You are on page 1of 579

‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة‪ ..‬ذاكرة تأبى التغييب‬

‫‪1‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العددالمزدوج ‪ – 02-91‬آذار ‪0203‬‬

‫مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع‬

‫تصدرها رابطة الكتاب السوريين‬

‫‪https://www.syrianwa.net‬‬

‫رئيس التحرير‪ :‬أنور بدر‬

‫مدير التحرير‪ :‬عبد الرحمن مطر‬

‫هيئة التحرير‪ :‬عبد الناصر حسو – سوزان خواتمي – حسين جرود‬

‫الهيئة االستشارية‪:‬‬

‫ابتسام تريسي – د‪ .‬أحمد الحسين – إبراهيم اليوسف ‪ -‬بشير البكر‬

‫حسام الدين محمد – سالم الكواكبي – د‪ .‬عماد الظواهرة‬

‫د‪ .‬محمد جمال طحان – وائل السواح‬

‫المراسالت باسم رئيس تحرير مجلة أوراق على البريد اإللكتروني‪:‬‬

‫‪awraq@syrianwa.net‬‬

‫صفحة الرابطة في موقع فيس بوك‬

‫‪https://www.facebook.com/Syrian-Writers-Association‬‬

‫‪2‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فهرس العدد‬

‫‪20‬‬ ‫أنور بدر‬ ‫الرقة وسنوات الثورة العجاف والزلزال السوري‬


‫المستمر‬
‫‪92‬‬ ‫رشيد الحاج صالح‬ ‫هشاشة التاريخ‪ ،‬تاريخ الرقة في كتب أهلها‬
‫‪91‬‬ ‫حمزة رستناوي‬ ‫شهادة شخصية وذكريات عن الحياة الثقافية‬
‫في الرقة‬
‫‪02‬‬ ‫ثائر الناشف‬ ‫الثقافة واآلداب في الرقة‪ -‬شهادة‬
‫‪30‬‬ ‫أحمد مولود طيار‬ ‫المركز الثقافي بالرقة ال ُيصفق لجمهوره‬
‫‪30‬‬ ‫محمد العزو‬ ‫الرقة تاريخ وحضارة وثقافة وتراث‬
‫‪60‬‬ ‫ماريا العجيلي‬ ‫فن الوشم لدى المرأة الرقاوية‬
‫ّ‬
‫‪00‬‬ ‫أبو مصطفى الكاتب‬ ‫فلكلور الرقة الغنائي الشعبي‬
‫‪21‬‬ ‫حمصي الحمادة‬ ‫جسر الرقة في التراث الغنائي الرقي‬
‫‪11‬‬ ‫روضة طه الطه‬ ‫وراق الرقة‪ -‬ظاهرة ثقافية نادرة‬
‫‪13‬‬ ‫نبيل سليمان‬ ‫مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية‬
‫‪920‬‬ ‫شعيب حليفي‬ ‫الرقة خيال متعددة في ذاكرة واحدة‬
‫‪909‬‬ ‫معجب العدواني‬ ‫الرقة الحضور الروائي ومقاومة الغياب‬
‫‪903‬‬ ‫سوسن جميل حسن‬ ‫كدت أعرفها حتى نأت‬‫الرقة التي ما ّ‬
‫‪902‬‬ ‫حبيب عبد الرب سروري‬ ‫لماذا يبقى مهرجان العجيلي والرقة في‬
‫ذاكرتي؟‬
‫‪901‬‬ ‫أحمد المديني‬ ‫ذات لقاء في الرقة‬
‫‪939‬‬ ‫عبده الخال‬ ‫ذكريات الكلمات الضائعة في زمن سقوط‬
‫الصحف الورقية‬
‫‪933‬‬ ‫سميحة خريس‬ ‫ليالي الرقة الوادعة‬
‫‪936‬‬ ‫حسين حمودة‬ ‫الرقة المدينة‪ -‬البيت‬
‫‪932‬‬ ‫هالة البدري‬ ‫شهادة‬
‫‪931‬‬ ‫إبراهيم محمود‬ ‫نفعل ذاكرة المستقبل‬
‫هل كنا ّ‬
‫‪949‬‬ ‫خيري دوما‬ ‫الرقة مدينة الفن‬
‫‪943‬‬ ‫يوسف المحيميد‬ ‫مدينة الرقة والحلم والذكريات‬
‫‪946‬‬ ‫خليل الجيزاوي‬ ‫في مدينة الرقة كانت لنا أيام‬

‫‪3‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪941‬‬ ‫عالم‬
‫عبير حسن ّ‬ ‫الرقة والعرس األدبي الثقافي‬
‫‪960‬‬ ‫محمود باكير‬ ‫عن الذاكرة الشتوية‬
‫‪961‬‬ ‫فواز قادري‬ ‫يا آدم الجديد عليك الخواء‬
‫‪904‬‬ ‫سوسن اسماعيل‬ ‫النوح‬
‫‪902‬‬ ‫وحيد نادر‬ ‫أدعية للرقة الباقية‬
‫‪920‬‬ ‫آرام‬ ‫بورتريهات الموت والذاكرة‬
‫‪916‬‬ ‫موسى رحوم عباس‬ ‫السقوط من سرة الكون‬
‫‪912‬‬ ‫عصام حقي‬ ‫اللحظة البيضاء‬
‫‪914‬‬ ‫أحمد رشاد‬ ‫مصلوب على باب الرقة‬
‫‪022‬‬ ‫فوزية المرعي‬ ‫هديل على مقام النوى‬
‫‪024‬‬ ‫حسين جرود‬ ‫من قبل التاريخ‬
‫‪094‬‬ ‫ناريمان حسن‬ ‫أغيث حزني بالصالة‬
‫ُ‬
‫‪091‬‬ ‫شيم محمد العبدو‬ ‫أعرفك مصياف‬
‫‪004‬‬ ‫أحمد خميس‬ ‫جديلة أمي‬
‫‪033‬‬ ‫علي الكدرو‬ ‫ما علينا‬
‫‪031‬‬ ‫فراس محمد الحسين‬ ‫قصتان‪ :‬التمثال والنمرود‬
‫‪040‬‬ ‫نضال جرجنازي‬ ‫المحرم‬
‫ُ‬
‫‪063‬‬ ‫هيثم قطريب‬ ‫الفراغ‪ ...‬والكرسي‬
‫‪060‬‬ ‫موسى الحالول‬ ‫صناديق االقتراع‬
‫‪061‬‬ ‫رامي ميناس‬ ‫دفا‬
‫‪002‬‬ ‫محمد صالح العجيلي‬ ‫السائق الذي عضه الكلب‬
‫‪000‬‬ ‫ماجد عاطف‬ ‫سقف يأخذ الوجل‬
‫‪002‬‬ ‫عالء الدين حسو‬ ‫بارليف الشمالي‬
‫‪021‬‬ ‫إبراهيم الخليل‬ ‫الطريق إلى الرقة وطائر الشقراق‬
‫‪010‬‬ ‫حسام الدين الف ار‬ ‫تخص الن ّفري‬
‫مواقف ال ّ‬
‫‪010‬‬ ‫أحمد سليمان‬ ‫حين وقعت من صخرة تستقر أعلى الشمس‬
‫‪323‬‬ ‫حسين رحيم‬ ‫ثم نبدأ بالصراخ‬
‫ّ‬
‫‪320‬‬ ‫جنان الحسن‬ ‫موال على ناي الحياة‬
‫‪392‬‬ ‫فرحان مطر‬ ‫اتيون بعيون السينما السورية‬
‫الفر ّ‬

‫‪4‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪343‬‬ ‫عبد الناصر حسو‬ ‫مهرجان الرقة المسرحي‬


‫‪369‬‬ ‫نور الدين ناصر‬ ‫ابراهيم الخليل‪ :‬جزالة اللغة ورصانة األسلوب‬
‫‪360‬‬ ‫إبراهيم العلوش‬ ‫الدم ليس أحمر‬
‫‪309‬‬ ‫أحمد المحمد العجيلي‬ ‫تنوع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة‬
‫‪326‬‬ ‫عمر الحمود‬ ‫رواية الضباع‪ :‬المكان القاهر والمقهور‬
‫‪319‬‬ ‫بسام بليبل‬ ‫حوار سياسي مع شاعر راحل‬
‫‪310‬‬ ‫أحمد العربي‬ ‫قراءة في رواية "قيامة اليتامى"‬
‫‪312‬‬ ‫د‪ .‬مصطفى عبد القادر‬ ‫وتميزها اإلبداعي‬
‫الرقة ّ‬
‫‪422‬‬ ‫إبراهيم علي المطرود‬ ‫محمود الذخيرة زيزفون فراتي‬
‫‪426‬‬ ‫أسعد آل فخري‬ ‫ركب َة‬
‫الم َ‬
‫السردية ُ‬
‫سيرية العائلة َ‬
‫َّ‬ ‫"الطلياني" بين‬
‫ولعبة هواجس كتابة الذات‬
‫‪444‬‬ ‫ياسين الخلطي‬ ‫السيميائيات بين األصول التّقعيدية والبنية‬
‫المصطلحية‬
‫‪402‬‬ ‫فراس حج محمد‬ ‫"قدسي الهوى" مثال جيد على الرداءة‬
‫‪401‬‬ ‫زينب الزبيدي‬ ‫العنونة في "وجوه من سوريا"‬
‫‪420‬‬ ‫محمد فتحي المقداد‬ ‫الشاعر والروائي عبدالسالم فريج‬
‫‪413‬‬ ‫إبراهيم محمود‬ ‫رهان السرد والعمران القبلي في الرقة‬
‫‪600‬‬ ‫عبد الرحمن مطر‬ ‫الفنان التشكيلي عبد الحميد فياض‬
‫‪634‬‬ ‫أنور بدر‬ ‫خليل حمسورك واستعادة حرفة الحرق على‬
‫الخشب‬
‫‪669‬‬ ‫عبود سلمان العلي العبيد‬ ‫أيمن الناصر في تجربته الفنية واألدبية‬
‫‪660‬‬ ‫فهد الحسن‬ ‫أثر الحواس في ال ّتشكيل‬
‫‪602‬‬ ‫موفق نيربية‬ ‫عن كارثة الزلزال وما بعدها‬
‫‪629‬‬ ‫منى أسعد‬ ‫أين المرأة السورية من احتفالية "يوم المرأة "؟‬
‫‪621‬‬ ‫قواعد النشر في مجلة أوراق‬

‫‪5‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة وسنوات الثورة العجاف والزلزال السوري المستمر‬

‫رئيس التحرير‪ :‬أنور بدر‬

‫شكل اندالع ش اررة االحتجاجات‪ /‬الثورة في سوريا آذار ‪ 1122‬من محافظة درعا جنوب‬
‫سوريا مفاجأة غير سارة للنظام الذي اعتبرها وفق التصنيفات األمنية "محافظة صديقة‬
‫للنظام"‪ ،‬وفق إشارة اإلعالمية سميرة مسالمة في كتابها "االنهيار السوري ‪ ..‬الصراع‬
‫على السلطة والدولة والهوية"‪.‬‬

‫وربما بنفس القدر أو أكثر كان مفاجئا للنظام أن تكون الرقة التي يعتبرها مزعته‬
‫حكم بالقوة وتنهب بال‬
‫الخلفية‪ ،‬أو حسب تعبير بعض نشطاء الرقة "مستعمرة داخلية‪ .‬تُ َ‬
‫رحمة‪ ،‬وتترك للخراب" كما ذكر الباحث ياسين الحاج صالح‪ ،‬هي أول محافظة سورية‬
‫تخرج عن سيطرته حين قامت قوات المعارضة المسلحة في اليوم الرابع من آذار‪/‬‬
‫مارس ‪ ،1122‬بالسيطرة على المدينة بالتزامن إجراءات مذلة للنظام بدءا من إسقاط‬
‫الصنم‪ /‬تمثال األسد األب‪ ،‬وصوال إلى اعتقال المحافظ ورئيس فرع الحزب وقادة‬
‫األجهزة األمنية في تلك المحافظة‪ ،‬التي سبق لرأس النظام أن اختارها مكانا ألداء‬
‫صالة عيد األضحى في ‪ 6‬تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر ‪ ،1122‬كإشارة إلى والئها أو إلى‬
‫سيطرته المطمئنة عليها‪.‬‬

‫لن ُنسهب اآلن في الحديث عن أخطاء االستراتيجية المتمثلة بسيطرة تلك المعارضة‬
‫العسكرية على ما اعتبرته مناطق "محررة"‪ ،‬حيث تحولت بسرعة فائقة لدريئة ثابتة‬
‫لقصف النظام وحلفائه من جهة‪ ،‬كما شكلت غواية للفصائل الجهادية المتطرفة للتنازع‬
‫بهدف السيطرة عليها‪ ،‬وهو ما انتهى سريعا بتحول الرقة إلى عاصمة الخالفة اإلسالمية‬
‫المزعومة‪ ،‬بعدما أعلن أبو بكر البغدادي إقامة "دولة داعش" في إبريل‪ /‬نيسان ‪.1122‬‬

‫المفارقة الجارحة في هذه المحافظة أنها من أغنى المحافظات السورية‪ ،‬إذ تزود كامل‬
‫سوريا بالطاقة الكهربائية من سد الطبقة‪ /‬الثورة‪ ،‬وفيها أيضا سد البعث‪ ،‬والكثير من‬

‫‪6‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫آبار النفط‪ ،‬وتعتبر من أهم مناطق زراعة القمح والحبوب والقطن في سوريا‪ ،‬ناهيك‬
‫عن آثارها وفراتها‪ ،‬ومع ذلك بقيت محافظة بعيدة عن التنمية الحضرية‪ ،‬وفيها نسب‬
‫مرعبة للبطالة والفقر واألمية‪ .‬وليس خروجا عن السياق التقاط تلك المسميات في الرقة‬
‫"سد الثورة‪ ،‬سد البعث‪ ،‬بحيرة األسد‪ ،‬مع نصب أو تمثال عمالق لألسد األب وهو‬
‫يرتدي عباءة فراتية"!‬

‫ظلِموا مرتين‪ ،‬األولى حين حولها نظام البعث إلى مزرعة خاصة به‪،‬‬
‫وألن أبناء الرقة ُ‬
‫تمده بالنفط والقمح والقطن والكهرباء‪ ،‬والثانية من قبل استبداد داعش ديني الطابع‬
‫وإرهابي السلوك‪ ،‬وحتى بعد انتهاء الحرب فيها على اإلرهاب وتحرير المحافظة عام‬
‫‪ ،1122‬التزال الرقة لآلن تحت سيطرة قوات قسد المدعومة من التحالف الدولي بقيادة‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‪ .‬دون أن يهتم أي من قوى االستبداد أو األمر الواقع‬
‫المسيطرة بسكان تلك المحافظة ومصالحهم ومشيئتهم‪.‬‬

‫مأساوية هذا المشهد دفعتنا في هيئة التحرير لتسليط الضوء في هذا العدد على بعض‬
‫جوانب الحركة الثقافية والنتاج اإلبداعي في حقول اآلداب والفنون لهذه المحافظة‪ ،‬والتي‬
‫تبدو لمن يعرف الرقة جيداً‪ ،‬أنها شكلت حالة ثقافية متميزة في الجغرافيا السورية‪ ،‬على‬
‫الرغم من إمكانياتها المتواضعة‪ ،‬حيث ُنظمت فيها العديد من المهرجانات الثقافية‬
‫المتخصصة بدءاً من مهرجان العجيلي للرواية العربية ومهرجان الشعر واستم ار اًر‬
‫بمهرجان ا لمسرح وآخر للفلكلور وملتقى للرسم‪ ..‬وذلك مؤشر هام على عمق وأصالة‬
‫أثر ملموسا في‬
‫وتميز هذا الحراك الثقافي‪ ،‬بمبدعيه من كتاب وفنانين ترك معظمهم ا‬
‫ثقافتنا السورية والعربية‪ ،‬ويمكن لمن ُيتابع مواد هذا العدد الضخم أن يلحظ ذلك بسهولة‪،‬‬
‫ليس في مواد الملف بل في أغلب الملفات اإلبداعية للقصة والشعر والنصوص وصوال‬
‫للملف التشكيلي الذي نهض بأربع مواد عن الرقة‪.‬‬

‫وأخص بالذكر والشكر الصديق المترجم إبراهيم محمود الذي نقل عن الفرنسية فصال‬
‫من كتاب مريم العبابسة "رهان السرد والعمران القبلي في الرقة"‪ ،‬والذي يشكل إضاءة‬

‫‪7‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مهمة على جزء من تاريخنا السوري غير المعروف بشكل جيد‪ ،‬وبذات الوقت هو‬
‫إضاءة على سلوك النظام الذي يدعي التقدمية واالشتراكية بالمعنى األيديولوجي‬
‫والسياسي‪ ،‬لكنه استغل وشجع االنتماءات واالنقسامات القبلية والعشائرية ليس في الرقة‬
‫فقط‪ ،‬بل في كل سوريا‪.‬‬

‫كما نشكر الكتاب والمبدعين الذين ساهموا معنا في ملفات االبداع شع اًر وقص ًة ونقداً‬
‫أدبياً ودراسات وترجمة وحوا اًر وتشكيل‪ ،‬والتي انصب جلها على محور "الثقافة واألدب‬
‫والفنون في محافظة الرقة" وبشكل خاص الشهادات القيمة لكتاب ومبدعين عرب‬
‫وسوريين ممن شاركوا في دورات "مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية"‪.‬‬

‫كذلك وجب التنويه أننا في غمرة االشتغال على هذا العدد المزدوج من أوراق وقعت‬
‫في ‪ 6‬شباط‪ /‬فبراير كارثة الزلزال وما تالها من هزات ارتدادية في كل من جنوب تركيا‬
‫وشمال سوريا‪ ،‬وقد تطوع معنا الصديق الباحث موفق نيربية بدراسة وافية لهذا الحدث‬
‫وما بعده‪ ،‬ربطا بزلزال سوريا المستمر في حرب النظام ضد شعبه‪ ،‬والذي يدلف اآلن‬
‫لعامة الثالث عشر‪ ،‬كما كتبت المحامية منى أسعد عن واقع المرأة السورية في ذكرى‬
‫اليوم العالمي للمرأة‪.‬‬

‫ونذكر بأن كل المساهمات التي في هذا العدد هي تطوعية‪ ،‬لغياب أي تمويل لمجلة‬
‫أوراق ومن أي جهة كانت‪ ،‬لذلك نحن ندين بالشكر والعرفان لجميع الزمالء المشاركين‬
‫في هذا العدد تقدي اًر لجهودهم‪ ،‬وننوه بشكر إضافي لألصدقاء والزمالء الذين ُيصرون‬
‫رغم صعوبة الظرف العام‪ ،‬على المشاركة بشكل مستمر‪ .‬كما نشكر كالعادة أيضا كل‬
‫األصدقاء والكتاب والمثقفين الذين حالت ظروفهم دون المشاركة في هذا العدد‪ ،‬ألننا‬
‫ندين لهؤالء المبدعين والمثقفين بالتقدير والعرفان كمساهمين معنا وشركاء في نجاح‬
‫مجلة "أوراق" ودورية صدورها‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ملف العدد‬

‫الرقة‪ ..‬ذاكرة تأبى التغييب‬

‫‪9‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هشاشة التاريخ‬

‫تاريخ الرقة في كتب أهلها‬

‫رشيد الحاج صالح‬

‫أستاذ جامعي سوري وباحث ومحلل سياسي‪ ،‬يقيم في السويد‪.‬‬

‫ال تتجاوز الكتب التي أرخت للرقة وعشائرها‪ ،‬وتطورات الحياة فيها بضع كتب‪ .‬وهي‬
‫في أغلبها كتب تقليدية تشبه الثرثارات التي ترافق الجنازات‪ ،‬والتي تتحدث حديثا مبالغا‬
‫فيه عن الخصال الحميدة للمتوفى من دون أي اكتراث بحقيقة هذا الشخص‪ ،‬وهمومه‬
‫التي قد تكون نالت منه في ا لنهاية‪ .‬حتى أن الذي يق أر تلك الكتب ال يكاد يعرف أي‬
‫شيء مهم عن حياة الرقيين ومعاناتهم والتغيرات التي وجدوا أنفسهم وسطها‪.‬‬

‫والمتابع لتلك الكتب التي أرخت للرقة (من أهلها) يكاد ال يجد‪ ،‬ال قبل الثورة (وهذا‬
‫مفهوم بالقياس لمستوى الحريات آنذاك)‪ ،‬وال حتى بعدها ألي تأريخ للمشكالت‬
‫والتحوالت الكبرى التي عصفت بهم‪ .‬فمثال ال تجد أي تأريخ للجفاف الذي أرخى ستائره‬
‫الثقيلة على حياة أهلها ومستوى معيشتهم‪ ،‬وال أي حديث عن إهمال الدولة لذلك‬
‫الجفاف‪ ،‬مثلما ال يجد أي أثر لحرمان بناتها من التعليم الجامعي لسنوات طويلة بسبب‬
‫عدم افتتاح جامعة فيها حتى عام ‪ .1116‬وال أي تأريخ لمساجينها السياسيين سواء‬
‫كانوا ينتمون للبعث العراقي أو الشيوعيين أو غير ذلك‪ ،‬وال حتى للمدراء الغرباء الذين‬
‫قدموا إليها من خلف الفرات قدوم الفاتحين‪ ،‬ليؤمنوا مستقبل أوالدهم متناسين مستقبل‬
‫أوالد الرقة‪ .‬مثلما ال تعثر على تأريخ للتهجير الطوعي‪ ،‬الذي بدأ مع ثمانينات القرن‬
‫المنصرم‪ ،‬والذي رمى مئات األلوف من أبنائها في سهول لبنان وصحاري الخليج‬
‫العربي طلبا للرزق الذي حرموا منه‪ ،‬وكأنه تدريبا مبك ار على التهجير الكبير الذي لم‬
‫يكن في الحسبان بعد عام ‪ .1122‬ذهبوا ليزرعوا البقاع اللبناني ( ُقدر عدد العمال‬
‫السوريين في لبنان نحو نصف مليون عامل في التسعينات) وهم أبناء أكبر مشروع‬

‫‪11‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫زراعي في العالم العربي (كانت هناك و ازرة في السبعينات أسمها و ازرة سد الفرات)‬
‫وصفته كتب الجغرافيا التي درسوها لنا بأنه " السلة الغذائية للوطن العربي"‪ ،‬حيث‬
‫تحول من أهم مشروع زراعي في الوطن العربي إلى أفشل مشروع تأكل الديدان‬
‫والحشرات والفساد محاصيله أمام أعين األهالي‪.‬‬

‫كتب التاريخ اإلداري واالجتماعي‬

‫تنقسم كتب تاريخ الرقة إلى قسمين‪ :‬األول‪ ،‬كتب تؤرخ للرقة رسميا وإداريا‪ ،‬وهو تاريخ‬
‫يعتمد على الوثائق العثمانية والفرنسية وبعض اإلحصاءات المحفوظة وكتب التاريخ‬
‫القديمة‪ ،‬وأبرز هذه الكتب‪ :‬كتاب "أهل الرقة" بجزئيه للكاتب محمود الذخيرة‪ ،‬وكتاب‬
‫"الرقة وبلدياتها"‪ ،‬وكتاب "حضارات وادي الفرات – مدن فراتية‪ ،‬القسم السوري" لعبد‬
‫القادر عياش ووليد مشوح‪ ،‬وكتاب "الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثاراها‪ .‬باإلضافة على‬
‫الدراسات األرشيفية لحمصي فرحان الحمادة حول أسماء حارات الرقة والتأريخ لبعض‬
‫شخصياتها‪ ،‬وغيرها من الكتب المهتمة بهذا الجانب‪ .‬والمؤسف أنه يغلب على هذه‬
‫الكتب نوع من التأريخ يطلق عليه "التأريخ المحنط" الذي يختصر مجتمع الرقة بمجموعة‬
‫من الق اررات اإلدارية والوقائع التاريخية والسجالت األرشيفية‪ ،‬من دون أي ذكر ‪ -‬مثال‬
‫‪ -‬للمسألة األمنية الكبرى التي روعت أهلها لعشرات السنين‪ :‬تهمة االنتساب للبعث‬
‫العراقي‪ ،‬والتي ذهب ضحيتها مئات الرقيين وقضوا عشرات السنوات في السجون‪.‬‬
‫يضاف إلى ذلك أنه وعلى الرغم من تناولها للجانب اإلداري والرسمي إال أنها ال تنبس‬
‫ببنت شفه عن الفساد اإلداري المنتشر في المحافظة‪ ،‬أو بيع المناصب الذي أنتشر‬
‫بشكل شبه علني منذ ثمانينات القرن المنصرم‪ .‬مثلما ال تروي تلك الكتب كيف تحولت‬
‫محافظة الرقة (بسب اإلهمال التعلمي واالقتصادي الخدمي المديد) إلى محافظة نامية‬
‫في الوثائق الرسمية‪.‬‬

‫وعلى العموم فإن هذه الكتب تلعب ثالثة ألعاب معروفة لدى المؤرخين الذي ال يريدون‬
‫أن يأتيهم " وجع رأس" من كتاباتهم؛ أي الكتابة بدون أي مسؤولية أخالقية تجاه أهل‬

‫‪11‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مدينتهم والمظالم التي عاشوها‪ :‬اللعبة األولى هي العودة إلى التاريخ البعيد (الروماني‬
‫واألموي والعباسي) أو التاريخ القريب (العثماني والفرنسي)‪ ،‬وكأن حياة أهل الرقة توقفت‬
‫عند ذلك التاريخ‪ .‬وتأتي هذه الكتابات كنوع من التعويض الوهمي بأن أهل الرقة لهم‬
‫مكانتهم التاريخية على الرغم من أن مصير أكبر شخصية رقية مرهون بيد أصغر‬
‫عنصر في الفروع األمنية‪ .‬أما اللعبة الثانية فهي تناول وجهاء الرقة وأدباءها وفنانيها‬
‫ومثقفيها عبر نوع من المبالغة في اإلنجازات‪ ،‬والتفخيم في المكانة‪ .‬وتعتبر هذه اللعبة‬
‫من أكثر األلعاب ال أخالقية‪ .‬فبدل االحتجاج على ضعف التعليم وتهميش أهل الرقة‬
‫يتم اللجوء إلى االفتخار بشخصيات أدبية وثقافية على أنها دليل على أن اهل الرقة‬
‫ليسوا كلهم بال قيمة وثقافة وعلم‪ .‬في حين تمثلت اللعبة الثالثة بعدم التطرق‪ ،‬ال من‬
‫بعيد وال من قريب‪ ،‬لألحداث والتحوالت السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة بعد عام‬
‫‪ ،2662‬ألغالق باب السؤال األمني من أي جهة كانت‪ ،‬ولضمان سهولة الحصول‬
‫على موافقة و ازرة اإلعالم على النشر (موافقتها يعرفها كل من نشر كتابا في سورية)‪.‬‬

‫كتب العشائر والوجاهة‬

‫أما النوع اآلخر من التأريخ للرقة فهو كتب العشائر والتراجم‪ .‬وهي كتب تؤرخ ألصل‬
‫العشائر وسيوخها‪ ،‬ولذلك تجدها تفرد مساحة واسعة لبعض الشخصيات العشائرية‬
‫واالجتماعية من أهالي المنطقة‪ .‬وتشبه كتب العشائر قصائد المديح العربية ذائعة‬
‫الصيت‪ ،‬حيث يجمع فيها المؤلف أسماء عشائر الرقة‪ ،‬ويثني على شيوخها ووجهائها‪،‬‬
‫ويحدد مناطق سكن كل عشيرة ويعدد خصالها الحميدة‪ .‬وقد أزدهر هذا النوع من‬
‫الكتابة في مرحلة التسعينات‪ ،‬على الرغم من أنه ال يقدم أي قيمة اجتماعية أو علمية‬
‫تذكر‪ ،‬بل إنه يحتذي خطا الكتب التي أرخت لحياة وتجربة حافظ األسد‪ ،‬المليئة‬
‫بالبطوالت الوهمية والمديح المجاني‪ .‬أما السبب في أنها تمدح أكبر عدد من الناس‬
‫والوجهاء‪ ،‬وتعلي من قيمة الجميع بدون استثناء‪ ،‬فيعود إلى أن الهدف األساسي‬

‫‪12‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لمؤلفيها هو بيع الكتاب إلى أكبر عدد ممكن من أبناء المنطقة‪ .‬حتى أن هناك من‬
‫كان يبيع كتبه بنفسه‪ ،‬ويطبعها على حسابه الخاص بوصفها "عملية تجارية بحتة"‪.‬‬

‫ومن أهم هذه الكتب نذكر‪ :‬كتاب عشائر الرقة والجزيرة لمحمد عبد الحميد الحمد‪،‬‬
‫كتاب تاريخ مدينة الرقة ألحمد سعيد وكرم بشير (الالفت أنه صدر من بغداد عام‬
‫‪ ،)1122‬كتاب معجم العشائر الفراتية ألحمد الشوحان‪.‬‬

‫في الفرق بين التأريخ و ّ‬


‫التكسب‬

‫في الحقيقة يميز ابن خلدون‪ ،‬وبوضوح‪ ،‬بين كتب التاريخ والكتب التي ال عالقة لها‬
‫بالتاريخ‪ ،‬كعلم ومهنة‪ ،‬على الرغم من تناولها ألحداث ووقائع وتاريخية؛ بين المؤرخ‬
‫العارف بشؤون التاريخ وعلله‪ ،‬وبين من يسميه "بليد الطبع والعقل"‪ 1‬ممن أخذ يكتب‬
‫التاريخ أما للتكسب أو للشهرة من دون دراية بأهمية التاريخ وعبره‪ .‬فهذا النوع الثاني‬
‫من الكتب ال يصلح لدراسة التاريخ وتدبره ألنه مجرد سرد بليد لألحداث‪ ،‬وتوثيق أبكم‬
‫لألخبار‪ ،‬وذكر أحوال األعيان على الصورة التي يرغبون أن يكونوا عليها‪ .‬وليس لهذا‬
‫ال نوع من التأريخ أي أهمية ألنه خالي من أي معنى عقلي أو علمي‪ .‬فهو ينطلق من‬
‫أن غاية التاريخ تتمثل في ذكر القصص واألخبار واألسمار‪ ،‬أي كتب للوجاهة والتباهي‬
‫ليس إال‪.‬‬

‫ويبدو أن مثل تلك الكتب انتشرت في الرقة‪ ،‬وفي سورية عموما‪ ،‬لالستفادة ومن‬
‫التوظيف السياسي لها؛ إليهام أهل المنطقة بأنهم أبناء حضارات كبرى‪ ،‬وأصحاب‬
‫حصون كان لها دو ار بار از في التاريخ‪ ،‬وأبناء قبائل كانت ذات شائن في زمانها الغابر‪،‬‬
‫وبالتالي عليهم أن يعتزوا بأنفسهم‪ ،‬حتى لو كان من يحكمهم أمين فرع حزب بليد‬
‫وفاسد‪ ،‬أو محافظ أعطيت له الرقة‪ ،‬ليجمع منها ثروة تحفظ له كبرته وكبرة أحفاده‬

‫‪ -1‬ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ج‪ ،1‬تحقيق عبدالله محمد درويش‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار يعرب‪ ،2114 ،‬ص ‪.83‬‬

‫‪13‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وأحفاد احفاده‪ ،‬كمكافأة على إجرامه ومشاركته في المحاكم الميدانية التي حصدت‬
‫مئات الضحايا في أحداث الثمانينات (ونقصد المحافظ محمد نجيب السيد أحمد)‪.‬‬

‫حتى أن تلك الكتب غالبا ما تخفي ضعفها‪ ،‬وخوفها من السياسية‪ ،‬عبر تحويل التاريخ‬
‫إلى مجرد كالم ع ن تراث الرقة‪ ،‬وعادات أهلها األصيلة‪ ،‬وأشياء من هذا القبيل‪ .‬أو‬
‫التركيز على التراث الفني الغني ألهل المنطقة‪ .‬ولعل هذا ما يفسر انتشار كتب التراث‬
‫الشعبي الرقاوي واألغاني الفراتية‪ .‬ومن هذا الكتب نذكر‪ :‬كتاب "شعراء الموليا في‬
‫القرن العشرين"‪ ،‬وكتاب في "الشعر الشعبي الرقي" لمحمد الموسى الحومد‪.‬‬

‫غياب التأريخ السياسي‬

‫يضاف إلى كل ذلك أنها كتب ال تتحدث عن كيف تفاعل شيوخ عشائر الرقة مع‬
‫تجربة حكم البعث‪ ،‬ونظرته إليهم بوصفهم قوة رجعية وعميلة لإلقطاع (على حد‬
‫وصفه)‪ .‬وكيف أنتهى األمر بغالبية شيوخ تلك العشائر إلى الخضوع لنظام البعث وفق‬
‫معادلة "الوالء مقابل الوجاهة"‪ .‬وهي معادلة تقوم على مبدأ "عديلي واعديك"؛ أي‬
‫ساعدني على فرض هيمنتي وسأمنحك قد ار معقوال من الوجاهة والمكاسب‪.‬‬

‫فهي كتب تدرس أهل الرقة وكأنه ليس لهم مظالم يعرضونها‪ ،‬بل أصول يفتخرون بها‪،‬‬
‫وال حقوق يطالبون بها‪ ،‬بل إنجازات ُقدمت لهم ويفتخرون بها‪ ،‬ليس لديهم أرزاق يسعون‬
‫إليها‪ ،‬بل عطايا وفتات يفرحون أذا حصلوا منها على النزر اليسير‪ .‬ولذلك فإنها كتب‬
‫ال تغوص في الظواهر وتفاعالتها‪ ،‬وال في األحداث وأسبابها‪ ،‬وال في التغيرات‬
‫االجتماعية ونتائجها‪ .‬حتى بلغت الوقاحة في كتاب "الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثارها"‬
‫أنه قدم دراسة تصف مشروع الفرات بأنه "أحد معالم التطور الحديثة" في سورية على‬
‫الرغم من أن اإلهمال والحشرات والفساد سحقت هذا المشروع الذي يبعد فقط عدة كيلو‬
‫مترات من مكان تلك الندوة‪ .‬بل أن هناك من قدم بحثا لتلك الندوة عن "تطور القوة‬
‫ال بشرية والعاملة" في الرقة في وقت أخذ عشرات اآلالف من تلك القوة البشرية تعاني‬

‫‪14‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫من البطالة‪ ،‬وتحزم أمتعتها وتجهز نفسها للسفر خارج سورية بحثا عن دخل يحفظ‬
‫وجودهم وحياتهم‪.‬‬

‫وعلى الرغم من كل ذلك تبقى سلسلة بحوث معبد الحسون " الرقة من العشيرة إلى‬
‫الثورة"‪ ،‬وعدد من الباحثين الشباب‪ ،‬تغرد خارج السرب‪ ،‬وتحكي لنا عن األهوال والمظالم‬
‫التي عاشتها المدينة‪ ،‬قبل الثورة وبعدها‪ .‬حيث يشرح لنا الحسون أن الحكم األسدي‬
‫شعر – منذ بداية السبعينات ‪ -‬بأن أهل الرقة وعلى الرغم من مهادنتهم له وقبولهم به‬
‫بسهولة إال أنهم لم يكونوا مكترثين به‪ ،‬ولم يعني لهم البعث شيئا يدعو لالحترام‪ .2‬وهو‬
‫األمر الذي جعل األسد ال يحب هذه المدينة ويسعى لتهميشها‪ ،‬سميا وأن غالبية أهل‬
‫الرقة كان يشعر بتعاطف كبير مع العراق في حربه ضد إيران‪.‬‬

‫طبعا استثنينا من مقالنا هذا كتب المنقبين عن اآلثار وأعضاء البعثات األثرية والرحالة‬
‫والمستشرقين‪ .‬فهذه الكتب على العموم تم تأليفها إما ألسباب علمية‪ ،‬أو إلعداد رسائل‬
‫ماجستير ودكتوراه‪ ،‬أو ألسباب سياسية ولوجستية تتعلق بوضع خرائط للمنطقة ألسباب‬
‫عسكرية (زمن العثمانيين والفرنسيين)‪ ،‬مثلما تتعلق بالسيطرة السياسية ومعرفة أحوال‬
‫أهل المنطقة ونسبهم وقوميات ومواردهم‪ ،‬باإلضافة إلى التوسع في معرفة عاداتهم‬
‫وطرق عيشهم وأخالقهم‪ ،‬وذلك لوضع تصور عن كيفية التعامل معهم سياسيا‪ ،‬سيما‬
‫وأن الصراع على المنطقة العربية أشتعل منذ آواخر القرن التاسع‪ .‬وقد استثنينا هذا‬
‫النوع من كتب التأريخ ألنه ال يفترض بمثل تلك الكتب‪ ،‬على أهميتها العلمية والتأريخية‬
‫المشهود لها‪ ،‬أن يحمل مؤلفيها مسؤولية أخالقية وسياسية تجاه المنطقة وأهلها‪.‬‬

‫ومن أبرز تلك الكتب التي صدرت في هذا السياق هناك كتاب" الرقة وأبعادها‬
‫االجتماعية" للباحثة الفرنسية صونيا فرا‪ .‬وكتاب "البدو"‪ ،‬بأجزائه األربعة لأللماني ماكس‬
‫أوبنهايم‪ ،‬وكتاب "قبائل بدو الفرات" آلن بلنت‪.‬‬

‫‪ -2‬معبد الحسون‪ ،‬الرقة من العشيرة إلى المدينة‪ :‬المخفر العثماني‪ ..‬دويالت عابرة‪ ..‬البعث والجهاديون‪ .‬راجع المقال على الرابط‬
‫التالي‪.http://alaalam.org/ar/society-and-culture-ar/item/540-655220617 :‬‬

‫‪15‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ما يمكن الركون إليه في نهاية هذا المقال ثالث قضايا نريد إبرازها هنا‪:‬‬

‫األولى‪ ،‬أنه ال يمكن لوم مؤرخي الرقة كثي ار على سطحية إنتاجهم وبالدة كتاباتهم‪،‬‬
‫فوضع مؤرخي مناطق سورية األخرى ليس أحسن حاال‪ .‬ولكن ما نريد أن نقوله إن‬
‫على المثقف أال يقبل على نفسه أن يكون مجرد آلة تعمل ما هو مطلوب منها دون‬
‫أي غيرة على منطقته ومصالحها التي تناهبها كل من وطأ أرضها‪ .‬ال يجوز أن يكون‬
‫المثقف مجرد جزء مما تسميه حنا أرندت حياة "التفاهة" التي ينمط الحاكم المتسلط‬
‫البشر عن طريقها‪.‬‬

‫الثانية‪ ،‬أن التفكير التاريخي قد يلعب دو ار محركا للتاريخ ومحف از إلمكانات موجودة‬
‫فيه‪ ،‬مثلما قد يتحول إلى معيق للتاريخ وطامر للمشكالت التي يعاني منها شعب من‬
‫الشعوب‪ .‬التأريخ بالطرق التي تحدثنا عنها يخلق نوعا من الوضع المزيف الذي ِ‬
‫يخدر‬
‫الناس‪ ،‬ويجعلهم يتخيلون أنهم راضين عن حياتهم‪ ،‬ويفخرون بتراثه وقالعه‪ ،‬في حين‬
‫أن حياتهم أصعب مما تخيلته كتب التأريخ تلك‪ .‬وهو ما أظهرته انتفاضة السوريين‬
‫عام ‪ ،1122‬حتى أن كون الرقة أول محافظ "تحررت" من النظام األسدي يبدو أنه ذو‬
‫دالله‪ .‬يذكر أن مدرسة الحوليات الفرنسية‪ ،‬وال سيما فرناند بروديل وجاك لوغوف‪ ،‬تؤكد‬
‫أن التأريخ قد يصنع الواقع أكثر مما يعبر عنه في كثير من األحيان‪.‬‬

‫الثالثة‪ ،‬أن تلك الكتب تعطي انطباعا غير دقيق بأن أهل محافظة الرقة‪ ،‬ومنطقة الفرات‬
‫عموما‪ ،‬ما زالوا يعيشون حياة بدوية تقليدية‪ ،‬وما زالت العشيرة هي المكون األساسي‬
‫في المنطقة‪ ،‬والكيان الذي يستمد الرقاوي منها قيمه وأخالقه وآراءه السياسية‪ .‬والحقيقة‬
‫أن األمر ليس كذلك فقد بينت الثورة السورية أن االنتماء العشائري هو انتماء ثقافي‬
‫واجتماعي‪ ،‬وليس له بعد سياسي‪ ،‬بدليل أن أهل العشرة الواحدة‪ ،‬بل حتى إبناء األسرة‬
‫الواحدة انقسموا (أفقيا) بين مؤيد ومعارض‪ .‬مما يعني أن العشيرة في ذهن الرقاوي هي‬
‫كيان اجتماعي وثقافي وليس لها أي دور سياسي‪ .‬فالرقاوي يحترم عشيرته‪ ،‬و ِيقدر‬
‫مكانتها‪ ،‬ويحرص على القيام بواجباته تجاه العشيرة ويعتز بها‪ ،‬لكنه بنفس الوقت ليس‬

‫‪16‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لديه أي قناعة سياسية بشيوخها ودورهم السياسي‪ .‬وهذا يعني أن الرقاوي بات متمدنا‬
‫في تفكيره السياسي واالجتماعي أكثر مما تعتقد تلك الكتب التي تكتب عنه‪ .‬ولعل هذا‬
‫الوع ي السياسي هو ما يفسر أن كل األطراف التي تسعى للسيطرة على الرقة اليوم‬
‫تجد صعوبة في أن تجعل من أهلها حاضنة سياسية لهم‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫شهادة شخصية وذكريات عن الحياة الثقافية في الرقة‬

‫حمزة رستناوي‬

‫شاعر وباحث وطبيب سوري مقيم في كندا‬

‫كنت في السنة الخامسة في كلية الطب – جامعة حلب‪ ،‬وفي صيف ‪2661‬‬ ‫عندما ُ‬
‫المعسكر االنتاجي‪ ،‬كان طريقا صحراويا طويال‬
‫ركبنا القطار نحو الرقة لغرض قضاء ُ‬
‫ُممال ينتهي إلى خط أزرق مخضر طويل ُيسمى الفرات ونقاط متراكمة من أشجار‬
‫تُشبه الواحة‪ ،‬إنها حرس حدود النهر! كان ُمعسك ار لطيفا يجمع ما بين العمل والترفيه‬
‫المجتمعات‪ .‬كانت المرة األولى التي أتعرف فيها على جغرافيا‬
‫ومتعة اكتشاف المكان و ُ‬
‫ومجتمعات الجزيرة السورية‪ .‬لفت انتباهي جماليات الليل في الرقة‪ ،‬حيث كان من‬ ‫ُ‬
‫عادتنا السهر على ضفاف الفرات تحت الجسر القديم واالستماع إلى الغناء العراقي ‪/‬‬
‫الفراتي غير المألوف بالنسبة لي! استمعنا إلى شباب في جوارنا يعزفون على الدف‬
‫وأحدهم يغني الموليا‪:‬‬

‫بشفاي‬
‫ْ‬ ‫جرحي يلچمو النفس ما من رجا‬
‫بشفاي‬
‫ْ‬ ‫روحي صعدت بالسما واسمك بقى‬
‫بجفاي‬
‫ْ‬ ‫بس قول يابو زلف وش ورطك‬
‫يمتى ترد لي ارتوي ‪ ....‬وردي بال ميّه‬

‫فجأة ينتابك إحساس داهم باالنتماء للمكان والناس‪ ،‬وفجأة ينفتح المشهد على طوفان‬
‫وشيك يحتمل الحب واألسى‪ .‬استعنت بأحد األصدقاء لترجمة معاني الكلمات والدخول‬
‫في عمق ثقافة وشيكة الغياب‪ .‬من بعدها نما إحساس من األلفة حيث كان الليل والنهر‬
‫ُمتنفسنا اليومي آنذاك‪ .‬هذا الليل الرقاوي الذي قال فيه الشاعر نزار قباني ُمخاطبا‬

‫‪18‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ُمضيفه القاص عبد السالم العجيلي في زيارته اليتيمة إلى الرقة ‪( 2626‬أعطني ليل‬
‫أعطيك نساء دمشق)‪.‬‬
‫َ‬ ‫الرقة‪ ،‬و‬

‫ليس بعيداً عن الرقة على الطريق الشرقي المتجه نحو دير الزور وفي وقت قيظ‬
‫الظهيرة توقف بنا سائق الباص في قرية تُسمى رطلة‪ ،‬وثم مشينا باتجاه سفح جبل يطل‬
‫على وادي الفرات وصوال باتجاه كهف رطلة وهو كهف طبيعي واسع يمتد لعشرات‬
‫األمتار في عمق الجبل ينتهي ببركة ماء صغيرة‪ .‬كان الكهف بارداً بما يكفي لتنكمش‬
‫على طفولة تركتها منذ سنوات‪ ،‬وكان هادئاً بما يكفي لتغادر ضجيج اآلخرين ومشاغال‬
‫تقلق البال‪ .‬بعد ذلك مشى معنا السائق غير بعيد عن الكهف نحو حفرة طبيعية كبيرة‬
‫طرها وعمقها حوالي ‪ 21‬متر‪ ،‬وطلب منا التوقف‬
‫في األرض تسمى الدويخة ُيقدر َق ُ‬
‫تلبسه‬
‫على بعد أمتار منها كونها مسكونة بالسعالى والجن ومن ينظر في عمقها سوف َي ُ‬
‫ويصاب بالجنون‪.‬‬
‫الجن ُ‬
‫بعدئذ سوف يتوقف الزمن ألربع سنوات وأعود ثانية إلى الرقة في صيف ‪ 9111‬لقضاء‬
‫سنة ونصف كطبيب مقيم في مستشفى الرقة الوطني‪ .‬ربما كانت هذه السنوات هي‬
‫األكثر تأسيسا في مسيرتي األدبية والفكرية‪ .‬حتى اآلن‪ ،‬بعد عشرين سنة ما يزال مثقفي‬
‫كنت شاع ار ُمبتدئا‬
‫قدمت إلى الرقة ُ‬
‫ُ‬ ‫الرقة على رأس قائمة أصدقائي ومعارفي‪ .‬عندما‬
‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫في طور التشكل‪ ،‬نشر ُت قصيدتين يتيمتين فقط في جريدة األسبوع األدبي‪،‬‬
‫ُمهتما بالتعرف واالنخراط في الوسط الثقافي الرقي‪ ،‬هذا الوسط الغني بمثقفيه ومبدعيه‬
‫شهدت قاعة المركز الثقافي القديم‬
‫ْ‬ ‫بما يتجاوز الحجم الديمغرافي لمدينة سورية صغيرة‪.‬‬
‫في الرقة أول أمسية شعرية لي‪ ،‬كما شهد المركز الثقافي الجديد ندوة نقدية عقب‬
‫صدور مجموعتي األولى (طريق بال أقدام‪ )1112 ،‬حضرها ربما أكثر من ‪211‬‬
‫المهتمين‪.‬‬
‫شخص من ُ‬
‫سأتوقف هنا لإلشارة إلى بضع أصدقاء على سبيل االستشهاد ال الحصر‪ ،‬أصدقاء من‬
‫الوسط األدبي الرقي في محطات مميزة‪ .‬سأتوقف أوال عند المرحوم الشاعر عبد اللطيف‬

‫‪19‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خطاب ‪ ،‬وهو شاعر من جيل الثمانينات‪ .‬عبداللطيف شخصية ُمختلفة بكل ما تعنيه‬
‫هذه الكلمة ابتداء من طريقة تسريح شعره الطويل وطريقة كالمه‪ ،‬كان يجلس بشكل‬
‫شبه دائم في مقهى الواحة‪ ،‬كان نموذجا للمثقف الليبرالي الناقد لثقافة القصور المجتمعي‬
‫كنت قد انتهيت من إعداد مخطوط‬
‫والغير معارض‪ /‬الغير مؤيد للسلطة‪ .‬في حينها ُ‬
‫مجموعتي الشعرية األولى (طريق بال أقدام) وأخذت موافقة و ازرة االعالم عليها وكنت‬
‫أعطيت المخطوط له للرأي النقدي‪ ،‬بعد بضعة أيام جاءني‬
‫ُ‬ ‫متحمسا لطباعتها‪.‬‬
‫بالمخطوط مع مالحظات كثيرة والتوصية بعدم طباعة المجموعة وحذف قصائد‪،‬‬
‫أعدت النظر في بعض القصائد وأعطيته المخطوط الجديد بعد حوالي شهر‬
‫ُ‬ ‫وبالفعل‬
‫لك‪ :‬أيها الشاعر) وبعد صدور الكتاب أجرى لقاء‬
‫ليقول لي (اآلن أستطيع القول َ‬
‫كنت أناديه (بالغرنوق الدنف) الذي هو‬
‫صحفيا معي تم نشره في مجلة صوت الرافقة‪ُ .‬‬
‫وكنت أناديه أحياناً باألمير‪ ،‬في إشارة إلى مجموعته‬
‫ُ‬ ‫عنوان أحد مجموعاته الشعرية‪.‬‬
‫(زول أمير شرقي) الفائزة بجائزة مجلة الناقد قبل ذلك‪ .‬والغرنوق‪ ،‬هو طائر نهري جميل‬
‫يغلب االرتباك واالحتراس على سلوكه‪.‬‬

‫في أحد األمسيات ألقى عبد اللطيف خطاب قصيدته (سفر الرمل) في المركز الثقافي‬
‫القديم‪ ،‬وقد تركت تلك القصيدة أكث ار شديدا في نفسي‪ ،‬ليس من جهة شعريتها الغرائبية‬
‫المختلفة بل من جهة طريقة إلقائه المسرحية‪ ،‬وكون القصيدة تتحوى شخصيات متعددة‬
‫ُ‬
‫فكانت أشبه بالميلودراما‪ ،‬نمت صداقة متينة‪ ،‬وكان الصديق القاص ماجد عويد كثي ار‬
‫ما يجمعنا على طاولته في أحد المقاصف الفراتية‪ ،‬ومن ميزات ماجد العويد أنه يتحدث‬
‫المترفة وكأنه ينطق على لسان أحد شخصياته القصصية‪ .‬كان‬
‫اللغة العربية الفصحى ُ‬
‫عبداللطيف خطاب وماجد العويد يتنافسان على زعامة منصب العازب األول‪ ،‬ولكن‬
‫عبداللطيف سبقه إلى الزواج على حين غرة‪ ،‬فقد تطاول بهما عهد العزوبية‪ .‬أتذكر‬
‫آخر مرة زرته فيها قادما من دمشق كانت زوجته حامل ‪ ..‬بعد ذلك سوف أتفاجئ‬
‫بخبر وفاته أثناء عملية جراحية في القلب ‪ 1116‬تاركا طفلة جميلة إسمها لين‪ .‬وأربع‬
‫مجموعات شعرية وذكريات لشاعر ال يغادر الذاكرة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تعود بي الذاكرة اآلن إلى مقهى الفنان التشكيلي الراحل ياسين الجدوع حيث كان من‬
‫عادتي االلتقاء شبه اليومي برفقة القاص ماجد العويد والشاعر باسم القاسم والشاعر‬
‫(المختار) نجم الدرويش وكان من عادة الدكتور عبد السالم العجيلي أن يأتي الى‬
‫المقتصدة‬
‫مقهى صديقه ياسين الجدوع عقب صالة العشاء حيث كنا نستمع الى أحاديثه ُ‬
‫والرصينة‪ ،‬كان ياسين يقيم معرضا شبه دائم في المقهى لرسوم سريالية بقلم الرصاص‬
‫على الكرتون تشبه رسومات سكان الكهوف أو خربشات طفل صغير‪ ..‬رسوم تثير‬
‫أنه خصص أسبوعا لعرض رسومات‬ ‫وتبعث على القلق‪ .‬أتذكر ُ‬
‫ُ‬ ‫الكثير من التساؤالت‬
‫بعنوان الرابعة صباحا! تستلهم اللوحات مادتها من سؤال‪ :‬ما الذي يفعله الناس في‬
‫الساعة الرابعة صباحا؟ أم ترضع ابنها‪ ،‬ربما رجل سكران عائد من حانة! عائلة تغط‬
‫في نوم عميق! قطط تفيض بها الشهوة حد المطاردة والصراخ!‬

‫شخصيته مع ادارة المقهى‪ ،‬فكثي ار ما‬


‫ُ‬ ‫كان ياسين الجدوع عصبي المزاج ال تتناسب‬
‫كان ُيلزمنا – نحن أصدقائه‪ -‬بشرب شاي أو قهوة سيئة التحضير‪ ..‬وأحيانا يدخل في‬
‫معارك كالمية وعراك مع المقهى المجاور الذي كان ألقرباء له‪ ،‬و مع ذلك كان قريبا‬
‫الى نفسي‪.‬‬

‫المسيرات التي كانت‬


‫شاركت ألول مرة في حياتي في مظاهرة خارج إطار ُ‬
‫ُ‬ ‫في الرقة‬
‫تنظمها السلطة‪ ،‬فقد صادف وجودي في الرقة بدايات ما ُعرف الحقا بربيع دمشق‬
‫المعارضين‬
‫فت على مجموعة من المثقفين والسياسيين ُ‬‫(‪ ،)1112-1111‬وهناك تعر ُ‬
‫للديكتاتورية أمثال د‪ .‬اسماعيل الحامض ( مختطف من قبل داعش ) وخليل حمسورك‬
‫والشاعر معاذ هويدي وأحمد مولود طيار و د‪ .‬محمود صارم و محمد غانم و د‪.‬‬
‫محمد الحاج صالح وغيرهم‪ِ .‬‬
‫كانت المرة األول التي أتعرف فيها على ُمعارضين من‬
‫جابت شوارع الرقة تضامنا مع‬
‫ْ‬ ‫غير الخلفية اإلسالمية‪ ،‬أتذكر يوم خرجنا في مظاهرة‬
‫أهلنا في مخيم جنين‪ ،‬مظاهرة حقيقية من دون صور ومن دون شعارات (اآلب القائد)‬
‫وبهتافات ُمحرجة للنظام األسدي‪ ،‬مظاهرة فاجأت الحزب وأجهزة األمن التي قامت‬

‫‪21‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫باستدعاء د‪ .‬محمد الحاج صالح والمحامي عبدالله الخليل ( ُمختطف من قبل داعش)‬
‫وتهديدهما على خلفية تلك المظاهرة‪ .‬بعدها نمت صداقة قوية مع الدكتور اسماعيل‬
‫كنت أزوره في عيادته مع موعد‬
‫ُ‬ ‫الحامض رحمه الله أو رده ُمعافا إلى أهله‪ ،‬ال نعلم!‬
‫المعارض لسلطة االستبداد‬
‫المثقف الشجاع ُ‬
‫وجدت فيه شخصية ُ‬ ‫ُ‬ ‫انتهاء الدوام المسائي‪،‬‬
‫والمعارض لالسالم السياسي وثقافة القصور المجتمعي معا‪ ،‬كان كتلة متحركة من‬
‫الحماس والتفاؤل‪.‬‬

‫الحقا وأثناء زيارتي للرقة ‪ 1116‬دعاني لعشاء في مطعم المحطة (محطة القطار)‬
‫كان يائسا ُمحبطا من حجم التفاعل والتأييد الشعبي لحسن نصرالله بعد حرب تموز‬
‫‪ 1116‬قال لي بما معناه (لو قام السوريون بثورة على نظام االستبداد األسدي فسيكون‬
‫حزب الله أول من يطلق عليهم النار! نحن شعب عاطفي وحماسي يا صديقي) بعدها‬
‫حاول السفر لفرنسا لمتابعة تخصص طبي ولكن السفارة الفرنسية رفضت طلب الفي از‪،‬‬
‫اصلت معه‪ ،‬لكن حالما بدأت ش اررة الثورة السورية‬
‫مما اضطره للسفر للسعودية وهناك تو ُ‬
‫ترك السعودية وقالي لي على الهاتف أنا مكاني بين الناس والشعب‪ ،‬هذه اللحظة التي‬
‫كنت انتظرها طول عمري‪ ،‬كرس ماله وجهده وعلمه لخدمة الثورة في الرقة ومعالجة‬
‫ُ‬
‫الجرحى‪ ،‬ومع سيطرة داعش على الرقة تم اختطافه‪ ،‬وال أحد يعلم شيئا عن مصيره‪..‬‬
‫كسرت قلبي يا أبا حازم!‬
‫ْ‬

‫الملفتة في الرقة والتي عاينتها كانت ظاهرة المقاهي والجلسات الثقافية‬


‫من الظواهر ُ‬
‫أشرت إلى مقهى الفنان التشكيلي ياسين الجدوع وإلى جواره يوجد مقهى‬
‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫ُ‬
‫فت على‪ :‬يوسف‬‫الواحة وهو مقهى يغلب على رواده األدباء القصاصين هناك تعر ُ‬
‫دعيس ومحمد الحاج صالح وابراهيم العلوش ومعن حسون ومحمد جاسم الحميدي‬
‫وتركي رمضان‪ .‬على الطاولة غالبا ما تجد جريدة الحياة والشرق األوسط والسفير‬
‫متاحة للتصفح‪ ،‬ونقاشات أدبية سياسية عميقة مع قليل وكثير من النميمة الغير مؤذية‪،‬‬
‫كان جلهم من القصاصين‪ ،‬حيث كانت الرقة في حينها تلقب بعاصمة القصة القصيرة‬

‫‪22‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في سوريا‪ .‬وفقا إلحصائية أجراها الدكتور نضال الصالح كان عدد المجموعات‬
‫سمعت هذه المعلومة منه‬
‫ُ‬ ‫المطبوعة ألدباء الرقة يتجاوز السبعين مجموعة قصصية (‬
‫في محاضرة ألقاها في فرع اتحاد الكتاب العرب‪ -‬الرقة)‪ .‬كان محل القاص يوسف‬
‫دعيس للتصوير بمثابة جلسة ثقافية مسائية محببة للقلب وجمعية ثقافية مصغرة‪،‬‬
‫وكذلك كانت مكتبة بورسعيد في شارع المنصور لصاحبها أحمد الخابور أيضا بمثابة‬
‫ملتقى عابر للمثقفين مشتري ومتصفحي الجرائد والمجالت أيضا‪ ،‬وقد شهدت حديقة‬
‫بيت الشاعر عايد سراج كذلك جلسات شعرية جميلة حيث كان يستقبلنا وهو يسقي‬
‫النباتات ويرشرش األرض لنستمتع برائحة تشبه ما بعد المطر‪ ،‬كان ينضم إلينا بعض‬
‫األصدقاء أحيانا كالشاعر حسام الف ار والشاعر ابراهيم النمر‪.‬‬

‫كان المركز الثقافي في الرقة نشيطا حيث لعب الشاعر ابراهيم الزيدي وآخرين دور‬
‫كبي ار في تنظيم نشاطات واحتفاليات ثقافية كبيرة من قبيل مهرجان عبد السالم العجيلي‬
‫للرواية العربية بدوراته المتعددة وبمشاركة عدد كبير من النقاد والروائيين العرب وحول‬
‫العالم ‪ ..‬حيث كان يتم تخصيص كل دورة في المهرجان لمناقشة موضوع معين‪.‬‬

‫ال يكتمل الحديث عن المشهد الثقافي في الرقة دون الحديث عن طقس الرحلة النهرية‬
‫من توتول إلى ماري‪ .‬توتول هو االسم القديم لمدينة الرقة‪ ،‬وماري هي المملكة العمورية‬
‫الشهيرة التي تقع حاليا في موقع تل الحريري قرب الحدود السورية العراقية‪ .‬الرحلة هي‬
‫طقس شبه متكرر على مدى سنوات‪ ،‬حيث أول من قام بها الفنان التشكيلي محمد‬
‫العقلة وعز الدين بوزان ‪ 2666‬ومن ثم تكررت على مدى سنوات الحقة بشكل غير‬
‫منتظم‪ .‬كان لي متعة المشاركة فيها في شهر آب ‪ .1112‬انطلقت الرحلة من مدينة‬
‫الرقة على متن قارب بدائي بجهد شخصي من األستاذ أحمد جبرائيل (أبو زاور) وهو‬
‫ميكانيكي المهنة‪ ،‬يعيش الحياة بطريقة شعرية وقد أمتعنا كثي ار بحديثة عن سيرة أجداده‬
‫الشيشان وكيف تم تهجيرهم ومن ثم استيطانهم في ريف الرقة الشمالي‪ .‬شارك في‬
‫الرحلة الشاعر طالب هماش والناقد هايل الطالب والروائية فوزية المرعي والفنان‬

‫‪23‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫التشكيلي حسن مصطفى والمصور سلمو سلمو والباحث أحمد سويحة‪ .‬استمرت الرحلة‬
‫حوالي عشرة أيام وقطعت حوالي ‪ 211‬كم‪ .‬فكرة الرحلة هي استعادة خطى رحلة قديمة‬
‫في األلف الثاني قبل الميالد حيث تم زفاف األميرة (شيبتو) ابنة ملك أوغاريت إلى‬
‫ابن ملك ماري (ياريمليم) وقد وجدت تفاصيل هذه الرحلة في ُّ‬
‫الرقم التي تم العثور عليها‬
‫سمعت من أصدقاء الرحلة الرقاويين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫في مكتبة القصر الملكي في ماري‪ ..‬هكذا‬

‫في الحقيقة كانت تجربة الرحلة النهرية حدثا فريدا وتجربة غنية على المستوى‬
‫الشخصي‪ ،‬حيث تتشكل عائلة مؤقتة تضم مجموعة من المثقفين قد يلتقون ببعضهم‬
‫دون سابق معرفة‪ ،‬هناك تحدي االستكشاف ومتعة العيش ضمن جماعة! ويحضرني‬
‫هنا مشهد انعكاس القمر والنجوم على صفحة الماء المترقرق‪ ،‬كما ال أجمل من منظر‬
‫الحوائج النهرية‪ ،‬وهي جزر نهرية صغيرة كثيفة األشجار كنا نستريح فيها لتناول الطعام‬
‫والنوم لفترات قصيرة‪ .‬كما توقفنا في مواقع أثرية عديدة على ضفتي النهر كمدينتي‬
‫حلبية زالبية قبل دير الزور ومدينة العشارة بعد دير الزور‪ .‬كان لنا محطة في مدينة‬
‫دير الزور‪ ،‬وقد استضافنا الصديق الشاعر بشير عاني في منزله (استشهد على يد‬
‫داعش الحقا) وخالل مسيرة الرحلة كتبت فوزية الرعي رواية بعنوان (قارب عشتار)‬
‫المعاش‪.‬‬
‫خالل فترة الرحلة استلهمتها من الحدث التاريخي والحاضر ُ‬
‫الحياة التشكيلة كما عاينتها في الرقة غنية على مستوى عدد الفنانين التشكيليين‬
‫ونتاجاتهم‪ ،‬ولكن دونما تنظيم وعمل ثقافي مؤسساتي‪ ،‬ودونما حضور ُمستحق يتجاوز‬
‫حدود المحافظة‪ .‬يذكرني هنا المرحوم محمود غزال التي كانت معظم أعماله ُمستوحاة‬
‫من الطقوس الصوفية ورقصة المولوية ‪ ،‬وكذلك المرحوم موسى الحمادي حيث يحضر‬
‫التراث المعماري وتفاصيل الحياة الريفية للمرأة الفراتية في أعماله‪ ،‬كما يمكن االشارة‬
‫إلى أعمال الفنان هاشم األلوسي ذات الطبيعة السريالية الصادمة والمدهشة وقد أهداني‬
‫أحد أعماله كغالف لمجموعتي الشعرية الثانية ( ملكوت النرجس)‪ ،‬كذلك الفنان خليل‬
‫المجتهد في تقديم‬ ‫ق‬
‫المختص في الحر على الخشب ‪ ،‬والصديق موسى الرمو ُ‬
‫حمسورك ُ‬

‫‪24‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مجسمات حداثية‪ ،‬حيث أهداني بمناسبة زواجي مجسم مدهش بعنوان (عازف الغيتار)‬
‫كنت أعرضه في غرفة الضيوف وكثير‬ ‫مشغول من خردة الحديد وجنازير الدراجات‪ُ .‬‬
‫من زوار بيتي – من خارج الوسط الثقافي‪ -‬من األقارب واألصدقاء كانو يستغربون‬
‫المجسم حيث كان مادة ُمناسبة لالستغراب والسخرية من الفن الحديث في‬ ‫وجود هذا ُ‬
‫جو من الدعابة الغير مؤذية‪.‬‬

‫كما يمكن هنا التوقف قليال عند فرقة العجيلي للرقص الشعبي التي أسسها اسماعيل‬
‫العجيلي وساهمت في تقديم الفلكلور الرقي سوريا بشكل جميل والئق‪.‬‬

‫في الختام يوجد شعور عند أغلب مثقفي الرقة بكون الرقة محافظة ُمهمشة من قبل‬
‫السلطة وأن األديب الرقي ُمحارب! في الحقيقة أختلف مع هذا الرأي فالشعور بالتهميش‬
‫هو قاسم مشترك لكل السوريين‪ ،‬فأي محافظة سورية سوف تستمع فيها لحديث مشابه‬
‫بما يشبه محافظات الساحل السوري‪ .‬القضية تتعلق بالمركز والهوامش ‪ ..‬فالمثقف‬
‫الرقاوي المقيم في دمشق سوف يحظى بفرصة أكبر للتواصل مع وسائل االعالم‬
‫والمسؤولين عن تسيير حال الثقافة السورية‪ ،‬وال يوجد قرار ُمسبق بتهميش الرقة أو‬
‫غيرها ثقافيا‪ .‬بغض النظر عن هذا الرأي النمطي قدمت الرقة عددا كبير من المبدعين‬
‫السوريين وشهدت حياة ثقافية غنية بما يتجاوز حجمها الديمغرافي‪ .‬لنحاول تقديم‬
‫اجابات حول ذلك؟‬

‫أوال‪ -‬ربما شكلت ريادة الدكتور عبد السالم العجيلي األدبية نموذجا ُملهما لألجيال‬
‫الالحقة من القصاصين والروائيين في الرقة‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬لنتذكر أن مدينة الرقة كانت مجرد بلدة صغيرة في النصف األول من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وقد شهدت مع وصول البعث للسلطة هجرة كبيرة إليها من ريف المنطقة‬
‫الممتد(الشوايا) ومن باقي المحافظات السورية أثناء تشييد سد الفرات وقبله بسبب‬
‫ُ‬
‫كوارث طبيعية وأحداث تسببت في نزوح عائالت كثيرة من السخنة ودير الزور وريف‬
‫حلب كذلك‪ .‬باختصار يوجد لدينا مزيج بشري متنوع اللهجات والثقافات المحلية‪ ،‬وعادة‬

‫‪25‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ما يرافق استيطان أهل الريف والبادية للمدن ظهور طفرات ابداعية ونجاحات فردية‬
‫في الجيل الثاني والثالث لألسر الوافدة من مبدأ التحدي واالستجابة في إثبات الذات‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬لم يستطع االخوان المسلمين والتيارات السلفية تحقيق اختراق للمجتمع الرقي‪،‬‬
‫حيث أن هذه التيارات بطبعها تعادي الفنون واآلداب‪ .‬كان المجتمع الرقي ُمتحر ار إلى‬
‫المعتاد جدا وجود‬
‫حد ما بالمقارنة مع مجتمعات المدن السورية الداخلية‪ ،‬فمثال من ُ‬
‫فتيات غير محجبات أو حجاب شكلي‪ ،‬ويوجد الكثير من األماكن والمطاعم التي تقدم‬
‫مشروبات كحولية مثال! ال وجود لظاهرة النقاب والحريم‪ ،‬فالمرأة الرقاوية عادة ما تستقبل‬
‫الضيف مثال دون حرج! ينبغي أن ال ُيفهم من كالمي أن ما سبق هو فقط مقياس‬
‫للحيوية والتعافي االجتماعي‪ ،‬ولكنه وضع أكثر انفتاحا من مجتمعات سورية أخرى‬
‫بالمقارنة! بالمقابل يشكو المجتمع الرقي من مرض التعصب القبلي والعشائرية والثأر‬
‫ونحوه بشكل أكبر من مجتمعات سورية مدينيه أخرى‪.‬‬

‫ولكي ال نستسلم لهاجس االستثناء والتفرد ‪ ..‬كانت الرقة محافظة ومدينة سورية تتشارك‬
‫مع المحافظات والمدن األخرى ثقافة االستبداد االجتماعي والسياسي في مملكة اسمها‬
‫سوريا األسد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الثقافة واآلداب في الرقة ‪ ..‬شهادة ورؤية‬

‫ثائر الناشف‬

‫روائي وإعالمي سوري يقيم في النمسا‬

‫ترتبط ذاكرتي األدبية أشد االرتباط بمدينة الرقة‪ ،‬تلك المدينة التي ولدت وترعرعت فيها‬
‫حتى سن التاسعة عشرة من عمري‪ ،‬ثم ما لبثت أن انتقلت بعدها إلى مدينة دمشق‬
‫بغية متابعة دراستي الجامعية‪ ،‬لكن األخيرة ورغم الزخم الثقافي واألدبي التي ظلت‬
‫تحظى به لكونها عاصمة البالد والمحفل األكبر لصناعة المشهدين األدبي والثقافي‪،‬‬
‫إال أن للرقة سحرها – إن جاز التعبير هنا‪ -‬األدبي الممزوج بعبق التاريخ وحكايات‬
‫الزمن الجميل من حاضر وماضي المدينة الراقدة على ضفاف نهر الفرات‪ ،‬فتاريخها‬
‫الممتد إلى حقب زمنية مختلفة‪ ،‬وتواصلها الجغرافي المستمر مع الحواضر المحيطة‬
‫ترك فيها إرثاً اجتماعياً وشعبياً كبي اًر‪ ،‬كان بمثابة الدعائم المتينة التي تأسس عليها‬
‫البناء الثقافي‪.‬‬

‫حركة التثقيف التي عرفتها الرقة في مطلع الستينات‪ ،‬كانت حركة وجدانية عفوية غير‬
‫موجهة ألي وجهة حزبية أو سياسية أو قبلية‪ ،‬حركة أنتجت على مدار السنوات الماضية‬
‫حراكاً ثقافياً متصاعداً بخالف بعض المدن األخرى التي لم يتجاوز حراكها الثقافي‬
‫حينذاك مرحلة النمو‪ ،‬ولم يكن للسلطة أي دور في دعم وتنشيط الحراك الثقافي الرقي‪،‬‬
‫بل كان مرتبطاً باهتمامات أبناء المدينة التي أنصبت في المقام األول على التحصيل‬
‫العلمي واألدبي‪ ،‬ولعل اإلهمال المتعمد الذي تعرضت له الرقة على مدى عقود‪ ،‬وأعني‬
‫هنا إهمال السلطة من خالل االكتفاء بالنظر إلى الرقة كمدينة نامية ذات طابع عشائري‬
‫وقبلي‪ ،‬كان كفيال بخلق التحفيز الذاتي للعديد من أبناء المدينة‪ ،‬وشحذ هممهم لتكون‬
‫الثقافة همهم وشأنهم األول في التعبير عن تطلعاتهم وطرح قضاياهم اإلنسانية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أود أن أؤكد هنا أن االهتمام الكبير بالثقافة ليس تعويضا عن أي نقص حيال أي‬
‫تهميش قد يشعر به بعض أبناء المدينة‪َّ ،‬‬
‫ألن حركة التثقيف عملية تواصلية من جيل‬
‫إلى آخر ال تنقطع إزاء رغبات عابرة أو عقد نقص طارئة‪.‬‬

‫حركة التثقيف في الرقة أشبه ما تكون بحركات التثقيف في محافظات الصعيد ودلتا‬
‫النيل في مصر بعدما زرتها وحضرت العديد من أنشطتها الثقافية‪ ،‬فتلك المحافظات‬
‫البسيطة والمتواضعة ‪-‬التي أنجبت للساحة الثقافية العربية ألمع وأرفع النخب الثقافية‪-‬‬
‫ما تزال تذكرني بالرقة‪ ،‬حتى إن واقعها االجتماعي والزراعي ال يختلف كثي ار عن واقع‬
‫الرقة‪ ،‬خاصة وأن السمات الثقافية فيها تجسد جوهر العالقة األصيلة التي تربط اإلنسان‬
‫باألرض‪ ،‬فال غرابة أبداً أن يرتقي األدب في تلك المدن طالما أنه يسمو باإلنسان‬
‫ويعكس ارتباطه الحميمي باألرض سواء أكان ذلك في سياق الشعر الشعبي أم في‬
‫سياق السرد والقصص بخالف المدن الكبرى ذات الطابع التجاري والصناعي‪ ،‬فرغم‬
‫التطور الثقافي السريع إال أن موضوعاته ال تالمس عادة البعد التاريخي واإلنساني‬
‫ألبناء األرض‪ ،‬لعل هذا المقاربة تحيلنا للنظر إلى الثقافة األوروبية السائدة في الغرب‬
‫في العصرين الكالسيكي والرومانسي (أدب الصالونات والبالط) وما كان يقابلها على‬
‫الطرف اآلخر في بلدان أوربا الشرقية (األدب الوجداني)‪.‬‬

‫ما أنوي التدليل عليه هنا‪ ،‬أن الثقافة العربية تأثرت بالتحوالت الكبرى التي شهدتها‬
‫الثقافة األوروبية‪ ،‬فيما ظلت حركة التثقيف في المدن العربية متأثرة كما الثقافة األوروبية‬
‫بالنظم البرجوازية والرأسمالية‪ ،‬وقبل ذلك بالنظام اإلقطاعي إذ ال يمكن أن تخلو الثقافة‬
‫من ذلك التأثر‪.‬‬

‫بدأت الكتابة األدبية في مطلع العشرينات من عمري تزامناً مع دراستي لآلداب واإلعالم‬
‫ُ‬
‫في جامعة دمشق‪ ،‬ولم تكن الكتابة مجرد رغبة عابرة أو نزوة‪ ،‬بل كانت فعالً معب اًر‬
‫عن مكنونات النفس واتجاهاتها‪ ،‬وكانت مكتبات الرقة ‪-‬رغم قلتها آنذاك‪ -‬ومعارض‬

‫‪28‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الكتاب وجهتي المفضلة التي تواصلت فيها تواصال حيا مع عوالم األدب والثقافتين‬
‫العربية والعالمية‪.‬‬

‫ولم تكن المكتبات وحدها ما كان ينقص الرقة في الثمانينات والتسعينات‪ ،‬إنما دور‬
‫النشر والصحف المطبوعة‪ ،‬ما اضطر العديد من كتاب المدينة ومثقفيها وصحفييها‬
‫إلى اللجوء إلى دمشق وبيروت لنشر إنتاجهم األدبي‪.‬‬

‫وبالتوازي مع النشاطات األدبية ز ُ‬


‫اولت الكتابة الصحفية في بعض الصحف اللبنانية‬
‫في سن مبكرة‪ ،‬وما إن خرجت من سورية إلى مصر حتى أصدرت أول مسرحية نصية‬
‫بعنوان الزمن الرديء‪ ،‬إذ كانت تلك المسرحية إيذاناً بانخراطي المبكر في غمار األدب‪،‬‬
‫وما زلت أطرح على نفسي سؤاالً ال ألبث أن أكرره من حين إلى آخر‪ ،‬ما الذي دفعني‬
‫إلى الكتابة األدبية في مصر؟ لماذا لم أفعل ذلك الشيء عينه في سورية خاصة وأنني‬
‫آثرت تدبيج المقاالت الصحفية والنقدية بلغة يشوبها الحذر والترقب؟‬
‫ُ‬

‫كان الخروج من سورية كفيال في كبح القلق والمخاوف التي راحت تطاردني إثر كل‬
‫كلمة كتبتها‪ ،‬فسرعان ما تنفست الصعداء‪ ،‬رغم الصعوبات الهائلة في المنفى الجديد‪،‬‬
‫لكن طاقة هائلة من النشاط حثتني وشحذت همتي للبدء من جديد‪ ،‬فكانت البداية من‬
‫بدأت أواكب‬
‫عالم المسرح‪ ،‬وما إن استفاقت الشعوب العربية من سباتها الطويل‪ ،‬حتى ُ‬
‫التغيرات التي المست جوهر الرواية العربية‪ ،‬فآثرت الخوص في غمار الرواية انطالقا‬
‫من التغيير الجذري الذي أصاب بنية المجتمع السوري‪.‬‬

‫توثيق يوميات الثورة كان هاجسي األكبر الذي صرفت جل اهتمامي من أجله‪ ،‬فكتبت‬
‫رواية قيامة الروح التي كانت أول رواياتي في حقبة الربيع العربي‪ ،‬إذ حرصت فيها‬
‫على توظيف السرد في خدمة التوثيق‪ ،‬ألن ما تتناقله األجيال عبر وسائل اإلعالم‬
‫المرئية ووسائل التواصل االجتماعي قد ال يخلد طويال في الذاكرة بخالف الكتابة‬
‫األدبية التي تبقى حاضرة في ذاكرة األجيال‪ ،‬كما أن المساحات الكبيرة التي أتيحت‬

‫‪29‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫للروائيين والكتاب في ذروة غليان الربيع العربي ما كان لها أن تتاح مطلقا في أوقات‬
‫سابقة‪.‬‬

‫لبثت بعد ذلك أن خضت في غمار الحرب السورية‪ ،‬فكتبت رواية المسغبة التي‬
‫وما ُ‬
‫جاءت فصولها طويلة ومتسلسلة بطول وتسلسل أحداث الحرب القاسية التي عرفتها‬
‫سورية خالل عقد كامل‪ ،‬فالمسغبة كرواية حرب استنفدت في الواقع جميع الطاقات‬
‫والجهود التي ادخرتها للكتابة فيما يتعلق بأحداث أخرى ذات صلة مباشرة بالحرب‪،‬‬
‫فروايات الحرب ليست كغيرها من الروايات الرومانسية أو البوليسية أو حتى‬
‫االجتماعية‪ ،‬إنها اإلحساس العميق لوجدان الجرحى والمصابين‪ ،‬األحياء واألموات‬
‫على حد سواء‪.‬‬

‫ال توجد حرب في الدنيا بال تداعيات‪ ،‬فكانت آثار الحرب وتداعياتها الجسيمة على‬
‫السوريين بمثابة خيوط السرد التي نسجت على منوالها رواية الكيميائي‪ ،‬فالخوض في‬
‫تداعيات الحرب ال يقل شأناً عن الخوض في تفاصيل الحرب نفسها‪ ،‬ال سيما أن‬
‫الحروب قد تنتهي بين عشية وضحاها‪ ،‬أما تداعياتها فليس من السهل تجاوزها في‬
‫زمن وجيز ما لم يتصالح المرء مع نفسه ومحيطه‪.‬‬

‫فالتصالح مع الذات في زمن ما بعد الحرب هو حجر الزاوية الذي نهضت عليه رواية‬
‫الكيميائي‪ ،‬فرغم أن التصالح في حالتنا كسوريين ليس متجسدا على أرض الواقع‪ ،‬إال‬
‫أن طرح الفكرة من خالل األدب كفيال بإيصالها إلى القراء الواعين الذين إن أخذوا بها‬
‫مأخذ الحكمة والحقيقة وقد يسهمون في شيوعها بين العامة‪.‬‬

‫معظم الروايات التي كتبتها تركزت موضوعاتها األساسية على القضية السورية بأبعادها‬
‫اإلنسانية والسياسية‪ ،‬لكن روايتي قمر أورشليم وجرح على جبين الرحالة ليوناردو‪ ،‬كانتا‬
‫مغايرتين تماما لجميع الروايات التي استحوذت على اهتمامي‪ ،‬فهاتان الروايتان تتجهان‬
‫إلى م عالجة العالقات اإلنسانية من المنظور العاطفي والفلسفي‪ ،‬وفيهما ابتعاد كامل‬
‫عن السرد التقليدي ذي النهايات المحتومة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فيما يبقى المسرح أحد أهم المحطات التي ال ألبث أن أتوقف عندها بين الفينة واألخرى‪،‬‬
‫رغم عزوف العديد من الناشرين عن المغامرة في إصدار المسرحيات النصية لضعف‬
‫لت أعتقد أنه‬
‫إقبال القراء على هذا النوع من األدب مقارنة بعوالم الرواية‪ ،‬لكنني ما ز ُ‬
‫لوال فضل النص المسرحي المرتكز على لغة الحوار بين الشخصيات المحورية لما‬
‫استطاعت الرواية أن تشق طريقها بين القراء‪.‬‬

‫أخي اًر أود القول بإيجاز إن الكاتب هو المحور الذي ينهض عليه األدب وليس العكس‪،‬‬
‫ولذا فإن الكاتب الذي يحوط نفسه بالحواجز والجدران ويكتب إرضاء لمن حوله قبل‬
‫أن ينظر إلى نفسه‪ ،‬ال شك أنه ُيغرق نفسه في دوامات هائلة دون أن يدرك المخرج‬
‫من ورطته‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المركز الثقافي بالرقة ال يصفق لجمهوره!‬

‫الطيار‬
‫أحمد مولود ّ‬
‫كاتب سوري يقيم في كندا‬

‫يتردد كثي اًر في لغة المسرح أن الجمهور هو بطل المسرحية‪ ،‬ال مسرح بدون جمهور‪،‬‬
‫الجمهور هو فاكهة العرض الخ‪ ،‬حتى أن هناك من يربط صعود وأداء الممثل‪ /‬الممثلة‬
‫على خشبة المسرح وفقا لمدى تفاعل ذلك الجمهور‪.‬‬

‫مما ال شك فيه أن تلك العالقة هي تفاعلية وال تستقيم اال بطرفي المعادلة معا‪ .‬وبما‬
‫أن هذا المقال يتحدث عن جمهور المركز الثقافي في الرقة‪ ،‬ال بأس من تلك االستعارات‬
‫المسرحية واسقاطها على واقع المركز الثقافي في مدينة الرقة‪ ،‬في محاولة للتعرف على‬
‫من هم أولئك الذين اعتلوا خشبة ذلك المسرح وكيف تفاعل ذلك الجمهور معهم‪ .‬يحاول‬
‫هذا المقال سبر تلك العالقة في فترة زمنية محددة هي التي أعقبت مجيء بشار األسد‬
‫الى السلطة بعد وفاة أبيه‪ ،‬عام ‪ ٠٢٢٢‬واآللة اإلعالمية للنظام في الترويج للمشروع‬
‫الدي أطلق عليه وقتها اسم "التطوير والتحديث"‪.‬‬

‫على عكس العواصم والمدن الكبيرة حيث التعقيد السمة األبرز‪ ،‬وال فائض من وقت‬
‫"يهدر"‪ ،‬ظلت الطرق قصيرة الى المركز الثقافي حيث ينزل اليه رواده من مسارب‬
‫قصيرة ال عناء فيها‪ ،‬تظللهم مساءات جميلة تأتي إليهم بنسمات صيف ندية بعد‬
‫انقضاء يوم حارق‪ .‬يتهادون اليه رويدا رويدا لحضور أمسية شعرية من هنا ومحاضرة‬
‫فكرية أو سياسية من هناك‪ ،‬فتمتلئ بهم مقاعده الخمسمائة حيث ال مكان لوافد جديد‪.‬‬

‫اشتعل هذا المركز ‪ ،‬كما اسلفت‪ ،‬في الفترة التي بات يطلق عليها اسم ربيع دمشق‪،‬‬
‫حيث كثرت المنتديات في معظم المحافظات السورية‪ ،‬وال يعتقد كاتب هذه السطور آن‬
‫ما يسمى تجربة المركز الثقافي في الرقة واستقطابها لنشاطات واسعة وأسماء بارزة‬

‫‪32‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يدخل في باب نظرية المؤامرة كما يروج بعض الرقاويين‪ ،‬من حيث أن الرقة كانت‬
‫حقل تجارب للنظام لتطبيق كثير من سياساته انطالقا من (مختبر التجارب‪ -‬الرقة)‪.‬‬
‫قد يكون للرقة مظلوميتها الخاصة وال شك في ذلك‪ ،‬انما هذه المظلومية ال تختلف‬
‫كثي ار عن أي مظلومية سورية أخرى تعاني منها كل محافظة سورية على حدة‪ ،‬جذرها‬
‫واحد‪ ،‬االختالف في الدرجة‪ ،‬انما هي من نفس نوع أخواتها‪ ،‬المظلمات السورية‬
‫االخرى‪.‬‬

‫جمهور المركز الثقافي آنذاك‪ ،‬وبعد الصفين األول والثاني حيث "المقامات واأللقاب‬
‫الرفيعة"‪ ،‬تتواضع تلك األلقاب وتتراجع الى صفوف الوسط حيث يتقاسمها قاص وشاعر‬
‫وشاعرة الى فنان تشكيلي الى روائي وروائية‪ ،‬كذلك صحافي من هنا وصحافية من‬
‫هناك الخ‪ .‬الصفوف في المنتصف حتى الصفوف األخيرة تتالقفها العامة‪ ،‬كذلك من‬
‫فضل االنزواء في البعيد يراقب المشهد بدون ضجيج‪.‬‬

‫ال شك ان معظم ذلك الجمهور وبكل تدرجاته "االثينية" (نسبة الى العاصمة اليونانية)‬
‫انتهاء‬
‫ابتداء من تلك الطبقة التي تتصدر الصفوف األولى مرو ار بصفوف المنتصف و ً‬ ‫ً‬
‫بتلك التي كتب عليها أن تعيش في المقاعد الخلفية‪ ،‬كلهم كانوا متعطشون للحوار وكل‬
‫بطريقته‪ .‬الغالبية كانت تستمع‪ ،‬واالستماع بالطبع هو جزء أصيل من الحوار‪ .‬من كان‬
‫يدير ذلك االستماع‪ ،‬أو الحوار ان شئتم وافدون قادمون من العاصمة دمشق أو ضيوف‬
‫عرب برتبة وزير أو كاتب ومحلل أو منظر استراتيجي‪ ،‬جاؤوا كلهم ليبلغوا رسالة‪ .‬تم‬
‫زركشة تلك الرسالة أو الرسائل وقيل في تقديمها من قبل خطيب مفوه‪ ،‬أو عريف‬
‫الحفل‪ ،‬كما درجت تسميته‪ ،‬أنها محاضرة فكرية أو سياسية‪ ،‬أما ما قيل عنها أمسيات‬
‫شعرية وقصص قصيرة‪ ،‬فال شأن لهذا المقال بها‪.‬‬

‫المبشرون‪ ،‬بكسر حرف الشين‪ ،‬كانوا في تلك الفترة يعرضون بضاعتهم ويغدقون عليها‬
‫أعذب العبارات فبرنامج "التحديث والتطوير" الذي هندسه الرئيس الوريث سينقل سوريا‬
‫من كل الجمود الذي هي فيه وسيضعها قريبا في مصاف دول النمور االسيوية‪ .‬تبارى‬

‫‪33‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في عرض تلك البضاعة فيلسوف شهير‪ ،‬لم يجد حرجا وهو يكرر بال انقطاع واعجاب‬
‫مفردة "الرئيس الشاب"‪ ،‬كذلك صحافي المع ورئيس تحرير جريدة عربية كان شعارها‬
‫الشهير "صوت الذين ال صوت لهم"‪ ،‬وكانت الترجمة العملية لذلك الشعار أن الصحافي‬
‫الالمع أوقف محاضرته وقت سماع آذان المغرب‪ .‬فخيم الصمت‪ ،‬ولم يتم قطعه اال‬
‫بعد "حيا على الصالح‪ ،‬حيا على الفالح"‪ ،‬عندها استُؤنف الضجيج‪ ،‬ببرنامج السيد‬
‫الرئيس الذي سينقل سوريا من عهد حافظ األسد الى عهد بشار األسد‪ ،‬ثم سيضعها‬
‫بالقرب من دول النمور اآلسيوية كما قيل للسوريين‪ .‬وقبل االنتهاء من عرض هذه‬
‫العينة السلطانية‪ ،‬البد من ذكر مفاحش وعورات الديموقراطية‪ ،‬تلك الديموقراطية التي‬
‫ال هم لها اال بإبراز قضايا المثليين والمثليات ويجب أن نحصن مجتمعنا من تلك‬
‫اآلفات الغريبة والغربية معا‪ ،‬كما جاء في "بيان تهديد الديموقراطية" للعالمة مهدي‬
‫دخل الله وزير االعالم السوري‪ ،‬في محاضرته في المركز الثقافي في الرقة عام‬
‫‪ .٠٢٢٢‬هذا غيض من فيض ما بشرنا به منظرو "التطوير والتحديث" ومن على‬
‫خشبة المركز الثقافي‪.‬‬

‫أما المبشرون‪ ،‬بفتح حرف الشين‪ ،‬والذين غصت بهم المقاعد الخلفية فلم يغيروا من‬
‫استراتيجيتهم في الحوار‪ ،‬ظلوا صامتين‪ ،‬يحدقون في وجوه المحاضرين‪ ،‬الذين يمرون‬
‫أمامهم تباعا‪ ،‬دون أن ينبسوا بكلمة‪ .‬حتى عندما طلب منهم الوزير العالمة رأيهم في‬
‫نوعية النظام الذي يحكمهم‪ ،‬لم يجيبوا‪ .‬لم يعيروه اهتماما عندما رفض تسمية النظام‬
‫الذي يمثله ‪ -‬من قبل أحد المتداخلين‪ -‬بأنه ينتمي الى صنف "الديموقراطيات الشعبية"‬
‫التي ازدهرت في الحقبة السوفيتية‪ .‬أدرك جمهور المركز الثقافي‪ ،‬ممن قبعوا في‬
‫الصفوف الخلفية‪ ،‬أنهم أمام نسخة مشوهة من غوبلز هتلري ال يكف عن الكذب‪ ،‬لذلك‬
‫ثاروا؛ غادروا مقاعدهم الخلفية‪ ،‬صعدوا الى المسرح‪ ،‬حطموا كل الديكور‪ ،‬هشموا كل‬
‫الميكروفونات الموجودة‪ ،‬ال حاجة لها فصوتهم أقوى‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بالعودة الى تلك الفئة الهالمية التي كانت تختبئ في الصفوف الوسطى‪ ،‬فهي ما انفكت‬
‫تتقدم وتتأخر في مقاعدها وفقا لبارومتر الجو السياسي واإلعالمي السائد‪ ،‬فتارة تتقدم‬
‫صفا واحدا أو اثنين الى االمام متماهية بالنسب الى أصحاب "المقامات الرفيعة"‬
‫تتشارك وإياهم حفالت السمر وفتات الموائد العامرة‪ ،‬ثم في سياقات أخرى تنزاح وتتراجع‬
‫مدعية أنها تنتمي الى هموم وأوجاع شاغلو المقاعد الخلفية‪ .‬يمكن القول إن هذه‬
‫الشريحة قد حافظت على مواقعها الميكيافيلية‪ ،‬ان استعرنا المصطلحات الفكرية‬
‫والسياسية‪ ،‬أو "تعرف من أين تؤكل الكتف" وفقا لتعبيرات شاغلوا المقاعد الخلفية‪ .‬هذه‬
‫الشريحة‪ ،‬التي لم ترتق الى مستوى الطبقة‪ ،‬ظلت تتعامل مع منتجها بشكل مهني‬
‫وحرفي‪ ،‬فتكنيك القصة القصيرة وتفعيلة القصيدة الحديثة ومذاهب الرواية وأشكال القص‬
‫الصحفي كان الطابع المسيطر على نقاشاتها‪ ،‬تماما كما يناقش الحداد موضوع السندان‬
‫والمطرقة‪ ،‬أو النجار نوعية الخشب الذي يستخدمه‪ ،‬أو عامل المجارير الصحية كيفية‬
‫تسليك تواليت ُسطم مجراه وامتأل بالخراء‪ .‬شاغلو مقاعد المنتصف هؤالء‪ ،‬وقبل تحطم‬
‫المسرح والديكور كانوا يناقشون جنس المالئكة وكانوا الحليف الموضوعي للنظام‬
‫السوري قبل الثورة‪.‬‬

‫تهدم المسرح على من فيه‪ ،‬اختلطت الصفوف‪ ،‬بات أصحاب "المقامات الرفيعة" عارون‬
‫تماما‪ ،‬عال الصراخ والزعيق على صفحات فيس بوك وتويتر من قبل تلك الفئة‬
‫الهالمية‪ ،‬شاغلوا مقاعد صفوف المنتصف‪ .‬ماذا حل بأهل المقاعد الخلفية؟ قسم كبير‬
‫منهم في مخيمات بائسة في دول الجوار‪ ،‬وقسم ال يستهان به القى ربه وقسم آخر‬
‫اليزال يراقب ويشاهد المنظر بصمت‪ ،‬بدون ضجيج‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة تاريخ وحضارة وثقافة‬

‫في ثالث مباحث‬

‫محمد العزو‬

‫ماجستير في اآلثار وتاريخ الفنون الجميلة من تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬كاتب وباحث في‬


‫اآلثار‪ ،‬وله كتاب بعنوان‪" :‬حضارة الفرات األوسط والبليخ ‪."0221‬‬

‫المبحث األول‪:‬‬

‫الرقتان بعيون شعراء العصرين "األموي" و"العباسي"‬

‫الرقتان "البيضاء" و"الرافقة" العظيمتان تغنى بهما شعراء العصرين "األموي" والعباسي‪،‬‬
‫على طول امتداد عمرها المجيد المديد‪ ،‬منذ تشييد "الرقة البيضاء" في العصور السابقة‬
‫على اإلسالم‪ ،‬ومنذ أن شيد الخليفة "المنصور" رفيقة "الرقة البيضاء" أو "الرافقة"‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حيث حفظت لنا الحوليات األدبية أجمل األبيات الشعرية الجميلة‪ ،‬والمعبرة‬
‫لشعراء العصرين األموي والعباسي‪ ،‬الذين قالوا بها أجمل الكلمات وأروعها‪ ،‬وأعذب‬
‫المفردات وأصدق المعاني‪ .‬الرقة تفاحة حمراء قالها شاعرها وابنها البار "ربيعة الرقي"‬
‫في قصيدة يمزج فيها بين الوصف والغزل في ألفاظ رشيقة وجميلة َيصف فيها رياض‬
‫"الرقة" وبساتينها الغناء‪:‬‬

‫وتفاحة غضة‪ /‬عقيقة الجوهر‬

‫تندت بماء الربيع‪ /‬في روضها األخضر‬

‫فجاءت كمثل العروس‪ /‬في الذها األحمر‬

‫وعطاءات الله من الثمار خير وبركة‪ ،‬كذلك هي الرقة الحوراء تفاحة يانعة حمراء‬
‫اخضلت بماء الربيع تشتهيها االنفس على مدى األيام والسنين‪ ،‬ولما بنى الخليفة‬

‫‪36‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"المنصور" مدينة "الرافقة" بالقرب من "الرقة البيضاء"‪ ،‬وما لبثت هاتان المدينتان "الرقة‬
‫البيضاء والرافقة"‪ ،‬أن اتصل بناؤهما‪ ،‬فأطلق عليهما معا اسم "الرقتين" قال البحتري‪:‬‬

‫لذكرى زمان بان منا بنظرة‪ /‬وعيش مضى بالرقتين رقيق‬

‫ومع مرور الزمن خربت "الرقة البيضاء"‪ ،‬وأخذت مدينة "الرافقة" إسمها ودورها‪ ،‬وصار‬
‫يطلق عليها إسم "الرقة"‪ ،‬ولما بنى الخليفة "هشام" مدينة "واسط الرقة" على الضفة‬
‫اليمنى "للفرات"‪ ،‬وحفر فيها قناتي "الهني والمري" ذكرهما الشاعر "جرير" في مدحه‬
‫"لهشام" فقال‪:‬‬

‫أوتيت من حدب الفرات جواريا‪ /‬منها الهني‪ ،‬وسائح في قرقري‬

‫"الهني والمري" بقيا حتى العصر العباسي‪ ،‬وقد ذكرهما "الصنوبري"‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫بين الهني إلى المري ‪ /‬إلى بساتين النقار‬

‫فالدير ذي التل المكلل‪ /‬بالشقائق والبهار‬

‫الدير هو "دير زكى" ذي التل ويقصد به تل البيعة‪.‬‬

‫كون هذه األماكن كلها متقاربة ومتصلة بجميع الرقات‪ :‬الرقة البيضاء‪ ،‬والرقة السوداء‪،‬‬
‫والرافقة‪ ،‬ورقة واسط‪ .‬وقد ذكر الشعراء بعض األماكن والمراكز المتصلة بالرقة‪ ،‬التي‬
‫صار يطلق عليها إسم الرقة‪ ،‬مثل دير زكى وهو أحد أديار السريان الذي كان مالصقا‬
‫لتل البيعة من الجهة الشرقية‪ ،‬وقد مر ذكره عند الشاعر الصنوبري‪ ،‬كما ذكره الشاعر‬
‫األموي عبيد الله بن قيس الرقيات‪ ،‬الذي كان ينزل الرقة في بعض أيامه‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫أقفرت الرقتان فالقلس‪ /‬فهو كأن لم يكن به أنس‬

‫فالدير أقوى إلى البليخ كما‪ /‬أقوت محاريب أمة درسوا‬

‫وكان الخليفة "هارون الرشيد" قد نزل هذا الدير واستطابه وبر أهله‪ ،‬وقال فيه شع ار‬
‫كقوله‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫سالما على النازح المغترب‪ /‬تحية صب به مكتئب‬

‫غزال مراتعه بالبليخ‪ /‬إلى دير زكى‪ ،‬فجسر الخشب‬

‫وألبي بكر الصنوبري مجموعة من األبيات الشعرية ومقطوعات في دير زكى‪ ،‬أوحت‬
‫بها الطبيعة الجميلة المحيطة بهذا الدير‪ ،‬وبساتينه ونهيراته وأدب أهله فيقول‪:‬‬

‫اراق سجاله بالرقتين‪ /‬جنوبي صخوب الجانبين‬

‫كأ ّن عناق نهري دير زكى‪ /‬إذا اعتنقا‪ ،‬عناق متيمين‬

‫أيا منتزهي في دير زكى‪ /‬ألم تك نزهتي بك نزهتين‬

‫أما الصالحية وهي حي من أحياء الرقة الجميلة تقع بجانب دير زكى من جهة الشرق‪،‬‬
‫اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي من بني العباس‪ ،‬وكانت ذات بساتين وقصور‬
‫جميلة‪ ،‬وقد ذكرها الشاعر منصور النمري في قوله‪:‬‬

‫قصور الصالحية كالعذارى‪ِ /‬ل َ‬


‫بسن حليهن ليوم عرس‬

‫تقنعها الرياض بكل نور‪ /‬وتضحكها مطالع كل شمس‬

‫والبطياس والعوالي‪ ،‬وهما من أحياء الرقة واقعان بالقرب من دير زكى والصالحية شرقا‬
‫لتجاورهما‪ ،‬وكانتا من األحياء الجميلة وكالهما من المنتزهات الريانة‪ ،‬وقد أغرت‬
‫الشعراء وطالب المتعة واللهو للتنعم بظاللها الوارفة ومياهها العذبة‪ ،‬فقال فيهما‬
‫الصنوبري‪:‬‬

‫إني طربت إلى زيتون بطياس‪ /‬فالصالحية ذات الورد واآلس‬

‫من ينس عهدهما يوما فلست له‪ /‬وإن تطاولت األيام بالناسي‬

‫يا موطنا كان من خير المواطن لي‪ /‬لما خلوت به ما بين جالسي‬

‫‪38‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أما البليخ ميناء حواضر التاريخ‪ ،‬وعوسج الماضي والحاضر‪ ،‬فقد تغنى به الشعراء‬
‫وبما حوله من بساتين وحدائق غناء‪ ،‬وببساتين الزيتون‪ ،‬ومن هؤالء الشعراء نذكر ابن‬
‫أحمر الباهلي‪ ،‬واألخطل‪ ،‬وابن صفار‪ ،‬وأبي نواس‪ ،‬والبحتري‪ ،‬وابن الرقيات‪ ،‬ومسلم‬
‫ابن الوليد‪ ،‬وأشجع السلمي‪ .‬قالوا في البليخ شع اًر جميال تنبئ عما خلفه البليخ‪ ،‬بما‬
‫حوله من أثر جميل في نفوس الزوار والمرتادين‪ ،‬ومن أجمل ما قيل في البليخ قول‬
‫أبي نواس الذي عاش حول البليخ‪ ،‬ثم غادره وأهله إلى العراق مكرهين يقول‪:‬‬

‫على شط البليخ وساكنيه‪ /‬سالم متيم لقي الجماما‬

‫اما مسلم ابن الوليد فيقول‪:‬‬

‫ألم تر أني بأرض الشام‪ /‬أطعت الهوى وشربت العُفا ار‬

‫لقد كدت من حب خمر البليخ‪ /‬أن أجعل الشام أهال ودا ار‬

‫وكان لقناة النيل حظ وافر في شعر محبي الرقة الحوراء‪ ،‬هذه القناة من أنهار الرقة‪،‬‬
‫التي حفرها حمورابي في االلف الثاني ق‪.‬م من غرب الرقة‪ ،‬ثم جددها هارون الرشيد‪،‬‬
‫وكان هذا النهر يروي مدينة الرقة أثناء ابتعاد الفرات جنوبا‪ ،‬ويروي المزارع شرق‬
‫المدينة‪ .‬قال فيه أبي بكر الصنوبري‪:‬‬

‫وقت ذاك البليخ يد الليالي‪ /‬وذاك النيل من متجاورين‬

‫ومن قرى الرقة القريبة التي تغنى بها الشعراء‪ ،‬وخلدوها بقصائدهم نذكر منها‪ :‬دامان‬
‫التي اشتهرت بتفاحها االحمر‪ ،‬وكذلك موضع المديبر‪ ،‬وتل زاذان‪ ،‬ومرج الضيازين‪،‬‬
‫والمازمان‪ ،‬والرابية‪ ،‬والرصافة‪ ،‬والمصلى‪ ،‬وغيرهما من المواضع الرقية‪ ،‬ومما ذكره‬
‫الشاعر الصنوبري‪ ،‬وغيره من الشعراء‪ .‬إذ يقول الصنوبري‪:‬‬

‫يضاحكها الفرات بكل فن‪ /‬فتضحك عن نضار ولجين‬

‫كأن األرض من حمر وصفر‪ /‬عروس تُجتلى في حُلتين‬

‫‪39‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هذا وقد سكن الرقة مجموعة من الشعراء‪ ،‬الذين قالوا بها اشعا اًر جميلة‪ ،‬منهم الشاعر‬
‫الملقب بأبي ِهفان المهزمي‪ ،‬الراوية والعالم بفنون الشعر واألدب‪ ،‬ذكر الرقة البيضاء‬
‫في قوله بمدح ابي العباس أحمد بن ثوابة الكاتب من كبار الوالة في العصر العباسي‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬

‫نفسي فداء أبي العباس من رجل‪ /‬لم ينسني قط في نأي‬

‫يقري‪ ،‬وبالرقة البيضاء منزله‪ /‬من بالعراقين من عجم ومن عرب‬

‫في القرن الرابع الهجري ظلت الرقة في أبهى حلتها‪ ،‬إذ بقيت محافظة على مكانتها‬
‫كمدينة‪ ،‬ذات موروث كبير ومعمورة بخيراتها وأمجادها‪ ،‬مزهوة بأبنائها الكرام‪ ،‬الذين هم‬
‫ينابيع الندى‪ ،‬هذا اإلطراء الجميل بالرقة والرقيين‪ ،‬جاء على لسان الشاعر أبي فراس‬
‫الحمداني بقوله‪:‬‬

‫المجد بالرقة مجموع‪ /‬والفضل مرئي ومسموع‬

‫إن بها كل عميم الندى‪ /‬يداه للجود ينابيع‬


‫وكل مبذول ِ‬
‫القرى‪ ،‬بيته‪ /‬على عُال العلياء مرفوع‬

‫وأثناء ثورة الن ازريين على سيف الدولة ومالحقته لهم‪ ،‬حيث تابع مسيرته حتى نزل الرقة‬
‫يريد اإليقاع ببني نمير وعفوه عنهم فيما بعد‪ ،‬حيث مدحه المتنبي بقوله‪:‬‬

‫ومال بها على "أرك" و"عرض"‪ /‬وأهل الرقتين لها مزار‬

‫وأجفل بالفرات بنو نمير‪ /‬وزأرهم الذي زأروا ُخوار‬

‫ومن الشعراء الذين ذكروا الرقة في شعرهم الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات القرشي‪،‬‬
‫وكان من المناصرين للزبيريين‪ ،‬وقبل بلوغه سن الثالثين ارتحل إلى الرقة‪ ،‬وهو في‬
‫الرقة سمع بمقتل مجموعة من أهله في معركة الحرة‪ ،‬فرثاهم في قصيدة‪ ،‬ونقم على‬
‫بني أمية‪ .‬وبعد موت يزيد تحولت أرض الجزيرة إلى ميادين حروب بين قيس وتغلب‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وبعد مقتل مصعب بن الزبير وزوال دولة الزبيريين‪ ،‬ناشد بن قيس الرقيات العفو من‬
‫بني أمية‪ ،‬واستشفع إلى عبد الملك بعبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد ذلك مدح بن‬
‫أبي طالب بقصيدة وهو في الرقة يقول فيها‪:‬‬

‫ذكرتك إذا فاض الفرات بأرضنا‪ /‬وجاش بأعلى الرقتين بحارها‬

‫وفي قصيدة مدح أخرى بها عبد العزيز بن مروان قال‪:‬‬

‫أهال وسهال بمن أتاك من الرقة‪ /‬يسري إليك في سخيه‬

‫ونرى شاعرنا يشير إلى ما أحدثته الفواجع والمواجع والحروب في الجزيرة الفراتية بقوله‪:‬‬

‫فالقلس‪ /‬فهو كأنه لم يكن فيه أنس‬


‫ُ‬ ‫اقفرت الرقتان‬

‫فالدير أقوى إلى البليخ كما‪ /‬اقوت محاريب أمة درسوا‬

‫وهذا الشاعر الكبير أبي تمام الطائي في القرن الثالث الهجري‪ ،‬كان يتردد على الرقة‬
‫من الموصل يمدح أجوادها فيقول في إحدى مدائحه‪:‬‬

‫بالشام أهلي‪ ،‬وبغداد الهوى‪ ،‬وأنا‪ /‬بالرقتين‪ ،‬وبالفسطاط إخواني‬

‫وما أظن النوى ترضى بما صنعت‪ /‬حتى تشافه بي أقصى خرسان‬

‫والشاعر البحتري وهو في الرقة مدح بني ناجية‪ ،‬وهم قوم من أجواد العرب‪ ،‬ووصفه‬
‫لمرابع الرقة التي نزلها وطاف بها‪ ،‬حيث يسترسل في وصف مروج الرقة الخضراء‬
‫وجمال الطبيعة فيها التي تختال كالفتاة الناعمة الحسناء في حللها الزاهية المزركشة‬
‫فيقول‪:‬‬

‫والرقة البيضاء كالحور التي‪ /‬تختال بين نواعم أقران‬

‫من أبيض يقق‪ ،‬وأصفر فاقع‪ /‬في أخضر بهج‪ ،‬وأحمر قان‬

‫ضحك النهار بأرضها‪ ،‬وتشققت‪ /‬فيها عيون شقائق النعمان‬

‫‪41‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وها هو البحتري يمدح أبو سعيد الثغري أحد قواد جيش المعتصم وهو في الرقة‪ ،‬في‬
‫قصيدة قال فيها‪:‬‬

‫ما للجزيرة والشام تبدال‪ /‬بك يا بن يوسف ظلمة بضياء‬

‫نضب الفرات وكان بح ار زاخ ار‪ /‬واسود وجه الرقة البيضاء‬

‫وكان البحتري وهو بالرقة قد وقف على أعمال فيها بعض المنغصات‪ ،‬التي تسيئ إلى‬
‫جمهرة الناس وتستهين بمصالحهم‪ ،‬فكتب بشكوى إلى الخليفة المتوكل لرفع الظالمة‪،‬‬
‫وتحقيق العدل واإلنصاف‪ ،‬وهذا ما عبرت عنه قصيدة للخليفة يقول فيها‪:‬‬

‫اعير بريد الرقتين غضاضة‪ /‬بمظطرب الكفين‪ ،‬رخو البنائق‬

‫نعي العدل‪ ،‬شرقي البالد‪ ،‬بجوره‪ /‬وباع الناس ثم بدانغ‬

‫كانت هذه شكوى على صاحب البريد بالرقة‪ ،‬أما ابا بكر الصنوبري الذي تغنى كثي ار‬
‫بالرقة‪ ،‬وقد سكن الرها أيضا‪ ،‬وكان يجتمع في دكان سعد الوراق مع مجموعة من أدباء‬
‫الشام‪ ،‬والصنوبري صاحب الزهريات والروضيات الرقية‪ ،‬نقتطف من ديوانه ازاهير‬
‫الرقة وورودها‪ ،‬حيث أنه رأى العيش في الرقة أطيب عيش وفي هذا المعنى يقول‪:‬‬

‫خلع ابن الصنوبري العذا ار‪ /‬وغدا‪ ،‬فهو ال يرى ذاك عا ار‬

‫وجدير بصفوة العيش من‪ /‬كانت له الرقة المصونة دا ار‬

‫غازلتنا غزالنها عن عيون‪ /‬سلبتنا األسماع واألبصا ار‬

‫ما رأينا من قبل تلك ظباءُ‪ /‬أبرزت من جيوبها أقمار‬

‫وفي قصيدة أخرى يصف الطبيعة بأزهارها وأشجارها وحدائق رياضها الغناء في الرقتين‬
‫بقوله‪:‬‬

‫سقى جنبات الرقتين مزمجر‪ /‬سكوب العزالي كلما عن بارقة‬

‫‪42‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ترى الزهر كالحلي إذا بدا‪ /‬يلوح عليه دره وعقائقه‬

‫وغصن على غصن تميله الصبا‪ /‬كما مال إلف نحو إلف يعانقه‬

‫حدائق روض يحسر العين حسنها‪ /‬وما كان حسن الروض لوال حدائقه‬

‫ومن أجمل ما قاله الصنوبري أبيات غزلية رقيقة‪ ،‬نفذ وانتقل منها إلى اإلشادة بطباع‬
‫أهل الرقة الظريفة‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫بأبي من لو أنني ذبت ض ار‪ /‬فيه‪ ،‬ما قلت إنني ذبت ض ار‬

‫من له الجلنار أصبح خدا‪ /‬وله األقحوان أصبح ثغ ار‬

‫طرة قد يخالها الليل ليال‪ /‬وجبين يخاله الفجر فج ار‬

‫رقة الرقتين فيه‪ ،‬وظرف‪ /‬الرافقين يقطر قط ار‬

‫طاف هذا الجمال في الخلق حتى‪ /‬حين صار الجمال فيه استقرا‬

‫وأنشد الشاعر أحمد بن سيار فقال‪:‬‬

‫زمن بأعلى الرقتين قصير‪ /‬لم يثنه للحادثات غرير‬

‫اما الشعراء من أبناء الرقة‪ ،‬فكانت الرقة في عيونهم األم الحنونة‪ ،‬التي حمتهم مفضلين‬
‫إياها على سائر المدن‪ ،‬شاعرها المجيد ربيعه الرقي قال عنها‪:‬‬

‫حبذا الرقة دا ار وبلد‪ /‬بلد ساكنه ممن تود‬

‫ما رأينا بلدة تعدلها‪ /‬ال‪ ،‬وال أخبرنا عنها أحد‬

‫إنها برية بحرية‪ /‬سورها بحر‪ ،‬وسور في الجدد‬

‫تسمع الصلصل في أشجارها‪ /‬هدهد البر‪ ،‬ومكاء غرد‬

‫لم تضمن بلدة ما ضمنت‪ /‬من جمال‪ ،‬في قريش وأسد‬

‫‪43‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مازال مجال القول عن الرقة وتراث الرقة الشعري كبي اًر‪ ،‬وكثي اًر من األشعار قد ضاعت‬
‫ولم يصلنا إال النادر القليل‪ ،‬ومع ذلك نقول إن التراث الذي عرفته الرقة في عصورها‬
‫الزاهرة‪ ،‬كان تاج آخر يزين مفرقها‪ ،‬وعقد جميل يرصع جيدها‪ ،‬وإن ما ذكرناه عن كيف‬
‫بدت الرقة في عيون شعراء أزمانها المجيدة؟‪ ،‬نبع كاف إلرواء ذلك الماضي الزاهر‪،‬‬
‫الذي يزداد ألقا‪ ،‬كلما تم العثور على كتب جديدة منسية‪ ،‬وكلما ساعدنا النبع المتدفق‬
‫على إظهار دواوين من الشعر خافية‪.‬‬

‫لك المجد يا حوراء‪.‬‬

‫المصادر‪:‬‬

‫*‪ -‬ديوان ابن قيس الرقيات ‪66/211‬‬

‫*‪ -‬طبقات الشعراء د‪ .‬تحقيق عبد الستار فراح‪ .‬دار المعارف ‪2616‬م‪.‬‬

‫*‪-‬أ حسن التقاسيم للمقدسي ص‪ .221‬ط ‪2616‬م‪.‬‬

‫*‪ -‬كتاب "مدن فراتية" عبد القادر عياش‪.‬‬

‫* ‪ -‬الرقة درة الفرات‪ ،‬مجموعة من الباحثين السوريين‪ ،‬دمشق‪2662 .‬م‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المبحث الثاني‪:‬‬

‫"هارون الرشيد" وأيام العروس في "الرقة"‬

‫تمتعت "الرقة" أيام الرشيد بعصر مجيد‪ ،‬لمع فيه كوكب سعدها ويا ليته يلمع اليوم‪،‬‬
‫وشع نجم حضارتها وتعددت أسواق نهضتها األدبية‪ ،‬فدعا المؤرخون والمفكرون ذلك‬
‫العصر باسم "العصر الذهبي"‪ ،‬وذلك تعظيماً لقدر رجال ذلك العصر وتميي اًز له عن‬
‫سائر العصور األخرى‪.‬‬

‫ويقول الراحل "مصطفى الحسون" (‪ ..‬وإذا كان الفرنسيون قد عظموا ملكهم "لويس‬
‫الرابع عشر" الذي كان بحق‪ ،‬أكبر عاهل في أوروبا في عصره‪ ،‬فإنه يحق لنا نحن‬
‫أن نتفاخر بالخليفة "هارون الرشيد"‪ ،‬الذي سبق الملك "لويس الرابع‬
‫العرب والمسلمين ْ‬
‫عشر" بألف سنة تقريباً)‪ .‬وإذا ما طاب لنا الحديث عن بالط "الرشيد"‪َّ ،‬‬
‫فإن الحديث‬
‫عنه يطول ويطول‪ ،‬فقد اجتمع في بالطه عباقرة عصره وعصر من سبقوه‪ ،‬ويحضرني‬
‫من أسماء األدباء والشعراء وقادة الفكر الذين اجتمعوا في بالط "الرشيد"‪" ،‬أبو العتاهية"‬
‫و"أبو نواس" و"مروان بن أبي حفصة" و"الكسائي" و"يحيى بن المبارك اليزيدي" و"كلثوم‬
‫بن عمرو العتابي" و"األصمعي" وغيرهم‪.‬‬

‫وفي دراسة للمرحوم الشاعر "مصطفى الحسون"‪ ،‬في مجلة الحوليات األثرية‪ ،‬المجلد‬
‫‪ /22/‬عام ‪/2622/‬م‪ ،‬ص ‪ /246/‬يقول‪..« :‬وقد أطلق الفرنسيون على عصر "لويس"‬
‫اسم "عصر الشمس والنور"‪ ،‬كما أطلقت العرب اسم "العروس" على أيام "هارون الرشيد"‬
‫في "بغداد" و"الرافقة" أو "الرقة"‪ ،‬لجمالها وبهجتها‪ ،‬وفي العلم واألدب والفن فيها‪ .‬على‬
‫َّ‬
‫أن ما اجتمع في بالط "الرشيد" من العباقرة والقادة أكثر مما اجتمع في قصر "لويس"‪،‬‬
‫رغم الفارق في الزمن»‪.‬‬

‫لقد أدار "الرشيد" دولته بكل عظمة واقتدار‪ ،‬وسار على نهج السلف من الخلفاء‬
‫المسلمين األقوياء مثل جده الخليفة "المنصور"‪ ،‬وما كان الخليفة "هارون الرشيد" كما‬

‫‪45‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال‪ ،‬قاد أمته نحو العزة‬


‫يصفه أعداء العرب والمسلمين بالمسرف وال بالبخيل بل كان عاد ً‬
‫والفخار‪ ،‬وبهذا الصدد يقول المؤرخ "ابن طباطبا"‪ ..( :‬ولم يجتمع بباب خليفة من‬
‫العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والكتاب والندماء والمغنين ما اجتمع على باب‬
‫"الرشيد")‪ .‬وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة‪ ،‬ويرفعه إلى أعلى درجة‪ ،‬وكان‬
‫فاضالً شاع اًر وراوية لألخبار واآلثار واألشعار‪ ،‬صحيح الذوق والتمييز‪ ،‬مهيباً عند‬
‫الخاصة والعامة‪ ،‬وكان يوفر الطقوس الجميلة‪ ،‬فيما يخص نمط حياته اليومية في إدارة‬
‫شؤون الحكم‪ ،‬فكان يهتم اهتماماً كبي اًر بتنسيق مواكبه اليومية بشكل الئق وجميل‪،‬‬
‫قل ما نعرفه عند أي حاكم آخر‪.‬‬
‫بحيث يعكس سلوكاً حضارياً َّ‬

‫وقد ُعرف "الرشيد" بميله وحبه للصيد‪ ،‬وموكب اللعب بالصولجان‪ ،‬وموكب الطراد‪،‬‬
‫وكان الفضاء الواسع بين "الرقة البيضاء" و"الرافقة" مكان (المنطقة الصناعية) الحالي‪،‬‬
‫الذي يمتد شماالً حتى منطقة "القصور العباسية"‪ ،‬على شكل ميادين مخصصة لمواكب‬
‫العرض العسكري والطراد واللعب بالصولجان وبقية النشاطات والهوايات التي كان‬
‫يهواها الخليفة "الرشيد"‪ ،‬ويذكر المسعودي َّ‬
‫بأن "الرشيد" كان مواظباً على الحج‪ ،‬ومتابع ًا‬
‫َّ‬
‫وحصنها‪ ،‬فكانت الرقة‬ ‫للغزو‪ ،‬وأنه كان مهتماً ببناء الحصون والثغور‪َّ ،‬‬
‫ومدن المدن‬
‫آنذاك أكثر مدن الحافة رقياً وتحض اًر‪ ،‬وكان أول من لعب بالصولجان‪ ،‬وأول من لعب‬
‫بالشطرنج من خلفاء "بني العباس"‪ ،‬وكان يهتم كثي اًر بالالعبين‪ ،‬وأجرى عليهم الرزق‪،‬‬
‫ونق أر في كتاب األغاني لـ"أبي فرج األصفهاني"‪ :‬مجلد ‪ /24/‬قول لـ"علي بن الخليل"‪:‬‬

‫تحكي خالفته ببهجتها‬

‫أنق العروس‪ ،‬بليلة العرس‬

‫أما السيدة "زبيدة بنت جعفر" زوجة الخليفة "هارون الرشيد"‪ ،‬فقد وصفها المؤرخون أنها‬
‫كان‪ ،‬حسنة السيرة في الجد والهزل‪ ،‬فأما الجد واآلثار الجميلة التي تشهد على حسن‬
‫سيرتها‪ ،‬فيظهر ذلك في حفرها لعين "المشاش" في "الحجاز"‪ ،‬فقد مهدت الطريق لماء‬
‫هذه العين واستجرتها من مسافة عشرين كم إلى مكة‪ ،‬رغم كل الصعاب المتمثلة‬

‫‪46‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بالوديان والجبال ووعورة األرض‪ .‬كما َّ‬


‫أن السيدة "زبيدة" قد أقامت الكثير من محطات‬
‫االستراحة‪ ،‬وحفر اآلبار على طريق الحج المعروف بدرب "زبيدة" الممتد من "الكوفة"‬
‫ب" العراق" حتى مدينة "الربذة" األثرية" و"المدينة المنورة"‪ .‬ومما يجدر ذكره حفرها‬
‫لآلبار والبرك الكثيرة بالحجاز والثغور‪ ،‬وما بذلته من مال ِ‬
‫ألهل الفاقة من المعروف‬
‫والخصب‪ ،‬كما أن السيدة" زبيدة" أقامت النواعير لرفع الماء من الفرات إلرواء األراضي‬
‫الزراعية التي كانت تحيط ب"الرقة السمراء"‪.‬‬

‫ومما ينسب إلى الخليفة "الرشيد"‪ ،‬أن ماء الشرب كان يرسل إليه في قوارير زجاجية‬
‫من "المدينة َّ‬
‫المنورة" وهو في "الرقة"‪ ،‬هذا الخبر يذكره "القزويني" في كتابه (آثار البالد‪،‬‬
‫وأخبار العباد)‪ ،‬وكان "الرشيد" يعشق ركوب الخيل والطراد‪ ،‬وكانت "الرقة" منذ العصر‬
‫األموي مشهورة بتربية الخيول العربية والعناية بها‪ ،‬وكانت ميادين السباق في "الرقة"‬
‫و"الرصافة" و"الكرخ" (كرخ الرقة) قائمة منذ أيام الخليفة األموي "هشام بن عبد الملك"‪.‬‬
‫وفي عهد "الرشيد" خصصت للخيل الحقول الخضراء مثل (حقل الضيازن)‪ ،‬وكان لدى‬
‫"الرشيد" من جيادها عدد كبير جداً‪ .‬ويذكر المؤرخون ومنهم "د‪ .‬الجومرد" أن "هارون‬
‫الرشيد" كان يقيم سباقاً لخيله‪ ،‬وكان يجريها مع خيول األمراء والوزراء‪ ،‬ويخصص لها‬
‫الجوائز المادية المجزية‪ .‬وقد بلغ عدد الخيول العربية األصيلة في "الرقة" أيام "الرشيد"‬
‫المئات‪.‬‬

‫ويذكر "األصفهاني" صاحب كتاب "األغاني" أنه كان في "الرقة" أيام "الرشيد" الكثير‬
‫من الحقول واالصطبالت لتوليد عتاقها‪ ،‬وتربيتها‪ ،‬وكانت مهمة اإلشراف على هذه‬
‫الخيل والعناية بها ُمناط بأمهر األخصائيين العرب‪ ،‬ويذكر "الجومرد"‪َّ ( :‬‬
‫أن عددهم بلغ‬
‫المئات‪ ،‬وكان لهم بيت مال خاص يشرف على الشؤون المالية‪ ،‬ولهم أيضاً رؤساء‬
‫تبوأوا مكانة مرموقة بين رجال الحاشية‪ ،‬وفي مقدمتهم "دفافة العنسي الرقي"‪ ،‬الذي كان‬
‫يدعى صاحب خيل الرشيد)‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كان "الرشيد" يتخذ من "الرافقة" "الرقة" مكاناً آمناً‪ ،‬وفي األيام والشهور التي ال يكون‬
‫فيها غازياً أو حاجاً‪ ،‬يقوم بممارسة هوايته المفضلة التي هي في الوقت نفسه جزء من‬
‫النظام اإلداري‪ ،‬وتقليد سار عليه "الرشيد"‪ ،‬مثل العروض العسكرية التي كانت تنظم‬
‫في ميادين الرافقة "الرقة" وتنسيق المواكب‪ ،‬وإظهارها بالمظهر الالئق بشخصه من‬
‫لباس وسالح وكوكبة الحرس وفرق جنود المشاة‪ .‬ومن األمور الطريفة التي تروى عن‬
‫"الرشيد" أنه أجرى الخيل يوم ًا في "الرصافة‪ ،‬وكان يجلس في صدر السبق‪ ،‬فلما توافت‬
‫إليه الخيل كان في المقدمة َف َرَسان‪ ،‬فلما تأملهما قال‪« :‬فرسي والله‪ ،‬وفرس ابني‬
‫"المأمون"‪ ،‬قالوا‪ :‬فلما قدمتا وهما في مقدمة الخيل‪ ،‬وكان فرس "الرشيد" السابق وفرس‬
‫ابنه "المأمون" الثانية‪ ،‬فقد سر بذلك‪ ،‬فلما انقضى السباق وتفرق المجلس‪ ،‬وهم "الرشيد"‬
‫باالنصراف طلب "األصمعي" مقابلة الخليفة‪ ،‬وقال‪ :‬لدي شيء من أمر الفرسين‪ ،‬وأريد‬
‫أن أبوح به للخليفة‪ .‬وقام "الفضل" بإخبار أمير المؤمنين قائالً‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ :‬هذا‬
‫ْ‬
‫أن يبلغ سيدي أمير المؤمنين شيئاً من أمر الفرسين‪ ،‬قال أين هو؟!‬‫"األصمعي" يريد ْ‬
‫فلما دنى"األصمعي" قال الخليفة‪ :‬ما عندك من أخبار جديدة يا "أصمعي"؟ قال يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬مجلس السباق في هذا اليوم‪ ،‬كنت فيه أنت وابنك في فرسيكما‪ ،‬كما قالت‬
‫الخنساء‪:‬‬

‫جارى أباه فأقبال وهمـا‬

‫يتنازعان مالءة الخ ْفـــر‬

‫وهما كأنهما‪ ،‬وقد بـر از‬

‫صقران قد حطا على وكر‬

‫برزت صفيحة وجه والده‬

‫ومضى على غلوائه يجري‬

‫أولى‪ ،‬فأولـى أن يقاربـه‬

‫‪48‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لوال جالل السن والكبـر‬

‫ويذكر الدكتور "عبد الجبار الجومرد" في كتابه "هارون الرشيد"‪ ،‬طبعة بيروت ‪/2616/‬‬
‫م‪ ،‬أنه كان لـ"الرشيد" هوايات كثيرة‪ ،‬منها أنه كان يهوى ركوب "الحراقات" من السفن‬
‫المزينة في نهر الفرات‪ ،‬عندما يكون في "الرقة"‪ ،‬وأفضل وقت عنده لذلك هو الليل‬
‫حيث يكون النهر والماء راكداً‪ ،‬و"الحراقات" مزدان ًة باألنوار‪ ،‬حيث تشكل مع أنوار‬
‫القصور المنعكسة على ماء النهر لوحة تشكيلية بديعة المنظر‪ .‬ويذكر المؤرخون العرب‬
‫أنه كان في دار "الرشيد" الكثير من الجواري الحسان‪ ،‬ومنهن"ماردة" أم ولده المعتصم‪،‬‬
‫ويقال َّ‬
‫إن "الرشيد" قد خلفها في "الرقة" في أحد سفراته إلى "بغداد" فمرة اشتاق إليها‬
‫فكتب قائالً‪:‬‬

‫سالم على النازح المغترب‬

‫تحيـة حب بـه مكتئب‬

‫غزال من مراتعه بالبليخ‬

‫إلى دير زكى فقصر الخشب‬

‫أيا من أعاق على نفسـه‬

‫بتخليفه طائعاً مـن أحـب‬

‫سأستر والستر من شيمتي‬

‫هوى من أحب عن ال أحبد‪..‬‬

‫ومنهن أيضاً "هيالنة" الرومية‪ ،‬وأنه "الرشيد" حين ماتت حزن عليها حزناً شديداً‪ ،‬وقال‬
‫فيها قصيدة رثاء مطلعها‪:‬‬

‫أف للدنيـا وللزينـة فيهـا واألثـاث‬

‫إذ حثى الرب على هيالنة في الحفرة حاث‬


‫‪49‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وقال "الرشيد" لـ"لعباس بن األحنف"‪ ،‬قل يا "أحنف" شيئاً على موت "هيالنة" فأنشد‬
‫قائالً‪:‬‬

‫أيهدي ضياء بعد هيالنة البلى‬

‫أراني ملقى من فراق الحبائب‬

‫ولما رأيـت الموت البـد واقعاً‬

‫تذكرت قول المبتلى بالمصائب‬

‫لعمرك ما تعفو كلـوم مصيبـة‬

‫على صاحب أال فجعت بصاحب‬

‫جل المؤرخون والباحثون العرب واألجانب‪ ،‬يؤكدون ويثبتون‪ ،‬ونحن نعتقد‬ ‫وهكذا نجد َّ‬
‫أن َّ‬
‫ذلك أيضاً‪َّ ،‬‬
‫أن أيام "الرشيد" في "الرقة" وفي "بغداد" وفي كل أرض الخالفة هي بحق‪،‬‬
‫كما يقول المرحوم الحسون‪( :‬أيام العروس)‪ .‬وهذه الصورة تبدو لنا‪ ،‬نحن أبناء األلفية‬
‫الثالثة بعد الميالد‪ ،‬أن أيام "الرشيد" كانت أيام جد وفرح وسرور‪ ،‬ولكي نكون بعيدين‬
‫عن التعصب والفخار لهذا الخليفة العربي األصيل‪ ،‬فإننا نؤكد أيضاً أن هذا القول ليس‬
‫نابعاً من تتبعنا لحياة "الرشيد" الخاصة‪ ،‬بل أيضاً من تتبع حياة رعية "الرشيد" العامة‪،‬‬
‫القاطنة في كل األقاليم القريبة والبعيدة‪ ،‬والقوميات المتعددة في أنحاء الخالفة‪.‬‬

‫وإذا كانت العرب قد سمت أيام "الرشيد" بـ"أيام العروس"‪ ،‬فألن أيام خالفة "الرشيد"‬
‫كانت أيام خير وأيام عطاء وأيام خصب وأيام األمن والعدالة‪ .‬وتتحدث المراجع التاريخية‬
‫عن فترة خالفة "الرشيد" واهتمامه وعنايته بأمور الزراعة والصناعة اليدوية داخل البالد‪،‬‬
‫وإقامته للجسور وحفر األقنية والترع والجداول الواصلة بين األنهار‪ .‬حتى أ َّن البالد‬
‫أصبحت شبكة من المياه ترتوي منها الحقول والبساتين والمزارع‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وعمل "الرشيد" على رفع الضرائب عن الفالحين تشجيعاً وتقوية لهم‪ ،‬ويروى عن‬
‫"الرشيد" أنه في أحد المرات التي كان يتفقد فيها أحوال الزراعة والزراع‪ ،‬قد مر مع‬
‫حاشيته بحوش كبير على الضفة اليسرى لنهر الفرات تكثر فيه األشجار المثمرة وتغريد‬
‫األطيار‪ ،‬عند موضع يقال له اليوم "طاوي رمان"‪ ،‬فلما قرع الحراس باب هذا الحوش‬
‫فتح الباب على مصراعيه‪ ،‬فاستقبلتهم صبية حسنة المنظر والجمال‪ ،‬ودعتهم للجلوس‬
‫وشرب الماء‪ ،‬ثم أنها قدمت لهم طبقاً مليئاً بفاكهة الرمان الكبيرة‪ ،‬فأمسك الخليفة الرشيد‬
‫حبة كبيرة من حبات الرمان وقال‪ :‬ما شاء الله‪ ،‬ثم أنه شكر الصبية وذهب مع حاشيته‬
‫دون أن تعرف الصبية أنه الخليفة "هارون الرشيد"‪ ،‬وفي الحول القادم َّ‬
‫مر "الرشيد" على‬
‫نفس الحوش واستقبلته الصبية ذاتها وقدمت له طبقاً من الرمان لكنه لم يكن بجودة‬
‫رمان السنة الفائتة‪ ،‬فلما سألها الخليفة لماذا ثمر هذا البستان خاوياً هكذا؟ فأجابته َّ‬
‫أن‬
‫كثرة الضرائب في هذا العام أثقلت كاهلنا‪ ،‬ويقال َّ‬
‫أن الخليفة "الرشيد" امتعض من ذلك‬
‫وأمر بإلغاء الضرائب عن الفالحين والزراع‪.‬‬

‫وعمل "الرشيد" أيضاً على حراسة طرق التجارة بين المدن واألقاليم‪ ،‬وأمر بإنشاء‬
‫ونظمت هذه الطرق تنظيماً جيداً‪ ،‬فانتعشت بذلك التجارة‬
‫المحطات واآلبار عليها‪ُ ،‬‬
‫انتعاشاً كبي اًر‪ ،‬وعمت الخيرات أنحاء الخالفة‪ ،‬وتواردت ثروات طائلة إلى بيت المال‬
‫من الخراج والضرائب‪ ،‬وكل هذه األموال كانت ترفد بيت المال مما انعكس إيجاباً على‬
‫عامة الناس‪.‬‬

‫وفي هذه الفترة المشرقة والمتألقة من التاريخ العربي اإلسالمي‪ ،‬كانت مدينة (الرافقة)‬
‫"الرقة" من أهم مدن الخالفة آنذاك‪ ،‬وهي كالخود كما يصفها "البحتري"‪ ،‬ويقول "الحسون"‬
‫"رحمه الله"‪ ...« :‬بين أترابها في أعراس التاريخ‪ ،‬حتى مألت ببلدانها الخمسة السهل‬
‫الواقع عند ملتقى الفرات من البليخ»‪ .‬وكان لـ"لرقة" حظ كبير لوجود "الرشيد" فيها مدة‬
‫طويلة من أيام خالفته‪ ،‬إذ أنه جلب معه أعالم عصره‪ ،‬من مفكرين وكتاب وشعراء‬
‫ومغنين‪ ،‬ويقول المرحوم "مصطفى الحسون" في مقالة له نشرها في (مجلة الحوليات‬

‫‪51‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أن نجيز ألنفسنا القول‬


‫األثرية)‪ ،‬مجلد‪ /2622 /22/‬م ص‪ ..« :/211/‬فإنه يمكننا ْ‬
‫اء من "حياة ألف ليلة‬
‫بأن "الرقة" قد عرفت في هذه الحقبة التاريخية الزاهرة جداً أجو ً‬
‫وليلة"»‪.‬‬

‫لقد عاشت "الرقة" أيام "الرشيد" ليالي أنس وطرب‪ ،‬طرب "إبراهيم الموصللي"‪ ،‬وابنه‬
‫"إسحاق" وصوت "ابن جامع"‪ ،‬ونغم "إبراهيم بن المهدي"‪ ،‬وغيرهم من أعالم الطرب‬
‫والفن والغناء‪ .‬ومن العازفين الذين عاشوا في "الرقة" "زلزل" و"برصوما" وعازف الناي‬
‫"زنام" ويقول البحتري‪:‬‬

‫وعود "بنان" حين ساعد شدوه‬

‫على نغم األلحان ناي "زنام"‬

‫وما تزال أطالل قصر"الرشيد" (قصر السالم) في الرافقة "الرقة" باقي ًة إلى يومنا هذا‬
‫بالقرب من "تل البيعة"‪ ،‬حيث وقفت عند فنائه الوفود من كل حدب وصوب‪ ،‬وعلى‬
‫رأسهم الشعراء والفقهاء والرواة والعلماء واإلخباريون‪ ،‬وغيرهم من علماء ذلك الزمان‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المبحث الثالث‪:‬‬

‫طقوس الرعي والمراعي في "الرقة"‬

‫كانت المراعي في منطقة "الرقة" بدءاً من القرن السابع عشر‪ ،‬وحتى نهاية سبعينيات‬
‫القرن الماضي‪ ،‬تشكل مساحة واسعة من المساحة اإلجمالية للمحافظة‪ ،‬وكانت عملية‬
‫الرعي بحد ذاتها‪ ،‬تشكل خالل فصلي الخريف والربيع في عمق منطقة "الرقة"‪ ،‬وخاصة‬
‫في جهة الشمال أسعد األوقات وأجملها بالنسبة للرعاة‪ ،‬وحسب رأي الرعاة فإن فصل‬
‫الخريف يعتبر أفضل فصول السنة بالنسبة لهم‪ ،‬حيث يجدون فيه متعة العيش بعيدًا‬
‫عن صخب القرية والمدينة‪ ،‬وحيث توجد مساقط الماء والكأل‪ ،‬وتلبس األرض حلة‬
‫خضراء تزينها األزهار والورود من كل لون وصنف‪ .‬ويبدأ كبار السن في نزل الرعاة‬
‫بتفحص السماء‪ ،‬فإذا هطل المطر في العشر األواخر من شهر أيلول اطمأن الرعاة‬
‫واستبشروا خي اًر بهطول المطر في هذا الموسم‪ ،‬أما في حالة عدم هطول األمطار في‬
‫الفترة اآلنفة الذكر‪ ،‬فإن الرعاة ينتقلون إلى حسابات أخرى‪ ،‬إذ أنهم يبدؤون بمراقبة‬
‫السماء من بداية شهر تشرين الثاني‪ ،‬على أمل رؤية ومضات من البرق وسماع صدى‬
‫الرعد من بعيد‪ ،‬مما يعني أن المطر سيهطل ولو بعد حين بمشيئة الله‪ ،‬ومهما كانت‬
‫كمية األمطار الهاطلة في أي سنة من السنوات‪ ،‬فإن فترة الرعي في فصل الخريف‬
‫تعتمد على نوعية هذه األمطار التي تهطل في المنطقة الجزيرة الواقعة على يسار نهر‬
‫الفرات‪ ،‬أو في منطقة الشامية الواقعة على يسار نهر الفرات‪ ،‬وعلى األوقات التي‬
‫تهطل فيها األمطار‪.‬‬

‫ومع نهاية فصل الخريف‪ ،‬يبدأ الرعاة بتدوين حسابات جديدة في أجندتهم‪ ،‬إذ نراهم‬
‫يتتبعون أخبار المطر عن طريق إرسال فرق استطالع إلى المناطق البعيدة‪ ،‬وخاصة‬
‫إلى المناطق القريبة من الخط المطري في الشمال السوري‪ ،‬كما أن الرعاة يبدؤون في‬
‫هذه الفترة بالسؤال للحصول على معلومات دقيقة من الناس القادمين من الجنوب‪ ،‬من‬
‫مناطق مثل بادية الرصافة ومن "رحوب" ومناطق جبل البشري الغني بالمراعي الربيعية‬

‫‪53‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والصيفية‪ .‬وفي حالة توفر معلومات متضاربة عن كمية هطول األمطار في المناطق‬
‫البعيدة‪ ،‬فإن أهل المشورة من الرعاة يقومون بإرسال من يستطلع األمر على أرض‬
‫الواقع‪ .‬ومع بداية شهر كانون الثاني يبدأ الرعاة بتتبع أخبار الهطوالت المطرية في‬
‫مناطق الحدود اإلدارية للمحافظة‪ ،‬ويبدؤون بتحركات حذرة في مناطق الرعي وخاصة‬
‫حول أبار الري مثل "بير المويلح" و"بير حنظل"‪ ،‬وهذه اآلبار في الغالب تكون آبار‬
‫خاصة أو مشتركة بين أفراد العشيرة الواحدة‪ ،‬وأحياناً يفرض العرف العشائري على أن‬
‫تكون اآلبار مشتركة بين كل الرعاة الذين يشكلون فصيالً واحداً‪ ،‬وفي حالة حدوث‬
‫سنوات عجاف في منطقة "الرقة"‪ ،‬يقوم الرعاة باستكشاف حالة الهطوالت المطرية في‬
‫المحافظات المجاورة‪ ،‬وبذلك يحددون اتجاه هجرتهم الرعوية الشتوية‪.‬‬

‫ينصب الرعاة بيوتهم (بيت اْل َش َع ْر) المصنوع من َش َع ْر الماعز وفقاً لبرودة الطقس‪،‬‬
‫ويرتب النزل في العادة على أن تكون البيوت إما في اتجاه الشرق‪ ،‬أو الجنوب للحصول‬
‫قدر اإلمكان على أشعة الشمس الدافئة‪ ،‬وتنصب الخيام عادة في وقت الضحى‪ ،‬حيث‬
‫تتابع الماشية الرعي حتى وقت الظهيرة‪ ،‬حيث يتم حلب الغنم بربط األغنام بواسطة‬
‫(حبل الشباك)‪ ،‬وهي متقابلة الواحدة تعانق األخرى بشكل طوالني‪ ،‬حيث تبدأ الحالبات‬
‫بحلب الماشية حتى النهاية‪ ،‬ثم كل واحدة منهن تعود بشكل حر وإفرادي‪ ،‬كي ال يفسد‬
‫الحليب‪ ،‬ولكنهن حين يجئن من النزل لحلب الماشية‪ ،‬فإنهن يجئن بشكل جماعي‪.‬‬

‫في المساء قبيل غروب الشمس هناك حلبة ثانية للماشية حديثة الوالدة‪ ،‬حيث نرى‬
‫الحالبات يكررن نفس الحركة ونفس المسار الذي قمن به وقت الظهيرة من ذات اليوم‬
‫أن تنتهي الحالبات من َحْل ْب الماشية‪ ،‬يقوم الرجال بإطالق البهم أو‬
‫نفسه‪ ،‬وبعد ْ‬
‫الطليان المكون من الخراف الصغيرة حديثة الوالدة كي ترضع حليب األمهات‪ ،‬وبعد‬
‫انتهاء مدة الرضاعة تُبعد الخراف عن أمهاتها‪ ،‬حيث تنتشر الماشية بعيداً عن النزل‬
‫لتبدأ مرحلة جديدة من الرعي‪ ،‬وهكذا تتكرر هذه العملية حتى تُفطم الخراف‪ ،‬ويحل‬
‫الربيع بحلة جديدة‪ ،‬حيث يتغير وجه األرض‪ ،‬ويظهر نبات جديد وتبدأ مرحلة رعوية‬

‫‪54‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جديدة‪ ،‬حتى أن الماشية نفسها تلبس حلة جديدة‪ ،‬وذلك بعد أن ُيقص صوفها بالكامل‬
‫ضمن طقوس مشهورة ومعروفة عند الرعاة‪ ..‬وفي هذه المرحلة يبدأ الرعاة بجني ثمن‬
‫الصوف واللبن (الخاثر) "الزبادي" والجبن‪ ،‬وفي الصيف تباع الذكور من الخراف‪ ،‬أما‬
‫اإلناث فتوضع في السرح‪ ،‬وتتهيأ للتلقيح من قبل الذكور (الكباش)‪ ،‬حيث أنها تعيش‬
‫بعد ذلك مرحلة الوالدة واألمومة‪ .‬وما أن يحل الصيف‪ ،‬حتى نجد كامل الرعاة‪ ،‬قد‬
‫عادوا بماشيتهم إلى أرض الزور‪ ،‬وإلى األراضي التي تم فيها جني محصول القمح‬
‫والشعير‪ ،‬حيث تبدأ الماشية برعي بقايا عيدان الحبوب التي يسميها أهل "الرقة"‬
‫أن تنتهي الماشية من رعي عيدان القمح والشعير‪ ،‬حتى يبدأ جني‬ ‫ِ‬
‫بـ(اْل َسفير)‪ ،‬وما ْ‬
‫محصول الذرة الصفراء والبيضاء ومن بعده القطن‪ ،‬حيث تظل الماشية ترعى بقايا‬
‫المحاصي ل حتى يبدأ فصل الخريف‪ ،‬ومعه تبدأ دورة جديدة من الهجرة إلى المراعي‬
‫في الشمال أو الجنوب‪.‬‬

‫في فترة ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي‪ ،‬تقلصت مساحات أراضي الرعي بسبب‬
‫التوسع في استصالح األراضي المعدة للزراعة‪ ،‬ومع حلول سنوات قحط متتالية‬
‫انخفضت أعداد الماشية‪ ،‬وتعرض الرعاة إلى محن ومآس‪ ،‬بسبب غالء واحتكار مادة‬
‫العلف‪ ،‬مما جعل تربية الماشية في منطقة "الرقة" تقف عند حدود خط الخطر‪.‬‬

‫بقي أن نشير إلى أن للرعاة ثقافتهم الخاصة المتمثلة بالرعي الذي يشكل الوحدة‬
‫االقتصادية الرئيسة لإلنتاج واالستهالك‪ ،‬وكذلك التبادل المتواضع عن طريق أسواق‬
‫بلدة "الرقة" آنذاك‪ ،‬وكان أغلب التجار هم من مدن كبيرة مثل "حلب" و"حماة"‪ ،‬ومع‬
‫تطور مدينة "الرقة" ونموها أصبحت العالقات االقتصادية بين الرعاة والمجتمع المديني‬
‫تشكل العنصر األساسي في ثقافة مجتمع الرعاة الرقي‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فن الوشم لدى المرأة الرقاوية‬


‫ّ‬
‫ماريا العجيلي‬

‫ومنشطة ثقافية‬
‫ّ‬ ‫كاتبة ومهتمة بالتراث الشعبي‪،‬‬

‫يرتبط الوشم‪ ،‬بالبيئة االجتماعية والتاريخية والطقوس الدينية والشعائرية‪ ،‬تعود الى‬
‫التاريخ القديم‪ ،‬والى الحياة البدائية التي تسيطر عليها األساطير والمعتقدات‪ ،‬حيث‬
‫يكون لكل عشيرة الوشم الخاص بها‪ ،‬والذي يميزها عن بقية العشائر ويرمز لها‪ .‬وعادة‬
‫ما تستمد هذه الوشوم‪ ،‬من البيئة والمعتقدات السائدة‪ ،‬فتتشكل رموز تحيل الى الطبيعة‬
‫في احدى مظاهرها‪ ،‬من النبات أو الحيوان‪ ،‬وأحيانا رسوماً تجريدية‪.‬‬

‫يشم وشماً فهو واشم‪ ،‬والمفعول‬


‫شم ‪َ :‬ف َع َل‪ُ .‬‬
‫الوشم لغة ‪ -‬كما جاء في لسان العرب‪َ -‬و َ‬
‫موشوم‪.‬‬

‫ذر عليه النيلج‪ ،‬فصار منه رسوم وخطوط‪ .‬أما الوشم في‬
‫وشم الجلد‪ :‬غرزه بإبرة ثم َّ‬
‫تعريفه‪ ،‬فهو شكل من أشكال التعديل الجسدي‪ ،‬ويتم بوضع عالمة ثابتة بالجسم‪ ،‬وذلك‬
‫بغرز الجلد باإلبر‪ ،‬ثم وضع الصبغ عن طريق الجروح والفتحات‪ ،‬ويبقى داخل الجلد‬
‫وال يزول‪.‬‬

‫وهنا‪ ،‬قبل أن نستطرد في موضوعنا‪ ،‬البد لنا من الوقوف على الفرق بين الوشم‬
‫والوسم‪.‬‬

‫فالوشم‪ :‬هو ما يحدثه غرز اإلبرة في البدن وذر النيلج عليه‪.‬‬

‫أما الوسم‪ :‬فهو أثر الكي‪ .‬والوسام ما وسم به الدواب من ضروب الصور والخطوط‬
‫إثر كيه وهو داللة على التملك‪ ،‬وبناء على ما تقدم يتبادر إلى ذهننا سؤال وهو منذ‬
‫متى بدأ الوشم؟‬

‫‪56‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫منذ عشرات آالف السنين بدأ البشر في الرسم على جدران الكهوف‪ ،‬ثم في مرحلة ما‪،‬‬
‫فكروا لماذا ال نضع الرسوم على اجسادنا؟ عندها بدأ فن الوشم وعلى الرغم من عدم‬
‫معرفتنا متى بدأ ذلك بالضبط‪ ،‬إال أن العلماء يواصلون العثور على ما يشبه األوشام‪،‬‬
‫على العديد من المومياوات القديمة‪ ،‬مثل المومياء الشهيرة لرجل لثلج األوربي (أوتوزي)‬
‫الذي توفي في حوالي ‪ 2111‬ق‪.‬م‪ ،‬وقد حمل الرقم القياسي ألقدم وشم معروف‪ ،‬فقد‬
‫امتلك ‪ 62‬وشما كبي ار في جميع أنحاء جسده‪ .‬ومن المرجح أن تكون تلك األوشام‪،‬‬
‫مجرد خطوط استخدمت للعالج‪ .‬حيث أظهرت الدراسات‪ ،‬أنه كان يعاني من مشاكل‬
‫في المفاصل والعمود الفقري‪ .‬هنا‪ ،‬كانت وظيفة الوشم طبية‪.‬‬

‫اتخذت المرأة السومرية واآلشورية الوشم زينة لها‪ ،‬منذ األلف الخامس قبل الميالد وفي‬
‫وشمت ظاهر كفها أو معصمها أو ذراعها أو ثغرها‪ ،‬وتزينت بالكحل‬
‫وادي الرفدين‪َ .‬‬
‫والحناء‪ .‬ويكون الوشم‪ ،‬بتثبيت الرسوم والخطوط على الجلد بطريقة الوخز باإلبرة‪ ،‬عدة‬
‫وخزات‪ ،‬ثم يوضع فوقه الكحل أو النيل‪ ،‬فيزرق لون الجلد أو يخضر‪ .‬كما استعمل‬
‫الوشم كنوع من التعويذة السحرية‪ ،‬إذ غطى العديد من مناطق أجسادهن‪ ،‬وخاصة‬
‫الخدين‪.‬‬

‫كانت عالمات الوشوم جزء من الممارسات االجتماعية السحرية الروحية‪ ،‬بفعل حيوية‬
‫طاقة تلك اإلشارات والعالمات‪ ،‬لنيل الوالدات الكثيرة المكررة والناجحة‪ .‬وتبرز أهمية‬
‫تلك الطقوس لهذه العالمات الشخصية‪ ،‬بوصفها نوعا من الرموز الشفيعة‪ .‬وكان الوشم‬
‫ُيرسم على ذراع الملك والوزراء في ذلك الوقت‪ .‬وقد صورت الكثير من آثار وادي‬
‫الرافدين‪ ،‬وشوما على أذرع تماثيل الملوك مكتوب عليها (كبير القوم أو الملك) بالكتابة‬
‫المسمارية قبل ‪ 2111‬ق‪.‬م‪ .‬أما الفراعنة فهم أكثر من برعوا في هذا الميدان‪ .‬وهذا ما‬
‫تؤكده األبحاث والدراسات على المومياوات المكتشفة‪ .‬وكان الوشم يتم عن طريق وخز‬
‫الجلد‪ ،‬وإدخال الصبغات في الطبقة العليا منه‪ ،‬حيث كانوا يستخدمونه ألغراض‬
‫التجميل والتزيين‪ ،‬وأحيانا لطرد األرواح الشريرة‪ .‬وقد وجدت آثاره على المومياوات‬

‫‪57‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المكتشفة‪ ،‬حيث كانت تمتلئ بأصباغ معدنية‪ ،‬ومواد عشبية يطلق عليها (ماء اإلله)‪.‬‬
‫وقد كان الوشم لدى الفراعنة‪ ،‬يرمز الى حماية النساء من األمراض الجنسية‪ ،‬وكذلك‬
‫حمايتها أثناء الوالدة‪.‬‬

‫ويستعاض به‬‫أما الوشم عند النساء العربيات قديما‪ ،‬فقد كان مقياساً للجمال والزينة‪ُ ،‬‬
‫عن الحلي‪ .‬بينما ُيعد عند الرجال‪ ،‬مظه اًر من مظاهر القوة والتفاخر‪ .‬كما أن له عالقة‬
‫بوسم اإلبل والغنم‪ ،‬بوسوم ترمز الى القوة مثل األفعى‪ .‬ومن خالل الوشم‪ ،‬تُبرز المرأة‬
‫أنوثتها وجمالها‪ ،‬ويشير الرجل الى قوته وفحولته‪ .‬ومن المنظور النفسي‪ُ ،‬يمثل الوشم‬
‫قية شفائية يقوم به الناس في سبيل الشفاء‪ ،‬أو لطرد الحسد‪ .‬فكان قدماء العرب‬
‫قديماً ُر َ‬
‫يضعون وشماً على جزء من جسد المريض‪ ،‬فوق موضع األلم فيشفى‪ .‬كما تلجأ‬
‫األمهات إلى وشم أطفالهن‪ ،‬حتى يزول عنهم األلم‪ ،‬أو وقاية لهم من األمراض المهددة‪،‬‬
‫فيكسبهم الوشم بذلك‪ ،‬راحة نفسية وطمأنينة‪ ،‬مادام الوشم يلزمهم حتى مماتهم‪ ،‬فهو‬
‫وتعويذة‪ ،‬إلى جانب ما يمثله من زينة‬
‫ً‬ ‫منقوش في أجسادهم وأذهانهم‪ ،‬باعتباره تميم ًة‬
‫وتبرج‪ ،‬ليشكل جزءاً من حياتهم اليومية‪ ،‬ويعبر عن بساطة عيشتهم‪ .‬ولكنها بساطة ال‬
‫تخلو من عمق داللي يتداخل فيها الوعي الجماعي‪ ،‬بالالوعي الذي يهدد حياتهم‬
‫البدائية‪ ،‬من خالل خوفهم من الضياع والفقدان‪ ،‬فيلجؤون الى الوشم‪ ،‬حتى يوحدهم في‬
‫قبيلة واحدة‪ ،‬وفي طقس واحد‪ ،‬ليجمعهم نفس الوشم‪ِ ،‬‬
‫كمعبر عن الهوية‪ ،‬ويكون وشمهم‬
‫عنواناً خاصا بهم‪ ،‬يميزهم عن باقي القبائل األخرى‪.‬‬

‫ومن دالالت الوشم عند العرب‪ ،‬أنه يرمز الى قوة المشاعر التي تربط بين الرجل‬
‫والمرأة‪ ،‬فيعمد المحب إلى رسم اسم الحبيب أو صورته على ذراعه أو صدره‪ ،‬تعبي اًر‬
‫يصع ْب أن يمحوه الزمن من‬
‫ُ‬ ‫عن مدى حبه وتعلقه به‪ ،‬ويظل باقياً‪ ،‬بقاء الوشم الذي‬
‫الجسد‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ومن الدالالت أيضاً‪ ،‬الرسوخ والبقاء‪ ،‬ليظل الوشم راسخاً في الخيال الشعبي‪ ،‬وفي‬
‫الثقافات مهما تقادمت‪ ،‬فهو من رواسب الموروث الحضاري اإلنساني‪ ،‬وقد ورد لفظ‬
‫الوشم في الشعر الجاهلي عند طرفة بن العبد حيث يقول‪:‬‬

‫كباقي الوشم في ظاهر اليد‬ ‫لخولة أطالل ببرقة ثمهد تلوح‬

‫وُذكر الوشم عند زهير بن ابي سلمى‪:‬‬

‫مراجيع وشم نواشر معصم‬ ‫ديار لها بالرقمتين كأنها‬

‫أما في وادي الفرات فالوشم يسمى (الدق) لذلك ورد في الغناء الشعبي‬

‫المدك دك بن عمي ‪..‬‬

‫وهو من أنواع الزينة لدى النساء‪ .‬أما األطفال‪ ،‬فيعتبر الدق وسيلة ليبق الطفل حياً‬
‫باعتقادهم‪ .‬وعند الرجال يكون الدق على الزند‪ ،‬عبارة عن كتابة االسم‪ ،‬أو صورة‬
‫السالح والطير‪ ،‬وأحياناً الحرف األول والثاني السم الحبيبة‪ .‬وتقوم بعملية الدق نساء‬
‫غجريات‪ ،‬وهن يحضرن الى المنطقة أيام الربيع حص اًر‪ ،‬وهو موسم الدق‪ .‬وذلك ألنه‬
‫يكثر فيه الخير‪ ،‬فتحمل الفتيات الزبدة واللبن الى المرأة الدقاقة‪ ،‬كأجور عينية‪ .‬وفي‬
‫الربيع أيضاً‪ ،‬ال تتقيح الجروح‪ .‬وتتألف عملية الدق من عدة إبر تصل لحد سبعة‪،‬‬
‫توضع في البداية بمزيج من الفحم والزبدة إلعطائها اللون األسود‪ ،‬وغالباً ما يستخدم‬
‫الكحل مع الحليب‪ ،‬إلعطاء الوشم لونه األخضر الغامق‪ .‬وقد تغنى المغنون الشعبيون‬
‫بالدق باألفراح واالعراس‪:‬‬

‫جابك الله وجيت يا لخام األزرق ‪..‬‬

‫تلزق على النهدين وتخرب الدق ‪..‬‬

‫هناك دالالت وأنواع للوشم أو الدق على الوجه‪ ،‬وغالباً ما يكون للنساء‪ ،‬ويستخدم‬
‫للزينة‪ .‬ولكل موضع له اسم ومنها (شعابيات) و(سنابل) تدق على الرقبة والصدر‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال نحو‬
‫أما (وردة) و(رثمة) فهو وشم يدق على طرف الشفة‪ ،‬بطول واحد سم‪ ،‬نزو ً‬
‫األسفل‪ .‬أما (كحلة القطة) و(غمازيات) فهو وشم يدق على طرف العين من الجنب‪،‬‬
‫كما تُمد الكحلة اليوم‪.‬‬

‫ومنها أيض ًا (حجول) وهو وشم يدق أسفل الساق وأعلى الكعبين‪ ،‬و(أمشاط وشقاليات)‬
‫(خص)‪ .‬أما (زلف)‬‫(خصر) الوشم الذي يدق على الرسغ ِ‬‫تدق على الساق‪ .‬فيما يسمى ِ‬
‫ُ‬
‫فهو وشم على شكل نقطة على الخد‪ .‬و(هاللي) يدق في وسط الجبين‪ ،‬فوق بداية‬
‫الحاجبين‪ ،‬ويشكل هالالً يصل بينهما ويدل على مقامها ورفعتها‪ .‬وأما (صحن الورد)‬
‫فهو يدق على الزند بشكل دائري‪.‬‬

‫ومن الوشوم ما يتميز بداللة كبيرة‪ ،‬مثل (وسادة ابن العم) إذ تقوم الصبية بوشمه على‬
‫يدها‪ ،‬وهي داللة أنها لن تتزوج إال من ابن عمها‪ ،‬وهو على شكل امرأة ورجل متقابلين‪،‬‬
‫وعلى جانبهما قبرين‪ ،‬وهو يرمز إلى البقاء معاً حتى الممات‪ .‬ولهذا الوشم أهمية‪،‬‬
‫فعندما كانت الصبايا يردن لجلب الماء‪ ،‬من النهر أو البئر‪ ،‬فإذا اقترب منها أحد‬
‫الشبان ليخطب ودها‪ ،‬تريه الوشم دون أن تتكلم‪ ،‬فيتراجع الشاب مخذوالً‪.‬‬

‫أما الوشم على الخدين ويسمى (الردعات) وهي أشكال للورد على كل خد‪ .‬وهي ترمز‬
‫إلى أن هذه الخدود‪ ،‬جميلة كالورود‪ ،‬حيث يقول الشاعر‪:‬‬

‫ذيب خمش ظافري ومخالف النابات‬

‫دواي ماهو بكتب عندك يا بو ردعات (يقصد المرأة وليس الرجل)‬

‫وثمة أنواع أخرى عديدة‪ ،‬كالوشم الذي يدق على الفم فيسمونه (اللجم) وهو(جمع مفرده‬
‫لجام) يرسم على طرفي الفم‪ ،‬وهذه داللة على أن هذه المرأة ساكتة ومؤدبة‪ ،‬وغير‬
‫ثرثارة‪ ،‬وتأتي بالمفيد‪ ،‬وهو لجم معنوي‪ .‬وكذلك وشم الحنك (الرواك)‪ ،‬و(دواير) ومهمته‬
‫التصدي لعين الحسود‪ .‬ومنها وشم المضافة‪ ،‬وغزالة‪ ،‬وشارب الحسن‪ ،‬والسيالية‪ ،‬ووشم‬
‫الحالبات‪ ،‬إضافة الى أوشام طبية أخرى‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وقد وشمت الرقيات كامل الشفة السفلى والعليا وأطلقن عليه اسم (وشام) حيث يصبح‬
‫لون الشفتين أزرق داللة على السمرة وهو يرمز للجمال ألن العرب يفضلون الشفاه‬
‫السمراء الداكنة‪.‬‬

‫بصورة تقريبية‪ ،‬هذه هي األوشام التي استطعت أن أرصدها‪ ،‬في منطقة وادي الفرات‪:‬‬
‫الرقة مدينة وبادية وريفاً‪ ،‬وعالقتها بحياة الناس ومجتمعها الفراتي‪ ،‬ودالالتها‪ ،‬كفن‬
‫شعبي تعبيري‪ ،‬متجذر في الثقافة اإلنسانية‪ .‬أتمنى ان أكون قد وفقت في ذلك‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فلكلور الفرات في الغناء الشعبي‬

‫أبو مصطفى الكاتب‬

‫كاتب وباحث في الفلكلور الشعبي‬

‫كلمة فلكلور عنوان عريض وتعني ارث األجداد‪ .‬ما يهمنا من هذا البحث هو الغناء‬
‫الشعبي‪.‬‬

‫لكل منطقة خصائصها وسماتها التي تميزها عن المناطق األخرى‪ .‬وهذه الخصائص‬
‫هي التي تحدد مالمحها وألوانها‪ .‬إذ يختلف الغناء الشعبي من بلد آلخر لكنها تتوافق‬
‫في المضمون‪.‬‬

‫وال أبالغ اذا قلت ان الغناء الشعبي الفراتي‪ .‬هو أغنى تراث في سوريا بل وأرقاها لحنا‬
‫وطربا وكلمات حيث يختلف عن غيره في الكالم واللحن واألداء‪.‬‬

‫األغنية الشعبية تهاجر من بلد آلخر كما تهاجر األمثال الشعبية‪.‬‬

‫وذلك يعود لحالوتها وفهمها من قبل المتلقي‪ ،‬وما إن تنتقل حتى تتعرض للتعديل‬
‫والتبديل في الكلمة واالداء وتصبح ذات طابع محلي حسب مكان الهجرة ‪...‬‬

‫ينقسم الغناء الشعبي الفراتي الى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫‪ -2‬الفراگيات‪.‬‬

‫‪ -1‬التشاطيف‪.‬‬

‫‪ -2‬الموليا‪.‬‬

‫‪ -2‬الفراكيات‪ :‬هي أشهر ألوان الطرب في تراثنا الشعبي‪ .‬لما تحمله من شجن وحزن‪.‬‬

‫وقد اشتهر بهذا اللون العراقيون اضافة الى وادي الفرات في سورية وربما عموم الريف‬
‫السوري‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تضم الفراكيات‪ :‬العتابة‪ .‬النايل‪ .‬السويحلي‪ .‬اللكاحي أو ما يسمى اليايوم‪.‬‬

‫‪ -1‬التشاطيف‪ :‬وهي ليست لون غنائي مستقل‪ .‬بل هي عنوان عريض‪ .‬يحوي الكثير‬
‫من األغاني الهازجة الراقصة ذات اإليقاع السريع‪ .‬والتي تغنى بعد الفراكيات ذات الرتم‬
‫البطيء‪ .‬كالعتابة والنايل والسويحلي‪.‬‬

‫‪ -2‬الموليا‪ :‬هي إحدى أهم مظاهر القول والغناء في التراث الشعبي‪ ،‬في وادي الفرات‪،‬‬
‫ويكتب بيت الموليا على البحر البسيط‪.‬‬

‫تراتبية الغناء الشعبي‪:‬‬

‫للغناء الشعبي ت ارتبية من حيث تناول المطرب للغناء‪ .‬ومن خالل هذه الت ارتبية يتم‬
‫الكشف عن مهارة المطرب لتناول هذا التراث‪ .‬بشكل صحيح‪ .‬فالمطرب الماهر يبدأ‬
‫غنائه بالعتابة والتي تعتبر مفتاح الغناء ومن ثم يغني سويحلي متولد من بيت العتابة‬
‫حامال نفس الفكرة وينتقل لون النايل‪ .‬وهو مخ الكيف لدى المتذوقين والمستمعين ومن‬
‫ثم ينتقل للون اللكاحي او ما يسمى اليايوم‪ .‬ويقفل غنائه بلون الموليا‪ .‬وهذا يعود الى‬
‫قدرة المطرب على إعادة هذه السلسلة الغنائية‪ .‬أو يستمر بغناء الموليا ليخرج المستمعين‬
‫من جو الرتابة كون الموليا إيقاعها أسرع ويترافق أداؤها مع الرقص والتصفيق‪ .‬فتتيح‬
‫بذلك للشباب استع ارض مهاراتهم في الرقص المصاحب لها‪.‬‬

‫أغاني الفراكيات وكل لون على حدة‪:‬‬

‫العتابة‪:‬‬

‫وغناء بشكل افرادي‪ .‬على آلة الربابة وهي أحد أهم‬


‫ً‬ ‫هي فن شعري غنائي يؤدى قوالً‬
‫أشكال الشعر الشعبي الغنائي والتراثي‪ .‬وقد اشتق اسمها من العتب والمعاتبة‪ .‬وهناك‬
‫الكثير من اآلراء حول أصل التسمية‪ .‬منهم من قال أنها ظهرت في نهاية القرن الثامن‬
‫عشر على يد الشاعر عبدالله الفاضل‪ .‬سارداً قصته الحزينة من خالل أشعاره‪ ،‬وظهر‬
‫من بعده الشاعرة فطيم البشر والشاعر واوي العجل‪ .‬من عشيرة الجبور وانتشرت في‬

‫‪63‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وادي الفرات ومن أبرز الذين برعوا فيها شعراء عشيرة الجبور ‪ ..‬وهناك الكثير من‬
‫القصص التي هي أقرب للخيال من الحقيقة‪ .‬لكن األقرب للتصديق أنها جاءت من‬
‫العتاب‪ ،‬ألن جل مواضيعها تتكلم عن المعاتبة‪ .‬وتنقسم العتابة الى قسمين‪ .‬الحزاينية‪.‬‬
‫والهواوية‪.‬‬

‫وبحسب شكل بناؤها األدبي؛ يتألف بيت العتابة من أربعة أشطر الثالثة األولى موحدة‬
‫القافية ولها جناس واحد والشطر الرابع ينتهي بألف وباء‪ .‬أو الف مقصورة أو ممدودة‪.‬‬
‫مثال على ذلك‪:‬‬

‫العيد للناس ولكليبي عواشير‬

‫خالوي أضحيت ماليا عواشير‬

‫هجرهم طال بس ليا عواشير‬

‫وتب ار الچان للخافج دوا‪.‬‬

‫عواشير في الشطر األول‪ :‬جمع عاشوراء داللة على الحزن‪.‬‬

‫عواشير في الشطر الثاني‪ :‬مفردها عشير أي الخليل أو الصاحب‪.‬‬

‫عواشير في الشطر الثالث‪ :‬تتألف من كلمتين عوا شير‪ ،‬وشير هو كلب الشاعر عبدالله‬
‫الفاضل‪ ،‬مؤسس هذا اللون الغنائي كما أشرنا‪.‬‬

‫ومثال آخر‪:‬‬

‫بنات السنين من تالي جفنّا‬

‫وگصن بينا مصايبها وجفلنا‬

‫يا دمع العين ما يفارج جفنّا‬

‫تُنوح الدار عودم يا الحباب‬

‫‪64‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جفنا في الشطر األول‪ :‬من الجفاء والجفوة‪.‬‬

‫جفلنا في الشطر الثاني‪ :‬جفلنا من َجفل وخاف‪.‬‬

‫جفنا في الشطر الثالث‪ :‬الجفن مضاف اليه نا الجماعة‪.‬‬

‫السويحلي‬

‫هذا اللون يتميز بكلماته القليلة والمختصرة‪ ،‬إال انها بالغة التأثير لدفئها ورقتها‪ ،‬وعادة‬
‫ما ينظمها ويغنيها العشاق على شكل مناجاة للحبيب أو الحبيبة والتغني بجمالهم‬
‫وأوصافهم‪ .‬وكذلك تغنيها األم لطفلها وهو بالسرير لتحثه على النوم‪.‬‬

‫ُيسمى السويحلي بحسب اآللة الموسيقية المرافقة له‪ :‬سويحلي زمارة‪ ،‬سويحلي‬
‫ربابة‪ ،‬سويحلي ورادات‪ ،‬كما اشتهر لون باسم سويحلي مريم‪ ،‬أما من حيث الشكل‬
‫الشعري األدبي فالسويحلي يتألف من شطرين تقع قافيته الموحدة في وسط بيت الشعر‬
‫وليس في عجزه والسويحلي هو مقلوب الشعر الدارمي‪.‬‬

‫مثال على ذلك‪:‬‬

‫حبره من الدموع ‪ ....‬مكتوبكم يا زين‬

‫من بين الضلوع ‪ ....‬نار الفراك تزيد‪.‬‬

‫وهو باالساس كبيت دارمي*‪.‬‬

‫مكتوبكم يازين حبره من الدموع‬

‫ونار الفراك تزيد من بين الضلوع‬

‫ومثال آخر‪:‬‬

‫اشبيك تدوي ‪ ...‬يابوم تالي الليل‬

‫ماراحلك شي ‪ ...‬وال مس دليلك ضيم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫النايل‬

‫النايل كما أسلفت هو مخ الكيف وأيقونة السلطنة‪ ،‬وأسباب التسمية كما ُيقال أنه ُينسب‬
‫لشخص اسمه نايل‪ ،‬هو أول من ابتدع هذا اللون وقد نسب اليه وعرف باسمه‪.‬‬

‫شكله األدبي؛ بيت منفرد من شطرين موحدي القافية‪ .‬يمتاز بالرقة والسالسة والكلمة‬
‫البسيطة السهلة‪ ،‬وألفاظه عامية‪.‬‬

‫تحمل أغلب أبياته جمالً خبريه‪ .‬تميل كثي اًر إلى السرد القصصي‪ .‬مثال على ذلك‪:‬‬

‫ما تنفع الاليمة وصفكن باإليديني‬

‫حزين طول العمر عالتركبه عيني‪.‬‬

‫الترگبه‪ :‬الذي ترقبه عيني‬

‫يتميز النايل بكثافة صوره التي تنقل الفكرة المطروحة‪.‬‬

‫يالحظ أن بيت النايل ينتمي لعائلة الموليا لو تم إكماله بشطرين آخرين‪ ،‬ألنه من نفس‬
‫الوزن الشعري وهو البحر البسيط‪.‬‬

‫مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل‪.‬‬

‫ُيغنى النايل بعدة طرق تتشابه وتختلف من حيث األداء‪:‬‬

‫‪ -2‬نايل الورادات‪ :‬ومن أشهر الذين أجادوه المطرب موسى العبد العزيز‪.‬‬

‫‪ -1‬نايل حسين أو أبو كذالي‪ :‬ومن أشهر الذين أجادوه المطرب حسين الحسن وخليل‬
‫الهباش وموسى عبد العزيز وعبود الشواخ‪.‬‬

‫‪ -2‬نايل حسان‪ :‬وقد نسب للمطرب حسان العكلة‪.‬‬

‫‪ -4‬نايل حويجة‪ :‬وهذا لم يغنى في سوريا بل في العراق‪ ،‬اشتهر به المطرب جبار‬


‫عكار‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اللگاحي‬

‫لون عذب وجميل يسمى ايضا باليايوم‪ .‬له لحن خاص يمدك بالراحة النفسية وتجييش‬
‫المشاعر‪.‬‬

‫بناؤه الشعري األدبي‪ :‬ليس للكاحي شعر خاص يعرف به كالموليا والنايل والسويحلي‪.‬‬
‫بل إن مادته األساسية هي كلمات غناء الساجوري‪.‬‬

‫يغنيه اغلب المطربين الشعبيين لكن أبرزهم المطرب أبو فلوط‪ .‬وحسان العكلة‪.‬‬

‫من أمثلة لون اللكاحي‪:‬‬

‫دربك عدل عالولدة يالناحر السالوبي‬

‫إن چان نيتك خضرة محالل وماهوبي‪.‬‬

‫نيتك خضرة‪ :‬نيتك حسنه‬

‫ماهوبي‪ :‬مسامح‬

‫الموليا‬

‫هي إحدى أهم مظاهر القول والغناء في التراث الشعبي‪ ،‬في وادي الفرات‪ ،‬وكما أسلفنا‬
‫يكتب بيت الموليا على البحر البسيط‪ ،‬ويتألف من أربعة أشطر ثالثة منه لها نفس‬
‫الروي القافية والشطر الرابع ينتهي بياء مشددة مع تاء مربوطة‪.‬‬

‫مثال على ذلك‪:‬‬

‫السلسبيل الجرى مذكور بالخلد‬

‫ارميم والعامري مجنون والورد‬

‫خاضم ببحر الهوى ما باحم السد‬

‫وانت بحبة عشيرك صرت دالية‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ارميم‪ :‬شخص اسمه رميم‪ ،‬مات عشقا‪.‬‬

‫دالية‪ :‬إحدى مراحل فقدان العقل‪.‬‬

‫من المؤكد أن للموليا تاريخ موغل في القدم‪ .‬يرى الشاعر محمود الذخيرة أن جذر‬
‫الموليا يعود للقرن الثامن الميالدي إبان نكبة البرامكة‪ .‬أما الباحث العراقي حمود ابراهيم‬
‫في بحثه أغاني تراثية‪ .‬فيقول أن الموليا عراقية المنشأ‪ .‬وهناك آراء متشعبة حول هذا‬
‫الموضوع‪.‬‬

‫الموليا الفراتية لون غنائي له حضوره الدائم في األفراح والمناسبات السعيدة‪ ،‬يختلف‬
‫غناؤها من منطقة إلى أخرى بحيث كلما اتجهت غربا تأخذ بالتسارع في رتمها‪ .‬حتى‬
‫تصل إلى البحر‪.‬‬

‫هناك مطالع من مصارع الموليا تتكرر في كل جلسات الموليا‪ ،‬مثال‪:‬‬

‫المول مول الهوى ‪......‬‬

‫مكتوب منكم لفى ‪.....‬‬

‫اكتب وادز بالورك ‪....‬‬

‫يا ريمتي فرعي ‪.....‬‬

‫ابو شفافن بدن ‪.....‬‬

‫هي مطالع أغاني مولية قيل منها الكثير من األبيات التي تبدأ بإحدى هذه المطالع‪،‬‬
‫وأبرز من تألق في غناء الموليا هم‪ :‬المطرب محمد الحسن‪ ،‬المطرب حسين الحسن‪،‬‬
‫المطرب ابو فلوط‪ ،‬المطرب حسان العكلة‪.‬‬

‫وتصنف الموليا بحسب اآللة الموسيقية التي ترافقها‪ :‬موليا دفوف‪ ،‬موليا ربابة‪ ،‬موليا‬
‫زمارة‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫التشاطيف‬

‫هي ليست لون معين يطلق عليه اسم التشاطيف‪.‬‬

‫بل هي تسمية لمجموعة من األغاني االيقاعية الهازجة ذات الرتم السريع‪.‬‬

‫تتداخل هذه االغاني بين أغاني الفراكيات لتعطي المطرب فرصة إلراحة حنجرته من‬
‫األغاني الرتيبة التي تتطلب نفساً طويالً حزيناً‪ .‬مما يجعل الجلسة ذات سمة هادئة‪.‬‬
‫فيلجأ المطرب الى التشاطيف لبث روح الحماس في الحضور‪ .‬وجعلهم كورس يردد‬
‫معه األغاني‪.‬‬

‫من أهم أغاني التشاطيف لون "الساجوري" وقد اشتهر منه المطلع‪:‬‬

‫دربك عدل عالولدة يالناحر السالوبي‬

‫انچاد نيتك خضرة محالل وماهوبي‪.‬‬

‫لهذا فإن أغلب األغاني الفلكلورية القديمة ال يعرف لها قائل‪ ،‬وتعود إلى عهود بعيدة‪،‬‬
‫حيث أن توفر شروط معينة في كلماتها وألحانها وتعبيرها عن العواطف والهموم‬
‫ض ِمن لها القدرة على االستمرار واختراق جدار الزمن بحيث غدت‬
‫واألذواق المشتركة َ‬
‫أغنية شعبية فلكلورية ترددها األجيال وتكون التعبير الشعبي عن صورة المجتمع‪ ،‬وال‬
‫ينفي عنها هذه الصفة كون مؤلفها معروفاً لدينا بالرواية أو التدوين‪.‬‬

‫وقد تط أر إضافات على مقاطع األغنية‪ ،‬إال أن الالزمة والمقاطع األولى غالباً ما تظل‬
‫محفوظة مع تغييرات طفيفة‪ ،‬مما سبب بقاؤها وسيرورتها‪ ،‬وثمة عوامل تتعرض لها‬
‫األغنية الشعبية فتؤدي إلى تحوير جزئي أو كلي في نصها‪.‬‬

‫كتب الكثير من أغاني الساجوري الذي لم يدون‪ ،‬فشاع لفترة ثم تم نسيانه والزالت قرائح‬
‫الكتاب والمغنون تنتج أغاني ساجورية جديدة‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كلمات أغاني الساجوري تصلح لغناء اللكاحي‪ ،‬وتصلح لغناء االعراس الريفية على‬
‫أكثر من لحن‪ ،‬وتصلح للغناء برفقة الزمارة‪ ،‬كما تصلح للغناء في مواسم الحصاد‬
‫وجني القطن‪ ،‬ألن كلمات غناء الساجوري هي األكثر مرونة في التلحين والتلوين‪ ،‬ففي‬
‫المقطع المرافق تعزف الزمارة أغنية أبو الهيل وهي من كلمات أغاني الساجوري ومن‬
‫ثم يتابع بألوان أخرى‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫ظريف الطول‬

‫أغنية ظريف الطول انتشرت على اتساع رقعة بالد الشام بكاملها‪ .‬ففي فلسطين لها‬
‫انتشار واسع وتُعتبر من الفلكلور الفلسطيني‪ ،‬ولديهم الكثير من القصص عن ظريف‬
‫الطول واصل التسمية‪ ،‬وكذلك تغنى في لبنان واالردن وكذا في أغلب المدن السورية‪،‬‬
‫لكن يختلف اللحن واألداء من منطقة ألخرى‪ ،‬بحيث يصبح أداء‬

‫ظريف الطول أبطأ في الغناء وأداء الرقصات كلما اتجهنا نحو الشرق‪ ،‬وكلما اتجهنا‬
‫نحو الغرب يتسارع إيقاع األغنية ويصبح هازج ًا وصاخباً‪ .‬وهو يغنى في وادي الفرات‬
‫كفواصل بين أغاني الفراكيات الحزينة أو الهواوية لتنشيط األجواء الغنائية‪.‬‬

‫أشهر أغنية من ظريف الطول قول الشاعر‪:‬‬

‫ياظريف الطول يبو سنن ضحوك‬

‫ماربيت إال بحضن امك وابوك‬

‫يومن أكشر يوم كالولي خطبوك‬

‫نار كلبي والمشاعل عالجه‪.‬‬

‫وهذا اللون يشبه الموليا واالبوذية العراقية من حيث البناء‪ ،‬ثالثة اشطر بقافية موحدة‬
‫الروي‪ ،‬والشطر الرابع مختلف ينتهي بتاء مهملة أو بحرف ألف كقول الشاعر‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ياظريف الطول وكف تا اگلك‬

‫رايح عالغربة بالدك أحسنلك‬

‫خاف يالمحبوب تروح وتملك‬

‫تعاشرون الغير وتنسوني أنا‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫الميمر أو أبو الخديد‬

‫أبو الخديد من أغانينا الجميلة سهلة النظم والغناء‪ .‬وتمتاز أيضا بقبولها للمحاورة بين‬
‫فريقين في الجلسات الغنائية‪ ،‬والتي كثي اًر مايكون فيها االرتجال المباشر‪ ،‬في حال كان‬
‫الحوار الغنائي بموضوع معين‪ ،‬وتسمى محليا ب "البدع" أي االبداع المباشر‪.‬‬

‫ألول مرة يختلف اللون الغنائي بالتسمية في منطقة وادي الفرات الذي يمتد بين سوريا‬
‫والعراق‪ ،‬حيث يسمى هذا اللون في سوريا وفي الرقة تحديداً "أبو الخديد" ويقصد فيه‬
‫ذا الخدود‪ :‬مثل "أبو الخديد الوردتين الياعم"‪" ،‬أبو الخديد الوردتين الصادي"‪" ،‬أبو‬
‫الخديد الشبه ورد الخاثر"‪.‬‬

‫أبو الخديد الوردتين الصفصف‬

‫ذهوب ابو لعيبه على قصتو صفصف‬

‫اندور العانات من صفن ليصف‬

‫مذهب حبيبي والدمع لو مبثر‪.‬‬

‫ومع أن هذا اللون غالباً ما ُينظم في الشعر الشعبي بمطلع "أبو الخديد"‪ ،‬إال أن بعض‬
‫الشعراء خرجوا عن هذا النهج‪ ،‬وجعلوا من مدخله ح اًر‪:‬‬

‫صفار زلفك من جنس واال حنه‬

‫‪71‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نكد ابو لعيبة هرجكم واللحنه‬

‫خايف عليك يا ترف واالّ حنا‬

‫نصبر على جور الزمان ونكدر‪.‬‬

‫بينما يسمى بالعراق بالميمر‪ ،‬ويعود أصل التسمية إلى كلمة "مرور"‪ ،‬ويقصد فيها بالذي‬
‫"لم يمر"‪ ،‬ووزن الميمر أو أبو الخديد هو وزن قديم وأقدم من االبوذيه العراقية‪ ،‬وأصل‬
‫كلمة الميمر اشورية وهو من وزن الرجز وتفعيلته هي‪( :‬مستفعلن مستفعلن مستفعل)‪.‬‬

‫ويغنى بنغم البيات‪ ،‬وكلمة الميمر محرفة من أصل الكلمة حيث أن أصلها استفسارية‬
‫(مامر)‬

‫‪...‬‬

‫الناهي‬

‫الحقيقة بحثت في كثير من المصادر عن معنى كلمة الناهي في موروثنا الشعبي فلم‬
‫أجد لها هوية واضحة تفيد معنى معين‪ ،‬ووجدت أن الناهي ‪ ...‬هو اآلمر وال ازجر عن‬
‫عن الخطأ والتمادي بالشيء‪ ،‬وقد يأتي في المعنى الديني‪ ،‬كجماعة األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬وقد يأتي في معنى الضابط والقائم باألمر‪ ،‬وقد يأتي بمعنى‬
‫الضمير الذي يرسم لنا خطواتنا ويحاسبنا من خالل جلد الذات‪ ،‬وقد يأتي بمعنى‬
‫الحبيب الذي ال مرام وال مبتغى لنا بعده بحيث ينهانا عن محبة غيره‪ ،‬وهو األقرب‬
‫لموضوع بحثنا‪.‬‬

‫أي هو ذلك المعشوق الذي ينتهي عنده الجمال والروعة واالخالق واالدب والرقة‬
‫والعذوبة فال يرى العاشق شائبة في معشوقه‪.‬‬

‫ومن االبيات الجميلة التي قيلت بالناهي‪:‬‬

‫كل الهال بالناهي‪ ...‬أمان أمان‬

‫‪72‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خط المال ماينفع للحظه فان‪.‬‬

‫والقول‪:‬‬

‫كل الهال بالناهي‪ .....‬أمان أمان‬

‫دك خيامه عالمية وبنى الصيوان‪.‬‬

‫وقولهم‪:‬‬

‫كل الهال ليمرهمتي ياولي‬

‫خدج كمر ضحية لمن هلي‬

‫خل العريضي ينكلع ويولي‬

‫واحد هوا وعشيرو شربح الجيران‬

‫‪...‬‬

‫األوف مشعل‬

‫تعود كلمات أغنية "عاألوف مشعل" إلى الحرب العالمية األولى‪ ،‬التي حصلت فيها‬
‫العديد من المذابح والمجازر‪ ،‬وهي قصة رجل عربي شجاع أمتطى جواده المسمى‬
‫مشعل منصرفا إلى أرض المعركة‪ ،‬وقد استطاع هذا الرجل بحكم واجبه الوطني أن‬
‫يفلت من بين يدي خطيبته التي راحت تذرف الدمع لفراقه‪ ،‬وكأنها أحست بأنه لن يعود‬
‫وبعد مدة لم يعد خطيبها‪ ،‬بل عاد حصانه برفقة أحد أصدقاء الرجل‪ ،‬فوقفت ترمق‬
‫الحصان بقلب جريح قائلة‪:‬‬

‫أوف مشعل أوف مشعالني‬

‫بالسفربرلك ذابحو العثماني‬

‫أوف مشعل أوف مشعالني‬

‫‪73‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مع السالمة ويابعد خالني‬

‫يا ديرة مشعل يا دار الغوالي‬

‫وحصان مشعل يصهل بالليالي‬

‫وإن كان عاأليام حالك حالي‬

‫ما انساك مشعل وان طال الزماني‬

‫لله يغثك يا غراب البيني‬

‫فرقت ما بين الحبيب وبيني‬

‫إن جيت يم الدار تبكي عيني‬

‫ودموعي هلت عالراح وخالني‪.‬‬

‫تختلف الروايات بشأن هذه األغنية كالعديد من األغنيات الفلكلورية الشعبية التراثية في‬
‫ورِد َدت في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق‪ ،‬وهناك‬‫بالدنا‪ ،‬وقد ُع ِرَفت هذه األغنية ُ‬
‫رواية للكاتب اللبناني أنطوان غندور‪ ،‬وأيده فيها الفنان زكي ناصيف‪ ،‬تقول الرواية أن‬
‫رجالً توفيت امرأته فعاش وحيداً غير مصدق أنها توفيت‪ ،‬وكان يتخيلها بكل شيء‬
‫حتى وصل به األمر إلى حالة من الرعب والهستيريا‪ ،‬وكان كلما حاول أن يرثيها يبدأ‬
‫بكلمة أوف‪ ،‬ثم يعود ليتذكر أن كلمة أوف تقال في حالة الفرح ليقول مش عاألوف‪.‬‬
‫أما كلمة مشعالني فيقال بأن معناها أن األمر سر وغير معلن‪ ،‬أي "مش علني"‪.‬‬
‫وبالتالي يكون مطلع األغنية على هذا النحو "عاألوف مش عاألوف مش عالني"‪.‬‬
‫ويؤكد الباحث مروان أبو نصر الدين هذه القصة في كتابه "الشعر اللبناني والغناء‬
‫الفلكلوري"(‪.)1121‬‬

‫‪74‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ويغنى هذا اللون في منطقة وادي الفرات الممتد بين سورية والعراق بنفس اللحن‬
‫ُ‬
‫المعروف لألوف مشعل بعد أن تحرر كتاب االغنية من الزمة أوف مشعل أوف‬
‫مشعالني‪ ،‬وصار يكتب بالشكل الذي نتداوله ونسمعه من المغنين والمطربين المحليين‬
‫في الرقة وأريافها‪ ،‬بحيث يكتب بهذا الشكل‪:‬‬

‫ابويا زتني ببير بالبرية‬

‫لحد وال ماحود يدري بيا‬

‫من ايد مشعل طكت الردنية‬

‫ووين ماهب الهوى رماني‬

‫بويا زتني ببير مطلع منه‬

‫وين اليطلعني لوه الجنه‬

‫العن ابو مشعل لبو الربنه‬

‫عمن مشعل مضحكت نسواني‬

‫من خالل الكلمات المكتوبة في تراث وادي الفرات نجد أن مشعل قصته تختلف عما‬
‫ذكر في بداية المقالة‪ ،‬حيث جسده المغنون على أنه شخص محبوب‪ ،‬وليس مطلع‬
‫رثائية كما قال أخوتنا في لبنان‪" ،‬عاالوف مش عاالوف مش عالني‪"...‬‬

‫هذا ماوجدته عن لون األف مشعل أوف مشعالني‪ ،‬ويبقى هذا اللون من التشاطيف‬
‫لون جميل ومحبب لدينا ويطربنا سماعه‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الدلعونا‬

‫في أصل "الدْلعونا" ونشأتها‪ُ ،‬يحكى في األسطورة الكنعانية القديمة في بالد الشام‪ ،‬أن‬
‫"عناة"‪ ،‬فغدت إلهة الخصب والحب والحرب عند الكنعانيين‪،‬‬ ‫لإلله "إيل" بنتاً سماها َ‬
‫"عناة َي ُد ِك يا َعناة"؛ ومنها‬
‫توسل إليها العشاق من أجل الحظوة بعشيقاتهم‪ ،‬بالقول‪َ :‬‬
‫اشتُق لفظ "الدْلعونا"‪.‬‬

‫ويرى السريان أن "الدْلعونا" سريانية اللفظ واالصطالح‪ ،‬فهي مؤلفة من أل التعريف‬


‫السريانية‪ ،‬وهي الحرف "د"‪ ،‬باإلضافة إلى كلمة "عونا"؛ فكانت َ"دْلعونا" التي تعني‬
‫المعاونة والمساعدة والفزعة‪ .‬غير أن ثمة َم ْن يرى في أصل تسمية "الدْلعونا"‪ ،‬أنها‬
‫تعود إلى كل ما يمت إلى الغنج والدالل بصلة‪ ،‬وهي لذلك تعني مخاطبة األنثى‬
‫باعتبارها من أهل الدلع‪ ،‬بما يعنيه الدلع من المباالة بالمعجبين أو بالحبيب‪ ،‬وإظهار‬
‫التمنع وعدم االهتمام؛ وذلك طمعاً ودلعاً بزيادة التقرب منها والتعلق بها‪ ،‬فتكون ردة‬
‫فعل المحب العتاب والشكوى والدعوة إلى الترفق به‪.‬‬

‫في حكاية السريان الذين توطنوا جبال عامل قديم ًا عن "الدْلعونا" قول مختلف؛ إذ يرى‬
‫السريان أن "الدْلعونا" سريانية اللفظ واالصطالح‪ ،‬فهي مؤلفة من أل التعريف السريانية‪،‬‬
‫وهي الحرف "د"‪ ،‬باإلضافة إلى كلمة "عونا"؛ فكانت َ"دْلعونا" التي تعني المعاونة‬
‫والمساعدة والفزعة‪ .‬وترتبط "الدْلعونا" لدى السريان بطقس عصر العنب في أجران‬
‫معاصر النبيذ الصخرية‪ ،‬تحت أقدام النساء‪ .‬إذ كان السريان يحفرون معاصرهم البدائية‬
‫في بالط الصخر‪ ،‬بالقرب من كروم العنب‪.‬‬

‫معنى لغناء "الدْلعونا" ودبكتها عند السريان‪ ،‬إنما استمر‬


‫لم تقف ظاهرة مد يد العونة ً‬
‫نهج المعاونة الجماعية في بالدنا حتى فترات متأخرة من التاريخ الحديث‪ ،‬وال سيما في‬
‫األرياف لدى الفالحين‪ ،‬مثل عونة جني المحاصيل واألغالل؛ إذ تعود الفالحون الفزعة‬
‫لبعضهم بعضاً‪ .‬كذلك في البناء وصب عقدات أسقف البيوت‪ ،‬وعجن طين البناء‬
‫باألقدام‪ ،‬على طريقة فتيات السريان في هرس حب العنب‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بقي الرجال حتى مراحل متأخرة من القرن الماضي يهبون لعونة فالن من الناس‪،‬‬
‫يغوصون بأقدامهم داخل األوعية أو برك الطين‪ ،‬ويدعكونه لخلطه بالقش والتبن وتليينه‪،‬‬
‫في طقس جماعي يتخلله القفز والرك والغناء‪ ،‬في استم اررية لـ "الدْلعونا" السريانية‬
‫القديمة‪.‬‬

‫تُغنى "الدْلعونا" في بيتين مكونين من ثالثة أشطر على قافية واحدة‪ ،‬وقفلة تكون على‬
‫قافية "الدْلعونا"‪ .‬ال ُيشترط أن يتضمن البيتان مفردة َ"دْلعونا"‪ ،‬إنما الشرط أن تكون‬
‫مثال‪:‬‬
‫القفلة على قافية "الدْلعونا" باألحرف "و‪ ،‬ن‪ ،‬ا"‪ً ،‬‬

‫سا َف ْر حبيبي ببابور السِّكة‬

‫عيوني ِتبْكي وقلبي يتشكة‬

‫ِت ْح َرمْ عَلَ ِي َّ‬


‫الن ْزِلة عَ الدبْكة‬ ‫ّ‬
‫اسمَ ْر اللونا‪.‬‬ ‫عَ ِ‬
‫طول ْغيابَ ْك يا ْ‬
‫‪###‬‬

‫الياح ارم‬

‫تُعتبر أغنية "ياحرام" من األغاني الهادئة والرائعة التي تتغنى بالماجدات الفراتيات‪،‬‬
‫والتوجع لحالهن والتعاطف معهن‪ ،‬وتغنى الياحرام مع نقر الدف‪ ،‬كما تغنى مع الفرقة‬
‫الموسيقية لكن برتم أسرع‪.‬‬

‫قيل الكثير من أبيات الشعر في هذا اللون‪ ،‬ومعظم تلك االبيات مجهولة الشاعر‪ ،‬وهي‬

‫تندرج ضمن أغاني التشاطيف‪ ،‬تلك االغاني الفاصلة بين أغاني الفراكيات‪ ،‬مثال على‬
‫ذلك قولهم‪:‬‬

‫ياحرام وياحرام‬

‫رثمة والعكل تمام‬


‫‪77‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فتكون الالزمة‪:‬‬

‫ياحرام حرموها‬

‫من شوفتي منعوها‬

‫اني آلخذ لبوها‬

‫عدد چثير من الزالم‪.‬‬

‫وهناك الكثير من االبيات الشجية الجميلة التي قيلت في الياحرام‪.‬‬

‫‪...‬‬

‫يمكننا التأكيد في النهاية‪ ،‬أن أهل وادي الفرات ما زالوا من أكثر الناس تمسكا بتراثهم‪،‬‬
‫إذ قد يسمع الشباب األغاني الشبابية الحديثة‪ ،‬كمزاج شخصي‪ ،‬لكن سرعان ما يعودون‬
‫للتراث بعد مضي فترة فورة الشباب‪ ،‬وتحديداً في المناسبات العامة كاألعراس حيث ال‬
‫منافس لألغاني التراثية‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جسر الرقة في التراث الغنائي الرقي‬

‫حمصي الحمادة‬

‫كاتب وباحث‬

‫افتتح جسر "الرقة" القديم للنقليات في العاشر من حزيران عام‪/2641/‬م‪ ،‬وللجسر في‬
‫ذاكرة أهل "الرقة" وريفها ألف ذكرى وحكاية‪ ،‬أعطاهم فأحبوه‪ ،‬ووصلهم بالعالم فعشقوه‪،‬‬
‫وأسعدهم فتغنوا به‪ ،‬في أفراحهم‪ ،‬وأعراسهم‪ ،‬والتراث الغنائي الرقي يحمل أجمل المعاني‬
‫وأروع الصور عن جسر "الرقة"‪.‬‬

‫ويبدو أن لعالقة الجسر بنهر الفرات السبب الوجيه لوروده بأهازيج العشق والغرام في‬
‫أغاني الفرات‪ ،‬فلقد كانت الصبايا المالح فيما مضى من الزمان يذهبن مع بعضهن‬
‫البعض لجلب الماء‪ ،‬فيحملنه على رؤوسهن بطريقة فريدة من القدرة على التوازن‪،‬‬
‫وكان العشاق من الشباب يقصدون الجسر للمشي الذي يريدون من و ارءه الظفر بنظرة‬
‫أو سالم ممن يحبون‪.‬‬

‫فأورد ذلك الشعراء الشعبيون بقصائدهم‪ ،‬فهاهو الحبيب الغالي يمر من فوق الجسر‪،‬‬
‫ويشير إلى حبيبته السائرة مع صويحباتها بالسالم‪ ،‬لكنها ال تستطيع أن ترد على سالمه‬
‫خشية أن يفتضح سر حبهما‪ ،‬فتقول األغنية‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫سلم عليّ بيدو‬

‫ما قدرت أرد السالم‬

‫خاف يقولون تريدو‬

‫‪79‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫واألم الرقية تشبه أوالدها وفلذات كبدها وهم يسيرون فوق جسر "الرقة" بالغزالن‪ ،‬بل‬
‫إن أحدهم يشبه الضابط األلماني بجماله ومشيته‪ ،‬فتقول األغنية‪:‬‬

‫‪1‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫عدن ثلث غزالني‬


‫ّ‬
‫حازم وفرحان َّ‬
‫الجخه‬

‫ومؤيد ضابط ألماني‬

‫‪ -‬ولفظة " َّ‬


‫جخه" تعني الجيد الحسن‪،‬‬

‫أما مفهوم العشق عند الفتاة الرقية‪ ،‬فأجمله ما كان عشقاً عفيفاً صادقاً‪ ،‬يتوج في‬
‫النهاية بالزواج واللقاء‪ ،‬فتقول األغنية‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫علي وساده‬ ‫َّ‬


‫زتم َّ‬
‫ال تزعلن يا بنيات‬

‫الزين عشقو وراده‬

‫وأجمل لحظات العشاق‪ ،‬السير فوق جسر "الرقة" عند لحظات الغروب‪ ،‬حيث يرسم‬
‫الشفق األحمر لوحات رائعة على صفحات الفرات الخالد‪ ،‬فتقول األغنية‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫يا شويق هات اديتك‬

‫‪81‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عالجسر تانتمشى‬

‫غابت علينا الشمس‬

‫وآني أنقش لك َّ‬


‫ممشه‬

‫‪ -‬ولفظة "اديتك" هي تصغير محبب لدى أهل "الرقة" لكلمة يدك‪ ،‬ولفظة " َّ‬
‫ممشه" تعني‬
‫المنديل المطرز‪.‬‬

‫ويكمل "الحمادة"‪« :‬أما الشاعر الدكتور "باسم الحاج"‪ ،‬فيرى الورود تنثر من فوق جسر‬
‫الجو بعبق سحري‪ ،‬فيحذر الفتيات من عشق شباب‬
‫"الرقة"‪ ،‬فتطير في الهواء مالئ ًة َّ‬
‫قبيلتة "البياطرة"‪ ،‬ألن عشقهم يكوي القلب ويضني الكبد فيقول‪:‬‬

‫‪1‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫نثرم ورد طياري‬

‫ووصيكن يا بنيات‬

‫من عشقة البيطاري‬

‫أما الشاعر الشعبي األستاذ "محمود الذخيرة" فقد أعطانا لوناً غنائياً جميالً‪ ،‬وصو ًار‬
‫تراثية رائعة‪ ،‬فهاهو الحبيب الغالي يسير الهوينى على جسر "الرقة"‪ ،‬لكن حبيبته تذكره‬
‫بموعد اللقاء لركوب السفينة الصغيرة‪ ،‬لتسير بهم فوق صفحة الفرات الخالد فيقول‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫من فوق جسر الرقة عاللون اللون‬

‫يمشي الغالي بهواده يا سمر اللون‬

‫آني وانت تواعدنا عاللون اللون‬

‫‪81‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تا نركب بالطراده ياسمر اللون‬

‫وفي الصورة الثانية تلقي المحبوبة بخاتمها لحبيبها‪ ،‬وهي تسير فوق جسر "الرقة"‪،‬‬
‫وهو يرى أن هذا الحب البد أن يتوج بقبلة من شفاه الحبيبة‪ ،‬مستحلفاً إياها أن تعطيه‬
‫هذه القبلة إكراماً ألهلها األموات‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫من فوق جسر الرقة عاللون اللون‬

‫طوح علي بخاتم ياسمر اللون‬


‫ّ‬
‫خليني أحبك بثمك عاللون اللون‬

‫كرما ألهلك الماتم ياسمر اللون‬

‫‪ -‬ولفظة "اثمك" تعني فمك‪ ،‬ولفظة "الماتم" تعني الذين ماتوا‪،‬‬

‫أما في العرس فإن العروس تُزف عص اًر لمنزل الزوجية الجديد‪ ،‬الذي يكون العريس‬
‫قد غادره قبل ذلك لمنزل أحد األصدقاء أو األقارب‪ ،‬وبعد العشاء تسير " َّ‬
‫الزفة" يتقدمها‬
‫العريس بين أصدقائه وأقاربه‪ ،‬والشباب يلعبون أمام الزفة بالسيوف‪ ،‬ويطلقون العيارات‬
‫النارية في الهواء ابتهاج ًا‪ ،‬مرددين الهوسات الرقيَّة‪ ،‬حاملين "اللوكس"‪ ،‬وهو مصباح‬
‫يضيء بواسطة الكاز‪ ،‬وتكون إضاءته باهرة‪ ،‬وكان فيما مضى من الزمان يستخدم‬
‫مضاءة آنذاك بشكل جيد‪ ،‬أما النساء فيسرن خلف الرجال‬
‫ً‬ ‫بكثرة‪ ،‬ألن الشوارع لم تكن‬
‫وهن يطوحن مع "الهالهل" أي الزغاريد‪ ،‬مرددات بشكل جماعي‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫من فوق جسر الرقة عدى الببور*‬

‫يا نيالك يا العريس ما اطول بالك‬

‫العروس مرت قبالك بأول طابور‬


‫‪82‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫* والببور لمن ال يعرفه هو القطار‬

‫ومازال المطربون ِ‬
‫الرقيون يتغنون بهذه األغاني الجميلة في األعراس والمناسبات‪ ،‬ومن‬
‫أفضل من أدى هذه األغاني فرقة "الرقة" للفنون الشعبية‪ ،‬بقيادة الفنان "إسماعيل‬
‫العجيلي" وكذلك أبدعت في هذا اللون الغنائي الفنانة الشابة "خولة الحسين"‪ ،‬وأعتقد‬
‫أنه ال يوجد جسر في العالم دخل في ذاكرة وذكريات وتراث منطقة كجسر "الرقة"‬
‫القديم‪.‬‬

‫وحين يشاهد الشاب محبوبته وهي تشير له بالهبرية‪ ،‬وهو يدرك استحالة القاء ألنها‬
‫متجهة نحو الجزيرة شماال‪ ،‬وهو يعبر نحو الشامية جنوبا‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫وتشوشح بالهبرية‬

‫هي صارت جزيرة‬

‫واني صرت شامية‬

‫وفي صورة ثانية كانت المحبوبة تسير الهوينا فوق الجسر‪ ،‬فمرت نسمة هواء أطارت‬
‫الشالة من فوق رأسها‪ ،‬فظهرت جديلتها الشقراء الطويلة‪ ،‬وبان وجهها المضىء كالبدر‬
‫أو الهالل‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫طير الهوا الشالة‬

‫الحت شقرة الجديلة‬

‫‪83‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وبان البدر وهالله‬

‫وحين نثرم الشاب الورود والزهور من فوق جسر الرقة‪ ،‬وكان ينتظر المحبوبة على‬
‫ماء ولم تلتفت إليه‪ ،‬وكان الغضب باد على محياها‪.‬‬
‫مارد الماء‪ ،‬حضرت ومألت إناءها ً‬
‫‪22‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫طشم ورد ريحاني‬

‫تانيتهم عالمارد‬

‫صد الحلو زعالني‬

‫من فوق جسر الرقة مرت المحبوبة‪ ،‬وقد ظهرت عليها صفات الهيبة والدالل‪ ،‬فشبهها‬
‫الشاعر بريمة من ريام الكسرة‪ ،‬وبدأ يتساءل ماذا سيفعل‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫مرت هيبة وداللي‬

‫خطمن ريام الكسرة‬

‫يمّا شسوي بحالي‬

‫وهنا يسأل جسر الرقة‪ ،‬هل مر عليك أهل ريف الرقة‪ ،‬وهل كانت من بينهم واحدة‬
‫طويلة كانت هي أجمل الصبايا‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫جسر الرقة ياغالي‬

‫‪84‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مامروك الشوايا‬

‫بيهن وحدة طويلة‬

‫نافت على الصبايا‬

‫وهنا يشاهد المحبوبة وهي واقفة على جسر الرقة وتشير له بخاتم بيدها‪ ،‬ومن ثم يرجوها‬
‫أن تعطيه قبلة مستشفعا بأهلها الذين ماتوا‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫طوطح علي الخاتم‬

‫يابنية اعطيني حبة‬

‫دخيل أهلك ال ماتم‬

‫ويقف على جسر الرقة وينظر إلى القسم الجنوبي الحديدي منه‪ ،‬وهنا يشكو من أن‬
‫شدة عشقه وحبه قد جعل جسمة متعبا‪ ،‬ويشكو قائال مخاطبا والدته‪ :‬ماذا أفعل وليس‬
‫باليد حيلة‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫أناظر جسر الحديدي‬

‫ياويلي جسمي مهدود‬

‫يايمه اش طالع بيدي‬

‫وهنا يشاهد مجموعة من النساء يسرن على جسر الرقة برفقتهن أوالدهن‪ .‬وهنا يتحسر‬
‫ويشعر بالندم الن قلبه قد تعلق بهن والسبيل للوصول إليهن‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪26‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫يمشن هن وضناهن‬

‫حسرة واوف وندامة‬

‫قلبي طاح بهواهن‬

‫وهنا يشاهد المحبوبة تمر من فوق جسر الرقة‪ ،‬وقد تزينت بأجمل الهباري على رأسها‪،‬‬
‫ويشبه عيونها بعيون الريم أما الوجه فكالبدر المضيء‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫مرت أم الهباري‬

‫ياعيونها عيون الريم‬

‫والوجه بدر ياللي‬

‫وهنا يشاهد مجموعة من الفتيات الجميالت يسرن على جسر الرقة‪ .‬وكل واحدة تشبه‬
‫القمر بحسنها وجمالها‪ .‬فالفتيات البيضاوات سلبن عقله‪ ،‬والسم اروات جعلنه ال يستطيع‬
‫الحراك‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫من فوق جسر الرقة‬

‫الح القمر ياويلي‬

‫البيض خذن عقلي‬

‫‪86‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والسمر هدن حيلي‬

‫وكتب الشاعر األستاذ عبد السالم فريج قصيدة على ذات اإليقاع‪:‬‬

‫من فوگ جسر الرگة الزم الزم‬

‫أرسل سالمي كلو البو حازم‬

‫وادعيلك ربي العالي الزم الزم‬

‫ياحمصي يااستاذي ابن االكارم‬

‫اذكر وانت تدرسنا الزم الزم‬

‫وانت فيض المحبة والمكارم‬

‫دارت بينا الليالي الزم الزم‬

‫والعمر مر وعدا چني حالم‬

‫لكن بذارك بينا الزم الزم‬

‫أنتج خير وتزايد بالمواسم‬

‫كل الرگة تشكرك الزم الزم‬

‫وتنظر جيتك ياغالي سالم غانم‬

‫‪87‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وراق الرقة‪ :‬ظاهرة ثقافية نادرة‬


‫ّ‬
‫سوران للرقة‪ ..‬سورها األثري وطه الطه‬

‫روضة طه الطه‬

‫كاتبة سورية تقيم في المانيا‬

‫الرقة‪ ،‬مدينة موغلة في القدم‪ ،‬فيها اكتشف عالم اآلثار جاك كوفان أول بيت في‬
‫التاريخ‪ ،‬قبل أن تغمره مياه الفرات‪ ،‬وذلك في "تل مريبط" فهي من أهم المدن السورية؛‬
‫لغناها بالمواقع األثرية والتلول الحافلة ِ‬
‫بالك َسر الفخارية العائدة إلى عصور ما قبل‬
‫التاريخ‪ ،‬وصوالً إلى العصور اإلسالمية التي طوقت الرقة بسور عظيم على هيئة حذوة‬
‫الحصان‪ ،‬وقد احتضن هذا السور الرقة عصو اًر‪ ،‬إلى يومنا هذا الذي قصف فيه‬
‫الطيران الحربي ذلك السور‪ ،‬ومحيطه‪ ،‬ونال منه ما نال من التهشم والتصدع واالنهيار‪،‬‬
‫دون مراعاة شموخه خالل العصور وعراقة نسبه‪ ،‬حيث زاره السياح من جميع أنحاء‬
‫العالم وكتب عنه كثير من الدراسات واألبحاث‪ ،‬وقيلت فيه القصائد واألشعار‪...‬‬

‫ومثل سور الرقة‪ ،‬كان طه الطه‪ ،‬احتضن تاريخ الرقة القديم والمعاصر‪ ،‬تراثها وثقافتها‬
‫وحضارتها داخل متحف أنشأه بجهده الخاص وبإمكاناته البسيطة‪.‬‬

‫ولد طه الطه عام ‪2642‬م في منطقة خرائب الرقة القديمة‪ ،‬حيث التالل األثرية‪،‬‬
‫وبالفطرة كان ذلك الطفل الذي أتم سنواته الخمس يلتقط ِ‬
‫الك َسر الفخارية وقطع الصوان‪،‬‬
‫فيجمعها ويأخذها إلى بيته‪ ،‬وهو يجهل هويتها وقيمتها‪.‬‬

‫ومع مرور الزمن زاد عشقه لتلك القطع الفخارية‪ ،‬فبدأ يحاول ترميمها لتستعيد شكلها‬
‫وس ُرج لالستضاءة‪ ،‬وقطع حلي‪ ،‬ودمى طينية تنتمي‬
‫األول؛ فإذا بها قطع أوان منزلية ُ‬
‫إلى زمن غابر‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بدأ دراستها وتعقب تاريخها‪ ،‬ليصل إلى نشأتها األولى‪ ،‬وذلك بعد أن جمع كتباً تاريخية‬
‫ال نواة لمتحف صغير عام ‪2622‬م‪.‬‬
‫وأثرية‪ ،‬مشك ً‬

‫ومع مرور الوقت زاد شغفه بتلك القطع‪ ،‬فعمل مع كبار علماء اآلثار األوربيين‬
‫واألجانب الوافدين إلى سورية لدراسة علم اآلثار وحضارة بالدنا‪ ،‬حضارة وادي الفرات‪،‬‬
‫من خالل عمليات التنقيب وكتابة األبحاث والدراسات‪.‬‬

‫ولم يتفرد طه الطه بمجال دراسة اآلثار فقط‪ ،‬وإنما جمع التراث والفولكلور الشعبي‬
‫بمنطقة وادي الفرات‪ ،‬وأنشأ في متحفه قسماً خاصاً بالتراث من لباس‪ ،‬وأوان منزلية‬
‫وأدوات زراعية‪ ،‬وأخرى كانت تستخدم في مجال الصيد‪ ،‬وكل ما يخص الفن الفطري‪،‬‬
‫وصوالً إلى الشعر الشعبي والحكايات والخرافات‪ .‬ودفعه اهتمامه بالتراث إلى إنشاء‬
‫"فرقة للتراث الشعبي" وهي فرقة تؤدي الغناء الشعبي والفولكلور‪ ،‬وتروي الشعر الشعبي‬
‫وتسرد تاريخه‪ ،‬من خالل أماسي أسبوعية يقيمها في منزله ومتحفه لتدوين تاريخ الشعر‬
‫الشعبي بكل ألوانه وبحضور الكثير من الباحثين والمهتمين والشعراء والمغنين ومنهم‬
‫الشاعر محمود الذخيرة والمطرب محمد الحسن‪ ،‬المطرب حسين الحسن وأوالدهم‪،‬‬
‫الشاعر والباحث محمد الموسى الحومد‪ ،‬الدكتور الباحث محمود النجرس‪ ،‬ومن‬
‫المطربين ابراهيم األخرس‪ ،‬موسى عبد العزيز‪ ،‬ابراهيم الهباش‪ ،‬رمضان الصايل‪ ،‬علي‬
‫السنود‪ ،‬عبد الكريم الشويمي‪ ،‬والكثير من األسماء التي ال تسعفني الذاكرة‬
‫الستحضارها‪.‬‬

‫ف ُكتباً في هذا الخصوص‪ ،‬وكان مصيرها‬ ‫َّ‬


‫كما قام بدراسة األنساب والعشائر وأل َ‬
‫مخطوطات من رماد‪ .‬كما كرس وقتاً للعمل على تشجيع التظاهرات الفنية‪ ،‬والمنتديات‬
‫ظم دورياً نشاطاً دولياً خاصاً بالتصوير‬
‫األدبية‪ ،‬وملتقيات التصوير الضوئي‪ .‬وكان ين ً‬
‫الضوئي‪ ،‬بعنوان "ملتقى الربيع للتصوير الضوئي"‪ ،‬يقام من خالله معرض ومسابقة‬
‫للتصوير بإشراف ُحكام متخصصين في هذا المجال‪ ،‬وتمنح فيه جوائز وشهادات‬
‫تقديرية على الفنانين المشاركين‪ ،‬في حفل سنوي يقيمه من حسابه الخاص‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وكان ُينظم أيضاً‪ ،‬احتفالية ثقافية دورية‪ ،‬يكرم من خاللها كبار علماء اآلثار ورؤساء‬
‫البعثات األثرية األوربية‪ ،‬الوافدة إلى الرقة للتنقيب عن األثار ودراستها‪ ،‬إضافة إلى‬
‫تكريم األدباء والفنانين والباحثين والمهتمين‪ ،‬وذلك في "المعرض السنوي لمتحف طه‬
‫الطه بالرقة"‪ ،‬في األسبوع األخير من شهر أيلول من كل عام‪ .‬ومن أبرز المعارض‬
‫التي أقامها في السنوات الماضية‪:‬‬

‫‪ -‬معرض تحية لعلماء اآلثار‪ ،‬كل على حدة‪ ،‬من أهمهم الهولندي مورتيس فان لون‪،‬‬
‫وبيتر اكرمانز‪ ،‬وديدريك ماير (هوالندا)‪ ،‬وأنطون مورتكارت‪ ،‬وتيلو أولبرت‪ ،‬وميخائيل‬
‫ماينكة‪ ،‬ووينفريد أورثمان‪ ،‬وهارتموت لونة (المانيا)‪ ،‬والدكتور حميدو حمادة‪ ،‬ومحمد‬
‫المفتاح (سوريا)‪ ،‬وكذلك عالمة اآلثار اليابانية يايوئي يامازاكي‪ ،‬والبلجيكي مارك لوبو‪،‬‬
‫واإليطالي باولو ماتييه‪ ،‬والباحثة الفرنسية من أصل ج ازئري الدكتورة مريم عبابسة‪،‬‬
‫واإلسباني كارلوس بورانا‪.‬‬

‫كما نظم "متحف طه الطه" معارض ولقاءات تكريمية‪ ،‬لعدد من األدباء والكتاب‪،‬‬
‫والفنانين‪ ،‬منهم‪ :‬عبدالسالم العجيلي‪ ،‬ومصطفى الحسون‪ ،‬وعبدالرحمن منيف‪ ،‬وليلى‬
‫العثمان‪ ،‬وغسان كنفاني‪ ،‬وابراهيم الخليل‪ ،‬ونجدت آنزور‪ ،‬وسمير طحان‪ ،‬وحمدو‬
‫خلوف‪ ،‬وعيسى العاكوب‪ ،‬وعبدالوهاب البياتي‪.‬‬

‫والفنانين التشكيليين مصطفى الحالج‪ ،‬وأكثم سليمان‪ ،‬وفاتح المدرس‪ ،‬ومحمود شاهين‪،‬‬
‫ودنخا زومايا‪ ،‬ونعمت بدوي‪ ،‬وآكوب جامكوجيان‪ ،‬وبرصوم برصوما‪ ،‬وشريف محرم‪،‬‬
‫وسهام منصور‪ ،‬وناصر نعسان آغا‪ .‬وكذلك ابراهيم الموسى‪ ،‬وبشير بدوي‪ ،‬وعلي‬
‫سليمان‪ ،‬وسامي برهان‪ ،‬وعلي هوال‪ ،‬وأحمد معال‪ .‬والموسيقي الفرنسي جوليان فايس‪.‬‬

‫كما نظم معرضاً خاصاً تحي ًة للصحفي السوري الراحل سعيد مطر بمناسبة مرور‬
‫أربعين يوماً على وفاته إثر حادث أليم‪.‬‬

‫كما عمل على جمع المنمنمات‪ ،‬والحلي‪ ،‬والعمالت القديمة‪ ،‬والطوابع البريدية‪ ،‬وأرشفة‬
‫الصحف السورية اليومية والصحف والمجالت العربية والدوريات‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وأعد الدراسات الببلوغرافية التي رصد فيها تجربة كبار األدباء والفنانين على مستوى‬
‫الوطن العربي‪ ،‬كما أنجز عدداً من الموسوعات العلمية التي تهتم بالبيئة الفراتية‬
‫والشعبية‪ ،‬وله عدة مطبوعات ومئات المخطوطات التي لم تر النور‪ ،‬كما كتب القصيدة‬
‫اليومية واألشعار وله عدة دواوين مخطوطة منها‪" :‬نزيف السأم ‪ -‬حديقة الرغبات ‪-‬‬
‫عيون الجوع ‪ -‬طائر السمندل‪ -‬الخروج من دائرة الصمت ‪ -‬يوميات" هذه المخطوطات‬
‫كانت نصيبي من ميراث أبي‪ ،‬فقد أوصى رحمه الله بها إلي‪.‬‬

‫وأضاف إلى سجل إنجازاته‪ ،‬العمل على جمع األعمال الفنية والنحتية لكبار الفنانين‬
‫العرب واألجانب‪ ،‬والتي أصبحت ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬من غنائم الدولة اإلسالمية‪ ،‬التي‬
‫حولت منها ما حولت‪ ،‬إلى ُحطام ورماد‪.‬‬

‫لقد كان طه الطه منارة للساحة الثقافية السورية والرقية‪ ،‬عمل على مد جسر للمثاقفة‬
‫بين الشرق والغرب‪ ،‬والثقافة هي أساس ُرقي الشعوب وتحضرها‪ ،‬عمل على مزج‬
‫الماضي والحاضر وإنتاج فن حديث‪.‬‬

‫ال استطيع اختصار أسطورة بسطور‪ ،‬ولكن أحاول تسليط الضوء على بقعة جار عليها‬
‫الزمن‪ ،‬وبعد مرور سنين طويلة من الجهد المضني والعمل المتواصل دون ارحة أو‬
‫مقابل‪ ،‬وبعد أن وصل هذا المتحف إلى قمة ازدهاره ونشاطه الثقافي "وهو المتحف‬
‫الشخصي الوحيد في سورية من عام ‪ "2622‬انهار كل شيء على يد مسلحي داعش‪،‬‬
‫الذين حطموا كل ما فيه من لوحات‪ ،‬وأعمال فنية وتحف‪ ،‬وأحرقوا الكتب واألرشيف‬
‫الورقي األدبي والثقافي الضخم‪ ،‬والوحيد في المدينة‪ ،‬ليصبح رماداً في مهب الريح‪.‬‬

‫ما جرى لطه الطه ليس قضية فرد وإنما هي قضية تاريخ وحضارة وطن‪ ،‬بتراثه‬
‫وفولكلوره وآدابه وفنونه ماضيه وحاضره‪.‬‬

‫وبعد أن تزاحمت االوجاع واألحزان عليه‪ ،‬احتضن ألمه ووجعه وحده دون رفيق‪ ،‬افترش‬
‫الحزن بساطاً أسود من خيوط الشجن‪ ،‬وجرحه ينزف من الداخل‪ ،‬إلى أن وافته المنية‬

‫‪91‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في مدينة شانلي أورفا التركية‪ ،‬ودفن فيها في ‪ .1111 /6 /12‬في هذا التاريخ السنوي‪،‬‬
‫والذي اعتاد فيه على إقامة معرض "متحف طه الطه" من كل عام‪.‬‬

‫وأختتم بما كتبه طه الطه في مخطوط "نزيف السأم"‪:‬‬

‫ال أريد‬

‫العيش في المنفى‬

‫وإن كان اختياري‬

‫وإن كان‬

‫في نظر البعض جنة‬

‫أشتهي أن أعود‬

‫إلى سيباط من‬

‫السوس‬

‫على ضفة الفرات‬

‫وأموت هناك‬

‫بين القندريس والشفلح‬

‫بئس األوطان‬

‫حين ال تكون‬

‫الرقة‬

‫مأو َّي األخير‬

‫‪92‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫السالم العجيلي للرواية العربية‬


‫مهرجان عبد ّ‬
‫نبيل سليمان‬

‫روائي وناقد سوري‬

‫بقدر ما تسعف الذاكرة‪ ،‬تلوح لي اآلن دعوة من مدير الثقافة في الرقة حمود الموسى‬
‫إلى مهرجان للقصة القصيرة في مدينة الطبقة صيف ‪ .1111‬لم أكن أعرف حمود من‬
‫قبل‪ ،‬لكنني كنت أعرف الطبقة منذ (الفرجة) في ‪ 2662/2/2‬على الدكتور يوسف‬
‫زعين يضع حجر األساس لسد الطبقة (سد الفرات)‪ .‬ومن المعلوم أن زعين (‪2622‬‬
‫– ‪ )1126‬قضى في سجن المزة ما بين انقالب حافظ األسد الشهير بالحركة‬
‫التصحيحية عام ‪ 2621‬حتى ‪ ،2622‬حيث أُفرَج عنه ليموت بالسرطان‪ ،‬لكن العالج‬
‫في السويد أنقذه ليقضي بقية حياته منفياً‪.‬‬

‫الشرارة‪:‬‬
‫ّ‬

‫يت دعوة حمود الموسى‪ ،‬وأسعدني بخاصة اللقاء في الطبقة بالصديقين خطيب بدلة‬
‫لب ُ‬
‫ال في غرفتي مع كؤوس الطال‬
‫وتاج الدين الموسى‪ .‬وأنى لي أن أنسى خلوتنا ثالثتنا لي ً‬
‫وابنة الدن وابنة الكرم‪ ...‬وقبل أن نغادر الطبقة كانت الغيرة قد فعلت بي فعلها‪ ،‬وكنت‬
‫قد امتألت إعجاباً بمدير المركز الشاب المختلف عن كل من عرفت من مدراء الثقافة‬
‫ومدراء المراكز الثقافية في سوريا من القامشلي إلى السويداء والالذقية وما بين بين‪،‬‬
‫ال أستثني إال الصديق الذي فارقنا في ‪ :1112/2/12‬رفعت عطفة‪.‬‬

‫سألت حمود الموسى‪ :‬لماذا القصة القصيرة‬


‫ُ‬ ‫محموالً على جناحي الغيرة واإلعجاب‬
‫وحدها؟ والرواية أين مهرجانها؟‬

‫بابتسامة الواثق أجاب‪ :‬هات مشروعاً‪ ،‬وأنا جاهز‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫على الرغم مما بين الرقة والالذقية من مئات الكيلومترات‪ ،‬وعبر اتصاالت معدودة‬
‫ومحدودة‪ ،‬قدمت المشروع الطموح الذي يضمر مضاهاة ما كنت قد شاركت فيه من‬
‫مؤتمرات الرواية في تونس أو الدار البيضاء أو عمان أو الشارقة أو باريس‪ ...‬وعيني‬
‫على ملتقى القاهرة لإلبداع الروائي‪ .‬وقد جاءت تسمية المهرجان الموعود في الرقة‬
‫باقتراح من حمود الموسى وآخرين من أدباء الرقة‪( :‬مهرجان عبد السالم العجيلي األول‬
‫للرواية العربية)‪.‬‬

‫الدورة األولى‪:‬‬

‫ألنها الرقة‪ ،‬وألنه أيقونتها‪ ،‬كان من الطبيعي أن يتمحور المهرجان في دورته األولى‬
‫‪ 1111‬على دراسات ألدب عبد السالم العجيلي‪ ،‬باإلضافة إلى دراسات حول الرواية‬
‫السورية‪ ،‬وأخي اًر‪ :‬شهادات‪.‬‬

‫أسفر خالل فترة قياسية عن حضور‬‫وللمرء أن يتخيل الجهد الدؤوب والمركز الذي َ‬
‫سميحة خريس ومصلح النجار ومحمد عبيد الله (األردن)‪ ،‬عبد الرحمن مجيد الربيعي‬
‫وفاضل الربيعي وعبد الله إبراهيم (العراق) مصطفى الضبع وعزت القمحاوي وسمير‬
‫الفيل وصالح فضل (مصر)‪ ،‬وعلي مهدي زيتون وعبد المجيد زراقط (لبنان)‪ ،‬واسيني‬
‫األعرج وفضيلة فاروق (الجزائر)‪ ،‬كما شارك سبعة أدباء من الرقة‪ ،‬وسبعة عشر من‬
‫أنحاء سورية‪ ،‬من أبرزهم‪ :‬خيري الذهبي‪ ،‬وليد إخالصي‪ ،‬ممدوح عزام‪ ،‬شهال العجيلي‪،‬‬
‫سمر يزبك‪ ،‬خالد حسين‪ ،‬ماجد رشيد العويد‪ ،‬إبراهيم الخليل‪ ،‬نعمة خالد‪ ،‬خليل صويلح‬
‫‪...‬‬

‫جرياً على سنن الدورة األولى لملتقى القاهرة لإلبداع الروائي (‪ )2662‬جاءت رسالة‬
‫عبد السالم العجيلي إلى المهرجان في االفتتاح‪ ،‬وكان المرض قد أقعده‪ ،‬لذلك ازره‬
‫تقدمت الضيوف إلى البيت الذي سكنته‬
‫ُ‬ ‫الضيوف والمنظمون في منزله‪ .‬وعند خروجنا‬
‫عام ‪ ،2662‬على خطوات من بيت العجيلي‪ ،‬آمالً أن أرى غرفتي بعد عقود‪ ،‬لكن‬
‫الباب الذي انفتح أخي اًر واجهني برحيل أصحابه‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫من أبرز ما قدمه المشاركون أذكر حديث خيري الذهبي عن الرواية التاريخية‪ ،‬ومنه‬
‫أن قدر الشاميين الذين ُسموا بالسوريين على غير رغبة منهم‪ ،‬حاولوا الخروج من‬
‫القفص‪ .‬لكن القضبان كانت أقوى من صدورهم العارية‪ .‬وأخي اًر بدؤوا الكتابة ‪ /‬قراءة‬
‫الوطن بالرواية التاريخية‪ .‬وقد ميز خيري الذهبي بين نوعين من كتاب هذه الرواية في‬
‫سورية‪ :‬الكسالى الذين يتكئون على مشجب االلتزام‪ ،‬واآلخرون الذين لهم مشروع روائي‬
‫خاص‪ ،‬وتكرم فجعلني في مقدمة هؤالء برباعية (مدارات الشرق)‪.‬‬

‫وقد قدم جهاد نعيسة دراسة مميزة لعالم خيري الذهبي‪ ،‬تعويالً على رواية (لو لم يكن‬
‫اسمها فاطمة)‪ ،‬ورأى فيها أن الذهبي نموذج لمزج وعجن األساطير والمواد التاريخية‪.‬‬
‫وقد عقد نعيسة موازنة بين تجربتي خيري الذهبي ونجيب محفوظ‪ ،‬حيث عرضت‬
‫األولى تصو اًر موازياً عن أزمة وعي أعم يكون المثقف أحد أطرافها مأساوية‪ ،‬وبالمناسبة‬
‫رم بعد السجن من حق العمل‬‫وح َ‬
‫قضى جهاد نعيسة خمس عشرة سنة في السجن ُ‬
‫أستاذاً جامعياً داخل المالك‪ .‬ومن الشهادات المؤثرة والبصيرة جاءت شهادة سمر يزبك‬
‫تحت عنوان (الكتابة الجديدة)‪ .‬وذكرت فيها أنها كتبت روايتها (صلصال) بوله وحشي‬
‫وخشية ومتعة‪ ،‬وأن الروائيين كانوا دائماً أنبياء في العالم العربي‪ ،‬حيث ال أفق سوى‬
‫األسود‪ ،‬أما الكتابة الجديدة فهي الكتابة الجيدة‪.‬‬

‫أضفت فرقةُ الرقة للفنون الشعبية بقيادة إسماعيل العجيلي بهجة مضاعفة على‬
‫ْ‬
‫المهرجان في جلسته االفتتاحية‪ .‬وكنت قد عايشت هذه الفرقة منذ نشأتها عام ‪.2666‬‬
‫وكان عبد السالم العجيلي قد كتب لها بعض أغانيها وأعمالها بالمحكية البدوية‪ ،‬وسوف‬
‫تتكرر مشاركتها في افتتاح دورات المهرجان التالية‪.‬‬

‫بعت أغلب أعمال الدورة األولى في كتاب‪ ،‬وهو ما سيغدو سنة المهرجان في سائر‬
‫ط ْ‬ ‫ُ‬
‫دوراته الست (‪ .)1121-1111‬كما رافقت المهرجان معارض للكتاب والفن التشكيلي‪،‬‬
‫ونظمت مديرية الثقافة رحلة للمشاركين إلى قلعة جعبر والرصافة وسد الفرات‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫التمويل‪:‬‬

‫في يوم الرحلة تخلفت عن الركب‪ ،‬ليس فقط ألنني كنت قد زرت كل المواقع الساحرة‬
‫م ار اًر خالل أربعين سنة سابقة‪ ،‬بل ألن رهق األيام الفائتة من قبل ابتداء المهرجان‬
‫اقتديت بجابر عصفور في تنظيمه أليام ملتقى‬
‫ُ‬ ‫بيومين كان قد أعجزني‪ ،‬وكنت قد‬
‫اإلبداع الروائي في القاهرة‪ ،‬فجعلت لكل يوم من أيام مهرجان العجيلي أربع جلسات‬
‫علمية‪ :‬جلستان قبل الظهر‪ ،‬للواحدة ساعتان‪ ،‬يتحدث فيها أربعة‪ ،‬ويلي ذلك النقاش‬
‫مع الجمهور الذي ندر أن كان مثله في ملتقيات العواصم‪ ،‬ابتداءاً بأكبرها‪ :‬ملتقى‬
‫القاهرة لإلبداع الروائي‪ .‬وفي المساء جلستان مماثلتان‪ ،‬ثم يأتي العشاء والسهرة التي‬
‫يعطرها بخاصة غناء الروائية فوزية المرعي بنت الرقة‪ ،‬وسواها‪.‬‬

‫في ظهيرة يوم الرحلة إلى الطبقة والرصافة خرجت من الفندق‪ ،‬وبعد خطوات قاطعني‬
‫رجل مشرعاً ذراعيه وهاتفاً‪ :‬أستاذي‪ .‬بالطبع لم أعرف الرجل الذي قدم نفسه‪ :‬بوزان‬
‫البشير الهويدي‪ ،‬واندفع يذكرني بالطالب الذي كان في الصف الثاني ثانوي وأستاذه‬
‫تعللت بارتباطي‬
‫ُ‬ ‫الذي كنته‪ .‬وفجأة أطبق علي ألكون ضيفه على الغداء‪ ،‬ولما‬
‫بالمهرجان أقسم باأليمان الغالظ على أن كل من في المهرجان هم ضيوفه على الغداء‪،‬‬
‫فتركت له أن يرتب ذلك مع حمود الموسى‪ ،‬وكان ذلك في اليوم التالي‪ :‬المضافة التي‬
‫تترامى عشرات األمتار‪ :‬جلوساً على السجاد أيها الضيوف والمنظمون ويا رهطاً من‬
‫الحضور‪ :‬المناسف التي تتوسطها الخراف تنتظر المئات‪ ،‬ولن أنسى ذهول صالح‬
‫فضل وهو يحاول أن (يتربع) ونظرته المركوزة على الخروف تتلمظ تارة وتنكفئ تارًة‬
‫كأنها خائفة‪.‬‬

‫الدعوة الحاتمية لطالب األمس الذي صار شيخاً‪ :‬بوزان البشير الهويدي‪ ،‬تفتح القول‬
‫على تمويل المهرجان‪ ،‬ابتداءاً من الدورة األولى‪ .‬فبطاقات الطائرة‪ ،‬ونقل الضيوف من‬
‫مطار دمشق إلى حلب فالرقة‪ ،‬وأجور الفنادق وتكاليف اإلقامة‪ ...‬كل ذلك يعني أرقاماً‬

‫‪96‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عصية على المدينة الصغيرة النائية‪ ،‬وعصية بخاصة على ميزانية و ازرة الثقافة‪ ،‬وعادة‬
‫ما تكون هذه الميزانية في المرتبة الدنيا‪.‬‬

‫التف حمود الموسى بخبرته وشبكة عالقاته الرسمية والمدنية‪ ،‬على البيروقراطية وعلى‬
‫ازدراء الميزانية لألنشطة الثقافية‪ ،‬فجاء المدد من (المجتمع األهلي) كما اخترع الخطاب‬
‫البعثي بديالً للقول بـ (المجتمع المدني)‪ ،‬من أمثال صديقي الشيخ بوزان البشير‬
‫الهويدي‪( ،‬الشيخ فايز العبيد الغبين ومحمد حسن ويس العجيلي والمحامي عثمان‬
‫محمد والمهندس الياس خضري‪ ،)...‬وكذلك العديد من المؤسسات (مديرية الخدمات‬
‫الفنية‪ ،‬مديرية األعالف) على سبيل المثال‪ .‬وقد فاجأني حمود الموسى في إحدى‬
‫الدورات باصطحابي إلى إدارة سد الفرات‪ ،‬لماذا؟ لكي نطلب العون المادي للمهرجان‪،‬‬
‫فقدم المدير مائة ألف ليرة‪ ،‬وكان ذلك مبلغاً كبي اًر يعادل ‪ 1111‬دوال اًر‪.‬‬

‫تحية للراحلين‪:‬‬

‫من المشاركين في المهرجان من رحلوا‪ ،‬وأسماؤهم وحدها تدلل على المستوى الرفيع‬
‫الذي كان للمهرجان‪ :‬من العراق نجم عبد الله كاظم وعبد الستار ناصر‪ ،‬ومن مصر‪،‬‬
‫يوسف أبورية وصالح فضل وسيد بحراوي ومكاوي سعيد‪ ،‬من تونس محمد الباردي‬
‫وصالح الدين بوجاه‪ ،‬من األردن رفقة دودين وجمال ناجي‪ ،‬ومن سوريا‪ :‬ياسين رفاعية‪،‬‬
‫خيري الذهبي‪ ،‬وليد إخالصي‪ ،‬فؤاد المرعي‪ ،‬رفعت عطفة‪ ،‬غازي حسين العلي‪ ،‬رضوان‬
‫قضماني‪ ،‬عبد الله أبو هيف‪ ،‬عادل محمود‪ ،‬صبحي الدسوقي‪ ،‬غسان الجباعي‪.‬‬

‫عالمات فارقة‪:‬‬

‫‪ -2‬بقدر ما تسعف الذاكرة‪ :‬تعنونت الدورة الرابعة ‪ 1112‬بـ (جمالية الرواية العربية)‪.‬‬
‫وكان العنوان الذي اقترحته (جماليات) وال أعلم كيف صار (جمالية) على غالف‬
‫الكتاب المطبوع الذي ضم أعمال تلك الدورة‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ألقى كلمة المشاركين إبراهيم عبد المجيد‪ ،‬ومثل هذه الكلمة كانت من تقاليد المهرجان‪،‬‬
‫كما هو تكريم أحدهم‪ .‬وممن جرى تكريمهم الروائي الصديق إبراهيم الخليل ابن الرقة‬
‫تبق‬
‫الذي غادرها إلى الطبقة عندما قامت دولة‪/‬خالفة داعش‪ ،‬ثم عاد بعدما (قامت ولم َ‬
‫‪ -‬نكاية بشعارها‪ :‬قامت وستبقى) وجد بيته أنقاضاً‪ ،‬ولكنه لم يغادر الرقة من بعد‪ .‬كما‬
‫جرى تكريم القاص الراحل الصديق خليل جاسم الحميدي‪ ،‬ابن الرقة‪.‬‬

‫في هذه الدورة كانت مفاجأة مشاركة الروائيين اليمنيين نادية الكوكباني ‪-‬القادمة إلى‬
‫الرواية من هندسة العمارة‪ -‬وحبيب عبد الرب سروري القادم إلى الرواية من أعقد‬
‫وأحدث علوم الكومبيوتر‪ ،‬كما حضر من اليمن الشاعر والصحافي علي المقري الذي‬
‫سينتقل إلى الرواية‪ ،‬وسرعان ما سيسطع نجمه فيها‪.‬‬

‫وقد كانت مشاركة شهال العجيلي (الجمالي والمعرفي في الرواية العربية) درة هذه‬
‫الدورة‪ ،‬وهي األكاديمية والروائية المرموقة‪ ،‬وابنة شقيق عبد السالم العجيلي‪ ،‬وكان‬
‫والدها عبد العظيم العجيلي وشقيقتاها رزان ومزنة وعمها عبد الوهاب شموع المهرجان‬
‫التي ال تنطفئ‪.‬‬

‫كتبت شهال العجيلي أن "إنسان اليوم هو إنسان الرواية بجدارة‪ ،‬الذي يعاني قطيعة‬
‫قيمية وجمالية مع العالم"‪ .‬وكتب إبراهيم محمود عن جماليات الجسد المحظور في‬
‫الرواية العربية‪ .‬وكتب نجم عبد الله كاظم عن جماليات الشخصية في الرواية العراقية‪.‬‬
‫أما خيري الذهبي الذي كان ضيف المهرجان للمرة الثانية‪ ،‬فقد قدم شهادة على تجربته‬
‫الروائية حتى تلك السنة ‪ . 1116‬وازدانت الشهادة بما جاء فيها عن حياته الشخصية‬
‫والثقافية‪ ،‬وعن النقد‪ .‬وقد خصني بقوله‪" :‬أما نبيل سليمان فقد كتب عدداً من الدراسات‪،‬‬
‫وعدداً من العروض الصحفية لمعظم رواياتي‪ ،‬وهذا ما أشكره عليه‪ ،‬وأتمنى أن أتفرغ‬
‫قليالً للكتابة النقدية فأنصفه وهو الجدير"‪.‬‬

‫ومن المغرب جاء لعبد المالك أشهبون بحثه (جماليات الواقعية الجديدة في الرواية‬
‫العربية)‪ ،‬كما قدم أشهبون بحث المغربي الذي تعذر حضوره عبد اللطيف محفوظ‬

‫‪98‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫(الداللة األيديولوجية في الرواية‪" :‬دلعون" أنموذجاً)‪ .‬وفي ذلك توكيد على مدى جدية‬
‫الباحث‪ ،‬وعلى مدى الجدية التي عرف بها المهرجان‪ ،‬وهنا أذكر الروائي السوداني‬
‫أمير تاج السر الذي لم يتمكن من الحضور فأرسل شهادته (بصحبة الغرغرة المرة)‪.‬‬

‫َد َرَج المهرجان بفضل إدارته على استضافة عدد من األدباء األتراك في كل دورة‪.‬‬
‫ومنهم في الدورة الرابعة صالح زكي طومباق الذي قدم (الرواية المؤامراتية في األدب‬
‫التركي)‪ ،‬وتوالي آل كوبون التي قدمت‪( :‬منعكسات العالم المتعولم على األدب‬
‫التركي)‪ .‬وكان الصديق المترجم بركات كار من أنطاكية قد ترجم للوفود التركية دورة‬
‫بعد دورة‪ .‬وهنا أسجل أن شخصية توالي في روايتي (تحوالت اإلنسان الذهبي‪-‬‬
‫‪ )1111‬ما كانت لتكون لوال الصديقة الكاتبة توالي التي عرفتها في الرقة في المهرجان‪،‬‬
‫وتعمقت صداقتنا‪ ،‬وثالثنا بركات‪ ،‬في مهرجان األدب العالمي في آكياكا التركية‪.‬‬

‫تغيبت عن الدورة الثالثة ‪ 1112‬ألنني كنت قد أجريت جراحة في القلب قبل‬


‫ُ‬ ‫‪-1‬‬
‫المهرجان بشهر‪ .‬وبعد المهرجان حضرت من الرقة لزيارتي في الالذقية الضيفة‬
‫المصرية الكاتبة دعاء صالح التي كنت قد التقيتها في صيف تلك السنة في مؤتمر‬
‫في الجزائر‪ .‬والطريف – الطريف!!!‪ -‬أنها حضرت إلى دمشق سنة ‪ 1124‬في مؤتمر‬
‫نسيت ما كان‪ .‬وصادف أن شاهدتها على شاشة التلفزيون مع حمود الموسى وآخرين‪،‬‬
‫فهاتفت حمود وطلبت منه أن يصلني بدعاء‪ ،‬لكنها رفضت أن تكلمني ألنني غدوت‬
‫في نظرها الجاحد المعارض أما هي فهي الموالية الوطنية!!‬

‫‪ -2‬موضوع الدورة الخامسة ‪ 1116‬من المهرجان كان (الرواية العربية والنقد) ومن‬
‫المشاركات المميزة من مصر كانت مشاركة (زمن الرواية) لحسين حموده‪ ،‬و("أنت"‬
‫ضمير النقمة والسخرية واالحتجاج) لخيري دومة‪ ،‬و(النقد الجديد في مصر) البراهيم‬
‫فتحي‪ ،‬ومن األردن (النقد واإلبداع النسوي) للراحلة رفقة دودين‪ ،‬ومن السعودية (النقد‬
‫الروائي العربي والرواية الشبابية) لنو ار القحطاني‪ ،‬و(التناص بوصفه ممارسة) لمعجب‬
‫العدواني‪ ،‬ومن المغرب (مسارات النقد الروائي) لشعيب حليفي‪ ،‬ومن سوريا (حول‬

‫‪99‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مشكالت الناقد الروائي العربي) لشهال العجيلي‪ ،‬و(بالغة السرد) لرشا العلي‪ ...‬ومن‬
‫الشهادات أذكر شهادات ابتسام تريسي وخطيب بدلة وخيري الذهبي ونهاد سيريس‬
‫وممدوح عزام (سوريا)‪ ،‬والميلودي شغموم (المغرب) ومحمد األصفر (لبيبا) وأمير تاج‬
‫السر (السودان)‪.‬‬

‫أما الدورة السادسة واألخيرة ‪ 1121‬فكان موضوعها (محظورات الكتابة في الرواية‬


‫العربية)‪ .‬وقد شارك فيها من الجزائر الحبيب السائح‪ ،‬ومن العراق علي بدر وعمار‬
‫أحمد‪ ،‬ومن المغرب أحمد المديني‪ ،‬ومن مصر هالة البدري وخليل الجيزاوي وشيرين‬
‫أبو النجا‪ ،‬ومن السعودية عبده خال ويوسف المحيميد‪ ،‬ومن األردن جمال ناجي وعبد‬
‫الله رضوان‪ ،‬ومن سوريا فؤاد المرعي وعادل محمود‪ ،‬ومن لبنان علوية صبح ويسرى‬
‫المقدم‪ .‬ورافق المهرجان معرض الكتاب ومعرض التصوير الضوئي ومعرض‬
‫للمخططات الهندسية الخاصة بإعادة تأهيل منطقة ما بين الجسرين‪ .‬وكانت الدورة‬
‫الثانية ‪ 1116‬قد ازدانت بمعرض الفن التشكيلي لتجمع فناني الرقة مطعماً بلوحات‬
‫لفنانين من تركيا والدنمارك والمغرب والعراق وبولونيا ورومانيا وفرنسا وأرمينيا وفلسطين‬
‫وسوريا‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫كان يا ما كان‪ ،‬وغير الله ما كان‪ ،‬كان فيه مهرجان في الرقة يحمل اسم عبد السالم‬
‫العجيلي‪ ،‬وعاش ست دورات من ‪ 1111‬حتى ‪ ،1121‬ثم زلزلت سوريا زلزالها‪،‬‬
‫وأخرجت أثقالها‪ ،‬وتوقف المهرجان إلى أن حاولت و ازرة الثقافة السورية إحياءه عام‬
‫‪ 1126‬فيما سمته الدورة السابعة‪ ،‬أي إنها استأنفت إقامة المهرجان بعد الدورة السادسة‪،‬‬
‫ولكن ليس في الرقة التي تسيطر عليها اإلدارة الذاتية الكردية‪ ،‬وخارج سيطرة الدولة أو‬
‫مت في إعداديتها لمدة أسبوع في‬
‫النظام‪ ،‬بل أقيم المهرجان في بلدة (السبخة) التي عل ُ‬
‫تشرين األول ‪ 2662‬قبل أن أنتقل إلى ثانوية خديجة للبنات في الرقة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نقل لي صديق مشارك في الدورة السابعة أنه اقترح دعوتي فرفضوا (من هم؟) رفضا‬
‫ذكر اسمي البتة‪ .‬كما كان محرما في هذه الدورة وفي الدورة التالية ‪1111‬‬
‫قاطعا أن ُي َ‬
‫ذكر أي كاتب أو كاتبة من المحسوبين في المعارضة‪ ،‬داخل وخارج سوريا‪ .‬وألكن‬
‫صمت بالنرجسية أو األنانية‪ :‬لقد جعلني إحياء المهرجان‪ ،‬كما جرى‪،‬‬
‫صريحا حتى لو ُو ُ‬
‫بأن األمر هو اختطاف المهرجان‪ ،‬بل هو اغتصاب‪ ،‬ليس فقط لي أو لجهودي‪ ،‬بل‬
‫لكثيرين وكثيرات من أمثالي‪ ،‬على رأسهم حمود الموسى‪ ،‬سواء ممن أنجبتهم وأنجبتهن‬
‫الرقة أو سواهم من كتاب وكاتبات وعاملين وعامالت في اإلدارة واإلعالم‪ ،‬أما عزائي‪،‬‬
‫والمكافأة الكبرى على ما قدمت فهو هذه الكلمات التي ألقاها حمود الموسى في افتتاح‬
‫الدورة األولى للمهرجان "وال يفوتني ‪-‬وإن اتهمت بالمحاباة‪ ،‬أن أشكر الصديق واألديب‬
‫نبيل سليمان‪ ،‬فلوالك أيها الصديق كان من الصعب أن ننعم بهذا اللقاء‪ ،‬فشك اًر على‬
‫واجبك"‪.‬‬

‫وإنه لواجبي حق ًا نحو الرقة التي سكنتني كما لم يسكنني مكان آخر تعلقت به روحي‬
‫في سوريا وخارجها‪ .‬الرقة مدينة عبد السالم العجيلي ومن سبقوا ومن لحقوا من‬
‫المبدعين والمبدعات من ربيعة الرقي والبتاني إلى عبد السالم العجيلي وإبراهيم الخليل‬
‫وشهال العجيلي وياسين حاج صالح وخليل الرز وعبد اللطيف خطاب و‪....‬‬

‫‪111‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة ‪ ..‬خيال متعددة في ذاكرة واحدة‬

‫شعيب حليفي‬

‫ناقد وباحث من المغرب‬

‫محبة األصدقاء ال تأتي متأخرة أبدا‬

‫إلى نبيل سليمان وشهال العجيلي وماري رشو‪..‬‬

‫كالم كثير ما زال ضائعا في نفسي أشبه بسفينة سومرية تحملكم فقط‬

‫أبطاال في خيال كاتب مغربي من بالد صالح بن طريف‪.‬‬

‫ال يمكن للحياة أن تستقيم بال ذاكرة‪ ،‬وال ذاكرة بال مكان‪ .‬والرقة ليست مكانا ولكنها‬
‫فضاء متشابك مع التاريخ وأرواح الكلمات والوجود الذي هو الصيرورة‪.‬‬

‫عبرت إلى حلم كان مستعصيا‪ .‬وكانت المرة الثانية‬


‫ُ‬ ‫زرت مدينة الرقة‪ ،‬كما لو أنني‬
‫ُ‬
‫التي أزور فيها سوريا بعد األولى إلى الالذيقية (في الفترة ما بين ‪ 2‬و ‪ 22‬نونبر‬
‫وولجت معها في حالة لم تفارقني أبدا‪ ،‬وكان ذلك في ال اربع‬
‫ُ‬ ‫دخلت المدينة‬
‫ُ‬ ‫‪.)1111‬‬
‫أيت فيها‬ ‫ِ‬ ‫من دسمبر‪ /‬كانون األول ‪،1116‬‬
‫فعشت أياما كانت بالنسبة لي مر ًآة سحرية ر ُ‬
‫ُ‬
‫فكتبت نصا‪ ،‬مباشرة بعد‬ ‫ُ‬ ‫نفسي الشرقية‪ ،‬وألهمني خاطري بإلحاح تدوين حضوري‬
‫مسكت نفسي بقوة ألن ما كان بداخلى‬
‫ُ‬ ‫عودتي إلى بالد الشاوية بالمغرب‪ ،‬وفي خلوتي‬

‫بت هوى النفس وار ُ‬


‫تضيت‬ ‫مثل بركان يسوُد كتابا كامال وليس نصا واحدا‪ ،‬ولكنني غل ُ‬
‫تتلبس شكل رواية‬
‫ُ‬ ‫وليست رحلة‬
‫أكتب نبوءة ساحر برغواطي َ‬ ‫ُ‬ ‫باالختزال كما لو أني‬
‫تفصيل خفاياه في رواية طويلة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قصيرة تكتنز ما يتم‬

‫‪112‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عنونت النص ب"العبور إلى الشام"‪ ،‬ثم افتتحته بمقطع من قصيدة شعرية لشاعر‬
‫ُ‬
‫مغربي‪ ،‬دون أن أفسر لماذا اخترتُه‪:‬‬

‫ِ‬
‫الصمت كي أستطيع الصالة‬ ‫أريد قليالً من‬
‫" ُ‬
‫ويا قاتلي‪ ...‬بطعنتك الغائرة‬

‫يا قاتلي عارياً‪ ،‬ال سالح بكِّفي‬

‫صديق‬
‫ْ‬ ‫وال‬

‫يُرِاف ُقني نحو رقدتي األخيرة‪..‬‬

‫كالحريق‬
‫ْ‬ ‫اك وخنجرك المُستقيم بحنجرتي ‪...‬‬
‫سو َ‬

‫تمهل ‪ ...‬أري بين عينيك ش ّكاً‬

‫الغريق"‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وصمتاً ورعباً كرعب‬

‫اخترت هذا المقطع‪ ،‬وهل قرأته في تلك المرآة التي كانت تراني وأراها‬
‫ُ‬ ‫ال أعرف لماذا‬
‫ست‬
‫بتوجس؟ ثم انتقلت – في تدمير متعمد للسرد الكرونولوجي والتسجيلي البليد‪ ،‬وغم ُ‬
‫يدي في مداد الخيال‪ ،‬مفتتحا كالمي بلحظة العودة من سوريا بعد انتهاء تواجدي بها‬
‫في سياق مؤتمر الرواية الملتئم لحظتها‪.‬‬

‫كنت أعود إليه في كل مرة أحس برغبة االقتراب من الرقة‬


‫حينما أعود اليوم‪ ،‬كما ُ‬
‫وأصدقائي بها وبكل سوريا‪ ،‬أشعر بأن الرقة كتبتلي في هذا النص بكل ما كان سيقع‬
‫لها الحقا‪ ،‬فقد كتبت النص في فقرات‪ ،‬تداخل فيها اليومي بالتاريخي بالخيال باستدعاء‬
‫أحداث ووقائع وتأمالت مضفورة في تخيالت أراها تحولت إلى تحققات‪ ،‬ال أقول تنبؤات‬
‫ولكنها كتابة "روحية" على الخط الالمرئي الذي يفصل الروح عن الالروح‪ ،‬ويفصل‬
‫الواقعي الراكد عن الخيالي المتمرد وقد استطاع فك قيوده ليقول كل شيء‪.‬‬

‫وبين أيديكم اآلن النص كما كتبته في ديسمبر ‪ 1116‬بعد عودتي مباشرة من الرقة‪:‬‬

‫‪113‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬حدوس ساخنة‬

‫وأنا أصعد ُسلم طائرة العودة‪ ،‬من مطار حلب‪ُ ،‬قبيل فجر يوم الخميس العاشر من‬
‫ديسمبر‪ ،‬في الساعة الثالثة والربع‪ ،‬حيث مالئكة الرحمان في ذلك الليل البهيم‪ ،‬ا ِ‬
‫لندي‬
‫دت البقاء متأخ ار عن كل ُركاب هذه‬ ‫تعم ُ‬
‫ُبنعاس لذيذ‪ ،‬تُعيد ترتيب العالم ليوم جديد‪َّ .‬‬
‫ننزل من الحافلة أمام األدراج الحديدية المؤدية لباب دخول طائرة‬‫الرحلة‪ ،‬ونحن ُ‬
‫جميعهم في استعجال للولوج إلى أماكنهم الدافئة‪ ،‬ربما خوفا من تلك‬
‫ُ‬ ‫االيرباس التركية‪،‬‬
‫الخطوط المطرية الخفيفة‪ ،‬العربية الطعم‪ ،‬ال طيعة وال َحرون‪ ،‬وإنما رخية حنون‪ُ ،‬مسبلة‬
‫في رحابة محسوسة‪.‬‬

‫تخلفت عمداً‪ ،‬لغرض في نفسي التي لم يتبق فيها شيء سوى األحاسيس ُ‬
‫المشتعلة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وأنا أرمي ب ِر ْجلي ُ‬
‫اليمنى على الدرج األول‪ .‬لم يكن متبقيا أمامي في الدرج الخامس‬
‫سوى َر ُجل في حوالي الخمسين من عمره‪ ،‬يبدو مثل مهندس أو فنان‪ ،‬منشغل في حبور‬
‫األطفال‪ ،‬بابنته ذات السنوات الخمس ‪ ..‬تمشي الهوينى حاملة بين يديها فرسا من‬
‫حرير أسود وأزرق‪ ،‬عليه دوائر بيضاء‪.‬‬

‫الممتع‪ ،‬بوجهها الطفولي الناضج والضاج‬‫سهوت في النظر إليها وأنا أشعر بالرذاذ ُ‬
‫ُ‬
‫لم َحِني والدها‬
‫بنورانية ارستقراطية‪ ،‬كأنها حبة َمطر طاهرة نزلت بيننا حية تمشي‪َ .‬‬
‫تخليت عن المشهد‪ ،‬دون أن أ َ‬
‫ُشيح عنه بخاطري‪ ،‬حينما فاض بداخلي‬ ‫ُ‬ ‫فابتسم‪ .‬آنذاك‪،‬‬
‫مشهد أقوى وأبعد‪.‬‬

‫اي واألب الرحيم وابنته‪ .‬فيما في األعلى‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫في ُّ‬


‫الدرج السادس‪ ،‬لم يتبق خارج الطائرة سو َ‬
‫ُربان ومضيفة ينتظران أمام المدخل‪ ،‬وقد كمشا بين فكيهما على ابتسامة مفترضة‬
‫توقفت‪ ،‬وكان األب قد توقف بدوره‬
‫ُ‬ ‫ورقمية‪ ،‬سيرميان بها إلينا من تَ َعُّود واجب‪ .‬لكنني‬
‫منتظ ار صغيرته التي ال تبتعد عنى سوى بدرجين‪ ،‬تُجرب جعل فرسها يقفز الحواجز‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أبحث‬
‫ُ‬ ‫توقفت ملتفتا خلفي‪ ،‬لثانيتين أو أكثر بقليل‪ ،‬ورأسي إلى السماء‪ .‬هناك‪ ،‬بعيدا‬
‫ُ‬
‫بداخلها متسربا‪ ،‬في خفة طفولية بين حبات المطر ُّ‬
‫الزاللية‪ ،‬عن المالئكة التي تُدو ُن‬
‫على صفحات السماء أيامنا الجميلة‪ ،‬بلغات رقيقة وطافحة بالمشاعر الجليلة‪.‬‬

‫وفي الثانيتين أو أقل بقليل‪ ،‬أحدق أفقيا‪ ،‬كمن يرى كل بالد الشام آلخر مرة‪ .‬إحساس‬
‫آلمني كوني ُمتأكد بأني لن أعود إلى سوريا أبدا بعد خطوات فقط تفصلني عن باب‬
‫رد هذا الشعور أني رأيتُ هناك‪ ،‬في اليوم الثاني من وصولي‪ ،‬حلما –‬‫الطائرة‪ .‬وم ُّ‬
‫مكتمل الشروط‪ -‬رأيتُني مجتمعا بعدد من األصدقاء السوريين األكراد واألتراك‪ ،‬وجرت‬
‫وفاوضت األمويين‪ .‬ورأيتُني في مكان يسمى‬
‫ُ‬ ‫زرت الشام‪ /‬دمشق‬
‫بيننا حوارات‪ ،‬كما ُ‬
‫أعيد بناء ملكي ومسجدي الذي أرى منه ُعهودي‪ ،‬و ُّ‬
‫أهش فيه على‬ ‫بالشاوية ثم الرصافة ُ‬
‫ُ‬
‫اي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َوَرعي وتقو َ‬
‫في آخر الحلم‪ ،‬وكان مشهدا سريعا وعنيفا‪ ،‬جماعة من العساكر يتقدمهم ضابط ُمثقل‬
‫بالنياشين‪ ..‬يأخذونني إلى بهو بارد وطويل‪ ،‬ثم شرعوا في استنطاقي وسط ظروف‬
‫ُمذلة؛ بعد ذلك صلبوني رغم أني مسلم كامل اإلسالم‪.‬‬

‫أنا أثق في أحالمي المتضمنة لعالمات وإشارات مرتبطة بالسياقات النهارية واألحداث‬
‫التي أعيشها ‪...‬إنها جزء من حدوسي السرية‪ ،‬والتي يبقى تأويلها عندي وعند غيري‬
‫يسي ار وفي المتناول‪.‬‬

‫شعرت بسخونة جياشة في‬


‫ُ‬ ‫عدت أرمي خطواتي األخيرة في بالد الشام العزيزة‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬
‫عيني بالدمع العصي‪ ،‬وصوت األب يصلني واضحا وهو‬ ‫َّ‬ ‫صدري وامتالء حار في‬
‫يدعو ابنته باسمها‪-‬كما ناداها أول مرة ‪ -‬إلى اإلسراع‪.‬‬

‫‪ ‬ظالم فوق السحاب‬

‫كانت هذه المرة الثانية التي أسافر فيها إلى سوريا‪ ،‬بعد تعذر ذهابي لمرات أخريات‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عيت‪ ،‬رفقة الروائي الميلودي شغموم من المغرب‪ ،‬إلى ملتقى الرواية بمدينة الرقة‪،‬‬
‫وقد ُد ُ‬
‫حيث استغرق سفرنا من كازبالنكا إلى اسطمبول نحو أربع ساعات ونصف‪ ،‬قبل أن‬
‫نعبر نحو طائرة أخرى‪َّ ،‬‬
‫أقلتنا في ساعتين إلى حلب‪ ،‬ومنها أخذتنا سيارة إلى مدينة‬ ‫ُْ‬
‫الرقة في ساعتين أيضا‪.‬‬

‫نزلنا فندق الالزورد بوسط المدينة‪ ،‬في فجر يوم األحد سادس ديسمبر‪ ،‬وكان مزاجي‬
‫توجهت‬
‫ُ‬ ‫جراء التعب والجو البارد الذي استقبلنا به مناخ البلد‪ .‬وفي الصباح‪،‬‬
‫متعك ار َّ‬
‫بت منه تغيير‬
‫نحو عامل االستقباالت‪ ،‬وهو رجل لطيف يسمع كثي ار ويتكلم قليال‪ ،‬طل ُ‬
‫الغرفة بأخرى ففعل‪ ،‬وكانت بالطابق الرابع رقم ‪ 412‬في ممر موحش وطويل‪ ،‬مثل‬
‫خرجت وحيدا نحو وسط المدينة بشارعي ‪ 12‬شباط‬
‫ُ‬ ‫ذاك الذي رأيته في الحلم‪ .‬بعد ذلك‬
‫ْ‬
‫وتل األبيض‪.‬‬

‫جلست بإحدى المقاهي لفترة قبل أن أدخل إلى محل‬


‫ُ‬ ‫تجولت مدة ليست بالقصيرة‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫تجاري لالتصاالت رغبة في شراء شريحة سورية‪.‬‬

‫جلست منتظ ار صاحب المحل‪ ،‬وهو يستفسر عبر الهاتف‪ ،‬شخصا أمنيا‪ .‬ولما أخذ منه‬
‫ُ‬
‫الموافقة طلب مني جواز سفري الذي نسخ منه الصفحات الست األولى وصفحة خاتم‬
‫تأشيرة الدخول‪ ،‬كما طلب مني عنوان الفندق واسم أبي وأمي‪ ،‬الستكمال تعبئة استمارة‬
‫فانتفضت ورفض ُت وأنا أنتزع‬
‫ُ‬ ‫االشتراك؛ وعوض أن يطلب مني التوقيع أمرني بالبصم‪،‬‬
‫منه جواز سفري‪ ،‬ممزقا بطاقة المعلومات و ُّ‬
‫النسخ‪ ،‬ألني أرفض معاملتي مثل ُمتهم أو‬
‫لترصده في أية لحظة‪.‬‬
‫ُمجرم يبصم ُّ‬

‫فدخلت محال تجاريا آخر‪ .‬أجرى‬


‫ُ‬ ‫غبت في التأكد مرة أخرى‪،‬‬
‫قبل وصولي الفندق‪ ،‬ر ُ‬
‫وشرحت له في البداية بأنني لن أبصم‪ ،‬فأنكر وبصم بسبابته‬
‫ُ‬ ‫صاحبه نفس اإلجراءات‪،‬‬
‫بدال مني‪.‬‬

‫***‬

‫‪116‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تبدد ضجري بعض الشيء وأنا ألتقي بأصدقائي من سوريا ومصر واليمن‬
‫في المساء‪َ ،‬‬
‫والسعودية‪.‬‬

‫يوم االثنين‪ ،‬انطلقت أشغال المؤتمر ولم تنته إال في حوالي الساعة العاشرة ليال‪ ،‬حيث‬
‫ازداد ضجري‪ ،‬فالتحقنا مباشرة بمطعم الفندق ‪ ..‬وبقينا إلى غاية الساعة الواحدة‬
‫والنصف صباحا في جلسة عائلية حميمية‪ُ ،‬ملتفين حول األب المنقذ نبيل سليمان‪،‬‬
‫مثل رهبان وفقهاء أو سحرة نستمع إلى االبتهاالت العالية التي جعلت أرواحنا تتفتح‬
‫وترى النور‪.‬‬

‫عدت إلى غرفتي عبر الممر الطويل والبارد‪ ،‬وقد أحسست بمصالحة مع نفسي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فسهرت لساعة أخرى كت ُ‬
‫بت فيها أزيد من عشر صفحات من "الرواية القصيرة" التي‬ ‫ُ‬
‫أعدت قراءتها‪ ،‬فلم أخلد إلى النوم إال بعدما صارت‬
‫ُ‬ ‫كنت بدأتُها في ِرحالت سابقة‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫صفحة واحدة‪ ،‬فقط‪ ،‬بخط يدي‪ .‬إنه النص النائم بداخلي‪ ،‬ال يصحو إال وأنا بعيد عن‬
‫أوطاني‪.‬‬

‫‪ ‬حكاية لتسلية المُسافر‪:‬‬


‫كل إنسان يملك ِمرآة رمزية يفك بها شفرات ما يسمع ويرى‪ ،‬وما يفكر فيه؛ ونفس ِ‬
‫المرآة‬

‫تصوغ له المعاني التي ُينتجها‪ .‬أما ِمرآتي فهي في مواصلة تدوين ما يهبط َّ‬
‫علي من‬
‫ور َّب ضارة نافعة‪.‬‬
‫معان عارية حول ما يقع بالجبل‪ ،‬فأراها قد انكسرت‪ُ ،‬‬
‫ويعبر عن ذلك بالصمت ال ُموارب أو بالطرق األخرى‬
‫حب الجبل بطريقته‪ُ ،‬‬
‫كلنا ُي ُّ‬
‫المتاحة‪.‬‬

‫وركب‬
‫َ‬ ‫همام الخروج بعدما لبس جلبابا وطاقية سوداوين‪،‬‬
‫الليل بهيم وهادئ‪ ،‬حيث ُيقرر َّ‬
‫سيارته الرباعية الدفع السوداء أيضا‪ .‬ضغط على زر من مفتاح أبيض انفتحت إثره‬
‫البوابة الحديدية للمرآب‪ ،‬فانتفض أربعة من الحراس ِ‬
‫الشداد الغالظ واقفين‪ ،‬أشار عليهم‬ ‫َ‬
‫بالعودة إلى أماكنهم‪ُ ،‬منصرفا وحيدا في شكله المتخفي‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫َهبط نحو الشارع التحتاني يسوق سيارته بسرعة بطيئة في اتجاه الجهة الشرقية ‪..‬‬
‫وكان وحيدا حينما انتهى إلى المقبرة الوحيدة المحاذية للبحر‪ .‬رمقها بسرعة ثم رجع‬
‫وهو ينظر بإمعان في ِ‬
‫المرآة الداخلية للسيارة العاكسة للخلف‪ ،‬فلم ير سوى الظالم‬
‫والصمت والتوحش‪.‬‬

‫اتخذ طريقه‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬غربا بنفس السير والتأمل‪ ،‬إلى أن وصل أخي ار أمام كهوف‬
‫عالية وقديمة‪ ،‬سكنها اإلنسان األصلي‪ ،‬مستندة إلى غابة ال أحد يعرف منتهاها‪.‬‬

‫وسرعان ما بدأت تصل إلى سمعه أصوات متوترة‪ ،‬مصحوبة بأنين متقطع‪ ،‬لم يتبين‬
‫مصدرها‪ .‬ومباشرة‪ ،‬ضغط على َدَّواس البنزين‪ ،‬فانطلقت سيارته مثل شبح ُف َّك من‬
‫قيوده‪.‬‬

‫‪ ‬من أكون؟‬

‫استمرت األمطار تُراودنا‪ ،‬والشمس خفية متوارية وراء حجاب رمادي‪ .‬أما السحابات‬
‫القابعة فوقنا‪ ،‬فإنها تتهادى في المباالة ‪ ..‬تسمح لنا من حين آلخر بفجوة نرى من‬
‫خاللها السماء‪ ،‬صفحة للناس الطيبين‪ ،‬يكتبون عليها مآثرهم وأحالمهم‪.‬‬

‫كنت‪ ،‬في اليوم الثاني‪ ،‬هادئا مثل الرقة‪ ،‬المدينة الصغيرة القابعة على‬
‫أما أنا‪ ،‬فقد ُ‬
‫استفيق صباحا للتجول فيها في وقت محدود‪ ،‬قبل أن أعود‬
‫ُ‬ ‫الضفة اليسرى لنهر الفرات‪،‬‬
‫يطبعها‪ ،‬وبتلك الروح البسيطة عند السكان المقيمين‬
‫ونفسي قد طابت بذلك الهدوء الذي ُ‬
‫أو القادمين من المزارع المحيطة‪.‬‬

‫لماذا حينما تهطل األمطار‪ُ ،‬يعاودنا اإلحساس بالحنين إلى جدنا آدم‪ ،‬كأننا أتربة حية‬
‫من صلصال رباني نفرُح بالمطر الذي يروينا‪.‬‬

‫***‬

‫‪118‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هل أنا رحالة أم كاتب؟ مؤرخ أم سفير لممالكي؟ أبحث عن ساحات أخرى للخيال‪،‬‬
‫وهذه المرة‪ ،‬في أرض سوريا التي نحب تسميتها بالشام‪ُ ،‬كال‪ ،‬وليست دمشق فقط!‪.‬‬

‫قررت الرحيل لوحدي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ما حدث يعود إلى آالف السنوات الحية في جيناتي ‪ ..‬حينما‬
‫القدر سيكون باذخا معي ولن أعود من هناك أبدا ‪ ..‬فأمامي رقعة أبذر‬
‫نت أن َ‬‫وخم ُ‬
‫َّ‬
‫قدر بثمانية آالف سنة قبل ميالد السيد المسيح‪.‬‬
‫فيها خياالتي وسط مساحة زمنية تُ ُ‬
‫منذ ذلك التاريخ السحيق‪ ،‬وجدتُني هناك‪ُ ،‬محاربا ضمن جيوش مملكة أكاد‪ ،‬جنوب ما‬
‫بين النهرين‪ ،‬رفقة قائدها "سرجون أكاد"‪ ،‬أدافع عن مدينتي "إبال وماري" السوريتين‬
‫ْ‬
‫‪.‬وكان ذلك قبل ميالد السيد المسيح بثالثة وعشرين عاما فقط‪.‬‬

‫وعرفتا بلغتهما‬
‫واجهنا الغزو الذي دمر مدينتين ُوجدتا منذ األلف الرابعة قبل الميالد‪ُ ،‬‬
‫السامية المتصلة باألكادية القديمة والكتابة المسمارية‪.‬‬

‫شاركت إلى جانب القبائل و"جندبو العربي" ‪ -‬كي أفوز بالسبايا األشوريات في حرب‬
‫ُ‬
‫حاسمة دفاعا عن دمشق‪ -‬فانتصرنا على شملناصر الثالث؛ لكن الذي سيأتي كان‬
‫قاسيا حينما مات اإلسكندر األكبر‪ ،‬وانخرط ورثته في حروب لم تنته إال بفوز سلوقس‬
‫بسوريا‪ ،‬مدعوما من بطليموس‪ ،‬فصارت البالد السورية مرك از وجزًء من امبراطورية‬
‫تمتد حتى الهند‪.‬‬

‫نت أعلم‬
‫عدت إلى مدينتي "ماري"‪ ،‬بحثا في حواشيها األليفة عن َمبيت دائم‪ ،‬وكأنني ك ُ‬
‫ُ‬
‫فعدت إلى ساحاتي‬
‫ُ‬ ‫بما سيأتي من حروب قاتلة ال منتهية في ظل الدولة السلوقية‪،‬‬
‫الساخنة وسط جماعات من الثوار ضد انطيوخس وسالالته وديمتيريوس‪.‬‬

‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫سبعة قرون‪ ،‬بين الرومان والبارتيين والفرس‪ ،‬تبد َدت فيها كل الخياالت حتى أني‬
‫إلى كفي ألرى دمائي المختلطة بآثار السومريين واألكاديين واألموريين والبابليين‪،‬‬
‫واآلراميين واألشوريين ثم اليونان والرومان‪ ،‬قبيل مجيء السيد المسيح ‪ ..‬أراها فأتأمل‬
‫من أكون؟‬

‫‪119‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬قرب النهر‬

‫بعد انتهاء جلسة مساء اليوم الثالث‪ ،‬في الساعة العاشرة ليال‪ُ ،‬عدنا جميعا إلى الطابق‬
‫الخامس لتناول وجبة العشاء‪ ،‬حيث مكثنا إلى غاية الساعة الثانية بعد منتصف الليل‪.‬‬
‫غفوت لثوان معدودات في معراج روحاني وأنا جالس وسط ُرفقة من أصدقاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لحظتها‪،‬‬
‫انسحبت‬
‫ُ‬ ‫أيت نفسي واقفا في أرض أشبه بالجنة‪.‬‬
‫هم في مراتب أولياء الله الصالحين‪ ،‬فر ُ‬
‫إلى الوراء ألرى شيئا ينهض من آثار خطواتي‪ .‬أراني أم أرى شخصا اسمه "مازغ"‪،‬‬
‫المولع بالغزوات‪ ،‬يركب فرسه وهو ممتلئ بالطموح والمغامرة ‪ ..‬خرج من الشاوية‬
‫قاصدا بالد الشام‪ ،‬وحيدا‪ ،‬باحثا عن تحرير أحالمه المعتقلة لدى أخواله وأعمامه‪.‬‬

‫جئت من بالد األمازيغ‪ ،‬أرض األحرار‪ ،‬على فرس إلى بالد الشام‪ ،‬محاربا‬
‫رأيتُني ُ‬
‫جلست قرب النهر أنتظر‬
‫ُ‬ ‫وصلت صباحا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أبحث عن طريق للعبور إلى نفسي‪ ،‬وحينما‬
‫كل أقداري المشتتة في جلود أجدادي‪ .‬أشم فيها روائحهم العطرة والشجاعة‪.‬‬

‫‪ ‬حكاية لتسلية المُسافر‪:‬‬

‫فكرت في‬
‫ُ‬ ‫أشعر بحماس كبير كلما‬
‫ُ‬ ‫(الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل)‬
‫كنت مأخوذا بالكتابة عنه‪ ،‬خصوصا‪ ،‬خالل‬
‫شخصية "والء الطيب"‪ ،‬فأنا أحبه وإال ما ُ‬
‫سفري خارج الوطن ‪ ..‬هل الحكمة في تلك المسافة التي تُبعدني عنه وعن حياته التي‬
‫يتمتع بها في الجبل بشخصيتين؟ واحدة وهو وسط حاشية الحاكم في القمة‪ ،‬وأخرى‬
‫في السفح مع عامة الشعب‪ .‬شخصيتان ال يستطيع التفريق بينهما إال الخبراء في فقه‬
‫التأويل‪.‬‬

‫ورغم كونه شخصية خيالية‪ ،‬فقد انتظر ُت منه مكالمة هاتفية ليلومني أو يشكرني حتى‬
‫يفتح لي ثُقبا ولو صغيرا‪ ،‬ألج منه إلى تفاصيل أخرى من حياته‪ .‬هل هو خائف أم‬
‫يلعب لعبة اإلهمال وانتظار الفرصة للضرب ضربة واحدة‬
‫همام كيف ُ‬
‫تعلم من السيد َّ‬
‫َ‬
‫ال غير ‪...‬؟‬

‫‪111‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫***‬

‫هم الجبل‪ ،‬لم يعد الثالثي همام ووالء وعصمان الجبالوي لوحدهم في‬
‫في فصل جديد َي ُّ‬
‫ساحات الجبل‪ ،‬يتحكمون في زمنه‪ ،‬بل انضاف إليهم عدد آخر من الفنانين المقاولين‬
‫ورجال األعمال‪ ،‬منهم َّ‬
‫وضاء الماجد وسالم الصويري وطه المناصري وعزيز الغازي‬
‫‪ ...‬ينافسون السيد َّ‬
‫همام بتمثيليات من إنتاجهم وإخراجهم‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يقدم‬
‫السيد طه المناصري تمثيليات يستقي مواضيعها من أرشيف االستخبارات الجبلية‪ ،‬وقد‬
‫اغتنى مثل اآلخرين باقتناء مئات الهكتارات من األراضي حتى اعتقد السكان أنهم ردموا‬
‫الزرع من أجل تهيئ مسارح كبيرة ال تسع إال للمالحم التي لم تُكتب بعد‪.‬‬

‫همام وطه المنصاري ووضاء‬


‫اشتد الصراع وسط هذه األطراف‪ ،‬وخصوصا بين الثالثي َّ‬
‫الماجد‪ ،‬حول استقطاب والتهام باقي الفرق الفنية والموسيقية وعددها أربع وثالثون‬
‫همام من "جر" ممثلين وفنانين ومنظرين "موهوبين"‪ ،‬عملوا في السابق‬
‫فرقة‪ .‬وقد تمكن َّ‬
‫ضمن فرق فنية سرية ويسارية؛ وكان لِوالء الطيب دور في التمهيد لهذه المرحلة‬
‫الحاسمة‪.‬‬

‫‪ ‬العشاء األخير‬

‫ليس ُمصادفة أبدا‪ ،‬ولم يكن ترتيبا من أحد‪ ،‬ولكنه من الله الذي جمعنا من أزمان‬
‫المطل على خطوط متناغمة‪ ،‬تقود‬
‫وأمكنة‪ ،‬في تلك الربوة التي تسمى الطابق الخامس‪ُ ،‬‬
‫نحو مساجد وكنائس مترامية في فضاءات صامتة تتأمل وجودنا القدري‪.‬‬

‫اليوم الرابع واألخير لي بالبالد السورية‪ ،‬جلسنا في العشاء األخير وقد كنا أحد عشرة‬
‫حكاية‪ ،‬أو باألحرى أحد عشر ساحرا‪ ،‬كل واحد يتأبط كتابه بيمينه‪.‬‬

‫كنا على مائدة العشاء المستطيلة‪ ،‬في جنوب قلب المكان‪ ،‬وفي الطرف القصي جلسنا‪:‬‬
‫معجب العدواني من المملكة العربية السعودية‪ ،‬وعبد ربه والميلودي شغموم من شاوية‬
‫المغرب‪ ،‬ومحمد الغربي من اليمن‪ ،‬وخيري دومة من مصر‪ ،‬وأحمد خلف من العراق‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وفي الجهة المقابلة لنا‪ ،‬بنفس الترتيب‪ ،‬شهال العجيلي ونبيل سليمان وإديت بياف ورفقة‬
‫دودين وماري رشو‪ ،‬وأخي ار خيري الذهبي‪ ..‬وجميعهم من سوريا‪.‬‬

‫كانت الحيرة هي سبيلنا الوحيد للوصول إلى أرض الدهشة‪ .‬نتكلم ونحكي‪ ،‬ومن حين‬
‫آلخر ُينزل الله علينا شيئا في صدورنا نقوله ثم نمضي‪ ،‬دون أن يجرؤ أحد منا على‬
‫تقييده ‪ ..‬فهو كالم هبط ليذوب مع أنفاسنا الزكية والحارة‪.‬‬

‫كان الجميع يتأمل تواريخ الظنون في نفوسنا‪ ،‬ولكنني (في تلك الليلة التي امتدت من‬
‫وقت معلوم‪ ،‬ولن يعرف أحد متى انتهت!) أستطيع التحدث عما كان في نفسي‪ ،‬فقد‬
‫كنت يائسا أنه بإمكاني معاودة ركوب فرسي الذي تركته مربوطا في‬
‫أحسست بعدما ُ‬
‫ُ‬
‫الخالء‪ ،‬قبل ألفي عام أو أقل بقليل‪...‬‬

‫بإمكاني معاودة الركوب عليه دون سرج ورسن أو لوازم‪ ،‬واالنطالق بعيدا للعبور نحو‬
‫روحي‪.‬‬

‫تتطه َر أقدارنا ونظراتنا وأصواتنا؟ ‪...‬‬


‫سنضحي به حتى َّ‬
‫من فينا كان النبي الذي كنا ُ‬

‫عت أفكاري بأفكار العدواني‪ ،‬وأحسس ُت أننا نجل ُس في‬


‫تَ َح َاوْرنا في أمور الدنيا‪ ،‬وقار ُ‬
‫نفس المكان‪ ،‬عبر أزمنة متعددة ومتداخلة وسط ابتهاالت تشرح القلوب واألحاسيس‪.‬‬

‫هل كانت بيننا مريم المجدلية فعال؟ أم أن انشغالي المتعجل بالبحث عن الطهرانية في‬
‫عيون وقسمات المطر جعلتني قلقا محموما؟‬

‫تخش أعداءنا‪ ،‬فلن نموت أبدا إال إذا َقَتَلنا‬


‫قلت لصديقي الذي كان على يميني‪ :‬ال َ‬
‫أصدقاؤنا‪...‬‬

‫وقلت لصديقي الذي كان على شمالي‪ :‬نحن أيتام منذ موت محمد‪ ،‬ولكن المائدة هاته‬
‫جمعتنا لنبدد خطايانا ونعلن محبتنا لبعضنا‪.‬‬

‫تمنيت لو كان بمقدوري ضم هذه األرض بأهلها إلى ممالكي‪.‬‬


‫ُ‬ ‫قلت لنفسي‪:‬‬

‫‪112‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ماري‪ ..‬أين ستُصلين هذا المساء؟ فج ار عند سيدة البشارة وظه ار لدى القديس‬
‫جورجيوس‪ ،‬أم عص ار في أحضان السيدة العذراء حينا‪ ،‬وتحت ظل رقاد السيدة‬
‫باألوغاريت حينا آخر‪ .‬وفي الغروب تكونين حاضرة عند القديس نيكوالس‪ ،‬أما العشاء‬
‫– سيدتي‪ -‬فهو في محراب ذلك المسلم األمازيغي العروبي الفاتح الغازي المتعطش‬
‫التقي الذي شبعت روحه ورعا وانتظارا‪ .‬العشاء األخير معه ‪ ..‬حج إلعالن النوايا‬
‫وتأويلها‪.‬‬

‫***‬

‫كتب‬
‫هل يعرف أحد أننا جلسنا ألول مرة في تل مريبط‪ ،‬قبل ثمانمائة سنة (ق‪.‬م)‪ ،‬ن ُ‬
‫مصائرنا على الحجارة‪ ،‬ثم انتقلنا إلى بانياس بالجوالن حين ِ‬
‫قلت لي‪:‬‬

‫أنت الصخرة التي ستنمو عليها أحالم األنبياء‪.‬‬


‫َ‬
‫بعد ذلك ِ‬
‫كتبت على الحجارة ما يلي‪:‬‬

‫"الغصة الوحيدة التي تََرْكتَ َها في نفسي هي أنني لم أتمكن من إسعادك‪ ،‬أو استبقائك‬
‫أنت لم تمنحني الفرصة بمزاجيتك الحادة‪ ...‬لقد‬
‫إلى جانبي بعد صلب السيد المسيح‪َ .‬‬
‫أربكتني كما لم أرتبك أبدا‪ ،‬وأنت تهاجر ضمن جيوش الفتح اإلسالمي للبلدان‪...‬‬
‫وتركتني أنتظر‪.‬‬

‫سنلتقي‪ ،‬البد أن نلتقي‪." ...‬‬

‫لم أكن في كل تاريخي الطويل "هنا"‪ ،‬ناسكا كمن عاشوا في العراء أو في الكهوف‪ ،‬أو‬
‫مع من طلعوا األبراج‪ ،‬يعملون نها ار في الحقول‪ ،‬وفي الليل يتسللون لنسخ المخطوطات‬
‫الدينية‪ ،‬ورسائل غرامية بأسماء مستعارة‪.‬‬

‫عمدت روحها بدم الشهداء والسحرة والشع ارء‪،‬‬ ‫أهي مريم المجدلية؟ أم ِ‬
‫أنت الراهبة التي َّ‬
‫من انطاكية إلى القدس‪ ،‬عودة إلى جنوب البحر األسود ثم صعودا إلى الشام‪ .‬ذراع‬
‫واحد أشبه بذراع مريم ابنتي الصغيرة‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ِ‬
‫عانقت أنوار الفتوحات منذ رجب‪ ،‬في السنة الثانية‬ ‫ِ‬
‫التقيت ببولس أم بحنانيا‪ ،‬أم‬ ‫هل‬
‫عشرة للهجرة مع خالد بن سعيد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة‬
‫الجراح ثم خالد بن الوليد؟‬

‫نت‪ ،‬أنا‪ ،‬في السنتين المواليتين؟‬


‫أين ك ُ‬
‫لت أسأل ‪..‬من أكون؟‬
‫‪ ‬ما ز ُ‬
‫اليوم الرابع‪ ،‬تتواصل أيامنا في المؤتمر وسط جو عال من التقدير واالحترام بين كافة‬
‫األدباء المنتمين ألقطار عربية شتى‪ ،‬رغم األمطار والطقس البارد‪ .‬لكن ال َج َوالت‬
‫السياحية التي قمنا بها جماعة كانت فرصة طريفة لمعرفة جزء من ذاكرة المكان‬
‫والتاريخ الذي نوجد فيه‪.‬‬

‫زرنا مزار عدد من الصحابة والشهداء‪ ،‬كما استمتعنا بمعاينة سد الفرات ومدينة الرصافة‬
‫وقلعة جعبر‪.‬‬

‫توجد مدينة الرصافة على بعد ستين كلمت ار جنوب مدينة الرقة‪ ،‬وهي عبارة عن سور‬
‫وأطالل ُبنيت من حجارة قرميدية ضخمة‪ ،‬بداخلها كاتدرائية‪ُ ،‬وجدت منذ ‪ 116‬ميالدية‪،‬‬
‫وصهاريج وكنيسة للشهادة‪ .‬وكانت المدينة تسمى في المصادر البيزنطية باسم مدينة‬
‫القديس سرجيوبوليس‪ ،‬وفي العصر األموي ُسميت برصافة هشام بن عبد الملك الذي‬
‫أقام بها فترة‪ ،‬وبنى بها مسجدا‪ ،‬ما زالت معالمه قائمة‪..‬‬

‫أما قلعة جعبر‪ ،‬فتقع قرب سد الفرات‪ ،‬إلى الشمال في منطقة الجزيرة السورية على‬
‫الضفة اليسرى لبحيرة األسد‪ ،‬تمتد داخلها على شكل جزيرة أثرية رائعة تتربع فوق‬
‫هضبة كلسية‪ ،‬ترتفع قمتها إلى ‪ 242‬مت ار فوق سطح البحر‪ ،‬ويبلغ طولها من الشمال‬
‫إلى الجنوب ‪ 211‬مت ار‪ ،‬وعرضها من الشرق للغرب ‪ 221‬مترا‪ ،‬يحيط بها سوران‬
‫يضمان عددا من األبراج‪ ،‬تزيد عن خمس وثالثين برجا‪ ،‬بعضها مضلع الشكل وبعضها‬
‫اآلخر نصف دائري‪ ،‬وفي وسطها ُشيد المسجد الجامع‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وتُنسب القلعة إلى األمير جعبر بن سابق القشيري (القرن الحادي عشر الميالدي)‪،‬‬
‫وال ُيعرف عنه شيء سوى أنه بقي حتى أسن وعمي‪ ،‬وكان له ولدان من قطاع الطرق‪.‬‬
‫وقد أخذها منه السلطان السلجوقي وقتله سنة ‪ 464‬هجرية‪.‬‬

‫ُع ِر ْ‬
‫فت القلعة قبل نسبتها إلى جعبر بالدوسرية‪ ،‬نسبة إلى دوسر‪ ،‬غالم النعمان بن‬
‫منذر‪ ،‬وأن تاريخها يرجع إلى ما قبل اإلسالم‪.‬‬

‫‪ ‬حكاية لتسلية المُسافر‪:‬‬

‫(فجر اليوم األخير‪ :‬يوميات والء الطيب) تصعب اإلحاطة بكل أخبار السيد والء‬
‫قررت العمل بطريقة‬
‫ُ‬ ‫الطيب‪ ،‬ألن عالمه متشعب ويتطلب تحريات فريق كامل‪ ،‬لذلك‬
‫واحدة فقط‪ ،‬وهي رصد ما يفعله خالل يوم كامل‪ ،‬عن طريق الترتيب الجيد لليوم‬
‫الموعود‪ ،‬عبر االستعانة بفريق من صديقين لي‪ ،‬أنا ثالثهم‪.‬‬

‫***‬

‫استفاق كعادته في العاشرة صباحا‪ ،‬وخالل ساعة واحدة سيهيئ له الخدم الحمام‬
‫والفطور‪ ،‬ثم مالبس يوم األربعاء والعطور المصاحبة وبعض الماكياج الخفيف‪.‬‬

‫ركب سيارته متوجها نحو مقهى على الشاطئ‪ .‬شرب قهوته‬ ‫في الحادية عشرة والربع‪َ ،‬‬
‫المفضلة وهو يتصفح الجرائد والمجالت‪ ،‬وفجأة يرمى بكل شيء‪ ،‬متناوال هاتفه متحدثا‬
‫مع بعض أصدقائه وهو سعيد ومنشرح‪.‬‬

‫في الثانية عشرة وعشر دقائق‪ ،‬توجه إلى مكتبه بالمسرح التحتاني‪ ،‬في سفح الجبل‪.‬‬
‫تهييئ لمسرحيتهم الجديدة "الهيئة"‪،‬‬
‫ً‬ ‫أس اجتماعا مع فريق عمله‪ ،‬من الممثلين‪،‬‬
‫وهناك تر َ‬
‫والتي من المنتظر أن يستمر عرضها لثالثة مواسم‪.‬‬

‫تحدث والء الطيب عن الصدمة التي ستُحدثها المسرحية الجديدة بالعمل على "تحرير‬
‫المسرح العربي من الخواء والخياالت المريضة"‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كما أخبرهم بالخطوط العامة لمضامينها؛ وهي عبارة عن لوحات تعرض لجلسات‬
‫استماع وحوار يتحدث فيها بعض األموات واألحياء‪ ،‬ممن كانوا ضد النظام‪ ،‬ويعترفون‬
‫بخطاياهم‪ ،‬جهات معادية للجبل غررت بهم‪ ،‬وكذلك الوسواس الخناس الذي مأل‬
‫صدورهم وعقولهم‪.‬‬

‫وتنتهي التمثيلية الهزلية نهاية سعيدة‪ ،‬بالعفو عنهم ومنحهم أمواال وبيوتا وجواري ووثيقة‬
‫اعتراف بالمواطنة الكاملة والتوقير التام لحاملها‪ ،‬مع تمكينهم من حمل لقب واحد هو‬
‫الجبالوي‪.‬‬

‫أنهى والء االجتماع‪ ،‬وصعد مباشرة إلى الطابق األخير‪ ،‬حيث يوجد مسبح وقاعة ساونا‬
‫وأخرى للتدليك والتجميل‪.‬‬

‫همام للمشاركة في حفل غداء بحضور وفد‬


‫في الساعة الثالثة‪ ،‬توجه إلى فيال السيد َّ‬
‫من المسؤولين العرب‪ ،‬جاءوا ليستفيدوا من التجربة الوطنية‪.‬‬

‫في الساعة السادسة‪َّ ،‬‬


‫ودعا الضيوف‪ ،‬وتوجها معا إلى مكتبهما في قمة الجبل لالجتماع‬
‫مع خلية الخبراء إلى غاية الثامنة والنصف‪ .‬بعدها‪ ،‬انطلق والء مسرعا نحو شقته‬
‫مستبدال مالبسه بأخرى من الجينز وحذاء رياضي‪ .‬خرج راجال‪ .‬ركب تاكسي صغي ار‬
‫قاصدا مقهى شعبيا بسفح الجبل‪ .‬هناك‪ ،‬وجد أصدقاءه القدامى‪ ،‬من المعتقلين السابقين‬
‫والشعراء والصحفيين المنتمين إلى اليسار ‪ ..‬وقد تعودوا عليه في وضعه الجديد‪ ،‬بعدما‬
‫أقنعهم أنه ُمفيد لهم وهو في حاشية الحاكم ورفقة همام‪.‬‬

‫إرضاء لجزء من ذاكرته أوال‪ ،‬وللضغط على‬


‫ً‬ ‫كان في جلوسه إليهم‪ ،‬مرتين في األسبوع‪،‬‬
‫همام من خاللهم ثانيا‪ .‬أما ثالثا‪ ،‬فقد كان ُيجاهد الستقطابهم إلى تبريراته ورؤيته التي‬
‫َّ‬
‫تعوَد أن يقدم لبعضهم الهبات في شكل‬ ‫المصالحة‪ .‬كما أنه َّ‬ ‫تتحدث عن المستقبل و ُ‬
‫سلفات‪ ،‬يعرف أنها تجعله حاض ار بينهم يستمع إليهم ويستمعون إليه‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حينما انتهى من جلوسه إليهم‪ ،‬عاد إلى بيته ليرتب سهرته الخاصة والتي تختلف‬
‫باختالف الظروف‪ .‬لكنه في هذه الليلة دخل مكتبه ليكتب خاتمة المسرحية‪.‬‬

‫جلس طويال إلى نفسه ‪ ..‬تتنازعه شخصيتان تتصارعان كلما اختلى وحيدا؛ الشخصية‬
‫األولى صارت مقهورة ذليلة مستعبدة ومختبئة‪ .‬الشخصية الثانية يمثل بها وهي مزيج‬
‫من شخصيات مركبة‪ ،‬طارئة ومستعارة عمقها التنكر واالستبداد وحسن التخلص من‬
‫همام‪.‬‬
‫كل المواقف التي صاغتها شخصيته األولى قبل تعرفه إلى السيد َّ‬

‫احتار فلم تسعفه الكتابة‪ ،‬قام نحو مكتبته يبحث في دواوين الشعر العربي‪ ،‬فالتقط ديوانا‬
‫لشاعر من الشعراء الذين أحبهم سكان الجبل‪ .‬حقيقي وواعد ما لم تغتله عصابات‬
‫الجبل‪.‬‬

‫وهو قائم‪ ،‬فتح والء الطيب الديوان على قصيدة بعنوان "أريد قلبا في قلبي"‪ ،‬شرع في‬
‫قراءتها بصوت مسموع‪ ،‬فاكتشف أنه يحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬لكن شخصيته التنكرية‬
‫ارتابت وانطلقت تكتب المشهد األخير لمسرحية الهيئة‪ ،‬إحدى الشخصيات التي تجثو‬
‫على ركبتيها وتقول شعرا‪ ،‬هو تحوير فاضح للقصيدة الجميلة‪:‬‬

‫"أريد هيئة في هيئتي‬

‫أريد قليالً من الصمت كي يحضر الغائبون‬

‫أريد كثي ارً من الحب كي يسلك اآلخرون"‪.‬‬

‫‪ ‬عبور أخير‬

‫روح الرحالة مثل سفينة ترسو في الميناء‪ ،‬لتهدأ قليال وتستريح من تقلبات النهر والبحر‪،‬‬
‫تشم رائحة التراب والناس‪ .‬إنه عبور ناعم من الموت إلى الحياة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أرفع بصري إلى السماء‪ ،‬مترقبا فجوة سريعة بين زحف كتل سحاب المبالية ‪ ..‬ألطل‬ ‫ُ‬
‫منها على أقداري ‪ ..‬فأرى "مازغ" وقد صار ُمشبعا بحماس كبير‪ُ ،‬مبلال بالمطر والغبار‪،‬‬
‫خلفه جيش ال ُيعد وال ُيحصى‪.‬‬

‫عس َك َر بين جبلين ناهدين‪ ،‬في مكان ُيسمى اليوم بالمنصورية‪ ،‬وقبل‬
‫حينما دخل الشام ْ‬
‫خلوده إلى النوم بينهما‪ ،‬شرب حليبا دافئا وأكل رمانا ودندن بشعر من الزجل المغربي‬
‫ويكتب عليها‪ :‬حبات الرمان أسقطها‬
‫ُ‬ ‫يتحدث عن حبيبته‪ ،‬ثم يحمل ِمرآته السحرية‬
‫الخريف وفرسه العطشان أوشك على الهالك عطشا‪:‬‬

‫(الزين َخ ْرجَ ْت ِب ْحنَاني مْ َ‬


‫صيْحَه‬

‫اس في الخريف‬
‫س ْ‬‫ان تْ َ‬
‫الر َّم ْ‬
‫هذا حَ ْب ُّ‬

‫هذا عَ ْو ُدو عطشان قََّر ْب ِي ْ‬


‫جيف)‪.‬‬

‫(من أغنية" الطالب"‪ ،‬للمجموعة الشعبية "لمشاهب" – المغرب)‬

‫في نومته تلك‪ ،‬رأى شخصين بلباس الجند في الجيش الروماني‪ ،‬سرجيوس وباخوس‪،‬‬
‫رفضا تقديم األضاحي والسجود لألصنام‪ ،‬فتم القبض عليهما وثقبوا شفاهيهما وأُدخل‬
‫فيها خيط لجرهما به‪ ،‬كما نزعوا عنهما بذلتهما العسكرية وألبسوهما لباسا نسائيا‪،‬‬
‫ووضعوا في أرجلهم أحذية في نعلها مسامير ظاهرة‪ ،‬وساقوهما على أقدامهما إلى حاكم‬
‫الشرق الذي جلد باخوس جلدا وحشيا حتى أسلم الروح لباريها‪ ،‬أما سرجيوس فقد جزوا‬
‫رأسه‪.‬‬

‫بعد سنوات مديدة‪ ،‬يتفق رفاقه ويجمعون رفاته فيصبح قديسا في كنيسة ُّ‬
‫الرصافة ‪.‬‬

‫الرصافة‪ .‬دخلها بعد‬


‫قام سيدي "مازغ" فج ار‪ ،‬وهو يتأمل الحلم الذي رآه‪ ،‬فتوجه نحو ُّ‬
‫ساعتين‪ ،‬أمرني بوضع المحلة‪ ،‬فدخل خيمته ولبس لباسا فضفاضا أبيض اللون‪،‬‬
‫تعمد أن يتركه ملفوفا نصف لفة والباقي منه تدلى على كتفه‬
‫واضعا على رأسه شدا‪َّ ،‬‬

‫‪118‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫األيمن‪ .‬تقدم وحيدا من بوابتها الكبيرة نحو الكنيسة التي دفن فيها ُرفات سرجيوس ‪..‬‬
‫فاستقبله راهب‪ ،‬قصير القامة‪ ،‬بلباس أنيق معتقدا أنه جاء ليعترف بخطاياه‪ ،‬فقال له‪:‬‬

‫تحمل جباال من المعاني الراقدة في صدرك؟‬


‫ُ‬ ‫‪ -‬ما بك يا بني ‪ ..‬أراك‬

‫رد عليه سيدي‪ ،‬بصوت خافت‪ ،‬ملموم في احترام حقيقي‪ ،‬وهو يتلمس الجزء المتدلي‬
‫من شده بيده اليسرى‪:‬‬

‫‪ -‬جئت‪ ،‬آبويا‪ ،‬غازيا أسترد ممالكي وأب ِشر ِ‬


‫بجدنا الذي سيولد من بعدي‪ ،‬ويحرر الظن‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫من أغالله‪ ،‬والظالم من بهيمه‪.‬‬

‫وفي لحظة اندهاش الراهب‪ ،‬أخرج جدنا "م ِ‬


‫ازغ"‪ ،‬الرحيم بنا‪ ،‬رسالة من الجلد الداكن ‪..‬‬ ‫َ‬
‫سلمها له وهو يقول‪:‬‬

‫فاستعجل قراءتها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬هذه وثيقة أبيع فيها نفسي إلى الله وإلى جدنا القادم ‪..‬‬

‫***‬

‫ولجت‬
‫ُ‬ ‫في الطائرة‪ ،‬وأثناء عودتي من حلب إلى الدار البيضاء مرو ار باستانبول‪ ،‬وبعدما‬
‫قمت بسرعة أفتش عن الرجل وابنته للجلوس‬ ‫بحثت عن مكاني‪ ،‬ثم ُ‬‫ُ‬ ‫إليها متأخ ار‪،‬‬
‫وعاودت السير في ممر الطائرة مرة أخرى دون جدوى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بجوارهما‪ ،‬فلم أعثر عليهما‪،‬‬
‫وسألت مضيفة تركية عن طفلة برفقة والدها في الخامسة‬
‫ُ‬ ‫وقد خامرني الشك في نفسي‪،‬‬
‫قطعت شكي وهي تُخبرني بعدم‬
‫ْ‬ ‫من عمرها‪ ،‬تحمل فرسا وتلبس ثوبا ملكيا أسود‪ .‬لكنها‬
‫وجود أية طفلة بالطائرة في هذه السن ‪ ..‬فقط‪ ،‬يوجد طفل‪ ،‬أسمر اللون‪ ،‬مع أمه في‬
‫الرابعة من عمره‪.‬‬

‫فنظرت إلي‬
‫ْ‬ ‫ثم سألتها متوسال‪ ،‬هل يمكن أن يكون والدها قد دخل مقطورة الربان؟‬
‫بارتياب وهي تنسحب بسرعة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عدت إلى مكاني منهزما وصامتا ‪ ..‬أرى وال أنظر‪ ،‬ولكنني أُناجي جدي الغارق في‬
‫ُ‬
‫الزمن السحيق‪.‬‬

‫األمازيغي‪ ،‬ربما! والذي أخذوه عن طريق ترتيب رباني عظيم‪ ،‬بديال عن السيد عيسى‬
‫بن مريم‪ ،‬نحو الصلب‪.‬‬

‫األمازيغي‪ ،‬ربما! والذي كان قريبا‪ ،‬في مثل هذا اليوم من سنة ‪ 62‬ميالدية بروما‪،‬‬
‫لعت منه أبخرة ساخنة نحو السماء‪.‬‬
‫لحظة قطع رأس القديس بولس‪ ،‬فط ْ‬

‫األمازيغي‪ ،‬ربما! والذي عاش وترعرع في ظل نبينا محمد عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫واستمر محاربا وغازيا متعطشا لدخول كل الجنات الموعود بها‪ ،‬وقبلها دخول المدائن‬
‫والبلدان‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة‪ :‬الحضور الروائي ومقاومة الغياب‬

‫معجب العدواني‬

‫أكاديمي وناقد أدبي سعودي‬

‫بين الذاكرة والنسيان‪ ،‬تتجلى لكل ملتقى أدبي بعض المالمح اإليجابية المبادرة إلى‬
‫الحضور‪ ،‬وتتراءى فضاءاته الجميلة التي تناهض الغياب‪ ،‬ويتكشف منجزه المتمثل‬
‫في عطاء أولئك المبدعين الذين تزداد أصواتهم أهمية مع مرور األيام‪ ،‬وفي جهود‬
‫الباحثين الذين ال يمكن تجاهل إضافاتهم المعرفية‪ .‬وإذا كان هناك ملتقى يضم تلك‬
‫المستويات السابقة‪ ،‬فإن إيماءة رأس حكيم‪ ،‬وتفاصيل سطر إبداعي‪ ،‬ستدفع إلى أن‬
‫تقرر أن أحد أشهر الملتقيات التي ال تزال تحتفظ بها الذاكرة هو مهرجان العجيلي‬
‫للرواية‪ ،‬تحديدا سأذكر المهرجان الخامس الذي شاركت فيه‪ ،‬وأقيم بين السابع والتاسع‬
‫من شهر ديسمبر في عام ‪1116‬م‪.‬‬

‫في البعد العام كان المهرجان لمسة وفاء للروائي عبدالسالم العجيلي الذي كتب أعماال‬
‫روائية جادة‪ ،‬وكانت مدينته الرقة بوابة االحتفاء السنوي به عبر االحتفاء بأعماله من‬
‫جانب‪ ،‬واالحتفاء بالفن الروائي كتابة ونقدا من الجانب اآلخر‪ ،‬وعلى هذا كانت الرقة‬
‫مدينة مؤهلة إلقامة ذلك الملتقى‪ ،‬إلى جانب وجودها في شمال سوريا في نقطة تقاطع‬
‫جغرافي مع العراق وتركيا‪ ،‬ويضاف إلى ذلك طبيعة المكان التي تتماس مع النهر‪،‬‬
‫وكأن تلك الجغرافيا بوابة االنفتاح وأفقه‪ ،‬وتوافقها مع ما تتوسل إليه الرواية من تعدد‬
‫وحوار؛ كما أن أهلها يحملون سمات النبل والتسامح‪ ،‬واإليمان باآلخر المتوافقة مع‬
‫مبادئ الرواية؛ فجاء المهرجان ليستثمر تلك المالمح‪ ،‬ويصوغها في قالب ثقافي جاد‪،‬‬
‫يستهدف إثراء العمق الروائي عربيا‪ ،‬وتفعيل دور الدراسات النقدية والحوارات مع‬
‫الروائيين‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أما البعد الخاص فقد كانت تجربتي الشخصية بالمشاركة في إحدى نسخ المهرجان‬
‫تجربة استثنائية‪ ،‬اتسمت بثرائها المعرفي‪ ،‬والتعرف على بارزين في الحقلين النقدي‬
‫والروائي‪ ،‬أذكر منهم د‪ .‬نبيل سليمان‪ ،‬ود‪ .‬شعيب حليفي‪ ،‬و د‪ .‬حسين حمودة‪ ،‬و د‪.‬‬
‫شهال العجيلي‪ ،‬و د‪ .‬أحمد الحسين و أ‪ .‬محمد الغربي عمران‪ ،‬و أ‪ .‬فوزية المرعي‬
‫وآخرين‪ .‬ولن أنسى تلك الرحلة الداخلية األخيرة من الرقة إلى دمشق مع الباحث‬
‫والروائي التونسي المرحوم د‪ .‬محمد الباردي‪ ،‬فقد كانت من مكاسب ذلك اللقاء وفوائده‬
‫الجمة‪.‬‬

‫أحسب أن العودة إلى تلك اللحظات الثمينة التي تداعب تأملنا تتمثل حال مدينة الرقة‬
‫الرقيقة الهادئة في تفاصيلها؛ التي ابتلي زمنها بسطوة زمن قاس ال ينتمي إلى زمنها‪،‬‬
‫وبشخوص تتأمل كسر صالبة طموح أهلها األنقياء‪ ،‬أولئك الذين أرجو لهم ولمدينتهم‬
‫أن يحققوا ما يتطلعون إليه من مستقبل وبناء‪ ،‬وما يرجونه من استقرار ونعيم‪ ،‬كي‬
‫تشرق اآلمال التي تبنوها‪ ،‬واألحالم التي رعوها بعد أن عبثت فيها العواصف الهوجاء‪،‬‬
‫وهم قادرون على تجاوز ذلك‪ ،‬بإعادة الضوء المفقود‪ ،‬واألمل المنشود‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كدت أعرفها‪ ،‬حتى نأت‬


‫الرّقة التي ما ّ‬
‫سوسن جميل حسن‬

‫روائية وكاتبة سورية‬

‫عندما باشرت بقراءة الدعوة للمساهمة في هذا الملف‪ ،‬هزتني كلمة "خارطة"‪ ،‬بالرغم‬
‫من أنها تعني الخارطة الثقافية واإلبداعية ضمن "الجغرافية السورية"‪ ،‬لكنها استدعت‬
‫واقعنا المرير بسواده وكل ما يحمل من خسران‪ ،‬إلى وعيي‪ ،‬وأدخلتني في حالة ارتياب‬
‫صور حارة نابضة‪ ،‬مزقتها الحرب‪ ،‬وما زالت تئن في‬
‫ا‬ ‫موجع‪ ،‬ارتياب الذاكرة وهي تلملم‬
‫خاطري‪ ،‬وخاطر الكثير من السوريين‪ ،‬يعذبني العجز عن جمعها في "خارطة" لسورية‬
‫التي كانت‪.‬‬

‫الرقة "مدينة في شمال سوريا‪ ،‬عاصمة محافظة الرقة‪ ،‬تقع على الضفة الشرقية لنهر‬
‫الفرات‪ ،‬على بعد حوالي ‪ 261‬كم شرق مدينة حلب"‪ ،‬ما أقصر هذا التعريف‪ ،‬الرقة‬
‫أكبر من ذلك بكثير‪ ،‬هذا ما عشته وعرفته ولمسته لمس القلب واليد يوم جئتها من‬
‫مدينتي الالذقية‪ ،‬رفقة الروائية الجميلة ماري رشو‪ ،‬صحبة الروائي والناقد نبيل سليمان‪،‬‬
‫الذي أقلنا بسيارته‪ ،‬وهو من المؤسسين الفاعلين لمهرجان العجيلي‪ ،‬كان هذا في نهاية‬
‫العام ‪ ،1121‬وفي الثلث األخير من كانون األول‪ ،‬يوم نادانا مهرجان العجيلي السادس‬
‫للرواية العربية‪ ،‬فاجتمعنا هناك‪ ،‬هذا الهناك الذي صار نائيا‪ ،‬مثلما لو أنه كان حلما‪،‬‬
‫فر من أعيننا عند أول رصاصة في صدر أحالم أبناء شعبنا عندما قالوا‪ :‬ال‪..‬‬

‫هذه الـ "ال"‪ ،‬كانت سؤال المهرجان حينها‪ ،‬فاختراق المحظور في األدب هو "ال" ممتدة‬
‫تهز عرش الطغيان بكل أشكاله‪ ،‬حالة من الرفض‪ ،‬رفض خنق الحرية‪ ،‬فكيف يكون‬
‫إبداع بدون حرية؟‬

‫إلى الرقة إذن‪ ،‬بكل بهاء األزمنة الغابرة‪ ،‬والزمن الحاضر‪ ،‬حينها‪ ،‬حيث يضج في‬
‫صدري اسم أديبها اإلنسان "عبد السالم العجيلي"‪ ،‬ويومض ُّ‬
‫خطه في بالي على‬

‫‪123‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المكاتي ب التي كان يرسلها إلى والدي الشاعر "جميل حسن"‪ ،‬عن طريق عنواني في‬
‫مديرية الصحة في الالذقية‪ ،‬فأبتسم بحب لهذا الخط الذي نتشارك به‪ ،‬نحن األطباء‪،‬‬
‫كبصمة طريفة من بصمات المهنة‪.‬‬

‫إلى الرقة إذن‪ ،‬التي قال فيها الراحل "أديبنا اإلنسان" في كلمته التي أرسلها إلى‬
‫المهرجان في دورته األولى‪ ،‬قبل وفاته بفترة قصيرة‪" :‬جميل أن أكون مثاالً لإلنجاز‬
‫والمنجز الفكري واألدبي بين أهلي‪ ،‬وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني‬
‫بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها‪ ،‬وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم‬
‫التي أحبها كما أحبكم"‪ .‬وبالفعل تنادى فيها المحبون من كل حدب وصوب‪ ،‬هناك‬
‫عرفت أحمد المديني‪ ،‬حبيب السالمي‪ ،‬هالة بدر‪ ،‬مي خالد‪ ،‬سيد محمود‪ ،‬عمار أحمد‪،‬‬
‫علي بدر‪ ،‬وغيرهم كثيرون من مبدعي العربية‪ ،‬من سورية وخارجها‪ ،‬ال يتسع المجال‬
‫لذكرهم جميعا‪ ،‬وتعرفت إلى الجميلة األديبة واألكاديمية شهال العجيلي‪ ،‬ابنة الرقة‬
‫وعمها األديب الكبير‪ ،‬وكان حضور لألدباء اإليرانيين‪.‬‬

‫ماذا لو اقتصرت الشراكة والتفاعل على المنتج الثقافي فقط؟ أي حياة كانت ستحياها‬
‫الشعوب‪ ،‬بعيدا عن السياسة وما تستخدم من أدوات وأساليب‪ ،‬ليس العسكرية فقط‪ ،‬بل‬
‫استباحة المجال الحيوي‪ ،‬الثقافي والروحي‪ ،‬للمجتمعات؟‬

‫كان عنوان المؤتمر‪ ،‬في المحظورات الروائية‪ ،‬يتمحور حول أربع قضايا‪ ،‬ناقشها‬
‫المدعوون من األدباء من عديد الدول العربية وبعض الضيوف من دول أخرى‪ ،‬هذه‬
‫القضايا أو المحاور تناولت المحظور اللغوي‪ ،‬المحظورات الثابتة‪ ،‬والمتغيرة‪ ،‬في الكتابة‬
‫أخير اختراق المحظورات‬
‫الروائية العربية‪ ،‬التقنيات الروائية في مقاربة المحظورات‪ ،‬و ا‬
‫وسياقات النزوع إلى العالمية‪ .‬عناوين أثارت فضولي المعرفي وأنا الوافدة حديثا إلى‬
‫ميدان الكتابة اإلبداعية‪ ،‬لم يكن قد صدر لي حينها غير روايتين‪ ،‬فقدمت شهادتي‬
‫يت الحديث فيها بمعنى أن يصمت‬ ‫الروائية عن تجربتي في هاتين الروايتين‪ ،‬استهل ُ‬
‫اإلنسان عنوة‪ ،‬وأن يكون خنق السؤال هو أول قيمة تربوية تغرز في عقول األطفال‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫إلى أن يبدأ اإلنسان بإدراك ذاته ويبدأ بالرفض‪ ،‬وكان أول محظور اخترقته حينها‪:‬‬
‫السؤال‪.‬‬

‫لفتني وانا أمشي في شوارع المدينة‪ ،‬ومتابعة أنشطة سكانها وحركة الناس في أسواقها‬
‫أنها تتميز بمناخ اجتماعي هادئ ومسالم‪ ،‬فكنت أرى النساء بلباس مدني سافرات‬
‫الرأس‪ ،‬بجانب أولئك اللواتي يلبسن اللباس التقليدي أو المحافظ‪ ،‬وأدهشني في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬ذاك االحتفاء البهيج بضيوف المهرجان‪ ،‬من قبل المجتمع األهلي‪ ،‬لم يكن األمر‬
‫يقتصر على مهرجان العجيلي فقط‪ ،‬بالرغم من مكانته الخاصة في نفوس أهل الرقة‪،‬‬
‫وكونه أيقونة يفخرون بها‪ ،‬بل احتفاؤهم بضيوف المهرجانات األخرى أيضا‪ ،‬وما أكثرها‪،‬‬
‫هذا ما لمسته أيض ا في مهرجان الشعر من قبل‪ ،‬في العام نفسه‪ ،‬عندما رافقت أختي‬
‫المغنية والموسيقية "بادية" المدعوة إليه للمشاركة في حفل موسيقي‪ ،‬في المرتين كان‬
‫التنظيم رائع ا‪ ،‬وكانت مبادرات األهالي طاغية‪ ،‬في دعم األنشطة من جهة‪ ،‬وفي‬
‫االحتفاء بالضيوف بكرم يغمرهم‪ ،‬ما زالت في بالي تلك الدعوة الكريمة لنا في بيت‬
‫أحد إخوة الشاعر الراحل‪ ،‬ابن الرقة إبراهيم جرادي‪ ،‬حيث المناسف العامرة‪ ،‬إلى جانب‬
‫األطباق األخرى من عدة مطابخ سورية‪ ،‬كرم نبيل ونبيه‪.‬‬

‫ماجد رشيد العويد‪ ،‬واستقباله لنا في بيته بفرح كان يشع من عينيه وقلبه‪ ،‬حمود الموسى‬
‫دائم الحركة واالبتسام والتأهيل‪ ،‬وغيرهم كثيرون‪ ،‬بتنا نبحث عنهم في الفضاء األزرق‪،‬‬
‫مثلما يبحثون عنا‪ ،‬بعد أن بددتنا الحرب في بقاع األرض‪.‬‬

‫النزهات والسهرات على ضفاف الفرات‪ ،‬كانت مالمح الشح بدأت تظهر عليه‪ ،‬بعد أن‬
‫أقامت تركيا عديد السدود تعترض مشواره إلى سورية ومن بعدها العراق‪ ،‬زيارة قلعة‬
‫جعبر وسد الطبقة‪ ،‬الذي تحول اسمها إلى الثورة‪ ،‬كفعل استباحي مارسته سلطة البعث‬
‫على المجال العام‪ ،‬فبدلت األسماء لتنحرف بداية التاريخ بالتدريج ويصبح البعث‬
‫والعسكر هما أوله‪ ،‬وهما حجر األساس في بناء سورية‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تؤلمني هذه الذكريات‪ ،‬في حمأة الراهن الحارق‪ ،‬فالرقة صارت بعيدة‪ ،‬نأت مثلما تنأى‬
‫الكثير من المناطق‪ ،‬فتبدو الخارطة السورية مثل قطع البازل العتيقة‪ ،‬الرقة بغناها‬
‫الطبيعي واالقتصادي واإلثني‪ ،‬تنهار باكرا‪ ،‬مثلما لو كان مصيرها مرسوما ومحتوما‪،‬‬
‫في أقل من أربع سنوات‪ ،‬تناوبت أربع سلطات السيطرة سياسياً وعسكرياً عليها‪ ،‬من‬
‫سيطرة النظام إلى الجيش الحر وسطوة الفصائل اإلسالمية الباكر عليه‪ ،‬إلى تنظيم‬
‫الدولة‪ ،‬وبدأت عملية إقصاء وجه الثورة المدني‪ ،‬لتُعلن الرقة عاصم ًة للدولة اإلسالمية‬
‫بدال من أهليتها لتكون عاصمة للثقافة السورية والعربية‪ ،‬فيختفي األب باولو دالوليو‪،‬‬
‫يختفي عبد الله خليل‪ ،‬فراس حاج صالح‪ ،‬الطبيب إسماعيل الحامض‪ ،‬وكل من ينتمي‬
‫إلى الوجه المدني للثورة‪ ،‬واستباحوا الحياة كلها‪ ،‬وأكثر ما استباحوا المعالم الحضارية‬
‫باكر اعتدوا على مرسم الفنان واألديب أيمن ناصر وحطموا أعماله‬
‫ا‬ ‫والثقافية للمدينة‪،‬‬
‫الفنية كلها‪ ،‬وتمترس مقاتلوها الوافدون من كل بقاع األرض في أرجائها‪ ،‬يرهبون الناس‬
‫ويحاصرون حياتهم للخضوع إلى شريعتهم‪ ،‬ثم يبدأ التحالف الدولي عملياته في محاربة‬
‫التنظيم‪ ،‬داعم ا قوات سورية الديموقراطية "قسد"‪ ،‬التي صارت الرقة تحت سيطرتها‪،‬‬
‫وصارت‪ ،‬تحت القصف من الجو‪ ،‬مدينة مدمرة‪ ،‬مهجورة‪ ،‬يئن تاريخها من هول ما‬
‫يحدث‪ ،‬ويهجرها غالبية نخبها بين نزوح داخلي ولجوء‪.‬‬

‫الرقة التي كانت تذبح بصمت‪ ،‬تعيش اليوم أزمة هوية‪ ،‬شأنها شأن العديد من المناطق‬
‫السورية‪ ،‬بل شأن سورية ممزقة األوصال كلها‪ ،‬وكأن صوت المتنبي ما زال يتردد في‬
‫أرجائها‪ :‬ولكن الفتى العربي فيها‪ ،‬غريب الوجه واليد واللسان‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لماذا يبقى مهرجان العجيلي والرقة في ذاكرتي‬

‫حبيب عبد الرب سروري‬

‫كاتب وروائي يمني‬

‫كنت قد‬
‫قبل مساهمتي في مهرجان العجيلي للرواية العربية‪ ،‬في عام ‪ ،1112‬وبعده‪ُ ،‬‬
‫ساهمت في مؤتمرات أدبية عربية رسمية‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬لم أعد اتذك ُر من معظمها شيئا‬
‫ُ‬
‫أحيانا؛ فيما ظل مهرجان العجيلي‪ِ ،‬‬
‫بكل تفاصيله تقريبا‪ ،‬مطبوعاً في ذاكرتي‪.‬‬

‫بخالف بعض تلك المؤتمرات التقليدية‪ ،‬الرديئة أحيانا‪ ،‬حيث تسود اللغة الخشبية‬
‫وااللتزام للنظام الحاكم‪ ،‬وو ازرات ثقافته الفجة‪ ،‬على نحو مضحك أحيان ًا‪ ،‬كان مهرجان‬
‫اسمها‪ :‬األستاذ الكبير عبد السالم العجيلي‪:‬‬
‫يحمل َ‬
‫ُ‬ ‫العجيلي بمستوى الشخصية التي‬
‫ثريا أدبياً‪ ،‬مستقالً تنظيمياً‪ ،‬راقياً وقدي اًر‪ ،‬ومملوء بنشاطات فنية وثقافية حميمة ال أنساها‪.‬‬

‫اتذكر‪ :‬رحلتي من دمشق إلى الرقة بالسيارة‪ ،‬في الفجر‪ ،‬تحت شروق ساحر‪ ،‬وما ْ‬
‫تركت ُه‬
‫من آثار عاشقة للمناطق التاريخية التي عبرتُها؛ المستوى الراقي للنقاشات والتفاعالت‬
‫خالل المهرجان‪ ،‬في فضاء ثقافي راق جداً‪ ،‬جاد ومرح‪.‬‬

‫جودة التنظيم للمهرجان‪ ،‬الحفل الغنائي الختامي الذي رقصنا جميعنا فيه‬‫َ‬ ‫أتذكر‪:‬‬
‫رقصات متنوعة‪ ،‬الوجبات الجماعية الكريمة واللذيذة في جو عائلي حميم‪...‬‬

‫فت عليهم فيه‪ ،‬وزادها حميمي ًة بسوريا‬


‫لعل ذلك المهرجان عم َق عالقتي بكثير ممن تعر ُ‬
‫(كتبت روايتي "تقرير الهدهد" عنه‪ ،‬بعدها‪ ،‬وقلبي يسرح في ديار‬
‫ُ‬ ‫أبي العالء المعري‬
‫سورية قريبة من مدينة الرقة‪ ،‬وتحت تأثيرات جانبية للمهرجان)‪.‬‬

‫وجدت نفسي مع الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة‬


‫ُ‬ ‫لعلي‪ ،‬بسبب كل ذلك‪،‬‬
‫والديمقراطية‪ ،‬من أول أيامها؛ وضد اإلرهاب الداعشي الظالمي المرعب الذي جعل‬

‫‪127‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة عاصم ًة له‪ ،‬منذ أول لحظات دخوله على الخط؛ وبطبيعة الحال‪ ،‬ضد كل‬
‫الخرائب التي سببها إرهاب النظام الحاكم‪ ،‬وكل التدخالت األجنبية التي دمرت سوريا‬
‫واستعمرتها‪...‬‬

‫قلت إن حبي لسوريا‪ ،‬ولطالئعها المثقفة الالمعة التي تربطني بهم أروعُ‬
‫أبالغ إذا ُ‬
‫ال ُ‬
‫العالقات‪ ،‬ازداد وتجذر بعد ذلك المهرجان الذي ال أتمنى أكثر من عودته مجدداً‪ ،‬في‬
‫سوريا حرة ديمقراطية‪...‬‬

‫‪128‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة‬
‫ذات لقاء في ّ‬
‫َ‬
‫أحمد المديني‬

‫كاتب قاص وروائي وناقد من المغرب‬

‫جرى هذا على ما أذكر في نهاية سنة ‪ .1121‬مؤكد أني ذهبت إلى (الرقة) قبل‬
‫األحداث األليمة التي ألمت بسوريا‪ ،‬من توابعها الهمجي ُة الداعشي ُة التي حملت لها‬
‫الدمار وشردت أهل المدينة التي ذهبت إليها لحضور مهرجان يقام لذكرى أديبها الروائي‬
‫والقاص القدير عبد السالم العجيلي‪ .‬أتاحت لي هذه المناسبة أوال مشاهدة منطقة عربية‬
‫سمعت عنها كثي ار وتخيلتها بحنو وأنا أق أر أخبار واشعار من مروا وحلوا ب(الجزيرة)‪.‬‬
‫جدد أذكر منهم عمار أحمد (المرواتي) من‬ ‫ثانيا‪ِ ،‬‬
‫أدباء عرب ُ‬
‫َ‬ ‫التعرف على‬
‫َ‬ ‫غنمت‬
‫ومي خالد من مصر‪ ،‬وعلي بدر من العراق؛ ثم جددت صالت الوداد باألديبة‬ ‫العراق‪َ ،‬‬
‫األستاذة شهال العجيلي سليلة العم المحتفى به‪ ،‬وبصديقي الدائم نبيل سليمان أكبر من‬
‫األلقاب وهو لسوريا قلب وباب‪ ،‬وبرفقتي األديب التونسي الحبيب السالمي‪.‬‬

‫أذكر كذلك‪ ،‬أن إقامتنا توزعت بين ندوة دراسية حول قضايا الرواية العربية شاركت‬
‫فيها بمراجعة منهجية واصطالحية‪ ،‬واالستماع باهتمام للزمالء واالنتباه لجمهور شغوف‬
‫باألدب‪ .‬بينما فزنا في المساء بسهرة بين الطرب وتبادل أطراف الحديث ومجالسة‬
‫المضياف الكريم المهندس عبد العظيم العجيلي‪ ،‬حسن السمت على فخامة ولطف‪ ،‬ال‬
‫تشبع منه مؤانسة ومجالسة‪.‬‬

‫وال أنسى زيارتنا لبحيرة الفرات وسد األسد هذه المعلمة الطبيعية المشيدة الضخمة‪ ،‬وما‬
‫حولها من حقول وجنان‪ ،‬وبأهلها من عشائر وسكان ضيفونا على غداء من ألذ الشواء‪،‬‬
‫أهل‬
‫وشممنا من أعطافهم إذ أخذونا بالحضن رائح َة العرب األصالء‪ ،‬وغادرناهم هم و ُ‬
‫ِ‬
‫األكابر الكرام على موعد آخر للقاء‪ ،‬ولم يدر بخَلد أحد أن األرض ستهتز شهو ار‬ ‫الرقة‬

‫‪129‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ان مأخوَذ العقل واللب‪،‬‬ ‫ِ‬


‫بعد ذلك فقط‪ ،‬وأن تلك األزق َة والحارات التي مشيت فيها نشو َ‬
‫ودارَة العجيلي التي زرت مع معالم أخرى‪ ،‬ستطولها معاول الخراب‪ ،‬والغربان سيسفكون‬

‫الدماء‪ ،‬وسيغطون نهار الرقة ُ‬


‫بس ُجف الظالم‪.‬‬

‫باريس في ‪0203 /20 /01‬‬

‫‪131‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ذكريات الكلمات الضائعة في زمن سقوط الصحف الورقية‬

‫عبده خال‬

‫روائي وناقد من السعودية‬

‫أقول حقا‪ ،‬أن الحروب حجارة ُتلقى في بحيرة الهوى‪ ،‬فتتعكر مواعيد األشواق‪.‬‬

‫كم شهيق تلقته الرئة أو نفثته منذ أن كنت بين أكناف الشام؟‬

‫االن‪ ،‬تحاول الذاكرة لملمة ما بعثرته األيام من ذكرى جميلة حين كنت في أحضان‬
‫سوريا‪.‬‬

‫ومحيت‪ ،‬وأي ذكرى ابتعدت‪ ،‬وأي منها تالشت‪ ،‬وأي منها بقيت‬
‫فأي ذكرى غارت‪ُ ،‬‬
‫ثابتة صلدة‪ ،‬فلم يتغرغر بها الزمن وينفثها؟‬

‫طلب مني الكتابة عن ذكرياتي عن مهرجان العجيلي‪ ،‬عمدت على التسويف‪،‬‬


‫حين ُ‬
‫وبقيت منزويا بذاكرتي في البعد‪ ،‬أي آالت نبش أحتاج اليها لتقليب المواجع أو االفراح‪،‬‬
‫أو األحزان‪ ،‬فركام الحروب قوضت كل الجمال الذي استقر في القلب‪ ،‬وفي البال‪،‬‬
‫ومع الحاح الصديق المبدع الدكتور نبيل سليمان‪ ،‬دعوت عليه س ار وجه ار‪ ،‬ماذا تفعل‬
‫يانبيل؟‬

‫أي ذكرى يمكن الخروج بها من بين كل أنقاض الزمن؟ سوريا مصابة بندوب الحروب‬
‫عبر التاريخ؟‬

‫ركضت الذاكرة بعيدا‪ ،‬تقفز من مكان آلخر‪ ،‬كل الصفحات بها (محو وازالة) ‪ ..‬ومن‬
‫بعيد‪ ،‬ومن األبعد‪ ،‬أي حضارة مرت من هناك‪ ،‬وأين ذهب‪ :‬الكنعانيون‪ ،‬األموريين‪،‬‬
‫الفينيقيون‪ ،‬األراميون‪ ،‬وأين اللسان السرياني الذي حمل الحضارة ونزل بها إلى أعماق‬
‫تربة الذاكرة البشرية‪ ،‬ومن أشعل تراب الشام منذ تلك العهود السحيقة؟‬

‫‪131‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اجتزت وهدا‪ ،‬انخفضت بك أوهاد‪ ،‬وفي عز قوتها طردت جحافل الطامعين‪ ،‬فهل‬
‫َ‬ ‫وكلما‬
‫عاد أحفاد هرقل لمحو عبارة جدهم "وداعا يا سوريا الجميلة‪ ،‬وداعا ال لقاء بعده" ‪..‬‬
‫هل عادوا لتثبيت أن سوريا ملعبا أمميا لحرق حقول الياسمين؟‬

‫جاهدك الله يانبيل!‬

‫كيف أعود بالذاكرة وأنا يوميا أشاهد قنوات االخبار وهي تغسل رداء سوريا الممزق‪،‬‬
‫كل يوم ودمعة السوري تتصبب من كل مكان‪ ،‬فكيف أتذكر لحظات الفرح حين كنت‬
‫هناك‪ ،‬نعم تتقافز وجوه مبدعة نسيناها من كثرة دق طبول الحرب حتى أن امتداد نهر‬
‫الفرات أصبح شحيحا في تدفقه‪ ،‬وأصبحت األغاني ال تجد سبيال ألن توصل مواعيد‬
‫الهوى‪ ،‬كل قلب ارتحل في أوردة االرض حتى وإ ْن كان ماكثا في مكانه‪ ،‬أي جرم‬
‫حدث حتى أن األغاني تموت؟‬

‫بالنزر اليسير أتذكر‪ ،‬هي أربع زيارات تباعدت زمنيا في حضوري للشام‪ ،‬تصور يانبيل‬
‫بعيدة هي‪ ،‬ومتقوضة في داخلي‪ ،‬كتقوض االماكن والقلوب في الشام ‪ ..‬تصور أن‬
‫تتقوض المخيلة فال تُخرج من بين أطنان الركام شيئا حيا‪ ،‬كل ذكرياتي عن الزيارات‬
‫شالء ميت ًة‪ ،‬هل تستوعب ‪ -‬يانبيل‪ -‬أن تُقطع المخيلة‪،‬‬
‫األربع لم يعد باقيا منها إال أ ً‬
‫ليس بفعل الزمن‪ ،‬بل بتالشي الضحكات‪ ،‬ورحيل الغناء‪ ،‬وتيبس مياه الناس‪ ،‬وتفتت‬
‫األحالم‪ ،‬وجدب الفرح‪ ،‬أي مصير أريد بقلب سوريا؟‬

‫أعتذر ياصديقي‪ ،‬لم يعد بالذاكرة سوى أنقاض ذكرى ال تقيم مشهدا (فراحيا)‪ ،‬كل‬
‫الذكريات مصلوبة في شوارع دمشق‪ ،‬أو حمص أو منبج أو حلب‪ ،‬أو الالذقية‪ ،‬أو‬
‫طرطوس‪ ،‬أو الرقة أو حماة‪.‬‬

‫بطلبك ‪-‬أن أكتب‪ -‬تحولت الى خياط ليس لدية قطعة سليمة ليفصل منها‬
‫هنداما (مقاال) الئقا‪ ،‬وجدت في ذاكرتي قطعا ممزقة ال تصلح لشيء‪ ،‬حتى أنها ال‬
‫تصلح أل ْن تكون زاوية للكلمات المتقاطعة في جريدة سقطت ولم تعاود االصدار في‬
‫زمن موت الصحف الورقية ‪..‬جاهدك الله يانبيل على طلبك وتلبيتي له!‬
‫‪132‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة الوادعة‬
‫ليالي ّ‬
‫سميحة خريس‬

‫روائية من األردن‬

‫طوت السيارة األرض فينا كما تطوي جدتي لحاف الذكريات‪ ،‬سفر يمتد من عمان إلى‬
‫الرقة‪ ،‬يحط الرحال قليالً في دمشق ثم يواصل رحلة طويلة ال يعتريها الملل ورفيقتي‬
‫الناقدة والروائية رفقة دودين تدندن بأغان عتيقة وتحكي ملحاً ونكاتاً تسري عن النفس‪،‬‬
‫سوريا تفتح صدرها للقائنا‪ ،‬مسترخية ودودة كامرأة شامية‪ ،‬وأنا على قدر معلوماتي‬
‫أعرف أن الرقة تقع في محيط صحرواي جاف المناخ‪ ،‬ولكني أعلم أنها تستلقي على‬
‫شط الفرات الشرقي وادعة بسيطة‪.‬‬

‫كان العام ‪ 1116‬والدنيا في إقبالها واعدة بهية‪ ،‬والرقة في حلتها الثقافية تحتضن‬
‫المؤتمر الخامس للكاتب عبد السالم العجيلي‪ ،‬أحد أبرز أبنائها المبدعين‪ ،‬تستعيد‬
‫سيرته وتقلب صفحات ابداعه بين جمع من األشقاء العرب يطرحون هموم االبداع‬
‫وعالقته الشائكة مع النقد‪.‬‬

‫بعيداً عن المراكز الثقافية القادرة على ابتالع األخضر واليابس‪ ،‬القاهرة ودمشق‬
‫وبيروت‪ ،‬كانت الرقة قادرة على احتواء عشرات الكتاب العرب تحت محور الرواية‬
‫والنقد‪ ،‬غزالة سوريا الجميلة الروائية شهال العجيلي كانت تتصرف كبنت الدار‪ ،‬تتنقل‬
‫بين الضيوف‪ ،‬تشرف على احتياجاتهم وتضفي جماالً باه اًر على أيام مختلفة حميمة‬
‫عشناها هناك‪.‬‬

‫حضرت الوجوه السورية التي أثرت المكتبات العربية بعطائها الجزيل‪ ،‬كان هناك خيري‬
‫الذهبي ونبيل سليمان‪ ،‬ممدوح عزام وابتسام تريسي وإذا لم تخني الذاكرة وقد شوهتها‬
‫فيديوهات الحرب التي طالت األرض المقدسة الرقة‪ ،‬فقد رافقنا في عام الوئام والسالم‬

‫‪133‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ذاك جمع من المثقفين العرب‪ ،‬محمد الباردي من تونس ومحمد االصفر من ليبيا‬
‫والميلودي شغموم من المغرب ومن لبنان علوية صبح‪ ،‬من اليمن عمر عبد العزيز‪،‬‬
‫من الكويت فايز الداية‪ ،‬من المغرب شعيب حليفي ومن مصر حسين حمودة وأخرين‪،‬‬
‫اء ساحرة في فضاء الرقة الذي يرفل‬
‫لقد صنع هذا الجمع من المبدعين والمفكرين أجو ً‬
‫بالمحبة‪ ،‬وتواصل المهرجان شعلة تؤكد أن اضافات االطراف البعيدة ليست أقل من‬
‫فعل المراكز الحيوية في عالمنا العربي‪..‬‬

‫لم يكن من حولنا فقط جمع من نخبة المثقفين ولكننا حظينا بمعرفة الناس في الرقة‪،‬‬
‫تلك الوجوه السمحة التي لوحتها الشمس واختلطت لهجتها بالشامي والحلبي والعراقي‪،‬‬
‫بداوة على أطراف المدينة لهجة‪ ،‬وأصالة في عمق الحضارة ترحاباً وكرماً وخلقاً‪.‬‬

‫ثم واألهم من كل هذا الحوار الذي يثري المعرفة هي تلك المعرفة باإلنسان والجغرافيا‪.‬‬

‫ربما تخوننا الدموع إذا غنى أبناء الرقة مواويلهم الحزينة قبل أن يعرفوا الحزن الراهن‪،‬‬
‫كانوا يغترفون من التاريخ الذي ترك شواهده في أرجائها عن العصر العباسي الذي‬
‫ازدهرت فيه المدينة‪ ،‬وعندما تم اصطحابنا كما لو كنا جمع من السياح إلى سد الفرات‬
‫رحنا نغني بكل اللهجات العربية في باص ينقلنا إلى أن وصلنا‪ ،‬أمام الفرات المهيب‬
‫وقفت على تلك العظمة الممتدة مثل محيط غزير من ماء عذب‪ ،‬أغمضت عيني رهبة‬
‫وهمست لنفسي‪ :‬نحن في مكان بعيد لكننا‪ ،‬نشرب من هذا العذب الزالل‪.‬‬

‫بعد ذلك كل ما تبثه الفضائيات التعيسة من أخبار الدمار يوجع في العمق لكنه ال‬
‫يمحو أبداً ما تركته الرقة في أنفسنا من سماحة ومعرفة ومحبة‪...‬‬

‫‪134‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"الرقة‪ ..‬المدينة‪ /‬البيت"‬

‫حسين حمودة‬

‫كاتب وروائي من مصر‬

‫قبل حوالي عقد ونصف من الزمن‪ ،‬عشت أياما جميلة في مدينة الرقة‪ .‬بدت لي‬
‫المدينة‪ ،‬للوهلة األولى‪ ،‬قريبة وأليفة مثل بيت عشت فيه خالل حياة أخرى‪ .‬كانت‬
‫المدينة تحيا "حالة ثقافية وإبداعية" لم أشهدها في مدن أكبر‪ ،‬تتخطى الرقة من حيث‬
‫اإلمكانات والقدرات‪ .‬وكان ذلك مرتبطا بمهرجان عبد السالم العجيلى في دورته الخامسة‬
‫(عام ‪ ) 1116‬الذي تمحور حول "الرواية والنقد" والقضايا التي تحيط بهما‪ .‬اتصل‬
‫المهرجان ألربعة أيام‪ ،‬في جلسات مثمرة ومكثفة‪ ،‬وحضره عدد كبير‪ ،‬يجاوز األربعين‪،‬‬
‫من المبدعين والمبدعات والنقاد والناقدات من سوريا والمغرب وتونس والعراق والسعودية‬
‫واليمن واألردن وتركيا ولبنان ومصر‪ .‬وشرفت بإلقاء كلمة الوفد المصري (الذي ضم‬
‫الناقد الراحل إبراهيم فتحي‪ ،‬وغادة الحلواني وخيري دومة ومحمد شعير ومحمد عبدالله‬
‫الهادي)‪ .‬مع جلسات المؤتمر المهمة‪ ،‬المحتشدة باألطروحات وبالنقاشات حول قضيا‬
‫الرواية والنقد‪ ،‬ومع الشهادات الغنية للروائيين والروائيات‪ ،‬كانت هناك أنشطة أخرى‬
‫(منها معرض للكتاب‪ ،‬وحفل لفرقة الرقة للفنون الشعبية‪ ،‬ومعرض للفن التشكيلى)‪..‬‬

‫أنشطة المهرجان خالل النهار وبعض المساء امتدت إلى سهرات جميلة‪ ،‬مقترنة باإلبداع‬
‫أيضا‪ ،‬مع مجموعة من األصدقاء والصديقات (منهم الروائي والناقد نبيل سليمان الذي‬
‫تكشفت لنا موهبته في الغناء‪ ،‬والمبدعة والناقدة شهال العجيلي‪ ،‬والناقدة رشا العلي‪..‬‬
‫وأيضا وخصوصا المبدعة فوزية المرعي صاحبة الموهبة الغنائية الكبيرة)‪ ..‬كنا نمضي‬
‫السهرات في غناء متصل نطوف خالله برحالت طويلة حرة بين أغنيات تنتمي إلى‬
‫طيف واسع من الموسيقي العربية‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خارج المركز الثقافي الكبير الذي أقيمت فيه أنشطة المهرجان‪ ،‬ذهبنا إلى زيارة بعض‬
‫اآلثار‪ ،‬وإلى األسواق والشوارع في قلب المدينة‪ ،‬ولمسنا االحتفاء الملحوظ بنا باعتبارنا‬
‫نشارك في نشاط ثقافي يخص المدينة‪ .‬وفي أحد محالت "السيديهات" توقفنا نحن‬
‫أعضاء الوفد المصري‪ ،‬واخترنا مجموعات من األعمال الموسيقية واألفالم السينمائية‪..‬‬
‫وأصر صاحب المحل على أال يتقاضى منا نقودا‪ ،‬فقط ألنه عرف أننا من بين‬
‫المشاركين في المهرجان‪( ..‬ومع إلحاحنا وافق على أن يكتفي بسعر التكلفة مقابل ما‬
‫اخترناه)‪..‬‬

‫أصبت بخيبة أمل‪ ،‬تقارب حد االكتئاب‪ ،‬بعد سنوات قليلة‪ ،‬مع متابعتي لما حدث‬
‫بالمدينة عام ‪ 1124‬عندما استولت داعش على الرقة وجعلتها عاصمة لما يسمي‬
‫"الخالفة اإلسالمية"‪ ..‬وطاردتني صورها المدمرة بعد ذلك‪ ..‬وسعدت ببعض المشاهد‬
‫التي رأيتها للمدينة وهي تحاول التعافي‪ ..‬وظل حلمي‪ ،‬خالل هذا كله‪ ،‬أن أعود مرة‬
‫أخرى لهذه المدينة التي شعرت أنها بيت جميل وأليف لي‪ ،‬وربما لكل من يزورها‪..‬‬

‫‪136‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫شهادة‪..‬‬

‫هالة البدري‬

‫روائية وقاصة وناقدة مصرية‬

‫يحدث أن تقع في غرام المدينة من أول لقاء لك بها‪ ،‬لكن هذه المدينة فعلت بي ما لم‬
‫أتوقعه‪ .‬وقعت في غرام أهلها‪ ،‬وقضيت بينهم أياما من أجمل أيام حياتي‪ ،‬إنها الرقة‪.‬‬

‫كنت قد دعيت لحضور مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية الذي أقامته مديرية‬
‫الثقافة بالرقة عدة مرات سابقة‪ ،‬وفي كل مرة كان ال يناسبني الوقت‪ .‬وحين جاءت‬
‫الدعوة هذه المرة صممت على الذهاب لعدة أسباب‪ .‬أوال‪ :‬بسبب السمعة الطيبة المتنامية‬
‫سنة وراء سنة عن هذا المهرجان الذي يقام في المدينة التي ولد بها الكاتب السوري‬
‫الشهير عبد السالم العجيلي‪ ،‬والذي يشارك في التحضير له مجموعة من األصدقاء‬
‫الكتاب السوريين من بينهم نبيل سليمان‪ ،‬ماجد العويد وشهال العجيلي‪ ،‬أما السبب‬
‫الثاني فهو موضوع المؤتمر نفسه‪ ،‬وقد كان في هذه الدورة ‪ 1121‬عن المحظورات‬
‫في الكتابة الروائية العربية‪ .‬وجاء في الدعوة إليه أن قضية معالجة المحظورات البيئية‬
‫االجتماعية الثقافية العربية أو المساس بها أو اختراقها جزء مهم من نظرية األدب‬
‫وتحددت محاور المؤتمر في المحظور اللغوي‪ ،‬والمحظو ارت الثابتة‪ ،‬والمحظورات‬
‫المتغيرة‪ ،‬والتقنيات الروائية في مقاربة المحظورات‪ ،‬واختراق المحظورات‪ ،‬وسياقات‬
‫النزوع إلى العالمية‪..‬‬

‫أهم ما جاء في المهرجان كان في رأيي ما جاء عن كسر البنى الفنية التقليدية باعتبارها‬
‫محظو اًر أيضا‪ ،‬وذكر بعض الكتاب أسماء لكتاب كبار ال يمكن تجاوز طريقة إنتاجهم‪،‬‬
‫باعتبارهم محظورين أيضاً مثل نجيب محفوظ في مصر والطيب صالح في السودان‪،‬‬
‫وزكريا تامر في سوريا وهكذا‪ ..‬وتحدث البعض عن اللغة وضربوا بعض األمثلة من‬

‫‪137‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫داخل الروايات نفسها‪ ،‬وربطوا بين حرية الكاتب وإمكانيات إبداعه‪ ،‬وأنه يستحيل على‬
‫كاتب ال يشعر بالحرية أن يقدم عمال فنياً راقياً بدون اللجوء إلى وسائل تعبيرية فنية‬
‫أخرى‪ .‬أما شهادات الكتاب فكانت تجارب شخصية عن مواجهة المحظور في الكتابة‪،‬‬
‫والمحظور في النشر‪ ،‬والمحظور اجتماعيا وسياسيا‪ ،‬ولهذا أتوقع أن يكون الكتاب الذي‬
‫سيصدر في العام القادم ليضم هذه األبحاث من أهم كتب المؤتمر في تاريخه البالغ‬
‫ست دورات‪.‬‬

‫تعلمون أن مدينة حلب هي مدينة الطرب في سوريا‪ ،‬وأن الرقة هي البادية القريبة لها‪،‬‬
‫وقد علمت أنها قريبة من محافظة األنبار في العراق أيضا‪ ،‬لهذا حين استمعت إلى‬
‫غنائهم الذي يبدأ كل ليلة في الفندق بعد انتهاء الجلسات العلمية في العاشرة وحتى‬
‫ساعات الصباح األولى‪ ،‬كانت تبدو لي أغاني عراقية‪ ،‬لكنهم قالوا لي إن المنطقة‬
‫واحدة‪ ،‬وتراثها متشابه‪ ،‬إنها الرقة التي ال تنسى‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نفعل ذاكرة المستقبل؟‬


‫هل كّنا ّ‬
‫إبراهيم محمود‬

‫كاتب وناقد ومترجم من سوريا‬

‫الشهادة تمرير لماض معين‪ ،‬عبر حاضر موصول به‪ ،‬إلى مستقبل وفي السمه‪.‬‬
‫الشهادة‪ ،‬على صعيد الثقافة‪ ،‬تمثيل من نوع قضائي‪ ،‬تعبي اًر عن ذات تنصف اسمها‪.‬‬
‫تجميل من نوع نفسي‪ ،‬تأكيداً على حيوية مجهول في النفس‪ُ ،‬يجاز له الخروج إلى‬
‫العلن‪.‬‬
‫مصادقة من نوع عقلي‪ ،‬اعترافاً بأن ثمة رصيداً رياضي المقام‪ ،‬يستحق الدفع به إلى‬
‫اآلتي‪.‬‬
‫هوذا لسان حال الشهادة ذات الدمغة األدبية‪ ،‬عما يرجع بنا إلى الوراء‪ ،‬وفي الوراء‬
‫نظر ما إلى األمام‪ ،‬حيث نكون في عهدة مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية‪.‬‬
‫في "نكون" لم يكن هناك ما يصهر األنوات‪ ،‬ما يلغي المتكلم المخاطب اعتماداً على‬
‫يعرف به‪ :‬كاتباً روائياً‪ ،‬ناقداً روائياً‪،‬‬
‫مشاركته بنصه األدبي‪ ،‬بشخصه اآلخر الذي َ‬
‫وذواقة لألدب عموماً أحياناً‪ ،‬بمقدار ما كان التأكيد الحيوي‪ ،‬التلقائي على الفصل بين‬
‫األنوات‪ ،‬بين أنا الكاتب وشخصه‪ ،‬حين يطرح من ذاته ما ال يعود ذاتاً‪ ،‬وهي في‬
‫تجليها الرحب المدى‪ ،‬وحين يتم تلقيه صوتاً له وقعه االعتباري‪ ،‬ممن حضروا‪ ،‬في‬
‫"غابة الكتابة األدبية‪ /‬الروائية" المضاءة بزخم حضور متنوع‪.‬‬
‫كان العجيلي اسماً أكثر من كونه اسم العلم الذي يمضي بنا إلى مدينته المستحمة‬
‫بماء الفرات‪ ،‬ونداوة جغرافيتها‪ :‬الرقة‪ ،‬استحق بدعة االسم‪ :‬الكاتب المتعدد المواهب‪،‬‬
‫المقدر ضمناً ممن يتنوعون في حضورهم سنوياً‪ ،‬وألهل الرقة ممن أطعمونا‬ ‫واالحتفاء َّ‬
‫خب اًز ساخناً‪ ،‬وماء قراحاً‪ ،‬وكالماً أريحي ًا‪ ،‬بروح الضيافة دون حساب‪ ،‬كما لو أن الكتابة‬
‫هناك‪ ،‬حين تحضر‪ ،‬تتزيا هكذا من الداخل‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كنا نعيش حيوات تترى‪ ،‬للمدة الزمنية المقررة‪ ،‬نعيش زمن الكتابة‪ ،‬زمن اإلصغاء إلى‬
‫اآلخر‪ ،‬لنعيش اكتشافاً يستحيل تجاهل فضيلته في تنمية الروح والتفاعل الروحي‪ ،‬عبر‬
‫جماليات المختلف طبعاً‪.‬‬
‫الشهادة التي أنطق ببعض بعض بعض من مناقبيتها‪ ،‬ال تخفي ِحداد الروح على ما‬
‫سلف‪ ،‬وفي عمر ال يخفي وطأة سنينه ومكابداتها‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬ال أخفي عقارها‬
‫الناجع في الحفاظ على جانب من الذاكرة المكانية‪ ،‬ونحن نشيد داخلها "جمهوريتنا" طي‬
‫ظالل أبدية وارفة هي الفن!‬

‫‪141‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة مدينة الفن‬

‫خيري دوما‬

‫ناقد ومترجم مصري‬

‫أواسط العام ‪ ،1116‬وصلتني دعوة من صديقي وأستاذي ألمثقف السوري الروائي نبيل‬
‫سليمان للمشاركة في مؤتمر للرواية يعقد في مدينة الرقة الجميلة بسوريا‪ .‬انعقد المؤتمر‬
‫في ديسمبر ‪ ،1116‬وشارك فيه باحثون عرب من أماكن مختلفة ربطتني بهم بعدها‬
‫عالقة صداقة مستمرة إلى اليوم‪.‬‬

‫أبدا ذكرياتي فيها‪.‬‬


‫ورغم مرور زمن طويل على هذه الرحلة إلى الرقة‪ ،‬فإنني ال أنسى ً‬
‫أذكر مثال حالة االحتشاد للمؤتمر من مثقفين وفنانين وأكاديميين سوريين كثيرين ينتمون‬
‫إلى مناطق مختلفة من سوريا كلهم أحبوا اللقاء حول اسم ابن مدينة الرقة القصاص‬
‫والمثقف السوري الجميل عبد السالم العجيلي‪ .‬كان في المؤتمر طبعا مثقفون رسميون‬
‫نهار ويصحبوننا بعد انتهاء‬
‫ا‬ ‫ينتمون إلى السلطة السورية الرسمية‪ ،‬وهؤالء يحضرون‬
‫أعمال المؤتمر في رحالت نهارية إلى ديار بكر وإلى الشمال السوري وإلى سد ال زلت‬
‫أذكره على نهر الفرات‪ .‬وكان هناك طبعا مثقفون آخرون ينتمون إلى الشارع وإلى مدينة‬
‫الرقة خصوصا ويقفون على هامش السلطة‪ .‬ما زلت أذكر كيف جمعتنا ليالي الفندق‬
‫الصغير في سهرات طويلة للغناء والسمر‪ ،‬تألق فيها نبيل سليمان ورفاقه‪ .‬في هذه‬
‫السهرات تعرفنا على غناء تختلط فيه نغمات شامية وعراقية ومصرية‪ ،‬وسعدنا بالجلوس‬
‫إلى رفاقنا من األردن (سميحة خريس ورفقة دودين) ومن المغرب (شعيب حليفي‬
‫والميلودي شغموم)‪ ،‬ورفاق آخرين من بلدان أخرى‪ ،‬فضال بالطبع عن المثقفين من‬
‫أبناء سوريا الكرام وما أكثرهم‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال زلت أذكر كيف خرجنا ليلة أنا وحسين حمودة ومحمد شعير وناقدنا الكبير الراحل‬
‫األستاذ إبراهيم فتحي إلى حفل ضم مغنين شعبيين على حدود الرقة‪ ،‬وكيف نزلنا‬
‫السوق واشترينا بأرخص األسعار سيديهات تضم مختارات من أغاني فيروز التي كانت‬
‫حاضرة في الرقة شأن أي مدينة عربية‪.‬‬

‫لم يكن هناك بالطبع أدنى مؤشر إلى أن هذه المدينة المطبوعة بالثقافة والفن‪ ،‬ستصير‬
‫بعد شهور عاصمة لداعش‪ .‬كانت المدينة مليئة بالحركة الحرة للناس وفنونها برغم‬
‫حضور السلطة المسيطرة‪.‬‬

‫فيما بعد صرنا نسمع الرقة‪ ،‬ونرى مشاهد منها في نشرات األخبار‪ ،‬وسط الدمار الذي‬
‫تركته داعش وأخواتها‪ ،‬فال نكاد نتعرف على ذكرياتنا القريبة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مدينة َّ‬
‫الرقة والحلم والذكريات‬

‫يوسف المحيميد‬

‫روائي وقاص وإعالمي من السعودية‬

‫لم يكن نوفمبر ‪ ٠٢٢٢‬عاما عاديا وأنا أحط ألول وآخر مرة في األرض السورية‪ ،‬حيث‬
‫تلقيت الدعوة للمشاركة في مهرجان األديب الكبير الراحل الدكتور عبدالسالم العجيلي‬
‫الثالث للرواية العربية‪.‬‬

‫ال أعرف إن كنت متوهما أو أن رائحة الياسمين كانت تهبط من الشرفات أينما ذهبت‪،‬‬
‫كما كانت في قصائد نزار قباني الذي تربيت عليها في المرحلة الثانوية‪ ،‬في الفندق‬
‫الصغير الذي أقمنا فيه لليلة ودعتني الصديقة الروائية الفلسطينية نعمة خالد‪ ،‬وقد‬
‫عرفتها في ملتقى القاهرة الدولي الثالث لإلبداع الروائي‪َّ ،‬‬
‫تمنت لي رحلة سعيدة قبل أن‬
‫ننطلق نحو الشمال السوري‪ ،‬حيث مدينة َّ‬
‫الرقة الوادعة‪ ،‬الساكنة على ضفة الفرات‪،‬‬
‫حيث كان الطريق طويالً وحميما‪ ،‬كأننا نسير في جنة صغيرة من األشجار‪ ،‬والنهر‬
‫يلحق بنا‪ ،‬أو ربما نحن من يلحق به‪.‬‬

‫كانت سيارة الميكروباص التي تحملنا‪ ،‬والمحطة التي تزودنا منها بـ "المازوت"‪ ،‬والباعة‬
‫الصغار الذين يفوقون أعمارهم‪ ،‬تجعلني أشك أنني مررت من هنا ذات زمن‪ ،‬وتجعلني‬
‫أضع يدي على قلبي لوهلة‪ ،‬ويأخذني الحديث مع رفاق الرحلة والمهرجان‪ ،‬عمر قدور‪،‬‬
‫ورو از ياسين حسن‪ ،‬وخيري الذهبي‪ ،‬وعبدالله أبو هيف‪ ،‬ووجدان الصايغ وغيرهم‪.‬‬

‫كنت أقول لمن يجاورني في الميكروباص‪ ،‬أنني كنت هنا‪ ،‬ال أعرف متى‪ ،‬لكنني متأكد‬
‫أنني ‪ -‬بصورة أو أخرى ‪ -‬كنت هنا‪ ،‬لقد تأكد لي ذلك حينما انطلقت فرقة الرقة‬
‫الشعبية‪ ،‬بلبسها التقليدي الجميل ورقصها االستعراضي‪ ،‬وهم يترنمون بـ "هجينية" نعرفها‬
‫جيدا في نجد‪ ،‬لتشدني من تالبيبي إلى طفولتي البعيدة في الرياض‪" :‬هبَّت هبوب‬ ‫ً‬
‫الشمال وبردها شيني‪ ،‬ما تدفي النار لو حنا شعلناها" نبرة الرجل الضاربة في الحزن‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ورَّنة المرأة التي تجرح ذاكرتي‪ ،‬لتحلِق أمي في فضاء المسرح‪" :‬ما يدفي إال حب‬
‫التفت إلى عمر قدور هامسا‪ ،‬ألم‬
‫ُ‬ ‫مريوشة العيني‪ ،‬إلى عطشنا شربنا من ثناياها"‪ ،‬هنا‬
‫أقل لك أنني جئت هنا في زمن ما‪.‬‬

‫كانت الرقة والشمال السوري الحزين جزءا من ذاكرة أمي وأسالفي‪ ،‬كم داهمتني غيمة‬
‫حزن وأنا أردد معهم تلك الهجينية‪ ،‬بينما تتأهب دمعة خجلى في عيني‪ ،‬ذاك الدمع‬
‫الذي سيتدفق بسخاء حين يخطف تنظيم "داعش" تلك المدينة الناعمة‪ ،‬النائمة بخفر‪.‬‬

‫حينما أستعيد تلك األيام البعيدة‪ ،‬وقت أن استضافنا أحد شيوخ قبائل الرقة في خيمة‬
‫ضخمة جدا‪ ،‬والشباب النشامى الذين يحملون الصحون وقد َّ‬
‫شمروا عن أذرعهم‪،‬‬
‫وأصوات الترحيب والكرم والرجولة‪ ،‬أتوقف ذاهالً‪ ،‬كيف لهذه المدينة المدهشة‪ ،‬بتاريخها‬
‫وتراثها وشعبها العظيم أن تقع في أيدي ما يسمى تنظيم الدولة اإلسالمية "داعش"؟‬
‫كيف لهذه المدينة الخالدة‪ ،‬مدينة الفنون واإلبداع‪ ،‬أن تُطمر فجأة لتصبح عاصمة الدولة‬
‫اإلرهابية؟ كيف؟‬

‫حينما كتبت شهادة بعنوان "ليل األساطير في طفولتي"‪ ،‬وألقيتها في المهرجان‪ ،‬بصوت‬
‫مبحوح ذات مساء ناعم‪ ،‬لم أكن أظن وقتها‪ ،‬حتى لو ظنا‪ ،‬أنني بعد بضع سنوات‪،‬‬
‫سأتابع في القنوات الفضائية‪ ،‬ليل الظالم في الرقة‪ ،‬واحتاللها من قبل تنظيم إرهابي‪،‬‬
‫سيقف زعيمه أبو بكر البغدادي على المنبر‪ ،‬يخطب في الناس‪ِ ،‬‬
‫ويبشرهم بجاهلية في‬
‫األلفية الثالثة‪ ،‬ترعبهم فيها ُّ‬
‫جز الرؤوس وتصويرها‪...‬‬

‫لم أظن أن هؤالء الناس الطيبين سيغادرون الرقة‪ ،‬مدينة الرقة والحلم والذكريات‪ ،‬هاربين‬
‫بأرواحهم وعائالتهم بحثا عن أرض آمنة‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في مدينة الرقة كانت لنا أيام‬

‫خليل الجيزاوي‬

‫كاتب روائي وناقد أدبي مصري‬

‫تعرفت على الكاتب ماجد رشيد العويد ابن مدينة الرقة السورية‪ ،‬على موقع القصة‬
‫العربية مع بداية عام ‪ ،1111‬ومن خالله عرفت وتابعت أخبار وفعاليات مهرجان‬
‫الدكتور عبد السالم العجيلي للرواية العربية الذي يقام كل عام في مدينة الرقة شمال‬
‫سوريا‪ ،‬منذ دورته األولى عام ‪ ،1111‬وفي يوم ‪ 26‬أكتوبر ‪ 1121‬تلقيت دعوة كريمة‬
‫من مدير الثقافة بالرقة للمشاركة في مهرجان العجيلي لإلبداع الروائي الدورة السادسة‬
‫التي ستقام ‪ 2‬ديسمبر ـ ـ ‪ 2‬ديسمبر ‪ ،1121‬قبلت الدعوة وكتبت شهادتي الروائية التي‬
‫سأشارك هذا المهرجان العربي الكبير تحت عنوان‪ :‬المحظو ارت في الرواية العربية؛‬
‫ألن روايتي األولى (يوميات مدرس البنات) فازت بالجائزة األولى عام ‪ 2666‬بالمسابقة‬
‫السنوية للرواية التي ينظمها نادي القصة بالقاهرة‪ ،‬ومن شروط المسابقة أن تنشر‬
‫الرواية الفائزة بسلسلة الكتاب الفضي الذي يصدره نادي القصة بالقاهرة‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫أنني كتبت ثالثة مشاهد بين الطالبة والمدرس بحيلة فنية‪ ،‬وهي الحلم‪ ،‬لكن نادي القصة‬
‫رفض نشر الرواية‪ ،‬وعندما واجهت الكاتب يوسف الشاروني رئيس نادي القصة والذي‬
‫ق أر الرواية وحكمها نقدياً وأعطاها ‪ 61‬درجة من ‪ ،211‬فقال بالحرف الواحد‪ :‬الفوز في‬
‫المسابقة شيء‪ ،‬والنشر شيء آخر‪ ،‬وأضاف غاضباً‪ :‬هل تريد أن ُيقفل نادي القصة‬
‫مثلما حدث في هيئة قصور الثقافة بعد نشر رواية وليمة ألعشاب البحر للكاتب السوري‬
‫حيدر حيدر؟!‬

‫وكان حظ الرواية رائعاً‪ ،‬أن حضر صحفي من جريدة األهرام مراسم تسليم جائزة نادي‬
‫القصة برفقة الفنان فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك‪ ،‬فنشرت صورتي مع الوزير وأنا‬

‫‪145‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أتسلم الجائزة بالصفحة األخيرة بجريدة األهرام‪ ،‬ق أر الجريدة أحد أوالد الحاج محمد‬
‫مدبولي‪ ،‬وهكذا عرفت الرواية طريقها للنشر مع مكتبة مدبولي للنشر والتوزيع عام‬
‫‪.1111‬‬

‫سردت هذه األحداث ضمن شهادتي الروائية بمهرجان العجيلي والقت قبوال واستحساناً‬
‫كبيرين من جمهور الحاضرين‪ ،‬وأتذكر في طريق عودتي بالباص للفندق‪ ،‬سمعت‬
‫الروائي التونسي الحبيب السالمي الذي كان يتحدث مع الجالس جواره عن األحداث‬
‫التي سردتها ـ ـ وربما لم يلحظ أنني أجلس بالمقعد الخلفي له ـ ـ فقال السالمي‪ :‬كيف‬
‫لمؤسسة ثقافية خاصة (يقصد نادي القصة) تتساوي مع المؤسسة الحكومية وترضخ‬
‫للمحظورات‪ ،‬وأنهى حديثه قائال‪ :‬أتفهم احتياطات المؤسسة الرسمية‪ ،‬هم باألول واألخير‬
‫موظفون بو ازرة الثقافة‪ ،‬لكني أدين تصرفات المؤسسة الثقافية الخاصة‪.‬‬

‫وحرصت باليوم التالي لوصولي إلى مدينة الرقة أن أتجول في شوارعها صحبة الزمالء‬
‫حيث اصطحبنا سائق الباص في جولة وسط شوارع المدينة لشراء خطوط أرقام سورية‬
‫للهاتف النقال؛ لنتواصل مع األهل‪ ،‬وبدأت جولتنا من دوار الساعة ومبنى البريد‪،‬‬
‫وشارع القوتلي‪ ،‬والجامع الكبير‪ ،‬سينما الشرق‪ ،‬وباب بغداد‪ ،‬ونادي الفروسية‪ ،‬والدرعية‪،‬‬
‫والجسر‪ ،‬وتل البيعة‪ ،‬ونهر الفرات‪ ،‬وأثناء هذه الجولة شاهدت شوارع مدينة الرقة‬
‫الجميلة والهادئة جداً‪ ،‬التي ولد فيها الروائي السوري عبد السالم العجيلي ـ ـ طبيب توليد‬
‫النساء الشهير ـ ـ فجاءت فكرة إقامة مهرجان ثقافي باسمه كل عام‪ ،‬هكذا حدثنا المهندس‬
‫عبد العظيم العجيلي والد الدكتورة شهال العجيلي التي تعرفت عليها أثناء جلسات‬
‫المهرجان‪ ،‬كذلك قابلت الروائي السوري نبيل سليمان الذي قابلته عدة مرات من قبل‬
‫أثناء فعاليات ملتقى القاهرة للرواية الذي ينظمه المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬بحكم عملي‬
‫في إدارة النشر بالمجلس األعلى للثقافة آنذاك‪ ،‬وتعرفت أثناء مهرجان العجيلي على‬
‫الناقد العراقي دكتور عمار أحمد‪ ،‬وكان المهرجان يضم أكثر من خمسة وعشرين روائي ًا‬
‫وناقداً من معظم البالد العربية‪ ،‬واقتصر تمثيل مصر بالدورة السادسة على كاتب هذه‬

‫‪146‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫السطور والكاتب محمد صالح العزب والصحفي بجريدة األهرام سيد محمود‪ ،‬بعد‬
‫اعتذار إبراهيم أصالن وخيري شلبي عن عدم الحضور والمشاركة؛ ألن موعد المهرجان‬
‫في ديسمبر وسط فصل الشتاء‪ ،‬ومدينة الرقة تقع شمال سوريا حيث الصقيع والثلج‬
‫خالل هذه الفترة‪ ،‬هكذا سمعت منهما‪.‬‬

‫كانت مشاركتي في مهرجان العجيلي الزيارة األولى للسفر إلى سوريا الشقيقة؛ ولهذا‬
‫طلبت من أحد منظمي المهرجان أن يتم فتح تذكرة العودة مدة أسبوع وأن تكون العودة‬
‫من مطار دمشق وليس من مطار حلب‪ ،‬وعندما تعلل الزميل أن المهرجان إمكانياته‬
‫المالية محدودة‪ ،‬رددت سريعاً‪ :‬يا صديقي فقط افتح تذكرة العودة وستكون فترة إقامتي‬
‫طوال األسبوع على حسابي الشخصي‪ ،‬وليس على حساب مهرجان العجليي‪ ،‬وأضفت‪:‬‬
‫ليس من المعقول أن أزور مدينة حلب ومدينة الرقة‪ ،‬وال أزور مدينة دمشق‪ ،‬فابتسم‬
‫وقال تقصد الشام‪ ،‬فقلت أل أقصد دمشق‪ ،‬فابتسم قائال‪ :‬نحن نطلق على دمشق اسم‬
‫الشام‪ ،‬كما تطلقون اسم‪ :‬مصر على مدينة القاهرة‪ ،‬وبالفعل أقمت بفندق في شارع‬
‫الحلبوني وسط دمشق‪ ،‬ووضعت خطة لزيارة معظم أحياء ومعالم العاصمة‪ ،‬فزرت‬
‫سوق الحميدية واشتريت بعض الهدايا ألوالدي‪ ،‬وفي يوم ثان زرت المسجد األموي‬
‫وزرت قبر صالح الدين األيوبي‪ ،‬وفي يوم ثالث زرت حي السيدة زينب والمسجد الذي‬
‫يحمل اسمها‪ ،‬وفي اليوم قبل األخير تجولت في شوارع دمشق الشهيرة بالحلويات‬
‫الشامية‪ ،‬واشتريت حلويات ألوالدي‪.‬‬

‫وتصادف بعد عودتي للقاهرة بحوالي شهر أن قامت ثورة الربيع العربي يوم ‪ 11‬يناير‬
‫‪ ،1122‬واشتعلت مدينة القاهرة بالمظاهرات الصاخبة مثلما اشتعلت معظم العواصم‬
‫العربية‪ ،‬وسقط بعض الحكام العرب‪ ،‬فقد هرب الرئيس التونسي علي زين العابدين‪،‬‬
‫وتخلى الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم وسلم قيادة البالد للجيش‪ ،‬وصعدت‬
‫عناصر التيار الديني المتشدد المنابر اإلعالمية بفضل تفوقهم في حشد الجماهير‬
‫الغاضبة الرتفاع األسعار وتدني مستوى المعيشة‪ ،‬وهكذا سمعت وقرأت وشاهدت عبر‬

‫‪147‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫القنوات الفضائية اإلخبارية كيف تغيرت مدينة الرقة الجميلة التي ال تزال صورة شوارعها‬
‫الهادئة حية في ذاكرتي البصرية‪ ،‬وحزنت جداً؛ ألنها باتت مق اًر لقوات داعش ـ ـ ذات‬
‫الفكر الديني المتطرف ـ ـ ـ وشاهدت كيف ُدمرت منازل مدينة الرقة وباتت شوارعها‬
‫أرض خراب نتيجة الحرب بين قوات المعارضة وقوات داعش‪.‬‬

‫ومع األسف كانت الدورة السادسة ديسمبر ‪ 1121‬آخر دورات مهرجان العجليي‪،‬‬
‫فحزنت حزن ًا كبي ًار على الحالة التي أصبحت عليها مدينة الرقة التي كانت ذات يوم‬
‫منب اًر ُمهماً من منابر الثقافة والتنوير في سورية العربية الشقيقة ذات التاريخ العربي‬
‫المشترك مع مصر العروبة‪ ،‬وقد سمعت خالل هذه الزيارة ولمست مدى حب األشقاء‬
‫في سوريا للزعيم جمال عبد الناصر حيث أخبرني أحد األصدقاء من مدينة الرقة أن‬
‫كل بيت في سوريا يضع صورة جمال عبد الناصر في غرفة االستقبال‪ ،‬ومع كل هذه‬
‫األحداث الدامية‪ ،‬ومع كل هذا الخراب الذي لحق بمدينة الرقة ال يزال عندي بصيص‬
‫أمل أنه في نهاية الدرب شمعة أمل‪ ،‬وستعود يوم ًا ما الرقة منب اًر ثقافياً‪ ،‬وستعود دمشق‬
‫عاصمة للثقافة العربية‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة والعرس األدبي والثقافي‬

‫عبير حسن َّ‬


‫عالم‬

‫شاعرة لبنانية‬

‫تصب فيه‬
‫ُّ‬ ‫احتضنت سوريا المهرجانات والفعاليَّات الثقافية‪ ،‬وكانت البحر الذي‬
‫ْ‬ ‫لطالما‬
‫عيد توزيع ثمارها على العالم أجمع‪.‬‬ ‫جميع روافد الفكر واألدب والثقافة من البلدان َّ ِ‬
‫كاف ًة لتُ َ‬ ‫ُ‬
‫لثقافي المو ِ‬
‫اكب‬ ‫ستهان به من العمل الفكريﱢ والنشاط ا‬ ‫وقد كان لِمحافظة َّ‬
‫ﱢ ُ‬ ‫ُ‬ ‫الرقة نصيب ال ُي‬
‫َّ‬
‫يفي‬
‫يغلب عليها الطابع الر ُّ‬‫له‪ .‬المفارقة الجميلة والممتعة هنا في َكو ِن الرقة محا َفظ ًة ُ‬
‫ِ‬
‫وموغ ًال في المشهد الثقافيﱢ‬ ‫بعيدا‬
‫إسهاما ً‬ ‫لكنها مع ذلك أسهمت‬‫تغزها نهضة المدن‪َّ ،‬‬‫ولم ُ‬
‫ً‬
‫السوريﱢ‪.‬‬

‫الع َجيلي‬
‫الثقافي الذي كان ُيعَق ُد سنويًّا تحت عنوان "مهرجان ُ‬
‫َّ‬ ‫األدبي و‬
‫َّ‬ ‫العرس‬
‫َ‬ ‫هو ذا‬
‫للرواية"‪ .‬ذلك العرس الذي كان لي شرف المشاركة في نسخته الرابعة (‪-1‬‬
‫تهل على روحي بين الفينة واألخرى‬
‫نسائم ُّ‬
‫َ‬ ‫‪ )1112/21/1‬التي ما زالت ذكرياتها‬
‫عمدا خلف الضلوع كي ال يضوع مع‬ ‫وتوقظ شوًقا ال يخبو إلى سوريا‪َّ ،‬‬
‫لكنني أداريه ً‬
‫ويهيج أحزاني واأللم‪.‬‬
‫كل نبض ُ‬
‫ﱢ‬

‫نعم‪ ،‬األلم‪ .‬األلم لِما آلت إليه سوريا وما آلت إليه محافظة َّ‬
‫الرقة الرائعة ِبُفراتها العظيم‬
‫وم َّثقفيها (الروائية‬
‫ومفكريها ُ‬
‫ِ‬
‫ونسائمه العليلة‪ ،‬بناسها الطيبين المضيافين‪ ،‬بأدبائها ُ‬
‫الع َجيلي" على سبيل المثال ال الحصر)‪ ،‬بطبيبها األديب الفﱢذ "عبد‬ ‫والناقدة "شهال ُ‬
‫قصدت بيته وال تزال إلى اليوم أحجار ذلك الحيﱢ‬ ‫السالم العجيلي" ِ‬
‫(رح َمه الله) الذي‬
‫ُ‬ ‫َُ‬
‫تروي لقلبي أجمل القصص كي يستكين‪ .‬حتى الفندق الذي نزلنا فيه لم يكن بتلك‬
‫أنت تشعر أنك نازل بين أهلك‪ .‬بل َّ‬
‫إن‬ ‫الصورة النمطية التي نعرفها عن الفنادق؛ َ‬
‫تفاصيل الحياة اليومية البسيطة تتهادى هناك بإيقاع متميز؛ ففي مطعم ذلك الفندق‬

‫‪149‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫طلة على األرض الخصبة الساحرة‪ -‬لِوجبة‬ ‫الواقع في الطبقة األخيرة منه ‪-‬تلك الم َّ‬
‫ُ‬
‫ص َور وجبة اإلفطار األخير هناك‬ ‫ِ‬
‫وجٌّو ال ُينسى‪ .‬لذا ما زالت ُ‬
‫خاصة َ‬
‫اإلفطار نكهة َّ‬
‫مع صوت فيروز وسحر المكان ال تفارق ذاكرتي‪.‬‬

‫َّ‬
‫محطات وذكريات عصيَّة على النسيان‪:‬‬ ‫وكان لي كذلك مع مركز المحافظة في َّ‬
‫الرقة‬
‫االحتفاليات والمعارض والنشاطات التي تتتابع بال ُّ‬
‫توقف؛ كمعرض الرسم الذي زرناه‬
‫كل ذلك في غضون ثالثة أيَّام‪ .‬وهذا إن َّ‬
‫دل‬ ‫على هامش المهرجان وغيره الكثير‪ُّ ...‬‬
‫المثابرة التي ال تني تبذل قصارى جهدها في‬ ‫على شيء َّ‬
‫يدل على الروح السورية ُ‬
‫فإنما ُّ‬
‫تكريم الفكر واألدب والفنﱢ واالهتمام بها وترسيخ تقليد االحتفاء بها في سلوك أجيال‬
‫التعرف إلى أسماء كبيرة في عالم األدب من ُنَّقاد وأدباء‬
‫الغد‪ .‬هنالك كان لي شرف ُّ‬
‫وأساتذة جامعيين ِ‬
‫قدموا من بلدان عربية وأجنبية‪ ،‬وال زالت تربطني بهم أواصر صداقة‬
‫لكن ما لفتني على نحو خاصﱟ كان ظاهرًة غير َّ‬
‫متوقعة (على األقلﱢ‬ ‫متينة حتى اليوم‪َّ .‬‬
‫بالنسبة لي في سني الفتيﱢ آنذاك وحداثة عهدي بالمؤتمرات)‪ ،‬تلك الظاهرة َّ‬
‫تتمثل في‬
‫العجيلي لم يكن مقصد المعنيين بالشأن األدبيﱢ أو الثقافيﱢ أو الفنيﱢ وحدهم‪..‬‬ ‫َّ‬
‫أن مهرجان ُ‬
‫بأنهم –على اختالف أطيافهم ومستويات ثقافتهم وتعليمهم‪-‬‬ ‫لقد أبهرني أهل َّ‬
‫الرقة َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يشاركون جميعا في ذلك العرس! لقد اجتمعوا بنا َّ‬
‫وتعرفوا إلينا واستضافونا في بيوتهم‬
‫حول والئم باذخة تعكس كرم أخالقهم وطيب معشرهم حتى َّ‬
‫يحز في نفسك َّأنك تغادرهم‬
‫بغصة عميقة وحرقة لن أنساها‪َّ .‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫وتغادر َّ‬
‫الرقة األصيلة‪ .‬غادرتُها ذلك اليوم َّ‬

‫الكون ما لم ُ‬
‫تعد سوريا‬ ‫الغصة اليوم أكبر بما ال ُيقاس‪ ،‬والحرائق بداخلي ال تطفئها مياه َ‬
‫َّ‬
‫فكر ًّ‬
‫وفنا وثقاف ًة‪ ،‬رسال َة ُرق ﱟ‬
‫ي‬ ‫صدر إلى العالم ًا‬
‫الرقة تُ ﱢ‬ ‫إلى سابق ِ‬
‫مجدها وما لم تعد َّ‬
‫ُ‬
‫يحز في نفسي ويكسر قلبي ألم رهيب منشأه َّأنني لم أقصد الرَّقة بعد ذلك‬
‫وحضارة‪ُّ .‬‬
‫لقوات عسكرية أجنبية‪.‬‬ ‫ثم َّ‬
‫معقال للحركات التكفيرية َّ‬ ‫ولم َّ‬
‫أتعلل بمياه فراتها‪ ،‬و َّأنها باتت ً‬
‫الرقة كما تعلمون وأعلم‪ .‬ولن تكون كذلك‪ .‬وبي يقين ال يتزعزع َّ‬
‫بأنها ال ُب َّد‬ ‫ليست هذه َّ‬
‫ستكسر القيد وتسترجع مجدها وتشرق شمساً من جديد‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق الشعر‬

‫‪151‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عن الذاكرة الشتوية‬

‫محمود باكير‬

‫محامي وكاتب سوري‪ ،‬أصدر مجلة الكواكبي عام ‪0299‬‬

‫"إهداء‪..‬‬

‫إلى عجوز سراقبي‪..‬‬

‫وجدته يفرك الندم‪..‬‬

‫والدقائق وحيداً‬

‫تحت برج الساعة في إدلب"‬

‫األبواب العتيقة‪..‬‬

‫الشتاء وهو ينهمر في الخارج‪..‬‬

‫بال هوادة‪..‬‬

‫مشهد الحجارة المعشوشبة‪..‬‬

‫وهي تتفتح تحت المطر‪..‬‬

‫صوت الريح‪..‬‬

‫وهي تقتحم الدروب‪..‬‬

‫والتالل القريبة‪..‬‬

‫األخوة في نومهم البريء‪..‬‬

‫الليل‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والوحشة ونار المواقد‪..‬‬

‫الهمسات والوشوشة‪..‬‬

‫بعد السهر الطويل‪..‬‬

‫روح اآلذان المبلل بالنجوى‪..‬‬

‫صالة الصبح‪..‬‬

‫دعاء األب اللحوح‪..‬‬

‫خطوات األم‪..‬‬

‫بسملتها‪..‬‬

‫وهي تفتتح أقنية الطحين‪..‬‬

‫للماء الساخن‪..‬‬

‫الحطب‪..‬‬

‫رائحة الحطب‪..‬‬

‫وهو على وشك االشتعال‪..‬‬

‫طقطقة األكف وهي تتجمع‪..‬‬

‫في العجين‪..‬‬

‫كي تورق األرغفة‪..‬‬

‫في تعاريج الدعاء‪..‬‬

‫الصباح‪..‬‬

‫إشراقة الصباح الغائم‪..‬‬

‫‪153‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ونكهة الخبز الناضج‪..‬‬

‫"ميثولوجيا" الرائحة‪..‬‬

‫المختلطة‪..‬‬

‫في المطبخ القديم‪..‬‬

‫ودم الديك المذبوح على عجل‪..‬‬

‫ورأسه المقطوع‪..‬‬

‫المائل على حجر‪..‬‬

‫قرب باب الدار‪..‬‬

‫رشقات الماء الساخن‪..‬‬

‫رائحة الريش المنتوف‪..‬‬

‫وصوت الببور‪..‬‬

‫نهيق الحمار المربوط‪..‬‬

‫تحت سور جيراننا‪..‬‬

‫سرب الز ارزير‪..‬‬

‫القادم من الشمال‪..‬‬

‫وهي تستريح على‪..‬‬

‫حواف الشبابيك الخشبية‪..‬‬

‫في رحيلها السنوي نحو الجنوب‪..‬‬

‫الصباح الندي‪..‬‬

‫‪154‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الثقيل‪..‬‬

‫وهو يبدأ يومه‪..‬‬

‫محموالً على أكتاف‪..‬‬

‫الرعاة وهم يذهبون‪..‬‬

‫إلى الحقول القريبة‪..‬‬

‫على ضوضاء أغنامهم المعافاة‪..‬‬

‫إال من "سحجة" النايات‪..‬‬

‫والثغاء الصغير‪..‬‬

‫رائحة الخبز والتراب‪..‬‬

‫والنهار المستعجل‪..‬‬

‫نحو منازل النوم‪..‬‬

‫والدفء الشفيف‪..‬‬

‫األبواب الخشبية‪..‬‬

‫وما وراء الشبابيك من الحكايا‪..‬‬

‫الكالب‪..‬‬

‫في شغبها الشبقي‪..‬‬

‫وهي تتقلب‪..‬‬

‫على طين البراري‪..‬‬

‫"بطرانة" من الشبع‪..‬‬

‫‪155‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫متحررة من قوائم الخطيئة‪..‬‬

‫الباصات القادمة من الساحل‪..‬‬

‫وأريحا‪..‬‬

‫وهي تحمل الطلبة‪..‬‬

‫وصناديق "اليوسف أفندي"‬

‫وتشرق إلى حلب‪..‬‬


‫ِ‬

‫أبواق السيارات الصفراء‪..‬‬

‫وهي ِ‬
‫تغرب‪..‬‬

‫باللبن والسمن العربي‪..‬‬

‫ورائحة البدويات ِ‬
‫الحريفة‪..‬‬

‫على طريق "أبو الظهور"‬

‫شاي الدكاكين والنميمة‪..‬‬

‫في رأس السوق الشمالي‪..‬‬

‫باعة "تتن البصمة"‬

‫التتن األشقر المجعد‪..‬‬

‫وكأنه جدائل الفاتنات‪..‬‬

‫بين أصابع الرجال الخشنة‪..‬‬

‫من "الخرمنجية"‬

‫وهم يتأملون الرائحة‪..‬‬

‫‪156‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في صدورهم‪..‬‬

‫ويعقدون الصفقات‪..‬‬

‫مع الباعة‪..‬‬

‫وهم يحملون بضاعتهم‪..‬‬

‫من الجبل الوسطاني‪..‬‬

‫وقرى الجبال القريبة‪..‬‬

‫وسهل الروج‪..‬‬

‫‪...‬‬

‫هذا الشتاء البعيد البعيد‪..‬‬

‫مسباح الذاكرة‪..‬‬

‫عاجها الباهظ‪..‬‬

‫فضتها التليدة‪..‬‬

‫وهي تنداح مستسلمة‪..‬‬

‫تحت بساطير الخذالن‪..‬‬

‫ذاكرتنا الرعوية‪..‬‬

‫فخر أيامنا التي ذهبت هباء‪..‬‬

‫وسط كل هذا الخراب‪..‬‬

‫وكل هذه الحرب القوية‪..‬‬

‫وكل هذا الحضيض‪..‬‬

‫‪157‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫من الدجل والبهتان‪..‬‬

‫***‬

‫هذا الحنين‪..‬‬

‫ليس فائضاً "رومانتيكياً"‪..‬‬

‫وال نوستالوجيا مريضة‪..‬‬

‫هي حياتنا المقتولة‪..‬‬

‫برصاصة خائنة‪..‬‬

‫من إصبع قناص لقيط‪..‬‬

‫ونحن نرقبها كاليتامى‪..‬‬

‫من بعيد‪..‬‬

‫وهي مهزومة‪..‬‬

‫ومشوهة‪..‬‬
‫َّ‬

‫كحفنة من الرمل‪..‬‬

‫تهرب من بين األصابع‪..‬‬

‫ونحن نحملها مثل معصية‪..‬‬

‫فقدت مالمحها‪..‬‬

‫في طريقنا الواضح‪..‬‬

‫كاللعنة‪..‬‬

‫نحو العدم‪....................‬؟!‬

‫‪158‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يك الخواء"*‬
‫"يا آدم الجديد ‪ ..‬عل َ‬
‫فواز قادري‬

‫شاعر سوري مقيم في ألمانيا وله العديد من اإلصدارات الشعرية‪.‬‬

‫جنرال‬

‫الوردة ال تمتلك الجيوش‬

‫الجنرال القاتل يملك ذلك‬

‫الوردة لها أوراق ناعمة تفوح وال تقتل‬

‫الجنرال عنده الرماح وأحصنة الحديد‬

‫الوردة تمنح العطر بحرية قصوى‬

‫الجنرال يخنق ما تمنحه الحديقة‬

‫األوالد ماتوا قبل الحلم‬

‫والجنرال يقتل ما تبقى منه‬

‫الصبية فرحة بوردة العاشق‬

‫الجنرال يملك مشاتل الزهور ويسورها بالجند‬

‫يملك كل شيء وال يملك قلباً‬

‫وال يستطيع أن يفرح امرأة تزوجت مجنزرة‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أعزل‬

‫أنا ال أحارب أحداً‬

‫أعزل وأريد أن أغير الدنيا‬

‫هذه الطائرات ال تحوم حولي بالخطأ‬

‫الجنود مشغولون بالبنادق والخوف‬

‫بدل ورد الحبيبات والرسائل‬

‫يموتون ويضحك الجنرال األهبل‬

‫تطير أعضاؤهم ويرقص الجنرال‬

‫فراشة من دمع وقلق‬

‫رافقتني في الظهيرة‬

‫العصفور الذي واعدني على أغنية الصباح‬

‫اعتذر ألسباب لم يقلها‬

‫طفل ينتظر اجازة من الموت‬

‫من أجل إن يكمل اللعب‬

‫الشيخوخة الصبورة‬

‫تخلت عن بعض أحمالها وصرت خفيفاً‪:‬‬

‫امرأة تبسمت في وجهي بال سبب‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رشح‬

‫الفرح يرشح منك وأنا الحزن‬

‫تتأخر عيناك ويحرسك حلم بالشرفات‬

‫صحوي قيامة والصباح خال ِ‬


‫منك‬

‫الصباح قهوتك والكالم يرشح بالورد‬

‫ويلمع الشوق أوراقه‬

‫كلما رشح حنينك في النهار‪.‬‬

‫اغتيال‬

‫أريد أن أجدد صلتي بهذه الرصاصة‬

‫أن أقنن طيشها بالحكمة والوقار‬

‫وأقنع الحياة التي أخرجتها من المهابة إلى الشارع‬

‫أن تلعن القاتل والطغاة في سرها‬

‫من الموت والتابوات إلى الحرية‬

‫حتى يتأخر وقت مجيئها عني‬

‫يليق بها أن تجلس بين دفتي كتاب التاريخ فقط‬

‫أن تسكن المتاحف أو تكون من زوار المقابر‬

‫‪161‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رصاصة عبوسة تسأل عني كل يوم‬

‫وتلح أن تتعرف علي‬

‫بال موعد ستأتي إلى زيارة القلب‬

‫بال سبب تغادر‬

‫دون أن تعتذر من الرأس‬

‫ودون أن تترك أث اًر على خروجها من جهة مقابلة‪.‬‬

‫عطف‬

‫ِ‬
‫لست بحاجة إلى واو العطف أحياناً‬
‫كل قصائد الحب تعطف معانيها ِ‬
‫عليك‬

‫الوردة معطوفة على البستان‬

‫العطر على الوردة‬

‫القمر على مساء بنكهة الصيف‬

‫األجنحة على السماء‬

‫النهر على الجريان‬

‫نبض عاشق على قلب عاشقة ال يهدأ‬

‫الغرباء على الحنين والذكرى‬

‫الجندي المجروح في الحرب‬

‫‪162‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫على وسادة سرير البيت‬

‫يضع أرسه على بياضها وينام‬

‫رصاصة أيضا‬

‫حلمي رصاصة ساخنة‬

‫أنام مع رصاصة‬

‫أصحو على رصاصة‬

‫ورصاصة تلتهم الطريق‬

‫لم نكن نتآلف‬

‫كلما عبرت سمائي طأطأت رأسي‬

‫وكلما ازرني عصفور‬

‫وجدت بعضاً من أزيزها في الهواء‬

‫في القصيدة رصاصة بدم‬

‫في الرغيف رائحة البارود‬

‫حتى الصباح لم ينج بأغانيه‬

‫رصاصة تبحث دون كلل‬

‫عن ما تبقى من وطن في قلبي‪.‬‬

‫*‪ -‬قصائد من مخطوط "يا آدم الجديد‪ ،‬عيك الخواء"‬

‫‪163‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الّنوح‬
‫سوسن إسماعيل‬
‫شاعرة وناقدة سورية‬

‫تطوفين على كعاب السرائر‬ ‫و ِ‬


‫أنت‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫كأنها البيت العتيق‬
‫الطوفان رحاله‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫يشد‬
‫قصص السماء‬
‫َ‬ ‫ليستأنف‬
‫َ‬
‫وتجهر البعث ُة باسمها‬
‫ُ‬
‫يرفع الجودي رأسه‬‫ُ‬
‫ُيلو ُح للبذور بالخالص‬
‫َّإنها النذور العائدة‬
‫‪......‬‬
‫مع تعاليم النجاة‬
‫ين العمر‬ ‫تكرر َ‬
‫رهينة وجوه الخطر‬
‫تنجرفين لـم ِع ِ‬
‫ين الل ِ‬
‫سان‬ ‫َ َ‬
‫لكنه مهبط الحمى األمين‬
‫ِ‬
‫الهجاء‬ ‫تمعنين في ِد ِ‬
‫اللة‬ ‫َ‬
‫وتتكئين على حصيلة الخمائل‬
‫لعلها تنتصر الستهالل يتيم‬
‫‪......‬‬
‫ِ‬
‫اسمك‬ ‫هدهدي‬
‫ئس الهزيز‬ ‫ِ‬
‫فب َ‬
‫ِ‬
‫اإلفك الضليلة‬ ‫لرحى ش ِ‬
‫بهة‬ ‫ُ‬
‫‪164‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ختام نداء اليقين‬


‫ُ‬
‫يستميل الرجاء‬
‫ُ‬ ‫لغافل‬
‫ِفن ْع َم القرار‬
‫كان وكان‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪......‬‬
‫ِ‬
‫لست آية في سورة الغنيمة‬
‫الحرز في كتاب‬ ‫تتركين ِ‬
‫َ‬
‫تسألين في المنام؛‬
‫عمن هناك؛‬
‫عن ظل بيت بال وثائق ‪!!..‬‬
‫عطش ِ‬
‫عنب بكر؛‬ ‫ِ‬ ‫عن‬
‫عن حارسة الضريح‬
‫عايش الطعن َة في مرماها‬
‫تُ ُ‬
‫ال يسألني عن الكرز‪ ....‬؟‬ ‫ما ز َ‬
‫سر األليف‪.‬‬
‫إن ُه ُّ‬
‫‪......‬‬
‫إنهم يوثقون‬
‫المتاح‬ ‫ِ‬
‫لمرأى القصاص ُ‬
‫أي ِ‬
‫اك ورحيل المذابح‬
‫ال تحمليها على يديك‬
‫فسياج المدينة تثأر‬
‫باب النشور‬ ‫ِ‬
‫كلما طرقت َ‬
‫جاؤوا إليك بفتاوى الحساب‬
‫‪......‬‬
‫أبوابهم مواربة للتكبير‬
‫أجراسهم ُمكبلة بالتبشير‬

‫‪165‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ترُّن ُزرقة ِ‬
‫الس ْدرة‬
‫في السماء الِبكر‬
‫يا لل ـ ـ ِ‬
‫هول؛‬
‫جمعونا في طقس جنائزي‬
‫ال َيد ـ لآللهة ـ لتصلي‬
‫َ‬
‫هلع؛‬
‫يا لل ـ ـ ِ‬
‫أنساب الجث ِة‬
‫َ‬ ‫إنهم يشرعو َن‬

‫‪166‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫للر ِ‬
‫قة الباقية‬ ‫َدعي ٌة َّ‬
‫أ َ‬
‫تناص مع نص قديم*‬

‫وحيد نادر‬

‫شاعر ومترجم وأستاذ جامعي من أصل سورّي يعيش في ألمانيا‪ .‬حاصل على‬ ‫ٌ‬
‫ّ‬
‫السورية عام ‪ 9121‬وعلى جائزة معهد غوته للترجمة‬
‫ّ‬ ‫الشعر في الجامعات‬
‫جائزة ّ‬
‫افية‪ /‬معرض كتاب اليبزغ الدولي عام ‪ .0290‬عضو في اتحاد الك ّتاب‬ ‫االحتر ّ‬
‫األلمانية وله‬
‫ّ‬ ‫العربية و‬
‫ّ‬ ‫السوريين‪ ،‬يكتب بالّلغتين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫األلمان وفي رابطة الك ّتاب‬
‫أربعة دواوين شعر‪.‬‬

‫وضوء‪:‬‬

‫ِ‬
‫رؤوس‬ ‫ُمي‪ ،‬على‬ ‫مثل ِث ِ‬
‫قلب أ ِ‬ ‫ِ‬
‫مساحة َّ‬ ‫َصغر من‬ ‫ِ‬
‫َكبر من كتاب الجغرافيا‪ ،‬أ ُ‬ ‫صحراء أ ُ‬
‫ِ‬
‫القاعدة رئيس الد ِ‬
‫رك خلف شاربين كث رمُلهما‪ ،‬بينهما‬ ‫المث ِ‬
‫لث َد َرك‪َ ،‬درك‪َ ،‬د َرك‪ ،‬على‬
‫ُ‬
‫وردة شوكيَّة األَجنحة‪ ،‬لحية تصرخ في احتراقها‪َّ :‬‬
‫رقة أَتولى خالفتَها‪ ،‬يبايعني هارو ُن‬
‫كر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عر والس َ‬
‫يحب الش َ‬
‫الوردة رجل ُّ‬ ‫يخلفه على عرش المثلث ذي‬ ‫الرشيد ويوصي بأَن َ‬
‫الدرك األَسفل‬
‫َ‬ ‫ات بواسع رقتها‪ ،‬يحر ُق‬ ‫ات الغزال‪/‬الغزالة و ِ‬
‫الرق َة الظبي َة‪ ،‬رجل يوقد فر َ‬ ‫ُفر َ‬
‫عشيقت ِه ُفرات‪ ،‬بدمع النخل في الرمل لحظة‬
‫ِ‬ ‫واألَعلى‪ ،‬ويوضئُ الصبح بجمر فخذي‬
‫ِ‬
‫سماء الجزيرة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حقول الصبار قرب‬ ‫طلوِع الشرق من‬

‫‪167‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الدعاء األ ّول‪:‬‬


‫ُ‬
‫‪ ...‬نوفا عوفا موضى ثلجيَّة‬

‫ولف سورية‬
‫شاهة ْ‬
‫َشمسيَّة َ‬
‫ظلمة طلِة وفدية‬
‫مشايخ َ‬
‫َ‬

‫حالوة غازية ‪...‬‬


‫نوما َ‬
‫عانا َ‬
‫َنت‪ ،‬طير وحب‪ ،‬وينقر في رملِ ِك البرد قتامة الوقت ِدق ًة دقة‪ .‬في بالدي ِ‬
‫منك‬ ‫بالدي أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الماء حين يسري‪ ،‬صخرة سطحها الريح‪ ،‬قرية‬ ‫البالد‪ ،‬قارب يحرق‬ ‫الكثير ووحد ِك أ ِ‬
‫َنت‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تنانير يشعُلها الرماد‪ ،‬يا مريم ِ‬
‫قصر العذارى‪ ،‬يا فرات‬ ‫من ِ‬
‫رسائل من حمام‪ ،‬ضيعة من‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نهر‪ ،‬يا ابن َة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجهك في زهور السراب‪ ،‬حلمتيك في ملح يديك‪ ،‬ارضعي ال َ‬ ‫األنوثة‪ :‬خبئي َ‬
‫بنات ِشعره شع اًر‪.‬‬
‫أدمعت ُه ُ‬
‫ْ‬ ‫طه‪ ،‬فقد حان وقت سكر األمير وقد‬
‫َ‬
‫وتتركه‬ ‫نهر‪ ،‬مثلما تأخذ ابنها من يده‬ ‫على ضف ِة هذا الفر ِ‬
‫ُ‬ ‫ات‪ ،‬تأخذ ال َ‬
‫تجيء فر ُ‬
‫ُ‬ ‫ات‬
‫أحالم هارون رشيد ًة ساهية فيها‬
‫َ‬ ‫وقع ُخطاها‪ ،‬تضيء بماء وجهها‬
‫دب على ِ‬ ‫كالمساء ي ُّ‬
‫لت‬
‫النسيم‪ ،‬بل ْ‬
‫َ‬ ‫ات‪ ،‬لفتها بمناديل زهر الشوك‪ ،‬لقمتها وحيها‪ ،‬أرضعتها‬
‫وقد وحمتها فر ُ‬
‫الطفل لِطفل‬
‫َ‬ ‫فساتينها بعرق البَلح ولملمت نشيج صدرها حول وجه الخليفة‪ُ :‬‬
‫أدلق نهدي‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬
‫يشهق كاألسير المحرر من غبطة العاصفة! أنا فر ُ‬‫يشم األُموم َة في نزق الرمل و ُ‬
‫ُّ‬
‫قصيدة صحرة‪ ،‬قصة بيزنطة تمر سائح ًة بين خيام البداوة‪ ،‬تزرع النخل لتعبر صوب‬
‫السماء‪ ،‬وحين ترى الفرات تهز نخيل الغيم وتنوح مع ألم الحمام على رقة باقية‪" :‬سرحنا‬
‫َرز ساحلنا في الخيام‪ ،‬سما الطير‬
‫مام‪ ،‬نما أ ُ‬‫هناك‪ ،‬زرعنا الدوالي سك اًر وقيَّل فينا الغ ُ‬
‫َ‬
‫يرفع أرضاً ويبني السماء‪ ،‬نبتنا على الرمل تم اًر ومنغا ورحل َة صيف بو ِ‬
‫جه الشتاء‪ ،‬يقول‬ ‫َ‬
‫العناء‪".‬‬

‫‪168‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الدعاء ال ّثاني‪:‬‬
‫ُ‬
‫عيدة غرَنة ِهند خزَنة‬
‫‪َ ...‬‬
‫سعدة كحَلة‬
‫مرَيم بخور ْ‬
‫نجمة‬
‫تفاحة َ‬
‫ز َيدة ُبستان َ‬
‫عدلة ‪...‬‬
‫ندجوما ْ‬
‫َ‬ ‫نو ار ستَّة‬

‫وهج في رائحة البخور‬


‫اح بعيدًا َّ‬
‫اح‪ ،‬ر َ‬
‫َي مكان ليس فيها استر َ‬
‫يزر رقتي‪ ،‬أ ُّ‬
‫َي زمان لم ْ‬
‫أ ُّ‬
‫ِ‬
‫ضفاف الفرات‪ ،‬ينشر ولعه بسورية رقصاً‬ ‫مغرب ًا نحو سلوقس مشرقاً مع موكب الرشيد و‬
‫هار بظلمة الفجر‪،‬‬ ‫وقره ِب ِِ‬ ‫حر المكان ِب ِِ‬
‫قره‪َِّ ،‬‬ ‫مع ِنسوة أزعلن‬
‫بره‪ ،‬أضأ َن الن َ‬ ‫قتلن َّ‬
‫نسوة‪َ ،‬‬
‫ً‬
‫وهبن البتاني الزرقة في العتم فوه ًة من قمر‪ ،‬عزًة تمألُ األ َ‬
‫عين بالسطو ِح المكورة كأرغفة‬ ‫َ‬
‫ط في العين‪ ،‬تلفح الوجه كالس ِ‬
‫يف وكالرقة ترق في‬ ‫اكب تسق ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الخبز‪ ،‬اسطرالبات فلك وكو َ‬
‫اعيد ملونة في هبوب‬
‫الفلك‪ ،‬مو َ‬
‫مالمحها الرمان و ُ‬
‫ُ‬ ‫القلب‪ ،‬أَمام أُنوثة الهواء في واحات‬
‫الفراش قادماً من حران‪.‬‬

‫مع ويجمعنا في‬


‫يهدهدنا‪ ،‬يبل ُل فينا حقول والدتنا بالد ِ‬
‫ُ‬ ‫ات يخلِفنا لو تمنينا‪،‬‬
‫حوض فر َ‬
‫ُ‬
‫يديها‪ ،‬فتسكبنا ونكرج كالحجال على ملقى دروب الدم الذي في نبت قلبها‪ ،‬فكيف‬
‫َنت سعفة تلهج بالسحاب‪ِ ،‬‬ ‫كلهم يعشقون الظالل وأ ِ‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫أنت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ات‪ ،‬يا باشق الحر‪ُ ،‬‬‫نفترق؟ فر ُ‬
‫ين من رمل‪ ،‬أنت ِجمال جميلة ونوق أنيقة ترعى وضو َح الكثيب‬
‫متكئان مثل شيخ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نهدان‬
‫أحمر على شفاه الشجر‪ ،‬املئي جسدي بغالل الر ِ‬
‫مل والماء‪:‬‬

‫ولتكن هذي الخيام الخضر‬


‫ْ‬ ‫"ولتكن هذي الرمال الزرق حباتي ودمعي في حقولك‪،‬‬
‫أشجاري ودربي في سهولك‪ ،‬وليكن حبي ِ‬
‫لك يا ربذتي السمراء قطعاناً من الواحات‬ ‫ْ‬
‫القطعان ترعى َمع فصولِك!‬
‫ِ‬ ‫ُكثباناً من‬

‫‪169‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نساء في ربيع العمر‬


‫الشعر والصح ار بالداً أشتهي فيها بالدي‪ ،‬أو ً‬
‫َ‬ ‫هل دوائي أن أُحب‬
‫ِ‬
‫الجياد‪ ،‬أو بالداً لم تُهجر أهَلها في كل واد من‬ ‫الصهيل الص َبر في َغ ِ‬
‫مر‬ ‫يسرجن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سوادي؟‬

‫لو نخيلي لم يمزق ْ‬


‫سعَف ُه‪ ،‬الحتار روحي في طريق خر كاأليام في خوف البوادي!"‬

‫الدعاء َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫ُ‬
‫عبلة‬
‫يونة ْ‬
‫وضحة مز َ‬
‫َ‬ ‫‪...‬صبحية‬

‫نوفية خاتون جميَلة ز َينة‬

‫فطمة‬
‫عنود غ ازَلة َ‬
‫أَميرة ُ‬

‫هرة ‪...‬‬
‫شيخة هويَّة ز َ‬
‫ضحيَّة َ‬

‫يكن فرعوناً‪،‬‬
‫مصر والزمان لم ْ‬
‫َ‬ ‫ليس في‬
‫المكان َ‬
‫ُ‬ ‫اودت ُه‪،‬‬
‫ات ُفراتَه‪ ،‬وال هي التي ر ْ‬
‫ما راود فر ُ‬
‫سمعت صوتَ ُه القو ِاف ُل‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ضاع في رح ِم سورَّي َة‪،‬‬
‫َ‬ ‫وهو فرات "غزال يحمور"‬
‫هي الرق ُة َ‬
‫قادت ُه إلى بغداد يرعى‪ ،‬يهب ناياً تغني وعشب ًا ينادي بالندى‬ ‫ِ‬
‫دوحة الجبال‪ْ ،‬‬ ‫أخرجت ُه من‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫خصرها‪،‬‬ ‫دروب الحر ِ‬
‫ير رف سلوى على‬ ‫ُ‬ ‫اصطادته‬
‫ُ‬ ‫الخضرَة إلى ركعة من ر ْبيع‪ ،‬هو فري‬
‫يسير بإبراهيم إلى النيل‪ ،‬يرى في المنام طاووساً يراود عز العزيز‪،‬‬
‫يطير هالالً خصيباً ُ‬
‫ين إلى رغباتهن!‬
‫خلف وهن يصل َ‬
‫يخدش حياء األمومة في زليخاته من أَمام ومن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلسطين‪ ،‬وابس ْط‬
‫َ‬ ‫دياناتنا‪ ،‬خلف‬ ‫أنجب لغاتنا وامزج‬
‫ْ‬ ‫ات‪،‬‬
‫نسكب في نيلها يا فر ُ‬ ‫ُدعَّ َ‬
‫يتمها وا ْ‬
‫صدرَها بآثار أقدام الريح‬ ‫اإلله سبأ‪ ،‬أَلم نشرْح لك‬ ‫ِ‬
‫الجنوب ِ‬ ‫ِ‬
‫باتجاه‬ ‫َرض النبوِة‬
‫مضارب أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نبن على ِ‬
‫ظهرها كعب ًة حج اًر‬ ‫كهوف الوحي وأعشاش الحمام وبيوت العنكبوت‪ ،‬ألم ِ‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫لهجاتها وكثبا َن وه ِجها وأعو ِاد مسك شعابها؟ أَلم‬
‫ِ‬ ‫ش‬
‫من حجيج وماء؟ ألم نسألك أن تقر َ‬

‫‪171‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اضها‪ ،‬يوم اندرى عشب الجزيرِة تحت قطعانها واعتلى‬ ‫امك على سمرِة أَحو ِ‬
‫تسرح بأَي ِ‬
‫َ‬
‫بطون المياه فوق حمرة أفخاذها أمام عيون أفريقيا الحمراء؟‬

‫ات األعناق مزنرة‬


‫رمل؟ ألم َتر يا فر ُ‬
‫مياهك يا ُ‬
‫َ‬ ‫تركت عري الطغاة يسبح في‬
‫َ‬ ‫لماذا‬
‫رقصت مع نساء حسبة‬‫َ‬ ‫فيك وتقتل الماء بالرصاص؟ كيف‬
‫بالبنادق تفتك بالنهر َ‬
‫ظالل نخل ألحالم خالفة‬
‫َ‬ ‫حاجبيك‬
‫َ‬ ‫انفرش رم ُل‬
‫َ‬ ‫يغتصبن خنساواتك الحسيبات‪ ،‬وكيف‬‫َ‬
‫العتم‬ ‫ما رآها الوليد أو الرشيد ولم تحلم بها قرطبة؟ أين نام سالم العجيلي ساعة احترق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ايات سواد على ممرات السماء إلى سورية؟ إلى‬
‫طغت ر ُ‬
‫ْ‬ ‫وسرق النهار من الضوء ويوم‬
‫ُ‬
‫ات إلى طين دار أبيها؟ متى سنلتقي يا فرات‪،‬‬
‫طه‪ ،‬متى ستعود فر ُ‬
‫متحف َ‬
‫ُ‬ ‫أين ارتقى‬
‫مهر ِك‪ :‬عقد من ثمارالتمر لعنقك وكثبان من ريح الشمس لصدرك ودمع عرقه‬
‫وطن ُ‬
‫ِ‬
‫لشفتيك؟‬ ‫الوجد على شفتي‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫َحسن ِإلينا‬
‫صب الهوى آهات بطم أسعفت واحاتنا‪ ،‬أَ ْ‬
‫رسل‬ ‫َّ‬ ‫حسننا كفراتنا‪،‬‬
‫َ‬ ‫"يا رملنا أ ْ‬
‫النساء خصوب َة اإلبحار في‬
‫َ‬ ‫ين مودة تسقي‬
‫كيوسف صابر َ‬
‫َ‬ ‫جمال زليخة فينا وخلْفنا‬
‫َ‬
‫شآم العين قرتها‪ ،‬وأسعدنا بدر‬
‫أجسادنا‪ ،‬يا رملنا رقق ثياب فراتنا بالماء راودها بأمنية‪ُ ،‬‬
‫وتليدها‪".‬‬
‫وليدها َ‬
‫في تنهد نهدها الظمآن‪ ،‬أنعم بالسالم َ‬

‫للرب لم يلد وخّلف لي حبيبي" دار التوحيدي‪،‬‬


‫لنص منشور في ديواني "الحمد ّ‬‫*(إعادة ترتيب ّ‬
‫الرقة‬
‫األصلي في ّ‬ ‫النص‬
‫وتناص يحتويه‪ ،‬رغم انفصال بعض مضامينه‪ .‬نشأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حمص ‪."0222‬‬
‫ّ‬
‫تسعينيات القرن الماضي ويحمل نفس العنوان)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وحلب بدايات‬

‫‪171‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بورتريهات الموت والذاكرة‪..‬‬

‫آرام‬

‫شاعر سوري من مواليد ‪ ،9121‬صدرت له مجموعتان شعريتان‪:‬‬

‫مدارات المكان والتحول‪ ،‬وهلوسات لموائد العقل‪.‬‬

‫آرام‬

‫مشينا في سراب الطريق األنيق‪.‬‬

‫بأكثر من ذلك‬
‫نحلم َ‬
‫لم نكن ُ‬
‫أن يصير لصوتنا سماء وذاكرة‪.‬‬

‫مشينا في وهج البياض الخفيف‬

‫خلف كوكب المالئكة وكدنا أن نصل‬

‫لوال أن بقع َة دم نزفت في وجوهنا‬

‫ونبت بين خطواتنا شجر أحمر‪.‬‬

‫على حافة الخراب أب وابنه يجلسان‬

‫يحدق في جهة‬
‫ُ‬ ‫كل‬

‫على حافة المكان‬

‫الذي زلزلته العاصفة‪.‬‬

‫طفل يغطي وجهه الدم‬

‫يشق الغبار الذي في كل مكان‬


‫صراخه ُ‬
‫‪172‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تتهدم نبوءات‬
‫ُ‬ ‫في عينيه‬

‫من يستطيع أن يوقف هذا األلم‬

‫يصرُخ ثم يصرُخ‬

‫الموت‬
‫ُ‬ ‫تجف في حنجرته‬
‫إلى أن ير َ‬
‫ط مضرجاً بد ِم األلوهة‪.‬‬
‫ثم يسق ُ‬

‫الشهداء أكثر من أن تصورهم الكامي ار‬

‫ال‪:‬‬
‫يصرُخ شاب مذهو ً‬

‫كيف أصور كل هؤالء الموتى‬

‫آالف اللقطات‪.‬‬
‫تتكسر ُ‬
‫ُ‬ ‫في دمي‬

‫كيف أوثق ح اررَة هذا الدم‬

‫ينتفض في صورة‬
‫ُ‬ ‫كيف أثب ُت جسداً‬

‫ويطلق حشرجته األخيرة‬


‫ُ‬
‫تدفن طفلة وجهها بين ركبتيها‬
‫ُ‬
‫وخلفها بيت تهدم منذ قليل‬

‫أمام المنزل الخراب‬

‫على حجر نجا مصادف ًة من العاصفة‪.‬‬

‫طفل في حالة انتظار‬


‫يجلس ُ‬
‫ُ‬
‫ينتظر حضناً يبكي فيه‬
‫ُ‬
‫ويطلق صرخته المؤجلة‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫من فجوة في جدار‬

‫يطل مالكان صغيران‬

‫ينظران عالياً‬

‫إلى وحش معدني‬

‫أحال المدين َة إلى غبار‪.‬‬

‫طفل يبكي بين األنقاض‬

‫في عينيه كل تاريخ الشجر‪.‬‬

‫طفل ممدد على سرير بعينين مفتوحتين‬

‫الخوف‬
‫ُ‬ ‫تخلى عن جسده الذي أدماهُ‬
‫والتحق بالضوء الذي رآه‬

‫بعينين مفتوحتين‪.‬‬

‫األم المرضع ُة وطفلتها نائمتان‬

‫مثل وردتين اقتطفتا للتو‬

‫وعلى وجهيهما كل مالمح الحياة‪.‬‬

‫مثل ِ‬
‫باقة زهر‪ ،‬نامت حفن ُة من األطفال‬

‫العطر يمأل المكان‪.‬‬


‫ُ‬
‫لم نكن نحلم بأكثر من ذلك‬

‫أن يصير لصوتنا سماء وذاكرة‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كما لو أني أموت غداً‪..‬‬

‫كما لو أني أموت غدًا‬

‫أستعد لمالقاة حتفي‬


‫ُ‬

‫أغرز أظافري بأقرب سماء‬


‫ُ‬

‫توشك على السقوط‬


‫ُ‬

‫لكي يكون الهباء مدوياً‪.‬‬

‫يسير هذا الموت‬


‫عكس حياتي ُ‬

‫عكس حياتي البسيطة الهادئة‬

‫لوال مرور هذا الزلزال في مجرى تنفسي‪.‬‬

‫إذن ال بد من صخب‬

‫يليق بهذا المشهد الصامت‪.‬‬


‫ُ‬

‫ال بد من أن أوثق سيرة تلك المصادفة‬

‫التي قتلتني وقتلت غيري‪.‬‬

‫ال بد أن ألتقط صورًة تذكاري ًة لك أيها الموت‪.‬‬

‫ال بد أن أرتدي أكثر قصائدي أناق ًة‬

‫ألخرج في موعدي األخير معك‪.‬‬

‫ال بد أن أموت وأنا بكامل انتصاري‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كما لو أني أموت غدًا‬

‫أو اليوم أو بعد ثانية واحدة‪.‬‬

‫ال بد أن أكون وفياً ِ‬


‫لك أيتها األرض‬

‫التي احتضنت خطاي‬

‫وأال أفقد أخالق الجاذبية‪.‬‬

‫ًلعلي أجد حفنة تراب‬

‫أحلم دائماً شجرًة عالية‪.‬‬


‫كنت ُ‬‫أصير كما ُ‬
‫و ُ‬

‫أترك شمع ًة لمن سيأتون بعدي‬


‫َلعلي ُ‬

‫ويلعنون الظالم‪.‬‬

‫َلعلي أجد من يعتني بالورد والقصائد‬

‫في غيابي‬

‫ويشكر السماء على نعمة المطر‪.‬‬

‫سيغفر للطائر جناحيه‬


‫َلعلي أجد من ُ‬

‫وللعشب شغفه األخضر‪.‬‬

‫َلعلي أنام وأنا مطمئن القلب‬

‫بأن ثمة من سيواصل أحالمه‬

‫ويذهب لزيارة البحر‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫َلعل هذه البالد‬

‫أنزف دمي‬
‫إذا كان البد من أن َ‬

‫على معراج ضوئها‬

‫لكل فر ِ‬
‫اشات الكون‬ ‫أن تصبح مالذاً ِ‬
‫َ‬

‫وأال تسجن الخيول بعد اليوم‪.‬‬

‫كما لو أني أموت غداً‬

‫أعمل ليومي‬

‫وغدي‬

‫وأرمي هذه القصيدة‪.‬‬

‫في الحصار‪..‬‬

‫في الحصار تآخينا مع الموت‪ ،‬صار مثلنا‬

‫يعيش بالمصادفة ويموت بالمصادفة‪.‬‬


‫ُ‬

‫يأكل من عشب األرض‬


‫صار مثلنا ُ‬

‫ويشرب من مطر السماء‪.‬‬


‫ُ‬

‫في الحصار‬

‫سقطت السماء أكثر من مرة فوق ِ‬


‫رؤوسنا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫في كل مرة كان ثمة بيت يحترق‬

‫‪177‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حياة تتشرد‬

‫طفلة تموت‬

‫وتفقد عائلة من عصافي َر أحد أفرادها‪.‬‬

‫كيف أكتبك أيها الخراب‬

‫في دمي اآلن بيوت تتهدم‬

‫تنزف‬
‫دماء ُ‬

‫تهرب تحت الرصاص‬


‫ُ‬ ‫عائالت‬

‫يموت المستحيل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫سجون خلف أبوابها‬

‫يدي مبتورة‬

‫كيف ألوح لك أيها الضوء‬

‫لم يعد لي ثمة نافذة‬

‫أقف اآلن على شرفة هذا الخراب‪.‬‬

‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬
‫أظافر الموت‪.‬‬
‫َ‬ ‫أقص‬
‫أكتب‪ُّ ..‬‬
‫ال ُ‬
‫ِ‬
‫السقوط الحر‪.‬‬ ‫أكتب‪ ..‬أتدر ُب على‬
‫ال ُ‬

‫حبل مشنقتي‪.‬‬
‫أطيل َ‬
‫أحارب هذا الهباء و ُ‬
‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫أتلعثم فوق صخرِت َك السوداء أيها المعنى‪.‬‬


‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫‪178‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حول شجر الكالم‪.‬‬


‫أسمائي َ‬ ‫أكتب‪ ..‬أرم ُم‬
‫ال ُ‬
‫َ‬
‫أكتب‪ ..‬أرت ُب سر َير األبجدية‪.‬‬
‫ال ُ‬
‫ِ‬
‫أحشاء الفراغ‪.‬‬ ‫يح بين‬
‫أترجم ما تدون ُه الر ُ‬
‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫أكتب‪ ..‬أدعو المالئك َة لينغرسوا في طين هذه األرض‪.‬‬


‫ال ُ‬

‫أرقص فوق جمرِة الالجدوى‪.‬‬


‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬
‫أولد مع ِ‬
‫كل حرف وال ينتهي مخاضي‪.‬‬ ‫أموت و ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ال ُ‬

‫ِ‬
‫الغيب المالحة‪.‬‬ ‫أسفك حروفي فوق تر ِ‬
‫بة‬ ‫ال أكتب‪ِ ..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫ألغام الشك في جسد اليقين‪.‬‬


‫أكتب‪ ..‬أزرعُ َ‬
‫ال ُ‬

‫أكتب‪ ..‬أتدحرُج مع نرد التاريخ‪.‬‬


‫ال ُ‬

‫أكتب‪ُّ ..‬‬
‫أفك رموز العدم‪.‬‬ ‫ال ُ‬

‫أدفن جث َة البرق‪.‬‬
‫أكتب‪ُ ..‬‬
‫ال ُ‬

‫تب سرير األبجدية‪.‬‬


‫أكتب‪ ..‬أر ُّ‬
‫ال ُ‬

‫أتنفس تحت األنقاض‪.‬‬


‫أشهق و ُ‬
‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫أؤيد ثورة البنفسج‪.‬‬


‫أكتب‪ُ ..‬‬
‫ال ُ‬

‫أرفض رشوة الضباب‪.‬‬


‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫أكتب‪ ..‬أتهجى الصمت‪.‬‬


‫ال ُ‬

‫أفضح أسرار الغيب‪.‬‬


‫ُ‬ ‫أكتب‪..‬‬
‫ال ُ‬

‫‪179‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أقبع في زنزانة العبث‪.‬‬


‫أكتب‪ُ ..‬‬
‫ال ُ‬

‫ط بد ِم الكون‪.‬‬
‫أكتب‪ ..‬أتخب ُ‬
‫ال ُ‬

‫في األفق‪..‬‬

‫أقصد ما تبقى منه‬


‫ُ‬ ‫في األفق‪،‬‬

‫في هذا المدى المسيج بالخوف والرصاص‬

‫القتيل في منام القاتل‪ ،‬بتؤدة وصمت‬


‫ُ‬ ‫يعبر‬
‫ُ‬

‫الكلمات‪ ،‬دونما أثر للغبار والضحايا‪.‬‬


‫ُ‬ ‫األحالم و‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫تسق ُ‬

‫‪-2-‬‬

‫في األفق‪ ،‬في هذا الفضاء المطرز بعزلة الكون‬

‫وء من جهة إلى جهة‪ ،‬بال معنى أو هدف‪.‬‬


‫يرحل الض ُ‬
‫ُ‬

‫ننتظر الله‬
‫ُ‬ ‫لم يعد أحد يبكي أحداً‪ ،‬متنا جميعاً ونحن‬

‫أن يخصنا بوحي منتظر‪ ،‬أو‬

‫يرسل لنا طيو اًر تنقذنا من اليباس والعطش‪.‬‬


‫َ‬ ‫أن‬

‫‪-3-‬‬

‫أقصد ما تبقى منه‬


‫ُ‬ ‫في األفق‬

‫لم يعد ذلك الخواء الفارغ الممتلئ‬

‫تمريناً يومياً ألشياء الحواس‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لم يعد طقساً للتأمل الحر‪.‬‬

‫ومر ًآة نرى فيه هشاشة الحياة‬

‫وفكرة عبورنا الزائل‪ ،‬من الحياة إلى ما بعد الحياة‬

‫لم يعد كل ذلك‪.‬‬

‫يدير من خالله الموت‬


‫األفق اآلن‪ ،‬أصبح مكتباً ُ‬
‫ُ‬

‫أعماله الحربية‪.‬‬

‫‪-4-‬‬

‫تأتي الرصاص ُة من كل الجهات‬

‫وتتكسر وردة نبتت على السياج‪ ،‬وفراشة كانت تغني للربيع‬


‫ُ‬

‫وتموت‬
‫ُ‬ ‫تتحطم شمس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تنهار سماء‪ ،‬أو‬
‫ُ‬

‫عائلة من الزهر اجتمعت على تقشف زادها‪.‬‬

‫‪-5-‬‬

‫الموت شخصاً مهذباً‪ ،‬يطر ُق الباب‬


‫ُ‬ ‫لم يعد‬

‫ويستأذن قبل أن ينزل ضيفاً علينا‪.‬‬


‫ُ‬

‫يدخل من السقف أو النافذة‬


‫ُ‬ ‫صار‬

‫نخبز أمالنا الشاحبة‬


‫ونحن ُ‬
‫ُ‬ ‫أو يصطادنا أحياناً‪،‬‬

‫الكالم مريضاً‪ ،‬وتصحرت أيامنا‪.‬‬ ‫من ِ‬


‫شدة ما أصبح‬
‫ُ‬

‫‪181‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪-6-‬‬

‫المصاب بعمى األلوان‪ ،‬فقدنا نعمة البصر‬


‫ُ‬ ‫في األفق‪ ،‬في هذا المدى‬

‫وسرنا كالعميان‪ ،‬في جنازة الوردة‪.‬‬

‫رحيق عابر‪..‬‬

‫تنتحر على الشواطئ‪.‬‬ ‫ِ‬


‫األسماك أن‬ ‫من حق‬
‫َ‬
‫من حق الموج أن يغرق‪.‬‬

‫ضرب عن الصهيل‪.‬‬
‫من حق الخيول أن تُ َ‬
‫من حق الفر ِ‬
‫اشة أن تختار شمعتها وتحترق‪.‬‬

‫من حق الشجرِة أن تفكر بالسفر‪.‬‬

‫من حق الشمس أن تأخذ قيلولة على سرير الغيم‪.‬‬

‫تحلم بجناحين‪ ،‬وتطير‪.‬‬ ‫ِ‬


‫من حق القصيدة أن َ‬
‫من حق الشاعر أن يكتب البرق كما هو‬

‫أو أن يكون ساعي بريد الضباب‪.‬‬

‫حلم‪..‬‬

‫أر ُيد أن أتغير‪.‬‬

‫أحلم أن أتغير‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪182‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال في حديقة عامة‬


‫أصبحت تمثا ً‬
‫ُ‬ ‫حتى لو‬

‫ِ‬
‫حديده التوت‪.‬‬ ‫ش على‬
‫أو سياجاً يعر ُ‬

‫صرت مظل ًة في يد مراهقة عابرة‬


‫ُ‬ ‫حتى لو‬

‫ات المدينة‪.‬‬
‫تدهسها قطار ُ‬
‫ُ‬ ‫أو سك َة حديد‬

‫الحر أو الصقيع‬
‫يطوقه ُ‬
‫ُ‬ ‫صرت عش حمامة‬
‫ُ‬ ‫حتى لو‬

‫أو حقيبة سفر أو ذيل طائرة‪.‬‬

‫صرت فراش ًة خذلها الضوء‬


‫ُ‬ ‫حتى لو‬

‫أو وردة يابسة في كتاب‬

‫أو باب حديقة‪.‬‬

‫أر ُيد أن أصبح أي شيء‬

‫ينسيني خراب هذه المدينة‪.‬‬

‫وحيد وبخير‪..‬‬
‫أنا ٌ‬
‫أنا وحيد وبخير‬

‫هادئ ومستريح‬

‫ِ‬
‫وعنك‬ ‫لي بيت بعيد عني‬

‫لي شرفة ينام على ِ‬


‫حافتها الحمام‬ ‫ُ‬
‫اعيدي‬ ‫ِ‬
‫لي معطفي ومظلتي ومو َ‬
‫مع السراب‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أسمع الموسيقا‬
‫ُ‬
‫أذهب إلى السينما‬
‫و ُ‬
‫البكاء أحياناً‪.‬‬
‫الغناء و َ‬
‫َ‬ ‫أحب‬
‫و ُ‬
‫ِ‬
‫بصحبة نفسي‪.‬‬ ‫أنا وحيد‬

‫ال شيء يدل ِ‬


‫عليك‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫نقصانك‬ ‫يدل على‬
‫شيء ُ‬
‫َ‬ ‫ال‬

‫ال النبي ُذ وال شموعُ المساء‬

‫تهطل كالمطر الخفيف‬


‫ُ‬ ‫يات التي‬
‫وال الذكر ُ‬

‫تكتبها بقايا ِعطركِ على ثيابي‬


‫القصائد التي ُ‬
‫ُ‬ ‫ال‬

‫ال األغاني التي تضرُبني كالبرق‬

‫ِ‬
‫ضحكتك الخجولة‬ ‫نصف‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫كاللؤلؤ في الليل‪.‬‬ ‫يلمع‬ ‫ِ‬
‫ال ضوء عينيك الذي ُ‬
‫ال شيء يدل ِ‬
‫عليك‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫نومك معلقاً في الخزانة‬ ‫قميص‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫يتجول في الممر‬
‫ُ‬ ‫ال صوتُ ِك‬

‫وال أحد يسأل ِ‬


‫عنك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ال ياسمين ُة الحي‬

‫وال قهوةُ الصباح‬

‫ِ‬
‫غيابك‪.‬‬ ‫تنقر خبز‬
‫العصافير التي ُ‬
‫ُ‬ ‫وال‬

‫‪184‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫السقوط من ُسَّرة الكون‬


‫ُّ‬
‫موسى رحوم عباس‬

‫روائي وشاعر وقاص سوري‪ ،‬دكتوراه في علم النفس السريري‪.‬‬

‫اآلن من ُس َّرة الكو ِن‬ ‫ِ‬


‫ط َ‬ ‫كأن َي أسق ُ‬

‫ض َّل طريقه‬
‫شظايا نيزك َ‬
‫ِ‬
‫أكاذيب الحكاية‬
‫في مدارات من الوه ِم و‬

‫ال َّ‬
‫الن ُار تأخذني إلى األعلى‬

‫وال ِ‬
‫أص ُل َّ‬
‫النهاية‬

‫ملح الكالم‬
‫واألساطير التي أحملها ُ‬
‫الرو ِح‬ ‫ِ‬
‫الوقت التي أدلُقها في فراغ ُّ‬ ‫عجينةُ‬
‫ِ‬
‫ضحك‬ ‫ِ‬
‫باألسمال من‬ ‫ثوبها المخرو َق‬
‫تق َ‬‫أر ُ‬
‫ِ‬
‫المساءات الحزينة‬

‫ربَّما أرفوه كيال عورة األيام تظهر َج ْهرًة‬

‫بين الحقيقة والمجاز‬

‫ط اآلن من ُس َّرة الكو ِن‬ ‫ِ‬


‫كأني أسق ُ‬

‫ضل طريقه‬
‫شظايا نيزك َّ‬

‫خرت نجوم‬ ‫يف َّ‬


‫كلما َّ‬ ‫الص ِ‬
‫في ليالي َّ‬

‫طويال من ضياء‬
‫ً‬ ‫طا‬
‫تركت في ذيلها خي ً‬

‫‪185‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ِ‬
‫المعطوب حزن‬ ‫ونما في قلبي‬

‫أن روحا‬ ‫ط َّ‬


‫النج ِم يعني َّ‬ ‫فسقو ُ‬

‫السماء‬
‫دت نحو َّ‬ ‫ِ‬
‫صع ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الخوف لنا‬ ‫يروين مي ارثًا من‬ ‫هكذا َّ‬
‫جداتنا‬
‫َ‬
‫في ليالي الجوِع والبرِد وأحالم العصافير‬

‫التي غادرت أعشاشها‬

‫رحال‬‫َّ‬ ‫لهن لعيون َّ‬


‫طاب َّ‬
‫هدها الت ُ‬ ‫يروين ما َ‬
‫َ‬
‫الهباء‬ ‫ِ‬
‫فنامت في مدارات َ‬
‫ْ‬ ‫من أرض إلى أرض؛‬

‫ط ُرق سالكة دوما‬ ‫نحن في َّ‬


‫الشرق لدينا ُ‬ ‫ُ‬
‫ترقب ِظَّلنا‬
‫فعين الله ُ‬
‫إلى األعلى‪ُ ،‬‬
‫ليطعن َخ َّد ِ‬
‫الليل‬ ‫ِ‬
‫األرض؛‬ ‫دمعنا في‬
‫َ‬ ‫وتحصي َ‬
‫سهم من ُدعاء‬

‫شبوحا" على َّبوابة الوقت‬


‫لت "م ً‬
‫وهأنذا ما ز ُ‬
‫ِ‬
‫"الفهرست" عن اسمي‬ ‫أفتش في‬
‫ُ‬
‫السفهاء‪ ،‬و ُّ‬
‫الضعفاء‬ ‫وفي "األعالم" في ُّ‬

‫السجناء‪ ،‬واللقطاء‬
‫والوضعاء‪ ،‬و ُّ‬

‫في باب المجانين‪ ،‬وفي فصل اليتامى‬

‫اف‬ ‫ِ‬
‫نبذته ُم األعر ُ‬
‫وكل من ُ‬
‫في ِ‬
‫قبائل قيس‪ ،‬أو ِ‬
‫بكر بن وائل‪ ،‬أو ربيع َة‬

‫‪186‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫توليدِه"‬
‫يسكي قد عاد إلى ِ‬
‫"المور ُّ‬

‫المنشور في المتن‬ ‫الخبر‬ ‫فلعل‬ ‫ِ‬


‫الفهرست أخرى؛ َّ‬ ‫أفتش في‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫امش‬ ‫ِ‬
‫تُكذ ُبه الهو ُ‬

‫لست ذاك!‬
‫ال‪َ ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫"الح َسرات" ُمْلكا‬


‫قمة َ‬‫ولست ذلك الباكي على َّ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬

‫الص ِ‬
‫فحات‬ ‫أفتش‪ ،‬أقلِ ُب َّ‬
‫زال‪ُ ،‬‬

‫اصل بين أيامي‬


‫نهر من فو َ‬
‫الهامش ًا‬
‫ُ‬ ‫المتن و‬
‫ُ‬ ‫يسيل‬
‫ُ‬
‫الفرات‬
‫وأيا ِم ُ‬

‫ط اآلن من ُس َّرة الكون‬ ‫ِ‬


‫كأن َي أسق ُ‬

‫ض َّل طريَقه‬
‫شظايا نيزك َ‬
‫َم ْن هذه؟‬ ‫‪-‬‬

‫كانت هي َّ‬
‫الزرقاء‬ ‫ربَّما ْ‬

‫تخبرني‪:‬‬‫ْ ِ‬
‫جاءت؛ ل َ‬ ‫اليمامة قد‬
‫زرقاء َ‬
‫ُ‬
‫األشجار تمشي"‬ ‫ِ‬
‫"إني أرى‬
‫َ‬
‫آوت إلى أغصانها‬
‫ير التي ْ‬ ‫وأنتم َّ‬
‫كالز ارز ِ‬
‫ُ‬
‫أشجارنا تمشي بال قدمين‪ ،‬يا زرقا ُء‬
‫ُ‬
‫الح ْوِر‬ ‫ِ‬
‫ونحن مازلنا نغني في ظالل َ‬
‫ُ‬

‫الغ َر ِب الفر ُّ‬


‫اتي طويال‬ ‫و َ‬
‫ِ‬
‫الحرف حبال‬ ‫نجمع من دموِع‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫ُ‬

‫‪187‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫زرقاء‬ ‫لعصافير المعاني َّ‬


‫تتدلى منه‪ ،‬يا‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫األشجار تمشي"‬ ‫ِ‬
‫"إني أرى‬
‫َ‬
‫للقاع‬ ‫ونحن مشدودون من ِ‬
‫أقدامنا ِ‬

‫نهوي‪ ،‬مثقلون بخوفنا‬

‫الماء يحملنا إلى األعلى‬


‫ُ‬ ‫ال‬

‫الرحيم‬ ‫ِ‬
‫الموت َّ‬ ‫وال أثقالنا توصلنا إلى‬

‫كأننا في ُفْل ِك هذا العال ِم المجنو ِن‬

‫مثل الحمولة‬
‫كأننا ُ‬
‫َّ‬
‫الزائدة‬

‫ِ‬
‫األعماق يوما‬ ‫البد يلقيها القراصنةُ إلى‬

‫فرحا ونص ار‬


‫شفاههم ً‬
‫َ‬ ‫يلعقو َن‬

‫يح‬ ‫لوعهم ِ‬
‫للر ِ‬ ‫ينشرون ُق َ‬
‫ِ‬
‫البحر تبكيهم‬ ‫وعروس‬ ‫الصواري‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تنتح ُب َّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بأبيات العتابا و"الهالهل"‬

‫األشجار تمشي"‬ ‫ِ‬


‫"إني أرى‬
‫َ‬
‫الصفر ِاء‬ ‫ِ‬
‫الكتب َّ‬ ‫سندفن رأسنا في‬
‫ُ‬ ‫حسنا‪،‬‬
‫ً‬

‫زرقاء!‬
‫ُ‬ ‫يا‬

‫ربما نطوي الخيام‪ ،‬ونهيم في ِ‬


‫تيه الكالم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪188‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫از‬ ‫َ‬ ‫ون ِس ُّ‬


‫ف من ِ‬
‫رمل الم َج ِ‬ ‫َ‬

‫الدمشقي على خيول من‬


‫َّ‬ ‫السيف‬
‫نمتشق َّ‬
‫ُ‬
‫َهَباء‬

‫ِ‬
‫األبطال في طاحو ِن حرب‬ ‫ألسنا جوقةَ‬

‫بل طو ِ‬
‫احين الهواء؟!‬

‫األشجار تمشي"‬ ‫ِ‬


‫"إني أرى‬
‫َ‬
‫األشجار"‬ ‫ِ‬
‫"إني أرى‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫"إني أرى‪"...‬‬

‫السويد آب ‪ /‬أيلول ‪.0200‬‬

‫الغرب‪ :‬نوع من األشجار من فصيلة الحور ينبت في جزائر نهر الفرات ويطلق عليه اسم "‬
‫‪َ 9‬‬
‫الحور الفراتي"‪.‬‬

‫‪ 0‬الهالهل‪ :‬هي الزغاريد في التعابير الفراتية‪ ،‬وفي الحزن تعني التسامي والفخر الممزوج‬
‫باألسى‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اللحظة البيضاء‬

‫عصام حقي‬

‫شاعر سوري مقيم في السويد‬

‫أذعنت للريح العتي ِة والهوى‬


‫ُ‬

‫وفضاء‬ ‫ومضيت صحبي زورق‬


‫ُ‬
‫ُ‬
‫ورحت‪...‬‬
‫ُ‬ ‫مجداف الرجوِع‬
‫َ‬ ‫ونسيت‬
‫ُ‬

‫الخرساء‬
‫ُ‬ ‫تغلي في دمي أنشودتي‬

‫سافرت أمساً أو غداً ال فر َق ‪...‬‬


‫ُ‬

‫األسماء‬
‫ُ‬ ‫ام و‬
‫ملت شكَلها األي ُ‬
‫أي أرض‪ُّ ،‬‬
‫كلها‬ ‫وقصدت أرضاً‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫اء‬ ‫ِ‬
‫غبت عنك ُهر ُ‬
‫عندي إذا ما ُ‬
‫عنك و ِ‬
‫أنت في قلبي‪....‬‬ ‫وبحثت ِ‬
‫ُ‬

‫الهوجاء‬ ‫وذاكرتي و ِ‬
‫أنت عواصفي‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫رسائل غيمة‬ ‫حتى ِ‬
‫لقيتك في‬

‫ماء‬ ‫ِ‬
‫تُنبي بهطل والشفاهُ ظ ُ‬
‫*‬

‫يزول جفا ُفها‬


‫َ‬ ‫لقاء ِك كي‬
‫هاتي َ‬
‫اء‬
‫وتعود من صحرائها الصحر ُ‬
‫َ‬
‫‪191‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جنون ِك‪ ،‬إنني أشتا ُق ُه‬


‫هاتي َ‬

‫اء‬ ‫بعض الجنو ِن َ‬


‫أباح ُه الشعر ُ‬ ‫ُ‬
‫مضت‬
‫ْ‬ ‫واسترجعي ذكرى نهارات‬

‫لقاء‬ ‫ِ‬
‫فخالصةُ الزمن الجميل ُ‬
‫*‬

‫ونقاء‬
‫ُ‬ ‫أرضي الجديدةُ دوحة‬

‫وسماء‬
‫ُ‬ ‫وبحيرة رقراقة‬

‫غفوت فبسمة ُرِسمت على‬


‫َ‬ ‫فإذا‬

‫ميساء‬
‫ُ‬ ‫الصباح وزهرة‬
‫ِ‬ ‫ثغر‬

‫صحوت فبلبل يشدو على‬


‫َ‬ ‫وإذا‬

‫حمقاء‬ ‫ِِ‬
‫قيثاره وفراشة‬
‫ُ‬
‫َّ‬
‫بينهن‪...‬‬ ‫والغيد تلهو والنوارس‬

‫وصفاء‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫فبينهن مودة‬

‫فهنا الحياةُ جنائن خالبة‬

‫وثغاء‬
‫ُ‬ ‫وسنابل مياسة‬

‫الصبح بعد غياِب ِه‬


‫ُ‬ ‫اح‬
‫وهنا استر َ‬
‫الحسناء‬
‫ُ‬ ‫إفطارها‬
‫َ‬ ‫وتناولت‬
‫ْ‬

‫البالبل ُبكرًة‬
‫ُ‬ ‫تثاءب ِت‬
‫وهنا َ‬
‫باء‬ ‫ِن ِ‬
‫ميس الغصو ظ ُ‬
‫مت َ‬‫وتعل ْ‬

‫‪191‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لست أدري أيُّها‬


‫والماء يجري‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫لقياك أم ذا الماء؟!‬ ‫يروي الظما‪،‬‬

‫بياض ِه‬
‫بعض ِ‬‫ِ‬ ‫بعض‬
‫الثلج ينسى َ‬
‫و ُ‬
‫شتاء‬ ‫ِ‬
‫يغيب عن الفصول ُ‬
‫كيال َ‬
‫والسحر فيها آية قد صاغها‬

‫هيفاء‬
‫ُ‬ ‫النسيم وريشة‬
‫ُ‬ ‫هذا‬

‫نبضنا‬
‫اقب َ‬
‫الحب بوصلة تر ُ‬
‫و ُّ‬

‫تشاء‬ ‫ِ‬
‫وتهندس الخطوات كيف ُ‬
‫ُ‬
‫شكل ‪...‬‬
‫الحب عاصفة تغير َ‬
‫و ُّ‬

‫اء‬ ‫ِ‬
‫كوكبنا كما تتغير األجو ُ‬
‫قيدِه وكأنه‬
‫الكل أسرى ِ‬
‫و ُّ‬

‫اء‬ ‫ِ‬
‫ماء ألجل بقائنا وهو ُ‬
‫بالحب رت ِ‬
‫بت النجوم بريَقها‬ ‫ِ‬

‫الورقاء‬
‫ُ‬ ‫مت بهديلِها‬
‫وترن ْ‬
‫ِ‬
‫ضفافها‬ ‫بين‬
‫ان َ‬‫وانسابت الغدر ُ‬
‫اء‬
‫أغصانها الخضر ُ‬
‫ُ‬ ‫وتمايلت‬
‫ْ‬

‫عبيرها‬
‫بيع َ‬
‫استنشقت رئةُ الر ِ‬
‫ْ‬ ‫و‬

‫وبهاء‬
‫ُ‬ ‫تناثر في الفضا‬
‫فشذاً َ‬
‫استيقظت من نومها ريحانة‬
‫ْ‬ ‫و‬

‫‪192‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫سماء‬
‫ُ‬ ‫الزكي‬
‫ِ‬ ‫لتفو َح بالعطر‬

‫األرض دون تململ‬


‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بالحب تجري‬

‫تضاء‬
‫ُ‬ ‫وتعل ُم األقمار كيف‬

‫الجمال جماَل ُه‬


‫ُ‬ ‫وبه قد ابتدأ‬

‫اء‬
‫وأنار دنيانا السنا الوض ُ‬
‫*‬

‫هي رحلة كانت‪ ،‬وكانت نغم ًة‬

‫اء‬
‫أوتارها العذر ُ‬
‫رقصت لها ُ‬
‫ْ‬

‫وينعش أنفساً‬
‫ُ‬ ‫هل ير ِجع الماضي‬

‫اء‬ ‫ِ‬
‫ود ْت بها وبحبها األرز ُ‬
‫أ َ‬
‫ياح ُه من جنِبنا‬
‫تهب ر ُ‬
‫ومتى ُّ‬

‫البيضاء؟!‬
‫ُ‬ ‫ومتى تعود اللحظ ُة‬

‫*‬

‫األحالم إن‪...‬‬
‫َ‬ ‫قولي متى‪ ،‬ال ترجئي‬

‫اء!‬
‫العميق سو ُ‬
‫َ‬ ‫الصمت والجرَح‬
‫َ‬

‫‪193‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مصلوب على باب الرقة‬


‫ٌ‬
‫أحمد رشاد‬

‫شاعر وكاتب ومترجم سوري‬

‫ِ‬
‫المناجل‬
‫بائع األحال ِم و‬
‫يأتيك باألخبار ُ‬
‫َ‬ ‫في بلدتي‬

‫ات البليخ والحطابات‬ ‫َّ‬


‫وسكار ُ‬
‫أن َّ‬
‫تهتز شعرة في شارب كريم‬ ‫شنق الطفول ُة دون ْ‬
‫وتُ ُ‬
‫القلب و ِ‬
‫الظل معاً‬ ‫انكسار ِ‬
‫ِ‬ ‫تدل على‬
‫فهنا سياف مخمور وبوصلة ُّ‬
‫ِ‬
‫خامسة الجهات‬ ‫وعلى‬

‫هنا ينام الوقت مقلوباً على ر ِ‬


‫أسه المرفوِع خفضاً بال وجد ومنتشياً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السور فوقها‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫ابتسمت سق َ‬
‫ْ‬ ‫إن‬
‫ْ‬
‫وطارت من أبراجها أشياء كثيرة‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫وسور البنات‬ ‫تشبه األقمار وحب ِ‬
‫الهال‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫*‬

‫ِ‬
‫األخبار‪ ،‬ونسيتها النشرةُ الجوي ُة‬ ‫أس نشر ِ‬
‫ات‬ ‫في بلدتي التي كانت على ر ِ‬

‫محطةُ تلفاز ُّ‬


‫تبث من مقهى عتيق‬

‫صاحباه قديس وسمسار‬

‫يتناوبان على ِ‬
‫صب قهوة‪ ،‬دلتُها قلبي‬

‫وفنجانها ياسمينة دمشقية‬


‫ُ‬
‫‪194‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بغداد في الشام‬
‫َ‬ ‫قطفها فراتي عاشق من شارِع‬

‫ِ‬
‫حانات بيروت‬ ‫وباعها في‬

‫ِ‬
‫لعشيقته خاتماً من ثلج وكفناً وخلخاالً‬ ‫ليشترى‬

‫ِ‬
‫الممزقة في شارِع الوادي‬ ‫ويسكر على صورتها‬
‫َ‬
‫بالسيف َّ‬
‫وحد الزنا "وأحاديث العشيات"‬

‫*‬

‫اسمه الحميدي‬
‫ُ‬ ‫في بلدتي مسجد‬

‫بقيت ِم ْن ُه قرميدة واحدة استعارها الحريري‬


‫ْ‬
‫ليكمل بيته الطيني المعتق بالرو ِح و ِ‬
‫الماء‬ ‫َ‬

‫تمد مئذنته رقبتَها عشقاً‬


‫مسجد ُ‬

‫ليكتُ َب الحسو ُن على هاللها " أم لإلنسان"‬

‫بناء ما تهدم مني على مقا ِم االشتياق‬


‫عيد َ‬‫وي ُ‬
‫ُ‬
‫منذورة ِ‬
‫أنت للموت‬

‫اء‬
‫الشمس طفل ًة شقر َ‬
‫ُ‬ ‫تطلع‬
‫َ‬ ‫مرصودة حتى‬

‫بترت سا ُقها صباح ِ‬


‫العيد‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫المحظيات‬ ‫السيد الوالي ِ‬
‫يوزعُ الحلوى على‬ ‫حين كان‬
‫ُ‬
‫فتبتسم‬
‫ُ‬ ‫ويهمس في أُذن سالومي‬
‫ُ‬
‫غداً ليلتك‪ ،‬فاليوم مشغول بعيد ميالدي‪ ،‬وسكر نبات‬

‫*‬

‫‪195‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بع دينار‬
‫نصف رجل مخصي بر ِ‬
‫ُ‬ ‫في بلدتي‬

‫اسمه عياض ثم فياض ثم مطر‬


‫ُ‬ ‫كان‬

‫ولربما صار جون أو "أبو الدعاس السفاح"‬

‫الطابور حامال قرب ًة من ورق‪ ،‬وسيفاً من خشب‬


‫ِ‬ ‫أول‬
‫يقف َ‬
‫ُ‬
‫وخنج اًر من طين‬

‫المقابر واالنتصار ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫يتفقد ذكورَة العابرين إلى‬
‫َ‬
‫حاملين معهم ماتبقى من ِ‬
‫أنوثة العشيرِة في سلة من جمر‬

‫يح عند أطرافها‬


‫هبت الر ُ‬
‫ْ‬

‫أول الكلمات‬
‫فتساقط ْت من أوداجه ُ‬
‫*‬

‫في بلدتي مريد بهلول يمشي على ِ‬


‫الماء عارياً من ِ‬
‫كل عيب‬ ‫ُ‬
‫يق وجده‬ ‫ِ‬
‫يسقي الممسوسين من كفه ر َ‬
‫ِ‬
‫المدينة‬ ‫ِ‬
‫دهاليز‬ ‫شيخه المغيب في‬ ‫ويرثي‬
‫ُ‬
‫األرض ُعك ُازها‬
‫َ‬ ‫يدق‬
‫مرت به عجوز ُّ‬
‫إن ًّ‬
‫ْ‬

‫شعر رأسه طرب ًا‬


‫وقف ُ‬
‫َ‬

‫كل ما فيه احتراماُ‬


‫انتصب ُّ‬
‫َ‬ ‫و‬

‫تعدد االنتماءات‬
‫مزَقها ُ‬
‫ليؤدي التحي َة لراية َ‬

‫*‬

‫في بلدتي سوق طويل‬

‫‪196‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ِ‬
‫الجاحظ‬ ‫ِ‬
‫حديقة‬ ‫تالصقت أبو ُابه كعاشقين في‬
‫ْ‬

‫الصاج مجان ًا‬


‫ِ‬ ‫وخبز‬
‫الملح َ‬
‫َ‬ ‫سوق ُيقدم‬

‫ِ‬
‫الشرفات بال مواعيد‬ ‫لتخونه قوافل الشحاذين والعابرين من ِ‬
‫تحت‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬

‫وحليب النو ِق َ‬
‫أسود الوجه من خثرِة الحياء‬ ‫ُ‬
‫الحرمل‬
‫َ‬ ‫الحلم و‬
‫َ‬ ‫تبيع‬
‫وعند مدخله الغربي غجرية ُ‬
‫وقف أو َل الطابور‬ ‫َّ‬
‫تزوجن من ذاك الذي َ‬ ‫لنسوة‬

‫وتحتها وسادة حشوها تمائم وحصى وسيل من حكايا الليل‬


‫ً‬
‫*‬

‫غفوت‬
‫ُ‬ ‫كان عذباً قد اختفى حين‬
‫في بلدتي نهر َ‬
‫يسير في ِ‬
‫كل البوادي‬ ‫ُ‬
‫ضفاف ِ‬
‫النيل والدانوب‬ ‫ِ‬ ‫العطاش على‬ ‫ويسقي‬
‫َ‬

‫الصخر والشيح‬
‫الرمل و‬ ‫وأهلوه على ِ‬
‫الشط يلعقون‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫ويغسلو َ اآلن ع ْن َد الضفة األخرى َ‬
‫أقدام الغزاة‬

‫*‬

‫في بلدتي رقتان‬

‫الرشيد ثُ َّم بكى‬


‫ُ‬ ‫واحدة شيعها‬

‫يضحك منتص اًر‬


‫ُ‬ ‫جعفر البرمكي‬
‫ُ‬ ‫وظل‬
‫َّ‬
‫تبحث عن صورِتها ِ‬
‫وسط اللهب‬ ‫وأخرى‬
‫ُ ْ‬
‫وطفل صغير جميل بال ذراعين يحبو على قلبي‬

‫‪197‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أشالئه عبث ًا‬


‫ُ‬ ‫جمع‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الرماد سيدةُ البالد‬ ‫كي تقوم من ِ‬
‫تحت‬ ‫َ‬
‫*‬

‫الشيخ األخضر‬
‫كان عمار‪ ،‬وأويس‪ ،‬ووابصةُ‪ ،‬و ُ‬
‫في بلدتي َ‬
‫ِ‬
‫اإلنقاذ‬ ‫ِ‬
‫جيش‬ ‫والعجيلي قادماً من‬

‫يفرش الروح كي ينام المغمورون‬

‫ومال الحضرِة‬
‫ُ‬
‫حارس الماعز‬
‫َ‬ ‫يرسل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الحجر‬ ‫وإبراهيم الخليل في ِ‬
‫غدير‬ ‫ُ‬
‫الطيب والبازيار الجميل في حارِة البدو‬
‫َ‬ ‫ليبحث عن سعدو ِن‬

‫الن ِ‬
‫عاس وبرِج عليا وأرجوحة من تمر وتوت‬ ‫ِ‬
‫فيغفو على أرغفة ُ‬

‫*‬

‫اآلن فقط‬
‫في بلدتي َ‬
‫نبحث عن تفاصيلنا‪ ،‬عن وجوهنا ِ‬
‫تحت الركا ِم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أنت وأنا‪،‬‬

‫ِ‬
‫العاهات‬
‫في زمن األوها ِم و‬

‫عاش‬
‫مات من َ‬
‫في بلدتي ْ‬

‫مات‬
‫وعاش من ْ‬
‫َ‬

‫*‬

‫في بلدتي‬

‫فح جوز الهباري ُ‬


‫وقلت ها‪ ..‬وين‬ ‫ط ْ‬‫ُ‬

‫‪198‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وترانا لشوفة الحلوين هاوين‬

‫أال يا قلبي الحزين شبيك هاون‬

‫على الزينين بديار األجناب‪!..‬‬

‫لوحة للفنان أيمن ناصر‬

‫‪199‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هديل على مقام النوى‬

‫فوزية المرعي‬

‫ِ‬
‫مؤسسة أول صالون أدبي في الرقة‪.‬‬
‫شاعرة وروائية سورية‪ّ ،‬‬

‫كأنك‪ :‬قد جلست على وه ــدة الب ــوح وحي ـ ـ ـ ــداً‬

‫تقشر جسد الخطيئة وتعري الروح عن آثامها ‪..‬‬

‫والغيم الغسقي يتهاشل مط اًر أحمـ ـ ـ ـ ـ ــر‬

‫فتذوي ورود آمالك‪ ،‬وتصو ُح أغصان عهودك ‪..‬‬

‫عيناك تتواشالن هتلى بدموع النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدم‬

‫رداء‬
‫تغزل من وشائع الغـروب ً‬
‫ُ‬

‫لجسـد قصائدك المارقة عن نقاط حروفهـ ــا ‪..‬‬

‫وتهيم على شرفة الليل كفراشة‪ ،‬ضلت ضياء فتيلها ‪..‬‬

‫وحدك كنت‪ ..‬ال أحد يقبس من موقد بوحك جمرًة‬

‫لسعار األلم الالهب في األحش ـ ـ ــاء ‪..‬‬

‫قدماك تنتعالن الصمت في ترنحها‪ ،‬وأنت تسعـى‬

‫بين صفا التـوق‪ ،‬ومروى الوله الهائم بالحكايات‬

‫الوسـنى على زنـد االنتظ ـ ـ ــار ‪..‬‬

‫والري ـ ــح غادرت المكـ ـ ــان ‪..‬‬

‫ال نسمـة من صبـا تداعب وجه مرآتك‬

‫‪211‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قذى تراكم على عيون رؤاك ‪..‬‬


‫لتزيل ً‬
‫وال َدبور تتلصص من شقوق عتمتك الثملى باآلالم ‪..‬‬

‫وحدها النجمة أماطت خمارها وتمطت‪ ،‬تُوارب سجوف الظالم‬

‫وتسدل خيوط ضيائها ليتسنـى لها قراءة ما سطرته على‬

‫صفحات الليل من ترانيم وج ــدك ‪..‬‬

‫أصغى إليك الصدى جافـ ـالً‪ :‬ياليتنى ‪ ..‬ياليتهـا ‪..‬‬

‫وتراتلت عن شفاه جوفك حكاية يزمزمها الولـ ــه قائال‪:‬‬

‫كنت وإياها نقطن في أرجاء حـي‪ ،‬تشابكت فيه أصابع الـعادات‬


‫ُ‬

‫واألعراف‪ ،‬جسـ ـ اًر نعدو عليه بال اكتراث‪ ،‬فلم تستوقفنا المسافات‬

‫يوماً لتسأل بأي منعطف سترسو خطانا‪..‬‬

‫وبت أرقبها كل يوم‪ ،‬وهي تترهدن في مشيتها كقطاة يجفلها‬

‫رفيف أجنحة الريح فتحث الخطو إلى مدرستها‪ ،‬ورح ـ ــت أتبعها بخطى وئيدة‪،‬‬
‫ً‬
‫فانبرى قلبي ريشةً يرسم قسماتها بكل ألوان الطيف‬

‫ويؤطرها لوحة مرصعة بجمان اللهفة‪ ،‬فتصدرت شرفة روحــي‬

‫أيقونة من تبر وطهر ال تريم ‪..‬‬

‫مضت السنون وأنا أتعوسج على دربها نخلة‪ ،‬تهذي عذوقها للريح‬

‫قصائد حب وهي ــام ‪..‬‬

‫تجاهلتني كثي اًر‪ ،‬لكنني لم أتوان عن مالحقتها حتى أضحي ـ ــت كظلـها‬

‫وبـت أقلِم من أغص ـ ــان روحي رماحاً ألقذفها بهـ ـ ـ ــا‬

‫‪211‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حتى وقعت بشباك صيدي كرئم عابث في فخ الحب ‪..‬‬

‫وبعد ألي تبسمت ‪ ..‬فرنقت حمائم روحي عن أغصانها وتوضأت‬

‫أوصالي بأمواه األمل ‪..‬‬

‫حكت‪ ..‬فارتوت شرايين ــي الغرثى من نطف لماها الالثغة بالفرح‪.‬‬


‫ض ْ‬ ‫التقيتها ثانية‪َ ،‬‬
‫وفي لقاء أخير بادرتها بطلب الزواج‪ ،‬وحين وافقت‪ ،‬ترامحت أفكاري كمهر جامح‪،‬‬
‫وهاأنا ذا أذرع مسافات القـرار‪ ،‬تتصحر أمامي سهوبها تارة‪ ،‬وأخرى تزهر باألمل‪..‬‬

‫ناجيت روحي الساهمة بألم‪ :‬من أين لي ألتوج رأس مليكتي بتاج يلهث بالماس‬
‫والذهب ومنجم حبي يعروه الخواء من ثروة تبددت بأصابع اإلهمال‪ ،‬وعدم التأهب‬
‫لمثـل هذه اللحظة والتحسـب لمد وجزر األيام؟‬

‫هنت روحي مطية للصديق والقريب والغريب‪ ،‬حتى حصلت على مال يسـد رمق‬
‫ر ُ‬
‫الحكايــة ‪ ..‬تزوجتها‪ ،‬وعشنا كنحلتين‪ ،‬نرتشف من تويجات السعادة رحـ ــيقها‪ ،‬ونذوب‬
‫في شهد الليالي قصائد عـز‪ ،‬علـ ــى العاذل اقتحـام مفرداتهـ ــا‪ ،‬وفـك طالسم رموزها ‪..‬‬

‫وجيب‪ :‬أنا لك ‪ ..‬وأنت لي وما نحن سوى‬


‫ُ‬ ‫ناجيتها والقلب يأسره‬

‫طائرين ينصهران في بوتقة الحب‪ ،‬وعلى تسابيح التوحد يورق‬

‫جسدينا بأرياش الرغبة لالنبعاث من جديد ‪..‬‬

‫حبيبتي ‪ ..‬لقد أثـقـلتني الديون وقد قطعت على نفسي وعداً أن أبني‬

‫لك قص اًر بين صبوات النـدى ‪ ..‬قص اًر يليق بحبك أبهى وأجمل من‬

‫عرش بلقيس ‪..‬‬

‫ال أريد أن أقول وداعاً‪ ،‬ألنني لن أغيب عنك ‪ ..‬عفواً بل ألقول‬

‫أنك لن تغيبي عني لحظة واحدة‪ ،‬وقد عقدت العزم على‬

‫‪212‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫السفر بعيداً‪ ،‬ال تيأسي إن طال الغياب ‪ ..‬فأنت لي وأنا لك‪،‬‬

‫مهما‬

‫نأت بنا المسافات‪ ..‬أليس كذلك؟‬

‫كأني رأيتها ساهمة ترنو إلى المجهول بعينين تراهمت رموش ــها‬

‫بالدمع‪ ،‬وفم ُسد ْت مساربه عن أي بوح‪ ،‬صخرة من وجوم ‪..‬‬

‫فانبجست عن مسامات صمتها عبارة تسللت بإيقاع نئيــم‪ :‬أمعقول ؟!‬

‫ضممتها إلى صدري طويال ‪ ..‬وعلى إيقاع الوداع والنشيج‪ ،‬أسعفتني مجامر روحي‬
‫الموهرة بجمر الوداع‪:‬‬

‫وقبلتني على خوف فماً لفـ ـ ــم"‬ ‫"قبلتها ودموعي مزج أدمعه ــا‬

‫قد ذقت ماء حياة من مقبلهـ ـ ــا لو صاب ترباً ألحيا سالف األمم‬

‫وتمسح الطل فوق الورد بالعنم"‪.‬‬ ‫ترنو إلي بعين الظبي مجهشــة‬

‫‪213‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫من قبل التاريخ‬

‫حسين جرود‬

‫كاتب وشاعر سوري؛ أصدر ثالث مجموعات شعرية‪.‬‬

‫الشارعُ سرداب فاخر‬

‫فارغ‪ ..‬بارد كثالجة‬

‫طع عظام‬ ‫ِ ِ‬
‫األرض ق ُ‬ ‫الناس على‬
‫و ُ‬
‫صراصير على ِ‬
‫وجه البشرة‬ ‫ُ‬
‫أورام في ِ‬
‫نفق السيل‬

‫وأغنية معادة ومنسية‬

‫وال معنى لها‬

‫على ِ‬
‫كل حال‬

‫*‬

‫ِ‬
‫الكذب‬ ‫ِ‬
‫أص ُل إلى ِ‬
‫مدن‬

‫سم األشياء‬
‫أفتح َّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بإسكاته‬ ‫وأستدعي قلبي‬

‫فلتسكت لغتي‬

‫العشر األثيرةُ لن أستعمَلها‬


‫ُ‬ ‫مفرداتي‬

‫الطرقات‬ ‫وسأسافر فيما ِ‬


‫تلقيه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪214‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أمامي‬

‫*‬

‫بجوع أزلي‬

‫أرقب صمتي‬
‫ُ‬
‫وجعي‬

‫ذاكرتي‬

‫تتوج ُس من قرار تافه‬


‫َّ‬

‫بتلك األشياء‬
‫شأنك َ‬
‫َ‬ ‫ما‬

‫اتركها و ِ‬
‫امض‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫الدرب وحيداً‬ ‫وعش في‬
‫ْ‬

‫كشهاب‬

‫*‬

‫اطلق صرختَ َك‬


‫ْ‬
‫ِ‬
‫وسو السهل‬

‫الكرةُ األرضي ُة بسيطة‬

‫لكن داخَل َك َّ‬


‫معقد‬ ‫َّ‬

‫أشرب شيئاً‬
‫أشارك و ُ‬
‫ُ‬
‫اقب من جديد‬
‫ثم أر ُ‬
‫َّ‬

‫البرد قديم وجديد‬


‫ُ‬

‫‪215‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قصة‪...‬‬
‫وحدها َّ‬
‫وعظامي َ‬

‫*‬

‫صوت (‪)2‬‬

‫علِمي صوتي بأن ينسى فمي‬

‫علِمي بي لي دمي‬

‫اليباب‬
‫ْ‬ ‫أرسليني في‬

‫الصرصار َّ‬
‫غنى‬ ‫اقتليني َّ‬
‫كلما‬
‫ُ‬
‫اجهلي لغ َة ِ‬
‫النمل‬

‫الذباب‬
‫ْ‬ ‫كل‬
‫ايقظي َّ‬

‫صوت (‪)1‬‬

‫اوغت صوتي في التضار ِ‬


‫يس‬ ‫ر ُ‬
‫ِ‬
‫الرؤوس‬ ‫وبكيت في ِ‬
‫بحر‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫سقطت قالعُ‬
‫ْ‬

‫المشتَهى‬
‫مات ُ‬
‫َ‬

‫وغدا الف ارغُ ِقرى نصوصي‬

‫صوت (‪)2‬‬

‫ِ‬
‫الحكايات‬ ‫عامت على جثَّتي ُّ‬
‫كل‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫أنت فمي ودمي‬

‫وبياض أبياتي‬
‫ُ‬

‫‪216‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ليكتبها‬
‫شعر ُ‬ ‫أمنحها ًا‬
‫أين ُ‬‫من َ‬
‫النبو ِ‬
‫ات‬ ‫كل َّ‬‫أسلبها َّ‬
‫أم كيف ُ‬
‫أعاتبها‬
‫ما لي ُ‬
‫كالنو ِم أرسلُها‬

‫التصقت‬
‫ْ‬ ‫اللعن ُة‬

‫في ِ‬
‫جلد آهاتي‬

‫صوت (‪)4‬‬

‫اب‬
‫لست من هذا الخر ْ‬
‫أنا ُ‬

‫ولدت بال فم‬


‫إني ُ‬
‫اب‬
‫وجعلت مرساتي السر ْ‬
‫ُ‬
‫نحو ِ‬
‫النار ُملًقى‬ ‫ورحلت َ‬
‫ُ‬
‫في أظافرها‬

‫الصحاب‬
‫ْ‬ ‫وناديت‬
‫ُ‬

‫*‬

‫المشاةُ يرسمو َن جيدًا‬

‫ِ‬
‫ويمثلون أدوارهم‬

‫إسدال الستار‬
‫َ‬ ‫تنتظر‬
‫ُ‬ ‫أنت‬
‫و َ‬

‫*‬

‫ال لغ َة لك‬

‫‪217‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اللغ ُة لهم‬

‫اللغات اللغات‬
‫و ُ‬
‫ِ‬
‫الكلمات اليومية وجدر ِ‬
‫ان الهياكل السميكة خلَق ْت َك أصماً‬ ‫ما بين ضياع في سنتيمتر ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬
‫غي ُة اللقيط‬
‫األسماء َّ‬
‫َ‬ ‫وعرفت َّ‬
‫بأن‬ ‫َ‬ ‫ورويت الماء‪...‬‬
‫َ‬

‫ومرمى األهداف‬

‫ِ‬
‫ورفض األنساق وإال ما معنى لغة الكلب البشري‬ ‫ِ‬
‫بحذف الكلمات‬ ‫ربما يبدأُ ُ‬
‫األمر‬
‫تختلف عن أي كلب حقيقي صحيح‬
‫ُ‬ ‫ولماذا‬

‫*‬

‫ِ‬
‫األشكال عراء‬ ‫كل‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫الكلمات هراء‬ ‫كل‬
‫ُّ‬

‫فلماذا نختار‬

‫األسماء‬
‫َ‬ ‫النار‬
‫ولماذا نعطي َ‬

‫وهي األولى واآلخرةُ‬


‫ِ‬
‫اإلنسان‬ ‫خالص‬
‫ُ‬ ‫وهي‬

‫ومعرك ُة الصورِة في ِ‬
‫وحدتها‬

‫ِ‬
‫التشظي‬ ‫مع‬

‫*‬

‫كوبي‬
‫ٌّ‬ ‫الكلمات عصير‬
‫ُ‬

‫رائح ُة سمك‬

‫‪218‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قلب موشوم‬

‫موسيقا الغرفة‬

‫ومال ُذ الغريب‬

‫*‬

‫الكلمات طراوةُ بال‬


‫ُ‬

‫أرض الصحراء‬
‫ُ‬
‫عيش أفقي‬

‫إنسان وال ذاكرة‬


‫َ‬ ‫ال‬

‫كل األسمال‬
‫ُّ‬

‫*‬

‫السم‬ ‫الكلمات براءتُنا ِ‬


‫غم َس ْت في ِ‬ ‫ُ‬
‫طقوس ِ‬
‫الليل‬ ‫ِ‬ ‫كل‬
‫ونادت َّ‬
‫ْ‬

‫اء أخرى‬
‫وعامت في صحر َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫اإلنس‬ ‫ِ‬
‫صمت‬ ‫كي تر َّتد على‬

‫ِ‬
‫الطرقات جنازة‬ ‫وتصبح في‬
‫َ‬
‫اآلفاق لديها‬
‫ُ‬ ‫تنسكب‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫رصاصة رحمة‬ ‫دو َن‬

‫*‬

‫الكلمات إذا ما ُنطَق ْت في السر‬


‫ُ‬

‫‪219‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الليل ليرسَلها‬ ‫َّ‬


‫تشظى ُ‬
‫ويعلِمنا نسقاً آخر‬

‫*‬

‫للسم‬
‫الكلمات المرصودةُ ِ‬
‫ُ‬

‫نشيد متقاطر‬

‫*‬

‫انتظرت أمواجاً أخرى‬


‫ْ‬ ‫الكلمات‬
‫ُ‬

‫تتكاثر‬
‫َ‬ ‫كي‬

‫تتكاثف‬
‫َ‬ ‫كي‬

‫كي َّ‬
‫تتشك َل‬

‫كي َّ‬
‫تتمد َد‬

‫كي ال تمضي‬

‫كي ال تغدو‪ ..‬حقيقة‬

‫*‬

‫الكلمات على األيا ِم إذا َّ‬


‫شد ْتها‬ ‫ُ‬
‫بلغ ْتها‬
‫أو َ‬

‫بلع ْتها‬
‫أو َ‬
‫أو ضرَب ْتها‬

‫ِ‬
‫للشيطان إمام‬ ‫كانت‬
‫ْ‬

‫‪211‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫*‬

‫ياح الصين‬
‫الكلمات ر ُ‬
‫ُ‬

‫المكسيكي‬
‫َّ‬ ‫الطفل‬
‫َ‬ ‫تنادي‬

‫بنهر ِ‬
‫النيل‬ ‫ليغتسل ِ‬
‫َ‬
‫ويعبر في ِ‬
‫مدن الرومان‬ ‫َ‬
‫ويظهر في ِ‬
‫اآلخر كنغر‬ ‫ُ‬
‫*‬

‫الكلمات َّ‬
‫تفش ْت في الليل‬ ‫ُ‬
‫ورو ْت متعتَه القصوى‬
‫َّ‬
‫وغابت إثر عز ِ‬
‫يمتها‬ ‫ْ َ‬
‫اإلنسان َّ‬
‫تقشر‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫لكن‬

‫*‬

‫تناديك‬
‫َ‬ ‫الكلمات اليوم‬
‫ُ‬

‫وتعرف َّأن َك دو َن االسم‬


‫ُ‬
‫بح ِ‬
‫ات األصوات‬ ‫وتحمل َّ‬
‫ُ‬
‫*‬

‫الكلمات بدايتُك الصغرى يا وطني‬


‫ُ‬

‫أقتلك‬
‫َ‬ ‫كي‬

‫أسير بال يوم ناقص‬


‫و ُ‬

‫‪211‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أزداد على دفعات‬


‫بل ُ‬
‫فاسمي‪ :‬الشوق‬

‫*‬

‫ِ‬
‫للموت‬ ‫الكلمات رسالتُها‬
‫ُ‬

‫المقتول طويالً‬
‫ُ‬ ‫بأني‬

‫وقليالً ما أحيا‬

‫ِ‬
‫طقس األرض‬ ‫في‬

‫إن جئت‬ ‫ِ‬


‫لكني أعرف صوتي يوماً ْ‬

‫*‬

‫الكلمات تر ُيد بأن تنساني‬


‫ُ‬

‫وأر ُيد بأن أحياها‬

‫وتر ُيد بأن تقتَلني‬

‫يتكرَر هذا اليوم‬


‫وأر ُيد بأن َّ‬

‫المعجز في الالشيء تراكمه‬


‫ُ‬ ‫ويبقى‬

‫*‬

‫الكلمات عمود ِ‬
‫العيد على بيتي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األسنان ِ‬
‫بفكي‬ ‫ِ‬ ‫وذاكرةُ‬
‫وخواء نهار ِ‬
‫ات الصيف‬ ‫ُ‬
‫وأقدامي في البرد‬

‫‪212‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أجلس ْتني في السرير‬


‫وفاكهة معطوبة َ‬
‫*‬

‫األشياء‬
‫َ‬ ‫تلك‬
‫سأجمع َ‬
‫ُ‬ ‫كيف‬

‫بكلم ْة‬

‫ولماذا ِ‬
‫أتق ُن َّ‬
‫فن العو ِم‬

‫أجهل َّ‬
‫فن القسم ْة‬ ‫و ُ‬
‫ِ‬
‫الوخز‬ ‫وهل األصداء إذا رغبت في‬

‫اسمه‬
‫ْ‬ ‫ستعطيني‬

‫*‬

‫المستعر المجنو ُن‬


‫ُ‬ ‫الطوفان‬
‫ُ‬ ‫وهل‬

‫ِ‬
‫طرقات حكايتنا‬ ‫على‬

‫ابن للموت‬

‫*‬

‫ما أجمل أن تكتب النصوص بعد االستمناء‬

‫لتصف الفراغ العالمي المقيم‬

‫من قبل التاريخ إلى عصر الذرة‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أغيث حزني بالصالة‪..‬‬

‫ناريمان حسن‬

‫شاعرة كردية سورية مقيمة في تركيا‪ ،‬من مواليد ‪ .9112‬لديها مجموعة شعرية‬
‫قيد الطباعة بعنوان‪" :‬أشياء َّ‬
‫يدخرها المرء لنفسه"‪.‬‬

‫األمر ليس غريب ًا‬

‫األمر ليس غريب ًا‬

‫ال تتجاوز الحياة سوى لمحة قصيرة‬

‫التقطتُها باألبيض واألسود‬

‫لطفل صغير‪..‬‬

‫يقول األطباء‪:‬‬

‫أن عمره لن يتجاوز عمر زهرة الزنبق‪.‬‬

‫يناظرني الغرباء بحيرة واسعة‬

‫يهرول أطفال هذا العالم إلى ذراعي مبتهجين‬

‫تمسح القطط حزنها بثيابي وتستكين‪..‬‬

‫اآلباء الحزانى الذين أصادفهم يومياً يمسدون أعمارهم كلها على رأسي‪...‬‬

‫الفقراء يفركون حسرتهم بدمائي‬

‫كل امرأة تبكي تريد اطمئناناً‬

‫يا إلهي؛‬

‫‪214‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫منذ متى أصبحت أماً لكل هذه الحسرات‪.‬‬

‫أمر هام سقط من يدي وأرتحل‪،‬‬

‫خساراتي دوماً‬

‫تكمن في الجوهر‬

‫الجوهر الهام الذي يمثل كينونتي‬

‫لم أبك يوماً‬

‫لفقداني أشخاصاً أو فرصاً‪ ،‬أو ًّأيا من البرقيات الهامة التي وصلتني وأنا منشغلة أو‬
‫ضائعة في مكان ما‪...‬‬

‫ولكني‪،‬‬

‫بكيتُني بشدة‪..‬‬

‫بكيت الشرخ الذي يتوسط خطواتي وكينونتي‪.‬‬


‫ُ‬

‫الكلمات كلها زائلة‬

‫الصوت الشجي الذي ينقر في صدر كينونتي سيستيقظ يوم ًا‬

‫ليقول لي وداعاً‪.‬‬

‫الشبح الغارق في أسطوانة غرامافون طويلة‬

‫يقول للحزن تحرر!‬

‫األصابع الهزيلة التي تنقر بخفة على وتر القلب يقول للحب استيقظ‪.‬‬

‫البكاء المتواصل لقلب أنهكه الجفاف يقول للمطر أرجوك؛‬

‫توقف‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أغيث حزني بالصالة‪..‬‬

‫ُيتهم قلبي البليد بغير البالدة‬

‫يتهم ببئر ترفعه‬

‫وهو هش‪ ،‬ومفترس‬

‫يتهم بأنه أحد أبطال هذا العالم الجديد‬

‫وهو مجرد حشرة!‬

‫حشرة باكية تزن داخل صدري‪.‬‬

‫أقول في بداية كل أعوامي‬

‫بأنني اآلن أكثر اتزاناً‬

‫وال حاجة لي للغرباء ليثبتوا أمنية جديدة ألجلي‬

‫تضاف إلى قائمة خيباتي الحقاً‬

‫أقول لنفسي أيض ًا‬

‫بأنني كل الغرباء‪ ،‬والمنافذ‪ ،‬واألصدقاء‬

‫وال أفضل مني‬

‫بتشييع سيرتي لمثواها األخير‪.‬‬

‫أُغيث حزني البليد بالصالة‬

‫أمد يدي المبتورة نحو المنافي البعيدة‬

‫‪216‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فما أشد حاجتنا‬

‫لقوة مجهولة تغيثنا‬

‫حين نوشك على االنطفاء‪.‬‬

‫يقتلنا الحزن‬

‫تلو اآلخر تزداد حصيلته بالتضخم‬


‫عام َ‬
‫الهياكل التي تتآكل فينا‬

‫الحراس الذين يسقطون في حروبهم الطفيفة من أعماقنا‬

‫الروائح التي نفتقدها‪ ،‬والوجوه التي تدفن برقة في دهاليزنا‬

‫والصغار‬

‫الذين نستأصل أطرافهم كسفاحي الحروب باإلجهاض‬

‫نحن أيضاً‬

‫صغار الحزن الذين تم إجهاضهم‪.‬‬

‫تخشبت عظامي من الوحدة‬

‫ما من أحد انتظرته وأتى‬

‫ما من أحد‬

‫تفقد شبح سترتي الصوفية‪ ،‬وما إذا كانت مظلتي مبللة‬

‫أم أن الحنين قد امتصها!‬

‫‪217‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أعرُف ِك مصياف‪..‬‬
‫ِ‬

‫محمد العبدو‬
‫شيم ّ‬
‫شاعرة سورية من مواليد مدينة مصياف ‪ ،0229‬تكتب الشعر ولها قصائد‬
‫منشورة‪.‬‬

‫تخرجين من َك ِ‬
‫هف أُسطورة مجهولة‬ ‫ُ َ‬
‫أسر ِ‬
‫نفسها‪..‬‬ ‫ِ‬
‫األرض من ِ‬ ‫اح‬ ‫ِ‬
‫لتُطلقي سر َ‬
‫اب‬
‫الغيم التر َ‬ ‫ِ‬
‫حيث ُيمازُج ُ‬
‫تَرَفعينها إلى ُ‬

‫حظي‪..‬‬
‫رمدي الل َّ‬
‫الس ُّ‬ ‫وي ِ‬
‫مازُج َّ‬‫ُ‬
‫لون ُه‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫طلوعه َ‬ ‫قبل‬
‫للفجر َ‬ ‫ين‬
‫تُعد َ‬
‫وجه الرياح‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بأشجار غابتك السرية َ‬ ‫طين‬
‫وتُ َمش َ‬
‫ات الالمرئي ِة‬
‫لِتَسوقيها بخفة إلى الممر ِ‬

‫ال األو ِل‬ ‫تنفِت ُح على ُّ‬


‫السؤ ِ‬ ‫التي َ‬

‫ُهناك‬

‫حيث تَقبع ِ‬
‫الحكم ُة‬ ‫ُ َُ‬
‫غموضها‬
‫َ‬ ‫األشياء‬
‫َ‬ ‫التي تُلِب ُس‬

‫الوجود بأزليِته‪..‬‬
‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬
‫وتُكاش ُ‬
‫*‬

‫ف أحزَان ِك‬ ‫أعرُف ِك مصياف و ِ‬


‫أعر ُ‬ ‫ِ‬

‫‪218‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جين قصيدتي دو َن أن أنتِب َه‬ ‫ِ ِ‬ ‫و ِ‬


‫ف أنك َتل َ‬
‫أعر ُ‬
‫بينني فيها إلى أن أرتوي‬
‫وتشر َ‬
‫َ‬
‫فأنا حين أكتب أَلقاني ِ‬
‫فيك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َصير ِك‪..‬‬ ‫ِ‬
‫وحين أَلقاني فيك أ ُ‬
‫َ‬
‫حيق‬ ‫ِ‬ ‫َعرُف ِك و ِ‬
‫أ ِ‬
‫مت الس َ‬
‫كيف أستأص ُل الص َ‬
‫ف َ‬ ‫أعر ُ‬
‫ِ‬
‫للمالئكة‬ ‫المشاع‬
‫ِ‬ ‫من جوِف ِك‬

‫منه‬
‫ألَستخرَج ُ‬
‫خبأ َْته السماء ِ‬
‫فيه من كال ِم األنبياء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما َّ ُ‬
‫وأُرِاقب كيف تنصهر أصواتنا ِ‬
‫فيه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لَِنكو َن ذاكرتَه‪..‬‬

‫*‬

‫ِ‬
‫طرقات ِك‬ ‫ُغنيات في‬ ‫ُّ‬
‫تمتد األ‬
‫ُ‬
‫فتصير النهائي ًة‪..‬‬
‫ُ‬
‫ين في طريقي‬
‫تَ ُمد َ‬
‫سبق بها ظلي‬
‫خطوات أ ُ‬
‫فيصير جسدي‬
‫ُ‬
‫ِظالً لنهر النهائي‬

‫ويصب في تلك األ ِ‬


‫ُغنيات الالنهائية‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫َي َنب ِع ُث‬
‫َ‬
‫*‬

‫‪219‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وهج األحال ِم‬ ‫تُهِيئين ِ‬


‫لعاشَق ِ‬
‫ين َ‬ ‫َ َ‬
‫ليل ِك الطويل‪..‬‬
‫ثُم تخلدين إلى ِ‬
‫َ‬
‫حرسين أبو َابنا من الن ِ‬
‫سيان‬ ‫َ‬ ‫تَ‬

‫نحن نسيناها‪..‬‬
‫ووجوهنا إذا ما ُ‬
‫َ‬ ‫أسماءنا‬
‫َ‬ ‫لِتَتذك َر‬

‫تُد ِربين اللغ َة على الع ِ‬


‫صف‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اعر مفتوحاً‪..‬‬ ‫ِ‬
‫لخيال الش ِ‬ ‫الخلفي‬ ‫الباب‬
‫َّ‬ ‫كين َ‬ ‫وتتر َ‬
‫ُ‬
‫*‬

‫ال يدخل الزمن ِ‬


‫إليك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فس ِه‪..‬‬
‫إال حين يخرج من ن ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لين عليه‪-‬‬
‫يحسب دقائَق ُه‪ -‬كيفما تُ ْم َ‬
‫ُ‬
‫عطرها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء َ‬
‫على الشرفات التي تُناو ُل الهو َ‬
‫سطوح ِك‬
‫ِ‬ ‫وء الممتد ِة على‬ ‫وعلى ِ‬
‫مناش ِر الض ِ‬

‫والتي تُوِسع األُفق ِ‬


‫بألف احتمال للحن جديد‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫*‬

‫الحب ِ‬
‫آتيك‬ ‫ِ‬ ‫عائدة من أقصى‬
‫ً‬
‫وقد َن َذ ْر ُت ِشعري ليد‬

‫ِ‬
‫شامات عنقي‬ ‫تُشاِب ُك عن غيب‬

‫تقول لي‬
‫ثم ُ‬
‫أحدثَ ْت شكالً لعالمة موسيقية‬
‫إنها قد َ‬

‫‪221‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال تُ َأُ‬
‫قر إال لثماً‪..‬‬

‫َجتلِيني‬
‫عائدة من أقصى ارتعادي‪ ،‬أ َ‬
‫ً‬

‫وقد َن َذ ْر ُت جسدي لشفاه‬

‫اعتصار ليلِ ِك وخل َ‬


‫ط ُه بدمي‪..‬‬ ‫َ‬ ‫تقن‬
‫تُ ُ‬
‫تعرف‬
‫ُ‬ ‫لشفاه‬

‫كيف تُ َهجي الماء بالن ِ‬


‫ار فو َق صدري‪،‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫وكيف تُؤِول ما تقول أنهما وجها ِ‬
‫حتفها‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ‬
‫إلى َقصيدتين‬

‫بينهما‬
‫يشق المساف َة َ‬
‫شربين ُّ‬
‫أو َم َ‬
‫المتَ َه ِدجة‪..‬‬ ‫ِ‬
‫سيل األنفاس ُ‬
‫ُ‬
‫*‬

‫شين في قلبي‬ ‫تُ ِ‬


‫وشو َ‬
‫ِ‬
‫أحيائ ِك‬ ‫بين‬
‫بينما أُحصي َ‬
‫كف جدي‪:‬‬
‫دتها ُّ‬ ‫ِ‬
‫األحجار التي عم ْ‬ ‫عدد‬
‫َ‬

‫عر؛‬ ‫ِ‬
‫"الش ُ‬
‫كل شعر م ِ‬
‫قفر‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫للح ِب َّ‬
‫مداً أو جز اًر‪..‬‬ ‫يكن ُ‬
‫ما لم ُ‬

‫األجساد؛‬
‫ُ‬
‫كل جسد م ِ‬
‫قفر‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬

‫‪221‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حاجت ِه‬
‫ِ‬ ‫ض عن‬ ‫ِ‬
‫ما لم َيف ْ‬
‫سماء راهن ًة‬
‫ً‬ ‫بفائض ِه‬
‫ِ‬ ‫وي َغ ِط‬
‫ُ‬
‫ْترتَ ِش ُح فو َق سرير‪..‬‬

‫كل جسد م ِ‬
‫قفر‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫يل إلى َنهارين‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ما لم ُيَنصْف ُه الل ُ‬
‫اإليمان؛‬
‫ُ‬
‫كل إيمان ِ‬
‫نافد‬ ‫ُّ‬
‫نفس ِه ِ‬
‫بضدِه‪..‬‬ ‫ما لم يبرِهن على ِ‬
‫َُ ْ‬
‫الل ِ‬
‫غة‬ ‫ِ‬
‫األشياء وشيئي َة ُّ‬ ‫ما لم َي ْغ ُز لغ َة‬

‫قبل أن تغزواه‪،‬‬

‫‪222‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق القصة‬

‫‪223‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أمي‬
‫جديلة ّ‬
‫أحمد خميس‬

‫روائي وقاص سوري مقيم في اليونان‬

‫قررت‬
‫ْ‬ ‫أنهى (ديميتري) نجار الموبيليا الجورجي تصميمه الثالث لمخطط المكتبة التي‬
‫زوجتي إهداءها لي بمناسبة عيد ميالدي التاسع والثالثين‪.‬‬

‫الطريف في هذه الهدية هو أنني من دفع إلى ديميتري مبلغ ‪ 2111‬يورو لقاء أتعابه‬
‫عثرت على‬
‫ُ‬ ‫رغم إصراري على (نهلة) بأني راض بمكتبتي؛ وسعيد بها السيما بعد أن‬
‫يعمل في إحدى الصحف‬
‫ُ‬ ‫صورة قديمة ألبي أرسلتها إلى (ياسر) صديقي الذي كان‬
‫رفع جودتها‪ ،‬وتكبيرها ووضعها في إطار نحاسي راق جداً‬
‫السويدية‪ ،‬حيث تمك َن من ِ‬
‫أفردت لها الطرف المقابل مباشرًة لروايتَ َّي االثنتين‪.‬‬
‫نت بها المكتبة‪ ،‬و ُ‬
‫زي ُ‬

‫افقت على الثالث‬ ‫ِ‬


‫فعلته السيدة نهلة أنها رفضت التصميمين األول والثاني‪ ،‬وو ْ‬
‫كل ما ْ‬
‫بدفع ضرائب امتناني وعرفاني‬
‫ظ ُّل ملزماً ِ‬ ‫ِ‬
‫أصبحت الهدية سارية المفعول‪ ،‬وسأ َ‬ ‫وبذلك‬
‫لها إلى السنة القادمة‪.‬‬

‫في الواقع ال أعلم السبب الذي دفعني لوضع صورة والدي قبالة روايتَي ربما ألني‬
‫َ‬
‫اء المهيبة‪ ،‬أو ألنني‬
‫أذكر مالمحه الخشن َة‪ ،‬وسحنته السمر َ‬
‫اشتقت إليه وأنا الذي بالكاد ُ‬
‫ُ‬
‫اسمينا على كتبي ومقاالتي‪.‬‬
‫أكتب‪ ،‬ويق أر َ‬
‫كنت واثقاً من أنه يراني حينما ُ‬
‫ُ‬
‫اختلقت‬ ‫ِ‬
‫لدرجة أنـي لطالما‬ ‫رحل باك اًر غريب حقاً‪ ،‬غريب‬
‫ُ‬ ‫إحساسي تجاه ذاك الرجل الذي َ‬
‫ابتكرت ماضياً وتاريخاً لم يكن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ذكريـات غير حقيقية معه‪،‬‬

‫مجاديف حياتنا وقواربنا دونهم تائهة ‪...‬‬


‫ُ‬ ‫اآلباء‬

‫‪224‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في الثالثة بعد ظهر األول من "حزيران" اليوم السابق ليو ِم مولدي؛ أجبرتني نهلة على‬
‫اصطحابها‪ ،‬وولدينا إلى مطعم "تابولي" القريب من بيتنا في "إستكهولم"‬

‫كانت على غير عادتها‪ ،‬مضطربة‪ ،‬قلقة‪ ،‬تشي تقاطيع وجهها‪ ،‬وردات فعلها بشيء لم‬
‫ْ‬
‫أتمكن من تخمينه البتة‪.‬‬

‫نحن هنا يا نهلة؟‬


‫_لم ُ‬
‫َ‬
‫المطاعم يا رجل!!‬
‫َ‬ ‫الناس‬
‫_ولماذا يقصد ُ‬
‫_لكي يأكلوا ‪..‬‬

‫أردفت‪:‬‬
‫أجبتُها و ُ‬

‫لكننا لم نعتد األكل في أوقات كهذه‪.‬‬

‫ِ‬
‫_استمتع يا حسام؛ استمتع؛ ألم تشتق روحك إلى أجواء عربية كهذه‪.‬‬

‫احت تتحدث عن التبولة‪ ،‬والمحاشي‪ ،‬والكبب التي يقدمها هذا المطعم اللبناني بال‬
‫ور ْ‬
‫مباالة زائفة ومصطنعة‪.‬‬

‫_نهلة أنت ِ‬
‫لست على ما يرام ‪ ..‬أكاد أجزم‪.‬‬

‫ترددت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ال – نهلة ال تجيد الكذب إنها ماهرة بصنع السعادة وإعداد األمل –‬
‫صمتت قلي ً‬
‫ْ‬
‫أشارت إلى ُمحمد ابننا األكبر أن يذهب‪ ،‬وأخاه إلى‬
‫بت كأس ماء على عجل‪ ،‬و ْ‬ ‫شر ْ‬
‫صالة األلعاب التابعة للمطعم‪.‬‬

‫أخذت نفساً عميقاً‪:‬‬


‫ْ‬ ‫قالت وقد‬
‫_حسام ‪ْ ..‬‬

‫دخلت (عمتي) والدتك المستشفى صباح اليوم وهي في حالة غير‬


‫ْ‬ ‫في الحقيقة لقد‬
‫مستقرة‪.‬‬

‫متى ماتت!! وكيف!! أجبتها بعزيمة مصارع في جولته األخيرة‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫إنها في المستشفى‪...‬‬

‫ماتت أمي يا نهلة!! كانت المرة األولى التي أرفع صوتي في وجهها‪ .‬وكأنني أقي‬
‫متى ْ‬
‫نفسي الطعنة العظمى‪ ،‬والمصيبة التي لن تضاهيها مصيبة أخرى‪.‬‬

‫قالت وغط ْت وجهها بكلتا يديها ‪..‬‬


‫ظهر اليوم‪ ،‬ظهر اليوم حسام‪ْ .‬‬

‫فجائع كهذه!‬
‫َ‬ ‫يستطيع الناس التعامل مع‬
‫ُ‬ ‫أعرف في الحقيقة كيف‬
‫ُ‬ ‫ال‬

‫الدمع وحده من يتكفل بحل مسائل معقدة إلى هذا الحد!‬


‫ُ‬ ‫هل‬

‫الصراخ!!‬

‫الركض في الشوارع كالمجانين!!‬

‫ماتت ببساطة‪،‬‬ ‫ِ‬


‫الخالئق تموت إال أمي‪ .‬لكنها ْ‬ ‫كل‬
‫كنت واثقاً من أن أمي لن تموت!! ُّ‬
‫ُ‬
‫غادرت كلها دفعة واحدة‪.‬‬
‫ْ‬

‫كنت أركض في الحياة ركضاً‪ ،‬أصارعُ‬


‫تتمحور حولها فقط‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫الروح التي كانت حياتي‬
‫الوقت لكي ترى نجاحاتي بأم عينها‪.‬‬

‫ِ‬
‫بيأس محارب خسر كل شيء‪.‬‬ ‫قلت‬
‫نعود إلى البيت‪ُ .‬‬
‫دعينا ُ‬

‫لست أعي‪.‬‬
‫عدنا ‪ ...‬مشياً أو بالسيارة‪ُ ،‬‬
‫عتدت إغالقه فور دخولي إلى مكتبي ومباشرتي الكتابة‪ .‬ثمة رسائل‬
‫فتحت هاتفي الذي ا ُ‬
‫ُ‬
‫وردت من إخوتي وأخواتي‪.‬‬
‫ْ‬ ‫صوتية‬

‫ست‬
‫رت دموعي‪ ،‬وتيب ْ‬ ‫وقفت على ِ‬
‫شفير صدمتي وذهولي‪ ،‬تحج ْ‬ ‫كانوا يبكون ‪ ...‬إال أنا‪ُ ،‬‬
‫شعرت بالبرد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عواطفي إال أنني‬

‫بل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أشعر ببرد مختلف عما ألفته ق ُ‬
‫ُ‬ ‫وطئت أقدامي ثلو َج هذه البالد‬
‫ْ‬ ‫للمرة األولى ُمذ‬
‫أحشائي ترتجف وقلبي‪ ،‬ظلمة دهماء تلف عالمي‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كانت نهلة بالقرب مني قابض ًة برفق على يدي‪ ،‬محاول ًة الصمود قدر استطاعتها كونها‬
‫تدرك أنها جسر َي الوحيد‪ ،‬وأول خطوط دفاعاتي في هذه البالد الشاحبة الكئيبة‪.‬‬

‫يبلل صحارى الروح فيمنح رمالها ً‬


‫ندى يعيد إلينا حياتنا‬ ‫ال بد أن نبكي يا حسام‪ ،‬الدمع ُ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬

‫ونظرت إلى مكتبتي الجديدة‪ ،‬يبدو أن (ديمتري) انتهى منها‬


‫ُ‬ ‫هززت رأسي ببالهة ‪..‬‬
‫ُ‬
‫علي‪ ،‬مألوفاً أكثر من أي‬
‫يكن تصميمها غريباً َّ‬
‫في الوقت الذي كنا فيه بالمطعم‪ .‬لم ْ‬
‫ال أعادني من حيث جئت‪.‬‬‫شيء آخر‪ ،‬جمي ً‬

‫بت‬
‫كان أبي ورغم التحديث الذي ط أر على المكتبة؛ في مكانه الذي وضعتُه فيه ‪ ..‬اقتر ُ‬
‫تمنيت لو أنه يمتلك القدرة على احتضاني‪ ،‬لو أنه يفعل ذلك اآلن فقط‪.‬‬
‫ُ‬ ‫منه‪،‬‬

‫فأت نهلة أضواء البيت كلها عدا ضوء أزرق خفيف قبالة أبي‪ ،‬صوت مرتعش ُ‬
‫رحت‬ ‫أط ْ‬
‫أسمعه من مكبر الصوت المدفون في الجدار المقابل للمكتبة‪.‬‬

‫رسالة أمي األخيرة ‪ ...‬كان صوتها دافئاً رقيقاً رغم السنين‪ ،‬شجياً كبوح العاشقات‪:‬‬

‫كبرت في غيابكم عدا شجرِة الزيزفون التي اقتلعوها من جذورها باألمس‬ ‫ِ‬
‫األشجار قد ُ‬ ‫"كل‬
‫ُّ‬
‫أصابت" أم جمال" تلك المسكينة التي لطالما أسقتكم من حليب‬
‫ْ‬ ‫في غارة أخطأتني و‬
‫النهر ال زال يجري يا حبيبي‪ ،‬وكعادته في الربيع‬ ‫بقرتها يوم كنتُم خر ِ‬
‫انق غضاضاً‪ ،‬و ُ‬
‫َ‬
‫الماء منق ُذها‪.‬‬ ‫كانت تعتقد َّ‬
‫أن‬ ‫السنابل التي ْ‬
‫َ‬ ‫ِق‬
‫فيغر ُ‬
‫يغزو كتفيه‪ُ ،‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫كالسنابل ‪ ...‬نغر ُق دائماً‪.‬‬ ‫نحن األمهات يا حسام‬
‫هكذا ُ‬
‫والطريق‪ِ ،‬آه منها تلك الطريق أتَ ْذ ُك ُرها!!‬

‫مص أقدامكم!!‬
‫كم قبلت ُخ َ‬
‫كم حرثتم حافتَيها!!‬

‫وركضتم عليها والمطر يغسلكم وأنتم تلعبون وتغنون ‪..‬‬

‫‪227‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"مطر مطر عاصي‬

‫الله يطول راسي‬

‫راسي بالمدينة‬

‫ياكل حبة تينة"‬

‫مشتاقة مثلي هاتيك الدروب‪ ،‬مشتاقة والشوق يثقبها فتنزف‪ ،‬تنزف كديسم جريح تحاصره‬
‫الثلوج‪.‬‬

‫أوه يا حسام‪ ،‬يا يمة ‪..‬‬

‫كم طويلة تلك الدروب!‬

‫طويلة تصل شرق األرض بغربها‪ ،‬هكذا هي الطرقات ال تمل وال تكل‪ ،‬لكنها بالنسبة‬
‫لي أقصر من تلك الشريطة الخضراء التي أحضرتها من مقام الشيخ "عيسى" وعقدتها‬
‫على عنقك؛ خشية عليك من الحسد‪.‬‬

‫بالمناسبة لم أعد أخاف عليكم عيون النسوة أبداً؛ ألن الحرب تالعبت جداً بنا وبمعايير‬
‫خوفنا‪.‬‬

‫قد تظنون يا ولدي أن كثي اًر من األشياء قد تغي ْ‬


‫رت‪.‬‬

‫نعم! صحيح‪ ،‬لقد تغير الكثير والكثير‪.‬‬

‫"مقبرة التل" ضاقت بموتاها‪ ،‬ولم تعد تحتمل زوا اًر ُج ُدداً‪.‬‬

‫كذلك مقبرة "الضيعة"‪ .‬لكن خالك أبا أحمد قد تبرع بجزء من أرضه المحاذية لها قبيل‬
‫وفاته‪ُ ،‬مفسحاً المجال لمزيد من األموات الذين راحت تتقيؤهم أرضهم‪.‬‬

‫بالد تنتهك عذرية شبابها وترسلهم إلى الجحيم بقوارب مطاطية لن تتوانى في رجم‬
‫شيوخها وصفع وجوههم العتيقة المتعبة‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ربما تنبأ خالك أنه لن يجد مترين يحتويانه‪ ،‬فأقدم على ذلك رحمه الله‪.‬‬

‫بني ‪...‬‬

‫ال أريد لكم أن تجزعوا في الغياب‪ ،‬وال أن تندموا على رحيلكم؛ فاألرض حتى األرض‬
‫ضاقت بموتاها هنا‪ ،‬غيومنا مثلنا بائسة‪ ،‬وشقائق النعمان في التلة التي لطالما كنتم‬
‫تلوذون بها مني إذا ما أغصبتموني لم تعد تنمو مذ وطئت سالسل الدبابات تربتها‪.‬‬

‫وركم آه من ُدوركم يا صغيري مهجورة‪ ،‬مهجورة حقاً‪ .‬لكنني لم أكن أراها مهجورة‬
‫ود ُ‬
‫ُ‬
‫يوماً‪.‬‬

‫ال وأراهن نفسي وأكسب‬


‫كنت أصنع من غيابكم أم ً‬
‫أراكم وأوالدكم‪ ،‬وزوجاتكم كل يوم‪ُ ،‬‬
‫الرهان‪.‬‬

‫ص ْحبك تلعبون الشدة وتدخنون الشيشة‪ ،‬يعلو‬‫هناك أنت على السطح كعادتك برفقة َ‬
‫صوتك الجميل على أصواتهم‪ ،‬تغضب‪ ،‬فتطردهم وتأتي إلي‪ ،‬تقبلني وتشتمهم ثم ال‬
‫تلبث أن تناديهم مرة أخرى‪ ،‬وغير بعيد عنك هناك أخوك وأطفاله يزرعون الفجل‬
‫والحشائش‪.‬‬

‫ترى أما زال يحبها؟!‬

‫أظن أن "األجانب أولئك الشقر الباهتين" ال يحبون الفجل‪ ،‬أليس كذلك يا حسام؟!‬

‫أتدري؟!‬

‫رت روحي بعيونكم كما ينبغي‪ ،‬ولم أُكحل جفوني برؤية شيب الشباب في‬ ‫ما ذخ ُ‬
‫المرَة‪،‬‬
‫العنين تلك الغرب َة ُ‬
‫َ‬ ‫كنت واثقة بأني في الصباح سألتقيكم‪ ،‬ستعودون‬
‫نواصيكم‪ُ ،‬‬
‫شحبت وجوهكم من الثلج والبرد‪ .‬وفي كل َمرة يخيب ظني‪ ،‬فأنتظر‬
‫ْ‬ ‫ستعودون وقد‬
‫الصباح التالي ليخيب ظني مرة أخرى‪.‬‬

‫حلت رحلتم‪.‬‬
‫ون ُ‬‫ربيتكم شب اًر بنذر وحينما اشتددتم َ‬

‫‪229‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوه يا كبدي ‪..‬‬

‫أعرف أنك ال تحب حديث العجائز‪ ،‬لكنني سأخبرك على عجل بأن من بقيت من‬
‫يسألنني عنك بين الحين واآلخر وفي عيونهن دمع يحرق كماء النار‬
‫َ‬ ‫حبيباتك هنا‬
‫يهن صو اًر لك‬
‫أرسلت لي ثمنه السنة الماضية‪ ،‬أر ُ‬
‫َ‬ ‫عظامي‪ ،‬فأسارع إلى الهاتف الذي‬
‫أقسم لهن في كل مرة بأنك تضاهي تلكم‬
‫وخلفك مبان شاهقات تناطح السحاب لكنني ُ‬
‫الناطحات طوال‪ ،‬يضحكن في البداية وسرعان ما يبكين بعدها‪.‬‬

‫على فكرة سأخبرك س اًر يا يما‪ ،‬س اًر يعلمه الجميع هنا حولي‪.‬‬

‫أطبقت أجفاني أنت وكل أخوتك‪ ،‬ليلي مزدحم بكم مذ تجاوزتموها‬


‫ُ‬ ‫كنت تزورني كلما‬
‫لقد َ‬
‫تلك الحدود‪.‬‬

‫يحببنك أيضاً‬
‫َ‬ ‫أنهن‬
‫اهن؛ ربما ألنني أعرف ُ‬
‫كنت أشعر بالسعادة إذ أر ُ‬
‫ال أعرف لماذا ُ‬
‫لكنهن لن يحببنك مثلي على اإلطالق‪.‬‬

‫آه صحيح!! ولكيال ال أنسى‪ ،‬لقد اشتريت بالمال الذي أرسلته لي هاتفاً مستعمالً رغم‬
‫يت تلفا اًز صغي اًر لبنات أختك‪،‬‬
‫إصرارك على أن أبتاع جديداً لكنني ادخرت بعضه واشتر ُ‬
‫لو تعلم كم دعت لك أختك!!!‬

‫حسام ‪ ...‬يا عيون أمك‬

‫قلت في نفسي ترى ألي سبب أنجبتكم؟‬


‫لطالما ُ‬

‫جنيت بنفسي على نفسي؟‬


‫ُ‬ ‫أظَلمتُكم إذ فعلت هذا‪ ،‬أم‬

‫سمحت للحرب أن تبعثركم كسبحة صوفي أعلن ردته؟‬


‫ُ‬ ‫ولماذا‬

‫أتصدق؟!‬

‫وكنت على وشك تشكيل‬


‫ُ‬ ‫جمعت حريم القرية مرًة‬
‫ُ‬ ‫ربما لن تصدقني إن قلت لك أنني‬
‫يمتلك َن القدرة على قتل أحد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أبناؤهن؛ ألنهن ال‬
‫ُ‬ ‫كتيبة لألمهات اللواتي هاجر‬

‫‪231‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫األمهات ُي َقتْل َن ألجل صغارِه َّن‪ ،‬يتحو َ‬


‫لن إلى سنداوات يعوين في المدى‪ ،‬باحثات عن‬
‫أطياف جرائهن‪.‬‬

‫وقد َي ُمتن شوقاً حينما يفقدن األمل بعودتهم‪.‬‬

‫بت منه‬
‫يوم كفنتني عمتك ووضعتني رفقة نسوة حارتنا في تابوت الجامع الكبير هر ُ‬
‫دون أن يراني أحد من المشيعين وجئتكم أطوف عليكم واحداً واحداً‪.‬‬

‫ومضيت‬
‫ُ‬ ‫أعلم أنكم تكرهون األغطية مذ كنتم صغا اًر‪ ،‬دثرتكم‪ ،‬وقب ُ‬
‫لت راحات أيديكم‬
‫خلس ًة خشية إيقاظكم"‪.‬‬

‫استمعت لرسالة أمي األخيرة‪ ،‬بكيتُها وسرني رغم ذلك‬


‫ُ‬ ‫قصدت مكتبتي الجديدة بعد أن‬
‫ُ‬
‫احتفاظ نهلة بحديثها هذا‪.‬‬

‫اقترب مني محمد ابني البكر كان مليحاً حسن الوجه كجدته حامالً بيده صندوقاً صغي اًر‪،‬‬
‫تعلقت روحي به قبيل أن أرى ما بداخله‪.‬‬

‫أن توفيت جدتي قبيل عيد ميالدك بيوم واحد‪.‬‬


‫بابا لسوء حظنا ْ‬

‫قال محمد وهو ينظر في عيوني‪.‬‬

‫لقد تحدثنا إليها منذ شهر تقريباً‪ ،‬كانت تنتظر هذا اليوم أكثر منا يا أبي‪ ،‬بعد أسبوع‬
‫من مكالمتنا لها وردنا بريد من "بيروت" يحمل اسم جدتي مكتوب على ظهره هذا‬
‫التحذير‪.‬‬

‫تناولت العلبة من محمد ‪..‬‬


‫ُ‬

‫"ال تفتح الصندوق إال بعد أن تدخل عامك التاسع والثالثين‪..‬‬

‫أكنت على قيد الحياة أو بانتظار حياتي األخرى‪.‬‬


‫سأظل بجانبك سواء ُ‬
‫أمك"‬

‫‪231‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عصبت رأسها بها راقدة‬


‫ْ‬ ‫كانت ضفيرة أمي المعقودة بحريرتها الخضراء التي لطالما‬
‫لفحت عالمي قادم ًة من سماوات الله‪ ،‬لتستقر‬
‫ْ‬ ‫داخل الصندوق‪ .‬زكي ًة َع ِطرًة كنسمة‬
‫كطمأنينة صوفي في روحي‪ ،‬وفي خلدي‪ ،‬محناة كلون الشقق البعيد‪.‬‬

‫احتضنت جديلتها‪ ،‬قبلتُها‪ ،‬ووضعتُها بالقرب من صورة والدي جانب رواياتي في مكتبتنا‬
‫ُ‬
‫الجديدة‪.‬‬

‫لم تختر نهلة تصميماً من تلك التصاميم الثالثة‪ .‬بل أعادت إلي مكتبتي في بيتنا هناك‬
‫حيث السماء أكبر‪ ،‬وأكثر زرق ًة‪ ،‬واألرض غير هذه األرض إال أنها مليئة بالقبور‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ما علينا‪...‬‬

‫علي الكدرو‬

‫قاص سوري‪ ،‬ومدير منتدى الركن الثقافي‪.‬‬

‫تصفر ورقتي وتسقط‪ ،‬كان موضعي بينكم كموضع الراقصة من خصرها‪،‬‬


‫َّ‬ ‫قبل أن‬
‫ُيغالبها النعاس دوم ًا فال يفززها سوى شهوة األصابع الالهبة وحماس الطبالين المحموم‬
‫ليالعبوه على شهوة األعين التي تسرطها قطع ًة ‪ ..‬قطعة‪.‬‬

‫أما اآلن فلي موضع آخر غير الذي كان بينكم‪ ،‬موضع ليس به الفوق والتحت وال‬
‫َّ‬
‫اليمين واليسار‪ ،‬ال يخالطه زيف األلوان‪ ،‬وال أوهام السادة النجباء‪ ،‬الكل فيه يلبس لوناً‬
‫واحداً‪ ،‬ويرقد رقدة واحدة‪ ،‬وينتظر موعداً واحداً‪.‬‬

‫فثم وجهك وال أحد سواك‪ ،‬وكل ما ُيشاع عن أهواله وعذاباته‪،‬‬ ‫موضعاً أينما اتَّ َ‬
‫جهت به َّ‬
‫ليس إالَّ محض افتراء‪ ،‬فها أنا ممدد بين أجنابه ال شغلة لي سوى التسلي بمراقبة‬
‫عورات المارين من فوقي "وخاصة النساء"‪ ،‬وال يمكن ألحد أن تج أر يوما ليكدر خاطري‬
‫ولو بهمسة‪.‬‬

‫***‬

‫تعسرت أموري بعض الشئ‪ ،‬لذا أنصحكم بضمان المغسل‬


‫ال أخفيكم ‪ ..‬في البداية َّ‬
‫قبل موتكم‪ ،‬لئال تقعوا كما وقعت‪ ،‬وإذا استشعرتم بالموت فجأة قبل دنو األجل‪ ،‬ولم‬
‫أشالء‬
‫ً‬ ‫تضمنوا مغسالً مكفوالً أنصحكم أن تضعوا أجسادكم أمام فوهة مدفع لتجعلكم‬
‫يحار الكلب في لملمتها‪ ،‬حتى تفوتوا الفرصة على مثل هكذا نذل وأمثاله من "كتَّاب‬
‫التقارير"‪.‬‬

‫أبو محمود وما أدراكم ما أبو محمود ‪...‬؟‬

‫‪233‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كانت لحظات ال تعادلها سوى لحظات الغرغرة وهو يجرجرني فوق دفة الغسيل ويقلبني‬

‫بين يديه كأنما يقلِب مومساً استفرد بها ليقضي منها حاجته على عجل‪ ،‬يسكب َّ‬
‫علي‬

‫الماء الحار دون تفتير‪ ،‬ويتركني عمداً أسلت عن الدفة ليشهلني من َّ‬
‫أذني مدمدماً (أذن‬
‫بأذن والرأس زيادة)‪ ،‬واألصعب من هذا وذاك أفانينه وهو ُّ‬
‫يدك لفافة من القطن حتى‬
‫تغلظ ثم ِ‬
‫يفتلها أمامي طاح اًر كما لو أنه يريد دحسها بقفا بعير‪.‬‬

‫ولكم تمنيت لحظتها أنه لم يخرط أمعائي لدرزته بمرشاق منكه من رأسه حتى أسفل‬
‫يدي يوماً لدحست بمؤخرته مواعيناً من الورق بد ً‬
‫ال من‬ ‫قدميه‪ ،‬وأقسم لو أنه يقع بين َّ‬
‫القطن المندوف‪.‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫فبعد أن غادرني المشيعون إلى حيث عزائي دخل َّ‬


‫علي ملكان‪ ،‬نزعا عني الكفن ووقفا‬
‫على رأسي يتأمالن‪ ،‬أحدهما يلبس بزة عسكرية ويراقص بين يديه هراوة ملساء أرسها‬
‫مدبب هي أقرب ما تكون إلى (دبوس الجير) الذي تستخدمونه في تفاهماتكم المعقدة‪،‬‬
‫واآلخر يتأبط دفت اًر عتيقاً ويشكل خلف أذنه قلماً مبرياً كرأس اإلبرة‪.‬‬

‫أظنه جاء ليكتب محضر موتي ‪....‬‬

‫لكزني صاحب الهراوة مرتين أو ثالث على مواضع من جسدي جعلت رأسي يضرب‬
‫سقف القبر من شدة الضحك‪ ،‬التفت نحو صاحبه هامساً‪:‬‬

‫‪ -‬تأكد من ضابطة القبر‪.‬‬

‫جال األخير بنظره الحاد بين جوانب قبري وعلى الفور امتشق القلم من خلف أذنه‬
‫ودون في زاوية دفتره (مطابق)‪.‬‬
‫َّ‬

‫ص ُل على‬
‫عجبت ألمرهما كيف ال يعرفان أن هذه المساحة هي المكان الوحيد الذي ُيَف َّ‬
‫حجمك‪ ،‬وما سواها من مساحات غالباً ما تكون فضفاضة متهدلة‪ ،‬كما هي مساحة‬
‫القضية التي كانت ممتدة من البحر إلى البحر‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫داهمني صاحب الهراوة آم اًر‪:‬‬

‫‪َ -‬ع ِرف عن نفسك‪.‬‬

‫أجب‪:‬‬
‫ثم زجرني ‪ْ ..‬‬
‫وألني كنت بينكم وأعرف كيف تدار الزوايا بعدما َسرطنا بلداً بأكمله ووقفنا على أبواب‬
‫األمم نتضور جوعاً‪ ،‬أجبته بخبث ودهاء كما لو كنت أتدرب على مقدمة خطبة‬
‫عصماء‪:‬‬

‫"أنا ‪ ..‬أنا ربع مثقف‪ ،‬ونصف سياسي‪ ،‬ونسونجي متقاعد‪ ،‬وعندما أخاف من قول ‪..‬ال‬
‫‪ ..‬أصمت وال أقول ‪ ..‬نعم ‪."..‬‬

‫تناوبت نظرات الملكان إلى بعضهما دهشة من جرأتي‪ ،‬ثم انفج ار ضحكاً وقهقه ًة‪ ،‬وكان‬
‫التصفيق والهتاف المحتدم من الموتى قد عكر صفو القبور‪ ،‬وشتت شمل الهدايف‪،‬‬
‫وأجفل للتو جنازة رمت بميتها أول منعطف لتلتهم مسارب القبور أف اردها كما لو أن‬
‫جوقة من الكالب المسعورة تطاردهم‪.‬‬

‫كاد الحماس لحظتها أن يأخذني‪ ،‬لوال صوت كخيط العطر المنسل من رقبة حسناء‬
‫كان يوشوشني مؤنباً (دع الموتى يدفنون موتاهم)‪.‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫استرخيت من جديد ِ‬
‫وكأني في بداية موتي تاركاً للملكين فسحة من الوقت حتى يستجمعا‬
‫شيئاً من هيبتهما التي انفرطت أمام األموات‪.‬‬

‫َّ‬
‫مد صاحب الهراوة هراوته إلى محاشمي من جديد وبدأ يقلبهما مدمدماً‪:‬‬

‫قلت لي ‪ ..‬نسونجي متقاعد هاا!؟‪.‬‬

‫‪..‬أكتب‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ثم فجأة التفت إلى زميله آم اًر‬
‫‪235‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يرفع محضر موته إلى صاحب الجاللة‪ ،‬مع اقتراح التفل على وجهه حتى يغشى عليه‪،‬‬
‫ألنه خرج من الدنيا ولم يفهم شيئاً كـ (جبر من حضن أمه للقبر)‪.‬‬

‫وبعدها اختفيا دون أثر‪.‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫علي مصبحاً‪:‬‬
‫مع تباشير الصباح األولى تباوع الجار َّ‬

‫‪ -‬صباح الخير جار‪.‬‬

‫مفرداً يديه بالدعاء لي‪:‬‬

‫اللهم أجعله من المتفول عليهم‪ ،‬وأبعد عنه شبهات الخوزقة‪.‬‬

‫آمين يارب العالمين‪.‬‬

‫ثم مسح وجهه وأردف مازحاً‪:‬‬

‫‪ -‬عص ْب راسك ياجار‪.‬‬

‫كان لألموات عادة يمارسونها على كل النزالء الجدد ليعرفوا إلى ِ‬


‫أي الطائفتين انفرز‪..‬؟‪،‬‬
‫وقبل أن ينسحب معتذ اًر‪ ،‬دعاني ألن أكون كما االسفنجة أمتص كل األشياء وال أرتعد‪.‬‬

‫خوزقة!؟ يالطيف‪ ،‬ياستار‪ ،‬كلمات كنت أرددها وأنا أتحسس قفاي الذي ما زال متورماً‬
‫من "دكة" النذل أبو محمود‪.‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫صنة الظهر الالهبة‪ ،‬وخلو المقبرة من األحياء‪ ،‬كان الوقت المناسب لتهاشل طوائفهم‬
‫إلي‪ ،‬وحينما وصلوا موضعي شرعوا تلقائياً ينقسمون إلى طائفتين‪ ،‬طائفة كانت ُّ‬
‫تسل‬ ‫َّ‬
‫من كاراتها محارم قماشية وتمسح وجوهها دون توقف‪ ،‬ولم أكن أرى فيها ما يستدعي‬

‫‪236‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لذلك‪ ،‬وطائفة تمسك أقفيتها بين يديها رامعة بين اللحظة واألخرى وكأنما أحداً من‬
‫الخلف ينخشها بمناخيش ومخارز منبلة كرؤوس اإلبر‪.‬‬

‫تناهبني الشك للحظات عن ِ‬


‫أي من الطائفتين هي الناجية ‪..‬؟ لكن سرعان ما تبدد كل‬
‫متعص اًر‬
‫َّ‬ ‫المشرب بالحمرة‬
‫َّ‬ ‫شيئ حينما الح لي زول الرفيق "عطشان" من بينهم ببياضه‬
‫وقفاه كما الغربال من شدة النخش‪.‬‬

‫ما علينا ‪....‬‬

‫ال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫تقدم واحداً من أهل المحارم متسائ ً‬

‫‪ -‬جاار ‪ ..‬سايم عليك الله ‪ ..‬تفل ‪ ..‬وال خوزقة!؟‬

‫رد عليه الرفيق عطشان رامعاً‪:‬‬

‫‪ -‬أكيد خوزقة ‪...‬‬

‫وأردف ساخ اًر‪:‬‬

‫‪ -‬نسونجي وتفل؟ ‪ ..‬ما صارت!‬

‫تدب على عكازها ليس بفمها سناً واحداً‪:‬‬


‫فخرجت إليه عجوز من أهل المحارم ُّ‬

‫بال نثونجي بال بطيخ ‪ ..‬قرار وثدر ‪ ..‬تفل يعني تفل‪.‬‬

‫ومن يومها أرقد بموضعي هذا متهرجاً ‪ ..‬متفرجاً ‪َّ ..‬‬


‫أتسلى بعورات المارين من فوقي‬
‫منتظ اًر دوري لعبور الصراط إلى بالد ال تسكنها إالَّ الحور العين‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫التمثال والنمرود‬

‫فراس محمد الحسين‬

‫طبيب وقاص سوري مقيم في ليبيا‬

‫أمي والنهر‬

‫"أمك لم تمت"‪ ..‬قاطعتني جدتي‪.‬‬

‫كنت عائداً للتو من المدينة الكبيرة‪ ،‬عبرت النهر بقارب صغير إلى ضفة مدينتنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫استقبلتني جدتي في المنزل بعينين تشعان فرحاً‪ ،‬جلسنا نشرب الشاي‪ ،‬ورحت أحكي‬
‫لها عن سعادتي للتسجيل في الجامعة‪ ،‬أخبرتها أني زرت الحديقة التي كانت تأخذني‬
‫إليها في األعياد؛ متمنياً لو كانت أمي حاضرة‪...‬‬

‫"أمك على قيد الحياة" كررت جدتي‪ ،‬وتابعت كالمها‪ .‬لكني لم أعد أسمع شيئاً‪،‬‬
‫اغرورقت عيناي بالدمع‪ ،‬لم أنبس ببنت شفة‪ .‬مشاعري ٌّ‬
‫لج يغشاه موج من فوقه موج؛‬
‫كأني عدت إلى كابوس غرقها‪ .‬كنت في ربيعي السادس‪ ،‬لما ألقت نفسها في النهر‪،‬‬
‫فركضت وراءها‪ ،‬تخبطت يداي عشوائياً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ضاعت صرخة استغاثتي في هدير النهر‪،‬‬
‫ابتلعت كمي ًة كبيرًة من الماء‪ ،‬انتشلني شاب غريب‪ ،‬حملني وسار عائداً إلى الضفة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومن فوق كتفه ر ُ‬
‫أيت النهر يبتلعها‪ ،‬غابت الشمس‪ ،‬فتوقفت محاوالت اإلنقاذ والبحث‪،‬‬
‫لم يجدوا جثتها أبداً‪ ،‬لكني واظبت على زيارة النهر‪ ،‬لم أجرؤ على السباحة فيه‪ ،‬كنت‬
‫أجلس عند الضفة‪ ،‬أصنع تمثاالً من الطين ألمي‪ ،‬ثم أصلي وأدعو الله‪ ..‬وعند الغروب‬
‫يرتفع منسوب النهر‪ ،‬يذوب التمثال في الماء‪ ،‬فأبكي!‬

‫تُ ِ‬
‫مسك جدتي يدي‪ ،‬فتنتشلني من غيبوبة عمرها اثنتا عشر سنة‪ ،‬تدس في يدي مظروفاً‪،‬‬
‫وتقول‪" :‬هذه رسالة منها!"‬

‫‪238‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أخنق الرسالة بقبضتي‪ ،‬أكفكف دمعي‪ ،‬ألملم شتات روحي‪ ،‬وأغادر المنزل‪ .‬أهيم في‬
‫الشوارع‪ ،‬شمس الظهيرة تلهب رؤوس المارة‪ ،‬ورأسي تلهبه تفسيرات لم أجدها يوماً‪،‬‬
‫دعاء جدتي ألمي "الله يهديها‪ ،‬الله يسامحها!"‬

‫ثم تعقبه بالدعاء لجدي "الله يرحمه ويسامحه‪ ،‬كان سبباً فيما أقدمت عليه"!‬

‫أصل منتصف السوق‪ ،‬فأقف عند سبيل ماء بارد‪ ،‬أدس الرسالة في جيب بنطالي‪،‬‬
‫وباستخدام يدي أشرب قليالً‪ ،‬ثم أغسل وجهي‪ ،‬أنظر إلى الجهة المقابلة‪ ،‬يجلس أبي‬
‫وراء طاولته في المحل‪ ،‬ويقف بجواره ابنه من زواجه الثاني‪ ،‬ال‪ ،‬لن أذهب إليه‪،‬‬
‫سيطردني‪ ،‬ولن يبخل علي بجلدة من خيزرانته‪ ،‬لوال كرهه لي‪ ،‬لكنت أقف معه اآلن‬
‫في المحل‪ ،‬لكن‪...‬‬

‫خذيه‪ ،‬ال أريد شيئاً يذكرني بها!‬ ‫‪-‬‬

‫لكنه ابنك‪!..‬‬ ‫‪-‬‬

‫لست متأكداً!‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬

‫لم تكن خائنة!‬ ‫‪-‬‬

‫لماذا لم تنجب غيره‪..‬؟‬ ‫‪-‬‬

‫كانت ستوفر على نفسها جلدات خيزرانتك كل ليلة‪ ،‬لكنها لم تحبك‪!...‬‬ ‫‪-‬‬

‫يصطدم أحد المارة بكتفي‪ ،‬أنظر حولي‪ ،‬تحاصرني وجوه الناس‪ ،‬يخنقني ضجيج‬
‫السوق‪ ،‬أطلق ساقي للريح‪ ،‬تقودني قدماي إلى النهر‪ ،‬وكالعادة‪ ،‬أصنع تمثاالً لوالدتي‪،‬‬
‫ثم أسحب مظروف الرسالة من جيبي‪ ،‬أنظر للعنوان‪ ،‬أتفحصه ملياً‪ ..‬على صفحة‬
‫الماء‪ ،‬أرى حديقة المدينة والعمارة البيضاء بجوارها‪ ،‬وأمي تقف على شرفة فيها‪ ،‬تنظر‬
‫أجلس ألراقب‬
‫ُ‬ ‫إلى طفل يلعب‪ ..‬أطوي الرسالة‪ ،‬أضعها بين يد التمثال وجسده‪ ،‬ثم‬
‫الغروب دون دموع هذه المرة‪!..‬‬

‫‪239‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫طهمازية الجحيم‬

‫اعاة للدقة اللغوية فقط‪ ،‬ذاك أن الكلمات لن تغير وضع‬


‫مات‪ ،‬ولنقل‪ :‬نفق أو فطس‪ ،‬مر ً‬
‫هامدة‪ ،‬يحوم الذباب حولها‪ ،‬وسيأكلها‬
‫ً‬ ‫طهماز‪ ،‬وهو لن يشعر بالسوء‪ ،‬فقد صار جث ًة‬
‫الدود!‬

‫قبل أسبوع‪ ،‬جرى طهماز مذعو اًر‪ ،‬مرتبكاً‪ .‬اختبأ خلف شجرة الكينا الكبيرة‪ ،‬وراح يراقب‬
‫سيارات الزيل العسكرية‪ ،‬التي أخذت تتقيأ حمولتها من الجنود‪ ،‬والسالح‪ ،‬والعتاد‪ ،‬ثم‬
‫رحلت كما جاءت‪ ،‬بضجيج يصم اآلذان‪ ،‬واختفت في عاصفة غبارية أثارتها عجالتها‬
‫على دروب القرية الترابية‪ ،‬قرية خالية‪ ،‬مهجورة‪ ،‬غادرها قاطنوها على عجل‪ ،‬حتى أن‬
‫بعضهم لم يكمل طعامه الذي باشره‪ .‬تركوا منازلهم بأثاثها‪ ،‬وتساقطت ذكرياتهم على‬
‫الطرقات‪ .‬وبينما قرعت القنابل والصواريخ طبول الدمار والموت‪ ،‬نقش الرصاص على‬
‫جدران المنازل كلمات ال تُقرأ‪ ،‬بل ترى واضح ًة كشمس الظهيرة "مرت الحرب من هنا‬
‫"‪!..‬‬

‫انتشر الجنود في كل االتجاهات‪ ،‬يبحثون عن أي شيء وكل شيء‪ .‬وكالجراد تماماً‪،‬‬


‫لن يتركوا خلفهم شيئاً؛ حين يرحلون‪ .‬تحركوا في مجموعات‪ ،‬انتقلوا من منزل إلى آخر‪،‬‬
‫ومن شارع إلى شارع‪ ،‬ثم عثروا على طهماز عند شجرة الكينا‪ ،‬كان يقف بال حراك‪،‬‬
‫ال يعرف ماذا يفعل؟ أو أين يذهب؟‬

‫اقتاده الجنود‪ ،‬وهم يتناوبون امتطاءه مقهقهين‪ .‬ضابط برتبة مالزم اقترح إلباس طهماز‬
‫بنطال عسكري‪ ،‬فرد أحد الجنود بأنهم يمكن أن يضعوا على أكتافه نجمة أيضاً‪ ..‬وهكذا‬
‫تم تجنيد طهماز‪ ،‬لتبدأ رحلة شقاءه‪ .‬فراح يعمل ال كالجنود‪ ،‬وال كالعمال‪ ،‬وال كاآلالت‪،‬‬
‫بل أسوأ من ذلك‪ ،‬ليالً ونها اًر‪ ،‬دون توقف‪ .‬كان ينقل أكياس الرمل للتحصينات‪ ،‬والطعام‬
‫لتوزيعه على الجنود‪ ،‬ثم يجلب الماء من النهر‪ ،‬وينقل الجنود إلى مواقع حراستهم‪،‬‬
‫ليعود برفاقهم الذين أنهوا نوبة الحراسة‪ ،‬وال يكاد يتلكأ في أي مهمة حتى تنهمر‬
‫الضربات عليه بال هوادة‪ ،‬تساقطت الضربات على أردافه‪ ،‬أقدامه‪ ،‬ظهره‪ ،‬بطنه‪،‬‬

‫‪241‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ووجهه‪ ،‬حتى ذكره لم يسلم‪ .‬و كثي اًر ما أصاب الجنود نوبة سعار فيضربونه بأي شيء‬
‫اوة قصيرًة بالستيكية‬
‫يقع في أيديهم‪ ،‬سياط‪ ،‬عصي‪ ،‬حجارة‪ ،‬لكن أكثر ما آلمه كان هر ً‬
‫خضراء اللون‪!..‬‬

‫في الليلة السادسة‪ ،‬انهار طهماز‪ ،‬لم تعد أقدامة قادرة على حمله‪ ،‬فسقط أرضاً‪ ،‬األلم‬
‫يسري في كل جسده‪ .‬الجندي الذي كان يمتطيه‪ ،‬ضربه عدة مرات‪ ،‬وألنه كان نعساً‬
‫تركه وسط الدرب‪ ،‬والحقاً جره الجنود من أقدامه الخلفية وذيله‪ ،‬وألقوه في حفرة خارج‬
‫القرية!‬

‫الثالثة بعد منتصف الليل‪ ،‬رقد طهماز وسط الدرب‪ ،‬عاجز عن الحركة‪ ،‬أنفاسه ثقيلة‪،‬‬
‫بطيئة كأنما يشحذها من بخيل‪ ،‬القمر محاق‪ ،‬رائحة العشب الندي داعبت أنف طهماز‪،‬‬
‫وذكرته بجنته المفقودة‪ ،‬انسلت دمعة ندم متأخرة من عينيه‪ ،‬وتذكر كلمات رفيقته البومة‬
‫الحكيمة يوم وصل الجنود‪..‬‬

‫أيها األحمق‪ ،‬ماذا تنتظر‪ ،‬هيا لنرحل!‬ ‫‪-‬‬

‫لكن إلى أين‪ ..‬؟‬ ‫‪-‬‬

‫ال يهم‪ ،‬مادام النمرود حاكماً‪ ،‬فالخرائب كثيرة‪!..‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪241‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المحرم‬
‫ُ‬
‫نضال جرجنازي‬

‫كاتبة قصة لديها مجموعة قصصية قيد الطبع‪.‬‬

‫تحوم الطائرات في أجواء الرقة كالبعوض تماماً‪ ،‬عندما يقال هنا سورية فاعلم أن كل‬
‫شيء مغاير لكل المعايير التي اتفق عليها حكماء البشر منذ آدم حتى اآلن‪ .‬لن تجد‬
‫هنا أية قواعد إنسانية أو دينية وال حتى أخالقية‪ ،‬ما يغيظ حقاً لدرجة أن البراكين‬
‫الخامدة منذ تكون األرض‪ ،‬قد تنفجر قه اًر في القطبين الجليدين‪ ،‬هو قلق هذا البان كي‬
‫مون‪ ،‬قلقنا كسوريين على ما قد ينتج عن هذه الغازات المقرفة‪ ،‬أضعاف ما اعترى هذا‬
‫المسكين‪ ،‬لما ال يكف هذا الـ‪ ..‬عن خزعبالته‪ ،‬ربما ألن السوريين لم يبادوا حتى اآلن‬
‫عن بكرة أبيهم!‬

‫على فكرة هذا ما يجول في خاطر أي سوري حسبنا الله ونعم الوكيل‪ ،‬فلنقترب من‬
‫األرض قليالً حيث السواتر الترابية ‪ -‬موضة هذه األيام ال حول وال قوة اال بالله ‪ -‬هنا‬
‫تحديداً يقبع مشفى لما يسمى الدولة اإلسالمية‪ ،‬كان سابقاً مشفى كأي المشافي ولكن‬
‫على ما يبدو البد من هذه الرايات السوداء‪ ،‬ما يثير عسف التفكير الممض‪ ،‬هذا العمه‬
‫الجامح والمعوج والشغف برايات أصحابها إيمانهم هو رايتهم الخالدة ال تلك الرقعة من‬
‫القماش التي هي لألسف جعجعة لجحيم له دوافعه فقط ‪ ،‬كأن السوريين بحاجة للمزيد!‬

‫إذا دخلت إلى بهو المشفى ستصاب بالذهول من كثرة الوجوه الغريبة‪ ،‬وستكتشف نماذج‬
‫عجيبة ألبناء أدم‪ ،‬لست الوحيد إذاً‪ ،‬هناك نسيل ألبانا األول من كل العروق‪ ،‬ولكن‬
‫عرقك أنت تحديداً سيدلك حتم ًا على نموذج خاص‪ ،‬رغم أنه ليس فريد عصره‪ ،‬ولكنك‬
‫ستعرفه مباشرة‪ ،‬آآها‪ ..‬ها هو ذا رجل يع ُّد نفسه مسؤوًال عن الشريعة اإلسالمية في‬
‫المشفى‪ ،‬على فكرة‪ ،‬ال بد من وجوده وإال سيقفز أبو جهل من جهنم في أية لحظة‬

‫‪242‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ليرجعنا نحن األغنام السائبة إلى الجاهلية‪ ،‬ما أتفهنا من قطيع غبي سنهلك بدون‬
‫رعايته‪.‬‬

‫لذلك تراه يقف بعنجهية ال تُمارى وبعكظة ال بد منها‪ ،‬بل سرمدية في سحنة أي‬
‫مسؤول في وطننا العربي‪ ،‬متوسطاً رجلين األول أصفر الوجه صفيف العينين قصير‬
‫القامة‪ ،‬واآلخر طويل كنخلة سحوق دهمته الشمس لدرجة ال تصدق‪ ،‬كأنه من صلب‬
‫حام بل هو كذلك بالفعل‪.‬‬

‫بدأ الشرعي يمارس هوايته المفضلة على شيخ وقف أمامه على مضض‪ :‬أنت المرافق؟‬

‫كان الشيخ يختلس النظر حيث ترامت كتلة بشرية مجللة بالسواد على كرسي متحرك‪،‬‬
‫لم يسمع ما قيل له بداية‪ ،‬فأستأنف الشرعي يخاطبه‪ :‬هيه أنت ألم تسمع أأنت المرافق؟!‬

‫وكأن الشيخ أفاق من سبات اتسعت عينيه وقال‪ :‬أتحدثني؟!‬

‫وعندما هز الشرعي رأسه باإليجاب‪ ،‬قال بصوت منخفض‪ :‬نعم أنا هو رفيقها‪ .‬أقصد‬
‫تلك التي قلتها تواً‪ ..‬تعبت المسكينة‪ ..‬وجاري أبو عقلة تكفل بنقلنا إلى هنا‪ ،‬واضحة‬
‫كعين الشمس‪ ،‬هل يبتلي سوى الرجال حين تمرض النساء‪.‬‬

‫_ ما شأني أنا بكل هذه الترهات أنا الشرعي هنا‪ ،‬وأسألك ما دمت مرافقها ما قرابتك‬
‫بها؟‬

‫سهم الشيخ وكأنه علق في الزمن‪ ،‬وقال بعد تفكير ليس بطويل‪ :‬هي ابنة عم خال‪..‬‬
‫هي حكاية بعيدة ولكن تربطني بها قرابة لسنا غرباء‪.‬‬

‫_ بالمختصر أنت ُمحرم لها؟‬

‫شنف الشيخ برأسه وقال بامتعاض‪ :‬اتفل من فمك أي محرم عليها أنا زوجها وهي‬
‫زوجتي!‬

‫_ جيد ألنك لست ُمحرم ًا عليها‪ ،‬ألنك لو لم تكن كذلك لربيت فيك القرود السود‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ابتسم الشيخ بلطف وقال‪ :‬ما أظرفك يا شيخ قرود سود قال‪ ..‬وهل عندنا قرود سود!‬

‫قال األخيرة وحلق ببصره حيث هامة األفريقي وما لبث أن نزل من شاهق النخلة إلى‬
‫ذلك األسيوي القصير‪ ،‬وأكمل وهو يتنهد لسبب ما‪ :‬وأم لسبعة قرود أقصد سبعة أبناء‪،‬‬
‫المصيبة أن الحياة ال تكتمل إال بهذه الـ‪ ..‬واحدنا يقضي شبابه يجمع القرش فوق‬
‫القرش ليجلب لنفسه هذه المصيبة‪ .‬ندت على وجه اآلسيوي ابتسامة وأوشكت أن تصبح‬
‫شيئاً أخر لوال أنه تداركها‪ .‬تابع الشرعي جيد ما دمت ُمحرماً لها تستطيع الدخول معها‬
‫لغرفة العمليات‪.‬‬

‫ذهل الشيخ‪ :‬ماااذا تقول؟‬

‫رفع الشرعي عقيرته ومد عنقه ناحية الشيخ‪ :‬بما أنك ُمحرم لها تستطيع أن تدخل معها‬
‫إلى غرفة العمليات‪.‬‬

‫كأن أحدهم صفعه بقوة رجع خطوتين ألى الوراء‪ ،‬حيث أستند إلى الجدار‪ ،‬ونظر إلى‬
‫األفريقي علناً هذه المرة ليتأكد أن الكالم لم يصدر عن أحد قد يعجن الكلمات ويلوكها‬
‫لتخرج بهذه الدرجة المفزعة‪ ،‬فابتسم األفريقي موضحاً على طريقته هذا اللغز‪ ،‬وقال‬
‫برقة بالغة على أساس إنه أبو األسود الدؤلي‪ُ :‬مهرم‪.‬‬

‫تغصن وجه الشيخ وقال‪ :‬رغم أنك دعست بحافرك على البقل‪ ،‬لكن فهمنا ما تعني‪ ،‬ال‬
‫يا ابن أخي هذه ثقبنا أذنها التي بعدها؟ لم تستطع ابتسامة اآلسيوي التي رغم كبتها‪،‬‬
‫اتسعت تطلب االستزادة وتحولت رغماً عن صاحبها إلى حمحمة‪ ،‬لكنها لم تمنعه من‬
‫التعبير عن فصاحته فقال‪ :‬أتقصدين دخوله معك لغرفة العمليات هيء‪ ..‬هيء؟‬

‫تنهد العجوز هو يرمقه بتأن قبل أن يرجع للسجال مع الشرعي وقال يهز رأسه باستنكار‪:‬‬
‫الشيخ الثاني أتى ليكحلها فعماها‪ ،‬لكن مفهومة‪ ،‬هنا وضعنا الجمال‪ ،‬أجد هي أم مزاح‪،‬‬
‫عيب‪ ..‬أقصد‪ ..‬ال يجوز يا شيوخ أنا عمكم أتهترون بي بهذه الطريقة‪ ،‬أتسخرون من‬
‫بياض الشيب في رأسي؟! قطب الشرعي حاجبيه‪ :‬عن أي هتر تتحدث هل سبق ولعبنا‬

‫‪244‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫معاً في األزقة ليكون بيننا مزاح أبي طفل مقارنة بك‪ ،‬هو ما سمعت ستدخل معها إلى‬
‫غرفة العمليات؟‬

‫صحل صوت الشيخ من االنفعال‪ :‬ما شأني أنا ألدخل معها‪ ،‬هي المريضة أنا سليم‬
‫معافى‪ ،‬أهذا جزائي إلسعافها‪ ،‬اصدقوني القول أليست هي من طلبت ذلك‪ ،‬أنا أعرفها‬
‫ناعمة الملمس ولسعتها للقبر‪ ،‬حتماً هي من تصر اآلن على دخولي‪ ،‬عمكم ليس غبياً‪،‬‬
‫البارحة بعت خروفها البني وإذ بها تئن وتعن ليالً‪ ،‬تريد أن تخرج النقود من جيبي‬
‫بطريقتها الخاصة‪ ،‬أنا أفهم كيدهن عظيم‪ ،‬حسناً قولوا لها النقود لن نختلف عليها‪ ،‬لكن‬
‫غرفة العمليات‪ :‬ال وألف ال‪ ..‬وال حتى في أحالمها‪ .‬والتفت حانقاً حيث كان الكرسي‬
‫المتحرك قابعاً وفوجئ أنه اختفى في مكان ما فكمد وجهه‪ .‬أخذ الشرعي يشرح‪ :‬يا تيس‬
‫ألن وجودك ضروري جداً‪ ،‬يحب أن تكون موجوداً‪.‬‬

‫اهتاج الشيخ‪ :‬ما معنى دخولي معها‪ ،‬ال تقل لي أن الجراح ال يجيد عمله إال بوجود‬
‫أحمق مثلي‪ ،‬أنا مثالً ال أجيد الغناء ألرفه عنه‪ ،‬إذا كان مص اًر جداً سأصفق له قرب‬
‫باب غرفة العمليات ليطرب أثناء بقر بطن زوجتي‪ ،‬أضحكوا كيفما شئتم‪ ،‬لكن ال‬
‫تقنعوني بأن من قضى عمره يدرس ليلبس تلك الـ‪ ..‬ما أسمها‪ ..‬ينتظر مني حضو اًر‬
‫سحرياً‪ ،‬أعرف أنها‪ ..‬ولكن ما ضرورة وجودي‪ ،‬لست تيساً لهذه الدرجة‪ ..‬لذا ادخل‬
‫أنت يا شيخ بالنيابة عني فأنت شخص مهم جداً هنا وأمثالكم ‪ -‬شمل رفيقه ببصره ‪-‬‬
‫يفهمون كل شيء‪ ،‬نعم تفهم كثي اًر أنت بالذات ‪ -‬قالها وهو يكز على أسنانه ‪ -‬وهل‬
‫يعقل أنك دااابة مثالً‪ ..‬ال سمح الله‪ ..‬ال حاشاك أن تكون كلباً ابن كلب ال أبداً‪ ،‬قل‬
‫له بكل وقار عمك أبو مصلح يهديك السالم ويقول لك إذا كانت م اررة العجوز بليت‬
‫فليرم بها بعيداً‪ ..‬أساساً هي شيطان بثوب امرأة بم اررة‪ ،‬أو بدونها‪ ،‬الطحال كذلك إذا‬
‫كان يغني يا ليل يا عين فليرمه أيضاً‪ ،‬ال أريد قلة أدب في بطن العجوز‪ ،‬أنا مصر‬
‫على أن يبذل قصارى جهده لترجع العجوز شابة وإال سأبقيها في عهدته يجب أن يفهم‬
‫ذلك جيداً‪ ،‬النقود ما دامت ستخرج بحفض‪ ،‬مناسبة وحصلت‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وسط بحلقة الشرعي الغاضب وسعال اآلسيوي المتواتر وهو متوقع على نفسه يرتعش‬
‫ضاحكاً والهيء هيء تحولت لهوء هوء‪.‬‬

‫أخذ الشيخ يتأوه وهو يقول‪ :‬لألسف أن دماغها النتن باألعلى وأال لكانت رائعة منه أن‬
‫يخلصني من تلك القذارة بالجملة‪ .‬كل هرطقة الشيخ وهزله للهرب من جحيم فكرة دخوله‬
‫معها لم تجدي نفعاً‪.‬‬

‫انفجر الشرعي أخي اًر وجأر بوجهه‪ :‬عامل فيها مهرج‪ ،‬وتخلط الحابل بالنابل على فكرة‬
‫أنتم العامة ال تختلفون عن الحمير في شيء‪ ،‬ستدخل رغماً عن أنفك‪ ،‬ألن وجود رجال‬
‫غرباء معها بدون ُمحرم حرام سيعتبر الجميع زناة حتى عجوزك ازاانية‪ ،‬أفهمت اآلن‬
‫يا صاحب الرأس الصدئة‪.‬‬

‫تضخمت تفاحة آدم في عنق الشيخ وقال بصوت غليظ‪ ،‬لكن مكبوت‪:‬‬

‫أتريدون أن تخرجوا الشرع من‪..‬؟ وأشار إلى مكان ما في جسده‪.‬‬

‫تشظى اآلسيوي ضحكاً منذ أن عرج الشيخ على طحال زوجته وسط جولته تلك‪ ،‬ولكن‬
‫في هذا التوقيت بالذات جلجلت قهقهة االفريقي الهادئ الرزين بصوت قوي جامح شأن‬
‫الحنجرة الرخيمة الفخمة ألبناء القارة السوداء‪ ،‬لدرجة أن جمهو اًر ال بأس به تجمع‬
‫حولهم‪.‬‬

‫ا لتفت الشرعي ناحية رفيقيه وقال بعد أن زفر بضيق صدر‪ :‬تضحكان وأنا أخوض‬
‫غمار بهامته وحدي‪ .‬رجع لجبه الشيخ‪ :‬هذه فتوى جديدة ويجب تطبيقها‪ ،‬حباً بالله‬
‫اعترض عليها أيها التافه‪ ،‬لنتسلى برأسك قليالً ونحن نقذف روحك إلى السماء‪ ..‬شحب‬
‫الشيخ وجفت الدماء في عروقه‪ ،‬حتى أن يده اليسرى تحديداً بدا له أنها انفصلت عنه‪،‬‬
‫رغم ثقلها الذي يثبت أنها ال زالت معلقة بكتفه فأردف يتعتع‪ :‬أنا ال أعترض ولكن‪..‬‬
‫أيجوز األبناء لهذه ال‪..‬‬

‫_ طبعاً يجوز‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ضرب الشيخ قدمه على األرض من شدة االنفعال وقال‪ :‬األوباش وكأنها تخصني‬
‫وحدي وليست أماً لهم‪ ،‬فقط لو كنت أعلم بهذه الفتوى من قبل‪ ،‬ما العمل اآلن كيف‬
‫أتي بهم‪ ،‬واحدهم اآلن يسند خاصرة زوجته خشية أن تتعثر في مشيتها‪ ،‬بينما حاوية‬
‫نفاياتك أقصد القدر تقلب على راسي وحدي‪ ،‬أباها ذلك التسعيني الخرف الذي ال‬
‫يساوي في سوق الرجال ملء أذنيه ُنخالة حتماً كان سيصلح لهذه المهمة‪ ،‬المصيبة‬
‫أنه فطس منذ يومين‪ ،‬ماذا كان سيحصل لو تأخر في نفخ روحه قليالً‪ ،‬عاندت روحه‬
‫إال أن تصعد إلى فوق اآلن تحديدًا‪ ،‬صحيح هو خنزير ولكنه سيفي بالغرض‪ ،‬أقسم‬
‫ال‪ ،‬كنت سأدعو‬
‫كان سيقوم بعمل جليل ألول مرة في حياته القذرة‪ ،‬فقط لو أجلها قلي ً‬
‫له بالرحمة طول عمري‪ .‬ابتسم الشرعي بنوع من التعالي وقال‪ :‬رجعت لهسهسة‬
‫المجاذيب‪ ،‬لما الحنش ولوي الحنك كل ذلك لن يجديك نفعاً على فكرة‪ ،‬اتبع الجراح‬
‫إلى غرفة العمليات واال سأرمي بعجوزك خارج المشفى‪.‬‬

‫بداية لم يستجب العجوز وحرن في مكانه يتمتم بشيء ما حتى زعق الشرعي‪ :‬بسرعة‪.‬‬

‫بتذمر رد الشيخ وبمقلتين حمراوين‪ :‬سمعت لست أطرش‪.‬‬

‫في غرفة العمليات استلقت عجوز على منضدة الجراحة شاحبة الوجه وقد استطال‬
‫فكها السفلي بفعل التخدير بشكل مرعب‪ ،‬منظر األنبوب البالستيكي في فمها هال‬
‫الشيخ‪ ،‬من هذه الجثة أيعقل أنه دخل غرفة غير غرفة ام مصلح‪ ،‬لم يعطه الجراح وقتاً‬
‫للفرار فقد عاجل بمهارة وبسالسة خبير محترف بفتح بطن العجوز‪ ،‬ما إن انبجست‬
‫الدماء حتى ُسمع صوت ارتطام قوي‪ ،‬جمدت نظرات الطبيب على نافذة الغرفة وقال‬
‫بتوتر‪ :‬هل قصف المشفى مرة أخرى؟‬

‫ورءك‪.‬‬
‫هنف طبيب التخدير األصلع‪ :‬ال ولكن القذيفة هذه المرة من عندنا‪ ،‬التفت ا‬

‫عبارة التفت يتكبد مشقة تنفيذها من كان بدين ًا مترهالً‪ ،‬وإذا كانت الرأس كبيرة غاطسة‬
‫بين كتفين عريضين مكتنزين‪ ،‬وأضفنا أليها كرش رجل أربعيني قصير‪ ،‬حينئذ البد من‬
‫استدارة البرميل بالكامل‪ .‬قال بصوت مخنوق من خلف كمامته‪ :‬اللعنة لما لم يعطنا‬
‫‪247‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ظهره ووجهه للجدار‪ ،‬هل نحن نقوم بعمل لطيف ليتفرج علينا كاألبله‪ ،‬على فكرة هذا‬
‫ما خمنته منذ أن القوا بهذه التعويذة في وجوهنا‪.‬‬

‫همس طبيب التخدير األصلع وأومأ ناحية الباب‪ :‬الجدران لها أذان‪.‬‬

‫اتجه الممرض نحو الباب وهتف‪ :‬أبو رياض هيه أنت تعال وخذ هذا الرجل إلى‬
‫اإلسعاف‪.‬‬

‫هرول رجل بثياب عمال المشفى إلى الغرفة وقال ضاحكاً‪ :‬منذ قليل كان يقرقر مثل‬
‫ديك الحبش‪ ،‬واآلن الدجاجة سبحت بالماء هيء‪ ..‬هيء‪.‬‬

‫قال الجراح وهو يرمش بشدة‪ :‬أحمله وناد على الشرعي ألعرف ماذا علي ان افعل‪،‬‬
‫المصيبة أني بدأت بالجراحة فعالً التوقف‪ ..‬يعني‪ ..‬بعد قليل دخل الشرعي الغرفة وقال‬
‫بمقت‪:‬‬

‫منذ أن رأيته عرفت أنه رعديد‪ ،‬ال يهم الشرع هو الشرع لذا ابتعدا عنها حرام ال يجوز‬
‫حتى ارجع بذلك الخرع مرة أخرى‪.‬‬

‫قال الجراح بقلق‪ :‬بسرعة العجوز تنزف‪.‬‬

‫في قسم اإلسعاف صب الشرعي زجاجة كحول كاملة على الشيخ وهو يدندن‪ :‬أنت‬
‫أيها المهرج منذ قليل كنت تثرثر عن بلدة بحالها‪ ،‬اآلن سقطت مغشياً عليك من نقطة‬
‫دم‪ ،‬أتدري أن الكرديات واحدتهن كاللبؤة وأنتم خرفان ال غير‪ ،‬حتى عمتي أكثر رجولة‬
‫منك البارحة تقربت إلى الله بجز رقبة مرتد‪ ،‬وأنت شارب ولحية وعامل فيها سبع وتخر‬
‫بهذه السهولة‪.‬‬

‫الزجاجة وما فيها وحتى النشادر أيضاً لم يحدثا تأثي اًر في الشيخ‪ ،‬كما أحدثه سماع خبر‬
‫التقوى المفرطة لعمة ذلك الشرعي وتقربها الطاهر النقي إلى الله بهذه الطريقة الـ ‪-‬‬
‫يحار اللسان أحياناً بالوصف في مأثرة كهذه ‪ -‬بالكاد فتح الشيخ جفنيه وقال بصوت‬
‫خافت‪ :‬عمك رجل في كل شيء إال في هذه‪ ،‬واللحية والشارب إذا أجزت أنت هدية‬

‫‪248‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مني لـ‪ ..‬بل سأترك لها الرجولة كلها من أجل خاطرك‪ ،‬إذا كانت هذه ميزتها عندك ال‬
‫أريدها بتات ًا‪ ،‬أنا خرع رعديد وماذا في جعبتك أيضاً‪ ،‬لكن حب ًا بالله برحمة أمواتك أعفني‬
‫من ال‪ ..‬تجعد وجه الشرعي‪:‬‬

‫‪ -‬حرام ال يجوز الحلف بغير الله إنه شرك يا بهيمة‪.‬‬

‫_ كما تشاء‪.‬‬

‫_ بسرعة إلى غرفة العمليات وإذا أغمي عليك مرة أخرى‪ ،‬تأكد أني سأفرغ عليك كحولي‬
‫الشخصي وهو فعال وسحري فوق التصور‪ ،‬هيا ال تتلكأ فدماغ زوجتك النتن لم‬
‫يستأصل بعد‪.‬‬

‫المحرم التعيس خارجاً وهو شبه‬


‫بعد قليل استدعي عاملين من عمال المشفى لسحب ُ‬
‫ميت والدم ينفر من رأسه‪.‬‬

‫صرخ طبيب التخدير وهو يشيعه خارج الغرفة‪ :‬بسرعة إلى غرفة العناية المشددة‪ ،‬وأنت‬
‫هل تمشي على بيض بسرعة هو بين الحياة والموت‪.‬‬

‫دمعت عينا الجراح وقال‪ :‬لعنة الله عليهم جميع ًا أينقصني جثة أخرى‪ ،‬أنا لم أرتق‬
‫الشريان الرئيسي بعد‪ ،‬دقيقة أخرى ونخسر المريضة من كثرة النزف‪ ،‬إن أكملت سيتم‬
‫قتلي ألني بنظرهم سأكون زنيت بعجوز هي ليست مريضتي وحسب بل بمقام أمي‪،‬‬
‫ماذا أفعل وسيف ذلك البغداداي فوق رأسي وذلك ال‪ ..‬سيقفز أمامي كالقرد في أية‬
‫لحظة!‬

‫قال طبيب التخدير بصوت خافت‪ :‬توكل على الله وتابع عملك‪ ،‬الله كان والزال‬
‫وسيظل هنا ‪ -‬وضع راحته على قلبه ‪ -‬ما يدرى ذلك الصعلوك في أي مرحلة أنت‪،‬‬
‫سيبقى مع الشيخ ليرد له الحياة إن أستطاع هذه المرة‪ ،‬عندها يكون من ضرب‪..‬‬
‫ضرب‪ ،‬ومن هرب‪ ..‬هرب‪ ،‬أنت قلتها بلسانك جثة واحدة تكفي‪ ،‬تابع بهدوء وانس كل‬

‫‪249‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫شيء‪ ،‬وتذكر فقط أننا أقسمنا قسم أبقراط‪ ،‬قبل أن يولد ذلك الكلب الذي ال يفكر إال‪..‬‬
‫أستغفر الله العظيم‪.‬‬

‫هز الجراح رأسه وقد سكنت روحه قليالً‪ :‬سأحاول‪ ..‬سأحاول ‪ -‬توجه بنظره ناحية‬
‫الممرض الضئيل‪ :‬أنت راقب الباب وإذا‪ ..‬أسعل‪ ..‬أرقص‪ ..‬صفق‪ ..‬افعل أي شيء‬
‫لكي‪ ..‬اتفقنا‪..‬‬

‫_ حسناً ال تقلق إذا اضطررت سأغني له دولة اإلسالم صولي وانحري عندها سيقشعر‬
‫بدنه تأث اًر وتكون أنت أنهيت مهمتك‪.‬‬

‫في غرفة العناية المشددة أرتفع صراخ الطبيب‪ :‬محلول ملحي بسرعة ودوبامين أمبووول‬
‫وكانيوالاااا لعلنا نمسك بها قبل أن تصعد إلى فوق فالرجل يتحضر‪.‬‬

‫من يسمع الزئير ال يصدق أنه يصدر عن ذلك الرجل النحيل‪ ،‬بل يدرك مباشرة‪ ،‬أي‬
‫معمعة رهيبة ودقيقة وحساسة سيخوضها هذا المتجهم ليجادل روحاً تشاور نفسها أترحل‬
‫إلى السماء أم تبقى في جسد صاحبها‪ ،‬مثله يعرف وعورة ما هو مقبل عليه وخطورته‬
‫وأهمية ما سيفعل وما سيترتب نتيجة صراعه الملحمي في ذلك الوقت الحرج جداً‬
‫والقصير‪.‬‬

‫هرع الشرعي إلى غرفة العناية المشددة‪ :‬الكلب يناكدني ال تقل لي إنه فطس هي شقفة‬
‫م اررة‪ ،‬هل طلبنا منه رأس أبو زيد الهاللي تفو‪ ..‬على هكذا رجال نظر إلى طبيب‬
‫العناية المشددة وقال كمن يتحدث عن بهيمة على وشك الموت‪ :‬هل‪ ..‬يعني‪..‬‬

‫أجاب الطبيب النحيل برصانة وهو كامد الوجه‪ :‬رأسه أمرها تافه خمسة عشر غرزة‬
‫ونغلق تلك الفجوة‪ ،‬المصيبة في ضغط دمه‪.‬‬

‫رف جفن الشرعي قليالً وتنحنح‪ ،‬تابع الطبيب شارحاً‪ :‬االنقباضي أربعة أما‬
‫االنبساطي‪..‬‬

‫ندت عن الشرعي‪ :‬هممم! وأخذ يهرش لحيته التي يحتمل أن دبو اًر غزاها‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أكمل الطبيب‪ :‬بالكاد ُيسمع باألحرى يصفر‪ ،‬وإذا‪ ..‬قد‪ ..‬أرجوك غادر‪ ..‬رغم أنه‪..‬‬
‫ولكنه يسمع يستحسن أن تخرج يا‪ ...‬شيخ كي ال تزيد األمر سوءا‪ ..‬أنت بالذات‬
‫يجب‪ ..‬أفضل‪ ..‬إذا كنت تريده بالفعل أن‪ ..‬إن شاء الله ستستجيب أقصد هو‪ ..‬سأفعل‬
‫ما بوسعي‪.‬‬

‫تحولت الهممم إلى هوووف وقال بعد جهد‪ :‬األعمار بيد الله سبحانه وتعالى حتماً هذا‬
‫يومه ما باليد حيلة هل نحن‪ ..‬ال اطالقاً‪ ..‬نحن ننفذ ال غير‪ ..‬أنا لم ألمسه! هو‬
‫لوحده‪ ..‬عمره انتهى‪..‬‬

‫ا قترب من الشيخ وقال بصوت خافت‪ :‬يا عجوز انهض األمر كله نكتة‪ ..‬هممم‪،‬‬
‫الزال‪ ..‬حسناً سأسمع نصيحتك أيها الطبيب‪ ،‬ال تقلب سحنتك واضح سأخرج ل‪ ..‬لعنة‬
‫الله عليك يا‪ ..‬الشرع هو الشرع‪.‬‬

‫في هذه األثناء وصل أمير الصحة إلى المشفى وشاع أمر الفتوى الجديدة ونتائجها‬
‫التي على ما يبدو إن استمرت ستكون كارثية على الجميع‪ ،‬العجائز خاصة أي واحدة‬
‫منهن ستقول آآخ‪ ،‬أبو مصلح وأمثاله هوووب إلى النهر مباشرة‪ ،‬األمر سهل وغير‬
‫مكلف‪ ..‬وحتى األسماك ستكون في غاية السعادة‪ ،‬ال داعي لتصديع رأس البغدادي‬
‫ومفتيه ال‪ ..‬القوم ينشرون اإلسالم مرة أخرى ويحاربون الكفار الذين خرجوا من أحشاء‬
‫التاريخ‪ ،‬بل إنه انتحار مقيت حتى حرام وإذا حصلت الوفاة في البيت حيث المحارم‬
‫كثر تكون األمور حسمت من تلقاء نفسها‪ ،‬هذا خير وألف خير‪.‬‬

‫كان وقع أقدام الشاب الثالثيني الممتلئ الجسم على األرض كالهزبر وقف في البهو‬
‫يتفرس في الجميع غاضباً‪ :‬أين أبو قثاءة‪ ..‬دلوني على أبو بطيخ‪ ..‬أظهر يا دابة‪.‬‬

‫تناهى إلى مسمع الشرعي أسماءه الجديدة فكأنه خرج من جوف األرض‪ ،‬وبقدرة قادر‬
‫أمام األمير وقال يبسم بتكلف‪ :‬أمير هشام السالم عليكم ورحمة الله‪ ..‬وصلتم‪..‬‬

‫زعق األمير‪ :‬دع عنك هذه الخزعبالت هل ما وصلني صحيح؟‬

‫‪251‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫_ هممم‪ ..‬الرجل من تلقاء نفسه سلت على األرض أنا لم ألمسه حتى هو لوحده قد‬
‫يكون هذا يومه ال‪ ..‬تفرس فيه األمير وقال بغضب‪ :‬أتعرف إذا فارق الحياة سأسلخ‬
‫جلدك‪ ،‬وأربي فيك القرود السود‪ ،‬يا حيوان كيف فعلت ذلك؟‬

‫شحب الشرعي وقال‪ :‬الفتوى صدرت ونحن‪ ..‬سمعنا‪.‬‬

‫عندما حنش األمير سرعان ما تحولت الـ سمعنا إلى توقعنا‪ ،‬عندها زمجر األمير‪:‬‬
‫كيف توقعت أم اًر عارضناه نحن األطباء بشدة وأوقفنا تنفيذه فو اًر‪ ،‬أي بومة لعينة حملت‬
‫إليك خبر هذه الفتوى‪ ،‬المفتي فكر باألمر صحيح‪ ،‬ولكن تراجع عنه‪ ،‬أذا كان واحدنا‬
‫ال يستطيع أن يجري عمالً جراحياً ألحد أفراد عائلته‪ ،‬نحن أطباء ولسنا ا‬
‫جزرين‪ ،‬وال‬
‫نستطيع لمس من يخصنا‪ ،‬منذ أيام كاد أحدهم أن يودي بحياة أمه عندما أجرى لها‬
‫عملية جراحية ارتعشت يداه أنخفض ضغطه كما حصل ما صاحبك‪ ..‬وفي اللحظة‬
‫الحرجة أكمل العملية عنه صديق له‪ ،‬وأنت بكل بساطة وببالدة دابة تنفذ أم اًر‪ ..‬نحن‬
‫األطباء ال نتج أر على القيام به‪ ،‬أتدري سأحشرك مع أحد أقاربك في تلك الغرفة في‬
‫يوم ما كما فعلت مع ذلك الشيخ لتدرك فداحة ما فعلت‪.‬‬

‫هربت أنفاس السبع األشر من صدره‪ ،‬وكاد أن يذرف الدموع‪ :‬ال أرجوك‪ ..‬أنت قلت‬
‫أنكم ألغيتم األمر قبل نفاذه‪.‬‬

‫_ ادع ربك أن يعيش الشيخ يا رأس القنبيط‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الفراغ‪ ...‬والكرسي‬

‫هيثم قطريب‬

‫قاص وشاعر ومؤلف موسيقي‪.‬‬

‫دخلت المقهى بنصف قبعة وبكامل رأسي‪.‬‬

‫ليس هناك إال الفراغ يملئ المكان‪ ،‬حدقت في كل الزوايا والمساحات المتناثرة هنا‬
‫وهناك‪ ،‬لم َار هيبة رجل مشلوحة على كرسي حين غادر المكان‪ .‬وال رائحة العطور‬
‫فيستفذ بخور الذاكرة‪.‬‬
‫النسائية التي تمنح المكان أُنسه ُ‬
‫السيد في هذا المقهى هو الف ارغ‪ .......‬يبسط جالله‪.‬‬

‫بدأت الدوران وكأني أبحث عن شيء ما‪ ،‬في مكان أعرف أدق تفاصيله وخباياه‪ ،‬وإذ‬
‫ُ‬
‫بكرسي واحد أوحد لم أره من قبل؛ إنه هناك في وسط المقهى؛ يريد أن يقول لي شيئا‬
‫ما‪.‬‬

‫تنسمت منه عط ار آنس وحدتي وأراح المكان‪.‬‬


‫ُ‬
‫في إثارة غامضة‪ ،‬كم أعاد لي حريتي‬
‫عطر! هذا العطر أعرفه‪ ،‬ياه‪ ...‬كم كان يبعث َّ‬
‫المسلوبة من سنين وسنين‪.‬‬

‫جلت في المكان ألرى شيئا له معنى‪ ،‬لم أجد سوى هذا الكرسي‪.‬‬
‫ُ‬
‫تحركت باتجاهه فبادرني بابتسامة‪ ،‬ول َع ْت صبوتي وأعادتني الى سنين خلت‪،‬‬

‫ابتسامة أعرفها لطالما تهت في منعشها‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ابتسامة ترسل خطوط موسيقاها ليمتلئ المكان أمانا‪َ ،‬ف ُهز كياني المتكلس الغافي منذ‬
‫أن ُلطمت بكف كربالء ومازال مستم ار على رقابنا‪ ،‬حين فقدنا حنان األمومة فتحولنا‬
‫ون َقتل بال رحمة‪.‬‬
‫قتل َ‬
‫الى وحوش َن ُ‬

‫ابتسامة‪ ....‬كم ازاحت عن قلبي غما عميقا‪.‬‬

‫دنوت الى عمق المقهى وأنا استكشف عسى أن أجد رجال أو شبه رجل ليأخذ بيدي‬
‫إلى حيز ما أكثر أمانا‪ ،‬لكن المسار يتجه فقط إلى هذا الكرسي الواحد األوحد‪.‬‬

‫بت منه أكثر ثم أكثر‪ ...‬وفجأة أحسست بهمس أسعد خلدي‪.‬‬


‫أقتر ُ‬
‫همس بدأ يغوص بعيدا في مساماتي‪ ،‬همس لطالما أستفز أعماقي ليزيح عني‬
‫صوفية المهزومين وصدى جعجعات رواد المقاهي الكسلى بأفكارهم الرخوة وثرثرات‬
‫النميمة ووهم البناء ونفي االخر‪.‬‬

‫صَّن َعنا‬
‫همس أعاد لي حنان االمومة مبعدا عني هذا البريق الذكوري المزيف الذي َ‬
‫بال قلب محب كريم‪.‬‬

‫همس شالني من حضيض حجب العفة المشوه إلى الهواء الطلق ألتنسم أكسجين‬
‫الحياة‪.‬‬

‫همس أنبت لي لسانا جديدا وجوانح أُخرى وقلب قوي عظيم يعرف كيف يصعد ساميا‬
‫فوق هؤالء الذين ال يرون إال حجارة الشارع وصوت عصا راعيهم‪.‬‬

‫أسرعت الى هدفي ملتصقا بالكرسي وبكل قوة الحنان غبت في نسيم الشفتين حين‬
‫سمعت تراتيل صفحات الصحراء البريئة ونقرات الهارب الفرعوني تنزع ما تبقى من‬
‫غبش علق على شراييني‪ ،‬وداخلني تأوهات كليوبت ار بأنفها الملكي وهي تحضن‬

‫انطونيو لتجعله لين طري المزاج‪ .‬بعيداً عن صراخ الجنود ُ‬


‫البلهاء وقعقعات السيوف‬
‫ومجد االمم المزيف ليعود انطونيو االنسان‪ ،‬بعدما تحطمت أسطورة مجد الجماجم‬
‫والهالك‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أتقنت الطيران لوحدي‪ ،‬غنى الفرح ورقص المكان‪.‬‬


‫ُ‬ ‫هنا‬

‫اآلن‪ ،‬اآلن فقط أرى ثغر كاسي يرتشف ثغر كاسي فينتفض قلبي العفوي تائها يعرف‬
‫الطريق في قلب هذا الكرسي الوحيد‪.‬‬

‫فصرت كأعمدة قرطبة وهي تغازل فجرها كل يوم‪ ،‬وتمنح دفئها قباب أوربا الساكنة‪.‬‬

‫وبقيت وحدي حتى طار قلبي‬


‫ُ‬ ‫دارت الكؤوس وضجيج الشارع يوزع ملحه على المارة‪،‬‬
‫محلقا فسموت معه‪ ،‬وبقي المكان في وحدته ُيلملم ما تبقى من أشياء‪.‬‬

‫لوحة للفنانة عائشة العساف‬

‫‪255‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫صناديق االقتراع‬

‫د‪ .‬موسى الحالول‬

‫أكاديمي ومترجم سوري من محافظة الرقة‬

‫منذ مغادرتي األخيرة للبالد قبل عشر سنوات‪ ،‬تعتادني أحالم تتشابه في مضمونها‬
‫فجأة في سوريا‪ ،‬ال أعرف كيف‬ ‫وتختلف في تفاصيلها‪ .‬في كل حلم‪ ،‬كنت أجد نفسي ً‬
‫أم َن الجو أم من البحر أم من البر؟ أحياناً أجد نفسي ذاهباً إلى بيت‬ ‫هبطت إليها‪ِ :‬‬
‫ُ‬
‫مغادر نقط ًة ما في سوريا‪ ،‬إما‬
‫اً‬ ‫أهلي في ريف الرقة الشرقي‪ ،‬وأحياناً ال أرى نفسي إال‬
‫مطار دمشق‪ .‬وفي كل مرة كنت أتساءل بذعر شديد‪ :‬كيف‬ ‫َ‬ ‫مطا َر حلب وإما‬ ‫قاصداً‬
‫إلى وطني كاللص ولم ينتبه إلى دخولي ُحماةُ الديار؟‬ ‫تسللت‬
‫ُ‬

‫هل سيعتقلونني في المطار بتهمة الدخول إلى البالد بصورة غير شرعية أم سأتسلل‬
‫منها كاللِص كما دخلتُها؟ وفي كل مرة‪ ،‬كنت أستيقظ بعد هذه التساؤالت المرعبة‪،‬‬
‫فتضع اليقظة ًّ‬
‫حدا ألحالمي المخيفة‪.‬‬

‫وجدت نفسي متجهاً إلى مطار حلب مع مجموعة من المسافرين‬


‫ُ‬ ‫في حلمي األخير‪،‬‬
‫آخر مرة في الحقيقة)‪ .‬كان الخوف والترقب‬
‫البالد َ‬
‫َ‬ ‫غادرت منه‬
‫ُ‬ ‫(وهو المطار الذي‬
‫يخيمان على الوجوه التي َّ‬
‫خددتها الحياة في حضن الوطن‪ .‬وصلنا إلى صالة المغادرين‬
‫ات سفر‪،‬‬‫– وهذه أول مرة أبلغها من بين كل كوابيسي السابقة‪ .‬لم نكن نحمل جواز ِ‬
‫ُ‬
‫الموظف على جهاز عنده واتجهنا إلى‬
‫ُ‬ ‫مررها‬
‫كعادة المسافرين‪ ،‬بل بطاقات ذكي ًة‪َّ .‬‬
‫نصل إليها استقبلتنا مجموعة من الجنود‬ ‫َ‬ ‫البوابة المؤدية إلى الطائرة‪ .‬لكن قبل أن‬
‫المسلحين الذين اقتادونا إلى صالة جانبية‪ .‬قالوا لنا‪" ،‬تفضلوا‪ ،‬مارسوا َّ‬
‫حقكم الدستور َي‬
‫انتخاب رئيس للجمهور ِ‬
‫ية لعام ‪ ،1112‬ثم مع السالمة"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬

‫‪256‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫باء‬ ‫ِ‬
‫لفتت انتباهي كثرةُ صور المرشحين‪ ،‬لكني لم أعرف منهم إال اثنين‪ .‬كانت الكهر ُ‬
‫صناديق بأحجام متفاوتة‪ ،‬وكانت أك َبر‬
‫َ‬ ‫أيت في ِش ْبه الظال ِم‬
‫محدودة‪ .‬ر ُ‬
‫ً‬ ‫مقطوع ًة‪ ،‬والرؤي ُة‬
‫كل واحد‬
‫من صناديق االقتراع التي نراها على شاشات التلفاز في بقية العالم‪ .‬كان ُّ‬
‫منها موصوًال بفيش كهربائي في الجدار فوق الصندوق‪ ،‬كما يتصل بخرطومين يتدليان‬
‫من حنفيتين بارزتين أيضاً من الجدار‪ .‬كنت أنتظر دوري ألمارس حقي‪ ،‬ونفسي تُ َس ِول‬
‫عرفت صورتَْي ِهما – كنت قد سمعتُه في‬
‫ُ‬ ‫لي أن أنتخب رجالً – أحد االثنين اللذين‬
‫ذات يوم بكل شفافية وصراحة تليقان بمرشح رئاسي‬ ‫جمهوره َ‬
‫َ‬ ‫مقطع ڤيديو يخاطب‬
‫غصبا عن شواربكم!"‬
‫ً‬ ‫ئيس سوريا القادم‬
‫عربي‪" ،‬أنا ر ُ‬
‫مارس المسافرون الذين أمامي حقهم بكل حرية وديمقراطية في ظل البنادق‪ ،‬ثم غادروا‬
‫فجأة رأيتها تندفع نحو أحد "صناديق‬ ‫ً‬ ‫إلى الطائرة‪ .‬لم يبق أمامي إال سيدة ُم ِسَّنة‪.‬‬
‫ِ‬
‫الديار‬ ‫عفشتموها‪ ،‬يا أوالد الحرام!" َّلقم حماةُ‬
‫االقتراع" وهي تصرخ‪" ،‬هذه َغسالتي التي َّ‬
‫قفزت ألنبطح على األرض لعلي أحتمي بها من و ِ‬
‫ابل‬ ‫ُ‬ ‫َبواريدهم َّ‬
‫وسد ُدوها نحوها‪.‬‬
‫َ‬
‫بلمح البر ِق – على جانب السرير‪.‬‬
‫هبطت ِ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الرصاص‪.‬‬

‫تضحك من قفزتي وهي تحمل صيني ًة فيها فنجانان من‬


‫ُ‬ ‫وجدت زوجتي واقف ًة‬
‫أفقت ف ُ‬ ‫ُ‬
‫القهوة التي اعتدنا تناولها معاً عصر ِ‬
‫كل يوم‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪257‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫دفــــــــا‬

‫فكرة‪ :‬أديب رزوق‬

‫مدرب في مجال المسرح‬


‫ومسرحي وممّثل من سوريا‪ّ ،‬‬ ‫كتابة‪ :‬رافي ميناس‪ ،‬قاص‬
‫ّ‬
‫التفاعلي‪.‬‬
‫ّ‬

‫عاد فريد إلى شقته الصغيرة التي ورثها عن ِ‬


‫أهله‪ ،‬بعد أن دفع أجرتها شه اًر مقدم ًا؛‬
‫عالماً بأنه الشهر األخير الذي باستطاعته جمع المبلغ‪.‬‬

‫تعثر فريد بشخص نائم فوق الرصيف وبكيس قمامة كبير بلون الظالم‪ .‬صعد األدراج‬
‫مستنداً إلى الجدار حتى وصل إلى الطابق الرابع‪..‬‬

‫جلس على األريكة المهترئة‪ ،‬بعد أن خلع حذاءه المهترئ وصفح ُ‬


‫نفسه بثالث بطانيات؛‬
‫إحداها حملت صورة نمر هندي مخيف‪ .‬لم يكترث فريد لمخالب النمر وال للظالم‪ ،‬ولم‬
‫يقو حتى على ِ‬
‫لعنه‪ .‬بل لعن البرد والذل ومخلالت أم رضوان‪ .‬فلو سمعت أم فريد‬
‫نصيحة أم رضوان في مشاركتها في صناعة المخلالت‪ ،‬لكان فريد وأمه ‪-‬التي ماتت‬
‫منذ أشهر‪ -‬لكانوا اآلن في هولندا‪ُ ،‬يخللون كل شيء؛ حتى الموز!‬

‫نظر إلى "صندوق الحريق" فرآه فارغاً‪ .‬أعتاد فريد على جمع أي مادة حارقة من ورشات‬
‫َ‬
‫الخياطة والنجارة؛ حتى كان يجمع أطباق البيض الكرتونية الفارغة من معامل‬
‫الحلويات‪ ،‬يضعها في ذاك الصندوق؛ ليشعلها فيما بعد بدالً من المازوت المفقود‪.‬‬

‫يبحث عن الوالعة في جيوبه‬


‫ُ‬ ‫أخرج فريد سيجارة من جيب معطفه بيد مرتجفة وراح‬
‫الفارغة‪ .‬أشعل والعته الصينية فاندهش من نورها‪ ،‬فرح لدفء نارها الصغير‪ .‬اعتذر‬
‫من النار إلهماله لها في كل مرة كان يستخدمها‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال ظالل األشياء الساكنة وهي‬


‫ال النار‪ ،‬متأم ً‬
‫عته الصينية متأم ً‬ ‫ظل فريد م ِ‬
‫ال وال ُ‬
‫شع ً‬ ‫ُ‬
‫تتراقص مع خصر اللهب‪ .‬ضحك لرؤية المدفأة الجالسة بوجه غبي دون أي نفع‪،‬‬
‫باردة‪ ،‬ميتة‪ .‬أخذ الورقة التي على الطاولة‪ ،‬عانقها مع النار الصغيرة‪ ،‬ثم هب من‬
‫ِ‬
‫تحت أنياب النمر‪ ،‬فاتحاً أنياب المدفأة ورامياً بالورقة إلى جوفها‪.‬‬

‫أمسك كتاباً عن التنمية البشرية ورماه طعاماً شهياً للنار التي أخذت تكبر‪ .‬ضحك فريد‬
‫لرؤية المدفأة تضحك مجدداً في بيته‪ .‬أفرغ مكتبته الصغيرة التي صنعها أيام الجامعة؛‬
‫وراح يرمي الكتاب تلو اآلخر في النار كهوالكو…‬

‫أخرج ألبومات الصور‪ ،‬وراح يضحك مع بعض الدموع التي لمعت في جحر عينيه‪.‬‬
‫أهدى ذكرياته وطفولته ثمناً للدفء…‬

‫أحضر ثياب أمه التي مازالت معلقة في الخزانة الخشبية؛ وأحضر الخزانة أيضاً‪ ،‬ثم‬
‫لونهم جميعهم بلون النور…‬

‫راحت األشياء تعانق النار طلباً للدفء‪ ،‬طلباً للحياة مجدداً؛ بينما كان فريد يرقص‬
‫كالمجنون فرحاً مستمتع ًا بكل هذا النور والدفء… فتح باب الشرفة وصار يصرخ‬
‫"دفاااا‪ ..‬دفاااا" ليجمد في مكانه مبتسماً ابتسامة طفولية‪.‬‬

‫كانت النار تخرج من معظم البيوت‪ ،‬من كل الشرفات‪ ،‬كانت المدينة منيرة جدًا ‪ ،‬دافئة‬
‫جداً ال من الشمس التي استيقظت للتو‪ .‬كانت المدينة تحترق‪ ،‬لكنها دافئة‪ ،‬كما كانت‬
‫من قبل "محترقة ودافئة" لكن بصمت!…‬

‫كالغري ‪ -‬كندا‬

‫‪259‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عضه الكلب‬
‫السائق الذي ّ‬
‫محمد صالح العجيلي‬

‫كاتب وقاص سوري‪ ،‬يقيم في تركيا‪.‬‬

‫أبو عبود سائق في مديرية مالية الرقة‪ ،‬يعمل على سيارة تنقل الجباة إلى االرياف‬
‫لتحصيل ضرائب المالية من أصحاب االغنام‪ ،‬ما يسمى بـ القوجان*‪.‬‬

‫ذات يوم أخذ الجباة نحو قرى البادية البعيدة‪ ،‬هناك حيث موسم قص صوف المواشي‪.‬‬
‫وكان غالبية مربي االغنام‪ ،‬يرسلون أصوافهم إلى المدينة لبيعها‪ .‬أراد أبو عبود شراء‬
‫صوف من إحدى العجائز‪ ،‬وقد أوعدها أن يدفع ثمنها في المرة القادمة‪ ،‬حينما يعود‬
‫إليهم‪ ،‬في جولة جديدة‪.‬‬

‫غاب أبو عبود عن البادية‪ ،‬أكثر من شهرين‪ .‬وذات يوم‪ ،‬ذهبت سيارة جباية المالية‬
‫إلى البادية‪ ،‬ولم يكن السائق أبو عبود‪ ،‬فسألت العجوز عنه‪ ،‬فما كان من السائق اال‬
‫ان قال لها ممازحاً‪ :‬أتدرين يا حجة‪ ،‬أبو عبود مريض شافاه الله وعافاه‪ ،‬ادع له‬
‫بالشفاء‪ .‬قالت‪ :‬مابه (يا سواديني*) قال قد عضه كلب منذ عدة أيام‪ ،‬وأصيب بداء‬
‫الكلب‪ ،‬وهو جالس في بيته (يعوي ويكخ) على كل من يقترب منه‪ .‬صاحت العجوز‬
‫وقد ساءها الخبر‪ ،‬وهي تنادي ابنتها فاطمة‪ ( :‬يا ويلي يا فطيم‪ ..‬راح حق الصوف‬
‫يابنيتي‪ ..‬راح حق الصوف)‪.‬‬

‫أخفى السائق ضحكته عنها‪ .‬وحين عاد إلى المدينة‪ ،‬أخذ يقص على أبو عبود ما‬
‫جرى بينه وبين العجوز‪ ،‬صاحبة الصوف‪ .‬وحدثه عما ما قالت‪ ،‬لذلك طلب أبو عبود‬
‫من المدير أن يذهب في الجولة القادمة مع الجباة‪ ،‬كي يدفع للعجوز قيمة الصوف‬
‫الذي تأخر به عليها كثيرا‪ .‬وفعال كان أبو عبود في أول رحلة نحو البادية‪ ،‬ليلتقي‬
‫بائعة الصوف‪ .‬حين وصل الصحب إلى القرية‪ ،‬توقفت السيارة عند بيت العجوز‪،‬‬

‫‪261‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ترجل الجباة منها‪ ،‬بينما ظل أبو عبود في كرسيه‪ .‬قال رئيس الجباة مخاطبا العجوز‪:‬‬
‫ها نحن أحضرنا لك أبو عبود يا حجه‪ .‬صاحت من بعيد (هال بيكم‪ ..‬الحمد لله على‬
‫السالمه خيي أبو عبود ما على قلبك شر)‪.‬‬

‫تصنع أبو عبود التجهم‪ ،‬وعدم االكتراث بها‪ .‬قالت مابه‪ ..‬ألم يشفى بعد؟! قال أحدهم‪:‬‬
‫بلى شفي‪ ..‬لكن بقي فيه بعض اآلثار الطفيفة‪ .‬وما أن اقتربت من السيارة‪ ،‬حتى قام‬
‫أبو عبود بحركة غريبه منه أخافتها‪ ،‬فابتعدت عنه‪.‬‬

‫بقي أبو عبود في السيارة ينظر إليها‪ ،‬وقد فتح عينيه على وسعهما‪ ،‬ومد لسانه مغالبا‬
‫أنفاسه ‪ .‬فدب في قلبها الرعب من جديد‪ ،‬وهي تراقبه وتقول‪ :‬ألم يشفى بعد ؟! لكن أبو‬
‫عبود لم يعد يتمالك نفسه‪ ،‬فانفجر بضحكة عالية مجلجلة‪ ،‬وتبعها منادياً‪ :‬تعالي‬
‫ياحجة‪ ..‬تعالي‪ ،‬ليس بي شيء والحمد لله‪ ،‬فقد كان الشباب يمازحونك حينما قالوا لك‬
‫أنني مريض وقد عضني الكلب ‪..‬‬

‫ترجل من السيارة‪ ،‬واقترب منها‪ ،‬وقد ارتسمت على وجهه بسمة صافية‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫اخسا عليك يا حجه أم فاطم ‪ ..‬حين قال لك الشباب أنه قد عضني الكلب‪ ،‬أما كان‬
‫حرياً بك أن تقولي شافاه الله وعافاه‪ ،‬خير من أن تبكي على ثمن الصوف‪ ..‬هذا حقك‪.‬‬
‫ودفع لها ثمنه‪ .‬راحت الحجة تعتذر‪ ،‬لكن دون جدوى‪ ،‬إذ راح أبو عبود ُيصر على‬
‫العتاب وهو يردد‪ :‬باطل يا حجة باطل!‬

‫* القوجان‪ :‬أو القوشان‪ ،‬هو ضريبه الدولة على مالكي األغنام‪.‬‬

‫* ياسواديني‪ :‬دعاء تدعو به العجائز في حال اإلشفاق على احد او الحنان عليه‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫سقف يأخذ الوجل‬

‫ماجد عاطف‬

‫قاص وكاتب فلسطيني‬

‫كانت الدورية من الطراز األمريكي الحربي‪ ،‬ذات األضواء الواسعة الكاشفة‪ ،‬تالحقه‪.‬‬
‫الجندي من على كوة السطح يطلق النار يحاول اصابته‪ .‬خرقت صلية من الرصاص‬
‫الزجاج والبدن‪ ،‬لكنها لم تصبه‪ .‬واصل القيادة‪ .‬توقع أن تنضم دوريات أخرى‪ ،‬فلم يكن‬
‫له بد من االنعطاف إلى الطريق الترابي‪ ،‬الفاصل بين حدود "المناطق"‪ ،‬والذي يمر‬
‫عبر التلة والحرش‪ ،‬ملتفا حول الشارع الرئيس‪ .‬الظالم مطبق على الطريق المترب لوال‬
‫مخروطي الضوء‪ ،‬والعتمة تلوح كأشباح في ظالل السرو والصنوبر‪ .‬تأخرت الدورية‬
‫عنه‪ ،‬كأنها تخشى من كمين‪.‬‬

‫لم يفعل شيئا‪ ،‬لكنه هارب‪ .‬تشاجر مع صاحب المسلخ‪ ،‬وكل ما في األمر أنه احتج‪.‬‬
‫كان الخالف على من يتحمل مسؤولية التقطيع الخاطئ (أو المتعمد)‪ ،‬للنعام والحبش‪.‬‬

‫تدخل ذو الجدائل واتهمه‪.‬‬

‫حاول أن ينفي مسؤوليته‪ ،‬ألن معظم عمله في التغليف والتخزين وناد ار جدا ما يذهب‬
‫إلى ركن التقطيع‪ .‬لمع في رأسه أكثر من احتمال‪ ،‬لكنه لم يقبل أن يحملها لغيره‪ .‬أحس‬
‫أن ثمة شيء في األمر كله مفتعل‪ .‬كانت لديهم كامي ارت وال يحتاجون لسؤاله‪ .‬موقفه‬
‫واضح‪ :‬االتقان في العمل مقابل األجر‪ ،‬لكن ليس التدخل في العمال أنفسهم‪ .‬هذا ما‬
‫عمل عليه طوال شهور في العطل‪.‬‬

‫لم تسر األمور كما يجب‪ .‬عرفة الذي شغله بنفسه‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬كان يرى أن يأخذ‬
‫فرصته في العالقة مع صاحب المسلخ‪ .‬إنه يراهن على لغته العبرية والمجامالت‬
‫والتزلف والتبادل الخفي‪ .‬يحسب أن اليهودي يكترث لشخصه‪ .‬كان ال بد من وضع‬

‫‪262‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الحدود‪ .‬العالقة اضط اررية وليست خيارا‪ ،‬وتحتاج إلى ضوابط‪ .‬وهنا نشا الخالف‬
‫بينهما‪.‬‬

‫لو كان ممكناً‪ ،‬فالعمل لديهم مرفوض‪ .‬يجب رفضهم ورفض اقتصادهم كله‪ .‬لكن الناس‬
‫لديها م سؤوليات وحاجات وربما طموحات‪ ،‬واألجرة المتدنية المحلية ال تكفي‪ .‬وعندما‬
‫يرى أحدهم كيف تتم الصفقات في السياسة‪ ،‬فتصبح شريحة من (المناضلين) أصحاب‬
‫حسابات وشركات وعقارات‪ ،‬وكيف يفرض السماسرة المختلفون أنفسهم جانين األموال‬
‫على حساب الناس‪ ،‬وكيف يتلون التجار والموظفون‪ ،...‬يكفر بكل االدعاءات‪ ،‬ويجد‬
‫نفسه مضط ار للعمل عندهم‪ ،‬والتعامل مباشرة مع المصدر‪.‬‬

‫المصانع المحلية بأكملها مزيفة‪ ،‬اآلالت والمعدات والطاقة والخامات والصيانة‬


‫والمستلزمات والخبرات بل والسوق أيضاً‪ .‬البنايات والمكاتب للغرباء واالنتهازيين‪،‬‬
‫والوظائف وهمية غير منتجة‪ .‬ال صناعات وال زراعات‪ .‬أخبار مكررة ومسلسالت‪...‬‬
‫ووكاالت فكرية أو ثقافية أو اجتماعية‪ ،‬ال تختلف عن وكاالت الكوكا كوال والجي أم‬
‫سي‪ .‬البقية‪ ،‬ادعاءات (وطنية)‪ ،‬بأجرة استغاللية متدنية جداً مع ذهاب الفارق إلى‬
‫الجيوب‪.‬‬

‫حلوا مشكلة مئات االالف من المنتفعين الذي تغلغلوا‪ ،‬على حساب ستة ماليين‪.‬‬

‫أحس أن سعيه الخلفي للتوصل إلى تفاهم بين العمال يبقيهم منسجمين ومرتاحين‬
‫ومنتجين‪ ،‬قد بلغ‪..‬‬

‫قال له اليهودي‪ ،‬وهو يشير إلى مؤخر رأسه‪:‬‬

‫‪ -‬الي عنين هون‪..‬‬

‫إما أن يعرف من أحد العمال أو (مرِاقب) عربي‪ .‬األخير يفتح االحتمال على مهمات‬
‫اجتماعية لـ (المراقبين)‪ ،‬وليست سياسية أو أمنية‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نظرات ذي الجدائل اختلفت‪ ،‬إنها متوجسة عدوانية مرِاقبة‪ .‬عندما يمر إلى جانبه دافعا‬
‫العربة يشحذ السكين ويذبح بقسوة‪ .‬ويناديه‪ ،‬ليكلفه بالنفايات‪ ،‬مع أنها مهمة غيره‪ .‬وقد‬
‫يصرخ عليه دون سب ليتدخل عرفة و(يحل) المشكلة‪.‬‬

‫لم يكن هنالك أي بعد سياسي وال حتى نقابي إلنشاء ضغوط تحسن ظروف العمل‪.‬‬
‫لكن عرفة وقف ضده‪ .‬إنه من مدينته نفسها ويعمل إلى جانبه‪ ،‬في البرادات‪ .‬لم يستطع‬
‫فهم دوافعه بالضبط‪ .‬شخصيته غريبة‪ :‬صغير الحجم قليل االنتاجية‪ ،‬يسعى للتميز‪ .‬قد‬
‫يخطئ في عمله وغيره يتحمل عنه‪ ،‬لكنه يغطي على أخطاء غيره كذلك ويستغلها‪.‬‬

‫ثم اكتشف أن له عالقات مع النقابة المحلية التي هي حركية وال تستطيع فعل شيء‬
‫بحكم السياسة والقوانين‪ .‬أما الهستدروت فاللجوء إليها أسوا‪..‬‬

‫تحول العمال إلى مجموعة من الكائنات المتوجسة الحذرة التي تتنافس وتصعد على‬
‫ظهور بعضها وتستغل نقاط الضعف‪ .‬عرفة ماهر في هذه المعادلة‪.‬‬

‫أتى مرة مقترحا ترتيبا يعمل بموجبه فقط على البرادات‪ .‬أزعجه أوال أن يرتب انه امتلك‬
‫صالحية‪ ،‬ثم صحيح أن (الترتيب) مريح له شخصياً‪ ،‬لكنه يعني فصل عامل لديه‬
‫أسرة‪ ،‬فرفض‪.‬‬

‫دون أن يؤدي وظيفته جيداً في التحميل والتنزيل (ما يدفع غيره لفعل هذا)‪ ،‬بنى صيت ًا‬
‫عند العمال من النوع العجيب‪ :‬بين التواطؤ واالبتزاز والتنفع‪ .‬الجميع يكرهه والجميع‬
‫يهابه والجميع مضطر للقبول به‪.‬‬

‫صاحب المسلخ انتبه له كذلك‪ ،‬كذلك ذو الجدائل‪.‬‬

‫جاء األمن واحتجزه في غرفة جانبية‪ .‬احتج وصرخ ودق الباب على أمل أن يخرجوه‬
‫أو أن يتضامن معه أحد فيضطرون‪ .‬بنو جلدته‪ ،‬على عادتهم‪ ،‬ما بين شامت وخائف‬
‫وجاهل‪ .‬ال مبرر لالحتجاز‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حاول ان يركز في حادثة الحبش والنعام‪ .‬كان التقطيع بعيدا عن المفاصل ونوعا اللحم‬
‫متداخلين‪ .‬ذو الجدائل بربر بشأن حرمة الرب القومي‪ .‬صاحب المسلخ تحدث عن‬
‫القانون‪ .‬عرفة الذي ترك شاحنته دعا إلى "البشويش بشويش" ولعله يتدخل ليتهرب من‬
‫العمل‪ ،‬هذا إذا لم تكن له هو عالقة به‪ .‬لديهم كاميرات ويستطيعون تحديد المسؤول‬
‫مباشرة‪.‬‬

‫ثم خطرت له فكرة‪ ،‬فلم يتردد وأخذ يكبر‪.‬‬

‫فتحوا الباب بسرعة‪ ،‬وبدا عليهم الجنون‪ .‬في طريقه للخارج‪ ،‬حيث يجهل ما ينتظره‪،‬‬
‫رأى التوتر والتململ على وجوه العمال‪ .‬االضطرار سرعان ما يزول عند أول عودة‬
‫للنفس أو زوال السبب‪ .‬ولما رأى مصباحي الدورية الضيقتين‪ ،‬عرف ما ينتظره‪ .‬إنها‬
‫الشرطة‪ .‬ارتد إلى األصل ودفع أحد رجلي األمن فأوقعه أرضاً وتملص‪ .‬ركض كيفما‬
‫اتفق‪ .‬ساعة كاملة وهو ينتقل من اتجاه شارع إلى آخر‪ ،‬ومن سور مصنع إلى مدخل‬
‫سوق‪ .‬ساعده الليل‪ .‬ثم سرق سيارة وتمكن من تشغيلها‪ .‬عندما اكتشفوا أمره‪ ،‬لم تكن‬
‫الدورية ذات األعين الضيقة هي التي تالحقه‪ ،‬بل الواسعة‪.‬‬

‫عند نهاية التلة واول حدود "المناطق" الفاصلة‪ ،‬الحظ وجود حاجز مرتجل وسيارت‬
‫شرطة محلية‪ .‬نسقوا فيما بينهم‪ ،‬وأطبقوا عليه‪ .‬لم يعد استعمال السيارة ممكنا‪ .‬فأوقفها‬
‫وترجل‪.‬‬

‫ثم حدث شيء غريب‪ ،‬كأن كل ما حدث له إنما رتب ليصل إلى هذه الغاية بالذات‪:‬‬

‫الدورية الحديثة من خلفه متوقفة ال تتقدم وال تطلق الرصاص‪ ،‬وسيارة للشرطة المحلية‬
‫موجودة أمامه تنتظر‪ ،‬فتحت له الباب الخلفي ليدخل بنفسه‪ .‬قد يضطرون فيسلمونه‬
‫للسجن‪ ،‬وقد يتفقون فيسجنونه‪ .‬األمر ال عالقة له هو به‪.‬‬

‫كان ثمة أضواء برتقالية متجمدة تحذف الجانبين‪ ،‬األراضي المكشوفة‪ ،‬عن بصره‪،‬‬
‫وكان الزمن صامتا ال يتنفس‪ ،‬أما من األعلى فسقف ال نهائي يأخذ الوجل‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يستطيع كالهما أن يفعل ما يشاء به‪ ،‬لكنه يرفضهما معا‪ .‬األمر لم يعد حادثة أو جناية‬
‫أو صوابا وخطأ‪ .‬ودون أن يفكر في احتمال أن يطلق عليه أحدهما النار أو يعتقله‬
‫رغماً عنه‪ ،‬مشى بهدوء وتجاوز باب السيارة المفتوح له‪ ،‬عائدا إلى بيته‪ .‬سيكون مفيدا‬
‫له أن يمشي على قدميه‪..‬‬

‫لوحة للفنان حمود سليمان‬

‫‪266‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بارليف الشمالي‬

‫عالء الدين حسو‬

‫كاتب وقاص وإعالمي سوري‪ ،‬مقيم في غازي عنتاب‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫كل جيب من الجعبة‬


‫أنعشتني نسمة شهر تشرين األول‪ ،‬وأنا المتزنر بجعبة الرصاص‪ُّ ،‬‬
‫يتسع لمخزن من ثالثين جثة‪ُّ .‬‬
‫كل طلقة تعني جثة‪ .‬ولكنه شهر تشرين األول‪ ،‬بداي ُة‬
‫موسم قطاف الزيتون‪ ،‬وما أجمل هذا الطقس في حلب‪ ،‬كل دفقة من النسمة الباردة‬
‫تُذكرني بها‪ ،‬يوم كنت أرها تقفز كالفراش بين أغصان الزيتون‪ ،‬نشاركها القطاف‪.‬‬

‫بات النهر الذي ُهجن بفرع من نهر الفرات‪ ،‬والذي يخترق حلب من شمالها باتجاه‬
‫جنوبها‪ ،‬فاصالً حدودياً بين شرق المدينة وغربها‪ ،‬بين الثائرين والموالين‪ ،‬بين فقراء‬
‫الحرية والكرامة وأغنياء الجشع والطمع والتسلط‪ .‬ينشط الذاهبون إلى الغرب صباحاً‬
‫مساء‪ ،‬حين يبسط الليل جناحيه‪ ،‬تتوقف الحركة‪ ،‬وتبدأ‬ ‫ويزداد عدد القادمون إلى الشرق‬
‫ً‬
‫لعبة التسلل والترقب على الثغور‪.‬‬

‫بات النهر مقطعاً بمعابر‪ ،‬لكل معبر اسم‪ ،‬أطلقت على معبري اسم بارليف الشمالي‪،‬‬
‫اقتل من أشاء وأنقذ من أشاء‪ ،‬إنها لعبة‬
‫اآلمر الناهي‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أنا اليوم سي ُد هذا المعبر‪،‬‬
‫األلوهية‪ .‬بدأت أفهم فرعون والملوك واألباطرة‪ ،‬متعة تملك الحياة ال تقارن وال توصف‬
‫وال تشرح‪ ،‬تحتاج إلى التذوق‪.‬‬

‫العم نعسان والد سحر‪ ،‬يوم ذهابنا لقطاف الزيتون في بستانه القريب من مدينة‬
‫أتذكر َّ‬
‫عفرين‪ ،‬صادفت مناسبة تشرين‪ ،‬فحدثنا عن الساتر الترابي المعروف باسم خط بارليف‬
‫نسبة إلى "حاييم بارليف" القائد العسكري اإلسرائيلي الذي تولى قيادة سالح المدرعات‬
‫أثناء العدوان الثالثى على مصر عام ‪ ،2616‬وتكلف بناء الخط الدفاعى حوالي نصف‬
‫مليار دوالر‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حدثنا كيف هزمت الهندسة المصرية هذا الخط‪ ،‬شرح لنا كيف طرح المهندس المصري‪،‬‬
‫اللواء باقي ذكي يوسف‪ ،‬فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في خط بارليف‪،‬‬
‫والتي ُسجلت كبراءة اختراع‪ ،‬وأصبحت تُدرس في الكليات والمعاهد العسكرية على‬

‫مستوى العالم‪ ،‬كيف تم تنفيذ الخطة‪ ،‬كيف ُ‬


‫صعقت إسرائيل‪.‬‬

‫ذلك اليوم قررت أن أصبح مهندساً مكيانيكاً‪ ،‬شجعني العم نعسان وقتها‪ ،‬كان مشغوالً‬
‫بكتابة كتابه عن قرى الشمال السوري‪ ،‬بينما كنا (شلة) الثانوي ُنشارك سحر وأهلها‬
‫قطاف الزيتون‪ .‬كان من الشلة أخوها خليل الذي غرق في البحر أثناء محاولته اللجوء‬
‫إلى أوربا عبر تركيا‪ ،‬وحسام الذي بات اليوم على رأس مجموعة تقمع الثائرين‪.‬‬

‫كان العم نعسان والد سحر وخليل مدرساً للجغرافيا‪ ،‬كان شيوعياً في شبابه‪ ،‬اعتزل‬
‫مبكر‪ ،‬وكنا نسعد بحديثه الجميل عن التاريخ والسياسة‪ ،‬وعن كفاحه‪.‬‬
‫اً‬ ‫العمل السياسي‬
‫مات قبل سنوات‪ ،‬ال أعتقد إنه أتم كتابه عن قرى الشمال‪ ،‬مثلما لم يقدر أحد منا على‬
‫إتمام تعليمه‪ ،‬هناك من فشل في الحصول على الشهادة الثانوية‪ ،‬وهناك من نجح‬
‫بدرجة لم تمكنه الدخول في أي فرع من فروع الجامعة‪ ،‬ما عدا خليل الذي درس‬
‫االقتصاد‪ ،‬وسحر التي تصغرنا بعامين التحقت بمعهد المعلمين‪.‬‬

‫كنت في مكتبي القريب من المعبر حين رأيتها‪ ،‬كانت وحيدة تتقدم بخطوات بطيئة‬
‫تمسك بيد طفل في السابعة‪ .‬كانت تعليماتي للعناصر واضحة‪ .‬ال مخلوق يمر بعد‬
‫صالة المغرب‪ .‬وكان آذان المغرب قد مضى عليه عشرون دقيقة حين اقترب مني‬
‫مساعدي وقال‪:‬‬

‫‪( -‬معليم) هناك سيدة ومعها طفل تدعي معرفتك‪.‬‬

‫حين خرجت عرفتها‪.‬‬

‫الحب الذي‬
‫ُّ‬ ‫أعرف (سحر) ولو من بين ألف امرأة‪ .‬لو كانت متدثرة بمئة غطاء‪ ،‬هو‬
‫ُ‬
‫الذليل وإن كنت سلطان عصرك‪ ،‬وأنت‬
‫ُ‬ ‫سلطان لك عليه‪ ،‬يقلبُّك كيفما يشاء‪ ،‬أنت‬
‫َ‬ ‫ال‬

‫‪268‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المكرُم وإن كنت تحت سيف جالدك‪ ،‬ثمانية أعوام مضت‪ ،‬لم أنس صورتها‪ ،‬نفسها‪،‬‬
‫أنس‬
‫ضحكتها‪ ،‬مشيتها‪ .‬كانت تدنو مني وتدلل‪ ،‬تطلب فألبي سعيداً ولو على دمي‪ ،‬لم َ‬
‫يوم طلبت مني التبرع بدمي ألخيها‪ ،‬يومها كنت سأقدم كل دمي بفخر واعتزاز‪.‬‬

‫كانت تقف على الطرف اآلخر‪ ،‬تمسك بالطفل بيدها اليمني وتحمل حقيبة بيدها‬
‫اليسرى‪.‬‬

‫سألته ماذا تريد‪ ،‬التفت إلي وقال‪:‬‬

‫‪ -‬ال نعرف‪ ،‬قلنا لها ممنوع العبور فقالت أريد معلمك‪.‬‬

‫في حاالت الحرب تفقد كل المشاعر‪ ،‬تنقلب كل المعارف‪ ،‬ال تثق حتى بالسالح الذي‬
‫بين يديك ال تعرف متى يخيب ظنك‪ ،‬تستعصي رصاصة فتكون القتيل بدل القاتل‪.‬‬
‫إنها معركة ال خيار لنا فيها‪ ،‬وال مجال لك اال الخيار‪ ،‬الهرب أو القتال أو االستالم ال‬
‫خيار رابع‪ ،‬قلت لمساعدي‪:‬‬

‫‪ -‬حسنا دعها تعبر‪ ،‬وأرسل معها بعض الشباب حتى تصل بيتها‪.‬‬

‫كنت أعلم أنه ال سرافيس بعد المغرب‪ .‬تنسحب الناس الي بيوتها أو مخابئها‪ ،‬تنتظر‬
‫الصباح أو الموت‪ ،‬كان الليل أشد وطأة من النهار‪ ،‬أصوات المدافع كالعقرب ال تعرف‬
‫متى تلسعك‪ ،‬في النهار ترى الطائرات تعرف على األقل مكان تدميرها‪ .‬هرول مساعدي‬
‫إلى نقطة العبور وتحدث معها ثم عاد مسرعاً وقال وبلهجة فيها خبث‪:‬‬

‫‪( -‬معليم)‪ ،‬قالت تريد رؤيتك‪.‬‬

‫الحب‪ ،‬ال يموت وال ينام‪ ،‬كالطنين المستمر يبقى في رأسك‪ ،‬تحاول تجاهله بالموسيقى‬
‫أو الضجيج‪ ،‬وما أن يسود السكون يظهر ويعكر صفوك‪ .‬لم أجرؤ على تجاهلها‪،‬‬
‫شعرت بسطوتها كرب العمل‪ ،‬مهما عال شأنك‪ ،‬فأنت تقف أمامه متلعثماً‪ ،‬ثمة صوت‬
‫خفي يدفعني أن أجرجرها‪ ،‬أجردها من مالبسها واتركها للعناصر الجائعة‪ ،‬كم كنت‬
‫أحلم ذات يوم أن أفعل بها ذلك حين قررت التخلي عني‪ ،‬والزواج من حسام‪ ،‬هي‬

‫‪269‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اختارت حسام‪ ،‬مع أن والدها رفض حسام‪ ،‬وكذلك خليل أخوها الذي يربطني معه دمي‬
‫الذي قدمته له ذات يوم‪.‬‬

‫كانت سحر تشاركنا النقاشات‪ ،‬تعزف على العود وتغني مع أخيها خليل‪ ،‬حفالت رأس‬
‫السنة كان لها مذاق خاص في بيتهم‪ ،‬لكنها اختارت حسام‪ ،‬كانا أكثرنا جداالً ونقاشاً‪،‬‬
‫وكثير ما انتزعت الجلسة األسبوعية بسبب صدامهما‪ ،‬وكان أثر صاعقة ارتباطها به‬
‫اً‬
‫كبير جداً‪.‬‬

‫لم نكن نصدق‪ ،‬حسام الذي قرر ترك الشلة فجأة بعد آخر اعتقال للعم نعسان‪ .‬مسكين‬
‫العم نعسان‪ ،‬لقد اعتزل الكالم وتفرغ للكتابة بعد خروجه من المعتقل‪ ،‬وذلك بعد سبعة‬
‫أيام من انتفاضة آذار ‪ ،1114‬كنا مع خليل وأحمد الذي انضم إلينا نتحدث عن‬
‫ضرورة الهجرة إلى مكان يحترم اإلنسانية‪.‬‬

‫الخبر الصاعق كان في ربيع ‪ ،1111‬اجتمعنا مرة أخرى في بيت العم نعسان كما كنا‬
‫من قبل‪ ،‬كنا سعداء ثمة تغير سيحدث‪ ،‬بالدنا ستكون أجمل‪ ،‬ولكن العم نعسان كان‬
‫صامتاً‪ ،‬وحين أردنا التحرش به‪ ،‬سألناه عن كتابه أين وصل؟ ابتسم وقال "عفرين‬
‫وحدها ثالثمئة وخمسين قرية‪ ،‬كل قرية حكاية‪ ،‬تحتاج إلى كتاب‪ ،‬ما بالك الشمال‬
‫السوري؟"‪.‬‬

‫كان خليل قلقاً أيضاً‪ .‬وكان أحمد وجميل الذي التحق بنا مستغربان من سحر‪ .‬في‬
‫آخر جلسة – توقفنا بعدها ‪ -‬كنا نرقب سحر‪ ،‬سحر التي دخلت بشكل آخر‪ .‬سلمت‬
‫باقتضاب ثم قالت" اعتذر منكم لتأخري ويعتذر حسام عن الحضور"‪ُ .‬بغتنا‪ ،‬حين سمعنا‬
‫اسم حسام الذي ترك الحي وانتقل إلى غرب المدينة‪ ،‬سألتها‪" :‬حسام الذي نعرفه؟"‬
‫ابتسمت وهي تشير إلى الخاتم في يدها‪:‬‬

‫حذر هو خطيبي‪ ،‬وسنتزوج بعد أسبوعين‪.‬‬


‫‪ -‬نعم‪ ،‬كن اً‬

‫‪271‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كلهم يعرفون طبعي‪ ،‬ال أغضب بسرعة‪ ،‬ولكن إن غضبت ال أهدأ بسرعة‪ ،‬لكن ذلك‬
‫اليوم كان التحول األكبر في حياتي‪ ،‬تحولت لبركان‪ ،‬صفعتها وخرجت من المنزل دون‬
‫رجعة‪ ،‬ثمانية أعوام مضت‪ ،‬سمعت وفاة والدها بعد عامين‪ ،‬لم أحضر الدفن وال العزاء‪،‬‬
‫قاطعت كل صديق كان يذكرنا بهم‪ ،‬حتى خليل دمي الذي يسري في شرايينه لم أعد‬
‫أكلمه‪ ،‬كان خبر زواجها قنبلة مزقت قلبي‪.‬‬

‫مع هبوط الليل‪ ،‬تنقلب المدنية إلى وكر عقارب‪ ،‬وتبدأ مدافع النظام تلسع‪ ،‬فأمرت‬
‫مساعدي‪:‬‬

‫‪ -‬دعها تدخل غرفة المراقبة وسأحضر بعد قليل‪.‬‬

‫تحصينا‪ ،‬راقبت مساعدي يخبرها‪ ،‬ثم يساعدهما في‬


‫ً‬ ‫كانت غرفة المراقبة أكثر الغرف‬
‫اجتياز النهر عبر كاشف الهاتف‪ ،‬ما أصعب فتح جرح التئم‪ ،‬ابتسمت رغم األلم‪ ،‬كانت‬
‫تدوس على بضع حجرات رصفت عرض المعبر كأنها قنابل أرضية‪ ،‬كان الطفل أكثر‬
‫رشاقة‪ ،‬ولكن خطواتها كما هي‪ ،‬كأنها سحر ابنة السادسة عشرة ال الثالثين‪.‬‬

‫‪0‬‬

‫عدت إلى مكتبي‪ ،‬كانت غرفة حراسة في مصنع قديم تم قلعها وجلبها إلى هنا‪ ،‬تحوي‬
‫ير حجرياً‪ ،‬جلست على الكرسي‪ ،‬ال أعرف ماذا أفعل‪ .‬هي‬
‫الغرفة طاول ًة وكرسياً وسر اً‬
‫اآلن في غرفة المراقبة‪ ،‬تنتظرني‪ ،‬معها طفل في السابعة وحقيبة‪ ،‬نظرت إلى سريري‬
‫الذي ارتاح فيه لساعات أو دقائق‪ ،‬نعم أكثر من مرة فكرت فيها‪ ،‬أتذكر تلك الليلة‬
‫التشرينية‪ ،‬يوم قطاف الزيتون‪ ،‬كيف جلسنا معاً في غرفة طينية‪ ،‬سحر وخليل والعم‬
‫نعسان وزوجته عدلة وحسام‪ .‬كيف الكل نام وبقيت انتظر سحر التي أومأت لي أال‬
‫أنام‪ ،‬كيف انسحبت من مكاني وتبعتها لخارج الغرفة الوحيدة‪ ،‬جلسنا تحت شجرة كبيرة‪،‬‬
‫قبلتني فلم أعد أشعر ببرودة الطقس‪ ،‬لم أشعر بالكون‪ ،‬كنت متحداً معها‪ ،‬كانت دقائق‬
‫ساخنة كحبات الزيتون المطعمة بدبس الرمان‪ ،‬كان نهداها كرمانتين لم ينضجا بعد‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫دخل مساعدي بأدب وسأل "هل أجلبها إلى هنا؟" عبست في وجهه ونهضت متجه ًا‬
‫نحو غرفة المراقبة‪ ،‬ندم مساعدي ال شك‪ ،‬كلمة جلب جارحة‪ ،‬هو معذور‪ ،‬ال يعرف‬
‫تاريخنا‪ ،‬نحن ال نعرف تاريخ بعضنا البعض‪ ،‬ال وقت لذلك‪ ،‬جمعتنا الحرب ووحدة‬
‫الهدف‪ ،‬في الحرب األولويات تختلف‪ ،‬تختلف القواعد‪ ،‬األوامر تكون أشد صرامة وأكثر‬
‫دقة‪.‬‬

‫حين دخلت غرفة المراقبة‪ ،‬كان عنصران يحاوران الطفل‪ ،‬كان يجيب بح اررة‪ ،‬وكانت‬
‫تراقبهم بخوف مغطى بالفرح‪ ،‬لم أر في عيني سحر (سحر) التي أعرفها‪ ،‬نهضت مع‬
‫نهوض العنصريين‪ ،‬خاف الطفل‪ ،‬ابتسمت في وجه الطفل الذي حضن أمه وأغمض‬
‫عينيه‪.‬‬

‫حز في نفسي المشهد‪ ،‬كان األطفال يبتسمون حين رؤيتي‪ ،‬اليوم يخافون‪ ،‬إلى هذه‬
‫الدرجة تغيرنا‪ ،‬الحرب تغير النفوس واألشكال‪ ،‬تُكبر اإلنسان‪ ،‬تُغير شكله‪ .‬أغلب الذين‬
‫أعرفهم فقدوا الكثير من أوزانهم‪ ،‬أسودت وانتفخت جيوب عيونهم‪ ،‬شحبت وجوههم‪.‬‬

‫كانت أنيقة كعادتها‪ ،‬فقط وضعت غطاء على رأسها‪ ،‬وبعض الخصالت المتملصة من‬
‫الغطاء يدل على تمردها‪ ،‬راقبت يدها لم أجد خاتم الزواج‪ ،‬كان الخاتم الفضي المطعم‬
‫بالياقوت يزين سبباتها‪ ،‬كانت هديتي لها قبل اسبوع من اعتقال والدها‪ ،‬ال زالت تحتفظ‬
‫به إذا‪ ،‬جلست على كرسي حديدي قريب منها‪ ،‬كانت العيون األربعة تتكلم‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬أريدك أن توصلني إلى تركيا‪.‬‬

‫‪ -‬مملكتي هنا‪ .‬حدودي ال تتجاوز المعبر‪.‬‬

‫‪ -‬تقصد بارليف الشمالي؟‬

‫‪ -‬نعم بارليف الشمالي‪.‬‬

‫كانت تقول لي أنها تفهم لماذا أطلقت على معبري بارليف‪ ،‬وكانت تحاول أن ال تظهر‬
‫أنها ما زالت تحبني‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نظرت إلى الطفل الذي احتضنها ثم سألتها‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪ -‬ابنه؟‬

‫‪ -‬بل ابننا؟ لهذا جئت إليك‪.‬‬

‫العنصران تتطلعا فينا‪ ،‬ثم استعدا للخروج فأوقفتهما وسألتها‪:‬‬

‫‪ -‬من تقصدين؟‬

‫‪ -‬إنه نعسان‪ ،‬ابني قبل أن يكون ابنه‪.‬‬

‫هنا سمحت للعنصرين بالخروج‪ ،‬ثم همست‪:‬‬

‫‪ -‬لو يعرفوا من أنت لما خرجت حية‪ ،‬لماذا أتيت؟ وهل يعلم ما تقومين به؟‬

‫داعبت الطفل ثم قالت‪:‬‬

‫‪ -‬ال يعلم‪ .‬ربما عرف اآلن‪ ،‬لقد هربت‪ ،‬إنه طفلي‪ ،‬ال أريد له الحياة هنا‪ ،‬أنت تعرفني‪.‬‬

‫تحاشيت النظر وقلت وأنا أراقب الطرف اآلخر للنهر‪:‬‬

‫‪ -‬كنت أعرفك قبل الزواج منه‪.‬‬

‫‪ -‬كنت مجبرة‪ ،‬كان علي دين‪.‬‬

‫التفت إليها‪ ،‬وجدتها مستعدة للمواجهة‪ ،‬قوية كعادتها رغم ما هي فيه‪:‬‬

‫‪ -‬أي دين؟‬

‫‪ -‬هو من أخرج والدي من المعتقل‪ ،‬والثمن هو الزواج‪.‬‬

‫طبع حسام الوصولية‪ .‬استفاد في فترة التسيعنات موجة قدوم مواطنو الجمهوريات التي‬
‫انفصلت عن االتحاد السوفياتي بعد انهياره للتجارة‪ ،‬وكان له أصدقاء كثر من األمن‬
‫والمخابرات‪ ،‬استطاع خالل فترة قصيرة من بناء شبكة عالقات مكنته دخول عالم‬

‫‪273‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العقارات‪ ،‬وبات من أعيان المدينة الجدد‪ ،‬إلى أن بدأت الثورة فتحول إلى أشد القامعين‬
‫للحراك الثوري‪.‬‬

‫رجعتني مداعبة أناملها لرأس الصبي إلى جلساتنا الخاصة في منزل والدها يوم مرض‬
‫خليل واحتاج لدم وكانت زمرتي من زمرته أو سلبي‪.‬‬

‫‪ -‬كيف عرفت أني هنا؟‬

‫‪ -‬أخبرني خليل قبل أن نفقده‪.‬‬

‫‪ -‬خليل؟ لم أره‪.‬‬

‫‪ -‬أحمد أخبره‪ .‬التقيا في استنبول‪ ،‬أحمد نجا هو في ألمانيا اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬وهل يعرف حسام ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬نعم يعرف أنك اآلن مسئول عن هذا المعبر‪ ،‬لذلك عليك اإلسراع في تأمين مكان‬
‫لي‪ ،‬وإيصالي إلى تركيا‪.‬‬

‫‪ -‬ولماذا ال تذهبين إلى عفرين؟‬

‫توقفت عن مداعبة رأس الصغير الذي غفى‪:‬‬

‫‪ -‬عفرين لم تعد لنا هي بيد رجال قنديل‪.‬‬

‫اقتحم مساعدي الغرفة الهثا وقال‪:‬‬

‫‪( -‬معليم) في تحركات نحونا‪.‬‬

‫تشبثت سحر بالطفل الذي استفاق من غفوته‪:‬‬

‫‪ -‬أرجوك ال شك هو‪ ،‬أنقذني منه‪.‬‬

‫كان معبري مدعوماً فهو أهم معبر وآخر معبر شمالي المدينة‪ ،‬كان عدد الثوار‬
‫ال‪ .‬ولكن هذه المرة كنت أكثر قلقاً‪.‬‬
‫يتضاعف لي ً‬

‫‪274‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫طلبت من عنصرين مرافقة سحر وابنها إلى بيتي السري القريب من هنا‪ ،‬وكانت ثمة‬
‫منازل عشوائية فتحت على بعضها البعض كطريق سري‪ ،‬ينتهي إلى شارع فرعي حيث‬
‫بيتي‪.‬‬

‫رفضت سحر‪ .‬قالت بأنها لن تتحرك خطوة من دوني‪ ،‬لكني كنت حازماً فقلت‪:‬‬

‫‪ -‬بل ستذهبين إلى بيتي اليوم‪.‬‬

‫أمسكت سحر بالطفل وحمل العنصر حقيبتها واتجهوا نحو الطريق المؤدي الي بيتي‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫كانت التحركات مثيرة في الجهة المقابلة‪ ،‬لم أعتد عليها منذ فتح هذا المعبر‪ ،‬طلبت‬
‫من مساعدي طلب تعزيزات‪ .‬وبعد أن اتصل‪ ،‬أخبرني بمجيئ أبي الليل‪.‬‬

‫نادر ما يأتي (أبو الليل)‪ ،‬بل ال يأتي‪ ،‬وإنما يرسل عناصره‪ ،‬فهو مشغول مع القيادات‬
‫اً‬
‫العليا هو ضابط االرتباط‪ ،‬حضوره يدل على خطورة األمر‪ ،‬دقائق معدودة وحضر أبو‬
‫الليل‪ ،‬كان كما هو‪ ،‬لحية طويلة‪ ،‬لباس أسود‪ ،‬ولوال لمعة أسنانه السليمة البيضاء لكان‬
‫كثير ما‬
‫متحداً مع الليل‪ ،‬لهذا هو أبو الليل‪ ،‬وكان هذا لقبه منذ مراهقته لسواد بشرته‪ .‬و اً‬
‫كنا نقول عنه (جميل) األسود‪ .‬كان آخر من التحق بشلتنا‪ ،‬وأول من التحق بالثورة‪،‬‬
‫ومن السباقين لرفع السالح دفاعاً عن منطقتنا‪ .‬كان أكثرنا حماساً للتغير بالسالح‪ .‬كان‬
‫مهندس التفجيرات الليلة في محالت الشبيحة في منطقتنا‪.‬‬

‫لمعت أسنانه حين وصل‪ ،‬ضحكته مرعبة‪ ،‬اقترب وصافحني كمن يعزي صديق‪ ،‬سألته‬
‫مستفسر عن وضع أهلي‪ ،‬هز رأسه نافياً‪ ،‬وسأل العناصر إن كانت‬
‫اً‬ ‫عن سبب قدومه‪،‬‬
‫هناك إشارات تدل على الهجوم؟ فأشاروا بالنفي ولكن التحركات اليوم أكثر من‬
‫السابق‪.‬‬

‫مسد ذقنه ثم أمسك بذراعي آم ار العناصر‪:‬‬

‫‪275‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬انتبهوا الشيطان ينام والعدو ال ينام‪.‬‬

‫قادني جميل الذي كان أصغر الشلة إلى مكتبي‪ ،‬في الحرب القيادة لألقوى ومن غير‬
‫الشباب‪ ،‬هو الذي عيني قائداً لهذه النقطة‪ .‬كنا (شلة) شهادة الثانوي‪ ،‬لم يتقدم أحد منا‬
‫للجامعة كما ذكرت‪ ،‬انشغلنا في أمور أخرى‪ ،‬كان لكل واحد منا مهنة يكسب منها‪،‬‬
‫وكان أبو الليل يملك مصنعاً يدوياً لصناعة البطاريات‪ ،‬كان مؤمناً بالفكر اليساري‪،‬‬
‫تخلى عن ذلك مع انهيار جدران برلين‪ .‬انقطع عن جلساتنا وتحول إلى جماعة صوفية‪،‬‬
‫إلى أن بدأت الثورة‪ .‬كان يمقت الظلم ويكره المخابرات‪ ،‬أذكر مرة كيف سحق رجل‬
‫ادعى أنه عنصر مخابرات في حارتنا ورغب التعدي على ابنة أرملة سمعتها لم تكن‬
‫جيدة‪ ،‬كان زعيم حارتنا‪ ،‬كل من يدخل الحي يعرف من هو أبي الليل‪ ،‬وهو اليوم سيد‬
‫منطقة‪.‬‬

‫دخلنا المكتب‪ ،‬كان من عادته إرسال قوائم المطلوبين‪ ،‬كنا نقبض عليهم ونسلمهم له‪،‬‬
‫سألته هل من قوائم جديدة؟ نفى ثم جلس على السرير وطلب مني الجلوس قربه ثم‬
‫قال‪:‬‬

‫‪ -‬اتصل بي‪.‬‬

‫‪ -‬من؟‬

‫أخرج سيجارة وأشعلها ثم قدمها لي مبتسماً‪:‬‬

‫‪ -‬أبو المجد‪ ،‬كل شلة الثانوي تعرف حكايتكما‪ ،‬لو سألت أي ساكن في الحارة سيقول‬
‫لك‪ :‬عبد المجيد يذوب عشقاً بسحر‪ ،‬وأنه لم يتزوج وإن وصل الثالثة والثالثين ألنه‬
‫يعشق سحر‪.‬‬

‫غببت نفساً عميقاً من السيجارة‪ ،‬وأصغيت له‪ ،‬فعلمت بأن حسام حصل على رقم أبي‬
‫الليل من أحمد‪ ،‬وأنه على علم بتحركاتنا‪ ،‬وهناك من يوصل له األخبار‪ ،‬ومن ثم سألني‬
‫عن سحر‪ ،‬فأخبرته ما حصل‪ ،‬سألني‪:‬‬

‫‪276‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬ماذا نويت؟‬

‫‪ -‬ماذا تريد مني أن أفعل؟ طبعاً لن أردها ‪ ..‬من الطبيعي تلبية طلبها‪.‬‬

‫كان يتصبر‪ ،‬ال بد أنه اتخذ ق ار ار وسينفذه‪ ،‬ولكن الرابط الذي بيننا جعله في هذا الوضع‬
‫فقال‪:‬‬

‫‪ -‬أبو المجد‪ ،‬حسام يطلب اعادتها‪ ،‬وإال سيتحول الضغط إلى هنا؟‬

‫‪ -‬مستحيل ولو على دمي؟‬

‫هنا نفذ صبره‪ ،‬وارتد إلى وضعه القائد وقال بلهجة بآمرة‪:‬‬

‫‪ -‬لقد طلبت من العناصر احضارها من بيتك وسأرسلها فو اًر إليه‪ ،‬ال يهمني وضعها‪،‬‬
‫يهمني ما نحن فيه‪ ،‬قضيتنا أكبر من قضيتك الشخصية‪ ،‬وهذا المعبر يسمح آلالف‬
‫الناس الهروب من جحيم النظام وشبيحته‪ ،‬ال نريد أن تسقط بوادبست بارليفك الشمالي‬
‫ونحرمهم‪.‬‬

‫‪ -‬هل نسيت ليلة النفعية؟‬

‫ال مباغتاً بكل تأكيد‪ ،‬جلس على حافة الكرسي‪ ،‬أطرق قليال ثم أخرج علبة‬
‫كان سؤا ً‬
‫التبغ وأشعل سيجارة وبدأ يعب من دخانها بأسلوبه المعروف حين يفكر في أمر هام‪،‬‬
‫يسحب عدة سحبات دفعة واحدة‪ ،‬يبلع نصفها ثم يخرج الباقي من منخريه‪.‬‬

‫ليلة النفعية هي الليالي الشهيرة التي شهدت نقاشا طويالً بين أفراد الشلة‪ ،‬كان حسام‬
‫يؤكد بأن عصر اليوم هو عصر الفلسفة األمريكية‪ ،‬وأن النفعية هي المحرك اليوم‪.‬‬

‫نهض دون أن ينظر إلي آم اًر‪:‬‬

‫‪ -‬غداً احمل ما ترغب واختر موقعاً آخر‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق النصوص‬

‫‪278‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الطريق الى الرقة‪ ،‬وطائر الشقراق‬

‫نصوص عابرة لألشكال التعبيرية‬

‫ابراهيم الخليل‬

‫كاتب‪ ،‬قاص وروائي سوري‪ ،‬صدرت له عدة مجاميع‬

‫شعرية وقصصية‪ ،‬وروايات‪ ،‬نقل بعضها الى غير العربية‪.‬‬

‫الرقة‬
‫الطريق إلى َّ‬

‫الرقة التي على الفرات ‪ /‬تخرج من عباءة العجاج أنثى ‪ /‬ووردة من دم‪..‬‬
‫*هي َّ‬

‫عرب ‪ /‬وكرد ‪ /‬وأرمن ‪ /‬وتركمان ‪ /‬سالالت الماء‪..‬‬

‫وهذا القرميد ‪ /‬الفخار ‪ /‬حرائق لذاكرة القتلى‪..‬‬

‫موالي ‪َ /‬سمني باسمي ‪ /‬واسقني من نبيذ الحضرة ‪ /‬علُني اصحو‪..‬‬

‫فالجسر القديم ‪ /‬النهر ‪ /‬باب بغداد ‪ /‬قبر األسماء‪..‬‬

‫اللون ‪ /‬الوجوه ‪ /‬أعواد القصب‪..‬‬

‫ومن القصب ‪ /‬خرج النشيد ‪ /‬الكتابة بماء الذهب‪..‬‬

‫هي الرقة ‪ /‬عبقرية المكان ‪ /‬وذاكرة الماء‪..‬‬

‫*هي الرقة ‪ /‬ذاكرة الطمي ‪ /‬والزل وأغاني الورادات والصيادين‪..‬‬

‫وهذا النهر شجرة لألنساب ‪ /‬في حروب الردة والرايات‪..‬‬

‫أكفان لألطفال ‪ /‬دمعة لأليتام ‪ /‬جمدها البرد‪ /‬كرز للمحتلين‪..‬‬

‫وحين نبحتني الكالب‪..‬‬

‫‪279‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫انصفق الباب‪..‬‬

‫فتحول النبيذ دماء‪..‬‬

‫والضحكة بكاء‪..‬‬

‫هو دير مار زكا ‪ /‬صوت مريم ‪ /‬يرتل الحزن خب اًز للجائعين‪..‬‬

‫والشمس كرة من نار ‪ /‬وهذا الرمل خاصرة النهر ‪ /‬كتاب للخراب‪..‬‬

‫*دثُريني ياامرأة ‪ /‬فهذا البرد قارس ‪ /‬وضحكتك حبلى بالهواجس‪..‬‬

‫موالي ‪ِ /‬‬
‫اسق العطاش‪..‬‬

‫أناشيدك ُس ْكري‪..‬‬

‫والعقل طاش‪..‬‬

‫وهذا الطفل سواي ‪ /‬صنعته حكايات الحارة القديمة ‪ /‬وزيزفون البستان‪..‬‬

‫*البارحه ‪ /‬األمس ‪..‬‬

‫لم يبق من األمس‪ ،‬غير البارحه‪..‬‬

‫قناعاً حجرياً ‪ /‬يستند إلى جدار أعمى ‪ /‬يغفو في صدري‪..‬‬

‫القتل ‪ /‬المأجورين ‪ /‬الطفولة المؤجلة ‪ /‬الزمن‪..‬‬


‫الوطن ‪َ /‬‬
‫َ‬ ‫الرفض ‪/‬‬
‫َ‬ ‫أسميه‬

‫أو لعُله الطريق إلى الرقة التي على النهر‪..‬‬

‫*عرق ‪ /‬سمك ‪ /‬أنثى ‪ /‬وآثار أقدام على رمل الضفة ‪ /‬تركته قدماك المعبودتان‪..‬‬

‫كفي ‪ /‬ملجأ للز ارزير والصعو والقبرات‪..‬‬


‫وجع الماء يدهمني ‪ /‬فأرفع َّ‬

‫والنسوة ‪ /‬األطفال ‪ /‬حجارة في الطريق ‪ /‬لوحة يصنعها الحريق بال توقيع‪..‬‬

‫موالي ‪ /‬علمني منطق الطير ‪ /‬والطواسين ‪ /‬ومثنوي الجالل‪..‬‬

‫‪281‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فدع العصافير ‪ /‬ترفع مناقيرها لألعلى ‪ /‬تل ُم زرقة السماء‪..‬‬

‫خذ بيدي أنا الحيران إلى الحضرة ‪ /‬واسقني نخب المرأة‪..‬‬

‫وقل ‪ :‬تلك إشارتك ياولد ‪ /‬فارحل مع الريح في البرية عند الغروب‪..‬‬

‫*ياكوبي الحيران أمام الشيخ والمريد ‪ /‬هذا السمك والعرق عشاؤنا األخير‪..‬‬

‫أنثاي ‪ /‬سمني العاشق ‪ /‬سمي الفرات القنديل ‪ /‬يدلني على الطريق‪..‬‬

‫وسمي الرقة الجدار ‪ /‬و ِ‬


‫انقش أسماء من رحلوا ‪ /‬ومن غابوا ‪ /‬ومن نهبوا‪..‬‬

‫فالطريق طويل ‪ ..‬طوي ‪ ..‬طووووو ‪ ..‬يل‪..‬‬

‫وروحك غافية في كفي ‪ /‬تطلب الدفء في برد الشتاء‪..‬‬

‫وقبة الخانقاه ‪ /‬تظللها الخطوط ‪ /‬رقعة ‪ /‬فارسي ‪ /‬كوفي ‪ /‬ثلث‪..‬‬

‫وصوت الناي دمعة حزن في الريح ‪ /‬سمها الوطن‪..‬‬

‫*للموت في الرقة فصول وغايات ‪ /‬سهواً شربوا الكأس ‪ /‬عمداً رحلوا‪..‬‬

‫وهجرتهم الموسمية طالت ‪ /‬هؤالء الغائمون ‪ /‬غجر القرن الحادي والعشرين‪..‬‬

‫وهذي القوافل العمياء ‪ /‬ففقدت البالد ظلها ‪ /‬ووجهها الدامي‪..‬‬

‫وانطفأت التنانير ‪ /‬رائحة الخبز ‪ /‬وباتت الغربة وطناً والجئين‪..‬‬

‫للسرايا والسبايا والمحظيات ‪ /‬باسم الفتاوى فتحوا بهن سوق النخاسة‪..‬‬

‫وعيون األطفال ‪ /‬تهمي دماً ساخناً ‪ /‬في هذا البرد على الوسائد‪..‬‬

‫فمن أبكى األطفال والصبايا ؟‬

‫من دلكم على الخيام ؟ هم أم هو ؟‬

‫لون النحاس ‪ /‬حول سريرك منفى ‪ /‬بيتك منفى‪..‬‬

‫‪281‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫*الرقة في حديقتها اللقالق ‪ /‬والحجل ‪ /‬وطيور الماء‪..‬‬

‫الرقة في حديقتها الخانقاه ‪ /‬وأنثاي ‪ /‬وشجرة األنساب‪..‬‬

‫وهذا العشق ‪ /‬من أين تأتي به الريح ‪ /‬ليدخل جمار القلب ؟ ‪..‬‬

‫ياولد ‪ /‬لقد افسدوا البالد ‪ /‬وبدلوا األسماء‪..‬‬

‫نصفهم جواسيس ‪ /‬ولصوص ‪ /‬ومخبرون‪..‬‬

‫والنصف اآلخر ‪ /‬إخوان مسلمون ‪..‬‬

‫ألواح تل البيعة‬

‫*مفتاح لباب أغلقته الريح‪:‬‬

‫‪-‬أسئلة كثيرة كحصى صغيرة ‪ /‬تثيرها أقراطك الذهبية‪..‬‬

‫أحياء كثيرون ينتظرون الهجرة ‪ /‬أو الموت المتربص‪..‬‬

‫مطر يسقط كدموع عاشقة ‪ /‬تلمه األرض ‪ /‬أو أوراق الشجر‪..‬‬

‫امرأة تشبهك في حديقة أنوثتها ‪ /‬يزهر توت العليق‬

‫رجل يشبهني ينتظرك ‪ /‬يحمل أشواقه في وردة الصبار‪..‬‬

‫مثقل بحكايا الرقة وخطاياها ‪ /‬مولع بفضائلها العالية‪..‬‬

‫هكذا المدن ‪ /‬تحمل أسرارها في أوشام الحناء‪..‬‬

‫هكذا أنت أيها العاصي ‪ /‬رمل وحصى في الماء‪..‬‬

‫مفتاح لباب أغلقته الريح ‪ /‬وتركت النافذة مشرعة لعصافير الفرات‪..‬‬

‫‪282‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫*النص‪:‬‬

‫‪-‬يدخل قلبك العشق ‪ /‬مثل ضوء في العتمة ‪ /‬يتسلل من بين أوراق الشجر‬

‫يدخلك عطر الزيزفون ‪ /‬يغسلك الفرات في سريره ‪ /‬ويعطيك سر اللون‬

‫في رائحة القهوة ‪ /‬وطعم الصباح في البن والماء ‪ /‬يختلطان على النار‪..‬‬

‫وهن تبغك ‪ /‬وأنت تحسو الفنجان ‪ /‬هذه القهوة موسيقا جنائزية ‪ /‬وهذه‬

‫النار أنا وأنت في جبة النحاس‪.‬‬

‫طائر السمرمر ‪ /‬هكذا يعود قلبي‪..‬‬

‫سريرة للغة ‪ /‬وهذا النهر الماء‪..‬‬

‫شبكة صياد ‪ /‬يغني الميمر ‪ /‬وهو يلقيها‪..‬‬

‫تلم األسماك واألسماء في أيقونة ‪ /‬من ألواح دير مار زكا‪..‬‬


‫ُّ‬

‫سيدة الطين واألصداف ‪ /‬لقلبك الهناء‪..‬‬

‫*زرقاء أنت مثل سماء بعيدة ‪ /‬بيضاء وحمراء كوردة الجوري ‪ /‬وأنا كالناي حزين‬
‫‪..‬‬

‫أودع غروب الشمس ‪ /‬والشمس دمعة من دم فوق تل البيعة ‪ /‬ترتل‬

‫مابقي من إنجيل الخراب في الدير ‪ /‬والخراب سجادة دمشقية ‪ /‬تمتد مزقا ‪ /‬ترثي‬

‫المكان ‪ /‬نشيد ألواح الطين هو المكان ‪ /‬وأنت المغني الجوال ‪ /‬وأنثاك فاكهة‬

‫طعمها مسروق من التوابل‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خيار العتمة‬

‫تناص‪:‬‬

‫لموالي شمس التبريزي‬

‫يمكن ألي شخص أن يختارك حين توهجت‪..‬‬

‫ولكنني سأختارك حين تنطفئ‪..‬‬

‫تأكد بأني وإن رأيت النور في غيرك سأختار عتمتك‪..‬‬

‫لموالي الجالل الرومي‬

‫ومن كان في حنايا الروح مسكنه‪..‬‬

‫ال فرق إن رأته العين أو غاب‪..‬‬

‫غزل فراتي‪:‬‬

‫كل يوم أكول اليوم باجر يبينون‬

‫وأنطي للمبشرين بوسة من العيون‪..‬‬

‫شطحات‪:‬‬

‫هذه المرأة لغة ‪ /‬وهذا الماء ‪ /‬الطمي كتاب ‪ /‬وأنا الوراق‪..‬‬

‫المريد‪ :‬موالي ‪ /‬ما العشق ؟ ‪ /‬وكيف تراه ؟‪..‬‬

‫‪284‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الشيخ‪ :‬رجل وامرأة ‪ /‬وطن ولغة ‪ /‬مدينة ونهر ‪ /‬حانة وخانقاه‪..‬‬

‫نبيذ وناي ‪ /‬قهوة وتبغ ونميمة ‪ /‬ماء ونار‬

‫المريد‪ :‬والحكمة؟‪..‬‬

‫الشيخ‪ :‬الحكمة في الجنون‪..‬‬

‫المريد‪ :‬وهل يعشق المجنون؟‪..‬‬

‫الشيخ‪ :‬وهل يعشق العاقل؟‪...‬‬

‫المريد‪ :‬صورتك عاشقاً‪..‬‬

‫الشيخ‪ :‬في النهار تلبسني جبتي ‪ /‬ناي وإنشاد في الخانقاه ‪ /‬رقص وموسيقا‬

‫والبخور أنفاس العاشق ‪ /‬وفي الليل أبيع جبتي للنباذ ‪ /‬وأشرب على‬

‫مذهب النواسي جه اًر ‪ /‬وأضيع في الحارة ‪ /‬وتحت شجرة التوت أغفو ‪ /‬وماء‬

‫النهر يجري فضة وذهباً‪..‬‬

‫المريد‪ :‬موالي‪..‬‬

‫الشيخ‪ :‬اسكت ياولد ‪ /‬ليس في الجبة أحد‪..‬‬

‫ق ‪ .‬ق ‪ .‬ج من حكايات الحارة‪:‬‬

‫كانت الحارة قطعة من قرية على النهر ‪ /‬عرب وكرد وتركمان ونصارى وشركس‬

‫وكانو ثالثة أوالد ‪ /‬عشقوا القراءة والنهر ومراقبة الورادات وغاسالت الصوف‬

‫واللعب في الجامع العتيق ‪ /‬الذي لم يبقى منه سوى المئذنة وبعض القناطر من‬
‫اآلجر‬

‫‪285‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وقد هجره المصلون منذ زمن بعيد ‪ /‬وإلى جانب المئذنة كان ثمة مقام على شكل‬
‫قبة‬

‫بناه أحد والة المدينة من العثمانين باعتبار القبر للصحابي وابصة بن معبد األسدي‬

‫وكان الحجاج العائدين من زيارة الديار المقدسة ‪ /‬يمرون لزيارة‬

‫المقام وشراء القهوة والتمر خاصة ‪ /‬وقد يتركون نذورهم في طاسة نحاسية ‪/‬‬
‫وضعت‬

‫جانب القبر ‪ /‬وقد دأب الثالثة على السطو على ماتركه الزوار ‪ /‬معاهدين ولي‬

‫المقام على رد مااقترضوه من نقود ‪ /‬باعتباره ديناً مؤجالً ‪ /‬ويصرفون هذا‬

‫الدين في حضور الحفالت السينمائية في دار السينما الوحيدة ‪ /‬وشراء الكتب من‬
‫بائع‬

‫للكتب المستعملة والصور الجاهزة لفاطمة المغربية وعنتر وعبلة وآخرين‪.‬‬

‫وكبرت القرية مع مرور الزمن ‪ /‬وزحفت البيوت حول المقام ‪ /‬جاءت هجرات جديدة‬

‫من األرمن وفالليح القطن ‪ /‬حين ازدهرت زراعته ‪ /‬ويوم كبروا ‪ /‬وتطورت‬

‫مطالعاتهم ‪ /‬اكتشفوا أن القبر يعود إلى سعد الدين العظم ‪ /‬أحد والة البلد في‬

‫العهد العثماني ‪ /‬فسقطت القداسة كجدار قديم ‪ /‬وضحكوا ساخرين من أنفسهم‬

‫كيف يتحول وال إلى قديس عندهم ‪ /‬والماء ما زال يجري تحت الجسر شريانا للحياة‬
‫وللوقت‪.‬‬

‫*النص‪:‬‬

‫‪-‬قمر خجول يسقط في عب العتمة ‪ /‬يبثني أسرارك ‪ /‬قبل أنام‪..‬‬

‫يشرب معي القهوة ‪ /‬والتبغ ‪ /‬وينثر الفضة على الماء‪..‬‬

‫‪286‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يا امرأة ‪ /‬أنثى ‪ /‬تطعم الحب للطير ‪ /‬أعلنك أنثاي‪..‬‬

‫فأعدني إلي ‪ /‬واسقني صرفا ‪ /‬فهذي البالد رمل ‪ /‬موالي‪..‬‬

‫أعد إلي لغتي ‪ /‬ووجهي القديم ‪ /‬قبل يصير قناعاً‪..‬‬

‫سيدتي ‪ /‬قمر خجول ‪ /‬يبثني رسائلك من خلف شجرة صفصاف‪..‬‬

‫وأنا أشرب قهوتي ‪ /‬وأختار العتمة ‪..‬‬

‫هذا المكياج قناع‬

‫الخراز _ لسان التصوف‪.‬‬


‫•قال موالي َّ‬

‫_كل باطن‪ /‬يخالف الظاهر‪ /‬فهو باطل‪.‬‬

‫•النص‪ :‬وأعود اليوم‪ /‬أسألك‪ /‬أوجهك هذا‪ /‬أم قناع من المكياج؟‪.‬‬

‫الرقة‪ /‬دفتر للعميان‪ /‬والصمت أشجار واقفة‪..‬‬


‫•الليل في َّ‬

‫وأنت اشتقاقات الماء‪ /‬تسقين حديقتي‪ /‬فيزهر الورد‪..‬‬

‫الرقة تنتظر عشاقاً‪ /‬يشعلون النار‪..‬‬


‫و َّ‬

‫تحت أسوار المقبرة القديمة‪ /‬يدخنون التبغ‪ /‬على ضوء الشموع‪..‬‬

‫المرة‪ /‬والموتى ساهرون‪ /‬تحت ضوء القمر‪..‬‬


‫ويشربون القهوة َّ‬

‫وقبل الفجر يرحلون‪ /‬وأنا وأنت ياموالي‪ /‬واألناشيد والموسيقا‪..‬‬

‫في ضباب البخور‪ /‬نصنع طقساً‪ /‬ونشرب كأساً‪ /‬نخباً للخيام‪..‬‬

‫وهذا الليمون‪ /‬يزهر َّ‬


‫قداحاً في األغصان‪ /‬حين تعريت من قمصاني‪..‬‬

‫وأعلنت أمام النهر‪ /‬أنا المجنون‪ /‬مجنون وسكران‪..‬‬

‫‪287‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الغ َرب‪ /‬اسمك المقدس‪..‬‬


‫ففاض الماء‪ /‬ضاع في الرمل والحصا‪ /‬وأشجار َ‬

‫أنثاي‪ /‬من يحفظ أسرار الدرويش‪ /‬ورقصته في الخانقاه؟‪..‬‬

‫هكذا أنت‪ /‬واسمك اشتقاقات الماء‪ /‬وعبق الوردة‪..‬‬

‫*ها مفتاح غرفة نومك‪ /‬بين أصابعي وردة من النحاس‪..‬‬

‫أقف مذهوالً‪ /‬أمام الباب‪ /‬ال أدري كيف ضاعت أصابعي‪ /‬وكيف ضاع المفتاح‪..‬‬

‫وأضعت طريقي‪ /‬أنا المغني السكران‪ /‬تحت قبَّة الليل‪..‬‬

‫وكنت أنتظر مط اًر‪ /‬يغسل هذا‪ /‬الماكياج‪ /‬القناع عن وجهك‪ /‬وحروفك‪..‬‬

‫جمار القلب‪..‬‬
‫ياأنثى‪ /‬وردة‪ /‬قبرة‪ /‬تدخل قميصي المبلل بالماء‪ /‬تنقر َّ‬

‫أنثاي‪ /‬هذه النصوص‪ /‬الهذيان‪ /‬أقرأها وحدي في غرفتي الخاوية‪..‬‬

‫المرة‪ /‬وعصافير الفرات‪..‬‬


‫الرقة‪ /‬تشاركني تبغي وقهوتي َّ‬
‫فتأتي إلي َّ‬

‫*ثمة امرأة تنتظر‪ /‬رجل أيضاً ينتظر‪ /‬ثم يرحل كدخان الحرائق‪..‬‬

‫الوقت متأخر‪ /‬والشيء يهم‪ /‬فكل األمور‪ /‬تساوت‪..‬‬

‫فكن الئقاً بهذا الحزن‪ /‬حين تسترد‪ /‬مابقي لك من أوهام‪..‬‬

‫فهذا الوجه له قناع‪ /‬وأنت تريد‪ /‬أن تعيش الحقيقة‪..‬‬

‫ثمة جنون امرأة‪ /‬تشبهك‪ /‬يزورني‪ /‬لنصنع طقساً‪ /‬ونشرب كأساً‪..‬‬


‫َّ‬

‫الرقة تظل ساهرة‪ /‬تعد لي القهوة في الصباح‪..‬‬


‫قبل أن أنام‪ /‬بينما َّ‬

‫وتسكت شهرزاد‪ /‬عن الكالم المباح‪..‬‬

‫‪288‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هذا الغياب يا إبراهيم‬

‫*أريد أنا الرائد الذي ال يكذب أهله سنبلة‪..‬‬

‫تعطيني عشر حبات ‪ ..‬من الحنطة‬

‫أزرعها في صحن من خزف الرقة المكسور ‪..‬‬

‫أريد امرأة ملت شهوات الليل‪..‬‬

‫تقدم شاياً (أكرك عجم ) ألنصاف المحتلين‪..‬‬

‫وتستر عريها بما ورثت من أوراق التين‪..‬‬

‫أريد معجماً لأللفاظ يعلمني كيف يتحول المعنى‪..‬‬

‫برتقالة أو كمثرى‪...‬‬

‫وكيف ُيرحل المسكوت عنه‪...‬‬

‫فأعرف‪ ..‬من هذه البرية ستطلع أنثى‪...‬‬

‫تعمدت بماء الفرات‪...‬‬

‫تستر عريها بأصابع كفيها‪..‬‬

‫وتترك رمانها ينضج تحت شمس الصيف‪...‬‬

‫الص ِفير‪.‬‬
‫وأصابع كفيها جرحتها المواويل وأشواك العاقول و ُ‬
‫هي الحرب يغطي المجوس عوراتهم بها‪..‬‬

‫هي الحرب والحرب موت ودم ومقابر‪..‬‬

‫وبعض المعونة لألحياء ليستمروا في الحياة السوداء‪..‬‬

‫أكان ال بد من هذا الموت ؟ أكان ‪..‬؟‬

‫‪289‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كانو يبتكرون وقتاً للسبايا‪ ،‬ووقتاً للزواج‪ ،‬ووقتاً للمتعة‪...‬‬

‫ووقتاً لإلعدام والفتاوى‪..‬‬

‫وكنت ‪ -‬يا إبراهيم الجرادي ‪ -‬تبتكر لقصائدك‬

‫وقتاً تكون فيه طواويس اللغة في روضة الياسمين الدمشقي‪..‬‬

‫وفي حقيبة اليد تحمل شيئاً من زعتر بندرخان‬

‫ودخان القرى في مساءات الشمال‪...‬‬

‫هذا الغياب حضور يا إبراهيم‪...‬‬

‫كتاب وسراج وذكريات وثرثرة جفت مع مياه قرموخ‪...‬‬

‫هذا الغياب ثقيل ‪..‬ثقيل يا إبراهيم‬

‫وهذا الليل حزين ‪...‬بائس وحزين‪.‬‬

‫*إبراهيم الجرادي ‪ ..‬طائر الشقراق الذي كسرت جناحه عشتار‪..‬‬

‫‪-‬قال لي‪ :‬يا إبراهيم الخليل اإلبراهيم ‪ ..‬استقم‪.‬‬

‫‪-‬قلت‪ :‬يا إبراهيم الخليل اإلبراهيم ‪ ..‬استقم ‪.‬‬

‫كنا نحمل االسم الثالثي نفسه‪ ،‬والهم نفسه‪ ،‬والفكر نفسه‪ ،‬وعشق مدينة تتزين بالزعتر‬
‫البري وزهر الباجالء‪ ،‬وتلقي حجولها الرملية في الفرات‪ ،‬طوفاً من الشموع‪ ،‬لسلطان‬
‫النهر األخضر‪ ،‬عل أماني العاشقين تتحقق‪ ،‬ويزهر الزيزفون على الضفاف‪.‬‬

‫*يأتي إليك طائر الشقراق‪ ،‬فيجد في أناملك دفئاً‪ ،‬فيب أر جناحه الذي كسرته عشتار‬
‫‪ ...‬آه يا ولداً كان بحجم الحب الذي تحمله أناقته وابتسامته ونسوانه الصافحات‪..‬‬

‫‪291‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كنا صغا اًر يا صديقي‪ ،‬نذهب بعيداً في خياالتنا‪ ،‬نصنع من طمي النهر أشكاالً من‬
‫الكائنات والمخلوقات‪ ،‬تخترعها عقولنا المجنونة ثم تهدمها غير آسفة‪ ،‬وحين فتح المركز‬
‫الثقافي في السبعينات دخلنا جنة الكتب والصحف والدوريات فنبت لنا أجنحة كأجنحة‬
‫إيكار‪.‬‬

‫ورافق ذلك‪ ،‬افتتاح مكتبة بورسعيد ألحمد الخابور‪ ،‬لتوزيع نضال الشعب جريدة الحزب‬
‫والمطبوعات االشتراكية‪ ،‬من روايات ودراسات فكرية وتطورت فيما بعد إلى الصحف‬
‫السورية وغير السورية‪ ،‬فأكملت ما نحتاجه من أفكار سياسية وأيديولوجيات كانت‬
‫سائدة‪ ،‬ويمثلها الماركسيون والقومجية والتيار الديني من صوفية وإخوان مسلمون‪..‬‬

‫كنا صغا اًر ننمو كأعشاب برية‪.‬‬

‫وكان إبراهيم يحمل في حقائبه‪ ،‬دواوينه الشعرية‪ ،‬وكتاباته المؤجلة‪ ،‬ورسائل نسوانه‪،‬‬
‫ورسائله للرقة‪ ،‬وحين رحل بعيداً عنها ودفن في دمشق‪ ،‬ظلت قصائده وكتاباته حية‪،‬‬
‫فيها رائحة الفرات‪ ،‬وطيور بندرخان تحلق عالياً ‪ ..‬عالياً ‪..‬‬

‫تحية لمن رفض أن يبدل أو يبيع مثل غيره ‪..‬‬

‫وأقول‪ :‬كان إبراهيم أمة‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تخص الِّنفري‬
‫مواقف ال ّ‬
‫الفر‬
‫حسام الدين ّا‬

‫شاعر وكاتب سوري‬

‫لِبدة األسد‬

‫العثنون‪ ،‬أو الشاربين‪،‬‬


‫طل صديقي لحيته يوماً‪ ،‬ولم يكن من أصحاب السكسوكة‪ ،‬أو ُ‬
‫لم ُي ْ‬
‫يحلق ذقنه وشاربه كل يومين‪ ،‬منذ أن كان شاباً‪.‬‬

‫بعد أن سيطر على المدينة التنظيم المتشدد‪ ،‬أمر بإطالة اللحى‪ ،‬وعدم الحالقة‪ ،‬لذلك‬
‫كان صديقي عند حالقة ذقنه‪ُ ،‬يضطر للمكوث في البيت‪ ،‬حتى ال ُيحاسب على ذلك‪.‬‬

‫يقول صديقي‪ :‬لم يعد أحد يستخدم شفرات الحالقة‪ ،‬وولى عهد (ناسيت) و(جليت)‬

‫الذهبي‪ ،‬وبالتأكيد خسرت شركات الحالقة‪ ،‬وخسر الحالقون‪َ ،‬‬


‫وعانوا من التضييق في‬
‫عملهم‪.‬‬

‫خرجت إلى باب البيت الخارجي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫حلقت‪ ،‬ولم أخرج إلى السوق‪ْ ،‬‬
‫لكن‬ ‫ُ‬ ‫في أحد األيام‬
‫ألتفاجأ بسيارة (دبل كبين) فيها بعض العناصر‪ ،‬ناداني أحدهم ألقترب من السيارة‪،‬‬
‫ليقول لي‪:‬‬

‫السنة الشريفة؟‬
‫َأال تعلم بأن حالقة الذقن ممنوعة‪ ،‬وأن إطالتها من ُّ‬

‫كانت لهجته تشير إلى أنه من دول المغرب العربي‪.‬‬

‫قلت له‪ :‬أمرك شيخي‪.‬‬

‫قال‪ :‬ال تحلقها بعد اآلن‪ ،‬ومضى‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يتابع صديقي‪ :‬كأن هذا العنصر المتشدد أصبح يتعمد المرور في شارعنا‪ ،‬ألنه بعد‬
‫أنبهك حول‬
‫َ‬ ‫بضعة أيام‪ ،‬وأنا واقف أمام البيت‪ ،‬ناداني وبنبرة صوت فيها تقريع قال‪ :‬أل ْم‬
‫اللحية‪ ،‬وعدم الحالقة؟‬

‫وتابع ما رأيك اآلن أن آخذك إلى الحسبة؟‬

‫عره ولِ ْبدتُه؟‬


‫وسألني‪ :‬أتعرف ماذا يصير األسد‪ ،‬إذا ُحلق َش ُ‬
‫لبوة‪.‬‬
‫قلت له‪ ،‬وأنا أكتم ضحك ًة مجلجل ًة‪ ،‬بسبب الخوف‪ :‬يصبح حينها ً‬
‫قال‪ :‬هذه آخر مرة أراك حليق الذقن‪.‬‬

‫غادرت تهريباً المدينة‪ ،‬تحت جنح الليل‪ ،‬إلى‬


‫ُ‬ ‫وفعالً كانت آخر مرة‪ ،‬فبعد كالمه بأيام‬
‫مكان آخر‪.‬‬

‫ملوخية وحشيش‬

‫تفاجأ سكان الحي الذي يقيم فيه صديقي‪ ،‬بتطويق الحي من ِ‬


‫قبل عناصر ملتحين‪،‬‬
‫وسيارات وعربات الدوشكا‪ ،‬وقيامهم بتفتيش بعض الشقق والبيوت‪ ،‬ليعودوا بعد ذلك‬
‫من حيث أتَوا‪.‬‬

‫سألت صديقي عن السبب فقال‪:‬‬

‫اشتبهوا ببيت فيه مخدرات‪ ،‬وكان السبب في ذلك أن أحد الجيران‪ ،‬يطبخ ملوخية‪،‬‬
‫ويبدو أنه نسي الملوخية على الغاز‪ ،‬لتحترق‪ ،‬وتنتشر رائحتها التي تشبه رائحة‬
‫َ‬
‫المخدرات‪ ،‬كما قيل‪.‬‬

‫واضح بأن هؤالء الذين يلبسون ِ‬


‫الزي األفغاني‪ ،‬لديهم خبرة كاألفغان‪ ،‬في الحشيش‬
‫والمخدرات‪.‬‬

‫تصوْر صديقي أن األفغان كانوا يحملون حشيشهم إلى أي مكان يذهبون إليه‪.‬‬
‫‪293‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حتى إن الفندق الذي استضاف مؤتم اًر لقادة الفصائل األفغانية‪ ،‬ذات يوم برعاية إحدى‬
‫الدول الخليجية‪ ،‬اشتكى صاحبه وعماله‪ ،‬من روائح التحشيش والمخدرات التي تنبعث‬
‫من غرف هؤالء القادة‪.‬‬

‫ثورة أم ثروة؟!‬

‫بضع‬
‫ُ‬ ‫قبل الثورة كان صديقي يراه على شاشة التلفزيون‪ ،‬وقد ذهب َشعره‪ ،‬وبق ْ‬
‫يت‬
‫أصلع تماماً‪.‬‬
‫َ‬ ‫شعيرات‪ ،‬يبرع في توزيعها‪ ،‬لكيال يبدو‬

‫ومناهض للنظام‪ ،‬يجذب‬


‫ينظر من خالل نظارته السميكة العدسات‪ ،‬ويتكلم كأكاديمي ُ‬
‫المشاهد بجرأته‪ ،‬وكالمه الثوري الجميل‪.‬‬

‫يعد يرتدي نظارته السميكة‪،‬‬


‫عيد الثورة تفاجأ صديقي به‪ ،‬وبسحنته الجديدة(النيو)‪ ،‬فلم ْ‬
‫ُب َ‬
‫أصلع‪ ،‬فقد أصبح أغزر َشع اًر (بفتح الشين) من القرد‪.‬‬
‫َ‬ ‫يعد‬
‫ولم ْ‬

‫تحت له‪ ،‬ويبدو أنه أخذ نصيبه من ماليين الدوالرات‬‫يقول صديقي كأن طاقة القدر ُف ْ‬
‫وآلت بقدرة قادر إلى بعض األفواه والبطون‪.‬‬
‫وصلت لدعم الثورة‪ْ ،‬‬
‫ْ‬ ‫التي‬

‫ويبقي على عمى البصيرة‪.‬‬


‫وليصحح بصره‪ُ ،‬‬
‫كأن الثورة قامت ليزرع هذا َشع اًر وأسناناً‪ُ ،‬‬
‫يتابع صديقي‪ :‬هذا ما يظهر من تغيير على شاشة التلفزيون لصاحبنا‪ ،‬وما خفي أعظم‪،‬‬
‫فمن يدري فقد يكون ِعنيناً‪ ،‬وقام بتركيب وصيانة أعضاء أُخرى؟!‬
‫َ‬

‫عاشق البالة‬

‫تعج َب صديقي لرؤية أحد جيرانه‪ ،‬في أسواق األلبسة المستعملة (البالة) باستمرار‪،‬‬
‫أفضل من محالت األلبسة الجديدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫كل مرة يقول لصديقي‪ :‬في (البالة) تجد ألبس ًة‬
‫وكان َّ‬

‫‪294‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وغالباً ما تكون ماركات عالمية‪ ،‬إضافة إلى أسعارها الرخيصة جداً‪ ،‬لضيق ذات اليد‬
‫التي ازدادت ضيقاً بعد الثورة‪.‬‬

‫رآه صديقي ذات يوم يتفحص المالبس بدقة‪ ،‬ويضع يده في جيوبها‪ ،‬ويبحث عن شيء‬
‫ِ‬
‫يشتر شيئاً‪ ،‬لذلك سأله‪ ،‬وعرف قصته مع‬ ‫ما داخلها‪ ،‬وعندما خرج من المحل لم‬
‫(البالة)‪.‬‬

‫ِ‬
‫قطعت البحار‬ ‫يقول صديقي‪ :‬جاري ال يريد المالبس‪ ،‬بل يريد ما فيها من هدايا‪،‬‬
‫السترات التي اشتراها‪ ،‬وبعدها دأب‬
‫والمحيطات لتسعده‪ ،‬ألنه وجد مئة يورو في إحدى ُّ‬
‫على الدوام في محالت البالة‪ ،‬لعله يجد فيها بضعة يوروهات‪ ،‬أو دوالرات تسد الرمق‪.‬‬

‫مقاطعة‬

‫ماذا أفعل ألقاطع أمريكا؟‬

‫ضع لي ذات يوم‪ ،‬وأرميه أمامكم لكي‬


‫هل أقلع صمام قلبي األمريكي الصنع الذي ُو َ‬
‫أكون وطنياً مثلكم؟‬

‫قال هذا الكالم أحدهم لصديقي‪ ،‬في تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬عندما ِ‬
‫سرت الدعوات‬
‫لمقاطعة أمريكا وبضائعها‪ ،‬بدعم من أولي األمر الذين يكدسون أموالهم‪ ،‬في البنوك‬
‫طوا اإلذن بالتظاهر (العفوي) أمام السفارة األمريكية‪،‬‬
‫األمريكية والغربية‪ ،‬والذين أع َ‬
‫وعندما هب الناس‪ ،‬واعتلى ثلة من الشباب مبنى السفارة‪ ،‬لُوحقوا من قبل رجال أمن‬
‫أولي األمر‪ ،‬لزيادة حماسهم‪.‬‬

‫وجب اعتقالهم ال لشيء‪ ،‬إنما‬


‫يبدو أن منسوب الهبة والحماس ارتفع عندهم قليالً‪ ،‬لذا َ‬
‫لخفض منسوب الحماس والهبة العفوية‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حين وقعت في حفرة تستقر أعلى من الشمس‬

‫أحمد سليمان‬

‫كاتب وشاعر وإعالمي سوري‬

‫عاشق فقد فمه‬

‫فراشة تجر طائرة ورقية‪ ،‬عربة يدفعها الصغار وأصواتهم تشق الفضاء‪.‬‬

‫كأن نبأً طارئ عن جيوش انتحرت ولم يعد هناك ُمتسعاً ألي حرب‪.‬‬

‫لكن برق ابتلع الحديقة‬

‫والنار التهمت الطرقات‪.‬‬

‫همس عاشق تبعثر بمقذوفات‬


‫َ‬
‫َّ‬
‫بأن المدارس جاثية‬

‫ودور الحضانة أكلتها المشافي‪.‬‬

‫النهر الخجول يمر بفم الحديقة‬

‫والبحر يعلن الحداد‪.‬‬

‫الباعة يتفحصون األزهار‬

‫األيتام حملوا صور ذويهم‪.‬‬

‫تاهت الشوارع المؤدية الى عاشق آخر فقد فمه‪.‬‬

‫للتو رأيت السكاكر تتطاير‬

‫فوق أشجار نائمة‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫للتو عثرت على فمي قرب مقود طائرة‪.‬‬

‫لمحت طفلة تغني للبالبل‪.‬‬

‫األرانب تتقافز بالفضاء‬

‫وكرة الثلج تهرول‪.‬‬

‫فيما أنا أرتب الورود على مهل‪.‬‬

‫بعد أعوام ‪ -‬ربما عشرون ‪ -‬أو حتى مئة عام‪ ،‬سيقولون بأنه ثمة َمن حفر المستقبل‬

‫لكننا نشم رائحة الجثث التي احترقت‪.‬‬

‫سوف يعرفون األمم ومنظماتها التي تاهت عن شعوبها‪،‬‬

‫زعماء األديان والطوائف‪ ،‬والقوميات‪ ،‬كذلك األندية والراقصات‪.‬‬

‫إلى ذلك الوقت سوف تستمر الفضائيات بتسريب النفاق‪.‬‬

‫الوقت غير متاح للعب‪ ،‬فما قيل عن حرب توقفت كان‬


‫َ‬ ‫أدرك الجميع على عجل‪َّ ،‬‬
‫أن‬
‫ملهاة ألخرى‪.‬‬

‫نس اًر أمسك بي ودفعني الى األعلى‬

‫اقتنعت بما سربته وكاالت الغوث عن توقف معامل تصنيع السالح‪ ،‬فهمت بأنها ستنتج‬
‫األلبان‪ ،‬وأن الثكنات ستتحول الى متاحف والسجون إلى حدائق للعشاق‪.‬‬

‫مع أنها أخب ار يتم تدويرها على مسامعنا منذ طفولة الوحل في الشتات‪ ،‬وتنقله ذات‬
‫المذيعة التي تتشبه بملكة جمال‪.‬‬

‫مع ذلك رحت أكيل المدائح َّ‬


‫لصناع "الحياة"‪.‬‬

‫كتبت عنهم قصائد‬

‫‪297‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المدن المحطمة‪.‬‬
‫ُكدت أعلقها على أبواب ُ‬
‫جثوت متفكرا‪ ،‬كأنني أراقب المشهد من األعلى‪.‬‬

‫ثم ذهبت إلى سوق للشركات البالية‪ .‬امتطيت منطاداً يصعد ِبي إلى الفضاء‪.‬‬

‫أذهلني ما رأيت‪ ،‬طائرات حربية تعانق بعضها وأُخرى ترمي الورود على بقايا ُ‬
‫المدن‪.‬‬

‫علي سلة أزهار مصحوبة بُقبلة‪ .‬حينها‬


‫حتى أن سيدة خرجت من خلف الطائرة وألقت َّ‬
‫اصطدمت بغيمة فوقعت الى األسفل‪.‬‬

‫لكن نس اًر أمسك بي ودفعني الى األعلى‪.‬‬

‫كبقع منبسطة‪ ،‬واحياناً ككتل تكسوها أبخرة بيضاء‪ .‬بحير ِ‬


‫ات وأنهار‬ ‫ِ‬ ‫األرض‬ ‫رأيت‬
‫َ‬
‫متفحمة‪ ،‬وشاخصات لموتى تغطي نصف البالد‪.‬‬

‫قال لي طائر مر بقربنا‪:‬‬

‫السالم تحقق لكن الهواء مؤكسد‪ ،‬ثم نقر المنطاد وارتمينا داخل ثقب أسود‪.‬‬

‫بعد أقل من ثانية استيقظت من نومي‪ .‬طارت الورود والُقبالت‪ ،‬فكانت الساحات تكتظ‬
‫بالجثث‪.‬‬

‫رفيقة أشعاري‬

‫اصطادتني بواسطة كتاب‪ ،‬ثم أدخلتني عالمها السحري‪ ،‬كان ذلك أيام طفولتي الممتدة‬
‫الى الشقاء األعلى‪.‬‬

‫ِ‬
‫بصخب األغاني الرافضة‬ ‫شعري الفالت كيفما اتفق‪ ،‬متشبهاً بمشاهير التلفاز‪ُ ،‬مستمتعاً‬
‫لقيم زائفة‪ُ ،‬متابعاً لألفالم َّالتي تُحاكي الفقر والعوز والمظلومين‪ ،‬إلى جانب ُكتب شديدة‬
‫الوقع َعلى وعي الذي بالكاد َّ‬
‫تشكل‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫دائم الجلوس قرب أشجار عالية‪ ،‬متلصصاً من فوق حوائط المدرسة‪ ،‬باحثاً عن رفيقة‬
‫قضيت في واحدة ِمنها مستمتع ًا‬
‫ُ‬ ‫أشعاري‪ ،‬ومدينتي الغارقة في جحور التجمعات السرية‪،‬‬
‫ِ‬
‫التسلط‪،‬‬ ‫بأحاديث السياسة والقمع والحريات‪ ،‬ثم انتبهت إلى أنني أواجه عالم شديد‬
‫اإلنسان فيه ُمدان منذ لحظة والدته‪.‬‬

‫فكان ال بد من صرف النظر عن طفولتي‪ ،‬ثم انكسرت حيوية الشباب‪ ،‬وفجأة أصبحت‬
‫أعد أيامي المتبقية في مدينتي‪.‬‬

‫* ما أخبارك يا ابن بلدي؟ هل مازلت تتلصص على المنشورات؟‬

‫‪ -‬كال يا معلمتي‪ ،‬لقد تعلمت كتابة دساتير األحزاب إلى جانب وصايا أُعدها للعشاق‪،‬‬
‫وأحياناً أتابع ُعزلتي وهوايتي مع المشاريع الفاشلة‪ ،‬أشعر أنني شديد االزدحام‪ ،‬ال أطيق‬
‫رأسي‪.‬‬

‫* كم خيبة حصدت يا فتى منذ أن افترقنا؟‬

‫أحتاج الى مكنة كي تحسب ما أتلفه‬


‫ُ‬ ‫‪ -‬تعلمين‪ ،‬فأنا ال أطيق الرياضيات والجغرافيا‪،‬‬
‫الزمن في عالمي وما بقي لي من خسائر لم أجربها‪.‬‬

‫* كم صبية أحببت غيري يا ولد؟‬

‫‪ -‬كثيرات‪ ،‬لكنك األكثر حضو اًر عندي‪ ،‬ربما ِ‬


‫ألنك كما اآللهة السادية‪ ،‬لديكما مشتركات‬
‫بمراقبة المقتولين‪.‬‬

‫عليك أال ترميني بورود مسروقة من الحقل‬


‫َ‬ ‫بمنامتك التي َدهمت عالمي‪،‬‬
‫َ‬ ‫سأرميك‬
‫َ‬ ‫*‬
‫المجاور‪.‬‬

‫‪ِ -‬‬
‫أنت أر ْق‪ ،‬بل أعنف لصة تسرق شموع المقابر‪ .‬سأضعك يوماً في كتاب‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تجفيف الوقت‬

‫الساعة الذائبة بال وقت‪ ،‬كما األمس‪ ،‬أي قبل أن تلدني األم التي أبعدتني عنها هذه‬
‫المقذوفات التي شطرت مدننا‪.‬‬

‫رأيت أمنا التي قضمت يديها الذئاب ‪ ..‬رأيتها حين خطفتني الثعالب‪.‬‬

‫في األمس‪ ،‬هذا "األمس" الذي يشبه مساء اليوم‪ ،‬وقعت من قمة جبل‪.‬‬

‫مرت فوقي صخرة‪.‬‬

‫نهضت‬

‫وفي يدي‬

‫حفنة ازهار‪.‬‬

‫هنيئا لي‪ ،‬فقد أدركت في وقت ما أنني أعيش ضربة حظ كمقامر يصطاد وهم خسارته‪.‬‬

‫الغيمة التي أنام فوقها منذ أعوام مراهقتي صفعتها الريح‪ ،‬فعشت كشاعر يخبئ في‬
‫جيوبه حروفا وبذور اليقطين‪.‬‬

‫وقعت أكثر من حرب كبرى ثم تعلمنا الغناء‪ ،‬كما إخوتي الذين ابتلعتهم أدخنة المدافع‬
‫وبرد المخيمات‪.‬‬

‫هذه البحار لم تكن ابتلعت اخوتي لو انهم تعلموا الرقص بدال من الصراخ‬

‫أصواتهم شطرت الحدود المفخخة‪ ،‬وفككت المحيطات‪.‬‬

‫كنت الناجي األخير‪ ،‬بكتف هشمته عدسة كامي ار تحتوي على صور الجثث‪.‬‬

‫المحيطات معلقة على القمر‬

‫البحار مصلوبة على أجساد النساء واألطفال‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خفر السواحل ورجال اإلنقاذ كانوا يالعبون األسماك‪ ،‬ثم أدركتنا الحيتان‪.‬‬

‫رأسي المتدحرج‬

‫قبل ساعتين من العام الفائت‪ ،‬أقنعني أحد الدراويش كي ألعب دور رابورت انتحاري‬
‫من أجل هدف غير معلوم‪.‬‬

‫دخلت الى الماركت اشتريت بضع غرامات من هذا الذي يفتل الرأس‪ ،‬وعشرون كغ‬
‫من الخردل ولترين من الخل‪ ،‬واصبعين "تي إن تي" وعشر طائرات واذاعة وخمس‬
‫مذيعات‪ ،‬يتوسطهن ببغاء يتكلم بهدوء‪.‬‬

‫ثم انشأت صفحة للبث المباشر‪ ،‬وطلبت من جارتي كي تقدم وصلة رقص على‬
‫موسيقى موزار بأداء "أندري ريو"‪.‬‬

‫تصفحت حينها غوغل‪ ،‬استعرت منه أحاديث الصحابة والقساوسة وضعتها إلى جانب‬
‫أناشيد سليمان‪.‬‬

‫كذلك استأجرت مقلدا لألصوات وطلبت اليه ان يفتتح اإلعالن بكبسة زر على ماء‬
‫ُمقطر أعده ُسكارى البؤس‪.‬‬

‫المشهد األول‪ :‬صورة لي أمد فيها يداي‪ ،‬مصافحا شيخا ُيقبل بابا الفاتيكان‪ ،‬وحاخاما‬
‫يسوي قلنسوته مبتسما على وقع أجراس تُقرع‪ ،‬وطبول الكشافة ونواح النسوة‬
‫المغتصبات‪.‬‬

‫المشهد الثاني‪ :‬بدوت جاثياً قرب شارع يؤدي إلى دير قرب حي األمين‪ ،‬في دمشق‬
‫الباكية في شام التي اكتسحتها جثت أهل وأصحاب ورفاق حملوا بيارق ورسل سالم‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المشهد الثالث‪ :‬دخلت الى قيمرية التي خلف الحجاز‪ ،‬واتجهت الى المقهى النائم على‬
‫كتف صنبور ماء‪ .‬هناك رأيت فرج الله الحلو فأهداني كتاب يحمل صورة فوتشيك‪،‬‬
‫اهديته وشاحاً ثم اختفى‪.‬‬

‫المشهد الرابع‪ :‬كانت سارة التي دهمت مخيلتي‪ ،‬صورها كانت تنزف وعيني تدمع حين‬
‫أكلتها الغابة‪ ،‬فقد رأيتها بعينيها الواسعتان تغمزان بهما طفولتي‪ ،‬مثل طيف يالعب‬
‫الفراشات ويمتطي الغيوم‪ ،‬سارة التي أعرفها‪ ،‬مازالت تحرس منام وفي يديها ازهار‬
‫وكتاب‪.‬‬

‫وقد دخلت ذات عشرات وألفين ساعة في مخدع قيل لي بأنه لملكة ووصيفات شدهن‬
‫السحر الصبياني أعلى رأسي‪.‬‬

‫رأسي المتدحرج بين أقدام مسوخ هبطوا فجأة إلى عالم لم يكن فيه يوما سوى حدائق‬
‫وعصافير تختبئ في جيوب الحوائط‪ ،‬حمائم تتجول بين العابرين في صالحية شام‬
‫والعابد وقصر العظم وقاسيون‪.‬‬

‫طفل ُمعلق على قسطل ماء‬

‫الموضات‪ ،‬تلك التي تتصدر الفنون والشعر واآلداب‪ ،‬أيضاً حركات التشكيل‪ ،‬حتى‬
‫المنظمات والجمعيات المدنية‪ ،‬هؤالء جميعهم تلعثموا أمام االحتجاجات والثورات‪.‬‬

‫السياسيون والمفكرون‪ ،‬وحماة البيئة كذلك النخب األممية‪ ،‬ما ازلوا يشتغلون بالتنقيب‬
‫عن أحدث األلبسة التي تجعلهم بأناقة عصرية‪.‬‬

‫أما أنا أصفن بصورة عالقة أمامي على شاشة التلفاز‪.‬‬


‫َّ‬

‫فردة حذاء طفل ُمعلق على قسطل ماء وسط بركة من الدماء‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فيما البعض من سكان هذا العالم‪ ،‬يبحثون عن ضحايا "مودرن "‪ ،‬قضاياهم ال تستدعي‬
‫الكثير من التفكير‪ ،‬وال تجعلهم يستقرون في سن الكهولة المبكرة‪ ،‬سأعود إلى هوايتي‬
‫المفترضة بقيادة الطائرات‪ ،‬مع إنها مضرة بقوانين الطبيعة‪.‬‬

‫كالم كهذا انتظر سماعه من أفواه المحاربين باإلنابة عن سادة القتل في العالم‪ ،‬لذلك‬
‫سوف أستقل دراجة وأصبح مجرد موزع بريد وقطع حلوى وأزهار‪.‬‬

‫وقد قضيت عمري كله كمبرمج حواسيب وتقني لدى شركة اتصاالت‪ ،‬ثم خبي اًر للرسوم‬
‫البيانية‪ ،‬واحياناً كنت أعمل مخرجاً على برامج مخصصة إلنتاج الكتالوجات الضوئية‪.‬‬
‫لكنني اليوم‪ ،‬كمن يدفع عربة يسترزق منها للعيش‪ ،‬عربة طائرة حوت الخضار والخبز‬
‫وسلع يحبها أطفال‪ ،‬أيضاً اقتنيت نس اًر أجلسته على كتفي‪ ،‬رسمت على جبيني قرص‬
‫شمس وطفلة جعلتني أبتسم كعاشق يالطف حبيبته‪.‬‬

‫عالمي كله مثل مهن متنقلة ال تجلب لي ثمن باب منزل أو دراجة‪ ،‬لكنني أواظب على‬
‫هندسته كمهن أترزق منها‪ ،‬ولست أعمل فيها طوال الوقت‪ ،‬كما أنها ال تجلب األذى‬
‫للناس‪ ،‬ربما شركة البيوت سوف تتلقى احتجاجاً من بواب العمارة يطلب فيه أن أكف‬
‫عن مزاحمته بمهن قد يفكر هو بمزاولتها‪ ،‬وهكذا سوف أعود الى مهن أخرى‪.‬‬

‫سأشتري صاروخاً بحجم مخيمات اللجوء ثم أفرغ محتواه وأحوله الى مستوعب يجتمع‬
‫فيه األطفال والسناجب‪ .‬مهنة تدعمها منظمات حماة البيئة‪ ،‬والنقابات المهنية‪ ،‬وتحقق‬
‫ال لنشر كتبا تدعم التحرر والطبيعة واإلنسان‪ ،‬كذلك تؤكد للعالم بأن الجنون‬
‫لي دخ ً‬
‫َّالذي أمارسه هو مشهد رافض لحماقة القوى الخفية َّالتي تحكم الكوكب‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ثم نبدأ بالصراخ‬

‫حسن رحيم‬

‫قاص عراقي وطالب ماجستير أدب عربي‪.‬‬

‫الكتابة مثل الشعوذة‪ :‬ال يكفي إخراج أرنب من القبعة‪،‬‬

‫بل يجب عمل ذلك بأناقة وطريقة ممتعة‪.‬‬

‫إيزابيل الليندي‬

‫مساء يوم (‪ 26‬من حزيران عام ‪1112‬م) وفي الساعة الثامنة والنصف تقريباً‪ ،‬كنت‬
‫عت بكتابتها منذ خمس‬
‫جالساً إزاء رزمة من األوراق؛ أهم إلكمال روايتي‪ ،‬التي شر ُ‬
‫سنوات‪ ،‬أتحدث فيها عن جنوني الشخصي! شعور عجيب حين ال تجد شيئاً تفكر فيه‪،‬‬
‫بعدها تبدأ بالصراخ بأعلى صوتك من دون أن يالحظ ذلك أحد‪.‬‬

‫الكتابة عمل غريب‪ ،‬ال تعرف من يرغب باآلخر‪ ،‬أنت أم هي‪ ،‬أم شيطان يقودك لتكتب‬
‫ويراقب ما تركه فيك بكل فخر‪ ،‬لكني لم أكتب شيئاً إلى هذه اللحظة‪ ،‬ربما ألني أصبت‬
‫باإلرهاق من شدة العمل‪ ،‬أو أن ذاتي ال تطاوع عقلي وال تعطيه ما يريد ليسرد األفكار‪،‬‬
‫كتبت سابقاً ثم أبدأ بكتابة أفكار تجلت في رأسي‪ ،‬كم هو صعب‬
‫أنا كالعادة‪ ،‬أق أر ما ُ‬
‫أن تعمل مخرج ًا لمسلسالت تلفزيونية‪ ،‬عليك أن تستيقظ باك اًر‪ ،‬وألنك أعزب ال تحتاج‬
‫إلى صنع وجبة الفطور‪ ،‬إذ إنك ستأكل في الخارج وتصل إلى مكان عملك متأخ اًر‪،‬‬
‫وبعد نهار من التعب تصل إلى بيتك‪ ،‬تجلس أمام كومة األوراق هذه لتصب غضبك‬
‫وفرحك وغرورك وتعبك عليها‪ ،‬حينها ال يسعك سوى أن تراقب الوجوه وهي تراقبك‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أتذكر عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة‪ ،‬كان الطالب يلتفون حولي؛ ألسرد لهم‬
‫كيف فزت في سباق الدراجات الذي أقيم في البصرة‪ ،‬عندما تغلبت على سبعين متسابقاً‬
‫في طريق طويل‪ ،‬يشمل ساحل شط العرب والزبير وصوالً إلى مناوي باشا‪ ،‬وبينما كنت‬
‫مندمجاً بسرد األحداث وعيون الطلبة تحدق بي بنظرات تملؤها الدهشة والتساؤل‪ ،‬كيف‬
‫علي‬
‫استطعت أن أحافظ على سرعتي رغم أن المكابح ُكسرت‪ ،‬قاطعني صوت أقبل َّ‬
‫ُ‬
‫بجسده المترهل‪:‬‬

‫_ متى ذهبت هناك؟‬

‫_ األسبوع الماضي!‬

‫_ الذي يحيرني أنك ال تملك المال للذهاب إلى المدرسة‪ ،‬فكيف ذهبت إلى البصرة‪،‬‬
‫ُّ‬
‫التفت‬ ‫كيف دبرت حالك؟ (بشرفك هل لعبت بخارطة البصرة؟!) ثم ضحك باستهزاء‪،‬‬
‫إليه وقد أحسست بغصة في صدري‪ ،‬قلت كمن يريد أن يبعد تهم ًة عنه‪:‬‬

‫_ صحيح أني ال أملك المال كي أسافر؛ لكني أملك كل الوقت ألتخيل‪...‬‬

‫تملكني شعور غريب من الحرمان الذي عانيته منذ طفولتي‪ ،‬كم هو صعب أن تعيش‬
‫الفنتازيا الواقعية في عالم يرفض االعتراف بطريقة عيشك‪ ،‬فمنذ أن كنت في التاسعة‬
‫ركت وحيداً في هذه‬
‫من عمري‪ ،‬مات أبي وتزوجت أمي‪ ،‬تمنيت لو كان لي إخوة‪ ،‬تُ ُ‬
‫المتاهة الزمنية‪ ،‬أصرف من تقاعد والدي الذي بالكاد يكفيني لشراء طعامي وعدد‬
‫محدود من علب السجائر وإيجار خربة أسكن فيها‪.‬‬

‫تفاجأت‬
‫ُ‬ ‫فعه أحدهم بقوة‪،‬‬ ‫أفزعني صياح وعويل وطرق مستمر‪ ،‬نظرت صوب الباب‪َ ،‬د َ‬
‫بمجموعة من األشخاص يحملون جثة! حاولت كثي اًر أن اسألهم ولكن ُل ِجم لساني فجأة‬
‫حين اقتربوا ووضعوه على سريري دون استئذان‪ ،‬ما أن كشف أحدهم عن وجهه‪ ،‬وإذا‬
‫به أنا‪.‬‬

‫حزيران ‪0291‬‬

‫‪315‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫موال على ناي الحياة‬

‫جنان الحسن‬

‫كاتبة وشاعرة من الرقة مقيمة في فرنسا‬

‫صوت الحياة صاخب هادر‬


‫لكنه أحياناً يصمت ويجبرنا على اليقظة‬
‫كي يستمع إلينا ‪..‬‬

‫صمت صوت المطر حين‬


‫تأبطت األمهات ثياب الحزن في الدروب‬
‫المطرزة بالقصب في صناديق الزمن وتوابيت الموت‬
‫وطوين الثياب القشيبة ُ‬
‫وزي َّن أبواب األيام بأكاليل الغار‬
‫وتعاليل الليل بعتابا الصبر‬
‫وفي المقابر حيث نامت أعواد الزنابق‬
‫التقطن صور السلفي ‪..‬‬

‫انكسر حديث النور حين‬


‫ويضيء ويتطاول مثل لهب حريق هائل وأن له ألف‬ ‫عرفت َّ‬
‫أن العتم أيضا قد يسود ُ‬ ‫ُ‬
‫لون ولون‬
‫في رقصة اللهب وفي منع عود الثقاب أو إشعاله في الباقي من قش الوطن‬
‫وفي طفلة قاصر ألبسوها ثياب النساء‬
‫غرسوا وردة في نهدها وأدخلوها مخادع الرجال‬
‫وبكامل حزنها توهجت أعوامها القادمة ‪..‬‬

‫‪316‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جف بريق الشغف حين‬


‫جرحتها ضحكته المرحة‬
‫وهي من كانت تخشى أن تجرحه بلمسة الحزن في ابتسامتها‬
‫تلك برودة قد سكنت األوصال‬
‫فشل أبدع الفنانين في تشكيل مالمحها ‪..‬‬

‫زاد صوت البياض وتوغل الليل حين‬


‫اللحظات الدافئة أصبحت أكثر بعداً تحت‬
‫أشعة الشمس الساطعة‬
‫حتى غدت شمسنا تنسكب وحيدة‬
‫في عروق الصباح‬
‫بعد حفالت ِ‬
‫الفطام التي يقيمها الليل‬
‫ألطفالها كل مساء‬
‫يا لعزفها في الروح كم يوجع ‪!! ..‬‬

‫غدر الفرح بنا حين‬


‫فتح بيته للغرباء متناسياً أننا طرقنا طويالً على بابه‬
‫حتى سكن البؤس ديارنا‬
‫وشعرنا بأننا كلما ارتكبنا ش اًر ما‬
‫فأن الحياة ترضى وإن قليالً علينا ‪..‬‬
‫يا لغباءنا !!‬
‫قد كنا على الدوام مجرد جروح وندوب ولم نكن يوماً بسهام ضالة أو طلقات رصاص‬
‫‪..‬‬

‫‪317‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تحدثت الوحدة حين‬


‫ال شيء يؤنسني‬
‫سوى وضع قليل من الكحل في عيني‬
‫ومحاولة التغزل بهذا الليل الطويل‬
‫الذي يشبه ريش غراب بائس عجوز‬
‫الطيور خرجت من الشبكة وطارت بعيدًا‬
‫والمرآة تكسرت من الجانب إلى الجانب‬
‫وحدها لعنة الغياب تسامرني ‪..‬‬

‫كل هذا يحصل والحياة ما زالت تحاصر الصمت حيناً وتصخب مثل حشد عصافير‬
‫حيناً أخر ‪..‬‬

‫‪0203/ 9/00‬‬

‫لوحة للفنان موسى الحمد‬

‫‪318‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق السينما‬

‫‪319‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الفراتيون بعيون السينما السورية‬

‫فرحان المطر‬

‫إعالمي ومعد برامج وأفالم وثائقية‪ ،‬سوري مقيم في فرنسا‬

‫مدخل البحث‪:‬‬

‫يفترض العنوان المقترح للبحث "الفراتيون بعيون السينما السورية"‪ ،‬العثور من خالل‬
‫األفالم التي قدمتها السينما السورية خالل عقود من الزمن على صورة لإلنسان السوري‬
‫الذي يقطن منطقة الفرات والجزيرة السورية عموماً‪ ،‬وهو من يسمى بالفراتي‪ ،‬أو‬
‫الجزراوي نسبة إلى نهر الفرات‪ ،‬أو الجزيرة السورية الممتدة ما بين نهري الفرات ودجلة‪.‬‬

‫ليس في متناول البحث سوى عدد قليل من األفالم السينمائية الوثائقية والتسجيلية التي‬
‫تطرقت لتصوير إنسان تلك البقعة الجغرافية من سوريا‪ ،‬واالهتمام به‪ ،‬وبالتالي فإن ما‬
‫سوف يخلص إليه البحث بالنتيجة سيكون متكئاً على هذه الحصيلة البصرية تحديداً‪.‬‬

‫ال‪ ،‬ويمكن‬
‫أما األفالم موضوع البحث فهي ستة مرتبة حسب تسلسل إنتاجها الزمني أو ً‬
‫تقسيمها بداية إلى مرحلتين هما‪:‬‬

‫‪ ‬المرحلة األولى‪ :‬عقد السبعينات من القرن المنصرم (القرن العشرين)‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬محاولة عن سد الفرات ‪ /‬للمخرج الراحل عمر أميراالي الذي أنتج عام‬
‫‪.2621‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬الحياة اليومية في قرية سورية ‪ /‬أيضاً للمخرج عمر أميراالي عام ‪.2624‬‬

‫‪ ‬المرحلة الثانية‪ :‬وهي التي أنتجت خالل بداية العقد األول من القرن الجديد‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬طوفان في بالد البعث ‪ /‬للمخرج عمر أميراالي عام ‪.1112‬‬

‫‪311‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬أزرق‪-‬رمادي ‪ /‬للمخرج محمد الرومي عام ‪.1111‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬كالم حريم ‪ /‬للمخرج سامر برقاوي عام ‪.1116‬‬

‫‪ -‬فيلم‪ :‬أضواء ‪ /‬للمخرجة ريم الغزي عام ‪.1116‬‬

‫هنا يمكن تسجيل مالحظة هامشية حول هذه الفترة الزمنية المتباعدة بين المرحلتين‬
‫األولى والثانية‪ ،‬التي لم ينتج فيها أي فيلم عن البيئة الفراتية‪.‬‬

‫سيتم خالل البحث اتباع المنهج التالي في تناول الموضوع‪:‬‬

‫‪ -‬تقديم األفالم حسب تقسيمها السابق (مرحلة أولى وثانية)‪.‬‬

‫‪ -‬عرض بطاقة تعريفية موجزة بالفيلم‪ ،‬تتضمن بضع معلومات أساسية عن الزمان‬
‫والمكان والجهة المنتجة‪ ،‬ورابط الفيلم على اليوتيوب لمن يرغب بالمشاهدة‪.‬‬

‫‪ -‬تقديم عرض للفيلم بما يشبه تلخيصاً للمشاهد األبرز واألهم في كل فيلم‪ ،‬الغاية‬
‫منه تقديم فكرة عامة للقارئ الذي لم يسبق أن أتيحت له فرصة االطالع على‬
‫الفيلم‪.‬‬

‫‪ -‬الصورة التي ظهر عليها الفراتيون في الفيلم‪ ،‬وهي قراءة الباحث التحليلية التي‬
‫خلص إليها حول كل فيلم‪.‬‬

‫‪ -‬آراء حول الفيلم‪ ،‬طبعاً في حال توفرها‪ ،‬إذ ليست كل األفالم قد أمكن العثور‬
‫على ما كتب عنها في حينها‪ ،‬خاصة أفالم المرحلة األولى‪ ،‬ما قبل األرشفة‬
‫الرقمية المتاحة اليوم‪.‬‬

‫‪ -‬سيتم ذكر المصادر الصحفية التي نشرت المقاالت واآلراء حول كل فيلم‪.‬‬

‫‪ -‬خاتمة البحث‪ ،‬والتي ستتضمن تقديم خالصة عامة حول الصورة كما رأتها عين‬
‫السينما السورية‪ ،‬بما في ذلك الحديث عن نظرة سياسية مسبقة في كل فيلم إن‬
‫وجدت‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أفالم المرحلة األولى‪.)9124-9122( :‬‬

‫‪-9‬فيلم‪ :‬محاولة عن سد الفرات‪.‬‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬المخرج‪ :‬عمر أميراالي‬

‫‪ -‬وثائقي‪.‬‬

‫‪ -‬تاريخ إنتاج الفيلم‪2621 :‬‬

‫‪ -‬إنتاج‪ :‬المؤسسة العامة للسينما‪.‬‬

‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬سد الفرات والقرى المحيطة به‪.‬‬

‫‪ -‬مدة الفيلم‪ 21:26 :‬د‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https://youtu.be/X1TmWo--dvc :‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬يبدأ عرض الفيلم من المشاهد المتعددة على إيقاع الدف‪ ،‬وصوت المزمار‪،‬‬
‫حيث تتنقل الكامي ار بين الرافعات العمالقة‪ ،‬واآلالت الثقيلة ومئات العمال‬
‫الذين يعملون في إرساء دعامات سد الفرات‪ ،‬وهو ما رأى به المخرج (في‬
‫حينه) واحداً من أهم اإلنجازات العظيمة التي سوف تغير مجرى حياة الناس‪،‬‬
‫مثلما هي ستقوم بتحويل مجرى نهر الفرات العظيم‪.‬‬

‫‪ ‬بانعطافة جديدة تتوقف الكامي ار أمام رجل خمسيني يقوم ببناء جدار من‬
‫الحجارة والطين وحيداً‪ ،‬فيقترب منه أحدهم محاو اًر "خلف الكاميرا"‪ ،‬ويدور‬
‫بينهما الحوار التالي‪-( :‬حجي لماذا تقوم بهذا العمل؟ ‪ -‬حتى ال تقوم‬
‫الحمير واألغنام باقتحام القطن‪ – .‬كم مت اًر تبني في اليوم؟ ‪ -‬من طلوع‬

‫‪312‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الشمس حتى مغيبها‪ ،‬وأحياناً حتى موعد آذان العشاء‪ – .‬أليس معك من‬
‫يساعدك؟ ‪ -‬ابني في الخدمة اإلجبارية‪ ،‬وال أحد يساعدني غير الله)‪.‬‬

‫‪ ‬المشهد الالحق نتابع حركة مجموعة بشرية من الرجال والنساء واألطفال‬


‫يركبون الحمير‪ ،‬تتبعهم الكالب بما يشبه موكب رحيل‪ ،‬وذلك على إيقاع‬
‫ضرب الدفوف مترافقاً مع صوت حداء ديني‪ ،‬وعادة ما يكون ذلك في‬
‫جلسات الذكر‪ ،‬أو التكايا والزوايا الدينية حيث المشايخ والمريدين وتلك‬
‫الطقوس التي كانت سائدة إلى حد بعيد في منطقة الفرات‪.‬‬

‫‪ ‬بين المشاهد المتتالية ثمة وقفات قصيرة للكامي ار على األرض المتشققة من‬
‫شدة الجفاف‪ ،‬مقارنة مع التشققات العميقة في أرجل الرجال والنساء‬
‫واألطفال الحفاة‪ ،‬ما يعني أن الجفاف والشقوق ليست حك اًر على األرض‬
‫والتراب فقط عندما ينعدم الماء‪ ،‬بل هي أيضاً تطال البشر الحفاة الجائعين‬
‫كذلك‪.‬‬

‫الشعر‪ ،‬وطرق الحراثة البدائية‪،‬‬


‫‪ ‬مشاهد الحقة تظهر البداوة ممثلة ببيوت َ‬
‫وانتقال الناس وحيواناتهم عبر السفن البدائية الصغيرة‪.‬‬

‫‪ ‬أخي اًر تعود بنا مشاهد الفيلم إلى ما ابتدأت به من تصوير عمليات البناء‬
‫المتواصلة في سد الفرات‪ ،‬واآلالت الضخمة كل ذلك بتقاطع مع بعض‬
‫الصور التي تظهر آثار المنطقة‪ ،‬وبعض األطفال الذين يتهجون القراءة‪،‬‬
‫ويحاولون الرسم‪ ،‬إضافة إلى بعض الوجوه الشابة المبتسمة التي تحمل شيئاً‬
‫من مالمح الحياة وسط هذا القفر‪ ،‬فهل كان المخرج يهدف للقول من وراء‬
‫ذلك بما يمثل رسالة الفيلم أساساً‪ :‬هذا هو األمل المرتجى لمستقبل ذلك‬
‫اإلنسان وتلك المنطقة‪ ،‬عندما رأى أن إنجاز بناء سد الفرات سيكون الحل‬
‫الكفيل بفعل كل ذلك؟!‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫إنسان غارق بالبداوة والتخلف والفقر ينتظر أن يكون على موعد مع القدر ‪ /‬الحدث‬
‫الذي سيغير حياته جذرياً‪ ،‬وينقله من هذه المستنقعات المحيطة بحياته إلى عصر النور‬
‫والحضارة‪ ،‬حيث الكهرباء والرفاه‪ ،‬بمجرد االنتهاء من هذا المشروع الحيوي الجبار الذي‬
‫يتواصل العمل به على مدار الوقت‪ .‬إنه األمل الوحيد‪.‬‬

‫ال آراء نقدية حول الفيلم‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪-0‬فيلم‪ :‬الحياة اليومية في قرية سورية‪.‬‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬وثائقي‬

‫‪ -‬إعداد‪ :‬سعد الله ونوس – عمر أميراالي‬

‫‪ -‬إخراج‪ :‬عمر أميراالي‬

‫‪ -‬إنتاج‪ :‬المؤسسة العامة للسينما‬

‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬قرية المويلح بريف دير الزور‬

‫‪ -‬تاريخ التصوير‪2621 :‬‬

‫‪ -‬تاريخ اإلنتاج‪2624 :‬‬

‫‪ -‬مدة الفيلم‪ :‬ساعة وعشرين دقيقة‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https//youtu.be/Sod-88-GO98 :‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬مشهد أطفال ريفيين بثياب رثة يتجمعون حول هيكل عظمي لحيوان نافق منذ‬
‫أمد بعيد‪ ،‬يلعبون بذر التراب الناعم فوق هيكله‪ ،‬يترافق ذلك مع غناء رجل‬
‫بدوي بصوت حزين‪ ،‬ثم ينتهي المشهد ببضعة رجال‪ ،‬الالفت بينهم رجل غريب‬
‫المظهر لشدة بؤسه الظاهر في الصورة‪ ،‬ال يعتمر شيئاً فوق رأسه‪ ،‬وتراه يحمل‬
‫بيديه الكوفية والعقال‪.‬‬

‫‪ ‬تدخل الكامي ار إلى القرية حيث البيوت الطينية المتباعدة المسافات فيما بينها‪،‬‬
‫وحركة الناس الذين يظهرون على استعجال بسبب الرياح القوية التي تثير‬
‫الغبار‪ ،‬بينما يظهر شرطيان يمران مسرعين أيضاً‪ ،‬ثم تدخل الكامي ار إلى أحد‬

‫‪315‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫البيوت حيث تجتمع األسرة الريفية لتناول الغداء الذي يقتصر على الخبز‬
‫والشاي فقط‪ ،‬وبعد ذلك تتابع الكامي ار حركة الناس الذاهبين إلى جهة ما‪.‬‬

‫‪ ‬مشهد الصطفاف التالميذ أمام المدرسة استعداداً لدخول الصف‪ ،‬المدرسة التي‬
‫هي عبارة عن غرفة طينية وبضعة مقاعد‪ ،‬وفي داخل الصف المعلم يعطي‬
‫الدرس‪.‬‬

‫‪ ‬نساء وأطفال ينزعون جذور نبتة السوس من األرض‪ ،‬وجلسة لمجموعة من‬
‫الرجال بينهم المختار الذي ال يعرف القراءة والكتابة‪.‬‬

‫‪ ‬امرأة تخبز على الصاج‪ ،‬وبعض النسوة يمارسن األعمال اليومية المعتادة‪.‬‬

‫‪ ‬داخل غرفة الصف المعلم يشرح للتالميذ الدرس‪ ،‬ويسألهم عن فحوى إحدى‬
‫الصور المرسومة في الكتاب‪ ،‬فيجيبون بأنها حقيبة‪ ،‬فيصحح لهم المعلم قائالً‪:‬‬
‫إنها عالقة ثياب تحمل بنطلون‪.‬‬

‫‪ ‬األطفال العائدون من العمل باألرض يستريحون تحت بقايا خيمة بالية لتناول‬
‫وجبة الغداء الوحيدة‪ :‬الخبز والشاي‪.‬‬

‫‪ ‬داخل البوسطة التي تقل عدداً من الرجال والنساء‪ ،‬الحوار يبين أنهم في طريقهم‬
‫إلى مدينة دير الزور لمراجعة األطباء‪ ،‬وفي السؤال لماذا ال يراجعون‬
‫المستوصف القريب منهم‪ ،‬تكون اإلجابة بأن المستوصف ال يفيد بشيء‪ ،‬ليس‬
‫به أطباء وال دواء‪.‬‬

‫‪ ‬لقاء مع طبيب في عيادته بدير الزور يتحدث عن مرضاه وسوء أوضاعهم‪،‬‬


‫ويركز على العادات والتقاليد البالية المسيطرة عليهم كقناعات‪ ،‬ولجوئهم إلى‬
‫الطب الشعبي والشعوذات‪ ،‬وعدم ثقتهم بالطب أساساً‪ ،‬ويحرمون معاينة المرأة‬
‫المريضة على يد الطبيب الرجل‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬الحديث عن محاولة افتتاح صف لمحو األمية في القرية بالتعاون مع المركز‬


‫الثقافي والحزب واتحاد الفالحين ولكن دون جدوى‪ ،‬على الرغم من استعداد‬
‫المعلمين للقيام بهذا العمل بشكل طوعي‪.‬‬

‫‪ ‬مسؤول في اتحاد الفالحين يتحدث عن دور حزب البعث في المجتمع وعن‬


‫الق اررات الثورية لصالح الجماهير الكادحة وكيف يتم التحويل االشتراكي بعد‬
‫عشر سنوات من اندالع ثورة البعث‪.‬‬

‫‪ ‬لقاء مع ضابط شرطة يتحدث عن دور الشرطة في تطبيق القانون على الناس‬
‫في القرية‪ ،‬يقول إنه في حال حدوث خالفات بين الناس فإنهم ال يفضلون‬
‫اللجوء إلى المحاكم والقضاء ألنها تأخذ وقتاً طويالً‪ ،‬بينما هم يحلون المشاكل‬
‫بالتراضي بين الناس دون اللجوء الستخدام القوة‪ ،‬ولكن في حال وقعت المشاكل‬
‫فإنهم يمارسون دورهم بالقمع‪.‬‬

‫‪ ‬فالح شاب يروي كيف تم االعتداء عليه من قبل متنفذين لرفضه إعطائهم قطعة‬
‫من أرضه‪ ،‬وأن اتحاد الفالحين والحزب لم يفعال له شيئاً‪.‬‬

‫‪ ‬داخل جلسة ذكر حيث ضرب الدفوف والغناء الديني المترافق مع حركات‬
‫يؤديها الحاضرون وخاصة (من يأخذهم الحال كما يقال)‪ ،‬أولئك الذين يصابون‬
‫بالتشنج واالرتعاش الكبير وصوالً إلى حاالت اإلغماء الكثيرة‪ ،‬إنها صورة من‬
‫الطقوس البدائية المتخلفة التي تتخذ شكالً دينياً كانت سائدة تلك الفترات الزمنية‪.‬‬

‫‪ ‬مسؤول حزبي يلقي محاضرة لمجموعة من األهالي المدعوين لحضور عرض‬


‫سينمائي يقوم به المركز الثقافي في المدينة‪ ،‬والحديث يدور عن أهمية السينما‬
‫والصورة في حياة األمم‪ ،‬وكيف أن الفيلم سيعطي فكرة عن التقدم الحضاري‬
‫والتطور الكبير الذي يشهده القطر!!‪ .‬يشاهد في الفيلم الذي يعرض صو اًر‬
‫لشاطئ أوروبي وأناس يستجمون‪ ،‬يا لها من مفارقة بين البشر في المكانين؟!‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬لقاء مع رئيس نقابة شاب وحديثه عن نفسه وأهميته التي تسببت باختياره لهذا‬
‫العمل‪ ،‬الرجل يتحدث بكل صراحة ودون لف أو دوران عن االستغالل الذي‬
‫يتعرض له الفالحون على يد المزارعين وشيوخ العشائر‪ ،‬وتواطؤ الجمعية‬
‫الفالحية في هذه العملية‪.‬‬

‫‪ ‬فالح شاب آخر يطالب بالمساواة والعدالة بين الناس وإلغاء الفروق الطبقية بين‬
‫الناس‪ ،‬إذ هناك أناس ال يملكون ثمن قوت يومهم‪.‬‬

‫‪ ‬المسؤول الفالحي مرة أخرى متحدثاً عن اإلرث العشائري الثقيل المسيطر على‬
‫الناس في هذه القرية‪ ،‬مشي اًر بأصابع االتهام إلى شيوخ العشائر الذين ما زالوا‬
‫يملكون الكثير من أسباب القوة التي تساعدهم على استغالل الناس وترهيبهم‪،‬‬
‫وممارسة سطوتهم عليهم‪ ،‬ويطالب السلطات بتطبيق العنف ضدهم‪.‬‬

‫‪ ‬ضابط الشرطة متحدثاً عن شيوخ العشائر نافياً عنهم كل ما يقال تسلط ونفوذ‪،‬‬
‫مدعياً أنهم لم يعودوا يملكون من المشيخة سوى االسم‪ ،‬وأنهم مجرد مواطنين‬
‫عاديين‪.‬‬

‫‪ ‬فالحون وأحاديث عن تهجيرهم من قبل شيوخ العشائر وسرقة أتعابهم‪ ،‬وهم‬


‫الفقراء الذين ال يملكون ال حوالً وال قوة‪ ،‬أما الجمعية الفالحية فهي متواطئة‬
‫بشكل علني مع شيوخ العشائر والمزارعين‪.‬‬

‫‪ ‬يستنجدون بالدولة أن تقوم بحمايتهم كبشر ومواطنين‪ ،‬شعارات الحزب والثورة‬


‫كلها فارغة وغير حقيقية وال أحد يهتم بهم ويشعر بآالمهم‪ ،‬ولسان حالهم يصرخ‪:‬‬
‫يا وحدنا‪.‬‬

‫‪ ‬مشهد الفالح الغريب الذي ظهر في افتتاحية الفيلم يعود ملخصاً واقع الحال‪:‬‬
‫(جميل الرشيد وحسون اللطيف يهددوننا وهم هنا‪ ،‬والرجل قتلوه" الهفل" ويريدون‬
‫ترحيلنا حتى يتهموننا بدم الرجل الذي قتلوه‪ ،‬هذا هو الموضوع‪ ،‬تركنا حنطتنا‪،‬‬

‫‪318‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تركنا بيوتنا‪ ،‬وكل مسكن ثمنه ثالثة آالف ويهددوننا بالرحيل ونحن ال بيت لنا‬
‫غير الفراش واللحاف‪ ،‬ومن زمن العثمانيين نحن بهذا المكان‪ .‬جوعانين ميتين)‪.‬‬

‫‪ ‬أما الجملة التي يختتم بها الفيلم فقد كانت‪( :‬علينا جميعاً أن ننخرط في النضال‬
‫من أجل خالصنا المشترك‪ ،‬ما من أيد نظيفة‪ ،‬ما من أبرياء‪ ،‬ما من متفرجين‪،‬‬
‫إننا جميعاً نغمس أيدينا في وحل أرضنا‪ ،‬وكل متفرج هو جبان‪ ،‬أو خائن)‪.‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫إنسان مغلوب على أمره في كل شيء‪ ،‬يعيش حياة الفاقة والحرمان‪ ،‬مستلب اإلرادة‪،‬‬
‫ال حول له وال قوة‪ ،‬يسرق تعبه في وضح النهار من قوى االستغالل المتحالفة مع‬
‫الفاسدين في جهاز الدولة ممثالً بالشرطة‪ ،‬وفي رجال الحزب واتحاد الفالحين‪ ،‬هؤالء‬
‫الذين يفترض أن يكونوا عوناً له في تأمين حقوقه تماشياً مع الشعارات التي يطلقونها‬
‫ليل نهار‪ ،‬وهو الذي يرزح تحت أثقال الجهل واألمية تتنازعه الخرافات وتمأل حياته‬
‫الشعوذة‪ ،‬ليس لديه القدرة على مقاومة هذا الواقع‪ ،‬مع مالحظة نفس رافض للظلم لدى‬
‫الفالحين شديد الوضوح أحياناً في حديثهم عن قوى االستغالل وتسميتها باألسماء‬
‫الصريحة ألصحابها‪ ،‬وجرأتهم في الحديث عن كذب الشعارات الجوفاء للحزب التي لم‬
‫ترفع عنهم ظلماً ولم تقدم لهم أسباب الحياة‪.‬‬

‫أما المرأة فهي التي تعاني بشكل مزدوج من كل أشكال القهر التي يتعرض لها الرجل‬
‫أوالً‪ ،‬مضافاً إليها قهر الرجل بحد ذاته‪ ،‬وهو الذي يجد فيها الحلقة األضعف في‬
‫التنفيس عما يعانيه في كل شيء أمامه على أرض الواقع‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أفالم المرحلة الثانية‪)0220-0220( :‬‬

‫‪-9‬فيلم‪ :‬طوفان في بالد البعث‪.‬‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬وثائقي تسجيلي‬

‫‪ -‬المخرج‪ :‬عمر أميراالي‬

‫‪ -‬باالشتراك مع‪ :‬المخرجين‪ :‬محمد الرومي وأسامة محمد‪.‬‬

‫‪ -‬إنتاج‪ :‬قناة ‪ART‬الفرنسية‬

‫‪ -‬تاريخ اإلنتاج‪1112 :‬‬

‫‪ -‬مدة الفيلم‪ 42 :‬د‪.‬‬

‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬بلدة "الماشي" التابعة إدارياً لمحافظة الرقة‪.‬‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https://youtu.be/GWAu22K8uuE :‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬يبدأ الفيلم بلقطاته األولى عرض قدم متشققة لفالح خمسيني‪ ،‬مترافقاً مع تعليق‬
‫بصوت المخرج عمر أميراالي يقول فيه‪( :‬منذ ثالثة وثالثين عاماً كنت مدافعاً‬
‫صلباً عن تحديث وطني األم سوريا‪ ،‬إلى درجة أن فيلمي األول كان عن بناء‬
‫سد‪ ،‬سد الفرات مصدر فخر حزب البعث وبهجته)‪.‬‬

‫‪ ‬ثم يستعيد مشاهد الفيلم السابق " محاولة عن سد الفرات" للتذكير به‪ ،‬مع متابعة‬
‫التعليق قائالً‪( :‬أنا اليوم نادم على هذا الخطأ الذي ارتكبته في شبابي‪ .‬إن انهيار‬
‫سد ورفع النقاب عن تقرير رسمي توقع الشيء نفسه لسائر السدود التي بنيت‬
‫خالل فترة حكم البعث الممددة واليته دفعاني إلى العودة إلى موقع فيلمي األول)‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬مشهد لمئذنة لم تنته منها أعمال البناء بعد‪ ،‬تنظر إليها الكامي ار من داخل غرفة‬
‫مظلمة عبر النافذة‪ ،‬على صدى صوت أطفال في مدرسة قريبة وهم يصرخون‬
‫باألناشيد الحماسية التي يتم تلقينها لهم‪.‬‬

‫‪ ‬على منظر مياه البحيرة‪ ،‬ثمة صوت لرجل (خلف الكاميرا) يقول‪( :‬نحن ولدنا‬
‫وكبرنا على سلسلة من القرى على وادي الفرات‪ .‬فجأة أتوا وخزنوا مياه بحيرة‬
‫السد ورأينا كيف تغرق بيوتنا وتُدمر‪ ،‬وتدمرت معها كل الذكريات)‪.‬‬

‫‪ ‬ثم يظهر وجه المتحدث وهو رجل قروي في العقد الرابع من العمر‪ ،‬يتابع‬
‫حديثه‪( :‬حسب الذكريات والطفولة التي عشناها فإننا ال زلنا نذكر ولو بشكل‬
‫تقريبي أماكن بيوتنا‪ .‬مثالً بيتي أنا هنا تحت الماء‪ ،‬ال يظهر منه شيء‪ ،‬ولو‬
‫أنك بحثت تحت كل بيت لعثرت على آثار وحضارات من الفترة اإلسالمية‬
‫وحتى العصور الحجرية‪ .‬أول ما استوطن اإلنسان وحاول أن يزرع ويجني ثمار‬
‫تعبه ويتحول من صياد إلى مزارع‪ ،‬ويدجن الحيوانات‪ ،‬كله في هذه المنطقة‬
‫بالذات‪ .‬المنطقة قدمها من قدم التاريخ)‪.‬‬

‫‪ ‬نعود لصوت المخرج وهو يقول‪( :‬من بحيرة األسد تمتد بالد جديدة سوريا حافظ‬
‫األسد‪ .‬اخترت إحدى القرى من هذه األرض الجديدة تحمل هي وسكانها وحتى‬
‫نبع الماء فيها اسم الماشي‪ .‬يحكمها زعيم عشيرة عضو في مجلس الشعب‬
‫بإشراف ابن أخيه ناظر المدرسة والمسؤول المحلي للحزب‪ ،‬هذه الصورة المهمة‬
‫لقرية الماشي تمثل بلداً عمل حزب البعث على بنائه طوال األربعين عاماً‬
‫الماضية من دون كلل)‪.‬‬

‫‪ ‬بعد هذه المقدمة يطالعنا وجه ذياب الماشي وهو يتحدث معرفاً بنفسه وتاريخه‬
‫ونظرته إلى شخصية حافظ األسد‪ ،‬متباهياً بعالقته القديمة معه‪ ،‬وتاريخ عشيرته‬
‫في الوالء لحافظ األسد‪ ،‬ويضرب مثالً على ذلك في وقوفه مع النظام ضد‬

‫‪321‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اإلخوان المسلمين‪ .‬وعلى مدى سبعة دقائق من مدة الفيلم يقدم ذياب الماشي‬
‫حافظ األسد كإله‪ ،‬وليس على صورة إنسان عادي أبداً‪.‬‬

‫‪ ‬من مشاهد جنازة حافظ األسد ينقلنا المخرج إلى خلف صالح الماشي الذي‬
‫يعرف بنفسه كمعلم ومربي ومدير مدرسة "جعيفينة الماشي" االبتدائية‪ ،‬وكيف‬
‫أنه أصبح مدي اًر للمدرسة بواسطة عمه عضو مجلس الشعب ذياب الماشي‪،‬‬
‫كما أنه يشغل منصب أمين الحلقة الحزبية في هذه القرية‪ .‬خالل هذا اللقاء‬
‫يظهر مدى الوالء للرئيس بشار األسد بعد وفاة والده‪.‬‬

‫‪ ‬بلغة خشبية جوفاء بلهاء متخلفة‪ ،‬ومع مشاهد التالميذ يتلقون دروسهم داخل‬
‫الصفوف‪ ،‬نتعرف إلى غسيل الدماغ الذي يحدث للجميع من خالل التلقين‬
‫والتحفيظ لقيم الحزب‪ ،‬والتدرب على شروط الطاعة العمياء والحياة شبه‬
‫العسكرية‪ ،‬ويمكن بكل سهولة التعرف أيضاً على حجم الكارثة التي تحدث على‬
‫مرأى الجميع‪ ،‬ومدى بعد هؤالء عن مواكبة الحياة خارج هذا المكان‪.‬‬

‫‪ ‬إلى مياه البحيرة مرة أخرى وصوت الرجل الفراتي متحدثاً‪( :‬هناك الكثير من‬
‫األشياء السطحية التي ينساها اإلنسان‪ ،‬بينما حالتنا بعمق التاريخ ال يمكن‬
‫نسيانها‪ ،‬طبعاً ما نعيه نحن‪ ،‬ال يعرفه أوالدنا الذين ولدوا وشاهدوا البحيرة‬
‫فصاروا يعتقدون أن هذا هو الفرات‪ .‬نعلم أطفالنا أن الفرات كان بغير هذا‬
‫الشكل‪ ،‬كان نه اًر يمشي بالوادي‪ ،‬كنا ننزل للسباحة به‪ ،‬ونمشي إلى جانبه‪.‬‬
‫أوالدنا ال يعرفون السباحة‪ ،‬لماذا ألنهم تعلموا الخوف من البحيرة فهم يخافون‬
‫الغرق‪ ،‬وهذه أول مرة بالتاريخ يتغير شكل النهر بشكل كبير ولم يعد هناك نهر‬
‫باألساس‪ ،‬هو عبارة عن بحر‪ ،‬ترى أمامك بحر ليس هناك نهر‪ ،‬راح النهر‪،‬‬
‫خلص)‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬عودة إلى مشهد البداية والغرفة المظلمة‪ ،‬والنافذة المفتوحة المطلة على مئذنة‬
‫الجامع إياها‪ ،‬حيث يظهر تساقط الثلج بكثافة مع سماع صوت الصالة داخل‬
‫المسجد‪.‬‬

‫‪ ‬الصورة هنا للغرفة والنافذة والمئذنة كلها مائلة بشكل شديد الوضح‪ ،‬فهل كان‬
‫ذلك إشارة يختتم بها المخرج للداللة على أنه لم يبق هناك ما هو معتدل ومستقيم‬
‫بشكل طبيعي‪ ،‬فكل شيء مائل مثل هذه الصورة؟!‪.‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫تبدو الصورة التي أظهرها الفيلم متطابقة إلى درجة كبيرة جداً مع العنوان الذي حمله‪:‬‬
‫طوفان في بالد البعث‪ .‬حيث السد ومياهه وما دفن تحته من حياة لبشر وبيوت وغيرها‪،‬‬
‫كان أشبه بالطوفان الذي يكتسح في طريقه كل شيء‪ ،‬حيث ال يبقي وال يذر‪.‬‬

‫أما عن المعنى اآلخر للطوفان سوى الماء والبحيرة‪ ،‬فهو ذلك الخراب الذي مثله نموذج‬
‫العقلية التي صنعها بإصرار ودون كلل كما قال صانع الفيلم‪ ،‬صورة الخواء الفكري‬
‫العميق‪ ،‬واالستالب العقلي‪ ،‬والرضوخ والعبودية المطلقة لشكل النظام ورمزه سيء‬
‫ال باألسدين األب واالبن‪ .‬فهل أشد وضوحاً من هذه الصورة على الرغم‬
‫الصيت ممث ً‬
‫من سوادها الذي يثقل على األرواح؟!‪.‬‬

‫ال آراء نقدية حول الفيلم‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪-0‬فيلم‪ :‬أزرق – رمادي‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬وثائقي‬

‫‪ -‬إخراج‪ :‬محمد الرومي‬

‫‪ -‬شارك باإلنتاج‪ :‬شركة ‪mille et une production‬‬

‫‪ -‬العمليات الفنية‪ :‬المؤسسة العامة للسينما في سوريا‬

‫‪ -‬تاريخ اإلنتاج‪1111 :‬‬

‫‪ -‬مدة الفيلم‪ 12:21 :‬د‬

‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬منطقة حوض الفرات األعلى في سوريا‪.‬‬

‫‪ -‬بمشاركة سكان قريتي (تل عبر)‪ ،‬و(تل البنات)‪.‬‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https//youtu.be/mw-rGgce_vl :‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬البداية مع صورة العبارة وهي تستقبل الناس الذين يملؤون جوفها للعبور إلى‬
‫الجهة األخرى من الفرات‪ ،‬ذلك أنها الوسيلة الوحيدة المتاحة للتنقل‪ ،‬يترافق ذلك‬
‫مع تحرك الكامي ار إلى األرض المجاورة حيث بعض القرويات يمارسن أعمالهن‬
‫اليومية في األرض‪.‬‬

‫‪ ‬نسمع صوت المخرج محمد الرومي "صانع الفيلم" متحدثاً‪( :‬قلت لحالي الزم‬
‫صور العبارة‪ .‬كان عمري ‪ 24‬سنة وقت اللي حملتنا أبي وأنا والسيارة محملة‬
‫بعفش بيتنا وقطعت فينا الفرات‪ .‬كنا عم ننتقل من الجزيرة من ضيعة تل أبيض‬
‫لنسكن بمدينة حلب‪ .‬بدي صور العبارة والضيع اللي عشنا فيها‪ .‬الناس‪ .‬األوالد‬

‫‪324‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اللي بيشبهونا أنا واخواتي ورفقاتي وقت كنا زغار‪ .‬بدي صور العبارة وكل شي‬
‫عزيز علي‪ .‬صور اآلثار اللي رجعت فيها مصور فوتوغرافي‪ .‬رح صور كل‬
‫هذا قبل ما يجي الغمر)‪.‬‬

‫‪ ‬وحدها عين الكامي ار تجول أرجاء المكان بكل هدوء ورتابة‪ ،‬كأنما هي تحاول‬
‫ليس فقط رؤية وتوثيق هذه المشاهد‪ ،‬بل كأنما هي تحاول اإلمساك بها‪،‬‬
‫واحتضانها قبل أن تصبح أث اًر بعد عين‪ ،‬بعد أن تندثر وتزول‪ ،‬عندما يأتي‬
‫الماء‪ ،‬ويغمر تحته كل أشكال الحياة‪.‬‬

‫‪ ‬في حركة الكامي ار هذه نشاهد السهول المترامية األطراف‪ ،‬والقرى والبيوت‬
‫المتناثرة‪ ،‬والناس في حركات انتقالهم من بعيد‪ ،‬والحيوانات التي ترافق الناس‬
‫في الحل والترحال‪ ،‬ثم تقترب الكامي ار أكثر من بضعة فتيات فراتيات يقمن‬
‫بجلب الماء من النهر على ظهور الحمير‪ ،‬وتلك الوسيلة الوحيدة أيضاً الستقدام‬
‫الماء للشرب‪ ،‬وباقي االستخدامات‪.‬‬

‫‪ ‬ترصد عين الكامي ار أيضاً مجموعة من األطفال الذين يصطفون أمامها‬


‫وينتظرون‪ .‬ماذا ينتظرون؟!‪ .‬بماذا يفكرون تلك اللحظات‪ ،‬وماذا يفعلون سوى‬
‫الضحكات البريئة التي يحاولون كتمها ربما احتراماً لمن يقوم بالتصوير‪ ،‬أو‬
‫تهيباً وخشية من الكامي ار بحد ذاتها‪ ،‬هي ذلك الكائن المجهول‪.‬‬

‫‪ ‬تقف الكامي ار عند مسافة قريبة من طرف بيت صغير حيث يصعد األطفال‬
‫سلماً خشبياً إلى المكان المخصص للنوم صيفاً‪ ،‬هذا المكان الذي تراه في كل‬
‫بيت ريفي مماثل‪ ،‬ال غنى عنه البتة‪.‬‬

‫‪ ‬بعد ذلك تتوقف لحظات قصيرة مع بعض الوجوه‪ ،‬رجل‪ ،‬امرأة‪ ،‬شابة‪ ،‬طفل‪،‬‬
‫ترصد نبض الحياة الباقي على وجوههم‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يعجن ويخبزن ويقمن بتحضير‬


‫َّ‬ ‫‪ ‬مجموعة من السيدات في أوضاع عمل متعددة‪،‬‬
‫اللبن الرائب‪ .‬رجل يمشي إلى جوار جدار طيني غير مرتفع‪.‬‬

‫‪ ‬تصل الكامي ار إلى السوق الشعبي األسبوعي المتنقل بين القرى والذي يعرف‬
‫عادة باسم سوق الجمعة‪ ،‬حيث االزدحام البشري للمرة األولى نراه هنا للناس‬
‫أثناء تسوقهم الخضار وكل المنتجات‪ .‬إنها واحدة من الصورة النابضة بالحياة‬
‫حقاً‪.‬‬

‫‪ ‬تعود الكامي ار لرصد األرض والنهر والحياة قبل الغمر مرة أخرى‪.‬‬

‫‪ ‬يتجمع الناس أمام العبارة ويفسحون المجال أمام البوسطة أو ً‬


‫ال‪.‬‬

‫‪ ‬لقطة سريعة لسد "تشرين" الذي ما يزال قيد اإلنشاء‪ ،‬ثم العودة إلى القرية وأعمال‬
‫اإلخالء األخيرة التي يقوم بها الناس ألخذ ما يمكن حمله لالستفادة منه في‬
‫بناء البيوت التي ستمنح لهم في أرض أخرى بعيدة عن موطنهم هذا الذي‬
‫سيتحول إلى بحر شاسع األطراف دافناً تحته تاريخهم وذكرياتهم وكل األحالم‬
‫التي كانت يوماً‪.‬‬

‫‪ ‬تتوقف عين الكامي ار عند مشاهد القبور البسيطة المتكومة بالقرب من بعضها‬
‫كأنها تحتمي من خطر خارجي يهدد موتها الهادئ‪ ،‬كيف ال وهو خطر قادم‬
‫قريباً وعلى األبواب‪ ،‬حين سيرحل من بقي من أهاليهم على قيد الحياة إلى‬
‫أراض بعيدة‪ ،‬وسيبقون هم األموات وحدهم الذين سيحافظون على ارتباطهم‬
‫الجنيني بأرضهم األم‪ ،‬سوف لن يزورهم أحد بعد اآلن‪ ،‬كتب عليهم موت جديد‬
‫فوق موتهم هذا‪.‬‬

‫‪ ‬على صوت المطرب الشعبي العراقي "سعد الحديثي" الشجي الحزين وهو يغني‬
‫بطريقة تقطع نياط القلب حزناً على هذا المصير الكارثي‪ ،‬تتسارع حركة الكامي ار‬
‫للمرة األولى في الفيلم وهي تمشي مع الماء‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬الماء الذي بدأ باالرتفاع‪ ،‬ومساحاته باالتساع والتمدد واالنتشار‪ ،‬وهو في كل‬
‫خطوة يتقدمها‪ ،‬يقول لك‪ :‬إن تاريخاً هنا قد تم دفنه إلى األبد‪ ،‬بل وتحطيمه‬
‫وصار في باب الممنوعات الحديث عنه‪ ،‬ويجب أن يطويه النسيان‪.‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫أية مصادفة نادرة الحدوث‪ ،‬أو لنقل أي حظ هو ذلك الذي جعل المخرج محمد الرومي‬
‫يصل إلى تلك األرض التي جاء منها طفالً ذات يوم‪ ،‬ليعود إليها مصو اًر مرافقاً لبعثة‬
‫أثرية‪ ،‬ثم يصبح بذلك شاهداً على جريمة كبرى بحق األرض واإلنسان في هذا المكان‬
‫بالذات؟!‪ .‬أية شهادة وثائقية فائقة التأثير تلك التي استطاعت عينه الذكية تصويرها‬
‫في أيامها األخيرة وهي تودع الحياة؟!‪.‬‬

‫الصورة التي ظهرت البن الفرات الذي ال حول له وال قوة‪ ،‬وهو يقف مكتوف اليدين أما‬
‫جريمة اقتالعه القسرية من أرضه‪ ،‬وقذفه بعيداً عنها بحجة بناء السد وتأمين الكهرباء‬
‫للوطن‪ .‬صورة حزينة موجعة للقلب ال تحتاج مزيداً من الكلمات‪ ،‬ألن الكلمات أساساً‬
‫تقف عاجزة مثل ابن الفرات عن التعبير عن هول الحدث الفجائعي الرهيب‪.‬‬

‫ال آراء نقدية حول الفيلم‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪-3‬فيلم‪ :‬كالم حريم‪.‬‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬إعداد‪ :‬عدنان العودة‬

‫‪ -‬إخراج‪ :‬سامر برقاوي‬

‫‪ -‬وثائقي متوسط‬

‫مدة الفيلم‪ 21 :‬د‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬إنتاج‪ :‬بتمويل من صندوق األمم المتحدة للتنمية والسكان بالتعاون مع و ازرة‬


‫اإلعالم السورية‪.‬‬

‫‪ -‬تاريخ اإلنتاج‪1116 :‬‬

‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬قرية "زور شمر" ريف الرقة الشمالي‪.‬‬

‫‪ -‬منع من العرض بداي ًة‪ ،‬ثم عرض للمرة األولى في تظاهرة سينما الواقع ‪dox‬‬
‫‪box 01‬في دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https://youtu.be/ODRsKtWyvm0 :‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬أصوات متداخلة لمجموعة نسائية يتحدثن فيها بمواضيع مختلفة من حياتهن‬


‫االجتماعية‪ ،‬على خلفية شروق الشمس‪ ،‬وبضع بطات يتهادين على وجه‬
‫ماء نهر الفرات‪ ،‬ورجل يركب زورقه البدائي الصغير ويمضي إلى وجهة‬
‫ما في هذا النهر‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬نتابع‪" .‬زور شمر" قرية سورية شمال شرق دمشق ‪ 221‬كم‪ .‬عبارة تضع‬
‫المشاهد في موقع القرية التي تم التصوير فيها‪.‬‬

‫‪ ‬تجول الكامي ار سريعاً حول القرية‪ ،‬ثم نلتقي رجالً من القرية داخل بيته في‬
‫جلسة حوار مع معد الفيلم (خلف الكاميرا) يدور بينهما حوار حول حياته‬
‫االجتماعية واألسرية‪ ،‬فيعرف بنفسه بعد المقدمة التقليدية للبسملة والحمد‬
‫لله‪ ،‬فيقول إنه زوج المرأتين‪ ،‬وأب لسبعة عشر طفالً بين ذكور وإناث‪.‬‬

‫‪ ‬ثم ننتقل إلى مشهد آخر‪ ،‬ورجل آخر من القرية يجلس على "الطريزينة" أمام‬
‫غرف البيت الطينية‪ ،‬نستمع إليه متحدثاً عن وضع المرأة اليوم في القرية‬
‫كمن يجيب على سؤال قائالً‪( :‬حياة المرأة جيدة‪ ،‬مرتاحة‪ ،‬ال شيء كأنها‬
‫تعيش في حياة المدن‪ ،‬الماء موجود‪ ،‬الطعام موجود‪ ،‬الراحة موجودة‪ ،‬تنظف‬
‫بيتها وتجلس‪ ،‬ال تخرج ومرتاحة)‪.‬‬

‫‪ ‬في مكان آخر وسط الشارع‪ ،‬أربعة رجال يجلسون إلى جانب سيارة صغيرة‬
‫مغلقة‪ ،‬يتابعون الحديث عن أوضاع المرأة اليوم في القرية‪ ،‬فيقول أحدهم‪:‬‬
‫(المرأة هنا سعيدة‪ ،‬وليست مثل السابق حيث كانت متعبة جدًا باألشغال‪،‬‬
‫أما اآلن فهي مبسوطة مرتاحة بال أي عمل‪ ،‬ال تعجن وال تخبز‪ ،‬وضعها‬
‫ممتاز)‪ ،‬بينما يعقب شخص آخر قائالً‪( :‬ال ينقصها شيء الماء موجود‪،‬‬
‫الكهرباء موجودة‪ ،‬كل شيء موجود‪ ،‬كل شيء متوفر‪ ،‬ال تختلف عن المدينة‬
‫وال بأي شيء‪ ،‬الفرن موجود‪ ،‬وال ينقصها شيء)‪.‬‬

‫‪ ‬عودة إلى المتحدث األول داخل البيت حيث يتابع حديثه قائالً‪( :‬ال ال أنا‬
‫مع تعليم البنت ألنها ليست نصف المجتمع‪ ،‬بل تعتبر ثالثة أرباع‬
‫المجتمع)‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬رجل الطريزينة يقول‪( :‬البنات متعلمات لحد الصف السادس والخامس‬


‫والثالث والبقية تزوجن‪ ،‬واآلن هنا من البنات من تريد متابعة الدراسة إلى‬
‫البكالوريا وال مانع)‪.‬‬

‫‪ ‬ثمة مشهد يتكرر لرجل داخل غرفته يبقى صامتاً ال يفعل شيئاً سوى شرب‬
‫القهوة المرة بين الفينة والفينة‪.‬‬

‫‪ ‬تتكرر األسئلة في الفيلم حول الزواج المبكر‪ ،‬والرأي الذي يقول إنه حرام‬
‫وال يجوز!! بينما يتباهى آخر بأنه زوج بناته من عمر الخمسة عشر عام ًا‪.‬‬

‫‪ ‬يقول الرجال إن تعدد الزوجات أمر جيد‪ ،‬وال مانع منه إطالقاً‪ ،‬وهناك الكثير‬
‫من الضرورات التي تبرره‪.‬‬

‫‪ ‬ثمة مشاهد في الفيلم زائدة عن الحاجة‪ ،‬كمشهد الرجل الذي يطلب من‬
‫أبنائه الوقوف اللتقاط صورة‪ ،‬وكذلك الحديث المطول الذي يقوم به الرجل‬
‫لسرد أسماء أبنائه السبعة عشر حيث ينسى بعضهم أحياناً‪.‬‬

‫‪ ‬يتحدث الرجال أيضاً عن تعنيف المرأة‪ ،‬وأنه لم يعد موجوداً وأنهم يؤمنون‬
‫بالمساواة بين الرجل والمرأة‪.‬‬

‫‪ ‬المشاهد التالية للمرأة التي تظهرها الصورة‪ ،‬تناقض كل ما قاله الرجال عن‬
‫وضع المرأة في القرية اليوم‪ ،‬حيث ما زالت المرأة تغسل على يديها دون‬
‫وجود غسالة كهربائية‪ ،‬وتعمل في الحصاد بالمنجل‪ ،‬وليس كما قالوا عن‬
‫تمتعها بالراحة‪ ،‬كما أنها ما زالت ترعى الغنم‪ ،‬وتحمل الحطب على كتفها‪،‬‬
‫وتعجن وتخبز على الصاج‪ ،‬هذه المشاهد تقابل رجالً بكامل أناقته حتى أنه‬
‫يلبس قفازات بيضاء بما يوحي بأنه ال يعمل أبداً‪.‬‬

‫‪ ‬نشاهد صو اًر ألطفال يعملون بالحقل‪ ،‬ال يعرفون اإلجابة عن سؤال‬


‫المستقبل‪ ،‬وماذا يحلمون أن يصيروا؟!‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ ‬تتحدث األم عن ابنتها بشرى وتصفها بالمجتهدة‪ ،‬وتقول‪( :‬ما دامت تنجح‬
‫في صفوفها ستبقى بالمدرسة‪ ،‬وعندما ترسب ستجلس بالبيت)‪.‬‬

‫‪ ‬بعد ذلك تنقلنا الكامي ار إلى سهرة نسائية على ضوء "اللوكس" وشرب الشاي‪،‬‬
‫حيث تتحدث النساء عن أوضاعهن هذه المرة بأصواتهن‪ ،‬فيذكرن تفاصيل‬
‫متاعب حياتهن اليومية التي تنسف رواية الرجال اآلنفة الذكر عن تلك‬
‫األحوال‪ ،‬فيتحدثن عن الزواج المبكر الذي تعرضن له‪ ،‬وحياتهن المكرسة‬
‫إلرضاء األزواج الذين ال يعملون شيئاً غير الزيجات المتعددة‪ ،‬وإنجاب‬
‫المزيد من األوالد‪ ،‬إضافة إلى العنف الذكوري الذي يمارس عليهن منهم‪.‬‬

‫‪ ‬ثمة قصة مؤثرة على لسان إحداهن تقول فيها‪( :‬تركت ابنتي الصغيرة نائمة‬
‫إلى جانب والدها الذي لم ينتبه إليها عندما استيقظت عطشى وذهبت نحو‬
‫الساقية لتشرب‪ ،‬ثم سقطت هناك وماتت دون أن يعلم والدها الذي كان يغط‬
‫في نومه)‪ .‬بهذه البساطة تزهق حياة آدمية دون أن تعني شيئاً ألحد‪.‬‬

‫‪ ‬كل ذلك عدا الحديث عن عدم السماح للبنات بمتابعة الدراسة ألن االهتمام‬
‫بتربية الدواب أكثر ضرورة وأهمية لألهل‪ ،‬وعن التعنيف الزوجي تقول إحدى‬
‫النساء‪( :‬ما زال زوجي يضربني حتى اآلن على الرغم من مرور أكثر من‬
‫عشرين عاماً على زواجنا)‪.‬‬

‫‪ ‬تنتهي السهرة النسائية بغناء إحدى الفتيات‪ ،‬كأنما هي تلخص تلك األحوال‬
‫المتعبة التي تغلف حياة المرأة في تلك البقعة من األرض السورية‪ ،‬ثم يختتم‬
‫الفيلم بموسيقا ذات إيقاع فرح على مشهد نار تتصاعد ألهبتها من موقد‬
‫حطب‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫ما حاول صانعا الفيلم إظهاره بشكل مرسوم منذ الخطوات األولى للفيلم‪ ،‬قد ال يتطابق‬
‫مع الصورة التي وصلت إلى الناس بعد مشاهدة الفيلم‪ ،‬وإن اختلفت اآلراء والتقييمات‬
‫حسب المنظور الذاتي والخلفية الشخصية لكل واحد من المتلقين‪ ،‬إال أن ما يمكن‬
‫االتفاق عليه تقريباً هو تلك الصورة السلبية للرجل الذي ظهر كسوالً‪ ،‬ال يحب العمل‪،‬‬
‫يعيش فراغاً كبي اًر في حياته‪ ،‬يقوم باستغالل جهد المرأة األم األخت الزوجة االبنة في‬
‫كل شيء‪ ،‬ال تتطابق أقواله مع أفعاله الحقيقية الواقعية‪ ،‬فهو يمارس التسلط والعنف‬
‫الذكوري تجاه المرأة في الوقت الذي يدعي فيه العكس من ذلك تماماً‪.‬‬

‫بينما كانت صورة المرأة كما ظهرت في الفيلم فهي لتلك األنثى الوديعة المسالمة التي‬
‫ال تبدي أي نوع من أنواع التمرد على التهميش واإلقصاء الذي يمارسه الرجل بحقها‬
‫في كل شيء‪ ،‬غير أنها في جلساتها النسوية الخاصة تقوم بالبوح أيضاً بشكل من‬
‫االستكانة لتروي معاناتها مع الزوج الذي يقوم بضربها كلما كان مزاجه معك اًر‪.‬‬

‫آراء حول الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬الصحفية "ليالس حتاحت" كتبت في صحيفة الشرق األوسط اللندنية رأياً حول‬
‫الفيلم بعنوان‪( :‬فيلم كالم حريم صار بدون حريم بعد أسره ومنعه‪ ،‬تقول فيه‪:‬‬

‫(ما ُع ِر َ‬
‫ض ليس غائباً أو غريباً‪ ،‬بل هناك ما هو أقسى بكثير‪ ،‬لكن دخول مثل هذه‬
‫البيئات أمر شديدي الصعوبة‪ ،‬فهم قرويون محافظون إلى حد كبير‪ ،‬ال تجرؤ نساؤهم‬
‫على البوح بالكثير‪ ،‬لكن رغم ذلك استطاع المخرج سامر برقاوي‪ ،‬من خالل الكاتب‬
‫عدنان عودة معد الفيلم وابن المنطقة في الوقت ذاته‪ ،‬التحدث معهم وعرض حياتهم‬
‫بشكل‪ ،‬ال يؤذي مشاعرهم أو يستغلها)‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ثم تضيف‪( :‬اعتمد المخرج في أسلوبه منذ البداية على الثنائيات في الشكل والمضمون‬
‫"الرجل والمرأة‪ ،‬الضوء والعتمة‪ ،‬الرماد والنار" وتوق نهائي للحرية من خالل طيور في‬
‫سماء زرقاء تفرد أجنحتها حرة دون وجهة محددة‪ .‬واقع ال يخفى على أحد داخل سورية‬
‫وخارجها‪ ،‬بل هو واقع العديد من القرى في البلدان العربية أيضاً‪ .‬فهل عرض هذه‬
‫اإلشكاليات يعتبر إساءة لصورة المرأة في سورية‪ ،‬أم أن اإلساءة هي في التعتيم‬
‫والتجاهل بدالً من مواجهة الواقع ومحاولة تحسينه وإصالحه؟ وإن كانت صورة البلد‬
‫تهم المعنيين فلم ال يهبون لجعلها جميلة ومشرقة بدالً من تجميلها وتزوير األصل؟)‪.‬‬
‫*المصدر‪ * :‬صحيفة الشرق األوسط ‪ /‬تاريخ‪ / 24.12.1112 :‬كاتب المقال‪ :‬ليالس‬
‫حتاحت ‪ /‬العنوان‪ :‬فيلم "كالم حريم" صار بدون "حريم" بعد أسره ومنعه‪.‬‬

‫‪ -‬المخرج السوري محمد ملص كتب في صحيفة األخبار اللبنانية رأياً بعنوان‪:‬‬
‫"كالم حريم" وتحديات السينما السورية‪ ،‬قال فيه‪:‬‬

‫(هذا الفيلم المصنوع بتصور سينمائي ناضج‪ ،‬يحكي بلغة حميمة وصادقة منظور‬
‫الرجال إلى المرأة في منطقة الفرات‪ ،‬والمكانة المحدودة التي يمنحونها إياها‪ .‬الواقع‬
‫االجتماعي الطاغي على حياة الرجال‪ ،‬يقدمه المؤلفان على مساحة الفيلم‪ ،‬لكنهما قبل‬
‫النهاية‪ ،‬ينزالن بالفيلم إلى ما تحت الطاولة المعتم‪ ،‬ليتيحا الفرصة لهذه المرأة بما تملك‬
‫أن تعبر عن نفسها‪ ،‬فال تملك حينها إال صوتها لتغني قدرها ومصيرها)‪* .‬‬

‫المصدر‪ * :‬صحيفة األخبار اللبنانية ‪ /‬تاريخ‪ / 21.12.1121 :‬كاتب المقال‪ :‬محمد‬


‫ملص ‪ /‬العنوان‪" :‬كالم حريم" وتحديات السينما السورية‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬صحيفة قاسيون كتبت مقاالً بعنوان‪" :‬كالم حريم"‪ :‬انحراف الرؤيا‪ ،‬دون توقيع‬
‫السم الكاتب‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬

‫(يمتاز الفيلم بلغته الفنية الخاصة التي تبرز أكثر ما تبرز في طريقة المونتاج التي‬
‫تؤكد مقولة العمل‪ ،‬لكن الذي ي ِ‬
‫شك ُل حقاً هو الرؤية الفكرية‪ ،‬فالخطأ الكبير الذي يرتكبه‬ ‫ُ‬
‫شريط عدنان عودة وسامر برقاوي هو إدانة للرجل بوصفه صاحب الظلم األكبر‪،‬‬
‫وحامل العبء األخالقي األعظم في انتهاك المرأة‪ ،‬بتحويلها إلى أداة عمل وتفريخ فقط‪،‬‬
‫فيما يأتي الظلم مضاعفاً حين تصبح منطقة الجزيرة‪ ،‬محور العمل‪ ،‬نموذجاً لهذا الظلم‪،‬‬
‫ألن هناك من سيق أر وفق السياقات االجتماعية البليدة التي ترى إلى المشكلة أنها مشكلة‬
‫تتعلق بالشوايا "كما هي التسمية العنصرية الدارجة ألهالي الجزيرة السورية")‪.‬‬

‫كما أضاف كاتب المقال‪( :‬إن وضع القيم العصرية في حيز الفعل ال يمكن أن يتم‬
‫دون مشروع شامل‪ ،‬فيتكفل بإحاللها واستمرارها‪ ،‬وهذه مهمة مؤسسات الدولة‪ ،‬أما‬
‫والحال على ما هو عليه فإن من غير المعقول أن يتحول الريفي إلى مدان‪ ،‬وأن يصبح‬
‫مدا اًر للسخرية‪ ،‬وأن يتم تناوله بدون الحد األدنى من الحب‪ .‬المتهم الحقيقي الغائب‬
‫ال ضحايا)‪* .‬‬
‫نساء ورجا ً‬
‫عن ذهن صانعي الفيلم هو من يجعل من الجميع‪ً ،‬‬
‫المصدر‪ * :‬صحيفة قاسيون ‪ /‬تاريخ العدد‪ / 12.12.1121 :‬كاتب المقال‪ :‬مغفل‬
‫التوقيع ‪ /‬العنوان‪" :‬كالم حريم"‪ :‬انحراف الرؤيا‪.‬‬

‫‪ -‬صحيفة الغد األردنية كتبت تحت عنوان "كالم حريم" فيلم تسجيلي يثير جدالً‬
‫حول واقع المرأة في الشمال السوري‪ ،‬يحمل توقيع‪( :‬أ ف ب)‪ ،‬حيث وصفت‬
‫الصحيفة الفيلم بأنه‪( :‬جريمة سينمائية بحق المنطقة؟!)‪.‬‬

‫ونقلت رأياً للصحفية السورية علياء الربيعو تهاجم فيه الفيلم إذ تقول‪( :‬ما أثار حفيظتنا‬
‫تلك الطريقة النمطية غير المدروسة في تصوير حياة البدو في تلك المنطقة)‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ثم تتابع القول‪( :‬المجتمعات البدوية لها خصوصية وحضارة بدأ الغرب يعيها‪ ،‬بينما‬
‫يأتي الكاتب والمخرج هنا ليؤكدا على صورتها البدائية)‪.‬‬

‫وتضيف‪( :‬إن تصوير النساء على أنهن يظلمن في المجتمعات البدوية بعيد كل البعد‬
‫عن الصحة‪ ،‬فهنا ينسى معد الفيلم أن النساء حكمن القبائل أحياناً‪ ،‬ومنها قبيلة طي‬
‫التي حكمتها امرأة)‪* .‬‬

‫المصدر‪ * :‬صحيفة الغد األردنية ‪ /‬تاريخ العدد‪ / 11.12.1122 :‬كاتب المقال‪( :‬أ‬
‫ف ب) ‪ /‬العنوان‪" :‬كالم حريم" فيلم تسجيلي يثير جدالً حول واقع المرأة في الشمال‬
‫السوري‪.‬‬

‫‪ -‬صحيفة البيان اإلماراتية نشرت مقاالً للصحفي عامر مطر بعنوان‪" :‬كالم حريم"‬
‫كوميديا سطحية تشوه الواقع‪.‬‬

‫يقول عامر مطر‪( :‬أصوات نساء فراتيات‪ ،‬وصور بط على وجه الفرات‪ ،‬كإحالة أولى‪،‬‬
‫ومشهد أول من فيلم "كالم حريم" الكوميدي‪ ،‬الذي التقط نماذج قروية بسيطة‪ ،‬وقدمها‬
‫ال‪،‬‬
‫بشكل مضحك)‪ .‬يتابع قوله‪( :‬يبدأ الفيلم بمجموعة رجال‪ ،‬أولهم أب لسبعة عشر طف ً‬
‫وزوج لمرأتين‪ .‬يتحدث جميعهم عن عالقتهم بالمرأة كزوجة وابنة‪ ،‬في مشاهدة سريعة‬
‫متتالية‪ ،‬اقتطع كالمهم داخلها بواسطة المونتاج‪ ،‬ليبدو أكثر إضحاك ًا)‪ .‬ثم يضيف‪:‬‬
‫(اختيرت لهم كوادر معينة لتحقيق غاية الفيلم الكوميدية)‪ .‬ويتساءل عامر‪( :‬ما جدوى‬
‫السخرية من بشر مظلومين؟ األجدى بالفيلم أن يطرح قضية الجزيرة السورية دون أن‬
‫يسخر من سكانها‪ ...‬فمشكلة تلك المنطقة ال تقتصر على اإلهمال االقتصادي‬
‫والتنموي‪ ،‬من جانب الحكومة السورية‪ ،‬وإنما تتعداها إلى صورتها المختلفة‪ ،‬وأحيان ًا‬
‫الغائبة في الشارع السوري ألسباب إعالمية متعددة)‪.‬‬

‫كما يتابع السؤال قائالً‪( :‬ال أعرف لماذا اختار الكاتب هذا العنوان للفيلم‪ ،‬فاالسم ال‬
‫يمت للهجة الفراتية بصلة‪ .‬كما أن الكثير من التفاصيل تشي بنظرة استش ارقية قدمها‬
‫العمل عن تلك المنطقة‪ ،‬وتكاد تكون شخصيات الفيلم في الكثير من المشاهد أقرب‬
‫‪335‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫إلى الشخصيات العربية في األفالم الهوليودية)‪ .‬ثم يصف الفيلم بقوله‪( :‬العمل يشبه‬
‫أعمال بائسة كثيرة‪ ،‬أنتجتها و ازرة اإلعالم السورية أيضاً‪ ،‬الو ازرة التي رسخت طوال‬
‫عقود صورة نمطية غير إنسانية عن منطقة الجزيرة السورية "شمال شرق سوريا"‪ .‬إن‬
‫الناس هناك متخلفين‪ ،‬وأغبياء دون التطرق إلى فقرهم‪ ،‬وما يعيشونه من حرمان سببه‬
‫التقصير الحكومي)‪ .‬ويختم رأيه في المقالة‪( :‬يستمر "كالم حريم" المشوه من الدقيقة‬
‫‪ 26‬إلى آخر الفيلم‪ ،‬في محاولة من صناع العمل‪ ،‬لعرض مشكالت كبيرة‪ ،‬تعانيها‬
‫المرأة الفراتية‪ ،‬لكنهم سقطوا في السطحية‪ ،‬والكوميديا غير النافعة)‪* .‬‬

‫المصدر‪ * :‬صحيفة البيان اإلماراتية ‪ /‬التاريخ‪ / 22.21.1121 :‬كاتب المقال‪:‬‬


‫الصحفي عامر مطر ‪ /‬العنوان‪" :‬كالم حريم" كوميديا سطحية تشوه الواقع‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪-4‬فيلم‪ :‬أضواء‪.‬‬

‫بطاقة الفيلم‪:‬‬

‫‪ -‬وثائقي‬

‫‪ -‬إخراج‪ :‬ريم الغزي‪.‬‬

‫‪ -‬إنتاج‪ :‬قناة الجزيرة‪.‬‬

‫‪ -‬تاريخ اإلنتاج‪1116 :‬‬

‫‪ -‬مدة الفيلم‪ 12:16 :‬د‪.‬‬

‫‪ -‬رابط الفيلم‪https//youtub.be/Mbwl0jpHAc :‬‬

‫بعيدة‬
‫ً‬ ‫‪ -‬موقع التصوير‪ :‬قرية (عين البيضا) على ضفاف بحيرة سد الفرات‪ ،‬ليست‬
‫عنه‪.‬‬

‫عرض الفيلم‪:‬‬

‫‪ ‬بداي ًة‪ ،‬يتحدث الفيلم ومن خالل أسرة صغيرة تعيش على ضفاف بحيرة سد‬
‫الفرات‪ ،‬عن معاناة الناس من عدم وجود الكهرباء في قريتهم بالمطلق‪ ،‬على‬
‫الرغم من قربها من سد الفرات‪ ،‬اإلنجاز األكبر الذي يتباهى به نظام البعث‬
‫واألسد أمام المواطنين السوريين والعالم‪ ،‬حيث محطات توليد الكهرباء التي‬
‫تغطي سوريا‪ ،‬ولبنان‪ ،‬واألردن‪.‬‬

‫‪ ‬كما يظهر معاناتهم من عدم وجود شبكة مياه الشرب‪ ،‬حيث يشربون من‬
‫ماء البحيرة بشكل مباشر‪ ،‬إضافة إلى عدم تخديم القرية بشبكة طرق عامة‪،‬‬
‫فهي إذاً شبه مقطوعة عن العالم الخارجي‪ ،‬وطريقة تواصلهم الوحيدة مع‬
‫القرية التالية على الضفة األخرى للبحيرة تتم بواسطة الطرادة‪ ،‬حيث يعيش‬
‫أهل القرية على صيد السمك‪ ،‬أو الهجرة إلى المدن السورية األخرى‪ ،‬والدول‬

‫‪337‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المجاورة بحثاً عن العمل‪ ،‬والمدرسة الوحيدة بعيدة عنهم‪ ،‬حيث األطفال‬


‫يذهبون إليها مشياً على األقدام‪.‬‬

‫‪ ‬يبدأ الفيلم من غرفة صغيرة حيث الزوج والزوجة وعدد من األطفال‪ ،‬يقول‬
‫الزوج‪( :‬نحن نعيش تحت رحمة الله‪ ،‬ال كهرباء‪ ،‬وال ماء‪ ،‬وال أي شيء‪،‬‬
‫حتى وال طريق)‪ ،‬بينما تتابع الزوجة‪( :‬أحلم بوصول الكهرباء‪ ،‬حتى أشتري‬
‫غسالة‪ ،‬وبراد أفضل من البحث عن ماء بارد عند من لديهم كهرباء)‪،‬‬
‫ويعقب الزوج‪( :‬أقتني دينامو للماء‪ ،‬أحسن وضع البيت‪ ،‬وأزرع ما أريد‪،‬‬
‫وأشتري تلفزيون‪ ،‬ومسجلة‪ ،‬ويصبح عندي كل شيء)‪ .‬يضيف أحد‬
‫المشاركين‪( :‬تبعد الكهرباء عنا مسافة كيلو متر واحد‪ ،‬والدولة توزع الكهرباء‬
‫إلى األردن‪ ،‬ولبنان‪ ،‬ونحن هنا ال أحد يدري بنا‪ ،‬ليس لدينا كهرباء‪ ،‬وما‬
‫زلنا على ضوء لمبة الكاز)‪.‬‬

‫‪ ‬بعد ذلك ينتقل الفيلم للحديث عن تاريخ المنطقة القريب (قبل الغمر)‪ ،‬فيقول‬
‫أحدهم‪( :‬كان الناس يسكنون هنا في "الزور"‪ ،‬في هذه المنطقة أرض البحيرة‪،‬‬
‫وعندما جاءت الدولة وأبلغت السكان أن الماء سوف يغمر "الزور"‪ ،‬فإن‬
‫الناس لم يصدقوا األمر بداي ًة‪ ،‬وقالت لهم ال تزرعوا األرض‪ ،‬لكنهم زرعوا‪،‬‬
‫وعندما جاء الماء أخذ كل شيء)‪.‬‬

‫‪ ‬تطرق الفيلم بصورة عابرة إلى النظرة السائدة بين الناس في القرية لجهة‬
‫توزيع األعمال بين الرجل والمرأة‪ ،‬حيث قدم طفالً يسخر من شقيقته‪،‬‬
‫واألعمال التي تقوم بها المرأة والتي ال تليق بالرجل على حد تعبيره‪ ،‬وهذا‬
‫يظهر ما سمعه من الكبار حول هذه القضية‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫صورة الفراتي التي ظهرت‪:‬‬

‫ونساء في حالة من االستسالم والرضوخ للواقع المعاشي المرير‬


‫ً‬ ‫ظهرت صورتهم رجاالً‬
‫الذي يرزحون تحت وطأته كأنما هو قدر ال فرار منه‪ ،‬يستثنى من هذه الصورة ما‬
‫ذكرته الزوجة عندما قالت‪( :‬ال يجوز أن نموت‪ ،‬ونجعل غيرنا يموت معنا‪ ،‬من يستطيع‬
‫الطي ران فليفعل‪ ،‬لينجو بنفسه‪ ،‬ويؤمن حياته‪ ،‬ال نستطيع أن نطلب منه العيش بنفس‬
‫الوضع الذي عشنا فيه‪ ،‬هذا خطأ)‪.‬‬

‫ربما كانت هذه صرخة الرفض والتمرد الوحيدة التي أظهرها الفيلم على لسان ضيوفه‬
‫من الرجال والنساء واألطفال‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫نظرة سريعة لمجمل األفالم خالل المرحلتين األولى والثانية‪ ،‬ال تظهر الكثير من التغير‬
‫الذي حدث لإلنسان الفراتي ونمط حياته‪ ،‬فغياب الخدمات األساسية وفي مقدمتها‬
‫الكهرباء ومياه الشرب النظيفة ما زالت دون المستوى إن لم تكن ما تزال غائبة عن‬
‫بعض القرى كما ظهر في فيلم (أضواء) لريم الغزي الذي أنتج عام ‪ 1116‬حيث ما‬
‫تزال القرية القريبة من أكبر محطات توليد الكهرباء في سوريا محرومة من الكهرباء‪.‬‬

‫فيلم (كالم حريم) لعدنان العودة وسامر برقاوي الذي أنتج عام ‪ 1116‬أيضاً يظهر فيه‬
‫الفراتي والفراتية من حيث المظهر‪ ،‬شكل الملبس ومستواه متقدماً جداً مقارنة بما ظهر‬
‫عليه الناس في فيلم (الحياة اليومية في قرية سورية) الذي صور عام ‪ 2621‬حيث‬
‫كانت الصورة تدعو للرثاء لشدة فقرها الظاهر للعيان‪.‬‬

‫كأن الزمن لم يمر على تلك المنطقة وأهلها‪ ،‬وأنهم ما زالوا على هامش الحياة عموماً‪،‬‬
‫منشغلون بتعداد الزيجات‪ ،‬وإنجاب الذرية األكبر‪ ،‬والحياة الفارغة من الهدف (كالم‬
‫حريم)‪.‬‬

‫لم تخرج األفالم عموماً عن إظهار صورة الفراتي الراضي بما فرض عليه من ظروف‬
‫استياء ورفضاً‬
‫ً‬ ‫حياتية ظالمة‪ ،‬إال إذا استثنينا فيلم (الحياة اليومية) الذي رصد بوادر‬
‫للظلم الممارس عليهم من قبل شيوخ العشائر والمتنفذين من المزارعين وغيرهم‪.‬‬

‫إذا عدنا لفرضية البحث في صورة الفراتي في السينما السورية‪ ،‬فهي كما ظهرت خالل‬
‫األفالم الستة التي تم استعراضها أنفاً‪ ،‬موجودة غير أنها لم تكن متوازنة في عرضها‪،‬‬
‫ذلك أنها جميعاً وخالل المرحلتين الزمنيتين وما بينهما من تباعد لم تتطرقا إلى الحديث‬
‫ال وامرأة)‪ ،‬حيث غابت الصورة‬
‫عن أية إيجابيات في صورة هذا اإلنسان الفراتي (رج ً‬
‫احدة لرفض صريح ومتمرد على واقع الحال المعاش‬
‫اإليجابية تماماً‪ ،‬ولم نشاهد حالة و ً‬
‫كأنه قدر ال فرار منه‪ ،‬ولم نلحظ أث اًر ألية حالة نجاح وال على أي مستوى قام بها إنسان‬
‫تلك المنطقة‪.‬‬
‫‪341‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أول وأبرز تلك الحاالت الغائبة‪ ،‬والتي هي حقيقة واقعة شديدة الوضوح يعرفها أبناء‬
‫المنطقة الفراتية جميعاً هي حاالت التفوق الدراسي ألبناء الريف في مدن الجزيرة‬
‫السورية‪ ،‬ووقوفها في أغلب األوقات بالصفوف المتقدمة للناجحين‪ ،‬وأصحاب الشهادات‬
‫الدراسية العليا‪ ،‬حيث تغير الزمن (ما لم نره في األفالم) الذي كانت فيه مهنة الطب‬
‫على سبيل المثال ال الحصر حك اًر على أبناء المدن األخرى‪ ،‬عندما صار في المنطقة‬
‫أطباء من أبنائها وبناتها‪.‬‬

‫إذا أخذنا بعين االعتبار الظروف المحيطة بإنتاج السينما في سوريا‪ ،‬خاصة لجهة‬
‫الحرية في التعبير عما يريده صانعوا األفالم‪ ،‬فإننا قد نتفهم قائمة الممنوعات‬
‫والمحرمات‪ ،‬ولكن ذلك بالدرجة األولى يكون حول المغزى السياسي وهل يحمل نفساً‬
‫معارضاً ورافضاً لشكل السلطة السياسية‪ ،‬ولكن الحديث عن الجوانب اإليجابية التي‬
‫خلقت وشقت طريقها على الرغم من تلك البيئة المتخلفة القمعية ألم يكن يستحق بعض‬
‫االنتباه‪ ،‬كي ال تكون الصورة أحادية النظرة كما ظهرت‪.‬‬

‫هذا االستخالص ال يقلل بطبيعة الحال من أهمية تلك األفالم الوثائقية‪ ،‬وقدرتها على‬
‫تصوير الحياة الواقعية لإلنسان الفراتي كما هي‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بالجانب‬
‫االجتماعي‪ ،‬والكارثة الكبرى التي حدثت باقتالع الناس من بيوتهم وترحيلهم قس اًر إلى‬
‫مناطق بعيدة‪ ،‬وغمرت بيوتهم وقراهم وأراضيهم بالماء الذي غير واقع المنطقة إلى‬
‫األبد‪ ،‬فصار النهر بح اًر اسمه سد الفرات‪ ،‬وصار اسم الناس المغمورون‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق المسرح‬

‫‪342‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مهرجانات الرقة للفنون المسرحية‬

‫عبد الناصر حسو‬

‫ناقد مسرحي سوري‪ ،‬مقيم في ألمانيا‪ ،‬أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون‬
‫المسرحية‪ ،‬أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية‪.‬‬

‫إذا كانت الرقة اشتهرت بفرقتها الشعبية الراقصة على مستوى الوطن العربي " فرقة‬
‫الرقة للفنون الشعبية" منذ تأسيسها عام ‪ ،2666‬على يد الفنان إسماعيل العجيلي‪ ،‬إال‬
‫أن تلك المدينة‪ ،‬ومنذ مطلع األلفية الثالثة‪ ،‬تعددت نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية‪،‬‬
‫برزت المدينة بكثرة نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية‪ ،‬وتمايزت بمهرجانات المتنوعة‬
‫للرواية والقصة والشعر والمسرح وملتقى الفن التشكيلي‪ ،‬مع مشاركات محلية وعربية‬
‫وأوروبية مهمة على مستوى التخصص‪ ،‬ساهم هذا كله بترسيم هذه المهرجان كأحد‬
‫العالمات الفارقة في حياة مدينة الرقة الثقافية‪ ،‬ليس في سورية فقط وإنما علي مستوي‬
‫المنطقة العربية‪ ،‬حتى أن بعض النشاطات والعديد من الندوات الفكرية‪ ،‬مثل ندوة "حول‬
‫العلمانية والدين" التي كان من المقرر أن تستضيف مفكرين بارزين من المنطقة والعالم‪،‬‬
‫ُمنعت من قبل السطات الحزبية واألمنية في الرقة‪ ،‬ربما بسبب التخوف من اإلشكالية‬
‫األيديولوجية والسياسية للموضوع‪ ،‬وربما خشية أن تخطف الرقة األضواء من العاصمة‬
‫دمشق‪.‬‬

‫بالعودة إلى مهرجان المسرح كحالة ثقافية تفاعلية‪ُ ،‬يمكن أن تُحرك جمود الحياة‬
‫المسرحية والثقافية عموما‪ ،‬تطلب األمر وضع أسس أولية للتحضير‪ ،‬مثل شروط‬
‫االشتراك‪ ،‬وتأمين إقامة الوفود وأماكن الندوات الفكرية واليومية‪ ،‬وصاالت العروض‬
‫واألهم جهة التمويل‪ ،‬وقد نجحت مديرية الثقافة في الرقة بإدارة حمود الموسى بحل‬
‫الكثير من هذه المعضالت حين قصرت و ازرة الثقافة‪ ،‬عبر استنهاض فعاليات المجتمع‬

‫‪343‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المدني واألهلي لتحمل تكاليف وأعباء نأت عنها مؤسسات الدولة‪ ،‬بل واستطاعت تلك‬
‫العروض المسرحية أن تخرج أبعد من مركز محافظة الرقة‪ ،‬لتمتد إلى المدن والبلدات‬
‫الصغيرة التابعة لها كمدينة الطبقة "الثورة" وسواها‪ ،‬ما خلق حراكا ثقافيا استثنائيا في‬
‫هذه المحافظة‪.‬‬

‫ساهم هذا الحراك بدورة بتشكيل جمهور يعي احتياجاته ويطالب مسؤولي المهرجانات‬
‫بعروض عربية ودولية ذات سوية فنية عالية‪ ،‬إغناء للحالة الثقافية من خالل االحتكاك‬
‫المباشر مع ثقافة اآلخر واالطالع على تجاربهم وطرق التعبير المستخدمة لديهم‬
‫لالرتقاء بالمشهد الثقافي والمسرحي في الرقة إلى مستويات متقدمة‪ ،‬وبالتالي فتحت‬
‫هذه الفعاليات نافذة ُيطل من خاللها جمهور الرقة على المشهد المسرحي السوري‬
‫ويحرض في الوقت ذاته مدنا أخرى لتحذو حذوها‪ ،‬كمثال مهرجانات‬
‫والعربي والعالمي‪ُ ،‬‬
‫حمص وحماه وطرطوس والسلمية‪ ،‬التي بدأت تفكر جدياً أن تحتضن الفعاليات الثقافية‬
‫والفكرية إلى جانب النشاطات الفنية‪ /‬المسرحية‪.‬‬

‫تأسس مهرجان الرقة للفنون المسرحية عام (‪ )1111‬تحت شعار "من أجل مسرح‬
‫عربي أصيل ومتطور"‪ ،‬بجهود مجموعة كبيرة من الفنانين المسرحيين واالداريين في‬
‫مديرية الثقافة والمركز الثقافي والمجتمع المدني والمثقفين في الرقة‪ ،‬واستمرت تلك‬
‫النشاطات المرافقة للمهرجانات أربع دورات متتالية‪ ،‬شاركت فيها وفود سورية وعربية‬
‫ودولية‪ ،‬مما ساهم في تنشيط الفعاليات المسرحية على مستوى األفراد وعلى مستوى‬
‫المؤسسات الرسمية‪ ،‬كما أن المهرجان أضاف في دورته الرابعة عروضاً لألطفال‬
‫توزعت بين الرقة والطبقة (الثورة)‪.‬‬

‫لكن المهرجان سرعان ما توقف نشاطه بعد دورة عام ‪ ،1112‬ألسباب قد تكون‬
‫معروفة‪ ،‬لكن حقيقة األمر كانت هذه الدورات األربع كفيلة بأن ترتقي بالفن المسرحي‬
‫في الرقة إلى مصاف المدن الثقافية‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫َل ْم يكن للمهرجان جوائز مادية‪ ،‬خاصة في الدورة االولى والثانية‪ ،‬كانت هذه ميزة‬
‫المهرجان‪ ،‬كما كانت مهرجانات دمشق للفنون المسرحية تفعل ذلك‪ ،‬فكان هدف العرض‬
‫جمالياً‪ ،‬فنياً وليس مادياً‪ ،‬في الدورات التالية‪ ،‬بدأت إدارة المهرجان بتكريم الفنانين‬
‫للمميزين مادياً‪ ،‬وتأسست لجان التحكيم لمنح جوائز ثابتة ألفضل (عرض‪ -‬إخراج‬
‫مسرحي‪ -‬ممثل‪ -‬ممثلة‪ -‬سينوغراف) وهناك جوائز تشجيعية تمنحها بعض المؤسسات‬
‫أو األشخاص ممن لديهم رغبة في تشجيع العروض المسرحية غير الفائزة‪ ،‬ربما كان‬
‫منح الجوائز سبباً في تراجع مستوى العروض التي كان هدفها الحصول على الجائزة‬
‫دون التفكير بالجانب الجمالي والفني للعرض‪.‬‬

‫مازلنا نعتقد أن التأثير على الوعي الجمعي السياسي واالجتماعي والروحي ال يمكن‬
‫أن يحدث إال بالوصول للجمهور العريض‪ .‬لكن من هو هذا الجمهور العريض الذي‬
‫نريد أن نصل إليه؟ هم ليسوا مسرحيين فحسب‪ ،‬بل هم من كافة شرائح المجتمع‪ ،‬قد‬
‫يكون بينهم موسيقيون‪ ،‬وفنانون تشكيليون‪ ،‬وكتاب‪ ،‬وصحفيون‪ ،‬وموسيقيون‪ ،‬ومدرسون‬
‫وفضوليون وإلى ما هنالك‪ ،‬وأنا أعتقد أن هذا العدد الهائل من الحضور هو جمهور‬
‫الثقافة (الفنية والفكرية واالدبية)‪ ،‬جمهور األماسي الموسيقية‪ .‬أليس لهؤالء الحق في‬
‫أن يشاهدوا عروضاً يريدون هم مشاهدتها؟ عروضاً يمكن أن يتأثروا بها بهذا الشكل‬
‫أو ذاك‪ ،‬ثم ينقلون ما تأثروا هم به من خالل تجاربهم الخاصة إلى آخرين في مجاالت‬
‫عملهم؟‬

‫قد تكون مفاجأة لمن حضر المهرجان في هذه المحافظة البعيدة عن العاصمة‪ ،‬بحضور‬
‫الجمهور الكثيف والمشارك في الندوات‪ ،‬القادم من خارج المحافظة أكثر من جمهور‬
‫عروض القومي في دمشق‪ .‬وقد تميز عمل القائمين على المهرجانات‪ ،‬خاصة مدير‬
‫الثقافة في المحافظة ومدير المهرجان السيد حمود الموسى‪ ،‬الصدق والرغبة الشديدة‬
‫في ترسيخ حركة مسرحية فاعلة تشكل اندفاعة الجمهور ظاهرة مشجعة في المدينة‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫استقطب المهرجان جمهو اًر واسعاً وهذا ما يرمي إليه العمل المسرحي أساسا‪ ،‬وبالتالي‬
‫تحقق شيئاً مهماً من خالل المهرجان‪ ،‬فالقاعة كانت تضيق بالحاضرين‪ ،‬ويبقى الرهان‬
‫بعد تحقق الحضور والمتابعة للمهرجان على تكوين ثقافة مسرحية لدى الجمهور‬
‫المسرحي وتأثير الجمهور على الفرق المسرحية من خالل المالحظات واالنتقادات‬
‫لحض الفرق على تحسين األداء المسرحي في المهرجانات القادمة‪.‬‬

‫ونستطيع القول أن البطل الحقيقي في كل عروض مهرجانات الرقة كان الجمهور بدون‬
‫منازع‪ ،‬وهو جمهور متابع لكافة الفعاليات الثقافية‪ ،‬يرتاد ملتقيات الفن التشكيلي‬
‫واألماسي الموسيقية والحفالت الراقصة‪ ،‬كان مواظباً للعروض المسرحية وللجلسات‬
‫النقدية التي أعقبتها بدأب وحرص افتقدناه في مهرجان دمشق المسرحي‪.‬‬

‫بينما كانت تغص قاعة عبد السالم العجيلي في مديرية الثقافة حيث تجري جلسات‬
‫الحوار بأكثر من طاقتها على االستيعاب‪ ،‬فيفيض الجمهور المتابع خارجها‪ .‬لم يكن‬
‫هذا الجمهور متفرجاً أو متابعاً سلبياً‪ ،‬بل كان فعاالً في الحضور وفي الحوارات المتميزة‪،‬‬
‫بغض النظر عن رأي هنا أو رأي هناك‪ ،‬أكثر من كان الفتاً لالنتباه حضور شخص‬
‫ضرير اسمه "يوسف الثلجي" شارك في نقاش أكثر من عرض‪ ،‬وبآراء متميزة جعلتنا‬
‫نحسد قدرته على التلقي‪ ،‬فاقترح الصديق أنور بدر مع آخرين منحه جائزة تكريمية‬
‫باسم جائزة الجمهور‪.‬‬

‫في كل دورة كانت تتألف لجان التحكيم والتقييم من المختصين المحترفين في مجال‬
‫المسرح‪ ،‬إضافة إلى حفل االفتتاح الذي تحييه "فرقة الرقة للفنون الشعبية"‪ ،‬إضافة‬
‫لترافق دورات المهرجان مع العديد من الفعاليات كالمعارض التشكيلية ومعارض الكتب‬
‫والندوات الفكرية والمسرحية‪ ،‬ونشرة إعالمية يومية باسم "فضاءات مسرحية" ترصد‬
‫العروض المسرحية واللقاءات الفكرية‪ ،‬وهذا كانت من النتائج الجيدة للمهرجان‪ .‬وأذكر‬
‫ذات مرة أن (تجمع الرصافة للثقافة والفنون) أقام معرضاً تشكيلياً في الهواء الطلق في‬

‫‪346‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أحد أحياء الرقة الشعبية وذلك تحية إلى ضيوف المهرجان ورواده وجمهوره وفرقه‬
‫الفنية‪.‬‬

‫نجاح مهرجان الرقة للفنون المسرحية تم بإمكانيات متواضعة‪ ،‬رغم غياب أي دعم من‬
‫و ازرة الثقافة أو مديرية المسارح والموسيقي‪ ،‬ما دفع أحد أعضاء لجنة التحكيم في‬
‫مهرجان الرقة والذي كان ضيفاً على مهرجان دمشق المسرحي ذات مرة‪ ،‬بأنه كشخص‬
‫مفرد كلف إدارة مهرجان دمشق مبالغ طائلة‪ ،‬بينما أقيم مهرجان الرقة بتكلفة أقل من‬
‫إنتاج عرض مسرحي واحد في دمشق‪ .‬وقد نجح المهرجان في تحقيق أهدافه بتفعيل‬
‫الحركة المسرحية في المحافظة‪ ،‬وتفعيل العالقة الراكدة بين المنصة والجمهور‪ ،‬وهو‬
‫ما عجزت عنه المؤسسات الرسمية في دمشق‪ .‬حتى أصبح هذا المهرجان عالمة فارقة‬
‫من عالمات الثقافة‪ ،‬ليس على مستوى المحافظة فحسب‪ ،‬وبل وعلى مستوى المشهد‬
‫المسرحي في سورية‪.‬‬

‫وكما أشرنا إلى انحدار الخط البياني للمهرجان في الدورة الرابعة حين هبطت سوية‬
‫العروض دون مستوى الحضور أو تفاعل الجمهور‪ ،‬فكانت فع ً‬
‫ال آخر دورة من دورات‬
‫هذا المهرجان‪ ،‬الذي قدم خالل دوراته األربع عروضاً للهواة وأخرى للمحترفين وثالثة‬
‫يكتف بهذه العروض فحسب بل أضاف‬ ‫ِ‬ ‫لألطفال من المسارح القومية في سورية‪ ،‬ولم‬
‫المهرجان إلى رصيده فرقاً ثقافية عربية وعالمية‪ ،‬من تركيا وتونس واألردن والعراق‬
‫وفتح المجال أمام‬
‫ليمنح صفة تعددية المراجع الثقافية‪ /‬الفنية في العروض َ‬
‫َ‬ ‫ولبنان‪..‬‬
‫بعض الفرق المحلية للظهور‪ ،‬ومحاولة االستفادة من هذه التجارب والخبرات العربية‪،‬‬
‫وهو مؤشر بأن العروض السورية كانت ما تزال في حالة جيدة رغم االتهامات الموجهة‬
‫إليها‪.‬‬

‫بعد أربع سنوات من إطالق مهرجان الرقة المسرحي‪ ،‬بالتوازي مع باقي المهرجانات‬
‫الثقافية واألدبية‪ ،‬كان المخاض الذي تشكلت على إثره في المحافظة خمس فرق‬
‫مسرحية‪ ،‬ما دفع األمر بمديرية الثقافة في المحافظة الفتتاح وإقامة دورات تدريبية في‬

‫‪347‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الفنون المسرحية لتطوير إمكانيات مسرحيي محافظة الرقة وبشكل خاص الهواة منهم‪،‬‬
‫في شتي المجاالت‪ ،‬وهذه مسألة على قدر من األهمية ألن الهدف النهائي لمهرجانات‬
‫المسرح في المدن هو دعم الحركة المسرحية فيها‪ ،‬وتشجيع مسرحيي هذه المدن على‬
‫خوض تجاربهم الخاصة‪.‬‬

‫قام بالتدريب مجموعة من األساتذة المختصـين القادمين من المعهد العالي للفنون‬


‫المسرحية في دمشق‪ :‬الدكتور محمد قارصلي في مجال اإلخراج‪ ،‬أكثم حمادة في مجال‬
‫التمثيل‪ ،‬وليد الدبس في مجال تقنيات الممثل والليونة الجسدية‪ ،‬حمدي موصلي في‬
‫مجال سينوغرافيا العرض وعالقتها مع االضاءة‪ ،‬تاريخ المسرح السوري ومصطلحات‬
‫تخصصية مع بعض المواد النظرية أشرفت أنا "عبد الناصر حسو" على تقديمها‪ .‬وقد‬
‫تجاوز عدد طالب الدورة المشاركين (‪ )21‬طالباً من أعمار مختلفة تباينت ما بين‬
‫ثماني سنوات إلى ‪ 41‬سنة‪ ،‬ومن عدة محافظات سورية‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يختلف‬
‫مستوى التلقي ذهنياً لكل مشترك‪ ،‬ففي نهاية الدورة التي استغرقت ثالثة أسابيع‪ ،‬عرض‬
‫المشتركون مشاهد مسرحية من تأليفهم وإخراجهم وتمثيلهم‪.‬‬

‫عن الهدف من هذه الدورة تحدث محمد قارصلي قائالً‪" :‬إن الهدف األساسي من إقامة‬
‫هذه الدورة‪ ،‬وغيرها من الدورات هو التعريف بأدوات العمل المسرحي‪ ،‬وأسس هذا العمل‬
‫بطريقة علمية‪ ،‬ألن المسرح علم بكافة جوانب عمل الممثل في العرض المسرحي‪،‬‬
‫لذلك راعينا عمل الممثل على جسده من خالل تدريبه على (الحركة‪ ،‬الليونة‪ ،‬المبارزة‪،‬‬
‫القتال المسرحي‪ ،‬األكروبات)‪ ،‬ولكن تبقى المادة الرئيسية هي عمل وتدريب الممثل‬
‫على جسده‪ ،‬وصوته‪ ،‬وحركته‪ ،‬وبناء الشخصية المسرحية‪ ،‬وهناك أيضاً مواد مساعدة‬
‫كالموسيقى والشعر والفن التشكيلي‪ ،‬وعالقتهما بالمسرح"‪.‬‬

‫لقد وجه الكاتب مصطفى حقي انتقادات إلى المخرجين بشكل عام الذين يلجؤون إلى‬
‫نصوص أجنبية‪ ،‬دون االهتمام بالنصوص المحلية‪ ،‬وقد وجد أن عزوف المخرج عن‬
‫تناول النص المحلي يشي بعدم تحمله المسؤولية‪ ،‬وفيه اجحاف وغبن للنص المحلي‪،‬‬

‫‪348‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فنسبة النصوص المحلية التي عرضت في هذا المهرجان كانت بنسبة ‪ 2‬من ‪21‬‬
‫نصوص‪ ،‬أي غالبية النصوص هي مترجمة وغير عربية‪.‬‬

‫فضاء ثقافياً جديداً بصيغة مسرحية‪ ،‬يراكم تجربة السياسة الثقافية‬


‫ً‬ ‫أخي اًر‪ ،‬شكل المهرجان‬
‫في المسرح والذي يعتمد االنفتاح على التجارب العالمية بأسلوب عربي ضمن معطيات‬
‫الواقع وليس عبر الرؤية السياسية لألنظمة العربية الرسمية‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق النقد‬

‫‪351‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ابراهيم الخليل‪ :‬جزالة اللغة ورصانة األسلوب‬

‫نورالدين ناصر‬

‫طبيب‪ ،‬وكاتب سوري‬

‫ولد األديب إبراهيم الخليل في مدينة الرقة عام ‪ ،2644‬وهو يحمل إجازة في اللغة‬
‫العربية من جامعة دمشق منذ عام ‪ .2621‬انصرف منذ مطلع شبابه إلى العناية‬
‫باألدب واللغة‪ ،‬وكتب في معظم األجناس األدبية "قصة‪ ،‬شعر‪ ،‬رواية‪ ،‬نقد"‪.‬‬

‫ويشتغل اآلن على إحفورات لغوية تعنى باألنثروبولوجيا والمقاربات بين اللغة العربية‬
‫وغيرها‪ ،‬من خالل البحث عن جذور لهجة الرقة العامية‪ ،‬وما حفظته من الفصيح‬
‫المنسي‪ ،‬سواء أكان عربياً أم سامياً "اآلرامية والعبرية"‪.‬‬

‫أسس مع مجموعة من الشباب في بداية الستينات من القرن الماضي جماعة ثورة‬


‫الحرف‪ ،‬وكان قد سبقها في العراق جماعة رفاق الوقت الضائع‪ ،‬وجاء بعدها في‬
‫جمهورية مصر "غاليري ‪ ،"62‬ويبدو أن المرحلة في تلك األيام كانت تتجه إلى‬
‫الجماعات‪ ،‬وليس األفراد‪ ،‬ومازال معظم المؤسسين معه في ثورة الحرف يتواجدون في‬
‫الساحة اإلبداعية ولهم حضورهم القوي في المشهد الثقافي السوري والعربي‪ ،‬ومنهم‪:‬‬
‫الدكتور إبراهيم الجرادي‪ ،‬الدكتور عبد الله أبو هيف‪ ،‬خليل جاسم الحميدي‪ ،‬وفيق‬
‫خنسة‪ ،‬ونبيل سليمان؛ وغيرهم‪.‬‬

‫وكانت ثورة الحرف تنزع إلى محاولة تأسيس ألدب جديد في الشكل والمضمون‪ ،‬وهذا‬
‫ما وسم معظم أعمال الجماعة منذ بداياتها األولى‪ ،‬وقد جرت معركة أدبية بين أعضاء‬
‫الجماعة ومناصريهم‪ ،‬وبين الدكتور عبد السالم العجيلي (رحمه الله) في بداية‬
‫الستينات‪ ،‬وهذا إن دل يدل على الحالة الصحية في االختالف المفيد والهادف إلى‬
‫التعبير عن نزوع كل جهة دون البحث عن إلغاء اآلخر‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وكان من أهداف الجماعة‪ :‬الكالم بين األعضاء يكون باللغة العربية الفصحى‪ ،‬ألن‬
‫معظمهم من متابعي وخريجي اآلداب‪ ،‬فالسلوك والطموح تداخال‪ ،‬واتخذ التجريب عند‬
‫الجماعة‪ ،‬خاصة الخليل والجرادي‪ ،‬منحى تجريدياً‪ ،‬حيث البحث عن تفجير اللغة أوالً‪،‬‬
‫واالستفادة من كل طاقاتها‪ ،‬ومحاولة إيجاد نص مرجعيته عربية عند األوائل‪ ،‬وخاصة‬
‫الصوفية في نصوصهم العرفانية‪ ،‬وهذه النصوص التي عبرت باك اًر عن اتجاه جديد‬
‫في النص العربي‪ ،‬وهو ما يمكن أن نسميه بنص عابر لألشكال‪ ،‬الحامل فيه اللغة‬
‫أحياناً كثي اًر‪ ،‬وليست الحكاية‪ ،‬وإنما قد تأتي الحكاية كزينة للعمل على شكل نمنمات‪.‬‬

‫أما اآلن فيعمل الخليل على تجسيد المشروع على المستوى الروائي أو المستوى‬
‫القصصي والشعري‪ ،‬حيث تتداخل فيها التخوم‪ ،‬ومشروعه الصوفي أنجز هدفه‪ ،‬وينتقل‬
‫اآلن في هذه المرحلة للعناية بالرواية‪ ،‬ألنها وحدها القادرة على التعبير عما يجري‬
‫ويحدث‪.‬‬

‫في "سدوم" كتب الرواية بمعناها‪ ،‬وبشروطها األدبية‪ ،‬وفي "حارس الماعز" أيضاً‪،‬‬
‫وعمله الجديد "صيارفة الرنين"‪ ،‬عني بالنوفيل ألنها تحقق التداخل بين القصة الطويلة‬
‫والرواية القصيرة‪.‬‬

‫زار الخليل أمريكا أوالً ثم الصين‪ ،‬ويقول‪ :‬في أمريكا الكاتب مستقل عن السلطة‪،‬‬
‫واألدب هناك ثالثة أنواع‪ :‬أدب البيض وهو السائد‪ ،‬وأدب الزنوج وله خصوصيته‬
‫الخاصة‪ ،‬وأدب الملونين‪ ،‬وقد يشتهر كاتب فيقرأه الكل‪ ،‬في أمريكا اطلعت على عالم‬
‫جديد‪ ،‬وحياة جديدة وأفكار قد تكون معها أو ضدها‪ ،‬ويذكر حادثة أثناء زيارته لمعهد‬
‫تعليم األدب (البوكركي)‪ ،‬فيقول‪ :‬سألت األدباء األمريكان بأنكم تقولون أن األدب موهبة‬
‫وجهد‪ ،‬ويستطيع المعهد أن يقدم الجهد‪ ،‬فماذا عن الموهبة؟ فأصر أحد المدرسين الكبار‬
‫على اإلجابة‪ ،‬فقال‪ :‬ليس شرطاً أن نصنع من كل طالب شكسبير لكننا على األقل‬
‫نستطيع أن ننظف الحياة األدبية من الخنازير!‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أما الصين فيقول عنها‪ :‬هي األقرب إلينا في كل شيء‪ ،‬الحياة ونمط التفكير والثقافة‬
‫والعالقات التاريخية‪ ،‬والصين أو الصيني كالحرير رقيق وناعم‪ ،‬ولكنه ال ينقطع‪ ،‬فهو‬
‫قوي ومتين‪.‬‬

‫كتب الخليل الكثير ونشر معظم نتاجه األدبي في الصحف والمجالت المحلية والعربية‪،‬‬
‫وترجم بعض نتاجه إلى لغات أخرى‪،‬‬

‫ُيعتبر الروائي السوري إبراهيم الخليل من أهم الروائيين السوريين‪ ،‬إال أنه من الروائيين‬
‫المنسيين الذين ال يجيدون التزلف والتملق لبلوغ غاياتهم كما فعل من هم أقل شأناً منه‬
‫على المستوى األدبي والثقافي‪ ،‬ووصلوا إلى الشهرة التي يبتغونها‪ ،‬وكانت هي غايتهم‬
‫بحد ذاتها‪ ،‬بينما بقي إبراهيم الخليل ملتزماً بمبادئه وإيمانه بدور األديب والكاتب المنحاز‬
‫إلى أدبه والمسؤول عن كلمته والمؤمن بها‪.‬‬

‫لم ُيعرف عن الروائي إبراهيم الخليل حب الشهرة والظهور واألضواء‪ ،‬إنما ُعرف عنه‬
‫أنه يظل معتكفاً في صومعته مع كتبه‪ ،‬ناد اًر ما ُيغادر بيته‪ ،‬وقد رفض مغادرة مدينة‬
‫الرقة رغم كل المآسي التي عاشتها المدينة وأهلها‪.‬‬

‫أراد الخليل أن يكون شاهداً حياً على كل ما جرى ويجري في المدينة التي ولد وعاش‬
‫فيها كل سني حياته‪ ،‬وكتب عنها وعن أهلها وبيئتها االجتماعية‪ ،‬وكل ما ط أر عليها‬
‫من تغيرات عبر التاريخ‪ ،‬فكانت الرقة حاضرة بكل قضاياها وتفاصيلها في رواياته‬
‫وقصصه ‪.‬‬

‫أنجز الروائي الرقي روايات عدة‪ ،‬هي‪" :‬حارة البدو ‪ ،"2621‬و"الضباع ‪،"2621‬‬
‫و"الهدس ‪ ،"2622‬و"حارس الماعز ‪ ،"1111‬و"سودوم‪ ..‬سباق اإلوز البري ‪،"1112‬‬
‫و"صيارفة الرنين ‪ ."1112‬وله في القصة‪" :‬البحث عن سعدون الطيب ‪،"2666‬‬
‫و"البازيار الجميل ‪ ،"2662‬و"مال الحضرة ‪ ،"2662‬و"غدير الحجر ‪ ،"2662‬و"أرغفة‬
‫النعاس ‪ ،"1112‬و"الورل ‪."1111‬‬

‫‪353‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وفي الشعر‪ :‬موكب من رذاذ المودة والشبهات (مشترك) ‪2626‬‬

‫وفي النقد‪ :‬الميراث الدموي ‪.2662‬‬

‫وامتازت رواياته بجزالة اللغة ورصانة األسلوب‪ ،‬وحظيت باهتمام النقاد‪ ،‬فيقول الروائي‬
‫والناقد نذير جعفر‪ُ " :‬يعد إبراهيم الخليل أحد أهم األصوات القصصية والروائية في الرقة‬
‫وفي المشهد اإلبداعي السوري‪ ،‬لما اشتملت عليه تجربته من إنجاز على مستويي النوع‬
‫والكم‪ ،‬والشكل والمحتوى"‪.‬‬

‫وقال عنه الدكتور الراحل عبد السالم العجيلي‪ ،‬الذي قدم روايته‪« ،‬حارة البدو»‪" :‬إن‬
‫تصلبه صراحته ولذع لسانه على خشبته التي يحملها على كتفه منذ اآلن"‪.‬‬

‫لم يهتم إبراهيم الخليل بتسليع أدبه والترويج له‪ ،‬بل كان يكتفي بإنجاز نتاجه السردي‬
‫بغية إضافته إلى المكتبة السردية السورية‪ ،‬وبقي بعيداً عن لوثة وسائل االتصاالت‬
‫والتكنولوجيا‪ ،‬وزاهداً في كل ما هو دون الورق والقلم مما أتاح له تمكين القارئ من‬
‫االستمتاع بقراءة نتاج روائي مختلف عن السائد الذي تم تعويمه وفق اعتبارات لم تأخذ‬
‫بسوية النتاج األدبي بقدر ما اعتمدت على ثقافة "التطبيل والتزمير" التي تهم المؤسسات‬
‫الثقافية الرسمية بالدرجة األولى أكثر من جودة المنتج مما ساهم في زيادة عدد المقبلين‬
‫على الكتابة الروائية رغم افتقارهم إلى األدوات األساسية الالزمة لخوض غمار الكتابة‪،‬‬
‫مستغلين ضعف النقد وانشغال النقاد بالتزلف للكاتبات والتقرب منهن عبر كيل المديح‬
‫لهن‪.‬‬

‫تميز ابراهيم الخليل بعنايته الفائقة بالعناوين؛ حيث تكشف استراتيجية العنونة عند‬
‫إبراهيم الخليل عن شغف عميق بالعنوان وإدراك ألهميته بوصفه عتبة اإلغواء األولى‬
‫في شد انتباه القارئ‪ ،‬وتحفيزه على الولوج في النص واستنطاقه‪ .‬وتقوم هذه االستراتيجية‬
‫على استثمار مختلف أنواع ومستويات ووظائف العنوان الرئيس‪ ،‬والفرعي‪ ،‬وما يحيط‬
‫بهما من إشارات وتنبيهات وإهداءات ومقدمات لتوجيه مسار التلقي من جهة‪ ،‬واالنفتاح‬
‫على اإليحاءات والدالالت المتعددة من جهة ثانية‪.‬‬
‫‪354‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رحل بعض رفاق الخليل عن الدنيا‪ ،‬وارتحل بعضهم اآلخر عن الرقة‪ ،‬وبقي وحيداً في‬
‫صومعته كما كان دائم ًا مع كتبه وأوراقه‪ ،‬وحين سيطر شذاذ اآلفاق على المدينة‬
‫ونكبت‪ُ ،‬نكب معها إبراهيم الخليل‪ ،‬والتزم بيته أكثر‪ ،‬وفقد مكتبته الضخمة‪ ،‬وقد كان‬
‫ُ‬
‫أبناء الرقة ُيفاخرون بمكتباتهم وعدد قراءاتهم‪ ،‬ولطالما تحولت جلساتهم إلى حوارات‬
‫ثقافية وأدبية ال تخلو من المشاحانت والمناكفات والمبارزات اللغوية‪ ،‬وكان إبراهيم‬
‫الخليل نداً قوياً ومرجعاً مهم ًا‪.‬‬

‫رغم كل التضييق‪ ،‬بقي إبراهيم الخليل في المدينة‪ ،‬ولم يغادرها‪ ،‬وقد بدأ العدوان‬
‫األمريكي عليها وهو فيها‪ ،‬يراقب األحداث عن كثب‪ ،‬إال أنه اضطر لمغادرتها مع‬
‫وكتبت له النجاة‪ .‬ومازال مثاب ار في عطائه‬
‫اشتداد القصف الهمجي‪ ،‬وقد ُقصف بيته‪ُ ،‬‬
‫وكأنه ينهل من نبع ال ينضب‪.‬‬

‫الروائي إبراهيم الخليل‬

‫‪355‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الدم ليس أحمر‬

‫مقاربات عن الجو القصصي والروائي في الرقة‬

‫إبراهيم العلوش‬

‫مهندس مدني‪ ،‬كاتب وقاص وروائي سوري‪.‬‬

‫إذا كانت أعمال الدكتور عبد السالم العجيلي‪ ،‬هي البداية والتأسيس الراسخ‪ ،‬فإن‬
‫المجموعة القصصية "الدم ليس أحمر" هي مفصل أو مفرق على طريق يقود الى‬
‫أصوات جديدة‪ ،‬في القصة القصيرة واالعمال السردية الرقية‪.‬‬

‫صدرت المجموعة القصصية الجماعية "الدم ليس أحمر" عام ‪ 2624‬بإشراف واعداد‬
‫الشاعر إبراهيم الجرادي وتحرير الصحافي سعيد مطر‪ ،‬وباالستعانة بأرشيف وعالقات‬
‫طه الطه صاحب المتحف التاريخي والفكري واألدبي‪ ،‬وضمت المجموعة مشروع‬
‫القصاصين والكتاب المؤسسين لبداية كتابات العقدين التاليين بعد تاريخ إصدارها‪.‬‬

‫وليست المجموعة تعبي ار عن الجيل الذي تال العجيلي‪ ،‬بل هي تعبير عن الجيل الثاني‬
‫من الكتاب والقصاصين الرقاويين‪ ،‬بعد الجيل الذي تألق فيه إبراهيم الخليل القاص‬
‫والروائي الذي يتسم مع العجيلي بوفائه للرقة كمكان‪ ،‬ولم يغادرها الى اليوم‪ .‬وقد ظل‬
‫إبراهيم الخليل خبي ار بتفاصيل الرقة وبدروبها وبحكايات أهلها السرية والعلنية‪،‬‬
‫وبفضائحها المخبأة بالمال أو بالنفوذ‪ ،‬أو خلف لحى مزيفة وعقيمة‪.‬‬

‫صدرت مجموعة الدم ليس أحمر بعد موجة االعتقاالت الجماعية التي شنها حافظ‬
‫األسد وعلي دوبا على جيل الثمانينات السوري‪ ،‬وزرعا الخوف فيمن نجا من االعتقال‬
‫الى درجة أنك صرت ترى عائالت تغير كنيتها من اجل التخلص من االستدعاءات‬
‫األمنية‪ .‬وكانت المجموعة محاولة لتجاوز عقدة الصمت والذهول التي خلفها النهج‬

‫‪356‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المخابراتي الذي انتصر على السوريين‪ ،‬وبدأ يحلم بإركاع سوريا وتحويلها الى جمهورية‬
‫خوف!‬

‫كانت المجموعة محاولة للتمرد على السائد‪ ،‬ومحاولة لتجريب األفكار الجديدة التي‬
‫تدعو الى الثورة‪ ،‬وعدم االستسالم‪ .‬وكانت أفكارهم ماتزال غائمة‪ ،‬وتنوس بين الثورة‬
‫والعدمية‪ .‬ورغم أنها كانت نقطة انعطاف مهمة‪ ،‬لكن لم يصمد الكثير من كتابها في‬
‫تحمل أعباء الكتابة والتضحية من أجلها‪ ،‬فاستمر عدد قليل منهم مثل معن الحسون‬
‫المسكون بالحلم‪ ،‬وبسام الحافظ الذي أسرته التفاصيل‪ ،‬ومحمد جاسم الحميدي رجل‬
‫الحكاية والتراث القصصي الشعبي‪ ،‬باإلضافة الى أحمد مصارع وعبد الرحمن مطر‬
‫وأحمد جاسم الحميدي‪ .‬وترك محمد غانم الكتابة األدبية الى شؤون الجداالت اليومية‪،‬‬
‫وارسين قومجيان ذهب إلى الثقافي بأبعاده العامة‪ ،‬ومحمد فياض األحمد صمت مضيعاً‬
‫صوته المميز‪ ،‬وكذلك عبد الرزاق عبيد‪ ،‬وخليل الطه‪ ،‬وغيب الموت أحمد محمود‬
‫المصطفى بشكل مبكر في حادث سير‪.‬‬

‫ظلت الساحة األدبية‪ ،‬مفروشة برفاهية الحكاية وتجلياتها الجميلة في أدب عبد السالم‬
‫العجيلي‪ ،‬وكانت التمردات األدبية ضد الحكاية الكالسيكية في القص‪ ،‬قد بدأت مع‬
‫مجلة صوت الرافقة التي كان يصدرها عدد من طالب ومعلمي ثانوية الرشيد‪ ،‬وبرزت‬
‫فيها أسماء أدبية لم يستمر الكثير منها وتحول بعضهم الى حرف وأعمال أخرى أدبية‬
‫أو سياسية أو غابوا عن الفضاء العام متوارين في خضم مشاغل الحياة الكثيرة‪.‬‬

‫ورغم أن األسم اء التي برزت في تلك المرحلة الذين أسسوا لما يدعى "ثورة الحرف"‬
‫أمثال إبراهيم الخليل وعبد االله حمزاوي‪ ،‬وعبد الله أبو هيف وفيصل حقي‪ ،‬وخليل‬
‫جاسم الحميدي وإبراهيم الجرادي‪ .‬كانت شديدة االنتقاد ألدب العجيلي‪ ،‬الى درجة‬
‫التحرش بمكانته االجتماعية والعامة‪ ،‬فان أدب العجيلي ظل موجودا‪ ،‬وله قراؤه‪ ،‬وظلت‬
‫موهبة العجيلي القصصية وموهبته في كتابة المقال والقاء المحاضرات تسر القراء‬
‫والجمهور‪ ،‬وتأسرهم الى درجة حبس األنفاس‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وظل العجيلي أبا روحيا للكتاب والمثقفين الرقيين‪ ،‬وكتب العديد من المقدمات لكتبهم‪،‬‬
‫أمثال تقديمه لرواية حارة البدو إلبراهيم الخليل‪ ،‬ولمجموعة قمر على بابل لمحمد الحاج‬
‫صالح‪ ،‬وكلمة الغالف لمجموعة من مجموعات نجاح إبراهيم‪ ،‬وأعطى مقابالت كثيرة‬
‫لكتاب وصحفيي الرقة‪ ،‬ومن أشهرها مقابالته مع ماجد رشيد العويد‪ ،‬الذي كانت له‬
‫مكانة خاصة لدى العجيلي‪.‬‬

‫وفي مطلع التسعينات‪ ،‬برز جيل جديد تجاوز نهج األجيال السابقة وصدرت عدة‬
‫مجموعات قصصية تركت أث ار مهما في الحياة األدبية الرقية والسورية أمثال مجموعة‬
‫"قمر على بابل" ومجموعة "القاشور"‪ ،‬ورواية "شمس الدين" لمحمد جاسم الحميدي‪،‬‬
‫و"بصوت خفيض " لماجد رشيد العويد‪ .‬وبرزت أسماء مثل صبحي دسوقي وسامي‬
‫حمزة‪ ،‬و مصطفى حقي وفيصل حقي وشهال العجيلي‪ ،‬وبرز الممثل والكاتب يحيى‬
‫الكفري‪ ،‬ولعل صدور رواية سوالويسي لخليل الرز في مطلع التسعينات‪ ،‬هي من أهم‬
‫اإلعالنات األدبية في الرقة اذ انطلق نشاط خليل الرز الذي صار من أهم الكتاب‬
‫السوريين والعرب‪ ،‬في نهجه الفني وفي تقنياته األدبية‪ ،‬وفي مزج الثقافة العربية‪ ،‬مع‬
‫الثقافة الروسية‪ ،‬باإلضافة الى االقتصاد الشعري في بناء الجملة القصصية‪ ،‬وقد اعتنى‬
‫بمزاوجة المسرح مع القص مع الفن التشكيلي‪ ،‬اذ ان الكثير من شخصياته تكاد أن‬
‫تكون عالمات وصفية في لوحات فنية‪ ،‬مزينة باأللون ويحميها التجريد من الخوض‬
‫في الحياة اليومية ومشاكلها‪.‬‬

‫استمرت األجيال األدبية في التفاعل وفي التنافس فيما بينها وفيما بين أساليبها التي‬
‫ابتدأها العجيلي بفن الحكاية‪ ،‬والتي استمرت في توظيف جمالياتها شهال العجيلي وأيمن‬
‫ناصر‪ ،‬وعمر الحمود‪ ،‬وتركي رمضان في روايته برج لينا‪ .‬فيما ظل التجريب القصصي‬
‫والروائي سائدا في اعمال ماجد رشيد العويد وإبراهيم العلوش وإبراهيم الكبة الذي أبحر‬
‫عميقا في عوالم الخيال والبالغة اللغوية والنفسية‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وبرز مزج الشعر مع الحكاية والتصوف في أعمال إبراهيم الخليل وأسعد آل فخري‪،‬‬
‫بينما نحا محمد الحاج صالح الى السياسي والفكري وصار الهم العام فوق همه‬
‫القصصي‪ ،‬خاصة وأنه من عائلة منكوبة باالعتقال الجماعي سواء على يد نظام األسد‬
‫أو من قبل تنظيم داعش الذي اختطف اخاه فراس الى اليوم‪ ،‬وبرز يوسف الدعيس في‬
‫التقاط الحياة اليومية وتفاصيلها متحر ار من لغة الشعر والتصوف التي جمدت‬
‫النصوص األدبية وجعلتها مجرد كتل بالغية تكاد أن تكون منفصلة عن الواقع‪.‬‬

‫وجاء إسماعيل الخليل بروايته "ذاكرة العوسج والصبار" التي كانت أول رواية يتم‬
‫توقيعها في الرقة التي تدمر ‪ 21‬بالمئة من بيوتها وشوارعها ومقوماتها الحضرية‪،‬‬
‫المدينة التي سطرت ذاكرة ‪ 261‬عاما من االستقرار على ضفة الفرات ومن محاولة‬
‫احياء المدينة العريقة في تاريخها التي سكنها هارون الرشيد ودمرتها عائلة األسد‬
‫باالشتراك مع داعش وإيران وروسيا‪ ،‬والقوات الغربية وحلفائها الذين حولوها الى خراب‪،‬‬
‫وقد جاءت رواية المغيرة الهويدي "قماش أسود" التي فازت مؤخ ار بجائزة غسان كنفاني‬
‫بعضا من تاريخ المدينة‪.‬‬
‫لتؤرخ ً‬
‫والبد من التعريج إلى أدب السجون الذي تألق فيه هيثم الخوجة بمجوعته القصصية‬
‫اليتيمة "القحط" ولم يتمكن من متابعة مسيرته القصصية ألن الموت عاجله بعد خروجه‬
‫من المعتقل اذ خرج محقونا بسموم علي دوبا التي أباد بها جيال من السوريين من أجل‬
‫ترسيخ عبودية السوريين لعائلة األسد‪.‬‬

‫وكذلك رواية "قبل حلول الظالم" لمعبد الحسون عن المعتقالت التي عايشها طوال عقد‬
‫كامل اذ يروي حكايات من الجحيم الذي يشبه جحيم دانتي وبأسلوب قصصي أخاذ‪.‬‬
‫وقد استكمل مسيرته األدبية في بلدان اللجوء التي ساقها اليه نظام األسد‪.‬‬

‫وقد فاجأ أيمن ناصر األوساط القصصية بصدور روايته "اللحاف"‪ ،‬التي القت نجاحا‬
‫واقباال من القراء وإن كانت الحكاية هي محور اهتمامها بعيدا عن االسقاط السياسي‪،‬‬

‫‪359‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والتجريب الذي عذب كتاب القصة وارهقهم باالختزال والتصورات البعيدة الى حد‬
‫االنفصال عن الواقع في كثير من األحيان‪.‬‬

‫أما التجارب النسائية في الرقة فلها مساحة ليست قليلة مثل سحر سليمان التي لم‬
‫تستكمل تجربتها بعدما هاجرت وانشغلت بصعوبات الحياة‪ ،‬باإلضافة الى فوزية المرعي‬
‫التي لم ترتق تجربتها عن كونها تأمالت وخواطر أدبية ممزوجة بالشعر‪ ،‬وكذلك نجاح‬
‫إب ارهيم التي أثارت الكثير من النقاش حول تجربتها‪ ،‬وشهال العجيلي الكاتبة والناقدة‬
‫والتي وصلت بعض أعمالها الى الشهرة على مستوى العالم العربي بعدما تم ترشيح‬
‫روايتها "سماء قريبة من بيتنا" الى القائمة القصيرة في البوكر العربي عام ‪.1126‬‬

‫والبد من ذكر العبين لم ينزلوا الى الملعب وكانوا أشبه بالمحرضين والمحفزين على‬
‫االبداع ومن أبرزهم طه الطه صاحب المتحف الفكري واالدبي‪ ،‬وعبد السالم حياني‬
‫المتابع والناقد االدبي‪ ،‬وكذلك عبد الغفور الشعيب الذي يعتبر العقل االستراتيجي لتطور‬
‫الثقافة في الرقة عبر إدارته للمركز الثقافي فيها‪ ،‬وتألق اإلنتاج الفني واالدبي والفكري‬
‫في عصره‪ ،‬رغم أن النظام كان قد كافأه باالعتقال في عصر األسد االب‪ ،‬وبالتهجير‬
‫في عصر األسد االبن‪ ،‬وقد توفي غريبا في تركيا بعيدا عن المدينة التي أحبها وكرس‬
‫فكره وجهده لتألق االبداع فيها‪.‬‬

‫سكت الكثير من الكتاب وفروا الى زوايا نائية في السياسة وفي االقتصاد والميديا ومن‬
‫لم يتمكن من الفرار فقد فضل الصمت‪ ،‬الصمت الذي يضيع التجربة وتجليات الخيال‬
‫وأحالم المستقبل‪ ،‬لكن جيال جديدا من الكتاب بدأ البروز على الساحة العامة سواء‬
‫داخل سوريا أو خارجها‪ ،‬ما يزال هذا الجيل يعاني من قسوة الحياة وظرف االستبداد‬
‫والتهجير‪ ،‬وما نزال نأمل بإصدار روايات وقصص األجيال القادمة من االدباء الرقيين‬
‫خاص وأن المكان لم يعد يتسع لهم وصاروا أبناء المدن والمهاجر الجديدة وما علينا‬
‫اال انتظار النصوص الجديدة التي ستخط الدروب الجديدة نحو المستقبل!‬

‫‪361‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تنوع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة‬


‫ّ‬
‫العجيلي‬
‫أحمد المحمد ُ‬
‫كاتب سوري ‪ -‬ألمانيا‬

‫شهدت منطقة وادي الفرات ومدينة الرقة تحديداً منذ منتصف القرن المنصرم إقباالً‬
‫ملحوظاً على خوض غمار الكتابة الروائية؛ حيث أصبحت الرواية تتصدر المشهد‬
‫األدبي في العالم العربي‪ ،‬وراحت رويداً رويدًا تحتل مكان الصدارة بين مختلف األجناس‬
‫األدبية في األدب العربي الحديث‪.‬‬

‫برز اسم األديب الراحل د‪ .‬عبد السالم العجيلي في تلك المرحلة من خالل كتاباته‬
‫القصصية والروائية على حد سواء‪ .‬وقد تُرجمت كثير من أعماله إلى لغات أجنبية‬
‫عديدة‪ ،‬وحظيت باهتمام النقاد على مر العقود الماضية‪.‬‬

‫إال أن كثي اًر من األقالم اإلبداعية في مدينة الرقة ظهرت في تلك الفترة إلى جانب أدب‬
‫العجيلي ورواياته‪ ،‬وأبدع كتابها في إنتاج أعمال روائية ذات قيمة فنية تستحق الوقوف‬
‫عندها‪ ،‬وتسليط الضوء على جوانب اإلبداع الروائي فيها‪.‬‬

‫تطور النشاط األدبي في الرقة منذ سبعينيات القرن الفائت مع ظهور أسماء مثل‪:‬‬
‫إبراهيم الخليل وخليل جاسم الحميدي ود‪ .‬عبد الله أبو هيف ود‪ .‬إبراهيم الجرادي وماجد‬
‫رشيد العويد وإبراهيم العلوش وغيرهم الكثير ممن خاضوا غمار الكتابة القصصية أو‬
‫الروائية أو حتى الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي؛ كان لهذا الزخم أن يترك أثره في‬
‫الحركة األدبية في مدينة الرقة‪ ،‬إذ بدأت تلك الطاقات اإلبداعية بعرض منتوجها األدبي‬
‫خارج النطاق المحلي من خالل المهرجانات واللقاءات األدبية التي شهدتها مدينة الرقة‬
‫مطلع األلفية الجديدة‪ ،‬سواء في مهرجان "الدكتور عبد السالم العجيلي للرواية العربية"‬
‫أو "مهرجان مصطفى الحسون للشعر العربي" أو غيره من اللقاءات والمنتديات األدبية‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يلحظ المتتبع للمنتج الروائي الرقي التصاق أدباء الرقة بقضايا متنوعة تتمركز حول‬
‫اإلطار المحلي المتصل بمدينة الرقة تحديداً‪ ،‬ومن ثم االنطالق إلى قضايا أكثر تنوعاً‬
‫تشمل مختلف نواحي الحياة التي تهم اإلنسان العربي مثل قضايا الحرية‪ ،‬والحياة‪،‬‬
‫والموت‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫غير أننا نقف هنا عند مالمح الخطاب الروائي تحديداً لدى الكتاب الرقيين بوصفه‬
‫سم ًة تكاد تكون مشتركة لدى العديد منهم‪.‬‬

‫لعل أبرز ما يميز الخطاب الروائي الرقي هو توظيف الموروث الشعبي في الرواية‪،‬‬
‫ليغدو هذا الموروث حامالً أساسياً تُبنى عليه الرواية‪ ،‬وتنتج عنه الشخصيات وتدور‬
‫في فلكه؛ وهذا ما يبرز في معظم روايات أدباء الرقة ومنهم‪( :‬إبراهيم الخليل) في معظم‬
‫أعماله‪ ،‬مثل‪" :‬الهدس"‪" ،‬حارة البدو"‪" ،‬حارس الماعز" وغيرها‪.‬‬

‫ابتداء من العنوان وما يمثله لدى أبناء‬


‫ً‬ ‫في رواية "الهدس" يحضر الموروث الشعبي بقوة‬
‫الرقة‪ ،‬وما تحمله هذه الكلمة من مدلوالت‪ ،‬وال يقف توظيف (الخليل) للموروث الشعبي‬
‫عند عنوان رواياته‪ ،‬وما تحمله الكلمة من مدلوالت لفظية تجعلها أكثر التصاقاً بالبيئة‬
‫الفراتية‪ ،‬بل إننا نجد الموروث الشعبي حاض اًر بقوة داخل الرواية من خالل المشاركة‬
‫في صياغة أحداثها وبناء شخصياتها‪ ،‬ورصد تحوالتهم داخل مجتمع الرواية‪.‬‬

‫في حديثه عن القادمين الجدد نحو الحي‪ ،‬وما سيمثله وجودهم من تغيير في قوانين‬
‫الحياة التي كانت سائدة‪ ،‬يلمح الكاتب إلى ثقافة الجهل داخل مجتمع الرواية‪ ،‬حيث‬
‫تسيطر الخرافة والتعاويذ على حياة كثير من الناس في المنطقة‪ ،‬والسبب في ذلك هو‬
‫جهلهم‪ ،‬واستغالل كثير من االنتهازيين لهذه الحالة‪ ،‬بهدف سلبهم أموالهم وابتزازهم‪،‬‬
‫وأكثر فئة كانت تتعرض لذلك هي النساء‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫س ّر لذلك الباحثون عن المتعة‪ ،‬فأيامهم الرتيبة لم تعد كذلك ولو‬


‫"جاء الغجر‪...‬وقد ُ‬
‫إلى حين‪ ،‬والباحثات عن تعاويذ المحبة‪ ،‬ووصال العشاق وحرز التفريق‪ ،‬والجمع"‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في اإلطار ذاته سعى (إبراهيم الخليل) في روايته "حارة البدو" إلى اعتماد الموروث‬
‫الشعبي ركيزًة من ركائز خطابه الروائي للتعبير عن رفضه للعادات والتقاليد البالية‬
‫داخل مجتمعه‪ ،‬من خالل نقده ظاهرة الثأر التي انتشرت فترًة من الزمن‪ ،‬حيث سيطرة‬
‫فكرة نقد الثأر على مجريات السرد بشكل كبير‪ ،‬وراح الكاتب يوجه سهام نقده إلى هذه‬
‫الظاهرة مستخدماً أساليباً متنوع ًة‪ ،‬في مقدمتها الموروث الشعبي‪ ،‬حيث يستدعي طقوس‬
‫المجتمع الرقي في حاالت الفرح والحزن‪ ،‬وما يرافقها من مظاهر داخل المجتمع القبلي‬
‫الخاضع لرؤية شيخ العشيرة‪:‬‬

‫"ربما يستيقظ اآلن كل شيء‪ ،‬الطفولة‪ ،‬والتزاحم في والئم األعياد على مناسف الشيخ‬
‫"جدعان الناصر"‪ ،‬وتهريب قطع اللحم والثريد في الجالبيات القذرة‪ ،‬مجموعة من‬
‫صبية الفالحين والعبيد‪ ،‬والرعاة‪ ،‬واأليتام‪ ،‬تختلط بمجموعة من العجزة‪ ،‬وأولئك الذين‬
‫بترت ألغام الحدود بعض أعضائهم‪ ،‬وطلة الشيخ التي ترهب الجميع‪ ،‬فتقف األفواه‪،‬‬
‫والعيون‪ ،‬واأليدي"‪.‬‬

‫أما (ماجد رشيد العويد) فقد بنى أولى أعماله الروائية المعنونة بـ "الغلس" وفق رؤيته‬
‫السياسية ورغبته في التعبير عن واقع التهميش‪ ،‬وسياسة القمع التي يعاني منها‬
‫السوريون عامة‪ .‬الغلس يمثل الحد الفاصل بين النور والظالم‪ ،‬وهي نقطة التبئير‬
‫المركزية في الرواية؛ حيث تتجلى رغبة الكاتب في استحضار النور وانقشاع الظالم‪،‬‬
‫حتى لو كانت تلك اللحظة هي الغلس‪ ،‬بداية النهاية لهذا الظالم الذي تعيش داخله‬
‫شخصيات الرواية‪.‬‬

‫تُعد "الغلس" من أولى األعمال التي استشرفت المستقبل‪ ،‬وربما مهدت له؛ والحديث‬
‫هنا عن الثورة السورية التي انطلقت ش اررتها بعد بضعة أشهر من صدور الرواية‪ .‬مهد‬
‫الكاتب لتلك األحداث في روايته‪ ،‬حيث قام بنقد الواقع االجتماعي المعيش من جهة‪،‬‬
‫ومن جهة أخرى قام بتعرية الواقع السياسي وفضحه من خالل رسم شخصية دكتاتورية‬
‫هي "العم حمود" النائم الغائب في سباته العميق‪ ،‬ولكنه يبعث الرعب والخوف في‬

‫‪363‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال لشخصية الدكتاتور في سورية على وجه‬


‫نفوس تابعيه‪ ،‬لتغدو شخصيته تمثي ً‬
‫الخصوص‪ ،‬والوطن العربي عام ًة‪.‬‬

‫"استهوته كثي ارً القصص التي قرأها عن الحجاج‪ ،‬وكثي ارً ما تم ّثل شخصيته‪ ،‬وتم ّثل‬
‫بالتحديد جانب القوة والجبروت فيه"‪.‬‬

‫"كان يرى أن ّ‬
‫القوة أساس الملك‪ ،‬حتى وإن جاءت القوة بالظلم‪ ،‬فإنها تبقى أساس‬
‫الملك"‪.‬‬

‫ال ينسى الكاتب غ ازرة الموروث الشعبي في المنطقة‪ ،‬فيعتمد عليه في تكوين شخصية‬
‫البطل "هالل" الذي يخضع لتغيرات كثيرة تط أر على شخصيته؛ إذ ينتقل هالل من‬
‫شخصية الساذج العابث الذي يعيش عالمه الخاص به‪ ،‬إلى شخصية السجين السياسي‬
‫الذي يتعرض إلى شتى صنوف القهر والعذاب؛ ومن ثم إلى الشخصية الواعية التي‬
‫تدرك بعد تجربتها القاسية داخل السجن‪ ،‬أن عمه "حمود" ما هو إال دكتاتو اًر ظالماً‬
‫يجب الخالص منه‪ ،‬وأن جميع األحاديث عن كرامته وقوته ليست سوى محاوالت‬
‫لتخدير الشعوب؛ وبالتالي يجب الخالص منه بهدف الوصول إلى النور من هذه‬
‫الظلمة‪.‬‬

‫ينطلق الكاتب من شخصية هالل الساذج ليجعلها مكافئاً موضوعياً لمجتمع الرواية‪،‬‬
‫وشخصياتها الخاضعين لسلطة الدكتاتور النائم أو المسبوت‪ ،‬حيث يحدد مدينته الرقة‬
‫فضاء مكانياً لروايته؛ ومن جهة ثانية يتسع الفضاء المكاني لتصبح صورة المجتمع‬ ‫ً‬
‫في الرقة انعكاساً لواقع الشعوب العربية التي تسمع أخبار الحرب العالمية‪ ،‬وال قدرة لها‬
‫على تغيير مصيرها‪ ،‬على الرغم من وقوع معارك كبرى من هذه الحرب على أرضها‪:‬‬

‫"كانت تلك الحكايات‪ ،‬إلى جانب حكايات أخرى تنشرها أفواه الجدات حول المدافئ‬
‫شتاء وفي األحواش صيفاً‪ ،‬الزاد الوحيد والتسلية اليتيمة ألناس قبعوا في "قضائهم"‬
‫مستسلمين لما يصلُ إلى مسامعهم من أخبار الحرب التي حّلت في العالم"‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"أما الصبر فهو الطبع الغالب على أناس تعودوا الدخول في نومهم باك ارً من كل يوم‪،‬‬
‫يمتد مثل موال ساعة األصيل‪ .‬وعلى رنين كؤوس الشاي يتالشى األنين وتختفي‬
‫صبر ّ‬‫ٌ‬
‫الشكوى‪ ،‬وينتشر فرحٌ غامض غير محسوس بحكايات الرشيد وألف ليلة وليلة‪،‬‬
‫وحكاية حي بن يقظان الذي أرضعته ظبية‪ ،‬صارت أمّاً له‪ .‬وما إن يعبر أحد شوارع‬

‫"القضاء" حتى يسمع اللحن‪ ،‬وال يدري من أين انبجس‪ ،‬فيقول الذي انتابه ٌ‬
‫ذعر‪ :‬إنّه‬
‫الجن‪ ،‬وإنها األشباح الطائرة"‪.‬‬

‫تترصد رواية "الغ لس" مالمح المتغيرات السياسية واالجتماعية من خالل استخدام‬
‫أداة لتعرية هذا الواقع‪ ،‬حيث يسأل‬
‫وتوظيف الموروث الشعبي الذي اعتمده الكاتب ً‬
‫الناس هالل عن جنيته التي يعاشرها‪ ،‬في إشارة واضحة إلى انتشار الخرافات واإليمان‬
‫بها في مجتمع تلك المنطقة؛ وهي من األمور الكثيرة التي كانت سبباً في عذاباتهم‬
‫وانصياعهم للدكتاتور المسبوت‪:‬‬

‫"قل لي يا هالل هل صاحبتك الجنية ما تزال تأتيك؟"‪ " .‬وهل هي من الجن الرحماني‬
‫يا هالل؟"‪.‬‬

‫أن طائف ًة من الجن تحيط به وتحميه‪،‬‬


‫مبارك‪ ،‬و ّ‬
‫ٌ‬ ‫بأن هالل رجلٌ‬
‫اإلحساس ّ‬
‫ٌ‬ ‫"بدأ ينتابهم‬
‫أن حديثه عن طفله الذي سيولد ويرث األرض من بعد‬
‫وتحمل له بعض علم الغيب‪ ،‬و ّ‬
‫جاد وصحيحٌ وال غبار‬
‫حديث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫موته‪ ،‬طفله المخلوق من طبيعتين‪ ،‬من الطين والنار‪،‬‬
‫عليه"‪.‬‬

‫أما (د‪ .‬شهال العجيلي) فقد اعتمدت بشكل واضح على الموروث الشعبي في معظم‬
‫أعمالها الروائية‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫"عين الهر"‪" ،‬صيف مع العدو"‪" ،‬سماء قريبة من بيتنا" وغيرها‪....‬‬

‫ففي روايتها "سماء قريبة من بيتنا" تقارب العجيلي واقع مدينة الرقة إبان الثورة السورية‪،‬‬
‫وما تالها من أحداث أدت بشكل مباشر إلى تشظي المجتمع‪ ،‬ناهيك عن تشظي‬

‫‪365‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المدينة ذاتها وتدميرها بشكل شبه كامل؛ فتلجأ في تلك الرواية إلى استلهام الحزن‬
‫المخيم على مدينة الرقة من خالل استحضار المواويل والمقامات الحزينة التي تسبغ‬
‫على السرد مسحة حزن جماعي على ما حل بالمدينة‪ ،‬فتعنون الفصل األول من‬
‫روايتها بـ "ليالي األنس"‪ ،‬ليغدو عنوان الفصل أيضاً مدخالً لما هو قادم داخل الفصل‬
‫من مشاهد الحنين‪ ،‬واسترجاع الماضي‪ ،‬واألمل بمستقبل ربما أفضل؛ ثم ال تتوقف عند‬
‫ذلك‪ ،‬بل تكثر من الموشحات الحلبية‪ ،‬والقدود والمقامات‪:‬‬

‫يا ال ال ال ال ال يا ليل‬

‫بأهداب العيون‬

‫يا ال ال ال ال يا ال ال يا ال ال لي‬

‫العيون‪ ،‬العيون السود‬

‫بعيداً عن الحزن واللعب على مشاعر المتلقي من خالل مقاطع األغنيات العربية لعبد‬
‫الحليم حافظ أو فريد األطرش‪ ،‬نجد أن الكاتبة ال تغفل عن ذكر األمثال والمقوالت‬
‫الدارجة‪ ،‬في عملية توظيفها المتكرر للموروث الشعبي داخل روايتها‪ ،‬فنجد كثي اًر من‬
‫األمثلة على ذلك‪:‬‬

‫"األنف الكبير داللة العنفوان"‬

‫"قلبي على ولدي انفطر‪ ،‬وقلب ولدي على الحجر"‬

‫"بدران سرسري"‬

‫إلى جانب ذلك تلمح من خالل السرد إلى العادات والخرافات التي كان يؤمن بها أهل‬
‫المنطقة‪ ،‬لتعكس الواقع االجتماعي والثقافي الذي كان سائداً بين أهالي الرقة‪:‬‬

‫"جوجو‪ ،‬ال تجلسي على العتبة‪ ،‬فالجان يتناكحون على العتبة‪ ،‬وأنت تزعجينهم"‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وبالطبع ال يخلو األمر من ذكر العادات والتقاليد في االفراح أو األعراس أو المآتم‪،‬‬


‫وبعض نواحي التربية التي يتلقاها الجيل الجديد من الكبار‪ ،‬لتصنع شخصياتهم بما‬
‫يتناسب مع المجتمع المحيط‪:‬‬

‫"احمدي الله أ ليس لك أوالد‪ ،‬األوالد يكسرون الظهر!‬

‫"شدي ظهرك‪ ،‬عدلي جلستك‪ ،‬افردي كتفيك‪ ،‬ضمي رجليك‪ ،‬ضعي ساقا على ساق‪،‬‬
‫نزلي تنورتك‪ ،‬ابتعدي عن الشمس"‪.‬‬

‫"آخ يا (نانا)‪ ،‬ما فائدة المشدات‪ ،‬والكعب العالي‪ ،‬وكريم إيديال‪ ،‬إذا كانت كلها‬
‫ستنتهي إلى ما انتهيت إليه!‬

‫وهو ما يتكرر أيضاً في روايتها "صيف مع العدو"‪ ،‬حيث تزخر الرواية بالذكريات‬
‫المرتبطة بمدينة الرقة‪ ،‬في حوار داخلي (مونولوج) يعبر عن حالة الحنين والفقد من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى يؤكد التصاق الكاتبة ببيئتها‪ ،‬واالعتماد على التراث الشعبي‬
‫بمختلف تكويناته داخل السرد‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا تضعين القشرة على رأسك يا عمّة؟‬

‫‪ -‬كي ال تدمع عيناي‪ .‬من تدمع عيناها يعني أنها تخاف من أهل زوجها!‬

‫أما األم داخل الرواية‪ ،‬فهي تعكس بمقوالتها واقع الثقافة الشعبية السائدة في المدينة‪،‬‬
‫من خالل ذكر األقوال المأثورة التي هي منتج شعبي جماعي وليس فردي‪ ،‬من شأنه‬
‫االستمرار على مر أجيال متعددة تتناقله ليغدو قانوناً يسير حياتهم داخل المجتمع‪:‬‬

‫"ال ولد بنذر‪ ،‬وال زوج بسحر"‬

‫"لعن الله عيشة المداراة"‬

‫‪367‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"أعرف أن الناس كلهم يبيتون عند مرضاهم في مستشفى المدينة الوحيد‪ ،‬فكيف‬
‫تركته؟ األهالي هناك يجلسون على الرصيف‪ ،‬بشايهم وقهوتهم وطعامهم‪ ،‬وثمة‬
‫عائالت كاملة مع الجيران تبقى حتى الصباح بانتظار مود الزيارة"‪.‬‬

‫من جانب آخر يبرز اسم (د‪ .‬موسى رحوم عباس) في روايته "بيالن" حيث يؤسس‬
‫لخطاب جديد في روايات أدباء الرقة؛ إذ يغاير سابقيه من خالل قدرته على الغوص‬
‫داخل شخصيات روايته‪ ،‬والحفر عميقاً في دواخلها‪ ،‬معتمداً على خلفيته الثقافية‬
‫وتخصصه في مجال علم النفس‪ .‬تعود الرقة أيضاً في رواية "بيالن" إلى مركزية‬
‫الحدث‪ ،‬ولكن الكاتب هنا يختار قرية "كسرة مريبط" مسقط رأسه‪ ،‬والحقيقة الوحيدة في‬
‫هذه الرواية كما أعلنها هو في مقدمة الكتاب‪.‬‬

‫يقوم الخطاب الروائي هنا على التوازي بين مجتمعين يقسم بينهما درب بيالن‪ .‬هذا‬
‫الدرب هو الحد الذي يفصل مجتمع الرواية إلى مجتمعين‪ ،‬لكل منهما خصوصيته‬
‫وخلفيته الثقافية‪ ،‬على الرغم من التقارب العشائري السائد في تلك القرية‪ .‬إال أن الكاتب‬
‫أراد جعل بيالن رم اًز لحالة أو حدث اجتماعي مهم‪ ،‬في إشارة إلى الثورة السورية‪ ،‬وما‬
‫أحدثته من انقسام داخل المجتمع السوري‪ ،‬والرقي على وجه الخصوص‪.‬‬

‫يسعى الكاتب أيضاً إلى استلهام التراث الشعبي‪ ،‬وتوظيفه تقنياً للتعبير عن الحالة‬
‫الثقافية السائدة في تلك المنطقة من جهة‪ ،‬ومن جهة الرغبة للتأكيد على الهوية والتمسك‬
‫بها في ظل تشظي السوريين وتشردهم في جهات األرض األربع‪ .‬تبرز شخصية "أم‬
‫الواجعات" وهي المرأة التي تداوي العيون التي علقت بها ذرة غبار أو شيء دخيل‪،‬‬
‫وذلك من خالل لسانها الذي تلحس به العين المصابة‪ ،‬وهي عادة منتشرة في الرقة‬
‫ولها أسماء شخصيات خالدة في ذاكرة أهل الرقة‪ ،‬مثل‪ :‬سارة "أم الواجعات" التي يعرفها‬
‫جميع أهالي الرقة‪ .‬ناهيك عن أن الخرافة والجهل يسيطران بشكل كبير على مجتمع‬
‫الرواية‪:‬‬

‫‪368‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬الوضع يا بني ليس عالقة بالطب‪ ،‬هذا األمر ال يقدر عليه إال الشيوخ_‬
‫دستور من خاطرهم_‬

‫‪ -‬هذا مقام سيدي الشيخ عرودة‪ ،‬صاحب الكرامات التي هزمت اإلنكشارية‪،‬‬
‫وحبست جنودهم وجعلتهم كاألرانب‪.‬‬

‫وإلى جانب توظيف الموروث الشعبي داخل السرد‪ ،‬يقارب الخطاب الروائي مشكالت‬
‫مجتمع الرقة السياسية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬حيث تعكس الرواية واقع المنطقة إبان‬
‫استالم حزب البعث السلطة في سورية‪ ،‬وبناء سد الفرات في تلك المنطقة‪ ،‬وما نتج‬
‫عنه من آثار ومشكالت اجتماعية أخرى كان د‪ .‬عبد السالم العجيلي قد سلط الضوء‬
‫عليها سابقاً في روايته "المغمورون"‪.‬‬

‫إال أن الكاتب آثر تعرية الواقع االجتماعي ونقده‪ ،‬من خالل رمزية بيالن وما يمثله من‬
‫خط فاصل بين قسمي المجتمع السوري‪ ،‬وما تال ذلك من أحداث أفرزتها الثورة السورية‬
‫ساهمت في زيادة االنقسام بشكل أكثر حدية من قبل‪.‬‬

‫مفقود‬
‫ٌ‬ ‫فردوس‬
‫ٌ‬ ‫"بيالن ذلك الفاصل بين عالمين متالقيين متنافرين‪ ،‬وجزيرة األمير‬
‫وعالمٌ من المتعة‪ ،‬وأهلين بابن العم‪ ،‬تغيب كلّ الوجوه حتى وجه كارمن‪ ،‬تظلله أشجار‬
‫الغرب والطرفاء"‪.‬‬

‫أما (عبد الرحمن مطر)‪ ،‬فقد اعتمد السيرة الذاتية إلنتاج خطاب روائي أكثر حدة من‬
‫سابقيه‪ ،‬وراح يصور عذابات بطل روايته‪ ،‬وهو صحفي وسجين سياسي‪ ،‬يتعرض‬
‫ألنواع القهر والعذاب على يد األنظمة الحاكمة في كل من سورية وليبيا‪ .‬إذ تندرج‬
‫رواية "سراب بري" تحت مسمى (أدب السجون) برأي كثير من النقاد‪ ،‬إال أن الكاتب‬
‫حاول من خالل روايته تجسيد جرأة الخطاب الروائي التحرري‪ ،‬الذي يرفض ما سبقه‬
‫من ترميز وإحاالت تاريخية بهدف الهرب من مقص الرقيب‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لجأ الكاتب إلى المواجهة وعدم الحياد في خطابه‪ُ ،‬مسمياً األمور بمسمياتها؛ بدءاً من‬
‫عنوان الرواية الذي يرمز إلى حالة هذيان وتبدد الظالم والسجن‪ ،‬لتغدو سراباً غير‬
‫واضح المعالم يضغط على أبطال الرواية في تصويرها سيرة البطل‪ ،‬أو الكاتب نفسه‬
‫وهو يناضل ضد جالديه‪ ،‬مرو اًر بباقي أحداث الرواية‪.‬‬

‫استخدم (عبد الرحمن مطر) لغ ًة شعرية يتقنها‪ ،‬وهو الشاعر والصحفي؛ جاءت انسيابية‬
‫متقنة استطاع من خاللها رصد مالمح العذاب الداخلي للمعتقلين‪ ،‬وفضح وحشية‬
‫سجانيهم وهمجيتهم‪:‬‬

‫"عاد الى مسمعه هدير الطائرة التي خلفت وراء عبورها مشاهد أرغفة الخبز الملونة‬
‫بالدم‪ ،‬لم يحتمل تلك الظهيرة أن يلتقط رغيفا ظلّ مرمياً على كتف الطريق دون أن‬
‫ينتبه إليه العابرون‪ ،‬والجوع يفتك به‪،‬‬

‫يتلوى من شدته‪ ،‬لكن العطش صرفه بعيداً عن الجوع‪ ،‬هل ثمة خبز هنا؟‬

‫"حازم في التاسعة عشرة‪ ،‬آثار التعذيب في خاصرته‪ ،‬ثقبان غائران في الجسد الطري ‪،‬‬
‫أحدثهما إغماد سبطانة الكالشينكوف‪ ،‬أثناء التحقيق في فرع األربعين‪ ،‬بالجسر‬
‫ينز دماً"‪.‬‬
‫األبيض‪ .‬والجرح الطازج بعد مرور ثالثة أسابيع – كما رآه – ما يزال ّ‬

‫بعيداً عن التقرير والخطابية‪ ،‬يلجأ الكاتب إلى توضيح موقفه واالصطفاف إلى جانب‬
‫الثوار في سورية‪ ،‬وهو ما لم نشهده سابقاً عند غيره من الروائيين الذين قاربوا مسألة‬
‫االستبداد والدكتاتورية؛ حيث كان الروائيون يلجؤون إلى الترميز أو األحداث التاريخية‬
‫في مثل تلك المواقف؛ ففي وصف أحد السجناء‪ ،‬وهو أبو محمد الملقب بـ "السلطان"‪،‬‬
‫يتعمد الكاتب الوضوح في التعبير عن رؤيته السياسية وموقفه من السلطة الحاكمة في‬
‫دمشق على لسان الراوي‪:‬‬

‫خرج السلطان شخصاً آخر‪ ،‬فاقداً كل شيء‪ .‬دون أن يريحه الموت‪ ،‬لكنه لم ينس‬
‫تلك العبارة التي قلبت حياته‪:‬‬

‫‪371‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫" سنخلع صور فرانكو‬

‫عن جدران دمشق!"‬

‫يتابع الكاتب في سرده شبكة العالقات داخل مجتمع الرواية‪ ،‬جاعالً من بطله الصحفي‬
‫"عامر" البطل األوحد الذي يحمل هموم مجتمعه‪ ،‬ليتقاطع العام بالشخصي‪ ،‬ألنه يدرك‬
‫أن الهم العام مرتبط بكل تفاصيل حياته‪ ،‬كما أنه يسعى إلى التأكيد أن هموم الفرد‬
‫ليست إال جزءاً من الهم العام‪ ،‬لذلك أخذ على عاتقه هذا الحمل وراح يناطح جالوزة‬
‫االستبداد بكل جرأة ودون هوادة‪:‬‬

‫أجاب عامر‪ ،‬بتصميم على انتزاع المبادرة‪ ،‬وكأنه يريد توجيه دفة التحقيق اآلن‬
‫بنفسه‪ ،‬وليكن‪ ،‬ما يكن بعد ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬كيف‪ ..‬وأنت تجاوزت حدودك في الحركة‪ ،‬كثي ارً!‬

‫‪ -‬كل شيء واضح‪ ،‬ومعروف‪ ..‬حتى بالنسبة لكم‪.‬‬

‫نعرف بعض األشياء‪ ..‬نعم‪ ،‬ولكن ثمة الكثير المخفيّ‪ ،‬ما الذي يدعوك لزيارة الصين؟‬

‫‪ -‬دعوة وجهت لي‪ ،‬فقبلتها!‬

‫‪-‬الشرق‪ ،‬ليس من اهتمامك؟‬

‫‪-‬العالم يتغير‪ ..‬وأنا أردت ذلك!‬

‫ومتابعة للخطاب المتمرد في روايات أدباء الرقة‪ ،‬تفتح رواية "باب األبواب" للكاتب‬
‫والصحفي (يوسف الدعيس) باباً من أبواب التجديد في الخطاب الروائي‪ .‬حيث استخدم‬
‫الكاتب تقنية مختلفة عن سابقيه في سرده ألحداث الرواية‪ ،‬حيث قسم روايته إلى‬
‫فصول‪ ،‬يعبر كل فصل عن باب من األبواب التي اختارها الكاتب لتكون مفاتيح نصية‬
‫ترافق القارئ من البداية إلى النهاية‪ ،‬بحيث يغدو النص رشيقاً ال تكلف فيه‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يفتح الكاتب أبوابه بيسر وسالسة ليجد القارئ في كل باب من هذه األبواب عالماً‬
‫يحاكي العالم الواقعي‪ ،‬ولكن بلغة بسيطة وسهلة خالية من التقعر والتعقيد‪.‬‬

‫إال أن السمة الواضحة في رواية "باب األبواب" هي الخطاب المباشر في تعرية شخوص‬
‫الرواية ومجتمع الرقة‪ ،‬واتخاذ الراوي بلسان السارد موقفاً واضحاً من الواقع السياسي‬
‫المرافق ألحداث الرواية؛ وهو ما لمسناه أيضاً في رواية "سراب بري" من قبل‪ ،‬إذ يلحظ‬
‫القارئ انحياز الراوي‪ /‬الكاتب إلى الثورة السورية بوضوح ال مجال للشك فيه‪:‬‬

‫"الجحيم ما باتت تُوصف به الرقة‪ ،‬المدينة الهادئة والمعزولة عن العالم‪ ،‬المدينة‬


‫التي كان يُشار إليها بعالمة استفهام كبيرة دائماً‪ ،‬المدينة التي كانت تغيب عن‬
‫سرة الكون‪،‬‬
‫نشرات األخبار‪ ،‬ونشرات األحوال الجوية‪ ،‬تحولت بين ليلة وضحاها إلى ّ‬
‫مرت جحافل جيوش سوداء وصفراء في أزقتها‬ ‫ومستودع أسرار للقتلة بعد أن ّ‬
‫مر عليها سابقاً الطاعون األسود والوباء األصفر‪ ،‬ها هي‬
‫وحواريها الرحبة‪ ،‬وكما ّ‬
‫أعالم صفراء وسوداء وبيضاء تخفق اليوم فوق سواريها‪ ،‬وها هم جنود بلحى كثة‬
‫وأخرى حليقة يتراقصون فوق جثث عباد الله"‪.‬‬

‫باإلضافة إلى االنحياز الواضح لمجريات األحداث المرافقة في الرواية‪ ،‬والتي تجلت‬
‫في الثورة السورية منذ ‪ 1122‬تبرز سمة أخرى يسعى الكاتب إلى تأطيرها داخل خطابه‬
‫الروائي‪ ،‬وهي التجديد على الصعيد اللغوي؛ حيث ظهرت في رواية (باب األبواب) لغة‬
‫جديدة لم تكن معهودة لدى كتاب الرقة‪ ،‬وربما كتاب سورية عام ًة‪ .‬إذ أن مفردات‬
‫الحرب‪ ،‬واللجوء‪ ،‬والقصف‪ ،‬والبراميل‪ ،‬والمخيمات‪...‬وغيرها من التراكيب اللفظية التي‬
‫استخدمها الدعيس تبدو غريبة عن مجتمع أهل الرقة الذين ربما لم يشاهدوا طيلة العقود‬
‫السابقة طائرًة تطير في سماء الرقة سوى الطائرات الزراعية التي ترش األراضي‬
‫بالمبيدات الحشرية في أوقات معينة من فصول السنة‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"اخترقت الطائرة المشهد‪ ،‬ثم غابت مع صخبها نهائياً‪ ،‬صرخ من كل قلبه هذه المرة‪:‬‬
‫لست خائناً‪ .‬لست خائناً‪ .‬والله ما فررت إال لكي أنجو بنفسي وعيالي من هذه‬
‫المذبحة"‪.‬‬

‫"الناس في الرقة صاروا يميزون بين قذيفة الهاون والصاروخ وما بين البرميل‬
‫المتفجر والقنبلة الصوتية أو العنقودية‪ ،‬وصار مألوفاً أكثر ما يقوم بجمعه األطفال‬
‫من بقايا القنابل والصواريخ‪ ،‬وصار الفتاً أن ترى جمهرة من الفتية والصبية والكبار‬
‫والنساء تتجه أنظارهم إلى األعلى‪ ،‬في محاولة يائسة للبحث عن مكان سقوط‬
‫القذائف‪ ،‬أو على أقل تقدير توقع مكان سقوطها‪ ،‬ونسبة األذى الناجمة عن االنفجار‪،‬‬
‫وتحليل شكل وقوة القذيفة‪ ،‬ونوع الطائرة‪ ،‬سيخوي أم ميغ‪ .‬صرنا محللين عسكريين‪،‬‬
‫وقبلها سياسيين وإعالميين‪ ،‬وال نعرف ماذا يخبئ لنا القدر"‪.‬‬

‫وتتابع الرواية واقعيتها المباشرة ليصف الكاتب رحلة (األب باولو) وهو أحد نشطاء‬
‫الثورة ضد النظام السوري‪ ،‬حيث يسافر إلى الرقة رغب ًة في التوسط للصلح بين الفصائل‬
‫المسلحة المتناحرة التي سيطرت على المدينة في مرحلة من مراحل الثورة‪:‬‬

‫"لم تنفع تحذيرات الناشطين واألصدقاء من ثني األب باولو عن عزيمته في لقاء قادة‬
‫داعش‪ ،‬وإن استطاع أن يلتقي بالبغدادي‪ ،‬فهو جاهز‪ ،‬وأخي ارً وقعت الفأس بالرأس‪،‬‬
‫ودخل األب باولو غار األفعى‪ ،‬معقل الدولة في عاصمة الخالفة المزعومة‪ ،‬وغادرنا‬
‫إلى غير رجعة"‪.‬‬

‫في ضوء ما سبق‪ ،‬يمكن الحديث عن تنوع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة‪ ،‬من‬
‫خالل تتبع مسارات هذا الخطاب في ضوء التجارب الشخصية؛ لتبرز نواحي هذا التنوع‬
‫باالعتماد على الموروث الشعبي الغزير في تلك المنطقة‪ ،‬واالنحياز إلى التجربة الذاتية‬
‫بشكل واضح‪ ،‬والجرأة في طرح القضايا المصيرية‪ ،‬والسيما السياسية منها‪ ،‬ونقد الحكام‬
‫بشكل صريح بعيداً عن الترميز واستجداء الحوادث التاريخية‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كما تبرز إرهاصات التجديد التي شهدها الخطاب الروائي من خالل ظهور لغة جديدة‬
‫تواكب مجريات الواقع وتؤسس ألدب الحرب أو اللجوء الذي راح يزدهر في مختلف‬
‫البالد العربية ما بعد أحداث الربيع العربي‪.‬‬

‫وفي طبيعة الحال يجد المتابع جرأة الخطاب في معالجة قضايا اإلنسان المعاصر‪،‬‬
‫وهمومه دون االعتراف بالمحظورات التقليدية‪ ،‬كالجنس والسياسة والدين وغيرها من‬
‫المحظورات التي تمت مقاربتها بحرية أكثر من ذي قبل‪.‬‬

‫ومن الطبيعي أن تكون هناك تجارب روائية أخرى لم يتم تسليط الضوء عليها بسبب‬
‫صعوبة الحصول عليها‪ ،‬إال أن ذلك ال يمنع من الحديث عنها مستقبالً بشكل أوسع‪،‬‬
‫وربطها بالتنوع األدبي الحاصل في مدينة الرقة‪ ،‬والذي نرى أنه يؤسس لجيل روائي‬
‫جديد يسعى إلى إثبات ذاته وفرض رؤاه وخطابه الروائي‪.‬‬

‫من أعمال الفنان محمد العكلة‬

‫‪374‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رواية الضباع‪ :‬المكان القاهر والمقهور‬

‫عمر الحمود‬

‫محام‪ ،‬كاتب روائي‪ ،‬وقاص سوري‪.‬‬

‫تنتمي هذه الرواية إلى مايسمى (الرواية القصصية القصيرة)‪ ،‬ومن نماذجها رواية قنديل‬
‫أم هاشم ليحيى حقي ورواية الشيخ والبحر لهمنغواي‪ .‬وهي من جملة روايات قصيرة‬
‫ضمن مسيرة الكاتب إبراهيم الخليل الروائية كرواية حارس الماعز ورواية حارة البدو‪.‬‬

‫وتنطبق عليها مقولة‪ :‬سيرة المكان سيرة اإلنسان‪ ،‬حيث يعيد الكاتب اكتشاف (الرقة)‬
‫المغيبة عن المكان في المشهد الروائي السوري‪ ،‬وفي ذلك إعادة الروح إلى األطراف‬
‫لتكون فاعلة في الرواية‪ ،‬وليست في القصة والشعر فقط‪.‬‬

‫من المعروف أن ظهور الرواية ارتبط بالمدن‪ ،‬فالرواية بنت المدينة بامتياز‪ ،‬وكعادته‬
‫تعامل معه كما دأب كبار المبدعين‬
‫يهتم الخليل بالمكان ومفرداته كفضاء خاص‪َ ،‬‬
‫بوصفه حي اًز جغرافياً وحي اًز إنسانياً‪ ،‬يؤثر هذا الحيز‪ ،‬ويتأثر‪ ،‬ويعكس معالمه على‬
‫رواياته‪ ،‬فوثق المكان بعناية وحداثة حتى تكاد أن تجزم أن المكان نص مواز لرواياته‪،‬‬
‫يعطرها بالخصوصية‪ ،‬ويثريها بالتفاصيل‪ ،‬فاهتم بالمدينة وريفها كأمكنة تتمسرح فيها‬
‫األحداث‪ ،‬وبدت الرقة الحاضرة الحالية (مدينة الرقة وريفها في فترة الخمسينيات من‬
‫القرن الماضي دليلنا على ذلك انتشار أحزاب يسارية وزراعة القطن وحلم الوحدة)‪،‬‬
‫وليست المدينة التاريخية القديمة المتألقة بسحرها والمزهوة بأوابدها‪.‬‬

‫الرقة أمكنة تتواسد فيها المتناقضات‪ ،‬فهي تتعلم مبادىء ماركس الشيوعية‪ ،‬وتؤمن‬
‫بكرامات عبد القادر الجيالني الصوفية ‪...‬‬

‫المكان الرقاوي مكان مستباح وقاهر ومقهور‪ ،‬ينهبه الغريب بعون القريب‪ ،‬ويتكاثر‬
‫فيه السوء والضياع والوحدة وغدر األصدقاء وخياناتهم تكاثر الدود الطفيلي في الجوف‪.‬‬
‫‪375‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ومكان ال يبعث على االطمئنان‪ ،‬وكما يقول ابن عربي‪( :‬المكان إذا لم يؤنث اليعول‬
‫عليه)‪ ،‬وبدا المكان خالياً من مظاهر (النهضة المدنية) كما في المدن الكبيرة‪ ،‬سواء‬
‫بمعالمه العمرانية أو بتفكير اإلنسان‪ ،‬فبيوت الرقة متقابلة ولضيقها تكاد أن تتالقى‪،‬‬
‫وهي بسيطة البناء ومتالصقة كأنها تحتمي ببعضها بعضاً من غزو مؤكد‪ ،‬وحجارتها‬
‫منهوبة من السور العتيق واألوابد األثرية‪ ،‬فتشتم منها رائحة المكان القديم ورائحة المكان‬
‫الجديد المقام على أنقاضه أو من أحجاره ‪...‬‬

‫مدينة بفندق ريفي وحيد يبتلع القادمين من المدن األخرى‪ ،‬ثم يقيئهم‪ ،‬وبوابات المساجد‬
‫وألرصفة تمتلىء بهم في رحالت البحث عن رزق شبه معدوم‪.‬‬

‫وأكل الدهر‪ ،‬وشرب على وسائل النقل فيها‪ ،‬عبارة عن بوسطات (البوسطة نصف‬
‫باص معدل) مهشمة في أكثر من جانب‪ ،‬وباعتبار هذه الوسيلة مكاناً متحركاً‪ ،‬فإنها‬
‫كذلك فقيرة بأثاثها‪ ،‬مقاعد بالية‪ ،‬ومحرك بالكاد يعمل‪ ،‬وتهب من داخلها روائح البشر‬
‫والمازوت والبصل والغنم والدخان الثقيل‪( :‬البوسطة ضيقة خانقة كعلبة من الدخان)‬
‫ص‪ .16‬إنها أشبه بقبر‪ ،‬وليست بوسيلة نقل‪.‬‬

‫وفراتها طاغية‪ ،‬فيضاناته تغير معالم المكان‪ ،‬وتجرف البيوت والشجر والبشر‪ ،‬وبليخها‬
‫يجري نحيالً ال يرضي العين وب ارريها عراء مفتوح وخالء موحش‪ ،‬وفوق قسوة المكان‬
‫جفوة اإلنسان‪ ،‬فهي موسومة بمظاهر البيروقراطية إلى درجة المرض‪.‬‬

‫فحمدو القاسم الموظف في مديرية التربية بالرقة يعامل أحمد العميان بجالفة ألنه فقير‪،‬‬
‫وينظر إلى من هم مثل أحمد كأنهم حشرات ال تستحق الحياة‪ ،‬فأوراق تعيينه جاهزة‬
‫منذ أسبوع‪ ،‬وهو يماطله كل يوم لرغبة دفينة في نفسه كأنه ينتقم من آخر لعب معه‬
‫الدور نفسه ذات يوم‪ ،‬وفي الوقت نفسه يمتثل هذا الموظف لطاعة أصحاب النفوذ بكل‬
‫رصى وخنوع‪( :‬رن جرس الهاتف األسود الجليل‪ ،‬تناوله بلهفة من يريد إطالة عذاب‬
‫الذبيحة) ص ‪.2‬‬

‫‪376‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المدينة عبارة عن أمكنة قاهرة مقهورة اعتادت على الخضوع للسلطة‪ ،‬وقامت بدورها‬
‫بقهر اإلنسان‪ ،‬فدجنت اإلنسان ليستمر في الخضوع إلى درجة االفتخار بظلم السلطة‬
‫له‪:‬‬

‫(روى والده‪ :‬ذات يوم كان أحدنا يعود فرحاً طروباً إلى المضافة‪ ،‬ويبدأ حديثاً طويالً‬
‫مفاخ اًر أن رئيس الدرك أو أحد الدرك قد بصق عليه‪ ،‬أو ضربه في الطريق بال سبب)‬
‫ص‪.21‬‬

‫ال بعد جيل‪ ،‬وبعد تحالف القوى عليها من قوى طبيعية (المحل‬
‫وهذا الخضوع تراكم جي ً‬
‫يقتل المواسم‪ ،‬السيل يجرف الزرع‪ ،‬العراء األجرد يميت الحياة‪ ،‬الفرات يمحو ماحوله‬
‫من مزارع وبيوت ‪.)...‬‬

‫وقوى بشرية (قمع السلطة ممثلة بالمخفر‪ ،‬إهمال المسؤولين‪ ،‬تنكيل السلطة بأبنائها‬
‫الذين انتسوا إلى أحزاب يسارية تناوىء السلطة‪ ،‬الحرب التي قتلت بعض أبنائها مثل‬
‫ثالج الصالح‪ ،‬أو تسببت السلطة بمقتلهم كأبي عايد)‪ .‬وكأن القدر خصها بالقمع‪ ،‬فمن‬
‫قمع ونواهي القبيلة إلى قمع الشرطة والقوانين التي ال تطبق إال على الفقير‪ .‬قهر يسلب‬
‫من فيها صفاته اإلنسانية في مواقع كثيرة‪ ،‬فعلوان ُيدمن الضرب في السجون حتى‬
‫تحولت قدماه إلى خفي بعير‪ ،‬ركاب البوسطة اعتادوا االنتظار الممل‪ ،‬عوام الناس‬
‫اعتادوا تسييد العفون وحثاالت البشر‪.‬‬

‫وتذل الفقراء من أبنائها‪ ،‬وتجعلهم في درجة متدنية من درجات المخلوقات‪ ،‬يقول أحد‬
‫األبطال فيها‪( :‬أنا كلب ابن كلب‪ ،‬فقي من الدرجة الثالثة‪ ،‬أقف على قائمتين‪ ،‬وأنبح‬
‫أكثر) ص ‪.16‬‬

‫تخصي أبناءها بسادية‪ ،‬وتجعل الرجل أنثى أمام عشيقته‪( :‬كانت سرتها عين تسخر‬
‫منك‪ ،‬والنهد مخرز) ص‪.22‬‬

‫‪377‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هذا التضييق على اإلنسان ُيسهم في تأسيس حالة عداء مع المكان‪ ،‬فيؤطر عالقاته‬
‫ضمن إطار نفعي مقيت‪ ،‬يهدد التماسك المجتمعي في المكان‪.‬‬

‫المدينة مرك اًز وريفاً منبع طيبة وخيرات لآلخرين‪ ،‬يأتيها الغريب فقي اًر‪ ،‬وخالل فترة قصيرة‬
‫يصير غنياً كما حصل مع (خوش قدم)‪ ،‬ويعيث فساداً فيها‪ ،‬وكأنها مرصودة للغرباء‬
‫والغزاة‪ ،‬وأهلها راضين فيها بقدرية وبطيبة تصل إلى حد السذاجة‪ ،‬يقول عنهم حمدو‬
‫القاسم‪( :‬القرويون طيبون إذا عرفت كيف تتعامل معهم) ص‪.21‬‬

‫وأبطال الرواية المثقفين يرفضون هذا الواقع‪ ،‬ويستنكرون فعل الغريب الضال والمضل‬
‫فيها‪ ،‬ويرونها مكان اغتراب وخلخلة لعالقات اجتماعية سائدة‪.‬‬

‫وقد ترحمها سياط الكاتب‪ ،‬وتمنحها فرصة دفاع عن ذاتها‪ ،‬أو تلقي نظرة لوم على‬
‫جالدها‪ ،‬تخبره فيها بأن روحها ثابتة وقوية‪ ،‬وإن بدت هشةـ وما يمر بي عبارة عن‬
‫زبد‪.‬‬

‫‪( :‬هي كالرمل ُبغوي خنوعها‪ ،‬فتندفع‪ ،‬وفجأة يطويك داخلها‪ ،‬ويدمر روحك‪ ،‬ويكتم‬
‫أنفاسك) ص‪.21‬‬

‫ربما تستمد عزماً من وجود النهر قربها‪ ،‬هذا الجبار الذي يحزنها مرة‪ ،‬ويسعدها أخرى‪،‬‬
‫وهي تزداد التصاقاً به في عالقة متينة‪.‬‬

‫وظهر الريف في الرواية مكاناً واسعاً مفتوحاً‪ ،‬وفقي اًر بمعالمه العمرانية وموارده‬
‫شتاء‪ ،‬وتنبع فئراناً ونمالًـ حظائر ماشيةـ‬
‫االقتصادية‪ ،‬بيوتات من طين‪ .‬قواويش تدلف ً‬
‫أكوام حطب‪ .‬مخافر متناثرة صغيرةـ دروب ترابيةـ مراعي وقت المطرـ سهول جرداء‬
‫وعراء موحش وقت المحل‪.‬‬

‫فقر يطغى على محاسن اتساع المكان‪ ،‬وجعل الشخصية مهمشة أو ضائعة متالشية‪،‬‬
‫ويؤثر المكان الواسع المفتوح تأثي اًر سلبياً على الشخصية‪ ،‬فالعراء يوقظ الغرائز الراقدة‪،‬‬

‫‪378‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وامتداد الخالء يحفل بمفاجآت صادمة‪ ،‬وال تسلم من هذا األمكنة الرسمية‪ ،‬فالفتقارها‬
‫لألساس المتين تنهار عند هبوب الريح‪ ،‬أو نزول المطر كما حدث للمدرسة‪.‬‬

‫ويذل‬
‫وال يبعد هذا عن المدينة‪ ،‬فاألمكنة الضيقة والمغلقة فيها ُيهان فيها اإلنسان‪ُ ،‬‬
‫(مكتب التربية ومكتب التحقيق)‪ ،‬وال تحقق له الراحة (الفندق)‪ ،‬أو تتسبب في قتله‬
‫(سطح المخفر)‪ ،‬أو تقهره بضيقها وروائحها المتعفنة حتى تبدو كتابوت (البوسطة)‪،‬‬
‫أو ترغمه على رؤية ال يشتهيها (البيت) وهو عبارة عن غرفة واحدة ‪ ،‬تستريح فيها‬
‫األسرة كلها‪ ،‬وتأكل وتنام‪( :‬هل أريت أباك ينام مع أمك‪ ،‬أنا رأيته‪ ،‬أنا المحكوم أن أنام‬
‫معهم في غرفة واحدة ألننا ال نملك غيرها‪ ،‬وسيرى ذلك أخي األصغر) ص‪.16‬‬

‫أمكنة صفحاتها مألى بالقبح ‪.‬‬

‫فقر المكان يسهم في إفقار اإلنسان‪ ،‬لتعاقب سنوات المحل وتوالي الجدب والقحط‬
‫وإهمال السلطة‪ ،‬وهذا يدفع الناس للركض وراء أي فرصة عمل تلوح في األفق‪ ،‬ولو‬
‫كانت من وعود فارغة وسراب خداع‪ ،‬ففي مديرية التربية كومات مهملة من الم ارجعين‬
‫الباحثين عن عمل مؤقت‪ ،‬وتفوح منهم رائحة التعب والجوع والخوف‪.‬‬

‫ومكان العلم معطل‪ ،‬فحين يهدم المطر المدرسة يجمع التالميذ القطن‪ ،‬ويؤجل التعليم‬
‫سنة كاملة!‪.‬‬

‫الريف مكان منسي وساكن برتابة قاتلة‪ ،‬ال يعكر سكونه إال أجراس الغنم ونباح الكالب‪،‬‬
‫وفراغه متعب للنظر ودروبه عارية جرداء‪ .‬ولكسر هذه الرتابة وفتح نوافذ نور في هذا‬
‫الفراغ والعماء المرهق يلجأ اإلنسان إلى وسائل خاصة يسهم المكان والبعد عن الرقابة‬
‫والحاجة إلى الذكورة في خلقها كما في لعبة أنبتها العراء الموحش والغرائز المكبوتة‪،‬‬
‫لعبة (السكارات)* اللعبة الحقيقية التي تفردت بها قرى البليخ‪ ،‬وظلت مستمرة إلى‬
‫بداية الستينيات من القرن الماضي‪ ،‬واستمدها الكاتب من الذاكرة القريبة ‪....‬‬

‫‪379‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لعبة بطقس خاص تقوم بها الصبايا على هامش عملهن لرفع منسوب مياه نهر البليخ‬
‫ليصلح للري‪ُ ،‬قتل رجال فيها على يد الصبايا‪ ،‬وهذا الطقس يشبه في وجه من الوجوه‬
‫اسطورة (عروس النيل) في مصر القديمة التي تُقدم للنيل قرباناً كي يفيض‪ ،‬وينشر‬
‫الخير على مصر‪.‬‬

‫في رواية الضباع ظل الكاتب ينتقل بين األمكنة الضيقة واألمكنة الواسعة شاه اًر راية‬
‫حر جميالً‪ ،‬وانعكس‬
‫الهجاء لقبح وقهر يموجان في المكان‪ ،‬فلم يظهر المكان مكاناً اً‬
‫هذا على اإلنسان فيه‪ ،‬فبدت عالقة اإلنسان بالمكان عالقة مشوهة‪.‬‬

‫‪ -‬الضباع رواية قصيرة للكاتب ابراهيم الخليل‪ .‬تقع في ‪ 12‬صفحة من القطع الوسط‪.‬‬
‫صادرة عن دار الحوار‪ .‬سورية ‪.9116‬‬

‫‪ -‬لعبة الس ّكارات*‪( :‬عند انخفاض مجرى نهر البليخ عن المنسوب الصالح للري‪ ،‬تجمع‬
‫القرى عذارى‪ ،‬يعزلن قرب النهر‪ ،‬يجمعن الحطب وعروق السوس في حزم كبيرة‪ُ ،‬تدفع‬
‫متجاورة إلى النهر في أضيق مجرى له‪ ،‬ويردمه الشبان بأكياس التراب‪ ،‬فيستقر‪ ،‬ويش ّكل‬
‫سك اًر‪ ،‬وفي هذا العراء والوحدة يسوء حظ الرجل‬
‫سداً بدائياً يرفع منسوب المياه‪ ،‬يسمى ْ‬
‫قربهن وحيدا‪ ،‬يحاصرنه بالفؤوس‪ ،‬يجردنه من ثيابه‪ ،‬ويربطن ذكره بخيط تمسك‬
‫ّ‬ ‫مر‬
‫إذا ّ‬
‫إحداهن‪ ،‬وتتعرى غيرها‪ ،‬وتدور العارية حوله‪ ،‬تقترب منه‪ ،‬وقبل أن يلتحم بها تنتر‬
‫ّ‬ ‫به‬
‫وفر حتى‬ ‫الفتاة القابضة على الخيط‪ ،‬فيتلوى عضوه بألم‪ ،‬وهكذا تدور اللعبة بين ّ‬
‫كر ّ‬
‫يشارف الرجل من الهالك)‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حوار ســــياسي مع شاعر راحل‬


‫هكذا تكلّـم فيصـل بليبـــل‬
‫بسام البليبل‬
‫محام‪ ،‬كاتب وشاعر سوري‪ ،‬يقيم في فرنسا‬

‫يَــــ ْفنَى جوبيتـــر ويبــــقى إيــــقاع الشـــاعر‬


‫ج‪ .‬كاردوشي‬

‫لم يتسـنَ لي أن أجري هذه المحاورة الشــعرية مع فيصل بليبــل في حياته‪ ،‬فرجعت‬
‫ي بعد وفاتــه‪ ،‬أبحث ألســئلتي الحائرة عن إجابات‪،‬‬
‫إلى دوواينه وأوراقه التي آلت إل َّ‬
‫فكـانت هذه المحاورة الشـــــعرية التي قد تــدخل ذات يـوم فيما يمكن تسـميته بأدب‬
‫مســامرة األموات‪.‬‬

‫حاور َموتى‬
‫َ‬ ‫هل ســمعتم قبل هذا اليــوم من‬
‫السر يُؤتى‬
‫ّ‬ ‫من تُرى من بعد عيسى مثل هذا‬
‫ْ‬
‫راحل‬ ‫الفكر‬
‫ِ‬ ‫ســرا ً أن يُنـاجى عبقر ّ‬
‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ليــس‬
‫ْ‬
‫ماثــل‬ ‫الكون‬
‫ِ‬ ‫غادر الدنيــــا ولكن فكــرهُ في‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫الغابـــرين‬ ‫العظام‬
‫ِ‬ ‫هكذا التاري ُخ من صنـــعِ‬
‫ْ‬
‫ّــــــتين‬ ‫إنّــــــهم أحيـــــا ُء واألحيـا ُء حينا ً مي‬
‫فاسمعوا الفيص َل ما قد قا َل لل ُجلّى وأنشــــ ْد‬
‫ي إذا ما اله ّم أنــــــج ْد‬
‫القــــدس‪ ،‬ونـجد ٌّ‬
‫ُ‬ ‫ه ّمه‬
‫يكتـــــب ّإال في ال ّ‬
‫سياســـه‬ ‫ُ‬ ‫الفكر ال‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫يعرب ُّ‬
‫يرهب باسـَــــه‬
‫ُ‬ ‫كال وال‬‫ليس َيخشــى حاكما ً ّ‬
‫َ‬
‫ق ليس يقضـي‬ ‫والشــعر بــــا ٍ‬
‫ُ‬ ‫قد قَ َ‬
‫ضــــــى‬
‫هكذا الشــعرا ُء تبقى حينــما الح ّكا ُم تمضـي‬
‫‪381‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫*‬
‫السؤال األول ‪:‬‬
‫شـــاعر للنيــ ِل يـحدو‬
‫ٌ‬ ‫وحــــاف ُ‬
‫ظُ‬ ‫الشــعر شــــوقي وهو فر ُد‬
‫ِ‬ ‫أمير‬
‫ُ‬
‫ي ما جــاراهُ نِــــــ ُّد‬
‫فـذا البـــــدو ُّ‬ ‫ب ال ُم َجــلّي‬
‫شــــاعر العـَـر ِ‬
‫ُ‬ ‫وأ ّما‬
‫أنـت إن ذكــروا وعـــدّوا‬
‫َ‬ ‫فمـاذا‬ ‫ي قــالوا‬
‫الشــــأعر القومـ ُّ‬
‫ُ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫راســـان‬
‫ِ‬ ‫أندلـــس حتى ُخ‬
‫ٍ‬ ‫أرض‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ُ‬
‫دمشـق دمي في ك ِّل رابيــــــــ ٍة‬ ‫أنا‬
‫مصر وبـــغدان ِ‬
‫ٍ‬ ‫شمس العروبة ِفي‬
‫ُ‬ ‫أنا الشـآ ُم ولوال الشام ما ســــطعت‬
‫نيسان‬
‫ِ‬ ‫روض‬
‫ِ‬ ‫زهرا ً به َّ‬
‫ي الشذى من‬ ‫أنا الذي لم يزل يـُـــهدي الجال ُء له‬
‫للبــذ ِل ما كان يوم البـذ ِل أســــخاني‬ ‫بالراحتيـــن دمائـــي كنُتُ أحملــها‬
‫ِ‬
‫ي شــيءٍ كان أغرانـي‬
‫فليـــذكروا أ َّ‬ ‫يُغري ال ُحطا ُم رجاأل ُ لست أذكرهم‬
‫قصائــــدا ً ُ‬
‫ض ِ ّمنت ديني وإيـــــماني‬ ‫ب‬‫دمشــق ويتلو ســادة ٌ نُجـــــ ُ ٌ‬
‫ُ‬ ‫تتلو‬
‫فــان‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ســــــطروا‬ ‫له الخــلو ُد وما قد‬ ‫العصور غدا ً‬
‫ُ‬ ‫مهالً ســتقرأ ديواني‬
‫الســؤال الثاني ‪:‬‬
‫يـــــن‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫مؤمن بـــل ملح ٌد بالد‬ ‫بــــل‬ ‫ي وقالو يـــــميني‬
‫قالـــوا يســــار ٌ‬
‫صري ويـــقينـي‬ ‫لديـــــك تبــــ ّ‬
‫َ‬ ‫ّإال‬ ‫اليقيـــن فلـم أجــ ْد‬
‫ِ‬ ‫إنّي بحثتُ عن‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫اليســـــار قِبــــلةَ ديــــــني‬
‫ُ‬ ‫وكان‬ ‫ب يساريا ٌ‬
‫كنـــتُ في ميع ِة الشـــبا ِ‬
‫فأصبحتُ في يـــــمين اليمي ِ‬
‫ــــن‬ ‫والعار‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫وأتانا اليســــــار والخز ُ‬
‫( وأضاف فيصل بليبل مجيبا ً عن ال ِشــق الثاني من السؤال المتعلق بدين الشاعر )‬
‫أطهـر‬
‫ُ‬ ‫الطهر‬
‫ِ‬ ‫َأال ّ‬
‫إن محرابــي من‬ ‫يـــــقولون هذا ملح ٌد يـــالجهلـهم‬
‫نشــر‬
‫ُ‬ ‫فكيــف وأكفاني لها الموت َي‬ ‫ع َم َر اإليـــــمان قلبــي يافعا ً‬
‫فقد َ‬
‫سري غير ما كنتُ أ ُ ُ‬
‫ظهر‬ ‫وما كان ّ‬ ‫سيفص ُل ربي بين قولي وقولـِهم‬
‫السؤال الثالث ‪:‬‬
‫منبـــــــر‬
‫ُ‬ ‫ياشــــــاعرا ً له في السياس ِة‬ ‫إنّي سألتُ وكان قصدي واضحا ً‬

‫‪382‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في أ ّمــ ٍة أحزابــــــها التحصـــــــــر‬ ‫ب سيّدي‬ ‫ّ‬


‫التحز ِ‬ ‫ماذا تــــقو ُل عن‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫ب‬
‫ي يســـمو على األحــزا ِ‬
‫يـــعرب ٌ‬ ‫الحزب أحرفي وكتـــابي‬
‫ُ‬ ‫حزبي‬
‫من بــالدي وك ّل شـــبر تـــــرا ِ‬
‫ب‬ ‫الحزب ك ّل حفنــ ِة رمـ ٍل‬
‫ُ‬ ‫حزبي‬
‫الخيـــــام أه ُل الـــــعذا ِ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫والهضاب وســـــينــــاء وأه ُل‬
‫ُ‬ ‫القدس‬
‫ُ‬ ‫حزبي‬
‫َ‬
‫حزبي الثورة ُ التي تشــــتهي األطــــوا ُد من ريـــــحها بطونَ ال ِشعا ِ‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫ســــوف يُتلى من قب ِل ك ِّل كتا ِ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫إن حزبـــــي أقوى ّ‬
‫وإن كتــابي‬ ‫ّ‬
‫السؤال الرابع ‪:‬‬
‫ص ٌر وذكــا ُء‬
‫لك في األمور تبـَــ ّ‬
‫َ‬ ‫قالـــوا بأنّ َك مثلما الشـــــــعرا ُء‬
‫تتكشـــف األشــــيا ُء‬
‫ُ‬ ‫ببــــريـــق ِه‬ ‫بعض نُبــوة ٍ‬
‫ُ‬ ‫والشـــعر‬
‫ُ‬ ‫وتنبـــ ٌؤ‬
‫وأل ْذنِـــــ ِه فيـــما نـأى إصــــغا ُء‬ ‫ياشــاعرا ً يرنـو بعيني مرســـ ٍل‬
‫ْ‬
‫ماحاقت بـــــها األرزا ُء‬ ‫من قبل‬ ‫الصوت تُنـــذر أ ّمـةً‬
‫َ‬ ‫رفعت‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫هال‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫حتــــى كــــفرت بـــقيثاري وألحاني‬ ‫أجل وســـــبعينَ إنذارا ً فما سمـعوا‬
‫ــــــان‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫بــــــهطا ٍل وهت ّ‬ ‫جــــاء الغزاة ُ‬ ‫أنذرتـهم قب َل إســــرائيل قلتُ لــهم‬
‫ســــيان (‪)1‬‬
‫ِ‬ ‫فقـــــدان يــــافـا وهذا النهر‬ ‫ّ‬
‫األردن قلتُ لهم‬ ‫يــــذهب‬
‫َ‬ ‫وقبل أن‬
‫ّإال الــــكرام أحبـــــائي وإخوانـــــي‬ ‫ناديت عشرين عاما ً ليس يسمعني‬
‫ودونَ بيـــدائهم ســــجني وســ ّجاني‬ ‫الجماهيـــر فالبــيدا ُء دونــــه ُم‬
‫ُ‬ ‫أ ّما‬
‫البعث مصبـــاحا ً لديوانــي (‪)2‬‬
‫ُ‬ ‫يــــغادر‬ ‫باألمس أطفأ ديواني "جــما ُل "ولم‬
‫ِ‬
‫حان "فلحوط" أو حانوت "قبّاني"(‪)3‬‬
‫في ِ‬ ‫قد حيل بيني وبين الشـعب زج به‬
‫فان‬ ‫ّ‬
‫ســـطروا ِ‬ ‫لـــه الخلــو ُد وما قــد‬ ‫العصور غدا ً‬
‫ُ‬ ‫مهالً ســتقرأ ُ ديواني‬
‫السؤال الخامس ‪:‬‬
‫ْ‬
‫وأرســل‬ ‫ماعسى يُخبرنا من قا َل أشعارا ً‬
‫أردن يوما ً ال يُـــ َح ّو ْل‬
‫ّ‬ ‫إن نـــهرا ً لك َيــا‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫الحزين‬ ‫والنهر‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫األردن‬ ‫ماعسـى قال لك‬
‫‪383‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬
‫ْ‬
‫الغابرين‬ ‫النهر غدا في لحظ ٍة في‬
‫ُ‬ ‫حينما‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ـــدات‬‫قال لي األرد ُُّن واألموا ُج تـُــرغي ُمزبـ ِ‬
‫ْ‬
‫والفرات‬ ‫األردن فاعطـــي النيـــ َل عهدا ً‬
‫ُّ‬ ‫ذهب‬
‫طــــالما ناديــتُ في المحنــــ ِة وا معتـــصما ْه‬
‫ودعا الكونـــــغو فما أســـــمعهم ّإال نـِــــــدا ْه‬
‫ب غدا موطيء أقدام اليــــهو ْد‬
‫شـــــرف العُر ِ‬
‫ُ‬
‫وبكاء العرب للكونغو " ولومومبا "الشــــهي ْد (‪)4‬‬
‫يضرب العدوان حو ِل المسج ِد األقصى خياما‬
‫للعـــالم يبنــــون الســـــال مـا‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫عر َ‬
‫وبنـــــو َي ُ‬
‫ع ْد واقرأ على الدنيـا رثــائي‬
‫الشــــــاعر ُ‬
‫ُ‬ ‫أيها‬
‫الشــعراء‬
‫ِ‬ ‫ليـــس لي والعُرب قومي غير دمعِ‬
‫ِ‬
‫السؤال السادس ‪:‬‬
‫ْ‬
‫السـالفين‬ ‫كخير‬
‫ِ‬ ‫كانت‬ ‫ماذا تــــــقو ُل ألمــــ ٍة‬
‫للناس أرســـلها اإللـــــــــــهُ هدايــــــةً للعالمين‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫خـــسران ُمبيــــن‬ ‫واليوم ُخ ٌ‬
‫لف واختتصــــا ٌم ثم‬ ‫َ‬
‫باتت تــلو ُم الحاكميـن‬ ‫ماذا تـــــقول ألمــــ ٍة‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫ب ولومي شعبا ً مضاما ً ُمهانـا‬
‫الحكام يانكبةَ العُـــــر ِ‬
‫َ‬ ‫ال تلومي‬
‫الجــــــــور ويـــــأبى لربــّـه إذعانـا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يحرن البغ ُل حين يُرهقهُ‬
‫ُ‬
‫الطريق ِحرانا‬ ‫ــلك فال يشــه ُد‬
‫ويــــقود الحكا ُم قومــي إلى ال ُه ِ‬
‫الشــاء يوالي رعاتُهُ الذؤبانــا‬
‫ِ‬ ‫لهف نفسي قومي قطيـــــ ٌع من‬
‫َ‬
‫ألمور كما تهـــوى الرزايا وما يشاء ِعدانـا‬
‫ُ‬ ‫في ِحمانا تجري ا‬
‫لم يغادر إعصاركم بُنيــانـــــا‬ ‫أيُّها الحاقددونَ دمرتــــمونا‬
‫كر اليــــهو ِد كيف أتانـــا‬
‫يا ل َم ِ‬ ‫أيُّها الحاقـــدونَ انتــم يهو ٌد‬

‫‪384‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الدمشــــقا ً نرى وال َبـغدانــــا‬ ‫التذيـــعوا هنا دمشــق فإنّـا‬


‫ْ‬
‫فأضـحت أطوادُها كثبــانـــــا‬ ‫صر والشآ ُم وبغدا ُد‬ ‫خت ِم ُ‬‫ُم ِس ْ‬
‫أيُّها الحاقدــدونَ يالعنــةَ التاريــــــــخِ يا داءنـــا ويا بلوانــــا‬
‫تـــكرهون األنــجي ِل والقرآنــا‬ ‫ديــن لكم فإنّا نـــــراكم‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫أ ّ‬
‫( واستطرد فيصل بليبل في وصف الحكام العرب )‬
‫أن لنـــــا خصما ً شــــــدي َد الغدر لـُـــــدّا‬
‫ذكـــــروا ّ‬
‫الخصــــم األَلدّا‬
‫َ‬ ‫صـَــــ َدقوا لكنّـــــهم لم يـَــــذكروا‬
‫ْ‬
‫الهــــــــوان‬ ‫إنّما األعــــــــدا ُء حكـــــا ٌم أذاقونــــــا‬
‫ْ‬
‫الزمـــان‬ ‫صــرف‬
‫ُ‬ ‫هم أواســــي ذِلّــــ ِة العُر ِ‬
‫ب وهم‬
‫يســــار‬
‫ْ‬ ‫حاكـــــم أو عن‬
‫ٍ‬ ‫ـــــمين‬
‫ٍ‬ ‫ال تســـــلني عن ي‬
‫الديــــــــار‬
‫ْ‬ ‫أرخص الشــعب َولم يُـــــغ ِل‬
‫َ‬ ‫كلهم قــد‬
‫األنبــــــأء شـــــيّا‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫تتــــــرك من‬ ‫أيّها التــــاري ُخ ال‬
‫لف إســــرائيل والحـــــكام لن يبقى خفيـَّــــــــــا‬
‫ِح ُ‬
‫السؤال السابع ‪:‬‬
‫نحن مســــتكتبون ال كتّــــاب ُ(‪)5‬‬ ‫راب‬
‫الظماء الس ُ‬
‫ِ‬ ‫(ليس يُغني عن‬
‫والشراب)‬
‫ُ‬ ‫العطر فاســقا ً‬
‫ُ‬ ‫أجرنا‬ ‫نحن مســـتكتبون يُـــملَى علينــا‬
‫ُ‬
‫ــذاب‬
‫ُ‬ ‫اللفظ ليـس فيه كـ ِ‬
‫ِ‬ ‫صادق‬ ‫أقســــم الله بـاليـــــراعِ وخــــطٍ‬
‫راب‬
‫هي ِح ُ‬
‫األقالم و َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫واســـترق‬ ‫ماعســــى كتابنــــا قـــد دهـاهم‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫أقســـــم اللهُ ويخبـــو شــعا ُ‬
‫عها في دُجـَانـــــا‬ ‫َ‬ ‫ألقــالمنــــا بــــها‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫ب‪ ،‬ويَـــجني كتّابنا الريحانا‬
‫والنـــاس في الكر ِ‬
‫ُ‬ ‫الديـــــار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تســتبا ُح‬
‫ثم يبـــغون بينـــهم تـــرجمانا‬ ‫الحديث شــعرا ً حديثا ُ‬
‫َ‬ ‫يرسلونَ‬
‫ليتــــهم تـــــرجموا غـــداة َ حزيــــــرانَ كتـــــابا ً مضرجا ً بـــدمانا‬
‫رهيب ويــخشـــــــون أن يـــــذكروا العنــــــوانـــا‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫إن عنـوانَـــــهُ‬
‫تـعرف الرحمنَ‬
‫ُ‬ ‫من ســـياط ٍال‬ ‫الرقيب و َيخشـــى‬
‫َ‬ ‫كلنـــا يتـقي‬

‫‪385‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ب " بيانا‬
‫نحن نبغي من " الرقي ِ‬ ‫ولو انّا مثل الرجــا ِل لكنّــــــا‬
‫ب جبانا‬
‫ِالعيـــــش ويا سـوأةِ األدي ِ‬
‫ِ‬ ‫النــــفوس في طلب‬
‫ِ‬ ‫لضـــعف‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫السؤال الثامن ‪:‬‬
‫أعطيت قلبَك جانبـــا‬
‫َ‬ ‫ضــــر لو‬
‫َّ‬ ‫ما‬ ‫يا شــاعرا ً جعل الســياسةَ مذهبا‬
‫طربـَـا‬
‫البواتر ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ويكون من صو ِ‬ ‫يبصر في البال ِد حبيبـةً‬
‫ُ‬ ‫فالبعض‬
‫صبــَـــا‬
‫وصـــالك قد َ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫إن الفؤا َد إلى‬ ‫للقدس قـال مغازالً‬
‫ِ‬ ‫شــاعر‬
‫ٍ‬ ‫كـــم‬
‫القدس الحبيبــــ ِة كاعبا‬
‫ِ‬ ‫ورأيت في‬ ‫ماذا تـــقول إذا فؤادك قـــد هفـا‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫آذنتنـــــا ببينـــــــها أســــــما ُء‬
‫أنا والقــــــدس أيـّــــها الشــعرا ُء‬
‫القدس بالبيـــــن وأخشـــى أن اليــــكون لقا ُء‬
‫ِ‬ ‫آذنتنــــــا عروبــــــــةُ‬
‫ك ّل أيـــــامنا جميـــــعا ً شــــتا ُء‬ ‫َحــــدثونا عن الربيـــــع فقلنـــــا‬
‫شعــر الطبيع ِة والحــبّ فقـــد عاث في الحمـــى األعدا ُء‬
‫َ‬ ‫ما عرفنــــا‬
‫السؤال التاسع ‪:‬‬
‫والقدس عائــــــدة ٌ ومثلك يُنـــــكر‬
‫ُ‬ ‫الشاعر‬
‫ُ‬ ‫ليأســــك أيَّهذا‬
‫َ‬ ‫عجبـــــا ً‬
‫فســـل الجرائ َد واإلذاعـــةُ تـ ُ ُ‬
‫خبر‬ ‫بالســـلم عائـــدة ٌ ورغم عداتنــا‬
‫ِ‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫ُ‬
‫تصدق ساعه‬ ‫ليس‬
‫تنطق الشهر َ‬ ‫والقدس ما سـمعنا اإلذاعه‬
‫ُ‬ ‫أنا‬
‫للشـــياطين ريشــةٌ ويـَـــــراعه‬ ‫ما قرأنـــا جرائدا ً ســــطرتها‬
‫أخبــارنا حديث اإلشــــاعه‬
‫ِ‬ ‫ك ّل‬ ‫ما قرأنـــا وال سمعـــنا ولكن‬
‫السؤال العاشر ‪:‬‬
‫ــــقطع‬
‫ْ‬ ‫وســــواك بعود ِتــها َي‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ذهبت‬ ‫الـقدس تقــــــو ُل لــقد‬
‫تلمع (‪)6‬‬
‫ْ‬ ‫لســــــيوفٍ ُمشــــ َهرةٍ‬ ‫وأرى فيــــــروزَ مهــلـلــــةً‬
‫أجـــراس العـودة فلتــــقر ْ‬
‫ع)‬ ‫( اآلن اآلن ولـيــس غـــــدا ً‬
‫للمطلـع‬
‫ْ‬ ‫صــفّقَ‬
‫ولمن قـــــد َ‬ ‫لفيـــــــروز‬
‫ٍ‬ ‫قلـــت‬
‫َ‬ ‫ماذا قــد‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬

‫‪386‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تسـمع (‪)7‬‬
‫ْ‬ ‫وقلـــوب الناـــس لها‬ ‫فيـــــروز مغـــــردة ً‬
‫ُ‬ ‫قـــالت‬
‫أجراس الـــعود ِة فلتــــــقر ْ‬
‫ع‬ ‫ُ‬ ‫وليــــس غـــــــدا ً‬
‫َ‬ ‫اآلن اآلن‬
‫مــــدفع‬
‫ْ‬ ‫الـــعودة ُ يــــــلزمها‬ ‫من أيــــنَ العودة ُ يـــــاهـذي‬
‫إصبتع‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يــكون لها‬ ‫والكــف‬
‫ُ‬ ‫كـــــف‬
‫ٌ‬ ‫والمدفــــ ُع تلــــزمه‬
‫يشـبع (‪)8‬‬
‫ْ‬ ‫قد شــــبع الجوعُ ولم‬ ‫واإلصــب ُع منـــــهمكٌ يــلهو‬
‫أجــراس العودة لن تـــقرع ْ‬
‫ُ‬ ‫فيــــروز ومعــذرة ً‬
‫ُ‬ ‫ال يــــا‬
‫عسع‬
‫س ْ‬ ‫َـــرم الشيخِ إلى َ‬
‫من ش ِ‬ ‫ُ‬
‫الخــــازوق بأســـــفلنـا‬ ‫د َُّق‬
‫( المحاور يحاول تغيير مجرى الحديث )‬
‫السؤال الحادي عشر ‪:‬‬
‫تجيب‬
‫ُ‬ ‫غيـــــر الســياســ ِة ال‬
‫ِ‬ ‫وفي‬ ‫تجيب عن السيــاس ِة ك َّل حيـن ٍ‬
‫ُ‬
‫خصـيب‬
‫ُ‬ ‫ــعر َك واض ُح المعنى‬
‫و ِش ُ‬ ‫لشــــعر‬
‫ٍ‬ ‫أال في الحــبّ ُمتســ ٌع‬
‫الحــبيب‬
‫ُ‬ ‫وآخــــر قـــــال تيّمنـــي‬
‫ُ‬ ‫لألوطان حبـّـــي‬
‫ِ‬ ‫فكم من قــا ِل‬
‫أديـــــــب‬
‫ُ‬ ‫ق كم غنّـــى‬
‫ولألخـــال ِ‬ ‫الــــكرام وللمبـــادي‬
‫ِ‬ ‫ولألهــ ِل‬
‫نــــصيب‬
‫ُ‬ ‫وهل للحــبّ ِ عنـــدكمو‬ ‫إن تغنّى‬
‫فمن هو حبُّ فيصــ َل ْ‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫وأُحـــبّ صومعتـــي وكأســـــي‬ ‫أ ّما أنـــــــا فأُحــــبُّ نفســــــي‬
‫وأحــــــبُّ أنــــــظر حين أصبــــــــــــــــح للجما ِل وحـــينَ أمســــي‬
‫ســــــقينَ ِحرمانــــــي وبـــؤســــــي‬
‫ت َ‬
‫تــــــلك المحســـنا ِ‬
‫َ‬ ‫وأحـــــبُّ‬
‫وللرجــــــــا ِل أحــــبّ " مكســـي "‬ ‫للنســــــاء‬
‫ِ‬ ‫وأحــــبّ " مينـي "‬
‫قيـــــــــس‬
‫ِ‬ ‫أكـــــاد أغـــــدو مــثل‬ ‫ت‬
‫وأحــــبّ حســــــنا َء اللغـــا ِ‬
‫بـــــدبــــــــس‬
‫ِ‬ ‫كـــي أقايـــــــضه‬ ‫شــعير‬
‫ٌ‬ ‫وأحــــبّ لو شــــعري‬
‫وأحـــــبّ أن يُـــــلقى علــــى " عبد الســــــالم " ببــــعض تَعســـــي (‪)9‬‬
‫إنـــــــــس‬
‫ِ‬ ‫ـــــن زاده أم صــنــــــع‬
‫أعــــــرف صنـــــــع ِج ٍ‬
‫ُ‬ ‫وأُحــــبّ‬
‫الضيــــــم في العه ِد الفرنســــي‬
‫َ‬ ‫وأحـــــبّ شــــــعبا ً كـــــان يــــــأ َبى‬
‫ُّ‬
‫تحـــــــن نفســـــــــي‬ ‫وأحــــبُّ عهــــــد البـــــــــرلمــان وللجــــــالء‬
‫‪387‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫همـــــــس‬
‫ِ‬ ‫وأحــــبّ نـــــــق َد الحـــاكميـــــنَ صـــــــراحةً مـــن ِ‬
‫دون‬
‫وأحــــبّ لـــــو قلمــــي تُــــــــفك قيـــــــــودهُ ويـــــــطو ُل حبســـــي‬
‫شمـــــس‬
‫ِ‬ ‫وأحــــبّ ذمـّــــا ً من عبيــــــــ ِد الحـــــــز ِ‬
‫ب ال مـــن عبــــ ِد‬
‫جبـــس‬
‫ِ‬ ‫وأحــــبّ شـــــــرعا ً ال كشرعِ اإلشــــــتراكييـــن يُــــعلي ك ّل‬
‫ب الحــــكـوم ِة رجــــ َل كرســــي‬
‫وأحـــبّ أغـــــدو مـــث َل أقطـــــــــا ِ‬
‫ليشــــــرب الفــــال ُح ببــــــــسي‬
‫َ‬ ‫جــــف الفـــــــراتُ‬
‫ّ‬ ‫وأحــــبّ لـــــو‬
‫وعبـــــــس‬
‫ِ‬ ‫ذبيــــــان‬
‫ٍ‬ ‫حــــــــرب‬
‫ُ‬ ‫وأُحــــبّ لـــــو عـــــادت إلينـــــــا‬
‫َــــس‬
‫ق على األخ ِ ّ‬
‫ـــيــس من الرفــــــا ِ‬
‫ُ‬ ‫وأحــــبّ لـــــو بــــــــا َل الخَسـ‬
‫الحســـــين قطـــعتُه وأرحــــــتُ نفـســــــي‬
‫ِ‬ ‫وأحـــبّ لــــــو عــِـــرق‬
‫وأحـــبّ يـــــوما ً غيــــــــر أيـّــــــامـي وأمســــا ً غيـــــــر أمســــــي‬
‫رؤوس عصــــــــاب ٍة ويــــــطير رأســــــــي‬
‫ُ‬ ‫وأحـــبّ لــو طـــــارت‬
‫وأحـــبّ طـــــوفــانـــا يُـــــــــطهر أرضنـــــــا من كـــــل رجـــــس ِ‬
‫وأحـــبُّ ‪..‬‬
‫( المحاور مقاطعا ً الشاعر خشية اســتطراده )‬

‫السؤال الثاني عشر ‪:‬‬


‫وحـــق للحبّ يــوما ً إن تــجافاكـا‬
‫ّ‬ ‫دعنــا من الحُــبّ يابــركانَ عاطف ٍة‬
‫ذاك‬ ‫َّ‬
‫الشـك ـ في َ‬ ‫مأمن ـ‬
‫ٍ‬ ‫فأنت في‬
‫َ‬ ‫وإن خـــشيتُ على نفســــي قذائـفهُ‬
‫ــهناك‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫الحق يـ َ‬ ‫قوم َك ديـن‬ ‫ُ‬
‫وديــن ِ‬ ‫األديــــان تُخبرني‬
‫ِ‬ ‫عســاك عن‬
‫َ‬ ‫فما‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫ولســتُ أخالـهُ دينــــا ً جديــــدا‬ ‫يـغاير ديــــنَ قومي‬
‫ُ‬ ‫أرى ديني‬
‫ولن يلقى سـوى المج ِد الخلودا‬ ‫ديـن‬ ‫ّ‬
‫فـإن المجـــ َّد كان وليـــس ٌ‬
‫فال يبغـي ركـوعا ً أو ســــجودا‬ ‫ٌّ‬
‫وعــز‬ ‫وربّــــي قــــربُهُ شـــم ٌم‬
‫إذا عــــادوا لبــــاريـهم عبيـــدا‬ ‫حرا ً‬
‫الحشــر ّ‬
‫ِ‬ ‫أعــو ُد إليــ ِه َ‬
‫يوم‬
‫يــحبّ المر َء جبّـــارا ً عنيـــــدا‬ ‫جبـــار عنيـــ ٌد‬
‫ٌ‬ ‫وربـّـــي وهــو‬

‫‪388‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رأيــتُ الله مغتبــــطا ً ســـــعيدا‬ ‫يــوم ُجـلّى‬


‫َ‬ ‫إذا صــعّرتُ خـد َ‬
‫ّي‬
‫فتى نجيـــدا‬
‫ســوى أن ال أكونَ ً‬ ‫عظيـــم‬
‫ٍ‬ ‫ب‬
‫وليــس لديــ ِه من ذن ٍ‬
‫ســـوى أن ال أســو َد وال أذودا‬ ‫ٍعظيــم‬
‫ٍ‬ ‫وليــس لديــ ِه من ذنب‬
‫الطير اليهودا‬
‫ُ‬ ‫لــراحت تخطف‬ ‫الثـوار دينــــي‬
‫ُ‬ ‫أَال لـــو يــدخل‬
‫وباتت " تل أبيب " لهم وقــودا‬ ‫ّ‬
‫تــلظى‬ ‫نار َ‬
‫غضْبتِهم‬ ‫وأضـحت ُ‬
‫أال لو ‪...‬‬
‫( المحاور مرة ثانية يحاول تغيير مجرى الحديث )‬
‫السؤال الثالث عشر ‪:‬‬
‫ِّ‬
‫للـــــفن‬ ‫ِّ‬
‫الفــــن‬ ‫بـــمعنى‬ ‫ليت تُــــــخبرنـي‬
‫أال يــا َ‬
‫نفــس ُمض َ‬
‫ط ِغ ِن‬ ‫َ‬ ‫ســـتلقى‬ ‫بعــــيدا ً عــن أحــــادي ٍ‬
‫ث‬
‫علــى نفســـي أال إنّـــي‬ ‫ٌ‬
‫شـــفق حـــــذ ٌِر‬ ‫فإنّــــي ُم‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫فريــــةٌ تلحق الفنونَ هوانا‬ ‫للفـن إال‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الفـن‬ ‫ال وربـّـي ما‬
‫وقل للخَبـــا ِل حينك حــانا‬ ‫ب‬ ‫إنما ُ‬
‫الفن للقضـــيّ ِة للشـع ِ‬
‫ّ‬
‫هـــال واجهتــم الميــدانا‬ ‫والمصـــير فيا كتاب‬
‫ُ‬ ‫الحــــرب‬
‫ُ‬ ‫إنها‬
‫ع بكانا‬
‫كم بكينــا على الربـــوعِ وأجهشــنا فماذا أج َدى الربو َ‬
‫كتـــاب حزيرانَ تفيدوا تشـــرين أو نيـسانا‬
‫َ‬ ‫ترجموا ويـــحكم‬
‫أنتـــم الرشــــ ُد حينما يمتطي الحكام جهالً ويـطلقون العــنانا‬
‫الشعب قطيعا ً ال يسـأل الرعيانا‬
‫ُ‬ ‫الشعب وحدكم إن مضى‬
‫ُ‬ ‫أنتم‬
‫أنتم المبصـــرون في ظلمـــة الجلى وآ ٍه مـــا أكثر العميــــانا‬
‫( المحاور ينهي الحديث وقد يأس من إخراج الشاعر من إجاباته السياسية )‬
‫ـعر ِك ما أقَلّه‬
‫وأمام شـ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ـجلّه‬
‫ف به الت َّ ِ‬
‫شــكر ت َ ُح ُّ‬
‫ٌ‬
‫للقارئيـــنَ ولل َمجـَـــلّه‬ ‫أتضيف شــيئا ً ســيّدي‬
‫ُ‬
‫فيصل بليبل ‪:‬‬
‫والغيـــــ ُم قد َك َ‬
‫ـفر الفراقـــــ ْد‬ ‫الليــــــ ُل تغشــــاهُ الشــــدائــ ْد‬

‫‪389‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ومعلـ ُم اإلصـــــالحِ فاســـــ ْد‬ ‫خانـــت رســــالتُـــــها العقائ ْد‬


‫ْ‬
‫أوانـــــك يا قصــــائ ْد‬
‫ِ‬ ‫هــــذا‬ ‫والشـعب يمشــي وهو راقـــ ْد‬
‫ُ‬
‫لو كان في وطنـي جرائـ ْد‬
‫والغيـــ ُم حلّق في الســــما ْء‬ ‫الرئيس سرى الهوا ْء‬
‫ِ‬ ‫باسـم‬
‫ت على الحيــــا ْء‬
‫الســــالحا ِ‬ ‫ألقالم الريـــــــا ْء‬
‫ِ‬ ‫سـُـــحقا ً‬
‫هذا أوانـــــك يا قصائــــــ ْد‬ ‫هل تــلك أقالم العقائــــــ ْد‬
‫لو كان في وطني جرائـ ْد‬
‫أضـحت تبـــاح وال نُبــالي‬ ‫أوطاننـــا وهي الغوالـــي‬
‫هام الـرجا ِل‬
‫بالـــــوا على ِ‬ ‫في دولـــــ ٍة للكــرنـــــفا ِل‬
‫هذا أوانـــــك ياقصائـــــ ْد‬ ‫أكبادنـــــا قبــــل الجالمـ ْد‬
‫لو كان في وطني جرائـ ْد‬
‫ْ‬
‫يســـــطرون‬ ‫التقـــرؤا ما‬ ‫اليــوم (نون)‬
‫َ‬ ‫قو ُل اإللـــ ِه‬
‫ْ‬
‫مســــــتكتبـــــون‬ ‫لكنّـــهم‬ ‫ليــسـوا كـِــــراما ً كاتبيــن‬
‫هــذأ أوانـــك يا قصائــــ ْد‬ ‫المساجد‬
‫ْ‬ ‫إبليس يخطب في‬
‫لو كان ‪.....‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وما يزال الشاعر فيصل بليبل منشدا وسيبقى ‪!..‬‬

‫هوامش‬

‫فيصل بليبل‪ -1984 -1919 :‬له ديوانان مطبوعان (قصائد مزقها عبد الناصر)‬
‫و(وافيصاله)‬
‫والعديد من المخطوطات التي لم تحظ بموافقة النشر منها الدروب الى حزيران‪ ،‬أهل‬
‫حزيران‪ ،‬أصنام في السماء ‪ ..‬ومن أقواله في لقاء صحافي معه بعد هزيمة حزيران‬
‫ُمعرفا ً بنفسه‪:‬‬
‫‪391‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ُّ‬
‫ومت على ضفاف بردى ‪ ،1967‬ولم أدفن بعد"‪.‬‬ ‫"ولدت على ضفاف الفرات ‪،1919‬‬
‫قال عنه الدكتور أحمد بسام ساعي‪ :‬يُعد فيصل بليبل من أبرز رواد النظرة المستقبلية‬
‫في الشعر السياسي الحديث‪.‬‬
‫‪ -1‬األردن ‪ /‬نهر األردن ‪ :‬المقصود تحويل مياه نهر األردن للنقب‪ ،‬عبر ما أســـمته‬
‫إســـرائيل ‪ /‬مشروع الناقل الوطني للمياه‪ /‬الذي أسـست له خطة السنوات الــسبع‬
‫(‪ )1961 -1953‬وقــد استطاعت بعد هزيمة حزيران ‪ 1967‬أن تستولي بالكامل‬
‫على المنابع الشمالية لنهر األردن‪.‬‬
‫‪ -2‬جمال‪ :‬الرئيس الراحل جمال عبد الناصر‪ ،‬وموقف الشـــاعر فيصل بليبل منه في‬
‫ديـــوانه (قصائد مزقها عبد الناصر) الذي ُمنع من التدوال وتم جمعه من المكتبات‪.‬‬
‫‪ -3‬فلحوط‪ :‬الدكتور صابر فلحوط‪ ،‬كاتب وشاعر بعثي‪ ،‬أذاع بالغات انــقالب الثامن‬
‫مـن آذار ‪ 1963‬من إذاعة حلب‪ ،‬حيث كان يخدم في كلية الضباط‪ ،‬تولى العديد من‬
‫المناصب الحزبيــة والرقـابيـة‪ ،‬مديــــــر الدعاية واألنبـــــاء‪ ،‬مديـــر عام دار البعث‪،‬‬
‫رئيـــس تـــحرير جريــدة البعث‪ ،‬الرئيــس الفخري التحاد الصحافيين السوريين ‪.....‬‬
‫الخ‪.‬‬
‫‪ -4‬لومومبا‪ :‬باتريس لومومبا‪ ،‬مناضل كنغولي‪ ،‬ذو ميول اشتراكية‪ ،‬أول رئيس وزراء‬
‫منتــخب في تاريخ الكونغو أثناء االحتالل البلجيكي لبالده‪ ،‬قتله البلجيكيون سنة ‪1961‬‬
‫بعد ســـنة واحدة من توليه الحكم بموافقة أمريكية‪ .‬لقي اهتمام وتعاطف عربي‪،‬‬
‫والسيما من مصر وعبد الناصر الذي أولى عائلة لومومبا اهتمام خاص‪.‬‬
‫‪ -5‬ليس يغني عن الظماء الســـراب‪ :‬هذا البيت والذي يليــه من قصــيدة للشـاعر‬
‫فيصــل بليبل بعنوان (إلى رئيس اتحاد الكتاب العرب)‪.‬‬
‫"سـيف فليُشــهر" أو "اآلن اآلن‬
‫ٌ‬ ‫‪ -6‬لسيوفٍ مشهرةٍ تلمع‪ :‬إشارة إلى أغنية فيروز‬
‫وليس غدا ً"‪.‬‬
‫‪ -7‬قالت فيروز مغردة ً‪ :‬القصــيدة التي كتبـها فيصل بليبل ردا ً على أغنية فيروز‪،‬‬
‫(اآلن اآلن وليــس غدا ً ‪ /‬أجراس العودة فلتـقرع) ونُسـبت خطأ ً إلى نــزار قباني‪ ،‬وهي‬
‫واحدة من قصـائد فيصل بليبل في مخطوط ديوانه (الدروب إلى حزيران) الذي ُمنع‬
‫من النشر‪.‬‬
‫‪ -8‬قد شبع الجوع ولم يشبع‪ :‬وفي رواية أخرى‪ :‬في طيــ ‪ ...‬الشعب له مرتع ‪.‬‬
‫‪ -9‬عبد السالم‪ :‬مداعبة من الشاعر فيصل بليبل لألديب الكبير د‪ .‬عبد السالم‬
‫العجيلي‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قراءة في رواية قيامة اليتامى*‬

‫أحمد العربي‬

‫كاتب وناقد سوري‬

‫قيامة اليتامى رواية أحمد خميس تعتمد أسلوب السرد على لسان الراوي‪ ،‬وفي كثير من‬
‫األحيان ينتقل السرد الى لغة المتكلم‪ ،‬على لسان أحد شخصيات الرواية المحورية‪.‬‬

‫تبدأ الرواية من يعرب الشاب السوري ابن مدينة الرقة‪ ،‬الذي يعيش في باريس‪ ،‬حيث‬
‫تسرد واقع حياته اليومية هناك‪ .‬ومن خالل تتبع السرد‪ ،‬تسترجع الرواية ماضيه‪،‬‬
‫وماضي حياة الشبكة المحيطة به من أصدقائه الذين تعرف إليهم وتعايش معهم هناك‪،‬‬
‫اصدقاؤه بشارة الفلسطيني‪ ،‬وسلينا العراقية‪ ،‬وبرناديت الفرنسية‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬

‫يعيش يعرب حياته في فرنسا بعد طلبه اللجوء إليها‪ ،‬وحصوله عليه بصفته أحد ناشطي‬
‫الثورة السورية التي انطلقت في ربيع ‪٠٢٢٢‬م‪ ،‬كان من قادة الناشطين في المرحلة‬
‫السلمية في مدينته الرقة‪ ،‬ومع تسليح الثورة‪ ،‬صار له دور مع ناشطي الثورة من الجيش‬
‫الحر‪ ،‬وعندما انقلب العالم كله على الثورة السورية‪ ،‬وبدأ ظهور اإلسالميين المتشددين‪،‬‬
‫مثل داعش‪ ،‬أصبحت حياته في خطر من النظام المجرم ومن داعش‪ ،‬فما كان أمامه‬
‫سوى الخروج من سوريا‪ ،‬حيث استقر في باريس‪.‬‬

‫تسير حياته وفق روتين محدد في بيته‪ ،‬وفي المقهى‪ ،‬وفي لقائه بالناشطين الهاربين‬
‫من ديارهم من بطش المستعمر‪ ،‬أو االنظمة المستبدة‪ .‬أحد أهم أصدقائه بشارة‬
‫الفلسطيني ابن مدينة اريحا‪ ،‬الذي غادر فلسطين الى فرنسا حامال معه جرح فلسطين‬
‫النازف منذ عقود‪ ،‬فلسطين التي يحتل الكيان الصهيوني جزءاً منها‪ ،‬والتي يعيش‬
‫بعضها الباقي قضماً صهيونيا مع بطش واعتقال وقتل شبه يومي‪ .‬ماهر في العزف‬
‫على الكمان‪ ،‬يقود فرقة موسيقية‪ ،‬وأصبح له حضوره وأعماله المتميزة‪ .‬العالقة بين‬

‫‪392‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يعرب وبشارة حميمية جدا‪ ،‬فيها تواصل وجداني‪ ،‬ومشاعر االنتماء الى قضية رسالية‪:‬‬
‫ثورة الشعب السوري وقضية فلسطين‪.‬‬

‫أعاد يعرب رسم ماترسب في نفسه من معاناة عاشها في الثورة‪ ،‬وخاصة استشهاد‬
‫اصدقائه في المظاهرات في مواجهة النظام‪ ،‬عبر عن ذلك في لوحات كثيرة رسمها‪،‬‬
‫عبر فيها عن ذاته وعما عاشه‪ .‬كما تعرف يعرب‪ ،‬إلى سلينا الفتاة العراقية‪ ،‬التي تركت‬
‫بلدها مع زوجها الذي يكبرها بسنوات كثيرة‪ ،‬تزوجته في ظل ظروف عائلية سيئة‪ :‬والد‬
‫متوفى‪ ،‬وأم ضعيفة‪ ،‬مغلوب على أمرها‪ .‬انتقلت للعيش معه في فرنسا‪ .‬وهناك‪ ،‬وبعد‬
‫سنوات توفي الزوج‪ ،‬وأصبحت سيلينا حرة في تصرفاتها ورثت بعض المال عن زوجها‬
‫الثري‪ .‬تمتلك صوتا جميال‪ ،‬مكنها من المشاركة بالغناء مع فرقة بشارة الموسيقية‪،‬‬
‫وكان ذلك مدخالً لحصول عالقة حب حميمة بينهما‪.‬‬

‫عمل يعرب وبشارة وسيلينا بشكل مشترك‪ ،‬لخدمة قضاياهم‪ ،‬والتنوير على مآسي بلدانهم‬
‫الثالث سوريا وفلسطين والعراق‪ ،‬عبر أعمالهم الموسيقية والغنائية‪ ،‬والرسم أيضا‪ .‬كما‬
‫تعرف يعرب على برناديت الصحفية الفرنسية‪ ،‬والتي تبنته وحصلت بينهما عواطف‬
‫حب وود‪ .‬مما جعل برناديت قريبة من نشاط يعرب وبشارة وسيلينا‪ ،‬تساعدهم وتدعمهم‬
‫طوال الوقت…‬

‫لم تسر أمور هذه المجموعة في مناشطها بشكل سلس‪ ،‬لقد كانت األقدار هناك حاضرة‪،‬‬
‫حيث مرض بشارة بالسرطان‪ ،‬ولم يخبر أحداً ِم َمن حوله بذلك‪ ،‬وقاطع حبيبته سيلينا‬
‫بطريقة فظة‪ ،‬دفعتها لمحاولة انتحار فاشلة‪ ،‬وبعد ذلك عادت إلى العراق‪ ،‬خدمت أمها‬
‫التي تقيم في دار للمسنين‪ ،‬وخدمت من كان مع أمها‪ ،‬ثم أحضرت بعض أموالها‪،‬‬
‫وساعدت الدار وجعلتها أقرب انسانياً لتلبية حاجة هؤالء العجزة المقطوعين من األهل‬
‫والدعم المادي والنفسي‪ .‬وعادت الى فرنسا مجددا باحثة عن حبيبها بشارة الذي علمت‬
‫أنه مصاب بالسرطان وأنه يعاني سكرات الموت‪ ،‬لتصل إليه بعد فوات األوان‪ .‬وتقرر‬
‫استعادة االرتباط بذكراه‪ ،‬وإحياء حبه‪ ،‬والقيام بدورها اإلنساني في دار المسنين‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مرض بشارة وعزلته‪ ،‬ووفاته‪ ،‬أنهت عمل المجموعة المنسجمة‪ ،‬لكن يعرب اختار‬
‫المضي في الحياة الرتيبة المريرة صعوداً‪ .‬فقد توثقت عالقته مع برناديت‪ ،‬وعمل معها‪،‬‬
‫لعرض لوحاته التي تحكي قصة الثورة السورية‪ ،‬في ذكراها السنوية الرابعة‪ .‬وحقق بذلك‬
‫نجاحاً ملفتاً‪ .‬وأصبح يعرب من أهم الوجوه الفنية المعبرة عن الثورة السورية‪ ،‬بصفاء‬
‫وانتماء ومصداقية‪ ،‬وبات قبلة الصحافة واإلعالم في فرنسا وأوروبا عموما‪ .‬مما جعله‬
‫تحت انظار الخاليا االمنية التابعة للنظام السوري‪ ،‬والتي تعمل على تصفية الناشطين‬
‫الثوريين في الخارج بشكل علني‪ ،‬أو سري‪ ،‬المهم التخلص منهم…‬

‫لقد صنع النظام شبكة قتل واسعة في أوروبا‪ ،‬اعتمد في ذلك على البرمجة الذهنية‪،‬‬
‫وغسل الدماغ ودفع العميل لإلدمان على المخدرات‪ ،‬واعطائه المال وتوريطه مع شبكة‬
‫للعاهرات‪ ،‬وجعله مصابا بمرض االيدز‪ ،‬واألهم هو دعمه بالمال والمخدرات عند كل‬
‫عملية اغتيال أو قتل‪.‬‬

‫كان داود رأس شبكة تنفيذ المهام القذرة هذه في باريس‪ ،‬أُعطي األمر له من سيدة‬
‫ترتبط مباشرة مع المسؤول الدبلوماسي السوري األول في فرنسا‪ ،‬الذي تتلقى تعليماته‪،‬‬
‫وتعطيها لداود‪ ،‬الذي يقوم مع القتلة المأجورين‪ ،‬بعملية التصفية الجسدية‪ .‬كانت لديهم‬
‫قائمة بالناشطين المطلوبين بالعشرات‪ ،‬في فرنسا وأوروبا‪ .‬وهكذا كان يعرب على أرس‬
‫القائمة المستهدفة باالغتيال في باريس‪ ،‬خاصة أنه أصبح من أنشط الثائرين المعبرين‬
‫عن الثورة السورية والناجحين في ذلك‪ .‬خطط المسؤول الدبلوماسي‪ ،‬ونفذت السيدة‬
‫العميلة‪ ،‬عبر قتلة مأجورين اغتيال يعرب‪ ،‬وتم كشف العملية كلها عبر داوود نفسه‬
‫الذي صحا ضميره أخي ار‪ ،‬واعترف لألمن الفرنسي بكل شيء‪ ،‬قبل موته باإليدز الذي‬
‫كان مصابا به‪.‬‬

‫تابعت برناديت الصحفية الفرنسية حبيبة يعرب وصديقته والتي أصبحت وكيلة أعماله‬
‫ونشاطه‪ ،‬مالحقة قضية اغتيال يعرب والقبض على المسؤول الدبلوماسي وعلى السيدة‬

‫‪394‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العميلة وعلى القتلة‪ ،‬وحوسبوا كلهم‪ ،‬وتم إبعاد المسؤول الدبلوماسي السوري ُ‬
‫وسجن‬
‫الباقون…‬

‫في النهاية كانت برناديت قد دونت هذه األحداث كلها منذ تعرفها على يعرب وأصدرتها‬
‫على شكل رواية…‬

‫هنا تنتهي الرواية‪.‬‬

‫في التعقيب عليها أقول‪:‬‬

‫لقد نجحت الرواية على امتداد ‪ ٥٢٢‬صفحة‪ ،‬أن تخوض عميقا في تالفيف العالقات‬
‫االنسانية بشكل شبكي‪ ،‬يغوص عميقا في حالة كل شخصية على حدة‪ :‬يعرب السوري‪،‬‬
‫والثورة السورية‪ ،‬وبشارة الفلسطيني‪ ،‬والجرح الفلسطيني النازف‪ ،‬وسيلينا الع ارقية‪ ،‬وجرح‬
‫العراق الممتد الى عقود‪ ،‬عبر ترابط جميل لشخصيات الرواية األساسية‪ ،‬دون اقحام‪،‬‬
‫وبسالسة مقنعة…‬

‫كما نجحت الرواية بالربط بين الشخصي‪ ،‬والحميمي الوجداني‪ ،‬والغوص في استقرائه‪،‬‬
‫وبين االنتماء العام لكل شخصية‪ ،‬وأن تجعل ذات كل منها‪ ،‬حاضرة في الحب‪ ،‬وفي‬
‫العالقات المحيطة بها وفي انتماءاتها األصيلة العميقة‪ ،‬الملتزمة بقضايا بالدها‬
‫الدامية…‬

‫لقد لفتت الرواية إلى صمت العالم‪ ،‬عما حصل في سوريا على يد النظام‪ ،‬من قتل‬
‫وتشريد واعتقال للشعب السوري‪ ،‬وتدمير البالد‪ ،‬وأن الغرب محكوم بثالثية ال أرى‪ ،‬ال‬
‫أتكلم‪ ،‬وال أسمع‪ ،‬وعلى الرغم من توافر كل األدلة‪ ،‬على التورط الحكومي السوري في‬
‫اغتيال ناشط الجئ في فرنسا‪ .‬تم إبعاد المسؤول فقط ؟!!‪ .‬وأن ذلك ُيسحب على‬
‫صمت أوروبا والعالم‪ ،‬حيال التدخل العسكري واألمني الروسي – اإليراني‪ ،‬وكذلك‬
‫تغول داعش في سوريا‪ ،‬وتم تحويل أجندة العالم من دعم السوريين في مطالبهم العادلة‪،‬‬
‫في إسقاط االستبداد وبناء الدولة الديمقراطية العادلة‪ ،‬الى محاربة إرهاب داعش‪ ،‬وترك‬

‫‪395‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الشعب السوري لمصيره األسود‪ ،‬تحت سلطة النظام المجرم وحلفائه… وهذا يعني أن‬
‫"الغرب قائد العالم" راض عما حصل‪ ،‬وان لم يباركه علنا…‬

‫أحمد خميس كاتب سوري متميز‪ ،‬ينتمي إلى جيل الثورة السورية‪ ،‬وهو ما يقودني‬
‫للقول‪ ،‬بأن روايته هذه‪ ،‬نجحت في توثيق الحدث السوري‪ ،‬وبالتبعية عليه الفلسطيني‬
‫العراقي‪ ،‬وان الجرح واحد والعدو واحد‪ ،‬وأننا متوحدون في الهم والحل‪ ،‬وفي األمل‪ ،‬وأن‬
‫هذه الرواية وأمثالها من موجة اإلنتاج الروائي العربي‪ ،‬يجعلنا نقدم شهادتنا الذاتية –‬
‫ولن نغفر‪ ،‬وهذه شهادتنا للتاريخ…‬
‫ولن ننسى‪ْ ،‬‬
‫العامة‪ ،‬وأننا ْلم ْ‬

‫وأن ثورتنا ثورة حق وانتصار للكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية وأن مسؤوليتنا مستمرة‬
‫في ثورتنا حتى اسقاط االستبداد الظالم ومحاسبة القتلة المجرمين…‬

‫* قيامة اليتامى‪ ،‬أحمد خميس‪ ،‬فضاءات للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ -‬األردن‪ ،‬ط‪/ ٢‬‬
‫‪٠٢٠٢‬م‬

‫‪396‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الرقة وتميزها اإلبداعي‬

‫د‪.‬مصطفى عبدالقادر‬

‫كاتب ومسرحي‪ ،‬وأستاذ جامعي سوري يقيم في ألمانيا‬

‫يبدو أن اتساع رقعة المدن‪ ،‬وكبر حجمها ال عالقة له بعطائها‪ ،‬وتقدمها‪ ،‬وتصدرها‬
‫للمشهد الثقافي‪ .‬فكم من مدينة كبيرة بمساحتها الجغرافية‪ ،‬وبعدد سكانها الكثر‪ ،‬ومع‬
‫فقر في مناحي الحراك الثقافي األدبي والفني والفكري‪ ،‬على عكس مدينة‬
‫ذلك فإن لديها اً‬
‫الرقة الصغيرة مساحة ‪ -‬إذا ما قيست بكبريات المدن السورية‪ -‬والكبيرة بنتاجها ذائع‬
‫الصيت والصدى‪ ،‬في مختلف الحقول الثقافية واألدبية‪.‬‬

‫إن بداية احتكاكي بفعلها الثقافي المشهود له‪ ،‬كان في بداية ثمانينيات القرن المنصرم‬
‫حين ذهبنا إلى دمشق‪ ،‬للمشاركة بعرض مسرحي‪ ،‬ضمن عروض المهرجان المسرحي‬
‫العمالي‪ ،‬الذي اعتبر في حينه واجهة المهرجانات المسرحية القطرية وأقواها جودة‬
‫واهتماما‪ .‬آنذاك قدمت فرقة الرقة عرضا مسرحيا بعنوان (الجمجمة) إخراج الفنان نجم‬
‫عليان‪ ،‬وتمثيل ثلة من الشباب بطاقاتهم المتفجرة أذكر منهم (فواز الجدوع‪ ،‬موسى‬
‫الخضر‪ ،‬شكرية الخضر ‪ .)..‬هذا العرض‪ ،‬كان متمي از‪ ،‬حيث القى استحسان الجمهور‬
‫والنقاد‪ ،‬بأداء ممثليه‪ ،‬والرؤية الفنية اإلخراجية الموفقة‪ ،‬ثم كرت السبحة في صعود‬
‫متواتر‪ ..‬إلى أن استطاع بعض عناصر هذه الفرقة الوصول إلى الشاشة الصغيرة‪،‬‬
‫عبر مسلسالت درامية الفتة‪ ،‬القت تقبال ورواجا لدى المشاهدين‪.‬‬

‫ثم بزغ نجم فرقة الفنون الشعبية في الرقة بقيادة مدربها‪ ،‬واألب الروحي لها األستاذ‬
‫إسماعيل العجيلي‪ ،‬فازداد إعجابنا بذلك النهوض الفني المتسارع لتلك المدينة الوادعة‬
‫حيث كانت فرقة العجيلي هي الواجهة الفنية لسوريا تمثلها في المهرجات الدولية‪ ،‬كيف‬
‫ال‪ ،‬وهي التي بزت فرقة أمية للفنون الشعبية المعتمدة رسميا من قبل الدولة‪ .‬وراحت‬

‫‪397‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فرقة "العجيلي" تجوب العالم بفتيانها وفتياتها‪ ،‬وهي تحمل قد ار عالياً من االجتهاد‬
‫واالنضباط والمسؤولية‪ ،‬إذ أخذت على عاتقها تقديم الفولكلور الفراتي‪ ،‬برؤية عصرية‬
‫متطورة ‪.‬‬

‫لم نلبث إن تابعنا توهج المركز الثقافي العربي في الرقة‪ ،‬وما قدمه من أنشطة وفعاليات‬
‫ومهرجانات استقطبت أسماء المعة‪ ،‬لها وزنها على الساحة العربية الثقافية‪ .‬لقد قيض‬
‫لي تقديم عرض مسرحي على خشبة ثقافي الرقة وذلك بحضور رسمي‪ ،‬وجماهيري‬
‫واسع‪ ،‬كانت الصالة ممتلئة عن بكرة أبيها‪ ،‬والممرات ال مكان فيها لوافد جديد‪ ،‬مازاد‬
‫في تحريضنا على تقديم أفضل وأجود مالدينا‪..‬‬

‫تتالت األيام‪ ،‬ومرت السنون‪ ،‬وتكررت زياراتي لمدينة الرقة العتبارات شتى حيث تعرفت‬
‫إلى جملة من األدباء الذين أثبتوا وجودهم سواء في مجال الرواية أو القصة أو الشعر‪.‬‬
‫إذ قدموا نتاجا متمي از له بصمته وخصوصيته‪ ،‬كما أتيح لي بحكم تعاطي مهنة األدب‪،‬‬
‫أن أتشرف بإقامة أكثر من أمسية أدبية في مدينة الرقة‪ ،‬وسط حضور نوعي‪ ،‬ناقشني‬
‫بأدق التفاصيل‪ ،‬ما يدل على فهم‪ ،‬وتفهم‪ ،‬لما يتلى على مسامعهم‪ ،‬إضافة لذائقتهم‬
‫األدبية التي تجلت بالتفاعل والتصفيق‪ ،‬مع كل جملة المست شعورهم‪.‬‬

‫ومن األسماء التي تشرفت بمعرفتها وتوليد صداقات متينة معها‪ ،‬الروائي المتميز‪،‬‬
‫صاحب الكلمة الحرة األستاذ إبراهيم الخليل‪ ،‬وهو من وضع مكتبته العامرة تحت‬
‫تصرفي إبان النزوح إلى الرقة‪ ،‬وكذا األستاذ خليل جاسم الحميدي‪ ،‬حيث أهداني خمس‬
‫مجموعات قصصية له‪ ،‬وأيضا األديبة فوزية المرعي التي جمعتني بها أمسية مشتركة‪،‬‬
‫وكذلك الفنان التشكيلي والروائي الماتع األستاذ أيمن الناصر‪ ،‬الذي فتح لي قلبه‪ ،‬وبيته‬
‫لدرجة أننا كنا نتناقش بما نكتب قبل استكمال مخطوطاتنا األدبية‪.‬‬

‫ومن الشعراء الذين تشرفت بمعرفتهم األستاذ إبراهيم الجرادي الذي شغل عضوية‬
‫المكتب التنفيذي التحاد الكتاب العرب بدمشق الحقا‪ .‬ومن األسماء التي لم تغب عن‬
‫ذهني د‪ .‬حمدي الموصللي الذي حصد جائزة محمود تيمور للتأليف المسرحي بمصر‪،‬‬

‫‪398‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والروائي تركي رمضان‪ ،‬واألديب الصحفي محمد جاسم الحميدي‪ ،‬والروائي يوسف‬
‫دعيس‪ ،‬والشاعر األنيق بسام بليبل‪ ..‬والكثير من األسماء التي خانتني الذاكرة‬
‫باستحضارها‪.‬‬

‫أما أيقونة الرقة‪ ،‬وشيخ األدب فيها المرحوم عبدالسالم العجيلي الذي فاق أدبه طبه‪،‬‬
‫ووصل اسمه إلى أقاصي المعمورة‪ ،‬فالحديث عنه يحتاج لصفحات وصفحات‪ ،‬ومما‬
‫يحسب له أنه ألتصق بمدينته حتى آخر العمر‪ ،‬على الرغم من كل المغريات التي‬
‫عرضت عليه‪ ،‬فبقي قرب فراته‪ ،‬ينهل من نمير مائه‪ ،‬ويتغنى بمويجاته‪.‬‬

‫كل هؤالء وغيرهم‪ ،‬نقشوا اسم الرقة بحروف من ذهب‪ ،‬ما جعلنا نغبطهم‪ ،‬وننظر إليهم‬
‫بمزيد من االحترام‪ ،‬والتقدير‪ ،‬واإلكبار‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫محمود الذخيرة‪ :‬زيزفون فراتي‬

‫إبراهيم علي المطرود‬

‫محام‪ ،‬وشاعر سوري‬

‫صباح الخير ياجاري‬

‫َي ُبو گامة زينة‬

‫حل أهلك‬
‫علواه ْت َر َ‬
‫وتجيبهم هينا‬

‫بهذا البيت الفراتي الرقيق‪ ،‬كنت أتلقى تحية الصباح يومياً‪ ،‬من الشاعر الفراتي المرحوم‬
‫محمود الذخيرة‪ ،‬عندما كنا نعلم في مدرسة الوحدة العربية االبتدائية في حي المشلب‪،‬‬
‫لعدة سنوات بدءا من ‪ 2622‬ومابعدها‪ .‬هو سليل الشاعر الشعبي محمد الذخيرة العالم‬
‫حليلة‪ ،‬كما لقبه أهل زمانه‪ ،‬إذ برع في شعر الموليا الفراتية‪..‬حيث الفرات والزيزفون‪،‬‬
‫جوان‬
‫والتوت والطرفاء والعاقول‪ ،‬والشيح والقيصوم‪ ،‬ورد الخاثر والندى‪ ..‬هنا نما أبو َ‬
‫محمود الذخيرة‪ ..‬الطبيعة الفراتية وهباتها الجمالية‪ ،‬العائلة وتحليل الشعر وقرضه‪..‬‬
‫والهوى‪.‬‬

‫زار النهر‪ ..‬الذي تذهب إليه الورادات لجلب الماء‪ ،‬على ظهور الدواب في الُق َرب أو‬
‫القواديس‪ ،‬خطرات عدة‪ ،‬وقد حضرت الحبيبة ونهلت من الفرات وغادرت مع‬
‫صويحباتها‪ .‬جلس بجانب الماء وقد شم أثر طيبها‪ ،‬ولما يزل في الماء فقال (نايل)‪:‬‬

‫أُصدق يجاري النهر اليوم ماجنك‪..‬؟‬

‫‪411‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بميك ِك َرفت المسك إريام ِوْردنك‬

‫برع الذخيرة في لون (النايل)‪ ،‬وقد كتب مايجاوز ألف بيت‪ ،‬عن الشوق والحب والحنين‪،‬‬
‫والغزل والفراق‪ ،‬وغيرها من أنواع الشعر الوجداني ومنه‪:‬‬

‫الزين لُ ْمن انتالقى‬

‫بعيونا أُوكات‬

‫ضحكة عيونك غوى‬

‫وحاجوزنا البسمات‬

‫وكذلك‪:‬‬

‫الدنيا بس أربعة‬

‫وباجي ُبگى ماچان‬

‫ليل وشباب وهوى‬

‫الخالن‬
‫وماليع ُ‬
‫ْ‬
‫ومن قصيدة طويلة له‪ ،‬تسمى مصرع‪ ،‬حيث يتم استيالد البيت الثاني من الشطر‬
‫االخير للبيت األول‪ ،‬وقد بدأها بهذا البيت الجميل‪:‬‬

‫لقمان جرح الهوى‬

‫تاه بتواصيفو‬

‫الهو طبيبي والني‬

‫أصبر على حيفو‬

‫جيبم طبيب الهند‬

‫‪411‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يداوي على كيفو‬

‫يبري جروحي قبل‬

‫ليلة وعشوية‬

‫ومن العتابا الفراتية أنشد‪:‬‬

‫رمح من إيد أبو گذيلة دواعيج‬

‫ألجل الغُر أبو عيونن دواعيج‬

‫إن چان تريد لقليبي دوا عيج‬

‫النزل تايلفت النشمي رقاب‬

‫وكذلك‪:‬‬

‫أبد ماغاب جدواهم عن العين‬

‫وعليهم ِ‬
‫لسهر الحارة من العن‬

‫سحول مرير واشلهن من العين‬

‫ومجاريهن على فقد االحباب‬

‫كتب الشاعر محمود الذخيرة القصيدة ذات الشطرين‪ ،‬تغزل فيها بالمرأة الفراتية‪ ،‬ومن‬
‫أجمل ماكتب في ذلك قصيدة "شحدت الشوق"‪ ،‬ومنها هذه األبيات‪:‬‬

‫شحدت الشوق من عينك‬

‫أخاف َّإنك ترجعني‬

‫انا لطاريك لُمْ َن أسمع‬

‫‪412‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أحسلك نار تلچعني‬

‫يريت إني منثور‬

‫بديك تقوم تقطعني‬

‫تشمني وألمس خدودك‬

‫وعلى شفوفك تمرمعني‬

‫حضون الناس ضيجة بحيل‬

‫حضنك بس يوسعني‬

‫أما قصيدة (بالعشق ما أقدر أُقلك) فإن لها شجونها وحكايتها‪ ،‬وقد حضرت تفاصيل‬
‫مخاضها‪ ،‬ومنها هذا المقطع‪:‬‬

‫بالعشق مَ اقدر أقلك‬

‫ال تحاسبني بنظرة‬

‫الم ريجك لي تخمر‬

‫يخلط الكيف بمسرة‬

‫لم يكن الوطن بعيداً عن اهتماماته الشعرية‪ ،‬فكتب قصيدة (ديرة هلي) وهي قصيدة‬
‫رائعة‪ ،‬منها أقتبس هذا المقطع‪:‬‬

‫ديرة هلي ‪...‬‬

‫بيها القمر عاشج خيال الليل‬

‫متوايج‬

‫بيها الزلم‬

‫‪413‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫غابات من عوسح حوايج‬

‫تربي جدايل سود لكحيلة‬

‫فزعت من فوق هلهولة‬

‫يدگ الگاع حافرها‬

‫اجدحت صوانها نار‪...‬‬

‫غنى له المطرب الشعبي الراحل حسين الحسن‪ ،‬والذي الزمه كثي اًر في حياته‪ .‬كما انه‬
‫كتب ُجل أغاني فرقة الرقة للفنون الشعبية‪.‬‬

‫كان شاع اًر يحب ويحترم المرأة بوصفها األم والحبيبة‪ ،‬والزوجة واألخت واالبنة‪ .‬وقد‬
‫كان يعلم بمحاوالتي في الكتابة الشعرية الشعبية الفراتية‪ ،‬وكنت أنكر ذلك أمامه احترام ًا‬
‫لقامته‪ .‬وقد أوصاني بأن أذكر المرأة بعفافها وقيمتها الكبيرة‪ ،‬وأحترمها في كتاباتي‪،‬‬
‫كما كان هو على هذا الديدن‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة هنا‪ ،‬إلى أنه كتب أيضاً في الشعر العمودي‪ ،‬باللغة العربية الفصحى‪،‬‬
‫وله قصائد عديدة في ذلك‪.‬‬

‫في أوخر أيامه بدأ بكتابة دراسة توثيقية عن الرقة (الرقة في ثالثة قرون)‪ ،‬صدر منها‬
‫الجزء األول في الحياة البشرية‪ ،‬ولم تصدر األجزاء األخرى حتى تاريخه‪ ،‬وهي جاهزة‬
‫للنشر قبل رحيله‪ ..‬وقد اطلعت عليها حينذاك‪..‬‬

‫محمود الذخيرة شاعر متميز‪ ،‬يجيد فن الكتابة الشعرية‪ ،‬في أشكالها التعبيرية المختلفة‪،‬‬
‫غير انه أخلص للشعر الشعبي الفراتي‪ ،‬وتربع على عرشه‪.‬‬

‫‪414‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"الطلياني"‬

‫ركب َة‬
‫الم َ‬
‫السردية ُ‬
‫سيرية العائلة َ‬
‫َّ‬ ‫بين‬

‫ولعبة هواجس كتابة الذات‬

‫أسعد آل فخري‬

‫شاعر وناقد سوري مقيم في فرنسا‬

‫للروائي التونسي شكري المبخوت‪ ،‬من خالل تصدي‬ ‫(‪)2‬‬


‫تَتَأتي أهمية رواية "الطلياني"‬
‫سروداتها لمزيد من األسئلة المسكوت عنها داخل مشهد الرواية العربية‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي نجدها أي رواية "الطلياني" اضطلعت منذ تبدياتها األولى‪ ،‬ولديها الرغبة في أن‬
‫تكون رواية تحتمل في معانيها الكبرى وأهدافها هواجس المسكوت عنه في مختلف‬
‫المناحي واالتجاهات االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬وهي ما انفكت ضمن تلك‬
‫األبعاد تؤثر أن تكون سردي ًة "تونسي ًة" على وجه الخصوص‪ ،‬في الوقت الذي نجدها‬
‫ال تقف عند هذا الحد وحسب‪ ،‬بل راحت ترصد تحوالت المجتمع التونسي بأدق تفاصيل‬
‫المتغي ارت التي عصفت به كما كل مرة من إجرائية لحظات تحوالته العميقة والجوهرية‪،‬‬
‫آخذة باالعتبار جملة المسائل المتعلقة بماهية حضور البعد االقتصادي من جهة‬
‫وانعكاس عالقاته على تمظهرات العوامل االجتماعية‪ ،‬والسياسية من جهة أخرى‪،‬‬
‫وكذلك سيرة االحتراب اإليديولوجي‪ ،‬واالصطفافات المتعارف عليها داخل الشرائح‬
‫االجتماعية على مختلف توجهاتها‪ ،‬إن كانت مع اليمين أو مع اليسار أو ما بينهما‪،‬‬
‫طموح أمام المواجهات الكبيرة التي تعصف بالعديد‬
‫وهي ال تخفي أي "الرواية" رهانها ال َ‬
‫من القضايا اإلشكالية‪ ،‬والم َّ‬
‫ركبة التي مرت بها تونس ما بين مرحلتين سياسيتين‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬
‫تالهما من مراحل أخرى سادها الكثير من المتغيرات المصيرية إبان حكم "الحبيب‬
‫بورقيبة"‪ ،‬وبدايات حكم "زين العابدين بن علي" إضافة إلى رصد بدايات ثورات الربيع‬

‫‪415‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العربي "‪ "1122‬التي تبدت على شكل نبوءات‪ ،‬أو استشرافات مرتبطة بنتائج المرحلتين‬
‫السابقتين لها‪ ،‬لنتحصل من بعد ذلك على عمل روائي حاذق في إضاءة العديد من‬
‫األسئلة األخالقية الكبرى‪ ،‬والتي لفتت األنظار في تَصدياتها التعبيرية (‪)meaningful‬‬
‫المكينة تجاه القضايا السياسية‪ ،‬والفكرية لمرحلة هامة‪ ،‬وفارقة داخل زمن‬
‫وتعرضاتها َ‬
‫التحوالت التونسية بامتياز‪ ،‬ومقدرة رصدت من خاللها لوحة الصخب‪ ،‬والفوضى التي‬
‫سرعان ما انعكست تداعياتها على مجمل الحياة السياسية‪ ،‬واألخالقية‪ ،‬وكذلك‬
‫االجتماعية‪ ،‬لعموم المجتمع التونسي‪ ،‬في الوقت الذي يلفت االنتباه داخل مسارد الرواية‬
‫قوة تدفق وسيولة األحداث والوقائع‪ ،‬واستنادها إلى مرجعية تنتمي إلى حاالت التوثيق‪،‬‬
‫الذي أسرف الروائي من خاللها في ذكر مجاميع تلك األحداث‪ ،‬واالحتربات السياسية‪،‬‬
‫كما أنه أسهب في سياقات المسارد داخل سردية "الطلياني" إلى درجة تمظهرت فيها‬
‫مناخات الملل‪ ،‬ولربما الحاجة إلى كسر حالة االنتظار‪ .‬على الرغم من أن الرواية ال‬
‫تخلو من الجذب‪ ،‬والتشويق‪ ،‬إال أن أبعاد مسألة التوثيق‪ ،‬والوقائع التاريخية لتلك‬
‫المراحل قامت‪ ،‬ونمت من خالل معايرة استرجاع األحداث الماضية (‪)retrospection‬‬
‫وتسريد بنية الحكايات فيها‪ ،‬مما أنتج أبعاداً إشكالية في أسلوب التعبير (‪)locution‬‬
‫عن تلك الحكايات‪ ،‬وعن تفاصيل أنساقها التي لم تخرج في حقيقة األمر عن نطاق‪،‬‬
‫وإطار المسرد الواقعي المباشر المحكوم بالوصف‪ ،‬إلى درجة أن الكثير من الوقائع‬
‫الوثائقية (‪ )Documentary narrative‬تحول إلى مسرد تسجيلي‪ ،‬غرق في‬
‫التوصيف‪ ،‬والتوثيق التاريخي بعيداً عن القيمة التعبيرية للسرد الروائي‪.‬‬

‫ثمة مفاعيل سردية تمظهرت في رواية الطلياني‪ ،‬وقد اعتمدت التاريخ بعداً تأسيسي ًا‬
‫المتخيَّل السردي(‪epidiascope‬‬‫"لميثتها الحكائية" إذ استدعت من خالله منصة ُ‬
‫‪ )narrative‬كم هائل من المشهدية التوثيقية والتي في ظننا‪ ،‬واعتقادنا أنها كانت‬
‫المعيار الذي يتم عبره إدراك المسافة بين زمن الحدث‪ ،‬وزمن كتابته‪ ،‬وهو أي "المخيال"‬
‫(‪ )imaginary‬من يحدد األبعاد التي يخلفها أثر التاريخ‪ ،‬داخل مفاعيل حركية الوقائع‪،‬‬
‫ومرجعياتها السوسيولوجية (‪ )Sociology‬حيث أشارت الرواية إلى العديد من‬

‫‪416‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اإلحاالت الرمزية التي تُعد مرجعي ًة لألحداث وفق ما تعرضت لها رواية الطلياني مثل‪:‬‬
‫(يوم النصر في ‪2611‬ـ وصول "بوك علي" إلى العاصمة ـ مؤتمر الطلبة في قربة‬
‫‪2621‬ـ الخميس األسود ‪ 2622‬ـ ثورة الخبز‪ )2624‬والعديد من األحداث المختلفة في‬
‫سياقها التاريخي‪ ،‬والتي لم تغفلها السردية‪ ،‬وهي في حقيقة األمر َّ‬
‫جذرت حضور تلك‬
‫األحداث بصورة‪ ،‬وصفية (‪ )description‬ال تخلو من المواقف التي ترسم مشهدها‬
‫التعبيري (‪ )expressive‬هنا أو هناك‪ .‬ال سيما أن الروائي المبخوت ما انفك‪ ،‬وهو‬
‫ال يخفي رغبته في إعادة الحياة إلى الرواية الكالسيكية المتنوعة المناحي‪ ،‬واالتجاهات‬
‫مؤكداً أهمية مقولته‪" :‬إن التجريد الروائي وصل إلى طريق مسدودة عند الغرب‪ ،‬ومنها‬
‫انتقل إلى العالم العربي متأخ اًر‪ ،‬وعندها وصل إلى طريق مسدودة أيضاً عندنا‪ ،‬بحيث‬
‫وصلنا إلى روايات ال نستطيع أن نتجاوز فيها عشر صفحات‪ ،‬أو عشرين صفحة وهنا‬
‫أتحدث عن نفسي كقارئ‪ ،‬ولست روائياً في هذا المعنى" (‪ )1‬ربما يحتاج األمر هنا إلى‬
‫مراجعة خاصة بما يتعلق بحالة الجزم التي أبداها الروائي المبخوت بما يتعلق‪ ،‬ويخص‬
‫الرواية التجريدية‪ ،‬والطريق المغلق الذي وصلت إليه‪ ،‬لكن من المفيد االلتفات في هذا‬
‫المفصل إلى أن ضرورة وجود الحكاية ومتوالياتها السردية في ماهية مسارد الرواية‪،‬‬
‫هي (أي الحكاية) األصل في العملية السردية‪ ،‬وتلك نقطة ال خالف حولها نظ اًر إلى‬
‫أن تمظهر إجرائية مفهوم "أن تكون هناك رواية دون حكاية" ليس صحيحاً‪ ،‬من حيث‬
‫إن هذه المعايرة هي التي يرغبها المبخوت‪ ،‬ويؤكد على وجودها بعيداً عن التجريد‬
‫السردي القادم من الغرب "قاتل خفي للحكاية" حيث ال ينفك عن اعتبار أهمية الحكاية‪،‬‬
‫وأحداثها الواقعية‪ ،‬كما لعبة يحتاجها الطفل للحكي أو لإلنصات طبقاً لما يقول‪ ":‬أنا‬
‫فضاء للحلم‬
‫ً‬ ‫كالطفل الذي يحب الحكاية‪ ،‬وجميعنا يحب الحكاية‪ ،‬ألنها تحمل‬
‫وللتفاعل"(‪ )2‬تماماً كما هو مثلث التقريرية المقدس "التاريخية والتسجيلية‪ ،‬والوثائقية" في‬
‫الوقت الذي كادت أن تتالشى تقريباً كل تلك التصنيفات السردية في المشهد الروائي‬
‫العربي إال من نثار ال يذكر هنا أو هناك‪ ،‬حيث بدا أن الروائي المبخوت غير آبه‪ ،‬وال‬
‫ملتفت إلى بعض معايير الحديث السردي الذي اشتغل عليه بصورة أو بأخرى‪ ،‬ممظه اًر‬

‫‪417‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المفاصل التاريخية للمراحل المختلفة‪ ،‬دون االعتداد بصيرورة كل مرحلة‪ ،‬وقد اتسمت‬
‫مشاهد الصراعات بين األجيال االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬إلى مشاهد من المواجهة‬
‫االحترابية‪ ،‬والمقارعة (‪ )fight‬الصراعية وفق صورتها المباشرة حيث " تعالى صوت‬
‫عبد الناصر رغم محافظة صالح الدين على هدوئه‪ .‬خرج األب إلى وسط الدار بعد‬
‫أن صلى العشاء‪ ،‬كان الجميع ينصت إلى األخوين‪ ،‬وال أحد على األرجح فهم شيئاً‬
‫عدا توتر عبد الناصر‪ .‬صرخ سي محمود في وجه ابنه األصغر‪ :‬متى ستكف عن‬
‫ال‪ :‬ـ ليس لدي‬
‫وقاحتك‪ ،‬وأنت تتحدث إلى سيدك خوك؟! ـ أجاب عبد الناصر منفع ً‬
‫سيد‪ ،‬ولست عبدًا ألحد‪ ..‬لقد تركت أخالق العبيد لكم‪ .‬ـ اخرس يا كلب‪ ،‬قالها األب‬
‫ويداه ترتعشان‪ ،‬ويهم بضرب الفتى الوقح ‪ ...‬أمسكه صالح الدين من يده‪ ،‬وهو يتمنع‬
‫ويتفلت‪ .‬هدأ من روعه والتفت إلى أبيه موجهاً إليه الخطاب‪ :‬ـ يا حاج عليك أن تفتخر‬
‫بابنك‪ .‬إن الناس يحسدونك عليه‪ ،‬وهو أفضل مني ثقافة وتجربة‪ ،‬وعمقاً في التفكير‬
‫نضيف إلى ذلك أيضاً ما كان عليه جواب‬ ‫(ص ‪26‬ـ ‪)22‬‬
‫مقارنة بي حيث كنت في سنه"‬
‫الروائي المبخوت في الحوار الذي جرى حول روايته الطلياني‪ ،‬وبالتحديد ما يتعلق‬
‫بمسألة الحرية الفردية داخل األسرة‪ ،‬أو في إطار المجتمع مؤكداً العبارة الالفتة التي‬
‫قذفها عبد الناصر بوجه أبيه " ما يجمع بين الشخصيات هو بحث يسعى إلى بلورة‬
‫مسار فردي قائم على الحرية الفردية يخفق بطبيعة الحال‪ ،‬ألن هذه المجتمعات‬
‫المحافظة‪ ،‬ال تؤمن بالحرية الفردية‪ .‬هذا الفرد مقموع في جسده في خياله في لغته‪،‬‬
‫وليس مقموعاً سياسياً فقط وهنا السؤال الذي يفرض نفسه "هل يمكن أن نصنع مجتمعاً‬
‫(‪)4‬‬
‫ح اًر بأفراد مستعبدين"‬

‫تلكم هي صورة التعبير عن مفاعيل االحتراب‪ ،‬وصراع األجيال ( ‪generational‬‬


‫‪ ) struggle‬الذي أشارت إليه رواية الطلياني منذ صفحاتها األولى‪ ،‬بصورة مباشرة‪،‬‬
‫ُرِسم من خاللها صورة حقيقية لماهية أبعاد الصراع داخل أسرة "سي محمود" والذي‬
‫شهد عراكاً كالمياً عبر االحتدام بين ثالثة أجيال‪ ،‬كل منهم يعبر عن مرحلة بحد‬
‫ذاتها‪ ،‬دون مواربة وال إشارية‪ ،‬حيث تبدى جيل مرحلة ما قبل بورقيبة متمثالً باألب‬

‫‪418‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"سي محمود" في الوقت الذي وجدنا فيه جيل مرحلة "بورقيبة" التي تصدى للتعبير‬
‫عتها األخ األكبر "صالح الدين" أما جيل مرحلة "بن علي" وما بعده فقد مثله االبن‬
‫األصغر (عبد الناصر) "الطلياني" الذي خرج عن صمته المعهود‪ ،‬ليعلن رأيه‪ ،‬وموقفه‬
‫المسكوت عنه بصراحة‪ ،‬وشجاعة مدهشتين‪ ،‬وكأن الروائي "شكري المبخوت" أراد أن‬
‫ومركبة‪ ،‬إلى دوافع‪ ،‬وتبديات ما جرى في بدايات ثورات الربيع‬ ‫يشير بصورة رمزية ُ‬
‫العربي التي افتُِتحت أناشيدها في الشوارع التونسية منذ لحظاتها األولى‪ ،‬تماماً كما‬
‫صرح المبخوت بذاته قائالً‪ " :‬لم أكن بحاجة إلى القيام ببحث تاريخي‪ ،‬ألنها فترة جيلي‬
‫أنا‪ .‬وعلى كل حال تلك الفترة من تاريخ تونس ليست مكتوبة‪ ،‬والتحدي الذي خضته‬
‫هو أن أكتب قصة جيلي سردياً‪ ،‬وفي اآلن نفسه مسيرة بلد يعيش تلك التحوالت‬
‫في الوقت الذي نجده يتحدث عن ثورة الياسمين التونسية‬ ‫(‪)1‬‬
‫والتناقضات واألزمات"‬
‫معتب اًر أن التوافق بين زمنين‪ ":‬زمن الرواية‪ ،‬وزمن الكتابة البد سيكون نوعاً من التوافق‬
‫الذي لم أخطط له‪ ،‬ولكن وأنا أختار مقر هذه الشخصية‪ ،‬وجدت تشابهاً بين‬
‫المرحلتين‪ ...‬مرحلة نهاية بورقيبة‪ ،‬وبداية بن علي‪ ،‬ومرحلة نهاية بن علي‪ ،‬وبداية‬
‫الثورة والواقع الذي يربط بين الفترتين هما أنهما فترة انتقال‪ ،‬وتحول ووعود وآمال‬
‫وتخوف‪ ...‬هذا ما عشناه في الفترتين"(‪ )6‬وهذا ما جعلنا ننظر نحو سردية الطلياني‬
‫برمتها‪ ،‬وفق مناظير حضور‪ ،‬وتجلي أبعاد‪ ،‬ومعايير مختلفة تخص ماهية الرواية‬
‫المركبة(‪ )syntagm narration‬والتي تكون بطبيعتها منفتحة على مغاليق الكتابة‬
‫التي تنتهج السرد الواقعي‪ ،‬والمباشر والتاريخي في اآلن ذاته‪.‬‬

‫حصن روايته الطلياني‪ ،‬وال يعني‬


‫ال شك أن ما قاله "المبخوت" ال يعني أبداً أنه َّ‬
‫أيضاً أنها باتت هي األخرى بعيدة عن الفوضى السردية (‪)narrative Chaos‬‬
‫والتشتت في استثمار الواقعات المباشرة‪ ،‬إضافة إلى تبعثر ميثاتها التي أصابها الوهن‪،‬‬
‫فلم تعد قادرة على إنتاج المعنى الالفت بعيداً عن الماضي التاريخي الذي وقعت في‬
‫فخاخه‪ ،‬وبما ينسجم مع أهداف السردية‪ ،‬الواقعي منه والمجازي أيضاً‪ ،‬إذ اكتفت السردية‬
‫بإنتاج الوقائع المباشرة‪ ،‬والتوثيقية تحت ذريعة أن الروائي أراد أن يكتب سيرة جيله التي‬

‫‪419‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عاشها ويعرفها‪ ،‬وكذلك المراحل السابقة لها والالحقة بها‪ ،‬وكأن المسألة هي في ُك َليِتها‬
‫السردية التي توثيق ما جرى‪ ،‬وفق الصورة التي يريدها المبخوت‪ ،‬وهي جعل وظيفة‬
‫التوثيق (‪ )authentication function‬منصة أساسية يتم الحديث من خاللها عن‬
‫مراحل مختلفة لم يتم تدوينها من قبل في الوقت الذي وجدنا اشتغال "المبخوت" يغرد‬
‫بعيداً عن سرب مفاعيل التحليق في الفضاء السردي الذي سيساهم بالتأكيد في إخراج‬
‫سردية الطلياني من عزلتها التوثيقية‪ ،‬وتخليصها من "العوز" في بعض مفاصلها التي‬
‫بدت مترهلة جراء االستغراق داخل دوامة التفاصيل السياسية وااليدولوجية الفائضتين‪،‬‬
‫ف ارحت أنساق الحكاية أو الحدوثة تخرج عن مساراتها الكالسيكية كرواية واقعية‪ ،‬وانكبت‬
‫تحدثنا‪ ،‬وهي تطل علينا من نافذة مفاعيل تقنيات سردية مختلفة‪ ،‬حيث شرع الروائي‬
‫عاكفاً على تعليم بعض شخصياته الروائية مراحل‪ ،‬ومسارات كيفية إعداد "مقال‬
‫صحفي" أو َرِق ْن مادة كتابية على صفحة الجريدة‪ ،‬حيث البد من تتبع المراحل األساسية‬
‫في تنزيل‪ ،‬وطباعة المادة الكتابية على صفحة الجريدة أو المجلة‪ ":‬قواعد بسيطة يمكن‬
‫استعمالها حتى قبل رقن المقال‪ ،‬قال له‪ :‬معدل الكلمات في السطر الواحد مضروب‬
‫في عدد األسطر تقريب ًا‪ ،‬حينها تعرف الحجم‪ ،‬سترى أن الفروق تتصل بحجم الخط‪،‬‬
‫وكيفية قطع أعمدة المقال المكتوب على عمود عادي أو عمودين أو أكثر‪ .‬هكذا يكون‬
‫احتساب الفراغات بين األعمدة وهوامش الصفحة في أعالها وأسفلها‪ ،‬وكيفية إعداد‬
‫الورقات قبل الشروع في أي تصور للمحتوى البصري لهذه الصفحة أو تلك‪ ،‬بالتجربة‬
‫ستعرف الزوايا الثابتة‪ ،‬والصفحات التي ال تتغير‪ ،‬والصفحات التي يتبدل محتواها دون‬
‫شكلها إال في ما ندر‪ .‬ما تقوم به أشبه بوضع سكة الحديد‪ ،‬وعلى المصمم وضع‬
‫القطارات‪ ،‬وتنظيم أوقات خروجها ودخولها" (ص‪ )261‬إضافة إلى ما شابه ذلك أيضاً من‬
‫تأثيثات مختلفة أخرى في العديد من المناحي واألدوات‪ ،‬والتي تتعلق بكيفية إيصال‬
‫فكرة درسية أو مهمة تعليمية ‪ ":‬وتقتصر الدائرة الرابعة على الطلبة الذين ُي ْكتَفى بتكوينهم‬
‫غير السري في مجال العمل النقابي الطالبي‪ :‬تشرح لهم مبادئ الحركة الطالبية‬
‫النقابية‪ ،‬ويروى على أسماعهم تاريخ االتحاد العام لطلبة تونس‪ ،‬والنقلة النوعية بعد‬

‫‪411‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مؤتمر قربة وحركة فيفر"‪ "2621‬المجيدة وما ترتب عنها بالخصوص من قطيعة‬
‫سياسية‪ ،‬وتنظيمية مع النظام الكمبرادوري العميل‪ ،‬ودور الحركة الطالبية في التغيير‬
‫في الوقت الذي نجد فيه تناوباً الفتاً بين أسماء األعالم من الكتاب‪،‬‬ ‫الثوري"‬
‫(‪12‬ـ‪)14‬‬

‫والمفكرين‪ ،‬وبين سياق الشروحات السياسية التبشيري منها والتعليمي‪ ،‬وذلك ما ترك‬
‫ال على أنساق السردية‪ ،‬ولغة الحوارات فيها‪ ،‬وأخرج جماليات الحوار السردي‬
‫وقعاً ثقي ً‬
‫المركب إلى فسحات مختلفة ساهمت بصورة مباشرة في جعل األمر متاهة لِ َك ِم كبير‬
‫من المعلومات التي عادة ما تكون أشبه بتوشية تضيء الحوار (‪ )dialogue‬داخل‬
‫العمل السردي ليس أكثر‪ .‬وهذا ما جعل الرواية تقع فريسة سهلة للعوز الفني‪ ،‬وتفقد‬
‫كذلك ميزة هامة من مائزاتها السردية ذات األبعاد التركيبية جراء الحشو الزائد في‬
‫المعلومة غير المفيدة‪ ،‬والتي يمكننا إزالتها من نسيج الرواية دون أن تترك أث اًر بالغاً‬
‫على مفاعيل سياق السردية وأهدافها‪.‬‬

‫مما ال شك فيه أن مسألة الحوارات أصبحت إشكالية في سياقات رواية الطلياني‪،‬‬


‫والتي تحولت بالتدريج إلى عبء أرهق الرواية‪ ،‬وحرفها عن مساراتها السردية‪ ،‬جراء‬
‫اهتمامها بالحديث عن تفاصيل مختلفة‪ ،‬ومتعددة ال تنتمي إلى صلب السردية‪ ،‬كما‬
‫أنها ال تعود في مرجعية حضورها إلى معالم محددة بعينها‪ ،‬وهذا ما ساهم في تحول‬
‫أدوات الفن الروائي وإبداعه السردي جراء ذلك إلى وظيفة توثيقية ( ‪authentication‬‬
‫‪ )function‬كما عصفور يغرد خارج سرب الكتابة الروائية المتعارف عليها والمعاصرة‬
‫أيضاً‪ ،‬وفق معايير السرد الروائي‪ ،‬وبناء الشخصيات الروائية المتنامية من داخل‬
‫الحدث التسريدي ومتوالياته‪ ،‬أما ما يتعلق بالتدفق المعلوماتي‪ ،‬فقد كان مثاالً الفتاً جراء‬
‫منح النص السردي سمة مفاعيل اشتغال البنية الحوارية الفائضة التي ذهبت إلى‬
‫تكريس معيار تمطيط السرد(‪ )narration stretch‬والوقوع في دوامة لزوم ما ال يلزم‬
‫من خالل االعتماد على تسطيح المسارد عبر متواليات الوصف(‪ )description‬البعيد‬
‫عن التعبير السردي ليس إال‪.‬‬

‫‪411‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هكذا تحولت الحوارات السياسية‪ ،‬واإليديولوجية‪ ،‬والفكرية بالتحديد بين مختلف‬


‫الشخصيات‪ ،‬إلى حدث احتل من السردية حي اًز هاماً‪ ،‬إال أنه بقي في إطار المتبوع‬
‫بالشرح الفائض‪ ،‬والمجاني أيضاً‪ ،‬إضافة إلى اشتغال الحوارات على المعلومة التي‬
‫تغرق في تفاصيل مختلفة‪ ،‬دون أن تخدم هدفاً فنياً محدداً في السرد الروائي‪ ،‬وذلك ما‬
‫جعل جلى التفاصيل فريسة للوصف الفائض‪ ،‬وتدفق للمعلومة التوثيقية‪ ،‬واإلسهاب في‬
‫بعيداً عن حالة التعبير التي تحتاجها‬ ‫لزوم ما يلزم تعليالً يتسم بمحاولة االجتهاد‬
‫شكالت األساسية للشخصية الروائية من الناحية السياسية واالجتماعية والفكرية التي‬ ‫الم ِ‬
‫ُ‬
‫الطيف األوسع انتشا اًر في مسارد مشهد الرواية العربية‪ ،‬وذلك ما كان السبب‬ ‫تعد َّ‬

‫"العوزيَّة" التي فتكت بمعمار الرواية السردي‪ ،‬وأصابته بالوهن‪،‬‬


‫المباشر والصورة َ‬
‫والضعف الفني‪ ،‬والبالغي أيضاً في بعض األماكن‪ ،‬والمفاصل التي أشغلت سرودها‪،‬‬
‫بالمعلومة والتوثيق‪ ،‬والتأريخ داخل متون رواية الطلياني‪.‬‬

‫إن االعتناء‪ ،‬والحرص الشديدين على تفعيل األبعاد التفصيلية‪ ،‬وماهية السياقات‬
‫الوصفية داخل األنساق السردية‪ ،‬واهتمام الروائي الملحوظ على استحضارها‪،‬‬
‫واستعادتها من ماضيها (‪ )analepsis‬شكلت في مجملها عبئاً أثقل كاهل الرواية‪،‬‬
‫وبعثر أهدافها األساسية‪ ،‬وتلك حقيقة سرعان ما نشعر بها‪ ،‬ونالحظها داخل دوامة‬
‫تتبع أنساق المسارد‪ .‬يضاف إلى ذلك تركيزها على تأريخ التحوالت السياسية‪،‬‬
‫المحتربة‪،‬‬
‫واالجتماعية للمراحل التي تصدت لها الرواية‪ ،‬وانشغالها بتقسيمات األجيال ُ‬
‫وفق الصورة التركيبية للبنية السردية العميقة (‪ )deep structure narration‬وتوثيق‬
‫المفاصل التي تَنتُج من جراء ذلك االشتغال‪ ،‬وتوالي مفاعيله التي حولت الرواية إلى‬
‫للتحصل‪ ،‬والتعرف على مجريات توثيقية‬
‫ُّ‬ ‫أرشيف تأريخي‪ ،‬وشاهد يمكن العودة إليه‬
‫لتلك الفترة‪ ،‬في الوقت الذي كان من المفترض أن ينخرط الروائي "المبخوت" في‬
‫االشتغال على تنمية شخصياته الروائية التي بدت في مختلف أبعادها التركيبية‪،‬‬
‫ومفاصلها السردية قابلة لفعلين أساسيين مهمين في بعديهما التأويلي والرمزي‬
‫(‪ )interpretation and symbolic‬وكذلك جعل سردية الطلياني مرصداً متقدماً‬
‫‪412‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫للبعد األخالقي في المجتمع التونسي‪ ،‬لما تحمله من أبعاد تأثيثية‪ ،‬ونمنمات اجتماعية‬
‫تعتمد على المخيال‪ ،‬والواقع في اآلن ذاته‪ ،‬وهذا من وجهة نظرنا ُيعد بعداً سردياً َّ‬
‫شكل‬
‫قيمة مضافة‪ ،‬إال أنه لم يستثمر‪ ،‬ولم يتم االشتغال على مفاعيله بالصورة المطلوبة‬
‫التي ال بد أن تولي شخصيات الرواية حضورها الذي تستحقه داخل مساردها‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى تأهيل البعد السردي داخل طيات سلوكات تلك الشخصيات‪ ،‬وسياقاتها‬
‫المختلفة التي البد ستتعايش مع النمو الوجودي لحضورها في السياق الروائي ضمن‬
‫سردية الطلياني‪ ،‬وفق تناسل‪ ،‬وتوالد حساسية السرود (‪)Narrative sensitivity‬‬
‫وأبعادها المختلفة‪ ،‬داخل العمل الروائي وقابلية خلخلة الزمن في أنساق مسارده‬
‫المتنوعة‪.‬‬

‫ال شك أن ما تمنحه خصائص وظيفة السرد التركيبي (‪)syntagm narrative‬‬


‫للعمل الروائي يمكن استثمار أبعادها المتوارية‪ ،‬كحالة مركبة تحتمل تأويل‬
‫(‪ )interpretation‬أهداف حضورها السردي داخل حيوية أمكنة األحداث‪ ،‬والوقائع‬
‫التي تمتلك فاعلية لكونها منصة للتعبير بحد ذاتها ليس إال‪ ،‬في الوقت الذي أصبح‬
‫من الصعوبة بمكان أن يتمكن الروائي "المبخوت" من تجاوز مسألة "التأريخ السيري"‬
‫لألبعاد التي تحمل سمة التوافق‪ ،‬والتواؤم داخل أفكار الشخصيات التي هي في حقيقة‬
‫األمر الصورة األصيلة التي تُشكل مفاعيلها اللغة السردية لمروية "الطلياني" إضافة‬
‫إلى استثمارها للعديد من التفاصيل المختلفة التي تخص شخصيات ثورية ومناضلة في‬
‫سبيل الحرية‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬والتي كرس الطلياني أفكاره‪ ،‬ونضاالته اليسارية بصورتها‬
‫التبشيرية دون أن ينفك عن مغامراته غير األخالقية‪ ،‬والملوثة‪ ،‬إن كان في الصحافة‬
‫أو السياسة‪ ،‬أو على صعيد العالقة بالمرأة التي تحولت بين يديه‪ ،‬أو في سياق حيواته‬
‫السردية‪ ،‬إلى أضاحي وفرائس بدءاً من "حنين وزينة وإنجيليكا مرو اًر بنجالء وآخرهم‬
‫ريم‪ .‬على الرغم من النهايات والخواتيم المنكسرة والخائبة على صعيديها الرمزي‪،‬‬
‫والتركيبي‪ ،‬حيث لم تستطع سردية الطلياني تقديم نفسها كـ " سيرية مروينة‪ ،‬وال رواية‬
‫مسيرنة" فكثافة األبعاد التقريرية‪ ،‬والوثائقية خطفت ما الح من بريق سرودها‪ ،‬إن كان‬

‫‪413‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫على صعيد "روينة السيرة" أو "سيرنة الرواية"‪ ،‬حيث تحولت السردية بالتدريج إلى صورة‬
‫وثائقية تم تكريس أبعادها السردية من أجل اإلشارة وثائقياً‪ ،‬وتأريخياً إلى حالة االنكسار‪،‬‬
‫والخراب الذي أصاب أجيال عديدة عبر توثيق أبعادها السياسية واالجتماعية‬
‫واأليدولوجية‪.‬‬

‫لقد استطاعت رواية الطلياني أن تقدم نفسها على هيئة "سيرية أجيال" من خالل‬
‫حديثها عن أدق تفاصيل‪ ،‬ومجريات‪ ،‬ووقائع بعينها جرت في أمكنة‪ ،‬وأزمنة مختلفة‬
‫كانت حاضرة في سياقها التاريخي‪ ،‬وكما مسرد وثائقي (‪)Documentary narrative‬‬
‫من قبل أن تتناولها رواية الطلياني‪ ،‬حيث استغرقت تلك الوقائع التاريخية‪ ،‬وتفصيالتها‬
‫التحليلية ما يزيد على أكثر من نصف عدد صفحات الرواية‪ ،‬في الوقت الذي وجدنا‬
‫فيه أيضاً أن النصف اآلخر من الرواية استثمر مسألة الوقائع التسجيلية في النصف‬
‫غير الوثائقي‪ ،‬وهذا ما يؤكد أن اتكاء الرواية على فترات محددة من التاريخ الممتد ما‬
‫بين نهايات مرحلة ما قبل بورقيبة‪ ،‬ومرحلة بن علي وبداية ثورة الياسمين (‪ )1122‬لها‬
‫مرجعيتها‪ ،‬وأسبقيتها كتأريخ اشتغلت‪ ،‬واعتمدت عليه الرواية في تأثيث حضورها‬
‫السردي‪ ،‬واستحضار ميراث خلفته األجيال السابقة بقضها وقضيضها‪.‬‬

‫‪9‬ـ ميراث ُسرود الخطيئة والتكفير‪:‬‬

‫قامت العمارة السردية (‪ )Narrative architecture‬لرواية "الطلياني" على‬


‫المكينة اتصف معظمها بالحضور الالفت في تبديانه‬
‫مجموعة من الميثات الحكائية َ‬
‫عبر تواشج مفاعيله التسريدية التي تمظهرت داخل منظومة أنساق حكائية تألفت من‬
‫اثنتي عشرة محطة‪ ،‬أو فاصلة سردية مركزية‪ .‬راحت في عمومها ترصد حيوات‪،‬‬
‫وسلوكات الشخصيات الروائية وفق تنوع مشاربها‪ ،‬واتجاهاتها السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪،‬‬
‫وكذلك ظهورات أبعادها االجتماعية‪ ،‬بيد أنها‪ ،‬ومن خالل فواصلها تلك‪ ،‬أرادت أن‬
‫تخبرنا مسار حكاية بدأتها من آخرها‪ ،‬لتأخذنا إلى أولها عبر أسلوب شيق‪ ،‬والفت على‬
‫الرغم من استغراقها في تفاصيل كثيرة وفائضة ‪ ،‬والغاية من استخدام تلك اللعبة الفنية‬

‫‪414‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هي رغبة الروائي "المبخوت" المستميتة في تفعيل أدوات إيقاظ الزمن الفائت أو العتيق‬
‫من خالل الكثافة الواضحة‪ ،‬والصريحة الستدعاء تفاصيل استرجاع (‪)flashback‬‬
‫صور الوقائع‪ ،‬وأحداث الماضي‪ ،‬وهو بذلك يجعل من حكاياته سياقات تقبل البناء‬
‫عليها مما يمنح الخطاب السردي فيها بعداً تحديثياً لكونها رواية تنتمي كما يراها الروائي‬
‫إلى الواقعية الكالسيكية بامتياز‪ ،‬وهذا ما دفع المبخوت إلى تفعيل محاولة إخراج‬
‫سرديته من لعبة قواعد الشروط الواقعية الصارمة‪ ،‬وجعلها سردية منفتحة على بعض‬
‫المركبة (‪ )synthesis‬للسياقات الروائية المتنوعة‪ ،‬وهو بذلك يحقق‬‫أدوات المفاعيل ُ‬
‫العديد من الغايات‪ ،‬والم ارمي الفنية‪ ،‬والسردية داخل متون َ‬
‫الم ْسرود الروائي المشغول‬
‫عليه استناداً إلى الماهية التركيبية لحكاية السيرة الذاتية (‪)Biographical novel‬‬
‫ذات الطابع التوثيقي لرواية الطلياني‪.‬‬

‫تبدأ رواية "الطلياني" أناشيدها السردية من خواتيمها‪ ،‬وهي تصف لنا مراسم دفن‬
‫الحا ج محمود‪ ،‬والد عبد الناصر الملقب بالطلياني‪ ،‬بطل الرواية وساردها العليم الذي‬
‫يترك حشد المشيعين في حيرة من أمرهم‪ ،‬حين يندفع كمن أصابه المس تجاه الشيخ‬
‫عاللة الدرويش الذي كان منكباً وقتئذ إلى جوار حفرة القبر‪ ،‬وهو ِ‬
‫يلقن الميت الحاج‬
‫محمود العبارات المعتادة‪ ،‬حسب طقوس الدفن‪ ،‬لينهال حينها عليه الطلياني‪ ،‬ركالً‪،‬‬
‫وضرباً مبرحين حتى يدميه" يلعن دين والديك‪ ،‬يا منافق‪ ،‬يا نذل‪ ،‬يا ساقط‪ ،‬اخرج من‬
‫غادي يا نيـ ‪ ...‬كان اإلمام يتأوه‪ ،‬ويئن أنيناً م اًر‪ ،‬نزفت الدماء من فمه‪ ،‬فاختلطت‬
‫بقميصه السكري‪ ،‬وبدعيته فاتحة اللون ‪ ...‬تعالى الصخب‪ ،‬واختلطت األصوات‪" :‬‬
‫(ص‪)2‬‬
‫اإلمام غارق في دمائه" " عبد الناصر الطلياني ضرب اإلمام"‬

‫ولكي نعلم لِ َم أقدم الطلياني على فعلته الصادمة تلك‪ ،‬سنحتاج شوطاً طويالً من‬
‫السرود‪ ،‬والحكايات بلغت ذراها في خواتيم الرواية حيث نتعرف من خاللها على أحد‬
‫أهم أسرارها حين يستقيم السرد‪ ،‬ليحدثنا عن وقائع حكاية الطلياني مع الشيخ عاللة‪،‬‬
‫وقتئذ راح عبد الناصر “الطلياني" يستطرد بقص حكايته‪ ،‬والغصة في حلقه وهو يسرد‪،‬‬

‫‪415‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ويصف مشاهد اغتصابه من قبل الشيخ‪ ،‬وألكثر من مرة‪ ،‬حين كان في سن اليفاعة‪،‬‬
‫لنكتشف من بعد ذلك أيضاً أننا داخل شبكة معقدة من المشكالت األخالقية‪ ،‬والسلوكية‪،‬‬
‫كما سنتعرف أيضاً على مفصل مهم من حياة "الطلياني" الذي عاش ظروفاً فيها الكثير‬
‫من زهوة االنتصارات الواهمة‪ ،‬على الصعيد السياسي واالجتماعي‪ ،‬كما هي كذلك‬
‫حقيقة االنكسار الذي اجتاح جيله بأكمله في اآلن ذاته على مختلف األصعدة فكرياً‪،‬‬
‫وإيديولوجياً وأخالقياً‪ ،‬حيث تبدى من خاللها عبد الناصر الطلياني داعي ًة للحرية‪،‬‬
‫ومبش اًر بأهمية تحرر الفرد قبل تحرر المجتمع‪ ،‬وقد أظهر اشتغاالً منقطع النظير في‬
‫تأثيث أخالقيات الحرية الفردية (‪ )individual freedom‬التي تسبق حرية المجتمع‬
‫الواسعة والعامة (‪ )Broad and general freedom‬داخل العديد من المفاصل‪،‬‬
‫وهو غير منفك عن تأكيد أهمية حرية الفرد‪ ،‬وأسبقيتها‪ ،‬وكأنه يريد القول أن من‬
‫المستحيل أن تكون هناك حرية اجتماعية‪ ،‬وسياسية إال بعد أن يحقق الفرد حريته‬
‫الشخصية‪ ،‬وهذا ما جعل مفاهيم الحريات وأسبقياتها داخل مسرودات الرواية مفاهيم‬
‫عائمة تحتاج الكثير من التروي‪ ،‬والضبط‪ ،‬وكذلك البحث عن صيغ اصطالحية متفق‬
‫عليها من ناحية علمي االجتماع والسياسة‪ ،‬إضافة إلى معايير منطقية نستطيع من‬
‫خاللها ضبط‪ ،‬وتحديد معالم الطريق الصحيح نحو إيجاد أسس يتم من خاللها اكتشاف‬
‫صحة األسبقية من أجل الوصول إلى الحرية بعيداً عن االعتباطية‪ ،‬وقسر المفاهيم‬
‫اإلشكالية على مقاس وقياس شخصيات سردية بعينها لديها رغبة التعبير عن هذا‬
‫المفهوم‪ ،‬أو ذاك من أجل تحقيق هدف فكري محدد يعالج مسألة األبعاد األيديولوجية‬
‫داخل الرواية‪ ،‬ومفاعيل أنساق تسريداتها الفكرية‪.‬‬

‫تلك هي واحدة من متواليات عديدة‪ ،‬من الميثات‪ ،‬والتي يعد عبد الناصر "الطلياني"‬
‫الميثة السردية الكبرى فيها‪ ،‬ومنهل المسرودات جميعها‪ ،‬بحكم وظيفته كسارد عليم‬
‫وم ْبتَناها‪ ،‬على الرغم من‬ ‫ِ‬
‫(‪ )omniscient narrator‬كما أنه عماد العمارة الروائية ُ‬
‫غموض محياه‪ ،‬وظهوراته المواربة التي تلفت إلى تنامي مفعوالت سياقية تشير إليه‬
‫بصورة‪ ،‬أو بأخرى كشخصية ذات أنساق فصامية (‪ )schizophrenia‬متوارية خلف‬

‫‪416‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قناع (‪ )mask‬مخادع‪ ،‬حيث يتجاور في مركبها النفسي بعدا اإلخالص والوالء‬


‫(‪ )Betrayal and loyalty‬في اللحظة ذاتها‪ ،‬إضافة إلى ُبعد مهم في أبعاد الرواية‪،‬‬
‫وأهدافها حيث وجدنا شخصية الطلياني‪ ،‬الحالة األكثر تعبي اًر عن انكسار اليسار‪ ،‬وخيبة‬
‫شعارته‪ ،‬ومراوغة أبعاد أهدافه التي بدت في الرواية مجرد أوهام‪ ،‬سرعان ما حدث‬
‫التحول الكبير‪ ،‬وأزال شخصياتها‪ ،‬لنكتشف بعدئذ أن معظم شخصيات الطلياني تعيش‬
‫حالة المأزق المرتبط بذاكرية ُحملت الكثير من الويالت‪ ،‬والهزائم‪ ،‬واالنكسارات‪ ،‬وشريط‬
‫طويل من الخطيئة‪ ،‬والقليل من االنتصارات المنقوصة‪ ،‬وكأن الروائي المبخوت أراد‬
‫من سرديته المسهبة أن ينبش ويحرث "ماضوية" كل شخصية من شخصيات الرواية‪،‬‬
‫ليبين لنا من خاللهم جملة القضايا التي تتحكم بماهية المجتمع التونسي‪ ،‬وتحوالته‬
‫عازماً على أن يكون مجموع تلك الشخصيات‪ ،‬كما عائلة تونسية تحتمل المقدس‪،‬‬
‫والمدنس في آن معاً‪ ،‬تماماً كما كانت فريدة في أسلوبها‪ ،‬والفتة في التعبير عن سياقات‬
‫تحوالت المجتمع التونسي‪ ،‬االقتصادية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وفق أبعاد أخالقية‬
‫أصبحت ال ُمشكل األهم في حضورها المقدس‪ ،‬وامتداداتها المدنسة‪ ،‬واللتان يخبرنا بهما‬
‫الراوي العليم بصورة حاذقة‪ ،‬ومعبرة عن روح الهزيمة‪ ،‬واستمرار العيش على فتات‬
‫انتصارات صغيرة‪ ،‬وواهمة‪ ،‬وشعارات كاذبة‪ ،‬ومخادعة‪ ،‬دون الخروج عن نمط‬
‫الحكايات الواصفة للحال الذي كانت عليه تونس‪ ،‬وقد انعكست كل تلك المتغيرات‬
‫بتحوالتها المختلفة على شخوص الرواية وسلوكاتهم‪.‬‬

‫‪0‬ـ العائلة السردية‪:‬‬

‫آ ــ زينة (أنروز)‪:‬‬

‫ثمة تمظهرات مقتضبة للشخصيات الذكورية داخل مكونات العائلة السردية‬


‫(‪ )narrative family‬لرواية الطلياني‪ ،‬على الرغم من حضور الكثير من األسماء‬
‫الذكورية ضمن مفاعيل الوقائع التاريخية‪ ،‬والتسجيلية التي احتلت حي اًز كبي اًر من سياقات‬
‫الرواية‪ ،‬في الوقت الذي نجد فيه أن الغلبة لحضور‪ ،‬وتمظهر شخصية المرأة التي‬

‫‪417‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫انعكست أدوارها التمثيلية على سلوكات الرجال في العائلة السردية‪ ،‬وكانت (أي المرأة)‬
‫أحد أبرز المحركات الحكائية والتسريدية التي ساهمت في تنامي األحداث داخل سياقات‬
‫حكاية الطلياني‪ ،‬حيث تبدت ظهورات الشخصيات مقرونة بمراتب هرمية‪ ،‬تبدو فيها‬
‫مفاعيل التأثيث ذات أبعاد خالفية تتعلق بالرؤية‪ ،‬والنهج كمعادلين سياسيين ينحوان‬
‫بصورة خاصة إلى تأكيد صورة المرأة ومقدار أثرها‪ ،‬حيث نلحظ الحضور األنثوي عبر‬
‫أضَفت على السرود قيمة اعتبارية شكلت في أبعادها المعيار‬
‫شخصية "زينة" التي ْ‬
‫األمَي ْز لخصوصيتها‪ ،‬من حيث أنها تحولت إلى امرأة خارقة (‪)Super woman‬‬ ‫ْ‬
‫متميزة الحضور ضمن ظهوراتها‪ ،‬ومفاعيلها السردية التي ال تقل في ميثاتها التركيبية‬
‫أهمية عن شخصية عبد الناصر‪ ،‬فكل منهما ُي ْكمل نشيد اآلخر سردياً‪ ،‬إذ إن عبد‬
‫الناصر كان زعيماً كبي اًر أيضاً‪ ،‬ويمثل تيا اًر سياسياً تحررياً في الجامعة‪ ،‬كما أنه كان‬
‫خطيباً بارعاً‪ ،‬ومقنعاً في خطاباته الصارخة والمؤثرة‪ ،‬في الوقت الذي كانت زينة من‬
‫السباب‬ ‫أكبر منتقديه والئميه‪ ،‬في الوقت الذي ال تجد حرجاً من َك ِ‬
‫يل الكثير من الشاتم و ُّ‬
‫لكل ُخطب وتوجهات عبد الناصر‪ ،‬وهي التي كانت تنعته على الدوام‪ ،‬بالمدعي‪ ،‬ومن‬
‫معه أيضاً حتى وصل األمر إلى اتهام تياره السياسي بالمخادع‪ ،‬واالنتهازي من قبلها‪.‬‬

‫صعدت الموقف بين زينة‪ ،‬ومن يمثله الطلياني‬


‫إن العديد من المعطيات‪ ،‬والوقائع َ‬
‫إلى درجة أن الجماعة أخذت قرارها باالتفاق مع الطلياني للتخلص منها‪ ،‬وقد تم‬
‫اء شدة تأثيرها على خطاباتهم السياسية‪ .‬وسلوكهم‬
‫التخطيط الغتيال "زينة" من قبلهم‪ ،‬جر َ‬
‫المشين د اخل ردهات الجامعة وفي العديد من أنشطتهم التي تنظر اليها "زينة" بعين‬
‫َ‬
‫الريبة والتوجس‪ ،‬إال أن الطلياني يتراجع في اللحظة األخيرة عن موافقته على قرار‬
‫اغتيال زينة‪ ،‬بعد أن التقاها‪ ،‬وأحبها‪ ،‬وأحبته مما جعله يسر لها‪ ،‬ويخبرها بأدق تفاصيل‬
‫عملية االغتيال التي كان من المزمع تنفيذها‪ ،‬وهذا ما دفع الرجل األول‪ ،‬والمسؤول‬
‫عن تنظيم عبد الناصر السياسي إلى موقف استشاط فيه غضباً على عبد الناصر في‬
‫الوقت الذي شرع يصرخ في وجه الطلياني قائالً‪ " :‬إن كنت خائفاً‪ ،‬فمكانك خارج‬

‫‪418‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫التنظيم‪ ،‬اخرج واترك مكانك للثوريين الحقيقيين‪ .‬هذه العاهرة ينبغي أن تزاح‪ ،‬وإن لم‬
‫(ص‪)64‬‬
‫تكن قاد اًر على ذلك سأتصرف"‬

‫ال شك أن حراك زينة السياسي‪ ،‬وتقديمها لنفسها بقوة قد لفت عبد الناصر‪ ،‬كما‬
‫أن حيويتها‪ ،‬وجمالها األخاذين جعال من عبد الناصر الطلياني فريسة سهلة المنال‬
‫أمام عنفوانها‪ ،‬وسحرها‪ ،‬فهو الذي أحس منذ أن رآها بجاذبية شخصيتها‪ ،‬وسحر‬
‫عينيها‪ ،‬وامتشاق قامتها‪ ،‬وقد استيقظت أحاسيسه تجاهها دفعة واحدة‪ ،‬لم يستطع آنذاك‬
‫مقاومتها مذ التقيا لمناقشة الطلب إليها‪ ،‬كي تخفف من انتقاداتها القاسية تجاه التيار‬
‫الذي ينتمي إليه الطلياني‪ ،‬لكنهما من بعد ذلك أصبحا يلتقيان كثي اًر‪ ،‬وقد تطورات‬
‫العالقة بينهما‪ ،‬وعقدا العزم أخي اًر على الزواج‪ ،‬لتبدأ من بعد زواجهما رحلتهما المليئة‬
‫بصخب الصراع الذي أراد الروائي المبخوت أن يبني عليه التاريخ المضطرب لحقبة‬
‫من عمر "تونس"‪ ،‬والتحوالت االحترابية التي أصابت البلد داخل تياراته السياسية‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫تلك كانت محاولة من الروائي "المبخوت" لجعل شخصية (زينة) المرأة الجميلة‪،‬‬
‫والقاهرة لمن حولها‪ ،‬أقرب ما تكون إلى شخصية قوية (‪ )strong personality‬ليس‬
‫لها مثيل في واقع المرأة التونسية‪ ،‬أو بمعنى أصح بين كل نساء الراوي العليم عبد‬
‫الناصر‪ ،‬الالتي تحولن إلى فرائس‪ ،‬وطرائد له ولنزواته‪ ،‬وهي أي "زينة" في حضورها‬
‫الالفت‪ ،‬كانت التعبير األشمل‪ ،‬كما أنها التمثيل الذي يصور في ماهيته‪ ،‬شخصية‬
‫المرأة المتمردة‪ ،‬والخارجة عن المألوف‪ ،‬بجمالها الساحر وقوة حضورها كشخصية تعتز‬
‫بنفسها‪ ،‬وتدافع بشراسة عن وجودها‪ ،‬والتي قدمت نفسها بصورة ال تخلو من التركيب‬
‫والقصدية‪ ،‬إذ كثي اًر ما يتبادر إلى الذهن أن نبحث عن المكان الالئق الذي تستحقه‬
‫شخصية "زينة" المرأة التي تحمل كل تلك التناقضات التي غرقت بها أنساق سردية‬
‫الطلياني ومساردها‪ ،‬في الوقت الذي ال نستطيع إخفاء الحيرة التي تنتاب كل من‬
‫يتقصى مفاعيل شخصية زينة‪ ،‬والتي البد ستتحول بالضرورة إلى سؤال كبير قد ال‬

‫‪419‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نجد داخل أنساق الرواية‪ ،‬اإلجابة الكافية عنه‪ ،‬وذلك لشدة التحوالت التي انتابت تلك‬
‫الشخصية‪ ،‬وجعلت منها شخصية مستديرة ومعقدة‪ ،‬كما أنها متعددة األبعاد والمعاني‬
‫(‪ )round character‬يغمرها القلق‪ ،‬وتنتابها أحاسيس الهزيمة‪ ،‬واالنكسار‪ ،‬أمام هول‬
‫ما مرت به من مشكالت عديدة‪ ،‬ومؤلمة‪ ،‬وقد تبدى ذلك في ردها على الطلياني قائلة‪:‬‬
‫(ص‪)212‬‬
‫"سري وورقتي مهتوكتان‪ ،‬شيء بغيض كريه في اللحم ال في الذهن"‬

‫البد من التأكيد على أن شخصية زينة على الصعيد الفكري‪ ،‬والسياسي‪ ،‬شخصية‬
‫"يسارية" كما أوحت بها سياقات مسارد الرواية‪ ،‬أما الجانب اآلخر لحضورها‬
‫(‪ )Presence‬فهو البعد السحري الجاذب في شخصيتها‪ ،‬إضافة إلى جماليات شكلها‬
‫الخاصة‪ ،‬وتَبدي خصوصيتها المائزة‪ ،‬وكما تقول الرواية‪ ":‬تنحدر زينة واسمها الحقيقي‬
‫(أنروز) من إحدى القرى البربرية بالشمال العربي‪ .‬ولم يكن يعرف اسمها األمازيغي‬
‫إال األصفياء الخلص مثلي أنا وعبد الناصر‪ ،‬فقد فرض بورقيبة على البربر أن يسجلوا‬
‫أبناءهم في البلديات بأسماء عربية ‪ ....‬كانت أنروز ممشوقة القوام كالرمح‪ ،‬وجه قمحي‬
‫وضاح‪ ،‬شعر قصير سبط بتسريحة مميزة ‪ ...‬ما يشد األنظار إنما هو عيناها‬
‫الخض اروان‪ ،‬خضرة‪ ،‬أخاذة غامقة ‪ ....‬ويقسم جل الخبيرين بالنساء من أصدقائنا أنها‬
‫لو اعتنت بإبراز الحد األدنى من أنوثتها لقلبت الدنيا رأساً على عقب‪ ،‬وربما بسبب من‬
‫ان‬
‫ذلك‪ ،‬حسداً أو اشتهاء أو تشفياً من هذا الجمال الذي يعسر الوصول إليه‪ ،‬لم يتو َ‬
‫خصوم طلبة اليسار من اإلسالميين‪ ،‬وغير اإلسالميين من تكنيتها بـ "عاهرة الثورة‬
‫في الوقت الذي نجدها بعد كل تلك‬ ‫(ص‪ 46‬ـ ‪)11‬‬
‫البروليتارية" أو بقرة القيادة الثورية"‬
‫الحسن الجاذب‪ ،‬والجمال األخاذ الموشى‬‫الملكات الثقافية والفكرية‪ ،‬وكذلك معالم ُ‬
‫بشغبها‪ ،‬وتشاقيها‪ ،‬ووعيها‪ ،‬امرأة ليست كما باقي النساء تمتاز بالمشاكسة‪ ،‬يضاف إلى‬
‫ذلك أنها في حقيقة األمر كانت عنيدة‪ ،‬وصلبة المراس‪ ،‬وليس لديها رغبة التغريد داخل‬
‫سرب االتجاهات اليسارية المختلفة‪ ،‬نتيجة نقدها الحاد‪ ،‬والصريح لكل تلك التنظيمات‬
‫بأطيافها المختلفة‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نتوقف عند تحوالت حيواتها‪ ،‬ونتقصى كذلك مفاعيل‬
‫سلوكها‪ ،‬من حيث أنها الطالبة الجامعية المشاكسة‪ ،‬واليسارية المتطرفة‪ ،‬وقد لفتت‬

‫‪421‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫االنتباه داخل حراك االحتجاجات الطالبية‪ ،‬دون أن تكون منتمية إلى أي حزب سياسي‬
‫بعينه‪ ،‬وكانت تدخن السيجارة أمام الجميع‪ ،‬كما تصفها الرواية في الوقت الذي يذهب‬
‫الطلبة اآلخرون لممارسة التدخين في المراحيض " كانت تجاهر بالتدخين وال تدخن‬
‫على غرار بقية التالميذ فتياناً وفتيات إلى المراحيض أوقات االستراحة كي تعمر‬
‫رأسها‪ .‬كانت تقف في ركن من أركان الساحة صحبة أصدقاء لها من األوالد والبنات‬
‫يضحكون‪ ،‬ويتحادثون وهي وسطهم تمسك بسيجارتها كأنها أستاذة" (ص‪.)46‬‬

‫لقد تميزت "زينة" بصراحتها الواضحة التي سرعان ما تتحول في لحظة ما إلى درجة‬
‫الوقاحة‪ ،‬لتبدو آنذاك شخصية إشكالية (‪ )problem‬في الوقت الذي ال تقيم فيه وزناً‬
‫لقوانين متعارف‪ ،‬ومتفق عليها‪ ،‬وإنما كانت تفعل ما تؤمن به‪ ،‬وتعتقد أنه التصرف‬
‫الصحيح بعيداً عن أي قيد اجتماعي أو أخالقي‪ ،‬وما انفكت تجاهر بصراعها مع‬
‫السلفيين‪ ،‬واألحزاب الشيوعية التقليدية‪ ،‬وتكيل لهم الشتائم والسباب‪ ،‬وتؤمن إيماناً مطلقاً‬
‫بحرية الجسد‪ ،‬والجنس‪ ،‬وتمارس متعتهما بمنتهى السعادة والحرية‪ ".‬صارت تغادر‬
‫المبيت‪ ،‬دون رخصة من اإلدارة‪ ،‬أو الولي متى شاءت‪ ،‬وتعود إليه في أي ساعة تريد‪.‬‬
‫قال لها المدير يوماً‪ :‬لسنا فندقاً هنا‪ .‬عليك االلتزام بالنظام الداخلي وإال طردن ِ‬
‫اك‪...‬‬
‫أجابته‪" :‬حين تصلحون النوافذ المكسورة التي تدخل إلينا منها الرياح واالمطار‪ ،‬وحين‬
‫تنظفون المراحيض‪ ،‬وتقضون على الروائح الكريهة التي تنتشر في الممرات واألدراج‬
‫وقاعات النوم ‪ ...‬وحين تعتنون بصحة التالميذ‪ ،‬وال تكتفون بحبة أسبرين ‪ ....‬يومها‬
‫تصبحون فندقاً مريحاً‪ ،‬ال يهرب منه التالميذ‪ .‬ـ ـ أنت وقحة سأطردك من المبيت‬
‫والمعهد‪ ،‬ردت زينة على تهديده بتهديد أقوى‪ .‬ـ إذاً أنت ستنتقم للقيم العام الذي ال‬
‫(ص‪46‬‬
‫أعرفه‪ ،‬أين ذهب؟ أنت "إخوانجي" أعرف ذلك‪ ،‬تكره المرأة وتعادي سياسة الدولة"‬
‫ـ ‪)42‬‬

‫ذات يوم است دعي والد "زينة" إلى المعهد الذي تدرس فيه‪ ،‬لمناقشته حول وضع‬
‫ابنته‪ ،‬وإخباره عن تصرفاتها‪ ،‬فكان رده حاسماً حين قال‪ " :‬إنه ال يتحكم فيها فهي ابنة‬

‫‪421‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كما لم يتحرج‬ ‫(ص‪)42‬‬


‫بورقيبة الذي جعل النساء متقويات على الرجال واآلباء واإلخوة"‬
‫أبداً حين أوضح للمدير "أنه نفض يديه منها‪ ،‬ولم تعد تكلمه منذ سنوات‪ ،‬ال تعتبره أباً‬
‫لها‪ ،‬وأقسمت أمام العائلة أن األم أكثر رجولة منه‪ ،‬كانت تنعته بالحقير السكير المتخلف‬
‫(ص‪)42‬‬
‫ولوال بقية حياء لطردته من البيت"‬

‫مما ال شك فيه أن شخصية "زينة" القلقة على الدوام‪ ،‬كانت أشبه بالريح التي‬
‫تعصف بكل من يقف في طريقها دون اعتبا اًر وال استثناء‪ ،‬وهي في ذلك ما انفكت‬
‫تبحث بال هوادة عن استعادة (‪ )reconquest‬كرامتها المهدورة في بيت أبيها آنذاك‪،‬‬
‫وكذلك اإلهمال الذي ُمورس نحوها‪ ،‬وحرمها من حقوقها اإلنسانية‪ ،‬وكرامتها جراء‬
‫اغتصابها من قبل أبيها أو أخيها‪ ،‬أو شخص آخر من خارج البيت‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫هي ال تعلم أياً منهم قام بفعل ذلك األمر في لحظة ما‪ ،‬وقتها لم تتمكن من الدفاع عن‬
‫نفسها كما تقول‪ ":‬كان أبوها وأخوها ينامان على الدكة يتصاعد شخيرهما من شدة‬
‫التعب‪ ،‬ومفعول السجائر وال شك‪ ،‬أما هي‪ ،‬فتنام على الحصير في األسفل‪ ،‬وقد التفتت‬
‫إ لى حائط الدكة‪ .‬أحست ليلتها أو فجرها‪ ،‬أو قبيل الفجر بسكين من لحم يخترقها من‬
‫الخلف نحو الدبر والقبل مرة أخرى كان السكين ينزلق بفعل الزيت الذي دهنت به‪ ،‬أو‬
‫بفعل ماء آخر سال من السكين‪ ،‬أو بفعل الدم الذي نزف منها‪ ،‬ووجدته على مالبسها‪،‬‬
‫وفوق الحصير‪ ،‬حين استفاقت‪ .‬لم تصدق‪ .‬أرادت أن تلتفت‪ ،‬أن تصرخ‪ ،‬أن تبتعد‬
‫بجسمها‪ ،‬ولكن السكين كان صلباً قاطعاً يتحرك داخلها كالمنشار‪ .‬يد على فمها تكتم‬
‫أنفاسها تمنعها من الصراخ‪ ،‬واألخرى تلصق رأسها بالحائط‪ ،‬حتى تشل حركتها ‪...‬‬
‫من صاحب السكين؟ أبوها؟ أخوها؟ شخص آخر؟ لكن الرائحة تعرفها رائحة السنابل‬
‫والتراب" (ص‪ 212‬ـ ‪.)216‬‬

‫ذلك ما يجعلها شخصية مستديرة‪ ،‬ومتعددة األبعاد كما أنها متكاملة ( ‪round‬‬
‫‪ )character‬تحتمل أوجهاً وأدوا اًر َّ‬
‫مركبة‪ ،‬وعديدة لكونها "شخصية تعويضية" في بنيتها‬
‫وعمارة تفاصيلها‪ ،‬متغيرة ومتبدلة‪ ،‬وتعاني حالة االكتئاب الذاتي (‪)Self-sufficiency‬‬

‫‪422‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تجاه العديد من المواقف التي تتعرض لها في الوقت الذي نجدها ال تتوانى عن فعل‬
‫كل ما يحلو لها كشخصية قلقة (‪ )anxious character‬تحاول في كل مرة التأكيد‬
‫ثم لآلخرين بأنها تمتلك حريتها‪ ،‬وكرامتها التي سلبت منها ذات ليلة‪،‬‬
‫لنفسها أوالً ومن َّ‬
‫حين فقدت بكارتها بفعل ِسفاح المحارم‪ )incest( ،‬وهذا ما جعلها تعيش حالة شك‬
‫تجاه كل الثوابت التي تعلمتها‪ ،‬وتصب جام غضبها على "التيارات الدينية‪ ،‬والحركات‬
‫ان عن تصويب مدافعها الفكرية الفتاكة‪ ،‬والمؤثرة تجاه‬‫السلفية الجهادية كما لم تتو َ‬
‫اليسار بعديد ألوانه األيديولوجية المختلفة‪ ،‬إضافة إلى الحركات الطالبية‪ ،‬والنقابات‬
‫المهنية التي وجدتها تغرق في الفساد‪ ،‬إذ كانت جل تصريحاتها وكلماتها " نقداً حادًا‬
‫عنيفاً لما تسميه الوعي الطالبي البائس‪ ،‬والحركات الفاشية ذات المشروع الديني‬
‫االستبدادي‪ ،‬واليسار بمركزيته المفرطة‪ ،‬وتشرذمه السرطاني‪ ،‬البيروقراطي‪ .‬كانت‬
‫ترفض االحتراب الحزبي السياسي‪ ،‬وتعتبر عبد الناصر من هذا ِ‬
‫الصنف" (ص‪ )14‬وكأن‬
‫"الروائي المبخوت" أرادها أن تكون شخصية إشكالية‪ ،‬وأنموذجاً الفتاً لليسار السياسي‪،‬‬
‫والفكري الذي وجد نفسه في متاهة معقدة َغيَّبت أهدافه‪ ،‬وقضمت قيمه األخالقية‬
‫لتتحول شخصية زينة المعبرة عنه‪ ،‬والممثلة له بعد طالقها من عبد الناصر التي كانت‬
‫بالنسبة له وحسب ما َس َّر به لصديقه المقرب‪ ":‬تعرف هذا العقل الجبار الذي أمامك‬
‫(يقصد عقل زينة) صوب لي أخطاء معرفية ومنهجية لم أتفطن إليها أبداً‪ ....‬إنها‬
‫شعلة من الذكاء ‪ ...‬ولكن الراجح عندي أنه يجلس منها مجلس التلميذ أمام أستاذه‬
‫حتى إنها في‬ ‫(ص‪)161‬‬
‫خالطاً بين العلم‪ ،‬وموضوعيته‪ ،‬وما بينهما من عالقة ملتبسة"‬
‫إحدى المرات واجهت عبد الناصر‪ ،‬وأحرجته حين ردت عليه قائلة‪ ":‬أنت تصادر رأي‬
‫حقي في التعبير شأنك شأن نظام بورقيبة" (ص‪.)62‬‬

‫لكن األمر بدا في خواتيم رحلتها مع عبد الناصر الطلياني الفتاً‪ ،‬ويحمل في‬
‫طياته مأساة امرأة داخل أنساق سرديتها‪ ،‬حيث بدت "زينة" أكثر واقعية في مناقشة‬
‫خارطة طريق تنهي عالقتها بالطلياني‪ ،‬وتسافر إلى فرنسا لتتزوج برجل فرنسي ُم َسن‬
‫ائر يلقي بعض الدروس في‬
‫يدعى "إريك" كانت قد تعرفت إليه حين كان أستاذاً ز اً‬
‫‪423‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الجامعة بتونس‪ ،‬وحين عاد إلى فرنسا بقيا على تراسل حتى في الفترة التي كانت‬
‫متزوجة من الطلياني حيث بدت العالقة بين زينة وزوجها الجديد "أريك" متناغمة‪،‬‬
‫ومنسجمة‪ ،‬وال تخلو من الود والمحبة‪ ،‬فهو على الدوام يتأملها‪ ،‬ويداعبها كما دمية في‬
‫الوقت الذي نجده يحاول إشعارها باألمان‪ ،‬واالستقرار بعد أن انتقلت للعيش معه في‬
‫باريس‪ .‬على الرغم من فارق السن الكبير بينهما لكنه كان يعبر لها دائماً عن سعادته‬
‫الغامرة في الوقت الذي نجد فيه الراوي الغائب (‪" )absent narrator‬صديق" عبد‬
‫الناصر‪ ،‬وصديقها السابق أيضاً ال يتوانى عن نقل أخبار زينة الباريسية قائالً‪ ":‬والواقع‬
‫أن القليل الذي عرفته عن زينة في تجربتها الباريسية‪ ،‬وعن حياتها مع إريك وبعض‬
‫األخبار التي أمدتني بها‪ ،‬أو حصلت عليها من باب الصدفة‪ .....‬تمكنني من أن‬
‫أتصور المسار المأساوي الذي سارت فيه‪ ،‬والنهاية المرعبة التي انتهت إليها ‪ ...‬ذهبت‬
‫من أجل أن تصبح مبرزة أو دكتورة أو أستاذة جامعية‪ ،‬فلم تحقق من حلمها إال أن‬
‫أصبحت تعيش في كنف إريك طفلة شقية يتلهى بها‪ ،‬وهو الشيخ المتصابي بمعاييرنا‬
‫التونسية‪ ..‬وعلى كل حال لم يعجبني المصير الذي آلت إليه زينة‪ ،‬لو بقيت مع عبد‬
‫الناصر لكانت حالها مختلفة" (ص‪.)161‬‬

‫وال يفوتنا هنا في هذا المفصل أن ثمة أم اًر هاماً أيضاً ذكرته "زينة" كما يقول صديقها‬
‫السارد المتواري (‪ )overt narrator‬وكانت قد أخبرته به من قبل‪ ،‬وشرع ِ‬
‫يفسر األمر‬
‫فسرت لي زينة بعد أن ترددت في فرنسا على طبيب نفساني بأن‬
‫للطلياني قائالً‪ ":‬وقد َّ‬
‫األمر كما قال لها الطبيب المحلل‪ ،‬يحمل ذكرى بعيدة من يوم سكين اللحم الذي‬
‫خرقها‪ ،‬واعترفت أنها استراحت بعد ذلك بمدة قصيرة" (ص‪ )262‬في الوقت الذي خسرت‬
‫فيه زينة آخر أوراقها التي كانت تراهن على اللعب بها باسم اليسار‪ ،‬والتقدمية‪ ،‬والفكر‬
‫الحر بصورة مباشرة وواقعية‪ ،‬وعملية أيضاً من خالل انخراطها بين الناس‪ ،‬ودخول‬
‫التجمعات الشعبية والطالبية لممارسة الحق المشروع في التعبير عن حريتها‪،‬‬
‫صدمت حين لم تتحصل على‬ ‫والمساهمة في توعية الناس‪ ،‬لكنها في حقيقة األمر ُ‬
‫المريع والداهم بأم عينها مما جعلها تتحول‬
‫النتائج التي كانت ترجوها‪ ،‬ورأت الفشل ُ‬
‫‪424‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عندئذ إلى االتجاه اآلخر كتجربة عالمية أو لنقل أممية وجدت ضالتها في فكر "اليسار‬
‫الباريسي" الذي عمق حضوره الفكري ومظهر أبعاده اإلنسانية في حياتها‪ ،‬وقد ساعد‬
‫ها في ذلك زوجها األخير الفرنسي "إريك"‪.‬‬

‫تلك هي الصفات‪ ،‬والمفاعيل التي قدمت شخصية "زينة" ومنحتها أبعاداً سردية‬
‫خاصة‪ ،‬ومتميزة انعكست بدورها على حراك الشخصيات التي دارت في فلكها الحكائي‬
‫مثل شخصية "نجالء"‪ ،‬وشخصية "إنجيليكا" اللتين تشاركتا معها مهمة اللعبة األخالقية‪،‬‬
‫وبعدي الهزيمة‪ ،‬واالنكسار في تجاربهم العتيدة مع الطلياني في السرير‪ ،‬أو خارجه أو‬
‫في العلم أو غيابه جملة من المتناقضات دارت رحاها بيت الطلياني وفرائسه التي‬
‫كانت على رأسها زينة الجميلة‪.‬‬

‫ب ــ عبد الناصر "الطلياني"‬

‫ليس أشد قذارًة‪ ،‬واتساخاً على الثياب والهيئة من عبد الناصر حين كان صغي اًر‬
‫سوى "بوك علي" هكذا كانت أخته "جويدة" تصفه كلما وجدته غارقاً في أوساخه‪ ،‬وقذارة‬
‫هيئته‪ ":‬كان "بوك علي" في خيال العائلة شخصاً يضرب به المثل‪ .‬فحين يذهب‬
‫الطلياني لينام دون أن يغسل رجليه‪ ،‬أو يتكاسل عن غسل يديه بعد الطعام أو يعود‬
‫إلى البيت متسخ الثياب‪ ،‬أو حين تحك له أخته جويدة جسمه في الحمام‪ ،‬وتجد ركبتيه‬
‫متسختين إثر الكجة كثي اًر ما كانت تردد على مسامعه‪ ":‬ما أكثر وسخك كأنك بوك‬
‫علي" (ص‪12‬ـ‪ )16‬تلك قذارة عبد الناصر في ثيابه‪ ،‬والتي سرعان ما تزول حال غسلها‪،‬‬
‫واالهتمام بها‪ ،‬إال إن األمر المتعلق بقذارة مواقفه السياسية‪ ،‬أو األخالقية‪ ،‬فإنهما‬
‫بالضرورة‪ ،‬ال يمكن أن تزول قذاراتهما وأوساخهما بالماء‪ ،‬والصابون‪ ،‬كما كانت أخت‬
‫الطلياني جويدة تفعل بثيابه حال اتساخها‪ ،‬أو كما هي أجزاء من جسمه المتسخ‪ ،‬واألمر‬
‫األكثر إدهاشاً أن "القذارة" على الصعيدين األخالقي‪ ،‬والسياسي قد الزمتا الطلياني في‬
‫مسار رحلته حتى مآالت خواتيمها أيضاً‪ ،‬في الوقت الذي كان يرد على المحتجين من‬
‫األسرة على قذارة ثيابه‪ ،‬وإهماله داخل غرفته التي ورثها من أخيه صالح الدين قائال‪:‬‬

‫‪425‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫" غرفتي وأنا حر فيها‪ ،‬أو أحب األوساخ اتركوني وشأني‪ ،‬وإال غادرت البيت دون‬
‫‪.‬‬ ‫(ص‪)24‬‬
‫رجعة"‬

‫لكن ولكثرة ما كانت األم زينب تلح عليه‪ ،‬وتأنبه من جهة‪ ،‬وكذلك أخته جويدة‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وهما تنعتانه بالوسخ‪ ،‬وأنه شبيه بقذارة وإهمال "بوك علي" ونتيجة توتر‬
‫األوضاع بينهم تدخلت لآل جنينة زوجة الشيخ عاللة لتهدئة احتراب األم زينب‪،‬‬
‫واألخت جويدة مع الصبي عبد الناصر آنذاك بعد أن قالت أمه زينب للجميع ‪ ":‬لم‬
‫ومن يومها صارت لآل جنينة المسؤول األول‪،‬‬ ‫(ص‪)22‬‬
‫يعد يعنيني أمر ولد الحرام"‬
‫واألخير عن الطلياني دون غيرها‪ " :‬جنينة هي التي أصبحت تعتني به حتى في‬
‫(ص‪)22‬‬
‫اغتساله وتدلله‪ ،‬وتشبعه قبالت حارة‪ ،‬وتضعه بين يديها وفي حجرها تالعبه"‬
‫ومن يومها أصبحت لآل جنينة كل شيء بالنسبة له " بدأ الطلياني يتعلم على يدي لآل‬
‫جنينة ألواناً من فنون الجسد المختلفة‪ ،‬كانت معلمة ماهرة لم ِ‬
‫تخف عليه أي شيء‪ ،‬ولم‬
‫‪.‬‬ ‫(ص ‪26‬ـ ‪)41‬‬
‫أح َّس أحياناً بالتخمة فقد كانت جنينة نهمة شرهة"‬
‫تبخل عليه‪َ ،‬‬
‫لقد تعلم الطلياني فنون مراوغة‪ ،‬ومداعبة النساء‪ ،‬وخداعهن كما أدرك منذ صباه أن‬
‫الخيانة مسألة ليست شائنة في بعدها األخالقي‪ ،‬وهي حاجة تُستخدم حين تدق ساعة‬
‫الحاجة لها‪ ،‬كما أن الخيانة وقد ألفاها أسلوباً يحقق نوعاً من زهو التذاكي‪ ،‬والشعور‬
‫باألهمية القصوى حين خداع أحد ما‪ ،‬أو خيانته‪ ،‬وهو أي "الطلياني" كان قد استساغ‬
‫تعرف على كل‬
‫فعل الخيانة‪ ،‬والمخادعة منذ أن سوغتها له مربيته لآل جنينة‪ ،‬وقد َّ‬
‫تفاصيل خيانتها لزوجها معه هو‪ ،‬ومن قبله كان أخوه صالح الدين عشيقها قبل أن‬
‫يسافر إلى بلجيكا‪ ،‬ولربما غيرهما أيضاً‪“ :‬عرف بالخصوص رائحة جنينة باعتبارها‬
‫خالصة روح األرواح‪ ..‬كانت تجلس قربه تتأمله وهو يراجع دروسه ‪ ...‬تنظر إليه‬
‫بعينين ساهمتين أحياناً حالمتين أحياناً أخرى‪ .‬تبتسم له ‪ ...‬لم يفهم عبد الناصر وقتها‬
‫ِل َم كانت تفعل ذلك‪ ..‬أصبحت لآل جنينة تزيد من احتضانه وتسرف في تقبيله وهو ابن‬
‫الرابعة أو الخامسة عشرة من العمر‪ .‬في البداية كانت تقبله كعادتها منذ صغره من‬

‫‪426‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لكن شفتاها وهي تقبله صارتا كتلتين من لهب تلسعانه لسعاً لذيذاً‬
‫خديه ورقبته‪ْ ،‬‬
‫(ص‪)22‬‬
‫‪...‬تمص رقبته برقة أحياناً وبعنف أحياناً أخرى"‬

‫إن ما اكتسبه الطلياني في صباه على يد لآل جنينة‪ ،‬الزمه ورافقه في حيواته شاباً‬
‫في الجامعة‪ ،‬وفي عمله كصحفي المع من بعد ذلك إضافة إلى شكله الوسيم الذي ال‬
‫يقاوم‪ ،‬وملكته المدهشة في لفت األنظار نحوه‪ ،‬وهو غير منفك عن مراوغة جميع من‬
‫حوله حتى إنه صار يشعر‪ ،‬ويحس أن ما يفعله هو فراسة‪ ،‬وخبرة بمعرفة النساء‪،‬‬
‫ورغباتهن من جهة‪ ،‬ومن الجهة األخرى وجد نفسه سياسياً بارعاً في إذاعة شعارات‬
‫مخادعة تَعد بما ليس فيها حتى إنه بدأ يطلب من اآلخرين تصديق شعاراته اليسارية‪،‬‬
‫أخبر الناس بكذبها‪ ،‬وخيبة أهدافها مما اضطر التنظيم السياسي الذي يتبع له‬
‫وهو ُ‬
‫الطلياني بالتحفظ على وجوده داخل التنظيم‪ ،‬واعتباره انتهازياً حيث إن‪ ":‬من أهداف‬
‫التيار القضاء على االنتهازيين وبالخصوص عبد الناصر الذي يتهمه األستاذ باالنقالب‬
‫على مبادئ التيار وأكبر عيوبه أنه "بلدي" من العاصمة برجوازي صغير‪ ،‬حقير مستعد‬
‫(ص‪)62‬‬
‫للتحالف مع الشيطان بما في ذلك الدساترة‪ ،‬والخوانجية للحفاظ على زعامته"‬
‫حتى تبدى له األمر كما حاالت من الضياع‪ ،‬والهزيمة‪ ،‬واالنكسار بعدما تسربت إليه‬
‫المعلومات القاضية باستهدافه‪ ،‬وطرده من "التيار" في وقت أدرك من خالله أن ال‬
‫شيء قابل للتحقيق من كل تلك الشعارات المخادعة‪ ،‬التي أطلق لها العنان في سماء‬
‫الجامعة بين الطلبة‪ ،‬وعلى المنابر الثقافية‪ ،‬والسياسية المختلفة‪ ،‬وقد أدرك مبك اًر مهزلة‬
‫خواتيم تجربته السياسية‪.‬‬

‫لذا كان الطلياني أول من أعلن الهزيمة‪ ،‬واستسلم لنزواته ممهداً الطريق لقبول‬
‫معادلة الخالص الفردي‪ ،‬الذي ال بد سيريحه من عناء القلق والتفكير بمستقبل تأكد‬
‫من عبثية انتظاره واستحالة أن يكون له مكان فيه‪ ،‬وحين وجد الفرصة المناسبة تقبل‬
‫فكرة العمل في صحيفة حكومية يفعل ما تريده منه‪ ،‬وفقاً لما يقارب نهجها الرسمي‪،‬‬
‫والحكومي على الرغم من إبداء بعض التبرم بالرفض في بادئ األمر‪ ،‬لكن في خواتيم‬

‫‪427‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تعنته يقبل العالقة‪ ،‬وينصاع لما طلبه منه "سي عبد الحميد" المدير العام من أجل‬
‫الكتابة عن البطل "بن علي" الذي عده المخلص‪ ،‬أو المنقذ من مرحلة "بورقيبة" حتى‬
‫لو حاول تبرير األمر وفق جملة من الشروط‪ ":‬دعاه سي عبد الحميد وهمس في أذنه‬
‫‪ ":‬افعل ما تشاء ما يهمني هو الصفحة األولى ودعم التغير وبن علي أفهت؟ هذا ليس‬
‫عدداُ من الجريدة إنه موقف سياسي‪ .‬انكب عبد الناصر على عمله‪ ،‬أعد تصميم‬
‫(ص‪)124‬‬
‫الصفحات بسرعة مذهله‪".‬‬

‫لقد كان للتبديات األولى التي انعكست على سلوك الطلياني ثمة العديد من‬
‫المتغيرات الجوهرية التي هيمنت بصورة‪ ،‬أو بأخرى على حيواته‪ ،‬فقد أصبح منذ قبوله‬
‫التعاون والتشارك مع "سي عبد الحميد" شخصاً مطواعاً في حراكه‪ ،‬ومنصتاً بكل أناة‬
‫إلى الهسهسات اإلشارية التي كان يهمس بها المدير المسؤول عن الجريدة‪ ،‬وقد ألفاها‬
‫" الطلياني" لغة تؤدي دور فلسفة مفهوم الدولة‪ ،‬وسياقها التاريخي في رأسه الذي خضع‬
‫لغسيل دماغ أنفق سي عبد الحميد الوقت الكثير لتخليصه من ذاكرته اليسارية الهشة‬
‫والمنكسرة والمخذولة أيضاً لكثرة الهزائم في أهدافها وتقلب دعاتها‪ ،‬وهو "أي سي عبد‬
‫الحميد" غير منفك يتلو على مسامع الطلياني وصايا الطاعة‪ ،‬وقد وجدناه وقتئذ في‬
‫إنصاته‪ ،‬مسترخياً‪ ،‬وسعيداً في متاهات ملذات السلطة‪ ،‬وتباشير الخالص الفردي الذي‬
‫طمح له مؤخ اًر‪ ،‬حيث وجد سعادة ال توصف في معاشرة كبار المسؤولين‪ ":‬الدولة أكبر‬
‫كذبة صنعتها البشرية وصدقتها‪ ،‬الدولة هي أنا وأنت والسكرتيرة التي تبذل لي في‬
‫المكتب جسدها دون أن أطلب ذلك ألنني أمثل الدولة في عينها‪ .‬معروف منذ القدم‬
‫أن الدولة أمارات وعالمات‪ ،‬ولكنها ال تلمس أنها إله خفي لم يحقق أخد وجوده ال‬
‫(ص‪)121‬‬
‫يرى‪ ،‬لذلك يحبونه ويكرهونه"‬

‫ما من شك أن الطلياني كان مدركاً للعبة التي جذبه نحوها المدير العام "سي عبد‬
‫الحميد " منذ البداية كما أنه أحس بمقدار‪ ،‬وأهمية سي عبد الحميد‪ ،‬وتأثيره على نجاحه‬
‫في عمله‪ ،‬أو لربما طرده من وظيفته التي بدأت ثمار لعبتها القذرة تنضج‪ ،‬وسيحين‬

‫‪428‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بالضرورة قطافها‪ ،‬فراح ينصت من جديد إلى تعليمات المعلم األول‪ ،‬والصديق الوفي‬
‫سي عبد الحميد في اآلن ذاته‪ ":‬الصحفي الحقيقي هو الذي له صالت بالداخلية‪..‬‬
‫بالكبار فيها يتزود بالمعلومات ليعرف اتجاه الريح‪ .‬البد له من عالقات مع دوائر القرار‬
‫شريطة أال يصبح واشياً قواداً نماماً رخيصاً‪ ،‬فتغلق دونه حنفية األسرار‪ ،‬ولحاساً متزلفاً‬
‫حقي اًر‪ ،‬فيركل ويرمى خارج الدائرة" (ص‪ )212‬في حين من ذلك البد أن يفهم األمر على‬
‫أنه رسالة وجهها سي عبد الحميد بصورة مبطنة‪ ،‬وغير مباشرة كعادته إلى عبد الناصر‬
‫بعد أن تمكن منه وجذبه نحو التغيير الذي يراد له أن يكون فيه فاعالً‪ " :‬فهم عبد‬
‫السكر‪ .‬كان يعرف ذلك إذا أصبح متطرفاً‬
‫الناصر أن سي عبد الحميد قد أطبق عليه ُّ‬
‫في أفكاره يعمم ويسعى إلى البرهنة على تعميماته‪ .‬كان يحتقر الشعب وال يؤمن إال‬
‫بالنخبة‪ ،‬وال يأسف إال على انحدار النخب إلى مستوى الرعاع في طريقة التفكير‬
‫والطموح واألحالم الصغيرة ومما كان يعجب عبد الناصر في الرئيس المدير العام أنه‬
‫ال يستثني نفسه من هذا النقد القاسي حين تبدأ آلة عقله الكاسحة‪ ،‬تزيل كل ما يوجد‬
‫(ص‪)122‬‬
‫أمامها"‬

‫على الضفة األخرى كأن جذوة الخيانة‪ ،‬والغدر قد استيقظت في أعماق الطلياني‬
‫وتعرف في‬
‫دفعة واحدة حين زار برفقة زوجته زينة أخاه صالح الدين في سويسرا‪َّ ،‬‬
‫سهرة الليلة األولى لوصولهم على أخت زوجة أخيه صالح الدين المدعوة "إنجيليكا"‬
‫نصب األشراك‪ ،‬و ِ‬
‫الفخاخ بأسلوب رقيق ودافئ تعود على استخدامه‬ ‫ِ‬ ‫لتبدأ آنذاك لعبة‬
‫فيه‬‫عبد الناصر حين تصطخب في رأسه لذة الخيانة‪ ،‬والغدر في الوقت الذي لم ُي ِق ْم‬
‫أي شكل من أشكال االحترام لزينة زوجته‪ ،‬وحبيبته‪ ،‬وقد شرع ينصت إلى انجيليكا وهي‬
‫تهمس له‪ ":‬تراني مبتهجة دائماً‪" ..‬ال يغرنك" تلك طريقتي في تجاوز وجعي‪ ..‬لست‬
‫صحيح أن الطلياني كان المبادر دون شك لكن إنجيليكا كانت أيض ًا‬ ‫(ص‪)222‬‬
‫قديسة"‬
‫تحاول غوايته‪ ،‬وقد شرع كل منهما يستدرج اآلخر دون أي التفات لمن حولهم مما‬
‫استدعى أخاه صالح الدين إلى طلب الحديث معه على انفراد هامساً‪:‬‬

‫‪429‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫" همس في أذنه‪ :‬ـ أعرف أنك انجذبت إلى إنجيليكا ولكن كن كيساً وال تثر غيرة‬
‫زينة‬

‫ـ لم أفعل شيئاً يثير غيرتها‪ ،‬كنت أتحدث معها بل أستمع إليها‬

‫ـ ال وقت للنقاش‪ .‬كنت جذالً وأنت تنصت إليها وكانت زينة ترمقكما بين الفينة‬
‫(ص‪)224‬‬
‫واألخرى"‬

‫من المؤكد أن صالح الدين أعرف المقربين من غيره بأخيه الطلياني‪ ،‬كما أنه‬
‫الداري‪ ،‬والخبير بما يفكر أخوه المتحفز‪ ،‬وهو يحيك شباكه وأشراكه الصطياد "إنجيليكا"‬
‫لكن الطلياني وعلى الرغم من تحذير صالح الدين المبطن له وألنه يعلم أن التحذير‬
‫من أجل أن ال يكت شف أمره أمام زينة‪ ،‬ولم يكن قصد صالح الدين ثنيه عن االقتراب‬
‫من "إنجيليكا" أو منعه عنها‪ ،‬وهذا ما جعله يشعر بموافقة أخيه صالح الدين على‬
‫األمر أو حياديته أصالً أمام مسألة رغبة معاشرة أخت زوجته‪ ،‬ألخيه‪ ،‬وهذا ما جعل‬
‫الطلياني يقدم على االنفراد بها بعد أن ذهبت زينة إلى غرفتها‪ ":‬غادر الجميع قاعة‬
‫الجلوس إال إنجيليكا وعبد الناصر على أريكتين متقابلتين‪ ،‬غيرت مكانها التحقت‬
‫باألريكة التي يجلس عليها‪ ..‬نظرت في عينيه وسألته إن كان يريد جعة أو كأس‬
‫شمبانيا‪ ..‬كانت لطيفة معه‪ ،‬كانت جم اًر يلتهب موقداً بال رماد يتقد حطبه اتقاداً‪ ،‬غمرته‬
‫بأنوثة مميزة شفتان تحدثان دغدغة في الجسم كريش نعام‪ ..‬كانت تؤدي دورها بحماس‬
‫(ص‪222‬ـ ‪)226‬‬
‫وابتهاج ووجع‪".‬‬

‫كل ذلك جرى بعيداً عن عيون زينة‪ ،‬وقريباً منها‪ ،‬وهي التي يعتبرها الطلياني‬
‫الحبيبة الخالدة‪ ،‬واألزلية في أعماقه‪ ،‬وال ينفك عن مغازلتها بين الفيفة واألخرى‪ ،‬وكذلك‬
‫اإلشادة بجمالها‪ ،‬وسحرها األخاذين إضافة إلى مديح تجربتهما‪ ،‬ورابطهما المقدس عبر‬
‫زواجهما ومصيرهما المشترك في الوقت الذي تتمظهر خيانة جديدة للطلياني من خالل‬
‫عالقته الصادمة مع "نجالء" صديقة زوجته زينة‪ ،‬والتي سرعان ما تتحول إلى لبوة‬
‫شرسة‪ ،‬وهي تدافع عن صديقتها لكنها في اآلن ذاته ال تدخر جهداً أمام قبول خيانتها‬

‫‪431‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مع الطلياني‪ " :‬كانت متنمرة في الدفاع عن زينة بشكل لم يتخيله‪ .‬تخونها مع زوجها‬
‫(ص‪)111‬‬
‫وتدافع عنها"‬

‫يومها تحول الطلياني إلى حالة من االستجابة المطلقة أمام نجالء التي اقتلعته من‬
‫جذوره‪ ،‬وقد تبدت كما ريح عاصفة كلما انتابتها رغبة لقاء الطلياني تسارع دون رادع‬
‫أو تحرج إلى خلق أي مناسبة من أجل زيارة صديقتها زينة‪ ":‬ظلت نجالء بهية سخية‬
‫تعرف ماذا تريد من الطلياني‪ .‬تمنحه كل ما ينقصه وأكثر‪ ،‬وال تزعجه في حياته‪ .‬تعرف‬
‫يمس روحها‬
‫متى تظهر له ومتى تختفي دائماً متجددة ال يؤثر فيها كر األيام‪ ،‬وال ُ‬
‫الحلوة المرحلة‪ .‬فتنة بعثها الله للطلياني" (ص‪ )111‬وعلى الرغم من ذلك أحس الطلياني‬
‫في لحظة ما بالذنب‪ ،‬وقد امتد في باله شريط خياناته كلها‪ ،‬وكأن رائحة لآل جنينة في‬
‫ذاكرته‪ ،‬كما مفاعيل عصف سرعان ما يتحول إلى دافع يتضوع رائحتها على الدوام‪،‬‬
‫كلما نبتت في طريقة امرأة جميلة‪ ،‬وساحرة‪ ،‬كما هي نجالء التي حينما خان زينب معها‬
‫في بيت الزوجية‪ .‬تحولت تلك الليلة المجيدة التي قضاها معها إلى ليلة ليالء‪ ،‬حيث‬
‫نامت في أحضانه‪ ،‬وعلى همس نجالء الجميلة‪ ،‬والساحرة وفي فراش صديقتها المقربة‬
‫زينة‪ ،‬غرق الطلياني في خيانته التي استساغ طعمها اللذيذ‪ ،‬وسعى كمن أصابه َم ٌّس‬
‫من الجنون وشرع يعلن أمام نجالء عن رغبته القاتلة في أن يزيد إلى ملتقاهم هذا‬
‫ليلتين إضافيتين معها في فنادق الحمامات‪ ":‬اقتربت منه‪ ،‬ورسمت على وجنته بشفتين‬
‫مرتعشتين قبلة‪ ،‬أغمض عينيه يتصنع التخدر‪ .‬قال لها وهو يرد القبلة على خديها‬
‫بأحسن منها ـ ما أطيب رائحتك‪ ...‬وما أرق قبلتك! كفى‪ ،‬قرصت يده‪ ،‬وأسرعت تقطع‬
‫(ص‪)222‬‬
‫الطريق"‬

‫لم تُظهر نجالء من أخالقيات الصداقة‪ ،‬والوفاء إال تبرير خطوات خيانتها‬
‫أفاعيله َّن بحجج‬
‫ُ‬ ‫يذهبن في تبرير‬
‫َ‬ ‫لصديقتها‪ ،‬وفق أخالق العاهرات وبنات الكار حين‬
‫ما أنزل الله بها من سلطان فهي التي‪ ":‬احترفت العهر ببطاقة شبه رسمية‪ .‬أصبحت‬
‫تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة‪ .‬صارت المفضلة لدى‬

‫‪431‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المناضلة الكبيرة في جمعية األمهات‪ ،‬تدفعها إلى أن تكون أماً لكل يتيم من أبناء بن‬
‫علي تساعده حتى يؤدي مهامه الجليلة من أجل الوطن في دولة التغيير المبارك والعهد‬
‫في الوقت الذي جعلت نجالء من مسألة عدم الوفاء لزينة يعود‬ ‫(ص‪)164‬‬
‫الجديد السعيد"‬
‫إلى انشغالها بالدراسة‪ ،‬وطموحها للتحصل على الدكتوراه‪ ،‬وهذا كان سبباً كافياً إلهمال‬
‫زوجها المسكين والمظلوم "عبد الناصر" الذي ما انفك هو اآلخر يسوق أعذار غدره‪،‬‬
‫وخيانته لزوجته زينة‪ ،‬ويبرر على مسامع نجالء عبر خطابه الكاذب‪ ،‬والمراوغ كما‬
‫خطاباته السياسية على الرفاق في التيار‪ ،‬وكأن المسألة مجرد مقاربة‪ ،‬يبرز كل منهما‬
‫األسباب الموجبة التي دفعته للغدر والخيانة‪ ،‬في الوقت تتبدى علينا سرودات شخصية‬
‫"نجالء" صديقة زينة بعد تعرفها على الطلياني‪ ،‬من خالل زيارتها لهم في منزلهم‪.‬‬
‫حيث يعرف عبد الناصر بعد أن يدور بينهما حديث حميم أن نجالء مطلقة‪ ،‬وهي‬
‫صديقة أيضاً لصاحبة ِوكر ترفيهي للمسؤولين يخص الكبار في الدولة‪ ،‬وهي تعمل‬
‫موظفة فيه بصفة مسؤولة عالقات عامة‪ ،‬بيد أنها‪ ،‬وبعد فترة‪ ،‬وجيزة تحولت إلى عاهرة‬
‫تتنقل بين أحضان كبار المسؤولين في الدولة‪ ،‬وضباط األجهزة األمنية والعسكرية‪،‬‬
‫والكثير من رجال األعمال والتجار الكبار في البلد‪.‬‬

‫أما ِوكر العالقات العامة‪ ،‬فهو" صالون لتصفيف شعر السيدات" وكانت المسؤولة‬
‫عنه سيدة تدعى الحالقة‪ ،‬لم تترك أث اًر لها في السرود سوى إشارة مواربة تشير إلى أن‬
‫الشخصية المقصودة ربما تكون هي السيدة األولى "ليلى الطرابلسي" التي وصلت من‬
‫خالل وكرها هذا إلى تاج قرطاج كزوجة للرئيس زين العابدين بن علي‪ .‬ذلك ما جعل‬
‫الطلياني يعيد النظر في عالقته الحميمة بنجالء‪ ،‬حيث‪ " :‬انتهى كل شيء بين عبد‬
‫الناصر ونجالء‪ ،‬وبدون ضجيج‪ ،‬ألنه أصبح يعافها‪ ،‬ويشم في جسدها روائح عفنة‬
‫(ص‪)161‬‬
‫ألصناف من الرجال الذين ال يطيقهم رغم ليت ارت العطور التي تستحم بها"‬

‫لكن في الجانب اآلخر من سردية طرائد عبد الناصر‪ ،‬وضحاياه من النساء‪ ،‬تنبت‬
‫في نهاية الطريق شخصية "ريم" الفتاة الجميلة الفارعة الممشوقة‪ ،‬وإصباحة وجهها‬

‫‪432‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الوردية‪ ،‬في الوقت الذي أعرب الطلياني لها عن رغبته أمام جمالها الساحر مشاركتها‬
‫معه في مسلسل تلفزيوني يستعد له‪ ،‬وفي لحظة مارقة مرت في ذاكرته رائحة الآل‬
‫جنينة‪ ،‬التي ظلت كما هوس يالزم رغبته حينئذ تحول الطلياني إلى مخادع‪ ،‬أمام‬
‫فتاة تحلم بالنجومية والشهرة‪ ،‬وال تجد عيباً في ممارسة الحب مع رجل وسيم‪ ،‬وله‬
‫جاذبيته الخاصة‪ ،‬كما عبد الناصر في الوقت الذي لن يبخل عليها في مساعدته‬
‫الالمحدودة‪ ،‬من أجل صقل مواهبها وإدراكها‪ ،‬ووعيها الثقافي وعلى يديه أيضاً البد‬
‫أنها ستتعلم الكثير من معايير اإلحساس‪ ،‬والتحرر‪ ،‬وقيمتها كأنثى لها مكانتها‪،‬‬
‫الحياة‬ ‫في‬ ‫ومقدارها‬
‫وهي في حضورها الخاطف‪ ،‬كما "القشة التي قصمت ظهر البعير" إن صح التعبير‪.‬‬
‫فمنذ أن فقد الطلياني زينة الفيلسوفة أصبحت له خارطة طريق خاصة للتصالح مع‬
‫ذاته‪ ،‬وانكساراته‪ ،‬وهزائمه أيضاً فقد‪ " :‬قرر الطلياني بعد خيبته مع الفيلسوفة أال يهتم‬
‫بحليب يشتريه بالجملة‪ ،‬بل يكتفي بالتفصيل‪ .‬سيبقى ثو اًر ينتقي من هذه المزرعة الكبيرة‬
‫(ص‪)211‬‬
‫أحلى بقراتها"‬

‫فهي في حقيقة األمر ضحية أخرى استدرجها الطلياني كما فريسة إلى مختبر‬
‫شهواته في المزرعة‪ ،‬مستغال طموحها في دخول عالم التمثيل‪ ،‬وهي التي كما تقول‬
‫السردية "سكنت رأس الطلياني"(ص‪ )214‬وهي أيضاً من ساهمت‪ ،‬وكانت سبباً في‬
‫ظهورات مفاعيل استدعاء صورة الشيخ عاللة الم ِ‬
‫غتصب للطلياني‪ ،‬كما أنها التي‬ ‫ُ‬
‫أيقظت‪ ،‬وأشعلت نيران‪ ،‬وحرائق مشهد اغتصاب الطلياني من قبل الشيخ عاللة‪ ،‬حين‬
‫ِ‬
‫يهمان ببعضهما متوثبان نحو فردوس الحميمية‪،‬‬ ‫كان صبياً وقتما كانا معاً على السرير‬
‫لكن وقع الحديث الذي دار بين ريم‪ ،‬وعبد الناصر في فراش الحميمية فعل فعلته وكان‬
‫كما فأس وقعت على رأسه‪ ":‬ال ال أنا عذراء! استدارت فهم أنها تعرض عليه شيئ ًا‬
‫آخر‪ ،‬جن جنونه ولكنه لم يحرك ساكناً‪ .‬لم تكن تنظر إليه‪ ،‬لم تفهم ما وقع التفتت إليه‬
‫(ص‪)226‬‬
‫وجدته شاخصاً بعينيه شارد الذهن‪ ،‬كمن يستذكر شيئاً سألته‪ :‬ما بك؟ لم يجبها"‬

‫‪433‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ال شك أن الصورة التي ظهرت بها شخصية "ريم" داخل أنساق السرود (‪Layout‬‬
‫ونماء شخصية فتاة في‬ ‫َّ‬
‫‪ )narration‬الروائية َخلف آثا اًر مهمة على تركيب‪ ،‬وتخليق‪َ ،‬‬
‫مقتبل العمر‪ ،‬تستطيع بغوايتها اإليقاع بالطلياني الذي استكان لحبال سحرها‪ ،‬لكن ما‬
‫حصل في السرير بينهما كان أم اًر صادماً بالنسبة إلى عبد الناصر وذلك ما جعله‬
‫يستعيد في تلك اللحظة ما أحس به وقتذاك‪ ،‬ويبوح بإحساسه لصديقه القديم الذي شرع‬
‫يسرد هو اآلخر ما قاله الطلياني مستذك اًر‪ " :‬كان مترنح بطنه ابتلعت آلته"(ص‪ )222‬في‬
‫الوقت الذي كان الراوي المتواري أو الغائب (‪ )overt narrator‬صديق الطلياني يسرد‬
‫ع يصف مشهد الطلياني‪ ،‬وهو‬ ‫ما قاله عبد الناصر بألم وحزن شديدين‪ ،‬وقتما شر َ‬
‫يجهش ببكاء حار دفع صديقه القديم للقول‪ " :‬كان يتكلم‪ ،‬ويبكي وأنا ال أعرف ما أفعل‬
‫لم يكن من الالئق أن أكذبه نعم أنا صديقه‪ ،‬ولكنني لست طبيباً‪ .‬حاولت أن أفسر له‬
‫أنه مجرد شعور‪ ،‬ويجب مراجعة الطبيب‪ ،‬فلعله اضطراب نفسي نتيجة عجزه عن‬
‫مجامعة ريم‪ .‬كان يصر على أنه ذكرى رجل‪ ،‬فلم يعد قاد اًر على تحريك ساكن من‬
‫جسد امرأة‪ ،‬كان مص اًر على أن ما يتدلى بين فخذيه مجرد حبل مترنح في أحسن‬
‫(ص ‪222‬ـ ‪)222‬‬
‫الحاالت"‬

‫إن مسأ لة خواتيم العالقات الجنسية‪ ،‬أو الحميمية التي يقيمها الطلياني مع من‬
‫عرف عليهن من النساء على تنوع تلك العالقات‪ ،‬وتعددها واختالفها‪ ،‬فهي في حقيقة‬
‫تَ َّ‬
‫األمر ليست سوى إجرائية لها متواليات تشكل أبعاد صورة البنية العميقة ( ‪deep‬‬
‫‪ )structure‬التي ما انفك الطلياني يحاول استخدام سياقات مختلفة للتعبير عن حالة‬
‫نفسية تعويضية (‪ )psychological compensation‬في بنيتها‪ ،‬وماهية تفاصيلها‬
‫من خالل تفعيل معايير تقوم على إيجاد إجرائية يتحقق من حاللها تظهير بدائل لحبيبته‬
‫"زينة" التي فقدها بعد أن تخلت عنه‪ ،‬لتكون خواتيم مشهد غيابها حالة من الضياع‬
‫والتيه‪ ،‬وكما يقول صديق عبد الناصر‪ ،‬ومن منظار رؤيته الخاصة‪ ":‬إن الطلياني قد‬
‫أضاع الجهات الست بعد طالقه من زينة‪ ،‬دون أن يفقد عقله تماماً‪ ،‬أصبح كل يوم‬
‫يبحث عن طريدة جديدة‪ ،‬لم يكن يهتم بسنها أو جمالها أو صفاتها أو ذاتها‪ .‬أتصور‬

‫‪434‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أن بيت صالح الدين بحي النصر أصبح مبغى وحانة‪ ،‬إلى أن ذهبت بعقله ألمر ما‬
‫(ص‪)211‬‬
‫ريم"‬

‫منذ أن غابت زينة عن ناظري الطلياني بعد انفصالهما‪ ،‬سرعان ما استبد به‬
‫الهاجس القديم متمثالً بشخصيتين هما (الآل جنينة والشيخ عاللة) وما تركته صورتهما‬
‫من آثار بليغة ومؤلمة‪ ،‬شكلتا داخل حيواته العديد من التوقفات المؤلمة‪ ،‬ومفاصل‬
‫المراحل األشد قسوة وقهرية‪ ،‬والتي جلبت له أيض ًا الكآبة والضياع‪ ،‬بين غوايات النساء‬
‫اللواتي أغرقنه بتيههن‪ ،‬في الوقت الذي كان ‪ ":‬حلم الطلياني أن يترك أث اًر فنياً ما دامت‬
‫مر من هذا‬
‫زينة قد حرمته من أن يصنع معها رائعة من لحم ودم تثبت له أنه قد َّ‬
‫العالم‪ ،‬وترك أث اًر بديعاً" (ص‪ )216‬إال أننا لم نجد مما حلم به الطلياني إال المزيد من‬
‫الضياع والتيه والهزيمة واالنكسار‪ ،‬وقد بدا أمر انهياره الصحي‪ ،‬والنفسي يتبدى عليه‬
‫أمام من هم حوله‪ ،‬ومن كانوا يعرفون كيف كان الطلياني‪ ،‬وكيف أصبح حاله اآلن‪،‬‬
‫حيث تحولت حكاية ضربه للشيخ عالله يوم دفن والده‪ ،‬حكاية تلوكها كل األلسن‪،‬‬
‫وقتئذ لم تنفك نسوة الجيران في الحي عن تهامسهن على أبواب بيوتهن‪ ،‬وهن يستعدن‬
‫حكاية عبد الناصر‪ ،‬والحال التي وصل إليها‪ ":‬ال أحد يجرؤ على أن يتحدث إلى عبد‬
‫الناصر‪ ،‬فقد انهار إثر الحادثة ‪ ....‬شحب وجهه وذهب ألقه‪ ،‬ونحل نحوالً مرضياً بعد‬
‫أن غرق في الكحول‪ ،‬والسجائر والعزلة"(ص‪ )22‬لكن األمر األكثر أهمي ًة في هذا المفصل‪،‬‬
‫وقد شكلت أنساقه السردية نقطة تحول في سلوك عبد الناصر الذي بدا أكثر حميمي ًة‬
‫تجاه أخته (يسر) "التي َي ُّ‬
‫كن لها محبة خاصة ‪ ...‬كانت تردد‪ .‬اعذروا عبد الناصر‪.‬‬
‫كل إنسان وظروفه"(ص‪ )2‬ذلك ما جعل عبد الناصر يحرص‪ ،‬ويخاف عليها كثي اًر مما‬
‫جعله يعجل في فتح حساب بريدي جار باسمها‪ ،‬إبان فترة محنته التي كان مجب اًر فيها‬
‫على طالق زوجته زينة‪ ":‬فتح لها حساباُ جارياً بالبريد تجمع فيه أموالها‪ ،‬وحين كانت‬
‫تستكثر ذلك كان يجيبها‪ :‬ـ أريدك أن تشتري لجهازك أفضل ما يوجد ‪ ...‬كانت تضع‬
‫رأسه بين يديها‪ ،‬وتقبل جبينه‪ ،‬وقد اغرورقت عيناها دمعاً ‪ ...‬وهو يستعد للطالق من‬
‫زينة قالت له ‪ ...‬يا حسرة عليك أنت سيد الرجال ‪ ...‬ابتسم ابتسامة صفراء‪ ،‬ورد‬

‫‪435‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬
‫(ص‪)21-22‬‬
‫عليها‪ :‬أنا الذي غير مناسب‪ ،‬تأكدي مما أقول ‪ ..‬أنا ال أصلح لشيء البتة"‬
‫تلك كانت خواتيم عبد الناصر الطلياني‪ ،‬بقضها وقضيضها‪ ،‬ليعترف آنذاك أنه ال‬
‫يصلح أن يكون‪ ،‬كما وصفته أخته يسر‪ ،‬ألنه في حقيقة األمر فقد كل شيء بعد أن‬
‫تخلى وزينة عن بعضهما وافترقا‪.‬‬

‫‪3‬ـ سردية الجسد وشياطين تفاصيل الثالوث المحرم‪:‬‬

‫لم تدخر سردية الطلياني جهداً من خالل محاولتها الالهثة في إيجاد آلية تمكنها‬
‫من االشتغال والعزف على مآثر الثالوث المحرم (‪" )Forbidden Trinity‬السياسةـ‬
‫الدين ـ الجنس" والتنامي الحكائي الذي يخلفه ذلك الثالوث داخل تفاصيل منظومة‬
‫األبعاد األساسية لسيمياء السرد‪ ،‬وتجاذباته الثرية والمتعددة‪ ،‬والغنية أيض ًا بإشارياتها‬
‫(‪ ) denotative‬التي البد سينعكس حضورها الالفت على آلية تأثيث البعد التاريخي‬
‫المباشر‪ ،‬الذي تحول بصورة الفتة مع سيولة الحكاية وتناسلها‪ ،‬وتداخل أبعاد معايير‬
‫سرديتي المعنى‪ ،‬والهدف فيها إلى بعد إشكالي مركب‪ ،‬من حيث إن شخصيات الرواية‬
‫التي هي األخرى ما انفكت‪ ،‬تجاهد وتحاول‪ ،‬وهي تشتغل على ذاك "التابو" (‪)taboo‬‬
‫مان رواية الطلياني من لغة حكائية بارعة اتسمت بجاذبية خاصة‪،‬‬
‫بكل ما ملكت ْأي ُ‬
‫وكذلك بقدرتها على تأثيث معادلة شد القارئ نحوها‪ ،‬عبر كثافة سيولة مشاهد‪ ،‬وصور‬
‫"التابو" ومتواليات صراع‪ ،‬واحتراب التيارات السياسية التي تقوم باألساس على المقارعة‬
‫والصراع بين اليسار واليمين‪ ،‬وما بينهما بكافة أصنافهم‪ ،‬وتالوينهم‪ ،‬حيث بدت تلك‬
‫اإلشكالية االحترابية أشبه بساحة واسعة ممتدة يحاول كل طرف من األطراف إثبات‬
‫الحقيقة‪ ،‬كما يراها‪ ،‬ويتصورها‪ ،‬إال أن رواية الطلياني التي لم تكن تمتلك أصالً أدوات‬
‫مفاعيل السرد الدائري‪ ،‬وال محددات العودة إلى نقطة البدء السردية كما مجاز مفتوح‬
‫(‪ )figural‬على كل أوجه التأويل‪ ،‬لذا وجدنا رواية الطلياني قد تحولت فيها المسارد‪،‬‬
‫التكثيف‬ ‫ذات‬ ‫واألحداث‬ ‫الوقائع‪،‬‬ ‫من‬ ‫جملة‬ ‫إلى‬ ‫الحكائية‬ ‫وأنساقها‬
‫(‪)Condensation‬الحكائي العالي‪ ،‬والتي امتلكت جراء ذلك حضورها اآلسر‪ ،‬مما‬

‫‪436‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوجد األسباب التي جعلت منها سردية متماسكة‪ ،‬ال تروم الخروج من متاهتها‪ ،‬وهذا‬
‫ما جعلها أيضاً منصة للتعبير الذي يعد من وجهة نظرنا‪ ،‬منصة مختلفة في جوهرها‬
‫وماهية حضورها‪ ،‬بعيداً عن منبر الوصف (‪ )description‬السردي‪ ،‬وإشكالياته‬
‫المختلفة‪ ،‬إذ البد من مفاعيل تسم الرواية بميسم الخصوصية‪ ،‬والتحفز المتيقظ‪ ،‬داخل‬
‫األبعاد الوقائعية الخاصة التي يتَ َّ‬
‫خلق في دوامتها التركيبية‪ ،‬جل الشخصيات السردية‪،‬‬ ‫َ‬
‫كما أنها ال بد ستحقق االنفتاح على جملة من المتتاليات (‪ )sequences‬المكانية‬
‫األخرى‪ ،‬قد تختلف في النمط واألسلوب‪ ،‬لكنها في حقيقة األمر تمتلك بشكل عام‬
‫فضاء مكانياً يكون حاضنة لبنية خصوصيتها‪ ،‬في الوقت الذي البد أن يكون فيه‬ ‫ً‬
‫منطلقاً‪ ،‬ومنص ًة تنبعث من خاللها ُحظورات الفضاء الروائي األشمل‪ ،‬واألوسع‪ ،‬وهذا‬
‫ما يم نح السردية بصورة خاصة مقدار مكانتها‪ ،‬ووظيفتها التعبيرية ( ‪expressive‬‬
‫‪ )function‬وكذلك مدى تأثيرها‪ ،‬وبراعتها في استلهام األبعاد اإلنسانية التي يقارعها‬
‫(الثالوث المحرم) ويجعل منها ضحية استناداً إلى معاييره‪ ،‬ووصاياه القهرية‬
‫(‪ )compulsively‬حيث البد من تطويع تلك اإلشكالية المركبة لخدمة سردية الرواية‬
‫ليس إال‪.‬‬

‫لقد تعثرت رواية الطلياني‪ ،‬ولم نتحصل من مفاعيلها الحكائية على لوافت ( ‪Draw‬‬
‫‪ )attention‬مهمة‪ ،‬تحاكي موضوعاتها المتعددة‪ ،‬والمختلفة‪ ،‬إضافة إلى أن أبعاد‬
‫سرودها األساسية قد لعبت دو اًر ضحالً هي األخرى في تنضيد األسئلة الكبرى التي‬
‫كان من المفترض على الرواية أن تتصدى لها‪ ،‬إال أنها في حقيقة األمر لم تُ َم ِكن‬
‫موضوعاتها األساسية‪ ،‬االجتماعية والسياسية‪ ،‬واالقتصادية من التمظهر‪،‬‬
‫والتجلي(‪ )manifestation‬بصورة منطقية داخل مشاهد حكاياتها التعبيرية‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي لم نتحصل من السردية إال على النزر اليسير‪ ،‬بما يتعلق بمعايير (الثالوث‬
‫المحرم) على أهميته‪ ،‬حيث لم يتجاوز األمر إال مرو اًر عاب اًر في خضم إشكالية كبيرة‪،‬‬
‫كان البد على الروائي "المبخوت" أن يوليها االهتمام‪ ،‬والحرص الشديدين‪ ،‬لما لهما من‬
‫ِثَقل أساسي في تنظيم العالقة بين تفاصيل حضور (الدين‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والجنس)‪،‬‬

‫‪437‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كمفهوم يحدد ويرسم أبعاد عالقته بالشخصيات الروائية التي تمظهرت ضمن الملعب‬
‫الرحب للسرود من أجل تكوين األبعاد السردية التي تُعد ماهية‪ ،‬وبنية حكاية الطلياني‪،‬‬
‫والشخصيات الدائرة في فلكها‪ ،‬والذين كانوا جميعاً حاضرين كشخصيات لها مهماتها‪،‬‬
‫وشجونها السردية اعتماداً على تفاصيل‪ ،‬وأبعاد ذلك "الثالوث" والذي ما انفك هو اآلخر‬
‫يشكل األسباب الرئيسة في عملية تحفيزهم على التسريد‪ ،‬إضافة إلى تمظهر حضورهم‬
‫ككينونة للحكاية الكبرى‪ ،‬وأبعاد حضور ماهية بنيتها العميقة (‪)deep structure‬‬
‫التي شكلت انعكاساً لحيواتهم كشخصيات سردية فاعلة من خالل تماهيها بمقاربة تعدد‬
‫األصوات (‪ )poly phonic narrator‬داخل متون رواية "الطلياني" التي أرادت أن‬
‫تحمل عبء مواجهة الثالوث المحرم بسالح "الحرية الفردية" (‪)individual freedom‬‬
‫دون غيره من األسلحة المختلفة‪ ،‬والتي لها مقدرة كبيرة ال يستهان بها هي األخرى على‬
‫مقارعة (تابو) ذلك الثالوث العتيق المتجدد الذي اكتسب صفات العنقاء من خالل‬
‫استم ارره في السياق التاريخي لألمم ‪،‬والشعوب في الوقت الذي أدخلتنا سردية الطلياني‬
‫في مسألة خالفية تتعلق بمعايير الحرية الفردية‪ ،‬والحرية بمفهومها الواسع ( ‪Broad‬‬
‫‪ )and general freedom‬وأيهما البد من تحقيقه في البداية‪ ،‬للتحصل على محتوى‬
‫(‪ )content‬اآلخر من خالل تلك اللعبة المركبة‪ ،‬والمعقدة في تداخلها‪ ،‬وتواشجها‪.‬‬

‫إن سيرية الشخصيات داخل أنساق رواية الطلياني‪ ،‬وفق أبعاد الخطيئة‪ ،‬وانعكاسها‬
‫التكفيري على سلوك معايير الشخصيات‪ ،‬تُعد من السمات األساسية التي تقوم عليها‬
‫موازين معادلة لعبة مفاعيل نماء الشخصية السردية‪ ،‬ومنحها حيوات منطقية لحضور‬
‫يحقق لها تاريخاً‪ ،‬وسلوكاً تستطيع من خاللهما إيجاد صورة تَمظهرها المؤثر‪ ،‬وفق‬
‫الدور المرسوم لها‪ ،‬وذلك ما يجعلنا نحدد مفاصل تَ ْرُسم تبديات الشخصية اعتماداً على‬
‫العمارة السردية (‪ )Narrative architecture‬لسيريتها التي تعتبر المدخل البنيوي‬
‫الذي نتحصل من خالله على التفاصيل التي تختفي خلفها شياطين الحكاية‪ ،‬وأهدافها‬
‫ومتوالياتها‪.‬‬

‫‪438‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ما من شك أننا أمام ذهول المفارقة‪ ،‬ال بد أن نجد‪ ،‬ونلمس مالمح حضور صورة‬
‫ما من خالل استحضار الماضي العتيق (‪ )retrospection‬للعديد من هذا الحشد‬
‫المرضية‪ ،‬والتعويضية‪ ،‬عبر وقائعها التي عانت االكتئاب‬
‫المنتخب من الشخصيات َ‬
‫جراء ماضيها المؤلم‪ ،‬وتاريخها المثلوم‪ ،‬والمكلوم في اآلن ذاته‪ ،‬إضافة إلى غرق‬
‫المشاهد السردية‪ ،‬لرواية الطلياني في أتون المتاهات األخالقية ضمن العديد من‬
‫المقاربات التي تتعلق ب ـ سفاح المحارم‪ ،‬وكذلك الشذوذ الجنسي( ‪Incest and‬‬
‫‪ )Homosexuality‬واللواطة‪ ،‬والدعارة أيضاً‪ ،‬في الوقت الذي كانت كل تلك المقاربات‬
‫ال للجسد‪ ،‬وقرائن الغرائز التي تحولت عبرها إلى عائلة سردية وطدت عالقاتها‬
‫تغرد تبجي ً‬
‫الملتبسة مع الحالة الملتبسة ليس إال ودون اعتبار للمشهد السردي‪ ،‬الذي توافق مع‬
‫معادلة "األيروتيكية" والتي شكلت هي األحرى عماد رواية الطلياني‪ ،‬ومصدر جاذبيتها‪،‬‬
‫ومقتلها في اآلن ذاته‪ ،‬في الوقت الذي كان على رواية الطلياني أن تثير زوابع األسئلة‬
‫الكبرى داخل متونها التي اكتفت بأن تكون مسرداً وثائقي ًا (‪narrative‬‬
‫‪ )Documentary‬يجتر وقائع تاريخية بعينها‪ ،‬كما أنها أردفت السردية بالعديد من‬
‫الشخصيات التي اعتبرتها ثانوية‪ ،‬في الوقت الذي لمسنا في تلك الشخصيات من خالل‬
‫لمعان كبيرة‪ ،‬كان من الممكن االشتغال عليها‪،‬‬
‫تقرينا لها‪ ،‬ما يشير إلى أنها حمالة َ‬
‫وتفعيل أدوار حكاياتها القابلة للتنامي السردي (‪ )narratable‬داخل مسارد الرواية‪،‬‬
‫وكما يبدو فقد تمت محاولة انتخاب تلك الشخصيات بعناية من أجل التعبير عن‬
‫هواجسها السياسية‪ ،‬والالهوتية‪ ،‬والجنسية أيضاً ضمن إطار المجاز الفني‪ ،‬والرمزي‬
‫للسردية وأنساقها الروائية‪.‬‬

‫إن االضطراب البنائي الذي غرقت به العمارة السردية ( ‪Narrative‬‬


‫‪ )architecture‬داخل متون رواية الطلياني تمظهرت إشارياته‪ ،‬عبر العالقة اإلشكالية‬
‫التي طغت على تفاصيل السرود بين عبد الناصر‪ ،‬وطرائده من النساء (الآل جنينة ـ‬
‫زينة ـ نجالء ـ ريم) إضافة إلى اعتقاد "عبد الناصر" المشين تجاه صورة المرأة بصفة‬
‫عامة‪ ،‬امتثاالً لما كانت عليه قذارة "بوك علي" إذ تبدت مقاربة تلك المسألة في نظرة‬

‫‪439‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عبد الناصر الفحولية (‪ )virility‬وهواجسه الجنسية تجاه أي عالقة تنشأ بينه‪ ،‬وبين أي‬
‫امرأة يأنس لها‪ ،‬وتأنس له‪ ،‬وإن حضور المرأة في سياق حيواته السردية المتعلقة بحقوقها‬
‫أو حريتها‪ ،‬ليس أكثر من زبد‪ ،‬وادعاء كاذب‪ ،‬ومراوغ كما هي لعبته في خطاباته‬
‫السياسية‪ ،‬وشعاراتها المخادعة وقتذاك‪ ،‬في حين من ذلك نلمس حالة االنكسار الوجودي‬
‫الكبير الذي أصاب البلد‪ ،‬وأخذها إلى متاهة بحر الظلمات‪ ،‬استناداً إلى مجموعة من‬
‫التقصيات‪ ،‬تم تحديد مفاعيلها ما بين مرحلتين كانتا مفصالً حقيقياً‪ ،‬حمل بين طياته‬
‫السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية‪ ،‬كما عادتها في األعمال السردية الهامة‪ ،‬والمؤثرة‪،‬‬
‫في الوقت الذي لم نتحصل على السؤال الكبير‪ ،‬وفق ما أذاعته سرود الطلياني‪ ،‬في‬
‫الحين الذي لم نلمس من خالله حضو اًر الفتاً يشير إلى السؤال الهام الذي كان على‬
‫الرواية أن تشهره في وجه الحالة الغامضة التي خلفتها خواتيمها‪ ،‬على الرغم من‬
‫جاذبيتها‪ ،‬وحيوية موضوعاتها الوثائقية‪.‬‬

‫ال شك أن سردية الطلياني خرجت من عنق زجاجة الرواية التقليدية‪ ،‬والكالسيكية‬


‫الطامحة عبر معادل "الثالوث المحرم" إلى ابتسار مشاهد‪ ،‬وحكايات‪ ،‬ونمنمات شهوانية‬
‫"ايروتيكية" (‪ )erotic‬مع بعض التحديث في سياقات العجائبية‪ ،‬والغرائبية‪ ،‬حيث لمسنا‬
‫نثار توضعاتها هنا وهناك‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فهي لم تحقق اختراقاً تجديدياً وحداثوياً‬
‫المكينة‪ ،‬والالفتة‪ ،‬بيد أنها حاولت الهثة تفعيل‬
‫متكامالً في اللعبة الفنية لكتابة السرود َ‬
‫حالة خلخلة الزمن السردي‪ ،‬ودفع مفاعيل حالة االنزياحات (‪)Displacement‬‬
‫المتفرقة‪ ،‬والعديدة إلى معايرة يهيمن عليها البعد التكثيفي (‪)Condensation‬‬
‫ومتوالياته المختلفة‪ ،‬لكنها سرعان ما كانت تعود إلى لغة اإلخبار‪ ،‬والتسريد الفائض‪،‬‬
‫مكتفية بالوصف المشغول بدربة الروائي الخابر‪ ،‬وحذاقته في استحضار وقائع تاريخية‬
‫الئذة‪ ،‬ومنسية‪ ،‬إذ تحول الروائي من خاللها إلى مركز أرشيف مبوب‪ ،‬ومفهرس ُيعنى‬
‫باستعادة وقائع‪ ،‬منسية وأحداث جرت في الماضي (‪ )retrospection‬يعود إليها كلما‬
‫اقتضت حاجة السرد التوثيقي‪ ،‬ليحضر منه ما يريد من االستعادات المختلفة‪ ،‬وكل ما‬
‫يتعلق بالماضيين‪ ،‬السياسي‪ ،‬واالجتماعي لتونس‪ ،‬دون األخذ باالعتبار أن ما يتم‬

‫‪441‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تحويله إلى مفاعيل السردية ليس أكثر من واقعة ماهيتها مفاعيل تسجيلية‪ ،‬ومسرد‬
‫للتوثيق (‪ )Documentary narrative‬ليس أكثر‪.‬‬

‫لقد عانت بنية الشخصيات السردية داخل متون مسرودات رواية الطلياني من‬
‫إشكاليات عديدة بدأت بعوز تأثيث حضورها المنفرد بذاته‪ ،‬لتتحول إلى مفاعيل سردية‬
‫مستقلة عما يحيط بها من الشخصيات األخرى‪ ،‬بصورة مباشرة‪ ،‬بمعنى أنها كانت‬
‫شخصيات تحمل رغبة التبعيد واالستقاللية في وقائعها‪ ،‬وهذا ما حرمها من امتالك‬
‫بنية تأثيثية تقبل التشاركية مع الشخصيات األخرى وتتساعد معها في إدارة مفاعيل‬
‫التكامل‪ ،‬والتأثير‪ ،‬المشترك بما يخدم هدف ومعنى الرواية‪ ،‬إال أن غياب تلك الصورة‬
‫جعل كل شخصية من شخصيات رواية الطلياني‪ ،‬تعيش حالة من العزلة داخل الشريط‬
‫السردي الذي ما انفك يحاول استجماعها على هدف سام يخلصها من الهروب إلى‬
‫مصائر الخالص الفردي (‪ )individual salvation‬الذي وقعت فيه أغلب شخصيات‬
‫الرواية وسروداتها‪.‬‬

‫مما ال شك فيه أن البعد التركيبي لشخصيات رواية الطلياني من وجهة نظرنا‬


‫وبما يخص "بنية الشخصية التبعيدية والطامحة إلى االستقاللية" يعود السبب في ذلك‬
‫األمر إلى أن تلك الشخصيات‪ ،‬لم تجد تقاطعات تجمعها داخل مفاعيل قاسم مشترك‬
‫يجمعها أو تجتمع عليه‪ ،‬على الرغم من زعمها السياسي بإيمانها بالحرية‪ ،‬والدولة‬
‫المدنية‪ ،‬ومحاولة تحقيقهما‪ ،‬لكن األمر لم يكن سوى أضغاث أحالم تالشت منذ أول‬
‫احتكاك‪ ،‬تعرض له أبطال الرواية المعنيين بالمواجهة مع السلطة بمفهومها العام‪ ،‬ومع‬
‫حراس الطغيان الممسكين بتالبيب البالد‪ ،‬والعباد بصورة خاصة‪ ،‬وذلك ما كانت عليه‬
‫خواتيم الشخصيات داخل متون رواية الطلياني السردية‪ ،‬حيث بدأ كل منهم في البحث‬
‫عن خالصات فردية تخصه‪ ،‬وتناسب مدى انهزامه‪ ،‬وانكساره من خالل الهجرة إلى‬
‫خارج البالد‪ ،‬أو االنصياع لشروط السلطة‪ ،‬واالنضمام إليها‪ ،‬أو إعالن حالة الحياد‬
‫والتوبة‪ ،‬وهذا ُبعد استطاعت الرواية اإلخبار عنه باستحياء بعيداً عن تكريسه كوظيفة‬

‫‪441‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تعبيرية (‪)expressive function‬البد من االهتمام بها من أجل نماء السرد‪ ،‬وتفعيل‬


‫لغته اإلشارية‪ ،‬إضافة إلى تبديات مسألة "الفحولة"(‪ )virility‬والعناية بها‪ ،‬فقد شكلت‬
‫القضية األكثر أهمية جراء ظهوراتها التي كرستها شخصية الطلياني‪ ،‬وفرشت تفاصيلها‬
‫بعناية شديدة‪ ،‬ثم سرعان ما انكفأت تحت وابل "الخصاء" (‪ )neuter‬الذي أحس به‬
‫الطلياني مع "ريم" وداهم كل تطلعاته‪ ،‬والتهم أفكاره النيرة وشعارات الحرية‪ ،‬والعدالة‬
‫والمساواة التي أصبحت حلماً ميت ًا‪ ،‬ومستحيل التحقيق بعد أن انكسرت‪ ،‬وتهشمت أعماق‬
‫عبد الناصر جراء انتصار السلطة‪ ،‬والتغيرات التي ألمت بالمشتغلين بالشأن العام‪،‬‬
‫وفق معايير الترغيب التي كان ضحيتها األولى الطلياني‪ ،‬والتي استطاعت أيضاً‬
‫تحويله إلى غالم مطيع يتقيد بقانون الدولة القهرية‪ ،‬وتشريعاتها يضاف إلى ذلك مراعاته‬
‫للقوانين الخاصة المتعلقة برجال السلطة الظالمة‪.‬‬

‫ثمة العديد من األشراك والفخاخ السردية التي وقعت بها رواية الطلياني‪ ،‬وهي مثار‬
‫تساؤالت عديدة‪ ،‬ومهمة سأتعرض للقليل منها على سبيل المثال‪ ،‬فما حدث حين تم‬
‫اعتقال الطلياني‪ ،‬وزينة من قبل جهة أمنية في اضطرابات الجامعة‪ ،‬يتم استدعاؤه من‬
‫الزنزانة التي وضع فيها إلى غرفة رئيس الفرع المسؤول‪ ،‬وبعد حديث مطول بينهما‬
‫يعتذر المسؤول األمني منه‪ ،‬ويغادر الغرفة ألمر طارئ‪ ،‬بعد أن يغلق بابها بالمفتاح‪،‬‬
‫ويتركه وحيداً فيها‪ ،‬يستغل الطلياني الفرصة‪ ،‬ويبدأ رحلة تفتيش في األدراج وبين‬
‫األوراق‪ ،‬والمغلفات حيث يعثر على بعض المعلومات الخطيرة‪ ،‬والتقارير الهامة التي‬
‫تخصه‪ ،‬وتخص رفاقاً له‪ ،‬بعد قليل يعود المسؤول إلى غرفته‪ ،‬ودون سابق انذار يقوم‬
‫الضابط بأخالء سبيل الطلياني مع صديقته زينة في الذي يبقى فيه‬
‫السؤال حاض اًر في الذهن‪ :‬كيف يترك المسؤول األمني معتقالً عنده في غرفة مكتبه‬
‫بمفرده‪ ،‬والمكتب يغص بالمعلومات‪ ،‬والوثائق السرية المتعلقة بالمعتقل ذاته؟‬

‫لنفترض أن الغاية من ترك عبد الناصر بمفرده محاولة من المسؤول األمني‬


‫التجسس عليه أال يستدعي ذلك وجود كاميرات مراقبة؟ في الوقت الذي لم نتحصل فيه‬

‫‪442‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫داخل أنساق السرود على ما يبرر ذلك االشتغال التسريدي بحذاقته البوليسية‪ ،‬لكنها‬
‫لألسف لم تكن محكمة التفاصيل‪ ،‬والتنقالت المنطقية التي كان ال بد من استخدام آلية‬
‫سردية مقنعة‪ ،‬في الوقت الذي نجد فيه أيضاً ما حصل على الصفحات ( من ‪262‬‬
‫ولغاية الصفحة ‪ )266‬حيث تحولت السرود إلى رواية تعليمية ( ‪educational‬‬
‫‪ )novel‬اتخذت من نفسها منب اًر لدروس مهنة الصحافة‪ ،‬وما هي الطرق األسلم‬
‫واألفضل‪ ،‬والمعمول بها في مطابع الصحف العالمية والعربية‪ ،‬إضافة إلى تعلم الطرق‬
‫الصحيحة التي يمكن من خاللها رصف المواد‪ ،‬وأساليب تنضيدها ثم وضعها وفق‬
‫المهنية‪.‬‬ ‫الطرائق‬
‫لقد أثقلت هكذا مثالب فنية كاهل السرود‪ ،‬وشكلت ِهَنة ال مبرر للوقوع فيها‪ ،‬وهذا‬
‫ما يدفعنا للقول أن رواية الطلياني جاهدت كثي اًر‪ ،‬لتكون رواية تستطيع اإلضافة‪،‬‬
‫والتجديد‪ ،‬لكنها لم تخرج عن إطار مقروئيتها كعمل سردي نال جاذبيته من خالل لغته‬
‫اإلخبارية الجميلة من جهة‪ ،‬واقتدار العمل الروائي على روينة السيرة الذاتية‬
‫(‪ )Biographical novel‬التي شكلت في مناحيها‪ ،‬الكم األكبر من حيوات شخصيات‬
‫لها حضورها الواقعي على الرغم من محاولة الروائي تفعيل العديد من مناورات التخفي‬
‫وارتداء األقنعة ليس إال‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ 2‬ـ الطلياني‪ :‬رواية شكري المبخوت صادرة عن دار التنوير في طبعتها األولى عام‬
‫‪"264" 1124‬صفحة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ‪2‬ـ ‪ 4‬ـ ‪ 1‬ـ ‪ 6‬ـ حوار د‪ .‬مع شكري المبخوت على هامش الدورة ‪ 11‬لمعرض‬
‫الكتاب الدولي بالدار البيضاء ‪1126‬‬

‫‪443‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المصطلحية‬
‫ّ‬ ‫التقعيدية والبنية‬
‫ّ‬ ‫السيميائيات بين األصول‬

‫ياسين الخلطي‬

‫باحث من المغرب العربي‪ ،‬ماستر في اللسانيات وسنة ثالثة دكتوراه بكلية التربية في‬
‫الرباط‪.‬‬

‫إذا ما نظرنا إلى العالم الكوني الذي يحيط بنا‪ ،‬وجدنا أن هناك مجموعة من اإلشارات‬
‫والرموز‪ ،‬تحيل على دالالت كثيرة‪ .‬لكن اإلنسان ال يستطيع أن يصل إلى تلك المعاني‬
‫والدالالت‪ ،‬كونه يكتفي بالمعطى المباشر؛ الذي يبقى متقوقعا داخل التجربة المادية‬
‫والعادية؛ التي ال تتجاوز حدود النظرة البيولوجية للعين المجردة‪.‬‬

‫وألن هذا اإلنسان يسعى إلى التطور والرقي المعرفي والعلمي‪ ،‬قام بتأسيس علم يعينه‬
‫على فضوله المعرفي‪ ،‬لِ ُكنه مكنونات األشياء المحيطة به هو علم السيميائيات؛ الذي‬
‫ُيؤول كل معطيات التجربة اإلنسانية؛ عبر إدخالها في عوالم مجردة تتقابل مع عالمها‬
‫المباشر‪ .‬يقول سعيد بنكراد بهذا الصدد" وليست اإلحاالت الداللية المتنوعة‪ ،‬وطرق‬
‫إنتاجها وسبل تداولها واستهالكها؛ سوى حصيلة حركة (ترميزية)‪ ،‬دفعت اإلنسان إلى‬
‫التخلص من عبء األشياء والتجارب المباشرة اللصيقة بالزمان والفضاء‪ ،‬وقادته أيضا‬
‫إلى بناء عوالم متحررة من قيود الواقع وتأليفاته المحدودة"(‪)2‬؛ وهنا يظهر جليا أن‬
‫السيميائيات‪ ،‬تحول الواقع إلى مجموعة من الرموز‪ ،‬تعلق من قيمة المعرفة‪ ،‬كون‬
‫األشياء عندما تصل إلى درجة اعتبارها رمزا‪ ،‬تصبح أكثر تعبيرا‪ ،‬وتساهم في تقويم‬
‫التجربة اإلنسانية‪ ،‬ألنها تتبنى العديدة من الدالالت والمعاني؛ التي ال تبقى ثابتة على‬
‫تأليفات الواقع النسبية‪ .‬يضيف امبرتو إيكو إلى هذا الكالم " وجود المجتمع ذاته رهين‬
‫بوجود تجارة للعالمات‪ ،‬فبفضل العالمات استطاع اإلنسان أن يتخلص من اإلدراك‬
‫الخام‪ ،‬وأن يتخلص من التجربة الصافية"(‪ .)1‬هذا ويمكن القول‪ ،‬إن العالمة تتقاطع‬

‫‪444‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مع الرمز في فقه كينونة األشياء المعزولة عن الواقع الحسي‪ ،‬إال أن العالمة تتميز‬
‫باعتبارها قطب الرحى لعلم السيميائيات‪ ،‬ألننا ال نستطيع أن نخوض في غمار هذا‬
‫العلم في معزل عنها‪ ،‬كما سنعرض بكل تفصيل في محاور هذا المقال‪.‬‬

‫وإذا ما أردنا التعرف أكثر على علم السيميائيات‪ ،‬وجب علينا أن نتعرف على‬
‫األسس الفلسفية التي ساهمت في بناء صرح هذا العلم‪ ،‬حيث يضيف سعيد بنغراد في‬
‫السيميائيات "أنها علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية‬
‫كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي واألنثروبولوجي‪ ،‬ومن هذه الحقول‬
‫استمدت السيميائيات أغلب مفاهيمها وطرق تحليلها"(‪ ،)2‬وهذا يوضح سعة مرجعيات‬
‫السيميائيات‪ ،‬كونها تهتم بكل ما يمكن أن يعينها على فهم التجربة اإلنسانية‪ .‬فاللسانيات‬
‫والمنطق بخاصة‪ ،‬سيكونان من أبرز المرجعيات التي استندت إليها‪ ،‬كما سنرى مع‬
‫كل من فردناند دو سوسور‪ ،‬وشارل ساندرس بورس‪.‬‬

‫‪ -‬سيميائيات فيرديناند دو سوسور‪:‬‬

‫قد يبدو من الغريب أن نتحدث عن العالم السويسري فرديناند دو‬


‫سوسور(‪2612‬م‪ -‬م‪ )2622‬داخل علم السيميائيات‪ ،‬ألننا اعتدنا سماع هذا االسم‬
‫داخل حقل اللسانيات‪ ،‬بفضل محاضراته التي نشرها تالمذته‪ .‬ولكننا سنكون مخطئين‬
‫إذا ما اعتبرناها مجرد دراسات لعلم اللسان‪ ،‬ألنها تحمل في طياتها مبادئ تبشر بظهور‬
‫علم السيميولوجيا (كما سماه هو)‪ ،‬إلى درجة أن هذه المبادئ لعبت دو ار هاما‪ ،‬في‬
‫جعل سوسور رائدا لعلم السيميولوجيا في أوروبا‪ .‬لكن ما يميز سوسور عن العالم‬
‫األمريكي شارل ساندرس بورس‪ ،‬هو اعتماده على معطيات لسانية‪ ،‬ليبلور لنا علم‬
‫السيميائيات‪ .‬حيث يقول" نحن نناقش إذا ما كانت اللسانيات تنتمي إلى نظام العلوم‬
‫الطبيعية أم إلى العلوم التاريخية‪ ،‬ولكن هي ال تنتمي إلى أي من االثنين‪ ،‬إنما تدخل‬
‫إلى حجيرة علوم‪ ،‬لم توجد بعد‪ ،‬ويجب أن توجد تحت اسم السيميولوجيا‪ ،‬بمعنى علم‬
‫العالمات"(‪ .) 4‬بهذا الكالم أوضح سوسور أن السيميائيات مرتبطة أشد االرتباط‬

‫‪445‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫باللسانيات‪ ،‬مما يجعلنا ننظر إليه كعلم للسيميائيات‪ ،‬وذلك لتقاطعه مع هذا العلم‪ ،‬فقد‬
‫ذكر في النص أعاله أن السيميولوجيا علم لم يوجد بعد في زمانه‪ ،‬إنما بشر به‪ ،‬وما‬
‫يؤكد هذا هو تعريفه للسان بقوله‪ ":‬إن اللسان نسق من العالمات المعبرة عن أفكار‪،‬‬
‫وهو بذلك شبيه بأبجدية الصم والبكم وبالطقوس الرمزية ‪ ،‬وبأشكال اآلداب واإلشارات‬
‫العسكرية‪ ،‬إنه يعد أرقى هذه األنساق‪ ،‬ومنه تأتي إمكانية البحث عن علم يقوم بدراسة‬
‫هذه العالمات داخل الحياة االجتماعية(‪ .)...‬ويمكن أن نطلق على هذا العلم‬
‫السيميولوجيا‪ ،‬وستكون مهمته التعرف على عمق العالمات‪ ،‬وعلى القوانين التي‬
‫تحكمها‪ .‬وبما أن هذا العلم لم يوجد بعد‪ ،‬فإننا ال نستطيع التنبؤ ال بجوهره وال بالشكل‬
‫الذي سيتخذه"(‪ ،)1‬وهذا اعتراف صريح من سوسور‪ ،‬بأن علم السيميولوجيا لم تظهر‬
‫قواعده بشكل جلي في عصره‪.‬‬

‫وإذا ما أمعنا النظر في النص األخير لسوسور‪ ،‬وجدناه يتطرق إلى موضوع آخر‪،‬‬
‫يدخل في صلب ما سنتحدث عنه في علم سيميولوجيا ‪ ،‬أال وهو موضوع اللسان‪ .‬فهذا‬
‫األخير باعتباره مفهوما لسانيا‪ ،‬ال يعدو أن يكون نتاجا اجتماعيا‪ ،‬يشتغل خارج دائرة‬
‫الفرد‪ ،‬إذا ما ربطناه بالمنطلقات السيميائية عند سوسور ‪ ،‬ألنه وظفه في هذا العلم‬
‫بمنظور جديد‪ ،‬رغم أنه احتفظ باألسس الرئيسة للسان؛ التي تجعله يتوافق مع مفهوم‬
‫العالمة‪ ،‬التي ذكرها في معرض تعريفه للسان‪ .‬حيث اعتبره نسقا من العالمات المعبرة‬
‫عن أفكار‪ ،‬وأرقى األنساق الموجودة في الكون‪ ،‬ألنه األداة التي تجعل العالم يحضر‬
‫بمعطياته المادية وغير المادية‪ ،‬في أذهاننا على شاكلة ما نسميه بالفكر‪ ،‬واللسان وحده‬
‫الذي يتميز بهذه الخاصية؛ عكس األنساق األخرى‪ ،‬ألن قوانينه وقواعده قابلة للعزل‬
‫والتصنيف‪ ،‬كونه نسق من العالمات‪ .‬كما يقول سعيد بنغراد‪ ":‬فاللسان باعتباره نسقا‬
‫مستقال يتميز باالنسجام والوحدة‪ ،‬فهو أكثر األنساق قابلية للوصف‪ ،‬وأكثرها قابلية ألن‬
‫تشتق منه قوانين وقواعد سهلة التعميم والتداول‪ .‬إنه ليس جوهرا‪ ،‬فهو نسق شكلي‬
‫يتكون من عالمات من طبيعة خاصة"(‪ ،)6‬ومعنى هذا الكالم أن قوانين اللسان نستطيع‬

‫‪446‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أن نخرجها‪ ،‬لنجعل منها معايير قابلة للتطبيق على معطيات التجربة اإلنسانية‪ ،‬لفهم‬
‫مضامينها الخفية‪.‬‬

‫ومن خالل ذلك فاللسان يشتمل على تمفصلين‪ ،‬يعينانه على كشف مكونات وخبايا‬
‫العالم الخارجي‪ ،‬فهو حصيلة تواضع الجماعة اللغوية فقط‪ ،‬وليس هناك أي قانون‬
‫منطقي يحكمه‪ .‬فالدال هو الصورة السمعية والنطقية التي يمفصلها جهاز النطق‪ ،‬وهو‬
‫يختلف حسب المنظومة اللغوية التي ينتمي إليها‪ ،‬أي إن الذات المتكلمة حرة في انتقاء‬
‫الدوال‪ ،‬مادام أن اللسان يشتغل خارج الرمزية الصوتية‪ .‬والدال ال يكتفي فقط بالعناصر‬
‫الصوتية‪ ،‬بل هو مرتبط بالضرورة بالجانب النفسي‪ ،‬يقول سعيد بنغراد " الدال هو‬
‫البصمة الصوتية التي تلتقطها األذن‪ ،‬والجانب المادي الذي أحدثه"(‪ ،)2‬أي إنه خاضع‬
‫للدواخل النفسية للباث‪ .‬إن الدال من جهة أخرى‪ ،‬هو تمثل للواقع المادي المحسوس‪،‬‬
‫في شكل تمفصالت صوتية‪ ،‬فبفضله نستطيع أن نعبر بكل أريحية عن أشياء العالم‬
‫الخارجي"‪.‬‬

‫باإلضافة إلى الدال‪ ،‬هناك تمفصل آخر هو المدلول‪ ،‬يستند على الصورة الذهنية‬
‫التي ترسم في ذهن الشخص‪ ،‬والتي تشمل األبعاد الواقعية أو المتخيلة للمحيط‬
‫الخارجي‪ ،‬وذلك بتحويل هذه األبعاد من جانبها الملموس‪ ،‬إلى جانبها التصويري‬
‫المجرد‪ ،‬ألن األشياء ال تحضر في الذهن إال مادة؛ أي إن المدلول يصوغ الوقائع‬
‫الموضوعية صياغة تجريدية‪ ،‬تجعل األشياء تحضر وفق سياقات متعددة‪.‬‬

‫إن الرابط بين الدال والمدلول هو مبدأ االعتباطية‪ ،‬الذي يعني حسب بنغراد‪:‬‬
‫"الطابع الثقافي الذي يحكم الظواهر المكونة للتجربة اإلنسانية في كليتها"(‪ ،)2‬فهي‬
‫تتعارض مع الطبيعة التي تتميز بالثبات واإلطالقية‪ ،‬ألن االعتباطية ليس لها ما يبرر‬
‫وجودها في العقل والمنطق؛ إنما هي تلك التواضعات التي أجمعت عليها الجماعة‬
‫اللسانية‪ ،‬إذا ما ربطناها بحق ل اللسانيات‪ ،‬والتي تقابلها األعراف والتقاليد في المحيط‬

‫‪447‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اإلنساني ككل‪ ،‬فهي مجرد ثقافة أضيفت لألصل الذي هو الطبيعة‪ .‬فاالعتباطية تحكم‬
‫جميع األشكال التعبيرية التي يعتمدها اإلنسان‪ ،‬في إيصال تجربته‪ ،‬واإلخبار عنها‪.‬‬

‫تلك إذا هي المبادئ التي اعتمدها سوسور‪ ،‬للكشف عن علم السيميولوجيا‪ ،‬والذي‬
‫تعتبر االعتباطية الركيزة األساس فيه‪ ،‬إذ يجعلها الميدان المحوري لهذا العلم‪ ،‬وفي هذا‬
‫السياق يقول بنغراد‪ " :‬موضوع السيميولوجيا هو األنساق ذات الطبيعة االعتباطية"(‪،)6‬‬
‫ورغم هذا الرأي فإن العديد من السيميائيين ال يتفقون مع العالم السويسري‪ ،‬ألنهم يقولون‬
‫بضرورة األنساق غير اللسانية؛ كما هو الشأن بالنسبة للصورة‪ ،‬بالتالي ال يمكن أن‬
‫نعتبر االعتباطية موضوعا للسيميائيات‪ ،‬كما سنرى في الشق المهتم بمفاهيم هذا العلم‪.‬‬

‫إن ما يميز سوسور في مجال السيميولوجيا‪ ،‬هو تطبيقه لقواعد المفاهيم اللسانية؛‬
‫ك اللسان والدل والمدلول‪ ،...‬على حقول غير لسانية‪ ،‬تعتبر عالمات دالة حبلى‬
‫بصيرورة تعبيرية كبيرة‪ ،‬ستظهر لنا بشكل واضح مع بورس‪ .‬فاللسان مثال؛ قادر على‬
‫أن يؤول كل األنساق بفضل قوانينه التي تحدثنا عنها‪ ،‬والتي توظف لفهم الصورة‬
‫ودالالت اإليماءات‪ ،‬وغيرها من األنساق التي تقع خارج دائرة اللسانيات‪ .‬ألن هناك‬
‫لغات بخالف اللسان‪ ،‬تتميز بمنطقها وتركيبها وطرقها في إنتاج الدالالت‪.‬‬

‫هذا ويمكن القول‪ ،‬إننا حاولنا استيفاء الخصائص التي تميز سيميولوجيا سوسور؛‬
‫والتي كانت البداية لظهور علم السيميائيات‪ ،‬الذي سيشتغل عليها بورس في أمريكا‬
‫بمنطلقات فكرية جديدة‪.‬‬

‫سيميائيات شارل ساندرس بورس‪:‬‬

‫كان "شارل ساندرس بورس" (‪ )2624-2226‬بدوره من أبرز رواد علم السيميائيات‪،‬‬


‫هذا العلم الذي يتميز بازدواجية نشأته؛ حيث كانت النشأة األولى مع سوسور كما ذكرنا‬
‫سابقا‪ ،‬وسنرصد في هذا المحور نشأته الثانية مع هذا العالم والفيلسوف األمريكي‪،‬‬
‫الذي استند على منطلقات سيميائية محضة‪ ،‬تستمد أصولها من مجموعة من العلوم‪،‬‬
‫كما سنوضح في محطات المقال بكل تفصيل‪.‬‬
‫‪448‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قبل أن نلج إلى األفكار السيميائية لهذا العالم‪ ،‬وجب علينا أن نسلط الضوء على‬
‫مراحل حياته؛ لكي نتعرف البنية المعرفية التي ساعدته على استنباط قواعده السيميائية‪.‬‬
‫فبورس كان موسوعيا في معرفته‪ ،‬حيث قال في نص شهير له " لم يكن في وسعي أن‬
‫أدرس أي شيء سواء تعلق األمر بالرياضيات أو األخالق أو الميتافيزيقا أو الجاذبية‬
‫أو الديناميكية الح اررية أو علم البصريات أو الكيمياء أو علم التشريح المقارن أو علم‬
‫الفلك أو علم النفس أو علم األصوات أو االقتصاد أو تاريخ العلوم‪ ،‬وكذا الويست (لعبة‬
‫الورق) والرجال والنساء والميثولوجيا‪ ،‬إال من زاوية نظر سميائية"(‪،)21‬وهذا النص‬
‫يوضح تماما الكم المعرفي الهائل عند بورس‪ ،‬وهو لم يأتي من فراغ‪ ،‬كونه ابن العالم‬
‫الكبير وأستاذ الرياضيات "بنجمان بورس"‪ .‬زيادة على هذا فقد حفظ بورس عن ظهر‬
‫قلب كتاب "كانط" "نقد العقل الخالص"‪ ،‬ففلسفة هذا األخير تشكل ركيزة أساسا في‬
‫تصورات بورس السيميائية‪ .‬أما بشأن المسيرة الدراسية لبورس‪ ،‬فقد تابع دراسته‬
‫الجامعية‪ ،‬بجامعة "هارفرد" في التخصصات الرياضية‬

‫والفيزيائية والكيميائية‪ ،‬حيث حصل على الشهادة العليا سنة ‪.2261‬‬

‫ومن أشهر ما خلفه بورس قبل وفاته "أوراق متفرقة"‪ ،‬وهو عبارة عن مجموعة من‬
‫الرسائل التي ضمنها كتاباته السيميائية‪ ،‬حيث كان يرسلها إلى السيدة "ليدي ولبي"‪،‬‬
‫التي كانت تهتم بقضايا المعنى والتأويل وإنتاج الدالالت‪ ،‬فهي بدورها حاولت تأسيس‬
‫علم للداللة يكون دقيقا‪ .‬ولكن الغريب في سيرة بورس‪ ،‬أنه لم ينشر له عمل وهو على‬
‫قيد الحياة؛ فكل كتاباته نشرت بعد وفاته‪.‬‬

‫بعد هذه اللمحة الطفيفة حول حياة بورس‪ ،‬سنعكف على تبيين األصول المعرفية‬
‫والعلمية‪ ،‬التي استند عليها لخدمة رؤيته السيميائية‪ ،‬والتي سنركز فيها أوال على علم‬
‫المنطق‪ ،‬الذي يعتبره بورس تسمية أخرى للسيميائيات‪ .‬فالمنطق يعتمد على الدراسات‬
‫العلمية الرصينة‪ ،‬التي ال تقبل الشك على اإلطالق؛ فقواعد هذا العلم قابلة ألن تشمل‬
‫التجربة اإلنسانية‪ ،‬كونها تستطيع الوصول للدالالت المتعددة في هذه التجربة‪ .‬وما‬

‫‪449‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يؤكد تأثره بعلوم المنطق؛ تخصيصه مقاالت يتحدث فيها عن المنطق عند العالم‬
‫المنطقي والرياضي "جورج بول"؛ الشيء الذي يبين مدى توافق هذا العلم مع منطلقاته‬
‫السيميائية‪ ،‬فالعلمين معا يشمالن جميع الرموز‪ ،‬يضيف طائع الحداوي إلى هذا الرأي"‬
‫فإن الذي يسترعي النظر هو أن قواعد المنطق بالنسبة لبورس‪ ،‬تنطبق على الرموز‬
‫الخارجية"(‪ ،)22‬فقواعد المنطق قابلة للوصف والتعميم‪ ،‬ألننا يمكن أن نصنفها مع‬
‫شبيهاتها؛ كمبادئ اللسان التي تحدثنا عنها سابقا‪ .‬فالسيميائيات كما يقول أحمد يوسف‬
‫"لغة واصفة أو قول شارح بلغة القدماء فهي تتطابق مع المنطق في هذه الصفة لكونها‬
‫أرغانونا حسب أرسطو أو علما حسب الدعوى الرواقية فيمكن تطبيقها على كل أنماط‬
‫العالمات‪ ،‬ولهذا نعتقد أن المنطق الواصف هو الذي يرادف الجبر السيميائي"(‪)21‬؛‬
‫وهذا يبين العالقة الحميمية بين العلمين‪ ،‬فهما أرغانونان (أداتان) قابلتان للتطبيق على‬
‫مختلف العالمات للكشف عن خباياها‪ ،‬فقد تأثر بورس بشكل كبير بالمنطق عند‬
‫أرسطو‪ ،‬الذي كتب عنه (المنطق) هذا األخير في كتابه "األرغانون"‪ .‬فالمنطق أصبح‬
‫أداة لمعالجة الداللة وإشكالية المعنى‪ ،‬عكس ما كان يعتقده المناطقة العرب ‪ ،‬الذين‬
‫اعتبروه آلة تعصم العقل من الزلل أثناء نشاطه الفكري‪ ،‬زيادة على هذا كان يسعى‬
‫بورس من خالل المنطق إلى البحث عن تفسير للظواهر وعللها‪ ،‬الستكشاف الحقيقة‬
‫استكشافا منهجيا‪ ،‬بعيدا عن التأمالت التي تتعارض وظواهر الواقع المعقول‪ .‬فالتفكير‬
‫المنطقي ال يتولد من التعريفات والقضايا فقط‪ ،‬كما كان متعارفا في المنطق التقليدي‪،‬‬
‫ولكن يعتمد على السيرورات التي تساهم في بناء المقدمات ووضع النتائج الداللية‪،‬‬
‫بمعنى آخر إنه يعتمد على السميوزيس؛ أي السيرورة الداللية الالمتناهية‪ ،‬والتي تعتبر‬
‫صلب موضوع السيميائيات كما سنرى الحقا‪ .‬وإذا ما أردنا الغوص أكثر في غمار‬
‫علم المنطق؛ فرض علينا أن نتحدث عن علم الرياضيات‪ ،‬فهما مرتبطان أشد االرتباط؛‬
‫في عالقة تتأسس على التبعية‪ ،‬يكون المنطق فيها هو المتبوع‪ .‬لكن ما يميز سيميائيات‬
‫بورس في استيفائها من علم الرياضيات؛ هو توجهها نحو العناصر األساسية للجبر‪،‬‬
‫دون إعارة االهتمام لحل المسائل وجعل االستدالالت الحسابية عمليات ثانوية‪ ،‬حيث‬

‫‪451‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫شيد بورس جب ار للعالمات؛ يتأسس على التعامل مع تلك األخيرة‪ ،‬على أنها تمثيالت‬
‫ومعان وقوانين وأفكار‪.‬‬

‫وهناك مرجعيات أخرى لعلم السيميائيات‪ ،‬ال تقل أهمية عن سابقاتها‪ ،‬إذ تشكل‬
‫أسا قويا في تصورات هذا العلم‪ ،‬أال وهي المقوالت الفانوروسكوبية أو الظاهراتية‪،‬‬
‫فبورس عندما أراد أن يعرف العالمة‪ ،‬ذكر أنها وجه مرئي لقاعدة فلسفية ترى في‬
‫التجربة اإلنسانية كلها‪ ،‬كيانا منظما من خالل مقوالت ثالث هي الركيزة الرئيسة التي‬
‫تستند عليها الفانوروسكوبية وهي‪ :‬األوالنية والثانيانية والثالثانية‪ ،‬وأما بخصوص مجال‬
‫اشتغالها فيقول طائع الحداوي " فموضوع هذه المقوالت هو‪ ،‬إذن‪ ،‬كلية التجربة البشرية‬
‫بتشعباتها ومنعرجاتها ومستويات مجاريها و هيكلتها الفردية والجماعية‪ ،‬بتأثيرها اآلني‬
‫والتطوري‪ ،‬بضروب األسئلة التي تستفهم بها معطيات هذه التجربة مساقاتها المختلفة‬
‫وباختصار‪ ،‬فكل الظواهر‪ ،‬وكل ما هو معطى في التجربة يمكن أن يدرك انطالقا من‬
‫هذه المقوالت األساسية"(‪ ،)22‬فانطالقا من هذه المقوالت الثالثة‪ ،‬يكون السبيل إلى‬
‫كشف مجمل مكنونات التجربة اإلنسانية‪ ،‬ألنها األساس الذي يشكل عمق السيرورة‬
‫المنتجة لإلدراك والفهم اإلنساني‪ ،‬لكن كل واحدة من هذه المقوالت تنفرد بمعنى خاص‬
‫بها‪.‬‬

‫فاألوالنية تعني الوجود الذي يكمن في وجود الشيء في ذاته خارج أي سياق أو‬
‫تحقق‪ ،‬وهي تحيل على سلسلة من األحاسيس والنوعيات‪ ،‬المنظور إليها في ذاتها‪ ،‬أي‬
‫أننا عندما نتحدث عن الحزن واليأس مثال‪ ،‬ال نستطيع أن نصف هذه األحاسيس‬
‫بمعزل ع ن شخص حزين أو يائس‪ ،‬فهي تحتاج إلى ما يجسدها ‪،‬وبالتالي فإن هذه‬
‫المقولة تتسم بطابع الغموض واإلبهام‪ ،‬ألن جميع األمور المؤسسة لها تبقى منحصرة‬
‫داخل االحتمال واالفتراض في غياب تجسيد فعلي لها‪ ،‬فاألوالنية هي األول والبداية‬
‫التي تتميز بالحرية والالمحدود‪.‬‬

‫‪451‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أما الثانيانية فيعرفها بورس بقوله "نمط وجود الشيء كما هو في عالقته بثان‬
‫دونما اعتبار لثالث‪ ،‬إنها تعين وجود الواقعة الفردية"(‪ ،)24‬فهي عنصر ثان ينقل‬
‫األحاسيس من وضعها األصلي إلى عنصر داخل عالقة مع شيء آخر‪ ،‬أي إنها‬
‫تجسد عنصر األوالنية‪ ،‬كقولنا في األحاسيس مثال‪ ،‬رجل حزين أو يائس‪ ،‬يقول طائع‬
‫الحداوي " بما أن األول ليس أوال بإطالق إذا فكر فيه ثان‪ ،‬كذلك لكي نفكر في ثان‬
‫وكماله ينبغي أن نبعد كل ثالث"(‪ ،)21‬وبالتالي فهي تقليص لالحتمال واإلمكان‪،‬‬
‫وإدخال للوجود في الفضاء والزمان‪ ،‬بحيث يكون فعليا وبعيدا عن الغموض‪.‬‬

‫لكن هاتين المقولتين ال تشكالن األساس لفهم التجربة اإلنسانية‪ ،‬فهما تحتاجان‬
‫إلى ثالثة تكون الوسيط بينهما‪ ،‬هي الثالثانية‪ ،‬ألنها تشكل القانون والقاعدة اللذين يحيا‬
‫داخلهما اإلنسان‪ ،‬فعندما نقول أن الرجل حزين أو بائس‪ ،‬فإننا نعلل سبب هذا الحزن‬
‫أو اليأس‪ ،‬بوضع قانون يؤدي بالضرورة إليهما‪: ،‬أن نقول كل من يفقد أمه يكون‬
‫حزينا‪ ،‬بمعنى أن الثالثانية هي العادة التي تسمح بتأويل سلوك معين‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬العالمة والمعنى‬

‫بعدما تتبعنا المراحل التاريخية التي قطعها علم اللسانيات ليستوي على عوده‪،‬‬
‫أصبح من الضروري الحديث عن موضوعه‪ ،‬وذلك إلرساء علميته‪ ،‬ولكي نخرج من‬
‫دائرة الغموض‪ ،‬وذلك بتحديد البؤرة التي تركز عليها السيميائيات‪ ،‬رغم ما يظهر من‬
‫صعوبة في هذه المهمة‪ ،‬ألن هذا العلم لم يقتصر على مجال بعينه ؛ فهو يمسك بكل‬
‫مجاالت الفعل اإلنساني‪ ،‬ابتداء من الحواس‪ ،‬ومرو ار بالطقوس والتقاليد االجتماعية‪،‬‬
‫ثم انتهاء بالسلوكات الفردية‪ ،‬وغيرها من الوقائع التي ال تنفصل عن التجربة اإلنسانية‬
‫ككل‪ ،‬والتي تشكل العالقة التوسطية بين اإلنسان وعالمه‪ ،‬أو ما يسميه "كايسر"‬
‫باألشكال الرمزية‪.‬‬

‫ولكن هذا التعدد في المواضيع‪ ،‬قد يشكل إبهاما في فهم الموضوع األساسي‬
‫للسميائيات؛ وبالتالي أضحى من الضروري أن يكون هناك حصر دقيق لهذا األمر‪،‬‬

‫‪452‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بالقول إن التجربة اإلنسانية التي تشمل جميع العلوم؛ سواء كانت علميو أو إنسانية‪،‬‬
‫يجب أن تكون جزءا من السيميوزيس‪ ،‬التي تعني تلك السيرورة الداللية المؤدية إلى‬
‫إنتاج المعنى‪ ،‬الذي يعتبر الموضوع األساس للسيميائيات‪ ،‬فهو ضالتها التي تسعى‬
‫أليها من خالل السيميوزيس‪ ،‬وهو ال يظهر من خالل المعطى المباشر لألشياء‪ ،‬ألنه‬
‫يكون حصيلة سيرورة تدليلية‪ ،‬تثمن مواضيع السيميائيات‪ ،‬والتي تأخذها إلى نواة الفهم‬
‫الصحيح للذات اإلنسانية‪ ،‬وقد أشار سعيد بنغراد إلى ذلك‪،‬حيث قال " فليس بمقدورنا‬
‫أن نتحدث عن سلوك سيميائي إال إذا نظرنا إلى الفعل خارج تجليه المباشر‪ ،‬فما‬
‫يصدر عن اإلنسان ال ينظر إليه في حرفيته‪ ،‬بل يدرك باعتباره حالة إنسانية مندرجة‬
‫ضمن تسنين ثقافي هو حصيلة لوجود مجتمع"(‪ ،)26‬لكن هذا المجتمع الذي حدده بن‬
‫غراد‪ ،‬ينظر إليه طبقا للسيميائيات‪ ،‬على أنه كتلة من العالمات التي تتجاوز حدود‬
‫التجربة الصافية ‪ ،‬لتلج إلى عوالم هي في األصل واالشتغال عالمات؛ كون هذه‬
‫األخيرة قد تشكل المنتوج الرئيس لإلنسان‪ ،‬فهو الذي يصنعها ويستهلكها‪ ،‬باعتبارها‬
‫النقطة التي تبدأ منها سلسلة الدالالت؛ التي ال تنتهي عند نقطة محددة‪ ،‬فهي كما يقول‬
‫الزواوي بغورة ‪ ":‬تساؤل حول المعنى وتساؤل حول شروط إنتاجه وأشكال‬
‫تمظهره"(‪ ،) 22‬ومن هذا يمكننا القول أن مجال اشتغال العالمة‪ ،‬يمثل موضوعا‬
‫للسيميائيات‪ ،‬ألنعا (العالمة) تتكون من بناء ثالثي؛ هو السيميوزيس‪ ،‬هذا البناء الذي‬
‫سنفصل فيه في الفقرات التالية‪ .‬والسيميائيات ال تقف عند هذه المواضيع‪ ،‬بل تتجاوزها‬
‫إلى مجاالت أخرى‪ ،‬تريد من خاللها توسيع مجال اشتغالها‪.‬حيث تهتم باألنساق‬
‫التواصلية؛ كالنسق البصري؛ وكذا اإليمائي‪ ،‬ألنها ترتبط أشد االرتباط باإلدراك‬
‫والمعرفة؛ التي تأتي نتيجة السيرورة الداللية التي ذكرناها سالفا‪.‬‬

‫بعد هذا الرصد لموضوع السيميائيات‪ ،‬يظهر لنا أن هذا العلم يهتم بدراسة جملة‬
‫من العلوم والمواضيع؛ التي ال نستطيع أن نركز عليها أبحاثنا السيميائية‪ ،‬على واحدة‬
‫دون األخريات‪ ،‬ألننا سنكون من المقصرين‪ ،‬فنقلص حقل اشتغال هذا العلم‪ .‬من هنا‬

‫‪453‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وجب علينا التحدث عن المعنى‪ ،‬لنقول إنه البؤرة التي يرتكز عليها علم السيميائيات‪،‬‬
‫فهو القاسم المشترك بين كل المجاالت والمواضيع سابقة الذكر‪.‬‬

‫وإلى جانب الموضوع الذي قمنا بتحديده‪ ،‬تأتي المفاهيم لتفرض نفسها علينا‪،‬‬
‫فنحن ال نستطيع أن نلج إلى أي علم‪ ،‬دون أن نتعرف على بنيتة المصطلحية‪ ،‬ألنها‬
‫تشكل األداة التي تمكننا من استيعاب خباياه وإشكاالته‪ .‬بهذا أضحى من الضروري أن‬
‫تهتم بالمصطلحات المؤسسة لعلم السيميائيات؛ والتي تعتبر العالمة ‪ signe‬المصطلح‬
‫األساس فيها‪ ،‬ألننا ال يمكن أن نعقل أي موضوع داخل هذا العلم؛ دون النظر إليه‬
‫باعتباره عالمة؛أي إنها تحيل على عدة مواضيع خارج سياقها المباشر‪ .‬فهي تثمن‬
‫عناصر التجربة اإلنسانية‪ ،‬فتجعلها باعثة على التفكير والتأمل‪ .‬باإلضافة إلى كونها‬
‫شكل من أشكال التواصل الحاصل بين الباث والمتلقي‪ ،‬بفضل فاعليتها التعبيرية‪.‬‬

‫والعالمة مقسمة إلى أنواع؛ عالمات لسانية؛ تتميز بانتمائها إلى اللسانيات‪ ،‬أو‬
‫السيميولوجيا اللسانية‪ .‬وهي تتفرع بدورها إلى صنفين كبيرين‪ :‬أولها عالمات الكالم‪،‬‬
‫التي تشتمل على وحدات صوتية دنيا؛ تسمى الفونيمات ‪ ،phonémes‬زيادة على‬
‫مفهومين أساسيين هما الدال والمدلول‪ ،‬كما أشرنا في سيميولوجيا سوسور‪ .‬وثانيها‬
‫عالما ت الكتابة؛ التي تركز على القاعدة المعجمية األلفبائية‪ ،‬التي تشكل المحددات‬
‫الصغرى للكتابة‪ ،‬وهذه الكتابة ال تقف عند هذا الحد‪ ،‬بل تتجاوزه إلى تسنين صوت‬
‫اللغة‪ ،‬بما يسمى النظام الفونولوجي‪.‬‬

‫بعد هذا الرصد الطفيف للعالمة اللسانية‪ ،‬أمكننا التحدث عن تصميم علم‬
‫السيميائيات؛ الذي يتجلى في العالمة غير اللسانية‪ ،‬التي تمتاز بخصوصيتها التعبيرية‪،‬‬
‫إذ تستمد كينونتها الداللية من تكوينات الواقع الثقافية‪ ،‬هذه العالمة التي نستطيع أن‬
‫نقسمها إلى قسمين حسب درجة االهتمام‪ .‬فالقسم األول يشمل ثالثة أنواع رائدة في‬
‫السيميائيات‪ ،‬كل واحدة تتميز بتعريفها وخصائصها‪ ،‬وهي األيقونة ‪ icone‬والرمز‬
‫‪ symbole‬و اإلشارة ‪.indice‬‬

‫‪454‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫واأليقونة تعني حسب بورس؛ العالمة التي تحمل عالقة مشابهة مع الشيء الذي‬
‫تحيل إليه؛ فهي تحمل بعض خصائص الشيء الممثل‪ ،‬ومثال ذلك الصورة الفوتوغرافية‬
‫التي تتميز بالضرورة‪ ،‬عكس االعتباطية‪ .‬ألنها مرتبطة بصاحب الصورة فقط‪ ،‬واأليقونة‬
‫هي كل أنظمة التمثيل القياسي المتميز عن األنظمة اللسانية‪ .‬وهذا ما أشار إليه‬
‫أمبيرتو إيكو حيث يقول" إن العالمة األيقونة ال يمكن أن تحمل خصائص الشيء‬
‫الممثل نفسها‪ ،‬ولكنها تعيد إنتاج بعض شروط اإلدراك الحسي‪ ،‬تحت قاعدة التسنين‬
‫اإلدراكي الذي يحيلنا إلى التجربة الواقعية‪ .‬يقول مورس‪ ،‬إن صورة الملكة إيليزايث‬
‫للرسام أنيكوني (‪ ،)Anigoni‬تحمل خصائص الملكة إيليزابيث نفسها‪ ،‬أي أن لها‬
‫العينين ذاتها واألنف ولون الشعر‪ ...‬نقول إن لها الشكل ذاته لألنف‪ ،‬األنف في الواقع‬
‫ثالثة أبعاد (‪)dimentions‬في حين أن األنف في الصورة ال يتكون إال من بعدين‬
‫اثنين فقط‪ ،‬ويمكن القول هنا‪ ،‬أن ما يحمل خصائص الملكة إليزابيث ليس إال الملكة‬
‫نفسها"(‪ .)22‬ومعنى هذا الرأي‪ ،‬أن األيقونة ال تستطيع أن تحمل كل خصائص الشيء‬
‫أو الشخص الممثل‪ ،‬أي إننا نتحدث عن األصل والنسخة‪ ،‬فهذه األخيرة‪ ،‬اليمكن أن‬
‫تصل إلى مستوى األصل‪ ،‬كونها تظل حبيسة التقليد والمحاكاة‪ .‬كما هو الشأن في‬
‫جمهورية أفالطون‪ ،‬التي تمثل عالم المثل (األصل)‪ ،‬الذي يقابل العالم المادي‬
‫(النسخة)‪ .‬ورغم هذا اإلشكال؛ تظل األيقونة الممثل الوحيد للشيء الممَثل‪.‬‬

‫كذلك الرمز يعد من العالمات التي تستعمل كثيرا‪ ،‬ويعرفه "جون ليون" بأنه الجانب‬
‫االصطالحي أو االعتباطي؛ الرابط بين العالمة وداللتها"(‪ .)26‬فالداللة التي تعطى‬
‫للرمز ال تكون ضرورية كما هو الشأن في األيقونة‪ ،‬إذ هي نتيجة تواضع بين الجماعة‬
‫الثقافية‪ ،‬ألنه ال يكون هناك مبرر عقلي لها‪ ،‬كاعتبار الحمامة رم از للسالم؛ فالذي‬
‫جعل هذه األخير مرتبطا بالحمامة‪ ،‬هو ثقافة الشعوب المكتسبة‪ ،‬وليس ألن الحمام هو‬
‫السالم؛ ألننا يمكن أن نضع لها تفسي ار آخر كالحرية‪ ،...‬وبالتالي فالرمز خاضع لمبدإ‬
‫االعتباطية‪.‬‬

‫‪455‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أما اإلشارة فهي عالمة ال تقل شأنا عن سابقتيها؛ فهي تحتل مكانة مهمة داخل‬
‫حقل السيميائيات‪،‬وقد عرفها جون ليون بأنها " العالمة التي تفقد فو ار الخصائص التي‬
‫تعمل العالمة‪ ،‬إذا لم يكن موضوعها موجودا‪ ،‬ولكن هي التي ال تفقد هذه الخصائص‬
‫حتى وإن لم يكن لها مؤول"(‪)11‬؛ والمقصود من هذا الكالم أن اإلشارة تفقد خصائص‬
‫ومميزات العالمة‪ ،‬إذا ما غاب عنها الموضوع الذي تحيل إليه تلك العالمة‪ ،‬لكن ال‬
‫تكون كذلك في غياب المؤول‪ .‬ومثال اإلشارة أو اإليماءة ‪ ،Kineme‬تعويض اللغة‬
‫الكالمية باللغة اإلشارية؛ التي تتعلق ببعض اإلشارات الناجمة عن عدم إتقان لغة‬
‫أجنبية‪ ،‬كاإلشارة إلى شيء إذا لم نعرف اسمه في لغة غير لغتنا‪ .‬وهي بدورها خاضعة‬
‫لمبدإ االعتباطية؛ كونها تتلون والثقافة‪ ،‬ودليل ذلك هو تغيير معنى عالمة الطلب؛‬
‫الذي يختلف بين الكاثوليكية الرومانية‪ ،‬والعقيدة األرثدوكسية‪.‬‬

‫وما يميز اإلشارة هو اكتساؤها أهمية مقننة ‪ Cidée‬في ممارسة بعض اإلشارات‬
‫داخل جماعات معينة‪ ،‬كالجماعات العسكرية‪ ،‬في استعمالها القلم األسود للكتابة‪،‬‬
‫وإمساكها األشياء المقدمة إليها باليد اليسرى عوض اليمنى‪ ،‬إضافة إلى تحية اليد‪،‬‬
‫وعالمات مختلفة لإلغاثة‪ ،...‬فهذه اإلشارات تأخذ طابعها منظما ومقننا‪ ،‬يرقى بها إلى‬
‫درجة اللسان‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة للصم والبكم‪.‬‬

‫وهناك التصنيف الثاني للعالمات‪ ،‬الذي يشمل واحدة أقل استعماال‪ ،‬كالعالمة‬
‫الشمية ‪ ،singe olfactifs‬التي تتجلى كثي ار في التواصل اإلنساني‪ .‬وتحققاتها تكون‬
‫بكثرة في إشارات العطور؛ فلكي يظهر اإلشهاري جودة العطر المعروض‪ ،‬يأتي بامرأة‬
‫و رجل ‪ ،‬يجسدان هذه العالمة العالمة الشمية؛ التي قد تحيل إلى دالالت جنسية‪.‬‬
‫وكذلك يظهر لنا النسق الشمي في التمييز بين الجيد والرديء‪ ،‬والم َّ‬
‫صنع واألصلي؛‬ ‫ُ‬
‫إلى غير ذلك‪.‬‬

‫وكذا العالمة اللمسية تتميز بقدرتها التعبيرية‪ ،‬رغم نذرة استعمالها في العالقات‬
‫اإلنسانية؛ فهي تستعمل كبديل للبصر‪ ،‬مثل قراءة برايل الخاصة بالمكفوفين‪ ،‬فهم‬

‫‪456‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يعقلون الكون الكون بواسطة اللمس‪ ،‬ويتجلى ذلك في المراحل األولى التواصلية للطفل‪،‬‬
‫مع األشياء المحيطة به كاإلحساس بالح اررة والبرودة‪ ،‬والصالبة‪ ،...‬فقد مررنا بتجارب‬
‫مؤلمة أحيانا‪ ،‬عن طريق اللمس‪.‬‬

‫وإلى جانب العالمة الشمية واللمسية‪ ،‬نجد العالمة الذوقية ‪ ،gustatif‬التي يحددها‬
‫فرويد في الغريزة الفموية ‪.labidol oral‬وهي جد مهمة في التواصل اإلنساني‪ ،‬حيث‬
‫يقول محمد نظيف "ذلك أنه بمجرد أن يأكل اإلنسان المثقف؛ يعقلن االنطباعات‬
‫العادية‪ ،‬ويتقن ويمحص أساليب تحويل األطعمة(الطبخ)‪ ،‬ويعقلن طريقة األكل‬
‫(الذواقة)"(‪) 12‬؛ فاالنتقال من اللحم النيء الذي كان مع اإلنسان البدائي‪ ،‬إلى اللحم‬
‫المطبوخ في العصر الحديث‪ ،‬يرسم طريق اإلنسان نحو التقدم التكنولوجي‪ ،‬أي تقدم‬
‫من الطبيعة التي تظهر في الطعام المستهلك كما هو‪ ،‬نحو الثقافة التي تتجلى في‬
‫طعام مستهلك مطبوخ بواسطة النار‪ ،‬أو استعمال آلة كهربائية‪ ،‬عكس آلة بدائية‬
‫كالحجارة الحادة‪ ،‬التي كانت تستعمل كسكين‪.‬‬

‫بعدما رصدنا أنواع العالمة‪ ،‬سنمر إلى عرض الطريقة التي تكتسب بها دالالتها‪،‬‬
‫وهي تكون بإخضاعها لسيرورة السيميوزيس‪ ،‬التي تعني السيرورة التدليلية المشتملة‬
‫في داخلها شيئا ما باعتباره عالمة‪ .‬وهي مقسمة إلى ثالثة عناصر؛ أولها الماثول‬
‫الذي يعرفه بورس بقوله" إن العالمة (أو الماثول) يعوض بالنسبة لشخص ما‪ ،‬شيئا ما‬
‫بأية طريقة‪ .‬إنها تخلق عنده عالمة موازية أو عالمة أكثر تطورا‪ ،‬إن العالمة التي‬
‫يخلقها أطلق عليها مؤوال للعالمة األولى‪ ،‬وهذه العالمة تحل محل شيء هو‬
‫موضوعها"(‪ .)11‬وهذا الماثول ال يقوم إال بالتمثيل لشيء آخر‪ ،‬حيث يقوم بتعريفنا‬
‫فقط على الشيء‪ ،‬فهو ال يوجد إال من خالل تحيينه داخل موضوع ما‪ .‬بالتالي هو‬
‫يحيل على الموضوع؛ عبر مؤول يمنح العالمة صحتها‪.‬‬

‫أما العنصر الثاني من السيميوزس فهو الموضوع؛ الذي يقوم الماثول بتمثيله‪،‬‬
‫وهو يمكن أن يكون واقعيا أو متخيال أو غير قابل للتخييل‪ ،‬كما ال يمكن أن يشتغل‬

‫‪457‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أال كعالمة‪ ،‬كونه مرتبط أشد االرتباط بنسيج السيميوزس ‪ ،‬بمعنى إنه بعيد كل البعد‬
‫عم المواضيع ال عادية‪ ،‬وال يستطيع االنفصال عن العملية اإليالغية نفسها؛ ألنه يجب‬
‫على الباث أو المتلقي أن يمتلك معرفة مسبقة عن موضوع ما‪ ،‬لكي يكون هناك حوار‪.‬‬

‫وفيما يتعلق بالعنصر الثالث من السيميوزس فهو المؤول؛ الذي يحدد نسيج هذه‬
‫السيرورة‪ ،‬إذ يشكل التوسط اإللزامي الذي يسمح للماثول‪ ،‬باإلحالة على موضوعه؛‬
‫وفق شروط معينة‪ .‬وهو ما يجعل االنتقال بينهما ممكنا ‪ ،‬ألنه يعطي للعالمة صحتها‪،‬‬
‫ويضعها للتداول؛ كواقعة إبالغية‪.‬‬

‫وفي نهاية هذا المقال‪ ،‬نكون قد استوفينا أهم المواضيع التي تتصل بعلم‬
‫السيميائيات‪ .‬ابتداء من تعريفه‪ ،‬ومرو ار بأصوله الفلسفية والعلمية‪ ،‬وكذا الموضوع‬
‫الرئيس له؛ و انتهاء بنيته المفاهيمية‪ .‬وهذا يعتبر شيئا ضروريا‪ ،‬كونه يفتح لنا المجال‬
‫لولوج السيميائيات بخاصة‪ ،‬وكل العلوم بعامة‪.‬‬

‫اإلحاالت‬

‫‪ )2‬سعيد بنغراد‪ ،‬السيميائيات النشأة والموضوع‪ ،‬عالم الفكر‪ ،‬العدد ‪ 2‬المجلد ‪ ، 21‬يناير_‬
‫مارس ‪ ،1112‬ص ‪.2‬‬

‫‪Umberto eco, le signe, edlabor, 1984, p151 )1‬‬

‫‪ )2‬سعيد بنغراد‪ ،‬السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،1112 ،‬ص ‪.26‬‬

‫‪Ferdinaned de soussure, cours de linguistique generale,ed )4‬‬


‫‪pogfotheque, p33‬‬

‫‪ )1‬سعيد بنغراد‪ ،‬السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.44‬‬

‫‪ )6‬سعيد بنغراد‪ ،‬السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪ )2‬سعيد بنغراد‪ ،‬السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.44‬‬

‫‪458‬‬
02-91 ‫أوراق العدد المزدوج‬

Ferdinaned de soussure, cours de linguistique generale, p 100 )2

.21 ‫ ص‬،‫ مرجع سابق‬،‫ السيميائيات النشأة والموضوع‬،‫) سعيد بنغراد‬6

Peirce, Textes Anticartesiens, )2( Montaigne, 1984, P2 )21


presentation et traduction de joseph chenu, ED Aubier

،‫ المركز الثقافي العربي‬،‫ اإلنتاج ومنطق الدالئل‬،‫ سيميائيات التأويل‬،‫) طائع الحداوي‬22
.224‫ ص‬،1116

-21‫ ص‬،2416-1111 ،‫ منشورات االختالف‬،‫ السيميائيات الواصفة‬،‫) يوسف أحمد‬21


.22

.111 ‫ ص‬،‫ مرجع سابق‬،‫) طائع الحداوي‬22

Carontini, Enrico, Action du signe, ED houvain-hameuve, 1984, )24


p170

.112 ‫ ص‬،‫ مرجع سابق‬،‫) طائع الحداوي‬21

.22 ‫ ص‬،‫ مرجع سابق‬،‫ السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها‬،‫) سعيد بنغراد‬26

،‫ العدد العاشر‬،‫ مجلة عالم الفكر‬،‫ العالمة والرمز في الفلسفة المعاصرة‬،‫) الزواوي بغورة‬22
.212

Eco Umberto, la structure absente, introduction a la recherché )22


semantique, paris, 1972, p176.

John lyon, elements de semantique, librairie larousse, 1978, )26


p86, op-cit.

John lyon, elements de semantique, librairie larousse, 1978, )11


p90,op-cit

.16 ‫ ص‬،2661 ،‫ دار الباحث العربي‬،‫) محمد نظيف ما هي السيميولوجيا‬12

CS Peirce, ecrits sur le signe, ED Seuil, 1978, p 121. )11

459
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"قدسي الهوى" مثال جيد على الرداءة‬

‫فراس حج محمد| فلسطين‬

‫المّرة"‪،‬‬
‫شاعر وناقد من فلسطين‪ ،‬أصدر "رسائل إلى شهرزاد"‪" ،‬من طقوس القهوة ُ‬
‫ِ‬
‫وحدك أغنية"‪.‬‬ ‫"ما يشبه الرثاء"‪" ،‬و ِ‬
‫أنت‬

‫تُعيد النصوص الرديئة‪ -‬على النقد‪ -‬طرح المفاهيم األساسية المتصلة بجنسها المؤطرة‬
‫ضمنه أو بطريقة التعبير عن أفكارها‪ ،‬وأهم تلك المفاهيم‪ ،‬مفهوم الرداءة نفسه‪ ،‬إذ كيف‬
‫يكون النص رديئاً إلى درجة المثال الجيد على هذه الرداءة‪ .‬ليس في األمر ما يدعو‬
‫إلى المفارقة‪ ،‬أو التالعب باأللفاظ‪ ،‬إنما هي حالة تشكلت على هيأتها لتكون هي‪ ،‬كما‬
‫استقرت عليها بنموذجها اللغوي والشكلي‪.‬‬

‫ما مفهوم الرداءة الفنية هنا؟ إنها‪ -‬باختصار شديد‪ -‬أال يمثل العمل إضافة نوعية في‬
‫موضوعه أو في جنسه‪ ،‬مع عدم تحقق شروط تكونه األولى ليكون جدي ار بتجنيسه‬
‫الذي يمثله‪ .‬إنه أشبه بحالة من الهذيان أو الثرثرة اللغوية غير أدبية‪ ،‬إذ تقل أو تنعدم‬
‫عناصر شعريته‪ ،‬فيبهت في نظر المتلقي وال يدعوه إلى القراءة أو االستزادة‪ ،‬ناهيك‬
‫عن عدم التأثير والبقاء في مخيلة القارئ طوي ً‬
‫ال أو قليالً‪ ،‬فال شيء يدوم من تلك‬
‫الرداءة في ذهنه‪ ،‬ألن العقول والقلوب مهيأة على أن تنفعل وتتأثر بكل ما هو جميل‬
‫وفريد واستثنائي‪ ،‬ناهيك عم يحدثه في النفس من مشاعر اإلحباط واالشمئزاز‪ ،‬وتعزيز‬
‫حالة متوهمة من الرداءة قد تصل إلى درجة التعميم على كل شعر أو على كل إنتاج‬
‫أدبي حديث‪ ،‬أو على إنتاج كل أديب ذي أصول معينة أو جنس معين‪.‬‬

‫كما أن العمل الرديء أيضا يشكل عبئا لغويا على صاحبه‪ ،‬فيحمله على ظهره‪،‬‬
‫فيلتصق به في أرض غير ذي زرع في واد قاحل غير مقدس‪ ،‬فكثير من المبدعين‬
‫الرديء‬
‫ُ‬ ‫الكبار ضاقوا ذرعاً برديئهم دون أن يكونوا قادرين على التخلص منهم‪ ،‬فظل هذا‬

‫‪461‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بقع ًة سوداء في مسيرتهم يحاولون أال يكون في بؤرة الضوء والنقد على أقل تقدير‪ ،‬لكن‬
‫النقد ال يرحم‪ ،‬والقارئ ال يجامل‪ ،‬فهو "براغماتي" يبحث عما يفيده ويمتعه‪ ،‬وال يستطيع‬
‫كاتب أن يفرض على قارئ أخالقياته مهما كانت مثالية‪ ،‬ليمنعه من التنمر مثال في‬
‫ظل اتساع رقعة وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬إذ تصبح فضيحة الشاعر أو الكاتب‬
‫الرديء "بجالجل" على رأي التعبير الشعبي المصري المعبر بحرفية في مثل هذه‬
‫الحالة‪.‬‬

‫هذه هي محددات الرداءة التي يمكن أن يستقيها الناقد من مجموع ما قاله النقاد‪ ،‬وهم‬
‫يعالجون النصوص‪ ،‬ويقرؤونها‪ ،‬أو وهم يحللونها إلى عناصر شكلية وأخرى موضوعية‪،‬‬
‫وهي محددات عامة‪ ،‬ال يختلف حولها النقاد‪ ،‬بل إنهم مجمعون عليها‪ ،‬لكن اختالفهم‬
‫في مدى انطباقها على نص دون آخر‪.‬‬

‫من المفترض أن "قدسي الهوى" للمقدسية خولة أحمد إمام ديوان شعر (دار إلياحور‬
‫للنشر والتوزيع‪ .)1112 ،‬والشعر له محددات من لغة خاصة فردية‪ ،‬وصورة بالغية‪،‬‬
‫وانزياح داللي‪ ،‬وتكثيف في الصياغة‪ ،‬ودهشة في التصور الذهني للموضوع‪ ،‬سعيا‬
‫وراء التأثير في المتلقي‪.‬‬

‫تعد اللغة أهم عدة للشاعر‪ ،‬ففيها ومنها وبها يتشكل الشعر‪ ،‬ويتعامل معها كما يتعامل‬
‫الخزاف مع الطين‪ ،‬ليعيد خلقها دالليا في سياقات ذات وقع خاص على القارئ‪ .‬فال‬
‫توصف اللغة الشعرية بأنها لغة عملية وظيفية تؤدي التعبير عن الفكرة؛ هذه هي مهمة‬
‫اللغة االجتماعية التواصلية العادية في البيع والشراء وركوب الحافلة مثالً‪ ،‬فهي لغة‬
‫استهالكية ميتة‪ ،‬تموت وال يحتفظ بها بعد االنتهاء من وظيفتها‪ ،‬على خالف األدب‪-‬‬
‫شعره ونثره‪ -‬الذي تقوم لغته على "استخدام خاص للغة‪ ،‬يحقق تميزه باالنحراف عن‬
‫اللغة العملية وتشويهها‪ ،‬فاللغة العملية تستخدم استخداماً يرتبط بأفعال التوصيل‪ ،‬أما‬
‫اللغة األدبية فليس لها أي وظيفة عملية‪ ،‬وإنما تجعلنا نرى بطريقة مختلفة فحسب"‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫(النظرية األدبية المعاصرة‪ ،‬رامان سلدن‪ ،‬ترجمة جابر عصفور‪ ،‬دار قباء للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،2662 ،‬ص‪)12‬‬

‫كما أن اللغة الشعرية ليست هي اللغة العلمية التخصصية االصطالحية المنضبطة‬


‫بجهاز مفاهيمي مغلق على جماعة المتخصصين‪ ،‬كلغة األطباء أو الفقهيين أو غيرهم‪.‬‬
‫وليست هي كذلك اللغة المعجمية المحفوظة في كتب اللغة‪ .‬إن اللغة الشعرية غير هذا‬
‫تماماً مع أن الشاعر ناد ار ما يخترع لفظا جديدا‪ ،‬لكن مهمته اختراع معان جديدة‪ ،‬فردية‬
‫ونفسية أللفاظ معينة‪ ،‬وهذا ما يمكن أن يجنح باللغة نحو الرمزية‪ ،‬وإطالق تفعيل‬
‫السياق الخاص للكالم‪ ،‬ليتم فهم المقصود من خالل السياق ذاته‪ ،‬إذ يقل االعتماد على‬
‫الواقع الخارجي في توجيه المعنى‪ ،‬وبالتالي تولد بهذه الطريقة المعاني النفسية الخالصة‬
‫لتكون ذهنية متصورة تماماً‪ .‬فاللغة في الشعر تصنع فضاءها المعرفي والتواصل‬
‫المكتفي بالبنية السياقية التي جاءت فيه‪ ،‬وما يقوم به النقاد من إحاالت‪ ،‬ال تعدو كونها‬
‫تفسي ار للغة بناء على أفق التلقي لهذا الناقد أو ذاك‪ ،‬وقد يكون هذا التفسير ضرباً من‬
‫الخيال أو رجماً من الغيب‪.‬‬

‫جاءت اللغة في كتاب "قدسي الهوى" مصنوعة من اللغة العادية االستهالكية بكل ما‬
‫تعنيه اللغة االستهالكية التي تموت بمجرد قولها‪ ،‬فهي بعيدة عن سمات لغة الشعر‬
‫المعتمدة على االنزياح والتكثيف وخلق دالالت جديدة سياقية لأللفاظ التي ال توجد‬
‫معانيها إال بتلك السياقات‪ ،‬لتكون اللغة الشعرية ساعتئذ قادرة على خلق لغة تبدو كأنها‬
‫لغة جديدة مقدودة من لحم اللغة األم‪ ،‬تستفيد من قشرتها اللفظية لكنها تحقنها بالمعاني‬
‫النفسية الذاتية الخاصة‪ ،‬من هنا يكتسب الشعراء أهميتهم الشعرية‪ ،‬ال أن يعيدوا‬
‫المعروف والمكرور والمكرر حتى لو كان فيه شيء من جمالية التعبير اإلنشائي‪ ،‬ألن‬
‫الشعر‪ -‬كما يقول أدونيس‪" -‬ال يسرد‪ ،‬وال يخبر‪ ،‬وال ينقل أفكا اًر‪ ،‬وال يصدر عن العقل‬
‫والمنطق‪ ،‬وال عن العادة والتقليد‪ .‬وإنما يوحي‪ ،‬ويومئ‪ ،‬ويشير‪ ،‬فاتحاً للقارئ أفقاً من‬
‫الصور‪ ،‬مؤسساً له مناخات من التخيالت" (الثابت والمتحول‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬ج‪،4‬‬

‫‪462‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ص‪ ،) 146‬وعاديته اللغوية تقتل روح الشعر وجماليته‪ ،‬بحيث يصبح النص ال شعر‬
‫فيه إطالقاً‪.‬‬

‫توهم الكاتبة خولة إمام القارئ باعتمادها على "جماليات" شعر‪ -‬لغوية‪ ،‬فتقع في مطبات‬
‫القافية المجتلبة‪ ،‬عندما تصر على التقفية‪ ،‬فتضطر إلى أن توظف ألفاظاً غير مناسبة‪،‬‬
‫عدا أنها ألزمت نفسها بالتقفية في جملها القصيرة؛ فجاءت أقرب إلى السجع منها إلى‬
‫القافية‪ ،‬إذ ال تكتب الشاعرة القصيدة العمودية‪ ،‬بل إنها في أغلب الظن‪ ،‬كما في هذا‬
‫الديوان‪ ،‬أو في نصوصها التي تنشرها في الصحف ال تتقن الوزن أو متطلبات القصيدة‬
‫الكالسيكية‪ ،‬ما يدخلها في عمليتي الوهم؛ وهم الذات‪ ،‬والخديعة؛ خديعة القارئ العادي‪.‬‬
‫فمن األسلم لها أال تلزم نفسها بهذا التقنية التي أصبحت قيدا ألنها ال تتقن توظيفها‪.‬‬
‫جاء مثال نص "بقايا ذكريات" (ص‪ )62-62‬مثاال جيدا على رداءة استخدام السجع‪،‬‬
‫أو ما يمكن أن أسميه َ"و ْهم القافية"؛ فثمة كلمات قلقة في أماكنها‪ ،‬وثمة كلمات أخرى‬
‫ملعوب بها صرفيا للتوافق واإليقاع‪ ،‬وثمة كلمات محشوة ومحشورة في سياقها إلتمام‬
‫هذه العملية‪.‬‬

‫وعلى العموم فإن أغلب عيوب القافية المجتلبة التي تحدث عنها النقاد في الشعر القديم‬
‫سيجدها القارئ في "قدسي الهوى"‪ ،‬ليصبح الكتاب عالمة على رداءة استخدام إحدى‬
‫تقنيات الشعر الكالسيكي الموظفة جب اًر في سياق من الصياغة غير الرصينة التي ال‬
‫تمت إلى الشعر الكالسيكي بأية صلة‪ ،‬ليكون توظيفها غير ضروري‪ .‬عدا أن هذا‬
‫التوظيف كان عنصر تشويه للنص‪ ،‬ولو خال منه لكانت النصوص أكثر تحمال واقترابا‬
‫إلى الشعرية‪ ،‬فالتخفف من الجماليات أحياناً نوع من الجمال‪ ،‬فإذا لم نضع الزينة في‬
‫موقعها المناسب ستنقلب إلى عامل قبح ورداءة‪.‬‬

‫تعاني أغلب نصوص الكتاب كذلك من التطويل المخل‪ ،‬وهذا التطويل المخل أدخل‬
‫النصوص في باب الثرثرة والترهل‪ ،‬فالشاعر ال يحتاج أن يثرثر‪ ،‬إنما يحتاج أن تكون‬
‫عباراته مكثفة مختزنة لمعاني كثيرة في اللفظ األقل‪ ،‬وكلما كانت العبارة قصيرة دالة‬

‫‪463‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫كانت أدخل في الشعرية‪ ،‬أما هذا الترفيل غير البالغي والتطويل الممل الذي ال يتبعه‬
‫تطور في البناء الكلي للنص أكسبه ملمحا آخر من مالمح الرداءة‪.‬‬

‫كان لهذا التطويل أثره في تقنية كتابة النص‪ ،‬فغلبت المنطقية الواعية‪ ،‬فجاء النص‬
‫باهتاً‪ ،‬ال يثير مخيلة القارئ وال يدعوه إلى المشاركة التفاعلية مع النص‪ ،‬لتنعدم المتعة‪،‬‬
‫فالمعنى واضح ومستهلك‪ ،‬وفيه جريان وراء التوضيح غير الضروري‪ .‬من ذلك مثال‬
‫استخدامها للجمل االستفهامية‪ ،‬ثم تأتي بعد ذلك وتقول‪:‬‬

‫"أسئلة تراودني بال هوادة‬

‫ما زلت أسأل‬

‫من يجيب؟ من يجيب؟" (ص‪)22-21‬‬

‫لألسئلة شعرية خاصة في النص‪ ،‬ليس هذا النص بالتأكيد‪ ،‬إنما النص بشكل عام‪،‬‬
‫لكن شريطة أن يحسن الشعراء استخدامها‪ ،‬وأال تكون عشوائية‪ ،‬كما هو في ديوان‬
‫"قدسي الهوى"‪.‬‬

‫ويتصل بهذا أيضا‪ -‬التطويل غير الفني‪ -‬تتابع التشبيهات في النص‪ ،‬دون أن تمنح‬
‫تلك التشبيهات بعدا مركبا للجملة ليتطور بها المعنى الكلي للمشهد كله‪ ،‬تق أر هذا‬
‫المقطع‪:‬‬

‫امرأة أنا من تلك العصور‬

‫جدائل شعري‬

‫كليل طويل‬

‫كموج جسور‬

‫كقصر منيف‬

‫وقمرة نور (ص‪)241-242‬‬


‫‪464‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لش ْعر هذه المرأة ِ‬


‫وشعرها أيضاً؟ أظن‬ ‫فكيف لقارئ أن يتصور معنى ذهنيا مقنعاً جماليا َ‬
‫أن هذه الصورة لو أحيلت إلى فنان تشكلي لخرج بصورة مضحكة أو لعلها صورة‬
‫مرعبة‪ ،‬كيف لك أن تتخيل جمال شعر المرأة وهو كقصر منيف أو قمرة نور؟ إنها‬
‫صورة تثير في النفس الفزع وليس النشوة أو الجمال‪ .‬وهذا يعيد إلى الواجهة مرة أخرى‬
‫ما قاله النقاد عن التشبيه‪ ،‬وضرورة المناسبة بين طرفيه‪ ،‬وتوضيح المعنى وإب ارزه من‬
‫خالل هذه العالقة الناشئة بين المشبه والمشبه به‪.‬‬

‫وبعد هذا وذاك‪ ،‬فإن المعجم اللغوي لكاتبة هذا الكتاب فقير جدا‪ ،‬ويدور حول ألفاظ‬
‫معينة‪ ،‬ومرجعيتها الثقافية متدنية المستوى‪ ،‬إضافة إلى الفقر المدقع في المجاز‬
‫واالستعارة والصورة الشعرية المبتكرة‪ ،‬وتكرار مجموعة من األلفاظ واضح لكل من يق أر‬
‫الديوان‪.‬‬

‫هذه الحالة من الكتابة التي وصفت بالرداءة على الوجه الذي بينته آنفاً‪ ،‬تطرح سؤاال‬
‫مهماً‪ :‬ما الذي يدفع الكتاب ليكتبوا شع اًر؟‬

‫سبق لغسان كنفاني في كتابه "فارس فارس" أن أشار إلى اإلقبال على كتابة الشعر‬
‫بغ ازرة في مقال بعنوان "شعراء متهمون بالغش والتزوير" (ينظر ص‪ 226‬على سبيل‬
‫المثال)‪ ،‬لتجد أنه ال إجابة سوى ما كان قاله في مقال سابق‪" :‬هنالك كما يبدو علة‬
‫كبيرة لدى كتابنا‪ ،‬وهي اعتقادهم أنهم إذا أطلقوا على شيء ما اسم شعر‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يعتبر بمثابة جواز مرور إلى المجد"‪( .‬ص‪ )44-42‬فهذا الكتاب "قدسي الهوى"‪ -‬في‬
‫أحسن أحواله‪ -‬كتاب خواطر مسجوعة يغلب عليها البوح الذاتي‪ ،‬فيها تدريبات أولية‬
‫على استخدام اللغة العادية االستهالكية‪ ،‬وليس له من نصيب كثير أو قليل في الشعر‬
‫والشاعرية‪ ،‬وعلى ذلك فإن "قدسي الهوى"‪ -‬بوصفه ديوان شعر‪ -‬مثال جيد على‬
‫الرداءة‪ ،‬ولو تواضعت الكاتبة قليال وجعلته تحت جنس "النصوص" أو الخواطر لكان‬
‫أسلم لها‪ ،‬ألن النصوص أو الخواطر ال تحتاج إلى تلك الفنية العالية التي يحتاجها‬
‫الشاعر‪ .‬فالشعر ال أن تبوح‪ ،‬أو تنوح‪ ،‬وإنما أن تصنع اللغة‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫إن الشعر ال يكتب إال إذا كان الكالم نابعا من منطقة مجهولة من داخلك‪ ،‬دون أن‬
‫تعرف وحيها بالضبط‪ ،‬واترك الالوعي هو من يقودك إلى القصيدة‪ ،‬دون أن يكون‬
‫لعقلك أدنى تفكير أو سيطرة على النص‪ ،‬وإال سيغرق الشعر في المعقولية والمباشرة‬
‫والمنطق‪ ،‬وساعتئذ ستكون الكتاب ُة نث ار ال شعر فيه‪ ،‬كما حدث بالضبط في "قدسي‬
‫الهوى"‪ ،‬هذه الحالة الشعرية المطلوبة عبرت عنه الشاعرة نجاة بشارة ولخصته في‬
‫قولها‪:‬‬

‫الكأس‬
‫ُ‬ ‫َّت لهُ‬
‫الحبر ما ارتَج ْ‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫كي ير ُش َ‬
‫ْ‬ ‫كرِتنا‬
‫س َ‬‫الشعر إال عند َ‬
‫َ‬ ‫نكتب‬
‫ال ُ‬
‫ورحم الله الحطيئة الذي كان من األولين السابقين في اإلشارة إلى أن الشعر فن ليس‬
‫كأي فن‪ ،‬وحذر من استسهال تعاطيه والخوض فيه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫فالشعر صعب وطَويل ٌسلّمه إذا ارتَقى ِ‬
‫فيه الّذي ال يَعلَمُه‬ ‫ِ‬
‫ٌُ ُ‬ ‫ُ َ ٌ َ‬
‫ِ‬
‫ضيض قدمه والشعر ال يَسطّيعُهُ من يظلمه‬ ‫ِ‬
‫َزلّت به إلى الحَ‬
‫عربهُ فيُ ِ‬
‫عجمُه‬ ‫يريد أن يُ ِ‬

‫وعليه‪ ،‬فإن الشعر كما يصفه الشاعر والناقد الدكتور المتوكل طه‪" :‬هو ذلك "القول"‬
‫الذي يرقى فور سماعه أو قراءته إلى مراتب النيرفانا‪ ،‬ويجعلك تشهق‪ ،‬وي ِ‬
‫حدث نبضة‬
‫النار في خالياك‪ ،‬ويبعث ذلك النحل الشرس إلى كل مسامة فيك‪ ،‬أو أنه كالم إله ٌّي‬
‫ويعكر دمك بالعسل‪ ،‬ويتركك على مفترق التيه اللذيذ‪.‬‬
‫يأخذ روحك إلى رعشة غائمة‪ُ ،‬‬
‫أرضه نار ثلجية‪ ،‬وسماؤه أطفال المجرات الالعبين في فضاء غير ُم ْد َرك‪ .‬بصرف‬
‫الشعر أكبر من أي شكل"‪( .‬قصيدة "النثر" و ِ‬
‫الشعر‪ ،‬منصة‬ ‫النظر عن شكله‪ ،‬ألن ِ‬
‫َ‬
‫االستقالل الثقافية‪.)12-21-1126 ،‬‬

‫فالشعر‪ -‬إذاً‪ -‬هو حالة كونية شاملة‪ ،‬وليس مجرد كتابة تتجنس بالشعر وتتموضع في‬
‫الصفحة على شكل ساللم لغوية بأسطر متناثرة‪ .‬بل الشعر أكبر من أن يتضمن صورة‬
‫شعرية هنا أو هناك‪ ،‬كما هو في كتاب "قدسي الهوى"‪ ،‬إذا لم تكن تلك الصور الشعرية‬

‫‪466‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ذات نسق شعري عميق يحيل على فلسفة خاصة للكاتبة‪ ،‬بحيث يصبح الشعر رؤيا‬
‫جمالية لهذا الكون أو احتجاج جمالي تعبيري على ما فيه من قبح ومآس‪ .‬وليس هو‬
‫"قداسة الموضوع"‪ ،‬فلن يشفع ذلك للشعر الرديء‪ ،‬ولن يرفعه إلى مصاف الجودة‬
‫المطلوبة‪ ،‬ويصدق على هذا الكتاب ما قاله غسان كنفاني في حق أحد كتب الشعر‬
‫في زمنه‪" :‬إن جواز السفر الذي يدخل الرجل إلى وادي عبقر ليس نظافته الوطنية‪،‬‬
‫ولكن أيضا موهبته‪ .‬قد تكون الوطنية الصادقة في أحسن الحاالت جواز سفر إلى‬
‫سوق عكاظ‪ ،‬ولكن الموهبة واألصالة والقدرة الفنية هي سمة الدخول‪ .‬الشعور الوطني‬
‫عربة تحتاج إلى وقود‪ ،‬والوقود هو العبقرية"‪( .‬فارس فارس‪ ،‬ص‪)26‬‬

‫ومن باب آخر قريب من ذلك‪ ،‬وإن بشكل أعم‪ ،‬فإن المعاني‪ -‬كما قال الجاحظ‪-‬‬
‫"مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني‪ ،‬وإنما الشأن‬
‫في إقامة الوزن وتخير األلفاظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة‬
‫السبك‪ ،‬فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"‪( .‬الحيوان‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫ص‪ )221-222‬وأما في العصر الحديث فقد أكد مالرميه "أن الشعر يصنع من‬
‫الكلمات نفسها‪ ،‬قاصدا بذلك الكلمات كأحداث حسية"‪" ،‬رافضاً األفكار كمادة للشعر"‬
‫(الشعر والتجربة‪ ،‬أرشيبالد مكليش‪ ،‬ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي‪ ،2662 ،‬ص‪)21‬‬

‫فكم من متطفل على الشعر أفسد الشعر وأبعد القراء عن اقتناء كتب الشعر واالستمتاع‬
‫به‪ ،‬إذ ال شك في أن هؤالء الكتبة الذين يسوقون مثل هذا الذي ُيدعى شع ار عندهم‪،‬‬
‫أفقد الجمهور الثقة بالشعر والشعراء‪ ،‬فعمل رديء واحد كفيل بأن يخرب على مائة من‬
‫العطارين الممتازين روعة ما ينتجون من جميل الروائح المبهجة التي تشيع في النفس‬
‫ولكن لوال هذا القبح لما عرف الجمال‪ ،‬وكما قال الشاعر‪" :‬وبضدها‬
‫الجمال واألريحية‪ْ ،‬‬
‫لتحلو‬
‫َ‬ ‫تتبي ُن األشياء"‪ ،‬و"الضد يظهر حسنه الضد"‪ ،‬فكأنه ال بد من األعمال الرديئة‬
‫في الفكر والقلب األعمال الرصينة العظيمة المؤثرة‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العنونة في المجموعة القصصية "وجوه من سوريا"‬

‫زينب الزبيدي‬

‫كاتبة عراقية‬

‫أصدرت الكاتبة هيفاء بيطار مجموعتها القصصية (وجوه من سوريا)‬


‫ْ‬
‫وتضمنت أحداث سوريا في العام ‪ 1122‬م‪ ،‬كانت العنونة تمثل انعكاساً لمتن‬
‫النص‪ ،‬فأغلب القصص في المجموعة القصصية تحمل انعكاساً لتركيبة‬
‫رصد انعكاس العنونة على متن المجموعة‬
‫َ‬ ‫النص‪ .‬وفي هذا المقال نحاول‬
‫القصصية التي تمثل أحداث تغير النظام السياسي في سوريا‪.‬‬

‫داللة الصورة‪ :‬حمل الغالف األمامي للمجموعة القصصية "وجوه من سوريا"‪.‬‬


‫صورة لألطفال النازحين من مدنهم البعيدة التي حرقتها ودمرتها الحرب‬
‫يتناولون الطعام‪ ،‬فكانوا يصنعون طعامهم على‬ ‫جالسين في خيمة ممزقة‬
‫النار التي يتدفؤون بها من البرد القارص‪ ،‬فجاءت داللة الصورة تحمل مأساة‬

‫‪468‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فاحتلت‬
‫ْ‬ ‫النازحين بال مأوى‪ ،‬فكانوا مبتسمين على الرغم من معاناة النزوح‪،‬‬
‫صورة األطفال ثلثي صورة الغالف األمامي وما تبقى حمل كتابة العنوان‬
‫وخ ٌّ‬
‫ط اسم الكاتبة باللون األسود‪ ،‬مما يعكس دالالت عدة منها الحزن‬
‫والضياع والتيه في دروب الغربة والتهجير والخوف واليأس الذي سيطر على‬
‫جميع شخصيات المجموعة القصصية‪ ،‬وكتب العنوان باللون األحمر الذي‬
‫يعكس صور القتل والمذابح التي حلت بالسوريين فضالً عن حالة الغضب‬
‫واالضطراب في الشعب السوري‪ ،‬واصطبغت خلفية الصورة ومالبس األطفال‬
‫باللون األصفر والبرتقالي داللة على أفول الحياة وغروبها وذهابها نحو خريف‬
‫العمر الذي يعقبه الموت‪ ،‬وكذلك يعكس حالة عدم أتزان الشخصيات في‬
‫القصص بسب الغضب والقلق النفسي نتيجة الحرب‪ ،‬فيما تعكس ابتسامة‬
‫األطفال البراءة والفطرة النقية وهم يطالبون العيش بسالم على الرغم من‬
‫الحرب في بلدهم‪.‬‬

‫أما الغالف الخلفي غلب عليه اللون األحمر فهو صورة للمجازر والمذابح‬
‫خطت عليها الكاتبة أهم الشخصيات في المجموعة‬ ‫ْ‬ ‫حلت بمجتمعهم‪ ،‬أذ‬
‫التي ْ‬
‫القصصية‪ ،‬فسيميائية اسم "حسام" الذي يقترن اسمه بالسيف والقتل والترهيب‪،‬‬
‫وكذلك "أياد" يشير إلى قبيلة عربية وهو صورة للفرقة والتناحر بين القبائل‬
‫العربية في جاهليتها األولى‪ ،‬وكذلك إلى انقسام الجيش السوري إلى جيش‬
‫النظام والجيش الحر ومليشيات أخرى متعددة األسماء ومتناحرة فيما بينها‪،‬‬
‫فهي صورة للجاهلية األولى واقتتال قبائلها فيما بينها ألتفه األسباب‪.‬‬
‫وشخصية "هيثم" اإليجابية تشير إلى العالم ابن الهيثم فهي نموذجا عن الثوار‬
‫المعتقلين‪ ،‬و"أم كفاح" هي األخرى شخصية بناءة تمقت الحرب وتبغي السالم‪،‬‬

‫‪469‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وهي فضالً عن ذلك مكافحة سخرت حياتها في خدمة ابنائها إذ عملت خادمة‬
‫في البيوت من أجل معيشة أبنائها ومواصلة تعليمهم لذلك جاء االسم معب اًر‬
‫عن دورها في القصة‪ .‬وكذلك تمثل األمهات الالتي ينتظرن عودة ابنائهن من‬
‫الحرب‪.‬‬

‫عتبة االهداء‪ :‬وجهت الكاتبة االهداء إلى أطفال سوريا النازحين الذين أجبرتهم‬
‫الظروف أن يسكنوا الخيام في الطرق خشية الحرب بعد نزوحهم من مدنهم‪،‬‬
‫واحثتهم إلى بناء الوطن‪" ،‬إلى أطفال سوريا الذين أجبروا على أن يعيشوا‬
‫طفولتهم في السماء وفي الخيام ‪....‬يمكن بناء الوطن"‪.‬‬

‫قصة ثورة‪ :‬قصة ثورة تقع أول قصة في المجموعة القصصية تحمل عنوان‬
‫الثورة وهي ثورة الشباب األبطال تبدأها في مقولة "الكذب الدين العبيد والحقيقة‬
‫هي إله االنسان الحر" تدور أحداثها عن كاتب تحكمه السلطة وتمنعه من‬
‫الكتابة في حرية وتقع عينه على هذه المقولة وهي إحدى المذكرات الطفولة‬
‫األولى‪ ،‬واآلن هو زوج وأب وكاتب ولديه معمل صابون‪ ،‬ولكن في مقابل‬
‫ذلك ال يملك الحرية ألنه كتابة كم صفحة تجعله يفقد حياته‪ ،‬كم صديق له‬
‫مغيب في السجن بسبب أفكاره؟ وبعد اندالع الثورة آثر على أن يكتب حتى‬
‫لو تطلب االمر حياته ولكن عن ماذا يكتب‪ ،‬هل يكتب عن الجندي الذي‬
‫قتلته العصابات التي تقتل في الجنود؟ أم عن العمال الذين تركوا العمل عنده‬
‫لديك؟‬
‫وذهبوا إلى رجل اخر وقالوا له أن أجرة اليوم تعادل أجرة عام كامل َ‬
‫وعندما أتم كتابة المقال وأرسله‪ ،‬قتل بالرصاص فكانت أفكار الكتاب تدفعهم‬
‫فاختصت الكاتبة عنوان القصة األولى "ثورة" لتعبر عن‬
‫ْ‬ ‫إلى فقدان حياتهم‬
‫غضب الجماهير واألسباب التي دفعتهم إلى هذه االنتفاضة‪..‬‬

‫‪471‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أم كفاح‪ :‬تتحدث القصة عن سيدة تدعى "أم كفاح" تفقد ابنها الذي التحق‬
‫بالجيش بسبب الفقر فهي منذ أشهر ال تعرف عن مصيره‪ ،‬هل مذبوح مع‬
‫شاهدت صورهم في التلفاز ولم تشاهد جثته بسبب كثرة الجثث‬‫ْ‬ ‫الجنود الذين‬
‫فوقه‪ ،‬أم أنه حاول الهروب وقتله الجيش ألن ذلك ي َعٌّد خائناً للوطن‪ ،‬فتطرح‬
‫البطلة سؤاالً على القارئ "أال يحق لإلنسان أن يكون جبانا‪ ،‬أال يحق لشاب‬
‫ط ْت القصة الضوء على األمهات يندبن ابناءهن‬
‫أن يرفض حمل السالح"‪َ ،‬سل َ‬
‫سواء كان ابناؤهن مع الثوار أم مع الجيش في كلتا الحالتين هم مقتولون‪.‬‬
‫فتقوم "أم كفاح" بعد انتظارها كفاح مدة طويلة من الزمن دون خبر عن ابنها‬
‫برمي نفسها أمام شاحنة لكي تتخلص من القهر والعذاب ومأساة السنين التي‬
‫قضتها وهي تعمل خادمة من أجل مساعدة ابنائها‪.‬‬

‫هالل‪ :‬حملت هذه القصة عنوان "هالل" فسيميائية الشخصية تشير إلى ميالد‬
‫عهد جديد بعد الموت‪ ،‬بطلة القصة تدعي هالل وهي فتاة من حلب نازحة‬
‫إلى الالذقية بعد أن دمرت الحرب الطائفية منزلها في حلب‪ ،‬فتلتقي‬
‫لت‬
‫بالشخصية التي تسرد القصة كونها مشاركة باألحداث المأساوية التي ح ْ‬
‫على البالد بعد ما نهرتها على عدم اعطاء االموال إلى المتسولين الذين‬
‫يملؤون الطرق يتسولون على أنهم من مدينة حلب لكي يكسبوا عطف المارة‪،‬‬
‫اال أن هذه الفتاة هالل تصرخ في وجه المرأة التي تستجدي ‪ .....‬في عبارة‬
‫أنها من حلب تأخذ هالل بطرح أسئلة من شدة القسوة والقهر في الشعب‬
‫السوري الذي يعاني من الصراع الداخلي بسبب االوضاع االقتصادية‬
‫والسياسية‪ ،‬أنها تقول كيف ألخي السوري أن يستغلني وبيتي ودكاني قد تدمر‬
‫أحرقت الحرب منزلها الذي يحمل صورها وهي أغلى شيء‬
‫ْ‬ ‫في حلب‪ ،‬بعد أن‬

‫‪471‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قت كل‬
‫عندها صور الطفولة والمراهقة والزواج وحديقة منزلها فالحرب أحر ْ‬
‫بقت عالقة في حلب‪.‬‬
‫شيء جميل لها في حياتها إال روحها التي ْ‬
‫قصه "أم إياد"‪ :‬تناقش صرخة األمهات وسط هذا الصراع الذي يدور في‬
‫قضت عمرها تعاني الفقر والعوز من أجل إيصال ابنها "إياد"‬
‫ْ‬ ‫سوريا "أم إياد"‬
‫إلى أعلى المراتب في التعليم‪ ،‬أال أنه بعد حصوله على شهادة الهندسة لم‬
‫تعرف أن الحرب الطائفية سوف تسرقه منها برصاصات في قلبه‪ ،‬تصرخ‬
‫لقلت انه شهيد‪،‬‬
‫وتقول "لو أنه قتل في فلسطين لو أنه كان يحارب الصهاينة؟ ُ‬
‫لكنه قتل هنا في وطنه طيب من قتله؟ واستشهد مقابل ماذا؟"‬

‫قصة طيور النورس ناصعة البياض‪ :‬ترمز إلى البراءة والسالم والطيور‬
‫المالزمة للمياه‪ ،‬والنورس هنا في القصة يشير إلى القتلى الذين رماهم اإلرهاب‬
‫الدموي في نهر العاصي لتسوقهم مياهه إلى مصبها في البحر‪ ،‬فهم طيور‬
‫النورس الذين يتنقلون من مياه العاصي إلى البحر‪ ،‬تسرد هذه القصة امرأة‬
‫في الالذقية تذهب إلى الشاطئ من أجل إزاحة الهموم والقلق من داخلها وإذا‬
‫هي في طريقها تنظر من النافذة وتشاهد واقع الشعب الذي تمزق في بسبب‬
‫الطائفية‪ ،‬تشاهد فتاة مبتسمة تحمل لوحة خط عليها "اذا سألوني ما طائفتي‬
‫‪ ..‬طائفتي سوريا" أخذت شوارع سوريا تزينها صور الشهداء من الشباب‪،‬‬
‫وبعدها تذهب الى البحر وتستلقي على رمال البحر كالمصلوب وتحلم في‬
‫الشهداء واألطفال الذين قتلوا وتتحدث معهم وهم في عالم الموت‪ ،‬وكأنه ال‬
‫يوجد خط فاصل بين األحياء واألموات الشهداء المذبوحون الذين ألقوا في‬
‫ودماءهم النازفة المنبثقة من أعناقهم‬
‫َ‬ ‫نهر العاصي‪ ،‬فترى عيونهم النازفة‬
‫المذبوحة ولون ماء البحر األزرق يصبح أحمر بسبب كثرة دمائهم‪ ،‬وتأخذ‬

‫‪472‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أعدادهم في تزايد وهم ينظرون إليها ويسألونها بالصوت والواحد هل أنتِ حية‬
‫أم مذبوحة؟ فال تستطيع الجواب‪ ،‬ويأخذها السؤال في داخلها كيف وصل‬
‫شهداء نهر العاصي الى البحر؟ وتشعر جسدها ال يقوى على الحراك ويداها‬
‫وقدمها مكبلتان وملفوفتان بقطعة قماش خشن وحولها أطفال مكفنين بكفن‬
‫أبيض ثم تستيقظ على صوت ضحكات عذبة‪ ،‬وعند عودت وعيها إليها تقول‬
‫إنهم أطفال "الحولة"‪ .‬فسلطت القصة الضوء على شهداء نهر العاصي وأطفال‬
‫"الحولة" الذين قتلوا بالسواطير والسكاكين فجاء عنوان القصة طيور النورس‬
‫ناصعة البياض يرمز إلى الشباب والشهداء واالطفال سوريا‪.‬‬

‫قصة يوم في الالذقية‪ :‬من العنوان يتضح اسم المدينة في سوريا اسمها‬
‫الالذقية‪ ،‬يبدأ الراوي المشارك بسرد األحداث اليومية في الالذقية في نقل‬
‫صور من مشاهدتها األحداث اليومية التي عمت البالد‪ ،‬ومن خالل مشاركتها‬
‫ومشاهدتها لألحداث من شرائح المجتمع السوري تجسد صور الفقر والنزوح‬
‫وأطفال بال مأوى ومأكل في مخيمات الالذقية بعد نزوحهم عن منازلهم في‬
‫حلب‪ ،‬فتلتقي في بداية األمر بسائق لتكسي من حلب‪ ،‬ومن خالل الحديث‬
‫الذي دار بينهما تتعرف على أن لديه طفلة مريضة وال يمتلك النقود لعالجها‪،‬‬
‫وبيته قدُ دمر في حلب وال يمتلك المال الستئجار منزل بسيط يأوي أسرته‪،‬‬
‫يفترشن األرض ويحمْلن بطاقات هوية من‬
‫ْ‬ ‫في شوارع الالذقية تشاهد النساء‬
‫المدن المنكوبة المدمرة بسبب الحرب لكي يكسبن عطف المارة ويحصلن‬
‫على المال لمساعدة أسرهن‪ .‬وأطفال نازحون يجوبون الشوارع وهم يحملون‬
‫العلكة ويبيعونها على المارة ومن ثم تنتقل البطلة مع صديقتها إلى أصحاب‬
‫المخيمات النازحين لكي تقدم لألطفال هدايا العيد وتشاهد امرأة تحمم طفلها‬

‫‪473‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في زجاجة ماء أمام المارة فتطرح سؤاالً على القارئ‪ ،‬هل تكفي زجاجة ماء‬
‫أن تحمم طفالً؟ وتنقل هذه القصة حجم مأساة أهل حلب بعد تدمير منازلهم‬
‫التي أحرقتها نار الحرب ودمرتها‪ ،‬فوقع عاتقها الكبير على األطفال األبرياء‬
‫الذين ال يعرفون ما الحرب؟‪.‬‬

‫تناولت هذه القصة المعاناة النفسية التي تعكسها الحروب‬


‫ْ‬ ‫قصة لعبة الرحمة‪:‬‬
‫على اإلنسان وتحوله من شخص إيجابي إلى شخص سلبي‪ ،‬ينتظر الموت‬
‫بطلة القصة التي تعاني من االضطرابات النفسية‪ ،‬توفي زوجها وترك لها‬
‫اجهت الكثير من المشاكل بمفردها من أجل إكمال دراستهما‪ ،‬الكبير‬
‫ولدين و ْ‬
‫تخرج من كلية الهندسة واآلخر من كلية التجارة‪ ،‬وكانت تطمح لهما بالعمل‬
‫في دول الخليج لكي تتخلص من الفقر الذي أهلك حياتها وهي تعمل في‬
‫معمل الغزل بمفردها‪ ،‬وعند عودتها تقوم بإعالة أب زوجها وكان رجالً طاعن‬
‫السن‪ ،‬وجهت كل غضبها إلى هذا الرجل المسكين ألنه ظل حياً في حين‬
‫الشباب يقتلون بالجملة‪ ،‬وعندما تشاهد صور الشهداء في التلفاز تتخيل أنها‬
‫صور أبنائها‪ ،‬األول في حماة يقاتل والثاني في حمص وهي في الالذقية ال‬
‫تعرف عملهما‪ ،‬هل قتل الثوار أم قتل اإلرهاب؟ في كلتا الحالتين هما يحملون‬
‫السالح ويقاتلون‪ ،‬فكانت ناقمة على الزمن والظروف وقسوة الحياة‪ ،‬فجميع‬
‫هذه الظروف جعلت منها إنسانة قاسية تعذب الرجل المسن ظناً أن بقاءه‬
‫على قيد الحياة سوف يجلب لها خبر مقتل أبنائها‪ ،‬فكانت لعبة الرحمة لديه‬
‫هي الجرائد والذكريات‪ ،‬فسرقت المكبرة التي يرى فيها‪ ،‬وأقدمت على اخفائها‬
‫أعادت المكبرة إلى العجوز‬
‫ْ‬ ‫شعرت بعذاب الضمير‬
‫ْ‬ ‫لكي ال يرى‪ ،‬وعندما‬
‫فوجدته فاقد الحياة بعد قطع شرايينه لكي يضع حد إلى هذه القسوة‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق الحوار‬

‫‪475‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الشاعر والروائي عبدالسالم فريج*‬

‫في حوار عن تجربته اإلبداعية وارتباطها بقضيته السورية‬

‫حاوره‪ :‬محمد فتحي المقداد‬

‫كاتب وروائي سوري‬

‫تقديم‪:‬‬

‫الرّقة"‪ ،‬تعمد ُبفراتها األزلي‪ ،‬من هناك جوار‬


‫ضيف ُمعتق َزاه بعراقة تاريخ مدينة " ّ‬
‫صحابة رسول الله "عمار بن ياسر" و"أويس القرني"‪ ،‬فطن ليكتب مجموعته الشعرية‬
‫"صفين" الذي‬
‫األولى "أنا والفرات" وكأنه يستميح الفرات بضخ مياهه ُليطفئ بها لظى ُ‬
‫اشتعل على ضفاف ُفراته و ُليطفئ جمرة تحت الرماد منذ أيام التحكيم‪ُ ،‬فراته الذي كان‬
‫هادئا ينعم بالسالم‪ ،‬عامرة دياره بالحب‪ ،‬ومن هناك جاء "عبد السالم الفريج" ليكتب‬
‫السوريِين‪ ،‬كما مواطنه الروائي‬
‫عتبر ْتين ُمعبر ْتين عن عقد أسود من حياة ُّ‬
‫روايتين ُم َ‬
‫"عبدالسالم العجيلي" حينما كتب روايته األشهر "المقموعون"‪ ،‬ليحارب بقلمه نهج‬
‫الدكتاتورية الغاشمة‪ ،‬وفاضحا ألساليبها القمعية‪ .‬ولسانه ال يزال نديا برطوبة فراتية‬
‫عذبة وهو يشدو أشعاره بلهجة حزينة‪.‬‬

‫ومتابعيه؟‪.‬‬
‫س‪ -9‬كيف يقدم عبدالسالم الفريج نفسه لقرائه ُ‬
‫‪ -‬مجرد إنسان حمل الوطن في قلبه عبر الزمن‪ ،‬أحب كل البشر بال تمييز مهما‬
‫اختلفت مشاربهم ألن الجميع ينتمون انتماء واحدا فالكل إخوة مع تمايز األهواء‪.‬‬

‫ثم انتقلت لميدان‬


‫الشعبي بداية‪ ،‬ومن ّ‬ ‫الشعر‬
‫األدبية ما بين ّ‬
‫ّ‬ ‫موهبتك‬
‫َ‬ ‫توزعت‬
‫س‪ّ -0‬‬
‫ّ‬
‫ألي من المجالين أنت أقرب‪ ،‬ولماذا؟‬
‫الفصيح‪ّ .‬‬

‫‪476‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬الشعر الفصيح عابر للمناطق واألقاليم تستطيع من خالله التواصل مع العرب في‬
‫كل مكان من المغرب إلى اقاصي المشرق بينما الشعر الشعبي يكون مرتبطا بموطنه‬
‫وبيئته الحاضنة‪ ،‬فمن يكتب الشعر الشعبي في َو ْجده على االطلسي لن يفهمه ابن‬
‫القلمون أو ابن حماه أو ابن اإلسكندرية‪ ،‬وكذلك الشعر الفراتي الذي أجد نفسي فيه‬
‫كثي ار لن يكون مفهوما لدى من هم خارج اللهجة‪ ،‬ولكن مع كل هذا أجد نفسي أقرب‬
‫للهجتي الفراتية مع اعتزازي بالشعر الفصيح‬

‫الب ْون شاسع مابين الشعر والرواية ّ‬


‫تقنيا‪ ،‬وقد أصدرت ديواني شعر وروايتين‪.‬‬ ‫س‪َ -3‬‬
‫فلو ُخّيرت بينهما‪ ،‬فما هو خيارك الحاسم الذي ال رجعة عنه‪ ،‬ولماذا؟‬

‫‪ -‬ال أخفيك أنني أستمتع بكتابة الشعر وأبحر في قوافيه إبحار عاشق‪ ،‬لكنني أميل‬
‫إلى الرواية ألنها تعطيني مساحة كبيرة للتحليق في آفاق متنوعة ومتقاطعة‪ ،‬كما تعطيني‬
‫مداً وحرية للحركة ال يقيدها وزن أو قافية‪ ،‬وهناك أيضا مسألة البحث العلمي أو إذا‬
‫شئت أن تسميه الخيال العلمي الذي ال أستطيع تناوله شع ار بينما في الرواية يمكن‬
‫التوغل فيه بشكل واسع وكبير وهذا ما تجده في روايتي التيه في زمن النبوءات التي‬
‫تناولت أبحاث الضوء والطاقة‪.‬‬

‫للشعر‪ ،‬ولقب شاعر سعى له الكثيرون‪ ،‬منذ عهد امرؤ‬ ‫األول ّ‬


‫أن المقام ّ‬
‫س‪ -4‬رغم ّ‬
‫القيس إلى لحظتنا هذه‪ .‬أال ترى أّنك جازفت بمستقبلك األدبي بهذه الخطوة؟‬

‫‪ -‬مطلقا‪ ،‬كما أن مسمى شاعر حمله أشخاص كثر‪ ،‬لكن لم يخلد التاريخ إال من كتب‬
‫بتميز‪ ،‬وكذلك الرواية لها أسماء خلدها التاريخ خذ ابن خلدون مثاال مؤسس علم‬
‫االجتماع الزال الناس يذكرونه ويذكرون مقدمته‪ ،‬وكثر غيره منذ العهد الكلداني إلى‬
‫اإلغريق وهوميروس إلى البطالمة في مصر إلى العصر الحديث حيث طه حسين‬
‫والعقاد وغوستاف لوبون ونيتشه‪ ،‬أسماء كثيرة ولها ما لها من اعتبار وتقدير كبيرين‪.‬‬

‫س‪ -6‬الكاتب واألديب الشامل "عبد السالم الفريج"‪ ،‬هل يرى من ضرورة لتحديد‬
‫ألي كاتب ُعموما؟‬
‫األدبية ّ‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬
‫‪477‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬ال مبرر لتحديد الكاتب بهوية وتقييده بها‪ ،‬دعه ينطلق بشمولية واسعة تسمح لإلبداع‬
‫بالظهور‪ ،‬ابن رشد كان عالما فيلسوفا وباحثا حكيما‪ ،‬والخوارزمي ودافنشي الرسام‬
‫والمهندس والمخترع أيضا‪.‬‬

‫س‪ -0‬ما بين "بوح الزنازين"‪ ،‬و"أنا والفرات"‪ ،‬مساحة وطن جريح‪ ،‬وهما عنوانان‬
‫المختلفة ظاهرا‪،‬‬
‫كل منهما ُ‬‫عري ْتين‪ ،‬بتوّقف بسيط يحكيان سيرة ّ‬
‫الش ّ‬‫لمجموعتيك ّ‬
‫ْ‬
‫الشوق إلى وطن جريح‪ .‬فما هو الوطن بعين‬
‫المتوالفة باطنا‪ ،‬التي توازعها الحنين و ّ‬
‫و ُ‬
‫شاعر وروائي ومف ّكر وفّنان وناقد فني؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -6‬الوطن هو الدفء‪ ،‬هو شعلة أو قل جذوة متقدة في القلب‪ ،‬الوطن ليس كما علمونا‪،‬‬
‫أسالك شائكة وحدود مصطنعة واهية شكلت سجنا لمجموعة بشرية وجعلت منهم عبيدا‪،‬‬
‫الوطن هو سماء تزهو بالحرية وأرض تحتضن كل القلوب بال قيد وال شرط‪ ،‬الوطن‬
‫هو المكان الذي ال تفقد فيه إنسانيتك وال كرامتك‪ ،‬باختصار الوطن هو المكان الذي‬
‫ال تختصر فيه صوتك حتى الموت‪.‬‬

‫جسرت المسافة بين كل‬


‫س‪( -2‬ساجدة‪ /‬الموت عشقا) روايتك األولى ‪0290‬م‪ّ ،‬‬
‫يلتف تحت عباءتهما من مشاعر األخوة والمحبة‪ ،‬وقصة‬
‫من بغداد ودمشق‪ ،‬وما ّ‬
‫كالية‬
‫لثالثية إش ّ‬
‫ّ‬ ‫للقراء المزيد الكاشف‬
‫عشق بين بطلي الرواية‪ .‬هل لك أن تحكي ّ‬
‫(العشق والوطن والحرب)؟‬

‫‪ -2‬في ساجدة كما أسلفت لك في السؤال السابق يتجلى الوطن في الدفء‪ ،‬العشق لم‬
‫ينتصر ولم يتحقق في ظل الضياع الذي يعيشه الوطن وتتنازعه الحرب وقوى الظالم‬
‫واالستبداد‪ ،‬هذه اشكالية نعيشها منذ الف عام ولم نستطيع وأدها‪ ،‬لكن ربما الجيل القادم‬
‫سيكون أكثر جرأة من االجيال السابقة وسيحقق االنتصار كما حققته غيرنا من شعوب‬
‫العالم‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تجددة‬
‫لقضية قديمة ُم ّ‬
‫ّ‬ ‫المثير‬
‫ان انزياحي بطرحه ُ‬
‫يه في زمن الُنبوءات) عنو ٌ‬
‫س‪( -1‬ال ّت ُ‬
‫فسر لنا تناقض فكرة (ال ّتيه)‬
‫بهجرة العقول‪( :‬إدارة الوطن الّناجحة والعسكر)‪ ،‬كيف ُت ّ‬
‫مع (زمن الُنبوءات)؟‬

‫‪ -‬ال يوجد تناقض أبدا‪ ،‬بل هو توافق مطرد‪ ،‬زمن النبوءات العلمية التي تعطي افاقا‬
‫مفتوحة للعلماء الذين ال ينفك قادة االستبداد بجعلهم يهيمون تائهين في صحارى الجهل‬
‫بعد العلم ليبقى المجتمع يرضخ تحت مظلة العبودية‪ ،‬من هنا جاء التوافق في هذين‬
‫المسميين‪.‬‬

‫تضادات‪ ،‬كيف‬
‫الم ّ‬‫المتناقضات و ُ‬
‫سوريا وطن ُ‬
‫ّ‬ ‫س‪ -1‬اإلنسان "عبدالسالم الفريج" من‬
‫البشرية بعدم إنجاب األطفال؟‬
‫ّ‬ ‫ُيمكن تبرير قرارك القاسي على النفس‬

‫‪ -‬نعم هو قرار عن سابق اصرار وتصميم‪ ،‬يجب على العبيد أن ال يتوالدون لكي ال‬
‫تستمر العبودية‪ ،‬وأنا في وطن العبودية لن يكون لي ابن يتمتع بالحرية‪ ،‬بل سيكون‬
‫حر‬
‫عبدا أخر يتجرع القهر ويحلم بالحرية مثلي‪ ،‬لذلك عندما أتحرر سوف أنجب طفال ا‬
‫ليس فوقه مظلة االستبداد والعبودية‪.‬‬

‫الرسم والحفر على الخشب‪،‬‬


‫حارب في مجاالته‪ ،‬ومن هواياتك ّ‬
‫‪ -92‬األديب والفنان ُم ٌ‬
‫لك آفا ًقا رحبة‪ ،‬ومن ُشرفتها وأنت تنظر إلى الوطن‪ ،‬هل يمكن‬
‫هذا الهواية فتحت َ‬
‫السورية؟‬
‫ّ‬ ‫لفن برأيك أن يخدم قضيتنا‬
‫ل ّ‬

‫‪ -21‬نعم‪ ،‬الفنان واالديب يستطيعان إيصال الصوت الحر إلى أبعد مدى عبر كل‬
‫الوسائل وبشكل أقوى من الرصاص الذي مزق الوطن وقتل االبرياء بشكل وحشي‪،‬‬
‫اللوحة وريشة الرسام لها وقع كبير وكذلك الفنان على المسرح واالديب في يراعه تهتز‬
‫لهم العروش‪.‬‬

‫‪479‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ومخرجاتها من الدمار والقتل‬


‫السورية بمقدماتها (الثورة السورية)‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫القصة‬
‫س‪ّ -99‬‬
‫ثقافية؟‬
‫افي‪ ،‬أين هو موقع الّنخب ال ّ‬ ‫والسجون والتشريد واللجوء والتغيير الديموغر‬
‫ّ‬
‫وهل باستطاعتهم تشكيل رأي معتبر يكون له كلمة في مستقبل سوريا؟‬

‫‪ -‬ال أعتقد أنه سيكون للنخب الثقافية موقع أو رأي بعدما حصل من دمار للوطن وقتل‬
‫وتشريد ساكنيه‪ ،‬لقد استحوذ أمراء الحرب على القرار في ظل تخاذل النخب السياسية‬
‫التي لم تكن إال هياكل تابعة لغير الوطن‪ ،‬وهذا أمر أطال أمد الحرب والمعاناة‪ ،‬وفتح‬
‫المجال لنظام االستبداد باستجالب قوى االستعمار إلى الوطن وتغيير تركيبته السكانية‪.‬‬

‫سوريا؟‪ .‬وماذا‬
‫ّ‬ ‫عاما من الحرب والمعاناة‪ ،‬كيف ترى مستقبل‬
‫س‪ -90‬بعد إثني عشر ً‬
‫تقول بكلمة أخيرة؟‬

‫‪ -‬يجب علينا أن نكون منطقيين في رؤيتنا المستقبلية‪ ،‬فالتفاؤل والعفوية لن تحقق أي‬
‫تقدم‪ ،‬المعاناة لن تنتهي إال إذا تغير النظام بشكل كامل ونهائي‪ ،‬وتكاتف الجميع سنين‬
‫طويلة قادمة؛ لتنتهي المعاناة؛ ثم نتحدث حينها عن مستقبل سورية الجديد‪.‬‬

‫***‬

‫* عبدالسالم بن أحمد المطر الفريج‪ ،‬من مواليد حلب ‪2611 /22 /11‬م‪ .‬ومن عشيرة الجبور‬
‫الذين هاجروا إلى السخنة ومنها إلى الرقة عام ‪ .2642‬ووالدته السيدة مهدية إبراهيم بك‪ ،‬وكانت‬
‫من محبي الشعر الذي ترك أث ار في طفولته‪ ،‬وعندما التحق بالمدرسة اإلعدادية بدأ يكتب الشعر‬
‫الشعبي‪ ،‬وكانت أولى قصائده باسم (ردتك حبيبي بليلة كمر نسهر)‪.‬‬

‫بعد حصوله على الثانوية لم يكمل دراسته نتيجة تدهور الوضع االقتصادي للعائلة فعمل في مديرية‬
‫مالية الرقة سنتين ثم استقال‪ .‬وغادر إلى السعودية للعمل‪ ،‬حيث تابع دراسة الكيمياء عبر المراسلة‬
‫مع الجامعة األمريكية في "أنقرة"‪ ،‬وتابع دروس ومحاضرات في جامعة الملك سعود بشكل شخصي‪،‬‬
‫ثم عمل في المجال الكيميائي بمعالجة الخرسانة وإصالح التربة‪ ،‬ونفذ مشاريع عديدة كما عمل في‬
‫الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض لمدة ثالث سنوات كمستشار للمواد العازلة ومعالجة التسرب‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫صدر له رواية (ساجدة‪ /‬الموت عشقا) عام ‪ 1126‬عن دار قلم الخيال في الرياض‪ ،‬وصدرت‬
‫روايته الثانية بعنوان (التيه في زمن النبوءات) عام ‪.1111‬‬

‫وله أيضا ديواني شعر‪ ،‬األول بعنوان (بوح الزنازين) والثاني بعنوان (أنا والفرات)‪.‬‬

‫عبد السالم فريج‬

‫‪481‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق الترجمة‬

‫‪482‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫رهان السرد‪ :‬العمران القبلي في الرقة*‬

‫‪ :Myriam Ababsa‬مريم عبابسة‬

‫الترجمة عن الفرنسية‪ :‬إبراهيم محمود‬


‫باحث ومفكر ومترجم كردي سوري‪ ،‬له العديد من الترجمات والكتب المطبوعة‪.‬‬

‫(أهدي هذا البحث المترجَم إلى األصدقاء األحبة من الكتاب‬

‫في الرقة العريقة جارة الفرات‪ ،‬تعبي ارً عن تقدير‪ ،‬وتذكي ارً بتلك‬

‫األيام التي كنا نمضيها معاً في لقاءات الفكر واألدب والثقافة‪،‬‬

‫وحفاوة أهل الرقة المضيافين وطيب معشرهم)‪ .‬المترجم‬

‫"في تفاصيل الطريقة التي يبني بها المتحدثون خطابهم‬

‫حول المدينة يتم بناء مبادئ وضوح النظام الحضري"‪.‬‬

‫(موندادا ‪ ،1111‬ص ‪ )1‬مريم العبابسة‪.‬‬

‫تبرز مسألة الهوية الحضرية بشكل خاص في الرقة‪ ،‬التي حافظ سكانها األوائل على‬
‫أسلوب حياة رعوي لمدة نصف قرن‪ ،‬والتي كانت تدار‪ ،‬منذ ثورة آذار البعثية ‪la‬‬
‫‪ ،révolution baathiste‬من قبل شبه البدو‪ .‬وهكذا َّ‬
‫تبنى مثقفو الرقة موقفا غامضا‬
‫تجاه هويتهم‪ .‬إنهم مستعدون لإلعالن أن الرقة مدينة للبدو‪ ،‬بينما ينفون أنهم كذلك‪.‬‬
‫ويزعمون القيم القبلية بينما يشيرون إلى أنهم ليسوا جماعات قبلية‪ .‬وحرصاً على التميز‬
‫عن شبه البدو وموظفي الخدمة المدنية والتجار الذين اجتذبهم تطور المدينة في‬

‫‪483‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الستينيات‪ ،‬قاموا بتأليف تاريخ حضري مجيد للرقة سيكونون األوصياء عليه‪ .‬وفي‬
‫كتاباتهم ومؤتمراتهم‪ ،‬أصبحت الرقة عاصمة سوريا خالل ثورة فيصل العربية ‪révolte‬‬
‫‪ arabe de Faysal‬ومكاناً رئيساً للمقاومة القومية‪ .‬وتصور رواياتهم شخصيتين‬
‫متكررتين في التاريخ المحلي للرقة‪ :‬البدي والمديني باسم ساكن المدينة ‪.citadinité‬‬
‫ويتم تقديم هذين الشكلين في بعض األحيان باالتفاق‪ ،‬وفي بعض األحيان متعارضين‪،‬‬
‫مما يترك في كلتا الحالتين األغلبية شبه البدوية في الظل‪.‬‬

‫بناء على الكتابات والقصص‬


‫ويستكشف هذا الفصل جدلية "القبلية" و"المدينة" في الرقة ً‬
‫القصيرة ونصوص المؤتمرات الصادرة عن خمس شخصيات بارزة في المدينة‪ :‬الكاتبان‬
‫عبد السالم العجيلي‪ ،‬وإبراهيم الخليل‪ ،‬والمؤرخ الشهير عبد القادر عياش‪ ،‬وأصله من‬
‫دير الزور ولكن له كتاب من مجلدين عن تاريخ الرقة‪ ،‬والمؤرخان المحليان األستاذ‬
‫وسيستخدم‬
‫محمد حمد والدكتور محمد نجرس‪ ،‬وكالهما عضو في حزب البعث‪ُ .‬‬
‫مصطلح "القبلية" في البداية لتعيين روابط الوالء والتسلسل الهرمي االجتماعي على‬
‫أساس الشرف واالعتراف بالسلف المشترك ‪ .ancêtre commun‬و"سكان المدينة"‬
‫هو مصطلح جديد تمت صياغته لمراعاة البعد المثالي لعالقة فرد أو مجموعة اجتماعية‬
‫بالمدينة‪ ،‬والتي تحدد جميع اإلجراءات والممارسات والمواقف والكلمات والعالمات التي‬
‫توضح عالقتها بالمدينة‪" .‬يتضح أن المسكن في المدينة هو كوكبة من التمثيالت في‬
‫العمل الحضري‪ ،‬وتُغذي طرق القيام بأشياء الممثل والتي تربطه بمدينته‪ ،‬بالمدن‪،‬‬
‫بالمدينة" (ليفي ولوسو ‪ ،1112‬ص‪ .)261 .‬إنه "نوع من ترسيخ الخيال االجتماعي‪.‬‬
‫وبالتالي فإن التنظيم المكاني وعمله يشكالن المستوى المعتمد "(لوسو‪ ،2666 ،‬ص‬
‫‪ ،"2" )26‬باتباع نهج لورين از موندادا المعروض أعاله‪ ،‬أتعامل مع دراسة الهويات‬
‫الحضرية في الرقة من خالل الخطابات التي يلقيها الوجهاء عن أنفسهم ومدينتهم؛ وأنا‬
‫أوازنهم من خالل تحليل التعليقات التي أدلى بها حول المدينة زعماء العرب من الفرات‬
‫والقبائل البدوية‪ .‬ومن ثم أوضح أن التناقض الظاهري لـ "العمران القبلي ‪citadinité‬‬

‫‪484‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ "tribale‬هو أنسب شخصية بالغية لوصف الروابط التي كونتها العائالت القديمة في‬
‫الرقة مع مدينتها‪.‬‬

‫‪- 9‬تطور الهويات القبلية والعمرانية للرقاويين‬

‫"الرقة مدينة تتسم بالخشونة والمحافظة‪ ،‬وتقود حياة متشددة وضيقة في تقاليدها القبلية‪.‬‬
‫وسكان الرقة بدو أقوياء في عالقاتهم الشخصية‪ ،‬لكنهم يخضعون ألوامر من الذين‬
‫يمسكون بزمام السلطة في أيديهم"‪( .‬العجيلي‪.)2622 ،‬‬

‫ذلك ما كتبه أحد أبرز الشخصيات في الرقة ‪ -‬الشخصية الوحيدة التي جرى ترسيخ‬
‫تمثال لها خالل حياته في مدينة الرقة‪ ،‬إضافة لتمثال الرئيس حافظ األسد ‪ -‬هذا‬
‫التوضيح الذي كتبه الروائي عبد السالم العجيلي يأخذنا مباشرة إلى تعقيد هوية‬
‫الرقاويين‪ ،‬المستعدين لمعاملة مواطنيهم على أنهم "بدو" بينما ُينكرون أنهم كذلك‪،‬‬
‫والذين ينتقدون أحياناً ويتخذون أحياناً أخرى سمات أو صفات قبلية‪ .‬ومثل األشكال‬
‫األخرى للهوية‪ ،‬فإن الهوية القبلية هي بناء اجتماعي ينبع إما من األفراد المعنيين‪ ،‬أو‬
‫من القادة السياسيين‪ ،‬أو من الباحثين‪"1" .‬‬

‫‪- 0‬إسناد الهوية القبلية للرقاويين‬

‫يشار إلى الرقة في الكتابات الرسمية على أنها "مدينة قبلية"‪ .‬في عام ‪ ،2621‬في‬
‫العدد الخاص من مجلة عمران المخصصة للرقة‪ ،‬يمكن للمرء أن يق أر‪" :‬غالبية سكان‬
‫المحافظة أصولهم وجذورهم من القبائل العربية األصيلة ويحافظون على شجرة العائلة‬
‫وغرف الضيافة واألصالة العربية البدوية‪ ،‬والتي تكشف نفوس سكان هذه المدينة‪ .‬سوى‬
‫أن هذا له نظيره في بعض العادات األخرى التي بدأت تختفي في وجه التطور والتقدم‪،‬‬
‫مثل العصبية القبلية بال هدف‪ ،‬والقبلية العمياء‪ ،‬وضريبة الدم‪ ،‬وازدراء العمل "(ريفو‬
‫عمران‪ ،2621 ،‬ص ‪ .)244‬وعند كتابة هذه السطور‪ ،‬فإن ‪ ٪11‬من سكان المحافظة‬
‫ما زالوا من البدو‪ ،‬والغالبية شبه رحل و‪ ٪26‬فقط من الحضر‪.‬‬

‫‪485‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ويؤكد العلماء الرقاويون أيضا على أهمية القبلية في العالقات االجتماعية‪ ،‬حتى لو تم‬
‫إضعاف هذه األخيرة تدريجياً بفعل "التطور" و "التقدم"‪ .‬والخطاب الذي ألقاه عبد السالم‬
‫العجيلي في مهرجان الرقة السياحي األول يعرض عناصر هذا الغموض الذي يعاني‬
‫منه سكان مدينة الرقة تجاه القبائل التي ينتمون إليها‪ .‬ويسمى‪" :‬الرقة في ذاكرة األجيال"‬
‫وظهر عام ‪ 2662‬في كتاب المهرجان وفي يوميات "صوت الرافقة"‪.‬‬

‫"كانت الرقة في الواقع (في بداية القرن العشرين) مجرد نقطة ضائعة تقريب ًا في السهوب‬
‫الهائلة التي اجتازها البدو على جمالهم‪ ،‬وهم يأتون ويذهبون كما يحلو لهم‪ .‬والقبائل‬
‫هي الجذور العميقة لسكان هذه المدينة‪ .‬ويتم الكشف عنها في الحياة االجتماعية‪:‬‬
‫سواء كان األمر يتعلق بأسلوب العيش‪ ،‬أو مسألة الزواج والتحالفات‪ ،‬أو االنتقام والديَّة‪،‬‬
‫أو العضوية ‪ -‬إن لم يكن اإلعجاب ‪-‬في القيم األخالقية البدوية المتمثلة في الشجاعة‬
‫والكرم والتقشف‪ ،‬وانتمى بعض أبناء القرية حتى وقت قريب‪ ،‬بشكل دائم أو بين الحين‬
‫واآلخر‪ ،‬لبعض القبائل البدوية‪ :‬تقاسموا أسلوب حياتهم‪ ،‬ورافقوهم في حروبهم‪،‬‬
‫وداهموهم"‪.‬‬

‫(الرقة في ذاكرة األجيال‪ ،‬عبد السالم العجيلي‪.)2662 ،‬‬

‫الكاتب في هذا النص على إعجاب ساكن المدينة بفضائل البدو الرمزية‪ ،‬والتي‬
‫ُ‬ ‫ويشهد‬
‫ستكون "الشجاعة والكرم والتقشف"‪ ،‬وهو إعجاب مألوف في األدب العربي‪ .‬وقد وصف‬
‫العديد من الفالسفة العرب هذه العالقة المتناقضة بين الثقافة العربية والبدو‪ .‬وبحسب‬
‫زكي األرسوزي‪ ،‬فإن البدوي هو الوصي على العروبة بصفته صاحب لغة عربية‬
‫خالصة (بوزيد ‪ ،2662‬ص ‪ .)222‬ووفقاً له‪ ،‬فإن ثقافة الصحراء ستنقذ الروح العربية‪.‬‬
‫هذا ما أسماه عبد الله العروي "مفارقة الثقافة العربية ‪paradoxe de la culture‬‬
‫‪ "arabe‬التي صاغها مجتمع حضري اختار طريقة تعبير بدائية وقبلية‪ :‬الشعر البدوي‬
‫(القصيدة)‪ .‬ولم ينت ِم المصممون والشعراء الذين ألفوا القصيدة أبدا إلى هذا المجتمع‬
‫البدوي‪" :‬كلما ندرت البطولة‪ ،‬كان على الكلمة أن تحافظ على نكهتها البدوية‪ ،‬وأصدرت‬

‫‪486‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫القصيدة صوتا صخريا‪ ،‬ألن ذلك أصبح اآلن االرتباط فقط بعالم ضائع من الحرية‬
‫والعظمة" (العروي‪ ،2622 ،‬ص ‪.)22‬‬

‫في نهاية التسعينيات‪ ،‬طورت صحيفة المركز الثقافي في الرقة "صوت الرافقة"‪ ،‬في‬
‫العديد من األعداد‪ ،‬فكرة "أصالة" سكان الرقة‪ ،‬والتي لم يتم تعريفها أبدا ولكنها تشير‬
‫إلى أصول القبائل من السكان‪ .‬كما رأينا سابقاً "‪ ،"2‬فإن األخيرة‪ ،‬مثل صيانة العصبية‪،‬‬
‫يتم التأكيد عليها وتقديرها من قبل كل من أمين فرع حزب البعث في الرقة ورئيس‬
‫البلدية‪ .‬لكن عالقة النظام غامضة مع االنتماءات القبلية لغالبية سكان المحافظة‪ .‬ففي‬
‫كثير من األحيان‪ ،‬تكون الشخصية القبلية للمجتمع الرقاوي متباعدة بشكل طوعي ويتم‬
‫تحويلها إلى فولكلور‪ ،‬من خالل العروض الفولكلورية والمعارض التي تقام في متحف‬
‫الفنون والتقاليد الشعبية‪ .‬وتم بناء هذا األخير بين قصر المحافظ وحديقة هارون الرشيد‪،‬‬
‫بمناسبة هذا المهرجان الشهير األول للسياحة والثقافة على نهر الفرات في عام ‪.2662‬‬
‫ويشكل هذا المتحف طوبوغرافياً رابطا بين المجد العباسي وأحياء البعثيين في الرقة‪.‬‬
‫حيث أقيمت بالقرب من‬
‫ومع ذلك يميزان الموطن الريفي المستقر في شمال المحافظة‪ُ ،‬‬
‫خيمة من وبر اإلبل‪ .‬وفي هذا االرتباط غير المحتمل بين عالم السهوب‪ ،‬يتم عرض‬
‫أشياء من الحياة اليومية للمقيمين والبدو‪ :‬مغاسل الزبدة وأفران الخبز لألول‪ ،‬ونول نسج‬
‫السجاد وسروج الجمال لألخيرة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن لهذا البناء المتحفي للهوية القبلية فضيلة‬
‫تعليمية‪ :‬إظهار أن مدينة الرقة أصبحت بوتقة يختلط فيها عالمان كانا متعارضين في‬
‫السابق‪.‬‬

‫الهوية الحضرية للرقة‪" :‬عائالت" تقتسم أرضاً مشتركة‬

‫في مقالته بعنوان "الرقة في ذاكرة األجيال"‪ ،‬أعاد عبد السالم العجيلي تدشين مراحل‬
‫بناء مدينته‪" :‬هذا الحصن ُشِيد من تلقاء نفسه على شكل أكواخ في ظالل األنقاض‪،‬‬
‫ثم على شكل منازل بدائية‪ ،‬ثم مساكن الئقة في الزاوية الجنوبية الغربية للجدار القديم‬
‫الذي كانت قلعتهم التي لم تتداع‪ .‬ثم بنوا مسجد الحميدية والمدرسة الملحقة به‪ .‬وعندما‬

‫‪487‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اندلعت الحرب العالمية األولى‪ ،‬أصبحت الرقة قرية كبيرة وحتى بلدة صغيرة‪( .‬مجلة‬
‫مركز الرقة الثقافي‪ ،‬صوت الرافقة‪ ،‬رقم ‪ .)2662 ،26-21‬وكما ُيذكر المؤرخون‬
‫والمفكرون المحليون في الرقة بإصرار‪ ،‬فإن أول سكان الرقة كانوا عائالت تنسب إلى‬
‫بيت وليس قبيلة‪ .‬ويعكس هذا التأكيد الرغبة في تعريف أنفسهم على أنهم سكان كاملون‬
‫في المدينة‪ ،‬وليسوا كبدو يعيشون في المدينة‪ .‬التمييز هو األكثر إثارة لالهتمام من‬
‫حيث أن كل من هؤالء المؤلفين قادر مع ذلك على تحديد انتمائه إلى قبيلة كذا وكذا؛‬
‫لكنه يفعل ذلك فقط باإلشارة إلى أنها مسألة أصل بعيد‪" .‬منذ نهاية القرن الثامن عشر‪،‬‬
‫وصلت عائالت كبيرة إلى المنطقة وليس القبائل‪ .‬واستقروا حول مركز الدرك العثماني‪،‬‬
‫وانقسموا إلى تجمعين أو حلفين" (إبراهيم خليل‪ ،‬حزيران ‪.)1112‬‬

‫والدليل على أن سكان الرقة األوائل لم يصلوا من القبائل‪ ،‬قيل لي في عدة مناسبات‪،‬‬
‫أنهم حقيقة تجمعوا معا في تجمعات جمعت عائالت من عدة قبائل‪ ،‬وهذا في عرف‬
‫القبيلة ال يمكن أن يحدث عمليا‪ .‬كان هذان التجمعان أو التحالفان كما رأينا في الفصل‬
‫األول‪ ،‬تجمع األكراد (حلف الكرد) وتجمع عشرين (قرية عشاره على نهر الف ارت)‪.‬‬
‫قاموا بشكل دوري بتقسيم أراضي المخا‪ ،‬التي كانت ملكيتها جماعية ولكنها تُستثمر‬
‫بشكل فردي‪ .‬وهي عبارة عن ‪ 1111‬دونم تقع في مستجد نقيب شرقي المدينة جنوب‬
‫تل بيا أو (مدينة توتول)‪ .‬كان لكل فرع نصيبه‪ .‬ووفقا ألبناء عائالت الرقة العريقة‪،‬‬
‫فإن أصالة االنتماء للمدينة تقاس بامتالك جزء من هذه األراضي الجماعية‪" :‬هل‬
‫الرقاوي يملك حصة في مستجد نقيب ‪."Mustagid Nakib‬‬

‫في نهاية اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬تخلل التاريخ الحضري للرقة نزاعات أخذت تسمية‬
‫"الكاونا ‪" ،"Les kawna‬لفظة عامية للصراع أو التنازع" بسبب الخالفات بين‬
‫التجمعين الكردي والعشارين على إدارة هذه األراضي الجماعية‪ .‬وتُظهر روايات هذه‬
‫النزاعات االهتمام بشرف كل تجمع‪ ،‬وإنما كذلك استخدام ممارسات الحكم القبلي‬
‫ووسطاء العائالت الشركسية‪ .‬وقد قام مارك سايكس‪ ،‬المفاوض في اتفاقيات سايكس‬

‫‪488‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بيكو‪ ،‬برواية كاونا "الخالف" عام ‪ 2616‬في كتابه "تراث الخليفة األخير ‪The‬‬
‫‪ ."4" "Caliph’s Last Heritage‬وعند وصوله إلى الرقة‪ ،‬كتب‪" :‬فوجئنا بسماع‬
‫ضجيج مخيف في المدينة؛ صرخات النساء الواقفات على المدرجات‪ ،‬طلقات نارية‬
‫في جميع االتجاهات‪ ،‬صاح الرجال‪ ،‬وألقوا الشتائم على بعضهم بعضاً" (سايكس‪،‬‬
‫‪ 2621‬ص ‪ .)444‬وخالل ساعة واحدة‪ ،‬خلفت االشتباكات بين الكرد والعشارين‬
‫‪ ،Acharin‬رغم وصول شرطي عثماني‪ ،‬ثالثة قتلى وخمسة عشر جريحاً‪" .‬خرج حوالي‬
‫‪ 4111‬شخص مسلحين بالرماح والسيوف والمسدسات والبنادق بعد ذلك مباشرة لمرافقة‬
‫المتوفين إلى قبورهم" (ديهويلس ص ‪.)44‬‬

‫وأخبرني أحد أفراد عائلة سطاف عن كاونا "الغول" عام ‪ 2612‬والتي تسببت أيضا في‬
‫العديد من القتلى‪ .‬وحاول الشركس عبثا فصل أعضاء التجمعين الكردي والعشارين‬
‫المتنازعين على توزيع األراضي الجماعية‪ .‬لكن الجنود العثمانيين نقلوا الجميع إلى‬
‫حلب لمحاكمتهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في الطريق بين الرقة وحلب ‪ -‬كان االنتقال من مدينة‬
‫إلى أخرى يستغرق عدة أيام سي ار على األقدام ‪ -‬لجأوا إلى "الديوان العرفي"‪ ،‬أي لقاء‬
‫زعماء العشائر األكثر جدارة بالتعبير عن القانون وتمكنوا من التوفيق‪ .‬وبهذه الطريقة‬
‫عاد الجميع إلى الرقة‪ .‬وهذه الرواية عن تهرب الرقاويين من السلطات العثمانية‪ ،‬واإلدارة‬
‫الداخلية للصراع من خالل اللجوء إلى العدالة القبلية التي أعادت تفسيرها العائالت‬
‫الحضرية‪ ،‬يرويها محدثي بتسلية كبيرة‪ ،‬والذي ال يزال فخو ار بأن والديه أحبطا االعتقال‪.‬‬

‫ويمكن تحليل تدخل الشركس كوسطاء بين المعسكرين كعنصر من عناصر الطابع‬
‫الحضري الجديد للرقاويين‪ ،‬الذين يقبلون االعتماد على نصيحة الزعماء المطلعين على‬
‫التقاليد الحضرية‪ .‬لقد لعبوا دو ار هاما في الوساطة في الكاونا الشهيرة عام ‪،2621‬‬
‫وهي نزاع حول حيازة بطيخ في مستجد النقيب‪ ،‬والتي تحولت إلى معركة ضارية ُقتل‬
‫فيها اثنا عشر من العشارين وثمانية أكراد (ديهويلس‪ ،‬ص ‪ .)44‬ولم يتم إبرام اتفاق‬

‫‪489‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مرض بين الكرد والعشارين حتى عام ‪ ،2622‬ويقسم أرض المخا ‪ muchâ‬إلى ‪121‬‬
‫قطعة‪ ،‬تم تخصيصها بالتناوب للتجمعين بمعدل ‪ 216‬لكل منهما‪.‬‬

‫إن حل النزاعات الداخلية في المدينة باللجوء إلى القانون القبلي أو عن طريق وساطة‬
‫الشركس يعكس رغبة سكان الرقة في اإلدارة الذاتية في مواجهة السلطات التركية‪،‬‬
‫ولكن أيضا في مواجهة البدو الرحل الكبار وقد تم إخضاعهم للضريبة‪ .‬إن عالقات‬
‫التبعية أو المعارضة بين الرقاويين لرؤساء فدعان هي في صميم عملية صياغة الهوية‬
‫الحضرية للرقاويين‪ .‬وخير مثال على ذلك هو كتابة العصر الذهبي‪ ،‬سواء البدو أو‬
‫سكان المدينة‪ ،‬في الرقة‪.‬‬

‫‪ -0‬البناء المتناقض للعصر الذهبي الحضري للرقة‬

‫وللمفارقة‪ ،‬فإن البناء الخطابي للهوية الحضرية للرقاويين يستند إلى رواية ثالث حلقات‬
‫من خضوع مدينتهم إلى البدو الرحل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذه الروايات الثالث تختلف تماما‬
‫في تفسيرها‪ .‬األولى‪ ،‬في الواقع‪ ،‬يقدر إنشاء دولة بدوية في الرقة كحلقة قومية‪ .‬بينما‬
‫تستنكر االثنتان األخريان‪ ،‬األكثر كالسيكية‪ ،‬اقتحام البدو للمدينة‪.‬‬

‫اللوحة ‪ :2‬أهالي بلدة الرقة أمام بوابة بغداد حوالي عام ‪.2611‬‬

‫‪491‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اللوحة ‪ :2‬أهالي بلدة الرقة أمام مسجد الحميدية حوالي عام ‪.2611‬‬

‫"دولة حاجم بن مهيد غير المعترف بها" (‪)9109-9102‬‬

‫في عام ‪َّ ،2661‬‬


‫قدم الكاتب والدكتور الرقاوي عبد السالم العجيلي في دمشق‪ ،‬في‬
‫اتحاد الكتاب السوريين‪ ،‬محاضرة بعنوان‪" :‬دولة حاجم بن مهيد غير المعترف بها"‪،‬‬
‫حيث ُقدمت الرقة كأول عاصمة للبالد سوريا خالل ثورة فيصل العربية‪ُ .‬نشرت هذه‬
‫المحاضرة عام ‪ ،2662‬ضمن مجموعة قصصه القصيرة بعنوان "حديث الليل"‪ ،‬ثم‬
‫أعاد تفسيرها المؤرخ المحلي عبد الحميد الحمد‪ ،‬وهو موظف في محافظة الرقة‪ .‬تشترك‬
‫القصتان في إعادة التأكيد على الفضائل البدوية األصيلة لسكان المدينة‪ ،‬الذين عرفوا‬
‫كيف يحاربون اإلمبريالية الفرنسية في نهاية الحرب العالمية األولى من خالل إقامة‬
‫دولة مستقلة موالية لألمير فيصل‪ .‬وتأخذ هذه الحلقة بالنسبة للرقاويين مكانا مشابها‬
‫للملحمة الفيصلية في تاريخ القومية العربية‪ :‬أسطورة االستقالل التي سرقتها القوى‬
‫للمثل‬
‫اإلمبريالية‪ .‬لكن مصدر الفخر المحلي هذا يسمح لمروجيها بإثبات والء الرقة ُ‬
‫العربية‪ ،‬بينما يقلبون التسلسالت الهرمية اإلقليمية‪ :‬لم تعد دمشق‪ ،‬بل الرقة‪ ،‬التي كانت‬
‫آنذاك "عاصمة" سوريا المستقلة‪ .‬وكان من الممكن أن يكون‪ ،‬حتى كانون األول‬
‫‪ ،2612‬المكان الوحيد في سوريا الذي يرفرف فيه العلم العربي لفيصل‪ ،‬عندما كانت‬
‫دمشق وحلب في أيدي الجيش الفرنسي "‪ ."1‬وكرس المؤرخ نورمان لويس جزءا من‬
‫كتابه "البدو والمستوطنون في سوريا واألردن ‪Nomads and Settlers in Syria‬‬
‫‪ "and Jordan‬لهذه الدولة المجهولة‪ ،‬استنادا إلى القصة القصيرة للكاتب عبد السالم‬

‫‪491‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫العجيلي وعلى مقابالت أجريت معه في الرقة عام ‪ .2621‬وهدفي هو محاولة فهم‬
‫أهداف المثقفين المحليين في إعادة كتابة هذه الملحمة لتاريخ الرقة‪.‬‬

‫فعند سقوط الدولة العثمانية‪ ،‬بدأت فترة من فراغ السلطة في جزيرة الفرات‪ .‬حارب‬
‫الجيش الفرنسي في كيليكيا ضد األتراك‪ ،‬في حين أن الثورات القومية حركت منطقة‬
‫حلب (بقيادة إبراهيم هنانو) وظهرت ثورات البدو في دير الزور (ثورة العكيدات) والرقة‬
‫(بقيادة حاجم بن مهيد) (لويس‪ ،2622 ،‬ص ‪ .)214-242‬واندلعت ثورة البدو في‬
‫دير الزور في عام ‪ 2612‬ولم يتم إخمادها إال في أيلول من قبل الجيش الفرنسي‪،‬‬
‫بمساعدة شركات اإلبل التي ضمت جزائريين في صفوفها‪ ،‬وكذلك كرد من قبيلة الملي‬
‫(ليلو ‪ .)2662‬وكان قائد الثورة رمضان الشالش‪ ،‬الذي عينه فيصل والي "كامل منطقة‬
‫دير الزور" "‪."6‬‬

‫في هذا السياق من الثورات المناهضة للفرنسيين‪ ،‬كان الزعيم البدوي حاجم بن مهيد‬
‫قد أقام في محيط الرقة‪ ،‬من آب ‪ 2611‬إلى كانون األول ‪ ،2612‬دولة بدوية مستقلة‪،‬‬
‫يدعمها جنود الجيش العثماني ويدعمها الرقاويون سكان المدينة‪ .‬ووفقا لعبد السالم‬
‫العجيلي‪ ،‬فإن األخير كان سيرسل في ‪ 21‬آب ‪ 2611‬إلى القنصل األمريكي في حلب‬
‫إعالنا ُيعلمهم بموجبه عن تأسيس حاجم بن مهيد لهذه الدولة المتمتعة بالحكم الذاتي‬
‫في الرقة (لويس‪ ،2622 ،‬ص ‪ .)212‬ونص تصريح العجيلي على النحو اآلتي‪:‬‬

‫بناء على الوعد الذي ُق ِطع‬


‫"قاتلت األمة العربية إلى جانب الحلفاء خالل الحرب‪ً ،‬‬
‫لشريف مكة‪ ،‬الذي كان آنذاك الشريف حسين‪ .‬لكن عندما انتهت الحرب‪ ،‬قسم الحلفاء‬
‫البالد ودخلوها دون أي شرعية‪ .‬واآلن أخذوا دمشق بعد معركة ضد أهل األرض ودمروا‬
‫جزءا من هذا الشعب وجيشه‪ .‬لذلك نحن سكان منطقة الرقة التي تحدها من الشرق‬
‫منطقة البليخ ومن الغرب جرابلس ومن الشمال السكك الحديدية ومن الجنوب السخنة‬
‫قررنا السيطرة على هذه المنطقة حتى يتم تحديد مستقبل البالد‪ .‬ولقد عينا نحن ممثلي‬
‫الشعب المجتمعين األمير حاجم بن مهيد‪ ،‬بلقب رئيس الحركة الوطنية‪ .‬لقد قررنا مع‬

‫‪492‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قائدنا أن حكومة المنطقة سيكون لها مجلس منتخب من قبل الشعب‪ ،‬يتولى األوامر‬
‫والق اررات الالزمة‪ .‬لقد قررنا الدفاع عن هذه المنطقة وإذا لزم األمر سنتحالف مع أي‬
‫دولة مجاورة نختارها‪ .‬نرسل هذا البيان إلى جميع الدول عبر القنصل األمريكي في‬
‫حلب"‪.‬‬

‫(العجيلي‪ ،‬الدولة المجهولة‪ ،2662 ،‬ص ‪.)62‬‬

‫لم تذكر أرشيفات القنصلية األمريكية في حلب وال أرشيفات القنصلية البريطانية وجود‬
‫"إعالن الرقة"‪ ،‬كما وصفه نورمان لويس (لويس‪ ،2622 ،‬ص ‪ .)122‬وتشير أرشيفات‬
‫الوكيل الفرنسي التي تم الرجوع إليها في قصر فينسين ‪Château de Vincennes‬‬
‫إال أن حاجم يحاول االقتراب منا‪ ،‬لكنه متهم بالسعي لتحريض السكان في منطقة منبج‬
‫ضدنا" "‪ ،"2‬وفي أيلول ‪ 2611‬هناك إشارة‪" :‬يسعى حاجم وتحسين بك إلى التجمع في‬
‫حزب دفاع وطني وإعالن اتحادهما مع الكماليين" "‪ ."2‬ومع ذلك‪ ،‬فإن المحفوظات‬
‫الدبلوماسية الفرنسية التي تم الرجوع إليها في نانت ‪ Nantes‬تشير إلى إرسال حاجم‬
‫رسائل لمحاولة حشد أعيان دير الزور وكذلك قبائل المنطقة؛ المحاوالت التي كانت‬
‫بال جدوى "‪ ."6‬وفي آب ‪ ،2612‬الحظ ضباط المخابرات الفرنسية وجود حامية تركية‬
‫في الرقة وحقيقة أن حاجم وقواته "تصرفوا هناك بصفتهم سادة"‪ .‬ويضيفون أن المدينة‬
‫تدار بالتناوب من قبل قائمقام تركي منفصل عن سنجق أورفة وأحد شيوخ العفادله‪،‬‬
‫محمد الهويدي الشالش "‪ ."21‬وفي أيلول ‪ ،2612‬كانت المدينة في حالة حرب‪ ،‬حيث‬
‫قصفتها الطائرات الفرنسية بانتظام‪ .‬ثم أمضى الرقاويون أيامهم في المالجئ التي‬
‫حفروها بالقرب من األسوار العباسية في المدينة‪ ،‬ولم يعودوا إلى منازلهم إال في الليل‬
‫"‪ ."22‬وفي تشرين الثاني ‪ ،2612‬مال الضباط الفرنسيون إلى التقليل من أهمية حاجم‬
‫وأشاروا إلى أنه مكروه من قبل السكان الرقاويين "‪ ."21‬وفي ‪ 22‬كانون األول ‪،2612‬‬
‫دخل طابور ديبيوفر الرقة ووضع حداً لفترة الحكم الذاتي للمدينة و"الدولة" التي كان‬
‫من المفترض أن تكون عاصمتها‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وفي تموز ‪ ،2662‬خالل مهرجان الرقة الثقافي األول‪ ،‬استذكر الكاتب عبد السالم‬
‫العجيلي مجد هذه "الدولة"‪:‬‬

‫أصبحت الرقة‪ ،‬مع استمرار معاناة البالد من تداعيات الحرب‪ ،‬مقر حدث فريد ال مثيل‬
‫ست دراسات وكتباً لهذا الحدث الشهير الذي حدث منذ فترة وجيزة‪ ،‬والذي‬
‫له‪ .‬لقد كر ُ‬
‫أوضحت كيف نجح آباؤنا‪ ،‬على الرغم من‬
‫ُ‬ ‫بقي في ذاكرتنا باسم "حكومة حاجم"‪ .‬لقد‬
‫معرفتهم الضعيفة بالعلوم السياسية وبناء الدولة‪ ،‬في بناء حكومة مستقلة وجيدة اإلدارة‬
‫ذات ُم ُثل عليا‪ .‬لكن محدودية إمكانياتهم من ناحية وسياسة الدول الكبرى المنتصرة من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬لم تسمح لهذه الدولة بالوجود ألكثر من عام ونصف‪.‬‬

‫(عبد السالم العجيلي‪ ،‬صوت الرافقة ‪ ،Sawt al-Rafiqa‬عدد ‪ 21‬و ‪ ،26‬تشرين‬


‫األول وتشرين الثاني ‪.)2662‬‬

‫ينسب الروائي في هذا المقطع إلى عائالت الرقة مجد دولة حاجم البدوية‪ .‬وتسمح له‬
‫هذه القصة بتقدير شجاعة وحكمة "آبائه" ممن عرفوا كيف يديرون أنفسهم‪ ،‬ويخلقون‬
‫حكومة "ذات ُم ُثل عليا" ويقاومون المحتلين الفرنسيين‪ .‬وفي نص آخر وصف عبد‬
‫السالم العجيلي بداية العشرينيات ودخول القوات الفرنسية إلى سوريا بـ "أيام عدوانية‬
‫مليئة بالثورات واالنتفاضات" التي "حطمت فيها قوات االحتالل الفرنسي بلدنا ومنعته‬
‫من المضي نحو التقدم والحضارة"‪( .‬العجيلي ‪.)2662‬‬

‫إن حقيقة قيام بعض المثقفين بتفصيل هذا العصر الذهبي هي أكثر إثارة لالهتمام ألن‬
‫آبائهم‪ ،‬أصحاب األراضي الذين استقروا في مدينة الرقة‪ ،‬عانوا من عمليات السلب‬
‫التي أمر بها حاجم بن مهيد‪ .‬وفرض رئيس البدو ضرائب حرب باهظة على المدينة‪،‬‬
‫حيث سعى وجهاء الرقة‪ ،‬بقيادة والد العجيلي نفسه‪ ،‬إلى إعالم الضباط الفرنسيين بأن‬
‫حاجم قد نهبهم‪ .‬في ‪ 22‬و ‪ 11‬تشرين الثاني ‪ ،2612‬بعثوا رسالتين إلى الشيخ صوان‬
‫من السبخة القريب من الفرنسيين المتمركزين في دير الزور‪ ،‬تم نقلهما إلى ضباط‬
‫مخابرات دير الزور‪ ،‬وترجمتهما‪:‬‬

‫‪494‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫منذ إعالن االتفاقية الفرنسية التركية‪ ،‬سعت إدارة الرقة والضباط األتراك هناك فقط‬
‫لنهب الناس‪ .‬وفضحه لرئيس البعثة‪ .‬نسمح ألنفسنا بالذهاب دون أن نكون قادرين على‬
‫قول أي شيء‪ .‬إذا احتجنا‪ ،‬قيل لنا‪" :‬نعلم أنكم كنتم من أنصار الفرنسيين منذ البداية"‪.‬‬
‫التوقيع‪ :‬عبد الله عجيلي وأحمد عجيلي‪ ،‬آغوات الرقة البارزين‪ 22 ،‬تشرين الثاني‬
‫‪ ،SHAT( .2612‬صندوق ‪ - H1074‬الملف ‪ ،1‬نشرة المخابرات ‪ 6 ،222‬كانون‬
‫األول ‪.)2612‬‬

‫َعلِمنا من مصدر موثوق أن حاجم يتواصل مع الحكومة الفرنسية للمطالبة ببقاء الرقة‬
‫تحت سلطته‪ .‬ونحن مقتنعون بأن فرنسا لن توافق على ذلك‪ .‬إن الحفاظ على سلطته‬
‫سيؤدي إلى خراب القضاء‪ .‬ونطلب منكم نيابة عن جميع السكان رؤية المندوب في‬
‫دير الزور وإبالغه حتى ال يكون هناك مفاجآت‪ )...( .‬ويسعى حاجم والضباط األتراك‬
‫للضغط على السكان بإخبارهم أن الفرات هو الحدود‪ .‬وإذا بقي حاجم في هذا البلد‪،‬‬
‫علينا فقط مغادرته"‪ .‬التوقيع‪ :‬عبد الله عجيلي (أغا الرقة) في ‪ 11‬تشرين الثاني ‪.2612‬‬
‫(‪ ،SHAT‬المربع ‪ - H1074‬الملف ‪ ،1‬نشرة المخابرات ‪ 6 ،222‬كانون األول‬
‫‪.)2612‬‬

‫وصورت تقارير عدة بالوكالة هذه الفترة على أنها فترة خضوع الرقاويين للبدو‪ .‬ونق أر‬
‫على النحو التالي‪" :‬الهدنة والنظام اإلنجليزي والسنوات المضطربة التي تلت ذلك قللت‬
‫من الهيمنة على سكان المدينة‪ .‬وخالل "سنوات الفوضى" هذه (تشرين الثاني ‪2622‬‬
‫‪ -‬تشرين الثاني ‪ ،)2612‬اختنق السكان المستقرون في مدنهم وتعرضوا لتعسف رجال‬
‫القبائل الذي ال يطاق "‪ ."22‬حتى زعيم العفادله‪ ،‬محمد الهويدي‪ ،‬على الرغم من تعيينه‬
‫قائداً في الرقة من قبل حاجم‪ ،‬أجبر رجاله على ترك قوات األخير (خلف ‪ ،2622‬ص‬
‫‪ .)26‬وبدأت عائالت الرقة‪ ،‬التي كان جزء منها ال يزال شبه رحل في عام ‪،2612‬‬
‫تظهر عدم ثقة السكان المستقرين تجاه البدو الرحل وقبائل الوادي‪ ،‬العفادله والولده‪.‬‬

‫‪495‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يسمح االحتفال بالعصر الذهبي للرقة في عهد حاجم بن مهيد اليوم لمثقفي الرقة بتقدير‬
‫قدرتهم على إدارة الذات في سوريا المعاصرة‪ .‬ومن خالل استحضار هذه الواقعة‪ ،‬يدعي‬
‫سكان البلدة الفضائل القبلية للبدو في الوقت نفسه مثل المجد القومي لمقاومة الفرنسيين‪.‬‬
‫وتسمح هذه األسطورة بتأكيد غير مألوف للهوية في الخطاب السياسي السوري‪ .‬ويأخذ‬
‫هذا التأكيد معنى خاصا في سوريا المعاصرة‪ :‬االستقالل الذاتي السابق للمدينة الذي‬
‫حاولت الدولة تحويله إلى نموذج لتطور البعث‪ .‬وال يتسامح النظام مع هذه القصة إال‬
‫بقدر ما هي جزء من حلقة مجيدة في التاريخ السوري‪ ،‬مثلها مثل حكومة فيصل‬
‫العربية‪ ،‬بينما يجب أن تُق أر أيضاً على أنها محاولة لخلق عصر ذهبي حضري‪.‬‬

‫وهذه الحلقة من تاريخ الرقة بعيدة كل البعد عن اإلجماع بين المثقفين المحليين‪ .‬ومن‬
‫الالفت للنظر أنه لم يرد ذكره في أي نص رسمي‪ :‬ال في كتاب الرقة‪ ،‬لؤلؤة الفرات‪،‬‬
‫وال في الكتيبات البلدية التي تسترجع التاريخ المحلي‪ .‬حتى اسم حاجم بن مهيد ال‬
‫يظهر هناك‪ .‬الرقة‪ ،‬لؤلؤة الفرات‪ ،‬تذكر فقط دولة فيصلية ‪ faysalien‬في دمشق‪،‬‬
‫موضحة أن قضاء الرقة كان مرتبطاً بحلب‪ ،‬في ظل حكومة دمشق العربية "‪."24‬‬
‫والكتاب البلدي أكثر وضوحاً‪ ،‬ولكن اسم محافظ الرقة الفيصلية‪ ،‬رمضان شالش‪ ،‬هو‬
‫فقط لهذه الفترة "‪."21‬‬

‫وتحتل هذه الحلقة من ‪ 2612-2611‬مكانة خاصة جداً في اإلنتاج األدبي الرقاوي‪،‬‬


‫ألنها الحلقة الوحيدة التي تسلط الضوء على العالقة بين سكان البلدة والبدو‪ .‬وعلى‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬فإن روايات النزاعات والغارات هي األكثر تك ار اًر‪ .‬سآخذ مثالين‪ :‬قصة‬
‫مداهمة شمر للكاتب العجيلي في الرقة‪ ،‬ورواية ثورة الكاتب إبراهيم خليل عام ‪.2642‬‬

‫شمر في الرقة‬
‫مرور غارة ّ‬
‫حين كتب عبد السالم العجيلي أن "القبائل هي الجذور العميقة لسكان الرقة"‪ ،‬فإنه‬
‫يروي حادثة مهمة من طفولته‪ :‬غزو المدينة‪ .‬من قبل محاربي البدو الرحل شمر في‬
‫حرب ضد فدعان عنزة "والذي يُعرف أيضاً بفدعان الخرسة"‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"إن ألوانا من السلوك القبلي‪ ،‬مما كانت تمارسه في بادية "الجزيرة" الفراتية في قرون‬
‫الخراب والتصحر‪ ،‬ظلت حية في أول زمن التحضر الجديد‪ .‬وال أزال شخصياً أحمل‬
‫"شمر" بـ"الرقة"‪ ،‬ومبيت طليعتهم ليلة واحدة فيها‪،‬‬
‫من ذكريات الصبا‪ ،‬مرور غزاة عشيرة ُ‬
‫موزعين كضيوف على دواوين البلدة‪ .‬كانوا يتأهبون لمنازعة "الفدعان" و"الخرسة" من‬
‫عشيرة "عنزة" في الصباح المقبل‪ ،‬وأذكر أن عقيد غزاة شمر الشيخ "دهام الهادي"‪ ،‬وهو‬
‫آنذاك في أوج شبابه‪ ،‬كان نزيال في مضافة أسرتنا "العجيلي"‪ ،‬رأيته فيها يشرب القهوة‬
‫ويتناول طعام العشاء قبل أن ينصرف إلى النوم محاطا ببعض رجاله‪ ..‬ثم انطلقوا عند‬
‫الفجر مدججين بأسلحتهم إلى ساحة المعركة‪ .‬حدث هذا في منتصف العشرينات‪ ،‬وإذا‬
‫بي ذات يوم‪ ،‬أجد الشيخ "دهام الهادي" زميال لي على مقاعد مجلس النواب السوري‬
‫في دمشق‪ .‬طيلة األعوام ‪ 2642‬و‪ 2642‬و‪ .2646‬أيها البرلمانيون والمشرعون إنها‬
‫الحقيقة!"‬

‫(العجيلي‪" ،2662 ،‬الرقة في ذاكرة األجيال"‪ ،‬صوت الرافقة‪ ،‬عدد ‪.)26-21‬‬

‫في هذا النص‪ ،‬يستخدم المؤلف المصطلحين الديوان والمضافة‪ ،‬بينما يستخدم‬
‫المصطلح األخير فقط في الرقة‪ .‬الديوان‪ ،‬في المدن السورية الكبرى‪ ،‬هو غرف‬
‫مخصصة الستضافة عائالت األعيان‪ ،‬في حين أن المضافة هي باألحرى أماكن‬
‫للضيافة القبلية "‪ ."26‬ولفهم رد الفعل المخيف للشاب العجيلي‪ ،‬يجب أن نتذكر أنه‬
‫عندما سافر زعماء فدعان الرحل إلى الرقة‪ ،‬استمتعوا بضيافة عائلة العجيلي‪ .‬لذلك‬
‫اعتاد الكاتب على رؤية البدو في منزله‪ .‬كان خوفه باألحرى الخوف من االنتقام من‬
‫الفدعانيين الذين ربما كانوا يشتبهون في والء العجيلي لهم‪ .‬وبشكل أكثر عمومية‪ ،‬فإن‬
‫"استغرابه" من رؤية البدو يصبحون نواباً يعكس غطرسة المدينة التي تثير الدهشة إلى‬
‫حد ما في سياق الرقاوي‪ .‬لقد رأينا أن أول نواب قضاء الرقة في عهد االنتداب كانوا‬
‫من شيوخ الفدعان‪ ،‬وأن هؤالء لعبوا دو اًر حقيقياً في التحكيم بين فصائل المدينة خالل‬
‫االنتخابات البلدية والنيابية في الثالثينيات "‪."22‬‬

‫‪497‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تحول أهالي البلدة ضد قبائل نهر الفرات (فوضى عام ‪)9149‬‬

‫خالل الحرب العالمية الثانية‪ ،‬تم تقسيم سكان قضاء الرقة‪ ،‬من البدو وكذلك سكان‬
‫المدن‪ ،‬بين المؤيدين لإلنجليزية والمواليين للفرنسيين‪ ،‬والتي تداخلت مع االنقسام بين‬
‫"‪ ،"Gauli wa Fichi‬أي بين المؤيدين ‪ -‬لديغول والمؤيدين لحكومة فيشي‪ .‬قام الجنود‬
‫الفرنسيون الموالون لفيشي بتسليح الفدعانيين لمهاجمة اإلنجليز (خلف‪ ،2622 ،‬ص‬
‫‪ .)22‬من ناحية أخرى‪ ،‬كان زعماء قبائل الفرات مؤيدين لإلنجليز‪" :‬خالل معارك‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬بين الفيشيين والديغوليين‪ ،‬وبين الفرنسيين واإلنجليز‪َّ ،‬‬
‫فضل‬
‫العديد من زعماء البدو اللغة اإلنجليزية‪ :‬ومنهم البشير الهويدي‪ ،‬أحمد الحوجة‪ ،‬بركات‬
‫الولده "(مقابلة مع سليل بارز من عائلة رمضان آغا‪ ،‬من التجمع الكردي‪ ،‬الرقة‪ ،‬آب‬
‫ْ‬
‫‪ .)1112‬وفي هذا السياق من االنقسام القبلي‪ ،‬حاول الجنرال ديغول في عام ‪2642‬‬
‫حشد القبائل البدوية الرئيسة في سوريا ودعوتهم إلى اجتماع كبير‪ .‬أخبرني أنور بورسان‬
‫الولده قصة الحوار بين والده‪ ،‬شواخ البورسان‪ ،‬والجنرال ديغول‪" :‬في عام (‪،)2642‬‬
‫جمع الجنرال ديغول جميع زعماء القبائل لمحاربة األلمان‪ ،‬بمن فيهم شواخ بورسان‪.‬‬
‫فقال األخير للجنرال ديغول إنه يقدر حقيقة أن األخير طلب منهم مساعدة فرنسا‪ .‬لكنه‬
‫رفض االستجابة لطلبه ألنه لم يقبل احتالل الحلفاء لسوريا‪ .‬ثم ضرب الشيخ بورسان‬
‫رجال احتج على ديغول" (شيخ البورسان الولده‪ ،‬تموز ‪ .)1112‬في هذا‬
‫بمطرقة ثقيلة ً‬
‫السياق من الفراغ في السلطة المركزية‪ ،‬استؤنفت الحرب بين القبائل‪ ،‬السيما تلك بين‬
‫الولده والعفادلة "‪ ."22‬تسببت معاركهم‪ ،‬خالل عام ‪ ،2642‬في مقتل عدة مئات من‬
‫الجانبين "‪."91‬‬

‫استغل زعيم عشيرة العفادلة موسى ضاهر هذه الفترة من القتال بين الديغوليين والفيشيين‬
‫لمهاجمة مدينة الرقة‪ .‬لمدة يوم وليلة واحدة في ‪ 4‬تموز ‪ ،2642‬تم نهب المعسكر‬
‫واألرشيف الفرنسي‪ ،‬وإطالق سراح سجناء القانون العام‪ ،‬ونهب المخازن (خلف ‪،2622‬‬

‫‪498‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ص ‪ .)26‬سميت حلقة الذاكرة السوداء هذه باسم‪" :‬حكومة الغفاني" من اسم زعيم‬
‫اللصوص‪:‬‬

‫كان عام ‪ 2642‬هو عام الفوضى في مدينة (الفالتة) منقسمة بين المؤيدين لفيشي‬
‫ومؤيدي ديغول‪ .‬نجيب جرمانوس‪ ،‬ضابط سوري موالي لفيشي‪ ،‬قصف المدينة لمنع‬
‫وصول اإلنجليز‪ .‬نهب أهل القرى والمدينة الحي الفرنسي‪ ،‬معسكر السكنة العسكرية‪،‬‬
‫وسرقوا جميع الرواتب‪ .‬الحاج صالح حرك هذه الفوضى و"غافان" الذي أحرق كل‬
‫األرشيف‪ .‬كان من قصر أفنان‪ .‬كانت تسمى بحكومة الغفاني‪ِ .‬‬
‫أطل َق سراح بعض‬
‫األسرى وفق االختبار التالي‪ :‬هل أنت لص؟ يمكنك أن تغادر‪ .‬هل أنت سياسي؟ عليك‬
‫أن تبقى"‪ .‬استعادة لقصة "‪ VIVA ZAPATA‬يعيش زاباتا" (من فيلم للمخرج إيليا‬
‫كازان بذات االسم عن قصة الثائر المكسيكي زاباتا ضد الفساد والديكتاتورية بدايات‬
‫القرن العشرين)‪.‬‬

‫"البدو مكروهون في الرقة وفي القرى" (البدو مكروهون بالرقة والقرى ‪al-badu‬‬
‫‪ : makrûhîn bil-Raqqa wa-l-qura‬هكذا في النص‪ .‬المترجم)‪.‬‬

‫(إبراهيم خليل‪ ،‬الرقة‪ ،‬حزيران ‪.)1112‬‬

‫وبحسب شهود عيان على هذه الواقعة‪ ،‬كان شعار قائد المداهمة‪" :‬بشر إمك أنها‬
‫الفوضى"‪ .‬إذ رافق استحضار هذه الحادثة "استياء وعداء أهل الرقة األصليين من‬
‫المجموعات العشائرية المجاورة" (خلف ‪ ،2622‬ص ‪.)26‬‬

‫لقراءة نشرات استخبارات جيش المشرق‪ ،‬يحدث انعكاس في عالقات القوة بين سكان‬
‫المدن والبدو في زمن الحرب العالمية الثانية‪ .‬في عام ‪ ،2642‬صدرت تعليمات لعمالء‬
‫المخابرات بعدم السيطرة على القبائل‪ ،‬كما هو الحال في شمال القضاء‪ ،‬ولكن سكان‬
‫الرقة‪ ،‬الذين كانوا يتمتعون بسلطة معينة على قبائل الفرات‪ .‬نق أر بشأنهم على النحو‬
‫التالي‪" :‬إذا كان من يسيطر على القبائل في تل أبيض يشكل عقلية سكان البلدة كما‬
‫يشاء‪ ،‬فإن من يمسك بيده أبناء مدينة الرقة يتالعب بالعديد من خيوط السياسة القبلية‬
‫‪499‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫على طول نهر الفرات‪ .‬وهكذا تظل اضطرابات العفادلة‪-‬الولده‪-‬السبخة التي أبلغتك‬
‫بها خالل شهر تشرين األول مرتبطة بالحالة الذهنية السائدة اليوم في مدينة الرقة‪.‬‬
‫والرقة خاضعة للنفوذ الثالثي لمسئولين من الحزب الكردي بقيادة حسن آغا الككاجي‪،‬‬
‫رئيس البلدية‪ ،‬ومن حزب العشارين بزعامة وهبي العجيلي النائب القومي السابق في‬
‫الغرفة السورية" (نانت‪ ،‬سوريا‪ -‬صندوق لبنان ‪ ،‬سلسلة ‪" ،1222‬تحليل الوضع‬
‫السياسي في الرقة")‪.‬‬

‫خالل هذه الفترة‪ ،‬كثف تجار السخنة‪ ،‬المقيمون في الرقة‪ ،‬حركات التهريب مع اإلفالت‬
‫التام من العقاب‪ .‬تم بيع الزيت واألقمشة والقهوة والشاي في تركيا‪ ،‬بينما كانت الماشية‬
‫واألسلحة والذهب (على شكل ليرة تركية) تمر عبر الرقة‪ .‬تهريب األسلحة شارك فيه‬
‫هؤالء السخنيون الذين قادوا بغال محملة بالبنادق ليالً إلى السبخة‪ ،‬حيث تم بيع كل‬
‫شيء على الفور "‪ ."11‬مرت تدفقات كبيرة من األسلحة عبر تل أبيض‪ ،‬تحت حماية‬
‫الزعيم فدعان الخرسة عبد الرزاق العمير‪" ،‬الحامي المعترف به رسمياً لجميع العناصر‬
‫المشبوهة أو الخطيرة على الحدود"‪.‬‬

‫عبارات مثل‪" :‬البدو مكروهون في الرقة" ال تعكس بأي حال الشعور العام السائد في‬
‫الرقة تجاه البدو‪ .‬المثقفون المحليون أكثر استعداداً للتأكيد على السمات المشتركة التي‬
‫يتشاركونها مع البدو‪ ،‬وينسبون صفاتهم ألنفسهم‪ ،‬من أجل التمييز بشكل أفضل بين‬
‫المجموعات التي تعتبر "دخيلة"‪ ،‬وموظفي الخدمة المدنية من القبائل والتجار‪،‬‬
‫والسخنيين والتواديف (من تادف)‪ ،‬التي تم تنصيبها مؤخ ار‪.‬‬

‫‪ -3‬العمران ألشباه البدو والبدو في الرقة‬

‫يميز الجغرافيون بين المدينة وبين الحضر‪ ،‬والتي تحدد "الطابع الحضري المناسب‬
‫للفضاء" والذي ينتج عن تعظيم العالقات االجتماعية في مساحة محدودة‪ ،‬الستخدام‬
‫تعريف فيبري للمدينة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن التحضر هو نتاج أقصى تنوع في التفاعالت‬
‫االجتماعية التي تم تطويرها في مساحة محدودة‪ ،‬حيث يتم تقليل المسافة والكثافة‬

‫‪511‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عالية‪ .‬يضاف إلى هذين المعيارين للكثافة والتنوع االجتماعي معيار التكوين المكاني‪،‬‬
‫أي ترتيب األشياء المكانية بينهما والتي يمكن أن تميز بين موقفين حضريين متساويين‬
‫في الكثافة والتنوع االجتماعي (لوسو‪ ،1112 ،‬ص ‪ .)666‬ومنذ سبعينيات القرن‬
‫الماضي‪ ،‬أدى نزوح جماعي قوي من الريف‪ ،‬إلى جانب هجرات قوية للعمال وموظفي‬
‫الخدمة المدنية والتجار‪ ،‬إلى تكاثر مناطق اإلرشاد وتجديد السكان الرقاويين‪ .‬ومن ثم‬
‫فإن البدو أقل من أفراد قبائل الفرات الذين يتم تصويرهم على أنهم أجانب في المدينة‪.‬‬

‫ازدراء الرقاويين للشوايا‪.‬‬

‫وقد الحظت أنيكا رابو في منتصف الثمانينيات أنه من أجل التعبير عن ازدرائهم لجميع‬
‫سكان الرقة‪ ،‬أطلق عليهم مسئولو مشروع الفرات‪ ،‬القادمون من مدن سورية أخرى‪ ،‬اسم‬
‫الشوايا‪ ،‬وبالتالي أطلقوا على سكان البلدة المصطلح الذي استخدمه هؤالء السكان لنعت‬
‫سكان الوادي شبه الرحل‪ .‬وبحسب هؤالء المسئولين‪ ،‬فإن جميع سكان الرقة والغول‬
‫‪ ghoul‬والريف هم من ذوي الثقافة السيئة‪ .‬وتشير أنيكا رابو أيضا إلى أنه بالنسبة‬
‫لهؤالء األجانب في المنطقة‪ ،‬يشير مصطلح الشاوي إلى مجموعة من الخصائص‬
‫السلبية مثل االفتقار إلى التعليم والجانب الريفي غير المتحضر واالستسالم للقبيلة ‪...‬‬
‫أو حتى ارتداء الجالبية والجلباب والكوفية الحمراء(رابو‪ ،2626 ،‬ص ‪.)11‬‬

‫يبدو أن االستخدام المزدري لمصطلح شوايا كان في األصل من عمل البدو الذين أهلوا‬
‫بذلك أنصاف البدو‪ .‬لم يكن البدو الرحل من أصحاب الغارت يحترمون رعاة األغنام‬
‫من الشوايا‪ .‬أخضعوهم للخوة "الضريبة" وعاملوهم على أنهم تابعون واشتقوا اسمهم من‬
‫مصطلح "شوي ‪ "chway‬الذي يعني "القليل"‪ ،‬وبذلك قالوا إنهم "أناس من األشياء‬
‫الصغيرة" (شارل ‪ ،2641‬ص ‪ .)26‬أعاد سكان الرقة إنتاج هذا النمط عندما بدأوا في‬
‫إقامة عالقات تفوق مع العفادلة والولدة في الوادي‪ ،‬كونهم أفضل تعليم ًا وغالباً أكثر‬
‫ثراء منهم‪ .‬عملت العائالت الحضرية الكبيرة كوسطاء بين القرويين والسلطات اإلدارية‬
‫والقضائية‪ ،‬وبالتالي لعبوا دورهم كأعيان‪ ،‬وقاموا بإيوائهم في مضافاتهم عند قدومهم‬

‫‪511‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫إلى المدينة‪ .‬أدى تفكك الروابط القبلية خالل الستينيات وبعد الثورة البعثية إلى تعديل‬
‫كبير في العالقات بين أهالي الرقة وأبناء عشائر الفرات "‪ ."12‬هذه العوامل‪ ،‬المرتبطة‬
‫بتحسين النقل‪ ،‬تعني‪ ،‬بحسب أنيكا رابو‪ ،‬أنه لم يعد من الضروري أن يعرف القروي‬
‫عائلة رقاوي لكي يأتي إلى المدينة‪ .‬يمكن لكل منهم أن يستقل الحافلة الصغيرة إلى‬
‫قريته في وقت مبكر من بعد الظهر‪ ،‬عندما تغلق المكاتب (‪ ،RABO 1986‬ص‪.)11‬‬
‫بعد عشرين عاماً من هذه المالحظة‪ُّ ،‬‬
‫أود أن أضيف أن القروي لديه اآلن أقارب في‬
‫المدينة يمكنهم إيواؤه بسهولة‪ :‬سواء في منطقة ألعفادلة في المشلب أو في منطقة‬
‫االمتداد الشمالية التي رحبت بالولده النازحين من بحيرة السد‪.‬‬

‫لم يقدم شبه البدو في الوادي أنفسهم أبداً على أنهم شوايا‪ .‬دون رفض هذا المصطلح‪،‬‬
‫يفضلون تقديم أنفسهم باإلشارة إلى قريتهم أو قبيلتهم‪ ،‬حتى عندما يقيمون في الرقة‪.‬‬
‫إنهم يفخرون بانتمائهم القبلي‪ ،‬الذي تغذيه حكايات البطولة التي ال يلعب فيها سكان‬
‫المدينة أي دور‪ .‬إنهم ال ينخدعون بأي شكل من األشكال بالبناء االستطرادي لسكان‬
‫المدينة‪ ،‬وال سيما رواية العصر الذهبي للبدو في الرقة‪ .‬في آب ‪ ،1112‬تعهد شيخ‬
‫الولده أنور بورسان بتصحيح هذه القصة األخيرة‪ ،‬حيث أخبرني في مقابلة أن "الدكتور‬
‫العجيلي‪ ،‬المحترم للغاية‪ ،‬يكتب حسب فهمه‪ .‬وقصة دولة حاجم ليست باإلجماع"‪.‬‬
‫ووفقا له‪ ،‬فإن الرقاويين كانوا بعد ذلك تحت سيطرة قبائل الفرات‪ ،‬وهذه القبائل‪ ،‬وليس‬
‫سكان البلدة‪ ،‬هم من قاوم الفرنسيين‪ .‬ويؤكد أيضا أنه لم تكن العفادلة‪ ،‬بل الولده‪ ،‬الذين‬
‫كانوا أكثر المقاتلين شجاعة ضد المحتل وأكثرهم تضر ار من االنتقام العسكري الفرنسي‬
‫بعد ذلك‪:‬‬

‫كان أهل الرقة عبارة عن عدد قليل من العائالت التي تعتمد على ثالث قبائل ولده‬
‫وعنزه وعفادلة‪ .‬كان العنزه أقوياء ألنهم كانوا مدعومين من الفرنسيين‪ ،‬وخاصة مجحم‬
‫بن مهيد‪ .‬خليل الهاجم كان مع األتراك‪ .‬خالل الثورة العربية عام ‪ ،2622‬عارض‬
‫الولده الفرنسيين‪ ،‬بينما كان مجهم مع الفرنسيين وحاجم مع األتراك‪ .‬نجح شواخ بورسان‬

‫‪512‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في االستيالء على مدينة الرقة ‪ 22‬مرة ضد الفرنسيين‪ .‬في العشرينات من القرن‬
‫الماضي‪ ،‬أسقط الفرنسيون خمس قنابل ضد الوالده" (مقابلة أنور بورسان‪ ،‬تموز ‪1112‬‬
‫في الرقة)‪.‬‬

‫أنور البورسان هو ابن شواخ البورسان الشهير‪ ،‬شيخ ولده‪ ،‬وهي قبيلة فقدت تقريباً كل‬
‫أراضيها الخصبة المغمورة تحت بحيرة األسد‪ .‬انتخب نائبا عدة مرات‪ ،‬وهو يشعر‬
‫بالم اررة بشأن وضع قبيلته وحالته الخاصة‪ .‬يستأجر منزالً متواضعا في االمتداد الشمالي‬
‫للمدينة بالقرب من محطة السكة الحديد‪ .‬إنه كبير بما يكفي ليكون به مدفة‪ ،‬والتي‬
‫تتضمن سلسلة من األروقة المطلة على فناء مظلل "‪."11‬‬

‫ويرفض منذ البداية أن ُيدعى شيخ ًا‪ ،‬ألنه لم يعد لديه أرض‪" :‬ليس لدي شيء أكثر‪،‬‬
‫ورجالي ليس لديهم شيء أكثر‪ .‬لماذا ال يزالون ينادونني بالشيخ؟ إذا وضعت إصبعي‬
‫على األرض‪ ،‬فحتى هذا السطح ليس لي‪ .‬ليس لدي منزل‪ .‬لقد استأجرت هذا" (شيخ‬
‫البورسان ولده‪ ،‬تموز ‪ .)1112‬ويمضي في تبرير رفضه بتذكيري‪ ،‬أمام رجال عشيرته‬
‫المجتمعين في مضافته‪ ،‬ما هي القبيلة‪" :‬توجد القبيلة فقط إذا استوفت ثالثة شروط‪:‬‬
‫أن يكون لها شيخ‪ ،‬وأن تكون جاهزون للحرب (بيت الحرب) وقادرة على تطبيق القانون‬
‫القبلي (األعراف)" (الشيخ أنور بورسان من ولده‪ ،‬الرقة‪ ،‬تموز ‪ .)1112‬مع ذلك‪ ،‬يلعب‬
‫أنور بورسان دو ار مهما للولده‪ ،‬كنائب ومحكم في مسائل القانون والشرف‪ .‬يحظى‬
‫باحترام كبير بسبب معرفته الدينية وحكمته‪ ،‬ويتم استشارته باستم ارر من قبل أفراد‬
‫ونساء‪ .‬يحكم في مسائل الشرف في مضافته‪ ،‬وهي بالتالي بيت األعراف‪،‬‬
‫ً‬ ‫قبيلته‪ ،‬رجاال‬
‫مكان يطبق فيه القانون القبلي ‪ ."12" droit tribal‬محكمة الرقة تأخذ رأيها في‬
‫االعتبار في قضايا النزاعات القبلية "‪."14‬‬

‫جعل أفراد قبائل الفرات‪ ،‬الولده مثل العفادلة‪ ،‬مدينة الرقة ملكا لهم‪ .‬إنهم ال يشغلون‬
‫معظم مناصب الخدمة المدنية فحسب‪ ،‬بل عالوة على ذلك‪ ،‬بعد أن أصبحوا أغنياء‬
‫خالل الخمسينيات مع طفرة القطن‪ ،‬أصبحوا قادرين على تزويد أطفالهم بمستوى تعليمي‬

‫‪513‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يضاهي مستوى سكان مدينة الرقة‪ .‬أخيرا‪ ،‬يسارعون إلى تذكر رواياتهم عن تاريخ الرقة‬
‫الحديث‪ ،‬خالل المقابالت‪ ،‬وتقديمهم كمقاومين حقيقيين لالحتالل الفرنسي‪ .‬وهذه‬
‫الحقيقة األخيرة ُشهدت على القبائل األخرى التي عارضت الجيش الفرنسي في عامي‬
‫وعد عدد قليل من المثقفين المحليين‬
‫‪ 2611‬و‪ ،2612‬وال سيما البكارة والعكيدات‪َ .‬‬
‫لجمع تاريخهم‪ ،‬مع استثناءات قليلة ملحوظة‪ ،‬مثل الشاعر محمود الذخيرة من قبيلة‬
‫العفادلة الذي كتب تاريخ قبيلته في عدة دفاتر‪ ،‬أو محمد المدفع مفتش تدريس اللغة‬
‫الفرنسية في الرقة‪ .‬والذي جمع أرشيف عشيرته‪ ،‬فإن رواياتهم ال تعرف دعاية وال‬
‫يمكنها أن توازن كتابات الرقاويين‪.‬‬

‫بدو الرقة‪ :‬من القرية البدوية (حارة البدو) إلى الفيالت‬

‫بينما ُيظهر سكان الرقة ازدراء للشوايا‪ ،‬فإن عالقاتهم مع البدو أكثر تعقيداً‪ .‬في بداية‬
‫القرن العشرين‪ ،‬استقبلتهم العائالت الكبيرة في المدينة عند قدومهم إلى المدينة‪ ،‬وعمل‬
‫الرقاويون المتعلمون كسكرتارية لهم‪ .‬ويشهد العجيلي في كتاباته عن العصر الذهبي‬
‫للبدو في الرقة‪ ،‬على هذه العالقة المتناقضة بين الثقافة العربية والثقافة البدوية المذكورة‬
‫أعاله‪ ،‬والمكونة من اإلعجاب والتقليد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبدو أن مثقفي الرقة يتأرجحون بين‬
‫هذا الموقف اإلعجابي والنقد الخلدوني الشديد النحطاط البدو على اتصالهم بالمدينة‪.‬‬
‫وهكذا فإن وصول مجموعات بدوية فقيرة بسبب الجفاف إلى الرقة‪ ،‬في بداية الستينيات‪،‬‬
‫غير الرؤية التي كانت لدى سكان المدينة عنهم‪ .‬الذين يعيشون في أحياء غير نظامية‪،‬‬
‫مع قطعان هزيلة‪ ،‬فقدت األخيرة بالفعل كل وجودها‪.‬‬

‫وفي رواية شهيرة ُنشرت عام ‪ 2622‬بعنوان "حارة البدو"‪ ،‬وصف إبراهيم خليل هؤالء‬
‫البدو بأنهم فقراء‪ ،‬مجبرون على التسول في شوارع الرقة للبقاء على قيد الحياة‪ ،‬وبالتالي‬
‫جب البدو كثي ار‪ُ .‬يشير أحد أفراد قبيلة فدعان الخرسة إلى‬
‫فقدوا شرفهم‪ .‬هذا الكتاب َش َ‬
‫أن ازدراء ساكن المدينة يمكن رؤيته في استخدام مصطلح "حارة" الريفي‪ ،‬في عنوان‬
‫الرواية‪ ،‬بدالً من "الحي" المديني‪ ،‬مما يعني أن البدو ال يمكنهم التكيف مع الحياة‬

‫‪514‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الحضرية‪ .‬وكل هذه الرواية بالنسبة له مجرد نسيج من األكاذيب‪ .‬وبالتالي فهو يجادل‬
‫في حقيقة أن جميع بدو الرقة يعيشون في حي محدد وهم فقراء هناك‪.‬‬

‫بدالً من ذلك‪ ،‬يقال إن البدو منتشرون في جميع أنحاء المدينة‪ ،‬والعديد منهم يمتلكون‬
‫فيالت ويشغلون وظائف مرموقة‪ .‬يقتبس لي حالة نموذجية للدكتور محمود الفهد الكورة‪،‬‬
‫الولده‪ ،‬وهو طبيب متدرب في ألمانيا والذي بنى‪،‬‬
‫الفدعان عنزة من عشيرة دانا محمود ُ‬
‫في عام ‪ ،2666‬عيادة خاصة فاخرة فيها أربعون سري اًر‪ ،‬حيث يمارس ‪ 22‬طبيب ًا‬
‫عملهم‪ .‬هذا األخير‪ ،‬الذي التقى به في مضافته‪ ،‬يفتخر بأن يصف لي‪ ،‬باأللمانية‪،‬‬
‫المواقف المختلفة التي شغلها بدو الرقة‪ .‬وهكذا‪ ،‬على أعلى مستوى في الدولة‪ ،‬في قيادة‬
‫الحزب‪ ،‬يجلس محمود سعيد بختيان‪ ،‬عضو عنزة‪ - .‬المهيد محافظ حماة‪ .‬على مستوى‬
‫محافظة الرقة‪ ،‬قاضي محكمة تل أبيض هو فدعان‪ ،‬وكذلك محام بارز في الرقة‪.‬‬
‫فرحان فرحان‪ ،‬أحد األعضاء المهمين في حزب البعث في الرقة‪ ،‬بدوي أيضاً‪ .‬لذلك‬
‫لديهم شبكات قوية‪ ،‬ووجودهم في المدينة واضح من خالل العديد من المدارس التي‬
‫يحتفظون بها هناك‪.‬‬

‫"الحي البدوي" موجود بالفعل‪ ،‬لكنه بعيد عن إعادة تجميع كل بدو الرقة‪ .‬يعيش هناك‬
‫محاوري ماجد من عائلة دانا‪ ،‬مع بعض رجال عشيرته الذين بنوا ثالثة عشر منزال‬
‫هناك‪ ،‬ألنه‪ ،‬كما قال‪" ،‬يحب البدو العيش معا"‪ .‬يتم تنظيم هذه المنازل في الغالب‬
‫حول فناء كبير حيث ينام أفراد األسرة الممتدة في الصيف على حصائر وحيث يتم‬
‫فصل المضافة عن جسد مكون من غرفتين أو ثالث غرف مخصصة لكل من العائالت‬
‫النواة‪ .‬غالبا ما يكونون من مالكي أراضي السهوب‪ ،‬البعل‪ ،‬حيث يستفيدون من‬
‫محصول الشعير مرة كل عامين(معاومة)‪ .‬ويفضل الرجال والنساء حياتهم في المدينة‪،‬‬
‫حيث يكون تعليم األطفال أسهل وحيث تكون األعمال المنزلية أقل صعوبة‪ .‬وتحافظ‬
‫العائالت على عالقات وثيقة مع أفراد عشيرتها المتواجدين في الرقة أو شمال المحافظة‬

‫‪515‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫شرق "سلوك"‪ .‬وهناك يتم االحتفال بالزيجات‪ ،‬تحت الخيام‪ ،‬التي تجمع جزءا كبي ار من‬
‫القبيلة "‪."11‬‬

‫كما أشار سليمان خلف في أوائل الثمانينيات‪ ،‬كانت العالقات جيدة نوعا ما بين فدعان‬
‫وأعيان المدينة‪ .‬يؤهلهم بمصطلح تحالف وليس تبعية (خلف ‪ ،2622‬ص ‪ .)21‬هذا‬
‫أكثر من مجرد تعامل سكان هذه المدينة مع البدو الذين وصلوا إلى مكانة اجتماعية‬
‫عالية‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬تغضب ابنة مجحم بن مهيد الشيخة فوزة‪ ،‬التي تزوجت من‬
‫العفادلة الشيخ محمد الهويدي عام ‪ ،2612‬من ازدراء أهالي الرقة بها لكونها بدوية‬
‫تعيش في المشلب ‪ .Machlab‬تحب أن تتذكر أن العجيلي والسطاف‪ ،‬العائلتان‬
‫الكبيرتان في كل تجمع‪ ،‬ما هما إال خدامها‪" :‬كانا كتاب والدي"‪ .‬تسارع الشيخة فوزة‬
‫إلى تذكر أنسابها وتروي في الشعر قصة حلقات الحرب الكبرى التي تميز خاللها‬
‫والدها وعمها‪ .‬كما تثني على كرمهم‪ ،‬مما جعلهم رؤساء عظماء‪ :‬وهكذا في عام‬
‫‪ ،2622‬خالل شتاء صعب‪ ،‬تمكن حاجم‪ ،‬الذي أصبح للتو وجيه العشيرة "‪ ،"16‬من‬
‫إطعام القبيلة بأكملها لمدة ‪ 41‬يوماً من الثلج‪ .‬أما ولده فقد استأجر أثناء المجاعة‬
‫مخابز الرقة ووزع الخبز على الجميع‪.‬‬

‫‪ -4‬تمثيل العصبية والعشائرية في االنتخابات التشريعية‬

‫االنتخابات التشريعية لحظة أساسية إلعادة حشد الروابط القبلية‪ .‬وبحسب وجهاء الرقة‪،‬‬
‫فإن حزب البعث "أعاد تكوين" العشيرة من خالل االنتخابات‪ ،‬لكسب قواعد دعمها‪:‬‬
‫"البعث هو الذي أعاد بناء العالقات القبلية‪ :‬بالنسبة لالنتخابات‪ ،‬خطط لتوزيع المقاعد‬
‫على العشائر‪ .‬قال لي أحدهم في عام ‪ .1112‬منذ االنتخابات التشريعية عام ‪،2622‬‬
‫لم يكن لدى محافظة الرقة سوى ثمانية مقاعد‪ ،‬اثنان منها فقط مستقالن وبالتالي‬
‫مفتوحان لالنتخابات‪ .‬أما المناصب الستة األخرى فيعين من قبل النظام من بين أعضاء‬
‫األحزاب المكونة للجبهة الوطنية التقدمية "‪ ."12‬ويأسف معظم مفكري الرقة وحتى‬
‫المسئولون البعثيون على تجميد عدد المقاعد المخصصة لمحافظة الرقة لمدة ثالثين‬

‫‪516‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عاماً ألنه ال ينبغي أن يكون ثمانية بل عشرين‪ ،‬ألن المقاعد الثمانية "تمثل" كل منها‬
‫‪ 211111‬نسمة في محافظة كان عدد سكانها أكثر من مليون في تعداد ‪.1114‬‬
‫وتتحدث عن "قواعد التعبئة السياسية العربية" لتأهيل استخدام العصبية في التحليالت‬
‫السياسية للمجتمعات العربية (بيكار ‪ 1116‬ص‪.)62 .‬‬

‫اللوحة ‪ :6‬شيخ العفادلة محمد الهويدي ووالدته الشيخة فوزة بنت مهيد من فدعان عنزة‬
‫في منزلهما بالمشلب‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وفي حين أن العالقات القبلية التقليدية قد تراجعت خالل الخمسينيات من القرن الماضي‬
‫بسبب إثراء صغار مالك األراضي وتجنيد الفالحين ورجال القبائل الذين ال يملكون‬
‫أرضاً والذين كانوا يخضعون سابقاً للشيوخ‪ ،‬تم عقد عالقات قبلية جديدة‪ ،‬والتي تظهر‬
‫بشكل خاص خالل االنتخابات‪ .‬يواصل الفالحون العيش كأعضاء في القبائل‪،‬‬
‫ويظهرون مع ألقابهم القبلية‪ .‬وفوق كل ذلك‪ ،‬يدعم معظم سكان الريف وسهوب محافظة‬
‫الرقة مرشحي عشائرهم خالل االنتخابات‪.‬‬

‫صيانة العصبية بحسب االمين العام لحزب البعث في الرقة‬

‫وبحسب األمين العام لفرع حزب البعث في الرقة‪ ،‬عيسى خليل‪ ،‬المعين عام ‪1112‬‬
‫والتقيته في آب ‪ ،1112‬فإن "العصبية هي الثقافة السائدة" في محافظة الرقة‪ .‬ووفقاً‬
‫له‪ ،‬فإن للثورة البعثية خصوصية في محافظة الرقة‪ :‬وهي أن تظل راسخة في "فهم‬
‫خصائصها االجتماعية"‪ .‬والعصبية ‪ ،asabiyya‬أو ما يعرف ب "التضامن الجماعي‬
‫‪ ،"la solidarité de groupe‬هو المفهوم الرئيس لنظرية ابن خلدون عن تطور‬
‫الدولة في العالم العربي في العصور الوسطى‪ .‬وتم استخدامه على نطاق واسع من‬
‫قبل ميشيل سورات في تحليله للدولة السورية‪ .‬يعرف أوليفييه روي ‪ Roy‬بأنه "أي‬
‫مجموعة تضامن تقوم على العالقات الشخصية (النسب‪ ،‬الزوجية‪ ،‬المحسوبية أو الوالء‬
‫‪….‬إلخ‪ ).‬والتي يكون هدفها هو هذا التضامن بالتحديد وليس تنفيذ هدف يبرر إنشاء‬
‫المجموعة"‪ ،‬فإنه تظل البيانات ذات الصلة لتحليل مجتمعات الشرق األوسط في نهاية‬
‫التسعينيات‪(" ،‬ليس كتعبير عن ديمومة مجتمع تقليدي في دولة حديثة‪ ،‬ولكن (مثل)‬
‫إعادة تشكيل شبكات الوالء السياسي واإلقليمي‪ ،‬حيث تم تعديل الفضاء بشكل نهائي‬
‫بفعل الدولة‪ .‬ما يتم الحفاظ عليه ليس موضوعات بل نوع من العالقة بالسياسة" (روي‪،‬‬
‫‪ 2666‬ص ‪.)2-6‬‬

‫‪518‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وأمين سر حزب البعث في الرقة‪ ،‬عيسى خليل‪ ،‬هو في وضع أفضل للحديث عن هذه‬
‫الخصوصية القبلية للمحافظة‪ ،‬ألنه‪ ،‬كما يقول لي نفسه‪ ،‬ينتمي إلى قبيلة بو حميد‬
‫العفادلة التي تعيش في المشلب‪ .‬إن التعبير عن الخصوصية القبلية يتعارض مع‬
‫اإليديولوجية البعثية التي بذلت قصارى جهدها لمحاربة التعبير عن الخصوصيات‬
‫اإلقليمية والقبلية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وهذه عالمة على تطور النظام‪ ،‬فقد تبنى محافظ الرقة‬
‫عام ‪ ،1112‬فيصل قاسم‪ ،‬فكرة الخصوصية الثقافية للقبيلة في شرق سوريا‪ .‬وأهمية‬
‫الواقع العشائري في محافظة الرقة هي في الواقع‪ ،‬حسب رأيه‪ ،‬خاصية ثقافية ال ينبغي‬
‫إهمالها لحشد الطاقات في طريق التقدم‪ .‬وإن اعتراف سكرتير البعث والمحافظ بالحفاظ‬
‫على التضامن الجماعي والنظام القبلي يشهد على التخلي عن إحدى معارك الفكر‬
‫البعثي التي كانت تهدف إلى القضاء على هذه الخاصية الرئيسة للمجتمع السوري‪،‬‬
‫فيما يتعلق بالريف والقبلية وكذلك المدن والطوائف‪ ،‬وأفضل مثال على ذلك ُيعطى‬
‫للمفارقة على ذلك هو التضامن العلوي في قمة هرم السلطة‪( .‬شوي ‪.)2661 Chouet‬‬

‫االنتخابات التشريعية عام ‪ 0223‬في الرقة‬

‫في عام ‪ ،1112‬علق مسئول من بلدية الرقة على االنتخابات الجارية آنذاك‪" :‬تجري‬
‫االنتخابات بشكل مختلف في الريف والمدينة‪ .‬في الريف‪ ،‬القبيلة تقرر التصويت لواحد‬
‫فقط‪ ،‬حتى اآلن"‪ .‬األمر أكثر تعقيداً في الواقع‪ ،‬حيث تم تقسيم القبائل وقت التصويت‬
‫بين مؤيدي اثنين أو أكثر من المرشحين‪ .‬وهكذا‪ ،‬خالل انتخابات ‪ 2661‬و‪،2664‬‬
‫التي ُخصص فيها ثلث المناصب لمرشحين من غير أعضاء حزب البعث "‪ ،"12‬انقسم‬
‫بدو الفدعان بين مؤيدي دهام الجريش ومؤيدي غازي الحريمين‪ .‬كذلك انقسمت العفادلة‬
‫بين أنصار محمد فيصل الهويدي (نجل النائب فيصل الهويدي وابنة مجحم بن مهيد‬
‫من فدعان عنزة) وأنصار عمه العجوز الحاج عبد الرزاق الهويدي‪ .‬حصل األخير‬
‫على ‪ 21111‬صوت داخل قبيلته خالل انتخابات عام ‪ ،2661‬مقابل ‪ 21111‬صوت‬

‫‪519‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لخصمه‪ ،‬فقط السبخة‪ ،‬الذين هاجر جزء كبير منهم إلى المملكة العربية السعودية‪،‬‬
‫ظلوا متحدين حول شيخهم أنور راكان‪ ،‬الذي تتم إعادة انتخابه بانتظام‪.‬‬

‫وخالل االنتخابات التشريعية لعام ‪ ،1112‬تنافس حوالي ثالثين مرشحاً على المقعدين‬
‫(أ ‪ ،‬ب) المخصصين لـ "المستقلين"‪ .‬حصل عشرة منهم على معظم األصوات‪ .‬ومن‬
‫بينهم شيوخ القبائل الرئيسية بالمحافظة‪ :‬محمد فيصل الهويدي‪ ،‬عن العفادلة‪ ،‬وعلي‬
‫أنور البورسان‪ ،‬شيخ الولده‪ ،‬وعبد المحسن أنور ركان‪ ،‬شيخ السبخة‪ ،‬ومحمد إسماعيل‬
‫الباري‪ ،‬شيخ الولده‪ ،‬بو خميس‪ .‬لم يمنع وجود الشيوخ بأي حال من األحوال‪ ،‬كما في‬
‫كل انتخابات‪ ،‬من تقديم مرشحين معارضين أنفسهم‪ ،‬كما كان الحال مع المرشح إبراهيم‬
‫شاكر من الولده للمقعد ب‪ .‬في المقعد أ‪ ،‬مرشح العفادلة‪ ،‬أحمد محمود الهادي‪ ،‬وتمكن‬
‫من حشد قرابة ‪ 41‬ألف صوت‪ ،‬فيما دعا الشيخ محمد فيصل إلى دعم المرشح أنور‬
‫الراكان حليف القبيلة بالزيجات العريقة‪.‬‬

‫وفي عام ‪ ،1112‬تم انتخاب شيخ العفادلة محمد فيصل الهويدي للمقعد ‪ B‬متقدما‬
‫على شيخ الولده علي أنور البورسان (‪ 62.226‬صوتا مقابل ‪.)16124‬‬

‫أما بالنسبة للمقعد أ‪ ،‬فقد فاز به رئيس قصير شيخ بو خميس محمد إسماعيل الباري‪،‬‬
‫متقدماً على مرشح العفادلة أحمد محمود الهادي (‪ 42422‬صوتا مقابل ‪26212‬‬
‫صوتا)‪ .‬على مستوى كل دائرة انتخابية‪ ،‬الالفت أن مدينة الرقة لم تقدم أي مرشح‬
‫لمقاعد المستقلين‪ .‬اختار المرشحون من العائالت الكبيرة في المدينة أن يكونوا أعضاء‬
‫في أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية لتأكيد سلطتهم في المدينة‪ .‬وهكذا تم تعيين‬
‫المحامي عبد الله حسن بليبل نائباً للحزب عام ‪ ،1112‬إلى جانب القاضية ندوة سلوم‪،‬‬
‫وهي من سكان المدينة وتعود في أصولها البعيدة للعفادلة‪ .‬وقت االنتخابات‪ ،‬صوت‬
‫أهالي الرقة‪ ،‬من عائالت الوجهاء السابقين (الغول ‪ Ghouls‬من بو شعبان)‪ ،‬للمرشح‬
‫المستقل الشيخ عفضلة محمد فيصل الهويدي‪ ،‬الحائز على نصف األصوات المدلى‬
‫بها في المدينة‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وفي غرب المحافظة‪ ،‬فازت دوائر الثورة والمنصورة والجرنية حيث يقيم غالبية أبناء‬
‫قبيلة الولده‪ ،‬فاز الشيخ علي أنور البورسان بأغلبية األصوات‪ .‬أيضا في منطقة السبخة‬
‫التي بها بعض مجموعات الولده‪ .‬بالنسبة للبقية‪ ،‬يفوز شيخ العفادلة بسهولة في‬
‫انتخابات المقعد ‪ B‬في شمال ووسط وشرق المحافظة‪ .‬المرشحون الذين يتنافسون على‬
‫المقعد (أ) هم أكثر رقبة ورقبة‪ ،‬وال سيما محمد إسماعيل الباري‪ ،‬شيخ بو خميس‬
‫ومنافسه المباشر أحمد محمود الهادي من عفادلة‪ ،‬الذين حصلوا على حوالي ‪ 41‬ألف‬
‫صوت‪ ،‬في حين أن شيخ السبخة عبد المحسن أنور ركان حصل على ‪ 22266‬صوتاً‪.‬‬

‫ويعكس جدول النتائج االنتخابية حسب الدائرة االنتخابية التضامن القبلي السائد في‬
‫القرى الواقعة في أعلى المنبع من الرقة على نهر الفرات يسكنها بشكل عام أفراد من‬
‫قبيلة الولده‪ .‬أولئك الذين يقعون في اتجاه مجرى النهر في الرقة يسكنون على الضفة‬
‫اليسرى من قبيلة فدعان‪ ،‬وعلى الضفة اليمنى تسكنها الولده والسبخة والعفادلة‪ .‬لقد‬
‫رأينا سابقاً حجم ملكية األراضي للشيوخ الرئيسيين في عام ‪ .2641‬تمكن هؤالء الشيوخ‬
‫من االحتفاظ بجزء كبير من عقاراتهم من خالل تسجيلها باسم ورثتهم خالل‬
‫اإلصالحات الزراعية واالستمرار في تشغيل آالف الفالحين‪ .‬يعرض الجدول ‪21‬‬
‫تفاصيل التوزيع حسب عشيرة العفادلة لقرى الفرات األوسط‪ .‬بنيته بعد مقابلة مع شاعر‬
‫العفادلة محمود الذخيرة في مشلب المدافعة في شباط ‪.2662‬‬

‫في نهاية االنتخابات التشريعية لعام ‪ ،1112‬تبين أن النواب الثمانية لمحافظة الرقة‬
‫هم ستة منهم من ذوي األصول العشائرية المميزة‪ ،‬كما هو مبين بالتفصيل في الجدول‬
‫رقم ‪ .22‬تم انتخاب مواطن واحد فقط من سكان الرقة‪ ،‬وهو عضو من حزب البعث‪.‬‬
‫وفاز بالمقعدين المستقلين اثنان من شيوخ القبائل الرئيسين في الجزيرة‪ .‬وهكذا تمكنوا‬
‫من التفوق على أفراد قبيلتهم الذين كانوا يتنافسون معهم‪ .‬لكنهم وجدوا في البرلمان‬
‫أعضاء عشائرهم الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث ومستفيدين من اإلصالح‬

‫‪511‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الزراعي المضاد‪ .‬واتخذت الخصومات بين المرشحين منعطفاً أكثر وحشية خالل‬
‫االنتخابات التشريعية األخيرة في آذار ‪.1112‬‬

‫الهندسة االنتخابية أو تعبئة الشبكات القبلية‬

‫خالل االنتخابات التشريعية في نيسان ‪ ،1112‬كان ما ال يقل عن ‪ 26‬مرشحاً يتنافسون‬


‫على المقعدين المستقلين‪ .‬وكان من بينهم اثنان من المنتهية واليته‪ :‬محمد فيصل‬
‫الهويدي (شيخ العفادلة) ومحمد إسماعيل الباري (شيخ بو خميس)‪ ،‬وكذلك علي أنور‬
‫البورسان‪ ،‬شيخ الولده‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى أن طبيباً من حلب كان أيضاً مرشحاً للمقعد‬
‫‪ B‬عن محمد فيصل الهويدي‪ ،‬األمر الذي أثار استياء كل من أبناء العشائر وسكان‬
‫مدينة الرقة‪ ،‬الذين ال يزالون يتسمون بعالقة التبعية التي تعود إلى قرن من الزمان‪.‬‬
‫مقابل خانجي حلب‪.‬‬

‫الهندسة االنتخابية والتكلفة في النفقات وفي الرجال‪ .‬قبل شهرين من االنتخابات‪ ،‬يقوم‬
‫المرشحون بجولة في قرى عشيرتهم لعد األطفال الذين أصبحوا بالغين خالل العام‬
‫والذين يمكنهم التصويت‪ُ .‬يطلب من كل زعيم عشيرة أن يكتب على بطاقة جميع أسماء‬
‫أبناء كل عضو وأن ينقلها إلى الشيخ المرشح‪ .‬يدفع المرشح بعد ذلك رسوم التسجيل‬
‫في القوائم االنتخابية‪ 21 :‬ليرات للختم و‪ 11‬ل‪.‬س للبطاقة التي تحمل صورة‪ .‬هذه‬
‫المبالغ المتواضعة تصبح كبيرة عندما تتضاعف في ‪ 21111‬أو ‪ ،11111‬كما يشير‬
‫مدير حملة المرشح محمد فيصل الهويدي‪ .‬ضمنت التسجيل في القوائم االنتخابية لما‬
‫ال يقل عن ‪ 22‬ألف شاب من قبيلة العفادلة مدعوين للتصويت لممثل عشيرتهم‪ ،‬ولكن‬
‫أيضاً‪ ،‬وهذا يبدو لي أكثر إثارة لالهتمام‪ ،‬سكان مدينة الرقة‪ ،‬وال سيما عائالت الككاجي‬
‫وخضر الذين احتفظت أيضاً بقوائم محدثة لألطفال الذين بلغوا ‪ 22‬عاماً‪.‬‬

‫وتبدأ عملية الفرز والتسجيل في القوائم االنتخابية‪ ،‬التي يتم تنفيذها‪ ،‬في تعيين وكالء‬
‫انتخابيين مسؤولين عن توجيه الناخبين إلى مراكز االقتراع‪ .‬يخطط كل مرشح رئيسي‬
‫ألن يكون له ممثالن (رجل وامرأة) في كل من مراكز االقتراع البالغ عددها ‪ 416‬في‬

‫‪512‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫محافظة الرقة‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬وللتأكد من سفر الناخبين من السهوب والريف إلى‬
‫مراكز االقتراع‪ ،‬استأجر ميني باص "ميكرو باص" فيه رجل وامرأة مؤيدان للمرشح‪.‬‬
‫وبذلك استأجر المرشح محمد فيصل الهويدي ‪ 21‬مكرو باص لكامل المحافظة‪،‬‬
‫ولمدينة الرقة فقط ثالثين "خدمة" إضافة إلى نحو عشرين سيارة ألنصاره‪.‬‬

‫واتسمت انتخابات عام ‪ 1112‬بأعمال شغب قبلية بين أنصار المرشحين إسماعيل‬
‫مشوج البليخ وعبد المحسن أنور الراكان‪ ،‬وكانت الرقة تحت حظر التجول لمدة أسبوع‪.‬‬
‫في ‪ 14‬نيسان‪ ،‬سافر وزير الداخلية بنفسه إلى الرقة ومعدان لتقييم الوضع‪ ،‬فيما جرت‬
‫مباحثات بين مشايخ العشائر محمد فيصل الهويدي (شيخ عفادلة) وعبد المحسن أنور‬
‫الراكان (شيخ السبخة)‪ .‬وعلي أنور البورسان (شيخ ولده) والمرشح إسماعيل مشوج‬
‫البليخ من البارياج (ولده)‪ .‬وتقرر منح مقعدي النواب المستقلين لمحمد فيصل الهويدي‬
‫(النائب الحالي) وعبد المحسن أنور الراكان الحاصلين على أكبر عدد من األصوات‪.‬‬
‫وعرض الشيخ أنور الراكان مبلغ ‪ 21‬ماليين ليرة سورية (‪ 211‬ألف يورو) كتعويض‬
‫على المرشح الخاسر إسماعيل مشوج البليخ الذي رفض ذلك‪ .‬هذا المبلغ كبير‪ ،‬ال‬
‫سيما أن سقف اإلنفاق الرسمي للحملة حدد بموجب القانون بـ ‪ 2‬ماليين ليرة سورية‬
‫(تجاوزه في الواقع معظم المرشحين الرئيسين‪ ،‬ال سيما في دائرة دمشق)‪.‬‬

‫في النهاية‪ ،‬لم يكن أي من نواب محافظة الرقة الثمانية المنتخبين عام ‪ 1112‬من‬
‫مدينة الرقة‪ .‬تم انتخاب امرأة واحدة فقط‪ ،‬عضوة في حزب البعث‪ ،‬من مجتمع تجار‬
‫سخان‪ .‬عين نائب من دير الزور في ائتالف الجبهة المتحالفة مع حزب البعث‪.‬‬
‫وانتخب شيخا عفادلة والسبخة بعد وساطة المصالحة القبلية‪ .‬تكشف هذه األحداث عن‬
‫اهتمام شيوخ قبائل الفرات التقليديين بالحفاظ على الهيبة المرتبطة بمنصب النائب‬
‫وخصائص السلطة التي ينطوي عليها ذلك من حيث توزيع الوظائف والمزايا‪ ،‬على‬
‫الرغم من أن جزءاً كبي اًر من أعضاء حزب البعث تحرروا من عشيرتهم منذ الثورة البعثية‬
‫ومشاركتهم في إدارة مشاريع التنمية في محافظة الرقة‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يضيف مفكرو الرقة إلى العصر الذهبي للعصر العباسي والبعثي في الرقة‪ ،‬عص ار‬
‫ثالثا بإيحاءات قومية‪ ،‬يتم تقدير استقاللية مدينتهم ومقاومتها للمحتلين الفرنسيين في‬
‫عشرينيات القرن الماضي‪ .‬تم تقديمه على أنه إنشاء دولة بدوية مستقلة من قبل حاجم‬
‫بن مهيد‪ ،‬زعيم فدعان عنزة‪ ،‬وقد أعاد مثقفو الرقة تفسيرها بالكامل على أنها حلقة من‬
‫االستقالل الحضري‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن المحفوظات بالوكالة الفرنسية تقدم نسخة أخرى‬
‫من الحقائق‪ ،‬وتصف العائالت الحضرية الخاضعة بشدة للضرائب البدوية والتي تسعى‬
‫بأي ثمن للتخلص من هؤالء البدو‪ .‬من جانبهم‪ ،‬فإن شبه البدو‪ ،‬الذين غالبا ما يحتقرهم‬
‫البدو وسكان البلدة‪ ،‬يدعون شرف المقاومة للجيش الفرنسي‪ ،‬وهو ما يرويه بالفعل‬
‫األرشيف‪.‬‬

‫عند نشر رواية حالة حاجم بن مهيد المجهولة‪ ،‬بعد اثنين وأربعين عاما من األحداث‪،‬‬
‫نكتشف أن أحفاد هذه العائالت لديهم في صميمهم عظمة هذه الدولة‪ ،‬فضال عن‬
‫الفضائل القبلية ومعتقداتهم كبدو وهم "الشجاعة والكرم والتقشف"‪ .‬في الوقت نفسه‪،‬‬
‫يؤكد المثقفون الذين يدعون هذه الفضائل أنهم ليسوا أبناء قبائل‪ ،‬لكنهم "عائالت"‬
‫حضرية تماما‪ .‬وهكذا تتشابك الخصائص العمرانية والقبلية في التراكيب البالغية‬
‫لمفكري الرقة‪ ،‬مثل عملية التناضح بين العالم المستقر والعالم البدوي التي كانت ستميز‬
‫شرق سوريا حسب الجغرافي جاك ويوليرس‪ :‬تبني المفاهيم البدوية‪ .‬لذلك فإن هذه‬
‫المناطق المحرومة هي التي تتلظى بنار السماء ورياح الخماسين‪ ،‬هذه الخلطة المذهلة‬
‫للقبيلة والمدينة‪ ،‬الراعي والقافلة‪ ،‬من البدو والحديقة‪ ،‬التي منها ولدت الحضارة العربية"‬
‫(ويليرس‪ ،2646 ،‬ص ‪.)211‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإن هذه اإلنشاءات الخطابية ليست سوى عنصر مؤسس للحضارة‪ ،‬والتي‬
‫تتم دراستها من حيث الخطاب بقدر ما تتم دراستها من حيث الممارسات‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من أنه يؤكد على الحفاظ على التقاليد القبلية في اإلسكان‪ ،‬والتحالفات الزوجية‪،‬‬
‫وتسويات مسائل الشرف واإلعجاب بالقيم البدوية‪ ،‬إال أن عبد السالم العجيلي يظل‬

‫‪514‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بعيدا عن أسلوب الحياة هذا الذي يصفه‪ ،‬قوال وفعال‪ .‬ولذلك من الضروري إكمال هذه‬
‫الدراسة للخطابات حول المدينة من خالل تحليل الممارسات اليومية للفئات االجتماعية‬
‫التي تعيش في الرقة ومن خالل تحليل مؤانستهم‪ .‬إن الجمع بين أيديولوجياتهم اإلقليمية‬
‫وممارساتهم سيسمح لنا بمعرفة مناطقهم اإلقليمية‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ -2‬لدراسة مسألة التمدن في الرقة‪ ،‬أعتمد على العمل المنسق من قبل بيير سينيولز وميشيل لوسو‬
‫ونشره من قبل أورباما ‪ URBAMA‬العمران المعني‪ ،‬وكذلك على مقال ف‪ .‬ميرمييه‪:‬‬

‫(لبوسو‪ ،‬سيني (ميرمييه عن التحضر في صنعاء )‪ ، (CNRS-Tours‬وكذلك على مقال ف‪.‬‬


‫ميرمييه عن التحضر في صنعاء (لوسو‪ ،‬سينيول‪ ،2666 ،‬وميرمييه‪.)2626 ،‬‬

‫‪ -1‬حدد عالم األنثروبولوجيا ديل إيكلمان أربعة أنماط من صياغة الهوية القبلية في الشرق األوسط‪:‬‬
‫استخدام اإليديولوجيات العرقية السياسية المحلية من قبل األفراد لشرح تنظيمهم االجتماعي‬
‫والسياسي‪ .‬استخدام المفاهيم من قبل السلطات لألغراض اإلدارية؛ إسناد المفاهيم األنثروبولوجية‬
‫من قبل الباحثين؛ تقاسم المفاهيم الضمنية‪ ،‬غير الرسمية في شكل إيديولوجيا (إيكلمان ‪،2626‬‬
‫ص ‪.)212‬‬

‫‪ -2‬في الفصل ‪.1‬‬

‫‪ -4‬قام مارك سايكس بعدة رحالت إلى تركيا والشرق األوسط في بداية القرن العشرين‪ ،‬والتي ولدت‬
‫منها األعمال الثالثة‪ :‬من خالل خمس مقاطعات تركية في التنكر‪ ،‬لندن‪2611 ،‬؛ سجل رحلة‬
‫عبر عشر مقاطعات آسيوية في تركيا‪ ،‬لندن‪ ،2614 ،‬تراث الخليفة األخير‪ ،‬لندن‪.2621 ،‬‬

‫‪ -1‬في عهد فيصل‪ ،‬تم تشكيل حكومة عربية في دمشق من تشرين األول ‪ 2622‬إلى آب ‪2611‬‬
‫حتى هزيمتها ضد قوات الجنرال غورو في ميسلون‪ .‬هذه الحلقة من التاريخ السوري‪ ،‬والتي كانت‬
‫مع ذلك فترة سيطرة النظام الملكي الهاشمي على سوريا‪ ،‬ارتقت إلى مرتبة التراث الوطني السوري‬
‫ويذكر البعث بأن "استقالل ووحدة سوريا الطبيعية"‪ .‬أعلنها المؤتمر السوري‬
‫من قبل حزب البعث‪ُ ،‬‬

‫‪515‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في ‪ 2‬نيسان ‪ ،2611‬حيث يتم لآلن إحياء ذكرى هزيمة ميسلون كل عام (بيكار ‪ ،2621‬ص‬
‫‪.)122‬‬

‫‪" -6‬إلى كل رؤساء قبائل دير الزور‪ ،‬تحية طيبة‪ ،‬نقدر كل الجهود التي بذلتموها في الماضي‬
‫لخدمة الوطن العزيز‪ .‬ووفقاً لرغباتكم‪ ،‬يأتي إليكم العقيد رمضان شالش اليوم ليرسل لكم تحياتنا‪.‬‬
‫عيناه قائدا لكامل منطقة دير الزور‪ .‬نحن على ثقة تامة بأنكم ستساعدوه في خدمة الوطن وإنقاذه‬
‫من هذه األيام الصعبة‪ .‬تعالوا واتحدوا‪ .‬أرسل لك العديد من األوسمة‪ .‬انهض بسرعة للدفاع عن‬
‫الوطن العزيز‪ .‬توقيع فيصل‪ ،‬المقر الملكي‪ ،‬الديوان األول‪ 16 ،‬شوال ‪ 21(" 222‬تموز ‪)2611‬‬
‫جبارة‪ .)2621 ،‬قدم القوميون السوريون هذه الثورة كحلقة مهمة في‬
‫(نانت‪ ،‬ملف ‪ ،2-146‬تقرير َ‬
‫النضال من أجل االستقالل الوطني‪ ،‬يمكن مقارنتها بحلقة جبل الدروز عام ‪.2611‬‬

‫‪ -2‬إشارة‪ ،‬جيش الشام‪ ،Box 4H107 ،‬تقرير أجهزة المخابرات بتاريخ ‪ 12‬آب ‪ 2611‬عن الفترة‬
‫من ‪ 11‬تموز ‪ 2611‬إلى ‪ 11‬آب ‪.)2611‬‬

‫‪ -2‬إشارة‪ ،‬جيش الشام‪ ،carton 4 H107،‬التقرير الشهري ‪ 12‬أيلول ‪ 2611‬عن الفترة من ‪26‬‬
‫إلى ‪ 12‬أيلول ‪.)2611‬‬

‫‪" -6‬يواصل حاجم بك بن مهيد إرسال الرسائل إلى أهل المدينة وإلى القبائل دون أي نجاح‪ ،‬ونحن‬
‫ال نولي أهمية كبيرة ألفعاله" (نانت‪ ،‬الملف ‪ ،2-146‬مالحظات عن قضاء دير الزور‪ ،‬رسالة من‬
‫معتقد لواء الزور‪ ،‬القاضي فاضل العبود‪ ،‬إلى الجنرال دو الموث‪ 1 ،‬تشرين األول ‪.)2611‬‬

‫‪" -21‬بالرغم من أن قضاء الرقة ينتمي إلى سنجق حلب‪ ،‬إال أنه ال يمكن تحريره بعد من قبضة‬
‫تركيا‪ ،‬التي تحتفظ‪ ،‬حسب آخر المعلومات‪ ،‬بحامية هناك من كتيبة معززة مكونة من ‪ 4‬رشاشات‬
‫وبندقيتين‪ .‬يتصرف حاجم والعنزيون مثل األسياد هناك‪ ،‬بعد أن أخضعا بالكامل قبائل العفادلة‬
‫الذين يشكلون الجزء األوسط من سكان المدينة المستقرين‪ .‬بالتناوب‪ ،‬يمارس القائمقام التركي‪،‬‬
‫المنفصل عن سنجق أورفا‪ ،‬وشوكت باي‪ ،‬ومحمد الهويدي الشالش من قبيلة الولده‪ ،‬سلطة ال تكاد‬
‫تمتد إلى الضفة اليسرى‪.‬‬

‫واالتصاالت التجارية بين الرقة وحلب شبه معدومة‪ ،‬ويشكل الركود الذي تعاني منه المدينة والقضاء‬
‫أفضل دعاية لصالحنا‪ ،‬مقارنة بالهدوء واالزدهار اللذين تمتع بهما ممبج منذ شهرين‪ .‬أثر مرور‬
‫عمود ليموين‪ ،‬وهو الرد الشديد الذي تم في ‪ 22‬حزيران على هجمات العفادلة‪ ،‬في ذروة الرقة‪،‬‬
‫بشكل كبير على الروح المتنقلة للقبائل التي تأثرت بشدة بمظاهرة القوة الفرنسية‪ .‬يبدو أن هاتشم قد‬
‫‪516‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫فقدت الكثير من هيبتها وتشعر بالحاجة إلى االقتراب منا‪ .‬مزواد الجيش‪ ،‬منافسه في احتالل الرقة‪،‬‬
‫المخيم حالياً في جبل مونشر‪ ،‬يطلب أيضاً االتصال بنا‪ .‬يبدو أن الوقت قد اقترب عندما يكون من‬
‫الممكن إعادة الرقة إلى طاعة حلب"‪ ( .‬شاة‪ carton 4H413 ،‬التقرير الشهري لشهر تموز‬
‫‪.)2612‬‬

‫‪ -22‬شاة‪ ،‬جيش الشام‪ ،carton 4H413 ،‬التقرير الشهري لشهر أيلول ‪.2612‬‬

‫‪ -21‬ال ينبغي المبالغة في أهمية شخصية (حاجم)‪ .‬إن تأثيره محل نقاش كبير‪ .‬وأهل الرقة‬
‫يكرهونه‪ .‬والعديد من القبائل التي يدعي أنه يقودها ال تعترف به كرئيس لهم‪ .‬وفي حال توقف دعم‬
‫األتراك له‪ ،‬فسيتوقف قريباً عن اعتباره أي شيء آخر غير زعيم بدوي يقتصر تأثيره على اتحاد‬
‫عنزة نظرياً أكثر من كونه حقيقياً" (شاة‪ ،‬جيش الشام‪ carton 4H107،‬نشرة الخدمة الشهرية‪،‬‬
‫المخابرات‪ ،‬تشرين الثاني ‪ ،2612‬حلب‪ ،‬ص ‪.)11 - 12‬‬

‫‪ -22‬نانت‪ ،‬ملف ‪ ،2621 ،2-146‬خليل جبارة‪ ،‬تقرير عن الوضع االجتماعي في قضاء الرقة‪.‬‬

‫‪" -24‬بعد انسحاب القوات العثمانية في نهاية الحرب العالمية األولى‪ ،‬وتقدم القوات الفيصلية للثورة‬
‫العربية‪ ،‬تم ضم الرقة إلى دير الزور‪ .‬عندما احتلت القوات البريطانية دير الزور في كانون الثاني‬
‫‪ ،2626‬جرى إلحاق قضاء الرقة بحلب التي كانت بيد الحكومة العربية في دمشق‪ ،‬وعين فيها‬
‫حاكم‪ .‬بعد انسحاب القوات اإلنجليزية من دير الزور‪ ،‬في كانون األول ‪ ،2611‬عاد اللواء إلى‬
‫حكومة دمشق العربية‪ ،‬وأصدر األمير فيصل بن شريف ق ار اًر بضم قضاء الرقة إلى دير الزور‪.‬‬
‫وبعد معركة ميسلون‪ ،‬ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق‪ ،‬كانت سوريا تحت االنتداب الفرنسي‪،‬‬
‫وأقيمت الحامية الفرنسية في المدن السورية الرئيسة‪ ،‬بما فيها الرقة‪ ،‬وفي ‪ 26‬كانون األول ‪2612‬‬
‫دخلت بعض الوحدات المسلحة الفرنسية‪ .‬الرقة التي تم إلحاقها بعد ذلك بلواء حلب لكنها لم تبقى‬
‫هناك وربطت مرة أخرى بلواء دير الزور"‪( .‬الرقة‪ ،‬لؤلؤة الفرات‪ ،2661 ،‬ص ‪.)166‬‬

‫‪" -21‬في عام ‪ ،2626‬احتلت القوات البريطانية دير الزور وألحقت قضاء الرقة بلواء حلب الذي‬
‫كان بيد حكومة فيصل العربية وعين الضابط رمضان شالش محافظاً (حاكم) على الرقة‪( ".‬مدينة‬
‫الرقة ‪ ،2661 ... fil thâl‬ص ‪)26‬‬

‫‪ -26‬المضافة أماكن ضيافة من سمات التواصل االجتماعي العربي‪ .‬تمت دراستها في الفصل ‪.2‬‬

‫‪ -22‬ينظر الفصل ‪.2‬‬

‫‪517‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -22‬رفضت الولده‪ ،‬في نهاية الثالثينيات‪ ،‬دفع الخوة إلى فدعان مهيد ‪ ،‬وفي نهاية الشجار‪ ،‬فقد‬
‫إسماعيل بن حاجم بن مهيد حياته‪.‬‬

‫ولده وعنزة‪ ،‬وكان هناك ‪ 222‬حالة وفاة بين األول‬


‫‪" -26‬في عام ‪ ،2642‬استؤنفت الحرب بين ْ‬
‫(بما في ذلك امرأتان) و ‪ 126‬حالة وفاة بين األخير‪ .‬وتمت المصالحة في عام ‪ ،2616‬وهي‬
‫مصالحة كاملة‪ :‬حتى لو حدثت وفاة‪ ،‬فال رجوع عن االتفاقية" (الشيخ بورسان الولده‪ ،‬تموز ‪.)1112‬‬

‫‪ -11‬شاة‪ ،carton 4H413 ،‬تقرير بقلم المالزم الثاني بروكاسون‪ ،‬ضابط الخدمات الخاصة‪،‬‬
‫رئيس موقعي الرقة وتل أبيض‪ ،‬بتاريخ ‪ 12‬شري األول ‪.2642‬‬

‫‪ُ -12‬ينظر الفصل ‪.1‬‬

‫‪ -11‬يحب المزاح أنه يعيش في "مكان مرتفع" في المدينة‪ :‬ليس بالقرب من بوابة بغداد أو ساحة‬
‫الرئيس‪ ،‬ولكن بالقرب من "العربة المكسورة" المهجورة على خطوط السكك الحديدية منذ سنوات!‬

‫‪ -12‬وبالمثل‪ ،‬وجد قضاة القبائل أنفسهم محرومين من وظائفهم القضائية عندما خضعت القبيلة‬
‫للقانون العام‪ .‬وتُرفع القضايا الجنائية أو الخالفات الخطيرة في المصالح اآلن إلى محكمة الدولة‬
‫في دير الزور‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بالنسبة للنزاعات األقل أهمية‪ ،‬ال يزال من المفضل اللجوء إلى التحكيم‬
‫عن طريق العرف‪ .‬وهذا الشكل من العدالة الشخصية يبدو أكثر إنسانية ويجعل من الممكن تجنب‬
‫تكاليف وتأخير إجراء ال نهاية له" (نفاخ ‪ ،2622‬ص ‪.)222‬‬

‫‪ -14‬بالنسبة لقبيلة العفادلة‪ ،‬فإن الشيخ الذي له وظيفة مماثلة لوظيفة الشيخ بورسان الولده‪ ،‬هو‬
‫كلش العفادلة‪ ،‬من عائلة الهويدي‪ .‬وهو قادر على الفصل في النزاعات في جميع أنحاء الجزيرة‪،‬‬
‫ويحمل ختماً يمنحه حق القضاء العرفي‪ .‬وتتمثل مهمته الرئيسة في تحديد سعر ضريبة الدم في‬
‫حالة القتل‪ .‬وقد جئنا لنتشاور معه في مضافته المشلب من جميع أنحاء شرق سوريا‪ .‬وعندما‬
‫يصدر حكمه‪ ،‬من المعتاد تمزيق منديل أبيض‪ ،‬مما يدل على أن القضية قد تمت تسويتها‪.‬‬

‫‪ -11‬حضر حفل الزفاف الذي دعيت إليه في تموز ‪ 1112‬حوالي ‪ 211‬شخص من القبيلة‪.‬‬
‫وجرى فصل الرجال والنساء ضمن االحتفال‪.‬‬

‫‪ -16‬ممثلها (حرفيا "الوجه")‪.‬‬

‫‪ -12‬الجبهة الوطنية التقدمية‪ ،‬التي أُنشئت في آذار ‪ 2621‬ضمت إضافة لحزب البعث جناحين‬
‫من الحزب الشيوعي السوري بكداش ويوسف فيصل‪ ،‬االتحاد االشتراكي العربي‪ ،‬والوحدويين‬

‫‪518‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫االشتراكين‪ ،‬إضافة لجناحين من حركة االشتراكيين العرب والحقا أصبحت تضم خمسة عشر حزباً‪.‬‬
‫وتنص المادة ‪ 2‬منه على أن البعث له دور قيادي في هذه الجبهة ويفرض مرشحيه على حساب‬
‫حلفائه ( دروز‪ -‬فيسي ‪ ،2666‬ص ‪.)121‬‬

‫‪ -12‬منذ انتخابات عام ‪ ،2622‬تم حجز نسبة مئوية من المقاعد للمرشحين "المستقلين" (خارج‬
‫الجبهة الوطنية التقدمية)‪ .‬وزادت هذه النسبة بشكل طفيف في عام ‪.2661‬‬

‫*‪ Myriam Ababsa‬مريم عبابسة‪:‬‬

‫مريم عبابسة فرنسية من أصول جزائرية‪ ،‬حاصلة على دكتوراه في الجغرافيا من جامعة تورز‪،‬‬
‫فرنسا (‪ .)1114‬ومؤلفة العديد من الكتب‪ .‬وتعمل زميلة باحثة ومستشارة في الجغرافيا اإلنسانية‬
‫في المعهد الفرنسي للشرق األدنى في عمان ‪ .Ifpo‬يركز عملها على تأثير السياسات العامة على‬
‫التنمية اإلقليمية والحضرية في األردن وسوريا‪ .‬وهي تتساءل عن الحوكمة والمشاركة العامة في‬
‫سياسات اإلسكان وتقديم الخدمات‪.‬‬

‫‪*-Myriam Ababsa: La mise en récit de la citadinité tribale de Raqqa‬‬

‫ويشكل البحث المترجم‪" ،‬رهان السرد العمران القبلي في الرقة"‪ ،‬موضوع الفصل السابع من كتاب‬
‫متكامل بفصوله الثمانية‪ ،‬إلى جانب المقدمة‪ ،‬والنتيجة والمراجع وغيرها‪ ،‬بعنوان‪ :‬الرقة واألراضي‬
‫والممارسات االجتماعية لمدينة سورية ‪RAQQA VILLE, TERRITOIRES ET‬‬
‫‪ ،PRATIQUES SOCIALES D'UNE SYRIENNE‬وينحصر الفصل بين صفحتي ص‪.‬‬
‫‪ .126-111‬وأشير هنا إلى أنني لم أورد قائمة الجداول التي تأخذ حي اًز كبي اًر من البحث‪ ،‬حيث‬
‫اكتفيت بالفكرة المستخَلصة‪.‬‬

‫وأنوه إلى أنه ربما استعصى علي التعرف على بعض التفاصيل لصعوبة الحصول على األصل‬
‫العربي من االستشهادات القديمة‪ ،‬فاجتهدت في ذلك‪ ،‬لهذا أعتذر للمعنيين بها مسبقاً‪.‬‬

‫وربما ُتعطي قراءة المدخل لكتابها عن الرقة فكرًة عنه‪:‬‬

‫إنها نجمة الهالل الخصيب الواقعة على نهر الفرات على بعد مائتي كيلومتر شرق حلب‪ ،‬الرقة‬
‫مدينة اتصال بين عالم البدو الرحل وعالم السكان المستقرين وعالم سكان المدن‪ .‬سادس أكبر‬
‫ظا في‬
‫مدينة في سوريا في عام ‪ ،0221‬مع ما يقرب من ‪ 062‬ألف نسمة‪ ،‬كان صعودها ملحو ً‬
‫سد الفرات‪ ،‬والذي كان المشروع التنموي الرئيس لسوريا‬
‫أوائل السبعينيات كمركز إداري لمشروع ّ‬

‫‪519‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫البعثية لمدة عشرين عاماً‪ .‬وجرى بناء ثالثة سدود ومدينة جديدة وخمس عشرة مزرعة حكومية‪،‬‬
‫مما أدى إلى استقرار اآلالف من الموظفين والعمال والمهندسين السوريين واألجانب في محافظة‬
‫الرقة‪ ،‬الذين أدخلوا ممارسات اجتماعية جديدة هناك‪.‬‬

‫في الوقت نفسه‪ ،‬تحولت الرقة إلى معرض للتطور العمراني البعثي مع ساحات االستع ارض‬
‫والحدائق والمباني الرسمية والتماثيل والخطابات احتفاال بإحياء المجد العباسي لهذه المدينة‬
‫التي كانت العاصمة المؤقتة للخليفة هارون الرشيد‪.‬‬

‫وأدى االزدهار اإلداري والديموغرافي المزدوج في الرقة إلى تغيير جذري في عالقات القوة بين‬
‫أفراد عائالت المدينة السابقة‪ ،‬وموظفي الخدمة المدنية من القبائل شبه البدوية السابقة‪،‬‬
‫ومجموعات المهاجرين المستوطنة حديثا في المدينة‪ .‬وحدث انتقام اجتماعي حقيقي لصالح‬
‫صغار مالك األراضي الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث والذين تمكنوا من الوصول إلى‬
‫المناصب اإلدارية الرئيسية في المحافظة‪ .‬لكن سكان المدينة القديمة كانوا قادرين على الحفاظ‬
‫على أسس قوتهم االقتصادية‪ ،‬مع نشر خطابات الهوية المستقلة الخاصة بهم وممارساتهم‬
‫الخاصة في التواصل االجتماعي (االجتماع في المضافة‪ ،‬زيارة مقابر القديسين في المدينة على‬
‫الرغم من أن هذه األخيرة قد تغيرت‪ .‬لصالح أضرحة الشيعة)‪.‬‬

‫وهكذا تشكل الرقة موقعاً مثالياً لمراقبة التغيرات في سوريا المعاصرة نظ اًر لحجم االضطرابات التي‬
‫عرفتها منذ نصف قرن‪ ،‬والتي تتسارع مع اإلصالحات التي أدخلها الرئيس السوري الجديد منذ‬
‫عام ‪( 0222‬تفكيك مزارع الدولة)‪( ،‬تشجيع االستثمار األجنبي)‪ ،‬والتي تهدف إلى جعل شمال‬
‫شرق سوريا منطقة إلدورادو جديدة للتنمية الخاصة‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق التشكيل‬

‫‪521‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الفنان التشكيلي عبدالحميد فياض‬

‫الفن رسالة محبة وجمال وثورة على الظلم واالستبداد‬

‫حاوره عبدالرحمن مطر‬

‫كاتب روائي‪ ،‬من أسرة تحرير "أوراق"‬

‫ُيعد الفنان عبدالحميد الفياض‪ ،‬واحداً من المثقفين المبدعين السوريين‬


‫المتميزين من حيث‪ ،‬االشتغال على قضايا فكرية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬تتصل بالوجود‬
‫اإلنساني‪ ،‬وبالقيم اإلنسانية‪ ،‬المرتبطة بحياة الناس‪ ،‬و بمصائرهم‪ ،‬في ظل‬
‫التحديات الكبرى التي يواجهها العالم‪ ،‬وسوريا جزء بالغ االضطراب‪ ،‬في هذا‬
‫الكون‪.‬‬

‫‪522‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫تعود تجربته التشكيلية الى منتصف سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬وسرعان ما‬
‫تبلورت‪ ،‬وفرضت وجودها على الساحة الثقافية السورية‪ ،‬منذ تخرجه من كلية‬
‫الفنون الجميلة عام ‪ ،2622‬بدرجة امتياز‪ ،‬بشكل الفت في اختيار موضوعاته‬
‫الرئيسة لمشروع التخرج الذي تفرد فيه مبك اًر – في تلك الفترة – بتناول قضايا‬
‫القهر والحروب والمغيبين والمعتقلين‪ ،‬وادوات التعذيب‪ ،‬التي تستخدم‪ .‬وقد‬
‫حمل مشروعه عنوان "وما يزال القتل مستم اًر "‪ ،‬وقد عني المشروع حينها‬
‫بالفترة التاريخية التي تبدأ مع تأسيس اول دولة في التاريخ‪ :‬السومرية‪ ،‬وحتى‬
‫العام ‪.2622‬‬

‫وفي الحقيقة هو عنوان وقضية الفتين‪ ،‬خاصة عند اإلحالة الى فترة منتصف‬
‫الثمانيات‪ ،‬بأحداثها الجسام‪ ،‬من الحرب اإليرانية – العراقية – الى غزو‬
‫اسرائيل للبنان‪ ،‬مرو اًر بأحداث سوريا في تلك السنوات المريرة‪ ،‬ومجزرة حماة‪.‬‬
‫كما أنه يوثق فنياً لحالة تاريخية ما تزال قائمة حتى اليوم‪ ،‬خاصة في سوريا‪:‬‬
‫القتل ما يزال مستم اًر‪.‬‬

‫كما واصل في الثمنانينات تطوير تجربته الفنية‪ ،‬دون أن تتخلى بعض اعماله‬
‫عن نقد األوضاع المأزومة بفعل أنظمة الحكم‪ .‬أذكر جيداً لوحات له من‬
‫مشروع التخرج‪ ،‬يظهر فيها الدوالب بوضوح‪ ،‬كما الضحايا‪ .‬وكذلك أعماالً‬
‫أخرى لنماذج من الديكتاتوريات العسكرية‪ ،‬التي تجمع بين قبعة العسكري‪،‬‬
‫والسكين المدمي‪ ،‬والمدن الشهيدة‪.‬‬

‫لم أشأ لهذا الحوار أن يكون تقليدياً‪ ،‬وال أن يكون معنياً بإبراز السيرة الذاتية‬
‫لفنان تفرض تجربته اإلبداعية نفسها على المشهد التشكيلي‪ ،‬بتفرد‪ ،‬خاصة‬

‫‪523‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في المرحلة األخيرة التي يقول عنها الفياض‪ ،‬بأنها ذات "رؤية جديدة‪ ،‬وحالة‬
‫جديدة‪ ،‬وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل سنيني السابقة"‪.‬‬

‫الى الحوار‪:‬‬

‫بالهم اإلنساني‬
‫ّ‬ ‫‪ -9‬أعمالك الفنية‪ ،‬خالل السنوات العشر األخيرة‪ ،‬مرتبطة‬
‫نتاج دافق متميز‪،‬‬
‫على نحو‪ ،‬يقارب األلم والفجيعة والخراب الذي ُيّلم بنا‪ٌ :‬‬
‫وألوان حادة‪ ،‬الى درجة الصخب‪.‬‬

‫‪ -‬ما الذي تتطلع إليه عبر عملك الفني‪ ،‬اليوم؟‬

‫‪ -‬وهل يمكننا الحديث‪ ،‬عن دور الفنان في المجتمع‪ ،‬خاصة في ظل‬


‫يقدم‪ ،‬في ظل التهميش‬
‫الظروف السائدة؟ وماذا يمكن للفنان ان ّ‬
‫واالستبعاد‪ ،‬وشبه القطيعة االجتماعية والسياسة مع الحراك الثقافي‬
‫بصورة عامة؟‬

‫‪ -‬عبر مراحل التاريخ المختلفة‪ ،‬بحلوها ومرها‪ ،‬كان للفنان عموما وللتشكيلي‬
‫خصوصا دو ار ما‪ ،‬يختلف باختالف موقفه واصطفافه ورؤيته الخاصة من‬
‫أحداث بلده أوال‪ ،‬وأحداث العالم عموما‪.‬‬

‫من يدرك جيداً‪ ،‬أن الفن رسالة خير ومحبة وجمال في زمن الرخاء‪ ،‬وغضب‬
‫وتحد وثورة على الظلم والعسف والقتل ووأد الحريات‪ ،‬في أزمنة الحروب‬
‫واالحتالالت‪ ،‬وحكم الدكتاتوريات‪ ،‬فقد حقق معادلة الفنان اإلنسان الرائد في‬
‫مجتمعه‪ .‬ومن لم يفهم أو أنه ال يريد أن يفهم دور الفن في الحياة والمجتمع‪،‬‬
‫فليس سوى فنان قصر أو بالط‪ ،‬كما في الشعر والمسرح والغناء‪ ..‬ومنهم‬
‫كثر‪ .‬لكن كثرتهم لم تصنع يوما فناً للبقاء‪.‬‬

‫‪524‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫نحن ال نرسم ونوثق مآسينا‪ ،‬كي تحفظ في األرشيف‪ .‬وال نرسم إلرضاء جهة‬
‫بعينها‪ ،‬أو قوى محددة مهما تغولت وبطشت‪ .‬وهي أيضا ال تريد أن تسمع‬
‫أو ترى ماننتجه‪ .‬هناك جمهور يرى ويسمع‪ ،‬يحب ويكره‪ .‬وهناك الضمير‬
‫الذي يصرخ‪ ،‬وهناك سجالت للتاريخ يجب أن نكتب ونرسم على صفحاتها‬
‫ما يتوجب علينا‪ ،‬كي تكون مخطوطاتنا وأعمالنا شاهدة على عصرنا‪ ،‬وآالمه‬
‫وأحالمه وغدره وخياناته‪ ..‬وانتصاراته إن وجدت!‬

‫إنها الرسالة التي يتوجب علينا أن نحملها بصدق وإيمان وقوة‪ ،‬وإال فإن لعنة‬
‫التاريخ سوف تحل بنا‪.‬‬

‫‪ -0‬في تجربتك اإلبداعية‪ ،‬محطات مهمة‪ .‬في العودة الى البدايات‪ ،‬اتسمت‬
‫أعمالك بقدرة خاصة في تطويع اللون‪ ،‬وفي استخداماته‪ ،‬بجرأة الطرح‪ ،‬وفي‬
‫وضوح الفكرة‪ ،‬على الرغم من اسلوبك التجريدي‪ .‬كيف تنظر الى تجربتك‬
‫اليوم؟ وما هو موقعها في حركة التشكيل العربي؟‬

‫‪ -‬منذ البدء كانت اللوحة عندي هم‪!..‬‬

‫لم تكن يوما للتسلية وال لالستعراض التقني وال لمجرد الجمال‪ ..‬أكثر من‬
‫خمسين عاما وأنا أرسم هموم شعب ووطن منكوب‪ ،‬منذ تكوينه الى آخر‬
‫الزمان‪ .‬قليل ما أعتني بطرح األمل‪ .‬فانا ال أؤمن بأن هذا الوطن‪ ،‬سيكون له‬
‫خالصه مؤقت‪ ،‬وسالمه مؤقت‪ ،‬وأفراحه مؤقتة‪ ،‬كما‬
‫ُ‬ ‫خالص مطلق يوماً‪.‬‬
‫حلمه وحزنه‪.‬‬

‫إنه قائم ومركب على معتقدات وأساطير‪ ،‬وقوى ال تسمح لحالة فيه بالثبات‪..‬‬
‫ونحن نقوم بما يرضي ضميرنا وحلمنا المؤقت‪ .‬ونرسم للتوعية والتحريض‪،‬‬

‫‪525‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وكشف المستور من خبايا سلطات وأنظمة وقوى ظالمة غاشمة‪ ،‬تحالفت كلها‬
‫لقتل أحالمنا الصغيرة في الحرية والحياة الكريمة‪ ،‬دون مغاالة‪.‬‬

‫‪526‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الزمن يتغير‪ ..‬وأساليب اإلنتاج تتغير‪ ،‬والموضوعات أيضا تتغير‪ .‬ولكل زمن‬
‫خصوصية التعبير وشكله‪ ،‬ولكن االنسان هو االنسان‪ ،‬بخيره وشره‪ ،‬وضعفه‬
‫وقوته وهمه وفرحه‪ .‬والتاريخ في كل مرحلة‪ ،‬يعيد نفسه‪.‬‬

‫مستمر‪ ،‬ومايزال الفنان اإلنسان يحتقر القاتل‪ ،‬ويساند قضية‬


‫اً‬ ‫ومازال القتل‬
‫المقتول‪ /‬الضحية‪ .‬وسنظل كذلك‪ ،‬الى أن يتوقف القتل ويسود السالم‪ .‬ولن‬
‫يسود إال بعد أن تحط االرض أوزارها‪!..‬‬

‫لم أفكر يوما ماهو موقعي في التشكيل العربي‪ ،‬وال أعرف‪ ..‬كل ما أعرفه‬
‫أنني أرسم في سوريا‪ ،‬وأعرض في أي مكان ُيتاح لي على األرض‪ .‬وأعرف‬
‫الكثيرين من فناني العالم‪ ،‬وكثر يعرفونني جيداً‪ ،‬وهذا بالنسبة لي إنجاز كبير‪،‬‬
‫ومهم‪.‬‬

‫دت خالل الفترة الماضية بإنجاز عدة أعمال فنية تتصل بالرقة مثل‪:‬‬
‫تفر َ‬
‫‪ّ -3‬‬
‫مدن الله المنسية‪ -‬الرقة‪ ..‬هل يمكننا الحديث عن تأثير ما للبيئة الفراتية‬
‫الرقية‪ ،‬في أعمالك‪ ،‬وفي تجربتك بصورة عامة؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬األعمال التي قدمتُها خالل عام ‪ ،1111‬تتسم برؤية جديدة – كما اعتقد‬
‫‪ -‬وحالة جديدة‪ ،‬وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل سنيني السابقة‪.‬‬

‫كانت حالة من الوجد والشوق والحنين والخوف والغضب‪ ،‬كلها مجتمعة في‬
‫داخلي‪ .‬يعجز التعبير والتشخيص‪ ،‬عن جمعها في لوحة واحدة‪ .‬كما أنني‬
‫شعرت باالكتفاء من توثيق الحرب السورية‪ ،‬منذ يومها االول الى بداية‬
‫‪ ..1111‬فسافرت الى كردستان العراق‪ ،‬وكانت تشبه جزيرتنا ورقتنا‪ ،‬كما أن‬

‫‪527‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أهلها وكل مافيها يشبهنا‪ ..‬فتفتحت الجروح الخاصة‪ ،‬وعادت الذاكرة لمدينتي‬
‫المغدورة‪ :‬الرقة‪.‬‬

‫أردت أن أكرس لها ولمن يشبهها من المدن المنسية‪ ،‬بعضا من لوحات‬


‫التشبه غيرها‪ ،‬وال يشبهها لوحات ألحد ما‪ ..‬كي أقول أن الله خلق مدناً للخير‬
‫والحب والسالم ‪ ..‬ثم نسيها !‬

‫لوحات يتكئ فيها التجريد على الرومانسية‪ ،‬ويكون اللون فيها‪ ،‬هو جزء من‬
‫الموضوع كما التقنية‪" .‬مدن الله المنسية" هي آخر اعمالي التي أحبها جداً‪..‬‬
‫وقد أحبها كل من شاهدها‪ ،‬وستستمر‪!...‬‬

‫‪528‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -4‬أنت أحد مؤسسي تجمع فناني الرقة‪ ،‬ومن منظور تجربتك كأحد‬
‫تقيم تجربة التجمع‪ ،‬وما آلت إليه‪ ،‬بعد‬
‫التشكيليين المميزين عربياً‪ ،‬كيف ّ‬
‫سنوات طويلة‪ ،‬هذا من جانب‪.‬‬

‫من جانب آخر‪ ،‬هل ترى أن ثمة تأثير للفنون التشكيلية‪ ،‬على الحياة‬
‫الثقافية في الرقة‪ ،‬خاصة منذ الثمانينات؟‬

‫‪ -‬في بداية السبعينات من القرن العشرين‪ ،‬بدأت التجمعات الفنية في الظهور‬


‫في المشهد التشكيلي السوري‪ ،‬في دمشق تحديداً‪ .‬وكنا في الرقة‪ ،‬مجموعة‬
‫أصدقاء مكونة من ‪ 22‬فناناً‪ ،‬في بداية تجربتنا الفنية‪ ،‬وضمن مدينتنا‪ .‬فقررنا‬
‫تشكيل تجمع يحتوينا‪ ،‬لننطلق إلى عالم أوسع‪ ،‬وأن ُنعرف بأنفسنا في كل‬
‫سوريا‪ .‬وقد حققنا بالفعل‪ ،‬ركيزة التجمع‪ ،‬بإقامة أول معرض لنا عام ‪،2621‬‬
‫جال ‪ -‬في حينها ‪ -‬أغلب محافظات القطر السوري‪ ،‬وأولها دمشق‪ ..‬وكان‬
‫الري العام السوري‪ .‬ولعل‬
‫حدثاً هاماً تناولته جميع وسائل االعالم‪ ،‬والنقاد‪ ،‬و أ‬
‫ذلك ساهم في أنه أصبح حدثاً ثقافياً سنوياً‪ ،‬ينطلق من الرقة‪ ،‬ويتجول عبر‬
‫أنحاء سوريا كاملة‪ .‬وعرف من خالله أسماء الفنانين المشاركين في معارض‬
‫التجمع على نطاق واسع‪ ،‬خاصة في األوساط الثقافية واإلعالمية‪ ،‬واالكاديمية‬
‫المعنية بالفنون على نحو خاص‪.‬‬

‫الحقاً‪ ،‬أربعة من أعضاء التجمع‪ ،‬انتسبوا إلى كلية الفنون الجميلة‪ ،‬وتخرجوا‬
‫منها بامتياز‪ ،‬أنا وأحمد معال‪ ،‬وعالء األحمد‪ ،‬وفهد الحسن‪ ،‬أصغرنا سناً‪،‬‬
‫فيما واصل اآلخرون تجاربهم الفنية‪ ،‬في ظل التزامهم بالمهن المختلفة التي‬
‫كانوا يعملون فيها‪.‬‬

‫‪529‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫جميعنا أسسنا فرع نقابة الفنون بالرقة عام ‪ ،2622‬مع من رفدنا من خريجين‬
‫آخرين وفنانين جدد أضيفوا للتجمع‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬وبعد خمسة عشر عاماً بدأ التجمع بالتالشي‪ .‬فقد هاجر من هاجر‪،‬‬
‫وترك المدينة من ترك‪ ،‬واعتكف من اعتكف‪ ..‬وتوفى من توفى‪ .‬وانعدم‬
‫االهتمام والدعم‪ ،‬وبرز لنا عداء المسؤولين لكل تجمع إنساني‪ ،‬ثقافي‪ ،‬وفكري‪،‬‬
‫إلى العلن ‪ ..‬فاضطررنا للتوقف‪ ،‬كما توقف كل عمل جميل‪ ،‬وخير ومبدع‬
‫في بلدنا ‪ ..‬وظل بعضنا المتبقي‪ ،‬يعمل منفرداً – وبإخالص ‪ -‬فكرمه العالم‬
‫الواسع‪ ،‬بدالً من وطن ضيق حتى االختناق‪.‬‬

‫‪531‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫اليوم‪ ،‬ال يمكننا أن نتحدث‪ ،‬أو نتناول الحركة التشكيلية السورية المعاصرة‪،‬‬
‫دون أن نتطرق في العمق‪ ،‬إلى التجارب المهمة لعدد من الفنانين المؤسسين‬
‫لتجمع فناني الرقة‪.‬‬

‫‪ -6‬الفنون الجمالية‪ ،‬في مواجهة الحرب‪ ،‬الدمار والخراب‪ ،‬كيف يمكننا‬


‫إعادة بناء اإلنسان المهدور‪ ،‬عبر مساهمة الفن ؟‬

‫‪ -‬لم تكن كل أنواع الفنون تاريخياً‪ ،‬سوى مرآة للواقع‪ ،‬أو تحريضاً على مكامن‬
‫الخلل فيه‪ ،‬أو الثورة على الظلم والقهر والقتل‪.‬‬

‫لم يعرف التاريخ مثاالً لفن ساند القتلة‪ ،‬إال ما ندر واندثر‪ .‬الفن الخالد‪ ،‬هو‬
‫رسالة إنسانية للحب والجمال والسالم‪ ،‬وهو ليس مقر اًر سياسياً واقتصادياً‪،‬‬
‫وليس من مجموعة الخمس في مجلس األمن المعادية لتطلعات المجتمعات‬
‫االنسانية‪ ،‬نحو الحرية والسالم‪.‬‬

‫إنه رسالة نبوية‪ ،‬من يريد أن يؤمن بها‪ ،‬عليه أن يناضل لكي يحقق حلمه‪.‬‬
‫ومن يكفر بها‪ ،‬فعليه أن يتحمل عواقب فعلته‪.‬‬

‫‪531‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ليست مهمة الفن أن يبني االنسان ‪ ..‬لكن مهمته تكمن في تحريض اإلنسان‬
‫على كيفية بناء نفسه‪.‬‬

‫‪ -6‬الحرية شرط أساسي لإلبداع‪ ،‬كيف استطعت خلق الظروف المالئمة‬


‫لنتاجك اإلبداعي‪ ،‬تأسيساً على أعمالك في الحفر والغرافيك‪ ،‬مطلع‬
‫الثمانينات‪ :‬مثال لوحة الدوالب‪ ،‬الديكتاتور‪ ،‬وغير ذلك؟‬

‫‪ -‬الحرية عامل مهم‪ ،‬ومساعد على اإلبداع‪ ،‬ولكنها ليست شرطاً له‪ ،‬وإال‬
‫كيف أبدع المفكرون‪ ،‬والفنانون‪ ،‬في أرجاء العالم‪ ،‬على الرغم من وجود‬
‫بعضهم‪ ،‬في دول تحكمها الدكتاتوريات‪ ،‬أو في ظل مستعمر‪ ،‬أو انظمة‬
‫شمولية قمعية‪ ،‬أوقومية عفنة؟‬

‫ألم ينتج التاريخ اإلنساني عباقرة‪ ،‬ومبدعين من كل التخصصات‪ ،‬ومازالوا‬


‫األهم‪ ،‬في دول قمعية وفاشية‪.‬‬

‫منذ أن تشكل مفهوم الدولة والحكم والحاكم‪ ،‬أي منذ ستة آالف عام الى اآلن‬
‫‪ ..‬أي حكم أو دولة عبر هذا التاريخ كان شعبها ينعم بالحرية؟ الحرية مفهوم‬
‫يتناقض مع الحكم‪ ،‬ونحن نفهم ذلك جيداً‪ ،‬لذلك نرسم من خالل فهمنا بأن‬
‫كل حكم قمعي وغبي‪ ،‬ونحن علينا خلق الظروف التي تمكننا من ممارسة‬
‫حريتنا‪ ،‬رغماً عن التضييق‪ ،‬ودون خوف‪ ،‬وبذكاء ال يملكونه‪ .‬ندينهم ونحرض‬
‫عليهم‪ ،‬ونحتقرهم‪ ،‬ونعريهم‪ ،‬باستخدام الرمز واللون‪ ،‬وقصص التاريخ‪،‬‬
‫وإسقاطها على الواقع أحيانا‪ ..‬وكلمة في العنوان‪ ..‬وال يفهمون‪.‬‬

‫الفن ‪ -‬والتشكيلي منه ‪ -‬ليس بيان رقم واحد‪ ،‬كما في الثورات واالنقالبات‪.‬‬

‫‪532‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لكنه يشبه لدغة العقرب لمن ينام في العراء‪ ..‬وعلى المصاب أن يحذر‬
‫ويتعلم‪ ،‬ويتعظ‪..‬‬

‫عنوانه احذروا الموت في العراء‪ ..‬فقد ال تجدون منقذا‪.‬‬

‫‪533‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫خليل حمسورك واستعادة حرفة الحرق على الخشب‬

‫إلى منزلة الفن وتطويرها‬

‫حاوره‪ :‬أنور بدر‬

‫من أسرة تحرير أوراق‬

‫تعرفت على خليل حمسورك في سجن صيدنايا العسكري األول‪ ،‬حين اعتقل كرفيق في‬
‫حزب العمل الشيوعي رغم أنه لم ُيكمل عامه ال ‪.22‬‬

‫أحضر حمسورك معه إلى السجن براءة الطفولة وموهب ًة فني ًة وشغفاً ترك أثره في الحياة‬
‫االجتماعية لدى أغلب رفاقه‪ ،‬فهو فنان سوري موهوب من سكان مدينة الرقة‪ ،‬ومن‬
‫مواليد كوباني ‪ ،2666‬درس في مركز الفنون الجميلة بالرقة‪ ،‬قبل أن يحترف في‬
‫السجن فن الحرق على الخشب‪.‬‬

‫‪534‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وقد أسعدني الحظ أن عالقتي به تواصلت بعد الخروج من السجن‪ ،‬ألكتشف أنه أصبح‬
‫مدرسا لفن الرسم وبشكل خاص لألطفال‪ ،‬بل وتميز في تعليم األطفال من ذوي‬
‫االجتياحات الخاصة‪ ،‬وربما يكون أول من استخدم الفن بشكل عام لمعالجة هؤالء‬
‫األطفال واستعادة الثقة بأنفسهم في مدينة الرقة‪ ،‬وال أقصد الرسم فقط‪ ،‬بل استخدم معهم‬
‫تقنية المسرح التفاعلي‪ ،‬وشاركهم في كتابة النص وبناء الديكور والسينوغرافيا وصوالً‬
‫لإلخراج‪ ،‬واستمر بذلك بعد خروجه من الرقة إثر سيطرة "داعش" عليها‪ ،‬إذ عمل بشكل‬
‫تطوعي مع الالجئين السوريين لسنوات في تركيا قبل أن يصبح الجئا في فرنسا‪ ،‬ويبدأ‬
‫مرحلة جديدة من عمله الفني الذي تطور كثي اًر‪.‬‬

‫وكان لي شرف لقائه في باريس بداية العام "‪ "1112 /2/2‬أثناء مشاركته في افتتاح‬
‫معرضاً في بلدية باريس العاشرة‪ ،‬حيث اتفقنا على هذا الحوار كجزء من عدد أوراق‬
‫حول الفن والثقافة في مدينة الرقة‪:‬‬

‫‪ -9‬خليل حمسورك الفنان المحترف اآلن‪ ،‬هل لك أن تُحدثنا عن البدايات وتلك‬


‫المؤثرات األولى في طفولتك التي تحولت الحقاً إلى هاجس الرسم الذي سيطر على‬
‫حياتك وعالمك؟‬

‫‪ -‬أعتقد أن كل األطفال بالمطلق يهتمون بالرسم‪ ،‬ألن دهشة الطبيعة هي المؤثر األول‬
‫لخلق الرغبة والحب لدى الطفل في تعلم الرسم باعتباره لعبة ليس أكثر‪ ،‬فإذا استمر‬
‫هذا اللعب سيكون هناك خلق وإبداع‪.‬‬

‫أما أنا فعندما كنت طفالً‪ ،‬كانت والدتي دائمة القلق علي‪ ،‬ألنني كنت ألعب بين‬
‫األعشاب المحيطة ببيت أهلي في قريتي‪ ،‬وأغلب تلك األعشاب كانت من نبتة الخباز‬
‫الكبيرة بشكل جنوني إضافة لنباتات القندريس والسلبين‪ ،‬وهذه النباتات تستخدمها نساء‬
‫الريف كلها كمواد غذائية للطبخ واألكل‪ ،‬وأكثر ما أدهشني زهرة القندريس التي مألت‬
‫ذاكرتي الطفولية بألوان الطبيعة والحياة‪.‬‬

‫‪535‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بعدها انتقلنا لمحافظة الرقة وكنت حينها بالصف األول االبتدائي‪ ،‬وكنا نسكن حي‬
‫الرميلة الحديث النشأة‪ ،‬وهو من مناطق المخالفات في مدينة الرقة‪ ،‬بما يعني افتقاره‬
‫لكل الخدمات فال ماء وال كهرباء وال صرف صحي‪ ،‬وكانت مدرستنا أول بناء طابقي‬
‫في بداية الحي مقابل سور الرقة االثري‪ ،‬وكان معظم مدرسينا فنانين تشكيليين‬
‫وخطاطين وعازفين على آلة العود‪ ،‬وقد نجحوا بتحويل المدرسة الى لوحة فنية كبيرة‪،‬‬
‫وكان أستاذ الرسم يضع لنا رسمة أو صورة لنرسمها وحين كنت أفشل كنت أنفجر‬
‫بالبكاء‪.‬‬

‫في الصف الثالث االبتدائي كان من حظي أن أكون بصف االستاذ الفنان جورج‬
‫شمعون‪ ،‬ومن هنا تفتح وعيي على الرسم والفن حقيقة‪ ،‬وتعرفت على المركز الثقافي‬
‫والسينما وكل ذلك بفضل ومثابرة االستاذ شمعون‪ ،‬وفي الصف السادس سجلت في‬

‫‪536‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مركز الفنون الجميلة وكان غير مسموحا التسجيل فيه لألطفال بعمري‪ ،‬لكن االستاذ‬
‫الفنان والمحامي فواز يونس قبل بي‪ ،‬وكانت الرقة حينها أي سبعينات القرن الفائت‬
‫مليئة بالحركة والنشاطات الفنية والثقافية‪ :‬فواز يونس‪ ،‬عنايت عطار‪ ،‬جورج شمعون‪،‬‬
‫طالل حسيني‪ ،‬موفق فرزات‪ ،‬أحمد معال‪ ،‬وآخرين ‪....‬‬

‫بقيت بالمركز حتى فصل الشتاء فقط‪ ،‬إذ توقفت لصغر سني‪ ،‬وبسبب البعد والخوف‬
‫من المرور بجانب المقبرة ليالً‪ .‬لكنني عاودت التسجيل بالمركز في الصف التاسع‪،‬‬
‫وكم أدهشني أن األستاذ فواز يونس قد احتفظ بكل رسوماتي التي رسمتها عندما كنت‬
‫طفالً في الصف السادس‪ ،‬وكان أكثر ما يستهويني في الرسم هو مناظر الطبيعة‬
‫والصور‪ ،‬مما خلق لدي هواية التصوير والبحث في كل الزوايا عن أي لقطة جميلة‪،‬‬
‫غير أنني اعتقلت في نهاية الدورة الخامسة‪ ،‬لتبدأ مرحلة عشنا خاللها تجربة جديدة‬
‫وقاسية من الحياة‪.‬‬

‫‪ -0‬كيف كان وقع هذه التجربة عليك بالمعنى اإلنساني؟‬

‫شت هاجس السجن قبل االعتقال‪ ،‬ألن تلك الفترة الزمنية كانت غنية‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬ربما ع ُ‬
‫بالمالحقات والتضييق األمني واالعتقاالت المكثفة‪ .‬مع ذلك شكل اعتقالي في هذه‬
‫السن المبكرة من عمر الطفولة "‪ 22‬عاما فقط" صدم ًة لم أكن مهيأً لها‪ ،‬لكنني تماسكت‬

‫‪537‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أمام قسوة أشكال التعذيب والتسييف في فرع فلسطين للمخابرات العسكرية " حيث ينام‬
‫كل شخص على جنبه فقط‪ ،‬وبطريقة عقب ورأس متبادلة مع اآلخرين نتيجة االزدحام‬
‫الشديد وضيق المكان"‪.‬‬

‫اختلف األمر كثي اًر عندما ُنقلنا في المرحلة التالية إلى "سجن صيدنايا العسكري األول‬
‫بدمشق"‪ ،‬حيث التقينا مع رفاقنا من قدماء المعتقلين وبدأنا في هذا السجن تجربة جديدة‬
‫من الحياة الجماعية‪ ،‬محاولين التأقلم خاللها مع المكان الجديد بصفته بيئة سنعيش‬
‫فيها لسنوات غير معروفة‪ ،‬فكان علينا خلق عوالمنا الخاصة بنا من الهوايات واأللعاب‬
‫والمطالعة وتعلم اللغات‪ ،‬وبقدر ما كانت جدران السجن عالية وسميكة وقاسية من‬
‫حولنا‪ ،‬إال أننا استطعنا أن نمأل هذا السجن حرك ًة وصخباً وإبداعاً‪ ،‬وهذا خفف بالتأكيد‬
‫من وطأة السنوات العجاف دون أن يلغيها‪.‬‬

‫في يوم ما سألتني صديقتي‪ :‬هل يمكنك أن تصالح بين الضحية والجالد؟‬

‫فكان جوابي‪ :‬أنه من المفروض أن نزيح التوحش من الحياة‪ ،‬وحينها لن يكون هناك‬
‫ال ضحية وال جالد‪ ،‬سيكون هناك إنسانية وعدل ومساواة وجمال‪.‬‬

‫جديدة مع الحرق على الخشب‪ ،‬حتى أنها سرقتك من‬


‫ً‬ ‫بدأت في السجن مسيرًة‬
‫‪َ -3‬‬
‫الرسم؟‬

‫بدأنا في السجن‪ ،‬كما تعرف‪ ،‬حياة جديدة مليئة بالحيوية والتفاعل‪ ،‬من تعلم الموسيقى‬
‫على يدي أسعد شالش‪ ،‬إلى تعلم كل اللغات المتاحة‪ ،‬إضافة للقراءة والرسم وحتى‬
‫صناعة بعض المنحوتات الخشبية الصغيرة والميداليات وأشياء أخرى من حبات اللوز‬
‫أو بزر الدراق أو قطعة عظم مما يبقى من طعام هزيل‪ ،‬وصوالً لتجارب المسرح ‪....‬‬

‫وكان اهتمامي األساسي هو الرسم لكوني طالب فنون سابقاً‪ ،‬لكن الحرق على الخشب‬
‫استهواني حقيقة بأدواته البسيطة التي هي عبارة عن سيخ موضوع ضمن قطعة خشب‬
‫دائرية‪ ،‬لنقوم بعد أن نحمي طرف السيخ وقت تحضير وجبات الطعام على "غاز‬

‫‪538‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الطهي" بحرق رسومات أولية على ما يتوفر من قطع الخشب المأخوذة من صناديق‬
‫الخضار‪ ،‬حتى غدا الجلوس أمام "غاز الطهي" متعة لي‪ ،‬إذ لم نكن نملك رفاهية‬
‫إشعال موقد الغاز لمجرد هواية الحرق على الخشب‪.‬‬

‫وقد استهوتني كث ار فكرة المصالحة بين الخشب والنار‪ ،‬حيث تنتشلك الفكرة من عالم‬
‫التفاصيل الصغيرة التي تسيطر في حياة السجن‪ ،‬الذي ُيوصف غلبا بأنه عالم‬

‫‪539‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الصغائر‪ ،‬لكن االنسان في هذا المستوى ُيصبح أكثر فهماً لتفاصيل الحياة الصغيرة‪،‬‬
‫فالحياة كلها عبارة عن تفاصيل متراكمة‪ ،‬وهي بتراكمها تصنع الجماليات التي نحبها‪،‬‬
‫لذلك أدركت أن النار تُحيل كل شيء إلى رماد إال في يدي‪ ،‬حيث تُحو ُل النار قطعة‬
‫خشب مرمية بال معنى إلى قطعة فنية غنية بالجمال‪ ،‬ولذلك أجرؤ أن أسمي نفسي‬
‫"المصالح بين الخشب والنار"‪.‬‬

‫هكذا بدأت رحلتي والتي استمرت سبع سنين عجاف‪ ،‬لكنها كانت زاخرة بالعمل والتعلم‪،‬‬
‫وحسب ما أخبرني رفاقي الحقا أنني قد أنجزت أكثر من ‪ 2111‬قطعة خالل مدة‬
‫سنوات اعتقالي السبع في صيدنا‪ ،‬بحيث أصبح في كل بيت من بيوت رفاقي في‬
‫السجن لوحة أو أكثر من أعمالي‪ ،‬وقد تمكنت خاللها تماما من حرفة الحرق بهذه‬

‫‪541‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الطريقة‪ ،‬ورسمت صو اًر كثيرة‪ ،‬ومنذ فترة وجيزة طلب مني أحد رفاقي وهو "عمر رسول"‬
‫لوحة رسمتها في سجن صيدنايا لتكون غالف مجموعته الشعرية التي ستصدر قريبا‬
‫باسم "كي ال يحزن البنفسج" كترجمة لالسم الكردي " ‪."Ji bo Binefş Diljar nebin‬‬

‫‪ -4‬هل كان لنشاطك الفني أثر في مقاومة ظروف السجن الصعبة؟‬

‫‪ -‬كما أخبرتك كان اجتماعنا كرفاق في سجن صيدنايا مهماً للغاية‪ ،‬إذ استقرت أحوالنا‬
‫قليالً‪ ،‬وأدركنا أن ال مفر لنا سوى الجدران‪ .‬لكن تجربة السجن القاسية التي عشتها‬
‫كشاب صغير في سن المراهقة أنضجتني بالتأكيد وأغنت حياتي‪ ،‬إذ منحتني رغم‬
‫قسوتها تجربة وغنى على صعيد الحياة وفلسفتها وفهمها وإدراك قيمة التكافل والتضامن‬
‫ولك أن تتصور سعادتي عندما كنت أقدم تلك الخشبة المحروقة ببساطتها‬
‫بين المجموع‪َ ،‬‬
‫تمنح طفلته أو طفله شيئاً من السعادة أثناء الزيارة‪ ،‬وهذا حقيقة كان‬
‫لرفيق لي‪ ،‬كي َ‬
‫منحني سعادة أكثر بكثير من سعادة ذلك الطفل‪.‬‬
‫َي ُ‬
‫ويمكن القول أن على البشر جميعاً أن يتكافلوا ويكملوا بعضهم بعضاً‪ ،‬فكلما عاش‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان تجربة جديدة كلما فهم جمالية هذه الحياة أكثر‪ ،‬وعرف أيضاً نقيضها القبيح‪،‬‬
‫وفي هذا المستوى كنا نريد من خالل تلك األنشطة والتفاصيل أن نواجه السجن ونصنع‬
‫الحياة التي نريد‪.‬‬

‫‪ -6‬كيف تضافرت تلك المقدمات في السجن وما بعدها لبلورة فنان حقيقي متعدد‬
‫المواهب وكثير العطاء؟‬

‫التف حولي األصدقاء وبعض زمالء دراسة الفنون‪ ،‬كالفنانين‬


‫‪ -‬بعد خروجي من السجن َّ‬
‫محمد العكلة وحسن مصطفى الذي كان نزيل سجن صيدنايا هو والفنان طه الطه‪.‬‬
‫وقد عملنا مرسم ًا مشتركاً لنا‪ ،‬وبدأت المشاركة في المعارض الجماعية في متحف طه‬
‫الطه‪ ،‬والمركز الثقافي‪ ،‬ومعرض الهواء الطلق في حديقة الرشيد مع تجمع فناني الرقة‪.‬‬

‫‪541‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪542‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في عام ‪ 2666‬بدأت بتعليم األطفال الرسم‪ ،‬وقد نالت إحدى طالباتي حنين عروة‬
‫مهاوش ‪ -‬صف خامس‪ -‬الجائزة األولى على مستوى سوريا‪ ،‬ثم افتتحت مرسمي‬
‫الخاص‪ ،‬في عام ‪ 1112‬وبدأت بتعليم الرسم للشباب الذين يترددون على المرسم‪.‬‬

‫أهم تجربة لنا بدأناها أنا والفنان محمد العكلة عام ‪ ،1112‬تمثلت بالعمل التطوعي مع‬
‫الصم"‪ ،‬وتم إحراز الجائزة األولى على مستوى الوطن العربي من‬
‫األطفال في مدرسة " ُ‬
‫دولة اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬والحقاً ازداد العمل التطوعي وتوسع مع جميع المنظمات‬
‫والمراكز الخاصة باألطفال‪ ،‬كجمعية األيتام وسجن األحداث واألطفال المكفوفين‬
‫وأطفال التوحد وأطفال متالزمة داون‪ ،‬وقد حصل تالمذتنا على ‪ 62‬جائزة دولية وعربية‬
‫وسورية‪ ،‬وأقول نحن ألني شكلت فريق عمل مع الفنانين والخطاطين والموسيقيين‬
‫وفنانين تشكيليين وحتى مسرحيين‪ ،‬حيث عملت كممثل في المسرح ومسرح األطفال‬
‫وكمخرج وكاتب في المسرح التفاعلي‪.‬‬

‫‪543‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وحتى عام ‪ 1121‬كان طالبنا قد حصلوا على ‪ /62/‬جائزة دولية وعربية وسورية‪،‬‬
‫منها ‪ 1‬جوائز من منظمة اليونسيف‪ ،‬وجائزتان من منظمة اليونسكو‪،‬وجائزتان أيضا‬
‫من منظمة الصحة العالمية‪ ،‬كما أنتجت "قناة الجزيرة" فيلما عن تجربتنا مع األطفال‬
‫الصم باسم "زمام المبادرة" وهذا هو رابط الفيلم‪https://youtu.be/iu2x31hnlU0 :‬‬

‫‪ -2‬كيف استطاع خليل حمسورك إنجاز كل هذا العمل في الظرف السوري المعقد‬
‫كثيرا؟‬

‫‪ -‬كان علينا منذ البداية أن نتعامل مع شروط هذا الواقع المعقد‪ ،‬وفي الوقت ذاته‬
‫اشتغلنا بروح الجماعة والعمل التطوعي بآن معا‪ ،‬وقد تلقينا دعماً لعملنا من مديرية‬
‫الثقافة في الرقة بإدارة الصديق حمود الموسى‪ ،‬كما أن العمل التطوعي مع األطفال‬
‫األيتام وأطفال مركز مالحظة األحداث في الريف واألحياء المهمشة‪ ....‬فتح لنا أبواباً‬
‫وآفاقاً جديدة للعمل‪ ،‬حيث ُيمكننا القول أننا غيرنا مفهوم العمل التطوعي الكالسيكي‪،‬‬
‫حين عملنا مع األطفال المكفوفين لمدة عامين دراسيين وقمنا بتعليمهم الرسم بواسطة‬
‫اللمس‪ ....‬كما ضم فريق عملنا التطوعي كافة االختصاصات من رسم وموسيقى‬
‫ومسرح‪ ،‬وقد انعكست نتائج هذا العمل ليس في مستوى التعلم فقط‪ ،‬وإنما في مستوى‬
‫العالج النفسي لألطفال من ذوي االحتياجات الخاصة بواسطة الفن‪ ،‬وهي طريقة‬
‫معروفة عالمياً‪ ،‬كما انعكس أيضا في مبادرة المجتمع األهلي لدعم عملنا وبشكل خاص‬
‫مع األيتام أو مركز مالحظة األحداث‪ ،‬حيث قدم لنا أصحاب المحالت في مدينة الرقة‬
‫معظم المواد مجاناً‪ ،‬من مواد الرسم والطعام وحتى اللباس العادي والمدرسي وكانت‬
‫تُمنح هذه المواد بكرم فائض‪ ،‬بالمقابل اشتغلنا كفريق عمل بكل الحب والعطاء‪.‬‬

‫وهنا سأذكر تجربة مسرحية لي عندما كنت في مديرية الثقافة‪ /‬قسم ثقافة الطفل والنادي‬
‫الصيفي‪ /‬إذ قمت بكتابة مسرحية مع األطفال عن األغذية الصحية والضارة‪ ،‬وكان‬
‫عدد األطفال‪ /42/‬بين ‪ 2‬سنوات و ‪ 24‬سنة عمرية‪ ،‬وكانت الموسيقى الحية على‬
‫المسرح للصديقين أحمد دالي وقيصر أبو رز‪ ،‬وكان العمل ممي اًز وغنياً بالتعليم والثقافة‬

‫‪544‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لألطفال واألهل معاً‪ ،‬مما جعل منه حدثاً مهماً‪ ،‬إذ ألول مرة في مدينة الرقة ُيشارك‬
‫األطفال بصناعة النص والديكور واإلخراج‪.‬‬

‫‪545‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -1‬سبق وتابعت أحد معارض التدريب مع األطفال الصغار في الرقة‪ ،‬حيث كان‬
‫االشتغال على الرسم واأللوان هو األساس‪ ،‬أين الرسم واأللوان في نشاطك الفني اآلن؟‬

‫‪ -‬اللون هو دراستي وشغفي األول‪ ،‬هو رفيقي الدائم‪ ،‬وال زلت أمارس الرسم والتلوين‬
‫بين فترة وأخرى أرسم الزيتي واالكريليك‪ ،‬كما أن معظم العمل مع طالبي يكون باأللوان‪،‬‬
‫لكن الحرق على الخشب استغرقني أكثر‪ ،‬وأبحث فيه دائما عن الجديد‪ ،‬كما أعتقد أن‬
‫الحرق على الخشب متالزم مع الرسم والتلوين‪ ،‬وأنا اآلن بدأت بتطوير تقنية جديدة‬
‫ألستخدم التوابل في تلوين أعمال الحرق‪.‬‬

‫مع ذلك‪ ،‬ال أدري لماذا أحتفظ دائما بأعمالي اللونية جانباً‪ ،‬فيما كل ما أنشره هو من‬
‫أعمال الحرق على الخشب‪.‬‬

‫‪ -1‬بعد سيطرة داعش على الرقة بدأ الخروج باتجاه تركيا‪ ،‬كيف استطعت نقل تجربتك‬
‫الفنية في التعليم والعمل التطوعي إلى هناك أيض ًا؟‬

‫‪546‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬قبل الهروب من داعش والخروج لتركيا عملنا مع األطفال النازحين للرقة في الشوارع‬
‫والمدارس والمعسكرات وحتى في مرسمي أيضاً‪ ،‬وكان عمالً مهماً خاصة في مستوى‬
‫تعافي األطفال نفسيا من صدمة الحرب وهول التفجيرات والقتل والدمار‪ ،‬ووسيلتنا إلى‬
‫ذلك هو الفن‪ ،‬وكما أشرت هي طريقة معروفة عالمياً‪.‬‬

‫في تركيا كانت هذه المهمة أكثر إلحاحا لنا ولألطفال أيضاً‪ ،‬لمحاولة الخروج من‬
‫صدمة اللجوء‪ ،‬فبدأت العمل التطوعي مع منظمة "بيت قامشلو"‪ ،‬وبعد مجيء الموسيقي‬
‫قيصر أبو رز قمنا بالعمل التطوعي في أربع مدارس سورية ومنظمتين‪ ،‬منها منظمة‬
‫بحر‪.‬‬

‫‪547‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫مل معنا العديد من األصدقاء‪ ،‬حيث‬


‫تركز نشاطنا في أنطاكيا واألرياف التابعة لها وقد َع َ‬
‫قمنا بإنشاء أكثر من معرض في استنبول وأورفا وأنطاكيا‪ ،‬وقد أسس قيصر أبو رز‬
‫فرقة أوركست ار مع منظمة بحر‪ ،‬بعد ذلك أسسنا فريق عمل في غازي عنتاب مع‬
‫الصديق محمد حمدان الصالح وراشد الصطوف وأسعد شالش وفلك الخالد ومنى فريج‪،‬‬
‫وكنا نسافر كل أسبوع إلى عنتاب للعمل والتدريب‪.‬‬

‫كما قمت أيضاً بإخراج عمل مسرحي في ريف أنطاكيا باسم "قرية قوملو"‪ ،‬عن نص‬
‫للصديقة مفيدة عنكير‪.‬‬

‫وربما كانت أجمل مشاركة لنا مع فريقنا التطوعي في عيد الطفل التركي في مدينة‬
‫"غازي عنتاب"‪.‬‬

‫‪ -92‬يبدو أن استقرارك في فرنسا منحك مساحة أكبر لإلحساس باألمان والحرية‪،‬‬


‫كيف انعكس ذلك على عملك الفني بالحرق على الخشب؟ وكيف تلقى الجمهور‬
‫الفرنسي هذه التجربة؟‬

‫‪ -‬بعد وصولي لفرنسا تخلصت من القلق واسترخيت حقيقة‪ ،‬وبدأت بالتعرف على‬
‫الثقافة الفرنسية وغيرها‪ ،‬كما بدأت مداركي تتسع مع كل خطوة وفي كل يوم جديد‪،‬‬
‫ليس بمعنى االنتقاص من تجربتنا في تركيا‪ ،‬إذ كانت تجربة مهمة وغنية وال أعتقد أن‬
‫أحداً قد أنجز ما أنجزناه في سنة واحدة حيث كان عملنا تطوعياً‪ ،‬حيث كنت أجلس‬
‫في الشارع وأرسم ألعيش‪ ،‬فيما كان مأوانا أنا وقيصر "بيت قامشلو" ‪....‬‬

‫بينما افتتحت في مدينة ليون الفرنسية مرسمي الخاص‪ ،‬كما عملت متطوعاً مع منظمات‬
‫فرنسية‪ ،‬واآلن أسست منظمة لألعمال الفنية واليدوية سورية فرنسية مع صديقي جان‬
‫لوك‪ .‬فأنا كفنان لست متقوقعاً بشخصيتي‪ ،‬بل أنظر للحياة من نافذة واسعة‪ ،‬ألن الفن‬
‫يمنح أفقا وأمداء أوسع للعقل في اإلبداع الذي ال ينفصل عن المحيط‪ ،‬لكن السياسة‬
‫في مجتمعاتنا المتخلفة خربت كل المفاهيم الجمالية واإلنسانية‪ ،‬وصوالً لكل أنواع‬

‫‪548‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الذائقة‪ ،‬فيما عملت على االحتفاظ بهاجس التغيير والتعلم والبحث المستمر عن كل ما‬
‫هو جديد‪.‬‬

‫وأنا مقتنع أن َفن الحرق على الخشب هو فن أصيل وشائع في كل دول العالم التي‬
‫زرتها‪ ،‬وسيبقى هو عملي المفضل‪ ،‬حيث قمت بتصميم ديكور لمجموعة مطاعم في‬
‫ليون‪ ،‬كما بدأت بتدريس فن الحرق على الخشب في مدرسة ثانوية متخصصة للديكور‬
‫ملت لهم دورة أو "استاج" لمدة أسبوع‪ ،‬وهو فن قديم ينتمي للغرافيك‬
‫الداخلي‪ ،‬بعد أن َع ُ‬
‫أو الحفر على الخشب‪ ،‬كما ينتمي لعالم الزخرفة والديكور‪ ،‬لكنه اليوم يظهر كفن‬
‫مستقل وله جمالياته الخاصة‪ ،‬بل يبدو مفتوحا على مجاالت واسعة لالبتكار والتطبيق‬
‫وصنع الجماليات في كل مجاالت الحياة‪ ،‬إذ يبدو متساوقاً مع الموسيقى وتطوير فن‬
‫العمارة والسينما األزياء ‪ ...‬باختصار هو موجود في كل المجاالت‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وقد استطعت تطوير آليات عملي مستفيدا من خبرتي السابقة وتجاربي المتراكمة‪ ،‬إذ‬
‫أضفت تقنيات جديدة على فن الحرق على الخشب‪ ،‬لم تكن معروفة سابقاً أو عالمياً‪،‬‬
‫حيث استخدمت ألول مرة الشلمون وجهاز ضخ الهواء الحار والتوابل والحفر أيضاً‪،‬‬
‫واآلن استخدم الكوالج مع الحرق‪ ،‬وهي تقنية جديدة بالحرق أيضاً‪ ،‬وقد أنجز ووثق‬
‫"ألند حمسورك" أفالم يوتيوب لهذه اإلضافات المهمة‪.‬‬

‫ويسعدني جدًا أن طالبي بدأوا بإنتاج أعمالهم الخاصة‪ ،‬حيث تميزت طالبتي هند أعبوبا‬
‫التي شاركت لآلن بأكثر من معرض في فرنسا‪ ،‬اسوة بطالبنا في الرقة الذين حصدوا‬
‫الكثير من الجوائز كما أشرت سابقا‪ .‬وربما كان أجمل مديح لي هو قول أهالي ليون‬
‫"الليونيين" بأني قد أعدت هذا الفن لمدينتهم بعد ‪ 41‬سنة من االنقطاع‪.‬‬

‫‪ -99‬دعنا نعود إلى البدايات ثانية‪ ،‬حيث يبدو واضحاً انعكاس البيئة الفراتية في‬
‫وظاللها في أغلب لوحاتك؟‬

‫‪ -‬هذا سؤال إشكالي‪ ،‬ألني كشخص معجون بالفرات وطقس الرقة الحار وجمالها‬
‫وبريتها وخيامها وبيوت الشعر وقطعان الغنم فيها‪ ،‬وبساطة وكرم أهلها‪ ،‬لذا عندما‬
‫أحاول الهروب من الفرات أجده أمامي‪ ،‬فال فكاك لي من عشقه‪.‬‬

‫لقد شكل الفرات وعيي وثقافتي إذ كنت وأصدقائي نمضي أغلب أوقاتنا هناك‪ ،‬وربما‬
‫يكون أجمل ما حلمنا به وحققناه تلك الرحلة عبر تاريخ الرقة "من توتول إلى ماري"‬
‫مع نخبة من فناني ومثقفي الرقة‪ ،‬وهي من أمتع وأجمل الرحالت والمغامرات التي قمنا‬
‫بها‪ ،‬والتي ظلت تتكرر سنويا حتى اندالع الثورة السورية‪ ،‬حيث توقفت مع اندالع‬
‫عنف النظام في مواجهة المطالبين بالحرية والكرامة من أبناء الرقة‪.‬‬

‫وبالنسبة لي تبقى الرقة والدة ومنعشة بحرها وبردها وعجاجها‪ ،‬ولي الكثير من األعمال‬
‫البانورامية عن تاريخ الرقة وحاضرها‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أيمن الناصر في تجربته الفنية واألدبية‬

‫عبود سلمان العلي العبيد‬

‫فنان وناقد تشكيلي مقيم في كندا‪.‬‬

‫دائما تؤكد الرقة‪ ،‬هذه المدينة التي تغفو على ضفاف نهر الفرات الخالد‪ ،‬بوداعة تامة‪.‬‬
‫بأنها مولد استبصار اإلحساسات اإلنسانية‪ ،‬في فضاء المكان والزمان‪ .‬لكي يأتي منها‬
‫األلق اإلبداعي الجمالي والمعرفي‪ .‬وذلك هو من مقومات الفن واإلبداع‪ ،‬هناك وفي‬
‫عمق تجربة النحات والفنان التشكيلي‪ ،‬المدرس والكاتب الروائي المبدع (أيمن الناصر)‪،‬‬
‫والذي يميل في شتى إبداعاته إلى الواقعية التعبيرية‪ .‬خاصة عندما يكون الخيال‬
‫والتخيل‪ ،‬هي حامل جهد هذا الفنان‪ ،‬ونتاجه اإلبداعي المشبع بالروح المحلية والبيئة‬
‫الفراتية‪ ،‬نسبة وادي الفرات‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وتبرز قيمة االنسان التواق الى الحرية‪ ،‬في عمق كيانه اإلبداعي الذي خرج من تراب‬
‫أجداده القدماء‪ ،‬في أرض الفرات الخصبة‪ .‬حيث كان مسقط رأسه واالرض التي ترعرع‬
‫بها (مريبط) التي كانت مسرح مالعب طفولته‪ ،‬بتلتها الشهيرة التي غمرتها مياه الفرات‪.‬‬
‫بأسطورة النهر سلطان‪ ،‬والتي كانت تمور بالحب والحياة‪ ،‬تحت شمس البالد السورية‪،‬‬
‫وكأنها أقاصي الوهج واألوجاع التي تلون ضفاف الحلم‪ ،‬في جدلية االنتماء والعطاء‪.‬‬
‫في عمق الحدس االنساني‪ ،‬معب اًر عن أحزانه وهواجسه‪ ،‬من ألم وفرح وحزن وانتظار‪،‬‬
‫مستمدا من صباحات الريف لوناً وتكويناً غنياً‪.‬‬

‫‪552‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وهذا ما نلمسه في مساحات الحوار واللون‪ ،‬وفي الشكل والزخرف والمنمنمات الفراتية‪.‬‬
‫التي تستحق المطالعة والتحليل والدراسة‪ .‬والتذوق في عمق جماليات الطبيعة عبر‬
‫رهافة الخط‪ ،‬وقوة التشكيل والبنى الجمالية‪ .‬وهذا شأن مبدعنا الفنان النحات (أيمن‬
‫الناصر)‪ ،‬بما يتسم به من أصالة‪ ،‬وصدق‪ ،‬معب اًر عن ذاته وعن محيطه‪ ،‬ومجتمعه‪.‬‬
‫حيث الزال الفن في المدن البعيدة‪ ،‬عن العاصمة بخير‪ .‬ألنه ‪ -‬إلى درجة ما – ما‬
‫يزال بعيدا عن التجارة والمساومات والمزايدة‪ .‬لهذا سكنت أعماله النحتية بأحجامها‬
‫المختلفة‪ ،‬ميادين الرقة والقرى المحيطة بها‪ .‬إضافة الى بعض المدن السورية األخرى‪،‬‬
‫كما وصلت أعماله إلى مدن عربية شقيقة في اليمن والسعودية ولبنان واالردن والسودان‪.‬‬
‫وقد جسد في العديد من النصب التذكارية‪ ،‬شخصيات تاريخية مبدعة‪ .‬تركت أثرها‪،‬‬
‫ألنها انطلقت أصال من أرض الرقة الى العالم‪ ،‬كشخصيات "البتاني"‪ ،‬و"ربيعة الرقي"‪،‬‬
‫و"ثابت ابن قرة الحراني"‪ ،‬وصوالً إلى المجاهد الكبير "رمضان الشالش"‪ ،‬والمعاصرين‬
‫أمثال النائب "حامد الخوجة"‪ ،‬والشاعر "فيصل بليبل"‪ ،‬والمؤرخ الشاعر "مصطفى‬
‫الحسون"‪ ،‬واألديب الكبير "عبد السالم العجيلي" وآخرون كثر أنجبتهم "الرقة"‪.‬‬

‫وقد استطاع الفنان التشكيلي والروائي القاص (أيمن الناصر) أن يحاكي المناخات‬
‫الصعبة‪ .‬وتحويلها إلى عوالم جمالية كبرى تمثلت بإبداعاته وأعماله الفنية‪ ،‬التي يمتزج‬
‫فيها اإليقاع الصامت بالهادر‪ ،‬كما فضاءات البادية السورية‪ .‬والرقة‪ ،‬تبدو بنتاج‬
‫مبدعيها الثقافي‪ ،‬متحفاً بشرياً من الجماهير الواسعة‪ ،‬حيث المجتمع العشائري والقبلي‪،‬‬
‫وحيث البدو والحضر‪ .‬وأصحاب المهن اليدوية‪ .‬تضج بالجمال االنساني الريفي‪ ،‬وتبوح‬
‫بصوت األرض واإلنسان‪ .‬حيث الفرات وجه من خيال ي ِ‬
‫رض ُع األرض العظيمة‪.‬‬‫ُ‬
‫من هنا جاء عمله وجوه األمس‪ ،‬رؤية اليوم المتجددة‪ ،‬في ابداع ال حدود له‪ .‬كان قوامه‬
‫روح المدينة‪ :‬الزمان واالنسان‪ .‬في حركية الحس الفني المرهف وتعبيراته‪ ،‬التي تنهل‬
‫من تاريخ الفنان‪ ،‬تجربته وبيئته الخصبة والغنية‪ ،‬التي تتسم بتفرد سلوكه االنساني‬
‫واإلبداعي‪ .‬وصار في صدر البادية الشامية‪ ،‬والرقاوية‪ ،‬السورية‪ ،‬أيقونة تضاهي رهبة‬

‫‪553‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الفرات‪ ،‬ولفحة الشمس على صدر النهر‪ ،‬وترى ألوانه‪ ،‬وتكوينات أعماله يتبدى في‬
‫كحل عيون الفراتيات‪ .‬عندما يلتقي مع سحر األفق المدهش وهو يطاوع أصابع الفنان‬
‫التشكيلي‪ /‬الرسام (أيمن ناصر)‪.‬‬

‫‪554‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حينما رسم النهارات وكأنها (بازار من أرض الفرات) حيث المرأة‪ :‬األم‪ ،‬والحبيبة‬
‫والصديقة واالخت والزوجة‪ ،‬والرفيقة‪ ،‬هي عنوان حياة‪ .‬وهي شجرة عائلة الفنان الذي‬
‫تنعكس ألونه في تصوير انفعاالت االرض‪ ،‬ومشاعر اإلنسان المرتبط بها‪ ،‬وبذكرياتها‪.‬‬
‫والتي تشكلت ظاللها الغافية في الحس الغرافيكي التصويري المتماهي في مونوكرومية‬
‫(التدرج في اللون الواحد)‪ ،‬وهي إحدى طقوس الفنان التشكيلية المموسقة‪ ،‬إذا جاز‬
‫التعبير‪ ،‬محققاً تآلف األلوان‪ ،‬وانسجامها وتناغمها‪ .‬وهنا أيضاً سمة أساسية وخصوصية‬
‫تتصل بأسوب الفنان أيمن ناصر‪ ،‬والذي يسعى لتحقيقها في تجربته التشكيلية‪.‬‬

‫ثمة غنى مديد في أعماله‪ ،‬من حيث الموضوعات‪ ،‬بما يولد لديك إحساساً حيوي ًا باللون‪،‬‬
‫وشخوص العمل الفني‪ .‬وخاصة تلك التي تتناول عالقة االنسان واالرض‪ ،‬عبر سماء‬
‫مشبعة بغيوم اللون‪ .‬هكذا هي أعماله ال يمكن الولوج إليها أو التعبير عنها‪ ،‬سوى‬
‫بالجمل الشعرية أحياناً‪ ،‬وهو القاص والروائي‪ .‬وكأنه يكتب قصيدة لونية‪ ،‬تتنازع الحياة‬
‫مع النص القصصي المكتوب‪ ،‬أو مع فصول وشخوص رواياته‪ .‬هناك تتلمس جمال‬
‫الفرات السري‪ ،‬وتمضي معه حيث السنابل والتراب والتاريخ والحلم بذكريات حميمية‪،‬‬
‫أو يأتي بها إليك‪.‬‬

‫مشاعر الفنان العاشق تتدفق عبر خلجات روحه‪ ،‬لتولد عبر ريشته وألوانه الخالبة‬
‫مصو ار بعين المبدع األرض الفراتية‪ ،‬وبيوت الطين والشبابيك المتعانقة مع شخوصه‬
‫االثيرة‪ ،‬فوق مسطحه التصويري (قماش اللوحة) متأث اًر بتجريدات مدرسته الفنية‬
‫التصويرية‪ .‬حيث االنطباع االولي‪ :‬مسرح بصره في ربوع النشأة واليفاع‪ ،‬ارتباطه‬
‫االصيل والحميم بأرضه وناسه‪ ،‬ودفء بالده ووطنه الكبير‪ .‬منفحتاً على العالم‪ ،‬هذا‬
‫البيدر الكوني‪ .‬فالكون‪ ،‬ما هو سوى قرية صغيرة!‬

‫‪555‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أثر الحواس في التشكيل‬

‫فهد الحسن‬

‫فنان وناقد تشكيلي سوري مقيم في الدوحة‪.‬‬

‫إن الحديث عن الذات‪ ،‬هو من الصعب بمكان‪ ،‬ألنه ُيدخل المرء في حيرة شديدة‪ ،‬تبدأ‬
‫من محاولة تلمس خيوط الموضوعية والتمسك بها‪ ،‬وتنتهي بنكران الذات والرغبة في‬
‫التجرد من األثرة واألنانية‪ .‬ولعل في استعراض البدايات األولى لتفتح الحواس‪ ،‬يقودنا‬
‫إلى بلورة الرؤى والمؤثرات التي رافقت ذلك‪ ،‬واستخالص النتائج التي قد تفيد في تكوين‬
‫نظرة محددة لمجمل التجربة‪ ،‬وتأثيراتها‪.‬‬

‫ما أذكره أنني في سبعينيات القرن الماضي كنت طفالً صغي اًر يعيش في كنف أسرة‬
‫عادية ‪ ...‬في مدينة منسية تقع شمال شرق سورية اسمها (الرقة)‪ ..‬وعلى خاصرتها‬
‫الجنوبية‪ ،‬يمر نهر الفرات الذي منحها ديمومة الحياة حتى يومنا هذا‪ ،‬على الرغم من‬
‫كل ما مر بها من إهمال ومحن ونوائب جمة‪.‬‬

‫هناك تفتح وعيي مبك اًر‪ ،‬وكان ذلك مرهوناً بحواس استنفرت كل طاقاتها‪ ،‬لتستكشف ما‬
‫حولها بشغف نادر وقدرة هائلة على تتبع أثر المعرفة‪ ،‬وما تنتجه من عناصر تقود‬
‫إلى إكساب العقل غذائه األثير‪ ،‬عبر البحث والتقصي‪ .‬كنت متفوقاً في المدرسة‪ ،‬وقد‬
‫ساهم ذلك بتميزي بين أقراني ولداتي وزمالئي‪ ،‬ومع إعمال الحواس في المشهد الحياتي‬
‫المحيط‪ ،‬قادني شغفي إلى عالم (الرسم) الذي استقبلته حواسي بمزيد من الدهشة‬
‫واإلبهار‪ ،‬مبدداً ما يحيطه من رهبة وغموض وانكماش‪.‬‬

‫ومع المحاوالت األولى‪ ،‬تالشت وتكسرت كل الحواجز‪ ،‬ألدخل محراباً خاصاً‪ ،‬ببوصلة‬
‫فطنة تغوص في التفاصيل بعمق الباحث عن حقيقة ما‪ .‬وكان ذلك بوابة رحيبة للتجريب‬

‫‪556‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الواعي والممنهج‪ ،‬الذي عرفني على قيمة األداة وخصائصها وسماتها واختالفها‪ ،‬عن‬
‫األدوات األخرى‪.‬‬

‫رحلة البحث هذه‪ ،‬قادتني إلى سبر أغوار قدرة تلك األداة على تجسيد ما أريده‪ .‬وكان‬
‫ذلك مفتاحاً لدخول عالم فيه من الثراء والدهشة ما لم أكن أتخيله ‪ ..‬ثم تعددت‬
‫المحاوالت لكشف كنه األدوات والمواد التي استخدمتها في التعبير عن رؤيتي للعالم‬
‫المحيط‪ .‬وكان كل ذلك تسلسالً منطقياً‪ ،‬يعكس الصبر واألناة‪ ،‬في بلورة تجربة تحتاج‬
‫إلى وقت طويل‪ ،‬وإلى بحث مضن لكي تصل الى مرادها‪.‬‬

‫وهكذا عرفت قيم العناصر وقدرتها على إظهار مالمح األشياء‪ ،‬وخصوصية كل منها‬
‫على حده‪ .‬بدأت بالقلم الرصاص ثم بأقالم الفلوماستر والشمع والفحم ‪ ..‬ثم امتلكت‬
‫ناصية الجرأة في استخدام األلوان المائية‪ ،‬فأقالم الحبر الجاف والحبر‪ ،‬وصوالً إلى‬
‫األلوان الزيتية‪ ،‬ذات الخصوصية التي تتفرد بها عن باقي العناصر األخرى‪.‬‬

‫والذي أذكره أنني أقمت أول معرض لي وأنا في سن الرابعة عشر من عمري‪ .‬كان‬
‫ذلك باكورة عطائي التشكيلي‪ ،‬والذي استطعت عبر التمكن من أدواته تدريجياً‪ ،‬من أن‬
‫أوظفه الحقاً لخدمة ما اكتنزته من أفكار ورؤى حياتية‪ ،‬كانت تتبلور مع األيام‪ ،‬وكان‬
‫يحكمها وعي مبكر لحقائق الوجود‪ ،‬وحوادثه المتنوعة‪.‬‬

‫وقد الزم ذلك قناعتي الراسخة‪ ،‬بتوظيف القدرات الفنية‪ ،‬لخدمة أفكار تتصل وتتوكأ‬
‫على إرث ثقافي متنوع‪ ،‬استطعت تحصيله بالمواظبة على القراءة‪ ،‬في شتى صنوف‬
‫المعرفة‪ ،‬مما ساعدني على تجسيد قيم الحرية والعدالة‪ ،‬ومفاهيم البحث عن عالم نقي‪،‬‬
‫يسوده حق اإلنسان في حياة كريمة تليق بإنسانيته وآدميته‪.‬‬

‫واستطعت بهذا المعنى‪ ،‬أن أنتج في سن مبكرة‪ ،‬لوحات كثيرة ضمن هذا التوجه‪ ،‬الذي‬
‫‪ -‬بطبيعة الحال ‪ -‬الزم أعمالي مستنداً إلى طابع فكري‪ ،‬يوظف البعد الفني‪ ،‬لترجمة‬
‫األفكار وبلورتها‪ ،‬لكي تكون إجابة عن كثير من األسئلة المتعلقة بهموم الناس والبشرية‬
‫جمعاء‪.‬‬
‫‪557‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وأستطيع القول أن تجربتي التشكيلية‪ ،‬سعت إلى خلق توازن محكم‪ ،‬بين األداة والفكرة‪.‬‬
‫بمعنى من يبحث عن التمكن في األدوات الفنية‪( :‬القدرة على الرسم‪ ،‬وإظهار الظل‬
‫والنور‪ ،‬وملمس األشياء وخصوصيتها‪ ،‬والتشريح‪ ،‬والمنظور‪ ،‬والبعد الثالث‪ ،‬وبناء‬
‫اللوحة دون خلل ‪ ...‬إلخ) مترافقاً مع وضوح الفكرة‪ ،‬واالبتعاد عن الفانتازيا والغموض‬
‫والمباشرة والسطحية‪.‬‬

‫وفي اعتقادي‪ ،‬أن المشاهد والمتابع ألعمالي‪ ،‬عبر الكثير من المعارض الفنية الفردية‬
‫والمشاركات الجماعية‪ ،‬قد تلقى نتاجي الفني‪ ،‬بمزيد من القبول والدهشة واإلعجاب‪،‬‬
‫بتجربة واعدة‪ ،‬تميل إلى صقل ذاتها عبر اإلبحار في استثمار طاقتها الفنية‪ ،‬لتجسيد‬
‫أفكار حداثية‪ ،‬وغير مكرورة‪ ،‬ومترافقة مع وعي الذات والمحيط بآن معاً‪.‬‬

‫هذه خالصة ما استطعت ترجمته في أعمال فنية‪ ،‬قوامها التمكن من األداة‪ ،‬واالجتهاد‬
‫الدؤوب نحو ترك أثر فني يدوم تأثيره طويالً‪ ،‬بعيداً عن الضحالة والسطحية واالبتذال‪.‬‬

‫ولعل من يشاهد أعمالي اليوم‪ ،‬يتملكه اليقين‪ ،‬بأنني لم ِ‬


‫أغال في سبر جوانب تلك‬
‫التجربة‪ ،‬وما أنتجته من أعمال تشكيلية‪ ،‬تحتفي بالحياة‪ ،‬وبكل ما فيها من انتصارات‪،‬‬
‫وهزائم‪ ،‬وانكسارات‪ ،‬ومظالم‪.‬‬

‫‪558‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أوراق القضايا‬

‫‪559‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫عن كارثة الزلزال‪ ،‬وما بعدها‬

‫موفق نيربية‬

‫سياسي وكاتب سوري‬

‫رئيس المنتدى األوروبي السوري الديمقراطي‪.‬‬

‫‪-9-‬‬

‫جاء في يوميات البديري الحالق عن بعض أيام العام ‪ 2216‬ميالدية‪:‬‬

‫" ودخل ربيع الثاني (األول) الموافق تشرين الثاني( األول)‪ ،‬ولم ينزل من السماء قطرة‬
‫ماء‪ .‬وفي ليلة الثالثاء ثامن ربيع الثاني (األول‪ -‬الموافق ‪ 21‬تشرين األول) من هذه‬
‫السنة في الثلث األخير من الليل والمؤذنون في المآذن يشتغلون المراسلة (كذا!) صارت‬
‫زلزلة خفيفة وتبعتها ثانية ثم ثالثة ُزلزلت منها دمشق زل ازالً شديداً‪ ،‬حسبت أهل دمشق‬
‫أن القيامة قد قامت‪ ،‬فتهدمت رؤوس غالب مآذن الشام ودور كثيرة وجوامع وأماكن ال‬
‫تحصى‪ ،‬حتى قبة النصر التي بأعلى جبل قاسيون زلزلتها وأرمت نصفها‪ .‬وأما قري‬
‫الشام فكان فيها الهدم الكثير‪ ،‬والقتلى التي وجدت تحت الهدم ال تحصى عددا‪ .‬وفي‬
‫الليلة الثانية ُزلزلت أيضاً في الوقت الذي زلزلت فيه األولى‪ ،‬ثم حصلت في وقت صالة‬
‫الصبح وبالنهار أيضاً‪ ،‬والزالت تتكرر م ار اًر لكنها أخف من األولين‪ .‬وقد زاد الخوف‬
‫والبالء‪ ،‬وهجرت الناس بيوتهم‪ ،‬ونامت في األزقة والبساتين وفي المقابر والمرجة‪ ،‬وفي‬
‫صحن الجامع األموي‪ .‬وفي هذه الزلزلة وقع خان القنيطرة على كل من كان فيه‪ ،‬فلم‬
‫يسلم من الدواب والناس إال القليل‪ ،‬وكذلك خان سعسع‪ .‬وقد وردت األخبار إلى دمشق‬
‫الشام أن بعض البالد والقرايا انهدمت على أهلها‪ ،‬فلم يسلم منها وال من دوابها أحد‪.‬‬

‫وسمع‬
‫ثم في ليلة الثالثاء الساعة العاشرة من الليل خامس ربيع األول انشقت السماء ُ‬
‫منها صريخ ودمدمة ودوي وهول عظيم‪ ،‬حتى أن بعض أهل الكشف رأى أن السقوف‬
‫‪561‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫ارتفعت‪ ،‬وظهرت النجوم وعادت السقوف كما كانت‪ .‬ووردت أخبار أن في بعض البالد‬
‫انطبق جبالن على بعض القرى‪ ،‬فذهبت القرى ولم يظهر لها أثر‪ .‬وفي ليلة الجمعة‬
‫الثامن عشر من ربيع األول في محل أذان العشاء خر نجم من السماء من جهة الغرب‬
‫فسمع له صوت عظيم (أعال)‬ ‫ق‬
‫إلى جهة الشر ‪ ،‬فأضاءت منه الجبال والدور‪ .‬ثم سقط ُ‬
‫من المدافع والصواعق‪.‬‬

‫وفي الزلزلة األولي وقعت صخرة عظيمة في نهر القنوات فسدت النهر‪ ،‬وانقطع الماد‬
‫عن البلد أحد عشر يوماً‪ ،‬وبقيت ُقطاع األحجار يقطعون فيها أحد عشر يوماً‪ ،‬فصارت‬
‫الناس في غمين‪ :‬غم الزلزلة وغمة قلة الماء‪.‬‬

‫في ليلة االثنين سادس ربيع الثاني في الساعة الخامسة صارت هزة عظيمة أعظم من‬
‫األولي بدرجات‪ .‬وقد صارت رجة مهولة أسقطت غالب بقية المآذن‪ ،‬وأرمت قبة الجامع‬
‫األموي الكبيرة والرواق الشمالي جميعه مع مدرسة الكالسة وباب البريد وأبراج القلعة‬
‫وغالب دور دمشق‪ ،‬والذي سلم من الوقوع تناثر من بعضه البعض‪ .‬وُقتل خلق كثير‬
‫خصوصاً في القرايا‪ ،‬ورحلت الخالئق للبساتين وللجبال والترب وإلى المرجة‪ ،‬ونصبوا‬
‫بها وبالبراري الخيام وناموا بعيالهم وأوالدهم‪ ،‬ومع ذلك فلم تبطل الزلزلة والرجفان ال‬
‫ليالً وال نها اَر‪"...‬‬

‫‪-0-‬‬

‫في فجر السادس من شباط ‪ ،1112‬كانا في البدء زلزالين وليس واحداً‪ ،‬يفصل بينهما‬
‫تسع ساعات وبضع دقائق‪ .‬حدث الزلزال األول‪ ،‬عند الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة‬
‫بتوقيت سوريا‪ .‬وكانت شدته ‪2،2‬على مقياس ريختر‪ ،‬أكبر مقدار بلغته زالزل المنطقة‬
‫في العصر الحديث‪ .‬وكان مركزه في والية قهرمان مرعش في تركيا وعلى عمق حوالي‬
‫‪ 22‬ميالً‪ .‬وتتالت بعده هزات ارتدادية عديدة‪ ،‬كان منها ست حدثت في الساعة األولى‬
‫تتراوح شدتها بين ‪ 1،1‬و‪ 6،2‬على مقياس ريختر‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫حدث الزلزال الثاني الشديد الوقع بدوره في الساعة الواحدة وأربع وعشرين دقيقة ظه اًر‬
‫من اليوم نفسه‪ ،‬بشدة ‪ 2،1‬على مقياس ريختر‪ ...‬وبعدهما تتالت مئات بل آالف‬
‫الهزات االرتدادية‪ ،‬وزلزاالن أيضاً في العشرين من الشهر نفسه‪ ،‬بشدة ‪ 6،4‬و‪ 1،2‬على‬
‫اء في‬
‫التوالي‪ ،‬تمرك از في والية هاتاي التركية‪ ،‬وشمال مناطق أوسع في سوريا‪ ،‬سو ً‬
‫مناطق" النظام" أو مناطق "المعارضة" كما شاعت تسميتهما‪ ،‬وشمل تأثيرهما محافظات‬
‫حلب وإدلب والالذقية وحماة‪.‬‬

‫لم يقتصر التأثير على الزلزالين األولين وال الثانيين‪ ،‬بل زاده تأثير لهزات ارتدادية هائلة‬
‫العدد‪ ،‬زادت عن عشرة آالف حتى كتابة هذا النص‪ .‬وخلق هذا الوضع حالة نفسية‬
‫اجتماعية أضافت صعوبات على صعوبات عمليات اإلنقاذ والغوث‪ ،‬واالختناقات‬
‫فيهما‪.‬‬

‫شملت الكارثة عشر واليات في جنوب شرق تركيا‪ ،‬ونتج عنها هناك أكثر من خمس‬
‫وأربعين ألف ضحية ومائة ألف إصابة حتى اللحظة‪ ،‬إضافة إلى دمار هائل أصاب‬
‫أنطاكيا وقهرمان مرعش وغيرهما‪ ،‬حتى أنه شمل بلدة كاملة هي نورداغ‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من اإلمكانيات الهائلة في تركيا‪ ،‬إال أنه كان هنالك بعض االرتباك والحاجة الملحة‬
‫إلى عون ومساعدة العالم‪ ،‬الذي أرسل آالف فرق اإلنقاذ والتجهيزات الحديثة الضرورية‪،‬‬
‫وكميات الفتة من المساعدات العاجلة‪.‬‬

‫أدى انهماك السلطات التركية بالمصيبة الوطنية إلى عجز عن متابعة متطلبات‬
‫المناطق األكثر عو اًز على الجانب اآلخر من الحدود‪ ،‬في شمال غرب سوريا‪ .‬كما أدى‬
‫إلى تحفظ في نظرة السوريين ومطالبتهم بالعون من تركيا وحكومتها‪ ،‬حتى في طلب‬
‫فتح الحد ود‪ ،‬األمر الذي كان له أهمية حيوية في األيام األولى للكارثة‪ .‬وظهر نقص‬
‫كارثي في المساعدات الالزمة لعمليات اإلنقاذ‪ ،‬وفي تجهيزات وأدوات هذه العمليات‪،‬‬
‫مما جعل الخسائر تحت األنقاض أكبر بكثير مما كان ينبغي‪ ،‬وخلق حالة من اإلحباط‬
‫لدى القائمين على عمليات اإلنقاذ ذاتها‪ ،‬وحتى لدى أصحاب الخوذ البيضاء‪ -‬الدفاع‬

‫‪562‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫المدني‪ -‬في شمال غرب البالد‪ ،‬الذين كانوا يتولون مسؤولية العمليات بكفاءة خارقة‬
‫أثارت إعجاب العالم‪ ،‬أكثر مما أثارت همته على االستعجال بالمساعدة واإلغاثة في‬
‫الوقت المناسب‪.‬‬

‫كانت حصيلة الضحايا السوريين‪ -‬حتى ساعة الكتابة هنا‪ -‬حوالي عشرة آالف توزعوا‬
‫على ‪ 4122‬في مناطق "المعارضة" شمال شرق البالد‪ ،‬و‪ 2242‬بين الالجئين‬
‫السوريين في مناطق الكارثة في تركيا‪ ،‬و‪ 2424‬في مناطق" النظام"‪ .‬لم يجد العديد‬
‫منهم قب اًر محدداً وجنازة تحترم إنسانيته‪ ،‬حين جمعت بعضهم قبور جماعية في مناطق‬
‫التأثير المركز للزالزل‪ .‬وبقي الكثيرون تحت األنقاض أليام عديدة حتى خرج حياً أو‬
‫ميتاً‪ ،‬تحت عيون أهلهم وعيون العالم الواجفة‪.‬‬

‫في األسبوع األول كان عدد المصابين ضعف عدد القتلى في سوريا‪ ،‬في المناطق‬
‫المختلفة‪ .‬في حين كانت تلك النسبة أربع ًة إلى واحد في تركيا‪ ،‬القادرة أكثر بمرتين‬
‫على األقل بجاهزيتها وكفاءتها وتلقيها للنجدة والمساعدة‪ .‬وإذا كان العمل الذي قام به‬
‫الدفاع المدني في شمال غرب سوريا جدي اًر باإلعجاب والتقدير الكبيرين بين السوريين‬
‫والعالم‪ ،‬فإن عجز أهل النظام وبقايا "الدولة"؛ بما يعتورهما من فوضى وتمزق وقلة‬
‫جدوى وفساد؛ عن إغاثة الناس بالوقت والطريقة المناسبين‪ ،‬الفت بل كارثي‪ ،‬ال ينفع‬
‫معه على اإلطالق ادعاء أن السبب كامن في العقوبات المفروضة على النظام‪.‬‬

‫يمكن القول إن أبرز مواقع تأثير الكارثة كان في جنديرس وسرمدا في الشمال الغربي‪،‬‬
‫حيث أكبر الخسائر في الناس والعمران في األولى وفيهما إضافة إلى البنى االقتصادية‬
‫في الثانية‪ ،‬حيث تتركز فعاليات محافظة إدلب التابعة لما يسمى "حكومة اإلنقاذ" وهيئة‬
‫تحرير الشام فيها‪ .‬في حين تأثرت الالذقية وجبلة وريفيهما مع حماة أيضاً في مناطق‬
‫"النظام"‪ ،‬حيث تعطلت مصفاة بانياس مؤقتاً كما يبدو أيضاً‪.‬‬

‫باإلجمال‪ ،‬هنالك في شمال غرب البالد ‪ 2262‬مبنى مدمر كلياً‪ ،‬وحوالي ‪ 2111‬مبنى‬
‫مدمر جزئياً‪ ،‬و‪ 21111‬مبنى غير صالح للسكن‪ .‬وفي مناطق "النظام"‪ ،‬انهار ‪11‬‬

‫‪563‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫بناء في حلب منها ‪ 22‬في المدينة نفسها‪ ،‬وفي األحياء الشرقية خصوصاً حيث مئات‬ ‫ً‬
‫المباني المتصدعة منذ قصفها النظام ببراميله عندما كانت "المعارضة" مسيطرة عليها‪.‬‬
‫وانهار أكثر من ‪ 11‬مبنى بالكامل في الالذقية من بين مائة انهارت جزئياً‪ ،‬في حين‬
‫حدث دمار في مناطق أخرى في المحافظة كجبلة والفاخورة وسطامو‪ ،‬إضافة إلى كثير‬
‫من بيوت القدموس القديمة حول قلعتها‪ .‬انهار مبنى من خمس طوابق في مدينة حماة‬
‫وآخر في بلدة عين الكروم‪ ...‬وغير ذلك كثير‪.‬‬

‫‪-3-‬‬

‫كان لمشاكل االستجابة وأعمال اإلنقاذ واإلغاثة أثر كبير ضاعف المصيبة وزاد من‬
‫معاناة السوريين‪ ،‬وحدث ذلك في مناطق "النظام" و"المعارضة" معاً‪.‬‬

‫في األولى بسبب تشوه المؤسسات الرسمية وكسلها وفسادها المزمن‪ ،‬إضافة أيضاً إلى‬
‫سوء توزيع الموارد والمستلزمات لمثل هذه الحاالت؛ وفي الثانية بسبب نقص التجهيزات‬
‫من آليات وأدوات ومواد الزمة لمثل هذه الحاالت‪ ،‬وتلكؤ المنظمات األممية في تأمينها‬
‫ومالحقة تأمينها‪.‬‬

‫انشغل النظام منذ اليوم األول باستثمار كارثة شعبه‪ ،‬وأخذ بالصراخ متهماً العقوبات‬
‫والحصار بأنهما السبب في وقوع الدمار والضحايا‪ ،‬وكان هنالك من ينتظر ذلك خارج‬
‫الحدود أيضاً‪ ،‬حتى بين بعض موظفي المنظمات الدولية‪ .‬في حين تعامل مع عمليات‬
‫اإلنقاذ واإلغاثة بانتقائية وتفاوت في السرعة واألداء‪ ..‬انعكست "المحسوبية" أيضاً في‬
‫بعض األماكن‪ ،‬وفقد البعض أرواحهم تحت األنقاض وهم ينتظرون إخراجهم‪ ،‬بعد الفراغ‬
‫من إنقاذ من هم "أكثر أهمية"‪ ،‬وتلك عادة أصيلة في مؤسسات األسد‪.‬‬

‫في حين قامت منظمة المتطوعين في الدفاع المدني‪ ،‬أصحاب الخوذ البيضاء‪ ،‬بعمل‬
‫بطولي خارق ودائب لم يتوقف ليالً وال نها اًر وفي كل مكان‪ .‬قدموا عددًا من الشهداء‬
‫أيضاً من بين صفوفهم‪ ،‬قضوا وهم يحاولون إنقاذ الناس من تحت األنقاض‪ .‬ورغم‬
‫ذلك‪ ،‬ذهبت صرخاتهم أدراج الرياح‪ ،‬وهم يصرخون ويناشدون العالم لمساعدتهم في‬
‫‪564‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫األيام الحاسمة األولى لنجدتهم باألدوات والتجهيزات الضرورية‪ ...‬انصب نقدهم على‬
‫األمم المتحدة‪ ،‬وذلك صحيح أصوالً وهو أحفظ لكرامة السوريين‪ ،‬في حين كان يمكن‬
‫للجميع تقديم ذلك العون‪ .‬ولم تكن لترفض الحكومة التركية وصول تلك المساعدات‬
‫عن طريق معبر باب الهوى‪ ،‬رغم انشغالها وانهماكها الشديد بحصتها األكبر من‬
‫الكارثة‪.‬‬

‫بعد الزلزالين الكبيرين بثمانية أيام‪ ،‬أبلغ مارتن غريفيث منسق األمم المتحدة لإلغاثة‬
‫في حاالت الطوارئ اجتماعا مغلقا لمجلس األمن الدولي أن "الرئيس السوري" بشار‬
‫األسد وافق على السماح لألمم المتحدة بتوصيل المساعدات إلى بلده عبر معبرين‬
‫حدوديين آخرين من تركيا لمدة ثالثة أشهر‪ .‬وغير معروف من الذي نصحه بتلك‬
‫النصيحة الغالية‪ ،‬وهو الذي كان يرفض مجرد البحث بأي فكرة ذات صلة بالمساعدات‬
‫اإلنسانية للسوريين خارج أماكن سيطرته‪.‬‬

‫بذلك استثمر األسد في القانون الدولي نفسه‪ ،‬واستخدمه ضد أهدافه وغاياته‪ .‬وحين‬
‫طرحت الدول الغربية في مجلس األمن أهمية إصدار قرار بذلك لضمان تحقيقه بشكل‬
‫سليم‪ ،‬قال المندوب الروسي نيبينزيا إن ذلك ليس ضروريا‪ ،‬ما دام قرار األسد صاد اًر‬
‫عن الطرف "الشرعي" بالتصرف بحدوده الدولية و"ال دخل لمجلس األمن في هذه‬
‫المسألة السيادية"‪ ..‬قال ذلك رغم معرفته بأن األمر شكالني محض‪ ،‬ألن األسد وطغمته‬
‫ال يسيطرون على تلك الحدود على اإلطالق!‬

‫وكما يحدث عادة في الكوارث‪ ،‬يستفيد اللصوص والخارجون عن القانون‪ .‬فقد تدفقت‬
‫المساعدات اإلنسانية من كل حدب وصوب باتجاه مطاري حلب ودمشق‪ ،‬وازدهرت‬
‫من جديدة تجارة المساعدات وبيعها بالجملة والمفرق من قبل أهل النظام‪ ،‬في حين ال‬
‫يصل إلى أصحاب الحاجة إال النذر اليسير من تلك الموارد الجديدة‪.‬‬

‫وليس هنالك من برهان على سوء النية والتدبير‪ ،‬أكثر مما حدث مع المساعدات التي‬
‫وردت بالسرعة الممكنة من مناطق شمال شرق سورية‪ ،‬من أغذية ومواد صحية‬

‫‪565‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫وتجهيزات إغاثة‪ ،‬ومن وقود كان الناس بأمس الحاجة إليه للتدفئة والنجاة من خطر‬
‫الموت برداً بعد النجاة األولية من الزلزال وعقابيله المباشرة‪ .‬لقد قوبلت تلك القوافل‬
‫القادمة من القامشلي والحسكة ودير الزور والرقة برفض فتح الحواجز أمامها من قبل‬
‫جماعات "النظام" و"المعارضة"‪.‬‬

‫ال يجوز تسييس القضاء وال القانون‪ .‬وال يجوز تسييس ما يتعلق بالحقوق األساسية‪،‬‬
‫وخصوصاً حق الحياة‪ .‬لكن معظم األطراف كانت تمارس هذا التسييس‪ ،‬بعضها ببعض‬
‫الحياء والبعض اآلخر من دون حياء وال ستر‪ .‬كان متوقعاً من نظام قتل مئات اآلالف‬
‫من شعبه وهجر نصفه ودمر البالد‪ ،‬ووضع سوريا على حافة مقلقة تتعلق بمصيرها‪،‬‬
‫أال يأبه بشيء من هذا‪ ،‬ويتابع طريقة بسخرية مريرة‪ :‬يرى في انهيار العشوائيات التي‬
‫تركها لفقرائه تحسيناً للتجانس من جديد‪ ،‬وفي مصائب النازحين نحو الشمال تحسيناً‬
‫لفرصته السياسية في العودة تحت األضواء‪ .‬هي سياسة قديمة قائمة على مبدأ االبتزاز‬
‫بالمصائب‪ :‬من خالل تهديد العالم باإلرهاب‪ ،‬وزلزلته بالفوضى والقالقل‪ ،‬وبين الزالزل‬
‫والقالقل من القربى شيء كثير‪.‬‬

‫لكن التسييس الذي كان البعض يحسبه صعباً‪ ،‬هو ذاك الذي قامت به "المعارضة" في‬
‫استجابتها للكارثة‪ ،‬فمنها ما كان آمناً في مقراته يتكرم بتصريح أو بيان أو منشور على‬
‫وسائل التوا صل االجتماعي‪ ،‬ومنها من كان على أهبة االستعداد لتلبية متطلبات سادته‪،‬‬
‫حتى لو تمرغت الهيبة بالتراب الدامي‪.‬‬

‫كانت هيئة تحرير الشام (النصرة "اإلرهابية" سابقاً) وزعيمها الجوالني الذي غير ثيابه‬
‫األفغانية مؤخ اًر إلى تلك "المدنية" أو المحلية الدارجة‪ ،‬من أوائل من استجاب للحدث‬
‫ودواعي استثماره‪ :‬ترأس الجوالني اجتمعاً طارئاً لحكومته‪ -‬حكومة اإلنقاذ‪ -‬في إدلب‬
‫ُوضعت فيه خطط االستجابة‪ .‬وخصص هذا االجتماع ما يعادل ‪ 2،6‬مليون دوالر‬
‫كميزانية لعمليات اإلغاثة وتكاليف عمليات اإلنقاذ‪ ،‬ولم ينس القيام بزيارات التفقد وأخذ‬
‫الصور بجانب الدمار‪.‬‬

‫‪566‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في حين لم تقم "الفصائل" األخرى بالكثير‪ :‬بقيت على أهبة االستعداد لمنع أي محاولة‬
‫من "اآلخرين" الستثمار الكارثة سياسياً‪ ،‬ومنعت انتقال الخصوم بمساعداتهم إلى‬
‫"الداخل"‪.‬‬

‫‪-4-‬‬

‫ظل بشار األسد صامتاً حتى العاشر من شباط‪ ،‬بعد أربعة أيام من الكارثة‪ .‬لكنه كان‬
‫مشغوالً على الهاتف قبل ذلك‪ ،‬يتلقى كلمات التضامن والدعم من زعماء روسيا والصين‬
‫وإيران والعراق ومصر ولبنان واإلمارات والجزائر‪ ،‬وأبخازيا وبيالروسيا واألردن وغيرها‪.‬‬
‫وال بد أنه انتبه من غفلته على تلك الفرصة السانحة التي جاءته من خالل الزلزال‬
‫وموت اآلالف ودمار البالد من جديد‪ :‬ربما يمكن للكارثة أن تخفي آثار الجريمة‪ ،‬بكل‬
‫المعاني‪ .‬ربما كذلك يمكن استعادة ما ضاع من هيبة النظام و"شرعيته"‪ .‬ربما يعود‬
‫أيضاً عودة ظافرة على صهوة حصان العروبة!‬

‫فاستفتح ظهوره العلني األول ذاك بضحكات عريضة لم يستطع كبتها‪ ،‬حين قال له‬
‫أحد المتفرجين الذين اجتمعوا حوله وحول زوجته إن الدمار قد ذهب على وجهه‪،‬‬
‫وطلب صورة "سيلفي" معه‪ .‬وال بد أنه استمر في ضحكاته مع أسراب الطائرات الحاملة‬
‫للمساعدات التي أخذت تحط في مطاري حلب ودمشق وبلغ عددها ‪ 112‬طائرة خالل‬
‫عشرين يوماً فقط‪.‬‬

‫وصل ثلثا المساعدات المرسلة إلى سوريا إلى مناطق "النظام"‪ ،‬وثلثها إلى مناطق‬
‫"المعارضة"؛ على عكس الحصص من الكارثة‪ .‬وال بد أن السوريين حيث يحكم آل‬
‫األسد محتاجون للدعم بالطبع‪ ،‬وال اعتراض من أحد على حصولهم عليه‪ ،‬فقط لو تأكد‬
‫أنهم من يستفيد منه‪ ،‬وليس رجاالت النظام وأجهزته‪ ،‬الذين يعملون على تحويل المواد‬
‫القادمة إلى السوق السوداء‪ .‬نحن‪ -‬الموجودين خارج بالدنا قس اًر‪ -‬كنا في سوريا منذ‬
‫عشر سنوات‪ ،‬وكنا نرى تلك المواد معروضة علناً كأي بضاعة للبيع‪ ،‬وعليها عالمات‬
‫مرسليها‪ ،‬أو عالمات األمم المتحدة وبرنامج الغذاء العالمي‪ .‬والجميع يرونها حالياً‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫لكن ذلك ليس من ضمن دائرة اهتمام النظام‪ ،‬إال من حيث إلهاء الناس عنه بأشكال‬
‫شتى‪ .‬ابتدأ باالحتفاء بزواره الذين كانوا صائمين عن زيارته أو الحديث معه‪ ،‬وخصوصاً‬
‫في الدائرة العربية‪ ،‬أسهل الدوائر اختراقاً‪ .‬وما خال عدة دول في الخليج وغيره‪ ،‬كان‬
‫هنالك احتفاء عربي أيضاً بالزلزال وما أتاحه من تعبيرات عن أشواق مكبوتة‪ .‬استطاعت‬
‫الكارثة تذكير أهل العروبة بأمجاد الزمن القديم‪ ،‬يوم كانت الحرب الباردة ونظامها‬
‫غطاء لنظام عربي مسكوت أبدًا عن االستبداد في أنظمته‪ ،‬من دون قضايا‬ ‫ً‬ ‫الدولي‬
‫حقوق اإلنسان والحريات والديموقراطية‪ ،‬والحداثة الثقيلة الوقع والدم‪.‬‬

‫خرج التطبيع العربي مع النظام السوري عن خطواته الخجولة المترددة‪ ،‬وظهرت بعض‬
‫عالئم النجاح عليه‪ ،‬لوال بعض التحفظ األمريكي واألوروبي وبعض الخليج‪ .‬يمكن لهذا‬
‫التحفظ لو انهار في يوم قريب أن يفتح أبواب عودة "االستقرار" على ما كان عليه‬
‫الوضع قبل الربيع العربي الذي أثبت شؤمه على األنظمة القائمة في أكثر من مكان‪.‬‬

‫ُيقال إن ذلك التطبيع‪ ،‬حين جمعه إلى تخفيف العقوبات أو إلغائها‪ ،‬يمكن أن يؤدي‬
‫إلى فتح أبواب جديدة ومختلفة لحل القضية السورية‪ .‬وكان يمكن تصديق ذلك لو أن‬
‫األمر محفوف باتفاق على وقف نهائي مثال إلطالق النار‪ ،‬وإطالق لآلالف من‬
‫المعتقلين‪ ،‬وكشف قانوني عن مصير عشرات اآلالف من المفقودين‪ .‬ربما كان يمكن‬
‫تصديق ذلك لو الناس معاً‪ ،‬من دون "المجرمين" الذين قصفوا شعبهم باألسلحة‬
‫الكيماوية وبالبراميل‪ ،‬وقتلوا منه نسبة كبيرة تحت التعذيب‪ ،‬وتسببوا بموت مئات اآلالف‬
‫وتهجير الماليين وتدمير البالد أكثر بعدة أضعاف مما فعله الزلزال‪.‬‬

‫ذلك مفهوم لدى السوريين كلهم‪ ،‬إذ يعرفون حكامهم وطغاتهم‪ .‬وطبيعي أن "يستثمر"‬
‫النظام حتى الكارثة‪ ،‬ألنه فاقد إطالقاً ألية حدود لسلوكه‪ .‬ما هو غير مفهوم‪ ،‬أال‬
‫تستفيق المعارضة الرسمية وتستثمر بدورها تلك الكارثة بطريقة مختلفة تحاول من‬
‫خاللها التطهر والتراجع وإعادة الحسابات السياسية؛ من خالل وقفة جذرية أمام النفس‪،‬‬
‫ومحاولة استعادة الناس‪ .‬لكن ذلك أيضاً فيما يبدو لم يكن محتمالً‪ ،‬بل ربما كانت تلك‬

‫‪568‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫"المعارضة" تنظر إلى "النظام" بشيء من الحسد تحاول أن تتعلم منه طرائق استثمار‬
‫الكوارث وتحويلها إلى بضائع مفيدة‪.‬‬

‫إال أن للكارثة وجوهاً ال يعرفها "النظام" وال "المعارضة"‪ ،‬كان أكثرها أهمية تكريس اتجاه‬
‫كان مغلقاً أو شبه مغلق في السابق‪ ،‬ما بين تواصل السوريين في المناطق "الحرام"‪...‬‬
‫بذلك بدأوا مالم تستطع تطويره (وال تريده) الجماعات السائدة‪ ،‬وهو النظر وإعادة النظر‬
‫في كل شيء‪ ،‬من القاع‪ ،‬ومن جديد!‬

‫‪-6-‬‬

‫يمضي الحالق البديري في يومياته وفيها يوميات الحكام والزالزل وأهوال الطرفين‬
‫المتداخلة المتآلفة‪ .‬وقد جمعت أوراقه تلك أهل بالد الشام العرب والترك العثمانيين معاً‪،‬‬
‫كما اجتمع الطرفان معاً في أوراق زالزل الشهر الماضي وإحصاءاته وعقابيله حتى‬
‫كل في طريق كما كنا نحسب ونظن حتى‬
‫االن وإلى وقت طويل قادم‪ ،‬بعد أن استقال ٌّ‬
‫اآلن‪ .‬اجتمعت الزالزل أيضاً إلى بؤس الناس وفقرهم‪ ،‬مع بأس الحكام وجورهم‪ ،‬كما‬
‫أصبح الحال في األعوام أو العقود الماضية‪( .‬ومن المصادفات أيضاً أن ذلك الزلزال‬
‫المروع القديم قد حصل في عام ‪ 2216‬قبل مائتي عام تماماً من عام صدور يوميات‬
‫البديري في القاهرة حديث ًا)‪.‬‬

‫كبير من‬
‫كانت زالزل سورية القديمة تلك عبارة عن سلسلة زالزل مدمرة هزت جزءا ا‬
‫سورية العثمانية (بالد الشام) في تشرين األول وتشرين الثاني من ذلك العام‪ ،‬واستمرت‬
‫هزاتها المترددة الواردة في تلك اليوميات ألكثر من عامين‪ ،‬حتى اعتاد الناس على‬
‫"االهتزاز" كما يحدث اآلن‪ ..‬وكان مفترق الطرق الجغرافي هذا في شرق البحر األبيض‬
‫المتوسط في ذلك الوقت تحت حكم اإلمبراطورية العثمانية‪ .‬لقد تعرضت آثار بعلبك‬
‫ال‪ ،‬في سهل البقاع شرق نهر الليطاني‪ ،‬ألضرار بالغة‪ .‬ومن المحتمل أن تكون‬
‫مث ً‬
‫أحداث ذلك العام‪ ،‬أقوى الزالزل في تاريخ المنطقة‪ ،‬التي تسببت بأضرار بالغة أيضاً‬
‫في مدن حلب ولبنان وفلسطين‪.‬‬

‫‪569‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في ذلك الزمان أيضاً‪ ،‬كان الحكام يعتبرون البالد منحة من السلطان "ظل الله في‬
‫أرضه"‪ ،‬ويحاولون امتصاص كل ما يقدرون عليه من شرايينها "وكأنهم يموتون غدا"‪...‬‬
‫وعلى األرض تسرح "ميليشيات" ترتبط وال ترتبط بالسلطة‪ ،‬تفعل ما تشاء بالناس‪ ،‬فتقتل‬
‫وتنهب من غير حساب‪ ،‬حيث الناس مجرد رعية ساقها الله لمن يسوسها‪ .‬كان هنالك‬
‫الداالتية والقبقول والزرباوات وما صارت إليه اإلنكشارية والسباهية في القرن الثامن‬
‫عشر بعد انحطاط السلطنة‪ ...‬كأنها "فاطميون" و"الباقر" و"العباس" و"حزب الله"‪ ،‬وأي‬
‫قارئ يستطيع التعداد ببساطة‪ ،‬على كل الجهات‪.‬‬

‫فطبيعي أن تفعل الزالزل في بالد كتلك ما فعلته‪ ،‬وطبيعي أن تفعل ما فعلته بنا اآلن‪،‬‬
‫ما لم تتغير األحوال جذرياً!‬

‫‪571‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫أين المرأة السورية من احتفالية "يوم المرأة العالمي"؟‬

‫المحامية منى أسعد‬

‫تحتفل دول العالم في ‪ 2‬آذار من كل عام بيوم المرأة العالمي‪ ،‬بالرغم من تباين واقع‬
‫المرأة تبعاً لتباين الحالة الحضارية والفكرية واالقتصادية والسياسية للدول والمجتمعات‪،‬‬
‫ومدى سطوة النظام البطريركي والعالقات التقليدية المحافظة فيها‪ ،‬ففي حين تسود‬
‫أغلب المجتمعات الغربية الديمقراطية مبادئ المساواة اإلنسانية والعدالة االجتماعية ‪-‬‬
‫وإن كنا نشهد تراجعاً ملحوظ ًا في هذه القيم في مع تنامي ظاهرة األنظمة الشعبوية‪-‬‬
‫نجد دول العالم الثالث‪ ،‬بما في ذلك بلدان المنطقة العربية وسوريا تحديداً‪ ،‬ال تزال ترزخ‬
‫تحت نير النظام البطريركي األبوي‪ ،‬وسطوة الثقافة التقليدية وهيمنتها على المجتمع‪،‬‬
‫والتي كرستها النظم االستبدادية عبر عقود من الزمن‪ ،‬من خالل وسائل اإلعالم‬
‫واإلعالنات والبرامج التلفزيونية واإلذاعية والمناهج التعليمية‪ ،‬وحمتها بقوة الدستور‬
‫والنصوص القانونية المنبثقة عنه‪ ،‬والمستندة في مرجعيتها إلى العرف باعتباره أحد‬
‫مصادر التشريع‪ ،‬وإلى النصوص واالجتهادات الدينية عمالً بالمادة الثالثة من الدستور‬
‫السوري التي تنص على أن‪" :‬الفقه اإلسالمي مصدر رئيس للتشريع"‪ ،‬األمر الذي‬
‫كرس دونية المرأة وتفوق الرجل في الفضاءين العام والخاص‪ ،‬على اعتبار أن المرأة‬
‫ناقصة "عقل ودين وحظ"‪ ،‬مما حال وال يزال‪ ،‬دون تحرر المرأة بشكل حقيقي ودون‬
‫تمكينها من ممارسة دورها الفعال في بناء األسرة والمجتمع‪ ،‬بالرغم من جهود ومحاوالت‬
‫منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية عبر العقود الماضية لمساعدتها‬
‫على تجاوز ذلك‪.‬‬

‫ال شك أن تأكيد هذه الحقيقة يتطلب العودة قليالً إلى الوراء‪ ،‬يوم كان المجتمع السوري‬
‫مجتمعا مستق ار متماسكا ولو ظاهرياً‪ ،‬وكانت المرأة النائب تدخل قبة البرلمان‪ /‬مجلس‬

‫‪571‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫الشعب ضمن الكوتا التي منحها لها النظام‪ ،‬وتخرج منه كما دخلت‪ ،‬دون أن تترك أي‬
‫بصمة تؤكد على عملها من أجل تحرر المرأة وحقها بالمساواة التامة بالحقوق والواجبات‬
‫مع الرجل‪ ،‬أو العمل جدياً على صياغة نصوص قانونية تُحسن من واقع المرأة في‬
‫الريف أو في البيئات المدنية التقليدية‪ ،‬وتمنع استعبادها من قبل األسرة والمجتمع‪،‬‬
‫وتحد من حق األهل في إزهاق روحها‪ ،‬كما في حال صياغة نص قانوني يجرم القتل‬
‫"بدافع الشرف"‪ ،‬باعتباره يشكل جريمة قتل عمد وليس جريمة شرف‪ .‬ويعود هذا التقصير‬
‫من وجهة نظرنا إلى أن المرأة النائب كانت تهتم بإرضاء الجهات التي دفعت بها إلى‬
‫هذا الموقع‪ ،‬وليس لخدمة مشروع نسوي حقيقي وحضاري‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن‬
‫هذه النائب هي في األصل لم تغادر العقلية الذكورية ولم تُخرج نفسها من إطار الثقافة‬
‫البطريركية وقيمها وتعاليمها السائدة‪.‬‬

‫واكب ذلك توجه منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية التقدمية السورية آنذاك‪،‬‬
‫باتجاه إطالق مناشدات خجولة للحكومة السورية‪ ،‬من أجل تحسين قوانين األحوال‬
‫الشخصية وتجميلها‪ ،‬كرفع سن الحضانة لألطفال‪ ،‬دون أن يعني ذلك التطرق لحقوق‬
‫المرأة األم أو لحقوق الطفل المثلى‪.‬‬

‫وقد تطورت هذه المناشدات بعد عام ‪ ،1111‬إذ تحولت إلى مطالبات بضرورة تعديل‬
‫القوانين بما يخدم قضية تحرر المرأة ومساواتها التامة‪ ،‬لتتماشى مع ما وقعت عليه‬
‫الحكومة السورية وألزمت نفسها به بمجرد مصادقتها على اتفاقية "إلغاء كل أشكال‬
‫العنف ضد المرأة" (السيداو)‪ ،‬إال أن مطالباتها هذه لم تخرج عن حدود وإطار المنتديات‬
‫الثقافية وحوارات النخب السياسية والناشطات والناشطين في الحقل العام‪ ،‬األمر الذي‬
‫خلق هوة بين الرائدات النسويات آنذاك‪ ،‬وبين المرأة الريفية البسيطة‪ ،‬األمية أو شبه‬
‫األمية‪ ،‬القابعة في األرياف وأحياء السكن العشوائي في المدن‪ ،‬والتي تحولت إلى مجرد‬

‫‪572‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫يد عاملة رخيصة‪ ،‬تقارع الفقر والذل مع أطفالها وزوجها‪ ،‬أو تلك المرأة التقليدية المدينية‬
‫المستلبة حبيسة السلطة الذكورية وتسلطها الغاشم‪.‬‬

‫لذا عندما جاءت انتفاضة السوريين أو ثورة حلم "الكرامة والعدالة اإلنسانية"‪ ،‬كانت‬
‫المرأة والرجل معاً منذ اللحظات األول‪ ،‬منددين بذل االستعباد والتسلط‪ ،‬ومستعدين‬
‫لمواجهة آلة القتل والدمار واالعتقال والتعذيب في سبيل الكرامة والحرية‪ ،‬وكان تقبل‬
‫ِ‬
‫المشاركة في عمليات اإلغاثة أو اإلسعاف أم اًر‬ ‫الرجل للمرأة المحمولة على األكتاف أو‬
‫الفتاً‪ ،‬لكن عنف النظام في مواجهة السوريين‪ ،‬وما تبعه من نزوح ولجوء إلى المخيمات‬
‫في تركيا ولبنان واألردن وصوال إلى كردستان العراق‪ ،‬كشف النقاب عن حقيقة تردي‬
‫الواقع القانوني واالجتماعي واالقتصادي والسياسي للمرأة السورية التقليدية‪ ،‬والذي تجلى‬
‫عبر كثير من اآلفات المجتمعية‪ ،‬سواء ما تعلق منها بعقود الزواج المختلفة التسميات‬
‫والتي تصب في مجملها في مصب االتجار بالفتيات والنساء‪ ،‬أو ما تعلق بمشكلة‬
‫األطفال مكتومي القيد الذين شكلوا وال يزالون‪ ،‬إشكالية ذات ُبعد اجتماعي وإنساني‬
‫على أكثر من صعيد‪.‬‬

‫نحن ال نجافي الحقيقة إذا أكدنا على صوابية ما دعت وما تزال تدعو إليه المنظمات‬
‫المدنية والنسوية‪ ،‬من تشجيع النساء على كسر حاجز الصمت‪ ،‬وفضح الممارسات‬
‫الالإنسانية التي يتعرضن لها سواء في البيت أو في المجتمع‪ ،‬لكننا ال نجافي الحقيقة‬
‫أيضاً‪ ،‬إن قلنا أن هيمنة الثقافة التقليدية وقيمها البطريركية على الحياة العامة والخاصة‪،‬‬
‫ستتسبب في تعريض تلك النسوة والفتيات ألوضاع أكثر صعوبة وألخطار قد تصل‬
‫حد القتل‪ ،‬وقد شهد المجتمع قيام العديد من اآلباء أو األبناء أو األقارب‪ ،‬بقتل فتيات‬
‫أو نساء العائلة‪ ،‬ممن جرى اعتقالهن وتعذيبهن فور إطالق سراحهن‪ ،‬وذلك بقصد‬
‫التخلص من وصمة العار‪ ،‬دون أن تَجد تلك النسوة من ينجدهن أو يقدم لهن يد العون‬
‫أو سبل الحماية‪.‬‬

‫‪573‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫هنا من المفيد اإلشارة إلى أن ثمة اختالف في ظروف وآليات عمل منظمات المجتمع‬
‫المدني والمنظمات النسوية المحلية‪ ،‬عن نظيرتها األوروبية ذات االهتمام المشترك‪،‬‬
‫التي تتمتع بحماية القانون ودعمه‪ ،‬مما يتيح لها العمل في بيئة مواتية وآمنة أوالً‪ ،‬ويتيح‬
‫لها اللجوء إلى إعمال القانون في كل ما يتضمنه من نصوص لصيانة ورعاية حقوق‬
‫اإلنسان وحقوق المرأة والطفل‪ ،‬وأولها الحق في الحياة واألمان والكرامة اإلنسانية ثانياً‪،‬‬
‫وقد مكنها هذا من تحقق أهدافها في تأمين ما تحتاجه المرأة المعنفة من حماية ودعم‬
‫وتمكين لتولي شؤونها وشؤون أطفالها بنفسها‪.‬‬

‫على خالف ذلك‪ ،‬فأن عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية‪،‬‬
‫كان دوماً محفوف بالصعوبات‪ ،‬وبات أكثر خطورة مع تحول الثورة إلى حرب دموية‪،‬‬
‫وسيطرة الجماعات اإلسالمية المسلحة على مناطق عدة من سوريا‪ ،‬مما جعل هذه‬
‫المنظمات عاجزة عن تقديم أبسط أشكال الدعم والحماية للمرأة السورية في أماكن‬
‫تواجدها‪ ،‬سواء ما تعلق بحمايتها من عنف الحياة اليومية في المخيمات‪ ،‬أو عنف‬
‫العائلة والمجتمع‪ ،‬أو عنف سلطات األمر الواقع‪.‬‬

‫لكن كيف يمكن للمرأة السورية تجاوز هذا الواقع المتردي؟‬

‫ما من شك أن الحرب السورية لم تخلق هذا الواقع بكل رداءته‪ ،‬وإنما كانت كاشفاً له‬
‫وفاضحاً لغياب دور أجهزة الدولة وعجزها المتنامي أثناء الحرب وما بعدها وحتى اآلن‪،‬‬
‫عن أداء مهامها والقيام بوظائفها‪ ،‬بحيث بات يتوجب على المعنيين في صياغة مستقبل‬
‫سوريا أن يأخذوا بعين االعتبار‪:‬‬

‫أنه وبالرغم من توقف العمليات العسكرية إال أن الواقع المجتمعي لم يحظى باالستقرار‪،‬‬
‫فتفتت سوريا جغرافياً وسياسياً منذ أكثر من عقد من الزمن‪ ،‬نتيجة حرب النظام ضد‬
‫شعبه‪ ،‬والتي أدت إلى خضوع البنى المجتمعية في كل منطقة لقوى وقوانين سلطة‬

‫‪574‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫األمر الواقع‪ ،‬وخضوع األخيرة في الوقت ذاته‪ ،‬إلمالءات القوى الداعمة لها إقليمية‬
‫كانت أو دولية‪ ،‬األمر الذي خلق متغيرات اجتماعية واضحة امتدت لتطال الحياة‬
‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬بحيث لم يعد ثمة واقع اجتماعي واحد‪ ،‬وال ثمة امرأة سورية‬
‫واحدة‪ ،‬وإنما بنى اجتماعية مختلفة ونساء سوريات متباينات في ظروفهن ومعاناتهن‬
‫بتباين مناطق تواجدهن‪ ،‬فاحتياجات المرأة السورية في مناطق سيطرة النظام تختلف‬
‫عن احتياجاتها في مناطق سيطرة قوات الحماية الكردية "قسد"‪ ،‬كذلك تختلف عن تلك‬
‫المتواجدة في مناطق سيطرة القوات التركية‪ ،‬وعن احتياجات ومعاناة المرأة في المناطق‬
‫الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام‪ /‬النصرة سابقاً‪ ،‬فضالً عن السوريات في مخيمات‬
‫اللجوء في دول الجوار‪ ،‬ونظيراتهن في الدول الغربية التي منحتهن كزوجات وأطفال‬
‫امتيازات حقوقية ومالية أدت الستقاللهن االقتصادي‪ ،‬وبالتالي التحرر من هيمنة الرجل‬
‫بصفته معيال لألسرة‪.‬‬

‫على النقيض من ذلك نجد أن معاناة المرأة السورية‪ ،‬في مخيمات اللجوء طالت كافة‬
‫مناحي الحياة‪ ،‬بل امتدت لتشمل كل الفئات العمرية ومن كال الجنسين‪ ،‬بحيث باتت‬
‫منظمات اإلغاثة الدولية كما المنظمات المحلية عاجزين عن االستمرار في تقديم العون‬
‫واإلغاثة المناسبين لهذه المخيمات وألعداد قاطنيها المتزايدة‪.‬‬

‫وقد عانت المرأة وال تزال‪ ،‬في مناطق سيطرة الجماعات الجهادية المتشددة (داعش‬
‫وهيئة تحرير الشام‪/‬النصرة سابقاً)‪ ،‬في محافظة الرقة سابقا‪ ،‬وفي إدلب ومحيطها‪،‬‬
‫إضافة إلى الظروف االقتصادية والمعيشية الصعبة من تخلف وعسف الظالميين‬
‫والمتشددين اإلسالميين ومن جور "محاكمهم الشرعية" غير القانونية‪ ،‬وأحكامها الصادرة‬
‫عن مقاتلين‪ُ ،‬نصبوا ليكونوا قضاة فيها‪ ،‬والتي تصل حد اإلعدام‪ ،‬وأحكام الرجم والجلد‬
‫لفتيات ونساء‪ ،‬فقط لمخالفتهن قواعد الشريعة الصارمة‪ ،‬سواء فيما يتعلق باللباس أو‬
‫بممارسة بعض الحقوق الشخصية كالحق في التعلم أو التنقل‪.‬‬

‫‪575‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫في حين تعاني المرأة في مناطق سيطرة النظام‪ ،‬من الفساد السياسي واالقتصادي ومن‬
‫االستبداد الديني‪ ،‬خاصة بعدما عمد النظام إلى مداراة عجزه عن القيام بوظائفه‪ ،‬بنقل‬
‫بعض من صالحياته ومهامه إلى رجاالت الدين‪ ،‬مما أوجب منحهم المزيد من‬
‫االمتيازات لتمكينهم من القيام بتلك المهام‪ ،‬األمر الذي أدى إلى تمدد وتغول اإلسالم‬
‫السياسي في الدولة والمجتمع‪ ،‬والذي أفرز فيما بعد‪ ،‬القانون رقم (‪ )22‬لعام ‪،1122‬‬
‫كتعبير عن هذا الواقع الجديد‪ ،‬وبموجبه تم تكريس ليس هيمنة رجال الدين وسطوتهم‬
‫على الحياة المجتمعية الفكرية والقانونية واالقتصادية والسياسية فحسب‪ ،‬بل أيضا منح‬
‫بموجب المادة (‪ )1‬من القانون المذكور‪ ،‬نساء تنظيم "القبيسيات" الحظوة بعدما أطلق‬
‫عليهن أسم "عالمات القرآن الكريم"‪ ،‬واللواتي تكررت اإلشارة لهن في أكثر من مادة‪،‬‬
‫فأجاز ل ُهن هذا القانون التدخل في الحياة العامة والخاصة للمجتمع‪ ،‬األمر الذي سيساهم‬
‫في تقييد عقل النساء والفتيات على وجه الخصوص‪ ،‬بقيود الثقافة الذكورية البطريركية‬
‫ومفاهيم الفكر الشمولي الغيبي‪ ،‬وهذا بدوره سيترك بال شك‪ ،‬آثا اًر سلبية على األسرة‬
‫والمجتمع معا‪ ،‬كما سيحد من قدرة وعمل المنظمات المدنية والنسوية ذات الطابع‬
‫الديمقراطي في الداخل‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬وسيعيق بالتالي محاوالتهم تقديم أشكال من‬
‫المساعدة والتمكين للمرأة في هذه المناطق‪.‬‬

‫أما النساء في مناطق الحماية الكردية فعانين وال يزلن‪ ،‬من زجهن قس اًر في األعمال‬
‫الحربية واالستخباراتية‪ ،‬بذريعة مساواة النساء بالرجال في كافة المجاالت‪ ،‬وبالتالي‬
‫إخضاعهن لحياة تتعارض مع طموحاتهن وتطلعاتهن‪ ،‬في حين تُخضع سلطات الحماية‬
‫الكردية المنظمات النسوية والحقوقية واإلنسانية غير التابعة لها للمراقبة الصارمة وتحد‬
‫من حرية الحركة لديها‪.‬‬

‫حمل هذا الواقع المتشظي‪ ،‬باإلضافة إلى فساد سلطة الدولة وعجزها عن تلبية‬
‫االحتياجات األساسية للحياة المجتمعية بالحد األدنى‪ ،‬الكثير من األزمات الحياتية‬

‫‪576‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫والنفسية الضاغطة‪ ،‬خاصة لدى ذكور العائلة ورجالها لما خلفته من إحساس بالضعف‬
‫والعجز وعدم القدرة على التكسب وتأمين الرزق‪ ،‬وقد كانت المرأة الضحية األكبر لهذا‬
‫الواقع‪ ،‬إذ غدت أداة تفريغ لغضب وعنف الذكورة‪ ،‬سواء بتعريضها وأطفالها للضرب‬
‫والشتم المباشر‪ ،‬والذ ي كثي ار ما كان يودي بحياتها‪ ،‬أو بتعريضها للطالق والطرد مع‬
‫أبنائها‪ ،‬وعليه فقد باتت المرأة السورية زوجة كانت أم أختا أم ابنة أو أما‪ ،‬ضحية على‬
‫أكثر من صعيد في آن واحد‪ ،‬فهي ضحية النظام البطريركي وتخلفه وسطوته وجبروته‬
‫أوالً وضحية فساده عجزه ثانيا‪ ،‬وضحية عجز وضعف المنظمات المدنية والنسوية‬
‫ثالثا‪ ،‬وضحية تخلف وظلم واستبداد سلطات األمر الواقع رابعا‪ ،‬وضحية الظروف‬
‫الحياتية المتعثرة في أماكن ومخيمات اللجوء خامسا وليس أخيرا‪.‬‬

‫لهذا فنحن نرى أن واقع المرأة السورية‪ ،‬خاصة في أماكن ومخيمات اللجوء‪ ،‬وفي‬
‫مناطق سيطرة قوى األمر الواقع بما فيها سيطرة النظام‪ ،‬سيستمر بكل سوداويته ورداءته‬
‫بانتظار أن تتوافق الدول الفاعلة في الملف السوري على حل للقضية السورية‪ ،‬وهذا‬
‫يعني أن المنظمات المدنية والنسوية السورية ستبقى عاجزة عن تقديم العون والمساعدة‬
‫الحقيقيين لتلك النسوة‪ ،‬ومن هنا يمكننا التأكيد أن المرأة السورية ال تحتاج إلى الورود‬
‫وعبارات التهنئة بيوم المرأة العالمي‪ ،‬ألنها أبعد ما تكون عن فرح العيد وبهجته‪ ،‬وألنها‬
‫تحتاج حقا‪ ،‬إلى كل ما من شأنه مساعدتها على تأمين مأوى لها وألطفالها ومساعدتها‬
‫على إطعامهم وتأمين العالج الطبي الالزم لها ولهم‪ ،‬وتقديم ما يمكن تقديمه من الدعم‬
‫القانوني من أجل تمكينها من الوصل إلى حقوقها المادية والمعنوية اليوم وغدا‪.‬‬

‫‪577‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫قواعد النشر في مجلة أوراق‬

‫ترحب مجلة أوراق بإسهامات المفكرين والكتاب واالدباء والباحثين في‬


‫االتجاهات الثقافية الفكرية والسياسية إضافة للنقد واإلبداع والترجمة‪،‬‬
‫وتقتصر شروط النشر في المجلة على النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -‬ان تكون المساهمات المرسلة غير منشورة سابقا‪.‬‬
‫‪ -‬أن تخلو المادة من أي إساءة ألشخاص بعينهم‪ ،‬وأال تتعرض لقضايا‬
‫شخصية‪ ،‬كتصفية حسابات أو تجريح خارج سياق الموضوع‪.‬‬
‫سق‪ ،‬وتعتذر هيئة التحرير‬
‫‪ -‬أن تكون المواد المرسلة بصيغة ملف وورد من ّ‬
‫عن الملفات المرسلة كنص عبر الهاتف أو تنسيقات أخرى ‪.P.D.F.‬‬
‫‪ -‬نأمل من الزمالء في الدراسات الموثقة بمصادر ومراجع أن يلتزم‬
‫المساهمون بذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب ومكان النشر وتاريخه واسم‬
‫الناشر‪ ،‬وفي حالة االحالة الى مجالت يذكر اسم كاتب المقالة وعنوانها ورقم‬
‫العدد وتاريخه ورقم الصفحة‪.‬‬
‫‪ -‬أن ال يزيد حجم الدراسة او البحث عن خمسة آالف كلمة إال باتفاق سابق‬
‫مع ادارة تحرير المجلة‪ ،‬ويفضل ارفاق الدراسة بملخص صغير عنها ال‬
‫يتجاوز ‪ 05‬كلمة‪.‬‬
‫ويدون في أسفل‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أن ال يزيد حجم مراجعات الكتب عن ‪ 0055‬كلمة‬
‫المراجعة عنوان الكتاب واسم مؤلّفه ومكان نشره وتاريخه وعدد الصفحات‪.‬‬
‫‪ -‬يرفق مع كل دراسة أو مقالة أو نص تعريف بالكاتب وعمله الحالي‪.‬‬
‫‪578‬‬
‫أوراق العدد المزدوج ‪02-91‬‬

‫‪ -‬نرجو أيضا إرفاق صورة شخصية للكاتب‪/‬ة أو صورة أو أكثر تتعلق‬


‫بموضوع المادة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تعاد المواد المعتذر عن نشرها إلى أصحابها‪.‬‬
‫‪ -‬يجري إعالم الكاتب بقرار هيئة التحرير خالل شهر من تاريخ تسلم النص‪.‬‬
‫‪ -‬تحتفظ المجلة بحقها في نشر النصوص المجازة للنشر وفق خطتها‬
‫التحريرية‪.‬‬
‫‪ -‬تلتزم المجلة بنشر كل المواضيع التي توافق عليها هيئة التحرير والتي‬
‫تستوفي معايير النشر الموضوعية (بالنسبة للدراسات) أو االبداعية (بالنسبة‬
‫للنصوص االدبية)‪.‬‬
‫‪ -‬تستلم المجلة النصوص عبر بريدها االلكتروني‪:‬‬
‫‪awraq@syrianwa.net‬‬

‫ونشكر تعاون جميع الزمالء واألصدقاء الكتاب والمثقفين وأعضاء الرابطة‬


‫في هذا الصدد‪.‬‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪579‬‬

You might also like