Professional Documents
Culture Documents
W
واية
ر
األسيف
a
يا�سمني قنديل
لمزيد من الكتب الحرصية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
إهداء
رواي� ش
ت ُ
تمنيت أن ظ
ب�ف قراءته ،ولم تنله، ي تح� إىل من
أ�
إىل ب ي
اشتاقت إليك األشياء ،واشتاقت إليك الحياة،
«�إليك... /
ريص ع
لقد كنتُ كاذبة عندما ادعيتُ عدم معرفة �صاحب ال�صوت و�أنا
والتوز عي
�أنك موجود بداخلي مل ترتكني يو ًما ،و�أن قوة نرباتك هزمتني،
وعدم �س�ؤالك عن �أحوايل ك�سرين ،و�أنني يف كل مرة توهمتُ �أنني
ن�سيتك كنت �أتذكرك �أكرث ،و�أنك داء ال عالج منه �سوى رحمة من
اهلل جتود على قلبي بن�سيانك».
•••
كمدرج فريونا الروماين((( ترا�صت املقاعد بانتظام داخل قاعة
م�ستطيلة ال�شكل ،احتلت املقاعد ذات الأقم�شة احلمراء املخملية
ال�صفوف الأوىل بوافر من الفخامة ،حتمل عنوا ًنا �ضمن ًيا على الفتة
وهمية ُكتب عليها« :لل�شخ�صيات املهمة فقط» ،يف ما ا�سترت �سائر
املقاعد بنوعية من اجللد الرخي�ص ُتنبئ مبكانة من �سيجل�س عليها.
(((يقع مدرج فريونا مبدينة فريونا اإليطالية ،وقد أُنشئ يف العصور الرومانية األوىل ،وكانت
تقام به الحفالت الشعرية واملوسيقية ومصارعات الثريان واأللعاب الرومانية.
9
�أثبتت م�صابيح القاعة وجودها ب�إ�ضاءة قوية �أبرزت تفا�صيل
املكان ،انفتحت الأبواب ،وبد�أت اجلموع بالتدفق ،وان�ضمت �إىل
املقاعد اخللفية �أفواج من ذوي الأعمار الع�شرينية املت�أججة بروح
ال�شباب ،طلبة وحديثي تخرج مل�ؤوا القاعة عن �آخرها� ،أج�ساد
هزيلة ،مالب�س متوا�ضعة� ،أعني ملعت بربيق احلما�س املنبثق من قلوب
م�شتاقة �إىل اال�ستماع.
كخ ُ�شب
دلف كبار الزوار بت� ٍأن خلق لهم هالة من احلزم ،ا�ستقروا ُ
ص ع
م�س َّندة بع�ضهم بجانب بع�ض يف ال�صفوف الأوىل متخذين من التجهم
والتوزي ر
ع
تعالت الهمهمات والأحاديث املتبادلة وجتمعت حتى �صارت كطنني
النحل� ،أ�سكتتها دقات �إ�صبع متتالية على ميكروفون بحجم حبة
الزيتون ملتحدث يقف على من�صة امل�سرح ،وبد�أ حديثه ب�صوت حيوي
بعد ت�أكده من ا�ستقرار الطري على ر�ؤو�سهم:
� -أرحب بهذا اجلمع الطيب من كبار الزوار وال�شخ�صيات
املهمة ،وب�شبابنا اليافع حلم امل�ستقبل ،وي�شرفني �أن �أقدم
قامة علمية جليلة ح�صدت كث ًريا من اجلوائز يف جمال طب
املخ والأع�صاب لهذا العام� ،أدعوكم لرتحبوا معي بالدكتور
عبد القادر �سند.
�ضجت القاعة بالت�صفيق احلاد الذي تردد �صداه يف �أنحائها
ب�ضعف وقعه.
فظهر ِ
10
برز بعينني زرقاوين حادتني ،و�صلعة عك�ست ملعة ال�ضوء �إال من
بع�ض ال�شعريات يف املنت�صف مت�سكت بحقها ال�شرعي يف الأر�ض،
و�أبت االن�ضمام لأي من اجلانبني اللذين اختلط �سوادهما ببع�ض
ال�شعريات البي�ضاء حديثة الظهور ،ببذلة رمادية فقدت بريقها الأول
من تكرار ارتدائها ،وقمي�ص �أبي�ض حترر من رابطة العنق ،ا�ستقر
�أمام امليكرفون بثبات من اعتاد الأمر ،و�شرع يف حديثه متجاو ًزا
ووجهها للح�ضور ً
قائل: التحية بعد �أن �أخرج حبة بي�ضاء من جيبه َّ
ع
-وف ًقا لدرا�سات �أجريت عن مدى ت�أثري هذا العقار� ،أظهرت
(((أول تجربة أجريت ملدى فاعلية الدواء الوهمي كانت يف القرن الثامن عرش.
11
الح من منت�صف القاعة بتحية هتلر ف�سمح له الدكتور عبد القادر
ب�إمياءة من ر�أ�سه:
-لكن �أ�ستاذي الفا�ضل� ،أال يندرج هذا حتت خداع املري�ض؟
-هل وقعت يف حب فتاة من قبل؟
بوغت ال�سائل ب�س�ؤال الدكتور عبد القادر ،فقال ب�شيء من
االرتباك:
ع
كانت نتائجه يف الأمرا�ض النف�سية �أف�ضل بكثري و�أطول زم ًنا.
والتوز عي
-املخ يحتوي على مئة مليار خلية ع�صبية� ،إن و�صلنا �إىل هذا
احلد يف التمكن من ا�ستغالل العقل ليوحي للج�سم ب�أنه يف
طريقه لل�شفاء ،فما املانع من املوا�صلة وحماولة التطوير؟ ما
املانع من التحدي؟ �أن نتحدى العقل ،ن�ستفزه ون�ستثريه لريينا
�أف�ضل ما عنده ،هل هذه القدرات التي ُيظهرها لنا هي �أق�صى
قدراته؟ �أم �أنه يحوي كث ًريا وكث ًريا مما ال نعلمه؟ �إن العقل ما
يوما بعد يوم �أنه
زال يبهرنا بقدرته على املزيد ،ويثبت لنا ً
كنز قابع داخل �إن�سان ال يعلم عنه �سوى �أنه خمزن ُيح�شى
باملعلومات نهاية كل عام ليجتاز �سنته الدرا�سية.
انت�شرت �أمارات التفكري على وجوه اجلال�سني ،ف�أراد طرق احلديد
وهو �ساخن ،ف�أكمل بابت�سامة حتمل بني طياتها �شي ًئا من اخلبث:
13
-و�س�ؤال �أخري �أود طرحه عليكم ،وليكن احللوى التي �ستتناولونها
الليلة بعد وجبة الع�شاء :هل �أنت من تتحكم بعقلك؟ �أم �أن
عقلك هو الذي يتحكم بك؟
•••
14
()١
()M. I. P
ص ع
�صداع بعمر �ألف عام ا�ستقر بر�أ�سي� ،أ�شعر به وهو يجتاح تعرجات
ر ش
والتوز عي
نب�ض م�ستمر علىفيها مطرقة القا�ضي التي ال تكف عن الطرقٌ ،
جانبي جبهتي ،عط�ش �سبع �سنني عجاف ا�ستقر بحلقي ،ممددًا على
جي�شا من النمل احتل ج�سدي ،جبالن �سرير ال �أ�ستطيع احلراك ،ك�أن ً
ا�ستغرقت من الوقت كي �أزيحهما ُ عيني ،ال �أعلم كم
ا�ستقرا فوق َّ
عيني رويدً ا رويدً ا� ،آملني ال�ضوء
ببطء عن �أطراف �أجفاين ،فتحت َّ
الأبي�ض القوي املنبعث من امل�صباح املعلق فوقي مبا�شر ًة .كل �شيء
�ضبابي ومبهم.
بعيني ببطء دورتني عك�س بع�ضهما لأ�ستك�شف ما حويل ،مل درت َّ
�أ َر �شي ًئا يرد الب�صر ،كل ما حويل �سواد بعيد عن دائرة م�صباحي،
التقطت �أذين �صو ًتا بعيدً ا مل �أتبني كلماته ،و�ضع اجلهد �أثقاله على
كاهلي �أكرث فلم �أ�ستطع املقاومة� ،سكن كل �شيء وا�ستلبني النوم.
•••
15
�-أنت� ،أنت ،ا�ستيقظ.
كان ا�ستيقاظي هذه املرة �أف�ضل ،ال�صداع �أخف وط�أة ،وال�صوت
�أقرب� ،صوت �أنثوي ،فتحت عيني وقد انق�شعت ال�سحب عن ر�ؤيتي،
وحلقي ما زال على حاله ،حتاملت لأجل�س بعد �إح�سا�سي بتحرر
و�ضوحا ،غرفة
ً ج�سدي من �سطوة التنميل ،فر�أيت املكان ب�شكل �أكرث
متو�سطة االت�ساع ،قليلة التفا�صيل ،حوائطها رمادية مو�شومة ببقع
بي�ضاء رخوة ،خالية من النوافذ �إال من فتحة مربعة عالية �ضلعها
ع
�سريري حتمل �شا�شات بها �أرقام وخطوط متعرجةُ ،ت�صدر �صو ًتا
منخف�ضا ب�إيقاع منتظم ،متد �أطرافها الرفيعة �إىل مع�صمي و�إىلً
�صدري ب�أقطاب دائرية تت�شبث بجلدي ،الن�صف العلوي من ج�سدي
عارٍ ،والن�صف ال�سفلي احتواه بنطال �أ�سود ،و�أنا...
�أنا؟
�شعرت بازدياد وترية ال�صداع فج�أة و�أنا �أحاول التذكر! �أغم�ضت
عيني وحاولت الرتكيز ،لكن ال �شيء! عقلي ورقة بي�ضاء� ،أنظر �إليها
علي ويك�شف عن مكنوناته مرا ًرا وتكرا ًرا لعل حربها ال�سري ي�شفق َّ
فج�أة ،لكن دون جدوى ،ال �شيء يخرجه عقلي ويتلقفه قلبي لأطمئن.
رفعت ب�صري فوجدتُ �صاحبة ال�صوت الذي �أيقظني من غياهب
النوم ،طوت الأر�ض حتتها بخطوات �سريعة ذها ًبا و�إيا ًبا مرات عدة
16
طرق غارق يف التفكري ،وب�صوت م�سموع مييل �إىل الهم�س بر�أ�س ُم ِ
حدثت نف�سها:
ْ
-ملاذا؟ ملاذا ُف�صلت عن البقية؟ من امل�ؤكد �أن بك �أم ًرا ما
خمتل ًفا.
كعجوز مل يبقَ له من احلياة �إال رمق خرج �صوتي من �أعماق جويف:
� -أ�شعر بالعط�ش.
ص ع
التفتت �إ َّ
ري
يل ك�أنها تذكرت وجودي فج�أة ،اقرتبت من �سريري
قما�شيةعكانت
اكفهر وجهها ،تنهدت وهي ت�ستل قارورة من وال
حقيبةتوزي
�«-أ�شعر بالعط�ش» .كررتها ثاني ًة.
ريص ع
ا�سم� :أجمد.
ل
�« -أنت عينة �ضمن حقل جتارب ب�شرية تخ�ضع لتطبيق
ا ري ص ع
ب
جانبي ،لفل�أكملت وهي مط�أطئة الر�أ�س:
ن ت ك
جتربة.))Memories Implantation Project, (MIP(:
19
()٢
(مرشوع زراعة الذكريات)
ل
�شامل
ع
�سرد تفا�صيلها! رغم �أنها مل حتدث على الإطالق ،ا�ستطاعت
ب�صورة واحدة فقط زرع ذكرى يف عقولهم ،و�إثارة �شجونهم
وعواطفهم نحوها.
ا
هذال ال ري ص ع
ت ك
أكملت بنف�س احلما�سة:
�صمتت برهة ،ثم � ْ
ْ
ع
ذنبهم �أنهم ن�ش�ؤوا بني �أم و�أب غري م�ؤهلني لهذه الوظيفة،
ع
�إال بال�شكليات ف ُيطعنون يوم ًيا لأي �سبب بتعليقات �سخيفة
جتعلهم مر�ضى نف�سيني ،وي�صابون باالكتئاب ،ثم ينتحرون.
با�ستهجان قاطعتُها:
-من �أنتم؟ ومن �أعطاكم هذا احلق؟ من �أعطاكم حق العبث
ب�أدمغة النا�س وعقولهم وذكرياتهم؟ ب�ضغطة زر تزرعون
ذاكرة ،وب�ضغطة زر متحونها؟ �أي عبث هذا؟.
أجابت حازمة:
� ْ
-نحن الأطباء النف�سيون ،نتعرف �إىل �آالف املر�ضى �ضحايا
حليواتهم ال�سابقة ،ي�صارعون م�شاكلهم كل ليلة ،يهزمونها
مرة وت�سحقهم مرات ،وال �أمل يف النجاة �سوى الق�شة التي
يتعلقون بها ويرونها الأمان بالن�سبة �إليهم ،وهي نحن.
24
-يبدو �أنه ال فائدة من هذه املناق�شة ،ف�إنها لن تغري من احلقائق
�شي ًئا ،ولكنني �إىل الآن ال �أعرف ما عالقتي �أنا بكل هذا؟.
تاهت عيناها ك�أنها ت�سرتجع �أحدا ًثا ما ،روت حلقها بر�شفات مياه
ْ
�سريعة انحدرت من قارورة تناولتها من حقيبتها ب�شيء من االرتباك،
أكملت ب�صوت تبدلت احلما�سة فيه بخيبة الأمل: و� ْ
-كان كل �شيء ي�سري على ما يرام ،كنت �أنا الطبيبة الأ�صغر
يف هذا امل�شروع ب�سبب �أبحاثي الكثرية التي �أجريتها على
ص ع
الذاكرة ،وكان جميع الأطباء امل�شاركني يرون يف �أبحاثي
ر ش
والتوز عي
العمل ب�شكل �سري ،و�أخربوين �أننا يجب �أن نرتقي بتجاربنا ما
دامت �آمنة ،و�أنه ال ب�أ�س من....
�صمتت ،وح َّكت جبهتها وهي عاب�سة ،و�أكملت ب�صوت ي�شوبه
احلزن:
-ال ب�أ�س من �إجراء التجارب الب�شرية يف اخلفاء دون علم
معامل التجريب الدولية ،يف م�صحات خا�صة بنا .فتحنا باب
التطوع مقابل كثري من الأموال ،لكن مل يتقدم �أحد ،فمن
الذي �سيجازف بو�ضع عقله حتت التجربة؟ ما دفع الأطباء
النف�سيني امل�شاركني يف هذا التنظيم ال�سري �إىل ا�ستخدام
مر�ضاهم دون علمهم.
كمحكوم عليه بالإعدام رم ًيا بالب�صاق يحاول �أن ينجو ،وقبل �أن
أردفت م�سرعة:
�أنفذ عليها احلد بكلماتي �أو رمبا بب�صاقي � ْ
25
�-أوهموين �أن هذا يف م�صلحة املر�ضى� ،أقنعوين �أنني بهذا �أقدم
لهم خدمة جليلة �سي�شكرونني عليها الح ًقا.
-ثم؟.
-ثم الحظت �أن الأمر قد �أخذ اجتاهً ا �آخر ،بعد �إجراء التجربة
على عدد من املر�ضى وجناحها بد� ْأت امل�صحات يف االت�ساع:
�سراديب ُمهزة ُتفر حتت الأر�ض ال يعلم �أحد عنها �شي ًئا،
�أموال كثرية بد�أت يف التدفق� ،أ�صبح عدد النا�س �أكرب و�أكرب،
ص ع
مرتا�صني جن ًبا �إىل جنبُ ،يزرع كثري وكثري من الذكريات لهم،
والتوزي ر
تدفعهم �إىل اجتاهات حمددة ي�سلكونها ،بد�أت �أفهم الأمر،
ع
تطبيق التجربة خرج عن حيز املر�ضى النف�سيني وعالجهم
�إىل �أنا�س طبيعيني ُتزرع ذكرى مفعمة بالدوبامني((( داخل
عقولهم مرتبطة بتناول �أو ارتداء منتج ما ،فيقبلون عليه
�أكرث عند خروجهم ،وتكرث املبيعات .كانت ال�شركات ت�صرف
مبالغ طائلة على الإعالنات التليفزيونية ،فاختُزلت �إىل مبالغ
�أقل يف جيوب الأطباء� .شعرتُ بالذنب لأن الأمر حتول عن
م�ساره و�أ�صبح ُي�ستغل جتار ًيا ب�شكل �سيئ ،وامتد الأمر يف
ما بعد �إىل تغيري املعتقدات والأفكار وزرع اجتاهات بعينها،
فان�سحبت دون �إبالغ �أحد ،وكنت على علم ب�أنني بان�سحابي
ُ
هذا �أعر�ض نف�سي خلطر بالغ ،ف�أنا �أحمل �س ًرا كب ًريا لو ُك�شف
�ستُفتح النار على اجلميع .فكرت يف �شيء مينحني �شي ًئا من
((( الهرمون املسؤول عن اإلحساس بالسعادة.
26
الأمان ،فتذكرت �أن جميع عمليات زرع الذكريات ُ�سجلت ،وال
يعلم بهذا الأمر �إال عدد حمدود جدً ا من الأطباء� ،أنا واحدة
منهم ،فقررت االحتفاظ بهذه الت�سجيالت ملقاي�ضة ت�أمني
حياتي بها ،واملفرت�ض �أنها كانت هنا يف هذا املكان ،لكنني مل
�أجدها! ووجدتك �أنت.
�ألقتني بكالمها يف غيابت جب ال قرار له تاهت عنه ال�سيارة،
و�أخذين التفكري عنوة �إىل �أعماقه.
ريص ع
ترى من �أكون؟ هل �أنا مري�ض نف�سي كان مي�شي على حافة االكتئاب
والتوز عي
يحاولون �إقناعه ب�شرب هذا امل�شروب الأخ�ضر اللزج العفن على �أنه
ال�سل�سبيل؟ هل كنت ح ًرا ويزرعون داخلي اخلنوع؟ �أم عبدً ا �أرادوا له
احلرية؟ هل كنت م�ؤم ًنا و�أرادوا �إحلادي؟ �أم فاج ًرا و�أرادوا �إمياين؟
انت�شلتني من ملكوت تفكريي ب�س�ؤالها:
-ولكن �أكرث ما يحريين :ملاذا ُف�صلت عن البقية؟ وملاذا فقدتَ
ذاكرتك؟ التجربة �آمنة وال يوجد يف �أعرا�ضها اجلانبية
فقدان الذاكرة .بالت�أكيد حالتك بها �شيء ما خمتلف دفعهم
�إىل هذا� ،أال تتذكر �أي �شيء؟.
�أ�شرت بر�أ�سي �أن :ال.
زفرت بقوة وتابعت:
ْ
27
-للأ�سف مل �أجد بغيتي ،ولن �أ�ستطيع اخلروج ،فقد ر�شوت
الأمن لي�سمح يل بالدخول ملدة ن�صف �ساعة قبل �أن ي�أتي
زميله وي�ستلم دوريته ،ظننت �أنني �س�أدخل �سري ًعا و�أح�صل
على ما �أريد ،ف�أنا �أعرف هذا املكان جيدً ا.
نظرت �إىل �ساعتها و�أكملت:
-لكن داهمني الوقت ،ويجب �أن �أنتظر حتى ال�صباح ،حتى
ع
تتغري الأدوار ويعود ال�شخ�ص الذي �أدخلني ،و�أ�ستطيع �أن
والت
-عملنا بجد ليخرج هذا العقار ب�شكل خمتلفوزي ً
متاماع عن
اتهامي: دفعت عن نف�سها
أردفت بعد �أن ْ
� ْ
ر ش
والتوزي
-وما فائدة �أن �أ�ستدعي ذكريات ال �أدري �إذا كانت هي ذكرياتي
ع
احلقيقية �أم �أنها قد ُزرعت داخل عقلي �ضمن جتاربكم؟.
�أ�شارت �إىل �أحد الأجهزة املال�صقة ل�سريري وقالت:
-عن طريق هذا اجلهاز ميكنني �أن �أ�صحبك �إىل الذكريات
التي �ستذهب �إليها ،لأخربك �إذا كانت ذكرى حقيقية �أو
ذكرى مزروعة ،ف�أنا �أ�ستطيع التفريق بينهما.
بك
لك بالذهاب �إىل ذكرياتي اخلا�صة و�أنا ال �أثق ِ
-كيف �أ�سمح ِ
على الإطالق؟ ثم ما ال�ضامن �أن تكوين �صادقة معي؟.
-ال �ضمانة عندي �أ�ستطيع تقدميها لك ،لكن على الأقل �إحدى
الذاكرتني �-إن مل تكن كالهما� -ستكون حقيقية ،و�س�أخربك
متتال،
بهذا ،لأن العقار ال يجلب ذاكرتني مزروعتني ب�شكل ٍ
وعلى �أي حال لي�س لديك ما تخ�سره.
30
بدا كالمها منطق ًيا� ،أنا بالفعل فاقد لكل �شيء ،فماذا �س�أفقد
�أكرث؟ لن �أخ�سر �شي ًئا من خو�ض التجربة.
فاجتهت �صوب الأجهزة املال�صقة ل�سريري،
ْ �أخربتها مبوافقتي،
وتناولت �أ�سال ًكا تنتهي ب�أقطاب دائرية من �أحد الأجهزة ،وهي تقول:
-هذا اجلهاز يو�صل الإ�شارات الكهربية ال�صادرة عن اخلاليا
الع�صبية باملخ بني �شخ�صني �أو �أكرث ،ف ُي َم ِّكن الأ�شخا�ص
املت�صلني بالأقطاب احلمراء من ر�ؤية ما يدور يف مخ ال�شخ�ص
32
()٣
(الذكرى األوىل )
ع والتوزي
-هذه الرائحة الرائعة� ،أعرفها جيدً ا ،رائحة الالفندر� ،أال
ت�شمينها؟.
�أجابت بعدما حاولت اال�ستن�شاق عدة مرات:
-ال.
م�شت خطوات يف العدم وهي حتك ذقنها و�أردفت:
ْ
-ولكن حلظة ،اجلزء امل�س�ؤول يف املخ عن حتليل الروائح يقع
بجوار مركز الذاكرة �أو احل�صني((( ،وهو املتعلق بتخزين
الذكريات طويلة املدى ،وبنف�س الوقت هذا اجلزء يت�صل
ً
ات�صال مبا�ش ًرا مبركز امل�شاعر يف �أدمغتنا ،وهذا يف�سر ملاذا
ً
ارتباطا وثي ًقا بالروائح. ترتبط الذكريات
(((ويسمى أيضً ا (قرن آمون).
34
�ضيقت عينيها و�س�ألتني:
-مباذا ت�شعر الآن و�أنت ت�ستن�شقها؟.
ً
متوغل يف عبقها �أكرث �أجبت: مغم�ض العينني
-راحة� ،سكينة� ،أمان ،حب.
ع
ب�إ�شارة من �سبابتها جتاهي قائلة:
و
كانزيمنها �إال ت ل ا و ر ش � -أحبها و�أعتز بها؟ ُترى ما هي؟.
ع
متاما يف احلائط� ،أغلق نف�سه بنف�سه ،و�سكن كل �شيء بعدها، له ً
والتوزي ر
ل�سانها بالكاد �أن ُيخرج حروف كلمة:
ريص ع
خارجا ،ونظرت مينة وي�سرة ،ثم رجعت �إىل اخللف قائلة:
ً
ر ش
والتوز عي
الذكرى وال نتحرك.
�ضحكات بريئة �أتت من اخلارج ،بد� ْأت يف االزدياد حتى جتلى
ري يدخل جر ًيا �إىل الغرفة هار ًبا من مالحقة م�صدرها ،طف ٌل �صغ ٌ
�أحدهم له ،يحت�ضن علبة ُمغلفة بورق هدايا مميز ،اختب�أ حتت
الطاولة مبا�شر ًة باعتياد يو�ضح �أنه ا�ستخدم هذا املكان عدة مرات
�سابقة لنف�س ال�سبب .كتم �ضحكاته عندما بد�أ وقع �أقدام باالقرتاب،
وقفت على باب الغرفة تتفح�صها بعينيها عاقدة يديها �أمامها، ْ
ألت مداعبة:اكتملت فيها �أركان الأناقة فبدت رائعة� ،س� ْ
� -أين �أنت؟.
�ضحكات مكتومة ت�سربت �إىل �أذنيها ،فابت�سمت ،وجلت �إىل الغرفة
متاما ،بنربة
بخطوات بطيئة حتى ا�ستقرت عند مكان اختفاء الطفل ً
مت�صنعة �أكملت:
37
ُ -ترى �أين ذهب؟ �أين ذهب؟.
جثت على ركبتيها فج�أة:
-وجدتك.
عاب�سا يحمل وجهه عالمات خيبة الأمل والغ�ضب:
خرج ً
-جتدينني يف كل مرة.
ص ع
« -لأنك تختبئ يف نف�س املكان كل مرة» ،قالتها �ضاحكة ،ثم
ع
انفرجت �أ�ساريره وهو يتوغل يف �ضمتها �أكرث:
-و�أنا � ً
أي�ضا.
-و�أنت � ً
أي�ضا ماذا؟.
-و�أنا � ً
أي�ضا �أحبك.
-نعم ،هذه هي الإجابة ال�صحيحة ،ال تقلها �أبدً ا مبتورة ،كلمة
أي�ضا» فقط.«�أحبك» ت�ستحق ت�أكيدً ا �أكرث من «و�أنا � ً
�أوم�أ لها بر�أ�سه طاع ًة ،وبحركة طفولية �أحدث ا�ضطرا ًبا بتدخل
يده لفتح قالدة كانت ترقد على عنقها ب�سالم .قال يف دالل وهو ي�شري
�إىل �أ�شخا�ص يف �صورة ا�ستقرت بداخلها:
38
أنت.
� -أنا و� ِ
-نعم� ،أنا و�أنت� ،إىل الأبد.
�أغلقتها وهي تقول:
-هيا ،اذهب �إىل �أ�صدقائك وادعهم �إىل هنا لنحتفل.
قفز من بني يديها متج ًها �إىل اخلارج وهي تراقبه بود ،تابعت
ب�صوت �أعلى:
ر ش
ابت�سمتويلالثم ولت خارجة.
و ت
زيع
توقفت� ،أطرقت ر�أ�سها
ْ لكنها بالتحرك، وهمت
ْ مكانها نه�ضت من
ْ برهة ،ثم التفتت جتاهي ،فتالقت �أعيننا،
أ�صابت ج�سدي ،وحنني ُموجع ا�ستباح قلبي دون خ�شية رادع
رع�شة � ْ
له� ،أر�سل �أوامره �إىل �أجفاين فامتلأت بدموع جتمعت على حافتها ال
وا�ضحا لإطالقها ف�آثرت البقاء مكانها.
ً جتد ً
م�سوغا
�شعرنا باهتزاز ي�سري حولنا ،بد�أ ي�شتد �شي ًئا ف�شي ًئا ،انحدرت
الأطباق من على الطاولة لكنها مل ت�سقط ،بل تبخرت يف الهواء
كدخان ،ثم اختفت يف حلظة ،توالت متعلقات الغرفة يف التبخر كما
ظهرت ،ك�أن الزمن يعود للوراء� ،صوت تبخر الأ�شياء كان ي�شبه �صوت
رفعت مي�سون
انفجار �صغري يعلو كلما كان ما �سيختفي �أكرب حج ًماْ .
�صوتها و�سط ال�ضجة احلادثة قائلة:
39
-يبدو �أن وقت الذكرى قد انتهى� ،سرنجع الآن �إىل حيث كنا،
�أراك هناك.
حلظات كان قد اختفى خاللها كل �شيء ،ومل يبقَ �سوانا� ،شعرت
بت�سارع نب�ضات قلبي و�ضيق النف�س يف �صدري ،ك�أن ً
وح�شا يحتجزين
بني براثنه ويحكم قب�ضته حويل ببطء� ،أرعبني م�شهد قدمي عندما
ر�أيتها تتبخر ،يبدو �أن عقلي �سيعاملني نف�س املعاملة ،عقلي عادل
إح�سا�سا
�أكرث من الالزم ،ال يعطيني �أي ميزة كوين �صاحبه .كان � ً
ص ع
ُمفج ًعا �أن �أرى ج�سدي يتبخر �أمام عيني �شي ًئا ف�شي ًئا وال حيلة بيدي
ع
مرت دقائق كالدهر ،ا�ستطعت بعدها حتريك �أناملي والتقاط
ع
الهدية بجانبي وهو يحاول �إيقاظي ،لكن �أمي ظهرت فج�أة،
نهرته ،و�سحبته للخارج ،و�أغلقت الباب� .صوت �شجارهما
يل من وراء الباب ،كان �صوتها غا�ض ًبا حزي ًنا ،تتهم ت�سلل �إ َّ
�أبي بالتق�صري ،وكيف �أنها كانت ت�شعر باخلجل �أمام اجلميع
و�أمامي لغيابه ،م�سرت�سلة يف حديثها دون �سماع �أ�سبابه ،ك�أن
داخلها نا ًرا تريد نفث لهيبها لتهد�أ ،و ،...و...
-وماذا؟.
-ال �أتذكر.
با�ستنكار �س�ألت:
-ال تتذكر �أي �شيء �آخر؟.
42
قبل �أن �أجيبها حاولت الرتكيز �أكرث و�أنا �أحك جبهتي لتذكر بقية
تلك الليلة ،لكن توقف عقلي عند هذا احلد ،ال �أتذكر �أي �شيء تال
هذا املوقف ،عدتُ �إليها خائب اليدين ِ�صف ًرا� ،أُجيب بر� ٍأ�س ناف ًيا،
خرج �صوتها ً
حمبطا �إثر �إجابتي:
-مل ن�ستفد من هذه املرة كث ًريا.
أردفت بنربة ممزوجة بالندم على عر�ض �سابق قدمته وم�سحة
� ْ
من التهديد قائلة:
ص ع
قبل �أن �أكمل قاطعتني:
ش
أرجواينربالتدفق �إىل �أوردتنا، نحقنت الأنبوب بالعقار ،وبد�أ ال�سائل الل
والتوز عي
مقاطعتها ،فواريته ب�إمياءة من ر�أ�سي مواف ًقا، من �شعرتُ بالإحراج
قالت ب�صرامة:
-حاول الرتكيز هذه املرة.
�شرعت �سطوة ت�أثريه
ْ ا�ستقر ال�سائل ب�أكمله داخل دمائي بارتياح،
باالنت�شار بني جنباتي ،تخبطت الر�ؤية ،وارتبكت الأ�شياء �أمامي،
وبد� ْأت باالختفاء داخل غياهب الظلمة ،فقد ج�سدي الإح�سا�س،
و�أخذين الو�سن.
•••
44
()٤
(الذكرى الثانية)
ص ع
�ضجيجه ،يبتلع �أذاه موجات الهواء قادم من بعيد ،يخم�ش �أذ َّ
ين
ري
ُ
ع والتوزي
طوعا لرغبة غيم �أبى �أن
مرت دقيقة �صبت فيها الوطفاء �ش�آبيبها ً
يرحل �إال بعد �أن يثبت ح�ضوره بقوة.
« -ال بد �أن نتحرك» .قالتها مي�سون �آمرة.
ان�صعت لها رغ ًما عني ،فلي�س لدي ما �أدافع به عن رغبتي املُلحة
ُ
يف البقاء ،وقبل �أن نتحرك ظهر من بعيد بهيكله املعدين ال�ضخم
ف�ضي اللون ،يطغى ب�صفريه على �صوت قطرات مطر وقعها كال�سهام.
همت مي�سون باحلركة قبل �أن يعوقها تقدمه ،ف�أوقفتها:
ْ
-انتظري� ،أنا على منت هذا القطار.
ثبتتها جملتي يف الأر�ض ،وظلت تنظر �إليه برتقب ،بد�أ القطار
يف �شد جلامه بقوة ،ف�صدر �صفري مميز نتيجة احتكاك �إطاراته
ب�شري �إىل الر�صيف،
انفرجت �أبوابه ،فتدفق نه ٌر ٌ
ْ املعدنية بالق�ضبان،
46
تطلعت فيهم �أحاول �إيجاد نف�سي ،كنت �أ�شعر ببو�صلة داخلي توجهني
ُ
�إىل النظر نحو �أبواب بعينها ،ظهرتُ �أخ ًريا ،ببنطال �أزرق وقمي�ص
�سماوي ي�سترت مبعطف ريا�ضي� ،صرت �أكرب �س ًنا ،وناهزتُ العا�شرة
من العمر.
وذهبت �أناقتها،
ْ ومن تلك املُم�سكة بيدي؟ �أمي! �ض ُع َفت ً
متاما،
ذ ُبلت زهرتها ،وامتُ�ص رحيقها� ،صارت �شاحبة وباهتة ،عيناها
حما�صرتان بدوائر بنية غائرة يف وجهها ،يدور احلزن بني ق�سماتها
ص ع
قا�س .الحظت مي�سون �شخو�ص ب�صري جتاه امر�أة بولدها ب�شكل ٍ
ري
-هل هذا �الأنت؟.كت
فقاطعت ا�سرت�سال ب�صري �سائلة:
ع
عال� ،س�أرف�ض لأن القطار على و�شك الرحيل فتخربين �أنك ال ٍ
ر ش
والتوزي
بعدها للقطار املقابل يف اجلهة الأخرى ،ففيه بغيتنا.
ع
الح اخلوف يف عي َني ابن العا�شرة من كالم �أمه ونربتها اجلادة يف
احلديث� .س�ألتني مي�سون متعجبة:
و�ضعت والدتك تلك اخلطة؟ ممن تهرب؟.
ْ -ملاذا
بعيني �إىل �ضخمي اجلثة:
َّ �أ�شرتُ
-هذين.
-ملاذا؟.
-ال �أعلم.
بد� ْأت �صافرتاهما ت�شقان الأفق ،قطاران مت�ضادان ي�سريان عك�س
همت �أمي بالتحرك جاذب ًة
متاما مبكانهما املعتادْ .
بع�ضهما ،ا�ستقرا ً
�إياي ب�سرع ٍة عجزَ �ضخما اجل�سد عن جماراتها يف البداية ،وانخرطت
48
و�سط اجلموع مبرون ٍة مل ي�ساعدهما حجماهما على م�سايرتها .ارتقينا
�إىل القطار ،وارتقيا كذلك بعد دقائق ،الح من �شفتيها اعوجاج عالمة
ف�شرعت بتنفيذ خطتها كما �أخربتني ،مل ندخل �إىل املرحا�ض، ُ البدء،
وانحنينا حتى وقفنا على �أطراف الباب املفتوح ،وكان القطار قد بد�أ
التحرك ببطء ،وقفت �أمي بباب القطار يت�سلقها الرتدد ،وقبل �أن
أغم�ضت عينيها وقفزت ،ثم �أمرتني بالقفز،ْ ي�ستقر على �أكتافها �
كان يبدو �أنني خائف وم�ضطرب وال �أ�ستطيع الإقدام على اخلطوة،
�أمرتني بالوثوق بها و�أن �أفعلها مغم�ض العينني قبل �أن تزيد �سرعة
ص ع
ا�ستجبت لرغبتها وقفزت ،فتلقفتني بقوة بثت الأمان ُ القطار،
ريص ع
�أم�سكت العجوز بيدها برجاء ك�أنها حتاول �أن تثنيها عن قرار ما،
ع
مكتو ًبا على اللوح املعدين املعلق بال�سرير.
نظرت يف عيني مبا�شر ًة �سائلة:
-هل حتبني؟.
-بالت�أكيد.
متاما� ،أطعها ،وهي
� -إن كنت كذلك ف�أحب اجلدة كوثر مثلي ً
�ستعتني بك جيدً ا.
ا�ستبد القلق مبالمح الطفل ال�صغري ،وقبل �أن ي�ستوعب ما ترمي
�إليه �أمه �أعطت �إ�شارتها للعجوز ،ف�أحكمت ذراعيها حويل بقوة غري
متنا�سبة مع عمرها لكبح جماحي ،و�شرع القطار بعدها يف التحرك،
ودعتني �أمي بنظرة دامعة وغادرت القطار �سري ًعا.
50
ً
حماول التمل�ص عال �صوتي مناد ًيا �إياها راج ًيا �أال ترحل وترتكني،
من ذلك القيد الثقيل الذي ي�شل �أطرايف ،ب�إ�صرار طفل مل تق َو �أذرع
عجوز على مقاومته ا�ستطعت التحرر بعد دقائق ،لكن زادت �سرعة
جريت لنافذة املقعد املوازي لر�ؤية �أمي من خالله ،ومل ُ القطار،
خائف
ب�صوت ٍ ٍ ت�ستطع العجوز مالحقتي بحركتها البطيئة ،فابتدرتني
ينهاين عن النظر ب�إحلاح ،لكن �سبق ال�سيف العزل�ُ ،شل ل�ساين و�أنا
�أرى �أمي راب�ضة على الق�ضبان ال حترك �ساك ًنا ،م�ست�سلم ًة لذلك
القطار الآتي من خلفها ب�سرعة ليث يريد �أن يلتهمها دون رحمة.
بداخلي وابتلع �أي ردة فعل منطقية ميكن �أن �أقوموالبها.توز عي
متاما ،تعملق اخلوف كنت �صغ
ريص ع
انتبهت فج�أة جل�سدي املتبخر ن�صفه ،يبدوُ أرجوك»،
« -ال ،الِ � ،
ق�ض ز
زمنيع ّ ت ل ا و
جمر �صغري �أبقى على لهيب نريان ت�ضرمت فيه منذو
• ••
م�ضجعي ،يتغذى على �أدمي جراحي وقلبي الذي مزقته حرية املجهول
مب�صري معلوم حواه املا�ضي يف جعبته ،و�ضنَّ به عقلي عقا ًبا �أو رمبا
رحم ًة.
ملاذا ن�سعى ملعرفة احلقائق كاملة؟ املعرفة جحيم م�ستعر ترمي
ب�شررها مقد�سات الرباءة التي مل ُن ّلها حق �إجاللها �إال بعد خ�سارتها،
تقيم من رفاتها قالع ن�ضج عمالقة نفتخر بها �أمام اجلميع ،ونختبئ
وراء �أ�سوارها من �أنف�سنا ،ناقمني عليها ،متمنني العودة جلهل رحيم
نحتمي به ،من�سحبني بر�ضا من ميدان معركة احلياة �أمام �صفعات
الوعي القا�سية.
52
بعني �آ�سفة و�ضعت مي�سون القر�ص بجانبي وحتركت مبتعدة هر ًبا
من �شعو ٍر باخلزي �أُحلق بها من قلة احليلة .مرت الدقائق �سري ًعا،
ا�ستطاع فيها ج�سدي بفعل الغ�ضب ا�ستعادة �سطوته بعد ابتالع
انت�صبت واق ًفا حتا�صر نظراتي �سقف الغرفة الرمادي
ُ القر�ص.
الكئيب ً
�سائل �إياها ب�صوت ظاهره الثبات وباطنه الرجاء:
-هل هذه الذكرى حقيقية �أم ُزرعت يف عقلي؟.
�ألقت ب�سكني �صدئ يف �صدري ب�إجابتها:
� -أتفهم حالتك وما متر به ،لكنني �أخربتك بخ�صائ�ص العقار
من قبل ،مدته ع�شر دقائق ،وال يعود للذكرى نف�سها مرة
�أخرى.
أكملت:
�صمتت برهة و� ْ
ْ
-حتى و�إن عدت فما الفائدة؟ لن ت�ستطيع تغيري �شيء.
منطقها الواقعي مل يلقَ ترحي ًبا �أمام عاطفتي و�أملي �أن تكون
�أمي قد �أُنقذت ،لكنه ا�ستطاع �إخماد بركان الغ�ضب بداخلي ً
قليل
رجلي بذراعي نحو �صدري
لواقعيته .تكومت على الأر�ض بقنوط �أ�ضم َّ
53
أمل يف احتواء مكذوب .م�شهد �أمي وهي جتل�س على ق�ضبان القطار � ً
با�ست�سالم ملت�ص ٌق ب�أجفاين ي�أبى الرحيل ،تذكرتُ �إح�سا�سي عند
اخلروج من الذاكرة الأوىل والثانية ،فرق كبري بني ال�شعورين ميتد
انتبهت فج�أة للفرق بينهما،
ُ بات�ساع امل�سافة بني ال�سماء والأر�ض.
أ�سرعت ب�س�ؤال مي�سون:
ُ ف�
-ولكن ملاذا؟ ملاذا تذكرت تفا�صيل الذكرى الأوىل ومل �أتذكر
الثانية البتة؟.
(((متالزمة الذاكرة املكبوتة أثبتها فرويد ،وشكك فيها بعض علامء النفس يف العرص
الحديث.
54
-هذا ال يعني �إثبات حدوث �شيء ما يف الذكرى ال�سابقة ،لكن
موق ًفا كهذا بجميع حيثياته �صادم بالت�أكيد لعقل لطفل �صغري.
وهمت قائمة جتاه حقيبتها� ،أغلقت العلبة الف�ضية
�أنهت جملتهاْ ،
وو�ضعتها بها.
ألت م�ستنك ًرا.
« -ماذا تفعلني؟»� .س� ُ
� -أُدخل العلبة يف احلقيبة.
ص ع
-ح ًقا؟ كان يخفى عني هذا.
ر ش
والتوز عي
احلمقاء:
عاما
� -أعطيتك جرعتني كان يكفيني ثمنهما تكاليف احلياة ً
ً
كامل ،ماذا تريد مني �أكرث من هذا؟.
أنت ماذا �أفعل �أنا! فاقد للذاكرة �إال من ذكرى يوم
� -أخربيني � ِ
ميالدي وذكرى �أمي وهي كافية جلعلي �إن�سا ًنا ً
بائ�سا بقية
حياتي.
أكملت حان ًقا:
� ُ
-وال تن�سي �أن كل ما �أمر به �سببه �أنتم.
قالت غا�ضبة:
-رجا ًء ال تتبع هذا الأ�سلوب معي ،ال�ضغط على وتر ال�ضمري ،ال
جتعلني �أندم على �إخبارك كل �شيء من البداية.
55
رددتها زاج ًرا:
معك �أي �أ�سلوب� ،أنا فقط �أُذ ِّكرك �أن ما �أعي�شه الآن
-ال �أتبع ِ
عدل ،لي�س ً
عدل. لي�س ً
�صمتت برهة ،تبعتها بزفرة ا�ست�سالم ،تناولت العلبة الف�ضية من
ْ
حقيبتها قائلة:
-ح�س ًنا ،لكن احذر :كون عقلك يذهب بنا �إىل هذه املنطقة
ص ع
يف الذاكرة التي ذهب �إليها يف املرة ال�سابقة فهذا �أمر يدعو
ل ل
أنبوبن وحقنته بعد تغيريه .تابعنا بل
ر ش
ح�ض
•••
56
()٥
(قاتل)
ن
ٌ
ر ش
والتوز عي
ت�ضاري�سها بن�صف مالمح وجهي القابعة فيها ،منكف ًئا على بطني،
متتد يداي بجانبي ك�أنني �أُلقيت من الطابق الع�شرين يف ق�ضية
�ستُ�سجل �ضد جمهول� .ضي ٌق تربع داخلي بغري �سبب منطقي ،ف�أنا ما
زلت ببداية الذكرى اجلديدة� ،أو رمبا �أثر الذكرى املن�صرمة مل ينحل
عني بعد .جثم التوتر بثقل �شعوره فوق ج�سدي ،فا�ضطربت �سواكنه
رغم القوة التي يبثها العقار بني جنباته� ،شعور باالختناق ال يتنا�سب
فتحت عيني� ،أحاول الوقوف
مع ما يفعله ب�ساط البحر الأزرق بالروحُ .
وركبتي� ،أتفقد املكان بب�صري ،مل يكن هناك بحر،
َّ يدي
م�ستندً ا �إىل َّ
وتلك الرمال لي�ست ب�شاطئ كما ظننت ،كانت الرمال متتد من حتتي
مكونة �ساحة مربعة ال�شكل حتدها �أجولة مملوءة بالرمال ترقد
م�صباحا ذا �إنارة
ً بع�شوائية ،ينت�صب مع كل زاوية بها عمود يحمل
بي�ضاء قوية ُترهق نظر من يطيل التحديق فيها ،تقبع م�سافة ق�صرية
بني ال�ساحة و�سور �أبي�ض دائري متو�سط االرتفاع ،يتحلق �أنا�س من
57
حوله يف �صفوف متدرجة هجرت مقاعدها �إثر حما�س اندلع بها .كان
املكان يبدو كحلبة م�صارعة �سنغالية افتُتحت �أوىل مبارياتها للتو،
�أ�صوات تز�أر ،ومالمح تزجمر ،ووجوه غا�ضبة لعلة غري معلومة ،ال
تنحل عقد �أل�سنتهم �إال بكلمة واحدة تهز �أرجاء املكان:
-قاتل ،قاتل ،قاتل.
كانت مي�سون تقف ورائي بخطوة وقد �أبكمها الذعر فلم ت�س�أل
�أ�سئلتها املعتادة ،قاب�ض ًة يدها �إىل �صدرها حتملق يف الوجوه الغا�ضبة
ر ش
والتوزي
م�صارعا ،لكن ال�شعور لي�س
ً يوما
ج�سدي العادية ال توحي ب�أنني كنت ً
ع
غري ًبا� ،شعور ال�ضيق والتوتر واخلوف والكره� ،أتذكره جيدً ا .عندما
كنت �صغ ًريا وكان مازن يكربين بعامني وميار�س تنمره باحرتافية
معي ب�إيذائي ج�سد ًيا ولفظ ًيا �أمام �أ�صدقائه ،ال�صندوق الذي يلقي
به بذاءاته وقاذوراته ويحكم غلقه جيدً ا بعد االنتهاء حلني العودة
كنت الكائن ال�صغري الذي يهابه مبجرد ر�ؤيته في�سلك طري ًقا �إليهُ ،
�آخر �سيكلفه عناء تعب قدميه مقابل تفادي �إح�سا�س الهوان ،فيجده
بن�صف الطريق و ُيجرعه �إياه ،يجلدين ب�سياط قمع والديه ومدر�سيه
كنت �أكرهه كث ًريا على
وا�ستهزاء �أقاربه من بدانته لي�ست�شعر قوتهُ .
الرغم من �إجباره يل على قول كلمة «�أحبك» عقب كل �إيذاء ،ولكن
بقي اخلوف بيني وبينه �سو ًرا عال ًيا مل �أمتلك اجلر�أة حلظة لت�سلقه.
قطع ا�سرت�سال ذكرياته القميئة معي ب�إطاللته ذات االبت�سامة
ال�ساخرة املعتادة ومالحمه التي �أتقنت اخل�سة ،يتقدم جتاه احللبة
58
بثقة اكت�سبها من وراء خ�ضوعي الدائم له ليقف قبايل بعني مل �أ َرها
يوما تنظر �إيل �إال ا�ستهتا ًرا ،ك�شف وجوده حتت ال�ضوء عن �شيءٍ ً
غريب وهزيل يف الوقت ذاته ،كان تركيب ج�سده غري متنا�سق ،ر�أ�س
الطفل الذي اعتدت ر�ؤيته لكنه على ج�سد �ضخم مفتول الع�ضالت
قوي البنية يطقطق رقبته ميي ًنا وي�سا ًرا ا�ستعدادًا خلو�ض نزال.
بد�أ الأمر يت�ضح ،يبدو �أنه جاء ليقاتلني ،مل يك ِفه ما فعله بي ونحن
مهل ،ما يحدث الآن من أي�ضا لي�شجعوه .لكن ً
�صغار بل �أتى مبرتزقة � ً
املفرت�ض �أن يكون داخل عقلي ،فلماذا يفعل بي عقلي هذا؟ �أما توجد
ل ب
يجب �لأنن ي�س�أل .من هذا برتكيب ج�سده
ت ك ل
ش
ألت مي�سون غا�ض ًبا.
« -ما الذي يحدث؟» �س� ُ
ريص ع
أردفت:
نظرتُ �إليها بنظرات تتهمها باخلبل ف� ْ
ر ش
والتوزي
ر�أ�سه كما اعتدت ر�ؤيته وج�سده يعك�س حجم خوفك منه .يبدو
ع
�أن اخلوف كبلك لأعوام والآن يريد عقلك �أن تواجهه وتتحرر
منه.
قبل �أن �أفهم �أكرث ما تعنيه بكلماتها� ،أُ�شعل فتيل مازن فتحرك
جتاهي بكامل قوته ،ي�ضرب الأر�ض برجليه فتتناثر الرمال بقوة
ان�سحبت مي�سون م�سرعة خارج احللبة هاربة ،فبالت�أكيد لن
ْ وراءها.
ي�سمح لها عقلي بالوقوف �أمامه معي ،و�إن �سمح فما �أظن �أن تتغري
ردة فعلها .تظاهرتُ بالثبات يف حماولة ال�ستدعاء �شجاعة مل �أظهرها
يوما �أمامه .كان الف�شل حليفي مبجرد اقرتابه مني ،خوف ثقيل �أمد ً
قدمي بالأدرينالني((( ما �ساعدهما على اجلري ب�سرعة مذهلة .ظللت
َّ
�أفر منه حتى �أمتمت عدة دورات حول احللبة دون توقف ،بد�أتُ
�أ�شعر بالتعب وهو ال يتعب ،خطر يل :ملاذا ال �أهرب حتى ينتهي وقت
((( هرمون يُف َرز عند الشعور بالخوف.
60
ً
حماول االند�سا�س بني توجهت �إىل ال�سور الأبي�ض وت�سلقته
ُ العقار؟
كومة الب�شر الذين ال �أعرف منهم �أحدً ا ،لكنهم حملوين فوق �أيديهم
ودفعوا بي جتاه احللبة .متى ت�شرب عقلي بهذا الكم من النذالة
ليكون جمهوره بهذا ال�شكل! كانت هذه املحاولة كفيلة اللتقاط �أنفا�سي
لأبد�أ يف الرك�ض من جديد ،دورتني حول احللبة وبد�أ الإنهاك يزحف
مت�سل ًقا �إياي كنبتة لبالب �سريعة النمو.
�صاحت مي�سون من ركنها البعيد:
ص ع
بالرجوع �إىل اخللف مما �سمح للثقة ب�ضخ دمائها بعروقي بقوة،
ر
ُ
والتوزي
جل�ست فوقه وو�ضعت ر�أ�سه بني رج َليُ �أخل بتوازنه ف�سقط بقوة � ً
أر�ضا،
ع
و�صفعته بقب�ضتي فتعالت �أ�صوات اجلمهور �أكرث:
-قاتل ،قاتل ،قاتل.
الآن فهمت ،يبدو �أنهم كانوا ي�شجعونني منذ البداية ،كانوا يوجهون
يل ر�سالة بكلمتهم دون �إكمالها (قاتل خوفك) ،هتافهم عزز قب�ضتي
�أكرث و�أثقلها لتغو�ص يف �أعماق وجهه بقوة و�أنا �أ�صرخ به:
-غبي ،متغطر�س� ،أناين ،مغرور.
مبال بدماء وجهه التي تدفقت بغزارة من �أنفه
ظللت �أ�صفعه غري ٍ
وفمه وتلطخت بها يداي.
جاءت مي�سون بجانبي هام�سة:
62
� -أجمد ،يكفي.
�صرخت بها:
ُ
-دعيني.
وقبل �أن ينال وجهه لكمتي التالية تبخر ر�أ�س مازن من بني رج َلي
خفت �صوت اجلمهور �شي ًئا ف�شي ًئا وبد�ؤوا بالتبخر
�سري ًعا وتبعه ج�سدهَ .
وتبعتهم املقاعد ،مل يتبقَ غري احللبة الرملية �أجل�س بها كما �أنا �أنظر
ع
�إىل يدي املخ�ضبة بالدماء وقد �سرت رع�شة بج�سدي و�أنفا�سي يالحق
والتوز عي
غا�ض ًبا.
قالت وهي واقفة ورائي:
-لأن عقلك �أراد �أن تواجه خوفك ال �أن تقتله ،اخلوف مفيد لنا،
لوال اخلوف ملا كنا نحر�ص على �سالمة حياتنا ونقدر قيمتها،
لوال اخلوف ملا �شعر �أحبتنا بعمق م�شاعرنا لهم ،اخلوف ركن
�أ�سا�سي مبنظومة امل�شاعر مثله مثل �أي �شعور �آخر ،لي�س كل
�شعور باخلوف خز ًيا� ،أحيا ًنا يكون ال�شعور باخلوف وج ًها من
�أوجه ال�شجاعة يا �أجمد.
الم�س منطق كالمها قلبي فهد�أ من روعه وكبح جماح انتقام كاد
�أن ي�ستلذ به فيقع يف �شباكه.
�س�ألتُها بهدوء بعد �أن رجع �إيقاع �صدري لطبيعته:
63
-وماذا بعد؟
بد� ْأت بالدوران حويل:
-ال �أعلم� ،أظن مل ينت ِه الأمر.
بد�أت احللبة بالتبخر بعد �أن انتهت مي�سون من جملتها ،وبقينا
متعلقني ب�أ�ستار العتمة للحظات ،تهاوى ج�سدانا فج�أة ك�أن �أحدً ا ما
ً
�سقوطا ح ًرا يف بئر مظلمة جذب الب�ساط من حتت �أقدامنا ،ن�سقط
ص ع
ال قرار لها ،قلوبنا تنب�ض هل ًعا مع ازدياد �سرعة ال�سقوط من حلظة
والتوزي ر
منها ب�سرعة هائلة ،ارتطام كهذا �س ُيف�ضي �إىل موت بالت�أكيد ،هل
ع
يوجد موت هنا؟ يا لغبائي ،كيف مل �أ�س�أل مي�سون هذا ال�س�ؤال؟ �أُحكم
مقب�ض بكرة خيط ال�صنارة الوهمي املتعلق بظهورنا فتوقفنا على ُبعد
تنف�ست ال�صعداء و�أنا �أدقق النظر
ُ �سنتيمرتات من ارتطام م�ؤكد،
�إىل تلك اخلطوط العري�ضة املت�شابكة املوازية لعيني وقد ظهرت
ب�شكل �أكرب ،كدُمى خ�شبية ُحرك ج�سدانا لو�ضعهما الطبيعي لنقف
باعتدال ،و�أُرخيت �أقدامنا على الأر�ض املجدبة كهبوط طائرة ،مكان
وواد مقفر ال �أول له وال �آخر على مد الب�صر تناو�شه لفحات قاحط ٍ
لها �صوت كفحيح الأفاعي ،متخ�ضت الأر�ض فج�أة مبياه القت �سبيلها
بني تعرجات نهمة قاحلة ت�شتاق �شعور االرتواء منذ زمن حتى فا�ضت
وا�ستحالت طي ًنا ،حائط عظيم بالقرب منا �أمل�س عر�ضه بات�ساع
الأر�ض حترك من مرقده ببطء حتى ا�ستوى قائ ًما مث ًريا لغبار ت�شبعت
به �أنفا�سنا فطردته ب�سعال� ،سكن للحظات بدا فيها ك�أنه يرمينا
64
ب�سهام ب�صره احلادة ،حترك بعدها �صوبنا ب�سرعة كبرية �أحدثت
جلبة مع الأر�ض الطينية مل �أملك �أمامها �أنا ومي�سون �سوى الهرب
ً
رك�ضا ،لعله ي�ساعدنا بالنجاة ب�أنف�سنا من حائط!
�س�ألتني مي�سون �صارخة وهي حتاول التقاط �أنفا�س زائدة توفرها
للنطق ً
عو�ضا عن املفقودة يف الرك�ض:
-ما هذا؟ ماذا فعل لك احلائط �أو ما فعلت به؟ حتى اجلمادات
كان لها دور بحياتك!
خلفنا وال متى مين علينا بالغفران وينتهي الأمر ،يعوق حركاتنا وحل
الطني الذي يجذب �أقدامنا �إليه كلما حاولنا رفعها.
الحت يف الأفق ه�ضبة متعرجة ينحدر �سطحها بق�سوة جتاه الأر�ض،
ارجتينا �أن يكون بها كهف ي�ؤوينا من ا�صطدام حائط هدفه الفتك بنا
ف�أ�سرعنا نحوها ،و�صلنا بعد �أن انقطعت الأنفا�س ومتزقت ال�صدور
�شه ًقا عقب ت�أدية مهمتها على �أكمل وجه وتو�صيلنا لرب الأمان.
كان تكوين اله�ضبة عجي ًبا ،مق�سمة كخلية النحل �إىل فتحات
جموفة طول ًيا م�ستطيلة ت�ستطيع بالكاد احتواء ج�سم �إن�سان متخل ًيا
65
عن �أي حركة يقوم بها.
« -هيا ادخل �إىل واحدة من تلك الثقوب �سري ًعا و�س�أفعل �أنا كذلك
حتى ال ن�صطدم باحلائط» قالتها مي�سون �آمرة.
هالني ما قالت واحتلت ج�سدي غابة مطرية بح�شراتها التي
ن�شرت ال�شعور باحلكة يف �أنحائه املختلفة ،يت�صبب عر ًقا ب�أمطارها
التي �أغرقته فيها.
ص ع
نوبة هلع تكورت بحلقي حاجبة الهواء مما زاد �شعوري باالختناق،
ل ل
ماذانبك؟
ش ب
قالت مي�سون زاجرة:
بع�شوائية �أبحث عن �أي مهرب �آخرْ .
التوزيع رو
خلفنا، -هيا �أ�سرع .احلائط
�أجبتها غار ًقا يف بحر خويف:
� -أبحث عن خمرج �آخر ،لن �أ�ستطيع �أن �أح�شر نف�سي بتلك
الفجوة مهما كلفني الأمر.
نظرت مي�سون �إىل الفجوات ال�ضيقة و�إىل احلائط املتقدم بثبات
نحونا وبد�أت بربط الأ�شياء قائلة:
Claustrophobia -
-ماذا؟
�-أنت تعاين من رهاب االحتجاز يف الأماكن ال�ضيقة ،وهذا
يف�سر ملاذا يجري هذا احلائط من خلفنا و�أو�صلنا �إىل هنا
66
متعمدً ا حلل هذه امل�شكلة لديك.
-وما احلل الآن؟
�-أن حتتمي بواحدة من تلك الفجوات وتتغلب على ذلك اخلوف.
أردفت م�سرعة:
هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا ف� ْ
-ال يوجد حل �آخر� .سيظل يطاردك احلائط حتى جتد نف�سك
�أمام فجوات وفجوات �أخرى و�ست�ضطر �إىل الدخول بواحدة
ريص ع
قا�س بهذا ال�شكل؟ ماذا فعلت به طيلة حياتي لريد يل ال�صاع َمل عقلي ٍ
ع
جبنت و�ضعفت ومل �أق َو على املواجهة وي�ضعني الآن فيها جم ًربا.
حاولت تطبيق ن�صيحة مي�سون بالتنف�س ببطء ،فلو ظللت �أتنف�س ُ
هكذا �س ُي�سحب جميع الهواء بالفجوة يف غ�ضون دقيقة .كان قلبي
خائ ًفا م�سكي ًنا ي�شعر بالذعر يحتمي بقوة �ضرباته التي تطن ب�أذين
بانتظام� ،أخذين التفكري لوهلة :ماذا لو كان العقار يذهب للقلب ً
بدل
من العقل ،هل كان �سيغرقني يف دماء �أوردته �أم يجعلني �ألتقي بها؟
بها! ترى من هي؟ وهل هي موجودة بالأ�سا�س �أم ال؟ هل �صادفت
يوما ورويت جفاف روحي من نبعه� ،أم �أنه مل مي�س �شغاف قلبي احلب ً
و�ضعت قلبي
ُ قط؟ هل يل خطيبة �أو زوجة �أملك منها �أوالدًا؟ هل
يوما فاحتوته حمب ًة ولط ًفا �أممت�أن ًقا بكامل حلته على عتبة �إحداهن ً
لفظته كراه ًة وق�سوة؟
�أثار التفكري بقلبي تيا ًرا كهربائ ًيا م�س عقلي ،فبد� ْأت تظهر �أمامي
68
الكلمات كالوم�ضات تظهر وتختفي،
(�إليك.../
لقد كنت كاذبة عندما ادعيت معرفة �صاحب ال�صوت و�أنا التي
تن�سه حلظة)...
مل َ
تداخلت جميع الكلمات والأحرف بعدها فلم �أ�ستطع �أن �أميز
واحدة منها ،حاولت الرتكيز �أكرث يف حماولة اللتقاط �أي حبل من
ع
حبال الذاكرة لكن مل �أجنح بهذا ،حالة التوتر التي هد�أت �إىل حد
ر ش
والتوز عي
ا�ستطعت فيه اعتياد الأمر ب�شكل ما ،ما زال ي�سيطر على
ُ بع�ض الوقت
قلبي اخلوف ولكن �أقل كث ًريا مما �سبق ،بد�أتُ �أ�سمع �صوت تزحزح
احلائط عن الفجوات مبر�سوم ر�سمي �أ�صدره عقلي له بالعفو عني.
حتركت زح ًفا بج�سدي للخارج فوجدتُ مي�سون قد حتررت هي ُ
الأخرى.
ب�صوت قلق �س�ألت:
-هل �أنت بخري؟ هل ت�شعر بالتح�سن؟
أكملت:
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ،ف� ْ
� -أظن �أن امل�شكلة قد ُحلت ،حالك يبدو �أف�ضل كث ًريا.
-نعم .طبقت ن�صائحك وتذكرت �شي ًئا ما.
�س�ألتني م�سرعة:
69
-ما هو؟
قبل �أن �أجيبها بد�أ كل �شيء بالتبخر ،احلائط واله�ضبة والأر�ض
الطينية ،وعدنا للعدم .مل نتبخر كعادة نهاية مطاف العقار وكان
باد ًيا �أننا على م�شارف جولة جديدة� ،أي حياة تلك التي كنت �أعي�شها
مليئة بكل هذه املخاوف! مل نربح مكاننا ولكن بد�أت �أ�شياء ب�سيطة
تتجمع حولنا كحال الذكرى الأوىل ،طاولة عالية خلفها ثالثة كرا�سي
عتيقة قبع بع�ضها بجانب بع�ض ،ت�ستقر �أمام الأو�سط منها لوحة
ص ع
نحا�سية رفيعة ُكتب عليها (�سيادة القا�ضي /القلب)� ،أرائك خ�شبية
والتوزي ر
ت�شكلت قاعة حمكمة كنت �أنا فيها اجلاين
ْ م�ستطيل ال�شكل حاوطني!
ع
عن ذنب مل �أتذكره مطل ًقا ،و�سط نظرات ده�شة مي�سون وا�ستنكاري ملا
يحدث يل .دخل ثالثة ُو�ضعت عليهم ُحلة الوقار يتحركون بثبات جتاه
املقاعد خلف الطاولة ،جل�س باملنت�صف رجل تبدو عليه �سمات التقدم
بالعمر قد وخط �شعره ال�شيب و�أ�صاب احلزن مالحمه بالذبول،
بجانبه عن اليمني والي�سار �شابان مل ُتعرف هويتهما .حلظات ودلفت
�إىل املحكمة بف�ستانها الأحمر القاين وقبعة �سوداء كال�سيكية مائلة
على وجهها تبدو �أنها حتجب بها �شي ًئا ما .مزق ال�سكون �صوت طرقات
كعب حذائها الرفيع وهي مت�شي بخطوات ثابتة كال�ساعة ،حدجتني
بنظرة حتمل كرهً ا قبل �أن جتل�س على املقعد املقابل لطاولة الق�ضاة.
�س�ألتني مي�سون الواقفة بجوار الق�ضبان �س� ًؤال يحمل بني طياته
�شي ًئا من ال�ضيق يغلفه ا�ستهزاء:
70
-هل هذه �إحدى خماوفك؟
مل �أكن �أتذكرها ولكن �أ�شعر بانتمائها �إيل ب�شكل ما .رمبا تكون
�إحدى قريباتي �أو رمبا تكون… هل تكون �صاحبة اجلملة؟ ال �أدري.
تنحنح القا�ضي قبل �أن يوجه �س�ؤاله لها:
�شكواك �سيدتي الفا�ضلة؟
ِ -ما
أجابت ب�صوت �صارم:
� ْ
ص ع
التدخني وم�صادقة �أ�صابع ال�سجائر اخلبيثة ،انظر �إيل و�أنا
والتوزي ر
قلبه كيف وهنت و�ضعفت.
ع
-لقد وهنت و�ضعفت لأ�سباب �أخرى كثرية غري التدخني،
قاطعها:
فال �أريد �أن �أكون ظاملًا .ال داعي لكثري من الكالم .تفهمت
�شكواك ،ماذا تريدين الآن؟
ِ
�أجابت بحزم:
-الق�صا�ص وعلى طريقتي.
-وهي؟
-احلرق.
قالتها ب�صرامة �أخافتني� .إن كانت رئتاي قد جت�سدتا بهذه ال�سيدة
72
فهما تبغ�ضانني كث ًريا .مل �أكن �أعلم �أنني مدخن ومن الوا�ضح �أنني
�شرعت
ُ ُمدخن �شره ،وعقلي قرر �أنه جتب حما�سبتي بيد �أع�ضائي التي
يف �إتالفها .عقلي قرر هذه املرة ت�صفية جميع ح�ساباته معي ،يبدو
�أنني �شخ�صية عنيدة راف�ضة لكثري من الأ�شياء التي ُتوزن مبيزان
العقل.
انتف�ضت من �سهو قد �أخذين على �صوت القا�ضي وهو يقول:
ُ
-موافقة.
ت
ْ
ل
راجل ًينا: ب
حقيبة كانت حتملها و�أفرغت ال�سائل الذي بها حويل.
ل ا
ولكن �تو ِ
زي�أن �أقلع و ر ش
ع
جديتها جعلتني �أتو�سل �إليها
أعدك أرجوك �سيدتي� ،أعلم �أنني �آذيتك كث ًرياِ �-
متاما و�أال �أعود له ثاني ًة.
عن هذا الأمر ً
زجمرت بوجهي:
ْ
-قلت هذه اجلملة كث ًريا وكنت تعود ،ال رجاء منك.
حاولت مي�سون التدخل لإقناعها بالعدول عن قرارها ،لكنها
قذفتها بنظرات كالر�صا�ص فرتاجعت خائف ًة �أن ينالها جزء من وافر
اللعنات التي تكنها جتاهي.
أ�سرعت ب�س�ؤال مي�سون:
ُ �
-ماذا �سيحدث �إن �أ�شعلت النريان؟ هل �س�أموت حمرت ًقا؟
73
أجابت مي�سون برتدد:
� ْ
-ال ،ال موت هنا ،ولكنك �ستظل ت�شعر ب�أمل احلرق حتى تنتهي
مدة العقار.
مل �أ�ستطع ا�ستيعاب كلماتها ،ا�ستمرارية ال�شعور بالأمل مفجعة،
خيار املوت �أمامها رحمة يف كثري من الأحيان.
ً
�صارخا: توجهت �إليها
ُ
ريص ع
أرجوك.
� -سيدتي ال تفعلي هذا � ِ
ر ش
والتوزي
به جتاه البقعة ال�سائلة حويل:
ع •••
-فلتذق ما جنته يداك.
74
()٦
(املالذ)
ن
ر ش
والتوز عي
حظها العاثر يف االلت�صاق ب�أحذية املارة كان ج�سدي ُملقى ُتوجعه
طعنات حرب اخلوف التي خرج منها لتوه فائزًا بروحه ،قد ت�ضلعت
حناياه بالأمل ،و�أ�ضناه التخيل مبا كان �سيحدث �إن مل ينت ِه وقت
متاما وا�ستطاعت �شرارة الثقاب الو�صول العقار يف اللحظة املنا�سبة ً
تبخرت �شعلة الثقاب وهي
ْ �إىل ال�سائل! �أتذكر نظرة رئتَي �إ َّ
يل بعد �أن
مبنت�صف الطريق وبد�أت الأ�شياء يف التبخر بعدها ،كان يبدو �أنها
متاما ملا يحدث من ا�صطكاك �أ�سنانها ً
غيظا والقهر املنبعث مدركة ً
�شف .و�ضعت َيدي على �صدري بعد �أن بد�أ من عينيها من غليل مل ُي َ
ومتكنت من احلركة ،يف حماولة مني لعقد ُ قر�ص مي�سون مبفعوله
معاهدة �صلح بيننا ،ا�ست�شعرتُ نب�ضات قلبي وقد ا�شتد ب�أ�سها عن
قبل و�أُلقي عن كاهلها خوف �أ�ضعفها ل�سنوات .خ�ضت جتربة قا�سية
ب�أر�ض خويف وها قد بد�أت ت�ؤتي ثمارها .ولكن َمل بدا قلبي بهذا الكرب
و�أنا ما زلت �شا ًبا؟ َمل حملت ق�سماته كل هذا احلزن؟
75
-جنوتَ ب�أعجوبة.
ارتياحا واطمئنا ًنا بنجاتي من الأمل� ،أو
ً قالتها مي�سون وهي تتنهد
هكذا ظننت .نزع قلبي عباءة خوفه وتزمل بثوب ن�سجته �أيدي مي�سون
بخيوط ال �أعلم كنهها .هل هو احتياج �إىل رفيق يهون الرحلة �أم
اعتزاز مبن ت�شاهد تاريخي بثغراته احلرجة� ،أم �أنه جذوة لأمر يعد
�ضر ًبا من اجلنون املُحبب للنف�س رغم حتذيرات العقل املتكررة بعدم
الولوج؟ �أ ًيا كانت ماهية الأمر فال �شك �أن مرورها معي بهذه املعركة
ع
دوما مميزون عن البقية ،بقية! عن �أحدث فار ًقا ،فرفقاء ال�صعاب ً
ر ش
والتوزي
« -يبدو �أن لهذا العقار جوانب �أخرى ال �أعلم عنها �شي ًئا» .قالتها
ع
مي�سون وهي حتملق ب�إحدى �إبر العقار املتبقية بانبهار.
-هكذا �صارت املنفعة متبادلة.
-ماذا تق�صد؟
اكت�شفت جوانب �أخرى له عن
ِ أنت �أعطي ِتني العقار وباملقابل
ِ �-
يجعلك تعيدين النظر يف ثمنه.
ِ طريقي ،ما
افرت�ش ال�ضيق مالحمها من جملتي الأخرية فقالت:
-ورمبا هذا لي�س اكت�شا ًفا ،رمبا يف�سر هذا ملاذا ُو�ضعت هنا
وحدك ،يف ما يبدو �أن عقلك يتعامل مع عقارات الذاكرة
ب�شكل خمتلف.
حرية تدحرجت �إىل تفكريي من تف�سريها ً
�سائل �إياها:
76
-وهل لهذا عالقة بطول مدة العقار هذه املرة؟
-مدة العقار مل تتغري� ،أنت �شعرت بهذا ل�سيطرة �شعور اخلوف
كابو�سا ما ظل
ً عليك .الأمر م�شابه للحلم� ،أحيا ًنا ت�شعر �أن
يتعد الدقائق ،بل
يالزمك طيلة الليل وهو يف حقيقة الأمر مل َ
و�شاركته �أحالم �أخرى بنف�س الليلة ولكنها ُتن�سى.
�أنهت �شرحها و�أخذت املقعد �إىل زاوية الغرفة وجل�ست .ال �أعلم
مباذا كانت تفكر! رمبا احتاجت �إىل بع�ض الهدوء قبل رحلتنا
ريص ع
اجلديدة .مرت �ساعتان ح�ضرت بعدهما العقار وثبتت الأقطاب
ع
ملعرفة ما حتجبه البوابة وراءها ومعرفة �سر ارتياحي املبهم جتاهه،
ن
حاولت حجبها بيدي حتى هد� ْأت ُ
ر ش
والتوزي
وا�ستطاعت حدقتاي احتواءها ،لفحتني ن�سمات ربيعية لطيفة ْ حدتها
ع
ُمملة برائحة عطرية طيبة �أنع�شت حوا�سي ،بد� ْأت بعدها معامل
املكان يف الو�ضوح �أكرث ،طريق طويل م�ستقيم معبد بالف�سيف�ساء من
ح�صباء ذات �ألوان رائعة ُت�شكل ر�سومات رقيقة مبهرة ،متتد على
جانبيه مروج خ�ضراء وا�سعة تقبع حتت �أ�شعة ال�شم�س الناعمة،
�أ�شجار �ساكورا با�سقة ت�صطف على اجلانبني تتمايل �أزهارها الوردية
مع الهواء بخفة ،تت�شابك �أعايل �أغ�صانها مكونة مظالت يتخللها
م�صافحا الطريق بود .تغ�شانا جمال املكان فالذ كالنا ً نور ال�شم�س
ً
حممل بال�صمت يف �أثناء �سرينا .امتد غ�صن من �إحدى الأ�شجار
بالأزهار جتاهي ،داعبت وجنتي واحدة من زهوره ب�أوراقها الرطبة
فافرت ثغري عن ابت�سامة كا�ش ًفا غ َّمازة ا�سرتاحت بخدي فهد� ْأت
الزهرة ك�أنها حققت مرادها ،الم�ستُها بظهر �أ�صابعي برقة فان�سحبت
بحياء عائدة بالغ�صن �إىل حيث كان.
78
انتهى بنا الطريق �إىل قنطرة حجرية فوق غدير ماء �شفاف يك�شف
الأر�ض من حتته ،جتاوزناه فا�ستقبلتنا رمال ذهبية �ساحرة تتلألأ
ذراتها حتت �شعاع ال�شم�س اللطيف حرارته ،م�شينا ببطء جتاه ب�ساط
البحر املمتد ذي الزرقة الداكنة حتى و�صلنا �إىل �أطراف �أمواجه وهي
نف�سا عمي ًقا لأملأ �صدري بن�سيم �سحبت ً
ُ تتهادى بحنو مدً ا وجز ًرا،
مل يلوثه غبار احلقائق ومل تدن�سه خطايا الوقائع ناظ ًرا �إىل املدى،
�أغم�ضت عيني وغرقت ب�أذين بني نغمات ارتطام �أمواجه الهادئ .من
ع
قال �إن جمال البحر يكمن يف زرقته فقط؟ �صوت البحر عامل �آخر ال
ا�ستطعت فيها
ُ
ل
ْ القمر.
ع
الدرجات:
80
-ال قوانني هنا ،يف عاملي �أبوح �أرك�ض �أطري �أ�صرخ �أُجن �أهد�أ
�أبكي �أتوجع �أفرح �أع�شق �أكره� ،أمل�س ال�شم�س بيدي و�أتخذ من
منزل� ،أن�سج من ال�سحب و�سادتي ومن املوج غطائي، القمر ً
�أجوب املحيطات و�أتنف�س حتت املاء� ،أنتقل عرب الأزمنة
عامل ً
ب�سيطا يف ور�شته �أو حمار ًبا و�أ�صري مل ًكا يف قلعته �أو ً
عظي ًما يف ميدانه� ،أغري ت�ضاري�سه ف�أ�صنع منه بالد العجائب
طلل� ،أُج�سد فرحي يف دقائق �أو �أهمله ل�سنوات وي�صبح داخله ً
وحزين و�أُقيم م�أدبة ع�شاء فاخرة على �شرف معاهدة ال�صلح
ب
أجته لب�سحابتي عال ًيا جتاه جبل يحجب ت ك ل ا
ل
�أنا وح�سب.
وراءهعغابة
لففت حوله فتخ�ضبت ال�سماء الأفقُ ،
ع
هذا يف�سر �سعة عاملي ،للهرب من الب�شر جميعهم.
والتوزي ر
ع
-يبدو �أن عقلك يكافئك بزيارة مكان حمبب �إىل قلبك بعد ما
واجهت خماوفك يف املرة ال�سابقة.
تابعت بعد برهة من ال�صمت:
ْ
� -أمل تتذكر �شي ًئا؟
هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا و�أنا ما زلت �أتطلع �إىل ال�سماء ب�أ�سى رمبا
أرادت تغيري م�سار احلديث:
الحظته ف� ْ
� -أتعلم؟ �أح�سدك على هذا العامل.
-و َمل؟ ما �أراه الآن ال يعك�س �إال واق ًعا مري ًرا ملي ًئا بالوحدة� ،شح
بالأن�س واملودة واحلب…
قاطعتني م�ستنكرة:
82
-حب! احلب خرافة.
-كيف؟
�أجابت وهي ُتلقي زهو ًرا قطفتها من حافة اجلبل �إىل الوادي:
-احلب ما هو �إال كلمة تتغلف بها امل�صالح ال�شخ�صية وننطق
بها خلجلنا من الت�صريح بهذا.
-مبعنى؟
ر ش
والتوز عي
أمل يفونتذكرها عنوة ،فنلقي بها على كاهل من نحب � ً
�إ�صالح ما �أف�سدته ال�سنون وت�ضميد جراح اخلزي وحتويل
عتمتها نو ًرا ،فنجده هو الآخر ميلك مثلها ويلقي بها على
كواهلنا فال تفلح كلتا املحاولتني .و�إن كانت التجارب املبدئية
لذلك الأمر تنم عن جناح ،ف�إنها تبوء يف النهاية بالف�شل ،لأنه
بب�ساطة من مل يحمل على كاهله ت�صحيح اعوجاج طريقه
وري جفاف دربه بنف�سه فال ي�س�أل الآخرين ذلك ،حتى و�إن
كان حبي ًبا مبنزلة الروح.
ألت بعدها يف انتظار �إجابتي امل�ؤكدة لكالمها:
�صمتت برهة �س� ْ
ْ
ً � -إذا هل هو م�صلحة يف حقيقة الأمر �أم ال؟
خالفت توقعاتها ب�إجابتي:
ُ
معك يف ما تقولني.
-ال �أتفق ِ
83
�أخرجت تنهيدة قائلة:
-م�سكني هرني موال�سون.
ألت متعج ًبا من تغيريها املفاجئ لدفة احلديث:
�س� ُ
« -ومن يكون هذا؟»
« -هرني موال�سون((( �أو املُلقب بـ( )H .Mكان يعاين من ال�صرع
ال�شديد ،ما دفعه لإجراء عملية باملخ ا�ست�أ�صل فيها الطبيب
ريص ع
(وليام بي�شرت) �أجزاء من قرن �آمون((( اخلا�ص به ،وبالفعل
ص ع
أكملت وهي تنظر �إىل املدى قائلة ب�أ�سى:
� ْ
والتوز عي
�سين�سى �أحزانه ،لن ميتلك ذكريات �سعيدة ولن ميتلك
أي�ضا ،مل يفكر �أحد يف الثالثني ثانية، ذكريات حزينة � ً
ثالثون ثانية قد تكون قليلة على الإح�سا�س بالفرح ولكنها
لي�ست بقليلة على الإح�سا�س بالأمل ،وهذا ما ذكرته املرافقة
له �-سوزان كوركني -يف كتابها ،عندما قالت �إنه من �أ�صعب
اللحظات التي كانت متر عليه عندما ي�س�ألها عن والديه
وتخربه بوفاتهما ويعت�صر الأمل قلبه كل مرة ك�أول مرة.
انتهت من حديثها ومرت دقيقة �صمت تذكرتُ خاللها بدايةْ
حوارنا ،ف�س�ألتها:
-ال �أفهم ما ترمني �إليه بذكر تلك الق�صة.
قالت بانفعال:
85
-ذكرتُ الق�صة لأنه من احلماقة �أن نكون مثل هرني ولي�ست
بنا علة ،من احلماقة �أن نقتحم الأ�شياء ك�أننا نقتحمها كل
مرة ك�أول مرة بعد ما �أدركنا حقيقتها.
كانت كلمات مي�سون تقطر �أملًا ال �أدرك �سببه ،وددتُ لو �أعلم ال�سبب
احلقيقي وراء اعتقادها الغريب ،وودت لو �أتكلم معها �أكرث و�أعرف
حياتها ب�شكل �أقرب ،وددتُ لو �أعرفها ،رمبا ظهر يل يف البداية وجهها
ال�سيئ ولكنها الآن حتاول معي ب�صدق ال�سرتجاع حياتي ،ت�شاركني
ريص ع
يوما �أحد غريي� ،شيءبكل �شيء حتى عاملي الذي �أظن �أنه مل يط�أه ً
ع والتوزي
« -ما هذا؟» �س�ألت مي�سون.
نظرتُ �إىل حيث ت�شري ،خرج �سرب من الفرا�شات من كوة تل
مقابل لنا ،يطري نحونا حتى و�صل �إلينا وا�ستقر فوق ر�أ�س مي�سون
حتركت مي�سون مينة وي�سرة فتحرك معها ك�أن الفرا�شات ْ كمظلة.
�صارت التابع اجلديد لها ،بد� ْأت مي�سون يف مداعبتها فكونت حلقات
حول يدها ك�أنها موجة خرجت من ع�صا �سحرية� ،أخذت مي�سون يف
مداعبتها �أكرث ون�سيت ما اعرتاها من �أمل منذ قليل� ،أكرث ما �أثار
ا�ستغرابي :من �أين �أتت تلك الفرا�شات؟ �أنا مل �أُدخل عاملي �أي كائنات
ج�سد بداية �شعوري جتاه مي�سون بتلك أح�س�ست �أن عقلي َّ
ُ حية� .
الفرا�شات البديعة التي حتاوطها� ،أو رمبا يرحب بها على طريقته
اخلا�صة.
86
ظلت مي�سون تداعب الفرا�شات وعلى وجهها �ألق ال�سعادة ،كان كل ْ
متنيت من داخلي �أال تنتهي مدة العقار �سري ًعا،
ُ �شيء مثال ًيا ورائ ًعا،
ا�ستيقظت فاقدً ا لذاكرتي �أ�شعر ب�شعور جميل �أود
ُ للمرة الأوىل منذ �أن
البقاء بجانبه ً
قليل.
كل ما يحدث الآن لن يحدث ثاني ًة و�سي�صري ذكرى ،ذكرى منا�سبة
متاما لطبيعة املكان الذي حواه ،عا ٌمل خيا ٌّ
يل بعي ٌد كل البعد عن واقعي. ً
ص ع
فاج�أتني ر�ؤيتها وهي تخرج من خلف �صخرة كبرية كانت بالقرب
ص ع
� -سينتهي� ،سينتهي.
ع والتوزي
�أنينها ،بد�أ بعدها كل �شيء بالتبخر ،الفرا�شات التي الزمت مي�سون
حتى بعد �إ�صابتها ،التالل ،الوادي ،ال�شالل ،الزهور ،اجلبال ،مي�سون
و�أنا ،كنت �أنظر �إىل ج�سدي وهو يتبخر بحزن ،مل �أكن �أتوقع �أن يحدث
كل هذا وتزول �سعادتي �سري ًعا ،مل �أكن �أريد �أن حتدث بعاملي ذكرى
كتلك ،ومل �أكن �أمتنى �أن �أ�سبب ملي�سون كل هذا الأمل ،مل �أكن �أمتنى
هذا قط.
•••
مل تكن مي�سون بحالة ت�سمح لها بتذكر و�ضع قر�ص ما بعد العقار
بجانبي كالعادة لتتح�سن حالتي ،كانت ت�شهق بقوة وهي تنظر بفزع
متاما ،تتحقق من �سالمة ج�سدها
�إىل مو�ضع الطلقات وقد اختفى ً
حجبت وجهها
ْ بتحريك يدها للت�أكد من �أثر جراح مل تعد موجودة،
بكفيها وقد بد�أ زفريها يهد�أ يف حماولة منها ال�ستيعاب جناتها من
88
نظرت �إ َّ
يل ك�أنها تذكرتني فج�أة موت م�سها ب�أمله ومل ي�ستقبلها بعاملهْ ،
قائلة بغ�ضب عارم:
-من هذه؟.
مل يكن لدي خمزون من القوة يكفي �إال لقول كلمة واحدة:
-القر�ص.
جلبته من حقيبتها وو�ضعته جانبي بقوة غا�ضبة وبد� ْأت بالتحرك
ع
جيئ ًة وذها ًبا يف انتظار ا�شتداد ب�أ�سي وما زلت حتت وط�أة الهلع.
والتوز عي
-من هذه؟
-لبنى.
« -ح ًقا؟ كنت �أظنها منى» .قالتها بتهكم الذع ثم تبعتها بغ�ضب:
-ما عالقتي با�سمها؟ �أريد �أن �أعرف من هذه.
أجبت و�أنا �أحك جبهتي:
� ُ
-لبنى تربطني بها �صلة قرابة ال �أتذكرها الآن ،لكنني عندما
ر�أيتها راودين �شعور غريب و�إح�سا�س بالذنب.
قالت با�ستنكار غا�ضب:
كنت ت�شعر جتاهها بالذنب فهذا يعني �أنك بالت�أكيد �آذيتها،� -إن َ
فلماذا قتلتني �أنا؟
89
ترددت عيناي ب�أنحاء املكان وتلجلج ل�ساين ،مل �أ�ستطع تربير فعل ْ
لبنى ملي�سون ،ماذا �س�أقول لها و�أنا ال �أعلم ملاذا فعلت لبنى هذا؟
جملتها التي �سكبتها ب�أذين هام�سة ذهبت بي العتقاد �أنه رمبا جمعني
حب بها ذات يوم وخذلتها ،وما فعلته رد فعل ل�شعور نبت بقلبي جتاه
كنت مكانها لنعتّني
مي�سون .ال �أقدر على �إخبار مي�سون بهذا ،فلو ُ
باملجنون ،ال يحق يل �أن �أ�شعر بتلك امل�شاعر و�أنا جاهل بهويتي ،رمبا
بتلك امل�شاعر �أنق�ض عهدً ا قطعته حلبيبة �أو �أخون وفاء �أكنه لزوجة،
ع
واجلملة التي تذكرتها يف فجوة اله�ضبة من تكون �صاحبتها؟ يجب �أن
ع
وحملت علىواملكانية خلو�ض رحلة جديدة ،تال�شت الر�ؤية �أمامي ُ
الكت • • • ريص
جناح الو�سن.
91
()٧
(العهد الجديد)
كتكذبابة
بمل للجتد ما ي�شغلها غري ا�ستفزاز هذا
ال
ن
ال�شهر الثاين ع�شر من ال�سنة الرابعة -العهد اجلديد.
موظفويا�لؤدي عمله ٍ
ت ر ش
وا،زيال �
يخرتق �صوته �أذين
عأفهم
بتفان الكائن الب�شري ب�أزيزها اخلافت امل�ستمر،
متام
ب�إطالق رنني منتظم كل خم�س دقائق كما �ضبطته ً
�سر ت�أديتي لتلك العادة الكاذبة وظني الواهم �أنني بذلك �س�أحظى
ف�شلت �أ�صابعي يف مل�س �أيقونة
بنوم وفري ملدة خم�س دقائق زائدةْ .
�إ�سكات �صوت منبه هاتفي و�أنا مغم�ض العينني ً
ك�سل ،فا�ضطررتُ �إىل
فتح اليمنى التي انكم�شت �أمام �إ�ضاءته رغم تقليلي لها للحد الأدنى،
توجهت ب�أناملي
ُ أطلت حدقتي من خلف خيط رفيع انفرج بني جف َني، � ْ
�إىل الأيقونة ال�صفراء و�ضغطت عليها بقوة كا ًمتا ال�صوت ،وغ�صت
بر�أ�سي داخل و�سادتي وقد بد�أ ال�صداع يلوح يف الأفق� .ساحمك اهلل
�صباحا و�أ�ستيقظ يف الثامنة! بالطبع مل
ً يا �أبي� ،أنام يف اخلام�سة
�أ�ستطع �أن �أُبدي اعرتا�ضي البارحة عندما �أخربين مبوعد مقابلتنا،
ك�أنه يتعمد �إيقاظي مبك ًرا بعد �أن ف�شلت جميع ن�صائحه بهذا� .أدرك
93
متاما ما يقوله و�أهميته ،ولكن ماذا �أفعل و�أنا �شخ�ص ال يجد روحه ً
ليل؟ ال تلمع الأفكار بر�أ�سي وال ترقى امل�شاعر وال ين�شط عقله �إال ً
بقلبي �إال ب�صحبة العتمة� ،أ�ستودع �أ�سراري �سحبه و�أبث �شكواي لقمره
وجبلت نف�سي على حبه .اختلف الليل كث ًريا يف العهد اجلديد ،لكنه ما ُ
زال يحتفظ مبكانته يف قلبي� .أفتقد جارتي امل�سنة التي مل �أتعرف �إليها
يوما� ،أفتقد �صوتها العايل و�صوت تلفازها الذي ال ُيطف�أ ونافذتها التي ً
ال ُتغلق ،وذوق (حمادة) ومدحها الدائم له مع من حتدثهم يف الهاتف
ليال عديدة دون �أن نتحدث وطبق الرتم�س املالزم لطاولتها ،جمعتنا ٍ
ع والتوزي
جل�ست و�أنا �أفرد َيدي لأق�صى مدى ت�ستطيعان الو�صول �إليه متثائ ًبا
ُ
�شعرت با�ستيقاظي ففتحت ْ يف ك�سل� ،أطقطق ر�أ�سي مينة وي�سرة.
النوافذ �آل ًيا لت�سمح لأ�شعة ال�شم�س باقتحام الغرفة ،زجرتها عن ذلك
نه�ضت من فرا�شي تعرتيني رغبة عارمة يف الرجوع ُ ف�سارعت بغلقها،
ْ
فقالت ب�صوتاجتهت �إىل املرحا�ض ْ ُ �إليه واحت�ضانه ل�ساعات �أخرى.
�آيل �أنثوي اخرتته من بني عدة �أ�صوات من خالل �سماعات ارتكزت
بجوانب ال�شقة:
� -سيد �أجمد ،ال�سيد ه�شام و�ضع مالحظة على قائمتك
با�ستيقاظه ورغبته يف احلديث معك .هل �أت�صل به؟
« -نعم»� .أخرجتها بزفرة ّ
�ضخمت من حروفها بفعل التثا�ؤب الذي
ما زال يالزمني.
94
مرت دقيقة ظهر بعدها ر�أ�سه ب�صورة جم�سمة ثالثية الأبعاد
وم�شت ُمعلقة يف
ْ امتدت �أ�شعتها من �أحد الألواح املثبتة باحلائط
الهواء بجانبي ،قال بحما�سة عهدتها منه بعد كل ليلة مثل البارحة:
� -صباح اخلري يا زعيم.
-و�أي خري ي�أتي وقد بد�أ اليوم بر�ؤية وجهك؟
تعالت قهقهته ثم �أكمل:
ريص ع
� -أبدعت يف تنظيم احلفل بالأم�س ،اجلميع كان منبه ًرا بالوقت
والتوز عي
يليق بافتتاح �شركة �آليني خم�ص�صة للعناية بالأطفال حديثي
الوالدة بحق.
-ابقَ هنا.
-ماذا؟
-ابقَ هنا� ،س�أدخل احلمام� ،ستُدخل ر�أ�سك معي؟
�ضحك ب�شيء من احلرج ً
قائل:
� -آ�سف� .أخذين احلما�س ومل �أنتبه� .س�أنتظرك باخلارج.
أغلقت الباب ورائي .فتحت �صنبور املياه
دلفت �إىل املرحا�ض و� ُ
ُ
للتمويه ونزعت غطاء ما�سورة احلو�ض ال�سفلية� ،أخرجت علبة رفيعة
معدنية وتناولت �سيجارة من داخلها و�أ�شعلتها� ،أ�صبحت ال�سجائر
95
ُمرمة يف العهد اجلديد ،ت�أتي ُمهربة من اخلارج وجمز�أة حتى
ا�ستطعت
ُ ي�سهل دخولها للبالد ،ال �أ�ستطيع �أن �أدخن �إال بهذا املكان،
من خالل خربة برجمية قدمية �أن �أُحدث بتلك ال�شمطاء الإلكرتونية
ً
خلل ال تعرف ب�سببه ما �أفعله هنا.
� -أظن �أن هذا امل�شروع �سينجح كث ًريا ،هل تعلم �أنه قد ُحجز
خم�سون �ألف �آيل من ِقبل حوامل يف �شهورهن الأخرية بعد
فتح باب احلجز ب�ساعات ،على الرغم من تكلفته العالية خو ًفا
ص ع
من نفاد الكمية؟ ويرى اجلميع �أن هذه بداية ُمب�شرة ك�أول
كبرت�أ�سه املج�سم على باب احلمام ،وددت �أن ل ا ري
م�شروع ُيطلق للآليني ببالدنا.
ن بل
ل ت
ر ش
-هل الأمر خطري؟ هل �أ�ستدعي الطبيب؟
ع
يحتويه دوالب املر�آة و�شفطت الدخان� .أي عناء هذا؟ كل ذلك لتدخني
والتوزي ر
�س�ؤايل له�شام الذي ما زال هنا:
ع
-و�إن كان املوعد ال�ساعة الثالثة ع�ص ًرا ،فما الذي �أيقظك
مبك ًرا على الرغم من نومك املت�أخر؟
قال ب�سعادة طفولية:
-لدينا موعد يف ال�ساعة التا�سعة والن�صف �أنا و�سارة يف م�صنع
الأثاث.
قلت و�أنا �أخرج مالب�سي من اخلزانة:
ُ
-وهل الأثاث جاهز و�ست�شرتيانه مبا�شر ًة؟
-ال ،نحن �سنذهب ونخربهما بذوقنا� ،أي طراز ُنف�ضل
الكال�سيكي �أم احلديث و�أي �ألوان نحب ،وهم �سينتقون الأثاث
ويفر�شونه بال�شقة ويخربوننا.
98
�أوم�أتُ له بر�أ�سي فه ًما وبداخلي ح�سرة على تلك الأ�شياء التي
ذهب جمالها و�أ�صبحت ً
م�سخا.
�أردف ً
مكمل:
-هل تعلم؟ عانينا كث ًريا حتى جاء دورنا ،ننتظر منذ �شهور.
�أجبته من خلف �ساتر خ�شبي مو�ضوع بغرفتي و�أنا �أرتدي مالب�سي:
-لهذه الدرجة؟ يبدو �أن �شباب بالدنا مل من ال�سعادة ف�أقدم
ع
على الزواج.
والتوز عي
جديد من �أبوابها.
�س�ألته و�أنا �أطوي �أكمام قمي�صي �أمام املر�آة:
-هل حتبها يا ه�شام؟
عاما:
�أجاب بحياء فتاة ذات �ستة ع�شر ً
-جدً ا ،جدً ا.
أخرجت نغمة مو�سيقية من فمي ا�ستهزا ًء ب�إجابته ف�ضحك على ُ �
تابعت و�أنا �ألتقط علبة علكة �صغرية بنكهة النعناع من على �أثرهاُ .
الطاولة:
� -ألقاك يف الثالثة �أيها العا�شق.
•••
99
انطلقت على دراجتي النارية �أ�شق ب�ضجيجها هدوء ال�صباح، ُ
مرتد ًيا خوذتي ال�سوداء احلاملة لقطعة �إك�س�سوار على �شكل زعنفة
وطلبت من البائع
ُ قر�ش بنف�س اللون ،مررت بطريقي مبحل لبيع الورد
تن�سيق باقة من زهور الالفندر ،جاءين ات�صال �أبي م�ؤكدً ا انتظاره
باملكان املتفق عليه بيننا.
اليوم ذكرى وفاة �أمي ،من �أتع�س �أيام حياتي �إن مل يكن �أتع�سها
على الإطالق ،ال �أفهم ملاذا ي�صر �أبي على زيارتها ب�شكل ر�سمي يف
ص ع
هذا اليوم و�إجباري على هذا الأمر معه! �أظنه يعتقد �أنني ن�سيتها وهو
ع
ُرفات �أمي �إىل مكان بعيد متطرف من املدينة يف قبو حتت الأر�ض
خمفي عن الأنظار ،وخ ًريا فعل ،فمع بداية العهد اجلديد �أخطر
جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد النا�س بنقل رفات موتاهم �إىل مكان �آخر
يف ال�صحراء ،و�أقام مقربة با�سم كل عائلة و�صارت كل عائلة بعدها
تدفن موتاها مبقربتها اخلا�صة بها ،وترتحم عليهم وعلى القدماء
الذين مل ينقلهم املجل�س كما زعم ،بل �سحق عظامهم وحولها �إىل
�سماد للأرا�ضي الزراعية ،و�شرع ببناء م�شروع عظيم على �أر�ض
املقابر مبوقعها احليوي ،مطب ًقا بذلك مقولة« :احلي �أبقى من امليت».
وا�ستقللت
ُ تركت دراجتي
وجدتُ �أبي بانتظاري يف املكان املخ�ص�صُ ،
جال�سا على املقعد املجاور له .بعد ال�سالم واالطمئنان على
�سيارته ً
الأحوال مبعدل ال يتعدى الدقائق الأربع بد�أ �أبي بنقدي كاملعتاد،
نقد مالب�سي� ،سهري ،عملي ،تفكريي وحياتي التافهة كما و�صفها.
100
يخربوننا دائ ًما �أن نقد �آبائنا لنا وجه من �أوجه احلب ،فلماذا �أتقنوه
�إىل احلد الذي جعل منه الوجه الوحيد؟ ملاذا ال مييطون اللثام عن
الأوجه الأخرى با�ستمرار يدق على وتد حبهم بداخلنا بعد تلخلخه
�إثر ريح فيها �صر مواقف زمن غابر �أ�صابت حرث قلب ف�أجدبته؟
�أنقذين و�صولنا للمكان املحدد قبل �أن يتم �أبي ق�صيدة نقده،
ترجلنا من ال�سيارة واجته �أبي بعدها لباب حديدي فتح قفله بعد
النظر ميي ًنا وي�سا ًرا ،والت�أكد من خلو املكان على املدى من �أي ب�شر
ريص ع
�أو كائن حي �أ ًيا كان� .أ�شار يل بيده �أن �أتقدم ،ال �أعلم �سر تلك الرهبة
101
وا�ستقمت بجانب �أبي
ُ و�ضعت باقة ورود الالفندر بجانب قربها
ُ
�أ�ستدعي �أدعية ال �أحفظ �إال ي�سريها� .أخذين التفكري ب�أن ج�سد �أمي
هنا حتت هذا الرتاب بتلك احلفرة �أو ما تبقى منه ،جاء اللون الأحمر
�أمام عي َني فج�أة� ،أغم�ضتهما فانت�شر �أكرث ،الدم ،الق�ضبان ،جلو�س
�أمي وا�ست�سالمها للقطار الذي مل يت�أخر يف التهام وجبته �سري ًعا،
الرجالن وهما ي�صرخان ب�صرخة تن�ضح قه ًرا لف�شل حماولتهما ،و�أنا
امل�أخوذ مبا �شاهدت وقد ابتلعت الفاجعة دموعي وكالمي ،مل �أنطق
ظللت هكذا حتى خافت اجلدة كوثر من �أن �أكون قد �أُ�صبت
ع
أبكُ ، ومل � ِ
ر ش
والتوزي
و�أكد �سالمة �أع�ضائي ون�صحها بعر�ضي على طبيب نف�سي ،ومل تت�أخر
ع
يف تنفيذ ن�صيحته� ،أخذتني لطبيبة نف�سية متخ�ص�صة يف التعامل مع
الأطفال اقرتحها عديد ممن حولها عليها .لن �أنكر �أن الطبيبة �أروى
واجلدة كوثر مل تدخرا �أي جهد مل�ساعدتي على جتاوز �أزمتي ،لكنهما
مل تدركا �أن خرق الأمل ب�صدري ات�سع عن راتق ال�سالمة ،تغريت
روحي من وقتها وتبدلت مالحمها فلم �أعد �أنا و�إن مل �أتغري ً
�شكل.
حمطة ما بعمرك يتجاوزها كل �شيء ومير عليها كل �شيء ،وتظل
هي ثابتة ب�أثرها املوجع املمتد داخل حناياك وبني جنباتك ،وكانت
هذه املحطة موت �أمي.
�أُوجدوا عمليات التجميل ملعاجلة ت�شوهات اجل�سد ،فماذا عن
ت�شوهات الروح القابعة ب�صحيحي البدن الذين �أتقنوا ر�سم حدود
الر�ضا برباعة على خريطة وجوههم؟
102
نفرت دمعة �ساخنة على وجنتي بعد �أن جلبتني الذكريات �إىل ْ
�أر�ضها� ،أزلتها �سري ًعا ف�أنا ال �أحب �أن يرى �أحد بكائي �أو �أن ي�ست�شعر
غ�صتي ،ال �أجد نف�سي يف جو املوا�ساة والتخفيف وت�ضميد اجلراح،
علي �أتركه على حاله اعتدت �أن �أقوم بهذا بنف�سي وما ي�ستع�صي ّ
للزمن لعله ينجح يف ما ف�شلت به ،فقط �أهم�شه كي �أ�ستطيع موا�صلة
امل�سري.
-هيا يا �أبي يكفي هذا» .نطقتها ب�صوت خمتنق.
ًنحوي �سائل:
-ماذا بك؟
-ال �شيء� .شعرت بال�صداع واالختناق بالأ�سفل.
حترك جتاه باب عجلة القيادة بعد �سماع جملتي وفتحه.
� -أبي.
-نعم.
ألت ب�شيء من التلعثم بعد ابتالع ريقي:
�س� ُ
103
-هل ميكنني زيارة اجلدة كوثر؟
�أغلق الباب بقوة غا�ض ًبا فور �أن �سمع طلبي ،واجته ناحيتي
والنريان تخرج من عينيه ً
قائل:
-هل تعي ما تقول؟ هل تعيه؟
�سكت برهة و�أكمل بنف�س الغ�ضب:
َ
-قلت لك مئة مرة ال ت� ِأت ب�سرية تلك املر�أة �أمامي ،عذبتني
ريص ع
ملدة عامني حتى وجدتها ووجدتك ،وزادت الطني بلة عندما
ع والتوزي
لقلبي و�أنا ال �أعلم �أين اختفيت بعد �أمك ،لوال الإعالن الذي
ن�شرته وات�صل بي جريانها للداللة على مكانكما مقابل مكاف�أة
مالية �ضخمة ،وبعد كل هذا تطلب مني �أن �أ�سمح لك بزيارتها؟
هد�أ ً
قليل ثم �أكمل:
-كما �أنه �إذا زرتها فلن تتذكرك بالت�أكيد بعد العهد اجلديد،
هذا �إن كانت ما زالت حية بعد كل تلك ال�سنوات.
�شاخ�صا ب�صري �إىل
ً ظللت
مل �أعلق على �أي كلمة مما قالهاُ .
الأر�ض متحا�ش ًيا نظراته الغا�ضبة جتاهي ،كان ردي تنهيدة عميقة
�أخرجتها من جويف ويا ليتني مل �أفعل.
التقط �أنف �أبي رائحة ما فبد�أ بال�شم ب�شكل �أعمق حويل وقال
م�ستنك ًرا:
104
-هل رجعت �إىل التدخني مرة �أخرى؟
لعنت غبائي بن�سيان م�ضغ علكة النعناع ،قبل �أن �أجيب مرتددًا:
ُ
� -أنا� ،أنا.
قائل بحزم: قاطعني قبل �أن �أكمل ً
-لن تبقى مبفردك ثاني ًة� ،ست�أتي ب�أغرا�ضك ومالب�سك وتعي�ش
معي من الليلة .انتهى الأمر.
�صحت
ُ
ري ص
� -أبي يكفي،ال
كانت جملته الأخرية الق�شة التي ق�صمت ظهر احتمايل،
ع
بح ـ لمـلـة. ت ك
نشر
بوجهه:
صأ�سى:
ري �ع ُ
-هل كنت تريد ح ًقا �أن تعي�ش مثلهم؟
ب
وكذلك لال ت ك ل ا
ن ل
أجبت ب�
106
-ح�س ًنا ،ما ر�أيك يف االنتقال للعي�ش معي رمبا يتغري �شعورك؟
�صدقني هذا �أف�ضل لكلينا ف�أنا �أخاف عليك كث ًريا من العي�ش
مبفردك،جرب.
هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا:
-ال يا �أبي ،هذا �س ُيعقد الأمور �أكرث ولن يحل �شي ًئا ،وال تقلق �أنا
�آخذ حذري جيدً ا.
ع
قال بود م�ست�سل ًما:
ص ع
-وماذا كنت تريدين �أن �أقول؟
ع والتوزي
نظر �إيل بابت�سامة الئمة ثم انطلق ك ٌل منا بعدها يف طريقه،
�أخذتُ يف التفكري والتذكر يوم �أن حلت تلك النكبة على بالدنا منذ
�أربع �سنوات ،نكبة العهد اجلديد.
•••
108
()٨
(قراصنة العقول)
ص ع
كانت البداية منذ �أربعة �أعوام ون�صف عندما �أعلن جمل�س �إدارة
ش نبل
ل
(قر�صنة العقول) ،و�صرحوا ب�إ�سقاط جميع التهم املوجهة لهم ووقف
و
عقولال�تأهلوبلدتنا غري
ز ر
مطاردتهم بعد �أن ف�شلوا يف القب�ض عليهم واحلد من ن�شاطهم.
أريحية ي
�آبهني بالزجر والتنكيل والوعيدُ ،يتمون مهمة ن�شر الفو�ضى ب�ع
قرا�صنة العقول الذين ا�ستفحلوا وعاثوا يف
يوما بعد يوم ،فيخرجون يف وقفات حتمل تثري حنق اجلميع �ضدهم ً
�شارات م�سيئة �إليهم وتطالب ب�سرعة القب�ض عليهم و�إعدامهم يف
امليادين العامة .كانت بداية معرفتهم قبل ال�صلح بثالث �سنوات
عندما ُ�سرب مقطع ت�سجيلي على ال�شبكة العنكبوتية يظهر فيه
�أحدهم بقناع بهلواين بعني جاحظة حتمل نظرة ال�شر و�ضحكة ب�شفاه
حمراء خبيثةُ ،يعلن فيه ب�صوت ُ�ضخم لكي ال تظهر هوية �صاحبه
عن تو�صلهم �إىل اكت�شاف ُي ّكنهم من ال�سيطرة على العقل الب�شري
والتحكم به وحمو ما يريدون منه وزرع ما يريدون من ذكريات،
و�صرحوا مب�س�ؤوليتهم الكاملة عن التالعب ب�أدمغة كثري من ال�شهود
يف ق�ضايا مهمة ،ما �أدى �إىل براءة عديد من املدانني الظاملني والزج
109
�صارما وهو ينقل ر�سالته
ً بالأبرياء يف غياهب ال�سجون .كان تهديده
بكلمات احتقنت بالغ�ضب:
-ما دامت مدينتكم ظاملة ف�سن�ستمر يف ن�شر الفو�ضي،
و�سنجعلها متر �أمام �أعينكم وتتقبلونها رغم �أنوفكم� ،سننتزع
منكم �أحبتكم ونلقيهم يف ال�سجون ،و�س ُنخرج الظامل ليمار�س
عليكم ت�سلطه وظلمه لتتجرعوا ُمر مظلوم مل تن�صروه
وغ�ض�ضتم الطرف عنه ما دام مل مي�سكم الأمر� ،سنظل هكذا
ع
حتى تنتهي احلياة بكم وبنا �أو ين�صلح حال هذه املدينة.
والتوزي
جتاربهم العلمية على �أ�شخا�ص حقيقيني واللعب يف ذكرياتهم وحمو
ع
ما ي�شا�ؤون منها وزرع ما يوافق مفكرتهم اخلا�صة؟ �أم �أنهم جهات
خارجية ممولة تريد العبث بعقول �أهل بالدنا ون�شر الفو�ضى بزرع
ذكريات م�سمومة ،و�أن احلرب بالأ�سلحة الآن انعدمت وحلت حملها
احلرب الباردة املتمثلة يف التجارة بالعقول؟ بينما ذهب �آخرون من
�أهل بلدتنا �إىل اجتاه ثالث مل ي�صرحوا به عالني ًة وجاء على هام�ش
حواراتهم ب�أ�صوات هام�سة �أنه قد يكون كل هذا زائف ،و�أنه من
�صنع جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد لريموا عن كاهلهم مواجهة كثري
من امل�شاكل التي متر بها بالدنا ويلقوها على كاهل هذه املجموعة.
�أما �أ�صحاب االجتاه الرابع فكانوا يرون �أنهم بداية �إ�صالح كل هذا
الف�ساد ،ي�ؤيدونهم باخلفاء ويتابعون ن�شاطهم بحر�ص ،ي�ستمعون �إىل
ت�سجيالتهم امل�سربة بني احلني والآخر بانبهار ويرون �أنهم طريق
اخلال�ص ،حتى و�إن كانوا يطبقون هذا ب�شكل خاطئ.
110
انق�ضت �أ�شهر قليلة جنحت خاللها برامج التلفاز يف �إثبات نظرية
ْ
االجتاه الثالث ،فقد �أ�صبحت �شرذمة قر�صنة العقول -كما �أطلق
عليها �إعالمنا -ال�سبب يف كل امل�شاكل التي تعج بها بالدنا ،وال نعلم
هل املجل�س من �أوجدهم بالفعل� ،أم �أنهم �أ�صبحوا مبثابة املاء الزالل
و�سالما بعد �أن ظهرت احلجة القوية
ً الذي ينزل على �صدورهم بردًا
التي ي�ستطيعون تلفيق كل �شيء لها دون تردد.
بوقت ق�صري �أثبت الإعالم بكلماته الرنانة دون دليل حقيقي �أن
ص ع
قرا�صنة العقول هم ال�سبب يف �إدمان ال�شباب للمخدرات لزراعة
ع
مع وعد من الطرف الآخر با�ستغالل ن�شاطهم يف قنوات �شرعية وعدم
والتوزي ر
�أعماق قلوبهم على قرارات املجل�س احلكيمة ،و�أنهم كفوا �أذى هذه
ع
الع�صابة باحل�سنى و�ضموها حتت جناح االحتواء.
لكن بني الأروقة ال�سرية كان يحدث �أمر �آخر ،كانت جترى
اجتماعات بني املجل�س وقرا�صنة العقول بعد �أن ا�ستطاعوا التو�صل
�إليهم و�إعطائهم الأمان الكامل ،مقابل جميئهم واجللو�س على املوائد
امل�ستديرة للحديث معهم ،وتو�صيل ر�سالة لهم م�ضمونها �أن الأهداف
واحدة ،فلماذا ال نتحد؟ و�إن كان هدف قرا�صنة العقول انت�شار العدل
فهدف جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد لي�س ببعيد عن ذلك ،ولكن طريق
الفو�ضى ق�صري والأنفا�س فيه معدودة ولن ُتعينهم على قطعه ً
كامل،
و�إن كان قرا�صنة العقول ميلكون الأدوات العلمية واملجل�س ميتلك
الأموال لتحقيق �أي فكرة يقرتحونها ،فلماذا ال ي�سلكون طري ًقا ً
ناجحا
بنتائج م�ضمونة؟ جنح املجل�س يف العزف على وتر نهم العلم والتجربة
يف قلوب قرا�صنة العقول برباعة ،بفتح جميع الأبواب املغلقة �أمامهم
112
و�إعطائهم ميدا ًنا �أرحب لتنفيذ جميع خططهم التي كانت حبي�سة
الأوراق والذاكرات الإلكرتونية بطريقة �شرعية حتت تغطية �أموالهم.
متخ�ضت االجتماعات بالنهاية عن فكرة �شيطانية طرحها
قرا�صنة العقول والقت القبول لدى املجل�س ،فكرة (العهد اجلديد)
التي كانت تن�ص على بدء كل �شيء من ال�صفر ،فهذا ال�شعب ال رجاء
من �إ�صالحه ،مع و�ضع قوانني وت�شريعات جديدة ي�ضعونها م ًعا ،و�أنه
يف املا�ضي كان ُيلج�أ �إىل القنابل النووية للتخل�ص من كل �شيء يف
ع
بع�ض البلدان ،لكنهم لي�سوا بحاجة �إىل هذا يف بلدنا الآن ،لأنهم
ر
اجلديد لوأيا�لت
منا�سبة.وز عي
العهد اجلديد و�سيختار ال�شريك املنا�سب له.
إ�ضافة جديدة • •تظل قائمة القوانني والت�شريعات مفتوحة
يراها جمل�س �إدارة �ش�ؤون العهد
كان القانون الأخري ً
مدخل منا�س ًبا للمجل�س ليطلب يف ما بعد و�ضع
ً
م�ستقبل، قانون الثقة التامة بقرارات جمل�س �ش�ؤون العهد اجلديد
وزرع ذكريات عن حكمة قراراته واال�ست�سالم لها دون اعرتا�ض .رف�ض
بع�ض قرا�صنة العقول هذا البند ور�أوه خمال ًفا لهدفهم الأ�سا�سي وهو
انت�شار العدل ،ما دفع املجل�س لعر�ض �أموال طائلة ا�ستطاعت �شراء
�ضمائر بع�ض منهم والدفع بالقلة الباقية الراف�ضة �إىل احلب�س يف
�أماكن ال يعلم �أحد عنها �شي ًئا.
فكر املجل�س يف اال�ستفادة ب�شكل �أكرب من فكرة (العهد اجلديد)
بعد ال�سيطرة ب�أموالهم على قرا�صنة العقول و�شراء رف�ضهم ب�شيكات
114
حتمل كث ًريا من الأ�صفار ،بفتح املجال لل�شركات التي تريد زراعة
ذكريات حمببة عن منتجاتها داخل عقول ال�شعب فيقبلون عليها
دون وعي ،ي�ستثنونهم من قانون الأكل ال�صحي �أمام في�ضان �أموالهم
اجلارف� .أبدى كثري من ال�شركات رغبته يف امل�شاركة ،لتدخل بالدنا
يف مزاد �سري ملن ي�ستطيع الدفع �أكرث والفوز بعقول بي�ضاء كما
ولدتهم �أمهاتهم ،نا�سني �أي انطباع �سيئ عن منتجاتهم ،ي�ضمنون
والءهم الدائم جتاهها دون �أي جمهود يف الدعاية.
ع
وحدد يوم التنفيذ ،يوم �إطالق انتهوا من الإعداد لكل �شيء ُ
ص ع
الكتب ،لكن داهمني �شعور غريب ،كان كل �شيء منظ ًما ونظي ًفا،
ر
مكتمل ب�شكل مبهر لكن تنق�صه احلياة. �شيء يبدو
ع والتوزي
عرفت كث ًريا من الأمور التي ا ُتخذت كي تكتمل �أركان اخلطة، ُ
ومنها عزل بلدنا عن العامل اخلارجي ب�إن�شاء �شبكة عنكبوتية خا�صة
به ومنع ال�سفر للخارج ،ومن ي� ِأت من اخلارج ُيحتجز بغرف ُ�صممت
باملطار مل�سح ذاكرته ثم ال�سماح له بالدخول� .أخفوا الكتب واملكتبات
و�أن�ش�ؤوا مكا ًنا نائ ًيا يوجد به قليل من الكتب التي اختاروها بعناية
قليل من املعلومات العامة البدائية� .أعطوا لكل عائلة جها ًزاحتمل ً
اختق م�سب ًقا من ِقبل املجل�س و�أخربوهم �أنه يحمل تفا�صيل حياتهم ُ
و�أ�سماءهم وطبيعة عملهم وعناوين بيوتهم ،قبل �أن ي�ستخدم العدو
�سالحا متطو ًرا للغاية ت�سبب يف فقدً الغا�شم ال�شرير اخلارجي
ذاكراتهم ،و�أنهم ي�شعرون بغاية الأ�سف حلدوث ذلك احلادث الأليم.
�أُقيمت االحتفاالت بعدها بنجاة �شعبنا من املوت واقت�صار الأمر
فقط على موت ذاكراتهم� ،شاكرين �أنعم املجل�س الذي فعل ما
با�ستطاعته لإنقاذهم ،ممتنني لكرمه وجوده.
116
ظلت الأمور حتت �سيطرة املجل�س حتى غمره االطمئنان وغرق
يف بحره �إىل �أذنه ،ف�أتته املفاج�أة لتهدم لذته وتعكر �صفوه بعد �ستة
�أ�شهر من بداية العهد اجلديد ،فقد اكتُ�شف �أن الفريو�س مل ي�ؤثر يف
عدد من الأ�شخا�ص وما زالوا يحتفظون بذاكراتهم ،ويوعون النا�س ملا
حدث لهم من خداع و�أنهم يعي�شون يف عامل الزيف الآن ،و�أن �شعبهم
قد �أُهدر تاريخه وحا�ضره لإ�شباع لذة احلكم بنفو�س م�صابة بداء
العظمة .ا�شتُمت رائحتهم �سري ًعا عند املجل�س فقب�ضوا على ثالثة
منهم وحققوا معهم يف اخلفاء ،ثم �أظهروهم للعلن وقد افرت�ش
ص ع
تاركني لهم املنزل بثقة ليفعلوا به ما ي�شا�ؤون� ،آملني �أال يتعر�ضوا لهذا
املجل�س .برجموا هذه الأنظمة بذكاء يقدر على حماورتهم ب�شكل دائم
كي ي�صلوا �إىل �أي تغيري قد يطر�أ على كالمهم ويعك�س ما تفكر به
عقولهم ،لن�صبح بعدها ب�سجن كبري ،يحيطنا املجل�س من كل جانب
و�إن كان ظاهر مدينتنا عك�س ذلك.
قاطعت �سيل ذكرياتي املتدفق ب�صوتها الآيل:
ْ
-هل كان االحتفال بر�أ�س ال�سنة اخلام�سة اجلديدة ممت ًعا يا
�سيد �أجمد؟
أجبت ب�صوت يبطن الكره:
� ُ
118
-جيدً ا.
أكملت بعدها:
�صمت برهة و� ُ
ُ
� -سو�سن.
-نعم �سيد �أجمد.
� -أحبك.
ع
-و�أنا � ً
أي�ضا �سيد �أجمد.
ل ا
-الكره ال يوجه �إال للخالدين �سيد �أجمد .توزيع
� -أكرهك.
119
()٩
(ليىل)
والتوز عي
وعوقب بتحوله ل�ضفدع ب�شع لزج و�أنقذهذلك الأمري املغرور بجمالهُ ،
حب الأمرية بالنهاية فعاد �إىل هيئته ،ولكن لأ�ستطيع التنف�س من خالل
جلدي مثله وحب�س �أنفا�سي حتى ينتهي هذا احلفل املقيت .على الرغم
من قلة عدد احلا�ضرين ف�إنه مبجرد �إعالن �شركة العطور الإلكرتونية
عن �إطالق عطرها اجلديد (طالء احلوائط) ومفاج�أتها الكربى
(رائحة البنزين) ،حتى �شرع اجلميع بلهفة عارمة يف التجريب من
خالل تطبيقاتهم الإلكرتونية ،ي�ستن�شقون بعمق الرائحة املتوغلة يف
�أنوفهم وامل�سيطرة على عقولهم بخدر ممتع ،غارقني يف لذة االنت�شاء.
ال بد �أن �أجداد ه�ؤالء هم من �أدخلوا البنزين يف كرميات ترطيب ما
بعد احلالقة((( و�أورثوهم هذا احلب العجيب.
-ه�شام ،ذ ِّكرين �أن �أقتلك بعد �أن ينتهي احلفل.
((( أُطلقت هذه املنتجات يف القرن التاسع عرش.
121
قلتها ب�صوت مكتوم نفذ من خالل منديل و�ضعته على �أنفي
امل�سكني يف حماولة بائ�سة لإنقاذه.
اجتهت �إىل اخلارج يتبعني ه�شام الذي ا�ست�شاط غ�ضبي جتاهه
ُ
لإقناعي بقبول هذا احلفل ،فاملقابل املادي له ي�ستحق� .أغلق باب
�سحبت
ُ القاعة من ورائنا حتى ال يختلط هوا�ؤها بالهواء اخلارجي،
أنفا�سا مت�سارعة �إىل �صدري� ،أغ�سله بنقائها بعد �أن مترغ يف وحل
� ً
الروائح الغريبة.
ر ش
والتوزي
لهم ثاني ًة ،ال �أ�ستبعد �أن يطلقوا رائحة العرق الب�شري يف املرة
ع
القادمة لع�شق حفنة من املخابيل له.
ا�شم�أزت مالحمه �إثر التخيل وهو ُيخرج هاتفه ويحجبهم من
طلبت منه �سرد جدول �أعمالنا
ُ قائمة النظام اخلا�ص ب�شركتنا.
علي.
الأ�سبوع القادم فقر�أه ّ
�صمتنا حلظات قال ه�شام بعدها بكلمات مرتددة:
-زعيم ،كنت �أفكر ب�أمر ما� ،صديقة �سارة �ستقيم حد ًثا توعو ًيا
وكنت �أرغب يف �أن تنظمه �شركتنا.
-ح�س ًنا� ،ضعه �ضمن جدولنا.
قال بعد �أن ابتلع ريقه:
� -سيكون جمان ًيا.
122
�صحت بيه:
ُ
-جمان ًيا! ه�شام� ،سارة خطيبتك �أنت ولي�ست خطيبتي �أنا حتى
�أجامل �صديقتها.
ت�شبعت مالحمه بال�ضيق وهو ُينحي النظر جان ًبا ي�سبني ب�ألفاظ
عدة لي�س لها �صوت ولكن �أ�سمعها جيدً ا.
قلت بعد �أن زفرتُ با�ست�سالم و�أنا �أ�ضع يدي بجي َبي بنطايل وقد
ُ
ع
�ضعفت �أمام �ضيقه ،فمكانة ه�شام لي�ست بالقليلة عندي:ُ
ع والتوزي
�سريته الذاتية وموافقتي على التحاقه ب�شركتي .كان له�شام �أ�سلوب
مميز جنح يف ا�ستمالة قلبي �إليه ،ورقيته �سري ًعا ليكون �ساعدي
الأمين يف طاقمي ال�صغري املكون من �أربعة �أ�شخا�ص ،كان ميتلك ف ًنا
عظي ًما يروق لأمثايل هو فن معاملة املدراء ،كلماته الرنانة عباراته
اجلزلة ثنا�ؤه امل�ستمر ،لقب الزعيم الذي مينحني �إياه دائ ًما يعو�ض
نق�صا بداخلي دفعني ملالزمته �أكرث و�سماعه �أكرث واكت�شاف كثري منً
�صفاته احل�سنة ،ليزداد ر�صيده عندي رغم تعليمات �أبي املتكررة
باحلذر منه وعدم الثقة به� .أظن �أن �أبي �أُ�صيب بداء قلة الثقة جتاه
اجلميع مع بداية العهد اجلديد ،عار�ضني يف البداية عندما �أبلغته
برغبتي يف اقرتا�ض الأموال منه لت�أ�سي�س �شركة لإقامة احلفالت
الدعائية ،ولكنه ر�ضخ يف نهاية الأمر ب�شرط موافقة املجل�س ،الذي
جاءت موافقته بعد ثالثة �أ�شهر بدعم وغطاء من معرفة �أبي املقربة
بداخله.
124
تعب قولوين ب�أمل وهمي من وجبات الرومان�سية الد�سمة التي
�أتلقاها على هذه املائدة ،مما دفعني لأتقي�أها غري نادم ب�صوتي:
-ه�شام.
نظر �إيل ك�أنه تذكر وجودي فج�أة ،ف�س�ألته بابت�سامة �سمجة:
-متى العر�س؟
�أجاب ب�ضيق:
ر
� -أنت مدعو بالت�أكيد من الآن �سيد �أجمد .والتوز عي
ه�شام:
ر
أكملت :والتوزي
بح�سن و�صاله.
املتعط�شة لرفقة ،حلبيب يبددها ويحيلها لعدم ُ
ص ع
عن �سبب انتحار البع�ض على الرغم من زرع كل �أ�سباب ال�سعادة
ي ز
انتهى احلدث وبد�أ اجلميع باالن�صراف ،ما عدا عدد منهمعالتف
�أخرى؟
حول الفتاة �صاحبة حديث الوحدة ،يتكلمون معها ،ال يكاد ينتهي
�أحدهم حتى يلتقطها الآخر ،تط�أطئ للبع�ض ر�أ�سها ل�سماع حديثه
ودعت �آخر فتاة
كنت �أنتظرهم حتى ينتهواْ ، ك�أنه يخربها ب�سر ماُ .
منهم بابت�سامة هادئة وهي تربت على كتفها بعد حديث طويل دار
مللت من انتظار نهايته.
بينهما ُ
اقرتبت منها ،درتُ
ُ نظرت جتاهي بانتظار �أن �أبد�أ حديثي بعد �أن
ْ
حولها ببطء و�أنا �أ�صفق ب�شكل متقطع �أثار ا�ستغرابها وهي تكت�شف
قلت �ساخ ًرا و�أنا
بعينيها هذا الكائن الذي هبط على كوكبها فج�أةُ .
�ألوح بيدي ب�شكل درامي:
127
� -أنت �أقوى من ذلك بكثري ،بوجودك يكتمل وجودنا.
توقفت و�أنا �أنظر �إليها
ُ مل تعلق رغم فهمها ال�ستهزائي بكلماتها.
بغ�ضب ً
قائل با�ستنكار:
-ال تعلمني كم ا�ستفزتني كلماتك تلك ،من �أين ت�أتني بفل�سفاتك
هذه؟
تابعت وقد متلك الغ�ضب �أكرث من كلماتي رغم وتريتها الهادئة:
ُ
ع
بقيت تنظر �إيل بثبات دون �أن تتحدث �أو �أن يظهر �أي انطباع ْ
أخرجت منها
ْ فتحت حقيبتها� ،
ْ لكلماتي وا�ستهزائي على مالحمها،
قل ًما ودفرتًا �أزرق مزي ًنا بزهور وردية وبد� ْأت بتدوين �شيء ما ،نزعت
الورقة وناولتني �إياها بابت�سامة قائلة:
-جنتمع الثالثاء واخلمي�س ال�ساعة ال�ساد�سة م�سا ًء من كل
�أ�سبوع يف مقر اجلمعية يف هذا العنوان� ،سي�سعدنا جميئك �إن
�أحببت ،بعد �إذنك.
�أعطتني ظهرها وقد �أ�صابتني املفاج�أة من رد فعلها وعدم تعليقها
على كلماتي ك�أنها مل ت�سمعها ،اجتهت �إىل �سارة وبادلتها ال�سالم ثم
رحلت.
ْ
128
ناديت ه�شام ب�صوت �آمر وما زال نظري ُمعل ًقا بها وهي تبتعد ُ
بخطواتها داخل املمر امل�ؤدي للقاعة .جاء بجانبي ُمي ًبا ف�س�ألته وما
زالت بقايا الغ�ضب عالقة بنربة �صوتي:
-من هذه؟
دقق النظر يف اخليال املبتعد و�أجاب بعد فح�صه:
-هذه �صديقة �سارة ،ليلى.
ع
•••
ت ك ل ا ريص
ر ش ن ل بل
والتوز عي
129
()10
(م ًعا نحيا)
ز عي و
الفر�صة مرة واللك
ت ر -ملاذا تفاج�أت �إىل هذا
كنت مبكانك لفرحت� ،أُتيحت
�أي وقت ،ولو ُ
�أخرى فال ت�ضيعها.
� -أبي �أرجوك كفى ،ما هذا الذي تقوله؟
أحببت �أن �أخربك بالأمر ،لعل وع�سى تفكر.
ُ �-
ً
مت�سائل بعد �أن �شعر بعدم رغبتي يف مل �أعلق على جملته ،ف�أردف
�إكمال هذا احلديث:
-كيف حال �ضر�سك الآن؟
-خلعته ،هكذا �أف�ضل.
-ح�س ًنا ،هل ميكننا تناول الغداء م ًعا؟
131
-ال .اليوم من�شغل كما �أن جدول �أعمايل ُمتخم هذا الأ�سبوع،
�س�أحاول توفيق موعد قري ًبا و�س�أخربك.
-ح�س ًنا� ،س�أكون بانتظار ات�صالك.
كذبت عليه ب�أمر
�شعرتُ بال�ضيق بعد انتهاء املكاملة .ال �أعلم ملاذا ُ
ان�شغايل و�أنا �أكاد �أختنق ً
ملل من الفراغ هذه الأيام! رمبا لعلمي �أنه
لن يكف عن احلديث يف �أمر لبنى وحماولة �إقناعي بالتقدم �إليها،
فهو ي�شتاق �إىل ر�ؤية �أحفاده ،كما �أنه يرى �أن ثمرة عزوبيتي قد �أينعت
يرى �أو ين�صح به� .أ�شعر �أحيا ًنا �أن رف�ضي لكل ما يقوله ال ل�شيء �إال
لإثبات وجودي وذاتي ،حتى و�إن كان ما يقوله ي�صب يف م�صلحتي.
زفرتُ بقوة ناظ ًرا �إىل ال�سقف بعد �أن جثم ال�شعور بالذنب جتاه
لبنى على �صدري ثاني ًة� .أتذكر عندما انف�صلت عمتي عن زوجها
وخلف ذلك م�شاكل نف�سية للبنى �أعاقتها عن تقدمها يف احلياة
حاولت م�ساعدتها
ُ و�إثبات جناحها يف �أي حماولة تتخذها للأمام،
وقدمت �إليها دعمي ولكنها ف�سرته ب�شكل خمتلف ،ترجمته على
تفهمت
ُ �صحيحا -لذلك
ً هيئة م�شاعر �أكنها جتاهها -ومل يكن هذا
متاما من حياتها فلم تقنع بهذا ،بد�أت باملطاردة
خط�أي وان�سحبت ً
وابتعدت ،ولكنها كانت تخرب جميع
ْ أ�ست
وا�ستمررتُ بالهرب حتى ي� ْ
132
�أقاربنا �أنها لن ت�ساحمني على ما �سببته لها من وجع و�أمل ،وال
�ألومها على هذا ،كان خط�أي من البداية ،تقدمي امل�ساعدة با�ستمرار
خ�صي�صا لها� ،أي فتاة مبثل ظروفها كانت
ً وا�ستقطاع وقت من حياتي
�ستفهمه بهذا ال�شكل ،لذلك كنت �أ�شعر بالذنب جتاه ما فعلته بها
نجني من هذا ال�شعور �إال خرب ارتباطها و�أنني زدتُ حياتها �سو ًءا .مل ُي ِ
خفت �أن تكون خطوة مت�سرعة املفاجئ ولكنه �أقلقني يف الوقت ذاتهُ ،
وجدت �ضالتها
ْ ما�ض عانت منه ،ولكن مل �أهتم كث ًريا ،املهم �أنها ملحو ٍ
نظمت حفل زفافها بنف�سي ُمبال ًغا يف �إظهار فرحتي� ،أمت ُ بعيدً ا عني.
ص ع
بقلبك بكلمة واحدة (تعقل) ،يكتم �ألف ت�صرف طفويل لأنه يجب
ر
قاطعت �سيل �أفكاري ب�صوتها الآيل :والتوزي
�أحيا ًنا مبمار�سة بع�ض احلماقات.
ع ْ
�-سيد �أجمد ،عامل املغ�سلة ترك تنوي ًها على نظامك اخلا�ص
يفيد �أنه �سي�أتي بعد ربع �ساعة من الآن ،ويطلب حت�ضري جميع
املالب�س.
حتركت بك�سل و�أنا �أجمع قطع مالب�سي امللقاة بكل جزء من �صالة
ُ
ال�شقة وغرفة النوم ،ال يحركني �سوى دافع عدم وجود �أي قطعة نظيفة
باقية �إن طلب �أحد مقابلتي.
�أفرغت جميع ما حتتويه جيوب �سراويلي من مناديل ورقية
مكرم�شة ونقود معدنية وكروت �شخ�صية ال �أتذكر �أ�صحابها وو�ضعتها
ملحت عيناي تلك الورقة من بني كومة الأ�شياء على الت�سريحةْ ،
134
املبعرثة ،التقطتها و�أنا �أت�أملها و�أبت�سم �ساخ ًرا ،فلقد وجدتُ الت�سلية
املنا�سبة للق�ضاء على �شعوري بامللل الليلة.
•••
ترجلت عن دراجتي البخارية �أمام البيت املدون عنوانه بالورقة،ُ
كان لونه �أبي�ض ويت�ألف من طابقني ،نوافذه خ�شبية م�ستطيلة زرقاء،
حتيطه حديقة يتجلى للناظر �إليها من بهاء خ�ضرتها وجمال زهورها
ُح�سن االهتمام بهاُ ،بني على الطراز التقليدي خمال ًفا بذلك الطراز
ص ع
احلديث الذي �سيطر على كثريين يف اتخاذ منطه لبناء بيوتهم منذ
ع
ب�إ�شارة من يدها جتاه املقاعد �أن �أجلب واحدً ا و�أن�ضم �إليهم.
ريص ع
اجلنون الذي كان ي�صفني به خطيبي كميزة �أمتتع بها و�أطري
والتوز عي
�سيئ للغاية ،يدفعك للأفعال الال منطقية ك�أن تنزل هائ ًما
خمرجا مما �أنت
ً على وجهك كالتائه جتري مينة وي�سرة لتجد
فيه وال تدرك �أين وجهتك ،يجعل روحك تتخبط بني جدران
ج�سدك ب�صخب تلجمه حدود �شفتيك وتنهمر دموعك ك�أمنا
�أ�صابها م�سُ ،تغرق م�سامات وجهك وال ُتخرج �شي ًئا مما
ب�صدرك ،تتخيل حينها �أن املوت �سيكون �أرحم بكثري من هذا
ال�شعور القابع على قلبك فتتمناه �ألف مرة ،تنام وكل خلية
بج�سدك يقظة.
أكملت وقد بد�أ ّ
تغ�شى اجلميع الهدوء والت�أثر بعد كلماتها تلكْ � ،
ي�سيطر على �صوتها البكاء ثاني ًة:
-فكرتُ يف الأمر مرات عدة ،ولكنني �أجنب من �أن �أتخذ قرا ًرا
دوما بر�أ�سي ،ال �أدري
كهذا على الرغم من �إحلاح الفكرة ً
137
زلت ال �أ�ستطيع العي�ش ،كل
ماذا �أفعل ،كل ما �أعرفه �أنني ما ُ
ما �أرغب فيه �أن تعود حياتي كما كانت قبله ،ذهب و�أخذ كل
حطاما.
ً �شيء معه وتركني
قالت جملتها الأخرية وانفجرت باكية ،بد�أ اجلميع مبوا�ساتها
ثاني ًة حتى هد� ْأت ً
قليل .ا�ستلمت ليلى دفة احلديث بعدها وهي توزع
نظراتها على اجلميع قائلة:
-الأمل هو ما �سيجعلك حتافظ على غ�سل �أ�سنانك ثالث مرات
ع والتوزي
الأمل هو ما �سيجعلك تبتعد عن بع�ض الأطعمة ال�شهية جم ًربا
لأنك متتلك قولو ًنا ع�صبي املزاج..
الأمل �سيمنحك ر�ؤية جديدة لتنظر �إىل الأ�شياء وتكت�شف
حكمتها ك�أنك تراها لأول مرة..
الأمل هو ما �سيجعلك ُتخرج � ً
إبداعا لو جل�ست �سنوات من دونه
لن ُتخرج �إال هذ ًيا منم ًقا..
الأمل �سيجعلك تكت�شف مواطن اجلمال يف روحك واخلبايا يف
قلبك.
قد يبلغ بك الأمل درجة تتمنى عندها املوت ،ولكن �إن دققت
النظر �ستجد �أن الأمل واحلياة متالزمان بال�شكل الذي يدفعك
ملوا�صلة امل�سري.
138
قالت جملتها الأخرية وهي تنظر �إىل الفتاة قا�صدة تو�صيل ْ
معانيها �إليها وهي تبت�سم لها بحنو .ال �أدري ما م�شكلة االبت�سام معها!
تبت�سم كث ًريا ب�شكل زائد ينجح يف ا�ستفزازي بجانب ا�ستفزاز كلماتها
وا�صلت ليلى حديثها ببع�ض الكالم
ْ التي مل �أقتنع بحرف واحد منها.
املُحفز ،ثم �أعلنت بعده نهاية جل�سة اليوم النتهاء الوقت وهي تذ ِّكرهم
مبو�ضوع مناق�شة اجلل�سة القادمة عن الفرق بني احلزن واالكتئاب،
م�ؤكدة على رغبتها يف م�شاركة جميع من رف�ض التحدث اليوم بالتكلم
يف املرة القادمة.
ريص ع
-ملاذا ال يوجد نظام �آيل بالبيت؟
ع والتوزي
احلفاظ على خ�صو�صيتها ،وا�ستجاب املجل�س للطلب.
قالت �إجابتها دون النظر جتاهي .كان جل ًيا �أنها حتاول جتنب
ألت ب�شكل
احلديث معي ،فا�ستهواين �أن �أفعل عك�س ما ترغب فيه� .س� ُ
يثري ا�ستفزازها:
-كم تتقا�ضني عن هذه املهنة؟
وقطبت حاجبيها لتزول االبت�سامة �أخ ًريا ولأول مرة ،ت�س�ألْ توقفت
ْ
متعجبة:
� -أي مهنة؟
قلت ب�شكل �ساخر: ُ
-زرع الأمل� ،إنقاذ النا�س من االنتحار ،احلديث عن القولون
ومثل هذه الأ�شياء.
140
جمدت للحظات كان من الوا�ضح فيها �أنها متحرية بني اختيارين،
�إما الرد �أو ال�سكوت ،وركنت �إىل الثاين يف نهاية الأمر.
حاولت رفع وترية �سخريتي �أكرث و�أنا �أقول:
ُ
-لو كنت مكانك الخرتتُ وظيفة �أف�ضل .باملنا�سبة� :أال ت�شعرين
أنت تتدخلني يف �ش�ؤون النا�س بهذا ال�شكل؟ ملاذا بالتطفل و� ِ
تتدخلني يف قراراتهم؟ دعيهم يفعلوا ما يريدون ،ه�ؤالء لي�سوا
�إال جمموعة من ال�ضعفاء ،وقد يكون قرار االنتحار �أف�ضل
ص ع
فوق ر�أ�سها حج ًرا حج ًرا غري نادم على فعل هذا ،لكنها مل تفعل.
ع
و�س�أحدد من �سيكون الفائز و�سرتى ما �س�أفعله تلك الـ(ليلى).
•••
142
()١١
(بوح)
ع
واحدً ا بعد الآخر ،با�ستثناء �شخ�ص واحد رف�ض التحدث وتنازل عن
ر
كنت يف انتظار دوري ُ
والتوزي
بحديث الآخرين لتطمئن وتعطيني م�ساحتي يف التحدث .ظهر على
ع
مالحمها ال�ضيق امل�شوب بالقلق عندما حان دوري ،ولكن غلفتهما
�سري ًعا بابت�سامتها الدائمة حتى ال يالحظ الآخرون ،م�ؤملة بذلك �أن
يظهر مني خري ،خمالفة رغبتها بحرماين من الكالم الذي �سيثري
انزعاج من حولها بالت�أكيد ،ف�أعطتها يل رغ ًما عنها.
قالت من و�سط ابت�سامتها:ْ
-ان�ضممت �إلينا يف املرة ال�سابقة ومل يكن هناك مت�سع من
الوقت لنتعرف �إليك �أكرث ،عرفنا بنف�سك.
قلت بابت�سامة �سمجة مكتف ًيا بكلمة واحدة:
ُ
� -أجمد.
ً �-
أهل بك �سيد �أجمد ،هل ترغب يف التحدث؟
144
-بالت�أكيد.
توجهت بحديثي للجميع ً
قائل بجدية: ُ
-م�شكلتي �أنني �شخ�ص �أناين ،ال �أفكر �إال بنف�سي ،حياتي مملة،
�أ�شعر باالكتئاب ال�شديد وكث ًريا ما تراودين فكرة االنتحار،
ولدي ابن وزوجة لكن �صراح ًة ال يهمني �أمرهما ،كل ما يهمني
هو �أنا وما �أ�شعر به وما �أرغب فيه.
بلعت ريقها وقد بد�أ حديثي يقلقها ،تنتقل بب�صرها بني اجلال�سني
ع
ْ
ص ع
�سمعت دبيب احل�شرات ،جتمدوا يف مقاعدهم ك�أ�صنام بالية ال
والتوزي ر
وقد هدمت جميع ما بنته مبعول احلقيقة امل�ؤملة يف جولة مل حت�سب
ع
ح�سابها.
�شقت ال�سكون ب�صوتها الهادئ وهي ت�س�ألني:
-انتهيت؟
�صدمني �س�ؤالها لدرجة �أجربتني على ال�سكوت ،مل تكن تلك الكلمة
هجوما عني ًفا
طويل يحتوي ًونقا�شا ً
توقعت كلمات �أكرث ً ُ التي توقعتها،
ً
وجمل قا�سية �أعددتُ له جيدً ا.
تابعت وقد �أجبتها ب�صمتي:
ْ
-تف�ضل يا هيثم ،دورك.
•••
146
ما �أ�شعر به الآن ال ت�ستطيع كلمة غ�ضب ب�أحرفها الثالثة الب�سيطة
ا�ستيعابه ،ما �أ�شعر به فاق مراحل الغ�ضب بكثري ومل ُيكت�شف له
نفثت الآن �س�أُحرق مد ًنا وقارات ولن
م�سمى بعد� ،أ�شعر �أنني لو ُ
يكفيني حتى �أحرق العامل ب�أكمله ،و�أول ما �س�أبد�أ به هو ذلك الكائن
امل�سمى (ليلى)� .سد �أجيج النار امل�شتعلة بداخلي م�سامعي فلم �أ�سمع
ما قيل �إىل نهاية اجلل�سة ،مل �أنتبه �إال عندما ذكرت ا�سمي قائلة:
مو�ضوعا قو ًيا مل نفكر به على مدار جل�ساتنا،
ً � -سيد �أجمد �أثار
ع
قد يكون �أثاره ب�شكل �صادم ولكن ال�صدمة �أحيا ًنا مفيدة ،فهي
ي ز
بد�أ اجلميع باالن�سحاب واحدً ا تلو الآخر ،مل يتبادل �أحدعمنهم
�أمتنى �أن �أ�سمع �آراءكم جمي ًعا يف املرة القادمة.
معي التحية كاملرة ال�سابقة� ،إما �أنهم �شعروا بغ�ضبي فتجنبوين خو ًفا،
�أو �أنهم �شعروا باال�ستياء مما قلت فقرروا معاقبتي .بد� ْأت ليلى بعد
جال�سا كما
ظللت ً ذهابهم بتعديل املكان وحمو �آثار اجلل�سة بينما ُ
�أنا على حايل ،يكتب يل االنتقام مئة �سيناريو �أنفذه معها كي �أهد�أ
و�أ�ستطيع النوم الليلة .انت�شلتني من تخيالتي الدموية مبثل ما فعلته
يف املرة ال�سابقة قائلة:
-ت�شرفنا بزيارتك �سيد �أجمد.
أطحت بقوة مزهرية كري�ستالية
نزعت فتيل قنبلتي بجملتها هذهُ � ،
ْ
فتبعرثت على الأر�ض
ْ حتملها طاولة خ�شبية مربعة ت�ستقر �أمامي
147
لع�شرات القطع ال�صغرية احلادة ،حمدث ًة �صو ًتا مدو ًيا �أ�صاب ج�سد
ً
�صارخا: اجتهت �إليها
ُ ليلى برع�شة املفاج�أة ،تابعتها بقلب الطاولة ثم
أنت جمنونة؟ كيف تتجر�أين على فعل هذا معي؟ من -هل � ِ
أنت حتى تتجاهلي حديثي؟ ومل يك ِف ِك مرة
تظنني نف�سك؟ من � ِ
لكنت فعلت ما يليق أنك امر�أة ُ
بل فعل ِتها ثالث مرات! لوال � ِ
متاما.
بقدرك ً
وا�ضحا جل ًيا على مالحمها� ،إال �إنها كانت
ً كان ال�شعور باخلوف
ل
مرت
ع
للق�ضاء عليها وهي واقفة.
ريص ع
خجل فلم �أقدر على �أن �أنطق ب�أي حرف بعد كلماتها الأخرية. حلقي ً
والتوز عي
أنا�سا �آخرين ال ذنب لهم مبعادلتي لتحقيق هدف االنت�صار غري � ً
مبال مب�شاعرهم ،والآن �أتهكم على �أبيها برعونة طائ�شة دون علمي ٍ
بظروفه� ،أي رجولة �أدعيها �أمام اجلميع و�أنا فاقد لأ�س�س مبادئها؟
قالت مقاطعة املحاكمة ال�سريعة التي �أقامتها نف�سي �ضدي:
ْ
-من انتحر يف عائلتك؟
-ماذا؟
قالت ب�صوت يحمل الإ�صرار م�ؤكدة بعد �أن الحظت ده�شتي:
-من انتحر يف عائلتك؟
عرفت هذا
ْ �صدمني �س�ؤالها ومل �أجب ،كل ما دار بخلدي كيف
الأمر؟ من �أخربها وال �أحد يتذكره من الأ�سا�س �سوى �أنا و�أبي؟ دعتني
149
للجلو�س بطلب مهذب مل �أقدر �أمامه على فعل �شيء �سوى اال�ستجابة،
ذهبت �إىل املطبخ و�أعدت م�شرو ًبا ما ،جاءت و�أرجعت الطاولة �إىل
ْ
مكانها ال�سابق وو�ضعت امل�شروب الذي تت�صاعد منه الأبخرة �أمامي
قائلة:
علمت هذا من �أول مرة حتدثت معي بها ،وت�أكدتُ �أكرث من ُ -
حديثك املرة ال�سابقة وهذه املرة ،ال يتحدث بهذه الكلمات �إال
من تذوق مرارة االنتحار يف عزيز لديه ،ومقدار الوجع بها
و ر
احلديث،التكل مرة كنت
و ش
ي ز
تتحدث بها كانت بدافع التحدي ال النقا�ش ،ولو تكلمت ع
مرة حتدثت بها ،لكن �صدقني كل � -أعتذر عن جتاهلي لك يف
هذا اخليار �أف�ضل كث ًريا من موا�صلة
حينها
�ستكون هذه حماقة مني ولن جنني �شي ًئا �سوى �إهدار الوقت
خ�صو�صا اليوم تعمدتُ ذلك� ،أنت ال تعلم
ً وحرقة الأع�صاب،
ف�ضلت التجاهل ،لأين �أعلم �أنني
ُ خطورة ما قلته عليهم لذلك
لو رددت لن تكتفي بهذا و�ستقول الكثري مما قد يفتح �أبوا ًبا
�أخرى لن جنني من فتحها �سوى الأذى.
ذهبت و�أح�ضرت علبة معدنية من املطبخ قائلة وهي تفتحها
ْ
وتوجهها ناحيتي:
-قطعة كعك مع ال�شاي؟
150
هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا ف�أعادتها �إىل مكانها ال�سابق ،تناولت مكن�سة
يدوية وكن�ست قطع الزجاج قائلة:
-ما ا�سم ابنك؟
متزوجا.
ً ل�ست
� -أنا ُ
ابت�سمت قائلة:
ً � -إذا �أعددت هذا احلديث جيدً ا قبل جميئك.
ي ز
كان من الوا�ضح �أنها حتاول فتح جماالت للحديث لأت�شجع و�عأتكلم،
على هذه الطريقة يف تغليف �أي �شيء �ستحطمه يف امل�ستقبل.
لكن �شعو ًرا مبه ًما �سيطر على فمي �آم ًرا �إياه بعدم الكالم� ،شعو ًرا
بال�ضيق من نف�سي� ،شعو ًرا بالإحراج مما فعلته� ،شعو ًرا باملفاج�أة غري
ال�سارة لتو�صلها ملعرفة هذا الأمر عني.
جاءت وقالت بعد �أن جل�ست:
-ال تظن �أنني �أعطيتك عنوان اجلمعية و�أخربتك مبوعد
اجلل�سات لأنني �شعرت �أنك تعاين من هذا الأمر ،ال ،بل �أردتُ
�أن ت�أتي لال�ستماع ،لتتعرف على ما ي�شعر به كل من كان يفكر
بهذا الأمر وتق ّدر ما مير به ،ال �أريد �أن �أ�ضغط عليك لتتحدث
الآن ولكن يل طلب �أرجو �أن تلبيه ،هو �أن ت�أتي �إىل هنا ملدة
151
�شهر واحد وت�ستمع بقلبك قبل �أذنيك لكل كلمة تقال بهذه
اجلل�سات ،ت�ستمع مل�شاعرهم ،ملا ميرون به ،لعل هذا يغري
االعتقاد القائم بداخلك ويجعلك تنظر �إىل الأمر ب�أعينهم ال
بعينك.
�سيطر االنزعاج على جنبات نف�سي ب�سبب املوقف الذي و�ضعتها
فيه� ،صرت كالتلميذ ال�صغري يجل�س �أمام معلمه في�ؤدبه ويهذبه و ُيلقي
أذنت للذهاب بعد �أن انتهت من عليه كلمات الن�صح والإر�شاد ،ا�ست� ُ
ص ع
وا�ستقللت دراجتي ذاه ًبا �إىل البيت ،كان ع�شائي وجبة د�سمة
ُ حديثها
والتوزي ر
من �أ�شياء مل�ضايقتي لفاز هذا اليوم بجدارة ،كلما تذكرتُ تخيالتي
ع
ولذتي بالن�صر بعد تنفيذ خطتي وما �أ�شعر به الآن �أت�أكد �أن كل �شيء
انقلب �ضدي ،حتى ذاتي التي تتمتع بجلدي على �أ�صغر الأ�سباب
و�أكربها.
حاولت �شغل نف�سي وتخفيف �شعوري مبحاولة �إ�صالح �أي �شيء
ُ
�أف�سدته ً
قائل:
� -سو�سن ،ابحثي عن مزهريات كري�ستالية.
قليل ثم عادت وبد�أت بعر�ض �صور جم�سمة ثالثية الأبعاد غابت ً
ْ
لعدد من املزهريات ،حجزت واحدة ت�شبه التي حطمتها تقري ًبا -فلم
�أكن �أتذكر �شكلها جيدً ا� ،أُ�صبت بالغم بعد ظهور ر�سالة تو�ضح ثمنها
ب�شكل بارز مع �أيقونة خ�ضراء ُكتب عليها ت�أكيد ،ك�أنها تقول :ت�أكد
ونفثت تذم ًرا� ،أي �أبله �أنا!
مما �سوف تفعله �أيها الغبي� .ضغطت عليها ُ
152
جنيت الآن؟ كان يجب �أن �أنحيها جان ًبا و�أحطم
ملاذا حطمتها! ماذا ُ
الطاولة فقط� .أحمق.
•••
�-أجمد� ،شك ًرا لك على حفل افتتاح �شركتي ،كان منظ ًما ورائ ًعا.
�-سعيد بكالمك يا حازم� ،أمتنى لك النجاح.
خف�ض �صوته ً
قائل:
والتوز عي
�إىل اجلل�سة .م�ضى �شهران على جميئي بانتظام �إىل اجلل�سات� ،أتذكر
كنت ال �أرغب يف احل�ضور و�أتيت فقط لأعطي املزهرية يف بداية الأمر ُ
لليلى ك�شكل من �أ�شكال االعتذار ،وودتُ االن�سحاب بعدها لكنها
�أ�صرت على ان�ضمامي للجل�سة مع تذكر ن�صيحتها املتعلقة بال�سماع
بقلبي لكالمهم ،يومها كانت توجد امر�أة يف �أواخر الثالثينيات ،بدا
كالمها ع�شوائ ًّيا وهي حتاول تو�ضيح ما ُي�شعرها باحلزن ،مل يكن
هناك �سبب رئي�سي ميكنها �أن ت�ضع يدها عليه ولكن كتلة من املواقف
وامل�شاعر جعلتها يف حالة تخبط م�ستمر ،على الرغم من عدم و�ضوح
كالمها ف�إن هذه املر�أة م�ستني ،ت�شرتك مع �أمي ب�شيء ما ال �أعلمه لكن
�أ�شعر بوجوده ،رمبا هيئتها التي ذكرتني بهيئة �أمي قبل االنتحار� ،أو
رمبا رمال الأمل املتحركة التي علقت بها ت�سحبها للأ�سفل وال جتد يدً ا
و�سحبت وطويت جتذبها فتنقذها وت�شعرها بالأمان مثلما علقت �أمي ُ
حتت الرمال.
153
جال�سا حينها بعد �أن رحل اجلميع� ،شعرتُ براحة ت�سحبني
بقيت ًُ
من يدي وت�ضعني على �أعتاب �ساحة البوح الرحبة ،يدفعني قلبي
للدخول بقوة كي ي�سرتيح بعد �أن تكبد عناء كتمان وجع �أ�ضعفه
ل�سنوات طويلة.
قالت ليلى وقتها �ضاحكة وهي حتمل املزهرية بعيدً ا:
ْ
-لن �أجازف بالت�ضحية باملزهرية هذه املرة� ،إن كنت ترغب يف
قلب الطاولة فلك ذلك.
ً
را�ضخا وجلت ال�ساحة
قلت بعد �أن ُ
ل ا ري ص ع
ابت�سمت بفتور على جملتها ثم ُ
ُ
ر
فجل�ست وش
�صامتةالتبعد �ز عي
وأن فهمت
� -أمي.
ْ ظهرت عالمات الت�أثر على وجهها
ْ
فتابعت:
ُ ما �أق�صده،
� -أنا ال �أكرهها بل �أحبها كث ًريا ،ح ًبا يدفعني �إىل عدم م�ساحمتها
فعلت ،كانت تعلم جيدً ا مدى احتياجي �إليها ومل تفكر على ما ْ
بهذا ،كانت بقيت من �أجلي على الأقل.
-ومن �أخربك �أنها مل تفكر؟
فكرت لبقيت.
-لو ْ
رحلت.
-ورمبا لذلك ْ
أكملت:
نظرتُ �إليها م�ستغر ًبا ف� ْ
154
وو�صلت �إىل مرحلة من
ْ -رمبا علمت مبدى احتياجك �إليها
التعب النف�سي الذي جعلها تتوهم �أنها لن ت�ستطيع القيام
بهذا الدور بال�شكل املطلوب ،لذلك �أقدمت على هذه اخلطوة.
وتابعت:
ْ �صمتت برهة
-ال �أقول هذا لأبرر ما فعلته وال �أبرر فعل االنتحار بالت�أكيد،
تق�س عليها وال ت�صدر �أحكامك ما دمت مل ولكن �أرجوك ال ُ
متاما
متر مبا مرت به ،يكفي ما �أح�ست به من �أمل� ،أنا مت�أكدة ً
ش
ويعللرما فعلته �أمي ف�أقبله و�إن ن ل ل
ل ا و
�سحبت ًنف�سا عمي ًقا بعد �أن امتلأت ت
اال�شتياق والتما�س الأعذار بداخلي ،ك�أنني مكامن أثارت جملتها
� ْ
ص ع
�إح�سا�س االطمئنان يف �أثناء احلديث معها و�شعور اجلال�سني هنا بكل
•••
156
()12
(تعارف)
ص ع
«مل �أعد دار ًيا� ،إىل �أين �أذهب
ص ع
و�أرادوا �أن يحتفلوا بها على طريقتهم اخلا�صة تقدي ًرا ملا تفعله
والتوزي ر
عر�ضت عليهم القيام بالأمر فهذا ما �أجيد فعله
ُ اجلل�سة مل�ساعدتهم.
ع
ووعدتهم ب�إقامة حفل لي�س له مثيل ،لكنهم رف�ضوا و�أخربوين �أن ليلى
ال حتب مثل هذه الأمور ،مما �أقلقني ،فكونها ال حتب مثل هذه الأمور
يعني �أنها ال حتب طبيعة عملي.
و�صلت
ْ �سمعنا وقع خطواتها على الدرج ف�أ�سرعوا ب�إطفاء النور،
وهي ت�س�أل ب�صوت م�سموع عن �سبب الظالم و�أ�شعلت امل�صابيح،
ابت�سمت بخجل
ْ عال،
فانطلقت كلمة مفاج�أة من حناجرنا ب�صوت ٍ
واكت�شفت ما �أعددناه من �أجلها ،جتمعنا يف �شكل
ْ عندما فهمت الأمر
حلقة كهيئة جل�ساتنا املعتادة وكل منا يحمل طب ًقا ترقد به قطعة كعك
قطعناها منذ حلظات.
قررنا �أننا لن نتكلم عن �أي �شيء متعلق باالنتحار �أو االكتئاب،
فاليوم يوم ال يليق بذكر �أحزان احلياة وم�آ�سيها ،اليوم لي�س يوم �أحد
158
منا ،اليوم يوم ليلى فقط .رغم احلفالت التي �أقيمها يوم ًيا و�أجوائها
ال�صاخبة و�أ�ضوائها الالمعة و�شخ�صياتها املهمة من �أ�صحاب كبار
ال�شركات ،ف�إن هذا االحتفال الب�سيط ب�أ�شخا�صه غري امل�شهورين على
الإطالق بـ ليلى غمرين ب�سعادة عارمة و�شعور باالنتماء مل �أذقه طيلة
حياتي �إال مرات ي�سرية.
ب�شكل مل ُيرتب م�سب ًقا بد�أ اجلميع واحدً ا تلو الآخر ب�إهداء كلمة
لـ ليلى مما �أ�شعرين بالتوتر ،ماذا �س�أقول عندما يحني دوري؟ �أ�شعر
ن بل
ل ت ك
عني منذ �أيام .جاء دوري �سري ًعا ومل �أرتب ماذا �س�أقول لها بعد،
ي ز
� -أنا �س�أختلف عن اجلميع يف قول كلمة و�س�أطرح �س� ًؤال:عمباذا
فقلت:
من �أين �أتى به عقلي بهذه ال�سرعة ُ
ع
تدعي غري ذلك جللب ال�شفقة ،و�أنه لي�س عي ًبا لو كنت �ضعي ًفا،
161
م�ضت قرابة ن�صف �ساعة ما بني �ضحك و�إلقاء نكات بع�ضها
�سخيف ولكن �صار ا�ستمالحها �إلزام ًيا لكي ال يت�ضايق قائلها ،بد�أ
اجلميع بعدها باالن�سحاب بعد تقدمي عدد منهم لهدايا مغلفة حتى
قدمت �إليها باقة النعناع فقالت ُمتعجبة:
بقيت �أنا �آخر من يرحلُ ،
ُ
-نعناع! لكن كيف؟
قاطعتها:
ص ع
-الحظت اهتمامك الزائد بالنعناع املوجود يف ال�شرفة �أكرث من
ص ع
�صمت.
163
-ملاذا؟
� -أنت جيد ،هي جيدة ،لكن كليكما غري مالئم للآخر.
� -أنا ال �أرى ذلك.
� -أنا �أراه جيدً ا� ،أنا �أعرفك و�أعرفها و�أعرف طباعكما ،خذ
بن�صيحتي.
ع
كان ه�شام غري ًبا وخمتل ًفا عن عادته معي ،مل يخالفني الر�أي يف
ر ش
والتوزي
يفرح ويثني على اختياري كما يفعل دائ ًما ويحفزين للتعجيل بالأمر.
ع
هل كان يراين كذلك �أم ينافقني من �أجل العمل؟ وهل هذه ر�ؤيته ح ًقا
�أم �أن هناك �شي ًئا �آخر؟
لظننت �أنه قد يكون متعل ًقا بليلى
ُ لو مل �أكن مت�أكدً ا من حبه ل�سارة
ويحاول �صرف نظري عنها.
عندما ي�أتيك الإحباط من �أكرث مكان تتوقع منه الدعم يكون وقعه
م�ضاع ًفا،
ليتني مل �أتكلم معه ،قن�صتني كلماته و�أنا �أحلق يف �أعايل ال�سماء،
تكتف بذلك بل مرغتني يف الوحل.ومل ِ
•••
164
تلب�سني ال�ضيق يف �أثناء قيادتي لدراجتي البخارية متج ًها �إىل
�أطراف املدينة املهجورة لاللتقاء ب�صحبة ال�سوء و�إمدادي بال�سم
النيكوتيني بعد نفاده عندي� ،أفكر يف حوار ه�شام املغلف بالربود،
�أحاول �أن �أُكذب وجهة نظره و�أ�صدق م�شاعري فت�أتيني جملته «�أنا
�أعرفك و�أعرفها و�أعرف طباعكما ،خذ بن�صيحتي» ،للأ�سف هو
حمق بهذا الأمر ورمبا هذا هو �سر �ضيقي احلقيقي من حواره� ،سارة
�صديقة لـ ليلى منذ زمن وتعرف طباعها جيدً ا وه�شام يعرفني لذلك
ل�ضربت
ُ �أ�صدر حكمه ،لو كان �أي واحد �آخر قد قال هذا الكالم
توقفتزيع
ً لي�س وه دققت النظر ،ال هذا
�إىل �سيارتهُ ،
بالدراجة
وكانت مفاج�أتي كبرية عندما وجدتُ �سارة وليلى جتل�سان باخللف،
حييتهما بيدي فردتا التحية مبثلها.
اجته ه�شام نحوى بابت�سامة مبالغة وهو يقول:
� -صدفة �سعيدة.
�س�ألته م�ستغر ًبا:
-ماذا تفعلون هنا؟
�أ�شار ناحية بيت وهو يقول:
165
-كنا بزيارة خلالة �سارة ،هي خياطة ماهرة و�أرادت �سارة
تف�صيل بع�ض املالب�س قبل العر�س.
�س�ألته بعد �أن نظرتُ جتاه البيت املتهدم جزء من واجهته ومل يعد
يظهر لون طالئه الأ�صفر من تراكم الأتربة الرمادية عليه ويبدو عليه
الهجر:
-هنا؟
ص ع
-نعم ،هذا بيت عائلة والدة �سارة منذ �أجدادها ويعتزون
كالزفاف؟
ت ل ا ري
بامتالك هذا البيت.
التوزيع و
ونود االنتهاء من بع�ض موعدنا باقرتاب -ال ،ولكن ن�شعر
الأ�شياء حتى نكون م�ستعدين.
�س�ألته متعج ًبا:
-حدثتك منذ �ساعتني ومل تخربين ب�أن لديك موعدً ا اليوم مع
�سارة.
�أجاب بعد �أن خبط جبهته:
-ن�سيت �أن �أخربك يا زعيم� ،أنت تعلم م�شاغلي كثرية هذه
الأيام.
�أتبع جملته �سري ًعا ب�س�ؤايل:
-و�أنت ما الذي جاء بك �إىل هذه املنطقة؟
166
-كنت �أمر من هنا و�س�أذهب لزيارة �صديق يل.
-ح�س ًنا ال �أريد �أن �أ�ؤخرك عن موعدك� ،أراك غدً ا� ،سالم.
قالها متج ًها �إىل �سيارته ،فتح بابها وا�ستقر �أمام عجلة القيادة
وبد�أ بالتحرك� ،ألقت �سارة وليلى التحية ب�إ�شارة بر�أ�سيهما واختفوا
بالطريق و�أكملت �أنا طريقي قا�صدً ا وجهتي ،ال �أعلم ملاذا �أ�شعر �أن
ه�شام مل يكن ي�صدقني احلديث و�أن هناك �أم ًرا �آخر غري الذي
ع
�أخربين به ،عاد ًة يخربين بجدول يومه و�إىل �أين يذهب ،ملاذا مل يفعل
على طق�س الغداء بهذا املطعم برفقة �أبيها كل ثالثاء حلبه له.
�أخربتُ �أبي �أنه ميكننا تناول الغداء م ًعا اليوم كما يرغب ولكن
�س�أختار املطعم� ،أعلم �أنني لو �أخربته بحبي لـ ليلى ورغبتي يف
التقدم �إليها �سريف�ض الأمر من قبل �أن يراهاً ،
معلل ذلك بعدم ثقته
باختياراتي و�أن من �ستحظى ب�شرف عائلتنا يجب �أن تكون مميزة
و ُتختار بعناية ُوتنح موافقته عليها� .أظنه لذلك يلح ً
دوما يف �أمر
لبنى والتقدم �إليها حتى ي�سرتيح من عبء اختيار زوجة �سيتعب كث ًريا
للت�أكد من �صالحية م�ؤهالتها للوظيفة� ،أق�صد للزيجة.
167
�س�أحاول �أن �أعرفه �إىل ليلى اليوم لرياها ويرى طريقة تعاملها،
�أنا �أعلم طريقة تفكريه جيدً ا و�أعلم �أنه مييل �إىل منط املر�أة احلكيمة
متاما� ،س�أجعله يقتنع باختياري دون بذل �أي جمهود العاقلة مثل ليلى ً
بل و�سيثني عليه.
العقبة الوحيدة التي �أواجهها الآن مباذا �س�أخربه عندما ي�س�ألني
كيف عرفتها؟ مل �أخرب �أبي ب�أمر اجلل�سات ،لو علم بهذا الأمر �سيغ�ضب
كث ًريا و�سيتفنن باتخاذ كافة ال�سبل التي تعوقني عن ح�ضورها مثلما
ص ع
فعل من قبل يف كثري من الأ�شياء.
ص ع
ال�سخيفة ،ما املُتعب يف �أن يختار �أي �صنف! لن يختلف م�ساره كث ًريا
والتوز عي
نزلت الدرج �إىل الطابق
أذنت �أبي للذهاب �إىل املرحا�ضُ ، ا�ست� ُ
ت�صنعت توزيع
ُ ال�سفلي حيث تقبع مائدة ليلى و�أبيها وهذا ال�شخ�ص،
ومنحت مائدتهم ً
بع�ضا منها فر�أتني ليلى، ُ نظراتي بني �أرجاء املكان
اجتهت �إليهم
ُ حييتها مبت�س ًما متق ًنا ر�سم مالمح املفاج�أة على وجهي،
باد ًئا حديثي:
-يا لها من مفاج�أة ،ليلى كيف حالك؟
�شعرتُ ب�شيء من ال�سعادة م�سها لر�ؤيتي مما �أر�ضى جز ًءا بداخلي
وطم�أنني ،قالت مبت�سمة:
-بخري� ،أنت كيف حالك؟
ألت بده�شة كاذبة.
دوما؟» �س� ُ
« -بخري ،هل ت�أتون �إىل هنا ً
169
-نعم ن�أتي �إىل هنا كل ثالثاء.
نظرت جتاه �أبيها وقامت بالتعارف بيننا قائلة:
ْ
-الأ�ستاذ �سالمة �أبي� ،أجمد.
�شعرتُ حينها �أن جمرد نطق ا�سمي مبفرده هكذا �سبة ،بالت�أكيد
يعرف �أجمد دون احلاجة �إىل �أي تفا�صيل �أخرى� ،أجمد قليل الأدب
الذي حطم املزهرية التي رمبا ورثها عن �أمه العزيزة وت�شكل مكانة
ص ع
أي�ضا الذي رفع �صوته على ابنته بكل وقاحة ونعتها لديه ،وهو � ً
ل ب
برتحابلن�شديد لعل هذا يغفر ما �سبق،
ش
الأخري املتعلق ب�سخريتي منه �أم ال.
ع
قالت ليلى:
متاما ْ
توقعت ً
ُ وكما
شالر�أدري
واما الذي جاء به
ن لل ب
اليوم ،جمرد وجوده ي�شعرين بال�ضيق ويف�سد جز ًءا لمنتوز عي
وال�سعة. الرحب -على
اجتهنا عال ًيا �أنا وهي يرافقنا �صالح!
خطتي.
أيت مالمحما �إن و�صلنا �إىل املائدة وتقابلت الأوجه حتى ر� ُ
اال�ستغراب على وجه ليلى ،لكنها حمتها �سري ًعا بابت�سامة �أُ�صيبت
ب�شيء من اال�ضطراب ،رمبا تفاج�أت من �صغر �سن �أبي و�أن يكون
�شعرت باخلجل.
ْ لديه ابن مبثل عمري� ،أو رمبا
قمت بالتعارف بينها وبني �أبي و�صالح املتطفل ،مل يقم �أبي منُ
مقعده ورحب بهما ب�إمياءات من ر�أ�سه ردا عليها مبثلها ثم ان�سحبا
بعد �أن ا�ست�أذنت ليلى ب�أدب،
مل يدم اللقاء �أكرث من ن�صف دقيقة معظمه �إمياءات ر�أ�سية دون
كنت �أود �أن �أجنح يف فتح حوار
كالم! مل �أخطط للأمر بهذا ال�شكلُ ،
171
ب�سيط بينهما ولو خلم�س دقائق ،وجود �صالح املفاجئ� ،أبي وعدم
حفاوته كما هي عادته ،ليلى وان�سحابها ال�سريع وقلة كالمها ،كل هذا
متاما .ال �أعلم ملاذا يحدث كل �شيء على عك�س ترتيبي �أف�سد الأمر ً
له ك�أن م�ؤامرة ُتاك �ضدي �أُعدت جيدً ا مل�ضايقتي .كل ما �أمتناه �أال
م�ستقبل ،رجائي الوحيد �أن تتحقق ً ت�سري الأمور على هذه ال�شاكلة
�أمنيتي و�سين�صلح كل �شيء بعدها ،مت�أكد من هذا.
•••
ر ش
والتوزي
تربت على وجهي بقطراتها النافذة ،فعربت �سري ًعا للداخل من خاليل ُ
ع
وتغ�سل جز ًءا �أ�سود ر�سخ يف قاع روحي.
بيدي رغب ًة يف مزيد منالتقطت ر�شفة من كوب ال�شاي املحاط َ ُ
الدفء بعد �أن عززتُ نكهته ب�أوراق من النعناع الطازج ،زادت مكانة
هذا امل�شروب بقلبي منذ �أن قدمته يل ليلى ذات مرة� ،أما النعناع فقد
�صار �أ�سا�س ًّيا يف حياتي بعد معرفتي حلبها له.
حديثها عن قوة اتخاذ القرارات الإيجابية و�سلك كل �سبل
ال�سعادة وحماولة طرق �أبوابها يف اجلل�سة الفائتة مل يغادر عقلي،
�شعرتُ �أن كل كلمة قالتها مبثابة ر�سالة زادت من حما�ستي التخاذ
خطوة االرتباط بها رغم كل املقدمات ال�سيئة والإ�شارات املُحبطة.
عزمت �أمري على فتح احلديث معها اليوم ،ملاذا �أتكبد عناء التفكري
ُ
والظنون والتخيالت وحرية االحتماالت ما دام يف مقدوري الذهاب
172
�إليها مبا�شر ًة والتحدث يف الأمر؟ �شعرتُ ب�ضربات قلبي تزداد و�أنا
�أكرر احلوار الذي �س�أجريه معها للمرة املئة بيني وبني نف�سي� ،أخ�شى
�أن ي�ضيعني االرتباك بني متاهاته وت�سفر حماولتي عن الال �شيء.
�ضحكت مما �أ�صابني� ،أين قوة �شخ�صيتي وجر�أتي و�إقدامي وكل هذه
ُ
ال�صفات؟ الإن�سان بالفعل يختلف كث ًريا حتت �سطوة احلب.
قطعت حواراتي ال�صامتة ب�صوتها الآيل قائلة:
ْ
� -سيد �أجمد لديك ر�سالة �صوتية على نظامك من ال�سيدة ليلى.
ريص ع
هل �أ�شغلها؟
ر ش
والتوز عي عال �صوت ليلى قائلة:
-هذه ر�سالة جماعية لكل �أفراد اجلل�سة ،اجلل�سة اليوم ملغاة
ل�سوء الأحوال اجلوية� ،ألقاكم الأ�سبوع القادم.
كدتُ �أحطم الكوب بيدي بعد �سماع ر�سالتها ،ما الذي يجري
بحق؟ كل �شيء �أخطط له يف�سد!
والتقطت خوذتي ،لن �أدع الظروف تتحكم
ُ بدلت مالب�سي �سري ًعا
ُ
بي كيفما ت�شاء ،اتخذتُ قراري و�س�أنفذ ما �أردت.
•••
173
()13
(القدامى)
ن
ً
ر ش
أر�سلت ر�سالة للجميع ب�إلغاء اجلل�سة وال
ج�سدي رع�شة الربد و�أدركت قلبي رجفة اخلوف� ،أقف �صامتًا �أمام
ع �أمل وو�ضعتتوزي
قالت متعجبة:
باب بيتها ال �أجد ما �أقولهْ ،
ا�سمك، ُ ُ �-
ت�صلك؟
-بلى و�صلتني.
ابتلعت ريقي و�أنا �أحاول �إجابة �س�ؤال دار بعينيها وخجل ل�سانها
ُ
عن النطق به لال�ستف�سار عن �سبب جميئي ً
قائل:
� -أود التحدث يف �أمر ما مـ...
« -من هناك يا ليلى؟» قاطعني الأ�ستاذ �سالمة بعد �أن خرج
على كر�سيه املتحرك من �إحدى الغرف ي�ستطلع من الطارق.
�أجابته:
175
� -أجمد يا �أبي.
�صرتُ �أحت�س�س كث ًريا من جمرد ذكر ا�سمي مقرت ًنا ب�أبيها ،ك�أنه
�إ�شارة ل�سرد تاريخي الأ�سود بعقله� .شعرتُ بالتورط وهو يدعوين
للدخول واجللو�س وي�أمر ليلى ب�إح�ضار من�شفة و�إعداد م�شروب دافئ
من �أجلي .ق�ضى الوقت بالرتحيب بي والتحدث عن �أحوال الطق�س
ً
ف�صل كئي ًبا، ال�سيئة هذه الأيام وكرهه لف�صل ال�شتاء العتباره
تلحفت بها �سري ًعا بعد �أن
ُ وخالفته ليلى الر�أي وهي تناولني من�شفة
ص ع
و�ضعت امل�شروب �أمامي.
ع
احلا�سمة.
قالت ليلى:
ْ
� -أخربتني �أنك تريد التحدث يف �أمر ما يا �أجمد؟
وودتُ �أن �أخربها �أنني مل �أكمل جملتي «�أود التحدث يف �أمر ما
أبيك ،ترددتُ يف �إخبارهما عن حقيقة معك على انفراد» لوال مقاطعة � ِ ِ
جميئي ،ولكن قول �أي �سبب �آخر �سيكون غري منطقي وي�صعب ت�صديقه
يف ظل الأجواء املناخية ال�سيئة ،وال �أريد �أن �أظهر �أمام الأ�ستاذ �سالمة
ك�شخ�ص كاذب ي�ستدعي الأ�سباب التافهة ليربر دخول البيت فيفقد
زلت �أحاول ت�صليح �صورتي القدمية �أمامه ولي�س من ثقته بي� ،أنا ما ُ
الذكاء �أن �أقوم ب�أي فعل �سيئ الآن ،وملاذا �أخاف و�أتردد �إىل هذا
احلد؟ الرجل يح�سن ا�ستقبايل منذ �أن دخلت بيته ،وقد يكون هذا هو
176
متاما لطلبي ،وبالت�أكيد جميئي مبا�شر ًة �إليه �سيجعله
الوقت املنا�سب ً
ي�شعر بجديتي ويقدرها .طيلة عمري �أ�ؤمن بنظرية �أن الأ�شياء التي
ت�أتي بغري ترتيب م�سبق �أف�ضل كث ًريا من الأ�شياء التي ُيعد لرتتيبها،
فلماذا ال �أطبق هذه النظرية على ما �أمر به الآن؟
قلت بجدية بعد �أن فردتُ قامتي وا�ض ًعا املن�شفة بجانبي:
ُ
� -أعلم �أن ما �س�أقوله من املمكن �أن يبدو غري ًبا ،و�أن جميئي يف
هذا الطق�س وبهذه الهيئة يبدو جنو ًنا ،لكنني �أرى �أن تفكريي
ش
عيناهاربي ًن ل ل
ل ا و
� -أ�ستاذ �سالمة� ،أنا �أتقدم �إليك لطلب يد ليلى .توزيع
عزما للم�صارحة �سحبت بع�ض
ُ
قائل: تعلقت
بطلبي و�أنا �أنظر �إىل ليلى وقد ْ
•••
�سقط ه�شام � ً
أر�ضا بعد �أن تلقى لكمة قوية من يدي مبجرد �أن فتح
باب �شقته ،قام وهو ي�ضع يده على وجهه ً
�سائل بفزع:
-ماذا حدث؟
قلت بغ�ضب:
ُ
ذهبت �إليها و�إىل �أبيها و�أخربتهما برغبتي و�أقنعتهما �أنني
َ -
غري مالئم كما كنت حتاول �إقناعي� ،ألي�س كذلك؟
177
�أجاب وما زال على فزعه:
-تق�صد ليلى؟ ال مل �أخربها ب�شيء.
عال �صوتي بفعل الغ�ضب �أكرث:
-كفى كذ ًبا.
تابعت معات ًبا �إياه:
ُ
ريص ع
-ملاذا؟ كنت �أنت �أول من �أخربته ،مل �أفعل معك �أي �شيء �سيئ
ص ع
فيها كث ًريا من م�شاعرنا وقوت �أرواحنا من واقع حياتنا ،ما دفعنا
والتوز عي
و�إن كانت توجعنا عند اكت�شافنا �أنها لن حتدث �أبدً ا و�أنها �ستبقى
خادما
حبي�سة امل�صباح حتى ُيحك بيد امل�ستحيل فيخرج ماردها ً
مطي ًعا ،ويكون �أول ما نطالب به هو حتقيقها.
انقطعت خالله عن كل �شيء يذكرين ُ مر �شهر على ما حدث،
ً
متجاهل ر�سائل وات�صاالت ً
حماول ترميم وجع ناء قلبي بحمله، بليلى
�أ�صدقاء اجلل�سات حتى توقفوا عن املحاولة ،كلما تذكرتُ رف�ض �أبيها
املبهم جن عقلي ،مل يو�ضح ومل يف�سر ،اكتفى فقط بجملة�« :أنت �شاب
جيد وكثري من الفتيات يتمنني االرتباط بك ،ولكن �أعتذر �إليك لن
حاولت �أن �أفهم منه هل يوجد �أحد �آخر ف�أجاب
ُ �أ�ستطيع قبول طلبك».
متاما ،هل
بالنفي ،هل ملوقفي القدمي عالقة بهذا ف�أجاب �أنه ن�سيه ً
يوجد �أي �أ�سباب �أخرى؟ ف�أجاب ال ،لكنه يرى �أننا غري متالئمني!
رغبت فيه يف
نف�س جملة ه�شام النذل� ،أف�سد ال�شيء الوحيد الذي ُ
179
ظلت �صامتة تنظر �إيلحياتي بهذا القدر .الغريب هو موقف ليلىْ ،
بعني حزينة حز ًنا مل �أ�ستطع �أن �أحدد نوعه ،هل هو حزن ملوقف �أبيها
�أم حزن �شفقة مما �س�أعانيه .زجرتُ قلبي عن حماوالت تربيره لها،
كفى غبا ًء يا �أجمد ،ال تتعلق بالأحبال الذائبة وتغرق نف�سك يف وهم
حبها لك ،كانت تعاملك باهتمام مثلك مثل اجلميع ،مل متيزك ب�أي
�شيء خمتلف وقلبك ف�سر هذا ح ًبا مما دفعك للإقدام يف م�شاعرك
�أكرث ،ت�صبح امل�شاعر رائعة عذبة ونحن يف غمارها ،ال تتجلى بق�سوتها
ع
�إال عند احلرمان منها بعد العطاء� ،أن يظل ال�شعور عال ًقا بذاكرتك
ر ش
والتوزي
ً
�سبيل.
ع
�أو رمبا حدث هذا كله معي تكف ًريا لذنب لبنى� ،أجترع من علقم
نف�س الك�أ�س لأقدر ما مرت به.
ً
ات�صال بك ،هل �أجيب؟» قالتها �« -سيد �أجمد� ،سيد معتز يجري
�سو�سن.
-نعم.
جاء �صوت معتز:
-مرح ًبا �سيد �أجمد ،كيف حالك؟
-بخري ،هل تقدم �أحد �آخر للوظيفة؟
-ال ،مل يتقدم �أحد.
180
-هل حدث �شيء؟
-ال ،ولكن �سيد �أجمد ا�سمح يل و�أرجو �أال تت�ضايق من كالمي،
�إىل متى �سنظل نرف�ض كل احلفالت التي ت�أتينا؟ هكذا
�ستخ�سر ال�شركة �سمعتها.
-ال �أ�ستطيع قبول �أي حفالت حتى يحل �أحد موثوق بقدراته
مكان ه�شام.
ع
قال راج ًيا:
ع
فتابعت بنربة مل �أمتكن من �إخفاء احلزن بها:
ُ ابت�سم من كالمي
ز
هلي �أنت و ت ل ا و ر
أجمد ،بقدر ما ي�سعدين كالمك بقدر ما ع
افرت�ش القلق مالمح �أبي وانتقل �إىل املقعد املجاور يل ً
قائل:
يقلقني، �-
بخري؟
-نعم ،ال تقلق� ،شعرتُ فقط �أنني �أريد قول هذا الكالم و�أنني
يجب �أن �أثق بحد�سك جتاه الأ�شخا�ص يف ما بعد ،اكت�شفت �أن
حتذيرك يل جتاه ه�شام كان �صاد ًقا.
قال بنربة متوعدة:
-هل �ضايقك؟ �أخربين فقط و�سرتى ماذا �س�أفعل معه.
قلت ناف ًيا:
ُ
-ال ،ال يا �أبي مل ي�صل الأمر لهذه الدرجة ،كما �أنني ف�صلته من
ال�شركة.
182
-خ ًريا فعلت.
عال رنني هاتف �أبي اخلا�ص بال�شخ�صيات املهمة ف�أجاب �سري ًعا
مرح ًبا بحرارة مبالغة ،يخربين ب�صوت هام�س �أن املت�صل �صديقه
املقرب باملجل�س ،تكلما يف كثري من الأمور حتى انتهى من املكاملة
وتوجه �إ ّ
يل حمذ ًرا:
� -أجمدَ ،
توخ احلذر جيدً ا هذه الأيام وراقب ت�صرفاتك،
�صديقي يخربين �أن املجل�س �سي�شن حملة مو�سعة ل�ضبط
ك
موافت ًقا يف
بملل بعد �أن �سمعت هذه الن�صائح عدة ل ا
خ�صي�صا لتحذيري. وات�صل
ل
ً
ص ع
�أذهب الآن ،هل ميكنني ا�ستعارة �سيارتك �أم �أطلب �سيارة
التوزيع
ً
و
م�سرعا متمن ًيا �أال وانطلقت ال�سيارة وذهبت �إىل
ُ التقطت املفتاح
ُ
يكون قد فات الأوان.
•••
184
()14
(عرس)
ريص ع
�صدرها بقوة ،يتحا�شى ب�صرها املعلق بالنافذة النظر جتاهي.
ر ش
والتوزي
وانطلقت �إليه
ُ والأنظمة الإلكرتونية �أخربين به �أ�صدقاء ال�سوء،
ع
م�سرعا.
ً
رن هاتفها وه َّمت بالرد فقلت لها:
� -أخربيه ب�إلغاء املوعد.
-هذا..
� -أعلم من هو� ،أخربيه كما �أخربتك.
نظرت �إيل نظرة كدتُ �أ�سمع من خاللها بقبقة ماء عينيها وقد
ْ
و�صل ملرحلة الغليان ب ِقدر الغ�ضب ،اعت�صرت الهاتف وهي تفعل ما
�أمرتها به قائلة بنفاد �صرب بعد �أن �أغلقت:
� -أخربته� ،ألن ت�شرح ماذا يجري؟
186
-اقرتبنا.
م�ضت ع�شر دقائق و�صلنا بعدها �إىل مكان على جانب املدينة
خال من ال�سكان والإ�ضاءة ،تطل حافة ه�ضبته اجلريية املعمورة ٍ
العالية على كثري من البيوت املرتا�صة بع�ضها بجانب بع�ض تتخللها
الأ�شجار و�أعمدة الإنارة.
ترجلت عن ال�سيارة متج ًها �إىل طرف احلافة ناظ ًرا �إىل املدى
ُ
�أت�أمل القمر الذي التهمت ال�سماء ن�صفه ،تارك ًة الن�صف الآخر
ريص ع
لتقتات عليه يف الليايل القادمة الباقية من ال�شهر.
بل
ن لت
ر ش
عنك مبا�شر ًة دون املجيء � ِ
إليك. أبلغت ِ
كنت �أريد االنتقام ل ُ
� -إن ُ
ل ا
تورطنيكتِري ص
انتهزتُ الفر�صة واتخذتُ و�ضعية املعلم النا�صح ً
قائل بحزم:
ع
ر ش ن ل ل ب
نف�سك يف ما ال قيمة له ،معذرة ولكن ما الذي فعله -نعم
ص ع
بالك �سوى �سيجارتك! كيف ال تقدر حجم الكارثة التي حلت
والتوزي ر
خطر دائم ،كل يوم ُيقب�ض على عدد منا م�ضحني ب�أنف�سهم
ع
من �أجل هدف حملناه على عاتقنا م�ؤمنني به ،وت�أتي �أنت الآن
وت�سفه من كل ما نقوم به!
أطلقت زفرة حتمل كث ًريا من الأ�سى:
�صمتت برهة وقالت بعد �أن � ْ
ْ
� -أ�سمع �أحاديث مثل حديثك هذا طيلة الوقت من �أهل بالدنا
عن اخلراب الذي �أحلقناه بها ومدى ف�سادنا ،لكن تفاج�أت
�أن يخرج منك ومفاج�أتي الكربى �أن يخرج من �أحد ما زال
ً
حمتفظا بذاكرته ،ومن املفرت�ض �أن يح�سن تقدير ما ميتلكه
ويفقده النا�س من حوله .على كل حال نحن م�ستمرون يف ما
نفعله حتى نحقق ما نطمح �إليه ،وبعد عدة �سنوات من الآن
عندما تتناول �سيجارتك بكل �أريحية �ستتذكرنا باخلري يا
�سيد �أجمد.
190
�شخ�صا �آخر غري الذي
ً مل تكن ليلى التي تتحدث �أمامي ،كان
اعتدتُ هدوءه وابت�سامته الدائمة ،نطقت بغ�ضب مل يكن وليد اللحظة
بل غ�ض ًبا ت�أ�صل بداخلها منذ زمن ،غ�ض ًبا مل يج�سده ل�سانها فقط بل
ممزوجا بوجع و�أمل وحزن وقهر متثل
ً ج�سدته جميع مالحمها ،غ�ض ًبا
م�سرعا عائدً ا
ً فهربت
ُ ملعت بعينيها مل يتحمل قلبي ر�ؤيتها
يف دمعة ْ
�إىل ال�سيارة.
•••
ر ش
والتوز عي
القيادة:
-ال تذهبوا �إىل هناك ثاني ًة ،اكت�شفوا هذا املكان.
قالت م�ستغربة:
-كيف عرفت؟
-ال يهم كيف ،املهم �أال تذهبوا ثاني ًة.
وهمت بالنزول فوقفتها:
�أوم�أت بر�أ�سها ْ
-ليلى.
ا�ستجابت لندائي دون �أن تتكلم فنظرتُ �إليها ً
�سائل:
-هل رف�ضتما طلبي لهذا ال�سبب؟
191
وا�ضحا ل�س�ؤايل ،تابعتها
ندت من عينيها نظرة �شفقة مل حتمل ر ًّدا ً
ْ
قائلة وهي تهم بالنزول:
ُ -ت�صبح على خري يا �أجمد.
نزلت من ال�سيارة بعد �أن تركتني �أتخبط بني جدران احلرية بعدم ْ
انطلقت
ُ �إجابتها� ،أحاول �أال �أف�سد طرب قلبي لر�ؤيتها بكرثة التفكري،
وكلي ثقة بتحقيق دعوتها �أن �أ�صبح على خري ،ف�صباح يوم �سبقته ليلة
جمعتني بها بالت�أكيد �سيكون بخري ،بخري جدً ا.
•••
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
تطلعت �إىل مر�آة امل�صعد و�أنا �أحاول �إقناع بع�ض ال�شعريات النافرة
ُ
والتوزي
عجزت م�ستح�ضرات ْ من جانب ر�أ�سي بالنوم مثل الباقية ،بعد �أن
ع
وظلت حمتفظة مببد�أها بعدم االجنراف العناية بال�شعر عن تروي�ضها ْ
مع التيار ،تركتها م�ست�سل ًما للف�شل كالعادة منذ بدء حماوالتي معها
منذ �سنني.
�أعدتُ �ضبط هندام بذلتي ال�سوداء حديثة ال�شراء� ،أُخفي ب�أناقتها
وقذفت به ل�سوء مذاقه
ْ قل ًبا اهرت�أ بعد �أن بالغت احلياة يف �إن�ضاجه
ومل يعد وجبة �صاحلة لإ�شباع خواء روح جائعة لل�سكن.
و�صلت �إىل الطابق ال�سابع حيث تقبع قاعة عر�س ه�شام ،دعاين ُ
�إىل زفافه بر�سالة ن�صية تركها يل ومل يحدثني� ،أظنه جتنب هذا
الأمر بعد علمه مبعرفتي حلقيقته ،بالت�أكيد نقلت ليلى ما حدث يومها
�إليهم جمي ًعا .ال �أدري كيف جنح يف �إخفاء الأمر لهذه الدرجة طيلة
ابت�سمت �ساخ ًرا و�أنا �أتذكر حتذيرات �أبي املتكررة
ُ فرتة عمله معي.
192
باالنتباه جيدً ا �أمامه ،فهو يراين كث ًريا ورمبا يالحظ احتفاظي
بذاكرتي ويبلغ املجل�س عني� ،أ�شعر باخلجل ال�شديد �إزاء ما فعلته
كنت �أرى ال�صدق يف عينيه حينها
معه ،مل يكن هو ال�سبب كما اتهمتهُ ،
ولكن الغ�ضب �أعماين ،مل �أُكلف نف�سي حتى عناء االعتذار بات�صال
�صغري يدفع عنه الظلم ويرد كرامته ،ومع ذلك دعاين� ،س�أزوره
خ�صي�صا يف بيته لالعتذار �إليه ب�شكل يليق مبكانته عندي.
ً
كانت القاعة ت�ضج ب�أ�صوات احلا�ضرين ي�سلون �أنف�سهم باحلديث
ص ع
ركنت �إىل طاولة بعيدة عن الأعني يتخذ حلني و�صول العرو�سنيُ ،
193
ملحني ه�شام من و�سط اجلمع فاختلطت �سعادة وجهه باملفاج�أة
م�سرعا ،كان جل ًيا �أنه مل يكن يتوقع ح�ضوري وال �أنكر
ً وحياين بيده
قمت من مكاين متج ًها �إليهما�أنني �شعرتُ ب�صدق فرحته بر�ؤيتيُ ،
مبار ًكا له هو و�سارة متمن ًيا لهما حياة مليئة بال�سعادة واحلبور ،تقابل
فا�ضت ب�أكرث
ْ ألقيت عليها حتية عابرة مل تبادلني مبثلها ،بل
وجهانا ف� ُ
أبدت ترحي ًبا �أ�سعدين� ،أ�شارت �إىل الأ�ستاذ �سالمة فبد�أ بالتحرك
و� ْ
أ�سرعت �أنا �إليه ،انحنيت ملق ًيا ال�سالم فهم�س ب�أذين ً
قائل: ُ بكر�سيه ف�
ص ع
-ن�شكرك على تنبيهك لنا.
ووالدها،التو
أي�ضا منهم ،الآن �صاروا ه�شام و�سارة وليلى و�أبيها،
وذلكزيتقدي
ع ًرا
ُترى كم عددهم بهذه القاعة؟ �أم �أن جميعهم من (اخلالدين)؟
ُ
قمت بهذا من باب املروءة،
منهما ملا فعلته ،رمبا يتخيل �أبوها �أنني ُ
وحقيقة الأمر �أن جمرد تخيل �إ�صابة ليلى ب�أذى حينها كاد ي�صيبني
باجلنون ،هل ُيق ّدر ح ًقا مدى احتمايل لتعنيف �أبي لك�سر �إ�شارة
فعلت هذا ب�سيارته وح ّملني دفع الغرامة
مرورية؟ والأدهى �أنني ُ
كاملة .بالت�أكيد ال ُيقدر ،لو ق ّدر هذا لزوجني ابنته ً
حال و�صار العر�س
عر�سني.
جاء الوقت املحبب للجميع ب�أي زفاف ،وقت الطعام ،بد�أت تفرت�ش
الطاوالت بالأطعمة وقطع كعك العرو�سني مع امل�شروبات الباردة ،وما
�إن هم احلا�ضرون بتناول الطعام و�سط �ضحكاتهم ب�أخذ فا�صل
عال نتيجة
ق�صري يبد�أ بعده االحتفال بالعرو�سني حتى �صدر �صوت ٍ
194
دفع باب القاعة بقوة �أفزعنا ،دخلوا بزيهم الأ�سود وهيئاتهم الكئيبة
غري املالئمة لأجواء العر�س ،بتجهم نظر زبانية قوات املجل�س �إىل
وجوه اجلميع م�ستمتعني ب�إتالف فرحتهم ،يقول �أحدهم ب�صوت
�أج�ش:
� -أين املدعو ه�شام مراد علي؟
بد�أ القلق يعثى بني احلا�ضرين ملتزمني ال�صمت خ�شية ما
�سيحدث �إن �أجابوا ،ب�صوت �أعنف �أعاد �س�ؤاله ثاني ًة ومل يلقَ جوا ًبا،
ريص ع
ف�أ�صدر عقابه ً
قائل:
ر ش
والتوز عي
قام ه�شام من جوار �سارة التي جت�سد الرعب بعينيها ً
قائل:
� -أنا ه�شام مراد.
اجته �إليه ً
قائل ب�صرامة:
-تف�ضل معنا� ،أنت رهن االعتقال.
ابتلع ه�شام ريقه بعد �أن �ألقى نظرة على �سارة التي ت�شبثت بيده
كطفل �صغري ً
�سائل:
-والتهمة؟
�أجاب ب�صرامة �أكرث:
-واحد من (اخلالدين).
195
كانت هذه اجلملة كفيلة ب�إف�ساد جميع معامل البهجة وال�سعادة
التي كانت تغمر املكان واحلا�ضرين منذ دقيقة واحدة.
مل يقبلوا النقا�ش �أو التفاو�ض من ِقبل البع�ض ب�أن الأمر الذي
بحوزتهم خاطئ بالت�أكيد ،و�أن يرجعوا للت�أكد ويرتكوا العري�س ل ُيكمل
ليلته ،اقتادوا ه�شام معهم �ساحبني الهواء من القاعة تاركني اجلميع
�سارعت
ُ يف حالة من ال�صدمة من انقالب احلال واحلزن على ه�شام،
باللحاق بهم تلوح �أمامي طريقة واحدة قد تنجح يف �إنقاذه من
براثنهم ،متج ًها �إىل اخلارج وما زال �صوت �سارة عال ًقا ب�أذين وهي
ص ع
تنتحب وت�صرخ با�سم ه�شام.
•••
ت ك ل ا ري
ل ل
آين �نأمام باب بيته وما زالت �آثار بر�
ور ً
�سائلالبخوف �شديد:
و ت ش
زيع
احتل الفزع عي َني �أبي عندما
طرقاتي النوم باقية على وجهه وقد �أيقظته �شدة
-ماذا حدث؟ هل �أ�صابك مكروه؟
-ال اطمئن ،ولكني �أحتاج �إليك يف �أمر عاجل ال يحتمل الت�أخري.
فتح الباب �أكرث لأدخل ،فقلت ناه ًيا:
-ال ،لي�س هنا ،بل يف ال�سيارة.
م�سرعا معي نحو ال�سيارة ،جل�سنا بها
ً انتعل �أبي خ ًفا منزل ًيا واجته
وبد�أتُ حديثي مبا�شر ًة:
� -آ�سف مل �أ�ستطع �أن �أحدثك بالهاتف �أو باملنزل حتى ال ي�سمع
النظام الإلكرتوين.
ً
متعجل: قال
196
-ماذا حدث؟ �أخربين� ،أنا يف غاية القلق.
-ه�شام.
-ماذا فعل؟ هل �آذاك؟
-ال ال ،ه�شام ُقب�ض عليه اليوم يف �أثناء زفافه.
-وما عالقتك �أنت؟ �أمل تخربين ب�أن �صلتك به انقطعت؟
كنت خمط ًئا يف هذا والتب�س ّ
علي اكت�شفت �أنني ُ
ُ -بلى ،ولكني
ك ل
حاجبيهتم�ستغر ًبا وهو يقول:
ب ا
�إىل �صديقك املقرب يف املجل�س.
ع
أكملت بنف�س رجائي:
� ُ
-ح�س ًنا ،دعهم ي�سجنونه ولكن دون �أن يطبقوا عليه حد العقوبة
باقتالع ذاكرته� ،أرجوك حاول.
قال متجه ًما:
� -س�أحاول ولكن ال �أعدك ب�شيء.
رغم �شدة عبو�س وجهه وهو يقولها ف�إن كلماته �أ�شعلت جذوة الأمل
يف قلبي من جديد� ،أمل ر�سم مبخيلتي خروج ه�شام ورجوعه �إىل
�سارة و�إعادة زفافهما مرة �أخرى واحتفاظهما بب�سمتهما العذبة لآخر
عمريهما م ًعا.
•••
198
قابلتني ليلى بعينني حتمالن حز ًنا عمي ًقا �أ�شعر به جيدً ا منذ ما
قلت مف�س ًرا �سبب جميئي لبيتهم:
حدثُ ،
أنك لن ترتكي �سارة و�ست�أتني بها �إىل هنا ،لذلك
-كنت �أعلم � ِ
أتيت لالطمئنان عليها.
� ُ
-للأ�سف حالتها �سيئة للغاية ،هي بالداخل تف�ضل.
وجلت �إىل ال�صالة التي حتطم فيها قلبي ً
قبل وقادتني �إىل غرفة ُ
ع
كان يجل�س بها الأ�ستاذ �سالمة �أمام �سارة الغارق وجهها بالدموع ،وما
ت
ْ
ص ع
عابر �أعطيناه �أكرب من حجمه ،مل �أد ِر �أنهم �سي�سددون
ع
ي�شكون ت ل
الأمور ،املهم �أن تختفي عن الأنظار الآن ،بالت�أكيد وهمزي
أخط�أت يف تقدير � من أنا � ابنتي، أرجوك �أن ت�ساحميني يا
ِ �-
بك ولكن لي�س لديهم دليل �ضدك ،ولن ننتظر حتى هذه ِ
اللحظة ،لن �أقوى على فقد اثنني من �أبنائي ،يكفي ما بي من
حزن على ه�شام.
ا�سرت�سلت �سري ًعا من عينيه م�ش ًريا �إىل ليلى ب�إ�شارة
ْ م�سح عربة
فهمتها ف�أخذت �سارة لغرفة ثانية ،قال:
� -أعتذر عن فعل �سارة ،هي يف حالة انهيار من وقتها وال تعرف
ماذا تفعل.
قلت �سري ًعا:
200
متاما وال �أحتاج �إىل اعتذار ،ه�شام مل يكن
� -أتفهم ما ت�شعر به ً
كنت �أنا �أ�شعر
جمرد عامل ب�شركتي بل �أكرث من ذلك ،و�إن ُ
بهذا احلزن فهي بالت�أكيد متر ب�أ�ضعافه.
أذنت ذاه ًبا بعد �أن الذ بال�صمت
�أوم�أ بر�أ�سه م�ؤكدً ا كالمي ،ا�ست� ُ
وقد هبط ال�ضيق ب�ساحة �صدره يريد طرده بعربات ت�ستحي من
الظهور �أمامي ،وددتُ �أن �أطمئن قلبه بكالم �أبي عن املحاولة لكن
�شي ًئا منعني لعله خويف من ف�شلها ،طردتُ هذا اخلاطر من ذهني
ص ع
علقت �آمايل مبحاولة �أبي متمن ًيا من
�سري ًعا ،فمجرد تخيله ي�ؤملنيُ ،
الكتب• • • ري
كل قلبي �أن تكلل بالنجاح.
201
()15
(الزوال)
ت ك
-بهذه ب ل
ً
حماول ت�صديق ما �سمعته �أذناي ً
ل
�سائل: �إىل ال�سيارة،
أجمد.ز عي
-ولكن ،ولكن مل مير على اعتقاله خم�سة �أيام ،ملاذا نفذوا
العقوبة بهذه ال�سرعة؟ رمبا كان بري ًئا.
-الأدلة �ضده كانت قوية بجانب �إ�صراره على عدم �إخبارهم
ب�أي معلومات قد تفيدهم يف القب�ض على البقية.
ظللت �صامتًا وما زال عقلي يحاول ت�صديق ما حدث مع ه�شام،
ُ
�أفكر يف �شكل حياته منذ �أيام قليلة كيف كانت وكيف �صارت الآن؟
اقرتب �أبي مني ً
قائل بعطف:
�سيحل �إىل �سجن الزوال ،وكما تعلم من يذهب �إىل -اليوم ُ
جنحت من خالل �صديقي باملجل�س يف
ُ هناك ال ُيرى ثاني ًة،
203
ترتيب مقابلة بينكما ملدة خم�س دقائق قبل ذهابه� ،إن كنت
ترغب يف ر�ؤيته.
�أوم�أتُ له بر�أ�سي مواف ًقا ،بالت�أكيد �إن �أُتيحت لك فر�صة مقابلة
عزيز لديك قبل ذهابه �إىل الأبد �ست�سرع باملوافقة و�إن كانت خم�س
دقائق ،خم�س دقائق هي الباقية يف عالقتكما والأهم بالن�سبة �إليك.
•••
ع
توقفنا �أمام امل�شفى الر�سمي ملجل�س �إدارة �ش�ؤون العهد اجلديد
والتوزي ر
حتدث �أبي �إىل فرد الأمن اجلال�س عليها حتى فتح لنا دفتيها ُمرح ًبا.
ع
كانت املباين نا�صعة البيا�ض حماطة باخل�ضرة من كل ناحية تنبعث
رائحة عطر مميزة من الأركان ُت�شعرك بالهدوء واال�سرتخاء ،اجتهنا
�إىل مبنى ُ�شيد بعيدً ا يف جزء مهمل من م�ساحة امل�شفى ،دخلناه
و�صعدنا �إىل الدور الثالث املكون من �أربع غرف ُو�ضع �أمام واحدة
منها فرد �أمن ،توجه �إليه �أبي وحدثه بكلمات مل �أ�سمعها ثم �أ�شار يل
بالدخول ،م�ؤكدً ا على �أن مدة املقابلة خم�س دقائق فقط.
وجلت الغرفة و�شعور االنقبا�ض ال ينفك عن قلبي وي�سحقه ببطء،
ُ
جال�سا على ال�سرير يرتدي مالب�س بي�ضاء ال يحرك �شخ�صا ً
ً وجدتُ
وجل�ست �أمامه �أدقق
ُ �سحبت مقعدً ا
ُ �ساك ًنا كتمثال ُ�صب منذ زمن،
النظر يف مالحمه حتى �أت�أكد �أن هذا ال�شخ�ص هو ه�شام نف�سه!
204
تدىل ر�أ�سه �إىل جانبه الأمين بحبل م�شنقة وهمي ُعلق به ،يتوارى
جزء منه حتت ال�صق طبي �سميك �إثر جراحة �أُجريت بعد �أن ُحلق
�شعره ،ذراعاه م�سرتخيتني بجانبه با�ست�سالم ،ينظر �إىل نقطة
قلت مقرت ًبا منه
بالأر�ض ال يتحرك عنها بعني �ساجية انطف�أت ملعتهاُ ،
�أكرث:
-ه�شام ،ه�شام ،هذا �أنا �أجمد.
ع
مل يظهر جلملتي �أي ردة فعل على مالحمه الفاقدة للحياة،
والتوز عي
ظل كما هو كجماد ال يختلف يف �شيء عن ال�سرير الذي يجل�س
عليه �سوى �أنه يتنف�س.
زلت على ندائي له ،فرفع عينيه بانك�سار
هززتُ كتفيه برفق و�أنا ما ُ
يئ�ست من
توقفت بعد �أن ُ
ُ جتاهي ثم عاد بهما �إىل مو�ضعهما ال�سابق،
و�ضعت ر�أ�سي على رجليه و�أخذتُ يف
ُ حماوالتي املخفقة من الأ�سا�س،
أبك من قبل ،العجز ُي�ضرم نا ًرا بال�صدر
بكيت بحرقة كما مل � ِالبكاءُ ،
تبقى م�شتعلة ال تهد�أ �أبدً ا مهما بذلت من دمع لإخمادها.
دخل �أبي خم ًربا �إياي بانتهاء الزيارة ،تفاج�أ بر�ؤية دموع مل يرها
على وجهي �إال مرات قليلة بال�صغر� ،أخذين من يدي واجتهنا عائدين
�إىل ال�سيارة ،مل تكن عيناي تب�صران �أي �شيء �سوى ه�شام وهيئته
جل�ست بال�سيارة �صامتًا �أ�سند ر�أ�سي �إىل زجاج النافذة
ُ وما حدث له.
205
يائ�سا من حياة هذه البالد كارهً ا لها ،وقد قيد االعتذار املت�أخر له�شام
ً
رقبتي بدين لن ينفك عني طيلة حياتي .قال �أبي مقاط ًعا �صمتي:
-لو �أعلم �أن هذا اللقاء �سي�ؤثر عليك بهذا ال�شكل ملا �سعيت له.
قلت با�ستهزاء �ساخ ًرا:
ُ
� -سعيت؟
قال بنربة غا�ضبة من ا�ستهزائي:
ر ش
-ل�ست غا�ض ًبا وال �ألوم ،مل تعد لأي �شيء � و
ع أهمية.التوزي
قال متعج ًبا:
-كل هذا من �أجل ه�شام؟ من يراك و�أنت تتحدث عنه من قبل
ال يراك الآن.
قلت بغ�ضب وقد �أثار الوجع بداخلي:
ُ
-و�إن فعل �أي �شيء جتاهي هل كنت تظنني �س�أ�شعر بالفرح ملا
حدث له مثلما ي�سعد اجلميع هنا بتنفيذ العقوبة على �أحد من
(اخلالدين)؟
تابعت و�أنا �أنظر حويل:
ُ
206
-بلد غبي ظامل ال تعي�ش به �إال �آالت ال تتمتع ب�أي �شعور �سوى
ال�سادية.
� -أنت تقول هذا لأنك ل�ست مثلهم ،لو كنت مثلهم لفرحت معهم
ب�إزاحة �شخ�ص ي�شكل خط ًرا عليك.
قلت حمد ًقا فيه وما ُ
زلت على غ�ضبي: ُ
-خطر؟ ما الذي فعله و ُي�شكل خط ًرا على حيواتهم؟ �سرق؟
ص ع
قتل؟ ذنبه الوحيد �أنه �أح�س بجرم ما ُفعل بهذه البالد وحمل
والتوز عي
�ضغط �أبي مكابح ال�سيارة ب�شدة ف�أحدثت �صو ًتا عال ًيا .قال بتوج�س
بعد �أن توقفت:
� -أجمد ،ما هذه ال�صيغة؟ منذ متى و�أنت تتكلم عن الق�ضايا؟
مع من تتحدث هذه الأيام؟ �صارحني ،هل لعب بر�أ�سك
�صديقك هذا قبل القب�ض عليه؟
قلت بثقة م�ؤكدً ا حتى ال ي�شك ب�أي �شيء:
ُ
-ال مل يتحدث ب�أي �شيء وال �أحتدث مع �أحد.
-ح�س ًنا� ،س�أ�صدقك لأين �أثق بك.
ثم تابع حمذ ًرا بلهجة حادة:
207
-ولكن �إياك �أن تتحدث بهذا الكالم ثاني ًة وال حتى تفكر به،
ر�أيت بعينيك ما ُفعل ب�صديقك� ،س�أراعي �أنك الآن حتت
�ضغط ر�ؤيته و�س�أتغا�ضى عن حوارك ،ولكن �إن كررته مرة
�أخرى..
قاطعته:
-ال داعي للتهديدات يا �أبي ،كان جمرد حديث عابر من �شجون
�أ�صابتني لر�ؤية ه�شام بهذا ال�شكل� ،ست�أخذ وقتها وتذهب
شر ن
والتوز عي
كتفي: على يربت
قال وهو ُ
-ال �شك لدي يف ذلك ،طيلة عمري مل يكن يل �أ�صدقاء ومنذ
�أن ُولدت �صرت �أنت �صديقي الوحيد ،و�أرجو �أن �أكون كذلك
بالن�سبة �إليك.
قلت بثقة:
ُ
-بالت�أكيد.
انطلق بال�سيارة بعد �أن اطم�أن لكالمي وطم�أنته �أكرث بفتح حوارات
خمتلفة ملوا�ضيع عدة ،متجن ًبا احلديث عن ه�شام وم�شاعري جتاه ما
مودعا �إياه بابت�سامة
حدث له� .أنزلني �أمام البناية التي �أقطن بها ً
حتجب وراءها لظى ت�أجج ب�صدري قررتُ �أال يعلم عنه �شي ًئا� ،أبي
ُح�صر مبتاهة لن يخرج منها �أبدً ا را�ض ًيا بتيهه مقتن ًعا �أنه احلل
208
الأف�ضل والأ�سلم ويريد �سحبي معه ،وجنح بفعل ذلك يف ال�سنوات
الفائتة� ،أما من بعد ر�ؤية ه�شام فال ،حياتي �أنا من �سيتوىل دفتها
قاط ًعا على نف�سي عهد �إكمال م�سريته والأخذ بث�أره.
•••
تبادلت ليلى والأ�ستاذ �سالمة نظرات احلرية والرتدد يف ما بينهما
بعدما �أبلغتهما برغبتي ،قال والدها حا�س ًما الأمر:
� -أعتذر .لن ن�ستطيع قبول طلبك.
والتوز عي
حقك الرف�ض� ،أما الآن فالأمر متعلق بي وحدي� ،إما �أن تقول
�سب ًبا مقن ًعا لرف�ضك و�إال فلن �أقبله.
�صمت برهة ثم تابع ب�شيء من احلدة حمذ ًرا:
�سهل كما تت�صور وبه خماطرة كبرية ،تريث ،رمبا -الأمر لي�س ً
نتجت رغبتك هذه بعد ر�ؤية ه�شام و�ستم�ضي الأيام وتن�سى.
قلت م�ؤكدً ا:
ُ
وظللت
ُ توقعت هذا الأمر لذلك مل � ِآت مبا�شر ًة بعد زيارته ُ -
عازما على قراري
أتيت الآن ً ثالثة �أ�شهر بعدها �أفكر ،و� ُ
ومت�أكدً ا منه متام الت�أكد.
قال:
209
-هل تعلم عقوبة من ين�شق عنا؟
�سارعت ليلى قائلة:
ْ
-القتل.
قالتها ب�أحرف تت�ضمن حتذي ًرا وتنبي ًها لأح�سن تقدير ما �أريد
الولوج �إليه.
قلت م�صم ًما:
ُ
ع والتوزي
وافقت �أبدً ا.
ُ -لوال موقفك الذي فعلته �ساب ًقا ملا
نظر �إىل ليلى با�سما وهو يقول:
ً
� -أخربي اجلميع �أننا �سنحتفل يف اجتماع اليوم بان�ضمام ع�ضو
جديد �إلينا ،لعل هذا يخفف من حدة احلزن اجلاثم على
�صدورنا جمي ًعا منذ رحيل ه�شام.
م�صافحا ،قال وهو
ً �أوم�أت ليلى بر�أ�سها با�سمة ،مد يده جتاهي
ي�ضغط على يدي بود:
أهل بك يف (اخلالدين). ً �-
•••
210
()16
(الخالدين)
والتوزي ر
من خالله �إىل قاعة متو�سطة ال�سعة ،ترتا�ص بداخلها مقاعد خ�شبية
ع
ب�سيطة متوازية �أمام من�صة ارتفعت ً
قليل عن الأر�ض لي�ستطيع كل
من يجل�س بالقاعة ر�ؤية من ي�صعد عليها،
ارت�شفت ر�شفة من كوب ال�شاي امل�ضبوط الذي ال يخرج �إال من بني ُ
َيدي العم �إبراهيم ،هذا الرجل ُينح درجة الدكتوراه يف �صنع ال�شاي،
جل�ست على �أحد املقاعد ناظ ًرا �إىل املن�صة عائدً ا بذاكرتي �إىل �أربعة
ُ
م�ضت ،عندما اعتليتها واق ًفا بجانب الأ�ستاذ �سالمة �أ�ؤدي ْ �أ�شهر
ق�سم االن�ضمام �إىل (اخلالدين) بوقار �أمامه و�أمام مئتي �شخ�ص
�آخر من بني رجال ون�ساء ،ال �أعلم هل الأ�ستاذ �سالمة هو من جمع
�شمل (اخلالدين) لذلك �أعطوه �شارة قيادتهم� ،أم �أن هناك �أ�سبا ًبا
أدت �إىل تقلده لهذا املن�صب .عرفني بعد ذلك �إىل الق�سمني �أخرى � ْ
الرئي�سيني اللذين يعمل بهما (اخلالدين) ،وهما الق�سم اخلارجي
212
املعني بالبحث بحر�ص �شديد عن الذين مل ُت َح ذاكراتهم ودعوتهم
لالن�ضمام �إلينا ،والق�سم الداخلي املنق�سم �إىل فرعني ،فرع يهتم
بتح�ضري موا�ضيع املناق�شات التي ُتدار يوم اجلمعة من كل �أ�سبوع،
والفرع الآخر يهتم باملكتبة وت�صنيف كتبها وتفريغ هذه الكتب و�إعادة
كتابتها مرة �أخرى ،و�إخفاء الن�سخ املكتوبة ملكان �آخر حت�س ًبا �أن ت�صل
يد املجل�س للمكتبة يف يوم ما وي�أخذها كما فعل مع بقية كتب بالدنا
متهيدً ا ال�ستقبال العهد اجلديد.
ص ع
كانت املكتبة حتظى مبكانة كبرية لدى (اخلالدين) ،تلك املكتبة
ع
�شيء �سوى اال�ستجابة لندائها.
اكت�شفت �أن ليلى تعمل � ً
أي�ضا ُ
ت ك ل ا ريص
ال �أخفي �سر �سعادتي اجلمة عندما
والتوزي ر
ان�ضمامي خم�سة .مل �أ�شعر باالندماج كث ًريا مع �إياد امل�س�ؤول معي عن
ع
املكتبة رغم ح�سن معاملته ورعايته ،كانت حدود العالقة بيننا تنح�صر
يف احلديث عن تق�سيم املهام بيننا والإجابة عن �أي �س�ؤال ال �أعرفه
بحكم حداثتي باملكان ،على عك�س العالقة بني ليلى و�صديقاتها التي
كان باد ًيا عليها االن�سجام والتناغم يف ما بينهن يف العمل واحلديث.
�صار �صديقي املقرب باملكان العم �إبراهيم العجوز املفعم باحلياة،
ببنية ج�سده الهزيلة وحليته امل�شتعلة بال�شيب وطاقية ر�أ�سه التي ال
تفارقه حتى تظن �أنها جزء منه.
بابت�سامته الطيبة وروحه الودود ا�ستطاع �أن يدك �أ�سوار قلعة
حكيت له عن معظم
ال�صمت التي �شيدتها حول نف�سي منذ وفاة �أميُ ،
وبكيت كث ًريا بني يديه ،حتى �إنه و�صفني ذات مرة
ُ حياتي ال�سابقة
�أنني (رجل �أ�سيف) ،وعندما �س�ألته عن معنى هذه الكلمة �أخربين �أن
214
(الأ�سيف) تعني رقيق القلب كثري الدمع .مل ي�صفني �أحد برقة القلب
غريه ،رمبا ر�آين بعني غري التي يراين بها اجلميع �أو رمبا هكذا �صار
قلبي بالفعل ،مما ال �شك فيه �أنه منذ ان�ضمامي �إىل (اخلالدين)
تغري كثري من الأ�شياء بداخلي ،روح املكان نفثت يف روعي �سمات
فارتبطت به �أكرث من �أي مكان �آخر ،االجتماعات واملناق�شات
ُ االنتماء
التي تقام للحديث عن التاريخ والف�ضاء والعلوم والأدب وكثري مما
ُمي من ذاكرة بالدنا ،االحتفال مبنا�سبات عدة كخطبة اثنني منا
�أو ان�ضمام ع�ضو جديد �إلينا ،القواعد من الن�ساء و�إعدادهن لأطباق
ص ع
به� ،صالح الذي يبطن يل كرهً ا ال �أعلم �سببه ولكنه ال تخفيه عيناه
والتوزي ر
�ساب ًقا مما يعك�س �شعوره ،ولكن �إن علم بهذا الأمر فبالت�أكيد علم
ع
أي�ضا �أنهما رف�ضاين و�أن هذا املو�ضوع انتهى ،فلماذا ي�ستمر بكرهي؟ � ً
نف�ضت عن ذهني �سري ًعا
ُ رمبا علم �شي ًئا �آخر ال �أعلمه يكمن عند ليلى.
هذه التخيالت ،فمعاملتها اجلافة يل منذ ان�ضمامي للعمل باملكتبة ال
غلف ا�شتياقيتعك�س �أي �شيء مما �أظنه� ،أتذكر عندما ات�صلت بها �أُ ُ
�إىل �سماع �صوتها ب�شكل خا�ص بعيدً ا عن النا�س واالجتماعات بحجة
ألقت
أحكمت ربط قدمي مبر�ساة �سفينة و� ْ بلهاء ا�ستدعيتها �سري ًعاْ � ،
بهما يف بحر جلي ب�س�ؤالها يف بداية املكاملة حينها:
-من معي؟
أدركت من ا�ستفهامها �أنها م�سحت
ماء �أجاج جرى بحلقي عندما � ُ
معلومات نظامي بعدما �سجلته م�سب ًقا مع بدء انتظامي باجلل�سات،
رفعت �سقف توقعاتي
م�سحته هكذا بب�ساطة غري مبالية؟ ال �أعلم ملاذا ُ
216
قبل �أن �أحدثها؟ ماذا تخيلت؟ �أنها �ستخربين بانتظارها الت�صايل
أترقب �أي �إ�شارة تعطيني
كنت � ُهذا منذ زمن وحتقق املراد �أخ ًريا؟ �أم ُ
ال�ضوء الأخ�ضر ملعاودة حماولتي؟ �أي �إ�شارة تثبت يل القبول من
ناحيتها ف�أُقدم ،ودمر �س�ؤالها هذا كل �شيء و�أحبطني .وقتها حاولت
عدم �إظهار �ضيقي متجاو ًزا اعتذارها عن �سوء �صوتها لإ�صابتها
بنزلة برد بعد التعريف بنف�سيً ،
�سائل �إياها مبا�شر ًة عن حجتي
أنهيت االت�صال مبا�شر ًة.
ب�شكل �أ�ضفى عليها اجلدية ،ف�أجابتني و� ُ
أغلقت اخلط و�أنا �أ�صب اللعنات على نف�سي وعلى قلبي ال�ضعيف � ُ
بل
ل ت ك
وجهه ،وكان �أول ما فعلته بعدها هو مبادلتها معاملتها اجلافة مبثلها
217
-هذه القطعة غري منا�سبة يل.
اجتهت �إىل رف تدىل منه كثري من ال�سراويل نظرتُ بينها بح ًثا،
ُ
هززتُ ر�أ�سي �ضي ًقا لعدم وجود �شيء ينا�سبني� ،ألقيت التحية ثم
خرجت.
كانت هذه فكرة الأ�ستاذ �سالمة �أن نتخد مق ًرا يف و�سط البلدة
لن يخطر ببال املجل�س �أبدً ا بعد �أن اكت�شف مقرهم على �أطراف
ع
املدينة النائية ،وتربع العم �إبراهيم مبحل مالب�سه لنحفر حتته مقرنا
ر ش
ع والتوزي -بال�شركة.
ات�صلت بال�شركة وقالوا �إنك غري موجود منذ
ُ -ال تكذب.
ال�صباح.
قلت م�ستنك ًرا:
ُ
� -أبي هل تتعقبني؟
�أخف�ض �س�ؤايل من وترية غ�ضبه و�أجاب:
قلقت عليك وكذبك الآن �أقلقني �أكرث.
-بالطبع ال ،ولكن ُ
م�سرعا:
ً قلت
ُ
218
-نعم يا �أبي كنت �أكذب ،لأنني لو �أخربتك �أنني كنت عند
أغلقت نظامي لرغبتي يف بع�ض الهدوء �ست�س�أل من
�صديقي و� ُ
هو و�ستذهب �سري ًعا جلمع املعلومات عنه ،ثم ت�أتي لتجربين
على عدم م�صاحبته.
زفرتُ ً
قائل:
� -سئمت بحق هذه احلياة بهذا ال�شكل.
ع
متاما وقال بتودد:
�سكن غ�ضبه ً
•••
انق�ضى اجتماعنا الق�صري اليوم وتفرقنا بعده ،منا من عاد �إىل
حياته ومنا من جل�س لإكمال عمل مل ينت ِه منه بعد ،كان لدى فرع
التنقية اجتماع نوه له الأ�ستاذ �سالمة حتى ال يذهب امل�س�ؤولون عنه،
ص ع
مر بي على كر�سيه املتحرك وهو يلقي ال�سالم برتحاب جم ويثني
ش
َّ
والتوزي ر
يعب عن نتيجة رائعة� .شكرته على كالمه مقارن ًة مبدة التحاقي بهم ِّ
ع
الطيب وح�سن ت�شجيعه ،ا�ست�أذنني وهم ذاه ًبا لغرفة االجتماعات
وتبعه �صالح الذي كان يتابع حديثنا ويرمقني بنظرات متتلئ بالإحن
اهتماما.
ً والدمنة مل �أعرها
كنت
تناولت كتا ًبا ُ
ُ وجل�ست �إىل طاولتي بعد �أن
ُ توجهت �إىل املكتبة
ُ
قد بد�أت بن�سخه يف املرات ال�سابقة ،كانت ليلى و�صديقتها جال�ستني
دوما
بطاولة تبعد عني بطاولتني فارغتني ،ناد ًرا ما نكون هكذاً ،
جنتمع نحن اخلم�سة ،قامتا م ًعا واجتهتا �إىل الأعلى رمبا لإعداد
�شيء تتناوالنه يف �أثناء عملية ن�سخهما .برزت من بني الكتب التي
ُوزعت على طاولتهما مفكرة ليلى الزرقاء املزينة بزهور وردية اللون،
هذه مفكرتها اخلا�صة التي ال تنفك عنها ،كنت �أ�شاهدها يف �أثناء
اجلل�سات تدون كث ًريا من الأ�شياء بها وقر�أت منها � ً
أي�ضا خاطرة �سن
220
الثالثني� ،أتت نظرات �صالح غري املربرة �أمامي فج�أة� ،شعرتُ ك�أن
جميع عوامل الف�ضول تكاتفت حلثي للقيام وت�صفحها �سري ًعا قبل
جميئها متجاو ًزا كل حدود اخل�صو�صية ،ولكن منذ متى و�أنا �أحتلى
بالأدب؟ مل �أعرفه �إال منذ �أربعة �أ�شهر عندما جئت �إىل هنا ،ولن
أ�ضفت بع�ض الدقائق الزائدة �إىل �سنواتي ال�سبع
يحدث �شيء �إن � ُ
حتركت �سري ًعا واال�ضطراب يزيد من �سرعةُ والع�شرين املا�ضية.
�أنفا�سي ونب�ضاتي خو ًفا من مواجهة حقيقة الأمر و�أنني ال �أعني لها
�شي ًئا على الإطالق� ،أُمني نف�سي بقراءة �أي حرف متعلق بي ف�أطمئن
كتو�ب ُ
ل ل
ذلك.
ل ا
قائل بعتاب املحبني:
ل ل
أرمين�إليه ،ا�ست� ْ ب�
ت ك
ش
فلم اجلفاء؟
� -إن كان الأمر هكذا َ
ريص ع
منك الآن ولن �آتي �إىل هنا خاللها حتى ال وال �أريد �سماع رد ِ
223
()17
(وأما قبل)
ر ش
والتوز عي
يظلم �أبدًا،
وخالطتُ عندكِ الربيع وانتزعتُ منه حديقة خالدة الن�ضرة يف
نف�سي ال تذبل �أبدًا،
وجال�ستُ عندكِ ال�شباب وترك يف قلبي من حلظاته ما ال يهرم
�أبدًا،
واجتمعتُ عندكِ باحلب وك�شف يل عن خملوقات الكون ال�شعري
الذي متل�ؤه ذاتي ال ينق�ص �أبدًا،
ور�أيتكِ يا فجري وربيعي و�شبابي وحبي فلن �أن�ساكِ �أبدًا ،و�أما
قبل».
أغلقت كتاب (�أوراق الورد) مل�صطفى �صادق الرافعي بعد �أن تلوتُ � ُ
نظرت �إيل بوجه يت�ألق بابت�سامة خجول
ْ ما تي�سر منه على م�سامعها،
ووجنتني توردتا حيا ًء ،قالت �سائل ًة بلطف:
225
-من �أين �أتيت بهذا الكتاب؟ ال يوجد باملكتبة.
أجبت و�أنا �أحت�س�س غالفه ذا اللون الأحمر القاين وعنوانه املكتوب
� ُ
بخط الثلث:
ا�ستطعت �أن �أحتفظ به من مكتبة �أمي� ،أخذته دون
ُ -هذا ما
متاما ،كنت �أنوي قراءته على الفتاة التي
علم �أبي و�أخفيته ً
�سيحظى قلبي بحبها ،وها �أنا �أفعل.
ص ع
بعثت �إيل بنظرة امتنان ممزوجة بحب مل �أ َر مثله �إال يف عينيها،
ْ
ي
واحدةز و ت ل ا و
� -أي عدل هذا الذي يحكم بعدم مبيتنا م ًعا ولو ليلة ع
زفرتُ ب�ضيق ً
قائل:
ونحن زوجان؟
ابت�سمت بغنج:
ْ
زقت بزوج متعجل مل ي�صرب حتى ي�أتي
-وماذا �أفعل وقد ُر ُ
موعدنا كما يحدده املجل�س؟
-و�ضعنا الآن �أهون عندي من االنتظار.
قالت متعجبة:
ْ
-ال �أعلم �إىل الآن كيف جنحت ب�إقناع �أبي بهذه الفكرة.
226
-لأن والدك �شخ�ص عاقل واقتنع بها ملنطقيتها.
بحزن تابعت:
-تخيل �أن �أهل هذه البالد فقدوا �إراداتهم �إىل هذا احلد الذي
ال مي ِّكنهم من حتديد موعد زفافهم ب�أنف�سهم ،نحن بحق
نعي�ش م�أ�ساة مكتملة الأركان.
�أوم�أتُ لها بر�أ�سي مواف ًقا كالمها ف�أكملت:
والتوزي ر
ع
� ْ
-كما ترغب �أيها الأناين.
أحبك.
ِ �-
ُ�صبغ وجهها بحمرة اخلجل وهي تقول ب�صوت منخف�ض:
-و�أنا � ً
أي�ضا.
أنت � ً
أي�ضا ماذا؟ -و� ِ
-و�أنا � ً
أي�ضا �أحبك.
-نعم هذه هي الإجابة ال�صحيحة ،ال تقوليها �أبدً ا مبتورة ،كلمة
أي�ضا فقط. �أحبك ت�ستحق ت�أكيدً ا �أكرث من :و�أنا � ً
228
ترجلت عن ال�سيارة متجهة �صوب ْ �أوم�أت بر�أ�سها موافقة ثم
فانطلقت ب�سيارتي عائدً ا بذاكرتي �إىل
ُ البيت ،اختفى ظلها وراء بابه
أتيت �إىل هنا بعد ثالثة �أيام من حمادثتي
عام و�شهرين م�ضوا عندما � ُ
مع ليلى وحماولة �إقناعها ب�إعادة التفكري يف رف�ضهاً ،
حامل باقة
من النعناع علها ت�ستميل قلبها للموافقة ،ا�ستقبلني الأ�ستاذ �سالمة
برتحاب طم�أنني ولكن تذكرتُ ترحابه املرة ال�سابقة ورف�ضي يف نهاية
فقلقت ثاني ًة� ،شرع يف احلديث مبا�شر ًة ً
قائل: ُ الأمر
ص ع
« -حدثتني ليلى عن �سبب جميئك اليوم» .قطع كالمه مناد ًيا
ك
أقولت�إنني �أخربتها �أن هذا الأمر عائد �إليها ،بل ري
-لن �أجتملالو�
وجل�ست على ا�ستحياء:
ْ لها ،ثم تابع بعد �أن جاءت
ع
حاولت �أال ت�شغل
ُ ومع ذلك يقابل عر�ضي بالرف�ض غري مو�ضح ال�سبب.
ر ش
والتوزي
والإتيان ب�أبي للتعرف �إليهما بعد �أن �صارت �شروط واتفاقات الزواج
ع
عادات بائدة منذ �أن �أ�صبح بيد املجل�س حتديد كافة هذه الأ�شياء.
وملعت عيناه بعربة ،متنى وجود �أمي فرح �أبي عندما �أبلغته وعانقني ْ
بهذه اللحظة� .س�ألني عن ا�سمها وا�سم والدها ف�أخربته بثقة تربهن
على ح�سن اختياري وتخفي وراءها قل ًقا ا�ستبد بي خ�شية �أن يكت�شف
عنهما �أي �شيء .غاب يومني وظهر بعدهما بوجه غري الذي ا�ستقبل
اخلرب به� ،أبلغني �أنها غري منا�سبة ،فهي �أكرب مني بثالث �سنوات كما
�أن �صورتها على نظامها اخلا�ص تدل على قلة جمالها ولبنى تفوقها
أو�ضحت له �أن �أ�سباب اختياري لليلى بعيدة
ُ مبراحل يف هذه النقطة� .
عن كل هذا ،م�ؤكدً ا له �أنه �سيغري وجهة نظره عندما يتعامل معها،
لكنه بد�أ باختالق �أ�سباب �أخرى ذكرتني بنهجه املعتاد املتبع معي يف
حتملت ثقل كالمه عن طموحه يف العرو�س التي ُ �أي �أمر ال يقتنع به.
وتغا�ضيت عن ت�سفيهه لليلى يف حماولة مني ُ تليق بالزواج من ابنه
230
للظفر مبوعد ملقابلة الأ�ستاذ �سالمة ولو ملرة واحدة فقط ،لكن �أبي
بد�أ باملراوغة التي �أدت يف النهاية للحظة الت�صادم بيننا و�إعالن نيته
ال�صريحة لرف�ضه للأمر ،ما �أدى �إىل تفريغ �شحنة احتمايل املغلفة
بغ�ضبي دفعة واحدة ب�إخباره �أن قرار االرتباط متعلق بي وحدي ولي�س
من حقه التحكم يف قراراتي ،و�أنني �أخربته منذ البداية للإعالم
فقط ولي�س للت�شاور� .سكن احلزن بعينيه بعد جملتي معل ًنا عن قراره
النهائي بعدم التدخل يف �أي �أمر متعلق بارتباطي بليلى .المني العم
�إبراهيم على ما قلته له وحفزين على االعتذار �إليه .يو�صيني بال�صرب
ل
عملت بن�صيحته واعتذرتُ لأبي وحت�سنت العالقة بيننا، م�ستقبلُ .
ع
جملة واحدة� :أنها فهمتني كما مل �أفهم �أنا نف�سي و�أح�سنت التعامل
ر ش
والتوزي
جنحت مب�ساعدتها يف الإقالع عن هذا ال�سم
ُ يوما بعد يوم ،حتى
تركه ً
ع
وحرق ما تبقى منه يف �شقتي .كلما راودين طيف العودة �أتخيل احلزن
علمت ف�أ�صرفه �سري ًعا .الحظ �أبي تغريي بو�ضوح
الذي �سي�صيبها �إن ْ
لكنه �أرجع هذا �إىل �إرادتي القوية يف تغيري نف�سي منك ًرا ف�ضل ليلى.
كان يتعامل مع وجودها كنكرة ال يذكر ا�سمها ويتجنب احلديث عنها
مهما حاولت �إقحام �سريتها يف حديثنا� ،أخربته بتقدمي طلب �إىل
كنت
املجل�س يفيد برغبتنا يف الزواج و�إدراج ا�سمينا لتحديد موعدُ ،
�أطلب ب�شكل غري مبا�شر معاونة �صديقه باملجل�س لي�ساهم يف الإ�سراع
بتحديد موعدنا ،لكن اكفهرار وجهه �أنب�أين برف�ض الطلب.
عاما على خطبتنا مل نتلقَ
م�ضت �أربعة �أ�شهر �أمتمنا بنهايتها ً
وملعت بر�أ�سي فكرة
ذرعا باالنتظار ْ
�ضقت ً
خالله �أي رد من املجل�سُ .
عزمت على
ُ �أخذت يف ال�سيطرة على ذهني مع مرور الوقت ،حتى
التحدث مع الأ�ستاذ �سالمة .انتظرته ذات يوم بعد �أن انتهينا من
232
وحتينت فر�صة جلو�سه مع �صحبته املقربة،
ُ اجتماعنا الأ�سبوعي
رغبت يف احلديث �أمامهم لعلمي بتحلي بع�ضهم باحلكمة ،بد�أتُ ُ
حديثي بعد �إلقاء التحية ب�س�ؤايل بجدية:
� -أل�سنا على احلق؟
نظر بع�ضهم �إىل بع�ض با�ستغراب من �س�ؤايل ،و�أجاب الأ�ستاذ
�سالمة:
ع
-بلى.
وزي ت
� -أق�صد املجل�س ،ملاذا ننتظره ليحدد لنا موعد الزفاف �عإن كنا
-ماذا تق�صد؟
نكفر بوجوده؟
�أجابني �صالح ب�ضيق:
-لأن هذا هو النظام املتبع بالبالد.
-وماذا نفعل نحن هنا؟ �أمل جنتمع للتخطيط للتحرر من هذا
اال�ستعباد؟
واجتهت باحلديث
ُ جتاهلت نظرات �صالح الغا�ضبة بعد جملتيُ
�إىل الأ�ستاذ �سالمة �أ�صارحه بطلبي مبا�شر ًة:
233
� -أنا لن �أدع املجل�س يتحكم ب�أب�سط حقوقي ويفر�ض �سطوته
على قرار زواجنا ،لذلك �أرجو يا عمي �أن توافق على رغبتي يف
الزواج من ليلى �أمام جميع اخلالدين� ،أنتم من يهمنا �أمركم
ولي�س املجل�س.
تقو�س حاجباه من غرابة اقرتاحي و�شرد مفك ًرا ،ما دفعني
ال�ستغالل �شروده الذي يعني تقبله للفكرة ولو بن�سبة واحد باملئة ،وهي
م�ستفي�ضا يف �شرح طلبي ً
معلل ً ن�سبة كافية يل لأخرتقه من خاللها
ص ع
�أ�سباب حجتي ،يدعمني البع�ض منهم باملوافقة على ما �أقول والبقية
والتوزي ر
الأ�ستاذ �سالمة �إعطاءه مهلة للتفكري جيدً ا بالأمر و�سيخربنا بقراره.
ع
�شننت حملة غري معلنة على �أ�صدقائه املقربني ملحاولة �إقناعه بعد
ُ
�إظهار دعمهم ملبد�أي ،وكان �أكرثهم ت�أث ًريا العم �إبراهيم الذي جنح
بالعزف على الوتر املحبب لقلب الأ�ستاذ �سالمة و�إقناعه ب�أن هذه
اخلطوة �ستُ�سجل يف تاريخ (اخلالدين) ك�أول خطوات التحرر من نري
عبودية املجل�س ،لي�ستجيب يف نهاية الأمر بكثري من الإقناع وقليل من
وحدد موعد زواجنا بعد �شهر .كانت ليلى تتحداين بقبول ال�ضغطُ ،
أ�صيبت بالذهول عندما �أخربتها بفوزي ،تال�شت والدها لفكرتي و� ْ
من �أمامي �سري ًعا بخجل بعد �أن جت�سد حما�س فرحتي بكلمة �أخ ًريا.
�أخربين اجلميع �أن الوقت مي�ضي وال�شهر مير كلمح الب�صر ومل �أ َره
�أنا كذلك ،كان بالن�سبة �إيل ك�سنة جدباء طويلة �أرجو رحيلها �سري ًعا
كي تغاث نف�سي وتع�صر من رحيق ال�سعادة .مل �أ َر ليلى خالله �إال مرة
�أو مرتني لدقائق ،كانت حتتجب عني تطبي ًقا للن�صيحة ال�شهرية
234
باالمتناع عني لتتدلل بحرماين من ر�ؤيتها خو ًفا من �أن �أعتادها ،وما
تدري �أن بوجودها تبت�سم احلياة ويختلف الهواء ،حتتويني ال�سماء
وت�صافحني قطرات املطر ،تعقد �أحزاين معاهدة �صلح م�ؤقتة حتى
تغادر فت�شن حروبها ثاني ًة خملف ًة وح�ش ًة بقلبي بعد �أن ذاق حالوة
الأن�س ب�صحبتها.
جاء اليوم املوعود وتعاون اجلميع بتزيني القاعة فرحني بلذة
االنت�صار على املجل�س ولو بخطوة ب�سيطة كهذه ،مانحني �إيانا �شرف
ص ع
ارتديت بذلة �أهداها يل �أبي كنت �أحتفظ بها ملثل هذا اليوم.
ُ ال�سبق.
ع
ويقذفوا بي للأعلى تعب ًريا عن فرحتهم ،والتفت الفتيات حول ليلى
ري
ُ
والتوزي
�صالح اليوم ،ناول �أ�ستاذ �سالمة �صالح ً
ع
قفل �صغ ًريا ل ُيحكم غلق
الغرفة بعد ذهابهم ،ر�آين ف�ألقى التحية وبد�أ يف �س�ؤايل عن �أحوال
العمل .نظر �إيل �صالح نظرة �ساخرة من ورائه حتمل حتد ًيا فهمته
قلت ب�صوت ي�صل �إىل م�سامع �صالح بنربة واثقة:
وقبلت بهُ ،
مللت العمل يف املكتبة و�أريد �أن �أغري الفرع،
-عمي� ،أ�شعر �أنني ُ
�أفكر يف االن�ضمام �إىل فرع التنقية ،فما ر�أيك؟
� -أظن �أن فرع املكتبة هو الأف�ضل لك ،ميكنك االنتقال �إىل فرع
حت�ضري املناق�شات �إن �شعرت بامللل.
-ولكن �أريد تغيري الق�سم ب�أكمله.
-الق�سم اخلارجي ي�شكل خط ًرا عليك ،لذلك ال �أرجحه الآن.
-لذلك مل � َ
أخته واخرتتُ ق�سم التنقية.
238
-ق�سم التنقية مكتمل الآن وال يحتاج �إىل �أعداد �أخرى.
مل تكن احتياجات �أق�سام (اخلالدين) تقام على العدد و�إمنا على
حرية اختيار الأفراد للق�سم الذي يريدون العمل به ،لذلك كان جل ًيا
�أنه ال يريد ان�ضمامي �إليهم ويغلف رغبته بحجة واهية.
خارجا بعد �أن ودعني ،مر بي �صالح بوجه يحمل ابت�سامةهم ً
�ساخرة وبعينني حتمالن ال�شماتة بخ�سراين �أمامه ،انتقل الأمر
حتد تافه بيني وبينه �إىل �س�ؤال يجب �أن �أعرف
بداخلي من جمرد ٍ
ريص ع
�إجابته ،ملاذا يرف�ض الأ�ستاذ �سالمة ان�ضمامي �إىل ق�سم التنقية؟
الكتب• ل•لن•
ماذا يحدث هناك؟
239
()18
(التنقية)
ر ش
�-سيد �أجمد ،يود جمل�س �إدارة العهد وال
ع �أنه اجلديدت �وزي
إخبارك
قد حدد موعد زفافك �أنت وخطيبتك الكرمية ليلى يف يوم
ُ
اخلام�س ع�شر من ال�شهر اجلاري ،ويرجى التوا�صل معنا
لإطالعكما على التفا�صيل كافة.
قفزتُ من فوق ال�سرير ب�سعادة لتحديد املوعد �أخ ًريا� ،أخربتها �أن
تت�صل بليلى ثم نهيتها عن ذلك� ،أريد �أن �أرى مالمح وجهها عندما
�أخربها ب�أننا �أخ ًريا �سنمار�س حياتنا ب�شكل طبيعي ك�أي زوجني ،نظرتُ
�إىل �ساعتي فوجدتُ �ساعتني تبعدانني عن موعد االجتماع الأ�سبوعي
للخالدين ،دفعني احلما�س الرتداء مالب�سي �سري ًعا والذهاب �إىل املقر
241
النتظار ليلى .اعتدنا �أن نذهب �أنا وهي يوم االجتماع مبك ًرا مل�ساعدة
العم �إبراهيم يف تهيئة القاعة� ،س�أحاول �أن �أ�صل قبل و�صولها� ،أريد
�أن �أكون �أول من تراه.
•••
فرح العم �إبراهيم باخلرب وهن�أين� ،أو�صيته بعدم �إخبار ليلى
و�أخربته �أنني �س�أنتظرها باملكتبة حلني و�صولها .مررتُ بالقاعة
ملحت باب غرفةالتي مل يط�أها �أحد بعد يف طريقي �إىل املكتبةُ ،
ريص ع
االجتماعات اخلا�صة بفرع التنقية فتذكرتُ ماذا حدث باملرة
ع والتوزي
حمكوم عليها بالف�شل م�سب ًقا لعلمي بغلق �صالح له ،لكن تفاج�أت
بفتحه بب�ساطة بني َيدي ،داهمني اال�ستغراب عندما نظرتُ �إىل مكان
القفل ومل �أجده ،ر�أيت الأ�ستاذ �سالمة بعيني وهو يناوله ل�صالح
م�ؤكدً ا عليه �أن يغلق الغرفة جيدً ا ،راودتني نف�سي بال�سوء بالولوج
�إليها واكت�شاف ما بها �سري ًعا ،فهذه �أف�ضل فر�صة ملعرفة ذلك ولن
حاولت زجر نف�سي عن فعل هذا ولكن دافع الف�ضول كان ُ تتكرر ثاني ًة،
أغلقت الباب
دلفت و� ُ
�أكرب من �أن حتده مواعظ االحرتام بداخليُ ،
بدت ك�أي غرفة ورائي متطل ًعا �إىل �أركانها �أ�سكت�شف حمتوياتهاْ .
عادية ،طاولة اجتماعات باملنت�صف خالية من �أي �شيء ،خلفها طاولة
�صغرية تركن �إىل احلائط حتمل كت ًبا ا�ستعارها الأ�ستاذ �سالمة من
املكتبة منذ �أ�سبوعني تربز من بينها �أوراق ينقل بها بع�ض املعلومات،
ا�ستقرت فوقها لوحة ملنظر طبيعي جذبتني �ألوانها لأقرتب و�أدقق
النظر �أكرث ،كانت �ألوانها �ساحرة وبديعة تعك�س براعة فنان ماهر
242
حملت �أق�صى ي�سارها توقي ًعا بالأ�سفل با�سم �سالمة
با�ستخدام ري�شتهْ ،
عا�صم وحتته كلمة باري�س ،مل �أكن �أعلم �أنه يجيد الر�سم ،يبدو �أنه
�سمعت �أ�صوا ًتا باخلارج تنبئ مبجيء بع�ضُ ر�سمها منذ زمن بعيد.
فهممت بالرحيل قبل �أن يكرث عددهم ويالحظوا خروجي ُ اخلالدين
من غرفة االجتماعات ،لكنني ر�أيت جتوي ًفا باحلائط ً
مقابل للوحة
توجهت �إليه
ُ مل �أكن �أراه من باب الغرفة الرئي�سي يحوي با ًبا �آخر،
�سري ًعا �أقنع عقلي الذي يحثني على اخلروج فو ًرا بال�سماح يل بخم�س
متاما عن غرفة دقائق �أخرى ،فتحته ودخلت .كان املكان خمتل ًفا ً
ع
حماول تكذيب ظني، �سري ًعا بني امللفات متمن ًيا �أال �أجد هذا امللف
ر ش
والتوزي
قدمي
خارجا �أجر َ توجهت ً ُ التحركات بدقة بجانب عديد من ال�صور،
ع
وقد ُربطت بهما �أكيا�س مملوءة برمال �صحراء الأمل املهلكة� ،أحمل
فهمت كل هذا ب�شكل امللف بني َيدي �أتعلق ب�آخر حبال الأمل �أنني رمبا ُ
انقطعت كلمة ال�شيخ �أحمد الواعظة التي يلقيها على احل�ضور ْ خاطئ.
بخروجي من غرفة االجتماعات ينظر �إيل بده�شة تطورت لفزع بعني
الأ�ستاذ �سالمة القابع بجواره وهو ينظر �إىل امللف بيدي� ،شق �صوتي
ال�سكون الذي جثم على اجلميع بثقله بنربة خائفة تخ�شى الإجابة
موج ًها �س�ؤايل للأ�ستاذ �سالمة:
-ماذا يفعل ا�سم �أبي هنا و�سط هذه امللفات؟
واختنقت مالحمه وهو يهرب بنظرات عينيه لوجهة
ْ زفر ب�ضيق
غري حمددة ،فت�أكدتُ �أن ما فهمته �صحيح ،حت�شرج �صوتي بفعل
ال�صدمة املغمو�سة بالوجع ً
قائل:
244
وثقت بك وبكم جمي ًعا واعتربتكم عائلتي و�أنتم تدبرون لطعني
ُ -
من اخللف؟ �أي خ�سة هذه؟
قال الأ�ستاذ �سالمة راج ًيا:
� -أجمد �أرجوك �أن تهد�أ.
قلت غا�ض ًبا:
ُ
-كيف تطلب منى الهدوء بعد ما عرفته؟
245
�-أبوك عبد القادر �سند طبيب املخ والأع�صاب ال�شهري الذي
نال عديدً ا من اجلوائز وذاع �صيته بعبقريته هو نف�سه قائد
قرا�صنة العقول ،باع �أ�صحابه ذوي ال�ضمائر اليقظة وت�صالح
مع املجل�س مواف ًقا على كل �شروطه مقابل كثري من الأموال
و�إتاحة الفر�صة له بتطبيق جتاربه ،وكان �أول �ضحاياه هو
�شعب هذه البالد مب�سح ذاكرته وال�سيطرة على عقله.
رميته بنظرات حانقة من كذبه ف�أكمل ً
�سائل �إياي:
ع
-ال مل �أ�س�أل ،لأنني �أعرف من �أين ح�صل عليها ،من �صديقه
باملجل�س.
نفى بحدة:
-كذب ،من هذا ال�صديق الذي �سيخربه بكل هذه التفا�صيل
ال�سرية للغاية؟ املجل�س مي�شي وف ًقا خلطط �أبيك ،هو ال�سبب
يكتف بهذا بل �صار يحاربنا ونحن
يف نكبة هذه البالد ،ومل ِ
يف طريقنا لإ�صالح ما �أف�سده ويطبق العقوبة بيديه على
اخلالدين.
نفيت ما يقوله بقوة:
-كل ما تقوله هراء� .أبي ترك جمال الطب منذ �سنني و�أغلق
عيادته ،فكيف �سيجري العمليات؟
246
� -أوهمك و�أوهم اجلميع بهذا حتى ال ُيك�شف �أمره� ،أمل تفكر ولو
حلظة ملاذا يغلق عيادته وهو يف �أوج جمده؟
-ليعتني بي.
-هذا ما �أقنعك به.
اختلطت حدة �صوته بالأ�سى متاب ًعا:
ْ
-هو من �أجرى العملية له�شام ولكثريين غريه ،هل علمت الآن
ص ع
و�ستثبت لك الأيام
ُ ن�ؤمن به وتثق بقرارتنا وحكمة �أفعالنا
ري
قام �صالح ال ً
معرت�ضكا:ت
�صحة ما �أخربتك به ،و�إما �أن تغادرنا وتن�سى �أمرنا.
ل
اكت�شفت احلقيقة ،ومبجرد خروجك من هذا َ
فوقفنيزيع
تهديده علي من خالل
َّ حماول الربح بال�ضغطً
ثاني ًة حزمت �أمري و� ُ
ُ
بنف�س احلزم ً
قائل:
-انتظر ،عليك �إمتام �شيء ما قبل رحيلك.
نظر �إىل اجلميع ثم �أكمل:
-كما زوجتك ابنتي �أمام جميع ،ف�أنا �أطلب منك الآن �أن تطلقها
�أمام اجلميع � ً
أي�ضا.
وقلت
نظرتُ �إىل عني ليلى الدامعة التي ترتجاين ب�صمت �أال �أفعل ُ
بثبات:
أنت طالق.
ِ �-
250
عندما تدخل �إىل �ساحة مواجهة احلياة �ستظل توجه �إليك لكماتها
للحد الذي �ست�شعر عنده بت�ساوي مقدار الأمل ،فتتلقى ال�ضربة
�سمعت
ُ القا�ضية بهدوء م�ست�سل ًما لهزميتك غري عابئ ب�أي �شيء� .إن
لكنت جهزتُ �أ�سلحتى و�أعددتُ
هذا الطلب قبل �ساعة واحدة فقط ُ
حربتي ملواجهة العامل ب�أكمله دون حتقيقه ،ولكن الآن خدر الوجع
يفقدين الإح�سا�س و�أعلم �أن الندم بانتظاري ليح�سن رعايتي عند
الإفاقة.
•••
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
251
()19
(مذكرات)
التوزيع شر و
أيام. -مل � ِألق القمامة منذ عدة �
كي�سا �أ�سود
تقززت مالحمه وهم ذاه ًبا �إىل املطبخ بهمة� ،أخرج ً
ْ
كب ًريا من �أحد الدواليب ولب�س قفازين وبد�أ بجمع الأوراق و�أطباق
ذهبت �إىل غرفتي
ُ الأكل وعلب الع�صري املبعرثة ب�أركان ال�شقة،
قر�صا ل�صداع بد�أ بالدق على ر�أ�سي.
وجل�ست على ال�سرير �أتناول ً
م�ضى وقت جاء بعده �أبي بكي�س جديد لغرفتي ووبخني على حالة
ال�شقة وكيف تركتها ت�صل لهذه املرحلة التي تكلفت ثالثة �أكيا�س من
احلجم الكبري لتنظيفها .مل يلقَ ر ًّدا مني كعادتي مبهاجمته ما جعله
يكف عن احلديث واقرتب وجل�س بجانبي ً
قائل:
� -أجمد ،ما بك؟ وال تقل �إنك بخري لأنني لن �أ�صدقك.
نفثت ب�ضيق فتابع:
ُ
254
-هل �ضايقتك خطيبتك يف �شيء؟
-انف�صلنا.
ربت على كتفي ً
قائل بفرح:
-ال حتزن� ،س�أزوجك من هي �أف�ضل و�أجمل منها بكثري.
نظرتُ �إليه متعج ًبا:
ع
� -ألن ت�س�ألني عن ال�سبب؟
والتوز عي
َمب �ستفيد معرفة ال�سبب الآن؟ ذهبت وانتهى �أمرها.
هززتُ ر�أ�سي مواف ًقا لكالمه ف�أكمل بحما�س:
-هيا قم وا�ستحم وبدِّ ل مالب�سك� ،سنتناول الغداء م ًعا و�سنقيم
ً
احتفال مبنا�سبة انف�صالك.
ابت�سمت له فداعب �شعري بيده وقام ليجمع قمامة الغرفة ً
قائل: ُ
تن�س حالقة ذقنك هذه ،وخالل
-هيا قم حتى ال نت�أخر ،وال َ
هذا الوقت �س�أنتهي من تنظيف غرفتك.
وقفت بباب الغرفة
حتركت من مكاين ببطء متج ًها �إىل اخلارجُ ،
ُ
وا�ستدرتُ �إليه ً
�سائل:
� -أبي.
255
�أجاب وهو من�شغل بجمع القمامة:
-نعم.
-ما ا�سم �صديقك باملجل�س؟
أح�س�ست فيها مبفاج�أته ب�س�ؤايل ،ثم تابع عمله وهو
ُ �سكن حلظة �
يجيب:
-عالء.
ع والتوزي
دوما تخربين �أنه �صديقك املقرب ،فكيف ال �أعرفه ومل
-ولكنك ً
�أ َره من قبل ولو ملرة؟
-هو يعتربين �صديقه املقرب �أما �أنا فال.
-ما ر�أيك �أن حتدثه لنقابله اليوم؟
نظر �إيل م�ستغر ًبا ً
قائل بحدة:
تورطت جمددًا مع واحد من ه�ؤالء
َ -ملاذا؟ �إياك �أن تكون قد
اخلالـ...
قاطعته:
-ال يا �أبي الأمر لي�س كما تظن ،كل ما �أريده �أن �أ�شكره حل�سن
�صنيعه معنا ب�شكل �شخ�صي.
256
ابت�سم واقرتب مني وربت على وجهي ً
قائل:
-ولد خلوق ،على العموم ال داعي لذلك �إطال ًقا ،ما فعله هو رد
خلدماتي له.
ألت م�ستغر ًبا:
�س� ُ
-وما اخلدمات التي �أديتها له؟
كنت �أزاول املهنة.
كنت �أعالج والدته منذ زمن بعيد عندما ُ
ُ -
�صيتكلتوحينهاز عي
خ�سارة
ر
-جمرد تفكري ،طبيب مبكانتك وبقوة وا
-كثرية �أ�سئلتك اليوم.
ع
ظللت �أ�سرتجع �شريط حياتي
ر ش
والتوزي
كانت �صعبة ،لكن كان من املمكن رعايتي بطرق �أخرى كثرية غري
ع
�أن يرتك عمله� ،أغلق عيادته يف الوقت الذي كان املر�ضى ينهالون
عليه للك�شف من كل حدب و�صوب ،غيابه عدة مرات بعدها لأيام قد
تبلغ الأ�سبوعني واعتذاره يل ووعده بتعوي�ضي عن هذا الوقت ورف�ضه
مل�صاحبتي ،انتقالنا املادي املفاجئ الذي �أحدث طفرة بحياتنا يف كل
�شيء كان متزام ًنا مع م�صاحلة املجل�س ،معرفته للتفا�صيل الدقيقة
خلطة املجل�س مبحو ذاكرة البالد ،مررتُ بكلتا َيدي على ر�أ�سي عدة
مرات كي تهد�أ حرارة ربط الأ�شياء ببع�ضها مبرجل عقلي ،كل ما �أمر
متاما
به جمرد ظنون ،ظنون حتتاج �إىل دليل قاطع قد ينفي هذا ً
و�أن�سى الأمر �أو يثبته و�أعرف حقيقة كل �شيء ،ولكن ُترى �أين يكون
هذا الدليل؟ ال �أعلم مكا ًنا يذهب �إليه غري بيته .جاءت عدة �صور
�أمامي و�أنا �أحاول ع�صر ذاكرتي بكل الأماكن التي ذهب �إليها �أبي
258
ولو مرة ،جاءت �أمامي �صورة وث ُبتت ،تذكرتُ املوقف املتعلق بها الذي
تناولت
ُ �أثار ال�شكوك بداخلي �أنها رمبا حتوي �شي ًئا يو�صلني للحقيقة،
وانطلقت �إىل وجهتي.
ُ وذهبت �إليها� ،أدرتها
ُ مفاتيح ال�سيارة
•••
�سعلت بقوة �إثر اقتحام ذرات الغبار �أنفي ،مهتد ًيا ب�ضوء هاتفي بعد
ُ
�أن ت�أكدتُ من انقطاع الكهرباء عن املنزل بال�ضغط على قاب�س ال�ضوء
ع
وعدم ا�ستجابته يل ،كان املكان �ساك ًنا كاملقابر تز�أر الرياح من خالل
ك
يل �أنها خرجت من فم �شبح.
ر ش
والتوز عي
قيمت عليها ،مل ُي َقم التا�سع ُ
متذك ًرا �أعياد ميالدي الثمانية التي �أ ْ
والعا�شر لبدء دخول �أمي يف مرحلة اكتئابها ،ما �أدى �إىل ان�سحابها
�سلطت ال�ضوء
ُ من املنا�سبات االجتماعية واالنغالق على نف�سها �أكرث.
على احلائط واقرتبت منه �أم�سح ب�أطراف �أكمامي الرتاب العالق
على زجاج برواز يحمل �صورة لأمي وهي جال�سة و�أجل�س �أنا بحجرها
متعنت يف ال�صورة جيدً ا ،كانت ال�سعادة العنوان ُ ويقف وراءنا �أبي،
كنت ال �أعرف هل كانت �أمي تعني تلك االبت�سامة الرئي�سي لها ،و�إن ُ
ح ًقا �أم �أنها طاعة لأمر امل�صور.
بد�أت �أجتول بعيني يف �أرجاء البيت �أ�سرتجع مع كل ركن به ذكرى
�آتية من عمر الطفولة ،تفاج�أت برحيل �أبي عنه منذ واقعة انتحار
�أمي عندما �أعادين من عند اجلدة كوثر� ،أخربين �أنه مل يعد مبقدوره
العي�ش به وقد �صار مكا ًنا مفع ًما بالأمل بعد رحيلها ،مل �أره من وقتها
�إال منذ عدة �سنوات ،حتديدً ا ليلة البدء بالعهد اجلديد عندما �أتينا
259
�إىل هنا ل ُنبقي نف�سينا مبن�أى عن ت�أثري الفريو�س ،احتمينا بالقبو
ملدة �أ�سبوع حتى �أُذن لنا باخلروجُ .
نزلت �إىل القبو بعد �أن كاد عبق
الذكريات العالق باملكان ُين�سيني ما جئت لأجله� ،أ�صدر باب القبو
�أزيزًا عال ًيا �أزعجني عندما فتحته ،و�شعرتُ بعني الهدوء وهي تنظر
�إيل بحدة ف�أم�سكته �سري ًعا بيدي بعدما وجدتُ �أنه ُفتح باملقدار الذي
فح�صت املكان بب�صري ،كان كل �شيء كماُ ي�سمح جل�سدي بالولوج.
تركناه منذ �ست �سنوات ،نظرتُ �إىل لوحة معلقة باحلائط فوجدتها
ع
كما هي مبكانها وقد حباها الرتاب �شي ًئا من نفحاته ف�أخفى معاملها،
والتوزي
تلك اللوحة على الأر�ض ويقف �أمام فتحة باحلائط يلت�صق بكتفه
ع
متاما فلم ينتبه ً
من�شغل ً �إطار معدين �سميك ي�شبه باب خزانة ،كان
ال�ستيقاظي واقرتابي منه ،تطلعت من خلفه �إىل اخلزانة املربعة
القابعة �أمامه ،كانت مكونة من خانتني احتوت اخلانة العلوية على
عدد من ال�صور وملف وبجانبهم دفرت ورقي ،واحتوت اخلانة ال�سفلية
على عدد من القناين ال�صغرية الفارغة كان �أبي يهم بو�ضع القنينة
الأخرية بجانبها ليكتمل الفراغ الباقي من ال�صف ،لوال تفاجئه من
وجودي ف�سقطت من يده والتقطتها �سري ًعا ما جعله يتنهد بعمق وقد
�ضحكت وقتها من هيئته �ساخ ًرا من خوفه على
ُ فزعا،
جحظت عيناه ً
قنينة فارغة �أدرتها بني �أ�صابعي لقراءة ما ُكتب على املل�صق ال�صغري
الذي حتمله ،لوال �أنه �أخذها �سري ًعا من يدي وو�ضعها باخلزانة
و�أغلقها وو�ضع اللوحة عليها .مل �أهتم حينها مبا يجري ومل �أ�س�أله عن
260
تلك الأ�شياء التي بداخل اخلزانة و�أهميتها بالن�سبة �إليه ،ف�أبي بالعادة
اجتهت
ُ يوما ال�س�ؤال عنها.
له بع�ض الطقو�س الغريبة ومل ي�شغل بايل ً
�إليها و�أزلت اللوحة عن احلائط فوجدت اخلزانة قابعة �أمامي ،تذكرتُ
دوما �سيا�سة �أبي التي ينتهجها يف اختيار �أرقامه ال�سرية ،كان نهجه ً
حاولت فتحها بتاريخ ميالد �أبي فلم ت�ستجب كررتُ ُ تواريخ امليالد،
أي�ضا ،حاولت بتاريخ ميالدي املحاولة بتاريخ ميالد �أمي فلم ت�ستجب � ً
فف�شلت املحاولة ،ترى �أي رقم اختاره �أبي؟ تذكرتُ ذات مرة عندما
ريص ع
�أخربين بالرقم ال�سري اخلا�ص ببطاقة م�صرفه البنكي املكون من
والتوز عي
هذا الرقم ف�سمعت تكة ت�شري �إىل فتحها ،وجدتها ك�آخر مرة نظرتُ
و�سلطت ال�ضوء عليها ،كانت ال�صور لأبي ُ التقطت ال�صورُ �إليها،
برفقة �أ�شخا�ص �آخرين مل �أرهم من قبل ،مبت�سمني وي�شريون بعالمة
ابتلعت ريقي بعدما قلبتها وقر�أتُ جملة (اجتماع ُ الن�صر للم�صور،
ظللت �أتنقل بني ال�صور وهي قرا�صنة العقول) ومدون حتتها التاريخُ .
تعك�س و�ضعيات خمتلفة لهم مرة وهم ي�ضحكون ومرة وهم يتناق�شون
قناعا بهلوان ًيا بعني جاحظة حتمل ومرة وهم يرتدون ذلك القناعً ،
نظرة ال�شر و�ضحكة ب�شفاه حمراء خبيثة ،هو نف�سه قناع قرا�صنة
تناولت امللف
ُ العقول الذي كانوا يظهرون به يف ت�سجيالتهم امل�سربة.
�شرعت يف قراءتها ،كانت عقودًا تفيد بالتعاونُ فوجدتُ بداخله �أورا ًقا
بني قرا�صنة العقول واملجل�س وبيع فكرة حمو ذاكرة �أهل البالد مقابل
عدد يحمل كث ًريا من الأ�صفار ،و�إتاحة الفر�صة لهم لتطبيق جتاربهم
261
و�صلت �إىل �آخر العقد فوجدتُ عن ميينه ُ حتت رعاية املجل�س.
توقيع الطرف الأول� /أع�ضاء جمل�س �إدارة �ش�ؤون البالد ،والطرف
الثاين �أعدتُ قراءته كث ًريا لعل ذلك ُيفلح يف تكذيب ما �أخربين به
الأ�ستاذ �سالمة وتكذيب ما تراه عيناي الآن ،ولكن مل يتغري �شيء
غري و�ضوح احلقيقة �أمامي �أكرث ،الطرف الثاين /عبد القادر �سند.
أغم�ضت عي َني �أ�ستجديهما البكاء لتخففا ما �أمر به الآن لكنهما �أبتا،
ُ �
جمدتهما املفاج�أة وتركت عقلي لينال حظه من �صفعات احلقيقة وهو
ريص ع
تفح�صت ما بقي من امللف
ُ ما زال يت�أرجح بعدم ا�ستيعاب ملا عرفته.
ع
التقطت الدفرت
ُ فح�صها مرة �أخرى ومعرفة ما بجعبة تلك الذاكرة،
الورقي الذي بدا عليه القدم من غالفه ،بد�أتُ �أت�صفحه ليتزايد
معدل �صدمتي مع كل ورقة �أنتهي من قراءتها� ،أغلقته وقد تبلل جزء
يكتف الأمل مبا فعله بقلبي يف الآونة الأخرية فقرر منه بدموعي ،مل ِ
متاما ،ينظر �إليه وهو يلفظ �أنفا�سه الأخرية �سعيدً ا وقد
الق�ضاء عليه ً
�ضم قل ًبا جديدً ا �إىل مقربته.
•••
«-غريب! هذه املرة الأوىل التي تطلب بها زيارة والدتك» .قالها
با�ستغراب يف �أثناء قيادته يف طريقنا �إىل قرب �أمي.
ا�شتقت �إليها.
ُ -
262
ابت�سم وربت على كتفي ،تظاهرتُ بالنوم حتى ال نتكلم �إىل �أن
ن�صل ،م�ضى وقت نبهني بهزات خفيفة بعده �إىل و�صولنا فرتجلنا عن
ال�سيارة متجهني �إىل قرب �أمي ،وقفنا �أمامه بوقار يردد �أبي الدعوات
ب�صوت هام�س ،انتظرتُ حتى انتهى ف�س�ألته:
ا�شتقت �إليها؟
َ -
التقط دمعتني ب�سبابته و�أجاب دون النظر �إيل:
ع
-كث ًريا.
التوز عي
جملتي و�
-ما هذا الذي تقوله؟
أخرجت الدفرت الورقي ً
قائل: ُ �
-مذكراتها التي �أخفيتها.
تفاج�أ عندما ر�أى الدفرت الورقي ،وتابع وهو يتلعثم:
-لكن والدتك انتحرت� ،أنت �شهدت هذا بعينك.
�ضحكت �ساخ ًرا و�أنا �أقول:
ُ
�شخ�صا �أمام قطار ويخرب
ً -كالمك يا �أبي يذ ِّكرين مبن يدفع
اجلميع �أن القطار هو من قتله ولي�س هو.
أكملت:
ابتلعت املفاج�أة �صوته ف� ُ
263
اكت�شفت �أعمالك الال �أخالقية
ْ كتبت هذه املذكرات عندما ْ -
دونت حماوالتها امل�ستميتة
ب�إجراء جتاربك على مر�ضاكْ ،
دخلت يف االكتئاب
معك كي ترجع عما تفعله لكنك مل ت�ستجبْ ،
ب�سبب احلرية بني الإبالغ عنك وك�شف حقيقتك �أمام النا�س
وال�سكوت واحتمال عذاب ال�ضمري جتاه �ضحاياك ،مل جتد
حل ينقذها من كل هذا فلج�أت لالنتحار و�أعطتني خلالتها ً
خافت �أن �أ�صري مثلك ،طيلة
ْ اجلدة كوثر لرتاعيني لأنها
ع
حتملت ومل يكن
ْ عمري كنت �أتهمها بالأنانية وهي �أكرث من
ر
ً
(((ال ُذهان أو البارانويا :مرض نفيس يعاين فيه املريض من أحاسيس وهمية وحالة شك
شديدة يف اآلخرين وغاياتهم حتى يشعر باالضطهاد من ِقبلهم ،وقد يؤدي هذا املرض إىل االنتحار
إن مل يُعالج برعاية طبيب مختص.
264
فاجتهت معه حتى تالقت عيناي
ُ التفت بج�سده و�أنا �أ�سرد حقائقي
َ
بعينيه ً
�سائل:
� -إجرا�ؤك عمليات نزع الذاكرة للخالدين كذب �أم حقيقة؟
�إجرا�ؤك العملية له�شام كذب �أم حقيقة؟
امتقع وجهه ودارت عيناه مينة وي�سرة يحاول قول �أي �شيء للدفاع
تابعت بعد �أن امتلأت عيناي بالدموع وحت�شرج
عن نف�سه ومل يجدُ ،
�صوتي:
ي
أعلم كلز و ت ل ا و
-كل ما �أمتناه الآن �أن �أكون بجانبها بهذا القرب وال � ع
نظرتُ �إىل قرب �أمي ً
قائل:
هذه احلقائق.
نظرتُ �إليه ً
مكمل وقد امتل ْأت عيناه بنظرات التو�سل والرجاء:
-لكن ما فعلته �أمي خاطئ ،لذلك اخرتتُ ً
حل �آخر كان الأف�ضل
بالن�سبة �إيل.
�س�أل با�ستغراب:
-ماذا تق�صد؟
كنت �أظنها فارغة وهي
-الزجاجات الفارغة ،معذرة ،التي ُ
حاملة للفريو�س.
265
فزعا وهزين بقوة ً
�سائل: ات�سعت عيناه ًْ
-ماذا فعلت؟
ابت�سمت وج ًعا و�أنا �أجيبه:
ُ
ا�ستن�شقت الفريو�س احلامل للجني
ُ -فات الأوان يا �أبي ،لقد
امل�س�ؤول عن م�سح الذاكرة ،وبقيت �ساعة على �إمتام مفعوله
بالكامل ،و�سيخطر املجل�س �آل ًيا و�سيزرعون ذكرياتهم بعدها.
ع
�صرخ بوجهي غا�ض ًبا وقد ملع الدمع بعينيه:
فعلت امل�ستحيل كي ال ُت�سح ذاكرتك
ت ك ل ا ريص
-ملاذا؟ ملاذا يا �أجمد؟ ُ
والتوزي ر
ع
قلت م�ستهز ًءا:
ُ
-وملاذا �أنت غا�ضب �إىل هذا احلد؟ �س�أكون واحدة من جتاربك
الناجحة.
بتحد �إىل عينيه:نظرتُ ٍ
-و�أعلم �أنك �ستحاول زراعة ذكريات �سعيدة بداخلي عنك،
فعلت ولن ين�سى.
لكن �سيظل قلبي يكره ما َ
م�سرعا وقد �أ�صيبت حركات ج�سده بالت�شتت
ً اجته �أبي �إىل اخلارج
بعد ما �سمعه ،فكاد ي�سقط من على ال�سلم وهو ي�صعده يف طريقه
جل�ست قرب
ُ مبال مبا ينوي فعله فلم �أعد �أهتم،
للخارج� ،صرتُ غري ٍ
وم�سحت عليه و�أنا �أبكي ً
قائل: ُ قرب �أمي
-بعد قليل من الوقت �س�أن�سى كل �شيء متعل ًقا ِ
بك� ،س ُيمحى
أنك �أمي،
وجع غيابك من قلبي و�س�أعرف من �صورتك � ِ
266
�س�أن�سى �شعور الغ�ضب الذي حملته ب�صدري جتاهك مدة
طويلة ،وكذلك �س�أن�سى �إح�سا�سي بالذنب نحوك الآن ،لذلك
�أرجو �أن ت�ساحميني على كل ما �سبق� ،أرجو �أن ت�ساحميني يا
�أمي.
منت بجانب قربها يف انتظار اللحظة احلا�سمة ،م�ضى وقت ُ
�شعرتُ بطول دقائقه بد�أتُ �أ�شعر بعده با�ستيقاظ خاليا عقلي ك�أن
ومتتال،
ٍ تيا ًرا كهربائ ًيا م�سه ،بد�أت الذكريات ت�أتي �أمامي ب�شكل �سريع
ص ع
كنت ر�ضي ًعا وبد�أت �أكرب
ذكريات يوم والدتي! تلتها ذكريات عندما ُ
ر ش
والتوز عي
أتت �أمامي ال�شركة ،ه�شام ،ندوة االنتحار ،ليلى ،مقر يف الهواءْ � ،
اجلمعية ،حديثي مع ليلى على اله�ضبة ،ان�ضمامي �إىل اخلالدين،
املقر ،العم �إبراهيم ،ال�شيخ �أحمد� ،صالح ،خطبتنا ،زواجنا ،تقبيلي
ليد ليلى ،نظرة الفرحة بعينيها وابت�سامتها العذبة ،كلمة �أحبك وهي
تخرج من بني �شفتيها ،فرع التنقية ،حديث الأ�ستاذ �سالمة ،عينا ليلي
الدامعتان ،طالقنا ،مواجهة �أبي باحلقائق بجانب قرب �أمي ،وكانت
هذه هي الأخرية التي ما �إن ُ�سحبت للأعلى حتى �شعرتُ بانفجار
فتحت عي َني ونظرتُ
متاماُ .
رهيب بر�أ�سي �أخذ بع�ض دقائق ثم �سكن ً
ت�شو�شت ر�ؤيتي فلم �أ َر �شي ًئا �سوى البيا�ض� ،شعرتُ بان�سحاب
ْ حويل،
هويت على الأر�ض فاقدً ا للوعي.
القوة من ج�سديُ ،
•••
267
()20
(عودة)
ر ش
والتوز عي
علي بجوار
يحاوطها ال�سواد ،كان �آخر م�شهد هو �سقوطي مغ�ش ًيا َّ
�شرعت يف التبخر
ُ قرب �أمي وانطف�أت ال�شا�شة بعدها وبد� ْأت بالتبخر،
تركت ج�سدي للعقار ينت�شله من الذكرى كما أي�ضا �شي ًئا ف�شي ًئاُ ،
�أنا � ً
يحب ويفعل به ما ي�شاء ،م�ست�سل ًما له بي�أ�س بعدما رجعت يل ذاكرتي
وعرفت ما الذي حدث بحياتي ال�سابقة ومن �أنا. ُ
•••
و�ضعت مي�سون القر�ص بجانبي بعني حتمل نظرات ترددت بني ْ
تناولت القر�ص لأتقوى به على
ُ �أ�سف و�إ�شفاق وتوتر ال �أعلم �سببه،
جل�ست وقد
ُ �إنهاك طال ج�سدي ومل �أجد ما �أعالج به ت�صدع روحي،
ث ُقل ر�أ�سي ب�أحمال كاجلبالُ ،
كنت �أ�سعى ال�ستعادة ذاكرتي والآن
موجوع بها.
269
جاءت مي�سون �أمامي وقد بدا من حريتها �أنها ال جتد ما تقوله،
قلت بحزن:
ُ
عرفت كل هذا ،ليتني ما تذكرت.
-ليتني ما تذكرت وال ُ
� -أجمد.
أح�س�ست ب�ضياع مالحمها بني جنبات الرتدد ،وقالت
ُ نظرتُ �إليها ف�
ب�أحرف حتمل كث ًريا من االرتباك:
ريص ع
� -أنا� ،أنا...
ر ش
والتوزي
ببطء كلما اقرتب من دائرة ال�ضوء ،كان �صاحب ال�صوت �أبي! قال
270
-هذا �شيك بالدفعة املتبقية من ح�سابك.
تناولته منه دون �أن ترفع ر�أ�سها.
يربت على ظهري ً
قائل: اجته �أبي نحوي وعانقني وهو ُ
-عودًا حميدً ا.
جمدتني املفاج�أة عن �إبداء �أي ردة فعل ،مفاج�أة حياتي ال�سابقة
والتوز عي
كذبت ب�ش�أن
كنت على علم بكل �شيء منذ البداية وخدع ِتني! ِ
ِ -
لك بالدخول �إىل ذاكرتي
و�سمحت ِ
ُ بك
ووثقت ِ
ُ ق�صتك وهربك
أنت طرف بهذه اللعبة.
و� ِ
قال �أبي مرب ًرا:
كنت �أرغب يف القيام بهذا الأمر ،ولكن خ�شيت من عقلك ُ -
الباطن �أن يعرفني ويحجب ذكرياتك وال جنني �شي ًئا ،لذلك
ف�ضلت ا�ستخدام �شخ�ص مل تره �أو تتعامل معه من قبل، ُ
�سيميل عقلك �إىل ت�صديقه والوثوق به.
ربت على كتفي و�أكمل:
271
-ال تعلم مدى �سعادتي بعودتك الآن� ،أنقذتُ الأمر باللحظة
وقفت
الأخرية ،مبجرد �أن جاءت �إ�شارة �أفادت مب�سح ذاكرتك ُ
أتيت بك �إىل هذا املكان �أفكر
عملية زرع الذكريات اجلديدة و� ُ
تو�صلت �إىل هذا احلل وجنح
ُ يف طريقة لإعادة ذاكرتك ،حتى
بالفعل.
ثم اجته �إىل مي�سون وهو ي�شري �إليها متاب ًعا:
ص ع
-و�ساعدتني يف هذا الأمر الطبيبة مي�سون .هي الوحيدة التي
كت�شرحه بب�ساطة وال يدري مدى وقع كلماته ل ا ري
وثقت بها للقيام بهذه املهمة.
ب
ُ
ش
ي�صنعربه ما ي�شاء و ُيدخل يفن ل ل
و
حياته من ي�شاء ،حتى قراري الوحيد الذي اتخذته التو
ي�سرت�سل يف كان �أبي
مبح�ض �زيع
�صغري على �صدري ،يتعامل معي كطفل
إرادتي
�أف�سده و�أرجع يل ذاكرتي.
جنحت بالكاد يف التقاط
ُ مال ناحية مي�سون و�س�أل ب�صوت هام�س
كلماته:
-هل وجد ِته؟
هزت ر�أ�سها نافية وهي حمافظة على انخفا�ض �صوتها:
-ال ،كنت �أبحث عن مكانه يف كل ذكرى بينما هو من�شغل
بتفا�صيلها ومل �أجده.
272
جاء �صوبي وهو ير�سم ابت�سامة كبرية على وجهه ً
قائل:
-هيا ،هيا يا �أجمد ،قم لنعود �إىل املنزل ،من اليوم �سنعي�ش
م ًعا ببيت واحد� ،سنن�سى كل ما م�ضى و�سنفتح �صفحة جديدة
نكتب �أحرفها م ًعا.
وقفت �أمام
تناولني من يدي وم�شى بي ببطء متج ًها للخارجُ ،
مي�سون ً
قائل:
ع
� -أرجو �أن تكوين را�ضية عن �أجرك.
ب
ْ
ع
علمت بفقداين لذاكرتي؟ جاءين بداخلي ،ترى ماذا تفعل الآن؟ وهل ْ
والتوزي ر
ع
ُ
-ال �شيء.
-هيا الع�شاء.
بد�أنا بتناول الع�شاء ي�صحبني كالم �أبي و�أحاديثه الكثرية على
غري عادته �ساب ًقا ،تغري كث ًريا منذ �أن جئت معه �إىل هنا ،يحاول
�أن ُين�سيني ما م�ضى بر�سم �صورة جديدة له وال تظهر �أمامي �سوى
حقيقة ما اكت�شفته عنه.
فامتنعت
ُ انتهينا و�أتى �أبي بكوب من احلليب و�أعطاين �إياه لأتناوله،
فقال بلطف:
كنت �أود �إعداد ال�شاي بالنعناع لك كما �أخربتني ،لكن هذا
ُ -
�سي�صيبك بالأرق.
274
و�ضع كوب احلليب بني َيدي و�أكمل:
-و�أنا ال �أرغب بهذا� ،أريد �أن تنام با�سرتخاء كي ت�سرتد عافيتك
وت�ستطيع �إرجاع ذاكرتك بالكامل.
�أوم�أتُ له بر�أ�سي ف�س�أل ب�شغف:
-هل تذكرت �أين �أخفيت امللف؟
�أجبته ناف ًيا بر�أ�سي ،تابع وهو مي�سح على �شعري:
ريص ع
بع�شوائيةُ ،فرغت جميع حمتويات املطبخ بعبثية لكن مل ُي�سرق غر�ض
ل
ً
ع
�أحد يحمله �سوى �أبي ،يبدو �أنه جاء �إىل هنا للبحث عن امللف الذي
زادت حريتي �أكرث و�أنا �أفكر :ما �أهمية
دوما ومل يجدهْ . ي�س�ألني عنه ً
هذا امللف؟
•••
ورك�ضت
ْ امتلأت عينا �سارة بالفزع عند ر�ؤيتي �أمام باب بيتها،
�إىل الداخل وهي ت�صرخ:
� -أرجوك ال تقب�ض علي ،مل �أعد �أنتمي �إليهم �صدقني.
أغلقت الباب ورائي و�سط ذهويل من ردة
دلفت �إىل الداخل و� ُ
ُ
انتقلت يل �سائلة بخوف:
ْ نظرت خلفي ثم
فعلهاْ ،
� -أمل ي�أتوا معك؟
276
ألت متعج ًبا:
�س� ُ
-من هم؟
قالت بذعر:
ْ
-قوات املجل�س.
متلكتني الده�شة من ظنها مبجيئي بقوات املجل�س للقب�ض عليها
ع
حاولت تهد�أتها طال ًبا منها اجللو�س
ُ ومل يرد هذا اخلاطر بذهني قط،
ش
ُ
ع
أكملت:
�صمتت برهة و� ْ
ْ
والتوزي ر
يخربا املجل�س ب�أي معلومات تتعلق بالآخرين رغم ال�ضغط
ع
الكبري الذي مور�س عليهما.
تابعت وهي تنظر �إىل عي َني ال�شاخ�صتني:
ْ
-باملنا�سبة ،ليلى �أخربت والدك ب�أمر زواجكما لعل هذا ينجح
يف ا�ستمالة قلبه وينحيه عن �إجراء العملية ،لكنه مل يفلح.
�س�ألتها وقد ُبح �صوتي من �صدمة كلماتها:
� -أُجريت العملية لليلى؟
�أوم�أت بر�أ�سها بالإيجاب وهي تقول:
-نعم �أُجريت العملية لها وللأ�ستاذ �سالمة وتفرقنا من بعدهما.
يبدو �أن جتمعنا من البداية كان خاط ًئا ومل ِ
جنن من ورائه
�سوى �ضياع كثريين منا ،ه�شام وليلى والأ�ستاذ �سالمة.
278
قمت وبد�أت بالدوران
هززتُ ر�أ�سي ناف ًيا �أحاول تكذيب ما �سمعتهُ ،
حول نف�سي ت�شتعل نار الغ�ضب بداخلي متد ج�سدي بطاقة ال يتحملها،
أ�سرعت �سارة
ْ قليل منها يف �ضربة �سددتها يدي للحائط بقوة� ،ف�أفرغ ً
نحوي وهي حتاول تهدئتي وموا�ساتي.
قلت وحمم الغ�ضب تنتقل �إىل �صوتي:
ُ
� -أريد �أن �أراها.
نهتني �سارة قائلة:
ر ش
والتوز عي
ُ
�أباك عني حرا�سة خا�صة لليلى بعد �أن �أر�سلت �إىل هناك.
ألت متعج ًبا:
�س� ُ
-و َمل؟
أجابت �سارة:
� ْ
-هذا ما ال تعرفه يا �أجمد� ،أبوك قبل �إجرائه العملية لليلى
اكت�شف من خالل التحاليل التي �أجراها لها �أن ليلى حامل.
فتابعت بعدما الحظت مفاج�أتي:
ْ ثبتتني جملتها بالأر�ض
-نعم يا �أجمد ،ليلى حبلى منك ويبدو �أن احلمل كان يف بدايته
لذلك مل تكن هي على علم به ،وعندما علم والدك بالأمر
�أجرى لها العملية مع تعيني حرا�سة م�شددة لها ترعاها وترعى
حفيده �إىل حني موعد الوالدة ،وبالت�أكيد �سي�أخذه بعدها.
279
ت�ضخم وح�ش الغ�ضب بداخلي وزادت رغبته ب�إحراق كل �شيء
هممت ذاه ًبا من �أمامها تتحرك قدماي بوقود
ُ مبال بالعواقب،
غري ٍ
ال�سخط ،فوقفتني �سائلة:
� -إىل �أين �ستذهب؟
� -إليه.
� -سرتتكب نف�س اخلط�أ ثاني ًة؟ يا �أجمد �أنت ال تفهم �أباك
ص ع
بعد ،والدك �شخ�صية مت�سلطة ينفذ ما يفكر به وما يراه هو
ع والتوزي
املعلومات وال�سعي �إىل عزلك �أكرث ،فكر جيدً ا قبل �أن تتخذ
�أي خطوة.
على الرغم من غ�ضبي الفائر الذي كاد �أن ي�صم �أذين عن كل ما
تقوله ،ف�إن كالمها �أرجع �أمامي �شريط ما حدث بالفرتة املا�ضية ،كان
رجعت لنقطة
ُ حديثها �صائ ًبا ،مل ت ِفد املواجهة يف املرة الأوىل ب�شيء،
ال�صفر ثاني ًة بل لأ�سو�أ منها ،لذلك يجب َّ
علي ترتيب �أوراقي والتفكري
بالأمر جيدً ا .تذكرتُ �أمر امللف ومدى اهتمام �أبي به ،يجب �أن �أ�صل
انطلقت من �أمام �سارة �أطوي
ُ لهذا امللف �سري ًعا ومعرفة ما يحتويه.
ً
متجاهل نداءها املتتايل، قدمي
درجات �سلم بنايتها �سري ًعا حتت َ
�أ�ستدعي تفا�صيل �آخر مرة كان امللف بحوزتي ،كل ما �أتذكره �أنني
تناولتُه من اخلزانة ببيتنا القدمي ورمبا �أخفيته هناك� .صعدتُ �إىل
280
ال�سيارة حمددًا وجهتى ،وقبل �أن �أديرها تذكرتُ �شي ًئا ،فتحت �سحاب
أخرجت �إبرة العقار املختبئة بجيبها الداخلي بحر�ص� ،أظن
ُ �سرتتي و�
حان وقته الآن.
•••
281
()21
(الذكرى األخرية)
ت
ُ
والتوز عي
أخرجت العقار
ُ
رَيدي ،رمبا �أخفيته هنا مبكان ما غري مرئي للناظر� ،
ونظرتُ �إليه و�أنا �أ�شعر بالرتدد يف ا�ستخدامه ،كان العقار املتبقي
ً
من�شغل ب�س�ؤالها ،وال لدى مي�سون و�أخذته خل�سة عندما كان �أبي
�أعلم ما الذي دفعني لهذا؟ رمبا �إح�سا�سي �أنه توجد تفا�صيل �أخرى
ك�شفت ذراعي قاط ًعا ترددي
ُ مل �أتذكرها و�أنني �س�أكون بحاجة �إليه.
بو�ضع �سن الإبرة بوريدي املمتد باللون الأخ�ضر حتت جلدي وحقنته
ببطء� ،شعرتُ بدوران الأ�شياء من حويل واختفاء مالحمها رويدً ا
ف�سقطت � ً
أر�ضا� ،أغلق العقار ُ رويدً ا ،مل يق َو ج�سدي على املقاومة
�أجفاين بنفوذه و�أر�سلني بت�أثريه �إىل خبايا عقلي.
•••
283
ا�ستيقظت بالقبو يفرت�ش ج�سدي الأر�ض على هيئته كما هو قبل ُ
ي�سر مفعول العقار مثل املرات ال�سابقة؟ رمبا نومي ،ال �أدري ملاذا مل ِ
كانت مي�سون ت�ستخدم �شي ًئا �آخر بجانبه يجعلنا نذهب للذكرى؟ لكن
قمت ونظرتُ من خال من الأتربةُ ، مهل ،هناك �شيء خمتلف ،القبو ٍ ً
�سمعت �صو ًتا
ُ حويل ،كان القبو يبدو مرت ًبا ونظي ًفا غري هيئته ال�سابقة.
متخذا الدرج ،مل تب ُد على منزلنا �سمات ً قادما من �أعلى ف�صعدتُ
ً
ع
الهجر كما كان �ساب ًقا بل كان يحظى باحلياة ،كان ال�صوتُ ً
قادما
ع والتوزي
�أجل�س �أمام �شا�شة تلفاز يتدىل منها جهاز مربع ميتد منه �سلك بيد
منفعل و�أ�صدر �ضجة عالية و�أنا �أ�ضغط على يد ً كنت
حتكم �أحملهاُ ،
التحكم بقوة لأ�سجل هد ًفا مبباراة كرة قدم بلعبة فيديو حتاكي الواقع
كث ًريا تربز تفا�صيلها على ال�شا�شة.
تنبهت لل�صوت و�أنا
ُ �صدر �صوت �أمي عال ًيا من الغرفة املقابلة،
واجتهت نحو الغرفة �أم�شي على
ُ وتركت يد التحكم � ً
أر�ضا ُ ابن ال�سابعة
اقرتبت
ُ ألقمت عيني خ�صا�صة الباب،و�صلت و� ُ
ُ �أطراف �أ�صابعي حتى
وو�ضعت �أذين لأ�سمع ما يدور بالداخل وي�سرتجع عقلي امل�شاهد
ُ مني
التي ر�أيتها و�أنا �صغري ،كانت �أمي تبدو غا�ضبة ،مت�شي ب�أنحاء الغرفة
بغري اهتداء تعنف �أبي قائلة:
284
-ر�أيتك و�أنت تهم�س لها ،بالت�أكيد كنت تخربها عني وعن
م�ساوئي.
قام �أبي من مكانه وحاول �أن مي�سك بيديها لكنها نزعتهما �سري ًعا،
فقال بهدوء:
كنت �أهم�س لأختي
-هالة حبيبتي ال يوجد �أي �شيء من هذاُ ،
وهم�ست
ُ خم ًربا �إياها �أنني �أريدها يف �أمر ما متعلق مبرياثنا،
خفت �أن ي�سمعنا زوجها ،فكما تعلمني هو �شخ�ص
ب�أذنها لأنني ُ
ب
نظراتهال�إيل بعد �أن هم�ست لها. ت ك ل ا
ل
قالت �أمي بغ�ضب:
ن
ْ
توهمتا�لتأنهاوتنظر � ِ
-كانت تنظر � ِإليك بتلقائيةِ � ،ش
أنت منر ِ
و
الحظت
ُ -ال تكذب.
زيع
إليك
بغ�ضب.
قالت م�ستنكرة:
-توهمت؟
�أجاب �أبي م�ؤكدً ا:
توهمت .وتدرين ملاذا؟
ِ -نعم
اجته �إىل درج خزانة جماورة له و�أخرج منه �شريط دواء كامل
الأقرا�ص وتابع:
توقفت عن �أخذ الدواء.
ِ أنك
-ل ِ
285
ل�ست مري�ضة.
� -أنا ُ
متاما:
قال �أبي بغ�ضب �أ�سكن �أمي ً
أنت مري�ضة ذهان يا هالة ،الأطباء هم من �شخ�صوا -بلى � ِ
ول�ست �أنا.
حالتك ُ
و�ضعت �أمي يدها على �صدرها وامتلأت عيناها بعربات الأمل،
اقرتب منها �أبي و�أم�سك كتفيها وقال بود:
والتوزي ر
ع
كان �أبي حم ًقا يف ما �أخربين به ،كانت �أمي مري�ضة مبر�ض
فاجتهت و�أنا ابن ال�سابعة
ُ هم �أبي باخلروج تار ًكا �أمي خلفه ُ
الذهانَّ ،
أغلقت الباب .مر �أبي من �أمامي ولكنه تبخر �إىل غرفتي �سري ًعا و� ُ
البيت كما هو ،تعاقب الليل فتوهمت �أن العقار انتهى وقته ،ولكن بقي ُُ
والنهار على منزلنا ب�شكل �سريع جدً ا ،كنا نخرج �أنا و�أمي و�أبي خارج
الحظت ج�سدي وهو يكرب �شي ًئا ف�شي ًئا.
ُ املنزل ونعود ومنار�س حياتنا،
يبدو �أن عقلي يجري بالأحداث �سري ًعا لأ�صل �إىل ذكرى �أخرى ببيتنا.
ا�ستيقظت من نومي ُ الوقت ً
ليل، ُ توقف �إيقاع الأحداث فج�أة وكان
�سمعت
ُ وكنت �أبدو يف التا�سعة بذلك الوقت متج ًها �إىل املرحا�ض، ُ
فدلفت �إليها و�أنا
ُ خارجا من غرفة املكتب
بطريقي �صوت بكاء �أمي ً
�أفرك عيني من �أثر النوم ،مل تكن تنتبه يل كانت �أمامها �أوراق تنظر
286
�إليها وعلى وجهها �أثر ال�صدمة ،تفاج�أت بوجودي عندما �س�ألتها
عن �سبب بكائها ف�ضمتني و�أخربتني �أنها بخري .يبدو �أنها يف هذه
اكت�شفت �أمر �أبي ،تتالت الذكريات بعدها تذكرين بتفا�صيل
ْ اللحظة
هذه املرحلة وال�سبب وراء كرثة �شجار �أمي و�أبي الذي مل �أكن �أعرفه
حينها ،حتى جاء يوم تلك الذكرى� ،أيقظتني �أمي مبك ًرا و�أمرتني
بارتداء مالب�سي� ،سمعتها وهي حتدث �إحداهن قائلة:
و�صلت �إىل حمطة القطار؟ ح�س ًنا �أنا قادمة � ِ
إليك، -هل
ع
ِ
ْ
ي
و�ضعتعيدها
ز
و�ضعتني �أمام يدي، وذهبت �إىل الغرفة و�أخذتني من
رجعت �إىل اخللف وابتعدت عني،
ْ �أنهت املكاملة
الباب وقبل �أن نذهب ْ
على فمها و�أخذت يف البكاء بقطرات حتمل قه ًرا مل �أرها و�أنا طفل
وقتها ور�أيتها الآن ،مل �أكن �أعلم حينها �أن هذا اليوم �سي�صبح �أ�سو�أ
وهممت بفعل ما مل �أفعله و�أنا
ُ �أيام حياتي بانتحارها� ،أوجعني بكا�ؤها
أربت على كتفها لكنها مل تكن ت�شعر بوجودى والاقرتبت منها � ُ
ُ طفل،
م�سحت دموعها �سري ًعا وجاءت �إىل الباب و�سحبتني �صغ ًريا
ْ بفعلي،
للخارج قائلة:
-هيا.
287
خرجت وراءها �أتتبعها و�أنا �أعلم م�سب ًقا ماذا �سيحدث ،لكن ما
ُ
تبخرت
ْ �إن و�صلت لباب �سور احلديقة اخل�شبي املحيطة مبنزلنا حتى
ظللت واق ًفا باحلديقة �أنتظر تبخر البيت لكنه بقي،
وتبخرتُ معهاُ ،
م�ضت
مل جتمعني به ذكريات بعد ذلك من عمري فلماذا ما زال هنا؟ ْ
حلظات فوجئت بعدها بقدومها من بعيد ،ليلى! ترتدي ف�ستان زفافنا
وحتمل بيدها باقة ورود التوليب ،مت�شي ببطء جتاهي كما كانت
وقفت �أمامي تنظر �إىل عيني
مت�شي بجانب والدها يوم عر�سنا ْ ،
ص ع
متاما ،بد�أتُ بعدهما وان�سلت يداهما من حتت يدي حتى اختفتا ً ْ
ي ز
العقارعدونو ل
أثريا و
�أخذ ج�سدي قرابة ال�ساعة حتى يتعافى من ت� ت
• ••
ا�ستطعت �أن �أحترك �أخ ًريا و�إن كان الإنهاك ما زال
ُ تناول القر�ص،
يالزمني� ،صعدتُ الدرج �إىل الأعلى ونظرتُ �إىل البيت املغطى �أثاثه
بال�شرا�شف البي�ضاء ويحتل الغبار كل جزء من �أركانه ،وتذكرت كيف
اجتهت �إىل غرفة
ُ وجميل بالذكرى منذ وقت قليل.ً كان يبدو به ًيا
فتحت باب البندول
الطعام قا�صدً ا ال�ساعة الكال�سيكية التي تقبع بهاُ ،
والتقطت القالدة من ورائه،
ُ النحا�سي املتديل منها ،مددتُ يدي
أيت �صورتي �أنا و�أمي ونحن مبت�سمني يتال�صق وجهانا. فتحتها فر� ُ
نزعتها فوجدتُ حتتها الذاكرة الإلكرتونية والورقة ال�صغرية التي
أخفيت الذاكرة
كانت موجودة بامللف مطوية بجانبها ،تذكرتُ عندما � ُ
فهمت �سبب
وعرفت ما حتتويه ،الآن ُ
ُ الإلكرتونية هنا بعدما فح�صتها
289
حر�ص �أبي على امللف وال �أ�ستبعد �أن يكون قد �أرجع ذاكرتي ملعرفة
اهتديت
ُ د�س�ست القالدة بجيبي متج ًها �إىل اخلارج وقد
ُ مكانه فقط.
علي فعله� ،أتخذ بقوة دون رجعة قراري الأخري.ملعرفة ما يجب ّ
•••
فزعا وهو ينظر �إ َّ
يل و�إىل القيد احلديدي تبعرثت خاليا وجه �أبي ً
بيدي بعدما �أُبلغ من ِقبل املجل�س �أن واحدً ا من (اخلالدين)املحيط َ
ع
�سلم نف�سه ،ويجب عليه املجيء لل�شروع بتنفيذ العقوبة ،وتفاج�أ
ك
حماطا من ِقبل القوات كمجرم حرب يخ�شون هربه� .أخذين
ر ش
ع والتوزي �أجبته بهدوء:
دوما نف�س �س�ؤالك :ما الذي فعلته؟
� -أ�س�أل نف�سي ً
فتابعت:
ُ نظر �إيل م�ستغر ًبا
-ما الذي فعلته لتفعل بي كل هذا؟ ملاذا �شوهت روحي �إىل هذا
احلد وح َّملت قلبي كل هذه الآالم؟
قال م�ستنك ًرا:
� -أنا يا �أجمد! بعد كل ما فعلته من �أجلك طيلة عمري تقول
هذا؟ �أنا ال �أفعل �شي ًئا �إال بدافع خويف عليك� ،أنت ال تعلم
مقدار حبك بداخلي.
290
� -أعلم ،لكنه حب م� ٍؤذ �إىل درجة الكره ،حب �أناين دمر حياتي،
مل ي�ستوعب عقلك �أن �أعي�ش كما �أحب و�أن �أنتهج ما �أراه
�صحيحا ،طيلة حياتك �شخ�صية م�سيطرة على كل من حولك ً
ال ت�ستوعب �أن يخالفك �أحد الر�أي ،مت�سلط ترى كل ما تفعله
�صحيحا ،تقوم ب�أفعالك دون النظر �إىل العواقب.
ً
�صمت برهة و�أكملت:
ُ
� -أتعلم يا �أبي� ،إن نظرتَ جيدً ا �إىل عالقتنا �ستجد �أنني من
ريص ع
كنت �أود �أن �أنتقم منك ،حقيقي
خال�صاُ ، يحمل لك احلب
ا
ً
ا ري
يحملل ال ص ع
�صدورهم جتاهنا� ،سيتمون الأمر ب�إيديهم دون �إبالغ املجل�س.
كأمل:
ن ل بل ت
ر ش
قال ب�صوت
ع والتوزي
-جتاهنا؟
يوما �إىل
أنتم ً
ودما ،لكنني مل � ِ
-نعم يا �أبي� ،أنا �أنتمي �إليك ن�س ًبا ً
روحك ،روحي بينهم لذلك قررتُ الذهاب والعي�ش بجوارهم،
م�ؤكد �أنني لن �أتذكرهم �أبدً ا بعد نزع ذاكرتي ،لكن روحي لن
تن�سى �شعور الأمان بقربهم.
أردفت:
ط�أط�أ ر�أ�سه بحزن ف� ُ
� -أعلم �أنني و�ضعتك مبوقف ال حت�سد عليه ،ولكن �أنت من
قبل و�أظن �أنه �آن الأوان لتدفع ثمن القليل من و�ضعتني به ً
أجر العملية و�ستحظى بر�ؤيتي ،على الأقل �أف�ضل من �أفعالكِ � .
قتلي وعدم ر�ؤيتي نهائ ًيا.
292
قلت برجاء:
ُ
-هذا طلبي الأخري منك يا �أبي و�أرجو �أن تلبيه.
خر راك ًعا على ركبتيه و�أجه�ش بالبكاء بقوة ،تعاىل �أزيز �صدره
حتى تقطعت �أنفا�سه ،جاء فردان من قوات الأمن واقتاداين �إىل
غرفة العمليات.
•••
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
293
()٢٢
(البداية)
ص ع
بعد مرور ثالثني عا ًما...
والتوز عي
انفتحت الأبواب وبد�أت اجلموع بالتدفق ،دلف كبار الزوار بت�أنٍّ خلق
لهم هالة من احلزم ،ا�ستق ّر بع�ضهم بجانب بع�ض حتى امتلأت
القاعة عن �آخرها ،تعالت الهمهمات والأحاديث املتبادلة وجتمعت
حتى �صارت كطنني النحل� ،أ�سكتتها دقات �إ�صبع متتالية على
ميكروفون بحجم حبة الزيتون ملتحدث يقف على من�صة امل�سرح ،بد�أ
حديثه ب�صوت حيوي بعد ت�أكده من ا�ستقرار الطري على ر�ؤو�سهم:
�-أرحب بهذا اجلمع الطيب من كبار الزوار وال�شخ�صيات
املهمة ،وي�شرفني �أن �أدعو الطبيبة (فريدة �أجمد عبد القادر
�سند) لل�صعود �إىل خ�شبة امل�سرح لتت�سلم جائزة (ال�سعي)،
لدورها الفعال يف م�ساعدة �أقرانها من ال�شباب والفتيات على
تطبيق �أفكارهم املميزة النافعة لبالدنا ،وتقدميها �إىل جمل�س
�إدارة العهد اجلديد ب�صورة ترقى �إىل تطبيقها.
295
برزت بف�ستان زمردي �أنيق مت�شي بثبات �إىل املن�صة وت�صعد
ْ
درجاتها بت� ٍأن ،ه�ش وجهها لرجل يف العقد اخلام�س من عمره
درعا ف�ضية على هيئة متثالني
ي�ستقبلها بابت�سامة وا�سعة� ،سلمها ً
تقدمت خطوة وهي
ْ �صغريين يت�صافحان ،ف�ضجت القاعة بالت�صفيق،
ً
ر�ضوخا لطلب امل�صورين .طلب منها مقدم حتمل الدرع تقف بثبات
رجعت �إىل مقعدها مرة
احلفل �إلقاء كلمة ولكنها اعتذرت �إليه ب�أدبْ ،
�أخرى وهي تدقق النظر �إىل تفا�صيل الدرع وقد ُنق�ش ا�سمها حتته
بخط عربي ديواين بديع ،انحنى من كان يجل�س بجانبها نحوها ً
ع
قائل
والتوزي ر
ع
ابت�سمت بخجل:
ْ
� -شك ًرا لك دكتور فاروق.
تابع مثن ًيا عليها:
ً
م�ستقبل باه ًرا ،فبجانب تفوقك يف جمال املخ لك
� -أتوقع ِ
والأع�صاب مثل جدك ت�ساعدين � ً
أي�ضا ال�شباب وحتققني
�أحالمهم وتنفذين �أفكارهم.
-مل �أفعل �شي ًئا� ،أنا �أداة و�صل ال �أكرث.
�أكمل ً
�سائل:
-باملنا�سبة ،كيف حال جدك الآن؟
أجابت ب�أ�سى:
� ْ
296
-عاد مرة �أخرى �إىل جهاز التنف�س ال�صناعي و�أو�صاه الطبيب
بالراحة التامة� ،صار غري قادر على مغادرة �سريره �أو التحدث
كما كان من قبل.
هز ر�أ�سه حز ًنا وهو يقول:
-نفتقد وجوده كث ًريا بيننا� ،أو�صلي �إليه �سالمي.
�أوم�أت بر�أ�سها موافق ًة على طلبه .مر وقت احلفل ً
ثقيل على قلبها
ل
اجتهت م�سرعة �إىل اخلارج ودلفت �إىل ال�سيارة وهي
ا ري ص
حتى انتهى،
ع
ك
ْ
ر ش
ع � -أعاين من ثقل الكتمان ووجع اخلذالن .والتوزي
حكت فريدة ذقنها وهي تقول:
-اممم ،فهمت.
قامت من مقعدها وجل�ست باملقعد املوازي ملقعد املر�أة ،والتقطت
ورقة �صغرية من على املكتب وكتبت �شي ًئا ما بها و�أعطتها لها قائلة
وهي تبت�سم:
-هذا الطبيب �سي�ساعدك �أف�ضل مني� ،أخربيه �أنني من
�أر�سلتك �إليه.
298
تناولتها منها ثم قالت �ساخرة:
-تر�سلينني �إىل طبيب نف�سي؟ تظنني �أنني مري�ضة نف�سية؟
اقرتبت منها فريدة وربتت على كتفها قائلة:
ْ
-املر�ض النف�سي لي�س عي ًبا ،مثله مثل �أي مر�ض ،كل ما نحتاج
�إليه �أن نوجهه ونح�سن التعامل معه ،و�أظن �أن الطبيب الذي
كتبت ا�سمه بالورقة �سيجيد هذا الأمر.
ريص ع
قامت ونظرت �إىل عينيها بحدة وقالت بجدية: ْ
ن
لك قبل ذهابه و�أو�صاين -ا�سمعيني جيدً ا ،ترك � ِ
ر ش
والتوز عي
وع�شت طيلة حياتي �أعاين منُ إليك �إن ا�ستطعت، بت�سليمه � ِ
االختباء والتنقل بني الأماكن من �أجل هذه اللحظة.
أخرجت دفرتًا ورق ًيا وظر ًفا �أبي�ض كب ًريا و�أعطتهما لها ،فردتهما
ْ �
�إليها قائلة:
أنك تخلطني بيني وبني �شخ�ص �آخر.
� -سيدتي ،يبدو � ِ
�أعطتها الدفرت والظرف بقوة قائلة:
أنت جيدً ا ،خذي هذا الدفرت واقر�أيه بتمعن -ال� ،أنا �أعرف من � ِ
و�ستفهمني ماذا يحتوي الظرف بعدها.
تناولتهما منها رغب ًة يف �إ�سكاتها �أمام �إ�صرارها ال �أكرث ،كتبت
دونت بها فريدة رقم الطبيب النف�سي �شي ًئا ما بنف�س الورقة التي ْ
و�أعطتها لها قائلة:
299
يوما ما.
أنك �ستحتاجني �إىل حمادثتي ً
-هذا رقمي� ،أظن � ِ
ونظرت �إىل عينيها وقالت:
ْ التقطت حقيبتها
داخلك ومل ُتطم�س
ِ أبيك ما زالت
أمك و� ِ
� -آمل �أن تكون بقايا � ِ
بعد.
توقفت عند الباب قائلة:
ْ توجهت �إىل اخلارج ثم
-باملنا�سبة ،ا�سمي �سارة.
•••
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ش
ون�سيت �أمر الدفرت والظرف،
ْ ان�شغلت خالله فريدة كث ًريا
ْ مر �أ�سبوع
والتوزي ر
بعد ما و�ضعتهما ليلتها ب�إهمال على مكتب غرفتها املليء بالأ�شياء
ع
عادت من عملها يف وقت مت�أخر من الليل و�ألقتغري �آبهة ب�أمرهماْ .
بج�سدها كما هي مبالب�سها تنظر �إىل ال�سقف يف تعب �شديد وال تقوى
على القيام ب�أي �أمر ،جاء قطها فوقها يداعبها فحاولت �إزاحته لكن
الثاين مل ميل ،فزجرته فريدة بلطف:
-ابتعد عني يا كاظم.
قفز فوق املكتب املوازي لل�سرير وعبث ب�أ�شيائه بيديه ف�أ�سقط
فانب�سطت دفتاه و�سقط معه الظرف ،انزعجت من ْ الدفرت � ً
أر�ضا
ال�ضجة التي �أحدثها و�أولته ظهرها تنظر �إىل احلائط وتنام على
فرجعت بر�أ�سها
ْ ملحت عيناها �شي ًئا يف �أثناء التفافها
جانبها الأمينْ .
مرة �أخرى �إىل مو�ضع الأر�ض لتت�أكد مما ر�أته ،كان الظرف قد انفتح
300
واجتهت �إليه والتقطت القالدة من
ْ قامت
وظهر جزء مما بداخلهْ ،
أعادت النظر �إىل داخله فوجدت �أورا ًقا
جوفه تتفح�صها بعينيهاْ � ،
حاولت قراءتها لكن مل تفهم منها �شي ًئاْ ،
نظرت �إىل الدفرت امل�صفرة
ذهبت به �إىل مكتبها و�أتت ب�أول
ْ �أوراقه والتقطته من على الأر�ض،
�صفحة وبد�أت بقراءة ال�سطور:
جنحت يف
ْ �إن كنت تقر�أ هذا الكالم الآن فهذا يعني �أن �سارة
إليك ،حتى هذه اللحظة ال �أعلم هل �أنت تو�صيله ب�أمان �إليك �أو � ِ
ر ش
والتوز عي
فاقر�أ و ِع ،ف�أنا �أعلم �أنك ال تعرف عن حقيقتي وال عن حقيقة والدتك
يوما فاقدً ا
ا�ستيقظت ً
ُ �شي ًئا .لكن من �أين �أبد�أ؟ ح�س ًنا� ،س�أبد�أ منذ �أن
لذاكرتي ووجدتُ نف�سي مبكان غريب ي�شبه القبو ب�صحبة امر�أة
ُتدعى (مي�سون).....
•••
أمرت �سارة فريدة �أن ترتجل عن ال�سيارة ومت�شي وراءها ،بعد
� ْ
وو�صفت لها عنوا ًنا �أتت
ْ وطلبت لقاءها
ْ �أن حدثتها فريدة بالهاتف
ظلت تتبع خطاها وقد بد�أ التعب يت�سلل �إىل قدميها من كرثة
�إليهْ ،
امل�سري ،يتوغالن يف �أطراف املدينة النائية ويبتعدان عن ال�سيارة
توقفت �سارة فوق لوح خ�شب ُحفر مكانه بالأر�ض و�ضربتْه
ْ بكثري،
وابتعدت ،فانزاح الغطاء من �أ�سفل كا�ش ًفا عن حفرة
ْ بقدمها مرتني
301
�ضيقة عميقة ،نزلت وتبعتها فريدة متخذين �سل ًما مكو ًنا من �ألواح
خ�شبية متوازية ومثبتًا بحبلني مفتولني .ا�ستقرتا �أخ ًريا على الأر�ض
وامتدت ،كانت توجد مقاعد وطاوالت ْ رحبت بعد �ضيق املمر
ْ وقد
يجل�س عليها �أنا�س مل ترهم فريدة من قبل� ،أح�ست بالرهبة عندما
وجدتهم جمي ًعا يحدقون بها وكان �أكرثهم بعمر اخلم�سني .بد�أت
�سارة حديثها:
ع
أبوك بهذا الدفرت و�أن
أنك قر� ِأت ما خطه � ِ
� -أخرب ِتني يف الهاتف � ِ
ك
تنظرت�إىل اجلميع: ل ا ري ص
لديك �أ�سئلة ،تف�ضلي بطرحها.ِ
ع
قالت فريدة بارتباك:
أكملت:
�صمتت برهة و� ْ
فح�صت الذاكرة
ِ أنك
� -أما ال�سبب احلقيقي ملجيئك هنا هو � ِ
عرفت
أنك طبيبة مخ و�أع�صاب ِ الإلكرتونية بالقالدة ،وبحكم � ِ
أكدت �أن اخلط الذي حتمله الورقة املطويةعالم حتتوي ،وت� ِ
َ
وتفح�صت كذلك �أوراق العقود املربمة بني املجل�س
ِ خط جدك،
وبينه.
قالت وهي تتنقل بني الطاوالت:
ْ
303
أبيك ،العتقاده
-ظن جدك �أن هذا الأمر ذهب مع ذاكرة � ِ
�أنه مل يتذكر �أين و�ضع امللف لآخر حلظة واطم�أن �إىل هذا
أباك تركه معي قبل ذهابه وحملني االعتقاد ،وما علم �أن � ِ
لك مع مذكراته .كان على �إميان تام �أن ابنه م�س�ؤولية ت�سليمه ِ
�أو ابنته �سيكون خمتل ًفا و�أنه الوحيد القادر على �إمتام الأمر.
وا�صلت وهي تتجه �إىل فريدة:
ْ
ر ش
والتوزي
عنكعاما يف �أحد امل�ؤمترات ،و�سمعت حديثه ِ
ابنة اثني ع�شر ً
ع
ظللت
أنك من �ستكملني الطريق من بعدهُ .
أدخلك
فيك ب� ِ
وعن تو�سمه ِ
�أنتظر و�أنتظر و�أراقب من بعيد وحدث ما اعتقدتهِ � ،
نف�س جماله لتُكملي ما بد�أه.
قالت بحنو:
فتحت عيادتك اخلا�صة -لكن ما زالت بقايا �أمك بداخلكِ ،
متاما
وابتعدت ً
ِ مل�ساعدة املر�ضى بجانب م�ساعدتك لل�شباب،
عن املجل�س عك�س ما كان يرغب فيه جدك ،مما حفزين �أكرث
بابك ،لكنني انتظرت حتى اللحظة املنا�سبة.
�أن �أطرق ِ
304
كانت فريدة تدور بعينيها يف الأرجاء بحرية حتاول �أن تنفي ما
تدعيه �سارة ،ولكن مطالعة الأوراق والذاكرة الإلكرتونية تثبت ما
تدعيه.
وقالت بقوة:
اقرتبت �سارة من فريدة وهي تنظر �إىل عينيها ْ
أنت الأمل الوحيد املتبقي لأهل هذه البالد ،بعدما -فريدةِ � ،
عاما ،جتمعنا منذجنح جدك بتفريق اخلالدين منذ ثالثني ً
ص ع
�سنوات عدة واحتدنا ثاني ًة و�أ�صبحنا �أقوى مما قبل ،لدينا
والتوز عي
وحتقق هدفها -ولن يحدث هذا �إال مب�ساعدتك -و�إما �أن
ُيقب�ض علينا جمي ًعا وتذهب �آخر ذاكرة عامرة لهذه البالد
وينتهي �أمرها �إىل الأبد.
أكملت:
تنقلت بني حدقتيها و� ْ
� -أوجدي طريقة لن�شر املعادلة التي بداخل الذاكرة و�أنقذي
هذه البالد.
وجل�ست بها مثلها مثل البقية
ْ قالتها �سارة وانتقلت لطاولة قريبة
الذين تعلقت �أنظارهم بفريدة ،وقد جت�سد بها الأمل الوحيد املتبقي
لديهم راجني عدم اخلذالن.
نظرت �إليهم فريدة وقالت بثبات:
ْ
305
� -أنا �أعرف طريقة لن�شر املعادلة و�س�أ�ساعدكم.
وتعالت �صيحات احلما�س لأول عالمة ن�صر
ْ فرحا
تهللت وجوههم ً
الحت يف �أفق التحرر.
•••
بعد ثالثة �أ�شهر..
وجل�ست بجواره
ْ دخلت فريدة غرفة جدها بعد منت�صف الليل ْ
ريص ع
فردت �إليه
على طرف �سريره ،فا�ستيقظ ملا �أح�س بها وابت�سم لها ْ
والتوزي
القابع على �أنفه وفمه �إىل رقبته وقال ب�صوت متهدج متقطع �أ�صابه
ع
وهن ال َع َجز:
أيقظك من نومك؟
-ما الذي � ِ
هزت ر�أ�سها نافية:
ْ
-مل �أمن من الأ�سا�س ياجدي.
التقطت �شي ًئا من جيب �سرتتها ،وما �إن لوحت به �أمامه حتى غزت
ْ
املفاج�أة مالحمه ،و�س�أل م�ستغر ًبا:
جئت بهذه القالدة؟
-من �أين ِ
كنت �أعلم �أنك �ستتذكرها رغم عدم ر�ؤيتك لها منذ زمن،
ُ -
قالدة جدتي.
306
فتحتها وتناولت الورقة املطوية بداخلها وفردتها �أمام عينيه اللتني
غرقتا يف بحر من الذهول قائلة:
-هل تتذكر هذه � ً
أي�ضا؟ معادلتك.
أكملت:
ابتلعت ال�صدمة ل�سانه ف� ْ
تو�صلت �إىل هذه املعادلة منذ زمن بعيد بعدما اخرتعت َ -
واحتفظت بها لنف�سك دون �إخبار �أي
َ جني م�سح الذاكرة،
ع
�أحد ،املعادلة امل�ضادة التي تبطل ت�أثري اجلني وتعيد الذاكرة
جنحت بتطبيقها يف �شكل عقار وكانَ
ت ك ل ا ريص
مرة �أخرى �إىل العقل.
307
و�شخ�صت عيناه من هول ما �سمع ومل ينطق ب�شيء،
ْ فغر فاه
فتابعت:
ْ
� -أتعلم يا جدي؟ على الرغم من كل هذا ف�إنني �أدين لك
بال�شكر� ،شكر على تربيتك يل وتعليمك �إياي وم�ساعدتي
عرفت طريقة حتويل
لأتخ�ص�ص بنف�س جمالك ،فلوال هذا ملا ُ
املعادلة من عقار �إىل جني يحمله فريو�س ينت�شر داخل البالد
ص ع
لي�ستعيد �أهلها ذاكراتهم ،كما فعلتم من �سنني وقمتم مب�سحها
309
قامت فريدة للداخل لإح�ضار الع�صائر وتبعتها �سارة ،نظرتا
�إليهم من �شباك يطل على احلديقة تت�أمالنهم وهم ينظرون �إىل
بع�ضهم ب�صمت ويحدقون بكل �شيء حولهم .قالت �سارة:
� -أتعلمني؟ على الرغم من �سعادتي برجوع ذاكرة �أهل البالد
�إليهم مرة �أخرى والق�ضاء على املجل�س وزبانيته ،و�إخراج
الكتب ورجوع املكتبات وانفتاحنا على العامل من جديد،
ص ع
و�إرجاع �سلطة القرار بيد كل �شخ�ص بهذه املدينة وا�سرتداد
ع والتوزي
عقولهم نهائ ًيا ال �أمل يف رجوع ذاكراتهم مرة �أخرى.
تنهدت:
ْ قالت فريدة بعد �أن
-ال يهم ،املهم �أنهم معنا الآن وبجوارنا ،نتمتع بر�ؤيتهم ونحتمي
بدفئهم ،ابت�سامة �أبي و�أمي يل كل يوم قبل خلودهما للنوم
ت�ساوي حياتي� .أتعلمني؟ على الرغم من فقدهما لذاكرتيهما
ف�إنني �أ�شعر بتوا�صل �أرواحنا� .أنا على ا�ستعداد لأن �أحتمل
�إرهاق تعريف نف�سي �إليهم يف كل دقيقة مقابل �أن �أظل �أ�شعر
بهذا التوا�صل ،ال �أريد منهما �شي ًئا �سوى �أن يظال بجواري،
فمجرد وجودهما مينحني �أما ًنا مل �أكن لأقدره حق قدره �إال
بعد �أن �شعرت مبرارة فقده طيلة عمري.
310
ابت�سمت �سارة لفريدة وربتت على كتفها ،تناولتا الع�صائر واجتهتا
ْ
أفرغت فريدة علبة ع�صري بكوبني وناولتهما لأجمد وليلىخارجاْ � ،
ً
وهي تقول با�سمة:
� -أنا ابنتكما ،ا�سمي فريدة و�أحبكما كث ًريا.
(متت)
311