يجــر
معطفــه األســود بمشــية عرجــاء هادئــة يختــرق الظــام ويختفــي وســط الشــارع.
111
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب _
السيد مروان مقدمي
***
عندما جلس مروان أمام املحقق ،دفع املحقق حبة التفاح أمام مروان .أمسكها
مــروان ووضعهــا بجنبــه ،نظــر املحقــق فــي عينيــه لبرهــة وجيــزة يختبــر تواصلــه البصــري
معــه ،هــزرأســه ثـ ّـم ســأله:
– أين كنت أثناء وقوع الجريمة؟
– كنت في املرحاض
– هل دخلت املكتبة اليوم؟
– ال لم أدخل هنا.
– رفقة من كنت في املرحاض؟ ومتى آخرمرة رأيت فيها املرحوم؟
– كنــت رفقــة لقمــان وبعــض األوالد اآلخريــن .كنــا ندخــن ســيجارة نتنــاوب عليهــا،
حتى ســمعنا الصرخة املدوية ،فهرعنا مســرعين إلى املكتبة ،وكانت آخرمرة رأيته فيها ّ
وهــو يدخــل القســم صباحــا ،وباملناســبة لــم يحضــرآخــرحصــة صباحيــة.
_آخرحصة .هل تقصد من الساعة ال 11:00إلى 12:00؟
_نعم.
– ملاذا برأيك؟
112
مطلوعة (خبز وحب)
– ال علــم لــي ،لكــن عالمــات القلــق كانــت تبــدو ظاهــرة علــى وجهــه .كأنــه يخفــي شــيئا
مــا! أو يخطــط لفعلــه؟
– يخطط لفعل �شيء ما ،ما لذي كان يخطط له برأيك؟
_ال أدري؟
_إذن كنت رفقة لقمان ،هو صديقك املقرب هكذا!
– نعــم يجلــس معــي فــي القســم .كنــا ندخــن ســيجارة كمــا أخبرتــك عندمــا ســمعنا
الصرخــة.
– هل أنت متأكد أنكما كنتما في املرحاض ولم تكونا في مكان آخر؟
– نعم ،وماذا تقصد بمكان آخر!
– لقــد شــوهدتما وأنتمــا تحــاوالن الف ـرار مــن فــوق ســور املدرســة الخلفــي ،هــل
اختلطــت عليكمــا الخطــة؟
سكت مروان ملدة وجيزة ،غيرمن نبرة صوته وأجاب بثقة:
– حسنا أنت على حق نسبيا .لكن الحقيقة ليست مثلما تتوقعه.
_إذن ما هي الحقيقة؟
_ الحقيقــة أن حصــة الفرنســية هــي حصــة مملــة وثقيلــة ال تســتهويني ال أنــا وال
لقمان ،لذلك قررنا الهروب كالعادة من السور الخلفي ،ألن الباب الرئي�سي مغلق ّ
حتى
الساعة األخيرة من الدوام املدر�سي ،وحين وضعت رجلي على السور سمعنا الصرخة.
– لكنــك اآلن قلــت أنكمــا كنتمــا فــي املرحــاض حيــن ســمعتما الصرخــة ،أنــت
متناقــض فــي كالمــك أنــت ال تجيــد الكــذب يا�ســي مــروان.
113
مطلوعة (خبز وحب)
114
مطلوعة (خبز وحب)
115
مطلوعة (خبز وحب)
116
مطلوعة (خبز وحب)
فــي هــذا الوقــت تحديــدا قبــل الغــروب بنحــوســاعة ،تكتــظ الســوق آلخرهــا ،تســمع
مختلــف األصــوات:
"شاربات بوفاريك برد يا عطشان".
"أيا الهندي والهندي واملاء واملوس من عندي "
"أيا الدالع ،بطيخ ،بطيخ"
تشــم خليطــا مــن الروائــح تعبــق الســوق ،رائحــة أعشــاب البقدونــس ،رائحــة باعــة
البهــارات ،تمتــزج هــذه الروائــح بالبخــاراملتصاعــد مــن طناجــرربــات البيــوت فــي العمــارات
املجــاورة.
ينتشــرفــي رمضــان باعــة الحلويــات التقليديــة املخصصــة ملثــل هــذا الشــهر ،مثــل
حلــوى قلــب اللــوز أو الشــامية كمــا يلقبهــا أهــل الجنــوب الزالبيــة ،البقــاوة ،القطايــف،
الشــاربات ،باعــة الســمك الجوالــون وباعــة أعشــاب التتبيــل ،بعــض الســيارات تحــاول
العبــور بصعوبــة بيــن النــاس ،ألن الســوق فــي األصــل هــي عبــارة عــن طريــق للســيارات
يصطــف علــى أرصفتهــا كل الكثيــرمــن الباعــة لــكل طريقتــه فــي اإلشــهارلســلعته.
– آيا مطلوع سخون مطلوع سخون!
– مطلوع محمرعلى حطب كندا.
مثلما ينادي بائع الشاربات ،شاربات بوفاريك تيمنا باملنطقة املشهورة بصناعتها
لنوعية ممتازة من العصائرمنذ القدم الحتواء أراضيها على الحمضيات ذات الجودة.
و مثلما ينادي بائع التين الشوكي:
_هيا الهندي ،الهندي واملاء واملوس من عندي.
أنــادي أنــا بطريقتــي ،بحيــث أن لــكل بائــع طريقتــه لإلشــهاربســلعته ،ال يهــم أن تغنــي
أو تهــرج ،املهــم أن ال تبــور ســلعتك واألهــم أن تبيــع هنــا.
117
مطلوعة (خبز وحب)
118
مطلوعة (خبز وحب)
119
مطلوعة (خبز وحب)
_جملة!
_نعم.
_ماذا قال لك؟
_أظنه قال" :املذبوحة تطمع في املسلوخة".
_هههه
_ملاذا تضحك هاه! أنا خائف يامطلوعة.
_من ماذا أنت خائف؟
_ من إن كان قد دعا علي بأن تبور سلعتي ،فهو حافظ للستين ودعوته مقبولة.
– ال يــا عاشــور ال تخــف ،فهــذا مثــل قديــم يتداولــه الكبــار ،معنــاه أنــك أســوء منــه
حــاال وهــو يطمــع فــي أن يأخــذ منــك ،أي أنــك أنــت املســلوخة وهــو املذبوحــة.
– هــااااي ،يــا ربــي تقصــد أن الحــاج املخفــي يريــد أن يذبحنــي ،عرفتهــا مــن األول،
ذلــك العجــوز مجنــون ..مجنــون.
ثم انصرف عاشور مسرعا نحو مكانه حمل قفة املطلوعة وانصرف ً
خائفا.
عاشــور أحــد الفتيــة األربعــة هنــا بجانبــي ،فتــى فــي الرابعــة عشــر مــن العمــر،
فــي الصيــف يبيــع قواريــر املــاء البــارد فــي محطــات نقــل املســافرين ويظــل يحــوم حــول
الحافــات تحــت أشــعة الشــمس الحارقــة مناديــا “ســعيدة بــاردة” ،املســكين قــد توقــف
عــن الدراســة منــذ ســنوات ،فبعــد أن كان يعمــل خــال العطــل فقــط ،فضــل التوقــف
تمامــا عــن الدراســة ليتفــرغ للعمــل طــوال الســنة ،وفــي كل مــرة يغيــرمجــال تجارتــه ،فمــن
التجــول فــي األســواق لبيــع األكيــاس وغيرهــا خــال الشــتاء ،يحــول النشــاط فــي الصيــف
إلــى بيــع امليــاه املعدنيــة البــاردة التــي يجنــي مــن خاللهــا 5دج فــي القــارورة الواحــدة ،وهــو
120
مطلوعة (خبز وحب)
مبلــغ ليــس بالهيــن بالنســبة لــه ،فهــو كفيــل بتوفيــرقــوت عائلــة كاملــة .ويبيــع خبــزالــدارفــي
رمضــان.
ّأم ــا الفتى بجنبه هو الهواري ،فتى أســمرفي عمرالثالثة عشــررمضانا ،قد التحق
بعالــم الشــغل كبائــع لألكيــاس البالســتيكية .وهــي تجــارة جيــدة ملثــل مــن هــم فــي ســنه
وغالبــا مــا يدخــل النــاس الســوق دون أن يلتفتــوا إلــى األكيــاس التــي يحملهــا الهــواري فــي
مدخل الســوق ،لكنهم يبحثون عنه بأنفســهم عند الخروج من الســوق خاصة النســاء
اللواتي يحرصن على شراء “سا�شي شباب“ حكى لي الكثيرمن الطرائف مع السيدات،
فمنهــن مــن يناديهــا بأختــي ومنهــن مــن ال يتــردد بمناداتهــا “أمــي أو عمتــي" فيــرق قلبهــا نحــوه.
ويضيــف أن الكثي ـرات يدفعــن لــه قطعــة 20دج ويتنازلــن عــن الباقــي عــن طيــب نفــس
وخاطــر ،وهنــاك مــن تعطــف عليــه وتمنحــه قطعــة نقديــة خلســة وكأنهــا تخفــي صدقتهــا
حتــى ال تحرجــه ،خاصــة فــي أوقــات عصيبــة كالبــرد الشــديد أو الحــر. ّ
مثلــه مثــل ابــن عمــه الطاهــر ،والــذي مــازال يتمتــع بنــوع مــن الحيــاء فــي التعامــل مــع
الزبائــن كونــه جديــدا فــي امليــدان ،هــو مــن بيــن الفتيــان القلــة اللذيــن مــا زالــوا يحافظــون
على العمل والدراسة ،كثيرا ما أساعده في حل بعض املسائل الرياضية على حد علمي
هــو يــدرس الخامســة ابتدائــي وال يبيــع األكيــاس إال عنــد خروجــه مــن املدرســة فــي عشــية
اإلثنيــن والخميــس ألنهمــا وقــت راحــة ،كثي ـرا مــا يأتينــي خجــوال يختبــئ ورائــي ويقــول إنهــا
آنســتي ،آنســتي ،ويقصــد معلمتــه ،خاصــة وأنهــا غيــرراضيــة عــن عملــه هــذا ،وقــد ســبق
وأن حــذرت والدتــه مــن إرســاله إلــى الســوق للعمــل ألن هــذا ســيؤخره عــن الدراســة،
حســب مــا أخبرنــي بــه ،لكــن الطاهــريؤكــد لــي دائمــا بأنــه يحــب املدرســة وال ينــوي مغــادرة
مقاعدها ،لكن الفقرهو الذي دفع به إلى امتهان بيع األكياس البالستيكية التي يجلبها
لــه والــده ـكـي يســاعده فــي مصــروف البيــت ،يقــول أيضــا أن والــده يشــتريها بالجملــة وهــي
رخيصة بثمن الجملة ،لكن التجزئة تجعل فيها ربحا وغالبا ما تفرح به والدته ،خاصة
في املناسبات وعلى رأسها شهررمضان األخيرالذي عمل فيه وكسب جيدا ليس فقط
فــي بيــع األكيــاس ،بــل “املطلــوع“ أيضــا و "الديــول” مثــل جميــع الفتيــة اآلخريــن الذيــن
يأخــذون هــذه املهنــة فــي هــذا الشــهر ،رغــم ذلــك أنــا أســاعدهم فــي البيــع وال يزاحموننــي
أبــدا ألنــي أبيــع املطلــوع طــوال العــام ولــي زبائنــي الخاصــون ،يبيــع الطاهــرباجتهــاد ّ
حتــى
121
مطلوعة (خبز وحب)
يكســب بعــض املدخــول يشــتري بــه مالبــس عيــد الفطــرويتفاخــربهــا بيــن أقرانــه ،أمــا عــن
أيام البرد والحرالشديد ،فيقول الطاهر“والدتي تخاف على صحتي وترفض أن أعمل
حيــن يســقط املطــر ،خاصــة وأننــي أعانــي مــن الحساســية الصدريــة والبــرد واملطــريزيــد
حالتــي سـ ً
ـوء.
الطاهــرفتــى هزيــل ونحيــف .لذلــك هــوعرضــة للمضايقــات فــي الســوق وهذا العالم
هنــا ملــيء باملجرميــن ،إن لــم تكــن ذئبــا أكلتــك الذئــاب والبائــع الجديــد مثلــه يتعــرض إلــى
حتى ال يزاحم القدامى في عملهم ،هذا من ناحية ،كما أنه من ناحية أخرى املضايقات ّ
معرض هو اآلخرإلى السرقة عند نهاية اليوم أي عند استواء الغلة التي يجمعها ليعود
بهــا إلــى أهلــه .ويضيــف الطاهــرأن الباعــة القدامــى الذيــن يرفضــون تواجــده هــم الذيــن
تآمــروا علــى ســرقته عــدة مـرات فــي بدايــة التحاقــه بالعمــل فــي ســوق الخضــرة هنــا ،وذلــك
مــن أجــل أن يســأم هــذا العمــل ويتــرك املــكان ،لكنــه أصــرعلــى البقــاء ألنــه وجهــة أهــل كل
املدينــة هنــا ،ومصــدررزق لكثيــرمــن العائــات.
كمــا أخبرنــي الطاهــرذات مــرة أنــه يتمنــى أن يكمــل تعليمــه ويجيــد الحســاب مثلــي
وأال يضيع في الشــوارع كهؤالء الذين يســكنون األســواق منذ مطلع الفجرإلى أن تغرب
الشــمس ،لهــذا هــم يكرهونــه وال يحتملونــه ،ألنهــم يعلمــون أنــه متمســك باملدرســة
والتعليــم وليــس ”ضائــع”.
ويعترف الطاهرأيضا وبراءة األطفال في عينيه بأن النجاح في هذا العمل يتطلب
حتى يستعطف الزبائن ،لكن أن يكون البائع حسن الكالم “ظريفا مثلك يا مطلوعة ” ّ
لألســف أنــا أعــرف أن الدافــع األول ألغلــب الزبائــن للشـراء منــه هــو الشــفقة والعطــف
عليــه وعلــى غيــره مــن الباعــة الصغــاروليــس الحاجــة املاســة لذلــك الكيــس البالســتيكي.
أمثــال الهــواري وعاشــور والطاهــر الذيــن ال يتعــدون العشــر ســنوات كثيــرون
وتكتــظ بهــم األســواق اليوميــة الفوضويــة والنظاميــة فــي املدينــة ،فضلــوا بيــع األكيــاس
البالســتيكية علــى أي ســلعة أخــرى ألنهــا تضمــن لهــم الحركــة بحريــة تامــة مــن مــكان إلــى
آخــر ومــن ســوق إلــى ســوق ،كمــا أنهــا بضاعــة وزنهــا خفيــف وربحهــا معقــول وال تفســد
أو يصيبهــا العطــب ،كل ذلــك جعــل مــن بيــع األكيــاس البالســتيكية مهنــة أدمــن عليهــا
122
مطلوعة (خبز وحب)
العش ـرات مــن أطفــال األســر املعــوزة والفقيــرة ،أو تلــك التــي تعانــي مــن غيــاب املعيــل
بســبب اليتــم أو الطــاق أو التفــكك األســري.
هــؤالء األربعــة زمالئــي فــي العمــل كنــت مثلهــم ذات يــوم وال أزال ،أعــرف جيــدا أنــه
رغــم صغــرســنهم ،إال أنهــم حفظــوا عــن ظهــرقلــب أســعاراملــواد الغذائيــة وكلمــا ارتفعــت
أعلمهــم بذلــك وكأنهــم املســؤولين عــن البيــت وامليزانيــة .دائمــا مــا يجلــس الطاهــربجنبــي
ويقــول لــي “أنــه يغــار حينمــا يــرى أوليــاء أصدقائــه وأقربائــه حريصيــن عليهــم وعلــى
دراســتهم ،ورغــم صغــرســنهم أقســم علــى أنــه لــن ينجــب أطفــاال فــي املســتقبل إال إذا وفــر
لهــم اإلمكانيــات لعيــش كريــم”.
وأخبــره ّأنــه علــى حـ ّـق فاإلنجــاب قيمــة ســلبية عندمــا يكــون الفــرد فقيـرا ..كمــا يقول
جــدي الفقــرينجــب قتلــة ومجرميــن واملــال ينجــب طغــاة متمردين.
***
ّإنهــا فرصتــي ألكمــل كل خب ـزات املطلــوع قبــل أن يأتــي "حميــدة القــط" يزاحمنــي
بمطلوعــه الصابــح.
بعد لحظات سمعت صوتا رقيقا فوق رأ�سي:
– أعطني زوج!
دون أن أرفع رأ�سي
– حاضر
اختــرت مطلوعتيــن مــن أســفل الســلة ،لففتهمــا داخــل أوراق جريــدة وضعتهمــا
داخــل الكيــس ،فعــت رأ�ســي ثـ ّـم تجمــدت مكانــي!
–.....
123
مطلوعة (خبز وحب)
124
مطلوعة (خبز وحب)
125
مطلوعة (خبز وحب)
_إذن هــذا النــوع مــن البنــات لســن مكتوبيــن للصعاليــك أمثالنــا ،هوائهــم وهوائنــا
ليس واحد .هم يروونا مجرد حشـرات أو حيوانات أليفة ال مشــاعرلها .ربما تحب قطا
أليفــا أو كلبــا وتعطيــه اســما وتحــزن ملرضــه ولــن تحــب صعلــوكا مثلــك أو مثلــي باختصــار
الحــج بعيــد علــى صاحــب الحمــار.
_وأبعد ملن صاحبه حمار.
_ههه الحماريعرف أخوه الحمار.
_ماذا تقصد ؟
***
شاردا في تفكيري وجالسا على أطالل روحي .أراقب مترددا تلك الفتاة الغريبة .ال
أعلم كيف أنا أستغرق كل هذا الوقت غارقا في أدق تفاصيلها ،أترجى أن تبادلني نظرة
واحــدة تكفينــي .وقبــل أن أقطــف خيــط حلــم ،تقطعــه رائحــة عطرهــا الفاخروتعاكســني
ألــوان ثيابهــا األنيقــة واملطــرزة بدقــة ،أنــا أمامهــا أقتــرب منهــا أكثــر ..أكثــر ..ثـ ّـم أمســكها
مــن يدهــا الطريــة أنقلهــا إلــى عالــم الســحر ،أنــا وأنــت والــرب والشــيطان أدنــو همســا مــن
شــحمة أذنهــا الشــهية أطارحهــا الحــب وأصارحهــا الســروأريهــا العجــب العجــاب ،أعتــرف
لــك أنــي فتنــت بــك ال أعــرف كيــف ومــا هــذا الشــعور لكــن هكــذا ،ال أدري .نرمــي الــورود
والحبــق فــي الهــواء وأعانقــك وأشــم رائحتــك وآه اآله مــن عينيــك.
و آح اآلح مــن تلــك الغمازتيــن إن أنــت ابتســمت ملكــت روحــي وأشــرقت شــمس
نهــاري .
ورب ليلــى مــا صنعــت مــن طيــن وصلصــال مــن حمــئ مســنون ،ســقطت مــن الجنــة.
لــو تــرون معــي تلــك الحركــة التــي تفعلهــا بعينيهــا عندمــا تفكــر ،كأنهمــا محارتــان فــي زاويــة
مــن زوايــا بحــرلجــي ،أســهو كثي ـرا فــي أتفــه تفاصيلهــا ال أدري أهــذا جــرم أم خطــأ أم حــج
بعيــد مثلمــا قــال حميــدة ،حــج مشــاعرمرهــق ،ملــاذا تثــاركل مشــاعري اتجــاه هــذه البنــت
بالرغــم مــن أنــي لــم أكلمهــا ولــم أجـرأ علــى ذلــك؟ ال أعــرف مــا تخبئــه وتخفيــه مــن أسـرار
126
مطلوعة (خبز وحب)
هــي غامضــة ككتــاب مغبــرمــن كتــب جــدي ،أبقــي هكــذا ال تتغيــري ،يكفينــي طيلــة اليــوم
أحملك في مخيلتي وأضعك فوق وسادتي أداعبك قبل أن أنام وأقبلك أووه نعم أقبلك
واملــوت يحلــو لــي بعــد ذلــك وأخبــأك بيــن أضلعــي وأغــار عليــك مــن أضلعــي إن خدعتنــي
وأســرتك وتركتنــي وحيــدا.
تيك
تيك
تاك
تيك
تاك
أعــود إلــي ،لتباغتنــي صفعــة الواقــع وأجدنــي أنــا وحذائــي الــرث وثيابــي القديمــة
وشعري األشعث...من قرية بعيدة وعائلة فقيرة .أدون هذه املذكرات السخيفة .أكتب
مــا أشــعربــه بصراحــة مطلقــة أدون كيــف كان يومــي وأجدنــي عندمــا أصــل لوصفهــا أمــأ
خمس صفحات دون أن أشعر ،ثم أعود إلي مرة أخرى بصفعة أخرى من الواقع الذي
يعــارض كل أحالمــي الســخيفة البلهــاء وحروفــي الطريــة الناعمــة .كــم مــن فتــى يفكــرمثلــي
وكــم مــن أبنــاء األثريــاء يريدهــا .لطاملــا كنــت فتــى حاملا...ولكــن هــذه املــرة اســتغرقت كثيـرا
وجدتنــي أغــرق فــي حلــم بعيــد .لنفتــرض أنهــا أمامــي اآلن ثـ ّـم مــاذا؟ هــل لــي الجـرأة ألقابلهــا
وأصارحهــا بمشــاعري ،مــاذا لــو ق ـرأت مذكراتــي هــذه؟ مــاذا ســتقول ومــاذا ســيكون رد
فعلهــا .أطــوي دفتــرمذكراتــي .أتنهــد ثـ ّـم الصــورة تتضبــب.
يــرن جــرس الخــروج مــن املدرســة .أتتبعهــا ،أتحا�شــى أن تالحــظ أنــي ورائهــا ألحقهــا
حتــى البــاب .غيــربعيــد أقــف وســط الســاحة متســمرا فــي مكانــي ،أرى الســائق يفتــح لهــا ّ
الســائق الشــخ�صي باب الســيارة ،تركب ال مبالية غيرمالحظة ما يحدث حولها .أراقبها
حتــى تتبخــرفــي وســط الشــارع ،تغــرب وتغــرب معهــا شــمس نهــاري ،ثـ ّـم وأنــا شــارد فــي ذلــك ّ
املوقــف أشــعربيــد فــوق كتفــي تســحبني بقــوة ثـ ّـم...
***
127
مطلوعة (خبز وحب)
أب أوالدي
استلقيت على سريري الخشبي القصيرألرتطم بليلي الثقيل ،عندي هذه املرة بما
أقابلــك يــا ليــل فتمطــى ،شــمرت علــى ســاقي ،ودخلــت قصــرأفــكاري ،أيــن تنتظرنــي أميرتــي
املبجلــة ،لكــن هــل يليــق أن أقابلهــا بهــذه املالبــس؟ حينهــا خطفــت خيــط فكــرة وتذكــرت
مــا قالــه لــي مــروان فــي ســاحة املدرســة ،لكــن مــن أيــن ســأحضراملــال! بعــد تفكيــرطويــل
الحت أمامي في الرف على الحائط بطاقة الرجل ،وتذكرت عرضه ..قفزت من سريري
حملــت البطاقــة بيــد والهاتــف بيــد أخــرى ،أتصــل أو ال أتصــل! أتصــل أو ال أتصــل .بقيــت
متــرددا بيــن عــرض الرجــل وكالم مــروان بيــن وجــه فتــاة أحالمــي ووجــه بلوطــة ثـ ّـم غرقــت
فــي أفــكاري.
كانــت ليلــة مــن الليالــي البيضــاء ،القمــريتمــدد فــي الســماء والنجــوم ترقــص حولــه،
والريــح هادئــة كأنهــا تنتظــرشــيئا مــا ،ضــوء القمــريتســرب مــن نافذتــي ليملــس خــده علــى
طاولــة مــن خشــب فوقهــا بعــض أقــام التلويــن وممحــاة وصحــن فــارغ ،بجنبــه قلــة مــن
الصلصــال األحمــر .ضــوء القمــريقتحــم غرفتــي مــن نافــذة مفتوحــة علــى الــدوام .قفلهــا
مكســور ،علــى حافــة النافــذة قطــة تجثــم فــي ســكون تبــدو عيناهــا مشــعة فــي الظــام.
تنظــرنحــوي وأنــا ممــدد فــوق الســريروهــويــأن ويــأن .ثيابــي مرميــة هنــا وهناك .مثل غرفة
ســكير ،فرشــات أســناني فــوق الــرف بجانبهــا بعــض الكتــب ،غرفتــي ضيقــة ثالثــة أمتــار
على ثالثة أمتار ،وارتفاع السقف حوالي املترين ،تتدلى منه ملبة صفراء رخيصة تصدر
ضــوء أصف ـرا باهتــا ،األرض إســمنتية بــاردة ،لونهــا يشــبه الجــدران ،خزانــة زرقــاء مــن
حديد ،أمامي في الجداراملقابل ،لوحة بحارقديم أو كهل خشن املالمح أشيب الشعر
ح��اد العيني��ن علىــ الحائ�طـ اآلخــركوم��ة منــ الكت��ب الصفـراء القديم��ة والكثي��رم��ن أوراق
الرس��م والرســومات.
كانــت لــي عــادة ســيئة وهــي أن معظــم الكتــب التــي أملكهــا ّإم ــا قــد ســرقتها مــن مكتبــة
املدينــة أو أعرتهــا مــن عنــد فــارس صديقــي ،فعندمــا أكمــل قراءتهــا أردهــا لــرف مكتبــة
املدرســة ،وبعــض هــذه الكتــب ال أرجعهــا ألنــي تعلقــت بهــا بشــدة ،الشــخص الوحيــد
128
مطلوعة (خبز وحب)
الــذي كان يفهــم هــذا الشــعور هــو فــارس صديقــي الــذي كلمــا أعارنــي كتابــا ال يطالبنــي
بإرجاعــه وعندمــا أرجعــه الكتــاب ين�ســى أنــه أعارنــي إيــاه لكثــرة مــا يقـرأ مــن كتــب.
القطة ال تزال في مكانها عند النافذة ،لم تتحرك .لوال عينيها املشــعتين لحســبتها
كيســا أســودا .الجــو هــادئ .أوركســترا الصراصيــرفــي شــجرة الكاليتــوس بجــوارنافذتــي،
تضفــي علــى الجــو طابعــا فنيــا مــن املوســيقى الطبيعيــة الخفيفــة التــي تحمــل الــروح
بنغماتهــا املتنوعــة ،وصريــرالبــاب ،قصيــدة أخــرى مــن قصائــد ليلــي الطويــل الســرمدي
األواه.
بعد لحظات من التأمل في باب قصري أحسست بيد دافئة تمسك يدي وصوت
هادئ يقترب من أذني ،لتمأل القشعريرة جميع أطراف جسدي .بنبرة مالئكية:
_انتظرتك كثيرا يا لقمان ولم تتقدم نحوي.
_ماذا تفعلين هنا؟
_ ال أدري حقا .ولكن كل ما أعرفه أنك ستذهب معي لنختارفستانا لعرسنا.
_عرس...
– شششت ال تتكلم ،هيا انهض واتبعني فقط.
شعرت بالدهشة وبالسعادة ،غمرتني ابتسامة عريضة ال محل لها من الوصف،
أمســكتني مــن يــدي وركبنــا فــي ســيارتها .ســرنا وتركنــا الغبــارورائنــا مــن الطريــق الترابيــة
يتطايــر .وصلنــا إلــى املدينــة .دخلنــا أول امحــل مالبــس ،بــدأت أميمــة باختيــارالفســاتين
التــي ســتجربها وكان صاحــب املحــل شــخصا أنيقــا ويحســن الــكالم ،أميمــة تجــرب
الفســتان تلــوى اآلخــروتطلــب رأيــي ،وبالرغــم مــن أننــي ال أفقــه شــيئا فــي األمــور النســوية
إال أننــي أختــارحســب معرفتــي التشــكيلية باأللــوان .جربــت فــي األول فســتانا أحمـرا .و ملــا
خرجــت أمامــي أدهشــتني بجمالهــا كــوردة أقحــوان ،ثـ ّـم تدخــل وتخــرج ومجــددا بفســتان
أبيــض مطــرز تطريـزا عربيــا قــد ناســب قوامهــا املمشــوق وخصرهــا املنحــوت:
129
مطلوعة (خبز وحب)
130
مطلوعة (خبز وحب)
131
مطلوعة (خبز وحب)
– لقمــان .لقمــان ..انهــض يــا وليــدي ،جــدك يناديــك ،يحتاجــك ،قــد خمــرت مــن
الرقــاد.
– آه ،آه توقف توقف!...
– بسم هللا بسم هللا ،خيريا ولدي خير ،هاك اشرب املاء...
– آههههه ،آههه ،اس...
– استغفروشهد ،استغفر ،من الشيطان .من الشيطان
اســتيقظت مرعوبــا مفزوعــا اللعــاب يخــرج مــن فمــي والحمــى البــاردة تلســع
جســدي ،رقبتــي تؤلمــي ،صــداع فــي رأ�ســي وغطــاء ســريري مرمــي علــى األرضيــة .النافــذة ال
تـزال مفتوحــة ،الريــح تفتحهــا ثـ ّـم تغلقهــا .البــاب تئــن والقطــة قــد اختفــت ،الحلــم يتكــرر
فــي رأ�ســي .الســاعة تشــيرإلــى الســابعة صباحــا ،لــم أســتطع النهــوض كان فرا�شــي دافئــا،
عــدت ألســتلقي علــى ظهــري ووجهــي يقابــل الفتحــة فــي الســقف ألفكــرفــي ذلــك الكابــوس..
ثم لوهلة سمعت صوتا يناديني من بعيد.
***
– أووه ،أوففف ..وغد! لقد أفزعتني
– أنت في طريق الجنون! لم يبق لك الكثير
– أسكت ،ليس وقتك اآلن.
– هههه .ما خطبك!
– حسنا .أخبرني ماذا نفعل لها؟
– من هي!
132
مطلوعة (خبز وحب)
– ومن غيرها!
ثم قهقه مروان وهو يضرب يديه مع ركبتيه من الضحك.
– بهذه القشابية! وهذا الحذاء الغريب ،سارة بنت القا�ضي ولن تنظرإليك.
– احترم نفسك إال حذائي!
يحوم مروان حولي وسط الساحة مثل الثعبان ،يتكلم ببطء ونبرة هادئة رزينة:
– املهم يا صديقي يلزمك أن تكون أنيقا ،وحسن املظهر ،هكذا لن تفعل شيئا...
البنات ينجبن للفتى حسن املظهرأنيق امللبس.
– ما العمل إذن!
– صديقي لن أكذب عليك ،يلزمك تحول شامل في شكلك .أنظر!
ثــم هــز حاجبيــه وابتســم ابتســامة خبيثــة وحــك ســبابته مــع ابهامــه بحركــة ترمــز
للنقــود..
– ملاذا؟
– بدل اللوك يحبوك.
– ما معناها!
– سنشتري لك بعض املالبس الجديدة ونجري بعض التغييرات الجمالية
إذن أظهردراهم املطلوع وأترك الباقي علي.
– إنه مطلوع وليس ذهبا.
_املهــم فكــروأنــا هنــا فــي أي وقــت ملســاعدتك صديقــك مختــص بأحــدث صيحــات
133
مطلوعة (خبز وحب)
ثم تركني وسط الساحة وانصرف بمشيته املميزة املوضة أنت تعرفني دون أن أخبركّ .
كعــارض أزيــاء .يباعــد بيــن الخطــوة واألخــرى ويحــرك رأســه بيــن كتفيــه يســارا ويمينــا.
134
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب_
السيد طارق فاروق
***
– اجلبوا كرسيا أكبر"ملحمد علي" 1هنا..
ثم رمى املحقق تفاحة لطارق.
_هاك أمسك! كل بعض التفاح فهو مفيد لصحة ريا�ضي مثلك.
التقــط طــارق التفاحــة ووضعهــا بجنبــه ،لكنــه لــم يقضــم منهــا ،ابتســم املحقــق
ومــال نحــو طــارق بنظــرة تنــم علــى املكــر:
_ال تخف هي ليست مسمومة.
سكت طارق ولم يرد:
_أخبروني أن لك ضربة يد يمنى قاتلة هل يخافك التالميذ هنا من أجلها!
رد طارق بنبرة بطيئة وخشنة:
– كذبــوا عليــك إذن ،يــا ســيدي أنــا ال أضــرب ســوى داخــل الحلبــة ،وخارجهــا انــا
مجــرد تلميــذ بســيط.
– تلميذ بسيط ،تلميذ يتوعد بالقتل والترهيب في منتصف النهارفي القسم!
– ماذا تقصد بيتوعد بالقتل؟
135
مطلوعة (خبز وحب)
– طــارق أنظــر فــي عينــي ،هــل تــرى هــذا الوجــه؟ قــد أدخــل آالف الرجــال قبلــك
الســجن ،بعضهــم لقــي حتفــه وبعضهــم ال ي ـزال يتعفــن بيــن القضبــان.
– وهل هذا ما تسميه "بالرجولة" في أن تحرم أشخاصا أبرياء من حريتهم؟
– حريــة! هــل تعلــم معنــى الحريــة؟ الحريــة عندمــا تتحــدث بصــدق دون أن تخ�شــى
لومــة الئــم ،البــريء الــذي يكــذب هــو فــي نظــري مجــرم ،يجــب علــى القانــون معاقبتــه ،وإن
كنــت تريــد أن ال تشــاهد أصدقائــك يفــوزون بشــهادة البكلوريــا وأنــت خلــف القضبــان
تعض على أصابعك من الغيظ أخبرني ،ماذا همست إلسحاق آخرمرة التقيته؟ فقد
شــاهدتكم أســتاذة الفرنســية وأنــت تهــدده..
– أستاذة الفرنسية! ال �شيء ،فقط...
– طارق!
– حسنا لقد أمرته باالبتعاد عن أميمة!
– ملاذا! ما عالقتك بأميمة!
– ال عالقة لي ,فقط من أجل لقمان صديقي فهو يحبها ،بل هو مجنون بها ولكن
املرحــوم وقــف فــي طريقــه ألنهــا برفقتــه ..لكــن صدقنــي أنــي لــم أقتلــه ولــم أفكــرســوى فــي
تخويفــه ليبتعــد عنهــا مــن أجــل لقمــان.
– إذن هل تظن أن لقمان هو من قتله؟
– ال أعرف ،ال أظن..صدقني أنا بريء...
– هل دخلت املكتبة اليوم؟
– ال ال لم أدخل هنا منذ مدة.
– أين كنت أثناء الحادثة؟
136
مطلوعة (خبز وحب)
– في القسم.
–حسنا أنظرهذا مخطط القسم ،أريني مقعدك ومع من تجلس؟
– هنا في الطاولة ما قبل األخيرة في الصف املجاور للحائط أين الباب.
– ورائك من يجلس؟
– هنا لقمان وهنا مروان..
صمــت املاحــي لبرهــة وحمــل قلــم رصــاص وبــدأ يســجل فــي مــكان قعــود التالميــذ فــي
القســم.
– هل أستطيع االنصراف اآلن؟
– ملاذا؟ هل أنت قلق!
– ال سيدي ولكن عندي تدريبات رياضية يجب أن أحضرها في الوقت.
– هل تعلم أن هناك ضربة قوية وجهت لرأس الضحية ونحن ال نظن أن هناك
أحدا غيرك بإمكانه تسديد تلك الضربة ،ما هو تفسيرك لهذا!
فــي تلــك اللحظــة ظهــرالطبيــب يحمــل كيســا أبيــض شــفافا داخلــه ،يلهــث ويعيــد فــي
كالمــه:
– سيدي ،سيدي !
– نعم تحدث ماذا كانت النتيجة؟
– حتما ستبهرك! لقد كانت شطيرة مسمومة!
– هاه ،هل تقول مسمومة!
137
مطلوعة (خبز وحب)
– نعم وهو سم منزلي رخيص يستخدم يستعمل عادة لقتل الفئران والقوارض.
– ياللغرابــة ،إذن لقــد ســمم املكتبــي ّ
حتــى ال يحضــر ويكــون شــاهدا علــى جريمــة
القتــل وبذلــك نســتنتج أن القاتــل قــد خطــط للجريمــة مــن قبــل جيــدا وخطــط لحســاب
كل صغيــرة وكبيــر ،وحتــى ربمــا يكــون قــد نســج قصــة تغلــف القصــة الحقيقــة ،وبذلــك
يكــون قــد تــدرب جيــدا علــى مــا يقولــه حيــن يخضــع لالســتجواب.
ثم نظراملحقق لطارق يعرض عليه السندويتش:
_هل تريد أن تتذوق قليال يا طارق؟
– ال ال شكرا!
– أنــت تحــب األكل أليــس كذلــك؟ ومــن غيــرك يعــرف هــذه األمــور والســموم التــي
تضــرالجســد أخبرنــي؟
_سيدي أنا...
138
مطلوعة (خبز وحب)
الحفلة املدرسية
أقيــم حفــل فــي الثانويــة للمواهــب الشــابة ،وكنــت مــن بيــن الحاضريــن لكــن ليــس
باملعنى الكلي فقد كانت تذكرة الدخول كفيلة بسد حاجيات يومي ملدة أسبوع كامل،
لذلــك تســللت خفيــة ألصعــد فــوق ســور املدرســة الخلفــي .رميــت محفظتــي فــوق الســور
ثـ ّـم تبتعهــا ليبــدو لــي مســرح املدرســة مكتظــا إلــى آخــر صفوفــه ،فــي البدايــة تقــدم فريــق
كــرة القــدم ثـ ّـم نــادي العــزف "شــاين" ثـ ّـم فريــق املســرح "املبدعــون الصامتــون" لتقديــم
مســرحية ثـ ّـم بعــد لحظــات ســلب انتباهــي بفتــاة صعــدت علــى الخشــبة بفســتان أســود
وتسريحة شعرذيل الحصان ،تحمل بيدها عودا أصيال ،جلست على الكر�سي .وقربت
امليكرفــون منهــا وبــدأت بعــزف مثيــر ،غيــرت مــن وضعيــة جلو�ســي فــوق الســور ألراقبهــا
جيدا وخشية أن أسقط ألني أعرف أني سأن�سى بأني فوق سور .وقد بدأت بغناء تلك
األغنيــة بــكل هــدوء ورزانــة:
الزوالي وفحل نموت
و مانحملش الذل
سق�سي واسأل درب
و صحرا وزيد التل
فــي تلــك اللحظــة ســارعت بتنــاول ورقــة ألرســمها والعــود بيــن أصابعهــا البيضــاء
الناعمــة وهــي فــي ذلــك الجمــال علــى خشــبة املســرح .انطفــأت كل أنــواراملســرح فــي عينــي
وبقيــت وحيــدة كأنهــا تغنــي لــي وحــدي وأنــا أمامهــا كالطفــل أغــرق فــي صوتهــا الشــجي،
تحملنــي نغمــات أناملهــا علــى أوتــارذلــك العــود وليتنــي كنــت العــود وهنــاك أبقــى وال أعــود.
غنــت بأعــذب صــوت وأحلــى طــرب وبينمــا أنــا غــارق فــي رســمتي ،أطيــربأعــذب لحــن.
ســمعت صوتــا خشــنا:
139
مطلوعة (خبز وحب)
***
يقفــزأمامــي حلــزون بحجــم الكلــب ،يمســك فــي قــرون استشــعاره ملعقــة وســكينا
بنفســجي اليــد ،بجنبــه ذبابــة بحجــم دجاجــة برتقاليــة الريــش كبيــرة عاريــة الرقبــة،
عيناهــا شــبكيتان جاحظتــان بحجــم فنجــان قهــوة ،تحمــل تحــت جناحيهــا ذبابتيــن
زرقاويــن غليظتيــن ســمينتين.
يتقــدم الحلــزون نحــوي ببــطء ،تفــرد الدجاجــة جناحيهــا تخــرج مــن تحتهمــا
الذبابتان واحدة تبدو مصابة في جناحها األيسرواألخرى مبتورة الجناحين .مثل دودة
طائــرة وعلــى ظهرهــا األزرق القاتــم بقــع حــرق.
وفــي الجــدارأمامــي رؤوس رجــال تقطــربالــدم ،أنــا غيــرقــادرعلــى الحـراك ،اشــتممت
رائحة القهوة ،رائحة الدخان ،تناهى إلى سمعي طنين ضربات جناح الذبابة يتصاعد،
ســمعت صــوت خطــوات يتقــدم نحــوي ،رفعــت عينــي أمامــي كأنــي أرفــع قاطــرة محـراث،
ملحــت قدمــا تســحق الذبابــة بكعبهــا .كادت تعفــس الحلــزون لكنــه فــرهاربــا بســرعة نملــة
حمـراء ،رفعــت رأ�ســي ألرى صاحــب الرجــل.
صورة مضببة.
***
140
مطلوعة (خبز وحب)
أنتظرها
إن جاءت بعد موعدها فأنتظرها
محمود درويش.
– ملــاذا لــم تخبرنــي يــا مطلوعــة أنــك ســتحضرالحفلــة رغــم أنــي ســألتك إن كنــت
ســتأتي وأجبــت بالنفــي.
– نعم...ال...لم أكن مع الجمهور.
– كيف لم تكن مع الجمهور؟
– ال �شيء
– همم ،لكن الرسمة أعجبتها بل نهضت من مكانها وسألتني عمن رسمها.
– الرسمة...كيف!
– على مهلك ،يجب عليك أن تشكرني أوال!
– أشكرك!
– نعــم! ســأحكي لــك ،اليــوم صباحــا كنــت فــي إدارة املدرســة ،مــن أجــل حادثــة
حتــى دخــل علينــا حميــدة الثعلــب ،وفــي يــده ســمير ،أنــا واملديــريعيــد لــي دروس األخــاقّ ،
رســمة وضعهــا أمــام املديــر ،وأتبــع كالمــه متباهيــا أمــام املديــر بإنجــازه الكبيــر.
141
مطلوعة (خبز وحب)
142
مطلوعة (خبز وحب)
– ال أدري ،ولكن..
وضع مروان يده على كتفي:
– وأزيدك على هذا ،رتبت لكما موعدا األسبوع القادم.
– وهل أخبرتها أنني صاحب الرسمة!
– ال ال طبعــا ،ليــس قبــل أن نحســن مــن مظهــرك ،فــأول انطبــاع هــو مــن يعلــق فــي
الذهــن.
– ال أعلم ما أقوله لك!
– املهــم عنــدك يوميــن فــي يــدك ،موعدنــا مــع االفتتــاح الجديــد ملحــات املنــور
للمالبــس ،ســيضع تخفيضــات علــى الســلعة وســتكون فرصتنــا.
– كم يلزمنا؟
…_..
***
– آلو!
– نعم!
– عمي جمال أنا لقمان.
– لقمان؟ آه حسنا تذكرتك.
– لقد فكرت في عرضك وأنا موافق..
143
مطلوعة (خبز وحب)
144
مطلوعة (خبز وحب)
– الشــرط األول .غــدا عليــك أن تباشــرالعمــل فــي مقهــى بــن هاشــمي فهــو ملكــي اآلن
وأحتــاج إلــى عامــل أســتطيع أن أثــق فيــه.
– والشرط الثاني!
– اقترب! "ثم همسني في أذني"
ابتسم وغمزنيّ ،
ثم رحل وتركني وفي يدي أربعة ماليين.
***
– مرحبا أنا لقمان
–.....
– نعم .أنا زميلك في القسم
–.....
– أعرف .أنت من وهران أليس كذلك ،تعجبني لهجتكم على فكرة.
–.....
– نعــم أنــا أرســم مــن حيــن آلخــر ،أنــا أحــب الفــن ،أرســم األشــياء الجميلــة ،أرســم
فقــط التــي تعجبنــي وأميــل إليهــا وخاصــة إن كانــت ذات عينيــن ســاحرتين وضحكــة فاتنــة
و...أوففففففــف
***
– مرحبا أنا لقمان
–.....
145
مطلوعة (خبز وحب)
146
مطلوعة (خبز وحب)
–منذ ختانك لم أرك ببذلة أنيقة مثل هذه ،من أين لك بها؟
–ال يهم أمي ،لقد استعرتها ،املهم أن ابنك أنيق.
–يا ترى أي موعد يستحق كل هذا الترتيب واالهتمام.
–ال �شيء مهم فقط من أجل الصورة املدرسية لقسم التخرج..
–ومن هي سعيدة الحظ التي ستصورك!
– أمي.....
ثم عانقتني أمي من الخلف ،استدرت ،قبلتها على جبهتها وخرجت من املنزل
***
ربطــة عنــق بيضــاء غريبــة ،بذلــة ســوداء أنيقــة ،حــذاء كالســيكي أســود ،شــعرملــاع
مسرح للخلف ،كنت أشعرببعض الضيق حول رقبتي أنا مضغوط داخل هذه البذلة
الجديــدة ،كأننــي مربــوط بســلك فــي الكر�ســي الخشــبي تحتــي ،أحــس بالحــر والضيــق،
نبضــات قلبــي تتســارع ،إبطــي يتعــرق ،راحــة يــدي تتعــرق ،جبتهــي تســيل ،الكر�ســي فــارغ
أمامــي وصــوت الشــاب حســني يصــدح فــي املقهــى ،بعــد لحظــات مــن االنتظــارتقتــرب منــي
النادلــة بتنورتهــا القصيــرة والصينيــة تلمــع فــي يدهــا ،تعــرض علــي إن كنــت أريــد شــيئا مــا!
ألخبرهــا أنــي فــي انتظــارأحدهــم وســآخذ بطلبهــا عندمــا يحظــر.
كانت كل الطاوالت في املقهى من الخشب ،على بعد أربع طاوالت فتى أسمرطويل
القامــة يدخــن النرجيلــة وبجنبــه فتــاة ســمينة تضــع علــى وجههــا الكثيــر مــن مســاحيق
التجميــل ،وتثرثــر كثي ـرا ،الفتــى األســمر يبــدو أنــه غيــر منصــت لحديثهــا ،علــى طاولتهمــا
قــارورة كــوكا كــوال وعلبتيــن مــن الدخــان وقداحــة.
علــى طاولتــي كأس شــاي بــردت ،تقابلنــي علــى الجانــب املقابــل مــن ســطح طاولتــي
ذبابــة ممتلئــة ،تنظــر نحــوي بعينيــن زرقاويــن وجناحيــن المعيــن ،تحــرك رأســها ببــطء
147
مطلوعة (خبز وحب)
وتقتــرب منــي بســاقيها النحيفتيــن ،كأنهــا تحــاول التذكــرأيــن رأتنــي مــن قبــل ،أنــا هــو نعــم،
هــل قتلــت لــك زوجــك أم ابنتــك ،آه كــم اشــتهي ســحقك علــى الطاولــة" ،هوايتــي الثانيــة
بعــد الرســم هــي صيــد الذبــاب" لكــن أنــت محظوظــة حقــا .زادت ضربــات جنــاح الذبابــة
من توتري ،أعد أنفا�سي ،أنتظر ،أنظرإلى ساعتي الجديدة هي تشيرإلى السابعة مساء،
واملوعد كان على الســاعة السادســة والنصف .ال يزال الفتى األســمريطاوعني بنظرات
مريبــة ،مــاذا يريــد منــي يــا تــرى! النادلــة تطــوف حولــي ،والذبابــة تســتفزني.
بعــد عشــرين رفــة مــن جنــاح الذبابــة ،تيبســت مكانــي فــي الزاويــة ابتلعــت ريقــي ملــا
ظهرت بين الطاوالت بثوبها األبيض القصيروحقيبة يدها الصغيرة ونظاراتها السوداء،
كانت تبدو في أتم جمالها ،برفقتها شاب أشقربعينين زرقاوين ،يبدو وجهه لي مألوفا،
يرتــدي بذلــة زرقــاء أنيقــة يلــوح بيــده بمفتــاح ســيارة .كانــت هــي كالبــدرفــي طلتــه.
ألقــت علــي التحيــة وابتســمت وظهــرت غمازتيهــا ،التــي كادت أن تغرقنــي داخلهمــا،
هــي جلســت ومشــاعري نهضــت ،والشــاب رفقتهــا ذهــب ليحضــركرســيا.
– أميمة.
ومدت يدها لتصافحني
_لقمان "كدت أقول مطلوعة .لكني انتبهت لنف�سي"
_لقمان يبدو وجهك مألوف ،أين التقينا من قبل؟
– ال أدري الدنيــا كبيــرة "و أنــا أدعــوا هللا أن ال تتذكــر أنــي بعتهــا مطلوعتيــن فــي
الســوق "
–إذن نحن ندرس في نفس القسم.
–نعم أنا أجلس في الطاولة األخيرة رفقة مروان..
– مروان .نعم" ،كأنها تتذكرذلك املن�سي الذي يقعد بجانب مروان".
–املهم اعذرني على التأخر ،أنت تعرف االزدحام و االنشغاالت.
148
مطلوعة (خبز وحب)
149
مطلوعة (خبز وحب)
ناولتنــي الرســمة ورفقتهــا قلــم رصــاص وملــا وضعــت القلــم علــى الورقــة .نطقــت
قائلــة:
– يالي من حمقاء .قد نسيت أن أعرفك بإسحاق.
رفعت رأ�سي ألراه يبتسم ابتسامة تخفي ورائها خبثا وغطرسة.
–اسحاق هذا لقمان يدرس معي في نفس القسم.
_لقمان هذا إسحاق خطيبي.
ابتســم إســحاق ابتســامة شــيطانية طويلــة ،كأنــه كان فــي انتظــار أن تقــول هــذه
الجملــة.
بعــد ســماعي آلخــرمــا قالتــه شــلت حركــة يــدي وأحسســت أن قلبــي قــد ســقط بيــن
ســاقي .وضعــت القلــم مــن يــدي ،أرجعــت لهــا الرســمة ،ســحقت الذبابــة علــى الطاولــة
وخرجــت مــن املقهــى مســرعا وأنــا أطــارد مشــاعري وأنفا�ســي وأفــك فــي ربطــة العنــق
الســخيفة.
150
مطلوعة (خبز وحب)
نارالجن
بعــد املغــرب تســللنا داخــل املزرعــة أنــا وســميرالفــار ،دخلنــا البنايــة الكبيــرة التــي
املخصصــة ملبيــت الحيوانــات ،اســتلقينا علــى بعــض القــش قــرب حائــط يتــآكل جلــده،
أخرجنــا علبــة غ ـراء وكيــس حليــب ،أفرغنــا الغ ـراء داخــل الكيــس ،نظــر نحــوي ســمير،
وأخــرج علبــة كبريــت مــن جيبــه ،كانــت تلــك الليلــة مــن أصعــب الليالــي علينــا ،حيــث كان
ســميرمطــرودا مــن املنــزل ألن أبــوه اإلمــام وجــد فــي جيبــه ســيجارة دخــان .وأنــا قلبــي خائب
وأحالمــي مقهــورة .دخلنــا املزرعــة عازميــن علــى أن نن�ســى كل �شــيء ،أشــعل ســميرالغـراء
حتــى تنطفــئ النــارداخــل كيــس الحليــب مــى عــود الثقــاب ،وأغلــق الكيــس علــى الغـراء ّ
ر
ويتفاعــل الغـراء مــع الحـرارة "أذكــرأن هــذا الســؤال الوحيــد الــذي أجــاب عنــه ســميرفــي
حصــة الكيميــاء ،ماهــي العوامــل املســاهمة فــي زيــادة ســرعة التفاعــل؟".
ســلمني ســمير الكيــس ســاخنا ،أقحمــت رأ�ســي داخلــه واستنشــقت الغ ـراء ،أول
نفــس أحسســت بــه يختــرق عــروق أنفــي ليحــدث ش ـرارة داخــل أعصــاب مخــي .كانــت
األصــوات تتناطــح داخــل رأ�ســي ،بعدهــا حشــرســميررأســه داخــل آلــة الزمــن ثـ ّـم رفــع يــده
فــي الهــواء وتلــك اإلشــارة مفهومــة بيننــا ،حيــث هــي مقيــاس علــى مــدى وعــي" املباتك�ســي"
قربــك ،إذ كلمــا نزلــت يــده نحــو األرض كلمــا غــاب عــن الوعــي أكثــر ،التفــت ببــطء نحــو
سميروجدته مصروعا ،وكان يبدوبعيدا ..غائصا .يده تكاد تبلغ األرض ،خطفت كيس
الحليب من يده .نظرإلي وهو يحك أنفه ،عيناه مرتخيتان ذابلتان كتينتين مجففتين،
وجفنــاه نازليــن.
أقحمــت رأ�ســي وأنفــي داخــل کیــس الحليــب ،رفعــت يــدي وبــدأت بالغــرق ،عصــرت
عيني مقاوما الرائحة املدوخة .شعرت برأ�سي يدور كزوبعة صغيرة .وداخل أذني صوت
مســتمرزننننننننننننننننننننننننننن .زنننننننننن
كصــوت صفعــة ضخمــة مباشــرة علــى أذنــك ،أو انفجــارقنبلــة أمــام وجهــك .رأ�ســي
يــدور وســمعي يتلقــف أصواتــا غريبــة مختلطــة ال أكاد أبيــن ،ص ـراخ ،صيــاح ،صــوت
151
مطلوعة (خبز وحب)
منشــار ،عویــل امـرأة ،بــكاء رضيــع ،أذان صــاة ،تــاوة قـرآن ،محــرك توليــد الكهربــاء فــي
امل ـزارع ،هللا أكبــرهللا أكبــر ،أهــدر ،قــر ،ويــن راهــم صحابــك ،تفــووووه...
،salaud, merdeهــاي ،هــاي ،هــاي ،خطفتنــي األرض تتحــرك ،نحــو كل الجهــات،
األبقــار تزقــزق ،الجمــال تطيــر ،الجــدران تســيل ،أنفــي يطــول مثــل مكنســة .أتلمــس
تحــت يــدي علــى األرض أعــواد التبــن ،عرقــي بــارد ،قــات قلبــي تتعالــى ،رأيــت فــي مــا يــرى
"املباتاك�ســي" ،يقفــزأمامــي حلــزون بحجــم الكلــب ،يمســك فــي قــرون استشــعاره ملعقــة
وســكينا بنفســجي اليــد ،بجنبــه ذبابــة بحجــم دجاجــة عــرب كبيــرة عاريــة الرقبــة ،عيونهــا
الشــبكية جاحظــة بحجــم فنجــان قهــوة ،تحمــل تحــت جناحيهــا ذبابتيــن زرقاويــن
غليظتيــن ســمينتين.
يتقــدم الحلــزون نحــوي ببــطء ،تفــرد الدجاجــة جناحيهــا تخــرج مــن تحتهمــا
الذبابتــان ،واحــدة تبــدو مصابــة فــي جناحهــا األيســر واألخــرى مبتــورة الجناحيــن .مثــل
دودة طائــرة وعلــى ظهرهــا األزرق القاتــم بقــع حــرق.
وفــي الجــدار أمامــي رؤوس رجــال تقطــر بالــدم ،أنــا غيــر قــادر علــى الح ـراك ،اشــتم
رائحة القهوة ممتزجة برائحة الدخان ،ويتناهى إلى سمعي طنين ضربات جناح الذبابة
يتصاعــد ،أســمع صــوت خطــوات يتقــدم نحــوي ،أرفــع عينــي أمامــي كأنــي أرفــع قاطــرة
محراث فأملح قدما تسحق الذبابة بكعبها .تكاد تعفس الحلزون لكنه يفرهاربا بسرعة
نملــة حمـراء ،أرفــع رأ�ســي مجــددا ألرى صاحــب القــدم ثــم....
صورة مضببة و أعود للغرق...
قشــة التبــن ترقــص ،رأســها يشــتعل ،الكيــس يــرن فــي يــدي ،صــورة البقــرة علــى
كيــس الحليــب تتحــرك و تضحــك معــي ،أبادلهــا الضحــكات.
تظهــرلــي قــرون مــن الكيــس ،ثـ ّـم عينــان كبيرتــان ثـ ّـم حوافــر ،ثـ ّـم تخــرج بقــرة أمامــي.
كأنهــا تشــبه "زبيــدة" ،ترقــص مــع القشــة املشــتعلة .أنظــرداخــل كيــس الحليــب ،يظهــر
قعــره بعيــدا .أبعــد مــن قعــرجــب .أصابعــي تبــدو طويلــة مثــل ســيقان قصــب املــاء .أنظــر
152
مطلوعة (خبز وحب)
ثم يركله برجله ليرتطم بالحائط، نحوسميرأجده من دون رأس ،رأسه بين يديه يكوره ّ
ثـ ّـم تهــرب رجــاه لتتبــع رأســه ،يبتلعهمــا الحائــط ،القشــة تخفــت مــن وتيــرة رقصهــا تــكاد
تنطفــئ .زبيــدة تواصــل رقصتهــا كســيدة فــي عــرس ابنتهــا الوحيــدة.
املشــهد يتضبــب أمامــي ببــطء ،لعابــي يســيل بخــط غيــرمتقطــع .أشــعربخــدرعلــى
قفــى رقبتــي .حلقــي جــاف متجمــد ،كل األشــياء تتحــرك أمامــي بالعــرض البطــيء ،كل
األشــياء تتداعــي .أشــعرأنــي أطفــو فــي الهــواء ،أرى مــن بعيـ ٍـد نــارا عظيمــة ،ثـ ّـم يــدا ناعمــة
تشــدني مــن رأ�ســي وتســحبني نحوهــا وأنــا أقــاوم وأقــاوم ،ال أكاد أدرك وأعــي.
فــي معصــم تلــك اليــد أبصــرت قالدتــي املفقــودة .والنــار عجيبــة تــزداد اشــتعاال،
تقتــرب منــي أكثــر.
تســحبني اليــد مــن شــعري وتجرنــي نحــو الحلــزون فــي الخــارج ،يقتــرب منــي الحلــزون
الكبيــربغضــب ،يضــع مزلجتــه الرخــوة علــى وجهــي ،لعابــه يســيل فوقــي وأنــا أتخبــط علــى
األرض...
***
اســتيقظت مفزوعــا وفوقــي "بارجــي" يلعقنــي بلســانه ،فــي رأ�ســي صــداع رهيــب وآثــار
ســلخ علــى فخــذي ،طعــم مــرتحــت لســاني ،مثــل طعــم املعــدن.
–صباح الخيرأمي!
–صباح الخيرولدي البارحة أين كنت ؟ لم تدخل باكرا.
–كنت مع.....
–أنا أعرفك يا بني! شممت رائحة الدخان في فراشك و..
–دخان!
153
مطلوعة (خبز وحب)
–ال يا أمي!
–نعم وأعرف أيضا أن شخصا بقواه العقلية ،ال يقول أمي أفر�شي لي ألتع�شى.
– أمي ال تشغلي بالك ،الوقت على املدرسة...
ثم تركت أمي غاضبة مني ،قبلت رأسها ،وضعت محفظتي على ظهري وانصرفت.
***
–صباح الخيرمروان!
–صباح الخيرما بها ذراعك! خيرا إن شاء هللا؟
_ال أمرمهم! سقطت من شجرة الخروب!
–الخروب! قل لي هل سمعت األخبار؟
_أي أخبار؟
–نحن نسكن في قرية صغيرة واألخبارتم�شي أسرع من النارفي القش
–أي أخبار؟
–البارحة في املزرعة اندلع حريق كبير.
–حريق في الليل! سم.ير ،النا..ر ،البطاك....س.
–ما لذي تهمس به يا لقمان!
–ال �شيء ،ال �شيء! ومن أخبرك بحادثة الحريق!
–كيف من أخبرني ،القرية كلها تتحدث ،ولوال تتدخل السكان هناك ،وإطفائهم
للنارالعجيبة لكانت قد حصلت كارثة والتهمت الناركل القرية.
154
مطلوعة (خبز وحب)
–نارعجيبة؟
–نعــم ،بشــهادة القروييــن هنــاك ،أن املزرعــة مســكونة ،والنــارليســت نــارا عاديــة،
هــي نــارجــن ،هللا يحفــظ ويســتر...
–نارجن!
–إيــه ،يقولــون أن الجــن أشــعلتها ،بشــهادة أحــد القريبيــن مــن املزرعــة .يقــول
أنــه ســمع صراخــا فــي الداخــل وخــرج لــه مــن وســط الدخــان الكثيــف رجــان يمشــيان
بطريقــة غريبــة لهــرب مســرعا ،وكل محــاوالت إخمــاد النــاربــاءت بالفشــلّ ،
حتــى جــاءوا
بــذاك "املخفــي".
–الشيخ "املخفي "!
–نعــم هــو ذا .بصــوت مــؤذن ق ـرأ الق ـرآن داخــل صهريــج مــاء كبيــر ملح ـراث أحــد
املزارعيــن ،وســبحان هللا ملــا رشــوه علــى النــار انطفــأت فجــأة!
–أاااو هل ...هك....ذا...
–إيه ،كما أقول لك! ألم تسمع بهذا البارحة؟
–ال ،أنا أسمع من عندك اآلن.
–هل كنت تحت األرض؟
–بل أسوء ،كنت ال أعرف حتى أين األرض؟
– ماذا تقصد؟
–ال �شيء ،ال تشغل بالك في هذا.
–أمرك غريب.
155
مطلوعة (خبز وحب)
***
156
مطلوعة (خبز وحب)
اجتماع الخمسة
دق جرس الراحة املدر�ســي ،الســاعة في يدي كانت تشــيرللرابعة مســاء .في جانب
الســاحة يقــف أربعــة فتيــة ،ال يشــبهون بعضهــم يقلبــون أط ـراف الحديــث ،أتقــدم
وســطهم أحييهــم..
– يســرني حضوركــم هنــا كالعــادة لــم تخيبونــي ،املهــم بــدون إطالــة عليكــم ،أدخــل
لكــم فــي املفيــد مباشــرة...عندي مهمــة لكــم لكــن ال أعــرف كيــف أشــرح لكــم األمــر..
بعدما صمت لوهلة ،خطف مني مروان الكالم.
–أنتم تعرفون تلك البنت الجديدة؟
–هل تقصد تلك الشقراء؟ "نطق فارس وهويمسح نظاراته بطرف من قميصه"
–نعم هل تعرفها؟
–سمعتهم يتحدثون عنها فقط!
تكلم طارق بنبرة خشنة:
–بنت جديدة! كم م�ضى على قدومها املدرسة؟
رد مروان:
–أسبوعين
أضاف سميربنبرة مبحوحة وهو يقلب والعته بين أصابعه:
– وماهي حكايتها!
157
مطلوعة (خبز وحب)
158
مطلوعة (خبز وحب)
159
مطلوعة (خبز وحب)
160
مطلوعة (خبز وحب)
سميرمبتسما:
_اذهــب اذهــب نحوهــا مباشــرة وقلهــا اجعلنــي حبيبــك الثانــي ونتفاهــم علــى اإليقــاع
بحبيبــك األول .ههههــه.
ثم نظرفارس نحو سميربنبرة جدية.
–أســكت أنــت ،ليــس وقــت مزاحــك الثقيــل ،أنــت ال تفهــم مثــل هــذه األمــور .أنــت ال
تعرف شعور الحب .طول اليوم فاقد للوعي .مزطول ،مصروع .دائخ .كل همك رأسك.
ال تفقــه فــي املشــاعر.
ثم تقدم سميرنحو فارس يدفعه بذراعه.
– اسمعوا من يتكلم ،أرسطوالفاشل في العالقات ،غريب األطوار ،هل تريد مني
أن أحكــي لهــم القصــة ..آه قل....هيــا تحــدث! هــل تحســب أن الحــب الــذي تقـرأ عنــه فــي
تلــك الروايــات الســخيفة التــي تطالعهــا كل يــوم موجــود فــي الواقــع .قــل لــي .وكيــف مللحــد
أن يؤمــن باملشــاعرأصــا!
–إن كنــت ترانــي ملحــدا .فنعــم أنــا ملحــد ..ملحــد بالــرب الصغيــر املوجــود فــي
رؤوسكــم .و إن كنــت تريــد أن تكشــف القصــص فلــكل منــا قصتــه حتــى قصــة الحــاج
عــدة و...
_إياك وأن تذكرأبي على لسانك مجددا أيها...
وأمســك ســمير فــارس مــن فتحــة عنــق قميصــه والغضــب يتطايــر مــن وجهــه،
ليتدخــل طــارق ويفصــل بينهمــا .ويقــول مــروان:
– هــاي .توقفــوا ليــس وقــت الدخــول فــي هــذا الحــوار .دعونــا نركــزفــي موضوعنــا و
نســمع مــا يقولــه مطلوعــة.
يتنهد مطلوعة بعمق ويتكلم بنبرة خافتة:
161
مطلوعة (خبز وحب)
– يا جماعة نحن نعرف بعضنا منذ أن كنا صغارا وأنتم تعرفون أن الحياة التي
عشــتها لــم تتــرك لــي وقتــا ألحــب أو أصاحــب فتــاة .لكــن ال أعــرف كيــف ومــن أيــن! منــذ أن
رأيتها في السوق وبعتها خبزة املطلوع وأنا أفكرفيها كل وقت ،لم أكن أظن أني سألتقيها
مــرة أخــرى بعــد أول لقــاء جمــع بيننــا ،هــي ال تتذكرنــي حتــى .ولكنــي لــم أســتطع إخ ـراج
تفاصيلهــا مــن رأ�ســي.
رد فارس وهو ينظرنحو السماء:
_ جاءت معذبتي في غياهب الغسق
كأنها الكوكب الدري في األفق
طارق وهو يكسرأصابع يده.
– هــذا اإلســحاق ،سأســحق ضلوعــه ،أو ربمــا لــدي فكــرة ملــاذا ،ال نهـ ّـدده ّ
حتــى
ينفصــل عنهــا .سـ ّ
ـأتصرف فــي األمــر.
قاطعه فارس:
– لكــن كيــف ،هــل ستمســكه وتجبــره علــى كــره الفتــاة ،ربمــا يكــون يحبهــا ،أو ربمــا
تكــون هــي مــن تحبــه .وكيــف تســتطيع أن تمســكه وهــو يظــل تحــت حمايــة "الســوكو"
وجماعتــه مــن أقــذر الصراصيــر!
مروان بنبرة هادئة وواثقة:
–ال أظن أنها تحبه .وسنجد حال لهذا االسحاق .وسنضع حدا لتطاوله علينا كل
هذه األعوام .عصفورين بطارق واحد.
رد طارق:
_طارق...مابه طارق !
162
مطلوعة (خبز وحب)
163
مطلوعة (خبز وحب)
–هل مات؟
خفض الخدم رؤوسهم ورفعوا قبعاتهم ،إشارة للعزاء.
–حضروا لي الحمام وطاولة الغداء!
اســتغرب الخدم من ردة فعل امللك ،دخل امللك الحمام ،اســتحم ،ســرح شــعره،
لبــس ثيابــه ،وجلــس ليــأكل ،كأن شــيئا لــم يحــدث..
جلس الوزيرأمام امللك مستغربا ،وسأله:
– جاللتــك كنــا نخــاف أن نطلعــك علــى خبــر وفــاة ابنــك خشــية أن يحــدث لــك
مكروه ،فعندما مرض كدت تموت من الحزن ،فكيف إذا ما عرفت أنه مات ،ما لذي
ســتفعله فــي نفسك...ســيكون حتمــا.
قاطعه امللك في هدوء وقال:
– علــى كل حــال كلنــا ســنموت وأنــت تعــرف ذلــك ،مــا كان حزنــي وهمــي إال ألنــي لــم
أكــن أعــرف إن كان ابنــي سيشــفى مــن مرضــه أو ال ،هــل ســيموت أم ال ،وإلــى متــى؟
كنــت معلقــا فــي تلــك الحالــة ال أعــرف مــا لــذي أفعلــه ،األســوأ مــن املــوت هــوأن نربــي
األمــل فــي الحيــاة .األســوأ مــن الفعــل هــو البقــاء والتفكيــرفــي احتمــاالت وقــوع الفعــل مــن
عدمــه.
قال طارق مندفعا بعدما حفزته قصة فارس على إبداء رأيه هو اآلخر:
– وأنا مثال عندما أصعد فوق حلبة املالكمة ،هل تعرف كيف أفوز؟
– أفوز بمواعدة خصمي مثلما يقول لي مدربي.
–ماذا تقصد؟
164
مطلوعة (خبز وحب)
– نعــم أواعــد خصمــي ،بالصبــر ،أتلقــى لكمــات وال أفكــر فــي أي �شــيء ســوى أنــي
ســأنجح فــي إســقاط خصمــي ،أقــوم بالدفــاع وأدرس حــركات خصمــي فــي نفــس الوقــت
ثـ ّـم أنتظــرالفرصــة ّ
حتــى يتعــب فــي الجــوالت األخيــرة ،ثـ ّـم أنهــال عليــه بالكلمــات ألســقطه
وأفــوز ،الصبــر والتأنــي والتحليــل.
سميروهو يبحث عن �شيء في جيبه:
–مــاذا تقــول يــا ملارطــو مــاذا تقــول ،الســيد خســر بالضربــة القاضيــة فــي الجولــة
األولــى .وأنــت تقــول لــه أدرس خصمــك! هــذا الخصــم مــن الــوزن الثقيــل يلزمــه أســلوب
حبــة "صــاروخ" مــن عنــدي جديــد .وخطــة محكمــة لنصيــد هــذا الحقيــر ..آه هــا هــي ذيّ ..
ّ
أنت صديقي ،ستتكلم باملقلوب ،ستقول لها شعرا أفضل من الذي يكتبه فارس ،نزار
قبانــي ســينبت علــى لســانك.
طارق وهو يحك باطن كفه!
_اسمعوا يا جماعة أظن أن عندي فكرة.
– لقــد م�ضــى وقــت لــم نلعــب! وغــدا ســتبدأ الــدورة الكرويــة وســيكون الجميــع
حاضريــن فيهــا ،ومــن بينهــم أميمــة.
مروان:
– نعم .نعم .أنا سأخبرسارة بأن تطلعها على املباراة وتجبرها على الحضور معها.
فارس:
– هذه هي فرصتك لتظهرنفسك ،أعلم أنك حارس جيد.
سمير:
–طــارق ،علــى الخامســة نلتقــي عنــد بــاب املدرســة ،ننتظــررحيــم الزربــوط ،فهــو
حكــم اللقــاء.
165
مطلوعة (خبز وحب)
***
166
مطلوعة (خبز وحب)
– سمير!
– ههه ،هههه ،هههه ،هههه..
– ملاذا تضحك هل سمعت ماذا يقولون؟
– هههه ،حق ربي ،كدنا نموت!
– أنت كالبغل ،كدت تشوينا حيين ،أنت من رميت عود الثقاب.
– ششششت ،تعال هنا ،الحيطان عندها آذان...
– أنا ال أذكرشيئا من البارحة صدقني يا لفار.
– اسكت ،اسكت ،أنت مدين لي بحياتك ..لم أرفي حياتي شخص ينت�شي مثلك.
– بعدما نزعت منك الكيس ،وحشرت رأ�سي داخله ب..
– يــا مطلوعــةّ ،
حتــى أنــا ال أذكــر كثي ـرا مــن البارحــة ،ســوى أنــك أمســكت كيــس
الحليــب بقــوة ،ولــم أســتطع ســحبه مــن يــدك ،كنــت تتشــبث بــه بقــوة ،لذلــك صفعتــك
بقــوة ّ
حتــى تركتــه ،هههــه.
–ملاذا تضحك؟
–أميمة!
–أميمة! كيف؟ ماذا تقصد؟
–نعم سمعتك تردد اسمها ملا نزعت من فمك كيس الحليب
–ها هممم ،ال أعلم ،إيه قل لي كيف خرجنا!
–ربــي حفظنــا ،ملــا نزعــت الكيــس مــن فمــك كنــت تشــيربإصبعــك للدخــان أمامنــا
167
مطلوعة (خبز وحب)
والنــاربــدأت تــأكل األرضيــة املبطنــة بالقــش تحتنــا ،ثـ ّـم ســحبتك مــن يــدك فلــم تســتطع
النهــوض ،لذلــك جريتــك مــن ذراعــك علــى األرض ،وبصعوبــة رفعتــك علــى كتفــي وخرجنــا
مــن املزرعــة،
–ربي ودعوات الخير ،كنا نمو....
– هههههه.
– ملا خرجنا من املزرعة ،اســتلقينا على جانب الطريقّ ،
ثم التفت نحوي ،وقلت
لي :أمي أفر�شــي لي أتع�شــى..
168
مطلوعة (خبز وحب)
العبث باألقدار
169
مطلوعة (خبز وحب)
170
مطلوعة (خبز وحب)
–كيف؟
–ال تقلق لن يطردنا بن جازية ،ألن لن تكون زميلي في املختبر ،أعرف أنك حابس
في طلعة ...افتح الورقة التي اخترتها.
–أميمة!
–قلت لك لدي فكرة ،هذه هي فرصتك ،ال تضيعها..
رن جرس نهاية اليوم املدر�سي.
مشــيت نحوها كانت ال تزال منكبة تســجل الدرس من الســبورة ،وضعت الورقة
أمامهــا..
– إذن نحن في فوج واحد...
دون أن تهزرأسها نحوي أو تنظرإلي.
– نعم ،يبدو ذلك.
في تلك األثناء لوح لي طارق من باب القسم.
– هيا أسرع لقد تمكنا من أخذ الصافرة وأوراق التحكيم .علينا اآلن بالتحضير،
مبــاراة الغــد ليســت ســهلة ضــد فريــق الصراصيــر الــذي يلعــب معهــم إســحاق ،وهــذه
أفضل فرصة لتظهرقدراتك أمام فراشــتك .هل فهمتك ســنلعب بتشــكيلتنا املعتادة،
مرعلي في املساء لنجد لك حذاء رياضيا الئق بالطبع لن تدخل املباراة بحذائك الطائر
ذاك ...هيــا اعتنــي بنفســك ونلتقــي فــي املســاء
ثم كعادته لكمني على كتفي وانصرف...
***
171
مطلوعة (خبز وحب)
172
مطلوعة (خبز وحب)
_و هل ف.....؟
ثم فجأة فتح الباب بقوة ودخل فارس وطارق.
–لقد فزنا يا ااااي ،يا بطل ،ياااي.
ســيدتي هــذه ميداليــة ابنــك وليــس هنالــك أولــى منــك لتكريــم ابنــك نجــم املبــاراة
دون منــازع.
رأيت ابتسامة طويلة على وجه أمي وهي تضع امليدالية حول رقبتي تحت تصفيق
أصدقائي األربعة.
– آه ظهري أحس أنه مكسور! هل هناك مسكن ألم هنا؟
قال سميروهو يهم بإشعال سيجارة من الكيف خفية:
– طبعا طلبك موجود!
فينزعهــا طــارق مــن فمــه بمناســبة الحديــث عــن الــدواء ومســكنات األلــم لقــد
حضرنــا لــك أفضــل دواء:
تغامزاألربعة فوق رأ�سي
همسني مروان في أذني!
–......
–هل أنت متأكد؟
–طبعا وسأطلعك على التفاصيل عندما تعود للقسم.
ودعنــي أصدقائــي علــى أمــل أن نلتقــي فــي املدرســة وخرجــوا ثـ ّـم تركونــي رفقــة أمــي،
التــي بــدأت عالمــة الفرحــة تتال�شــى عــن وجههــا مــع كالمهــا:
173
مطلوعة (خبز وحب)
174
مطلوعة (خبز وحب)
مذكرات مشعة
اســتيقظت علــى صــوت ارتطــام املطــر بســطح حجرتــي ،يحــدث أنغامــا متناســقة
حيــن يرتطــم بالقرميــد األحمــروالزنــك ،يبعــث فــي جســدي قشــعريرة حميميــة ومشــاعر
دافئــة .صــرت مؤخـرا أشــعربألــم خفيــف فــي ظهــري ال أدري ســببا لــه ،أعتقــد أنــه يرجــع
لوضعيــة نومــي الســيئة ،علــى بطنــي ،يبــدو أن هــذا املنبــه الســخيف لــم يوقظنــي مجــددا
ربمــا أصبــح عاجـزا قبــل أســبوع مــن اليــوم لــم يعــد يــرن فــي الصبــاح كمــا عادتــه .حتــى ال
أفوت أخذ زبيدة للمرج وتفقد أمور املقهى وسادتي البيضاء متسخة نوعا ما لكني لم
أرد إخبــارأمــي بذلــك ّ
حتــى تقــوم هــي بدورهــا بغســلها ألنــي كنــت اســتمتع نوعــا مــا برائحــة
النــوم التــي يحملهــا الوبــراملحشــو بهــا .الســقف األحمــق املصــاب يبعــج فــي رأســه كعادتــه
يفترســني بنظراتــه البــاردة الشــاخصة التــي كنــت أقيســها علــى حســب حالتــي الشــعورية.
بصعوبــة ســحبت جثتــي ألنهــض مــن ســريري ،وقفــت منتصــب القامــة مرتخــي اليديــن.
جفونــي ثقيلــة وجســدي كذلــك كحلــزون كســول أتــم حركــة اســتيقاظي مــن فرا�شــي ومــا
لبثت سوى بضع ثوان نحو العشرة ثواني .واقفا أمام فرا�شي ..ألتهاوى في األخيرجالسا
على طرف سريري مقابال نافذتي الصغيرة التي تطل على القرية وأكتب هذه املذكرات
أو تكتبنــي ال أعــرف إن لــم أفــرغ كل هــذه املشــاعرفــي الرســم أو الكتابــة مــاذا ســيحل بــي.
داخــل هــذه املذكـرات أتعــرى مــن جســدي وأقابــل روحــي مباشــرة وأعتــرف بــكل �شــيء.
اليــوم علــي زيــارة هــذا الطبيــب .وأظـ ّـن ّأن زيــارة الطبيــب موضــوع غيــرمشــوق وربمــا
ال يســتحق أن أخلــده فــي مذكراتــي.
الطريــق الترابيــة أمامــي .تثائــب ثـ ّـم تثائــب وأتثــاءب .أحــدق فــي غرفتــي كأننــي ألول
مرة أراها .جدران غيرمطلية وطاولة من خشب قديم لها رجل غيرثابتة ...خزانة ثيابي
كالقنبلــة املؤقتــة ،مشــحونة باملالبــس املتســخة والرثــة وثيــاب العمــل .وتحتهــا صنــدوق
175
مطلوعة (خبز وحب)
من حطب أين أضع صابر ،كأني أربيه مثلما يربي أصحاب املدينة حيواناتهم األليفة.
الفــرق بيــن صابــروقططهــم وكالبهــم أن صابــر .يعيــش باملجــان وال يتغــوط وال يمــرض.
حبات املطرالتي تعانق زجاج نافذتي تدفعني للنهوض متجها نحو نافذتي .أحمل
مذكراتي وأكتب أمام النافذة .يثيرني انبعاث رائحة املطراملمتزج بالتراب ،لو كان عطرا
الشــتريته وأهديتــه ألمــي .اليــوم ماطــروالضبــاب يغطــي زجــاج نافذتــي ،الدخــان يتصاعــد
من مداخن بيوت القرية .وكرات التبن واملزابل وأسمدة املزارع املكونة من روث األبقار
والخرفــان ،أظنــه يومــا يصلــح للنــوم أوالتأمــل أكثــرممــا يصلــح لزيــارة الطبيــب ،هــذه أول
مــرة ســأزورفيهــا طبيبــا فأنــا ال أعــرف معنــى املــرض ســوى إن أصبــت ببعــض الحمــى أو
الســعال أمــي هــي طبيبــي وأعشــاب جــدي هــي دوائــي.
الطريــق الترابيــة فــي القريــة مــع األمطــارتصبــح طريقــا طينيــة .مشــقة الوصــول إلــى
عيادة الطبيب مشيا ،تصعب علي وعلى أمي أكثر ،ال نملك سيارة وال نملك مظلة تقي
رؤوســنا ،نملــك فقــط الصبــرالــذي يصبــرعلينــا بقــدرمــا نصبــرعليــه .و أنــا ال أملــك ســوى
قشــابية مــن الوبــر .تحتــوي علــى قلنســوة رأس واســعة .تغطــي رأ�ســي وكتفــي ويزعجنــي
أكثرأنها ال تغطي أمي وصابروال�شيء اآلخرالذي يزعجني أكثرهو ضيق التنفس .الذي
صرت أحس به مؤخرا ،حيث أني أشعربانسداد في رئتي .كأنهما أصبحتا عاجزتين عن
ضــخ الهــواء .وهــذا أصابنــي مؤخـرا مــع رجوعــي للمدرســة .أيكــون هــذا مــن هــواء املدينــة
امللــوث؟ ولكنــي ال أعتقــد ذلــك ألنــه لــو كان ذلــك حقــا صحيحــا .لظهــر األمــر معــي قبــل
أعــوام مــن مزاولتــي الدراســة فــي تلــك الثانويــة .أو ربمــا يكــون مرضــا وراثيــا .ال أدري حقــا.
األمــرحقــا بــات يرهقنــي ويزعجنــي .خلــل فــي جهــازي التنف�ســي هــذا مــا كان ينقصنــي .أشــعر
اآلن بــدواروصــداع فــي مقدمــة رأ�ســي .ذهنــي مشــوش للغايــة أنــا أكتــب هــذا وعاجــزعــن
التحــدث فــي األمــرألي أحــد أو ربمــا ليــس عجـزا وإنمــا فقــط تحفــظ فهــل يتحفظــون علــى
املــرض يــا تــرى؟
إنما أظن أن تلك الصورة وأنا أبعث حزني وخلجتي لشخص آخرصورة سخيفة
حمقاء .مثيرللشفقة ،ال أريد أن أرى أحدا يلعب دور املنقذ لي ،دور البطل أمامي ،إن
صــح تمثيلــي لذلــك األمــرأو قــارب لــه ،املحيــرفــي أمــري أنــي ال أريــد أن أزورالطبيــب اليــوم
176
مطلوعة (خبز وحب)
رغم إصرارأمي ألن الطبيب بالنسبة لي شخص يضع نظارات ويبيع الكالم قبل الدواء
هــو شــخص عاجــزمثلــه مثلــي .إن توجهــت نحــوه أنــا بمر�ضــي سأخســرفــي طريقــي نحــوه
ثقتــي بنف�ســي وأتال�شــى معنويــا كمــا أنهــاراآلن جســديا.
ال أبــدا! لــن أذهــب وأجلــس فــي طابــور طويــل مــن املر�ضــى الطاعنيــن فــي الســن
واملصابيــن بالجــدري والحمــى القالعيــة .آه واملصابــون أيضــا بالجــرب أعلــم أنــه مــرض
معـ ٍـد ،.إن لــم ينقــل لــي أحدهــم الجــرب .فربمــا أصــاب بالقمــل .أوووه! ألهــذا منــذ
اســتيقاظي وأنــا أحــك فــي جلــدة رأ�ســي! هــل ترانــي قــد أصبــت بالقمــل أيضــا؟
ال .لســت مضطربــا عقليــا أو مجنونــا ،ليــس األمــركليــا هكــذا أنــا شــخص منطقــي
ألبعــد الحــدود فقــط ،حيــن أفكــرفــي حالــي وأنظــرلجســدي املتهــاوي هــذا مــا كان ينقصنــي
القمــل.
يــا ربــي مــا هــذه املـرارة التــي تحــت لســاني .أشــعربمــذاق صــدئ وبحرقــة مزعجــة فــي
حتى تخف تلك الحرقة الخطمية حلقي .تجتاحني رغبة غريبة ببلع لعابي املزيد واملزيد ّ
فــي حنجرتــي .مــا هــذا الشــعور الغريــب يــا هللا!
هل هذه أعراض مرض ال رب و!...
يا إلهي! قد نطقت تلك الكلمة ،وأنا الذي قد كنت أسمعها قبل فقط في التلفاز
أو في املدينة ،تبا! لن أزورهذا الطبيب ولن أخبرأحدا بحالتي ،أفضل أن أموت هنا في
غرفتــي الكئيبــة ذي علــى أن يشــفق النــاس لحالــي ،أوووف مــن البشــر ،يبــدون الشــفقة
علــى حالــك ويقذفونــك بشــتى عبــارات املواســاة واملــؤازرة ،وإن كنــت تظــن هــذا مــن أجــل
أن ترتاح من معاناتك ويخف أملك ومصيبتك فأنت مخطأ حتما ،نحن نخالف أنفسنا
حتى على أنفسنا ،وإن كان األجدربالقول أننا ال نكف نخدع ونغطي الحقيقة املطلقة ّ
أنفســنا واملقــزز فــي األمــرأننــا نصــدق ذلــك ويصــل بنــا األمــرإلــى غايــة أن نؤمــن بــه حتــى.
تلــك اللــذة الخفيــة عندمــا نبــدي الشــفقة والحــزن واملــؤازرة إبــان أحدهــم ،نظهــرالحزن
واأل�ســى .تلــك العبــارات مقــززة بنظــري.
177
مطلوعة (خبز وحب)
"أنــت تقطــع قلبــي ،أنــا حزيــن ألنــك حزيــن" .البــكاء والعناقــات الحــارة إنمــا هــي فقــط
لنرمم أنفسنا املنكسرة وربما نحن من نحتاجها أكثرلذلك نقدمها ملن يبدون حاجتهم
بهــا ،وهكــذا يكــون الفعــل متبــادال ،هــل اإلنســان مجــرد آلــة تجرهــا الشــهوة وامللــذات
الغريزيــة فقــط؟
مثــل تلــك اللــذة الخبيثــة الالإداركيــة والتــي نخفيهــا عنــد إبدائنــا الحــزن واملواســاة
ألحدهــم ،تنت�شــي بهــا أنفســنا لحــد بعيــد ،هــذا حقيــربالنســبة لــي ،لــن يشــعرأحــد بتلــك
اللــذة علــى حســابي ال وأبــدا.
لكن ماذا سأفعل؟
هل سأخفي األمر؟
هل أتجاهله؟
ملن أبث حزني وألمي يا ترى؟
إن لــم أقبــل أن أجعــل نف�ســي ســببا فــي أن ينت�شــي أحدهــم ملعرفــة دخيلــة نف�ســي.
كيــف ســأخفف عنــي؟ وإن كان الــكل علــى هــذا النحــو .ملــن امللجــأ؟ إن أصعــب وأق�ســى
�شــيء فــي هــذه الدنيــا أن ال يكــون للمــرء مــكان يذهــب إليــه .أفــكارتســحب أفــكارا تنجبهــا
أفــكارأخــرى تلــد بدورهــا أفــكارا أقــل مــن األولــى حيــرة لكنهــا أحقــرمنهــا وأصعــب حــا وهــذا
إن كان لهــا حــل أصــا.
يــا إلهــي مــا لــذي أصابنــي؟ األفــكارال تكــف داخــل رأ�ســي تتالطــم كمــوج البحــرعلــى
جــدران منــارة ،هــذا يرعبنــي أكثــرمــن فكــرة تقبــل أنــي أتنفــس بصعوبــة وأكثــرمــن تقبــل
حتــى وأصعــب ّ
حتــى مــن أن يخبرنــي أبــو نظـرات ذاك أنــي مصــاب فكــرة الذهــاب للطبيــب ّ
بمرض الربو .ويقولها بكل برودة وهويستدعي أحد املر�ضى اآلخرين الواقفين ينتظرون
تشــخيصهم مــن قبله...يــا لــه مــن أمــر فظيــع .ولكنــه علــى األقــل يلطمــك بالحقيقــة
مباشــرة ،دون أن يدعــي الشــفقة ويتلــذذ علــى حســاب مالمحــك التــي يصيبهــا الشــحوب
والعبــوس فــي تلــك اللحظــة.
178
مطلوعة (خبز وحب)
179
مطلوعة (خبز وحب)
أنــا شــخص موســوس إلــى حــد كبيــرفــي تفكيــري .تراودنــي أفــكارغريبــة ،ال أدري مــن
أين تأتي ،ليتني أعرف منبعها ألسده وأمنع تدفقها بشكل نهائي .قد أصبح األمرينهكني
حقــا ،مؤخ ـرا أصبحــت منعــزال وانطوائيــا لحــد كبيــر أريــد الذهــاب للمدرســة اليــوم ،أو
الذهــاب للطبيــب والتخلــص مــن فكــرة الشــك التــي تتأرجــح داخــل رأ�ســي أو ربمــا أعــود
لفرا�شــي وأكمــل نومــي ولكــن هــل بنومــي ســأتوقف عــن التفكيــر؟ ربمــا أتوقــف عــن
اإلحســاس بألــم جســدي ولكنــي حتمــا لــن أتخلــص مــن ألمــي النف�ســي وأفــكاري الحمقــاء
الرهيبــة !...ال أدري حقــا مــا علــي فعلــه ،أتحا�شــى أن أواجــه الواقــع األليــم ،أن يعطينــي
ذلــك الرجــل ذو النظ ـرات املــدورة تلــك البخاخــة البيضــاء ذات الســدادة الزرقــاء وأنــا
الــذي ال يراهــا ســوى فــي املدينــة ،يحملهــا بعــض مــن التالميــذ األثريــاء ال أبــدا لــن أصبــح
واحــدا منهــم! لــن أحمــل فــي جيبــي بخاخــة صغيــرة ســخيفة إنــه فــي نظــري ل�شــيء اصطناعــي
لحد الســذاجة .أن تحشــرداخل تلك اآللة الطبية رأســك ،لتســتعيد حياتك وتركيزك.
أشــعربالشــفقة علــى حالــي إن أصبحــت مثلهــم.
كم هو �سيء وبغيض أن تحس أنك ال تستطيع أن تتنفس سوى بصعوبة مجرد
التفكيــرفــي ذلــك يجعلنــي حزينــا حقا...كيــف لشــاب فــي عمــرالزهــور مثلــي أن يصيبــه هــذا
املــرض؟
180
مطلوعة (خبز وحب)
سبعة أشهر
جلســت رفقــة أمــي فــي غرفــة االنتظــار ،مطأطــأ ال ـرأس ،أحــدق فــي حــذاء عيشــة
األزرق البالســتيكي الــرث ،كانــت تلبــس حجابهــا الرمــادي الوحيــد وفــي يدهــا ورقــة نقديــة
مــن فئــة األلــف دينــار ،أظنهــا بالضبــط ثمــن الزيــارة والفحــص ،،أمــي تمســكني مــن يــدي،
أشــعر أن يدهــا تعــرق ،أشــعر أنهــا خائفــة ال أعــرف ملــاذا ،وال أعــرف تمامــا مــا أخبرهــا
الطبيــب فــي املستشــفى.
قاعة االنتظارمملة وصامتة ،وســطها طاولة مســتطيلة من حطب وســطحها من
زجاج فوقه رضاعة حليب ومجموعة من الجرائد القديمة ،أوراق ملساء بيضاء ،على
الحائط املقابل الساعة تشيرإلى الواحدة والنصف ،وصورة امرأة شقراء قاعدة على
العشــب وأبنائهــا يعانقونهــا ويبتســمون ،بجنبهــا صــورة بيانيــة للجهــاز التنف�ســي ،فجــأة
يــرن هاتــف الرجــل العجــوز ،ال يجيــب ،يــرن طويــا ،ال يحــرك ســاكنا ،ســتة أرائــك بنيــة
مريحــة ،فــي الجانــب املقابــل فتــاة صغيــرة نائمــة علــى كتــف أبيهــا النحيــل كئيــب املالمــح فــي
يده ملف أزرق محشوباألوراق ،بجنبه سيدة شديدة السمنة تقرأ الجريدة ،ومقابلها
فتى صغيرأبيض وأشقرالشعر ،صغيرالعينين ،تراقبه أمه الجميلة ،يستنشق الهواء
مــن بخاخــة ،ورجــل أســمريســعل بطريقــة غريبــة ،تفــوح مــن الغرفــة رائحــة تشــبه رائحــة
سـ�م الفئران.
الســاعة اآلن تشــيرإلــى الثالثــة مســاء .لــم يبــق ســوى الرجــل األســمرفــي القاعــة وأنــا
رفقــة أمــي .بعــد لحظــات خرجــت املمرضــة مجــددا ونــادت علينــا.
181
مطلوعة (خبز وحب)
_لقمان صابري!
دخلنــا غرفــة الطبيــب كان رجــا يبــدو فــي الخمســين مــن عمــره ،شــديد البيــاض،
شــعره أشــيب خفيــف يرجعــه للخلــف ،يشــابك أصابعــه علــى مكتبــه:
–إذن أنت لقمان على ما أظن ،الذي أرسلك زميلي محمود ألفحص حالتك.
–ن...نعم
ســجل الطبيــب عمــري وبعــض البيانــات الشــخصية األخــرى ثـ ّـم أدخلنــي داخــل آلــة
مســح ضوئية ،كانت تشــبه قبرا بارد ســطحها يتحرك بي نحو الداخل ،األشــعة الزرقاء
ّ
تمســح جســدي مثلمــا تفعــل الطابعــة بــاألوراق حيــن تنســخها ،شــعور غريــب تملكنــي فــي
الداخل هل يريد أن ينسخني يا ترى ،أنا أكره األطباء وأكره آلتهم الغريبة ،هل يريد أن
يســرق كليتــي؟ أواه
خرجت من آلة األشعة ،لبست مالب�سي ،وقعدت جنب أمي الحيرانة أمام مكتب
الطبيب ،بعد لحظات عاد الطبيب يحمل في يده راديو األشعة ،صمت قليال.
نطقت أمي!
–خير .يا دكتور!
–ابنك..
ثم صمت قليال وحك جبهته:
_ أعلم أن تقبل األمرليس سهال في البداية ،لكن مع الوقت سيعتاد على البرنامج
الذي أقدمه له ،كما أن هناك العديد من الجمعيات الخيرية للمساعدة.
أمي ردت بصوت منكسرونظرات الخوف تمأل عينيها.
–دكتور! أي أمرماذا تقصد؟
182
مطلوعة (خبز وحب)
أمــي تنفجــرباكيــة ،تعانقنــي وتبكــي بحرقــة ،أنــا متجمــد مثــل الجثــة مــن دون روح،
كأنــه ثقبنــي مــن روحــي بســكين جليــد وروحــي تتســرب مــن جســدي الشــاحب ،أنظــرإلــى
الطبيــب وهــو يتابــع ذبحــه /كالمــه.
– يا سيدتي ال تقلقي ،سنجد حال فقد أصبح العالج الكيميائي متوفرا ،وسنقوم
حتــى يتحســن ،وســأحرص علــى التخفيــف فــي بمتابعــة ابنــك ومراقبــة حالتــه الصحيــة ّ
ثمــن املتابعــة الطبيبــة ،ســنجري لــه أشــعة النانوج ـرام واملوجــات فــوق الصوتيــة،
ونراقــب تطــور املــرض ،وهــذه الحالــة ،الســرطان ،الفشــل التنف�ســي ،املعنويــة ،الحــاالت
املصاحبــة ،املتابعــة ،الوصفــة ،الككمتلــى ،ممــااة ولغهــت لبرتــه عخخــو عاىلقــوو
تتةىغــوو تممــك ومــاة ههــزنــت ونــوو هتوةبتــو وو ووخخببوو،هكمم..،و...بــووك..وو.....
كيييييبب....ظكط.....رمك،رســمتت منهكــد.
األرض تدور حولي ،كالم الطبيب معجن ،غيرمفهوم ،أمي تبكي وتناجي الطبيب،
وأنــا أشــعرأنــي أتفــكك ،أنهــار ،قلبــي يــكاد يخــرج مــن بيــن أضلعــي ،يــدب بقــوة ،كســجين
املتعرقــة ّ
متجمــدة مثــل قطعــة ثلــج ،الطبيــب ّ يريــد الهــروب مــن زنزانتــه ،يــدي فــي يــد أمــي
يســتمرفــي تحريــك شــفتيه ،عقــارب الســاعة أمامــي تــدور ببــطء شــديد.
نهضــت مــن الكر�ســي ،جلســت فــي قاعــة االنتظــاروتركــت أمــي مــع الطبيــب ،الرجــل
األســمرال يزال هناك ،هاتفه توقف عن الرنين ،الرجل األســمريبتســم ببرود .ال أعرف
مــا لــذي يحــدث لــي ،عــدت ببــطء فــي الــرواق أســتند علــى الحائــط فــي مشــيتي ،اقتربــت مــن
حجــرة الطبيــب ســمعته يقــول ألمــي.
183
مطلوعة (خبز وحب)
_لــو تــم تشــخيص حالــة ابنــك مبكـرا لكنــا قــد تمكنــا مــن تثبيــط انتشــارالســرطان
فــي األعضــاء املجــاورة مثــل الكبــد والغــدد الليمفاويــة ،لــن أكــذب عليــك إن الســرطان فــي
املرحلــة الثالثــة ،أي املرحلــة قبــل األخيــرة .ولــن يصمــد جســده أكثــرمــن ســبعة أشــهرإن
لــم يقــم بإجـراء العمليــة.
أمي ترد باكية
_سبعة أشهر .ال ال محال هناك خطأ ما.
صوت الطبيب يصلني متقطعا:
_خمســمائة مليــون ســنتيم ثمانيــة جرعــات فــي املعتــاد تدفــع بالتقســيط والجرعــة
التاســعة علــى حســابي إذا لــم تتحســن حالــه ،ألن الطبيــب محمــود أوصانــي عليكــم.
نزلــت مــن خــدي دمعــة بــاردة ،مــن ســنوات عجــاف لــم أبــك ،عندمــا ســمعت أمــي
تقــول:
_يا دكتور عندي ولد واحد ،إن مات سأموت معه.
الطبيب يرد بنبرة هادئة:
_ ال يا سيدتي ال تقولي هذا باألعماربيد هللا...
مســحت دموعــي ،جمعــت نف�ســي ،يجــب أن أبــدو فــي أحســن حــال أمــام أمــي ،ـكـي ال
تتحطــم أكثــروتحطمنــي معهــا ،فتحــت البــاب ودخلــت ،ابتســمت للطبيــب ابتســامة باردة
وشــكرته ،ســحبت أمي من ذراعها وخرجنا من العيادة عائدين ســيرا على األقدام نحو
القريــة ،صامتيــن علــى طــول الطريــق ،أنــا منشــق مــن الصدمــة ،وأمــي ال تكــف دموعهــا
عــن االنهمــار ...وتضغــط علــى يــدي بقــوة ،ثـ ّـم تعانقنــي فــي وســط الطريــق.
– يا أمي العزيزة ال تخافي لن أموت غدا ،األعماربيد هللا ...سنجد حال
نظرت نحوي أمي بعينين مغرورقين بالدموع ولهجة متلهفة كأنها وجدت الحل:
184
مطلوعة (خبز وحب)
– نعم سأبيع ذهبي وخاتم زواجي ونزيد البقرة ،وكل يوم أخبزلك مئة مطلوعة..
هكــذا نلــم مبلــغ العملية .
عانقــت أمــي وقبلتهــا علــى جبهتهــا ،وأنــا أعتصــرمــن األلــم ،أحبــس ســعاال رهيبــا ،ال
أســعله أمامهــا ،أعــرف أنــي ســأمزقها مــع كل كحــة:
– آه يــا ميمتــي ،يفرجهــا العالــي "كــم عنــدك ذهــب ،زوج مــن األقـراط وخاتــم ،بكــم؟
حتى ثلث املبلغ لجلسة عالج كيمائية واحدة". ومئة مطلوعة أوألف مطلوعة ،ال تصل ّ
ال أدري ،كيــف ملــاذا أنــا ،أشــعر هكــذا ،كأن صخــرة موضوعــة فــوق صــدري ،ال
أكــف أســعل وأســعل ،قلبــي يــكاد يخــرج مــن بيــن أضلعــي ،ملــاذا يــا ربــي؟ مــن يرعــى زبيــدة
اآلن مــن يحــرث األرض ،رســماتي للمســتقبل تلطخــت ،أنــا أختنــق ،نفســيا جســديا أنــا
محطــم ،البارحــة ســعلت دمــا ،كنــت أتمنــى أن يكــون ربــوا ،لكــن ســرطان .ال ال ،ســأموت
آه يــا ربــي ،ســيعرف كل النــاس بأمــري ،سيشــفقون علــي ،يروننــي عالــة علــى املجتمــع ،ال
لن يعرف أحد ،سأجبرأمي على كتمان السر ،وأعاني في صمت خيرمن نظرات الناس
املشــفقة اتجاهــي.
أوووف ربــي ،أريــد إمســاك جزيئــات الهــواء وإقحامهــا داخــل رئتــي .ألتنفــس بشــكل
صحيــح ،أواه ربمــا الطبيــب يكــذب!
كم بقي لي ألعيشه؟ كم بقي من دموع ألبكيها؟ املشكلة ليست في املوت ولكنها في
الطريقة التي تموت بها ،أن تتكوم على هذا السريرالناعم وتشعربروحك تتسرب منك
ببطء ،والبطارية بدأت باالنخفاض ،ووفود الناس تروح وتأتي ال تحمل معها شاحنا،
بل تســتنزف بطارية حياتك أكثرال تحمل معها ســوى مصمصة الشــفاه املعتادة وكلمة
يــا حـرام ،مســكين التــي تقفــزإلــى قلبــك مثــل الســكين ،تعجــزعــن رفــع ســيفك لتقاتــل ألن
عدوك انتشاره سريع وأنت دفعاتك ضعيفة ،واإلمدادات الخارجية ال تسمن وال تغني
من جوع ألنهم لم يخترعوا الدواء بعد ،فتجد نفسك مضطرا للموت ككلب مات على
زوبيــة ،ترحــل فــي املشــهد الــذي تمنيــت أال تنــزل معــه الكتابــة فــي آخــرالفيلــم .أضــم ركبتــي
لصــدري وأبكــي بحرقــة أبكــي علــى كل �شــيء ،أبكــي علــي أنــا وحيــد عيشــة ،كيــف أتركهــا
وحيدة في هذه الداراملوحشــة.
185
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب_
السيدة أميمة حراج
***
– ملاذا تبكين؟
_خذي تفاحة .هي مهدأ جيد.
لم ترد أميمة.
– حســنا أرى أن لــك عالقــة قويــة بالضحيــة ،أم أنــك مفزوعــة مــن املشــهد الــذي
رأيتــه؟
بقيــت أميمــة ســاكتة مطأطــأة الـرأس تئــن بصمــت وشــعرها منســدل علــى وجههــا،
نهــض املحقــق مــن كرســيه واقتــرب مــن وجههــا ليوجــه الســؤال لهــا بنبــرة صارمــة وجــادة:
– متى تعرفت على إسحاق وما هي عالقتك به؟
– عرفتــه ،عرفتــه ،ع ر ف ت"....كانــت كلمــات أميمــة متقطعــة دون أن تنظــر فــي
وجه املحقق ،ناولها الطبيب قارورة ماء صغيرة شربت منها وتابعت كالمها بوضوح" في
حفل أقامته عائلته ،كان حفال بمناسبة افتتاح عائلتهم لشركة إنتاج األجبان ،حضر
الحفــل الكثيــرمــن رجــال األعمــال والشــخصيات املهمــة.
– هــل أنــت ابنــة الســيدة جمــال ح ـراج صاحــب شــركة omلألجبــان وom
للمجو هــرا ت ؟
– نعم.
ثم توسعت حدقتا املحقق وتغيرت نبرة صوته.
186
مطلوعة (خبز وحب)
– ّ
ثم بعد ذلك .واصلي..
– عرضنــي أبــي علــى بعــض األشــخاص املهميــن ومــن بينهــم أب إســحاق .الــذي كان
رفقــة ابنــه وبذلــك تعرفــت علــى إســحاق.
– لم تكملي إجابتك على سؤالي ،ماذا يكون إسحاق بالنسبة لك؟
– خرجنــا فــي عــدة مواعيــد ،وكنــا قريبيــن لبعضنــا ،لكــن لــم تكــن العالقــة رســمية،
يعنــي أصدقــاء فــي عالقــة مفتوحــة.
– ماذا تعنين بأصدقاء في عالقة مفتوحة.
ثــم التفــت املحقــق للطبيــب خلفــه ينتظــرمنــه شــرحا حــول هــذا املصطلــح الجديــد
الــذي يســتعمله هــؤالء املراهقــون
– كنا نتواعد .وكنت حبيبته!
– كنت؟
_حبيبته فقط.
_حسنا ...وقد تقدم لخطبتي .ليس رسميا .لكن قد وضع علي اليد.
_وضع عليك اليد!
_يعني قد أعطى كلمة ألبي بخصو�صي.
_حسنا قد فهمتك وبعدها!
– بعدها لم تدم العالقة وانفصلنا.
_ملاذا؟
187
مطلوعة (خبز وحب)
188
مطلوعة (خبز وحب)
_ال أعرف.
_ملاذا؟
_ألن إسحاق ليس من النوع الذي يقرأ الروايات إذ ربما هذه أول مرة أراه يحمل
روايــة ،لذلــك انتابنــي الفضــول ألعــرف مــا لــذي جذبــه لق ـراءة الكتــاب ،انتظرتــه ّ
حتــى
يفــرغ مــن قراءتهــا ألذهــب وأحضرهــا.
– كيــف عرفــت أنــه أنهــى قراءتهــا وأنــه ســيضعها فــي املكتبــة فــي ذلــك الوقــت
بالضبــط؟ وملــاذا لــم تطلبيهــا منــه مباشــرة ملــاذا انتظرتــه ّ
حتــى يذهــب إلــى املكتبــة وتبعتــه
خفيــة ؟
– لــم أتبعــه خفيــة وإنمــا عرفــت أنــه أنهاهــا ألنــه معــي فــي القســم وكنــت أراقبــه حيــن
يخرجهــا ويقـرأ ،ولــم أطلبهــا منــه ألننــا كنــا متشــاجرين ،هــذا فقــط وليــس شــيئا آخــر.
– كنت تراقبينه! ماذا تقصدين بهذا؟
– نعم كما أخبرتك لقد كنا في عالقة وأردت أن أعرف ما لذي يفعله في غيابي.
– لكنه كان يجلس معك في نفس الطاولة أليس كذلك؟
– لكنه غيرمكانه.
_ملاذا فعل هذا برأيك؟
_عندما سألته لم يجبني.
_حسنا ..حسنا .هناك زر مفقود من مئزرك! ما لسبب؟
– آه زر ال أذكر ،اآلن فقط الحظت أني فقدت زرا من مئزري!
ثــم صمــت املحقــق لبرهــة راح يضــرب الجريــدة علــى كــف يــده ببــطء ويفكــر ثـ ّـم
التفــت املحقــق للطبيــب وطلــب منــه أن يحضــر لــه كأس مــاء.
189
مطلوعة (خبز وحب)
190
مطلوعة (خبز وحب)
_هل أنت متأكدة من أنك رأيت اسحاق وهو يرجع الرواية إلى مكانها!
_ليس تماما .ألني لم أجدها هناك.
_هل تقصدين أن الرواية كانت بحوزته عندما تلقى الضربة.
_نعم هذا احتمال كبير.
_ولست أنت من تركها بجنبه؟ أو أوقعتها من يدك!
_ال.
_هــل أوقعتهــا مــن الــرف الــذي بجنــب الضحيــة مثــا .ألنهــا كانــت واقعــة فــي الجهــة
اليمنــى مــن الضحيــة بينهــا وبيــن رف املكتبــة.
_ال أعتقد هذا.
– حســنا قد أخبرتنا أنك رأيت أحدهم يخرج من املكتبة قبل أن تجدي اســحاق
ميتــا علــى األرض.
_نعم.
_من الذي رأيته يخرج من املكتبة؟
– لم يظهرلي شكله بوضوح!
– من رأيته يخرج من املكتبة ،كيف كان يبدوا ،ملن يشبه من زمالئك في القسم.
– ال ال أعرف ،لكني أظنه...
– من؟ تكلمي!
– لقمان
191
مطلوعة (خبز وحب)
ثم سكتت أميمة لحظة قصيرة ،استجمعت قواها وتكلمت بنبرة واضحة:
_أحبه يا سيدي ..أحبه ولم أحب رجال مثلما أحببته ،لذلك أردت أن أعرف ّ
حتى
الكتاب الذي يقرأه ،ولو يرجع للحياة سأعتذرمنه ألف اعتذار .ألني ال أصدق أنه قد
مــات ال أصــدق ،هــو خطيبــي وقــد قررنــا أن نتــزوج بعدمــا ننجــح فــي امتحــان البكلوريــا،
كان دائمــا يخبرنــي أننــا ســنتخرج فــي كليــة الطــب مــع بعــض لكــن...
ثم انفجرت بالبكاء وبإشارة من يد املحقق حملها طارق وأخرجها:
ثم التفت املحقق للطبيب ،يسأله:
_ما رأيك في ما قالته!
– ال أدري يــا ســيدي بحــق ،أنــا ال أفهــم كثيـرا فــي العالقــات العاطفيــة لهــذا الجيــل،
لكــن! ربمــا قــد أحبتــه حقــا وربمــا تكــون دمــوع تماســيح فقــط.
– لــو أحبتــه حقــا ملــا تركتــه وبدلتــه بفتــى أقــل منــه مكانــة ومــاال وجمــاال ...عندمــا
192
مطلوعة (خبز وحب)
تتــركك ام ـرأة مــن أجــل رجــل وأنــت تعــرف أنــه ال يملــك ال مــاال وال جمــاال أكثــرمنــك وكل
مــا هــو موجــود لديــه أنــت تملكــه ،اعلــم حينهــا أنهــا لــم تحببــك مــن األصــل وكل مــا عاشــته
معــك كان مجــرد تمثيليــة فقــط .وهــذه الفتــاة تبــدو ممثلــة بارعــة حقــا .خصوصــا إذا
خدعتك مع فتى اســمه لقمان ،لقمان مطلوعة .مقطوع من شــجرة ال مال وال جاه وال
نســب وال حســب.
– هل تقصد أنها قد تقتله من أجله؟
– اثنان ال تثق فيهما يا صديقي شمس الشتاء وقلب النساء.
193
مطلوعة (خبز وحب)
– لقمان..لقمان!
أسمع جدي ينادي علي:
_ نعم جدي.
_ سأسبقك ولتلحق بي.
نهضــت مســرعا وضعــت بعــض األســمال علــى جســدي فتحــت البــاب ،وجــدت
أمــي تحمــل الحطــب لتضعــه داخــل فوهــة "الكوشــة" ســاعدتها فــي كســربعــض الحطــب
وحمــل بعــض الصينيــات إلــى أمــام ذلــك الوحــش الطينــي الصغيــرالــذي يخــرج الدخــان
ثم ســرت.ألجده بمحاذاة البئرجالســا على حافتها منتعال من رأســه ،قبلتها على جبينهاّ .
ـذاء كالســيكيا قديمــا بنــي اللــون وســرواال عربيــا باجيــا عريضــا ذو جـراب واســع ناحيــة حـ ً
فخذيــه .وحزامــا مــن الجلــد املدبــوغ .جيليــه زرقــاء قصيــرة مــن الجيــن ومــا يميــزجــدي يحــي
عصــاه النصــف دائريــة عنــد املقبــض املكســو بجلــد املاعــزاملثبــت عليهــا بســلك نحا�ســي
رقيــق ،ملتــف فــوق الجلــد علــى املقبــض بإحــكام ،وطربوشــه األحمــرذو الخيــط الذهبــي
الــذي يتوســط ســطحه متدليــا مــن عليــه .عجــوزا فــي الســتين مــن عمــره ،لــو رآه غريــب
لظنه في األربعين أو الخمسين قوي البنية رغم متوسط وزنه عريض الكتفين ذو وجه
مثلــث .ذوجبــه عريضــة ولحيــة طويلــة وحــادة ،عينــاه مختبئتــان تحــت حاجبيــن أبيضيــن
عريضيــن ،عينــان كزيتونتيــن ســوداوتين مهيبتيــن.
معظــم أســنانه ال ت ـزال فــي فمــه لــه نصــف ضحكــة غيــر ممتــدة وتجاعيــد خفيفــة
حــول عينيــه وشــعرمتوســط الطــول متعــرج النهايــات ،بيــده ســلة مصنوعــة مــن الــدوم
يحمــل فيهــا خب ـزا يابســا وبعــض العنــب ولفافــة بالســتيكية ســوداء وأمامــه علــى األرض
شــبكة صيــد بيضــاء وصنارتــي ســيدي واحــدة زرقــاء بيمينــه واألخــرى بيضــاء أقصــرمــن
األولــى:
194
مطلوعة (خبز وحب)
_احمــل الشــبكة وخيــط الصيــد ،هــو تحــت رجلــك واتبعنــي ،أدعــوا هللا أن يكــون
الحــظ حليفنــا اليــوم.
مشينا قرابة العشرين دقيقة لنصل إلى واد "بو غولة" حيث صخرة الغولة.
فــوق الصخــرة الكبيــرة فــي ضفــة النهــر املرتفعــة بأربعــة أمتــار علــى ســطحه ،فتــح
جــدي الســلة وأخــرج منهــا بعــض معــدات الصيــد وفتــح العلبــة البالســتيكية وبحركــة
تشــبه حركــة نقــرالديــك لــدودة أشــاربرأســه نحــوالنهــر ،وملــا رفــع يــده ليرينــي الطعــوم التــي
اشــتراها مؤخ ـرا ،ظهــرمــن تحــت ســترته مســدس أســود صغيــريخفيــه داخــل حزامتــه:
أنظرلقد اشــتريت طعوم صيد جديدة .إن أســماك النهرأصبحت تتذمر وتتزمل
مــن الديــدان التــي كنــت تأتينــي بهــا من املزرعة.
فحتــى هــي لــم تعــد غبيــة مثــل الســابق وأصبحــت تعــرف أن تلــك الديــدان األرضيــة
املعلقــة بخطــاف صيــد هــي مجــرد فــخ وضــع أمامهــا فقاطعتــه قائــا:
_أو...
و قبل أن أتمم كالمي نظرنحوي بعينين تعكسان صفاء النهرأمامنا:
–أو ربما أنا من فقدت موهبتي!
ناولتــه صنــارة الصيــد البيضــاء ليحكــم ربــط الطعــم فــي الخطــاف ب ـرأس الخيــط
ويناولنــي بــدوره الصنــارة الزرقــاء ويخــرج مــن جيــب ســرواله العربــي العريــض دودة...و
يرميهــا بجانبــي:
أمسك ضع هذه في صنارتك...
ممازحا أياي بهيئة واثقة.
هكذا ليكون لنا صيد متنوع من األسماك املثقفة واألسماك الغبية.
195
مطلوعة (خبز وحب)
ضحكــت ،رمــى جــدي صنارتــه قبلــي وتبعتــه بــدوري وجلســت بمقربــة منــه ودون أن
أفكــر .قلــت لــه:
_ما زالت البركة يا جدي
نظرنحوي ،بنبرة تسودها القليل من الحسرة املمتزجة باأللم:
_هــذه العبــارة بالتحديــد هــي الدليــل علــى أننــي كبــرت .ألننــي عندمــا كنــت صغي ـرا
بــدوري كنــت أقولهــا لجــدي املتقــدم فــي الســن الــذي كان يبــدوا لــي خرفــا وهــا أنــا ذا صــرت
مثل��ه اليـ�وم .آه يــا ولــدي ّ
"حتــى املخفــي وينحنــي" .
_ماهي قصة هذا املخفي يا جدي؟
– قل ماهي حكاياته .يا حصراه من أين أبدأ لك ،املخفي هذا.
"ثم شرد جدي في حديثه يسرد قصة املخفي"
_هذا ال�سي املخفي تروى عنه حكايات كثيرة لكن ال أحد يعرف حكايته الحقيقية
وملاذا جن .لكنه بطل ثوري وأنا أشهد له بذلك.
حكاية املخفي والستين:
يحكى أنه حفظ ستين حزبا من القرآن في في ستين يوما.
حكاية املخفي وحسنة العورة:
يحكــى أنــه كان هنــاك فتــاة اســمها خيــرة مليحــة القــد شــديدة الجمــال فــي زمــن
املخفــي ،عيبهــا الوحيــد أنهــا عــوراء العيــن ،أحبــت املخفــي وأحبهــا وعاشــا أجمــل قصــص
الحــب وذات يــوم دواهــا بــأن دفــل فــي عينيهــا ،وحيــن أتــه أحبتــه حبــا شــديداّ .
حتــى ماتــت ر
مــن حبهــا لــه.
196
مطلوعة (خبز وحب)
197
مطلوعة (خبز وحب)
– الجــن العاشــق ليــس كافــريــا بنــي ،فالعاشــق يصبــح روحــا بــا جســد ال طاقــة لــه
فــي التحكــم بأفعالــه.
– وهذا العشق يا جدي حرام أو حالل؟
– هيه يا ولدي ملاذا هذا السؤال؟
– فقــط عنــدي صديقــي فــي املدرســة ،وقــع فــي حــب فتــاة ،أصبــح يكلمنــي عنهــا ليــا
ونهــارا .كلمــا طلــب منــي النصيحــة لكــي تبادلــه الحــب ،ال أعــرف مــا لــذي أجيبــه!
– يا ولدي الحب حرب الرابح فيها هو الذي ينسحب أوال.
– ماذا تقصد؟
– مثلما يقول الرومي:
Fuis le il te suit، suis le il te fuit
– يعني!
– أهــرب تجــري وراءك ،اجــري وراءهــا تهــرب منــك ،عالقــة العشــق مثــل خيــط
مطاطــي يشــده شــخصان ،إن أفلتــه أحدهــا يتألــم اآلخــر ،يعنــي أن فــي أي عالقــة حــب
حتــى ير�ضــي املعشــوق الــذي يجلــس هنــاك عاشــق ومعشــوق ،العاشــق يتجرجــرويتألــم ّ
ويســتمتع بعــذاب العاشــق الولهــان املغلــوب علــى أمــره .كمــا يقولــون العاشــق مذلــول يــا
لقمــان ولــدي ،العاشــق مذلــول.
– آه يا جدي ،أين قرأت كل هذا ،يبدوا أنك كنت قيس زمانك.
– يــا بنــي هنــاك مدرســة أكبــرمــن املدرســة التــي تذهــب إليهــا ،هــي مدرســة الحيــاة،
تعلمــك دروســا ثمينــة واملقابــل هــو أن تأخــذ منــك ســنين عمــرك وتحرقهــا أمامــك .أخبــر
صديقــك هــذا أن يركــز علــى دراســته ،فالحميضــة وســط الحلفــة تحســب نفســها
198
مطلوعة (خبز وحب)
ياســمينة .أنــت اآلن يــا لقمــان أصبحــت رجــا وأنــت تذكرنــي بوالــدك حيــن كان فــي ســنك
كان طائشــا مشــاغبا معظــم قرارتــه متهــورة .لكنــه كان ينجــو بأعجوبــة مــن مواقــف ال
نجــاة فيهــا.
لقــد صــرت رجــا بعدمــا كنــت فتــى صغي ـرا تخــاف أن تخــرج مــن البيــت وتكتفــي
باللعب في ســاحة املنزل .ألن أبوك كان يخاف عليك من علي الكيلو وأصحابه وأطفال
القريــة اللصــوص الصغــار .أذكــر أنــي وجدتــك ذات يــوم...
وفي تلك األثناء بدأ خيط الصنارة باالهتزاز.
غيرجدي من وضعيته وصاح:
_إنها سمكة...إن هذا الطعم مفيد حقا.
و أضاف وملعة تلهف بادية في عينيه:
– هيا عزيزتي تعالي ألعانقك هيا أخرجي.
يهتزالخيط أكثر.
ثــم فجــأة بعــد لحظــات يفلــت جــدي الخيــط ويتــرك الســمكة تهــرب منــه ويجلــس
ليلتقــط أنفاســه.
بحيرة سألته:
_ملــاذا يــا جــدي ؟ أظنــك كنــت قــادرا علــى أن تصطــاد تلــك الســمكة لــو بذلــت جهــدا
أكثــرقليــا؟
ضحــك ضحكــة ســخرية واســتهزاء .بصــق فــي األرض ونظــر نحــوي بنفــس الحركــة
برأســه التــي أرانــي بهــا الطعــم:
_نعــم كنــت أســتطيع أن أصطادهــا حقــا مثلمــا قلــت ،لكــن هــل تعلــم ملــاذا أفلتــت
منــي هــذه الســمكة؟
199
مطلوعة (خبز وحب)
200
مطلوعة (خبز وحب)
201
مطلوعة (خبز وحب)
فــي بــاركانــوا يتســلون فيــه ســهرة كل مســاء وهــو نفــس البــارالــذي هــو مقهــى اآلن والــذي
علــق فيــه املخفــي رأس الضابــط ڨامبــو ،كانــت آخــر ليلــة فيــه حيــن دخــل خمســة مــن
الجنود الفرنسيين الباروكانوا في حالة سكريرثى لها .وقرروا أن يلعبوا لعبة الروليت
الروســية.
_الروليت الروسية
_نعــم الروليــت الروســية هــي لعبــة حــظ مميتــة نشــأت فــي روســيا .يقــوم الشــخص
الذي يود القيام بها بوضع رصاصة واحدة في املســدس" ،ثم فتح جدي املســدس وبدأ
يرينــي كيــف تتــم" ثـ ّـم يقــوم بتدويــراألســطوانة هكــذا "وأغلــق املســدس بخفــة يــد ودور
ماســورته" التــي يمكــن أن تحمــل ســت رصاصــات ،يديــراملاســورة عــدة مـرات بحيــث ال
ثم يوجه املسدس نحو رأسه "ووضع يعرف ما إذا كانت الرصاصة ستطلق أم ال ،ومن ّ
املســدس فــي رأســه" ويســحب الزند"ثــم وضعهــا فــي رأ�ســي وضغــط الزنــاد وكان املســدس
فارغــا .شــعرت بشــعور غريــب ومريــب ال أســتطيع وصفــه" فــإذا وضــع رصاصــة واحــدة
فــإن احتمــال موتــه هــو 1مــن ،6أي .% 16
_لكن ملاذا يلعبون هذه اللعبة؟
_ تســتخدم هــذه اللعبــة لعــدة أســباب ،منهــا االنتحــارأو إثبــات الشــجاعة .نشــأت
اللعبــة فــي روســيا عندمــا لعبهــا الجنــود الــروس إلثــارة بعضهــم البعــض .وهــذا مــا نقلــه
عنهــم الجنــود الفرنســيين تقليــدا كمــا تعتبــر لعبــة الروليــت الرو�ســي إحــدى وســائل
املقامــرة وتكــون بتحــدي بيــن شــخصين يتناوبــون اإلطــاق ،لحيــن مــوت أحدهــم ،فيأخــذ
مــن نجــا أمــوال الــذي أطلــق النــار علــى نفســه .وفــي تلــك الليــة كانــوا عازميــن علــى لعبهــا
لتســوية حســابات عالقــة بينهــم وبمــا أنهــم كانــوا خمســة واللعبــة تلعــب بالزوجيــن وحتــى
يكونوا ثالثة أزواج .أرغموني على اللعب معهم .فكانت الرؤوس تنفجرأمامي وأنا أنجو
بأعجوبــة كل مــرة .ومــن بيــن الســتة كنــت أنــا الناجــي الوحيــد .هربــت مــن الحانــة وأخــذت
املســدس معــي وكلمــا رأيتــه أتذكــرتلــك الليلــة ولــن أنســاها.
_وهل لعبتها مجددا!
202
مطلوعة (خبز وحب)
_نعم!
_وما هو سرنجاتك في كل مرة.
_حامية .حامية.
_ماذا؟
_أكمل...حامية وش..
_حامية ،شافية ،عامية.
_نعم هي حامية.
_لكن كيف هذا يا جدي؟
_ستعرف سرتلك القالدة يوما يا ولدي.
_أريد أن أعرف اآلن.
ثم ابتسم ووضع املسدس في يدي:
_هل تريد أن تلعب معي ّ
حتى تعرف كيف؟
203
مطلوعة (خبز وحب)
204
مطلوعة (خبز وحب)
– لكن.
فــي تلــك اللحظــة أحسســت بــأن تلــك الرســمة هــي مفتاحــي الوحيــد نحــو التقــرب
منهــا ،وتذكــرت نصائــح جــدي بــأن أجعلهــا هــي الحديــدة وأنــا املغناطيــس.
– ال.
نظــرت نحــوي بنظــرة غريبــة صمتــت معهــا أنفاســها ومالمحهــا .أزاحــت بعــض
خصــات الشــعراملنســدلة علــى وجههــا وواصلــت الكتابــة دون أن تقــول شــيئا .ثـ ّـم بعــد
لحظــات .وضعــت ورقــة فارغــة أمامــي وبجنبهــا قلــم رصــاص.
أتمــت الرســمة بدقــة .ألنــي فضلــت أن أرســم شــيئا أحفــظ شــكله جيــدا مثلمــا
أحفــظ شــكل وجــه املشــاهدة الحســناء .لذلــك اختــرت أن أرســم قالدتــي التــي فقدتهــا فــي
205
مطلوعة (خبز وحب)
تلــك الحادثــة يــوم أنقــذت الرجــل مــن الغــرق وملــا أتممتهــا وضعتهــا أمامهــا ،فبــدت
ثم بلهجة مندهشة ومفزوعة وهي تضع يدها على على وجهها مالمح الدهشة والحيرةّ .
صدرهــا للتفقــد شــيئا مــا.
– قالدتي!
– ماذا تقصدين؟
– هــذه قالدتــي .كيــف عرفــت شــكلها وأنــا لــم أظهرهــا ألحــد هنــا! كيــف عرفــت كل
هــذه التفاصيــل التــي فيهــا؟
تعجبت من كالمها وحاولت أن أتبين صحته.
– ما خطبك ،هذه قالدتي أنا.
– آه .آه انتظر! ربما لك قالدة مثل قالدتي .أنظرها هي قالدتي.
ثـ ّـم فتحــت أزرار مئزرهــا وأرتنــي القــادة ،اســتغربت مــن األمــر ألنهــا كانــت نفــس
قالدتــي وتحمــل نفــس الرمــوز وبذلــك تيقنــت أنهــا قالدتــي وليســت نســخة عنهــا .وهــي
متوارثــة فــي عائلتــي فقــط ،أردت أن أعــرف أيــن وجدتهــا .فمشــيت معهــا فــي فكــرة أننــا ربمــا
نملــك نفــس القــادة .فســألتها:
– ومن أين حصلت عليها
– قصة طويلة!
– احكي لي أنا أسمعك أميمة "و كانت تلك أول مرة أنطق فيها أسمها مباشرة"
– فــي الحقيقــة إنهــا هديــة مــن أبــي ســلمها لــي يــوم عــاد إلــى املنــزل مبلــا بالكامــل
وهــو يســعل ويكــح والدمــاء تســيل مــن رأســه .أمســكته وقــد ســقط عنــد البــاب .قبــل أن
يفقــد وعيــه ظننــت أنــه ســيموت فرحــت أبكــي علــى صدره.حتــى فتــح ذراعــي وســلمني هــذه
206
مطلوعة (خبز وحب)
القــادة ،وأخبرنــي أن هــذه القــادة ســتحميك مــن كل شــر وأذى مثلمــا حمتنــي أنــا .ثـ ّـم
عندمــا اســتيقظ حكــى لــي القصــة وكيــف أن أحدهــم دفعــه مــن علــى الجســرفســقط فــي
حتــى تدخــل أحدهــم فجــأة لينقــذه ميــاه النهــر فــة وتشــبث بصخــرة يواجــه املــوتّ .
الجار
وأخبرنــي أبــي أنــه مديــن لذلــك الشــخص بحياتــه .وهــذا كل مــا وجــده فــي املــكان عندمــا
اســتيقظ ولــم يجــد ذلــك الشــخص وكل مــا تبقــى منــه هــو هــذه القــادة.
–ســبحان هللا تلــك هــي نفــس الكلمــات التــي قالهــا جــدي وهــو يهدينــي القــادة يــوم
ختانــي.
_ماذا قال لك جدك!
_هذه القالدة ستحميك من كل شر.
–هل تقصد أن هذه قالتك؟
_نعم.
_إذن أنت من أنقذت أبي؟
قالتها وهي تنظرنحوي بعينين المعتين
هززت رأ�سي بنعم.
– نحــن مدينــون لــك بالكثيــريالقمــان .وأبــي ســيفرح عندمــا يلتقيــك ألنــك أنقــذت
حياتــه.
ثم نزعت القالدة من رقبتها وفتحت كفي وأرجعتها لي.
– ال .لن آخذها.
_إنها هدية من جدك .عليك أن تحافظ عليها.
207
مطلوعة (خبز وحب)
208
مطلوعة (خبز وحب)
توقف الزمن في ذاك العناق وأصبحت كل األشياء تذوب في عيني ،أحسست أني
طفــل بيــن أحضانهــا أحسســت أنــي ريشــة حمامــة تلعــب بهــا أيــادي الريــح .أحسســت أنــي
حــي ألول مرة.
***
وأنــا عائــد إلــى القريــة بــروح طفــل صغيــر قــد ولــد لتــوه وجــدت ثالثــة أشــخاص
يرتــدون بــدالت ســوداء رســمية ويضعــون نظـرات شمســية ســوداء .يقرعــون بــاب املنــزل.
يحملــون فــي أيدهــم مجموعــة مــن األوراق.
– نعم ماذا هناك!
– هل أنت لقمان ابن الهواري الصابري؟
– نعم أنا هو.
– دون أن نطيل عليك .أعلم أن أبوك الهواري قبل أن يموت قد رهن هذا املنزل
وقــد خســرفــي الرهــان أمــام ســيدي .وهــا هــي أوراق ملكيــة املنــزل واالتفــاق مم�ضــي مــن
طــرف أبيــك ،ونظـرا لحالتكــم قــد يقبــل ســيدي بمبلــغ مالــي مقابــل املنــزل.
– منــزل .مبلــغ! "لــم أفهــم مــاذا يقولــه الرجــل .لكنــه كان يتحــدث بجديــة وصرامــة
ولــم يبــدو عليــه أنــه كان يبالــغ فــي كالمــه"
– نعــم فــي التقديــر .علــى حســب املوقــع وحالــة البنــاء .املنــزل يقابــل خمســمائة
مليــون ســنتيم.
– آه ماذا تقول خمسمائة مليون .هل تعرف أن ...من أين...و...
ثــم وضــع األوراق فــي يــدي وهــم باالنصـراف قائــا بــا مبــاالة كأن هــؤالء النــاس مثــل
الروبوتــات مبرمجــون علــى كل مــا يقولنــه دون مشــاعر.
209
مطلوعة (خبز وحب)
– أسبوعان في يدك.
ثــم ركبــوا ســيارة ســوداء وانصرفــوا بعدمــا تركونــي وســط الغبــاروفــي يــدي األوراق
ومتاعــب أبــي الــذي ال تـزال تلحقنــي ّ
حتــى بعــد مماتــه.
210
مطلوعة (خبز وحب)
مذكرات مشعة
الحدائد للشدائد
منــذ اليــوم االول الــذي عرفــت أنــي مصــاب بســرطان الرئــة أصبــت بالذهــول .لــم
أصــدق .لــم أكــن أشــعربأنــي مريــض ،رفضــت أن أرضــخ قلــت لنف�ســي أنــه مــن غيــراملمكــن
أن يصيبني هذا املرض إنه يصيب اآلخرين فقط .يصيب من يأكلون األغذية الصناعية
املعلبة ،يصيب من يستنشقون غازاملصانع والسيارات وهواء املدينة امللوث .لم أقبل
بــأن أفقــد الحــق فــي الحلــم بالغد.
قررت أن من سيخضع للعالج هو البديل مني.
هل فكرتم مرة في أن من يعاني من مرض السرطان يشعربالخجل أمام األصحاء،
وكأنــه فقــد حقــه فــي تحــدي الحيــاة؟ يق ـرأ فــي عيونهــم شــفقة ال يحاولــون إخفاءهــا ،لــم
أكــن فــي حالــة قبــول للواقــع ،إلــى أيــن أذهــب؟ الواقــع يطبــق علـ ّـي ويفــرض علــي بروتوكــوال
جديدا يحدد تحركاتي وتصرفاتي وضوابط جســدية تحد حريتي .ال أعرف كيف يجب
أن أتعامــل مــع املوضــوع .غريبــة هــي الدنيــا وغــدارة .كــدت أقــف اليــوم فــي وســط املقهــى
ألقــول للجميــع :انظــروا إلــي جيــدا ،هــذه الحلقــات الســود التــي تكحــل عينــي ،إنهــا بســبب
الســرطان الــذي ســكن داخــل عظــام قف�صــي الصــدري وتوســد رئتــي الزهريــة ،ليســت
ســوداء مثــل رئــة مدخــن ،أنــا ال أدخــن حتــى! ملــاذا يــا ربــي!
اليــوم صادفــت أمــي فــي الطريــق ،تبعتهــا وقبــل أن أصــل عندهــا ،دخلــت محــا لبيــع
املجوهـرات ،انتظرتهــا أمــام املحــل ّ
حتــى خرجــت ،أمســكتها مــن ذراعهــا:
– ماذا تفعلين ،هل جننتي!
– أنت من جننت ،هل تريدني أتركك لتموت؟
211
مطلوعة (خبز وحب)
212
مطلوعة (خبز وحب)
أحمل القفة وأضع قشابيتي الوبرية البنية على ظهري ،أنزلق من البيت كحلزون
ينتظــرتبلــل األرض ليخــرج ويزهــو ،طريــق القريــة تزدحــم بالحلزونــات فــي فصــل الشــتاء،
تصبــح معبــرحــب للحلزونــات البريــة علــى العشــب فــي حــواف الطريــق بــا مبــاالة تداعــب
بعضها ،تتقلب وتمارس الحب بشغف تحت حبات املطراملتأللئة فوق سطوح جلدها
األملــس .لتطفــي ملعانــا وبريقــا كأنــه قفــزمــن عصــراإلغريــق والطقــوس الســحرية .أتمنــى
في كثيرمن األحيان أن أكون حلزونا أحمل بيتي على ظهري وأتمرغ أينما شئت ،أمارس
حياتــي بالعــرض البطــيء .حيــاة الحلزونــات طويلــة ماتعــة بالرغــم مــن أن مــدى عمرهــا
قصيــر.
هذا الهواء الصباحي وهذه األكواخ الخشبية وهذه الطرق املحفرة التي تلد حفر
املاء الضحلة وهذه األزهاراملسترخية مشبعة باملاء راكعة كأنها تعبد هللا وتحمده على
هــذا الصيــب النافــع ،هــي هويــة لقريــة البلبــال العريقــة ،رائحــة الخبــزالصباحــي واملطلــوع
الطازج كثورة لذيذة تحتل حاسة شمي فتثيرلذة مالحة ومخمرة تحت لساني.
عابــربيــن البيــوت بيــن ثرثــرة األوالد الصغــاريلعبــون الغميضــة والشــيوخ كعادتهــم
قــدام مقهــى "بــن هاشــمي "يلعبــون الدامــة ويحتســون الشــاي األخضــر ،ويتحدثــون عــن
أخبــارالقريــة والبلــد.
ببطء أخترق بخاراألفران ومداخن األكواخ والكوشات الطينية الحزينة.
– صباح الخير يا ولدي!
قالهــا الشــيخ عــدة خارجــا مــن كوخــه الترابــي ،يلــف عمامتــه الصف ـراء علــى رأســه
ويرفــع ســرواله العربــي "يطلقــون عليــه تســمية ســروال لوبيــة لشــكله الشــبيه بحبــة
الفاصوليــاء أو اللوبيــة" حيــث أن لــه جيبــا واســعا عريضــا بيــن الفخذيــن..
213
مطلوعة (خبز وحب)
214
مطلوعة (خبز وحب)
و جاره من هناك ،يردد في ميكرفون ويعلى صوته على الجميع بفضل القليل من
التكنلوجيا القديمة والبسيطة من نوعها إلى أنها أحدثت الفرق:
–دواء...الطومبات...الفيران...البرغوث...البعاعش...الزرزومية...
القرالوات...الناموس .لي عنده القملة في الراس .لي عنده الحكة في الجلد.
كان يعلن عن سلعه من األدوية الكيماوية والخلطات العجيبة ويلتف من حوله
نفــرمــن األع ـراب .ليــس ألنهــم يعانــون مــن مشــكلة الفئ ـران أو الحش ـرات .بــل فقــط مــن
أجــل الفضــول ومــن أجــل أن يحشــروا أنوفهــم فــي تلــك املعمعــة مــن خــذ وهــات.
و هو بدوره يستغل املوقف كإعالن مختلف لسلعته.
يــرد علــى أســئلتهم حامــا ميكروفونــا بيــده .وعندمــا يالحــظ أن عــدد املشــترين بــدأ
باالنخفاض والناس بدأت تمل منه يعاود الكرة .يعاود التبراح من جديد وبنبرة جديدة
ونغــم ملفــت .يلحــن جملــه قليــا ويقولهــا كأبيــات مــن الشــعرامللحــون وهــذا مــا يتشــعب
فــي رأس .و يلصــق لحنــه علــى املرتاديــن للســوق .وتـراث أهــل الباديــة وهكــذا يســتغل قلــة
حيلتهــم يشــدهم مــن أقــرب خيــط لذهنهــم املتبــل باالمتثــال والحكــم مــن شــعر وحكايــا
وخرافات شعبية ،تكاد هذه الهرطقات والبدع أن تكون مقدسة عندهم والذي يحيد
عنهــا يــرى بمنظــارالتمــرد وينــزع عنــه وســام األصالــة.
215
مطلوعة (خبز وحب)
و يبدو في عيونهم غريبا ألنه لم يتبع بركة الجدود والجدات واألولياء الصالحين.
وهــذا البائــع مشــهور بتبراحــه بكلمــات إنجليزيــة وفرنســية ـكـي يبــدوا فــي نظرهــم
شــخصا مثقفــا لذلــك ينادونــه بحميــد الرومــي.
– إني هنا!
– !je suis la
–! i am hire
تحصــل علــى هــذا اللقــب فقــط ألنــه يكــرر جملــة مــن كلمتيــن بلغتيــن مختلفتيــن
يســتغل جهــل الشــعب.
علــي اخت ـراق كل هــؤالء الباعــة الدجاليــن ألصــل ملكانــي املعهــود ،قــرب حلقــة
مضاربــة الع�صــي الخيزرانيــة.
جرب ّ
جرب في البالص تريح...عرق السان...البرد في الركايب لي ينوض في الليل – ّ
ولي ضاربو حمارالليل..الخلطة فعالة ومجربة.
ذاك الشــيخ بــن ميــرة أو كمــا يحلــو لبعضهــم تلقيبــه "ميــرة بــن ســينا" كان هنــاك
تدافع وتطابع وهرج ومرج كثيرمن حوله ضرب بالع�صي لشراء تلك املراهم والخلطات
الغريــب والعجيبــة.
"تحت شعاركور وأعطي لألعور "
اآلن عندما كبرت فهمت قول جدي:
كل �شيء يباع في سوق الجمعة.
كان عجــوزا طاعنــا فــي الســن مشــمرا علــى منكبيــه ويخطــف األوراق النقديــة مــن
أيــدي الشــيوخ الكبــارّ ،
حتــى الرجــال منهــم املتزوجــون بحجــة أن هــذه الخلطــات تعيــد
216
مطلوعة (خبز وحب)
الخصوبــة ألصالبهــم أو تعيــد إحيــاء أرحــام زوجاتهــم ،غريــب وعجيــب أمــر بنــي جلدتــي
هــؤالء .حقــا يفعــل الجاهــل بنفســه مــا ال يفعــل العــدو بعــدوه.
بلــغ منتصــف النهــاروالشــمس فــي كبــد الســماء ،بــدأ النــاس فــي الرحيــل مــن الســوق،
وقــت الغــداء وبعــده وقــت صــاة الجمعــة ،بعــت مطلوعــة واحــدة ،وذلــك ألن ال�ســي
املخطــار ،صاحــب املخبــزة أحضــرســات الخبــزووضعهــا بجنبــي وباعهــا بنصــف الثمــن
الــذي تبــاع بــه فــي املخبــزة ،ألنــه خبــزصابــح ،عــدوي اللــدود هــذا املخطــار ،يبيــع وينظــرإلــى
بنظــرة استشــفاء ،حملــت قفــة املطلــوع وانصرفــت ،يفرجهــا ربــي فــي املســاء ســأبيع فــي
ســوق الخضــار باملدينــة.
– بيننا األيام يا خبيث.
ينظرإلي نظرة اشمئزاز:
– ما زلت قديما .بقيت أنت وأمك فقط من تأكلون هذا املطلوع السخيف!
اقتربت منه بهدوء ،نظرت في عينيه ،ماذا قلت؟
_أنت وأ....
قبل أن يكمل جملته قفزت ونطحته برأ�سي على أنفه "كان أطول مني".
– هذه من أجل املطلوع!
ثــم ضربتــه بيــن ســاقيه أوقعتــه أرضــا ،ليتدخــل النــاس بيننــا مــن أجــل الحــد مــن
العــراك.
– وهذه من أجل أمي ،يا رخيص!
مشــيت أجــر قفتــي والغيــض يتطايــر مــن عينــي ،شــعرت بالجــوع ،دخلــت إحــدى
الخيمــات فــي وســط الســوق ،التــي يبــاع فيهــا الســفنج "الخفــاف" ،أدخلــت يــدي فــي جيبــي
217
مطلوعة (خبز وحب)
أخرجت عشرين ديناروسعرحبة السفنج ثالثين دينار ،اقتربت من البائع وأخبرته أن
لدي عشرين دينارفقط ،لم يلتفت نحوي البائع منتفخ البطن ،بدى مشغوال بزبائنه.
هــذا كل مــا أملكــه ال �شــيء عنــدي أعطيــك ســوى دراســتي أو فنــي ،ســوف أفيــدك فــي
مســألة حســابية أو أســتطيع أن أعطيك رســمة أو أرســمك نعم أســتطيع أن أرســمك.
– لو كان فنك هذا ينفع لكسبت نصف دينارمن أجل إكمال سعرحبة "سفنج
"وهذه الرسومات حرام هل تعلم أن الرسم حرام.
اذهب وانقع رسماتك باملاء واشربه ّ
حتى تشبع!
كانت كلمات البائع أشد من ضرب الحسام على نف�سي ،فخرجت من محل البائع
وأنــا أجــرأذيــال الخيبــة "نعــم صحيــح لــو كان علمــي ينفــع لكنــت أملــك ســعرحبــة خفــاف
ســخيفة .ملــاذا أدرس علــى كل حــال؟"
218
مطلوعة (خبز وحب)
بعد أسبوع.
الحظ األستاذ بن جازية مقعد مطلوعة فارغا .سأل تالمذته عن سبب تغيبه؟
فرد عليه التالميذ إنه تخلى عن املدرسة ليتفرغ للعمل في مقهى القرية.
219
مطلوعة (خبز وحب)
فقبــل مطلوعــة هديــة أســتاذه وســار إلــى محــات الصاغــة وهنــاك عــرض الخاتــم
للبيــع.
استغرب الصائغ وقال:
– أشتري منك الخاتم بعشرة آالف دينارولكن من أين لك هذا الخاتم؟
فقال:
– كيف من أين لي بهذا الخاتم ،هو هدية لي من عند أستاذي "بن جازية".
قال الصائغ :هذه الخاتم نادروثمين ال أظنه هدية! وشــكلك ال يوحي بأنك تعرفه
ومالبســك رثة! أخبرني من أين ســرقت الخاتم؟
فرد مطلوعة غاضبا من تشكيك الصائغ به:
– هيا معي إلى أستاذي إذن من أجل أن تصدق أنه هدية منه.
حتى اطمئن من صدق مطلوعة.وذهب الصائغ مع مطلوعة وقابال األستاذ ّ
أعطى الصائغ ثمن الخاتم إلى مطلوعة وتوجه إلى أستاذه ليشكره.
فالتفت األستاذ ملطلوعة وهو يضع يده على كتفه:
– قل لي يا بني أين ذهبت عندما أردت بيع الخاتم؟
– إلى محالت الصاغة بالطبع.
– ملاذا ذهبت إلى محالت الصاغة؟
– هناك يثمنون الخواتم واملعادن الثمينة!
فرد عليه األستاذ متعجبا:
220
مطلوعة (خبز وحب)
_و ملــاذا إذا قبلــت أن يثمنــك بائــع ســفنج فــي الســوق ويثمــن فنــك؟ هــل يثمــن بائــع
"خفــاف "فنــك؟
_اســمعني يــا بنــي ال يثمــن ال�شــيء ســوى مــن يعــرف قيمتــه .وال يثمــن قيمــة الذهــب
إلــى الصاغــة.
وأنــا أثمــن أنــك مــن أذ ـكـى طالبــي يــا بنــي .فــا تــدع مــن ال يعــرف قيمتــك يثمنــك.
التثميــن يكــون مــن صاحــب الخبــرة ومــن يعــرف قــدرك ،ارجــع إلــى املدرســة وأنا بانتظارك.
221
مطلوعة (خبز وحب)
املخفي
ضاقــت علــي الدنيــا بمــا رحبــت وتآمــرالوجــود ضــدي أنــا ابــن الهــواري الــاز ،الــذي
أورثــه هرموناتــه بمــا فيهــا مــن أم ـراض أورثتهــا لــه الســموم التــي كان يشــربها ويتناولهــا،
أورثني حظه العاثر .لم يورثني وصية بها مال أو أرض كما الناس بل أورثني دينا ثقيال.
آه يالهــواري أنــت مــا تســمح لــي تحــت التـراب وأنــا مــا أســمح لــك فــوق التـراب.
في مقهى السيد جمال "بن هاشمي "الذي أصبح ملكا لل�سي جمال.
أوقات فراغي من العمل كنت أجلس أمام نافذة تفصل بين املقهى والقرية .بين
املدينــة والقريــة ومــن هنــاك أنظــرللمدينــة وأتســاءل عــن حــال مدرســتي وحــال أصدقائــي
وحــال أميمتــي.
أجلــس وحيــدا أنظــر للطريــق الوطنــي الــذي يفصــل بيــن قريتــي العجــوز واملدينــة
َّ ُ
حولوهــا املمشــوقة ،ألجــد كل الجزائــر تتحــرك أمامــي بشــكل جميــل ،تراهــا مازالــت أم
كمــا تحولــت الكثيــرمــن األماكــن الجميلــة جعلوهــا أكثــرحداثــة ،البلــد كلــه أصبــح يقتلــع
األشــياء واألماكــن ،تـراه ملــاذا هــذه العــداوة الغريبــة لذاكرتنــا ،ملــاذا نطمــس كل تاريخنــا
بالرخــام ،ملــاذا ال ت ـزال قريتــي تحافــظ علــى عروبتهــا رغــم بداوتهــا ،وال ت ـزال تحافــظ
املدينــة علــى تفرنســها رغــم التمــدن ،هنــا النــاس بســطاء رغــم فقرهــم تالحــظ الســعادة
علــى محياهــم نــاس النيــة والتعــاونّ ،أم ــا فــي املدينــة ورغــم رخــاء ســكانها تراهــم يجــرون
وراء الحيــاة الهثيــن وعلــى مالمحهــم يبــدون لــك أنهــم يثرثــرون ويختالــون علــى بعضهــم
بعــض ،قانــون البقــاء ال ينطبــق فــي قريتــي رغــم أنهــا غابــة فــي طبيعتهــا ولكنــه ينطبــق حتمــا
فــي املدينــة.
َّ
فــي املســاء تعــج املقهــى بمجاهــدي القريــة تراهــم َي َت َحل ُقــون حــول "الشــيخ عــدة
"سمعت من جدي أنه كان محاربا كبيرا وقاسيا ،كان يكفي أن يوقع ألحد ورقة صغيرة
لتعطيــه الدولــة شــهادة املشــاركة فــي الثــورة ،كان "الشــيخ عــدة" غريبــا لــم أره يحضــر
االحتفــاالت املخلــدة لألعيــاد الوطنيــة ،ســمعته يقــول أنــه ال يحــب املتاجــرة بالدمــاء التــي
222
مطلوعة (خبز وحب)
ســقطت لوجــه هللا واألرض ،ال يجــب أن يــرى أصحــاب الكــروش املنتفخــة وال املنافقيــن
يلعبــون بتلــك الدمــاء ليحولوهــا إلــى مصــدر ســرقة للتاريــخ ،لقــد اســتقال "عمــي عــدة"
مــن كل �شــيء إال مــن الذاكــرة ،ال�شــيء الوحيــد الــذي ال يمكننــا االســتقالة منــه هــي ذاكــرة
الوطــن.
الزال شاشــه األصفــر وعصــاه الجوزيــة وجلســته التركيــة تــدوي بقــوة ذاكرتــي،
يكفــي أن يقــول كلمــة واحــدة لتجــد العش ـرات ملتفيــن حولــه ،مــا زلــت أذكــر قصتــه لــي
حيــن ســألته يومــا عــن اســم شــارعنا ،آســف لــم تكــن تنطبــق علــى شــوارعنا تلــك الصفــة،
كان عبــارة عــن دروب صغيــرة تقودنــا إلــى دورنــا التــي تشــبه ْ
"الحــواري القديمــة".
قلت له:
223
مطلوعة (خبز وحب)
224
مطلوعة (خبز وحب)
_ أين زوجك؟
حسنة واجمة من املشهد املرعب.
ليعيد الضابط:
_ أين املخفي؟
تقول مرتجفة ،تحتضن أوالدها.
_ال أعرف ال أعرف...
يعود جنديان صغيران يمثالن أمام سيدهما.
_لم نجد شيئا سيدي.
الضابط بنظرات خبيثة:
_أحضروا هذه الكلبة.
اقتلــع الجنديــان حســنة مــن حضــن أوالدهــا ،بكاؤهــم يعلــو ،تضــع حســنة ولدهــا
الرضيــع فــي حضــن أختــه الصغيــرةُ ،لتحمــل إلــى مركــزالتعذيــب.
هنــاك ياولــدي فــي قريــة الحر ـكـي ،ال يـزال صـراخ حنجرتهــا يعانــق الحيطــان لــم تكــن
لتبالــي بنفســها هــي التــي لــم تكــن تعــرف أن زوجهــا مجاهــد ،إلــى أن اكتشــفت يومــا تلــك
البندقيــة التــي ترقــد فــي حضــن ولدهــا الرضيــع ،لــم تقــل شــيئا استســلمت للقــدروكفــى.
للثــورة أس ـرارها الفظيعــة التــي تضطــرك أن تخفــي أمــر انضمامــك لهــا ّ
حتــى عــن
زوجتــك أو أبيــك أو أمــك ،قــدر رهيــب وصعــب ،تلــك امل ـرأة العنيــدة ،تعرضــت ألق�ســى
حتــى أصبحــت صلعــاء ورأســها أنــواع التعذيــب ،تخيــل أنهــم نتفــوا شــعرها مــن جلدتــه ّ
مثــل كــرة دم .وهــذا الضابــط "ڨانبــو "الكلــب ،بكالبتــه اقتلــع رباعيــة أســنانها ّ
حتــى تف�شــي
مــكان اختبــاء املخفــي زوجهــا ،ولــم تفعــل .ال أعــرف ،حيــن تكــون جزائريــا تفهــم ملــاذا هــذا
اإلص ـرار.
225
مطلوعة (خبز وحب)
بعــد أيــام خرجــت حســنة مــن العــذاب منهكــة ،غائــرة ،لتجــد أوالدهــا ،التحقــوا
بالجبــل .تبعــوا والدهــم بحثــا عنــه وبحثــا عــن وطنهــم املســلوب ،فرنســا أحرقــت كل جبــل
حتــى أطلقــت عليــه اســم املخفــي ،ومــا كان مــن هــذا"دوي "و لــم تجــد أثـرا لهــذا البطــلّ ،
الضابــط الفرن�ســي الحقيــرإال أن يقــوم بخطــة يســتدرج بهــا املخفــي إلــى كميــن ّ
حتــى يظهــر.
فقام بإحضارزوجته حسنة ووضعها في حقل الرماية هناك "و أشارالحاج عدة بيده
إلــى مقلــع الحجــارة" .أحضــر جنــوده وأمرهــم بالتصويــب علــى حســنة ومــن يصيبهــا فــي
رأســها .ســيقوم بترقيتــه.
علــى بعــد املئــة متــرحســنة تركــض حافيــة ممزقــة الثيــاب والضابــط النــذل يبتســم
ويكشــرعــن أنيابــه وهــو يشــرب قــارورة البيــرة .وعندمــا يصيبهــا أحــد الضبــاط فــي رأســها،
يطلــق جملتــه الشــهيرة بالفرنســية.
–_Belle balle
و لهــذا ســميت القريــة فــي الحقبــة االســتعمارية "بــال بــول "ومعناهــا بالفرنســية
"طلقــة جميلــة› .ثـ ّـم عجنــت علــى ألســنة القروييــن بعــد الثــورة لتصبــح "بلبــال "ورغــم
أن الدولــة غيــرت أســماء األحيــاء واملــدن إلــى العربيــة ،فــي األوراق اإلداريــة يدعــى هــذا
املــكان حــي املرقــب "ســموه هكــذا ألنــه يراقــب املدينــة أي يطــل عليهــا مــن فــوق" .إال أن
اســمه الفرن�ســي ال يـزال متجــذرا فــي لســان عامــة النــاس وهــو الشــائع واملتــداول مــن بعــد
االســتقالل .كــم هــو صعــب أن تنتشــل مخلفــات فرنســا مــن عقــول الجزائرييــن.
املهم أكمل لك قصة ال�سي املخفي.
املخفــي كان هنــاك فــي مقلــع الحجــارة حيــث رأى زوجتــه وهــي تجــري حافيــة علــى
مــد رمايــة األوغــاد الفرنســيس ،ثـ ّـم مــن تلــك الحادثــة فقــد عقلــه وجــن وكل مــا وضعــه
نصــب عينــه هــو اإلنتقــام لزوجتــه وأوالده .وذات ليلــة قــام بغــارة رفقــة جــدك "الحــاج
يحي "وباغت الضابط الفرن�ســي وهو يعمه في ســكرته هنا حيث كانت هذه املقهى حانة
يرتادهــا كل الضبــاط الفرنســيين ،وكان جــدك نــادال هنــا.
226
مطلوعة (خبز وحب)
انتقــم املخفــي لزوجتــه شــرانتقــام حيــث ذبــح الضابــط "ڨانبــو" مــن قفــاه وقطــع
رأســه وســمره فــي مدخــل البــاب"و أشــار الحــاج عــدة بيــده املرتجفــة إلــى البــاب" هنــاك
ليـراه الجنــود الفرنســيون فــي الصبــاح ويكــون عبــرة للذكــرى وبعدمــا تعفنــت جثتــه ربطهــا
فــوق بغلــة وأرســله للقاعــدة العســكرية فــي املدينــة .الزلــت أتذكــرتلــك الحادثــة التــي هــزت
الجيــش الفرن�ســي .هــذا املخفــي الرجــل الشــبح الــذي ال يملكــون ّ
حتــى صــورة لــه.
أحسســت أن دمعــة تـراود رمــش "عمــي عــدة "ليفســح لهــا الطريــق للخــروج ،وهــو
يتحــدث عــن "حســنة "و"انتقــام املخفــي لهــا " ،ليلتفــت إلــى ويقــول_ :تفهــم اآلن يــا ولــدي
ملــاذا كان الثمــن باهظــا ألن النســاء كـ ّـن نســاءا بحــق والرجــال رجــاال بحــق.
أتــرك عمــي عــدة لذكرياتــه ،وأنــزوي أنــا إلــى تلــك النافــذة الزجاجيــة التــي صنعــت
عالقاتــي بالقريــة ،منهــا شــاهدت الكثيــر مــن أصحــاب الوجاهــة يتــوددون للشــيخ عــدة
وحتــى ال�ســي جمــال رب عملــي واحــد منهــم ،منهــا تعرفــت علــى القريــة ،علــى وجهائهــا
وأوباشــها ،تعرفــت علــى كل عمــال مقلــع الحجــارة املجــاور للمقهــى فــي الجهــة املقابلــة،
تعرفت على ِشجاراتهم على ألفاظهم البذيئة التي كانت تصدرعنهم بكل طيبة ،تعرفت
علــى مآ�ســي الشــباب.
لقــد ّ
عرفتنــي علــى زوايــا العالــم الخمســة ،هنــاك ربطــت عالقــات قويــة بــكل أبنــاء
قريتــي حيــث كنــت أجلــس هنــاك لســاعات طويلــة ،فيأخذنــي الحنيــن إلــى مدرســتي .وكل
مــن فيهــا وكل وجــع علــى وجــع وليــس معــي إال قلمــي األســود وأوراقــي البيضــاء الصغيــرة،
وأرســم وأرســم وأعلــق بعــض اللوحــات الفنيــة علــى جــدران املقهــى.
فجأة يلتفت كل الحشــود لباب املقهى .يتوقف الجميع عن الكالم .وســطهم تمر
وضــرب حذائهــا ذي الكعــب العالــي يســمع بوضــوح مــن الصمــت املخيــم .تلبــس معطفــا
وبريــا بنيــا وتضــع نظــارات شمســية .متجهــة نحــوي مباشــرة وأنــا أمســح فــي الكونتــوار
وفــي يــدي قطعــة قمــاش مبللــة .أمســكتني مــن ذراعــي وســحبتني للخــارج .تحــت نظ ـرات
وهمســات من في املقهى .خرجت معها وأعلم أن الحكايات الخيالية التي ستنســج وراء
ظهــري أكثــرمــن الحكايــات التــي نســجت حــول ال�ســي "املخفــي ".
227
مطلوعة (خبز وحب)
228
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم التفتــت أمــي نحــوي متســائلة وهــي تضــع يدهــا علــى كتفــي بنبــرة خافتــة كأننــا
وحد نــا:
– أال تأكل في منزلهم .تكاد تموت!
ابتســمت مجــددا ولــم أعــرف كيــف أقنــع أمــي واعتقادهــا بــأن كل مــا زاد الشــخص
ســمنة زاد قــوة وصحــة وأن بنــات املدينــة ليســت مثــل بنــات الريــف.
ثم أرادت أميمة أن تغيراملوضوع فسألت أمي عن الوشم املوجود في جبهتها.
فاسترســلت أمــي الحديــث وأمســكت أميمــة مــن ذراعهــا وراحــت تســرد لهــا القصــة
التي ســردتها لي ألف مرة قبل النوم كان هناك ضابط فرن�ســي اســمه "ڨانبو "كان يأخذ
كل فتــاة تعجبــه ويمــارس عليهــا التعذيــب واالســتعباد .ثـ ّـم ذات ليلــة وكنــت لتــوي قــد
وصلــت ســن البلــوغ .فــي ذلــك الصبــاح عندمــا اســتيقظت وجــدت الوشــامة تقــف فــوق
رأ�سي وهي تحمل اإلبرة واملشرط .كسرت أمي جزءا من الطاجين وامسكتني من رأ�سي
والوشــامة تغــرز االبــرة فــي جبتهــي وتمســح الدمــاء التــي تســيل مــن جبتهــي بطــرف خمارهــا،
ثم عندما انتهت الوشامة من تطريزالوشم وأنا فتاة صغيرة ال أعرف ماذا يحدث حولي ّ
فــي جبتهــي .حكــت لــي أمــي بطــرف ســبابتها فحــم الطاجيــن علــى جبتهــي وعصبــت لــي رأ�ســي
بقطعــة قمــاش .ثـ ّـم وضعــت الوشــامة رأ�ســي داخــل دف وراحــت تضــرب وتغنــي وتنشــد:
ها عيشة بنتي ها أنا
ربي يحميك من الشرومن العديان ااا
ها عيشة بنتي ها أنا
تكبري وتولي سيدة النسوان ااا
ها عيشة بنتي ها أنا
ثــم فــي تلــك الليلــة وأنــا أتخبــط مــن األلــم وجبتهــي تســيل دمــا أســودا يمتــزج بدموعــي.
229
مطلوعة (خبز وحب)
اقتحــم الضابــط الكلــب "ڨانبــو "هــذي الــدار وراح يأمــر جنــوده بأخــذ كل فتــاة عزبــاء
وعندمــا وصــل عنــدي نظــر فــي وجهــي نظــرة خنزيــر أحمــر .ورأى الدمــوع الســوداء التــي
تلطــخ وجهــي والوشــم فــي جبتهــي .فظــن أنــي ام ـرأة كبيــرة ومتزوجــة .فتركنــي.
ثم ضحكت أمي وقالت:
يالهــم مــن أغبيــاء كانــت حيلــة الوشــم تفــوت عليهــم ويظنــون أن كل فتــاة موشــومة
هــي فتــاة متزوجــة وكبيــرة.
في تلك الليلة أخذو كل الفتيات بسني ونجوت بقدرة الرب وسعدة الوشامة.
و قــد كانــت أميمــة غارقــة مــع ســرد أمــي وهــي تحكــي لهــا الحكايــة .كانتــا تتكلمــان فــي
انســجام بديــع كأنمــا قــد تعارفتــا منــذ زمــن وأميمــة ال تكــف عــن الضحــك وهــزرأســها.
أعــدت لنــا أمــي الكســكس وأكلنــا .ثـ ّـم خرجــت رفقــة أميمــة وقعدنــا تحــت الخروبــة
الكبيــرة بجانــب الــدار .كانــت هنــاك أرجوحــة معلقــة فــي الخروبــة .ركبــت أميمة األرجوحة
مثــل فتــاة صغيــرة وأمرتنــي بدفعهــا فــي الهــواء.
بعدها استلقت وظهرها على الخروبة.
– عليك أن تعود للمدرسة فلم آت إلى هنا إال من أجل أن أعود وأنت معي.
– ال ،قــد قــررت وفــات األوان .هنــاك أمــور أهــم علــي القيــام بهــا .وال أســتطيع
الذهــاب مجــددا إلــى هنــاك..
– قــد علمــت مــن مــروان صديقــك قصــة رهــن املنــزل وأنــا هنــا مــن أجــل املســاعدة.
قــد تكلمــت مــع أبــي وقــد وافــق علــى مســاعدتك مــن أجــل ســد الديــون التــي عليكــم .ومــن
أجــل مرضــك.
–....
230
مطلوعة (خبز وحب)
– نعــم نعــم ...أنــا أعــرف هــذا أيضــا لذلــك عليــك أن تســارع بالعــاج قبــل أن ينتشــر
الــورم.
– ال سأتكفل باألمر .ال داع لذلك.
– أنظــر مطلوعــة" ..وكانــت أول مــرة أســمع هــذه الكلمــة تخــرج مــن فمهــا" .مثلمــا
أنقذت أبي من املوت هو مدين لك بحياته وقد راسلته أمس وهو في اجتماع في وهران
وعن قريب سيكون هنا وهو متشوق ملقابلتكّ .أمـا هذا املبلغ اعتبره من أجل أن تكمل
رســمتي التــي لــم تكملهــا هــا هــي أنظــر.
ً
مملوء باألصفارفي يدها األخرى. ثم أخرجت تلك الرسمة وقلما وشيكا
– ّإمـا أن آخذ النقود ّإمـا أن أكمل رسمك وال آخذ النقود اختاري! فأنا ال أمارس
الفن من أجل املال ولم أفكرأبدا بفعل ذلك.سكتت لبرهة وأعطتني الشيك والرسمة
ثم ركبت سيارتها وانطلقت وسط غبارالقرية. ّ
231
مطلوعة (خبز وحب)
كانــت عقــارب ســاعة القســم تشــيرللرابعــة والنصــف مسـ ًـاء ،آخــرحصــة فــي اليــوم
وقــد كانــت حصــة اللغــة الفرنســية ،فجــأة .انطلقــت صرخــة قادمــة مــن املكتبــة ،أفزعــت
كل مــن فــي املدرســة.
في املكتبة.
أميمة وهي ال تزال جاثمة على ركبتيها ترتعش وتبكي ،تنحب أمام الجسد الهامد
على األرض ،تدخل بعض املوظفين لسحبها ،وإبعاد التالميذ عن مسرح الجريمة ،ساد
الذعــروالخــوف بيــن التالميــذ وبعــد لحظــات وصلــت الشــرطة ،ســيجوا موقــع الحادثــة
بشريط الصق أحمر ،وبسرعة دخل املوقع خمسة من رجال الشرطة يلبسون بدالت
بيضــاء علــي ظهرهــا كتــب باألســود شــرطة علميــة ،يتقدمهــم رجــل قصيــرأشــيب الشــعر
يبــدو فــي الخمســين مــن عمــره ويرتــدي مئــزرا أبيــض ،أشــارلشــرطيين بجمــع البصمــات
وعينــات الــدم وشــرطيين آخريــن بالتقــاط صــورا للضحيــة وللمكتبــة.
ثـ ّـم بعــد لحظــات مــن البــاب ظهــر رجــل أســمر غريــب املالمــح متوســط القامــة،
يرتــدي حمالــة ســروال ،هندامــه أشــبه بهنــدام تشــارلي تشــابلين علــى املســرح ،أنفــه
طويل ونظاراته مربعة ،يحمل بيده جريدة وبيده األخرى تفاحة يرميها في الهواء ويعيد
امســاكها بحركــة شــبه تلقائيــة دون أن ينظــر لهــا .يم�شــي بخطــوات قصيــرة ومتقاربــة،
ويحــوم برأســه الطويــل متفقــدا املــكان.
بعدما رآه الرجل القصيرهرع نحوه بلهفة:
– أهال سيدي
– أهال دكتور ،كم م�ضى على قدومكم هنا؟ وأين الجثة؟
– عشردقائق تقريبا...هناك....من هنا سيدي.
232
مطلوعة (خبز وحب)
وقــف الرجــل أمــام الجثــة ،نــزل علــى األرض ليتفقدهــا عــن كثــب ،حــك ذقنــه
الســوداء والتف��ت نح��و الطبي��ب مستفس��را:
_هل تم تغيير�شيء في هذه املكتبة؟
_ لم يلمس �شيء ،وقد كنت حريصا على أال أحرك الجثة أثناء فح�صي لها.
_كم م�ضى على موته؟
_حسب حرارة جسد الضحية ،حوالي الساعتين على األكثر.
_هل دخل أحدهم أو خرج إلى املدرسة في آخرساعتين؟
_مــن كالم البــواب .لــم يفتــح البــاب الرئي�ســي للمدرســة فــي آخــرســاعتين .ســوى مــرة
واحــدة عندمــا خــرج املديــر.
_هل هناك مدخل آخرللمدرسة.
_ال سيدي.
هزاملحقق رأسه ونظرحوله ّ
ثم نادى بنبرة خشنة:
_أحضــر لــي البــواب ومخطــط املدرســة ،أغلقــوا بــاب املكتبــة ،ال تســمحوا ،ألحــد
بالخــروج علينــا تمشــيط كل املــكان ،أيــن املديــر هنــا؟
بعد لحظات تقدم املديرنحو الرجل ،تصافحا:
– على ما يبدوا أنك املدير!
يرد املديربنبرة منخفضة:
– نعم
233
مطلوعة (خبز وحب)
234
مطلوعة (خبز وحب)
عقــد املديــرحاجبيــه وهــزرأســه كأن هــذا االســم قــد مــرعليــه مــن قبــل واســتغرب
كيــف أن املفتــش يعــرف اســمه الكامــل.
– كم من قسم تبقى في املدرسة؟
– قسمان فقط.
_ أين كنت عندما جرت الحادثة؟
حتى سمعت الصراخ._كنت في مكتبيّ .
235
مطلوعة (خبز وحب)
–سيدي...ســيدي .امللفــات فــي األرشــيف...و هــذا ليــس عملــي ويصعــب علــي العثــور
عليهــا وحــدي دون مســاعدة عامــل املكتبــة؟
–و أين عامل املكتبة؟
–غائــب اليــوم ،اتصلنــا بــه وردت زوجتــه تعتــذر عــن غيابــه بســبب أنــه أصيــب
بوعكــة صحيــة ،وغــدا ســيتمكن مــن الرجــوع للعمــل ونتمكــن مــن فتــح خزنــة األرشــيف.
– ال نملــك وقتــا هنــا تصــرف ،اآلن...تســتطيع كســرالخزنــة علــى مــا يبــدو مــن قــوة
ذراعــك وقــد تســتطيع فعــل مــا هــو أكثــر! أليــس كذلــك؟
اقترب املحقق من املديريلوح بجريدته في وجه مبتسما ابتسامة ماكرة:
– أم أنت خائف من فتحها!
صمت املديروعرق جبينه ،لم يرد!
– حسنا ،جيد .شكرا لتعاونك سيدي.
قالهــا املحقــق ماحــي وهــو يتراجــع للخلــف مبتســما للمديــرابتســامة بــاردة ،ثـ ّـم وضــع
الجريدة تحت ذراعه ورفع كلتا يديه في الهواء وصفق بقوة ليثيرانتباه الحضور نحوه،
رفــع صوتــه بنبــرة عاليــة واضحة:
– اســمعوا يــا أوالد! نحتــاج شــهادة كل شــخص فــي املدرســة ملعرفــة املجــرم املختبــئ
بينكــم .ال تقلقــوا لــن يطــول األمــرفحســب علمــي تبقــى قســمان فقــط فــي املدرســة ،حوالــي
الثمانيــن شــخص زائــد أربعــة معلميــن وحارســين ومديــر ،مستشــار توجيــه ،وعاملــة
النظافــة ،وأرجــوا أن تتعاونــوا مــع القانــون.
كان أول شــ�يء يح��س ب��ه املـ�رء داخ��ل املكتب��ة ه��وبرــودة امل��كان ،فق��د كان��ت النافـ�ذة
مفتوحـ�ة إلـ�ى آخرهـ�ا والس�تـائر مس�حـوبة .ارتجـ�ف املاحـ�ي مـ�ن البرــد ،فابتسـ�م الطبيـ�ب
وقــال:
236
مطلوعة (خبز وحب)
237
مطلوعة (خبز وحب)
ّ
ثم أضاف بنبرة جدية:
_لق��د ســبقونا بالتكنولوجي��ا لق��د س��بقونا..وبما أن األم��ركذل��ك فم��ن األفض��ل أن
نغلق النافذة ،ونجمع كل األدلة املتاحة هنا وال نقلل من ذكاء القاتل ،فعلى شيبتي لن
يخدعن��ي اب��ن البارحة.ث��م ق��ام بإغ�لاق النافذــة وأض��اف بثقة.
_ليس كل من يأكل التفاح من املالح.
ثـ�م حــول انتباه�هـ ،وللمــرة األولـ�ى نحـ�و تمثــال الفتـ�ى املم�دـ وامللتصـ�ق بخــده علـ�ى
األرض ،مم��دد عل��ى بطن��ه وعل��ى مئـ�زره األزرق تنتش��ربق��ع دم حم��راء .كان��ت أزرارمئـ�زره
مفتوح��ة وق��د تكش��ف مئ��زره الداخل��ي ع��ن صــدره.
أوضح له الطبيب قائال:
_كان علي أن أرى طبيعة الجراح كما تعلم .لذلك فتحت مئزره.
أومأ املحقق برأسه موافقا ومال فوق الجثةّ ،
ثم انتصب واقفا وهو يعبس قليال
وقال:
_ ليـ�س باملنظـ�رالجميـ�ل .ال بـ�د وأن أحدهـ�م وقـ�ف هنـ�ا وطعنـ�ه مــرة بعـ�د أخــرى .كـ�م
عــدد الجرــاح بالضبــط؟
_ أعتبرها أربعة جروح.
_اعتبرتها؟
_نعم..باإلضاف��ة إل��ى ج��رح طفي��ف ف��ي الكت��ف يمك��ن اعتبـ�اره خـ�دش ،الجـ�روح
األربعـ�ة علـ�ى األقـ�ل يمكـ�ن ألي واحـ�د منهـ�ا أن يســبب املوــت .هنـ�ا فـ�ي قفـ�ى الرــأس مثـلا ،قـ�د
تلقـ�ى ضربـ�ة قويـ�ة مـ�ن الخلـ�ف أفقدتـ�ه وعيــه.
_ والجرح الخامس؟
238
مطلوعة (خبز وحب)
هنـ�ا أنظـ�رمباشــرة فـ�ي وريـ�د الرقبـ�ة تبــدو لـ�ك طعنـ�ة صغيــرة لكنهـ�ا ضربـ�ة دقيقـ�ة مـ�ن
ي��د خبيـ�رة ،عل��ى األرج��ح أنه��ا كان��ت السـ�بب ف��ي املـ�وت مقارن��ة بالضربـ�ات األخـ�رى ،هـ�ذه
حتى املوت!الطعنة تكون من أداة حادة ومدببة أصابت الوريد الوداجي وتركته ينزف ّ
239
مطلوعة (خبز وحب)
_ أتــرى هــذا الجــرح هنـ�ا أســفل ال�ذـراع األيمـ�ن قــرب الكتــف؟ الضرب��ة مـ�ن الخلـ�ف
حتم��ا ،هــاك خـ�ذ قلمـ�ي هــذا .هـ�ل تس�تـطيع أن توجـ�ه مثـ�ل هــذه الطعنـ�ة بيــدك اليمنــى؟
رفع املحقق يده وقال:
_ لقد فهمت اآلن إنها ضربة صعبة جدا باليد اليمنى وتكاد تكون مستحيلة ،على
املرء أن يضرب ويده ملوية للخلف .حتما هذه الضربة وجهت باليد اليسرى
_تماما يا سيدي .من املؤكد تقريبا أن هذه الضربة أنجزت باليد اليسرى
_قاتلنا أعسرإذن؟
_ إال أن األمرأعقد من هذا.
– كما قلت ياسيدي إن بعض الضربات األخرى كانت يمينية بكل وضوح.
تمتم املحقق املاحي:
– شخصان؟ لقد عدنا إلى نظرية الشخصين من جديد!
أضاف الطبيب:
_ماذا تعني؟
رد املحقق:
– لدين��ا هن��ا فرضي��ة القات��ل األول والقات��ل الثان��ي كم��ا كان م��ن ش��أن شكسـ�بير
أن يسمــيها الدالل��ة الثنائي��ة الحتميةــ ،ض�رـب القات��ل األول ضحيت��ه عل��ى رأسـ�ه وخـ�رج
مغ�اـدرا املكتب��ة ،ث ّ��م أتـ�ى القاتـ�ل الثان��ي ووجـ�د الضحيـ�ة تتخبـ�ط علـ�ى األرض فانهــال عليهـ�ا
بالطعنــات ولـ�م يعلـ�م أو تعلمــ "...أن العمـ�ل قـ�د أنجزــ ،فطعـ�ن علـ�ى األقـ�ل مرتيـ�ن فـ�ي جثـ�ة
ميتـ�ة .هـ�ل يفسـ�رهــذا األمــر؟
240
مطلوعة (خبز وحب)
241
مطلوعة (خبز وحب)
_ القات��ل فت��ى يمتل��ك ق��وة كبيــرة ...والقات��ل ضعيفـ�ا ...القات��ل فتـ�اة تح��ت ثـ�ورة
عواطـ�ف والقات�لـ وج��ه ضربتهــ م��ن الخل��ف والقات��ل خ��رج م��ن الب��اب ولي��س م��ن النافــذة.
ال أدري حقــا مــا أقولــه لــك.
ثم نظرحوله وهو يتابع كالمه:
_سنتحدث في ذلك الحقا .دعنا نتأكد أوال من أننا رأينا كل ما يجب علينا أن نراه
ثم انحنى املحقق وفتش جيوب مالبس الفتى امليت مرة أخرى وبسرعة أخرج من
جي��ب س��رواله الخلف��ي كي��س مس��حوق أبي��ض ،وعل��ى األرض وج��د الطبي��ب زرا وردي،
عرضـ�ه علـ�ى الطبي��ب دون أن يحملـ�ه
_أنظر! هنا!
_يبدو أنه زر مئزر أنثوي!
_إذن فرضية وجود فتاة قد تكون صحيحة!
_افحصه إن كان عليه بصمات
أخــرج الطبيـ�ب مـ�ن جيبـ�ه مصباحـ�ا صغي ـرا وحمـ�ل الــزر بملقــط ووضعـ�ه داخـ�ل
علب��ة مظلمـ�ة وس��لط علي��ه أش��عة زرق��اء م��ن املصبـ�اح ثـ ّـم وضع��ه ف��ي كي��س صغيـ�روأعطاه
للمحقــق.
_ال بصمات عليه سيدي
ه��زاملحق��ق رأس��ه بحرك��ة بطيئ��ة وه��و يســتمربالبح��ث ف��ي ثيـ�اب الفت��ى بع��د لحظـ�ات
وق��ف املدي��رف��وق رأس��ه يحم��ل بيدي��ه امللفــات:
_شكرا لتعاونك سيدي ،ضعها فوق الطاولة هناك.
ثم نظراملحقق لوجه املديرواستغرب من مالمح وجه املتوهجة!
242
مطلوعة (خبز وحب)
243
مطلوعة (خبز وحب)
_حســنا سأســألك بعــض األســئلة يــا رحيــم ،ال تعتبــره تحقيقــا وإنمــا حديــث بيــن
شــخصين مهنييــن يتعارفــان لتوهمــا.
– طبعا سيد...
– املحقق محي الدين سعدي ..يمكنك مناداتي املاحي.
– هــل أنــت املحقــق الــذي ألقــى القبــض علــى حميــد البغــل ،أكبــراللصــوص فــي حــي
ميلــودي ،شــاهدت لقــاءك فــي التلفــاز ،تشــرفت بلقائــك.
– جميل ،أنت تتباع أحداث املدينة مؤخرا ،أنت مهتم بعالم اإلجرام والتحريات
إذن!
– ال.أقصــد فلــكل قــد ســمع بالحادثــة ،علــى كل حــال .أنــت مشــهور نوعــا مــا أليــس
كذلــك؟
ّ
ثم مد يده ليصافح املحقق.
– رحيم الشاوي عامل في مكتبة املدرسة.
– تشرفنا يا رحيم لندخل في املوضوع مباشرة .منذ متى وأنت تعمل هنا؟
244
مطلوعة (خبز وحب)
245
مطلوعة (خبز وحب)
246
مطلوعة (خبز وحب)
ملا قرأ املاحي نتيجة البحث عقد حاجبيه وغرق يفكرفي صمت لبرهة.
– من معه مفتاح املكتبة غيرك؟
– ال أحــد ،أقصــد مــا عــدى املكتبــي .ومديــراملدرســة طبعــا ألنــي أضــع نســخة مــن
املفتــاح فــي إدارة املدرســة.
– همم ،وماهي آخرمرة غيرت فيها مالبسك وتركت املفتاح داخلها؟
– ال أذكــر ،لكــن ربمــا آخــرمــرة عندمــا دعانــي بعــض األوالد ألديــرمبــاراة كــرة قــدم
وإللحاحهــم علــي ،وبمــا أنــي كنــت ألعــب مــن قبــل كــرة القــدم وأنــا حكــم ســابق ،قــررت أن
أشــارك فــي املبــاراة طبعــا.
– مع من لعبت؟
ثم ذكرله العامل األشخاص املشاركين في اللقاء وشكره على تعاونه وانصرف.
***
فتــح املاحــي الروايــة وراح يقـرأ فــي آخــرالصفحــات منهــا بعدمــا قـرأ عنهــا ملخصــا ورد
علــى ظهــره غالفهــا وعــرف تقريبــا قصتها.
ثم أخرج من جيبه ورقة ماصة خبأ املحقق الكتاب بين صفحات جريدته ،تنهدّ ،
ولفهــا بيــن أصابعــه وباليــد األخــرى حشــاها بالتبــغ املجفــف صنــع كــرة شــمة ووضعهــا
تحــت شــاربه.
– ليست القضية سهلة ،يا رشيد خويا ،ليست سهلة.
_ماذا استنتجت؟
_ الرجــل بــدى هادئــا فــي أجوبتــه ،رغــم أن جوابــه عــن عــدم معرفتــه بالضحيــة
وطريقــة رده املباشــرة والســريعة كأنــه كان ينتظــرأن يطــرح عليــه هــذا الســؤال مشــبوه
247
مطلوعة (خبز وحب)
فيهــا ،يعنــي أنــه لــم يكــن عفويــا بطريقــة كليــة فــي إجاباتــه ،وهــذه الروايــة هــي الروايــة
الوحيــدة فــي ذلــك الــرف .وهــي روايــة بوليســية ،ولــم أجــد لهــا نتيجــة فــي محــرك البحــث.
وعلــى يبــدو مــن ملخصهــا أنهــا تحكــي قصــة شــاب مقتــول بخمــس طعنــات .أال يوحــي لــك
هــذا بــأي �شــيء!
رد الطبيب مستغربا وعلى وجهه بدت معالم الحيرة:
_نعم..نعم ..هي نفس عدد الطعنات التي تلقتها ضحيتنا.
_هــل هــي مجــرد صدفــة أم أنهــا إشــارة مــن القاتــل لنــاّ ،
حتــى يختبــر ذكائنــا ويلعــب
لعبتــه معنــا.
سكت الطبيب ولم يعرف كيف يرد واكتفى بالصمت.
– أحضرلنا عاملة النظافة هنا.
– حسنا
***
كانــت عاملــة النظافــة ســيدة تبــدو فــي األربعيــن مــن عمرهــا نحيفــة الجســد ،لكنهــا
تبدوا بصحة جيدة من نظارة وجهها واستقامة قامتها ،كانت تتكئ على املكنسة وتجر
دلوهــا األزرق ،تضــع يديهــا علــى جانبيهــا وعلــى رأســها فــوالرة زرقــاء.
– هــل يمكنــك الجلــوس ســيدتي ولــن يطــول األمــرال تقلقــي ســنطرح عليــك بعــض
األســئلة الخفيفــة.
– نعم ،نعم ّ
حتى ظهري يؤملني قليال اليوم آه.
– طبعا ،طبعا تفضلي ،إرتاحي!
_خذي بعض التفاح فهو مفيد لصحتك
248
مطلوعة (خبز وحب)
_ال شكرا..
ثم ساد الصمت لبرهة:
_عندي السكريا ولدي
_آه عذرا ربي يشفيك.
_هل يمكنك إخباري باسمك الكامل
_نعيمة الحرا�شي.
_هل أنت من هنا سيدة نعيمة؟
_ال من وهران.
_منذ متى وأنت هنا وما لذي دفعك لتغييرمكان اقامتك؟
_منذ أن تزوجت .عشرون عاما تقريبا .الدنيا جاءت بي هنا.
–الدنيا آه...حسنا منذ متى وأنت تعملين هنا؟
– منذ مدة طويلة ،أنا ال أذكر ،هللا غالب أنت تعرف خبزة العيش غالية...
– هل أنت متزوجة؟
– نعم.
– وزوجك!
– في السجن
_كم لك من أوالد.
249
مطلوعة (خبز وحب)
250
مطلوعة (خبز وحب)
251
مطلوعة (خبز وحب)
– نعــم ،أظــن ذلــك لقــد كانــت آخــرمــا أرميــه داخــل الكيــس إن لــم تأكلهــا القطــط
طبعــا.
– هيا نذهب إلحضارها سيدتي من فضلك.
اتجه املحقق وعاملة النظافة والطبيب يتبعهما نحوحاوية قمامة خضراء ورائها
كيــس بالســتيكي أســود ،اقتربــت عاملــة النظافــة ببــطء مــن الكيــس ،فتحتــه وأخرجــت
الش��طيرة ،أمس��كها املحق��ق وتفحصه��ا.
– يبدوأنها جديدة أنظرالسلطة املوجودة داخلها ال تزال خضراء ...خذ افحصها
فــي املخبر.
ثم أخذها الطبيب إلى مخبراملدرســة بســرعة وأضاف عليها بعض املواد من أجل
أن يــرى تفاعلهــا ويحللــه.
– شكرا على تعاونك سيدتي.
252
مطلوعة (خبز وحب)
_االستجواب_
في زاوية فارغة مضاءة من املكتبة أخذ املحقق ماحي كرسيا ووضع جريدته فوقه
وجلــس عليــه ،أخــرج علبــة مــن التبــغ املجفــف ودك رفعــة شــمة تحــت شــاربه الرقيــق،
ثم أخذ دفترا وبدأ باستجواب األشخاص غيراملشكوك مسح يديه على الكر�سي تحته ّ
فيهــم أوال...و تــرك األشــخاص األقــرب مــن الضحيــة فــي األخيــر.
الســاعة تشــير للســابعة والنصــف تقريبــا .فــي قاعــدة املطالعــة قعــدت الوجــوه
بمواجهــة بعضهــا .لقمــان ومــروان ،فــارس ،طــارق ،ســمير ،أميمــة .وســاد صــوت مرعــب
كســره بــكاء أميمــة فــي حضــن صديقتهــا ســارة!
انفتح الباب وظهرالطبيب ونادى:
السيد سميربن عودة
***
خــرج ســميرمــن القاعــة واتجــه ليقابــل املحقــق املاحــي مباشــرة .نــزع قبعتــه وجلــس
علــى الكر�ســي .قابــل املحقــق الــذي كلــن يحمــل تفاحــة فــي يــده .قســم جـ ً
ـزء منهــا وســلمه
لســمير.
– اسكوبارصديقي ،قد انقطعت أخبارك .كيف حال الحاج عدة؟
_هو بخير.
_الحظت اختفاءك من حومة ديارالسوق! أين كنت تذهب؟
253
مطلوعة (خبز وحب)
– مــاذا تقصــد ،أنــا مــع الدراســة ،مــاذا أخذنــي لتلــك الحومــة ،أصــا أنــا ال أحــب
أوالد تلــك الحومــة!
_خذ كل بعض التفاح فهو مفيد لصحتك فأنت هزيل مثل قط.
ســكت ســمير وأكل قطعــة التفــاح ،قضمهــا بجنــب فمــه األيســر ،ألن أســنانه
األماميــة شــبه متآكلــة مــن الكيــف والشــرب ،ثـ ّـم تابــع املحقــق كالمهــم وهــو يقســم نصفــا
آخــر مــن التفاحــة ويــأكل منــه:
– أنــت لــم تعــد تحبهــم؟ نعــم بطبيعــة الحــال أنــت علــى حــق ،ألن البيــع فــي امليــاه
العكرة ال يناســبك ،أنت تعوم في املياه الصافية تحت ظل هذه املدرســة...هل حســبت
أنــك بعيــد عــن عينــي؟ والعيــن عمرهــا مــا تعــا علــى الحاجــب .اآلن أخبرنــي مــا هــي عالقتــك
بالضحيــة؟
– عالقة سطحية فقط ،تستطيع القول أنه زميلي في القسم فقط.
– زميلك.فقط! حسنا ال علينا .أخبرني متى كانت آخرمرة تحدثت معه فيها!
– ال أتذكرربما منذ ثالثة أيام ،ال ال يومين..
– يومين أو ثالثة أيام ،أنت تكذب ،لقد تمت مشاهدتكم في غرفة تغييراملالبس
قرب ملعب كرة السلة وأنتما تتشاجران بعدها سلمته شيئا وخرجت.
– نعــم ،أثنــاء املبــاراة أصبتــه بالكــرة دون قصــد ،فنــزف أنفــه ،وثــارغضبــه منــي ،ثـ ّـم
عنــد انتهــاء حصــة الرياضــة البدنيــة ،تبعتــه للحمــام ألعتــذرمنــه فلــم يتقبــل اعتــذاري،
وبــدأ فــي شــتمي .أعطيتــه منديــا ليمســح أنفــه وخرجــت!
– هل أنت متأكد من أنه منديل ولم يكن شيئا آخر؟
– نعم أنا متأكد!
254
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم أخــرج املحقــق مــن جيبــه كيســا صغي ـرا يحمــل مــادة بيضــاء ووضعهــا علــى
الطاولــة!
– هل هذا هو املنديل الذي تقصده!
"و نظرات املكرتبدوا على وجه املحقق"
–.....
– ماذا هل ابتلعت ريقك اآلن؟
– ال أعرف ما هذا وال أعرف من أين جاءت!
– هاااه ،لكني أعرف في املحكمة أنك ستعترف بأنك قتلته ألنه لم يدفع لك!
– مــاذا تقــول ســيدي أنــا بــريء ،أصــا أنــا لــم أدخــل هــذه املكتبــة ســوى مرتيــن فــي
حياتــي مــع فــارس.
–نعم األولى دخلت لتراقبه ،والثانية دخلت لتقتله.
–ال �سي....
–تستطيع االنصراف اآلن ،شكرا.
***
انفتح باب القاعة مجددا وأطل الطبيب برأسه مناديا:
255
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب_
السيد فارس باني
***
– اجلس يا شكسبير.
_لم نلتق منذ مدة.
_نعم.
_هل تأكل التفاح!
_ال شكرا.
– أخبرني ماهي عالقتك باملرحوم ،وهل قتلته؟
– هــو زميلــي فــي القســم ،وبعــد الــدوام زميلــي فــي الــدروس الخصوصيــة...ال ال لــم
أقتلــه ،وال ســبب يدعونــي لفعــل ذلــك!
– آه ال سبب يدعوك ،لكن قد تكون مشاركا في قتله!
– مشاركا في قتله!
– نعــم ،حســب كالم صديقــات أميمــة ،أنهــن قــد ســمعنه يحدثهــا عــن روايــة تحــت
عنــوان "رحــل مــن دون وجــه" وهــذه الروايــة هــي نفســها التــي كانــت ملقــاة جنــب الضحيــة
وســبحان هللا نفــس عــدد الطعنــات املوجهــة لشــخصية الضحيــة فــي الروايــة هــو نفــس
عــدد الطعنــات املوجهــة إلســحاق! هــاه مــا هــو تفســيرك؟
– ال أعــرف ،هنــاك الكثيــر مــن الروايــات فــي املكتبــة ربمــا تصــادف أن كانــت تلــك
الروايــة بجنبــه عندمــا تــم طعنــه تلــك الخمــس طعنــات ولســت أنــا الوحيــد الــذي يق ـرأ
256
مطلوعة (خبز وحب)
الروايــات ،الــكل يق ـرأ الروايــات وأرى أن اتهامــك لــي بشــكل مباشــر بالقتــل عــن طريــق
ربطــك للحادثــة بمجــرد روايــة بوليســية هــو اســتنتاج غريــب مــن رجــل ذ ـكـي مثلــك ،ولــه
شــهرة تســبقه فــي فــك ألغــاز جرائــم قتــل معقــدة كتبــت عنهــا الكثيــر مــن الجرائــد .أو أن
هنــاك خلفيــات أخــرى أنــت تخفيهــا عنــي وعنــا جميعــا.
_خلفيات! ماذا تقصد؟
_لنكــن واقعييــن يــا ســيد ماحــي ،كيــف ملحقــق بشــهرتك أن ال يكــون علــى عالقــة
برجــل ثــري مثــل ال�ســي عثمــان أب الضحيــة والــرب عالــم بخفايــا األمــور.
ثــم تغيــرت مالمــح املحقــق وغيــرمــن وضعيــة جلوســه .قســم التفاحــة إلــى نصفيــن
وغــرز الســكين بقــوة علــى الطاولــة.
_أخبرني من يحقق مع اآلخرهنا ،أنت أم أنا؟
_أنت معلم ومنك نتعلم.
_اسمع .هل تتذاكى علي أم ماذا! هل أجعلك تجلس في مكاني!
_وهل تخاف األفعى من سمها! من ال يوجد في بطنه التبن ال يخ�شى من النار.
– إذن هذه هي خطتك! أن تماطل علي ،وتريد أن تأخذ املحاورة إلى منحى آخر،
اســمع إذن يــا ولــد حميــد بيــن الخبــرة واملعرفــة ،تغلــب املعرفــة فــي عالــم النظــري وتغلــب
التجربــة فــي عالــم التطبيــق ،أنــت تحتــاج ملزيــد مــن الخبــرة ـكـي تحــور اســتجوابي وتصــل
إلثــارة عواطفــي ،أنــت هــو القاتــل! ليــس هنالــك غيــرك فــي املدرســة علــى مــا أعتقــد يعــرف
أن أميــربطــل روايــة رحــل مــن دون وجــه ،طعــن خمــس طعنــات!
حتى املرحوم قرأ الرواية أيضا! وهي بأفكارسوداوية ثقيلة وقد يكون ا... – ّ
– انتحر! هل تظن هذا! أم تريد أن تبرأ نفسك! تحت شهادة زمالئه املرحوم فتى
عقالنــي وســجله الطبــي والنف�ســي طبيعــيّ ...أم ــا أنــت فنحــن نعلــم حكايتــك مــع األطبــاء
النفســيين بعــد حادثــة أمــك التــي..
257
مطلوعة (خبز وحب)
258
مطلوعة (خبز وحب)
259
مطلوعة (خبز وحب)
– جدتــك تــأكل ليريــكا ،ســبحان هللا! هــل لجــدك حســاب فيــس بــوك أيضــا؟ ال
أظــن ،ومــاذا تقصــد بكلمــة "يرتــاح مــن مشــاكلي"؟ إذن أنــت تعتــرف أن لــك مشــاكل
نفســية ،ربمــا أردت أن تســتدرج املرحــوم وتقتلــه بنفــس الخطــة التــي فــي الروايــة ،القتــل
مثــل الروايــات تجربــة جديــدة ممتعــة أليــس كذلــك!
_أظن أن هذا استنتاج غيرمنطقي و بعيد عن الواقع.
_ال يهم رأيك على كل حال ،أخبرني أنت تذكرفي نهاية الرواية ماذا حدث للمجرم
أليــس كذلك!
– نعم أعتقد ذلك.
– إذن ال تقلق ستكون لك نفس النهاية يا أخي.
_هل تعلم هناك فرق كبيربين القاتل وصانع القاتل.
_ماذا تقصد بصانع القاتل؟
_صانع القاتل أشد خبثا وخطرا من القاتل.
_ رغم هذا يبقى التحقيق ليكشف كل الجرائم.
_وهــل ســيصل مســتوى تحقيقــك ألن يميــزبيــن مــن يحقــق فــي القتــل ومــن يحقــق
القتــل ومــن يحــق للقتــل.
_ماذا تقصد؟
_ هــذه جملــة ذكــرت علــى لســان بطــل الروايــة .اق ـرأ الروايــة ربمــا ســتتمكن مــن
فهمهــا ذات يــوم.
***
260
مطلوعة (خبز وحب)
261
مطلوعة (خبز وحب)
262
مطلوعة (خبز وحب)
263
مطلوعة (خبز وحب)
264
مطلوعة (خبز وحب)
_استجواب _
السيد مروان مقدمي
عندما جلس مروان أمام املحقق ،دفع املحقق حبة التفاح أمام مروان .أمسكها
مــروان ووضعهــا بجنبــه ،نظــر املحقــق فــي عينيــه لبرهــة وجيــزة يختبــر تواصلــه البصــري
معــه ،هــزرأســه ثـ ّـم ســأله:
–أين كنت أثناء وقوع الجريمة؟
–كنت في املرحاض
–هل دخلت املكتبة اليوم؟
–ال لم أدخل هنا.
–رفقة من كنت في املرحاض؟ ومتى آخرمرة رأيت فيها املرحوم؟
–كنــت رفقــة لقمــان وبعــض األوالد اآلخريــن .كنــا ندخــن ســيجارة
نتنــاوب عليهــاّ ،
حتــى ســمعنا الصرخــة املدويــة ،فهرعنــا مســرعين إلــى
املكتبــة ،وكانــت آخــر مــرة رأيتــه فيهــا وهــو يدخــل القســم صباحــا،
وباملناســبة لــم يحضــر آخــر حصــة صباحيــة.
_آخرحصة .هل تقصد من الساعة ال 11:00إلى 12:00؟
_نعم.
–ملاذا برأيك؟
–ال علــم لــي ،لكــن عالمــات القلــق كانــت تبــدو ظاهــرة علــى وجهــه .كأنــه
يخفــي شــيئا مــا! أو يخطــط لفعلــه؟
–يخطط لفعل �شيء ما ،ما لذي كان يخطط له برأيك؟
_ال أدري؟
_إذن كنت رفقة لقمان ،هو صديقك املقرب هكذا!
265
مطلوعة (خبز وحب)
–نعم يجلس معي في القسم .كنا ندخن سيجارة كما أخبرتك عندما
سمعنا الصرخة.
–هل أنت متأكد أنكما كنتما في املرحاض ولم تكونا في مكان آخر؟
–نعم ،وماذا تقصد بمكان آخر!
–لقــد شــوهدتما وأنتمــا تحــاوالن الف ـرار مــن فــوق ســور املدرســة
الخلفــي ،هــل اختلطــت عليكمــا الخطــة؟
سكت مروان ملدة وجيزة ،غيرمن نبرة صوته وأجاب بثقة:
–حسنا أنت على حق نسبيا .لكن الحقيقة ليست مثلما تتوقعه.
_إذن ما هي الحقيقة؟
_ الحقيقــة أن حصــة الفرنســية هــي حصــة مملــة وثقيلــة ال تســتهويني ال أنــا وال
لقمان ،لذلك قررنا الهروب كالعادة من السور الخلفي ،ألن الباب الرئي�سي مغلق ّ
حتى
الساعة األخيرة من الدوام املدر�سي ،وحين وضعت رجلي على السور سمعنا الصرخة.
–لكنــك اآلن قلــت أنكمــا كنتمــا فــي املرحــاض حيــن ســمعتما الصرخة،
أنت متناقض في كالمك أنت ال تجيد الكذب يا�ســي مروان.
–نعم أعرف هذا لكن...
وصمت مروان .بعدها عرض املحقق مخططا أمامه على الطاولة.
–هــذا مخطــط قســمكم ،أرينــي مكانــك بالضبــط ومــكان جلــوس
املرحــوم.
ّ
–هنــا ،أقعــد أنــا فــي الطاولــة األخيــرة فــي الصــف املقابــل للبــاب ،أم ــا هــو
فيجلــس فــي نفــس الصــف ،بعدمــا غيــر مكانــه ،مــن الطاولــة األولــى
قــرب املكتــب رفقــة أميمــة.
–غيرمكانه إذن؟
266
مطلوعة (خبز وحب)
_نعم
_هذا خيط جيد ،أخبرني منذ متى غيرمكانه وما سبب ذلك في رأيك؟
–منذ أسبوع تقريبا ،ال أدري السبب حقا.
–أنــت تكــذب مجــددا ،أتقصــد أنــه ال دخــل لــك فــي عالقــة املرحــوم
بأميمــة!
–ليس تماما ،وهذه العالقات ال تخصني ،لكن ما دخل هذا في موته.
–لقمان صديقك ،وبطبيعة الحال ستساعده إن احتاج لك.
–نعم هذا ما يفعله األصدقاء لبعضهم.
–بالضبــط! إذن أنظــر فــي عينــي اآلن...أخبرنــي بصــدق هــل ستســاعد
لقمــان فــي القتــل لــو كان ذلــك فــي ســبيل صداقتكــم؟
ابتلع مروان ريقه و تعرق جبينه وأجاب بنبرة خافتة:
_ال
_ وإن كنت مضطرا أو تحت التهديد هل ستفعل هذا؟
–هــو صديقــي حقــا ،لكــن ال ،فلســت قاتــا ،رغــم الرابــط الــذي كان
يجمعنــي بــه لــن أفعــل ذلــك.
_هل تخفي عني شيئا ما يا مروان؟
_ال سيدي.
–هل عندك ما تضيفه!
–ال سيدي
***
267
مطلوعة (خبز وحب)
268
مطلوعة (خبز وحب)
269
مطلوعة (خبز وحب)
270
مطلوعة (خبز وحب)
روايــة ،لذلــك انتابنــي الفضــول ألعــرف مــا لــذي جذبــه لق ـراءة الكتــاب ،انتظرتــه ّ
حتــى
يفــرغ مــن قراءتهــا ألذهــب وأحضرهــا.
– كيــف عرفــت أنــه أنهــى قراءتهــا وأنــه ســيضعها فــي املكتبــة فــي ذلــك الوقــت
بالضبــط؟ وملــاذا لــم تطلبيهــا منــه مباشــرة ملــاذا انتظرتــه ّ
حتــى يذهــب إلــى املكتبــة وتبعتــه
خفيــة ؟
– لــم أتبعــه خفيــة وإنمــا عرفــت أنــه أنهاهــا ألنــه معــي فــي القســم وكنــت أراقبــه حيــن
يخرجهــا ويقـرأ ،ولــم أطلبهــا منــه ألننــا كنــا متشــاجرين ،هــذا فقــط وليــس شــيئا آخــر.
– كنت تراقبينه! ماذا تقصدين بهذا؟
– نعم كما أخبرتك لقد كنا في عالقة وأردت أن أعرف ما لذي يفعله في غيابي.
– لكنه كان يجلس معك في نفس الطاولة أليس كذلك؟
– لكنه غيرمكانه.
_ملاذا فعل هذا برأيك؟
_عندما سألته لم يجبني.
_حسنا ..حسنا .هناك زر مفقود من مئزرك! ما لسبب؟
– ال أذكر ،اآلن فقط الحظت أني فقدت زرا من مئزري!
ثــم صمــت املحقــق لبرهــة راح يضــرب الجريــدة علــى كــف يــده ببــطء ويفكــر ثـ ّـم
التفــت املحقــق للطبيــب وطلــب منــه أن يحضــر لــه كأس مــاء.
_وقبل أن تذهب أعطني ذلك الزر
_حسنا ها هو سيدي.
271
مطلوعة (خبز وحب)
272
مطلوعة (خبز وحب)
273
مطلوعة (خبز وحب)
– حســب شــهادة إحــدى صديقاتــك ،لقــد حــدث شــجاربينــك وبيــن إســحاق قبــل
يوميــن ،مــا هــو ســبب الشــجار؟
– إســحاق أحبنــي ،وقــد أعمــاه الحــب لدرجــة أنــه أراد أن يتملكنــي وغيرتــه علــي
أصبحت تزعجني كثيرا ،لذلك لم نتفاهم ،وكل ذهب في طريقه ،مكتوب كما يقولون.
– مكتــوب! مــوت إســحاق حبيبــك الســابق بمجــرد أن انفصــل عنــك هــو مكتــوب
أيضــا! هــل أردت االنتقــام منــه ألنــه صفعــك أمــام وســط الســاحة ،أم مــن أجــل لقمــان.
– ال ال مــاذا تقــول ،لــم أفعلهــا ،لقــد انفصلنــا ملــدة فقــط ،لكنــي أصارحــك "ثــم
حتــى تجعــدت مالمــح وجههــا". انفجــرت بالبــكاء شــاهقة ّ
ثم سكتت أميمة لحظة قصيرة ،استجمعت قواها وقالت بنبرة واضحة
_أحبــه يــا ســيدي ..أحبــه ولــم أحــب جــا مثلمــا أحببتــه لذلــك أردت أن أعــرف ّ
حتــى ر
الكتــاب الــذي يقـرأه ،ولــو يرجــع للحيــاة العتــذرت منــه ألــف اعتــذار .ألنــي ال أصــدق أنــه
قد مات ال أصدق ،هو خطيبي وقد قررنا أن نتزوج بعدما ننجح في امتحان البكلوريا،
كان دائمــا يخبرنــي أننــا ســندرس فــي كليــة الطــب مــع بعــض لكــن...
ثم انفجرت بالبكاء وبإشارة من يد املحقق حملها طارق وأخرجها:
ثم التفت املحقق للطبيب ،يسأله:
_ما رأيك في ما قالته!
– ال أدري يــا ســيدي بحــق ،أنــا ال افهــم كثيـرا فــي العالقــات العاطفيــة لهــذا الجيــل،
لكــن! ربمــا قــد أحبتــه حقــا وربمــا تكــون دمــوع تماســيح فقــط.
– لــو أحبتــه حقــا ملــا تركتــه وبدلتــه بفتــى أقــل منــه مكانــة ومــاال وجمــاال ...عندمــا
تتــركك ام ـرأة مــن أجــل رجــل وأنــت تعــرف أنــه ال يملــك مــاال أو جمــاال أكثــرمنــك وكل مــا
هــوموجــود لديــه هــوعنــدك ،اعلــم أنهــا لــم تحبــك مــن البدايــة وكانــت تمثــل فقــط .وهــذه
274
مطلوعة (خبز وحب)
الفتــاة تبــدو ممثلــة بارعــة حقــا .خصوصــا إذا خدعتــك مــع فتــى اســمه لقمــان ،لقمــان
مطلوعــة .مقطــوع مــن شــجرة ال مــال وال جــاه وال نســب وال حســب.
– هل تقصد أنها قد تقتله من أجله؟
– اثنان ال تثق فيهما يا أستاذ رشيد ،شمس الشتاء وقلب النساء.
***
275
مطلوعة (خبز وحب)
276
مطلوعة (خبز وحب)
***
277
مطلوعة (خبز وحب)
– ماذا قلت!
– قلت ال يوجد �شيء فقط أنا ال أحتمل النظرإلى الدم
– هــاه ،ال تحتمــل النظــرإلــى الــدم إذن! أم أنــت ال تحتمــل تذكــرالــدم! أنظــرجيــدا
يــا مطلوعــة أنــا أعرفــك جيــدا وأعــرف حكايتــك ،أو باألحــرى أعــرف صحــة الحكايــة التــي
حكتهــا لنــا أمــك فــي قســم الشــرطة عــن القاتــل الــذي دخــل للمنــزل وطعــن الهــواري أبــوك
ألنــه لــم يرجــع لــه أموالــه التــي ربحهــا فــي جلســة قمــار .وأنــه اســتلف منــه مــاال حتــى يســكر
بــه ولــم يرجــع لــه ..لذلــك قتلــه وهــرب واختفــى ،وقــد فتحنــا تحقيقــا فــي قســم الشــرطة
ومشطنا كل القرية ولم نجد رجال باملواصفات التي أعطتنا اياها أمك ،وهل بالصدفة
أنــك لــم تكــن موجــودا فــي املنــزل ليلــة الحادثــة وكنــت عنــد صخــرة الغولــة أمــام النهــر
وبرنوسك ملطخ بالدم ،وذلك الدم ال أظنه دم ختان ،كنت تغسله في النهرأليس منو
الغريــب أن فتــى جرحــه ال يـزال جديــدا يذهــب للنهــر!
– مــاذا تقــول أنــت لســت مــن القريــة وال تعــرف شــيئا عــن صخــرة الغولــة ،ومــاذا
يحكــى عنهــا ،يومهــا كنــت صغيـرا وكنــت أؤمــن بكثيــرممــا يقولــه املشــايخ فــي القريــة لذلــك
حتــى تأخذهــا الغولــة و ال تأخــذ شــيئا قــد ذهبــت مــي الجلــدة التــي نزعــت منــي فــي النهــر ّ
ألر
آخــرمنــي ،ثـ ّـم غســلت برنو�ســي مــن الــدم الــذي ســال منــي عندمــا انزلقــت رجلــي وســقطت
علــى طــرف الــواد.
278
مطلوعة (خبز وحب)
–نعــم هــذه قصتــك التــي لــم تدخــل رأ�ســي ال هــي ،وال قصــة أمــك ،وهــذه هــي نفــس
املالمــح التــي رأيتهــا علــى وجهــك أثنــاء رؤيتــك ألبيــك ممــددا علــى األرض ،وال أظنــك رميــت
الجلــدة ،وإنمــا فــي الحقيقــة أنــت رميــت ســاح الجريمــة فــي الــواد ،لذلــك لــم أجــد الدليــل
علــى إدانتــك فــي ذلــك الوقــت ولألســف لــم يصــدق أحــد كالمــي.
– هــل أحضرتنــي هنــا لتقــص علــي حكايــة فاتــت وتخبرنــي بــكالم ال يتقبلــه العقــل،
وتقــول أنــي قتلــت أبــي بطعنــة ســكين!
– ال علينــا الــذي فــات قــد مــات ،لكنــي ذكرتــك فقــط ،ـكـي تعــرف أنــي ال أخــرج مــن
قضيــة إال وقــد حللتهــا وعرفــت املجــرم ،مهمــا كان ذكائــه واآلن كل الدالئــل هنــا تشــيرإلــى
أنــك أنــت القاتــل!
– أي دالئل تقصد!
– زميلــك أم عــدوك الــذي كنــت تغــارمنــه ألن الفتــاة التــي أحببتهــا كانــت خطيبتــه !
ّ
حتــى تدخلــت أنــت وكالعــادة أفســدت كل األمــور.
– إذن كنــت تق�ضــي وقتــا معهــا ،لكنــك تعــرف أنهــا كانــت برفقــة إســحاق لذلــك كان
إســحاق بمثابة العائق بالنســبة لك .ولهذا كان عليك التخلص منه.
279
مطلوعة (خبز وحب)
– حقيقــة أميمــة كانــت تعجبنــي ولطاملــا أردت أن أتقــرب منهــا ،وحقــا كنــت أكــره
إســحاق ليــس ألنــه حبيبهــا فقــط ،بــل ألنــه لــم يكــن يســتحق فتــاة مثــل أميمــة ألنــه....
280
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم فتــح إســحاق حزامــة ســرواله وتبــول فــوق رســمة القربــة ووضعهــا وســط
الرســمات األخــرى.
– خــذ هــاك ســتبرد فــي الطريــق وعندمــا تعطــش أشــرب منهــا ،ههــه ،ههــه اضحكــوا
هيــا ،انصــرف اآلن ...ام�شــي ...دعــوه يمــر.
***
– وألنــه كان يعتمــد علــى أمــوال أبيــه فــي كل �شــيء ،كان يرشــو ّ
حتــى بعــض األطفــال
مــن جماعــة الصراصيــرلحمايتــه.
– إذن كنــت تريــد النيــل منــه مــن قبــل ،لكــن الفرصــة لــم تواتيــك فقــط ،وليــس
هنالــك مــكان مناســب أكثــر مــن املكتبــة الفارغــة فــي املســاء أليــس كذلــك!
– ال ال ،رغم أنه كان شخصا ال يعجبني إال أني لم أفكرفي قتله أبدا.
– حسنا أخبرني على الساعة الرابعة وعشرين دقيقة أين كنت؟
– كنت في املرحاض.
– هل أنت متأكد أنك كنت في املرحاض ولم تكن في مكان آخر؟
– نعــم كنــت فــي املرحــاض مــع مــروان ،وكنــا نخطــط للهــروب مــن الســور ّ
حتــى ال
نحضــر حصــة الفرنســية اململــة .أخبــرت مــروان بــأن يخــرج ثـ ّـم تبعتــه.
– ملاذا لم تخرج معه؟
– ألن الحــارس ســيالحظ خروجنــا ،فلــو خرجنــا دفعــة واحــدة سنســتغرق وقتــا
أطــول.
– لكنك لم تخرج ،لم تتبعه ،أنت تكذب أين ذهبت؟
281
مطلوعة (خبز وحب)
– ال لست أكذب.
– هل تعرف أن كل هذا التضليل سيلعب ضدك في املحكمة.
_تضليل!
_نعم ،ألنني أعرف أنك في تلك اللحظة قد توجهت للمكتبة لتتعقب إسحاق.
صمت لقمان لبرهة ثم أجاب:
– فــي الحقيقــة نعــم قــد توجهــت للمكتبــة ،لكنــي لــم أتبــع إســحاق ،بــل قــد كنــت
واقفــا أمــام حنفيــة املــاء قــرب املرحــاض ،الحظــت دخــول إســحاق للمكتبــة لــم أعــره
انتباهــا ،لكــن بعــده بلحظــات أيــت أميمــة تتبعــه .لذلــك دفعنــي الفضــول فتبعتهــا ّ
حتــى ر
أرى مــاذا ســيفعالن داخــل املكتبــة؟
– ملاذا تبعتها؟
– ألنهــا كانــت فــي عالقــة معــي وقــد أخبرتنــي أنهــا لــم تعــد تحبــه وقــد قطعــت عالقتهــا
بــه مــن أجلــي.
– من أجلك إذن.
_نعم.
_ لكنك قتلته.
– ال ،لم أقتله.
– أميمــة هــي مــن رأتــك تغــادر املكتبــة وبعــدك بلحظــات وجــدت إســحاق مقتــوال
علــى األرض .إذن األمــر واضــح أنــت هــو القاتــل ،أنصحــك باالعت ـراف وهــذا ســيكون فــي
مصلحتــك فــي املحكمــة.
282
مطلوعة (خبز وحب)
***
283
مطلوعة (خبز وحب)
284
مطلوعة (خبز وحب)
قال الطبيب:
_إذن....
_لكن صدقني أن هؤالء ليسوا مجرد أطفال عاديين ،لكل منهم شخصية متميزة
ـاض مملــوء بالخيبــات واأللــم .منهــم مــن عرفتــه منــذ زمــن ومنهــم مــن عرفــت
ولــكل منهــم مـ ٍ
أقاربــه ومنهــم مــن عرفــت شــخصيته النرجســية املتحايلــة وأشــياء أخــرى ،صدقنــي أنهــم
ليسوا مجرد أطفال حتى ملفاتهم املدرسية تقول أشياء كثيرة غيرمتطابقة مع الواقع.
_كيف ذلك! هل تقصد أنه تم تعديلها أو العبث بها؟
_نعــم هــو احتمــال كبير.حتــى الروايــة لــم تكــن هنــاك عبثــا ،كأنهــا لعبــة مخطــط لهــا
من قبل كأنهم يريدون أن يتحدوني .لكنهم لألسف ال يعرفون من هو املاحي بل سمعوا
عنــي فقــط.
ثــم قضــم املاحــي قضمــة مــن التفاحــة وســاد الصمــت لبرهــة فــي القاعــة .ليكســره
الطبيــب ويوجــه كالمــه للماحــي الشــارد فــي تفكيــره.
– أظنك يا سيدي قد نسيت أمرضربة اليد اليسرى والشخص األعسر.
– ال تقلق يا دكتور فلم أنسها.
_لكن لم أرك تسألهم أثناء االستجواب عن اليد التي يستعملونها أكثر.
_بال قد فعلت ذلك ،لكن بطريقة مباشرة.
_كيف وملاذا اعتمدت على طريقة غيرمباشرة؟
_ألنه لوكان األمرعن طريق طرح السؤال ،ربما سيتعمد املجرم الكذب ويضللنا.
لذلك أخبرني التفاح.
_التفاح!
285
مطلوعة (خبز وحب)
286
مطلوعة (خبز وحب)
_ماهي يا أستاذ؟
_لــن أقولهــا لــك .فســتنتبه لهــا أثنــاء التحقيــق وتصبــح غيــر صالحــة ،فمثــا لــو
أخبرتــك عــن خدعــة إمســاك التفــاح .حتمــا عينــك ســتنحرف باتجــاه التفاحــة مــن حيــن
آلخــر وســيالحظ الــذي اســتجوبه أن فــي األمــر خدعــة مــا .هــل فهمتنــي اآلن.
_نعم أنت محق.
_واآلن تذكرفقط أنه ليس كل من يأكل التفاح من املالح.
– حسنا .إذن من هو الشخص األعسرمن بينهم!
– ال تفاجئ ،لكن ال أحد فيهم يكتب بيسراه.
– لكن ربما قد...
ثم قاطع املحقق الطبيب وهو يلوي جريدته ويضعها في جيبه الخلفي:
– هــل تريــد القــول أن هنــاك شــخصا قــد تعلــم الكتابــة بيديــه االثنتيــن! ال ال أظــن
أن هــذا وارد ،ولهــذه الدرجــة ســيفكرقبــل الجريمــة ،ألنــك تعلــم أن ذلــك قــد يســتغرق
أعواما من املمارسة .لكن ال تقلق كل �شيء سيظهرفي املحكمة .وهذا املجرم قد خطط
لــكل �شــيء بإحــكام ودرس خطــة القتــل جيــدا ،كأنــه يريــد أن يختبــر ذكائــه معنــا .كلهــم
أذكيــاء وأذكاهــم مــن يتغبــى بذكائــه.
_إذن حســب كالمهــم ومــا جمعنــاه مــن أدلــة لحــد اآلن مــن ت ـراه املشــتبه األول فــي
قتــل إســحاق؟
ابتسم املحقق وأخرج تفاحة أخرى من جيبه قضم منها ورماها للطبيب:
_ليس كل من يأكل التفاح من املالح.
287
مطلوعة (خبز وحب)
فتحت عيني على أصوات عراك وشتيمة ،وجدت نف�سي نائما على أرض إسمنتية
بــاردة ،أول مــا رأيــت شــعاع شــمس الصبــاح يتســلل خلــف قضبــان النافــذة الصغيــرة
فوق رأ�سي ،رائحة العرق تمأل املكان ،أسرة حديدة حوالي العشرة الواحد فوق اآلخر،
رأيــت قــرب بــاب الزنزانــة جماعــة مــن خمــس أشــخاص بينهــم عجــوز وشــاب فــي عمــري،
يتعاركــون علــى عقــب ســيجارة مــن ســيكون لــه آخــرنفــس ،الرطوبــة شــديدة ،أشــعرأنــي
أختنــق ال أعلــم كيــف نمــت البارحــة وفــوق رأ�ســي هــذا املرحــاض القــذرمباشــرة .يبعــث
قذارتــه ،ليلــة كاملــة وأنــا أســمع خريــرامليــاه ،ظننــت أنــي أحلــم وظننــت أن املطــريصــب فــي
الخــارج ،شــعرت بطعــم مـرارة صــدئ تحــت لســاني ،ظهــري متشــنج ومتصلــب.
ســعلت ،وســعلت بقــوة أكثــر .كنــت ألبــس قميصــا داخلــي أبيــض بالــي ،ووجهــي
شاحب يميل لوجه جثة ،تدحرجت من مكاني وقفت أمام القضبان متوجها للحارس
حتــى أتمكــن مــن االتصــال بأحدهــم ليحضــرلــي دوائــي ،قاومــت ذلــك ولــم أرد أن أتصــل ّ
بأمــي ّ
حتــى ال أقلقهــا ،ناديــت علــى الحــارس الطويــل وقــد كان يضــع رجــا علــى رجــل ويقـرأ
جريدة ،لم يستجب في املرة األولى ،قرعت القضبان بكأس حديدة ولم يستجب ،بعد
لحظات من النداء على الحارس دون جدوى ،اقترب مني أحد من املساجين الذين لم
يتم إصدارالحكم في حقهم بعد كان رجال أصلع ،يبدو في األربعينات من عمره ،ضخم
الجثــة ،علــى ذراعــه وشــم امـرأة حامــل .بنبــرة خشــنة ومبحوحــة:
– ال تتعــب نفســك فهــو يضــع ســماعات فــي أذنــه ولــن ينهــض إال للتبــول فقــط أو
األكل.
ثــم أســندت ظهــري للقضبــان ألتلقــى الخيبــة وتنطحنــي التســاؤالت عــن حــال
أصدقا ئــي.
قال السجين:
288
مطلوعة (خبز وحب)
289
مطلوعة (خبز وحب)
– ال أعرف!
_وهل أنت نادم على ما فعلته!
_كنــت ســكرانا ال أذكــرمــا حــدث فــي تلــك الليلــة .ومــاذا عنــك هــل أنــت نــادم علــى
قتلــه؟
– من تقصد؟
– زميلك في املدرسة.
– كيف عرفت أن...
– الحراس هنا من أجل سيجارة فقط ،قد يعطونك ملف أي سجين.
– إذن تستطيع أن تعرف ما حل بأصدقائي؟
– هل تقصد سميروطارق ومروان وفارس.
_نعم.
– ال أعرف.
_كيف ال تعرف وأنت تعرف أسماءهم و...
– أنظرهنا لكل زنزانة "بيفو" خاص بها ،والبيفو هو الرجل الذي ينقاد ألمره كل
مــن فــي الزنزانــة أي أنــه رئيــس الدولــة هنــا وال تخفــى عليــه خافيــة ،وأنــا البيفــو هنــا .وحيــن
تخبرنــي كيــف قتلتــه وملــاذا قتلتــه ،حينهــا يمكننــا أن نتحــدث جيدا.
290
مطلوعة (خبز وحب)
291
مطلوعة (خبز وحب)
فــي ســفح جبــل اســمه جبــل زكار ،عشــنا كل شــهورنا عســا ،ذات مســاء شــتوي بــارد وأنــا
عائــد مــن الصيــد رأيــت رجــا يرتــدي برنوســا ويقتــرب مــن بيــت فتيحــة ،شــحنت بندقيتــي
وصوبــت نحــو ظهــره مباشــرة ألســقطه أرضــا وأرتمــي فوقــه ألكمــل عليــه ،وملــا نزعــت عنــه
غطاء رأسه ألرى من هو الوغد الذي أراد أن يطال محبوبة القلب .وجدت أنها فتيحة.
_زوجتك ...لكن كيف؟
_نعــم فتيحــة .بعدمــا كانــت تدخــل املالبــس التــي نشــرتها فــي الخــارج لبســت برون�ســي
مــن أجــل أن تحتمــي مــن املطــرومــن أعيــن اآلخريــن .فلــم أعرفهــا مــن تخفيهــا ومــن املطــر
أيضــا.
بعدمــا أصبتهــا برصاصــة فــي ظهرهــا .أســرعت بهــا إلــى املستشــفى وقــد كانــت حامــا
بابنــي ،اســتطاعوا فــي املستشــفى أن ينقــذوا ولــدي لكــن هــي توفيــت ،بعدهــا أصبحــت
الدنيا ظالما في وجهي ،وضعت ابني في ميتم .وقررت االنتحار .وبعدما فشلت محاولة
انتحــاري هجــرت البلــد ،ثــم مــرت الشــهور واألعــوام ،واســتجمعت نف�ســي وقــرت أن أفتــح
صفحــة جديــدة فتزوجــت مــن جديــد ،وأنجبــت طفــا ســميته فــارس .هــل تقصــد أنــت
أب!...
_نعم فارس ولدي.
_لكن كيف دخلت السجن.
_بعــد أعــوام شــكلت عائلــة صغيــرة ،وتخطيــت املا�ضــي ونســيته .وذات يــوم وصلنــي
محضــرمــن الشــرطة تســتدعيني .دخلــت إلــى الشــرطة وهنــاك التقيــت بمحقــق فتــح لــي
ملفــا قديما..يورطنــي فــي جريمــة قتــل زوجتــي .وهــل تعــرف مــن يكــون ذلــك املحقــق!
_ال تقل لي هو املاحي نفس املحقق الذي حقق معنا.
_نعم وهل تعرف من يكون املاحي هذا ؟
_ال تقل لي أنه!..
292
مطلوعة (خبز وحب)
_نعم هو ذلك الفتى الذي نسيته في امليتم ،عاد ليصبح محققا وينتقم مني و على
ما فعلته به وبأمه.
_عندمــا اســتدعاني الــى مقــر الشــرطة .لــم يكــن يملــك األدلــة الكافيــة ليكشــف
جريمــة قتــل أمــه .لكنــه بحــث عنــي لســنوات ،هــل تصــدق أنــه أصبــح محققــا فقــط مــن
حتى التحق بسلك أجل أن يجد قاتل أمه ،وبدأ البحث والتحري منذ أن كان في امليتمّ .
الشرطة .ليحل قضية قتل أمه الغامضة والتي صرحت حينها أن من قتلها هو جارلنا.
حتــى يصــل إلــي ويجــد الحيــاة الهادئــة التــي أعيشــها ،فــأراد اســتدل املاحــي بذلــك الخيــط ّ
أن يذيقنــي مــا أذقتــه .وقتــل زوجتــي أمــام عينــي ولفــق لــي تهمــة قتلهــا.
_ال .هذا هو حقي .أنا أستحق ما أنا فيه .يجب علي أن أسدد ديني وأنا اآلن أفعل
ذلــك.
_نعــم ،أخبرتهــم أنــي لســت القاتــل ولكــن الســكين وجــد فــي جيبــي ،وضــع ســاح
الجريمــة فــي جيبــي وأنــا نائــم .وحيــن اســتيقظ فــارس تفاجــأ أمــه جثــة مذبوحــة أمامــي.
والدمــاء تســيل مــن يــدي وأنــا متجمــد مكانــي .بعدهــا داهمــت الشــرطة املــكان فــي طرفــة
عيــن اتصــل .وهكــذا لفقــت لــي الجريمــة.
_أمرمؤلم حقا...
293
مطلوعة (خبز وحب)
_ صدقني أن أكثرما يؤملني هو أن فارس ولدي يراني قاتال .ومنذ ذلك العام دخل
فــي حالــة نفســية صعبــة جــدا .ولــم أروجهــه منــذ أعــوام ّ
حتــى رأيتــه يدخــل الســجن أمامــي
اليــوم فلــم أصــدق عينــي .فــارس ولــدي قــد كبــروصــاررجــا .لــم أره منــذ عشــرة أعــوام.
وحتــى أنــت تغيــرت كثيـرا...
_ إذن قد كنت...
_نعــم أتذكــرك ملــا كنــت تلعــب مــع فــارس كــرة القــدم .كنــت صديقــه املقــرب .هــل
ت ـزال كذلــك.
_طبعــا فــارس مثــل أخــي .اآلن عرفــت ملــاذا كل مــا ســألته عــن أبيــه يتغيــر وجهــه.
ويكتفــي بقــول أنــه فــي الخــارج.
_في الخارج!
_نعم
_ال ألومه .فقد كذبوا عليه مثلما كذبوا علي.
_كم بقي لك من عام حكم!
_عشرة أعوام أخرى.
_ربي معك.
– الســجن يــا بنــي ليــس فقــط للمجرميــن والقتلــة ،الســجن أيضــا ملــن خانهــم الحــظ
وابتالهــم الــرب ،وتعــرف مــاذا يقولــون "الحبــس للرجــال " .هــذا هــو عمــك "أحمــد بانــي
"القاعــد أمامــك ،الــذي تداولــت الصحــف قضيــة قتلــه لزوجتــه بــدم بــارد وأصبــح املاحــي
بطــا فــي تلــك الروايــة.
_كم هو حقير .لم أرتح له منذ البداية.
294
مطلوعة (خبز وحب)
295
مطلوعة (خبز وحب)
296
مطلوعة (خبز وحب)
– تراقبه!
– نعم وجدتها هناك في املكتبة قبل دخولي.
_ملاذا؟
_ال أعرف حقا.
_وهل قتله أنت ؟
_ال
_كيف إذن!
_وجدته ميتا.
_وكيف ذلك؟
_ال أدري لكن كل ما أعرفه أني حين اقتربت منه ألجهزعليه وجدته ميتا ،فهربت
ثم بعد خروجي مباشرة سمعت صرخة أميمة. مسرعا من باب املكتبةّ ،
297
مطلوعة (خبز وحب)
– هل تظنها كانت تعرف خطتكم وقررت أن تتم رأس الخطة لتنتقم من إسحاق
وتلفق لك القضية
– ال أعرف حقا ،وكل الذي أعرفه أن حبها لعنة لن تفارقني.
298
مطلوعة (خبز وحب)
يوم املحاكمة
كنــا خمســتنا أمــام القا�ضــي ،أمــي تكتــم دموعهــا بيــن أحضــان جــدي وســط
الحاضريــن ،ونظ ـرات الحــزن باديــة علــى وجههــا أحسســت أن العالــم كلــه قــد تواطــأ
ضــدي ،ليجعلنــي أتهــم بالقتــل وأصــاب بالســرطان وأصــاب بالعشــق وأصــاب بما�ضــي
مســخوط مــن القــدر .رغــم كل الفقــر الــذي نعيشــه .قــد تكفلــت أمــي وجــدي بتوكيــل
محامــي ليدافــع عــن قضيتــي.
و بيــن الحضــور تفاجــأت بال�ســي جمــال بيــن الحاضريــن ،يتابــع مجريــات املحاكمــة
بدقــة وعالمــات القلــق باديــة علــى وجهــه.
مضت الساعات ثقيلة على قلبي وكثيرمن األدلة كانت تشيرضدي.
و فــي األخيــر رفــع القا�ضــي مطرقتــه فــي الهــواء ،وقبــل أن يصــدر الحكــم اقتحمــت
املكان سيدة يبدووجهها مألوفا ،تجاوزت الشرطيين الواقفين في مدخل قاعة املحاكة
ومــرت أمــام الــكل وقفــت وســط القاعــدة ورفعــت صوتهــا وقالــت:
–........
299
مطلوعة (خبز وحب)
مذكرات مشعة
كل يــوم أذهـ�ب إل��ى املستش��فى ،ترافقنـ�ي أمـ�ي دائمـ�ا نصـ�ل إلـ�ى الطبقـ�ة الثالثـ�ة تحـ�ت
األرض.أدخـ�ل إلـ�ى بطـ�ن املبنـ�ى .بالضبــط إل��ى مركـ�ز“الراديوتيرابــي .هــذا الســيناريو أصبــح
يتكــرر كثيــرحــد امللــل البــارد.
املــرة األولـ�ى حيـ�ن وقفـ�ت أمــام البــاب .شعــرت بأنـ�ي ال أسـ�تطيع أن أتنفـ�س قلـ�ت
لنف�سي أنه علي أن أتنفس مثلما يفعل غارق في البر ،أتنفس بصعوبة .أخاف ،أرتجف.
أختنـ�ق تحـ�ت األرض ،عينـ�ا أمـ�ي تشـ�ع تحـ�ت عجارهـ�ا والحــزن ينبعـ�ث مـ�ن مالمحهـ�ا.
يس�تـقبلني رج��ال يلبس��ون البران��س البي��ض وأس��ماءهم مطرــزة علــى صدورهــم
باللغـ�ة الفرنســية بخيـ�ط أزرق .هندامهـ�م حســن وبش�رـتهم بيضاــء ،يرتدــون فـ�ي أرجلهـ�م
أحذي��ة بالس�تـيكية زرقـ�اء.
كل شــ�يء بـ�دأ ببع��ض “ السعــالت “ م��ن الـ�دم .اعتق��دت بأن��ه مج��رد م��رض عاب��ر.
حاولــت تناــ��ي األم��ر .لك��ن املــرة التاليـ�ة كان��ت أكثـ�رجديـ�ة ،فقرــرت أن أراجـ�ع الطبيـ�ب
اللون��اس نصحن��ي باستش��ارة اختصا�ص��ي آخ��ر ،جرتن��ي أم��ي .ووصلن��ا هن��ا إل��ى طبقة ثالثة
تحـ�ت األرض .بعـ�د فحــوص وركـ�ض مـ�ن اختصاصــ�ي إلـ�ى آخـ�روأنـ�ا فـ�ي حــال إنفصــال عـ�ن
ذاتيــ ،ال أصـ�دق م��ا يجـ�ري .كأنن��ي شــاهد مفـ�رغ م��ن كل إحسـ�اس .وج��وه .أوراق .دهالي��ز.
مراك��زمتخصص��ة .ممرض��ات ممرض��ون ،.أوراق��ي ،اس��مي .بطاق��ة الهوي��ة .بطاقة التأمين
الطب��ي .وجـ�وه م��ن حول��ي تأمرن��ي بخل��ع ثياب��ي.
إلب��س البرن�ـس ،ألب��س البرن��س األبي��ض الســخيف ألدخ��ل إل��ى مــكان صغي�ـرـ وألخـ�رج
منه إلى ممرفسيح تهجم منه موجة من الصقيع الذي يقزز األسنان .من جديد أوامر:
300
مطلوعة (خبز وحب)
اخلع
قف
ارفع يدك
ال تتنفس.
ّ
تنفس طويال.
انتظرقليال.
شكرا.
البس.
على سالمتك.
يقوله��ا وه��و يفك��ر بالرق��م التال��ي .ك��م الســاعة؟ ال يه��م .يـ�ردد األوام��ر كالببغ��اء.
الرغب��ات .ل��كل م��ن يدخـ�ل إلـ�ى مملكتـ�ه السـ�قيمة.
يا ربي حررني مني.
هذا الوسواس الغيب ال يكف عن املماطلة بدحرجة أفكاري الثقيلة ،وأنا أكتب
هــذه املذكـرات الســخيفة التــي لــن أعــود لقراءتهــا ،و بــي رغبــة عارمــة فــي نــزع كل مالب�ســي
أريــد التخلــص مــن هــذا الجســد املريــض الــذي أتعبنــي وأتعــب أمــي أكثــرمنــي ،أشــعرأنــي
أذوب مــن األلــم ،أتفتــت مــن الداخــل ،أحيانــا أشــعرأنــي أختنــق ،أغــرق ،رئتــي ثقيلتــان
كصخرتين ،أضغط على نف�سي إلخفاء األمرلكن في الحقيقة قد تعبت من إظهارهذه
الصالبة أمام عيشــة ،خشــية أن أغبنها معي ،بي رغبة أخرى بالخروج عاريا تحت هذا
املطروالتجوال أحمرالجلدة مثلما ولدتني أمي ...مثلما كنت صغيرا .أهرب ألمي عندما
كانــت تحممنــي داخــل قصعــة املــاء الزرقــاء .يحــرق عينــي شــامبو الغســيل ،أبكــي وأمــي ال
تبالــي ،أبكــي حيــن يســقط داخــل عينــي ثـ ّـم أهــرب مثــل فــرخ زاوش فــرمــن عشــه.
301
مطلوعة (خبز وحب)
أنزلــق مــن بيــن أصابعهــا وأفــردون وجهــة فقــط ألخــرج مــن قصعــة املــاء .الجميــل
أنــي أتذكــر هــذا كأنــه البارحــة .وال�ســيء فــي األمــر إنــي نســيت إحســاس أن يتجــول املــرء
عاريــا ،ال يبالــي بنظ ـرات النــاس أو بعــادات وتقاليــد تحــده وتحــول بينــه وبيــن الوصــول
لتجربــة أحاســيس متلبــدة عنــه وإدراك تجــارب حيــة غريزيــة والتمتــع بهــا ...تراودنــي
هــذه الفكــرة كثيــرة ،امل�شــي ح ـرا عاريــا ومطــاردة حبــات املطــر الصغيــرة الجــري والتعثــر
والســقوط والج ـراح فــي ركبتــي واملشــاجرة والحيــاة غيــرالرســمية ،أكل الت ـراب األحمــر،
ولعــب الغميضــة والجــري وراء الشــاحنات املتوجهــة للمفرغــة ،التمــرغ فــي الوحــل مثــل
األيام الخوالي .كحلوف صغيرال أبالي ال أعرف معنى صنع صورة مناســبة في عين أبناء
جلدتــي وشــخصية محترمــة ثـ ّـم تبــا لــكل هــذه الحــدود املصطنعــة.
قضايــا وآراء واعتقــادات وقوانيــن فقــط التجــرد مــن كل �شــيء ...كطائــر مقنيــن
مغــرد بيــن أشــجار العرعــار والصنوبــر.
302
مطلوعة (خبز وحب)
املجابهة األولى.
تسجــيل .انتظــار .أمـ�ي تنظـ�ر نح��وي ،ال أس�تـطيع مبادالتهـ�ا النظرــات ألنـ�ي حتمـ�ا
س�أـتحطم أكث��ر .تقـ�ول ل��ي رب��ي معن��ا .رب��ي كبيـ�ر.
أجيبها بصوت خافت :ايه ،ربي كبير .ربي كبير.
كرس�يـينا .النـ�اس يدخلـ�ون .يطلبـ�ون نتائ��ج صوره��م. ّ الساــعات تم��ر ونح��ن عل��ى
يسجلون أسماءهم للتصوير .عالم جديد غريب عجيب .أتابع بعيني حركة مستديمة.
ونحن نتفتت ببطء سمين بال أكل .بال شرب .بال شراع .ال نعرف أين قد تقلنا السفينة
الت�يـ س�تـأتي .أفكـ�ر كيـ�ف تعيـ�ش كل هــذه الوجــوه .هـ�ل هـ�م يتوقعــون األسوــأ؟ هـ�ل هـ�م
يخافـ�ون مثل��ي .ترتج��ف يـ�دي .أح�اـول أن أخف��ي هلع��ي .أم��ي تعـ�رف جيـ�دا أنن��ي محطــم،
رغـ�م محافظتـ�ي عل��ى صمتـ�ي .ال تجـ�د الكلمــات التـ�ي تهدئنـ�ي .أعتقـ�د بأنهـ�ا مرعوبـ�ة .مرعوبـ�ة
يمكن أكثرمني .األمهات رأس��هن يش��تغل بس��رعة كبيرة عندما يكون الحدس قد تجاوز
لديه��م ح��ال االسـ�تنفار.
_السيد لقمان تفضل
أمـ�ي تمسـ�ك يــدي .ليتهـ�ا تس�تـطيع أن تزيـ�ل البالطـ�ة التـ�ي تضغـ�ط علـ�ى رأســ�ي .مـ�ن
هن��ا .أدخ��ل إل��ى ه��ذه الغرفة.اخل��ع ثياب��ك .الب��س ه��ذا البرن��س .أخ��رج وأغل��ق املقص��ورة.
ستــدخل بع��د لحظــات.
_ أدخل أين؟
يدلني بإصبعه على املكان الذي سأدخله.
_ هل الوضع مخيف؟
أتمنى من كل قلبي أن يقول لي :ال.
303
مطلوعة (خبز وحب)
_ مزعج قليال
تص��ل ممرض��ة وتق��ول ل��ي أنن��ي سـ�أخضع للتصوي��ر مرتي��ن ف��ي كل م��رة تسـ�تغرق
الصـ�ورة م��ن نص��ف سـ�اعة إل��ى أربعي��ن دقيق��ة ح��ول الص��درف��ي الرقب��ة والكبــد وعشــرين
دقيق��ة ملنطق��ة البط��ن .أنظ��رإل��ى أم��ي .تبتس��م وه��ي تقـ�ول ل��ي أن��ا هن��ا عزيــزي.
أدخل في وسط الغرفة ،شبه سريرضيق .أحدهم يقول لي اجلس .استلقي
.أنظرإلى الوحش املبروم الذي سيدخلونني إليه ببطء .أصرخ:
_ لن أدخل إلى هذا التابوت
أحدهم يرد علي
_أغم��ض عيني��ك .ل��ن ندخل��ك كثيـ�را .يج��ب أن نصـ�ور صــدرك .يج��ب أن نعـ�رف
وضع��ك .مضطري��ن" ثم ّــ يناولن��ي كبس�وـلتين ويقـ�ول ل��ي "ضعهم��ا ف��ي أذني��ك” ويخـ�رج.
أتنفس بس��رعة.أحاول أن أعد من الواحد إلى املئةّ ،
ثم املئتين ،لم أعد أسـ�تطيع
تحري��ك ش��فتي .أصغ��ي إل��ى ص��وت الس��ريروه��و يدخ��ل بب��طء تح��ت الوح��ش .ال أزال أرى
جز ً
ــء مـ�ن الســقف .أتحمـ�ل .أعاــود العـ�د.
يفتـ�ح البــاب .أســمع صــوت أمــي .مفزوعـ�ة وهـ�ي تــرى اآللـ�ة تبتلعنــي ،ال أعلــم فــي تلــك
اللحظــة ملــاذا راودتنــي ذكريــات مــن طفولتــي:
***
الطبيب بنبرة هادئة يهمس في أذن الفتى ويمسح على رأسه:
– ال تخف! أنظرللسقف هناك ،هل ترى ذلك العصفور؟
– ن.نع ....نعم! "قالها الفتى بنبرة خافتة مع رعشة في صوته".
304
مطلوعة (خبز وحب)
– جيــد ،جيــد ،هكــذا .أغمــض عينيــك اآلن ،تنفــس ببــطء وتخيــل أنــك تركــب
العصفــور وهــو يحلــق بــك إلــى أجمــل مــكان تتمنــى الذهــاب إليــه وقــد...
ثم تشك! "ضربة مقص حادة وخاطفة خادعة".
يــرى الفتــى العصفــور يفــرد جناحيــه وينظــر إليــه بعينيــن جاحظتيــن يتطايــر
الشــرر منهمــا.
صرخــة طويلــة ،معــدن حــاد بــارد يقطــع جلــدة مــن اللحــم ،الفتــى يتخبــط مثــل
مجاهــد يعــذب علــى كر�ســي كهربائــي ،جســده الهزيــل يرتــج ،يرتعــش ،عينــاه تفيضــان
مدامعا على شطآن خديه املشمشيتين ،يلوي رقبته للوراء ،يتخبط مثل قط في بركة
ماء .عروق رقبته تنتفخ ،تكاد تتقطع ،وجهه يحمروينتفخ مثل حبة طماطم ،يتخبط،
يتحرحــز ،يحــاول اإلفــات مــن بيــن ذراعــي أبيــه وقبضــة جــده ،لكــن دون جــدوى!
يــرى فــي مــا يــرى املختــون العصفــور ينفــض ريشــه ويتقــدم نحــوه بخيــط أســود
طويــل يحملــه فــي منقــاره.
***
استــرجعت ذكري��ات مؤمل��ة جدــا منــ طفولت��ي املجروح��ة ،ل��م تك��ن التجرب��ة سـ�هلة
حت��ى دخلـ�وا وحاولـ�وا أن يهدئون��ي. رفض��ت أن يدخلون��ي أكث��رف��ي التابـ�وت .صرخـ�ت ّ
أبـ�دا.
لكننـ�ي رفضـ�ت .قلـ�ت لـ�ن أخضـ�ع .أريـ�د أن أوقـ�ف كل �شــيء .لـ�ن أتابـ�ع .لـ�م تقنعنـ�ي أمـ�ي التـ�ي
دخل��ت ه��ي أيض��ا .قل��ت له��ا بصـ�وت تعبـ�ان متذم��ر“ :ال تحاول��ي أن تقنعين��ي فل��ن أرض��خ.
أريـ�د العوــدة إلـ�ى البيـ�ت” .عنده�اـ أقنعون��ي بأــن وعدونـ�ي بــأن أمـ�ي س�تـبقى معـ�ي ،تمسـ�ك
يـ�دي ،تملـ�س شــعررأســ�ي تهدئنــي.
305
مطلوعة (خبز وحب)
أمي وأميمة
مـ�ن أصدــق؟ مـ�ن هـ�و األفضــل؟ نحمـ�ل امللفــات ونركـ�ض مـ�ن موعـ�د إلـ�ى موعـ�د ومـ�ن
طبي��ب متخص��ص إل��ى آخ��ر .أميم��ة ترافقنــي وتســأل عنــي وعــن كل األخصائييــن املتاحين،
تحــزن لحزنــي وتمســكني مــن يــدي عندمــا تغيــب أمــي تكــون حاضــرة ملســاندتي بضحكتهــا،
تمســح علــى شــعري كأنهــا أمــي الثانيــة ،أســتيقظ فــي الصبــاح ألجدهــا قــد نامــت علــى
األريكــة قــرب ســريري وفوقهــا مالئــة خفيفــة تدفئهــا مــن بــرد املستشــفى ،وفــي يدهــا كتــاب
يتكلــم عــن مــرض الســرطان وكيفيــة التعايــش معــه ،كانــت كل ليلــة تحكــي لــي قصــة مــن
الكتاب ،ألحد املر�ضى الذين شــفوا من الســرطان وتســرد لي القصة فرحة ومستبشــرة
بشــفائي ،تحــاول أن تحيينــي وتبعــث فـ َـي األمــل ،هــي تســرد لــي القصــة وأنــا أتأمــل تقاســيم
وجههــا املالئكــي ،وأغــرق داخــل عينيهــا ،وأهمــل القصــة ،وحيــن أرخــي جفنــي وتشــعربأنــي
نمــت .تقبلنــي علــى جبينــي مثــل الرضيــع الصغيــروتذهــب لتنــام علــى األريكــة.
كثي ـرا مــا كنــت أغمــض عينــي متظاه ـرا بالنــوم فقــط مــن أجــل أن أشــعر بــدفء
شــفتيها وهومــا يوقعــان علــى جبينــي.
تستــمع إلـ�ى ش��روح األطب��اء أكث��رمنـ�ي .لـ�م نعـ�د نعــرف ماــذا نفعــل؟ ال�شــيء الوحيـ�د
ال��ذي يعل��ق ف��ي الذه��ن ه��و أن العملي��ة غي��ر واردة ألن ال��ورم يبل��غ خمســة ســنتمترات
يعن��ي أن الحـ�ل يتلخـ�ص بجلســات راديوتيرابـ�ي وش��يميو ِترابي .ومنــ ث ّ��م يقــرر مـ�ا إذا كانـ�ت
العملي��ة ضروري��ة .أي أن سرــطان الرئ��ة م��ن املمك��ن الشــفاء من��ه نهائي��ا .أول مـ�رة أسـ�مع
كلمة شفاء .لم أهتم كثيرا للشروح الطبية .لكنني تأكدت بأن الشيميوترابي سيتسبب
بسقــوط شعــري .س�أـخضع للعــاج مهمـ�ا كان .سأس�تـعيد حقـ�ي فـ�ي الحلـ�م بالغــد وبرؤيــة
أميمــة.
306
مطلوعة (خبز وحب)
مذكرات مشعة
أول تجربة
االثنين 12تموز
قابلت الطبيب اللوناس .فحصني .قال أن وضعي جيد ،وإذا تجاوبت مع العالج
سأشـ�فى .ث ّ��م قـ�ال تحت��اج إل��ى خمس��ة وعش��رين جلس��ة م��ن الراديوتيراب��ي .نبـ�دأ األربعـ�اء
باملرــوربجلسـ�ة “الس�كـانر” وبجلسـ�ة “سيموالسيــون” لنأخـ�ذ القياســات للمنطقـ�ة التـ�ي
ســتخضع لألش��عة ثـ ّـم بجلس��ة تجرب��ة نهائيــة اســمها .MEP
الجمعة قبل أن يبدأ العالج الفعلي اإلثنين التالي.
لم أعرف ماذا كان ينتظرني.
أول جلسـ�ة “راديـ�و تيرابـ�ي” كانـ�ت تشــبه األفــام الخياليـ�ة .شبــاب باللبــاس األبيـ�ض
ي��دورون مـ�ن حولـ�ي .أوامـ�ر .تمنيــات .ترتيبــات .وحــدة قاتلـ�ة علـ�ى سرــيرضيـ�ق يعلـ�و ويهبـ�ط
بحس��ب الطل��ب .وأن��ا وح��دي تح��ت آل��ة ضخم��ة تـ�دور حـ�ول صــدري املش��رع عل��ى األش��عة.
ل��م أعـ�د أملـ�ك حريـ�ة التصــرف بأنفا�ســي ،يتلمســون صدــري .يس�مـعون أرقامـ�ا .مرجعهـ�م
هـ�و حبــات مـ�ن الرصــاص زرعـ�ت عنـ�د الحدــود التـ�ي س�تـخضع لألشــعة .إنهـ�ا كالوشـ�م فـ�ي
منطقة واسعة من جهة صدري اليسرى من جهة قلبي يحركون أجزاء من صدري .يأمر
صــوت .ال تتحــرك .أنظـ�روأنـ�ا متجمــد علـ�ى ظهــري إلـ�ى الســقف .هنــاك خطــوط أفقيـ�ة فـ�ي
الس��قف كالخطوط الحمرالتي تزيح األوراق املهيأة للهدايا .أس��مع أنينا من �ش��يء يدور
ثم أعد وأنا أتنفس بصعوبة من واحد إلى حول صدري .أقرأ بعض اآليات من القرآنّ .
ثم أتوقف .أنتظر .يدخل أحدهم .يغيرأسطوانة .،يخرج .هذا فيلم مستقبلي. ثالثمئة ّ
سأــراه ف��ي الحل��م أو ف��ي الكابـ�وس حتمــا.
ً
ثم يضاء املكان وأسمع صوتا يقول:
307
مطلوعة (خبز وحب)
308
مطلوعة (خبز وحب)
_ أرسمني هيا
وتلح على أن أرسمها وأنا أعجزعن فعل ذلك ،وأكتفي بتأملها وهي أمامي ال أريد
أن أضيع تلك اللحظة بالنظرلورقة الرســم ،أصورها بعيني ّ
ثم ال أرســمها ألني أخ�شــى
أن ال أتمكــن مــن إخ ـراج جمالهــا مثلمــا هــي فــي الحقيقــة ال أبــدا ،لــن أســتطيع مضاهــاة
الــرب فــي خلقــه.
عج��زي ع��ن الحياــة يجعلنـ�ي أشتــم األطبــاء والعالـ�م كلـ�ه .أتساــءل كيـ�ف يتحمـ�ل
جمي��ع الذي��ن يتبع��ون ه��ذا الع�لاج أوجاعه��م الرهيب��ة .وفج��أة عرف��ت مل��اذا يسـ�تلقون
ً
عل��ى األسـ ّـرة عندم��ا يخضعـ�ون لجلس��ة “الشيــميو” .خصوصـ�ا هــؤالء الذي��ن يتحملـ�ون
جلسات عدة في األسبوع وبنسب أكبربكثيرمما يسري في عروقي في الجلسة األسبوعية
الواحـ�دة.
ب��دأت أح��اول التأقلـ�م قرــرت التحكـ�م بــكل �شــيء رغـ�م الواقـ�ع الــذي أعيـ�ش .ولـ�م
أفق��د عقل��ي ول��م أستسـ�لم لليــأس حي��ث تصرف��ت وكأنن��ي ف��ي حـ�ال منفصل��ة ع��ن واقعــي،
لدرجة أني كنت عندما أشاهد أحدهم وأنا أخرج الى العالج ويسألني بطريقة روتينية:
_كيف حالك؟
أجيبه أنني بخيرفي شكل طبيعي ليس فيه أي خبث.
املشــكلة ليس��ت ف��ى املـ�وت ولكنه��ا ف��ى الطريقــة الت��ي سـ�تموت به�اـ .أن تتكـ�وم عل��ى هـ�ذا
السرــيرالناعـ�م وتشــعربروحـ�ك تتســرب منكــ ،ووفــود النــاس تـ�روح وتأتـ�ي حاملـ�ة معهـ�ا
مصمصـ�ة الشفــاه املعتــادة ،وكلمــة:
_ مسكين.
الت��ي تقف��ز إل��ى قلب��ك مث��ل الس��كين ،دون أن ترف��ع سـ�يفك لتقات��ل ألن عـ�دوك
انتشاــره سرــيع وأنـ�ت دفعاتـ�ك ضعيف��ة ،واإلم��دادات الخارجيـ�ة ال تســمن وال تغنـ�ي مـ�ن
جـ�وع ألنه��م ل��م يخترعـ�وا الدــواء بعــد ،فتج��د نفس��ك مضطـ�را للمـ�وت كم��ا ل��م تك��ن تحــب،
وتــدرك حقــا أن الصحــة تــاج فــوق رؤوس األصحــاء ال ي ـراه إلــى املر�ضــى.
309
مطلوعة (خبز وحب)
بدأت بالبحث عن العالج الكيميائي وعن تأثيره وما يفعله بالجسم .كل ما قرأت
لــم يكــن مثلمــا كانــت تقـرأه لــي أميمــة وتضــع لــه املكيــاج لتجعلــه مرضــا عاديــا مثــل الــزكام
ً
أو الحمـ��ى ،في الواقع ما قرأته كان مرعبا! �ش��يء ما بداخلي أخبرني أن العالج الكيميائي
س�يـقتلني .شـ�عرت بأن��ي منته��ك أوأن��ه ت��م االعتـ�داء عل��ي بع��د كل م��ا قـرأت.
310
مطلوعة (خبز وحب)
"هم يضحك ّ
وهم يبكي" ّ
_ شوف على األقل احمد ربك الذي عافاك مما ابتلى به جارك.
ّ
أشـ�د أنوــاع االبتــاء فـ�ي املــرض أنـ�ه يسلــبك القدــرة علـ�ى ممارسـ�ة حياتـ�ك .تلــك
املمارسـ�ة الطبيعيـ�ة التـ�ي ال مجهــود فيهـ�ا .أن تمكـ�ث فـ�ي الخاــرج لس�اـعات عقـ�ب املسـ�ح
ال��ذري ،ألن جســدك أصبـ�ح مشع ًــا بمـ�ا يمن��ع اختالط��ك بالناــس ،جهــازاملسـ�ح الذــري هـ�و
ً
آل��ة تعذي��ب نفــ��ي ال تؤل��م جسدــيا .أكث��رمم��ا تسـ�تنزفك نفس��يا ،م��ن ساــعات االنتظـ�ار
الس�خـيفة بيـ�ن وجــوه مرضــ�ى س�رـطان مرتعبيـ�ن .ال يتحدثــون إال لترديـ�د أحجيـ�ة مـ�ن
يستــعد لطــرق عزرائيـ�ل علـ�ى البــاب .تحملـ�ك املمرضـ�ة البائسـ�ة وهـ�ي تحادثـ�ك بطبقـ�ة
ّ
صــوت منكســرة محاولـ�ة إبدــاء التعاطـ�ف ألنـ�ك
تجلسـ�ك علـ�ى سرــيرمعدنـ�ي ضيقــ ،ترــى كت��ل شـ�حم تتناثـ�رعلـ�ى الطرفيـ�ن ملـ�ن هـ�م
م��ن محب��ي الطع��ام أو املصابي��ن بالسـ�منة .ســتكون س��يئ الح��ظ أكث��رم��ن عش��ق الشـ�اعر
محمــود دروي��ش ،لـ�و خضعـ�ت للمسـ�ح الذــري فـ�ي الشــتاء مثلمــا مــا أقــوم بــه اآلن وحســب
القص��ص الت��ي س��معتها ت��روى بي��ن املرــ��ى.
311
مطلوعة (خبز وحب)
بعد لحظات تشبك ذراعيك خلف رأسك في وضع تعذيب مثالي ،ويخبرك صوت
تتحرك قيد أنملة.مشوش أال ّ املمرض /الطبيب عبرميكروفون ّ
312
مطلوعة (خبز وحب)
ً
مـ�ن إحســاس بكونـ�ي مريض��ا ،وأنـ�ا ال أريـ�د لهــذا اإلحســاس أن يتعاظـ�م.
قتلني انتشــاركلمة "مســكين" داخل رأ�ســي ،أكثرمن ما قتلني انتشــارالســرطان في
جســدي.
313
مطلوعة (خبز وحب)
– نعيمة الحرا�شي.
_نعم
_عندك زائر!
استغربت نعيمة وعقدت حاجبيها ألنها منذ أن دخلت السجن لم يزرها أحد.
من وراء الزجاج في غرفة الزيارة يظهرلها فتى وجهه يبدو مألوفا فرحت بالزيارة،
إال أنها أرادت أن تخفي فرحتها مثلما اعتادت طيلة حياتها:
– ماذا أتى بك إلى هنا .هذا ليس مكانا تأتي إليه؟
– بل أنت التي ال تنتمين إلى هذا املكان.
– ال يابني أنا مرتاحة هنا .وهنا سأكمل حياتي.
– ملاذا فعلت هذا .لم أفهم مالذي دفعك للقيام بهذا .لقد...
– شوف يا مطلوعة .األسباب عديدة ومتعددة .لكن ما فعلته هو الصحيح وكان
علي أن أفعل هذا .على األقل ألريح ضميري ولو قليال.
– وهل تريحين ضميرك بالقتل؟
***
314
مطلوعة (خبز وحب)
مدينة وهران
كان الجوباردا والضباب يغطي تلك الفيال اإلسبانية املزركشة بزخرفات معمارية
متقنة الصنع ذات هندســة بهية ،تغلف حيطانها األعشــاب الخضراء املتســلقة لنبات
اللواي األخضر ،وأمام مدخلها البارز أزهاراألقحوان.
و الياســمين والبنفســج يرســم لوحــة تشــكيلية لونيــة خالبــة مثبتــة بأشــجارمقلمــة
األعراف واألوراق ،واحدة على شــكل دلفين واألخرى هناك بشــكل رجل يمســك مرشــا.
وعــروس تطلــق ثوبهــا األبيــض .يتعالــى خريــرصوتهــا .فــي املنتصــف نافــورة تحيــط بهــا ســبع
مــن حوريــات البحــرتقــذف املــاء مــن خياشــيمها الصغيــرة فــي الســماء بدقــة وانتظــام..
األمطــار تتناطــح فــي ســماء ممســوحة النجــوم لتســقط برفــق علــى تللــك األرصفــة
والطــرق اإلســفلتية ،لتلمــع هــي األخــرى وتنطــط قطـرات املطــرالبــاردة التــي تتهــاوى فوقهــا
لتنتهــي فــي األخيــرداخــل املجــاري علــى حــواف الطريــق.
بيــن تلــك الظلمــة الحالكــة واألمطــاراملتســابقة والضبــاب الهالمــي األبيــض كطيــف
يحــرس مدينــة وهـران الباهيــة ليــا ،بيــن مواقــف الحافــات.
بالتحديــد مــن جهــة ســوق الحمــري بمــكان ليــس ببعيــد عــن محطــة القطــار فــي
جامعــة ســينيا ،كانــت تقبــع تلــك الفيــا الجميلــة.
ليــل ممطــرصامــت ،كانــت هنــاك مثــل ســندريال عندمــا انتهــت مــن حفلتهــا عائــدة
إلى املنزل من نبيلة إلى خادمة بعجارها األسود املسدول على وجهها الصغير ،وجسمها
الهزيــل.
***
315
مطلوعة (خبز وحب)
املتســولة ذات العجــار تراقــب الســيدة املفزوعــة ،وترتــب أوراق الكرتــون تحتهــا،
بجنبها قطة سوداء مبتورة األذن نائمة قرب فتى نحيل يخفي مقصا صغيرا تحت يده
ويســند ظهــره إلــى الجــدارضامــا رجليــه بيــده نحــو صــدره ،أشــعث الشــعر ،يصــرشــفتيه
ونظـرات الخــوف باديــة عليــه.
حافــي القدميــن وفــوق جســده الهزيــل بعــض األســمال الرماديــة الباليــة واملثقوبــة
من كل جهة ،ساكنا من دون حركة كأنه إعتاد على الجلوس في تلك الوضعية...الدهر
حفــره والدنيــا آملتــه كثيـرا.
كانــت تلــك الســيدة تبــدو غامضــة تخفــي مالمحهــا بعجــارأســود يمتــد ّ
حتــى ذقنهــا،
حجابهــا أســود ســميك يغطــي جســدها الهزيــل ،بيمينهــا القطــة والفتــى الكئيــب ،وفــي
حجرهــا تحمــل رضيعــة صغيــرة ذات شــعرذهبــي تشــع جمــاال وعلــى يســارها صحــن فــارغ
أزرق اللــون داخلــه بعــض العمــات النقديــة الصغيــرة ،تجمــع فيــه مــا شــاء هللا أن تجمــع
مــن صدقــات مــن بقــي فــي هــذه املدينــة مــن املحســنين وذوي القلــوب الرحيمــة .وعنــد
فراغهــا مــن جمــع التبرعــات داخــل الصحــن ،تفتــت بعــض الخبــز واملــاء أو بقايــا طعــام
داخــل ذلــك الصحــن لتطعــم القطــة مبتــورة األذن والفتــى الصغيــر.
تنهض السيدة حاملة بيدها سلتها املنسوجة من الدوم اليابس .تنظرهنا وهناك
تلتفــت يمينــا وشــماال لتقطــع الطريــق .وتصــل إلــى ســور الحديقــة ،تدفــع البــاب بحــذر
وتقتحــم مســاحة الفيــا بخطــوات القــط متختلــة علــى أصابعهــا ،تقــف قليــا وتنظــر
ورائهــا كأنهــا تفكــرفــي الرجــوع ،ثـ ّـم تســتمرفــي مشــية اللــص إلــى أن تصــل إلــى بــاب الفيــا.
تتفقــد ســلتها الباهتــة املنســوجة للمــرة األخيــرة ،تصعــد الســلم املكــون مــن أربعــة درجــات
لتضعهــا فــي األخيــرعنــد عتبــة البــاب وتطرقــه طرقــا قويــا.
كانــت رجلهــا اليمنــى علــى الســلم كأنهــا فــي وضعيــة تســتعد للهــروب بســرعة عنــد
طرقهــا للبــاب.
طرقــت البــاب حوالــي خمــس طرقــات ثـ ّـم انصرفــت تاركــة الســلة ورائهــا .اختبــأت
املـرأة بيــن أشــجارحديقــة البيــت ومــا ظهــرمنهــا ســوى قدميهــا شــبه الحافيتيــن ،انتظــرت
316
مطلوعة (خبز وحب)
متخفيــة تحــت الســور ولــم يخــرج أحــد ،فعــادت مجــددا لتالحــظ هــذه املــرة وجــود جــرس
عنــد البــاب .اقتربــت مــن الجــرس وقرعتــه وأرخــت أذنهــا لتســمع وقــع أقــدام قادمة بتراخي
متجهــة لتفتــح البــاب.
التفــت املـرأة وهربــت مســرعة تســحب حجابهــا الــذي يعرقــل جريهــا ،تركــض قليــا
ثـ ّـم تتعرقــل وتتهــاوى ملقــاة علــى األرض ثـ ّـم تنهــض متلقفــة أنفاســها املتقطعــة وتعــود
مجددا للركض ،كانت األمطارتسقط عنها خمارها وتتبعثرعلى جبهتها الناصعة ،لتقع
في األخيرعلى حجابها املبلل املتشبع باملاء الذي يلتصق بها ليظهرجسدا نحيفا وهزيال.
تبتعــد املـرأة لتختفــي وتتبخــرفــي ظــام الشــارع ،فــي األخيــربعدمــا تأكــدت مــن إتمامها
ملهمتهــا وانتظارهــا خــارج ســور الحديقة.
بعينين باكيتين ويدين مرتعشتين تراقب بمكان غيربعيد.
خرجــت ســيدة طويلــة القامــة بشــعرها األصفــر تلبــس بجامــة النــوم .حملــت
السلة ،نظرت هنا وهناك ولم تشاهد أحدا سوى الصمت ،نادت رجال أسمرا عريض
الكتفيــن خــرج حافــي القدميــن وأمســك بالســلة .فتحهــا ...كانــت املفاجئــة تظهــرفــي عينــي
السيد والسيدة...أخرج من السلة لحافة بيضاء ولحافة صفراء تلفان داخلهما جسد
فتــاة صغيــرة ،مكــورة اليديــن ذات أصابــع صغيــرة وضحكــة مالئكيــة .لــون عينيهــا أزرق
بلــون الزمــرد البــارد .وشــعرحريــري أصفــرخفيــف ســاقط علــى جبهتهــا امللســاء البراقــة.
عنــد عتبــة البيــت ومصبــاح ينيــراملدخــل يعكــس ضوئــه علــى مشــهد امـرأة ورجــل يحمــل
مــاكا صغيـرا بيــن يديــه حمــل الرجــل الرضيعــة بيــن يديــه عانقتــه الســيدة والتصقــت به،
عيناهــا تلمعــان خوفــا وحبــا تناولتهــا الســيدة وحملتهــا بيــن ذراعيهــا.
فجأة الحظ الرجل وجود ورقة مخبأة داخل السلة ،فتحتها وبدا بالقراءة
بنبرة خشنة وبطيئة:
إلى السيد جمال
317
مطلوعة (خبز وحب)
ها أنا وكلي يتقطع حزنا وأســفا وكأني أذبح من الشــريان إلى الشــريان .أرســل لكم
هــذه الرســالة ويكتبهــا بــدال عنــي شــيخ طيــب وجدتــه فــي الشــارع .ألنــي ال أجيــد الكتابــة
والق ـراءة.
ـزء مــن كبــدي وأتخلــى عــن أنفــاس عميقــة مــن أنــا ام ـرأة أميــة ومعدمــة ،أقــص جـ ً
روحــي ،وأحشــرها داخــل هــذه الســلة وأناشــدكم هــذه الصبيــة وتربيتهــا وع�ســى هللا
أن تجــد بيــن أحضانكــم املــاذ والــدفء الــذي لــم تجــده فــي حضنــي والــذي لــن تجــده فــي
الشارع .هللا وحده يدري كم أحبها وكم قاسيت من أجلها وحملتها تسعة أشهرفي بطني
وحملــت معهــا الجــوع واملــرض.
و صبرت على البرد ونظرات الناس وكلمات الشفقة التي يرمونها في وجهي وال أحد
وقف بجنبي مثلما فعلت أنت يا سيدي جمال ،كنت القابلة واملستشفى والعائلة التي
لم أجدها برفقتي يوم جاءني املخاض ،لم أجد أحدا سواك يا سيدي "الشحاذ عازف
املزمار" وكم أنت طيب وشجاع لن أن�سى تلك الليلة التي وجدتني ساقطة تحت حاوية
حتى على الصراخ كجثة القمامة في ذلك الزقاق املظلم ،أعاني املخاض ولم أكن أقوى ّ
بــدون روح أنتظــرمــاك املــوت ليخطــف روحــي ،بجنبــي "مبــارك" ولــدي الرضيــع اآلخــر،
أرخيت جسدي وأنا أعتصرأملا أنتظرمالك املوت وأدعوه أن يأتي مسرعا ليريحني من
حتــى ظهــرت أنــت وقــد حســبتك هــوّ .
حتــى أعــرف األلــم الرهيــب الــذي يقطــع أحشــائيّ ،
بعدهــا أن مــاك الحيــاة ،أتذكــر كيــف هرعــت مســرعا نحــوي ودون أن تنتظــر مزقــت
قميصــك وأفرشــته تحــت ظهــري ولــم تجــد شــيئا آخــرتضعــه داخــل فمــي ســوى مزمــارك
أعــض عليــه ألتحمــل ألــم الــوالدة ،و لــن أن�ســى كيــف أمســكت يــدي وضغطــت علــى كفــي
وهمست في أذني وتللك الكلمات التزال تترقرق في أذني كأنها البارحة "أغم�ضي عينيك
وتخيلــي أنــك فــي الجنــة ،وبعــد لحظــات ســتقابلين املالئكــة "
كلماتــك تلــك بعثــت فــي جســدي قــوة رهيبــة ســاعدتني ألخرجهــا مــن بيــن أحشــائي،
ولــن أن�ســى كيــف كســرت زجاجــة الكحــول املرميــة بجوارنــا وقطعــت بهــا حبــل الســرة،
ســامحني ســيدي ألنــي كســرت مزمــارك مــن شــدة األلــم وهــا أنــا ســيدي أكتــب لــك ولــم
أستطع أن أقابلك بعدها خجال من فضلك علي وأقول لك :أغمضت عيني كما قلت لي
318
مطلوعة (خبز وحب)
وجلبت املالئكة من الجنة ،لكن يا سيدي املالئكة ال تعيش في الشارع .وال أحد أطمئن
لحــال فلــذة كبــدي عنــده مثلــك أنــت ألنــك رجــل بحــق .إنــي وضعتهــا بيــن يديــك أنثــى
وسميتها أميمة وأتركها أمانة بين يديك إلى يوم الدين ،ربها مثل ابنتك واستمرفي
العزف لها مثلما كنت تعزف أمام الحانة تلك الليلة وجاءك ذاك الرجل الغريب وفتح
عليك أبواب الخيرومن يومها رحلت عنا واشتقتنا لعزفك وألحانك التي كنت تواسينا
بها في ليلنا الطويل البائس.
ســأدعو لهــا الــرب بــأن يحميهــا ويرزقهــا العيــش الطيــب ويبعــد عنهــا كل املصائــب،
وســأدعو لكــم معهــا علــى أمــل أن نلتقــي فــي الجنــة.
319
مطلوعة (خبز وحب)
السيدة نعيمة.
***
– وهل تريحين ضميرك بالقتل؟
– ال .لن تفهمني .لكن مكاني هنا .حقا .ألني ال أستحق الحرية
– ماذا تقصدين.
_لقد فعلت ذلك من أجل أن أحافظ على حياة ابنتي.
ثــم تنهــدت وبعمــق راحــت تســتطرد فــي كالمهــا ومطلوعــة يحــاول .أن يجمــع مــا بيــن
الســطور:
– أذكــر يومــا أنــي كنــت أتقطــع مــن الجــوع عندمــا رمــى بــي إســحاق فــي الشــارع.
ذلــك الفتــى الضــال .املتعجــرف .فقــط ألنــي غســلت ســرواله وقــد ن�ســي داخلــه ســيجارة
حشــيش .بــدأ بمعاملتــي مثــل الحيــوان .أمــام صمــت أبيــه .الــذي ال يــرد لــه طلبــا.
***
الســيدة نعيمــة تتذكــر عندمــا كانــت عاملــة نظافــة وإســحاق يرمــي لهــا مالبســه
الداخليــة علــى وجههــا .وملــا أخبــرت أب إســحاق بأمــر الســيجارة التــي وجدتهــا فــي جيبــه.
ضربنــي إســحاق ورمانــي فــي الشــارع بعدمــا صبــرت أشــهر علــى الــذل واملهــان مــن قبلــه.
و فــي إحــدى املـرات وأنــا علــى شــفيراملــوت مــن الجــوع .دخلــت حانوتــا فــي الســوق وملــا
رأيتنــي .أذكــرأنــك كنــت تملــك خبــزة مــن املطلوعــة .اقتســمتها معــي .وأعطيتنــي خمســين
دينــارا وابتســمت فــي وجهــي ومضيــت .عرفــت أنــك كنــت بأمــس الحاجــة لتلــك الخبــزة.
وأن حالك ليســت بعيدة عن حالي .وقد تذكرت فعلك ذاك ولم أنســه ما حييت لذلك
قــررت أن أنفــذ بــدال منــك الخطــة.
320
مطلوعة (خبز وحب)
– الخطة!
– نعــم .كنــت هنــاك فــي ذلــك املســاء .أقــوم بتنظيــف األقســام .عندمــا ســمعتك
ورفاقــك األربعــة داخــل القســم .تتهامســون وتبــدو علــى مالمحكــم الجديــة.
فرحت استرق السمع من الباب .وعرفت كل خطتكم وكيف ستنفذونها.
***
مطلوعــة يتذكــرأنــه ســمع صــوت ضجيــج قــادم مــن عنــد البــاب .كأن أحدهــم أوقــع
شــيئا وعندمــا فتــح البــاب ليتفقــد الــرواق بيــن األقســام لــم يجــد أحــدا.
و بذلــك قــررت أن أكــون مكانــك .ســت الخطــة جيــدا ّ
حتــى ال يكــون مشــكوكا فــي ودر
أمــري.
– لكن هل كل هذا من أجل اإلنتقام؟
– من أجل أشياء كثيرة .تضحية وتكفيرعن ذنب قديم.
– ماذا تقصدين بذنب قديم؟
– هنــاك بعــض األخطــاء .عندمــا تقــع ال نســتطيع أن نصلحهــا لكــن نســتطيع أن
نخطــأ مــن أجلهــا ّ
حتــى ال نزيدهــا ســوءا.
– أخطاء من أي نوع!
– عندمــا كنــت شــابة أخطــأت مــع أحدهــم وأنجبــت منــه توأميــن .البنــت لــم أرد لهــا
أن تعيــش حيــاة الفقــرالتــي عشــتها أنــا .لذلــك تركتهــا أمــام بيــت عائلــة ثريــة بعدمــا تركــت
لهــم رســالة ليربياهــا ويجعالهــا ابنــة لهمــا .تركتهــا أمــام منــزل ذلــك الرجــل الــذي فتــح هللا
عليــه بيبــان الخيــربعدمــا كان أشــد فق ـرا وحاجــة منــي .وقــد كان هــو الــذي ســاعدني فــي
والدة أميمــة.
321
مطلوعة (خبز وحب)
_أميمة!
_نعم أميمة بنتي.
صمــت مطلوعــة وبلــع لســانه واســتمرفــي االنصــات لــكالم نعيمــة وهــي تســرد قصتهــا
بــكل ألــم.
_ثم بعدها هجرت مدينة وهران ألسكن هنا.
_لقد قلت أنك أنجبت توئما! إذن أين!...
_نعــم حيــن دخلــت إلــى مدينــة عيــن الدفلــى وجــدت إحــدى العرافــات التــي تملــك
بيتا تضم فيه املهمشــين والطالبات واملومســات ومن ال مأوى لهم .آوتني" خيرة الكحلة
"وملــا رأت الولــد وقــد كان فــي أشــهره األولــى .ولــد بحلمتيــن زائدتيــن وقــدم أطــول مــن قــدم.
أخبرتنــي أن ابنــي هــو "وريــث الشــيطان "وأن علــي التخلــص منــه ألنــه ابــن زنــى بعدمــا
جاءتهــا رؤيــا فــي الحلــم بأنــه سيتســبب فــي موتــي ،فتركتــه فــي ســلة أمــام "مســجد الخضـراء
"وســط مدينــة عيــن الدفلــى .عملــت كخادمــة فــي البيــوت ألعــوام .ثــم وجــدت أخيـرا عمــا
فــي مدرســتكم .وطويــت صفحــة كبيــرة مــن حياتــي .ومــع بدايــة هــذا تفاجــأت بفتاة جديدة
حسناء .كانت لطيفة معي بشكل كبير ،ذات يوم ساعدتني في غسل األرضية ،ملا كانت
تنحني الحظت وشمة على رقبتها مثل الوشمة التي في رقبتي أنظر"وأرت مطلوعة جزءا
مــن رقبتهــا كانــت نفــس الوشــمة املميــزة علــى شــكل نصــف قلــب".
قفــزقلبــي مــن مكانــه ألرى ابنتــي بعــد أعــوام بعدمــا قــد هجرتهــا وتركتهــا بيــن أيــادي
ال�ســي جمــال والــرب.
– وهل أخبرتها أنك!...
– ال
322
مطلوعة (خبز وحب)
ثم صمتت قليال وتابعت كالمها وقد تغيرت نبرة صوتها لتميل إلى الحزن أكثر.
– كنــت عــدة مـرات أريــد أن أصارحهــا .وأعانقهــا وأطلــب منهــا املغفــرة عــن مــا فعلتــه
بها وعن طعم األمومة الذي حرمته منها .لكن لم أقدروعندما رأيت ما هي فيه من رغد
العيش في رعاية ال�سي جمال لم أرد أن أفتح لها جرحا لم تعتقد بوجوده.
– وهل هي تعرف الحقيقة .بأن والديها ليسا حقيقين!
– ال أعــرف .لكنــي أظنهــا تجهــل األمــر .ألنــي فــي رســالتي كتبــت لهمــا بــأن تربياهــا مثــل
حتى ال تجعالها تحس أنها ناقصة دوما .كنت كل يوم عندما ابنتكما وال تخبراها باألمر ّ
أراها أتآكل ببطء أريد أن أرمي دلو املنظفات من يدي وأجري ألعانقها وسط الساحة،
ثم ابتســمت ابتســامة باردة وثقيلة. وكنت أحزن أكثرملا أراها رفقة إســحاقّ .
323
مطلوعة (خبز وحب)
324
مطلوعة (خبز وحب)
ضربــات للضحيــة قويــة لكنهــا غيــر قاتلــة والضربــة القاتلــة هــي ضربــة املــدور فــي الجهــة
اليمنــى األماميــة فــوق عظمــة الرقبــة مباشــرة ،وهــي ضربــة نعيمــة حتمــا.
لكــن مــن أعلمهــا بالوقــت الــذي ســتتم فيــه الجريمــة .ألن احتمــال كبيــريرجــح أن
ضربــة نعيمــة كانــت هــي األخيــرة .حيــث ملــا وصلــت وجــدت اســحاق ســاقطا علــى األرض
مغشــيا عليــه وبتلــك الوضعيــة ســهل عليهــا توجيــه الضربــة القاتلــة .ألن الســيناريو الــذي
شكلته في رأ�سي وهو األقرب للمنطق .أن الضربة األولى أوقعته أرضا وأرجح بأنها كانت
ضربــة طــارق ألنــه أقواكــم .وبعدمــا ســقط اســحاق علــى األرض لــم يكــن قــد فقــد وعيــه
بعــد .دخــل مــروان ووجــه لــه ضربــة علــى رأســه ب�شــيء ثقيــل أفقــده وعيــه وأســال الدمــاء
مــن رأســه .وتبعــه مباشــرة ســميرالــذي علــى األرجــح وجــد اســحاق يســبح بيــن دمائــه قــام
بالتأكــد مــن نبضــه فوجــد أنــه ال ي ـزال حيــا فأخــرج آداة حــادة مــن جيبــه وطعنــه تلــك
الطعنــة التــي الحظنــا وجودهــا بجانــب صــدره .ورغــم ذلــك ال أظــن أن تلــك الضربــة قــد
كانــت كافيــة لقتلــه .لكــن الضربــة الرابعــة كانــت هــي الضربــة القاتلــة باملــدور .واملتســبب
بهــا هنــا شــخص كان تحــت ثــورة مــن العواطــف حتمــا ألن الضربــة قــد وجهــت للرقبــة
مباشــرة وهــذا الشــخص حســب نفســية املشــتبه بهــم .أرجــح بأنــه ّإم ــا أميمــة أو أنــت يــا
مطلوعــة .ولــم أكــن أتوقــع أبــدا أن تكــون الســيدة نعيمــة هــي الطــرف الثالــث فــي القضيــة.
وهي القاتلة .لذلك أنا أرجح بأنك أنت من قمت بتهديدها وإجبارها على القيام بجريمة
القتــل .ألنــك تخــاف الــدم منــذ حادثــة أبيــك وقــد أصبحــت عقــدة بالنســبة لــك وغيــره
الكثيــرمــن نفســيتك التــي ترجــح غيــرك بــأن يســتعين بشــخص آخــر .شــخص يكــون بعيــدا
حتــى تبقــى جريمــة القتــل غامضــة .وهــذا هــو رأيــي .ورغــم هــذا أظنــه ال عــن كل الشــكوكّ .
يهــم فقــد مســح ســاح الجريمــة كلــه فــي نعيمــة.
ثــم صمــت املحقــق قليــا أخــرج مــن جيبــه علبــة تبــغ وضــع دكــة شــمة تحــت شــاربه
مــن دون ماصــة .نفــض يديــه وتابــع كالمــه:
_لكــن هنــاك قطعــة ناقصــة فــي القضيــة ..وحتمــا سأكتشــفها عاجــا أم آجــا .وأنت
يا مطلوعة ســتقع بين يدي يوما وتخلصها غالية غالية ...واأليام بيننا.
ثم أخرج مطلوعة الرسالة التي من جيبه وأعطاها للمحقق:
325
مطلوعة (خبز وحب)
_أعطتنــي اياهــا الســيدة نعيمــة .ربمــا قــد تســاعدك فــي أن تجــد هــذه القطعــة
الناقصة التي تتحدث عنها .وتعرف أني لم أقتل اسحاق .وأن السيناريوالذي في رأسك
ليــس حقيقيــا.
أمسك املحقق الرسالة وقرأ على ظهرها بالخط العريض.
هذه الرسالة خاصة ويقرأها لها يحي الصابري
هذا عنوانه :حي البلبال أمام البيت بجنب الخروبة الكبيرة
سئل املحقق مطلوعة:
_هل فتحتها من قبل؟
فتح املحقق الرسالة وبدأ قراءتها بصوت مسموع.
الســيدة نعيمــة الحرا�شــي أنــا أعــرف أن أميمــة ابنتــك وأعــرف كيــف كانــت
معاملــة اســحاق لــك عندمــا كنــت خادمــة فــي بيتهــم ،إن أردت أن تحافظــي علــى حيــاة
ابنتــك فعليــك بــأن تقتلــي اســحاق مرصلــي وذلــك علــى الســاعة الثالثــة والنصــف
بمكتبــة املدرســة التــي تعمليــن بهــا حيــث ســتكون املهمــة مجهــزة لــك .وإال ســتموت
ابنتــك.
أغلق املحقق الرسالة ونظرإلى مطلوعة:
_هل أخبرتك من أرسلها لها؟
_ال
_يحي الصابري
_له نفس لقبك!
326
مطلوعة (خبز وحب)
_هو جدي.
_نعم قد تذكرته.
_نحــن اآلن أمــام احتماليــن ّإم ــا أن تكــون الســيدة نعيمــة تجيــد الكتابــة والق ـراءة
وقــد كتبــت هــذه الرســالة فــي الســجن لنفســهاّ .
حتــى تخفــف الحكــم عليهــا أمــام القانــون
بعدما ندمت على فعلتها وأرادت أن تخلق لنفسها قصة القتل تحت اإلكراه والتهديد.
وهــذا مرجــح بــأن مــن أرغمهــا ســيفكربمــا أفكــربأنــي ســأفكربهــذا ويجعلنــي أعتقــد هــذا
االحتمــال وأورط الســيدة نعيمــة أكثــر.
ثم وضع املاحي يده على قفاه وحك خلف رقبته ليفكر..
سأله مطلوعة:
_واالحتمال الثاني.
_االحتمــال الثانــي هــو أن أحدكــم كتــب هــذه الرســالة لهــا حقــا وأرادك أن ال تقتــل
اســحاق وأن تقــوم نعيمــة هــذا بــدال منــكّ .إم ــا أن تكــون أميمــة بســبب حبهــا لــك وبســبب
أنهــا تعــرف أن نعيمــة أمهــا بطريقــة مــا ،لذلــك أرادت االنتقــام منهــا ألنهــا تخلــت عنهــا .وإمــا
أن يكــون أحــد أصدقائــك بســبب الصداقــة .وإمــا أنــت.
_كيف تشك بي وأنا أعطيتك الرسالة دون أفتحها وأقرأ ما فيها.
حتى تصنع لي قصة أخرى في _نعم يبقى احتماال واردا أن تكون أنت الذي كتبتها ّ
التحقيــق وتبعدنــي عــن القصــة الرئيســية .وهــذه الرســالة بطريقــة أو بأخــرى هــي رســالة
تحــدي لــي ،كأن الـرأس املخطــط للجريمــة كان يعلــم بــأن هــذه الرســالة ســتقع بيــن يــدي
عاجال أم آجال وأني سأذهب ألزورجدك وأحقق معه وربما أيضا أجد أنه لقنه الكالم
الــذي ســيقوله أثنــاء تحقيقــي معــه ويرمينــي إلــى قصــة أخــرى أبعــد مــن هــذه القصــة .لكن
تذكــرأن حبــل الكــذب قصيــر.
327
مطلوعة (خبز وحب)
ثــم أخــرج املحقــق حبــة تفــاح مــن جيــب معطفــه .قضــم منهــا .وقســم منهــا جـ ً
ـزء
أعطــاه ملطلوعة...فقضــم مطلوعــة قضمــة مــن التفاحــة:
_ألم تخبرني أنك ال تحب التفاح؟
***
انطلق املاحي متجها للتحقيق مع السيد يحي الصابري.
328
مطلوعة (خبز وحب)
غدروه!
و أنــا عائــد مــن ســجن النســاء وبــي دهشــة مــن الحقائــق التــي أخبرتنــي بهــا الســيدة
نعيمــة .ألفاجــئ بمجموعــة مــن األشــخاص عنــد بــاب الــدار .اقتربــت ألجــد جــدي ســاقطا
على األرض في حجرأمي والدماء تسيل من رأسه .أحدهم يصرخ من بعيد أن اإلسعاف
قــادم.
أمــي تبكــي وتصــرخ وعبــاءة جــدي ملطخــة بالدمــاء .جثــوت علــى ركبتــي وأمســكت
رأسه ولحيته متشبعة بالدماء التي تسيل من رأسه .الحظت وجود مسدس صغيربين
حتى ال يراه أحد .بسرعة وقبل أن تصل سيارة أصابعه .نزعته من يده وخبأته في جيبي ّ
اإلســعاف كان املاحــي فــي املــكان رفقــة مســاعدين مــن الشــرطة ،نبــاح الكلــب غيــرطبيعــي،
أمــي تبكــي وتصــرخ ملــئ حنجرتهــا.
_ غدروه ...غدروه ..الخونة ...قتلووووووه يا ناس من أجل بقرة ...قتلوووه.
فهمــت مــن بــكاء أمــي أن أتبــاع النــذل جمــال هــم مــن فعلــوا هــذا وعندمــا تصــدى
لهــم جــدي أردوه قتيــا وأخــذوا البقــرة .ونهــروا الكلــب.
نهضــت وعينــاي تفيضــان بالحقــد والشــر علــى مــن قتــل جــدي وقابلــت املاحــي
مباشــرة فــوق رأ�ســي:
_مات ومات معه سرالقاتل
_هل هذا ما يهمك .هل أنت بشري! هل أنت تحس؟
_إن هذا القاتل قد...
قاطع مطلوعة املاحي وأمسكه من كتفه:
_جمال حراج من قتله .هيا اسرع لنقبض عليه .هيا.
329
مطلوعة (خبز وحب)
مطلوعــة يجــر فــي املاحــي مــن كتفــه .لكــن املاحــي ال يتحــرك ويســتمر بجمــع األدلــة
والبحــث فــي جيــوب الضحيــة:
_ أنتم كالب الدولة تسكتون على الحق ..تطبقون القانون على الفقراء فقط.
ثـ ّـم دفعــت املاحــي وانطلقــت ألبحــث عــن الوغــد جمــال .وضعــت فــي جيبــي املســدس
الصغيرلجدي .وكان يحمل داخله رصاصة واحدة .قعدت فوق صخرة الغولة وبدأت
أتفتت من الحزن واأللم على فراق جدي .انفجرت باكيا وصرخت بقوة وســط النهر.
بقيــت أتأمــل أحــداث حياتــي التــي تجــري بســرعة جريــان ميــاه النهــر .ال أعــرف ملــاذا
التاريــخ يكــرر نفســه .نفــس الحادثــة التــي حدثــت معــي قبــل أعــوام هــا هــي تعــاود نفســها.
***
الفتى الصغيرأمام النهر .يحمل في يده مقصا تقطرالدماء منه.
الفتى كبروها هو أمام النهرفي نفس املكان يحمل في يده مسدسا.
***
مســحت دموعــي وتأملــت النهــر وأحزانــي تســيل أمامــي .أتنفــس بصعوبــة جســدي
يختنــق وروحــي تختنــق ..أنــا أغــرق فــي البــر وكل الغابــة تذبــل أمامــي وزرقــة املــاء تحــول
لحمــرة داخــل ذاكرتــي وفــي عينــي.
فتحت املسدس فوجدت رصاصة واحدة كأنها إشارة واضحة من القدرأن على
أحدهم أن يموت اآلن .وقفت فوق صخرة الغولة .وضعت الرصاصة داخل ماسورة
املســدس التــي تحمــل ســتة ثقــوب .وتذكــرت لعبــة الروليــت التــي حكــى لــي جــدي عنهــا ذات
مــرة هنــا .وأرانــي كيــف ألعبهــا.
وضعــت الرصاصــة داخــل ماســورة املســدس .نســبة موتــي هــي واحــد مــن ســتة أي
1/6يعني 16%احتمال موتي .في الحقيقة والفكرة العامة هي نسبة جيدة أفضل من
330
مطلوعة (خبز وحب)
331
مطلوعة (خبز وحب)
إنسان مضغوط
أنــا مكتــظ بالفـراغ ومختنــق بالعبــث إلــى حــد األلــم .لــم أســتطع أن أكــون مــا أريــد،
حتــى إن أصبحــت مــا ال أريــد .أنــا مجــرد شــخص معتــوه وبليــد إلــى منهــى ولــم أعــرف ّ
الســخط علــى هــذه الحيــاة .حياتــي التــي تطحننــي ثـ ّـم تعجننــي مثــل خبــزة مخمــرة باألمــل.
أريــد أن أقــدم اســتقالتي مــن هــذه الحيــاة العبثيــة املغريــة.
أنــا أشــعربروحــي متورمــة داخــل جســدي علــى وشــك التقيــح .ومشــاعري أصبحــت
صدئــة مــن مطــرالحــب ،وحيــد أنــا مثــل صرصــور ليــل مبتــور األقــدام يعبــرالطريــق إلــى
الالمكان .لم ترحمني الحياة بنت الكلب ولم يرحمني أي من بنيها .أشعربالظلم والحقد
حتى الجنون أم أرثوني شأوالشهقة؟ على نف�سي في كل لحظة ،فهل أضحك على نف�سي ّ
وهــل أنتحــرأم أســتمرفــي محاولــة الحــب؟
األلم لسعة الحياة وثقب اإلدراك والوعي الوجودي ،ذلك الوعي السمي املفرط،
يهلكنــي ،يمرضنــي ،ويضغــط املشــاعرداخــل روحــي املجوفــة .وكــم تخنقنــي معرفــة أنــي
ســأقتل هــذا املخلــوق املضغــوط ،علــى كل حــال هــذا ال يهــم ،ألنهــم ســيبكون علــى عــدم
وجــودي أيامــا أو أشــهرا ،ثــم يواصلــون تواجدهــم املمــل .وإنمــا الحيــاة تيــارمســتمرمــن
األلــم .واملــوت قاطعــة تيــارعاديــةّ ،أم ــا اإلنتحــارفمقــص مــن حديــد يقــص الخيــط .كل
الوجــود ينهــارأمامــي واملســدس بــارد فــي يــدي مثــل قطعــة ثلــج .ميــت أنــا علــى قيــد الحيــاة،
وحياتــي قيــد اإلص ـرار والتحــدي الوهمــي العســير علــى حالتــي الصحيــة والنفســية .أنــا
مضغــوط باأللــم واملــرض والحــب والكــره واالنتقــام وامللــل واألمــل والف ـراغ.
فهل لحياتي هذه معنى! أم أنا مجرد ذرة في فراغ متكاسل غيرآبه ّ
حتى بوجوديتي
املوحشة؟
332
مطلوعة (خبز وحب)
أشــعر أنــي فــي مقلــب ســخيف مــن مقالــب الكامي ـرا الخفيــة وســيخرج لــي أحدهــم
عندمــا أضــع املســدس فــي رأ�ســي ويكشــف املقلــب .أو أننــي ضحيــة لتجربــة علميــة ،تجربــة
ضغط األلم النف�سي داخل الجسد وهناك من يراقبني ويدرس انفعاالتي وتجاوبي مع
األلــم ويحقننــي بجرعــة أكبــر .حتمــا هــذه ليســت حياتــي .ال أذكــرأنــي فرحــت يومــا واحــدا
فرحة كاملة .ال �شــيء ســوى جرعات األلم املتزايدة .وفي بعض األحيان الطويلة ،أشــعر
أني شخصية في رواية سوداوية لكاتب مريض يريد أن ينتقم من حياته اململة فخلقني
من أجل أن أمثل األلم على طول الصفحات .كاتب شريرال يستطيع عيش حياته يريد
أن يشــفي غليلــه ويتلــذذ بتعذيبــي وتمزيقــي ليشــعربر�ضــى نف�ســي وراحــة داخليــة مــن نــوع
خــاص .لــو كنــت أمســك ذاك القلــم لصنعــت لنف�ســي رئــة جديــدة وحيــاة ســعيدة وامـرأة
تحبنــي.
ســيدي ال ـراوي أكتــب فــي آخــر الروايــة أن هــذه الشــخصية هربــت وقفــزت مــن
الورقــة أو أنهــا انتحــرت .صدقنــي يــا ســيدي إنــي مــا عــدت أبالــي وال أهتــم بتلــك الشــخوص
التــي صنعتهــا فــي حياتــي وال بتلــك العالقــات والروابــط التــي شــكلتها لــي .أعلــم أنهــا وهميــة
ومطليــة بالخيــال .أعلــم أننــي غيــر موجــود ســوى إلرضــاء شــهوتك املرضيــة الســادية فــي
التلذذ بألم اآلخرين ،أنت حقيروأعرف أنك جعلتني أتحدث فقط من أجل أن تبث في
شخصيتي بعدا حيا آخر ،لكنك كاتب فاشل ألنك لست أدرى بنف�سي مني ولن تمنعني
مــن وضــع هــذا املســدس فــي رأ�ســي ،بــكل بســاطة ألنــي أدرك أن حياتــي وهميــة وعبثيــة
إلــى حــد مفضــوح ،وأنــت مــا يدريــك ربمــا تكــون شــخصية كاتــب فــي روايــة كاتــب آخــرمــن
عالــم مختلــف .هــل تظــن أنــك تســيرني بمحــض إرادتــك وتمنعنــي مــن أكــون مخي ـرا؟ هــل
أنــت ربــي أم أنــا أهــذي أم أنــت أنــا وأنــت موجــود فقــط فــي خيالــي؟ ربمــا أنــت غيــرموجــود
وأنــا صنعتــك اآلن وخلقتــك وجعلتــك ترانــي .أو ربمــا أنــا وأنــت لســنا ســوى شــخوص مــن
عامليــن متوازييــن نتشــارك فــي خيــط خيــال وألــم .هيــا ال داعــي لــكل هــذا ولننتحــرفقــط،
أمــوت اآلن وأنهــي الروايــة فليــس مــن اإلنســانية أنــك تعذبنــي أكثــر .هــل تــدرك معنــى أن
تعيش بحطام ذاكرة أسود أن تتخيل أبوك يسقط أمامك بطعنة مقص من يدك كل
يــوم .أن تعيــش فقيـرا معدومــا .وأن تصــاب بمــرض قاتــل وأنــت تمــوت داخــل موتــك الحــي
ببطء ،لو أنهيت حياتي في األول أحسن ،لكنك رجل مريض وبغيض تصنع مني فتى في
333
مطلوعة (خبز وحب)
ثم تجعلني أصاب بمرض ال صلة قرية من غباروفقر ،وتسلط علي شتى أنواع العذاب ّ
لــي بــه ،حبكــة ســخيفة مــن كاتــب ســخيف يعتمــد علــى صدفــة القــدروعبيثتــه مــن أجــل
بنــاء ســرد روائــي قــوي ،ثـ ّـم مــن وحشــيتك أن تجــرب إدخــال الحــب فــي حياتــي ،وتزرعــه
داخــل قلبــي .أنــت لســت ربــا ولــن تجاريــه فــي خلقــه .تفــوووه عليــك إن كنــت تعتبــرنفســك
إنسانا ،فقط تعذبني من أجل أن تسلي قراءك في بضع صفحات وأنت غيرمدرك أنها
حياتي التي تكتبها وأنا أحس هنا وأشعر .أنا من دم ولحم وروح ،أنا موجود وأفكروأعي
وكــم هــذا مؤلــم؟
هــل تســمعني هنــاك هــاي ...هــا توقفــت لحظــة أرجــوك ،توقــف بــاهلل عليــك وبحــق
مــا تؤمــن بــه .أقتلنــي أو اجعلنــي حج ـرا ال يحــن ل�شــيء أو اصنــع منــي صرصــورا طائشــا
يدهســني بطــل الروايــة تحــت رجلــه دون أن يحــس .ردنــي إلــى قطــرة مطــرتنتحــرفــي عاشــر
صفحــة ،أو ذرة مــن هــواء تؤثــث مشــهدا جانبيــا فــي روايــة منســية ،أو حولنــي إلــى شــعاع
جزء من الفراغ فراغ البداية في أول السطرمثال� ،شيء جميل أعدك أني لن شمس أو ً
أتحــرك ولــن أشــتكي ولــن أهــرب وســأبقى فارغــا للفـراغ فقــط.
أقتلنــي أرجــوك فمــا عــدت أحتمــل أن أخســر أحبائــي أكثــر .مــا عــدت أقــوى علــى
املتابعة في روايتك هذه .لقد حملتني ما ال أستطيع .صدقني دعني أرمي نف�سي في النهر
وســتكون نهايــة عبثيــة لــم يجــرؤ كاتــب قبلــك علــى التفكيــربهــا .أو دعنــي أضــع املســدس
داخــل رأ�ســي وأنتحــروتكــون نهايتــك تراجيديــة بذلــك تغــدوشكســبيرزمانــك ،وأعــدك أني
ســأقوم باالنتحــاربمشــهد يقطــع األنفــاس وال يمحــى مــن ذاكــرة مــن يقـرأ روايتــك .مــا رأيك
فــي هــذا هــل نجــرب؟
على كل حال هل تعلم ماهي أمنيتي قبل أن تنهي شخصيتي؟
أمنيتــي هــي أن تجعلنــي أحــس بذلــك اإلحســاس الــذي تحســه وأنــت تتلــذذ بألــم
غيــرك عندمــا تنهــي شــخوصهم وتضــع حــدا لحياتهــم لســبب يخــدم متــن الســرد وحقــن
التشــويق .لكــن مــن العبثيــة أنــك قتلــت جــدي ال أعلــم هــل تريــد أن تصبــح ربــا أم تريــد أن
تزيــد التشــويق فــي متــن الحكايــة أم عبثــا فقــط.
334
مطلوعة (خبز وحب)
ال أرى أي ســبب يخــدم الحبكــة أو شــخصية طيبــة مثــل شــخصية جــدي تســتحق
املــوت؟ هــل حياتــك غيــرعادلــة مثــل حياتــي؟
دعنــي أخبــرك وأكــن صريحــا معــك مــن اآلن وصاعــدا أنــي ســأتمرد علــى مــا تكتــب.
وســأحاول إنهــاء شــخصيتي مــع كل حــدث .ألنــي أعلــم أنــي مخيــر ولســت مســيرا فتبــا لــك
مــن إنســان مريــض.
سأموت في النهاية وهذا ما كتبه في مخطوط الرواية.
هل تعلم فنيا ال فائدة لك مني اآلن بعدما فضحت نهايتي للقراء .لست شخصية
مشــوقة اآلن .هــل رأيــت أنــا أتمــرد علــى عقيــدة صمــت الشــخوص وتطبيقهــا للمخطــوط
واملكتــوب .أنــا أعــرف مكتوبــي لكنــك ال تعــرف مكتوبــك .عجــل فــي مماتــي اآلن وأنــت
تســتطيع إكمــال الروايــة مــن دونــي عنــدك الكثيــرمــن الشــخوص الغامضــة واملشــوقة
غيــري .فدعنــي أمــوت وشــأني.
335
مطلوعة (خبز وحب)
الطلقة األولى
336
مطلوعة (خبز وحب)
_تك...
قبــل أن تــدور ماســورة املســدس فــي ثالثــة أج ـزاء مــن الثانيــة علــى وجــه الدقــة
االنتحاريــة.
رأيت شريط حياتي يمرأمامي بالعرض البطيء.
الفتــى الصغيــربطربوشــه األحمــريجــري بيــن املــروج الخضـراء ،يرعــى الغنــم ويتمــرغ
فــي الحشــيش .يلعــب فــوق دراجتــه ويفتــح ذراعيــه للهــواء وللحيــاة كأنــه يعانــق الكــون،
يحملــه أبــوه فــوق ظهــره ويمــر بــه وســط القريــة ،يعلمــه جــده كيــف يصطــاد فــي النهــر.
كيــف يصــاد األرانــب والحجــل فــي الغابــة .يلعــب الكــرة بجــورب ممــزق ،يقفــزفــي الهــواء،
يتذكــرأمــه وهــي تعجــن الخبــز .الســوق والقريــة .املدرســة واملدينــة .أميمــة والحــب ،عــدة
واملخفــي .بلوطــة ،فــارس واملارطــو ،ســمير ومــروان .وكل الكــون كان يســير داخــل عينــه
ببــطء ســام.
انزلقــت دمعــة مــن عينــي وارتجــت شــفتي ..أحسســت ببــرد رهيــب ينقــر ســاقي،
تنفســت بعمــق وشــهقت...ضغطت علــى الزنــاد.
تك...طلقة فارغة
جبينــي يعــرق وإصبعــي يرتجــف فــوق الزنــاد .ســعلت وتذكــرت ســخرية القــدرمنــي.
تبــول الحيــاة فــوق مصيــري ...ابتســمت .انفلتــت منــي نصــف ضحكــة غريبــة متصاعــدة
ثم انقطعت ..لتحول إلى بكاء مضغوط .مثل رضيع أخذوا بسرعة نحو سماء الجنونّ .
منــه ألعابــه تلــك اللحظــة التــي تســبق انفجــاره .تلكمــا العينــان الشــاخصتان اللتــان
تظهـران تلــك الحيــرة فــي وجهــه حيــن ال يفهــم مــا يحــدث حولــه .كانــت تعلــو محيــاي.
كيــف لــم أمــت لحــد اآلن؟ هــل هــو الحــظ أم أن القــدريســخرمنــي ويعذبنــي أكثــر.
الطلقــة الثانيــة أشــعرأنــي علــى وشــك أن أالمــس حافــة الجنــون أو حافــة الشــجاعة .هــل
االنتحــارهــو قمــة الشــجاعة أم قمــة االنكســاروالهــوان؟
337
مطلوعة (خبز وحب)
وهل هذه الحياة حقا تستحق أن تعاش؟ وتستحق أن أبكي عليها أو باألحرى أن
أبكي على نف�سي وأنا أفارقها بهذه الطريقة؟ ال لن أحزن .فال أحالم لي ألتركها تتبخر .وال
رابــط لــي مــع هــذه الدنيــا الدنيئــة .عندمــا أقابــل الــرب ســأخبره أنــي انتظــرت أن يطلــع علــي
ضوء الصبح ذات يوم .لكن طال انتظاري في غياهب الفقروالحزن ومع الوقت بدأت
أدرك أن كل حياتي ماهي سوى ليل طويل كلما زاد طوله كلما زاد برده.
وضعت فوهة املســدس داخل فمي تذوقت طعم الصدئ تحت لســاني أغمضت
عيني ،تقدمت أكثر ّ
حتى أســقط داخل النهر...ضغطت الزناد بقوة.
تك ..طلقة فارغة.
كأن الحيــاة تضحــك علــي وأنــا أمــوت مــع كل ضغطــة فــوق الزنــاد دون أن أمــوت.
كل ضغطــة تأخــذ شــطرا مــن روحــي وتقتــل داخلــي أطنانــا مــن املشــاعروتجمــد الكثيــرمــن
اإلنســان داخلــي.
عضضت على شفتي بقوة .غيرت مكان املسدس ألضعه في وسط جبتهي ،أمسكته
بكلتــا يــدي وســبابتي .مــن ســخافة األمــر .إصبــع الســبابة هــذا لــه ســركبيــرفقــد يأخــذك
للجنــة مثلمــا قــد يدخلــك النــار .بــدأت أفــكاري تنهشــني وتتالطــم داخــل رأ�ســي واألصــوات
تنبــح فــي الفـراغ ،والضــوء يتكاســل أمــام عينــي ،األشــجارتــذوب وميــاه النهــرتغلــي .تذكرت
أمي وصرخت...تذكرت أميمة وعينيها وكيف سأخرج من حياتها ألن أمثالي ال يليقون
بأمثالهــا .أنــا دمــاروظــام .أنــا النحــس وأنــا مــن تســبب بقتــل الكثيــرمــن األرواح علــي أن
أنتقــم منــي اآلن .نعــم هــذه هــي النهايــة جثــوت علــى ركبتــي ..تذكــرت جــدي ملــا أعطانــي
القــادة وأخبرنــي أنهــا حاميــة وعاميــة وشــافية..ضغطت الزنــاد بــا مبــاالة بــاردة..
تك ....طلقة فارغة.
تفوووه على الحظ وتفووه على عبثية الوجود.
أمسكت تلك القالدة ،تأملتها لوهلة وتذكرت ما قاله جدي.
338
مطلوعة (خبز وحب)
هــل يــا تــرى مــا قالــه عنهــا صحيــح ...هــل هــي التــي حمتنــي مــن املــوت اآلن وهــل هي التي
حمتنــي مــن دخــول الســجن؟ وهــل هــي التــي كانــت تحمينــي عــدة مـرات مــن املــوت املحتــم؟
أم أنــه مجــرد حــظ...
تك...طلقة فارغة...
تك...طلقة فارغة…
آخرطلقة في املسدس.
استسلمت أخيرا وأنا أعرف أن هذه نهايتي.
قبل أن أضغط على الزناد شعرت أن يدا تمسكني من الخلف
التفت ألجد "املخفي "بشحمه ولحمه.
بنظــرة جــادة لــم أره مــن قبــل فــي تلــك الجديــة عينــان ملتهبتــان تكلــم بنبــرة واضحــة
وشــديدة:
_" جدك مات رجال فمت رجال "
ثم م�ضى في طريقه دون أن يزيد كلمة أو يلتفت نحوي
مكررا جملته املشهورة:
"ما يبقى في الواد غيرحجاره "
“ما يبقى في الواد غيرحجاره "
عجيب أمرهذا املخفي بجملة واحدة قلب كل أفكاري.
"جــدك مــات رجــا" يعنــي أنــه مــات مدافعــا عــن شــرفه وحرمــة بيتــه .فمــت رجــا...
فيجــب علــي أن أمــوت مثلــه مدافعــا علــى رجولتــي.
339
مطلوعة (خبز وحب)
املخفــي أوحــى لــي بفكــرة جهنميــة .حيــث أخرجــت الرصاصــة مــن املســدس تأملتهــا
"لـ�م يعـ�د لـ�ي شــ�يء ألخسـ�ره".
اتصلت بطارق وفارس ومروان وسميروأخبرتهم بالخطة.
340
مطلوعة (خبز وحب)
الطلقة الثانية
نصبنــا كمينــا للســيد جمــال فــي جلســة قمــار بعدمــا تســللنا للفنــدق الــذي يقامــر
داخلــه ويلعــب البوكــر ويغــش بطرقــه الخبيثــة.
انتحــل فــارس شــخصية الفتــى الثــري والطائــش الــذي يملــك الكثيــر مــن النقــود
ويريــد أن يقامــر بهــا وهــو يبحــث عــن شــخص ثــري ليدخــل معــه التحــدي .فــارس هــو
الطعــم .وطــارق هــو حارســه الشــخ�صي .طــارق خيــط الصنــارةّ .أم ــا مــروان مــكان النــادل
الــذي يضــع الحبــوب املنومــة داخــل كأس ال�ســي جمــال .مــروان يلعــب دور العصــا التــي
تهــزالخيــط لتجهــد قــوى الســمكة فــي شــد الخيــط ،وســميريحــرص علــى أن تكــون املبــاراة
مغلقــة وأن ال يتدخــل أحــد مــن الخــارج .ســميريلعــب دور الخطــاف الــذي يثبــت الســمكة
وال يدعهــا تهــرب .وال�ســي جمــال هــو الســمكة التــي علــي أنــا الصيــاد أن أخلــص النهــرمنهــا
ومــن وحشــيتها واســتبدادها .فــارس كان يجيــد لعبــة البوكــرجيــدا وكل األلعــاب األخــرى
التــي تعتمــد علــى الــذكاء كان ذو ذكاء غيــرطبيعــي .وملــا أحــس ال�ســي جمــال بــأن خســارته
بدأت بالتضاعف وخدعه لم تعد تفلح أمام فارس .لجأ لحيلته املشهورة .وأخرج تلك
القطعــة الفضيــة وبــدأ بتحريكهــا بيــن أصبعــه .وهنــا أيــن ابتلعــت الســمكة الطعــم.
وقبل أن يعرض مقامرته الكبرى على سميرعرض عليه مروان الشراب املنوم.
ثبته الخطاف وسحبه الخيط ،وجاء في وعاء الصياد.
نجحت الخطة ونام ال�سي جمال على طاولة القمار .حمله طارق وأدخله الغرفة
املجــاورة .أقعــده قبالتــي .صفعــه ســميرعلــى رقبتــه ّ
حتــى يســتيقظ .أراد النهــوض فوجــد
نفســه محاصـرا بنــا نحــن الخمســة.
– هــل تريــد أن نقامــر هــاه ..ليــس نصــف مــا تملــك وليــس كل مــا تملــك لنقامــر
بحياتــك إذن هيــا...
341
مطلوعة (خبز وحب)
– ملــا نلعــب علــى كل حــال .هيــا اقتلنــي مباشــرة .فحتــى لــو تمكنــت منــك ومــت أنــت،
ســيقتلني أصدقائــك بعــدك هــذا واضــح.
ال تخــف لــن نقتلــك فأصدقائــي رجــال ونحــن الفق ـراء رأس مالنــا كلمتنــا .ليــس
مثلكــم أيهــا األثريــاء األنــذال رأس مالكــم هــو مالكــم .لكــن لــن أضمــن لــك انتقامهــم منــك
بعــد أن تخــرج مــن هنــا .عليــك اللعــب إن أردت أن تعيــش فقــط العــب هيــا لنبــدأ اللعبــة.
– شــوف فــي هــذه الغرفــة واحــد منــا ســيخرج علــى قيــد الحيــاةّ .إم ــا أنــا أو أنــت .هــذا
الكــون ال يتســع لكليــا .يــا لوهرانــي .أنــت قاتــل وأنــا قاتــل والقاتــل البــارد هــومــن يربــح ..أنــت
تســتحق املــوت وأنــا أســتحق املــوت.
فتــح مطلوعــة املســدس وضــع رصاصــة واحــدة داخلــه وأداراملاســورة ثـ ّـم أغلقــه.
أداره فــوق الطاولــة .لتقــع فوهــة املســدس موجهــه نحــومطلوعــة .حمــل جمــال املســدس
وضعــه مباشــرة فــي وجــه مطلوعــة الــذي قابــل فوهــة املســدس بــكل بــرود وابتســامة
منطفئــة .كأنــه ميــت علــى قيــد الحيــاة.
طلقة فارغة.
342
مطلوعة (خبز وحب)
ابتلــع جمــال ريقــه ونظــرفــي عينــي هــذا القــروي الــذي كان كل حلمــه أن يبيــع كل مــا
فــي ســلته مــن مطلــوع .هــذا الفتــى القــروي لــم يعــد لــه �شــيء ليخســره .كيــف للخــادم أن
يقتــل ســيده؟
أمســك مطلوعــة املســدس وببــطء مرعــب شــمر علــى ســاعديه .مباشــرة وضــع
املســدس علــى بعــد ســنتمترات مــن جبهــة ال�ســي جمــال .ثـ ّـم تكلــم بنبــرة هادئــة وبطيئــة:
_هذه من أجل أبي هواري الالزالذي به كنت سببا في صنع قاتل ومقتول في ليلة
واحــدة.
***
قبل ثالثة عشرعاما.
أمــام عينــي الفتــى الصغيــر صاحــب الطربــوش األحمــر .األب يترنــح وســط الكــوخ
ورائحــة الخمــر تفــوح مــن مالبســه وبصــوت مبحــوح يقــول:
_الوهراني الكلب ...خدعتني في داري وصحتي ...الهواري الكلب.
***
ثم يفتح مطلوعة عينيه ويضغط على الزناد.
تك ...طلقة فارغة
يعصــر جمــال عينيــه وتــكاد روحــه تخــرج قبــل أن يتلقــى الطلقــة .جبينــه يعــرق
وأنفاســه تتصاعــد بتواتــر واضــح ،تــكاد روحــه تخــرج منــه قبــل أن تخــرج روحــه.
يضــع مطلوعــة املســدس أمــام ال�ســي جمــال .يتــردد فــي حمــل املســدس فيضغــط
طــارق علــى كتفــه مــن الخلــف .فيحملــه بيــد مرتعشــة .يفتــح ربطــة عنقــه ويباعــد بيــن
ســاقيه ،ضاغطــا علــى أســنانه.
343
مطلوعة (خبز وحب)
مطلوعــة يبتســم ابتســامة عريضــة تبــث الرعــب فــي قلــب جمــال .ثـ ّـم يضغــط الزنــاد
حتــى يطمــس هــذه االبتســامة املرعبــة عــن وجهــه .وقبــل أن يفعــل ذلــك التفــت ليتفقــد ّ
األربعة الجاثمين وراءه على الحائط .يزداد مطلوعة قوة مع كل رصاصة ال تقتله .كأنه
يطبــق مــا قالــه لــه جــده املرحــوم.
لم يتبق في املسدس سوى أربع رصاصات .ال�سي جمال يعرق بشدة ووجه محمر.
حلقــه جــاف .وعــروق رقبتــه بــارزة مــن الضغــط الــذي يكتمــه داخلــه .املصبــاح يتدلــى مــن
فــوق الطاولــة يعكــس ضــوءه الخافــت علــى ســطح املســدس ا ذي الفــم القصيــر .املــوت
شــبح ثقيــل يصــرخ فــي جــو الغرفــة .األيــادي تعــرق والقلــوب تخفــق بســرعة مــاك املــوت
متعطــش لقبــض روح التـزال ســاخنة خارجــة مــن جســدها لتوهــا.
يحمل مطلوعة املســدس بأنفاس باردة ومالمح متصلبة يضع فوهة املســدس في
وســط جبهــة جمــال.
344
مطلوعة (خبز وحب)
تك ...دماء على الحائط ...طلقة تخترق الجمجمة...ال�سي جمال جثة هامدة على
الكر�سي .أخذ منه مطلوعة القطعة الفضية وخرج الجميع ليتركوا ال�سي جمال غارقا
بين دماءه وخده ملتصق بطاولة القماروضوء املصباح فوق رأسه ينعكس على دماءه
القانيــة فــوق الطاولة.
345
مطلوعة (خبز وحب)
الطلقة الثالثة
فــي تلــك الليلــة لــم أســتطع النــوم بعدمــا تذكــرت مــا قالتــه لــي أميمــة ولــم أســتخلص
مــن كالمهــا شــيئا إال مــن بعــد مــا انتقمــت مــن ال�ســي جمــال.
***
إنهــا هديــة مــن أبــي ســلمها لــي يــوم عــاد إلــى املنــزل مبلــا بالكامــل وهــو يســعل ويكــح
والدمــاء تســيل مــن رأســه .أمســكته وقــد ســقط عنــد البــاب .قبــل أن يفقــد وعيــه ظننــت
أنــه ســيموت فرحــت أبكــي علــى صــدرهّ .
حتــى فتــح يــدي وأهدانــي هــذه القــادة ثـ ّـم أخبرنــي
أنهــا ســتحميك مــن كل شــروأذى مثلمــا حمتنــي أنــا .وعندمــا اســتيقظ حكــى لــي القصــة
وكيــف أن أحدهــم دفعــه مــن علــى الجســر فســقط فــي ميــاه النهــر الجارفــة وتشــبث
حتــى تدخــل أحدهــم فجــأة وأنقــذ حياتــه .أخبرنــي أبــي أنــه مديــن بصخــرة يواجــه املــوت ّ
لذلــك الشــخص بحياتــه .وهــذا كل مــا وجــده فــي املــكان عندمــا اســتيقظ ولــم يجــد ذلــك
الشــخص قــد اختفــى وكل مــا تبقــى منــه هــو هــذه القــادة.
***
يعنــي أن ال�ســي جمــال هــو أب أميمــة الــذي هــو فــي الحقيقــة مــن رباهــا فقــط وليــس
أبوهــا الحقيقــي وهــذا حســب مــا قالتــه نعيمــة التــي هــي أمهــا.
وأميمــة ال تــدري أن ال�ســي جمــال ليــس أبوهــا الحقيقــي .إذن هــي تعتقــد أنــي قتلــت
أبوهــا .جاءنــي خبــربــأن املاحــي يبحــث عنــي وأنــي متهــم فــي قضيــة قتــل ..وانتشــراســمي فــي
الصحــف والجرائــد.
تســللت فــي الليــل نحــو القريــة دخلــت ملنزلنــا قبلــت أمــي فــي جبينهــا تركــت لهــا تحــت
وســادتها كل النقــود التــي أخذتهــا مــن ال�ســي جمــال قبــل أن أقتلــه .ومضيــت نحــو املدينــة
تحــت جنــح الظــام.
346
مطلوعة (خبز وحب)
انتظــرت أميمــة بعدمــا كانــت عائــدة مــن قســم الشــرطة .أمــام عتبــة املنــزل أمســكتها
حتى ال تتمكن من الصراخ .أمرتها بأن ال تصرخ .كان من الخلف وضعت يدي على فمها ّ
الشرر يتطايرمن عينيها لتضربني .أرخيتها ببطء بعدما الحظت أنها كفت عن املقاومة
لتباغتنــي بصفعــة خاطفــة ،تلقيتهــا كجثــة ميتــة .أرادت أن تضربنــي فلويــت ذراعهــا وثبتها
بإحكام تحتي .رأيت كل مالمح الحقد في عينيها أغلقت فمها مرة أخرى.
– دعيني أوضح لك األمر! لقد
حتــى كادت أن تقتلعــه ،عجبــا أيــن هــي قبــل أن أكمــل جملتــي عضتنــي مــن إصبعــيّ .
تلــك الفتــاة الوديعــة ،راحــت تلعننــي وتدعــو علــي وكل مــا تكــرره
– أنت قاتل ..قتلت أبي ...ملاذا! ملاذا؟
أردت أن أخبرها الكثيرمن األمور لكنها لم ترد أن تسمعني.
انتبــه الجي ـران لصراخهــا وبكاءهــا .ولــم أرد أن يقبــض علــي بعــد .ليــس اآلن ...ثـ ّـم
هربــت مســرعا.
بعــد عشــرين يومــا كنــت متهمــا بجريمــة قتــل واملاحــي يمشــط كل القريــة بحثــا عنــي.
كان اختطــاف أميمــة هــو آخــرمهمــة علــي القيــام بهــا قبــل...
***
ربطتهــا علــى الكر�ســي مــن رجليهــا ويديهــا .وضعــت املســدس علــى الطاولــة ،انتظــرت
اســتيقاظها .رحــت أغــرق فــي تفاصيــل وجههــا وهــي نائمــة.
استيقظت مفزوعة وزاد فزعها ملا وجدت نفسها مقيدة على الكر�سي واملسدس
أمامها على الطاولة.
– اآلن ستســمعين كل مــا ســأقوله لــكّ ،
حتــى أمــوت وضميــري مرتــاح ونعــرف هــل
أحببتنــي حقــا أم ال!
347
مطلوعة (خبز وحب)
348
مطلوعة (خبز وحب)
349
مطلوعة (خبز وحب)
تسكت أميمة.
ال تخافــي يــا روحــي فقــد أخبرتــك أنــي ســألعب مــع روحــي ثـ ّـم وجــه املســدس للجــدار
وضغــط الزنــاد.
– قبل أن أموت أريد أن أعطيك بعض الحقائق التي يجب عليك معرفتها.
_حقائق!
_نعم أمك لم تمت بمرض السرطان .أمك ال تزال حية وهي في السجن.
"زمت أميمة شفتيها ،فتحت عينيها وعقدت حاجبيها مستفهمة"
_ماذا تقول ...ماذا تقصد أنت تكذب!
ثــم وضــع مطلوعــة املســدس فــي وســط جبهتــه ينتظــر مــن أميمــة كلمــة تنطــق بهــا
ليتوقــف .لــم تتكلــم أميمــة وبقيــت مندهشــة ممــا أخبرهــا بــه مطلوعــة .بعدمــا عقــد
الصمــت والخــوف لســانها.
_قولي أحبك.
ال ترد أميمة .يضغط مطلوعة على الزناد.
_تك".تصرخ أميمة صرخة مرعبة"
الطلقة الثانية فارغة.
يوجه مطلوعة الطلقة الثالثة للحائط خلفها.
_قولي أحبك.
تبتلع أميمة ريقها وتكتفي بالصمت.
350
مطلوعة (خبز وحب)
_حسنا .أنت ال تريدين الكالم .أنت ال تحبينني قد عرفت هذا .على كل حال هذه
آخــرطلقــة وســتنتهي داخــل رأ�ســي .ورغــم أنــك ال تحبيننــي ســأترك لــك بعــض الحقيقــة
ّ
حتــى ال تعي�شــي الوهــم فــي حياتــك .مثلمــا عشــته أنــا فــي حبــك.
_قولي أحبك.
أميمة تصرخ.
_تك...
الطلقة الثالثة فارغة.
ثم يضع مطلوعة املسدس على جبهته.
_أرجوك توقف يا لقمان أرجوك.
– ال�سي جمال ليس أبوك ...ال�سي جمال أو مثلما يلقبونه بالوهراني ،هو السبب
فــي رهــن أبــي للمنــزل وهــو الســبب فــي مقتــل جــدي ،وعاملــة النظافــة نعيمــة هــي أمــك التــي
عندما زرتها في السجن كانت تحمل وحمة مثل التي تحملينها في أسفل رقبتك ،وأمرتني
بــأن ال أخبــرك .وألنهــا فعلــت ذلــك لتحافــظ علــى حياتــك فقــد وصلتهــا رســالة تهددهــا
بقتلــك إن لــم تنفــذ هــي مهمــة قتــل إســحاق .ومــن أجــل أن تنقذنــا مــن الســجن قامــت
بفعلتهــا ألن إســحاق فتــى بغيــض وكان يســتحق املــوت بيديهــا ألنــه لطاملــا أهانهــا وأذلهــا
ّ
مثلما حكت لي .وباملناسبة إسحاق قد أحبك فقط ألنك من الطبقة االجتماعية وأبوه
هو صديق ال�ســي جمال مربيك .إســحاق ال يســتحقك يا أميمة ال يســتحقك ...أنا الذي
أستحقك وأنا الذي ضحيت بكل �شيء من أجلك .أنا الذي أستحقك لكنك لم تقدري
وجــودي معــك.
_أنا أحبك يا أميمة .أحبك.
يضغط على الزناد بقوة.
351
مطلوعة (خبز وحب)
_تك.
الطلقة الرابعة فارغة
يصــوب باتجــاه الحائــط ورائهــا الطلقــة الخامســة .وكانــت تلــك آخــرفرصــة ليعيــش
مطلوعــة يعيــش بكلمــة واحــدة فقــط مــن أميمــة.
_تك...
الطلقة الخامسة فارغة.
_الوهرانــي هــو الســبب فــي أن أفقــد أعــزصديقــي لــي ...هــو الــذي أخــذ كل مــا يملــك
وجعلــه يهجــرالقريــة ..ذلــك الفتــى الــذي دفعــه مــن الجســرهــو أعــزصديــق لــي .وأنــا الــذي
أنقذت أبوك ولم أعرف أنه هو أبوك؟ وأنا الذي قتلت أبوك ولم أكن أعرف أن ال�سي
جمــال هــو أبــوك ولكنــك لــم تدعــي لــي الفرصــة ألشــرح لــك ذلــك اليــوم .ولكنــه يســتحق
املــوت وهــو لــم يكــن أبــوك فــي الحقيقــة ...الوهرانــي غشــاش وقاتــل يســتحق املــوت وأنــا
أســتحق املــوت أنــت فقــط مــن تســتحق الحيــاة.
وضــع مطلوعــة املســدس علــى رأســه ونظــرفــي عينــي أميمــة الدامعتيــن كانــت تلــك
الطلقــة السادســة واألخيــرة فــي املســدس وحتمــا ســتكون فــي رأس مطلوعــة.
_قولي أحبك.
وقبل أن يضغط الزناد صرخت أميمة:
– أحبك..أحبك..
_لم أسمعك جيدا.
_أنا أحبك ...توقف أرجوك ..توقف
ابتسم مطلوعة وملع بريق شديد في عينيه وكأن الحياة دبت في وجهه من جديد.
352
مطلوعة (خبز وحب)
353
مطلوعة (خبز وحب)
***
354
مطلوعة (خبز وحب)
355
مطلوعة (خبز وحب)
مسنة واأليام توائم هنا الوقت يتكاسل ويم�شي بأرجل حلزون سمين ،الساعات ّ
مــن ضــرع واحــد ،حركــة الكــون مقعــرة إلــى الداخــل واأللــوان تبهــت مــع كل نومــة ،الــكل
يحمــل قصــة تالزمــه كظلــه العنيــد الهــارب مــن الحريــة ،قــد مــرت عشــرة أعــوام عجــاف
ّ
تنســحب فــوق أضلعــي لتعقبهــا مطبــات الذاكــرة املحفــرة ،أربعــة حيطــان بلــون الــاذوق،
تحمــل فــي جيدهــا رســماتي املبتــورة مــن لوحــة حياتــي املباغتــة ،الفتــى يحمــل طربوشــا
أحمــربيــن يديــه يعــد الدنانيــر ،الدمــوع تتغرغــرفــي عينيــه ،دمــوع الظلــم والقهــروالقــدر
املكشــر أنيابــه فــي جلــدي منــذ طراوتــه ،ال أزال أدس ذلــك الفتــى الهــش فــي زاويــة مغبــرة
مــن مقبــرة قلبــي ،مثلمــا كانــت تــدس لــه أمــه حبــات التمــروالتيــن املجفــف فــي محفظتــه،
ال يـزال يضحــك ويحلــم بدراجــة هوائيــة أشــعربــه يســيرداخلــي ،فــوق كبــدي يتمــرغ ،ثـ ّـم
يم�شــي بحــذرعلــى رئتــي املحفــرة ،ال يـزال هنــاك معانقــا أطـراف برنــوس روحــي الرثــة ،بيــن
القضبــان أنــا وبيــن األضلــع هــو ،فــي مقبــرة الذاكــرة ال زال يبحــث عــن أزهــار الحميضــة
بين القبور املســيحية املنســية في مقبرة النصارى بالقرية ،الزال يركض وراء شــاحنات
املحجركل صباح ،ويحمل قفة املطلوع ويبكرإلى سوق الجمعة ،ال يزال يحلم بدراجة
هوائيــة يرســمها علــى الورقــة ثـ ّـم يمحيهــا بدمــوع عينيــه ،ال يـزال هنــاك بيــن القبــور يبحــث
عــن حــب مســتحيل ،عــن وطــن ضائــع وعــن مســتقبل مضبــب ،مضــت ذي الســنون علــى
جــرح الذاكــرة ونســيت كأنــي لــم أكــن يومــا ،هنــا فــي الســجن ال يحســب الوقــت باأليــام وال
بالســاعات ،بــل يحســب باألنفــاس والضحــكات هــل أنــا أســتحق كل هــذا يــا تــرى؟ هــل أنــا
أســتحق العيــش بعــد كل هــذا؟
وهــل هــذه حيــاة تســتحق أن تعــاش؟ وهــل أنــا مخلــوق مــن أجــل األلــم أم أن األلــم
مخلوق من أجلي! أسئلة بليدة تنفخ في وجه شمعة األمل بالحياة ،قطارالحياة يمربي
مسرعا ،ال أركبه بل تعلق فيه رجلي ويجرجرني ورائه وأنا أصرخ وأصرخ لكن القطارال
ّ
يتوقــف وال احــد يســمعني ،ال أمــوت وال أســتطيع .وكلمــا أردت أن أســحب رجلــي العالقــة
فــي مؤخــرة القطــارأزداد أملــا وتعلقــا ،هنــاك يــد مــن بعيــد أراهــا تمتــد نحــوي ولكــن ال أمــل
356
مطلوعة (خبز وحب)
مــن الركــوب فــي قطــارربمــا يكــن مخصصــا لركوبــي مــن األصــل .هاهنــا أنــا أتمنــى الحيــاة
ولكنــي ال أســتطيع بهــا لحاقــا ،حجــارة الحيــاة تخــدش روحــي وأنــا أصــرخ والدمــع األحمــرفــي
عينــي وال ملجــئ لــي ســوى هوامــش ســكة القطــارلتقطــع جســدي بــدال مــن تهشــمه حجــارة
الحياة.
***
بعدمــا ألقــى املاحــي القبــض علــي ،واصلــت عالجــي الكيميائــي فــي الســجن .ومــرت
علــي أيــام ســوداء وكوابيــس مرعبــة يعلمهــا الــرب فقــط ،وبعــد عاميــن صــرت مثــل كلــب
سلوقي .جلدا على العظم ،ميت على قيد الحياة رأ�سي أصلع مثل حبة بيض مسلوقة،
وســقط معظــم الشــعرفــي وجهــي .رمو�شــي أهدابــي ولحيتــي .مشــاعري ذبلــت ،أســتمرفــي
الحيــاة فقــط مــن أجــل أن ال أقتــل أمــي وهــي ال تـزال علــى قيــد الحيــاة.
ثم ذات ليلة مريرة تبقى موشومة على ذاكرتي ،تلقيت خبروفاتها ،ماتت العزيزة ّ
وخــات مطلوعــة حزيــن ،ماتــت عيشــة ..نقــل إلــي الحــارس الخبــر بقلــب بــارد ،شــعرت
عندمــا ســمعت خبــروفــات أمــي التــي ضحــت بنفســها مــن أجــل أن تربينــي وتجعلنــي رجــا
بأن كل الكون قد سقط فوق صدري ،بنجومه وشره وبئسه .بكيت أليام وأيام وذقت
املــروتجرعــت ألــم اليتــم والفـراق.
و عندمــا رفضــوا طلبــي فــي الســجن مــن أجــل حضــور جنــازة أمــي ّ
حتــى أتمكــن مــن
تقبيــل جبهتهــا ورؤيتهــا لآلخــرمــرة ،كرهــت كل البشــروشــعرت أن شــيئا قــد مــات داخلــي،
أظنــه قلبــي ،شــعرت أنــي وحيــد جــدا ،وحيــد مثــل قــط ميــت علــى حافــة طريــق معزولــة،
وحيد مثل قطرة مطرة بعد صحوة الســماء ،أخربش على ذا الجداروذا الجدار ،أبكي
والــدم يتالطــم علــى شــطآن خــدي ،رحمــاك يــا مــن صنعتنــي ،طينــك ينشــق مــن األلــم،
ارفعــه عنــدك ميــت أنــا أو حــي حــد ســواء.
فــي تلــك الليلــة عندمــا جاءنــي مأمــور الســجن بق ـرار الرفــض ورمــاه لــي مــن بيــن
القضبــان بــدم بــارد ،شــعرت أنــي أختنــق بروحــي وأنــي لــم أعــد أقــوى علــى املقاومــة أكثــر
من هذا لذلك قررت أن أضع حدا لحياتي الباهتة ،فقمت وعقدت عقدة من فرا�شي
357
مطلوعة (خبز وحب)
وصنعت منه حبال ،لففته حول رقبتي ،صعدت فوق سريري ،وكدت أن ألحق أمي لوال
أن أنقذنــي أحمــد البغــل ،بعدمــا عــرف قصتــي وعرفــت مــن قصتــه أنــه هــواألب الحقيقي
ألميمــة والســيدة نعيمــة هــي زوجتــه ،أمســكني مــن ذراعــي وهدأنــي ،ووقــف بجنبــي طــوال
هــذه األعــوام أعطانــي حنــان األب الــذي لــم أحــظ بــه ،وعلمنــي الكثيــرمــن األشــياء التــي
سـ�اعدتني علـ�ى أن أقـ�اوم وال أغـ�رق داخـ�ل أحزاني،ومـ�ع الوقـ�ت والحكايـ�ات الطويلـ�ة.
تأكــدت حقــا بــأن أحمــد البغــل هــو زوج الســيدة نعيمــة وهــو أب أميمــة الحقيقــي.
وقــف معــي وقفــة رجــال وشــجعني علــى مقاومــة الســرطان .وبعدمــا توفيــت أمــي لــم
يعد لي من يقوم بالتكفل بجلسات العالج الكيماوي ،استلقيت على سريري في انتظار
ملــك املــوت ليأخــذ روحــي ،وأنــا فــي انتظــاره أصبــح الوقــت ثقيــا وطويــا يعذبنــي ويجعــل
روحي تسيح من جسدي بالتقطير .وأنا أتعذب أكثر ،حينها أدركت أن األسوأ من املوت
هــو أن تبقــى معلقــا بيــن املــوت والحيــاة ،هــو أن تمــوت روحــك قبــل أن يمــوت جســدك.
بعدمــا قــررت االستســام كليــا ،جاءنــي أحمــد البغــل مســرعا ونظـرات الفــرح باديــة
علــى وجهــه ،يحمــل ظرفــا بيــن يديــه ،فتــح الظــرف وق ـرأ لــي أن متبرعــا لــم يــرد أن يذكــر
اســمه ،قــد تكفــل بإجـراء عمليتــك الجراحيــة ،الســتئصال الــورم ،أحيانــي مــن جديــد،
وشجعني أحمد البغل على أن أقوم بالعملية ،وفي الليلة التي كنت سأدخل فيها غرفة
العمليــات همــس لــي فــي أذنــي:
_" أسرع بالشفاء يا صهري "
ثم نجحت العملية بأعجوبة ورجعت إلى السجن ألكمل فترة نقاهتي .وسجني.
بعــد أيــام بلغتنــا رســالة مــن الســيدة نعيمــة مفادهــا أن أميمــة لــم تــرد أن تزورهــا
فــي الســجن وقــد قــررت مغــادرة البــاد لتتابــع دراســتها فــي الخــارج وتعيــش حيــاة جديــدة،
هدأنــي أحمــد البغــل عندمــا ق ـرأ علــي الرســالة وأخبرنــي أنــه عنــد خروجــه ســيبحث
عنهــا .وأقنعنــي أكثــرعندمــا قــال لــي :ال شــك أنهــا هــي املتبــرع املجهــول وقــد قامــت بالتكفــل
بعمليتــك بطريقــة غيــرمباشــرة ،ألنهــا تحبــك ومحــال أن تن�ســى املـرأة مــن أحبتــه بصــدق.
أقنعنــي بهــذا فعــدت ألربــي األمــل مــن جديــد.
358
مطلوعة (خبز وحب)
كتبــت لهــا العديــد مــن الرســائل ،طيلــة األعــوام التــي قضيتهــا فــي الســجن ،لكــن لــم
يصلنــي حتــى جــواب منهــا ،يــا تــرى هــل ق ـرأت تلــك الرســائل التــي كتبتهــا لهــا ،أو أنهــا لــم
تصلهــا؟
خرج أحمد البغل قبلي من السجن .ودعني وأخبرني أنه ينتظرني بالخارج ،ترك لي
فراغــا كبيـرا وصــرت ال أكلــم أحــدا مــن الســجناء .انطويــت علــى نف�ســي أنتظــرأن تنق�ضــي
مدة سجني ،األيام تتمدد كلما بقيت وحيدا للصمت ،العزلة تهلك الروح قبل أن يهلك
الوقت الجسد ...صرت أتفتت ببطء وأتفكك من األلم كلما تذكرت أصدقائي وحالهم
وأخبارهم ،صرت كل يوم أنتظررسالة من أحدهم لتؤنسني في عزلتي الباهتة.
359
مطلوعة (خبز وحب)
رسائل من الحياة
360
مطلوعة (خبز وحب)
مربحة والحمد هلل في هذه اللحظة التي أنا أكتب لك هذه الرسالة لقد اشتريت تذكرة
لــي ولزوجتــي وأنــا قــادم لزيارتــك .آه نعــم لــم أخبــرك لقــد تزوجــت هنــا وقــد صــارلزواجــي
أربعــة أعــوام مــن فتــاة جميلــة مــن الجزائــروباملناســبة هــي طبيبــة مختصــة بالســرطان،
لهــا قصــة تشــبه قصتــي إنهــا يتيمــة وال أحــد لهــا فــي هــذه الحيــاة غيــري أنــا الــذي صــرت
ســندا لهــا تزوجنــا فــي آخــر املطــاف ورزقنــا بولــد جميــل اتفقنــا علــى أن نســميه لقمــان.
نعــم مثلــك كمــا هــويشــبهك ويذكرنــي بــك لحــد بعيــد ال أعــرف ملــاذا؟ املهــم أخــي الغالي لقد
وكلــت محاميــا مرموقــا ليتكفــل بقضيتــك ونســتطيع أن نخرجــك بكفالــة فــي أقــرب وقت،
وهكــذا ســتكون حاض ـرا فــي ختــان لقمــان ابنــي ألنــي قــررت أن يكــون ختانــه فــي الجزائــر
حسب تقاليد أهل البالد ،وتكون تلك فرصة للم الشمل مجددا مع كل األصدقاء بعد
غيــاب طويــل .و إن شــاء هللا لــن يكــون ختــان لقمــان ابنــي مثــل ختانــك هههه....هــل تذكــر
يــوم ختانــك دون مخــدركيــف كنــت تتلــوى وتصــرخ وأنــا عنــد البــاب أتمــرغ مــن الضحــك.
صديقــي أنــا أنتظــررؤيتــك فــي القريــب العاجــل ،اعتنــي بنفســك لذلــك الحيــن فأنــت
كل مــا تبقــى لــي مــن ما�ضـ َـي القاحــل ويــا تــرى مــاذا حــل بزبيــدة وبارجــي؟
361
مطلوعة (خبز وحب)
362
مطلوعة (خبز وحب)
363
مطلوعة (خبز وحب)
364
مطلوعة (خبز وحب)
365
مطلوعة (خبز وحب)
أتمنــى أن نلتقــي فــي القريــب العاجــل ألعرفــك علــى طلبتــي املتشــوقين للقائــك
ومعرفتــك شــخصيا.
و أختم لك بهذين البيتين لعلهما يلخصان ما أريد قوله لك:
ُّ َ
الد ْنيا أ َح ُّب َلناظري ال َ
�ش ْي َء في
َ َّ ْ َ
ص َحاب واأل ْ من َم ْنظرالخالن
َ َ َ َ ُّ
وألذ ُموسيقى ت ُس ُّر َم َسامعي
َ ص ْو ُت َ
بع ْو َدة األ ْح َباب
البشير َ َ
366
مطلوعة (خبز وحب)
367
مطلوعة (خبز وحب)
368
مطلوعة (خبز وحب)
369
مطلوعة (خبز وحب)
370
مطلوعة (خبز وحب)
371
مطلوعة (خبز وحب)
فــي زنزانــة كبيــرة يجلــس القرفصــاء فــي املنتصــف ،يلتــف حولــه مجموعــة مــن
الســجناء ينصتــون لقصــة مطلوعــة التــي كان يقــص لهــم منهــا كل ليلــة جـ ً
ـزءا ،ينتظرهــا
الســجناء بفــارغ الصبــر والســجائر ليســمعوا بقيــة القصــة ،كانــت تلــك نهايــة القصــة،
كانــوا متأثريــن ومطلوعــة يقـرأ لهــم الرســائل التــي كتبتهــا لــه أصدقائــه مــن خــارج الســجن
يترقبــون اإلف ـراج عنــه.
ثم يسأله أحد السجناء وهو يدخن سيجارة ببطء:
–و ماذا عن أميمة هل أرسلت لك شيئا!
مطلوعة نظرلباب الزنزانة وشرد في خياله.
ولم يرد!
فأضاف السجين:
– قصدي هل ما تزال تحبك...مثلما تحبها!
رد مطلوعة دون أن يلتفت إلى السجين:
– هل ترى هذه القطعة النقدية.
_نعم
_سنســأل الحــظ ..هــذا الوجــه طــرة يعنــي أنهــا ال ت ـزال تحبنــي .وهــذا الوجــه نقــش
يعنــي أنهــا لــم تعــد تحبنــي.
ثم رمى مطلوعة القطعة في الهواء لتسقط على األرض أمام أنظارالسجناء.
فسقطت متوازنة في املنتصف على حافتها.
372
مطلوعة (خبز وحب)
لقمان أم إسحاق!
ســلمني حــارس الســجن عنــد بوابــة املدخــل صندوقــا خشــبيا فيــه أغرا�ضــي التــي
ترجــع ألعــوام خلــت ،مالب�ســي وأشــيائي التــي أخذوهــا منــي عندمــا دخلــت الســجن قبــل
عشــرة أعــوام ،فتحــت الصنــدوق وجــدت حذائــي ،أمســكت "صابــر"الــذي ال يـزال علــى
حالــه ،لبســته باحت ـرام متبــادل مثلمــا اعتــدت أن أفعــل مــن قبــل قــد صــارضيقــا نوعــا
مــا علــى رجلــي مثلمــا ضاقــت علــي الدنيــا مــن قبــل ،لكــن حتمــا ســيالئم رجلــي بقليــل مــن
املشــية ،مثلمــا قــررت أن أســتمر فــي الحيــاة التــي ســأجعلها تالئمنــي وأنــا أقابلهــا بــروح
جديــدة ،روح تولــد مــن جديــد ،ســألتأم و أفتــح صفحــة بيضــاء جديــدة هــذا مــا قـ ّـررت
فعلــه.
فــي الصنــدوق رأيــت تلــك الرســمة التــي لــم أكملهــا ،رســمة أميمــة وهــي تحمــل آلــة
العــود فــي يدهــا ،نســيت أنــي رميتهــا داخــل الصنــدوق ّ
حتــى رجعــت بــي الذاكــرة إلــى الــوراء،
إلــى أول مــرة أحببــت فيهــا ،إلــى أول مــرة شــعرت أنــي موجــود ،وأدركــت بعــد كل مــا مــربــي
فــي الســجن وفــي الحيــاة ،أن كل مــرة أكاد أمــوت فيهــا يحيينــي الحــب ،الحــب فقــط هــو مــا
يجعلنــا نواصــل الحيــاة.
ســلمني الحــارس أوراق إطــاق سـراحي املشــروط ألوقــع عليهــا ،أعــرت مــن الحــارس
قلــم رصــاص ،اســتغرب مــن طلبــي لكنــه ســلمني القلــم.
فتــح لــي البــاب وابتســم فــي وجهــي ،رأيــت نــور الشــمس وهــواء الخــارج كأنــي لــم أره
مــن قبــل ملســت قدمــاي رصيــف الطريــق بعــد عشــرة أعــوام ،وقفــت وســط الطريــق،
النــاس تمــرحولــي مســرعة مهرولــة ،الكثيــرمــن الــكالم الكثيــرمــن الصخــب ،الحيــاة فــي
الخــارج أصبحــت تم�ضــي بســرعة علــى عكــس الســجن ،أيــن تعلمــت أن أقــدركل لحظــة
تمــر بحياتــي أقــدر كل حــدث كل ثانيــة ،أعيــش عم ـرا صغي ـرا مــع كل ضحكــة أتالقاهــا
دون مقابــل وأدون كل ذكــرى ســعيدة ألن تلــك اللحظــات فــي حياتــي نــادرة ،قعــدت علــى
طــرف الرصيــف ،أخرجــت قلــم الرصــاص مــن جيبــي ،هممــت أرســم .قــررت أن أكمــل
373
مطلوعة (خبز وحب)
رسمة أميمة التي رسمتها قبل عشرة أعوام ،أغمضت عيني ألسترجع تلك الليلة ،تلك
الحفلــة املدرســية وأميمــة فــوق الخشــبة وبيدهــا آلــة العــود ،الحظــت أنــي رســمت تلــك
الرســمة بطريقــة ســريعة وبخطــوط هاويــة حيــث مــن الصعــب علــي اآلن أن أقلــد خــط
يدي بعدما مضت عشرة أعوام .بعدما احترفت الرسم في الزنزانات وفي وشم أجساد
السجناء .إن األصعب من أن تكون محترفا هو أن تكون محترفا وتحاول أن ترسم مثل
هاو ،ولن تكون محترفا حقيقيا إن لم تســتطع فعل ذلك ،أن ترجع إلى فنك البســيط.
أتم ٍمــت الرســمة وحاولــت أن ال يكــون الفــرق متباينــا فــي مــا أضفتــه للرســمة ّ
حتــى أكملهــا.
ســوى ِقـ َـدم الخــط الــذي لــم أرد أن أهشــرفوقــه ألتــرك بصمتــي الفنيــة للذكــرى ،وحتــى
تستطيع أميمة أن تالحظ الفارق وتعرف أنها نفسها تلك الرسمة التي كانت تصرعلى
أن أكملهــا لهــا قبــل عشــرة أعــوام.
ثـ ّـم وأنــا علــى الرصيــف الحظــت فتــى صغي ـرا يقطــع الطريــق إلــى الجهــة األخــرى
وشــاحنة رمــي النفايــات راجعــة إلــى الخلــف باتجاهــه مباشــرة ،حتمــا ستدهســه إن لــم
حتــى القريبيــن منــه،أتصــرف بســرعة ،الغريــب أنــه ال أحــد انتبــه لــه أو تحــرك مــن جهتــهّ .
كل النــاس تحشــر رأســها داخــل هواتفهــا ،حيواتهــم الســريعة ال تســمح لهــم باالنتبــاه
لألشــياء البســيطة ،قبــل أن تصــل الشــاحنة للفتــى الصغيــر ،نهضــت مســرعا وارتميــت
ألنقــذه بأعجوبــة مــن تحــت عجــات الشــاحنة ،حملــت الطفــل الصغيــربيــن ذراعــي وكان
جميــا أســود الشــعربعينيــن خضراويــن ،الفتــى الصغيــريبكــي وينــادي علــى أمــه مشــيرا
للمحــل املقابــل بيــده لســيدة مفزوعــة تركــض باتجاهــي لتلتقــط ابنهــا ،حيــن اقتربــت مني،
تجمــدت ملــا رأتنــي وأنــا صعقــت حيــن التقــط نظراتنــا ،شــعرت أن قلبــي يخفــق بشــدة يــكاد
يخــرج مــن صــدري وأنفا�ســي تتســارع بشــكل ملحــوظ ،رأيــت الدمــوع متحجــرة فــي عينــي
الســيدة ،ســاد صمــت رهيــب بيننــا .وهــدئ الولــد بيــن ذراعــي كحمــل وديــع،
فــي الجانــب املقابــل مــن الطريــق يعبــرزوجــان مســنان ،العجــوزة تحمــل باقــة ورد فــي
يدهــا والعجــوز يحمــل خبــزة وع�صــى.
لم أســتطع التحرك حين ســقطت عيني في عينها .شــعرت بخدروصعقة كهربائية
داخــل رأ�ســي ملــا رأيــت تلــك القــادة علــى رقبــة الفتــى ،أصبحــت كتمثــال حجــري مــن دون
374
مطلوعة (خبز وحب)
روح ولــم أســتطع أن أســلمها الولــد الــذي يضــع رأســه علــى كتفــي ،وفــي تلــك اللحظــة
مــن الصمــت املوحــش ،اختفــى الزوجــان وخــرج رجــل أنيــق مــن املحــل الــذي ظهــرت منــه
السيدة أمامي ،بدى لي وجه الرجل مألوفا من بعيد وقد كان يحمل بين يديه مجموعة
مــن األكيــاس البالســتيكية وعندمــا اقتــرب منــه عرفتــه ليهــم مســرعا مبتســما باتجاهــي:
– أووه مطلوعة صديقي العزيزها أنت ذا....
– ب...ب...ب..بلوطــة! "قلتهــا بصعوبــة وبصــوت متقطــع وأنــا أقلــب النظـرات بينــه
وبي��ن الس��يدة أمام��ي والس��يدة تس��تمرللنظ��رف��ي الرس��مة الت��ي كن��ت أحمله��ا ف��ي ي��دي".
– نعم هذا أنا بلوطة صديقك .أنظرلنفسك لم تتغيركثيرا منذ آخرمرة.
لم أستطع تحريك لساني من شدة الدهشة والذهول:
_يبدو أن إسحاق قد نام بين ذراعيك.
_إسحاق!
– آه نســيت أن أعرفك على عائلتي .هذا ولدي إســحاق الذي أخبرتك أنه يشــبهك
وهــذه زوجتــي أميمة.
375
مطلوعة (خبز وحب)
376
مطلوعة (خبز وحب)
377
24جانفي2021
للتواصل مع الكاتب:
Basset01bani@gmail.com