You are on page 1of 312

‫األسيف‬

‫‪W‬‬
‫واية‬
‫ر‬

‫األسيف‬
‫‪a‬‬
‫يا�سمني قنديل‬
‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫موقع عصري الكتب‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫إهداء‬
‫رواي� ش‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫تمنيت أن ظ‬
‫ب�ف قراءته‪ ،‬ولم تنله‪،‬‬ ‫ي‬ ‫تح�‬ ‫إىل من‬

‫أ�‬
‫إىل ب ي‬
‫اشتاقت إليك األشياء‪ ،‬واشتاقت إليك الحياة‪،‬‬

‫واشتقت إليك أنا‬

‫رحمة هللا عليك يا حبيب‪.‬‬


‫ْ‬ ‫سالما عىل تلك األماكن ت‬ ‫ً‬
‫ال� جعلت من نفسها‬
‫ي‬
‫ُم َّت َس ًعا للهرب من أماكن الذكريات‪.‬‬
‫(متهيد)‬

‫«�إليك‪... /‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لقد كنتُ كاذبة عندما ادعيتُ عدم معرفة �صاحب ال�صوت و�أنا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫تن�سه حلظة‪ ،‬و�أن البحة يف �صوتي �إثر نزلة برد وهي مل تكن‬
‫التي مل َ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�سوى ارجتافة عندما ذكرت ا�سمك‪ ،‬ونب�ضات قلبي املت�سارعة �أثبتت‬

‫والتوز عي‬
‫�أنك موجود بداخلي مل ترتكني يو ًما‪ ،‬و�أن قوة نرباتك هزمتني‪،‬‬
‫وعدم �س�ؤالك عن �أحوايل ك�سرين‪ ،‬و�أنني يف كل مرة توهمتُ �أنني‬
‫ن�سيتك كنت �أتذكرك �أكرث‪ ،‬و�أنك داء ال عالج منه �سوى رحمة من‬
‫اهلل جتود على قلبي بن�سيانك»‪.‬‬
‫•••‬
‫كمدرج فريونا الروماين((( ترا�صت املقاعد بانتظام داخل قاعة‬
‫م�ستطيلة ال�شكل‪ ،‬احتلت املقاعد ذات الأقم�شة احلمراء املخملية‬
‫ال�صفوف الأوىل بوافر من الفخامة‪ ،‬حتمل عنوا ًنا �ضمن ًيا على الفتة‬
‫وهمية ُكتب عليها‪« :‬لل�شخ�صيات املهمة فقط»‪ ،‬يف ما ا�سترت �سائر‬
‫املقاعد بنوعية من اجللد الرخي�ص ُتنبئ مبكانة من �سيجل�س عليها‪.‬‬
‫(((يقع مدرج فريونا مبدينة فريونا اإليطالية‪ ،‬وقد أُنشئ يف العصور الرومانية األوىل‪ ،‬وكانت‬
‫تقام به الحفالت الشعرية واملوسيقية ومصارعات الثريان واأللعاب الرومانية‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫�أثبتت م�صابيح القاعة وجودها ب�إ�ضاءة قوية �أبرزت تفا�صيل‬
‫املكان‪ ،‬انفتحت الأبواب‪ ،‬وبد�أت اجلموع بالتدفق‪ ،‬وان�ضمت �إىل‬
‫املقاعد اخللفية �أفواج من ذوي الأعمار الع�شرينية املت�أججة بروح‬
‫ال�شباب‪ ،‬طلبة وحديثي تخرج مل�ؤوا القاعة عن �آخرها‪� ،‬أج�ساد‬
‫هزيلة‪ ،‬مالب�س متوا�ضعة‪� ،‬أعني ملعت بربيق احلما�س املنبثق من قلوب‬
‫م�شتاقة �إىل اال�ستماع‪.‬‬
‫كخ ُ�شب‬
‫دلف كبار الزوار بت� ٍأن خلق لهم هالة من احلزم‪ ،‬ا�ستقروا ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫م�س َّندة بع�ضهم بجانب بع�ض يف ال�صفوف الأوىل متخذين من التجهم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫العتقاد �ضرب �أوتاده يف نفو�سهم �أن هذا من كماليات الوقار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫�صدي ًقا‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ينحون �أنظارهم عن �صعلكة ظنوا �أنها الت�صقت مبن ورائهم‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫تعالت الهمهمات والأحاديث املتبادلة وجتمعت حتى �صارت كطنني‬
‫النحل‪� ،‬أ�سكتتها دقات �إ�صبع متتالية على ميكروفون بحجم حبة‬
‫الزيتون ملتحدث يقف على من�صة امل�سرح‪ ،‬وبد�أ حديثه ب�صوت حيوي‬
‫بعد ت�أكده من ا�ستقرار الطري على ر�ؤو�سهم‪:‬‬
‫‪� -‬أرحب بهذا اجلمع الطيب من كبار الزوار وال�شخ�صيات‬
‫املهمة‪ ،‬وب�شبابنا اليافع حلم امل�ستقبل‪ ،‬وي�شرفني �أن �أقدم‬
‫قامة علمية جليلة ح�صدت كث ًريا من اجلوائز يف جمال طب‬
‫املخ والأع�صاب لهذا العام‪� ،‬أدعوكم لرتحبوا معي بالدكتور‬
‫عبد القادر �سند‪.‬‬
‫�ضجت القاعة بالت�صفيق احلاد الذي تردد �صداه يف �أنحائها‬
‫ب�ضعف وقعه‪.‬‬
‫فظهر ِ‬

‫‪10‬‬
‫برز بعينني زرقاوين حادتني‪ ،‬و�صلعة عك�ست ملعة ال�ضوء �إال من‬
‫بع�ض ال�شعريات يف املنت�صف مت�سكت بحقها ال�شرعي يف الأر�ض‪،‬‬
‫و�أبت االن�ضمام لأي من اجلانبني اللذين اختلط �سوادهما ببع�ض‬
‫ال�شعريات البي�ضاء حديثة الظهور‪ ،‬ببذلة رمادية فقدت بريقها الأول‬
‫من تكرار ارتدائها‪ ،‬وقمي�ص �أبي�ض حترر من رابطة العنق‪ ،‬ا�ستقر‬
‫�أمام امليكرفون بثبات من اعتاد الأمر‪ ،‬و�شرع يف حديثه متجاو ًزا‬
‫ووجهها للح�ضور ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫التحية بعد �أن �أخرج حبة بي�ضاء من جيبه َّ‬

‫ع‬
‫‪ -‬وف ًقا لدرا�سات �أجريت عن مدى ت�أثري هذا العقار‪� ،‬أظهرت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫النتائج �أنه جنح ب�شفاء ‪ ٪٩٧‬من م�صابي االكتئاب عند تناوله‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قذف بالقر�ص �إىل فمه فالتقمه �سال ًكا الطريق �إىل معدته‪ ،‬و�أردف‬

‫‪ -‬مذاقه حلو‪ ،‬ال�شركة التي �صنعته �شركة وا‬


‫رائعة‪،‬لتال لوأنهاز عي‬
‫متذو ًقا‪:‬‬
‫�صنعت‬
‫بجديد يف هذا‪ ،‬بل لأنها‬
‫ٍ‬ ‫دواء حلو املذاق بالت�أكيد‪ ،‬فهي مل ت� ِأت‬
‫جنحت يف �إقناع املر�ضى بتناول الوهم‪.‬‬
‫غزت املفاج�أة كث ًريا من الوجوه القابعة �أمامه‪ ،‬ف�أكمل م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫‪ -‬نعم يا �سادة‪ ،‬ما تناولته الآن مل يكن �سوى �سكر ُعبئ على �شكل‬
‫�أقرا�ص‪ ،‬الـ«‪� ((( »Placebo‬أو العالج الوهمي عالج ٍ‬
‫خال من �أي‬
‫مادة فعالة‪ ،‬ال يفعل �شي ًئا غري �أنه ُيوهم املري�ض ب�أنه يتناول‬
‫الدواء ال�صحيح‪ ،‬فيتح�سن! ُطبق على كثري من املر�ضى‪،‬‬
‫وكانت النتائج مذهلة»‪.‬‬

‫(((أول تجربة أجريت ملدى فاعلية الدواء الوهمي كانت يف القرن الثامن عرش‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫الح من منت�صف القاعة بتحية هتلر ف�سمح له الدكتور عبد القادر‬
‫ب�إمياءة من ر�أ�سه‪:‬‬
‫‪ -‬لكن �أ�ستاذي الفا�ضل‪� ،‬أال يندرج هذا حتت خداع املري�ض؟‬
‫‪ -‬هل وقعت يف حب فتاة من قبل؟‬
‫بوغت ال�سائل ب�س�ؤال الدكتور عبد القادر‪ ،‬فقال ب�شيء من‬
‫االرتباك‪:‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‪� -‬‬


‫‪ -‬وما عالقة هذا ب�س�ؤايل؟‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫وب�صوتناختنق من �أثر غ�صة مفاجئة‬
‫أجبني‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫زيع‬
‫زوى الطالب ما بني عينيه‪،‬‬
‫�أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو �أنه انتهى نهاية حزينة‪.‬‬
‫�أطرق ال�شاب ر�أ�سه ومل يعقب‪ ،‬فتابع الدكتور م�ضي ًقا عينيه‪:‬‬
‫‪� -‬صدقني �إن �أخربتك �أن هذا القر�ص عقار للن�سيان �ستهرع‬
‫أمل يف �شفائك من مر�ض الذكريات اللعني‬ ‫لتناوله بانتظام‪ً � ،‬‬
‫دون معرفة كثري عن خلفية هذا العقار‪ .‬بع�ض الأ�شياء من‬
‫الأف�ضل �أن تبقى يف الظالم بعيدً ا عن الأعني‪ ،‬ما حاجة‬
‫املري�ض �إىل معرفة تفا�صيل لن تفيده ب�شيء ما دام ما �سيتناوله‬
‫نوما هاد ًئا ً‬
‫وعي�شا طي ًبا بعد �أن ُحرم منهما؟‬ ‫�سيمنحه ً‬
‫‪12‬‬
‫جل�س الفتى وهو يلعن بداخله هذا ال�شخ�ص الذي هيج ب�س�ؤاله‬
‫عوا�صف الوجع على �سفينة قلبه امللتاعة‪ ،‬ف�صمت الدكتور برهة‪ ،‬ثم‬
‫�أكمل‪:‬‬
‫‪-‬العالج الوهمي �أثبت فاعليته يف ال�شفاء‪ ،‬ولكن للأ�سف بعد‬
‫فرتة من الزمن تعود �أعرا�ض املر�ض ثاني ًة ك�أن �شي ًئا مل‬
‫خ�صو�صا �إن كان املر�ض من الأمرا�ض التي مل‬ ‫ً‬ ‫يحدث‪،‬‬
‫ُيكت�شف لها عالج بعد‪ ،‬مثل ال�سرطان وال�شلل الرعا�ش‪ ،‬و�إن‬

‫ع‬
‫كانت نتائجه يف الأمرا�ض النف�سية �أف�ضل بكثري و�أطول زم ًنا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫روى جفاف �أحباله ال�صوتية بجرعة من املاء‪ ،‬ثم تنحنح ليبد�أ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫جولته اجلديدة ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪-‬املخ يحتوي على مئة مليار خلية ع�صبية‪� ،‬إن و�صلنا �إىل هذا‬
‫احلد يف التمكن من ا�ستغالل العقل ليوحي للج�سم ب�أنه يف‬
‫طريقه لل�شفاء‪ ،‬فما املانع من املوا�صلة وحماولة التطوير؟ ما‬
‫املانع من التحدي؟ �أن نتحدى العقل‪ ،‬ن�ستفزه ون�ستثريه لريينا‬
‫�أف�ضل ما عنده‪ ،‬هل هذه القدرات التي ُيظهرها لنا هي �أق�صى‬
‫قدراته؟ �أم �أنه يحوي كث ًريا وكث ًريا مما ال نعلمه؟ �إن العقل ما‬
‫يوما بعد يوم �أنه‬
‫زال يبهرنا بقدرته على املزيد‪ ،‬ويثبت لنا ً‬
‫كنز قابع داخل �إن�سان ال يعلم عنه �سوى �أنه خمزن ُيح�شى‬
‫باملعلومات نهاية كل عام ليجتاز �سنته الدرا�سية‪.‬‬
‫انت�شرت �أمارات التفكري على وجوه اجلال�سني‪ ،‬ف�أراد طرق احلديد‬
‫وهو �ساخن‪ ،‬ف�أكمل بابت�سامة حتمل بني طياتها �شي ًئا من اخلبث‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫‪ -‬و�س�ؤال �أخري �أود طرحه عليكم‪ ،‬وليكن احللوى التي �ستتناولونها‬
‫الليلة بعد وجبة الع�شاء‪ :‬هل �أنت من تتحكم بعقلك؟ �أم �أن‬
‫عقلك هو الذي يتحكم بك؟‬

‫•••‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪14‬‬
‫(‪)١‬‬
‫(‪)M. I. P‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صداع بعمر �ألف عام ا�ستقر بر�أ�سي‪� ،‬أ�شعر به وهو يجتاح تعرجات‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫خمي دون قيد �أو �شرط‪ ،‬يقتحمها‪ ،‬يرجها بعنف زلزال قوته ‪ ٨‬درجات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫على مقيا�س ريخرت‪ ،‬حماكمة �صاخبة �أُقيمت بر�أ�سي‪ ،‬ت�سيدت املوقف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫نب�ض م�ستمر على‬‫فيها مطرقة القا�ضي التي ال تكف عن الطرق‪ٌ ،‬‬
‫جانبي جبهتي‪ ،‬عط�ش �سبع �سنني عجاف ا�ستقر بحلقي‪ ،‬ممددًا على‬
‫جي�شا من النمل احتل ج�سدي‪ ،‬جبالن‬ ‫�سرير ال �أ�ستطيع احلراك‪ ،‬ك�أن ً‬
‫ا�ستغرقت من الوقت كي �أزيحهما‬ ‫ُ‬ ‫عيني‪ ،‬ال �أعلم كم‬
‫ا�ستقرا فوق َّ‬
‫عيني رويدً ا رويدً ا‪� ،‬آملني ال�ضوء‬
‫ببطء عن �أطراف �أجفاين‪ ،‬فتحت َّ‬
‫الأبي�ض القوي املنبعث من امل�صباح املعلق فوقي مبا�شر ًة‪ .‬كل �شيء‬
‫�ضبابي ومبهم‪.‬‬
‫بعيني ببطء دورتني عك�س بع�ضهما لأ�ستك�شف ما حويل‪ ،‬مل‬ ‫درت َّ‬
‫�أ َر �شي ًئا يرد الب�صر‪ ،‬كل ما حويل �سواد بعيد عن دائرة م�صباحي‪،‬‬
‫التقطت �أذين �صو ًتا بعيدً ا مل �أتبني كلماته‪ ،‬و�ضع اجلهد �أثقاله على‬
‫كاهلي �أكرث فلم �أ�ستطع املقاومة‪� ،‬سكن كل �شيء وا�ستلبني النوم‪.‬‬
‫•••‬
‫‪15‬‬
‫‪�-‬أنت‪� ،‬أنت‪ ،‬ا�ستيقظ‪.‬‬
‫كان ا�ستيقاظي هذه املرة �أف�ضل‪ ،‬ال�صداع �أخف وط�أة‪ ،‬وال�صوت‬
‫�أقرب‪� ،‬صوت �أنثوي‪ ،‬فتحت عيني وقد انق�شعت ال�سحب عن ر�ؤيتي‪،‬‬
‫وحلقي ما زال على حاله‪ ،‬حتاملت لأجل�س بعد �إح�سا�سي بتحرر‬
‫و�ضوحا‪ ،‬غرفة‬
‫ً‬ ‫ج�سدي من �سطوة التنميل‪ ،‬فر�أيت املكان ب�شكل �أكرث‬
‫متو�سطة االت�ساع‪ ،‬قليلة التفا�صيل‪ ،‬حوائطها رمادية مو�شومة ببقع‬
‫بي�ضاء رخوة‪ ،‬خالية من النوافذ �إال من فتحة مربعة عالية �ضلعها‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الرابع ال�سقف‪ ،‬يف جانب منها �ساتر طبي ب�إطارات حديدية بينها‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�ستائر بي�ضاء ب�صقت عليها الأتربة فبهتت‪ ،‬بالطها باللون الأ�سمنتي‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫مييل اجلو �إىل الربودة‪ ،‬يبدو �أن املكان هُ جر منذ زمن‪� ،‬أجهزة بجانب‬

‫ع‬
‫�سريري حتمل �شا�شات بها �أرقام وخطوط متعرجة‪ُ ،‬ت�صدر �صو ًتا‬
‫منخف�ضا ب�إيقاع منتظم‪ ،‬متد �أطرافها الرفيعة �إىل مع�صمي و�إىل‬‫ً‬
‫�صدري ب�أقطاب دائرية تت�شبث بجلدي‪ ،‬الن�صف العلوي من ج�سدي‬
‫عارٍ‪ ،‬والن�صف ال�سفلي احتواه بنطال �أ�سود‪ ،‬و�أنا‪...‬‬
‫�أنا؟‬
‫�شعرت بازدياد وترية ال�صداع فج�أة و�أنا �أحاول التذكر! �أغم�ضت‬
‫عيني وحاولت الرتكيز‪ ،‬لكن ال �شيء! عقلي ورقة بي�ضاء‪� ،‬أنظر �إليها‬
‫علي ويك�شف عن مكنوناته‬ ‫مرا ًرا وتكرا ًرا لعل حربها ال�سري ي�شفق َّ‬
‫فج�أة‪ ،‬لكن دون جدوى‪ ،‬ال �شيء يخرجه عقلي ويتلقفه قلبي لأطمئن‪.‬‬
‫رفعت ب�صري فوجدتُ �صاحبة ال�صوت الذي �أيقظني من غياهب‬
‫النوم‪ ،‬طوت الأر�ض حتتها بخطوات �سريعة ذها ًبا و�إيا ًبا مرات عدة‬
‫‪16‬‬
‫طرق غارق يف التفكري‪ ،‬وب�صوت م�سموع مييل �إىل الهم�س‬ ‫بر�أ�س ُم ِ‬
‫حدثت نف�سها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪-‬ملاذا؟ ملاذا ُف�صلت عن البقية؟ من امل�ؤكد �أن بك �أم ًرا ما‬
‫خمتل ًفا‪.‬‬
‫كعجوز مل يبقَ له من احلياة �إال رمق خرج �صوتي من �أعماق جويف‪:‬‬
‫‪� -‬أ�شعر بالعط�ش‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫التفتت �إ َّ‬

‫ري‬
‫يل ك�أنها تذكرت وجودي فج�أة‪ ،‬اقرتبت من �سريري‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لوحا معدن ًيا كان ُمعل ًقا به‪ ،‬وانتقلت بعينيها �سري ًعا بني‬
‫والتقطت ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أوراقه ثم اجتهت �إىل الأجهزة بجانبي و�أخذت تتفح�صها‪.‬‬

‫قما�شيةعكانت‬
‫اكفهر وجهها‪ ،‬تنهدت وهي ت�ستل قارورة من وال‬
‫حقيبةتوزي‬
‫‪�«-‬أ�شعر بالعط�ش»‪ .‬كررتها ثاني ًة‪.‬‬

‫حتملها‪ ،‬وناولتني �إياها لإ�سكاتي‪� ،‬أفرغتُها دفعة واحدة يف جويف‪،‬‬


‫ف�شعرت ك�أنني ميت ُبعث من جديد‪ ،‬لكن روحي ما زالت تائهة‪.‬‬
‫حماول الرجوع �إىل عقلي التائه‪ ،‬لكنها جذبت كر�س ًيا‬ ‫ً‬ ‫�سكت بعدها‬
‫ُ‬
‫معدن ًيا كان خمتب ًئا وراء ال�ساتر الطبي‪ ،‬و�ض َعته �أمامي َ‬
‫وجل�ست‪،‬‬
‫نظ َر ْت �إيل بحدة �سائلة‪:‬‬
‫‪-‬ملاذا �أتوا بك هنا وحدك؟ منذ متى و�أنت بعيد عن البقية؟‬
‫‪-‬البقية؟ من البقية؟ �أنا ال �أتذكر �شي ًئا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تتذكر �شي ًئا مما حدث لك قبل نقلك؟‬
‫‪17‬‬
‫‪ -‬ال �أتذكر �شي ًئا على الإطالق‪.‬‬
‫‪ -‬مبعنى؟‬
‫‪ -‬ال �أتذكر من �أنا وما الذي �أتي بي �إىل هنا!‬
‫ُبهتت عندما تلفظت بجملتي الأخرية‪ ،‬ت�صفحت الأوراق على اللوح‬
‫املعدين مرة �أخرى وهي تقول‪:‬‬
‫‪-‬ال �شيء مذكور هنا‪ ،‬ال بيانات‪ ،‬وال تاريخ للحالة‪ ،‬ال �شيء �إال‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ا�سم‪� :‬أجمد‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫�شعرت بال�صداع ي�ستبيح ر�أ�سي جمددًا بقوة بعد ذكرها لال�سم‪،‬‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫أردفت‪:‬‬
‫جتعد وجهي من �أثر الأمل ف� ْ‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫و‬


‫حتركت من �سريري و�أنا‬
‫ُ‬
‫ا�سمك‪.‬‬ ‫‪ -‬يبدو من ردة فعلك �أنه‬
‫بحرية ارتدت ثوب الغ�ضب وبنفاد �صرب‬
‫�أنزع عن يدي و�صدري الأ�سالك املتعلقة بهما و�أ�س�ألها‪:‬‬
‫أنت؟ وما هذا املكان؟ وماذا �أفعل هنا؟‬
‫‪ -‬من � ِ‬
‫بتو�سل قالت‪:‬‬
‫‪� -‬أرجوك اهد�أ‪ ،‬واخف�ض �صوتك‪ ،‬فهذا لي�س �آم ًنا لنا»‪.‬‬
‫‪-‬لن �أهد�أ قبل �أن �أفهم‪.‬‬
‫‪-‬ح�س ًنا‪ ،‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أفهمك كل �شيء‪ ،‬لكن رجا ًء‪ :‬اخف�ض �صوتك‬
‫واجل�س‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫جل�ست متحفزًا‪ ،‬فبد� ْأت حديثها ب�شيء من االرتباك‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪�-‬أنا الدكتورة مي�سون‪ ،‬طبيبة نف�سية‪.‬‬
‫طقطقت �أ�صابعها‪ ،‬وابتلعت ريقها‪ ،‬و�أكملت‪:‬‬
‫‪ -‬للأ�سف ب�شكل ما �أنا ُم�شاركة يف اجلرمية التي ُتار�س عليك‪.‬‬
‫أيقظت كلمة جرمية كل خاليا االنتباه بعقلي دفعة واحدة‪ ،‬ر�شقتها‬
‫� ْ‬
‫فتابعت م�ؤكدة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫عيناي ب�ألف �س�ؤال لن ت�ستطيع �شفاهي ح�صرها‬

‫ل‬
‫‪�« -‬أنت عينة �ضمن حقل جتارب ب�شرية تخ�ضع لتطبيق‬
‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫ب‬
‫جانبي‪ ،‬لفل�أكملت وهي مط�أطئة الر�أ�س‪:‬‬
‫ن‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫جتربة‪.))Memories Implantation Project, (MIP(:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫توز عي‬
‫من‬ ‫التيه‬ ‫تل ّق ْت نظرات‬
‫‪« -‬م�شروع زراعة الذكريات»‪.‬‬
‫•••‬

‫‪19‬‬
‫(‪)٢‬‬
‫(مرشوع زراعة الذكريات)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ال�شتات‪ ،‬فجوات هائلة داخل روحك ال ت�ستطيع قيا�سات العامل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ح�صرها‪ ،‬نيازك غري مرئية �أ�صابتك وخلفت وراءها دما ًرا ً‬

‫ل‬
‫�شامل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫ال تقوى على ترميمه‪ ،‬فقررت التعاي�ش معه‪� .‬أ�شعر بتلك النيازك‬
‫بروحي‪ ،‬و�أجهل �سببها‪ ،‬لكنني ُ�ضربت بنيزك للتو معلوم ال�سبب‪،‬‬
‫عالم تدل هذه الكلمات‬
‫نيزك «م�شروع زراعة الذكريات»‪ .‬مل �أفهم َ‬
‫الثالث‪ ،‬لكن كلمة «جرمية» ومالمح مي�سون البائ�سة و�صوتها احلزين‬
‫كانت كافية لأ�شعر بانقبا�ض ووجع‪.‬‬
‫�صمت ثقيل �أحكم عقد حباله على الكلمات فتوارت �أحرفها‪ ،‬لكنني‬
‫ف�صمتها ب�س�ؤال �صارم ال يحتمل ت�أخري الإجابة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا يعني ما قل ِته للتو؟ ما معنى �أنني �ضمن حقل جتارب لهذا‬
‫امل�شروع املُ�سمى بــ‪ ،‬ب ــ‪.‬‬
‫‪ -‬زراعة الذكريات‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ،‬ثم �أمالت‬
‫دارت بعينيها �إىل ال�سقف وهي تخرج ً‬
‫ْ‬
‫ر�أ�سها للأر�ض وقالت‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫‪ -‬يف البداية كان الأمر خيال ًيا‪ ،‬ميكن كتابته كفكرة خيالية‬
‫لرواية �أو فيلم‪ ،‬لكن مع الثورة العلمية التي حدثت يف القرن‬
‫الأخري وب�إجراء عدة جتارب �أ�صبح الأمر ممك ًنا‪.‬‬
‫�سحبت ما يكفيها من الهواء ملوا�صلة الكالم‪ ،‬و�أردفت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬بد�أ الأمر عندما �أجرت (كيمربيل واد) احلا�صلة على‬
‫درجة الدكتوراه يف علم النف�س جتربة((( على جمموعة من‬
‫أكدت من �أمهاتهم �أنهم مل يركبوا املنطاد طيلة‬
‫الأ�شخا�ص ت� ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫حياتهم‪ ،‬و�أخذت �صو ًرا لهم وهم �صغار‪ ،‬وعدلتها لتُظهرهم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يف منطاد‪ ،‬ثم �س�ألتهم عن هذه الذكرى‪ ،‬وكانت املفاج�أة �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪ ٪50‬منهم تفاعلوا مع الذكرى و�أكدوها‪ ،‬بل �إن منهم من‬

‫ع‬
‫�سرد تفا�صيلها! رغم �أنها مل حتدث على الإطالق‪ ،‬ا�ستطاعت‬
‫ب�صورة واحدة فقط زرع ذكرى يف عقولهم‪ ،‬و�إثارة �شجونهم‬
‫وعواطفهم نحوها‪.‬‬

‫توقفت حلظات‪ ،‬ثم �أكملت بنربة حما�سية‪:‬‬


‫ْ‬
‫‪ -‬فكر العلماء بعد ذلك يف �أنه �إن كانت جتربة �صغرية �إىل هذا‬
‫احلد ا�ستطاعت �أن تخلق ذكرى من العدم‪ ،‬فماذا لو تعاون‬
‫علماء الطب النف�سي مع �أطباء املخ والأع�صاب يف درا�سة‬
‫املو�ضوع ب�شكل �أكرث عم ًقا ومنهجية؟ ماذا �سينتج عن هذا؟‬
‫�إىل �أي حد ميكننا �أن ن�صل يف زراعة الذكريات يف العقل‬
‫الب�شري؟ �إىل �أي حد ميكننا �أن نعلو بالن�سبة من خم�سني باملئة‬
‫(((أجريت التجربة عام ‪٢٠٠٢‬م‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫�إىل ثمانني وت�سعني باملئة؟ ت�سا�ؤالت كثرية مل منلك لها �إجابة‬
‫�سوى بالتجربة‪ ،‬وبالفعل بد�أت الدرا�سات والأبحاث العلمية‪،‬‬
‫و�أُجري عديد من التجارب على الفئران على مدار �سنوات‪،‬‬
‫حتى ا�ستطاع العلماء �أخ ًريا زرع ذكرى �سعيدة داخل �أخماخ‬
‫الفئران مرتبطة مبكان ما مل ميروا فيه ب�أي م�شاعر من قبل‬
‫‪(((Optogenetics‬‬
‫قط‪ ،‬بل تطور الأمر �أكرث با�ستخدام تقنية الـ‬
‫يف التحكم عن ُبعد يف تثبيت ذكرى ما �أو حموها دون �أي‬
‫تدخل جراحي للمخ وب�شكل �آمن(((»‪.‬‬

‫ا‬
‫هذال ال‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫أكملت بنف�س احلما�سة‪:‬‬
‫�صمتت برهة‪ ،‬ثم � ْ‬
‫ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أمر �ضجة علمية كبرية‪ ،‬لك �أن تتخيل �أننا‬ ‫‪�-‬أحدث‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫عن طريق زراعة ذكريات �سعيدة عن هذا العمل ع‬
‫ن�ستطيع فعل كثري‪ ،‬ن�ستطيع �أن نفيد‬ ‫بزراعة ذكريات ي�سرية‬
‫يحبون عملهم‬ ‫العمال‬ ‫الب�شرية ب�شكل �أكرب‪ ،‬ن�ستطيع �أن جنعل‬
‫فتزداد‬
‫حما�ستهم‪ ،‬ويزيد الإنتاج ويخرج بجودة عالية‪ ،‬ن�ستطيع �أن‬
‫جنعل الطالب يحبون الدرا�سة في�صبحون ناجحني ويفيدون‬
‫جمتمعهم‪ ،‬ن�ستطيع احلد من ال�سمنة عن طريق زرع ذكريات‬
‫�سيئة عن الأكل غري ال�صحي‪ ،‬ن�ستطيع معاجلة كثري من‬
‫املر�ضى النف�سيني و�إنقاذهم من االكتئاب الذي ي�ؤدي بهم‬
‫�إىل االنتحار‪ ،‬ن�ستطيع وقف كثري من اجلرائم يف املجتمع التي‬
‫دافعها االنتقام من ِقبل �أ�شخا�ص تعر�ضوا لأ�شياء م�أ�ساوية يف‬
‫طفولتهم‪ ،‬ن�ستطيع �أن نخلق لهم عاملًا �أجمل و�أف�ضل و‪....‬‬
‫((( تقنية استخدام الضوء للتحكم يف خاليا املخ العصبية‪.‬‬
‫((( أُجريت التجربة عام ‪٢٠١٥‬م‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫قاطعت حما�ستها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬وكاذب‪.‬‬
‫�صدمتْها كلمتي‪ ،‬فهاجمت مدافعة‪:‬‬
‫‪ -‬موازٍ ‪ ،‬ولي�س كاذ ًبا‪ ،‬هذا العامل الذي كانوا ي�ستحقونه من‬
‫الأ�سا�س‪ ،‬هذا العامل الذي كان يجب �أن ين�ش�ؤوا فيه‪ ،‬لي�س‬
‫ذنبهم �أنهم قبلوا بعمل ال يحبونه لأجل لقمة العي�ش‪ ،‬لي�س‬

‫ع‬
‫ذنبهم �أنهم ن�ش�ؤوا بني �أم و�أب غري م�ؤهلني لهذه الوظيفة‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فانطبع هذا عليهم من عدم اهتمام وق�سوة وعنف‪ ،‬لي�س‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ذنبهم �أنهم و�ضعوا حتت وط�أة متحر�شني عبثوا ب�أج�سادهم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫وتكوينهم النف�سي‪ ،‬لي�س ذنبهم �أنهم كربوا يف جمتمع ال يهتم‬

‫ع‬
‫�إال بال�شكليات ف ُيطعنون يوم ًيا لأي �سبب بتعليقات �سخيفة‬
‫جتعلهم مر�ضى نف�سيني‪ ،‬وي�صابون باالكتئاب‪ ،‬ثم ينتحرون‪.‬‬
‫با�ستهجان قاطعتُها‪:‬‬
‫‪ -‬من �أنتم؟ ومن �أعطاكم هذا احلق؟ من �أعطاكم حق العبث‬
‫ب�أدمغة النا�س وعقولهم وذكرياتهم؟ ب�ضغطة زر تزرعون‬
‫ذاكرة‪ ،‬وب�ضغطة زر متحونها؟ �أي عبث هذا؟‪.‬‬
‫أجابت حازمة‪:‬‬
‫� ْ‬
‫‪ -‬نحن الأطباء النف�سيون‪ ،‬نتعرف �إىل �آالف املر�ضى �ضحايا‬
‫حليواتهم ال�سابقة‪ ،‬ي�صارعون م�شاكلهم كل ليلة‪ ،‬يهزمونها‬
‫مرة وت�سحقهم مرات‪ ،‬وال �أمل يف النجاة �سوى الق�شة التي‬
‫يتعلقون بها ويرونها الأمان بالن�سبة �إليهم‪ ،‬وهي نحن‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪ -‬يبدو �أنه ال فائدة من هذه املناق�شة‪ ،‬ف�إنها لن تغري من احلقائق‬
‫�شي ًئا‪ ،‬ولكنني �إىل الآن ال �أعرف ما عالقتي �أنا بكل هذا؟‪.‬‬
‫تاهت عيناها ك�أنها ت�سرتجع �أحدا ًثا ما‪ ،‬روت حلقها بر�شفات مياه‬
‫ْ‬
‫�سريعة انحدرت من قارورة تناولتها من حقيبتها ب�شيء من االرتباك‪،‬‬
‫أكملت ب�صوت تبدلت احلما�سة فيه بخيبة الأمل‪:‬‬ ‫و� ْ‬
‫‪ -‬كان كل �شيء ي�سري على ما يرام‪ ،‬كنت �أنا الطبيبة الأ�صغر‬
‫يف هذا امل�شروع ب�سبب �أبحاثي الكثرية التي �أجريتها على‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الذاكرة‪ ،‬وكان جميع الأطباء امل�شاركني يرون يف �أبحاثي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫متي ًزا‪ ،‬ويجدون يف نتائجي ً‬
‫حلول كثرية مل�شاكل قد تواجههم يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫امل�ستقبل‪ ،‬ثم فج�أة‪ :‬انف�صلت جمموعة من الأطباء عن فريق‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫العمل ب�شكل �سري‪ ،‬و�أخربوين �أننا يجب �أن نرتقي بتجاربنا ما‬
‫دامت �آمنة‪ ،‬و�أنه ال ب�أ�س من‪....‬‬
‫�صمتت‪ ،‬وح َّكت جبهتها وهي عاب�سة‪ ،‬و�أكملت ب�صوت ي�شوبه‬
‫احلزن‪:‬‬
‫‪ -‬ال ب�أ�س من �إجراء التجارب الب�شرية يف اخلفاء دون علم‬
‫معامل التجريب الدولية‪ ،‬يف م�صحات خا�صة بنا‪ .‬فتحنا باب‬
‫التطوع مقابل كثري من الأموال‪ ،‬لكن مل يتقدم �أحد‪ ،‬فمن‬
‫الذي �سيجازف بو�ضع عقله حتت التجربة؟ ما دفع الأطباء‬
‫النف�سيني امل�شاركني يف هذا التنظيم ال�سري �إىل ا�ستخدام‬
‫مر�ضاهم دون علمهم‪.‬‬
‫كمحكوم عليه بالإعدام رم ًيا بالب�صاق يحاول �أن ينجو‪ ،‬وقبل �أن‬
‫أردفت م�سرعة‪:‬‬
‫�أنفذ عليها احلد بكلماتي �أو رمبا بب�صاقي � ْ‬
‫‪25‬‬
‫‪�-‬أوهموين �أن هذا يف م�صلحة املر�ضى‪� ،‬أقنعوين �أنني بهذا �أقدم‬
‫لهم خدمة جليلة �سي�شكرونني عليها الح ًقا‪.‬‬
‫‪ -‬ثم؟‪.‬‬
‫‪ -‬ثم الحظت �أن الأمر قد �أخذ اجتاهً ا �آخر‪ ،‬بعد �إجراء التجربة‬
‫على عدد من املر�ضى وجناحها بد� ْأت امل�صحات يف االت�ساع‪:‬‬
‫�سراديب ُمهزة ُتفر حتت الأر�ض ال يعلم �أحد عنها �شي ًئا‪،‬‬
‫�أموال كثرية بد�أت يف التدفق‪� ،‬أ�صبح عدد النا�س �أكرب و�أكرب‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مرتا�صني جن ًبا �إىل جنب‪ُ ،‬يزرع كثري وكثري من الذكريات لهم‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ي�ستيقظون ويذهبون �إىل حياتهم بذكريات جديدة مل حتدث‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يوما‪ ،‬لكنهم يتذكرونها جيدً ا بتفا�صيلها وم�شاعرها التي‬ ‫لهم ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫تدفعهم �إىل اجتاهات حمددة ي�سلكونها‪ ،‬بد�أت �أفهم الأمر‪،‬‬

‫ع‬
‫تطبيق التجربة خرج عن حيز املر�ضى النف�سيني وعالجهم‬
‫�إىل �أنا�س طبيعيني ُتزرع ذكرى مفعمة بالدوبامني((( داخل‬
‫عقولهم مرتبطة بتناول �أو ارتداء منتج ما‪ ،‬فيقبلون عليه‬
‫�أكرث عند خروجهم‪ ،‬وتكرث املبيعات‪ .‬كانت ال�شركات ت�صرف‬
‫مبالغ طائلة على الإعالنات التليفزيونية‪ ،‬فاختُزلت �إىل مبالغ‬
‫�أقل يف جيوب الأطباء‪� .‬شعرتُ بالذنب لأن الأمر حتول عن‬
‫م�ساره و�أ�صبح ُي�ستغل جتار ًيا ب�شكل �سيئ‪ ،‬وامتد الأمر يف‬
‫ما بعد �إىل تغيري املعتقدات والأفكار وزرع اجتاهات بعينها‪،‬‬
‫فان�سحبت دون �إبالغ �أحد‪ ،‬وكنت على علم ب�أنني بان�سحابي‬
‫ُ‬
‫هذا �أعر�ض نف�سي خلطر بالغ‪ ،‬ف�أنا �أحمل �س ًرا كب ًريا لو ُك�شف‬
‫�ستُفتح النار على اجلميع‪ .‬فكرت يف �شيء مينحني �شي ًئا من‬
‫((( الهرمون املسؤول عن اإلحساس بالسعادة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫الأمان‪ ،‬فتذكرت �أن جميع عمليات زرع الذكريات ُ�سجلت‪ ،‬وال‬
‫يعلم بهذا الأمر �إال عدد حمدود جدً ا من الأطباء‪� ،‬أنا واحدة‬
‫منهم‪ ،‬فقررت االحتفاظ بهذه الت�سجيالت ملقاي�ضة ت�أمني‬
‫حياتي بها‪ ،‬واملفرت�ض �أنها كانت هنا يف هذا املكان‪ ،‬لكنني مل‬
‫�أجدها! ووجدتك �أنت‪.‬‬
‫�ألقتني بكالمها يف غيابت جب ال قرار له تاهت عنه ال�سيارة‪،‬‬
‫و�أخذين التفكري عنوة �إىل �أعماقه‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ترى من �أكون؟ هل �أنا مري�ض نف�سي كان مي�شي على حافة االكتئاب‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫امل�ستدقة يف انتظار من يدفعه �إىل الهاوية‪ ،‬وجل�أ �إىل واحد من هذه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الع�صابة على �أمل �أن يجذبه للوراء؟ �أم �أنني �إن�سان عادي كانوا‬

‫والتوز عي‬
‫يحاولون �إقناعه ب�شرب هذا امل�شروب الأخ�ضر اللزج العفن على �أنه‬
‫ال�سل�سبيل؟ هل كنت ح ًرا ويزرعون داخلي اخلنوع؟ �أم عبدً ا �أرادوا له‬
‫احلرية؟ هل كنت م�ؤم ًنا و�أرادوا �إحلادي؟ �أم فاج ًرا و�أرادوا �إمياين؟‬
‫انت�شلتني من ملكوت تفكريي ب�س�ؤالها‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن �أكرث ما يحريين‪ :‬ملاذا ُف�صلت عن البقية؟ وملاذا فقدتَ‬
‫ذاكرتك؟ التجربة �آمنة وال يوجد يف �أعرا�ضها اجلانبية‬
‫فقدان الذاكرة‪ .‬بالت�أكيد حالتك بها �شيء ما خمتلف دفعهم‬
‫�إىل هذا‪� ،‬أال تتذكر �أي �شيء؟‪.‬‬
‫�أ�شرت بر�أ�سي �أن‪ :‬ال‪.‬‬
‫زفرت بقوة وتابعت‪:‬‬
‫ْ‬

‫‪27‬‬
‫‪ -‬للأ�سف مل �أجد بغيتي‪ ،‬ولن �أ�ستطيع اخلروج‪ ،‬فقد ر�شوت‬
‫الأمن لي�سمح يل بالدخول ملدة ن�صف �ساعة قبل �أن ي�أتي‬
‫زميله وي�ستلم دوريته‪ ،‬ظننت �أنني �س�أدخل �سري ًعا و�أح�صل‬
‫على ما �أريد‪ ،‬ف�أنا �أعرف هذا املكان جيدً ا‪.‬‬
‫نظرت �إىل �ساعتها و�أكملت‪:‬‬
‫‪ -‬لكن داهمني الوقت‪ ،‬ويجب �أن �أنتظر حتى ال�صباح‪ ،‬حتى‬

‫ع‬
‫تتغري الأدوار ويعود ال�شخ�ص الذي �أدخلني‪ ،‬و�أ�ستطيع �أن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�أخرج حينها‪ ،‬وكذلك �أنت �إن �أحببت‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫تتجول يف املكان‪ ،‬وما زال ت�أثري كلماتها يقعدين‬ ‫مقعدها‬ ‫قامت من‬
‫ْ‬

‫زيع‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫التفكري‪.‬‬ ‫ال �أحرك �ساك ًنا‪� ،‬أغرق يف‬
‫‪ -‬يبدو �أن بقية مالب�سك هنا‪.‬‬
‫قمت‬
‫وحتركت خارجة من ورائه‪ُ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫قالتها من وراء ال�ساتر الطبي‪،‬‬
‫ببطء‪ ،‬فالربودة التي ي�شعر بها قلبي بد�أت ت�ؤثر يف جلدي � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬مل‬
‫يكن هناك غري قمي�ص �أبي�ض فقدت �أكمامه �أزرارها‪ ،‬ارتديته على‬
‫مهل �إثر وهن �أمل بج�سدي‪ ،‬وبد�أتُ بثني الأكمام مبا�شر ًة و�أنا متجه‬
‫�إىل ال�سرير مرة �أخرى‪ .‬ال �أعلم ملاذا فعلت هذا رغم تعبي‪ ،‬رمبا كانت‬
‫عادة يف حياتي ال�سابقة التي ال �أعلم عنها �شي ًئا‪.‬‬
‫اجتهت‬
‫ْ‬ ‫تذكرت �شي ًئا ما‪،‬‬
‫ْ‬ ‫توقفت عن دورانها اململ فج�أة ك�أنها‬
‫ْ‬
‫�إىل حقيبتها‪ ،‬و�أخرجت علبة ف�ضية طويلة رفيعة‪ ،‬فتحتها وو�ضعتها‬
‫بجانبي‪ ،‬ف�ألقيت نظرة عليها‪ .‬كانت ترقد بعناية �ست حقن طبية‬
‫‪28‬‬
‫رفيعة ممتلئة ب�سائل �أرجواين‪ ،‬تتكئ بارتياح يف مكانها املحدد‬
‫ب�إ�سفنجة رمادية اللون‪.‬‬
‫ألت و�أنا �أرمقها يف �شك‪.‬‬
‫‪« -‬ما هذا؟»‪� ،‬س� ُ‬
‫‪ -‬هذا العقار واحد مما �أنتجه التنظيم الذي �أخربتك به‬
‫مل�صابي �ألزهامير وفاقدي الذاكرة‪ ،‬كنا نعده بكميات قليلة‬
‫ا�ستطعت‬
‫ُ‬ ‫لأن مكوناته غري متوافرة‪ ،‬وهذه الكمية هي ما‬
‫احل�صول عليها يف �أثناء هربي‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫أكملت‪:‬‬
‫فهمت معناها‪ ،‬ف� ْ‬
‫حدجتها بنظرة ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪-‬هذا حقي‪ ،‬ف�أنا �شاركت يف ت�صنيعه مع طبيبني �آخرين‪.‬‬

‫والت‬
‫‪ -‬عملنا بجد ليخرج هذا العقار ب�شكل خمتلفوزي ً‬
‫متاماع عن‬
‫اتهامي‪:‬‬ ‫دفعت عن نف�سها‬
‫أردفت بعد �أن ْ‬
‫� ْ‬

‫�شكل العقارات الطبية املتداولة‪ ،‬لكن مل ُي�صرح با�ستخدامه‬


‫للأ�سف‪ ،‬فكان توزيعه يتم ب�شكل غري قانوين‪ ،‬هذا العقار‬
‫ينقلك لعامل �آخر‪ ،‬ينقلك لداخل الذكرى‪ ،‬تراها‪ ،‬تتح�س�سها‪،‬‬
‫ت�شم رائحتها‪ ،‬ت�شاهدها جم�سمة بتفا�صيلها‪ .‬بع�ض احلاالت‬
‫يحتاج �إىل واحد‪ ،‬وبع�ضها يحتاج �إىل �أكرث حتى ي�ستعيد‬
‫الذاكرة ب�شكل كامل‪ ،‬وهناك فريق كانوا ي�أخذونه رغب ًة‬
‫منهم يف توثيق ذكريات �أكرث‪ ،‬بع�ض الأغنياء كانوا يطلبونه‬
‫خ�صي�صا ال�ستعادة ذكريات طفولتهم بتفا�صيلها التي‬ ‫ً‬
‫دُ�ست بني طيات الن�سيان‪ .‬يف احلقيقة كنت �أحتفظ بهذه‬
‫الكمية لبيعها يف امل�ستقبل‪ ،‬ف�سعر الإبرة الواحدة منها لي�س‬
‫‪29‬‬
‫بقليل‪ ،‬لكن مبا �إنني م�شاركة ب�شكل ما يف ما �أنت عليه الآن‬
‫ف�س�أعطيك اثنتني‪ ،‬رمبا ت�ستطيع �أن ت�سرتجع ذاكرتك‪ ،‬و�أكون‬
‫بذلك �أر�ضيت �ضمريي‪.‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ابت�سمت �ساخ ًرا ُ‬
‫ُ‬
‫‪-‬وهل تظنيني غب ًيا لأحقن نف�سي بهذا ال�شيء؟ هل تظنيني‬
‫بك بعد كل ما �أخربتني به؟‪.‬‬ ‫�أحمق لأثق ِ‬
‫انطبع على وجهها الغ�ضب‪ ،‬فالتقطت خرطومني رفيعني يتدليان‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫من حامل كان بجانب �سريري‪ ،‬وبد�أت بتو�صيل �أحدهما بيدها قائلة‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪� -‬إن مل تثق بي ف�أنا على ا�ستعداد �أن يتم حقني به � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪ -‬وما فائدة �أن �أ�ستدعي ذكريات ال �أدري �إذا كانت هي ذكرياتي‬

‫ع‬
‫احلقيقية �أم �أنها قد ُزرعت داخل عقلي �ضمن جتاربكم؟‪.‬‬
‫�أ�شارت �إىل �أحد الأجهزة املال�صقة ل�سريري وقالت‪:‬‬
‫‪-‬عن طريق هذا اجلهاز ميكنني �أن �أ�صحبك �إىل الذكريات‬
‫التي �ستذهب �إليها‪ ،‬لأخربك �إذا كانت ذكرى حقيقية �أو‬
‫ذكرى مزروعة‪ ،‬ف�أنا �أ�ستطيع التفريق بينهما‪.‬‬
‫بك‬
‫لك بالذهاب �إىل ذكرياتي اخلا�صة و�أنا ال �أثق ِ‬
‫‪-‬كيف �أ�سمح ِ‬
‫على الإطالق؟ ثم ما ال�ضامن �أن تكوين �صادقة معي؟‪.‬‬
‫‪ -‬ال �ضمانة عندي �أ�ستطيع تقدميها لك‪ ،‬لكن على الأقل �إحدى‬
‫الذاكرتني ‪�-‬إن مل تكن كالهما‪� -‬ستكون حقيقية‪ ،‬و�س�أخربك‬
‫متتال‪،‬‬
‫بهذا‪ ،‬لأن العقار ال يجلب ذاكرتني مزروعتني ب�شكل ٍ‬
‫وعلى �أي حال لي�س لديك ما تخ�سره‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫بدا كالمها منطق ًيا‪� ،‬أنا بالفعل فاقد لكل �شيء‪ ،‬فماذا �س�أفقد‬
‫�أكرث؟ لن �أخ�سر �شي ًئا من خو�ض التجربة‪.‬‬
‫فاجتهت �صوب الأجهزة املال�صقة ل�سريري‪،‬‬
‫ْ‬ ‫�أخربتها مبوافقتي‪،‬‬
‫وتناولت �أ�سال ًكا تنتهي ب�أقطاب دائرية من �أحد الأجهزة‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪-‬هذا اجلهاز يو�صل الإ�شارات الكهربية ال�صادرة عن اخلاليا‬
‫الع�صبية باملخ بني �شخ�صني �أو �أكرث‪ ،‬ف ُي َم ِّكن الأ�شخا�ص‬
‫املت�صلني بالأقطاب احلمراء من ر�ؤية ما يدور يف مخ ال�شخ�ص‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫املت�صل بالقطبني الأبي�ضني‪ ،‬ب�شرط خ�ضوع جميع املت�صلني‬

‫بالأبي�ضني اخلارجني من اجلهاز على‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لت�أثري العقار‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫جانبي جبهتي‪ ،‬و�أل�صقت قطبني مننال‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫الدائريني‬ ‫القطبني‬ ‫�أل�صقت‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫أقطاب احلمراء على جانبي‬
‫بتثبيت‬ ‫أحلقته‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫يدي‬ ‫جبهتها‪ ،‬ثم ثبتت اخلرطوم الرفيع يف عروق‬
‫اخلا�ص بها‪ ،‬ثم حقنت الأنبوب الرفيع املعلق بواحدة من الإبر التي‬
‫ْ‬
‫كانت يف حقيبتها‪ ،‬ليبد�أ بعدها ال�سائل الأرجواين بالتمدد ببطء داخل‬
‫اخلرطومني‪� .‬ضغطت على زر �أحمر مثبت باجلهاز ثم قالت مو�ضحة‪:‬‬
‫‪-‬مدة العقار ع�شر دقائق‪� ،‬ستنتهي الذكرى ونفيق بعدها‪ ،‬ولن‬
‫ن�ستطيع العودة �إىل نف�س الذكرى مرة �أخرى‪ .‬حاول �أن تدقق‬
‫النظر يف تفا�صيل الذكري ب�شكل كبري‪ ،‬املكان والأ�شخا�ص �إن‬
‫ُوجدوا‪ ،‬كل هذه الأ�شياء مهمة ال�ستعادة ذكريات �أكرث‪.‬‬
‫�أوم�أتُ لها بر�أ�سي مواف ًقا‪ ،‬بد�أتُ �أ�شعر بال�سائل الأرجواين وهو‬
‫يتخلل كرات دمي‪ ،‬نظرتُ �إىل اخلرطوم فلم �أجد فيه �إال القليل‪ ،‬هبط‬
‫‪31‬‬
‫متاما‪ ،‬و�شعرتُ‬
‫عيني نعا�س ظل يتثاقل حتى ت�شو�شت الر�ؤية ً‬ ‫على َّ‬
‫بالتنميل يجتاح �أطرايف‪ ،‬وارتخى ج�سدي على ال�سرير دون رغبة مني‪،‬‬
‫وجهت ما تبقى من ر�ؤيتي �إىل مي�سون التي مال ر�أ�سها �إىل الأمام‪،‬‬
‫ُ‬
‫�أُغلقت �أجفاين رغ ًما عني‪ ،‬وا�ستغرقني النوم‪.‬‬
‫•••‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪32‬‬
‫(‪)٣‬‬
‫(الذكرى األوىل )‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك ُمن ّوم مغناطي�سي �أعطى �أمر اال�ستيقاظ لإحدى جتاربه بطقطقة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫فتحت عيني‪� ،‬ألتقط �أنفا�سي‬
‫ُ‬ ‫�إ�صبعيه‪ ،‬وب�سرعة قد ن�سيتها �أجفاين‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫عال كعدَّاءٍ انتهى لتوه من �سباق جري مئة مرت‪� ،‬أ�سمع نب�ضات‬
‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬
‫غريب يحدث يل‪،‬‬‫ٍ‬ ‫قلبي تدق كالطبول ب�إيقاع منتظم‪� ،‬أ�شعر ب�شيءٍ‬
‫قوة عجيبة ت�سري بداخلي ت�ضخ دماء جديدة يف عروقي‪ ،‬وهالة من‬
‫الطاقة حتوطني‪ ،‬هاج�س �أ�صابني �أنني �أ�ستطيع حتريك الأ�شياء دون‬
‫مل�سها‪ ،‬والطريان بج�سدي كقذيفة‪ .‬ال �أعلم ماذا فعل بي هذا العقار‪،‬‬
‫لكنه �ساحر‪� ،‬إح�سا�س القوة �إح�سا�س ممتع‪.‬‬
‫وجدتُ مي�سون تقف على ُبعد خطوات مني‪ ،‬تذكرتُ �سماحي لها‬
‫بالوجود يف ذكرياتي مقابل االتفاق املُربم بيننا‪ ،‬ال �أعلم �إن كانت‬
‫ت�شعر مبا �أ�شعر به‪ ،‬لكنها كانت تت�أمل ما نحن فيه‪.‬‬
‫�شغلني ت�أثري العقار عن االنتباه لر�ؤية ما يحيطنا‪ ،‬كان ال �شيء‪،‬‬
‫كل �شيء ُمعتم‪ ،‬ك�أننا �أُلقينا يف ثقب �أ�سود‪ ،‬لكننا نرى �أنف�سنا بو�ضوح‪.‬‬
‫ألت مي�سون م�ستنكرة‪.‬‬
‫‪« -‬ما هذا؟»‪� ،‬س� ْ‬
‫‪33‬‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪.‬‬
‫‪ -‬ذكرياتك فارغة �إىل هذا احلد؟ ال �أ�شخا�ص! ال مكان! ال‬
‫�صور؟‪.‬‬
‫ما �إن انتهت من ا�ستنكارها حتى بد� ْأت ت�أتيني ن�سمات حمملة‬
‫برائحة مميزة‪ ،‬كمد موج البحر وجزره‪ ،‬يف ان�سيابية �ساحرة‪ ،‬تغلغلت‬
‫ببطء داخل �أنفي‪� ،‬سيطرت على حا�سة ال�شم عندي بنعومة �آ�سرة‪،‬‬
‫دفعتني طم ًعا يف �سحب كثري من الهواء لأملأ بها �صدري‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫هم�سا‪.‬‬
‫‪« -‬الالفندر»‪ .‬قلتها ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ -‬ماذا؟ ماذا تقول؟‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪ -‬هذه الرائحة الرائعة‪� ،‬أعرفها جيدً ا‪ ،‬رائحة الالفندر‪� ،‬أال‬
‫ت�شمينها؟‪.‬‬
‫�أجابت بعدما حاولت اال�ستن�شاق عدة مرات‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫م�شت خطوات يف العدم وهي حتك ذقنها و�أردفت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪-‬ولكن حلظة‪ ،‬اجلزء امل�س�ؤول يف املخ عن حتليل الروائح يقع‬
‫بجوار مركز الذاكرة �أو احل�صني(((‪ ،‬وهو املتعلق بتخزين‬
‫الذكريات طويلة املدى‪ ،‬وبنف�س الوقت هذا اجلزء يت�صل‬
‫ً‬
‫ات�صال مبا�ش ًرا مبركز امل�شاعر يف �أدمغتنا‪ ،‬وهذا يف�سر ملاذا‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا بالروائح‪.‬‬ ‫ترتبط الذكريات‬
‫(((ويسمى أيضً ا (قرن آمون)‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫�ضيقت عينيها و�س�ألتني‪:‬‬
‫‪ -‬مباذا ت�شعر الآن و�أنت ت�ستن�شقها؟‪.‬‬
‫ً‬
‫متوغل يف عبقها �أكرث �أجبت‪:‬‬ ‫مغم�ض العينني‬
‫‪ -‬راحة‪� ،‬سكينة‪� ،‬أمان‪ ،‬حب‪.‬‬

‫�ضربت باطن كف يدها الي�سرى ب�أ�صابع ميناها الأربعة وتبعتها‬


‫ْ‬

‫ع‬
‫ب�إ�شارة من �سبابتها جتاهي قائلة‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪� -‬أر�أيت؟ هذا يعني �أن تف�سريي �صحيح‪ ،‬هذا يدل على �أننا يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ذكرى مهمة بالن�سبة �إليك‪ ،‬حتبها وتعتز بها‪.‬‬

‫و‬
‫كانزيمنها �إال‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫‪� -‬أحبها و�أعتز بها؟ ُترى ما هي؟‪.‬‬

‫وك�أن الذكري �سمعت �س�ؤايل و�أوجعتها حريتي‪ ،‬ع‬


‫فما‬
‫االن�صياع لرغبتي يف معرفتها‪� ،‬شعرنا باهتزاز طفيف م�س الفراغ من‬
‫ترا�ص‬
‫حولنا‪ ،‬قوالب من الطوب الأحمر الداكن بد�أت يف الظهور‪ّ ،‬‬
‫بع�ضها بجنب بع�ض يف �سرعة هائلة مكونة حوائط �أربعة‪ ،‬الت�صقت‬
‫راق‪ُ ،‬و�ضعت‬
‫بها طبقة �أ�سمنتية تلتها عدة طبقات انتهت بطالء لبني ٍ‬
‫عليها �إطارات ذهبية م�ستطيلة ُمطعمة بنقو�شات رقيقة‪ ،‬واحدة منها‬
‫ظهرت بها نافذة كبرية‪ ،‬واملقابلة لها ارتكزت عليها �ساعة كال�سيكية‬
‫يتدىل منها بندول نحا�سي‪ .‬امتدت من حتتنا �أر�ضية خ�شبية على‬
‫�شكل م�ستطيالت متداخلة مطلية بطبقة �شفافة المعة‪ ،‬و�أطل من‬
‫فوقنا �سقف �أبي�ض تدلت منه ثريا كري�ستالية ب ّراقة ُم�ضاءة �أنوارها‪،‬‬
‫�أربع قوائم خ�شبية جتمعت على م�سافات حمددة‪ ،‬ارتكز فوقها لوح‬
‫‪35‬‬
‫خ�شبي م�ستطيل ال�شكل فك َّون طاولة جت ّملت مبفر�ش �أبي�ض ُو�ضعت‬
‫فوقه �أطباق حم َّملة بالأطعمة املختلفة‪ ،‬وتو�سطه قالب من الكعك‬
‫املُزين يحمل يف �أعاله �شمعة على �شكل الرقم ثالثة‪ .‬حبال رفيعة‬
‫حتمل مثلثات ذات �ألوان مبهجة وورق زينة ملو ًنا والم ًعا امتدت من‬
‫الرثيا �إىل احلائط‪ ،‬باب �أبي�ض تخلى عن ن�صفه اخل�شبي العلوي‬
‫واحتفظ ب�إطاره كذكرى منه بداخله زجاج م�صنفر �ضبابي �إال من‬
‫ر�سمة لزهور متداخلة انق�شع عنها ال�ضباب‪ ،‬احتل املكان املخ�ص�ص‬

‫ع‬
‫متاما يف احلائط‪� ،‬أغلق نف�سه بنف�سه‪ ،‬و�سكن كل �شيء بعدها‪،‬‬ ‫له ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تكونت الغرفة بجميع تفا�صيلها يف وقت ال يتعدى الدقيقة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫تيب�ست مي�سون ك�صنم‪ ،‬فاغر ًة فاها‪ ،‬جاحظة العينني‪ ،‬ا�ستطاع‬‫ْ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ل�سانها بالكاد �أن ُيخرج حروف كلمة‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪ُ -‬مذهل‪.‬‬


‫أكملت بعد �أن ابتلعت ريقها وما زالت حتت وقع املفاج�أة‪:‬‬
‫� ْ‬
‫�شاركت يف ت�صنيع هذا العقار‪ ،‬لكني مل �أدرك �أن ت�أثريه قوي‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫�إىل هذا احلد‪ ،‬الآن فهمت ملاذا كان يتهافت عليه كل من‬
‫جربه ولو ملرة على الرغم من عدم حاجته �إليه‪.‬‬
‫كنت �أنا الآخر م� ً‬
‫أخوذا باملفاج�أة وال�صدمة م ًعا‪ ،‬لي�س من ت�أثري‬ ‫ُ‬
‫أي�ضا‪ ،‬فبمجرد �أن بد�أت مالمح‬‫العقار فقط‪ ،‬لكن من ت�أثري الذكرى � ً‬
‫املكان يف الو�ضوح تذكرته‪.‬‬
‫‪«-‬هذا‪ ...‬هذا بيتي»‪ ،‬قلتها ب�شيء من التلعثم‪.‬‬
‫انتزعت جملتي مي�سون من انبهارها واجتهت يل �سائلة‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫‪ -‬بيتك؟‪.‬‬
‫حتركت �إىل النافذة خلفي �أحت�س�س زجاجها ب�أناملي جمي ًبا �إياها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هذا بيتي‪ ،‬وهذه �إحدى غرفه‪.‬‬
‫‪ً � -‬إذا دعنا ِ‬
‫نلق نظرة على تفا�صيل املكان‪ ،‬بالت�أكيد ر�ؤية البيت‬
‫ب�أكمله �ستجعلك تتذكر املزيد‪.‬‬
‫ه ّمت �صوب الباب وفتحته‪ ،‬فا�ستقبلتها العتمة‪� ،‬ألقت بر�أ�سها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫خارجا‪ ،‬ونظرت مينة وي�سرة‪ ،‬ثم رجعت �إىل اخللف قائلة‪:‬‬
‫ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪ -‬الباب ي�ؤدي �إىل الال�شيء‪ ،‬يبدو �أن عقلك يريدنا �أن نظل بهذه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الذكرى وال نتحرك‪.‬‬
‫�ضحكات بريئة �أتت من اخلارج‪ ،‬بد� ْأت يف االزدياد حتى جتلى‬
‫ري يدخل جر ًيا �إىل الغرفة هار ًبا من مالحقة‬ ‫م�صدرها‪ ،‬طف ٌل �صغ ٌ‬
‫�أحدهم له‪ ،‬يحت�ضن علبة ُمغلفة بورق هدايا مميز‪ ،‬اختب�أ حتت‬
‫الطاولة مبا�شر ًة باعتياد يو�ضح �أنه ا�ستخدم هذا املكان عدة مرات‬
‫�سابقة لنف�س ال�سبب‪ .‬كتم �ضحكاته عندما بد�أ وقع �أقدام باالقرتاب‪،‬‬
‫وقفت على باب الغرفة تتفح�صها بعينيها عاقدة يديها �أمامها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ألت مداعبة‪:‬‬‫اكتملت فيها �أركان الأناقة فبدت رائعة‪� ،‬س� ْ‬
‫‪� -‬أين �أنت؟‪.‬‬
‫�ضحكات مكتومة ت�سربت �إىل �أذنيها‪ ،‬فابت�سمت‪ ،‬وجلت �إىل الغرفة‬
‫متاما‪ ،‬بنربة‬
‫بخطوات بطيئة حتى ا�ستقرت عند مكان اختفاء الطفل ً‬
‫مت�صنعة �أكملت‪:‬‬
‫‪37‬‬
‫‪ُ -‬ترى �أين ذهب؟ �أين ذهب؟‪.‬‬
‫جثت على ركبتيها فج�أة‪:‬‬
‫‪ -‬وجدتك‪.‬‬
‫عاب�سا يحمل وجهه عالمات خيبة الأمل والغ�ضب‪:‬‬
‫خرج ً‬
‫‪ -‬جتدينني يف كل مرة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪« -‬لأنك تختبئ يف نف�س املكان كل مرة»‪ ،‬قالتها �ضاحكة‪ ،‬ثم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�ضمته خمربة �إياه يف حنان‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫والتوزي‬
‫‪� -‬أحبك‪.‬‬

‫ع‬
‫انفرجت �أ�ساريره وهو يتوغل يف �ضمتها �أكرث‪:‬‬
‫‪ -‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫‪ -‬و�أنت � ً‬
‫أي�ضا ماذا؟‪.‬‬
‫‪ -‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا �أحبك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هذه هي الإجابة ال�صحيحة‪ ،‬ال تقلها �أبدً ا مبتورة‪ ،‬كلمة‬
‫أي�ضا» فقط‪.‬‬‫«�أحبك» ت�ستحق ت�أكيدً ا �أكرث من «و�أنا � ً‬
‫�أوم�أ لها بر�أ�سه طاع ًة‪ ،‬وبحركة طفولية �أحدث ا�ضطرا ًبا بتدخل‬
‫يده لفتح قالدة كانت ترقد على عنقها ب�سالم‪ .‬قال يف دالل وهو ي�شري‬
‫�إىل �أ�شخا�ص يف �صورة ا�ستقرت بداخلها‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫أنت‪.‬‬
‫‪� -‬أنا و� ِ‬
‫‪ -‬نعم‪� ،‬أنا و�أنت‪� ،‬إىل الأبد‪.‬‬
‫�أغلقتها وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬هيا‪ ،‬اذهب �إىل �أ�صدقائك وادعهم �إىل هنا لنحتفل‪.‬‬
‫قفز من بني يديها متج ًها �إىل اخلارج وهي تراقبه بود‪ ،‬تابعت‬
‫ب�صوت �أعلى‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تن�س �أن ت�ضع الهدية مكانها‪ ،‬فلم يحن وقت فتح الهدايا‬
‫ص‬
‫‪ -‬وال َ‬
‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫بعد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ابت�سمتويلالثم ولت خارجة‪.‬‬
‫و‬ ‫ت‬
‫زيع‬
‫توقفت‪� ،‬أطرقت ر�أ�سها‬
‫ْ‬ ‫لكنها‬ ‫بالتحرك‪،‬‬ ‫وهمت‬
‫ْ‬ ‫مكانها‬ ‫نه�ضت من‬
‫ْ‬ ‫برهة‪ ،‬ثم التفتت جتاهي‪ ،‬فتالقت �أعيننا‪،‬‬
‫أ�صابت ج�سدي‪ ،‬وحنني ُموجع ا�ستباح قلبي دون خ�شية رادع‬
‫رع�شة � ْ‬
‫له‪� ،‬أر�سل �أوامره �إىل �أجفاين فامتلأت بدموع جتمعت على حافتها ال‬
‫وا�ضحا لإطالقها ف�آثرت البقاء مكانها‪.‬‬
‫ً‬ ‫جتد ً‬
‫م�سوغا‬
‫�شعرنا باهتزاز ي�سري حولنا‪ ،‬بد�أ ي�شتد �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬انحدرت‬
‫الأطباق من على الطاولة لكنها مل ت�سقط‪ ،‬بل تبخرت يف الهواء‬
‫كدخان‪ ،‬ثم اختفت يف حلظة‪ ،‬توالت متعلقات الغرفة يف التبخر كما‬
‫ظهرت‪ ،‬ك�أن الزمن يعود للوراء‪� ،‬صوت تبخر الأ�شياء كان ي�شبه �صوت‬
‫رفعت مي�سون‬
‫انفجار �صغري يعلو كلما كان ما �سيختفي �أكرب حج ًما‪ْ .‬‬
‫�صوتها و�سط ال�ضجة احلادثة قائلة‪:‬‬
‫‪39‬‬
‫‪ -‬يبدو �أن وقت الذكرى قد انتهى‪� ،‬سرنجع الآن �إىل حيث كنا‪،‬‬
‫�أراك هناك‪.‬‬
‫حلظات كان قد اختفى خاللها كل �شيء‪ ،‬ومل يبقَ �سوانا‪� ،‬شعرت‬
‫بت�سارع نب�ضات قلبي و�ضيق النف�س يف �صدري‪ ،‬ك�أن ً‬
‫وح�شا يحتجزين‬
‫بني براثنه ويحكم قب�ضته حويل ببطء‪� ،‬أرعبني م�شهد قدمي عندما‬
‫ر�أيتها تتبخر‪ ،‬يبدو �أن عقلي �سيعاملني نف�س املعاملة‪ ،‬عقلي عادل‬
‫إح�سا�سا‬
‫�أكرث من الالزم‪ ،‬ال يعطيني �أي ميزة كوين �صاحبه‪ .‬كان � ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ُمفج ًعا �أن �أرى ج�سدي يتبخر �أمام عيني �شي ًئا ف�شي ًئا وال حيلة بيدي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫اختفيت‪ ،‬ومل يبقَ مني �إال ر�أ�سي‪ ،‬زاد ال�ضغط ب�شكل مل �أقدر‬
‫ُ‬ ‫ملنع هذا‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫بل‬


‫على حتمله‪ ،‬اعت�صر الوح�ش قب�ضته‪ ،‬وانت�شلني ال�سراب‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫�شاحنة تالفة املكابح مرت فوق ج�سدي فده�سته الدونت‬
‫•‬ ‫••‬
‫ع‬
‫رحمة‪� ،‬أمل‬
‫تكالب على الروح واجل�سد‪،‬‬‫َ‬ ‫ثاقب يتلذذ ب�سحق عظامي ببطء‪ ،‬وهنٌ‬
‫أمرت قلوب غمرها‬‫ووجع مل يجد م�أوى له فا�ستوطن قلبي بعد �أن � ْ‬
‫متاما القوة التي كنت �أ�شعر بها منذ‬
‫الر�ضا برتحيله عنها‪ .‬تال�شت ً‬
‫ثوان‪ ،‬وما زال ج�سدي على و�ضعه كما كان قبل تناول العقار‪ :‬حجر‬ ‫ٍ‬
‫�أ�صم ُملقى على ال�سرير‪ ،‬ال �أقوى على حتريكه‪ ،‬بالكاد ا�ستطاعت‬
‫عيناي �أن تتحررا من ا�ستبداد الو�صب‪ ،‬وانفرجت دفتاها على مهل‪،‬‬
‫وجدتُ مي�سون تفرك عينيها من �أثر �صحو‪ ،‬كانت تبدو �أف�ضل ً‬
‫حال‬
‫نظرت �إ َّ‬
‫يل نظرة العامل بحال املنظور �إليه قائلة‪:‬‬ ‫مني‪ْ ،‬‬
‫‪� -‬أعلم مدى الأمل الذي ت�شعر به‪ ،‬ال تقلق‪� ،‬ستتح�سن بالتدريج‪،‬‬
‫هذا من الآثار اجلانبية للعقار‪ ،‬مل نتو�صل حلل هذه النقطة‬
‫‪40‬‬
‫حتى اللحظة‪ ،‬كل من تناول العقار ي�شعر ب�إعياء �شديد مع‬
‫ان�سحابه‪ ،‬ك�أن العقل يعاقب كل من يتجر�أ على اقتحامه‪.‬‬
‫قر�صا‬
‫تناولت من حقيبتها حاوية بحجم اليد‪� ،‬أخرجت منها ً‬
‫دائر ًيا �صغ ًريا و�ضعته بجانبي‪:‬‬
‫‪ -‬لكننا �صنعنا هذا كحل م�ؤقت‪ ،‬ال تتناوله قبل �أن ت�شعر بقليل‬
‫من التح�سن‪ ،‬م�صه وال تبلعه‪ ،‬و�ستعود لطبيعتك‪.‬‬

‫ع‬
‫مرت دقائق كالدهر‪ ،‬ا�ستطعت بعدها حتريك �أناملي والتقاط‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫القر�ص‪ ،‬جعلت من ل�ساين غطاء له‪ ،‬كان يفر من حتته بدهاء بتفتت‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ا�ستعطان ًفا بفتات من القوة ا�ستطعت‬ ‫ت‬
‫متاما‪.‬‬
‫طبقاته املذابة يف لعابي متجهة �إىل بلعومي‪ ،‬حتى اختفى ً‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬‫ر يف‬ ‫ش‬


‫زيع‬
‫�آوتني العافية �إىل كنفها‬
‫الغرفة تفكر ك�أول‬ ‫االعتماد عليها لأجل�س‪ ،‬كانت مي�سون تتجول‬
‫مرة ر�أيتها فيها‪.‬‬
‫أح�س�ست بدفء ين�ساب على وجهي‪� ،‬أُفلت زمام دمعة مل �أق َو على‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫حب�سها كث ًريا‪� ،‬أوجعني االفتقاد‪ ،‬ذلك الأمان الذي �شعرت به و�أنا‬
‫طفل �أفتقده كث ًريا الآن‪.‬‬
‫انتبهت يل مي�سون ف�أعدتُ �صفحة وجهي كما كانت‪ ،‬وحموت �أثر‬
‫ْ‬
‫حتركت جتاهي‪ ،‬وابتدرتني �سائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫الدمع �سري ًعا‪،‬‬
‫‪ -‬الذكرى‪ ،‬تذكرتها؟‪.‬‬
‫‪� -‬أمي‪.‬‬
‫‪ -‬تلك املر�أة هي‪....‬‬
‫‪41‬‬
‫‪�-‬أمي‪.‬‬
‫أردفت‪:‬‬
‫أطرقت ر�أ�سها ت�أث ًرا‪ ،‬و� ْ‬
‫� ْ‬
‫‪ -‬والدتك جميلة‪.‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي و�أنا �أتابع‪:‬‬
‫‪-‬رائحتها رائحة زيت الالفندر‪ ،‬كانت تدهنه با�ستمرار لت�شعر‬
‫باال�سرتخاء‪ ،‬تلك الذكرى يوم �أن �أمتمت ثالث �سنوات‪ ،‬مل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أ ِع كلمة ال�سعادة حينها‪ ،‬لكني كنت �أ�شعر بها تغمرين وتغمر‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أمي‪ ،‬مل يكن يعكر �صفونا �سوى غياب �أبي و�س�ؤايل الدائم عنه‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ليل بعد انتهاء احلفل‪ ،‬ودخل غرفتي‪ ،‬وو�ضع‬ ‫�أتذكر �أنه �أتي ً‬

‫ع‬
‫الهدية بجانبي وهو يحاول �إيقاظي‪ ،‬لكن �أمي ظهرت فج�أة‪،‬‬
‫نهرته‪ ،‬و�سحبته للخارج‪ ،‬و�أغلقت الباب‪� .‬صوت �شجارهما‬
‫يل من وراء الباب‪ ،‬كان �صوتها غا�ض ًبا حزي ًنا‪ ،‬تتهم‬ ‫ت�سلل �إ َّ‬
‫�أبي بالتق�صري‪ ،‬وكيف �أنها كانت ت�شعر باخلجل �أمام اجلميع‬
‫و�أمامي لغيابه‪ ،‬م�سرت�سلة يف حديثها دون �سماع �أ�سبابه‪ ،‬ك�أن‬
‫داخلها نا ًرا تريد نفث لهيبها لتهد�أ‪ ،‬و‪ ،...‬و‪...‬‬
‫‪ -‬وماذا؟‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أتذكر‪.‬‬
‫با�ستنكار �س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬ال تتذكر �أي �شيء �آخر؟‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫قبل �أن �أجيبها حاولت الرتكيز �أكرث و�أنا �أحك جبهتي لتذكر بقية‬
‫تلك الليلة‪ ،‬لكن توقف عقلي عند هذا احلد‪ ،‬ال �أتذكر �أي �شيء تال‬
‫هذا املوقف‪ ،‬عدتُ �إليها خائب اليدين ِ�صف ًرا‪� ،‬أُجيب بر� ٍأ�س ناف ًيا‪،‬‬
‫خرج �صوتها ً‬
‫حمبطا �إثر �إجابتي‪:‬‬
‫‪ -‬مل ن�ستفد من هذه املرة كث ًريا‪.‬‬
‫أردفت بنربة ممزوجة بالندم على عر�ض �سابق قدمته وم�سحة‬
‫� ْ‬
‫من التهديد قائلة‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬لديك جرعة واحدة متبقية‪ ،‬حاول ا�ستغاللها جيدً ا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫أكملت‪:‬‬
‫دون انتظار تعليق مني � ْ‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫زيع‬
‫يتح�سن ج�سدك ويكون قاد ًرا على‬ ‫حتى‬ ‫‪� -‬سننتظر �ساعتني‪،‬‬
‫ا�ستقبال اجلرعة اجلديدة من العقار‪.‬‬
‫م�ضت ال�ساعتان �سري ًعا دون �أن نتحدث‪ ،‬كان من الوا�ضح �أنها‬
‫غا�ضبة لأنه مل ُي�ست َفد من العقار كما يجب من وجهة نظرها‪ْ ،‬‬
‫ذهبت‬
‫بعدها مي�سون �إىل اجلهاز وثبتت الأقطاب الدائرية بجبهتينا‪ ،‬فتحت‬
‫العلبة الف�ضية‪ ،‬وا�ستلت واحدة من احلقن‪ ،‬رفعتها مل�ستوى عينيها‪ ،‬ثم‬
‫اجتهت للحامل بجوار �سريري وا�ستبدلت �أنبو ًبا �آخر بالأنبوب الرفيع‪.‬‬
‫‪« -‬لدي �س�ؤال»‪ ،‬قلتها مرتددًا‪.‬‬
‫�أجابتني وهي منهمكة بتح�ضري العقار دون النظر �إ َّ‬
‫يل‪:‬‬
‫‪ -‬تف�ضل‪.‬‬
‫‪ -‬هل يف �أثناء الذكرى نكون مرئيني لهم؟ هل يروننا؟‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫‪ -‬بالطبع ال‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن يف الذكرى ال�سابقة نظرت �أمي يف عيني مبا�شر ًة‪،‬‬
‫وابت�سمت‪ ،‬ك�أنها تراين‪.‬‬
‫تن�س �أن النافذة كانت خلفك‪ ،‬رمبا وقت الذكرى ر�أت �شي ًئا‬
‫‪ -‬ال َ‬
‫باخلارج دعاها لالبت�سام‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪...‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قبل �أن �أكمل قاطعتني‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫ب‬
‫‪ -‬م�ستعد؟‪.‬‬

‫ش‬
‫أرجواينربالتدفق �إىل �أوردتنا‪،‬‬ ‫ن‬‫حقنت الأنبوب بالعقار‪ ،‬وبد�أ ال�سائل الل‬
‫والتوز عي‬
‫مقاطعتها‪ ،‬فواريته ب�إمياءة من ر�أ�سي مواف ًقا‪،‬‬ ‫من‬ ‫�شعرتُ بالإحراج‬

‫قالت ب�صرامة‪:‬‬
‫‪ -‬حاول الرتكيز هذه املرة‪.‬‬
‫�شرعت �سطوة ت�أثريه‬
‫ْ‬ ‫ا�ستقر ال�سائل ب�أكمله داخل دمائي بارتياح‪،‬‬
‫باالنت�شار بني جنباتي‪ ،‬تخبطت الر�ؤية‪ ،‬وارتبكت الأ�شياء �أمامي‪،‬‬
‫وبد� ْأت باالختفاء داخل غياهب الظلمة‪ ،‬فقد ج�سدي الإح�سا�س‪،‬‬
‫و�أخذين الو�سن‪.‬‬
‫•••‬

‫‪44‬‬
‫(‪)٤‬‬
‫(الذكرى الثانية)‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�ضجيجه‪ ،‬يبتلع �أذاه موجات الهواء‬ ‫قادم من بعيد‪ ،‬يخم�ش �أذ َّ‬
‫ين‬

‫ري‬
‫ُ‬

‫خلفيتب�سرعة كبرية‪ ،‬و�أر�ض ال تقوى على الثبات‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫النافذة �إ َّ‬
‫يل بل ًعا‪ ،‬ي�ستلبني من ظلمات نومي ب�صوت �صفريه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أمامه‪� ،‬ساح ًبا مقطوراته لوجهة ل‬
‫والتوز عي‬
‫قطار يتحرك‬
‫معلومة‪ ،‬تار ًكا هدو ًءا مهرت ًءا‬ ‫غري‬
‫ب�آثار �صوته املمتد بعد رحيله‪.‬‬
‫كنا نقف �أنا ومي�سون يف املنت�صف متجاورين بني �أربعة ق�ضبان‬
‫حديدية المعة ت�شبثت بالأر�ض‪ ،‬فقدت الأمل بالو�صل ولو ملرة فاتخذت‬
‫من الألواح اخل�شبية ُر ُ�س ًل بينها طم ًعا يف القرب‪ ،‬تفرت�ش احلجارة‬
‫خال من �أي مقاعد يتقوى البدن‬ ‫على جانبيها‪ ،‬ر�صيف �أ�صفر اللون ٍ‬
‫باجللو�س عليها على طول �أوقات االنتظار‪ُ ،‬ثبتت عليه �أعمدة امتدت‬
‫منها مظالت خ�شبية بالية عفا عليها الزمن‪ ،‬و�سماء مكتظة ب�سحاب‬
‫مركوم يخفي زرقتها و ُينذر مبطر وفري عما قريب‪ .‬كان الأمر خمتل ًفا‬
‫هذه املرة‪ ،‬كانت الذكرى ُمعدة وجمهزة قبل الولوج �إليها‪ ،‬ك�أن العقل‬
‫قد ا�ستوعب الأمر و�صار يتعامل مع العقار ب�شكل �أف�ضل‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫‪« -‬حمطة قطار‪ .‬ماذا تعني هذه الذكرى بالن�سبة �إليك؟»‪،‬‬
‫�س�ألتني مي�سون‪.‬‬
‫�أجبتها و�أنا �أجيل ب�صري باملكان‪:‬‬
‫‪� -‬أتذكر املكان‪ ،‬لكن ال �أتذكر الذكرى املتعلقة به حتى الآن‪.‬‬
‫ا�ستهل املطر بقطراته‪ ،‬فقالت وهي حتاول حجبها بيديها‪:‬‬
‫لنحتم باملظلة قبل ا�شتداد املطر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هيا‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫�أوقفتها ناه ًيا بيدي‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪ -‬ال‪� ،‬أ�شعر �أنه يجب علينا االنتظار هنا‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫طوعا لرغبة غيم �أبى �أن‬
‫مرت دقيقة �صبت فيها الوطفاء �ش�آبيبها ً‬
‫يرحل �إال بعد �أن يثبت ح�ضوره بقوة‪.‬‬
‫‪« -‬ال بد �أن نتحرك»‪ .‬قالتها مي�سون �آمرة‪.‬‬
‫ان�صعت لها رغ ًما عني‪ ،‬فلي�س لدي ما �أدافع به عن رغبتي املُلحة‬
‫ُ‬
‫يف البقاء‪ ،‬وقبل �أن نتحرك ظهر من بعيد بهيكله املعدين ال�ضخم‬
‫ف�ضي اللون‪ ،‬يطغى ب�صفريه على �صوت قطرات مطر وقعها كال�سهام‪.‬‬
‫همت مي�سون باحلركة قبل �أن يعوقها تقدمه‪ ،‬ف�أوقفتها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬انتظري‪� ،‬أنا على منت هذا القطار‪.‬‬
‫ثبتتها جملتي يف الأر�ض‪ ،‬وظلت تنظر �إليه برتقب‪ ،‬بد�أ القطار‬
‫يف �شد جلامه بقوة‪ ،‬ف�صدر �صفري مميز نتيجة احتكاك �إطاراته‬
‫ب�شري �إىل الر�صيف‪،‬‬
‫انفرجت �أبوابه‪ ،‬فتدفق نه ٌر ٌ‬
‫ْ‬ ‫املعدنية بالق�ضبان‪،‬‬
‫‪46‬‬
‫تطلعت فيهم �أحاول �إيجاد نف�سي‪ ،‬كنت �أ�شعر ببو�صلة داخلي توجهني‬
‫ُ‬
‫�إىل النظر نحو �أبواب بعينها‪ ،‬ظهرتُ �أخ ًريا‪ ،‬ببنطال �أزرق وقمي�ص‬
‫�سماوي ي�سترت مبعطف ريا�ضي‪� ،‬صرت �أكرب �س ًنا‪ ،‬وناهزتُ العا�شرة‬
‫من العمر‪.‬‬
‫وذهبت �أناقتها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ومن تلك املُم�سكة بيدي؟ �أمي! �ض ُع َفت ً‬
‫متاما‪،‬‬
‫ذ ُبلت زهرتها‪ ،‬وامتُ�ص رحيقها‪� ،‬صارت �شاحبة وباهتة‪ ،‬عيناها‬
‫حما�صرتان بدوائر بنية غائرة يف وجهها‪ ،‬يدور احلزن بني ق�سماتها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قا�س‪ .‬الحظت مي�سون �شخو�ص ب�صري جتاه امر�أة بولدها‬ ‫ب�شكل ٍ‬

‫ري‬
‫‪ -‬هل هذا �الأنت؟‪.‬كت‬
‫فقاطعت ا�سرت�سال ب�صري �سائلة‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وزيع‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫هززتُ ر�أ�سي بالإيجاب دون النظر �إليها‪.‬‬
‫‪ -‬وهل هذه هي‪....‬‬
‫�صمتت ومل تكمل‪ ،‬كان جل ًيا مدى التغري الذي ح�صل لأمي بني‬
‫ْ‬
‫الذكرى الأوىل والثانية‪ ،‬وهو تغري �صادم لكل من يراها‪.‬‬
‫اجتهت �أمي �إىل الر�صيف بخطوات وجلة‪ ،‬فتبعتها �أنا ومي�سون‪،‬‬
‫ْ‬
‫واقرتبنا منها‪ ،‬بنظرات متحفزة بد� ْأت بتحريك عينيها بني وجوه‬
‫النا�س مت�شطها خ�شية غدرة تبط�ش بها‪ .‬حركة ج�سدها امل�ضطربة‬
‫عند �سماع هزمي الرعد من حولنا يف كل مرة يتبعها �إحكام قب�ضتها‬
‫�أكرث حول يدي و�أنا طفل تعك�س توت ًرا غرقت فيه‪ .‬ارتكزت بب�صرها‬
‫فج�أة على ركن ينزوي به رجالن �ضخما اجل�سد يحدان النظر �إليها‪،‬‬
‫رجعت خطوة للوراء‪ ،‬و�سرت رع�شة ببدنها‪ ،‬وبد�أ �صدرها بال�صعود‬
‫ْ‬
‫‪47‬‬
‫والهبوط ب�شهيق وزفري خائفني حائرين‪ ،‬ن�شع العرق يف جبينها رغم‬
‫ا�ستندت �إىل �أحد الأعمدة اخل�شبية‪ ،‬وقالت ب�صوت‬ ‫ْ‬ ‫برودة اجلو‪،‬‬
‫منخف�ض‪:‬‬
‫‪ -‬ا�سمعني دون �أن تلفت �إ ّ‬
‫يل‪� ،‬سي�أتي الآن قطاران �إىل املحطة‪،‬‬
‫�سيتزاحم النا�س على قطار اجلهة املقابلة‪ ،‬و�سنتزاحم معهم‪،‬‬
‫�سن�ستقل القطار‪ ،‬وجنل�س بداخله‪ ،‬عندما �أبت�سم �إليك حاجب ًة‬
‫ب�صوت‬
‫ٍ‬ ‫�أ�سناين ُتخربين برغبتك يف الذهاب �إىل املرحا�ض‬

‫ع‬
‫عال‪� ،‬س�أرف�ض لأن القطار على و�شك الرحيل فتخربين �أنك ال‬ ‫ٍ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�ستطيع التحمل �أكرث‪� ،‬سنتحرك �إىل املرحا�ض‪� ،‬س�أفتح الباب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫و�أغلقه‪ ،‬و�سننخف�ض وننزل من الباب املال�صق له‪� ،‬سنتجه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بعدها للقطار املقابل يف اجلهة الأخرى‪ ،‬ففيه بغيتنا‪.‬‬

‫ع‬
‫الح اخلوف يف عي َني ابن العا�شرة من كالم �أمه ونربتها اجلادة يف‬
‫احلديث‪� .‬س�ألتني مي�سون متعجبة‪:‬‬
‫و�ضعت والدتك تلك اخلطة؟ ممن تهرب؟‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬ملاذا‬
‫بعيني �إىل �ضخمي اجلثة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫�أ�شرتُ‬
‫‪ -‬هذين‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪.‬‬
‫بد� ْأت �صافرتاهما ت�شقان الأفق‪ ،‬قطاران مت�ضادان ي�سريان عك�س‬
‫همت �أمي بالتحرك جاذب ًة‬
‫متاما مبكانهما املعتاد‪ْ .‬‬
‫بع�ضهما‪ ،‬ا�ستقرا ً‬
‫�إياي ب�سرع ٍة عجزَ �ضخما اجل�سد عن جماراتها يف البداية‪ ،‬وانخرطت‬
‫‪48‬‬
‫و�سط اجلموع مبرون ٍة مل ي�ساعدهما حجماهما على م�سايرتها‪ .‬ارتقينا‬
‫�إىل القطار‪ ،‬وارتقيا كذلك بعد دقائق‪ ،‬الح من �شفتيها اعوجاج عالمة‬
‫ف�شرعت بتنفيذ خطتها كما �أخربتني‪ ،‬مل ندخل �إىل املرحا�ض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البدء‪،‬‬
‫وانحنينا حتى وقفنا على �أطراف الباب املفتوح‪ ،‬وكان القطار قد بد�أ‬
‫التحرك ببطء‪ ،‬وقفت �أمي بباب القطار يت�سلقها الرتدد‪ ،‬وقبل �أن‬
‫أغم�ضت عينيها وقفزت‪ ،‬ثم �أمرتني بالقفز‪،‬‬‫ْ‬ ‫ي�ستقر على �أكتافها �‬
‫كان يبدو �أنني خائف وم�ضطرب وال �أ�ستطيع الإقدام على اخلطوة‪،‬‬
‫�أمرتني بالوثوق بها و�أن �أفعلها مغم�ض العينني قبل �أن تزيد �سرعة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ا�ستجبت لرغبتها وقفزت‪ ،‬فتلقفتني بقوة بثت الأمان‬ ‫ُ‬ ‫القطار‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫م�سرعا خمل ًفا �إيانا‪ ،‬ما �إن غادر‬
‫ً‬ ‫بداخلي من جديد‪ .‬انطلق القطار‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صعدت �أمي �إىل القطار املقابل‪ ،‬كانت تبحث بني املقاعد‬
‫ْ‬ ‫املحطة حتى‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫بعني �سريعة احلركة‪ ،‬حتى وجدت �ضالتها‪ :‬عجو ًزا بعود حمني تتدثر‬
‫ب�شال كحلي اللون من قطيف ٍة‪ُ ،‬ر�سمت التجاعيد ب�إتقان حول عينيها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وطبعت �سنوات العمر املتقدمة ب�صمتها بكي�سني دهنيني حتتهما‪،‬‬
‫وجفنني حجبا بريق احلياة بارتخائهما‪ ،‬وخطوط حمراء ت�شعبت‬
‫على جانبي عينيها‪� ،‬سكن امتدادها حتت �سائل �شفاف يطلي �إحدى‬
‫توجهت �أمي �صوبها‪ ،‬و�أجل�ستني بجانبها قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫حدقتيها بزرقة‪.‬‬
‫‪ -‬لي�س لدينا وقت‪.‬‬
‫ب�صوت واهن يحمل ارتعا�شة ِهرم �س�ألتها العجوز‪:‬‬
‫‪ -‬هل يتبعانك؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لكني حاولت ت�ضليلهما ً‬
‫قليل‪� .‬أظن �أنهما اكت�شفا الأمر‬
‫الآن‪ ،‬و�سينزالن املحطة القادمة‪ ،‬وحينها �سيكون قطاركما يف‬
‫طريقه �إىل وجهته‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫�س�ألتني مي�سون م�ستنكرة‪:‬‬
‫‪ -‬قطاركما؟ �ألن تذهب معكما؟‪.‬‬
‫�صمت �أمام �س�ؤالها‪ ،‬فلم �أكن �أملك الإجابة‪ ،‬هذه املرة لي�ست‬‫ُ‬
‫انطلقت �صافرة القطار‪ ،‬ف�أعطت �إذ ًنا‬
‫ْ‬ ‫ك�سابقتها‪ ،‬ال �أتذكر �أي �شيء‪.‬‬
‫وهم ًيا بامتالء جفني �أمي بالدموع‪ ،‬قالت ما�سحة �إياها‪:‬‬
‫‪ -‬يجب �أن �أحترك الآن‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أم�سكت العجوز بيدها برجاء ك�أنها حتاول �أن تثنيها عن قرار ما‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لكنها هزت ر�أ�سها بالنفي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫‪�« -‬أجمد»‪ ،‬نادتني �أمي بحنو‪ً � .‬إذا ا�سمي «�أجمد» ً‬
‫فعل كما كان‬

‫ع‬
‫مكتو ًبا على اللوح املعدين املعلق بال�سرير‪.‬‬
‫نظرت يف عيني مبا�شر ًة �سائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هل حتبني؟‪.‬‬
‫‪ -‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫متاما‪� ،‬أطعها‪ ،‬وهي‬
‫‪� -‬إن كنت كذلك ف�أحب اجلدة كوثر مثلي ً‬
‫�ستعتني بك جيدً ا‪.‬‬
‫ا�ستبد القلق مبالمح الطفل ال�صغري‪ ،‬وقبل �أن ي�ستوعب ما ترمي‬
‫�إليه �أمه �أعطت �إ�شارتها للعجوز‪ ،‬ف�أحكمت ذراعيها حويل بقوة غري‬
‫متنا�سبة مع عمرها لكبح جماحي‪ ،‬و�شرع القطار بعدها يف التحرك‪،‬‬
‫ودعتني �أمي بنظرة دامعة وغادرت القطار �سري ًعا‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫ً‬
‫حماول التمل�ص‬ ‫عال �صوتي مناد ًيا �إياها راج ًيا �أال ترحل وترتكني‪،‬‬
‫من ذلك القيد الثقيل الذي ي�شل �أطرايف‪ ،‬ب�إ�صرار طفل مل تق َو �أذرع‬
‫عجوز على مقاومته ا�ستطعت التحرر بعد دقائق‪ ،‬لكن زادت �سرعة‬
‫جريت لنافذة املقعد املوازي لر�ؤية �أمي من خالله‪ ،‬ومل‬ ‫ُ‬ ‫القطار‪،‬‬
‫خائف‬
‫ب�صوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ت�ستطع العجوز مالحقتي بحركتها البطيئة‪ ،‬فابتدرتني‬
‫ينهاين عن النظر ب�إحلاح‪ ،‬لكن �سبق ال�سيف العزل‪�ُ ،‬شل ل�ساين و�أنا‬
‫�أرى �أمي راب�ضة على الق�ضبان ال حترك �ساك ًنا‪ ،‬م�ست�سلم ًة لذلك‬
‫القطار الآتي من خلفها ب�سرعة ليث يريد �أن يلتهمها دون رحمة‪.‬‬

‫كتتنتحر؟‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫جحظت عينا مي�سون وهي ت�س�أل بجنون‪:‬‬
‫ع‬
‫ر ً‬ ‫ش ًريا‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫حتجر ل�ساين �أنا الآخربمثلما ل‬
‫تفعل؟ هل‬ ‫‪ -‬ماذا‬

‫بداخلي وابتلع �أي ردة فعل منطقية ميكن �أن �أقوموالبها‪.‬توز عي‬
‫متاما‪ ،‬تعملق اخلوف‬ ‫كنت �صغ‬

‫ر�أينا طوق النجاة يتحرك من بعيد‪ ،‬رجلني يرتديان ز ًيا �أزرق‬


‫يبدو من هيئتيهما �أنهما عامالن بت�صليح ق�ضبان القطارات‪ ،‬الحظا‬
‫ما تنوي �أمي فعله‪ ،‬فرتكا �أرجلهما للريح لعلها ت�سبق قد ًرا مل ُيجزم‬
‫تعلقت بق�شة الأمل املتجهة �إليها رغب ًة يف جناتها من‬
‫ُ‬ ‫بحدوثه بعد‪.‬‬
‫املوت وجناتي من وجع مميت ال �أعلم �إن كان حمله قلبي �صغ ًريا �أم ال‪.‬‬
‫فج�أة �سكن كل �شيء‪ ،‬ك�أن �أحدهم �ضغط على زر التوقف ف�أ�صاب‬
‫اجلميع ال�شلل‪ ،‬تبخر الرجالن بلمح الب�صر‪ ،‬تبعتهما �أمي والقطار‬
‫املتجه نحوها‪ ،‬وحلقت بهما العجوز والطفل‪ ،‬بد�أتُ �أفهم ما يحدث‪،‬‬
‫ف�صرخت يف مي�سون‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪51‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬افعلي �أي �شيء‪� ،‬أوقفي هذا ً‬
‫حال‪� ،‬أريد �أن �أت�أكد �أنهما‬
‫ا�ستطاعا اللحاق بها‪.‬‬
‫�أجابتني ُم�شفقة‪:‬‬
‫‪ -‬الأمر لي�س بيدي‪� ،‬أخربتك من قبل �أن مدة العقار ع�شر دقائق‪،‬‬
‫للأ�سف وقت الذكرى قد انتهى‪.‬‬
‫بد�أتُ بال�صراخ م�ستجد ًيا الذكرى �أن تبقى‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫انتبهت فج�أة جل�سدي املتبخر ن�صفه‪ ،‬يبدو‬‫ُ‬ ‫أرجوك»‪،‬‬
‫‪« -‬ال‪ ،‬ال‪ِ � ،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�شجع‬
‫�أن تو�سالتي لن جتدي‪ ،‬ط�أط�أتُ ر�أ�سي م�ست�سل ًما بي�أ�س َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ال�سراب على التهام بقيتي‪.‬‬

‫ق�ض‬ ‫ز‬
‫زمنيع ّ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫جمر �صغري �أبقى على لهيب نريان ت�ضرمت فيه منذو‬
‫•‬ ‫••‬
‫م�ضجعي‪ ،‬يتغذى على �أدمي جراحي وقلبي الذي مزقته حرية املجهول‬
‫مب�صري معلوم حواه املا�ضي يف جعبته‪ ،‬و�ضنَّ به عقلي عقا ًبا �أو رمبا‬
‫رحم ًة‪.‬‬
‫ملاذا ن�سعى ملعرفة احلقائق كاملة؟ املعرفة جحيم م�ستعر ترمي‬
‫ب�شررها مقد�سات الرباءة التي مل ُن ّلها حق �إجاللها �إال بعد خ�سارتها‪،‬‬
‫تقيم من رفاتها قالع ن�ضج عمالقة نفتخر بها �أمام اجلميع‪ ،‬ونختبئ‬
‫وراء �أ�سوارها من �أنف�سنا‪ ،‬ناقمني عليها‪ ،‬متمنني العودة جلهل رحيم‬
‫نحتمي به‪ ،‬من�سحبني بر�ضا من ميدان معركة احلياة �أمام �صفعات‬
‫الوعي القا�سية‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫بعني �آ�سفة و�ضعت مي�سون القر�ص بجانبي وحتركت مبتعدة هر ًبا‬
‫من �شعو ٍر باخلزي �أُحلق بها من قلة احليلة‪ .‬مرت الدقائق �سري ًعا‪،‬‬
‫ا�ستطاع فيها ج�سدي بفعل الغ�ضب ا�ستعادة �سطوته بعد ابتالع‬
‫انت�صبت واق ًفا حتا�صر نظراتي �سقف الغرفة الرمادي‬
‫ُ‬ ‫القر�ص‪.‬‬
‫الكئيب ً‬
‫�سائل �إياها ب�صوت ظاهره الثبات وباطنه الرجاء‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذه الذكرى حقيقية �أم ُزرعت يف عقلي؟‪.‬‬
‫�ألقت ب�سكني �صدئ يف �صدري ب�إجابتها‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪ -‬حقيقية‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫عيني و�أنا �أجته �إليها زاع ًقا‪:‬‬
‫جتلت حمم الربكان امل�شتعل داخلي يف َّ‬

‫قالت ب�صوت هادئ ي�شوبه الي�أ�س‪ :‬والتوز عي‬


‫‪� -‬أعيديني �إىل هناك‪� ،‬أعيديني �إىل هناك ً‬
‫حال‪.‬‬

‫‪� -‬أتفهم حالتك وما متر به‪ ،‬لكنني �أخربتك بخ�صائ�ص العقار‬
‫من قبل‪ ،‬مدته ع�شر دقائق‪ ،‬وال يعود للذكرى نف�سها مرة‬
‫�أخرى‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫�صمتت برهة و� ْ‬
‫ْ‬
‫‪ -‬حتى و�إن عدت فما الفائدة؟ لن ت�ستطيع تغيري �شيء‪.‬‬
‫منطقها الواقعي مل يلقَ ترحي ًبا �أمام عاطفتي و�أملي �أن تكون‬
‫�أمي قد �أُنقذت‪ ،‬لكنه ا�ستطاع �إخماد بركان الغ�ضب بداخلي ً‬
‫قليل‬
‫رجلي بذراعي نحو �صدري‬
‫لواقعيته‪ .‬تكومت على الأر�ض بقنوط �أ�ضم َّ‬
‫‪53‬‬
‫أمل يف احتواء مكذوب‪ .‬م�شهد �أمي وهي جتل�س على ق�ضبان القطار‬ ‫� ً‬
‫با�ست�سالم ملت�ص ٌق ب�أجفاين ي�أبى الرحيل‪ ،‬تذكرتُ �إح�سا�سي عند‬
‫اخلروج من الذاكرة الأوىل والثانية‪ ،‬فرق كبري بني ال�شعورين ميتد‬
‫انتبهت فج�أة للفرق بينهما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بات�ساع امل�سافة بني ال�سماء والأر�ض‪.‬‬
‫أ�سرعت ب�س�ؤال مي�سون‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ف�‬
‫‪ -‬ولكن ملاذا؟ ملاذا تذكرت تفا�صيل الذكرى الأوىل ومل �أتذكر‬
‫الثانية البتة؟‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ب�صوت منخف�ض �أجابت‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪ -‬ماذا؟‪ .‬ب ل‬
‫ش‬
‫العث‪.‬‬
‫‪ -‬حلظي ِ‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ع‬
‫العقل‬ ‫يقوم‬ ‫الذكريات‬ ‫(((‬
‫‪ -‬من الوا�ضح �أنها ذاكرة مكبوتة ‪ ،‬بع�ض‬
‫بحجبه عن الوعي بدفنه يف الالوعي‪ .‬ال ن�ستطيع اجلزم ب�أنه‬
‫ُين�سى‪ ،‬لكن ميكننا و�صفه �أنه يو�ضع ب�صندوق �أ�سود ُي�سرب‬
‫ما بداخله عن طريق الأحالم فقط وب�صورة ال يتذكرها‬
‫ال�شخ�ص نف�سه‪ ،‬ك�أن العقل ُي�شفق على �صاحبه من ال�صدمة‬
‫التي تعر�ض لها فيقرر �أن يخفف عنه‪.‬‬
‫‪� -‬صدمة؟‪.‬‬
‫أ�سرعت نافية‪:‬‬
‫ْ‬ ‫رميت �إليه ف�‬
‫فهمت ما ُ‬
‫ْ‬

‫(((متالزمة الذاكرة املكبوتة أثبتها فرويد‪ ،‬وشكك فيها بعض علامء النفس يف العرص‬
‫الحديث‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫‪ -‬هذا ال يعني �إثبات حدوث �شيء ما يف الذكرى ال�سابقة‪ ،‬لكن‬
‫موق ًفا كهذا بجميع حيثياته �صادم بالت�أكيد لعقل لطفل �صغري‪.‬‬
‫وهمت قائمة جتاه حقيبتها‪� ،‬أغلقت العلبة الف�ضية‬
‫�أنهت جملتها‪ْ ،‬‬
‫وو�ضعتها بها‪.‬‬
‫ألت م�ستنك ًرا‪.‬‬
‫‪« -‬ماذا تفعلني؟»‪� .‬س� ُ‬
‫‪� -‬أُدخل العلبة يف احلقيبة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬ح ًقا؟ كان يخفى عني هذا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫قالت بعدما ا�ستبد ال�ضيق مبالحمها ال�ستهزائي من �إجابتها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫احلمقاء‪:‬‬
‫عاما‬
‫‪� -‬أعطيتك جرعتني كان يكفيني ثمنهما تكاليف احلياة ً‬
‫ً‬
‫كامل‪ ،‬ماذا تريد مني �أكرث من هذا؟‪.‬‬
‫أنت ماذا �أفعل �أنا! فاقد للذاكرة �إال من ذكرى يوم‬
‫‪� -‬أخربيني � ِ‬
‫ميالدي وذكرى �أمي وهي كافية جلعلي �إن�سا ًنا ً‬
‫بائ�سا بقية‬
‫حياتي‪.‬‬
‫أكملت حان ًقا‪:‬‬
‫� ُ‬
‫‪ -‬وال تن�سي �أن كل ما �أمر به �سببه �أنتم‪.‬‬
‫قالت غا�ضبة‪:‬‬
‫‪ -‬رجا ًء ال تتبع هذا الأ�سلوب معي‪ ،‬ال�ضغط على وتر ال�ضمري‪ ،‬ال‬
‫جتعلني �أندم على �إخبارك كل �شيء من البداية‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫رددتها زاج ًرا‪:‬‬
‫معك �أي �أ�سلوب‪� ،‬أنا فقط �أُذ ِّكرك �أن ما �أعي�شه الآن‬
‫‪ -‬ال �أتبع ِ‬
‫عدل‪ ،‬لي�س ً‬
‫عدل‪.‬‬ ‫لي�س ً‬
‫�صمتت برهة‪ ،‬تبعتها بزفرة ا�ست�سالم‪ ،‬تناولت العلبة الف�ضية من‬
‫ْ‬
‫حقيبتها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬لكن احذر‪ :‬كون عقلك يذهب بنا �إىل هذه املنطقة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يف الذاكرة التي ذهب �إليها يف املرة ال�سابقة فهذا �أمر يدعو‬

‫كرت مي�سون بعدهما العقار وثبتت الأقطاب‬


‫ت‬ ‫ري‬
‫مرت �ساعتان‪ ،‬ال ّ‬
‫للقلق‪ ،‬ال نعلم ماذا يخطط لنا يف املرات املُقبلة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫أنبوبن وحقنته بعد تغيريه‪ .‬تابعنا‬ ‫بل‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ح�ض‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫الرفيعنيواملت�صلني‬
‫ز عي‬
‫توجهت �إىل ا‬
‫ْ‬ ‫على جبهتينا ثم‬
‫اخلرطومني‬ ‫حترك ال�سائل الأرجواين ببطء داخل‬
‫ب�أوردتنا‪:‬‬
‫‪�« -‬أمتنى �أن تكون ذكرى طيبة هذه املرة»‪ .‬قالتها مي�سون بنربة‬
‫ً‬
‫ملحوظا ي�ضرب بجذوره يف �أعماقي �أنا‬ ‫مرتع�شة حتمل توت ًرا‬
‫� ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫ا�ستوطن ال�سائل دمائي طواعي ًة‪� ،‬ضباب احتوى بني �أكنافه حدود‬
‫الر�ؤية‪ ،‬و�سيطرة �أُخمدت قوتها �أمام ال�سحر الكيميائي‪ ،‬حلظات‬
‫وا�ستلبني النوم عنوة‪.‬‬

‫•••‬
‫‪56‬‬
‫(‪)٥‬‬
‫(قاتل)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫�شم�س مل ت�سطع نفثت حرارتها بني ذرات رمال ناعمة ت�شكلت‬

‫ن‬
‫ٌ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ت�ضاري�سها بن�صف مالمح وجهي القابعة فيها‪ ،‬منكف ًئا على بطني‪،‬‬
‫متتد يداي بجانبي ك�أنني �أُلقيت من الطابق الع�شرين يف ق�ضية‬
‫�ستُ�سجل �ضد جمهول‪� .‬ضي ٌق تربع داخلي بغري �سبب منطقي‪ ،‬ف�أنا ما‬
‫زلت ببداية الذكرى اجلديدة‪� ،‬أو رمبا �أثر الذكرى املن�صرمة مل ينحل‬
‫عني بعد‪ .‬جثم التوتر بثقل �شعوره فوق ج�سدي‪ ،‬فا�ضطربت �سواكنه‬
‫رغم القوة التي يبثها العقار بني جنباته‪� ،‬شعور باالختناق ال يتنا�سب‬
‫فتحت عيني‪� ،‬أحاول الوقوف‬
‫مع ما يفعله ب�ساط البحر الأزرق بالروح‪ُ .‬‬
‫وركبتي‪� ،‬أتفقد املكان بب�صري‪ ،‬مل يكن هناك بحر‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يدي‬
‫م�ستندً ا �إىل َّ‬
‫وتلك الرمال لي�ست ب�شاطئ كما ظننت‪ ،‬كانت الرمال متتد من حتتي‬
‫مكونة �ساحة مربعة ال�شكل حتدها �أجولة مملوءة بالرمال ترقد‬
‫م�صباحا ذا �إنارة‬
‫ً‬ ‫بع�شوائية‪ ،‬ينت�صب مع كل زاوية بها عمود يحمل‬
‫بي�ضاء قوية ُترهق نظر من يطيل التحديق فيها‪ ،‬تقبع م�سافة ق�صرية‬
‫بني ال�ساحة و�سور �أبي�ض دائري متو�سط االرتفاع‪ ،‬يتحلق �أنا�س من‬
‫‪57‬‬
‫حوله يف �صفوف متدرجة هجرت مقاعدها �إثر حما�س اندلع بها‪ .‬كان‬
‫املكان يبدو كحلبة م�صارعة �سنغالية افتُتحت �أوىل مبارياتها للتو‪،‬‬
‫�أ�صوات تز�أر‪ ،‬ومالمح تزجمر‪ ،‬ووجوه غا�ضبة لعلة غري معلومة‪ ،‬ال‬
‫تنحل عقد �أل�سنتهم �إال بكلمة واحدة تهز �أرجاء املكان‪:‬‬
‫‪ -‬قاتل‪ ،‬قاتل‪ ،‬قاتل‪.‬‬
‫كانت مي�سون تقف ورائي بخطوة وقد �أبكمها الذعر فلم ت�س�أل‬
‫�أ�سئلتها املعتادة‪ ،‬قاب�ض ًة يدها �إىل �صدرها حتملق يف الوجوه الغا�ضبة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بخوف‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مل �أكن �أفهم �شي ًئا‪ ،‬فهذا املكان ال �أتذكره البتة كما �أن بنية‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫م�صارعا‪ ،‬لكن ال�شعور لي�س‬
‫ً‬ ‫يوما‬
‫ج�سدي العادية ال توحي ب�أنني كنت ً‬

‫ع‬
‫غري ًبا‪� ،‬شعور ال�ضيق والتوتر واخلوف والكره‪� ،‬أتذكره جيدً ا‪ .‬عندما‬
‫كنت �صغ ًريا وكان مازن يكربين بعامني وميار�س تنمره باحرتافية‬
‫معي ب�إيذائي ج�سد ًيا ولفظ ًيا �أمام �أ�صدقائه‪ ،‬ال�صندوق الذي يلقي‬
‫به بذاءاته وقاذوراته ويحكم غلقه جيدً ا بعد االنتهاء حلني العودة‬
‫كنت الكائن ال�صغري الذي يهابه مبجرد ر�ؤيته في�سلك طري ًقا‬ ‫�إليه‪ُ ،‬‬
‫�آخر �سيكلفه عناء تعب قدميه مقابل تفادي �إح�سا�س الهوان‪ ،‬فيجده‬
‫بن�صف الطريق و ُيجرعه �إياه‪ ،‬يجلدين ب�سياط قمع والديه ومدر�سيه‬
‫كنت �أكرهه كث ًريا على‬
‫وا�ستهزاء �أقاربه من بدانته لي�ست�شعر قوته‪ُ .‬‬
‫الرغم من �إجباره يل على قول كلمة «�أحبك» عقب كل �إيذاء‪ ،‬ولكن‬
‫بقي اخلوف بيني وبينه �سو ًرا عال ًيا مل �أمتلك اجلر�أة حلظة لت�سلقه‪.‬‬
‫قطع ا�سرت�سال ذكرياته القميئة معي ب�إطاللته ذات االبت�سامة‬
‫ال�ساخرة املعتادة ومالحمه التي �أتقنت اخل�سة‪ ،‬يتقدم جتاه احللبة‬
‫‪58‬‬
‫بثقة اكت�سبها من وراء خ�ضوعي الدائم له ليقف قبايل بعني مل �أ َرها‬
‫يوما تنظر �إيل �إال ا�ستهتا ًرا‪ ،‬ك�شف وجوده حتت ال�ضوء عن �شيءٍ‬ ‫ً‬
‫غريب وهزيل يف الوقت ذاته‪ ،‬كان تركيب ج�سده غري متنا�سق‪ ،‬ر�أ�س‬
‫الطفل الذي اعتدت ر�ؤيته لكنه على ج�سد �ضخم مفتول الع�ضالت‬
‫قوي البنية يطقطق رقبته ميي ًنا وي�سا ًرا ا�ستعدادًا خلو�ض نزال‪.‬‬
‫بد�أ الأمر يت�ضح‪ ،‬يبدو �أنه جاء ليقاتلني‪ ،‬مل يك ِفه ما فعله بي ونحن‬
‫مهل‪ ،‬ما يحدث الآن من‬ ‫أي�ضا لي�شجعوه‪ .‬لكن ً‬
‫�صغار بل �أتى مبرتزقة � ً‬
‫املفرت�ض �أن يكون داخل عقلي‪ ،‬فلماذا يفعل بي عقلي هذا؟ �أما توجد‬

‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ذكرى طيبة بحياتي يذ ِّكرين بها؟‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫يجب �لأنن ي�س�أل‪ .‬من هذا برتكيب ج�سده‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ألت مي�سون غا�ض ًبا‪.‬‬
‫‪« -‬ما الذي يحدث؟» �س� ُ‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ع‬
‫‪�-‬أنت من ت�س�أل؟ �أنا من‬
‫الذكرى؟‬ ‫هذه‬ ‫الغريب؟ وما تلك احللبة؟ ومن ه�ؤالء وما‬
‫ندمت على �س�ؤايل الذي �أيقظها فج�أة لتُجري نهر �أ�سئلتها مبجرى‬
‫ُ‬
‫امللل‪ ،‬ولكنني كنت بحاجة �إىل ا�ستف�سار وال �أحد ميلك الإجابات هنا‬
‫غريها‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أتذكر هذا املكان مطل ًقا‪ ،‬وهذا مازن‪ ،‬ال �أعلم �إن كنت �أكره‬
‫�أحدً ا �آخر يف حياتي مثله‪ ،‬ولكن �أكرهه جدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬كان ي�ؤذيك؟‬
‫‪ -‬كث ًريا‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا كنت تفعل معه؟‬
‫‪59‬‬
‫�أجبتها ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬ال �شيء‪ .‬كنت �أخافه‪.‬‬
‫التقطت مي�سون كلمتي الأخرية ب�صمت حمدقة يف الال�شيء‪ ،‬ثم‬
‫�صاحت ك�أنها وجدت �ضالة غابت عنها ل�سنوات‪:‬‬
‫‪ -‬فهمت‪ .‬الآن فهمت‪ .‬عقلك مل يذهب بنا �إىل ذكرى هذه املرة‪،‬‬
‫متاما‪� ،‬إىل خوفك‪.‬‬
‫عقلك ذهب بنا �إىل منطقة �أخرى ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أردفت‪:‬‬
‫نظرتُ �إليها بنظرات تتهمها باخلبل ف� ْ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪� -‬صدقني‪ ،‬هذا يف�سر ملاذا يظهر هذا ال�شخ�ص بذلك ال�شكل‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ر�أ�سه كما اعتدت ر�ؤيته وج�سده يعك�س حجم خوفك منه‪ .‬يبدو‬

‫ع‬
‫�أن اخلوف كبلك لأعوام والآن يريد عقلك �أن تواجهه وتتحرر‬
‫منه‪.‬‬
‫قبل �أن �أفهم �أكرث ما تعنيه بكلماتها‪� ،‬أُ�شعل فتيل مازن فتحرك‬
‫جتاهي بكامل قوته‪ ،‬ي�ضرب الأر�ض برجليه فتتناثر الرمال بقوة‬
‫ان�سحبت مي�سون م�سرعة خارج احللبة هاربة‪ ،‬فبالت�أكيد لن‬
‫ْ‬ ‫وراءها‪.‬‬
‫ي�سمح لها عقلي بالوقوف �أمامه معي‪ ،‬و�إن �سمح فما �أظن �أن تتغري‬
‫ردة فعلها‪ .‬تظاهرتُ بالثبات يف حماولة ال�ستدعاء �شجاعة مل �أظهرها‬
‫يوما �أمامه‪ .‬كان الف�شل حليفي مبجرد اقرتابه مني‪ ،‬خوف ثقيل �أمد‬ ‫ً‬
‫قدمي بالأدرينالني((( ما �ساعدهما على اجلري ب�سرعة مذهلة‪ .‬ظللت‬
‫َّ‬
‫�أفر منه حتى �أمتمت عدة دورات حول احللبة دون توقف‪ ،‬بد�أتُ‬
‫�أ�شعر بالتعب وهو ال يتعب‪ ،‬خطر يل‪ :‬ملاذا ال �أهرب حتى ينتهي وقت‬
‫((( هرمون يُف َرز عند الشعور بالخوف‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫ً‬
‫حماول االند�سا�س بني‬ ‫توجهت �إىل ال�سور الأبي�ض وت�سلقته‬
‫ُ‬ ‫العقار؟‬
‫كومة الب�شر الذين ال �أعرف منهم �أحدً ا‪ ،‬لكنهم حملوين فوق �أيديهم‬
‫ودفعوا بي جتاه احللبة‪ .‬متى ت�شرب عقلي بهذا الكم من النذالة‬
‫ليكون جمهوره بهذا ال�شكل! كانت هذه املحاولة كفيلة اللتقاط �أنفا�سي‬
‫لأبد�أ يف الرك�ض من جديد‪ ،‬دورتني حول احللبة وبد�أ الإنهاك يزحف‬
‫مت�سل ًقا �إياي كنبتة لبالب �سريعة النمو‪.‬‬
‫�صاحت مي�سون من ركنها البعيد‪:‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬لن يجدي هذا نف ًعا‪ ،‬ت�شجع‪ ،‬لن يكف عن اللحاق بك حتى‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫تواجهه‪.‬‬

‫رلآن تطالبني باملواجهة‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫بب�ساطة‪ .‬ال ت�شعر مبا �أعانيه وتختبئ بركنها ومتلي َّعليت �وزيع‬
‫اللعنات بداخلي‪ ،‬هي ال�سبب يف ما �أمر به‬ ‫وافر‬ ‫عليها‬ ‫بد�أتُ �أ�صب‬
‫البغي�ض‪ ،‬وا‬ ‫الآن‪ ،‬وهي من �صنعت هذا العقار‬
‫أوامرها!‬

‫بد� ْأت بالت�صفيق كطفلة �صغرية وهي ت�صيح م�شجعة‪:‬‬


‫‪� -‬أجمد‪� ،‬أجمد‪� ،‬أجمد‪.‬‬
‫ً‬
‫متمثل يف مي�سون‪ ،‬ولكن‬ ‫كان جمهوري جمموعه ي�ساوي واحدً ا‬
‫كنت بحاجة �إىل �سماع ا�سمي الآن‪ ،‬جمرد‬ ‫ال �أ�ستطيع �أن �أنكر �أنني ُ‬
‫�سماعه انتزعني من جريي املتوا�صل و�سعيي امل�ستمر وغرقي بدوامات‬
‫وجلت هذا العامل لأقف للحظة �ألتقط‬‫التيه التي ال عمق لها منذ �أن ُ‬
‫فيها �أنفا�سي‪� .‬أنا �أجمد الفاقد لذاكرته لكنه بالت�أكيد كان ميلك حياة‬
‫م�ستقل‪ ،‬ذكريات حزينة و�أخرى‬‫ً‬ ‫كاملة ذات يوم‪ ،‬كان ميلك كيا ًنا‬
‫‪61‬‬
‫�سعيدة‪ ،‬ليايل قامتة تبعتها ُن ُهر واعدة‪� ،‬صفعات غدر‪� ،‬أكناف روع‪،‬‬
‫لقاءات فرح وقطرات اطمئنان ارت�شفها القلب ذو اللوعة فهد�أ‪� ،‬أريد‬
‫العودة حلياتي لر�ؤيتها بحلوها ومرها‪ ،‬لر�ؤية من �أنا‪ ،‬و�أتوق لر�ؤيتي‬
‫�أكرث دون خوف‪.‬‬
‫التفت ملازن �أحرقه بنظراتي‪،‬‬ ‫وثبت مكاين‪ُ ،‬‬ ‫توقفت عن الرك�ض ُّ‬
‫قليل‪ ،‬تقدم نحوي فخانتني قدماي‬ ‫توقف وهد� ْأت عنه ن�شوته بقوته ً‬
‫وتقدمت جتاهه‪� ،‬سكنَ وبد�أ‬
‫ُ‬ ‫ثبت‬
‫بالرجوع خطوتني �إىل اخللف ولكن ُّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بالرجوع �إىل اخللف مما �سمح للثقة ب�ضخ دمائها بعروقي بقوة‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تقدمت �أكرث و�أكرث‪ ،‬حاول �أن يلكمني بقب�ضته ولكني جتاوزتها ب�سرعة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وافرت�شت الرمال من حتته‪ ،‬قيدتُ قدميه برجلي ما‬ ‫مل يخطط لها‬

‫ر‬
‫ُ‬

‫والتوزي‬
‫جل�ست فوقه وو�ضعت ر�أ�سه بني رج َلي‬‫ُ‬ ‫�أخل بتوازنه ف�سقط بقوة � ً‬
‫أر�ضا‪،‬‬

‫ع‬
‫و�صفعته بقب�ضتي فتعالت �أ�صوات اجلمهور �أكرث‪:‬‬
‫‪ -‬قاتل‪ ،‬قاتل‪ ،‬قاتل‪.‬‬
‫الآن فهمت‪ ،‬يبدو �أنهم كانوا ي�شجعونني منذ البداية‪ ،‬كانوا يوجهون‬
‫يل ر�سالة بكلمتهم دون �إكمالها (قاتل خوفك)‪ ،‬هتافهم عزز قب�ضتي‬
‫�أكرث و�أثقلها لتغو�ص يف �أعماق وجهه بقوة و�أنا �أ�صرخ به‪:‬‬
‫‪ -‬غبي‪ ،‬متغطر�س‪� ،‬أناين‪ ،‬مغرور‪.‬‬
‫مبال بدماء وجهه التي تدفقت بغزارة من �أنفه‬
‫ظللت �أ�صفعه غري ٍ‬
‫وفمه وتلطخت بها يداي‪.‬‬
‫جاءت مي�سون بجانبي هام�سة‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫‪� -‬أجمد‪ ،‬يكفي‪.‬‬
‫�صرخت بها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬دعيني‪.‬‬
‫وقبل �أن ينال وجهه لكمتي التالية تبخر ر�أ�س مازن من بني رج َلي‬
‫خفت �صوت اجلمهور �شي ًئا ف�شي ًئا وبد�ؤوا بالتبخر‬
‫�سري ًعا وتبعه ج�سده‪َ .‬‬
‫وتبعتهم املقاعد‪ ،‬مل يتبقَ غري احللبة الرملية �أجل�س بها كما �أنا �أنظر‬

‫ع‬
‫�إىل يدي املخ�ضبة بالدماء وقد �سرت رع�شة بج�سدي و�أنفا�سي يالحق‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بع�ضها ً‬
‫بع�ضا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪« -‬ملاذا انت�شله الآن؟ ملاذا مل ينتظر حتى �أق�ضي عليه؟» �س�ألتُها‬

‫والتوز عي‬
‫غا�ض ًبا‪.‬‬
‫قالت وهي واقفة ورائي‪:‬‬
‫‪ -‬لأن عقلك �أراد �أن تواجه خوفك ال �أن تقتله‪ ،‬اخلوف مفيد لنا‪،‬‬
‫لوال اخلوف ملا كنا نحر�ص على �سالمة حياتنا ونقدر قيمتها‪،‬‬
‫لوال اخلوف ملا �شعر �أحبتنا بعمق م�شاعرنا لهم‪ ،‬اخلوف ركن‬
‫�أ�سا�سي مبنظومة امل�شاعر مثله مثل �أي �شعور �آخر‪ ،‬لي�س كل‬
‫�شعور باخلوف خز ًيا‪� ،‬أحيا ًنا يكون ال�شعور باخلوف وج ًها من‬
‫�أوجه ال�شجاعة يا �أجمد‪.‬‬
‫الم�س منطق كالمها قلبي فهد�أ من روعه وكبح جماح انتقام كاد‬
‫�أن ي�ستلذ به فيقع يف �شباكه‪.‬‬
‫�س�ألتُها بهدوء بعد �أن رجع �إيقاع �صدري لطبيعته‪:‬‬
‫‪63‬‬
‫‪ -‬وماذا بعد؟‬
‫بد� ْأت بالدوران حويل‪:‬‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪� ،‬أظن مل ينت ِه الأمر‪.‬‬
‫بد�أت احللبة بالتبخر بعد �أن انتهت مي�سون من جملتها‪ ،‬وبقينا‬
‫متعلقني ب�أ�ستار العتمة للحظات‪ ،‬تهاوى ج�سدانا فج�أة ك�أن �أحدً ا ما‬
‫ً‬
‫�سقوطا ح ًرا يف بئر مظلمة‬ ‫جذب الب�ساط من حتت �أقدامنا‪ ،‬ن�سقط‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال قرار لها‪ ،‬قلوبنا تنب�ض هل ًعا مع ازدياد �سرعة ال�سقوط من حلظة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫االرتطام املنتظرة‪ ،‬ظهرت من بعيد �أر�ض مل ت َر ماء املُزن ً‬
‫يوما‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ا�ستفحل بها اجلفاف فت�صدعت بت�شققات متداخلة وغائرة نقرتب‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫منها ب�سرعة هائلة‪ ،‬ارتطام كهذا �س ُيف�ضي �إىل موت بالت�أكيد‪ ،‬هل‬

‫ع‬
‫يوجد موت هنا؟ يا لغبائي‪ ،‬كيف مل �أ�س�أل مي�سون هذا ال�س�ؤال؟ �أُحكم‬
‫مقب�ض بكرة خيط ال�صنارة الوهمي املتعلق بظهورنا فتوقفنا على ُبعد‬
‫تنف�ست ال�صعداء و�أنا �أدقق النظر‬
‫ُ‬ ‫�سنتيمرتات من ارتطام م�ؤكد‪،‬‬
‫�إىل تلك اخلطوط العري�ضة املت�شابكة املوازية لعيني وقد ظهرت‬
‫ب�شكل �أكرب‪ ،‬كدُمى خ�شبية ُحرك ج�سدانا لو�ضعهما الطبيعي لنقف‬
‫باعتدال‪ ،‬و�أُرخيت �أقدامنا على الأر�ض املجدبة كهبوط طائرة‪ ،‬مكان‬
‫وواد مقفر ال �أول له وال �آخر على مد الب�صر تناو�شه لفحات‬ ‫قاحط ٍ‬
‫لها �صوت كفحيح الأفاعي‪ ،‬متخ�ضت الأر�ض فج�أة مبياه القت �سبيلها‬
‫بني تعرجات نهمة قاحلة ت�شتاق �شعور االرتواء منذ زمن حتى فا�ضت‬
‫وا�ستحالت طي ًنا‪ ،‬حائط عظيم بالقرب منا �أمل�س عر�ضه بات�ساع‬
‫الأر�ض حترك من مرقده ببطء حتى ا�ستوى قائ ًما مث ًريا لغبار ت�شبعت‬
‫به �أنفا�سنا فطردته ب�سعال‪� ،‬سكن للحظات بدا فيها ك�أنه يرمينا‬
‫‪64‬‬
‫ب�سهام ب�صره احلادة‪ ،‬حترك بعدها �صوبنا ب�سرعة كبرية �أحدثت‬
‫جلبة مع الأر�ض الطينية مل �أملك �أمامها �أنا ومي�سون �سوى الهرب‬
‫ً‬
‫رك�ضا‪ ،‬لعله ي�ساعدنا بالنجاة ب�أنف�سنا من حائط!‬
‫�س�ألتني مي�سون �صارخة وهي حتاول التقاط �أنفا�س زائدة توفرها‬
‫للنطق ً‬
‫عو�ضا عن املفقودة يف الرك�ض‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟ ماذا فعل لك احلائط �أو ما فعلت به؟ حتى اجلمادات‬
‫كان لها دور بحياتك!‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪ ،‬مل �أ َر هذا احلائط من قبل‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫رو‬
‫يطاردنا؟‪.‬‬ ‫‪ً � -‬إذا ملاذا‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ظللنا نرك�ض للمجهول‪ ،‬ال نعلم �سبب غ�ضب احلائط ع‬
‫امل�صمت‬
‫أعلم‪.‬‬ ‫أخربتك �ساب ًقا‪ :‬ال �‬
‫ِ‬ ‫‪�-‬‬

‫خلفنا وال متى مين علينا بالغفران وينتهي الأمر‪ ،‬يعوق حركاتنا وحل‬
‫الطني الذي يجذب �أقدامنا �إليه كلما حاولنا رفعها‪.‬‬
‫الحت يف الأفق ه�ضبة متعرجة ينحدر �سطحها بق�سوة جتاه الأر�ض‪،‬‬
‫ارجتينا �أن يكون بها كهف ي�ؤوينا من ا�صطدام حائط هدفه الفتك بنا‬
‫ف�أ�سرعنا نحوها‪ ،‬و�صلنا بعد �أن انقطعت الأنفا�س ومتزقت ال�صدور‬
‫�شه ًقا عقب ت�أدية مهمتها على �أكمل وجه وتو�صيلنا لرب الأمان‪.‬‬
‫كان تكوين اله�ضبة عجي ًبا‪ ،‬مق�سمة كخلية النحل �إىل فتحات‬
‫جموفة طول ًيا م�ستطيلة ت�ستطيع بالكاد احتواء ج�سم �إن�سان متخل ًيا‬
‫‪65‬‬
‫عن �أي حركة يقوم بها‪.‬‬
‫‪« -‬هيا ادخل �إىل واحدة من تلك الثقوب �سري ًعا و�س�أفعل �أنا كذلك‬
‫حتى ال ن�صطدم باحلائط» قالتها مي�سون �آمرة‪.‬‬
‫هالني ما قالت واحتلت ج�سدي غابة مطرية بح�شراتها التي‬
‫ن�شرت ال�شعور باحلكة يف �أنحائه املختلفة‪ ،‬يت�صبب عر ًقا ب�أمطارها‬
‫التي �أغرقته فيها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نوبة هلع تكورت بحلقي حاجبة الهواء مما زاد �شعوري باالختناق‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫و�إح�سا�س بفقد ال�سيطرة على زمام �أمري ما دفعني للدوران بعيني‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫ماذانبك؟‬
‫ش‬ ‫ب‬
‫قالت مي�سون زاجرة‪:‬‬
‫بع�شوائية �أبحث عن �أي مهرب �آخر‪ْ .‬‬

‫التوزيع‬ ‫رو‬
‫خلفنا‪،‬‬ ‫‪ -‬هيا �أ�سرع‪ .‬احلائط‬
‫�أجبتها غار ًقا يف بحر خويف‪:‬‬
‫‪� -‬أبحث عن خمرج �آخر‪ ،‬لن �أ�ستطيع �أن �أح�شر نف�سي بتلك‬
‫الفجوة مهما كلفني الأمر‪.‬‬
‫نظرت مي�سون �إىل الفجوات ال�ضيقة و�إىل احلائط املتقدم بثبات‬
‫نحونا وبد�أت بربط الأ�شياء قائلة‪:‬‬
‫‪Claustrophobia -‬‬
‫‪-‬ماذا؟‬
‫‪�-‬أنت تعاين من رهاب االحتجاز يف الأماكن ال�ضيقة‪ ،‬وهذا‬
‫يف�سر ملاذا يجري هذا احلائط من خلفنا و�أو�صلنا �إىل هنا‬
‫‪66‬‬
‫متعمدً ا حلل هذه امل�شكلة لديك‪.‬‬
‫‪-‬وما احلل الآن؟‬
‫‪�-‬أن حتتمي بواحدة من تلك الفجوات وتتغلب على ذلك اخلوف‪.‬‬
‫أردفت م�سرعة‪:‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا ف� ْ‬
‫‪-‬ال يوجد حل �آخر‪� .‬سيظل يطاردك احلائط حتى جتد نف�سك‬
‫�أمام فجوات وفجوات �أخرى و�ست�ضطر �إىل الدخول بواحدة‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫منها‪.‬‬

‫ب ل‪Arachnophobia‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪� -‬أرجو �أال ال‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫أكملت وهي تدقق النظر �إىل داخل الفجوات‪:‬‬
‫� ْ‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وزيع‬
‫«‪ »aibohponhcarA‬حتى ال جتدها‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ا‬‫ب‬‫ً‬ ‫م�صا‬ ‫تكون‬
‫بانتظارك بالداخل»‪.‬‬
‫‪ -‬وما هذه؟‪.‬‬
‫‪ -‬رهاب العناكب‪.‬‬
‫امتقع وجهي فالحظت ذلك وحاولت تهدئتي بنربة مطمئنة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تقلق‪ .‬كنت �أعالج �أ�صحاب الرهاب‪ ،‬ولكن مل �أكن �أتبع فكرة‬
‫عالج و�ضع �أ�صحاب الرهاب مبواجهة خوفهم‪ ،‬لكن يبدو �أن‬
‫عقلك مييل �إىل تلك الطريقة‪ .‬افعل ما �س�أقوله لك و�ست�شعر‬
‫بتح�سن‪ ،‬ال تتنف�س �سري ًعا‪ ،‬تنف�س ببطء‪ ،‬حاول �أن تفكر ب�أي‬
‫�شيء �آخر غري خوفك‪� .‬سيمر الوقت ثم؟ ثم ال �شيء‪ ،‬لن‬
‫متوت‪ ،‬لن ُتكتم �أنفا�سك ولن تبتلعك الفجوة بداخلها و�سيمر‬
‫‪67‬‬
‫الأمر ب�سالم‪.‬‬
‫�أوم�أتُ لها بر�أ�سي مرتددًا‪ .‬بد�أت بالدخول �إىل فجوة وا�ستقرت‬
‫بداخلها ب�سهولة ح�سدتها عليها‪ ،‬كان احلائط قد اقرتب للحد الذي‬
‫ال ي�صلح �أمامه الرتدد‪ .‬بد�أت بح�شر ج�سدي داخل الفجوة ب�صعوبة‬
‫جبل عن مو�ضعه حتى اكتمل دخول ج�سدي بها وقد‬ ‫ك�أنني �أزيح ً‬
‫ف�سدت‬ ‫الم�س �سقفها �أرنبة �أنفي‪ ،‬ا�صطدم احلائط باله�ضبة بقوة ُ‬
‫جميع الفتحات بها كبوابة لن ت�سمح بالعبور حتى ي�سمح عقلي بهذا‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قا�س بهذا ال�شكل؟ ماذا فعلت به طيلة حياتي لريد يل ال�صاع‬ ‫َمل عقلي ٍ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�صاعني الآن ك�أنه ينتقم لنف�سه مني لقرارات مل �أتخذها و�أ�شياء مل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ف�ضلت العوج‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�أفعلها‪� ،‬أ�شياء كان يرى فيها �إ�صالح اعوجاجي ولكن‬

‫ع‬
‫جبنت و�ضعفت ومل �أق َو على املواجهة وي�ضعني الآن فيها جم ًربا‪.‬‬
‫حاولت تطبيق ن�صيحة مي�سون بالتنف�س ببطء‪ ،‬فلو ظللت �أتنف�س‬ ‫ُ‬
‫هكذا �س ُي�سحب جميع الهواء بالفجوة يف غ�ضون دقيقة‪ .‬كان قلبي‬
‫خائ ًفا م�سكي ًنا ي�شعر بالذعر يحتمي بقوة �ضرباته التي تطن ب�أذين‬
‫بانتظام‪� ،‬أخذين التفكري لوهلة‪ :‬ماذا لو كان العقار يذهب للقلب ً‬
‫بدل‬
‫من العقل‪ ،‬هل كان �سيغرقني يف دماء �أوردته �أم يجعلني �ألتقي بها؟‬
‫بها! ترى من هي؟ وهل هي موجودة بالأ�سا�س �أم ال؟ هل �صادفت‬
‫يوما ورويت جفاف روحي من نبعه‪� ،‬أم �أنه مل مي�س �شغاف قلبي‬ ‫احلب ً‬
‫و�ضعت قلبي‬
‫ُ‬ ‫قط؟ هل يل خطيبة �أو زوجة �أملك منها �أوالدًا؟ هل‬
‫يوما فاحتوته حمب ًة ولط ًفا �أم‬‫مت�أن ًقا بكامل حلته على عتبة �إحداهن ً‬
‫لفظته كراه ًة وق�سوة؟‬
‫�أثار التفكري بقلبي تيا ًرا كهربائ ًيا م�س عقلي‪ ،‬فبد� ْأت تظهر �أمامي‬
‫‪68‬‬
‫الكلمات كالوم�ضات تظهر وتختفي‪،‬‬
‫(�إليك‪.../‬‬
‫لقد كنت كاذبة عندما ادعيت معرفة �صاحب ال�صوت و�أنا التي‬
‫تن�سه حلظة‪)...‬‬
‫مل َ‬
‫تداخلت جميع الكلمات والأحرف بعدها فلم �أ�ستطع �أن �أميز‬
‫واحدة منها‪ ،‬حاولت الرتكيز �أكرث يف حماولة اللتقاط �أي حبل من‬

‫ع‬
‫حبال الذاكرة لكن مل �أجنح بهذا‪ ،‬حالة التوتر التي هد�أت �إىل حد‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كبري ما زالت �سيدة املوقف ت�سجن عقلي يف �سراديبها خ�شية التذكر‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ك�أنها �شعرت بالغرية من انخراطي ب�أمر �آخر غري االهتمام بها‪ .‬مر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ا�ستطعت فيه اعتياد الأمر ب�شكل ما‪ ،‬ما زال ي�سيطر على‬
‫ُ‬ ‫بع�ض الوقت‬
‫قلبي اخلوف ولكن �أقل كث ًريا مما �سبق‪ ،‬بد�أتُ �أ�سمع �صوت تزحزح‬
‫احلائط عن الفجوات مبر�سوم ر�سمي �أ�صدره عقلي له بالعفو عني‪.‬‬
‫حتركت زح ًفا بج�سدي للخارج فوجدتُ مي�سون قد حتررت هي‬ ‫ُ‬
‫الأخرى‪.‬‬
‫ب�صوت قلق �س�ألت‪:‬‬
‫‪ -‬هل �أنت بخري؟ هل ت�شعر بالتح�سن؟‬
‫أكملت‪:‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬ف� ْ‬
‫‪� -‬أظن �أن امل�شكلة قد ُحلت‪ ،‬حالك يبدو �أف�ضل كث ًريا‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ .‬طبقت ن�صائحك وتذكرت �شي ًئا ما‪.‬‬
‫�س�ألتني م�سرعة‪:‬‬
‫‪69‬‬
‫‪ -‬ما هو؟‬
‫قبل �أن �أجيبها بد�أ كل �شيء بالتبخر‪ ،‬احلائط واله�ضبة والأر�ض‬
‫الطينية‪ ،‬وعدنا للعدم‪ .‬مل نتبخر كعادة نهاية مطاف العقار وكان‬
‫باد ًيا �أننا على م�شارف جولة جديدة‪� ،‬أي حياة تلك التي كنت �أعي�شها‬
‫مليئة بكل هذه املخاوف! مل نربح مكاننا ولكن بد�أت �أ�شياء ب�سيطة‬
‫تتجمع حولنا كحال الذكرى الأوىل‪ ،‬طاولة عالية خلفها ثالثة كرا�سي‬
‫عتيقة قبع بع�ضها بجانب بع�ض‪ ،‬ت�ستقر �أمام الأو�سط منها لوحة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نحا�سية رفيعة ُكتب عليها (�سيادة القا�ضي‪ /‬القلب)‪� ،‬أرائك خ�شبية‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عن اليمني والي�سار ُتركت م�سافة بينها ل�سهولة التحرك‪ ،‬مقعد يقبع‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أمام الطاولة مبا�شر ًة يبدو �أن له وظيفة ما‪ ،‬وقف�ص حديدي �أ�سود‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ت�شكلت قاعة حمكمة كنت �أنا فيها اجلاين‬
‫ْ‬ ‫م�ستطيل ال�شكل حاوطني!‬

‫ع‬
‫عن ذنب مل �أتذكره مطل ًقا‪ ،‬و�سط نظرات ده�شة مي�سون وا�ستنكاري ملا‬
‫يحدث يل‪ .‬دخل ثالثة ُو�ضعت عليهم ُحلة الوقار يتحركون بثبات جتاه‬
‫املقاعد خلف الطاولة‪ ،‬جل�س باملنت�صف رجل تبدو عليه �سمات التقدم‬
‫بالعمر قد وخط �شعره ال�شيب و�أ�صاب احلزن مالحمه بالذبول‪،‬‬
‫بجانبه عن اليمني والي�سار �شابان مل ُتعرف هويتهما‪ .‬حلظات ودلفت‬
‫�إىل املحكمة بف�ستانها الأحمر القاين وقبعة �سوداء كال�سيكية مائلة‬
‫على وجهها تبدو �أنها حتجب بها �شي ًئا ما‪ .‬مزق ال�سكون �صوت طرقات‬
‫كعب حذائها الرفيع وهي مت�شي بخطوات ثابتة كال�ساعة‪ ،‬حدجتني‬
‫بنظرة حتمل كرهً ا قبل �أن جتل�س على املقعد املقابل لطاولة الق�ضاة‪.‬‬
‫�س�ألتني مي�سون الواقفة بجوار الق�ضبان �س� ًؤال يحمل بني طياته‬
‫�شي ًئا من ال�ضيق يغلفه ا�ستهزاء‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ -‬هل هذه �إحدى خماوفك؟‬
‫مل �أكن �أتذكرها ولكن �أ�شعر بانتمائها �إيل ب�شكل ما‪ .‬رمبا تكون‬
‫�إحدى قريباتي �أو رمبا تكون… هل تكون �صاحبة اجلملة؟ ال �أدري‪.‬‬
‫تنحنح القا�ضي قبل �أن يوجه �س�ؤاله لها‪:‬‬
‫�شكواك �سيدتي الفا�ضلة؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ما‬
‫أجابت ب�صوت �صارم‪:‬‬
‫� ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬جئت �أطالب بالق�صا�ص من هذا الذي يقبع خلف الق�ضبان‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ً‬
‫معرت�ضا‪:‬‬ ‫و�صحت‬
‫ُ‬ ‫غلفتني الده�شة من اتهامها‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪ -‬مني �أنا؟‬


‫‪ -‬نعم منك‪.‬‬
‫لك؟‬
‫فعلت ِ‬
‫‪ -‬ولكن �سيدتي ماذا ُ‬
‫�صرخت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هذا‪.‬‬
‫فك�شفت عن ن�صف‬
‫ْ‬ ‫خلعت قبعتها بعد �أن �أحرقتني �شرارات عينيها‬ ‫ْ‬
‫وجه م�شوه �أ�سود تبدو عليه عالمات حرق يق�شعر بدن من ينظر �إليها‪.‬‬
‫حاولت الدفاع‬
‫ُ‬ ‫�أجلمتني ال�صدمة‪� .‬أ ُيعقل �أن �أكون �أنا من فعل بها هذا!‬
‫عن نف�سي‪ ،‬ولكن ب�أي �شيء �س�أنطق و�أنا ال �أتذكرها وال �أتذكر ما تدعي‬
‫�أنني فعلته بها؟‬
‫‪71‬‬
‫نظر القا�ضي �إليها ب�أ�سى وهو يقول‪:‬‬
‫قدمت �إنذارات عدة‬
‫ِ‬ ‫أنك‬
‫خ�صو�صا � ِ‬
‫ً‬ ‫متاما‪،‬‬
‫‪� -‬أتفهم موقفك ً‬
‫و�ضرب بها عر�ض احلائط‪.‬‬
‫تابعت بحما�س جللب ا�ستعطافه �أكرث‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪�-‬سيدي القا�ضي‪ .‬كان قدرنا �أن ُنمع م ًعا بج�سد هذا امل�ستهرت‪،‬‬
‫فلم يحافظ علينا وا�ستمر يف �إتالفنا عمدً ا با�ستمراره يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫التدخني وم�صادقة �أ�صابع ال�سجائر اخلبيثة‪ ،‬انظر �إيل و�أنا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الرئة كيف كنت �أ�ستن�شق عبق احلياة النقي وتبهجني ن�سماته‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫علي متعتي بدخانه‪ ،‬وانظر �إليك �أيها القا�ضي و�أنت‬ ‫ف�أف�سد َّ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫قلبه كيف وهنت و�ضعفت‪.‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬لقد وهنت و�ضعفت لأ�سباب �أخرى كثرية غري التدخني‪،‬‬
‫قاطعها‪:‬‬

‫فال �أريد �أن �أكون ظاملًا‪ .‬ال داعي لكثري من الكالم‪ .‬تفهمت‬
‫�شكواك‪ ،‬ماذا تريدين الآن؟‬
‫ِ‬
‫�أجابت بحزم‪:‬‬
‫‪-‬الق�صا�ص وعلى طريقتي‪.‬‬
‫‪-‬وهي؟‬
‫‪-‬احلرق‪.‬‬
‫قالتها ب�صرامة �أخافتني‪� .‬إن كانت رئتاي قد جت�سدتا بهذه ال�سيدة‬
‫‪72‬‬
‫فهما تبغ�ضانني كث ًريا‪ .‬مل �أكن �أعلم �أنني مدخن ومن الوا�ضح �أنني‬
‫�شرعت‬
‫ُ‬ ‫ُمدخن �شره‪ ،‬وعقلي قرر �أنه جتب حما�سبتي بيد �أع�ضائي التي‬
‫يف �إتالفها‪ .‬عقلي قرر هذه املرة ت�صفية جميع ح�ساباته معي‪ ،‬يبدو‬
‫�أنني �شخ�صية عنيدة راف�ضة لكثري من الأ�شياء التي ُتوزن مبيزان‬
‫العقل‪.‬‬
‫انتف�ضت من �سهو قد �أخذين على �صوت القا�ضي وهو يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬موافقة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫حتركت جتاهي بخطى ميل�ؤها الث�أر‪� ،‬أخرجت زجاجة �صغرية من‬

‫ت‬
‫ْ‬

‫ل‬
‫راجل ًينا‪:‬‬ ‫ب‬
‫حقيبة كانت حتملها و�أفرغت ال�سائل الذي بها حويل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ولكن �تو ِ‬
‫زي�أن �أقلع‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬
‫جديتها جعلتني �أتو�سل �إليها‬
‫أعدك‬ ‫أرجوك �سيدتي‪� ،‬أعلم �أنني �آذيتك كث ًريا‬‫‪ِ �-‬‬
‫متاما و�أال �أعود له ثاني ًة‪.‬‬
‫عن هذا الأمر ً‬
‫زجمرت بوجهي‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬قلت هذه اجلملة كث ًريا وكنت تعود‪ ،‬ال رجاء منك‪.‬‬
‫حاولت مي�سون التدخل لإقناعها بالعدول عن قرارها‪ ،‬لكنها‬
‫قذفتها بنظرات كالر�صا�ص فرتاجعت خائف ًة �أن ينالها جزء من وافر‬
‫اللعنات التي تكنها جتاهي‪.‬‬
‫أ�سرعت ب�س�ؤال مي�سون‪:‬‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫‪ -‬ماذا �سيحدث �إن �أ�شعلت النريان؟ هل �س�أموت حمرت ًقا؟‬
‫‪73‬‬
‫أجابت مي�سون برتدد‪:‬‬
‫� ْ‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال موت هنا‪ ،‬ولكنك �ستظل ت�شعر ب�أمل احلرق حتى تنتهي‬
‫مدة العقار‪.‬‬
‫مل �أ�ستطع ا�ستيعاب كلماتها‪ ،‬ا�ستمرارية ال�شعور بالأمل مفجعة‪،‬‬
‫خيار املوت �أمامها رحمة يف كثري من الأحيان‪.‬‬
‫ً‬
‫�صارخا‪:‬‬ ‫توجهت �إليها‬
‫ُ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أرجوك‪.‬‬
‫‪� -‬سيدتي ال تفعلي هذا � ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫ت�شف‪ ،‬قالت وهي تلقي‬
‫أ�شعلت عود ثقاب ووجهها يحمل ابت�سامة ٍ‬
‫� ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫به جتاه البقعة ال�سائلة حويل‪:‬‬

‫ع‬ ‫•••‬
‫‪ -‬فلتذق ما جنته يداك‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫(‪)٦‬‬
‫(املالذ)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كعلكة �أُزهقت روحها م�ض ًغا و�أُلقيت على جنبات الطريق لتلقى‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫حظها العاثر يف االلت�صاق ب�أحذية املارة كان ج�سدي ُملقى ُتوجعه‬
‫طعنات حرب اخلوف التي خرج منها لتوه فائزًا بروحه‪ ،‬قد ت�ضلعت‬
‫حناياه بالأمل‪ ،‬و�أ�ضناه التخيل مبا كان �سيحدث �إن مل ينت ِه وقت‬
‫متاما وا�ستطاعت �شرارة الثقاب الو�صول‬ ‫العقار يف اللحظة املنا�سبة ً‬
‫تبخرت �شعلة الثقاب وهي‬
‫ْ‬ ‫�إىل ال�سائل! �أتذكر نظرة رئتَي �إ َّ‬
‫يل بعد �أن‬
‫مبنت�صف الطريق وبد�أت الأ�شياء يف التبخر بعدها‪ ،‬كان يبدو �أنها‬
‫متاما ملا يحدث من ا�صطكاك �أ�سنانها ً‬
‫غيظا والقهر املنبعث‬ ‫مدركة ً‬
‫�شف‪ .‬و�ضعت َيدي على �صدري بعد �أن بد�أ‬ ‫من عينيها من غليل مل ُي َ‬
‫ومتكنت من احلركة‪ ،‬يف حماولة مني لعقد‬ ‫ُ‬ ‫قر�ص مي�سون مبفعوله‬
‫معاهدة �صلح بيننا‪ ،‬ا�ست�شعرتُ نب�ضات قلبي وقد ا�شتد ب�أ�سها عن‬
‫قبل و�أُلقي عن كاهلها خوف �أ�ضعفها ل�سنوات‪ .‬خ�ضت جتربة قا�سية‬
‫ب�أر�ض خويف وها قد بد�أت ت�ؤتي ثمارها‪ .‬ولكن َمل بدا قلبي بهذا الكرب‬
‫و�أنا ما زلت �شا ًبا؟ َمل حملت ق�سماته كل هذا احلزن؟‬
‫‪75‬‬
‫‪ -‬جنوتَ ب�أعجوبة‪.‬‬
‫ارتياحا واطمئنا ًنا بنجاتي من الأمل‪� ،‬أو‬
‫ً‬ ‫قالتها مي�سون وهي تتنهد‬
‫هكذا ظننت‪ .‬نزع قلبي عباءة خوفه وتزمل بثوب ن�سجته �أيدي مي�سون‬
‫بخيوط ال �أعلم كنهها‪ .‬هل هو احتياج �إىل رفيق يهون الرحلة �أم‬
‫اعتزاز مبن ت�شاهد تاريخي بثغراته احلرجة‪� ،‬أم �أنه جذوة لأمر يعد‬
‫�ضر ًبا من اجلنون املُحبب للنف�س رغم حتذيرات العقل املتكررة بعدم‬
‫الولوج؟ �أ ًيا كانت ماهية الأمر فال �شك �أن مرورها معي بهذه املعركة‬

‫ع‬
‫دوما مميزون عن البقية‪ ،‬بقية! عن‬ ‫�أحدث فار ًقا‪ ،‬فرفقاء ال�صعاب ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أي بقية �أحتدث و�أنا ال �أملك �سوى عقار ميطرين بلكماته يف �ساحة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ذاكرتي املعطوبة ومي�سون؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪« -‬يبدو �أن لهذا العقار جوانب �أخرى ال �أعلم عنها �شي ًئا»‪ .‬قالتها‬

‫ع‬
‫مي�سون وهي حتملق ب�إحدى �إبر العقار املتبقية بانبهار‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا �صارت املنفعة متبادلة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تق�صد؟‬
‫اكت�شفت جوانب �أخرى له عن‬
‫ِ‬ ‫أنت �أعطي ِتني العقار وباملقابل‬
‫‪ِ �-‬‬
‫يجعلك تعيدين النظر يف ثمنه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طريقي‪ ،‬ما‬
‫افرت�ش ال�ضيق مالحمها من جملتي الأخرية فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ورمبا هذا لي�س اكت�شا ًفا‪ ،‬رمبا يف�سر هذا ملاذا ُو�ضعت هنا‬
‫وحدك‪ ،‬يف ما يبدو �أن عقلك يتعامل مع عقارات الذاكرة‬
‫ب�شكل خمتلف‪.‬‬
‫حرية تدحرجت �إىل تفكريي من تف�سريها ً‬
‫�سائل �إياها‪:‬‬
‫‪76‬‬
‫‪-‬وهل لهذا عالقة بطول مدة العقار هذه املرة؟‬
‫‪-‬مدة العقار مل تتغري‪� ،‬أنت �شعرت بهذا ل�سيطرة �شعور اخلوف‬
‫كابو�سا ما ظل‬
‫ً‬ ‫عليك‪ .‬الأمر م�شابه للحلم‪� ،‬أحيا ًنا ت�شعر �أن‬
‫يتعد الدقائق‪ ،‬بل‬
‫يالزمك طيلة الليل وهو يف حقيقة الأمر مل َ‬
‫و�شاركته �أحالم �أخرى بنف�س الليلة ولكنها ُتن�سى‪.‬‬
‫�أنهت �شرحها و�أخذت املقعد �إىل زاوية الغرفة وجل�ست‪ .‬ال �أعلم‬
‫مباذا كانت تفكر! رمبا احتاجت �إىل بع�ض الهدوء قبل رحلتنا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫اجلديدة‪ .‬مرت �ساعتان ح�ضرت بعدهما العقار وثبتت الأقطاب‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وا�ستبدلت �أنبو ًبا جديدً ا بالأنبوب القدمي وحقنته ليبد�أ ببث �سائله‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الأرجواين يف اخلرطومني الرفيعني النافذين �إىل دمائنا‪ ،‬ثم �ضغطت‬

‫‪� -‬أرى �أن حما�ستك ال�ستخدام العقار � و‬


‫أ�صبحتالتو‬
‫تفوقز عي‬
‫على الزر الأحمر املثبت باجلهاز‪.‬‬
‫رغبتي يف‬
‫ا�ستخدامه‪.‬‬
‫جتاهلت جملتي التي كان مكنونها جل ًيا يف حتركاتها قائلة‪:‬‬
‫‪� -‬أرجو �أال يبتلعنا وح�ش هذه املرة‪.‬‬
‫كاعتياد بلع الريق ورفرفة الأهداب ا�ستقبل ج�سدي العقار ُمرح ًبا‪،‬‬
‫� ً‬
‫آمل يف �صداقة ت�شفع له باملعاملة الطيبة‪ ،‬مقتح ًما �صفائحي الدموية‬
‫وخالياي عن طيب خاطر‪� .‬أُرخيت �ستائر �أجفاين �شي ًئا ف�شي ًئا‪،‬‬
‫�صافحت عيناي الظالم وادلهم املكان‪.‬‬
‫•••‬
‫‪77‬‬
‫�أع�شاب طفيلية زاهية اخل�ضرة تع ّر�شت على بوابة خ�شبية عتيقة‬
‫�ضخمة حجبت معظمها‪� ،‬إال مف�صلتها اليمنى املزخرفة على �شكل‬
‫�سهم يحمل نتوءات بارزة‪ ،‬وحلقة مقب�ضها احلديدية املعلقة يف الهواء‬
‫حممولة من �أعلى مبا�سك دائري مثبت عليها‪ ،‬يت�سلل من �أ�سفلها �ضوء‬
‫دافئ احتوى �أقدامنا داخل بقعة امتداده‪� .‬شيء ما بعث الهدوء داخل‬
‫نف�سي وا�ستمال الطم�أنينة �إىل قلبي وناداين ب�صوت �صامت �أن �أ ْق ِدم‪.‬‬
‫متقدما تتبعني مي�سون وقد بلغ الف�ضول مني مبلغه‬ ‫ً‬ ‫حثثت اخلطى‬
‫ُ‬

‫ع‬
‫ملعرفة ما حتجبه البوابة وراءها ومعرفة �سر ارتياحي املبهم جتاهه‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بد�أتُ بدفعها �شي ًئا ف�شي ًئا ف�صدر �صرير مكتوم ينم عن هجرانها منذ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫زمن‪ .‬خانت عي َن ّي ملعة �ضوء قوية‬

‫ن‬
‫حاولت حجبها بيدي حتى هد� ْأت‬ ‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وا�ستطاعت حدقتاي احتواءها‪ ،‬لفحتني ن�سمات ربيعية لطيفة‬ ‫ْ‬ ‫حدتها‬

‫ع‬
‫ُمملة برائحة عطرية طيبة �أنع�شت حوا�سي‪ ،‬بد� ْأت بعدها معامل‬
‫املكان يف الو�ضوح �أكرث‪ ،‬طريق طويل م�ستقيم معبد بالف�سيف�ساء من‬
‫ح�صباء ذات �ألوان رائعة ُت�شكل ر�سومات رقيقة مبهرة‪ ،‬متتد على‬
‫جانبيه مروج خ�ضراء وا�سعة تقبع حتت �أ�شعة ال�شم�س الناعمة‪،‬‬
‫�أ�شجار �ساكورا با�سقة ت�صطف على اجلانبني تتمايل �أزهارها الوردية‬
‫مع الهواء بخفة‪ ،‬تت�شابك �أعايل �أغ�صانها مكونة مظالت يتخللها‬
‫م�صافحا الطريق بود‪ .‬تغ�شانا جمال املكان فالذ كالنا‬ ‫ً‬ ‫نور ال�شم�س‬
‫ً‬
‫حممل‬ ‫بال�صمت يف �أثناء �سرينا‪ .‬امتد غ�صن من �إحدى الأ�شجار‬
‫بالأزهار جتاهي‪ ،‬داعبت وجنتي واحدة من زهوره ب�أوراقها الرطبة‬
‫فافرت ثغري عن ابت�سامة كا�ش ًفا غ َّمازة ا�سرتاحت بخدي فهد� ْأت‬
‫الزهرة ك�أنها حققت مرادها‪ ،‬الم�ستُها بظهر �أ�صابعي برقة فان�سحبت‬
‫بحياء عائدة بالغ�صن �إىل حيث كان‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫انتهى بنا الطريق �إىل قنطرة حجرية فوق غدير ماء �شفاف يك�شف‬
‫الأر�ض من حتته‪ ،‬جتاوزناه فا�ستقبلتنا رمال ذهبية �ساحرة تتلألأ‬
‫ذراتها حتت �شعاع ال�شم�س اللطيف حرارته‪ ،‬م�شينا ببطء جتاه ب�ساط‬
‫البحر املمتد ذي الزرقة الداكنة حتى و�صلنا �إىل �أطراف �أمواجه وهي‬
‫نف�سا عمي ًقا لأملأ �صدري بن�سيم‬ ‫�سحبت ً‬
‫ُ‬ ‫تتهادى بحنو مدً ا وجز ًرا‪،‬‬
‫مل يلوثه غبار احلقائق ومل تدن�سه خطايا الوقائع ناظ ًرا �إىل املدى‪،‬‬
‫�أغم�ضت عيني وغرقت ب�أذين بني نغمات ارتطام �أمواجه الهادئ‪ .‬من‬

‫ع‬
‫قال �إن جمال البحر يكمن يف زرقته فقط؟ �صوت البحر عامل �آخر ال‬
‫ا�ستطعت فيها‬
‫ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�ست�شعر لذته �إال و�أنت مغم�ض العينني‪ .‬حلظات مرت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قاما ب�آخر ال�شاطئ‬ ‫التقطت عيناي بيتًا ُم ً‬
‫ْ‬ ‫�إ�شباع �شيء ما بداخلي‪،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وفتحت بابه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫و�صلت �إليه‬
‫ُ‬ ‫م�سرعا وكذلك فعلت مي�سون‪.‬‬
‫ً‬ ‫فهرولت �إليه‬
‫ُ‬
‫ب�سيطا خال ًيا من الأثاث مكو ًنا من ثالثة طوابق‬ ‫كان بيتًا خ�شب ًيا ً‬
‫اجتهت �إىل‬
‫ُ‬ ‫بال �صعدناه �إىل الدور الأخري‪،‬‬
‫مت�صلة يف ما بينها بدرج ٍ‬
‫ودفعت دفتيها و�أنا �أتطلع �إىل‬
‫ُ‬ ‫رفعت املزالج‬
‫ال�شرفة الوحيدة بالبيت‪ُ ،‬‬
‫اخلارج‪ .‬كان البيت يقع على جرف �صخري يطل على بحرية جبلية‬
‫انعك�ست ملعة �ضوء القمر املكتمل عليها‪ ،‬عتمة �آ�سرة احتوت ال�سماء‬
‫بني جنباتها وحل الليل كعا�شق و�سيم يرتدي بذلة �سوداء ُت�شكل النجوم‬
‫جمال‪ ،‬مت�أن ًقا للذهاب �إىل حفل ي�ضم حبيبته‪.‬‬‫�أزرا ًرا المعة بها زادتها ً‬
‫متاما ك�أننا دلفنا من باب البيت �إىل مكان �آخر‬ ‫كان امل�شهد خمتل ًفا ً‬
‫ألت متعجبة‪:‬‬ ‫وزمن �آخر‪ .‬مل ت�ستطع مي�سون كبح ف�ضولها �أكرث ف�س� ْ‬
‫‪ -‬حديقة ثم بحر يليهما بيت يحمله جرف‪ ،‬منذ دقائق نهار‬
‫�شم�سا �ساطعة والآن ليل حالك‪� .‬أين نحن؟‬
‫يحمل ً‬
‫‪79‬‬
‫أجبت وما زال ب�صري معل ًقا بروعة ال�سماء وبنور قمرها الأبلج‪:‬‬
‫� ُ‬
‫‪ -‬مالذي‪ ،‬عاملي الذي �صنعته يف خميلتي للهرب من احلياة‪،‬‬
‫�أعرف كل �شرب بهذا العامل جيدً ا‪ ،‬كم �شجرة ُزرعت ب�أر�ضه‬
‫وكم ح�صاة �ألقيت بني �أركانه‪ ،‬عدا البوابة ال �أعلم متى‬
‫ُو�ضعت‪ ،‬من الوا�ضح �أنني مل � ِآت �إىل هنا منذ زمن‪.‬‬
‫قت قدمي بالهواء فتكونت من حتتها‬ ‫ارتقيت �إىل �سور ال�شرفة وع ّل ُ‬
‫ُ‬
‫�س َّلمة بللورية ارتفعت بقدمي الي�سري فتكونت حتتها �سلمة �أخرى‪ ،‬بد�أ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الدرج املرمري يتكون �سلمة تلو الأخرى كلما ارتفعت متج ًها �صوب‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ارتقت مي�سون لأول �س َّلمة بقدمني مرتع�شتني تخ�شى الوقوع‪،‬‬

‫ل‬
‫ْ‬ ‫القمر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫‪ -‬وب�أي قوانني ُيحكم هذا العامل؟ والتوزي‬
‫عال كي ي�صلني بعدما باعدت بيننا م�سافة كبرية من‬ ‫ألت ب�صوت ٍ‬ ‫و�س� ْ‬

‫ع‬
‫الدرجات‪:‬‬

‫طقطقت ب�أ�صابعي يف حركة �آمرة فاختفى ال�سلم من حتتنا وتهاوى‬


‫ُ‬
‫ج�سدينا ب�سرعة كبرية جتاه البحرية العميقة‪ .‬عال �صراخ مي�سون‬
‫أخرجت‬
‫ُ‬ ‫وتردد �صداه باملكان وهي حتاول الت�شبث ب�أي �شيء ينقذها‪� ،‬‬
‫طويل فجاءت ندفتا �سحاب طائعتني حملتني واحدة كب�ساط‬ ‫�صف ًريا ً‬
‫�سحري وحملت الأخرى مي�سون بعد �أن �أو�شكنا على االرتطام ب�سطح‬
‫تنف�ست مي�سون ال�صعداء وهي حتاول ا�ستيعاب ما‬
‫ْ‬ ‫البحرية ال�ساكن‪.‬‬
‫يجري مدققة النظر يف �سحابتها خ�شية �أن ت�سقط من بينها‪ ،‬زدتُ من‬
‫�سرعتي و�أنا مم�سك ب�أطراف �سحابتي لأ�سيطر عليها كمركبة �أحاول‬
‫قلت و�أنا �أ�شق �سطح البحرية ب�أ�صابعي‪:‬‬
‫قيادتها‪ُ ،‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ -‬ال قوانني هنا‪ ،‬يف عاملي �أبوح �أرك�ض �أطري �أ�صرخ �أُجن �أهد�أ‬
‫�أبكي �أتوجع �أفرح �أع�شق �أكره‪� ،‬أمل�س ال�شم�س بيدي و�أتخذ من‬
‫منزل‪� ،‬أن�سج من ال�سحب و�سادتي ومن املوج غطائي‪،‬‬ ‫القمر ً‬
‫�أجوب املحيطات و�أتنف�س حتت املاء‪� ،‬أنتقل عرب الأزمنة‬
‫عامل ً‬
‫ب�سيطا يف ور�شته �أو حمار ًبا‬ ‫و�أ�صري مل ًكا يف قلعته �أو ً‬
‫عظي ًما يف ميدانه‪� ،‬أغري ت�ضاري�سه ف�أ�صنع منه بالد العجائب‬
‫طلل‪� ،‬أُج�سد فرحي‬ ‫يف دقائق �أو �أهمله ل�سنوات وي�صبح داخله ً‬
‫وحزين و�أُقيم م�أدبة ع�شاء فاخرة على �شرف معاهدة ال�صلح‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫بينهما‪� ،‬أُعملق التوافه و�أُب�سط احلقائق‪ ،‬يف عاملي �أكون �أنا‪،‬‬

‫ب‬
‫أجته لب�سحابتي عال ًيا جتاه جبل يحجب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬
‫�أنا وح�سب‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫بحمرةرالغروب الربتقالية وقد‬
‫ت‬
‫ذهب ن�صف قر�ص ال�شم�س �إىل زوال‪ ،‬كان اجلبل يخفيوزي‬
‫�‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫كالمي‬ ‫انتهيت من‬
‫ُ‬

‫وراءهعغابة‬
‫لففت حوله فتخ�ضبت ال�سماء‬ ‫الأفق‪ُ ،‬‬

‫بديعة ت�ستظل وديانها ب�شجر القطلب بثماره احلمراء ح�سنة املنظر‬


‫حماطة بتالل وجبال متنوعة‪ ،‬ينبثق من واحد منها �شالل له خرير‬
‫ناعم يبعث ال�سكينة يف النف�س‪� .‬أو�صلتنا ال�سحابتان �إىل حافة �أحد‬
‫اجلبال فرتجلنا عنهما باطمئنان‪ ،‬حتركت ال�سحابتان م�سرعتني‬
‫عائدتني �إىل خلف اجلبل الفا�صل بني املكانني والزمانني بعد �أن‬
‫�أدتا مهمتهما ب�سالم‪ .‬اجتهت مي�سون �إىل �سطح اجلبل الذي افرت�ش‬
‫بح�شائ�ش خ�ضراء ندية يحمل زهو ًرا قرمزية �أخاذة منب�سطة يف بهاء‬
‫جل�ست �أنا �إىل طرف احلافة �أ�شاهد غروب‬
‫ُ‬ ‫تتطلع �إليه يف انبهار‪ ،‬بينما‬
‫و�ضعت �أ�شعتها التي �أخذت من اجلمر لونه‬
‫ْ‬ ‫ال�شم�س ب�شكل مهيب وقد‬
‫�سيميائها على كل �شيء‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪َ :‬مل �صنعت كل هذا العامل‬ ‫لعج الهم يف �صدري مفك ًرا‪،‬‬
‫بهذه الرحابة؟ من �أي �ضيق كنت �أهرب؟ من �أي واقع كنت �أفر؟ �أمل‬
‫يكن �أحدهم بجانبي ي�شاطرين احلزن والأ�سى‪ ،‬ي�شاطرين ال�سرور‬
‫والفرح‪ ،‬ي�شاطرين احلياة؟ حتى و�إن كان هناك �أحد‪ ،‬بع�ض اجلراح ال‬
‫يعلم قدرها �إال �أنت‪� ،‬أنت وحدك تعلم كم اقتاتت احلكمة بوهجك حتى‬
‫�أطف�أتك تارك ًة لعاعة قب�سها ثم ًنا‪ ،‬وكم خلفت معارك نف�سك املجدبة‬
‫يوما لكنه الأقدر على املواجهة‪ ،‬ورمبا‬
‫عارما مل ترغب يف امتالكه ً‬
‫قل ًبا ً‬

‫ع‬
‫هذا يف�سر �سعة عاملي‪ ،‬للهرب من الب�شر جميعهم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قاطعت مي�سون �شالل �أفكاري املن�ساب مع ال�شالل امل�سرت�سلة‬
‫ْ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دفقاته �أمامي‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫‪ -‬يبدو �أن عقلك يكافئك بزيارة مكان حمبب �إىل قلبك بعد ما‬
‫واجهت خماوفك يف املرة ال�سابقة‪.‬‬
‫تابعت بعد برهة من ال�صمت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أمل تتذكر �شي ًئا؟‬
‫هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا و�أنا ما زلت �أتطلع �إىل ال�سماء ب�أ�سى رمبا‬
‫أرادت تغيري م�سار احلديث‪:‬‬
‫الحظته ف� ْ‬
‫‪� -‬أتعلم؟ �أح�سدك على هذا العامل‪.‬‬
‫‪ -‬و َمل؟ ما �أراه الآن ال يعك�س �إال واق ًعا مري ًرا ملي ًئا بالوحدة‪� ،‬شح‬
‫بالأن�س واملودة واحلب…‬
‫قاطعتني م�ستنكرة‪:‬‬
‫‪82‬‬
‫‪ -‬حب! احلب خرافة‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫�أجابت وهي ُتلقي زهو ًرا قطفتها من حافة اجلبل �إىل الوادي‪:‬‬
‫‪ -‬احلب ما هو �إال كلمة تتغلف بها امل�صالح ال�شخ�صية وننطق‬
‫بها خلجلنا من الت�صريح بهذا‪.‬‬
‫‪ -‬مبعنى؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬بداخل كل واحد منا جوانب مظلمة‪ ،‬منها ما نن�ساه ومنها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ما نتجاهله‪ ،‬تظل مالزمة لنا حتى نحب فنكت�شفها فج�أة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أمل يف‬‫ونتذكرها عنوة‪ ،‬فنلقي بها على كاهل من نحب � ً‬
‫�إ�صالح ما �أف�سدته ال�سنون وت�ضميد جراح اخلزي وحتويل‬
‫عتمتها نو ًرا‪ ،‬فنجده هو الآخر ميلك مثلها ويلقي بها على‬
‫كواهلنا فال تفلح كلتا املحاولتني‪ .‬و�إن كانت التجارب املبدئية‬
‫لذلك الأمر تنم عن جناح‪ ،‬ف�إنها تبوء يف النهاية بالف�شل‪ ،‬لأنه‬
‫بب�ساطة من مل يحمل على كاهله ت�صحيح اعوجاج طريقه‬
‫وري جفاف دربه بنف�سه فال ي�س�أل الآخرين ذلك‪ ،‬حتى و�إن‬
‫كان حبي ًبا مبنزلة الروح‪.‬‬
‫ألت بعدها يف انتظار �إجابتي امل�ؤكدة لكالمها‪:‬‬
‫�صمتت برهة �س� ْ‬
‫ْ‬
‫‪ً � -‬إذا هل هو م�صلحة يف حقيقة الأمر �أم ال؟‬
‫خالفت توقعاتها ب�إجابتي‪:‬‬
‫ُ‬
‫معك يف ما تقولني‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أتفق ِ‬
‫‪83‬‬
‫�أخرجت تنهيدة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬م�سكني هرني موال�سون‪.‬‬
‫ألت متعج ًبا من تغيريها املفاجئ لدفة احلديث‪:‬‬
‫�س� ُ‬
‫‪« -‬ومن يكون هذا؟»‬
‫‪« -‬هرني موال�سون((( �أو املُلقب بـ(‪ )H .M‬كان يعاين من ال�صرع‬
‫ال�شديد‪ ،‬ما دفعه لإجراء عملية باملخ ا�ست�أ�صل فيها الطبيب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫(وليام بي�شرت) �أجزاء من قرن �آمون((( اخلا�ص به‪ ،‬وبالفعل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪ -‬كيف؟ ب ل‬
‫متاما يف الوقت ذاته‪.‬‬
‫جنح يف عالج ال�صرع لكنه �أف�سد حياته ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪ -‬بعد �إجراء العملية الحظ �أن هرني ال يحتفظ ب�أي ذكرى‬
‫جديدة‪� ،‬أي �شيء يتعلمه يتذكره ملدة ثالثني ثانية وين�ساه‬
‫توقفت ذاكرته عند �سن ال�سابعة والع�شرين‪ ،‬العمر‬
‫ْ‬ ‫بعدها‪،‬‬
‫الذي �أجرى به العملية‪ ،‬حتى �إن الأطباء منعوا عنه املرايا‬
‫حتى ال حتدث له �صدمة عندما يرى نف�سه عجو ًزا افرت�شت‬
‫التجاعيد مالحمه وعقله ما زال رهن ال�سابعة والع�شرين‪.‬‬
‫�سحبت بع�ض الهواء لكي ت�ستطيع موا�صلة حديثها‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬تويف هرني عن عمر يناهز الثانية والثمانني‪ ،‬خم�سة وخم�سني‬
‫عاما من الال�شيء يتنقل بينها ً‬
‫حامل ما�ضيه الذي �أ�صابه‬ ‫ً‬
‫((( ُولد عام ‪١٩٢٦‬م وتويف عام ‪ ٢٠٠٨‬م ولقبه البعض بأشهر دماغ برشي يف العامل‪.‬‬
‫(((ويسمى أيضً ا بالحصني‪ ،‬وهو الجزء املسؤول عن الذكريات طويلة املدى باملخ‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫بع�ض العطب � ً‬
‫أي�ضا �إثر العملية‪ ،‬لكنها بالت�أكيد كانت حقبة‬
‫ثرية للأطباء لإجراء جتاربهم املو�سعة عليه‪ ،‬فحالة هرني‬
‫�أحدثت �ضجة يف الأو�ساط العلمية املتعلقة بدرا�سة املخ‬
‫والأع�صاب‪ ،‬ونال من احلب ً‬
‫ق�سطا �أطباء علم النف�س � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫فعن طريق هرني ُن�سف املعتقد القدمي ب�أن الذاكرة عبارة عن‬
‫كتلة واحدة ال تتجز�أ ل�صالح �أن الذاكرة موزعة على �أكرث من‬
‫مكان باملخ‪ ،‬وال ي�صيب �أ ًيا منها خلل �إذا م�س الأجزاء الأخرى‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أكملت وهي تنظر �إىل املدى قائلة ب�أ�سى‪:‬‬
‫� ْ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫‪-‬البع�ض كان يرى �أن ما مير به هذا الرجل م�أ�ساة حقيقية‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والبع�ض الآخر ر�أى �أنها هبة‪� ،‬سين�سى �أفراحه ولكن باملثل‬

‫والتوز عي‬
‫�سين�سى �أحزانه‪ ،‬لن ميتلك ذكريات �سعيدة ولن ميتلك‬
‫أي�ضا‪ ،‬مل يفكر �أحد يف الثالثني ثانية‪،‬‬ ‫ذكريات حزينة � ً‬
‫ثالثون ثانية قد تكون قليلة على الإح�سا�س بالفرح ولكنها‬
‫لي�ست بقليلة على الإح�سا�س بالأمل‪ ،‬وهذا ما ذكرته املرافقة‬
‫له ‪�-‬سوزان كوركني‪ -‬يف كتابها‪ ،‬عندما قالت �إنه من �أ�صعب‬
‫اللحظات التي كانت متر عليه عندما ي�س�ألها عن والديه‬
‫وتخربه بوفاتهما ويعت�صر الأمل قلبه كل مرة ك�أول مرة‪.‬‬
‫انتهت من حديثها ومرت دقيقة �صمت تذكرتُ خاللها بداية‬‫ْ‬
‫حوارنا‪ ،‬ف�س�ألتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال �أفهم ما ترمني �إليه بذكر تلك الق�صة‪.‬‬
‫قالت بانفعال‪:‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -‬ذكرتُ الق�صة لأنه من احلماقة �أن نكون مثل هرني ولي�ست‬
‫بنا علة‪ ،‬من احلماقة �أن نقتحم الأ�شياء ك�أننا نقتحمها كل‬
‫مرة ك�أول مرة بعد ما �أدركنا حقيقتها‪.‬‬
‫كانت كلمات مي�سون تقطر �أملًا ال �أدرك �سببه‪ ،‬وددتُ لو �أعلم ال�سبب‬
‫احلقيقي وراء اعتقادها الغريب‪ ،‬وودت لو �أتكلم معها �أكرث و�أعرف‬
‫حياتها ب�شكل �أقرب‪ ،‬وددتُ لو �أعرفها‪ ،‬رمبا ظهر يل يف البداية وجهها‬
‫ال�سيئ ولكنها الآن حتاول معي ب�صدق ال�سرتجاع حياتي‪ ،‬ت�شاركني‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يوما �أحد غريي‪� ،‬شيء‬‫بكل �شيء حتى عاملي الذي �أظن �أنه مل يط�أه ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن�ش�أ بداخلي يدفعني لالبتعاد عنها رغم رغبتي املخالفة لذلك حتى ال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أتورط يف ما ال �أعلم‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪« -‬ما هذا؟» �س�ألت مي�سون‪.‬‬
‫نظرتُ �إىل حيث ت�شري‪ ،‬خرج �سرب من الفرا�شات من كوة تل‬
‫مقابل لنا‪ ،‬يطري نحونا حتى و�صل �إلينا وا�ستقر فوق ر�أ�س مي�سون‬
‫حتركت مي�سون مينة وي�سرة فتحرك معها ك�أن الفرا�شات‬ ‫ْ‬ ‫كمظلة‪.‬‬
‫�صارت التابع اجلديد لها‪ ،‬بد� ْأت مي�سون يف مداعبتها فكونت حلقات‬
‫حول يدها ك�أنها موجة خرجت من ع�صا �سحرية‪� ،‬أخذت مي�سون يف‬
‫مداعبتها �أكرث ون�سيت ما اعرتاها من �أمل منذ قليل‪� ،‬أكرث ما �أثار‬
‫ا�ستغرابي‪ :‬من �أين �أتت تلك الفرا�شات؟ �أنا مل �أُدخل عاملي �أي كائنات‬
‫ج�سد بداية �شعوري جتاه مي�سون بتلك‬ ‫أح�س�ست �أن عقلي َّ‬
‫ُ‬ ‫حية‪� .‬‬
‫الفرا�شات البديعة التي حتاوطها‪� ،‬أو رمبا يرحب بها على طريقته‬
‫اخلا�صة‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫ظلت مي�سون تداعب الفرا�شات وعلى وجهها �ألق ال�سعادة‪ ،‬كان كل‬ ‫ْ‬
‫متنيت من داخلي �أال تنتهي مدة العقار �سري ًعا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�شيء مثال ًيا ورائ ًعا‪،‬‬
‫ا�ستيقظت فاقدً ا لذاكرتي �أ�شعر ب�شعور جميل �أود‬
‫ُ‬ ‫للمرة الأوىل منذ �أن‬
‫البقاء بجانبه ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫كل ما يحدث الآن لن يحدث ثاني ًة و�سي�صري ذكرى‪ ،‬ذكرى منا�سبة‬
‫متاما لطبيعة املكان الذي حواه‪ ،‬عا ٌمل خيا ٌّ‬
‫يل بعي ٌد كل البعد عن واقعي‪.‬‬ ‫ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فاج�أتني ر�ؤيتها وهي تخرج من خلف �صخرة كبرية كانت بالقرب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫منا‪ ،‬تزاحمت الكلمات يف حلقي من هول مفاج�أتي فلم �أ�ستطع �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أنطق بغري ا�سمها‪:‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫م�سد�سا �صغري احلجم ف�ضي اللون ال يظهر �إالعجزء‬
‫ً‬
‫‪ -‬لبنى!‪.‬‬
‫كانت حتمل‬
‫من فوهته من بني �أ�صابعها‪� ،‬صوبته جتاه مي�سون ودون تردد �أطلقت‬
‫ت�سمرت مي�سون مكانها وهي‬
‫ْ‬ ‫متاما‪.‬‬
‫طلقتني ا�ستقرتا بخ�صر مي�سون ً‬
‫تنظر �إ َّ‬
‫يل بعينني حتمالن بني حدقتهيما هل ًعا وت�سا�ؤل مل �أكن �أملك‬
‫�سقطت على الأر�ض‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وانحنت قامتها ثم‬
‫ْ‬ ‫تقل�صت مالحمها‬
‫ْ‬ ‫له �إجابة‪،‬‬
‫مت�شت لبنى بجانبها ببطء وهي ُت�شبع االنتقام بداخلها بنظرات‬
‫ْ‬
‫�شامتة لت�أوهاتها ومالحمها التي �سقطت يف بئر من �أمل‪ ،‬حتركت‬
‫جتاهي وقد �أ�سعدتها قلة حيلتي‪ ،‬مالت بجانب �أذين هام�سة‪:‬‬
‫‪�« -‬إياك �أن ُتعجب بغريي»‪ .‬واختفت بعدها‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫أ�سرعت جتاه مي�سون بفزع مقيدً ا بعجزي وجهلي بكيفية �إنقاذها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫وقد تذكرت كلماتها ً‬
‫قبل عندما �أخربتني �أن ال موت هنا لكن �إح�سا�س‬
‫الأمل ي�ستمر حتى تنتهي مدة العقار‪ .‬زادت بقعة الدم من حتت يدها‬
‫الراقدة على مكان الر�صا�صات قائلة ب�صوت متقطع يئن‪:‬‬
‫‪�-‬أمتنى‪� ،‬أن ينتهي‪ ،‬هذا �سري ًعا‪.‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي مطمئ ًنا لها يف حماولة تخفيف عابثة‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪� -‬سينتهي‪� ،‬سينتهي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫مرت دقائق كدهر من الأ�سى حتولت فيها �أمنيتي بطول مدة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫متاما‪ ،‬م�شف ًقا على مي�سون التي يتغذى الوجع على‬
‫العقار �إىل النقي�ض ً‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�أنينها‪ ،‬بد�أ بعدها كل �شيء بالتبخر‪ ،‬الفرا�شات التي الزمت مي�سون‬
‫حتى بعد �إ�صابتها‪ ،‬التالل‪ ،‬الوادي‪ ،‬ال�شالل‪ ،‬الزهور‪ ،‬اجلبال‪ ،‬مي�سون‬
‫و�أنا‪ ،‬كنت �أنظر �إىل ج�سدي وهو يتبخر بحزن‪ ،‬مل �أكن �أتوقع �أن يحدث‬
‫كل هذا وتزول �سعادتي �سري ًعا‪ ،‬مل �أكن �أريد �أن حتدث بعاملي ذكرى‬
‫كتلك‪ ،‬ومل �أكن �أمتنى �أن �أ�سبب ملي�سون كل هذا الأمل‪ ،‬مل �أكن �أمتنى‬
‫هذا قط‪.‬‬
‫•••‬
‫مل تكن مي�سون بحالة ت�سمح لها بتذكر و�ضع قر�ص ما بعد العقار‬
‫بجانبي كالعادة لتتح�سن حالتي‪ ،‬كانت ت�شهق بقوة وهي تنظر بفزع‬
‫متاما‪ ،‬تتحقق من �سالمة ج�سدها‬
‫�إىل مو�ضع الطلقات وقد اختفى ً‬
‫حجبت وجهها‬
‫ْ‬ ‫بتحريك يدها للت�أكد من �أثر جراح مل تعد موجودة‪،‬‬
‫بكفيها وقد بد�أ زفريها يهد�أ يف حماولة منها ال�ستيعاب جناتها من‬
‫‪88‬‬
‫نظرت �إ َّ‬
‫يل ك�أنها تذكرتني فج�أة‬ ‫موت م�سها ب�أمله ومل ي�ستقبلها بعامله‪ْ ،‬‬
‫قائلة بغ�ضب عارم‪:‬‬
‫‪ -‬من هذه؟‪.‬‬
‫مل يكن لدي خمزون من القوة يكفي �إال لقول كلمة واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬القر�ص‪.‬‬
‫جلبته من حقيبتها وو�ضعته جانبي بقوة غا�ضبة وبد� ْأت بالتحرك‬

‫ع‬
‫جيئ ًة وذها ًبا يف انتظار ا�شتداد ب�أ�سي وما زلت حتت وط�أة الهلع‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫فا�ستويت قاعدً ا‪� ،‬أتت مي�سون م�سرعة وما زالت‬
‫ُ‬ ‫�شعرتُ بالتح�سن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫باقية على غ�ضبها‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪ -‬من هذه؟‬
‫‪ -‬لبنى‪.‬‬
‫‪« -‬ح ًقا؟ كنت �أظنها منى»‪ .‬قالتها بتهكم الذع ثم تبعتها بغ�ضب‪:‬‬
‫‪ -‬ما عالقتي با�سمها؟ �أريد �أن �أعرف من هذه‪.‬‬
‫أجبت و�أنا �أحك جبهتي‪:‬‬
‫� ُ‬
‫‪ -‬لبنى تربطني بها �صلة قرابة ال �أتذكرها الآن‪ ،‬لكنني عندما‬
‫ر�أيتها راودين �شعور غريب و�إح�سا�س بالذنب‪.‬‬
‫قالت با�ستنكار غا�ضب‪:‬‬
‫كنت ت�شعر جتاهها بالذنب فهذا يعني �أنك بالت�أكيد �آذيتها‪،‬‬‫‪� -‬إن َ‬
‫فلماذا قتلتني �أنا؟‬
‫‪89‬‬
‫ترددت عيناي ب�أنحاء املكان وتلجلج ل�ساين‪ ،‬مل �أ�ستطع تربير فعل‬ ‫ْ‬
‫لبنى ملي�سون‪ ،‬ماذا �س�أقول لها و�أنا ال �أعلم ملاذا فعلت لبنى هذا؟‬
‫جملتها التي �سكبتها ب�أذين هام�سة ذهبت بي العتقاد �أنه رمبا جمعني‬
‫حب بها ذات يوم وخذلتها‪ ،‬وما فعلته رد فعل ل�شعور نبت بقلبي جتاه‬
‫كنت مكانها لنعتّني‬
‫مي�سون‪ .‬ال �أقدر على �إخبار مي�سون بهذا‪ ،‬فلو ُ‬
‫باملجنون‪ ،‬ال يحق يل �أن �أ�شعر بتلك امل�شاعر و�أنا جاهل بهويتي‪ ،‬رمبا‬
‫بتلك امل�شاعر �أنق�ض عهدً ا قطعته حلبيبة �أو �أخون وفاء �أكنه لزوجة‪،‬‬

‫ع‬
‫واجلملة التي تذكرتها يف فجوة اله�ضبة من تكون �صاحبتها؟ يجب �أن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�أ�صب جل اهتمامي الآن يف الرتكيز على ا�ستعادة ذاكرتي‪ ،‬فالوقت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مير و�إبر العقار تنفد و�أنا مل �أتو�صل بعد �إال للقليل‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫قالتها مي�سون بعد �أن هد� ْأت ك�أنها قر� ْأت �آخر �سطر ممازيع‬
‫تتبقَ‬
‫الرتكيز يف ما هو � ٍآت‪ ،‬مل غري‬ ‫ان�س �أمر ما حدث وحاول‬ ‫‪َ -‬‬
‫�إبرتي عقار‪.‬‬
‫يجول‬
‫ب�صدري‪ ،‬مرت �ساعتان ثبتت مي�سون بعدهما الأقطاب وح�ضرت‬
‫العقار اخلام�س و�ضخته بالأنبوب اجلديد‪ ،‬بد�أ ال�سائل الأرجواين‬
‫بالهبوط منق�س ًما �إىل اخلرطومني الرفيعني و�أعيننا معلقة به‪.‬‬
‫�ضغطت على الزر الأحمر وهي تقول ب�شيء من ال�صرامة‪:‬‬
‫‪ -‬عقلك ي�ستمتع باللهو بنا ويذهب يف كل مرة حيث ي�شاء‪ ،‬حاول‬
‫�أن تذهب �أنت به ولو ملرة حيث تريد‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫«مطئة»‪ .‬قلتها وما زالت عيناي تتابعان تقدم ال�سائل‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪90‬‬
‫‪ -‬عقلي ال يعبث بي‪ ،‬و�إمنا ي�ؤهلني ملا هو � ٍآت‪.‬‬
‫أكملت وقد ا�ستقر ن�صف العقار بدمائنا‪:‬‬
‫رمتني بنظرة ا�ستغراب ف� ُ‬
‫اقرتبت من احلقيقة‪ ،‬حقيقة من �أنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪� -‬أظن �أنني‬
‫انتهيت من جملتي حتى �شعرت باخلدر يجتاحني وي�ضع‬
‫ُ‬ ‫ما �إن‬
‫�أثقاله على �أجفاين‪ .‬تبدد �شغف املرات ال�سابقة وحل مكانه توج�س‬
‫غري معلوم ال�سبب‪ ،‬اتخذتُ مقعدي على منت �آلة العقار الزمانية‬

‫ع‬
‫وحملت على‬‫واملكانية خلو�ض رحلة جديدة‪ ،‬تال�شت الر�ؤية �أمامي ُ‬

‫الكت • • •‬ ‫ري‬‫ص‬
‫جناح الو�سن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وزيع‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬

‫‪91‬‬
‫(‪)٧‬‬
‫(العهد الجديد)‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪� 08:45‬ص‬

‫كتكذبابة‬
‫بمل للجتد ما ي�شغلها غري ا�ستفزاز هذا‬
‫ال‬
‫ن‬
‫ال�شهر الثاين ع�شر من ال�سنة الرابعة‪ -‬العهد اجلديد‪.‬‬

‫موظفويا�لؤدي عمله ٍ‬
‫ت‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫وا‪،‬زيال �‬
‫يخرتق �صوته �أذين‬

‫عأفهم‬
‫بتفان‬ ‫الكائن الب�شري ب�أزيزها اخلافت امل�ستمر‪،‬‬
‫متام‬
‫ب�إطالق رنني منتظم كل خم�س دقائق كما �ضبطته ً‬
‫�سر ت�أديتي لتلك العادة الكاذبة وظني الواهم �أنني بذلك �س�أحظى‬
‫ف�شلت �أ�صابعي يف مل�س �أيقونة‬
‫بنوم وفري ملدة خم�س دقائق زائدة‪ْ .‬‬
‫�إ�سكات �صوت منبه هاتفي و�أنا مغم�ض العينني ً‬
‫ك�سل‪ ،‬فا�ضطررتُ �إىل‬
‫فتح اليمنى التي انكم�شت �أمام �إ�ضاءته رغم تقليلي لها للحد الأدنى‪،‬‬
‫توجهت ب�أناملي‬
‫ُ‬ ‫أطلت حدقتي من خلف خيط رفيع انفرج بني جف َني‪،‬‬ ‫� ْ‬
‫�إىل الأيقونة ال�صفراء و�ضغطت عليها بقوة كا ًمتا ال�صوت‪ ،‬وغ�صت‬
‫بر�أ�سي داخل و�سادتي وقد بد�أ ال�صداع يلوح يف الأفق‪� .‬ساحمك اهلل‬
‫�صباحا و�أ�ستيقظ يف الثامنة! بالطبع مل‬
‫ً‬ ‫يا �أبي‪� ،‬أنام يف اخلام�سة‬
‫�أ�ستطع �أن �أُبدي اعرتا�ضي البارحة عندما �أخربين مبوعد مقابلتنا‪،‬‬
‫ك�أنه يتعمد �إيقاظي مبك ًرا بعد �أن ف�شلت جميع ن�صائحه بهذا‪� .‬أدرك‬
‫‪93‬‬
‫متاما ما يقوله و�أهميته‪ ،‬ولكن ماذا �أفعل و�أنا �شخ�ص ال يجد روحه‬ ‫ً‬
‫ليل؟ ال تلمع الأفكار بر�أ�سي وال ترقى امل�شاعر‬ ‫وال ين�شط عقله �إال ً‬
‫بقلبي �إال ب�صحبة العتمة‪� ،‬أ�ستودع �أ�سراري �سحبه و�أبث �شكواي لقمره‬
‫وجبلت نف�سي على حبه‪ .‬اختلف الليل كث ًريا يف العهد اجلديد‪ ،‬لكنه ما‬ ‫ُ‬
‫زال يحتفظ مبكانته يف قلبي‪� .‬أفتقد جارتي امل�سنة التي مل �أتعرف �إليها‬
‫يوما‪� ،‬أفتقد �صوتها العايل و�صوت تلفازها الذي ال ُيطف�أ ونافذتها التي‬ ‫ً‬
‫ال ُتغلق‪ ،‬وذوق (حمادة) ومدحها الدائم له مع من حتدثهم يف الهاتف‬
‫ليال عديدة دون �أن نتحدث‬ ‫وطبق الرتم�س املالزم لطاولتها‪ ،‬جمعتنا ٍ‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ووا�ستني �أوقات برفقتها دون �أن نتكلم‪ .‬كانت رفيقة ليل عزيزة‪ُ ،‬ترى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أين ذهبت الآن؟ مل تعد �إىل بيتها منذ بداية العهد اجلديد‪ ،‬واحتلت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫مكانها تلك العائلة ال�شابة وابنها الرثثار‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫جل�ست و�أنا �أفرد َيدي لأق�صى مدى ت�ستطيعان الو�صول �إليه متثائ ًبا‬
‫ُ‬
‫�شعرت با�ستيقاظي ففتحت‬ ‫ْ‬ ‫يف ك�سل‪� ،‬أطقطق ر�أ�سي مينة وي�سرة‪.‬‬
‫النوافذ �آل ًيا لت�سمح لأ�شعة ال�شم�س باقتحام الغرفة‪ ،‬زجرتها عن ذلك‬
‫نه�ضت من فرا�شي تعرتيني رغبة عارمة يف الرجوع‬ ‫ُ‬ ‫ف�سارعت بغلقها‪،‬‬
‫ْ‬
‫فقالت ب�صوت‬‫اجتهت �إىل املرحا�ض ْ‬ ‫ُ‬ ‫�إليه واحت�ضانه ل�ساعات �أخرى‪.‬‬
‫�آيل �أنثوي اخرتته من بني عدة �أ�صوات من خالل �سماعات ارتكزت‬
‫بجوانب ال�شقة‪:‬‬
‫‪� -‬سيد �أجمد‪ ،‬ال�سيد ه�شام و�ضع مالحظة على قائمتك‬
‫با�ستيقاظه ورغبته يف احلديث معك‪ .‬هل �أت�صل به؟‬
‫‪« -‬نعم»‪� .‬أخرجتها بزفرة ّ‬
‫�ضخمت من حروفها بفعل التثا�ؤب الذي‬
‫ما زال يالزمني‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫مرت دقيقة ظهر بعدها ر�أ�سه ب�صورة جم�سمة ثالثية الأبعاد‬
‫وم�شت ُمعلقة يف‬
‫ْ‬ ‫امتدت �أ�شعتها من �أحد الألواح املثبتة باحلائط‬
‫الهواء بجانبي‪ ،‬قال بحما�سة عهدتها منه بعد كل ليلة مثل البارحة‪:‬‬
‫‪� -‬صباح اخلري يا زعيم‪.‬‬
‫‪ -‬و�أي خري ي�أتي وقد بد�أ اليوم بر�ؤية وجهك؟‬
‫تعالت قهقهته ثم �أكمل‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪� -‬أبدعت يف تنظيم احلفل بالأم�س‪ ،‬اجلميع كان منبه ًرا بالوقت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫القيا�سي الذي �أمتمت فيه تفا�صيل الديكور اخلا�صة باحلدث‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫و�إخراج احلفل بهذه الدرجة العالية من االحرتافية‪ ،‬حفل‬

‫والتوز عي‬
‫يليق بافتتاح �شركة �آليني خم�ص�صة للعناية بالأطفال حديثي‬
‫الوالدة بحق‪.‬‬
‫‪ -‬ابقَ هنا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬ابقَ هنا‪� ،‬س�أدخل احلمام‪� ،‬ستُدخل ر�أ�سك معي؟‬
‫�ضحك ب�شيء من احلرج ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬آ�سف‪� .‬أخذين احلما�س ومل �أنتبه‪� .‬س�أنتظرك باخلارج‪.‬‬
‫أغلقت الباب ورائي‪ .‬فتحت �صنبور املياه‬
‫دلفت �إىل املرحا�ض و� ُ‬
‫ُ‬
‫للتمويه ونزعت غطاء ما�سورة احلو�ض ال�سفلية‪� ،‬أخرجت علبة رفيعة‬
‫معدنية وتناولت �سيجارة من داخلها و�أ�شعلتها‪� ،‬أ�صبحت ال�سجائر‬
‫‪95‬‬
‫ُمرمة يف العهد اجلديد‪ ،‬ت�أتي ُمهربة من اخلارج وجمز�أة حتى‬
‫ا�ستطعت‬
‫ُ‬ ‫ي�سهل دخولها للبالد‪ ،‬ال �أ�ستطيع �أن �أدخن �إال بهذا املكان‪،‬‬
‫من خالل خربة برجمية قدمية �أن �أُحدث بتلك ال�شمطاء الإلكرتونية‬
‫ً‬
‫خلل ال تعرف ب�سببه ما �أفعله هنا‪.‬‬
‫‪� -‬أظن �أن هذا امل�شروع �سينجح كث ًريا‪ ،‬هل تعلم �أنه قد ُحجز‬
‫خم�سون �ألف �آيل من ِقبل حوامل يف �شهورهن الأخرية بعد‬
‫فتح باب احلجز ب�ساعات‪ ،‬على الرغم من تكلفته العالية خو ًفا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫من نفاد الكمية؟ ويرى اجلميع �أن هذه بداية ُمب�شرة ك�أول‬

‫كبرت�أ�سه املج�سم على باب احلمام‪ ،‬وددت �أن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫م�شروع ُيطلق للآليني ببالدنا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬


‫النجاحلنمن‬ ‫ب‬
‫ا‬ ‫و‬
‫املنتظر‬ ‫قالها ه�شام‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫قبل �إطالقه بزمن‪ ،‬ولكن‬ ‫�أخربه �أن امل�شروع مكتوب له‬
‫ا�ستبدلت بها‪:‬‬
‫‪� -‬إذا ما دفعوه ال ي�ساوي �شي ًئا بالن�سبة �إىل �أرباحهم‪ ،‬جيد �أنني‬
‫مل �أر�ضخ ملحاوالتهم تخفي�ض �سعر تنظيم احلفل‪ .‬دعنا الآن‬
‫منهم فلقد انتهى حفلهم‪� .‬أخربين بجدول �أعمالنا اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬ال�ساعة الثالثة ع�ص ًرا لدينا مقابلة مع �شركة العاملية‬
‫الإلكرتونية للعطور‪ ،‬يريدون تنظيم حفل لإطالق عطرهم‬
‫متاحا للجمهور على‬
‫اجلديد (طالء احلوائط)‪� .‬سي�صبح ً‬
‫التطبيق اخلا�ص بهم بعد احلفل تلبي ًة لرغبة كثريين‬
‫عا�شقني له‪� .‬أخبار ت�سربت �أنهم �سيطلقون مفاج�أة مع (طالء‬
‫احلوائط) هي (رائحة البنزين)‪ ،‬لكرثة عا�شقي رائحته‬
‫أي�ضا‪ ،‬بعد �أن ح�صلوا على ت�صريح يفيد ب�سالمته من �أي‬ ‫� ً‬
‫‪96‬‬
‫�أ�ضرار وميكن ا�ستخدامه ب�شكل �آمن مبعدل ع�شر بخات فقط‬
‫يف اليوم‪ .‬ارتفعت �أ�سهم هذه ال�شركة كث ًريا وثبتت �أقدامها‬
‫بال�سوق بعدما �أطلقت عدة روائح لأطعمة خمتلفة‪ ،‬ومكنت‬
‫النا�س من ر�ؤية طعامهم و�شم رائحته بالوقت نف�سه‪.‬‬
‫تدخلت ب�صوتها الآيل املزعج‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬سيد �أجمد لقد جتاوزت املدة التي ق�ضيتها باحلمام مدة‬
‫الإن�سان الب�شري العادي يف ق�ضاء حاجته‪ ،‬هل هناك م�شكلة؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪� -‬أعاين من �إم�ساك‪.‬‬

‫ن‬ ‫بل‬
‫ل‬ ‫ت‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫‪ -‬هل الأمر خطري؟ هل �أ�ستدعي الطبيب؟‬

‫احتجت �إىل ًامل�ساعدة �س�أطلب‪ ،‬واورجال ًءت ياوز عي‬


‫قلت بنفاد �صرب‪:‬‬
‫ُ‬
‫�سو�سن ال‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬ال‪� ،‬إن‬
‫تقاطعي حديثنا ثانية‪.‬‬
‫‪� -‬أمرك �سيدي‪.‬‬
‫عال وهو يقول‪:‬‬
‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫�ضحك ه�شام‬
‫زلت ت�سميها بهذا اال�سم؟‬
‫‪ -‬ما َ‬
‫‪ -‬نعم وهي حتبه‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬
‫‪ -‬بلى �سيد �أجمد‪ ،‬فزهرة ال�سو�سن زهرة رائعة‪.‬‬
‫قلت موج ًها حديثي له�شام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪97‬‬
‫أحببت �أن تنهي االت�صال فلك ذلك‬ ‫‪� -‬س�أ�ستحم الآن‪� ،‬إن � َ‬
‫و�س�أعاود االت�صال بك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �س�أنتظرك‪.‬‬
‫كانت �سيجارتي قد قاربت على النفاد‪ ،‬كنت �أحاول �أن �أُبقي‬
‫عليها قدر الإمكان لعلمي �أين لن �أحظى بواحدة خالل ال�ساعات‬
‫دفنت عقبها بعد االنتهاء منها يف تربة نبتة و�ضعتها هنا‬ ‫القادمة‪ُ ،‬‬
‫خ�صي�صا‪ ،‬فتحت �صنبور اال�ستحمام و�أخرجت ً‬
‫�شفاطا �صغ ًريا‬ ‫ً‬ ‫لهذا‬

‫ع‬
‫يحتويه دوالب املر�آة و�شفطت الدخان‪� .‬أي عناء هذا؟ كل ذلك لتدخني‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سيجارة واحدة!‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫وجهت‬
‫ا�ستحممت �سري ًعا ولففت املن�شفة حول ج�سدي ثم خرجت‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�س�ؤايل له�شام الذي ما زال هنا‪:‬‬

‫ع‬
‫‪-‬و�إن كان املوعد ال�ساعة الثالثة ع�ص ًرا‪ ،‬فما الذي �أيقظك‬
‫مبك ًرا على الرغم من نومك املت�أخر؟‬
‫قال ب�سعادة طفولية‪:‬‬
‫‪ -‬لدينا موعد يف ال�ساعة التا�سعة والن�صف �أنا و�سارة يف م�صنع‬
‫الأثاث‪.‬‬
‫قلت و�أنا �أخرج مالب�سي من اخلزانة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬وهل الأثاث جاهز و�ست�شرتيانه مبا�شر ًة؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬نحن �سنذهب ونخربهما بذوقنا‪� ،‬أي طراز ُنف�ضل‬
‫الكال�سيكي �أم احلديث و�أي �ألوان نحب‪ ،‬وهم �سينتقون الأثاث‬
‫ويفر�شونه بال�شقة ويخربوننا‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫�أوم�أتُ له بر�أ�سي فه ًما وبداخلي ح�سرة على تلك الأ�شياء التي‬
‫ذهب جمالها و�أ�صبحت ً‬
‫م�سخا‪.‬‬
‫�أردف ً‬
‫مكمل‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعلم؟ عانينا كث ًريا حتى جاء دورنا‪ ،‬ننتظر منذ �شهور‪.‬‬
‫�أجبته من خلف �ساتر خ�شبي مو�ضوع بغرفتي و�أنا �أرتدي مالب�سي‪:‬‬
‫‪-‬لهذه الدرجة؟ يبدو �أن �شباب بالدنا مل من ال�سعادة ف�أقدم‬

‫ع‬
‫على الزواج‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫قال م�ستنك ًرا‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ -‬ملاذا يا زعيم؟ الزواج لي�س مقربة ال�سعادة و�إمنا فتح باب‬

‫والتوز عي‬
‫جديد من �أبوابها‪.‬‬
‫�س�ألته و�أنا �أطوي �أكمام قمي�صي �أمام املر�آة‪:‬‬
‫‪ -‬هل حتبها يا ه�شام؟‬
‫عاما‪:‬‬
‫�أجاب بحياء فتاة ذات �ستة ع�شر ً‬
‫‪ -‬جدً ا‪ ،‬جدً ا‪.‬‬
‫أخرجت نغمة مو�سيقية من فمي ا�ستهزا ًء ب�إجابته ف�ضحك على‬ ‫ُ‬ ‫�‬
‫تابعت و�أنا �ألتقط علبة علكة �صغرية بنكهة النعناع من على‬ ‫�أثرها‪ُ .‬‬
‫الطاولة‪:‬‬
‫‪� -‬ألقاك يف الثالثة �أيها العا�شق‪.‬‬
‫•••‬
‫‪99‬‬
‫انطلقت على دراجتي النارية �أ�شق ب�ضجيجها هدوء ال�صباح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مرتد ًيا خوذتي ال�سوداء احلاملة لقطعة �إك�س�سوار على �شكل زعنفة‬
‫وطلبت من البائع‬
‫ُ‬ ‫قر�ش بنف�س اللون‪ ،‬مررت بطريقي مبحل لبيع الورد‬
‫تن�سيق باقة من زهور الالفندر‪ ،‬جاءين ات�صال �أبي م�ؤكدً ا انتظاره‬
‫باملكان املتفق عليه بيننا‪.‬‬
‫اليوم ذكرى وفاة �أمي‪ ،‬من �أتع�س �أيام حياتي �إن مل يكن �أتع�سها‬
‫على الإطالق‪ ،‬ال �أفهم ملاذا ي�صر �أبي على زيارتها ب�شكل ر�سمي يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هذا اليوم و�إجباري على هذا الأمر معه! �أظنه يعتقد �أنني ن�سيتها وهو‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ال يدري �أنني �أبكيها كل يوم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫حر�ص �أبي بعد علمه املُ�سبق باقرتاب العهد اجلديد على نقل‬

‫ع‬
‫ُرفات �أمي �إىل مكان بعيد متطرف من املدينة يف قبو حتت الأر�ض‬
‫خمفي عن الأنظار‪ ،‬وخ ًريا فعل‪ ،‬فمع بداية العهد اجلديد �أخطر‬
‫جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد النا�س بنقل رفات موتاهم �إىل مكان �آخر‬
‫يف ال�صحراء‪ ،‬و�أقام مقربة با�سم كل عائلة و�صارت كل عائلة بعدها‬
‫تدفن موتاها مبقربتها اخلا�صة بها‪ ،‬وترتحم عليهم وعلى القدماء‬
‫الذين مل ينقلهم املجل�س كما زعم‪ ،‬بل �سحق عظامهم وحولها �إىل‬
‫�سماد للأرا�ضي الزراعية‪ ،‬و�شرع ببناء م�شروع عظيم على �أر�ض‬
‫املقابر مبوقعها احليوي‪ ،‬مطب ًقا بذلك مقولة‪« :‬احلي �أبقى من امليت»‪.‬‬
‫وا�ستقللت‬
‫ُ‬ ‫تركت دراجتي‬
‫وجدتُ �أبي بانتظاري يف املكان املخ�ص�ص‪ُ ،‬‬
‫جال�سا على املقعد املجاور له‪ .‬بعد ال�سالم واالطمئنان على‬
‫�سيارته ً‬
‫الأحوال مبعدل ال يتعدى الدقائق الأربع بد�أ �أبي بنقدي كاملعتاد‪،‬‬
‫نقد مالب�سي‪� ،‬سهري‪ ،‬عملي‪ ،‬تفكريي وحياتي التافهة كما و�صفها‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫يخربوننا دائ ًما �أن نقد �آبائنا لنا وجه من �أوجه احلب‪ ،‬فلماذا �أتقنوه‬
‫�إىل احلد الذي جعل منه الوجه الوحيد؟ ملاذا ال مييطون اللثام عن‬
‫الأوجه الأخرى با�ستمرار يدق على وتد حبهم بداخلنا بعد تلخلخه‬
‫�إثر ريح فيها �صر مواقف زمن غابر �أ�صابت حرث قلب ف�أجدبته؟‬
‫�أنقذين و�صولنا للمكان املحدد قبل �أن يتم �أبي ق�صيدة نقده‪،‬‬
‫ترجلنا من ال�سيارة واجته �أبي بعدها لباب حديدي فتح قفله بعد‬
‫النظر ميي ًنا وي�سا ًرا‪ ،‬والت�أكد من خلو املكان على املدى من �أي ب�شر‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أو كائن حي �أ ًيا كان‪� .‬أ�شار يل بيده �أن �أتقدم‪ ،‬ال �أعلم �سر تلك الرهبة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قدمت �إىل زيارتها‪ ،‬ت�صور يل‬
‫ُ‬ ‫ورجفة قلبي اللتني �أ�شعر بهما كلما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫خياالتي املجنونة �أنه رمبا �أجدها بانتظاري تفتح يل ذراعيها لأرمتي‬

‫فتح �أبي با ًبا �آخر بالأر�ض ي�ؤدي �إىل باطنها وال‬


‫بدرج‪،‬توَّهمز عي‬
‫ب�أح�ضانها‪� ،‬أرمي بداخلها حزين و�شقائي ووحدتي وجراحي وعتابي‪.‬‬
‫بالنزول‪،‬‬
‫نف�سا قو ًيا ل�صدري امل�ضطرب‪� ،‬أُعدل من‬
‫وقفت حلظات �أ�سحب فيها ً‬
‫ُ‬
‫هندامي ب�ضم ياقة قمي�صي و�إ�سدال �أكمامي وربط �أزرارها بعد نزع‬
‫�سوار جلدي �أحاط يدي و�أنا �أ�ست�شعر يد �أمي وهي تخبط م�ؤخرة‬
‫ر�أ�سي قائلة مبرح‪:‬‬
‫‪-‬ت�أدب يا ولد‪.‬‬
‫نزلت الدرج فوجدتُ �أبي يقف بخ�شوع و�إجالل مط�أطئ الر�أ�س‬
‫ُ‬
‫على بعد خطوات من الفتة رخامية حتمل ا�سم �أمي ويوم ميالدها‬
‫هم�سا من بني �شفتيه‪.‬‬
‫ويوم وفاتها‪ ،‬ينطق بكلمات تخرج ً‬

‫‪101‬‬
‫وا�ستقمت بجانب �أبي‬
‫ُ‬ ‫و�ضعت باقة ورود الالفندر بجانب قربها‬
‫ُ‬
‫�أ�ستدعي �أدعية ال �أحفظ �إال ي�سريها‪� .‬أخذين التفكري ب�أن ج�سد �أمي‬
‫هنا حتت هذا الرتاب بتلك احلفرة �أو ما تبقى منه‪ ،‬جاء اللون الأحمر‬
‫�أمام عي َني فج�أة‪� ،‬أغم�ضتهما فانت�شر �أكرث‪ ،‬الدم‪ ،‬الق�ضبان‪ ،‬جلو�س‬
‫�أمي وا�ست�سالمها للقطار الذي مل يت�أخر يف التهام وجبته �سري ًعا‪،‬‬
‫الرجالن وهما ي�صرخان ب�صرخة تن�ضح قه ًرا لف�شل حماولتهما‪ ،‬و�أنا‬
‫امل�أخوذ مبا �شاهدت وقد ابتلعت الفاجعة دموعي وكالمي‪ ،‬مل �أنطق‬
‫ظللت هكذا حتى خافت اجلدة كوثر من �أن �أكون قد �أُ�صبت‬

‫ع‬
‫أبك‪ُ ،‬‬ ‫ومل � ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫باخلر�س من ال�صدمة بعدها المتناعي عن الكالم معها‪ ،‬فعر�ضتني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫على الطبيب متخذة جان ًبا من العيادة لت�شرح له ما ر�أيت‪ .‬فح�صني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫و�أكد �سالمة �أع�ضائي ون�صحها بعر�ضي على طبيب نف�سي‪ ،‬ومل تت�أخر‬

‫ع‬
‫يف تنفيذ ن�صيحته‪� ،‬أخذتني لطبيبة نف�سية متخ�ص�صة يف التعامل مع‬
‫الأطفال اقرتحها عديد ممن حولها عليها‪ .‬لن �أنكر �أن الطبيبة �أروى‬
‫واجلدة كوثر مل تدخرا �أي جهد مل�ساعدتي على جتاوز �أزمتي‪ ،‬لكنهما‬
‫مل تدركا �أن خرق الأمل ب�صدري ات�سع عن راتق ال�سالمة‪ ،‬تغريت‬
‫روحي من وقتها وتبدلت مالحمها فلم �أعد �أنا و�إن مل �أتغري ً‬
‫�شكل‪.‬‬
‫حمطة ما بعمرك يتجاوزها كل �شيء ومير عليها كل �شيء‪ ،‬وتظل‬
‫هي ثابتة ب�أثرها املوجع املمتد داخل حناياك وبني جنباتك‪ ،‬وكانت‬
‫هذه املحطة موت �أمي‪.‬‬
‫�أُوجدوا عمليات التجميل ملعاجلة ت�شوهات اجل�سد‪ ،‬فماذا عن‬
‫ت�شوهات الروح القابعة ب�صحيحي البدن الذين �أتقنوا ر�سم حدود‬
‫الر�ضا برباعة على خريطة وجوههم؟‬

‫‪102‬‬
‫نفرت دمعة �ساخنة على وجنتي بعد �أن جلبتني الذكريات �إىل‬ ‫ْ‬
‫�أر�ضها‪� ،‬أزلتها �سري ًعا ف�أنا ال �أحب �أن يرى �أحد بكائي �أو �أن ي�ست�شعر‬
‫غ�صتي‪ ،‬ال �أجد نف�سي يف جو املوا�ساة والتخفيف وت�ضميد اجلراح‪،‬‬
‫علي �أتركه على حاله‬ ‫اعتدت �أن �أقوم بهذا بنف�سي وما ي�ستع�صي ّ‬
‫للزمن لعله ينجح يف ما ف�شلت به‪ ،‬فقط �أهم�شه كي �أ�ستطيع موا�صلة‬
‫امل�سري‪.‬‬
‫‪-‬هيا يا �أبي يكفي هذا»‪ .‬نطقتها ب�صوت خمتنق‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪-‬مل ن� ِأت كل هذه امل�سافة من �أجل تلك الدقائق‪ ،‬دعنا نبقَ ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب�‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪-‬ح�س ًنا �س�أنتظرك بالأعلى‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬


‫بعمقويف‬ ‫ش‬
‫ال�ضيق الذي �أمل بي‪ ،‬مر وقت ال �أعلم كم دقائقه �صعد بعده �زي‬
‫أبي‪،‬عتوجه‬
‫قبل �أن �أ�سمع تعليقه‪ ،‬توجهت �إىل‬ ‫إياه‬ ‫هممت �صوب الدرج �صاعدً ا‬
‫ُ‬
‫حماولة ل�صرف‬ ‫اخلارج وا�ستندتُ �إىل ال�سيارة و�أنا �أتنف�س‬

‫ً‬‫نحوي �سائل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بك؟‬
‫‪ -‬ال �شيء‪� .‬شعرت بال�صداع واالختناق بالأ�سفل‪.‬‬
‫حترك جتاه باب عجلة القيادة بعد �سماع جملتي وفتحه‪.‬‬
‫‪� -‬أبي‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫ألت ب�شيء من التلعثم بعد ابتالع ريقي‪:‬‬
‫�س� ُ‬
‫‪103‬‬
‫‪ -‬هل ميكنني زيارة اجلدة كوثر؟‬
‫�أغلق الباب بقوة غا�ض ًبا فور �أن �سمع طلبي‪ ،‬واجته ناحيتي‬
‫والنريان تخرج من عينيه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعي ما تقول؟ هل تعيه؟‬
‫�سكت برهة و�أكمل بنف�س الغ�ضب‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬قلت لك مئة مرة ال ت� ِأت ب�سرية تلك املر�أة �أمامي‪ ،‬عذبتني‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ملدة عامني حتى وجدتها ووجدتك‪ ،‬وزادت الطني بلة عندما‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫رف�ضت �أن تردك يل بكل بجاحة بحجة �أنك �أمانة لديها‪ ،‬حتى‬‫ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫طلبت ال�شرطة ورجعتك‪ ،‬مل يك ِفها ما �سببته يل من حرقة‬ ‫ُ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫لقلبي و�أنا ال �أعلم �أين اختفيت بعد �أمك‪ ،‬لوال الإعالن الذي‬
‫ن�شرته وات�صل بي جريانها للداللة على مكانكما مقابل مكاف�أة‬
‫مالية �ضخمة‪ ،‬وبعد كل هذا تطلب مني �أن �أ�سمح لك بزيارتها؟‬
‫هد�أ ً‬
‫قليل ثم �أكمل‪:‬‬
‫‪ -‬كما �أنه �إذا زرتها فلن تتذكرك بالت�أكيد بعد العهد اجلديد‪،‬‬
‫هذا �إن كانت ما زالت حية بعد كل تلك ال�سنوات‪.‬‬
‫�شاخ�صا ب�صري �إىل‬
‫ً‬ ‫ظللت‬
‫مل �أعلق على �أي كلمة مما قالها‪ُ .‬‬
‫الأر�ض متحا�ش ًيا نظراته الغا�ضبة جتاهي‪ ،‬كان ردي تنهيدة عميقة‬
‫�أخرجتها من جويف ويا ليتني مل �أفعل‪.‬‬
‫التقط �أنف �أبي رائحة ما فبد�أ بال�شم ب�شكل �أعمق حويل وقال‬
‫م�ستنك ًرا‪:‬‬
‫‪104‬‬
‫‪ -‬هل رجعت �إىل التدخني مرة �أخرى؟‬
‫لعنت غبائي بن�سيان م�ضغ علكة النعناع‪ ،‬قبل �أن �أجيب مرتددًا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أنا‪� ،‬أنا‪.‬‬
‫قائل بحزم‪:‬‬ ‫قاطعني قبل �أن �أكمل ً‬
‫‪ -‬لن تبقى مبفردك ثاني ًة‪� ،‬ست�أتي ب�أغرا�ضك ومالب�سك وتعي�ش‬
‫معي من الليلة‪ .‬انتهى الأمر‪.‬‬
‫�صحت‬
‫ُ‬
‫ري‬ ‫ص‬
‫‪� -‬أبي يكفي‪،‬ال‬
‫كانت جملته الأخرية الق�شة التي ق�صمت ظهر احتمايل‪،‬‬
‫ع‬
‫بح ـ لمـلـة‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫نشر‬
‫بوجهه‪:‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫الرحمة‪ ،‬الر‬

‫ع‬ ‫منخف�ض‪:‬‬ ‫هد�أ بعد ما ُفوجئ ب�صيحتي وقال ب�صوت‬


‫‪ -‬هل تعلم مدى خطورة هذا عليك؟ �إن اكت�شف �أحد هذا الأمر‬
‫�سيظن �أنك من (اخلالدين) و�سيبلغ عنك‪.‬‬
‫�صحت مرة �أخرى‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬فليعلموا‪ ،‬ماذا �سيحدث حلياتي �أكرث مما �أنا فيه؟‬
‫م�سرعا وهو ي�ضع �سبابته �أمام فمه وقد جتعد ما بني حاجبيه‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال‬
‫‪� -‬ش�ش�ش�ش�ش‪� .‬أخف�ض �صوتك‪ ،‬هل جننت؟ بعد كل ما فعلته من‬
‫�أجلك تقول مبنتهى الب�ساطة‪« :‬فليعرفوا»! �أنت ال تدرك عاقبة‬
‫ما تقوله‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫خف�ضت �صوتي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قلت وقد‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ليتك تركتني‪ ،‬ليتك مل تفعل �شي ًئا‪ ،‬على الأقل كنت �س�أعي�ش‬
‫بدل من �أن يكون اخلوف والقلق َ‬
‫منطي حياتي مثلما‬ ‫مثل البقية ً‬
‫هي حياتك‪ ،‬لدرجة �أن تطلب مني خف�ض �صوتي يف مكان ال‬
‫يوجد به �أحد على الإطالق‪.‬‬
‫قال با�ستنكار‪:‬‬

‫صأ�سى‪:‬‬
‫ري‬ ‫�ع ُ‬
‫‪ -‬هل كنت تريد ح ًقا �أن تعي�ش مثلهم؟‬

‫ب‬
‫وكذلك لال‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫أجبت ب�‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وال�سهر فج ًرا ولل�سجائر لأين �أجد فيها ذاتي‪ � ،‬ز‬
‫أنغم�سيع‬
‫مثل حياتي‪� ،‬أنا �ضائع يا �أبي‪،‬‬ ‫‪ -‬ال‪ ،‬ال مثل حياتهم‬
‫لت�صميم احلفالت‬ ‫أهرب‬ ‫�ضائع‪� ،‬شعور التيه ال يغادرين‪� ،‬أنا �‬
‫فيها‬
‫لأن�سى �أي �شعور �آخر‪.‬‬
‫‪� -‬أخربتك �أكرث من مرة �أن ترتك عملك هذا و�س�أوفر لك ً‬
‫عمل‬
‫�أف�ضل و�أمواله �أكرث‪.‬‬
‫قلت بعد �أن تنهدت بنفاد �صرب‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬يا �أبي لي�ست م�شكلتي يف املال‪ ،‬معي كثري من املال‪ ،‬لكن روحي‬
‫لي�ست معي‪.‬‬
‫�أطل الإ�شفاق من عينيه وربت على كتفي ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬ما ر�أيك يف االنتقال للعي�ش معي رمبا يتغري �شعورك؟‬
‫�صدقني هذا �أف�ضل لكلينا ف�أنا �أخاف عليك كث ًريا من العي�ش‬
‫مبفردك‪،‬جرب‪.‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا �أبي‪ ،‬هذا �س ُيعقد الأمور �أكرث ولن يحل �شي ًئا‪ ،‬وال تقلق �أنا‬
‫�آخذ حذري جيدً ا‪.‬‬

‫ع‬
‫قال بود م�ست�سل ًما‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫ب‬
‫‪ -‬كما تريد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫النارية‪� ،‬أخذنا احلديث الجتاهات نعدة‬
‫عادة �أبي وخوفه من �أحاديث الذكريات‪ .‬كان ويرتكالتيلودفةز عي‬
‫عائدين �إىل نقطة انطالقنا و�إىل مكان دراجتي‬ ‫ركبنا ال�سيارة‬
‫ولذكريات بعيدة على غري‬
‫احلوار‬
‫�أوجهه حيث �أ�شاء ويذهب معي‪.‬‬
‫واجتهت �إىل دراجتي بعد‬
‫ُ‬ ‫و�صلنا �إىل وجهتنا‪ ،‬نزلت من ال�سيارة‬
‫عال من داخل �سيارته قبل �أن‬ ‫�أن و ّدع بع�ضنا ً‬
‫بع�ضا‪ ،‬قال �أبي ب�صوت ٍ‬
‫�أرتدي خوذتي‪:‬‬
‫تن�س الليلة االحتفال ببداية‬
‫‪ -‬جيد �أنني تذكرت قبل �أن تذهب‪ ،‬ال َ‬
‫ال�سنة اخلام�سة من العهد اجلديد بامليدان الكبري للمدينة‪ ،‬ال‬
‫تفوت الذهاب والت ِقني هناك‪.‬‬
‫�أ�شار ب�سبابته م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫‪107‬‬
‫‪� -‬أجمد‪� ،‬إياك �أن تتغيب‪� .‬سيح�ضر كثريون و�سي�س�ألونني عنك‪،‬‬
‫ال تدعني �أكذب مثل ال�سنة املا�ضية و�أخربهم �أنك مري�ض‪.‬‬
‫قلت م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬بالت�أكيد لن �أفعل‪ ،‬يكفي عدد الزيارات واملكاملات التي تلت‬
‫دفعت ثمنها غال ًيا‪� ،‬س�آتي م�ضط ًرا‪ .‬ماذا �أفعل‬
‫تلك الكذبة‪ُ ،‬‬
‫وقد ُرزقت ب�أب ال يتقن الكذب؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬وماذا كنت تريدين �أن �أقول؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫‪� -‬أي كذبة ُمقنعة‪� ،‬أو الأف�ضل �أن تخربهم باحلقيقة‪ ،‬ابني ال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يحبكم ويبغ�ضكم �أنتم وعهدكم اجلديد‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫نظر �إيل بابت�سامة الئمة ثم انطلق ك ٌل منا بعدها يف طريقه‪،‬‬
‫�أخذتُ يف التفكري والتذكر يوم �أن حلت تلك النكبة على بالدنا منذ‬
‫�أربع �سنوات‪ ،‬نكبة العهد اجلديد‪.‬‬
‫•••‬

‫‪108‬‬
‫(‪)٨‬‬
‫(قراصنة العقول)‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كانت البداية منذ �أربعة �أعوام ون�صف عندما �أعلن جمل�س �إدارة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫رواجا وقتها‪ ،‬جتارة‬
‫�ش�ؤون البالد الت�صالح مع �أ�صحاب التجارة الأكرث ً‬

‫ش‬ ‫ن‬‫بل‬
‫ل‬
‫(قر�صنة العقول)‪ ،‬و�صرحوا ب�إ�سقاط جميع التهم املوجهة لهم ووقف‬

‫و‬
‫عقولال�تأهلوبلدتنا غري‬
‫ز‬ ‫ر‬
‫مطاردتهم بعد �أن ف�شلوا يف القب�ض عليهم واحلد من ن�شاطهم‪.‬‬

‫أريحية‬ ‫ي‬
‫�آبهني بالزجر والتنكيل والوعيد‪ُ ،‬يتمون مهمة ن�شر الفو�ضى ب�ع‬
‫قرا�صنة العقول الذين ا�ستفحلوا وعاثوا يف‬

‫يوما بعد يوم‪ ،‬فيخرجون يف وقفات حتمل‬ ‫تثري حنق اجلميع �ضدهم ً‬
‫�شارات م�سيئة �إليهم وتطالب ب�سرعة القب�ض عليهم و�إعدامهم يف‬
‫امليادين العامة‪ .‬كانت بداية معرفتهم قبل ال�صلح بثالث �سنوات‬
‫عندما ُ�سرب مقطع ت�سجيلي على ال�شبكة العنكبوتية يظهر فيه‬
‫�أحدهم بقناع بهلواين بعني جاحظة حتمل نظرة ال�شر و�ضحكة ب�شفاه‬
‫حمراء خبيثة‪ُ ،‬يعلن فيه ب�صوت ُ�ضخم لكي ال تظهر هوية �صاحبه‬
‫عن تو�صلهم �إىل اكت�شاف ُي ّكنهم من ال�سيطرة على العقل الب�شري‬
‫والتحكم به وحمو ما يريدون منه وزرع ما يريدون من ذكريات‪،‬‬
‫و�صرحوا مب�س�ؤوليتهم الكاملة عن التالعب ب�أدمغة كثري من ال�شهود‬
‫يف ق�ضايا مهمة‪ ،‬ما �أدى �إىل براءة عديد من املدانني الظاملني والزج‬
‫‪109‬‬
‫�صارما وهو ينقل ر�سالته‬
‫ً‬ ‫بالأبرياء يف غياهب ال�سجون‪ .‬كان تهديده‬
‫بكلمات احتقنت بالغ�ضب‪:‬‬
‫‪ -‬ما دامت مدينتكم ظاملة ف�سن�ستمر يف ن�شر الفو�ضي‪،‬‬
‫و�سنجعلها متر �أمام �أعينكم وتتقبلونها رغم �أنوفكم‪� ،‬سننتزع‬
‫منكم �أحبتكم ونلقيهم يف ال�سجون‪ ،‬و�س ُنخرج الظامل ليمار�س‬
‫عليكم ت�سلطه وظلمه لتتجرعوا ُمر مظلوم مل تن�صروه‬
‫وغ�ض�ضتم الطرف عنه ما دام مل مي�سكم الأمر‪� ،‬سنظل هكذا‬

‫ع‬
‫حتى تنتهي احلياة بكم وبنا �أو ين�صلح حال هذه املدينة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قامت الدنيا بعدها ومل تقعد وكرثت التكهنات على �شا�شات التلفاز‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫عن ماهية ه�ؤالء‪ ،‬هل هم جمموعة من الأطباء املهاوي�س بتطبيق‬

‫والتوزي‬
‫جتاربهم العلمية على �أ�شخا�ص حقيقيني واللعب يف ذكرياتهم وحمو‬

‫ع‬
‫ما ي�شا�ؤون منها وزرع ما يوافق مفكرتهم اخلا�صة؟ �أم �أنهم جهات‬
‫خارجية ممولة تريد العبث بعقول �أهل بالدنا ون�شر الفو�ضى بزرع‬
‫ذكريات م�سمومة‪ ،‬و�أن احلرب بالأ�سلحة الآن انعدمت وحلت حملها‬
‫احلرب الباردة املتمثلة يف التجارة بالعقول؟ بينما ذهب �آخرون من‬
‫�أهل بلدتنا �إىل اجتاه ثالث مل ي�صرحوا به عالني ًة وجاء على هام�ش‬
‫حواراتهم ب�أ�صوات هام�سة �أنه قد يكون كل هذا زائف‪ ،‬و�أنه من‬
‫�صنع جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد لريموا عن كاهلهم مواجهة كثري‬
‫من امل�شاكل التي متر بها بالدنا ويلقوها على كاهل هذه املجموعة‪.‬‬
‫�أما �أ�صحاب االجتاه الرابع فكانوا يرون �أنهم بداية �إ�صالح كل هذا‬
‫الف�ساد‪ ،‬ي�ؤيدونهم باخلفاء ويتابعون ن�شاطهم بحر�ص‪ ،‬ي�ستمعون �إىل‬
‫ت�سجيالتهم امل�سربة بني احلني والآخر بانبهار ويرون �أنهم طريق‬
‫اخلال�ص‪ ،‬حتى و�إن كانوا يطبقون هذا ب�شكل خاطئ‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫انق�ضت �أ�شهر قليلة جنحت خاللها برامج التلفاز يف �إثبات نظرية‬
‫ْ‬
‫االجتاه الثالث‪ ،‬فقد �أ�صبحت �شرذمة قر�صنة العقول ‪-‬كما �أطلق‬
‫عليها �إعالمنا‪ -‬ال�سبب يف كل امل�شاكل التي تعج بها بالدنا‪ ،‬وال نعلم‬
‫هل املجل�س من �أوجدهم بالفعل‪� ،‬أم �أنهم �أ�صبحوا مبثابة املاء الزالل‬
‫و�سالما بعد �أن ظهرت احلجة القوية‬
‫ً‬ ‫الذي ينزل على �صدورهم بردًا‬
‫التي ي�ستطيعون تلفيق كل �شيء لها دون تردد‪.‬‬
‫بوقت ق�صري �أثبت الإعالم بكلماته الرنانة دون دليل حقيقي �أن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قرا�صنة العقول هم ال�سبب يف �إدمان ال�شباب للمخدرات لزراعة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ذكريات بعقولهم عن ع�شق ت�أثريها‪ ،‬هم ال�سبب يف الف�ساد لزراعة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ذكريات عن الغنى الفاح�ش ما دفع كثريين لقبول الر�شوة‪ ،‬هم ال�سبب‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫جوعا‪ ،‬ما يجعل النا�س‬‫يف الغالء لزراعة ذكريات خميفة عن املوت ً‬
‫ُتقبل على �شراء ال�سلع بكرثة فيت�سببون يف نفادها ويعلو �سعرها‪،‬‬
‫ودعم ذلك بعر�ض مقاطع م�سجلة لأنا�س يزعمون �أنهم ُخطفوا‬
‫ووجدوا �أنف�سهم بعد عدة �أيام ُمل َقني على جنبات الطريق‪ ،‬حتمل‬
‫عقولهم ذكريات يتذكرونها جيدً ا تدفعهم �إىل �أداء �سلوك معني‪.‬‬
‫و�أكرث ما �أثار تعاطف كثريين مقطع الأم الباكية التي تلعن قرا�صنة‬
‫العقول بعدما ا�ستدرجوا ولدها الوحيد وزرعوا بعقله حب املخدرات‪،‬‬
‫تدعو عليهم من �أعماق قلبها �أن ت�صيبهم �صاعقة من ال�سماء تريحنا‬
‫من �شرورهم و�أن يجعل كيدهم يف نحورهم‪ .‬تدريج ًيا �أ�صبح قرا�صنة‬
‫العقول ال�سبب يف �أي �شيء وكل �شيء‪ ،‬بداي ًة من �إ�صابة �أطفال حديثي‬
‫الوالدة بالريقان �إىل هزمية بع�ض الفرق الكروية يف املباريات‪ ،‬ما‬
‫جعل الأمر هزل ًيا وم�ضح ًكا للقلة وم�صدر فزع ومنبع كراهية يف‬
‫نفو�س الغالبية‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫ظل الأمر على هذا احلال ملدة ثالث �سنوات‪ ،‬تغريت بعدها‬
‫خطابات جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد من احلث على كراهية قرا�صنة‬
‫العقول و�أنهم البالء الواقع على بالدنا‪ ،‬وطلب الدعم والتعاون من‬
‫ال�شعب للإبالغ عن �أى معلومة قد ت�ساعد يف التو�صل �إليهم مقابل‬
‫مكاف�آت مالية‪� ،‬إىل �أننا يجب علينا احت�ضانهم وتفهم مطالبهم و�أننا‬
‫بالنهاية �أبناء وطن واحد وجتمعنا �أخوة االنتماء‪ ،‬ليخرجوا علينا يف‬
‫نهاية الأمر �أمام �شا�شات التلفاز وهم يت�صافحون بالأيدي بحرارة‪،‬‬

‫ع‬
‫مع وعد من الطرف الآخر با�ستغالل ن�شاطهم يف قنوات �شرعية وعدم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫التورط ثاني ًة‪ ،‬مقابل العفو ال�شامل عن جميع ما �سبق‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫هذا ما كان يطفو على ال�سطح �أمام جميع الذين حمدوا اهلل من‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�أعماق قلوبهم على قرارات املجل�س احلكيمة‪ ،‬و�أنهم كفوا �أذى هذه‬

‫ع‬
‫الع�صابة باحل�سنى و�ضموها حتت جناح االحتواء‪.‬‬
‫لكن بني الأروقة ال�سرية كان يحدث �أمر �آخر‪ ،‬كانت جترى‬
‫اجتماعات بني املجل�س وقرا�صنة العقول بعد �أن ا�ستطاعوا التو�صل‬
‫�إليهم و�إعطائهم الأمان الكامل‪ ،‬مقابل جميئهم واجللو�س على املوائد‬
‫امل�ستديرة للحديث معهم‪ ،‬وتو�صيل ر�سالة لهم م�ضمونها �أن الأهداف‬
‫واحدة‪ ،‬فلماذا ال نتحد؟ و�إن كان هدف قرا�صنة العقول انت�شار العدل‬
‫فهدف جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد لي�س ببعيد عن ذلك‪ ،‬ولكن طريق‬
‫الفو�ضى ق�صري والأنفا�س فيه معدودة ولن ُتعينهم على قطعه ً‬
‫كامل‪،‬‬
‫و�إن كان قرا�صنة العقول ميلكون الأدوات العلمية واملجل�س ميتلك‬
‫الأموال لتحقيق �أي فكرة يقرتحونها‪ ،‬فلماذا ال ي�سلكون طري ًقا ً‬
‫ناجحا‬
‫بنتائج م�ضمونة؟ جنح املجل�س يف العزف على وتر نهم العلم والتجربة‬
‫يف قلوب قرا�صنة العقول برباعة‪ ،‬بفتح جميع الأبواب املغلقة �أمامهم‬
‫‪112‬‬
‫و�إعطائهم ميدا ًنا �أرحب لتنفيذ جميع خططهم التي كانت حبي�سة‬
‫الأوراق والذاكرات الإلكرتونية بطريقة �شرعية حتت تغطية �أموالهم‪.‬‬
‫متخ�ضت االجتماعات بالنهاية عن فكرة �شيطانية طرحها‬
‫قرا�صنة العقول والقت القبول لدى املجل�س‪ ،‬فكرة (العهد اجلديد)‬
‫التي كانت تن�ص على بدء كل �شيء من ال�صفر‪ ،‬فهذا ال�شعب ال رجاء‬
‫من �إ�صالحه‪ ،‬مع و�ضع قوانني وت�شريعات جديدة ي�ضعونها م ًعا‪ ،‬و�أنه‬
‫يف املا�ضي كان ُيلج�أ �إىل القنابل النووية للتخل�ص من كل �شيء يف‬

‫ع‬
‫بع�ض البلدان‪ ،‬لكنهم لي�سوا بحاجة �إىل هذا يف بلدنا الآن‪ ،‬لأنهم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سيلقون قنبلة من نوع �آخر‪ ،‬نوع ال ُيحدث انفجا ًرا �أو �ضجة‪ ،‬قنبلة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لن متحوهم ولكن �ستمحو ذاكرتهم اخلربة املليئة بالعنف والف�ساد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫والتطرف‪� ،‬ستمحو توجهاتهم ومعتقداتهم و�سلوكياتهم‪ ،‬و�سيزرعون‬
‫�صحيحا ومنا�س ًبا لهم‪� ،‬سيزرعون ذكريات جميلة‬ ‫ً‬ ‫مكانها ما يرونه‬
‫بعقولهم تدفعهم حلياة �أف�ضل‪ ،‬ذكريات خالية من �أي عن�صرية �أو‬
‫�إيذاء �أو عادات �سيئة‪� ،‬سيجعلونهم جمي ًعا �سوا�سية ال يوجد فقراء �أو‬
‫�أغنياء‪ ،‬اجلميع ينتمون �إىل طبقة واحدة عادلة من وجهة نظرهم‪.‬‬
‫وبد�ؤوا بو�ضع قائمة ت�ضم عديدً ا من القوانني‪:‬‬
‫• •حترمي ال�سجائر واخلمور واملخدرات‪ ،‬وزرع ذكريات �سيئة‬
‫عنها بداخل العقول ل�ضمان عدم اقرتابهم منها‪.‬‬
‫• •حترمي جميع �أنواع امل�أكوالت وامل�شروبات غري ال�صحية‪،‬‬
‫وزرع ذكريات جيدة عن الأكل ال�صحي والريا�ضة‬
‫ليمار�سوها بحب‪.‬‬
‫• •�إلغاء الأديان وو�ضع ت�شريع جديد ُي�سمى (دين احلياة)‬
‫ي�ضم اجلميع حتت مظلته‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫• •تق�سيم ال�شعب �إىل فئات‪ُ ،‬يختار عمل معني لكل فئة وزرع‬
‫ذكريات حمببة عن طبيعة عملهم في�ؤدونه ب�شكل جيد‪ ،‬مما‬
‫�سينعك�س على الإنتاج‪.‬‬
‫• •و�ضع قائمة مبنا�سبات خا�صة بالعهد اجلديد تكون مقد�سة‬
‫لديهم‪.‬‬
‫• •تغيري ا�سم (جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد) �إىل (جمل�س �إدارة‬
‫�ش�ؤون العهد اجلديد)‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫• •ال يتعدى �أي �شخ�ص �سن الثالثة والثالثني دون زواج‪ ،‬و�إن‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل يجد ال�شخ�ص املنا�سب يذهب �إىل جمل�س �إدارة �ش�ؤون‬

‫ر‬
‫اجلديد لوأيا�لت‬
‫منا�سبة‪.‬وز عي‬
‫العهد اجلديد و�سيختار ال�شريك املنا�سب له‪.‬‬
‫إ�ضافة جديدة‬ ‫• •تظل قائمة القوانني والت�شريعات مفتوحة‬
‫يراها جمل�س �إدارة �ش�ؤون العهد‬
‫كان القانون الأخري ً‬
‫مدخل منا�س ًبا للمجل�س ليطلب يف ما بعد و�ضع‬
‫ً‬
‫م�ستقبل‪،‬‬ ‫قانون الثقة التامة بقرارات جمل�س �ش�ؤون العهد اجلديد‬
‫وزرع ذكريات عن حكمة قراراته واال�ست�سالم لها دون اعرتا�ض‪ .‬رف�ض‬
‫بع�ض قرا�صنة العقول هذا البند ور�أوه خمال ًفا لهدفهم الأ�سا�سي وهو‬
‫انت�شار العدل‪ ،‬ما دفع املجل�س لعر�ض �أموال طائلة ا�ستطاعت �شراء‬
‫�ضمائر بع�ض منهم والدفع بالقلة الباقية الراف�ضة �إىل احلب�س يف‬
‫�أماكن ال يعلم �أحد عنها �شي ًئا‪.‬‬
‫فكر املجل�س يف اال�ستفادة ب�شكل �أكرب من فكرة (العهد اجلديد)‬
‫بعد ال�سيطرة ب�أموالهم على قرا�صنة العقول و�شراء رف�ضهم ب�شيكات‬
‫‪114‬‬
‫حتمل كث ًريا من الأ�صفار‪ ،‬بفتح املجال لل�شركات التي تريد زراعة‬
‫ذكريات حمببة عن منتجاتها داخل عقول ال�شعب فيقبلون عليها‬
‫دون وعي‪ ،‬ي�ستثنونهم من قانون الأكل ال�صحي �أمام في�ضان �أموالهم‬
‫اجلارف‪� .‬أبدى كثري من ال�شركات رغبته يف امل�شاركة‪ ،‬لتدخل بالدنا‬
‫يف مزاد �سري ملن ي�ستطيع الدفع �أكرث والفوز بعقول بي�ضاء كما‬
‫ولدتهم �أمهاتهم‪ ،‬نا�سني �أي انطباع �سيئ عن منتجاتهم‪ ،‬ي�ضمنون‬
‫والءهم الدائم جتاهها دون �أي جمهود يف الدعاية‪.‬‬

‫ع‬
‫وحدد يوم التنفيذ‪ ،‬يوم �إطالق‬ ‫انتهوا من الإعداد لكل �شيء ُ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الفريو�س احلامل للجني يف الهواء الذي �سيت�سلل ب�سهولة �إىل اخللية‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫و�س ُيتحكم بها تلقائ ًيا من ِقبل تطبيقات برجموها لتلتقط �إ�شارة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫و�صول اجلني للخلية‪ ،‬الذي �سينهي مهمة حمو الذاكرة كل ًيا خالل‬
‫�أربع وع�شرين �ساعة‪ ،‬بعدها يعطون �إ�شارة البدء يدو ًيا لزرع الذكريات‬
‫اجلديدة وح�صر عدد الذين ُزرعت ذكرياتهم ومقارنته بعدد �أفراد‬
‫ال�شعب للت�أكد من حقن ذاكرة اجلميع‪.‬‬
‫كان �أبي على علم بكل بهذا لوجود �صديق مقرب له باملجل�س �أخربه‬
‫بكل �شيء لثقته به‪ ،‬و�أخربه �أنه �سيدرج ا�سمينا على النظام �ضمن‬
‫قائمة الفاقدين لذاكرتهم و�سنظل حمتفظني بها ملكانة �أبي يف قلبه‪،‬‬
‫على الرغم من �أن ميزة االحتفاظ بالذاكرة خا�صة لعوائل �أ�صحاب‬
‫املجل�س وقرا�صنة العقول فقط‪ ،‬فال يجب �أن ُيو�ضعوا يف الكفة نف�سها‬
‫مع الآخرين‪ ،‬و�أن يه َن�ؤوا بعقولهم وبذاكراتهم كما هي‪ ،‬مع حفاظهم‬
‫على �سرية الأمر‪.‬‬
‫�أمرين �أبي بالتوجه �إىل بيتنا القدمي ليلة بدء العهد اجلديد وحمو‬
‫ذاكرة مدينتنا‪ ،‬لنحتمي به بعد �أن هجرناه منذ زمن‪ ،‬وكذلك هجر‬
‫‪115‬‬
‫جرياننا منازلهم بعد �أن زحف العمران لأماكن �أف�ضل ف�أ�صبحت‬
‫املنطقة �شبه خالية‪ .‬ظللنا بالقبو قرابة الأ�سبوع ال نخرج منه حتى‬
‫�أخربه �صديقه ب�إمتام الأمر و�أنه با�ستطاعتنا اخلروج‪.‬‬
‫حذرين �أبي من �أن �أُظهر �أي فعل يدل على احتفاظي بذاكرتي‪،‬‬
‫وقعت حتت وط�أته منذ‬‫و�أنه �آن الأوان �أن �أقلع عن التدخني بعد �أن ُ‬
‫عامني‪ ،‬لأنه �أ�صبح من املحرمات يف العهد اجلديد‪.‬‬
‫خرجت و�أنا متحم�س لر�ؤية املدينة الفا�ضلة التي مل ُتوجد �إال يف‬
‫ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الكتب‪ ،‬لكن داهمني �شعور غريب‪ ،‬كان كل �شيء منظ ًما ونظي ًفا‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫االبت�سامة ال تغادر اجلميع لكنهم ك�آالت مربجمة ال روح فيها‪ ،‬كل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ً‬

‫ر‬
‫مكتمل ب�شكل مبهر لكن تنق�صه احلياة‪.‬‬ ‫�شيء يبدو‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عرفت كث ًريا من الأمور التي ا ُتخذت كي تكتمل �أركان اخلطة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ومنها عزل بلدنا عن العامل اخلارجي ب�إن�شاء �شبكة عنكبوتية خا�صة‬
‫به ومنع ال�سفر للخارج‪ ،‬ومن ي� ِأت من اخلارج ُيحتجز بغرف ُ�صممت‬
‫باملطار مل�سح ذاكرته ثم ال�سماح له بالدخول‪� .‬أخفوا الكتب واملكتبات‬
‫و�أن�ش�ؤوا مكا ًنا نائ ًيا يوجد به قليل من الكتب التي اختاروها بعناية‬
‫قليل من املعلومات العامة البدائية‪� .‬أعطوا لكل عائلة جها ًزا‬‫حتمل ً‬
‫اختق م�سب ًقا من ِقبل املجل�س و�أخربوهم �أنه يحمل تفا�صيل حياتهم‬ ‫ُ‬
‫و�أ�سماءهم وطبيعة عملهم وعناوين بيوتهم‪ ،‬قبل �أن ي�ستخدم العدو‬
‫�سالحا متطو ًرا للغاية ت�سبب يف فقد‬‫ً‬ ‫الغا�شم ال�شرير اخلارجي‬
‫ذاكراتهم‪ ،‬و�أنهم ي�شعرون بغاية الأ�سف حلدوث ذلك احلادث الأليم‪.‬‬
‫�أُقيمت االحتفاالت بعدها بنجاة �شعبنا من املوت واقت�صار الأمر‬
‫فقط على موت ذاكراتهم‪� ،‬شاكرين �أنعم املجل�س الذي فعل ما‬
‫با�ستطاعته لإنقاذهم‪ ،‬ممتنني لكرمه وجوده‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫ظلت الأمور حتت �سيطرة املجل�س حتى غمره االطمئنان وغرق‬
‫يف بحره �إىل �أذنه‪ ،‬ف�أتته املفاج�أة لتهدم لذته وتعكر �صفوه بعد �ستة‬
‫�أ�شهر من بداية العهد اجلديد‪ ،‬فقد اكتُ�شف �أن الفريو�س مل ي�ؤثر يف‬
‫عدد من الأ�شخا�ص وما زالوا يحتفظون بذاكراتهم‪ ،‬ويوعون النا�س ملا‬
‫حدث لهم من خداع و�أنهم يعي�شون يف عامل الزيف الآن‪ ،‬و�أن �شعبهم‬
‫قد �أُهدر تاريخه وحا�ضره لإ�شباع لذة احلكم بنفو�س م�صابة بداء‬
‫العظمة‪ .‬ا�شتُمت رائحتهم �سري ًعا عند املجل�س فقب�ضوا على ثالثة‬
‫منهم وحققوا معهم يف اخلفاء‪ ،‬ثم �أظهروهم للعلن وقد افرت�ش‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ال�ضياع مالحمهم وغرقت �أعينهم يف بحر التيه‪ ،‬وقد عاقبهم املجل�س‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بانتزاع اجلزء امل�س�ؤول عن الذاكرة من �أخماخهم كل ًيا ثم رميهم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫ب�سجن الزوال الذي ُبني يف ال�صحراء‪ ،‬فهم ال ي�ستحقون �شرف املوت‪.‬‬
‫و�أُعلن عن تثبيت هذه العقوبة لكل من يحاول العبث بهذه البالد ون�شر‬
‫الإ�شاعات الفا�سدة‪ ،‬ليهلل ال�شعب بعدها للمجل�س وقراراته ال�صائبة‪.‬‬
‫ا�ستيقظنا ذات �صباح وقد مر �شهر على هذه الواقعة‪ ،‬لنجد‬
‫لوحات ُعلقت بطول املباين يف عديد من الأماكن حتمل ر�سائل من‬
‫الذين احتفظوا بذاكراتهم يتوعدون املجل�س وقرا�صنة العقول ب�أخذ‬
‫ث�أر �إخوانهم‪ ،‬موقعني �أ�سفل الر�سائل با�سم (اخلالدين)‪ ،‬يف ر�سالة‬
‫وا�ضحة منهم باحتادهم وحتدي املجل�س و�أعوانه‪ ،‬ليخرج �أ�صحاب‬
‫املجل�س بعدها ب�أ�صوات مرجتفة متفاجئة مبا مل حت�سب ح�سابه قط‪،‬‬
‫حتاول الت�شبث بالثبات وبث احلما�س يف ال�شعب الفاقد لذاكرته‪،‬‬
‫ي�صيحون ب�أ�صواتهم عال ًيا �أن (اخلالدين) �أعداء الوطن احلقيقيون‬
‫ويحاولون تنغي�ص حياتنا ببث الفرقة بيننا فال يجب اال�ستماع �إليهم‬
‫�أبدً ا‪ ،‬ومن �سيثبت ا�ستماعه �إليهم �ستوقع عليه عقوبات �شديدة‪ ،‬و�إىل‬
‫‪117‬‬
‫حني الإم�ساك بهم �سوف ُتن�شر الكامريات بكل ركن عامر بالبالد‪،‬‬
‫ً‬
‫ات�صال مبا�ش ًرا باملجل�س للحفاظ‬ ‫و�س ُيدخل نظام �آيل لكل بيت يت�صل‬
‫على �أمن جميع الأهايل من ه�ؤالء الأ�شرار‪ ،‬فراحة املواطنني �أهم ما‬
‫يحر�ص عليه املجل�س‪.‬‬
‫ما �إن انتهي خطابهم حتى بد�أت فرق عملهم بالنقر على الأبواب‪،‬‬
‫يدخلون بابت�سامة وا�سعة ووجه ب�شو�ش يثبتون �أ�شياء بال�سقف‬
‫واحلوائط وبني �أركان كل بيت‪ ،‬ي�ستقبلهم �أهل املنزل برتحاب جم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تاركني لهم املنزل بثقة ليفعلوا به ما ي�شا�ؤون‪� ،‬آملني �أال يتعر�ضوا لهذا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ري‬


‫البلهاء اعتقدواال�أن‬
‫اخلطر الداهم املُ�سمى بـ(اخلالدين)‪.‬‬

‫شأفعال من الزمن البائد‬


‫ر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ا‬‫قبل حمو الذاكرة‪ ،‬للقب�ض عليه بتهمة االن�ضمام �وإىل‬
‫هذا لأمانهم‪ ،‬ومل يدركوا �أن هذه الأنظمة‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫ولي�سمعوا حواراتهم وهم�سهم �إن فكروا مرة �أن ي�ستمعوا �إىل �أحدعغري‬
‫يقوم ب�‬ ‫أحد‬ ‫ُو�ضعت ملراقبتهم ومالحظة �أي �‬
‫(اخلالدين)‪،‬‬

‫املجل�س‪ .‬برجموا هذه الأنظمة بذكاء يقدر على حماورتهم ب�شكل دائم‬
‫كي ي�صلوا �إىل �أي تغيري قد يطر�أ على كالمهم ويعك�س ما تفكر به‬
‫عقولهم‪ ،‬لن�صبح بعدها ب�سجن كبري‪ ،‬يحيطنا املجل�س من كل جانب‬
‫و�إن كان ظاهر مدينتنا عك�س ذلك‪.‬‬
‫قاطعت �سيل ذكرياتي املتدفق ب�صوتها الآيل‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬هل كان االحتفال بر�أ�س ال�سنة اخلام�سة اجلديدة ممت ًعا يا‬
‫�سيد �أجمد؟‬
‫أجبت ب�صوت يبطن الكره‪:‬‬
‫� ُ‬
‫‪118‬‬
‫‪-‬جيدً ا‪.‬‬
‫أكملت بعدها‪:‬‬
‫�صمت برهة و� ُ‬
‫ُ‬
‫‪� -‬سو�سن‪.‬‬
‫‪ -‬نعم �سيد �أجمد‪.‬‬
‫‪� -‬أحبك‪.‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا �سيد �أجمد‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬‫‪� -‬سو�سن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫و‬
‫أجمد‪.‬‬ ‫‪ -‬نعم �سيد �‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫‪ -‬الكره ال يوجه �إال للخالدين �سيد �أجمد‪ .‬توزيع‬
‫‪� -‬أكرهك‪.‬‬

‫دفنت ر�أ�سي بالو�سادة و�أنا �أ�سبها‬


‫ذرعا‪ُ ،‬‬
‫�ضقت ً‬
‫ُ‬ ‫نفثت بعد �أن‬
‫ُ‬
‫و�أخلدتُ �إىل النوم‪.‬‬
‫•••‬

‫‪119‬‬
‫(‪)٩‬‬
‫(ليىل)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫لو �س�ألني �أحدهم ما �أمنيتك الآن لأخربته �أن �أحتول ل�ضفدع‪ ،‬ال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لأكون بطل تلك الق�صة البلهاء التي كانت ُتروى لنا ونحن �صغار عن‬

‫والتوز عي‬
‫وعوقب بتحوله ل�ضفدع ب�شع لزج و�أنقذه‬‫ذلك الأمري املغرور بجماله‪ُ ،‬‬
‫حب الأمرية بالنهاية فعاد �إىل هيئته‪ ،‬ولكن لأ�ستطيع التنف�س من خالل‬
‫جلدي مثله وحب�س �أنفا�سي حتى ينتهي هذا احلفل املقيت‪ .‬على الرغم‬
‫من قلة عدد احلا�ضرين ف�إنه مبجرد �إعالن �شركة العطور الإلكرتونية‬
‫عن �إطالق عطرها اجلديد (طالء احلوائط) ومفاج�أتها الكربى‬
‫(رائحة البنزين)‪ ،‬حتى �شرع اجلميع بلهفة عارمة يف التجريب من‬
‫خالل تطبيقاتهم الإلكرتونية‪ ،‬ي�ستن�شقون بعمق الرائحة املتوغلة يف‬
‫�أنوفهم وامل�سيطرة على عقولهم بخدر ممتع‪ ،‬غارقني يف لذة االنت�شاء‪.‬‬
‫ال بد �أن �أجداد ه�ؤالء هم من �أدخلوا البنزين يف كرميات ترطيب ما‬
‫بعد احلالقة((( و�أورثوهم هذا احلب العجيب‪.‬‬
‫‪ -‬ه�شام‪ ،‬ذ ِّكرين �أن �أقتلك بعد �أن ينتهي احلفل‪.‬‬
‫((( أُطلقت هذه املنتجات يف القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫قلتها ب�صوت مكتوم نفذ من خالل منديل و�ضعته على �أنفي‬
‫امل�سكني يف حماولة بائ�سة لإنقاذه‪.‬‬
‫اجتهت �إىل اخلارج يتبعني ه�شام الذي ا�ست�شاط غ�ضبي جتاهه‬
‫ُ‬
‫لإقناعي بقبول هذا احلفل‪ ،‬فاملقابل املادي له ي�ستحق‪� .‬أغلق باب‬
‫�سحبت‬
‫ُ‬ ‫القاعة من ورائنا حتى ال يختلط هوا�ؤها بالهواء اخلارجي‪،‬‬
‫أنفا�سا مت�سارعة �إىل �صدري‪� ،‬أغ�سله بنقائها بعد �أن مترغ يف وحل‬
‫� ً‬
‫الروائح الغريبة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قلت ب�صرامة‪:‬‬
‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪ -‬احجب تلك ال�شركة من على قائمتنا‪ ،‬ال �أريد �إقامة �أي حفالت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لهم ثاني ًة‪ ،‬ال �أ�ستبعد �أن يطلقوا رائحة العرق الب�شري يف املرة‬

‫ع‬
‫القادمة لع�شق حفنة من املخابيل له‪.‬‬
‫ا�شم�أزت مالحمه �إثر التخيل وهو ُيخرج هاتفه ويحجبهم من‬
‫طلبت منه �سرد جدول �أعمالنا‬
‫ُ‬ ‫قائمة النظام اخلا�ص ب�شركتنا‪.‬‬
‫علي‪.‬‬
‫الأ�سبوع القادم فقر�أه ّ‬
‫�صمتنا حلظات قال ه�شام بعدها بكلمات مرتددة‪:‬‬
‫‪-‬زعيم‪ ،‬كنت �أفكر ب�أمر ما‪� ،‬صديقة �سارة �ستقيم حد ًثا توعو ًيا‬
‫وكنت �أرغب يف �أن تنظمه �شركتنا‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ،‬ضعه �ضمن جدولنا‪.‬‬
‫قال بعد �أن ابتلع ريقه‪:‬‬
‫‪� -‬سيكون جمان ًيا‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫�صحت بيه‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬جمان ًيا! ه�شام‪� ،‬سارة خطيبتك �أنت ولي�ست خطيبتي �أنا حتى‬
‫�أجامل �صديقتها‪.‬‬
‫ت�شبعت مالحمه بال�ضيق وهو ُينحي النظر جان ًبا ي�سبني ب�ألفاظ‬
‫عدة لي�س لها �صوت ولكن �أ�سمعها جيدً ا‪.‬‬
‫قلت بعد �أن زفرتُ با�ست�سالم و�أنا �أ�ضع يدي بجي َبي بنطايل وقد‬
‫ُ‬

‫ع‬
‫�ضعفت �أمام �ضيقه‪ ،‬فمكانة ه�شام لي�ست بالقليلة عندي‪:‬‬‫ُ‬

‫كت ً‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫‪ -‬توعية عن ماذا؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫‪ -‬توعية عن مكافحة ل‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫م�سرعا وقد �شعر ببارقة �أمل‪:‬‬ ‫�صوبي‬ ‫اجته بوجهه‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬


‫مل�ست كلمة انتحار �شي ًئا بداخلي جعلني �أميل �إىل املوافقة‪،‬ع ُ‬
‫فقلت‬
‫االنتحار‪.‬‬
‫ْ‬
‫ب�شكل مقت�ضب‪:‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ،‬أوافق‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫تهللت �أ�ساريره وانب�سطت مالحمه‪ ،‬ف� ُ‬
‫‪ -‬ولكن �ستُخ�صم تكلفته من راتبك تدريج ًيا‪.‬‬
‫و�سمعت �سبابه ال�صامت مرة �أخرى وقد ا�شتدت‬
‫ُ‬ ‫ذهبت ابت�سامته‬
‫ْ‬
‫وط�أته‪.‬‬
‫•••‬
‫‪123‬‬
‫أرقب هذا احلوار القائم بني قل َبي ه�شام و�سارة وهما يجل�سان‬
‫كنت � ُ‬
‫على نف�س مائدتي �صامتني‪ ،‬يتبادالن االبت�سامات اخلجول والنظرات‬
‫العاطفية اخلاطفة‪ ،‬ما تكاد حترك �شفتيها حتى يت�أهب بكامل ج�سده‬
‫تلبي ًة الحتياج مل تنطق به بعد‪ُ ،‬‬
‫ي�صب عليها حبه املتج�سد يف االهتمام‬
‫الزائد بها فتتدلل بطلب توافه الأمور‪ .‬ال�سعادة الطاغية على وجه‬
‫ه�شام يف وجود �سارة تروق يل‪ ،‬هذا الرجل يع�شقها بحق‪ ،‬مل �أكن‬
‫�أرغب يف املجيء‪ ،‬فحدث مثل هذا ال يحتاج �إىل وجودي وي�ستطيع‬
‫ه�شام القيام به وحده ولكنه �أ�صر على ح�ضوري‪� ،‬أظنه �أحب �أن يتباهى‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أمام خطيبته ب�أنه مل ينظم حفل �صديقتها فقط‪ ،‬بل �سيجعل ال�شركة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أحبت‪ ،‬ومل �أكن �أنا‬
‫جميعها من �أكرب ر�أ�س لأ�صغرهم رهن �إ�شارتها �إن � ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الذي يرف�ض طل ًبا مثل هذا له�شام‪ .‬التقيته منذ عامني بعد فح�ص‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�سريته الذاتية وموافقتي على التحاقه ب�شركتي‪ .‬كان له�شام �أ�سلوب‬
‫مميز جنح يف ا�ستمالة قلبي �إليه‪ ،‬ورقيته �سري ًعا ليكون �ساعدي‬
‫الأمين يف طاقمي ال�صغري املكون من �أربعة �أ�شخا�ص‪ ،‬كان ميتلك ف ًنا‬
‫عظي ًما يروق لأمثايل هو فن معاملة املدراء‪ ،‬كلماته الرنانة عباراته‬
‫اجلزلة ثنا�ؤه امل�ستمر‪ ،‬لقب الزعيم الذي مينحني �إياه دائ ًما يعو�ض‬
‫نق�صا بداخلي دفعني ملالزمته �أكرث و�سماعه �أكرث واكت�شاف كثري من‬‫ً‬
‫�صفاته احل�سنة‪ ،‬ليزداد ر�صيده عندي رغم تعليمات �أبي املتكررة‬
‫باحلذر منه وعدم الثقة به‪� .‬أظن �أن �أبي �أُ�صيب بداء قلة الثقة جتاه‬
‫اجلميع مع بداية العهد اجلديد‪ ،‬عار�ضني يف البداية عندما �أبلغته‬
‫برغبتي يف اقرتا�ض الأموال منه لت�أ�سي�س �شركة لإقامة احلفالت‬
‫الدعائية‪ ،‬ولكنه ر�ضخ يف نهاية الأمر ب�شرط موافقة املجل�س‪ ،‬الذي‬
‫جاءت موافقته بعد ثالثة �أ�شهر بدعم وغطاء من معرفة �أبي املقربة‬
‫بداخله‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫تعب قولوين ب�أمل وهمي من وجبات الرومان�سية الد�سمة التي‬
‫�أتلقاها على هذه املائدة‪ ،‬مما دفعني لأتقي�أها غري نادم ب�صوتي‪:‬‬
‫‪ -‬ه�شام‪.‬‬
‫نظر �إيل ك�أنه تذكر وجودي فج�أة‪ ،‬ف�س�ألته بابت�سامة �سمجة‪:‬‬
‫‪ -‬متى العر�س؟‬
‫�أجاب ب�ضيق‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬ما زلنا ننتظر دورنا‪� ،‬سيخربوننا عندما يحني موعدنا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قالت �سارة ب�صوت ال يكاد ُي�سمع بعد �أن �أ�سعدها ب�شكل ما �ضيق‬

‫ر‬
‫‪� -‬أنت مدعو بالت�أكيد من الآن �سيد �أجمد‪ .‬والتوز عي‬
‫ه�شام‪:‬‬

‫ملت جتاه ه�شام �أخربه �أنني‬‫�أوم�أتُ لها بر�أ�سي ت�أكيدً ا‪ ،‬ثم ُ‬


‫�س�أجتول ً‬
‫قليل باملكان ثم �أعود‪ ،‬كنت �أود البحث عن �أي منفذ م�سترت‬
‫�أ�ستطيع فيه �إي�صال النيكوتني �إىل دمي‪ ،‬لو علم �أبي بهذا �سي�شرع‬
‫بتعليق ج�سدي على باب املدينة‪ .‬دائ ًما ي�س�ألني با�ستغراب عن كيفية‬
‫ح�صويل على ال�سجائر رغم حترميها و�إقالع اجلميع عنها‪ ،‬ن�سي‬
‫�أبناء املجل�س املحتفظني بذاكراتهم وهم مثلي متورطون بدوامات‬
‫هذا ال�سم‪ ،‬ال �أ�صادقهم �إال يف هذا الأمر‪ ،‬نلتقي على �أطراف املدينة‬
‫املهجورة ليمدوين بها ويخربوين بالأماكن التي مل تطلها �أعني‬
‫الكامريات �أو الأنظمة الإلكرتونية لأمار�س هذه العادة البغي�ضة بكل‬
‫�أريحية‪� ،‬أحتفظ بهذا ال�سر لنف�سي وال �أ�ضعف �أمام �إحلاح �أبي يف‬
‫‪125‬‬
‫املعرفة‪ .‬وعدته بالإقالع عنها مرات ال ي�ستطيع عقلي ح�صرها وف�شلت‬
‫جميعها‪� ،‬أحيا ًنا �أكون �صاد ًقا بوعدي و�أحايني �أنطق به لإ�سكاته فقط‪.‬‬
‫التقطت‬
‫ْ‬ ‫ف�شلت عملية بحثي عن مكان قريب �آمن‪،‬‬
‫رجعت بعد �أن ْ‬ ‫ُ‬
‫�أذين كلماتها العالية بحكم مكرب ال�صوت و�أنا على باب القاعة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬الوحدة �أنانية ت�أبى �أن ي�شاركها يف القلب �أي �شعور‪ ،‬تهبط على‬
‫واديه بوح�شتها وفاقتها في�صري جمد ًبا بعد اخ�ضرار الأن�س‬
‫به‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫خبيثة‪ُ ،‬تعطي �شعور االرتياح املُبطن بالأمل فت�شعر بذاتك يف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صحبتها‪ ،‬وما هي �إال كذبة تتجلى حقيقتها بقوة �أمام فطرتك‬

‫ر‬
‫أكملت‪ :‬والتوزي‬
‫بح�سن و�صاله‪.‬‬
‫املتعط�شة لرفقة‪ ،‬حلبيب يبددها ويحيلها لعدم ُ‬

‫‪ -‬ال جتعلها ت�سيطر عليك‪ ،‬قاومها‪ ،‬ال ت�ست�سلم لقوة جذبها‪.‬ع‬


‫�سكتت برهة البتالع ريقها و� ْ‬
‫ْ‬

‫�ستوهمك بعبارات‪( :‬وحدي �أف�ضل)‪( ،‬عاملي �أجمل دونهم)‪،‬‬


‫متاما من‬
‫(ال ي�ستطيع �أحد فهم م�شاعري)‪ ،‬حتى تن�سحب ً‬
‫بيننا وت�شعر بانعدام فائدتك‪ ،‬وبعدها‪..‬‬
‫تابعت بنربة احتواها الأمل‪:‬‬
‫�صمتت ثم ْ‬
‫ْ‬
‫‪ -‬ال‪� ،‬أنت ل�ست هذا ال�شخ�ص‪� ،‬أنت �أقوى من ذلك بكثري‪ ،‬ت�أثريك‬
‫ال ينفك عنا و�إن كنت ت�شعر بعك�س ذلك‪ ،‬حياتك مهمة جدً ا‬
‫بالن�سبة �إلينا و�إن �شعرت بعدم فائدتها‪ ،‬لن ن�سمح بذهابك‬
‫و�إن رغبت‪ ،‬فبوجودك يكتمل وجودنا‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫نزلت من على‬‫أنهت كالمها فبد�أ اجلميع بالت�صفيق احلار‪ْ ،‬‬ ‫� ْ‬
‫املن�صة و�صعد بعدها رجل خم�سيني يتكلم عن مبادرة �أُطلقت من ِقبل‬
‫املجل�س وجمعية (م ًعا نحيا) ملواجهة االنتحار‪ ،‬بعد �أن و�صل معدله يف‬
‫ال�سنوات املا�ضية منذ بداية العهد اجلديد �إىل ع�شرين حالة انتحار‬
‫غري معلومة ال�سبب‪ .‬يحث اجلميع على ت�شجيع هذه املبادرة والإبالغ‬
‫عن �أي حالة ي�شعرون �أنها تو�شك على فعل هذا الأمر‪.‬‬
‫كنت �أعلم �س ًرا �أن هذا الأمر يثري خوف املجل�س وتفكريه الدائم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عن �سبب انتحار البع�ض على الرغم من زرع كل �أ�سباب ال�سعادة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بعقولهم‪ ،‬يحللون الأمر‪ :‬هل املنتحرون يعانون من �أمرا�ض نف�سية‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل ت�ستطع زراعة الذكريات هزميتها‪� ،‬أم �أن التجربة تعاين من خلل‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ويجب عليهم �إ�صالحه �سري ًعا؟ وال�س�ؤال الأهم‪ :‬هل توجد نقاط خلل‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫انتهى احلدث وبد�أ اجلميع باالن�صراف‪ ،‬ما عدا عدد منهمعالتف‬
‫�أخرى؟‬

‫حول الفتاة �صاحبة حديث الوحدة‪ ،‬يتكلمون معها‪ ،‬ال يكاد ينتهي‬
‫�أحدهم حتى يلتقطها الآخر‪ ،‬تط�أطئ للبع�ض ر�أ�سها ل�سماع حديثه‬
‫ودعت �آخر فتاة‬
‫كنت �أنتظرهم حتى ينتهوا‪ْ ،‬‬ ‫ك�أنه يخربها ب�سر ما‪ُ .‬‬
‫منهم بابت�سامة هادئة وهي تربت على كتفها بعد حديث طويل دار‬
‫مللت من انتظار نهايته‪.‬‬
‫بينهما ُ‬
‫اقرتبت منها‪ ،‬درتُ‬
‫ُ‬ ‫نظرت جتاهي بانتظار �أن �أبد�أ حديثي بعد �أن‬
‫ْ‬
‫حولها ببطء و�أنا �أ�صفق ب�شكل متقطع �أثار ا�ستغرابها وهي تكت�شف‬
‫قلت �ساخ ًرا و�أنا‬
‫بعينيها هذا الكائن الذي هبط على كوكبها فج�أة‪ُ .‬‬
‫�ألوح بيدي ب�شكل درامي‪:‬‬
‫‪127‬‬
‫‪� -‬أنت �أقوى من ذلك بكثري‪ ،‬بوجودك يكتمل وجودنا‪.‬‬
‫توقفت و�أنا �أنظر �إليها‬
‫ُ‬ ‫مل تعلق رغم فهمها ال�ستهزائي بكلماتها‪.‬‬
‫بغ�ضب ً‬
‫قائل با�ستنكار‪:‬‬
‫‪ -‬ال تعلمني كم ا�ستفزتني كلماتك تلك‪ ،‬من �أين ت�أتني بفل�سفاتك‬
‫هذه؟‬
‫تابعت وقد متلك الغ�ضب �أكرث من كلماتي رغم وتريتها الهادئة‪:‬‬
‫ُ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�-‬إن كان قد اتخذ قراره دون التفكري مبا �سيخلفه هذا على َمن‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ورائه‪ ،‬فليذهب �إىل ما �أراد‪ ،‬نحن ل�سنا بحاجة �إليه وحياتنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫مكتملة من دونه‪.‬‬

‫ع‬
‫بقيت تنظر �إيل بثبات دون �أن تتحدث �أو �أن يظهر �أي انطباع‬ ‫ْ‬
‫أخرجت منها‬
‫ْ‬ ‫فتحت حقيبتها‪� ،‬‬
‫ْ‬ ‫لكلماتي وا�ستهزائي على مالحمها‪،‬‬
‫قل ًما ودفرتًا �أزرق مزي ًنا بزهور وردية وبد� ْأت بتدوين �شيء ما‪ ،‬نزعت‬
‫الورقة وناولتني �إياها بابت�سامة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬جنتمع الثالثاء واخلمي�س ال�ساعة ال�ساد�سة م�سا ًء من كل‬
‫�أ�سبوع يف مقر اجلمعية يف هذا العنوان‪� ،‬سي�سعدنا جميئك �إن‬
‫�أحببت‪ ،‬بعد �إذنك‪.‬‬
‫�أعطتني ظهرها وقد �أ�صابتني املفاج�أة من رد فعلها وعدم تعليقها‬
‫على كلماتي ك�أنها مل ت�سمعها‪ ،‬اجتهت �إىل �سارة وبادلتها ال�سالم ثم‬
‫رحلت‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪128‬‬
‫ناديت ه�شام ب�صوت �آمر وما زال نظري ُمعل ًقا بها وهي تبتعد‬ ‫ُ‬
‫بخطواتها داخل املمر امل�ؤدي للقاعة‪ .‬جاء بجانبي ُمي ًبا ف�س�ألته وما‬
‫زالت بقايا الغ�ضب عالقة بنربة �صوتي‪:‬‬
‫‪ -‬من هذه؟‬
‫دقق النظر يف اخليال املبتعد و�أجاب بعد فح�صه‪:‬‬
‫‪ -‬هذه �صديقة �سارة‪ ،‬ليلى‪.‬‬

‫ع‬
‫•••‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬

‫‪129‬‬
‫(‪)10‬‬
‫(م ًعا نحيا)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫‪ -‬لبنى انف�صلت عن زوجها‪.‬‬
‫ع‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫احلد؟نظننتك تتوقع مثل هذا اخلرب يف‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫ماذا؟‬ ‫‪-‬‬

‫ز عي‬ ‫و‬
‫الفر�صة مرة‬ ‫واللك‬
‫ت‬ ‫ر‬ ‫‪ -‬ملاذا تفاج�أت �إىل هذا‬
‫كنت مبكانك لفرحت‪� ،‬أُتيحت‬
‫�أي وقت‪ ،‬ولو ُ‬
‫�أخرى فال ت�ضيعها‪.‬‬
‫‪� -‬أبي �أرجوك كفى‪ ،‬ما هذا الذي تقوله؟‬
‫أحببت �أن �أخربك بالأمر‪ ،‬لعل وع�سى تفكر‪.‬‬
‫‪ُ �-‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل بعد �أن �شعر بعدم رغبتي يف‬ ‫مل �أعلق على جملته‪ ،‬ف�أردف‬
‫�إكمال هذا احلديث‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حال �ضر�سك الآن؟‬
‫‪ -‬خلعته‪ ،‬هكذا �أف�ضل‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬هل ميكننا تناول الغداء م ًعا؟‬
‫‪131‬‬
‫‪ -‬ال‪ .‬اليوم من�شغل كما �أن جدول �أعمايل ُمتخم هذا الأ�سبوع‪،‬‬
‫�س�أحاول توفيق موعد قري ًبا و�س�أخربك‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أكون بانتظار ات�صالك‪.‬‬
‫كذبت عليه ب�أمر‬
‫�شعرتُ بال�ضيق بعد انتهاء املكاملة‪ .‬ال �أعلم ملاذا ُ‬
‫ان�شغايل و�أنا �أكاد �أختنق ً‬
‫ملل من الفراغ هذه الأيام! رمبا لعلمي �أنه‬
‫لن يكف عن احلديث يف �أمر لبنى وحماولة �إقناعي بالتقدم �إليها‪،‬‬
‫فهو ي�شتاق �إىل ر�ؤية �أحفاده‪ ،‬كما �أنه يرى �أن ثمرة عزوبيتي قد �أينعت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ببلوغي �سن ال�سابعة والع�شرين وحان قطافها‪ ،‬و�س ُي�سمعني كث ًريا من‬

‫بؤيته العجيبة �أن لبنى هي الإن�سانة‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ك‬
‫م�شاعرهتوال ر�‬
‫هذه العبارات التي من املفرت�ض �أن تكون ُمفزة للزواج‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ت‬
‫ال يتفهم �أنني ل�ست هذا ال�شخ�ص املطيع الذي ي�ؤيد والدهويفزيكلعما‬
‫ال �أنكر عليه‬
‫يقولون فاخلال والد‪ ،‬ولكنه‬ ‫املنا�سبة يل‪ ،‬فهي ابنة �أخته بالنهاية وكما‬

‫يرى �أو ين�صح به‪� .‬أ�شعر �أحيا ًنا �أن رف�ضي لكل ما يقوله ال ل�شيء �إال‬
‫لإثبات وجودي وذاتي‪ ،‬حتى و�إن كان ما يقوله ي�صب يف م�صلحتي‪.‬‬
‫زفرتُ بقوة ناظ ًرا �إىل ال�سقف بعد �أن جثم ال�شعور بالذنب جتاه‬
‫لبنى على �صدري ثاني ًة‪� .‬أتذكر عندما انف�صلت عمتي عن زوجها‬
‫وخلف ذلك م�شاكل نف�سية للبنى �أعاقتها عن تقدمها يف احلياة‬
‫حاولت م�ساعدتها‬
‫ُ‬ ‫و�إثبات جناحها يف �أي حماولة تتخذها للأمام‪،‬‬
‫وقدمت �إليها دعمي ولكنها ف�سرته ب�شكل خمتلف‪ ،‬ترجمته على‬
‫تفهمت‬
‫ُ‬ ‫�صحيحا‪ -‬لذلك‬
‫ً‬ ‫هيئة م�شاعر �أكنها جتاهها ‪-‬ومل يكن هذا‬
‫متاما من حياتها فلم تقنع بهذا‪ ،‬بد�أت باملطاردة‬
‫خط�أي وان�سحبت ً‬
‫وابتعدت‪ ،‬ولكنها كانت تخرب جميع‬
‫ْ‬ ‫أ�ست‬
‫وا�ستمررتُ بالهرب حتى ي� ْ‬
‫‪132‬‬
‫�أقاربنا �أنها لن ت�ساحمني على ما �سببته لها من وجع و�أمل‪ ،‬وال‬
‫�ألومها على هذا‪ ،‬كان خط�أي من البداية‪ ،‬تقدمي امل�ساعدة با�ستمرار‬
‫خ�صي�صا لها‪� ،‬أي فتاة مبثل ظروفها كانت‬
‫ً‬ ‫وا�ستقطاع وقت من حياتي‬
‫�ستفهمه بهذا ال�شكل‪ ،‬لذلك كنت �أ�شعر بالذنب جتاه ما فعلته بها‬
‫نجني من هذا ال�شعور �إال خرب ارتباطها‬ ‫و�أنني زدتُ حياتها �سو ًءا‪ .‬مل ُي ِ‬
‫خفت �أن تكون خطوة مت�سرعة‬ ‫املفاجئ ولكنه �أقلقني يف الوقت ذاته‪ُ ،‬‬
‫وجدت �ضالتها‬
‫ْ‬ ‫ما�ض عانت منه‪ ،‬ولكن مل �أهتم كث ًريا‪ ،‬املهم �أنها‬ ‫ملحو ٍ‬
‫نظمت حفل زفافها بنف�سي ُمبال ًغا يف �إظهار فرحتي‪� ،‬أمت‬ ‫ُ‬ ‫بعيدً ا عني‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ليال كثرية‪ ،‬ولكن‬
‫بذلك مرا�سم دفن �شعور بالذنب بالغ يف تعنيفي ٍ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫خرب انف�صالها ال�سريع بعد �ستة �أ�شهر من زواجها بعثه من مرقده‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫ثاني ًة الآن بداخلي‪ .‬ال �أ�ستبعد �أن تخرب اجلميع �أنها مل ت�ستطع التكيف‬
‫يف حياتها اجلديدة ب�سببي‪ .‬ما �أ�سو�أ �أن تظن �أنك جنم المع بفلك‬
‫�أحدهم ويراك هو نيز ًكا مطف�أ يود التخل�ص منه يف �أقرب ثقب �أ�سود‪.‬‬
‫نف�ضت عن ر�أ�سي هذا كله وتذكرتُ ه�شام فج�أة‪ ،‬هذا الوغد ال‬ ‫ُ‬
‫�أرى وجهه وال �أ�سمع �صوته ما دامت ال توجد حفالت نقيمها‪ ،‬بالت�أكيد‬
‫ُمن�شغل مع �سارة يف جتهيز ع�ش الزوجية‪ ،‬ي�ستغل هدوء وترية‬
‫احلفالت مع بداية ف�صل ال�شتاء ويتحجج بعدم وجود عمل ي�ستدعي‬
‫ذهابه �إىل ال�شركة حتى ال ي�أخذ �إجازة‪ ،‬يدخرها لينعم ب�إجازة طويلة‬
‫بعد الزواج‪ .‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أخ�صم هذه الأيام من راتبه و�س�أنزله ثاين يوم‬
‫زواجه حتى يكف عن ممار�سة الل�ؤم معي‪.‬‬
‫وقفت‬
‫و�ضعت يدي على خدي بعد �أن �آملني مو�ضع �ضر�سي املخلوع‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫وفتحت فمي لأرى مكانه اخلايل‪� ،‬شيء رائع �أن �أحت�س�س‬
‫ُ‬ ‫�أمام املر�آة‬
‫�ضر�س العقل فال �أجده‪ ،‬رغم الآالم الناجتة عن ذلك ف�إن �شعوري‬
‫‪133‬‬
‫بانتهاء الوجع الذي كان ي�سببه يغلب كل �شيء‪� .‬أخذ مني التفكري يف‬
‫�ضر�س العقل كث ًريا‪ ،‬عذبني وقت ظهوره و�أرهقني وجوده و�أتعبني حني‬
‫رحيله‪.‬‬
‫رمبا ا�سمه املرهون بالعقل دفعني للتفكري فيه‪� ،‬إنه مزعج مثله‪،‬‬
‫يخرج عليك دائ ًما و�أنت ترتدي عباءات اجلنون امللونة فيمزقها‬
‫و ُيلب�سك معاطف ذات لون واحد‪ ،‬يجعلك ت�أخذ كث ًريا من الوقت قبل‬
‫قراراتك لأنه يجب �أن (تفكر بالعقل)‪ ،‬يخمد ثورات احلب امل�شتعلة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بقلبك بكلمة واحدة (تعقل)‪ ،‬يكتم �ألف ت�صرف طفويل لأنه يجب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ً‬
‫(عاقل)‪ ،‬امل�سارات العقلية التي يجربنا على امل�سري فيها‬ ‫�أن تكون‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تفتقد �إىل تلك احلما�سة التي �شعرنا بها مرة ذات جنون‪ ،‬احلياة حتلو‬

‫ر‬
‫قاطعت �سيل �أفكاري ب�صوتها الآيل‪ :‬والتوزي‬
‫�أحيا ًنا مبمار�سة بع�ض احلماقات‪.‬‬

‫ع‬ ‫ْ‬
‫‪�-‬سيد �أجمد‪ ،‬عامل املغ�سلة ترك تنوي ًها على نظامك اخلا�ص‬
‫يفيد �أنه �سي�أتي بعد ربع �ساعة من الآن‪ ،‬ويطلب حت�ضري جميع‬
‫املالب�س‪.‬‬
‫حتركت بك�سل و�أنا �أجمع قطع مالب�سي امللقاة بكل جزء من �صالة‬
‫ُ‬
‫ال�شقة وغرفة النوم‪ ،‬ال يحركني �سوى دافع عدم وجود �أي قطعة نظيفة‬
‫باقية �إن طلب �أحد مقابلتي‪.‬‬
‫�أفرغت جميع ما حتتويه جيوب �سراويلي من مناديل ورقية‬
‫مكرم�شة ونقود معدنية وكروت �شخ�صية ال �أتذكر �أ�صحابها وو�ضعتها‬
‫ملحت عيناي تلك الورقة من بني كومة الأ�شياء‬ ‫على الت�سريحة‪ْ ،‬‬
‫‪134‬‬
‫املبعرثة‪ ،‬التقطتها و�أنا �أت�أملها و�أبت�سم �ساخ ًرا‪ ،‬فلقد وجدتُ الت�سلية‬
‫املنا�سبة للق�ضاء على �شعوري بامللل الليلة‪.‬‬
‫•••‬
‫ترجلت عن دراجتي البخارية �أمام البيت املدون عنوانه بالورقة‪،‬‬‫ُ‬
‫كان لونه �أبي�ض ويت�ألف من طابقني‪ ،‬نوافذه خ�شبية م�ستطيلة زرقاء‪،‬‬
‫حتيطه حديقة يتجلى للناظر �إليها من بهاء خ�ضرتها وجمال زهورها‬
‫ُح�سن االهتمام بها‪ُ ،‬بني على الطراز التقليدي خمال ًفا بذلك الطراز‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫احلديث الذي �سيطر على كثريين يف اتخاذ منطه لبناء بيوتهم منذ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بدء العهد اجلديد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫وقفت �أمام الباب فوجدت جر�سني بجانبه ُكتب فوق �أحدهما‬ ‫ُ‬
‫قرعت جر�س اجلمعية ف ُفتح‬ ‫ُ‬ ‫(البيت) والآخر (جمعية م ًعا نحيا)‪،‬‬
‫وجلت و�أغلقته ورائي‪ ،‬ا�ستقبلتني طرقة طويلة يحمل‬ ‫الباب تلقائ ًيا‪ُ ،‬‬
‫جانبا حوائطها براويز خ�شبية بداخلها ر�سومات بديعة لأزهار‬
‫خمتلفة ال�شكل والألوان‪� ،‬آخرها باب بني م� ٍؤد �إىل �شيء �آخر فوقه‬
‫أهل بك يف جمعية م ًعا نحيا)‪ ،‬وبجانبه‬‫الفتة م�ستطيلة ُكتب عليها (� ً‬
‫تقدمت حتى و�صلت �إليه ودون �أن �أطرق فتحته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫درج يقود �إىل الأعلى‪.‬‬
‫وجدتُ �صالة وا�سعة حتتوي على �أق�سام خمتلفة دون حوائط تف�صل‬
‫بينها‪� ،‬أق�صى ميينها مطبخ مك�شوف يطل على �أثاث ب�سيط من الطراز‬
‫احلديث تتوزع �أجزا�ؤه ب�شكل يفتقد �إىل الرتتيب املعهود‪ ،‬و ُمثبتة‬
‫بحائط الي�سار براويز حتمل عبارات حتفيزية مثل‪�( :‬أنت تقدر)‪،‬‬
‫(قاوم)‪( ،‬العامل يحبك)‪ ،‬وعلى الأر�ض مقاعد ب�أغلفة بال�ستيكية‬
‫حم�شوة ذات �ألوان خمتلفة يغو�ص بداخلها من يجل�س عليها‪ .‬حظي‬
‫‪135‬‬
‫املكان بع�شوائية مريحة ُمببة للنف�س‪ُ ،‬ت�شعرك ب�ألفة االنتماء ك�أنك‬
‫من �أ�صحابه ول�ست غري ًبا عنه‪.‬‬
‫ملحت من خالل نافذتها‬ ‫كانت ال�صالة ت�ؤدي �إىل �شرفة وا�سعة ُ‬
‫دلفت �إليها فوجدت حلقة دائرية‬ ‫الزجاجية بع�ض من يجل�سون بها‪ُ ،‬‬
‫مكونة من عدة �أ�شخا�ص يتكلم �أحدهم وين�صت اجلميع �إليه باهتمام‪،‬‬
‫مل �أعرف منهم �أحدً ا �سوى الفتاة �صاحبة حديث الوحدة (ليلى)‪،‬‬
‫نظرت جتاهي با�سمة تهز ر�أ�سها مرحبة‪ ،‬وتخربين دون �أن تتكلم‬ ‫ْ‬

‫ع‬
‫ب�إ�شارة من يدها جتاه املقاعد �أن �أجلب واحدً ا و�أن�ضم �إليهم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫انتهى املتكلم من حديثه الذي مل �أفهم حمتواه جيدً ا‪ ،‬ف�أثنى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫اجلميع عليه وو�صفوه بالقوة وال�شجاعة‪ ،‬وزادت عليهم ليلى بجمل‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫ليلىالتعلىو احلديث‬
‫تخربه فيها بكم فخرها به‪.‬‬

‫ع‬ ‫انتقل احلديث بعدها لفتاة ع�شرينية �شجعتها‬


‫بعد �أن الحظت ترددها‪ .‬مل تتحدث الفتاة ولكنها �شرعت يف البكاء‬
‫مبا�شر ًة مبلل بكاء الن�ساء املعتاد‪ .‬تعاطف اجلميع معها و�أعطوها‬
‫كو ًبا من املاء لتهد�أ حرارة قلبها بقطراته الباردة‪ ،‬ثم وا�سوها بكلمات‬
‫كثرية على �شاكلة (كل هذا �سيمر)‪ .‬زفرتُ ب�ضيق من هذا الغباء‬
‫املحيط بي‪ ،‬يوا�سونها وهم ال يعرفون ال�سبب! وهل متتلك الن�ساء �شي ًئا‬
‫غري الدموع؟ �إن فرحت تبكي و�إن حزنت تبكي‪� ،‬إن هُ د بيتها تبكي و�إن‬
‫ُك�سر ظفرها تبكي‪ ،‬و�أظن �أن الباكية لي�ست ببعيدة عن دائرة تلك‬
‫الأ�سباب‪ .‬بد� ْأت حديثها بعد �أن هد�أت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬فكرتُ يف الأمر لأول مرة عندما تركني خطيبي‪ ،‬على الرغم‬
‫من �إنقا�ص وزين من �أجله‪ ،‬على الرغم من �سماعي لكل‬
‫‪136‬‬
‫تعليماته وتطبيقها بحذافريها‪ ،‬على الرغم من ابتالعي‬
‫لعيوبه‪ ،‬تركني‪� ،‬شعرتُ حينها �أن عاملي ُو�ضعت نهايته‪� ،‬أعي�ش‬
‫ولكني ل�ست بحية‪� ،‬أتنف�س ولكني �أختنق‪ ،‬ال تنفك قب�ضة الأمل‬
‫عن عنقي‪ ،‬ي�ستلذ بر�ؤيتي و�أنا �أ�صارع طيلة الوقت لأنقذ نف�سي‬
‫من براثنه و�أ�ستطيع �أن �أحيا كما كنت ً‬
‫قبل‪.‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫تنهدت بعمق‬
‫ْ‬
‫‪� -‬شعرتُ حينها �أنني �أ�صابني �شيء من اجلنون‪ ،‬لي�س هذا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫اجلنون الذي كان ي�صفني به خطيبي كميزة �أمتتع بها و�أطري‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫اكت�شفت �أن لي�س‬
‫ُ‬ ‫فرحا كلما �سمعت هذا منه‪ ،‬ولكنه نوع �آخر‪،‬‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫كل اجلنون ممت ًعا‪ ،‬اجلنون امل�صاحب لبداية اجلرح �سيئ‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫�سيئ للغاية‪ ،‬يدفعك للأفعال الال منطقية ك�أن تنزل هائ ًما‬
‫خمرجا مما �أنت‬
‫ً‬ ‫على وجهك كالتائه جتري مينة وي�سرة لتجد‬
‫فيه وال تدرك �أين وجهتك‪ ،‬يجعل روحك تتخبط بني جدران‬
‫ج�سدك ب�صخب تلجمه حدود �شفتيك وتنهمر دموعك ك�أمنا‬
‫�أ�صابها م�س‪ُ ،‬تغرق م�سامات وجهك وال ُتخرج �شي ًئا مما‬
‫ب�صدرك‪ ،‬تتخيل حينها �أن املوت �سيكون �أرحم بكثري من هذا‬
‫ال�شعور القابع على قلبك فتتمناه �ألف مرة‪ ،‬تنام وكل خلية‬
‫بج�سدك يقظة‪.‬‬
‫أكملت وقد بد�أ‬ ‫ّ‬
‫تغ�شى اجلميع الهدوء والت�أثر بعد كلماتها تلك‪ْ � ،‬‬
‫ي�سيطر على �صوتها البكاء ثاني ًة‪:‬‬
‫‪ -‬فكرتُ يف الأمر مرات عدة‪ ،‬ولكنني �أجنب من �أن �أتخذ قرا ًرا‬
‫دوما بر�أ�سي‪ ،‬ال �أدري‬
‫كهذا على الرغم من �إحلاح الفكرة ً‬
‫‪137‬‬
‫زلت ال �أ�ستطيع العي�ش‪ ،‬كل‬
‫ماذا �أفعل‪ ،‬كل ما �أعرفه �أنني ما ُ‬
‫ما �أرغب فيه �أن تعود حياتي كما كانت قبله‪ ،‬ذهب و�أخذ كل‬
‫حطاما‪.‬‬
‫ً‬ ‫�شيء معه وتركني‬
‫قالت جملتها الأخرية وانفجرت باكية‪ ،‬بد�أ اجلميع مبوا�ساتها‬
‫ثاني ًة حتى هد� ْأت ً‬
‫قليل‪ .‬ا�ستلمت ليلى دفة احلديث بعدها وهي توزع‬
‫نظراتها على اجلميع قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬الأمل هو ما �سيجعلك حتافظ على غ�سل �أ�سنانك ثالث مرات‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يوم ًيا‪ ،‬وتتبع ذلك مب�ضم�ضة ذلك الفوار ذي الطعم احلارق‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ملدة ع�شر دقائق‪ ،‬لأنك �إن توقفت عن هذا �سرتى �أملًا �أ�سو�أ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫منه‪..‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫الأمل هو ما �سيجعلك تبتعد عن بع�ض الأطعمة ال�شهية جم ًربا‬
‫لأنك متتلك قولو ًنا ع�صبي املزاج‪..‬‬
‫الأمل �سيمنحك ر�ؤية جديدة لتنظر �إىل الأ�شياء وتكت�شف‬
‫حكمتها ك�أنك تراها لأول مرة‪..‬‬
‫الأمل هو ما �سيجعلك ُتخرج � ً‬
‫إبداعا لو جل�ست �سنوات من دونه‬
‫لن ُتخرج �إال هذ ًيا منم ًقا‪..‬‬
‫الأمل �سيجعلك تكت�شف مواطن اجلمال يف روحك واخلبايا يف‬
‫قلبك‪.‬‬
‫قد يبلغ بك الأمل درجة تتمنى عندها املوت‪ ،‬ولكن �إن دققت‬
‫النظر �ستجد �أن الأمل واحلياة متالزمان بال�شكل الذي يدفعك‬
‫ملوا�صلة امل�سري‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫قالت جملتها الأخرية وهي تنظر �إىل الفتاة قا�صدة تو�صيل‬ ‫ْ‬
‫معانيها �إليها وهي تبت�سم لها بحنو‪ .‬ال �أدري ما م�شكلة االبت�سام معها!‬
‫تبت�سم كث ًريا ب�شكل زائد ينجح يف ا�ستفزازي بجانب ا�ستفزاز كلماتها‬
‫وا�صلت ليلى حديثها ببع�ض الكالم‬
‫ْ‬ ‫التي مل �أقتنع بحرف واحد منها‪.‬‬
‫املُحفز‪ ،‬ثم �أعلنت بعده نهاية جل�سة اليوم النتهاء الوقت وهي تذ ِّكرهم‬
‫مبو�ضوع مناق�شة اجلل�سة القادمة عن الفرق بني احلزن واالكتئاب‪،‬‬
‫م�ؤكدة على رغبتها يف م�شاركة جميع من رف�ض التحدث اليوم بالتكلم‬
‫يف املرة القادمة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫بد�أ اجلميع باالن�سحاب بعد �أن تبادلوا التحية مع بع�ضهم ومعي‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بقيت فقط الفتاة التي‬
‫دون �أن يدفعهم الف�ضول للتعرف �إىل هويتي‪ْ ،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫تركها خطيبها بطلب من ليلى‪ ،‬وظلت بجانبها ُتدثها بحديث ال‬
‫قمت من مكاين �أجتول ب�أنحاء ال�شرفة �أتطلع �إىل تفا�صيل‬
‫�أ�سمعه‪ُ .‬‬
‫املكان �أكرث‪� ،‬أعجبتني ال�سماء وقد اتخذت من ال�سحب برق ًعا لتتدلل‬
‫بحجب جمالها فزادها هذا �سح ًرا‪ُ ،‬ت�شكل من النجوم حل ًيا المعة‬
‫اختعت‬‫تتزين بها تخطف الب�صر مبجرد النظر �إليها‪ ،‬ملثل هذا ُ‬
‫ال�شرفات‪ ،‬ال لتهوية املالب�س والإطالل منها على مبنى خر�ساين‬
‫عمالق يحجب ر�ؤيتنا عن جمال ال�سماء‪ ،‬بل لن�أتي يف نهاية اليوم‬
‫نلقي مبتاعبنا وهمومنا على حافتها مع �إجراء حوار هادئ مع النف�س‬
‫بجوار م�شروبنا املف�ضل‪ .‬رمبا �أ�ستبدل بيتًا مثل هذا ال يحجبه عن‬
‫جمال ال�سماء �شيء ب�شقتي يف يوم من الأيام‪.‬‬
‫رحلت الفتاة بعد عدة دقائق وعلى وجهها �أثر ابت�سامة متعبة‬
‫�أنهكها امل�سري حتى و�صلت �إىل �أعتاب �شفتيها بعد �أن كادت تفقد‬
‫الأمل‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫قامت ليلى بعدها و�شرعت يف جتميع املقاعد وطيها‪ ،‬غري �آبهة‬
‫بوجودي ك�أنها ال تراين‪.‬‬
‫‪ -‬يوجد نوع �أف�ضل‪.‬‬
‫فتابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وقفت م�ستغربة من جملتي‪،‬‬ ‫ْ‬
‫‪ -‬الفوار احلارق توجد �أنواع �أف�ضل منه‪.‬‬
‫أكملت ما كانت تفعله‪� .‬س�ألتها‪:‬‬
‫هزت ر�أ�سها و� ْ‬ ‫ْ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬ملاذا ال يوجد نظام �آيل بالبيت؟‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫التما�سا �إىل املجل�س يطالب‬
‫ً‬ ‫‪ -‬لأن �أ�صحاب اجلل�سات قدموا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫بنزعه‪ ،‬لأنهم ي�صرحون هنا ب�أ�شياء �سرية تتعلق بهم ويريدون‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫احلفاظ على خ�صو�صيتها‪ ،‬وا�ستجاب املجل�س للطلب‪.‬‬
‫قالت �إجابتها دون النظر جتاهي‪ .‬كان جل ًيا �أنها حتاول جتنب‬
‫ألت ب�شكل‬
‫احلديث معي‪ ،‬فا�ستهواين �أن �أفعل عك�س ما ترغب فيه‪� .‬س� ُ‬
‫يثري ا�ستفزازها‪:‬‬
‫‪ -‬كم تتقا�ضني عن هذه املهنة؟‬
‫وقطبت حاجبيها لتزول االبت�سامة �أخ ًريا ولأول مرة‪ ،‬ت�س�أل‬‫ْ‬ ‫توقفت‬
‫ْ‬
‫متعجبة‪:‬‬
‫‪� -‬أي مهنة؟‬
‫قلت ب�شكل �ساخر‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬زرع الأمل‪� ،‬إنقاذ النا�س من االنتحار‪ ،‬احلديث عن القولون‬
‫ومثل هذه الأ�شياء‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫جمدت للحظات كان من الوا�ضح فيها �أنها متحرية بني اختيارين‪،‬‬
‫�إما الرد �أو ال�سكوت‪ ،‬وركنت �إىل الثاين يف نهاية الأمر‪.‬‬
‫حاولت رفع وترية �سخريتي �أكرث و�أنا �أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬لو كنت مكانك الخرتتُ وظيفة �أف�ضل‪ .‬باملنا�سبة‪� :‬أال ت�شعرين‬
‫أنت تتدخلني يف �ش�ؤون النا�س بهذا ال�شكل؟ ملاذا‬ ‫بالتطفل و� ِ‬
‫تتدخلني يف قراراتهم؟ دعيهم يفعلوا ما يريدون‪ ،‬ه�ؤالء لي�سوا‬
‫�إال جمموعة من ال�ضعفاء‪ ،‬وقد يكون قرار االنتحار �أف�ضل‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫قرار اتخذوه على الإطالق‪ .‬احلياة ال تليق بهم‪ ،‬احلياة ال تليق‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�إال بالقوي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫الهراء الذي تدعيه‪� .‬أنا خبري بهذا الأمر جيدً ا ت‬
‫وفعلتهومعزيع‬
‫من الغ�ضب �أ�سعدين‪� ،‬ستلتفت �إيل الآن‬ ‫ب�شيء‬ ‫مقعد‬ ‫و�ضعت �آخر‬
‫ْ‬
‫ويك�شف �أمامها حقيقة هذا‬ ‫متاما‬
‫ً‬ ‫وت�سبني ف�أرد عليها مبا يحطمها‬
‫كثريين‬
‫قبلها‪� ،‬أ�ضع �أحدهم ل�سبب غري معلوم يف حرب باردة �أقمتها بيني‬
‫وبني نف�سي‪ ،‬ال ل�شيء �إال لإ�شباع رغبة بداخلي‪ ،‬حقيق ًة �أ�ستمتع بهذا‬
‫خ�صو�صا مع تلك النماذج احلاملة على عاتقها الإ�صالح والأمل‬
‫ً‬ ‫الأمر‬
‫وحب احلياة‪ ،‬وما هم �إال بالونة ت�ستحق الفرقعة من دبو�س كلماتي‪.‬‬
‫مل تلتفت �إيل كما توقعت واجتهت �إىل الداخل‪ ،‬فتحت الباب البني‬
‫قائلة بابت�سامة ُكتم وراءها كثري من امل�شاعر الغا�ضبة قائلة بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ت�شرفنا بزيارتك‪.‬‬
‫•••‬
‫‪141‬‬
‫مل �أ َر �إىل �أي رقم و�صل عداد ال�سرعة وال يهمني‪ ،‬كل ما �أدركه‬
‫جيدً ا �أن الدراجة ت�سري بفعل الغ�ضب ال الوقود‪ ،‬تلك احلمقاء طردتني‬
‫ب�شكل لبق تغلفه تلك االبت�سامة امل�ستفزة‪ ،‬وفوق هذا ُت�شعرين �أنني‬
‫هواء ال وجود يل وتتعمد جتاهل كلماتي‪ .‬كيف جتر�أت على فعل هذا؟‬
‫�أكرث ما ي�شعل �صدري ركونها لعدم املواجهة‪ ،‬لو كانت لعنتني‬
‫و�سبتني و�ألقت جميع املقاعد بوجهي كان هذا �سرييحني �أكرث من‬
‫التجاهل مئة مرة‪ ،‬لو كانت طردتني ب�شكل مبا�شر مهني لهدمت البيت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فوق ر�أ�سها حج ًرا حج ًرا غري نادم على فعل هذا‪ ،‬لكنها مل تفعل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫�إن كانت تظن �أنها بذلك هزمتني فهي ال تدري �أي خ�صم تواجه وال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ب�أي خماطرة تقوم‪� ،‬أنا من �أقام تلك احلرب و�أنا من ي�ضع قوانينها‪،‬‬

‫ع‬
‫و�س�أحدد من �سيكون الفائز و�سرتى ما �س�أفعله تلك الـ(ليلى)‪.‬‬
‫•••‬

‫‪142‬‬
‫(‪)١١‬‬
‫(بوح)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫رغم حماولتها االحتفاظ بابت�سامتها املعهودة ف�إنني الحظت نظرة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫املفاج�أة يف عينيها عندما �شاهدتني �أ ِل ُج و�أن�ضم �إىل اجلل�سة‪ ،‬كانت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫حت�سبني هذا ال�شخ�ص الذي يحافظ على كرامته باالن�سحاب‪ ،‬مل تد ِر‬
‫�أن روح القتال ال تغادرين و�أن عهد الث�أر لكرامتي كال�سيف على رقبتي‪،‬‬
‫ال �أهن�أ �إال بتنفيذه ب�شكل ير�ضيني لكل من �سولت له نف�سه امل�سا�س بها‬
‫ولو من بعيد‪ .‬كانت هذه املرة يف �صالة مقر اجلمعية بعد �أن بد�أ �صقيع‬
‫ال�شتاء باحتالل املناخ وفر�ض �سطوته عليه‪ ،‬و�صار اجللو�س بال�شرفة‬
‫�أم ًرا �صع ًبا‪.‬‬
‫بد� ْأت ليلى حديثها بعد �إلقاء التحية عليهم واالطمئنان على‬
‫�أحوالهم عن الفرق بني احلزن واالكتئاب‪ ،‬و�أن احلزن غال ًبا ي�شتمل‬
‫على مو�ضوع وعلة معينة كفقد عزيز �أو �شيء حمبب �إىل النف�س‪ ،‬وقد‬
‫تطول مدته �أو تق�صر ح�سب طبيعة ال�شخ�ص‪ ،‬وكلما �شورك احلزن مع‬
‫�أحد موثوق به �ساعد هذا على معاجلته �سري ًعا‪ ،‬بعك�س االكتئاب الذي‬
‫يحدث نتيجة �أ�سباب عدة جمتمعة م ًعا ما ي�ؤدي �إىل فقدان بو�صلة‬
‫�سبب احلزن الأ�سا�سي‪ ،‬وينعك�س هذا على نف�سيته و�إح�سا�سه بال�ضياع‬
‫‪143‬‬
‫امل�ستمر وفقدان �شهيته يف موا�صلة احلياة‪ .‬و�أ�سهبت بعد ذلك يف‬
‫احلديث عن �أنواع االكتئاب وانق�سامه �إىل خفيف ومعتدل وحاد وما‬
‫وانتهت ب�أن‬
‫ْ‬ ‫عالمات كل مرحلة ومتى يجب �أن يدق ناقو�س اخلطر‪،‬‬
‫هذا ما ُت ِ‬
‫و�صل �إليه �إىل الآن من ِقبل املجل�س بعد �إجرائه عدة جتارب‬
‫ُ�صرح بها حتت رعايته‪ ،‬يف حماولة منه ملعاجلة الأمر بالتعاون مع‬
‫اجلمعية و�إمدادهم باملعلومات الالزمة‪.‬‬
‫�أعطت املجال بعدها لأفراد اجلل�سة الذين تبادلوا �أدوار احلديث‬

‫ع‬
‫واحدً ا بعد الآخر‪ ،‬با�ستثناء �شخ�ص واحد رف�ض التحدث وتنازل عن‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حقه ملن بعده‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫حماول �أن �أُبلعها ُطعم هدوئي واهتمامي‬
‫ش‬
‫ً‬

‫ر‬
‫كنت يف انتظار دوري‬ ‫ُ‬

‫والتوزي‬
‫بحديث الآخرين لتطمئن وتعطيني م�ساحتي يف التحدث‪ .‬ظهر على‬

‫ع‬
‫مالحمها ال�ضيق امل�شوب بالقلق عندما حان دوري‪ ،‬ولكن غلفتهما‬
‫�سري ًعا بابت�سامتها الدائمة حتى ال يالحظ الآخرون‪ ،‬م�ؤملة بذلك �أن‬
‫يظهر مني خري‪ ،‬خمالفة رغبتها بحرماين من الكالم الذي �سيثري‬
‫انزعاج من حولها بالت�أكيد‪ ،‬ف�أعطتها يل رغ ًما عنها‪.‬‬
‫قالت من و�سط ابت�سامتها‪:‬‬‫ْ‬
‫‪ -‬ان�ضممت �إلينا يف املرة ال�سابقة ومل يكن هناك مت�سع من‬
‫الوقت لنتعرف �إليك �أكرث‪ ،‬عرفنا بنف�سك‪.‬‬
‫قلت بابت�سامة �سمجة مكتف ًيا بكلمة واحدة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أجمد‪.‬‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل بك �سيد �أجمد‪ ،‬هل ترغب يف التحدث؟‬
‫‪144‬‬
‫‪ -‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫توجهت بحديثي للجميع ً‬
‫قائل بجدية‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬م�شكلتي �أنني �شخ�ص �أناين‪ ،‬ال �أفكر �إال بنف�سي‪ ،‬حياتي مملة‪،‬‬
‫�أ�شعر باالكتئاب ال�شديد وكث ًريا ما تراودين فكرة االنتحار‪،‬‬
‫ولدي ابن وزوجة لكن �صراح ًة ال يهمني �أمرهما‪ ،‬كل ما يهمني‬
‫هو �أنا وما �أ�شعر به وما �أرغب فيه‪.‬‬
‫بلعت ريقها وقد بد�أ حديثي يقلقها‪ ،‬تنتقل بب�صرها بني اجلال�سني‬

‫ع‬
‫ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فتابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نبتت على وجوههم‪،‬‬
‫وتالحظ بذور الت�أثر التي ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪ -‬ولكن �أكرث ما يحريين‪� :‬أي و�سيلة هي الأن�سب؟ اخلنق �أم ال�سم‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫�أم الده�س؟‬

‫زيع‬ ‫و‬ ‫أكملت و�أنا �أنظر �إىل ال�سقف‪:‬‬


‫� ُ‬
‫‪ -‬اممم‪� ..‬أظن الده�س �سيكون �أ�سرعها‪ ،‬ولكن الده�س بال�سيارة‬
‫ممل لذا �أرجح الده�س بالقطار‪� ،‬سي�ؤدي مهمته �سري ًعا وينتهي‬
‫الأمر‪ ،‬ولكن �س�أ�شتاق �إىل ابني كث ًريا‪� .‬أود �أن يكون �آخر ما تقع‬
‫عليه عيناي يف احلياة‪ ،‬لذلك قررت �أن �آخذه معي‪.‬‬
‫غزت مالمح اال�ستغراب وجوههم مع ال�ضيق املمزوج بال�سخط‬
‫من تخيل ما قلت‪� ،‬شعرتُ �أن هذا هو الوقت املنا�سب لتنفيذ خطتي‬
‫التي �أعددتها م�سب ًقا ً‬
‫قائل بغ�ضب‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ت�شعرون بالغرابة؟ هل �أقول �شي ًئا غري منطقي؟ لي�س‬
‫الغريب هو كلماتي ولكن الغريب �أنكم فكرمت يف القيام‬
‫بهذا وت�شعرون بال�ضيق مما �أقول‪� ،‬شعرمت باحلنق لأن ً‬
‫طفل‬
‫‪145‬‬
‫�سريى هذا امل�شهد ومل ت�شعروا باحلنق ملا �سيعي�شه بعد ذلك‬
‫بانتحاري‪ ،‬جميعكم �أنانيون ال تفكرون �سوى ب�أنف�سكم وكيفية‬
‫تخل�صكم من هذا ال�شعور‪ ،‬مل ي�شغل بالكم حلظة ما �سيخلفه‬
‫هذا على ذويكم‪� ،‬ستموتون �أنتم وينتهي �أمركم وميوتون هم‬
‫كل يوم‪� ،‬إن �أردمت الذهاب فاذهبوا‪ ،‬ولكن اعلموا جيدً ا �أنهم‬
‫لن ي�ساحموكم �أبدً ا على فعلتكم هذه‪� ،‬أبدً ا‪.‬‬
‫ثبت ال�صمت قدميه باملكان بعد �أن انتهيت حتى ُخيل �إيل �أنني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سمعت دبيب احل�شرات‪ ،‬جتمدوا يف مقاعدهم ك�أ�صنام بالية ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يحركون �ساك ًنا‪ ،‬فغروا �أفواههم وات�سعت عيونهم من �أثر الده�شة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وال�صدمة م ًعا‪ .‬كان هذا املنظر يكفيني ل�شعوري باالنت�صار على ليلى‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫وقد هدمت جميع ما بنته مبعول احلقيقة امل�ؤملة يف جولة مل حت�سب‬

‫ع‬
‫ح�سابها‪.‬‬
‫�شقت ال�سكون ب�صوتها الهادئ وهي ت�س�ألني‪:‬‬
‫‪ -‬انتهيت؟‬
‫�صدمني �س�ؤالها لدرجة �أجربتني على ال�سكوت‪ ،‬مل تكن تلك الكلمة‬
‫هجوما عني ًفا‬
‫طويل يحتوي ً‬‫ونقا�شا ً‬
‫توقعت كلمات �أكرث ً‬ ‫ُ‬ ‫التي توقعتها‪،‬‬
‫ً‬
‫وجمل قا�سية �أعددتُ له جيدً ا‪.‬‬
‫تابعت وقد �أجبتها ب�صمتي‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪-‬تف�ضل يا هيثم‪ ،‬دورك‪.‬‬
‫•••‬
‫‪146‬‬
‫ما �أ�شعر به الآن ال ت�ستطيع كلمة غ�ضب ب�أحرفها الثالثة الب�سيطة‬
‫ا�ستيعابه‪ ،‬ما �أ�شعر به فاق مراحل الغ�ضب بكثري ومل ُيكت�شف له‬
‫نفثت الآن �س�أُحرق مد ًنا وقارات ولن‬
‫م�سمى بعد‪� ،‬أ�شعر �أنني لو ُ‬
‫يكفيني حتى �أحرق العامل ب�أكمله‪ ،‬و�أول ما �س�أبد�أ به هو ذلك الكائن‬
‫امل�سمى (ليلى)‪� .‬سد �أجيج النار امل�شتعلة بداخلي م�سامعي فلم �أ�سمع‬
‫ما قيل �إىل نهاية اجلل�سة‪ ،‬مل �أنتبه �إال عندما ذكرت ا�سمي قائلة‪:‬‬
‫مو�ضوعا قو ًيا مل نفكر به على مدار جل�ساتنا‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪� -‬سيد �أجمد �أثار‬

‫ع‬
‫قد يكون �أثاره ب�شكل �صادم ولكن ال�صدمة �أحيا ًنا مفيدة‪ ،‬فهي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تثري بعقولنا �أفكا ًرا مل ن ِعها من قبل‪� .‬أرى �أن ما قاله �سيكون‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫منا�س ًبا ملو�ضوع نقا�شنا يف املرة القادمة‪ ،‬وهو مدى ت�أثري‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫االنتحار على ذوي املنتحر وهل املنتحر �شخ�ص �أناين بالفعل؟‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫بد�أ اجلميع باالن�سحاب واحدً ا تلو الآخر‪ ،‬مل يتبادل �أحدعمنهم‬
‫�أمتنى �أن �أ�سمع �آراءكم جمي ًعا يف املرة القادمة‪.‬‬

‫معي التحية كاملرة ال�سابقة‪� ،‬إما �أنهم �شعروا بغ�ضبي فتجنبوين خو ًفا‪،‬‬
‫�أو �أنهم �شعروا باال�ستياء مما قلت فقرروا معاقبتي‪ .‬بد� ْأت ليلى بعد‬
‫جال�سا كما‬
‫ظللت ً‬ ‫ذهابهم بتعديل املكان وحمو �آثار اجلل�سة بينما ُ‬
‫�أنا على حايل‪ ،‬يكتب يل االنتقام مئة �سيناريو �أنفذه معها كي �أهد�أ‬
‫و�أ�ستطيع النوم الليلة‪ .‬انت�شلتني من تخيالتي الدموية مبثل ما فعلته‬
‫يف املرة ال�سابقة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ت�شرفنا بزيارتك �سيد �أجمد‪.‬‬
‫أطحت بقوة مزهرية كري�ستالية‬
‫نزعت فتيل قنبلتي بجملتها هذه‪ُ � ،‬‬
‫ْ‬
‫فتبعرثت على الأر�ض‬
‫ْ‬ ‫حتملها طاولة خ�شبية مربعة ت�ستقر �أمامي‬
‫‪147‬‬
‫لع�شرات القطع ال�صغرية احلادة‪ ،‬حمدث ًة �صو ًتا مدو ًيا �أ�صاب ج�سد‬
‫ً‬
‫�صارخا‪:‬‬ ‫اجتهت �إليها‬
‫ُ‬ ‫ليلى برع�شة املفاج�أة‪ ،‬تابعتها بقلب الطاولة ثم‬
‫أنت جمنونة؟ كيف تتجر�أين على فعل هذا معي؟ من‬ ‫‪ -‬هل � ِ‬
‫أنت حتى تتجاهلي حديثي؟ ومل يك ِف ِك مرة‬
‫تظنني نف�سك؟ من � ِ‬
‫لكنت فعلت ما يليق‬ ‫أنك امر�أة ُ‬
‫بل فعل ِتها ثالث مرات! لوال � ِ‬
‫متاما‪.‬‬
‫بقدرك ً‬
‫وا�ضحا جل ًيا على مالحمها‪� ،‬إال �إنها كانت‬
‫ً‬ ‫كان ال�شعور باخلوف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جتر مل تهلع مل ت�صرخ‪ ،‬ثبات‬‫ثابتة �أمامي ومل تتحرك خطوة‪ ،‬مل ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫غريب �أن يكون بامر�أة �أمام رجل �أُفلت من يده زمام غ�ضبه‪ْ .‬‬

‫ل‬
‫مرت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫�أتى �صوت من الأعلى ي�س�أل بقلق م�ستف�س ًرا‪ :‬والتوزي‬
‫حلظات ظلت �صامتة خاللها و�أنا �أرميها بنظرات م�شتعلة تكفي‬

‫ع‬
‫للق�ضاء عليها وهي واقفة‪.‬‬

‫‪ -‬ليلى ماذا يحدث عندك؟‬


‫‪ -‬ال يحدث �شيء‪ .‬اطمئن»‪.‬‬
‫‪ -‬كيف �أطمئن! من هذا الذي يتحدث وكيف يتحدث بهذه‬
‫الطريقة؟‬
‫‪ -‬ال �شيء اطمئن‪� ،‬س�أ�شرح لك يف ما بعد‪.‬‬
‫قلت بغ�ضب �ساخ ًرا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ماذا؟ هل تخافني عليه مني؟ اذهبي وا�شرحي له من �أنا‬
‫لرييني �أف�ضل ما عنده ً‬
‫بدل من �أن يكتفي بالنداء لالطمئنان‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫قالت بهدوء‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬هو بالفعل لن يقدر على مواجهتك‪ ،‬كيف لعجوز م�صاب‬
‫بال�شلل قعيد ال ي�ستطيع نزول الدرج لالطمئنان على ابنته �أن‬
‫يواجه �شا ًبا قو ًيا يف �أوج غ�ضبه؟‬
‫أوقفت جملتها بركان غ�ضبي الأعمى فج�أة‪ ،‬وانبثق �شعور �آخر‬ ‫� ْ‬
‫بنف�س اللحظة‪� ،‬شعور اخلزي الذي جنح يف �إنعا�ش ح�س املروءة‬
‫بداخلي وهو يلفظ �أنفا�سه الأخرية‪� ،‬شعرتُ �أن ل�ساين توارى داخل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫خجل فلم �أقدر على �أن �أنطق ب�أي حرف بعد كلماتها الأخرية‪.‬‬ ‫حلقي ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫و�ضعت الفتاة بحرب من �صنع خيايل و�أجربتها‬‫ُ‬ ‫ما هذا الذي �أفعله؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫على خو�ضها و�صببت عليها غ�ضبي ملحاوالت ان�سحابها‪� ،‬أدخلت‬

‫والتوز عي‬
‫أنا�سا �آخرين ال ذنب لهم مبعادلتي لتحقيق هدف االنت�صار غري‬ ‫� ً‬
‫مبال مب�شاعرهم‪ ،‬والآن �أتهكم على �أبيها برعونة طائ�شة دون علمي‬ ‫ٍ‬
‫بظروفه‪� ،‬أي رجولة �أدعيها �أمام اجلميع و�أنا فاقد لأ�س�س مبادئها؟‬
‫قالت مقاطعة املحاكمة ال�سريعة التي �أقامتها نف�سي �ضدي‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬من انتحر يف عائلتك؟‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫قالت ب�صوت يحمل الإ�صرار م�ؤكدة بعد �أن الحظت ده�شتي‪:‬‬
‫‪ -‬من انتحر يف عائلتك؟‬
‫عرفت هذا‬
‫ْ‬ ‫�صدمني �س�ؤالها ومل �أجب‪ ،‬كل ما دار بخلدي كيف‬
‫الأمر؟ من �أخربها وال �أحد يتذكره من الأ�سا�س �سوى �أنا و�أبي؟ دعتني‬
‫‪149‬‬
‫للجلو�س بطلب مهذب مل �أقدر �أمامه على فعل �شيء �سوى اال�ستجابة‪،‬‬
‫ذهبت �إىل املطبخ و�أعدت م�شرو ًبا ما‪ ،‬جاءت و�أرجعت الطاولة �إىل‬
‫ْ‬
‫مكانها ال�سابق وو�ضعت امل�شروب الذي تت�صاعد منه الأبخرة �أمامي‬
‫قائلة‪:‬‬
‫علمت هذا من �أول مرة حتدثت معي بها‪ ،‬وت�أكدتُ �أكرث من‬ ‫‪ُ -‬‬
‫حديثك املرة ال�سابقة وهذه املرة‪ ،‬ال يتحدث بهذه الكلمات �إال‬
‫من تذوق مرارة االنتحار يف عزيز لديه‪ ،‬ومقدار الوجع بها‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫يعك�س �أنه لي�س عزي ًزا وح�سب بل �أعمق من هذا بكثري‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫أكملت‪:‬‬
‫نحيت نظري جان ًبا ومل �أجب‪ ،‬ف� ْ‬
‫ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫احلديث‪،‬التكل مرة كنت‬
‫و‬ ‫ش‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫تتحدث بها كانت بدافع التحدي ال النقا�ش‪ ،‬ولو تكلمت ع‬
‫مرة حتدثت بها‪ ،‬لكن �صدقني‬ ‫كل‬ ‫‪� -‬أعتذر عن جتاهلي لك يف‬
‫هذا اخليار �أف�ضل كث ًريا من موا�صلة‬
‫حينها‬
‫�ستكون هذه حماقة مني ولن جنني �شي ًئا �سوى �إهدار الوقت‬
‫خ�صو�صا اليوم تعمدتُ ذلك‪� ،‬أنت ال تعلم‬
‫ً‬ ‫وحرقة الأع�صاب‪،‬‬
‫ف�ضلت التجاهل‪ ،‬لأين �أعلم �أنني‬
‫ُ‬ ‫خطورة ما قلته عليهم لذلك‬
‫لو رددت لن تكتفي بهذا و�ستقول الكثري مما قد يفتح �أبوا ًبا‬
‫�أخرى لن جنني من فتحها �سوى الأذى‪.‬‬
‫ذهبت و�أح�ضرت علبة معدنية من املطبخ قائلة وهي تفتحها‬
‫ْ‬
‫وتوجهها ناحيتي‪:‬‬
‫‪ -‬قطعة كعك مع ال�شاي؟‬

‫‪150‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا ف�أعادتها �إىل مكانها ال�سابق‪ ،‬تناولت مكن�سة‬
‫يدوية وكن�ست قطع الزجاج قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ما ا�سم ابنك؟‬
‫متزوجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ل�ست‬
‫‪� -‬أنا ُ‬
‫ابت�سمت قائلة‪:‬‬
‫‪ً � -‬إذا �أعددت هذا احلديث جيدً ا قبل جميئك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ذهبت و�ألقت بقطع الزجاج بالقمامة بعد �أن و�ضعتها بكي�س‬ ‫ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بال�ستيكي ولفته بال�صق قائلة‪:‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫‪ُ -‬ترح القطط من قطع الزجاج املوجودة بالقمامة‪ ،‬لذا احر�ص‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫كان من الوا�ضح �أنها حتاول فتح جماالت للحديث لأت�شجع و�عأتكلم‪،‬‬
‫على هذه الطريقة يف تغليف �أي �شيء �ستحطمه يف امل�ستقبل‪.‬‬

‫لكن �شعو ًرا مبه ًما �سيطر على فمي �آم ًرا �إياه بعدم الكالم‪� ،‬شعو ًرا‬
‫بال�ضيق من نف�سي‪� ،‬شعو ًرا بالإحراج مما فعلته‪� ،‬شعو ًرا باملفاج�أة غري‬
‫ال�سارة لتو�صلها ملعرفة هذا الأمر عني‪.‬‬
‫جاءت وقالت بعد �أن جل�ست‪:‬‬
‫‪ -‬ال تظن �أنني �أعطيتك عنوان اجلمعية و�أخربتك مبوعد‬
‫اجلل�سات لأنني �شعرت �أنك تعاين من هذا الأمر‪ ،‬ال‪ ،‬بل �أردتُ‬
‫�أن ت�أتي لال�ستماع‪ ،‬لتتعرف على ما ي�شعر به كل من كان يفكر‬
‫بهذا الأمر وتق ّدر ما مير به‪ ،‬ال �أريد �أن �أ�ضغط عليك لتتحدث‬
‫الآن ولكن يل طلب �أرجو �أن تلبيه‪ ،‬هو �أن ت�أتي �إىل هنا ملدة‬
‫‪151‬‬
‫�شهر واحد وت�ستمع بقلبك قبل �أذنيك لكل كلمة تقال بهذه‬
‫اجلل�سات‪ ،‬ت�ستمع مل�شاعرهم‪ ،‬ملا ميرون به‪ ،‬لعل هذا يغري‬
‫االعتقاد القائم بداخلك ويجعلك تنظر �إىل الأمر ب�أعينهم ال‬
‫بعينك‪.‬‬
‫�سيطر االنزعاج على جنبات نف�سي ب�سبب املوقف الذي و�ضعتها‬
‫فيه‪� ،‬صرت كالتلميذ ال�صغري يجل�س �أمام معلمه في�ؤدبه ويهذبه و ُيلقي‬
‫أذنت للذهاب بعد �أن انتهت من‬ ‫عليه كلمات الن�صح والإر�شاد‪ ،‬ا�ست� ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وا�ستقللت دراجتي ذاه ًبا �إىل البيت‪ ،‬كان ع�شائي وجبة د�سمة‬
‫ُ‬ ‫حديثها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫من ال�سجائر �أنفث فيها �ضيقي متوه ًما بذلك �أنني �س�أتخل�ص منه‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قيمت الأيام مبا احتوته‬
‫ا�ستلقيت بج�سدي �أحاول النوم ومل �أفلح‪ ،‬لو ُ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫من �أ�شياء مل�ضايقتي لفاز هذا اليوم بجدارة‪ ،‬كلما تذكرتُ تخيالتي‬

‫ع‬
‫ولذتي بالن�صر بعد تنفيذ خطتي وما �أ�شعر به الآن �أت�أكد �أن كل �شيء‬
‫انقلب �ضدي‪ ،‬حتى ذاتي التي تتمتع بجلدي على �أ�صغر الأ�سباب‬
‫و�أكربها‪.‬‬
‫حاولت �شغل نف�سي وتخفيف �شعوري مبحاولة �إ�صالح �أي �شيء‬
‫ُ‬
‫�أف�سدته ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬سو�سن‪ ،‬ابحثي عن مزهريات كري�ستالية‪.‬‬
‫قليل ثم عادت وبد�أت بعر�ض �صور جم�سمة ثالثية الأبعاد‬ ‫غابت ً‬
‫ْ‬
‫لعدد من املزهريات‪ ،‬حجزت واحدة ت�شبه التي حطمتها تقري ًبا‪ -‬فلم‬
‫�أكن �أتذكر �شكلها جيدً ا‪� ،‬أُ�صبت بالغم بعد ظهور ر�سالة تو�ضح ثمنها‬
‫ب�شكل بارز مع �أيقونة خ�ضراء ُكتب عليها ت�أكيد‪ ،‬ك�أنها تقول‪ :‬ت�أكد‬
‫ونفثت تذم ًرا‪� ،‬أي �أبله �أنا!‬
‫مما �سوف تفعله �أيها الغبي‪� .‬ضغطت عليها ُ‬
‫‪152‬‬
‫جنيت الآن؟ كان يجب �أن �أنحيها جان ًبا و�أحطم‬
‫ملاذا حطمتها! ماذا ُ‬
‫الطاولة فقط‪� .‬أحمق‪.‬‬
‫•••‬
‫‪�-‬أجمد‪� ،‬شك ًرا لك على حفل افتتاح �شركتي‪ ،‬كان منظ ًما ورائ ًعا‪.‬‬
‫‪�-‬سعيد بكالمك يا حازم‪� ،‬أمتنى لك النجاح‪.‬‬
‫خف�ض �صوته ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪�-‬أعلم �أن ال�سعر الذي طلبته �أقل بكثري من تكاليف احلفل‪ ،‬و�أن‪...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ربت على كتفه وان�ضممنا‬‫قاطعت كالمه ب�إ�شارة من يدي مبت�س ًما ثم ُ‬
‫ُ‬

‫والتوز عي‬
‫�إىل اجلل�سة‪ .‬م�ضى �شهران على جميئي بانتظام �إىل اجلل�سات‪� ،‬أتذكر‬
‫كنت ال �أرغب يف احل�ضور و�أتيت فقط لأعطي املزهرية‬ ‫يف بداية الأمر ُ‬
‫لليلى ك�شكل من �أ�شكال االعتذار‪ ،‬وودتُ االن�سحاب بعدها لكنها‬
‫�أ�صرت على ان�ضمامي للجل�سة مع تذكر ن�صيحتها املتعلقة بال�سماع‬
‫بقلبي لكالمهم‪ ،‬يومها كانت توجد امر�أة يف �أواخر الثالثينيات‪ ،‬بدا‬
‫كالمها ع�شوائ ًّيا وهي حتاول تو�ضيح ما ُي�شعرها باحلزن‪ ،‬مل يكن‬
‫هناك �سبب رئي�سي ميكنها �أن ت�ضع يدها عليه ولكن كتلة من املواقف‬
‫وامل�شاعر جعلتها يف حالة تخبط م�ستمر‪ ،‬على الرغم من عدم و�ضوح‬
‫كالمها ف�إن هذه املر�أة م�ستني‪ ،‬ت�شرتك مع �أمي ب�شيء ما ال �أعلمه لكن‬
‫�أ�شعر بوجوده‪ ،‬رمبا هيئتها التي ذكرتني بهيئة �أمي قبل االنتحار‪� ،‬أو‬
‫رمبا رمال الأمل املتحركة التي علقت بها ت�سحبها للأ�سفل وال جتد يدً ا‬
‫و�سحبت وطويت‬ ‫جتذبها فتنقذها وت�شعرها بالأمان مثلما علقت �أمي ُ‬
‫حتت الرمال‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫جال�سا حينها بعد �أن رحل اجلميع‪� ،‬شعرتُ براحة ت�سحبني‬
‫بقيت ً‬‫ُ‬
‫من يدي وت�ضعني على �أعتاب �ساحة البوح الرحبة‪ ،‬يدفعني قلبي‬
‫للدخول بقوة كي ي�سرتيح بعد �أن تكبد عناء كتمان وجع �أ�ضعفه‬
‫ل�سنوات طويلة‪.‬‬
‫قالت ليلى وقتها �ضاحكة وهي حتمل املزهرية بعيدً ا‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬لن �أجازف بالت�ضحية باملزهرية هذه املرة‪� ،‬إن كنت ترغب يف‬
‫قلب الطاولة فلك ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫را�ضخا‬ ‫وجلت ال�ساحة‬
‫قلت بعد �أن ُ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫ابت�سمت بفتور على جملتها ثم ُ‬
‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لرغبة قلبي‪:‬‬

‫ر‬
‫فجل�ست و‬‫ش‬
‫�صامتةالتبعد �ز عي‬
‫وأن فهمت‬
‫‪� -‬أمي‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ظهرت عالمات الت�أثر على وجهها‬
‫ْ‬
‫فتابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ما �أق�صده‪،‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أكرهها بل �أحبها كث ًريا‪ ،‬ح ًبا يدفعني �إىل عدم م�ساحمتها‬
‫فعلت‪ ،‬كانت تعلم جيدً ا مدى احتياجي �إليها ومل تفكر‬ ‫على ما ْ‬
‫بهذا‪ ،‬كانت بقيت من �أجلي على الأقل‪.‬‬
‫‪ -‬ومن �أخربك �أنها مل تفكر؟‬
‫فكرت لبقيت‪.‬‬
‫‪ -‬لو ْ‬
‫رحلت‪.‬‬
‫‪ -‬ورمبا لذلك ْ‬
‫أكملت‪:‬‬
‫نظرتُ �إليها م�ستغر ًبا ف� ْ‬

‫‪154‬‬
‫وو�صلت �إىل مرحلة من‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬رمبا علمت مبدى احتياجك �إليها‬
‫التعب النف�سي الذي جعلها تتوهم �أنها لن ت�ستطيع القيام‬
‫بهذا الدور بال�شكل املطلوب‪ ،‬لذلك �أقدمت على هذه اخلطوة‪.‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫�صمتت برهة‬
‫‪ -‬ال �أقول هذا لأبرر ما فعلته وال �أبرر فعل االنتحار بالت�أكيد‪،‬‬
‫تق�س عليها وال ت�صدر �أحكامك ما دمت مل‬ ‫ولكن �أرجوك ال ُ‬
‫متاما‬
‫متر مبا مرت به‪ ،‬يكفي ما �أح�ست به من �أمل‪� ،‬أنا مت�أكدة ً‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫�أن حرية االختيار بينك وبني ما تفكر فيه قتلتها �ألف مرة‪،‬‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫هذا بخالف �أي م�شاعر �أخرى‪ ،‬كن رحي ًما بها رجا ًء‪.‬‬

‫ش‬
‫ويعللرما فعلته �أمي ف�أقبله و�إن‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫�سحبت ًنف�سا عمي ًقا بعد �أن امتلأت ت‬
‫اال�شتياق والتما�س الأعذار بداخلي‪ ،‬ك�أنني‬ ‫مكامن‬ ‫أثارت جملتها‬
‫� ْ‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫كنت �أحتاج فقط �إىل من يخربين بهذا‬
‫ُ‬
‫بالدموع يف‬ ‫عيناي‬ ‫ُ‬ ‫مل يقنعني‪،‬‬
‫حماولة لإقناعها بالعودة �إىل قنواتها مرة �أخرى‪ ،‬لكنها ع�صتني مما‬
‫فوقفت‬
‫ُ‬ ‫دفعني للقيام �سري ًعا متج ًها �إىل اخلارج‪ .‬وقفتني ليلى بندائها‬
‫قالت راجية‪:‬‬
‫�أ�ستمع �إىل ما تقول دون �أن �أنظر �إليها‪ْ ،‬‬
‫‪� -‬أرجو �أن �أراك الفرتة القادمة �ضمن جل�ساتنا‪� ،‬صدقني هذا‬
‫�سي�ساعدك على فهم كثري مما كانت متر به والدتك‪.‬‬
‫�أوم�أت لها بر�أ�سي ثم اتخذتُ طريقي �إىل البيت ال �أفكر ب�شيء‬
‫ذهبت مرتني بعدها �أجل�س م�ستم ًعا‬
‫�سوى بكالم ليلى وطلبها الأخري‪ُ ،‬‬
‫فقط ملن يتكلمون‪� ،‬أغو�ص يف م�شاعرهم �أكرث و�أحاول فهم ما ميرون‬
‫به‪ ،‬و�شكل هذا داف ًعا قو ًيا للذهاب بعدها مرات �أخرى واالنتظام‬
‫‪155‬‬
‫باجلل�سات‪ ،‬حتى مر �شهر ليلى املطلوب و�أحلقته ب�شهر �آخر لإ�شباع‬
‫ع�شت �سنني طويلة وحيدً ا ال �أ�سمع �إال نف�سي‬
‫رغبة اال�ستماع بداخلي‪ُ .‬‬
‫وحان الوقت ل�سماع غريي‪ ،‬و�سماع ليلى!‬
‫ال �أعلم على �أي �شيء تربت هذه املخلوقة‪ ،‬دائ ًما هي باملنت�صف‬
‫ال �أق�صى اليمني وال �أق�صى الي�سار‪ ،‬تعرف متى تتكلم ومتى تن�صت‬
‫متى تبت�سم ومتى تكف متى تبد�أ ومتى تنتهي متى تق�سو ومتى تلني‪،‬‬
‫حكمة يحظى بها قليلون فما بال �إن ُوجدت بامر�أة! ولعل هذا يف�سر‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�إح�سا�س االطمئنان يف �أثناء احلديث معها و�شعور اجلال�سني هنا بكل‬

‫بال�ضيقكيفتكل مرة ُتلغى فيها اجلل�سة‪� ،‬ضيق دفعني‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫هذه الأريحية يف التحدث غري نادمني على �أي حرف ينطقون به‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ا‬ ‫و‬
‫كنت �أ�شعر‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫ب�صراحة‪ :‬هل ت�ضايقت لأنك‬ ‫للإح�سا�س باخلوف و�س�ؤال نف�سي‬
‫تراها؟‬ ‫اعتدت على وجود اجلل�سات ب�أ�سبوعك‪� ،‬أم لأنك لن‬
‫فيجيب قلبي ب�إجابة واثقة يحجبها عقلي �سريعا نافيا �أن يكون هذا‬
‫ً ً‬
‫�صحيحا‪ ،‬لكن �سرعان ما تتبدد حماولته �أمام ما �أ�شعر به ب�صحبة‬ ‫ً‬
‫جل�ستها‪� ،‬شعور م�سافر �أتى من م�سافة بعيدة وو�صل �إىل وجهته �أخ ًريا‪،‬‬
‫و�صل �إىل وطنه‪� ،‬شعور كان قاد ًرا على دح�ض جميع افرتاءاتي ال�سابقة‬
‫خ�ضت م�ضمار الع�شق م�شرت ًكا بفر�س حبي لعديد من الفتيات‬ ‫ُ‬ ‫ب�أنني‬
‫يوما و�أن ما �أقبل عليه خمتلف‪،‬‬
‫قبل‪ ،‬ليثبت يل �أنني مل �أخ�ضه بحياتي ً‬‫ً‬
‫متاما هذه املرة‪.‬‬
‫خمتلف ً‬

‫•••‬
‫‪156‬‬
‫(‪)12‬‬
‫(تعارف)‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«مل �أعد دار ًيا‪� ،‬إىل �أين �أذهب‬

‫كتيوم‪ ،‬ي�صري وجهكِ جز ًءا‬‫ال كل‬


‫ري‬
‫ب‬
‫كل يوم‪� ،‬أح�س �أنكِ �أقرب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫زيع‬ ‫من حياتي‪ ،‬وي�صب ُح العم ُر �ر و‬
‫أخ�صبال وت‬ ‫ري ال ُ‬
‫أ�شكال �أجمل ً‬
‫�شكل‬ ‫وت�ص ُ‬
‫ري الأ�شياء �أحلى و�أطيب‬
‫وت�ص ُ‬
‫�صعب‬
‫اعتيادي على غيابك ٌ‬
‫واعتيادي على ح�ضوركِ �أ�صعب»‬
‫ليال‪ ،‬قر�أتها منذ زمن ذات مرة‬ ‫مل تغادرين هذه الكلمات منذ ٍ‬
‫بديوان �شعر ل�شاعر ُيدعى نزار قباين و�أعجبتني فد ّونتها‪ ،‬قبل �أن‬
‫يجمع املجل�س الكتب ويخفيها‪ ،‬مل �أكن �أعلم �أن الأيام �ستمر و�س�أ�صبح‬
‫جتربة حية ب�شعور ال �أ�ستطيع و�صفه لكن جنحت تلك الأبيات‬
‫بتج�سيده‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫نظرتُ �إىل باقة النعناع املت�ألق بخ�ضرته وقد ن�سقتُه بعناية ُمب‬
‫و�أحطته ب�شريط من ال�ساتان الأحمر الالمع‪ ،‬قربته من �أنفي و�شممته‬
‫بعمق‪� ،‬أخذتني رائحته لعامل �آخر‪ ،‬عامل مليء باالنتعا�ش والراحة‪،‬‬
‫كيف ال ُيقدر النا�س النعناع حق قدره؟ هل �شمه مهوو�سو رائحة‬
‫البنزين قبل ع�شقهم الغريب؟‬
‫بينما �أنا غارق يف عامل النعناع كان �أ�صحاب اجلل�سة قد انتهوا من‬
‫�إعداد املفاج�أة على �أح�سن وجه‪ ،‬اليوم �ستبلغ ليلى عامها الثالثني‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�أرادوا �أن يحتفلوا بها على طريقتهم اخلا�صة تقدي ًرا ملا تفعله‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وظننت �أنهم يريدون مني‬
‫ُ‬ ‫حتم�ست حني �أخربوين برغبتهم‬
‫ُ‬ ‫معهم‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تنظيم احلفل‪ ،‬لكنهم قالوا يل �إنهم يريدون �أن �آتي مبك ًرا عن موعد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫عر�ضت عليهم القيام بالأمر فهذا ما �أجيد فعله‬
‫ُ‬ ‫اجلل�سة مل�ساعدتهم‪.‬‬

‫ع‬
‫ووعدتهم ب�إقامة حفل لي�س له مثيل‪ ،‬لكنهم رف�ضوا و�أخربوين �أن ليلى‬
‫ال حتب مثل هذه الأمور‪ ،‬مما �أقلقني‪ ،‬فكونها ال حتب مثل هذه الأمور‬
‫يعني �أنها ال حتب طبيعة عملي‪.‬‬
‫و�صلت‬
‫ْ‬ ‫�سمعنا وقع خطواتها على الدرج ف�أ�سرعوا ب�إطفاء النور‪،‬‬
‫وهي ت�س�أل ب�صوت م�سموع عن �سبب الظالم و�أ�شعلت امل�صابيح‪،‬‬
‫ابت�سمت بخجل‬
‫ْ‬ ‫عال‪،‬‬
‫فانطلقت كلمة مفاج�أة من حناجرنا ب�صوت ٍ‬
‫واكت�شفت ما �أعددناه من �أجلها‪ ،‬جتمعنا يف �شكل‬
‫ْ‬ ‫عندما فهمت الأمر‬
‫حلقة كهيئة جل�ساتنا املعتادة وكل منا يحمل طب ًقا ترقد به قطعة كعك‬
‫قطعناها منذ حلظات‪.‬‬
‫قررنا �أننا لن نتكلم عن �أي �شيء متعلق باالنتحار �أو االكتئاب‪،‬‬
‫فاليوم يوم ال يليق بذكر �أحزان احلياة وم�آ�سيها‪ ،‬اليوم لي�س يوم �أحد‬
‫‪158‬‬
‫منا‪ ،‬اليوم يوم ليلى فقط‪ .‬رغم احلفالت التي �أقيمها يوم ًيا و�أجوائها‬
‫ال�صاخبة و�أ�ضوائها الالمعة و�شخ�صياتها املهمة من �أ�صحاب كبار‬
‫ال�شركات‪ ،‬ف�إن هذا االحتفال الب�سيط ب�أ�شخا�صه غري امل�شهورين على‬
‫الإطالق بـ ليلى غمرين ب�سعادة عارمة و�شعور باالنتماء مل �أذقه طيلة‬
‫حياتي �إال مرات ي�سرية‪.‬‬
‫ب�شكل مل ُيرتب م�سب ًقا بد�أ اجلميع واحدً ا تلو الآخر ب�إهداء كلمة‬
‫لـ ليلى مما �أ�شعرين بالتوتر‪ ،‬ماذا �س�أقول عندما يحني دوري؟ �أ�شعر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أن ل�ساين �إن نطق �سيخربها بكل �شيء و ُي�سمعها الأبيات التي ال تنفك‬

‫ن‬ ‫بل‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫عني منذ �أيام‪ .‬جاء دوري �سري ًعا ومل �أرتب ماذا �س�أقول لها بعد‪،‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وجدتُ حيلتي يف تغري منط اجلل�سة وجرى على ل�ساين �س�ؤال ال �أعلم‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫‪� -‬أنا �س�أختلف عن اجلميع يف قول كلمة و�س�أطرح �س� ًؤال‪:‬عمباذا‬
‫فقلت‪:‬‬
‫من �أين �أتى به عقلي بهذه ال�سرعة ُ‬

‫أنت على �أعتاب الثالثني؟‬


‫ت�شعرين اليوم و� ِ‬
‫أجابت بعد �أن فتحت مفكرتها الزرقاء‪:‬‬
‫نظرت مبت�سمة ثم � ْ‬
‫ْ‬
‫وكتبت ما دار‬
‫‪ -‬بالفعل كنت �أفكر يف هذا ال�س�ؤال منذ عدة �أيام ُ‬
‫بخلدي‪.‬‬
‫تنحنحت ثم بد�أت بالقراءة‪:‬‬
‫‪ -‬عندما تبلغ عتبة الثالثني �ست�شعر �أنك قد �أمتمت �أم ًرا ما‬
‫ومقبل على �آخر‪..‬‬
‫‪159‬‬
‫�ستكت�شف �أنه كان يجب �أن تقول ال عندما ُطلب منك �أن‬
‫تقول نعم‪ ،‬و�أنه كان يجب عليك االن�سحاب عندما ُطلب‬
‫منك البقاء‪ ،‬والتم�سك حينما ُطلب منك الإفالت‪ ،‬وال�صراخ‬
‫عندما ُطلب منك ال�صمت‪ ،‬واجلنون عندما ُطلبت احلكمة‪،‬‬
‫واخلفوت عندما ُطلب منك التوهج‪ ،‬وال�ضباب عندما ُطلب‬
‫منك الو�ضوح‪.‬‬
‫�ستكت�شف �أنه كان يجب �أن تكون قو ًيا يف بع�ض �أمورك وال‬

‫ع‬
‫تدعي غري ذلك جللب ال�شفقة‪ ،‬و�أنه لي�س عي ًبا لو كنت �ضعي ًفا‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�ضعي ًفا جدً ا و�أظهرت ذلك‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫�ستكت�شف �أنك اتخذت كث ًريا من القرارات اخلاطئة و�أن‬

‫اال�ست�سالمأزهرت‪..‬لذلك الذبول وال‬


‫لتزهرتوز عي‬
‫قراراتك ال�صحيحة القليلة رائعة‪..‬‬
‫من جديد‪،‬‬ ‫و�أنه كان يجب‬
‫لكنك ال ا�ست�سلمت وال �‬
‫و�أنك لو نظرت ب�سطحية تافهة �إىل الأمور لكان �أف�ضل كث ًريا‬
‫من التعمق‪..‬‬
‫و�أنه يجب �أن تكف عن �إ�ضاعة الوقت يف حماولة ترتيب الفو�ضى‬
‫يف عقلك والعبثية يف روحك‪..‬‬
‫جرحا �أو‬
‫و�أن �سر الفاقة يف قلبك لي�س وحدة �أو تخل ًيا �أو ً‬
‫انك�سا ًرا‪ ،‬بقدر ما هو �ضعفك‪..‬‬
‫إخال�صا منهم هم املوتى‪،‬‬
‫�ستجد �أن الذين فارقوك كرث والأكرث � ً‬
‫�سالما ووردة‪..‬‬
‫و�أنه يجب �أن تر�سل �إليهم يوم ًيا ً‬
‫‪160‬‬
‫و�أن �شعورك كان كاذ ًبا عندما �أخربك �أنك الوحيد الناظر �إىل‬
‫اكتمال القمر يف تلك الليلة‪،‬ومل يكن كاذ ًبا يف هذا الأمر فقط‪،‬‬
‫و�أن كثريين غريك كانوا ينظرون‪..‬‬
‫و�أنه مل تكن حماقة م�سريك حتت املطر حتى الغرق‪...‬‬
‫�ستكت�شف �أن الأ�سود لي�س ب�سوداوية ما اعتقدت وال الأبي�ض‬
‫دوما كما ظننت‪ ،‬و�أن اللون الرمادي لون كثري من‬ ‫نق ًيا ً‬
‫قناعاتك ولي�س الأبي�ض �أو الأ�سود كما كنت تزعم طيلة‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫حياتك‪ ،‬و�أن تلك امل�ساحة بينهما يف كثري من الأحيان مريحة‪،‬‬

‫ب�أليف و�شرب كوب من اللنب الدافئ كل‬ ‫ك‬


‫اقتناءتحيوان‬‫ل‬ ‫ا‬
‫مريحة جدً ا‪...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫يوم قبل النوم‪ ،‬و�أن تزرع كث ًرينا من‬
‫لعل �شي ًئا من بيا�ضها ينال قلبك‪ ...‬والتوز عي‬
‫و�أنه عليك‬
‫زهور اليا�سمني البي�ضاء‪،‬‬

‫و�أنه يجب �أن تكون �أنت‪� ،‬أنت وح�سب‪.‬‬


‫حل هدوء االنبهار على اجلميع بعد �أن انتهت من �إجابتها‪ ،‬نظرتُ‬
‫�إليها �صامتًا ُت�سن عيني نظم كلمات عجز ل�ساين عن قولها‪ُ ،‬تيد‬
‫عملها كخري ر�سول ينقل ر�سائل قلبي من خاللها‪ ،‬ان�سحاب عينيها‬
‫�سري ًعا من �أمامي يف خجل كان يعك�س ا�ستالمها لبع�ض من تلك‬
‫قالت كعادتها يف ت�شتيت االنتباه ملو�ضوع �آخر عندما يتعلق‬
‫الر�سائل‪ْ ،‬‬
‫الأمر بالثناء عليها‪:‬‬
‫‪� -‬أظن حان وقت الع�صائر‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫م�ضت قرابة ن�صف �ساعة ما بني �ضحك و�إلقاء نكات بع�ضها‬
‫�سخيف ولكن �صار ا�ستمالحها �إلزام ًيا لكي ال يت�ضايق قائلها‪ ،‬بد�أ‬
‫اجلميع بعدها باالن�سحاب بعد تقدمي عدد منهم لهدايا مغلفة حتى‬
‫قدمت �إليها باقة النعناع فقالت ُمتعجبة‪:‬‬
‫بقيت �أنا �آخر من يرحل‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬نعناع! لكن كيف؟‬
‫قاطعتها‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬الحظت اهتمامك الزائد بالنعناع املوجود يف ال�شرفة �أكرث من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫حبك له‪.‬‬
‫فعلمت ِ‬
‫ُ‬ ‫مرة‪،‬‬

‫شر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وهي تقول‪:‬‬ ‫با�سمة‬ ‫نظرت �إليه‬
‫ْ‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫كنت �أ�شعر �أن الكلمات على ل�ساين كاجلمر �أريد �أن �أنطقعبها‬
‫‪� -‬شك ًرا لك‪.‬‬

‫لأ�سرتيح‪� ،‬شيء يدفعني دف ًعا للتحدث‪ ،‬من �أين جاءت كل تلك‬


‫الرغبة يف الكالم و�أنا فاقد لها منذ زمن بعيد؟ وودتُ �أن �أخربها‬
‫عن حماقاتي التي �ستكت�سب �أهميتها فقط عندما ُتروى لها دو ًنا عن‬
‫غريها‪ ،‬وودتُ �أن �أخربها �أ�سراري‪ ،‬عاداتي‪� ،‬شكل حياتي وم�شاعري‪،‬‬
‫وددتُ لو �أ�س�ألها �س� ًؤال واحدً ا فقط‪ ،‬هل �إح�سا�سي �أنها رغم كل هذا‬
‫التجاهل الذي تدعيه حتمل �شي ًئا جتاهي �أ�شعر به ويعلل �سبب هروبها‬
‫الدائم من �أمامي؟‬
‫قالت وما زالت عيناها جتوالن بني �أطراف النعناع‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬س�أ�ضعه بال�شرفة‪ ،‬بعد �إذنك‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫خارجا تار ًكا �شي ًئا مني‬
‫ً‬ ‫واجتهت �أنا‬
‫ُ‬ ‫ان�سحبت جتاه ال�شرفة‬
‫ْ‬
‫بحوزتها‪ ،‬ي�ضرب بجذوره يف حديقتها مطمئ ًنا �أنها �ستح�سن رعايته‬
‫متاما‪.‬‬
‫وجتيد زراعته‪ ،‬مثلما �أجادت زرع حبها يف قلبي ً‬
‫•••‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪� -‬أقول‪� :‬أرغب يف التقدم خلطبة ليلى‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صمت‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪-‬نعم � ب ل‬
‫‪-‬ه�شام هل ت�سمعني؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫أ�سمعك‪.‬‬
‫‪-‬ما ر�أيك؟‬
‫‪-‬يف ماذا؟‬
‫قلت با�ستغراب مغلف باالنفعال‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪-‬يف رغبتي يف التقدم لـ ليلى‪ ،‬ما بك يا ه�شام! هل �أنت نائم؟‬
‫‪-‬ال ال‪� ،‬أ�سمعك‪.‬‬
‫�صمت برهة و�أكمل‪:‬‬
‫‪ -‬اممم‪� ..‬أ�شعر �أنكما غري متنا�سبني‪.‬‬
‫كانت جملته كحجر �أُلقي على �صدري فج�أة‪� ،‬س� ُ‬
‫ألت ب�ضيق‪:‬‬

‫‪163‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪� -‬أنت جيد‪ ،‬هي جيدة‪ ،‬لكن كليكما غري مالئم للآخر‪.‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أرى ذلك‪.‬‬
‫‪� -‬أنا �أراه جيدً ا‪� ،‬أنا �أعرفك و�أعرفها و�أعرف طباعكما‪ ،‬خذ‬
‫بن�صيحتي‪.‬‬

‫ع‬
‫كان ه�شام غري ًبا وخمتل ًفا عن عادته معي‪ ،‬مل يخالفني الر�أي يف‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ودوما ما ي�شجعني ويلقي ال�ضوء على حما�سني‬
‫�أي قرار �أخذته من قبل ً‬
‫توقعت �أن‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫متاما عن هذه‪،‬‬
‫بل‬ ‫ت‬
‫توقعت منه ردة فعل خمتلفة ً‬ ‫ُ‬ ‫ومميزاتي‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫يفرح ويثني على اختياري كما يفعل دائ ًما ويحفزين للتعجيل بالأمر‪.‬‬

‫ع‬
‫هل كان يراين كذلك �أم ينافقني من �أجل العمل؟ وهل هذه ر�ؤيته ح ًقا‬
‫�أم �أن هناك �شي ًئا �آخر؟‬
‫لظننت �أنه قد يكون متعل ًقا بليلى‬
‫ُ‬ ‫لو مل �أكن مت�أكدً ا من حبه ل�سارة‬
‫ويحاول �صرف نظري عنها‪.‬‬
‫عندما ي�أتيك الإحباط من �أكرث مكان تتوقع منه الدعم يكون وقعه‬
‫م�ضاع ًفا‪،‬‬
‫ليتني مل �أتكلم معه‪ ،‬قن�صتني كلماته و�أنا �أحلق يف �أعايل ال�سماء‪،‬‬
‫تكتف بذلك بل مرغتني يف الوحل‪.‬‬‫ومل ِ‬
‫•••‬
‫‪164‬‬
‫تلب�سني ال�ضيق يف �أثناء قيادتي لدراجتي البخارية متج ًها �إىل‬
‫�أطراف املدينة املهجورة لاللتقاء ب�صحبة ال�سوء و�إمدادي بال�سم‬
‫النيكوتيني بعد نفاده عندي‪� ،‬أفكر يف حوار ه�شام املغلف بالربود‪،‬‬
‫�أحاول �أن �أُكذب وجهة نظره و�أ�صدق م�شاعري فت�أتيني جملته «�أنا‬
‫�أعرفك و�أعرفها و�أعرف طباعكما‪ ،‬خذ بن�صيحتي»‪ ،‬للأ�سف هو‬
‫حمق بهذا الأمر ورمبا هذا هو �سر �ضيقي احلقيقي من حواره‪� ،‬سارة‬
‫�صديقة لـ ليلى منذ زمن وتعرف طباعها جيدً ا وه�شام يعرفني لذلك‬
‫ل�ضربت‬
‫ُ‬ ‫�أ�صدر حكمه‪ ،‬لو كان �أي واحد �آخر قد قال هذا الكالم‬

‫ال‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫بحديثه عر�ض احلائط متهك ًما من وجهة نظره املعطوبة‪ ،‬وهذا الذي‬

‫ب� لأنني توهمت �أنني �أرى ه�شام يدخل‬‫كتلدرجة‬


‫ل‬
‫مل �أقدر على فعله مع ه�شام‪.‬‬

‫شما‪،‬ركان ه�شام بالفعل!‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ن‬
‫ت‬
‫ر�آين �أقرتب منه فعرفني وترجل عن �سيارته‪ُ ،‬و‬
‫�شو�ش احلنق ر�ؤيتي‬

‫توقفتزيع‬
‫ً‬ ‫لي�س وه‬ ‫دققت النظر‪ ،‬ال هذا‬
‫�إىل �سيارته‪ُ ،‬‬
‫بالدراجة‬
‫وكانت مفاج�أتي كبرية عندما وجدتُ �سارة وليلى جتل�سان باخللف‪،‬‬
‫حييتهما بيدي فردتا التحية مبثلها‪.‬‬
‫اجته ه�شام نحوى بابت�سامة مبالغة وهو يقول‪:‬‬
‫‪� -‬صدفة �سعيدة‪.‬‬
‫�س�ألته م�ستغر ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعلون هنا؟‬
‫�أ�شار ناحية بيت وهو يقول‪:‬‬
‫‪165‬‬
‫‪ -‬كنا بزيارة خلالة �سارة‪ ،‬هي خياطة ماهرة و�أرادت �سارة‬
‫تف�صيل بع�ض املالب�س قبل العر�س‪.‬‬
‫�س�ألته بعد �أن نظرتُ جتاه البيت املتهدم جزء من واجهته ومل يعد‬
‫يظهر لون طالئه الأ�صفر من تراكم الأتربة الرمادية عليه ويبدو عليه‬
‫الهجر‪:‬‬
‫‪ -‬هنا؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هذا بيت عائلة والدة �سارة منذ �أجدادها ويعتزون‬

‫كالزفاف؟‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫بامتالك هذا البيت‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫موعد‬ ‫‪ -‬وهل حتدد‬

‫التوزيع‬ ‫و‬
‫ونود االنتهاء من بع�ض‬ ‫موعدنا‬ ‫باقرتاب‬ ‫‪ -‬ال‪ ،‬ولكن ن�شعر‬
‫الأ�شياء حتى نكون م�ستعدين‪.‬‬
‫�س�ألته متعج ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬حدثتك منذ �ساعتني ومل تخربين ب�أن لديك موعدً ا اليوم مع‬
‫�سارة‪.‬‬
‫�أجاب بعد �أن خبط جبهته‪:‬‬
‫‪ -‬ن�سيت �أن �أخربك يا زعيم‪� ،‬أنت تعلم م�شاغلي كثرية هذه‬
‫الأيام‪.‬‬
‫�أتبع جملته �سري ًعا ب�س�ؤايل‪:‬‬
‫‪ -‬و�أنت ما الذي جاء بك �إىل هذه املنطقة؟‬
‫‪166‬‬
‫‪ -‬كنت �أمر من هنا و�س�أذهب لزيارة �صديق يل‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا ال �أريد �أن �أ�ؤخرك عن موعدك‪� ،‬أراك غدً ا‪� ،‬سالم‪.‬‬
‫قالها متج ًها �إىل �سيارته‪ ،‬فتح بابها وا�ستقر �أمام عجلة القيادة‬
‫وبد�أ بالتحرك‪� ،‬ألقت �سارة وليلى التحية ب�إ�شارة بر�أ�سيهما واختفوا‬
‫بالطريق و�أكملت �أنا طريقي قا�صدً ا وجهتي‪ ،‬ال �أعلم ملاذا �أ�شعر �أن‬
‫ه�شام مل يكن ي�صدقني احلديث و�أن هناك �أم ًرا �آخر غري الذي‬

‫ع‬
‫�أخربين به‪ ،‬عاد ًة يخربين بجدول يومه و�إىل �أين يذهب‪ ،‬ملاذا مل يفعل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫اليوم؟ �أم �أن احلديث عن مو�ضوع خطبة ليلى �أن�ساه �إخباري؟ ال �أعلم‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ولكن �أ�شعر �أن هناك �أم ًرا ما‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫أتيانتالوآن‪� ،‬أخربتنا‬ ‫ر�سي�‬
‫ش‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫ذات مرة عندما ت� ْأخرت عن موعد اجلل�سة بال�ساد�سة �أنها ع‬
‫حتافظ‬
‫الثالثة والن�صف م�سا ًء‪ .‬من املفرت�ض �أنهما‬

‫على طق�س الغداء بهذا املطعم برفقة �أبيها كل ثالثاء حلبه له‪.‬‬
‫�أخربتُ �أبي �أنه ميكننا تناول الغداء م ًعا اليوم كما يرغب ولكن‬
‫�س�أختار املطعم‪� ،‬أعلم �أنني لو �أخربته بحبي لـ ليلى ورغبتي يف‬
‫التقدم �إليها �سريف�ض الأمر من قبل �أن يراها‪ً ،‬‬
‫معلل ذلك بعدم ثقته‬
‫باختياراتي و�أن من �ستحظى ب�شرف عائلتنا يجب �أن تكون مميزة‬
‫و ُتختار بعناية ُوتنح موافقته عليها‪� .‬أظنه لذلك يلح ً‬
‫دوما يف �أمر‬
‫لبنى والتقدم �إليها حتى ي�سرتيح من عبء اختيار زوجة �سيتعب كث ًريا‬
‫للت�أكد من �صالحية م�ؤهالتها للوظيفة‪� ،‬أق�صد للزيجة‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫�س�أحاول �أن �أعرفه �إىل ليلى اليوم لرياها ويرى طريقة تعاملها‪،‬‬
‫�أنا �أعلم طريقة تفكريه جيدً ا و�أعلم �أنه مييل �إىل منط املر�أة احلكيمة‬
‫متاما‪� ،‬س�أجعله يقتنع باختياري دون بذل �أي جمهود‬ ‫العاقلة مثل ليلى ً‬
‫بل و�سيثني عليه‪.‬‬
‫العقبة الوحيدة التي �أواجهها الآن مباذا �س�أخربه عندما ي�س�ألني‬
‫كيف عرفتها؟ مل �أخرب �أبي ب�أمر اجلل�سات‪ ،‬لو علم بهذا الأمر �سيغ�ضب‬
‫كث ًريا و�سيتفنن باتخاذ كافة ال�سبل التي تعوقني عن ح�ضورها مثلما‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فعل من قبل يف كثري من الأ�شياء‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫أيت ليلى من الطابق العلوي للمطعم تلجه برفقة �أبيها اجلال�س‬ ‫ر� ُ‬

‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫على كر�سيه املتحرك الكهربائي ويتبعهما �شاب و�سيم قوي البنية �أراه‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫لأول مرة‪ ،‬من يكون هذا؟‬
‫�سوى‬ ‫�شيء‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫يف‬ ‫قلق بعرثين لألف قطعة و�أعاق ذهني عن التفكري‬
‫من يكون هذا ال�شخ�ص؟ �صرتُ �أريد الذهاب �إليهم لأعرف من هذا‬
‫�أكرث من قيامي بهديف الأ�سا�سي بالتعارف بينها وبني �أبي‪.‬‬
‫‪�-‬أممممجد!‬
‫انتبهت لنداء �أبي الوا�ضح من نربته �أنه �أعاده مرات عدة م�سب ًقا‬
‫ُ‬
‫ومل �أ�سمع �إال الأخري منه‪.‬‬
‫تابع‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا �سن�أكل؟‬
‫قلت متذم ًرا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪168‬‬
‫‪ -‬ال �أعلم يا �أبي �أي �شيء‪.‬‬
‫‪� -‬أي �شيء! �أنت من اخرتت هذا املطعم وبالت�أكيد تعرف �أف�ضل‬
‫�أكالته‪.‬‬
‫‪ -‬مل � ِآت �إىل هذا املطعم من قبل‪ ،‬هذه �أول مرة‪.‬‬
‫‪� -‬أول مرة! ملاذا اخرتته � ًإذا؟ �أح�سبك جل�ست به من قبل‪.‬‬
‫متاما عن هذه املناق�شة‬
‫لو يعلم �أبي ما مير به تفكريي ل�صمت ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال�سخيفة‪ ،‬ما املُتعب يف �أن يختار �أي �صنف! لن يختلف م�ساره كث ًريا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عن كل ما نتناوله‪� ،‬س ُي�ؤكل‪� ،‬س ُيبلع و�سيذهب �إىل بالوعات ال�صرف يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نهاية الأمر‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫نزلت الدرج �إىل الطابق‬
‫أذنت �أبي للذهاب �إىل املرحا�ض‪ُ ،‬‬ ‫ا�ست� ُ‬
‫ت�صنعت توزيع‬
‫ُ‬ ‫ال�سفلي حيث تقبع مائدة ليلى و�أبيها وهذا ال�شخ�ص‪،‬‬
‫ومنحت مائدتهم ً‬
‫بع�ضا منها فر�أتني ليلى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نظراتي بني �أرجاء املكان‬
‫اجتهت �إليهم‬
‫ُ‬ ‫حييتها مبت�س ًما متق ًنا ر�سم مالمح املفاج�أة على وجهي‪،‬‬
‫باد ًئا حديثي‪:‬‬
‫‪ -‬يا لها من مفاج�أة‪ ،‬ليلى كيف حالك؟‬
‫�شعرتُ ب�شيء من ال�سعادة م�سها لر�ؤيتي مما �أر�ضى جز ًءا بداخلي‬
‫وطم�أنني‪ ،‬قالت مبت�سمة‪:‬‬
‫‪ -‬بخري‪� ،‬أنت كيف حالك؟‬
‫ألت بده�شة كاذبة‪.‬‬
‫دوما؟» �س� ُ‬
‫‪« -‬بخري‪ ،‬هل ت�أتون �إىل هنا ً‬

‫‪169‬‬
‫‪ -‬نعم ن�أتي �إىل هنا كل ثالثاء‪.‬‬
‫نظرت جتاه �أبيها وقامت بالتعارف بيننا قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬الأ�ستاذ �سالمة �أبي‪� ،‬أجمد‪.‬‬
‫�شعرتُ حينها �أن جمرد نطق ا�سمي مبفرده هكذا �سبة‪ ،‬بالت�أكيد‬
‫يعرف �أجمد دون احلاجة �إىل �أي تفا�صيل �أخرى‪� ،‬أجمد قليل الأدب‬
‫الذي حطم املزهرية التي رمبا ورثها عن �أمه العزيزة وت�شكل مكانة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أي�ضا الذي رفع �صوته على ابنته بكل وقاحة ونعتها‬ ‫لديه‪ ،‬وهو � ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫متاما بنقل اجلزء‬
‫باجلنون‪ ،‬وال �أعلم هل دمرت ليلى �صورتي �أمامه ً‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫برتحابلن�شديد لعل هذا يغفر ما �سبق‪،‬‬
‫ش‬
‫الأخري املتعلق ب�سخريتي منه �أم ال‪.‬‬

‫ز عي‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫و�سلمت عليه‬


‫ُ‬ ‫مددتُ يدي‬
‫اجتهت ليلى بعدها لل�شاب قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أجمد‪� ،‬صالح‪.‬‬
‫انتظرتُ ما �ستقوله بعد �صالح لكنها �صمتت‪� ،‬صالح ثم ماذا؟‬
‫�صالح هكذا فقط! ال �أعلم ملاذا ليلى لي�ست ثرثارة كبقية الفتيات‪،‬‬
‫�سلمت عليه برتابة متعمدة تبادلها معي هو الآخر‪ ،‬قلت داف ًعا �إياها‬
‫ُ‬
‫لإجابة �س�ؤال يعثى بعقلي بطريقة غري مبا�شرة‪:‬‬
‫‪� -‬صالح؟ �أظن �أنني ر�أيته قبل ذلك يف مقر اجلمعية‪.‬‬
‫أجابت نافية‪:‬‬
‫� ْ‬
‫‪ -‬ال ال‪� ،‬صالح مل ي� ِأت من قبل ملقر اجلمعية‪ ،‬هو �صديق لعائلتنا‬
‫بجانب �أنه يدير عمل �أبي‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫خ�صو�صا مع‬
‫ً‬ ‫�أمدتني كلماتها بجرعة من االرتياح غري املكتمل‪،‬‬
‫نظراته الفاح�صة يل ومتابعة حديثنا ب�صمت دون �أن ي�شرتك ب�أي‬
‫كلمة‪.‬‬
‫قلت و�أنا �أ�سعى لتحقيق ما فعلت كل هذا من �أجله م�ش ًريا جتاه‬
‫ُ‬
‫مائدتنا بالأعلى‪:‬‬
‫‪ -‬جئت اليوم مع �أبي‪.‬‬

‫ع‬
‫قالت ليلى‪:‬‬
‫متاما ْ‬
‫توقعت ً‬
‫ُ‬ ‫وكما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫‪ -‬ميكننا �إلقاء التحية عليه �إن مل يزعجكما هذا‪.‬‬

‫شالر�أدري‬
‫واما الذي جاء به‬
‫ن‬ ‫لل‬ ‫ب‬
‫اليوم‪ ،‬جمرد وجوده ي�شعرين بال�ضيق ويف�سد جز ًءا لمنتوز عي‬
‫وال�سعة‪.‬‬ ‫الرحب‬ ‫‪ -‬على‬
‫اجتهنا عال ًيا �أنا وهي يرافقنا �صالح!‬
‫خطتي‪.‬‬
‫أيت مالمح‬‫ما �إن و�صلنا �إىل املائدة وتقابلت الأوجه حتى ر� ُ‬
‫اال�ستغراب على وجه ليلى‪ ،‬لكنها حمتها �سري ًعا بابت�سامة �أُ�صيبت‬
‫ب�شيء من اال�ضطراب‪ ،‬رمبا تفاج�أت من �صغر �سن �أبي و�أن يكون‬
‫�شعرت باخلجل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫لديه ابن مبثل عمري‪� ،‬أو رمبا‬
‫قمت بالتعارف بينها وبني �أبي و�صالح املتطفل‪ ،‬مل يقم �أبي من‬‫ُ‬
‫مقعده ورحب بهما ب�إمياءات من ر�أ�سه ردا عليها مبثلها ثم ان�سحبا‬
‫بعد �أن ا�ست�أذنت ليلى ب�أدب‪،‬‬
‫مل يدم اللقاء �أكرث من ن�صف دقيقة معظمه �إمياءات ر�أ�سية دون‬
‫كنت �أود �أن �أجنح يف فتح حوار‬
‫كالم! مل �أخطط للأمر بهذا ال�شكل‪ُ ،‬‬
‫‪171‬‬
‫ب�سيط بينهما ولو خلم�س دقائق‪ ،‬وجود �صالح املفاجئ‪� ،‬أبي وعدم‬
‫حفاوته كما هي عادته‪ ،‬ليلى وان�سحابها ال�سريع وقلة كالمها‪ ،‬كل هذا‬
‫متاما‪ .‬ال �أعلم ملاذا يحدث كل �شيء على عك�س ترتيبي‬ ‫�أف�سد الأمر ً‬
‫له ك�أن م�ؤامرة ُتاك �ضدي �أُعدت جيدً ا مل�ضايقتي‪ .‬كل ما �أمتناه �أال‬
‫م�ستقبل‪ ،‬رجائي الوحيد �أن تتحقق‬ ‫ً‬ ‫ت�سري الأمور على هذه ال�شاكلة‬
‫�أمنيتي و�سين�صلح كل �شيء بعدها‪ ،‬مت�أكد من هذا‪.‬‬
‫•••‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫دقت زخات‬
‫كطارق ال ميل من قرع جر�س البيت يبتغي الدخول‪ْ ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املطر زجاج النوافذ ب�إحلاح دفعني للتقدم واال�ستجابة لندائها وفتح‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫تربت على وجهي بقطراتها‬ ‫النافذة‪ ،‬فعربت �سري ًعا للداخل من خاليل ُ‬

‫ع‬
‫وتغ�سل جز ًءا �أ�سود ر�سخ يف قاع روحي‪.‬‬
‫بيدي رغب ًة يف مزيد من‬‫التقطت ر�شفة من كوب ال�شاي املحاط َ‬ ‫ُ‬
‫الدفء بعد �أن عززتُ نكهته ب�أوراق من النعناع الطازج‪ ،‬زادت مكانة‬
‫هذا امل�شروب بقلبي منذ �أن قدمته يل ليلى ذات مرة‪� ،‬أما النعناع فقد‬
‫�صار �أ�سا�س ًّيا يف حياتي بعد معرفتي حلبها له‪.‬‬
‫حديثها عن قوة اتخاذ القرارات الإيجابية و�سلك كل �سبل‬
‫ال�سعادة وحماولة طرق �أبوابها يف اجلل�سة الفائتة مل يغادر عقلي‪،‬‬
‫�شعرتُ �أن كل كلمة قالتها مبثابة ر�سالة زادت من حما�ستي التخاذ‬
‫خطوة االرتباط بها رغم كل املقدمات ال�سيئة والإ�شارات املُحبطة‪.‬‬
‫عزمت �أمري على فتح احلديث معها اليوم‪ ،‬ملاذا �أتكبد عناء التفكري‬
‫ُ‬
‫والظنون والتخيالت وحرية االحتماالت ما دام يف مقدوري الذهاب‬
‫‪172‬‬
‫�إليها مبا�شر ًة والتحدث يف الأمر؟ �شعرتُ ب�ضربات قلبي تزداد و�أنا‬
‫�أكرر احلوار الذي �س�أجريه معها للمرة املئة بيني وبني نف�سي‪� ،‬أخ�شى‬
‫�أن ي�ضيعني االرتباك بني متاهاته وت�سفر حماولتي عن الال �شيء‪.‬‬
‫�ضحكت مما �أ�صابني‪� ،‬أين قوة �شخ�صيتي وجر�أتي و�إقدامي وكل هذه‬
‫ُ‬
‫ال�صفات؟ الإن�سان بالفعل يختلف كث ًريا حتت �سطوة احلب‪.‬‬
‫قطعت حواراتي ال�صامتة ب�صوتها الآيل قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬سيد �أجمد لديك ر�سالة �صوتية على نظامك من ال�سيدة ليلى‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هل �أ�شغلها؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪ -‬نعم‪ .‬ب ل‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫أجبت �سري ًعا‪:‬‬
‫� ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬ ‫عال �صوت ليلى قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هذه ر�سالة جماعية لكل �أفراد اجلل�سة‪ ،‬اجلل�سة اليوم ملغاة‬
‫ل�سوء الأحوال اجلوية‪� ،‬ألقاكم الأ�سبوع القادم‪.‬‬
‫كدتُ �أحطم الكوب بيدي بعد �سماع ر�سالتها‪ ،‬ما الذي يجري‬
‫بحق؟ كل �شيء �أخطط له يف�سد!‬
‫والتقطت خوذتي‪ ،‬لن �أدع الظروف تتحكم‬
‫ُ‬ ‫بدلت مالب�سي �سري ًعا‬
‫ُ‬
‫بي كيفما ت�شاء‪ ،‬اتخذتُ قراري و�س�أنفذ ما �أردت‪.‬‬

‫•••‬
‫‪173‬‬
‫(‪)13‬‬
‫(القدامى)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت�سورت عيني ليلى نظرات املفاج�أة عندما ر�أت مالب�سي املبتلة‬
‫ْ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫متاما بفعل املطر‪ ،‬وقطرات املاء املن�سابة من �أطرايف وقد �أ�صابت‬

‫ن‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫أر�سلت ر�سالة للجميع ب�إلغاء اجلل�سة وال‬
‫ج�سدي رع�شة الربد و�أدركت قلبي رجفة اخلوف‪� ،‬أقف �صامتًا �أمام‬

‫ع �أمل‬ ‫وو�ضعتتوزي‬
‫قالت متعجبة‪:‬‬
‫باب بيتها ال �أجد ما �أقوله‪ْ ،‬‬
‫ا�سمك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ُ �-‬‬
‫ت�صلك؟‬
‫‪ -‬بلى و�صلتني‪.‬‬
‫ابتلعت ريقي و�أنا �أحاول �إجابة �س�ؤال دار بعينيها وخجل ل�سانها‬
‫ُ‬
‫عن النطق به لال�ستف�سار عن �سبب جميئي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬أود التحدث يف �أمر ما مـ‪...‬‬
‫‪« -‬من هناك يا ليلى؟» قاطعني الأ�ستاذ �سالمة بعد �أن خرج‬
‫على كر�سيه املتحرك من �إحدى الغرف ي�ستطلع من الطارق‪.‬‬
‫�أجابته‪:‬‬
‫‪175‬‬
‫‪� -‬أجمد يا �أبي‪.‬‬
‫�صرتُ �أحت�س�س كث ًريا من جمرد ذكر ا�سمي مقرت ًنا ب�أبيها‪ ،‬ك�أنه‬
‫�إ�شارة ل�سرد تاريخي الأ�سود بعقله‪� .‬شعرتُ بالتورط وهو يدعوين‬
‫للدخول واجللو�س وي�أمر ليلى ب�إح�ضار من�شفة و�إعداد م�شروب دافئ‬
‫من �أجلي‪ .‬ق�ضى الوقت بالرتحيب بي والتحدث عن �أحوال الطق�س‬
‫ً‬
‫ف�صل كئي ًبا‪،‬‬ ‫ال�سيئة هذه الأيام وكرهه لف�صل ال�شتاء العتباره‬
‫تلحفت بها �سري ًعا بعد �أن‬
‫ُ‬ ‫وخالفته ليلى الر�أي وهي تناولني من�شفة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�ضعت امل�شروب �أمامي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫�صمتا بعد �أن انتهيا من حديثهما وهما يتبادالن النظرات املت�سائلة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫يف ما بينهما‪ ،‬بينما �أنا �أفكر يف الرد املنا�سب عندما حتني اللحظة‬

‫ع‬
‫احلا�سمة‪.‬‬
‫قالت ليلى‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أخربتني �أنك تريد التحدث يف �أمر ما يا �أجمد؟‬
‫وودتُ �أن �أخربها �أنني مل �أكمل جملتي «�أود التحدث يف �أمر ما‬
‫أبيك‪ ،‬ترددتُ يف �إخبارهما عن حقيقة‬ ‫معك على انفراد» لوال مقاطعة � ِ‬ ‫ِ‬
‫جميئي‪ ،‬ولكن قول �أي �سبب �آخر �سيكون غري منطقي وي�صعب ت�صديقه‬
‫يف ظل الأجواء املناخية ال�سيئة‪ ،‬وال �أريد �أن �أظهر �أمام الأ�ستاذ �سالمة‬
‫ك�شخ�ص كاذب ي�ستدعي الأ�سباب التافهة ليربر دخول البيت فيفقد‬
‫زلت �أحاول ت�صليح �صورتي القدمية �أمامه ولي�س من‬ ‫ثقته بي‪� ،‬أنا ما ُ‬
‫الذكاء �أن �أقوم ب�أي فعل �سيئ الآن‪ ،‬وملاذا �أخاف و�أتردد �إىل هذا‬
‫احلد؟ الرجل يح�سن ا�ستقبايل منذ �أن دخلت بيته‪ ،‬وقد يكون هذا هو‬
‫‪176‬‬
‫متاما لطلبي‪ ،‬وبالت�أكيد جميئي مبا�شر ًة �إليه �سيجعله‬
‫الوقت املنا�سب ً‬
‫ي�شعر بجديتي ويقدرها‪ .‬طيلة عمري �أ�ؤمن بنظرية �أن الأ�شياء التي‬
‫ت�أتي بغري ترتيب م�سبق �أف�ضل كث ًريا من الأ�شياء التي ُيعد لرتتيبها‪،‬‬
‫فلماذا ال �أطبق هذه النظرية على ما �أمر به الآن؟‬
‫قلت بجدية بعد �أن فردتُ قامتي وا�ض ًعا املن�شفة بجانبي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أعلم �أن ما �س�أقوله من املمكن �أن يبدو غري ًبا‪ ،‬و�أن جميئي يف‬
‫هذا الطق�س وبهذه الهيئة يبدو جنو ًنا‪ ،‬لكنني �أرى �أن تفكريي‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫يف هذا الأمر هو �أف�ضل ما دار بخلدي يف الآونة الأخرية �إن مل‬

‫ب�صدري �أ�ستمد منه ً‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫الهواءت �إىل‬ ‫ا‬
‫يكن �أف�ضل ما فكرتُ به طيلة حياتي‪.‬‬

‫ش‬
‫عيناهاربي ً‬‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫‪� -‬أ�ستاذ �سالمة‪� ،‬أنا �أتقدم �إليك لطلب يد ليلى‪ .‬توزيع‬
‫عزما للم�صارحة‬ ‫�سحبت بع�ض‬
‫ُ‬
‫قائل‪:‬‬ ‫تعلقت‬
‫بطلبي و�أنا �أنظر �إىل ليلى وقد ْ‬

‫•••‬
‫�سقط ه�شام � ً‬
‫أر�ضا بعد �أن تلقى لكمة قوية من يدي مبجرد �أن فتح‬
‫باب �شقته‪ ،‬قام وهو ي�ضع يده على وجهه ً‬
‫�سائل بفزع‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا حدث؟‬
‫قلت بغ�ضب‪:‬‬
‫ُ‬
‫ذهبت �إليها و�إىل �أبيها و�أخربتهما برغبتي و�أقنعتهما �أنني‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫غري مالئم كما كنت حتاول �إقناعي‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬

‫‪177‬‬
‫�أجاب وما زال على فزعه‪:‬‬
‫‪ -‬تق�صد ليلى؟ ال مل �أخربها ب�شيء‪.‬‬
‫عال �صوتي بفعل الغ�ضب �أكرث‪:‬‬
‫‪ -‬كفى كذ ًبا‪.‬‬
‫تابعت معات ًبا �إياه‪:‬‬
‫ُ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬ملاذا؟ كنت �أنت �أول من �أخربته‪ ،‬مل �أفعل معك �أي �شيء �سيئ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قال راج ًيا‪ :‬ب ل‬
‫وهكذا ترد اجلميل؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫‪� -‬صدقني مل �أخربها ب�أي �شيء يا �أجمد‪ .‬والتوزي‬ ‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫قلت‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أجمد! الآن �صرتُ �أجمد! �أمل �أكن الزعيم ً‬
‫قبل؟‬
‫نظرتُ �إليه با�ستحقار متاب ًعا‪:‬‬
‫‪ -‬كان �أبي حم ًقا يف كل ما �شعر به جتاهك‪ُ ،‬‬
‫كنت �أكذبه طيلة‬
‫الوقت و�أثق بك ل�سذاجتي‪.‬‬
‫�شهرتُ �سبابتي بوجهه و�أنا �أقول مهددًا‪:‬‬
‫‪ -‬احذر �أن �أرى وجهك ثاني ًة لبقية حياتي و�إال �ستندم كث ًريا‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫ان�سحبت تار ًكا ه�شام ً‬
‫جال�سا على الأر�ض غار ًقا يف بحر مفاج�أته‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ت�سحبه �إىل القاع دوامات نفيه الكاذب �آخذة معها كل �شعور طيب‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫كنت �أكنه له ً‬
‫•••‬
‫يوما و�إمنا �أُوجدناها يف عاملنا‬
‫ماذا عن الذكريات التي مل حتدث ً‬
‫متاما عن احلقيقة‪،‬‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬وبقيت غالية بكل تفا�صيلها البعيدة ً‬
‫يوم �أن �أحببنا و�صارحنا وع�شنا ق�صة حب ملحمية �صادقة ا�ستنزفنا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فيها كث ًريا من م�شاعرنا وقوت �أرواحنا من واقع حياتنا‪ ،‬ما دفعنا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�إىل حماربتها ظانني �سهولة االنت�صار‪ ،‬فنجد �أن ذكريات تخيالتنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تغلغلت داخلنا بعمق لن نقدر على الو�صول �إليه و�أنها عزيزة‪ ،‬عزيزة‬

‫والتوز عي‬
‫و�إن كانت توجعنا عند اكت�شافنا �أنها لن حتدث �أبدً ا و�أنها �ستبقى‬
‫خادما‬
‫حبي�سة امل�صباح حتى ُيحك بيد امل�ستحيل فيخرج ماردها ً‬
‫مطي ًعا‪ ،‬ويكون �أول ما نطالب به هو حتقيقها‪.‬‬
‫انقطعت خالله عن كل �شيء يذكرين‬ ‫ُ‬ ‫مر �شهر على ما حدث‪،‬‬
‫ً‬
‫متجاهل ر�سائل وات�صاالت‬ ‫ً‬
‫حماول ترميم وجع ناء قلبي بحمله‪،‬‬ ‫بليلى‬
‫�أ�صدقاء اجلل�سات حتى توقفوا عن املحاولة‪ ،‬كلما تذكرتُ رف�ض �أبيها‬
‫املبهم جن عقلي‪ ،‬مل يو�ضح ومل يف�سر‪ ،‬اكتفى فقط بجملة‪�« :‬أنت �شاب‬
‫جيد وكثري من الفتيات يتمنني االرتباط بك‪ ،‬ولكن �أعتذر �إليك لن‬
‫حاولت �أن �أفهم منه هل يوجد �أحد �آخر ف�أجاب‬
‫ُ‬ ‫�أ�ستطيع قبول طلبك»‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬هل‬
‫بالنفي‪ ،‬هل ملوقفي القدمي عالقة بهذا ف�أجاب �أنه ن�سيه ً‬
‫يوجد �أي �أ�سباب �أخرى؟ ف�أجاب ال‪ ،‬لكنه يرى �أننا غري متالئمني!‬
‫رغبت فيه يف‬
‫نف�س جملة ه�شام النذل‪� ،‬أف�سد ال�شيء الوحيد الذي ُ‬
‫‪179‬‬
‫ظلت �صامتة تنظر �إيل‬‫حياتي بهذا القدر‪ .‬الغريب هو موقف ليلى‪ْ ،‬‬
‫بعني حزينة حز ًنا مل �أ�ستطع �أن �أحدد نوعه‪ ،‬هل هو حزن ملوقف �أبيها‬
‫�أم حزن �شفقة مما �س�أعانيه‪ .‬زجرتُ قلبي عن حماوالت تربيره لها‪،‬‬
‫كفى غبا ًء يا �أجمد‪ ،‬ال تتعلق بالأحبال الذائبة وتغرق نف�سك يف وهم‬
‫حبها لك‪ ،‬كانت تعاملك باهتمام مثلك مثل اجلميع‪ ،‬مل متيزك ب�أي‬
‫�شيء خمتلف وقلبك ف�سر هذا ح ًبا مما دفعك للإقدام يف م�شاعرك‬
‫�أكرث‪ ،‬ت�صبح امل�شاعر رائعة عذبة ونحن يف غمارها‪ ،‬ال تتجلى بق�سوتها‬

‫ع‬
‫�إال عند احلرمان منها بعد العطاء‪� ،‬أن يظل ال�شعور عال ًقا بذاكرتك‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ك�شعور خالب تود كل دقيقة �أن يقتحمك ويهز كيانك ب�سحره �أف�ضل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫من �أن تنخدع بجمال بحره فتُقدم وتتعمق حتى الغرق وال جتد للنجاة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ً‬
‫�سبيل‪.‬‬

‫ع‬
‫�أو رمبا حدث هذا كله معي تكف ًريا لذنب لبنى‪� ،‬أجترع من علقم‬
‫نف�س الك�أ�س لأقدر ما مرت به‪.‬‬
‫ً‬
‫ات�صال بك‪ ،‬هل �أجيب؟» قالتها‬ ‫‪�« -‬سيد �أجمد‪� ،‬سيد معتز يجري‬
‫�سو�سن‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫جاء �صوت معتز‪:‬‬
‫‪ -‬مرح ًبا �سيد �أجمد‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬بخري‪ ،‬هل تقدم �أحد �آخر للوظيفة؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬مل يتقدم �أحد‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫‪ -‬هل حدث �شيء؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ولكن �سيد �أجمد ا�سمح يل و�أرجو �أال تت�ضايق من كالمي‪،‬‬
‫�إىل متى �سنظل نرف�ض كل احلفالت التي ت�أتينا؟ هكذا‬
‫�ستخ�سر ال�شركة �سمعتها‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أ�ستطيع قبول �أي حفالت حتى يحل �أحد موثوق بقدراته‬
‫مكان ه�شام‪.‬‬

‫ع‬
‫قال راج ًيا‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫قاطعته غا�ض ًبالا‪:‬‬
‫‪� -‬سيد �أجمد‪ ،‬هل �أت�صل به�شام و�أطلب منه الرجوع �إىل ال�شر‪..‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال تت�صل به‪ ،‬ثم ماذا تظن؟ هل تظن �أنه من تركنا؟ �أنا‬
‫من ف�صلته‪.‬‬
‫يائ�سا‪:‬‬
‫قال ً‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬كما تريد‪.‬‬
‫�أعلم �أن ما يقوله معتز �صحيح‪ ،‬ه�شام عملة نادرة ي�صعب الو�صول‬
‫ملثلها‪ ،‬وغيابه عن ال�شركة بجانب ما �أمر به �أثرا ب�شكل كبري على‬
‫ن�شاطها و�أديا �إىل تدهور �أحوالها‪� .‬أ ًيا كان لن �أعيد ه�شام �أبدً ا حتى‬
‫�إن �أفل�ست ال�شركة‪.‬‬
‫•••‬
‫‪181‬‬
‫كنت �أنا‬
‫‪ -‬غريب‪ ،‬هذه �أول مرة تطلب �أن جنتمع للع�شاء م ًعا‪ُ ،‬‬
‫دوما يف االجتماع معك‪.‬‬
‫من يرغب ً‬
‫ابت�سمت له ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫كنت دائم االن�شغال ب�أمر‬
‫‪� -‬أرغب �أنا كذلك يا �أبي‪ ،‬ولكني ُ‬
‫وا�ستغللت فر�صة عدم وجود حفالت هذه الأيام‬
‫ُ‬ ‫ال�شركة‪،‬‬
‫أ�سرعت ملقابلتك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و�‬

‫ع‬
‫فتابعت بنربة مل �أمتكن من �إخفاء احلزن بها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ابت�سم من كالمي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪ -‬هل تعلم‪� ،‬أ�شعر �أنني بحاجة �إليك هذه الأيام‪� ،‬أنت الوحيد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الذي �أثق مبقدار حبه جتاهي‪.‬‬

‫ز‬
‫هلي �أنت‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫أجمد‪ ،‬بقدر ما ي�سعدين كالمك بقدر ما ع‬
‫افرت�ش القلق مالمح �أبي وانتقل �إىل املقعد املجاور يل ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫يقلقني‪،‬‬ ‫‪�-‬‬
‫بخري؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ال تقلق‪� ،‬شعرتُ فقط �أنني �أريد قول هذا الكالم و�أنني‬
‫يجب �أن �أثق بحد�سك جتاه الأ�شخا�ص يف ما بعد‪ ،‬اكت�شفت �أن‬
‫حتذيرك يل جتاه ه�شام كان �صاد ًقا‪.‬‬
‫قال بنربة متوعدة‪:‬‬
‫‪-‬هل �ضايقك؟ �أخربين فقط و�سرتى ماذا �س�أفعل معه‪.‬‬
‫قلت ناف ًيا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال يا �أبي مل ي�صل الأمر لهذه الدرجة‪ ،‬كما �أنني ف�صلته من‬
‫ال�شركة‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫‪-‬خ ًريا فعلت‪.‬‬
‫عال رنني هاتف �أبي اخلا�ص بال�شخ�صيات املهمة ف�أجاب �سري ًعا‬
‫مرح ًبا بحرارة مبالغة‪ ،‬يخربين ب�صوت هام�س �أن املت�صل �صديقه‬
‫املقرب باملجل�س‪ ،‬تكلما يف كثري من الأمور حتى انتهى من املكاملة‬
‫وتوجه �إ ّ‬
‫يل حمذ ًرا‪:‬‬
‫‪� -‬أجمد‪َ ،‬‬
‫توخ احلذر جيدً ا هذه الأيام وراقب ت�صرفاتك‪،‬‬
‫�صديقي يخربين �أن املجل�س �سي�شن حملة مو�سعة ل�ضبط‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫(اخلالدين) وحما�صرتهم والقب�ض على كل من ي�شتبه بهم‪،‬‬

‫ك‬
‫موافت ًقا يف‬
‫بملل بعد �أن �سمعت هذه الن�صائح عدة‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫خ�صي�صا لتحذيري‪.‬‬ ‫وات�صل‬

‫ل‬
‫ً‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫أ�سي‬ ‫�أوم�أت له بر�‬
‫اجلادة احلذرة‪.‬‬ ‫اللهجة‬ ‫مرات �سابقة وجميعها كانت بنف�س‬
‫تابع ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬كنت �أرغب يف زيارة والدتك قري ًبا ولكن �س�أ�ؤجل هذا الأمر‪،‬‬
‫�سيتو�سع املجل�س يف البحث ب�أطراف املدينة بعد اكت�شافهم‬
‫للتو بيتًا مهجو ًرا يتخذه (اخلالدين) مق ًرا لهم مبنطقة‬
‫(القدامي)‪.‬‬
‫مل �أكن �أهتم كث ًريا ملا يقوله �أبي‪ ،‬ولكن تيقظ ذهني فج�أة عندما‬
‫ذكر ا�سم املنطقة‪ ،‬وبد�أت بالربط بني كالمه و�أحداث الفرتة ال�سابقة‪،‬‬
‫ع�صرتُ ذاكرتي لتذكر اليوم حتديدً ا حتى تذكرته �أخ ًريا‪ ،‬نظرتُ �إىل‬
‫هاتفي ملعرفة ب�أي يوم نحن‪ ،‬فوجدتُ يومنا احلا�ضر يطابق نف�س‬
‫اليوم‪ ،‬يوم الإثنني‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫قلت لأبي و�أنا �أت�صنع اال�ستغراب حتى ال يالحظ �شعوري الأ�سا�سي‬
‫ُ‬
‫بالقلق‪:‬‬
‫أ�ضعت مفتاح دراجتي‪� ،‬أبي هل ميكنني ا�ستعارة‬
‫‪ -‬يبدو �أنني � ُ‬
‫�سيارتك؟‬
‫‪ -‬ح�س ًنا �س�أو�صلك �إىل البيت بعد �أن ننتهي‪.‬‬
‫‪ -‬لن �أ�ستطيع اجللو�س �أكرث‪ ،‬تذكرتُ موعدً ا مه ًما ويجب �أن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أذهب الآن‪ ،‬هل ميكنني ا�ستعارة �سيارتك �أم �أطلب �سيارة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ال�سيارةكو�س�أطلب �أنا �سيارة �أجرة‪.‬‬
‫ت‬
‫�أجرة؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫‪ -‬ال‪ ،‬خذ‬

‫التوزيع‬
‫ً‬
‫و‬
‫م�سرعا متمن ًيا �أال‬ ‫وانطلقت‬ ‫ال�سيارة‬ ‫وذهبت �إىل‬
‫ُ‬ ‫التقطت املفتاح‬
‫ُ‬
‫يكون قد فات الأوان‪.‬‬

‫•••‬

‫‪184‬‬
‫(‪)14‬‬
‫(عرس)‬

‫جذبت �أنظار املارة �إليها‪ ،‬بعد �أن‬


‫ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أطلقت الأر�ض �صرخة مميزة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كبحت جماح �إطارات ال�سيارة دفعة واحدة �أمام �إ�شارة مرور ُو�ضعت‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫هنا الختبار مدى �صربي ب�إظهار عداد ثوانيها املتحرك ببطء‪ ،‬ت�ؤدي‬
‫رفعت �أمامها رايتي‬
‫مهمتها على �أكمل وجه يف �إثارة ا�ستفزازي‪ُ ،‬‬
‫البي�ضاء متوعدً ا �إياها بالتلف ذات ليلة غري حمددة املوعد‪� ،‬أندفع‬
‫وقفت‬
‫كطلقة ال تخطئ هدفها‪ ،‬ملحتها من بعيد تنتظر �أمام بيتها‪ُ ،‬‬
‫حتا باب ال�سيارة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫متاما فا ً‬
‫�أمامها ً‬
‫‪-‬ا�صعدي‪.‬‬
‫قالت وقد متلكتها الده�شة‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬ا�صعدي‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟ هل حدث �شيء؟‬
‫لك‪.‬‬
‫‪� -‬س�أ�شرح ِ‬
‫‪185‬‬
‫‪ -‬ولكن لدي موعد الآن‪.‬‬
‫‪� -‬أعلم‪ ،‬لذلك �أتيت‪.‬‬
‫بدت عليها احلرية وهي تنظر مينة وي�سرة مينعها الرتدد من‬
‫ْ‬
‫ح�سمت �أمرها ب�صوت �آمر ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫اال�ستجابة لطلبي‪،‬‬
‫‪ -‬هيا‪.‬‬
‫أطاعت �أمري على م�ض�ض ظهر يف كرثة نفثاتها وعقد يديها �أمام‬
‫� ْ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�صدرها بقوة‪ ،‬يتحا�شى ب�صرها املعلق بالنافذة النظر جتاهي‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫فت�شت يف ذاكرتي عن �أقرب مكان �آمن بعيدً ا عن �أعني الكامريات‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وانطلقت �إليه‬
‫ُ‬ ‫والأنظمة الإلكرتونية �أخربين به �أ�صدقاء ال�سوء‪،‬‬

‫ع‬
‫م�سرعا‪.‬‬
‫ً‬
‫رن هاتفها وه َّمت بالرد فقلت لها‪:‬‬
‫‪� -‬أخربيه ب�إلغاء املوعد‪.‬‬
‫‪ -‬هذا‪..‬‬
‫‪� -‬أعلم من هو‪� ،‬أخربيه كما �أخربتك‪.‬‬
‫نظرت �إيل نظرة كدتُ �أ�سمع من خاللها بقبقة ماء عينيها وقد‬
‫ْ‬
‫و�صل ملرحلة الغليان ب ِقدر الغ�ضب‪ ،‬اعت�صرت الهاتف وهي تفعل ما‬
‫�أمرتها به قائلة بنفاد �صرب بعد �أن �أغلقت‪:‬‬
‫‪� -‬أخربته‪� ،‬ألن ت�شرح ماذا يجري؟‬

‫‪186‬‬
‫‪ -‬اقرتبنا‪.‬‬
‫م�ضت ع�شر دقائق و�صلنا بعدها �إىل مكان على جانب املدينة‬
‫خال من ال�سكان والإ�ضاءة‪ ،‬تطل حافة ه�ضبته اجلريية‬ ‫املعمورة ٍ‬
‫العالية على كثري من البيوت املرتا�صة بع�ضها بجانب بع�ض تتخللها‬
‫الأ�شجار و�أعمدة الإنارة‪.‬‬
‫ترجلت عن ال�سيارة متج ًها �إىل طرف احلافة ناظ ًرا �إىل املدى‬
‫ُ‬
‫�أت�أمل القمر الذي التهمت ال�سماء ن�صفه‪ ،‬تارك ًة الن�صف الآخر‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لتقتات عليه يف الليايل القادمة الباقية من ال�شهر‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫دفعت باب ال�سيارة بقوة غا�ضبة جنم عنها �صوت لو �سمعه �أبي‬
‫ْ‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫جلاء ودفننا حيني‪ ،‬قالت متوعدة‪:‬‬

‫زيع‬ ‫و‬ ‫‪� -‬أرجو �أن يكون الأمر ي�ستدعي كل هذا‪.‬‬


‫نظرتُ �إليها ً‬
‫قائل بهدوء‪:‬‬
‫‪ً � -‬إذا � ِ‬
‫أنت منهم‪.‬‬
‫قطبت حاجبيها م�ستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬ممن؟‬
‫‪ -‬اخلالدين‪.‬‬
‫انب�سطت مالحمها من وقع ال�صدمة و�شخ�ص ب�صرها‪ ،‬ازدردت‬
‫ريقها لرتوي حل ًقا يب�س فج�أة‪ ،‬وقالت وهي حتاول ال�سيطرة على‬
‫ح�شرجة �أملت ب�صوتها‪:‬‬
‫‪187‬‬
‫‪ -‬ما هذا الذي تقوله! من �أخربك بهذا اجلنون؟‬
‫‪ -‬بيت خالة �سارة �أخربين‪.‬‬
‫‪ -‬لكنه بيت خالة �سارة بالفعل‪.‬‬
‫‪� -‬أنا مل �أك ّذب حتى ت�ؤكدي الأمر‪.‬‬
‫�أربكتها جملتي فبد�أت بتنفيذ اخلطة املتبعة منذ مئات ال�سنني‬
‫لت�شتيت انتباهي قائلة‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪� -‬ألهذه الدرجة حتاول االنتقام مني و�إل�صاق هذه التهمة بي؟‬

‫بل‬
‫ن‬ ‫ل‬‫ت‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫عنك مبا�شر ًة دون املجيء � ِ‬
‫إليك‪.‬‬ ‫أبلغت ِ‬
‫كنت �أريد االنتقام ل ُ‬
‫‪� -‬إن ُ‬

‫‪ -‬ليلى كفى‪ِ � ،‬أنت تكذبني ب�شكل يثري الغثيانواواللتيدلوزي‬


‫علىع�أي‬
‫ناه ًيا‪:‬‬ ‫كادت تنطق بكلمة �أخرى فوقفتها‬
‫ْ‬

‫احرتافية يف الأداء‪ ،‬كفى رجا ًء‪.‬‬


‫تناولت‬
‫ُ‬ ‫أبعدت ب�صرها ب�ضيق م�ست�سلمة لك�شف حقيقة �أمرها‪،‬‬
‫� ْ‬
‫فنظرت جتاهي ذاهلة‬
‫ْ‬ ‫�سيجارة من جيبي �أ�شعلتها لهدف مق�صود‬
‫ت�س�أل متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن‪ ،‬ال�سجائر حمرمة‪ ،‬كيف‪..‬‬
‫قاطعت حريتها‪:‬‬
‫ُ‬
‫متاما‪ ،‬مل ُت َح ذاكرتي‪ ،‬االختالف الوحيد‬
‫‪� -‬أتذكرها لأين مثلك ً‬
‫لديك مناعة من الفريو�س �أما �أنا فلم �أتعر�ض له‪.‬‬
‫بيننا �أن ِ‬
‫‪188‬‬
‫م�ست مالحمها �إ�شراقة �سعادة ال �أعلم �سببها احلقيقي‪ ،‬هل هي‬
‫�سعادة االنتماء باكت�شاف �أي �أحد ي�شبهك بتلك املدينة ال�ضائعة‪� ،‬أم‬
‫اقرتبت منها �أكرث ً‬
‫�سائل بلهجة معاتبة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�سعادة تتعلق مبكانتي لديها‪.‬‬
‫نف�سك‬
‫عليك غري احلكمة‪ ،‬ملاذا تورطني ِ‬ ‫‪ -‬ملاذا؟ �أنا ما عهدت ِ‬
‫بهذا الأمر؟‬
‫تعجبت ب�ضيق قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أُورط نف�سي!‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫تورطنيكتِ‬‫ري‬ ‫ص‬
‫انتهزتُ الفر�صة واتخذتُ و�ضعية املعلم النا�صح ً‬
‫قائل بحزم‪:‬‬
‫ع‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫نف�سك يف ما ال قيمة له‪ ،‬معذرة ولكن ما الذي فعله‬ ‫‪ -‬نعم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ب�سببكم‪،‬ت كانت حياتنا‬
‫و‬
‫�أي�سر و�أف�ضل كث ًريا قبل ظهوركم‪ ،‬نعي�ش مطمئننيزيماعدمنا‬
‫نغ�صوا علينا معي�شتنا‪ ،‬طيلة الوقت‬ ‫(اخلالدين) �سوى �أنهم‬
‫ن�شعر بالذعر خمافة �أن ُيك�شف �أمرنا‬

‫نفعل كل �شيء باخلفاء‪ ،‬ما وجه اال�ستفادة التي حققتموها‬


‫بعدما �أثرمت غ�ضب املجل�س واقتحمنا واقتحم بيوتنا بذريعة‬
‫حماية الأهايل منكم؟ ملاذا �شخ�ص مثلي يعي�ش حياته بهذا‬
‫ال�شكل و�أنا غري من�ضم �إليكم؟ �أب�سط الأمور ال �أقدر على‬
‫فعلها داخل �شقتي‪ ،‬حتى هذه ال �أ�ستطيع �أن �أتناولها �إال داخل‬
‫املرحا�ض‪.‬‬
‫أدت مهمتها‪،‬‬
‫ختمت جملتي ب�إلقاء ال�سيجارة بعيدً ا بغ�ضب بعد �أن � ْ‬
‫ُ‬
‫�شاع ًرا بال�ضيق متذك ًرا �شكل حياتي املليئة باخلوف ب�سبب �أبي‬
‫وحتذيراته الدائمة وكث ًريا مما ع�شته وال ي�سعني قوله لها الآن منذ‬
‫�أن �أعلنوا عن �أنف�سهم‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫قالت ب�سخرية الذعة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬نحن �سيئون للغاية‪ .‬كيف جتر�أنا وعكرنا �صفوك و�أف�سدنا‬
‫متعتك �إىل هذه الدرجة؟‬
‫وقبل �أن �أُبدي �أي ردة فعل جتاه �سخريتها ْ‬
‫تابعت بغ�ضب جارف‪:‬‬
‫‪ُ -‬مي ديننا‪ ،‬تاريخنا‪ ،‬علمنا‪ ،‬هويتنا‪ ،‬عاداتنا‪ ،‬ذكرياتنا‪،‬‬
‫ا�ستباحوا عقولنا مبطامعهم وطم�سوا ب�صريتنا و�أنت ال ي�شغل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بالك �سوى �سيجارتك! كيف ال تقدر حجم الكارثة التي حلت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بنا! كيف تنظر �إىل جرميتهم بهذه التفاهة! تنظر �إلينا على‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أننا �سبب البالء وتغ�ض الطرف عما فعلوه‪ ،‬و�ضعنا حياتنا يف‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫خطر دائم‪ ،‬كل يوم ُيقب�ض على عدد منا م�ضحني ب�أنف�سهم‬

‫ع‬
‫من �أجل هدف حملناه على عاتقنا م�ؤمنني به‪ ،‬وت�أتي �أنت الآن‬
‫وت�سفه من كل ما نقوم به!‬
‫أطلقت زفرة حتمل كث ًريا من الأ�سى‪:‬‬
‫�صمتت برهة وقالت بعد �أن � ْ‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أ�سمع �أحاديث مثل حديثك هذا طيلة الوقت من �أهل بالدنا‬
‫عن اخلراب الذي �أحلقناه بها ومدى ف�سادنا‪ ،‬لكن تفاج�أت‬
‫�أن يخرج منك ومفاج�أتي الكربى �أن يخرج من �أحد ما زال‬
‫ً‬
‫حمتفظا بذاكرته‪ ،‬ومن املفرت�ض �أن يح�سن تقدير ما ميتلكه‬
‫ويفقده النا�س من حوله‪ .‬على كل حال نحن م�ستمرون يف ما‬
‫نفعله حتى نحقق ما نطمح �إليه‪ ،‬وبعد عدة �سنوات من الآن‬
‫عندما تتناول �سيجارتك بكل �أريحية �ستتذكرنا باخلري يا‬
‫�سيد �أجمد‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫�شخ�صا �آخر غري الذي‬
‫ً‬ ‫مل تكن ليلى التي تتحدث �أمامي‪ ،‬كان‬
‫اعتدتُ هدوءه وابت�سامته الدائمة‪ ،‬نطقت بغ�ضب مل يكن وليد اللحظة‬
‫بل غ�ض ًبا ت�أ�صل بداخلها منذ زمن‪ ،‬غ�ض ًبا مل يج�سده ل�سانها فقط بل‬
‫ممزوجا بوجع و�أمل وحزن وقهر متثل‬
‫ً‬ ‫ج�سدته جميع مالحمها‪ ،‬غ�ض ًبا‬
‫م�سرعا عائدً ا‬
‫ً‬ ‫فهربت‬
‫ُ‬ ‫ملعت بعينيها مل يتحمل قلبي ر�ؤيتها‬
‫يف دمعة ْ‬
‫�إىل ال�سيارة‪.‬‬
‫•••‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫و�صلنا �أمام بيتها يلفنا ال�صمت طيلة طريق العودة‪ ،‬نخ�شى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫قلت ناظ ًرا �إىل عجلة‬
‫التحدث ب�أي كلمات قد تنك�أ مزيدً ا من اجلراح‪ُ .‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫القيادة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تذهبوا �إىل هناك ثاني ًة‪ ،‬اكت�شفوا هذا املكان‪.‬‬
‫قالت م�ستغربة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف عرفت؟‬
‫‪ -‬ال يهم كيف‪ ،‬املهم �أال تذهبوا ثاني ًة‪.‬‬
‫وهمت بالنزول فوقفتها‪:‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها ْ‬
‫‪ -‬ليلى‪.‬‬
‫ا�ستجابت لندائي دون �أن تتكلم فنظرتُ �إليها ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪ -‬هل رف�ضتما طلبي لهذا ال�سبب؟‬

‫‪191‬‬
‫وا�ضحا ل�س�ؤايل‪ ،‬تابعتها‬
‫ندت من عينيها نظرة �شفقة مل حتمل ر ًّدا ً‬
‫ْ‬
‫قائلة وهي تهم بالنزول‪:‬‬
‫‪ُ -‬ت�صبح على خري يا �أجمد‪.‬‬
‫نزلت من ال�سيارة بعد �أن تركتني �أتخبط بني جدران احلرية بعدم‬ ‫ْ‬
‫انطلقت‬
‫ُ‬ ‫�إجابتها‪� ،‬أحاول �أال �أف�سد طرب قلبي لر�ؤيتها بكرثة التفكري‪،‬‬
‫وكلي ثقة بتحقيق دعوتها �أن �أ�صبح على خري‪ ،‬ف�صباح يوم �سبقته ليلة‬
‫جمعتني بها بالت�أكيد �سيكون بخري‪ ،‬بخري جدً ا‪.‬‬
‫•••‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫تطلعت �إىل مر�آة امل�صعد و�أنا �أحاول �إقناع بع�ض ال�شعريات النافرة‬
‫ُ‬

‫والتوزي‬
‫عجزت م�ستح�ضرات‬ ‫ْ‬ ‫من جانب ر�أ�سي بالنوم مثل الباقية‪ ،‬بعد �أن‬

‫ع‬
‫وظلت حمتفظة مببد�أها بعدم االجنراف‬ ‫العناية بال�شعر عن تروي�ضها ْ‬
‫مع التيار‪ ،‬تركتها م�ست�سل ًما للف�شل كالعادة منذ بدء حماوالتي معها‬
‫منذ �سنني‪.‬‬
‫�أعدتُ �ضبط هندام بذلتي ال�سوداء حديثة ال�شراء‪� ،‬أُخفي ب�أناقتها‬
‫وقذفت به ل�سوء مذاقه‬
‫ْ‬ ‫قل ًبا اهرت�أ بعد �أن بالغت احلياة يف �إن�ضاجه‬
‫ومل يعد وجبة �صاحلة لإ�شباع خواء روح جائعة لل�سكن‪.‬‬
‫و�صلت �إىل الطابق ال�سابع حيث تقبع قاعة عر�س ه�شام‪ ،‬دعاين‬ ‫ُ‬
‫�إىل زفافه بر�سالة ن�صية تركها يل ومل يحدثني‪� ،‬أظنه جتنب هذا‬
‫الأمر بعد علمه مبعرفتي حلقيقته‪ ،‬بالت�أكيد نقلت ليلى ما حدث يومها‬
‫�إليهم جمي ًعا‪ .‬ال �أدري كيف جنح يف �إخفاء الأمر لهذه الدرجة طيلة‬
‫ابت�سمت �ساخ ًرا و�أنا �أتذكر حتذيرات �أبي املتكررة‬
‫ُ‬ ‫فرتة عمله معي‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫باالنتباه جيدً ا �أمامه‪ ،‬فهو يراين كث ًريا ورمبا يالحظ احتفاظي‬
‫بذاكرتي ويبلغ املجل�س عني‪� ،‬أ�شعر باخلجل ال�شديد �إزاء ما فعلته‬
‫كنت �أرى ال�صدق يف عينيه حينها‬
‫معه‪ ،‬مل يكن هو ال�سبب كما اتهمته‪ُ ،‬‬
‫ولكن الغ�ضب �أعماين‪ ،‬مل �أُكلف نف�سي حتى عناء االعتذار بات�صال‬
‫�صغري يدفع عنه الظلم ويرد كرامته‪ ،‬ومع ذلك دعاين‪� ،‬س�أزوره‬
‫خ�صي�صا يف بيته لالعتذار �إليه ب�شكل يليق مبكانته عندي‪.‬‬
‫ً‬
‫كانت القاعة ت�ضج ب�أ�صوات احلا�ضرين ي�سلون �أنف�سهم باحلديث‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ركنت �إىل طاولة بعيدة عن الأعني يتخذ‬ ‫حلني و�صول العرو�سني‪ُ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ملحت ليلى و�أبيها يجل�سان على‬
‫جمل�سا‪ُ ،‬‬ ‫الفراغ من مقاعدها الأربعة ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فنحيت ب�صري بعيدً ا متظاه ًرا باالن�شغال يف البحث‬
‫ُ‬ ‫طاولة باملنت�صف‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫عن مكان للجلو�س‪.‬‬

‫القاعة‬ ‫ي‬ ‫ز‬


‫فهمت من خاللها و�صولهما‪ ،‬دلفا �إىل ع‬
‫والتوجه لباب‬ ‫بالقيام‬ ‫مرت دقائق بد�أ بعدها بع�ض الأ�شخا�ص‬
‫القاعة مع حدوث �ضجة ُ‬
‫وا�ستقرا على �أريكة فخمة باملنت�صف و�سط حفاوة وترحيب ومباركات‬
‫اجلميع‪ ،‬كانت ال�سعادة املرت�سمة على وجه ه�شام و�سارة كفيلة ب�إ�سعاد‬
‫كل من ينظر �إليهما تلقائ ًيا‪ ،‬ي�شبك يده بيدها كاملتعلق بطوق جناة‬
‫وجده و�سط غرقه‪ ،‬ينظر �إليها نا�س ًيا من حوله بنظرات ُتطمئن قلبه‬
‫ب�أن ما يعي�شه الآن واقع‪ .‬كانت ليلى مالزمة ل�سارة منذ دخولها للقاعة‬
‫ت�ساعدها بحمل ف�ستانها و�إجال�سها والإ�سراع �إليها �إن فقط �أ�شارت‪،‬‬
‫حتوم حولهما بروح حمبة وت�صورهما با�ستمرار لتُخلد حلظات متر‬
‫�سري ًعا ولن تعود‪ .‬ال �أعلم هل درتُ بخلدها ولو لثانية ور�أتني مبو�ضع‬
‫ه�شام كما �أراها �أنا طيلة الوقت مبو�ضع �سارة؟‬

‫‪193‬‬
‫ملحني ه�شام من و�سط اجلمع فاختلطت �سعادة وجهه باملفاج�أة‬
‫م�سرعا‪ ،‬كان جل ًيا �أنه مل يكن يتوقع ح�ضوري وال �أنكر‬
‫ً‬ ‫وحياين بيده‬
‫قمت من مكاين متج ًها �إليهما‬‫�أنني �شعرتُ ب�صدق فرحته بر�ؤيتي‪ُ ،‬‬
‫مبار ًكا له هو و�سارة متمن ًيا لهما حياة مليئة بال�سعادة واحلبور‪ ،‬تقابل‬
‫فا�ضت ب�أكرث‬
‫ْ‬ ‫ألقيت عليها حتية عابرة مل تبادلني مبثلها‪ ،‬بل‬
‫وجهانا ف� ُ‬
‫أبدت ترحي ًبا �أ�سعدين‪� ،‬أ�شارت �إىل الأ�ستاذ �سالمة فبد�أ بالتحرك‬
‫و� ْ‬
‫أ�سرعت �أنا �إليه‪ ،‬انحنيت ملق ًيا ال�سالم فهم�س ب�أذين ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بكر�سيه ف�‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬ن�شكرك على تنبيهك لنا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫رددتُ �شكره بابت�سامة جماملة راج ًعا �إىل طاولتي بعد ا�ستئذانه‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫فهمت �سر املعاملة اللطيفة من ِقبل ليلى و‬
‫الأ�ستاذ �سالمة � ً‬

‫ووالدها‪،‬التو‬
‫أي�ضا منهم‪ ،‬الآن �صاروا ه�شام و�سارة وليلى و�أبيها‪،‬‬

‫وذلكزيتقدي‬
‫ع ًرا‬
‫ُترى كم عددهم بهذه القاعة؟ �أم �أن جميعهم من (اخلالدين)؟‬
‫ُ‬
‫قمت بهذا من باب املروءة‪،‬‬
‫منهما ملا فعلته‪ ،‬رمبا يتخيل �أبوها �أنني ُ‬
‫وحقيقة الأمر �أن جمرد تخيل �إ�صابة ليلى ب�أذى حينها كاد ي�صيبني‬
‫باجلنون‪ ،‬هل ُيق ّدر ح ًقا مدى احتمايل لتعنيف �أبي لك�سر �إ�شارة‬
‫فعلت هذا ب�سيارته وح ّملني دفع الغرامة‬
‫مرورية؟ والأدهى �أنني ُ‬
‫كاملة‪ .‬بالت�أكيد ال ُيقدر‪ ،‬لو ق ّدر هذا لزوجني ابنته ً‬
‫حال و�صار العر�س‬
‫عر�سني‪.‬‬
‫جاء الوقت املحبب للجميع ب�أي زفاف‪ ،‬وقت الطعام‪ ،‬بد�أت تفرت�ش‬
‫الطاوالت بالأطعمة وقطع كعك العرو�سني مع امل�شروبات الباردة‪ ،‬وما‬
‫�إن هم احلا�ضرون بتناول الطعام و�سط �ضحكاتهم ب�أخذ فا�صل‬
‫عال نتيجة‬
‫ق�صري يبد�أ بعده االحتفال بالعرو�سني حتى �صدر �صوت ٍ‬
‫‪194‬‬
‫دفع باب القاعة بقوة �أفزعنا‪ ،‬دخلوا بزيهم الأ�سود وهيئاتهم الكئيبة‬
‫غري املالئمة لأجواء العر�س‪ ،‬بتجهم نظر زبانية قوات املجل�س �إىل‬
‫وجوه اجلميع م�ستمتعني ب�إتالف فرحتهم‪ ،‬يقول �أحدهم ب�صوت‬
‫�أج�ش‪:‬‬
‫‪� -‬أين املدعو ه�شام مراد علي؟‬
‫بد�أ القلق يعثى بني احلا�ضرين ملتزمني ال�صمت خ�شية ما‬
‫�سيحدث �إن �أجابوا‪ ،‬ب�صوت �أعنف �أعاد �س�ؤاله ثاني ًة ومل يلقَ جوا ًبا‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ف�أ�صدر عقابه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪ -‬جميع من يف القاعة رهن االحتجاز حتى نتحقق من هوياتكم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫قام ه�شام من جوار �سارة التي جت�سد الرعب بعينيها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬أنا ه�شام مراد‪.‬‬
‫اجته �إليه ً‬
‫قائل ب�صرامة‪:‬‬
‫‪ -‬تف�ضل معنا‪� ،‬أنت رهن االعتقال‪.‬‬
‫ابتلع ه�شام ريقه بعد �أن �ألقى نظرة على �سارة التي ت�شبثت بيده‬
‫كطفل �صغري ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪ -‬والتهمة؟‬
‫�أجاب ب�صرامة �أكرث‪:‬‬
‫‪ -‬واحد من (اخلالدين)‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫كانت هذه اجلملة كفيلة ب�إف�ساد جميع معامل البهجة وال�سعادة‬
‫التي كانت تغمر املكان واحلا�ضرين منذ دقيقة واحدة‪.‬‬
‫مل يقبلوا النقا�ش �أو التفاو�ض من ِقبل البع�ض ب�أن الأمر الذي‬
‫بحوزتهم خاطئ بالت�أكيد‪ ،‬و�أن يرجعوا للت�أكد ويرتكوا العري�س ل ُيكمل‬
‫ليلته‪ ،‬اقتادوا ه�شام معهم �ساحبني الهواء من القاعة تاركني اجلميع‬
‫�سارعت‬
‫ُ‬ ‫يف حالة من ال�صدمة من انقالب احلال واحلزن على ه�شام‪،‬‬
‫باللحاق بهم تلوح �أمامي طريقة واحدة قد تنجح يف �إنقاذه من‬
‫براثنهم‪ ،‬متج ًها �إىل اخلارج وما زال �صوت �سارة عال ًقا ب�أذين وهي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تنتحب وت�صرخ با�سم ه�شام‪.‬‬
‫•••‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫آين �نأمام باب بيته وما زالت �آثار‬ ‫بر�‬
‫و‬‫ر ً‬
‫�سائلالبخوف �شديد‪:‬‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ش‬
‫زيع‬
‫احتل الفزع عي َني �أبي عندما‬
‫طرقاتي‬ ‫النوم باقية على وجهه وقد �أيقظته �شدة‬
‫‪ -‬ماذا حدث؟ هل �أ�صابك مكروه؟‬
‫‪ -‬ال اطمئن‪ ،‬ولكني �أحتاج �إليك يف �أمر عاجل ال يحتمل الت�أخري‪.‬‬
‫فتح الباب �أكرث لأدخل‪ ،‬فقلت ناه ًيا‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لي�س هنا‪ ،‬بل يف ال�سيارة‪.‬‬
‫م�سرعا معي نحو ال�سيارة‪ ،‬جل�سنا بها‬
‫ً‬ ‫انتعل �أبي خ ًفا منزل ًيا واجته‬
‫وبد�أتُ حديثي مبا�شر ًة‪:‬‬
‫‪� -‬آ�سف مل �أ�ستطع �أن �أحدثك بالهاتف �أو باملنزل حتى ال ي�سمع‬
‫النظام الإلكرتوين‪.‬‬
‫ً‬
‫متعجل‪:‬‬ ‫قال‬
‫‪196‬‬
‫‪ -‬ماذا حدث؟ �أخربين‪� ،‬أنا يف غاية القلق‪.‬‬
‫‪ -‬ه�شام‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا فعل؟ هل �آذاك؟‬
‫‪ -‬ال ال‪ ،‬ه�شام ُقب�ض عليه اليوم يف �أثناء زفافه‪.‬‬
‫‪ -‬وما عالقتك �أنت؟ �أمل تخربين ب�أن �صلتك به انقطعت؟‬
‫كنت خمط ًئا يف هذا والتب�س ّ‬
‫علي‬ ‫اكت�شفت �أنني ُ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولكني‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫الأمر‪� ،‬س�أ�شرح لك يف ما بعد يا �أبي‪ ،‬املهم الآن �أنني �أحتاج‬

‫ك‬ ‫ل‬
‫حاجبيهتم�ستغر ًبا وهو يقول‪:‬‬
‫ب‬ ‫ا‬
‫�إىل �صديقك املقرب يف املجل�س‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫وال‬
‫جتعد ما بني‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬ه�شام ُقب�ض عليه بتهمة (اخلالدين)‪.‬‬
‫نطقت مب�صيبة كربى‪ ،‬قال وهو ي�شعر‬
‫ُ�صدم �أبي من جملتي ك�أنني ُ‬
‫بزهو ل�صدق �إح�سا�سه‪:‬‬
‫‪ -‬مل �أ�شعر بالراحة جتاهه حلظة‪� ،‬صدق حد�سي به‪ ،‬من اجليد‬
‫�أنهم قب�ضوا عليه �سري ًعا‪� .‬أرجو �أال يكت�شفوا �أنه كان يعمل‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫لديك ً‬
‫ً‬
‫منده�شا من تغيريه م�سار الأمر بهذا االجتاه‪:‬‬ ‫قلت‬
‫ُ‬
‫جئت �إليك لتت�صل ب�صديقك وي�ساعدين ب�إخراجه‪.‬‬
‫‪� -‬أبي‪ُ ،‬‬
‫قال بغ�ضب وعيناه تطلقان �شر ًرا‪:‬‬
‫‪197‬‬
‫‪ -‬هل جننت؟ يف الوقت الذي �أرجو فيه عدم معرفة �صداقتكما‬
‫تريد �أنت مني االت�صال لأثبت هذا ال�شيء‪ ،‬بل و�أت�شفع‬
‫خلروجه؟‬
‫قلت راج ًيا‪:‬‬
‫ُ‬
‫يل هذه اخلدمة ولن �أطلب منك �شي ًئا‬ ‫أ�سد �إ ّ‬
‫‪� -‬أبي‪� ،‬أرجوك‪ِ � ،‬‬
‫لبقية حياتي‪.‬‬
‫�صارما‪:‬‬
‫قال ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪� -‬أجمد‪ ،‬تهمة (اخلالدين) ال تهاون معها و�أنت تعلم هذا جيدً ا‪،‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حادثت �صديقي لن ي�ستطيع فعل �شيء له‪ ،‬تهمة‬ ‫ُ‬ ‫حتى و�إن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫(اخلالدين) خط �أحمر‪.‬‬

‫ع‬
‫أكملت بنف�س رجائي‪:‬‬
‫� ُ‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬دعهم ي�سجنونه ولكن دون �أن يطبقوا عليه حد العقوبة‬
‫باقتالع ذاكرته‪� ،‬أرجوك حاول‪.‬‬
‫قال متجه ًما‪:‬‬
‫‪� -‬س�أحاول ولكن ال �أعدك ب�شيء‪.‬‬
‫رغم �شدة عبو�س وجهه وهو يقولها ف�إن كلماته �أ�شعلت جذوة الأمل‬
‫يف قلبي من جديد‪� ،‬أمل ر�سم مبخيلتي خروج ه�شام ورجوعه �إىل‬
‫�سارة و�إعادة زفافهما مرة �أخرى واحتفاظهما بب�سمتهما العذبة لآخر‬
‫عمريهما م ًعا‪.‬‬
‫•••‬
‫‪198‬‬
‫قابلتني ليلى بعينني حتمالن حز ًنا عمي ًقا �أ�شعر به جيدً ا منذ ما‬
‫قلت مف�س ًرا �سبب جميئي لبيتهم‪:‬‬
‫حدث‪ُ ،‬‬
‫أنك لن ترتكي �سارة و�ست�أتني بها �إىل هنا‪ ،‬لذلك‬
‫‪-‬كنت �أعلم � ِ‬
‫أتيت لالطمئنان عليها‪.‬‬
‫� ُ‬
‫‪ -‬للأ�سف حالتها �سيئة للغاية‪ ،‬هي بالداخل تف�ضل‪.‬‬
‫وجلت �إىل ال�صالة التي حتطم فيها قلبي ً‬
‫قبل وقادتني �إىل غرفة‬ ‫ُ‬

‫ع‬
‫كان يجل�س بها الأ�ستاذ �سالمة �أمام �سارة الغارق وجهها بالدموع‪ ،‬وما‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫اندفعت جتاهي م�سرعة تلكم �صدري ب�ضربات ن�سائية‬ ‫�أن ر�أتني حتى‬

‫ت‬
‫ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�ضعيفة وهي ت�صرخ‪:‬‬

‫زي ْ‬ ‫و ف�‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫ع‬
‫كذلك؟ حقري حقري‪.‬‬ ‫ألي�س‬ ‫‪�-‬أنت من �أبلغت عنه‪� ،‬‬
‫أكملت‪:‬‬ ‫تهدئتها‬ ‫حجبتها ليلى عني �سري ًعا و�أبعدتها وهي حتاول‬
‫‪ -‬روى يل �آخر موقف بينكما وماذا فعلت معه‪ ،‬مت�أكدة �أنك �أنت‬
‫من �أبلغت املجل�س‪.‬‬
‫نهاها �صوت الأ�ستاذ �سالمة الرزين ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬سارة اهدئي‪� ،‬أجمد مل يفعل هذا‪ ،‬لو �أبلغ ل ُقب�ض علينا جمي ًعا‬
‫وكان يف يده فعل هذا من قبل لكنه �أنقذنا‪.‬‬
‫�صمت برهة تنهد خاللها ثم تابع‪:‬‬
‫ْ‬
‫وعلمت �أنهم �ش ُّكوا به�شام منذ �أ�شهر ب�سبب‬
‫ُ‬ ‫‪�-‬أجريت ات�صاالتي‬
‫بالغ قام به واحد من جريانه دعاه ملنا�سبة تخ�صه‪ ،‬ويف �أثناء‬
‫‪199‬‬
‫حديث ه�شام مع �أحد ال�ضيوف ذكر معلومة تاريخية من‬
‫جا�سو�سا �أوهمه‬
‫ً‬ ‫املفرت�ض �أنها ُميت‪ ،‬بعد البالغ �سلطوا عليه‬
‫�أنه حمتفظ بذاكرته ويريد االن�ضمام �إلينا‪ ،‬وبحما�سة ه�شام‬
‫املعتادة للأ�سف رحب به و�أخربين بهذا ذات مرة‪ ،‬وملا �أعطاين‬
‫ا�سمه علمت من م�صادري �أنه من �ضمن من ُميت ذاكرتهم‪،‬‬
‫فحذرته منه ون�صحته باالبتعاد عنه وعمل بن�صيحتي‪ ،‬وظلت‬
‫الأمور جيدة ملدة �أربعة �أ�شهر توهمنا خاللها �أنه رمبا حدث‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عابر �أعطيناه �أكرب من حجمه‪ ،‬مل �أد ِر �أنهم �سي�سددون‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�ضربتهم الليلة بهذا ال�شكل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ا‬ ‫و‬
‫البكاء بعد ما انتهى من جملته‪ ،‬فتابع ب�أ�سف‪:‬‬ ‫أكرث يف‬ ‫انهارت �سارة �‬

‫ع‬
‫ي�شكون‬ ‫ت‬ ‫ل‬
‫الأمور‪ ،‬املهم �أن تختفي عن الأنظار الآن‪ ،‬بالت�أكيد وهمزي‬
‫أخط�أت يف تقدير‬ ‫�‬ ‫من‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫ابنتي‪،‬‬ ‫أرجوك �أن ت�ساحميني يا‬
‫‪ِ �-‬‬

‫بك ولكن لي�س لديهم دليل �ضدك‪ ،‬ولن ننتظر حتى هذه‬ ‫ِ‬
‫اللحظة‪ ،‬لن �أقوى على فقد اثنني من �أبنائي‪ ،‬يكفي ما بي من‬
‫حزن على ه�شام‪.‬‬
‫ا�سرت�سلت �سري ًعا من عينيه م�ش ًريا �إىل ليلى ب�إ�شارة‬
‫ْ‬ ‫م�سح عربة‬
‫فهمتها ف�أخذت �سارة لغرفة ثانية‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪� -‬أعتذر عن فعل �سارة‪ ،‬هي يف حالة انهيار من وقتها وال تعرف‬
‫ماذا تفعل‪.‬‬
‫قلت �سري ًعا‪:‬‬
‫‪200‬‬
‫متاما وال �أحتاج �إىل اعتذار‪ ،‬ه�شام مل يكن‬
‫‪� -‬أتفهم ما ت�شعر به ً‬
‫كنت �أنا �أ�شعر‬
‫جمرد عامل ب�شركتي بل �أكرث من ذلك‪ ،‬و�إن ُ‬
‫بهذا احلزن فهي بالت�أكيد متر ب�أ�ضعافه‪.‬‬
‫أذنت ذاه ًبا بعد �أن الذ بال�صمت‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه م�ؤكدً ا كالمي‪ ،‬ا�ست� ُ‬
‫وقد هبط ال�ضيق ب�ساحة �صدره يريد طرده بعربات ت�ستحي من‬
‫الظهور �أمامي‪ ،‬وددتُ �أن �أطمئن قلبه بكالم �أبي عن املحاولة لكن‬
‫�شي ًئا منعني لعله خويف من ف�شلها‪ ،‬طردتُ هذا اخلاطر من ذهني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫علقت �آمايل مبحاولة �أبي متمن ًيا من‬
‫�سري ًعا‪ ،‬فمجرد تخيله ي�ؤملني‪ُ ،‬‬

‫الكتب• • •‬ ‫ري‬
‫كل قلبي �أن تكلل بالنجاح‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬

‫‪201‬‬
‫(‪)15‬‬
‫(الزوال)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫مل تق َو قدماي على حمل الثقل الذي ُقذف يف قلبي فج�أة فا�ستندتُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ -‬بهذه ب ل‬
‫ً‬
‫حماول ت�صديق ما �سمعته �أذناي ً‬

‫ل‬
‫�سائل‪:‬‬ ‫�إىل ال�سيارة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫‪� -‬أخربتك �أن تهمة (اخلالدين) خط �أحمروياا�لتو‬
‫ال�سرعة؟‬

‫أجمد‪.‬ز عي‬
‫‪ -‬ولكن‪ ،‬ولكن مل مير على اعتقاله خم�سة �أيام‪ ،‬ملاذا نفذوا‬
‫العقوبة بهذه ال�سرعة؟ رمبا كان بري ًئا‪.‬‬
‫‪ -‬الأدلة �ضده كانت قوية بجانب �إ�صراره على عدم �إخبارهم‬
‫ب�أي معلومات قد تفيدهم يف القب�ض على البقية‪.‬‬
‫ظللت �صامتًا وما زال عقلي يحاول ت�صديق ما حدث مع ه�شام‪،‬‬
‫ُ‬
‫�أفكر يف �شكل حياته منذ �أيام قليلة كيف كانت وكيف �صارت الآن؟‬
‫اقرتب �أبي مني ً‬
‫قائل بعطف‪:‬‬
‫�سيحل �إىل �سجن الزوال‪ ،‬وكما تعلم من يذهب �إىل‬ ‫‪ -‬اليوم ُ‬
‫جنحت من خالل �صديقي باملجل�س يف‬
‫ُ‬ ‫هناك ال ُيرى ثاني ًة‪،‬‬
‫‪203‬‬
‫ترتيب مقابلة بينكما ملدة خم�س دقائق قبل ذهابه‪� ،‬إن كنت‬
‫ترغب يف ر�ؤيته‪.‬‬
‫�أوم�أتُ له بر�أ�سي مواف ًقا‪ ،‬بالت�أكيد �إن �أُتيحت لك فر�صة مقابلة‬
‫عزيز لديك قبل ذهابه �إىل الأبد �ست�سرع باملوافقة و�إن كانت خم�س‬
‫دقائق‪ ،‬خم�س دقائق هي الباقية يف عالقتكما والأهم بالن�سبة �إليك‪.‬‬
‫•••‬
‫ع‬
‫توقفنا �أمام امل�شفى الر�سمي ملجل�س �إدارة �ش�ؤون العهد اجلديد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اخلا�ص بامل�سجونني‪ ،‬مل �أكن �أعلم �أن هذا هو املكان الذي جترى به‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫العمليات للخالدين‪ ،‬ترجلنا من ال�سيارة واجتهنا �إىل البوابة‪ ،‬وما �إن‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫حتدث �أبي �إىل فرد الأمن اجلال�س عليها حتى فتح لنا دفتيها ُمرح ًبا‪.‬‬

‫ع‬
‫كانت املباين نا�صعة البيا�ض حماطة باخل�ضرة من كل ناحية تنبعث‬
‫رائحة عطر مميزة من الأركان ُت�شعرك بالهدوء واال�سرتخاء‪ ،‬اجتهنا‬
‫�إىل مبنى ُ�شيد بعيدً ا يف جزء مهمل من م�ساحة امل�شفى‪ ،‬دخلناه‬
‫و�صعدنا �إىل الدور الثالث املكون من �أربع غرف ُو�ضع �أمام واحدة‬
‫منها فرد �أمن‪ ،‬توجه �إليه �أبي وحدثه بكلمات مل �أ�سمعها ثم �أ�شار يل‬
‫بالدخول‪ ،‬م�ؤكدً ا على �أن مدة املقابلة خم�س دقائق فقط‪.‬‬
‫وجلت الغرفة و�شعور االنقبا�ض ال ينفك عن قلبي وي�سحقه ببطء‪،‬‬
‫ُ‬
‫جال�سا على ال�سرير يرتدي مالب�س بي�ضاء ال يحرك‬ ‫�شخ�صا ً‬
‫ً‬ ‫وجدتُ‬
‫وجل�ست �أمامه �أدقق‬
‫ُ‬ ‫�سحبت مقعدً ا‬
‫ُ‬ ‫�ساك ًنا كتمثال ُ�صب منذ زمن‪،‬‬
‫النظر يف مالحمه حتى �أت�أكد �أن هذا ال�شخ�ص هو ه�شام نف�سه!‬

‫‪204‬‬
‫تدىل ر�أ�سه �إىل جانبه الأمين بحبل م�شنقة وهمي ُعلق به‪ ،‬يتوارى‬
‫جزء منه حتت ال�صق طبي �سميك �إثر جراحة �أُجريت بعد �أن ُحلق‬
‫�شعره‪ ،‬ذراعاه م�سرتخيتني بجانبه با�ست�سالم‪ ،‬ينظر �إىل نقطة‬
‫قلت مقرت ًبا منه‬
‫بالأر�ض ال يتحرك عنها بعني �ساجية انطف�أت ملعتها‪ُ ،‬‬
‫�أكرث‪:‬‬
‫‪ -‬ه�شام‪ ،‬ه�شام‪ ،‬هذا �أنا �أجمد‪.‬‬

‫ع‬
‫مل يظهر جلملتي �أي ردة فعل على مالحمه الفاقدة للحياة‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ً‬
‫�ضاغطا عليها بحنو‪:‬‬ ‫�أم�سكت يده بني َيدي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪� -‬سارة تفتقدك كث ًريا‪� ،‬سارة يا ه�شام‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫ظل كما هو كجماد ال يختلف يف �شيء عن ال�سرير الذي يجل�س‬
‫عليه �سوى �أنه يتنف�س‪.‬‬
‫زلت على ندائي له‪ ،‬فرفع عينيه بانك�سار‬
‫هززتُ كتفيه برفق و�أنا ما ُ‬
‫يئ�ست من‬
‫توقفت بعد �أن ُ‬
‫ُ‬ ‫جتاهي ثم عاد بهما �إىل مو�ضعهما ال�سابق‪،‬‬
‫و�ضعت ر�أ�سي على رجليه و�أخذتُ يف‬
‫ُ‬ ‫حماوالتي املخفقة من الأ�سا�س‪،‬‬
‫أبك من قبل‪ ،‬العجز ُي�ضرم نا ًرا بال�صدر‬
‫بكيت بحرقة كما مل � ِ‬‫البكاء‪ُ ،‬‬
‫تبقى م�شتعلة ال تهد�أ �أبدً ا مهما بذلت من دمع لإخمادها‪.‬‬
‫دخل �أبي خم ًربا �إياي بانتهاء الزيارة‪ ،‬تفاج�أ بر�ؤية دموع مل يرها‬
‫على وجهي �إال مرات قليلة بال�صغر‪� ،‬أخذين من يدي واجتهنا عائدين‬
‫�إىل ال�سيارة‪ ،‬مل تكن عيناي تب�صران �أي �شيء �سوى ه�شام وهيئته‬
‫جل�ست بال�سيارة �صامتًا �أ�سند ر�أ�سي �إىل زجاج النافذة‬
‫ُ‬ ‫وما حدث له‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫يائ�سا من حياة هذه البالد كارهً ا لها‪ ،‬وقد قيد االعتذار املت�أخر له�شام‬
‫ً‬
‫رقبتي بدين لن ينفك عني طيلة حياتي‪ .‬قال �أبي مقاط ًعا �صمتي‪:‬‬
‫‪ -‬لو �أعلم �أن هذا اللقاء �سي�ؤثر عليك بهذا ال�شكل ملا �سعيت له‪.‬‬
‫قلت با�ستهزاء �ساخ ًرا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬سعيت؟‬
‫قال بنربة غا�ضبة من ا�ستهزائي‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪ -‬ال �أفهم �سر غ�ضبك مني! تطلب مني امل�ستحيل ثم تلومني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ت‬


‫ُقلت بي�أ�س‪ :‬ب ل‬
‫لعدم تنفيذه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫‪ -‬ل�ست غا�ض ًبا وال �ألوم‪ ،‬مل تعد لأي �شيء � و‬
‫ع‬ ‫أهمية‪.‬التوزي‬
‫قال متعج ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬كل هذا من �أجل ه�شام؟ من يراك و�أنت تتحدث عنه من قبل‬
‫ال يراك الآن‪.‬‬
‫قلت بغ�ضب وقد �أثار الوجع بداخلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬و�إن فعل �أي �شيء جتاهي هل كنت تظنني �س�أ�شعر بالفرح ملا‬
‫حدث له مثلما ي�سعد اجلميع هنا بتنفيذ العقوبة على �أحد من‬
‫(اخلالدين)؟‬
‫تابعت و�أنا �أنظر حويل‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪206‬‬
‫‪-‬بلد غبي ظامل ال تعي�ش به �إال �آالت ال تتمتع ب�أي �شعور �سوى‬
‫ال�سادية‪.‬‬
‫‪� -‬أنت تقول هذا لأنك ل�ست مثلهم‪ ،‬لو كنت مثلهم لفرحت معهم‬
‫ب�إزاحة �شخ�ص ي�شكل خط ًرا عليك‪.‬‬
‫قلت حمد ًقا فيه وما ُ‬
‫زلت على غ�ضبي‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬خطر؟ ما الذي فعله و ُي�شكل خط ًرا على حيواتهم؟ �سرق؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قتل؟ ذنبه الوحيد �أنه �أح�س بجرم ما ُفعل بهذه البالد وحمل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫هم ق�ضية رد حق �أهلها على عاتقه‪� ،‬ضحى بنف�سه من �أجل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫من ال ي�ستحقون‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫�ضغط �أبي مكابح ال�سيارة ب�شدة ف�أحدثت �صو ًتا عال ًيا‪ .‬قال بتوج�س‬
‫بعد �أن توقفت‪:‬‬
‫‪� -‬أجمد‪ ،‬ما هذه ال�صيغة؟ منذ متى و�أنت تتكلم عن الق�ضايا؟‬
‫مع من تتحدث هذه الأيام؟ �صارحني‪ ،‬هل لعب بر�أ�سك‬
‫�صديقك هذا قبل القب�ض عليه؟‬
‫قلت بثقة م�ؤكدً ا حتى ال ي�شك ب�أي �شيء‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال مل يتحدث ب�أي �شيء وال �أحتدث مع �أحد‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أ�صدقك لأين �أثق بك‪.‬‬
‫ثم تابع حمذ ًرا بلهجة حادة‪:‬‬

‫‪207‬‬
‫‪ -‬ولكن �إياك �أن تتحدث بهذا الكالم ثاني ًة وال حتى تفكر به‪،‬‬
‫ر�أيت بعينيك ما ُفعل ب�صديقك‪� ،‬س�أراعي �أنك الآن حتت‬
‫�ضغط ر�ؤيته و�س�أتغا�ضى عن حوارك‪ ،‬ولكن �إن كررته مرة‬
‫�أخرى‪..‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫‪ -‬ال داعي للتهديدات يا �أبي‪ ،‬كان جمرد حديث عابر من �شجون‬
‫�أ�صابتني لر�ؤية ه�شام بهذا ال�شكل‪� ،‬ست�أخذ وقتها وتذهب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫من حيث �أتت‪ ،‬اطمئن لن �أخون ثقتك و�إن فكرت ب�أي �شيء‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بالت�أكيد ف�ستكون �أنت �أول من �أفكر يف الذهاب �إليه‪.‬‬

‫شر‬ ‫ن‬
‫والتوز عي‬
‫كتفي‪:‬‬ ‫على‬ ‫يربت‬
‫قال وهو ُ‬
‫‪ -‬ال �شك لدي يف ذلك‪ ،‬طيلة عمري مل يكن يل �أ�صدقاء ومنذ‬
‫�أن ُولدت �صرت �أنت �صديقي الوحيد‪ ،‬و�أرجو �أن �أكون كذلك‬
‫بالن�سبة �إليك‪.‬‬
‫قلت بثقة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫انطلق بال�سيارة بعد �أن اطم�أن لكالمي وطم�أنته �أكرث بفتح حوارات‬
‫خمتلفة ملوا�ضيع عدة‪ ،‬متجن ًبا احلديث عن ه�شام وم�شاعري جتاه ما‬
‫مودعا �إياه بابت�سامة‬
‫حدث له‪� .‬أنزلني �أمام البناية التي �أقطن بها ً‬
‫حتجب وراءها لظى ت�أجج ب�صدري قررتُ �أال يعلم عنه �شي ًئا‪� ،‬أبي‬
‫ُح�صر مبتاهة لن يخرج منها �أبدً ا را�ض ًيا بتيهه مقتن ًعا �أنه احلل‬
‫‪208‬‬
‫الأف�ضل والأ�سلم ويريد �سحبي معه‪ ،‬وجنح بفعل ذلك يف ال�سنوات‬
‫الفائتة‪� ،‬أما من بعد ر�ؤية ه�شام فال‪ ،‬حياتي �أنا من �سيتوىل دفتها‬
‫قاط ًعا على نف�سي عهد �إكمال م�سريته والأخذ بث�أره‪.‬‬
‫•••‬
‫تبادلت ليلى والأ�ستاذ �سالمة نظرات احلرية والرتدد يف ما بينهما‬
‫بعدما �أبلغتهما برغبتي‪ ،‬قال والدها حا�س ًما الأمر‪:‬‬
‫‪� -‬أعتذر‪ .‬لن ن�ستطيع قبول طلبك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قلت بلهجة حادة‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قبل يف �أمر يتعلق بي وبكما لذلك كان من‬ ‫‪ -‬قلت هذه اجلملة ً‬

‫والتوز عي‬
‫حقك الرف�ض‪� ،‬أما الآن فالأمر متعلق بي وحدي‪� ،‬إما �أن تقول‬
‫�سب ًبا مقن ًعا لرف�ضك و�إال فلن �أقبله‪.‬‬
‫�صمت برهة ثم تابع ب�شيء من احلدة حمذ ًرا‪:‬‬
‫�سهل كما تت�صور وبه خماطرة كبرية‪ ،‬تريث‪ ،‬رمبا‬ ‫‪ -‬الأمر لي�س ً‬
‫نتجت رغبتك هذه بعد ر�ؤية ه�شام و�ستم�ضي الأيام وتن�سى‪.‬‬
‫قلت م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫ُ‬
‫وظللت‬
‫ُ‬ ‫توقعت هذا الأمر لذلك مل � ِآت مبا�شر ًة بعد زيارته‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫عازما على قراري‬
‫أتيت الآن ً‬ ‫ثالثة �أ�شهر بعدها �أفكر‪ ،‬و� ُ‬
‫ومت�أكدً ا منه متام الت�أكد‪.‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪209‬‬
‫‪ -‬هل تعلم عقوبة من ين�شق عنا؟‬
‫�سارعت ليلى قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬القتل‪.‬‬
‫قالتها ب�أحرف تت�ضمن حتذي ًرا وتنبي ًها لأح�سن تقدير ما �أريد‬
‫الولوج �إليه‪.‬‬
‫قلت م�صم ًما‪:‬‬
‫ُ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫زلت م�ص ًرا على قراري‪.‬‬
‫‪ -‬ما ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫قال الأ�ستاذ �سالمة‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫وافقت �أبدً ا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬لوال موقفك الذي فعلته �ساب ًقا ملا‬
‫نظر �إىل ليلى با�سما وهو يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪� -‬أخربي اجلميع �أننا �سنحتفل يف اجتماع اليوم بان�ضمام ع�ضو‬
‫جديد �إلينا‪ ،‬لعل هذا يخفف من حدة احلزن اجلاثم على‬
‫�صدورنا جمي ًعا منذ رحيل ه�شام‪.‬‬
‫م�صافحا‪ ،‬قال وهو‬
‫ً‬ ‫�أوم�أت ليلى بر�أ�سها با�سمة‪ ،‬مد يده جتاهي‬
‫ي�ضغط على يدي بود‪:‬‬
‫أهل بك يف (اخلالدين)‪.‬‬ ‫‪ً �-‬‬
‫•••‬
‫‪210‬‬
‫(‪)16‬‬
‫(الخالدين)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«وتعد اخلريطة امل�أمونية �أهم �أثر جغرايف من ع�صر اخلليفة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫العبا�سي (امل�أمون)‪ ،‬الذي كون فري ًقا من �سبعني عاملًا لقيا�س‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫حميط الأر�ض و�إثبات كرويتها‪ ،‬ور�سموا خريطة للعامل ا�ستخدموا‬
‫فيها الألوان والأ�صباغ لتمثيل خمتلف الظواهر‪ ،‬وهي �أف�ضل مما‬
‫قدمه بطليمو�س‪ ،‬كما �صحح جغرافيو امل�أمون متثيل بطليمو�س‬
‫التقليدي للمحيط الهندي كبحر حماط بالياب�سة‪ ،‬و�أو�ضحوا لأول‬
‫مرة �أنه كتلة كروية من املاء حتيط بالعامل امل�سكون‪ ،‬ما فتح الطريق‬
‫يف ما بعد ملا ُعرف بع�صر االكت�شافات اجلغرافية الأوروبية(((»‪.‬‬
‫انتهيت من ن�سخ هذه الفقرة بقرطا�س ماثل �أمامي من كتاب‬‫ُ‬
‫وفركت عي َني براحتَي‬
‫ُ‬ ‫و�ضعت القلم جان ًبا‬
‫ُ‬ ‫تاريخي معتق الأوراق‪،‬‬
‫َيدي‪ ،‬دخل العم �إبراهيم وو�ضع كوب ال�شاي املنكه بالنعناع على‬
‫الطاولة بجواري ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬أنت هنا منذ ال�صباح يا �أجمد‪ ،‬يكفي هذا‪ ،‬اذهب �إىل بيتك‬
‫وخذ ً‬
‫ق�سطا من الراحة‪.‬‬
‫((( حقيقة‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫قلت ناف ًيا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال يا عم �إبراهيم‪ ،‬بقي القليل من هذا الكتاب و�أريد �أن �أنتهي‬
‫منه الليلة‪ ،‬كما �أنني م�ستمتع بقراءته‪.‬‬
‫قدمي بحركات ع�شوائية‬ ‫قمت �أنف�ض َ‬‫ربت على كتفي ووىل ذاه ًبا‪ُ ،‬‬
‫تناولت كوب ال�شاي و�أنا �أمت�شى �أمام‬
‫ُ‬ ‫بعد �أن زحف التنميل �إليهما‪،‬‬
‫رفوف خ�شبية حتمل كت ًبا خمتلفة الأحجام متال�صقة بع�ضها بجانب‬
‫قب�سا من نورها ينتقل‬ ‫بع�ض يف احتواء ودفء‪ ،‬مل�ستها ب�أناملي لعل ً‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لداخلي فينري عتم ًة طال بقا�ؤها ب�صدري‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫و�صلت‬
‫ُ‬ ‫اجتهت �إىل درج قادتني درجاته اخلم�س �إىل ممر �صغري‬
‫ُ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫من خالله �إىل قاعة متو�سطة ال�سعة‪ ،‬ترتا�ص بداخلها مقاعد خ�شبية‬

‫ع‬
‫ب�سيطة متوازية �أمام من�صة ارتفعت ً‬
‫قليل عن الأر�ض لي�ستطيع كل‬
‫من يجل�س بالقاعة ر�ؤية من ي�صعد عليها‪،‬‬
‫ارت�شفت ر�شفة من كوب ال�شاي امل�ضبوط الذي ال يخرج �إال من بني‬ ‫ُ‬
‫َيدي العم �إبراهيم‪ ،‬هذا الرجل ُينح درجة الدكتوراه يف �صنع ال�شاي‪،‬‬
‫جل�ست على �أحد املقاعد ناظ ًرا �إىل املن�صة عائدً ا بذاكرتي �إىل �أربعة‬
‫ُ‬
‫م�ضت‪ ،‬عندما اعتليتها واق ًفا بجانب الأ�ستاذ �سالمة �أ�ؤدي‬ ‫ْ‬ ‫�أ�شهر‬
‫ق�سم االن�ضمام �إىل (اخلالدين) بوقار �أمامه و�أمام مئتي �شخ�ص‬
‫�آخر من بني رجال ون�ساء‪ ،‬ال �أعلم هل الأ�ستاذ �سالمة هو من جمع‬
‫�شمل (اخلالدين) لذلك �أعطوه �شارة قيادتهم‪� ،‬أم �أن هناك �أ�سبا ًبا‬
‫أدت �إىل تقلده لهذا املن�صب‪ .‬عرفني بعد ذلك �إىل الق�سمني‬ ‫�أخرى � ْ‬
‫الرئي�سيني اللذين يعمل بهما (اخلالدين)‪ ،‬وهما الق�سم اخلارجي‬
‫‪212‬‬
‫املعني بالبحث بحر�ص �شديد عن الذين مل ُت َح ذاكراتهم ودعوتهم‬
‫لالن�ضمام �إلينا‪ ،‬والق�سم الداخلي املنق�سم �إىل فرعني‪ ،‬فرع يهتم‬
‫بتح�ضري موا�ضيع املناق�شات التي ُتدار يوم اجلمعة من كل �أ�سبوع‪،‬‬
‫والفرع الآخر يهتم باملكتبة وت�صنيف كتبها وتفريغ هذه الكتب و�إعادة‬
‫كتابتها مرة �أخرى‪ ،‬و�إخفاء الن�سخ املكتوبة ملكان �آخر حت�س ًبا �أن ت�صل‬
‫يد املجل�س للمكتبة يف يوم ما وي�أخذها كما فعل مع بقية كتب بالدنا‬
‫متهيدً ا ال�ستقبال العهد اجلديد‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كانت املكتبة حتظى مبكانة كبرية لدى (اخلالدين)‪ ،‬تلك املكتبة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫التي و�ضعوا حجر �أ�سا�سها ب�أيديهم حماولني �إنقاذ ما ميكن �إنقاذه‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫من علم ورثته هذه البالد‪ ،‬بالبحث عن كل كتاب مل ت�صل �إليه يد‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫املجل�س والإتيان به �إىل هنا واعتباره كن ًزا ثمي ًنا جتب معاملته بعناية‬
‫�شديدة‪ ،‬واختبار مدى والء و�إخال�ص من يريد االلتحاق للعمل بها‪،‬‬
‫وظهر هذا جل ًيا يف مباركتهم العميقة يل بعد اجتيازي الختبار‬
‫القبول‪ ،‬وتو�صيتهم �أن �أح�سن العمل و�أين باختياري للعمل باملكتبة‬
‫ُو�ضعت على عاتقي مهمة عظيمة ور�سالة �شريفة �س�أُ�س�أل عنها �أمام‬
‫الأجيال القادمة‪.‬‬
‫وقفت �أمام املكتبة �أنتقل‬
‫�أتذكر �أول يوم ال�ستالم مهمتي عندما ُ‬
‫بعيني بني كتبها وقد ن�سيت �شكل الكتب املعتاد منذ خم�س �سنوات‬
‫بعد �أن اختفت بيد املجل�س‪ ،‬تعيد لب�صري هيئة مكتبة �أمي التي‬
‫كانت حتفل مبختلف �أنواع العلوم‪ ،‬ت�أتي بي و�أنا طفل �صغري وجتل�سني‬
‫بجانبها وتعطيني كتا ًبا نت�صفحه م ًعا‪ ،‬تقر�أ يل ما به وتنقل معلوماته‬
‫ب�شكل مب�سط لعقلي ال�صغري حينها‪ .‬اعتربتها الإرث الذي تركته‬
‫‪213‬‬
‫يل �أهتم بنظافتها و�أعكف على قراءة كتبها ف�أ�شم فيها رائحة �أمي‬
‫حاولت �إقناع �أبي باالحتفاظ بها مع‬
‫ُ‬ ‫و�أ�شعر بروحها بني �صفحاتها‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬خو ًفا من اكت�شاف املجل�س لها‬
‫بداية العهد اجلديد لكنه رف�ض ً‬
‫علي بتهمة �إخفاء الكتب عنهم‪ ،‬وتركها لهم ب�سهولة‬ ‫و�إلقاء القب�ض ّ‬
‫حرمت على نف�سي من بعدها‬‫ُ‬ ‫مبال ملكانتها يف قلبي‪.‬‬
‫لي�أخذوها غري ٍ‬
‫أتيت �إىل‬
‫الكتب �أو �أن تلم�س يدي �أي كتاب �آخر غري كتب �أمي‪ ،‬حتى � ُ‬
‫علي فعل‬
‫هنا و�شعرتُ �أن �أمي تناديني من خالل تلك املكتبة‪ ،‬وما كان ّ‬

‫ع‬
‫�شيء �سوى اال�ستجابة لندائها‪.‬‬
‫اكت�شفت �أن ليلى تعمل � ً‬
‫أي�ضا‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ال �أخفي �سر �سعادتي اجلمة عندما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫باملكتبة هي وثالثة �آخرون رجل وامر�أتان‪ ،‬لي�صبح فريق املكتبة بعد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ان�ضمامي خم�سة‪ .‬مل �أ�شعر باالندماج كث ًريا مع �إياد امل�س�ؤول معي عن‬

‫ع‬
‫املكتبة رغم ح�سن معاملته ورعايته‪ ،‬كانت حدود العالقة بيننا تنح�صر‬
‫يف احلديث عن تق�سيم املهام بيننا والإجابة عن �أي �س�ؤال ال �أعرفه‬
‫بحكم حداثتي باملكان‪ ،‬على عك�س العالقة بني ليلى و�صديقاتها التي‬
‫كان باد ًيا عليها االن�سجام والتناغم يف ما بينهن يف العمل واحلديث‪.‬‬
‫�صار �صديقي املقرب باملكان العم �إبراهيم العجوز املفعم باحلياة‪،‬‬
‫ببنية ج�سده الهزيلة وحليته امل�شتعلة بال�شيب وطاقية ر�أ�سه التي ال‬
‫تفارقه حتى تظن �أنها جزء منه‪.‬‬
‫بابت�سامته الطيبة وروحه الودود ا�ستطاع �أن يدك �أ�سوار قلعة‬
‫حكيت له عن معظم‬
‫ال�صمت التي �شيدتها حول نف�سي منذ وفاة �أمي‪ُ ،‬‬
‫وبكيت كث ًريا بني يديه‪ ،‬حتى �إنه و�صفني ذات مرة‬
‫ُ‬ ‫حياتي ال�سابقة‬
‫�أنني (رجل �أ�سيف)‪ ،‬وعندما �س�ألته عن معنى هذه الكلمة �أخربين �أن‬
‫‪214‬‬
‫(الأ�سيف) تعني رقيق القلب كثري الدمع‪ .‬مل ي�صفني �أحد برقة القلب‬
‫غريه‪ ،‬رمبا ر�آين بعني غري التي يراين بها اجلميع �أو رمبا هكذا �صار‬
‫قلبي بالفعل‪ ،‬مما ال �شك فيه �أنه منذ ان�ضمامي �إىل (اخلالدين)‬
‫تغري كثري من الأ�شياء بداخلي‪ ،‬روح املكان نفثت يف روعي �سمات‬
‫فارتبطت به �أكرث من �أي مكان �آخر‪ ،‬االجتماعات واملناق�شات‬
‫ُ‬ ‫االنتماء‬
‫التي تقام للحديث عن التاريخ والف�ضاء والعلوم والأدب وكثري مما‬
‫ُمي من ذاكرة بالدنا‪ ،‬االحتفال مبنا�سبات عدة كخطبة اثنني منا‬
‫�أو ان�ضمام ع�ضو جديد �إلينا‪ ،‬القواعد من الن�ساء و�إعدادهن لأطباق‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫احللوى للجميع التي ال تتوقف منذ �أن تلج القاعة‪ ،‬تنتقل من يد �إىل‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أخرى حتى تنتهي ونطالبهن ب�إعداد كمية �أكرب يف املرات القادمة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫النكات واملواقف امل�ضحكة التي يرويها الأربعينيون واختالط دمعة‬
‫ال�ضحك بدمعة حزن وا�شتياق با�ستدعاء ذكريات حوت �أ�صدقاء‬
‫مقربني ُميت ذاكراتهم‪ ،‬كل هذا خلق بقلبي مكانة خا�صة له�ؤالء‬
‫كنت ال �أعرف �إال �أ�سماء قليلني منهم‪ ،‬وجعل هذا املكان‬
‫الأ�شخا�ص و�إن ُ‬
‫زلت على قيد احلياة‪ ،‬ولكن‬
‫هو املكان الوحيد الذي �أ�شعر فيه ب�أنني ما ُ‬
‫�إن �أردتُ �أن �أحدد ال�سبب احلقيقي وراء تغري �شخ�صيتي هنا ف�سيكون‬
‫هو الدين‪ ،‬الدين الذي مل ي�شغلني كث ًريا طيلة حياتي‪ ،‬فلم يكن �أبي‬
‫وطوي مع ما ُطوي منذ بداية‬ ‫يهتم لأمره فتوقف منو ما بد�أته �أمي ُ‬
‫العهد اجلديد‪ .‬مل يكن �أحد يجرب �أحدً ا هنا على �شيء‪ ،‬ولكن حتفيز‬
‫العم �إبراهيم يل حل�ضور عظة ال�شيخ �أحمد �صاحب الوجه ال�سمح‬
‫قبل كل اجتماع كان له ت�أثري كبري على نف�سي‪� ،‬شجعني العم �إبراهيم‬
‫فعل‪� ،‬إىل �أن اكت�شف حرجي من‬ ‫على ال�صالة كث ًريا ف�أطيعه ً‬
‫قول ال ً‬
‫زلت‬
‫�إبالغه �أنني ن�سيت كيفية �أدائها وعلمها يل هي وال�ضوء‪ ،‬وما ُ‬
‫‪215‬‬
‫يوما و�أف�شل �آخر‬
‫�أجاهد للحفاظ على �أداء جميع ال�صلوات‪� ،‬أجنح ً‬
‫خ�صو�صا بعدما �أخربنا ال�شيخ �أحمد‬
‫ً‬ ‫ولكن �أظل �أحاول وال �أي�أ�س‪،‬‬
‫يف واحدة من عظاته �أن اهلل يقبل التوبة عن عباده‪ ،‬و�أنه يجب على‬
‫الإن�سان �أال يقنط‪ ،‬و�أحاول تطبيق ن�صيحته‪.‬‬
‫التحق م�ؤخ ًرا فرع جديد بالق�سم اخلارجي ُيدعى (التنقية)‪،‬‬
‫حماطا بكثري من ال�سرية ومل ي�شغل بايل كث ًريا مباذا يهتم هذا‬ ‫كان ً‬
‫الفرع‪ ،‬ولكن ما �أثار ا�ستغرابي وجود �صالح يف القلة القليلة امللتحقة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫به‪� ،‬صالح الذي يبطن يل كرهً ا ال �أعلم �سببه ولكنه ال تخفيه عيناه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تتبعت تعامله مع ليلى واهتمامه الكبري بكل ما تقوله ونظراته‬ ‫ونظراته‪ُ .‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لها‪ ،‬ما �أكد يل تعلقه بها‪ ،‬ويبدو �أنه علم مبحاولتي التقدم خلطبتها‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�ساب ًقا مما يعك�س �شعوره‪ ،‬ولكن �إن علم بهذا الأمر فبالت�أكيد علم‬

‫ع‬
‫أي�ضا �أنهما رف�ضاين و�أن هذا املو�ضوع انتهى‪ ،‬فلماذا ي�ستمر بكرهي؟‬ ‫� ً‬
‫نف�ضت عن ذهني �سري ًعا‬
‫ُ‬ ‫رمبا علم �شي ًئا �آخر ال �أعلمه يكمن عند ليلى‪.‬‬
‫هذه التخيالت‪ ،‬فمعاملتها اجلافة يل منذ ان�ضمامي للعمل باملكتبة ال‬
‫غلف ا�شتياقي‬‫تعك�س �أي �شيء مما �أظنه‪� ،‬أتذكر عندما ات�صلت بها �أُ ُ‬
‫�إىل �سماع �صوتها ب�شكل خا�ص بعيدً ا عن النا�س واالجتماعات بحجة‬
‫ألقت‬
‫أحكمت ربط قدمي مبر�ساة �سفينة و� ْ‬ ‫بلهاء ا�ستدعيتها �سري ًعا‪ْ � ،‬‬
‫بهما يف بحر جلي ب�س�ؤالها يف بداية املكاملة حينها‪:‬‬
‫‪ -‬من معي؟‬
‫أدركت من ا�ستفهامها �أنها م�سحت‬
‫ماء �أجاج جرى بحلقي عندما � ُ‬
‫معلومات نظامي بعدما �سجلته م�سب ًقا مع بدء انتظامي باجلل�سات‪،‬‬
‫رفعت �سقف توقعاتي‬
‫م�سحته هكذا بب�ساطة غري مبالية؟ ال �أعلم ملاذا ُ‬
‫‪216‬‬
‫قبل �أن �أحدثها؟ ماذا تخيلت؟ �أنها �ستخربين بانتظارها الت�صايل‬
‫أترقب �أي �إ�شارة تعطيني‬
‫كنت � ُ‬‫هذا منذ زمن وحتقق املراد �أخ ًريا؟ �أم ُ‬
‫ال�ضوء الأخ�ضر ملعاودة حماولتي؟ �أي �إ�شارة تثبت يل القبول من‬
‫ناحيتها ف�أُقدم‪ ،‬ودمر �س�ؤالها هذا كل �شيء و�أحبطني‪ .‬وقتها حاولت‬
‫عدم �إظهار �ضيقي متجاو ًزا اعتذارها عن �سوء �صوتها لإ�صابتها‬
‫بنزلة برد بعد التعريف بنف�سي‪ً ،‬‬
‫�سائل �إياها مبا�شر ًة عن حجتي‬
‫أنهيت االت�صال مبا�شر ًة‪.‬‬
‫ب�شكل �أ�ضفى عليها اجلدية‪ ،‬ف�أجابتني و� ُ‬
‫أغلقت اخلط و�أنا �أ�صب اللعنات على نف�سي وعلى قلبي ال�ضعيف‬ ‫� ُ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫هذا �أزجره لينتبه ويحافظ على ما تبقى له من كرامة ويحفظ ماء‬

‫بل‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫وجهه‪ ،‬وكان �أول ما فعلته بعدها هو مبادلتها معاملتها اجلافة مبثلها‬

‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫متاما‪.‬‬
‫واجتنابها ً‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫انت�شلني العم �إبراهيم من بحر ذكرياتي بعد �أن تعمقتزيبهعوب ُرد‬
‫‪� -‬أجمد‪� ،‬أجمد‪.‬‬

‫كوب ال�شاي بيدي‪ ،‬نظرتُ �إليه فتابع‪:‬‬


‫‪� -‬س�أغلق املحل بعد ن�صف �ساعة ويجب �أن تن�صرف الآن حتى‬
‫ال يالحظ �أحد‪.‬‬
‫درجا‬
‫ذهبت �إىل املطبخ وغ�سلت الكوب وو�ضعته مبكانه‪� ،‬صعدتُ ً‬
‫ُ‬
‫نوعا ما‪ ،‬فتحته‬
‫طويل �أدى بي �إىل باب م�ستطيل �صغري احلجم ً‬ ‫ً‬
‫ووجلت �إىل غرفة لتبديل املالب�س لها باب مبطن بقما�شة قرمزية‬
‫ُ‬
‫وخرجت لعم‬
‫ُ‬ ‫التقطت قطعة مالب�س ُعلقت على احلائط‬
‫ُ‬ ‫اللون‪،‬‬
‫�إبراهيم ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪217‬‬
‫‪ -‬هذه القطعة غري منا�سبة يل‪.‬‬
‫اجتهت �إىل رف تدىل منه كثري من ال�سراويل نظرتُ بينها بح ًثا‪،‬‬
‫ُ‬
‫هززتُ ر�أ�سي �ضي ًقا لعدم وجود �شيء ينا�سبني‪� ،‬ألقيت التحية ثم‬
‫خرجت‪.‬‬
‫كانت هذه فكرة الأ�ستاذ �سالمة �أن نتخد مق ًرا يف و�سط البلدة‬
‫لن يخطر ببال املجل�س �أبدً ا بعد �أن اكت�شف مقرهم على �أطراف‬

‫ع‬
‫املدينة النائية‪ ،‬وتربع العم �إبراهيم مبحل مالب�سه لنحفر حتته مقرنا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اجلديد‪ .‬نقرتُ على �أيقونة االت�صال بالنظام بهاتفي ف�أتى ات�صال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫‪� -‬أين كنت؟ ب ل‬


‫�أبي �سري ًعا‪ ،‬وما �إن رددت حتى نفث غ�ضبه بي ً‬
‫�سائل‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬ ‫‪ -‬بال�شركة‪.‬‬
‫ات�صلت بال�شركة وقالوا �إنك غري موجود منذ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال تكذب‪.‬‬
‫ال�صباح‪.‬‬
‫قلت م�ستنك ًرا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أبي هل تتعقبني؟‬
‫�أخف�ض �س�ؤايل من وترية غ�ضبه و�أجاب‪:‬‬
‫قلقت عليك وكذبك الآن �أقلقني �أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬بالطبع ال‪ ،‬ولكن ُ‬
‫م�سرعا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قلت‬
‫ُ‬

‫‪218‬‬
‫‪ -‬نعم يا �أبي كنت �أكذب‪ ،‬لأنني لو �أخربتك �أنني كنت عند‬
‫أغلقت نظامي لرغبتي يف بع�ض الهدوء �ست�س�أل من‬
‫�صديقي و� ُ‬
‫هو و�ستذهب �سري ًعا جلمع املعلومات عنه‪ ،‬ثم ت�أتي لتجربين‬
‫على عدم م�صاحبته‪.‬‬
‫زفرتُ ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬سئمت بحق هذه احلياة بهذا ال�شكل‪.‬‬

‫ع‬
‫متاما وقال بتودد‪:‬‬
‫�سكن غ�ضبه ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫‪ -‬ح�س ًنا ال تغ�ضب‪ ،‬فقط �شعرتُ بالقلق‪� ،‬إن كان لديك وقت ما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ر�أيك �أن نتع�شى م ًعا؟‬
‫‪� -‬أنا متعب اليوم للغاية‪ ،‬دعنا جنتمع غدً ا على الإفطار‪.‬‬
‫‪ -‬لدي موعد بال�صباح‪.‬‬
‫‪ -‬ح�س ًنا �سنختار موعدً ا ينا�سب كلينا يف ما بعد‪ ،‬ت�صبح على‬
‫خري‪.‬‬
‫‪ -‬اع ِنت بنف�سك جيدً ا‪ ،‬ت�صبح على خري‪.‬‬
‫أغلقت اخلط و�أنا �سعيد بفوزي عليه بهذه اجلولة‪� .‬صرتُ �أتقن‬ ‫� ُ‬
‫هذا الأمر م�ؤخ ًرا رغ ًما عني و�إال ُك�شف �أمري‪� ،‬أحاول �أن �أعامل �أبي‬
‫ب�أ�سلوب �أكرث تهذي ًبا بعدما �أخربتُ العم �إبراهيم ب�شكل العالقة املتوتر‬
‫بيننا‪ ،‬ون�صحني بتعديل �سلوكي وح�سن بره‪ ،‬ولكني �أف�شل كث ًريا بهذا‬
‫للأ�سف‪ .‬نظرتُ �إىل ال�سماء ونف�سي تلح ب�س�ؤال عكر �صفو ليلتي‪ :‬ماذا‬
‫‪219‬‬
‫لو علم �أبي ما �أفعله الآن؟ بدا �س�ؤايل كنقطة �سوداء برزت يف ال�سماء‬
‫فكونت ثق ًبا �أ�سود ابتلع ملعة النجوم وبهاء القمر‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وبد�أت باالت�ساع‬

‫•••‬
‫انق�ضى اجتماعنا الق�صري اليوم وتفرقنا بعده‪ ،‬منا من عاد �إىل‬
‫حياته ومنا من جل�س لإكمال عمل مل ينت ِه منه بعد‪ ،‬كان لدى فرع‬
‫التنقية اجتماع نوه له الأ�ستاذ �سالمة حتى ال يذهب امل�س�ؤولون عنه‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مر بي على كر�سيه املتحرك وهو يلقي ال�سالم برتحاب جم ويثني‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫على عملي وجمهودي الذي ي�صله با�ستمرار من خالل العم �إبراهيم‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وعب عن �أنني �إ�ضافة قيمة جدً ا للخالدين‪ ،‬فعدد الكتب التي ُن�سخت‬

‫ش‬
‫َّ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يعب عن نتيجة رائعة‪� .‬شكرته على كالمه‬ ‫مقارن ًة مبدة التحاقي بهم ِّ‬

‫ع‬
‫الطيب وح�سن ت�شجيعه‪ ،‬ا�ست�أذنني وهم ذاه ًبا لغرفة االجتماعات‬
‫وتبعه �صالح الذي كان يتابع حديثنا ويرمقني بنظرات متتلئ بالإحن‬
‫اهتماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫والدمنة مل �أعرها‬
‫كنت‬
‫تناولت كتا ًبا ُ‬
‫ُ‬ ‫وجل�ست �إىل طاولتي بعد �أن‬
‫ُ‬ ‫توجهت �إىل املكتبة‬
‫ُ‬
‫قد بد�أت بن�سخه يف املرات ال�سابقة‪ ،‬كانت ليلى و�صديقتها جال�ستني‬
‫دوما‬
‫بطاولة تبعد عني بطاولتني فارغتني‪ ،‬ناد ًرا ما نكون هكذا‪ً ،‬‬
‫جنتمع نحن اخلم�سة‪ ،‬قامتا م ًعا واجتهتا �إىل الأعلى رمبا لإعداد‬
‫�شيء تتناوالنه يف �أثناء عملية ن�سخهما‪ .‬برزت من بني الكتب التي‬
‫ُوزعت على طاولتهما مفكرة ليلى الزرقاء املزينة بزهور وردية اللون‪،‬‬
‫هذه مفكرتها اخلا�صة التي ال تنفك عنها‪ ،‬كنت �أ�شاهدها يف �أثناء‬
‫اجلل�سات تدون كث ًريا من الأ�شياء بها وقر�أت منها � ً‬
‫أي�ضا خاطرة �سن‬
‫‪220‬‬
‫الثالثني‪� ،‬أتت نظرات �صالح غري املربرة �أمامي فج�أة‪� ،‬شعرتُ ك�أن‬
‫جميع عوامل الف�ضول تكاتفت حلثي للقيام وت�صفحها �سري ًعا قبل‬
‫جميئها متجاو ًزا كل حدود اخل�صو�صية‪ ،‬ولكن منذ متى و�أنا �أحتلى‬
‫بالأدب؟ مل �أعرفه �إال منذ �أربعة �أ�شهر عندما جئت �إىل هنا‪ ،‬ولن‬
‫أ�ضفت بع�ض الدقائق الزائدة �إىل �سنواتي ال�سبع‬
‫يحدث �شيء �إن � ُ‬
‫حتركت �سري ًعا واال�ضطراب يزيد من �سرعة‬‫ُ‬ ‫والع�شرين املا�ضية‪.‬‬
‫�أنفا�سي ونب�ضاتي خو ًفا من مواجهة حقيقة الأمر و�أنني ال �أعني لها‬
‫�شي ًئا على الإطالق‪� ،‬أُمني نف�سي بقراءة �أي حرف متعلق بي ف�أطمئن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫�أن ما �أ�شعر به �صحيح على الرغم من كل الأفعال الدالة على غري‬

‫كتو�ب ُ‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫و‬ ‫ب�س�ؤالها «من معي» يف مكاملتي لها اجتاحتني‪ ،‬ال �شيء ت‬
‫أم�سكت املفكرة وت�صفحتها‪ ،‬بحثت عيني‬ ‫الطاولة‬ ‫و�صلت �إىل‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬


‫خيبة كخيبة الأمل الأوىل‬ ‫�ضالتها‪،‬‬ ‫�سري ًعا بني ال�سطور علها جتد‬
‫معلومات‬ ‫�سوى‬
‫عن االنتحار وخاطرة �سن الثالثني‪ ،‬مل تكتب �أي كلمة عني‪� ،‬أغلقتها‬
‫و�أنا �أمرر �أوراقها �سري ًعا ب�إبهامي و�ألقيتها غا�ض ًبا‪.‬‬
‫هممت �أن �أذهب ولكن �شعرت �أن عيني ملحت �شي ًئا ما‪� ،‬أم�سكتها‬
‫ُ‬
‫ثاني ًة وفتحتها هذه املرة من الوراء وقلبتها‪ ،‬كانت توجد �آثار كلمات‬
‫وميت بعدم �إتقان م َّكنني من قراءتها‪:‬‬‫ُكتبت ُ‬
‫«�إليك‪.../‬‬
‫لقد كنتُ كاذبة عندما ادعيتُ عدم معرفة �صاحب ال�صوت و�أنا‬
‫تن�سه حلظة‪ ،‬و�أن البحة يف �صوتي �إثر نزلة برد وهي مل تكن‬
‫التي مل َ‬
‫�سوى ارجتافة عندما ذكرت ا�سمك‪ ،‬ونب�ضات قلبي املت�سارعة �أثبتت‬
‫‪221‬‬
‫�أنك موجود بداخلي ومل ترتكني يو ًما‪ ،‬و�أن قوة نرباتك هزمتني‪،‬‬
‫وعدم �س�ؤالك عن �أحوايل ك�سرين‪ ،‬و�أنني يف كل مرة توهمتُ �أين‬
‫ن�سيتك كنت �أتذكرك �أكرث‪ ،‬و�أنك داء ال عالج منه �سوى رحمة من‬
‫اهلل جتود على قلبي بن�سيانك»‪.‬‬
‫قر�أتُ اخلاطرة عدة مرات‪ ،‬ويف كل مرة ُي�سكب على قلبي من �أنهار‬
‫ال�سعادة‪ ،‬جاءت ليلى و�صديقتها وتوقفتا عندما ُفوجئتا بوقويف �أمام‬
‫طاولتهما‪ ،‬تغري وجه ليلى بر�ؤية مفكرتها بني َيدي‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫نظرتُ �إليها با�س ًما �ألوح باملفكرة ً‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫قائل بعتاب املحبني‪:‬‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫أرمين�إليه‪ ،‬ا�ست� ْ‬ ‫ب�‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫فلم اجلفاء؟‬
‫‪� -‬إن كان الأمر هكذا َ‬

‫ز عي‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أذنت �صديقتها يف‬
‫وجذبت املفكرة‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫اقرتبت‬
‫ابتلعت ريقها وقد فهمت ما‬
‫تركنا لدقائق‪ ،‬زوت ما بني حاجبيها غ�ض ًبا‪،‬‬
‫بقوة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف �سمحت لنف�سك بفعل هذا؟‬
‫فلم اجلفاء؟‬
‫‪� -‬إن كان الأمر هكذا َ‬
‫قالت بارتباك‪:‬‬
‫عم تتحدث؟‬
‫‪� -‬أمر وجفاء‪َّ ،‬‬
‫تناولت املفكرة من بني يديها و�أتيت بال�صفحة �أمامها ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬عن هذه‪.‬‬
‫زاد ارتباكها وقالت‪:‬‬
‫‪222‬‬
‫كتبت هذه اخلاطرة منذ زمن وحموتها‪ ،‬وهي غري متعلقة بك‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫نهيتها بلطف‪:‬‬
‫أخربتك �ساب ًقا � ِ‬
‫أنك تكذبني ب�شكل يثري الغثيان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪�-‬‬
‫قلت بهدوء‪:‬‬
‫تنهدت وهي تدور بعينيها يف املكان هر ًبا‪ُ ،‬‬
‫أنت ووالدك وعدم‬ ‫‪ -‬ليلى‪ .‬على الرغم من رف�ضك يل �ساب ًقا � ِ‬
‫أبيك ثاني ًة بعد ثالثة �أيام‪،‬‬‫علمي لل�سبب‪ ،‬ف�إنني �س�أتقدم �إىل � ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫منك الآن ولن �آتي �إىل هنا خاللها حتى ال‬ ‫وال �أريد �سماع رد ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫منك تطبيق ن�صيحتك ال�سابقة‬ ‫�أُ�ؤثر على قرارك‪ ،‬كل ما �أطلبه ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قرارك‬
‫ِ‬ ‫بعينيك‪ ،‬و�أ ًيا كان‬
‫ِ‬ ‫يل �أن تقر�أي هذه الكلمات بقلبك ال‬

‫وو�ضعت املفكرة بجانبها على الطاولة وال‬


‫ورحلت‪.‬تقدوز عي‬
‫بعدها �س�أكون مرح ًبا به‪.‬‬
‫يبدو ظاهر‬ ‫ُ‬ ‫قلتُها‬
‫كالمي لها اختيار ًيا ولكنني ح�سمت قراري بعد �أن ت�أكدتُ �أنها تكن يل‬
‫�شي ًئا بداخلها‪ ،‬حتى �إن رف�ضتني هذه املرة ومرات �أخرى �صارت ليلى‬
‫حلمي و�س�أقاتل لتحقيقه‪.‬‬
‫•••‬

‫‪223‬‬
‫(‪)17‬‬
‫(وأما قبل)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«و�أما قبل‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫فقد ر�أيت عندكِ الفجر و�أخذت منه �أنها ًرا �أحمله يف روحي ال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يظلم �أبدًا‪،‬‬
‫وخالطتُ عندكِ الربيع وانتزعتُ منه حديقة خالدة الن�ضرة يف‬
‫نف�سي ال تذبل �أبدًا‪،‬‬
‫وجال�ستُ عندكِ ال�شباب وترك يف قلبي من حلظاته ما ال يهرم‬
‫�أبدًا‪،‬‬
‫واجتمعتُ عندكِ باحلب وك�شف يل عن خملوقات الكون ال�شعري‬
‫الذي متل�ؤه ذاتي ال ينق�ص �أبدًا‪،‬‬
‫ور�أيتكِ يا فجري وربيعي و�شبابي وحبي فلن �أن�ساكِ �أبدًا‪ ،‬و�أما‬
‫قبل»‪.‬‬
‫أغلقت كتاب (�أوراق الورد) مل�صطفى �صادق الرافعي بعد �أن تلوتُ‬ ‫� ُ‬
‫نظرت �إيل بوجه يت�ألق بابت�سامة خجول‬
‫ْ‬ ‫ما تي�سر منه على م�سامعها‪،‬‬
‫ووجنتني توردتا حيا ًء‪ ،‬قالت �سائل ًة بلطف‪:‬‬
‫‪225‬‬
‫‪ -‬من �أين �أتيت بهذا الكتاب؟ ال يوجد باملكتبة‪.‬‬
‫أجبت و�أنا �أحت�س�س غالفه ذا اللون الأحمر القاين وعنوانه املكتوب‬
‫� ُ‬
‫بخط الثلث‪:‬‬
‫ا�ستطعت �أن �أحتفظ به من مكتبة �أمي‪� ،‬أخذته دون‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬هذا ما‬
‫متاما‪ ،‬كنت �أنوي قراءته على الفتاة التي‬
‫علم �أبي و�أخفيته ً‬
‫�سيحظى قلبي بحبها‪ ،‬وها �أنا �أفعل‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بعثت �إيل بنظرة امتنان ممزوجة بحب مل �أ َر مثله �إال يف عينيها‪،‬‬
‫ْ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫نظرت �إىل �ساعة هاتفها قائلة‪:‬‬
‫ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫اليوم‪ ،‬يجب �أن نذهب الآن‪.‬‬ ‫أخرنا‬ ‫‪ -‬يا �إلهي ت�‬

‫ي‬
‫واحدة‬‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫‪� -‬أي عدل هذا الذي يحكم بعدم مبيتنا م ًعا ولو ليلة ع‬
‫زفرتُ ب�ضيق ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ونحن زوجان؟‬
‫ابت�سمت بغنج‪:‬‬
‫ْ‬
‫زقت بزوج متعجل مل ي�صرب حتى ي�أتي‬
‫‪ -‬وماذا �أفعل وقد ُر ُ‬
‫موعدنا كما يحدده املجل�س؟‬
‫‪ -‬و�ضعنا الآن �أهون عندي من االنتظار‪.‬‬
‫قالت متعجبة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬ال �أعلم �إىل الآن كيف جنحت ب�إقناع �أبي بهذه الفكرة‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫‪ -‬لأن والدك �شخ�ص عاقل واقتنع بها ملنطقيتها‪.‬‬
‫بحزن تابعت‪:‬‬
‫‪ -‬تخيل �أن �أهل هذه البالد فقدوا �إراداتهم �إىل هذا احلد الذي‬
‫ال مي ِّكنهم من حتديد موعد زفافهم ب�أنف�سهم‪ ،‬نحن بحق‬
‫نعي�ش م�أ�ساة مكتملة الأركان‪.‬‬
‫�أوم�أتُ لها بر�أ�سي مواف ًقا كالمها ف�أكملت‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬كث ًريا ما �أ�شعر باحلزن على �سارة‪� ،‬أحيا ًنا �أح�س يف نظرتها‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ل‬
‫�إلينا باحل�سرة لأنها مل تفكر هي وه�شام يف مثل هذه اخلطوة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫وظال بانتظار موعد املجل�س‪ ،‬الذي ما �إن حان حتى �أُخذ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫‪ -‬كل ما �أمتناه لها �أن ي�أتي �شخ�ص ويعو�ضها عن كل ما ع‬
‫عا�شته‪.‬‬
‫ه�شام منها‪.‬‬

‫قالت وهي تتناول حقيبتها من على الطاولة‪:‬‬


‫ْ‬
‫‪ -‬حاول كثريون التقدم �إليها وحدثوا �أبي باملو�ضوع وترف�ض‬
‫متاما‪.‬‬
‫ً‬
‫أبطت ذراعي بحنو وهي تدور بعينيها يف �أرجاء البيت قائلة‪:‬‬
‫ت� ْ‬
‫‪ -‬هل تعلم‪� ،‬س�أ�شتاق �إىل هذا البيت كث ًريا عندما يختار املجل�س‬
‫بيتًا جديدً ا لنا‪ ،‬على الرغم من ِقدمه ف�إنه عزيز على قلبي‪.‬‬
‫أربت على يدها‪:‬‬
‫قلت و�أنا � ُ‬
‫ُ‬
‫‪227‬‬
‫أخربتك‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ال تقلقي‪ ،‬ن�ستطيع املجيء �إىل هنا وقتما ن�شاء‪ ،‬كما �‬
‫�ساب ًقا فهذا البيت ملك لأمي ورثته عنها ور�أيته مكا ًنا منا�س ًبا‬
‫خ�صو�صا �أنه حل�سن احلظ يقع مبنطقة مل‬ ‫ً‬ ‫لنا بعد الزواج‪،‬‬
‫تطلها يد املجل�س ب�أنظمته �أو كامرياته اللعينة‪.‬‬
‫خارجا ودلفنا �إىل ال�سيارة التي حلت مكان دراجتي‬ ‫ً‬ ‫توجهنا‬
‫البخارية بعد زواجي من ليلى‪ ،‬انطلقنا ت�شملنا �أحاديث ال�سمر حتت‬
‫عباءتها حتى و�صلنا �إىل بيتها‪ ،‬قالت تودعني‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬اع ِنت بنف�سك جيدً ا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أطاعت �ضاحكة‪ :‬ب ل‬
‫ش‬
‫‪ -‬نامي جيدً ا وال تفكري ب�أي �شيء غريي‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫� ْ‬
‫‪-‬كما ترغب �أيها الأناين‪.‬‬
‫أحبك‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ُ�صبغ وجهها بحمرة اخلجل وهي تقول ب�صوت منخف�ض‪:‬‬
‫‪ -‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫أنت � ً‬
‫أي�ضا ماذا؟‬ ‫‪ -‬و� ِ‬
‫‪ -‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا �أحبك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم هذه هي الإجابة ال�صحيحة‪ ،‬ال تقوليها �أبدً ا مبتورة‪ ،‬كلمة‬
‫أي�ضا فقط‪.‬‬ ‫�أحبك ت�ستحق ت�أكيدً ا �أكرث من‪ :‬و�أنا � ً‬

‫‪228‬‬
‫ترجلت عن ال�سيارة متجهة �صوب‬ ‫ْ‬ ‫�أوم�أت بر�أ�سها موافقة ثم‬
‫فانطلقت ب�سيارتي عائدً ا بذاكرتي �إىل‬
‫ُ‬ ‫البيت‪ ،‬اختفى ظلها وراء بابه‬
‫أتيت �إىل هنا بعد ثالثة �أيام من حمادثتي‬
‫عام و�شهرين م�ضوا عندما � ُ‬
‫مع ليلى وحماولة �إقناعها ب�إعادة التفكري يف رف�ضها‪ً ،‬‬
‫حامل باقة‬
‫من النعناع علها ت�ستميل قلبها للموافقة‪ ،‬ا�ستقبلني الأ�ستاذ �سالمة‬
‫برتحاب طم�أنني ولكن تذكرتُ ترحابه املرة ال�سابقة ورف�ضي يف نهاية‬
‫فقلقت ثاني ًة‪� ،‬شرع يف احلديث مبا�شر ًة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الأمر‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪« -‬حدثتني ليلى عن �سبب جميئك اليوم»‪ .‬قطع كالمه مناد ًيا‬

‫ك‬
‫أقولت�إنني �أخربتها �أن هذا الأمر عائد �إليها‪ ،‬بل‬ ‫ري‬
‫‪ -‬لن �أجتملالو�‬
‫وجل�ست على ا�ستحياء‪:‬‬
‫ْ‬ ‫لها‪ ،‬ثم تابع بعد �أن جاءت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫�إنني رف�ضتُه لكنهاب ْ‬


‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫معي جل�سة طويلة ا�ستطاعت من‬ ‫جل�ست‬
‫مبوافقتها‪.‬‬ ‫إقناعي‬ ‫خاللها �أن تنقل وجهة نظرها يل و�‬
‫وارت�سمت على وجهي ب�سمة �سعادة‬
‫ْ‬ ‫تنف�ست ال�صعداء بعد كالمه‬
‫ُ‬
‫فابت�سمت � ً‬
‫أي�ضا‪� .‬أكمل حديثه �أن لليلى بع�ض‬ ‫ْ‬ ‫�أ�صابت وجه ليلى بالعدوى‬
‫املطالب يجب �أن تخربين بها � ًأول‪ ،‬بد�أت ليلى بعده الكالم بجدية حيية‬
‫�آخذة يف �سرد مطالبها الثالثة‪ ،‬وهي �أن �أقلع عن التدخني‪� ،‬أن �أحاول‬
‫�إيجاد عمل �آخر‪� ،‬أال ُيحت َفل بخطبتنا مراعا ًة ل�شعور �سارة‪ ،‬و�سيكون‬
‫الأمر جمرد �إخبار للجميع وللمجل�س لإدراج ا�سمينا بني املخطوبني‬
‫ر�سم ًيا‪ .‬مل تقع مطالبها يف دائرة امل�ستحيل عندي‪ ،‬ف�أمر �إعالن‬
‫كنت �أفكر به يف‬
‫متاما وغري قابل للنقا�ش‪ ،‬و�أمر عملي ُ‬‫خطبتنا �أتفهمه ً‬
‫الآونة الأخرية بعد اكت�شايف �أنني ما �سلكته �إال لإثبات النجاح لذاتي‪،‬‬
‫وت�شبع هذا ال�شعور عندي منذ ان�ضمامي �إىل (اخلالدين)‪ ،‬كان‬
‫‪229‬‬
‫أو�ضحت �أنني بحاجة‬
‫ُ‬ ‫�أ�صعبهم ترك التدخني‪ ،‬لذلك �صارحتها بهذا و�‬
‫�إىل م�ساندتها كي �أجنح يف هذا الأمر‪ ،‬ووعدتني بعدم اخلذالن‪.‬‬
‫رحلت من بيتهما و�أنا �أ�شعر ب�أن حجم ال�سعادة بداخلي قادر على‬ ‫ُ‬
‫حملي والتحليق بي �إىل ال�سحب �أ�شكل منها خا ًمتا �أزينه بنجمة ليليق‬
‫بيد ليلى‪ .‬مل يعكر �صفو حالتي �سوى التفكري يف كلمات الأ�ستاذ �سالمة‬
‫املتعلقة برف�ضه لوال �إقناع ليلى له‪ ،‬ال �أفهم هذا الرجل‪ ،‬يخربين‬
‫اجلميع بحديثه الطيب عني وا�ستب�شاره بان�ضمامي �إىل (اخلالدين)‪،‬‬

‫ع‬
‫حاولت �أال ت�شغل‬
‫ُ‬ ‫ومع ذلك يقابل عر�ضي بالرف�ض غري مو�ضح ال�سبب‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بايل علته اخلفية‪ ،‬فقد حتقق ما �أطمح �إليه �أخ ًريا‪ ،‬وذكره لنقطة �إقناع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ذهبت على وعد بتحديد موعد �آخر‬ ‫ُ‬ ‫ليلى له �أ�سعدتني ب�شكل خا�ص‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫والإتيان ب�أبي للتعرف �إليهما بعد �أن �صارت �شروط واتفاقات الزواج‬

‫ع‬
‫عادات بائدة منذ �أن �أ�صبح بيد املجل�س حتديد كافة هذه الأ�شياء‪.‬‬
‫وملعت عيناه بعربة‪ ،‬متنى وجود �أمي‬ ‫فرح �أبي عندما �أبلغته وعانقني ْ‬
‫بهذه اللحظة‪� .‬س�ألني عن ا�سمها وا�سم والدها ف�أخربته بثقة تربهن‬
‫على ح�سن اختياري وتخفي وراءها قل ًقا ا�ستبد بي خ�شية �أن يكت�شف‬
‫عنهما �أي �شيء‪ .‬غاب يومني وظهر بعدهما بوجه غري الذي ا�ستقبل‬
‫اخلرب به‪� ،‬أبلغني �أنها غري منا�سبة‪ ،‬فهي �أكرب مني بثالث �سنوات كما‬
‫�أن �صورتها على نظامها اخلا�ص تدل على قلة جمالها ولبنى تفوقها‬
‫أو�ضحت له �أن �أ�سباب اختياري لليلى بعيدة‬
‫ُ‬ ‫مبراحل يف هذه النقطة‪� .‬‬
‫عن كل هذا‪ ،‬م�ؤكدً ا له �أنه �سيغري وجهة نظره عندما يتعامل معها‪،‬‬
‫لكنه بد�أ باختالق �أ�سباب �أخرى ذكرتني بنهجه املعتاد املتبع معي يف‬
‫حتملت ثقل كالمه عن طموحه يف العرو�س التي‬ ‫ُ‬ ‫�أي �أمر ال يقتنع به‪.‬‬
‫وتغا�ضيت عن ت�سفيهه لليلى يف حماولة مني‬ ‫ُ‬ ‫تليق بالزواج من ابنه‬
‫‪230‬‬
‫للظفر مبوعد ملقابلة الأ�ستاذ �سالمة ولو ملرة واحدة فقط‪ ،‬لكن �أبي‬
‫بد�أ باملراوغة التي �أدت يف النهاية للحظة الت�صادم بيننا و�إعالن نيته‬
‫ال�صريحة لرف�ضه للأمر‪ ،‬ما �أدى �إىل تفريغ �شحنة احتمايل املغلفة‬
‫بغ�ضبي دفعة واحدة ب�إخباره �أن قرار االرتباط متعلق بي وحدي ولي�س‬
‫من حقه التحكم يف قراراتي‪ ،‬و�أنني �أخربته منذ البداية للإعالم‬
‫فقط ولي�س للت�شاور‪� .‬سكن احلزن بعينيه بعد جملتي معل ًنا عن قراره‬
‫النهائي بعدم التدخل يف �أي �أمر متعلق بارتباطي بليلى‪ .‬المني العم‬
‫�إبراهيم على ما قلته له وحفزين على االعتذار �إليه‪ .‬يو�صيني بال�صرب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وترك الأمر للأيام القادرة مبرورها على تليني قلبه وتقبل ليلى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ً‬

‫ل‬
‫عملت بن�صيحته واعتذرتُ لأبي وحت�سنت العالقة بيننا‪،‬‬ ‫م�ستقبل‪ُ .‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫لكنه بقي على موقفه جتاه ليلى ما �أكد ىل �أن هذا العناد مل �أرثه عن‬
‫خ�صو�صا بعد مرور‬
‫ً‬ ‫أ�صبحت يف م�أزق �أمام الأ�ستاذ �سالمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�أمي‪� .‬‬
‫�أ�سبوعني دون حتديد موعد‪ ،‬لأذهب �إليه يف نهاية الأمر و�أخربه بكل‬
‫�شيء واعدً ا �إياه بتغيري موقف �أبي‪ ،‬ف�أنا �أعرفه جيدً ا و�أعرف طيبة‬
‫قلبه التي �ستجعله يتقبل الأمر‪ .‬تفهم والدها موقفي وقبلني ب�شفاعة‬
‫ان�ضمامي �إىل (اخلالدين) ك�أب روحي لنا جمي ًعا مرح ًبا بي كفرد‬
‫جديد يف العائلة‪� .‬أعلنا خطبتنا يف اجتماع (اخلالدين) التايل وفرح‬
‫اجلميع بهذا اخلرب و�أغرقونا مبباركاتهم ودعواتهم لنا‪ .‬كانت عينا‬
‫ممزوجا بحزن مل يغادرهما منذ رحيل ه�شام‪،‬‬‫ً‬ ‫فرحا‬
‫�سارة حتمالن لنا ً‬
‫عرفت حقيقة‬
‫ُ‬ ‫عك�س عي َني �صالح اللتني كانتا تفي�ضان بحقد م�شتعل‬
‫متاما‪ ،‬ف�صالح يحب ليلى‬ ‫�سببه من ليلى بعد ذلك وكان كما توقعته ً‬
‫انتهت جميعها بالرف�ض‪ ،‬حتى‬‫منذ زمن وتقدم خلطبتها عدة مرات ْ‬
‫بد�أتُ بالظهور يف حياتها و�شعر من حديثها عني ذات مرة �أنها تكن‬
‫‪231‬‬
‫يل �شي ًئا ما حمله على كرهي‪ ،‬وال يتهاون يف �إظهار ذلك يل بقوة متى‬
‫�أُتيحت له فر�صة‪ْ .‬‬
‫م�ضت ثمانية �أ�شهر عاملتني فيها ليلى كطفل �صغري‬
‫حديث عهد بالدنيا ت�صنعني على عينها‪ُ ،‬تهذب �أخالقي وحت�سن من‬
‫عاما بعد رحيل‬
‫�شمائلي‪ ،‬ت�صرب على عنادي وجتمل ت�شوه �سبعة ع�شر ً‬
‫�أمي‪ ،‬ت�صم ُد �أمام نوبات غ�ضبي وتتقبل بابت�سامة اعتذاري‪ ،‬ت�سكب‬
‫الأمان يف �صدري بجملتها كل �شيء �سيكون بخري‪ ،‬وتزرع مكان كل جرح‬
‫بقلبي زهرة يا�سمني نقية‪� .‬أ�ستطيع �أن �أخل�ص ميزة ليلى الأ�سا�سية يف‬

‫ع‬
‫جملة واحدة‪� :‬أنها فهمتني كما مل �أفهم �أنا نف�سي و�أح�سنت التعامل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يوما‪ .‬مدى �سعادتها‬
‫معي‪ ،‬ما �أدى �إىل �أجمد �آخر مل �أتخيل �أن �أ�صريه ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كلما �أخربتها بزيادة عدد الأيام اخلالية من التدخني حفزين على‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫جنحت مب�ساعدتها يف الإقالع عن هذا ال�سم‬
‫ُ‬ ‫يوما بعد يوم‪ ،‬حتى‬
‫تركه ً‬

‫ع‬
‫وحرق ما تبقى منه يف �شقتي‪ .‬كلما راودين طيف العودة �أتخيل احلزن‬
‫علمت ف�أ�صرفه �سري ًعا‪ .‬الحظ �أبي تغريي بو�ضوح‬
‫الذي �سي�صيبها �إن ْ‬
‫لكنه �أرجع هذا �إىل �إرادتي القوية يف تغيري نف�سي منك ًرا ف�ضل ليلى‪.‬‬
‫كان يتعامل مع وجودها كنكرة ال يذكر ا�سمها ويتجنب احلديث عنها‬
‫مهما حاولت �إقحام �سريتها يف حديثنا‪� ،‬أخربته بتقدمي طلب �إىل‬
‫كنت‬
‫املجل�س يفيد برغبتنا يف الزواج و�إدراج ا�سمينا لتحديد موعد‪ُ ،‬‬
‫�أطلب ب�شكل غري مبا�شر معاونة �صديقه باملجل�س لي�ساهم يف الإ�سراع‬
‫بتحديد موعدنا‪ ،‬لكن اكفهرار وجهه �أنب�أين برف�ض الطلب‪.‬‬
‫عاما على خطبتنا مل نتلقَ‬
‫م�ضت �أربعة �أ�شهر �أمتمنا بنهايتها ً‬
‫وملعت بر�أ�سي فكرة‬
‫ذرعا باالنتظار ْ‬
‫�ضقت ً‬
‫خالله �أي رد من املجل�س‪ُ .‬‬
‫عزمت على‬
‫ُ‬ ‫�أخذت يف ال�سيطرة على ذهني مع مرور الوقت‪ ،‬حتى‬
‫التحدث مع الأ�ستاذ �سالمة‪ .‬انتظرته ذات يوم بعد �أن انتهينا من‬
‫‪232‬‬
‫وحتينت فر�صة جلو�سه مع �صحبته املقربة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اجتماعنا الأ�سبوعي‬
‫رغبت يف احلديث �أمامهم لعلمي بتحلي بع�ضهم باحلكمة‪ ،‬بد�أتُ‬ ‫ُ‬
‫حديثي بعد �إلقاء التحية ب�س�ؤايل بجدية‪:‬‬
‫‪� -‬أل�سنا على احلق؟‬
‫نظر بع�ضهم �إىل بع�ض با�ستغراب من �س�ؤايل‪ ،‬و�أجاب الأ�ستاذ‬
‫�سالمة‪:‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬بلى‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫‪ً � -‬إذا ملاذا ن�ضع �أنف�سنا بقب�ضته ونحن ال ن�ؤمن به؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫�س�أل متعج ًبا‪:‬‬

‫وزي‬ ‫ت‬
‫‪� -‬أق�صد املجل�س‪ ،‬ملاذا ننتظره ليحدد لنا موعد الزفاف �عإن كنا‬
‫‪ -‬ماذا تق�صد؟‬

‫نكفر بوجوده؟‬
‫�أجابني �صالح ب�ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬لأن هذا هو النظام املتبع بالبالد‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا نفعل نحن هنا؟ �أمل جنتمع للتخطيط للتحرر من هذا‬
‫اال�ستعباد؟‬
‫واجتهت باحلديث‬
‫ُ‬ ‫جتاهلت نظرات �صالح الغا�ضبة بعد جملتي‬‫ُ‬
‫�إىل الأ�ستاذ �سالمة �أ�صارحه بطلبي مبا�شر ًة‪:‬‬

‫‪233‬‬
‫‪� -‬أنا لن �أدع املجل�س يتحكم ب�أب�سط حقوقي ويفر�ض �سطوته‬
‫على قرار زواجنا‪ ،‬لذلك �أرجو يا عمي �أن توافق على رغبتي يف‬
‫الزواج من ليلى �أمام جميع اخلالدين‪� ،‬أنتم من يهمنا �أمركم‬
‫ولي�س املجل�س‪.‬‬
‫تقو�س حاجباه من غرابة اقرتاحي و�شرد مفك ًرا‪ ،‬ما دفعني‬
‫ال�ستغالل �شروده الذي يعني تقبله للفكرة ولو بن�سبة واحد باملئة‪ ،‬وهي‬
‫م�ستفي�ضا يف �شرح طلبي ً‬
‫معلل‬ ‫ً‬ ‫ن�سبة كافية يل لأخرتقه من خاللها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أ�سباب حجتي‪ ،‬يدعمني البع�ض منهم باملوافقة على ما �أقول والبقية‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ت�شاهد يف �صمت‪ ،‬ما عدا �صالح الذي هاجمني ب�شدة فتجاهلته‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫عن عمد‪ ،‬فلي�س من الذكاء فتح جبهته الآن‪ .‬انتهى النقا�ش بطلب‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الأ�ستاذ �سالمة �إعطاءه مهلة للتفكري جيدً ا بالأمر و�سيخربنا بقراره‪.‬‬

‫ع‬
‫�شننت حملة غري معلنة على �أ�صدقائه املقربني ملحاولة �إقناعه بعد‬
‫ُ‬
‫�إظهار دعمهم ملبد�أي‪ ،‬وكان �أكرثهم ت�أث ًريا العم �إبراهيم الذي جنح‬
‫بالعزف على الوتر املحبب لقلب الأ�ستاذ �سالمة و�إقناعه ب�أن هذه‬
‫اخلطوة �ستُ�سجل يف تاريخ (اخلالدين) ك�أول خطوات التحرر من نري‬
‫عبودية املجل�س‪ ،‬لي�ستجيب يف نهاية الأمر بكثري من الإقناع وقليل من‬
‫وحدد موعد زواجنا بعد �شهر‪ .‬كانت ليلى تتحداين بقبول‬ ‫ال�ضغط‪ُ ،‬‬
‫أ�صيبت بالذهول عندما �أخربتها بفوزي‪ ،‬تال�شت‬ ‫والدها لفكرتي و� ْ‬
‫من �أمامي �سري ًعا بخجل بعد �أن جت�سد حما�س فرحتي بكلمة �أخ ًريا‪.‬‬
‫�أخربين اجلميع �أن الوقت مي�ضي وال�شهر مير كلمح الب�صر ومل �أ َره‬
‫�أنا كذلك‪ ،‬كان بالن�سبة �إيل ك�سنة جدباء طويلة �أرجو رحيلها �سري ًعا‬
‫كي تغاث نف�سي وتع�صر من رحيق ال�سعادة‪ .‬مل �أ َر ليلى خالله �إال مرة‬
‫�أو مرتني لدقائق‪ ،‬كانت حتتجب عني تطبي ًقا للن�صيحة ال�شهرية‬
‫‪234‬‬
‫باالمتناع عني لتتدلل بحرماين من ر�ؤيتها خو ًفا من �أن �أعتادها‪ ،‬وما‬
‫تدري �أن بوجودها تبت�سم احلياة ويختلف الهواء‪ ،‬حتتويني ال�سماء‬
‫وت�صافحني قطرات املطر‪ ،‬تعقد �أحزاين معاهدة �صلح م�ؤقتة حتى‬
‫تغادر فت�شن حروبها ثاني ًة خملف ًة وح�ش ًة بقلبي بعد �أن ذاق حالوة‬
‫الأن�س ب�صحبتها‪.‬‬
‫جاء اليوم املوعود وتعاون اجلميع بتزيني القاعة فرحني بلذة‬
‫االنت�صار على املجل�س ولو بخطوة ب�سيطة كهذه‪ ،‬مانحني �إيانا �شرف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ارتديت بذلة �أهداها يل �أبي كنت �أحتفظ بها ملثل هذا اليوم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ال�سبق‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫على الرغم من جماورة العم �إبراهيم يل منذ ال�صباح و�إح�سا�سي‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ب�صدق فرحته‪ ،‬ف�إن �أكرث من كنت �أحتاج �إىل وجوده بجانبي يف هذا‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫اليوم هو �أبي‪ ،‬مل ي�ستوعب عقلي �أن �أمر بلحظة مثل تلك بحياتي دون‬
‫أخرجت قنينة زجاجية �صغرية حتمل زيت الالفندر‬ ‫ُ‬ ‫وجوده ودون علمه‪� ،‬‬
‫و�سكبت بع�ض قطراته �أدهن بها َيدي‪ ،‬لي�س رغب ًة يف اال�سرتخاء �أكرث‬
‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫من مرافقة رائحة �أمي �أ�ستح�ضر وجودها بجانبي من خالله‪.‬‬
‫�إىل القاعة و�سط ترحيب اجلميع وثنائهم على �أناقة مظهري‪ ،‬يلقون‬
‫دعابات الزواج املعتادة التي كنت �ألقي مثلها من قبل و�أهاجمهم‬
‫عليها الآن متذك ًرا هجوم ه�شام عندما كنت �أ�سخر من �شدة حبه‬
‫ل�سارة‪ .‬يا ليته هنا‪ ،‬كان �أكرث من �سي�سعد بي هذا اليوم‪ .‬مرت ع�شر‬
‫دقائق ُفتح بعدها باب غرفة االجتماعات املطل على القاعة‪ ،‬وبرز‬
‫أطلت ليلى‬
‫الأ�ستاذ �سالمة على مقعده مبت�س ًما مرتد ًيا حلة �أنيقة‪ ،‬و� ْ‬
‫من ورائه وا�ستقرت بجانبه مت�شي بوقار فر�ض �صمته على اجلميع‪،‬‬
‫ب�سيطا جعلها مالئكية بهية حتمل باقة مرتبة‬ ‫مرتدية ف�ستا ًنا �أبي�ض ً‬
‫من ورود التوليب‪ ،‬كانت ليلى �أجمل ما ر�أيته بحياتي حينها‪ .‬تقدما‬
‫‪235‬‬
‫ببطء حتى و�صال �إىل املن�صة‪ ،‬ارتكز الأ�ستاذ �سالمة بجانبي وجل�ست‬
‫ليلى بجواره‪ ،‬بد�أ ال�شيخ �أحمد الرتحيب بجميع (اخلالدين) الناق�ص‬
‫عددهم واحدً ا بعدم ح�ضور �صالح الذي فعل خ ًريا بغيابه عن زفافنا‪.‬‬
‫�ألقى كلمة ق�صرية عن �أهمية الزواج يف جمتمعنا ومدى ت�أثريه‪ ،‬و�أن‬
‫اليوم �سيتزوج اثنان عزيزان على قلبه وعلى قلوب جميع اخلالدين‪.‬‬
‫�شرع بعد ذلك يف عقد قراننا برتديد �صيغته املعهودة بيني وبني �أبيها‬
‫ل ُنع َلن بعد ذلك كزوجني �أمام (اخلالدين)‪ .‬اندفع الرجال ليحملوين‬

‫ع‬
‫ويقذفوا بي للأعلى تعب ًريا عن فرحتهم‪ ،‬والتفت الفتيات حول ليلى‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫جميل ورائ ًعا على الرغم من ب�ساطته‬ ‫يوما ً‬ ‫يقبلنها ويهنئنها‪ .‬كان ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وافتقاده �إىل تقاليد الأفراح املعروفة‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫�شئنا �أم �أبينا �سنبقى خا�ضعني ل�سلطته املعلنة مهما حاولنازي�ع‬
‫فيهما قلبي واحة ال�سعادة و�أبى �أال‬ ‫دخل‬ ‫�صرنا زوجني منذ �شهرين‬
‫حتديد موعدنا‪،‬‬ ‫املجل�س يف‬ ‫يرحل عنها‪ ،‬كل ما يعكر �صفونا هو ت�أخر‬
‫إنكار‬
‫ذلك‪� .‬أحيا ًنا يت�سرب برد الي�أ�س �إىل مدف�أة �صربي عندما �أفكر يف‬
‫قوة املجل�س ويورد �إىل خاطري ا�ستحالة هزميته كما ن�سعى‪ ،‬ولكن‬
‫متوهجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫�أ�سرع ب�إلقاء حطب �شعوري ب�أمل انتهاء املجل�س قري ًبا ليبقى‬
‫فدون التحلي بال�صرب لن ن�ستطيع اال�ستمرار و�سينتهي كل �شيء‪.‬‬
‫•••‬
‫نبهني �إياد ب�شكل لطيف �إىل ت�أخري يف مهام ن�سخ الكتب من خالل‬
‫فهمت ما يرمي‬
‫مداعبته يل ب�أن �شهر الع�سل امتد عندى ل�شهرين‪ُ ،‬‬
‫�إليه و�أخربتُ ليلى بعدم ذهابي معها اليوم حتى �أ�ستطيع قطع �شوط‬
‫جل�ست ال �أدرك كم مر من الوقت لكن �أمل‬
‫ُ‬ ‫بالن�سخ يغفر يل تق�صريي‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫ظهري �أخربين �أنه لي�س بقليل‪ ،‬ا�ست�أذنني �إياد للذهاب بعد �أن �أجنز‬
‫وبقيت وحيدً ا باملكتبة‪� ،‬سمعته يتبادل التحية‬
‫ُ‬ ‫مودعا �إياي‬
‫عمله لليوم ً‬
‫مع �أحدهم على الباب وعرفت �أنه �صالح بظهوره متج ًها ناحيتي يف‬
‫التحقت باملكتبة مل �أ َر �صالح ولو‬
‫ُ‬ ‫حادثة هي الأوىل من نوعها‪ ،‬منذ �أن‬
‫ملرة واحدة هنا‪� ،‬ألقى التحية فرددتها عليه دون �أن �أرفع عيني عن‬
‫الكتاب الذي �أن�سخه‪ ،‬قال بنربة �ضاحكة حتمل �سخرية‪:‬‬
‫متاما ومل يعد يهتم بعمله‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو �أن عري�سنا ان�شغل ً‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫مل يتلقَ �إجابة مني و� ُ‬
‫أكملت ما �أقوم به‪ ،‬انخف�ض جتاهي حتى‬

‫بللدرجة التي متنعك من ر�ؤية كثري من‬ ‫ك‬


‫من�شغلت ً‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫تالقت �أعيننا وقال ب�صوت يحمل فحيح اخلبث‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫متاما‬ ‫‪� -‬أظن �أنك‬
‫الأمور التي جتري هنا‪.‬‬
‫�أكمل وعيناه حتمالن ملعة املكر‪:‬‬
‫‪� -‬أكرث ما �أتعجب منه هو الأ�ستاذ �سالمة‪ ،‬ز َّوجك ابنته �أعز ما‬
‫ميلك لثقته بك‪ ،‬فلماذا مل ي�ضع ثقته بك حتى الآن لتن�ضم‬
‫�إلينا بفرع التنقية؟‬
‫أجبت ب�صرامة‪:‬‬
‫� ُ‬
‫علي العمل بفرع التنقية‬
‫‪� -‬أحب املكتبة والعمل بها‪ ،‬و�إن ُعر�ض ّ‬
‫فلن �أوافق‪.‬‬
‫قهقه �ضاح ًكا ب�صوت ٍ‬
‫عال ثم �أكمل بنربة خبيثة‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن‪ ،‬لن يعر�ض عليك العمل به �أبدً ا‪.‬‬
‫‪237‬‬
‫قال جملته ووىل ذاه ًبا و�سط ابت�سامات دربته عليها �أفعى ذات‬
‫وا�ضحا �أنه يحاول زرع ال�ضغائن بيني وبني الأ�ستاذ �سالمة‬
‫ً‬ ‫يوم‪ ،‬كان‬
‫�ساذجا مثله و�س�أهتم لهذه‬
‫ً‬ ‫حلقد يكنه �أعلم �سببه جيدً ا‪ ،‬يظنني‬
‫الأمور‪ .‬ترددت جملته «لن يعر�ض عليك العمل به �أبدً ا» بذهني وكادت‬
‫تفتح با ًبا للأ�سئلة بداخلي‪ ،‬لوال �أنني �أغلقته جيدً ا بفتح كتاب جديد‬
‫�أن�سخه و�أبحر يف عامله‪.‬‬
‫•••‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫تناولت معطفي بعد مرور �ساعتني �أُنهك ج�سدي خاللهما‬

‫ري‬
‫ُ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫و�صعدتُ �إىل القاعة يف طريقي للذهاب‪ ،‬وجد ُتهم يخرجون من غرفة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫االجتماعات املخ�ص�صة لفرع التنقية وحده وهذا ف�سر ملاذا جاء‬

‫والتوزي‬
‫�صالح اليوم‪ ،‬ناول �أ�ستاذ �سالمة �صالح ً‬

‫ع‬
‫قفل �صغ ًريا ل ُيحكم غلق‬
‫الغرفة بعد ذهابهم‪ ،‬ر�آين ف�ألقى التحية وبد�أ يف �س�ؤايل عن �أحوال‬
‫العمل‪ .‬نظر �إيل �صالح نظرة �ساخرة من ورائه حتمل حتد ًيا فهمته‬
‫قلت ب�صوت ي�صل �إىل م�سامع �صالح بنربة واثقة‪:‬‬
‫وقبلت به‪ُ ،‬‬
‫مللت العمل يف املكتبة و�أريد �أن �أغري الفرع‪،‬‬
‫‪ -‬عمي‪� ،‬أ�شعر �أنني ُ‬
‫�أفكر يف االن�ضمام �إىل فرع التنقية‪ ،‬فما ر�أيك؟‬
‫‪� -‬أظن �أن فرع املكتبة هو الأف�ضل لك‪ ،‬ميكنك االنتقال �إىل فرع‬
‫حت�ضري املناق�شات �إن �شعرت بامللل‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن �أريد تغيري الق�سم ب�أكمله‪.‬‬
‫‪ -‬الق�سم اخلارجي ي�شكل خط ًرا عليك‪ ،‬لذلك ال �أرجحه الآن‪.‬‬
‫‪ -‬لذلك مل � َ‬
‫أخته واخرتتُ ق�سم التنقية‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫‪ -‬ق�سم التنقية مكتمل الآن وال يحتاج �إىل �أعداد �أخرى‪.‬‬
‫مل تكن احتياجات �أق�سام (اخلالدين) تقام على العدد و�إمنا على‬
‫حرية اختيار الأفراد للق�سم الذي يريدون العمل به‪ ،‬لذلك كان جل ًيا‬
‫�أنه ال يريد ان�ضمامي �إليهم ويغلف رغبته بحجة واهية‪.‬‬
‫خارجا بعد �أن ودعني‪ ،‬مر بي �صالح بوجه يحمل ابت�سامة‬‫هم ً‬
‫�ساخرة وبعينني حتمالن ال�شماتة بخ�سراين �أمامه‪ ،‬انتقل الأمر‬
‫حتد تافه بيني وبينه �إىل �س�ؤال يجب �أن �أعرف‬
‫بداخلي من جمرد ٍ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�إجابته‪ ،‬ملاذا يرف�ض الأ�ستاذ �سالمة ان�ضمامي �إىل ق�سم التنقية؟‬

‫الكتب• ل•لن•‬
‫ماذا يحدث هناك؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫توزيع‬

‫‪239‬‬
‫(‪)18‬‬
‫(التنقية)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�« -‬أعيديها ثاني ًة»‪ .‬قلتها لأت�أكد �أن ما �سمعته �صحيح‪ .‬تت�سارع‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قر�أت �سو�سن الر�سالة ب�صوتها اللنآيل‪:‬‬
‫نب�ضاتُ قلبي بفعل الفرح‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫‪�-‬سيد �أجمد‪ ،‬يود جمل�س �إدارة العهد وال‬
‫ع �أنه‬ ‫اجلديدت �وزي‬
‫إخبارك‬
‫قد حدد موعد زفافك �أنت وخطيبتك الكرمية ليلى يف يوم‬
‫ُ‬
‫اخلام�س ع�شر من ال�شهر اجلاري‪ ،‬ويرجى التوا�صل معنا‬
‫لإطالعكما على التفا�صيل كافة‪.‬‬
‫قفزتُ من فوق ال�سرير ب�سعادة لتحديد املوعد �أخ ًريا‪� ،‬أخربتها �أن‬
‫تت�صل بليلى ثم نهيتها عن ذلك‪� ،‬أريد �أن �أرى مالمح وجهها عندما‬
‫�أخربها ب�أننا �أخ ًريا �سنمار�س حياتنا ب�شكل طبيعي ك�أي زوجني‪ ،‬نظرتُ‬
‫�إىل �ساعتي فوجدتُ �ساعتني تبعدانني عن موعد االجتماع الأ�سبوعي‬
‫للخالدين‪ ،‬دفعني احلما�س الرتداء مالب�سي �سري ًعا والذهاب �إىل املقر‬
‫‪241‬‬
‫النتظار ليلى‪ .‬اعتدنا �أن نذهب �أنا وهي يوم االجتماع مبك ًرا مل�ساعدة‬
‫العم �إبراهيم يف تهيئة القاعة‪� ،‬س�أحاول �أن �أ�صل قبل و�صولها‪� ،‬أريد‬
‫�أن �أكون �أول من تراه‪.‬‬
‫•••‬
‫فرح العم �إبراهيم باخلرب وهن�أين‪� ،‬أو�صيته بعدم �إخبار ليلى‬
‫و�أخربته �أنني �س�أنتظرها باملكتبة حلني و�صولها‪ .‬مررتُ بالقاعة‬
‫ملحت باب غرفة‬‫التي مل يط�أها �أحد بعد يف طريقي �إىل املكتبة‪ُ ،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫االجتماعات اخلا�صة بفرع التنقية فتذكرتُ ماذا حدث باملرة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ال�سابقة‪ ،‬غريتُ م�ساري متج ًها �إليها �أتطلع �إىل بابها مفك ًرا‪ُ :‬تري‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ماذا يحوي خلفه؟ داعبت مقب�ض الباب بال�ضغط عليه يف حماولة‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حمكوم عليها بالف�شل م�سب ًقا لعلمي بغلق �صالح له‪ ،‬لكن تفاج�أت‬
‫بفتحه بب�ساطة بني َيدي‪ ،‬داهمني اال�ستغراب عندما نظرتُ �إىل مكان‬
‫القفل ومل �أجده‪ ،‬ر�أيت الأ�ستاذ �سالمة بعيني وهو يناوله ل�صالح‬
‫م�ؤكدً ا عليه �أن يغلق الغرفة جيدً ا‪ ،‬راودتني نف�سي بال�سوء بالولوج‬
‫�إليها واكت�شاف ما بها �سري ًعا‪ ،‬فهذه �أف�ضل فر�صة ملعرفة ذلك ولن‬
‫حاولت زجر نف�سي عن فعل هذا ولكن دافع الف�ضول كان‬ ‫ُ‬ ‫تتكرر ثاني ًة‪،‬‬
‫أغلقت الباب‬
‫دلفت و� ُ‬
‫�أكرب من �أن حتده مواعظ االحرتام بداخلي‪ُ ،‬‬
‫بدت ك�أي غرفة‬ ‫ورائي متطل ًعا �إىل �أركانها �أ�سكت�شف حمتوياتها‪ْ .‬‬
‫عادية‪ ،‬طاولة اجتماعات باملنت�صف خالية من �أي �شيء‪ ،‬خلفها طاولة‬
‫�صغرية تركن �إىل احلائط حتمل كت ًبا ا�ستعارها الأ�ستاذ �سالمة من‬
‫املكتبة منذ �أ�سبوعني تربز من بينها �أوراق ينقل بها بع�ض املعلومات‪،‬‬
‫ا�ستقرت فوقها لوحة ملنظر طبيعي جذبتني �ألوانها لأقرتب و�أدقق‬
‫النظر �أكرث‪ ،‬كانت �ألوانها �ساحرة وبديعة تعك�س براعة فنان ماهر‬
‫‪242‬‬
‫حملت �أق�صى ي�سارها توقي ًعا بالأ�سفل با�سم �سالمة‬
‫با�ستخدام ري�شته‪ْ ،‬‬
‫عا�صم وحتته كلمة باري�س‪ ،‬مل �أكن �أعلم �أنه يجيد الر�سم‪ ،‬يبدو �أنه‬
‫�سمعت �أ�صوا ًتا باخلارج تنبئ مبجيء بع�ض‬‫ُ‬ ‫ر�سمها منذ زمن بعيد‪.‬‬
‫فهممت بالرحيل قبل �أن يكرث عددهم ويالحظوا خروجي‬ ‫ُ‬ ‫اخلالدين‬
‫من غرفة االجتماعات‪ ،‬لكنني ر�أيت جتوي ًفا باحلائط ً‬
‫مقابل للوحة‬
‫توجهت �إليه‬
‫ُ‬ ‫مل �أكن �أراه من باب الغرفة الرئي�سي يحوي با ًبا �آخر‪،‬‬
‫�سري ًعا �أقنع عقلي الذي يحثني على اخلروج فو ًرا بال�سماح يل بخم�س‬
‫متاما عن غرفة‬ ‫دقائق �أخرى‪ ،‬فتحته ودخلت‪ .‬كان املكان خمتل ًفا ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫االجتماعات وترتيبها املنظم‪ ،‬ملفات ملقاة بع�شوائية حتوي كث ًريا من‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الأوراق تفرت�ش طاولتني باملنت�صف جتاورهما �سبورة م�صنوعة من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫اقرتبت‬
‫ُ‬ ‫ن�شارة اخل�شب يتعلق بها كثري من ال�صور بدبابي�س معدنية‪،‬‬
‫والتقطت واحدً ا من امللفات يحمل ا�س ًما ال �أعرفه‪ ،‬فتحته‬
‫ُ‬ ‫من الطاولة‬
‫فوجدتُ عدة �صور ل�شخ�ص واحد ظهر بو�ضوح �أنها التُقطت له دون‬
‫علمه‪� ،‬صورة له وهو ي�ستقل �سيارة وثانية وهو خارج من مطعم وثالثة‬
‫أزحت ال�صور جان ًبا فوجدت الأوراق حتمل تفا�صيل‬ ‫وهو ي�صعد بناية‪ُ � ،‬‬
‫يف ما يبدو �أنها متعلقة بال�شخ�ص نف�سه وحتركاته باليوم وال�ساعة‬
‫فهمت من امللف �أن �صاحب اال�سم ُيرا َقب وهنا تف�صيل لكل‬‫والدقيقة‪ُ ،‬‬
‫ما يقوم به‪.‬‬
‫توجهت �إىل ال�سبورة فوجدتُ كث ًريا من ال�صور من بينها �صورة‬
‫ُ‬
‫الرجل �صاحب امللف ومو�ضوعة عليها عالمة �إك�س باللون الأحمر‬
‫وعلى عدد من ال�صور الأخرى‪ ،‬والبقية مل ُيو�ضع عليها بعد‪ .‬ما‬
‫حاولت تكذيب ما فهمته من خالل‬ ‫ُ‬ ‫الذي يجري هنا بال�ضبط؟‬
‫وا�ضحا‪� ،‬أ�صدق �أن يقوم �صالح بهذا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ما ر�أيت ولكن كان كل �شيء‬
‫‪243‬‬
‫ولكن �أ�ستاذ �سالمة! هل ُيعقل �أن يتم كل هذا حتت �إ�شرافه! بالت�أكيد‬
‫متحمل توبيخه لتج�س�سي‬ ‫ً‬ ‫�س�أ�س�أله عن هذا الأمر لأفهم ماذا يحدث‬
‫على غرفة االجتماعات‪� .‬أخربين �صوت ال�ضجة الآتي من اخلارج‬
‫ألقيت نظرة �أخرية‬‫بزيادة عدد احل�ضور‪ ،‬ينبهني حلتمية املغادرة‪ُ � ،‬‬
‫ملحت عيني من بينها �صورة‬ ‫�سريعة على ال�صور املعلقة �أمامي‪ْ ،‬‬
‫نازعا الدبو�س املعدين و�أنا �أت�أملها‬
‫اقرتبت منها وتناولتها ً‬
‫ُ‬ ‫جمدتني‪،‬‬
‫اجتهت �أبحث‬
‫ُ‬ ‫جيدً ا �أحاول ا�ستيعاب الإتيان بها و�سط هذه ال�صور‪،‬‬
‫ً‬

‫ع‬
‫حماول تكذيب ظني‪،‬‬ ‫�سري ًعا بني امللفات متمن ًيا �أال �أجد هذا امللف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�شعرتُ بان�سحاق قلبي عندما وجدته من بينها يحمل ا�سم (عبد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫تفح�صت �أوراقه فوجدتها مثل امللف الأول حتمل جميع‬ ‫ُ‬ ‫القادر �سند)‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قدمي‬
‫خارجا �أجر َ‬ ‫توجهت ً‬ ‫ُ‬ ‫التحركات بدقة بجانب عديد من ال�صور‪،‬‬

‫ع‬
‫وقد ُربطت بهما �أكيا�س مملوءة برمال �صحراء الأمل املهلكة‪� ،‬أحمل‬
‫فهمت كل هذا ب�شكل‬ ‫امللف بني َيدي �أتعلق ب�آخر حبال الأمل �أنني رمبا ُ‬
‫انقطعت كلمة ال�شيخ �أحمد الواعظة التي يلقيها على احل�ضور‬ ‫ْ‬ ‫خاطئ‪.‬‬
‫بخروجي من غرفة االجتماعات ينظر �إيل بده�شة تطورت لفزع بعني‬
‫الأ�ستاذ �سالمة القابع بجواره وهو ينظر �إىل امللف بيدي‪� ،‬شق �صوتي‬
‫ال�سكون الذي جثم على اجلميع بثقله بنربة خائفة تخ�شى الإجابة‬
‫موج ًها �س�ؤايل للأ�ستاذ �سالمة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا يفعل ا�سم �أبي هنا و�سط هذه امللفات؟‬
‫واختنقت مالحمه وهو يهرب بنظرات عينيه لوجهة‬
‫ْ‬ ‫زفر ب�ضيق‬
‫غري حمددة‪ ،‬فت�أكدتُ �أن ما فهمته �صحيح‪ ،‬حت�شرج �صوتي بفعل‬
‫ال�صدمة املغمو�سة بالوجع ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪244‬‬
‫وثقت بك وبكم جمي ًعا واعتربتكم عائلتي و�أنتم تدبرون لطعني‬
‫‪ُ -‬‬
‫من اخللف؟ �أي خ�سة هذه؟‬
‫قال الأ�ستاذ �سالمة راج ًيا‪:‬‬
‫‪� -‬أجمد �أرجوك �أن تهد�أ‪.‬‬
‫قلت غا�ض ًبا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬كيف تطلب منى الهدوء بعد ما عرفته؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬يجب �أن تهد�أ حتى تفهم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قلت متعج ًبا ومل يرتكني الغ�ضب‪:‬‬
‫ُ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‪ -‬ماذا تريدين �أن �أفهم؟ �أفهم �أنكم تريدون قتل رجل مل يفعل‬
‫لكم �أي �شيء �سوى �أنه يبغ�ضكم مثله مثل �أهل هذه البالد؟ هل‬
‫تعتربون هذه اجلرمية ت�ستحق القتل؟‬
‫وقفني بنربة �صارمة‪:‬‬
‫‪ -‬وهل عهدتَ بنا التعامل بهذه ال�سذاجة؟‬
‫‪ -‬مل �أعد مت�أكدً ا من �أي �شيء‪ ،‬مل �أعد �أعرف حتى من �أنتم‪.‬‬
‫زاد من �صرامته‪:‬‬
‫‪-‬وكذلك ال تعرف من يكون �أبوك‪.‬‬
‫�أكمل بعد �أن نظرتُ �إليه م�ستغر ًبا‪:‬‬

‫‪245‬‬
‫‪�-‬أبوك عبد القادر �سند طبيب املخ والأع�صاب ال�شهري الذي‬
‫نال عديدً ا من اجلوائز وذاع �صيته بعبقريته هو نف�سه قائد‬
‫قرا�صنة العقول‪ ،‬باع �أ�صحابه ذوي ال�ضمائر اليقظة وت�صالح‬
‫مع املجل�س مواف ًقا على كل �شروطه مقابل كثري من الأموال‬
‫و�إتاحة الفر�صة له بتطبيق جتاربه‪ ،‬وكان �أول �ضحاياه هو‬
‫�شعب هذه البالد مب�سح ذاكرته وال�سيطرة على عقله‪.‬‬
‫رميته بنظرات حانقة من كذبه ف�أكمل ً‬
‫�سائل �إياي‪:‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�-‬أمل ت�س�أل نف�سك ولو ملرة كيف عرف تفا�صيل ما �سيحدث‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫للبالد وحجبك كي ال تتعر�ض للفريو�س كما �أخربتنا؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫والتوزي‬
‫قلت مداف ًعا‪:‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬ال مل �أ�س�أل‪ ،‬لأنني �أعرف من �أين ح�صل عليها‪ ،‬من �صديقه‬
‫باملجل�س‪.‬‬
‫نفى بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬كذب‪ ،‬من هذا ال�صديق الذي �سيخربه بكل هذه التفا�صيل‬
‫ال�سرية للغاية؟ املجل�س مي�شي وف ًقا خلطط �أبيك‪ ،‬هو ال�سبب‬
‫يكتف بهذا بل �صار يحاربنا ونحن‬
‫يف نكبة هذه البالد‪ ،‬ومل ِ‬
‫يف طريقنا لإ�صالح ما �أف�سده ويطبق العقوبة بيديه على‬
‫اخلالدين‪.‬‬
‫نفيت ما يقوله بقوة‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما تقوله هراء‪� .‬أبي ترك جمال الطب منذ �سنني و�أغلق‬
‫عيادته‪ ،‬فكيف �سيجري العمليات؟‬
‫‪246‬‬
‫‪� -‬أوهمك و�أوهم اجلميع بهذا حتى ال ُيك�شف �أمره‪� ،‬أمل تفكر ولو‬
‫حلظة ملاذا يغلق عيادته وهو يف �أوج جمده؟‬
‫‪ -‬ليعتني بي‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما �أقنعك به‪.‬‬
‫اختلطت حدة �صوته بالأ�سى متاب ًعا‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬هو من �أجرى العملية له�شام ولكثريين غريه‪ ،‬هل علمت الآن‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ملاذا كنا نخطط لقتله وقتل جماعته امل�أجورة؟ مل يف�سد �أحد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫بالدنا مثلما �أف�سدها ه�ؤالء‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫والتوز عي‬
‫قلت بغ�ضب‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬كل ما تدعيه افرتاءات ال �أ�سا�س لها من ال�صحة‪� .‬أنا �أعرف‬
‫�أبي جيدً ا‪.‬‬
‫قال بهدوء‪:‬‬
‫تفوهت‬
‫ُ‬ ‫‪� -‬أقدر �صدمتك‪ ،‬ولكنني �أق�سم �أنني �صادق بكل حرف‬
‫به‪.‬‬
‫تابع بنف�س هدوئه‪:‬‬
‫‪� -‬أظن �أنك الآن عرفت ملاذا رف�ضناك يف املرة الأوىل عندما‬
‫تقدمت لليلي‪ ،‬لي�س لأننا من (اخلالدين) ولكن بعد �أن ر�أت‬
‫َ‬
‫وعرفت من تكون و�أخربتني‪ ،‬ولهذا‬
‫ْ‬ ‫ليلى والدك باملطعم‬
‫كنت �أرف�ض ان�ضمامك �إلينا‪ ،‬لكن حما�ستك‬ ‫ال�سبب � ً‬
‫أي�ضا ُ‬
‫‪247‬‬
‫وقتها جعلتني �أ�شعر �أنه رمبا تكون خمتل ًفا عن والدك وال‬
‫يجب �أن �أظلمك بذنبه‪ ،‬و�أن الن�صر دائ ًما ي�أتي من حيث‬
‫فقبلت بك بيننا ولنف�س‬
‫ُ‬ ‫ال نحت�سب ورمبا ي�أتي على يديك‪،‬‬
‫ال�سبب رف�ضتُك يف املرة الثانية عندما تقدمت‪ ،‬ولكن للأ�سف‬
‫وا�ست�سلمت ملحاولة �إقناعها يل‬
‫ُ‬ ‫�ضعفت �أمام م�شاعر ابنتي‬
‫ُ‬
‫�أنك لن ت�شعر ب�شيء‪ ،‬ور�ضخت لعواطفها م�شف ًقا عليها من‬
‫ك�سرة قلبها بعد �إح�سا�سي بتعلقه بك وقبلت‪ .‬هل عرفت الآن‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ال�سبب وراء كل هذا الرف�ض؟ كان خو ًفا من هذه اللحظة التي‬

‫بإىللقلبي فتُ�صيب هدفها بدقة‪ُ ،‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ال‬


‫مل �أعد لها جيدً ا‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وزيع‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫قلت‬ ‫يوجهها �‬ ‫كانت كلماته كن�صال‬
‫لليلى‪:‬‬ ‫وقد امتلأت عيناي بدموع اخلزي ً‬
‫قائل‬
‫كنت على علم بكل هذا؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫وحتا�شت‬
‫ْ‬ ‫�أجابتني بعربات �أر�سلتها عيناها �سري ًعا على وجنتيها‬
‫�ضحكت ب�سخرية الوجع موج ًها حديثي لعم ابراهيم الذي‬
‫ُ‬ ‫مواجهتي‪.‬‬
‫اكت�ست مالحمه باحلزن‪:‬‬
‫‪ -‬حتى �أنت كنت تعلم‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬
‫�صرخت فيهم‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬اجلميع هنا على علم بكل �شيء ما عدا �أنا املغفل الوحيد‬
‫بينكم‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫حل الوجوم على وجوه احلا�ضرين ما عدا �صالح الذي كان ي�ستمتع‬
‫ً‬
‫متلذذا ب�صدمتي‪ .‬لف اجلميع ال�صمت لدقيقة مل يتكلم بها �أحد‪ ،‬بد�أ‬
‫بعدها الأ�ستاذ �سالمة حديثه بلطف ً‬
‫قائل يل‪:‬‬
‫�شخ�صا عاد ًيا بالن�سبة �إيل‪� ،‬أنت زوج ابنتي‬
‫ً‬ ‫‪� -‬أجمد‪� ،‬أنت ل�ست‬
‫وابن من �أبناء عائلة اخلالدين ومكانتك لي�ست بالهينة عندي‪،‬‬
‫لكنني يف نهاية الأمر ال �أ�ستطيع �إجبارك على �شيء‪� ،‬أمامك‬
‫الآن خياران �إما �أن تبقى كما �أنت بيننا واحدً ا منا ت�ؤمن مبا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�ستثبت لك الأيام‬
‫ُ‬ ‫ن�ؤمن به وتثق بقرارتنا وحكمة �أفعالنا‬

‫ري‬
‫قام �صالح ال ً‬
‫معرت�ضكا‪:‬ت‬
‫�صحة ما �أخربتك به‪ ،‬و�إما �أن تغادرنا وتن�سى �أمرنا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وزيع‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫‪ -‬كيف يغادرنا؟ نحن ال ن�أمن �أن يبلغ عنا وي�سلمنا �إىل املجل�س‪،‬‬
‫يجب �أن ُتقام عليه عقوبة االن�شقاق وهي القتل‪.‬‬
‫وقفه بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪� ،‬أنقذنا جمي ًعا مرة �سابقة وهذه بتلك‪.‬‬
‫نظر �إيل و�أكمل بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬كما �أنني �أثق به و�أعلم �أنه لن يبلغ عنا‪.‬‬
‫�صمت بعدها بانتظار قراري فقلت بنربة غا�ضبة غلفها الهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬هل تظنني جاحدً ا �إىل هذه الدرجة؟ هل �أوهمك حديثي عن‬
‫العالقة املتوترة بني وبني �أبي �أنني �س�أبقى بينكم بعد علمي‬
‫بتخطيطكم لقتله ك�أن �شي ًئا مل يحدث! مير قاتلوه �أمام عيني‬
‫‪249‬‬
‫ليل نهار و�أتخذهم عائلة يل! كيف تخيلت هذا؟ �إن كنتم‬
‫وتوهمت‬
‫ُ‬ ‫خدعتموين باحلديث عن �سمو هدفكم ونبل �أخالقكم‬
‫�أنكم �أطهر من مي�شي على هذه الأر�ض‪ ،‬فالآن انك�شف كل‬
‫�شيء ولن �أدعكم مت�سون �شعرة من �أبي ولو كلفني هذا حياتي‪.‬‬
‫اجتهت للخارج فوقفني‬
‫ُ‬ ‫قلتها ب�صرامة اكفهر وجهه �أمامها‪،‬‬
‫بحزم‪:‬‬
‫‪� -‬إن كان هذا قرارك فلك ذلك‪ ،‬ولكن �إن رحلت فلن تعود �إلينا‬

‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ثاني ًة حتى �إن‬

‫ل‬
‫اكت�شفت احلقيقة‪ ،‬ومبجرد خروجك من هذا‬ ‫َ‬

‫بنف�سي بعد �أن �أظهر بطاقته الأخرية‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ك‬
‫فيهات�شتات‬
‫املكان �ستنقطع عالقتك بجميع �أفراده �إىل الأبد‪.‬‬

‫ر و�أبت كرامتي فوزه‪،‬‬


‫و‬ ‫ش‬ ‫ن‬
‫أكملت طريقي للخروج دون �أن �أعقب‪،‬التو‬
‫وقفت برهة �أجمع‬
‫ُ‬

‫فوقفنيزيع‬
‫تهديده‬ ‫علي من خالل‬
‫َّ‬ ‫حماول الربح بال�ضغط‬‫ً‬
‫ثاني ًة‬ ‫حزمت �أمري و� ُ‬
‫ُ‬
‫بنف�س احلزم ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬انتظر‪ ،‬عليك �إمتام �شيء ما قبل رحيلك‪.‬‬
‫نظر �إىل اجلميع ثم �أكمل‪:‬‬
‫‪ -‬كما زوجتك ابنتي �أمام جميع‪ ،‬ف�أنا �أطلب منك الآن �أن تطلقها‬
‫�أمام اجلميع � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫وقلت‬
‫نظرتُ �إىل عني ليلى الدامعة التي ترتجاين ب�صمت �أال �أفعل ُ‬
‫بثبات‪:‬‬
‫أنت طالق‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪250‬‬
‫عندما تدخل �إىل �ساحة مواجهة احلياة �ستظل توجه �إليك لكماتها‬
‫للحد الذي �ست�شعر عنده بت�ساوي مقدار الأمل‪ ،‬فتتلقى ال�ضربة‬
‫�سمعت‬
‫ُ‬ ‫القا�ضية بهدوء م�ست�سل ًما لهزميتك غري عابئ ب�أي �شيء‪� .‬إن‬
‫لكنت جهزتُ �أ�سلحتى و�أعددتُ‬
‫هذا الطلب قبل �ساعة واحدة فقط ُ‬
‫حربتي ملواجهة العامل ب�أكمله دون حتقيقه‪ ،‬ولكن الآن خدر الوجع‬
‫يفقدين الإح�سا�س و�أعلم �أن الندم بانتظاري ليح�سن رعايتي عند‬
‫الإفاقة‪.‬‬
‫•••‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪251‬‬
‫(‪)19‬‬
‫(مذكرات)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أي �شوق هذا الذي يدفع بالإن�سان للرق�ص على �آثار جرح غري‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عابئ بالوجع مقابل �أن يبقى بجانب الذكرى؟ مع�ضلة الذكريات التي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ت‬
‫مل يقدر على حلها �أحد �أن يكون م�صدر �سعادتنا ذات يوم هو نف�سه‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫م�ضت ع�شرة �أيام على ما حدث مل �أحترك فيها من �سريريع�سوى‬
‫م�صدر �أملنا يف ما بعد‪.‬‬
‫ْ‬
‫لق�ضاء حاجتي‪� ،‬أعي�ش على قليل من الطعام وكثري من الذكريات‬
‫منقط ًعا عن العامل �أفكر كيف انقلب كل �شيء بهذا ال�شكل‪ ،‬بد�أ اليوم‬
‫بفي�ض من ال�سعادة وانتهى بوافر الأمل‪ .‬ظلت عني ليلى الدامعة‬
‫برجائها الأخري تالحقني �أينما ذهبت‪ ،‬حتى يف نومي ت�أتيني‬
‫ب�أحالمي بنف�س النظرة‪ ،‬ولكن ماذا كانت تنتظر منى �أن �أفعل بعد‬
‫�أن و�ضعني �أبوها بني فكي الرحى بخياراته؟ �أتذكر ما قاله ب�ش�أن‬
‫�أبي‪ ،‬رغم قوة دفاعي عنه حينها لكن كالمه حاك �شي ًئا ب�صدري‪.‬‬
‫�أ ُيعقل �أن يكون �صاد ًقا! �أفزعني �صوت جر�س الباب الذي كدتُ �أن�سى‬
‫نغمته فلم يقرعه �أحد منذ زمن‪ ،‬جتاهلته ولكن �إ�صرار الطارق دفعني‬
‫‪253‬‬
‫للقيام بتكا�سل �أت�ساءل عن �سبب �إحلاحه‪ ،‬نظرت عرب العني ال�سحرية‬
‫وتنهدتُ و�أنا �أفتح الباب ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪� -‬أبي ملاذا جئت؟ �أخربتك �أين بخري‪.‬‬
‫دلف �إىل الداخل وا�ض ًعا يديه بجي َبي بنطاله‪ ،‬قال وهو يتفح�صني‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو جيدً ا �أنك بخري‪ ،‬طول حليتك وهيئة مالب�سك خري دليل‬
‫على هذا‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫نظر �إىل �أرجاء ال�شقة وقال با�شمئزاز‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪ -‬ما هذه الفو�ضى؟ وما هذه الرائحة؟‬

‫التوزيع‬ ‫شر و‬
‫أيام‪.‬‬ ‫‪ -‬مل � ِألق القمامة منذ عدة �‬
‫كي�سا �أ�سود‬
‫تقززت مالحمه وهم ذاه ًبا �إىل املطبخ بهمة‪� ،‬أخرج ً‬
‫ْ‬
‫كب ًريا من �أحد الدواليب ولب�س قفازين وبد�أ بجمع الأوراق و�أطباق‬
‫ذهبت �إىل غرفتي‬
‫ُ‬ ‫الأكل وعلب الع�صري املبعرثة ب�أركان ال�شقة‪،‬‬
‫قر�صا ل�صداع بد�أ بالدق على ر�أ�سي‪.‬‬
‫وجل�ست على ال�سرير �أتناول ً‬
‫م�ضى وقت جاء بعده �أبي بكي�س جديد لغرفتي ووبخني على حالة‬
‫ال�شقة وكيف تركتها ت�صل لهذه املرحلة التي تكلفت ثالثة �أكيا�س من‬
‫احلجم الكبري لتنظيفها‪ .‬مل يلقَ ر ًّدا مني كعادتي مبهاجمته ما جعله‬
‫يكف عن احلديث واقرتب وجل�س بجانبي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪� -‬أجمد‪ ،‬ما بك؟ وال تقل �إنك بخري لأنني لن �أ�صدقك‪.‬‬
‫نفثت ب�ضيق فتابع‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪254‬‬
‫‪ -‬هل �ضايقتك خطيبتك يف �شيء؟‬
‫‪ -‬انف�صلنا‪.‬‬
‫ربت على كتفي ً‬
‫قائل بفرح‪:‬‬
‫‪ -‬ال حتزن‪� ،‬س�أزوجك من هي �أف�ضل و�أجمل منها بكثري‪.‬‬
‫نظرتُ �إليه متعج ًبا‪:‬‬

‫ع‬
‫‪� -‬ألن ت�س�ألني عن ال�سبب؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هز ر�أ�سه ناف ًيا‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ -‬و َمل �أ�س�أل؟ �أنت تعلم �أنني ال �أحب التدخل بخ�صو�صياتك‪ ،‬ثم‬

‫والتوز عي‬
‫َمب �ستفيد معرفة ال�سبب الآن؟ ذهبت وانتهى �أمرها‪.‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي مواف ًقا لكالمه ف�أكمل بحما�س‪:‬‬
‫‪ -‬هيا قم وا�ستحم وبدِّ ل مالب�سك‪� ،‬سنتناول الغداء م ًعا و�سنقيم‬
‫ً‬
‫احتفال مبنا�سبة انف�صالك‪.‬‬
‫ابت�سمت له فداعب �شعري بيده وقام ليجمع قمامة الغرفة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫تن�س حالقة ذقنك هذه‪ ،‬وخالل‬
‫‪ -‬هيا قم حتى ال نت�أخر‪ ،‬وال َ‬
‫هذا الوقت �س�أنتهي من تنظيف غرفتك‪.‬‬
‫وقفت بباب الغرفة‬
‫حتركت من مكاين ببطء متج ًها �إىل اخلارج‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫وا�ستدرتُ �إليه ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪� -‬أبي‪.‬‬
‫‪255‬‬
‫�أجاب وهو من�شغل بجمع القمامة‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬ما ا�سم �صديقك باملجل�س؟‬
‫أح�س�ست فيها مبفاج�أته ب�س�ؤايل‪ ،‬ثم تابع عمله وهو‬
‫ُ‬ ‫�سكن حلظة �‬
‫يجيب‪:‬‬
‫‪ -‬عالء‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪ -‬عالء؟ مل �أ�سمع با�سمه طيلة حياتي‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪� -‬أنت ال تعرفه‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫دوما تخربين �أنه �صديقك املقرب‪ ،‬فكيف ال �أعرفه ومل‬
‫‪ -‬ولكنك ً‬
‫�أ َره من قبل ولو ملرة؟‬
‫‪ -‬هو يعتربين �صديقه املقرب �أما �أنا فال‪.‬‬
‫‪ -‬ما ر�أيك �أن حتدثه لنقابله اليوم؟‬
‫نظر �إيل م�ستغر ًبا ً‬
‫قائل بحدة‪:‬‬
‫تورطت جمددًا مع واحد من ه�ؤالء‬
‫َ‬ ‫‪ -‬ملاذا؟ �إياك �أن تكون قد‬
‫اخلالـ‪...‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا �أبي الأمر لي�س كما تظن‪ ،‬كل ما �أريده �أن �أ�شكره حل�سن‬
‫�صنيعه معنا ب�شكل �شخ�صي‪.‬‬
‫‪256‬‬
‫ابت�سم واقرتب مني وربت على وجهي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬ولد خلوق‪ ،‬على العموم ال داعي لذلك �إطال ًقا‪ ،‬ما فعله هو رد‬
‫خلدماتي له‪.‬‬
‫ألت م�ستغر ًبا‪:‬‬
‫�س� ُ‬
‫‪ -‬وما اخلدمات التي �أديتها له؟‬
‫كنت �أزاول املهنة‪.‬‬
‫كنت �أعالج والدته منذ زمن بعيد عندما ُ‬
‫‪ُ -‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬باملنا�سبة يا �أبي ملاذا �أغلقت عيادتك؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ابت�سم با�ستغراب‪:‬‬

‫�صيتكلتوحينهاز عي‬
‫خ�سارة‬
‫ر‬
‫‪ -‬جمرد تفكري‪ ،‬طبيب مبكانتك وبقوة وا‬
‫‪ -‬كثرية �أ�سئلتك اليوم‪.‬‬

‫كبرية �أن يغلق عيادته‪.‬‬


‫نظر �إيل بحنو جمي ًبا‪:‬‬
‫كنت �أملك �أكرث من هذا كنت �س�أتركه لأرعاك يا �أجمد‪.‬‬
‫‪ -‬و�إن ُ‬
‫عانقني بعدها ثم تركني ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬هيا اذهب لي�س لدينا وقت‪.‬‬
‫اجتهت �إىل احلمام وقد زرع �أبي بذور ال�شك بقلبي و�سقاها‬‫ُ‬
‫ب�إجاباته الغام�ضة وردوده املخت�صرة‪� ،‬أنهى احلوار بجملته العاطفية‬
‫التي مل جتد �صدى بداخلي مثلما كان وقعها من قبل‪ .‬بد�أت بحالقة‬
‫‪257‬‬
‫ذقني متذك ًرا كالم الأ�ستاذ �سالمة‪ ،‬يعلو مع كل �شعرة ت�سقط �صوت‬
‫�س�ؤال يرتدد بعقلي‪ :‬هل �أعرف ح ًقا من يكون �أبي؟‬
‫•••‬
‫منعني التفكري ب�ش�أن �أبي من النوم طيلة الليل‪ ،‬بعد �أن ق�ضينا‬
‫اليوم م ًعا ن�ضحك ون�أكل ونتكلم يف نواحي احلياة املختلفة‪ ،‬كنت‬
‫�أحاول �أن �أبدو طبيع ًيا‪� ،‬أمنع ظنونى من الطفو على �سطح وجهي‬
‫كي ال يالحظ �شي ًئا مما يدور بخلدي‪ُ ،‬‬

‫ع‬
‫ظللت �أ�سرتجع �شريط حياتي‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عاما‪ ،‬مل �أكن‬
‫عندما �أغلق �أبي عيادته وكان عمري وقتها خم�سة ع�شر ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫بال�صغري الذي يحتاج �إىل مثل هذا التفرغ‪� .‬أعلم �أن بداية مراهقتي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫كانت �صعبة‪ ،‬لكن كان من املمكن رعايتي بطرق �أخرى كثرية غري‬

‫ع‬
‫�أن يرتك عمله‪� ،‬أغلق عيادته يف الوقت الذي كان املر�ضى ينهالون‬
‫عليه للك�شف من كل حدب و�صوب‪ ،‬غيابه عدة مرات بعدها لأيام قد‬
‫تبلغ الأ�سبوعني واعتذاره يل ووعده بتعوي�ضي عن هذا الوقت ورف�ضه‬
‫مل�صاحبتي‪ ،‬انتقالنا املادي املفاجئ الذي �أحدث طفرة بحياتنا يف كل‬
‫�شيء كان متزام ًنا مع م�صاحلة املجل�س‪ ،‬معرفته للتفا�صيل الدقيقة‬
‫خلطة املجل�س مبحو ذاكرة البالد‪ ،‬مررتُ بكلتا َيدي على ر�أ�سي عدة‬
‫مرات كي تهد�أ حرارة ربط الأ�شياء ببع�ضها مبرجل عقلي‪ ،‬كل ما �أمر‬
‫متاما‬
‫به جمرد ظنون‪ ،‬ظنون حتتاج �إىل دليل قاطع قد ينفي هذا ً‬
‫و�أن�سى الأمر �أو يثبته و�أعرف حقيقة كل �شيء‪ ،‬ولكن ُترى �أين يكون‬
‫هذا الدليل؟ ال �أعلم مكا ًنا يذهب �إليه غري بيته‪ .‬جاءت عدة �صور‬
‫�أمامي و�أنا �أحاول ع�صر ذاكرتي بكل الأماكن التي ذهب �إليها �أبي‬
‫‪258‬‬
‫ولو مرة‪ ،‬جاءت �أمامي �صورة وث ُبتت‪ ،‬تذكرتُ املوقف املتعلق بها الذي‬
‫تناولت‬
‫ُ‬ ‫�أثار ال�شكوك بداخلي �أنها رمبا حتوي �شي ًئا يو�صلني للحقيقة‪،‬‬
‫وانطلقت �إىل وجهتي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وذهبت �إليها‪� ،‬أدرتها‬
‫ُ‬ ‫مفاتيح ال�سيارة‬
‫•••‬
‫�سعلت بقوة �إثر اقتحام ذرات الغبار �أنفي‪ ،‬مهتد ًيا ب�ضوء هاتفي بعد‬
‫ُ‬
‫�أن ت�أكدتُ من انقطاع الكهرباء عن املنزل بال�ضغط على قاب�س ال�ضوء‬

‫ع‬
‫وعدم ا�ستجابته يل‪ ،‬كان املكان �ساك ًنا كاملقابر تز�أر الرياح من خالل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫نافذة ُفتحت بيد الهواء ب�أ�صوات ُخيل �إ ّ‬

‫ك‬
‫يل �أنها خرجت من فم �شبح‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫دلفت �إىل غرفة الطعام ناظ ًرا �إىل طاولتها املغطاة ب�شر�شف �أبي�ض‬ ‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫قيمت عليها‪ ،‬مل ُي َقم التا�سع‬ ‫ُ‬
‫متذك ًرا �أعياد ميالدي الثمانية التي �أ ْ‬
‫والعا�شر لبدء دخول �أمي يف مرحلة اكتئابها‪ ،‬ما �أدى �إىل ان�سحابها‬
‫�سلطت ال�ضوء‬
‫ُ‬ ‫من املنا�سبات االجتماعية واالنغالق على نف�سها �أكرث‪.‬‬
‫على احلائط واقرتبت منه �أم�سح ب�أطراف �أكمامي الرتاب العالق‬
‫على زجاج برواز يحمل �صورة لأمي وهي جال�سة و�أجل�س �أنا بحجرها‬
‫متعنت يف ال�صورة جيدً ا‪ ،‬كانت ال�سعادة العنوان‬ ‫ُ‬ ‫ويقف وراءنا �أبي‪،‬‬
‫كنت ال �أعرف هل كانت �أمي تعني تلك االبت�سامة‬ ‫الرئي�سي لها‪ ،‬و�إن ُ‬
‫ح ًقا �أم �أنها طاعة لأمر امل�صور‪.‬‬
‫بد�أت �أجتول بعيني يف �أرجاء البيت �أ�سرتجع مع كل ركن به ذكرى‬
‫�آتية من عمر الطفولة‪ ،‬تفاج�أت برحيل �أبي عنه منذ واقعة انتحار‬
‫�أمي عندما �أعادين من عند اجلدة كوثر‪� ،‬أخربين �أنه مل يعد مبقدوره‬
‫العي�ش به وقد �صار مكا ًنا مفع ًما بالأمل بعد رحيلها‪ ،‬مل �أره من وقتها‬
‫�إال منذ عدة �سنوات‪ ،‬حتديدً ا ليلة البدء بالعهد اجلديد عندما �أتينا‬
‫‪259‬‬
‫�إىل هنا ل ُنبقي نف�سينا مبن�أى عن ت�أثري الفريو�س‪ ،‬احتمينا بالقبو‬
‫ملدة �أ�سبوع حتى �أُذن لنا باخلروج‪ُ .‬‬
‫نزلت �إىل القبو بعد �أن كاد عبق‬
‫الذكريات العالق باملكان ُين�سيني ما جئت لأجله‪� ،‬أ�صدر باب القبو‬
‫�أزيزًا عال ًيا �أزعجني عندما فتحته‪ ،‬و�شعرتُ بعني الهدوء وهي تنظر‬
‫�إيل بحدة ف�أم�سكته �سري ًعا بيدي بعدما وجدتُ �أنه ُفتح باملقدار الذي‬
‫فح�صت املكان بب�صري‪ ،‬كان كل �شيء كما‬‫ُ‬ ‫ي�سمح جل�سدي بالولوج‪.‬‬
‫تركناه منذ �ست �سنوات‪ ،‬نظرتُ �إىل لوحة معلقة باحلائط فوجدتها‬

‫ع‬
‫كما هي مبكانها وقد حباها الرتاب �شي ًئا من نفحاته ف�أخفى معاملها‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تذكرتُ ليلتها عندما كنت غار ًقا يف نومي و�أقلقتني حركة �أبي رغم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حماولته �أال يوقظني‪ ،‬ظهر �أمامي كخيال من �أثر النعا�س وهو ي�ضع‬

‫والتوزي‬
‫تلك اللوحة على الأر�ض ويقف �أمام فتحة باحلائط يلت�صق بكتفه‬

‫ع‬
‫متاما فلم ينتبه‬ ‫ً‬
‫من�شغل ً‬ ‫�إطار معدين �سميك ي�شبه باب خزانة‪ ،‬كان‬
‫ال�ستيقاظي واقرتابي منه‪ ،‬تطلعت من خلفه �إىل اخلزانة املربعة‬
‫القابعة �أمامه‪ ،‬كانت مكونة من خانتني احتوت اخلانة العلوية على‬
‫عدد من ال�صور وملف وبجانبهم دفرت ورقي‪ ،‬واحتوت اخلانة ال�سفلية‬
‫على عدد من القناين ال�صغرية الفارغة كان �أبي يهم بو�ضع القنينة‬
‫الأخرية بجانبها ليكتمل الفراغ الباقي من ال�صف‪ ،‬لوال تفاجئه من‬
‫وجودي ف�سقطت من يده والتقطتها �سري ًعا ما جعله يتنهد بعمق وقد‬
‫�ضحكت وقتها من هيئته �ساخ ًرا من خوفه على‬
‫ُ‬ ‫فزعا‪،‬‬
‫جحظت عيناه ً‬
‫قنينة فارغة �أدرتها بني �أ�صابعي لقراءة ما ُكتب على املل�صق ال�صغري‬
‫الذي حتمله‪ ،‬لوال �أنه �أخذها �سري ًعا من يدي وو�ضعها باخلزانة‬
‫و�أغلقها وو�ضع اللوحة عليها‪ .‬مل �أهتم حينها مبا يجري ومل �أ�س�أله عن‬
‫‪260‬‬
‫تلك الأ�شياء التي بداخل اخلزانة و�أهميتها بالن�سبة �إليه‪ ،‬ف�أبي بالعادة‬
‫اجتهت‬
‫ُ‬ ‫يوما ال�س�ؤال عنها‪.‬‬
‫له بع�ض الطقو�س الغريبة ومل ي�شغل بايل ً‬
‫�إليها و�أزلت اللوحة عن احلائط فوجدت اخلزانة قابعة �أمامي‪ ،‬تذكرتُ‬
‫دوما‬ ‫�سيا�سة �أبي التي ينتهجها يف اختيار �أرقامه ال�سرية‪ ،‬كان نهجه ً‬
‫حاولت فتحها بتاريخ ميالد �أبي فلم ت�ستجب كررتُ‬ ‫ُ‬ ‫تواريخ امليالد‪،‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬حاولت بتاريخ ميالدي‬ ‫املحاولة بتاريخ ميالد �أمي فلم ت�ستجب � ً‬
‫فف�شلت املحاولة‪ ،‬ترى �أي رقم اختاره �أبي؟ تذكرتُ ذات مرة عندما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أخربين بالرقم ال�سري اخلا�ص ببطاقة م�صرفه البنكي املكون من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الأرقام الأوىل من تاريخ ميالده وميالد �أمي وميالدي‪ ،‬وعندما �س�ألته‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عن ال�سبب �أخربين �أنه يعتمد هذا الرقم يف الأ�شياء املهمة‪� ،‬أدخلت‬

‫والتوز عي‬
‫هذا الرقم ف�سمعت تكة ت�شري �إىل فتحها‪ ،‬وجدتها ك�آخر مرة نظرتُ‬
‫و�سلطت ال�ضوء عليها‪ ،‬كانت ال�صور لأبي‬ ‫ُ‬ ‫التقطت ال�صور‬‫ُ‬ ‫�إليها‪،‬‬
‫برفقة �أ�شخا�ص �آخرين مل �أرهم من قبل‪ ،‬مبت�سمني وي�شريون بعالمة‬
‫ابتلعت ريقي بعدما قلبتها وقر�أتُ جملة (اجتماع‬ ‫ُ‬ ‫الن�صر للم�صور‪،‬‬
‫ظللت �أتنقل بني ال�صور وهي‬ ‫قرا�صنة العقول) ومدون حتتها التاريخ‪ُ .‬‬
‫تعك�س و�ضعيات خمتلفة لهم مرة وهم ي�ضحكون ومرة وهم يتناق�شون‬
‫قناعا بهلوان ًيا بعني جاحظة حتمل‬ ‫ومرة وهم يرتدون ذلك القناع‪ً ،‬‬
‫نظرة ال�شر و�ضحكة ب�شفاه حمراء خبيثة‪ ،‬هو نف�سه قناع قرا�صنة‬
‫تناولت امللف‬
‫ُ‬ ‫العقول الذي كانوا يظهرون به يف ت�سجيالتهم امل�سربة‪.‬‬
‫�شرعت يف قراءتها‪ ،‬كانت عقودًا تفيد بالتعاون‬‫ُ‬ ‫فوجدتُ بداخله �أورا ًقا‬
‫بني قرا�صنة العقول واملجل�س وبيع فكرة حمو ذاكرة �أهل البالد مقابل‬
‫عدد يحمل كث ًريا من الأ�صفار‪ ،‬و�إتاحة الفر�صة لهم لتطبيق جتاربهم‬
‫‪261‬‬
‫و�صلت �إىل �آخر العقد فوجدتُ عن ميينه‬ ‫ُ‬ ‫حتت رعاية املجل�س‪.‬‬
‫توقيع الطرف الأول‪� /‬أع�ضاء جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد‪ ،‬والطرف‬
‫الثاين �أعدتُ قراءته كث ًريا لعل ذلك ُيفلح يف تكذيب ما �أخربين به‬
‫الأ�ستاذ �سالمة وتكذيب ما تراه عيناي الآن‪ ،‬ولكن مل يتغري �شيء‬
‫غري و�ضوح احلقيقة �أمامي �أكرث‪ ،‬الطرف الثاين‪ /‬عبد القادر �سند‪.‬‬
‫أغم�ضت عي َني �أ�ستجديهما البكاء لتخففا ما �أمر به الآن لكنهما �أبتا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫جمدتهما املفاج�أة وتركت عقلي لينال حظه من �صفعات احلقيقة وهو‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫تفح�صت ما بقي من امللف‬
‫ُ‬ ‫ما زال يت�أرجح بعدم ا�ستيعاب ملا عرفته‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫فوجدتُ ورقة �صغرية ُكتبت عليها �أ�شياء تبدو كم�صطلحات مل �أفهمها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫وتلت�صق بها ذاكرة �إلكرتونية‪ ،‬نحيتها جان ًبا مع الإبقاء على نيتي يف‬

‫ع‬
‫التقطت الدفرت‬
‫ُ‬ ‫فح�صها مرة �أخرى ومعرفة ما بجعبة تلك الذاكرة‪،‬‬
‫الورقي الذي بدا عليه القدم من غالفه‪ ،‬بد�أتُ �أت�صفحه ليتزايد‬
‫معدل �صدمتي مع كل ورقة �أنتهي من قراءتها‪� ،‬أغلقته وقد تبلل جزء‬
‫يكتف الأمل مبا فعله بقلبي يف الآونة الأخرية فقرر‬ ‫منه بدموعي‪ ،‬مل ِ‬
‫متاما‪ ،‬ينظر �إليه وهو يلفظ �أنفا�سه الأخرية �سعيدً ا وقد‬
‫الق�ضاء عليه ً‬
‫�ضم قل ًبا جديدً ا �إىل مقربته‪.‬‬
‫•••‬
‫‪«-‬غريب! هذه املرة الأوىل التي تطلب بها زيارة والدتك»‪ .‬قالها‬
‫با�ستغراب يف �أثناء قيادته يف طريقنا �إىل قرب �أمي‪.‬‬
‫ا�شتقت �إليها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬

‫‪262‬‬
‫ابت�سم وربت على كتفي‪ ،‬تظاهرتُ بالنوم حتى ال نتكلم �إىل �أن‬
‫ن�صل‪ ،‬م�ضى وقت نبهني بهزات خفيفة بعده �إىل و�صولنا فرتجلنا عن‬
‫ال�سيارة متجهني �إىل قرب �أمي‪ ،‬وقفنا �أمامه بوقار يردد �أبي الدعوات‬
‫ب�صوت هام�س‪ ،‬انتظرتُ حتى انتهى ف�س�ألته‪:‬‬
‫ا�شتقت �إليها؟‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫التقط دمعتني ب�سبابته و�أجاب دون النظر �إيل‪:‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬كث ًريا‪.‬‬

‫كس�تألني بغ�ضب‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫‪ً � -‬إذا ملاذا قتلتها؟‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫رو‬
‫ُذهل من‬

‫التوز عي‬
‫جملتي و�‬
‫‪ -‬ما هذا الذي تقوله؟‬
‫أخرجت الدفرت الورقي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�‬
‫‪ -‬مذكراتها التي �أخفيتها‪.‬‬
‫تفاج�أ عندما ر�أى الدفرت الورقي‪ ،‬وتابع وهو يتلعثم‪:‬‬
‫‪ -‬لكن والدتك انتحرت‪� ،‬أنت �شهدت هذا بعينك‪.‬‬
‫�ضحكت �ساخ ًرا و�أنا �أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫�شخ�صا �أمام قطار ويخرب‬
‫ً‬ ‫‪ -‬كالمك يا �أبي يذ ِّكرين مبن يدفع‬
‫اجلميع �أن القطار هو من قتله ولي�س هو‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ابتلعت املفاج�أة �صوته ف� ُ‬
‫‪263‬‬
‫اكت�شفت �أعمالك الال �أخالقية‬
‫ْ‬ ‫كتبت هذه املذكرات عندما‬ ‫‪ْ -‬‬
‫دونت حماوالتها امل�ستميتة‬
‫ب�إجراء جتاربك على مر�ضاك‪ْ ،‬‬
‫دخلت يف االكتئاب‬
‫معك كي ترجع عما تفعله لكنك مل ت�ستجب‪ْ ،‬‬
‫ب�سبب احلرية بني الإبالغ عنك وك�شف حقيقتك �أمام النا�س‬
‫وال�سكوت واحتمال عذاب ال�ضمري جتاه �ضحاياك‪ ،‬مل جتد‬
‫حل ينقذها من كل هذا فلج�أت لالنتحار و�أعطتني خلالتها‬ ‫ً‬
‫خافت �أن �أ�صري مثلك‪ ،‬طيلة‬
‫ْ‬ ‫اجلدة كوثر لرتاعيني لأنها‬

‫ع‬
‫حتملت ومل يكن‬
‫ْ‬ ‫عمري كنت �أتهمها بالأنانية وهي �أكرث من‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�أحد �أنان ًيا �سواك‪.‬‬

‫ش هذا ما دفعها لالنتحار‬ ‫ل‬


‫بالذنهان‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫مري�ضة ل ُ‬
‫ك‬
‫مو�ضحا برجاء‪:‬‬ ‫قال بعد �أن اقرتب مني‬

‫ر‬
‫ً‬

‫ومل ت�سجله مبذكراتها �صدقني‪ .‬والتوز عي‬


‫(((‬
‫‪� -‬أجمد‪� ،‬أمك كانت‬

‫قلت متعج ًبا من علته‪:‬‬


‫ُ‬
‫الذهان! ح�س ًنا‪ ،‬هي انتحرت ب�سبب هذا املر�ض‪ ،‬لكن‬ ‫‪ -‬مر�ض ُ‬
‫هل ما دونته هنا كان تهي�ؤات ب�سبب املر�ض � ً‬
‫أي�ضا �أم حقيقة؟‬
‫هرب بعينيه من مواجهتي مط�أط ًئا ر�أ�سه‪ ،‬ف�أكملت‪:‬‬
‫‪� -‬إن�شا�ؤك جلماعة قرا�صنة العقول كذب �أم حقيقة؟ حتالفك‬
‫مع املجل�س وبيع فكرة حمو الذاكرة كذب �أم حقيقة؟‬

‫(((ال ُذهان أو البارانويا‪ :‬مرض نفيس يعاين فيه املريض من أحاسيس وهمية وحالة شك‬
‫شديدة يف اآلخرين وغاياتهم حتى يشعر باالضطهاد من ِقبلهم‪ ،‬وقد يؤدي هذا املرض إىل االنتحار‬
‫إن مل يُعالج برعاية طبيب مختص‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫فاجتهت معه حتى تالقت عيناي‬
‫ُ‬ ‫التفت بج�سده و�أنا �أ�سرد حقائقي‬
‫َ‬
‫بعينيه ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪� -‬إجرا�ؤك عمليات نزع الذاكرة للخالدين كذب �أم حقيقة؟‬
‫�إجرا�ؤك العملية له�شام كذب �أم حقيقة؟‬
‫امتقع وجهه ودارت عيناه مينة وي�سرة يحاول قول �أي �شيء للدفاع‬
‫تابعت بعد �أن امتلأت عيناي بالدموع وحت�شرج‬
‫عن نف�سه ومل يجد‪ُ ،‬‬
‫�صوتي‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪� -‬أتعلم‪ ،‬مل �أعرف مقدار حبك بداخلي �سوى من ع�شرة �أيام‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫فقط‪ ،‬مل �أكن �أتخيل �أنه بهذا احلجم الذي يدفعني للتخلي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عن كل �شيء مقابل �سالمتك‪.‬‬

‫ي‬
‫أعلم كل‬‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫‪ -‬كل ما �أمتناه الآن �أن �أكون بجانبها بهذا القرب وال � ع‬
‫نظرتُ �إىل قرب �أمي ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫هذه احلقائق‪.‬‬
‫نظرتُ �إليه ً‬
‫مكمل وقد امتل ْأت عيناه بنظرات التو�سل والرجاء‪:‬‬
‫‪ -‬لكن ما فعلته �أمي خاطئ‪ ،‬لذلك اخرتتُ ً‬
‫حل �آخر كان الأف�ضل‬
‫بالن�سبة �إيل‪.‬‬
‫�س�أل با�ستغراب‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تق�صد؟‬
‫كنت �أظنها فارغة وهي‬
‫‪ -‬الزجاجات الفارغة‪ ،‬معذرة‪ ،‬التي ُ‬
‫حاملة للفريو�س‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫فزعا وهزين بقوة ً‬
‫�سائل‪:‬‬ ‫ات�سعت عيناه ً‬‫ْ‬
‫‪ -‬ماذا فعلت؟‬
‫ابت�سمت وج ًعا و�أنا �أجيبه‪:‬‬
‫ُ‬
‫ا�ستن�شقت الفريو�س احلامل للجني‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬فات الأوان يا �أبي‪ ،‬لقد‬
‫امل�س�ؤول عن م�سح الذاكرة‪ ،‬وبقيت �ساعة على �إمتام مفعوله‬
‫بالكامل‪ ،‬و�سيخطر املجل�س �آل ًيا و�سيزرعون ذكرياتهم بعدها‪.‬‬

‫ع‬
‫�صرخ بوجهي غا�ض ًبا وقد ملع الدمع بعينيه‪:‬‬
‫فعلت امل�ستحيل كي ال ُت�سح ذاكرتك‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫‪ -‬ملاذا؟ ملاذا يا �أجمد؟ ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫م�سخا مثل البقية‪ ،‬و�أنت ت�ستن�شقه بيدك؟‬‫وت�صبح ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫قلت م�ستهز ًءا‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬وملاذا �أنت غا�ضب �إىل هذا احلد؟ �س�أكون واحدة من جتاربك‬
‫الناجحة‪.‬‬
‫بتحد �إىل عينيه‪:‬‬‫نظرتُ ٍ‬
‫‪ -‬و�أعلم �أنك �ستحاول زراعة ذكريات �سعيدة بداخلي عنك‪،‬‬
‫فعلت ولن ين�سى‪.‬‬
‫لكن �سيظل قلبي يكره ما َ‬
‫م�سرعا وقد �أ�صيبت حركات ج�سده بالت�شتت‬
‫ً‬ ‫اجته �أبي �إىل اخلارج‬
‫بعد ما �سمعه‪ ،‬فكاد ي�سقط من على ال�سلم وهو ي�صعده يف طريقه‬
‫جل�ست قرب‬
‫ُ‬ ‫مبال مبا ينوي فعله فلم �أعد �أهتم‪،‬‬
‫للخارج‪� ،‬صرتُ غري ٍ‬
‫وم�سحت عليه و�أنا �أبكي ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫قرب �أمي‬
‫‪ -‬بعد قليل من الوقت �س�أن�سى كل �شيء متعل ًقا ِ‬
‫بك‪� ،‬س ُيمحى‬
‫أنك �أمي‪،‬‬
‫وجع غيابك من قلبي و�س�أعرف من �صورتك � ِ‬
‫‪266‬‬
‫�س�أن�سى �شعور الغ�ضب الذي حملته ب�صدري جتاهك مدة‬
‫طويلة‪ ،‬وكذلك �س�أن�سى �إح�سا�سي بالذنب نحوك الآن‪ ،‬لذلك‬
‫�أرجو �أن ت�ساحميني على كل ما �سبق‪� ،‬أرجو �أن ت�ساحميني يا‬
‫�أمي‪.‬‬
‫منت بجانب قربها يف انتظار اللحظة احلا�سمة‪ ،‬م�ضى وقت‬ ‫ُ‬
‫�شعرتُ بطول دقائقه بد�أتُ �أ�شعر بعده با�ستيقاظ خاليا عقلي ك�أن‬
‫ومتتال‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫تيا ًرا كهربائ ًيا م�سه‪ ،‬بد�أت الذكريات ت�أتي �أمامي ب�شكل �سريع‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كنت ر�ضي ًعا وبد�أت �أكرب‬
‫ذكريات يوم والدتي! تلتها ذكريات عندما ُ‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬بع�ض الذكريات مل �أتذكره البتة و�أخرى تذكرتها مبجرد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر�ؤيتها‪ ،‬كانت الذكريات ت�أتي �أمامي ثم ُت�سحب للأعلى وتختفي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أتت �أمامي ال�شركة‪ ،‬ه�شام‪ ،‬ندوة االنتحار‪ ،‬ليلى‪ ،‬مقر‬ ‫يف الهواء‪ْ � ،‬‬
‫اجلمعية‪ ،‬حديثي مع ليلى على اله�ضبة‪ ،‬ان�ضمامي �إىل اخلالدين‪،‬‬
‫املقر‪ ،‬العم �إبراهيم‪ ،‬ال�شيخ �أحمد‪� ،‬صالح‪ ،‬خطبتنا‪ ،‬زواجنا‪ ،‬تقبيلي‬
‫ليد ليلى‪ ،‬نظرة الفرحة بعينيها وابت�سامتها العذبة‪ ،‬كلمة �أحبك وهي‬
‫تخرج من بني �شفتيها‪ ،‬فرع التنقية‪ ،‬حديث الأ�ستاذ �سالمة‪ ،‬عينا ليلي‬
‫الدامعتان‪ ،‬طالقنا‪ ،‬مواجهة �أبي باحلقائق بجانب قرب �أمي‪ ،‬وكانت‬
‫هذه هي الأخرية التي ما �إن ُ�سحبت للأعلى حتى �شعرتُ بانفجار‬
‫فتحت عي َني ونظرتُ‬
‫متاما‪ُ .‬‬
‫رهيب بر�أ�سي �أخذ بع�ض دقائق ثم �سكن ً‬
‫ت�شو�شت ر�ؤيتي فلم �أ َر �شي ًئا �سوى البيا�ض‪� ،‬شعرتُ بان�سحاب‬
‫ْ‬ ‫حويل‪،‬‬
‫هويت على الأر�ض فاقدً ا للوعي‪.‬‬
‫القوة من ج�سدي‪ُ ،‬‬

‫•••‬
‫‪267‬‬
‫(‪)20‬‬
‫(عودة)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫مرت كل هذه الأحداث كفيلم ت�سجيلي على �شا�شة عمالقة‬ ‫ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫علي بجوار‬
‫يحاوطها ال�سواد‪ ،‬كان �آخر م�شهد هو �سقوطي مغ�ش ًيا َّ‬
‫�شرعت يف التبخر‬
‫ُ‬ ‫قرب �أمي وانطف�أت ال�شا�شة بعدها وبد� ْأت بالتبخر‪،‬‬
‫تركت ج�سدي للعقار ينت�شله من الذكرى كما‬ ‫أي�ضا �شي ًئا ف�شي ًئا‪ُ ،‬‬
‫�أنا � ً‬
‫يحب ويفعل به ما ي�شاء‪ ،‬م�ست�سل ًما له بي�أ�س بعدما رجعت يل ذاكرتي‬
‫وعرفت ما الذي حدث بحياتي ال�سابقة ومن �أنا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫•••‬
‫و�ضعت مي�سون القر�ص بجانبي بعني حتمل نظرات ترددت بني‬ ‫ْ‬
‫تناولت القر�ص لأتقوى به على‬
‫ُ‬ ‫�أ�سف و�إ�شفاق وتوتر ال �أعلم �سببه‪،‬‬
‫جل�ست وقد‬
‫ُ‬ ‫�إنهاك طال ج�سدي ومل �أجد ما �أعالج به ت�صدع روحي‪،‬‬
‫ث ُقل ر�أ�سي ب�أحمال كاجلبال‪ُ ،‬‬
‫كنت �أ�سعى ال�ستعادة ذاكرتي والآن‬
‫موجوع بها‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫جاءت مي�سون �أمامي وقد بدا من حريتها �أنها ال جتد ما تقوله‪،‬‬
‫قلت بحزن‪:‬‬
‫ُ‬
‫عرفت كل هذا‪ ،‬ليتني ما تذكرت‪.‬‬
‫‪ -‬ليتني ما تذكرت وال ُ‬
‫‪� -‬أجمد‪.‬‬
‫أح�س�ست ب�ضياع مالحمها بني جنبات الرتدد‪ ،‬وقالت‬
‫ُ‬ ‫نظرتُ �إليها ف�‬
‫ب�أحرف حتمل كث ًريا من االرتباك‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪� -‬أنا‪� ،‬أنا‪...‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قاطع حديثها �صوت جاء من اخلارج‪ ،‬بد�أ �صاحبه يف الو�ضوح‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ببطء كلما اقرتب من دائرة ال�ضوء‪ ،‬كان �صاحب ال�صوت �أبي! قال‬

‫جنحت يف مهمتك بجدارة‪ .‬ع‬


‫بفخر‪:‬‬
‫ِ‬ ‫أح�سنت �صن ًعا يا مي�سون‪،‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫نظرتُ �إليها وقد جحظت عيناي ب�ألف �س�ؤال عن معنى جملته‪،‬‬
‫قالت وهي مط�أطئة الر�أ�س تتلب�س �صوتها نربات اخلزي‪:‬‬
‫‪ -‬مل �أكن �أعلم �أنه ابنك‪.‬‬
‫م�سرعا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال‬
‫‪ -‬وهل هذا �سي�شكل فار ًقا؟ كانت مهمتك �إرجاع ذاكرته و�أدي ِتها‬
‫على �أكمل وجه‪.‬‬
‫�أخرج ورقة بي�ضاء م�ستطيلة من جيبه متج ًها �إليها‪:‬‬

‫‪270‬‬
‫‪ -‬هذا �شيك بالدفعة املتبقية من ح�سابك‪.‬‬
‫تناولته منه دون �أن ترفع ر�أ�سها‪.‬‬
‫يربت على ظهري ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫اجته �أبي نحوي وعانقني وهو ُ‬
‫‪-‬عودًا حميدً ا‪.‬‬
‫جمدتني املفاج�أة عن �إبداء �أي ردة فعل‪ ،‬مفاج�أة حياتي ال�سابقة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ومفاج�أة حقيقة �أبي ومفاج�أة مي�سون!‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫وقلت بغ�ضب‪:‬‬
‫نظرتُ �إليها ُ‬

‫والتوز عي‬
‫كذبت ب�ش�أن‬
‫كنت على علم بكل �شيء منذ البداية وخدع ِتني! ِ‬
‫‪ِ -‬‬
‫لك بالدخول �إىل ذاكرتي‬
‫و�سمحت ِ‬
‫ُ‬ ‫بك‬
‫ووثقت ِ‬
‫ُ‬ ‫ق�صتك وهربك‬
‫أنت طرف بهذه اللعبة‪.‬‬
‫و� ِ‬
‫قال �أبي مرب ًرا‪:‬‬
‫كنت �أرغب يف القيام بهذا الأمر‪ ،‬ولكن خ�شيت من عقلك‬ ‫‪ُ -‬‬
‫الباطن �أن يعرفني ويحجب ذكرياتك وال جنني �شي ًئا‪ ،‬لذلك‬
‫ف�ضلت ا�ستخدام �شخ�ص مل تره �أو تتعامل معه من قبل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫�سيميل عقلك �إىل ت�صديقه والوثوق به‪.‬‬
‫ربت على كتفي و�أكمل‪:‬‬
‫‪271‬‬
‫‪ -‬ال تعلم مدى �سعادتي بعودتك الآن‪� ،‬أنقذتُ الأمر باللحظة‬
‫وقفت‬
‫الأخرية‪ ،‬مبجرد �أن جاءت �إ�شارة �أفادت مب�سح ذاكرتك ُ‬
‫أتيت بك �إىل هذا املكان �أفكر‬
‫عملية زرع الذكريات اجلديدة و� ُ‬
‫تو�صلت �إىل هذا احلل وجنح‬
‫ُ‬ ‫يف طريقة لإعادة ذاكرتك‪ ،‬حتى‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫ثم اجته �إىل مي�سون وهو ي�شري �إليها متاب ًعا‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬و�ساعدتني يف هذا الأمر الطبيبة مي�سون‪ .‬هي الوحيدة التي‬

‫كت�شرحه بب�ساطة وال يدري مدى وقع كلماته‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫وثقت بها للقيام بهذه املهمة‪.‬‬

‫ب‬
‫ُ‬

‫ش‬
‫ي�صنعربه ما ي�شاء و ُيدخل يف‬‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫و‬
‫حياته من ي�شاء‪ ،‬حتى قراري الوحيد الذي اتخذته التو‬
‫ي�سرت�سل يف‬ ‫كان �أبي‬

‫مبح�ض �زيع‬
‫�صغري‬ ‫على �صدري‪ ،‬يتعامل معي كطفل‬
‫إرادتي‬
‫�أف�سده و�أرجع يل ذاكرتي‪.‬‬
‫جنحت بالكاد يف التقاط‬
‫ُ‬ ‫مال ناحية مي�سون و�س�أل ب�صوت هام�س‬
‫كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬هل وجد ِته؟‬
‫هزت ر�أ�سها نافية وهي حمافظة على انخفا�ض �صوتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬كنت �أبحث عن مكانه يف كل ذكرى بينما هو من�شغل‬
‫بتفا�صيلها ومل �أجده‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫جاء �صوبي وهو ير�سم ابت�سامة كبرية على وجهه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬هيا‪ ،‬هيا يا �أجمد‪ ،‬قم لنعود �إىل املنزل‪ ،‬من اليوم �سنعي�ش‬
‫م ًعا ببيت واحد‪� ،‬سنن�سى كل ما م�ضى و�سنفتح �صفحة جديدة‬
‫نكتب �أحرفها م ًعا‪.‬‬
‫وقفت �أمام‬
‫تناولني من يدي وم�شى بي ببطء متج ًها للخارج‪ُ ،‬‬
‫مي�سون ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ع‬
‫‪� -‬أرجو �أن تكوين را�ضية عن �أجرك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫نظرت بحزن جتاهي وقالت بتو�سل‪:‬‬

‫ب‬
‫ْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫أنا‪..‬‬ ‫‪� -‬أجمد �‬

‫وزيع‬ ‫ت‬ ‫قاطعتُها‪:‬‬


‫‪ -‬كفى ال �أريد �سماع �أي �شيء‪.‬‬
‫أكملت امل�سري مع �أبي متجهني للخارج‪ ،‬تار ًكا مي�سون تتخبط بني‬
‫� ُ‬
‫نادما على ثقتي بها �أغلق‬
‫كنت �أنا �ضحيتها ً‬
‫حماوالتها لإي�ضاح م�ؤامرة ُ‬
‫بابها �إىل الأبد دون عودة‪.‬‬
‫•••‬
‫م�ضت �أيام على ما حدث �أ�صابتني بها حالة من اال�ست�سالم لأبي‪،‬‬
‫ْ‬
‫بعد �أن باءت حماولتي لفقد ذاكرتي بالف�شل وجنح هو مبحاولته‪،‬‬
‫كان يعاملني خاللها بغاية اللطف‪ ،‬كالطفل ال�صغري يطعمني‬
‫وي�سقيني ويبقى بجانبي حتى �أنام ويوليني رعايته‪ ،‬بد�أت �أفهم �أن‬
‫‪273‬‬
‫تعاون �أبي مع املجل�س واتفاقهما على م�سح ذاكرة البالد �أكرب من‬
‫حماوالت �شخ�ص مثلي ال �سلطة له بالوقوف �ضدها‪ ،‬و�أكرب حتى من‬
‫حماوالت اخلالدين لإثبات هذه اجلرمية وتعريف النا�س بهوياتهم‬
‫احلقيقية‪ ،‬الأمر يحتاج �إىل قوة مماثلة و�سلطة م�سيطرة و�صرب كما‬
‫رجعت بذاكرتي �إىل �أجمل فرتة‬
‫ُ‬ ‫دوما الأ�ستاذ �سالمة‪.‬‬
‫كان يو�صينا ً‬
‫ع�شتها بحياتي‪ ،‬فرتة ان�ضمامي �إىل اخلالدين‪ ،‬وتذكرتُ اجتماعاتنا‬
‫واملناق�شات واملكتبة وليلى‪� ،‬شحذ الندم �سكينه بحجر اال�شتياق �إليها‬

‫ع‬
‫علمت بفقداين لذاكرتي؟ جاءين‬ ‫بداخلي‪ ،‬ترى ماذا تفعل الآن؟ وهل ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�صوت �أبي ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫تنبهت �إليه‪ :‬ب ل‬
‫ش‬
‫فيم ت�شرد؟‬
‫‪َ -‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال �شيء‪.‬‬
‫‪ -‬هيا الع�شاء‪.‬‬
‫بد�أنا بتناول الع�شاء ي�صحبني كالم �أبي و�أحاديثه الكثرية على‬
‫غري عادته �ساب ًقا‪ ،‬تغري كث ًريا منذ �أن جئت معه �إىل هنا‪ ،‬يحاول‬
‫�أن ُين�سيني ما م�ضى بر�سم �صورة جديدة له وال تظهر �أمامي �سوى‬
‫حقيقة ما اكت�شفته عنه‪.‬‬
‫فامتنعت‬
‫ُ‬ ‫انتهينا و�أتى �أبي بكوب من احلليب و�أعطاين �إياه لأتناوله‪،‬‬
‫فقال بلطف‪:‬‬
‫كنت �أود �إعداد ال�شاي بالنعناع لك كما �أخربتني‪ ،‬لكن هذا‬
‫‪ُ -‬‬
‫�سي�صيبك بالأرق‪.‬‬
‫‪274‬‬
‫و�ضع كوب احلليب بني َيدي و�أكمل‪:‬‬
‫‪ -‬و�أنا ال �أرغب بهذا‪� ،‬أريد �أن تنام با�سرتخاء كي ت�سرتد عافيتك‬
‫وت�ستطيع �إرجاع ذاكرتك بالكامل‪.‬‬
‫�أوم�أتُ له بر�أ�سي ف�س�أل ب�شغف‪:‬‬
‫‪ -‬هل تذكرت �أين �أخفيت امللف؟‬
‫�أجبته ناف ًيا بر�أ�سي‪ ،‬تابع وهو مي�سح على �شعري‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬ح�س ًنا‪ ،‬خذ وقتك‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫منذ �أن �أتيت ال مير يوم دون �أن ي�س�ألني �أبي عن امللف الذي‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫كان يوجد باخلزانة‪� ،‬أتذكره و�أتذكر �أنني فح�صت �أوراقه وذاكرته‬
‫الإلكرتونية وال �أتذكر �أي �شيء �آخر‪� ،‬أظن �أن �س�ؤاله ملي�سون كان‬
‫ب�ش�أنه‪ُ ،‬ترى ما الذي اكت�شفته به ودفعني لإخفائه؟ وما �سبب �س�ؤال‬
‫�أبي املتكرر عنه وحر�صه عليه لهذه الدرجة؟‬
‫•••‬
‫جنحت يف زرع الثقة داخل �أبي لي�سمح يل باخلروج وهو مطمئن‬ ‫ُ‬
‫البال‪ ،‬بعد �أن اكت�شفت مراقبته يل ب�إر�سال �أحدهم ليتتبع خطواتي‬
‫خرجت من املنزل‪� .‬أتذكر يوم �أن عنفته لهذا‬
‫ُ‬ ‫ويراقب خط �سريي كلما‬
‫الأمر و�أخربته �أنه بفعلته هذه يلوث بيا�ض �صفحتنا التي نوينا فتحها‬
‫ن�سيت املا�ضي ويجب �أن يطمئن لأفعايل‪ ،‬ف�أبدى �أ�سفه‬
‫م ًعا‪ ،‬كما �أنني ُ‬
‫لإزعاجي ووعدين بالكف عن م�ضايقتي‪ .‬اختربته بعدها و�سعدتُ‬
‫‪275‬‬
‫وعزمت اليوم على الذهاب �إىل مقر اخلالدين‬ ‫ُ‬ ‫بعدم مالحقته يل‬
‫لعلي �أراها من بعيد‪ ،‬وقد ت�ؤازرين ال�صدف بالوقوف جانبي وتكون‬
‫مبفردها و�أ�ستطيع حمادثتها ولو لدقائق‪ .‬مررتُ ب�شقتي � ًأول للإتيان‬
‫تناولت املفتاح من وراء حجر باحلائط املجاور‬ ‫ُ‬ ‫ببع�ض متعلقاتي‪،‬‬
‫لباب ال�شقة ال يعلم �أحد مكانه �سواي‪� ،‬صدمتني هيئة ال�شقة املقلوبة‬
‫ر� ًأ�سا على عقب ك�أن انفجا ًرا حدث باملكان‪ ،‬جميع اخلزانات مفتوحة‬
‫عن �آخرها و ُملقى ما بها على الأر�ض‪� ،‬أُلقيت �أح�شاء ال�سرير بجانبه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بع�شوائية‪ُ ،‬فرغت جميع حمتويات املطبخ بعبثية لكن مل ُي�سرق غر�ض‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وا�ضحا �أنها عملية بحث ولي�ست �سرقة‪ ،‬وكذلك‬ ‫واحد من ال�شقة‪ ،‬كان‬

‫ل‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫مل ُيك�سر الباب ما يعني �أن من دخل ال�شقة كان يحمل مفتاحها وال‬

‫ع‬
‫�أحد يحمله �سوى �أبي‪ ،‬يبدو �أنه جاء �إىل هنا للبحث عن امللف الذي‬
‫زادت حريتي �أكرث و�أنا �أفكر‪ :‬ما �أهمية‬
‫دوما ومل يجده‪ْ .‬‬ ‫ي�س�ألني عنه ً‬
‫هذا امللف؟‬
‫•••‬
‫ورك�ضت‬
‫ْ‬ ‫امتلأت عينا �سارة بالفزع عند ر�ؤيتي �أمام باب بيتها‪،‬‬
‫�إىل الداخل وهي ت�صرخ‪:‬‬
‫‪� -‬أرجوك ال تقب�ض علي‪ ،‬مل �أعد �أنتمي �إليهم �صدقني‪.‬‬
‫أغلقت الباب ورائي و�سط ذهويل من ردة‬
‫دلفت �إىل الداخل و� ُ‬
‫ُ‬
‫انتقلت يل �سائلة بخوف‪:‬‬
‫ْ‬ ‫نظرت خلفي ثم‬
‫فعلها‪ْ ،‬‬
‫‪� -‬أمل ي�أتوا معك؟‬
‫‪276‬‬
‫ألت متعج ًبا‪:‬‬
‫�س� ُ‬
‫‪ -‬من هم؟‬
‫قالت بذعر‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬قوات املجل�س‪.‬‬
‫متلكتني الده�شة من ظنها مبجيئي بقوات املجل�س للقب�ض عليها‬

‫ع‬
‫حاولت تهد�أتها طال ًبا منها اجللو�س‬
‫ُ‬ ‫ومل يرد هذا اخلاطر بذهني قط‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لأعرف منها ما حدث بفرتة غيابي‪ ،‬بعد �أن ذهبت �إىل متجر العم‬
‫واجتهت بعدها‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬
‫�إبراهيم ووجدته مغل ًقا وتبدو عليه �أمارات الهجر‪،‬‬

‫ش‬
‫ُ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫لبيت ليلى الذي مل تختلف هيئته عن هيئة متجر العم �إبراهيم‪ .‬ال‬
‫�أعلم �إىل �أين ذهب اجلميع ومل �أقدر على حماولة االت�صال بليلى‪،‬‬
‫خ�صو�صا بعد �إ�صراره‬
‫ً‬ ‫فرمبا يراقب �أبي الهاتف الذي �أعطاه يل‪،‬‬
‫ال�شديد على عدم �إرجاع هاتفي حلوزتي مرة �أخرى‪ .‬مل يكن �أمامي‬
‫خيار �سوى الذهاب �إىل �أي �أحد �أعرفه من املمكن �أن ينب�أين مبا‬
‫ق�ص�صت‬
‫ُ‬ ‫فاجتهت �إليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حدث ومل �أكن �أعلم غري عنوان بيت �سارة‬
‫على �سارة جميع ما مررتُ به لتزداد ثقتها وتطمئن للحديث معي‪،‬‬
‫بد� ْأت �سارة حديثها ب�أ�سى قائلة‪:‬‬
‫َ‬
‫ظلمتك ظنوننا‪ ،‬توهمنا �أنك من �أبلغت �أباك عن ليلى والأ�ستاذ‬ ‫‪-‬‬
‫�سالمة‪.‬‬
‫ات�سعت عيناي من هول ما �سمعت ً‬
‫�سائل‪:‬‬ ‫ْ‬
‫‪277‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولني؟‬
‫تابعت بحزن‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬بعد مرور �أ�سبوعني على اكت�شافك ملا يخطط له فرع التنقية‬
‫وذهابك‪ ،‬فوجئ الأ�ستاذ �سالمة وليلى ب�أبيك وهو ي�صطحب‬
‫قوات املجل�س ويذهب للقب�ض عليهما‪ ،‬اعتقدنا جمي ًعا �أنك من‬
‫�أبلغته‪.‬‬

‫ع‬
‫أكملت‪:‬‬
‫�صمتت برهة و� ْ‬
‫ْ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪ -‬علمنا بعد ذلك من م�صدر لنا بداخل املجل�س �أن ليلى‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والأ�ستاذ �سالمة اعرتفا بانتمائهما للخالدين‪ ،‬لكنهما مل‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يخربا املجل�س ب�أي معلومات تتعلق بالآخرين رغم ال�ضغط‬

‫ع‬
‫الكبري الذي مور�س عليهما‪.‬‬
‫تابعت وهي تنظر �إىل عي َني ال�شاخ�صتني‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬باملنا�سبة‪ ،‬ليلى �أخربت والدك ب�أمر زواجكما لعل هذا ينجح‬
‫يف ا�ستمالة قلبه وينحيه عن �إجراء العملية‪ ،‬لكنه مل يفلح‪.‬‬
‫�س�ألتها وقد ُبح �صوتي من �صدمة كلماتها‪:‬‬
‫‪� -‬أُجريت العملية لليلى؟‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بالإيجاب وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬نعم �أُجريت العملية لها وللأ�ستاذ �سالمة وتفرقنا من بعدهما‪.‬‬
‫يبدو �أن جتمعنا من البداية كان خاط ًئا ومل ِ‬
‫جنن من ورائه‬
‫�سوى �ضياع كثريين منا‪ ،‬ه�شام وليلى والأ�ستاذ �سالمة‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫قمت وبد�أت بالدوران‬
‫هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا �أحاول تكذيب ما �سمعته‪ُ ،‬‬
‫حول نف�سي ت�شتعل نار الغ�ضب بداخلي متد ج�سدي بطاقة ال يتحملها‪،‬‬
‫أ�سرعت �سارة‬
‫ْ‬ ‫قليل منها يف �ضربة �سددتها يدي للحائط بقوة‪� ،‬‬‫ف�أفرغ ً‬
‫نحوي وهي حتاول تهدئتي وموا�ساتي‪.‬‬
‫قلت وحمم الغ�ضب تنتقل �إىل �صوتي‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أريد �أن �أراها‪.‬‬
‫نهتني �سارة قائلة‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ -‬لن ت�ستطيع يا �أجمد‪ .‬ال جتعل اندفاعك يزج بك �إىل املهالك‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أنت تعلم مدى احلرا�سة املفرو�ضة على �سجن الزوال‪ ،‬كما �أن‬‫� َ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ُ‬
‫�أباك عني حرا�سة خا�صة لليلى بعد �أن �أر�سلت �إىل هناك‪.‬‬
‫ألت متعج ًبا‪:‬‬
‫�س� ُ‬
‫‪ -‬و َمل؟‬
‫أجابت �سارة‪:‬‬
‫� ْ‬
‫‪ -‬هذا ما ال تعرفه يا �أجمد‪� ،‬أبوك قبل �إجرائه العملية لليلى‬
‫اكت�شف من خالل التحاليل التي �أجراها لها �أن ليلى حامل‪.‬‬
‫فتابعت بعدما الحظت مفاج�أتي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثبتتني جملتها بالأر�ض‬
‫‪ -‬نعم يا �أجمد‪ ،‬ليلى حبلى منك ويبدو �أن احلمل كان يف بدايته‬
‫لذلك مل تكن هي على علم به‪ ،‬وعندما علم والدك بالأمر‬
‫�أجرى لها العملية مع تعيني حرا�سة م�شددة لها ترعاها وترعى‬
‫حفيده �إىل حني موعد الوالدة‪ ،‬وبالت�أكيد �سي�أخذه بعدها‪.‬‬
‫‪279‬‬
‫ت�ضخم وح�ش الغ�ضب بداخلي وزادت رغبته ب�إحراق كل �شيء‬
‫هممت ذاه ًبا من �أمامها تتحرك قدماي بوقود‬
‫ُ‬ ‫مبال بالعواقب‪،‬‬
‫غري ٍ‬
‫ال�سخط‪ ،‬فوقفتني �سائلة‪:‬‬
‫‪� -‬إىل �أين �ستذهب؟‬
‫‪� -‬إليه‪.‬‬
‫‪� -‬سرتتكب نف�س اخلط�أ ثاني ًة؟ يا �أجمد �أنت ال تفهم �أباك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد‪ ،‬والدك �شخ�صية مت�سلطة ينفذ ما يفكر به وما يراه هو‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫�صحيحا دون ال�سماع لأي �شخ�ص �آخر‪ ،‬املواجهة لن‬‫ً‬ ‫فقط‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫تفيد ب�شيء �سوى حماولته الو�صول �إىل م�صدر �إخبارك بهذه‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫املعلومات وال�سعي �إىل عزلك �أكرث‪ ،‬فكر جيدً ا قبل �أن تتخذ‬
‫�أي خطوة‪.‬‬
‫على الرغم من غ�ضبي الفائر الذي كاد �أن ي�صم �أذين عن كل ما‬
‫تقوله‪ ،‬ف�إن كالمها �أرجع �أمامي �شريط ما حدث بالفرتة املا�ضية‪ ،‬كان‬
‫رجعت لنقطة‬
‫ُ‬ ‫حديثها �صائ ًبا‪ ،‬مل ت ِفد املواجهة يف املرة الأوىل ب�شيء‪،‬‬
‫ال�صفر ثاني ًة بل لأ�سو�أ منها‪ ،‬لذلك يجب َّ‬
‫علي ترتيب �أوراقي والتفكري‬
‫بالأمر جيدً ا‪ .‬تذكرتُ �أمر امللف ومدى اهتمام �أبي به‪ ،‬يجب �أن �أ�صل‬
‫انطلقت من �أمام �سارة �أطوي‬
‫ُ‬ ‫لهذا امللف �سري ًعا ومعرفة ما يحتويه‪.‬‬
‫ً‬
‫متجاهل نداءها املتتايل‪،‬‬ ‫قدمي‬
‫درجات �سلم بنايتها �سري ًعا حتت َ‬
‫�أ�ستدعي تفا�صيل �آخر مرة كان امللف بحوزتي‪ ،‬كل ما �أتذكره �أنني‬
‫تناولتُه من اخلزانة ببيتنا القدمي ورمبا �أخفيته هناك‪� .‬صعدتُ �إىل‬
‫‪280‬‬
‫ال�سيارة حمددًا وجهتى‪ ،‬وقبل �أن �أديرها تذكرتُ �شي ًئا‪ ،‬فتحت �سحاب‬
‫أخرجت �إبرة العقار املختبئة بجيبها الداخلي بحر�ص‪� ،‬أظن‬
‫ُ‬ ‫�سرتتي و�‬
‫حان وقته الآن‪.‬‬

‫•••‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪281‬‬
‫(‪)21‬‬
‫(الذكرى األخرية)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫متاما من �أي حمتويات‪ ،‬نظرتُ حويل‬ ‫وقفت �أمام اخلزانة الفارغة ً‬

‫ت‬
‫ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بني �أركان القبو و�أنا �أتذكر �آخر مرة عندما كنت به ً‬
‫حامل امللف بني‬

‫والتوز عي‬
‫أخرجت العقار‬
‫ُ‬
‫ر‬‫َيدي‪ ،‬رمبا �أخفيته هنا مبكان ما غري مرئي للناظر‪� ،‬‬
‫ونظرتُ �إليه و�أنا �أ�شعر بالرتدد يف ا�ستخدامه‪ ،‬كان العقار املتبقي‬
‫ً‬
‫من�شغل ب�س�ؤالها‪ ،‬وال‬ ‫لدى مي�سون و�أخذته خل�سة عندما كان �أبي‬
‫�أعلم ما الذي دفعني لهذا؟ رمبا �إح�سا�سي �أنه توجد تفا�صيل �أخرى‬
‫ك�شفت ذراعي قاط ًعا ترددي‬
‫ُ‬ ‫مل �أتذكرها و�أنني �س�أكون بحاجة �إليه‪.‬‬
‫بو�ضع �سن الإبرة بوريدي املمتد باللون الأخ�ضر حتت جلدي وحقنته‬
‫ببطء‪� ،‬شعرتُ بدوران الأ�شياء من حويل واختفاء مالحمها رويدً ا‬
‫ف�سقطت � ً‬
‫أر�ضا‪� ،‬أغلق العقار‬ ‫ُ‬ ‫رويدً ا‪ ،‬مل يق َو ج�سدي على املقاومة‬
‫�أجفاين بنفوذه و�أر�سلني بت�أثريه �إىل خبايا عقلي‪.‬‬
‫•••‬
‫‪283‬‬
‫ا�ستيقظت بالقبو يفرت�ش ج�سدي الأر�ض على هيئته كما هو قبل‬ ‫ُ‬
‫ي�سر مفعول العقار مثل املرات ال�سابقة؟ رمبا‬ ‫نومي‪ ،‬ال �أدري ملاذا مل ِ‬
‫كانت مي�سون ت�ستخدم �شي ًئا �آخر بجانبه يجعلنا نذهب للذكرى؟ لكن‬
‫قمت ونظرتُ من‬ ‫خال من الأتربة‪ُ ،‬‬ ‫مهل‪ ،‬هناك �شيء خمتلف‪ ،‬القبو ٍ‬ ‫ً‬
‫�سمعت �صو ًتا‬
‫ُ‬ ‫حويل‪ ،‬كان القبو يبدو مرت ًبا ونظي ًفا غري هيئته ال�سابقة‪.‬‬
‫متخذا الدرج‪ ،‬مل تب ُد على منزلنا �سمات‬ ‫ً‬ ‫قادما من �أعلى ف�صعدتُ‬
‫ً‬

‫ع‬
‫الهجر كما كان �ساب ًقا بل كان يحظى باحلياة‪ ،‬كان ال�صوتُ ً‬
‫قادما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من خلف باب لغرفة مل ُيغلق ب�أكمله‪� ،‬أعرف هذه الغرفة جيدً ا‪� ،‬إنها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫طفل بعمر ال�سابعة‬ ‫اجتهت �إليها �أتطلع ملا بداخلها‪ ،‬وجدتني ً‬ ‫ُ‬ ‫غرفتي‪،‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�أجل�س �أمام �شا�شة تلفاز يتدىل منها جهاز مربع ميتد منه �سلك بيد‬
‫منفعل و�أ�صدر �ضجة عالية و�أنا �أ�ضغط على يد‬ ‫ً‬ ‫كنت‬
‫حتكم �أحملها‪ُ ،‬‬
‫التحكم بقوة لأ�سجل هد ًفا مبباراة كرة قدم بلعبة فيديو حتاكي الواقع‬
‫كث ًريا تربز تفا�صيلها على ال�شا�شة‪.‬‬
‫تنبهت لل�صوت و�أنا‬
‫ُ‬ ‫�صدر �صوت �أمي عال ًيا من الغرفة املقابلة‪،‬‬
‫واجتهت نحو الغرفة �أم�شي على‬
‫ُ‬ ‫وتركت يد التحكم � ً‬
‫أر�ضا‬ ‫ُ‬ ‫ابن ال�سابعة‬
‫اقرتبت‬
‫ُ‬ ‫ألقمت عيني خ�صا�صة الباب‪،‬‬‫و�صلت و� ُ‬
‫ُ‬ ‫�أطراف �أ�صابعي حتى‬
‫وو�ضعت �أذين لأ�سمع ما يدور بالداخل وي�سرتجع عقلي امل�شاهد‬
‫ُ‬ ‫مني‬
‫التي ر�أيتها و�أنا �صغري‪ ،‬كانت �أمي تبدو غا�ضبة‪ ،‬مت�شي ب�أنحاء الغرفة‬
‫بغري اهتداء تعنف �أبي قائلة‪:‬‬
‫‪284‬‬
‫‪ -‬ر�أيتك و�أنت تهم�س لها‪ ،‬بالت�أكيد كنت تخربها عني وعن‬
‫م�ساوئي‪.‬‬
‫قام �أبي من مكانه وحاول �أن مي�سك بيديها لكنها نزعتهما �سري ًعا‪،‬‬
‫فقال بهدوء‪:‬‬
‫كنت �أهم�س لأختي‬
‫‪ -‬هالة حبيبتي ال يوجد �أي �شيء من هذا‪ُ ،‬‬
‫وهم�ست‬
‫ُ‬ ‫خم ًربا �إياها �أنني �أريدها يف �أمر ما متعلق مبرياثنا‪،‬‬
‫خفت �أن ي�سمعنا زوجها‪ ،‬فكما تعلمني هو �شخ�ص‬
‫ب�أذنها لأنني ُ‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ج�شع‪.‬‬

‫ب‬
‫نظراتهال�إيل بعد �أن هم�ست لها‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬
‫قالت �أمي بغ�ضب‪:‬‬

‫ن‬
‫ْ‬

‫توهمتا�لتأنهاوتنظر � ِ‬
‫‪ -‬كانت تنظر � ِإليك بتلقائية‪ِ � ،‬ش‬
‫أنت منر ِ‬
‫و‬
‫الحظت‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال تكذب‪.‬‬

‫زيع‬
‫إليك‬
‫بغ�ضب‪.‬‬
‫قالت م�ستنكرة‪:‬‬
‫‪ -‬توهمت؟‬
‫�أجاب �أبي م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫توهمت‪ .‬وتدرين ملاذا؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬نعم‬
‫اجته �إىل درج خزانة جماورة له و�أخرج منه �شريط دواء كامل‬
‫الأقرا�ص وتابع‪:‬‬
‫توقفت عن �أخذ الدواء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنك‬
‫‪-‬ل ِ‬
‫‪285‬‬
‫ل�ست مري�ضة‪.‬‬
‫‪� -‬أنا ُ‬
‫متاما‪:‬‬
‫قال �أبي بغ�ضب �أ�سكن �أمي ً‬
‫أنت مري�ضة ذهان يا هالة‪ ،‬الأطباء هم من �شخ�صوا‬‫‪ -‬بلى � ِ‬
‫ول�ست �أنا‪.‬‬
‫حالتك ُ‬
‫و�ضعت �أمي يدها على �صدرها وامتلأت عيناها بعربات الأمل‪،‬‬
‫اقرتب منها �أبي و�أم�سك كتفيها وقال بود‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫ابنك ال�صغري‬
‫أرجوك تناويل العالج وارحميني وارحمي ِ‬
‫‪ -‬هالة � ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أرجوك‪.‬‬
‫من هذا العذاب‪ِ � ،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫كان �أبي حم ًقا يف ما �أخربين به‪ ،‬كانت �أمي مري�ضة مبر�ض‬
‫فاجتهت و�أنا ابن ال�سابعة‬
‫ُ‬ ‫هم �أبي باخلروج تار ًكا �أمي خلفه‬ ‫ُ‬
‫الذهان‪َّ ،‬‬
‫أغلقت الباب‪ .‬مر �أبي من �أمامي ولكنه تبخر‬ ‫�إىل غرفتي �سري ًعا و� ُ‬
‫البيت كما هو‪ ،‬تعاقب الليل‬ ‫فتوهمت �أن العقار انتهى وقته‪ ،‬ولكن بقي ُ‬‫ُ‬
‫والنهار على منزلنا ب�شكل �سريع جدً ا‪ ،‬كنا نخرج �أنا و�أمي و�أبي خارج‬
‫الحظت ج�سدي وهو يكرب �شي ًئا ف�شي ًئا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املنزل ونعود ومنار�س حياتنا‪،‬‬
‫يبدو �أن عقلي يجري بالأحداث �سري ًعا لأ�صل �إىل ذكرى �أخرى ببيتنا‪.‬‬
‫ا�ستيقظت من نومي‬ ‫ُ‬ ‫الوقت ً‬
‫ليل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫توقف �إيقاع الأحداث فج�أة وكان‬
‫�سمعت‬
‫ُ‬ ‫وكنت �أبدو يف التا�سعة بذلك الوقت متج ًها �إىل املرحا�ض‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فدلفت �إليها و�أنا‬
‫ُ‬ ‫خارجا من غرفة املكتب‬
‫بطريقي �صوت بكاء �أمي ً‬
‫�أفرك عيني من �أثر النوم‪ ،‬مل تكن تنتبه يل كانت �أمامها �أوراق تنظر‬
‫‪286‬‬
‫�إليها وعلى وجهها �أثر ال�صدمة‪ ،‬تفاج�أت بوجودي عندما �س�ألتها‬
‫عن �سبب بكائها ف�ضمتني و�أخربتني �أنها بخري‪ .‬يبدو �أنها يف هذه‬
‫اكت�شفت �أمر �أبي‪ ،‬تتالت الذكريات بعدها تذكرين بتفا�صيل‬
‫ْ‬ ‫اللحظة‬
‫هذه املرحلة وال�سبب وراء كرثة �شجار �أمي و�أبي الذي مل �أكن �أعرفه‬
‫حينها‪ ،‬حتى جاء يوم تلك الذكرى‪� ،‬أيقظتني �أمي مبك ًرا و�أمرتني‬
‫بارتداء مالب�سي‪� ،‬سمعتها وهي حتدث �إحداهن قائلة‪:‬‬
‫و�صلت �إىل حمطة القطار؟ ح�س ًنا �أنا قادمة � ِ‬
‫إليك‪،‬‬ ‫‪ -‬هل‬

‫ع‬
‫ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�س�أحاول ت�ضليل احلرا�س لأ�صل يف �أقرب وقت‪ ،‬نعم ت�أكدتُ‬

‫ن‬ ‫ل‬‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حرا�سا ملراقبتي بعد ما كرث تهديدي بالرحيل دون‬
‫ً‬ ‫عي‬‫�أنه َّ‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫رجعة بالآونة الأخرية‪.‬‬

‫ْ‬
‫ي‬
‫و�ضعتعيدها‬
‫ز‬
‫و�ضعتني �أمام‬ ‫يدي‪،‬‬ ‫وذهبت �إىل الغرفة و�أخذتني من‬
‫رجعت �إىل اخللف وابتعدت عني‪،‬‬
‫ْ‬ ‫�أنهت املكاملة‬
‫الباب وقبل �أن نذهب ْ‬
‫على فمها و�أخذت يف البكاء بقطرات حتمل قه ًرا مل �أرها و�أنا طفل‬
‫وقتها ور�أيتها الآن‪ ،‬مل �أكن �أعلم حينها �أن هذا اليوم �سي�صبح �أ�سو�أ‬
‫وهممت بفعل ما مل �أفعله و�أنا‬
‫ُ‬ ‫�أيام حياتي بانتحارها‪� ،‬أوجعني بكا�ؤها‬
‫أربت على كتفها لكنها مل تكن ت�شعر بوجودى وال‬‫اقرتبت منها � ُ‬
‫ُ‬ ‫طفل‪،‬‬
‫م�سحت دموعها �سري ًعا وجاءت �إىل الباب و�سحبتني �صغ ًريا‬
‫ْ‬ ‫بفعلي‪،‬‬
‫للخارج قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هيا‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫خرجت وراءها �أتتبعها و�أنا �أعلم م�سب ًقا ماذا �سيحدث‪ ،‬لكن ما‬
‫ُ‬
‫تبخرت‬
‫ْ‬ ‫�إن و�صلت لباب �سور احلديقة اخل�شبي املحيطة مبنزلنا حتى‬
‫ظللت واق ًفا باحلديقة �أنتظر تبخر البيت لكنه بقي‪،‬‬
‫وتبخرتُ معها‪ُ ،‬‬
‫م�ضت‬
‫مل جتمعني به ذكريات بعد ذلك من عمري فلماذا ما زال هنا؟ ْ‬
‫حلظات فوجئت بعدها بقدومها من بعيد‪ ،‬ليلى! ترتدي ف�ستان زفافنا‬
‫وحتمل بيدها باقة ورود التوليب‪ ،‬مت�شي ببطء جتاهي كما كانت‬
‫وقفت �أمامي تنظر �إىل عيني‬
‫مت�شي بجانب والدها يوم عر�سنا ‪ْ ،‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫قلت وقد جرى بعيني الدمع‪:‬‬ ‫بعتاب حمب‪ُ ،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫إليك‪.‬‬
‫‪ -‬ليلى �أنا �آ�سف‪� ،‬أعتذر � ِ‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ش‬


‫وجهي بلطف ك�أنها توا�سيني‪ ،‬فوجئت بظهور �رأمي‬
‫تبدو جميلة كهيئتها عندما ُكنت �صغ ًريا قبل �أن ي�صيبها زيع‬
‫وربتت على‬
‫ورفعت يدها ْ‬ ‫ْ‬ ‫كعادتها‬ ‫بحنو‬ ‫ابت�سمت‬
‫ْ‬ ‫جتبني ب�شيء‪،‬‬
‫مل ِ‬
‫خلفها‪ ،‬كانت‬ ‫من‬
‫االكتئاب‪،‬‬
‫وربتت على وجهي مثلها‪.‬‬
‫ومدت يدها من خلف ليلى ْ‬ ‫أي�ضا ْ‬ ‫ابت�سمت يل � ً‬
‫ْ‬
‫كانت هذه اللحظة من �أجمل حلظات حياتي‪� ،‬أمي وليلى م ًعا ت�شعران‬
‫ب�أمل ما مررتُ به وتوا�سيانني بحنان فقدته يف كثري من �سنوات‬
‫عمري‪ .‬ارتفعت يد �أمي الأخرى �أمام عيني بقالدة وناولتني �إياها‪،‬‬
‫قالدة! كانت قالدة �أمي املحتوية على �صورتنا م ًعا �أنا و كانت ترتديها‬
‫با�ستمرار‪ ،‬فتحتها وتذكرتُ كل �شيء يف هذه اللحظة‪ ،‬بد� ْأت بعدها‬
‫مبا�شر ًة نريان ال �أعلم م�صدرها ت�أكل البيت من خلفي ليتبخر ذاه ًبا‬
‫مع كل جزء يحرتق منه‪ ،‬امتدت النريان �إىل احلديقة التي ا�شتعلت‬
‫‪288‬‬
‫فهمت من هذه العالمات �أن وقت‬ ‫ُ‬ ‫ب�أكملها وبد�أت بالتبخر � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫و�ضعت يدي بقوة على َيدي �أمي وليلى الراقدتني‬
‫ُ‬ ‫العقار بد�أ يف النفاد‪،‬‬
‫على وجهي و�أنا �أتو�سل �إليهما باك ًيا‪:‬‬
‫‪� -‬أرجوكما ال ترتكاين‪ ،‬خذاين معكما �أو ابقيا معي‪� .‬أنا يف حاجة‬
‫�إليكما‪.‬‬
‫ابت�سمتا ب�إ�شفاق ومل تتكلما ب�أي �شيء‪ ،‬بد�أتا بالتبخر �شي ًئا ف�شي ًئا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫متاما‪ ،‬بد�أتُ بعدهما‬ ‫وان�سلت يداهما من حتت يدي حتى اختفتا ً‬ ‫ْ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أي�ضا وما زالت دموعي جتري بعد �أن ت�أكدت �أن جميع‬ ‫بالتبخر �أنا � ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أمنياتي �صارت م�ستحيلة‪ ،‬و�أنني �س�أعود الآن �إىل واقعي الأليم‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫العقارعدون‬‫و‬ ‫ل‬
‫أثري‬‫ا‬ ‫و‬
‫�أخذ ج�سدي قرابة ال�ساعة حتى يتعافى من ت� ت‬
‫•‬ ‫••‬
‫ا�ستطعت �أن �أحترك �أخ ًريا و�إن كان الإنهاك ما زال‬
‫ُ‬ ‫تناول القر�ص‪،‬‬
‫يالزمني‪� ،‬صعدتُ الدرج �إىل الأعلى ونظرتُ �إىل البيت املغطى �أثاثه‬
‫بال�شرا�شف البي�ضاء ويحتل الغبار كل جزء من �أركانه‪ ،‬وتذكرت كيف‬
‫اجتهت �إىل غرفة‬
‫ُ‬ ‫وجميل بالذكرى منذ وقت قليل‪.‬‬‫ً‬ ‫كان يبدو به ًيا‬
‫فتحت باب البندول‬
‫الطعام قا�صدً ا ال�ساعة الكال�سيكية التي تقبع بها‪ُ ،‬‬
‫والتقطت القالدة من ورائه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫النحا�سي املتديل منها‪ ،‬مددتُ يدي‬
‫أيت �صورتي �أنا و�أمي ونحن مبت�سمني يتال�صق وجهانا‪.‬‬ ‫فتحتها فر� ُ‬
‫نزعتها فوجدتُ حتتها الذاكرة الإلكرتونية والورقة ال�صغرية التي‬
‫أخفيت الذاكرة‬
‫كانت موجودة بامللف مطوية بجانبها‪ ،‬تذكرتُ عندما � ُ‬
‫فهمت �سبب‬
‫وعرفت ما حتتويه‪ ،‬الآن ُ‬
‫ُ‬ ‫الإلكرتونية هنا بعدما فح�صتها‬
‫‪289‬‬
‫حر�ص �أبي على امللف وال �أ�ستبعد �أن يكون قد �أرجع ذاكرتي ملعرفة‬
‫اهتديت‬
‫ُ‬ ‫د�س�ست القالدة بجيبي متج ًها �إىل اخلارج وقد‬
‫ُ‬ ‫مكانه فقط‪.‬‬
‫علي فعله‪� ،‬أتخذ بقوة دون رجعة قراري الأخري‪.‬‬‫ملعرفة ما يجب ّ‬
‫•••‬
‫فزعا وهو ينظر �إ َّ‬
‫يل و�إىل القيد احلديدي‬ ‫تبعرثت خاليا وجه �أبي ً‬
‫بيدي بعدما �أُبلغ من ِقبل املجل�س �أن واحدً ا من (اخلالدين)‬‫املحيط َ‬

‫ع‬
‫�سلم نف�سه‪ ،‬ويجب عليه املجيء لل�شروع بتنفيذ العقوبة‪ ،‬وتفاج�أ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بر�ؤيتي ً‬

‫ك‬
‫حماطا من ِقبل القوات كمجرم حرب يخ�شون هربه‪� .‬أخذين‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫فعلته؟ ل‬ ‫ت‬


‫‪ -‬هل جننت؟ ما الذيب‬
‫ً‬
‫منده�شا بغ�ضب ثائر‪:‬‬ ‫من بينهم و �س�ألني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬ ‫�أجبته بهدوء‪:‬‬
‫دوما نف�س �س�ؤالك‪ :‬ما الذي فعلته؟‬
‫‪� -‬أ�س�أل نف�سي ً‬
‫فتابعت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نظر �إيل م�ستغر ًبا‬
‫‪ -‬ما الذي فعلته لتفعل بي كل هذا؟ ملاذا �شوهت روحي �إىل هذا‬
‫احلد وح َّملت قلبي كل هذه الآالم؟‬
‫قال م�ستنك ًرا‪:‬‬
‫‪� -‬أنا يا �أجمد! بعد كل ما فعلته من �أجلك طيلة عمري تقول‬
‫هذا؟ �أنا ال �أفعل �شي ًئا �إال بدافع خويف عليك‪� ،‬أنت ال تعلم‬
‫مقدار حبك بداخلي‪.‬‬
‫‪290‬‬
‫‪� -‬أعلم‪ ،‬لكنه حب م� ٍؤذ �إىل درجة الكره‪ ،‬حب �أناين دمر حياتي‪،‬‬
‫مل ي�ستوعب عقلك �أن �أعي�ش كما �أحب و�أن �أنتهج ما �أراه‬
‫�صحيحا‪ ،‬طيلة حياتك �شخ�صية م�سيطرة على كل من حولك‬ ‫ً‬
‫ال ت�ستوعب �أن يخالفك �أحد الر�أي‪ ،‬مت�سلط ترى كل ما تفعله‬
‫�صحيحا‪ ،‬تقوم ب�أفعالك دون النظر �إىل العواقب‪.‬‬
‫ً‬
‫�صمت برهة و�أكملت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬أتعلم يا �أبي‪� ،‬إن نظرتَ جيدً ا �إىل عالقتنا �ستجد �أنني من‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كنت �أود �أن �أنتقم منك‪ ،‬حقيقي‬
‫خال�صا‪ُ ،‬‬ ‫يحمل لك احلب‬

‫ا‬
‫ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫رغبت يف هذا ومل �أقدر‪.‬‬
‫ُ‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ملعت عيناه بدموع حتمل وج ًعا ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫يل وقد ْ‬‫نظر �إ َّ‬

‫زيع‬ ‫و‬ ‫‪ -‬كذبت‪ ،‬ما تفعله الآن بي �شر انتقام‪.‬‬


‫‪ -‬هذا �أف�ضل حل‪ ،‬يف كل مرة �س�أرى وجهك �س�أتذكر جميع ما‬
‫فعلته‪� ،‬أريد �أن �أن�سى كل �شيء دون رجعة‪� ،‬أريد �أن �أن�ساك يا‬
‫يوما‪.‬‬
‫�أبي وال �أعرفك ً‬
‫هز ر�أ�سه ناف ًيا‪:‬‬
‫‪ -‬لن �أجري هذه العملية‪.‬‬
‫ابت�سمت �ساخ ًرا و�أنا �أقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪� -‬ستجريها‪ ،‬هل تعرف ملاذا؟ لأنك تعلم جيدً ا �أن اخليار الثاين‬
‫لديهم الآن هو قتلي‪� .‬أتتذكر وقت ه�شام عندما �أخربتني �أن‬
‫‪291‬‬
‫ن�سيت‬
‫َ‬ ‫تهمة االن�ضمام �إىل اخلالدين خط �أحمر؟ �أم �أنك‬
‫جملتك؟‬
‫اقرتبت منه ناظ ًرا �إىل عينيه ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬ولو �أخرجتني من هنا �س�أذهب لو�سط املدينة و�أقف بامليدان‬
‫و�أ�صرخ يف النا�س �أنني من اخلالدين‪ ،‬وبالت�أكيد تعرف ماذا‬
‫�سيجري حينها بعدما جنحتم يف زرع احلقد وال�ضغينة بداخل‬

‫ا‬ ‫ري‬
‫يحملل ال‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫�صدورهم جتاهنا‪� ،‬سيتمون الأمر ب�إيديهم دون �إبالغ املجل�س‪.‬‬
‫كأمل‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫قال ب�صوت‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪ -‬جتاهنا؟‬
‫يوما �إىل‬
‫أنتم ً‬
‫ودما‪ ،‬لكنني مل � ِ‬
‫‪ -‬نعم يا �أبي‪� ،‬أنا �أنتمي �إليك ن�س ًبا ً‬
‫روحك‪ ،‬روحي بينهم لذلك قررتُ الذهاب والعي�ش بجوارهم‪،‬‬
‫م�ؤكد �أنني لن �أتذكرهم �أبدً ا بعد نزع ذاكرتي‪ ،‬لكن روحي لن‬
‫تن�سى �شعور الأمان بقربهم‪.‬‬
‫أردفت‪:‬‬
‫ط�أط�أ ر�أ�سه بحزن ف� ُ‬
‫‪� -‬أعلم �أنني و�ضعتك مبوقف ال حت�سد عليه‪ ،‬ولكن �أنت من‬
‫قبل و�أظن �أنه �آن الأوان لتدفع ثمن القليل من‬ ‫و�ضعتني به ً‬
‫أجر العملية و�ستحظى بر�ؤيتي‪ ،‬على الأقل �أف�ضل من‬ ‫�أفعالك‪ِ � .‬‬
‫قتلي وعدم ر�ؤيتي نهائ ًيا‪.‬‬
‫‪292‬‬
‫قلت برجاء‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬هذا طلبي الأخري منك يا �أبي و�أرجو �أن تلبيه‪.‬‬
‫خر راك ًعا على ركبتيه و�أجه�ش بالبكاء بقوة‪ ،‬تعاىل �أزيز �صدره‬
‫حتى تقطعت �أنفا�سه‪ ،‬جاء فردان من قوات الأمن واقتاداين �إىل‬
‫غرفة العمليات‪.‬‬

‫•••‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪293‬‬
‫(‪)٢٢‬‬
‫(البداية)‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد مرور ثالثني عا ًما‪...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫كمدرج فريونا الروماين ترا�صت املقاعد ذات الأقم�شة املخملية‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫احلمراء بانتظام داخل قاعة م�ستطيلة ال�شكل بوافر من الفخامة‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫انفتحت الأبواب وبد�أت اجلموع بالتدفق‪ ،‬دلف كبار الزوار بت�أنٍّ خلق‬
‫لهم هالة من احلزم‪ ،‬ا�ستق ّر بع�ضهم بجانب بع�ض حتى امتلأت‬
‫القاعة عن �آخرها‪ ،‬تعالت الهمهمات والأحاديث املتبادلة وجتمعت‬
‫حتى �صارت كطنني النحل‪� ،‬أ�سكتتها دقات �إ�صبع متتالية على‬
‫ميكروفون بحجم حبة الزيتون ملتحدث يقف على من�صة امل�سرح‪ ،‬بد�أ‬
‫حديثه ب�صوت حيوي بعد ت�أكده من ا�ستقرار الطري على ر�ؤو�سهم‪:‬‬
‫‪�-‬أرحب بهذا اجلمع الطيب من كبار الزوار وال�شخ�صيات‬
‫املهمة‪ ،‬وي�شرفني �أن �أدعو الطبيبة (فريدة �أجمد عبد القادر‬
‫�سند) لل�صعود �إىل خ�شبة امل�سرح لتت�سلم جائزة (ال�سعي)‪،‬‬
‫لدورها الفعال يف م�ساعدة �أقرانها من ال�شباب والفتيات على‬
‫تطبيق �أفكارهم املميزة النافعة لبالدنا‪ ،‬وتقدميها �إىل جمل�س‬
‫�إدارة العهد اجلديد ب�صورة ترقى �إىل تطبيقها‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫برزت بف�ستان زمردي �أنيق مت�شي بثبات �إىل املن�صة وت�صعد‬
‫ْ‬
‫درجاتها بت� ٍأن‪ ،‬ه�ش وجهها لرجل يف العقد اخلام�س من عمره‬
‫درعا ف�ضية على هيئة متثالني‬
‫ي�ستقبلها بابت�سامة وا�سعة‪� ،‬سلمها ً‬
‫تقدمت خطوة وهي‬
‫ْ‬ ‫�صغريين يت�صافحان‪ ،‬ف�ضجت القاعة بالت�صفيق‪،‬‬
‫ً‬
‫ر�ضوخا لطلب امل�صورين‪ .‬طلب منها مقدم‬ ‫حتمل الدرع تقف بثبات‬
‫رجعت �إىل مقعدها مرة‬
‫احلفل �إلقاء كلمة ولكنها اعتذرت �إليه ب�أدب‪ْ ،‬‬
‫�أخرى وهي تدقق النظر �إىل تفا�صيل الدرع وقد ُنق�ش ا�سمها حتته‬
‫بخط عربي ديواين بديع‪ ،‬انحنى من كان يجل�س بجانبها نحوها ً‬

‫ع‬
‫قائل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ب�صوت هام�س‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫مبارك‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫ابت�سمت بخجل‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬شك ًرا لك دكتور فاروق‪.‬‬
‫تابع مثن ًيا عليها‪:‬‬
‫ً‬
‫م�ستقبل باه ًرا‪ ،‬فبجانب تفوقك يف جمال املخ‬ ‫لك‬
‫‪� -‬أتوقع ِ‬
‫والأع�صاب مثل جدك ت�ساعدين � ً‬
‫أي�ضا ال�شباب وحتققني‬
‫�أحالمهم وتنفذين �أفكارهم‪.‬‬
‫‪ -‬مل �أفعل �شي ًئا‪� ،‬أنا �أداة و�صل ال �أكرث‪.‬‬
‫�أكمل ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪ -‬باملنا�سبة‪ ،‬كيف حال جدك الآن؟‬
‫أجابت ب�أ�سى‪:‬‬
‫� ْ‬
‫‪296‬‬
‫‪ -‬عاد مرة �أخرى �إىل جهاز التنف�س ال�صناعي و�أو�صاه الطبيب‬
‫بالراحة التامة‪� ،‬صار غري قادر على مغادرة �سريره �أو التحدث‬
‫كما كان من قبل‪.‬‬
‫هز ر�أ�سه حز ًنا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬نفتقد وجوده كث ًريا بيننا‪� ،‬أو�صلي �إليه �سالمي‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها موافق ًة على طلبه‪ .‬مر وقت احلفل ً‬
‫ثقيل على قلبها‬

‫ل‬
‫اجتهت م�سرعة �إىل اخلارج ودلفت �إىل ال�سيارة وهي‬
‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫حتى انتهى‪،‬‬
‫ع‬
‫ك‬
‫ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫تقول لل�سائق‪:‬‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫التوز عي‬
‫العيادة اليوم‪.‬‬ ‫عن‬ ‫‪� -‬أ�سرع يا ع�صام ت�أخرتُ‬
‫و�صلت �إىل وجهتها وقد �أعاقتها زحمة ال�سري عن الو�صول مبك ًرا‪،‬‬
‫ْ‬
‫وجلت �إىل العيادة و�سط املقاعد امل�شغولة ب�أكملها يف انتظارها‪.‬‬
‫بد�أت بالك�شف على املر�ضى الذين كانوا جمي ًعا من كبار ال�سن‪،‬‬
‫ت�صب �شكاواهم يف جمرى واحد ب�أ�شكال خمتلفة عن ر�ؤيتهم خلياالت‬
‫�أ�شخا�ص و�أماكن ال يعرفونهم‪ ،‬ت�أتي �صورهم �أمامهم يف �شكل وم�ضات‬
‫ي�صاحبها �صداع‪ .‬جل� ْأت �إىل جدها للو�صول �إىل عالج منا�سب لهذه‬
‫احلالة بعدما �أخربته بتكرار ال�شكوى من ِقبل كثري من الأ�شخا�ص‪،‬‬
‫ودلها على �أقرا�ص �ساهم يف و�ضع تركيبتها و�أو�صاها بو�صفها لهم‪،‬‬
‫م�ؤكدً ا �أنها �ستُذهب عنهم تلك ال�صور‪.‬‬
‫‪297‬‬
‫طقطقت رقبتها و�أدارتها مينة وي�سرة وهي حتاول ا�ستدعاء رمق‬
‫�أخري من الطاقة ي�ساعدها على ال�صمود ملعاينة احلالة الأخرية‬
‫بيومها‪.‬‬
‫دلفت امر�أة يبدو من مالحمها الفاقدة لريعان ال�شباب �أنها‬
‫ْ‬
‫جتاوزت �سن اخلم�سني بعدة �سنوات‪ ،‬ا�ستقرت باملقعد املقابل لها‬
‫وظلت تت�أمل مالحمها للحظات‪ ،‬ثم بد�أت حديثها‪:‬‬
‫ْ‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫أباك ومتلكني عي َني �أمك‪.‬‬
‫‪ -‬ت�شبهني � ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪ -‬ما الذي تعانني منه؟ب ل‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫ابت�سمت قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫رفعت نظرها �إليها بتوج�س‪ ،‬ثم‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫‪� -‬أعاين من ثقل الكتمان ووجع اخلذالن‪ .‬والتوزي‬
‫حكت فريدة ذقنها وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬اممم‪ ،‬فهمت‪.‬‬
‫قامت من مقعدها وجل�ست باملقعد املوازي ملقعد املر�أة‪ ،‬والتقطت‬
‫ورقة �صغرية من على املكتب وكتبت �شي ًئا ما بها و�أعطتها لها قائلة‬
‫وهي تبت�سم‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الطبيب �سي�ساعدك �أف�ضل مني‪� ،‬أخربيه �أنني من‬
‫�أر�سلتك �إليه‪.‬‬
‫‪298‬‬
‫تناولتها منها ثم قالت �ساخرة‪:‬‬
‫‪ -‬تر�سلينني �إىل طبيب نف�سي؟ تظنني �أنني مري�ضة نف�سية؟‬
‫اقرتبت منها فريدة وربتت على كتفها قائلة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬املر�ض النف�سي لي�س عي ًبا‪ ،‬مثله مثل �أي مر�ض‪ ،‬كل ما نحتاج‬
‫�إليه �أن نوجهه ونح�سن التعامل معه‪ ،‬و�أظن �أن الطبيب الذي‬
‫كتبت ا�سمه بالورقة �سيجيد هذا الأمر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قامت ونظرت �إىل عينيها بحدة وقالت بجدية‪:‬‬ ‫ْ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫أبوك معي �شي ًئا ِ‬

‫ن‬
‫لك قبل ذهابه و�أو�صاين‬ ‫‪ -‬ا�سمعيني جيدً ا‪ ،‬ترك � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫وع�شت طيلة حياتي �أعاين من‬‫ُ‬ ‫إليك �إن ا�ستطعت‪،‬‬ ‫بت�سليمه � ِ‬
‫االختباء والتنقل بني الأماكن من �أجل هذه اللحظة‪.‬‬
‫أخرجت دفرتًا ورق ًيا وظر ًفا �أبي�ض كب ًريا و�أعطتهما لها‪ ،‬فردتهما‬
‫ْ‬ ‫�‬
‫�إليها قائلة‪:‬‬
‫أنك تخلطني بيني وبني �شخ�ص �آخر‪.‬‬
‫‪� -‬سيدتي‪ ،‬يبدو � ِ‬
‫�أعطتها الدفرت والظرف بقوة قائلة‪:‬‬
‫أنت جيدً ا‪ ،‬خذي هذا الدفرت واقر�أيه بتمعن‬‫‪ -‬ال‪� ،‬أنا �أعرف من � ِ‬
‫و�ستفهمني ماذا يحتوي الظرف بعدها‪.‬‬
‫تناولتهما منها رغب ًة يف �إ�سكاتها �أمام �إ�صرارها ال �أكرث‪ ،‬كتبت‬
‫دونت بها فريدة رقم الطبيب النف�سي‬ ‫�شي ًئا ما بنف�س الورقة التي ْ‬
‫و�أعطتها لها قائلة‪:‬‬

‫‪299‬‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫أنك �ستحتاجني �إىل حمادثتي ً‬
‫‪ -‬هذا رقمي‪� ،‬أظن � ِ‬
‫ونظرت �إىل عينيها وقالت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫التقطت حقيبتها‬
‫داخلك ومل ُتطم�س‬
‫ِ‬ ‫أبيك ما زالت‬
‫أمك و� ِ‬
‫‪� -‬آمل �أن تكون بقايا � ِ‬
‫بعد‪.‬‬
‫توقفت عند الباب قائلة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫توجهت �إىل اخلارج ثم‬
‫‪ -‬باملنا�سبة‪ ،‬ا�سمي �سارة‪.‬‬
‫•••‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫ون�سيت �أمر الدفرت والظرف‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ان�شغلت خالله فريدة كث ًريا‬
‫ْ‬ ‫مر �أ�سبوع‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫بعد ما و�ضعتهما ليلتها ب�إهمال على مكتب غرفتها املليء بالأ�شياء‬

‫ع‬
‫عادت من عملها يف وقت مت�أخر من الليل و�ألقت‬‫غري �آبهة ب�أمرهما‪ْ .‬‬
‫بج�سدها كما هي مبالب�سها تنظر �إىل ال�سقف يف تعب �شديد وال تقوى‬
‫على القيام ب�أي �أمر‪ ،‬جاء قطها فوقها يداعبها فحاولت �إزاحته لكن‬
‫الثاين مل ميل‪ ،‬فزجرته فريدة بلطف‪:‬‬
‫‪ -‬ابتعد عني يا كاظم‪.‬‬
‫قفز فوق املكتب املوازي لل�سرير وعبث ب�أ�شيائه بيديه ف�أ�سقط‬
‫فانب�سطت دفتاه و�سقط معه الظرف‪ ،‬انزعجت من‬ ‫ْ‬ ‫الدفرت � ً‬
‫أر�ضا‬
‫ال�ضجة التي �أحدثها و�أولته ظهرها تنظر �إىل احلائط وتنام على‬
‫فرجعت بر�أ�سها‬
‫ْ‬ ‫ملحت عيناها �شي ًئا يف �أثناء التفافها‬
‫جانبها الأمين‪ْ .‬‬
‫مرة �أخرى �إىل مو�ضع الأر�ض لتت�أكد مما ر�أته‪ ،‬كان الظرف قد انفتح‬
‫‪300‬‬
‫واجتهت �إليه والتقطت القالدة من‬
‫ْ‬ ‫قامت‬
‫وظهر جزء مما بداخله‪ْ ،‬‬
‫أعادت النظر �إىل داخله فوجدت �أورا ًقا‬
‫جوفه تتفح�صها بعينيها‪ْ � ،‬‬
‫حاولت قراءتها لكن مل تفهم منها �شي ًئا‪ْ ،‬‬
‫نظرت �إىل الدفرت امل�صفرة‬
‫ذهبت به �إىل مكتبها و�أتت ب�أول‬
‫ْ‬ ‫�أوراقه والتقطته من على الأر�ض‪،‬‬
‫�صفحة وبد�أت بقراءة ال�سطور‪:‬‬
‫جنحت يف‬
‫ْ‬ ‫�إن كنت تقر�أ هذا الكالم الآن فهذا يعني �أن �سارة‬
‫إليك‪ ،‬حتى هذه اللحظة ال �أعلم هل �أنت‬ ‫تو�صيله ب�أمان �إليك �أو � ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�صبي �أم فتاة‪ ،‬ال يهم‪ ،‬املهم �أنك موجود و�أنك بالغ الآن و�أنك قطعة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مني ومن �أمك اجلميلة (ليلى)‪� ،‬أريد �أن �أق�ص عليك الآن حكايتي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫فاقر�أ و ِع‪ ،‬ف�أنا �أعلم �أنك ال تعرف عن حقيقتي وال عن حقيقة والدتك‬
‫يوما فاقدً ا‬
‫ا�ستيقظت ً‬
‫ُ‬ ‫�شي ًئا‪ .‬لكن من �أين �أبد�أ؟ ح�س ًنا‪� ،‬س�أبد�أ منذ �أن‬
‫لذاكرتي ووجدتُ نف�سي مبكان غريب ي�شبه القبو ب�صحبة امر�أة‬
‫ُتدعى (مي�سون)‪.....‬‬
‫•••‬
‫أمرت �سارة فريدة �أن ترتجل عن ال�سيارة ومت�شي وراءها‪ ،‬بعد‬
‫� ْ‬
‫وو�صفت لها عنوا ًنا �أتت‬
‫ْ‬ ‫وطلبت لقاءها‬
‫ْ‬ ‫�أن حدثتها فريدة بالهاتف‬
‫ظلت تتبع خطاها وقد بد�أ التعب يت�سلل �إىل قدميها من كرثة‬
‫�إليه‪ْ ،‬‬
‫امل�سري‪ ،‬يتوغالن يف �أطراف املدينة النائية ويبتعدان عن ال�سيارة‬
‫توقفت �سارة فوق لوح خ�شب ُحفر مكانه بالأر�ض و�ضربتْه‬
‫ْ‬ ‫بكثري‪،‬‬
‫وابتعدت‪ ،‬فانزاح الغطاء من �أ�سفل كا�ش ًفا عن حفرة‬
‫ْ‬ ‫بقدمها مرتني‬

‫‪301‬‬
‫�ضيقة عميقة‪ ،‬نزلت وتبعتها فريدة متخذين �سل ًما مكو ًنا من �ألواح‬
‫خ�شبية متوازية ومثبتًا بحبلني مفتولني‪ .‬ا�ستقرتا �أخ ًريا على الأر�ض‬
‫وامتدت‪ ،‬كانت توجد مقاعد وطاوالت‬ ‫ْ‬ ‫رحبت بعد �ضيق املمر‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫يجل�س عليها �أنا�س مل ترهم فريدة من قبل‪� ،‬أح�ست بالرهبة عندما‬
‫وجدتهم جمي ًعا يحدقون بها وكان �أكرثهم بعمر اخلم�سني‪ .‬بد�أت‬
‫�سارة حديثها‪:‬‬

‫ع‬
‫أبوك بهذا الدفرت و�أن‬
‫أنك قر� ِأت ما خطه � ِ‬
‫‪� -‬أخرب ِتني يف الهاتف � ِ‬

‫ك‬
‫تنظرت�إىل اجلميع‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫لديك �أ�سئلة‪ ،‬تف�ضلي بطرحها‪.‬‬‫ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫التوزيع‬ ‫‪ُ -‬كنت �أود �أن يكون لقا�ؤنا على انفراد‪ .‬ر و‬
‫وهي‬ ‫قالت فريدة‬
‫ْ‬

‫قالت �سارة وهي تنتقل بينهم‪:‬‬


‫‪ -‬ال �أحد غريب هنا‪ ،‬جميعنا واحد‪.‬‬
‫ألت وهي تبتلع ريقها‪:‬‬
‫�س� ْ‬
‫‪ -‬وهل �أنتم الـ؟‬
‫‪ -‬اخلالدين‪.‬‬
‫قالتها �سارة بثبات هز فريدة‪ ،‬وتذكرت ما قر�أته عنهم يف املذكرات‬
‫ا�ستجمعت رباطة ج�أ�شها وقالت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫التي �أعطتها لها �سارة‪.‬‬
‫‪302‬‬
‫‪ -‬كل ما ُذكر بهذه املذكرات غري �صحيح‪ ،‬جدي �أخربين �أن‬
‫عاما واحدً ا‪ ،‬ومن‬
‫�أمي و�أبي توفيا بحادث عندما كان عمري ً‬
‫لكنت مت‬
‫ح�سن احلظ �أنهما تركاين معه هذا اليوم‪ ،‬لوال هذا ُ‬
‫معهما‪.‬‬
‫اقرتبت منها �سارة ونظرت �إىل عينيها �سائلة‪:‬‬
‫أتيت �إىل هنا لتخربيني بهذا؟‬
‫‪ -‬وهل � ِ‬

‫ع‬
‫قالت فريدة بارتباك‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫ص‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫‪ -‬لقد � ِأتيت �إىل هنا لأن ما ل‬
‫عقلك‪ :‬ماذا لو �أن ما ُذكر بهذه املذكراتوالت‬
‫تابعت‪:‬‬
‫�سارة بثقة ثم ْ‬ ‫قالتها‬ ‫‪ -‬كاذبة‪.‬‬
‫ِ‬
‫�صحيح؟وز عي‬
‫وحدثك‬ ‫باالرتباك‪،‬‬ ‫أ�صابك‬
‫ِ‬ ‫�‬ ‫ه‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫قر‬

‫أكملت‪:‬‬
‫�صمتت برهة و� ْ‬
‫فح�صت الذاكرة‬
‫ِ‬ ‫أنك‬
‫‪� -‬أما ال�سبب احلقيقي ملجيئك هنا هو � ِ‬
‫عرفت‬
‫أنك طبيبة مخ و�أع�صاب ِ‬ ‫الإلكرتونية بالقالدة‪ ،‬وبحكم � ِ‬
‫أكدت �أن اخلط الذي حتمله الورقة املطوية‬‫عالم حتتوي‪ ،‬وت� ِ‬
‫َ‬
‫وتفح�صت كذلك �أوراق العقود املربمة بني املجل�س‬
‫ِ‬ ‫خط جدك‪،‬‬
‫وبينه‪.‬‬
‫قالت وهي تتنقل بني الطاوالت‪:‬‬
‫ْ‬

‫‪303‬‬
‫أبيك‪ ،‬العتقاده‬
‫‪ -‬ظن جدك �أن هذا الأمر ذهب مع ذاكرة � ِ‬
‫�أنه مل يتذكر �أين و�ضع امللف لآخر حلظة واطم�أن �إىل هذا‬
‫أباك تركه معي قبل ذهابه وحملني‬ ‫االعتقاد‪ ،‬وما علم �أن � ِ‬
‫لك مع مذكراته‪ .‬كان على �إميان تام �أن ابنه‬ ‫م�س�ؤولية ت�سليمه ِ‬
‫�أو ابنته �سيكون خمتل ًفا و�أنه الوحيد القادر على �إمتام الأمر‪.‬‬
‫وا�صلت وهي تتجه �إىل فريدة‪:‬‬
‫ْ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أخفاك جدك لدرجة جعلتني �أظن �أنه قد‬
‫‪ -‬كدتُ �أي�أ�س بعدما � ِ‬
‫أنت‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫وجدتك برفقته و� ِ‬
‫ِ‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫يت يف �أثناء والدتك‪ ،‬حتى‬ ‫تكونني ت ُو ّف ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫عنك‬‫عاما يف �أحد امل�ؤمترات‪ ،‬و�سمعت حديثه ِ‬
‫ابنة اثني ع�شر ً‬

‫ع‬
‫ظللت‬
‫أنك من �ستكملني الطريق من بعده‪ُ .‬‬
‫أدخلك‬
‫فيك ب� ِ‬
‫وعن تو�سمه ِ‬
‫�أنتظر و�أنتظر و�أراقب من بعيد وحدث ما اعتقدته‪ِ � ،‬‬
‫نف�س جماله لتُكملي ما بد�أه‪.‬‬
‫قالت بحنو‪:‬‬
‫فتحت عيادتك اخلا�صة‬ ‫‪ -‬لكن ما زالت بقايا �أمك بداخلك‪ِ ،‬‬
‫متاما‬
‫وابتعدت ً‬
‫ِ‬ ‫مل�ساعدة املر�ضى بجانب م�ساعدتك لل�شباب‪،‬‬
‫عن املجل�س عك�س ما كان يرغب فيه جدك‪ ،‬مما حفزين �أكرث‬
‫بابك‪ ،‬لكنني انتظرت حتى اللحظة املنا�سبة‪.‬‬
‫�أن �أطرق ِ‬

‫‪304‬‬
‫كانت فريدة تدور بعينيها يف الأرجاء بحرية حتاول �أن تنفي ما‬
‫تدعيه �سارة‪ ،‬ولكن مطالعة الأوراق والذاكرة الإلكرتونية تثبت ما‬
‫تدعيه‪.‬‬
‫وقالت بقوة‪:‬‬
‫اقرتبت �سارة من فريدة وهي تنظر �إىل عينيها ْ‬
‫أنت الأمل الوحيد املتبقي لأهل هذه البالد‪ ،‬بعدما‬ ‫‪ -‬فريدة‪ِ � ،‬‬
‫عاما‪ ،‬جتمعنا منذ‬‫جنح جدك بتفريق اخلالدين منذ ثالثني ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سنوات عدة واحتدنا ثاني ًة و�أ�صبحنا �أقوى مما قبل‪ ،‬لدينا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫خطة حمكمة لل�سيطرة على جمل�س �إدارة العهد اجلديد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لكننا منلك حماولة واحدة فقط‪ ،‬حماولة واحدة �إما �أن تنجح‬

‫والتوز عي‬
‫وحتقق هدفها ‪-‬ولن يحدث هذا �إال مب�ساعدتك‪ -‬و�إما �أن‬
‫ُيقب�ض علينا جمي ًعا وتذهب �آخر ذاكرة عامرة لهذه البالد‬
‫وينتهي �أمرها �إىل الأبد‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫تنقلت بني حدقتيها و� ْ‬
‫‪� -‬أوجدي طريقة لن�شر املعادلة التي بداخل الذاكرة و�أنقذي‬
‫هذه البالد‪.‬‬
‫وجل�ست بها مثلها مثل البقية‬
‫ْ‬ ‫قالتها �سارة وانتقلت لطاولة قريبة‬
‫الذين تعلقت �أنظارهم بفريدة‪ ،‬وقد جت�سد بها الأمل الوحيد املتبقي‬
‫لديهم راجني عدم اخلذالن‪.‬‬
‫نظرت �إليهم فريدة وقالت بثبات‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪305‬‬
‫‪� -‬أنا �أعرف طريقة لن�شر املعادلة و�س�أ�ساعدكم‪.‬‬
‫وتعالت �صيحات احلما�س لأول عالمة ن�صر‬
‫ْ‬ ‫فرحا‬
‫تهللت وجوههم ً‬
‫الحت يف �أفق التحرر‪.‬‬
‫•••‬
‫بعد ثالثة �أ�شهر‪..‬‬
‫وجل�ست بجواره‬
‫ْ‬ ‫دخلت فريدة غرفة جدها بعد منت�صف الليل‬ ‫ْ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫فردت �إليه‬
‫على طرف �سريره‪ ،‬فا�ستيقظ ملا �أح�س بها وابت�سم لها ْ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫االبت�سامة‪� ،‬أم�سكت بيديه اللتني �أ�صابتهما رع�شة دائمة ال تفارق‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أطرافه واحت�ضنتهما‪� ،‬أنزل بيده الأخرى قناع التنف�س ال�صناعي‬

‫والتوزي‬
‫القابع على �أنفه وفمه �إىل رقبته وقال ب�صوت متهدج متقطع �أ�صابه‬

‫ع‬
‫وهن ال َع َجز‪:‬‬
‫أيقظك من نومك؟‬
‫‪ -‬ما الذي � ِ‬
‫هزت ر�أ�سها نافية‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬مل �أمن من الأ�سا�س ياجدي‪.‬‬
‫التقطت �شي ًئا من جيب �سرتتها‪ ،‬وما �إن لوحت به �أمامه حتى غزت‬
‫ْ‬
‫املفاج�أة مالحمه‪ ،‬و�س�أل م�ستغر ًبا‪:‬‬
‫جئت بهذه القالدة؟‬
‫‪ -‬من �أين ِ‬
‫كنت �أعلم �أنك �ستتذكرها رغم عدم ر�ؤيتك لها منذ زمن‪،‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫قالدة جدتي‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫فتحتها وتناولت الورقة املطوية بداخلها وفردتها �أمام عينيه اللتني‬
‫غرقتا يف بحر من الذهول قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هل تتذكر هذه � ً‬
‫أي�ضا؟ معادلتك‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ابتلعت ال�صدمة ل�سانه ف� ْ‬
‫تو�صلت �إىل هذه املعادلة منذ زمن بعيد بعدما اخرتعت‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫واحتفظت بها لنف�سك دون �إخبار �أي‬
‫َ‬ ‫جني م�سح الذاكرة‪،‬‬

‫ع‬
‫�أحد‪ ،‬املعادلة امل�ضادة التي تبطل ت�أثري اجلني وتعيد الذاكرة‬
‫جنحت بتطبيقها يف �شكل عقار وكان‬‫َ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫مرة �أخرى �إىل العقل‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫هو نف�سه الذي ا�ستخدمته يف �إرجاع ذاكرة �أبي عن طريق‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫اكت�شفت �أن �أبي �أخفى الورقة التي‬
‫َ‬ ‫الطبيبة مي�سون‪ ،‬بعد �أن‬
‫كتبت املعادلة بها‪ ،‬والذاكرة الإلكرتونية التي فهم منها �أبي‬
‫من خالل �شرحك يف فيديو �أهمية هذه املعادلة وت�أثريها‪،‬‬
‫لذلك �أُ�صبت بالذعر عندما علمت �أنها �أ�صبحت بحوزته‬
‫وعملت جاهدً ا لإرجاع ذاكرته ليدلك على مكان امللف خوفا‬
‫من �أن ي�صل ليد �أخرى‪ ،‬لكنك مل تتو�صل �إىل �شيء و�شعرت‬
‫ظننت �أن الأمر ذهب مع ذاكرة �أبي ولن يعلم‬
‫باالرتياح بعدما َ‬
‫دريت �أن �أبي كان يخطط لأبعد من هذا بعدما‬ ‫به �أحد‪ ،‬وما َ‬
‫وجد نف�سه وحيدً ا ولن يقدر على املواجهة‪ ،‬فاختار طريقه‬
‫و�أورثني هذا �إميا ًنا منه �أنني رمبا �أ�ستطيع تغيري ما مل يقدر‬
‫على تغيريه‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫و�شخ�صت عيناه من هول ما �سمع ومل ينطق ب�شيء‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فغر فاه‬
‫فتابعت‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪� -‬أتعلم يا جدي؟ على الرغم من كل هذا ف�إنني �أدين لك‬
‫بال�شكر‪� ،‬شكر على تربيتك يل وتعليمك �إياي وم�ساعدتي‬
‫عرفت طريقة حتويل‬
‫لأتخ�ص�ص بنف�س جمالك‪ ،‬فلوال هذا ملا ُ‬
‫املعادلة من عقار �إىل جني يحمله فريو�س ينت�شر داخل البالد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لي�ستعيد �أهلها ذاكراتهم‪ ،‬كما فعلتم من �سنني وقمتم مب�سحها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ري‬


‫اقرتبت منه ال ْ‬
‫وحتكمتم بهم كالدمى‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ل‬
‫هذهت الليلة التي‬‫ا‬ ‫و‬
‫وقالت ب�صرامة‪:‬‬
‫إىل عينيه ْ‬ ‫ونظرت �‬ ‫ْ‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫�سرتى فيها بعينيك هدم كل ما بنيته طيلة حياتك‪ ،‬ع‬
‫�ستقف‬
‫زلت ح ًيا حتى‬
‫‪ -‬ال تعلم مدى �سعادتي �أنك ما َ‬

‫يف حماكمة عادلة يا جدي عن كل ما �صنعته �أنت وجماعتك‬


‫امل�أجورة‪ ،‬و�س�أكون �أنا �أول من يقف �أمامك ويقت�ص منك‪.‬‬
‫قامت متجهة �إىل املركز الطبي اخلا�ص باملجل�س وقد‬
‫قالتها ثم ْ‬
‫جنح (اخلالدين) يف ال�سيطرة عليه لت�ستخدم نف�س الأداة التي‬
‫ا�ستخدمها جدها منذ زمن مل�سح ذاكرة البالد‪ ،‬ولن�شر جني يبطل‬
‫اجلني الأول و�إعادة الذاكرة �إىل �أ�صحابها‪ .‬امت�صت ال�صدمة جميع‬
‫هواء الغرفة ف�ضاق �صدره وت�سارعت نب�ضات قلبه‪ ،‬و�أخذ يلهث بقوة‬
‫يحاول التقاط �أنفا�سه فلم يعد قاد ًرا على ال�صمود‪ .‬تتاىل �صوت‬
‫‪308‬‬
‫�إنذار ب�شكل منتظم ومتكرر من جهاز القلب الذي يجاوره يدل على‬
‫ا�ضطراب حدث بدقات قلبه‪ ،‬ثبت ال�صوت على وترية واحدة بعد �أن‬
‫ا�ستقام خط نب�ضات القلب عن تعرجاته‪ ،‬وفارقت روحه ج�سده بفعل‬
‫�صدمة �أتته من حيث مل يحت�سب ‪.‬‬
‫•••‬
‫بعد �ستة �أ�شهر‪..‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫جل�ست فريدة بجوار �أجمد وليلى بحديقة البيت الذي تربى فيه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫�أجمد بعد �أن هُ جر �سنوات طويلة‪ ،‬وقررت الرجوع �إليه للعي�ش فيه‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫برفقة والديها بعدما �أُخرج جميع القابعني ب�سجن الزوال وهُ دم‬
‫ليت�ساوى بالأر�ض‪ .‬تناولت قطعتَي كعك وناولت كل واحد منهما قطعة‬
‫قالت وهي تبت�سم لهما‪:‬‬
‫وبد�آ ب�أكلها وهما ينظران �إليها برتدد‪ْ .‬‬
‫‪� -‬أنا ابنتكما‪ ،‬ا�سمي فريدة و�أحبكما كث ًريا‪.‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫�أ�شارت �إىل �سارة وه�شام اجلال�سني �أمامهم و� ْ‬
‫‪ -‬وهذان �صديقان لكما‪� ،‬سارة وه�شام‪.‬‬
‫هزا ر�أ�سيهما و�أكمال �أكل قطع الكعك‪ ،‬وكذلك فعل ه�شام بعد �أن‬
‫عرفته �سارة بنف�سها و�أعطته قطعة كعك هي الأخرى‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫قامت فريدة للداخل لإح�ضار الع�صائر وتبعتها �سارة‪ ،‬نظرتا‬
‫�إليهم من �شباك يطل على احلديقة تت�أمالنهم وهم ينظرون �إىل‬
‫بع�ضهم ب�صمت ويحدقون بكل �شيء حولهم‪ .‬قالت �سارة‪:‬‬
‫‪� -‬أتعلمني؟ على الرغم من �سعادتي برجوع ذاكرة �أهل البالد‬
‫�إليهم مرة �أخرى والق�ضاء على املجل�س وزبانيته‪ ،‬و�إخراج‬
‫الكتب ورجوع املكتبات وانفتاحنا على العامل من جديد‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�إرجاع �سلطة القرار بيد كل �شخ�ص بهذه املدينة وا�سرتداد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫حريته‪ ،‬ف�إن �أكرث من يحزنني هم �ضحايا �سجن الزوال‪ ،‬ه�شام‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أبوك و�أمك وكثريون غريهم‪ ،‬فبعد انتزاع مركز الذاكرة من‬ ‫و� ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عقولهم نهائ ًيا ال �أمل يف رجوع ذاكراتهم مرة �أخرى‪.‬‬
‫تنهدت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫قالت فريدة بعد �أن‬
‫‪ -‬ال يهم‪ ،‬املهم �أنهم معنا الآن وبجوارنا‪ ،‬نتمتع بر�ؤيتهم ونحتمي‬
‫بدفئهم‪ ،‬ابت�سامة �أبي و�أمي يل كل يوم قبل خلودهما للنوم‬
‫ت�ساوي حياتي‪� .‬أتعلمني؟ على الرغم من فقدهما لذاكرتيهما‬
‫ف�إنني �أ�شعر بتوا�صل �أرواحنا‪� .‬أنا على ا�ستعداد لأن �أحتمل‬
‫�إرهاق تعريف نف�سي �إليهم يف كل دقيقة مقابل �أن �أظل �أ�شعر‬
‫بهذا التوا�صل‪ ،‬ال �أريد منهما �شي ًئا �سوى �أن يظال بجواري‪،‬‬
‫فمجرد وجودهما مينحني �أما ًنا مل �أكن لأقدره حق قدره �إال‬
‫بعد �أن �شعرت مبرارة فقده طيلة عمري‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫ابت�سمت �سارة لفريدة وربتت على كتفها‪ ،‬تناولتا الع�صائر واجتهتا‬
‫ْ‬
‫أفرغت فريدة علبة ع�صري بكوبني وناولتهما لأجمد وليلى‬‫خارجا‪ْ � ،‬‬
‫ً‬
‫وهي تقول با�سمة‪:‬‬
‫‪� -‬أنا ابنتكما‪ ،‬ا�سمي فريدة و�أحبكما كث ًريا‪.‬‬

‫(متت)‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪311‬‬

You might also like