You are on page 1of 37

‫راسل والفلسفة المعاصرة‬

‫ليس من السهل على الباحث ‪ ،‬أن يوجز الحديث حين يكون موضوعة واحدًا من ابرز‬
‫فالسفة القرن العشرين‪.‬‬
‫برتراند رسل ((‪.))1970-1872‬‬

‫بدايات الفلسفة المعاصرة‬


‫حول بدايات الفلسفة المعاصرة‪ 1830 :‬وهو العام الذي توفي به الفيلسوف األلماني هيغل‪.‬‬
‫أما رسل فيرى أنها تبدأ مع نهاية القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫النزعة التفاؤلية ما نجده عند كونت وهيغل وماركس في قيام حالة كمال نهائية يصل‬ ‫‪-1‬‬
‫إليها المسار التاريخي وكافة االتجاهات العقلية في القرن الماضي تشارك هذا‬
‫التفاؤل العام‪ ،‬فمذهب المنفعة والبرجماتية والمادية كلهم مشبعين بإحساس التفاؤل‬
‫والثقة بالمستقبل‪.‬‬
‫الثورة ضد المثالية ففي التسعينات من القرن الماضي كان وليم جيمس الشخصية‬ ‫‪-2‬‬
‫البارزة الوحيدة التي وقفت تناهض المثالية األلمانية‪ .‬ثم مع بداية القرن العشرين‬
‫ازدادت فظهرت مؤلفات رائعة ضد المثالية لفريجه‪ ،‬وهوسرل‪ ،‬ومينونج و مور‬
‫ورسل وفي فرنسا كان الداعي لها كوتيرا وفي أمريكا (‪. )17‬فمناهضة المثالية من‬
‫المالمح الواضحة للفلسفة المعاصرة ولهذا يؤرخ لها البعض من وفاة الفيلسوف‬
‫هيكل ‪ 1830‬العتقادهم أن ابرز سمة للفلسفة المعاصرة هي مناهضة المثالية ‪.‬بعد‬
‫أن كانت هي الفلسفة السائدة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا‪.‬‬
‫الفلسفة األلمانية‬
‫أولها أتباع الفلسفة األلمانية الكالسيكية المثالية‪:‬‬
‫أن رسل أكثر تعاطفا إلى حد ما‪ ،‬وأقل حدة في نقده لمثالية باركلي وبرادلي من مثالية هيغل‬
‫ويتضح ذلك في نصوصه‪ .‬ويمكن أبراز أهم النقاط التي توقف عندها رسل في نقده للمثالية‬
‫‪ .‬وأهم جوانب نقده لمثالية هيجل هي‪-:‬‬
‫رفض رسل فكرة وجود نسق يضم الكون بأسره (‪ )26‬واستحالة فهم أي جزء من‬ ‫‪‬‬
‫العالم ما لم ينظر إليه في أطار الكون ككل (‪)27‬‬
‫الجدل الهيجلي‪-:‬هو الفكرة المركزية في مذهب هيغل وينطوي على ثالث مراحل‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫أولها قضيه ما ‪ ،‬ثم قضيه مناقضه ‪ ،‬وأخيرا يجتمع االثنان في تنظيم المركب‪ .‬وقدم‬
‫رسل مثال بسيط ‪ ،‬قد يقول شخص ما أن الذهب قيم ‪ ،‬فيعترض عليه بالقضية‬
‫المضادة القاتلة أن الذهب ليس قيما… وعندئذ قد تم التوصل إلى المركب بالقول أن‬
‫قيمة الذهب تتوقف على الظروف ‪ ،‬وهذا المركب يصبح قضيه جديدة ‪،‬وتبدأ العملية‬
‫الجدلية ذاتها من جديد ‪ ،‬حتى يصل إلى الكون بأكمله ‪.‬والفكرة من وراء هذا كله هي‬
‫أن الداللة الكاملة ألي شيء ال تظهر أال عندما ينظر إلية في ارتباطاته الممكنة أي‬
‫وضعه داخل العالم ككل (‪ )28‬ونقاط األشكال فيه يراها رسل في‪-:‬‬
‫ال وجود لحلول وسطى في التناقض فالحلول الوسطى ال تنشأ من مطلبين متناقضين بل عن‬
‫مطلبين متضادين (‪ )29‬فالمتناقضان عادتا ال يصدقان معا ‪ ،‬وال يجتمعان ‪ ،‬وال يرتفعان‬
‫معا عن الشيء ‪ ،‬فاالسم ونقيضه يشمالن على كافة الموجودات في الكون ‪ .‬أما التضاد‬
‫فيمكن أن توجد حلول وسطا بينهما ‪ ،‬فمثال أبيض وال أبيض لفظان متناقضان ال وسط‬
‫بينهما فان الشيء‪ ،‬أما أن يكون أبيض أو أي لون عدا األبيض ‪ ،‬وال يوجد لون بين اللونين‬
‫األبيض ولألبيض ‪ ،‬أما اللفظان المتضادان كاألبيض األسود فيمكن أن يكون الشيء ال‬
‫أبيض وال أسود بل أخضر واألخضر يمثل الحلول الوسطى وهو يوجد بين التضاد وليس‬
‫التناقض‪.‬‬
‫التناقض شيء يحدث في المقال أو الخطاب وما يحدث في الحياة هو االختالف‪ ،‬فيمكن أن‬
‫يكون شخصا مناقضا آلخر ‪،‬وبعبارة أدق‪ ،‬يمكن أن يكون قضية مناقضة لقضية‬
‫أخرى ‪،‬كالفقر والغنى ليسا متناقضين ‪،‬بل هما مختلفان فحسب ‪،‬ولكن هيغل ينظر إلى العالم‬
‫نظرة روحية ‪ ،‬فإنه يتجه إلى تجاهل هذا التميز األساسي (‪.)30‬‬
‫ولع هيغل بالرقم ثالثة فكل شيء يخضع لهذا الرقم لمجرد أن قوام الجدل هو تلك الخطوات‬
‫الثالث‪ ،‬الوضع ونقيضه والمركب ‪.‬وهكذا كلما احتاج شيء ما إلى تقسيم ‪ ،‬وجدنا هيغل‬
‫يقسمه إلى ثالثة‪ .‬بالطبع فان هذا أمر مقبول أذا نظر إليه من زاوية التناسق والتماثل أما من‬
‫حيث هو منهج للدراسة التاريخية فانه ال يبدو مقنعا على اإلطالق وبالمثل نجد‬
‫في((الموسوعة)) تقسيما ثالثيا يناظر المراحل الثالث للروح (‪.)31‬‬
‫انغماسه في العالم المثالي الستنباط العالم الواقعي‪ -:‬سعى هيغل إلى استنباط عالم الواقع‬
‫اإليجابي من عالم التصورات أو الكليات أو الماهيات‪ .‬فالنقد األساسي الموجب له هو انه‬
‫وجد نفسه منغمسًا في الميدان السلبي أي التصورات والماهيات والكليات ساعيا الستنباط‬
‫عالم الواقع اإليجابي منه (‪.)32‬‬
‫الفلسفة البرجماتية‬
‫ثانيا‪ //‬البرجماتيون وبرجسون‪:‬‬
‫– وهم القسم الثاني من الفلسفات األكاديمية ‪،‬حسب تصنيف رسل‪ ،‬يبدو أن قرنهما معا يعود‬
‫لتأكيدهما على أهمية العقل فوق كل شيء آخر‪ .‬فكالهما آثر العمل على العقل ‪ ،‬وكالهما أكد‬
‫على أن عقلنا شكلته المنفعة ‪ ،‬فالبرجماتيون يرون أن المنفعة محك الصدق العقلي ‪،‬‬
‫وبرجسون يقول أن عقلنا شكلته احتياجاتنا العملية ويتجاهل كل جوانب العالم التي ال تعود‬
‫عليه مالحظتها بالمنفعة (‪ )33‬ونبدأ أوال بالبرجماتية‪.‬‬
‫البرجماتية‪ -:‬وهي القوة المسيطرة في الفلسفة األمريكية نهاية القرن التاسع عشر ومن أهم‬
‫روادها بيرس ووليم جيمس وديوي وشيلر ‪.‬ويبدو أن رسل قد أفرد لها مساحة ليست بالقليلة‬
‫في كتاباته‪ .‬وإلى جانب ذلك فأن عرضه في تاريخ الفلسفة الغربية يختلف في بعض نواحيه‬
‫عن حكمة الغرب ‪ ،‬وربما يرجع ذلك للفترة الزمنية الطويلة بين العملين فاألول نشر عام‬
‫‪ ،1945‬أما حكمة الغرب نشر عام ‪ .1965‬وربما كان لجمهور المتلقي بعض الدور فهو‬
‫مجموعة محاضرات ألقاها رسل في الجامعات في تنقالته في الواليات المتحدة ‪ .‬فنالحظ‬
‫مثال أنه في عمله األول يبدا بعرض اتفاقه معهم (أي وليم جيمس وديوي) تم اختالفه‬
‫معهم ‪ ،‬ويكثر من قول انه متفق معهم ‪،‬أما في حكمة الغرب فطرحه مختلف‪ .‬ويمكن تحديد‬
‫مأخذ رسل عن البرجماتية بثالث نقاط هي‪– :‬‬
‫أن البرجماتية السائدة هي صورة معدلة لبرجماتية بيرس بوصفه مؤسس البرجماتية ‪،‬‬
‫فالبرجماتية المعاصرة انبثقت مما اعتقد وليم جيمس أن بيرس يقوله فهي سوء فهم وأسبابه‬
‫أن آراءه قد ازدادت وضوحا في كتاباته المتأخرة ‪ ،‬في حين أن جيمس استمد نقطة انطالقه‬
‫من صياغات مبكرة كانت عرضه لمزيد من سوء الفهم ولقد أصبح يطلق بيرس على فلسفته‬
‫اسم ((البرجماتوية)) ‪ Pragmaticisim‬امآل إن يلفت هذا اللفظ الثقيل الذي ابتكره أنظار‬
‫الناس إلى االختالف بين الفلسفتين (‪ )34‬فلم يكن بيرس راضيا في تفسير جيمس ولهذا‬
‫أطلق اسم البرجماتية أو البرجماطيقية بدل اسم البرجماتية ليؤكد على االختالف بين‬
‫الفلسفتين‪.‬‬
‫أن المبدأ األساسي الذي انطلقت منه البرجماتية هو (الفائدة محك الصدق العقلي) وبالتالي‬
‫فان من الجانب النظري البرجماتية لن تشمل على صدق فلسفي قاطع ‪ ،‬فالصدق الذي يمكننا‬
‫بلوغه ليس أكثر من صدق أنساني ‪،‬فالصدق صفة توصف بها االعتقادات واالعتقادات‬
‫أحداث نفسية مشوشة ومعقدة وال تنصب على واقعة محددة ‪ ،‬بل تشمل عدة مناطق مشوشة‬
‫من الوقائع ولهذا فهي ليست حاسمة في صدقها أو كذبها‪ ،‬وإنما مزاج من الحق والباطل (‬
‫‪)35‬‬
‫أما الجانب العملي فان التأكيد على مسألة أن الصدق العقلي هو ما يفيدك أن تعتقده ‪ ،‬فهو‬
‫أكثر سوءا و شرا من الناحية العملية ففي القرن التاسع عشر كان اعتناق الكاثوليكية نافعا‬
‫في األقطار الكاثوليكية وكان اعتناق البروتستانتية نافعا في األقطار البروتستانتية ‪،‬‬
‫ويستطيع أصحاب الطمع أن يصنعوا مقاييس للصدق العقلي بان يستولوا على مقاليد الحكم‬
‫ويضطهدون األفكار المخالفة ألفكارهم (‪ )36‬أو انك أذا أردت أن تعرف ما إذا كان‬
‫(كولومبس) عبر األطلنطي سنة ‪ ،1492‬يتعين عليك أوال أن تبحث في أثار هذا االعتقاد‬
‫وكيف أنها تختلف عن أثار االعتقاد انه أبحر سنة ‪ 1491‬أو سنة ‪ .1493‬وبعد ذلك تقرر‬
‫السنة التي أبحر بها سنة ‪ 1491‬أو سنة ‪.)37( 1493‬‬
‫يرى رسل أن في النظرية صعوبات فعلية كبيرة أن يصبح الصدق العقلي مسألة تقديرية‬
‫يحددها الموقف اإلنساني وما يترتب عليه وإلى جانب ذلك تعقيد ال يصدق ‪ ،‬ثم يناقش رسل‬
‫قول جيمس ((ال يمكننا أن ننبذ أي فرض إذا كانت النتائج المفيدة للحياة تنبع منه)) فإذا كان‬
‫فرض هللا يعمل عمال مشبعا بأوسع معنى للكلمة فهو (صادق) فالفرض صادق حين تكون‬
‫آثاره خيرة ‪ ،‬ولكن ما هو الخير أوال ؟ وثانيا أثار هذا االعتقاد أو ذاك‪ ،‬يجب أن تعرف هذه‬
‫األشياء قبل أن يكون في وسعنا أن نعرف أي شيء (صادق) طالما أننا ال يحق لنا أن ندعوه‬
‫صادقا أال في حالة واحدة هي بعد أن نقرر أن آثار اعتقاده خيرة ‪ ،‬والنتيجة تعقيدا ال يصدق‬
‫(‪)38‬‬

‫ولهذا أدان البابا دفاع البرجماتية عن الدين فإذا كان االعتقاد باهلل يجعلهم سعداء فهذا‬
‫االعتقاد صادق‪ ،‬ولكن رسل يرى أن هذا ليس مقنعًا لإلنسان الذي يرغب في موضوع يعبده‬
‫‪،‬فهو ال يعنيه أن يقول (أذا آمنت باهلل فسأكون سعيدا) وإنما يعنيه أن يقول (أنني أومن باهلل‬
‫ومن ثم فانا سعيد) فهو يؤمن به كما يؤمن بوجود تشرشل وهتلر فاهلل كائن واقعي وليس‬
‫فكرة إنسانية لها آثار خيرة (‪ )39‬وما فعله جيمس ليثبت فكرة هللا بدليل فائدتها هو في‬
‫الوقت ذاته إنهاء للفكرة ‪،‬فإذا جاء شخص بمقاييس تدلل على أن تركها أكثر فائدة فسوف‬
‫تترك وفقا للمبدأ األساسي الذي أقيمت عليه وهو الفائدة‪.‬‬

‫أخذ رسل على بيرس قوله في معرض شرحه لنظرية (استحالة العصمة من الخطأ) أن‬
‫الحقيقة هي الذي تستقر عليه الجماعة آخر األمر‪ .‬ويرى رسل أن هذا القول ممتنع لو أخذ‬
‫بحرفيته ‪ ،‬ذلك ألننا لو اعتقدنا أن العدد أثنين مطروحًا في أثنين يساوي خمسة ‪ ،‬ثم حدث‬
‫هذه اللحظة نفسها أن دمرت األرض ‪ ،‬فان حسبتنا الباطلة األولى تظل مع ذلك خطأ ‪.‬‬
‫صحيح انه لو اعتقد الجميع بهذا األمر ‪ ،‬فمن الفطنة من جانبي أن أدعي على األقل أنني‬
‫أشاركهم رأيهم ‪ ،‬غير أن هذا مختلف كل االختالف‪)40( .‬‬
‫وأخيرا فالبرجماتيون قد جانبوا الصواب عندما علقوا الحقيقة أو الصدق العقلي على الفائدة‬
‫أو آثاره وبالتالي فال يمكن أن تكون هنالك حقيقة آذ أن الحقيقة يحددها الموقف اإلنساني وما‬
‫يترتب عليه وال يمكن أن تصل إلى شيء اسمه خير أو شر أو أي مبدأ أخالقي ثابت ‪،‬‬
‫وبالتالي فان ضعف األساس الذي بنوا عليه فلسفتهم ‪،‬جعل آي بناء يقام عليه ينهار‪.‬‬

‫برجسون‬
‫برجسون‪Henri-Bergson (1859-1941) //‬‬
‫وقد وصفه بأنه الفيلسوف الفرنسي البارز في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن‬
‫العشرين ‪،‬الذي أثر في وليم جيمس ووايتهد فكان له نفوذه وله وزنه على الفكر الفرنسي (‬
‫‪ .)41‬وقد أسهب رسل في عرض فلسفته ونقدها إذ تناولها بشيء من االستفاضة ‪.‬‬

‫وأول المسائل التي سنطرحها هو أسباب انتشارها من وجهة نظر رسل هي‪-:‬‬

‫‪ //‬نظرته في ((الدافع الحيوي)) وفي الصيرورة بمعناها الحقيقي ‪.‬فأروع ما استحدثه هذا‬
‫الفيلسوف هو جمعه بين التصوف واالعتقاد في حقيقة الزمان والتقدم ‪ ،‬فالتصوف التقليدي‬
‫كان تأمليا ‪،‬كان مقتنعا بان ال حقيقة للزمان والقول في عدم جدوى العمل وقلة غنائه (‪)42‬‬
‫فبعد أن كان الزمان ليس حقيقيًا وليس للفعل قيمة أصبح مع برجسون العمل له جدوى ‪،‬‬
‫والتقدم مستمرا‪ // .‬أن سحر أسلوبه الرائع ‪،‬واعتماده على البيان المتنوع ‪،‬والشرح الظاهري‬
‫للكثير من الوقائع الغامضة‪ ،‬وتشكل التشبيهات واالستعارات بوجه خاص جزا كبيرا للغاية‬
‫من العملية كلها التي يزكي بها آراءه للقارئ ‪ .‬وعدد من التشبيهات من الحياة في أعماله‬
‫يصفها رسل بأنها تتخطى عددها عند أي شاعر معروف (‪.)43‬‬

‫‪ //‬رفض رسل نظرة برجسون لعمل التفكير‪ ،‬أن يكون مجرد وسيلة للفعل ‪،‬وبدا أن مثل هذا‬
‫الرأي ينتمي إلى ضابط ال إلى فيلسوف عمله في نهاية األمر مع الفكر ‪ ،‬ففي انفعال الحركة‬
‫العنيفة وصخبها إلمكان لموسيقى العقل الخافته ‪ ،‬ومثل هذا الرأي القلق عن العالم ‪ ،‬ال يجد‬
‫رسل سبب لقبوله سواء في العالم أو في كتابات برجسون (‪ // .)44‬أن شطرا كبيرا من‬
‫فلسفة برجسون ‪ ،‬ال يعدو أن يكون تصوفا تقليدا‪ ،‬صيغ في لغة جديدة إلى حد ما ‪ ،‬فنظرية‬
‫التداخل التي تقول أن األشياء المختلفة ليست في الحقيقة منفصلة ‪ ،‬أنما يصورها كذلك العقل‬
‫المحلل‪ ،‬هذه النظرية في كتابات كل متصوف من الشرق إلى الغرب ‪ ،‬من عهد بارمنيدس‬
‫إلى عهد مستر برادلي وقد أتبع حيلتين فنيتين إلضفاء جو من ألجده‪ ،‬على هذه النظرية ‪.‬‬
‫أولها ربط بين الحدس وبين غرائز الحيوان‪ .‬فيقول أن الحدس هو ما يمكن الزنبور‬
‫المتوحد‪ ،‬المسمى أموفيال أن يلدغ الحشرات التي يضع فيها بيضه‪ ،‬بحيث يؤدي ذلك إلى‬
‫شلها دون قتلها ‪.‬‬

‫ويجيب رسل على ذلك بان المثال غير موفق الن دكتور ومسز بكهام قد أثبت أن هذا‬
‫الزنبور المسكين ليس أقل تعرضا للخطأ‪ .‬وهذا يضفي مظهرًا من مظاهر العلم الحديث على‬
‫نظرياته ‪ ،‬فهو يشهد بأمثلة من علم الحيوان على نحو يجعل بسطاء العقول يظنون ‪ ،‬أن‬
‫أفكاره تعتمد على أحدث ما وصل له البحث في علم الحياة (‪.)45‬‬
‫‪ //‬أنه يقول أشياء كثيرة جديدة عن المكان والزمان ومما يبدو للسامع في منتهى العمق‬
‫واألصالة ‪ ،‬إال أنه يطلق أسم الزمان على تداخلها كما تبدو للحدس ‪ ،‬أما المادة وهي في‬
‫المكان فهي بطبيعة الحال وهم من األوهام‪ ،‬وال تلبث أن تبدو لنا بمجرد أن تتخذ وجهة نظر‬
‫الحدس‪ .‬وفي هذا الجزء من فلسفة برجسون لم يزد شيء على ما قاله افلوطين إذا استثنينا‬
‫طريقته في صياغة اللفظ (‪ // .)46‬ركز رسل نقده على نظرياته عن الزمان والمكان ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت هاتان النظريتان باطلتين ‪ ،‬فلن يبقى شيء أال ملحمة مثالية يحكم عليها بأسس جمالية‬
‫أكثر مما يحكم بأسس عقلية ‪ ،‬ونبدأ بأولها نظريته في المكان ونظريته في المكان الزمة‬
‫ألدانه للعقل ‪ ،‬فإذا فشل في إدانته للعقل فسينجح العقل في إدانته له إذ بين االثنين حرب ال‬
‫هوادة فيها (‪.)47‬‬

‫‪ //‬أن برجسون ال يعرف ما هو العدد‪ ،‬وليس لديه فكرة واضحة عنه ولقد نجح في أن يجعل‬
‫نظريته عن العدد مقبولة في الظاهر ‪ ،‬بالخلط بين المجموعة الجزئية وبين عدد جذورها –‬
‫ومرة ثانية بالخلط بين هذا العدد وبين العدد بوجه عام (‪ )48‬أو فيما يخص الرياضيات ‪،‬‬
‫فقد تعمد أن يؤثر األخطاء التقليدية على أحدث اآلراء التي اتفقت لها الغلبة بين الرياضيين‬
‫في الثمانين سنة األخيرة ‪ ،‬وفي هذا سار على ما سار عليه معظم الفالسفة في القرن الثامن‬
‫عشر‪ ،‬وبداية القرن التاسع عشر وقد اعتمد على المغالطات التي وضعها هيغل وأتباعه بعد‬
‫ذلك قضى الرياضيون على كل الصعوبات التي يركن إليها الفالسفة (‪ // . )49‬موقف‬
‫برجسون من الذاكرة ورفضه أن يجعل العادات من الذاكرة ‪ ،‬فالذاكرة عنده هي استعادة‬
‫حادثة مضت‪ ،‬والحادثة الواحدة ال تكون عادة ألنها حدثت مرة واحدة ‪ ،‬ألن العادة ال تتكون‬
‫من مرة واحدة‪ ،‬ويرى رسل أن قول برجسون فيه مغالطة ألن الحيوان واإلنسان معًا كثيرًا‬
‫جدًا ما يتعودان العادة من تجربة واحدة (‪ )50‬وأخيرًا يمكن القول أن برجسون كان أكثر‬
‫الفالسفة المعاصرين حظا من حيث عرضه لفلسفته ونقده ‪ ،‬ويدلل نقد رسل على القراءة‬
‫المتفحصة المتأملة ألعمال برجسون‪.‬‬

‫الواقعية‬
‫ثالثًا الواقعية‪ -:‬هي الفرع الثالث من الفروع األساسية للفلسفة السائدة في األوساط‬
‫األكاديمية في القرن العشرين ‪ ،‬وهم ممن يتصلون بالعلم على اعتقاد أن الفلسفة ال تقتصر‬
‫على لون بعينه من ألوان الحقيقة وال بطريقة خاصة لوصول إليها‪ ،‬وعلى سبيل التيسير‬
‫أطلق عليهم رسل أسم الواقعيين‪ .‬والواقعيون الجدد هم نتاج التجريبية المتطرفة لوليم جيمس‬
‫والمنطق الجديد وقد سبق ماخ إلى أجزاء من تعاليمها في بعض مالحمها ‪ ،‬فهي ترى أن‬
‫الفلسفة والعلم شيء واحد من حيث الجوهر ‪ ،‬وتختلف بفرق واحد أنها تتناول مشاكل أعم‬
‫وهي تعنى بتكوين الفروض حيث ال توجد األدلة التجريبية (‪)51‬‬

‫وتعد الفلسفة الوضعية من الفلسفات المتأثرة بالعلم أطلق هذا االسم أوال على فلسفة أوكست‬
‫كونت (‪ )1798-1857‬ومن هذا المصدر جاء اسم المذهب الوضعي ‪ ،‬ولقد كان كونت‬
‫ممن يحترمون العلم ويعارضون العقائد السائدة ‪ ،‬والميتافيزيقا ونظر إلى الحاجة إلى‬
‫ضرورة البدء بما هو معطى مباشرة في التجربة‪ ،‬واالمتناع عن محاولة تجاوز الظواهر (‬
‫‪ )52‬واستبعد كونت الفروض بوجه عام على أساس أنها ميتافيزيقية تسيء فهم التفسير (‬
‫‪)53‬‬

‫أما نقد رسل للوضعية فينصب على عدة مسائل هي‪-:‬‬


‫أولها‪ :‬رفض القول أن العلماء الوضعيين فهموا كانت فهما سليما (‪ )54‬فيما نالحظ بالعودة‬
‫إلى كونت وأتباعه في صدد استخدامهم لنظريته ‪ ،‬أن نظرتهم ليست كانتية بالمعنى األصلي‬
‫فنظرية المعرفة عند كانت تجعل من أطار المقوالت شرطًا ضروريًا للتجربة ‪ ،‬وفي هذا‬
‫السياق يوصف التفسير بأنه غير علمي اذ يفترض انه يتجاوز التجربة (‪)55‬‬

‫ثانيا‪ :‬أخطأ الوضعيون باستبعادهم للفروض ‪ ،‬فلو افترضنا إننا قررنا التخلي عن كل‬
‫الفروض‪ ،‬فكيف أذن سنظل نمارس عملنا ؟ ما يبقى سيكون نوعا من التصنيف على غرار‬
‫ما قام به بيكن‪ .‬فاستبعاد الفروض معناه إساءة فهم وضيفة التفسير في العلم وذلك الفرض‬
‫يفسر بقدر ما يعلل الظواهر وينبئنا بالمستقبل انهم لم يدركوا أن البحث العلمي ذاته يمضي‬
‫في طريقه على أساس فروض ‪ ،‬وهنا يبدو كانت على حق فالفكرة العامة للسببية ‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫شرط مسبق للعمل العلمي وهي ليست نتيجة بحث وهو افتراض مسبق ‪ ،‬حتى ولو كان‬
‫ضمنيا ‪،‬يستحيل بدونه السير في طريق البحث (‪.)56‬‬

‫وقد تفرعت عن الوضعية كال من الوضعية المنطقية ومدرسة التحليل اللغوي والوضعية‬
‫المنطقية هي امتداد للوضعية التي ظهرت حوالي نهاية القرن الماضي متمثلة بمفكرين مثل‬
‫ماخ وخالل األعوام العشرين التالية نما بالتدريج اهتمام أوسع بالمنطق الرمزي ‪ ،‬وقد أدى‬
‫اجتماع هذين العاملين إلى ظهور حركة جديدة محورها شليك ‪ M. Schlich‬والذي أطلق‬
‫على مجموعته اسم فلسفة (فينا) وأصبحت فلسفتهم تعرف باسم الوضعية المنطقية ‪ ،‬فهو‬
‫وضعيا ألنه يرى أن العلم هو الذي يزودنا بمجموع معارفنا‪.‬‬
‫وان الميتافيزيقا بمنطقها التقليدي ‪ ،‬هي ثرثرة لفظية فارغة ‪ ،‬فليس ثم ما يمكن معرفته وراء‬
‫التجربة ‪ ،‬أما مبدأهم هو مبدأ قابلية التحقيق الذي يذهب إلى أن معنى قضية هو طريقة‬
‫تحققها وهذا المعنى مستمد من ماخ (‪ )57‬وبعد أن يعرض رسل األفكار األساسية للوضعية‬
‫وتأريخها ينتقل ليعرض الصعوبات التي تواجهها نظريتهم في قابلية التحقق وهي‪-:‬‬
‫أن النظرية القاتلة أن المعنى هو قابلية التحقق ‪ ،‬أنها تواجه نفس الصعوبات التي تواجهها‬
‫نظرية الحقيقة عند البرجماتيين فلنفرض أننا وجدنا طريقة للتحقق من صحة قضية ‪ ،‬فإذا ما‬
‫قدمنا عرضا وضعيا لهذا اإلجراء‪ ،‬كان حقنا أن نتساءل عن معنى هذا العرض ذاته ‪،‬‬
‫ويؤدي ذلك على الفور إلى التسلسل إلى ما ال نهاية له‪ ،‬للمعاني التي نبغي تحقيقها‪ ،‬رفض‬
‫كل تأمل فلسفي بوصفه لغوا ‪،‬ومصدر الصعوبات هو أن نظرية قابلية التحقق ذاتها هي‬
‫نظرية فلسفية‪.‬‬

‫وقد حاول شليك أن يتجنب هذه العقبة بالقول أن مبدا قابلية التحقق هو في الحقيقة متأصل‬
‫في سلوكنا وكل ما نفعله حين نعرضه بهذه العبارات هو أن نذكر أنفسنا بالطريقة التي نسير‬
‫عليها بالفعل (‪ .)58‬وقد تفرعت عن الحركة الوضعية مدرسة التحليل اللغوي التي تشترك‬
‫معها بالقول أن جميع اإلشكاالت الفلسفية نتجت عن االستخدام الفضفاض للغة وكل سؤال‬
‫صيغ بطريقة سليمة له إجابة واضحة دقيقة‪ .‬المسائل الفلسفية نشأت من إساءة استخدام للغة‬
‫وما أن يتم اكتشاف عناصر الغموض ‪ ،‬في هذه األسئلة حتى يتضح أن المشكالت ال معنى‬
‫لها‪ ،‬وتتالشى من تلقاء نفسها والشيء الذي تشترك فيه معظم تيارات التحليل اللغوي هو‬
‫االعتقاد بأن اللغة العادية كافية‪ ،‬وإن اإلشكاالت الفلسفية تنشأ عن سوء استخدام اللغة (‪.)59‬‬

‫ويرى رسل أن قولهم عليه مآخذ عدة ‪ ،‬منها أن هذا الرأي يتجاهل حقيقة واضحة هي أن‬
‫اللغة العادية تحتشد ببقايا النظريات الغابرة ‪ ،‬واألخطر بتمجيد اللغة العادية باتخاذها حكما‬
‫في جميع المنازعات ‪ ،‬إذ أنني ال استطيع أن أدرك على اإلطالق لماذا ال تكون اللغة العادية‬
‫ذاتها مليئة بالخلط‪ .‬واقل ما يمكن أن يقال أن النظر أليها كما لو كانت شكال أشكال الخير‬
‫دون أن نتسأل ما هي اللغة ‪ ،‬وكيف تنشأ وكيف تعمل وتنمو وهذا كله أمر محفوف بالخطر‬
‫(‪ )60‬الفلسفات التي لم يصنفها رسل ضمن الفلسفات األكاديمية هناك بعض الفلسفات التي‬
‫لم يصنفها رسل ضمن الفلسفات السائدة في األوساط األكاديمية ‪،‬على الرغم من انتشارها‬
‫كالماركسية والوجودية ‪ ،‬وقد يكون أحد هذه األسباب هو عد فلسفات زمالئهم أهم من‬
‫فلسفاتهم ‪ ،‬أو أن بعضها لم يتبلور بعد كمذهب فلسفي‪ .‬وعدم استعراضه لهم يظهر الصلة‬
‫بين عرضه التاريخي ‪ ،‬وموقفه الفكري ‪.‬فمثال هو لم يعرض للوجودية في نصه تأريخ‬
‫الفلسفة الغربية ‪ ،‬أو مقاله في فلسفة القرن العشرين ‪ ،‬أما في حكمة الغرب فعرضه لها‬
‫نقدي‪.‬‬

‫الماركسية‬
‫الماركسية‪ -:‬وصف رسل الفلسفة الماركسية بأنها آخر مذهب فلسفي عظيم أنتجه القرن‬
‫التاسع عشر (‪ ،)61‬أما نقده كان منصبًا على عدة جوانب منها‪ – :‬الجانب النظري يرى‬
‫رسل أن مصادر تفكير ماركس ‪ ،‬أي الخلفية الفلسفية لها ال تتصف بالبساطة الشديدة ‪ ،‬أو‬
‫بالجدة التامة التي تنسب لها في كثير من األحيان‪ .‬فالتفسير االقتصادي للتاريخ هو واحد من‬
‫عدد من النظريات العامة في التاريخ‪ .‬وقد‬
‫استمد أصلها األول من هيغل (‪ )62‬وبالتالي فالنقد الموجه لهيغل يمتد بدوره إلى الماركسية‬
‫في الجوانب التي استقتها من الهيغلية ‪ ،‬فقد كان ماركس تلميذًا لهيغل ‪ ،‬واحتفظ مذهبه‬
‫المكتمل ببعض القسمات الهييغلية الهامة وجميع النظريات الهيغلية باطلة من وجه نظر‬
‫رسل (‪.)63‬‬
‫ربط االهتمامات العلمية بالفئة المسيطرة ‪ ،‬فأحياء علم الفلك في عصر النهضة تم لصالح‬
‫التوسع التجاري‪ ،‬وزاد من قوة الطبقة الوسطى الصاعدة ‪ ،‬رأى رسل بالرغم من إصابة‬
‫ماركس في قولة أن االهتمامات العلمية العامة لمجتمع ما تعبر عن المصالح االجتماعية‬
‫للفئة المسيطرة علية فأنه ليس من السهل تفسير أحدى الظاهرتين من خالل األخرى‪ .‬ويرى‬
‫أن هذه النظرية يشوبها عيبان ‪ ،‬أوال أن حل مشكالت جريئة خاصة في ميدان علم معين ال‬
‫يتعين أن يكون مرتبط على أي نحو بأي شكل من أشكال الضغوط االجتماعية ‪ .‬والثانية أن‬
‫أحد ال ينكر وجود روابط هامة بين البحث العلمي وأمور أخرى تحدث في المجتمع غير أن‬
‫ممارسة العلم قد اكتسبت بمضي الوقت ‪ ،‬قوة دفع خاصة بها تضمن لها قدر معين من‬
‫االستقالل الذاتي وهي بالتالي يجدها تفرط في تبسيط هذه األمور على أساس هذه الفكرة (‬
‫‪.)64‬‬

‫لم يكن ماركس صائبا في كل تنبؤاته عن التطور الجدلي ‪ ،‬إذ تنبأ بأن األغنياء‬
‫سيصبحون أكثر غنا والفقراء أكثر فقرا ‪ ،‬إلى أن يصل التوتر الجدلي لهذا التناقض إلى حد‬
‫من القوة يتحتم قيام ثورة‪ .‬فلم يكن هذا ما حدث على اإلطالق فالبلدان الصناعية ابتكرت‬
‫طرق من التنظيم خفضت من حدة الصراع االجتماعي ‪ ،‬وعندما جاءت الثورة بالفعل لم‬
‫تحدث في الجزء الغربي الصناعي ألوربا وإنما في روسيا الزراعية (‪. )65‬‬
‫اإليمان بالحاكم المطلق‪-:‬عندما سؤل رسل عن ما يراه عيبا حقيقيا في المذهب الشيوعي؟‬
‫أجاب رسل ((في رأي أن أكثر العيوب أهمية في الشيوعية هو الحكم المطلق ‪ ،‬وهو األيمان‬
‫الذي أصبح حقيقة إيمانا باليا‪ ،‬رغم وجوده في كل أنواع الشيوعية ‪ ،‬ورغم اإلصرار على‬
‫وجوده بطريقة خاطئة ‪ ،‬فلو انك جئت إلى إنسان خير وجعلت منه حاكما مطلقا فان حكمه‬
‫المطلق سوف يعيش ‪ ،‬ولكن نزعة الخير سوف تخبو وتذبل والنزعة الشيوعية كلها تقوم‬
‫على أعطاء أكبر قدر من السلطة ألشخاص موالين لعقيدة بعينها ‪،‬على أمل أن يقوم هؤالء‬
‫األشخاص باستخدام السلطة استخداما خير وفي تقديري أننا اذا استثنينا نفرا قليًال جدًا من‬
‫الناس ‪ ،‬فان كل إنسان أنما يسيء استخدام السلطة الضخمة لحفنة صغيرة من البشر)) (‬
‫‪)66‬‬

‫انخدع ماركس بالحالة التي كان عليها العمل في األربعينات من القرن التاسع عشر‪ ،‬حتى‬
‫ظن أن ملكية وسائل اإلنتاج وليست اإلدارة التنفيذية هي التي تعطي السلطة (‪.)67‬‬

‫تصطبغ النظرية الماركسية بصيغة العقيدة ذات الرسالة المحددة التي عبر عنها مؤسس‬
‫عقيدة أخرى أسبق منها بقوله‪ :‬من ليس منا فهو علينا ‪ ،‬وواضح أن هذا ليس المبدأ الذي‬
‫يمكن أن تقوم عليه أي نظرية ديمقراطية (‪ .)68‬أما على الصعيد االجتماعي فانك أن لم‬
‫توافق على النظرية الماركسية فينظر أليك انك لست منحاز إلى صف التقدم ‪ ،‬واللفظ‬
‫المبجل الذي يطلق عليك (رجعي) وهكذا يكون االستنتاج حرفيا هو انك تعمل ضد التقدم في‬
‫اتجاه رجعي ‪ ،‬وسيتم اكتساحك في الوقت المناسب ‪،‬الن التقدم ال بد أن ينتصر في النهاية ‪،‬‬
‫وهكذا فهو بهذه الحجة يبرر استخدام العنف في التخلص من العناصر غير المسايرة (‪)69‬‬
‫ويبدو أن نقد رسل للماركسية جاء في بعض جوانبه منسجما مع موقفه الفلسفي في رفضه‬
‫للهيغلية وتبني ماركس للجدل الهيغلي وأيضا لمواقفهم السياسية واالجتماعية ‪ ،‬واألثر السيئ‬
‫الذي أوجدته زيارته لالتحاد السوفيتي‪.‬‬

‫الوجودية‬
‫الوجودية‪ -:‬لم يفرد رسل للوجودية مساحة واسعة من كتاباته كما افرد لغيرها من‬
‫االتجاهات الفلسفية‪ ،‬ويبدو أنه لم يكن يجد فيها ما يمكن أن يطلق عليه أسم فلسفة ‪ ،‬ففي‬
‫حكمة الغرب ج ‪ 2‬يتحدث عنها بوصفها كنظرية وتارة أخرى كحركة‪ .‬ويرى أنه من‬
‫الصعب أن يرى المرء فيها أي شيء يمكن التعرف عليه بوصفه فلسفة بالمعنى التقليدي (‬
‫‪) 70‬وإنما هي نظرية تعرض علينا بعض السمات النفسية ‪ ،‬ال المنطقية للتجربة‪ ،‬وبهذا‬
‫المعنى تكون متماشية مع بعض االتجاهات النفسية (‪.)71‬ولتضييقها نطاق العقل ‪ ،‬تعرضت‬
‫لمتناقضات ال حصر لها‪.‬‬
‫أما نظرته إلى أهم روادها فيصف الكتابة عند هايدغر وسارتر‪ ،‬أن هايدغر يستخدم‬
‫مصطلحات غاية في الغرابة تتسم بالغموض الشديد بل أن المرء يضطر إلى القول أن اللغة‬
‫هنا تسير بال ضابط ومن النقاط الطريفة في تأمالته ‪ ،‬تأكيده على أن العدم شيء إيجابي ‪،‬‬
‫وتلك مالحظة نفسية حورت بحيث تبدو قضية منطقية كما يحدث في حاالت كثيرة بين‬
‫الوجوديين (‪ )72‬أما سارتر فكتابه (الوجود والعدم) هو كتاب متماشي تماما مع الطريقة‬
‫األلمانية في التأليف من حيث غموضه الشعري وغرائبه أللفضية ‪ ،‬وهو يحاول أن يحول‬
‫موقفا خاصا من الحياة إلى نظرية انطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي‬
‫وهي أشبه بتحويل رواية دستوفسكي إلى كتب مدرسية في الفلسفة (‪ )73‬أما معارضة‬
‫سارتر لمفهوم الضرورة العقالنية فما يقوم به ليس نقدا فلسفيا بقدر ما هو احتجاج انفعالي‬
‫قائم على أسس نفسية ‪.‬فتمرد الوجودية على المذهب العقلي منبثق من حالة شعورية‬
‫باالضطهاد ‪ ،‬وهذا يؤدي إلى موقف غريب وشخصي إزاء عالم الواقع يشكل عقبة في وجه‬
‫الحرية‪ .‬فبينما يرى العقالني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة ‪ ،‬يجدها‬
‫الوجودي االستسالم لحاالته النفسية (‪.)74‬‬

‫وأخيرا فان رسل لم يكن منصفًا كثيرًا في عرضه للفلسفة الوجودية ‪،‬فهو قد استبعدها في‬
‫عرضه تأريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬وللمقال الذي خصصه لفلسفات القرن العشرين ‪ ،‬وقدم لها‬
‫في حكمة الغرب ويبدو أنه لم يتفق معهم في مسائل عدة‪ ،‬فهي تبحث في جوانب نفسية‬
‫مبتعدة عن الجانب المنطقي ‪ ،‬وكتاباتهم تتسم باستخدامهم للمصطلحات الغريبة والغموض‬
‫الشديد في األلفاظ ‪ ،‬وهذه الطريقة تتناقض مع كتابات رسل التي تتسم بالوضوح وجمال‬
‫األسلوب ودقة العبارة‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫يمكن القول أن معظم كتب رسل تعد تأريخا للفلسفة المعاصرة ‪ ،‬أما تأريخه للفلسفة فيظهر‬
‫في كتابين تأريخ الفلسفة الغربية في ثالثة أجزاء وحكمة الغرب في جزئيين‪ ،‬يمكن القول أن‬
‫تأريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث‪ ،‬فيه ال يقدم تأريخ للفلسفات المعاصرة ‪ ،‬ولكن تأريخ‬
‫لبعض الفالسفة المعاصرين واالتجاهات الفلسفية ‪ .‬وربما كان أحد أسباب ذلك انه كان‬
‫مجموعة محاضرات ألقيت عندما كان رسل يتنقل بين الجامعات األمريكية ‪ ،‬لهذا نجد‬
‫الفالسفة األمريكيين استغرقوا مساحة ليست بقليلة مقارنة بغيرهم من الفالسفة الذين تعرض‬
‫لهم رسل ‪ .‬أما حكمة الغرب فقد امتاز بالشمول والعمق في تاريخيه لالتجاهات الفلسفية ‪،‬‬
‫فيعرض عددا من الفلسفات ويسبقها عرض نشأة األفكار وتطورها في مذهب أو اتجاهات‬
‫وصلته بمشكالت العصر وتوجهاته العامة وقيمه‪ .‬يتميز تاريخ رسل للفلسفة أنه يالحظ‬
‫نواحي ثالثا هي‪ :‬أوال النص الفلسفي نفسه‪ ،‬وفيعرض ألراء الفيلسوف ‪ ،‬وثانيا يحاول‬
‫وضعه في مكانة من تاريخ الفلسفة ‪ ،‬وال ينسى مكانة في التاريخ العام أي الحقبة‪ .‬وثالثا أنه‬
‫ينقد الفيلسوف من خالل نظرته للفلسفة ‪.‬فعرضه تاريخي نقدي بنيوي‪.‬‬

‫أن طريقة رسل في عرضه للفلسفات المعاصرة متباينة ‪ ،‬ففي تأريخ الفلسفة الغربية يميل‬
‫إلى عرض تأريخ الفالسفة أكثر من تأريخ الفلسفات ‪ ،‬أما في حكمة الغرب ج ‪ 2‬فهو‬
‫يعرضها وفقا لموطنها أو يعرض المذاهب الفلسفية السائدة في بلدان القارة األوربية‪ .‬أن‬
‫عرض رسل ألتأريخي كان في بعض جوانبه متحيزًا ألبناء وطنه ‪.‬وقد يكون تحيزه كما‬
‫يقول نتيجة اشتراكهم في بيئة واحدة ساهم في أن يكون هناك اشتراك في األمزجة فنجده‬
‫حكمة الغرب وتأريخ الفلسفة الغربية ك ‪ 3‬يقدم فصال كامال عن مذهب المنفعة والتمهيد له‪.‬‬
‫أن تأريخ رسل للفلسفة بالرغم من أنه كان يتوخى الموضوعية وخصوصا حكمة الغرب إال‬
‫انه لم يخلو من كونه انعكاسا لموقفه الفكري‪ .‬انعكست اهتماماته السياسية ‪،‬بتتبع أسالف‬
‫الفكر لليبرالية والماركسية والنازية والفاشية‪ .‬فقد انقسمت أوربا الحديثة وأمريكا إلى ثالثة‬
‫معسكرات ‪ ،‬أولها األحرار “الليبراليون” الذين يلوحون بتباع لوك وبنثام وثانيها‬
‫“الماركسيون” وهم مدرسة مضت في مراحلها المنطقية حتى ستالين‪ .‬والفريق الثالث‬
‫“النازيون والفاشيون” وأسالفهم هم فختة وكارليل ونيتشة ووصوال إلى أراء هتلر‪.‬‬
‫استبعد رسل في عرضه ألتأريخي بعض المذاهب الفلسفية وهذا ما نجده في مقالة عن فلسفة‬
‫القرن العشرين ‪ ،‬فكثير من المذاهب التي كانت نتاج القرن العشرين لم يتعرض لها رسل‬
‫في مقاله المخصص لتلك الحقبة كما يشير عنوان المقال‪ .‬وأيضا في كتابه تأريخ الفلسفة‬
‫الغربية ‪ ،‬أما في حكمة الغرب فنجده يعرض لبعض المذاهب التي استبعدها كالوجودية وأهم‬
‫ممثليها هيدغر وسارتر‪.‬‬

‫ما جدوى الفلسفة المعاصرة؟‬


‫الكاتب ‪ :‬لوك فيري‬
‫ترجمة‪ .‬إسماعيل مجغيط‪ -‬عبد العزيز عبقري‪ -‬فاطمة آيت يوسي‪ ،‬نقًال عن العدد ‪ 16‬من‬
‫مدارات فلسفية‪.‬‬

‫مقدمة‬
‫لم تكن الفلسفة عند القدماء‪ ،‬في بدايتها “خطابًا” بل نمط عيش‪ ،‬لم تكن نسقًا للتفكير أو‬
‫“نظرية” بل حكمة عملية‪ ،‬وجدت مثالها األفضل في سقراط‪ ،‬ذلك الفيلسوف الذي لم يكتب‬
‫شيئًا مثله في ذلك مثل بوذا والمسيح‪.‬‬
‫تبدو الفلسفة المعاصرة على النقيض تمامًا من هذه النظرة للعالم‪ ،‬كفلسفة يغلب عليها الطابع‬
‫“التقني” والتخصصي في حقول خاصة من العلم‪( ،‬كاألبستمولوجيا وفلسفة القانون واألخالق‬
‫والسياسة واللغة وتاريخ األفكار‪ ..‬الخ)‪ .‬قد أصبحت مادة تدرس على المستوى المدرسي‬
‫والجامعي كباقي المواد األخرى‪ ،‬انطالقًا من هنا يمكننا التساؤل‪ :‬لماذا ولمن تصلح هذه‬
‫الفلسفة؟ هل لتكوين وعي الشباب؟ إن ذلك سيكون شيئًا كبيرًا إذا ما قورن بااللتزامات‬
‫البيداغوجية التربوية أو بالمثال النموذجي‪ ،‬الذي يبعث فيها الحياة ويضخ فيها دماء جديدة‪.‬‬
‫وذلك ألنها كانت تسمح لكل واحد بأن يتحكم في سير وجوده‪ ،‬وأن يقبل على حياة “طيبة”‬
‫وناجحة‪ .‬فهل ما يطرح علينا اآلن‪ ،‬هو مغادرة هذا النموذج المثالي‪ ،‬الذي أمدتنا به الفلسفة‬
‫في بدايتها‪ ،‬إلى غير رجعة؟ هل ما زال بوسعنا أن نعطي لهذا النموذج محتوى؟ إذا كان‬
‫الجواب باإليجاب‪ ،‬فما هو هذا المحتوى؟ إن مثل هذه األسئلة وغيرها‪ ،‬هي ما أريد أن‬
‫أتناوله هنا‪ .‬لكن قبل القيام بذلك‪ ،‬هناك مالحظة أساسية البد منها‪:‬‬

‫منذ‬

‫وقت قريب‪ -‬أضحت الفلسفة “موضة”‪ ،‬كيف ال يتم الفرح والتلذذ بهذا األمر؟ لكن بالرغم‬
‫من ذلك‪ ،‬وخلف هذه األسئلة “االعتيادية” (لماذا هذا االفتنان بالفلسفة؟ ماذا يعني؟ وأي فراغ‬
‫جاه ليمأل؟ أي رابط جاء ينسجه مع “أفول أو انحطاط السياسية” وتجدد ما هو ديني‪ ،‬وإعادة‬
‫اكتشاف الحكمة الشرقية؟‪ ..‬الخ)‪ ،‬وراء هذه األسئلة‪ ،‬ينبغي التساؤل‪ :‬ماذا نقصد بالضبط‬
‫عندما نتحدث عن “الفلسفة”‪.‬‬
‫إن ما يزعجنا هنا ليس جمهور عريض يهتم بقضايا الفكر بل ألن هذا االهتمام الذي يعبر‬
‫عن التعاطف‪ .‬يستند غالبًا على نوع من سوء الفهم مفاده‪ :‬أن الفلسفة –وهذا ما أخشاه‪-‬‬
‫ليست ما نعتقده‪ .‬فإذا ما استثنينا ذلك اإلحساس باللذة الذي يعترينا لشراء بعض الكتب‪ .‬أو‬
‫الذهاب إلى مقهى حيث نستمتع بدردشة حول موضوع السعادة والحرية‪ ،‬فإن لدى إحساسًا‬
‫قبليًا أن متعلمي الفلسفة المبتدئين سوف يصابون بخيبة أمل‪ :‬فمن المستحيل قراءة سبينوزا‪،‬‬
‫هيجل أو أفالطون أو كانط‪ ،‬بدون تكوين فلسفي رصين‪ ،‬حيث من الوهم اعتبار أنه لن‬
‫يستغرق هذا التكوين سنينًا عديدة‪ .‬قد نعتبر‪ ،‬ربما‪ ،‬أن التبحر المعرفي غير ضروري‪ ،‬أي‬
‫“أن يفكر كل واحد بنفسه خارج إطار االحتواء الجامعي‪ ،‬هذا هو بدون شك الهدف النهائي‪،‬‬
‫لكن من أجل بلوغ هذا الهدف‪ ،‬ينبغي التوفر على قدر كاف من التواضع للتفكير في بادئ‬
‫األمر من خالل ومع اآلخرين‪ ،‬كضريبة “الكتشاف قارة أمريكا” (كما يقال)‪ .‬ويبدو لي أنه‬
‫بالرغم من الخطو البطيء في اتجاه هذا الهدف‪ ،‬فال يمكننا تعلم التفلسف بدون تعلم قليل بل‬
‫الكثير من الفلسفة‪ ،‬وهذا ليس شيئًا يسيرًا‪ ،‬ويتطلب الجهد والوقت‪ .‬ال أريد هنا أن أحبط‬
‫عزيمة ذوي النيات الحسنة‪ ،‬ولكن على العكس من ذلك‪ ،‬أقول لهم فقط وبكل بساطة أن ما‬
‫ينطبق على الفلسفة‪ ،‬ينطبق على اآللة الموسيقية‪ ،‬فإذا تجاوزنا مرحلة الحماس األول الذي‬
‫يشدنا إليها‪ ،‬يأتي دور الصبر والتمرين الشاقين‪.‬‬

‫ومن أجل هذا أيضًا أرى أنه من الضروري أن نطلع من يتوسمون في أنفسهم حب‬
‫المغامرة‪ ،‬أنه بإمكانهم أن يجدوا ما يأملونه‪ .‬حتى في حقل الفلسفة‪.‬‬

‫هل نحتاج من جديد إلى حد أدنى من التفاهم حول داللة كلمة “المادة” ‪ discipline‬التي يبدو‬
‫لي أن تعريفها ال يفهم بانسياب من تلقاء ذاته‪.‬‬

‫ما هي الفلسفة فعليًا؟ السؤال يبدو مثيرًا‪ :‬فكم من فالسفة كبار حاولوا اإلجابة عنه‪ ،‬لدرجة‬
‫أننا لن نستطيع أن نتخلص من اإلحساس أن المهمة اليوم تبدو بدون جدوى‪ ،‬بل عبثية أكثر‬
‫مما قد يظهر‪.‬‬

‫لقد قضيت أكثر من عشرين سنة من البحث الستشفاف جواب معقول ومستساغ بالنسبة لهذا‬
‫السؤال‪ -‬مستساغ على األقل بالنسبة لرؤيتي الخاصة‪ -‬حيث لم أنثن طوال هذه السنين عن‬
‫تعليم المذاهب الكبرى القديمة‪ ،‬دون ادخار أدنى جهد‪ ،‬وأروم هنا أن أعرض لعصارة ما‬
‫انتهت إليه في صفحات‪ .‬وأنا مدرك أني قد أسقط عرضة لالختزال‪ ،‬لذلك فأنا أتوخى نباهة‬
‫القارئ‪.‬‬

‫تختزل الفلسفة سواء داخل الفضاء العمومي أو في أماكن التدريس‪ ،‬في غالب األحيان‪ ،‬في‬
‫خاصيتين أساسيين‪ :‬فهي من جهة تاريخ األفكار‪ ،‬ومن جهة أخرى هي تمرين على التفكير‬
‫الشخصي‪ ،‬وقد نضيف لهما هذه الحالة المستحقة وهي حالة “االلتزام”‪ .‬المتمثلة في ميزة‬
‫السخط األخالقي‪ ،‬الذي يسمح بالتدخل من حين آلخر في شؤون العالم بغية “سحق ما هو‬
‫دنيء”‪ .‬ومن هنا اعترف وعلى الفور أنه لم يظهر لي من بعيد أن أي تعريف من هذه‬
‫التعاريف‪ ،‬استطاع أن يلم إلمامًا شامًال بما هو مهم في الفلسفة –رغم أن الفلسفة تساهم في‬
‫هذه المكونات الثالثة‪ -‬فتاريخ الفلسفة بكل تأكيد شيء له مشروعيته‪ ،‬ألنه مناسب للتعليم‪.‬‬
‫ولكن ماذا ندرس‪ ،‬حقيقة‪ ،‬إن لم يكن الفالسفة سوى مؤرخين أو أساتذة؟ أما فيما يتعلق‬
‫بالتأمل فنحن ندعي إراديًا أنه هو الشيء الذي يميز الفلسفة عن العلوم الوضعية‪ -‬هاته‬
‫األخيرة تبقى مهمتها محددة بمعرفة العالم‪ ،‬أما في الفكر فهو يعني الفلسفة‪ -‬لكن الفيلسوف‬
‫بدوره يتطلع إلى “التفكير فيما يوجد” (هيجل) والعالم كذلك ال ينفك يفكر مثله مثل اإلنسان‬
‫العادي‪ ،‬في اللحظة التي يتساءل فيها حول مسار حياته‪ .‬لكن ال العالم وال اإلنسان العادي‪.‬‬
‫هو فالسفة بالمعنى الدقيق للكلمة‪ .‬بل إن المثقف نفسه ال يشذ عن هذه القاعدة‪ .‬اللهم تلك‬
‫الخاصية –خاصية االلتزام‪ -‬التي تمنحه صورة متميزة نوعًا ما‪ .‬قد أستطيع أن أكون كاتبًا‪،‬‬
‫فنانًا‪ ،‬مؤرخًا‪ ،‬عالمًا أو صحفيًا‪ ،‬أتناول بالنقاش‪ ،‬قضايا سياسية كالجمهورية اإلسبانية‪،‬‬
‫قضية فيتنام‪ ،‬أو الجزائر أو البوسنة‪ ،‬لكنني لست في حاجة ألكون أرسطو جديدًا من أجل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫إذا كنا نريد أن نفهم ما هي الفلسفة اليوم‪ ،‬أو أن ندرك أكثر من ذلك ألي شيء يمكن بالفعل‬
‫أن “تصلح”‪ ،‬فمن الضروري الوعي بما كانت تمثله من أهمية بالنسبة للغرب الحديث‪ ،‬على‬
‫األقل حتى وقت قريب‪ :‬إنها محاولة عظيمة جدًا للعلمنة الدينية‪ ،‬لدى اليقين التام أن التموقع‬
‫الالزم اليوم يجب أن يكون إزاء هذه المحاولة –ال يهم أن نكون ضدها‪ ،‬أو معها‪ ،‬أو على‬
‫هامشها‪ ،‬هذا ال يهم بشكل عميق في بداية األمر‪.‬‬

‫‪ -I‬الفلسفة المعاصرة كعلمنة للمسيحية‪:‬‬


‫لم تكتف الفلسفة الحديثة‪ ،‬منذ القرن السابع عشر ومنذ ديكارت ‪ Descartes‬عن المضي‬
‫في اتجاه علمنة مزدوجة على المستوى األخالقي من جهة‪ ،‬والميتافيزيقي من جهة أخرى‪.‬‬
‫ففي المستوى األول كان المقصود هو إعادة تشكيل القيم المسيحية للتناسب مع الفكر‬
‫العلماني‪ ،‬بل الفكر اإللحادي أو الإلداري‪ .‬وفي المستوى الثاني‪ ،‬كان المقصود هو إعادة‬
‫الخوض مجددًا وبطراوة في مسألة اإليمان في مستواها العام أو مستوى العالقات بين‬
‫اإلنسان (ككائن متناه وجاهل وفان) وبين المطلق (كإله‪ ،‬كائن ال متناه‪ ،‬عالم بكل شيء‬
‫وخالد‪ .‬وقد مثل قمة هذه الحركة‪ -‬حركة العلمنة‪ -‬رمزان كبيران هما‪ :‬كانط وهيجل‪.‬‬

‫‪ -1‬علمنة الدين على المستوى األخالقي‪:‬‬


‫يمكن أن نقرأ اإلعالن عن حقوق اإلنسان على أنه علمنة للقيم المسيحية‪ ،‬حيث نجد فيه‪،‬‬
‫على الخصوص‪ ،‬تعبيرًا عن فكرة أن اإلنسانية واحدة‪ ،‬وأيضًا بالتأكيد وبأشكال مختلفة‪ ،‬عن‬
‫الكرامة الشخصية لكل كائن إنساني‪ ،‬بحيث نجد أن كلمتي “الحقوق” و”الفرد” غطت على‬
‫تعبيرات من قبيل “المقدس” و”الروح”‪ .‬وهو ما يشير بشكل جديد إلى عظم هذه التحوالت‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت يشير إلى واقع االستمرارية‪ .‬واليوم ينعم المؤمنون وغير المؤمنين‬
‫سواسية‪ ،‬بما حققه لهم هذا اإلعالن العظيم عن حقوق اإلنسان‪.‬فكل واحد يقرؤه بطريقة‬
‫مختلفة‪ :‬فهناك من يرى أن هذه الحقوق منبعثة من هللا‪ ،‬وبالتالي اعتبروه المنبع األقصى لها‪.‬‬
‫وآخرون رأوا أنها صادرة عن اإلنسان وتستجيب بشكل مناسب لمتطلباته‪ .‬فبأي معنى تكون‬
‫النزعة اإلنسانية الحديثة وريثة الديانة المسيحية؟ وهل هذه األخيرة سهلت قدومها كما يرى‬
‫مارسيل غوشي (‪ )M arcel Gauchet‬؟ أم النزعة اإلنسانية قد قامت على أنقاض الديانة‬
‫المسيحية كما يرى بيير مان ‪.P. manent‬‬

‫نستطيع هنا أن نترك النقاش مفتوحًا‪ ،‬دون أن تغض الطرف عن النتيجة األساسية‪ :‬وهي أن‬
‫عقلنة القيم قد حدثت فعًال وبشكل جيد في الفلسفة بالضبط‪.‬‬

‫إن األخالق الكانطية بكل تأكيد تسلم بوجود هللا‪ ،‬ولكنها لم تكن في حاجة إلى هذه المسلمة‬
‫كي تؤسس نسقها‪ ،‬فالكائن اإلنساني وحده كاف لتأسيسها‪.‬‬

‫إن الفلسفة الحديثة هي التي قامت بإخراجنا من غياهب الالهوت األخالقي (‪théologico-‬‬
‫‪ )Ethique‬فمع هذه الفلسفة ومع فلسفة األنوار‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬كف العقل عن االستناد على‬
‫الدين‪ ،‬بل العكس هو الذي حدث‪ ،‬من خالل ثورة في الفكر مماثلة لتلك التي حدثت في‬
‫السياسة‪ ،‬وإذا كانت بعض اإللزامات “الروحية” أو الدينية ال زالت مستمرة‪ ،‬فهذا انطالقًا‬
‫من األخالق‪ ،‬فاهلل كما يقول كانط ليس سوى موضوع “لإليمان العلمي”‪ ،‬يجب افتراض‬
‫وجوده ألسباب أخالقية‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬

‫من هنا يمكن القول‪ ،‬وكما هو الشأن مع فيخته‪ ،‬أن هللا ليس شيئًا آخر سوى “المثال‬
‫األخالقي للعالم”‪ ،‬فليست هناك سوى خطوة‪ -‬بمجرد تجاوزها قد يتهم صاحبها بتهمة اإللحاد‬
‫والزندقة الشنيعتين‪ ،‬التي كانت وما زالت تسجل حضورها داخل التشوش والبلبلة المالزمة‬
‫لفترة ‪ . 1798‬ال يهمنا هنا ما هي تفاصيل هذه المسألة‪ ،‬بقدر ما يهمنا االحتفاظ بشيء‬
‫أساسي‪ :‬وهو كون الفلسفة الحديثة‪ ،‬فيما يخص جانبها القانوني واألخالقي‪ ،‬قد احتفظت في‬
‫محتواها بالشيء المهم داخل الخطاب المسيحي‪ .‬فال وجود لقيمة أخالقية جديدة في هذا‬
‫االتجاه‪ ،‬سواء في أيديولوجيا حقوق اإلنسان أو في نقد العقل العملي (فهذان المكونان لم‬
‫يشكال سوى التأسيس الفلسفي)‪ .‬لكن على مستوى الشكل‪ ،‬فقد كانت الثورة التي استهدفتها‬
‫الفلسفة‪ ،‬ثورة حاسمة إذ أنه انطالقًا مما هو إنساني وجب التفكير في الخير والشر‪ ،‬فاإلنسان‬
‫أصبح هو المقدس‪ ،‬والمحترم‪ ،‬بما هو كذلك‪ ،‬ومتمتع –إن لم يكن بروح خالدة‪ -‬فعلى األقل‬
‫بكرامة مطلقة إلى درجة أنه وانطالقًا من صيغة الواجب األخالقي المطلقة المعروفة‪ ،‬ال‬
‫يجب أبدًا التعامل مع اإلنسان فقط باعتباره “وسيلة” ولكن التعامل معه دائمًا كـ”غاية” في‬
‫ذاته‪.‬‬

‫فإذا كانت العالقة مع المقدس‪ ،‬ومع المطلقة ما زالت قائمة‪ ،‬فإنها أيضًا مفصولة عن ما هو‬
‫إلهي‪ ،‬أو على األقل مختلفة عن صورها التقليدية‪ .‬فالوحي المسيحي لم يعد هو الذي يؤسس‬
‫ما هو أخالقي‪ ،‬كما يريد البابا دائمًا‪ ،‬ولكن حسب مشيئة “العقل العملي” نفسه‪ ،‬غير‬
‫المنفصل –طبعًا‪ -‬عن فرضية الحرية المطلقة لإلنسان‪.‬‬

‫ومهما يكن فإن المهم في هذا الفكر األخالقي الحديث يكمن في كون هذه العقالنية هي عملية‬
‫دهرنة في عمقها‪ ،‬تعد عملية استجالئها أو فهمها في تفاصيلها الجزئية مهمة شاقة‪ .‬ولكن‬
‫يمكن أن نجد لها مقابًال جليًا في الثقافة السياسية المشتركة تلك التي وفرها لنا اإلعالن‬
‫الكبير عن حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫فكل واحد‪ ،‬على ما يبدو لي‪ ،‬يستطيع أن يفهم ويقبل أن هذا النص –نص اإلعالن عن‬
‫حقوق اإلنسان‪ -‬المؤسس للمثال الديمقراطي‪ ،‬الذي نتبناه جميعًا قابل لقراءتين مختلفتين‬
‫بغض النظر عن مسألة كوننا مؤمنين أم غير مؤمنين‪.‬‬

‫إننا الزلنا ال نتقبل إال بصعوبة كون التغيير لم يلحق فقط محتوى الرسالة المسيحية‪ ،‬بل إنه‬
‫قد تم على مستوى الوضع التشريعي لهذه الرسالة (المؤسسة على الوحي الرباني أو على‬
‫إرادة اإلنسان وعقله)‪.‬‬

‫هكذا يمكننا فهم الروابط التي تنسجها هذه المبادئ األولية (حرية الرأي‪ ،‬احترام اآلخر‪،‬‬
‫األمن حق الملكية… الخ) مع األخالق العامة المشتركة والقانون الحديث ذي الجوهر‬
‫العلماني‪.‬‬
‫إن الفلسفة األخالقية‪ ،‬حتى في درجاتها األكثر تجريدًا (كما في “نقد العقل العملي” لكانط) ال‬
‫زالت تحتفظ بعض الشيء بعالقة مع بعض العناصر الملموسة في “ثقافتنا العامة”‪،‬‬
‫ونستطيع أن نجد لها مقابالت حتى في الميادين األيسر مناًال بالنسبة “لغي المختصين”‪.‬‬

‫‪ -2‬علمنة على المستوى الميتافيزيقي‪:‬‬


‫إن األمر يسير بشكل مختلف بالنسبة للشق الميتافيزيقي في الفلسفة الحديثة‪ ،‬فالسؤاالن‬
‫القانوني واألخالقي يشكالن جزءًا ال يتجزأ من حياتنا اليومية‪ ،‬إنهما يؤثران حتى في تربية‬
‫األطفال‪ .‬ففي عمق هذا المستوى ال يتغير شيء من اإلدراك الذي لدينا كيفما كانا‪ ،‬سواء كانا‬
‫معلمنين أم لم يكونا‪ .‬باإلضافة إلى ذلك فمسألة عالقة هللا باإلنسان‪ ،‬أو عالقة المتناهي‬
‫بالالمتناهي أو عالقة النسبي بالمطلق‪ ،‬الفاني بالخالد‪ ،‬عوامل ال تتدخل بالضرورة‪ ،‬إنها‬
‫متوازية داخل الحياة اليومية للجميع‪ .‬فهنا الدين والميتافيزيقا –إن سمح بالقول‪ -‬ليسا فقط‬
‫متخلى عنهما‪ ،‬ولكنهما وحيدان بالمنزل‪ ،‬فكانط –األخالقي‪ -‬ما زال قابًال للقراءة من طرف‬
‫غير “المتخصصين في حقل الفلسفة‪ ،‬بينما هيجل لم يعد كذلك‪ .‬فعندما قام هيجل بعد شيلينغ‬
‫بوضع تعريف للنسق الفلسفي باعتباره يحقق أخيرًا “تطابق الهوية واالختالف” قد قام‬
‫بإعالن قضية‪ ،‬لم تكن تخفى عنه صعوبتها وغموضها بالنسبة للقراءة‪ ،‬أو إدراك الخيوط‬
‫التي يمكن أن تربطها مع أي سؤال من أسئلة الشأن العام‪ .‬لكن بالرغم من ذلك أرى أن كل‬
‫من لم يتبين مضمون هذه العبارة وعالم تدل وماذا تخفى‪ ،‬لن يستطيع أبدًا أن يفهم ما معنى‬
‫الفلسفة الحديثة في الغرب‪.‬‬

‫يجب إذن محاولة فهم العبارة الغربية وإدراك في أي شيء تختزل أهم رهانات ‪Enjeux‬‬
‫الميتافيزيقا الحديثة‪ .‬هاته الرهانات هي التي تستوجب من الفلسفة المعاصرة التموقع إزاءها‪.‬‬
‫عندها يبدو لي‪ ،‬إنه من الالزم أن نمسك بالخيط الذي يمكن أن يقودنا إلى ذلك وهو الخيط‬
‫الذي أمسك به اآلن‪ ،‬أي معرفة أن الفلسفة الحديثة في عمقها ليست شيئًا آخر سوى مشروع‬
‫عمالق للعقالنية وبالتالي العلمنة أي علمنة محتوى الديانة المسيحية (ألن العقل كان في‬
‫مواجهة مع الوحي)‪.‬‬

‫هيجل ‪ Hegel‬نفسه الذي طالما كان الهوتيًا قبل أن يصبح فيلسوفًا‪ ،‬لم ينثن أبدًا عن المناداة‬
‫بهذه العقلنة والعلمنة بأعلى صوته‪ .‬هذا النداء الهيجلي أدخلته بعض التأويالت الماركسية‬
‫في نوع من العتمة‪ .‬يكفي لالقتناع بذلك قراءة وإعادة قراءة ما يعلنه هيجل بكل وضوح‬
‫حول العالقات بين ميادين حياة الروح ‪ l’esprit‬التي هي‪ :‬الفن والدين والفلسفة‪.‬‬
‫‪ -3‬الفن‪ ،‬الدين‪ ،‬الفلسفة‪ :‬ثالثة أنماط للتعبير عن اإللهي‪:‬‬
‫هذا هو الخطاب الثابت لهيجل بحذافيره‪ :‬إن الميادين الثالثة لحياة الروح‪ :‬لها نفس الرسالة‬
‫ونفس الغايات في معرفة التعبير عن اإللهي أي عن الحياة الروح المطلقة‪ .‬فقط أشكال‬
‫التعبير هي التي تختلف داخل كل حالة من هذه الحاالت الثالثة‪.‬‬

‫ولنبدأ بالفن‪ ،‬يقول هيجل‪“ :‬إن مهمة الفن تقوم على تمثيل بالحدس المباشر في شكلها‬
‫المحسوس‪ .‬وليست في شكل تفكير أو روحانية خالصة”(‪.)1‬‬

‫يتضح إذن أن الفن يترجم فكرة هللا‪ ،‬أي الرباني بصفة عامة في البداية‪ ،‬ثم بعد ذلك الرباني‬
‫ممثًال في المسيحية في إحدى الفترات وكيفية فهمها لإلله كعالم بكل شيء‪ -‬وذلك في قالب‬
‫محسوس‪ .‬أي أنه مثله مثل الديانة يعبر عن حقيقة متعالية في شكل غيري مالئم لطبيعتها‬
‫المتعالية بما أنه شكل محسوس والحال أن هللا ليس شيئًا محسوسًا‪ ،‬حتى يتم التعبير عنه بما‬
‫هو محسوس إنه روحاني ومتعال‪ .‬وبالتالي ال يمكن أبدًا التعبير عنه جيدًا من خالل الفن‪.‬‬
‫وهذا هو السبب الذي يدعو إلى تجاوز الفن‪ .‬يقول هيجل‪“ :‬فكما أن الفن يجد ما قبله‪ ،‬في‬
‫الطبيعة وفي مجاالت الحياة‪ ،‬فإنه في نفس الوقت يجد ما بعده في اإلطار الذي يتجاوز‬
‫بدوره نمط فهمه وتمثيله للمطلق‪ .‬ذلك أن الفن يحمل في ذاته حده‪ .‬لهذا يلزمه أن ينحل في‬
‫األشكال العليا للوعي”(‪.)2‬‬

‫هكذا سيتسلم الدين المشعل‪ ،‬ليذهب أبعد من الفن‪ ،‬ذلك أنه يعبر عن اإللهي في عنصر‬
‫الوعي الذاتي والطوية ‪ Intériorité‬وليس في خارجية مادة محسوسة (لون‪ ،‬صوت‪،‬‬
‫تمثال…) إنه كما يقول هيجل يحدثنا عن اإللهي بواسطة تمثالت وهكذا لجأ المسيح إلى‬
‫صور واستعارات وأساطير… تخاطب الوعي اإلنساني –إنجاز القول أفضل من الفن في‬
‫التعبير اإللهي؛ ألنه يرفع من الجمالي المحسوس إلى الروح‪ ،‬لكن محتواه يظل من جهة هو‬
‫هوومن جهة ثانية ال يرقي إلى المرتبة التعبيرية العليا‪ .‬إن الفلسفة وحدها حقيقة تستطيع أن‬
‫تضطلع بمهمة التفكير والتعبير عن اإللهي بشكل مناسب وحدها حقيقة تستطيع بشكل‬
‫مناسب لطبيعته الروحانية داخل عنصر العقل لما هو محسوس أو أسطوري‪ ،‬وبالتالي داخل‬
‫العقالنية الفلسفية‪.‬‬
‫من هنا نرى كيف أن هيجل قد عزا إلى الفلسفة نفس محتوى المسيحية مع فرق وحيد يتجلى‬
‫في طريقة التعبير عن هذا المحتوى الذي يجب أن يصبح عقالنيًا –وبذلك أصبحت لحظة‬
‫الوعي سلفًا كما هو الشأن عند ليسينغ غير ذات جدوى وألجل ذلك نستطيع القول أن هذه‬
‫العقلنة بواسطة الفلسفة الحديثة تمثل أيضًا علمنة لمحتوى الدين‪.‬‬

‫‪ -4‬انحالل الدين في الفلسفة‪:‬‬


‫لنعد إذا إلى ما جاء في هذه األطروحة؛ فهي عندما تعتبر أن الفن ينتمي لمرحلة متطورة‬
‫من التاريخ اإلنساني‪ ،‬تجد كل داللتها‪ .‬عندما يطرح هيجل المسألة بكل هدوء‪“ :‬إن الفن كان‬
‫وسيظل (بالنسبة لنا) من ناحية وظيفته األكثر سموًا‪ ،‬شيئًا من الماضي‪ ،‬أنه فقد بالنسبة لنا‬
‫“حقيقته األصلية” و”كف عن الحياة”(‪.)3‬‬

‫هذا التأكيد يجب أن يفهم على مستويين متتاليين من العمق‪ :‬فمن الواضح أن كلمة “بالنسبة‬
‫لنا” تفهم بداية بمعنى تاريخ وتعني‪“ :‬بالنسبة لنا نحن المعاصرين” الذين تخطينا عتبة‬
‫الطفولة اإلنسانية‪ .‬وتعني كذلك نحن الفالسفة المنتمين للثقافة المسيحية‪ .‬الذين تمكنوا من‬
‫استيعاب أن األولوية ليست في حاجة إلى شكل محسوس وبالتالي ليست محتاجة للفن كي‬
‫تمثل في الوعي‪ ،‬بما أنها روحانية خالصة‪ ،‬فمن السذاجة الحصول على رؤية جمالية‬
‫انطالقًا من فهم محسوس للمطلق‪.‬‬

‫لكن هذا التطور كما عبرت عنه‪ ،‬لم يكتمل إال مع الفلسفة‪ ،‬ألنها الوحيدة التي ستتمكن من‬
‫التفكير في الطوية ‪ l’intriorite‬بشكل جد مناسب لطبيعة ما هو إلهي بما هو روح‪ ،‬فمن‬
‫أجل استنباط ما هو إلهي‪ ،‬لم يعد الدين على األقل يتمثل هللا كموضوع يوجد خارج الوعي‪.‬‬
‫إن ذلك مالزم لبنية التمثل نفسها بما هي كذلك‪ ،‬هذا التمثل هو دائمًا تمثل متأمل‪ ،‬فهو يبقى‬
‫حتمًا داخل الوعي المتناهي حيث يبقى كل موضوع بالنسبة له موضوعًا خارجيًا‪ .‬فكل‬
‫وعي‪ ،‬كما سيقول هوسرل (‪ )Hussrel‬في نفس المعنى‪ ،‬هو وعى بشيء متناه يتعارض‬
‫معه كمعطى خارجي‪ .‬لكن هللا‪ ،‬في الحقيقة ليس شيئًا متناهيًا وبالتالي فالوعي ليس هو الحيز‬
‫األكثر مالءمة لفهمه‪.‬‬

‫والصوفيون قد فهموا األمر جيدًا‪ ،‬لذلك هم يقدمون اإليمان كـ”حلول في الذات اإللهية أو‬
‫كتماه مع هللا” وكنوع من اإللغاء للوعي‪ ،‬خدمة لتصالح المطلق مع هللا‪ ،‬إن هذا التماهي هو‬
‫ما يجب تحقيقه‪ ،‬لكن بالنسبة لهيجل ليس داخل عالم الصوفية‪ ،‬فالفلسفة النظرية فقط والفكر‬
‫الخالص‪ ،‬وحدهما يتمكنان من إحداث هذه المصالحة بين موضوعية الفن وذاتية الدين؛ من‬
‫أجل التعبير الموفق أخيرًا عن الصفات اإللهية‪ ،‬ومصالحتنا معها‪ ،‬كيفما كانت صيغ وأشكال‬
‫هذه المصالحة الصعبة‪( .‬من أجل البرهنة على إمكانية هذه المصالحة الصعبة‪ ،‬يتحتم اللجوء‬
‫إلى فهم الطروحات األكثر عمومية في هذا النسق الهيجلي بل النسق برمته –إذ سلمنا أننا‬
‫نتمكن من الوصول إلى ذلك‪ )-‬فما هو مهم هنا أن الميتافيزيقا في لحظتها العقالنية القصوى‬
‫تحاول أن تحقق بواسطة الفكر‪ ،‬داخل المفهوم‪ ،‬ما لم يقترحه الدين علينا إال بواسطة‬
‫اإليمان‪ ،‬كما يرى هيجل‪ ،‬أي المصالحة أخيرًا بين هللا واإلنسان وجمعها داخل نفس الوحدة‬
‫الروحية‪ .‬وبهذا يتم الجمع بين المتناهي والالمتناهي بين النسبي والمطلق‪ .‬من هنا يظهر لنا‬
‫أن النسق الفلسفي المكتمل قد يعرف كـ”تطابق الهوية‪ ،‬واالختالف” بمعنى “هوية هللا وهوية‬
‫اإلنسان” المتناهي والالمتناهي‪ :‬فالعبارات هنا لها نفس الدالالت‪ .‬فاهلل هو الالمتناهي‪،‬‬
‫والكائن الذي يبقى مطابقًا لذاته بما أنه في نفس الوقت كامل وخارج عن الزمان‪ ،‬أي أنه‬
‫أبدي‪.‬‬

‫اإلنسان هو المتناهي بمعنى أنه هو الفرد المحدود ما دام أنه عرضة للجهل والخطيئة‬
‫وأخيرًا عرضة للموت‪ ،‬فهو أبعد ما يكون مطابقة لذاته‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة هلل‪.‬‬

‫إن اإلنسان خاضع للتغيير‪ ،‬وخاضع للزمن وبالتالي “خاضع لالختالف” أو أكثر من ذلك‬
‫خاضع لالنفصام‪ ،‬كما يقول هيجل معبرًا عن كون الكائن اإلنساني لن يتصالح مع العالم‬
‫ويحبه بشكل كامل‪ ،‬طالما أنه لم يتم تصالحه هو نفسه مع هللا‪.‬‬

‫لقد اعتبرت الفلسفة المعاصرة‪ ،‬على األقل في هذه الصورة الهيجلية‪ ،‬وكما عبر عن ذلك‬
‫الفالسفة الالحقون على ماركس‪ ،‬هيدجر‪ ،‬كيركجارد نيتشه كشكل من االكتمال الذي يدعي‬
‫أو يحاول بواسطة العقل مأل ما تعد الديانة شغله بواسطة اإليمان‪ .‬وهذا هو الشيء األساسي‬
‫في نظري الذي يجب االنطالق منه اليوم أيضًا بغية التفكير في وضعيتنا الحاضرة‪،‬‬
‫المختلفة بكل تأكيد‪.‬‬

‫لنفترض صحة الوصف الكانطي والهيجلي للفلسفة‪ ،‬كعلمنة عملية (الجانب األخالقي)‬
‫وعلمنة نظرية (الجانب الميتافيزيقي) –علمنة للدين‪ -‬هذا سيسمح لنا بالمرور لفهم‪ ،‬لماذا‬
‫تطورت الفلسفة في ألمانيا (بسبب البروتيستانتية‪ ،‬التي كانت في العمق عبارة عن “تحديث‬
‫وعصرنة” للدين المسيحي وشكل من التخلي واإلقصاء “لحجج الماضي”) ومن هنا سنفهم‬
‫أيضًا لماذا أردات الفلسفة أن تأخذ شكل “نسق” (فألجل منافسة الدين في سعيه لإلجابة عن‬
‫كل األسئلة التي يمكن أن يطرحها اإلنسان)‪.‬‬
‫ولنفترض أيضًا وجود تطور مواز ل”فلسفة ضد الفلسفة” ريبية مادية‪ ،‬نحن هنا ال زلنا لم‬
‫نبرح بعد مرحلة وصف ما كانت الفلسفة‪ .‬فال يزال هناك على األقل سؤاالن معلقان‪ :‬ماذا‬
‫حدث منذ إكمال النسق الهيجلي؟ ما الذي غيرته العلمنة المزدوجة‪ ،‬بالنسبة لنا جميعًا‪ ،‬وليس‬
‫فقط بالنسبة للمحترفين في حقل الفلسفة اليوم؟‬

‫‪ -II‬الفلسفة المعاصرة كإتمام للعلمنة‪:‬‬


‫لم يكف الفكر المعاصر من نيتشه إلى هيدجر‪ .‬عن مواصلة العملية اإلبداعية للعلمنة التي‬
‫باشرتها المثالية األلمانية‪ ،‬وهناك ثالثة موضوعات تشهد على بداهة ذلك‪:‬‬

‫هناك “التفكيك” بداية؛ فهيدجر وقبل “محطاتنا‪ -‬البنيوية”(‪ )4‬تحدث عن “‬


‫‪ ”Abbaudermetaphysique‬وهي كلمة ألمانية تعني حرفيًا‪ :‬هدم “ميتافيزيقا” وقبله نجد‬
‫عند نيتشه نفسه فكرة “التفلسف بواسطة المطرقة” وتحطيم “األوثان”‪ ،‬أوثان الميتافيزيقا‬
‫المعاصرة الموروثة عند الدين المسيحي‪.‬‬

‫وبصيغة أخرى‪ :‬فإن عملية العلمنة األولى التي مثلتها العقالنية الكانطية والهيجلية‪ ،‬كانت‬
‫غير كافية بالنسبة لنيتشه‪ ،‬ألنها ال زالت تدور في فلك الدين‪ .‬والدليل على ذلك كما أتينا‬
‫على ذكره‪ ،‬هو أن محتوى هذه العلمنة ظل موسومًا بإرادة الوفاء لإلرث المسيحي في حد‬
‫ذاته‪ -‬ومن أجل ذلك سيكون فكر نيتشه‪ ،‬فكرًا نقديًا بال هوادة للدين وللمثالية‪ ،‬وسيكون من‬
‫المضني توضيح كيف أن هذا المشروع قد تواصل أيضًا من خالل الطموح الهيدجري –‬
‫رغم الفترة الزمنية التي تفصل بين االثنين‪ -‬في تفكيك ما سماه بشكل جد معبر‬
‫األنطوتيولوجيا ‪ Ontothéologie‬أي الفلسفة التي ال زالت سجينة الخرائط األساسية‬
‫للديانات التقليدية‪.‬‬

‫ومن هنا الموضوعة الثانية المشتركة مع نيتشه وهيدجر‪ ،‬وهي مقولة “نهاية الفلسفة” كنسق‬
‫دين جديد جاء لتأييد المقولة الثالثة‪ :‬مقولة “موت هللا”‪.‬‬

‫سوف ال أقوم بتحليل هذه المقوالت أو الموضوعات هنا‪ ،‬فقط سأضيف شيئًا واحدًا وهو أنه‬
‫بهذا العمل‪ ،‬تكون الفلسفة المعاصرة قد وصلت إلى مفارقة‪ ،‬تستحق منا التفكير العميق‬
‫بشأنها‪ .‬إضافة إلى أنها قد أنهت مشروع الفلسفات الميتافيزيقية العقالنية الكبرى التي لم تقم‬
‫بدحضها‪ .‬فإذا كان األمر يتعلق ب”تفكيك” أوهام الميتافيزيقا والدين أليس ذلك في األخير‬
‫من أجل تحرير اإلنسان من أغالل االستيالب؟‬

‫بهذا المعنى وفي مقابل إحدى األطروحات المركزية التي قمنا بتحليلها بمعية ‪Alain‬‬
‫‪ Reneault‬في كتاب “فكر ‪ ”68‬لذلك أقول أنه ال زال اليوم إرث األنوار يتردد صداه‬
‫داخل تفكيك فلسفة األنوار الذي طبع الفضاء الثقافي المعاصر‪ .‬وبالتالي ففي هذا المستوى‬
‫يمكن إلحاق تقليد “الفلسفة المضادة” بما هي ريبية ومادية بفلسفة التفكيك –كما هو الشأن‬
‫مثًال في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬لدى فيلسوف مثل ريتشارد رورتي ‪Richard Rortt‬‬
‫الذي يحاول بدون كبير عناء التوفيق بين إرث النزعة الوضعية والظاهراتية‪.‬‬

‫أال يجب القول أن كل هذا‪ ،‬يستحق التمييز والتحليل‪ ،‬أكثر مما أستطيع أن أقوم به هنا‪ ،‬خلف‬
‫كل هذا‪ ،‬إال أن األهم بالنسبة لنا حاليًا‪ ،‬يرجع في العمق إلى السؤال األول‪ :‬ماذا غيرت هذه‬
‫العلمنة بالنسبة لوضعنا الثقافي والفكري؟ كيف أخذها بعين االعتبار يسمح لنا باستشراف‬
‫مستقبل الفلسفة‪ .‬وكذلك أهميتها ومنفعتها لغير المختصين في حقل الفلسفة؟ وحتى أمضى‬
‫إلى ما يبدو أنه يشكل األهم‪ ،‬أرى أن هناك ثالثة تحوالت هامة حدثت‪ :‬على مستوى خطاب‬
‫المسيحية‪.‬‬

‫فبعد كل أشكال العقلنة والتفكيكات المختلفة التي طالته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة‪،‬‬
‫أصبح هذا الخطاب المسيحي “مؤنسنا” بكل بساطة‪ ،‬إنها علمنة قصوى إن شئنا القول‪ .‬ذلك‬
‫أنه قد تجسد في اإلنسان وبالتالي أصبح إلهًا‪ .‬بل إن األمر بالنسبة للمؤمنين ال يتعلق بمسألة‬
‫اإليمان باألب بقدر ما يتعلق بتجسيد أخالق االبن (المسيح) في األرض‪ .‬فماذا يقول هذا‬
‫الخطاب بشكل جوهري؟‬

‫أوًال‪ :‬نشر المحبة بين الناس‪ ،‬حيث الشقاء والعزلة‪.‬‬


‫وبما أن المحبة شيء معطى‪ ،‬قد وجب تطهير الذات من أجل الوصول إلى حكمة في خدمة‬
‫اآلخرين‪.‬‬

‫اعترف أني ال أرى بوضوح كيف يمكن لنا تجاوز هذا الدرس اليوم‪ ،‬لكن الشيء الذي أنا‬
‫متأكد منه‪ ،‬هو أن االلتزام الرهباني والدعوة العتزال الناس في سبيل هللا‪ ،‬لم تعد لها قيمة‬
‫إال بما هي لحظة انكشاف ضرورية‪ ،‬معلقة ما بين ارتباطين دنيويين‪ .‬في حين لم تعط‬
‫األديان التقليدية من شرعية في الدنيا إال لمحبة هللا‪ ،‬نعتقد نحن أن المحبة لن تكون إال من‬
‫خالل محبة الناس لبعضهم البعض‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لقد غادرت الدين بسبب رجال الدين عندما يتحدثون عن المحبة ‪ Agapé‬ال يقصدون‬
‫أبدًا محبة الناس لبعضهم البعض‪ ،‬تشهد على ذلك نبرتهم المجردة والغريغورية التي ال‬
‫تشبهها اليوم في ذلك‪ ،‬سوى نبرة مضيفات الطائرات‪ ،‬لقد قتلوا بذرة الحياة في أنفسهم‪ .‬ولم‬
‫يعد لديهم ما يمنحونه لآلخرين‪ ،‬ولقد تقوى اإلحساس عندي على أن الفلسفة قد ساعدتني‬
‫على تجاوز هذه النظرة الدينية التقليدية‪.‬‬

‫تحثنا هذه األنسنة لما هو إلهي وهذا التأليه لما هو إنساني‪ ،‬على االهتمام بهذه الصفات‬
‫البشرية التي عودتنا المثالية الدينية لقرون عديدة على إقصائها‪ ،‬إن لم نقل على كبتها‪ ،‬وهذا‬
‫ما يعلمنا إياه كل من التحليل النفسي‪ ،‬ومعه كل الثقافة المعاصرة اليوم‪.‬‬

‫إن معنى الحياة‪ ،‬هو ما قد تغير بعمق بفعل العلمنة الفلسفية لألديان‪ ،‬وهذا يصدق حتى‬
‫بالنسبة ألولئك المؤمنين برسالة المسيح‪ ،‬فلم يعد األمر يتعلق باإليمان باهلل واحتقار الدنيا‪،‬‬
‫بل بالسمو عن الصغائر‪ ،‬وبلوغ النضج في الدنيا من أجل الغير‪.‬‬

‫يتهيأ لي في بعض األحيان أنني ال ألتقي إال بأشخاص همهم الوحيد من الناحية الفيزيقية‬
‫وكذا النفسية‪ ،‬هو أال يشيخوا‪ ،‬فبالنسبة لهؤالء أن تعيش هو أن تحافظ على شبابك الدائم”‪.‬‬
‫هذا الهم أصبح بالنسبة لهم غاية في ذاته‪ ،‬فتراهم يضاعفون من مجهوداتهم كلما تقدموا في‬
‫السن‪ ،‬بإعادة تغيير شكلهم الخارجي بواسطة المساحيق والعمليات الجراحية التجميلية‬
‫المتنوعة‪ ،‬والحال أن المجتمع بأكمله يدعونا إلى ذلك‪ ،‬لكن أن نعيش هو ببداهة أن نكبر‬
‫ونشيخ‪ ،‬وهذا منذ اللحظة التي نخرج فيها من بطون أمهاتنا‪ .‬فإلى يجدر بنا أن نستخلص‬
‫النتائج من هذا األمر‪ ،‬ونبدأ بالنتائج التي تقضي إدراك كل الدالالت المستخلصة من هذه‬
‫الصيرورة الغريبة‪ ،‬التي تنفلت منا وال تنفلت منها‪.‬‬

‫هذا األمر يحيلنا إلى الدرس األساسي للعملنة الفلسفية‪ ،‬والذي هو حجر الزاوية في “حكمة‬
‫المحدثين”‪ :‬بلوغ النضج هو شرط اإلمكان األقصى لتميز أصيل لوجودنا في هذه الحياة‪ ،‬أن‬
‫نمر في هذه الحياة مرور الكرم‪ ،‬بل أن نجعل منها شيئًا ذا معنى‪ ،‬ذلك أن هذا التمييز نفسه‬
‫هو شرط كل تفهم وكل محبة‪.‬‬

‫وهنا تكمن بدون أدنى شك إحدى الدالالت العميقة للمفهوم الكانطي حول “الفكر المتحرر”‬
‫‪ ،la pensée élgrgie‬حيث يكون الشخص “الفرد ‪ Das Einszelne‬عبارة عن “تركيب‬
‫يجمع بين ما هو “خصوصي وما هو كوني” وإذا ما تركنا للحظة معجم الفلسفة‪ ،‬من أجل‬
‫تلمس المعنى العميق لذلك‪ ،‬فسنجد أن إضفاء تفرديه على الحياة ‪Individualiser sa vie‬‬
‫أو بعبارة أخرى‪ ،‬تحويل هذه الحياة الفردية إلى حياة فريدة من نوعها‪ ،‬ومعرفة كيفية‬
‫المصالحة داخل كل ذات‪ ،‬بين السياقات الخصوصية وبين التطلعات الكونية‪ ،‬التي تربط فيما‬
‫بيننا‪ ،‬أو نساهم بواسطتها في بناء صرح اإلنسانية‪ .‬هذا هو ما نجده في التحف الفنية حينما‬
‫تكون عظيمة‪ ،‬فهي تخلق في زمان ومكان وفي ثقافة معينة بواسطة عبقرية مبدع‪ ،‬بحيث‬
‫تمتزج هذه العناصر مع بعضها البعض لتشكل خصوصية ما‪ ،‬لكنها في نفس الوقت‪ ،‬تتحرر‬
‫من حدود ما هو خصوصي‪ ،‬لتغدو قاسمًا مشتركًا بين الناس في كل زمان وداخل كل ثقافة‪،‬‬
‫فهي ليست خصوصية بكل بساطة‪ ،‬وفي نفس الوقت ليست فقط كونية مثلها مثل أي حقيقة‬
‫عقلية‪ ،‬بل تصبح ذات صبغة فردية أصيلة‪ .‬فإذا ما تساءلنا اآلن لماذا نشيج؟ فالجواب‬
‫سيكون هو‪ :‬لنجعل من حياتنا‪ ،‬بعيدًا عن كل “عمليات تجميل”‪ ،‬عمًال يشبه هذه التحفة الفنية‪-‬‬
‫الشيء الذي نحن أبعد ما نكون عنه‪ -‬لنعرف اآلخرين جيدًا فنحبهم أكثر‪ ،‬فالحب والمعرفة‬
‫وجهان لعملة واحدة كما هو وارد في التوارة‪ .‬إن التفرد‪ ،‬على العكس‪ ،‬مما يعتقد أولئك‬
‫الذين يمرون في الدنيا مرور الكرام‪ ،‬هو توسيع لألفق‪ ،‬ضد كل انطواء نرجسي على‬
‫الذات‪ ،‬هذا الجهد يجب أن نتشبث به‪ ،‬دون هوادة‪ ،‬وأال نحيد عنه‪.‬‬

‫صحيح‪ ،‬أن الشيخوخة ستصطدم بحدودها يومًا لتكشف لنا عن سلبياتها‪ ،‬إال أن هذا ال يغير‬
‫في األمر شيئًا‪ ،‬بل إن هذا األمر يدعو بالعكس‪ ،‬إلى إعداد العدة للشيخوخة وتدبيرها بدل‬
‫الهروب منها‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫(‪ )1‬دروس في االستتيقا ‪.leçon d’esthétique surkamp I 103‬‬

‫(‪ )2‬نفس المرجع (‪.)1 :141‬‬


‫(‪.)I, 25( – )3‬‬

‫(‪ )4‬يقصد التيار البنيوي الذي انتشر بين الفالسفة الفرنسيين خالل السنوات الستيين‪.‬‬

‫[*] ترجمة‪ .‬إسماعيل مجغيط‪ -‬عبد العزيز عبقري‪ -‬فاطمة آيت يوسي‪ ،‬نقًال عن العدد ‪16‬‬
‫من مدارات فلسفية‪.‬‬
‫ألحداث المؤثرة في ظهور الفلسفة المعاصرة‬
‫فبراير ‪ 2020 ,27‬عبدالحميد كرم الفلسفة المعاصرة ‪0‬‬

‫الثورة على فيزياء «نيوتن»‬

‫ال شك أن أحد األحداث الهامة التي كانت ذات أثر واضح في نشأة اتجاهات ومذاهب‬
‫الفلسفة المعاصرة الثورة على فيزياء «نيوتن» )‪ ،Isaac Newton. (1642- 1727‬أو‬
‫االنقالب على العلم الكالسيكي الذي أرسى نيوتن مبادئه ووضع قوانينه‪ .‬والذي تمت له‬
‫السيطرة التامة على الفكر األوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬إلى أن جاءت‬
‫نظرية “انشطين” في النسبية والتي مهدت لنظريات علمية الحقة‪.‬‬

‫لقد كان العلم النيوتوني في نظر فالسفة عصره يمثل الصورة الصحيحة للعالم‪ ،‬والتفسير‬
‫الحقيقي والصحيح الوحيد لجميع الظواهر المادية‪ .‬وقد ارتبط بأساس رياضي هو الهندسة‬
‫اإلقليدية التي تقوم على مصادرة أساسية هي االستواء في المكان‪ .‬ومن ثم ظهرت فكرة‬
‫الزمان والمكان المطلقين مع الفصل بينهما‪ .‬وكان أن انعكست هذه األفكار على المذاهب‬
‫الفلسفية وقتذاك‪ ،‬والتي كان لها حق القول باآللية والحتمية‪.‬‬

‫‪>/‬‬
‫لكن مع ظهور القرن العشرين حدثت ثورة علمية كبيرة على العلم الكالسيكي‪ ،‬خاصة‬
‫بظهور نظرية النسبية‪ ،‬والتي كان لها الفضل الكبير في تغيير عدة مفاهيم تشبعت برفض‬
‫الزمان والمكان المطلقين‪ ،‬ومن ثم رفض اآللية وهو ما عبر عنه «مونييه» بقوله‪« :‬وهكذا‬
‫نرى أن هناك نظريات علمية وجبت إعادة النظر التامة فيها‪ ،‬وهناك مفاهيم كالسيكية‬
‫تقليدية قد تغيرت» (‪ .)14‬وكان قبل تلك الفترة أن تحول التصور الميكانيكي إلى نموذج‬
‫للتفسير فرض نفسه على كل العقول‪ .‬فأصبحت مقاييسه ومعاييره هي المعايير الموجهة لكل‬
‫بحث في الطبيعة‪.‬‬

‫‪>";style="text-align: right‬التقدم العلمي والمادي الذي بلغته العلوم الطبيعية باعتمادها‬


‫المنهج التجريبي ‪:‬‬
‫ومن األحداث الهامة التي يصعب غض النظر عنها‪ ،‬والتي كانت ذات أثر قوي في الفلسفة‬
‫المعاصرة هو التقدم العلمي والمادي الذي بلغته العلوم الطبيعية باعتمادها المنهج التجريبي‬
‫كطريق أمثل للبحث‪.‬‬
‫وبذلك أصبح المنهج التجريبي هو األسلوب األوحد الذي تحاول كل العلوم أن تتقيد به‪ ،‬ليس‬
‫فقط على مستوى البحث العلمي‪ ،‬بل حتى على مستوى حياة اإلنسان اليومية وسلوكه‪.‬‬

‫واعتماد المنهج التجريبي يقتضي أن يتحول كل العلوم إلى دراسة الظواهر المادية‬
‫المحسوسة القابلة للتجريب‪ .‬وعلى هذا صار الواقع المادي هو محور كل بحث‪ ،‬بل هو‬
‫الحقيقة التي يتعين على المنهج العلمي كشفها وكشف قوانينها‪ .‬بما في ذلك الظواهر النفسية‬
‫الخاصة باإلنسان‪ ،‬حيث ظهرت آراء تنادي بضرورة تفسيرها بردها إلى جوانب مادية‪.‬‬

‫وهو ما سيثير رد فعل عنيف من طرف بعض الفالسفة وأبرزهم “برغسون” محور بحثنا‬
‫هذا‪ .‬ويمكن اعتبار ذلك حدثا هاما في الفلسفة المعاصرة‪ .‬أي ردود األفعال التي قامت في‬
‫وجه التقدم العلمي المادي‪ ،‬وعلى ظاهرة تشييء اإلنسان (‪.)15‬‬

‫ورفض فكرة النظر إلى اإلنسان على ظاهرة طبيعية مادية‪ .‬ألن حقيقته وجوهره طاقة‬
‫حيوية متجددة‪ ،‬وعلى هذا ينبغي إبراز الجانب الروحي لإلنسان في مقابل الجانب المادي‬
‫اآللي‪ .‬وكان هذا سببا في ظهور عدة فلسفات ذات توجه روحي‪.‬‬
‫وفي األخير ال يمكن إهمال أفكار سيجموند فرويد‪Simund Freud S.Freud (1877 -‬‬
‫)‪ ، 1939‬وتحليله للعقل اإلنساني كحدث بارز أثر بعمق‪ ،‬ليس فقط في الفلسفة وعلم النفس‪،‬‬
‫بل في األدب والفن والفكر اإلنساني برمته‪ .‬فاكتشاف فرويد لالشعور رفع اللثام عن كثير‬
‫من الحقائق التي كانت تبدو لإلنسان واضحة وصحيحة‪.‬‬

‫فليس اإلنسان هو الكائن العاقل المفكر حسب ما درجت عليه النظريات العقلية حتى‬
‫ديكارت‪ ،‬ذو الصورة الجميلة‪ ،‬بل هو الكائن الذي تمثل الدوافع العدوانية إحدى أهم مكوناته‬
‫العقلية‪.‬‬

‫بل إن األهواء الغريزية أقوى االهتمامات العقلية على حد تعبير فرويد (‪ .)16‬وبذلك فتحت‬
‫نظرية التحليل النفسي جانبا كبيرا وخصبا من حياة اإلنسان النفسية‪ ،‬يأخذ فيها الالشعور‬
‫المكانة األكثر تأثيرا على السلوك وتوجيها له‪« ،‬فالالشعور هو المنطقة األوسع التي تضم‬
‫بين جوانبها منطقة الشعور األضيق نطاقا …‪ .‬فالالشعور هو الواقع النفسي الحقيقي وهو‬
‫في طبيعته الباطنة مجهول منا‪ ،‬نجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجي‪ ،‬كما أنه ال يمثل لنا‬
‫بوساطة معطيات الشعور إال مثوال ناقصا على نحو ما يمثل العالم الخارجي بوساطة رسائل‬
‫أعضائنا الحسية (‪.)17‬‬

‫مصادر ‪:‬‬
‫‪ )14‬رينيه مونييه‪ .‬البحث عن الحقيقة‪ .‬ترجمة هاشم الحبيسي‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة‬
‫لبنان‪ .1985 ،‬ص ‪39‬‬

‫‪ )15‬اإلشارة هنا إلى نظرة أوجست كونت إلى الظواهر االجتماعية على أنها أشياء‬

‫حول‪ :‬أسس الفكر المعاصر‪/‬مجاوزة الميتافيزيقا”‬


‫إدريس كثير‪ -‬عز الدين الخطابي‬

‫ما مبرر وجدوى هذا الكتاب‪“ :‬أسس الفكر الفلسفي المعاصر “مجاوزة الميتافيزيقا (‪)1‬؟ ما‬
‫الداعي إلى البحث في أسس فكر يقدم لنا نفسه مؤرخا مؤسسا؟ في الوقت (الذي) تبدو فيه‬
‫الحاجة ماسة إلى البحث في أصول فكرنا العربي وتراثنا اإلسالمي؟ تلك هي إشكالية الكتاب‬
‫العويصة والمنسية‪ .‬فهل يكفي في مقاربة هذه األخيرة اإلشارة إلى ضرورة “التفتح على‬
‫اآلخر وإلى المطالبة بالمساهمة في العالمية والكونية” ودفع اللغة العربية إلى اقتحام أبواب‬
‫الفكر المعاصر؟ أيمكن أن نلج “الكونية” بمقاس أجدادنا كما تصورنا كونيتهم؟ وما السبيل‬
‫إلى التعامل مع “التقنية” وقد باتت سائدة ومميزة للفكر الكوني؟ باتت عالمة “انقالب‬
‫أنطولوجي” طال اإلنسان والطبيعة والوجود والحقيقة …‪ .‬لكن من جهة أخرى ما أثر‬
‫“التقنية” فينا وفي وعينا وتراثنا؟ إذا كانت “التخني” بما هي انكشاف وجزء من الشعرية‬
‫أساس الوجود األونطي‪ ،‬فهل هي كذلك بالنسبة إلينا وإلى ما لدينا من فكر وفلسفة؟ كيف‬
‫يتحدد في هكذا عصر مفهوم الهوية واألصالة؟‬

‫مجاوزة أم مجاورة الميتافيزيقا‪:‬‬


‫فلسفيا إذا كان هيجل هو الهرم الفلسفي الذي اكتملت معه الميتافيزيقا‪ ،‬حتى دنت من سماء‬
‫نفي ذاتها في المطلق الذي ال مطلق بعده في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬أال يمكن اعتبار أرسطو هو‬
‫الصرح الفلسفي الذي انتصب في خيالء الفلسفة الكالسيكية‪ ،‬بما فيها أساسا للفلسفة العربية‬
‫اإلسالمية؟ كل ما جاء بعد هيجل‪ ،‬باستثناء الهيجلية الجديدة‪ ،‬كان رد فعل ضد الهيجلية‪،‬‬
‫تبلور في شعار “من أجل االنفالت من قبضة هيجل‪ .‬وكل ما جاء بعد أرسطو خصوصا‬
‫على مستوى التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬باستثناء التوجهات الدينية والصوفية‪ ،‬كان رد فعل‬
‫مشائي لصالح أرسطو تحت شعار “الحق ال يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له” أو يندمج معه‪.‬‬

‫أال يحق لنا اآلن رفع شعار االنفالت من قبضة أرسطو‪.‬‬


‫تنوعت االجتهادات واإلبداعات الفلسفية في االنفالت من القبضة الهيجلية الصارمة‪ ،‬وهي‬
‫ما يبسطها لنا األستاذ عبد السالم بن عبد العالي في دقة دقيقة‪ ،‬فإن كانت الوضعية الكونتية‬
‫نبذا للفلسفة‪ ،‬وكانت الوجودية أقرب إلى التمرد على شكل فلسفة هيجل‪ ،‬فإن ماركس‬
‫صاحب الدعوة األول لمجاوزة مثالية هيجل‪ ،‬إال أن مجاوزته كانت سياسية وذات خلفية‬
‫اقتصادية أو في أحسن األحوال أيديولوجية‪ .‬إن مهمة الفلسفة الحقيقية في نظر ماركس هي‬
‫فضح االستالب‪ ،‬واالنتباه إلى البعد العلمي أي البراكسيس “لمعرفة الحياة االجتماعية‪،‬‬
‫وللتخلص من أشكال الوعي الوهمية‪ ،‬إال أن هذا التوجه لم يحقق تجاوز الميتافيزيقا‪ ،‬ألنه‬
‫اعتمد ثنائية وصفت داخل الفكر الفلسفي بالتفرقة بين النظر والممارسة‪ ،‬تلك التفرقة التي‬
‫ستتحول بدورها فيما بعد إلى عائق من عوائق تجاوز الميتافيزيقا‪ ،‬أي إلى إنتاج تأملي‬
‫فلسفي انطالقا من بساط عملي‪.‬‬

‫تجاوز الميتافيزيقا‬
‫هناك إذن ضرورة في تجاوز الميتافيزيقا‪ ،‬لكن هناك أيضا صعوبة في تلك المجاوزة‪.‬‬
‫نيتشه هو الذي سيدرك المدى العميق الذي يفصل اإلنسان عن بدايته الميتافيزيقية‪ ،‬وسيقيس‬
‫عمق الهوة التي يجب سبر أغوارها “بالرجوع إلى الوراء” وبإتمام حلقة الدوران إلنهاء‬
‫السباق”‪ .‬إن هذه العودة إلى األصول أو الجينيالوجيا والتي ستأخذ اسم “االستذكار” عند‬
‫هايدجر و “التفكيك” عند ديريدا و”الحفريات” عند فوكو‪ ،‬هي اإليذان األول واألصلي‬
‫لالنفالت من “قبضة هيجل” وبالتالي تجاوز الميتافيزيقا‪.‬‬
‫فما هي الجينياولوجيا وكيف باشرت رحلتها على صهوة “العود األبدي؟‬

‫حين تصالحت الفلسفة مع تاريخها‪ ،‬حلت لحظات المطلق‪ ،‬فال غرابة أن تبدأ الرحلة من‬
‫التاريخ‪ ،‬وبالضبط بدراسة النشأة والتكوين‪ ،‬والبحث في األنساب واألصول‪ .‬إال أن األصل‬
‫المقصود ليس نقطة بداية ثابتة وال جوهرا وال ماهية محفوظة إنما هو تبعثر شبيه بتشتت‬
‫األجزاء‪ ،‬والتفاصيل في إقامات متاهية‪ ،‬ال غاية لها وال نهاية‪ ،‬األصل حدث وفق زمن ما‪،‬‬
‫ال يبدأ من نقطة وال ينتهي إلى نقطة‪ ،‬إنما هو تفاصيل وأحداث فارقية تفاضلية‪ ،‬زمنها ال‬
‫ينطلق من اتجاه معين وفق غاية منشودة بل هو “إعادة بناء مختلف المنظومات الفاعلة‬
‫“طبق خطة منبوذة‪.‬‬

‫الجينيالوجيا تأويل مستمر‪ ،‬ينتج المعنى من الالمعني وعكسيا‪ ،‬باحثا عن قوة المعنى في‬
‫تراتبها واختالفها‪ ،‬مفترضا تأويالت ال حصر لها لتفاصيل ال تعد‪ ،‬تفاصيل لغوية اشتقاقية ال‬
‫تعرف إحالة األصل و”الوقائع الخام”‪ ،‬تبحث في كيفيات ال في ماهيات‪ .‬ال تعارض السؤال‬
‫الماهوي بل تفارقه وتخالفه‪ .‬ألن “الكيف” الذي يتلون هو ما يمنح الماهية “التي تتكون”‪.‬‬
‫فليس هناك من باطن يجب استبطانه بل ظواهر يجب تظهيرها‪ ،‬ذلك “إن الوجود هوة‬
‫وخواء”‪ .‬وجود المظاهر هو الحياة والفعالية‪ ،‬تمأل لحظة تلو أخرى تعود رغم تشابهها‪ ،‬ذلك‬
‫ألن العود األبدي ليس تشابها إنما هو توالي للتشابه أي التكرار‪.‬‬
‫قراءة نيتشه‬
‫استطاع نيتشه بمطرقته وأرجله (الكتابة باألرجل) أن يقوض األركان الثابتة للميتافيزيقا وأن‬
‫يفتح اآلفاق الممكنة للتفلسف‪ .‬ففي ماذا يمكن أن يساعدنا نيتشه لالنفالت من قيد أرسطو‬
‫وبقايا األرسطية في كتاباتنا الفلسفية؟‬

‫إن قراءة نيتشه ستكون مفيدة لنا ال محالة‪ .‬لكن قراءة هايدجر لنيتشه وللنص الميتافيزيقي‬
‫من جهة وكذا قراءة فوكو وديريدا من جهة أخرى ستكون أفيد‪ .‬وهذا هو االختبار الذي سار‬
‫المؤلف على دربه أيضا‪ .‬استهل حديثه عن هايدجر وقراءته للنص الفلسفي باستهالل عميق‬
‫لكنه مشكل لعمقه‪“ .‬ذلك أن التفكير في الوجود ال ينحصر في الميتافيزيقا إال أنه ال يعني‬
‫االنفالت منها‪ ،‬فهي أول مادة في فلسفة بيد أنها ليست المادة األولى للفكر‪ ،‬لذا فهذا األخير‬
‫مرغم على تجاوزها (‪( )2‬وهو ما يعني أيضا التجاور معها)‪.‬‬

‫منطلق هايدجر في حقيقة الوجود‬


‫منطلق هايدجر إذن هو التفكير في حقيقة الوجود وهذا تفكير ال يمكنه أن يتم مفاهيم‬
‫الميتافيزيقا األرسطية منها والهيجلية‪ ،‬ال بد له للقيام بذلك بنحت مفاهيم جديدة‪ ،‬تستند على‬
‫بنية غالبا ما تنساها الميتافيزيقا‪ ،‬وهي بنية اللغة‪ ،‬ال باعتبارها كالما وإنما باعتبارها مكانا‬
‫أي سكنا‪“ ،‬فاللغة هي مأوى الوجود ومسكنه؟ (‪ .)3‬إن قصور الميتافيزيقا يستبان في نسيانها‬
‫أو عدم قدرتها على ذرع ما يمنح للوجود وجوده‪ .‬أتستطيع الميتافيزيقا أن تخترق حجاب‬
‫الماوراء (ميتا) لتتجاوز الطبيعة (فزيس) أي تتجاوز ذاتها؟ يبدو أنها قد اكتفت طيلة‬
‫تاريخها وطيه‪ ،‬بالموجود وما وراءه أي وجوده كأساس له ولم تقدر معنى أهمية النظر‬
‫بعيدا‪ .‬بل إنها لم تستطع بحكم مهامها وأدواتها ومجالها القيام بأكثر مما قامت به‪.‬‬

‫لذا “فاالستذكار” الذي يسترجع الميتافيزيقا من حيث هي فترة ضرورية من تاريخ الوجود‬
‫هو الذي يسمح لنا بالتفكير في الكيفية التي يحدد عن طريقها الوجود حقيقة الموجود (‪.)4‬‬
‫إنه استرجاع للذاكرة المتحكمة في الموجود أو باألحرى لجزء منها‪ ،‬ألن الجزء يسبح في‬
‫غياهب سديم ال حدود له‪“ .‬فاالختالف األنطولوجي” لهذه الذاكرة هو موضوع الفلسفة وقد‬
‫تجاوز فيها هيدجر جانبها الميتافيزيقي‪ .‬أقصد عماءها الذي حجب عنها رؤية كل خارطة‬
‫الوجود والالوجود‪ ،‬ودفعها إلى التفكير في جزء (المفكر فيه) ونسيان الجزء اآلخر‬
‫(الالمفكر فيه)‪ .‬فكرت في الموجود وأغفلت الوجود‪ .‬اإلغفال ال بمعنى ثمة إمكانية للتدارك‬
‫ألنها مستحيلة‪ ،‬وال بمعنى من لم يعمل فيه الفكر بعد‪ ،‬ألنه بعد فوات األوان ال يترك‬
‫اإلغفال إال بمعنى ما ترك غفال‪ ،‬محتجبا‪ ،‬يلفه خمار عدمي‪ :‬يتركه سرا مبهما يقال وال‬
‫يقال‪ ،‬يدرك وال يدرك “الوجود يعطي نفسه ويحجبها في آن (‪.)5‬‬

‫فهو ينسحب عندما ينكشف في الموجود‪ .‬خاصية الوجود هاته في نظر هايدجر‪ ،‬ال تخرج‬
‫من فكاك اللغة‪ .‬فاالنكشاف واالختالف والنسيان واالنسحاب … كلها مفاهيم فلسفية تمتح‬
‫سرها من االشتقاق اللغوي اليوناني (أليتيا‪ ،‬ديافرا… ) ومن ذاكرة النسيان‪ ،‬الذي يحفظ هذا‬
‫السجل‪ .‬وإذن يبدو أن اللغة هي ذلك المنعطف الذي ال يمكن لالستذكار االستغناء عنه ما دام‬
‫هذا األخير غير مرتبط بإنسان بعينه‪ ،‬فهو استرجاع للوجود عبر اللغة التي تجعل من‬
‫اإلغريق مثال حاضرا دوما‪ ،‬وفي البداية أصال ال ينفك يتأصل وينداح أمامنا‪ ،‬أصل يتجاوز‬
‫ذاته في عود أبدي‪.‬‬

‫قراءة فوكو للنص الميتافيزيقي‬


‫ج‪ -‬تبدأ قراءة فوكو للنص الميتافيزيقي بما فيه نيتشه وهيدجر‪ ،‬بمفهوم “اإلبستيمي” ذلك‬
‫المفهوم الذي يعتبره المؤلف معبرا عن “األرضية المعرفية المشتركة للنظم المعرفية‬
‫وتاريخها‪ .‬مفهوم يحدد مجموع العالئق المعرفية المشتركة لعصر ما‪ ،‬ويشكل خطاباتها‬
‫وملفوظاتها‪ ،‬يرسم فضاءاتها وحدود تحركها‪ .‬الحفر والتنقيب هو األداة المنهجية التي تسمح‬
‫بالوقوف على أسس اإلبستيمي وقواعده أي على أرشيفه لفحصه كنصب أثري‪ .‬الحفريات‬
‫تسعى إلى تجاوز االستمرارية واالنسجام إلظهار االنشطارات وإكراهات اللغة أو ال وعي‬
‫الخطاب‪.‬‬

‫باستعادة حوار نيتشه مع الميتافيزيقا باعتبارها لغة ومماثلة هيدجر للغة بالوجود‪ ،‬كانت اللغة‬
‫شيئا غامضا‪ ،‬يشكل جزءا من العالم‪ ،‬يرمز كعالمات وآيات‪ ،‬يجب تأويلها لفهمها‪ ،‬وكان‬
‫التشابه هو ما يحدد مجال التأويل إي إخراج الباطن من الظاهر‪ .‬لم تعد اللغة مع فوكو بذلك‬
‫العمق‪ .‬لقد أضحت سطحا لالختالف‪ ،‬ذات “عمق خارجي”‪ :‬تجسده مادية الدال‪ ،‬ووحدة‬
‫الخطاب‪ .‬ال تعتبر األركيولوجيا تأويال إذا كان المقصود هو الكشف عن معنى باطين‪ ،‬وهي‬
‫تأويل إذا كانت تميل إلى ستر معنى مكشوف “إن وحدة الخطاب ال مرئية وال مختفية في آن‬
‫واحد” (‪ )6‬تستبدل الحفريات التاريخ التقليدي الخطي أو التطوري بالزمان األركيولوجي‪:‬‬

‫الشرائحي والقطائعي والعالئقي‪ ،‬الذي يأخذ التناقضات في هذه الشبكة الستثمارها وإنتاجها‬
‫ال لنفيها وتجاوزها‪.‬‬

‫قراءة ديريدا للنصوص الفلسفية‬


‫د‪ -‬ال تخلو قراءة ديريدا للنصوص الفلسفية من مفاهيم خاصة به ومن طريقة مخصوصة‬
‫له‪ ،‬فهو يقرأ النصوص من الداخل‪ ،‬باإلقامة فيها‪ ،‬والبحث عن تحرجاتها الداخلية‬
‫وتوتراتها‪ ،‬قصد تركها تفكك ذاتها بعد مالمسة قاعدتها ولعبتها‪ ،‬هذه هي استراتيجية التفكيك‬
‫كما يقول المؤلف‪.‬‬

‫جاك ديريدا مفهوم االختالف‬


‫من المفاهيم األساسية في قاموس جاك ديريدا مفهوم االختالف (‪ )1‬واألثر‪ .‬وهما من‬
‫المفاهيم األضداد‪ ،‬يحمالن الشيء ونقيضه في نفس اآلن‪ ،‬رغم أن ضدية االختالف لم تكتمل‬
‫إال بتعديل خطي وكتابي في كلمة االختالف‪ .‬إن مهمة هذه المفاهيم وفق استراتيجية التفكيك‬
‫هي تقويض “الحضور” ومرادفاته كالذاتية والهوية … ألن الميتافيزيقا منذ نشأتها وهي‬
‫تعني “الحضور” وتتلخص فيه‪ ،‬فاالختالف يرج الهوية واألثر ويزحزح الحضور ويستبدل‬
‫األنا باآلخر‪ ،‬وبذا تتفكك ميتافيزيقا الحضور واالمتالء لتفسح المجال أمام أنطولوجيا‬
‫الهامش بدل المركز والغياب بدل الحضور‪ ،‬وأمام تشتت النص بدل توحده وتماسكه‪.‬‬

‫يخلص المؤلف من رحلته األولى هذه‪ ،‬عبر متاهات تاريخ الفلسفة الغربية إلى اكتشاف‬
‫سبيلين مختلفين‪ ،‬األول طريق أفالطوني يبدأ من أصل أول‪ ،‬يتذكر دوما مساره وتطوره‪،‬‬
‫يعيش في حاضر ممتلئ يبحث عن حقيقة ثابتة مطلقة الغيا كل اختالف ومغايرة‪ ،‬ناشدا‬
‫الهوية والتطابق‪ .‬أما الثاني فينكر األصل والمنطلق‪ ،‬وينسى السير المستقيم والتطوري ويعد‬
‫إدراجه دون أن يتراجع‪ ،‬يعيش األثر والهامش باحثا عن المعنى من الالمعنى‪ ،‬مناديا‬
‫باالختالف والمغايرة‪.‬‬
‫لكن هذا الوصف ينسينا إشكالية الكتاب العويصة‪ ،‬وينسينا بالتالي سؤالنا المزدوج والمنبثق‬
‫من هذا إشكال‪ :‬أهي مجاوزة أم مجاورة للميتافيزيقا؟ يبدو جليا أن كل النقاشات الفلسفية‬
‫سواء تلك التي انطلقت من أفالطون أو من هيجل … انطلقت من داخل الفلسفة وبهواجس‬
‫فلسفية‪ .‬كلها اعتبرت المجال الفلسفي والميتافيزيقي على الخصوص يتسع لكل المبادرات‪،‬‬
‫وكل االجتهادات‪ ،‬فلم تكن المجاوزة بالنسبة إليها تعني تغيير المكان واآلفاق‪ ،‬وهدم اإلطار‬
‫الستبداله بآخر‪ .‬من هنا استمرت الميتافيزيقا رغم تشتتها في أسماء عدة‪ :‬األنطولوجيا‪،‬‬
‫الجينيالوجيا‪ ،‬األركيولوجيا لكنها باإلبقاء على نفسها كانت تتغير وتتجدر وتتبدل‪ .‬في كل‬
‫لحظة ومع كل فيلسوف (نيتشه‪ ،‬هايدجر‪ ،‬ديريدا …) كنا نكتشف إبداعات فلسفية جديدة‬
‫متجاوزة لما جاوزته من فلسفات‪ ،‬مجددة أو مفككة لما عرفته من تصورات‪ ،‬مهمزها في‬
‫كل ذلك نحت مفاهيم فلسفية جديدة وتأسيسها وبالتالي فتح آفاق لم يكن باإلمكان رصدها‬
‫باألدوات المفاهيمية القديمة‪ .‬لذلك يمكن القول بأن تاريخ الفلسفة الغربية تاريخ متصالح مع‬
‫ذاته ومتخاصم معها في آن واحد‪ ،‬يعيش التجاوز بجوار التجاور‪.‬‬

‫أما نحن‪ ،‬أولئك الذين ال تربطهم صلة التاريخ المشترك وال اللغة المشتركة بالتقليد‬
‫األفالطوني الهيجلي‪ ،‬اللهم صلة “ما هو متوفر للبشرية” فما موقعنا من هذا التاريخ؟‬

‫أهم محرك فيما يبدو لتاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬هو قدرتها على تمثل هذا التاريخ من كل‬
‫جوانبه وقدرتها على التحكم في اللغة (اللغات) في كل جوانبها‪ ،‬وقدرتها على صناعة‬
‫المفاهيم المالئمة لمتطلبات المرحلة‪.‬‬

‫كل ما سبق‪ ،‬كان محاولة لالنفالت من “قبضة هيجل التاريخية” كما الحظنا‪ ،‬وقد تحقق ذلك‬
‫بصيغة المتعدد كما تمكن المؤلف من تبيانه‪ .‬أما الجزء الثاني فهو محاولة “االنسالخ من‬
‫قبضة هيجل المنطقية والمفاهيمية‪ .‬فما هو االختالف في مقابل الهوية والنسخة في مقابل‬
‫النموذج والخطأ في مقابل الحقيقة …؟ جملة هذه المفاهيم واعتمالها هو التأسيس الفعلي‬
‫“لالنفالت من شباك هيجل المنطقي” فهل تم ذلك؟؟‬

‫الهوية و مفهوم الوحدة والذاتية‪.‬‬


‫الهوية هي مفهوم الوحدة والذاتية‪ .‬وهي بالتالي إقصاء لكل اختالف وتعدد أو مغايرة‪ .‬سواء‬
‫فهمنا الهوية بمعنى الماهية أو فهمناها بمعنى تركيب المتناقضات في الكلية‪ .‬بهذا “فالفكر‬
‫الذي يقوم على الكلية فكر يقضي على غيرية اآلخر ويحتضنها (‪.)7‬‬
‫انتبه الفكر الفلسفي المعاصر إلى أن اإلبقاء على هذا الطريق لسير الهوية‪ ،‬سيبقى الفلسفة‬
‫في بؤسها واعتاللها‪ ،‬لذا بادر فالسفة االختالف بمختلف مناحيهم وتوجهاتهم إلى فتح الطرق‬
‫المتعددة للتمييز بين المطابق والمماثل والهو عينه ونهجوا نهجا محايثا للجدل والتناقض‬
‫بالتركيز على التكرار (دولوز) والمفارقة (بالنشو) واالختالف (‪( )1‬ديريد) ‪ ..‬فهل هذا‬
‫االنحراف في السير قضاء على الهوية؟ إنه في الواقع تجاوز لفهم معين للهوية لكنه إبقاء‬
‫وإرساء لفهم آخر للهوية كمفعول لعمق األنساق التي يحكمها “العود األبدي” (‪.)8‬‬

‫الماهية هي المعنى الحقيقي وما عداها وهم وظالل‪ ،‬كذب وخطأ … هكذا تكلم أفالطون إال‬
‫أن ميزة دولوز حين تفكيره في تاريخ المفاهيم الفلسفية‪ ،‬هي اجتهاده في الوقوف عند تناسل‬
‫للثنائيات الفلسفية غالبا ما كانت توضع في نسيان عالمة‪“ :‬الخ” … فهو يميز بين النموذج‬
‫في عالقته بالنسخة وهذه األخيرة وعالقتها باأليقونات والسيموالكر‪ .‬في هذه التراتبية‬
‫المفاهيمية يعمل أفالطون على التدرج من األعلى إلى األدنى … ومن األصل إلى الظالل‬
‫… من الناصع إلى الباهت وكل ما يوجد في أسفل سافلين فهو مقصي منبوذ‪ .‬من هذا‬
‫اإلقصاء واإللغاء يبدأ دولوز‪ ،‬من العالم حين يتحول إلى استيهامات‪ ،‬والشبيه إلى اختالف‬
‫وتغدو الهوية هي التكرار والمفارقة هي القانون المنظم للبنيات وللوجود‪ ،‬وحين يغدو هذا‬
‫األخير عالما للمرايا “أي عالم أليس في بالد العجائب”‪.‬‬

‫لن تتم مجاوزة الميتافيزيقا الذاتية (الكوجيطو) إال بإخراج معرفة الذات من البساطة واليقين‬
‫ومن التنظيم والتمثل إلى الالمعنى والتشتت وإلى الالمركز الذاتي والالشعور فحينما تغدو‬
‫اللغة هي التي تتكلم والمعنى يخرج من الالمعني‪ ،‬والالشعور هو المتحكم في بنية الذات‪،‬‬
‫حينها يسقط الكوجيطو” جريحا ال يدرك حقيقته “وتفتح آنذاك آفاق” القوى المطموسة‬
‫و”غياهب النسيان” و”حقيقة الكذب” و”واقعية الخيال” فنسائل الحقيقة بمفارقاتها وتكرارها‪.‬‬
‫اعتدنا أن نتشبث بالحق وال شيء غير الحق‪ ،‬ومناهضة الالحق بكل أشكاله‪ ،‬أو على األقل‪،‬‬
‫هكذا يجب أن نكون أو يجب أن نتهيب من “الهيبريس” أو قوة الخداع‪ ،‬ونتجنب الشيطان‬
‫الرجيم الماكر‪.‬‬

‫وإن اعترفنا بالخطأ والقصور‪ ،‬والوهم والخداع‪ ،‬وجعلنا من النقائض جزءا من العقل فإن‬
‫كل ذلك يتم خدمة للحقيقة وإقصاءا للخطأ‪ ،‬وحبا للصدق ونكرانا للكذب‪ .‬هذا الميل مازال‬
‫مرتبطا ومتصال بالهوية والذاتية والتطابق … أي ما زال مقترنا بأسس الميتافيزيقا‪ .‬أفال‬
‫يجوز مجاوزة الميتافيزيقا بقلب االهتمام؟ ومعاكسة األسبقيات؟ يجب إعادة النظر في مفهوم‬
‫الحقيقة نفسه‪ ،‬واستكشاف ما تم نسيانه بصدد هذه الكلمة‪ ،‬باعتماد اللغة سواء في حرفيتها أو‬
‫في أبعادها المنسية كما فعل هايدجر ونيتشه‪ .‬أو كما فعل ديريدا مع مفهوم الكتابة‪ .‬لم يكتف‬
‫بإبراز أهمية هذا الجانب في إنتاج المعنى‪ ،‬وبإيالء األهمية للكتابة على القراءة وإقصاء‬
‫الشفاهي إلعالء الكتابي‪ ،‬إنما بين كيف أن الميتافيزيقا كنص تحتقر الكتابة وتدينها وفي نفس‬
‫اآلن تستغلها وتستعملها لحفظ المعنى وإلحضاره‪ ،‬كيف أنها هي الحضور الحاضر‬
‫(الصوت) والكتابة هي اإلرجاء واالختالف أي األثر‪ ،‬ومع ذلك تستعين بها الذاكرة الحية‬
‫الوقادة وتلجأ إلى ما يلطخ سمعتها‪ .‬ويغوص ديريدا عميقا في لجة الميتافيزيقا ليفكك ثنائياتها‬
‫دون التمييز بين النص وكاتبه‪ ،‬بقراءة فعالة تنتج النص الالمكتوب الذي ال يكون مجال‬
‫الكتابة إال عالمة عليه وعرضا من أعراضه (‪.)9‬‬

‫“ كتابة مقطعية تشخيصية “تنبذ االستمرار” والحضور وتهاب االمتالء”كتابة مترددة تقول‬
‫الفكرة وتمحيها‪ ،‬تؤول الفكرة وتعيد تأويلها‪ ،‬باصطفاف النصوص الواحد تلو اآلخر‪.‬‬

‫وعلى هدى سابقيه سار فوكو بحفره في جسد الميتافيزيقا ومفاهيمها‪ ،‬بل وأيضا بحشره لعدة‬
‫مفاهيم جديدة كالجنون والسلطة والخطاب والجسد واإلبستمي واإلرادة‪ .‬في دروب الفلسفة‬
‫وتشعباتها‪ ،‬ناظرا إلى الميتافيزيقا من زوايا كانت منسية ومهمشة‪ ،‬مؤكدا أن “مجاوزة‬
‫الميتافيزيقا إذن ليست هدما لكل حقيقة‪ ،‬وإنما هي وعي للفكر بأن كل تفكير ليس إال مفعوال‬
‫لتأويالته‪ ،‬وأن تاريخ الحقيقة والمعنى هو تاريخ ما قيل حول الحقيقة وما أريد له أن يكون‬
‫معني (‪.)10‬‬

‫كل هذه االجتهادات واإلبداعات الفلسفية دبرتها “مكيدة الوجود” التي توضح لنا بأن مجاوزة‬
‫الميتافيزيقا استراتيجية ال نهاية لها” (‪.)11‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫عبد السالم بنعبد العالي‪ ،‬أسس الفكر الفلسفي المعاصر‪ /‬مجاوزة الميتافيزيقا‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬ط‬
‫الثانية‪.2000 ،‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬

You might also like