Professional Documents
Culture Documents
ليس من السهل على الباحث ،أن يوجز الحديث حين يكون موضوعة واحدًا من ابرز
فالسفة القرن العشرين.
برتراند رسل ((.))1970-1872
ولهذا أدان البابا دفاع البرجماتية عن الدين فإذا كان االعتقاد باهلل يجعلهم سعداء فهذا
االعتقاد صادق ،ولكن رسل يرى أن هذا ليس مقنعًا لإلنسان الذي يرغب في موضوع يعبده
،فهو ال يعنيه أن يقول (أذا آمنت باهلل فسأكون سعيدا) وإنما يعنيه أن يقول (أنني أومن باهلل
ومن ثم فانا سعيد) فهو يؤمن به كما يؤمن بوجود تشرشل وهتلر فاهلل كائن واقعي وليس
فكرة إنسانية لها آثار خيرة ( )39وما فعله جيمس ليثبت فكرة هللا بدليل فائدتها هو في
الوقت ذاته إنهاء للفكرة ،فإذا جاء شخص بمقاييس تدلل على أن تركها أكثر فائدة فسوف
تترك وفقا للمبدأ األساسي الذي أقيمت عليه وهو الفائدة.
أخذ رسل على بيرس قوله في معرض شرحه لنظرية (استحالة العصمة من الخطأ) أن
الحقيقة هي الذي تستقر عليه الجماعة آخر األمر .ويرى رسل أن هذا القول ممتنع لو أخذ
بحرفيته ،ذلك ألننا لو اعتقدنا أن العدد أثنين مطروحًا في أثنين يساوي خمسة ،ثم حدث
هذه اللحظة نفسها أن دمرت األرض ،فان حسبتنا الباطلة األولى تظل مع ذلك خطأ .
صحيح انه لو اعتقد الجميع بهذا األمر ،فمن الفطنة من جانبي أن أدعي على األقل أنني
أشاركهم رأيهم ،غير أن هذا مختلف كل االختالف)40( .
وأخيرا فالبرجماتيون قد جانبوا الصواب عندما علقوا الحقيقة أو الصدق العقلي على الفائدة
أو آثاره وبالتالي فال يمكن أن تكون هنالك حقيقة آذ أن الحقيقة يحددها الموقف اإلنساني وما
يترتب عليه وال يمكن أن تصل إلى شيء اسمه خير أو شر أو أي مبدأ أخالقي ثابت ،
وبالتالي فان ضعف األساس الذي بنوا عليه فلسفتهم ،جعل آي بناء يقام عليه ينهار.
برجسون
برجسونHenri-Bergson (1859-1941) //
وقد وصفه بأنه الفيلسوف الفرنسي البارز في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين ،الذي أثر في وليم جيمس ووايتهد فكان له نفوذه وله وزنه على الفكر الفرنسي (
.)41وقد أسهب رسل في عرض فلسفته ونقدها إذ تناولها بشيء من االستفاضة .
وأول المسائل التي سنطرحها هو أسباب انتشارها من وجهة نظر رسل هي-:
//نظرته في ((الدافع الحيوي)) وفي الصيرورة بمعناها الحقيقي .فأروع ما استحدثه هذا
الفيلسوف هو جمعه بين التصوف واالعتقاد في حقيقة الزمان والتقدم ،فالتصوف التقليدي
كان تأمليا ،كان مقتنعا بان ال حقيقة للزمان والقول في عدم جدوى العمل وقلة غنائه ()42
فبعد أن كان الزمان ليس حقيقيًا وليس للفعل قيمة أصبح مع برجسون العمل له جدوى ،
والتقدم مستمرا // .أن سحر أسلوبه الرائع ،واعتماده على البيان المتنوع ،والشرح الظاهري
للكثير من الوقائع الغامضة ،وتشكل التشبيهات واالستعارات بوجه خاص جزا كبيرا للغاية
من العملية كلها التي يزكي بها آراءه للقارئ .وعدد من التشبيهات من الحياة في أعماله
يصفها رسل بأنها تتخطى عددها عند أي شاعر معروف (.)43
//رفض رسل نظرة برجسون لعمل التفكير ،أن يكون مجرد وسيلة للفعل ،وبدا أن مثل هذا
الرأي ينتمي إلى ضابط ال إلى فيلسوف عمله في نهاية األمر مع الفكر ،ففي انفعال الحركة
العنيفة وصخبها إلمكان لموسيقى العقل الخافته ،ومثل هذا الرأي القلق عن العالم ،ال يجد
رسل سبب لقبوله سواء في العالم أو في كتابات برجسون ( // .)44أن شطرا كبيرا من
فلسفة برجسون ،ال يعدو أن يكون تصوفا تقليدا ،صيغ في لغة جديدة إلى حد ما ،فنظرية
التداخل التي تقول أن األشياء المختلفة ليست في الحقيقة منفصلة ،أنما يصورها كذلك العقل
المحلل ،هذه النظرية في كتابات كل متصوف من الشرق إلى الغرب ،من عهد بارمنيدس
إلى عهد مستر برادلي وقد أتبع حيلتين فنيتين إلضفاء جو من ألجده ،على هذه النظرية .
أولها ربط بين الحدس وبين غرائز الحيوان .فيقول أن الحدس هو ما يمكن الزنبور
المتوحد ،المسمى أموفيال أن يلدغ الحشرات التي يضع فيها بيضه ،بحيث يؤدي ذلك إلى
شلها دون قتلها .
ويجيب رسل على ذلك بان المثال غير موفق الن دكتور ومسز بكهام قد أثبت أن هذا
الزنبور المسكين ليس أقل تعرضا للخطأ .وهذا يضفي مظهرًا من مظاهر العلم الحديث على
نظرياته ،فهو يشهد بأمثلة من علم الحيوان على نحو يجعل بسطاء العقول يظنون ،أن
أفكاره تعتمد على أحدث ما وصل له البحث في علم الحياة (.)45
//أنه يقول أشياء كثيرة جديدة عن المكان والزمان ومما يبدو للسامع في منتهى العمق
واألصالة ،إال أنه يطلق أسم الزمان على تداخلها كما تبدو للحدس ،أما المادة وهي في
المكان فهي بطبيعة الحال وهم من األوهام ،وال تلبث أن تبدو لنا بمجرد أن تتخذ وجهة نظر
الحدس .وفي هذا الجزء من فلسفة برجسون لم يزد شيء على ما قاله افلوطين إذا استثنينا
طريقته في صياغة اللفظ ( // .)46ركز رسل نقده على نظرياته عن الزمان والمكان ،وإذا
كانت هاتان النظريتان باطلتين ،فلن يبقى شيء أال ملحمة مثالية يحكم عليها بأسس جمالية
أكثر مما يحكم بأسس عقلية ،ونبدأ بأولها نظريته في المكان ونظريته في المكان الزمة
ألدانه للعقل ،فإذا فشل في إدانته للعقل فسينجح العقل في إدانته له إذ بين االثنين حرب ال
هوادة فيها (.)47
//أن برجسون ال يعرف ما هو العدد ،وليس لديه فكرة واضحة عنه ولقد نجح في أن يجعل
نظريته عن العدد مقبولة في الظاهر ،بالخلط بين المجموعة الجزئية وبين عدد جذورها –
ومرة ثانية بالخلط بين هذا العدد وبين العدد بوجه عام ( )48أو فيما يخص الرياضيات ،
فقد تعمد أن يؤثر األخطاء التقليدية على أحدث اآلراء التي اتفقت لها الغلبة بين الرياضيين
في الثمانين سنة األخيرة ،وفي هذا سار على ما سار عليه معظم الفالسفة في القرن الثامن
عشر ،وبداية القرن التاسع عشر وقد اعتمد على المغالطات التي وضعها هيغل وأتباعه بعد
ذلك قضى الرياضيون على كل الصعوبات التي يركن إليها الفالسفة ( // . )49موقف
برجسون من الذاكرة ورفضه أن يجعل العادات من الذاكرة ،فالذاكرة عنده هي استعادة
حادثة مضت ،والحادثة الواحدة ال تكون عادة ألنها حدثت مرة واحدة ،ألن العادة ال تتكون
من مرة واحدة ،ويرى رسل أن قول برجسون فيه مغالطة ألن الحيوان واإلنسان معًا كثيرًا
جدًا ما يتعودان العادة من تجربة واحدة ( )50وأخيرًا يمكن القول أن برجسون كان أكثر
الفالسفة المعاصرين حظا من حيث عرضه لفلسفته ونقده ،ويدلل نقد رسل على القراءة
المتفحصة المتأملة ألعمال برجسون.
الواقعية
ثالثًا الواقعية -:هي الفرع الثالث من الفروع األساسية للفلسفة السائدة في األوساط
األكاديمية في القرن العشرين ،وهم ممن يتصلون بالعلم على اعتقاد أن الفلسفة ال تقتصر
على لون بعينه من ألوان الحقيقة وال بطريقة خاصة لوصول إليها ،وعلى سبيل التيسير
أطلق عليهم رسل أسم الواقعيين .والواقعيون الجدد هم نتاج التجريبية المتطرفة لوليم جيمس
والمنطق الجديد وقد سبق ماخ إلى أجزاء من تعاليمها في بعض مالحمها ،فهي ترى أن
الفلسفة والعلم شيء واحد من حيث الجوهر ،وتختلف بفرق واحد أنها تتناول مشاكل أعم
وهي تعنى بتكوين الفروض حيث ال توجد األدلة التجريبية ()51
وتعد الفلسفة الوضعية من الفلسفات المتأثرة بالعلم أطلق هذا االسم أوال على فلسفة أوكست
كونت ( )1798-1857ومن هذا المصدر جاء اسم المذهب الوضعي ،ولقد كان كونت
ممن يحترمون العلم ويعارضون العقائد السائدة ،والميتافيزيقا ونظر إلى الحاجة إلى
ضرورة البدء بما هو معطى مباشرة في التجربة ،واالمتناع عن محاولة تجاوز الظواهر (
)52واستبعد كونت الفروض بوجه عام على أساس أنها ميتافيزيقية تسيء فهم التفسير (
)53
ثانيا :أخطأ الوضعيون باستبعادهم للفروض ،فلو افترضنا إننا قررنا التخلي عن كل
الفروض ،فكيف أذن سنظل نمارس عملنا ؟ ما يبقى سيكون نوعا من التصنيف على غرار
ما قام به بيكن .فاستبعاد الفروض معناه إساءة فهم وضيفة التفسير في العلم وذلك الفرض
يفسر بقدر ما يعلل الظواهر وينبئنا بالمستقبل انهم لم يدركوا أن البحث العلمي ذاته يمضي
في طريقه على أساس فروض ،وهنا يبدو كانت على حق فالفكرة العامة للسببية ،مثال،
شرط مسبق للعمل العلمي وهي ليست نتيجة بحث وهو افتراض مسبق ،حتى ولو كان
ضمنيا ،يستحيل بدونه السير في طريق البحث (.)56
وقد تفرعت عن الوضعية كال من الوضعية المنطقية ومدرسة التحليل اللغوي والوضعية
المنطقية هي امتداد للوضعية التي ظهرت حوالي نهاية القرن الماضي متمثلة بمفكرين مثل
ماخ وخالل األعوام العشرين التالية نما بالتدريج اهتمام أوسع بالمنطق الرمزي ،وقد أدى
اجتماع هذين العاملين إلى ظهور حركة جديدة محورها شليك M. Schlichوالذي أطلق
على مجموعته اسم فلسفة (فينا) وأصبحت فلسفتهم تعرف باسم الوضعية المنطقية ،فهو
وضعيا ألنه يرى أن العلم هو الذي يزودنا بمجموع معارفنا.
وان الميتافيزيقا بمنطقها التقليدي ،هي ثرثرة لفظية فارغة ،فليس ثم ما يمكن معرفته وراء
التجربة ،أما مبدأهم هو مبدأ قابلية التحقيق الذي يذهب إلى أن معنى قضية هو طريقة
تحققها وهذا المعنى مستمد من ماخ ( )57وبعد أن يعرض رسل األفكار األساسية للوضعية
وتأريخها ينتقل ليعرض الصعوبات التي تواجهها نظريتهم في قابلية التحقق وهي-:
أن النظرية القاتلة أن المعنى هو قابلية التحقق ،أنها تواجه نفس الصعوبات التي تواجهها
نظرية الحقيقة عند البرجماتيين فلنفرض أننا وجدنا طريقة للتحقق من صحة قضية ،فإذا ما
قدمنا عرضا وضعيا لهذا اإلجراء ،كان حقنا أن نتساءل عن معنى هذا العرض ذاته ،
ويؤدي ذلك على الفور إلى التسلسل إلى ما ال نهاية له ،للمعاني التي نبغي تحقيقها ،رفض
كل تأمل فلسفي بوصفه لغوا ،ومصدر الصعوبات هو أن نظرية قابلية التحقق ذاتها هي
نظرية فلسفية.
وقد حاول شليك أن يتجنب هذه العقبة بالقول أن مبدا قابلية التحقق هو في الحقيقة متأصل
في سلوكنا وكل ما نفعله حين نعرضه بهذه العبارات هو أن نذكر أنفسنا بالطريقة التي نسير
عليها بالفعل ( .)58وقد تفرعت عن الحركة الوضعية مدرسة التحليل اللغوي التي تشترك
معها بالقول أن جميع اإلشكاالت الفلسفية نتجت عن االستخدام الفضفاض للغة وكل سؤال
صيغ بطريقة سليمة له إجابة واضحة دقيقة .المسائل الفلسفية نشأت من إساءة استخدام للغة
وما أن يتم اكتشاف عناصر الغموض ،في هذه األسئلة حتى يتضح أن المشكالت ال معنى
لها ،وتتالشى من تلقاء نفسها والشيء الذي تشترك فيه معظم تيارات التحليل اللغوي هو
االعتقاد بأن اللغة العادية كافية ،وإن اإلشكاالت الفلسفية تنشأ عن سوء استخدام اللغة (.)59
ويرى رسل أن قولهم عليه مآخذ عدة ،منها أن هذا الرأي يتجاهل حقيقة واضحة هي أن
اللغة العادية تحتشد ببقايا النظريات الغابرة ،واألخطر بتمجيد اللغة العادية باتخاذها حكما
في جميع المنازعات ،إذ أنني ال استطيع أن أدرك على اإلطالق لماذا ال تكون اللغة العادية
ذاتها مليئة بالخلط .واقل ما يمكن أن يقال أن النظر أليها كما لو كانت شكال أشكال الخير
دون أن نتسأل ما هي اللغة ،وكيف تنشأ وكيف تعمل وتنمو وهذا كله أمر محفوف بالخطر
( )60الفلسفات التي لم يصنفها رسل ضمن الفلسفات األكاديمية هناك بعض الفلسفات التي
لم يصنفها رسل ضمن الفلسفات السائدة في األوساط األكاديمية ،على الرغم من انتشارها
كالماركسية والوجودية ،وقد يكون أحد هذه األسباب هو عد فلسفات زمالئهم أهم من
فلسفاتهم ،أو أن بعضها لم يتبلور بعد كمذهب فلسفي .وعدم استعراضه لهم يظهر الصلة
بين عرضه التاريخي ،وموقفه الفكري .فمثال هو لم يعرض للوجودية في نصه تأريخ
الفلسفة الغربية ،أو مقاله في فلسفة القرن العشرين ،أما في حكمة الغرب فعرضه لها
نقدي.
الماركسية
الماركسية -:وصف رسل الفلسفة الماركسية بأنها آخر مذهب فلسفي عظيم أنتجه القرن
التاسع عشر ( ،)61أما نقده كان منصبًا على عدة جوانب منها – :الجانب النظري يرى
رسل أن مصادر تفكير ماركس ،أي الخلفية الفلسفية لها ال تتصف بالبساطة الشديدة ،أو
بالجدة التامة التي تنسب لها في كثير من األحيان .فالتفسير االقتصادي للتاريخ هو واحد من
عدد من النظريات العامة في التاريخ .وقد
استمد أصلها األول من هيغل ( )62وبالتالي فالنقد الموجه لهيغل يمتد بدوره إلى الماركسية
في الجوانب التي استقتها من الهيغلية ،فقد كان ماركس تلميذًا لهيغل ،واحتفظ مذهبه
المكتمل ببعض القسمات الهييغلية الهامة وجميع النظريات الهيغلية باطلة من وجه نظر
رسل (.)63
ربط االهتمامات العلمية بالفئة المسيطرة ،فأحياء علم الفلك في عصر النهضة تم لصالح
التوسع التجاري ،وزاد من قوة الطبقة الوسطى الصاعدة ،رأى رسل بالرغم من إصابة
ماركس في قولة أن االهتمامات العلمية العامة لمجتمع ما تعبر عن المصالح االجتماعية
للفئة المسيطرة علية فأنه ليس من السهل تفسير أحدى الظاهرتين من خالل األخرى .ويرى
أن هذه النظرية يشوبها عيبان ،أوال أن حل مشكالت جريئة خاصة في ميدان علم معين ال
يتعين أن يكون مرتبط على أي نحو بأي شكل من أشكال الضغوط االجتماعية .والثانية أن
أحد ال ينكر وجود روابط هامة بين البحث العلمي وأمور أخرى تحدث في المجتمع غير أن
ممارسة العلم قد اكتسبت بمضي الوقت ،قوة دفع خاصة بها تضمن لها قدر معين من
االستقالل الذاتي وهي بالتالي يجدها تفرط في تبسيط هذه األمور على أساس هذه الفكرة (
.)64
لم يكن ماركس صائبا في كل تنبؤاته عن التطور الجدلي ،إذ تنبأ بأن األغنياء
سيصبحون أكثر غنا والفقراء أكثر فقرا ،إلى أن يصل التوتر الجدلي لهذا التناقض إلى حد
من القوة يتحتم قيام ثورة .فلم يكن هذا ما حدث على اإلطالق فالبلدان الصناعية ابتكرت
طرق من التنظيم خفضت من حدة الصراع االجتماعي ،وعندما جاءت الثورة بالفعل لم
تحدث في الجزء الغربي الصناعي ألوربا وإنما في روسيا الزراعية (. )65
اإليمان بالحاكم المطلق-:عندما سؤل رسل عن ما يراه عيبا حقيقيا في المذهب الشيوعي؟
أجاب رسل ((في رأي أن أكثر العيوب أهمية في الشيوعية هو الحكم المطلق ،وهو األيمان
الذي أصبح حقيقة إيمانا باليا ،رغم وجوده في كل أنواع الشيوعية ،ورغم اإلصرار على
وجوده بطريقة خاطئة ،فلو انك جئت إلى إنسان خير وجعلت منه حاكما مطلقا فان حكمه
المطلق سوف يعيش ،ولكن نزعة الخير سوف تخبو وتذبل والنزعة الشيوعية كلها تقوم
على أعطاء أكبر قدر من السلطة ألشخاص موالين لعقيدة بعينها ،على أمل أن يقوم هؤالء
األشخاص باستخدام السلطة استخداما خير وفي تقديري أننا اذا استثنينا نفرا قليًال جدًا من
الناس ،فان كل إنسان أنما يسيء استخدام السلطة الضخمة لحفنة صغيرة من البشر)) (
)66
انخدع ماركس بالحالة التي كان عليها العمل في األربعينات من القرن التاسع عشر ،حتى
ظن أن ملكية وسائل اإلنتاج وليست اإلدارة التنفيذية هي التي تعطي السلطة (.)67
تصطبغ النظرية الماركسية بصيغة العقيدة ذات الرسالة المحددة التي عبر عنها مؤسس
عقيدة أخرى أسبق منها بقوله :من ليس منا فهو علينا ،وواضح أن هذا ليس المبدأ الذي
يمكن أن تقوم عليه أي نظرية ديمقراطية ( .)68أما على الصعيد االجتماعي فانك أن لم
توافق على النظرية الماركسية فينظر أليك انك لست منحاز إلى صف التقدم ،واللفظ
المبجل الذي يطلق عليك (رجعي) وهكذا يكون االستنتاج حرفيا هو انك تعمل ضد التقدم في
اتجاه رجعي ،وسيتم اكتساحك في الوقت المناسب ،الن التقدم ال بد أن ينتصر في النهاية ،
وهكذا فهو بهذه الحجة يبرر استخدام العنف في التخلص من العناصر غير المسايرة ()69
ويبدو أن نقد رسل للماركسية جاء في بعض جوانبه منسجما مع موقفه الفلسفي في رفضه
للهيغلية وتبني ماركس للجدل الهيغلي وأيضا لمواقفهم السياسية واالجتماعية ،واألثر السيئ
الذي أوجدته زيارته لالتحاد السوفيتي.
الوجودية
الوجودية -:لم يفرد رسل للوجودية مساحة واسعة من كتاباته كما افرد لغيرها من
االتجاهات الفلسفية ،ويبدو أنه لم يكن يجد فيها ما يمكن أن يطلق عليه أسم فلسفة ،ففي
حكمة الغرب ج 2يتحدث عنها بوصفها كنظرية وتارة أخرى كحركة .ويرى أنه من
الصعب أن يرى المرء فيها أي شيء يمكن التعرف عليه بوصفه فلسفة بالمعنى التقليدي (
) 70وإنما هي نظرية تعرض علينا بعض السمات النفسية ،ال المنطقية للتجربة ،وبهذا
المعنى تكون متماشية مع بعض االتجاهات النفسية (.)71ولتضييقها نطاق العقل ،تعرضت
لمتناقضات ال حصر لها.
أما نظرته إلى أهم روادها فيصف الكتابة عند هايدغر وسارتر ،أن هايدغر يستخدم
مصطلحات غاية في الغرابة تتسم بالغموض الشديد بل أن المرء يضطر إلى القول أن اللغة
هنا تسير بال ضابط ومن النقاط الطريفة في تأمالته ،تأكيده على أن العدم شيء إيجابي ،
وتلك مالحظة نفسية حورت بحيث تبدو قضية منطقية كما يحدث في حاالت كثيرة بين
الوجوديين ( )72أما سارتر فكتابه (الوجود والعدم) هو كتاب متماشي تماما مع الطريقة
األلمانية في التأليف من حيث غموضه الشعري وغرائبه أللفضية ،وهو يحاول أن يحول
موقفا خاصا من الحياة إلى نظرية انطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي
وهي أشبه بتحويل رواية دستوفسكي إلى كتب مدرسية في الفلسفة ( )73أما معارضة
سارتر لمفهوم الضرورة العقالنية فما يقوم به ليس نقدا فلسفيا بقدر ما هو احتجاج انفعالي
قائم على أسس نفسية .فتمرد الوجودية على المذهب العقلي منبثق من حالة شعورية
باالضطهاد ،وهذا يؤدي إلى موقف غريب وشخصي إزاء عالم الواقع يشكل عقبة في وجه
الحرية .فبينما يرى العقالني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة ،يجدها
الوجودي االستسالم لحاالته النفسية (.)74
وأخيرا فان رسل لم يكن منصفًا كثيرًا في عرضه للفلسفة الوجودية ،فهو قد استبعدها في
عرضه تأريخ الفلسفة الغربية ،وللمقال الذي خصصه لفلسفات القرن العشرين ،وقدم لها
في حكمة الغرب ويبدو أنه لم يتفق معهم في مسائل عدة ،فهي تبحث في جوانب نفسية
مبتعدة عن الجانب المنطقي ،وكتاباتهم تتسم باستخدامهم للمصطلحات الغريبة والغموض
الشديد في األلفاظ ،وهذه الطريقة تتناقض مع كتابات رسل التي تتسم بالوضوح وجمال
األسلوب ودقة العبارة.
الخالصة
يمكن القول أن معظم كتب رسل تعد تأريخا للفلسفة المعاصرة ،أما تأريخه للفلسفة فيظهر
في كتابين تأريخ الفلسفة الغربية في ثالثة أجزاء وحكمة الغرب في جزئيين ،يمكن القول أن
تأريخ الفلسفة الغربية الجزء الثالث ،فيه ال يقدم تأريخ للفلسفات المعاصرة ،ولكن تأريخ
لبعض الفالسفة المعاصرين واالتجاهات الفلسفية .وربما كان أحد أسباب ذلك انه كان
مجموعة محاضرات ألقيت عندما كان رسل يتنقل بين الجامعات األمريكية ،لهذا نجد
الفالسفة األمريكيين استغرقوا مساحة ليست بقليلة مقارنة بغيرهم من الفالسفة الذين تعرض
لهم رسل .أما حكمة الغرب فقد امتاز بالشمول والعمق في تاريخيه لالتجاهات الفلسفية ،
فيعرض عددا من الفلسفات ويسبقها عرض نشأة األفكار وتطورها في مذهب أو اتجاهات
وصلته بمشكالت العصر وتوجهاته العامة وقيمه .يتميز تاريخ رسل للفلسفة أنه يالحظ
نواحي ثالثا هي :أوال النص الفلسفي نفسه ،وفيعرض ألراء الفيلسوف ،وثانيا يحاول
وضعه في مكانة من تاريخ الفلسفة ،وال ينسى مكانة في التاريخ العام أي الحقبة .وثالثا أنه
ينقد الفيلسوف من خالل نظرته للفلسفة .فعرضه تاريخي نقدي بنيوي.
أن طريقة رسل في عرضه للفلسفات المعاصرة متباينة ،ففي تأريخ الفلسفة الغربية يميل
إلى عرض تأريخ الفالسفة أكثر من تأريخ الفلسفات ،أما في حكمة الغرب ج 2فهو
يعرضها وفقا لموطنها أو يعرض المذاهب الفلسفية السائدة في بلدان القارة األوربية .أن
عرض رسل ألتأريخي كان في بعض جوانبه متحيزًا ألبناء وطنه .وقد يكون تحيزه كما
يقول نتيجة اشتراكهم في بيئة واحدة ساهم في أن يكون هناك اشتراك في األمزجة فنجده
حكمة الغرب وتأريخ الفلسفة الغربية ك 3يقدم فصال كامال عن مذهب المنفعة والتمهيد له.
أن تأريخ رسل للفلسفة بالرغم من أنه كان يتوخى الموضوعية وخصوصا حكمة الغرب إال
انه لم يخلو من كونه انعكاسا لموقفه الفكري .انعكست اهتماماته السياسية ،بتتبع أسالف
الفكر لليبرالية والماركسية والنازية والفاشية .فقد انقسمت أوربا الحديثة وأمريكا إلى ثالثة
معسكرات ،أولها األحرار “الليبراليون” الذين يلوحون بتباع لوك وبنثام وثانيها
“الماركسيون” وهم مدرسة مضت في مراحلها المنطقية حتى ستالين .والفريق الثالث
“النازيون والفاشيون” وأسالفهم هم فختة وكارليل ونيتشة ووصوال إلى أراء هتلر.
استبعد رسل في عرضه ألتأريخي بعض المذاهب الفلسفية وهذا ما نجده في مقالة عن فلسفة
القرن العشرين ،فكثير من المذاهب التي كانت نتاج القرن العشرين لم يتعرض لها رسل
في مقاله المخصص لتلك الحقبة كما يشير عنوان المقال .وأيضا في كتابه تأريخ الفلسفة
الغربية ،أما في حكمة الغرب فنجده يعرض لبعض المذاهب التي استبعدها كالوجودية وأهم
ممثليها هيدغر وسارتر.
مقدمة
لم تكن الفلسفة عند القدماء ،في بدايتها “خطابًا” بل نمط عيش ،لم تكن نسقًا للتفكير أو
“نظرية” بل حكمة عملية ،وجدت مثالها األفضل في سقراط ،ذلك الفيلسوف الذي لم يكتب
شيئًا مثله في ذلك مثل بوذا والمسيح.
تبدو الفلسفة المعاصرة على النقيض تمامًا من هذه النظرة للعالم ،كفلسفة يغلب عليها الطابع
“التقني” والتخصصي في حقول خاصة من العلم( ،كاألبستمولوجيا وفلسفة القانون واألخالق
والسياسة واللغة وتاريخ األفكار ..الخ) .قد أصبحت مادة تدرس على المستوى المدرسي
والجامعي كباقي المواد األخرى ،انطالقًا من هنا يمكننا التساؤل :لماذا ولمن تصلح هذه
الفلسفة؟ هل لتكوين وعي الشباب؟ إن ذلك سيكون شيئًا كبيرًا إذا ما قورن بااللتزامات
البيداغوجية التربوية أو بالمثال النموذجي ،الذي يبعث فيها الحياة ويضخ فيها دماء جديدة.
وذلك ألنها كانت تسمح لكل واحد بأن يتحكم في سير وجوده ،وأن يقبل على حياة “طيبة”
وناجحة .فهل ما يطرح علينا اآلن ،هو مغادرة هذا النموذج المثالي ،الذي أمدتنا به الفلسفة
في بدايتها ،إلى غير رجعة؟ هل ما زال بوسعنا أن نعطي لهذا النموذج محتوى؟ إذا كان
الجواب باإليجاب ،فما هو هذا المحتوى؟ إن مثل هذه األسئلة وغيرها ،هي ما أريد أن
أتناوله هنا .لكن قبل القيام بذلك ،هناك مالحظة أساسية البد منها:
منذ
وقت قريب -أضحت الفلسفة “موضة” ،كيف ال يتم الفرح والتلذذ بهذا األمر؟ لكن بالرغم
من ذلك ،وخلف هذه األسئلة “االعتيادية” (لماذا هذا االفتنان بالفلسفة؟ ماذا يعني؟ وأي فراغ
جاه ليمأل؟ أي رابط جاء ينسجه مع “أفول أو انحطاط السياسية” وتجدد ما هو ديني ،وإعادة
اكتشاف الحكمة الشرقية؟ ..الخ) ،وراء هذه األسئلة ،ينبغي التساؤل :ماذا نقصد بالضبط
عندما نتحدث عن “الفلسفة”.
إن ما يزعجنا هنا ليس جمهور عريض يهتم بقضايا الفكر بل ألن هذا االهتمام الذي يعبر
عن التعاطف .يستند غالبًا على نوع من سوء الفهم مفاده :أن الفلسفة –وهذا ما أخشاه-
ليست ما نعتقده .فإذا ما استثنينا ذلك اإلحساس باللذة الذي يعترينا لشراء بعض الكتب .أو
الذهاب إلى مقهى حيث نستمتع بدردشة حول موضوع السعادة والحرية ،فإن لدى إحساسًا
قبليًا أن متعلمي الفلسفة المبتدئين سوف يصابون بخيبة أمل :فمن المستحيل قراءة سبينوزا،
هيجل أو أفالطون أو كانط ،بدون تكوين فلسفي رصين ،حيث من الوهم اعتبار أنه لن
يستغرق هذا التكوين سنينًا عديدة .قد نعتبر ،ربما ،أن التبحر المعرفي غير ضروري ،أي
“أن يفكر كل واحد بنفسه خارج إطار االحتواء الجامعي ،هذا هو بدون شك الهدف النهائي،
لكن من أجل بلوغ هذا الهدف ،ينبغي التوفر على قدر كاف من التواضع للتفكير في بادئ
األمر من خالل ومع اآلخرين ،كضريبة “الكتشاف قارة أمريكا” (كما يقال) .ويبدو لي أنه
بالرغم من الخطو البطيء في اتجاه هذا الهدف ،فال يمكننا تعلم التفلسف بدون تعلم قليل بل
الكثير من الفلسفة ،وهذا ليس شيئًا يسيرًا ،ويتطلب الجهد والوقت .ال أريد هنا أن أحبط
عزيمة ذوي النيات الحسنة ،ولكن على العكس من ذلك ،أقول لهم فقط وبكل بساطة أن ما
ينطبق على الفلسفة ،ينطبق على اآللة الموسيقية ،فإذا تجاوزنا مرحلة الحماس األول الذي
يشدنا إليها ،يأتي دور الصبر والتمرين الشاقين.
ومن أجل هذا أيضًا أرى أنه من الضروري أن نطلع من يتوسمون في أنفسهم حب
المغامرة ،أنه بإمكانهم أن يجدوا ما يأملونه .حتى في حقل الفلسفة.
هل نحتاج من جديد إلى حد أدنى من التفاهم حول داللة كلمة “المادة” disciplineالتي يبدو
لي أن تعريفها ال يفهم بانسياب من تلقاء ذاته.
ما هي الفلسفة فعليًا؟ السؤال يبدو مثيرًا :فكم من فالسفة كبار حاولوا اإلجابة عنه ،لدرجة
أننا لن نستطيع أن نتخلص من اإلحساس أن المهمة اليوم تبدو بدون جدوى ،بل عبثية أكثر
مما قد يظهر.
لقد قضيت أكثر من عشرين سنة من البحث الستشفاف جواب معقول ومستساغ بالنسبة لهذا
السؤال -مستساغ على األقل بالنسبة لرؤيتي الخاصة -حيث لم أنثن طوال هذه السنين عن
تعليم المذاهب الكبرى القديمة ،دون ادخار أدنى جهد ،وأروم هنا أن أعرض لعصارة ما
انتهت إليه في صفحات .وأنا مدرك أني قد أسقط عرضة لالختزال ،لذلك فأنا أتوخى نباهة
القارئ.
تختزل الفلسفة سواء داخل الفضاء العمومي أو في أماكن التدريس ،في غالب األحيان ،في
خاصيتين أساسيين :فهي من جهة تاريخ األفكار ،ومن جهة أخرى هي تمرين على التفكير
الشخصي ،وقد نضيف لهما هذه الحالة المستحقة وهي حالة “االلتزام” .المتمثلة في ميزة
السخط األخالقي ،الذي يسمح بالتدخل من حين آلخر في شؤون العالم بغية “سحق ما هو
دنيء” .ومن هنا اعترف وعلى الفور أنه لم يظهر لي من بعيد أن أي تعريف من هذه
التعاريف ،استطاع أن يلم إلمامًا شامًال بما هو مهم في الفلسفة –رغم أن الفلسفة تساهم في
هذه المكونات الثالثة -فتاريخ الفلسفة بكل تأكيد شيء له مشروعيته ،ألنه مناسب للتعليم.
ولكن ماذا ندرس ،حقيقة ،إن لم يكن الفالسفة سوى مؤرخين أو أساتذة؟ أما فيما يتعلق
بالتأمل فنحن ندعي إراديًا أنه هو الشيء الذي يميز الفلسفة عن العلوم الوضعية -هاته
األخيرة تبقى مهمتها محددة بمعرفة العالم ،أما في الفكر فهو يعني الفلسفة -لكن الفيلسوف
بدوره يتطلع إلى “التفكير فيما يوجد” (هيجل) والعالم كذلك ال ينفك يفكر مثله مثل اإلنسان
العادي ،في اللحظة التي يتساءل فيها حول مسار حياته .لكن ال العالم وال اإلنسان العادي.
هو فالسفة بالمعنى الدقيق للكلمة .بل إن المثقف نفسه ال يشذ عن هذه القاعدة .اللهم تلك
الخاصية –خاصية االلتزام -التي تمنحه صورة متميزة نوعًا ما .قد أستطيع أن أكون كاتبًا،
فنانًا ،مؤرخًا ،عالمًا أو صحفيًا ،أتناول بالنقاش ،قضايا سياسية كالجمهورية اإلسبانية،
قضية فيتنام ،أو الجزائر أو البوسنة ،لكنني لست في حاجة ألكون أرسطو جديدًا من أجل
ذلك.
إذا كنا نريد أن نفهم ما هي الفلسفة اليوم ،أو أن ندرك أكثر من ذلك ألي شيء يمكن بالفعل
أن “تصلح” ،فمن الضروري الوعي بما كانت تمثله من أهمية بالنسبة للغرب الحديث ،على
األقل حتى وقت قريب :إنها محاولة عظيمة جدًا للعلمنة الدينية ،لدى اليقين التام أن التموقع
الالزم اليوم يجب أن يكون إزاء هذه المحاولة –ال يهم أن نكون ضدها ،أو معها ،أو على
هامشها ،هذا ال يهم بشكل عميق في بداية األمر.
نستطيع هنا أن نترك النقاش مفتوحًا ،دون أن تغض الطرف عن النتيجة األساسية :وهي أن
عقلنة القيم قد حدثت فعًال وبشكل جيد في الفلسفة بالضبط.
إن األخالق الكانطية بكل تأكيد تسلم بوجود هللا ،ولكنها لم تكن في حاجة إلى هذه المسلمة
كي تؤسس نسقها ،فالكائن اإلنساني وحده كاف لتأسيسها.
إن الفلسفة الحديثة هي التي قامت بإخراجنا من غياهب الالهوت األخالقي (théologico-
)Ethiqueفمع هذه الفلسفة ومع فلسفة األنوار ،بشكل عام ،كف العقل عن االستناد على
الدين ،بل العكس هو الذي حدث ،من خالل ثورة في الفكر مماثلة لتلك التي حدثت في
السياسة ،وإذا كانت بعض اإللزامات “الروحية” أو الدينية ال زالت مستمرة ،فهذا انطالقًا
من األخالق ،فاهلل كما يقول كانط ليس سوى موضوع “لإليمان العلمي” ،يجب افتراض
وجوده ألسباب أخالقية ،وليس العكس.
من هنا يمكن القول ،وكما هو الشأن مع فيخته ،أن هللا ليس شيئًا آخر سوى “المثال
األخالقي للعالم” ،فليست هناك سوى خطوة -بمجرد تجاوزها قد يتهم صاحبها بتهمة اإللحاد
والزندقة الشنيعتين ،التي كانت وما زالت تسجل حضورها داخل التشوش والبلبلة المالزمة
لفترة . 1798ال يهمنا هنا ما هي تفاصيل هذه المسألة ،بقدر ما يهمنا االحتفاظ بشيء
أساسي :وهو كون الفلسفة الحديثة ،فيما يخص جانبها القانوني واألخالقي ،قد احتفظت في
محتواها بالشيء المهم داخل الخطاب المسيحي .فال وجود لقيمة أخالقية جديدة في هذا
االتجاه ،سواء في أيديولوجيا حقوق اإلنسان أو في نقد العقل العملي (فهذان المكونان لم
يشكال سوى التأسيس الفلسفي) .لكن على مستوى الشكل ،فقد كانت الثورة التي استهدفتها
الفلسفة ،ثورة حاسمة إذ أنه انطالقًا مما هو إنساني وجب التفكير في الخير والشر ،فاإلنسان
أصبح هو المقدس ،والمحترم ،بما هو كذلك ،ومتمتع –إن لم يكن بروح خالدة -فعلى األقل
بكرامة مطلقة إلى درجة أنه وانطالقًا من صيغة الواجب األخالقي المطلقة المعروفة ،ال
يجب أبدًا التعامل مع اإلنسان فقط باعتباره “وسيلة” ولكن التعامل معه دائمًا كـ”غاية” في
ذاته.
فإذا كانت العالقة مع المقدس ،ومع المطلقة ما زالت قائمة ،فإنها أيضًا مفصولة عن ما هو
إلهي ،أو على األقل مختلفة عن صورها التقليدية .فالوحي المسيحي لم يعد هو الذي يؤسس
ما هو أخالقي ،كما يريد البابا دائمًا ،ولكن حسب مشيئة “العقل العملي” نفسه ،غير
المنفصل –طبعًا -عن فرضية الحرية المطلقة لإلنسان.
ومهما يكن فإن المهم في هذا الفكر األخالقي الحديث يكمن في كون هذه العقالنية هي عملية
دهرنة في عمقها ،تعد عملية استجالئها أو فهمها في تفاصيلها الجزئية مهمة شاقة .ولكن
يمكن أن نجد لها مقابًال جليًا في الثقافة السياسية المشتركة تلك التي وفرها لنا اإلعالن
الكبير عن حقوق اإلنسان.
فكل واحد ،على ما يبدو لي ،يستطيع أن يفهم ويقبل أن هذا النص –نص اإلعالن عن
حقوق اإلنسان -المؤسس للمثال الديمقراطي ،الذي نتبناه جميعًا قابل لقراءتين مختلفتين
بغض النظر عن مسألة كوننا مؤمنين أم غير مؤمنين.
إننا الزلنا ال نتقبل إال بصعوبة كون التغيير لم يلحق فقط محتوى الرسالة المسيحية ،بل إنه
قد تم على مستوى الوضع التشريعي لهذه الرسالة (المؤسسة على الوحي الرباني أو على
إرادة اإلنسان وعقله).
هكذا يمكننا فهم الروابط التي تنسجها هذه المبادئ األولية (حرية الرأي ،احترام اآلخر،
األمن حق الملكية… الخ) مع األخالق العامة المشتركة والقانون الحديث ذي الجوهر
العلماني.
إن الفلسفة األخالقية ،حتى في درجاتها األكثر تجريدًا (كما في “نقد العقل العملي” لكانط) ال
زالت تحتفظ بعض الشيء بعالقة مع بعض العناصر الملموسة في “ثقافتنا العامة”،
ونستطيع أن نجد لها مقابالت حتى في الميادين األيسر مناًال بالنسبة “لغي المختصين”.
يجب إذن محاولة فهم العبارة الغربية وإدراك في أي شيء تختزل أهم رهانات Enjeux
الميتافيزيقا الحديثة .هاته الرهانات هي التي تستوجب من الفلسفة المعاصرة التموقع إزاءها.
عندها يبدو لي ،إنه من الالزم أن نمسك بالخيط الذي يمكن أن يقودنا إلى ذلك وهو الخيط
الذي أمسك به اآلن ،أي معرفة أن الفلسفة الحديثة في عمقها ليست شيئًا آخر سوى مشروع
عمالق للعقالنية وبالتالي العلمنة أي علمنة محتوى الديانة المسيحية (ألن العقل كان في
مواجهة مع الوحي).
هيجل Hegelنفسه الذي طالما كان الهوتيًا قبل أن يصبح فيلسوفًا ،لم ينثن أبدًا عن المناداة
بهذه العقلنة والعلمنة بأعلى صوته .هذا النداء الهيجلي أدخلته بعض التأويالت الماركسية
في نوع من العتمة .يكفي لالقتناع بذلك قراءة وإعادة قراءة ما يعلنه هيجل بكل وضوح
حول العالقات بين ميادين حياة الروح l’espritالتي هي :الفن والدين والفلسفة.
-3الفن ،الدين ،الفلسفة :ثالثة أنماط للتعبير عن اإللهي:
هذا هو الخطاب الثابت لهيجل بحذافيره :إن الميادين الثالثة لحياة الروح :لها نفس الرسالة
ونفس الغايات في معرفة التعبير عن اإللهي أي عن الحياة الروح المطلقة .فقط أشكال
التعبير هي التي تختلف داخل كل حالة من هذه الحاالت الثالثة.
ولنبدأ بالفن ،يقول هيجل“ :إن مهمة الفن تقوم على تمثيل بالحدس المباشر في شكلها
المحسوس .وليست في شكل تفكير أو روحانية خالصة”(.)1
يتضح إذن أن الفن يترجم فكرة هللا ،أي الرباني بصفة عامة في البداية ،ثم بعد ذلك الرباني
ممثًال في المسيحية في إحدى الفترات وكيفية فهمها لإلله كعالم بكل شيء -وذلك في قالب
محسوس .أي أنه مثله مثل الديانة يعبر عن حقيقة متعالية في شكل غيري مالئم لطبيعتها
المتعالية بما أنه شكل محسوس والحال أن هللا ليس شيئًا محسوسًا ،حتى يتم التعبير عنه بما
هو محسوس إنه روحاني ومتعال .وبالتالي ال يمكن أبدًا التعبير عنه جيدًا من خالل الفن.
وهذا هو السبب الذي يدعو إلى تجاوز الفن .يقول هيجل“ :فكما أن الفن يجد ما قبله ،في
الطبيعة وفي مجاالت الحياة ،فإنه في نفس الوقت يجد ما بعده في اإلطار الذي يتجاوز
بدوره نمط فهمه وتمثيله للمطلق .ذلك أن الفن يحمل في ذاته حده .لهذا يلزمه أن ينحل في
األشكال العليا للوعي”(.)2
هكذا سيتسلم الدين المشعل ،ليذهب أبعد من الفن ،ذلك أنه يعبر عن اإللهي في عنصر
الوعي الذاتي والطوية Intérioritéوليس في خارجية مادة محسوسة (لون ،صوت،
تمثال…) إنه كما يقول هيجل يحدثنا عن اإللهي بواسطة تمثالت وهكذا لجأ المسيح إلى
صور واستعارات وأساطير… تخاطب الوعي اإلنساني –إنجاز القول أفضل من الفن في
التعبير اإللهي؛ ألنه يرفع من الجمالي المحسوس إلى الروح ،لكن محتواه يظل من جهة هو
هوومن جهة ثانية ال يرقي إلى المرتبة التعبيرية العليا .إن الفلسفة وحدها حقيقة تستطيع أن
تضطلع بمهمة التفكير والتعبير عن اإللهي بشكل مناسب وحدها حقيقة تستطيع بشكل
مناسب لطبيعته الروحانية داخل عنصر العقل لما هو محسوس أو أسطوري ،وبالتالي داخل
العقالنية الفلسفية.
من هنا نرى كيف أن هيجل قد عزا إلى الفلسفة نفس محتوى المسيحية مع فرق وحيد يتجلى
في طريقة التعبير عن هذا المحتوى الذي يجب أن يصبح عقالنيًا –وبذلك أصبحت لحظة
الوعي سلفًا كما هو الشأن عند ليسينغ غير ذات جدوى وألجل ذلك نستطيع القول أن هذه
العقلنة بواسطة الفلسفة الحديثة تمثل أيضًا علمنة لمحتوى الدين.
هذا التأكيد يجب أن يفهم على مستويين متتاليين من العمق :فمن الواضح أن كلمة “بالنسبة
لنا” تفهم بداية بمعنى تاريخ وتعني“ :بالنسبة لنا نحن المعاصرين” الذين تخطينا عتبة
الطفولة اإلنسانية .وتعني كذلك نحن الفالسفة المنتمين للثقافة المسيحية .الذين تمكنوا من
استيعاب أن األولوية ليست في حاجة إلى شكل محسوس وبالتالي ليست محتاجة للفن كي
تمثل في الوعي ،بما أنها روحانية خالصة ،فمن السذاجة الحصول على رؤية جمالية
انطالقًا من فهم محسوس للمطلق.
لكن هذا التطور كما عبرت عنه ،لم يكتمل إال مع الفلسفة ،ألنها الوحيدة التي ستتمكن من
التفكير في الطوية l’intrioriteبشكل جد مناسب لطبيعة ما هو إلهي بما هو روح ،فمن
أجل استنباط ما هو إلهي ،لم يعد الدين على األقل يتمثل هللا كموضوع يوجد خارج الوعي.
إن ذلك مالزم لبنية التمثل نفسها بما هي كذلك ،هذا التمثل هو دائمًا تمثل متأمل ،فهو يبقى
حتمًا داخل الوعي المتناهي حيث يبقى كل موضوع بالنسبة له موضوعًا خارجيًا .فكل
وعي ،كما سيقول هوسرل ( )Hussrelفي نفس المعنى ،هو وعى بشيء متناه يتعارض
معه كمعطى خارجي .لكن هللا ،في الحقيقة ليس شيئًا متناهيًا وبالتالي فالوعي ليس هو الحيز
األكثر مالءمة لفهمه.
والصوفيون قد فهموا األمر جيدًا ،لذلك هم يقدمون اإليمان كـ”حلول في الذات اإللهية أو
كتماه مع هللا” وكنوع من اإللغاء للوعي ،خدمة لتصالح المطلق مع هللا ،إن هذا التماهي هو
ما يجب تحقيقه ،لكن بالنسبة لهيجل ليس داخل عالم الصوفية ،فالفلسفة النظرية فقط والفكر
الخالص ،وحدهما يتمكنان من إحداث هذه المصالحة بين موضوعية الفن وذاتية الدين؛ من
أجل التعبير الموفق أخيرًا عن الصفات اإللهية ،ومصالحتنا معها ،كيفما كانت صيغ وأشكال
هذه المصالحة الصعبة( .من أجل البرهنة على إمكانية هذه المصالحة الصعبة ،يتحتم اللجوء
إلى فهم الطروحات األكثر عمومية في هذا النسق الهيجلي بل النسق برمته –إذ سلمنا أننا
نتمكن من الوصول إلى ذلك )-فما هو مهم هنا أن الميتافيزيقا في لحظتها العقالنية القصوى
تحاول أن تحقق بواسطة الفكر ،داخل المفهوم ،ما لم يقترحه الدين علينا إال بواسطة
اإليمان ،كما يرى هيجل ،أي المصالحة أخيرًا بين هللا واإلنسان وجمعها داخل نفس الوحدة
الروحية .وبهذا يتم الجمع بين المتناهي والالمتناهي بين النسبي والمطلق .من هنا يظهر لنا
أن النسق الفلسفي المكتمل قد يعرف كـ”تطابق الهوية ،واالختالف” بمعنى “هوية هللا وهوية
اإلنسان” المتناهي والالمتناهي :فالعبارات هنا لها نفس الدالالت .فاهلل هو الالمتناهي،
والكائن الذي يبقى مطابقًا لذاته بما أنه في نفس الوقت كامل وخارج عن الزمان ،أي أنه
أبدي.
اإلنسان هو المتناهي بمعنى أنه هو الفرد المحدود ما دام أنه عرضة للجهل والخطيئة
وأخيرًا عرضة للموت ،فهو أبعد ما يكون مطابقة لذاته ،كما هو الشأن بالنسبة هلل.
إن اإلنسان خاضع للتغيير ،وخاضع للزمن وبالتالي “خاضع لالختالف” أو أكثر من ذلك
خاضع لالنفصام ،كما يقول هيجل معبرًا عن كون الكائن اإلنساني لن يتصالح مع العالم
ويحبه بشكل كامل ،طالما أنه لم يتم تصالحه هو نفسه مع هللا.
لقد اعتبرت الفلسفة المعاصرة ،على األقل في هذه الصورة الهيجلية ،وكما عبر عن ذلك
الفالسفة الالحقون على ماركس ،هيدجر ،كيركجارد نيتشه كشكل من االكتمال الذي يدعي
أو يحاول بواسطة العقل مأل ما تعد الديانة شغله بواسطة اإليمان .وهذا هو الشيء األساسي
في نظري الذي يجب االنطالق منه اليوم أيضًا بغية التفكير في وضعيتنا الحاضرة،
المختلفة بكل تأكيد.
لنفترض صحة الوصف الكانطي والهيجلي للفلسفة ،كعلمنة عملية (الجانب األخالقي)
وعلمنة نظرية (الجانب الميتافيزيقي) –علمنة للدين -هذا سيسمح لنا بالمرور لفهم ،لماذا
تطورت الفلسفة في ألمانيا (بسبب البروتيستانتية ،التي كانت في العمق عبارة عن “تحديث
وعصرنة” للدين المسيحي وشكل من التخلي واإلقصاء “لحجج الماضي”) ومن هنا سنفهم
أيضًا لماذا أردات الفلسفة أن تأخذ شكل “نسق” (فألجل منافسة الدين في سعيه لإلجابة عن
كل األسئلة التي يمكن أن يطرحها اإلنسان).
ولنفترض أيضًا وجود تطور مواز ل”فلسفة ضد الفلسفة” ريبية مادية ،نحن هنا ال زلنا لم
نبرح بعد مرحلة وصف ما كانت الفلسفة .فال يزال هناك على األقل سؤاالن معلقان :ماذا
حدث منذ إكمال النسق الهيجلي؟ ما الذي غيرته العلمنة المزدوجة ،بالنسبة لنا جميعًا ،وليس
فقط بالنسبة للمحترفين في حقل الفلسفة اليوم؟
وبصيغة أخرى :فإن عملية العلمنة األولى التي مثلتها العقالنية الكانطية والهيجلية ،كانت
غير كافية بالنسبة لنيتشه ،ألنها ال زالت تدور في فلك الدين .والدليل على ذلك كما أتينا
على ذكره ،هو أن محتوى هذه العلمنة ظل موسومًا بإرادة الوفاء لإلرث المسيحي في حد
ذاته -ومن أجل ذلك سيكون فكر نيتشه ،فكرًا نقديًا بال هوادة للدين وللمثالية ،وسيكون من
المضني توضيح كيف أن هذا المشروع قد تواصل أيضًا من خالل الطموح الهيدجري –
رغم الفترة الزمنية التي تفصل بين االثنين -في تفكيك ما سماه بشكل جد معبر
األنطوتيولوجيا Ontothéologieأي الفلسفة التي ال زالت سجينة الخرائط األساسية
للديانات التقليدية.
ومن هنا الموضوعة الثانية المشتركة مع نيتشه وهيدجر ،وهي مقولة “نهاية الفلسفة” كنسق
دين جديد جاء لتأييد المقولة الثالثة :مقولة “موت هللا”.
سوف ال أقوم بتحليل هذه المقوالت أو الموضوعات هنا ،فقط سأضيف شيئًا واحدًا وهو أنه
بهذا العمل ،تكون الفلسفة المعاصرة قد وصلت إلى مفارقة ،تستحق منا التفكير العميق
بشأنها .إضافة إلى أنها قد أنهت مشروع الفلسفات الميتافيزيقية العقالنية الكبرى التي لم تقم
بدحضها .فإذا كان األمر يتعلق ب”تفكيك” أوهام الميتافيزيقا والدين أليس ذلك في األخير
من أجل تحرير اإلنسان من أغالل االستيالب؟
بهذا المعنى وفي مقابل إحدى األطروحات المركزية التي قمنا بتحليلها بمعية Alain
Reneaultفي كتاب “فكر ”68لذلك أقول أنه ال زال اليوم إرث األنوار يتردد صداه
داخل تفكيك فلسفة األنوار الذي طبع الفضاء الثقافي المعاصر .وبالتالي ففي هذا المستوى
يمكن إلحاق تقليد “الفلسفة المضادة” بما هي ريبية ومادية بفلسفة التفكيك –كما هو الشأن
مثًال في الواليات المتحدة األمريكية ،لدى فيلسوف مثل ريتشارد رورتي Richard Rortt
الذي يحاول بدون كبير عناء التوفيق بين إرث النزعة الوضعية والظاهراتية.
أال يجب القول أن كل هذا ،يستحق التمييز والتحليل ،أكثر مما أستطيع أن أقوم به هنا ،خلف
كل هذا ،إال أن األهم بالنسبة لنا حاليًا ،يرجع في العمق إلى السؤال األول :ماذا غيرت هذه
العلمنة بالنسبة لوضعنا الثقافي والفكري؟ كيف أخذها بعين االعتبار يسمح لنا باستشراف
مستقبل الفلسفة .وكذلك أهميتها ومنفعتها لغير المختصين في حقل الفلسفة؟ وحتى أمضى
إلى ما يبدو أنه يشكل األهم ،أرى أن هناك ثالثة تحوالت هامة حدثت :على مستوى خطاب
المسيحية.
فبعد كل أشكال العقلنة والتفكيكات المختلفة التي طالته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة،
أصبح هذا الخطاب المسيحي “مؤنسنا” بكل بساطة ،إنها علمنة قصوى إن شئنا القول .ذلك
أنه قد تجسد في اإلنسان وبالتالي أصبح إلهًا .بل إن األمر بالنسبة للمؤمنين ال يتعلق بمسألة
اإليمان باألب بقدر ما يتعلق بتجسيد أخالق االبن (المسيح) في األرض .فماذا يقول هذا
الخطاب بشكل جوهري؟
اعترف أني ال أرى بوضوح كيف يمكن لنا تجاوز هذا الدرس اليوم ،لكن الشيء الذي أنا
متأكد منه ،هو أن االلتزام الرهباني والدعوة العتزال الناس في سبيل هللا ،لم تعد لها قيمة
إال بما هي لحظة انكشاف ضرورية ،معلقة ما بين ارتباطين دنيويين .في حين لم تعط
األديان التقليدية من شرعية في الدنيا إال لمحبة هللا ،نعتقد نحن أن المحبة لن تكون إال من
خالل محبة الناس لبعضهم البعض.
نعم ،لقد غادرت الدين بسبب رجال الدين عندما يتحدثون عن المحبة Agapéال يقصدون
أبدًا محبة الناس لبعضهم البعض ،تشهد على ذلك نبرتهم المجردة والغريغورية التي ال
تشبهها اليوم في ذلك ،سوى نبرة مضيفات الطائرات ،لقد قتلوا بذرة الحياة في أنفسهم .ولم
يعد لديهم ما يمنحونه لآلخرين ،ولقد تقوى اإلحساس عندي على أن الفلسفة قد ساعدتني
على تجاوز هذه النظرة الدينية التقليدية.
تحثنا هذه األنسنة لما هو إلهي وهذا التأليه لما هو إنساني ،على االهتمام بهذه الصفات
البشرية التي عودتنا المثالية الدينية لقرون عديدة على إقصائها ،إن لم نقل على كبتها ،وهذا
ما يعلمنا إياه كل من التحليل النفسي ،ومعه كل الثقافة المعاصرة اليوم.
إن معنى الحياة ،هو ما قد تغير بعمق بفعل العلمنة الفلسفية لألديان ،وهذا يصدق حتى
بالنسبة ألولئك المؤمنين برسالة المسيح ،فلم يعد األمر يتعلق باإليمان باهلل واحتقار الدنيا،
بل بالسمو عن الصغائر ،وبلوغ النضج في الدنيا من أجل الغير.
يتهيأ لي في بعض األحيان أنني ال ألتقي إال بأشخاص همهم الوحيد من الناحية الفيزيقية
وكذا النفسية ،هو أال يشيخوا ،فبالنسبة لهؤالء أن تعيش هو أن تحافظ على شبابك الدائم”.
هذا الهم أصبح بالنسبة لهم غاية في ذاته ،فتراهم يضاعفون من مجهوداتهم كلما تقدموا في
السن ،بإعادة تغيير شكلهم الخارجي بواسطة المساحيق والعمليات الجراحية التجميلية
المتنوعة ،والحال أن المجتمع بأكمله يدعونا إلى ذلك ،لكن أن نعيش هو ببداهة أن نكبر
ونشيخ ،وهذا منذ اللحظة التي نخرج فيها من بطون أمهاتنا .فإلى يجدر بنا أن نستخلص
النتائج من هذا األمر ،ونبدأ بالنتائج التي تقضي إدراك كل الدالالت المستخلصة من هذه
الصيرورة الغريبة ،التي تنفلت منا وال تنفلت منها.
هذا األمر يحيلنا إلى الدرس األساسي للعملنة الفلسفية ،والذي هو حجر الزاوية في “حكمة
المحدثين” :بلوغ النضج هو شرط اإلمكان األقصى لتميز أصيل لوجودنا في هذه الحياة ،أن
نمر في هذه الحياة مرور الكرم ،بل أن نجعل منها شيئًا ذا معنى ،ذلك أن هذا التمييز نفسه
هو شرط كل تفهم وكل محبة.
وهنا تكمن بدون أدنى شك إحدى الدالالت العميقة للمفهوم الكانطي حول “الفكر المتحرر”
،la pensée élgrgieحيث يكون الشخص “الفرد Das Einszelneعبارة عن “تركيب
يجمع بين ما هو “خصوصي وما هو كوني” وإذا ما تركنا للحظة معجم الفلسفة ،من أجل
تلمس المعنى العميق لذلك ،فسنجد أن إضفاء تفرديه على الحياة Individualiser sa vie
أو بعبارة أخرى ،تحويل هذه الحياة الفردية إلى حياة فريدة من نوعها ،ومعرفة كيفية
المصالحة داخل كل ذات ،بين السياقات الخصوصية وبين التطلعات الكونية ،التي تربط فيما
بيننا ،أو نساهم بواسطتها في بناء صرح اإلنسانية .هذا هو ما نجده في التحف الفنية حينما
تكون عظيمة ،فهي تخلق في زمان ومكان وفي ثقافة معينة بواسطة عبقرية مبدع ،بحيث
تمتزج هذه العناصر مع بعضها البعض لتشكل خصوصية ما ،لكنها في نفس الوقت ،تتحرر
من حدود ما هو خصوصي ،لتغدو قاسمًا مشتركًا بين الناس في كل زمان وداخل كل ثقافة،
فهي ليست خصوصية بكل بساطة ،وفي نفس الوقت ليست فقط كونية مثلها مثل أي حقيقة
عقلية ،بل تصبح ذات صبغة فردية أصيلة .فإذا ما تساءلنا اآلن لماذا نشيج؟ فالجواب
سيكون هو :لنجعل من حياتنا ،بعيدًا عن كل “عمليات تجميل” ،عمًال يشبه هذه التحفة الفنية-
الشيء الذي نحن أبعد ما نكون عنه -لنعرف اآلخرين جيدًا فنحبهم أكثر ،فالحب والمعرفة
وجهان لعملة واحدة كما هو وارد في التوارة .إن التفرد ،على العكس ،مما يعتقد أولئك
الذين يمرون في الدنيا مرور الكرام ،هو توسيع لألفق ،ضد كل انطواء نرجسي على
الذات ،هذا الجهد يجب أن نتشبث به ،دون هوادة ،وأال نحيد عنه.
صحيح ،أن الشيخوخة ستصطدم بحدودها يومًا لتكشف لنا عن سلبياتها ،إال أن هذا ال يغير
في األمر شيئًا ،بل إن هذا األمر يدعو بالعكس ،إلى إعداد العدة للشيخوخة وتدبيرها بدل
الهروب منها.
الهوامش:
( )1دروس في االستتيقا .leçon d’esthétique surkamp I 103
( )4يقصد التيار البنيوي الذي انتشر بين الفالسفة الفرنسيين خالل السنوات الستيين.
[*] ترجمة .إسماعيل مجغيط -عبد العزيز عبقري -فاطمة آيت يوسي ،نقًال عن العدد 16
من مدارات فلسفية.
ألحداث المؤثرة في ظهور الفلسفة المعاصرة
فبراير 2020 ,27عبدالحميد كرم الفلسفة المعاصرة 0
ال شك أن أحد األحداث الهامة التي كانت ذات أثر واضح في نشأة اتجاهات ومذاهب
الفلسفة المعاصرة الثورة على فيزياء «نيوتن» ) ،Isaac Newton. (1642- 1727أو
االنقالب على العلم الكالسيكي الذي أرسى نيوتن مبادئه ووضع قوانينه .والذي تمت له
السيطرة التامة على الفكر األوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،إلى أن جاءت
نظرية “انشطين” في النسبية والتي مهدت لنظريات علمية الحقة.
لقد كان العلم النيوتوني في نظر فالسفة عصره يمثل الصورة الصحيحة للعالم ،والتفسير
الحقيقي والصحيح الوحيد لجميع الظواهر المادية .وقد ارتبط بأساس رياضي هو الهندسة
اإلقليدية التي تقوم على مصادرة أساسية هي االستواء في المكان .ومن ثم ظهرت فكرة
الزمان والمكان المطلقين مع الفصل بينهما .وكان أن انعكست هذه األفكار على المذاهب
الفلسفية وقتذاك ،والتي كان لها حق القول باآللية والحتمية.
>/
لكن مع ظهور القرن العشرين حدثت ثورة علمية كبيرة على العلم الكالسيكي ،خاصة
بظهور نظرية النسبية ،والتي كان لها الفضل الكبير في تغيير عدة مفاهيم تشبعت برفض
الزمان والمكان المطلقين ،ومن ثم رفض اآللية وهو ما عبر عنه «مونييه» بقوله« :وهكذا
نرى أن هناك نظريات علمية وجبت إعادة النظر التامة فيها ،وهناك مفاهيم كالسيكية
تقليدية قد تغيرت» ( .)14وكان قبل تلك الفترة أن تحول التصور الميكانيكي إلى نموذج
للتفسير فرض نفسه على كل العقول .فأصبحت مقاييسه ومعاييره هي المعايير الموجهة لكل
بحث في الطبيعة.
واعتماد المنهج التجريبي يقتضي أن يتحول كل العلوم إلى دراسة الظواهر المادية
المحسوسة القابلة للتجريب .وعلى هذا صار الواقع المادي هو محور كل بحث ،بل هو
الحقيقة التي يتعين على المنهج العلمي كشفها وكشف قوانينها .بما في ذلك الظواهر النفسية
الخاصة باإلنسان ،حيث ظهرت آراء تنادي بضرورة تفسيرها بردها إلى جوانب مادية.
وهو ما سيثير رد فعل عنيف من طرف بعض الفالسفة وأبرزهم “برغسون” محور بحثنا
هذا .ويمكن اعتبار ذلك حدثا هاما في الفلسفة المعاصرة .أي ردود األفعال التي قامت في
وجه التقدم العلمي المادي ،وعلى ظاهرة تشييء اإلنسان (.)15
ورفض فكرة النظر إلى اإلنسان على ظاهرة طبيعية مادية .ألن حقيقته وجوهره طاقة
حيوية متجددة ،وعلى هذا ينبغي إبراز الجانب الروحي لإلنسان في مقابل الجانب المادي
اآللي .وكان هذا سببا في ظهور عدة فلسفات ذات توجه روحي.
وفي األخير ال يمكن إهمال أفكار سيجموند فرويدSimund Freud S.Freud (1877 -
) ، 1939وتحليله للعقل اإلنساني كحدث بارز أثر بعمق ،ليس فقط في الفلسفة وعلم النفس،
بل في األدب والفن والفكر اإلنساني برمته .فاكتشاف فرويد لالشعور رفع اللثام عن كثير
من الحقائق التي كانت تبدو لإلنسان واضحة وصحيحة.
فليس اإلنسان هو الكائن العاقل المفكر حسب ما درجت عليه النظريات العقلية حتى
ديكارت ،ذو الصورة الجميلة ،بل هو الكائن الذي تمثل الدوافع العدوانية إحدى أهم مكوناته
العقلية.
بل إن األهواء الغريزية أقوى االهتمامات العقلية على حد تعبير فرويد ( .)16وبذلك فتحت
نظرية التحليل النفسي جانبا كبيرا وخصبا من حياة اإلنسان النفسية ،يأخذ فيها الالشعور
المكانة األكثر تأثيرا على السلوك وتوجيها له« ،فالالشعور هو المنطقة األوسع التي تضم
بين جوانبها منطقة الشعور األضيق نطاقا … .فالالشعور هو الواقع النفسي الحقيقي وهو
في طبيعته الباطنة مجهول منا ،نجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجي ،كما أنه ال يمثل لنا
بوساطة معطيات الشعور إال مثوال ناقصا على نحو ما يمثل العالم الخارجي بوساطة رسائل
أعضائنا الحسية (.)17
مصادر :
)14رينيه مونييه .البحث عن الحقيقة .ترجمة هاشم الحبيسي ،منشورات دار مكتبة الحياة
لبنان .1985 ،ص 39
)15اإلشارة هنا إلى نظرة أوجست كونت إلى الظواهر االجتماعية على أنها أشياء
ما مبرر وجدوى هذا الكتاب“ :أسس الفكر الفلسفي المعاصر “مجاوزة الميتافيزيقا ()1؟ ما
الداعي إلى البحث في أسس فكر يقدم لنا نفسه مؤرخا مؤسسا؟ في الوقت (الذي) تبدو فيه
الحاجة ماسة إلى البحث في أصول فكرنا العربي وتراثنا اإلسالمي؟ تلك هي إشكالية الكتاب
العويصة والمنسية .فهل يكفي في مقاربة هذه األخيرة اإلشارة إلى ضرورة “التفتح على
اآلخر وإلى المطالبة بالمساهمة في العالمية والكونية” ودفع اللغة العربية إلى اقتحام أبواب
الفكر المعاصر؟ أيمكن أن نلج “الكونية” بمقاس أجدادنا كما تصورنا كونيتهم؟ وما السبيل
إلى التعامل مع “التقنية” وقد باتت سائدة ومميزة للفكر الكوني؟ باتت عالمة “انقالب
أنطولوجي” طال اإلنسان والطبيعة والوجود والحقيقة … .لكن من جهة أخرى ما أثر
“التقنية” فينا وفي وعينا وتراثنا؟ إذا كانت “التخني” بما هي انكشاف وجزء من الشعرية
أساس الوجود األونطي ،فهل هي كذلك بالنسبة إلينا وإلى ما لدينا من فكر وفلسفة؟ كيف
يتحدد في هكذا عصر مفهوم الهوية واألصالة؟
تجاوز الميتافيزيقا
هناك إذن ضرورة في تجاوز الميتافيزيقا ،لكن هناك أيضا صعوبة في تلك المجاوزة.
نيتشه هو الذي سيدرك المدى العميق الذي يفصل اإلنسان عن بدايته الميتافيزيقية ،وسيقيس
عمق الهوة التي يجب سبر أغوارها “بالرجوع إلى الوراء” وبإتمام حلقة الدوران إلنهاء
السباق” .إن هذه العودة إلى األصول أو الجينيالوجيا والتي ستأخذ اسم “االستذكار” عند
هايدجر و “التفكيك” عند ديريدا و”الحفريات” عند فوكو ،هي اإليذان األول واألصلي
لالنفالت من “قبضة هيجل” وبالتالي تجاوز الميتافيزيقا.
فما هي الجينياولوجيا وكيف باشرت رحلتها على صهوة “العود األبدي؟
حين تصالحت الفلسفة مع تاريخها ،حلت لحظات المطلق ،فال غرابة أن تبدأ الرحلة من
التاريخ ،وبالضبط بدراسة النشأة والتكوين ،والبحث في األنساب واألصول .إال أن األصل
المقصود ليس نقطة بداية ثابتة وال جوهرا وال ماهية محفوظة إنما هو تبعثر شبيه بتشتت
األجزاء ،والتفاصيل في إقامات متاهية ،ال غاية لها وال نهاية ،األصل حدث وفق زمن ما،
ال يبدأ من نقطة وال ينتهي إلى نقطة ،إنما هو تفاصيل وأحداث فارقية تفاضلية ،زمنها ال
ينطلق من اتجاه معين وفق غاية منشودة بل هو “إعادة بناء مختلف المنظومات الفاعلة
“طبق خطة منبوذة.
الجينيالوجيا تأويل مستمر ،ينتج المعنى من الالمعني وعكسيا ،باحثا عن قوة المعنى في
تراتبها واختالفها ،مفترضا تأويالت ال حصر لها لتفاصيل ال تعد ،تفاصيل لغوية اشتقاقية ال
تعرف إحالة األصل و”الوقائع الخام” ،تبحث في كيفيات ال في ماهيات .ال تعارض السؤال
الماهوي بل تفارقه وتخالفه .ألن “الكيف” الذي يتلون هو ما يمنح الماهية “التي تتكون”.
فليس هناك من باطن يجب استبطانه بل ظواهر يجب تظهيرها ،ذلك “إن الوجود هوة
وخواء” .وجود المظاهر هو الحياة والفعالية ،تمأل لحظة تلو أخرى تعود رغم تشابهها ،ذلك
ألن العود األبدي ليس تشابها إنما هو توالي للتشابه أي التكرار.
قراءة نيتشه
استطاع نيتشه بمطرقته وأرجله (الكتابة باألرجل) أن يقوض األركان الثابتة للميتافيزيقا وأن
يفتح اآلفاق الممكنة للتفلسف .ففي ماذا يمكن أن يساعدنا نيتشه لالنفالت من قيد أرسطو
وبقايا األرسطية في كتاباتنا الفلسفية؟
إن قراءة نيتشه ستكون مفيدة لنا ال محالة .لكن قراءة هايدجر لنيتشه وللنص الميتافيزيقي
من جهة وكذا قراءة فوكو وديريدا من جهة أخرى ستكون أفيد .وهذا هو االختبار الذي سار
المؤلف على دربه أيضا .استهل حديثه عن هايدجر وقراءته للنص الفلسفي باستهالل عميق
لكنه مشكل لعمقه“ .ذلك أن التفكير في الوجود ال ينحصر في الميتافيزيقا إال أنه ال يعني
االنفالت منها ،فهي أول مادة في فلسفة بيد أنها ليست المادة األولى للفكر ،لذا فهذا األخير
مرغم على تجاوزها (( )2وهو ما يعني أيضا التجاور معها).
لذا “فاالستذكار” الذي يسترجع الميتافيزيقا من حيث هي فترة ضرورية من تاريخ الوجود
هو الذي يسمح لنا بالتفكير في الكيفية التي يحدد عن طريقها الوجود حقيقة الموجود (.)4
إنه استرجاع للذاكرة المتحكمة في الموجود أو باألحرى لجزء منها ،ألن الجزء يسبح في
غياهب سديم ال حدود له“ .فاالختالف األنطولوجي” لهذه الذاكرة هو موضوع الفلسفة وقد
تجاوز فيها هيدجر جانبها الميتافيزيقي .أقصد عماءها الذي حجب عنها رؤية كل خارطة
الوجود والالوجود ،ودفعها إلى التفكير في جزء (المفكر فيه) ونسيان الجزء اآلخر
(الالمفكر فيه) .فكرت في الموجود وأغفلت الوجود .اإلغفال ال بمعنى ثمة إمكانية للتدارك
ألنها مستحيلة ،وال بمعنى من لم يعمل فيه الفكر بعد ،ألنه بعد فوات األوان ال يترك
اإلغفال إال بمعنى ما ترك غفال ،محتجبا ،يلفه خمار عدمي :يتركه سرا مبهما يقال وال
يقال ،يدرك وال يدرك “الوجود يعطي نفسه ويحجبها في آن (.)5
فهو ينسحب عندما ينكشف في الموجود .خاصية الوجود هاته في نظر هايدجر ،ال تخرج
من فكاك اللغة .فاالنكشاف واالختالف والنسيان واالنسحاب … كلها مفاهيم فلسفية تمتح
سرها من االشتقاق اللغوي اليوناني (أليتيا ،ديافرا… ) ومن ذاكرة النسيان ،الذي يحفظ هذا
السجل .وإذن يبدو أن اللغة هي ذلك المنعطف الذي ال يمكن لالستذكار االستغناء عنه ما دام
هذا األخير غير مرتبط بإنسان بعينه ،فهو استرجاع للوجود عبر اللغة التي تجعل من
اإلغريق مثال حاضرا دوما ،وفي البداية أصال ال ينفك يتأصل وينداح أمامنا ،أصل يتجاوز
ذاته في عود أبدي.
باستعادة حوار نيتشه مع الميتافيزيقا باعتبارها لغة ومماثلة هيدجر للغة بالوجود ،كانت اللغة
شيئا غامضا ،يشكل جزءا من العالم ،يرمز كعالمات وآيات ،يجب تأويلها لفهمها ،وكان
التشابه هو ما يحدد مجال التأويل إي إخراج الباطن من الظاهر .لم تعد اللغة مع فوكو بذلك
العمق .لقد أضحت سطحا لالختالف ،ذات “عمق خارجي” :تجسده مادية الدال ،ووحدة
الخطاب .ال تعتبر األركيولوجيا تأويال إذا كان المقصود هو الكشف عن معنى باطين ،وهي
تأويل إذا كانت تميل إلى ستر معنى مكشوف “إن وحدة الخطاب ال مرئية وال مختفية في آن
واحد” ( )6تستبدل الحفريات التاريخ التقليدي الخطي أو التطوري بالزمان األركيولوجي:
الشرائحي والقطائعي والعالئقي ،الذي يأخذ التناقضات في هذه الشبكة الستثمارها وإنتاجها
ال لنفيها وتجاوزها.
يخلص المؤلف من رحلته األولى هذه ،عبر متاهات تاريخ الفلسفة الغربية إلى اكتشاف
سبيلين مختلفين ،األول طريق أفالطوني يبدأ من أصل أول ،يتذكر دوما مساره وتطوره،
يعيش في حاضر ممتلئ يبحث عن حقيقة ثابتة مطلقة الغيا كل اختالف ومغايرة ،ناشدا
الهوية والتطابق .أما الثاني فينكر األصل والمنطلق ،وينسى السير المستقيم والتطوري ويعد
إدراجه دون أن يتراجع ،يعيش األثر والهامش باحثا عن المعنى من الالمعنى ،مناديا
باالختالف والمغايرة.
لكن هذا الوصف ينسينا إشكالية الكتاب العويصة ،وينسينا بالتالي سؤالنا المزدوج والمنبثق
من هذا إشكال :أهي مجاوزة أم مجاورة للميتافيزيقا؟ يبدو جليا أن كل النقاشات الفلسفية
سواء تلك التي انطلقت من أفالطون أو من هيجل … انطلقت من داخل الفلسفة وبهواجس
فلسفية .كلها اعتبرت المجال الفلسفي والميتافيزيقي على الخصوص يتسع لكل المبادرات،
وكل االجتهادات ،فلم تكن المجاوزة بالنسبة إليها تعني تغيير المكان واآلفاق ،وهدم اإلطار
الستبداله بآخر .من هنا استمرت الميتافيزيقا رغم تشتتها في أسماء عدة :األنطولوجيا،
الجينيالوجيا ،األركيولوجيا لكنها باإلبقاء على نفسها كانت تتغير وتتجدر وتتبدل .في كل
لحظة ومع كل فيلسوف (نيتشه ،هايدجر ،ديريدا …) كنا نكتشف إبداعات فلسفية جديدة
متجاوزة لما جاوزته من فلسفات ،مجددة أو مفككة لما عرفته من تصورات ،مهمزها في
كل ذلك نحت مفاهيم فلسفية جديدة وتأسيسها وبالتالي فتح آفاق لم يكن باإلمكان رصدها
باألدوات المفاهيمية القديمة .لذلك يمكن القول بأن تاريخ الفلسفة الغربية تاريخ متصالح مع
ذاته ومتخاصم معها في آن واحد ،يعيش التجاوز بجوار التجاور.
أما نحن ،أولئك الذين ال تربطهم صلة التاريخ المشترك وال اللغة المشتركة بالتقليد
األفالطوني الهيجلي ،اللهم صلة “ما هو متوفر للبشرية” فما موقعنا من هذا التاريخ؟
أهم محرك فيما يبدو لتاريخ الفلسفة الغربية ،هو قدرتها على تمثل هذا التاريخ من كل
جوانبه وقدرتها على التحكم في اللغة (اللغات) في كل جوانبها ،وقدرتها على صناعة
المفاهيم المالئمة لمتطلبات المرحلة.
كل ما سبق ،كان محاولة لالنفالت من “قبضة هيجل التاريخية” كما الحظنا ،وقد تحقق ذلك
بصيغة المتعدد كما تمكن المؤلف من تبيانه .أما الجزء الثاني فهو محاولة “االنسالخ من
قبضة هيجل المنطقية والمفاهيمية .فما هو االختالف في مقابل الهوية والنسخة في مقابل
النموذج والخطأ في مقابل الحقيقة …؟ جملة هذه المفاهيم واعتمالها هو التأسيس الفعلي
“لالنفالت من شباك هيجل المنطقي” فهل تم ذلك؟؟
الماهية هي المعنى الحقيقي وما عداها وهم وظالل ،كذب وخطأ … هكذا تكلم أفالطون إال
أن ميزة دولوز حين تفكيره في تاريخ المفاهيم الفلسفية ،هي اجتهاده في الوقوف عند تناسل
للثنائيات الفلسفية غالبا ما كانت توضع في نسيان عالمة“ :الخ” … فهو يميز بين النموذج
في عالقته بالنسخة وهذه األخيرة وعالقتها باأليقونات والسيموالكر .في هذه التراتبية
المفاهيمية يعمل أفالطون على التدرج من األعلى إلى األدنى … ومن األصل إلى الظالل
… من الناصع إلى الباهت وكل ما يوجد في أسفل سافلين فهو مقصي منبوذ .من هذا
اإلقصاء واإللغاء يبدأ دولوز ،من العالم حين يتحول إلى استيهامات ،والشبيه إلى اختالف
وتغدو الهوية هي التكرار والمفارقة هي القانون المنظم للبنيات وللوجود ،وحين يغدو هذا
األخير عالما للمرايا “أي عالم أليس في بالد العجائب”.
لن تتم مجاوزة الميتافيزيقا الذاتية (الكوجيطو) إال بإخراج معرفة الذات من البساطة واليقين
ومن التنظيم والتمثل إلى الالمعنى والتشتت وإلى الالمركز الذاتي والالشعور فحينما تغدو
اللغة هي التي تتكلم والمعنى يخرج من الالمعني ،والالشعور هو المتحكم في بنية الذات،
حينها يسقط الكوجيطو” جريحا ال يدرك حقيقته “وتفتح آنذاك آفاق” القوى المطموسة
و”غياهب النسيان” و”حقيقة الكذب” و”واقعية الخيال” فنسائل الحقيقة بمفارقاتها وتكرارها.
اعتدنا أن نتشبث بالحق وال شيء غير الحق ،ومناهضة الالحق بكل أشكاله ،أو على األقل،
هكذا يجب أن نكون أو يجب أن نتهيب من “الهيبريس” أو قوة الخداع ،ونتجنب الشيطان
الرجيم الماكر.
وإن اعترفنا بالخطأ والقصور ،والوهم والخداع ،وجعلنا من النقائض جزءا من العقل فإن
كل ذلك يتم خدمة للحقيقة وإقصاءا للخطأ ،وحبا للصدق ونكرانا للكذب .هذا الميل مازال
مرتبطا ومتصال بالهوية والذاتية والتطابق … أي ما زال مقترنا بأسس الميتافيزيقا .أفال
يجوز مجاوزة الميتافيزيقا بقلب االهتمام؟ ومعاكسة األسبقيات؟ يجب إعادة النظر في مفهوم
الحقيقة نفسه ،واستكشاف ما تم نسيانه بصدد هذه الكلمة ،باعتماد اللغة سواء في حرفيتها أو
في أبعادها المنسية كما فعل هايدجر ونيتشه .أو كما فعل ديريدا مع مفهوم الكتابة .لم يكتف
بإبراز أهمية هذا الجانب في إنتاج المعنى ،وبإيالء األهمية للكتابة على القراءة وإقصاء
الشفاهي إلعالء الكتابي ،إنما بين كيف أن الميتافيزيقا كنص تحتقر الكتابة وتدينها وفي نفس
اآلن تستغلها وتستعملها لحفظ المعنى وإلحضاره ،كيف أنها هي الحضور الحاضر
(الصوت) والكتابة هي اإلرجاء واالختالف أي األثر ،ومع ذلك تستعين بها الذاكرة الحية
الوقادة وتلجأ إلى ما يلطخ سمعتها .ويغوص ديريدا عميقا في لجة الميتافيزيقا ليفكك ثنائياتها
دون التمييز بين النص وكاتبه ،بقراءة فعالة تنتج النص الالمكتوب الذي ال يكون مجال
الكتابة إال عالمة عليه وعرضا من أعراضه (.)9
“ كتابة مقطعية تشخيصية “تنبذ االستمرار” والحضور وتهاب االمتالء”كتابة مترددة تقول
الفكرة وتمحيها ،تؤول الفكرة وتعيد تأويلها ،باصطفاف النصوص الواحد تلو اآلخر.
وعلى هدى سابقيه سار فوكو بحفره في جسد الميتافيزيقا ومفاهيمها ،بل وأيضا بحشره لعدة
مفاهيم جديدة كالجنون والسلطة والخطاب والجسد واإلبستمي واإلرادة .في دروب الفلسفة
وتشعباتها ،ناظرا إلى الميتافيزيقا من زوايا كانت منسية ومهمشة ،مؤكدا أن “مجاوزة
الميتافيزيقا إذن ليست هدما لكل حقيقة ،وإنما هي وعي للفكر بأن كل تفكير ليس إال مفعوال
لتأويالته ،وأن تاريخ الحقيقة والمعنى هو تاريخ ما قيل حول الحقيقة وما أريد له أن يكون
معني (.)10
كل هذه االجتهادات واإلبداعات الفلسفية دبرتها “مكيدة الوجود” التي توضح لنا بأن مجاوزة
الميتافيزيقا استراتيجية ال نهاية لها” (.)11
الهوامش:
عبد السالم بنعبد العالي ،أسس الفكر الفلسفي المعاصر /مجاوزة الميتافيزيقا ،دار توبقال ،ط
الثانية.2000 ،
نفسه ،ص .39
نفسه ،ص .41
نفسه ،ص .42
نفسه ،ص .48
نفسه ،ص .72
نفسه ،ص .93
نفسه ،ص .97
نفسه ،ص .137
نفسه ،ص .151
نفسه ،ص .156