Professional Documents
Culture Documents
مجلة أوراق 19-20
مجلة أوراق 19-20
1
أوراق العدد المزدوج 02-91
https://www.syrianwa.net
الهيئة االستشارية:
awraq@syrianwa.net
https://www.facebook.com/Syrian-Writers-Association
2
أوراق العدد المزدوج 02-91
فهرس العدد
3
أوراق العدد المزدوج 02-91
941 عالم
عبير حسن ّ الرقة والعرس األدبي الثقافي
960 محمود باكير عن الذاكرة الشتوية
961 فواز قادري يا آدم الجديد عليك الخواء
904 سوسن اسماعيل النوح
902 وحيد نادر أدعية للرقة الباقية
920 آرام بورتريهات الموت والذاكرة
916 موسى رحوم عباس السقوط من سرة الكون
912 عصام حقي اللحظة البيضاء
914 أحمد رشاد مصلوب على باب الرقة
022 فوزية المرعي هديل على مقام النوى
024 حسين جرود من قبل التاريخ
094 ناريمان حسن أغيث حزني بالصالة
ُ
091 شيم محمد العبدو أعرفك مصياف
004 أحمد خميس جديلة أمي
033 علي الكدرو ما علينا
031 فراس محمد الحسين قصتان :التمثال والنمرود
040 نضال جرجنازي المحرم
ُ
063 هيثم قطريب الفراغ ...والكرسي
060 موسى الحالول صناديق االقتراع
061 رامي ميناس دفا
002 محمد صالح العجيلي السائق الذي عضه الكلب
000 ماجد عاطف سقف يأخذ الوجل
002 عالء الدين حسو بارليف الشمالي
021 إبراهيم الخليل الطريق إلى الرقة وطائر الشقراق
010 حسام الدين الف ار تخص الن ّفري
مواقف ال ّ
010 أحمد سليمان حين وقعت من صخرة تستقر أعلى الشمس
323 حسين رحيم ثم نبدأ بالصراخ
ّ
320 جنان الحسن موال على ناي الحياة
392 فرحان مطر اتيون بعيون السينما السورية
الفر ّ
4
أوراق العدد المزدوج 02-91
5
أوراق العدد المزدوج 02-91
شكل اندالع ش اررة االحتجاجات /الثورة في سوريا آذار 1122من محافظة درعا جنوب
سوريا مفاجأة غير سارة للنظام الذي اعتبرها وفق التصنيفات األمنية "محافظة صديقة
للنظام" ،وفق إشارة اإلعالمية سميرة مسالمة في كتابها "االنهيار السوري ..الصراع
على السلطة والدولة والهوية".
وربما بنفس القدر أو أكثر كان مفاجئا للنظام أن تكون الرقة التي يعتبرها مزعته
حكم بالقوة وتنهب بال
الخلفية ،أو حسب تعبير بعض نشطاء الرقة "مستعمرة داخلية .تُ َ
رحمة ،وتترك للخراب" كما ذكر الباحث ياسين الحاج صالح ،هي أول محافظة سورية
تخرج عن سيطرته حين قامت قوات المعارضة المسلحة في اليوم الرابع من آذار/
مارس ،1122بالسيطرة على المدينة بالتزامن إجراءات مذلة للنظام بدءا من إسقاط
الصنم /تمثال األسد األب ،وصوال إلى اعتقال المحافظ ورئيس فرع الحزب وقادة
األجهزة األمنية في تلك المحافظة ،التي سبق لرأس النظام أن اختارها مكانا ألداء
صالة عيد األضحى في 6تشرين الثاني /نوفمبر ،1122كإشارة إلى والئها أو إلى
سيطرته المطمئنة عليها.
لن ُنسهب اآلن في الحديث عن أخطاء االستراتيجية المتمثلة بسيطرة تلك المعارضة
العسكرية على ما اعتبرته مناطق "محررة" ،حيث تحولت بسرعة فائقة لدريئة ثابتة
لقصف النظام وحلفائه من جهة ،كما شكلت غواية للفصائل الجهادية المتطرفة للتنازع
بهدف السيطرة عليها ،وهو ما انتهى سريعا بتحول الرقة إلى عاصمة الخالفة اإلسالمية
المزعومة ،بعدما أعلن أبو بكر البغدادي إقامة "دولة داعش" في إبريل /نيسان .1122
المفارقة الجارحة في هذه المحافظة أنها من أغنى المحافظات السورية ،إذ تزود كامل
سوريا بالطاقة الكهربائية من سد الطبقة /الثورة ،وفيها أيضا سد البعث ،والكثير من
6
أوراق العدد المزدوج 02-91
آبار النفط ،وتعتبر من أهم مناطق زراعة القمح والحبوب والقطن في سوريا ،ناهيك
عن آثارها وفراتها ،ومع ذلك بقيت محافظة بعيدة عن التنمية الحضرية ،وفيها نسب
مرعبة للبطالة والفقر واألمية .وليس خروجا عن السياق التقاط تلك المسميات في الرقة
"سد الثورة ،سد البعث ،بحيرة األسد ،مع نصب أو تمثال عمالق لألسد األب وهو
يرتدي عباءة فراتية"!
ظلِموا مرتين ،األولى حين حولها نظام البعث إلى مزرعة خاصة به،
وألن أبناء الرقة ُ
تمده بالنفط والقمح والقطن والكهرباء ،والثانية من قبل استبداد داعش ديني الطابع
وإرهابي السلوك ،وحتى بعد انتهاء الحرب فيها على اإلرهاب وتحرير المحافظة عام
،1122التزال الرقة لآلن تحت سيطرة قوات قسد المدعومة من التحالف الدولي بقيادة
الواليات المتحدة األمريكية .دون أن يهتم أي من قوى االستبداد أو األمر الواقع
المسيطرة بسكان تلك المحافظة ومصالحهم ومشيئتهم.
مأساوية هذا المشهد دفعتنا في هيئة التحرير لتسليط الضوء في هذا العدد على بعض
جوانب الحركة الثقافية والنتاج اإلبداعي في حقول اآلداب والفنون لهذه المحافظة ،والتي
تبدو لمن يعرف الرقة جيداً ،أنها شكلت حالة ثقافية متميزة في الجغرافيا السورية ،على
الرغم من إمكانياتها المتواضعة ،حيث ُنظمت فيها العديد من المهرجانات الثقافية
المتخصصة بدءاً من مهرجان العجيلي للرواية العربية ومهرجان الشعر واستم ار اًر
بمهرجان ا لمسرح وآخر للفلكلور وملتقى للرسم ..وذلك مؤشر هام على عمق وأصالة
أثر ملموسا في
وتميز هذا الحراك الثقافي ،بمبدعيه من كتاب وفنانين ترك معظمهم ا
ثقافتنا السورية والعربية ،ويمكن لمن ُيتابع مواد هذا العدد الضخم أن يلحظ ذلك بسهولة،
ليس في مواد الملف بل في أغلب الملفات اإلبداعية للقصة والشعر والنصوص وصوال
للملف التشكيلي الذي نهض بأربع مواد عن الرقة.
وأخص بالذكر والشكر الصديق المترجم إبراهيم محمود الذي نقل عن الفرنسية فصال
من كتاب مريم العبابسة "رهان السرد والعمران القبلي في الرقة" ،والذي يشكل إضاءة
7
أوراق العدد المزدوج 02-91
مهمة على جزء من تاريخنا السوري غير المعروف بشكل جيد ،وبذات الوقت هو
إضاءة على سلوك النظام الذي يدعي التقدمية واالشتراكية بالمعنى األيديولوجي
والسياسي ،لكنه استغل وشجع االنتماءات واالنقسامات القبلية والعشائرية ليس في الرقة
فقط ،بل في كل سوريا.
كما نشكر الكتاب والمبدعين الذين ساهموا معنا في ملفات االبداع شع اًر وقص ًة ونقداً
أدبياً ودراسات وترجمة وحوا اًر وتشكيل ،والتي انصب جلها على محور "الثقافة واألدب
والفنون في محافظة الرقة" وبشكل خاص الشهادات القيمة لكتاب ومبدعين عرب
وسوريين ممن شاركوا في دورات "مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية".
كذلك وجب التنويه أننا في غمرة االشتغال على هذا العدد المزدوج من أوراق وقعت
في 6شباط /فبراير كارثة الزلزال وما تالها من هزات ارتدادية في كل من جنوب تركيا
وشمال سوريا ،وقد تطوع معنا الصديق الباحث موفق نيربية بدراسة وافية لهذا الحدث
وما بعده ،ربطا بزلزال سوريا المستمر في حرب النظام ضد شعبه ،والذي يدلف اآلن
لعامة الثالث عشر ،كما كتبت المحامية منى أسعد عن واقع المرأة السورية في ذكرى
اليوم العالمي للمرأة.
ونذكر بأن كل المساهمات التي في هذا العدد هي تطوعية ،لغياب أي تمويل لمجلة
أوراق ومن أي جهة كانت ،لذلك نحن ندين بالشكر والعرفان لجميع الزمالء المشاركين
في هذا العدد تقدي اًر لجهودهم ،وننوه بشكر إضافي لألصدقاء والزمالء الذين ُيصرون
رغم صعوبة الظرف العام ،على المشاركة بشكل مستمر .كما نشكر كالعادة أيضا كل
األصدقاء والكتاب والمثقفين الذين حالت ظروفهم دون المشاركة في هذا العدد ،ألننا
ندين لهؤالء المبدعين والمثقفين بالتقدير والعرفان كمساهمين معنا وشركاء في نجاح
مجلة "أوراق" ودورية صدورها.
8
أوراق العدد المزدوج 02-91
ملف العدد
9
أوراق العدد المزدوج 02-91
هشاشة التاريخ
ال تتجاوز الكتب التي أرخت للرقة وعشائرها ،وتطورات الحياة فيها بضع كتب .وهي
في أغلبها كتب تقليدية تشبه الثرثارات التي ترافق الجنازات ،والتي تتحدث حديثا مبالغا
فيه عن الخصال الحميدة للمتوفى من دون أي اكتراث بحقيقة هذا الشخص ،وهمومه
التي قد تكون نالت منه في ا لنهاية .حتى أن الذي يق أر تلك الكتب ال يكاد يعرف أي
شيء مهم عن حياة الرقيين ومعاناتهم والتغيرات التي وجدوا أنفسهم وسطها.
والمتابع لتلك الكتب التي أرخت للرقة (من أهلها) يكاد ال يجد ،ال قبل الثورة (وهذا
مفهوم بالقياس لمستوى الحريات آنذاك) ،وال حتى بعدها ألي تأريخ للمشكالت
والتحوالت الكبرى التي عصفت بهم .فمثال ال تجد أي تأريخ للجفاف الذي أرخى ستائره
الثقيلة على حياة أهلها ومستوى معيشتهم ،وال أي حديث عن إهمال الدولة لذلك
الجفاف ،مثلما ال يجد أي أثر لحرمان بناتها من التعليم الجامعي لسنوات طويلة بسبب
عدم افتتاح جامعة فيها حتى عام .1116وال أي تأريخ لمساجينها السياسيين سواء
كانوا ينتمون للبعث العراقي أو الشيوعيين أو غير ذلك ،وال حتى للمدراء الغرباء الذين
قدموا إليها من خلف الفرات قدوم الفاتحين ،ليؤمنوا مستقبل أوالدهم متناسين مستقبل
أوالد الرقة .مثلما ال تعثر على تأريخ للتهجير الطوعي ،الذي بدأ مع ثمانينات القرن
المنصرم ،والذي رمى مئات األلوف من أبنائها في سهول لبنان وصحاري الخليج
العربي طلبا للرزق الذي حرموا منه ،وكأنه تدريبا مبك ار على التهجير الكبير الذي لم
يكن في الحسبان بعد عام .1122ذهبوا ليزرعوا البقاع اللبناني ( ُقدر عدد العمال
السوريين في لبنان نحو نصف مليون عامل في التسعينات) وهم أبناء أكبر مشروع
11
أوراق العدد المزدوج 02-91
زراعي في العالم العربي (كانت هناك و ازرة في السبعينات أسمها و ازرة سد الفرات)
وصفته كتب الجغرافيا التي درسوها لنا بأنه " السلة الغذائية للوطن العربي" ،حيث
تحول من أهم مشروع زراعي في الوطن العربي إلى أفشل مشروع تأكل الديدان
والحشرات والفساد محاصيله أمام أعين األهالي.
تنقسم كتب تاريخ الرقة إلى قسمين :األول ،كتب تؤرخ للرقة رسميا وإداريا ،وهو تاريخ
يعتمد على الوثائق العثمانية والفرنسية وبعض اإلحصاءات المحفوظة وكتب التاريخ
القديمة ،وأبرز هذه الكتب :كتاب "أهل الرقة" بجزئيه للكاتب محمود الذخيرة ،وكتاب
"الرقة وبلدياتها" ،وكتاب "حضارات وادي الفرات – مدن فراتية ،القسم السوري" لعبد
القادر عياش ووليد مشوح ،وكتاب "الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثاراها .باإلضافة على
الدراسات األرشيفية لحمصي فرحان الحمادة حول أسماء حارات الرقة والتأريخ لبعض
شخصياتها ،وغيرها من الكتب المهتمة بهذا الجانب .والمؤسف أنه يغلب على هذه
الكتب نوع من التأريخ يطلق عليه "التأريخ المحنط" الذي يختصر مجتمع الرقة بمجموعة
من الق اررات اإلدارية والوقائع التاريخية والسجالت األرشيفية ،من دون أي ذكر -مثال
-للمسألة األمنية الكبرى التي روعت أهلها لعشرات السنين :تهمة االنتساب للبعث
العراقي ،والتي ذهب ضحيتها مئات الرقيين وقضوا عشرات السنوات في السجون.
يضاف إلى ذلك أنه وعلى الرغم من تناولها للجانب اإلداري والرسمي إال أنها ال تنبس
ببنت شفه عن الفساد اإلداري المنتشر في المحافظة ،أو بيع المناصب الذي أنتشر
بشكل شبه علني منذ ثمانينات القرن المنصرم .مثلما ال تروي تلك الكتب كيف تحولت
محافظة الرقة (بسب اإلهمال التعلمي واالقتصادي الخدمي المديد) إلى محافظة نامية
في الوثائق الرسمية.
وعلى العموم فإن هذه الكتب تلعب ثالثة ألعاب معروفة لدى المؤرخين الذي ال يريدون
أن يأتيهم " وجع رأس" من كتاباتهم؛ أي الكتابة بدون أي مسؤولية أخالقية تجاه أهل
11
أوراق العدد المزدوج 02-91
مدينتهم والمظالم التي عاشوها :اللعبة األولى هي العودة إلى التاريخ البعيد (الروماني
واألموي والعباسي) أو التاريخ القريب (العثماني والفرنسي) ،وكأن حياة أهل الرقة توقفت
عند ذلك التاريخ .وتأتي هذه الكتابات كنوع من التعويض الوهمي بأن أهل الرقة لهم
مكانتهم التاريخية على الرغم من أن مصير أكبر شخصية رقية مرهون بيد أصغر
عنصر في الفروع األمنية .أما اللعبة الثانية فهي تناول وجهاء الرقة وأدباءها وفنانيها
ومثقفيها عبر نوع من المبالغة في اإلنجازات ،والتفخيم في المكانة .وتعتبر هذه اللعبة
من أكثر األلعاب ال أخالقية .فبدل االحتجاج على ضعف التعليم وتهميش أهل الرقة
يتم اللجوء إلى االفتخار بشخصيات أدبية وثقافية على أنها دليل على أن اهل الرقة
ليسوا كلهم بال قيمة وثقافة وعلم .في حين تمثلت اللعبة الثالثة بعدم التطرق ،ال من
بعيد وال من قريب ،لألحداث والتحوالت السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة بعد عام
،2662ألغالق باب السؤال األمني من أي جهة كانت ،ولضمان سهولة الحصول
على موافقة و ازرة اإلعالم على النشر (موافقتها يعرفها كل من نشر كتابا في سورية).
أما النوع اآلخر من التأريخ للرقة فهو كتب العشائر والتراجم .وهي كتب تؤرخ ألصل
العشائر وسيوخها ،ولذلك تجدها تفرد مساحة واسعة لبعض الشخصيات العشائرية
واالجتماعية من أهالي المنطقة .وتشبه كتب العشائر قصائد المديح العربية ذائعة
الصيت ،حيث يجمع فيها المؤلف أسماء عشائر الرقة ،ويثني على شيوخها ووجهائها،
ويحدد مناطق سكن كل عشيرة ويعدد خصالها الحميدة .وقد أزدهر هذا النوع من
الكتابة في مرحلة التسعينات ،على الرغم من أنه ال يقدم أي قيمة اجتماعية أو علمية
تذكر ،بل إنه يحتذي خطا الكتب التي أرخت لحياة وتجربة حافظ األسد ،المليئة
بالبطوالت الوهمية والمديح المجاني .أما السبب في أنها تمدح أكبر عدد من الناس
والوجهاء ،وتعلي من قيمة الجميع بدون استثناء ،فيعود إلى أن الهدف األساسي
12
أوراق العدد المزدوج 02-91
لمؤلفيها هو بيع الكتاب إلى أكبر عدد ممكن من أبناء المنطقة .حتى أن هناك من
كان يبيع كتبه بنفسه ،ويطبعها على حسابه الخاص بوصفها "عملية تجارية بحتة".
ومن أهم هذه الكتب نذكر :كتاب عشائر الرقة والجزيرة لمحمد عبد الحميد الحمد،
كتاب تاريخ مدينة الرقة ألحمد سعيد وكرم بشير (الالفت أنه صدر من بغداد عام
،)1122كتاب معجم العشائر الفراتية ألحمد الشوحان.
في الحقيقة يميز ابن خلدون ،وبوضوح ،بين كتب التاريخ والكتب التي ال عالقة لها
بالتاريخ ،كعلم ومهنة ،على الرغم من تناولها ألحداث ووقائع وتاريخية؛ بين المؤرخ
العارف بشؤون التاريخ وعلله ،وبين من يسميه "بليد الطبع والعقل" 1ممن أخذ يكتب
التاريخ أما للتكسب أو للشهرة من دون دراية بأهمية التاريخ وعبره .فهذا النوع الثاني
من الكتب ال يصلح لدراسة التاريخ وتدبره ألنه مجرد سرد بليد لألحداث ،وتوثيق أبكم
لألخبار ،وذكر أحوال األعيان على الصورة التي يرغبون أن يكونوا عليها .وليس لهذا
ال نوع من التأريخ أي أهمية ألنه خالي من أي معنى عقلي أو علمي .فهو ينطلق من
أن غاية التاريخ تتمثل في ذكر القصص واألخبار واألسمار ،أي كتب للوجاهة والتباهي
ليس إال.
ويبدو أن مثل تلك الكتب انتشرت في الرقة ،وفي سورية عموما ،لالستفادة ومن
التوظيف السياسي لها؛ إليهام أهل المنطقة بأنهم أبناء حضارات كبرى ،وأصحاب
حصون كان لها دو ار بار از في التاريخ ،وأبناء قبائل كانت ذات شائن في زمانها الغابر،
وبالتالي عليهم أن يعتزوا بأنفسهم ،حتى لو كان من يحكمهم أمين فرع حزب بليد
وفاسد ،أو محافظ أعطيت له الرقة ،ليجمع منها ثروة تحفظ له كبرته وكبرة أحفاده
-1ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،ج ،1تحقيق عبدالله محمد درويش ،دمشق ،دار يعرب ،2114 ،ص .83
13
أوراق العدد المزدوج 02-91
وأحفاد احفاده ،كمكافأة على إجرامه ومشاركته في المحاكم الميدانية التي حصدت
مئات الضحايا في أحداث الثمانينات (ونقصد المحافظ محمد نجيب السيد أحمد).
حتى أن تلك الكتب غالبا ما تخفي ضعفها ،وخوفها من السياسية ،عبر تحويل التاريخ
إلى مجرد كالم ع ن تراث الرقة ،وعادات أهلها األصيلة ،وأشياء من هذا القبيل .أو
التركيز على التراث الفني الغني ألهل المنطقة .ولعل هذا ما يفسر انتشار كتب التراث
الشعبي الرقاوي واألغاني الفراتية .ومن هذا الكتب نذكر :كتاب "شعراء الموليا في
القرن العشرين" ،وكتاب في "الشعر الشعبي الرقي" لمحمد الموسى الحومد.
يضاف إلى كل ذلك أنها كتب ال تتحدث عن كيف تفاعل شيوخ عشائر الرقة مع
تجربة حكم البعث ،ونظرته إليهم بوصفهم قوة رجعية وعميلة لإلقطاع (على حد
وصفه) .وكيف أنتهى األمر بغالبية شيوخ تلك العشائر إلى الخضوع لنظام البعث وفق
معادلة "الوالء مقابل الوجاهة" .وهي معادلة تقوم على مبدأ "عديلي واعديك"؛ أي
ساعدني على فرض هيمنتي وسأمنحك قد ار معقوال من الوجاهة والمكاسب.
فهي كتب تدرس أهل الرقة وكأنه ليس لهم مظالم يعرضونها ،بل أصول يفتخرون بها،
وال حقوق يطالبون بها ،بل إنجازات ُقدمت لهم ويفتخرون بها ،ليس لديهم أرزاق يسعون
إليها ،بل عطايا وفتات يفرحون أذا حصلوا منها على النزر اليسير .ولذلك فإنها كتب
ال تغوص في الظواهر وتفاعالتها ،وال في األحداث وأسبابها ،وال في التغيرات
االجتماعية ونتائجها .حتى بلغت الوقاحة في كتاب "الندوة الدولية لتاريخ الرقة وآثارها"
أنه قدم دراسة تصف مشروع الفرات بأنه "أحد معالم التطور الحديثة" في سورية على
الرغم من أن اإلهمال والحشرات والفساد سحقت هذا المشروع الذي يبعد فقط عدة كيلو
مترات من مكان تلك الندوة .بل أن هناك من قدم بحثا لتلك الندوة عن "تطور القوة
ال بشرية والعاملة" في الرقة في وقت أخذ عشرات اآلالف من تلك القوة البشرية تعاني
14
أوراق العدد المزدوج 02-91
من البطالة ،وتحزم أمتعتها وتجهز نفسها للسفر خارج سورية بحثا عن دخل يحفظ
وجودهم وحياتهم.
وعلى الرغم من كل ذلك تبقى سلسلة بحوث معبد الحسون " الرقة من العشيرة إلى
الثورة" ،وعدد من الباحثين الشباب ،تغرد خارج السرب ،وتحكي لنا عن األهوال والمظالم
التي عاشتها المدينة ،قبل الثورة وبعدها .حيث يشرح لنا الحسون أن الحكم األسدي
شعر – منذ بداية السبعينات -بأن أهل الرقة وعلى الرغم من مهادنتهم له وقبولهم به
بسهولة إال أنهم لم يكونوا مكترثين به ،ولم يعني لهم البعث شيئا يدعو لالحترام .2وهو
األمر الذي جعل األسد ال يحب هذه المدينة ويسعى لتهميشها ،سميا وأن غالبية أهل
الرقة كان يشعر بتعاطف كبير مع العراق في حربه ضد إيران.
طبعا استثنينا من مقالنا هذا كتب المنقبين عن اآلثار وأعضاء البعثات األثرية والرحالة
والمستشرقين .فهذه الكتب على العموم تم تأليفها إما ألسباب علمية ،أو إلعداد رسائل
ماجستير ودكتوراه ،أو ألسباب سياسية ولوجستية تتعلق بوضع خرائط للمنطقة ألسباب
عسكرية (زمن العثمانيين والفرنسيين) ،مثلما تتعلق بالسيطرة السياسية ومعرفة أحوال
أهل المنطقة ونسبهم وقوميات ومواردهم ،باإلضافة إلى التوسع في معرفة عاداتهم
وطرق عيشهم وأخالقهم ،وذلك لوضع تصور عن كيفية التعامل معهم سياسيا ،سيما
وأن الصراع على المنطقة العربية أشتعل منذ آواخر القرن التاسع .وقد استثنينا هذا
النوع من كتب التأريخ ألنه ال يفترض بمثل تلك الكتب ،على أهميتها العلمية والتأريخية
المشهود لها ،أن يحمل مؤلفيها مسؤولية أخالقية وسياسية تجاه المنطقة وأهلها.
ومن أبرز تلك الكتب التي صدرت في هذا السياق هناك كتاب" الرقة وأبعادها
االجتماعية" للباحثة الفرنسية صونيا فرا .وكتاب "البدو" ،بأجزائه األربعة لأللماني ماكس
أوبنهايم ،وكتاب "قبائل بدو الفرات" آلن بلنت.
-2معبد الحسون ،الرقة من العشيرة إلى المدينة :المخفر العثماني ..دويالت عابرة ..البعث والجهاديون .راجع المقال على الرابط
التالي.http://alaalam.org/ar/society-and-culture-ar/item/540-655220617 :
15
أوراق العدد المزدوج 02-91
ما يمكن الركون إليه في نهاية هذا المقال ثالث قضايا نريد إبرازها هنا:
األولى ،أنه ال يمكن لوم مؤرخي الرقة كثي ار على سطحية إنتاجهم وبالدة كتاباتهم،
فوضع مؤرخي مناطق سورية األخرى ليس أحسن حاال .ولكن ما نريد أن نقوله إن
على المثقف أال يقبل على نفسه أن يكون مجرد آلة تعمل ما هو مطلوب منها دون
أي غيرة على منطقته ومصالحها التي تناهبها كل من وطأ أرضها .ال يجوز أن يكون
المثقف مجرد جزء مما تسميه حنا أرندت حياة "التفاهة" التي ينمط الحاكم المتسلط
البشر عن طريقها.
الثانية ،أن التفكير التاريخي قد يلعب دو ار محركا للتاريخ ومحف از إلمكانات موجودة
فيه ،مثلما قد يتحول إلى معيق للتاريخ وطامر للمشكالت التي يعاني منها شعب من
الشعوب .التأريخ بالطرق التي تحدثنا عنها يخلق نوعا من الوضع المزيف الذي ِ
يخدر
الناس ،ويجعلهم يتخيلون أنهم راضين عن حياتهم ،ويفخرون بتراثه وقالعه ،في حين
أن حياتهم أصعب مما تخيلته كتب التأريخ تلك .وهو ما أظهرته انتفاضة السوريين
عام ،1122حتى أن كون الرقة أول محافظ "تحررت" من النظام األسدي يبدو أنه ذو
دالله .يذكر أن مدرسة الحوليات الفرنسية ،وال سيما فرناند بروديل وجاك لوغوف ،تؤكد
أن التأريخ قد يصنع الواقع أكثر مما يعبر عنه في كثير من األحيان.
الثالثة ،أن تلك الكتب تعطي انطباعا غير دقيق بأن أهل محافظة الرقة ،ومنطقة الفرات
عموما ،ما زالوا يعيشون حياة بدوية تقليدية ،وما زالت العشيرة هي المكون األساسي
في المنطقة ،والكيان الذي يستمد الرقاوي منها قيمه وأخالقه وآراءه السياسية .والحقيقة
أن األمر ليس كذلك فقد بينت الثورة السورية أن االنتماء العشائري هو انتماء ثقافي
واجتماعي ،وليس له بعد سياسي ،بدليل أن أهل العشرة الواحدة ،بل حتى إبناء األسرة
الواحدة انقسموا (أفقيا) بين مؤيد ومعارض .مما يعني أن العشيرة في ذهن الرقاوي هي
كيان اجتماعي وثقافي وليس لها أي دور سياسي .فالرقاوي يحترم عشيرته ،و ِيقدر
مكانتها ،ويحرص على القيام بواجباته تجاه العشيرة ويعتز بها ،لكنه بنفس الوقت ليس
16
أوراق العدد المزدوج 02-91
لديه أي قناعة سياسية بشيوخها ودورهم السياسي .وهذا يعني أن الرقاوي بات متمدنا
في تفكيره السياسي واالجتماعي أكثر مما تعتقد تلك الكتب التي تكتب عنه .ولعل هذا
الوع ي السياسي هو ما يفسر أن كل األطراف التي تسعى للسيطرة على الرقة اليوم
تجد صعوبة في أن تجعل من أهلها حاضنة سياسية لهم.
17
أوراق العدد المزدوج 02-91
حمزة رستناوي
كنت في السنة الخامسة في كلية الطب – جامعة حلب ،وفي صيف 2661 عندما ُ
المعسكر االنتاجي ،كان طريقا صحراويا طويال
ركبنا القطار نحو الرقة لغرض قضاء ُ
ُممال ينتهي إلى خط أزرق مخضر طويل ُيسمى الفرات ونقاط متراكمة من أشجار
تُشبه الواحة ،إنها حرس حدود النهر! كان ُمعسك ار لطيفا يجمع ما بين العمل والترفيه
المجتمعات .كانت المرة األولى التي أتعرف فيها على جغرافيا
ومتعة اكتشاف المكان و ُ
ومجتمعات الجزيرة السورية .لفت انتباهي جماليات الليل في الرقة ،حيث كان من ُ
عادتنا السهر على ضفاف الفرات تحت الجسر القديم واالستماع إلى الغناء العراقي /
الفراتي غير المألوف بالنسبة لي! استمعنا إلى شباب في جوارنا يعزفون على الدف
وأحدهم يغني الموليا:
بشفاي
ْ جرحي يلچمو النفس ما من رجا
بشفاي
ْ روحي صعدت بالسما واسمك بقى
بجفاي
ْ بس قول يابو زلف وش ورطك
يمتى ترد لي ارتوي ....وردي بال ميّه
فجأة ينتابك إحساس داهم باالنتماء للمكان والناس ،وفجأة ينفتح المشهد على طوفان
وشيك يحتمل الحب واألسى .استعنت بأحد األصدقاء لترجمة معاني الكلمات والدخول
في عمق ثقافة وشيكة الغياب .من بعدها نما إحساس من األلفة حيث كان الليل والنهر
ُمتنفسنا اليومي آنذاك .هذا الليل الرقاوي الذي قال فيه الشاعر نزار قباني ُمخاطبا
18
أوراق العدد المزدوج 02-91
ُمضيفه القاص عبد السالم العجيلي في زيارته اليتيمة إلى الرقة ( 2626أعطني ليل
أعطيك نساء دمشق).
َ الرقة ،و
ليس بعيداً عن الرقة على الطريق الشرقي المتجه نحو دير الزور وفي وقت قيظ
الظهيرة توقف بنا سائق الباص في قرية تُسمى رطلة ،وثم مشينا باتجاه سفح جبل يطل
على وادي الفرات وصوال باتجاه كهف رطلة وهو كهف طبيعي واسع يمتد لعشرات
األمتار في عمق الجبل ينتهي ببركة ماء صغيرة .كان الكهف بارداً بما يكفي لتنكمش
على طفولة تركتها منذ سنوات ،وكان هادئاً بما يكفي لتغادر ضجيج اآلخرين ومشاغال
تقلق البال .بعد ذلك مشى معنا السائق غير بعيد عن الكهف نحو حفرة طبيعية كبيرة
طرها وعمقها حوالي 21متر ،وطلب منا التوقف
في األرض تسمى الدويخة ُيقدر َق ُ
تلبسه
على بعد أمتار منها كونها مسكونة بالسعالى والجن ومن ينظر في عمقها سوف َي ُ
ويصاب بالجنون.
الجن ُ
بعدئذ سوف يتوقف الزمن ألربع سنوات وأعود ثانية إلى الرقة في صيف 9111لقضاء
سنة ونصف كطبيب مقيم في مستشفى الرقة الوطني .ربما كانت هذه السنوات هي
األكثر تأسيسا في مسيرتي األدبية والفكرية .حتى اآلن ،بعد عشرين سنة ما يزال مثقفي
كنت شاع ار ُمبتدئا
قدمت إلى الرقة ُ
ُ الرقة على رأس قائمة أصدقائي ومعارفي .عندما
وكنت
ُ في طور التشكل ،نشر ُت قصيدتين يتيمتين فقط في جريدة األسبوع األدبي،
ُمهتما بالتعرف واالنخراط في الوسط الثقافي الرقي ،هذا الوسط الغني بمثقفيه ومبدعيه
شهدت قاعة المركز الثقافي القديم
ْ بما يتجاوز الحجم الديمغرافي لمدينة سورية صغيرة.
في الرقة أول أمسية شعرية لي ،كما شهد المركز الثقافي الجديد ندوة نقدية عقب
صدور مجموعتي األولى (طريق بال أقدام )1112 ،حضرها ربما أكثر من 211
المهتمين.
شخص من ُ
سأتوقف هنا لإلشارة إلى بضع أصدقاء على سبيل االستشهاد ال الحصر ،أصدقاء من
الوسط األدبي الرقي في محطات مميزة .سأتوقف أوال عند المرحوم الشاعر عبد اللطيف
19
أوراق العدد المزدوج 02-91
خطاب ،وهو شاعر من جيل الثمانينات .عبداللطيف شخصية ُمختلفة بكل ما تعنيه
هذه الكلمة ابتداء من طريقة تسريح شعره الطويل وطريقة كالمه ،كان يجلس بشكل
شبه دائم في مقهى الواحة ،كان نموذجا للمثقف الليبرالي الناقد لثقافة القصور المجتمعي
كنت قد انتهيت من إعداد مخطوط
والغير معارض /الغير مؤيد للسلطة .في حينها ُ
مجموعتي الشعرية األولى (طريق بال أقدام) وأخذت موافقة و ازرة االعالم عليها وكنت
أعطيت المخطوط له للرأي النقدي ،بعد بضعة أيام جاءني
ُ متحمسا لطباعتها.
بالمخطوط مع مالحظات كثيرة والتوصية بعدم طباعة المجموعة وحذف قصائد،
أعدت النظر في بعض القصائد وأعطيته المخطوط الجديد بعد حوالي شهر
ُ وبالفعل
لك :أيها الشاعر) وبعد صدور الكتاب أجرى لقاء
ليقول لي (اآلن أستطيع القول َ
كنت أناديه (بالغرنوق الدنف) الذي هو
صحفيا معي تم نشره في مجلة صوت الرافقةُ .
وكنت أناديه أحياناً باألمير ،في إشارة إلى مجموعته
ُ عنوان أحد مجموعاته الشعرية.
(زول أمير شرقي) الفائزة بجائزة مجلة الناقد قبل ذلك .والغرنوق ،هو طائر نهري جميل
يغلب االرتباك واالحتراس على سلوكه.
في أحد األمسيات ألقى عبد اللطيف خطاب قصيدته (سفر الرمل) في المركز الثقافي
القديم ،وقد تركت تلك القصيدة أكث ار شديدا في نفسي ،ليس من جهة شعريتها الغرائبية
المختلفة بل من جهة طريقة إلقائه المسرحية ،وكون القصيدة تتحوى شخصيات متعددة
ُ
فكانت أشبه بالميلودراما ،نمت صداقة متينة ،وكان الصديق القاص ماجد عويد كثي ار
ما يجمعنا على طاولته في أحد المقاصف الفراتية ،ومن ميزات ماجد العويد أنه يتحدث
المترفة وكأنه ينطق على لسان أحد شخصياته القصصية .كان
اللغة العربية الفصحى ُ
عبداللطيف خطاب وماجد العويد يتنافسان على زعامة منصب العازب األول ،ولكن
عبداللطيف سبقه إلى الزواج على حين غرة ،فقد تطاول بهما عهد العزوبية .أتذكر
آخر مرة زرته فيها قادما من دمشق كانت زوجته حامل ..بعد ذلك سوف أتفاجئ
بخبر وفاته أثناء عملية جراحية في القلب 1116تاركا طفلة جميلة إسمها لين .وأربع
مجموعات شعرية وذكريات لشاعر ال يغادر الذاكرة.
21
أوراق العدد المزدوج 02-91
تعود بي الذاكرة اآلن إلى مقهى الفنان التشكيلي الراحل ياسين الجدوع حيث كان من
عادتي االلتقاء شبه اليومي برفقة القاص ماجد العويد والشاعر باسم القاسم والشاعر
(المختار) نجم الدرويش وكان من عادة الدكتور عبد السالم العجيلي أن يأتي الى
المقتصدة
مقهى صديقه ياسين الجدوع عقب صالة العشاء حيث كنا نستمع الى أحاديثه ُ
والرصينة ،كان ياسين يقيم معرضا شبه دائم في المقهى لرسوم سريالية بقلم الرصاص
على الكرتون تشبه رسومات سكان الكهوف أو خربشات طفل صغير ..رسوم تثير
أنه خصص أسبوعا لعرض رسومات وتبعث على القلق .أتذكر ُ
ُ الكثير من التساؤالت
بعنوان الرابعة صباحا! تستلهم اللوحات مادتها من سؤال :ما الذي يفعله الناس في
الساعة الرابعة صباحا؟ أم ترضع ابنها ،ربما رجل سكران عائد من حانة! عائلة تغط
في نوم عميق! قطط تفيض بها الشهوة حد المطاردة والصراخ!
21
أوراق العدد المزدوج 02-91
باستدعاء د .محمد الحاج صالح والمحامي عبدالله الخليل ( ُمختطف من قبل داعش)
وتهديدهما على خلفية تلك المظاهرة .بعدها نمت صداقة قوية مع الدكتور اسماعيل
كنت أزوره في عيادته مع موعد
ُ الحامض رحمه الله أو رده ُمعافا إلى أهله ،ال نعلم!
المعارض لسلطة االستبداد
المثقف الشجاع ُ
وجدت فيه شخصية ُ ُ انتهاء الدوام المسائي،
والمعارض لالسالم السياسي وثقافة القصور المجتمعي معا ،كان كتلة متحركة من
الحماس والتفاؤل.
الحقا وأثناء زيارتي للرقة 1116دعاني لعشاء في مطعم المحطة (محطة القطار)
كان يائسا ُمحبطا من حجم التفاعل والتأييد الشعبي لحسن نصرالله بعد حرب تموز
1116قال لي بما معناه (لو قام السوريون بثورة على نظام االستبداد األسدي فسيكون
حزب الله أول من يطلق عليهم النار! نحن شعب عاطفي وحماسي يا صديقي) بعدها
حاول السفر لفرنسا لمتابعة تخصص طبي ولكن السفارة الفرنسية رفضت طلب الفي از،
اصلت معه ،لكن حالما بدأت ش اررة الثورة السورية
مما اضطره للسفر للسعودية وهناك تو ُ
ترك السعودية وقالي لي على الهاتف أنا مكاني بين الناس والشعب ،هذه اللحظة التي
كنت انتظرها طول عمري ،كرس ماله وجهده وعلمه لخدمة الثورة في الرقة ومعالجة
ُ
الجرحى ،ومع سيطرة داعش على الرقة تم اختطافه ،وال أحد يعلم شيئا عن مصيره..
كسرت قلبي يا أبا حازم!
ْ
22
أوراق العدد المزدوج 02-91
في سوريا .وفقا إلحصائية أجراها الدكتور نضال الصالح كان عدد المجموعات
سمعت هذه المعلومة منه
ُ المطبوعة ألدباء الرقة يتجاوز السبعين مجموعة قصصية (
في محاضرة ألقاها في فرع اتحاد الكتاب العرب -الرقة) .كان محل القاص يوسف
دعيس للتصوير بمثابة جلسة ثقافية مسائية محببة للقلب وجمعية ثقافية مصغرة،
وكذلك كانت مكتبة بورسعيد في شارع المنصور لصاحبها أحمد الخابور أيضا بمثابة
ملتقى عابر للمثقفين مشتري ومتصفحي الجرائد والمجالت أيضا ،وقد شهدت حديقة
بيت الشاعر عايد سراج كذلك جلسات شعرية جميلة حيث كان يستقبلنا وهو يسقي
النباتات ويرشرش األرض لنستمتع برائحة تشبه ما بعد المطر ،كان ينضم إلينا بعض
األصدقاء أحيانا كالشاعر حسام الف ار والشاعر ابراهيم النمر.
كان المركز الثقافي في الرقة نشيطا حيث لعب الشاعر ابراهيم الزيدي وآخرين دور
كبي ار في تنظيم نشاطات واحتفاليات ثقافية كبيرة من قبيل مهرجان عبد السالم العجيلي
للرواية العربية بدوراته المتعددة وبمشاركة عدد كبير من النقاد والروائيين العرب وحول
العالم ..حيث كان يتم تخصيص كل دورة في المهرجان لمناقشة موضوع معين.
ال يكتمل الحديث عن المشهد الثقافي في الرقة دون الحديث عن طقس الرحلة النهرية
من توتول إلى ماري .توتول هو االسم القديم لمدينة الرقة ،وماري هي المملكة العمورية
الشهيرة التي تقع حاليا في موقع تل الحريري قرب الحدود السورية العراقية .الرحلة هي
طقس شبه متكرر على مدى سنوات ،حيث أول من قام بها الفنان التشكيلي محمد
العقلة وعز الدين بوزان 2666ومن ثم تكررت على مدى سنوات الحقة بشكل غير
منتظم .كان لي متعة المشاركة فيها في شهر آب .1112انطلقت الرحلة من مدينة
الرقة على متن قارب بدائي بجهد شخصي من األستاذ أحمد جبرائيل (أبو زاور) وهو
ميكانيكي المهنة ،يعيش الحياة بطريقة شعرية وقد أمتعنا كثي ار بحديثة عن سيرة أجداده
الشيشان وكيف تم تهجيرهم ومن ثم استيطانهم في ريف الرقة الشمالي .شارك في
الرحلة الشاعر طالب هماش والناقد هايل الطالب والروائية فوزية المرعي والفنان
23
أوراق العدد المزدوج 02-91
التشكيلي حسن مصطفى والمصور سلمو سلمو والباحث أحمد سويحة .استمرت الرحلة
حوالي عشرة أيام وقطعت حوالي 211كم .فكرة الرحلة هي استعادة خطى رحلة قديمة
في األلف الثاني قبل الميالد حيث تم زفاف األميرة (شيبتو) ابنة ملك أوغاريت إلى
ابن ملك ماري (ياريمليم) وقد وجدت تفاصيل هذه الرحلة في ُّ
الرقم التي تم العثور عليها
سمعت من أصدقاء الرحلة الرقاويين.
ُ في مكتبة القصر الملكي في ماري ..هكذا
في الحقيقة كانت تجربة الرحلة النهرية حدثا فريدا وتجربة غنية على المستوى
الشخصي ،حيث تتشكل عائلة مؤقتة تضم مجموعة من المثقفين قد يلتقون ببعضهم
دون سابق معرفة ،هناك تحدي االستكشاف ومتعة العيش ضمن جماعة! ويحضرني
هنا مشهد انعكاس القمر والنجوم على صفحة الماء المترقرق ،كما ال أجمل من منظر
الحوائج النهرية ،وهي جزر نهرية صغيرة كثيفة األشجار كنا نستريح فيها لتناول الطعام
والنوم لفترات قصيرة .كما توقفنا في مواقع أثرية عديدة على ضفتي النهر كمدينتي
حلبية زالبية قبل دير الزور ومدينة العشارة بعد دير الزور .كان لنا محطة في مدينة
دير الزور ،وقد استضافنا الصديق الشاعر بشير عاني في منزله (استشهد على يد
داعش الحقا) وخالل مسيرة الرحلة كتبت فوزية الرعي رواية بعنوان (قارب عشتار)
المعاش.
خالل فترة الرحلة استلهمتها من الحدث التاريخي والحاضر ُ
الحياة التشكيلة كما عاينتها في الرقة غنية على مستوى عدد الفنانين التشكيليين
ونتاجاتهم ،ولكن دونما تنظيم وعمل ثقافي مؤسساتي ،ودونما حضور ُمستحق يتجاوز
حدود المحافظة .يذكرني هنا المرحوم محمود غزال التي كانت معظم أعماله ُمستوحاة
من الطقوس الصوفية ورقصة المولوية ،وكذلك المرحوم موسى الحمادي حيث يحضر
التراث المعماري وتفاصيل الحياة الريفية للمرأة الفراتية في أعماله ،كما يمكن االشارة
إلى أعمال الفنان هاشم األلوسي ذات الطبيعة السريالية الصادمة والمدهشة وقد أهداني
أحد أعماله كغالف لمجموعتي الشعرية الثانية ( ملكوت النرجس) ،كذلك الفنان خليل
المجتهد في تقديم ق
المختص في الحر على الخشب ،والصديق موسى الرمو ُ
حمسورك ُ
24
أوراق العدد المزدوج 02-91
مجسمات حداثية ،حيث أهداني بمناسبة زواجي مجسم مدهش بعنوان (عازف الغيتار)
كنت أعرضه في غرفة الضيوف وكثير مشغول من خردة الحديد وجنازير الدراجاتُ .
من زوار بيتي – من خارج الوسط الثقافي -من األقارب واألصدقاء كانو يستغربون
المجسم حيث كان مادة ُمناسبة لالستغراب والسخرية من الفن الحديث في وجود هذا ُ
جو من الدعابة الغير مؤذية.
كما يمكن هنا التوقف قليال عند فرقة العجيلي للرقص الشعبي التي أسسها اسماعيل
العجيلي وساهمت في تقديم الفلكلور الرقي سوريا بشكل جميل والئق.
في الختام يوجد شعور عند أغلب مثقفي الرقة بكون الرقة محافظة ُمهمشة من قبل
السلطة وأن األديب الرقي ُمحارب! في الحقيقة أختلف مع هذا الرأي فالشعور بالتهميش
هو قاسم مشترك لكل السوريين ،فأي محافظة سورية سوف تستمع فيها لحديث مشابه
بما يشبه محافظات الساحل السوري .القضية تتعلق بالمركز والهوامش ..فالمثقف
الرقاوي المقيم في دمشق سوف يحظى بفرصة أكبر للتواصل مع وسائل االعالم
والمسؤولين عن تسيير حال الثقافة السورية ،وال يوجد قرار ُمسبق بتهميش الرقة أو
غيرها ثقافيا .بغض النظر عن هذا الرأي النمطي قدمت الرقة عددا كبير من المبدعين
السوريين وشهدت حياة ثقافية غنية بما يتجاوز حجمها الديمغرافي .لنحاول تقديم
اجابات حول ذلك؟
أوال -ربما شكلت ريادة الدكتور عبد السالم العجيلي األدبية نموذجا ُملهما لألجيال
الالحقة من القصاصين والروائيين في الرقة.
ثانيا -لنتذكر أن مدينة الرقة كانت مجرد بلدة صغيرة في النصف األول من القرن
العشرين ،وقد شهدت مع وصول البعث للسلطة هجرة كبيرة إليها من ريف المنطقة
الممتد(الشوايا) ومن باقي المحافظات السورية أثناء تشييد سد الفرات وقبله بسبب
ُ
كوارث طبيعية وأحداث تسببت في نزوح عائالت كثيرة من السخنة ودير الزور وريف
حلب كذلك .باختصار يوجد لدينا مزيج بشري متنوع اللهجات والثقافات المحلية ،وعادة
25
أوراق العدد المزدوج 02-91
ما يرافق استيطان أهل الريف والبادية للمدن ظهور طفرات ابداعية ونجاحات فردية
في الجيل الثاني والثالث لألسر الوافدة من مبدأ التحدي واالستجابة في إثبات الذات.
ثالثا -لم يستطع االخوان المسلمين والتيارات السلفية تحقيق اختراق للمجتمع الرقي،
حيث أن هذه التيارات بطبعها تعادي الفنون واآلداب .كان المجتمع الرقي ُمتحر ار إلى
المعتاد جدا وجود
حد ما بالمقارنة مع مجتمعات المدن السورية الداخلية ،فمثال من ُ
فتيات غير محجبات أو حجاب شكلي ،ويوجد الكثير من األماكن والمطاعم التي تقدم
مشروبات كحولية مثال! ال وجود لظاهرة النقاب والحريم ،فالمرأة الرقاوية عادة ما تستقبل
الضيف مثال دون حرج! ينبغي أن ال ُيفهم من كالمي أن ما سبق هو فقط مقياس
للحيوية والتعافي االجتماعي ،ولكنه وضع أكثر انفتاحا من مجتمعات سورية أخرى
بالمقارنة! بالمقابل يشكو المجتمع الرقي من مرض التعصب القبلي والعشائرية والثأر
ونحوه بشكل أكبر من مجتمعات سورية مدينيه أخرى.
ولكي ال نستسلم لهاجس االستثناء والتفرد ..كانت الرقة محافظة ومدينة سورية تتشارك
مع المحافظات والمدن األخرى ثقافة االستبداد االجتماعي والسياسي في مملكة اسمها
سوريا األسد.
26
أوراق العدد المزدوج 02-91
ثائر الناشف
ترتبط ذاكرتي األدبية أشد االرتباط بمدينة الرقة ،تلك المدينة التي ولدت وترعرعت فيها
حتى سن التاسعة عشرة من عمري ،ثم ما لبثت أن انتقلت بعدها إلى مدينة دمشق
بغية متابعة دراستي الجامعية ،لكن األخيرة ورغم الزخم الثقافي واألدبي التي ظلت
تحظى به لكونها عاصمة البالد والمحفل األكبر لصناعة المشهدين األدبي والثقافي،
إال أن للرقة سحرها – إن جاز التعبير هنا -األدبي الممزوج بعبق التاريخ وحكايات
الزمن الجميل من حاضر وماضي المدينة الراقدة على ضفاف نهر الفرات ،فتاريخها
الممتد إلى حقب زمنية مختلفة ،وتواصلها الجغرافي المستمر مع الحواضر المحيطة
ترك فيها إرثاً اجتماعياً وشعبياً كبي اًر ،كان بمثابة الدعائم المتينة التي تأسس عليها
البناء الثقافي.
حركة التثقيف التي عرفتها الرقة في مطلع الستينات ،كانت حركة وجدانية عفوية غير
موجهة ألي وجهة حزبية أو سياسية أو قبلية ،حركة أنتجت على مدار السنوات الماضية
حراكاً ثقافياً متصاعداً بخالف بعض المدن األخرى التي لم يتجاوز حراكها الثقافي
حينذاك مرحلة النمو ،ولم يكن للسلطة أي دور في دعم وتنشيط الحراك الثقافي الرقي،
بل كان مرتبطاً باهتمامات أبناء المدينة التي أنصبت في المقام األول على التحصيل
العلمي واألدبي ،ولعل اإلهمال المتعمد الذي تعرضت له الرقة على مدى عقود ،وأعني
هنا إهمال السلطة من خالل االكتفاء بالنظر إلى الرقة كمدينة نامية ذات طابع عشائري
وقبلي ،كان كفيال بخلق التحفيز الذاتي للعديد من أبناء المدينة ،وشحذ هممهم لتكون
الثقافة همهم وشأنهم األول في التعبير عن تطلعاتهم وطرح قضاياهم اإلنسانية.
27
أوراق العدد المزدوج 02-91
أود أن أؤكد هنا أن االهتمام الكبير بالثقافة ليس تعويضا عن أي نقص حيال أي
تهميش قد يشعر به بعض أبناء المدينةَّ ،
ألن حركة التثقيف عملية تواصلية من جيل
إلى آخر ال تنقطع إزاء رغبات عابرة أو عقد نقص طارئة.
حركة التثقيف في الرقة أشبه ما تكون بحركات التثقيف في محافظات الصعيد ودلتا
النيل في مصر بعدما زرتها وحضرت العديد من أنشطتها الثقافية ،فتلك المحافظات
البسيطة والمتواضعة -التي أنجبت للساحة الثقافية العربية ألمع وأرفع النخب الثقافية-
ما تزال تذكرني بالرقة ،حتى إن واقعها االجتماعي والزراعي ال يختلف كثي ار عن واقع
الرقة ،خاصة وأن السمات الثقافية فيها تجسد جوهر العالقة األصيلة التي تربط اإلنسان
باألرض ،فال غرابة أبداً أن يرتقي األدب في تلك المدن طالما أنه يسمو باإلنسان
ويعكس ارتباطه الحميمي باألرض سواء أكان ذلك في سياق الشعر الشعبي أم في
سياق السرد والقصص بخالف المدن الكبرى ذات الطابع التجاري والصناعي ،فرغم
التطور الثقافي السريع إال أن موضوعاته ال تالمس عادة البعد التاريخي واإلنساني
ألبناء األرض ،لعل هذا المقاربة تحيلنا للنظر إلى الثقافة األوروبية السائدة في الغرب
في العصرين الكالسيكي والرومانسي (أدب الصالونات والبالط) وما كان يقابلها على
الطرف اآلخر في بلدان أوربا الشرقية (األدب الوجداني).
ما أنوي التدليل عليه هنا ،أن الثقافة العربية تأثرت بالتحوالت الكبرى التي شهدتها
الثقافة األوروبية ،فيما ظلت حركة التثقيف في المدن العربية متأثرة كما الثقافة األوروبية
بالنظم البرجوازية والرأسمالية ،وقبل ذلك بالنظام اإلقطاعي إذ ال يمكن أن تخلو الثقافة
من ذلك التأثر.
بدأت الكتابة األدبية في مطلع العشرينات من عمري تزامناً مع دراستي لآلداب واإلعالم
ُ
في جامعة دمشق ،ولم تكن الكتابة مجرد رغبة عابرة أو نزوة ،بل كانت فعالً معب اًر
عن مكنونات النفس واتجاهاتها ،وكانت مكتبات الرقة -رغم قلتها آنذاك -ومعارض
28
أوراق العدد المزدوج 02-91
الكتاب وجهتي المفضلة التي تواصلت فيها تواصال حيا مع عوالم األدب والثقافتين
العربية والعالمية.
ولم تكن المكتبات وحدها ما كان ينقص الرقة في الثمانينات والتسعينات ،إنما دور
النشر والصحف المطبوعة ،ما اضطر العديد من كتاب المدينة ومثقفيها وصحفييها
إلى اللجوء إلى دمشق وبيروت لنشر إنتاجهم األدبي.
كان الخروج من سورية كفيال في كبح القلق والمخاوف التي راحت تطاردني إثر كل
كلمة كتبتها ،فسرعان ما تنفست الصعداء ،رغم الصعوبات الهائلة في المنفى الجديد،
لكن طاقة هائلة من النشاط حثتني وشحذت همتي للبدء من جديد ،فكانت البداية من
بدأت أواكب
عالم المسرح ،وما إن استفاقت الشعوب العربية من سباتها الطويل ،حتى ُ
التغيرات التي المست جوهر الرواية العربية ،فآثرت الخوص في غمار الرواية انطالقا
من التغيير الجذري الذي أصاب بنية المجتمع السوري.
توثيق يوميات الثورة كان هاجسي األكبر الذي صرفت جل اهتمامي من أجله ،فكتبت
رواية قيامة الروح التي كانت أول رواياتي في حقبة الربيع العربي ،إذ حرصت فيها
على توظيف السرد في خدمة التوثيق ،ألن ما تتناقله األجيال عبر وسائل اإلعالم
المرئية ووسائل التواصل االجتماعي قد ال يخلد طويال في الذاكرة بخالف الكتابة
األدبية التي تبقى حاضرة في ذاكرة األجيال ،كما أن المساحات الكبيرة التي أتيحت
29
أوراق العدد المزدوج 02-91
للروائيين والكتاب في ذروة غليان الربيع العربي ما كان لها أن تتاح مطلقا في أوقات
سابقة.
لبثت بعد ذلك أن خضت في غمار الحرب السورية ،فكتبت رواية المسغبة التي
وما ُ
جاءت فصولها طويلة ومتسلسلة بطول وتسلسل أحداث الحرب القاسية التي عرفتها
سورية خالل عقد كامل ،فالمسغبة كرواية حرب استنفدت في الواقع جميع الطاقات
والجهود التي ادخرتها للكتابة فيما يتعلق بأحداث أخرى ذات صلة مباشرة بالحرب،
فروايات الحرب ليست كغيرها من الروايات الرومانسية أو البوليسية أو حتى
االجتماعية ،إنها اإلحساس العميق لوجدان الجرحى والمصابين ،األحياء واألموات
على حد سواء.
ال توجد حرب في الدنيا بال تداعيات ،فكانت آثار الحرب وتداعياتها الجسيمة على
السوريين بمثابة خيوط السرد التي نسجت على منوالها رواية الكيميائي ،فالخوض في
تداعيات الحرب ال يقل شأناً عن الخوض في تفاصيل الحرب نفسها ،ال سيما أن
الحروب قد تنتهي بين عشية وضحاها ،أما تداعياتها فليس من السهل تجاوزها في
زمن وجيز ما لم يتصالح المرء مع نفسه ومحيطه.
فالتصالح مع الذات في زمن ما بعد الحرب هو حجر الزاوية الذي نهضت عليه رواية
الكيميائي ،فرغم أن التصالح في حالتنا كسوريين ليس متجسدا على أرض الواقع ،إال
أن طرح الفكرة من خالل األدب كفيال بإيصالها إلى القراء الواعين الذين إن أخذوا بها
مأخذ الحكمة والحقيقة وقد يسهمون في شيوعها بين العامة.
معظم الروايات التي كتبتها تركزت موضوعاتها األساسية على القضية السورية بأبعادها
اإلنسانية والسياسية ،لكن روايتي قمر أورشليم وجرح على جبين الرحالة ليوناردو ،كانتا
مغايرتين تماما لجميع الروايات التي استحوذت على اهتمامي ،فهاتان الروايتان تتجهان
إلى م عالجة العالقات اإلنسانية من المنظور العاطفي والفلسفي ،وفيهما ابتعاد كامل
عن السرد التقليدي ذي النهايات المحتومة.
31
أوراق العدد المزدوج 02-91
فيما يبقى المسرح أحد أهم المحطات التي ال ألبث أن أتوقف عندها بين الفينة واألخرى،
رغم عزوف العديد من الناشرين عن المغامرة في إصدار المسرحيات النصية لضعف
لت أعتقد أنه
إقبال القراء على هذا النوع من األدب مقارنة بعوالم الرواية ،لكنني ما ز ُ
لوال فضل النص المسرحي المرتكز على لغة الحوار بين الشخصيات المحورية لما
استطاعت الرواية أن تشق طريقها بين القراء.
أخي اًر أود القول بإيجاز إن الكاتب هو المحور الذي ينهض عليه األدب وليس العكس،
ولذا فإن الكاتب الذي يحوط نفسه بالحواجز والجدران ويكتب إرضاء لمن حوله قبل
أن ينظر إلى نفسه ،ال شك أنه ُيغرق نفسه في دوامات هائلة دون أن يدرك المخرج
من ورطته.
31
أوراق العدد المزدوج 02-91
الطيار
أحمد مولود ّ
كاتب سوري يقيم في كندا
يتردد كثي اًر في لغة المسرح أن الجمهور هو بطل المسرحية ،ال مسرح بدون جمهور،
الجمهور هو فاكهة العرض الخ ،حتى أن هناك من يربط صعود وأداء الممثل /الممثلة
على خشبة المسرح وفقا لمدى تفاعل ذلك الجمهور.
مما ال شك فيه أن تلك العالقة هي تفاعلية وال تستقيم اال بطرفي المعادلة معا .وبما
أن هذا المقال يتحدث عن جمهور المركز الثقافي في الرقة ،ال بأس من تلك االستعارات
المسرحية واسقاطها على واقع المركز الثقافي في مدينة الرقة ،في محاولة للتعرف على
من هم أولئك الذين اعتلوا خشبة ذلك المسرح وكيف تفاعل ذلك الجمهور معهم .يحاول
هذا المقال سبر تلك العالقة في فترة زمنية محددة هي التي أعقبت مجيء بشار األسد
الى السلطة بعد وفاة أبيه ،عام ٠٢٢٢واآللة اإلعالمية للنظام في الترويج للمشروع
الدي أطلق عليه وقتها اسم "التطوير والتحديث".
على عكس العواصم والمدن الكبيرة حيث التعقيد السمة األبرز ،وال فائض من وقت
"يهدر" ،ظلت الطرق قصيرة الى المركز الثقافي حيث ينزل اليه رواده من مسارب
قصيرة ال عناء فيها ،تظللهم مساءات جميلة تأتي إليهم بنسمات صيف ندية بعد
انقضاء يوم حارق .يتهادون اليه رويدا رويدا لحضور أمسية شعرية من هنا ومحاضرة
فكرية أو سياسية من هناك ،فتمتلئ بهم مقاعده الخمسمائة حيث ال مكان لوافد جديد.
اشتعل هذا المركز ،كما اسلفت ،في الفترة التي بات يطلق عليها اسم ربيع دمشق،
حيث كثرت المنتديات في معظم المحافظات السورية ،وال يعتقد كاتب هذه السطور آن
ما يسمى تجربة المركز الثقافي في الرقة واستقطابها لنشاطات واسعة وأسماء بارزة
32
أوراق العدد المزدوج 02-91
يدخل في باب نظرية المؤامرة كما يروج بعض الرقاويين ،من حيث أن الرقة كانت
حقل تجارب للنظام لتطبيق كثير من سياساته انطالقا من (مختبر التجارب -الرقة).
قد يكون للرقة مظلوميتها الخاصة وال شك في ذلك ،انما هذه المظلومية ال تختلف
كثي ار عن أي مظلومية سورية أخرى تعاني منها كل محافظة سورية على حدة ،جذرها
واحد ،االختالف في الدرجة ،انما هي من نفس نوع أخواتها ،المظلمات السورية
االخرى.
جمهور المركز الثقافي آنذاك ،وبعد الصفين األول والثاني حيث "المقامات واأللقاب
الرفيعة" ،تتواضع تلك األلقاب وتتراجع الى صفوف الوسط حيث يتقاسمها قاص وشاعر
وشاعرة الى فنان تشكيلي الى روائي وروائية ،كذلك صحافي من هنا وصحافية من
هناك الخ .الصفوف في المنتصف حتى الصفوف األخيرة تتالقفها العامة ،كذلك من
فضل االنزواء في البعيد يراقب المشهد بدون ضجيج.
ال شك ان معظم ذلك الجمهور وبكل تدرجاته "االثينية" (نسبة الى العاصمة اليونانية)
انتهاء
ابتداء من تلك الطبقة التي تتصدر الصفوف األولى مرو ار بصفوف المنتصف و ً ً
بتلك التي كتب عليها أن تعيش في المقاعد الخلفية ،كلهم كانوا متعطشون للحوار وكل
بطريقته .الغالبية كانت تستمع ،واالستماع بالطبع هو جزء أصيل من الحوار .من كان
يدير ذلك االستماع ،أو الحوار ان شئتم وافدون قادمون من العاصمة دمشق أو ضيوف
عرب برتبة وزير أو كاتب ومحلل أو منظر استراتيجي ،جاؤوا كلهم ليبلغوا رسالة .تم
زركشة تلك الرسالة أو الرسائل وقيل في تقديمها من قبل خطيب مفوه ،أو عريف
الحفل ،كما درجت تسميته ،أنها محاضرة فكرية أو سياسية ،أما ما قيل عنها أمسيات
شعرية وقصص قصيرة ،فال شأن لهذا المقال بها.
المبشرون ،بكسر حرف الشين ،كانوا في تلك الفترة يعرضون بضاعتهم ويغدقون عليها
أعذب العبارات فبرنامج "التحديث والتطوير" الذي هندسه الرئيس الوريث سينقل سوريا
من كل الجمود الذي هي فيه وسيضعها قريبا في مصاف دول النمور االسيوية .تبارى
33
أوراق العدد المزدوج 02-91
في عرض تلك البضاعة فيلسوف شهير ،لم يجد حرجا وهو يكرر بال انقطاع واعجاب
مفردة "الرئيس الشاب" ،كذلك صحافي المع ورئيس تحرير جريدة عربية كان شعارها
الشهير "صوت الذين ال صوت لهم" ،وكانت الترجمة العملية لذلك الشعار أن الصحافي
الالمع أوقف محاضرته وقت سماع آذان المغرب .فخيم الصمت ،ولم يتم قطعه اال
بعد "حيا على الصالح ،حيا على الفالح" ،عندها استُؤنف الضجيج ،ببرنامج السيد
الرئيس الذي سينقل سوريا من عهد حافظ األسد الى عهد بشار األسد ،ثم سيضعها
بالقرب من دول النمور اآلسيوية كما قيل للسوريين .وقبل االنتهاء من عرض هذه
العينة السلطانية ،البد من ذكر مفاحش وعورات الديموقراطية ،تلك الديموقراطية التي
ال هم لها اال بإبراز قضايا المثليين والمثليات ويجب أن نحصن مجتمعنا من تلك
اآلفات الغريبة والغربية معا ،كما جاء في "بيان تهديد الديموقراطية" للعالمة مهدي
دخل الله وزير االعالم السوري ،في محاضرته في المركز الثقافي في الرقة عام
.٠٢٢٢هذا غيض من فيض ما بشرنا به منظرو "التطوير والتحديث" ومن على
خشبة المركز الثقافي.
أما المبشرون ،بفتح حرف الشين ،والذين غصت بهم المقاعد الخلفية فلم يغيروا من
استراتيجيتهم في الحوار ،ظلوا صامتين ،يحدقون في وجوه المحاضرين ،الذين يمرون
أمامهم تباعا ،دون أن ينبسوا بكلمة .حتى عندما طلب منهم الوزير العالمة رأيهم في
نوعية النظام الذي يحكمهم ،لم يجيبوا .لم يعيروه اهتماما عندما رفض تسمية النظام
الذي يمثله -من قبل أحد المتداخلين -بأنه ينتمي الى صنف "الديموقراطيات الشعبية"
التي ازدهرت في الحقبة السوفيتية .أدرك جمهور المركز الثقافي ،ممن قبعوا في
الصفوف الخلفية ،أنهم أمام نسخة مشوهة من غوبلز هتلري ال يكف عن الكذب ،لذلك
ثاروا؛ غادروا مقاعدهم الخلفية ،صعدوا الى المسرح ،حطموا كل الديكور ،هشموا كل
الميكروفونات الموجودة ،ال حاجة لها فصوتهم أقوى.
34
أوراق العدد المزدوج 02-91
بالعودة الى تلك الفئة الهالمية التي كانت تختبئ في الصفوف الوسطى ،فهي ما انفكت
تتقدم وتتأخر في مقاعدها وفقا لبارومتر الجو السياسي واإلعالمي السائد ،فتارة تتقدم
صفا واحدا أو اثنين الى االمام متماهية بالنسب الى أصحاب "المقامات الرفيعة"
تتشارك وإياهم حفالت السمر وفتات الموائد العامرة ،ثم في سياقات أخرى تنزاح وتتراجع
مدعية أنها تنتمي الى هموم وأوجاع شاغلو المقاعد الخلفية .يمكن القول إن هذه
الشريحة قد حافظت على مواقعها الميكيافيلية ،ان استعرنا المصطلحات الفكرية
والسياسية ،أو "تعرف من أين تؤكل الكتف" وفقا لتعبيرات شاغلوا المقاعد الخلفية .هذه
الشريحة ،التي لم ترتق الى مستوى الطبقة ،ظلت تتعامل مع منتجها بشكل مهني
وحرفي ،فتكنيك القصة القصيرة وتفعيلة القصيدة الحديثة ومذاهب الرواية وأشكال القص
الصحفي كان الطابع المسيطر على نقاشاتها ،تماما كما يناقش الحداد موضوع السندان
والمطرقة ،أو النجار نوعية الخشب الذي يستخدمه ،أو عامل المجارير الصحية كيفية
تسليك تواليت ُسطم مجراه وامتأل بالخراء .شاغلو مقاعد المنتصف هؤالء ،وقبل تحطم
المسرح والديكور كانوا يناقشون جنس المالئكة وكانوا الحليف الموضوعي للنظام
السوري قبل الثورة.
تهدم المسرح على من فيه ،اختلطت الصفوف ،بات أصحاب "المقامات الرفيعة" عارون
تماما ،عال الصراخ والزعيق على صفحات فيس بوك وتويتر من قبل تلك الفئة
الهالمية ،شاغلوا مقاعد صفوف المنتصف .ماذا حل بأهل المقاعد الخلفية؟ قسم كبير
منهم في مخيمات بائسة في دول الجوار ،وقسم ال يستهان به القى ربه وقسم آخر
اليزال يراقب ويشاهد المنظر بصمت ،بدون ضجيج.
35
أوراق العدد المزدوج 02-91
محمد العزو
المبحث األول:
الرقتان "البيضاء" و"الرافقة" العظيمتان تغنى بهما شعراء العصرين "األموي" والعباسي،
على طول امتداد عمرها المجيد المديد ،منذ تشييد "الرقة البيضاء" في العصور السابقة
على اإلسالم ،ومنذ أن شيد الخليفة "المنصور" رفيقة "الرقة البيضاء" أو "الرافقة"
اإلسالمية ،حيث حفظت لنا الحوليات األدبية أجمل األبيات الشعرية الجميلة ،والمعبرة
لشعراء العصرين األموي والعباسي ،الذين قالوا بها أجمل الكلمات وأروعها ،وأعذب
المفردات وأصدق المعاني .الرقة تفاحة حمراء قالها شاعرها وابنها البار "ربيعة الرقي"
في قصيدة يمزج فيها بين الوصف والغزل في ألفاظ رشيقة وجميلة َيصف فيها رياض
"الرقة" وبساتينها الغناء:
وعطاءات الله من الثمار خير وبركة ،كذلك هي الرقة الحوراء تفاحة يانعة حمراء
اخضلت بماء الربيع تشتهيها االنفس على مدى األيام والسنين ،ولما بنى الخليفة
36
أوراق العدد المزدوج 02-91
"المنصور" مدينة "الرافقة" بالقرب من "الرقة البيضاء" ،وما لبثت هاتان المدينتان "الرقة
البيضاء والرافقة" ،أن اتصل بناؤهما ،فأطلق عليهما معا اسم "الرقتين" قال البحتري:
ومع مرور الزمن خربت "الرقة البيضاء" ،وأخذت مدينة "الرافقة" إسمها ودورها ،وصار
يطلق عليها إسم "الرقة" ،ولما بنى الخليفة "هشام" مدينة "واسط الرقة" على الضفة
اليمنى "للفرات" ،وحفر فيها قناتي "الهني والمري" ذكرهما الشاعر "جرير" في مدحه
"لهشام" فقال:
"الهني والمري" بقيا حتى العصر العباسي ،وقد ذكرهما "الصنوبري" ،فقال:
كون هذه األماكن كلها متقاربة ومتصلة بجميع الرقات :الرقة البيضاء ،والرقة السوداء،
والرافقة ،ورقة واسط .وقد ذكر الشعراء بعض األماكن والمراكز المتصلة بالرقة ،التي
صار يطلق عليها إسم الرقة ،مثل دير زكى وهو أحد أديار السريان الذي كان مالصقا
لتل البيعة من الجهة الشرقية ،وقد مر ذكره عند الشاعر الصنوبري ،كما ذكره الشاعر
األموي عبيد الله بن قيس الرقيات ،الذي كان ينزل الرقة في بعض أيامه ،فيقول:
وكان الخليفة "هارون الرشيد" قد نزل هذا الدير واستطابه وبر أهله ،وقال فيه شع ار
كقوله:
37
أوراق العدد المزدوج 02-91
وألبي بكر الصنوبري مجموعة من األبيات الشعرية ومقطوعات في دير زكى ،أوحت
بها الطبيعة الجميلة المحيطة بهذا الدير ،وبساتينه ونهيراته وأدب أهله فيقول:
أما الصالحية وهي حي من أحياء الرقة الجميلة تقع بجانب دير زكى من جهة الشرق،
اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي من بني العباس ،وكانت ذات بساتين وقصور
جميلة ،وقد ذكرها الشاعر منصور النمري في قوله:
والبطياس والعوالي ،وهما من أحياء الرقة واقعان بالقرب من دير زكى والصالحية شرقا
لتجاورهما ،وكانتا من األحياء الجميلة وكالهما من المنتزهات الريانة ،وقد أغرت
الشعراء وطالب المتعة واللهو للتنعم بظاللها الوارفة ومياهها العذبة ،فقال فيهما
الصنوبري:
من ينس عهدهما يوما فلست له /وإن تطاولت األيام بالناسي
يا موطنا كان من خير المواطن لي /لما خلوت به ما بين جالسي
38
أوراق العدد المزدوج 02-91
أما البليخ ميناء حواضر التاريخ ،وعوسج الماضي والحاضر ،فقد تغنى به الشعراء
وبما حوله من بساتين وحدائق غناء ،وببساتين الزيتون ،ومن هؤالء الشعراء نذكر ابن
أحمر الباهلي ،واألخطل ،وابن صفار ،وأبي نواس ،والبحتري ،وابن الرقيات ،ومسلم
ابن الوليد ،وأشجع السلمي .قالوا في البليخ شع اًر جميال تنبئ عما خلفه البليخ ،بما
حوله من أثر جميل في نفوس الزوار والمرتادين ،ومن أجمل ما قيل في البليخ قول
أبي نواس الذي عاش حول البليخ ،ثم غادره وأهله إلى العراق مكرهين يقول:
لقد كدت من حب خمر البليخ /أن أجعل الشام أهال ودا ار
وكان لقناة النيل حظ وافر في شعر محبي الرقة الحوراء ،هذه القناة من أنهار الرقة،
التي حفرها حمورابي في االلف الثاني ق.م من غرب الرقة ،ثم جددها هارون الرشيد،
وكان هذا النهر يروي مدينة الرقة أثناء ابتعاد الفرات جنوبا ،ويروي المزارع شرق
المدينة .قال فيه أبي بكر الصنوبري:
ومن قرى الرقة القريبة التي تغنى بها الشعراء ،وخلدوها بقصائدهم نذكر منها :دامان
التي اشتهرت بتفاحها االحمر ،وكذلك موضع المديبر ،وتل زاذان ،ومرج الضيازين،
والمازمان ،والرابية ،والرصافة ،والمصلى ،وغيرهما من المواضع الرقية ،ومما ذكره
الشاعر الصنوبري ،وغيره من الشعراء .إذ يقول الصنوبري:
39
أوراق العدد المزدوج 02-91
هذا وقد سكن الرقة مجموعة من الشعراء ،الذين قالوا بها اشعا اًر جميلة ،منهم الشاعر
الملقب بأبي ِهفان المهزمي ،الراوية والعالم بفنون الشعر واألدب ،ذكر الرقة البيضاء
في قوله بمدح ابي العباس أحمد بن ثوابة الكاتب من كبار الوالة في العصر العباسي،
فقال:
في القرن الرابع الهجري ظلت الرقة في أبهى حلتها ،إذ بقيت محافظة على مكانتها
كمدينة ،ذات موروث كبير ومعمورة بخيراتها وأمجادها ،مزهوة بأبنائها الكرام ،الذين هم
ينابيع الندى ،هذا اإلطراء الجميل بالرقة والرقيين ،جاء على لسان الشاعر أبي فراس
الحمداني بقوله:
وأثناء ثورة الن ازريين على سيف الدولة ومالحقته لهم ،حيث تابع مسيرته حتى نزل الرقة
يريد اإليقاع ببني نمير وعفوه عنهم فيما بعد ،حيث مدحه المتنبي بقوله:
ومن الشعراء الذين ذكروا الرقة في شعرهم الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات القرشي،
وكان من المناصرين للزبيريين ،وقبل بلوغه سن الثالثين ارتحل إلى الرقة ،وهو في
الرقة سمع بمقتل مجموعة من أهله في معركة الحرة ،فرثاهم في قصيدة ،ونقم على
بني أمية .وبعد موت يزيد تحولت أرض الجزيرة إلى ميادين حروب بين قيس وتغلب،
41
أوراق العدد المزدوج 02-91
وبعد مقتل مصعب بن الزبير وزوال دولة الزبيريين ،ناشد بن قيس الرقيات العفو من
بني أمية ،واستشفع إلى عبد الملك بعبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد ذلك مدح بن
أبي طالب بقصيدة وهو في الرقة يقول فيها:
ونرى شاعرنا يشير إلى ما أحدثته الفواجع والمواجع والحروب في الجزيرة الفراتية بقوله:
وهذا الشاعر الكبير أبي تمام الطائي في القرن الثالث الهجري ،كان يتردد على الرقة
من الموصل يمدح أجوادها فيقول في إحدى مدائحه:
وما أظن النوى ترضى بما صنعت /حتى تشافه بي أقصى خرسان
والشاعر البحتري وهو في الرقة مدح بني ناجية ،وهم قوم من أجواد العرب ،ووصفه
لمرابع الرقة التي نزلها وطاف بها ،حيث يسترسل في وصف مروج الرقة الخضراء
وجمال الطبيعة فيها التي تختال كالفتاة الناعمة الحسناء في حللها الزاهية المزركشة
فيقول:
من أبيض يقق ،وأصفر فاقع /في أخضر بهج ،وأحمر قان
41
أوراق العدد المزدوج 02-91
وها هو البحتري يمدح أبو سعيد الثغري أحد قواد جيش المعتصم وهو في الرقة ،في
قصيدة قال فيها:
وكان البحتري وهو بالرقة قد وقف على أعمال فيها بعض المنغصات ،التي تسيئ إلى
جمهرة الناس وتستهين بمصالحهم ،فكتب بشكوى إلى الخليفة المتوكل لرفع الظالمة،
وتحقيق العدل واإلنصاف ،وهذا ما عبرت عنه قصيدة للخليفة يقول فيها:
كانت هذه شكوى على صاحب البريد بالرقة ،أما ابا بكر الصنوبري الذي تغنى كثي ار
بالرقة ،وقد سكن الرها أيضا ،وكان يجتمع في دكان سعد الوراق مع مجموعة من أدباء
الشام ،والصنوبري صاحب الزهريات والروضيات الرقية ،نقتطف من ديوانه ازاهير
الرقة وورودها ،حيث أنه رأى العيش في الرقة أطيب عيش وفي هذا المعنى يقول:
خلع ابن الصنوبري العذا ار /وغدا ،فهو ال يرى ذاك عا ار
وفي قصيدة أخرى يصف الطبيعة بأزهارها وأشجارها وحدائق رياضها الغناء في الرقتين
بقوله:
42
أوراق العدد المزدوج 02-91
وغصن على غصن تميله الصبا /كما مال إلف نحو إلف يعانقه
حدائق روض يحسر العين حسنها /وما كان حسن الروض لوال حدائقه
ومن أجمل ما قاله الصنوبري أبيات غزلية رقيقة ،نفذ وانتقل منها إلى اإلشادة بطباع
أهل الرقة الظريفة ،حيث يقول:
بأبي من لو أنني ذبت ض ار /فيه ،ما قلت إنني ذبت ض ار
طاف هذا الجمال في الخلق حتى /حين صار الجمال فيه استقرا
اما الشعراء من أبناء الرقة ،فكانت الرقة في عيونهم األم الحنونة ،التي حمتهم مفضلين
إياها على سائر المدن ،شاعرها المجيد ربيعه الرقي قال عنها:
43
أوراق العدد المزدوج 02-91
مازال مجال القول عن الرقة وتراث الرقة الشعري كبي اًر ،وكثي اًر من األشعار قد ضاعت
ولم يصلنا إال النادر القليل ،ومع ذلك نقول إن التراث الذي عرفته الرقة في عصورها
الزاهرة ،كان تاج آخر يزين مفرقها ،وعقد جميل يرصع جيدها ،وإن ما ذكرناه عن كيف
بدت الرقة في عيون شعراء أزمانها المجيدة؟ ،نبع كاف إلرواء ذلك الماضي الزاهر،
الذي يزداد ألقا ،كلما تم العثور على كتب جديدة منسية ،وكلما ساعدنا النبع المتدفق
على إظهار دواوين من الشعر خافية.
المصادر:
* -طبقات الشعراء د .تحقيق عبد الستار فراح .دار المعارف 2616م.
44
أوراق العدد المزدوج 02-91
المبحث الثاني:
تمتعت "الرقة" أيام الرشيد بعصر مجيد ،لمع فيه كوكب سعدها ويا ليته يلمع اليوم،
وشع نجم حضارتها وتعددت أسواق نهضتها األدبية ،فدعا المؤرخون والمفكرون ذلك
العصر باسم "العصر الذهبي" ،وذلك تعظيماً لقدر رجال ذلك العصر وتميي اًز له عن
سائر العصور األخرى.
ويقول الراحل "مصطفى الحسون" ( ..وإذا كان الفرنسيون قد عظموا ملكهم "لويس
الرابع عشر" الذي كان بحق ،أكبر عاهل في أوروبا في عصره ،فإنه يحق لنا نحن
أن نتفاخر بالخليفة "هارون الرشيد" ،الذي سبق الملك "لويس الرابع
العرب والمسلمين ْ
عشر" بألف سنة تقريباً) .وإذا ما طاب لنا الحديث عن بالط "الرشيد"َّ ،
فإن الحديث
عنه يطول ويطول ،فقد اجتمع في بالطه عباقرة عصره وعصر من سبقوه ،ويحضرني
من أسماء األدباء والشعراء وقادة الفكر الذين اجتمعوا في بالط "الرشيد"" ،أبو العتاهية"
و"أبو نواس" و"مروان بن أبي حفصة" و"الكسائي" و"يحيى بن المبارك اليزيدي" و"كلثوم
بن عمرو العتابي" و"األصمعي" وغيرهم.
وفي دراسة للمرحوم الشاعر "مصطفى الحسون" ،في مجلة الحوليات األثرية ،المجلد
/22/عام /2622/م ،ص /246/يقول..« :وقد أطلق الفرنسيون على عصر "لويس"
اسم "عصر الشمس والنور" ،كما أطلقت العرب اسم "العروس" على أيام "هارون الرشيد"
في "بغداد" و"الرافقة" أو "الرقة" ،لجمالها وبهجتها ،وفي العلم واألدب والفن فيها .على
َّ
أن ما اجتمع في بالط "الرشيد" من العباقرة والقادة أكثر مما اجتمع في قصر "لويس"،
رغم الفارق في الزمن».
لقد أدار "الرشيد" دولته بكل عظمة واقتدار ،وسار على نهج السلف من الخلفاء
المسلمين األقوياء مثل جده الخليفة "المنصور" ،وما كان الخليفة "هارون الرشيد" كما
45
أوراق العدد المزدوج 02-91
وقد ُعرف "الرشيد" بميله وحبه للصيد ،وموكب اللعب بالصولجان ،وموكب الطراد،
وكان الفضاء الواسع بين "الرقة البيضاء" و"الرافقة" مكان (المنطقة الصناعية) الحالي،
الذي يمتد شماالً حتى منطقة "القصور العباسية" ،على شكل ميادين مخصصة لمواكب
العرض العسكري والطراد واللعب بالصولجان وبقية النشاطات والهوايات التي كان
يهواها الخليفة "الرشيد" ،ويذكر المسعودي َّ
بأن "الرشيد" كان مواظباً على الحج ،ومتابع ًا
َّ
وحصنها ،فكانت الرقة للغزو ،وأنه كان مهتماً ببناء الحصون والثغورَّ ،
ومدن المدن
آنذاك أكثر مدن الحافة رقياً وتحض اًر ،وكان أول من لعب بالصولجان ،وأول من لعب
بالشطرنج من خلفاء "بني العباس" ،وكان يهتم كثي اًر بالالعبين ،وأجرى عليهم الرزق،
ونق أر في كتاب األغاني لـ"أبي فرج األصفهاني" :مجلد /24/قول لـ"علي بن الخليل":
أما السيدة "زبيدة بنت جعفر" زوجة الخليفة "هارون الرشيد" ،فقد وصفها المؤرخون أنها
كان ،حسنة السيرة في الجد والهزل ،فأما الجد واآلثار الجميلة التي تشهد على حسن
سيرتها ،فيظهر ذلك في حفرها لعين "المشاش" في "الحجاز" ،فقد مهدت الطريق لماء
هذه العين واستجرتها من مسافة عشرين كم إلى مكة ،رغم كل الصعاب المتمثلة
46
أوراق العدد المزدوج 02-91
ومما ينسب إلى الخليفة "الرشيد" ،أن ماء الشرب كان يرسل إليه في قوارير زجاجية
من "المدينة َّ
المنورة" وهو في "الرقة" ،هذا الخبر يذكره "القزويني" في كتابه (آثار البالد،
وأخبار العباد) ،وكان "الرشيد" يعشق ركوب الخيل والطراد ،وكانت "الرقة" منذ العصر
األموي مشهورة بتربية الخيول العربية والعناية بها ،وكانت ميادين السباق في "الرقة"
و"الرصافة" و"الكرخ" (كرخ الرقة) قائمة منذ أيام الخليفة األموي "هشام بن عبد الملك".
وفي عهد "الرشيد" خصصت للخيل الحقول الخضراء مثل (حقل الضيازن) ،وكان لدى
"الرشيد" من جيادها عدد كبير جداً .ويذكر المؤرخون ومنهم "د .الجومرد" أن "هارون
الرشيد" كان يقيم سباقاً لخيله ،وكان يجريها مع خيول األمراء والوزراء ،ويخصص لها
الجوائز المادية المجزية .وقد بلغ عدد الخيول العربية األصيلة في "الرقة" أيام "الرشيد"
المئات.
ويذكر "األصفهاني" صاحب كتاب "األغاني" أنه كان في "الرقة" أيام "الرشيد" الكثير
من الحقول واالصطبالت لتوليد عتاقها ،وتربيتها ،وكانت مهمة اإلشراف على هذه
الخيل والعناية بها ُمناط بأمهر األخصائيين العرب ،ويذكر "الجومرد"َّ ( :
أن عددهم بلغ
المئات ،وكان لهم بيت مال خاص يشرف على الشؤون المالية ،ولهم أيضاً رؤساء
تبوأوا مكانة مرموقة بين رجال الحاشية ،وفي مقدمتهم "دفافة العنسي الرقي" ،الذي كان
يدعى صاحب خيل الرشيد).
47
أوراق العدد المزدوج 02-91
كان "الرشيد" يتخذ من "الرافقة" "الرقة" مكاناً آمناً ،وفي األيام والشهور التي ال يكون
فيها غازياً أو حاجاً ،يقوم بممارسة هوايته المفضلة التي هي في الوقت نفسه جزء من
النظام اإلداري ،وتقليد سار عليه "الرشيد" ،مثل العروض العسكرية التي كانت تنظم
في ميادين الرافقة "الرقة" وتنسيق المواكب ،وإظهارها بالمظهر الالئق بشخصه من
لباس وسالح وكوكبة الحرس وفرق جنود المشاة .ومن األمور الطريفة التي تروى عن
"الرشيد" أنه أجرى الخيل يوم ًا في "الرصافة ،وكان يجلس في صدر السبق ،فلما توافت
إليه الخيل كان في المقدمة َف َرَسان ،فلما تأملهما قال« :فرسي والله ،وفرس ابني
"المأمون" ،قالوا :فلما قدمتا وهما في مقدمة الخيل ،وكان فرس "الرشيد" السابق وفرس
ابنه "المأمون" الثانية ،فقد سر بذلك ،فلما انقضى السباق وتفرق المجلس ،وهم "الرشيد"
باالنصراف طلب "األصمعي" مقابلة الخليفة ،وقال :لدي شيء من أمر الفرسين ،وأريد
أن أبوح به للخليفة .وقام "الفضل" بإخبار أمير المؤمنين قائالً :يا أمير المؤمنين :هذا
ْ
أن يبلغ سيدي أمير المؤمنين شيئاً من أمر الفرسين ،قال أين هو؟!"األصمعي" يريد ْ
فلما دنى"األصمعي" قال الخليفة :ما عندك من أخبار جديدة يا "أصمعي"؟ قال يا أمير
المؤمنين ،مجلس السباق في هذا اليوم ،كنت فيه أنت وابنك في فرسيكما ،كما قالت
الخنساء:
48
أوراق العدد المزدوج 02-91
ويذكر الدكتور "عبد الجبار الجومرد" في كتابه "هارون الرشيد" ،طبعة بيروت /2616/
م ،أنه كان لـ"الرشيد" هوايات كثيرة ،منها أنه كان يهوى ركوب "الحراقات" من السفن
المزينة في نهر الفرات ،عندما يكون في "الرقة" ،وأفضل وقت عنده لذلك هو الليل
حيث يكون النهر والماء راكداً ،و"الحراقات" مزدان ًة باألنوار ،حيث تشكل مع أنوار
القصور المنعكسة على ماء النهر لوحة تشكيلية بديعة المنظر .ويذكر المؤرخون العرب
أنه كان في دار "الرشيد" الكثير من الجواري الحسان ،ومنهن"ماردة" أم ولده المعتصم،
ويقال َّ
إن "الرشيد" قد خلفها في "الرقة" في أحد سفراته إلى "بغداد" فمرة اشتاق إليها
فكتب قائالً:
ومنهن أيضاً "هيالنة" الرومية ،وأنه "الرشيد" حين ماتت حزن عليها حزناً شديداً ،وقال
فيها قصيدة رثاء مطلعها:
وقال "الرشيد" لـ"لعباس بن األحنف" ،قل يا "أحنف" شيئاً على موت "هيالنة" فأنشد
قائالً:
جل المؤرخون والباحثون العرب واألجانب ،يؤكدون ويثبتون ،ونحن نعتقد وهكذا نجد َّ
أن َّ
ذلك أيضاًَّ ،
أن أيام "الرشيد" في "الرقة" وفي "بغداد" وفي كل أرض الخالفة هي بحق،
كما يقول المرحوم الحسون( :أيام العروس) .وهذه الصورة تبدو لنا ،نحن أبناء األلفية
الثالثة بعد الميالد ،أن أيام "الرشيد" كانت أيام جد وفرح وسرور ،ولكي نكون بعيدين
عن التعصب والفخار لهذا الخليفة العربي األصيل ،فإننا نؤكد أيضاً أن هذا القول ليس
نابعاً من تتبعنا لحياة "الرشيد" الخاصة ،بل أيضاً من تتبع حياة رعية "الرشيد" العامة،
القاطنة في كل األقاليم القريبة والبعيدة ،والقوميات المتعددة في أنحاء الخالفة.
وإذا كانت العرب قد سمت أيام "الرشيد" بـ"أيام العروس" ،فألن أيام خالفة "الرشيد"
كانت أيام خير وأيام عطاء وأيام خصب وأيام األمن والعدالة .وتتحدث المراجع التاريخية
عن فترة خالفة "الرشيد" واهتمامه وعنايته بأمور الزراعة والصناعة اليدوية داخل البالد،
وإقامته للجسور وحفر األقنية والترع والجداول الواصلة بين األنهار .حتى أ َّن البالد
أصبحت شبكة من المياه ترتوي منها الحقول والبساتين والمزارع.
51
أوراق العدد المزدوج 02-91
وعمل "الرشيد" على رفع الضرائب عن الفالحين تشجيعاً وتقوية لهم ،ويروى عن
"الرشيد" أنه في أحد المرات التي كان يتفقد فيها أحوال الزراعة والزراع ،قد مر مع
حاشيته بحوش كبير على الضفة اليسرى لنهر الفرات تكثر فيه األشجار المثمرة وتغريد
األطيار ،عند موضع يقال له اليوم "طاوي رمان" ،فلما قرع الحراس باب هذا الحوش
فتح الباب على مصراعيه ،فاستقبلتهم صبية حسنة المنظر والجمال ،ودعتهم للجلوس
وشرب الماء ،ثم أنها قدمت لهم طبقاً مليئاً بفاكهة الرمان الكبيرة ،فأمسك الخليفة الرشيد
حبة كبيرة من حبات الرمان وقال :ما شاء الله ،ثم أنه شكر الصبية وذهب مع حاشيته
دون أن تعرف الصبية أنه الخليفة "هارون الرشيد" ،وفي الحول القادم َّ
مر "الرشيد" على
نفس الحوش واستقبلته الصبية ذاتها وقدمت له طبقاً من الرمان لكنه لم يكن بجودة
رمان السنة الفائتة ،فلما سألها الخليفة لماذا ثمر هذا البستان خاوياً هكذا؟ فأجابته َّ
أن
كثرة الضرائب في هذا العام أثقلت كاهلنا ،ويقال َّ
أن الخليفة "الرشيد" امتعض من ذلك
وأمر بإلغاء الضرائب عن الفالحين والزراع.
وعمل "الرشيد" أيضاً على حراسة طرق التجارة بين المدن واألقاليم ،وأمر بإنشاء
ونظمت هذه الطرق تنظيماً جيداً ،فانتعشت بذلك التجارة
المحطات واآلبار عليهاُ ،
انتعاشاً كبي اًر ،وعمت الخيرات أنحاء الخالفة ،وتواردت ثروات طائلة إلى بيت المال
من الخراج والضرائب ،وكل هذه األموال كانت ترفد بيت المال مما انعكس إيجاباً على
عامة الناس.
وفي هذه الفترة المشرقة والمتألقة من التاريخ العربي اإلسالمي ،كانت مدينة (الرافقة)
"الرقة" من أهم مدن الخالفة آنذاك ،وهي كالخود كما يصفها "البحتري" ،ويقول "الحسون"
"رحمه الله" ...« :بين أترابها في أعراس التاريخ ،حتى مألت ببلدانها الخمسة السهل
الواقع عند ملتقى الفرات من البليخ» .وكان لـ"لرقة" حظ كبير لوجود "الرشيد" فيها مدة
طويلة من أيام خالفته ،إذ أنه جلب معه أعالم عصره ،من مفكرين وكتاب وشعراء
ومغنين ،ويقول المرحوم "مصطفى الحسون" في مقالة له نشرها في (مجلة الحوليات
51
أوراق العدد المزدوج 02-91
لقد عاشت "الرقة" أيام "الرشيد" ليالي أنس وطرب ،طرب "إبراهيم الموصللي" ،وابنه
"إسحاق" وصوت "ابن جامع" ،ونغم "إبراهيم بن المهدي" ،وغيرهم من أعالم الطرب
والفن والغناء .ومن العازفين الذين عاشوا في "الرقة" "زلزل" و"برصوما" وعازف الناي
"زنام" ويقول البحتري:
وما تزال أطالل قصر"الرشيد" (قصر السالم) في الرافقة "الرقة" باقي ًة إلى يومنا هذا
بالقرب من "تل البيعة" ،حيث وقفت عند فنائه الوفود من كل حدب وصوب ،وعلى
رأسهم الشعراء والفقهاء والرواة والعلماء واإلخباريون ،وغيرهم من علماء ذلك الزمان.
52
أوراق العدد المزدوج 02-91
المبحث الثالث:
كانت المراعي في منطقة "الرقة" بدءاً من القرن السابع عشر ،وحتى نهاية سبعينيات
القرن الماضي ،تشكل مساحة واسعة من المساحة اإلجمالية للمحافظة ،وكانت عملية
الرعي بحد ذاتها ،تشكل خالل فصلي الخريف والربيع في عمق منطقة "الرقة" ،وخاصة
في جهة الشمال أسعد األوقات وأجملها بالنسبة للرعاة ،وحسب رأي الرعاة فإن فصل
الخريف يعتبر أفضل فصول السنة بالنسبة لهم ،حيث يجدون فيه متعة العيش بعيدًا
عن صخب القرية والمدينة ،وحيث توجد مساقط الماء والكأل ،وتلبس األرض حلة
خضراء تزينها األزهار والورود من كل لون وصنف .ويبدأ كبار السن في نزل الرعاة
بتفحص السماء ،فإذا هطل المطر في العشر األواخر من شهر أيلول اطمأن الرعاة
واستبشروا خي اًر بهطول المطر في هذا الموسم ،أما في حالة عدم هطول األمطار في
الفترة اآلنفة الذكر ،فإن الرعاة ينتقلون إلى حسابات أخرى ،إذ أنهم يبدؤون بمراقبة
السماء من بداية شهر تشرين الثاني ،على أمل رؤية ومضات من البرق وسماع صدى
الرعد من بعيد ،مما يعني أن المطر سيهطل ولو بعد حين بمشيئة الله ،ومهما كانت
كمية األمطار الهاطلة في أي سنة من السنوات ،فإن فترة الرعي في فصل الخريف
تعتمد على نوعية هذه األمطار التي تهطل في المنطقة الجزيرة الواقعة على يسار نهر
الفرات ،أو في منطقة الشامية الواقعة على يسار نهر الفرات ،وعلى األوقات التي
تهطل فيها األمطار.
ومع نهاية فصل الخريف ،يبدأ الرعاة بتدوين حسابات جديدة في أجندتهم ،إذ نراهم
يتتبعون أخبار المطر عن طريق إرسال فرق استطالع إلى المناطق البعيدة ،وخاصة
إلى المناطق القريبة من الخط المطري في الشمال السوري ،كما أن الرعاة يبدؤون في
هذه الفترة بالسؤال للحصول على معلومات دقيقة من الناس القادمين من الجنوب ،من
مناطق مثل بادية الرصافة ومن "رحوب" ومناطق جبل البشري الغني بالمراعي الربيعية
53
أوراق العدد المزدوج 02-91
والصيفية .وفي حالة توفر معلومات متضاربة عن كمية هطول األمطار في المناطق
البعيدة ،فإن أهل المشورة من الرعاة يقومون بإرسال من يستطلع األمر على أرض
الواقع .ومع بداية شهر كانون الثاني يبدأ الرعاة بتتبع أخبار الهطوالت المطرية في
مناطق الحدود اإلدارية للمحافظة ،ويبدؤون بتحركات حذرة في مناطق الرعي وخاصة
حول أبار الري مثل "بير المويلح" و"بير حنظل" ،وهذه اآلبار في الغالب تكون آبار
خاصة أو مشتركة بين أفراد العشيرة الواحدة ،وأحياناً يفرض العرف العشائري على أن
تكون اآلبار مشتركة بين كل الرعاة الذين يشكلون فصيالً واحداً ،وفي حالة حدوث
سنوات عجاف في منطقة "الرقة" ،يقوم الرعاة باستكشاف حالة الهطوالت المطرية في
المحافظات المجاورة ،وبذلك يحددون اتجاه هجرتهم الرعوية الشتوية.
ينصب الرعاة بيوتهم (بيت اْل َش َع ْر) المصنوع من َش َع ْر الماعز وفقاً لبرودة الطقس،
ويرتب النزل في العادة على أن تكون البيوت إما في اتجاه الشرق ،أو الجنوب للحصول
قدر اإلمكان على أشعة الشمس الدافئة ،وتنصب الخيام عادة في وقت الضحى ،حيث
تتابع الماشية الرعي حتى وقت الظهيرة ،حيث يتم حلب الغنم بربط األغنام بواسطة
(حبل الشباك) ،وهي متقابلة الواحدة تعانق األخرى بشكل طوالني ،حيث تبدأ الحالبات
بحلب الماشية حتى النهاية ،ثم كل واحدة منهن تعود بشكل حر وإفرادي ،كي ال يفسد
الحليب ،ولكنهن حين يجئن من النزل لحلب الماشية ،فإنهن يجئن بشكل جماعي.
في المساء قبيل غروب الشمس هناك حلبة ثانية للماشية حديثة الوالدة ،حيث نرى
الحالبات يكررن نفس الحركة ونفس المسار الذي قمن به وقت الظهيرة من ذات اليوم
أن تنتهي الحالبات من َحْل ْب الماشية ،يقوم الرجال بإطالق البهم أو
نفسه ،وبعد ْ
الطليان المكون من الخراف الصغيرة حديثة الوالدة كي ترضع حليب األمهات ،وبعد
انتهاء مدة الرضاعة تُبعد الخراف عن أمهاتها ،حيث تنتشر الماشية بعيداً عن النزل
لتبدأ مرحلة جديدة من الرعي ،وهكذا تتكرر هذه العملية حتى تُفطم الخراف ،ويحل
الربيع بحلة جديدة ،حيث يتغير وجه األرض ،ويظهر نبات جديد وتبدأ مرحلة رعوية
54
أوراق العدد المزدوج 02-91
جديدة ،حتى أن الماشية نفسها تلبس حلة جديدة ،وذلك بعد أن ُيقص صوفها بالكامل
ضمن طقوس مشهورة ومعروفة عند الرعاة ..وفي هذه المرحلة يبدأ الرعاة بجني ثمن
الصوف واللبن (الخاثر) "الزبادي" والجبن ،وفي الصيف تباع الذكور من الخراف ،أما
اإلناث فتوضع في السرح ،وتتهيأ للتلقيح من قبل الذكور (الكباش) ،حيث أنها تعيش
بعد ذلك مرحلة الوالدة واألمومة .وما أن يحل الصيف ،حتى نجد كامل الرعاة ،قد
عادوا بماشيتهم إلى أرض الزور ،وإلى األراضي التي تم فيها جني محصول القمح
والشعير ،حيث تبدأ الماشية برعي بقايا عيدان الحبوب التي يسميها أهل "الرقة"
أن تنتهي الماشية من رعي عيدان القمح والشعير ،حتى يبدأ جني ِ
بـ(اْل َسفير) ،وما ْ
محصول الذرة الصفراء والبيضاء ومن بعده القطن ،حيث تظل الماشية ترعى بقايا
المحاصي ل حتى يبدأ فصل الخريف ،ومعه تبدأ دورة جديدة من الهجرة إلى المراعي
في الشمال أو الجنوب.
في فترة ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي ،تقلصت مساحات أراضي الرعي بسبب
التوسع في استصالح األراضي المعدة للزراعة ،ومع حلول سنوات قحط متتالية
انخفضت أعداد الماشية ،وتعرض الرعاة إلى محن ومآس ،بسبب غالء واحتكار مادة
العلف ،مما جعل تربية الماشية في منطقة "الرقة" تقف عند حدود خط الخطر.
بقي أن نشير إلى أن للرعاة ثقافتهم الخاصة المتمثلة بالرعي الذي يشكل الوحدة
االقتصادية الرئيسة لإلنتاج واالستهالك ،وكذلك التبادل المتواضع عن طريق أسواق
بلدة "الرقة" آنذاك ،وكان أغلب التجار هم من مدن كبيرة مثل "حلب" و"حماة" ،ومع
تطور مدينة "الرقة" ونموها أصبحت العالقات االقتصادية بين الرعاة والمجتمع المديني
تشكل العنصر األساسي في ثقافة مجتمع الرعاة الرقي.
55
أوراق العدد المزدوج 02-91
ومنشطة ثقافية
ّ كاتبة ومهتمة بالتراث الشعبي،
يرتبط الوشم ،بالبيئة االجتماعية والتاريخية والطقوس الدينية والشعائرية ،تعود الى
التاريخ القديم ،والى الحياة البدائية التي تسيطر عليها األساطير والمعتقدات ،حيث
يكون لكل عشيرة الوشم الخاص بها ،والذي يميزها عن بقية العشائر ويرمز لها .وعادة
ما تستمد هذه الوشوم ،من البيئة والمعتقدات السائدة ،فتتشكل رموز تحيل الى الطبيعة
في احدى مظاهرها ،من النبات أو الحيوان ،وأحيانا رسوماً تجريدية.
ذر عليه النيلج ،فصار منه رسوم وخطوط .أما الوشم في
وشم الجلد :غرزه بإبرة ثم َّ
تعريفه ،فهو شكل من أشكال التعديل الجسدي ،ويتم بوضع عالمة ثابتة بالجسم ،وذلك
بغرز الجلد باإلبر ،ثم وضع الصبغ عن طريق الجروح والفتحات ،ويبقى داخل الجلد
وال يزول.
وهنا ،قبل أن نستطرد في موضوعنا ،البد لنا من الوقوف على الفرق بين الوشم
والوسم.
أما الوسم :فهو أثر الكي .والوسام ما وسم به الدواب من ضروب الصور والخطوط
إثر كيه وهو داللة على التملك ،وبناء على ما تقدم يتبادر إلى ذهننا سؤال وهو منذ
متى بدأ الوشم؟
56
أوراق العدد المزدوج 02-91
منذ عشرات آالف السنين بدأ البشر في الرسم على جدران الكهوف ،ثم في مرحلة ما،
فكروا لماذا ال نضع الرسوم على اجسادنا؟ عندها بدأ فن الوشم وعلى الرغم من عدم
معرفتنا متى بدأ ذلك بالضبط ،إال أن العلماء يواصلون العثور على ما يشبه األوشام،
على العديد من المومياوات القديمة ،مثل المومياء الشهيرة لرجل لثلج األوربي (أوتوزي)
الذي توفي في حوالي 2111ق.م ،وقد حمل الرقم القياسي ألقدم وشم معروف ،فقد
امتلك 62وشما كبي ار في جميع أنحاء جسده .ومن المرجح أن تكون تلك األوشام،
مجرد خطوط استخدمت للعالج .حيث أظهرت الدراسات ،أنه كان يعاني من مشاكل
في المفاصل والعمود الفقري .هنا ،كانت وظيفة الوشم طبية.
اتخذت المرأة السومرية واآلشورية الوشم زينة لها ،منذ األلف الخامس قبل الميالد وفي
وشمت ظاهر كفها أو معصمها أو ذراعها أو ثغرها ،وتزينت بالكحل
وادي الرفدينَ .
والحناء .ويكون الوشم ،بتثبيت الرسوم والخطوط على الجلد بطريقة الوخز باإلبرة ،عدة
وخزات ،ثم يوضع فوقه الكحل أو النيل ،فيزرق لون الجلد أو يخضر .كما استعمل
الوشم كنوع من التعويذة السحرية ،إذ غطى العديد من مناطق أجسادهن ،وخاصة
الخدين.
كانت عالمات الوشوم جزء من الممارسات االجتماعية السحرية الروحية ،بفعل حيوية
طاقة تلك اإلشارات والعالمات ،لنيل الوالدات الكثيرة المكررة والناجحة .وتبرز أهمية
تلك الطقوس لهذه العالمات الشخصية ،بوصفها نوعا من الرموز الشفيعة .وكان الوشم
ُيرسم على ذراع الملك والوزراء في ذلك الوقت .وقد صورت الكثير من آثار وادي
الرافدين ،وشوما على أذرع تماثيل الملوك مكتوب عليها (كبير القوم أو الملك) بالكتابة
المسمارية قبل 2111ق.م .أما الفراعنة فهم أكثر من برعوا في هذا الميدان .وهذا ما
تؤكده األبحاث والدراسات على المومياوات المكتشفة .وكان الوشم يتم عن طريق وخز
الجلد ،وإدخال الصبغات في الطبقة العليا منه ،حيث كانوا يستخدمونه ألغراض
التجميل والتزيين ،وأحيانا لطرد األرواح الشريرة .وقد وجدت آثاره على المومياوات
57
أوراق العدد المزدوج 02-91
المكتشفة ،حيث كانت تمتلئ بأصباغ معدنية ،ومواد عشبية يطلق عليها (ماء اإلله).
وقد كان الوشم لدى الفراعنة ،يرمز الى حماية النساء من األمراض الجنسية ،وكذلك
حمايتها أثناء الوالدة.
ويستعاض بهأما الوشم عند النساء العربيات قديما ،فقد كان مقياساً للجمال والزينةُ ،
عن الحلي .بينما ُيعد عند الرجال ،مظه اًر من مظاهر القوة والتفاخر .كما أن له عالقة
بوسم اإلبل والغنم ،بوسوم ترمز الى القوة مثل األفعى .ومن خالل الوشم ،تُبرز المرأة
أنوثتها وجمالها ،ويشير الرجل الى قوته وفحولته .ومن المنظور النفسيُ ،يمثل الوشم
قية شفائية يقوم به الناس في سبيل الشفاء ،أو لطرد الحسد .فكان قدماء العرب
قديماً ُر َ
يضعون وشماً على جزء من جسد المريض ،فوق موضع األلم فيشفى .كما تلجأ
األمهات إلى وشم أطفالهن ،حتى يزول عنهم األلم ،أو وقاية لهم من األمراض المهددة،
فيكسبهم الوشم بذلك ،راحة نفسية وطمأنينة ،مادام الوشم يلزمهم حتى مماتهم ،فهو
وتعويذة ،إلى جانب ما يمثله من زينة
ً منقوش في أجسادهم وأذهانهم ،باعتباره تميم ًة
وتبرج ،ليشكل جزءاً من حياتهم اليومية ،ويعبر عن بساطة عيشتهم .ولكنها بساطة ال
تخلو من عمق داللي يتداخل فيها الوعي الجماعي ،بالالوعي الذي يهدد حياتهم
البدائية ،من خالل خوفهم من الضياع والفقدان ،فيلجؤون الى الوشم ،حتى يوحدهم في
قبيلة واحدة ،وفي طقس واحد ،ليجمعهم نفس الوشمِ ،
كمعبر عن الهوية ،ويكون وشمهم
عنواناً خاصا بهم ،يميزهم عن باقي القبائل األخرى.
ومن دالالت الوشم عند العرب ،أنه يرمز الى قوة المشاعر التي تربط بين الرجل
والمرأة ،فيعمد المحب إلى رسم اسم الحبيب أو صورته على ذراعه أو صدره ،تعبي اًر
يصع ْب أن يمحوه الزمن من
ُ عن مدى حبه وتعلقه به ،ويظل باقياً ،بقاء الوشم الذي
الجسد.
58
أوراق العدد المزدوج 02-91
ومن الدالالت أيضاً ،الرسوخ والبقاء ،ليظل الوشم راسخاً في الخيال الشعبي ،وفي
الثقافات مهما تقادمت ،فهو من رواسب الموروث الحضاري اإلنساني ،وقد ورد لفظ
الوشم في الشعر الجاهلي عند طرفة بن العبد حيث يقول:
أما في وادي الفرات فالوشم يسمى (الدق) لذلك ورد في الغناء الشعبي
وهو من أنواع الزينة لدى النساء .أما األطفال ،فيعتبر الدق وسيلة ليبق الطفل حياً
باعتقادهم .وعند الرجال يكون الدق على الزند ،عبارة عن كتابة االسم ،أو صورة
السالح والطير ،وأحياناً الحرف األول والثاني السم الحبيبة .وتقوم بعملية الدق نساء
غجريات ،وهن يحضرن الى المنطقة أيام الربيع حص اًر ،وهو موسم الدق .وذلك ألنه
يكثر فيه الخير ،فتحمل الفتيات الزبدة واللبن الى المرأة الدقاقة ،كأجور عينية .وفي
الربيع أيضاً ،ال تتقيح الجروح .وتتألف عملية الدق من عدة إبر تصل لحد سبعة،
توضع في البداية بمزيج من الفحم والزبدة إلعطائها اللون األسود ،وغالباً ما يستخدم
الكحل مع الحليب ،إلعطاء الوشم لونه األخضر الغامق .وقد تغنى المغنون الشعبيون
بالدق باألفراح واالعراس:
هناك دالالت وأنواع للوشم أو الدق على الوجه ،وغالباً ما يكون للنساء ،ويستخدم
للزينة .ولكل موضع له اسم ومنها (شعابيات) و(سنابل) تدق على الرقبة والصدر.
59
أوراق العدد المزدوج 02-91
ال نحو
أما (وردة) و(رثمة) فهو وشم يدق على طرف الشفة ،بطول واحد سم ،نزو ً
األسفل .أما (كحلة القطة) و(غمازيات) فهو وشم يدق على طرف العين من الجنب،
كما تُمد الكحلة اليوم.
ومنها أيض ًا (حجول) وهو وشم يدق أسفل الساق وأعلى الكعبين ،و(أمشاط وشقاليات)
(خص) .أما (زلف)(خصر) الوشم الذي يدق على الرسغ ِتدق على الساق .فيما يسمى ِ
ُ
فهو وشم على شكل نقطة على الخد .و(هاللي) يدق في وسط الجبين ،فوق بداية
الحاجبين ،ويشكل هالالً يصل بينهما ويدل على مقامها ورفعتها .وأما (صحن الورد)
فهو يدق على الزند بشكل دائري.
ومن الوشوم ما يتميز بداللة كبيرة ،مثل (وسادة ابن العم) إذ تقوم الصبية بوشمه على
يدها ،وهي داللة أنها لن تتزوج إال من ابن عمها ،وهو على شكل امرأة ورجل متقابلين،
وعلى جانبهما قبرين ،وهو يرمز إلى البقاء معاً حتى الممات .ولهذا الوشم أهمية،
فعندما كانت الصبايا يردن لجلب الماء ،من النهر أو البئر ،فإذا اقترب منها أحد
الشبان ليخطب ودها ،تريه الوشم دون أن تتكلم ،فيتراجع الشاب مخذوالً.
أما الوشم على الخدين ويسمى (الردعات) وهي أشكال للورد على كل خد .وهي ترمز
إلى أن هذه الخدود ،جميلة كالورود ،حيث يقول الشاعر:
وثمة أنواع أخرى عديدة ،كالوشم الذي يدق على الفم فيسمونه (اللجم) وهو(جمع مفرده
لجام) يرسم على طرفي الفم ،وهذه داللة على أن هذه المرأة ساكتة ومؤدبة ،وغير
ثرثارة ،وتأتي بالمفيد ،وهو لجم معنوي .وكذلك وشم الحنك (الرواك) ،و(دواير) ومهمته
التصدي لعين الحسود .ومنها وشم المضافة ،وغزالة ،وشارب الحسن ،والسيالية ،ووشم
الحالبات ،إضافة الى أوشام طبية أخرى.
61
أوراق العدد المزدوج 02-91
وقد وشمت الرقيات كامل الشفة السفلى والعليا وأطلقن عليه اسم (وشام) حيث يصبح
لون الشفتين أزرق داللة على السمرة وهو يرمز للجمال ألن العرب يفضلون الشفاه
السمراء الداكنة.
بصورة تقريبية ،هذه هي األوشام التي استطعت أن أرصدها ،في منطقة وادي الفرات:
الرقة مدينة وبادية وريفاً ،وعالقتها بحياة الناس ومجتمعها الفراتي ،ودالالتها ،كفن
شعبي تعبيري ،متجذر في الثقافة اإلنسانية .أتمنى ان أكون قد وفقت في ذلك.
61
أوراق العدد المزدوج 02-91
كلمة فلكلور عنوان عريض وتعني ارث األجداد .ما يهمنا من هذا البحث هو الغناء
الشعبي.
لكل منطقة خصائصها وسماتها التي تميزها عن المناطق األخرى .وهذه الخصائص
هي التي تحدد مالمحها وألوانها .إذ يختلف الغناء الشعبي من بلد آلخر لكنها تتوافق
في المضمون.
وال أبالغ اذا قلت ان الغناء الشعبي الفراتي .هو أغنى تراث في سوريا بل وأرقاها لحنا
وطربا وكلمات حيث يختلف عن غيره في الكالم واللحن واألداء.
وذلك يعود لحالوتها وفهمها من قبل المتلقي ،وما إن تنتقل حتى تتعرض للتعديل
والتبديل في الكلمة واالداء وتصبح ذات طابع محلي حسب مكان الهجرة ...
-2الفراگيات.
-1التشاطيف.
-2الموليا.
-2الفراكيات :هي أشهر ألوان الطرب في تراثنا الشعبي .لما تحمله من شجن وحزن.
وقد اشتهر بهذا اللون العراقيون اضافة الى وادي الفرات في سورية وربما عموم الريف
السوري.
62
أوراق العدد المزدوج 02-91
-1التشاطيف :وهي ليست لون غنائي مستقل .بل هي عنوان عريض .يحوي الكثير
من األغاني الهازجة الراقصة ذات اإليقاع السريع .والتي تغنى بعد الفراكيات ذات الرتم
البطيء .كالعتابة والنايل والسويحلي.
-2الموليا :هي إحدى أهم مظاهر القول والغناء في التراث الشعبي ،في وادي الفرات،
ويكتب بيت الموليا على البحر البسيط.
للغناء الشعبي ت ارتبية من حيث تناول المطرب للغناء .ومن خالل هذه الت ارتبية يتم
الكشف عن مهارة المطرب لتناول هذا التراث .بشكل صحيح .فالمطرب الماهر يبدأ
غنائه بالعتابة والتي تعتبر مفتاح الغناء ومن ثم يغني سويحلي متولد من بيت العتابة
حامال نفس الفكرة وينتقل لون النايل .وهو مخ الكيف لدى المتذوقين والمستمعين ومن
ثم ينتقل للون اللكاحي او ما يسمى اليايوم .ويقفل غنائه بلون الموليا .وهذا يعود الى
قدرة المطرب على إعادة هذه السلسلة الغنائية .أو يستمر بغناء الموليا ليخرج المستمعين
من جو الرتابة كون الموليا إيقاعها أسرع ويترافق أداؤها مع الرقص والتصفيق .فتتيح
بذلك للشباب استع ارض مهاراتهم في الرقص المصاحب لها.
العتابة:
63
أوراق العدد المزدوج 02-91
وادي الفرات ومن أبرز الذين برعوا فيها شعراء عشيرة الجبور ..وهناك الكثير من
القصص التي هي أقرب للخيال من الحقيقة .لكن األقرب للتصديق أنها جاءت من
العتاب ،ألن جل مواضيعها تتكلم عن المعاتبة .وتنقسم العتابة الى قسمين .الحزاينية.
والهواوية.
وبحسب شكل بناؤها األدبي؛ يتألف بيت العتابة من أربعة أشطر الثالثة األولى موحدة
القافية ولها جناس واحد والشطر الرابع ينتهي بألف وباء .أو الف مقصورة أو ممدودة.
مثال على ذلك:
عواشير في الشطر الثالث :تتألف من كلمتين عوا شير ،وشير هو كلب الشاعر عبدالله
الفاضل ،مؤسس هذا اللون الغنائي كما أشرنا.
ومثال آخر:
64
أوراق العدد المزدوج 02-91
السويحلي
هذا اللون يتميز بكلماته القليلة والمختصرة ،إال انها بالغة التأثير لدفئها ورقتها ،وعادة
ما ينظمها ويغنيها العشاق على شكل مناجاة للحبيب أو الحبيبة والتغني بجمالهم
وأوصافهم .وكذلك تغنيها األم لطفلها وهو بالسرير لتحثه على النوم.
ُيسمى السويحلي بحسب اآللة الموسيقية المرافقة له :سويحلي زمارة ،سويحلي
ربابة ،سويحلي ورادات ،كما اشتهر لون باسم سويحلي مريم ،أما من حيث الشكل
الشعري األدبي فالسويحلي يتألف من شطرين تقع قافيته الموحدة في وسط بيت الشعر
وليس في عجزه والسويحلي هو مقلوب الشعر الدارمي.
ومثال آخر:
65
أوراق العدد المزدوج 02-91
النايل
النايل كما أسلفت هو مخ الكيف وأيقونة السلطنة ،وأسباب التسمية كما ُيقال أنه ُينسب
لشخص اسمه نايل ،هو أول من ابتدع هذا اللون وقد نسب اليه وعرف باسمه.
شكله األدبي؛ بيت منفرد من شطرين موحدي القافية .يمتاز بالرقة والسالسة والكلمة
البسيطة السهلة ،وألفاظه عامية.
تحمل أغلب أبياته جمالً خبريه .تميل كثي اًر إلى السرد القصصي .مثال على ذلك:
يالحظ أن بيت النايل ينتمي لعائلة الموليا لو تم إكماله بشطرين آخرين ،ألنه من نفس
الوزن الشعري وهو البحر البسيط.
-2نايل الورادات :ومن أشهر الذين أجادوه المطرب موسى العبد العزيز.
-1نايل حسين أو أبو كذالي :ومن أشهر الذين أجادوه المطرب حسين الحسن وخليل
الهباش وموسى عبد العزيز وعبود الشواخ.
66
أوراق العدد المزدوج 02-91
اللگاحي
لون عذب وجميل يسمى ايضا باليايوم .له لحن خاص يمدك بالراحة النفسية وتجييش
المشاعر.
بناؤه الشعري األدبي :ليس للكاحي شعر خاص يعرف به كالموليا والنايل والسويحلي.
بل إن مادته األساسية هي كلمات غناء الساجوري.
يغنيه اغلب المطربين الشعبيين لكن أبرزهم المطرب أبو فلوط .وحسان العكلة.
ماهوبي :مسامح
الموليا
هي إحدى أهم مظاهر القول والغناء في التراث الشعبي ،في وادي الفرات ،وكما أسلفنا
يكتب بيت الموليا على البحر البسيط ،ويتألف من أربعة أشطر ثالثة منه لها نفس
الروي القافية والشطر الرابع ينتهي بياء مشددة مع تاء مربوطة.
67
أوراق العدد المزدوج 02-91
من المؤكد أن للموليا تاريخ موغل في القدم .يرى الشاعر محمود الذخيرة أن جذر
الموليا يعود للقرن الثامن الميالدي إبان نكبة البرامكة .أما الباحث العراقي حمود ابراهيم
في بحثه أغاني تراثية .فيقول أن الموليا عراقية المنشأ .وهناك آراء متشعبة حول هذا
الموضوع.
الموليا الفراتية لون غنائي له حضوره الدائم في األفراح والمناسبات السعيدة ،يختلف
غناؤها من منطقة إلى أخرى بحيث كلما اتجهت غربا تأخذ بالتسارع في رتمها .حتى
تصل إلى البحر.
هي مطالع أغاني مولية قيل منها الكثير من األبيات التي تبدأ بإحدى هذه المطالع،
وأبرز من تألق في غناء الموليا هم :المطرب محمد الحسن ،المطرب حسين الحسن،
المطرب ابو فلوط ،المطرب حسان العكلة.
وتصنف الموليا بحسب اآللة الموسيقية التي ترافقها :موليا دفوف ،موليا ربابة ،موليا
زمارة.
68
أوراق العدد المزدوج 02-91
التشاطيف
تتداخل هذه االغاني بين أغاني الفراكيات لتعطي المطرب فرصة إلراحة حنجرته من
األغاني الرتيبة التي تتطلب نفساً طويالً حزيناً .مما يجعل الجلسة ذات سمة هادئة.
فيلجأ المطرب الى التشاطيف لبث روح الحماس في الحضور .وجعلهم كورس يردد
معه األغاني.
من أهم أغاني التشاطيف لون "الساجوري" وقد اشتهر منه المطلع:
لهذا فإن أغلب األغاني الفلكلورية القديمة ال يعرف لها قائل ،وتعود إلى عهود بعيدة،
حيث أن توفر شروط معينة في كلماتها وألحانها وتعبيرها عن العواطف والهموم
ض ِمن لها القدرة على االستمرار واختراق جدار الزمن بحيث غدت
واألذواق المشتركة َ
أغنية شعبية فلكلورية ترددها األجيال وتكون التعبير الشعبي عن صورة المجتمع ،وال
ينفي عنها هذه الصفة كون مؤلفها معروفاً لدينا بالرواية أو التدوين.
وقد تط أر إضافات على مقاطع األغنية ،إال أن الالزمة والمقاطع األولى غالباً ما تظل
محفوظة مع تغييرات طفيفة ،مما سبب بقاؤها وسيرورتها ،وثمة عوامل تتعرض لها
األغنية الشعبية فتؤدي إلى تحوير جزئي أو كلي في نصها.
كتب الكثير من أغاني الساجوري الذي لم يدون ،فشاع لفترة ثم تم نسيانه والزالت قرائح
الكتاب والمغنون تنتج أغاني ساجورية جديدة.
69
أوراق العدد المزدوج 02-91
كلمات أغاني الساجوري تصلح لغناء اللكاحي ،وتصلح لغناء االعراس الريفية على
أكثر من لحن ،وتصلح للغناء برفقة الزمارة ،كما تصلح للغناء في مواسم الحصاد
وجني القطن ،ألن كلمات غناء الساجوري هي األكثر مرونة في التلحين والتلوين ،ففي
المقطع المرافق تعزف الزمارة أغنية أبو الهيل وهي من كلمات أغاني الساجوري ومن
ثم يتابع بألوان أخرى.
...
ظريف الطول
أغنية ظريف الطول انتشرت على اتساع رقعة بالد الشام بكاملها .ففي فلسطين لها
انتشار واسع وتُعتبر من الفلكلور الفلسطيني ،ولديهم الكثير من القصص عن ظريف
الطول واصل التسمية ،وكذلك تغنى في لبنان واالردن وكذا في أغلب المدن السورية،
لكن يختلف اللحن واألداء من منطقة ألخرى ،بحيث يصبح أداء
ظريف الطول أبطأ في الغناء وأداء الرقصات كلما اتجهنا نحو الشرق ،وكلما اتجهنا
نحو الغرب يتسارع إيقاع األغنية ويصبح هازج ًا وصاخباً .وهو يغنى في وادي الفرات
كفواصل بين أغاني الفراكيات الحزينة أو الهواوية لتنشيط األجواء الغنائية.
وهذا اللون يشبه الموليا واالبوذية العراقية من حيث البناء ،ثالثة اشطر بقافية موحدة
الروي ،والشطر الرابع مختلف ينتهي بتاء مهملة أو بحرف ألف كقول الشاعر:
71
أوراق العدد المزدوج 02-91
...
أبو الخديد من أغانينا الجميلة سهلة النظم والغناء .وتمتاز أيضا بقبولها للمحاورة بين
فريقين في الجلسات الغنائية ،والتي كثي اًر مايكون فيها االرتجال المباشر ،في حال كان
الحوار الغنائي بموضوع معين ،وتسمى محليا ب "البدع" أي االبداع المباشر.
ألول مرة يختلف اللون الغنائي بالتسمية في منطقة وادي الفرات الذي يمتد بين سوريا
والعراق ،حيث يسمى هذا اللون في سوريا وفي الرقة تحديداً "أبو الخديد" ويقصد فيه
ذا الخدود :مثل "أبو الخديد الوردتين الياعم"" ،أبو الخديد الوردتين الصادي"" ،أبو
الخديد الشبه ورد الخاثر".
ومع أن هذا اللون غالباً ما ُينظم في الشعر الشعبي بمطلع "أبو الخديد" ،إال أن بعض
الشعراء خرجوا عن هذا النهج ،وجعلوا من مدخله ح اًر:
71
أوراق العدد المزدوج 02-91
بينما يسمى بالعراق بالميمر ،ويعود أصل التسمية إلى كلمة "مرور" ،ويقصد فيها بالذي
"لم يمر" ،ووزن الميمر أو أبو الخديد هو وزن قديم وأقدم من االبوذيه العراقية ،وأصل
كلمة الميمر اشورية وهو من وزن الرجز وتفعيلته هي( :مستفعلن مستفعلن مستفعل).
ويغنى بنغم البيات ،وكلمة الميمر محرفة من أصل الكلمة حيث أن أصلها استفسارية
(مامر)
...
الناهي
الحقيقة بحثت في كثير من المصادر عن معنى كلمة الناهي في موروثنا الشعبي فلم
أجد لها هوية واضحة تفيد معنى معين ،ووجدت أن الناهي ...هو اآلمر وال ازجر عن
عن الخطأ والتمادي بالشيء ،وقد يأتي في المعنى الديني ،كجماعة األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،وقد يأتي في معنى الضابط والقائم باألمر ،وقد يأتي بمعنى
الضمير الذي يرسم لنا خطواتنا ويحاسبنا من خالل جلد الذات ،وقد يأتي بمعنى
الحبيب الذي ال مرام وال مبتغى لنا بعده بحيث ينهانا عن محبة غيره ،وهو األقرب
لموضوع بحثنا.
أي هو ذلك المعشوق الذي ينتهي عنده الجمال والروعة واالخالق واالدب والرقة
والعذوبة فال يرى العاشق شائبة في معشوقه.
72
أوراق العدد المزدوج 02-91
والقول:
وقولهم:
...
األوف مشعل
تعود كلمات أغنية "عاألوف مشعل" إلى الحرب العالمية األولى ،التي حصلت فيها
العديد من المذابح والمجازر ،وهي قصة رجل عربي شجاع أمتطى جواده المسمى
مشعل منصرفا إلى أرض المعركة ،وقد استطاع هذا الرجل بحكم واجبه الوطني أن
يفلت من بين يدي خطيبته التي راحت تذرف الدمع لفراقه ،وكأنها أحست بأنه لن يعود
وبعد مدة لم يعد خطيبها ،بل عاد حصانه برفقة أحد أصدقاء الرجل ،فوقفت ترمق
الحصان بقلب جريح قائلة:
73
أوراق العدد المزدوج 02-91
تختلف الروايات بشأن هذه األغنية كالعديد من األغنيات الفلكلورية الشعبية التراثية في
ورِد َدت في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق ،وهناكبالدنا ،وقد ُع ِرَفت هذه األغنية ُ
رواية للكاتب اللبناني أنطوان غندور ،وأيده فيها الفنان زكي ناصيف ،تقول الرواية أن
رجالً توفيت امرأته فعاش وحيداً غير مصدق أنها توفيت ،وكان يتخيلها بكل شيء
حتى وصل به األمر إلى حالة من الرعب والهستيريا ،وكان كلما حاول أن يرثيها يبدأ
بكلمة أوف ،ثم يعود ليتذكر أن كلمة أوف تقال في حالة الفرح ليقول مش عاألوف.
أما كلمة مشعالني فيقال بأن معناها أن األمر سر وغير معلن ،أي "مش علني".
وبالتالي يكون مطلع األغنية على هذا النحو "عاألوف مش عاألوف مش عالني".
ويؤكد الباحث مروان أبو نصر الدين هذه القصة في كتابه "الشعر اللبناني والغناء
الفلكلوري"(.)1121
74
أوراق العدد المزدوج 02-91
ويغنى هذا اللون في منطقة وادي الفرات الممتد بين سورية والعراق بنفس اللحن
ُ
المعروف لألوف مشعل بعد أن تحرر كتاب االغنية من الزمة أوف مشعل أوف
مشعالني ،وصار يكتب بالشكل الذي نتداوله ونسمعه من المغنين والمطربين المحليين
في الرقة وأريافها ،بحيث يكتب بهذا الشكل:
من خالل الكلمات المكتوبة في تراث وادي الفرات نجد أن مشعل قصته تختلف عما
ذكر في بداية المقالة ،حيث جسده المغنون على أنه شخص محبوب ،وليس مطلع
رثائية كما قال أخوتنا في لبنان" ،عاالوف مش عاالوف مش عالني"...
هذا ماوجدته عن لون األف مشعل أوف مشعالني ،ويبقى هذا اللون من التشاطيف
لون جميل ومحبب لدينا ويطربنا سماعه.
75
أوراق العدد المزدوج 02-91
الدلعونا
في أصل "الدْلعونا" ونشأتهاُ ،يحكى في األسطورة الكنعانية القديمة في بالد الشام ،أن
"عناة" ،فغدت إلهة الخصب والحب والحرب عند الكنعانيين، لإلله "إيل" بنتاً سماها َ
"عناة َي ُد ِك يا َعناة"؛ ومنها
توسل إليها العشاق من أجل الحظوة بعشيقاتهم ،بالقولَ :
اشتُق لفظ "الدْلعونا".
في حكاية السريان الذين توطنوا جبال عامل قديم ًا عن "الدْلعونا" قول مختلف؛ إذ يرى
السريان أن "الدْلعونا" سريانية اللفظ واالصطالح ،فهي مؤلفة من أل التعريف السريانية،
وهي الحرف "د" ،باإلضافة إلى كلمة "عونا"؛ فكانت َ"دْلعونا" التي تعني المعاونة
والمساعدة والفزعة .وترتبط "الدْلعونا" لدى السريان بطقس عصر العنب في أجران
معاصر النبيذ الصخرية ،تحت أقدام النساء .إذ كان السريان يحفرون معاصرهم البدائية
في بالط الصخر ،بالقرب من كروم العنب.
76
أوراق العدد المزدوج 02-91
بقي الرجال حتى مراحل متأخرة من القرن الماضي يهبون لعونة فالن من الناس،
يغوصون بأقدامهم داخل األوعية أو برك الطين ،ويدعكونه لخلطه بالقش والتبن وتليينه،
في طقس جماعي يتخلله القفز والرك والغناء ،في استم اررية لـ "الدْلعونا" السريانية
القديمة.
تُغنى "الدْلعونا" في بيتين مكونين من ثالثة أشطر على قافية واحدة ،وقفلة تكون على
قافية "الدْلعونا" .ال ُيشترط أن يتضمن البيتان مفردة َ"دْلعونا" ،إنما الشرط أن تكون
مثال:
القفلة على قافية "الدْلعونا" باألحرف "و ،ن ،ا"ً ،
الياح ارم
تُعتبر أغنية "ياحرام" من األغاني الهادئة والرائعة التي تتغنى بالماجدات الفراتيات،
والتوجع لحالهن والتعاطف معهن ،وتغنى الياحرام مع نقر الدف ،كما تغنى مع الفرقة
الموسيقية لكن برتم أسرع.
قيل الكثير من أبيات الشعر في هذا اللون ،ومعظم تلك االبيات مجهولة الشاعر ،وهي
تندرج ضمن أغاني التشاطيف ،تلك االغاني الفاصلة بين أغاني الفراكيات ،مثال على
ذلك قولهم:
ياحرام وياحرام
فتكون الالزمة:
ياحرام حرموها
...
يمكننا التأكيد في النهاية ،أن أهل وادي الفرات ما زالوا من أكثر الناس تمسكا بتراثهم،
إذ قد يسمع الشباب األغاني الشبابية الحديثة ،كمزاج شخصي ،لكن سرعان ما يعودون
للتراث بعد مضي فترة فورة الشباب ،وتحديداً في المناسبات العامة كاألعراس حيث ال
منافس لألغاني التراثية.
78
أوراق العدد المزدوج 02-91
حمصي الحمادة
كاتب وباحث
افتتح جسر "الرقة" القديم للنقليات في العاشر من حزيران عام/2641/م ،وللجسر في
ذاكرة أهل "الرقة" وريفها ألف ذكرى وحكاية ،أعطاهم فأحبوه ،ووصلهم بالعالم فعشقوه،
وأسعدهم فتغنوا به ،في أفراحهم ،وأعراسهم ،والتراث الغنائي الرقي يحمل أجمل المعاني
وأروع الصور عن جسر "الرقة".
ويبدو أن لعالقة الجسر بنهر الفرات السبب الوجيه لوروده بأهازيج العشق والغرام في
أغاني الفرات ،فلقد كانت الصبايا المالح فيما مضى من الزمان يذهبن مع بعضهن
البعض لجلب الماء ،فيحملنه على رؤوسهن بطريقة فريدة من القدرة على التوازن،
وكان العشاق من الشباب يقصدون الجسر للمشي الذي يريدون من و ارءه الظفر بنظرة
أو سالم ممن يحبون.
فأورد ذلك الشعراء الشعبيون بقصائدهم ،فهاهو الحبيب الغالي يمر من فوق الجسر،
ويشير إلى حبيبته السائرة مع صويحباتها بالسالم ،لكنها ال تستطيع أن ترد على سالمه
خشية أن يفتضح سر حبهما ،فتقول األغنية:
2
79
أوراق العدد المزدوج 02-91
واألم الرقية تشبه أوالدها وفلذات كبدها وهم يسيرون فوق جسر "الرقة" بالغزالن ،بل
إن أحدهم يشبه الضابط األلماني بجماله ومشيته ،فتقول األغنية:
1
أما مفهوم العشق عند الفتاة الرقية ،فأجمله ما كان عشقاً عفيفاً صادقاً ،يتوج في
النهاية بالزواج واللقاء ،فتقول األغنية:
2
وأجمل لحظات العشاق ،السير فوق جسر "الرقة" عند لحظات الغروب ،حيث يرسم
الشفق األحمر لوحات رائعة على صفحات الفرات الخالد ،فتقول األغنية:
4
81
أوراق العدد المزدوج 02-91
عالجسر تانتمشى
-ولفظة "اديتك" هي تصغير محبب لدى أهل "الرقة" لكلمة يدك ،ولفظة " َّ
ممشه" تعني
المنديل المطرز.
ويكمل "الحمادة"« :أما الشاعر الدكتور "باسم الحاج" ،فيرى الورود تنثر من فوق جسر
الجو بعبق سحري ،فيحذر الفتيات من عشق شباب
"الرقة" ،فتطير في الهواء مالئ ًة َّ
قبيلتة "البياطرة" ،ألن عشقهم يكوي القلب ويضني الكبد فيقول:
1
ووصيكن يا بنيات
أما الشاعر الشعبي األستاذ "محمود الذخيرة" فقد أعطانا لوناً غنائياً جميالً ،وصو ًار
تراثية رائعة ،فهاهو الحبيب الغالي يسير الهوينى على جسر "الرقة" ،لكن حبيبته تذكره
بموعد اللقاء لركوب السفينة الصغيرة ،لتسير بهم فوق صفحة الفرات الخالد فيقول:
6
81
أوراق العدد المزدوج 02-91
وفي الصورة الثانية تلقي المحبوبة بخاتمها لحبيبها ،وهي تسير فوق جسر "الرقة"،
وهو يرى أن هذا الحب البد أن يتوج بقبلة من شفاه الحبيبة ،مستحلفاً إياها أن تعطيه
هذه القبلة إكراماً ألهلها األموات ،فيقول:
2
أما في العرس فإن العروس تُزف عص اًر لمنزل الزوجية الجديد ،الذي يكون العريس
قد غادره قبل ذلك لمنزل أحد األصدقاء أو األقارب ،وبعد العشاء تسير " َّ
الزفة" يتقدمها
العريس بين أصدقائه وأقاربه ،والشباب يلعبون أمام الزفة بالسيوف ،ويطلقون العيارات
النارية في الهواء ابتهاج ًا ،مرددين الهوسات الرقيَّة ،حاملين "اللوكس" ،وهو مصباح
يضيء بواسطة الكاز ،وتكون إضاءته باهرة ،وكان فيما مضى من الزمان يستخدم
مضاءة آنذاك بشكل جيد ،أما النساء فيسرن خلف الرجال
ً بكثرة ،ألن الشوارع لم تكن
وهن يطوحن مع "الهالهل" أي الزغاريد ،مرددات بشكل جماعي:
2
ومازال المطربون ِ
الرقيون يتغنون بهذه األغاني الجميلة في األعراس والمناسبات ،ومن
أفضل من أدى هذه األغاني فرقة "الرقة" للفنون الشعبية ،بقيادة الفنان "إسماعيل
العجيلي" وكذلك أبدعت في هذا اللون الغنائي الفنانة الشابة "خولة الحسين" ،وأعتقد
أنه ال يوجد جسر في العالم دخل في ذاكرة وذكريات وتراث منطقة كجسر "الرقة"
القديم.
وحين يشاهد الشاب محبوبته وهي تشير له بالهبرية ،وهو يدرك استحالة القاء ألنها
متجهة نحو الجزيرة شماال ،وهو يعبر نحو الشامية جنوبا.
6
وتشوشح بالهبرية
وفي صورة ثانية كانت المحبوبة تسير الهوينا فوق الجسر ،فمرت نسمة هواء أطارت
الشالة من فوق رأسها ،فظهرت جديلتها الشقراء الطويلة ،وبان وجهها المضىء كالبدر
أو الهالل.
21
83
أوراق العدد المزدوج 02-91
وحين نثرم الشاب الورود والزهور من فوق جسر الرقة ،وكان ينتظر المحبوبة على
ماء ولم تلتفت إليه ،وكان الغضب باد على محياها.
مارد الماء ،حضرت ومألت إناءها ً
22
تانيتهم عالمارد
من فوق جسر الرقة مرت المحبوبة ،وقد ظهرت عليها صفات الهيبة والدالل ،فشبهها
الشاعر بريمة من ريام الكسرة ،وبدأ يتساءل ماذا سيفعل.
21
وهنا يسأل جسر الرقة ،هل مر عليك أهل ريف الرقة ،وهل كانت من بينهم واحدة
طويلة كانت هي أجمل الصبايا.
22
84
أوراق العدد المزدوج 02-91
مامروك الشوايا
وهنا يشاهد المحبوبة وهي واقفة على جسر الرقة وتشير له بخاتم بيدها ،ومن ثم يرجوها
أن تعطيه قبلة مستشفعا بأهلها الذين ماتوا.
24
ويقف على جسر الرقة وينظر إلى القسم الجنوبي الحديدي منه ،وهنا يشكو من أن
شدة عشقه وحبه قد جعل جسمة متعبا ،ويشكو قائال مخاطبا والدته :ماذا أفعل وليس
باليد حيلة.
21
وهنا يشاهد مجموعة من النساء يسرن على جسر الرقة برفقتهن أوالدهن .وهنا يتحسر
ويشعر بالندم الن قلبه قد تعلق بهن والسبيل للوصول إليهن.
85
أوراق العدد المزدوج 02-91
26
يمشن هن وضناهن
وهنا يشاهد المحبوبة تمر من فوق جسر الرقة ،وقد تزينت بأجمل الهباري على رأسها،
ويشبه عيونها بعيون الريم أما الوجه فكالبدر المضيء.
22
مرت أم الهباري
وهنا يشاهد مجموعة من الفتيات الجميالت يسرن على جسر الرقة .وكل واحدة تشبه
القمر بحسنها وجمالها .فالفتيات البيضاوات سلبن عقله ،والسم اروات جعلنه ال يستطيع
الحراك.
22
86
أوراق العدد المزدوج 02-91
وكتب الشاعر األستاذ عبد السالم فريج قصيدة على ذات اإليقاع:
87
أوراق العدد المزدوج 02-91
روضة طه الطه
الرقة ،مدينة موغلة في القدم ،فيها اكتشف عالم اآلثار جاك كوفان أول بيت في
التاريخ ،قبل أن تغمره مياه الفرات ،وذلك في "تل مريبط" فهي من أهم المدن السورية؛
لغناها بالمواقع األثرية والتلول الحافلة ِ
بالك َسر الفخارية العائدة إلى عصور ما قبل
التاريخ ،وصوالً إلى العصور اإلسالمية التي طوقت الرقة بسور عظيم على هيئة حذوة
الحصان ،وقد احتضن هذا السور الرقة عصو اًر ،إلى يومنا هذا الذي قصف فيه
الطيران الحربي ذلك السور ،ومحيطه ،ونال منه ما نال من التهشم والتصدع واالنهيار،
دون مراعاة شموخه خالل العصور وعراقة نسبه ،حيث زاره السياح من جميع أنحاء
العالم وكتب عنه كثير من الدراسات واألبحاث ،وقيلت فيه القصائد واألشعار...
ومثل سور الرقة ،كان طه الطه ،احتضن تاريخ الرقة القديم والمعاصر ،تراثها وثقافتها
وحضارتها داخل متحف أنشأه بجهده الخاص وبإمكاناته البسيطة.
ولد طه الطه عام 2642م في منطقة خرائب الرقة القديمة ،حيث التالل األثرية،
وبالفطرة كان ذلك الطفل الذي أتم سنواته الخمس يلتقط ِ
الك َسر الفخارية وقطع الصوان،
فيجمعها ويأخذها إلى بيته ،وهو يجهل هويتها وقيمتها.
ومع مرور الزمن زاد عشقه لتلك القطع الفخارية ،فبدأ يحاول ترميمها لتستعيد شكلها
وس ُرج لالستضاءة ،وقطع حلي ،ودمى طينية تنتمي
األول؛ فإذا بها قطع أوان منزلية ُ
إلى زمن غابر.
88
أوراق العدد المزدوج 02-91
بدأ دراستها وتعقب تاريخها ،ليصل إلى نشأتها األولى ،وذلك بعد أن جمع كتباً تاريخية
ال نواة لمتحف صغير عام 2622م.
وأثرية ،مشك ً
ومع مرور الوقت زاد شغفه بتلك القطع ،فعمل مع كبار علماء اآلثار األوربيين
واألجانب الوافدين إلى سورية لدراسة علم اآلثار وحضارة بالدنا ،حضارة وادي الفرات،
من خالل عمليات التنقيب وكتابة األبحاث والدراسات.
ولم يتفرد طه الطه بمجال دراسة اآلثار فقط ،وإنما جمع التراث والفولكلور الشعبي
بمنطقة وادي الفرات ،وأنشأ في متحفه قسماً خاصاً بالتراث من لباس ،وأوان منزلية
وأدوات زراعية ،وأخرى كانت تستخدم في مجال الصيد ،وكل ما يخص الفن الفطري،
وصوالً إلى الشعر الشعبي والحكايات والخرافات .ودفعه اهتمامه بالتراث إلى إنشاء
"فرقة للتراث الشعبي" وهي فرقة تؤدي الغناء الشعبي والفولكلور ،وتروي الشعر الشعبي
وتسرد تاريخه ،من خالل أماسي أسبوعية يقيمها في منزله ومتحفه لتدوين تاريخ الشعر
الشعبي بكل ألوانه وبحضور الكثير من الباحثين والمهتمين والشعراء والمغنين ومنهم
الشاعر محمود الذخيرة والمطرب محمد الحسن ،المطرب حسين الحسن وأوالدهم،
الشاعر والباحث محمد الموسى الحومد ،الدكتور الباحث محمود النجرس ،ومن
المطربين ابراهيم األخرس ،موسى عبد العزيز ،ابراهيم الهباش ،رمضان الصايل ،علي
السنود ،عبد الكريم الشويمي ،والكثير من األسماء التي ال تسعفني الذاكرة
الستحضارها.
89
أوراق العدد المزدوج 02-91
وكان ُينظم أيضاً ،احتفالية ثقافية دورية ،يكرم من خاللها كبار علماء اآلثار ورؤساء
البعثات األثرية األوربية ،الوافدة إلى الرقة للتنقيب عن األثار ودراستها ،إضافة إلى
تكريم األدباء والفنانين والباحثين والمهتمين ،وذلك في "المعرض السنوي لمتحف طه
الطه بالرقة" ،في األسبوع األخير من شهر أيلول من كل عام .ومن أبرز المعارض
التي أقامها في السنوات الماضية:
-معرض تحية لعلماء اآلثار ،كل على حدة ،من أهمهم الهولندي مورتيس فان لون،
وبيتر اكرمانز ،وديدريك ماير (هوالندا) ،وأنطون مورتكارت ،وتيلو أولبرت ،وميخائيل
ماينكة ،ووينفريد أورثمان ،وهارتموت لونة (المانيا) ،والدكتور حميدو حمادة ،ومحمد
المفتاح (سوريا) ،وكذلك عالمة اآلثار اليابانية يايوئي يامازاكي ،والبلجيكي مارك لوبو،
واإليطالي باولو ماتييه ،والباحثة الفرنسية من أصل ج ازئري الدكتورة مريم عبابسة،
واإلسباني كارلوس بورانا.
كما نظم "متحف طه الطه" معارض ولقاءات تكريمية ،لعدد من األدباء والكتاب،
والفنانين ،منهم :عبدالسالم العجيلي ،ومصطفى الحسون ،وعبدالرحمن منيف ،وليلى
العثمان ،وغسان كنفاني ،وابراهيم الخليل ،ونجدت آنزور ،وسمير طحان ،وحمدو
خلوف ،وعيسى العاكوب ،وعبدالوهاب البياتي.
والفنانين التشكيليين مصطفى الحالج ،وأكثم سليمان ،وفاتح المدرس ،ومحمود شاهين،
ودنخا زومايا ،ونعمت بدوي ،وآكوب جامكوجيان ،وبرصوم برصوما ،وشريف محرم،
وسهام منصور ،وناصر نعسان آغا .وكذلك ابراهيم الموسى ،وبشير بدوي ،وعلي
سليمان ،وسامي برهان ،وعلي هوال ،وأحمد معال .والموسيقي الفرنسي جوليان فايس.
كما نظم معرضاً خاصاً تحي ًة للصحفي السوري الراحل سعيد مطر بمناسبة مرور
أربعين يوماً على وفاته إثر حادث أليم.
كما عمل على جمع المنمنمات ،والحلي ،والعمالت القديمة ،والطوابع البريدية ،وأرشفة
الصحف السورية اليومية والصحف والمجالت العربية والدوريات.
91
أوراق العدد المزدوج 02-91
وأعد الدراسات الببلوغرافية التي رصد فيها تجربة كبار األدباء والفنانين على مستوى
الوطن العربي ،كما أنجز عدداً من الموسوعات العلمية التي تهتم بالبيئة الفراتية
والشعبية ،وله عدة مطبوعات ومئات المخطوطات التي لم تر النور ،كما كتب القصيدة
اليومية واألشعار وله عدة دواوين مخطوطة منها" :نزيف السأم -حديقة الرغبات -
عيون الجوع -طائر السمندل -الخروج من دائرة الصمت -يوميات" هذه المخطوطات
كانت نصيبي من ميراث أبي ،فقد أوصى رحمه الله بها إلي.
وأضاف إلى سجل إنجازاته ،العمل على جمع األعمال الفنية والنحتية لكبار الفنانين
العرب واألجانب ،والتي أصبحت -فيما بعد -من غنائم الدولة اإلسالمية ،التي
حولت منها ما حولت ،إلى ُحطام ورماد.
لقد كان طه الطه منارة للساحة الثقافية السورية والرقية ،عمل على مد جسر للمثاقفة
بين الشرق والغرب ،والثقافة هي أساس ُرقي الشعوب وتحضرها ،عمل على مزج
الماضي والحاضر وإنتاج فن حديث.
ال استطيع اختصار أسطورة بسطور ،ولكن أحاول تسليط الضوء على بقعة جار عليها
الزمن ،وبعد مرور سنين طويلة من الجهد المضني والعمل المتواصل دون ارحة أو
مقابل ،وبعد أن وصل هذا المتحف إلى قمة ازدهاره ونشاطه الثقافي "وهو المتحف
الشخصي الوحيد في سورية من عام "2622انهار كل شيء على يد مسلحي داعش،
الذين حطموا كل ما فيه من لوحات ،وأعمال فنية وتحف ،وأحرقوا الكتب واألرشيف
الورقي األدبي والثقافي الضخم ،والوحيد في المدينة ،ليصبح رماداً في مهب الريح.
ما جرى لطه الطه ليس قضية فرد وإنما هي قضية تاريخ وحضارة وطن ،بتراثه
وفولكلوره وآدابه وفنونه ماضيه وحاضره.
وبعد أن تزاحمت االوجاع واألحزان عليه ،احتضن ألمه ووجعه وحده دون رفيق ،افترش
الحزن بساطاً أسود من خيوط الشجن ،وجرحه ينزف من الداخل ،إلى أن وافته المنية
91
أوراق العدد المزدوج 02-91
في مدينة شانلي أورفا التركية ،ودفن فيها في .1111 /6 /12في هذا التاريخ السنوي،
والذي اعتاد فيه على إقامة معرض "متحف طه الطه" من كل عام.
ال أريد
العيش في المنفى
وإن كان
أشتهي أن أعود
السوس
وأموت هناك
بئس األوطان
حين ال تكون
الرقة
92
أوراق العدد المزدوج 02-91
بقدر ما تسعف الذاكرة ،تلوح لي اآلن دعوة من مدير الثقافة في الرقة حمود الموسى
إلى مهرجان للقصة القصيرة في مدينة الطبقة صيف .1111لم أكن أعرف حمود من
قبل ،لكنني كنت أعرف الطبقة منذ (الفرجة) في 2662/2/2على الدكتور يوسف
زعين يضع حجر األساس لسد الطبقة (سد الفرات) .ومن المعلوم أن زعين (2622
– )1126قضى في سجن المزة ما بين انقالب حافظ األسد الشهير بالحركة
التصحيحية عام 2621حتى ،2622حيث أُفرَج عنه ليموت بالسرطان ،لكن العالج
في السويد أنقذه ليقضي بقية حياته منفياً.
الشرارة:
ّ
يت دعوة حمود الموسى ،وأسعدني بخاصة اللقاء في الطبقة بالصديقين خطيب بدلة
لب ُ
ال في غرفتي مع كؤوس الطال
وتاج الدين الموسى .وأنى لي أن أنسى خلوتنا ثالثتنا لي ً
وابنة الدن وابنة الكرم ...وقبل أن نغادر الطبقة كانت الغيرة قد فعلت بي فعلها ،وكنت
قد امتألت إعجاباً بمدير المركز الشاب المختلف عن كل من عرفت من مدراء الثقافة
ومدراء المراكز الثقافية في سوريا من القامشلي إلى السويداء والالذقية وما بين بين،
ال أستثني إال الصديق الذي فارقنا في :1112/2/12رفعت عطفة.
93
أوراق العدد المزدوج 02-91
على الرغم مما بين الرقة والالذقية من مئات الكيلومترات ،وعبر اتصاالت معدودة
ومحدودة ،قدمت المشروع الطموح الذي يضمر مضاهاة ما كنت قد شاركت فيه من
مؤتمرات الرواية في تونس أو الدار البيضاء أو عمان أو الشارقة أو باريس ...وعيني
على ملتقى القاهرة لإلبداع الروائي .وقد جاءت تسمية المهرجان الموعود في الرقة
باقتراح من حمود الموسى وآخرين من أدباء الرقة( :مهرجان عبد السالم العجيلي األول
للرواية العربية).
الدورة األولى:
ألنها الرقة ،وألنه أيقونتها ،كان من الطبيعي أن يتمحور المهرجان في دورته األولى
1111على دراسات ألدب عبد السالم العجيلي ،باإلضافة إلى دراسات حول الرواية
السورية ،وأخي اًر :شهادات.
أسفر خالل فترة قياسية عن حضوروللمرء أن يتخيل الجهد الدؤوب والمركز الذي َ
سميحة خريس ومصلح النجار ومحمد عبيد الله (األردن) ،عبد الرحمن مجيد الربيعي
وفاضل الربيعي وعبد الله إبراهيم (العراق) مصطفى الضبع وعزت القمحاوي وسمير
الفيل وصالح فضل (مصر) ،وعلي مهدي زيتون وعبد المجيد زراقط (لبنان) ،واسيني
األعرج وفضيلة فاروق (الجزائر) ،كما شارك سبعة أدباء من الرقة ،وسبعة عشر من
أنحاء سورية ،من أبرزهم :خيري الذهبي ،وليد إخالصي ،ممدوح عزام ،شهال العجيلي،
سمر يزبك ،خالد حسين ،ماجد رشيد العويد ،إبراهيم الخليل ،نعمة خالد ،خليل صويلح
...
جرياً على سنن الدورة األولى لملتقى القاهرة لإلبداع الروائي ( )2662جاءت رسالة
عبد السالم العجيلي إلى المهرجان في االفتتاح ،وكان المرض قد أقعده ،لذلك ازره
تقدمت الضيوف إلى البيت الذي سكنته
ُ الضيوف والمنظمون في منزله .وعند خروجنا
عام ،2662على خطوات من بيت العجيلي ،آمالً أن أرى غرفتي بعد عقود ،لكن
الباب الذي انفتح أخي اًر واجهني برحيل أصحابه.
94
أوراق العدد المزدوج 02-91
من أبرز ما قدمه المشاركون أذكر حديث خيري الذهبي عن الرواية التاريخية ،ومنه
أن قدر الشاميين الذين ُسموا بالسوريين على غير رغبة منهم ،حاولوا الخروج من
القفص .لكن القضبان كانت أقوى من صدورهم العارية .وأخي اًر بدؤوا الكتابة /قراءة
الوطن بالرواية التاريخية .وقد ميز خيري الذهبي بين نوعين من كتاب هذه الرواية في
سورية :الكسالى الذين يتكئون على مشجب االلتزام ،واآلخرون الذين لهم مشروع روائي
خاص ،وتكرم فجعلني في مقدمة هؤالء برباعية (مدارات الشرق).
وقد قدم جهاد نعيسة دراسة مميزة لعالم خيري الذهبي ،تعويالً على رواية (لو لم يكن
اسمها فاطمة) ،ورأى فيها أن الذهبي نموذج لمزج وعجن األساطير والمواد التاريخية.
وقد عقد نعيسة موازنة بين تجربتي خيري الذهبي ونجيب محفوظ ،حيث عرضت
األولى تصو اًر موازياً عن أزمة وعي أعم يكون المثقف أحد أطرافها مأساوية ،وبالمناسبة
رم بعد السجن من حق العملوح َ
قضى جهاد نعيسة خمس عشرة سنة في السجن ُ
أستاذاً جامعياً داخل المالك .ومن الشهادات المؤثرة والبصيرة جاءت شهادة سمر يزبك
تحت عنوان (الكتابة الجديدة) .وذكرت فيها أنها كتبت روايتها (صلصال) بوله وحشي
وخشية ومتعة ،وأن الروائيين كانوا دائماً أنبياء في العالم العربي ،حيث ال أفق سوى
األسود ،أما الكتابة الجديدة فهي الكتابة الجيدة.
أضفت فرقةُ الرقة للفنون الشعبية بقيادة إسماعيل العجيلي بهجة مضاعفة على
ْ
المهرجان في جلسته االفتتاحية .وكنت قد عايشت هذه الفرقة منذ نشأتها عام .2666
وكان عبد السالم العجيلي قد كتب لها بعض أغانيها وأعمالها بالمحكية البدوية ،وسوف
تتكرر مشاركتها في افتتاح دورات المهرجان التالية.
بعت أغلب أعمال الدورة األولى في كتاب ،وهو ما سيغدو سنة المهرجان في سائر
ط ْ ُ
دوراته الست ( .)1121-1111كما رافقت المهرجان معارض للكتاب والفن التشكيلي،
ونظمت مديرية الثقافة رحلة للمشاركين إلى قلعة جعبر والرصافة وسد الفرات.
95
أوراق العدد المزدوج 02-91
التمويل:
في يوم الرحلة تخلفت عن الركب ،ليس فقط ألنني كنت قد زرت كل المواقع الساحرة
م ار اًر خالل أربعين سنة سابقة ،بل ألن رهق األيام الفائتة من قبل ابتداء المهرجان
اقتديت بجابر عصفور في تنظيمه أليام ملتقى
ُ بيومين كان قد أعجزني ،وكنت قد
اإلبداع الروائي في القاهرة ،فجعلت لكل يوم من أيام مهرجان العجيلي أربع جلسات
علمية :جلستان قبل الظهر ،للواحدة ساعتان ،يتحدث فيها أربعة ،ويلي ذلك النقاش
مع الجمهور الذي ندر أن كان مثله في ملتقيات العواصم ،ابتداءاً بأكبرها :ملتقى
القاهرة لإلبداع الروائي .وفي المساء جلستان مماثلتان ،ثم يأتي العشاء والسهرة التي
يعطرها بخاصة غناء الروائية فوزية المرعي بنت الرقة ،وسواها.
في ظهيرة يوم الرحلة إلى الطبقة والرصافة خرجت من الفندق ،وبعد خطوات قاطعني
رجل مشرعاً ذراعيه وهاتفاً :أستاذي .بالطبع لم أعرف الرجل الذي قدم نفسه :بوزان
البشير الهويدي ،واندفع يذكرني بالطالب الذي كان في الصف الثاني ثانوي وأستاذه
تعللت بارتباطي
ُ الذي كنته .وفجأة أطبق علي ألكون ضيفه على الغداء ،ولما
بالمهرجان أقسم باأليمان الغالظ على أن كل من في المهرجان هم ضيوفه على الغداء،
فتركت له أن يرتب ذلك مع حمود الموسى ،وكان ذلك في اليوم التالي :المضافة التي
تترامى عشرات األمتار :جلوساً على السجاد أيها الضيوف والمنظمون ويا رهطاً من
الحضور :المناسف التي تتوسطها الخراف تنتظر المئات ،ولن أنسى ذهول صالح
فضل وهو يحاول أن (يتربع) ونظرته المركوزة على الخروف تتلمظ تارة وتنكفئ تارًة
كأنها خائفة.
الدعوة الحاتمية لطالب األمس الذي صار شيخاً :بوزان البشير الهويدي ،تفتح القول
على تمويل المهرجان ،ابتداءاً من الدورة األولى .فبطاقات الطائرة ،ونقل الضيوف من
مطار دمشق إلى حلب فالرقة ،وأجور الفنادق وتكاليف اإلقامة ...كل ذلك يعني أرقاماً
96
أوراق العدد المزدوج 02-91
عصية على المدينة الصغيرة النائية ،وعصية بخاصة على ميزانية و ازرة الثقافة ،وعادة
ما تكون هذه الميزانية في المرتبة الدنيا.
التف حمود الموسى بخبرته وشبكة عالقاته الرسمية والمدنية ،على البيروقراطية وعلى
ازدراء الميزانية لألنشطة الثقافية ،فجاء المدد من (المجتمع األهلي) كما اخترع الخطاب
البعثي بديالً للقول بـ (المجتمع المدني) ،من أمثال صديقي الشيخ بوزان البشير
الهويدي( ،الشيخ فايز العبيد الغبين ومحمد حسن ويس العجيلي والمحامي عثمان
محمد والمهندس الياس خضري ،)...وكذلك العديد من المؤسسات (مديرية الخدمات
الفنية ،مديرية األعالف) على سبيل المثال .وقد فاجأني حمود الموسى في إحدى
الدورات باصطحابي إلى إدارة سد الفرات ،لماذا؟ لكي نطلب العون المادي للمهرجان،
فقدم المدير مائة ألف ليرة ،وكان ذلك مبلغاً كبي اًر يعادل 1111دوال اًر.
تحية للراحلين:
من المشاركين في المهرجان من رحلوا ،وأسماؤهم وحدها تدلل على المستوى الرفيع
الذي كان للمهرجان :من العراق نجم عبد الله كاظم وعبد الستار ناصر ،ومن مصر،
يوسف أبورية وصالح فضل وسيد بحراوي ومكاوي سعيد ،من تونس محمد الباردي
وصالح الدين بوجاه ،من األردن رفقة دودين وجمال ناجي ،ومن سوريا :ياسين رفاعية،
خيري الذهبي ،وليد إخالصي ،فؤاد المرعي ،رفعت عطفة ،غازي حسين العلي ،رضوان
قضماني ،عبد الله أبو هيف ،عادل محمود ،صبحي الدسوقي ،غسان الجباعي.
عالمات فارقة:
-2بقدر ما تسعف الذاكرة :تعنونت الدورة الرابعة 1112بـ (جمالية الرواية العربية).
وكان العنوان الذي اقترحته (جماليات) وال أعلم كيف صار (جمالية) على غالف
الكتاب المطبوع الذي ضم أعمال تلك الدورة.
97
أوراق العدد المزدوج 02-91
ألقى كلمة المشاركين إبراهيم عبد المجيد ،ومثل هذه الكلمة كانت من تقاليد المهرجان،
كما هو تكريم أحدهم .وممن جرى تكريمهم الروائي الصديق إبراهيم الخليل ابن الرقة
تبق
الذي غادرها إلى الطبقة عندما قامت دولة/خالفة داعش ،ثم عاد بعدما (قامت ولم َ
-نكاية بشعارها :قامت وستبقى) وجد بيته أنقاضاً ،ولكنه لم يغادر الرقة من بعد .كما
جرى تكريم القاص الراحل الصديق خليل جاسم الحميدي ،ابن الرقة.
في هذه الدورة كانت مفاجأة مشاركة الروائيين اليمنيين نادية الكوكباني -القادمة إلى
الرواية من هندسة العمارة -وحبيب عبد الرب سروري القادم إلى الرواية من أعقد
وأحدث علوم الكومبيوتر ،كما حضر من اليمن الشاعر والصحافي علي المقري الذي
سينتقل إلى الرواية ،وسرعان ما سيسطع نجمه فيها.
وقد كانت مشاركة شهال العجيلي (الجمالي والمعرفي في الرواية العربية) درة هذه
الدورة ،وهي األكاديمية والروائية المرموقة ،وابنة شقيق عبد السالم العجيلي ،وكان
والدها عبد العظيم العجيلي وشقيقتاها رزان ومزنة وعمها عبد الوهاب شموع المهرجان
التي ال تنطفئ.
كتبت شهال العجيلي أن "إنسان اليوم هو إنسان الرواية بجدارة ،الذي يعاني قطيعة
قيمية وجمالية مع العالم" .وكتب إبراهيم محمود عن جماليات الجسد المحظور في
الرواية العربية .وكتب نجم عبد الله كاظم عن جماليات الشخصية في الرواية العراقية.
أما خيري الذهبي الذي كان ضيف المهرجان للمرة الثانية ،فقد قدم شهادة على تجربته
الروائية حتى تلك السنة . 1116وازدانت الشهادة بما جاء فيها عن حياته الشخصية
والثقافية ،وعن النقد .وقد خصني بقوله" :أما نبيل سليمان فقد كتب عدداً من الدراسات،
وعدداً من العروض الصحفية لمعظم رواياتي ،وهذا ما أشكره عليه ،وأتمنى أن أتفرغ
قليالً للكتابة النقدية فأنصفه وهو الجدير".
ومن المغرب جاء لعبد المالك أشهبون بحثه (جماليات الواقعية الجديدة في الرواية
العربية) ،كما قدم أشهبون بحث المغربي الذي تعذر حضوره عبد اللطيف محفوظ
98
أوراق العدد المزدوج 02-91
(الداللة األيديولوجية في الرواية" :دلعون" أنموذجاً) .وفي ذلك توكيد على مدى جدية
الباحث ،وعلى مدى الجدية التي عرف بها المهرجان ،وهنا أذكر الروائي السوداني
أمير تاج السر الذي لم يتمكن من الحضور فأرسل شهادته (بصحبة الغرغرة المرة).
َد َرَج المهرجان بفضل إدارته على استضافة عدد من األدباء األتراك في كل دورة.
ومنهم في الدورة الرابعة صالح زكي طومباق الذي قدم (الرواية المؤامراتية في األدب
التركي) ،وتوالي آل كوبون التي قدمت( :منعكسات العالم المتعولم على األدب
التركي) .وكان الصديق المترجم بركات كار من أنطاكية قد ترجم للوفود التركية دورة
بعد دورة .وهنا أسجل أن شخصية توالي في روايتي (تحوالت اإلنسان الذهبي-
)1111ما كانت لتكون لوال الصديقة الكاتبة توالي التي عرفتها في الرقة في المهرجان،
وتعمقت صداقتنا ،وثالثنا بركات ،في مهرجان األدب العالمي في آكياكا التركية.
-2موضوع الدورة الخامسة 1116من المهرجان كان (الرواية العربية والنقد) ومن
المشاركات المميزة من مصر كانت مشاركة (زمن الرواية) لحسين حموده ،و("أنت"
ضمير النقمة والسخرية واالحتجاج) لخيري دومة ،و(النقد الجديد في مصر) البراهيم
فتحي ،ومن األردن (النقد واإلبداع النسوي) للراحلة رفقة دودين ،ومن السعودية (النقد
الروائي العربي والرواية الشبابية) لنو ار القحطاني ،و(التناص بوصفه ممارسة) لمعجب
العدواني ،ومن المغرب (مسارات النقد الروائي) لشعيب حليفي ،ومن سوريا (حول
99
أوراق العدد المزدوج 02-91
مشكالت الناقد الروائي العربي) لشهال العجيلي ،و(بالغة السرد) لرشا العلي ...ومن
الشهادات أذكر شهادات ابتسام تريسي وخطيب بدلة وخيري الذهبي ونهاد سيريس
وممدوح عزام (سوريا) ،والميلودي شغموم (المغرب) ومحمد األصفر (لبيبا) وأمير تاج
السر (السودان).
وبعد:
كان يا ما كان ،وغير الله ما كان ،كان فيه مهرجان في الرقة يحمل اسم عبد السالم
العجيلي ،وعاش ست دورات من 1111حتى ،1121ثم زلزلت سوريا زلزالها،
وأخرجت أثقالها ،وتوقف المهرجان إلى أن حاولت و ازرة الثقافة السورية إحياءه عام
1126فيما سمته الدورة السابعة ،أي إنها استأنفت إقامة المهرجان بعد الدورة السادسة،
ولكن ليس في الرقة التي تسيطر عليها اإلدارة الذاتية الكردية ،وخارج سيطرة الدولة أو
مت في إعداديتها لمدة أسبوع في
النظام ،بل أقيم المهرجان في بلدة (السبخة) التي عل ُ
تشرين األول 2662قبل أن أنتقل إلى ثانوية خديجة للبنات في الرقة.
111
أوراق العدد المزدوج 02-91
نقل لي صديق مشارك في الدورة السابعة أنه اقترح دعوتي فرفضوا (من هم؟) رفضا
ذكر اسمي البتة .كما كان محرما في هذه الدورة وفي الدورة التالية 1111
قاطعا أن ُي َ
ذكر أي كاتب أو كاتبة من المحسوبين في المعارضة ،داخل وخارج سوريا .وألكن
صمت بالنرجسية أو األنانية :لقد جعلني إحياء المهرجان ،كما جرى،
صريحا حتى لو ُو ُ
بأن األمر هو اختطاف المهرجان ،بل هو اغتصاب ،ليس فقط لي أو لجهودي ،بل
لكثيرين وكثيرات من أمثالي ،على رأسهم حمود الموسى ،سواء ممن أنجبتهم وأنجبتهن
الرقة أو سواهم من كتاب وكاتبات وعاملين وعامالت في اإلدارة واإلعالم ،أما عزائي،
والمكافأة الكبرى على ما قدمت فهو هذه الكلمات التي ألقاها حمود الموسى في افتتاح
الدورة األولى للمهرجان "وال يفوتني -وإن اتهمت بالمحاباة ،أن أشكر الصديق واألديب
نبيل سليمان ،فلوالك أيها الصديق كان من الصعب أن ننعم بهذا اللقاء ،فشك اًر على
واجبك".
وإنه لواجبي حق ًا نحو الرقة التي سكنتني كما لم يسكنني مكان آخر تعلقت به روحي
في سوريا وخارجها .الرقة مدينة عبد السالم العجيلي ومن سبقوا ومن لحقوا من
المبدعين والمبدعات من ربيعة الرقي والبتاني إلى عبد السالم العجيلي وإبراهيم الخليل
وشهال العجيلي وياسين حاج صالح وخليل الرز وعبد اللطيف خطاب و....
111
أوراق العدد المزدوج 02-91
شعيب حليفي
كالم كثير ما زال ضائعا في نفسي أشبه بسفينة سومرية تحملكم فقط
ال يمكن للحياة أن تستقيم بال ذاكرة ،وال ذاكرة بال مكان .والرقة ليست مكانا ولكنها
فضاء متشابك مع التاريخ وأرواح الكلمات والوجود الذي هو الصيرورة.
112
أوراق العدد المزدوج 02-91
عنونت النص ب"العبور إلى الشام" ،ثم افتتحته بمقطع من قصيدة شعرية لشاعر
ُ
مغربي ،دون أن أفسر لماذا اخترتُه:
ِ
الصمت كي أستطيع الصالة أريد قليالً من
" ُ
ويا قاتلي ...بطعنتك الغائرة
صديق
ْ وال
كالحريق
ْ اك وخنجرك المُستقيم بحنجرتي ...
سو َ
الغريق".
ْ وصمتاً ورعباً كرعب
اخترت هذا المقطع ،وهل قرأته في تلك المرآة التي كانت تراني وأراها
ُ ال أعرف لماذا
ست
بتوجس؟ ثم انتقلت – في تدمير متعمد للسرد الكرونولوجي والتسجيلي البليد ،وغم ُ
يدي في مداد الخيال ،مفتتحا كالمي بلحظة العودة من سوريا بعد انتهاء تواجدي بها
في سياق مؤتمر الرواية الملتئم لحظتها.
وبين أيديكم اآلن النص كما كتبته في ديسمبر 1116بعد عودتي مباشرة من الرقة:
113
أوراق العدد المزدوج 02-91
حدوس ساخنة
وأنا أصعد ُسلم طائرة العودة ،من مطار حلبُ ،قبيل فجر يوم الخميس العاشر من
ديسمبر ،في الساعة الثالثة والربع ،حيث مالئكة الرحمان في ذلك الليل البهيم ،ا ِ
لندي
دت البقاء متأخ ار عن كل ُركاب هذه تعم ُ
ُبنعاس لذيذ ،تُعيد ترتيب العالم ليوم جديدَّ .
ننزل من الحافلة أمام األدراج الحديدية المؤدية لباب دخول طائرةالرحلة ،ونحن ُ
جميعهم في استعجال للولوج إلى أماكنهم الدافئة ،ربما خوفا من تلك
ُ االيرباس التركية،
الخطوط المطرية الخفيفة ،العربية الطعم ،ال طيعة وال َحرون ،وإنما رخية حنونُ ،مسبلة
في رحابة محسوسة.
تخلفت عمداً ،لغرض في نفسي التي لم يتبق فيها شيء سوى األحاسيس ُ
المشتعلة، ُ
وأنا أرمي ب ِر ْجلي ُ
اليمنى على الدرج األول .لم يكن متبقيا أمامي في الدرج الخامس
سوى َر ُجل في حوالي الخمسين من عمره ،يبدو مثل مهندس أو فنان ،منشغل في حبور
األطفال ،بابنته ذات السنوات الخمس ..تمشي الهوينى حاملة بين يديها فرسا من
حرير أسود وأزرق ،عليه دوائر بيضاء.
الممتع ،بوجهها الطفولي الناضج والضاجسهوت في النظر إليها وأنا أشعر بالرذاذ ُ
ُ
لم َحِني والدها
بنورانية ارستقراطية ،كأنها حبة َمطر طاهرة نزلت بيننا حية تمشيَ .
تخليت عن المشهد ،دون أن أ َ
ُشيح عنه بخاطري ،حينما فاض بداخلي ُ فابتسم .آنذاك،
مشهد أقوى وأبعد.
114
أوراق العدد المزدوج 02-91
أبحث
ُ توقفت ملتفتا خلفي ،لثانيتين أو أكثر بقليل ،ورأسي إلى السماء .هناك ،بعيدا
ُ
بداخلها متسربا ،في خفة طفولية بين حبات المطر ُّ
الزاللية ،عن المالئكة التي تُدو ُن
على صفحات السماء أيامنا الجميلة ،بلغات رقيقة وطافحة بالمشاعر الجليلة.
وفي الثانيتين أو أقل بقليل ،أحدق أفقيا ،كمن يرى كل بالد الشام آلخر مرة .إحساس
آلمني كوني ُمتأكد بأني لن أعود إلى سوريا أبدا بعد خطوات فقط تفصلني عن باب
رد هذا الشعور أني رأيتُ هناك ،في اليوم الثاني من وصولي ،حلما –الطائرة .وم ُّ
مكتمل الشروط -رأيتُني مجتمعا بعدد من األصدقاء السوريين األكراد واألتراك ،وجرت
وفاوضت األمويين .ورأيتُني في مكان يسمى
ُ زرت الشام /دمشق
بيننا حوارات ،كما ُ
أعيد بناء ملكي ومسجدي الذي أرى منه ُعهودي ،و ُّ
أهش فيه على بالشاوية ثم الرصافة ُ
ُ
اي. ِ
َوَرعي وتقو َ
في آخر الحلم ،وكان مشهدا سريعا وعنيفا ،جماعة من العساكر يتقدمهم ضابط ُمثقل
بالنياشين ..يأخذونني إلى بهو بارد وطويل ،ثم شرعوا في استنطاقي وسط ظروف
ُمذلة؛ بعد ذلك صلبوني رغم أني مسلم كامل اإلسالم.
أنا أثق في أحالمي المتضمنة لعالمات وإشارات مرتبطة بالسياقات النهارية واألحداث
التي أعيشها ...إنها جزء من حدوسي السرية ،والتي يبقى تأويلها عندي وعند غيري
يسي ار وفي المتناول.
كانت هذه المرة الثانية التي أسافر فيها إلى سوريا ،بعد تعذر ذهابي لمرات أخريات.
115
أوراق العدد المزدوج 02-91
عيت ،رفقة الروائي الميلودي شغموم من المغرب ،إلى ملتقى الرواية بمدينة الرقة،
وقد ُد ُ
حيث استغرق سفرنا من كازبالنكا إلى اسطمبول نحو أربع ساعات ونصف ،قبل أن
نعبر نحو طائرة أخرىَّ ،
أقلتنا في ساعتين إلى حلب ،ومنها أخذتنا سيارة إلى مدينة ُْ
الرقة في ساعتين أيضا.
نزلنا فندق الالزورد بوسط المدينة ،في فجر يوم األحد سادس ديسمبر ،وكان مزاجي
توجهت
ُ جراء التعب والجو البارد الذي استقبلنا به مناخ البلد .وفي الصباح،
متعك ار َّ
بت منه تغيير
نحو عامل االستقباالت ،وهو رجل لطيف يسمع كثي ار ويتكلم قليال ،طل ُ
الغرفة بأخرى ففعل ،وكانت بالطابق الرابع رقم 412في ممر موحش وطويل ،مثل
خرجت وحيدا نحو وسط المدينة بشارعي 12شباط
ُ ذاك الذي رأيته في الحلم .بعد ذلك
ْ
وتل األبيض.
جلست منتظ ار صاحب المحل ،وهو يستفسر عبر الهاتف ،شخصا أمنيا .ولما أخذ منه
ُ
الموافقة طلب مني جواز سفري الذي نسخ منه الصفحات الست األولى وصفحة خاتم
تأشيرة الدخول ،كما طلب مني عنوان الفندق واسم أبي وأمي ،الستكمال تعبئة استمارة
فانتفضت ورفض ُت وأنا أنتزع
ُ االشتراك؛ وعوض أن يطلب مني التوقيع أمرني بالبصم،
منه جواز سفري ،ممزقا بطاقة المعلومات و ُّ
النسخ ،ألني أرفض معاملتي مثل ُمتهم أو
لترصده في أية لحظة.
ُمجرم يبصم ُّ
***
116
أوراق العدد المزدوج 02-91
تبدد ضجري بعض الشيء وأنا ألتقي بأصدقائي من سوريا ومصر واليمن
في المساءَ ،
والسعودية.
يوم االثنين ،انطلقت أشغال المؤتمر ولم تنته إال في حوالي الساعة العاشرة ليال ،حيث
ازداد ضجري ،فالتحقنا مباشرة بمطعم الفندق ..وبقينا إلى غاية الساعة الواحدة
والنصف صباحا في جلسة عائلية حميميةُ ،ملتفين حول األب المنقذ نبيل سليمان،
مثل رهبان وفقهاء أو سحرة نستمع إلى االبتهاالت العالية التي جعلت أرواحنا تتفتح
وترى النور.
عدت إلى غرفتي عبر الممر الطويل والبارد ،وقد أحسست بمصالحة مع نفسي، ُ
فسهرت لساعة أخرى كت ُ
بت فيها أزيد من عشر صفحات من "الرواية القصيرة" التي ُ
أعدت قراءتها ،فلم أخلد إلى النوم إال بعدما صارت
ُ كنت بدأتُها في ِرحالت سابقة ،ثم
ُ
صفحة واحدة ،فقط ،بخط يدي .إنه النص النائم بداخلي ،ال يصحو إال وأنا بعيد عن
أوطاني.
تصوغ له المعاني التي ُينتجها .أما ِمرآتي فهي في مواصلة تدوين ما يهبط َّ
علي من
ور َّب ضارة نافعة.
معان عارية حول ما يقع بالجبل ،فأراها قد انكسرتُ ،
ويعبر عن ذلك بالصمت ال ُموارب أو بالطرق األخرى
حب الجبل بطريقتهُ ،
كلنا ُي ُّ
المتاحة.
وركب
َ همام الخروج بعدما لبس جلبابا وطاقية سوداوين،
الليل بهيم وهادئ ،حيث ُيقرر َّ
سيارته الرباعية الدفع السوداء أيضا .ضغط على زر من مفتاح أبيض انفتحت إثره
البوابة الحديدية للمرآب ،فانتفض أربعة من الحراس ِ
الشداد الغالظ واقفين ،أشار عليهم َ
بالعودة إلى أماكنهمُ ،منصرفا وحيدا في شكله المتخفي.
117
أوراق العدد المزدوج 02-91
َهبط نحو الشارع التحتاني يسوق سيارته بسرعة بطيئة في اتجاه الجهة الشرقية ..
وكان وحيدا حينما انتهى إلى المقبرة الوحيدة المحاذية للبحر .رمقها بسرعة ثم رجع
وهو ينظر بإمعان في ِ
المرآة الداخلية للسيارة العاكسة للخلف ،فلم ير سوى الظالم
والصمت والتوحش.
اتخذ طريقه ،هذه المرة ،غربا بنفس السير والتأمل ،إلى أن وصل أخي ار أمام كهوف
عالية وقديمة ،سكنها اإلنسان األصلي ،مستندة إلى غابة ال أحد يعرف منتهاها.
وسرعان ما بدأت تصل إلى سمعه أصوات متوترة ،مصحوبة بأنين متقطع ،لم يتبين
مصدرها .ومباشرة ،ضغط على َدَّواس البنزين ،فانطلقت سيارته مثل شبح ُف َّك من
قيوده.
من أكون؟
استمرت األمطار تُراودنا ،والشمس خفية متوارية وراء حجاب رمادي .أما السحابات
القابعة فوقنا ،فإنها تتهادى في المباالة ..تسمح لنا من حين آلخر بفجوة نرى من
خاللها السماء ،صفحة للناس الطيبين ،يكتبون عليها مآثرهم وأحالمهم.
كنت ،في اليوم الثاني ،هادئا مثل الرقة ،المدينة الصغيرة القابعة على
أما أنا ،فقد ُ
استفيق صباحا للتجول فيها في وقت محدود ،قبل أن أعود
ُ الضفة اليسرى لنهر الفرات،
يطبعها ،وبتلك الروح البسيطة عند السكان المقيمين
ونفسي قد طابت بذلك الهدوء الذي ُ
أو القادمين من المزارع المحيطة.
لماذا حينما تهطل األمطارُ ،يعاودنا اإلحساس بالحنين إلى جدنا آدم ،كأننا أتربة حية
من صلصال رباني نفرُح بالمطر الذي يروينا.
***
118
أوراق العدد المزدوج 02-91
هل أنا رحالة أم كاتب؟ مؤرخ أم سفير لممالكي؟ أبحث عن ساحات أخرى للخيال،
وهذه المرة ،في أرض سوريا التي نحب تسميتها بالشامُ ،كال ،وليست دمشق فقط!.
وعرفتا بلغتهما
واجهنا الغزو الذي دمر مدينتين ُوجدتا منذ األلف الرابعة قبل الميالدُ ،
السامية المتصلة باألكادية القديمة والكتابة المسمارية.
شاركت إلى جانب القبائل و"جندبو العربي" -كي أفوز بالسبايا األشوريات في حرب
ُ
حاسمة دفاعا عن دمشق -فانتصرنا على شملناصر الثالث؛ لكن الذي سيأتي كان
قاسيا حينما مات اإلسكندر األكبر ،وانخرط ورثته في حروب لم تنته إال بفوز سلوقس
بسوريا ،مدعوما من بطليموس ،فصارت البالد السورية مرك از وجزًء من امبراطورية
تمتد حتى الهند.
نت أعلم
عدت إلى مدينتي "ماري" ،بحثا في حواشيها األليفة عن َمبيت دائم ،وكأنني ك ُ
ُ
فعدت إلى ساحاتي
ُ بما سيأتي من حروب قاتلة ال منتهية في ظل الدولة السلوقية،
الساخنة وسط جماعات من الثوار ضد انطيوخس وسالالته وديمتيريوس.
نظرت
ُ سبعة قرون ،بين الرومان والبارتيين والفرس ،تبد َدت فيها كل الخياالت حتى أني
إلى كفي ألرى دمائي المختلطة بآثار السومريين واألكاديين واألموريين والبابليين،
واآلراميين واألشوريين ثم اليونان والرومان ،قبيل مجيء السيد المسيح ..أراها فأتأمل
من أكون؟
119
أوراق العدد المزدوج 02-91
قرب النهر
بعد انتهاء جلسة مساء اليوم الثالث ،في الساعة العاشرة ليالُ ،عدنا جميعا إلى الطابق
الخامس لتناول وجبة العشاء ،حيث مكثنا إلى غاية الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
غفوت لثوان معدودات في معراج روحاني وأنا جالس وسط ُرفقة من أصدقاء،
ُ لحظتها،
انسحبت
ُ أيت نفسي واقفا في أرض أشبه بالجنة.
هم في مراتب أولياء الله الصالحين ،فر ُ
إلى الوراء ألرى شيئا ينهض من آثار خطواتي .أراني أم أرى شخصا اسمه "مازغ"،
المولع بالغزوات ،يركب فرسه وهو ممتلئ بالطموح والمغامرة ..خرج من الشاوية
قاصدا بالد الشام ،وحيدا ،باحثا عن تحرير أحالمه المعتقلة لدى أخواله وأعمامه.
جئت من بالد األمازيغ ،أرض األحرار ،على فرس إلى بالد الشام ،محاربا
رأيتُني ُ
جلست قرب النهر أنتظر
ُ وصلت صباحا،
ُ أبحث عن طريق للعبور إلى نفسي ،وحينما
كل أقداري المشتتة في جلود أجدادي .أشم فيها روائحهم العطرة والشجاعة.
فكرت في
ُ أشعر بحماس كبير كلما
ُ (الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل)
كنت مأخوذا بالكتابة عنه ،خصوصا ،خالل
شخصية "والء الطيب" ،فأنا أحبه وإال ما ُ
سفري خارج الوطن ..هل الحكمة في تلك المسافة التي تُبعدني عنه وعن حياته التي
يتمتع بها في الجبل بشخصيتين؟ واحدة وهو وسط حاشية الحاكم في القمة ،وأخرى
في السفح مع عامة الشعب .شخصيتان ال يستطيع التفريق بينهما إال الخبراء في فقه
التأويل.
ورغم كونه شخصية خيالية ،فقد انتظر ُت منه مكالمة هاتفية ليلومني أو يشكرني حتى
يفتح لي ثُقبا ولو صغيرا ،ألج منه إلى تفاصيل أخرى من حياته .هل هو خائف أم
يلعب لعبة اإلهمال وانتظار الفرصة للضرب ضربة واحدة
همام كيف ُ
تعلم من السيد َّ
َ
ال غير ...؟
111
أوراق العدد المزدوج 02-91
***
هم الجبل ،لم يعد الثالثي همام ووالء وعصمان الجبالوي لوحدهم في
في فصل جديد َي ُّ
ساحات الجبل ،يتحكمون في زمنه ،بل انضاف إليهم عدد آخر من الفنانين المقاولين
ورجال األعمال ،منهم َّ
وضاء الماجد وسالم الصويري وطه المناصري وعزيز الغازي
...ينافسون السيد َّ
همام بتمثيليات من إنتاجهم وإخراجهم .فعلى سبيل المثال ،يقدم
السيد طه المناصري تمثيليات يستقي مواضيعها من أرشيف االستخبارات الجبلية ،وقد
اغتنى مثل اآلخرين باقتناء مئات الهكتارات من األراضي حتى اعتقد السكان أنهم ردموا
الزرع من أجل تهيئ مسارح كبيرة ال تسع إال للمالحم التي لم تُكتب بعد.
العشاء األخير
ليس ُمصادفة أبدا ،ولم يكن ترتيبا من أحد ،ولكنه من الله الذي جمعنا من أزمان
المطل على خطوط متناغمة ،تقود
وأمكنة ،في تلك الربوة التي تسمى الطابق الخامسُ ،
نحو مساجد وكنائس مترامية في فضاءات صامتة تتأمل وجودنا القدري.
اليوم الرابع واألخير لي بالبالد السورية ،جلسنا في العشاء األخير وقد كنا أحد عشرة
حكاية ،أو باألحرى أحد عشر ساحرا ،كل واحد يتأبط كتابه بيمينه.
كنا على مائدة العشاء المستطيلة ،في جنوب قلب المكان ،وفي الطرف القصي جلسنا:
معجب العدواني من المملكة العربية السعودية ،وعبد ربه والميلودي شغموم من شاوية
المغرب ،ومحمد الغربي من اليمن ،وخيري دومة من مصر ،وأحمد خلف من العراق.
111
أوراق العدد المزدوج 02-91
وفي الجهة المقابلة لنا ،بنفس الترتيب ،شهال العجيلي ونبيل سليمان وإديت بياف ورفقة
دودين وماري رشو ،وأخي ار خيري الذهبي ..وجميعهم من سوريا.
كانت الحيرة هي سبيلنا الوحيد للوصول إلى أرض الدهشة .نتكلم ونحكي ،ومن حين
آلخر ُينزل الله علينا شيئا في صدورنا نقوله ثم نمضي ،دون أن يجرؤ أحد منا على
تقييده ..فهو كالم هبط ليذوب مع أنفاسنا الزكية والحارة.
كان الجميع يتأمل تواريخ الظنون في نفوسنا ،ولكنني (في تلك الليلة التي امتدت من
وقت معلوم ،ولن يعرف أحد متى انتهت!) أستطيع التحدث عما كان في نفسي ،فقد
كنت يائسا أنه بإمكاني معاودة ركوب فرسي الذي تركته مربوطا في
أحسست بعدما ُ
ُ
الخالء ،قبل ألفي عام أو أقل بقليل...
بإمكاني معاودة الركوب عليه دون سرج ورسن أو لوازم ،واالنطالق بعيدا للعبور نحو
روحي.
هل كانت بيننا مريم المجدلية فعال؟ أم أن انشغالي المتعجل بالبحث عن الطهرانية في
عيون وقسمات المطر جعلتني قلقا محموما؟
وقلت لصديقي الذي كان على شمالي :نحن أيتام منذ موت محمد ،ولكن المائدة هاته
جمعتنا لنبدد خطايانا ونعلن محبتنا لبعضنا.
112
أوراق العدد المزدوج 02-91
ماري ..أين ستُصلين هذا المساء؟ فج ار عند سيدة البشارة وظه ار لدى القديس
جورجيوس ،أم عص ار في أحضان السيدة العذراء حينا ،وتحت ظل رقاد السيدة
باألوغاريت حينا آخر .وفي الغروب تكونين حاضرة عند القديس نيكوالس ،أما العشاء
– سيدتي -فهو في محراب ذلك المسلم األمازيغي العروبي الفاتح الغازي المتعطش
التقي الذي شبعت روحه ورعا وانتظارا .العشاء األخير معه ..حج إلعالن النوايا
وتأويلها.
***
كتب
هل يعرف أحد أننا جلسنا ألول مرة في تل مريبط ،قبل ثمانمائة سنة (ق.م) ،ن ُ
مصائرنا على الحجارة ،ثم انتقلنا إلى بانياس بالجوالن حين ِ
قلت لي:
"الغصة الوحيدة التي تََرْكتَ َها في نفسي هي أنني لم أتمكن من إسعادك ،أو استبقائك
أنت لم تمنحني الفرصة بمزاجيتك الحادة ...لقد
إلى جانبي بعد صلب السيد المسيحَ .
أربكتني كما لم أرتبك أبدا ،وأنت تهاجر ضمن جيوش الفتح اإلسالمي للبلدان...
وتركتني أنتظر.
لم أكن في كل تاريخي الطويل "هنا" ،ناسكا كمن عاشوا في العراء أو في الكهوف ،أو
مع من طلعوا األبراج ،يعملون نها ار في الحقول ،وفي الليل يتسللون لنسخ المخطوطات
الدينية ،ورسائل غرامية بأسماء مستعارة.
عمدت روحها بدم الشهداء والسحرة والشع ارء، أهي مريم المجدلية؟ أم ِ
أنت الراهبة التي َّ
من انطاكية إلى القدس ،عودة إلى جنوب البحر األسود ثم صعودا إلى الشام .ذراع
واحد أشبه بذراع مريم ابنتي الصغيرة.
113
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
عانقت أنوار الفتوحات منذ رجب ،في السنة الثانية ِ
التقيت ببولس أم بحنانيا ،أم هل
عشرة للهجرة مع خالد بن سعيد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة
الجراح ثم خالد بن الوليد؟
زرنا مزار عدد من الصحابة والشهداء ،كما استمتعنا بمعاينة سد الفرات ومدينة الرصافة
وقلعة جعبر.
توجد مدينة الرصافة على بعد ستين كلمت ار جنوب مدينة الرقة ،وهي عبارة عن سور
وأطالل ُبنيت من حجارة قرميدية ضخمة ،بداخلها كاتدرائيةُ ،وجدت منذ 116ميالدية،
وصهاريج وكنيسة للشهادة .وكانت المدينة تسمى في المصادر البيزنطية باسم مدينة
القديس سرجيوبوليس ،وفي العصر األموي ُسميت برصافة هشام بن عبد الملك الذي
أقام بها فترة ،وبنى بها مسجدا ،ما زالت معالمه قائمة..
أما قلعة جعبر ،فتقع قرب سد الفرات ،إلى الشمال في منطقة الجزيرة السورية على
الضفة اليسرى لبحيرة األسد ،تمتد داخلها على شكل جزيرة أثرية رائعة تتربع فوق
هضبة كلسية ،ترتفع قمتها إلى 242مت ار فوق سطح البحر ،ويبلغ طولها من الشمال
إلى الجنوب 211مت ار ،وعرضها من الشرق للغرب 221مترا ،يحيط بها سوران
يضمان عددا من األبراج ،تزيد عن خمس وثالثين برجا ،بعضها مضلع الشكل وبعضها
اآلخر نصف دائري ،وفي وسطها ُشيد المسجد الجامع.
114
أوراق العدد المزدوج 02-91
وتُنسب القلعة إلى األمير جعبر بن سابق القشيري (القرن الحادي عشر الميالدي)،
وال ُيعرف عنه شيء سوى أنه بقي حتى أسن وعمي ،وكان له ولدان من قطاع الطرق.
وقد أخذها منه السلطان السلجوقي وقتله سنة 464هجرية.
ُع ِر ْ
فت القلعة قبل نسبتها إلى جعبر بالدوسرية ،نسبة إلى دوسر ،غالم النعمان بن
منذر ،وأن تاريخها يرجع إلى ما قبل اإلسالم.
(فجر اليوم األخير :يوميات والء الطيب) تصعب اإلحاطة بكل أخبار السيد والء
قررت العمل بطريقة
ُ الطيب ،ألن عالمه متشعب ويتطلب تحريات فريق كامل ،لذلك
واحدة فقط ،وهي رصد ما يفعله خالل يوم كامل ،عن طريق الترتيب الجيد لليوم
الموعود ،عبر االستعانة بفريق من صديقين لي ،أنا ثالثهم.
***
استفاق كعادته في العاشرة صباحا ،وخالل ساعة واحدة سيهيئ له الخدم الحمام
والفطور ،ثم مالبس يوم األربعاء والعطور المصاحبة وبعض الماكياج الخفيف.
ركب سيارته متوجها نحو مقهى على الشاطئ .شرب قهوته في الحادية عشرة والربعَ ،
المفضلة وهو يتصفح الجرائد والمجالت ،وفجأة يرمى بكل شيء ،متناوال هاتفه متحدثا
مع بعض أصدقائه وهو سعيد ومنشرح.
في الثانية عشرة وعشر دقائق ،توجه إلى مكتبه بالمسرح التحتاني ،في سفح الجبل.
تهييئ لمسرحيتهم الجديدة "الهيئة"،
ً أس اجتماعا مع فريق عمله ،من الممثلين،
وهناك تر َ
والتي من المنتظر أن يستمر عرضها لثالثة مواسم.
تحدث والء الطيب عن الصدمة التي ستُحدثها المسرحية الجديدة بالعمل على "تحرير
المسرح العربي من الخواء والخياالت المريضة".
115
أوراق العدد المزدوج 02-91
كما أخبرهم بالخطوط العامة لمضامينها؛ وهي عبارة عن لوحات تعرض لجلسات
استماع وحوار يتحدث فيها بعض األموات واألحياء ،ممن كانوا ضد النظام ،ويعترفون
بخطاياهم ،جهات معادية للجبل غررت بهم ،وكذلك الوسواس الخناس الذي مأل
صدورهم وعقولهم.
وتنتهي التمثيلية الهزلية نهاية سعيدة ،بالعفو عنهم ومنحهم أمواال وبيوتا وجواري ووثيقة
اعتراف بالمواطنة الكاملة والتوقير التام لحاملها ،مع تمكينهم من حمل لقب واحد هو
الجبالوي.
أنهى والء االجتماع ،وصعد مباشرة إلى الطابق األخير ،حيث يوجد مسبح وقاعة ساونا
وأخرى للتدليك والتجميل.
116
أوراق العدد المزدوج 02-91
حينما انتهى من جلوسه إليهم ،عاد إلى بيته ليرتب سهرته الخاصة والتي تختلف
باختالف الظروف .لكنه في هذه الليلة دخل مكتبه ليكتب خاتمة المسرحية.
جلس طويال إلى نفسه ..تتنازعه شخصيتان تتصارعان كلما اختلى وحيدا؛ الشخصية
األولى صارت مقهورة ذليلة مستعبدة ومختبئة .الشخصية الثانية يمثل بها وهي مزيج
من شخصيات مركبة ،طارئة ومستعارة عمقها التنكر واالستبداد وحسن التخلص من
همام.
كل المواقف التي صاغتها شخصيته األولى قبل تعرفه إلى السيد َّ
احتار فلم تسعفه الكتابة ،قام نحو مكتبته يبحث في دواوين الشعر العربي ،فالتقط ديوانا
لشاعر من الشعراء الذين أحبهم سكان الجبل .حقيقي وواعد ما لم تغتله عصابات
الجبل.
وهو قائم ،فتح والء الطيب الديوان على قصيدة بعنوان "أريد قلبا في قلبي" ،شرع في
قراءتها بصوت مسموع ،فاكتشف أنه يحفظها عن ظهر قلب ،لكن شخصيته التنكرية
ارتابت وانطلقت تكتب المشهد األخير لمسرحية الهيئة ،إحدى الشخصيات التي تجثو
على ركبتيها وتقول شعرا ،هو تحوير فاضح للقصيدة الجميلة:
عبور أخير
روح الرحالة مثل سفينة ترسو في الميناء ،لتهدأ قليال وتستريح من تقلبات النهر والبحر،
تشم رائحة التراب والناس .إنه عبور ناعم من الموت إلى الحياة.
117
أوراق العدد المزدوج 02-91
أرفع بصري إلى السماء ،مترقبا فجوة سريعة بين زحف كتل سحاب المبالية ..ألطل ُ
منها على أقداري ..فأرى "مازغ" وقد صار ُمشبعا بحماس كبيرُ ،مبلال بالمطر والغبار،
خلفه جيش ال ُيعد وال ُيحصى.
عس َك َر بين جبلين ناهدين ،في مكان ُيسمى اليوم بالمنصورية ،وقبل
حينما دخل الشام ْ
خلوده إلى النوم بينهما ،شرب حليبا دافئا وأكل رمانا ودندن بشعر من الزجل المغربي
ويكتب عليها :حبات الرمان أسقطها
ُ يتحدث عن حبيبته ،ثم يحمل ِمرآته السحرية
الخريف وفرسه العطشان أوشك على الهالك عطشا:
اس في الخريف
س ْان تْ َ
الر َّم ْ
هذا حَ ْب ُّ
في نومته تلك ،رأى شخصين بلباس الجند في الجيش الروماني ،سرجيوس وباخوس،
رفضا تقديم األضاحي والسجود لألصنام ،فتم القبض عليهما وثقبوا شفاهيهما وأُدخل
فيها خيط لجرهما به ،كما نزعوا عنهما بذلتهما العسكرية وألبسوهما لباسا نسائيا،
ووضعوا في أرجلهم أحذية في نعلها مسامير ظاهرة ،وساقوهما على أقدامهما إلى حاكم
الشرق الذي جلد باخوس جلدا وحشيا حتى أسلم الروح لباريها ،أما سرجيوس فقد جزوا
رأسه.
بعد سنوات مديدة ،يتفق رفاقه ويجمعون رفاته فيصبح قديسا في كنيسة ُّ
الرصافة .
118
أوراق العدد المزدوج 02-91
األيمن .تقدم وحيدا من بوابتها الكبيرة نحو الكنيسة التي دفن فيها ُرفات سرجيوس ..
فاستقبله راهب ،قصير القامة ،بلباس أنيق معتقدا أنه جاء ليعترف بخطاياه ،فقال له:
رد عليه سيدي ،بصوت خافت ،ملموم في احترام حقيقي ،وهو يتلمس الجزء المتدلي
من شده بيده اليسرى:
فاستعجل قراءتها.
ْ -هذه وثيقة أبيع فيها نفسي إلى الله وإلى جدنا القادم ..
***
ولجت
ُ في الطائرة ،وأثناء عودتي من حلب إلى الدار البيضاء مرو ار باستانبول ،وبعدما
قمت بسرعة أفتش عن الرجل وابنته للجلوس بحثت عن مكاني ،ثم ُُ إليها متأخ ار،
وعاودت السير في ممر الطائرة مرة أخرى دون جدوى،
ُ بجوارهما ،فلم أعثر عليهما،
وسألت مضيفة تركية عن طفلة برفقة والدها في الخامسة
ُ وقد خامرني الشك في نفسي،
قطعت شكي وهي تُخبرني بعدم
ْ من عمرها ،تحمل فرسا وتلبس ثوبا ملكيا أسود .لكنها
وجود أية طفلة بالطائرة في هذه السن ..فقط ،يوجد طفل ،أسمر اللون ،مع أمه في
الرابعة من عمره.
فنظرت إلي
ْ ثم سألتها متوسال ،هل يمكن أن يكون والدها قد دخل مقطورة الربان؟
بارتياب وهي تنسحب بسرعة.
119
أوراق العدد المزدوج 02-91
عدت إلى مكاني منهزما وصامتا ..أرى وال أنظر ،ولكنني أُناجي جدي الغارق في
ُ
الزمن السحيق.
األمازيغي ،ربما! والذي أخذوه عن طريق ترتيب رباني عظيم ،بديال عن السيد عيسى
بن مريم ،نحو الصلب.
األمازيغي ،ربما! والذي كان قريبا ،في مثل هذا اليوم من سنة 62ميالدية بروما،
لعت منه أبخرة ساخنة نحو السماء.
لحظة قطع رأس القديس بولس ،فط ْ
األمازيغي ،ربما! والذي عاش وترعرع في ظل نبينا محمد عليه الصالة والسالم،
واستمر محاربا وغازيا متعطشا لدخول كل الجنات الموعود بها ،وقبلها دخول المدائن
والبلدان.
121
أوراق العدد المزدوج 02-91
معجب العدواني
بين الذاكرة والنسيان ،تتجلى لكل ملتقى أدبي بعض المالمح اإليجابية المبادرة إلى
الحضور ،وتتراءى فضاءاته الجميلة التي تناهض الغياب ،ويتكشف منجزه المتمثل
في عطاء أولئك المبدعين الذين تزداد أصواتهم أهمية مع مرور األيام ،وفي جهود
الباحثين الذين ال يمكن تجاهل إضافاتهم المعرفية .وإذا كان هناك ملتقى يضم تلك
المستويات السابقة ،فإن إيماءة رأس حكيم ،وتفاصيل سطر إبداعي ،ستدفع إلى أن
تقرر أن أحد أشهر الملتقيات التي ال تزال تحتفظ بها الذاكرة هو مهرجان العجيلي
للرواية ،تحديدا سأذكر المهرجان الخامس الذي شاركت فيه ،وأقيم بين السابع والتاسع
من شهر ديسمبر في عام 1116م.
في البعد العام كان المهرجان لمسة وفاء للروائي عبدالسالم العجيلي الذي كتب أعماال
روائية جادة ،وكانت مدينته الرقة بوابة االحتفاء السنوي به عبر االحتفاء بأعماله من
جانب ،واالحتفاء بالفن الروائي كتابة ونقدا من الجانب اآلخر ،وعلى هذا كانت الرقة
مدينة مؤهلة إلقامة ذلك الملتقى ،إلى جانب وجودها في شمال سوريا في نقطة تقاطع
جغرافي مع العراق وتركيا ،ويضاف إلى ذلك طبيعة المكان التي تتماس مع النهر،
وكأن تلك الجغرافيا بوابة االنفتاح وأفقه ،وتوافقها مع ما تتوسل إليه الرواية من تعدد
وحوار؛ كما أن أهلها يحملون سمات النبل والتسامح ،واإليمان باآلخر المتوافقة مع
مبادئ الرواية؛ فجاء المهرجان ليستثمر تلك المالمح ،ويصوغها في قالب ثقافي جاد،
يستهدف إثراء العمق الروائي عربيا ،وتفعيل دور الدراسات النقدية والحوارات مع
الروائيين.
121
أوراق العدد المزدوج 02-91
أما البعد الخاص فقد كانت تجربتي الشخصية بالمشاركة في إحدى نسخ المهرجان
تجربة استثنائية ،اتسمت بثرائها المعرفي ،والتعرف على بارزين في الحقلين النقدي
والروائي ،أذكر منهم د .نبيل سليمان ،ود .شعيب حليفي ،و د .حسين حمودة ،و د.
شهال العجيلي ،و د .أحمد الحسين و أ .محمد الغربي عمران ،و أ .فوزية المرعي
وآخرين .ولن أنسى تلك الرحلة الداخلية األخيرة من الرقة إلى دمشق مع الباحث
والروائي التونسي المرحوم د .محمد الباردي ،فقد كانت من مكاسب ذلك اللقاء وفوائده
الجمة.
أحسب أن العودة إلى تلك اللحظات الثمينة التي تداعب تأملنا تتمثل حال مدينة الرقة
الرقيقة الهادئة في تفاصيلها؛ التي ابتلي زمنها بسطوة زمن قاس ال ينتمي إلى زمنها،
وبشخوص تتأمل كسر صالبة طموح أهلها األنقياء ،أولئك الذين أرجو لهم ولمدينتهم
أن يحققوا ما يتطلعون إليه من مستقبل وبناء ،وما يرجونه من استقرار ونعيم ،كي
تشرق اآلمال التي تبنوها ،واألحالم التي رعوها بعد أن عبثت فيها العواصف الهوجاء،
وهم قادرون على تجاوز ذلك ،بإعادة الضوء المفقود ،واألمل المنشود.
122
أوراق العدد المزدوج 02-91
عندما باشرت بقراءة الدعوة للمساهمة في هذا الملف ،هزتني كلمة "خارطة" ،بالرغم
من أنها تعني الخارطة الثقافية واإلبداعية ضمن "الجغرافية السورية" ،لكنها استدعت
واقعنا المرير بسواده وكل ما يحمل من خسران ،إلى وعيي ،وأدخلتني في حالة ارتياب
صور حارة نابضة ،مزقتها الحرب ،وما زالت تئن في
ا موجع ،ارتياب الذاكرة وهي تلملم
خاطري ،وخاطر الكثير من السوريين ،يعذبني العجز عن جمعها في "خارطة" لسورية
التي كانت.
الرقة "مدينة في شمال سوريا ،عاصمة محافظة الرقة ،تقع على الضفة الشرقية لنهر
الفرات ،على بعد حوالي 261كم شرق مدينة حلب" ،ما أقصر هذا التعريف ،الرقة
أكبر من ذلك بكثير ،هذا ما عشته وعرفته ولمسته لمس القلب واليد يوم جئتها من
مدينتي الالذقية ،رفقة الروائية الجميلة ماري رشو ،صحبة الروائي والناقد نبيل سليمان،
الذي أقلنا بسيارته ،وهو من المؤسسين الفاعلين لمهرجان العجيلي ،كان هذا في نهاية
العام ،1121وفي الثلث األخير من كانون األول ،يوم نادانا مهرجان العجيلي السادس
للرواية العربية ،فاجتمعنا هناك ،هذا الهناك الذي صار نائيا ،مثلما لو أنه كان حلما،
فر من أعيننا عند أول رصاصة في صدر أحالم أبناء شعبنا عندما قالوا :ال..
هذه الـ "ال" ،كانت سؤال المهرجان حينها ،فاختراق المحظور في األدب هو "ال" ممتدة
تهز عرش الطغيان بكل أشكاله ،حالة من الرفض ،رفض خنق الحرية ،فكيف يكون
إبداع بدون حرية؟
إلى الرقة إذن ،بكل بهاء األزمنة الغابرة ،والزمن الحاضر ،حينها ،حيث يضج في
صدري اسم أديبها اإلنسان "عبد السالم العجيلي" ،ويومض ُّ
خطه في بالي على
123
أوراق العدد المزدوج 02-91
المكاتي ب التي كان يرسلها إلى والدي الشاعر "جميل حسن" ،عن طريق عنواني في
مديرية الصحة في الالذقية ،فأبتسم بحب لهذا الخط الذي نتشارك به ،نحن األطباء،
كبصمة طريفة من بصمات المهنة.
إلى الرقة إذن ،التي قال فيها الراحل "أديبنا اإلنسان" في كلمته التي أرسلها إلى
المهرجان في دورته األولى ،قبل وفاته بفترة قصيرة" :جميل أن أكون مثاالً لإلنجاز
والمنجز الفكري واألدبي بين أهلي ،وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني
بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها ،وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم
التي أحبها كما أحبكم" .وبالفعل تنادى فيها المحبون من كل حدب وصوب ،هناك
عرفت أحمد المديني ،حبيب السالمي ،هالة بدر ،مي خالد ،سيد محمود ،عمار أحمد،
علي بدر ،وغيرهم كثيرون من مبدعي العربية ،من سورية وخارجها ،ال يتسع المجال
لذكرهم جميعا ،وتعرفت إلى الجميلة األديبة واألكاديمية شهال العجيلي ،ابنة الرقة
وعمها األديب الكبير ،وكان حضور لألدباء اإليرانيين.
ماذا لو اقتصرت الشراكة والتفاعل على المنتج الثقافي فقط؟ أي حياة كانت ستحياها
الشعوب ،بعيدا عن السياسة وما تستخدم من أدوات وأساليب ،ليس العسكرية فقط ،بل
استباحة المجال الحيوي ،الثقافي والروحي ،للمجتمعات؟
كان عنوان المؤتمر ،في المحظورات الروائية ،يتمحور حول أربع قضايا ،ناقشها
المدعوون من األدباء من عديد الدول العربية وبعض الضيوف من دول أخرى ،هذه
القضايا أو المحاور تناولت المحظور اللغوي ،المحظورات الثابتة ،والمتغيرة ،في الكتابة
أخير اختراق المحظورات
الروائية العربية ،التقنيات الروائية في مقاربة المحظورات ،و ا
وسياقات النزوع إلى العالمية .عناوين أثارت فضولي المعرفي وأنا الوافدة حديثا إلى
ميدان الكتابة اإلبداعية ،لم يكن قد صدر لي حينها غير روايتين ،فقدمت شهادتي
يت الحديث فيها بمعنى أن يصمت الروائية عن تجربتي في هاتين الروايتين ،استهل ُ
اإلنسان عنوة ،وأن يكون خنق السؤال هو أول قيمة تربوية تغرز في عقول األطفال،
124
أوراق العدد المزدوج 02-91
إلى أن يبدأ اإلنسان بإدراك ذاته ويبدأ بالرفض ،وكان أول محظور اخترقته حينها:
السؤال.
لفتني وانا أمشي في شوارع المدينة ،ومتابعة أنشطة سكانها وحركة الناس في أسواقها
أنها تتميز بمناخ اجتماعي هادئ ومسالم ،فكنت أرى النساء بلباس مدني سافرات
الرأس ،بجانب أولئك اللواتي يلبسن اللباس التقليدي أو المحافظ ،وأدهشني في الوقت
نفسه ،ذاك االحتفاء البهيج بضيوف المهرجان ،من قبل المجتمع األهلي ،لم يكن األمر
يقتصر على مهرجان العجيلي فقط ،بالرغم من مكانته الخاصة في نفوس أهل الرقة،
وكونه أيقونة يفخرون بها ،بل احتفاؤهم بضيوف المهرجانات األخرى أيضا ،وما أكثرها،
هذا ما لمسته أيض ا في مهرجان الشعر من قبل ،في العام نفسه ،عندما رافقت أختي
المغنية والموسيقية "بادية" المدعوة إليه للمشاركة في حفل موسيقي ،في المرتين كان
التنظيم رائع ا ،وكانت مبادرات األهالي طاغية ،في دعم األنشطة من جهة ،وفي
االحتفاء بالضيوف بكرم يغمرهم ،ما زالت في بالي تلك الدعوة الكريمة لنا في بيت
أحد إخوة الشاعر الراحل ،ابن الرقة إبراهيم جرادي ،حيث المناسف العامرة ،إلى جانب
األطباق األخرى من عدة مطابخ سورية ،كرم نبيل ونبيه.
ماجد رشيد العويد ،واستقباله لنا في بيته بفرح كان يشع من عينيه وقلبه ،حمود الموسى
دائم الحركة واالبتسام والتأهيل ،وغيرهم كثيرون ،بتنا نبحث عنهم في الفضاء األزرق،
مثلما يبحثون عنا ،بعد أن بددتنا الحرب في بقاع األرض.
النزهات والسهرات على ضفاف الفرات ،كانت مالمح الشح بدأت تظهر عليه ،بعد أن
أقامت تركيا عديد السدود تعترض مشواره إلى سورية ومن بعدها العراق ،زيارة قلعة
جعبر وسد الطبقة ،الذي تحول اسمها إلى الثورة ،كفعل استباحي مارسته سلطة البعث
على المجال العام ،فبدلت األسماء لتنحرف بداية التاريخ بالتدريج ويصبح البعث
والعسكر هما أوله ،وهما حجر األساس في بناء سورية.
125
أوراق العدد المزدوج 02-91
تؤلمني هذه الذكريات ،في حمأة الراهن الحارق ،فالرقة صارت بعيدة ،نأت مثلما تنأى
الكثير من المناطق ،فتبدو الخارطة السورية مثل قطع البازل العتيقة ،الرقة بغناها
الطبيعي واالقتصادي واإلثني ،تنهار باكرا ،مثلما لو كان مصيرها مرسوما ومحتوما،
في أقل من أربع سنوات ،تناوبت أربع سلطات السيطرة سياسياً وعسكرياً عليها ،من
سيطرة النظام إلى الجيش الحر وسطوة الفصائل اإلسالمية الباكر عليه ،إلى تنظيم
الدولة ،وبدأت عملية إقصاء وجه الثورة المدني ،لتُعلن الرقة عاصم ًة للدولة اإلسالمية
بدال من أهليتها لتكون عاصمة للثقافة السورية والعربية ،فيختفي األب باولو دالوليو،
يختفي عبد الله خليل ،فراس حاج صالح ،الطبيب إسماعيل الحامض ،وكل من ينتمي
إلى الوجه المدني للثورة ،واستباحوا الحياة كلها ،وأكثر ما استباحوا المعالم الحضارية
باكر اعتدوا على مرسم الفنان واألديب أيمن ناصر وحطموا أعماله
ا والثقافية للمدينة،
الفنية كلها ،وتمترس مقاتلوها الوافدون من كل بقاع األرض في أرجائها ،يرهبون الناس
ويحاصرون حياتهم للخضوع إلى شريعتهم ،ثم يبدأ التحالف الدولي عملياته في محاربة
التنظيم ،داعم ا قوات سورية الديموقراطية "قسد" ،التي صارت الرقة تحت سيطرتها،
وصارت ،تحت القصف من الجو ،مدينة مدمرة ،مهجورة ،يئن تاريخها من هول ما
يحدث ،ويهجرها غالبية نخبها بين نزوح داخلي ولجوء.
الرقة التي كانت تذبح بصمت ،تعيش اليوم أزمة هوية ،شأنها شأن العديد من المناطق
السورية ،بل شأن سورية ممزقة األوصال كلها ،وكأن صوت المتنبي ما زال يتردد في
أرجائها :ولكن الفتى العربي فيها ،غريب الوجه واليد واللسان.
126
أوراق العدد المزدوج 02-91
كنت قد
قبل مساهمتي في مهرجان العجيلي للرواية العربية ،في عام ،1112وبعدهُ ،
ساهمت في مؤتمرات أدبية عربية رسمية ،هنا وهناك ،لم أعد اتذك ُر من معظمها شيئا
ُ
أحيانا؛ فيما ظل مهرجان العجيليِ ،
بكل تفاصيله تقريبا ،مطبوعاً في ذاكرتي.
بخالف بعض تلك المؤتمرات التقليدية ،الرديئة أحيانا ،حيث تسود اللغة الخشبية
وااللتزام للنظام الحاكم ،وو ازرات ثقافته الفجة ،على نحو مضحك أحيان ًا ،كان مهرجان
اسمها :األستاذ الكبير عبد السالم العجيلي:
يحمل َ
ُ العجيلي بمستوى الشخصية التي
ثريا أدبياً ،مستقالً تنظيمياً ،راقياً وقدي اًر ،ومملوء بنشاطات فنية وثقافية حميمة ال أنساها.
اتذكر :رحلتي من دمشق إلى الرقة بالسيارة ،في الفجر ،تحت شروق ساحر ،وما ْ
تركت ُه
من آثار عاشقة للمناطق التاريخية التي عبرتُها؛ المستوى الراقي للنقاشات والتفاعالت
خالل المهرجان ،في فضاء ثقافي راق جداً ،جاد ومرح.
جودة التنظيم للمهرجان ،الحفل الغنائي الختامي الذي رقصنا جميعنا فيهَ أتذكر:
رقصات متنوعة ،الوجبات الجماعية الكريمة واللذيذة في جو عائلي حميم...
127
أوراق العدد المزدوج 02-91
الرقة عاصم ًة له ،منذ أول لحظات دخوله على الخط؛ وبطبيعة الحال ،ضد كل
الخرائب التي سببها إرهاب النظام الحاكم ،وكل التدخالت األجنبية التي دمرت سوريا
واستعمرتها...
قلت إن حبي لسوريا ،ولطالئعها المثقفة الالمعة التي تربطني بهم أروعُ
أبالغ إذا ُ
ال ُ
العالقات ،ازداد وتجذر بعد ذلك المهرجان الذي ال أتمنى أكثر من عودته مجدداً ،في
سوريا حرة ديمقراطية...
128
أوراق العدد المزدوج 02-91
الرقة
ذات لقاء في ّ
َ
أحمد المديني
جرى هذا على ما أذكر في نهاية سنة .1121مؤكد أني ذهبت إلى (الرقة) قبل
األحداث األليمة التي ألمت بسوريا ،من توابعها الهمجي ُة الداعشي ُة التي حملت لها
الدمار وشردت أهل المدينة التي ذهبت إليها لحضور مهرجان يقام لذكرى أديبها الروائي
والقاص القدير عبد السالم العجيلي .أتاحت لي هذه المناسبة أوال مشاهدة منطقة عربية
سمعت عنها كثي ار وتخيلتها بحنو وأنا أق أر أخبار واشعار من مروا وحلوا ب(الجزيرة).
جدد أذكر منهم عمار أحمد (المرواتي) من ثانياِ ،
أدباء عرب ُ
َ التعرف على
َ غنمت
ومي خالد من مصر ،وعلي بدر من العراق؛ ثم جددت صالت الوداد باألديبة العراقَ ،
األستاذة شهال العجيلي سليلة العم المحتفى به ،وبصديقي الدائم نبيل سليمان أكبر من
األلقاب وهو لسوريا قلب وباب ،وبرفقتي األديب التونسي الحبيب السالمي.
أذكر كذلك ،أن إقامتنا توزعت بين ندوة دراسية حول قضايا الرواية العربية شاركت
فيها بمراجعة منهجية واصطالحية ،واالستماع باهتمام للزمالء واالنتباه لجمهور شغوف
باألدب .بينما فزنا في المساء بسهرة بين الطرب وتبادل أطراف الحديث ومجالسة
المضياف الكريم المهندس عبد العظيم العجيلي ،حسن السمت على فخامة ولطف ،ال
تشبع منه مؤانسة ومجالسة.
وال أنسى زيارتنا لبحيرة الفرات وسد األسد هذه المعلمة الطبيعية المشيدة الضخمة ،وما
حولها من حقول وجنان ،وبأهلها من عشائر وسكان ضيفونا على غداء من ألذ الشواء،
أهل
وشممنا من أعطافهم إذ أخذونا بالحضن رائح َة العرب األصالء ،وغادرناهم هم و ُ
ِ
األكابر الكرام على موعد آخر للقاء ،ولم يدر بخَلد أحد أن األرض ستهتز شهو ار الرقة
129
أوراق العدد المزدوج 02-91
131
أوراق العدد المزدوج 02-91
عبده خال
أقول حقا ،أن الحروب حجارة ُتلقى في بحيرة الهوى ،فتتعكر مواعيد األشواق.
كم شهيق تلقته الرئة أو نفثته منذ أن كنت بين أكناف الشام؟
االن ،تحاول الذاكرة لملمة ما بعثرته األيام من ذكرى جميلة حين كنت في أحضان
سوريا.
ومحيت ،وأي ذكرى ابتعدت ،وأي منها تالشت ،وأي منها بقيت
فأي ذكرى غارتُ ،
ثابتة صلدة ،فلم يتغرغر بها الزمن وينفثها؟
أي ذكرى يمكن الخروج بها من بين كل أنقاض الزمن؟ سوريا مصابة بندوب الحروب
عبر التاريخ؟
ركضت الذاكرة بعيدا ،تقفز من مكان آلخر ،كل الصفحات بها (محو وازالة) ..ومن
بعيد ،ومن األبعد ،أي حضارة مرت من هناك ،وأين ذهب :الكنعانيون ،األموريين،
الفينيقيون ،األراميون ،وأين اللسان السرياني الذي حمل الحضارة ونزل بها إلى أعماق
تربة الذاكرة البشرية ،ومن أشعل تراب الشام منذ تلك العهود السحيقة؟
131
أوراق العدد المزدوج 02-91
اجتزت وهدا ،انخفضت بك أوهاد ،وفي عز قوتها طردت جحافل الطامعين ،فهل
َ وكلما
عاد أحفاد هرقل لمحو عبارة جدهم "وداعا يا سوريا الجميلة ،وداعا ال لقاء بعده" ..
هل عادوا لتثبيت أن سوريا ملعبا أمميا لحرق حقول الياسمين؟
كيف أعود بالذاكرة وأنا يوميا أشاهد قنوات االخبار وهي تغسل رداء سوريا الممزق،
كل يوم ودمعة السوري تتصبب من كل مكان ،فكيف أتذكر لحظات الفرح حين كنت
هناك ،نعم تتقافز وجوه مبدعة نسيناها من كثرة دق طبول الحرب حتى أن امتداد نهر
الفرات أصبح شحيحا في تدفقه ،وأصبحت األغاني ال تجد سبيال ألن توصل مواعيد
الهوى ،كل قلب ارتحل في أوردة االرض حتى وإ ْن كان ماكثا في مكانه ،أي جرم
حدث حتى أن األغاني تموت؟
بالنزر اليسير أتذكر ،هي أربع زيارات تباعدت زمنيا في حضوري للشام ،تصور يانبيل
بعيدة هي ،ومتقوضة في داخلي ،كتقوض االماكن والقلوب في الشام ..تصور أن
تتقوض المخيلة فال تُخرج من بين أطنان الركام شيئا حيا ،كل ذكرياتي عن الزيارات
شالء ميت ًة ،هل تستوعب -يانبيل -أن تُقطع المخيلة،
األربع لم يعد باقيا منها إال أ ً
ليس بفعل الزمن ،بل بتالشي الضحكات ،ورحيل الغناء ،وتيبس مياه الناس ،وتفتت
األحالم ،وجدب الفرح ،أي مصير أريد بقلب سوريا؟
أعتذر ياصديقي ،لم يعد بالذاكرة سوى أنقاض ذكرى ال تقيم مشهدا (فراحيا) ،كل
الذكريات مصلوبة في شوارع دمشق ،أو حمص أو منبج أو حلب ،أو الالذقية ،أو
طرطوس ،أو الرقة أو حماة.
بطلبك -أن أكتب -تحولت الى خياط ليس لدية قطعة سليمة ليفصل منها
هنداما (مقاال) الئقا ،وجدت في ذاكرتي قطعا ممزقة ال تصلح لشيء ،حتى أنها ال
تصلح أل ْن تكون زاوية للكلمات المتقاطعة في جريدة سقطت ولم تعاود االصدار في
زمن موت الصحف الورقية ..جاهدك الله يانبيل على طلبك وتلبيتي له!
132
أوراق العدد المزدوج 02-91
الرقة الوادعة
ليالي ّ
سميحة خريس
روائية من األردن
طوت السيارة األرض فينا كما تطوي جدتي لحاف الذكريات ،سفر يمتد من عمان إلى
الرقة ،يحط الرحال قليالً في دمشق ثم يواصل رحلة طويلة ال يعتريها الملل ورفيقتي
الناقدة والروائية رفقة دودين تدندن بأغان عتيقة وتحكي ملحاً ونكاتاً تسري عن النفس،
سوريا تفتح صدرها للقائنا ،مسترخية ودودة كامرأة شامية ،وأنا على قدر معلوماتي
أعرف أن الرقة تقع في محيط صحرواي جاف المناخ ،ولكني أعلم أنها تستلقي على
شط الفرات الشرقي وادعة بسيطة.
كان العام 1116والدنيا في إقبالها واعدة بهية ،والرقة في حلتها الثقافية تحتضن
المؤتمر الخامس للكاتب عبد السالم العجيلي ،أحد أبرز أبنائها المبدعين ،تستعيد
سيرته وتقلب صفحات ابداعه بين جمع من األشقاء العرب يطرحون هموم االبداع
وعالقته الشائكة مع النقد.
بعيداً عن المراكز الثقافية القادرة على ابتالع األخضر واليابس ،القاهرة ودمشق
وبيروت ،كانت الرقة قادرة على احتواء عشرات الكتاب العرب تحت محور الرواية
والنقد ،غزالة سوريا الجميلة الروائية شهال العجيلي كانت تتصرف كبنت الدار ،تتنقل
بين الضيوف ،تشرف على احتياجاتهم وتضفي جماالً باه اًر على أيام مختلفة حميمة
عشناها هناك.
حضرت الوجوه السورية التي أثرت المكتبات العربية بعطائها الجزيل ،كان هناك خيري
الذهبي ونبيل سليمان ،ممدوح عزام وابتسام تريسي وإذا لم تخني الذاكرة وقد شوهتها
فيديوهات الحرب التي طالت األرض المقدسة الرقة ،فقد رافقنا في عام الوئام والسالم
133
أوراق العدد المزدوج 02-91
ذاك جمع من المثقفين العرب ،محمد الباردي من تونس ومحمد االصفر من ليبيا
والميلودي شغموم من المغرب ومن لبنان علوية صبح ،من اليمن عمر عبد العزيز،
من الكويت فايز الداية ،من المغرب شعيب حليفي ومن مصر حسين حمودة وأخرين،
اء ساحرة في فضاء الرقة الذي يرفل
لقد صنع هذا الجمع من المبدعين والمفكرين أجو ً
بالمحبة ،وتواصل المهرجان شعلة تؤكد أن اضافات االطراف البعيدة ليست أقل من
فعل المراكز الحيوية في عالمنا العربي..
لم يكن من حولنا فقط جمع من نخبة المثقفين ولكننا حظينا بمعرفة الناس في الرقة،
تلك الوجوه السمحة التي لوحتها الشمس واختلطت لهجتها بالشامي والحلبي والعراقي،
بداوة على أطراف المدينة لهجة ،وأصالة في عمق الحضارة ترحاباً وكرماً وخلقاً.
ثم واألهم من كل هذا الحوار الذي يثري المعرفة هي تلك المعرفة باإلنسان والجغرافيا.
ربما تخوننا الدموع إذا غنى أبناء الرقة مواويلهم الحزينة قبل أن يعرفوا الحزن الراهن،
كانوا يغترفون من التاريخ الذي ترك شواهده في أرجائها عن العصر العباسي الذي
ازدهرت فيه المدينة ،وعندما تم اصطحابنا كما لو كنا جمع من السياح إلى سد الفرات
رحنا نغني بكل اللهجات العربية في باص ينقلنا إلى أن وصلنا ،أمام الفرات المهيب
وقفت على تلك العظمة الممتدة مثل محيط غزير من ماء عذب ،أغمضت عيني رهبة
وهمست لنفسي :نحن في مكان بعيد لكننا ،نشرب من هذا العذب الزالل.
بعد ذلك كل ما تبثه الفضائيات التعيسة من أخبار الدمار يوجع في العمق لكنه ال
يمحو أبداً ما تركته الرقة في أنفسنا من سماحة ومعرفة ومحبة...
134
أوراق العدد المزدوج 02-91
حسين حمودة
قبل حوالي عقد ونصف من الزمن ،عشت أياما جميلة في مدينة الرقة .بدت لي
المدينة ،للوهلة األولى ،قريبة وأليفة مثل بيت عشت فيه خالل حياة أخرى .كانت
المدينة تحيا "حالة ثقافية وإبداعية" لم أشهدها في مدن أكبر ،تتخطى الرقة من حيث
اإلمكانات والقدرات .وكان ذلك مرتبطا بمهرجان عبد السالم العجيلى في دورته الخامسة
(عام ) 1116الذي تمحور حول "الرواية والنقد" والقضايا التي تحيط بهما .اتصل
المهرجان ألربعة أيام ،في جلسات مثمرة ومكثفة ،وحضره عدد كبير ،يجاوز األربعين،
من المبدعين والمبدعات والنقاد والناقدات من سوريا والمغرب وتونس والعراق والسعودية
واليمن واألردن وتركيا ولبنان ومصر .وشرفت بإلقاء كلمة الوفد المصري (الذي ضم
الناقد الراحل إبراهيم فتحي ،وغادة الحلواني وخيري دومة ومحمد شعير ومحمد عبدالله
الهادي) .مع جلسات المؤتمر المهمة ،المحتشدة باألطروحات وبالنقاشات حول قضيا
الرواية والنقد ،ومع الشهادات الغنية للروائيين والروائيات ،كانت هناك أنشطة أخرى
(منها معرض للكتاب ،وحفل لفرقة الرقة للفنون الشعبية ،ومعرض للفن التشكيلى)..
أنشطة المهرجان خالل النهار وبعض المساء امتدت إلى سهرات جميلة ،مقترنة باإلبداع
أيضا ،مع مجموعة من األصدقاء والصديقات (منهم الروائي والناقد نبيل سليمان الذي
تكشفت لنا موهبته في الغناء ،والمبدعة والناقدة شهال العجيلي ،والناقدة رشا العلي..
وأيضا وخصوصا المبدعة فوزية المرعي صاحبة الموهبة الغنائية الكبيرة) ..كنا نمضي
السهرات في غناء متصل نطوف خالله برحالت طويلة حرة بين أغنيات تنتمي إلى
طيف واسع من الموسيقي العربية.
135
أوراق العدد المزدوج 02-91
خارج المركز الثقافي الكبير الذي أقيمت فيه أنشطة المهرجان ،ذهبنا إلى زيارة بعض
اآلثار ،وإلى األسواق والشوارع في قلب المدينة ،ولمسنا االحتفاء الملحوظ بنا باعتبارنا
نشارك في نشاط ثقافي يخص المدينة .وفي أحد محالت "السيديهات" توقفنا نحن
أعضاء الوفد المصري ،واخترنا مجموعات من األعمال الموسيقية واألفالم السينمائية..
وأصر صاحب المحل على أال يتقاضى منا نقودا ،فقط ألنه عرف أننا من بين
المشاركين في المهرجان( ..ومع إلحاحنا وافق على أن يكتفي بسعر التكلفة مقابل ما
اخترناه)..
أصبت بخيبة أمل ،تقارب حد االكتئاب ،بعد سنوات قليلة ،مع متابعتي لما حدث
بالمدينة عام 1124عندما استولت داعش على الرقة وجعلتها عاصمة لما يسمي
"الخالفة اإلسالمية" ..وطاردتني صورها المدمرة بعد ذلك ..وسعدت ببعض المشاهد
التي رأيتها للمدينة وهي تحاول التعافي ..وظل حلمي ،خالل هذا كله ،أن أعود مرة
أخرى لهذه المدينة التي شعرت أنها بيت جميل وأليف لي ،وربما لكل من يزورها..
136
أوراق العدد المزدوج 02-91
شهادة..
هالة البدري
يحدث أن تقع في غرام المدينة من أول لقاء لك بها ،لكن هذه المدينة فعلت بي ما لم
أتوقعه .وقعت في غرام أهلها ،وقضيت بينهم أياما من أجمل أيام حياتي ،إنها الرقة.
كنت قد دعيت لحضور مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية الذي أقامته مديرية
الثقافة بالرقة عدة مرات سابقة ،وفي كل مرة كان ال يناسبني الوقت .وحين جاءت
الدعوة هذه المرة صممت على الذهاب لعدة أسباب .أوال :بسبب السمعة الطيبة المتنامية
سنة وراء سنة عن هذا المهرجان الذي يقام في المدينة التي ولد بها الكاتب السوري
الشهير عبد السالم العجيلي ،والذي يشارك في التحضير له مجموعة من األصدقاء
الكتاب السوريين من بينهم نبيل سليمان ،ماجد العويد وشهال العجيلي ،أما السبب
الثاني فهو موضوع المؤتمر نفسه ،وقد كان في هذه الدورة 1121عن المحظورات
في الكتابة الروائية العربية .وجاء في الدعوة إليه أن قضية معالجة المحظورات البيئية
االجتماعية الثقافية العربية أو المساس بها أو اختراقها جزء مهم من نظرية األدب
وتحددت محاور المؤتمر في المحظور اللغوي ،والمحظو ارت الثابتة ،والمحظورات
المتغيرة ،والتقنيات الروائية في مقاربة المحظورات ،واختراق المحظورات ،وسياقات
النزوع إلى العالمية..
أهم ما جاء في المهرجان كان في رأيي ما جاء عن كسر البنى الفنية التقليدية باعتبارها
محظو اًر أيضا ،وذكر بعض الكتاب أسماء لكتاب كبار ال يمكن تجاوز طريقة إنتاجهم،
باعتبارهم محظورين أيضاً مثل نجيب محفوظ في مصر والطيب صالح في السودان،
وزكريا تامر في سوريا وهكذا ..وتحدث البعض عن اللغة وضربوا بعض األمثلة من
137
أوراق العدد المزدوج 02-91
داخل الروايات نفسها ،وربطوا بين حرية الكاتب وإمكانيات إبداعه ،وأنه يستحيل على
كاتب ال يشعر بالحرية أن يقدم عمال فنياً راقياً بدون اللجوء إلى وسائل تعبيرية فنية
أخرى .أما شهادات الكتاب فكانت تجارب شخصية عن مواجهة المحظور في الكتابة،
والمحظور في النشر ،والمحظور اجتماعيا وسياسيا ،ولهذا أتوقع أن يكون الكتاب الذي
سيصدر في العام القادم ليضم هذه األبحاث من أهم كتب المؤتمر في تاريخه البالغ
ست دورات.
تعلمون أن مدينة حلب هي مدينة الطرب في سوريا ،وأن الرقة هي البادية القريبة لها،
وقد علمت أنها قريبة من محافظة األنبار في العراق أيضا ،لهذا حين استمعت إلى
غنائهم الذي يبدأ كل ليلة في الفندق بعد انتهاء الجلسات العلمية في العاشرة وحتى
ساعات الصباح األولى ،كانت تبدو لي أغاني عراقية ،لكنهم قالوا لي إن المنطقة
واحدة ،وتراثها متشابه ،إنها الرقة التي ال تنسى.
138
أوراق العدد المزدوج 02-91
الشهادة تمرير لماض معين ،عبر حاضر موصول به ،إلى مستقبل وفي السمه.
الشهادة ،على صعيد الثقافة ،تمثيل من نوع قضائي ،تعبي اًر عن ذات تنصف اسمها.
تجميل من نوع نفسي ،تأكيداً على حيوية مجهول في النفسُ ،يجاز له الخروج إلى
العلن.
مصادقة من نوع عقلي ،اعترافاً بأن ثمة رصيداً رياضي المقام ،يستحق الدفع به إلى
اآلتي.
هوذا لسان حال الشهادة ذات الدمغة األدبية ،عما يرجع بنا إلى الوراء ،وفي الوراء
نظر ما إلى األمام ،حيث نكون في عهدة مهرجان عبد السالم العجيلي للرواية العربية.
في "نكون" لم يكن هناك ما يصهر األنوات ،ما يلغي المتكلم المخاطب اعتماداً على
يعرف به :كاتباً روائياً ،ناقداً روائياً،
مشاركته بنصه األدبي ،بشخصه اآلخر الذي َ
وذواقة لألدب عموماً أحياناً ،بمقدار ما كان التأكيد الحيوي ،التلقائي على الفصل بين
األنوات ،بين أنا الكاتب وشخصه ،حين يطرح من ذاته ما ال يعود ذاتاً ،وهي في
تجليها الرحب المدى ،وحين يتم تلقيه صوتاً له وقعه االعتباري ،ممن حضروا ،في
"غابة الكتابة األدبية /الروائية" المضاءة بزخم حضور متنوع.
كان العجيلي اسماً أكثر من كونه اسم العلم الذي يمضي بنا إلى مدينته المستحمة
بماء الفرات ،ونداوة جغرافيتها :الرقة ،استحق بدعة االسم :الكاتب المتعدد المواهب،
المقدر ضمناً ممن يتنوعون في حضورهم سنوياً ،وألهل الرقة ممن أطعمونا واالحتفاء َّ
خب اًز ساخناً ،وماء قراحاً ،وكالماً أريحي ًا ،بروح الضيافة دون حساب ،كما لو أن الكتابة
هناك ،حين تحضر ،تتزيا هكذا من الداخل.
139
أوراق العدد المزدوج 02-91
كنا نعيش حيوات تترى ،للمدة الزمنية المقررة ،نعيش زمن الكتابة ،زمن اإلصغاء إلى
اآلخر ،لنعيش اكتشافاً يستحيل تجاهل فضيلته في تنمية الروح والتفاعل الروحي ،عبر
جماليات المختلف طبعاً.
الشهادة التي أنطق ببعض بعض بعض من مناقبيتها ،ال تخفي ِحداد الروح على ما
سلف ،وفي عمر ال يخفي وطأة سنينه ومكابداتها ،وفي الوقت نفسه ،ال أخفي عقارها
الناجع في الحفاظ على جانب من الذاكرة المكانية ،ونحن نشيد داخلها "جمهوريتنا" طي
ظالل أبدية وارفة هي الفن!
141
أوراق العدد المزدوج 02-91
خيري دوما
أواسط العام ،1116وصلتني دعوة من صديقي وأستاذي ألمثقف السوري الروائي نبيل
سليمان للمشاركة في مؤتمر للرواية يعقد في مدينة الرقة الجميلة بسوريا .انعقد المؤتمر
في ديسمبر ،1116وشارك فيه باحثون عرب من أماكن مختلفة ربطتني بهم بعدها
عالقة صداقة مستمرة إلى اليوم.
141
أوراق العدد المزدوج 02-91
ال زلت أذكر كيف خرجنا ليلة أنا وحسين حمودة ومحمد شعير وناقدنا الكبير الراحل
األستاذ إبراهيم فتحي إلى حفل ضم مغنين شعبيين على حدود الرقة ،وكيف نزلنا
السوق واشترينا بأرخص األسعار سيديهات تضم مختارات من أغاني فيروز التي كانت
حاضرة في الرقة شأن أي مدينة عربية.
لم يكن هناك بالطبع أدنى مؤشر إلى أن هذه المدينة المطبوعة بالثقافة والفن ،ستصير
بعد شهور عاصمة لداعش .كانت المدينة مليئة بالحركة الحرة للناس وفنونها برغم
حضور السلطة المسيطرة.
فيما بعد صرنا نسمع الرقة ،ونرى مشاهد منها في نشرات األخبار ،وسط الدمار الذي
تركته داعش وأخواتها ،فال نكاد نتعرف على ذكرياتنا القريبة.
142
أوراق العدد المزدوج 02-91
مدينة َّ
الرقة والحلم والذكريات
يوسف المحيميد
لم يكن نوفمبر ٠٢٢٢عاما عاديا وأنا أحط ألول وآخر مرة في األرض السورية ،حيث
تلقيت الدعوة للمشاركة في مهرجان األديب الكبير الراحل الدكتور عبدالسالم العجيلي
الثالث للرواية العربية.
ال أعرف إن كنت متوهما أو أن رائحة الياسمين كانت تهبط من الشرفات أينما ذهبت،
كما كانت في قصائد نزار قباني الذي تربيت عليها في المرحلة الثانوية ،في الفندق
الصغير الذي أقمنا فيه لليلة ودعتني الصديقة الروائية الفلسطينية نعمة خالد ،وقد
عرفتها في ملتقى القاهرة الدولي الثالث لإلبداع الروائيَّ ،
تمنت لي رحلة سعيدة قبل أن
ننطلق نحو الشمال السوري ،حيث مدينة َّ
الرقة الوادعة ،الساكنة على ضفة الفرات،
حيث كان الطريق طويالً وحميما ،كأننا نسير في جنة صغيرة من األشجار ،والنهر
يلحق بنا ،أو ربما نحن من يلحق به.
كانت سيارة الميكروباص التي تحملنا ،والمحطة التي تزودنا منها بـ "المازوت" ،والباعة
الصغار الذين يفوقون أعمارهم ،تجعلني أشك أنني مررت من هنا ذات زمن ،وتجعلني
أضع يدي على قلبي لوهلة ،ويأخذني الحديث مع رفاق الرحلة والمهرجان ،عمر قدور،
ورو از ياسين حسن ،وخيري الذهبي ،وعبدالله أبو هيف ،ووجدان الصايغ وغيرهم.
كنت أقول لمن يجاورني في الميكروباص ،أنني كنت هنا ،ال أعرف متى ،لكنني متأكد
أنني -بصورة أو أخرى -كنت هنا ،لقد تأكد لي ذلك حينما انطلقت فرقة الرقة
الشعبية ،بلبسها التقليدي الجميل ورقصها االستعراضي ،وهم يترنمون بـ "هجينية" نعرفها
جيدا في نجد ،لتشدني من تالبيبي إلى طفولتي البعيدة في الرياض" :هبَّت هبوب ً
الشمال وبردها شيني ،ما تدفي النار لو حنا شعلناها" نبرة الرجل الضاربة في الحزن،
143
أوراق العدد المزدوج 02-91
ورَّنة المرأة التي تجرح ذاكرتي ،لتحلِق أمي في فضاء المسرح" :ما يدفي إال حب
التفت إلى عمر قدور هامسا ،ألم
ُ مريوشة العيني ،إلى عطشنا شربنا من ثناياها" ،هنا
أقل لك أنني جئت هنا في زمن ما.
كانت الرقة والشمال السوري الحزين جزءا من ذاكرة أمي وأسالفي ،كم داهمتني غيمة
حزن وأنا أردد معهم تلك الهجينية ،بينما تتأهب دمعة خجلى في عيني ،ذاك الدمع
الذي سيتدفق بسخاء حين يخطف تنظيم "داعش" تلك المدينة الناعمة ،النائمة بخفر.
حينما أستعيد تلك األيام البعيدة ،وقت أن استضافنا أحد شيوخ قبائل الرقة في خيمة
ضخمة جدا ،والشباب النشامى الذين يحملون الصحون وقد َّ
شمروا عن أذرعهم،
وأصوات الترحيب والكرم والرجولة ،أتوقف ذاهالً ،كيف لهذه المدينة المدهشة ،بتاريخها
وتراثها وشعبها العظيم أن تقع في أيدي ما يسمى تنظيم الدولة اإلسالمية "داعش"؟
كيف لهذه المدينة الخالدة ،مدينة الفنون واإلبداع ،أن تُطمر فجأة لتصبح عاصمة الدولة
اإلرهابية؟ كيف؟
حينما كتبت شهادة بعنوان "ليل األساطير في طفولتي" ،وألقيتها في المهرجان ،بصوت
مبحوح ذات مساء ناعم ،لم أكن أظن وقتها ،حتى لو ظنا ،أنني بعد بضع سنوات،
سأتابع في القنوات الفضائية ،ليل الظالم في الرقة ،واحتاللها من قبل تنظيم إرهابي،
سيقف زعيمه أبو بكر البغدادي على المنبر ،يخطب في الناسِ ،
ويبشرهم بجاهلية في
األلفية الثالثة ،ترعبهم فيها ُّ
جز الرؤوس وتصويرها...
لم أظن أن هؤالء الناس الطيبين سيغادرون الرقة ،مدينة الرقة والحلم والذكريات ،هاربين
بأرواحهم وعائالتهم بحثا عن أرض آمنة.
144
أوراق العدد المزدوج 02-91
خليل الجيزاوي
تعرفت على الكاتب ماجد رشيد العويد ابن مدينة الرقة السورية ،على موقع القصة
العربية مع بداية عام ،1111ومن خالله عرفت وتابعت أخبار وفعاليات مهرجان
الدكتور عبد السالم العجيلي للرواية العربية الذي يقام كل عام في مدينة الرقة شمال
سوريا ،منذ دورته األولى عام ،1111وفي يوم 26أكتوبر 1121تلقيت دعوة كريمة
من مدير الثقافة بالرقة للمشاركة في مهرجان العجيلي لإلبداع الروائي الدورة السادسة
التي ستقام 2ديسمبر ـ ـ 2ديسمبر ،1121قبلت الدعوة وكتبت شهادتي الروائية التي
سأشارك هذا المهرجان العربي الكبير تحت عنوان :المحظو ارت في الرواية العربية؛
ألن روايتي األولى (يوميات مدرس البنات) فازت بالجائزة األولى عام 2666بالمسابقة
السنوية للرواية التي ينظمها نادي القصة بالقاهرة ،ومن شروط المسابقة أن تنشر
الرواية الفائزة بسلسلة الكتاب الفضي الذي يصدره نادي القصة بالقاهرة ،وعلى الرغم
أنني كتبت ثالثة مشاهد بين الطالبة والمدرس بحيلة فنية ،وهي الحلم ،لكن نادي القصة
رفض نشر الرواية ،وعندما واجهت الكاتب يوسف الشاروني رئيس نادي القصة والذي
ق أر الرواية وحكمها نقدياً وأعطاها 61درجة من ،211فقال بالحرف الواحد :الفوز في
المسابقة شيء ،والنشر شيء آخر ،وأضاف غاضباً :هل تريد أن ُيقفل نادي القصة
مثلما حدث في هيئة قصور الثقافة بعد نشر رواية وليمة ألعشاب البحر للكاتب السوري
حيدر حيدر؟!
وكان حظ الرواية رائعاً ،أن حضر صحفي من جريدة األهرام مراسم تسليم جائزة نادي
القصة برفقة الفنان فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك ،فنشرت صورتي مع الوزير وأنا
145
أوراق العدد المزدوج 02-91
أتسلم الجائزة بالصفحة األخيرة بجريدة األهرام ،ق أر الجريدة أحد أوالد الحاج محمد
مدبولي ،وهكذا عرفت الرواية طريقها للنشر مع مكتبة مدبولي للنشر والتوزيع عام
.1111
سردت هذه األحداث ضمن شهادتي الروائية بمهرجان العجيلي والقت قبوال واستحساناً
كبيرين من جمهور الحاضرين ،وأتذكر في طريق عودتي بالباص للفندق ،سمعت
الروائي التونسي الحبيب السالمي الذي كان يتحدث مع الجالس جواره عن األحداث
التي سردتها ـ ـ وربما لم يلحظ أنني أجلس بالمقعد الخلفي له ـ ـ فقال السالمي :كيف
لمؤسسة ثقافية خاصة (يقصد نادي القصة) تتساوي مع المؤسسة الحكومية وترضخ
للمحظورات ،وأنهى حديثه قائال :أتفهم احتياطات المؤسسة الرسمية ،هم باألول واألخير
موظفون بو ازرة الثقافة ،لكني أدين تصرفات المؤسسة الثقافية الخاصة.
وحرصت باليوم التالي لوصولي إلى مدينة الرقة أن أتجول في شوارعها صحبة الزمالء
حيث اصطحبنا سائق الباص في جولة وسط شوارع المدينة لشراء خطوط أرقام سورية
للهاتف النقال؛ لنتواصل مع األهل ،وبدأت جولتنا من دوار الساعة ومبنى البريد،
وشارع القوتلي ،والجامع الكبير ،سينما الشرق ،وباب بغداد ،ونادي الفروسية ،والدرعية،
والجسر ،وتل البيعة ،ونهر الفرات ،وأثناء هذه الجولة شاهدت شوارع مدينة الرقة
الجميلة والهادئة جداً ،التي ولد فيها الروائي السوري عبد السالم العجيلي ـ ـ طبيب توليد
النساء الشهير ـ ـ فجاءت فكرة إقامة مهرجان ثقافي باسمه كل عام ،هكذا حدثنا المهندس
عبد العظيم العجيلي والد الدكتورة شهال العجيلي التي تعرفت عليها أثناء جلسات
المهرجان ،كذلك قابلت الروائي السوري نبيل سليمان الذي قابلته عدة مرات من قبل
أثناء فعاليات ملتقى القاهرة للرواية الذي ينظمه المجلس األعلى للثقافة ،بحكم عملي
في إدارة النشر بالمجلس األعلى للثقافة آنذاك ،وتعرفت أثناء مهرجان العجيلي على
الناقد العراقي دكتور عمار أحمد ،وكان المهرجان يضم أكثر من خمسة وعشرين روائي ًا
وناقداً من معظم البالد العربية ،واقتصر تمثيل مصر بالدورة السادسة على كاتب هذه
146
أوراق العدد المزدوج 02-91
السطور والكاتب محمد صالح العزب والصحفي بجريدة األهرام سيد محمود ،بعد
اعتذار إبراهيم أصالن وخيري شلبي عن عدم الحضور والمشاركة؛ ألن موعد المهرجان
في ديسمبر وسط فصل الشتاء ،ومدينة الرقة تقع شمال سوريا حيث الصقيع والثلج
خالل هذه الفترة ،هكذا سمعت منهما.
كانت مشاركتي في مهرجان العجيلي الزيارة األولى للسفر إلى سوريا الشقيقة؛ ولهذا
طلبت من أحد منظمي المهرجان أن يتم فتح تذكرة العودة مدة أسبوع وأن تكون العودة
من مطار دمشق وليس من مطار حلب ،وعندما تعلل الزميل أن المهرجان إمكانياته
المالية محدودة ،رددت سريعاً :يا صديقي فقط افتح تذكرة العودة وستكون فترة إقامتي
طوال األسبوع على حسابي الشخصي ،وليس على حساب مهرجان العجليي ،وأضفت:
ليس من المعقول أن أزور مدينة حلب ومدينة الرقة ،وال أزور مدينة دمشق ،فابتسم
وقال تقصد الشام ،فقلت أل أقصد دمشق ،فابتسم قائال :نحن نطلق على دمشق اسم
الشام ،كما تطلقون اسم :مصر على مدينة القاهرة ،وبالفعل أقمت بفندق في شارع
الحلبوني وسط دمشق ،ووضعت خطة لزيارة معظم أحياء ومعالم العاصمة ،فزرت
سوق الحميدية واشتريت بعض الهدايا ألوالدي ،وفي يوم ثان زرت المسجد األموي
وزرت قبر صالح الدين األيوبي ،وفي يوم ثالث زرت حي السيدة زينب والمسجد الذي
يحمل اسمها ،وفي اليوم قبل األخير تجولت في شوارع دمشق الشهيرة بالحلويات
الشامية ،واشتريت حلويات ألوالدي.
وتصادف بعد عودتي للقاهرة بحوالي شهر أن قامت ثورة الربيع العربي يوم 11يناير
،1122واشتعلت مدينة القاهرة بالمظاهرات الصاخبة مثلما اشتعلت معظم العواصم
العربية ،وسقط بعض الحكام العرب ،فقد هرب الرئيس التونسي علي زين العابدين،
وتخلى الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم وسلم قيادة البالد للجيش ،وصعدت
عناصر التيار الديني المتشدد المنابر اإلعالمية بفضل تفوقهم في حشد الجماهير
الغاضبة الرتفاع األسعار وتدني مستوى المعيشة ،وهكذا سمعت وقرأت وشاهدت عبر
147
أوراق العدد المزدوج 02-91
القنوات الفضائية اإلخبارية كيف تغيرت مدينة الرقة الجميلة التي ال تزال صورة شوارعها
الهادئة حية في ذاكرتي البصرية ،وحزنت جداً؛ ألنها باتت مق اًر لقوات داعش ـ ـ ذات
الفكر الديني المتطرف ـ ـ ـ وشاهدت كيف ُدمرت منازل مدينة الرقة وباتت شوارعها
أرض خراب نتيجة الحرب بين قوات المعارضة وقوات داعش.
ومع األسف كانت الدورة السادسة ديسمبر 1121آخر دورات مهرجان العجليي،
فحزنت حزن ًا كبي ًار على الحالة التي أصبحت عليها مدينة الرقة التي كانت ذات يوم
منب اًر ُمهماً من منابر الثقافة والتنوير في سورية العربية الشقيقة ذات التاريخ العربي
المشترك مع مصر العروبة ،وقد سمعت خالل هذه الزيارة ولمست مدى حب األشقاء
في سوريا للزعيم جمال عبد الناصر حيث أخبرني أحد األصدقاء من مدينة الرقة أن
كل بيت في سوريا يضع صورة جمال عبد الناصر في غرفة االستقبال ،ومع كل هذه
األحداث الدامية ،ومع كل هذا الخراب الذي لحق بمدينة الرقة ال يزال عندي بصيص
أمل أنه في نهاية الدرب شمعة أمل ،وستعود يوم ًا ما الرقة منب اًر ثقافياً ،وستعود دمشق
عاصمة للثقافة العربية.
148
أوراق العدد المزدوج 02-91
شاعرة لبنانية
تصب فيه
ُّ احتضنت سوريا المهرجانات والفعاليَّات الثقافية ،وكانت البحر الذي
ْ لطالما
عيد توزيع ثمارها على العالم أجمع. جميع روافد الفكر واألدب والثقافة من البلدان َّ ِ
كاف ًة لتُ َ ُ
لثقافي المو ِ
اكب ستهان به من العمل الفكريﱢ والنشاط ا وقد كان لِمحافظة َّ
ﱢ ُ ُ الرقة نصيب ال ُي
َّ
يفي
يغلب عليها الطابع الر ُّله .المفارقة الجميلة والممتعة هنا في َكو ِن الرقة محا َفظ ًة ُ
ِ
وموغ ًال في المشهد الثقافيﱢ بعيدا
إسهاما ً لكنها مع ذلك أسهمتتغزها نهضة المدنَّ ،ولم ُ
ً
السوريﱢ.
الع َجيلي
الثقافي الذي كان ُيعَق ُد سنويًّا تحت عنوان "مهرجان ُ
َّ األدبي و
َّ العرس
َ هو ذا
للرواية" .ذلك العرس الذي كان لي شرف المشاركة في نسخته الرابعة (-1
تهل على روحي بين الفينة واألخرى
نسائم ُّ
َ )1112/21/1التي ما زالت ذكرياتها
عمدا خلف الضلوع كي ال يضوع مع وتوقظ شوًقا ال يخبو إلى سورياَّ ،
لكنني أداريه ً
ويهيج أحزاني واأللم.
كل نبض ُ
ﱢ
نعم ،األلم .األلم لِما آلت إليه سوريا وما آلت إليه محافظة َّ
الرقة الرائعة ِبُفراتها العظيم
وم َّثقفيها (الروائية
ومفكريها ُ
ِ
ونسائمه العليلة ،بناسها الطيبين المضيافين ،بأدبائها ُ
الع َجيلي" على سبيل المثال ال الحصر) ،بطبيبها األديب الفﱢذ "عبد والناقدة "شهال ُ
قصدت بيته وال تزال إلى اليوم أحجار ذلك الحيﱢ السالم العجيلي" ِ
(رح َمه الله) الذي
ُ َُ
تروي لقلبي أجمل القصص كي يستكين .حتى الفندق الذي نزلنا فيه لم يكن بتلك
أنت تشعر أنك نازل بين أهلك .بل َّ
إن الصورة النمطية التي نعرفها عن الفنادق؛ َ
تفاصيل الحياة اليومية البسيطة تتهادى هناك بإيقاع متميز؛ ففي مطعم ذلك الفندق
149
أوراق العدد المزدوج 02-91
طلة على األرض الخصبة الساحرة -لِوجبة الواقع في الطبقة األخيرة منه -تلك الم َّ
ُ
ص َور وجبة اإلفطار األخير هناك ِ
وجٌّو ال ُينسى .لذا ما زالت ُ
خاصة َ
اإلفطار نكهة َّ
مع صوت فيروز وسحر المكان ال تفارق ذاكرتي.
َّ
محطات وذكريات عصيَّة على النسيان: وكان لي كذلك مع مركز المحافظة في َّ
الرقة
االحتفاليات والمعارض والنشاطات التي تتتابع بال ُّ
توقف؛ كمعرض الرسم الذي زرناه
كل ذلك في غضون ثالثة أيَّام .وهذا إن َّ
دل على هامش المهرجان وغيره الكثيرُّ ...
المثابرة التي ال تني تبذل قصارى جهدها في على شيء َّ
يدل على الروح السورية ُ
فإنما ُّ
تكريم الفكر واألدب والفنﱢ واالهتمام بها وترسيخ تقليد االحتفاء بها في سلوك أجيال
التعرف إلى أسماء كبيرة في عالم األدب من ُنَّقاد وأدباء
الغد .هنالك كان لي شرف ُّ
وأساتذة جامعيين ِ
قدموا من بلدان عربية وأجنبية ،وال زالت تربطني بهم أواصر صداقة
لكن ما لفتني على نحو خاصﱟ كان ظاهرًة غير َّ
متوقعة (على األقلﱢ متينة حتى اليومَّ .
بالنسبة لي في سني الفتيﱢ آنذاك وحداثة عهدي بالمؤتمرات) ،تلك الظاهرة َّ
تتمثل في
العجيلي لم يكن مقصد المعنيين بالشأن األدبيﱢ أو الثقافيﱢ أو الفنيﱢ وحدهم.. َّ
أن مهرجان ُ
بأنهم –على اختالف أطيافهم ومستويات ثقافتهم وتعليمهم- لقد أبهرني أهل َّ
الرقة َّ ُ َ
يشاركون جميعا في ذلك العرس! لقد اجتمعوا بنا َّ
وتعرفوا إلينا واستضافونا في بيوتهم
حول والئم باذخة تعكس كرم أخالقهم وطيب معشرهم حتى َّ
يحز في نفسك َّأنك تغادرهم
بغصة عميقة وحرقة لن أنساهاَّ .إال َّ
أن وتغادر َّ
الرقة األصيلة .غادرتُها ذلك اليوم َّ
الكون ما لم ُ
تعد سوريا الغصة اليوم أكبر بما ال ُيقاس ،والحرائق بداخلي ال تطفئها مياه َ
َّ
فكر ًّ
وفنا وثقاف ًة ،رسال َة ُرق ﱟ
ي صدر إلى العالم ًا
الرقة تُ ﱢ إلى سابق ِ
مجدها وما لم تعد َّ
ُ
يحز في نفسي ويكسر قلبي ألم رهيب منشأه َّأنني لم أقصد الرَّقة بعد ذلك
وحضارةُّ .
لقوات عسكرية أجنبية. ثم َّ
معقال للحركات التكفيرية َّ ولم َّ
أتعلل بمياه فراتها ،و َّأنها باتت ً
الرقة كما تعلمون وأعلم .ولن تكون كذلك .وبي يقين ال يتزعزع َّ
بأنها ال ُب َّد ليست هذه َّ
ستكسر القيد وتسترجع مجدها وتشرق شمساً من جديد.
151
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق الشعر
151
أوراق العدد المزدوج 02-91
محمود باكير
"إهداء..
والدقائق وحيداً
األبواب العتيقة..
بال هوادة..
صوت الريح..
والتالل القريبة..
الليل..
152
أوراق العدد المزدوج 02-91
الهمسات والوشوشة..
صالة الصبح..
خطوات األم..
بسملتها..
للماء الساخن..
الحطب..
رائحة الحطب..
في العجين..
الصباح..
153
أوراق العدد المزدوج 02-91
"ميثولوجيا" الرائحة..
المختلطة..
ورأسه المقطوع..
وصوت الببور..
القادم من الشمال..
الصباح الندي..
154
أوراق العدد المزدوج 02-91
الثقيل..
والثغاء الصغير..
والنهار المستعجل..
والدفء الشفيف..
األبواب الخشبية..
الكالب..
وهي تتقلب..
"بطرانة" من الشبع..
155
أوراق العدد المزدوج 02-91
وأريحا..
وهي ِ
تغرب..
ورائحة البدويات ِ
الحريفة..
من "الخرمنجية"
156
أوراق العدد المزدوج 02-91
في صدورهم..
ويعقدون الصفقات..
مع الباعة..
وسهل الروج..
...
مسباح الذاكرة..
عاجها الباهظ..
فضتها التليدة..
ذاكرتنا الرعوية..
157
أوراق العدد المزدوج 02-91
***
هذا الحنين..
برصاصة خائنة..
من بعيد..
وهي مهزومة..
ومشوهة..
َّ
كحفنة من الرمل..
فقدت مالمحها..
كاللعنة..
نحو العدم....................؟!
158
أوراق العدد المزدوج 02-91
يك الخواء"*
"يا آدم الجديد ..عل َ
فواز قادري
جنرال
159
أوراق العدد المزدوج 02-91
أعزل
رافقتني في الظهيرة
الشيخوخة الصبورة
161
أوراق العدد المزدوج 02-91
رشح
اغتيال
161
أوراق العدد المزدوج 02-91
عطف
ِ
لست بحاجة إلى واو العطف أحياناً
كل قصائد الحب تعطف معانيها ِ
عليك
162
أوراق العدد المزدوج 02-91
رصاصة أيضا
أنام مع رصاصة
163
أوراق العدد المزدوج 02-91
الّنوح
سوسن إسماعيل
شاعرة وناقدة سورية
165
أوراق العدد المزدوج 02-91
ترُّن ُزرقة ِ
الس ْدرة
في السماء الِبكر
يا لل ـ ـ ِ
هول؛
جمعونا في طقس جنائزي
ال َيد ـ لآللهة ـ لتصلي
َ
هلع؛
يا لل ـ ـ ِ
أنساب الجث ِة
َ إنهم يشرعو َن
166
أوراق العدد المزدوج 02-91
للر ِ
قة الباقية َدعي ٌة َّ
أ َ
تناص مع نص قديم*
وحيد نادر
شاعر ومترجم وأستاذ جامعي من أصل سورّي يعيش في ألمانيا .حاصل على ٌ
ّ
السورية عام 9121وعلى جائزة معهد غوته للترجمة
ّ الشعر في الجامعات
جائزة ّ
افية /معرض كتاب اليبزغ الدولي عام .0290عضو في اتحاد الك ّتاب االحتر ّ
األلمانية وله
ّ العربية و
ّ السوريين ،يكتب بالّلغتين:
ّ األلمان وفي رابطة الك ّتاب
أربعة دواوين شعر.
وضوء:
ِ
رؤوس ُمي ،على مثل ِث ِ
قلب أ ِ ِ
مساحة َّ َصغر من ِ
َكبر من كتاب الجغرافيا ،أ ُ صحراء أ ُ
ِ
القاعدة رئيس الد ِ
رك خلف شاربين كث رمُلهما ،بينهما المث ِ
لث َد َركَ ،دركَ ،د َرك ،على
ُ
وردة شوكيَّة األَجنحة ،لحية تصرخ في احتراقهاَّ :
رقة أَتولى خالفتَها ،يبايعني هارو ُن
كر، ِ
عر والس َ
يحب الش َ
الوردة رجل ُّ يخلفه على عرش المثلث ذي الرشيد ويوصي بأَن َ
الدرك األَسفل
َ ات بواسع رقتها ،يحر ُق ات الغزال/الغزالة و ِ
الرق َة الظبي َة ،رجل يوقد فر َ ُفر َ
عشيقت ِه ُفرات ،بدمع النخل في الرمل لحظة
ِ واألَعلى ،ويوضئُ الصبح بجمر فخذي
ِ
سماء الجزيرة. ِ
حقول الصبار قرب طلوِع الشرق من
167
أوراق العدد المزدوج 02-91
ولف سورية
شاهة ْ
َشمسيَّة َ
ظلمة طلِة وفدية
مشايخ َ
َ
168
أوراق العدد المزدوج 02-91
الدعاء ال ّثاني:
ُ
عيدة غرَنة ِهند خزَنة
َ ...
سعدة كحَلة
مرَيم بخور ْ
نجمة
تفاحة َ
ز َيدة ُبستان َ
عدلة ...
ندجوما ْ
َ نو ار ستَّة
169
أوراق العدد المزدوج 02-91
الدعاء َّ
الثالث: ُ
عبلة
يونة ْ
وضحة مز َ
َ ...صبحية
فطمة
عنود غ ازَلة َ
أَميرة ُ
هرة ...
شيخة هويَّة ز َ
ضحيَّة َ
يكن فرعوناً،
مصر والزمان لم ْ
َ ليس في
المكان َ
ُ اودت ُه،
ات ُفراتَه ،وال هي التي ر ْ
ما راود فر ُ
سمعت صوتَ ُه القو ِاف ُل،
ْ ضاع في رح ِم سورَّي َة،
َ وهو فرات "غزال يحمور"
هي الرق ُة َ
قادت ُه إلى بغداد يرعى ،يهب ناياً تغني وعشب ًا ينادي بالندى ِ
دوحة الجبالْ ، أخرجت ُه من
ْ
ِ
خصرها، دروب الحر ِ
ير رف سلوى على ُ اصطادته
ُ الخضرَة إلى ركعة من ر ْبيع ،هو فري
يسير بإبراهيم إلى النيل ،يرى في المنام طاووساً يراود عز العزيز،
يطير هالالً خصيباً ُ
ين إلى رغباتهن!
خلف وهن يصل َ
يخدش حياء األمومة في زليخاته من أَمام ومن َ
ِ ِ
فلسطين ،وابس ْط
َ دياناتنا ،خلف أنجب لغاتنا وامزج
ْ ات،
نسكب في نيلها يا فر ُ ُدعَّ َ
يتمها وا ْ
صدرَها بآثار أقدام الريح اإلله سبأ ،أَلم نشرْح لك ِ
الجنوب ِ ِ
باتجاه َرض النبوِة
مضارب أ ِ
َ َ
نبن على ِ
ظهرها كعب ًة حج اًر كهوف الوحي وأعشاش الحمام وبيوت العنكبوت ،ألم ِ ِ في
لهجاتها وكثبا َن وه ِجها وأعو ِاد مسك شعابها؟ أَلم
ِ ش
من حجيج وماء؟ ألم نسألك أن تقر َ
171
أوراق العدد المزدوج 02-91
اضها ،يوم اندرى عشب الجزيرِة تحت قطعانها واعتلى امك على سمرِة أَحو ِ
تسرح بأَي ِ
َ
بطون المياه فوق حمرة أفخاذها أمام عيون أفريقيا الحمراء؟
171
أوراق العدد المزدوج 02-91
آرام
آرام
بأكثر من ذلك
نحلم َ
لم نكن ُ
أن يصير لصوتنا سماء وذاكرة.
يحدق في جهة
ُ كل
تتهدم نبوءات
ُ في عينيه
يصرُخ ثم يصرُخ
الموت
ُ تجف في حنجرته
إلى أن ير َ
ط مضرجاً بد ِم األلوهة.
ثم يسق ُ
ال:
يصرُخ شاب مذهو ً
آالف اللقطات.
تتكسر ُ
ُ في دمي
ينتفض في صورة
ُ كيف أثب ُت جسداً
173
أوراق العدد المزدوج 02-91
ينظران عالياً
الخوف
ُ تخلى عن جسده الذي أدماهُ
والتحق بالضوء الذي رآه
بعينين مفتوحتين.
مثل ِ
باقة زهر ،نامت حفن ُة من األطفال
174
أوراق العدد المزدوج 02-91
إذن ال بد من صخب
175
أوراق العدد المزدوج 02-91
ويلعنون الظالم.
في غيابي
176
أوراق العدد المزدوج 02-91
أنزف دمي
إذا كان البد من أن َ
لكل فر ِ
اشات الكون أن تصبح مالذاً ِ
َ
أعمل ليومي
وغدي
في الحصار..
في الحصار
177
أوراق العدد المزدوج 02-91
حياة تتشرد
طفلة تموت
تنزف
دماء ُ
يموت المستحيل.
ُ سجون خلف أبوابها
يدي مبتورة
أكتب..
ال ُ
أظافر الموت.
َ أقص
أكتبُّ ..
ال ُ
ِ
السقوط الحر. أكتب ..أتدر ُب على
ال ُ
حبل مشنقتي.
أطيل َ
أحارب هذا الهباء و ُ
ُ أكتب..
ال ُ
178
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
الغيب المالحة. أسفك حروفي فوق تر ِ
بة ال أكتبِ ..
َ ُ ُ
أكتبُّ ..
أفك رموز العدم. ال ُ
أدفن جث َة البرق.
أكتبُ ..
ال ُ
179
أوراق العدد المزدوج 02-91
ط بد ِم الكون.
أكتب ..أتخب ُ
ال ُ
في األفق..
-2-
ننتظر الله
ُ لم يعد أحد يبكي أحداً ،متنا جميعاً ونحن
-3-
181
أوراق العدد المزدوج 02-91
أعماله الحربية.
-4-
وتموت
ُ تتحطم شمس،
ُ تنهار سماء ،أو
ُ
-5-
181
أوراق العدد المزدوج 02-91
-6-
رحيق عابر..
ضرب عن الصهيل.
من حق الخيول أن تُ َ
من حق الفر ِ
اشة أن تختار شمعتها وتحترق.
حلم..
أحلم أن أتغير.
ُ
182
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
حديده التوت. ش على
أو سياجاً يعر ُ
ات المدينة.
تدهسها قطار ُ
ُ أو سك َة حديد
الحر أو الصقيع
يطوقه ُ
ُ صرت عش حمامة
ُ حتى لو
وحيد وبخير..
أنا ٌ
أنا وحيد وبخير
هادئ ومستريح
ِ
وعنك لي بيت بعيد عني
183
أوراق العدد المزدوج 02-91
أسمع الموسيقا
ُ
أذهب إلى السينما
و ُ
البكاء أحياناً.
الغناء و َ
َ أحب
و ُ
ِ
بصحبة نفسي. أنا وحيد
ِ
ضحكتك الخجولة نصف ال
ُ
ِ
كاللؤلؤ في الليل. يلمع ِ
ال ضوء عينيك الذي ُ
ال شيء يدل ِ
عليك َ ُ
ِ
نومك معلقاً في الخزانة قميص ال
ُ
يتجول في الممر
ُ ال صوتُ ِك
ِ
غيابك. تنقر خبز
العصافير التي ُ
ُ وال
184
أوراق العدد المزدوج 02-91
ض َّل طريقه
شظايا نيزك َ
ِ
أكاذيب الحكاية
في مدارات من الوه ِم و
ال َّ
الن ُار تأخذني إلى األعلى
وال ِ
أص ُل َّ
النهاية
ملح الكالم
واألساطير التي أحملها ُ
الرو ِح ِ
الوقت التي أدلُقها في فراغ ُّ عجينةُ
ِ
ضحك ِ
باألسمال من ثوبها المخرو َق
تق َأر ُ
ِ
المساءات الحزينة
ضل طريقه
شظايا نيزك َّ
طويال من ضياء
ً طا
تركت في ذيلها خي ً
185
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
المعطوب حزن ونما في قلبي
السماء
دت نحو َّ ِ
صع ْ َ
ِ
الخوف لنا يروين مي ارثًا من هكذا َّ
جداتنا
َ
في ليالي الجوِع والبرِد وأحالم العصافير
السجناء ،واللقطاء
والوضعاء ،و ُّ
اف ِ
نبذته ُم األعر ُ
وكل من ُ
في ِ
قبائل قيس ،أو ِ
بكر بن وائل ،أو ربيع َة
186
أوراق العدد المزدوج 02-91
توليدِه"
يسكي قد عاد إلى ِ
"المور ُّ
امش ِ
تُكذ ُبه الهو ُ
لست ذاك!
الَ ، -
الص ِ
فحات أفتش ،أقلِ ُب َّ
زالُ ،
ض َّل طريَقه
شظايا نيزك َ
َم ْن هذه؟ -
كانت هي َّ
الزرقاء ربَّما ْ
تخبرني:ْ ِ
جاءت؛ ل َ اليمامة قد
زرقاء َ
ُ
األشجار تمشي" ِ
"إني أرى
َ
آوت إلى أغصانها
ير التي ْ وأنتم َّ
كالز ارز ِ
ُ
أشجارنا تمشي بال قدمين ،يا زرقا ُء
ُ
الح ْوِر ِ
ونحن مازلنا نغني في ظالل َ
ُ
187
أوراق العدد المزدوج 02-91
الرحيم ِ
الموت َّ وال أثقالنا توصلنا إلى
مثل الحمولة
كأننا ُ
َّ
الزائدة
ِ
األعماق يوما البد يلقيها القراصنةُ إلى
يح لوعهم ِ
للر ِ ينشرون ُق َ
ِ
البحر تبكيهم وعروس الصواري، ِ
تنتح ُب َّ
ُ
ِ
بأبيات العتابا و"الهالهل"
زرقاء!
ُ يا
188
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
األبطال في طاحو ِن حرب ألسنا جوقةَ
بل طو ِ
احين الهواء؟!
الغرب :نوع من األشجار من فصيلة الحور ينبت في جزائر نهر الفرات ويطلق عليه اسم "
َ 9
الحور الفراتي".
0الهالهل :هي الزغاريد في التعابير الفراتية ،وفي الحزن تعني التسامي والفخر الممزوج
باألسى.
189
أوراق العدد المزدوج 02-91
اللحظة البيضاء
عصام حقي
الخرساء
ُ تغلي في دمي أنشودتي
األسماء
ُ ام و
ملت شكَلها األي ُ
أي أرضُّ ،
كلها وقصدت أرضاًَّ ،
ُ
اء ِ
غبت عنك ُهر ُ
عندي إذا ما ُ
عنك و ِ
أنت في قلبي.... وبحثت ِ
ُ
الهوجاء وذاكرتي و ِ
أنت عواصفي
ُ
ِ
رسائل غيمة حتى ِ
لقيتك في
ماء ِ
تُنبي بهطل والشفاهُ ظ ُ
*
لقاء ِ
فخالصةُ الزمن الجميل ُ
*
ونقاء
ُ أرضي الجديدةُ دوحة
وسماء
ُ وبحيرة رقراقة
ميساء
ُ الصباح وزهرة
ِ ثغر
حمقاء ِِ
قيثاره وفراشة
ُ
َّ
بينهن... والغيد تلهو والنوارس
وصفاء
ُ َّ
فبينهن مودة
وثغاء
ُ وسنابل مياسة
البالبل ُبكرًة
ُ تثاءب ِت
وهنا َ
باء ِن ِ
ميس الغصو ظ ُ
مت َوتعل ْ
191
أوراق العدد المزدوج 02-91
بياض ِه
بعض ِِ بعض
الثلج ينسى َ
و ُ
شتاء ِ
يغيب عن الفصول ُ
كيال َ
والسحر فيها آية قد صاغها
هيفاء
ُ النسيم وريشة
ُ هذا
نبضنا
اقب َ
الحب بوصلة تر ُ
و ُّ
تشاء ِ
وتهندس الخطوات كيف ُ
ُ
شكل ...
الحب عاصفة تغير َ
و ُّ
اء ِ
كوكبنا كما تتغير األجو ُ
قيدِه وكأنه
الكل أسرى ِ
و ُّ
اء ِ
ماء ألجل بقائنا وهو ُ
بالحب رت ِ
بت النجوم بريَقها ِ
الورقاء
ُ مت بهديلِها
وترن ْ
ِ
ضفافها بين
ان َوانسابت الغدر ُ
اء
أغصانها الخضر ُ
ُ وتمايلت
ْ
عبيرها
بيع َ
استنشقت رئةُ الر ِ
ْ و
وبهاء
ُ تناثر في الفضا
فشذاً َ
استيقظت من نومها ريحانة
ْ و
192
أوراق العدد المزدوج 02-91
سماء
ُ الزكي
ِ لتفو َح بالعطر
تضاء
ُ وتعل ُم األقمار كيف
اء
وأنار دنيانا السنا الوض ُ
*
اء
أوتارها العذر ُ
رقصت لها ُ
ْ
وينعش أنفساً
ُ هل ير ِجع الماضي
اء ِ
ود ْت بها وبحبها األرز ُ
أ َ
ياح ُه من جنِبنا
تهب ر ُ
ومتى ُّ
البيضاء؟!
ُ ومتى تعود اللحظ ُة
*
األحالم إن...
َ قولي متى ،ال ترجئي
اء!
العميق سو ُ
َ الصمت والجرَح
َ
193
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
المناجل
بائع األحال ِم و
يأتيك باألخبار ُ
َ في بلدتي
ِ
األخبار ،ونسيتها النشرةُ الجوي ُة أس نشر ِ
ات في بلدتي التي كانت على ر ِ
يتناوبان على ِ
صب قهوة ،دلتُها قلبي
بغداد في الشام
َ قطفها فراتي عاشق من شارِع
ِ
حانات بيروت وباعها في
ِ
لعشيقته خاتماً من ثلج وكفناً وخلخاالً ليشترى
ِ
الممزقة في شارِع الوادي ويسكر على صورتها
َ
بالسيف َّ
وحد الزنا "وأحاديث العشيات"
*
اسمه الحميدي
ُ في بلدتي مسجد
اء
الشمس طفل ًة شقر َ
ُ تطلع
َ مرصودة حتى
*
195
أوراق العدد المزدوج 02-91
بع دينار
نصف رجل مخصي بر ِ
ُ في بلدتي
المقابر واالنتصار ِ
ات ِ يتفقد ذكورَة العابرين إلى
َ
حاملين معهم ماتبقى من ِ
أنوثة العشيرِة في سلة من جمر
أول الكلمات
فتساقط ْت من أوداجه ُ
*
تعدد االنتماءات
مزَقها ُ
ليؤدي التحي َة لراية َ
*
196
أوراق العدد المزدوج 02-91
ِ
الجاحظ ِ
حديقة تالصقت أبو ُابه كعاشقين في
ْ
ِ
الشرفات بال مواعيد لتخونه قوافل الشحاذين والعابرين من ِ
تحت ْ ُ َُ
وحليب النو ِق َ
أسود الوجه من خثرِة الحياء ُ
الحرمل
َ الحلم و
َ تبيع
وعند مدخله الغربي غجرية ُ
وقف أو َل الطابور َّ
تزوجن من ذاك الذي َ لنسوة
غفوت
ُ كان عذباً قد اختفى حين
في بلدتي نهر َ
يسير في ِ
كل البوادي ُ
ضفاف ِ
النيل والدانوب ِ العطاش على ويسقي
َ
الصخر والشيح
الرمل و وأهلوه على ِ
الشط يلعقون
َ َ
ِ ِ ن
ويغسلو َ اآلن ع ْن َد الضفة األخرى َ
أقدام الغزاة
*
197
أوراق العدد المزدوج 02-91
الشيخ األخضر
كان عمار ،وأويس ،ووابصةُ ،و ُ
في بلدتي َ
ِ
اإلنقاذ ِ
جيش والعجيلي قادماً من
ومال الحضرِة
ُ
حارس الماعز
َ يرسل
ُ ِ
الحجر وإبراهيم الخليل في ِ
غدير ُ
الطيب والبازيار الجميل في حارِة البدو
َ ليبحث عن سعدو ِن
الن ِ
عاس وبرِج عليا وأرجوحة من تمر وتوت ِ
فيغفو على أرغفة ُ
*
اآلن فقط
في بلدتي َ
نبحث عن تفاصيلنا ،عن وجوهنا ِ
تحت الركا ِم ُ ِ
أنت وأنا،
ِ
العاهات
في زمن األوها ِم و
عاش
مات من َ
في بلدتي ْ
مات
وعاش من ْ
َ
*
في بلدتي
198
أوراق العدد المزدوج 02-91
199
أوراق العدد المزدوج 02-91
فوزية المرعي
ِ
مؤسسة أول صالون أدبي في الرقة.
شاعرة وروائية سوريةّ ،
رداء
تغزل من وشائع الغـروب ً
ُ
211
أوراق العدد المزدوج 02-91
واألعراف ،جسـ ـ اًر نعدو عليه بال اكتراث ،فلم تستوقفنا المسافات
رفيف أجنحة الريح فتحث الخطو إلى مدرستها ،ورح ـ ــت أتبعها بخطى وئيدة،
ً
فانبرى قلبي ريشةً يرسم قسماتها بكل ألوان الطيف
مضت السنون وأنا أتعوسج على دربها نخلة ،تهذي عذوقها للريح
تجاهلتني كثي اًر ،لكنني لم أتوان عن مالحقتها حتى أضحي ـ ــت كظلـها
211
أوراق العدد المزدوج 02-91
ناجيت روحي الساهمة بألم :من أين لي ألتوج رأس مليكتي بتاج يلهث بالماس
والذهب ومنجم حبي يعروه الخواء من ثروة تبددت بأصابع اإلهمال ،وعدم التأهب
لمثـل هذه اللحظة والتحسـب لمد وجزر األيام؟
هنت روحي مطية للصديق والقريب والغريب ،حتى حصلت على مال يسـد رمق
ر ُ
الحكايــة ..تزوجتها ،وعشنا كنحلتين ،نرتشف من تويجات السعادة رحـ ــيقها ،ونذوب
في شهد الليالي قصائد عـز ،علـ ــى العاذل اقتحـام مفرداتهـ ــا ،وفـك طالسم رموزها ..
حبيبتي ..لقد أثـقـلتني الديون وقد قطعت على نفسي وعداً أن أبني
لك قص اًر بين صبوات النـدى ..قص اًر يليق بحبك أبهى وأجمل من
212
أوراق العدد المزدوج 02-91
مهما
كأني رأيتها ساهمة ترنو إلى المجهول بعينين تراهمت رموش ــها
ضممتها إلى صدري طويال ..وعلى إيقاع الوداع والنشيج ،أسعفتني مجامر روحي
الموهرة بجمر الوداع:
وقبلتني على خوف فماً لفـ ـ ــم" "قبلتها ودموعي مزج أدمعه ــا
قد ذقت ماء حياة من مقبلهـ ـ ــا لو صاب ترباً ألحيا سالف األمم
وتمسح الطل فوق الورد بالعنم". ترنو إلي بعين الظبي مجهشــة
213
أوراق العدد المزدوج 02-91
حسين جرود
طع عظام ِ ِ
األرض ق ُ الناس على
و ُ
صراصير على ِ
وجه البشرة ُ
أورام في ِ
نفق السيل
على ِ
كل حال
*
ِ
الكذب ِ
أص ُل إلى ِ
مدن
سم األشياء
أفتح َّ
ُ
ِ
بإسكاته وأستدعي قلبي
فلتسكت لغتي
أمامي
*
بجوع أزلي
أرقب صمتي
ُ
وجعي
ذاكرتي
بتلك األشياء
شأنك َ
َ ما
اتركها و ِ
امض ْ
ِ
الدرب وحيداً وعش في
ْ
كشهاب
*
أشرب شيئاً
أشارك و ُ
ُ
اقب من جديد
ثم أر ُ
َّ
215
أوراق العدد المزدوج 02-91
قصة...
وحدها َّ
وعظامي َ
*
صوت ()2
علِمي بي لي دمي
اليباب
ْ أرسليني في
الصرصار َّ
غنى اقتليني َّ
كلما
ُ
اجهلي لغ َة ِ
النمل
الذباب
ْ كل
ايقظي َّ
صوت ()1
المشتَهى
مات ُ
َ
صوت ()2
ِ
الحكايات عامت على جثَّتي ُّ
كل ْ
ِ
أنت فمي ودمي
وبياض أبياتي
ُ
216
أوراق العدد المزدوج 02-91
ليكتبها
شعر ُ أمنحها ًا
أين ُمن َ
النبو ِ
ات كل َّأسلبها َّ
أم كيف ُ
أعاتبها
ما لي ُ
كالنو ِم أرسلُها
التصقت
ْ اللعن ُة
في ِ
جلد آهاتي
صوت ()4
اب
لست من هذا الخر ْ
أنا ُ
الصحاب
ْ وناديت
ُ
*
ِ
ويمثلون أدوارهم
إسدال الستار
َ تنتظر
ُ أنت
و َ
*
ال لغ َة لك
217
أوراق العدد المزدوج 02-91
اللغ ُة لهم
اللغات اللغات
و ُ
ِ
الكلمات اليومية وجدر ِ
ان الهياكل السميكة خلَق ْت َك أصماً ما بين ضياع في سنتيمتر ِ
ات َ
غي ُة اللقيط
األسماء َّ
َ وعرفت َّ
بأن َ ورويت الماء...
َ
ومرمى األهداف
ِ
ورفض األنساق وإال ما معنى لغة الكلب البشري ِ
بحذف الكلمات ربما يبدأُ ُ
األمر
تختلف عن أي كلب حقيقي صحيح
ُ ولماذا
*
ِ
األشكال عراء كل
ُّ
ِ
الكلمات هراء كل
ُّ
فلماذا نختار
األسماء
َ النار
ولماذا نعطي َ
ومعرك ُة الصورِة في ِ
وحدتها
ِ
التشظي مع
*
كوبي
ٌّ الكلمات عصير
ُ
رائح ُة سمك
218
أوراق العدد المزدوج 02-91
قلب موشوم
موسيقا الغرفة
ومال ُذ الغريب
*
أرض الصحراء
ُ
عيش أفقي
كل األسمال
ُّ
*
اء أخرى
وعامت في صحر َ
ْ
ِ
اإلنس ِ
صمت كي تر َّتد على
ِ
الطرقات جنازة وتصبح في
َ
اآلفاق لديها
ُ تنسكب
ُ
ِ
رصاصة رحمة دو َن
*
219
أوراق العدد المزدوج 02-91
*
للسم
الكلمات المرصودةُ ِ
ُ
نشيد متقاطر
*
تتكاثر
َ كي
تتكاثف
َ كي
كي َّ
تتشك َل
كي َّ
تتمد َد
كي ال تمضي
*
بلع ْتها
أو َ
أو ضرَب ْتها
ِ
للشيطان إمام كانت
ْ
211
أوراق العدد المزدوج 02-91
*
ياح الصين
الكلمات ر ُ
ُ
المكسيكي
َّ الطفل
َ تنادي
بنهر ِ
النيل ليغتسل ِ
َ
ويعبر في ِ
مدن الرومان َ
ويظهر في ِ
اآلخر كنغر ُ
*
الكلمات َّ
تفش ْت في الليل ُ
ورو ْت متعتَه القصوى
َّ
وغابت إثر عز ِ
يمتها ْ َ
اإلنسان َّ
تقشر َ َّ
لكن
*
تناديك
َ الكلمات اليوم
ُ
أقتلك
َ كي
211
أوراق العدد المزدوج 02-91
*
ِ
للموت الكلمات رسالتُها
ُ
المقتول طويالً
ُ بأني
وقليالً ما أحيا
ِ
طقس األرض في
*
*
الكلمات عمود ِ
العيد على بيتي ُ ُ
األسنان ِ
بفكي ِ وذاكرةُ
وخواء نهار ِ
ات الصيف ُ
وأقدامي في البرد
212
أوراق العدد المزدوج 02-91
األشياء
َ تلك
سأجمع َ
ُ كيف
بكلم ْة
ولماذا ِ
أتق ُن َّ
فن العو ِم
أجهل َّ
فن القسم ْة و ُ
ِ
الوخز وهل األصداء إذا رغبت في
اسمه
ْ ستعطيني
*
ِ
طرقات حكايتنا على
ابن للموت
*
213
أوراق العدد المزدوج 02-91
ناريمان حسن
شاعرة كردية سورية مقيمة في تركيا ،من مواليد .9112لديها مجموعة شعرية
قيد الطباعة بعنوان" :أشياء َّ
يدخرها المرء لنفسه".
لطفل صغير..
يقول األطباء:
اآلباء الحزانى الذين أصادفهم يومياً يمسدون أعمارهم كلها على رأسي...
يا إلهي؛
214
أوراق العدد المزدوج 02-91
خساراتي دوماً
تكمن في الجوهر
لفقداني أشخاصاً أو فرصاً ،أو ًّأيا من البرقيات الهامة التي وصلتني وأنا منشغلة أو
ضائعة في مكان ما...
ولكني،
بكيتُني بشدة..
ليقول لي وداعاً.
األصابع الهزيلة التي تنقر بخفة على وتر القلب يقول للحب استيقظ.
توقف.
215
أوراق العدد المزدوج 02-91
216
أوراق العدد المزدوج 02-91
يقتلنا الحزن
والصغار
نحن أيضاً
ما من أحد
217
أوراق العدد المزدوج 02-91
أعرُف ِك مصياف..
ِ
محمد العبدو
شيم ّ
شاعرة سورية من مواليد مدينة مصياف ،0229تكتب الشعر ولها قصائد
منشورة.
تخرجين من َك ِ
هف أُسطورة مجهولة ُ َ
أسر ِ
نفسها.. ِ
األرض من ِ اح ِ
لتُطلقي سر َ
اب
الغيم التر َ ِ
حيث ُيمازُج ُ
تَرَفعينها إلى ُ
حظي..
رمدي الل َّ
الس ُّ وي ِ
مازُج َُّ
لون ُه ِِ ِ ِِ
طلوعه َ قبل
للفجر َ ين
تُعد َ
وجه الرياح ِ ِِ ِ ِ
بأشجار غابتك السرية َ طين
وتُ َمش َ
ات الالمرئي ِة
لِتَسوقيها بخفة إلى الممر ِ
ُهناك
حيث تَقبع ِ
الحكم ُة ُ َُ
غموضها
َ األشياء
َ التي تُلِب ُس
الوجود بأزليِته..
َ ف ِ
وتُكاش ُ
*
218
أوراق العدد المزدوج 02-91
منه
ألَستخرَج ُ
خبأ َْته السماء ِ
فيه من كال ِم األنبياء، ُ ما َّ ُ
وأُرِاقب كيف تنصهر أصواتنا ِ
فيه ُ ُ َ َ
لَِنكو َن ذاكرتَه..
*
ِ
طرقات ِك ُغنيات في ُّ
تمتد األ
ُ
فتصير النهائي ًة..
ُ
ين في طريقي
تَ ُمد َ
سبق بها ظلي
خطوات أ ُ
فيصير جسدي
ُ
ِظالً لنهر النهائي
219
أوراق العدد المزدوج 02-91
نحن نسيناها..
ووجوهنا إذا ما ُ
َ أسماءنا
َ لِتَتذك َر
الحب ِ
آتيك ِ عائدة من أقصى
ً
وقد َن َذ ْر ُت ِشعري ليد
ِ
شامات عنقي تُشاِب ُك عن غيب
تقول لي
ثم ُ
أحدثَ ْت شكالً لعالمة موسيقية
إنها قد َ
221
أوراق العدد المزدوج 02-91
ال تُ َأُ
قر إال لثماً..
َجتلِيني
عائدة من أقصى ارتعادي ،أ َ
ً
بينهما
يشق المساف َة َ
شربين ُّ
أو َم َ
المتَ َه ِدجة.. ِ
سيل األنفاس ُ
ُ
*
عر؛ ِ
"الش ُ
كل شعر م ِ
قفر ُّ
ُ
للح ِب َّ
مداً أو جز اًر.. يكن ُ
ما لم ُ
األجساد؛
ُ
كل جسد م ِ
قفر ُّ
ُ
221
أوراق العدد المزدوج 02-91
حاجت ِه
ِ ض عن ِ
ما لم َيف ْ
سماء راهن ًة
ً بفائض ِه
ِ وي َغ ِط
ُ
ْترتَ ِش ُح فو َق سرير..
كل جسد م ِ
قفر ُّ
ُ
يل إلى َنهارين.. ِ
ما لم ُيَنصْف ُه الل ُ
اإليمان؛
ُ
كل إيمان ِ
نافد ُّ
نفس ِه ِ
بضدِه.. ما لم يبرِهن على ِ
َُ ْ
الل ِ
غة ِ
األشياء وشيئي َة ُّ ما لم َي ْغ ُز لغ َة
قبل أن تغزواه،
222
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق القصة
223
أوراق العدد المزدوج 02-91
أمي
جديلة ّ
أحمد خميس
قررت
ْ أنهى (ديميتري) نجار الموبيليا الجورجي تصميمه الثالث لمخطط المكتبة التي
زوجتي إهداءها لي بمناسبة عيد ميالدي التاسع والثالثين.
الطريف في هذه الهدية هو أنني من دفع إلى ديميتري مبلغ 2111يورو لقاء أتعابه
عثرت على
ُ رغم إصراري على (نهلة) بأني راض بمكتبتي؛ وسعيد بها السيما بعد أن
يعمل في إحدى الصحف
ُ صورة قديمة ألبي أرسلتها إلى (ياسر) صديقي الذي كان
رفع جودتها ،وتكبيرها ووضعها في إطار نحاسي راق جداً
السويدية ،حيث تمك َن من ِ
أفردت لها الطرف المقابل مباشرًة لروايتَ َّي االثنتين.
نت بها المكتبة ،و ُ
زي ُ
في الواقع ال أعلم السبب الذي دفعني لوضع صورة والدي قبالة روايتَي ربما ألني
َ
اء المهيبة ،أو ألنني
أذكر مالمحه الخشن َة ،وسحنته السمر َ
اشتقت إليه وأنا الذي بالكاد ُ
ُ
اسمينا على كتبي ومقاالتي.
أكتب ،ويق أر َ
كنت واثقاً من أنه يراني حينما ُ
ُ
اختلقت ِ
لدرجة أنـي لطالما رحل باك اًر غريب حقاً ،غريب
ُ إحساسي تجاه ذاك الرجل الذي َ
ابتكرت ماضياً وتاريخاً لم يكن.
ُ ذكريـات غير حقيقية معه،
224
أوراق العدد المزدوج 02-91
في الثالثة بعد ظهر األول من "حزيران" اليوم السابق ليو ِم مولدي؛ أجبرتني نهلة على
اصطحابها ،وولدينا إلى مطعم "تابولي" القريب من بيتنا في "إستكهولم"
كانت على غير عادتها ،مضطربة ،قلقة ،تشي تقاطيع وجهها ،وردات فعلها بشيء لم
ْ
أتمكن من تخمينه البتة.
أردفت:
أجبتُها و ُ
ِ
_استمتع يا حسام؛ استمتع؛ ألم تشتق روحك إلى أجواء عربية كهذه.
احت تتحدث عن التبولة ،والمحاشي ،والكبب التي يقدمها هذا المطعم اللبناني بال
ور ْ
مباالة زائفة ومصطنعة.
_نهلة أنت ِ
لست على ما يرام ..أكاد أجزم.
ترددت،
ْ ال – نهلة ال تجيد الكذب إنها ماهرة بصنع السعادة وإعداد األمل –
صمتت قلي ً
ْ
أشارت إلى ُمحمد ابننا األكبر أن يذهب ،وأخاه إلى
بت كأس ماء على عجل ،و ْ شر ْ
صالة األلعاب التابعة للمطعم.
225
أوراق العدد المزدوج 02-91
إنها في المستشفى...
ماتت أمي يا نهلة!! كانت المرة األولى التي أرفع صوتي في وجهها .وكأنني أقي
متى ْ
نفسي الطعنة العظمى ،والمصيبة التي لن تضاهيها مصيبة أخرى.
فجائع كهذه!
َ يستطيع الناس التعامل مع
ُ أعرف في الحقيقة كيف
ُ ال
الصراخ!!
ِ
بيأس محارب خسر كل شيء. قلت
نعود إلى البيتُ .
دعينا ُ
لست أعي.
عدنا ...مشياً أو بالسيارةُ ،
عتدت إغالقه فور دخولي إلى مكتبي ومباشرتي الكتابة .ثمة رسائل
فتحت هاتفي الذي ا ُ
ُ
وردت من إخوتي وأخواتي.
ْ صوتية
ست
رت دموعي ،وتيب ْ وقفت على ِ
شفير صدمتي وذهولي ،تحج ْ كانوا يبكون ...إال أناُ ،
شعرت بالبرد.
ُ عواطفي إال أنني
بل، ِ
أشعر ببرد مختلف عما ألفته ق ُ
ُ وطئت أقدامي ثلو َج هذه البالد
ْ للمرة األولى ُمذ
أحشائي ترتجف وقلبي ،ظلمة دهماء تلف عالمي.
226
أوراق العدد المزدوج 02-91
كانت نهلة بالقرب مني قابض ًة برفق على يدي ،محاول ًة الصمود قدر استطاعتها كونها
تدرك أنها جسر َي الوحيد ،وأول خطوط دفاعاتي في هذه البالد الشاحبة الكئيبة.
بت
كان أبي ورغم التحديث الذي ط أر على المكتبة؛ في مكانه الذي وضعتُه فيه ..اقتر ُ
تمنيت لو أنه يمتلك القدرة على احتضاني ،لو أنه يفعل ذلك اآلن فقط.
ُ منه،
فأت نهلة أضواء البيت كلها عدا ضوء أزرق خفيف قبالة أبي ،صوت مرتعش ُ
رحت أط ْ
أسمعه من مكبر الصوت المدفون في الجدار المقابل للمكتبة.
رسالة أمي األخيرة ...كان صوتها دافئاً رقيقاً رغم السنين ،شجياً كبوح العاشقات:
كبرت في غيابكم عدا شجرِة الزيزفون التي اقتلعوها من جذورها باألمس ِ
األشجار قد ُ "كل
ُّ
أصابت" أم جمال" تلك المسكينة التي لطالما أسقتكم من حليب
ْ في غارة أخطأتني و
النهر ال زال يجري يا حبيبي ،وكعادته في الربيع بقرتها يوم كنتُم خر ِ
انق غضاضاً ،و ُ
َ
الماء منق ُذها. كانت تعتقد َّ
أن السنابل التي ْ
َ ِق
فيغر ُ
يغزو كتفيهُ ،
َ
ِ
كالسنابل ...نغر ُق دائماً. نحن األمهات يا حسام
هكذا ُ
والطريقِ ،آه منها تلك الطريق أتَ ْذ ُك ُرها!!
مص أقدامكم!!
كم قبلت ُخ َ
كم حرثتم حافتَيها!!
227
أوراق العدد المزدوج 02-91
راسي بالمدينة
مشتاقة مثلي هاتيك الدروب ،مشتاقة والشوق يثقبها فتنزف ،تنزف كديسم جريح تحاصره
الثلوج.
طويلة تصل شرق األرض بغربها ،هكذا هي الطرقات ال تمل وال تكل ،لكنها بالنسبة
لي أقصر من تلك الشريطة الخضراء التي أحضرتها من مقام الشيخ "عيسى" وعقدتها
على عنقك؛ خشية عليك من الحسد.
بالمناسبة لم أعد أخاف عليكم عيون النسوة أبداً؛ ألن الحرب تالعبت جداً بنا وبمعايير
خوفنا.
"مقبرة التل" ضاقت بموتاها ،ولم تعد تحتمل زوا اًر ُج ُدداً.
كذلك مقبرة "الضيعة" .لكن خالك أبا أحمد قد تبرع بجزء من أرضه المحاذية لها قبيل
وفاتهُ ،مفسحاً المجال لمزيد من األموات الذين راحت تتقيؤهم أرضهم.
بالد تنتهك عذرية شبابها وترسلهم إلى الجحيم بقوارب مطاطية لن تتوانى في رجم
شيوخها وصفع وجوههم العتيقة المتعبة.
228
أوراق العدد المزدوج 02-91
ربما تنبأ خالك أنه لن يجد مترين يحتويانه ،فأقدم على ذلك رحمه الله.
بني ...
ال أريد لكم أن تجزعوا في الغياب ،وال أن تندموا على رحيلكم؛ فاألرض حتى األرض
ضاقت بموتاها هنا ،غيومنا مثلنا بائسة ،وشقائق النعمان في التلة التي لطالما كنتم
تلوذون بها مني إذا ما أغصبتموني لم تعد تنمو مذ وطئت سالسل الدبابات تربتها.
وركم آه من ُدوركم يا صغيري مهجورة ،مهجورة حقاً .لكنني لم أكن أراها مهجورة
ود ُ
ُ
يوماً.
ص ْحبك تلعبون الشدة وتدخنون الشيشة ،يعلوهناك أنت على السطح كعادتك برفقة َ
صوتك الجميل على أصواتهم ،تغضب ،فتطردهم وتأتي إلي ،تقبلني وتشتمهم ثم ال
تلبث أن تناديهم مرة أخرى ،وغير بعيد عنك هناك أخوك وأطفاله يزرعون الفجل
والحشائش.
أظن أن "األجانب أولئك الشقر الباهتين" ال يحبون الفجل ،أليس كذلك يا حسام؟!
أتدري؟!
رت روحي بعيونكم كما ينبغي ،ولم أُكحل جفوني برؤية شيب الشباب في ما ذخ ُ
المرَة،
العنين تلك الغرب َة ُ
َ كنت واثقة بأني في الصباح سألتقيكم ،ستعودون
نواصيكمُ ،
شحبت وجوهكم من الثلج والبرد .وفي كل َمرة يخيب ظني ،فأنتظر
ْ ستعودون وقد
الصباح التالي ليخيب ظني مرة أخرى.
حلت رحلتم.
ون ُربيتكم شب اًر بنذر وحينما اشتددتم َ
229
أوراق العدد المزدوج 02-91
أعرف أنك ال تحب حديث العجائز ،لكنني سأخبرك على عجل بأن من بقيت من
يسألنني عنك بين الحين واآلخر وفي عيونهن دمع يحرق كماء النار
َ حبيباتك هنا
يهن صو اًر لك
أرسلت لي ثمنه السنة الماضية ،أر ُ
َ عظامي ،فأسارع إلى الهاتف الذي
أقسم لهن في كل مرة بأنك تضاهي تلكم
وخلفك مبان شاهقات تناطح السحاب لكنني ُ
الناطحات طوال ،يضحكن في البداية وسرعان ما يبكين بعدها.
على فكرة سأخبرك س اًر يا يما ،س اًر يعلمه الجميع هنا حولي.
يحببنك أيضاً
َ أنهن
اهن؛ ربما ألنني أعرف ُ
كنت أشعر بالسعادة إذ أر ُ
ال أعرف لماذا ُ
لكنهن لن يحببنك مثلي على اإلطالق.
آه صحيح!! ولكيال ال أنسى ،لقد اشتريت بالمال الذي أرسلته لي هاتفاً مستعمالً رغم
يت تلفا اًز صغي اًر لبنات أختك،
إصرارك على أن أبتاع جديداً لكنني ادخرت بعضه واشتر ُ
لو تعلم كم دعت لك أختك!!!
أتصدق؟!
231
أوراق العدد المزدوج 02-91
بت منه
يوم كفنتني عمتك ووضعتني رفقة نسوة حارتنا في تابوت الجامع الكبير هر ُ
دون أن يراني أحد من المشيعين وجئتكم أطوف عليكم واحداً واحداً.
ومضيت
ُ أعلم أنكم تكرهون األغطية مذ كنتم صغا اًر ،دثرتكم ،وقب ُ
لت راحات أيديكم
خلس ًة خشية إيقاظكم".
اقترب مني محمد ابني البكر كان مليحاً حسن الوجه كجدته حامالً بيده صندوقاً صغي اًر،
تعلقت روحي به قبيل أن أرى ما بداخله.
لقد تحدثنا إليها منذ شهر تقريباً ،كانت تنتظر هذا اليوم أكثر منا يا أبي ،بعد أسبوع
من مكالمتنا لها وردنا بريد من "بيروت" يحمل اسم جدتي مكتوب على ظهره هذا
التحذير.
231
أوراق العدد المزدوج 02-91
احتضنت جديلتها ،قبلتُها ،ووضعتُها بالقرب من صورة والدي جانب رواياتي في مكتبتنا
ُ
الجديدة.
لم تختر نهلة تصميماً من تلك التصاميم الثالثة .بل أعادت إلي مكتبتي في بيتنا هناك
حيث السماء أكبر ،وأكثر زرق ًة ،واألرض غير هذه األرض إال أنها مليئة بالقبور.
232
أوراق العدد المزدوج 02-91
ما علينا...
علي الكدرو
أما اآلن فلي موضع آخر غير الذي كان بينكم ،موضع ليس به الفوق والتحت وال
َّ
اليمين واليسار ،ال يخالطه زيف األلوان ،وال أوهام السادة النجباء ،الكل فيه يلبس لوناً
واحداً ،ويرقد رقدة واحدة ،وينتظر موعداً واحداً.
فثم وجهك وال أحد سواك ،وكل ما ُيشاع عن أهواله وعذاباته، موضعاً أينما اتَّ َ
جهت به َّ
ليس إالَّ محض افتراء ،فها أنا ممدد بين أجنابه ال شغلة لي سوى التسلي بمراقبة
عورات المارين من فوقي "وخاصة النساء" ،وال يمكن ألحد أن تج أر يوما ليكدر خاطري
ولو بهمسة.
***
233
أوراق العدد المزدوج 02-91
كانت لحظات ال تعادلها سوى لحظات الغرغرة وهو يجرجرني فوق دفة الغسيل ويقلبني
بين يديه كأنما يقلِب مومساً استفرد بها ليقضي منها حاجته على عجل ،يسكب َّ
علي
الماء الحار دون تفتير ،ويتركني عمداً أسلت عن الدفة ليشهلني من َّ
أذني مدمدماً (أذن
بأذن والرأس زيادة) ،واألصعب من هذا وذاك أفانينه وهو ُّ
يدك لفافة من القطن حتى
تغلظ ثم ِ
يفتلها أمامي طاح اًر كما لو أنه يريد دحسها بقفا بعير.
ولكم تمنيت لحظتها أنه لم يخرط أمعائي لدرزته بمرشاق منكه من رأسه حتى أسفل
يدي يوماً لدحست بمؤخرته مواعيناً من الورق بد ً
ال من قدميه ،وأقسم لو أنه يقع بين َّ
القطن المندوف.
لكزني صاحب الهراوة مرتين أو ثالث على مواضع من جسدي جعلت رأسي يضرب
سقف القبر من شدة الضحك ،التفت نحو صاحبه هامساً:
جال األخير بنظره الحاد بين جوانب قبري وعلى الفور امتشق القلم من خلف أذنه
ودون في زاوية دفتره (مطابق).
َّ
ص ُل على
عجبت ألمرهما كيف ال يعرفان أن هذه المساحة هي المكان الوحيد الذي ُيَف َّ
حجمك ،وما سواها من مساحات غالباً ما تكون فضفاضة متهدلة ،كما هي مساحة
القضية التي كانت ممتدة من البحر إلى البحر.
234
أوراق العدد المزدوج 02-91
أجب:
ثم زجرني ْ ..
وألني كنت بينكم وأعرف كيف تدار الزوايا بعدما َسرطنا بلداً بأكمله ووقفنا على أبواب
األمم نتضور جوعاً ،أجبته بخبث ودهاء كما لو كنت أتدرب على مقدمة خطبة
عصماء:
"أنا ..أنا ربع مثقف ،ونصف سياسي ،ونسونجي متقاعد ،وعندما أخاف من قول ..ال
..أصمت وال أقول ..نعم ."..
تناوبت نظرات الملكان إلى بعضهما دهشة من جرأتي ،ثم انفج ار ضحكاً وقهقه ًة ،وكان
التصفيق والهتاف المحتدم من الموتى قد عكر صفو القبور ،وشتت شمل الهدايف،
وأجفل للتو جنازة رمت بميتها أول منعطف لتلتهم مسارب القبور أف اردها كما لو أن
جوقة من الكالب المسعورة تطاردهم.
كاد الحماس لحظتها أن يأخذني ،لوال صوت كخيط العطر المنسل من رقبة حسناء
كان يوشوشني مؤنباً (دع الموتى يدفنون موتاهم).
استرخيت من جديد ِ
وكأني في بداية موتي تاركاً للملكين فسحة من الوقت حتى يستجمعا
شيئاً من هيبتهما التي انفرطت أمام األموات.
َّ
مد صاحب الهراوة هراوته إلى محاشمي من جديد وبدأ يقلبهما مدمدماً:
..أكتب:
ْ ثم فجأة التفت إلى زميله آم اًر
235
أوراق العدد المزدوج 02-91
يرفع محضر موته إلى صاحب الجاللة ،مع اقتراح التفل على وجهه حتى يغشى عليه،
ألنه خرج من الدنيا ولم يفهم شيئاً كـ (جبر من حضن أمه للقبر).
علي مصبحاً:
مع تباشير الصباح األولى تباوع الجار َّ
خوزقة!؟ يالطيف ،ياستار ،كلمات كنت أرددها وأنا أتحسس قفاي الذي ما زال متورماً
من "دكة" النذل أبو محمود.
صنة الظهر الالهبة ،وخلو المقبرة من األحياء ،كان الوقت المناسب لتهاشل طوائفهم
إلي ،وحينما وصلوا موضعي شرعوا تلقائياً ينقسمون إلى طائفتين ،طائفة كانت ُّ
تسل َّ
من كاراتها محارم قماشية وتمسح وجوهها دون توقف ،ولم أكن أرى فيها ما يستدعي
236
أوراق العدد المزدوج 02-91
لذلك ،وطائفة تمسك أقفيتها بين يديها رامعة بين اللحظة واألخرى وكأنما أحداً من
الخلف ينخشها بمناخيش ومخارز منبلة كرؤوس اإلبر.
ال: َّ
تقدم واحداً من أهل المحارم متسائ ً
237
أوراق العدد المزدوج 02-91
التمثال والنمرود
أمي والنهر
كنت عائداً للتو من المدينة الكبيرة ،عبرت النهر بقارب صغير إلى ضفة مدينتنا.
ُ
استقبلتني جدتي في المنزل بعينين تشعان فرحاً ،جلسنا نشرب الشاي ،ورحت أحكي
لها عن سعادتي للتسجيل في الجامعة ،أخبرتها أني زرت الحديقة التي كانت تأخذني
إليها في األعياد؛ متمنياً لو كانت أمي حاضرة...
"أمك على قيد الحياة" كررت جدتي ،وتابعت كالمها .لكني لم أعد أسمع شيئاً،
اغرورقت عيناي بالدمع ،لم أنبس ببنت شفة .مشاعري ٌّ
لج يغشاه موج من فوقه موج؛
كأني عدت إلى كابوس غرقها .كنت في ربيعي السادس ،لما ألقت نفسها في النهر،
فركضت وراءها ،تخبطت يداي عشوائياً،
ُ ضاعت صرخة استغاثتي في هدير النهر،
ابتلعت كمي ًة كبيرًة من الماء ،انتشلني شاب غريب ،حملني وسار عائداً إلى الضفة.
ُ
ومن فوق كتفه ر ُ
أيت النهر يبتلعها ،غابت الشمس ،فتوقفت محاوالت اإلنقاذ والبحث،
لم يجدوا جثتها أبداً ،لكني واظبت على زيارة النهر ،لم أجرؤ على السباحة فيه ،كنت
أجلس عند الضفة ،أصنع تمثاالً من الطين ألمي ،ثم أصلي وأدعو الله ..وعند الغروب
يرتفع منسوب النهر ،يذوب التمثال في الماء ،فأبكي!
تُ ِ
مسك جدتي يدي ،فتنتشلني من غيبوبة عمرها اثنتا عشر سنة ،تدس في يدي مظروفاً،
وتقول" :هذه رسالة منها!"
238
أوراق العدد المزدوج 02-91
أخنق الرسالة بقبضتي ،أكفكف دمعي ،ألملم شتات روحي ،وأغادر المنزل .أهيم في
الشوارع ،شمس الظهيرة تلهب رؤوس المارة ،ورأسي تلهبه تفسيرات لم أجدها يوماً،
دعاء جدتي ألمي "الله يهديها ،الله يسامحها!"
ثم تعقبه بالدعاء لجدي "الله يرحمه ويسامحه ،كان سبباً فيما أقدمت عليه"!
أصل منتصف السوق ،فأقف عند سبيل ماء بارد ،أدس الرسالة في جيب بنطالي،
وباستخدام يدي أشرب قليالً ،ثم أغسل وجهي ،أنظر إلى الجهة المقابلة ،يجلس أبي
وراء طاولته في المحل ،ويقف بجواره ابنه من زواجه الثاني ،ال ،لن أذهب إليه،
سيطردني ،ولن يبخل علي بجلدة من خيزرانته ،لوال كرهه لي ،لكنت أقف معه اآلن
في المحل ،لكن...
لست متأكداً!
ُ -
كانت ستوفر على نفسها جلدات خيزرانتك كل ليلة ،لكنها لم تحبك!... -
يصطدم أحد المارة بكتفي ،أنظر حولي ،تحاصرني وجوه الناس ،يخنقني ضجيج
السوق ،أطلق ساقي للريح ،تقودني قدماي إلى النهر ،وكالعادة ،أصنع تمثاالً لوالدتي،
ثم أسحب مظروف الرسالة من جيبي ،أنظر للعنوان ،أتفحصه ملياً ..على صفحة
الماء ،أرى حديقة المدينة والعمارة البيضاء بجوارها ،وأمي تقف على شرفة فيها ،تنظر
أجلس ألراقب
ُ إلى طفل يلعب ..أطوي الرسالة ،أضعها بين يد التمثال وجسده ،ثم
الغروب دون دموع هذه المرة!..
239
أوراق العدد المزدوج 02-91
طهمازية الجحيم
قبل أسبوع ،جرى طهماز مذعو اًر ،مرتبكاً .اختبأ خلف شجرة الكينا الكبيرة ،وراح يراقب
سيارات الزيل العسكرية ،التي أخذت تتقيأ حمولتها من الجنود ،والسالح ،والعتاد ،ثم
رحلت كما جاءت ،بضجيج يصم اآلذان ،واختفت في عاصفة غبارية أثارتها عجالتها
على دروب القرية الترابية ،قرية خالية ،مهجورة ،غادرها قاطنوها على عجل ،حتى أن
بعضهم لم يكمل طعامه الذي باشره .تركوا منازلهم بأثاثها ،وتساقطت ذكرياتهم على
الطرقات .وبينما قرعت القنابل والصواريخ طبول الدمار والموت ،نقش الرصاص على
جدران المنازل كلمات ال تُقرأ ،بل ترى واضح ًة كشمس الظهيرة "مرت الحرب من هنا
"!..
اقتاده الجنود ،وهم يتناوبون امتطاءه مقهقهين .ضابط برتبة مالزم اقترح إلباس طهماز
بنطال عسكري ،فرد أحد الجنود بأنهم يمكن أن يضعوا على أكتافه نجمة أيضاً ..وهكذا
تم تجنيد طهماز ،لتبدأ رحلة شقاءه .فراح يعمل ال كالجنود ،وال كالعمال ،وال كاآلالت،
بل أسوأ من ذلك ،ليالً ونها اًر ،دون توقف .كان ينقل أكياس الرمل للتحصينات ،والطعام
لتوزيعه على الجنود ،ثم يجلب الماء من النهر ،وينقل الجنود إلى مواقع حراستهم،
ليعود برفاقهم الذين أنهوا نوبة الحراسة ،وال يكاد يتلكأ في أي مهمة حتى تنهمر
الضربات عليه بال هوادة ،تساقطت الضربات على أردافه ،أقدامه ،ظهره ،بطنه،
241
أوراق العدد المزدوج 02-91
ووجهه ،حتى ذكره لم يسلم .و كثي اًر ما أصاب الجنود نوبة سعار فيضربونه بأي شيء
اوة قصيرًة بالستيكية
يقع في أيديهم ،سياط ،عصي ،حجارة ،لكن أكثر ما آلمه كان هر ً
خضراء اللون!..
في الليلة السادسة ،انهار طهماز ،لم تعد أقدامة قادرة على حمله ،فسقط أرضاً ،األلم
يسري في كل جسده .الجندي الذي كان يمتطيه ،ضربه عدة مرات ،وألنه كان نعساً
تركه وسط الدرب ،والحقاً جره الجنود من أقدامه الخلفية وذيله ،وألقوه في حفرة خارج
القرية!
الثالثة بعد منتصف الليل ،رقد طهماز وسط الدرب ،عاجز عن الحركة ،أنفاسه ثقيلة،
بطيئة كأنما يشحذها من بخيل ،القمر محاق ،رائحة العشب الندي داعبت أنف طهماز،
وذكرته بجنته المفقودة ،انسلت دمعة ندم متأخرة من عينيه ،وتذكر كلمات رفيقته البومة
الحكيمة يوم وصل الجنود..
241
أوراق العدد المزدوج 02-91
المحرم
ُ
نضال جرجنازي
تحوم الطائرات في أجواء الرقة كالبعوض تماماً ،عندما يقال هنا سورية فاعلم أن كل
شيء مغاير لكل المعايير التي اتفق عليها حكماء البشر منذ آدم حتى اآلن .لن تجد
هنا أية قواعد إنسانية أو دينية وال حتى أخالقية ،ما يغيظ حقاً لدرجة أن البراكين
الخامدة منذ تكون األرض ،قد تنفجر قه اًر في القطبين الجليدين ،هو قلق هذا البان كي
مون ،قلقنا كسوريين على ما قد ينتج عن هذه الغازات المقرفة ،أضعاف ما اعترى هذا
المسكين ،لما ال يكف هذا الـ ..عن خزعبالته ،ربما ألن السوريين لم يبادوا حتى اآلن
عن بكرة أبيهم!
على فكرة هذا ما يجول في خاطر أي سوري حسبنا الله ونعم الوكيل ،فلنقترب من
األرض قليالً حيث السواتر الترابية -موضة هذه األيام ال حول وال قوة اال بالله -هنا
تحديداً يقبع مشفى لما يسمى الدولة اإلسالمية ،كان سابقاً مشفى كأي المشافي ولكن
على ما يبدو البد من هذه الرايات السوداء ،ما يثير عسف التفكير الممض ،هذا العمه
الجامح والمعوج والشغف برايات أصحابها إيمانهم هو رايتهم الخالدة ال تلك الرقعة من
القماش التي هي لألسف جعجعة لجحيم له دوافعه فقط ،كأن السوريين بحاجة للمزيد!
إذا دخلت إلى بهو المشفى ستصاب بالذهول من كثرة الوجوه الغريبة ،وستكتشف نماذج
عجيبة ألبناء أدم ،لست الوحيد إذاً ،هناك نسيل ألبانا األول من كل العروق ،ولكن
عرقك أنت تحديداً سيدلك حتم ًا على نموذج خاص ،رغم أنه ليس فريد عصره ،ولكنك
ستعرفه مباشرة ،آآها ..ها هو ذا رجل يع ُّد نفسه مسؤوًال عن الشريعة اإلسالمية في
المشفى ،على فكرة ،ال بد من وجوده وإال سيقفز أبو جهل من جهنم في أية لحظة
242
أوراق العدد المزدوج 02-91
ليرجعنا نحن األغنام السائبة إلى الجاهلية ،ما أتفهنا من قطيع غبي سنهلك بدون
رعايته.
لذلك تراه يقف بعنجهية ال تُمارى وبعكظة ال بد منها ،بل سرمدية في سحنة أي
مسؤول في وطننا العربي ،متوسطاً رجلين األول أصفر الوجه صفيف العينين قصير
القامة ،واآلخر طويل كنخلة سحوق دهمته الشمس لدرجة ال تصدق ،كأنه من صلب
حام بل هو كذلك بالفعل.
بدأ الشرعي يمارس هوايته المفضلة على شيخ وقف أمامه على مضض :أنت المرافق؟
كان الشيخ يختلس النظر حيث ترامت كتلة بشرية مجللة بالسواد على كرسي متحرك،
لم يسمع ما قيل له بداية ،فأستأنف الشرعي يخاطبه :هيه أنت ألم تسمع أأنت المرافق؟!
وعندما هز الشرعي رأسه باإليجاب ،قال بصوت منخفض :نعم أنا هو رفيقها .أقصد
تلك التي قلتها تواً ..تعبت المسكينة ..وجاري أبو عقلة تكفل بنقلنا إلى هنا ،واضحة
كعين الشمس ،هل يبتلي سوى الرجال حين تمرض النساء.
_ ما شأني أنا بكل هذه الترهات أنا الشرعي هنا ،وأسألك ما دمت مرافقها ما قرابتك
بها؟
سهم الشيخ وكأنه علق في الزمن ،وقال بعد تفكير ليس بطويل :هي ابنة عم خال..
هي حكاية بعيدة ولكن تربطني بها قرابة لسنا غرباء.
شنف الشيخ برأسه وقال بامتعاض :اتفل من فمك أي محرم عليها أنا زوجها وهي
زوجتي!
_ جيد ألنك لست ُمحرم ًا عليها ،ألنك لو لم تكن كذلك لربيت فيك القرود السود.
243
أوراق العدد المزدوج 02-91
ابتسم الشيخ بلطف وقال :ما أظرفك يا شيخ قرود سود قال ..وهل عندنا قرود سود!
قال األخيرة وحلق ببصره حيث هامة األفريقي وما لبث أن نزل من شاهق النخلة إلى
ذلك األسيوي القصير ،وأكمل وهو يتنهد لسبب ما :وأم لسبعة قرود أقصد سبعة أبناء،
المصيبة أن الحياة ال تكتمل إال بهذه الـ ..واحدنا يقضي شبابه يجمع القرش فوق
القرش ليجلب لنفسه هذه المصيبة .ندت على وجه اآلسيوي ابتسامة وأوشكت أن تصبح
شيئاً أخر لوال أنه تداركها .تابع الشرعي جيد ما دمت ُمحرماً لها تستطيع الدخول معها
لغرفة العمليات.
رفع الشرعي عقيرته ومد عنقه ناحية الشيخ :بما أنك ُمحرم لها تستطيع أن تدخل معها
إلى غرفة العمليات.
كأن أحدهم صفعه بقوة رجع خطوتين ألى الوراء ،حيث أستند إلى الجدار ،ونظر إلى
األفريقي علناً هذه المرة ليتأكد أن الكالم لم يصدر عن أحد قد يعجن الكلمات ويلوكها
لتخرج بهذه الدرجة المفزعة ،فابتسم األفريقي موضحاً على طريقته هذا اللغز ،وقال
برقة بالغة على أساس إنه أبو األسود الدؤليُ :مهرم.
تغصن وجه الشيخ وقال :رغم أنك دعست بحافرك على البقل ،لكن فهمنا ما تعني ،ال
يا ابن أخي هذه ثقبنا أذنها التي بعدها؟ لم تستطع ابتسامة اآلسيوي التي رغم كبتها،
اتسعت تطلب االستزادة وتحولت رغماً عن صاحبها إلى حمحمة ،لكنها لم تمنعه من
التعبير عن فصاحته فقال :أتقصدين دخوله معك لغرفة العمليات هيء ..هيء؟
تنهد العجوز هو يرمقه بتأن قبل أن يرجع للسجال مع الشرعي وقال يهز رأسه باستنكار:
الشيخ الثاني أتى ليكحلها فعماها ،لكن مفهومة ،هنا وضعنا الجمال ،أجد هي أم مزاح،
عيب ..أقصد ..ال يجوز يا شيوخ أنا عمكم أتهترون بي بهذه الطريقة ،أتسخرون من
بياض الشيب في رأسي؟! قطب الشرعي حاجبيه :عن أي هتر تتحدث هل سبق ولعبنا
244
أوراق العدد المزدوج 02-91
معاً في األزقة ليكون بيننا مزاح أبي طفل مقارنة بك ،هو ما سمعت ستدخل معها إلى
غرفة العمليات؟
صحل صوت الشيخ من االنفعال :ما شأني أنا ألدخل معها ،هي المريضة أنا سليم
معافى ،أهذا جزائي إلسعافها ،اصدقوني القول أليست هي من طلبت ذلك ،أنا أعرفها
ناعمة الملمس ولسعتها للقبر ،حتماً هي من تصر اآلن على دخولي ،عمكم ليس غبياً،
البارحة بعت خروفها البني وإذ بها تئن وتعن ليالً ،تريد أن تخرج النقود من جيبي
بطريقتها الخاصة ،أنا أفهم كيدهن عظيم ،حسناً قولوا لها النقود لن نختلف عليها ،لكن
غرفة العمليات :ال وألف ال ..وال حتى في أحالمها .والتفت حانقاً حيث كان الكرسي
المتحرك قابعاً وفوجئ أنه اختفى في مكان ما فكمد وجهه .أخذ الشرعي يشرح :يا تيس
ألن وجودك ضروري جداً ،يحب أن تكون موجوداً.
اهتاج الشيخ :ما معنى دخولي معها ،ال تقل لي أن الجراح ال يجيد عمله إال بوجود
أحمق مثلي ،أنا مثالً ال أجيد الغناء ألرفه عنه ،إذا كان مص اًر جداً سأصفق له قرب
باب غرفة العمليات ليطرب أثناء بقر بطن زوجتي ،أضحكوا كيفما شئتم ،لكن ال
تقنعوني بأن من قضى عمره يدرس ليلبس تلك الـ ..ما أسمها ..ينتظر مني حضو اًر
سحرياً ،أعرف أنها ..ولكن ما ضرورة وجودي ،لست تيساً لهذه الدرجة ..لذا ادخل
أنت يا شيخ بالنيابة عني فأنت شخص مهم جداً هنا وأمثالكم -شمل رفيقه ببصره -
يفهمون كل شيء ،نعم تفهم كثي اًر أنت بالذات -قالها وهو يكز على أسنانه -وهل
يعقل أنك دااابة مثالً ..ال سمح الله ..ال حاشاك أن تكون كلباً ابن كلب ال أبداً ،قل
له بكل وقار عمك أبو مصلح يهديك السالم ويقول لك إذا كانت م اررة العجوز بليت
فليرم بها بعيداً ..أساساً هي شيطان بثوب امرأة بم اررة ،أو بدونها ،الطحال كذلك إذا
كان يغني يا ليل يا عين فليرمه أيضاً ،ال أريد قلة أدب في بطن العجوز ،أنا مصر
على أن يبذل قصارى جهده لترجع العجوز شابة وإال سأبقيها في عهدته يجب أن يفهم
ذلك جيداً ،النقود ما دامت ستخرج بحفض ،مناسبة وحصلت.
245
أوراق العدد المزدوج 02-91
وسط بحلقة الشرعي الغاضب وسعال اآلسيوي المتواتر وهو متوقع على نفسه يرتعش
ضاحكاً والهيء هيء تحولت لهوء هوء.
أخذ الشيخ يتأوه وهو يقول :لألسف أن دماغها النتن باألعلى وأال لكانت رائعة منه أن
يخلصني من تلك القذارة بالجملة .كل هرطقة الشيخ وهزله للهرب من جحيم فكرة دخوله
معها لم تجدي نفعاً.
انفجر الشرعي أخي اًر وجأر بوجهه :عامل فيها مهرج ،وتخلط الحابل بالنابل على فكرة
أنتم العامة ال تختلفون عن الحمير في شيء ،ستدخل رغماً عن أنفك ،ألن وجود رجال
غرباء معها بدون ُمحرم حرام سيعتبر الجميع زناة حتى عجوزك ازاانية ،أفهمت اآلن
يا صاحب الرأس الصدئة.
تضخمت تفاحة آدم في عنق الشيخ وقال بصوت غليظ ،لكن مكبوت:
تشظى اآلسيوي ضحكاً منذ أن عرج الشيخ على طحال زوجته وسط جولته تلك ،ولكن
في هذا التوقيت بالذات جلجلت قهقهة االفريقي الهادئ الرزين بصوت قوي جامح شأن
الحنجرة الرخيمة الفخمة ألبناء القارة السوداء ،لدرجة أن جمهو اًر ال بأس به تجمع
حولهم.
ا لتفت الشرعي ناحية رفيقيه وقال بعد أن زفر بضيق صدر :تضحكان وأنا أخوض
غمار بهامته وحدي .رجع لجبه الشيخ :هذه فتوى جديدة ويجب تطبيقها ،حباً بالله
اعترض عليها أيها التافه ،لنتسلى برأسك قليالً ونحن نقذف روحك إلى السماء ..شحب
الشيخ وجفت الدماء في عروقه ،حتى أن يده اليسرى تحديداً بدا له أنها انفصلت عنه،
رغم ثقلها الذي يثبت أنها ال زالت معلقة بكتفه فأردف يتعتع :أنا ال أعترض ولكن..
أيجوز األبناء لهذه ال..
_ طبعاً يجوز.
246
أوراق العدد المزدوج 02-91
ضرب الشيخ قدمه على األرض من شدة االنفعال وقال :األوباش وكأنها تخصني
وحدي وليست أماً لهم ،فقط لو كنت أعلم بهذه الفتوى من قبل ،ما العمل اآلن كيف
أتي بهم ،واحدهم اآلن يسند خاصرة زوجته خشية أن تتعثر في مشيتها ،بينما حاوية
نفاياتك أقصد القدر تقلب على راسي وحدي ،أباها ذلك التسعيني الخرف الذي ال
يساوي في سوق الرجال ملء أذنيه ُنخالة حتماً كان سيصلح لهذه المهمة ،المصيبة
أنه فطس منذ يومين ،ماذا كان سيحصل لو تأخر في نفخ روحه قليالً ،عاندت روحه
إال أن تصعد إلى فوق اآلن تحديدًا ،صحيح هو خنزير ولكنه سيفي بالغرض ،أقسم
ال ،كنت سأدعو
كان سيقوم بعمل جليل ألول مرة في حياته القذرة ،فقط لو أجلها قلي ً
له بالرحمة طول عمري .ابتسم الشرعي بنوع من التعالي وقال :رجعت لهسهسة
المجاذيب ،لما الحنش ولوي الحنك كل ذلك لن يجديك نفعاً على فكرة ،اتبع الجراح
إلى غرفة العمليات واال سأرمي بعجوزك خارج المشفى.
بداية لم يستجب العجوز وحرن في مكانه يتمتم بشيء ما حتى زعق الشرعي :بسرعة.
في غرفة العمليات استلقت عجوز على منضدة الجراحة شاحبة الوجه وقد استطال
فكها السفلي بفعل التخدير بشكل مرعب ،منظر األنبوب البالستيكي في فمها هال
الشيخ ،من هذه الجثة أيعقل أنه دخل غرفة غير غرفة ام مصلح ،لم يعطه الجراح وقتاً
للفرار فقد عاجل بمهارة وبسالسة خبير محترف بفتح بطن العجوز ،ما إن انبجست
الدماء حتى ُسمع صوت ارتطام قوي ،جمدت نظرات الطبيب على نافذة الغرفة وقال
بتوتر :هل قصف المشفى مرة أخرى؟
ورءك.
هنف طبيب التخدير األصلع :ال ولكن القذيفة هذه المرة من عندنا ،التفت ا
عبارة التفت يتكبد مشقة تنفيذها من كان بدين ًا مترهالً ،وإذا كانت الرأس كبيرة غاطسة
بين كتفين عريضين مكتنزين ،وأضفنا أليها كرش رجل أربعيني قصير ،حينئذ البد من
استدارة البرميل بالكامل .قال بصوت مخنوق من خلف كمامته :اللعنة لما لم يعطنا
247
أوراق العدد المزدوج 02-91
ظهره ووجهه للجدار ،هل نحن نقوم بعمل لطيف ليتفرج علينا كاألبله ،على فكرة هذا
ما خمنته منذ أن القوا بهذه التعويذة في وجوهنا.
همس طبيب التخدير األصلع وأومأ ناحية الباب :الجدران لها أذان.
اتجه الممرض نحو الباب وهتف :أبو رياض هيه أنت تعال وخذ هذا الرجل إلى
اإلسعاف.
هرول رجل بثياب عمال المشفى إلى الغرفة وقال ضاحكاً :منذ قليل كان يقرقر مثل
ديك الحبش ،واآلن الدجاجة سبحت بالماء هيء ..هيء.
قال الجراح وهو يرمش بشدة :أحمله وناد على الشرعي ألعرف ماذا علي ان افعل،
المصيبة أني بدأت بالجراحة فعالً التوقف ..يعني ..بعد قليل دخل الشرعي الغرفة وقال
بمقت:
منذ أن رأيته عرفت أنه رعديد ،ال يهم الشرع هو الشرع لذا ابتعدا عنها حرام ال يجوز
حتى ارجع بذلك الخرع مرة أخرى.
في قسم اإلسعاف صب الشرعي زجاجة كحول كاملة على الشيخ وهو يدندن :أنت
أيها المهرج منذ قليل كنت تثرثر عن بلدة بحالها ،اآلن سقطت مغشياً عليك من نقطة
دم ،أتدري أن الكرديات واحدتهن كاللبؤة وأنتم خرفان ال غير ،حتى عمتي أكثر رجولة
منك البارحة تقربت إلى الله بجز رقبة مرتد ،وأنت شارب ولحية وعامل فيها سبع وتخر
بهذه السهولة.
الزجاجة وما فيها وحتى النشادر أيضاً لم يحدثا تأثي اًر في الشيخ ،كما أحدثه سماع خبر
التقوى المفرطة لعمة ذلك الشرعي وتقربها الطاهر النقي إلى الله بهذه الطريقة الـ -
يحار اللسان أحياناً بالوصف في مأثرة كهذه -بالكاد فتح الشيخ جفنيه وقال بصوت
خافت :عمك رجل في كل شيء إال في هذه ،واللحية والشارب إذا أجزت أنت هدية
248
أوراق العدد المزدوج 02-91
مني لـ ..بل سأترك لها الرجولة كلها من أجل خاطرك ،إذا كانت هذه ميزتها عندك ال
أريدها بتات ًا ،أنا خرع رعديد وماذا في جعبتك أيضاً ،لكن حب ًا بالله برحمة أمواتك أعفني
من ال ..تجعد وجه الشرعي:
_ كما تشاء.
_ بسرعة إلى غرفة العمليات وإذا أغمي عليك مرة أخرى ،تأكد أني سأفرغ عليك كحولي
الشخصي وهو فعال وسحري فوق التصور ،هيا ال تتلكأ فدماغ زوجتك النتن لم
يستأصل بعد.
صرخ طبيب التخدير وهو يشيعه خارج الغرفة :بسرعة إلى غرفة العناية المشددة ،وأنت
هل تمشي على بيض بسرعة هو بين الحياة والموت.
دمعت عينا الجراح وقال :لعنة الله عليهم جميع ًا أينقصني جثة أخرى ،أنا لم أرتق
الشريان الرئيسي بعد ،دقيقة أخرى ونخسر المريضة من كثرة النزف ،إن أكملت سيتم
قتلي ألني بنظرهم سأكون زنيت بعجوز هي ليست مريضتي وحسب بل بمقام أمي،
ماذا أفعل وسيف ذلك البغداداي فوق رأسي وذلك ال ..سيقفز أمامي كالقرد في أية
لحظة!
قال طبيب التخدير بصوت خافت :توكل على الله وتابع عملك ،الله كان والزال
وسيظل هنا -وضع راحته على قلبه -ما يدرى ذلك الصعلوك في أي مرحلة أنت،
سيبقى مع الشيخ ليرد له الحياة إن أستطاع هذه المرة ،عندها يكون من ضرب..
ضرب ،ومن هرب ..هرب ،أنت قلتها بلسانك جثة واحدة تكفي ،تابع بهدوء وانس كل
249
أوراق العدد المزدوج 02-91
شيء ،وتذكر فقط أننا أقسمنا قسم أبقراط ،قبل أن يولد ذلك الكلب الذي ال يفكر إال..
أستغفر الله العظيم.
هز الجراح رأسه وقد سكنت روحه قليالً :سأحاول ..سأحاول -توجه بنظره ناحية
الممرض الضئيل :أنت راقب الباب وإذا ..أسعل ..أرقص ..صفق ..افعل أي شيء
لكي ..اتفقنا..
_ حسناً ال تقلق إذا اضطررت سأغني له دولة اإلسالم صولي وانحري عندها سيقشعر
بدنه تأث اًر وتكون أنت أنهيت مهمتك.
في غرفة العناية المشددة أرتفع صراخ الطبيب :محلول ملحي بسرعة ودوبامين أمبووول
وكانيوالاااا لعلنا نمسك بها قبل أن تصعد إلى فوق فالرجل يتحضر.
من يسمع الزئير ال يصدق أنه يصدر عن ذلك الرجل النحيل ،بل يدرك مباشرة ،أي
معمعة رهيبة ودقيقة وحساسة سيخوضها هذا المتجهم ليجادل روحاً تشاور نفسها أترحل
إلى السماء أم تبقى في جسد صاحبها ،مثله يعرف وعورة ما هو مقبل عليه وخطورته
وأهمية ما سيفعل وما سيترتب نتيجة صراعه الملحمي في ذلك الوقت الحرج جداً
والقصير.
هرع الشرعي إلى غرفة العناية المشددة :الكلب يناكدني ال تقل لي إنه فطس هي شقفة
م اررة ،هل طلبنا منه رأس أبو زيد الهاللي تفو ..على هكذا رجال نظر إلى طبيب
العناية المشددة وقال كمن يتحدث عن بهيمة على وشك الموت :هل ..يعني..
أجاب الطبيب النحيل برصانة وهو كامد الوجه :رأسه أمرها تافه خمسة عشر غرزة
ونغلق تلك الفجوة ،المصيبة في ضغط دمه.
رف جفن الشرعي قليالً وتنحنح ،تابع الطبيب شارحاً :االنقباضي أربعة أما
االنبساطي..
ندت عن الشرعي :هممم! وأخذ يهرش لحيته التي يحتمل أن دبو اًر غزاها.
251
أوراق العدد المزدوج 02-91
أكمل الطبيب :بالكاد ُيسمع باألحرى يصفر ،وإذا ..قد ..أرجوك غادر ..رغم أنه..
ولكنه يسمع يستحسن أن تخرج يا ...شيخ كي ال تزيد األمر سوءا ..أنت بالذات
يجب ..أفضل ..إذا كنت تريده بالفعل أن ..إن شاء الله ستستجيب أقصد هو ..سأفعل
ما بوسعي.
تحولت الهممم إلى هوووف وقال بعد جهد :األعمار بيد الله سبحانه وتعالى حتماً هذا
يومه ما باليد حيلة هل نحن ..ال اطالقاً ..نحن ننفذ ال غير ..أنا لم ألمسه! هو
لوحده ..عمره انتهى..
ا قترب من الشيخ وقال بصوت خافت :يا عجوز انهض األمر كله نكتة ..هممم،
الزال ..حسناً سأسمع نصيحتك أيها الطبيب ،ال تقلب سحنتك واضح سأخرج ل ..لعنة
الله عليك يا ..الشرع هو الشرع.
في هذه األثناء وصل أمير الصحة إلى المشفى وشاع أمر الفتوى الجديدة ونتائجها
التي على ما يبدو إن استمرت ستكون كارثية على الجميع ،العجائز خاصة أي واحدة
منهن ستقول آآخ ،أبو مصلح وأمثاله هوووب إلى النهر مباشرة ،األمر سهل وغير
مكلف ..وحتى األسماك ستكون في غاية السعادة ،ال داعي لتصديع رأس البغدادي
ومفتيه ال ..القوم ينشرون اإلسالم مرة أخرى ويحاربون الكفار الذين خرجوا من أحشاء
التاريخ ،بل إنه انتحار مقيت حتى حرام وإذا حصلت الوفاة في البيت حيث المحارم
كثر تكون األمور حسمت من تلقاء نفسها ،هذا خير وألف خير.
كان وقع أقدام الشاب الثالثيني الممتلئ الجسم على األرض كالهزبر وقف في البهو
يتفرس في الجميع غاضباً :أين أبو قثاءة ..دلوني على أبو بطيخ ..أظهر يا دابة.
تناهى إلى مسمع الشرعي أسماءه الجديدة فكأنه خرج من جوف األرض ،وبقدرة قادر
أمام األمير وقال يبسم بتكلف :أمير هشام السالم عليكم ورحمة الله ..وصلتم..
251
أوراق العدد المزدوج 02-91
_ هممم ..الرجل من تلقاء نفسه سلت على األرض أنا لم ألمسه حتى هو لوحده قد
يكون هذا يومه ال ..تفرس فيه األمير وقال بغضب :أتعرف إذا فارق الحياة سأسلخ
جلدك ،وأربي فيك القرود السود ،يا حيوان كيف فعلت ذلك؟
عندما حنش األمير سرعان ما تحولت الـ سمعنا إلى توقعنا ،عندها زمجر األمير:
كيف توقعت أم اًر عارضناه نحن األطباء بشدة وأوقفنا تنفيذه فو اًر ،أي بومة لعينة حملت
إليك خبر هذه الفتوى ،المفتي فكر باألمر صحيح ،ولكن تراجع عنه ،أذا كان واحدنا
ال يستطيع أن يجري عمالً جراحياً ألحد أفراد عائلته ،نحن أطباء ولسنا ا
جزرين ،وال
نستطيع لمس من يخصنا ،منذ أيام كاد أحدهم أن يودي بحياة أمه عندما أجرى لها
عملية جراحية ارتعشت يداه أنخفض ضغطه كما حصل ما صاحبك ..وفي اللحظة
الحرجة أكمل العملية عنه صديق له ،وأنت بكل بساطة وببالدة دابة تنفذ أم اًر ..نحن
األطباء ال نتج أر على القيام به ،أتدري سأحشرك مع أحد أقاربك في تلك الغرفة في
يوم ما كما فعلت مع ذلك الشيخ لتدرك فداحة ما فعلت.
هربت أنفاس السبع األشر من صدره ،وكاد أن يذرف الدموع :ال أرجوك ..أنت قلت
أنكم ألغيتم األمر قبل نفاذه.
252
أوراق العدد المزدوج 02-91
الفراغ ...والكرسي
هيثم قطريب
ليس هناك إال الفراغ يملئ المكان ،حدقت في كل الزوايا والمساحات المتناثرة هنا
وهناك ،لم َار هيبة رجل مشلوحة على كرسي حين غادر المكان .وال رائحة العطور
فيستفذ بخور الذاكرة.
النسائية التي تمنح المكان أُنسه ُ
السيد في هذا المقهى هو الف ارغ .......يبسط جالله.
بدأت الدوران وكأني أبحث عن شيء ما ،في مكان أعرف أدق تفاصيله وخباياه ،وإذ
ُ
بكرسي واحد أوحد لم أره من قبل؛ إنه هناك في وسط المقهى؛ يريد أن يقول لي شيئا
ما.
جلت في المكان ألرى شيئا له معنى ،لم أجد سوى هذا الكرسي.
ُ
تحركت باتجاهه فبادرني بابتسامة ،ول َع ْت صبوتي وأعادتني الى سنين خلت،
253
أوراق العدد المزدوج 02-91
ابتسامة ترسل خطوط موسيقاها ليمتلئ المكان أماناَ ،ف ُهز كياني المتكلس الغافي منذ
أن ُلطمت بكف كربالء ومازال مستم ار على رقابنا ،حين فقدنا حنان األمومة فتحولنا
ون َقتل بال رحمة.
قتل َ
الى وحوش َن ُ
دنوت الى عمق المقهى وأنا استكشف عسى أن أجد رجال أو شبه رجل ليأخذ بيدي
إلى حيز ما أكثر أمانا ،لكن المسار يتجه فقط إلى هذا الكرسي الواحد األوحد.
صَّن َعنا
همس أعاد لي حنان االمومة مبعدا عني هذا البريق الذكوري المزيف الذي َ
بال قلب محب كريم.
همس شالني من حضيض حجب العفة المشوه إلى الهواء الطلق ألتنسم أكسجين
الحياة.
همس أنبت لي لسانا جديدا وجوانح أُخرى وقلب قوي عظيم يعرف كيف يصعد ساميا
فوق هؤالء الذين ال يرون إال حجارة الشارع وصوت عصا راعيهم.
أسرعت الى هدفي ملتصقا بالكرسي وبكل قوة الحنان غبت في نسيم الشفتين حين
سمعت تراتيل صفحات الصحراء البريئة ونقرات الهارب الفرعوني تنزع ما تبقى من
غبش علق على شراييني ،وداخلني تأوهات كليوبت ار بأنفها الملكي وهي تحضن
254
أوراق العدد المزدوج 02-91
اآلن ،اآلن فقط أرى ثغر كاسي يرتشف ثغر كاسي فينتفض قلبي العفوي تائها يعرف
الطريق في قلب هذا الكرسي الوحيد.
فصرت كأعمدة قرطبة وهي تغازل فجرها كل يوم ،وتمنح دفئها قباب أوربا الساكنة.
255
أوراق العدد المزدوج 02-91
صناديق االقتراع
منذ مغادرتي األخيرة للبالد قبل عشر سنوات ،تعتادني أحالم تتشابه في مضمونها
فجأة في سوريا ،ال أعرف كيف وتختلف في تفاصيلها .في كل حلم ،كنت أجد نفسي ً
أم َن الجو أم من البحر أم من البر؟ أحياناً أجد نفسي ذاهباً إلى بيت هبطت إليهاِ :
ُ
مغادر نقط ًة ما في سوريا ،إما
اً أهلي في ريف الرقة الشرقي ،وأحياناً ال أرى نفسي إال
مطار دمشق .وفي كل مرة كنت أتساءل بذعر شديد :كيف َ مطا َر حلب وإما قاصداً
إلى وطني كاللص ولم ينتبه إلى دخولي ُحماةُ الديار؟ تسللت
ُ
هل سيعتقلونني في المطار بتهمة الدخول إلى البالد بصورة غير شرعية أم سأتسلل
منها كاللِص كما دخلتُها؟ وفي كل مرة ،كنت أستيقظ بعد هذه التساؤالت المرعبة،
فتضع اليقظة ًّ
حدا ألحالمي المخيفة.
256
أوراق العدد المزدوج 02-91
باء ِ
لفتت انتباهي كثرةُ صور المرشحين ،لكني لم أعرف منهم إال اثنين .كانت الكهر ُ
صناديق بأحجام متفاوتة ،وكانت أك َبر
َ أيت في ِش ْبه الظال ِم
محدودة .ر ُ
ً مقطوع ًة ،والرؤي ُة
كل واحد
من صناديق االقتراع التي نراها على شاشات التلفاز في بقية العالم .كان ُّ
منها موصوًال بفيش كهربائي في الجدار فوق الصندوق ،كما يتصل بخرطومين يتدليان
من حنفيتين بارزتين أيضاً من الجدار .كنت أنتظر دوري ألمارس حقي ،ونفسي تُ َس ِول
عرفت صورتَْي ِهما – كنت قد سمعتُه في
ُ لي أن أنتخب رجالً – أحد االثنين اللذين
ذات يوم بكل شفافية وصراحة تليقان بمرشح رئاسي جمهوره َ
َ مقطع ڤيديو يخاطب
غصبا عن شواربكم!"
ً ئيس سوريا القادم
عربي" ،أنا ر ُ
مارس المسافرون الذين أمامي حقهم بكل حرية وديمقراطية في ظل البنادق ،ثم غادروا
فجأة رأيتها تندفع نحو أحد "صناديق ً إلى الطائرة .لم يبق أمامي إال سيدة ُم ِسَّنة.
ِ
الديار عفشتموها ،يا أوالد الحرام!" َّلقم حماةُ
االقتراع" وهي تصرخ" ،هذه َغسالتي التي َّ
قفزت ألنبطح على األرض لعلي أحتمي بها من و ِ
ابل ُ َبواريدهم َّ
وسد ُدوها نحوها.
َ
بلمح البر ِق – على جانب السرير.
هبطت ِ
ُ ِ
الرصاص.
257
أوراق العدد المزدوج 02-91
دفــــــــا
تعثر فريد بشخص نائم فوق الرصيف وبكيس قمامة كبير بلون الظالم .صعد األدراج
مستنداً إلى الجدار حتى وصل إلى الطابق الرابع..
نظر إلى "صندوق الحريق" فرآه فارغاً .أعتاد فريد على جمع أي مادة حارقة من ورشات
َ
الخياطة والنجارة؛ حتى كان يجمع أطباق البيض الكرتونية الفارغة من معامل
الحلويات ،يضعها في ذاك الصندوق؛ ليشعلها فيما بعد بدالً من المازوت المفقود.
258
أوراق العدد المزدوج 02-91
أمسك كتاباً عن التنمية البشرية ورماه طعاماً شهياً للنار التي أخذت تكبر .ضحك فريد
لرؤية المدفأة تضحك مجدداً في بيته .أفرغ مكتبته الصغيرة التي صنعها أيام الجامعة؛
وراح يرمي الكتاب تلو اآلخر في النار كهوالكو…
أخرج ألبومات الصور ،وراح يضحك مع بعض الدموع التي لمعت في جحر عينيه.
أهدى ذكرياته وطفولته ثمناً للدفء…
أحضر ثياب أمه التي مازالت معلقة في الخزانة الخشبية؛ وأحضر الخزانة أيضاً ،ثم
لونهم جميعهم بلون النور…
راحت األشياء تعانق النار طلباً للدفء ،طلباً للحياة مجدداً؛ بينما كان فريد يرقص
كالمجنون فرحاً مستمتع ًا بكل هذا النور والدفء… فتح باب الشرفة وصار يصرخ
"دفاااا ..دفاااا" ليجمد في مكانه مبتسماً ابتسامة طفولية.
كانت النار تخرج من معظم البيوت ،من كل الشرفات ،كانت المدينة منيرة جدًا ،دافئة
جداً ال من الشمس التي استيقظت للتو .كانت المدينة تحترق ،لكنها دافئة ،كما كانت
من قبل "محترقة ودافئة" لكن بصمت!…
كالغري -كندا
259
أوراق العدد المزدوج 02-91
عضه الكلب
السائق الذي ّ
محمد صالح العجيلي
أبو عبود سائق في مديرية مالية الرقة ،يعمل على سيارة تنقل الجباة إلى االرياف
لتحصيل ضرائب المالية من أصحاب االغنام ،ما يسمى بـ القوجان*.
ذات يوم أخذ الجباة نحو قرى البادية البعيدة ،هناك حيث موسم قص صوف المواشي.
وكان غالبية مربي االغنام ،يرسلون أصوافهم إلى المدينة لبيعها .أراد أبو عبود شراء
صوف من إحدى العجائز ،وقد أوعدها أن يدفع ثمنها في المرة القادمة ،حينما يعود
إليهم ،في جولة جديدة.
غاب أبو عبود عن البادية ،أكثر من شهرين .وذات يوم ،ذهبت سيارة جباية المالية
إلى البادية ،ولم يكن السائق أبو عبود ،فسألت العجوز عنه ،فما كان من السائق اال
ان قال لها ممازحاً :أتدرين يا حجة ،أبو عبود مريض شافاه الله وعافاه ،ادع له
بالشفاء .قالت :مابه (يا سواديني*) قال قد عضه كلب منذ عدة أيام ،وأصيب بداء
الكلب ،وهو جالس في بيته (يعوي ويكخ) على كل من يقترب منه .صاحت العجوز
وقد ساءها الخبر ،وهي تنادي ابنتها فاطمة ( :يا ويلي يا فطيم ..راح حق الصوف
يابنيتي ..راح حق الصوف).
أخفى السائق ضحكته عنها .وحين عاد إلى المدينة ،أخذ يقص على أبو عبود ما
جرى بينه وبين العجوز ،صاحبة الصوف .وحدثه عما ما قالت ،لذلك طلب أبو عبود
من المدير أن يذهب في الجولة القادمة مع الجباة ،كي يدفع للعجوز قيمة الصوف
الذي تأخر به عليها كثيرا .وفعال كان أبو عبود في أول رحلة نحو البادية ،ليلتقي
بائعة الصوف .حين وصل الصحب إلى القرية ،توقفت السيارة عند بيت العجوز،
261
أوراق العدد المزدوج 02-91
ترجل الجباة منها ،بينما ظل أبو عبود في كرسيه .قال رئيس الجباة مخاطبا العجوز:
ها نحن أحضرنا لك أبو عبود يا حجه .صاحت من بعيد (هال بيكم ..الحمد لله على
السالمه خيي أبو عبود ما على قلبك شر).
تصنع أبو عبود التجهم ،وعدم االكتراث بها .قالت مابه ..ألم يشفى بعد؟! قال أحدهم:
بلى شفي ..لكن بقي فيه بعض اآلثار الطفيفة .وما أن اقتربت من السيارة ،حتى قام
أبو عبود بحركة غريبه منه أخافتها ،فابتعدت عنه.
بقي أبو عبود في السيارة ينظر إليها ،وقد فتح عينيه على وسعهما ،ومد لسانه مغالبا
أنفاسه .فدب في قلبها الرعب من جديد ،وهي تراقبه وتقول :ألم يشفى بعد ؟! لكن أبو
عبود لم يعد يتمالك نفسه ،فانفجر بضحكة عالية مجلجلة ،وتبعها منادياً :تعالي
ياحجة ..تعالي ،ليس بي شيء والحمد لله ،فقد كان الشباب يمازحونك حينما قالوا لك
أنني مريض وقد عضني الكلب ..
ترجل من السيارة ،واقترب منها ،وقد ارتسمت على وجهه بسمة صافية ،وهو يقول:
اخسا عليك يا حجه أم فاطم ..حين قال لك الشباب أنه قد عضني الكلب ،أما كان
حرياً بك أن تقولي شافاه الله وعافاه ،خير من أن تبكي على ثمن الصوف ..هذا حقك.
ودفع لها ثمنه .راحت الحجة تعتذر ،لكن دون جدوى ،إذ راح أبو عبود ُيصر على
العتاب وهو يردد :باطل يا حجة باطل!
* ياسواديني :دعاء تدعو به العجائز في حال اإلشفاق على احد او الحنان عليه.
261
أوراق العدد المزدوج 02-91
ماجد عاطف
كانت الدورية من الطراز األمريكي الحربي ،ذات األضواء الواسعة الكاشفة ،تالحقه.
الجندي من على كوة السطح يطلق النار يحاول اصابته .خرقت صلية من الرصاص
الزجاج والبدن ،لكنها لم تصبه .واصل القيادة .توقع أن تنضم دوريات أخرى ،فلم يكن
له بد من االنعطاف إلى الطريق الترابي ،الفاصل بين حدود "المناطق" ،والذي يمر
عبر التلة والحرش ،ملتفا حول الشارع الرئيس .الظالم مطبق على الطريق المترب لوال
مخروطي الضوء ،والعتمة تلوح كأشباح في ظالل السرو والصنوبر .تأخرت الدورية
عنه ،كأنها تخشى من كمين.
لم يفعل شيئا ،لكنه هارب .تشاجر مع صاحب المسلخ ،وكل ما في األمر أنه احتج.
كان الخالف على من يتحمل مسؤولية التقطيع الخاطئ (أو المتعمد) ،للنعام والحبش.
حاول أن ينفي مسؤوليته ،ألن معظم عمله في التغليف والتخزين وناد ار جدا ما يذهب
إلى ركن التقطيع .لمع في رأسه أكثر من احتمال ،لكنه لم يقبل أن يحملها لغيره .أحس
أن ثمة شيء في األمر كله مفتعل .كانت لديهم كامي ارت وال يحتاجون لسؤاله .موقفه
واضح :االتقان في العمل مقابل األجر ،لكن ليس التدخل في العمال أنفسهم .هذا ما
عمل عليه طوال شهور في العطل.
لم تسر األمور كما يجب .عرفة الذي شغله بنفسه ،منذ البداية ،كان يرى أن يأخذ
فرصته في العالقة مع صاحب المسلخ .إنه يراهن على لغته العبرية والمجامالت
والتزلف والتبادل الخفي .يحسب أن اليهودي يكترث لشخصه .كان ال بد من وضع
262
أوراق العدد المزدوج 02-91
الحدود .العالقة اضط اررية وليست خيارا ،وتحتاج إلى ضوابط .وهنا نشا الخالف
بينهما.
لو كان ممكناً ،فالعمل لديهم مرفوض .يجب رفضهم ورفض اقتصادهم كله .لكن الناس
لديها م سؤوليات وحاجات وربما طموحات ،واألجرة المتدنية المحلية ال تكفي .وعندما
يرى أحدهم كيف تتم الصفقات في السياسة ،فتصبح شريحة من (المناضلين) أصحاب
حسابات وشركات وعقارات ،وكيف يفرض السماسرة المختلفون أنفسهم جانين األموال
على حساب الناس ،وكيف يتلون التجار والموظفون ،...يكفر بكل االدعاءات ،ويجد
نفسه مضط ار للعمل عندهم ،والتعامل مباشرة مع المصدر.
حلوا مشكلة مئات االالف من المنتفعين الذي تغلغلوا ،على حساب ستة ماليين.
أحس أن سعيه الخلفي للتوصل إلى تفاهم بين العمال يبقيهم منسجمين ومرتاحين
ومنتجين ،قد بلغ..
إما أن يعرف من أحد العمال أو (مرِاقب) عربي .األخير يفتح االحتمال على مهمات
اجتماعية لـ (المراقبين) ،وليست سياسية أو أمنية.
263
أوراق العدد المزدوج 02-91
نظرات ذي الجدائل اختلفت ،إنها متوجسة عدوانية مرِاقبة .عندما يمر إلى جانبه دافعا
العربة يشحذ السكين ويذبح بقسوة .ويناديه ،ليكلفه بالنفايات ،مع أنها مهمة غيره .وقد
يصرخ عليه دون سب ليتدخل عرفة و(يحل) المشكلة.
لم يكن هنالك أي بعد سياسي وال حتى نقابي إلنشاء ضغوط تحسن ظروف العمل.
لكن عرفة وقف ضده .إنه من مدينته نفسها ويعمل إلى جانبه ،في البرادات .لم يستطع
فهم دوافعه بالضبط .شخصيته غريبة :صغير الحجم قليل االنتاجية ،يسعى للتميز .قد
يخطئ في عمله وغيره يتحمل عنه ،لكنه يغطي على أخطاء غيره كذلك ويستغلها.
ثم اكتشف أن له عالقات مع النقابة المحلية التي هي حركية وال تستطيع فعل شيء
بحكم السياسة والقوانين .أما الهستدروت فاللجوء إليها أسوا..
تحول العمال إلى مجموعة من الكائنات المتوجسة الحذرة التي تتنافس وتصعد على
ظهور بعضها وتستغل نقاط الضعف .عرفة ماهر في هذه المعادلة.
أتى مرة مقترحا ترتيبا يعمل بموجبه فقط على البرادات .أزعجه أوال أن يرتب انه امتلك
صالحية ،ثم صحيح أن (الترتيب) مريح له شخصياً ،لكنه يعني فصل عامل لديه
أسرة ،فرفض.
دون أن يؤدي وظيفته جيداً في التحميل والتنزيل (ما يدفع غيره لفعل هذا) ،بنى صيت ًا
عند العمال من النوع العجيب :بين التواطؤ واالبتزاز والتنفع .الجميع يكرهه والجميع
يهابه والجميع مضطر للقبول به.
جاء األمن واحتجزه في غرفة جانبية .احتج وصرخ ودق الباب على أمل أن يخرجوه
أو أن يتضامن معه أحد فيضطرون .بنو جلدته ،على عادتهم ،ما بين شامت وخائف
وجاهل .ال مبرر لالحتجاز.
264
أوراق العدد المزدوج 02-91
حاول ان يركز في حادثة الحبش والنعام .كان التقطيع بعيدا عن المفاصل ونوعا اللحم
متداخلين .ذو الجدائل بربر بشأن حرمة الرب القومي .صاحب المسلخ تحدث عن
القانون .عرفة الذي ترك شاحنته دعا إلى "البشويش بشويش" ولعله يتدخل ليتهرب من
العمل ،هذا إذا لم تكن له هو عالقة به .لديهم كاميرات ويستطيعون تحديد المسؤول
مباشرة.
فتحوا الباب بسرعة ،وبدا عليهم الجنون .في طريقه للخارج ،حيث يجهل ما ينتظره،
رأى التوتر والتململ على وجوه العمال .االضطرار سرعان ما يزول عند أول عودة
للنفس أو زوال السبب .ولما رأى مصباحي الدورية الضيقتين ،عرف ما ينتظره .إنها
الشرطة .ارتد إلى األصل ودفع أحد رجلي األمن فأوقعه أرضاً وتملص .ركض كيفما
اتفق .ساعة كاملة وهو ينتقل من اتجاه شارع إلى آخر ،ومن سور مصنع إلى مدخل
سوق .ساعده الليل .ثم سرق سيارة وتمكن من تشغيلها .عندما اكتشفوا أمره ،لم تكن
الدورية ذات األعين الضيقة هي التي تالحقه ،بل الواسعة.
عند نهاية التلة واول حدود "المناطق" الفاصلة ،الحظ وجود حاجز مرتجل وسيارت
شرطة محلية .نسقوا فيما بينهم ،وأطبقوا عليه .لم يعد استعمال السيارة ممكنا .فأوقفها
وترجل.
ثم حدث شيء غريب ،كأن كل ما حدث له إنما رتب ليصل إلى هذه الغاية بالذات:
الدورية الحديثة من خلفه متوقفة ال تتقدم وال تطلق الرصاص ،وسيارة للشرطة المحلية
موجودة أمامه تنتظر ،فتحت له الباب الخلفي ليدخل بنفسه .قد يضطرون فيسلمونه
للسجن ،وقد يتفقون فيسجنونه .األمر ال عالقة له هو به.
كان ثمة أضواء برتقالية متجمدة تحذف الجانبين ،األراضي المكشوفة ،عن بصره،
وكان الزمن صامتا ال يتنفس ،أما من األعلى فسقف ال نهائي يأخذ الوجل.
265
أوراق العدد المزدوج 02-91
يستطيع كالهما أن يفعل ما يشاء به ،لكنه يرفضهما معا .األمر لم يعد حادثة أو جناية
أو صوابا وخطأ .ودون أن يفكر في احتمال أن يطلق عليه أحدهما النار أو يعتقله
رغماً عنه ،مشى بهدوء وتجاوز باب السيارة المفتوح له ،عائدا إلى بيته .سيكون مفيدا
له أن يمشي على قدميه..
266
أوراق العدد المزدوج 02-91
بارليف الشمالي
9
بات النهر الذي ُهجن بفرع من نهر الفرات ،والذي يخترق حلب من شمالها باتجاه
جنوبها ،فاصالً حدودياً بين شرق المدينة وغربها ،بين الثائرين والموالين ،بين فقراء
الحرية والكرامة وأغنياء الجشع والطمع والتسلط .ينشط الذاهبون إلى الغرب صباحاً
مساء ،حين يبسط الليل جناحيه ،تتوقف الحركة ،وتبدأ ويزداد عدد القادمون إلى الشرق
ً
لعبة التسلل والترقب على الثغور.
بات النهر مقطعاً بمعابر ،لكل معبر اسم ،أطلقت على معبري اسم بارليف الشمالي،
اقتل من أشاء وأنقذ من أشاء ،إنها لعبة
اآلمر الناهيُ ،
ُ أنا اليوم سي ُد هذا المعبر،
األلوهية .بدأت أفهم فرعون والملوك واألباطرة ،متعة تملك الحياة ال تقارن وال توصف
وال تشرح ،تحتاج إلى التذوق.
العم نعسان والد سحر ،يوم ذهابنا لقطاف الزيتون في بستانه القريب من مدينة
أتذكر َّ
عفرين ،صادفت مناسبة تشرين ،فحدثنا عن الساتر الترابي المعروف باسم خط بارليف
نسبة إلى "حاييم بارليف" القائد العسكري اإلسرائيلي الذي تولى قيادة سالح المدرعات
أثناء العدوان الثالثى على مصر عام ،2616وتكلف بناء الخط الدفاعى حوالي نصف
مليار دوالر.
267
أوراق العدد المزدوج 02-91
حدثنا كيف هزمت الهندسة المصرية هذا الخط ،شرح لنا كيف طرح المهندس المصري،
اللواء باقي ذكي يوسف ،فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في خط بارليف،
والتي ُسجلت كبراءة اختراع ،وأصبحت تُدرس في الكليات والمعاهد العسكرية على
ذلك اليوم قررت أن أصبح مهندساً مكيانيكاً ،شجعني العم نعسان وقتها ،كان مشغوالً
بكتابة كتابه عن قرى الشمال السوري ،بينما كنا (شلة) الثانوي ُنشارك سحر وأهلها
قطاف الزيتون .كان من الشلة أخوها خليل الذي غرق في البحر أثناء محاولته اللجوء
إلى أوربا عبر تركيا ،وحسام الذي بات اليوم على رأس مجموعة تقمع الثائرين.
كان العم نعسان والد سحر وخليل مدرساً للجغرافيا ،كان شيوعياً في شبابه ،اعتزل
مبكر ،وكنا نسعد بحديثه الجميل عن التاريخ والسياسة ،وعن كفاحه.
اً العمل السياسي
مات قبل سنوات ،ال أعتقد إنه أتم كتابه عن قرى الشمال ،مثلما لم يقدر أحد منا على
إتمام تعليمه ،هناك من فشل في الحصول على الشهادة الثانوية ،وهناك من نجح
بدرجة لم تمكنه الدخول في أي فرع من فروع الجامعة ،ما عدا خليل الذي درس
االقتصاد ،وسحر التي تصغرنا بعامين التحقت بمعهد المعلمين.
كنت في مكتبي القريب من المعبر حين رأيتها ،كانت وحيدة تتقدم بخطوات بطيئة
تمسك بيد طفل في السابعة .كانت تعليماتي للعناصر واضحة .ال مخلوق يمر بعد
صالة المغرب .وكان آذان المغرب قد مضى عليه عشرون دقيقة حين اقترب مني
مساعدي وقال:
الحب الذي
ُّ أعرف (سحر) ولو من بين ألف امرأة .لو كانت متدثرة بمئة غطاء ،هو
ُ
الذليل وإن كنت سلطان عصرك ،وأنت
ُ سلطان لك عليه ،يقلبُّك كيفما يشاء ،أنت
َ ال
268
أوراق العدد المزدوج 02-91
المكرُم وإن كنت تحت سيف جالدك ،ثمانية أعوام مضت ،لم أنس صورتها ،نفسها،
أنس
ضحكتها ،مشيتها .كانت تدنو مني وتدلل ،تطلب فألبي سعيداً ولو على دمي ،لم َ
يوم طلبت مني التبرع بدمي ألخيها ،يومها كنت سأقدم كل دمي بفخر واعتزاز.
كانت تقف على الطرف اآلخر ،تمسك بالطفل بيدها اليمني وتحمل حقيبة بيدها
اليسرى.
في حاالت الحرب تفقد كل المشاعر ،تنقلب كل المعارف ،ال تثق حتى بالسالح الذي
بين يديك ال تعرف متى يخيب ظنك ،تستعصي رصاصة فتكون القتيل بدل القاتل.
إنها معركة ال خيار لنا فيها ،وال مجال لك اال الخيار ،الهرب أو القتال أو االستالم ال
خيار رابع ،قلت لمساعدي:
-حسنا دعها تعبر ،وأرسل معها بعض الشباب حتى تصل بيتها.
كنت أعلم أنه ال سرافيس بعد المغرب .تنسحب الناس الي بيوتها أو مخابئها ،تنتظر
الصباح أو الموت ،كان الليل أشد وطأة من النهار ،أصوات المدافع كالعقرب ال تعرف
متى تلسعك ،في النهار ترى الطائرات تعرف على األقل مكان تدميرها .هرول مساعدي
إلى نقطة العبور وتحدث معها ثم عاد مسرعاً وقال وبلهجة فيها خبث:
الحب ،ال يموت وال ينام ،كالطنين المستمر يبقى في رأسك ،تحاول تجاهله بالموسيقى
أو الضجيج ،وما أن يسود السكون يظهر ويعكر صفوك .لم أجرؤ على تجاهلها،
شعرت بسطوتها كرب العمل ،مهما عال شأنك ،فأنت تقف أمامه متلعثماً ،ثمة صوت
خفي يدفعني أن أجرجرها ،أجردها من مالبسها واتركها للعناصر الجائعة ،كم كنت
أحلم ذات يوم أن أفعل بها ذلك حين قررت التخلي عني ،والزواج من حسام ،هي
269
أوراق العدد المزدوج 02-91
اختارت حسام ،مع أن والدها رفض حسام ،وكذلك خليل أخوها الذي يربطني معه دمي
الذي قدمته له ذات يوم.
كانت سحر تشاركنا النقاشات ،تعزف على العود وتغني مع أخيها خليل ،حفالت رأس
السنة كان لها مذاق خاص في بيتهم ،لكنها اختارت حسام ،كانا أكثرنا جداالً ونقاشاً،
وكثير ما انتزعت الجلسة األسبوعية بسبب صدامهما ،وكان أثر صاعقة ارتباطها به
اً
كبير جداً.
لم نكن نصدق ،حسام الذي قرر ترك الشلة فجأة بعد آخر اعتقال للعم نعسان .مسكين
العم نعسان ،لقد اعتزل الكالم وتفرغ للكتابة بعد خروجه من المعتقل ،وذلك بعد سبعة
أيام من انتفاضة آذار ،1114كنا مع خليل وأحمد الذي انضم إلينا نتحدث عن
ضرورة الهجرة إلى مكان يحترم اإلنسانية.
الخبر الصاعق كان في ربيع ،1111اجتمعنا مرة أخرى في بيت العم نعسان كما كنا
من قبل ،كنا سعداء ثمة تغير سيحدث ،بالدنا ستكون أجمل ،ولكن العم نعسان كان
صامتاً ،وحين أردنا التحرش به ،سألناه عن كتابه أين وصل؟ ابتسم وقال "عفرين
وحدها ثالثمئة وخمسين قرية ،كل قرية حكاية ،تحتاج إلى كتاب ،ما بالك الشمال
السوري؟".
كان خليل قلقاً أيضاً .وكان أحمد وجميل الذي التحق بنا مستغربان من سحر .في
آخر جلسة – توقفنا بعدها -كنا نرقب سحر ،سحر التي دخلت بشكل آخر .سلمت
باقتضاب ثم قالت" اعتذر منكم لتأخري ويعتذر حسام عن الحضور"ُ .بغتنا ،حين سمعنا
اسم حسام الذي ترك الحي وانتقل إلى غرب المدينة ،سألتها" :حسام الذي نعرفه؟"
ابتسمت وهي تشير إلى الخاتم في يدها:
271
أوراق العدد المزدوج 02-91
كلهم يعرفون طبعي ،ال أغضب بسرعة ،ولكن إن غضبت ال أهدأ بسرعة ،لكن ذلك
اليوم كان التحول األكبر في حياتي ،تحولت لبركان ،صفعتها وخرجت من المنزل دون
رجعة ،ثمانية أعوام مضت ،سمعت وفاة والدها بعد عامين ،لم أحضر الدفن وال العزاء،
قاطعت كل صديق كان يذكرنا بهم ،حتى خليل دمي الذي يسري في شرايينه لم أعد
أكلمه ،كان خبر زواجها قنبلة مزقت قلبي.
مع هبوط الليل ،تنقلب المدنية إلى وكر عقارب ،وتبدأ مدافع النظام تلسع ،فأمرت
مساعدي:
0
عدت إلى مكتبي ،كانت غرفة حراسة في مصنع قديم تم قلعها وجلبها إلى هنا ،تحوي
ير حجرياً ،جلست على الكرسي ،ال أعرف ماذا أفعل .هي
الغرفة طاول ًة وكرسياً وسر اً
اآلن في غرفة المراقبة ،تنتظرني ،معها طفل في السابعة وحقيبة ،نظرت إلى سريري
الذي ارتاح فيه لساعات أو دقائق ،نعم أكثر من مرة فكرت فيها ،أتذكر تلك الليلة
التشرينية ،يوم قطاف الزيتون ،كيف جلسنا معاً في غرفة طينية ،سحر وخليل والعم
نعسان وزوجته عدلة وحسام .كيف الكل نام وبقيت انتظر سحر التي أومأت لي أال
أنام ،كيف انسحبت من مكاني وتبعتها لخارج الغرفة الوحيدة ،جلسنا تحت شجرة كبيرة،
قبلتني فلم أعد أشعر ببرودة الطقس ،لم أشعر بالكون ،كنت متحداً معها ،كانت دقائق
ساخنة كحبات الزيتون المطعمة بدبس الرمان ،كان نهداها كرمانتين لم ينضجا بعد.
271
أوراق العدد المزدوج 02-91
دخل مساعدي بأدب وسأل "هل أجلبها إلى هنا؟" عبست في وجهه ونهضت متجه ًا
نحو غرفة المراقبة ،ندم مساعدي ال شك ،كلمة جلب جارحة ،هو معذور ،ال يعرف
تاريخنا ،نحن ال نعرف تاريخ بعضنا البعض ،ال وقت لذلك ،جمعتنا الحرب ووحدة
الهدف ،في الحرب األولويات تختلف ،تختلف القواعد ،األوامر تكون أشد صرامة وأكثر
دقة.
حين دخلت غرفة المراقبة ،كان عنصران يحاوران الطفل ،كان يجيب بح اررة ،وكانت
تراقبهم بخوف مغطى بالفرح ،لم أر في عيني سحر (سحر) التي أعرفها ،نهضت مع
نهوض العنصريين ،خاف الطفل ،ابتسمت في وجه الطفل الذي حضن أمه وأغمض
عينيه.
حز في نفسي المشهد ،كان األطفال يبتسمون حين رؤيتي ،اليوم يخافون ،إلى هذه
الدرجة تغيرنا ،الحرب تغير النفوس واألشكال ،تُكبر اإلنسان ،تُغير شكله .أغلب الذين
أعرفهم فقدوا الكثير من أوزانهم ،أسودت وانتفخت جيوب عيونهم ،شحبت وجوههم.
كانت أنيقة كعادتها ،فقط وضعت غطاء على رأسها ،وبعض الخصالت المتملصة من
الغطاء يدل على تمردها ،راقبت يدها لم أجد خاتم الزواج ،كان الخاتم الفضي المطعم
بالياقوت يزين سبباتها ،كانت هديتي لها قبل اسبوع من اعتقال والدها ،ال زالت تحتفظ
به إذا ،جلست على كرسي حديدي قريب منها ،كانت العيون األربعة تتكلم ،قالت:
كانت تقول لي أنها تفهم لماذا أطلقت على معبري بارليف ،وكانت تحاول أن ال تظهر
أنها ما زالت تحبني.
272
أوراق العدد المزدوج 02-91
-ابنه؟
-من تقصدين؟
-لو يعرفوا من أنت لما خرجت حية ،لماذا أتيت؟ وهل يعلم ما تقومين به؟
-ال يعلم .ربما عرف اآلن ،لقد هربت ،إنه طفلي ،ال أريد له الحياة هنا ،أنت تعرفني.
-أي دين؟
طبع حسام الوصولية .استفاد في فترة التسيعنات موجة قدوم مواطنو الجمهوريات التي
انفصلت عن االتحاد السوفياتي بعد انهياره للتجارة ،وكان له أصدقاء كثر من األمن
والمخابرات ،استطاع خالل فترة قصيرة من بناء شبكة عالقات مكنته دخول عالم
273
أوراق العدد المزدوج 02-91
العقارات ،وبات من أعيان المدينة الجدد ،إلى أن بدأت الثورة فتحول إلى أشد القامعين
للحراك الثوري.
رجعتني مداعبة أناملها لرأس الصبي إلى جلساتنا الخاصة في منزل والدها يوم مرض
خليل واحتاج لدم وكانت زمرتي من زمرته أو سلبي.
-خليل؟ لم أره.
-نعم يعرف أنك اآلن مسئول عن هذا المعبر ،لذلك عليك اإلسراع في تأمين مكان
لي ،وإيصالي إلى تركيا.
كان معبري مدعوماً فهو أهم معبر وآخر معبر شمالي المدينة ،كان عدد الثوار
ال .ولكن هذه المرة كنت أكثر قلقاً.
يتضاعف لي ً
274
أوراق العدد المزدوج 02-91
طلبت من عنصرين مرافقة سحر وابنها إلى بيتي السري القريب من هنا ،وكانت ثمة
منازل عشوائية فتحت على بعضها البعض كطريق سري ،ينتهي إلى شارع فرعي حيث
بيتي.
رفضت سحر .قالت بأنها لن تتحرك خطوة من دوني ،لكني كنت حازماً فقلت:
أمسكت سحر بالطفل وحمل العنصر حقيبتها واتجهوا نحو الطريق المؤدي الي بيتي.
3
كانت التحركات مثيرة في الجهة المقابلة ،لم أعتد عليها منذ فتح هذا المعبر ،طلبت
من مساعدي طلب تعزيزات .وبعد أن اتصل ،أخبرني بمجيئ أبي الليل.
نادر ما يأتي (أبو الليل) ،بل ال يأتي ،وإنما يرسل عناصره ،فهو مشغول مع القيادات
اً
العليا هو ضابط االرتباط ،حضوره يدل على خطورة األمر ،دقائق معدودة وحضر أبو
الليل ،كان كما هو ،لحية طويلة ،لباس أسود ،ولوال لمعة أسنانه السليمة البيضاء لكان
كثير ما
متحداً مع الليل ،لهذا هو أبو الليل ،وكان هذا لقبه منذ مراهقته لسواد بشرته .و اً
كنا نقول عنه (جميل) األسود .كان آخر من التحق بشلتنا ،وأول من التحق بالثورة،
ومن السباقين لرفع السالح دفاعاً عن منطقتنا .كان أكثرنا حماساً للتغير بالسالح .كان
مهندس التفجيرات الليلة في محالت الشبيحة في منطقتنا.
لمعت أسنانه حين وصل ،ضحكته مرعبة ،اقترب وصافحني كمن يعزي صديق ،سألته
مستفسر عن وضع أهلي ،هز رأسه نافياً ،وسأل العناصر إن كانت
اً عن سبب قدومه،
هناك إشارات تدل على الهجوم؟ فأشاروا بالنفي ولكن التحركات اليوم أكثر من
السابق.
275
أوراق العدد المزدوج 02-91
قادني جميل الذي كان أصغر الشلة إلى مكتبي ،في الحرب القيادة لألقوى ومن غير
الشباب ،هو الذي عيني قائداً لهذه النقطة .كنا (شلة) شهادة الثانوي ،لم يتقدم أحد منا
للجامعة كما ذكرت ،انشغلنا في أمور أخرى ،كان لكل واحد منا مهنة يكسب منها،
وكان أبو الليل يملك مصنعاً يدوياً لصناعة البطاريات ،كان مؤمناً بالفكر اليساري،
تخلى عن ذلك مع انهيار جدران برلين .انقطع عن جلساتنا وتحول إلى جماعة صوفية،
إلى أن بدأت الثورة .كان يمقت الظلم ويكره المخابرات ،أذكر مرة كيف سحق رجل
ادعى أنه عنصر مخابرات في حارتنا ورغب التعدي على ابنة أرملة سمعتها لم تكن
جيدة ،كان زعيم حارتنا ،كل من يدخل الحي يعرف من هو أبي الليل ،وهو اليوم سيد
منطقة.
دخلنا المكتب ،كان من عادته إرسال قوائم المطلوبين ،كنا نقبض عليهم ونسلمهم له،
سألته هل من قوائم جديدة؟ نفى ثم جلس على السرير وطلب مني الجلوس قربه ثم
قال:
-اتصل بي.
-من؟
-أبو المجد ،كل شلة الثانوي تعرف حكايتكما ،لو سألت أي ساكن في الحارة سيقول
لك :عبد المجيد يذوب عشقاً بسحر ،وأنه لم يتزوج وإن وصل الثالثة والثالثين ألنه
يعشق سحر.
غببت نفساً عميقاً من السيجارة ،وأصغيت له ،فعلمت بأن حسام حصل على رقم أبي
الليل من أحمد ،وأنه على علم بتحركاتنا ،وهناك من يوصل له األخبار ،ومن ثم سألني
عن سحر ،فأخبرته ما حصل ،سألني:
276
أوراق العدد المزدوج 02-91
-ماذا نويت؟
-ماذا تريد مني أن أفعل؟ طبعاً لن أردها ..من الطبيعي تلبية طلبها.
كان يتصبر ،ال بد أنه اتخذ ق ار ار وسينفذه ،ولكن الرابط الذي بيننا جعله في هذا الوضع
فقال:
-أبو المجد ،حسام يطلب اعادتها ،وإال سيتحول الضغط إلى هنا؟
هنا نفذ صبره ،وارتد إلى وضعه القائد وقال بلهجة بآمرة:
-لقد طلبت من العناصر احضارها من بيتك وسأرسلها فو اًر إليه ،ال يهمني وضعها،
يهمني ما نحن فيه ،قضيتنا أكبر من قضيتك الشخصية ،وهذا المعبر يسمح آلالف
الناس الهروب من جحيم النظام وشبيحته ،ال نريد أن تسقط بوادبست بارليفك الشمالي
ونحرمهم.
ال مباغتاً بكل تأكيد ،جلس على حافة الكرسي ،أطرق قليال ثم أخرج علبة
كان سؤا ً
التبغ وأشعل سيجارة وبدأ يعب من دخانها بأسلوبه المعروف حين يفكر في أمر هام،
يسحب عدة سحبات دفعة واحدة ،يبلع نصفها ثم يخرج الباقي من منخريه.
ليلة النفعية هي الليالي الشهيرة التي شهدت نقاشا طويالً بين أفراد الشلة ،كان حسام
يؤكد بأن عصر اليوم هو عصر الفلسفة األمريكية ،وأن النفعية هي المحرك اليوم.
277
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق النصوص
278
أوراق العدد المزدوج 02-91
ابراهيم الخليل
الرقة
الطريق إلى َّ
الرقة التي على الفرات /تخرج من عباءة العجاج أنثى /ووردة من دم..
*هي َّ
279
أوراق العدد المزدوج 02-91
انصفق الباب..
والضحكة بكاء..
هو دير مار زكا /صوت مريم /يرتل الحزن خب اًز للجائعين..
موالي ِ /
اسق العطاش..
أناشيدك ُس ْكري..
والعقل طاش..
*عرق /سمك /أنثى /وآثار أقدام على رمل الضفة /تركته قدماك المعبودتان..
281
أوراق العدد المزدوج 02-91
*ياكوبي الحيران أمام الشيخ والمريد /هذا السمك والعرق عشاؤنا األخير..
وعيون األطفال /تهمي دماً ساخناً /في هذا البرد على الوسائد..
281
أوراق العدد المزدوج 02-91
وهذا العشق /من أين تأتي به الريح /ليدخل جمار القلب ؟ ..
ألواح تل البيعة
282
أوراق العدد المزدوج 02-91
*النص:
-يدخل قلبك العشق /مثل ضوء في العتمة /يتسلل من بين أوراق الشجر
في رائحة القهوة /وطعم الصباح في البن والماء /يختلطان على النار..
وهن تبغك /وأنت تحسو الفنجان /هذه القهوة موسيقا جنائزية /وهذه
*زرقاء أنت مثل سماء بعيدة /بيضاء وحمراء كوردة الجوري /وأنا كالناي حزين
..
مابقي من إنجيل الخراب في الدير /والخراب سجادة دمشقية /تمتد مزقا /ترثي
المكان /نشيد ألواح الطين هو المكان /وأنت المغني الجوال /وأنثاك فاكهة
283
أوراق العدد المزدوج 02-91
خيار العتمة
تناص:
غزل فراتي:
شطحات:
284
أوراق العدد المزدوج 02-91
المريد :والحكمة؟..
الشيخ :في النهار تلبسني جبتي /ناي وإنشاد في الخانقاه /رقص وموسيقا
والبخور أنفاس العاشق /وفي الليل أبيع جبتي للنباذ /وأشرب على
مذهب النواسي جه اًر /وأضيع في الحارة /وتحت شجرة التوت أغفو /وماء
المريد :موالي..
كانت الحارة قطعة من قرية على النهر /عرب وكرد وتركمان ونصارى وشركس
وكانو ثالثة أوالد /عشقوا القراءة والنهر ومراقبة الورادات وغاسالت الصوف
واللعب في الجامع العتيق /الذي لم يبقى منه سوى المئذنة وبعض القناطر من
اآلجر
285
أوراق العدد المزدوج 02-91
وقد هجره المصلون منذ زمن بعيد /وإلى جانب المئذنة كان ثمة مقام على شكل
قبة
بناه أحد والة المدينة من العثمانين باعتبار القبر للصحابي وابصة بن معبد األسدي
المقام وشراء القهوة والتمر خاصة /وقد يتركون نذورهم في طاسة نحاسية /
وضعت
جانب القبر /وقد دأب الثالثة على السطو على ماتركه الزوار /معاهدين ولي
الدين في حضور الحفالت السينمائية في دار السينما الوحيدة /وشراء الكتب من
بائع
وكبرت القرية مع مرور الزمن /وزحفت البيوت حول المقام /جاءت هجرات جديدة
من األرمن وفالليح القطن /حين ازدهرت زراعته /ويوم كبروا /وتطورت
مطالعاتهم /اكتشفوا أن القبر يعود إلى سعد الدين العظم /أحد والة البلد في
كيف يتحول وال إلى قديس عندهم /والماء ما زال يجري تحت الجسر شريانا للحياة
وللوقت.
*النص:
286
أوراق العدد المزدوج 02-91
287
أوراق العدد المزدوج 02-91
أقف مذهوالً /أمام الباب /ال أدري كيف ضاعت أصابعي /وكيف ضاع المفتاح..
جمار القلب..
ياأنثى /وردة /قبرة /تدخل قميصي المبلل بالماء /تنقر َّ
*ثمة امرأة تنتظر /رجل أيضاً ينتظر /ثم يرحل كدخان الحرائق..
288
أوراق العدد المزدوج 02-91
برتقالة أو كمثرى...
الص ِفير.
وأصابع كفيها جرحتها المواويل وأشواك العاقول و ُ
هي الحرب يغطي المجوس عوراتهم بها..
289
أوراق العدد المزدوج 02-91
كنا نحمل االسم الثالثي نفسه ،والهم نفسه ،والفكر نفسه ،وعشق مدينة تتزين بالزعتر
البري وزهر الباجالء ،وتلقي حجولها الرملية في الفرات ،طوفاً من الشموع ،لسلطان
النهر األخضر ،عل أماني العاشقين تتحقق ،ويزهر الزيزفون على الضفاف.
*يأتي إليك طائر الشقراق ،فيجد في أناملك دفئاً ،فيب أر جناحه الذي كسرته عشتار
...آه يا ولداً كان بحجم الحب الذي تحمله أناقته وابتسامته ونسوانه الصافحات..
291
أوراق العدد المزدوج 02-91
كنا صغا اًر يا صديقي ،نذهب بعيداً في خياالتنا ،نصنع من طمي النهر أشكاالً من
الكائنات والمخلوقات ،تخترعها عقولنا المجنونة ثم تهدمها غير آسفة ،وحين فتح المركز
الثقافي في السبعينات دخلنا جنة الكتب والصحف والدوريات فنبت لنا أجنحة كأجنحة
إيكار.
ورافق ذلك ،افتتاح مكتبة بورسعيد ألحمد الخابور ،لتوزيع نضال الشعب جريدة الحزب
والمطبوعات االشتراكية ،من روايات ودراسات فكرية وتطورت فيما بعد إلى الصحف
السورية وغير السورية ،فأكملت ما نحتاجه من أفكار سياسية وأيديولوجيات كانت
سائدة ،ويمثلها الماركسيون والقومجية والتيار الديني من صوفية وإخوان مسلمون..
وكان إبراهيم يحمل في حقائبه ،دواوينه الشعرية ،وكتاباته المؤجلة ،ورسائل نسوانه،
ورسائله للرقة ،وحين رحل بعيداً عنها ودفن في دمشق ،ظلت قصائده وكتاباته حية،
فيها رائحة الفرات ،وطيور بندرخان تحلق عالياً ..عالياً ..
291
أوراق العدد المزدوج 02-91
تخص الِّنفري
مواقف ال ّ
الفر
حسام الدين ّا
لِبدة األسد
بعد أن سيطر على المدينة التنظيم المتشدد ،أمر بإطالة اللحى ،وعدم الحالقة ،لذلك
كان صديقي عند حالقة ذقنهُ ،يضطر للمكوث في البيت ،حتى ال ُيحاسب على ذلك.
يقول صديقي :لم يعد أحد يستخدم شفرات الحالقة ،وولى عهد (ناسيت) و(جليت)
السنة الشريفة؟
َأال تعلم بأن حالقة الذقن ممنوعة ،وأن إطالتها من ُّ
292
أوراق العدد المزدوج 02-91
يتابع صديقي :كأن هذا العنصر المتشدد أصبح يتعمد المرور في شارعنا ،ألنه بعد
أنبهك حول
َ بضعة أيام ،وأنا واقف أمام البيت ،ناداني وبنبرة صوت فيها تقريع قال :أل ْم
اللحية ،وعدم الحالقة؟
ملوخية وحشيش
اشتبهوا ببيت فيه مخدرات ،وكان السبب في ذلك أن أحد الجيران ،يطبخ ملوخية،
ويبدو أنه نسي الملوخية على الغاز ،لتحترق ،وتنتشر رائحتها التي تشبه رائحة
َ
المخدرات ،كما قيل.
تصوْر صديقي أن األفغان كانوا يحملون حشيشهم إلى أي مكان يذهبون إليه.
293
أوراق العدد المزدوج 02-91
حتى إن الفندق الذي استضاف مؤتم اًر لقادة الفصائل األفغانية ،ذات يوم برعاية إحدى
الدول الخليجية ،اشتكى صاحبه وعماله ،من روائح التحشيش والمخدرات التي تنبعث
من غرف هؤالء القادة.
ثورة أم ثروة؟!
بضع
ُ قبل الثورة كان صديقي يراه على شاشة التلفزيون ،وقد ذهب َشعره ،وبق ْ
يت
أصلع تماماً.
َ شعيرات ،يبرع في توزيعها ،لكيال يبدو
تحت له ،ويبدو أنه أخذ نصيبه من ماليين الدوالراتيقول صديقي كأن طاقة القدر ُف ْ
وآلت بقدرة قادر إلى بعض األفواه والبطون.
وصلت لدعم الثورةْ ،
ْ التي
عاشق البالة
تعج َب صديقي لرؤية أحد جيرانه ،في أسواق األلبسة المستعملة (البالة) باستمرار،
أفضل من محالت األلبسة الجديدة،
َ كل مرة يقول لصديقي :في (البالة) تجد ألبس ًة
وكان َّ
294
أوراق العدد المزدوج 02-91
وغالباً ما تكون ماركات عالمية ،إضافة إلى أسعارها الرخيصة جداً ،لضيق ذات اليد
التي ازدادت ضيقاً بعد الثورة.
رآه صديقي ذات يوم يتفحص المالبس بدقة ،ويضع يده في جيوبها ،ويبحث عن شيء
ِ
يشتر شيئاً ،لذلك سأله ،وعرف قصته مع ما داخلها ،وعندما خرج من المحل لم
(البالة).
ِ
قطعت البحار يقول صديقي :جاري ال يريد المالبس ،بل يريد ما فيها من هدايا،
السترات التي اشتراها ،وبعدها دأب
والمحيطات لتسعده ،ألنه وجد مئة يورو في إحدى ُّ
على الدوام في محالت البالة ،لعله يجد فيها بضعة يوروهات ،أو دوالرات تسد الرمق.
مقاطعة
قال هذا الكالم أحدهم لصديقي ،في تسعينيات القرن الماضي ،عندما ِ
سرت الدعوات
لمقاطعة أمريكا وبضائعها ،بدعم من أولي األمر الذين يكدسون أموالهم ،في البنوك
طوا اإلذن بالتظاهر (العفوي) أمام السفارة األمريكية،
األمريكية والغربية ،والذين أع َ
وعندما هب الناس ،واعتلى ثلة من الشباب مبنى السفارة ،لُوحقوا من قبل رجال أمن
أولي األمر ،لزيادة حماسهم.
295
أوراق العدد المزدوج 02-91
أحمد سليمان
فراشة تجر طائرة ورقية ،عربة يدفعها الصغار وأصواتهم تشق الفضاء.
كأن نبأً طارئ عن جيوش انتحرت ولم يعد هناك ُمتسعاً ألي حرب.
296
أوراق العدد المزدوج 02-91
بعد أعوام -ربما عشرون -أو حتى مئة عام ،سيقولون بأنه ثمة َمن حفر المستقبل
اقتنعت بما سربته وكاالت الغوث عن توقف معامل تصنيع السالح ،فهمت بأنها ستنتج
األلبان ،وأن الثكنات ستتحول الى متاحف والسجون إلى حدائق للعشاق.
مع أنها أخب ار يتم تدويرها على مسامعنا منذ طفولة الوحل في الشتات ،وتنقله ذات
المذيعة التي تتشبه بملكة جمال.
297
أوراق العدد المزدوج 02-91
المدن المحطمة.
ُكدت أعلقها على أبواب ُ
جثوت متفكرا ،كأنني أراقب المشهد من األعلى.
ثم ذهبت إلى سوق للشركات البالية .امتطيت منطاداً يصعد ِبي إلى الفضاء.
أذهلني ما رأيت ،طائرات حربية تعانق بعضها وأُخرى ترمي الورود على بقايا ُ
المدن.
السالم تحقق لكن الهواء مؤكسد ،ثم نقر المنطاد وارتمينا داخل ثقب أسود.
بعد أقل من ثانية استيقظت من نومي .طارت الورود والُقبالت ،فكانت الساحات تكتظ
بالجثث.
رفيقة أشعاري
اصطادتني بواسطة كتاب ،ثم أدخلتني عالمها السحري ،كان ذلك أيام طفولتي الممتدة
الى الشقاء األعلى.
ِ
بصخب األغاني الرافضة شعري الفالت كيفما اتفق ،متشبهاً بمشاهير التلفازُ ،مستمتعاً
لقيم زائفةُ ،متابعاً لألفالم َّالتي تُحاكي الفقر والعوز والمظلومين ،إلى جانب ُكتب شديدة
الوقع َعلى وعي الذي بالكاد َّ
تشكل.
298
أوراق العدد المزدوج 02-91
دائم الجلوس قرب أشجار عالية ،متلصصاً من فوق حوائط المدرسة ،باحثاً عن رفيقة
قضيت في واحدة ِمنها مستمتع ًا
ُ أشعاري ،ومدينتي الغارقة في جحور التجمعات السرية،
ِ
التسلط، بأحاديث السياسة والقمع والحريات ،ثم انتبهت إلى أنني أواجه عالم شديد
اإلنسان فيه ُمدان منذ لحظة والدته.
فكان ال بد من صرف النظر عن طفولتي ،ثم انكسرت حيوية الشباب ،وفجأة أصبحت
أعد أيامي المتبقية في مدينتي.
-كال يا معلمتي ،لقد تعلمت كتابة دساتير األحزاب إلى جانب وصايا أُعدها للعشاق،
وأحياناً أتابع ُعزلتي وهوايتي مع المشاريع الفاشلة ،أشعر أنني شديد االزدحام ،ال أطيق
رأسي.
ِ -
أنت أر ْق ،بل أعنف لصة تسرق شموع المقابر .سأضعك يوماً في كتاب.
299
أوراق العدد المزدوج 02-91
تجفيف الوقت
الساعة الذائبة بال وقت ،كما األمس ،أي قبل أن تلدني األم التي أبعدتني عنها هذه
المقذوفات التي شطرت مدننا.
رأيت أمنا التي قضمت يديها الذئاب ..رأيتها حين خطفتني الثعالب.
في األمس ،هذا "األمس" الذي يشبه مساء اليوم ،وقعت من قمة جبل.
نهضت
وفي يدي
حفنة ازهار.
هنيئا لي ،فقد أدركت في وقت ما أنني أعيش ضربة حظ كمقامر يصطاد وهم خسارته.
الغيمة التي أنام فوقها منذ أعوام مراهقتي صفعتها الريح ،فعشت كشاعر يخبئ في
جيوبه حروفا وبذور اليقطين.
وقعت أكثر من حرب كبرى ثم تعلمنا الغناء ،كما إخوتي الذين ابتلعتهم أدخنة المدافع
وبرد المخيمات.
هذه البحار لم تكن ابتلعت اخوتي لو انهم تعلموا الرقص بدال من الصراخ
كنت الناجي األخير ،بكتف هشمته عدسة كامي ار تحتوي على صور الجثث.
311
أوراق العدد المزدوج 02-91
خفر السواحل ورجال اإلنقاذ كانوا يالعبون األسماك ،ثم أدركتنا الحيتان.
رأسي المتدحرج
قبل ساعتين من العام الفائت ،أقنعني أحد الدراويش كي ألعب دور رابورت انتحاري
من أجل هدف غير معلوم.
دخلت الى الماركت اشتريت بضع غرامات من هذا الذي يفتل الرأس ،وعشرون كغ
من الخردل ولترين من الخل ،واصبعين "تي إن تي" وعشر طائرات واذاعة وخمس
مذيعات ،يتوسطهن ببغاء يتكلم بهدوء.
ثم انشأت صفحة للبث المباشر ،وطلبت من جارتي كي تقدم وصلة رقص على
موسيقى موزار بأداء "أندري ريو".
تصفحت حينها غوغل ،استعرت منه أحاديث الصحابة والقساوسة وضعتها إلى جانب
أناشيد سليمان.
كذلك استأجرت مقلدا لألصوات وطلبت اليه ان يفتتح اإلعالن بكبسة زر على ماء
ُمقطر أعده ُسكارى البؤس.
المشهد األول :صورة لي أمد فيها يداي ،مصافحا شيخا ُيقبل بابا الفاتيكان ،وحاخاما
يسوي قلنسوته مبتسما على وقع أجراس تُقرع ،وطبول الكشافة ونواح النسوة
المغتصبات.
المشهد الثاني :بدوت جاثياً قرب شارع يؤدي إلى دير قرب حي األمين ،في دمشق
الباكية في شام التي اكتسحتها جثت أهل وأصحاب ورفاق حملوا بيارق ورسل سالم.
311
أوراق العدد المزدوج 02-91
المشهد الثالث :دخلت الى قيمرية التي خلف الحجاز ،واتجهت الى المقهى النائم على
كتف صنبور ماء .هناك رأيت فرج الله الحلو فأهداني كتاب يحمل صورة فوتشيك،
اهديته وشاحاً ثم اختفى.
المشهد الرابع :كانت سارة التي دهمت مخيلتي ،صورها كانت تنزف وعيني تدمع حين
أكلتها الغابة ،فقد رأيتها بعينيها الواسعتان تغمزان بهما طفولتي ،مثل طيف يالعب
الفراشات ويمتطي الغيوم ،سارة التي أعرفها ،مازالت تحرس منام وفي يديها ازهار
وكتاب.
وقد دخلت ذات عشرات وألفين ساعة في مخدع قيل لي بأنه لملكة ووصيفات شدهن
السحر الصبياني أعلى رأسي.
رأسي المتدحرج بين أقدام مسوخ هبطوا فجأة إلى عالم لم يكن فيه يوما سوى حدائق
وعصافير تختبئ في جيوب الحوائط ،حمائم تتجول بين العابرين في صالحية شام
والعابد وقصر العظم وقاسيون.
الموضات ،تلك التي تتصدر الفنون والشعر واآلداب ،أيضاً حركات التشكيل ،حتى
المنظمات والجمعيات المدنية ،هؤالء جميعهم تلعثموا أمام االحتجاجات والثورات.
السياسيون والمفكرون ،وحماة البيئة كذلك النخب األممية ،ما ازلوا يشتغلون بالتنقيب
عن أحدث األلبسة التي تجعلهم بأناقة عصرية.
فردة حذاء طفل ُمعلق على قسطل ماء وسط بركة من الدماء.
312
أوراق العدد المزدوج 02-91
فيما البعض من سكان هذا العالم ،يبحثون عن ضحايا "مودرن " ،قضاياهم ال تستدعي
الكثير من التفكير ،وال تجعلهم يستقرون في سن الكهولة المبكرة ،سأعود إلى هوايتي
المفترضة بقيادة الطائرات ،مع إنها مضرة بقوانين الطبيعة.
كالم كهذا انتظر سماعه من أفواه المحاربين باإلنابة عن سادة القتل في العالم ،لذلك
سوف أستقل دراجة وأصبح مجرد موزع بريد وقطع حلوى وأزهار.
وقد قضيت عمري كله كمبرمج حواسيب وتقني لدى شركة اتصاالت ،ثم خبي اًر للرسوم
البيانية ،واحياناً كنت أعمل مخرجاً على برامج مخصصة إلنتاج الكتالوجات الضوئية.
لكنني اليوم ،كمن يدفع عربة يسترزق منها للعيش ،عربة طائرة حوت الخضار والخبز
وسلع يحبها أطفال ،أيضاً اقتنيت نس اًر أجلسته على كتفي ،رسمت على جبيني قرص
شمس وطفلة جعلتني أبتسم كعاشق يالطف حبيبته.
عالمي كله مثل مهن متنقلة ال تجلب لي ثمن باب منزل أو دراجة ،لكنني أواظب على
هندسته كمهن أترزق منها ،ولست أعمل فيها طوال الوقت ،كما أنها ال تجلب األذى
للناس ،ربما شركة البيوت سوف تتلقى احتجاجاً من بواب العمارة يطلب فيه أن أكف
عن مزاحمته بمهن قد يفكر هو بمزاولتها ،وهكذا سوف أعود الى مهن أخرى.
سأشتري صاروخاً بحجم مخيمات اللجوء ثم أفرغ محتواه وأحوله الى مستوعب يجتمع
فيه األطفال والسناجب .مهنة تدعمها منظمات حماة البيئة ،والنقابات المهنية ،وتحقق
ال لنشر كتبا تدعم التحرر والطبيعة واإلنسان ،كذلك تؤكد للعالم بأن الجنون
لي دخ ً
َّالذي أمارسه هو مشهد رافض لحماقة القوى الخفية َّالتي تحكم الكوكب.
313
أوراق العدد المزدوج 02-91
حسن رحيم
إيزابيل الليندي
مساء يوم ( 26من حزيران عام 1112م) وفي الساعة الثامنة والنصف تقريباً ،كنت
عت بكتابتها منذ خمس
جالساً إزاء رزمة من األوراق؛ أهم إلكمال روايتي ،التي شر ُ
سنوات ،أتحدث فيها عن جنوني الشخصي! شعور عجيب حين ال تجد شيئاً تفكر فيه،
بعدها تبدأ بالصراخ بأعلى صوتك من دون أن يالحظ ذلك أحد.
الكتابة عمل غريب ،ال تعرف من يرغب باآلخر ،أنت أم هي ،أم شيطان يقودك لتكتب
ويراقب ما تركه فيك بكل فخر ،لكني لم أكتب شيئاً إلى هذه اللحظة ،ربما ألني أصبت
باإلرهاق من شدة العمل ،أو أن ذاتي ال تطاوع عقلي وال تعطيه ما يريد ليسرد األفكار،
كتبت سابقاً ثم أبدأ بكتابة أفكار تجلت في رأسي ،كم هو صعب
أنا كالعادة ،أق أر ما ُ
أن تعمل مخرج ًا لمسلسالت تلفزيونية ،عليك أن تستيقظ باك اًر ،وألنك أعزب ال تحتاج
إلى صنع وجبة الفطور ،إذ إنك ستأكل في الخارج وتصل إلى مكان عملك متأخ اًر،
وبعد نهار من التعب تصل إلى بيتك ،تجلس أمام كومة األوراق هذه لتصب غضبك
وفرحك وغرورك وتعبك عليها ،حينها ال يسعك سوى أن تراقب الوجوه وهي تراقبك.
314
أوراق العدد المزدوج 02-91
أتذكر عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة ،كان الطالب يلتفون حولي؛ ألسرد لهم
كيف فزت في سباق الدراجات الذي أقيم في البصرة ،عندما تغلبت على سبعين متسابقاً
في طريق طويل ،يشمل ساحل شط العرب والزبير وصوالً إلى مناوي باشا ،وبينما كنت
مندمجاً بسرد األحداث وعيون الطلبة تحدق بي بنظرات تملؤها الدهشة والتساؤل ،كيف
علي
استطعت أن أحافظ على سرعتي رغم أن المكابح ُكسرت ،قاطعني صوت أقبل َّ
ُ
بجسده المترهل:
_ األسبوع الماضي!
_ الذي يحيرني أنك ال تملك المال للذهاب إلى المدرسة ،فكيف ذهبت إلى البصرة،
ُّ
التفت كيف دبرت حالك؟ (بشرفك هل لعبت بخارطة البصرة؟!) ثم ضحك باستهزاء،
إليه وقد أحسست بغصة في صدري ،قلت كمن يريد أن يبعد تهم ًة عنه:
تملكني شعور غريب من الحرمان الذي عانيته منذ طفولتي ،كم هو صعب أن تعيش
الفنتازيا الواقعية في عالم يرفض االعتراف بطريقة عيشك ،فمنذ أن كنت في التاسعة
ركت وحيداً في هذه
من عمري ،مات أبي وتزوجت أمي ،تمنيت لو كان لي إخوة ،تُ ُ
المتاهة الزمنية ،أصرف من تقاعد والدي الذي بالكاد يكفيني لشراء طعامي وعدد
محدود من علب السجائر وإيجار خربة أسكن فيها.
تفاجأت
ُ فعه أحدهم بقوة، أفزعني صياح وعويل وطرق مستمر ،نظرت صوب البابَ ،د َ
بمجموعة من األشخاص يحملون جثة! حاولت كثي اًر أن اسألهم ولكن ُل ِجم لساني فجأة
حين اقتربوا ووضعوه على سريري دون استئذان ،ما أن كشف أحدهم عن وجهه ،وإذا
به أنا.
حزيران 0291
315
أوراق العدد المزدوج 02-91
جنان الحسن
316
أوراق العدد المزدوج 02-91
317
أوراق العدد المزدوج 02-91
كل هذا يحصل والحياة ما زالت تحاصر الصمت حيناً وتصخب مثل حشد عصافير
حيناً أخر ..
0203/ 9/00
318
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق السينما
319
أوراق العدد المزدوج 02-91
فرحان المطر
مدخل البحث:
يفترض العنوان المقترح للبحث "الفراتيون بعيون السينما السورية" ،العثور من خالل
األفالم التي قدمتها السينما السورية خالل عقود من الزمن على صورة لإلنسان السوري
الذي يقطن منطقة الفرات والجزيرة السورية عموماً ،وهو من يسمى بالفراتي ،أو
الجزراوي نسبة إلى نهر الفرات ،أو الجزيرة السورية الممتدة ما بين نهري الفرات ودجلة.
ليس في متناول البحث سوى عدد قليل من األفالم السينمائية الوثائقية والتسجيلية التي
تطرقت لتصوير إنسان تلك البقعة الجغرافية من سوريا ،واالهتمام به ،وبالتالي فإن ما
سوف يخلص إليه البحث بالنتيجة سيكون متكئاً على هذه الحصيلة البصرية تحديداً.
ال ،ويمكن
أما األفالم موضوع البحث فهي ستة مرتبة حسب تسلسل إنتاجها الزمني أو ً
تقسيمها بداية إلى مرحلتين هما:
-فيلم :محاولة عن سد الفرات /للمخرج الراحل عمر أميراالي الذي أنتج عام
.2621
-فيلم :الحياة اليومية في قرية سورية /أيضاً للمخرج عمر أميراالي عام .2624
المرحلة الثانية :وهي التي أنتجت خالل بداية العقد األول من القرن الجديد،
وهي:
311
أوراق العدد المزدوج 02-91
هنا يمكن تسجيل مالحظة هامشية حول هذه الفترة الزمنية المتباعدة بين المرحلتين
األولى والثانية ،التي لم ينتج فيها أي فيلم عن البيئة الفراتية.
-عرض بطاقة تعريفية موجزة بالفيلم ،تتضمن بضع معلومات أساسية عن الزمان
والمكان والجهة المنتجة ،ورابط الفيلم على اليوتيوب لمن يرغب بالمشاهدة.
-تقديم عرض للفيلم بما يشبه تلخيصاً للمشاهد األبرز واألهم في كل فيلم ،الغاية
منه تقديم فكرة عامة للقارئ الذي لم يسبق أن أتيحت له فرصة االطالع على
الفيلم.
-الصورة التي ظهر عليها الفراتيون في الفيلم ،وهي قراءة الباحث التحليلية التي
خلص إليها حول كل فيلم.
-آراء حول الفيلم ،طبعاً في حال توفرها ،إذ ليست كل األفالم قد أمكن العثور
على ما كتب عنها في حينها ،خاصة أفالم المرحلة األولى ،ما قبل األرشفة
الرقمية المتاحة اليوم.
-سيتم ذكر المصادر الصحفية التي نشرت المقاالت واآلراء حول كل فيلم.
-خاتمة البحث ،والتي ستتضمن تقديم خالصة عامة حول الصورة كما رأتها عين
السينما السورية ،بما في ذلك الحديث عن نظرة سياسية مسبقة في كل فيلم إن
وجدت.
311
أوراق العدد المزدوج 02-91
بطاقة الفيلم:
-وثائقي.
عرض الفيلم:
يبدأ عرض الفيلم من المشاهد المتعددة على إيقاع الدف ،وصوت المزمار،
حيث تتنقل الكامي ار بين الرافعات العمالقة ،واآلالت الثقيلة ومئات العمال
الذين يعملون في إرساء دعامات سد الفرات ،وهو ما رأى به المخرج (في
حينه) واحداً من أهم اإلنجازات العظيمة التي سوف تغير مجرى حياة الناس،
مثلما هي ستقوم بتحويل مجرى نهر الفرات العظيم.
بانعطافة جديدة تتوقف الكامي ار أمام رجل خمسيني يقوم ببناء جدار من
الحجارة والطين وحيداً ،فيقترب منه أحدهم محاو اًر "خلف الكاميرا" ،ويدور
بينهما الحوار التالي-( :حجي لماذا تقوم بهذا العمل؟ -حتى ال تقوم
الحمير واألغنام باقتحام القطن – .كم مت اًر تبني في اليوم؟ -من طلوع
312
أوراق العدد المزدوج 02-91
الشمس حتى مغيبها ،وأحياناً حتى موعد آذان العشاء – .أليس معك من
يساعدك؟ -ابني في الخدمة اإلجبارية ،وال أحد يساعدني غير الله).
بين المشاهد المتتالية ثمة وقفات قصيرة للكامي ار على األرض المتشققة من
شدة الجفاف ،مقارنة مع التشققات العميقة في أرجل الرجال والنساء
واألطفال الحفاة ،ما يعني أن الجفاف والشقوق ليست حك اًر على األرض
والتراب فقط عندما ينعدم الماء ،بل هي أيضاً تطال البشر الحفاة الجائعين
كذلك.
أخي اًر تعود بنا مشاهد الفيلم إلى ما ابتدأت به من تصوير عمليات البناء
المتواصلة في سد الفرات ،واآلالت الضخمة كل ذلك بتقاطع مع بعض
الصور التي تظهر آثار المنطقة ،وبعض األطفال الذين يتهجون القراءة،
ويحاولون الرسم ،إضافة إلى بعض الوجوه الشابة المبتسمة التي تحمل شيئاً
من مالمح الحياة وسط هذا القفر ،فهل كان المخرج يهدف للقول من وراء
ذلك بما يمثل رسالة الفيلم أساساً :هذا هو األمل المرتجى لمستقبل ذلك
اإلنسان وتلك المنطقة ،عندما رأى أن إنجاز بناء سد الفرات سيكون الحل
الكفيل بفعل كل ذلك؟!.
313
أوراق العدد المزدوج 02-91
إنسان غارق بالبداوة والتخلف والفقر ينتظر أن يكون على موعد مع القدر /الحدث
الذي سيغير حياته جذرياً ،وينقله من هذه المستنقعات المحيطة بحياته إلى عصر النور
والحضارة ،حيث الكهرباء والرفاه ،بمجرد االنتهاء من هذا المشروع الحيوي الجبار الذي
يتواصل العمل به على مدار الوقت .إنه األمل الوحيد.
314
أوراق العدد المزدوج 02-91
بطاقة الفيلم:
-وثائقي
عرض الفيلم:
مشهد أطفال ريفيين بثياب رثة يتجمعون حول هيكل عظمي لحيوان نافق منذ
أمد بعيد ،يلعبون بذر التراب الناعم فوق هيكله ،يترافق ذلك مع غناء رجل
بدوي بصوت حزين ،ثم ينتهي المشهد ببضعة رجال ،الالفت بينهم رجل غريب
المظهر لشدة بؤسه الظاهر في الصورة ،ال يعتمر شيئاً فوق رأسه ،وتراه يحمل
بيديه الكوفية والعقال.
تدخل الكامي ار إلى القرية حيث البيوت الطينية المتباعدة المسافات فيما بينها،
وحركة الناس الذين يظهرون على استعجال بسبب الرياح القوية التي تثير
الغبار ،بينما يظهر شرطيان يمران مسرعين أيضاً ،ثم تدخل الكامي ار إلى أحد
315
أوراق العدد المزدوج 02-91
البيوت حيث تجتمع األسرة الريفية لتناول الغداء الذي يقتصر على الخبز
والشاي فقط ،وبعد ذلك تتابع الكامي ار حركة الناس الذاهبين إلى جهة ما.
مشهد الصطفاف التالميذ أمام المدرسة استعداداً لدخول الصف ،المدرسة التي
هي عبارة عن غرفة طينية وبضعة مقاعد ،وفي داخل الصف المعلم يعطي
الدرس.
نساء وأطفال ينزعون جذور نبتة السوس من األرض ،وجلسة لمجموعة من
الرجال بينهم المختار الذي ال يعرف القراءة والكتابة.
امرأة تخبز على الصاج ،وبعض النسوة يمارسن األعمال اليومية المعتادة.
داخل غرفة الصف المعلم يشرح للتالميذ الدرس ،ويسألهم عن فحوى إحدى
الصور المرسومة في الكتاب ،فيجيبون بأنها حقيبة ،فيصحح لهم المعلم قائالً:
إنها عالقة ثياب تحمل بنطلون.
األطفال العائدون من العمل باألرض يستريحون تحت بقايا خيمة بالية لتناول
وجبة الغداء الوحيدة :الخبز والشاي.
داخل البوسطة التي تقل عدداً من الرجال والنساء ،الحوار يبين أنهم في طريقهم
إلى مدينة دير الزور لمراجعة األطباء ،وفي السؤال لماذا ال يراجعون
المستوصف القريب منهم ،تكون اإلجابة بأن المستوصف ال يفيد بشيء ،ليس
به أطباء وال دواء.
316
أوراق العدد المزدوج 02-91
لقاء مع ضابط شرطة يتحدث عن دور الشرطة في تطبيق القانون على الناس
في القرية ،يقول إنه في حال حدوث خالفات بين الناس فإنهم ال يفضلون
اللجوء إلى المحاكم والقضاء ألنها تأخذ وقتاً طويالً ،بينما هم يحلون المشاكل
بالتراضي بين الناس دون اللجوء الستخدام القوة ،ولكن في حال وقعت المشاكل
فإنهم يمارسون دورهم بالقمع.
فالح شاب يروي كيف تم االعتداء عليه من قبل متنفذين لرفضه إعطائهم قطعة
من أرضه ،وأن اتحاد الفالحين والحزب لم يفعال له شيئاً.
داخل جلسة ذكر حيث ضرب الدفوف والغناء الديني المترافق مع حركات
يؤديها الحاضرون وخاصة (من يأخذهم الحال كما يقال) ،أولئك الذين يصابون
بالتشنج واالرتعاش الكبير وصوالً إلى حاالت اإلغماء الكثيرة ،إنها صورة من
الطقوس البدائية المتخلفة التي تتخذ شكالً دينياً كانت سائدة تلك الفترات الزمنية.
317
أوراق العدد المزدوج 02-91
لقاء مع رئيس نقابة شاب وحديثه عن نفسه وأهميته التي تسببت باختياره لهذا
العمل ،الرجل يتحدث بكل صراحة ودون لف أو دوران عن االستغالل الذي
يتعرض له الفالحون على يد المزارعين وشيوخ العشائر ،وتواطؤ الجمعية
الفالحية في هذه العملية.
فالح شاب آخر يطالب بالمساواة والعدالة بين الناس وإلغاء الفروق الطبقية بين
الناس ،إذ هناك أناس ال يملكون ثمن قوت يومهم.
المسؤول الفالحي مرة أخرى متحدثاً عن اإلرث العشائري الثقيل المسيطر على
الناس في هذه القرية ،مشي اًر بأصابع االتهام إلى شيوخ العشائر الذين ما زالوا
يملكون الكثير من أسباب القوة التي تساعدهم على استغالل الناس وترهيبهم،
وممارسة سطوتهم عليهم ،ويطالب السلطات بتطبيق العنف ضدهم.
ضابط الشرطة متحدثاً عن شيوخ العشائر نافياً عنهم كل ما يقال تسلط ونفوذ،
مدعياً أنهم لم يعودوا يملكون من المشيخة سوى االسم ،وأنهم مجرد مواطنين
عاديين.
مشهد الفالح الغريب الذي ظهر في افتتاحية الفيلم يعود ملخصاً واقع الحال:
(جميل الرشيد وحسون اللطيف يهددوننا وهم هنا ،والرجل قتلوه" الهفل" ويريدون
ترحيلنا حتى يتهموننا بدم الرجل الذي قتلوه ،هذا هو الموضوع ،تركنا حنطتنا،
318
أوراق العدد المزدوج 02-91
تركنا بيوتنا ،وكل مسكن ثمنه ثالثة آالف ويهددوننا بالرحيل ونحن ال بيت لنا
غير الفراش واللحاف ،ومن زمن العثمانيين نحن بهذا المكان .جوعانين ميتين).
أما الجملة التي يختتم بها الفيلم فقد كانت( :علينا جميعاً أن ننخرط في النضال
من أجل خالصنا المشترك ،ما من أيد نظيفة ،ما من أبرياء ،ما من متفرجين،
إننا جميعاً نغمس أيدينا في وحل أرضنا ،وكل متفرج هو جبان ،أو خائن).
إنسان مغلوب على أمره في كل شيء ،يعيش حياة الفاقة والحرمان ،مستلب اإلرادة،
ال حول له وال قوة ،يسرق تعبه في وضح النهار من قوى االستغالل المتحالفة مع
الفاسدين في جهاز الدولة ممثالً بالشرطة ،وفي رجال الحزب واتحاد الفالحين ،هؤالء
الذين يفترض أن يكونوا عوناً له في تأمين حقوقه تماشياً مع الشعارات التي يطلقونها
ليل نهار ،وهو الذي يرزح تحت أثقال الجهل واألمية تتنازعه الخرافات وتمأل حياته
الشعوذة ،ليس لديه القدرة على مقاومة هذا الواقع ،مع مالحظة نفس رافض للظلم لدى
الفالحين شديد الوضوح أحياناً في حديثهم عن قوى االستغالل وتسميتها باألسماء
الصريحة ألصحابها ،وجرأتهم في الحديث عن كذب الشعارات الجوفاء للحزب التي لم
ترفع عنهم ظلماً ولم تقدم لهم أسباب الحياة.
أما المرأة فهي التي تعاني بشكل مزدوج من كل أشكال القهر التي يتعرض لها الرجل
أوالً ،مضافاً إليها قهر الرجل بحد ذاته ،وهو الذي يجد فيها الحلقة األضعف في
التنفيس عما يعانيه في كل شيء أمامه على أرض الواقع.
319
أوراق العدد المزدوج 02-91
بطاقة الفيلم:
-وثائقي تسجيلي
عرض الفيلم:
يبدأ الفيلم بلقطاته األولى عرض قدم متشققة لفالح خمسيني ،مترافقاً مع تعليق
بصوت المخرج عمر أميراالي يقول فيه( :منذ ثالثة وثالثين عاماً كنت مدافعاً
صلباً عن تحديث وطني األم سوريا ،إلى درجة أن فيلمي األول كان عن بناء
سد ،سد الفرات مصدر فخر حزب البعث وبهجته).
ثم يستعيد مشاهد الفيلم السابق " محاولة عن سد الفرات" للتذكير به ،مع متابعة
التعليق قائالً( :أنا اليوم نادم على هذا الخطأ الذي ارتكبته في شبابي .إن انهيار
سد ورفع النقاب عن تقرير رسمي توقع الشيء نفسه لسائر السدود التي بنيت
خالل فترة حكم البعث الممددة واليته دفعاني إلى العودة إلى موقع فيلمي األول).
321
أوراق العدد المزدوج 02-91
مشهد لمئذنة لم تنته منها أعمال البناء بعد ،تنظر إليها الكامي ار من داخل غرفة
مظلمة عبر النافذة ،على صدى صوت أطفال في مدرسة قريبة وهم يصرخون
باألناشيد الحماسية التي يتم تلقينها لهم.
على منظر مياه البحيرة ،ثمة صوت لرجل (خلف الكاميرا) يقول( :نحن ولدنا
وكبرنا على سلسلة من القرى على وادي الفرات .فجأة أتوا وخزنوا مياه بحيرة
السد ورأينا كيف تغرق بيوتنا وتُدمر ،وتدمرت معها كل الذكريات).
ثم يظهر وجه المتحدث وهو رجل قروي في العقد الرابع من العمر ،يتابع
حديثه( :حسب الذكريات والطفولة التي عشناها فإننا ال زلنا نذكر ولو بشكل
تقريبي أماكن بيوتنا .مثالً بيتي أنا هنا تحت الماء ،ال يظهر منه شيء ،ولو
أنك بحثت تحت كل بيت لعثرت على آثار وحضارات من الفترة اإلسالمية
وحتى العصور الحجرية .أول ما استوطن اإلنسان وحاول أن يزرع ويجني ثمار
تعبه ويتحول من صياد إلى مزارع ،ويدجن الحيوانات ،كله في هذه المنطقة
بالذات .المنطقة قدمها من قدم التاريخ).
نعود لصوت المخرج وهو يقول( :من بحيرة األسد تمتد بالد جديدة سوريا حافظ
األسد .اخترت إحدى القرى من هذه األرض الجديدة تحمل هي وسكانها وحتى
نبع الماء فيها اسم الماشي .يحكمها زعيم عشيرة عضو في مجلس الشعب
بإشراف ابن أخيه ناظر المدرسة والمسؤول المحلي للحزب ،هذه الصورة المهمة
لقرية الماشي تمثل بلداً عمل حزب البعث على بنائه طوال األربعين عاماً
الماضية من دون كلل).
بعد هذه المقدمة يطالعنا وجه ذياب الماشي وهو يتحدث معرفاً بنفسه وتاريخه
ونظرته إلى شخصية حافظ األسد ،متباهياً بعالقته القديمة معه ،وتاريخ عشيرته
في الوالء لحافظ األسد ،ويضرب مثالً على ذلك في وقوفه مع النظام ضد
321
أوراق العدد المزدوج 02-91
اإلخوان المسلمين .وعلى مدى سبعة دقائق من مدة الفيلم يقدم ذياب الماشي
حافظ األسد كإله ،وليس على صورة إنسان عادي أبداً.
من مشاهد جنازة حافظ األسد ينقلنا المخرج إلى خلف صالح الماشي الذي
يعرف بنفسه كمعلم ومربي ومدير مدرسة "جعيفينة الماشي" االبتدائية ،وكيف
أنه أصبح مدي اًر للمدرسة بواسطة عمه عضو مجلس الشعب ذياب الماشي،
كما أنه يشغل منصب أمين الحلقة الحزبية في هذه القرية .خالل هذا اللقاء
يظهر مدى الوالء للرئيس بشار األسد بعد وفاة والده.
بلغة خشبية جوفاء بلهاء متخلفة ،ومع مشاهد التالميذ يتلقون دروسهم داخل
الصفوف ،نتعرف إلى غسيل الدماغ الذي يحدث للجميع من خالل التلقين
والتحفيظ لقيم الحزب ،والتدرب على شروط الطاعة العمياء والحياة شبه
العسكرية ،ويمكن بكل سهولة التعرف أيضاً على حجم الكارثة التي تحدث على
مرأى الجميع ،ومدى بعد هؤالء عن مواكبة الحياة خارج هذا المكان.
إلى مياه البحيرة مرة أخرى وصوت الرجل الفراتي متحدثاً( :هناك الكثير من
األشياء السطحية التي ينساها اإلنسان ،بينما حالتنا بعمق التاريخ ال يمكن
نسيانها ،طبعاً ما نعيه نحن ،ال يعرفه أوالدنا الذين ولدوا وشاهدوا البحيرة
فصاروا يعتقدون أن هذا هو الفرات .نعلم أطفالنا أن الفرات كان بغير هذا
الشكل ،كان نه اًر يمشي بالوادي ،كنا ننزل للسباحة به ،ونمشي إلى جانبه.
أوالدنا ال يعرفون السباحة ،لماذا ألنهم تعلموا الخوف من البحيرة فهم يخافون
الغرق ،وهذه أول مرة بالتاريخ يتغير شكل النهر بشكل كبير ولم يعد هناك نهر
باألساس ،هو عبارة عن بحر ،ترى أمامك بحر ليس هناك نهر ،راح النهر،
خلص).
322
أوراق العدد المزدوج 02-91
عودة إلى مشهد البداية والغرفة المظلمة ،والنافذة المفتوحة المطلة على مئذنة
الجامع إياها ،حيث يظهر تساقط الثلج بكثافة مع سماع صوت الصالة داخل
المسجد.
الصورة هنا للغرفة والنافذة والمئذنة كلها مائلة بشكل شديد الوضح ،فهل كان
ذلك إشارة يختتم بها المخرج للداللة على أنه لم يبق هناك ما هو معتدل ومستقيم
بشكل طبيعي ،فكل شيء مائل مثل هذه الصورة؟!.
تبدو الصورة التي أظهرها الفيلم متطابقة إلى درجة كبيرة جداً مع العنوان الذي حمله:
طوفان في بالد البعث .حيث السد ومياهه وما دفن تحته من حياة لبشر وبيوت وغيرها،
كان أشبه بالطوفان الذي يكتسح في طريقه كل شيء ،حيث ال يبقي وال يذر.
أما عن المعنى اآلخر للطوفان سوى الماء والبحيرة ،فهو ذلك الخراب الذي مثله نموذج
العقلية التي صنعها بإصرار ودون كلل كما قال صانع الفيلم ،صورة الخواء الفكري
العميق ،واالستالب العقلي ،والرضوخ والعبودية المطلقة لشكل النظام ورمزه سيء
ال باألسدين األب واالبن .فهل أشد وضوحاً من هذه الصورة على الرغم
الصيت ممث ً
من سوادها الذي يثقل على األرواح؟!.
323
أوراق العدد المزدوج 02-91
بطاقة الفيلم:
-وثائقي
عرض الفيلم:
البداية مع صورة العبارة وهي تستقبل الناس الذين يملؤون جوفها للعبور إلى
الجهة األخرى من الفرات ،ذلك أنها الوسيلة الوحيدة المتاحة للتنقل ،يترافق ذلك
مع تحرك الكامي ار إلى األرض المجاورة حيث بعض القرويات يمارسن أعمالهن
اليومية في األرض.
نسمع صوت المخرج محمد الرومي "صانع الفيلم" متحدثاً( :قلت لحالي الزم
صور العبارة .كان عمري 24سنة وقت اللي حملتنا أبي وأنا والسيارة محملة
بعفش بيتنا وقطعت فينا الفرات .كنا عم ننتقل من الجزيرة من ضيعة تل أبيض
لنسكن بمدينة حلب .بدي صور العبارة والضيع اللي عشنا فيها .الناس .األوالد
324
أوراق العدد المزدوج 02-91
اللي بيشبهونا أنا واخواتي ورفقاتي وقت كنا زغار .بدي صور العبارة وكل شي
عزيز علي .صور اآلثار اللي رجعت فيها مصور فوتوغرافي .رح صور كل
هذا قبل ما يجي الغمر).
وحدها عين الكامي ار تجول أرجاء المكان بكل هدوء ورتابة ،كأنما هي تحاول
ليس فقط رؤية وتوثيق هذه المشاهد ،بل كأنما هي تحاول اإلمساك بها،
واحتضانها قبل أن تصبح أث اًر بعد عين ،بعد أن تندثر وتزول ،عندما يأتي
الماء ،ويغمر تحته كل أشكال الحياة.
في حركة الكامي ار هذه نشاهد السهول المترامية األطراف ،والقرى والبيوت
المتناثرة ،والناس في حركات انتقالهم من بعيد ،والحيوانات التي ترافق الناس
في الحل والترحال ،ثم تقترب الكامي ار أكثر من بضعة فتيات فراتيات يقمن
بجلب الماء من النهر على ظهور الحمير ،وتلك الوسيلة الوحيدة أيضاً الستقدام
الماء للشرب ،وباقي االستخدامات.
تقف الكامي ار عند مسافة قريبة من طرف بيت صغير حيث يصعد األطفال
سلماً خشبياً إلى المكان المخصص للنوم صيفاً ،هذا المكان الذي تراه في كل
بيت ريفي مماثل ،ال غنى عنه البتة.
بعد ذلك تتوقف لحظات قصيرة مع بعض الوجوه ،رجل ،امرأة ،شابة ،طفل،
ترصد نبض الحياة الباقي على وجوههم.
325
أوراق العدد المزدوج 02-91
تصل الكامي ار إلى السوق الشعبي األسبوعي المتنقل بين القرى والذي يعرف
عادة باسم سوق الجمعة ،حيث االزدحام البشري للمرة األولى نراه هنا للناس
أثناء تسوقهم الخضار وكل المنتجات .إنها واحدة من الصورة النابضة بالحياة
حقاً.
تعود الكامي ار لرصد األرض والنهر والحياة قبل الغمر مرة أخرى.
لقطة سريعة لسد "تشرين" الذي ما يزال قيد اإلنشاء ،ثم العودة إلى القرية وأعمال
اإلخالء األخيرة التي يقوم بها الناس ألخذ ما يمكن حمله لالستفادة منه في
بناء البيوت التي ستمنح لهم في أرض أخرى بعيدة عن موطنهم هذا الذي
سيتحول إلى بحر شاسع األطراف دافناً تحته تاريخهم وذكرياتهم وكل األحالم
التي كانت يوماً.
تتوقف عين الكامي ار عند مشاهد القبور البسيطة المتكومة بالقرب من بعضها
كأنها تحتمي من خطر خارجي يهدد موتها الهادئ ،كيف ال وهو خطر قادم
قريباً وعلى األبواب ،حين سيرحل من بقي من أهاليهم على قيد الحياة إلى
أراض بعيدة ،وسيبقون هم األموات وحدهم الذين سيحافظون على ارتباطهم
الجنيني بأرضهم األم ،سوف لن يزورهم أحد بعد اآلن ،كتب عليهم موت جديد
فوق موتهم هذا.
على صوت المطرب الشعبي العراقي "سعد الحديثي" الشجي الحزين وهو يغني
بطريقة تقطع نياط القلب حزناً على هذا المصير الكارثي ،تتسارع حركة الكامي ار
للمرة األولى في الفيلم وهي تمشي مع الماء.
326
أوراق العدد المزدوج 02-91
الماء الذي بدأ باالرتفاع ،ومساحاته باالتساع والتمدد واالنتشار ،وهو في كل
خطوة يتقدمها ،يقول لك :إن تاريخاً هنا قد تم دفنه إلى األبد ،بل وتحطيمه
وصار في باب الممنوعات الحديث عنه ،ويجب أن يطويه النسيان.
أية مصادفة نادرة الحدوث ،أو لنقل أي حظ هو ذلك الذي جعل المخرج محمد الرومي
يصل إلى تلك األرض التي جاء منها طفالً ذات يوم ،ليعود إليها مصو اًر مرافقاً لبعثة
أثرية ،ثم يصبح بذلك شاهداً على جريمة كبرى بحق األرض واإلنسان في هذا المكان
بالذات؟! .أية شهادة وثائقية فائقة التأثير تلك التي استطاعت عينه الذكية تصويرها
في أيامها األخيرة وهي تودع الحياة؟!.
الصورة التي ظهرت البن الفرات الذي ال حول له وال قوة ،وهو يقف مكتوف اليدين أما
جريمة اقتالعه القسرية من أرضه ،وقذفه بعيداً عنها بحجة بناء السد وتأمين الكهرباء
للوطن .صورة حزينة موجعة للقلب ال تحتاج مزيداً من الكلمات ،ألن الكلمات أساساً
تقف عاجزة مثل ابن الفرات عن التعبير عن هول الحدث الفجائعي الرهيب.
327
أوراق العدد المزدوج 02-91
بطاقة الفيلم:
-وثائقي متوسط
-منع من العرض بداي ًة ،ثم عرض للمرة األولى في تظاهرة سينما الواقع dox
box 01في دمشق.
عرض الفيلم:
328
أوراق العدد المزدوج 02-91
نتابع" .زور شمر" قرية سورية شمال شرق دمشق 221كم .عبارة تضع
المشاهد في موقع القرية التي تم التصوير فيها.
تجول الكامي ار سريعاً حول القرية ،ثم نلتقي رجالً من القرية داخل بيته في
جلسة حوار مع معد الفيلم (خلف الكاميرا) يدور بينهما حوار حول حياته
االجتماعية واألسرية ،فيعرف بنفسه بعد المقدمة التقليدية للبسملة والحمد
لله ،فيقول إنه زوج المرأتين ،وأب لسبعة عشر طفالً بين ذكور وإناث.
ثم ننتقل إلى مشهد آخر ،ورجل آخر من القرية يجلس على "الطريزينة" أمام
غرف البيت الطينية ،نستمع إليه متحدثاً عن وضع المرأة اليوم في القرية
كمن يجيب على سؤال قائالً( :حياة المرأة جيدة ،مرتاحة ،ال شيء كأنها
تعيش في حياة المدن ،الماء موجود ،الطعام موجود ،الراحة موجودة ،تنظف
بيتها وتجلس ،ال تخرج ومرتاحة).
في مكان آخر وسط الشارع ،أربعة رجال يجلسون إلى جانب سيارة صغيرة
مغلقة ،يتابعون الحديث عن أوضاع المرأة اليوم في القرية ،فيقول أحدهم:
(المرأة هنا سعيدة ،وليست مثل السابق حيث كانت متعبة جدًا باألشغال،
أما اآلن فهي مبسوطة مرتاحة بال أي عمل ،ال تعجن وال تخبز ،وضعها
ممتاز) ،بينما يعقب شخص آخر قائالً( :ال ينقصها شيء الماء موجود،
الكهرباء موجودة ،كل شيء موجود ،كل شيء متوفر ،ال تختلف عن المدينة
وال بأي شيء ،الفرن موجود ،وال ينقصها شيء).
عودة إلى المتحدث األول داخل البيت حيث يتابع حديثه قائالً( :ال ال أنا
مع تعليم البنت ألنها ليست نصف المجتمع ،بل تعتبر ثالثة أرباع
المجتمع).
329
أوراق العدد المزدوج 02-91
ثمة مشهد يتكرر لرجل داخل غرفته يبقى صامتاً ال يفعل شيئاً سوى شرب
القهوة المرة بين الفينة والفينة.
تتكرر األسئلة في الفيلم حول الزواج المبكر ،والرأي الذي يقول إنه حرام
وال يجوز!! بينما يتباهى آخر بأنه زوج بناته من عمر الخمسة عشر عام ًا.
يقول الرجال إن تعدد الزوجات أمر جيد ،وال مانع منه إطالقاً ،وهناك الكثير
من الضرورات التي تبرره.
ثمة مشاهد في الفيلم زائدة عن الحاجة ،كمشهد الرجل الذي يطلب من
أبنائه الوقوف اللتقاط صورة ،وكذلك الحديث المطول الذي يقوم به الرجل
لسرد أسماء أبنائه السبعة عشر حيث ينسى بعضهم أحياناً.
يتحدث الرجال أيضاً عن تعنيف المرأة ،وأنه لم يعد موجوداً وأنهم يؤمنون
بالمساواة بين الرجل والمرأة.
المشاهد التالية للمرأة التي تظهرها الصورة ،تناقض كل ما قاله الرجال عن
وضع المرأة في القرية اليوم ،حيث ما زالت المرأة تغسل على يديها دون
وجود غسالة كهربائية ،وتعمل في الحصاد بالمنجل ،وليس كما قالوا عن
تمتعها بالراحة ،كما أنها ما زالت ترعى الغنم ،وتحمل الحطب على كتفها،
وتعجن وتخبز على الصاج ،هذه المشاهد تقابل رجالً بكامل أناقته حتى أنه
يلبس قفازات بيضاء بما يوحي بأنه ال يعمل أبداً.
331
أوراق العدد المزدوج 02-91
تتحدث األم عن ابنتها بشرى وتصفها بالمجتهدة ،وتقول( :ما دامت تنجح
في صفوفها ستبقى بالمدرسة ،وعندما ترسب ستجلس بالبيت).
بعد ذلك تنقلنا الكامي ار إلى سهرة نسائية على ضوء "اللوكس" وشرب الشاي،
حيث تتحدث النساء عن أوضاعهن هذه المرة بأصواتهن ،فيذكرن تفاصيل
متاعب حياتهن اليومية التي تنسف رواية الرجال اآلنفة الذكر عن تلك
األحوال ،فيتحدثن عن الزواج المبكر الذي تعرضن له ،وحياتهن المكرسة
إلرضاء األزواج الذين ال يعملون شيئاً غير الزيجات المتعددة ،وإنجاب
المزيد من األوالد ،إضافة إلى العنف الذكوري الذي يمارس عليهن منهم.
ثمة قصة مؤثرة على لسان إحداهن تقول فيها( :تركت ابنتي الصغيرة نائمة
إلى جانب والدها الذي لم ينتبه إليها عندما استيقظت عطشى وذهبت نحو
الساقية لتشرب ،ثم سقطت هناك وماتت دون أن يعلم والدها الذي كان يغط
في نومه) .بهذه البساطة تزهق حياة آدمية دون أن تعني شيئاً ألحد.
كل ذلك عدا الحديث عن عدم السماح للبنات بمتابعة الدراسة ألن االهتمام
بتربية الدواب أكثر ضرورة وأهمية لألهل ،وعن التعنيف الزوجي تقول إحدى
النساء( :ما زال زوجي يضربني حتى اآلن على الرغم من مرور أكثر من
عشرين عاماً على زواجنا).
تنتهي السهرة النسائية بغناء إحدى الفتيات ،كأنما هي تلخص تلك األحوال
المتعبة التي تغلف حياة المرأة في تلك البقعة من األرض السورية ،ثم يختتم
الفيلم بموسيقا ذات إيقاع فرح على مشهد نار تتصاعد ألهبتها من موقد
حطب.
331
أوراق العدد المزدوج 02-91
ما حاول صانعا الفيلم إظهاره بشكل مرسوم منذ الخطوات األولى للفيلم ،قد ال يتطابق
مع الصورة التي وصلت إلى الناس بعد مشاهدة الفيلم ،وإن اختلفت اآلراء والتقييمات
حسب المنظور الذاتي والخلفية الشخصية لكل واحد من المتلقين ،إال أن ما يمكن
االتفاق عليه تقريباً هو تلك الصورة السلبية للرجل الذي ظهر كسوالً ،ال يحب العمل،
يعيش فراغاً كبي اًر في حياته ،يقوم باستغالل جهد المرأة األم األخت الزوجة االبنة في
كل شيء ،ال تتطابق أقواله مع أفعاله الحقيقية الواقعية ،فهو يمارس التسلط والعنف
الذكوري تجاه المرأة في الوقت الذي يدعي فيه العكس من ذلك تماماً.
بينما كانت صورة المرأة كما ظهرت في الفيلم فهي لتلك األنثى الوديعة المسالمة التي
ال تبدي أي نوع من أنواع التمرد على التهميش واإلقصاء الذي يمارسه الرجل بحقها
في كل شيء ،غير أنها في جلساتها النسوية الخاصة تقوم بالبوح أيضاً بشكل من
االستكانة لتروي معاناتها مع الزوج الذي يقوم بضربها كلما كان مزاجه معك اًر.
-الصحفية "ليالس حتاحت" كتبت في صحيفة الشرق األوسط اللندنية رأياً حول
الفيلم بعنوان( :فيلم كالم حريم صار بدون حريم بعد أسره ومنعه ،تقول فيه:
(ما ُع ِر َ
ض ليس غائباً أو غريباً ،بل هناك ما هو أقسى بكثير ،لكن دخول مثل هذه
البيئات أمر شديدي الصعوبة ،فهم قرويون محافظون إلى حد كبير ،ال تجرؤ نساؤهم
على البوح بالكثير ،لكن رغم ذلك استطاع المخرج سامر برقاوي ،من خالل الكاتب
عدنان عودة معد الفيلم وابن المنطقة في الوقت ذاته ،التحدث معهم وعرض حياتهم
بشكل ،ال يؤذي مشاعرهم أو يستغلها).
332
أوراق العدد المزدوج 02-91
ثم تضيف( :اعتمد المخرج في أسلوبه منذ البداية على الثنائيات في الشكل والمضمون
"الرجل والمرأة ،الضوء والعتمة ،الرماد والنار" وتوق نهائي للحرية من خالل طيور في
سماء زرقاء تفرد أجنحتها حرة دون وجهة محددة .واقع ال يخفى على أحد داخل سورية
وخارجها ،بل هو واقع العديد من القرى في البلدان العربية أيضاً .فهل عرض هذه
اإلشكاليات يعتبر إساءة لصورة المرأة في سورية ،أم أن اإلساءة هي في التعتيم
والتجاهل بدالً من مواجهة الواقع ومحاولة تحسينه وإصالحه؟ وإن كانت صورة البلد
تهم المعنيين فلم ال يهبون لجعلها جميلة ومشرقة بدالً من تجميلها وتزوير األصل؟).
*المصدر * :صحيفة الشرق األوسط /تاريخ / 24.12.1112 :كاتب المقال :ليالس
حتاحت /العنوان :فيلم "كالم حريم" صار بدون "حريم" بعد أسره ومنعه.
-المخرج السوري محمد ملص كتب في صحيفة األخبار اللبنانية رأياً بعنوان:
"كالم حريم" وتحديات السينما السورية ،قال فيه:
(هذا الفيلم المصنوع بتصور سينمائي ناضج ،يحكي بلغة حميمة وصادقة منظور
الرجال إلى المرأة في منطقة الفرات ،والمكانة المحدودة التي يمنحونها إياها .الواقع
االجتماعي الطاغي على حياة الرجال ،يقدمه المؤلفان على مساحة الفيلم ،لكنهما قبل
النهاية ،ينزالن بالفيلم إلى ما تحت الطاولة المعتم ،ليتيحا الفرصة لهذه المرأة بما تملك
أن تعبر عن نفسها ،فال تملك حينها إال صوتها لتغني قدرها ومصيرها)* .
333
أوراق العدد المزدوج 02-91
-صحيفة قاسيون كتبت مقاالً بعنوان" :كالم حريم" :انحراف الرؤيا ،دون توقيع
السم الكاتب ،جاء فيه:
(يمتاز الفيلم بلغته الفنية الخاصة التي تبرز أكثر ما تبرز في طريقة المونتاج التي
تؤكد مقولة العمل ،لكن الذي ي ِ
شك ُل حقاً هو الرؤية الفكرية ،فالخطأ الكبير الذي يرتكبه ُ
شريط عدنان عودة وسامر برقاوي هو إدانة للرجل بوصفه صاحب الظلم األكبر،
وحامل العبء األخالقي األعظم في انتهاك المرأة ،بتحويلها إلى أداة عمل وتفريخ فقط،
فيما يأتي الظلم مضاعفاً حين تصبح منطقة الجزيرة ،محور العمل ،نموذجاً لهذا الظلم،
ألن هناك من سيق أر وفق السياقات االجتماعية البليدة التي ترى إلى المشكلة أنها مشكلة
تتعلق بالشوايا "كما هي التسمية العنصرية الدارجة ألهالي الجزيرة السورية").
كما أضاف كاتب المقال( :إن وضع القيم العصرية في حيز الفعل ال يمكن أن يتم
دون مشروع شامل ،فيتكفل بإحاللها واستمرارها ،وهذه مهمة مؤسسات الدولة ،أما
والحال على ما هو عليه فإن من غير المعقول أن يتحول الريفي إلى مدان ،وأن يصبح
مدا اًر للسخرية ،وأن يتم تناوله بدون الحد األدنى من الحب .المتهم الحقيقي الغائب
ال ضحايا)* .
نساء ورجا ً
عن ذهن صانعي الفيلم هو من يجعل من الجميعً ،
المصدر * :صحيفة قاسيون /تاريخ العدد / 12.12.1121 :كاتب المقال :مغفل
التوقيع /العنوان" :كالم حريم" :انحراف الرؤيا.
-صحيفة الغد األردنية كتبت تحت عنوان "كالم حريم" فيلم تسجيلي يثير جدالً
حول واقع المرأة في الشمال السوري ،يحمل توقيع( :أ ف ب) ،حيث وصفت
الصحيفة الفيلم بأنه( :جريمة سينمائية بحق المنطقة؟!).
ونقلت رأياً للصحفية السورية علياء الربيعو تهاجم فيه الفيلم إذ تقول( :ما أثار حفيظتنا
تلك الطريقة النمطية غير المدروسة في تصوير حياة البدو في تلك المنطقة).
334
أوراق العدد المزدوج 02-91
ثم تتابع القول( :المجتمعات البدوية لها خصوصية وحضارة بدأ الغرب يعيها ،بينما
يأتي الكاتب والمخرج هنا ليؤكدا على صورتها البدائية).
وتضيف( :إن تصوير النساء على أنهن يظلمن في المجتمعات البدوية بعيد كل البعد
عن الصحة ،فهنا ينسى معد الفيلم أن النساء حكمن القبائل أحياناً ،ومنها قبيلة طي
التي حكمتها امرأة)* .
المصدر * :صحيفة الغد األردنية /تاريخ العدد / 11.12.1122 :كاتب المقال( :أ
ف ب) /العنوان" :كالم حريم" فيلم تسجيلي يثير جدالً حول واقع المرأة في الشمال
السوري.
-صحيفة البيان اإلماراتية نشرت مقاالً للصحفي عامر مطر بعنوان" :كالم حريم"
كوميديا سطحية تشوه الواقع.
يقول عامر مطر( :أصوات نساء فراتيات ،وصور بط على وجه الفرات ،كإحالة أولى،
ومشهد أول من فيلم "كالم حريم" الكوميدي ،الذي التقط نماذج قروية بسيطة ،وقدمها
ال،
بشكل مضحك) .يتابع قوله( :يبدأ الفيلم بمجموعة رجال ،أولهم أب لسبعة عشر طف ً
وزوج لمرأتين .يتحدث جميعهم عن عالقتهم بالمرأة كزوجة وابنة ،في مشاهدة سريعة
متتالية ،اقتطع كالمهم داخلها بواسطة المونتاج ،ليبدو أكثر إضحاك ًا) .ثم يضيف:
(اختيرت لهم كوادر معينة لتحقيق غاية الفيلم الكوميدية) .ويتساءل عامر( :ما جدوى
السخرية من بشر مظلومين؟ األجدى بالفيلم أن يطرح قضية الجزيرة السورية دون أن
يسخر من سكانها ...فمشكلة تلك المنطقة ال تقتصر على اإلهمال االقتصادي
والتنموي ،من جانب الحكومة السورية ،وإنما تتعداها إلى صورتها المختلفة ،وأحيان ًا
الغائبة في الشارع السوري ألسباب إعالمية متعددة).
كما يتابع السؤال قائالً( :ال أعرف لماذا اختار الكاتب هذا العنوان للفيلم ،فاالسم ال
يمت للهجة الفراتية بصلة .كما أن الكثير من التفاصيل تشي بنظرة استش ارقية قدمها
العمل عن تلك المنطقة ،وتكاد تكون شخصيات الفيلم في الكثير من المشاهد أقرب
335
أوراق العدد المزدوج 02-91
إلى الشخصيات العربية في األفالم الهوليودية) .ثم يصف الفيلم بقوله( :العمل يشبه
أعمال بائسة كثيرة ،أنتجتها و ازرة اإلعالم السورية أيضاً ،الو ازرة التي رسخت طوال
عقود صورة نمطية غير إنسانية عن منطقة الجزيرة السورية "شمال شرق سوريا" .إن
الناس هناك متخلفين ،وأغبياء دون التطرق إلى فقرهم ،وما يعيشونه من حرمان سببه
التقصير الحكومي) .ويختم رأيه في المقالة( :يستمر "كالم حريم" المشوه من الدقيقة
26إلى آخر الفيلم ،في محاولة من صناع العمل ،لعرض مشكالت كبيرة ،تعانيها
المرأة الفراتية ،لكنهم سقطوا في السطحية ،والكوميديا غير النافعة)* .
336
أوراق العدد المزدوج 02-91
-4فيلم :أضواء.
بطاقة الفيلم:
-وثائقي
بعيدة
ً -موقع التصوير :قرية (عين البيضا) على ضفاف بحيرة سد الفرات ،ليست
عنه.
عرض الفيلم:
بداي ًة ،يتحدث الفيلم ومن خالل أسرة صغيرة تعيش على ضفاف بحيرة سد
الفرات ،عن معاناة الناس من عدم وجود الكهرباء في قريتهم بالمطلق ،على
الرغم من قربها من سد الفرات ،اإلنجاز األكبر الذي يتباهى به نظام البعث
واألسد أمام المواطنين السوريين والعالم ،حيث محطات توليد الكهرباء التي
تغطي سوريا ،ولبنان ،واألردن.
كما يظهر معاناتهم من عدم وجود شبكة مياه الشرب ،حيث يشربون من
ماء البحيرة بشكل مباشر ،إضافة إلى عدم تخديم القرية بشبكة طرق عامة،
فهي إذاً شبه مقطوعة عن العالم الخارجي ،وطريقة تواصلهم الوحيدة مع
القرية التالية على الضفة األخرى للبحيرة تتم بواسطة الطرادة ،حيث يعيش
أهل القرية على صيد السمك ،أو الهجرة إلى المدن السورية األخرى ،والدول
337
أوراق العدد المزدوج 02-91
يبدأ الفيلم من غرفة صغيرة حيث الزوج والزوجة وعدد من األطفال ،يقول
الزوج( :نحن نعيش تحت رحمة الله ،ال كهرباء ،وال ماء ،وال أي شيء،
حتى وال طريق) ،بينما تتابع الزوجة( :أحلم بوصول الكهرباء ،حتى أشتري
غسالة ،وبراد أفضل من البحث عن ماء بارد عند من لديهم كهرباء)،
ويعقب الزوج( :أقتني دينامو للماء ،أحسن وضع البيت ،وأزرع ما أريد،
وأشتري تلفزيون ،ومسجلة ،ويصبح عندي كل شيء) .يضيف أحد
المشاركين( :تبعد الكهرباء عنا مسافة كيلو متر واحد ،والدولة توزع الكهرباء
إلى األردن ،ولبنان ،ونحن هنا ال أحد يدري بنا ،ليس لدينا كهرباء ،وما
زلنا على ضوء لمبة الكاز).
بعد ذلك ينتقل الفيلم للحديث عن تاريخ المنطقة القريب (قبل الغمر) ،فيقول
أحدهم( :كان الناس يسكنون هنا في "الزور" ،في هذه المنطقة أرض البحيرة،
وعندما جاءت الدولة وأبلغت السكان أن الماء سوف يغمر "الزور" ،فإن
الناس لم يصدقوا األمر بداي ًة ،وقالت لهم ال تزرعوا األرض ،لكنهم زرعوا،
وعندما جاء الماء أخذ كل شيء).
تطرق الفيلم بصورة عابرة إلى النظرة السائدة بين الناس في القرية لجهة
توزيع األعمال بين الرجل والمرأة ،حيث قدم طفالً يسخر من شقيقته،
واألعمال التي تقوم بها المرأة والتي ال تليق بالرجل على حد تعبيره ،وهذا
يظهر ما سمعه من الكبار حول هذه القضية.
338
أوراق العدد المزدوج 02-91
ربما كانت هذه صرخة الرفض والتمرد الوحيدة التي أظهرها الفيلم على لسان ضيوفه
من الرجال والنساء واألطفال.
339
أوراق العدد المزدوج 02-91
الخاتمة:
نظرة سريعة لمجمل األفالم خالل المرحلتين األولى والثانية ،ال تظهر الكثير من التغير
الذي حدث لإلنسان الفراتي ونمط حياته ،فغياب الخدمات األساسية وفي مقدمتها
الكهرباء ومياه الشرب النظيفة ما زالت دون المستوى إن لم تكن ما تزال غائبة عن
بعض القرى كما ظهر في فيلم (أضواء) لريم الغزي الذي أنتج عام 1116حيث ما
تزال القرية القريبة من أكبر محطات توليد الكهرباء في سوريا محرومة من الكهرباء.
فيلم (كالم حريم) لعدنان العودة وسامر برقاوي الذي أنتج عام 1116أيضاً يظهر فيه
الفراتي والفراتية من حيث المظهر ،شكل الملبس ومستواه متقدماً جداً مقارنة بما ظهر
عليه الناس في فيلم (الحياة اليومية في قرية سورية) الذي صور عام 2621حيث
كانت الصورة تدعو للرثاء لشدة فقرها الظاهر للعيان.
كأن الزمن لم يمر على تلك المنطقة وأهلها ،وأنهم ما زالوا على هامش الحياة عموماً،
منشغلون بتعداد الزيجات ،وإنجاب الذرية األكبر ،والحياة الفارغة من الهدف (كالم
حريم).
لم تخرج األفالم عموماً عن إظهار صورة الفراتي الراضي بما فرض عليه من ظروف
استياء ورفضاً
ً حياتية ظالمة ،إال إذا استثنينا فيلم (الحياة اليومية) الذي رصد بوادر
للظلم الممارس عليهم من قبل شيوخ العشائر والمتنفذين من المزارعين وغيرهم.
إذا عدنا لفرضية البحث في صورة الفراتي في السينما السورية ،فهي كما ظهرت خالل
األفالم الستة التي تم استعراضها أنفاً ،موجودة غير أنها لم تكن متوازنة في عرضها،
ذلك أنها جميعاً وخالل المرحلتين الزمنيتين وما بينهما من تباعد لم تتطرقا إلى الحديث
ال وامرأة) ،حيث غابت الصورة
عن أية إيجابيات في صورة هذا اإلنسان الفراتي (رج ً
احدة لرفض صريح ومتمرد على واقع الحال المعاش
اإليجابية تماماً ،ولم نشاهد حالة و ً
كأنه قدر ال فرار منه ،ولم نلحظ أث اًر ألية حالة نجاح وال على أي مستوى قام بها إنسان
تلك المنطقة.
341
أوراق العدد المزدوج 02-91
أول وأبرز تلك الحاالت الغائبة ،والتي هي حقيقة واقعة شديدة الوضوح يعرفها أبناء
المنطقة الفراتية جميعاً هي حاالت التفوق الدراسي ألبناء الريف في مدن الجزيرة
السورية ،ووقوفها في أغلب األوقات بالصفوف المتقدمة للناجحين ،وأصحاب الشهادات
الدراسية العليا ،حيث تغير الزمن (ما لم نره في األفالم) الذي كانت فيه مهنة الطب
على سبيل المثال ال الحصر حك اًر على أبناء المدن األخرى ،عندما صار في المنطقة
أطباء من أبنائها وبناتها.
إذا أخذنا بعين االعتبار الظروف المحيطة بإنتاج السينما في سوريا ،خاصة لجهة
الحرية في التعبير عما يريده صانعوا األفالم ،فإننا قد نتفهم قائمة الممنوعات
والمحرمات ،ولكن ذلك بالدرجة األولى يكون حول المغزى السياسي وهل يحمل نفساً
معارضاً ورافضاً لشكل السلطة السياسية ،ولكن الحديث عن الجوانب اإليجابية التي
خلقت وشقت طريقها على الرغم من تلك البيئة المتخلفة القمعية ألم يكن يستحق بعض
االنتباه ،كي ال تكون الصورة أحادية النظرة كما ظهرت.
هذا االستخالص ال يقلل بطبيعة الحال من أهمية تلك األفالم الوثائقية ،وقدرتها على
تصوير الحياة الواقعية لإلنسان الفراتي كما هي ،وخاصة فيما يتعلق بالجانب
االجتماعي ،والكارثة الكبرى التي حدثت باقتالع الناس من بيوتهم وترحيلهم قس اًر إلى
مناطق بعيدة ،وغمرت بيوتهم وقراهم وأراضيهم بالماء الذي غير واقع المنطقة إلى
األبد ،فصار النهر بح اًر اسمه سد الفرات ،وصار اسم الناس المغمورون.
341
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق المسرح
342
أوراق العدد المزدوج 02-91
ناقد مسرحي سوري ،مقيم في ألمانيا ،أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون
المسرحية ،أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية.
إذا كانت الرقة اشتهرت بفرقتها الشعبية الراقصة على مستوى الوطن العربي " فرقة
الرقة للفنون الشعبية" منذ تأسيسها عام ،2666على يد الفنان إسماعيل العجيلي ،إال
أن تلك المدينة ،ومنذ مطلع األلفية الثالثة ،تعددت نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية،
برزت المدينة بكثرة نشاطاتها الثقافية والفنية والفكرية ،وتمايزت بمهرجانات المتنوعة
للرواية والقصة والشعر والمسرح وملتقى الفن التشكيلي ،مع مشاركات محلية وعربية
وأوروبية مهمة على مستوى التخصص ،ساهم هذا كله بترسيم هذه المهرجان كأحد
العالمات الفارقة في حياة مدينة الرقة الثقافية ،ليس في سورية فقط وإنما علي مستوي
المنطقة العربية ،حتى أن بعض النشاطات والعديد من الندوات الفكرية ،مثل ندوة "حول
العلمانية والدين" التي كان من المقرر أن تستضيف مفكرين بارزين من المنطقة والعالم،
ُمنعت من قبل السطات الحزبية واألمنية في الرقة ،ربما بسبب التخوف من اإلشكالية
األيديولوجية والسياسية للموضوع ،وربما خشية أن تخطف الرقة األضواء من العاصمة
دمشق.
بالعودة إلى مهرجان المسرح كحالة ثقافية تفاعليةُ ،يمكن أن تُحرك جمود الحياة
المسرحية والثقافية عموما ،تطلب األمر وضع أسس أولية للتحضير ،مثل شروط
االشتراك ،وتأمين إقامة الوفود وأماكن الندوات الفكرية واليومية ،وصاالت العروض
واألهم جهة التمويل ،وقد نجحت مديرية الثقافة في الرقة بإدارة حمود الموسى بحل
الكثير من هذه المعضالت حين قصرت و ازرة الثقافة ،عبر استنهاض فعاليات المجتمع
343
أوراق العدد المزدوج 02-91
المدني واألهلي لتحمل تكاليف وأعباء نأت عنها مؤسسات الدولة ،بل واستطاعت تلك
العروض المسرحية أن تخرج أبعد من مركز محافظة الرقة ،لتمتد إلى المدن والبلدات
الصغيرة التابعة لها كمدينة الطبقة "الثورة" وسواها ،ما خلق حراكا ثقافيا استثنائيا في
هذه المحافظة.
ساهم هذا الحراك بدورة بتشكيل جمهور يعي احتياجاته ويطالب مسؤولي المهرجانات
بعروض عربية ودولية ذات سوية فنية عالية ،إغناء للحالة الثقافية من خالل االحتكاك
المباشر مع ثقافة اآلخر واالطالع على تجاربهم وطرق التعبير المستخدمة لديهم
لالرتقاء بالمشهد الثقافي والمسرحي في الرقة إلى مستويات متقدمة ،وبالتالي فتحت
هذه الفعاليات نافذة ُيطل من خاللها جمهور الرقة على المشهد المسرحي السوري
ويحرض في الوقت ذاته مدنا أخرى لتحذو حذوها ،كمثال مهرجانات
والعربي والعالميُ ،
حمص وحماه وطرطوس والسلمية ،التي بدأت تفكر جدياً أن تحتضن الفعاليات الثقافية
والفكرية إلى جانب النشاطات الفنية /المسرحية.
تأسس مهرجان الرقة للفنون المسرحية عام ( )1111تحت شعار "من أجل مسرح
عربي أصيل ومتطور" ،بجهود مجموعة كبيرة من الفنانين المسرحيين واالداريين في
مديرية الثقافة والمركز الثقافي والمجتمع المدني والمثقفين في الرقة ،واستمرت تلك
النشاطات المرافقة للمهرجانات أربع دورات متتالية ،شاركت فيها وفود سورية وعربية
ودولية ،مما ساهم في تنشيط الفعاليات المسرحية على مستوى األفراد وعلى مستوى
المؤسسات الرسمية ،كما أن المهرجان أضاف في دورته الرابعة عروضاً لألطفال
توزعت بين الرقة والطبقة (الثورة).
لكن المهرجان سرعان ما توقف نشاطه بعد دورة عام ،1112ألسباب قد تكون
معروفة ،لكن حقيقة األمر كانت هذه الدورات األربع كفيلة بأن ترتقي بالفن المسرحي
في الرقة إلى مصاف المدن الثقافية.
344
أوراق العدد المزدوج 02-91
َل ْم يكن للمهرجان جوائز مادية ،خاصة في الدورة االولى والثانية ،كانت هذه ميزة
المهرجان ،كما كانت مهرجانات دمشق للفنون المسرحية تفعل ذلك ،فكان هدف العرض
جمالياً ،فنياً وليس مادياً ،في الدورات التالية ،بدأت إدارة المهرجان بتكريم الفنانين
للمميزين مادياً ،وتأسست لجان التحكيم لمنح جوائز ثابتة ألفضل (عرض -إخراج
مسرحي -ممثل -ممثلة -سينوغراف) وهناك جوائز تشجيعية تمنحها بعض المؤسسات
أو األشخاص ممن لديهم رغبة في تشجيع العروض المسرحية غير الفائزة ،ربما كان
منح الجوائز سبباً في تراجع مستوى العروض التي كان هدفها الحصول على الجائزة
دون التفكير بالجانب الجمالي والفني للعرض.
مازلنا نعتقد أن التأثير على الوعي الجمعي السياسي واالجتماعي والروحي ال يمكن
أن يحدث إال بالوصول للجمهور العريض .لكن من هو هذا الجمهور العريض الذي
نريد أن نصل إليه؟ هم ليسوا مسرحيين فحسب ،بل هم من كافة شرائح المجتمع ،قد
يكون بينهم موسيقيون ،وفنانون تشكيليون ،وكتاب ،وصحفيون ،وموسيقيون ،ومدرسون
وفضوليون وإلى ما هنالك ،وأنا أعتقد أن هذا العدد الهائل من الحضور هو جمهور
الثقافة (الفنية والفكرية واالدبية) ،جمهور األماسي الموسيقية .أليس لهؤالء الحق في
أن يشاهدوا عروضاً يريدون هم مشاهدتها؟ عروضاً يمكن أن يتأثروا بها بهذا الشكل
أو ذاك ،ثم ينقلون ما تأثروا هم به من خالل تجاربهم الخاصة إلى آخرين في مجاالت
عملهم؟
قد تكون مفاجأة لمن حضر المهرجان في هذه المحافظة البعيدة عن العاصمة ،بحضور
الجمهور الكثيف والمشارك في الندوات ،القادم من خارج المحافظة أكثر من جمهور
عروض القومي في دمشق .وقد تميز عمل القائمين على المهرجانات ،خاصة مدير
الثقافة في المحافظة ومدير المهرجان السيد حمود الموسى ،الصدق والرغبة الشديدة
في ترسيخ حركة مسرحية فاعلة تشكل اندفاعة الجمهور ظاهرة مشجعة في المدينة.
345
أوراق العدد المزدوج 02-91
استقطب المهرجان جمهو اًر واسعاً وهذا ما يرمي إليه العمل المسرحي أساسا ،وبالتالي
تحقق شيئاً مهماً من خالل المهرجان ،فالقاعة كانت تضيق بالحاضرين ،ويبقى الرهان
بعد تحقق الحضور والمتابعة للمهرجان على تكوين ثقافة مسرحية لدى الجمهور
المسرحي وتأثير الجمهور على الفرق المسرحية من خالل المالحظات واالنتقادات
لحض الفرق على تحسين األداء المسرحي في المهرجانات القادمة.
ونستطيع القول أن البطل الحقيقي في كل عروض مهرجانات الرقة كان الجمهور بدون
منازع ،وهو جمهور متابع لكافة الفعاليات الثقافية ،يرتاد ملتقيات الفن التشكيلي
واألماسي الموسيقية والحفالت الراقصة ،كان مواظباً للعروض المسرحية وللجلسات
النقدية التي أعقبتها بدأب وحرص افتقدناه في مهرجان دمشق المسرحي.
بينما كانت تغص قاعة عبد السالم العجيلي في مديرية الثقافة حيث تجري جلسات
الحوار بأكثر من طاقتها على االستيعاب ،فيفيض الجمهور المتابع خارجها .لم يكن
هذا الجمهور متفرجاً أو متابعاً سلبياً ،بل كان فعاالً في الحضور وفي الحوارات المتميزة،
بغض النظر عن رأي هنا أو رأي هناك ،أكثر من كان الفتاً لالنتباه حضور شخص
ضرير اسمه "يوسف الثلجي" شارك في نقاش أكثر من عرض ،وبآراء متميزة جعلتنا
نحسد قدرته على التلقي ،فاقترح الصديق أنور بدر مع آخرين منحه جائزة تكريمية
باسم جائزة الجمهور.
في كل دورة كانت تتألف لجان التحكيم والتقييم من المختصين المحترفين في مجال
المسرح ،إضافة إلى حفل االفتتاح الذي تحييه "فرقة الرقة للفنون الشعبية" ،إضافة
لترافق دورات المهرجان مع العديد من الفعاليات كالمعارض التشكيلية ومعارض الكتب
والندوات الفكرية والمسرحية ،ونشرة إعالمية يومية باسم "فضاءات مسرحية" ترصد
العروض المسرحية واللقاءات الفكرية ،وهذا كانت من النتائج الجيدة للمهرجان .وأذكر
ذات مرة أن (تجمع الرصافة للثقافة والفنون) أقام معرضاً تشكيلياً في الهواء الطلق في
346
أوراق العدد المزدوج 02-91
أحد أحياء الرقة الشعبية وذلك تحية إلى ضيوف المهرجان ورواده وجمهوره وفرقه
الفنية.
نجاح مهرجان الرقة للفنون المسرحية تم بإمكانيات متواضعة ،رغم غياب أي دعم من
و ازرة الثقافة أو مديرية المسارح والموسيقي ،ما دفع أحد أعضاء لجنة التحكيم في
مهرجان الرقة والذي كان ضيفاً على مهرجان دمشق المسرحي ذات مرة ،بأنه كشخص
مفرد كلف إدارة مهرجان دمشق مبالغ طائلة ،بينما أقيم مهرجان الرقة بتكلفة أقل من
إنتاج عرض مسرحي واحد في دمشق .وقد نجح المهرجان في تحقيق أهدافه بتفعيل
الحركة المسرحية في المحافظة ،وتفعيل العالقة الراكدة بين المنصة والجمهور ،وهو
ما عجزت عنه المؤسسات الرسمية في دمشق .حتى أصبح هذا المهرجان عالمة فارقة
من عالمات الثقافة ،ليس على مستوى المحافظة فحسب ،وبل وعلى مستوى المشهد
المسرحي في سورية.
وكما أشرنا إلى انحدار الخط البياني للمهرجان في الدورة الرابعة حين هبطت سوية
العروض دون مستوى الحضور أو تفاعل الجمهور ،فكانت فع ً
ال آخر دورة من دورات
هذا المهرجان ،الذي قدم خالل دوراته األربع عروضاً للهواة وأخرى للمحترفين وثالثة
يكتف بهذه العروض فحسب بل أضاف ِ لألطفال من المسارح القومية في سورية ،ولم
المهرجان إلى رصيده فرقاً ثقافية عربية وعالمية ،من تركيا وتونس واألردن والعراق
وفتح المجال أمام
ليمنح صفة تعددية المراجع الثقافية /الفنية في العروض َ
َ ولبنان..
بعض الفرق المحلية للظهور ،ومحاولة االستفادة من هذه التجارب والخبرات العربية،
وهو مؤشر بأن العروض السورية كانت ما تزال في حالة جيدة رغم االتهامات الموجهة
إليها.
بعد أربع سنوات من إطالق مهرجان الرقة المسرحي ،بالتوازي مع باقي المهرجانات
الثقافية واألدبية ،كان المخاض الذي تشكلت على إثره في المحافظة خمس فرق
مسرحية ،ما دفع األمر بمديرية الثقافة في المحافظة الفتتاح وإقامة دورات تدريبية في
347
أوراق العدد المزدوج 02-91
الفنون المسرحية لتطوير إمكانيات مسرحيي محافظة الرقة وبشكل خاص الهواة منهم،
في شتي المجاالت ،وهذه مسألة على قدر من األهمية ألن الهدف النهائي لمهرجانات
المسرح في المدن هو دعم الحركة المسرحية فيها ،وتشجيع مسرحيي هذه المدن على
خوض تجاربهم الخاصة.
عن الهدف من هذه الدورة تحدث محمد قارصلي قائالً" :إن الهدف األساسي من إقامة
هذه الدورة ،وغيرها من الدورات هو التعريف بأدوات العمل المسرحي ،وأسس هذا العمل
بطريقة علمية ،ألن المسرح علم بكافة جوانب عمل الممثل في العرض المسرحي،
لذلك راعينا عمل الممثل على جسده من خالل تدريبه على (الحركة ،الليونة ،المبارزة،
القتال المسرحي ،األكروبات) ،ولكن تبقى المادة الرئيسية هي عمل وتدريب الممثل
على جسده ،وصوته ،وحركته ،وبناء الشخصية المسرحية ،وهناك أيضاً مواد مساعدة
كالموسيقى والشعر والفن التشكيلي ،وعالقتهما بالمسرح".
لقد وجه الكاتب مصطفى حقي انتقادات إلى المخرجين بشكل عام الذين يلجؤون إلى
نصوص أجنبية ،دون االهتمام بالنصوص المحلية ،وقد وجد أن عزوف المخرج عن
تناول النص المحلي يشي بعدم تحمله المسؤولية ،وفيه اجحاف وغبن للنص المحلي،
348
أوراق العدد المزدوج 02-91
فنسبة النصوص المحلية التي عرضت في هذا المهرجان كانت بنسبة 2من 21
نصوص ،أي غالبية النصوص هي مترجمة وغير عربية.
349
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق النقد
351
أوراق العدد المزدوج 02-91
نورالدين ناصر
ولد األديب إبراهيم الخليل في مدينة الرقة عام ،2644وهو يحمل إجازة في اللغة
العربية من جامعة دمشق منذ عام .2621انصرف منذ مطلع شبابه إلى العناية
باألدب واللغة ،وكتب في معظم األجناس األدبية "قصة ،شعر ،رواية ،نقد".
ويشتغل اآلن على إحفورات لغوية تعنى باألنثروبولوجيا والمقاربات بين اللغة العربية
وغيرها ،من خالل البحث عن جذور لهجة الرقة العامية ،وما حفظته من الفصيح
المنسي ،سواء أكان عربياً أم سامياً "اآلرامية والعبرية".
وكانت ثورة الحرف تنزع إلى محاولة تأسيس ألدب جديد في الشكل والمضمون ،وهذا
ما وسم معظم أعمال الجماعة منذ بداياتها األولى ،وقد جرت معركة أدبية بين أعضاء
الجماعة ومناصريهم ،وبين الدكتور عبد السالم العجيلي (رحمه الله) في بداية
الستينات ،وهذا إن دل يدل على الحالة الصحية في االختالف المفيد والهادف إلى
التعبير عن نزوع كل جهة دون البحث عن إلغاء اآلخر.
351
أوراق العدد المزدوج 02-91
وكان من أهداف الجماعة :الكالم بين األعضاء يكون باللغة العربية الفصحى ،ألن
معظمهم من متابعي وخريجي اآلداب ،فالسلوك والطموح تداخال ،واتخذ التجريب عند
الجماعة ،خاصة الخليل والجرادي ،منحى تجريدياً ،حيث البحث عن تفجير اللغة أوالً،
واالستفادة من كل طاقاتها ،ومحاولة إيجاد نص مرجعيته عربية عند األوائل ،وخاصة
الصوفية في نصوصهم العرفانية ،وهذه النصوص التي عبرت باك اًر عن اتجاه جديد
في النص العربي ،وهو ما يمكن أن نسميه بنص عابر لألشكال ،الحامل فيه اللغة
أحياناً كثي اًر ،وليست الحكاية ،وإنما قد تأتي الحكاية كزينة للعمل على شكل نمنمات.
أما اآلن فيعمل الخليل على تجسيد المشروع على المستوى الروائي أو المستوى
القصصي والشعري ،حيث تتداخل فيها التخوم ،ومشروعه الصوفي أنجز هدفه ،وينتقل
اآلن في هذه المرحلة للعناية بالرواية ،ألنها وحدها القادرة على التعبير عما يجري
ويحدث.
في "سدوم" كتب الرواية بمعناها ،وبشروطها األدبية ،وفي "حارس الماعز" أيضاً،
وعمله الجديد "صيارفة الرنين" ،عني بالنوفيل ألنها تحقق التداخل بين القصة الطويلة
والرواية القصيرة.
زار الخليل أمريكا أوالً ثم الصين ،ويقول :في أمريكا الكاتب مستقل عن السلطة،
واألدب هناك ثالثة أنواع :أدب البيض وهو السائد ،وأدب الزنوج وله خصوصيته
الخاصة ،وأدب الملونين ،وقد يشتهر كاتب فيقرأه الكل ،في أمريكا اطلعت على عالم
جديد ،وحياة جديدة وأفكار قد تكون معها أو ضدها ،ويذكر حادثة أثناء زيارته لمعهد
تعليم األدب (البوكركي) ،فيقول :سألت األدباء األمريكان بأنكم تقولون أن األدب موهبة
وجهد ،ويستطيع المعهد أن يقدم الجهد ،فماذا عن الموهبة؟ فأصر أحد المدرسين الكبار
على اإلجابة ،فقال :ليس شرطاً أن نصنع من كل طالب شكسبير لكننا على األقل
نستطيع أن ننظف الحياة األدبية من الخنازير!.
352
أوراق العدد المزدوج 02-91
أما الصين فيقول عنها :هي األقرب إلينا في كل شيء ،الحياة ونمط التفكير والثقافة
والعالقات التاريخية ،والصين أو الصيني كالحرير رقيق وناعم ،ولكنه ال ينقطع ،فهو
قوي ومتين.
كتب الخليل الكثير ونشر معظم نتاجه األدبي في الصحف والمجالت المحلية والعربية،
وترجم بعض نتاجه إلى لغات أخرى،
ُيعتبر الروائي السوري إبراهيم الخليل من أهم الروائيين السوريين ،إال أنه من الروائيين
المنسيين الذين ال يجيدون التزلف والتملق لبلوغ غاياتهم كما فعل من هم أقل شأناً منه
على المستوى األدبي والثقافي ،ووصلوا إلى الشهرة التي يبتغونها ،وكانت هي غايتهم
بحد ذاتها ،بينما بقي إبراهيم الخليل ملتزماً بمبادئه وإيمانه بدور األديب والكاتب المنحاز
إلى أدبه والمسؤول عن كلمته والمؤمن بها.
لم ُيعرف عن الروائي إبراهيم الخليل حب الشهرة والظهور واألضواء ،إنما ُعرف عنه
أنه يظل معتكفاً في صومعته مع كتبه ،ناد اًر ما ُيغادر بيته ،وقد رفض مغادرة مدينة
الرقة رغم كل المآسي التي عاشتها المدينة وأهلها.
أراد الخليل أن يكون شاهداً حياً على كل ما جرى ويجري في المدينة التي ولد وعاش
فيها كل سني حياته ،وكتب عنها وعن أهلها وبيئتها االجتماعية ،وكل ما ط أر عليها
من تغيرات عبر التاريخ ،فكانت الرقة حاضرة بكل قضاياها وتفاصيلها في رواياته
وقصصه .
أنجز الروائي الرقي روايات عدة ،هي" :حارة البدو ،"2621و"الضباع ،"2621
و"الهدس ،"2622و"حارس الماعز ،"1111و"سودوم ..سباق اإلوز البري ،"1112
و"صيارفة الرنين ."1112وله في القصة" :البحث عن سعدون الطيب ،"2666
و"البازيار الجميل ،"2662و"مال الحضرة ،"2662و"غدير الحجر ،"2662و"أرغفة
النعاس ،"1112و"الورل ."1111
353
أوراق العدد المزدوج 02-91
وامتازت رواياته بجزالة اللغة ورصانة األسلوب ،وحظيت باهتمام النقاد ،فيقول الروائي
والناقد نذير جعفرُ " :يعد إبراهيم الخليل أحد أهم األصوات القصصية والروائية في الرقة
وفي المشهد اإلبداعي السوري ،لما اشتملت عليه تجربته من إنجاز على مستويي النوع
والكم ،والشكل والمحتوى".
وقال عنه الدكتور الراحل عبد السالم العجيلي ،الذي قدم روايته« ،حارة البدو»" :إن
تصلبه صراحته ولذع لسانه على خشبته التي يحملها على كتفه منذ اآلن".
لم يهتم إبراهيم الخليل بتسليع أدبه والترويج له ،بل كان يكتفي بإنجاز نتاجه السردي
بغية إضافته إلى المكتبة السردية السورية ،وبقي بعيداً عن لوثة وسائل االتصاالت
والتكنولوجيا ،وزاهداً في كل ما هو دون الورق والقلم مما أتاح له تمكين القارئ من
االستمتاع بقراءة نتاج روائي مختلف عن السائد الذي تم تعويمه وفق اعتبارات لم تأخذ
بسوية النتاج األدبي بقدر ما اعتمدت على ثقافة "التطبيل والتزمير" التي تهم المؤسسات
الثقافية الرسمية بالدرجة األولى أكثر من جودة المنتج مما ساهم في زيادة عدد المقبلين
على الكتابة الروائية رغم افتقارهم إلى األدوات األساسية الالزمة لخوض غمار الكتابة،
مستغلين ضعف النقد وانشغال النقاد بالتزلف للكاتبات والتقرب منهن عبر كيل المديح
لهن.
تميز ابراهيم الخليل بعنايته الفائقة بالعناوين؛ حيث تكشف استراتيجية العنونة عند
إبراهيم الخليل عن شغف عميق بالعنوان وإدراك ألهميته بوصفه عتبة اإلغواء األولى
في شد انتباه القارئ ،وتحفيزه على الولوج في النص واستنطاقه .وتقوم هذه االستراتيجية
على استثمار مختلف أنواع ومستويات ووظائف العنوان الرئيس ،والفرعي ،وما يحيط
بهما من إشارات وتنبيهات وإهداءات ومقدمات لتوجيه مسار التلقي من جهة ،واالنفتاح
على اإليحاءات والدالالت المتعددة من جهة ثانية.
354
أوراق العدد المزدوج 02-91
رحل بعض رفاق الخليل عن الدنيا ،وارتحل بعضهم اآلخر عن الرقة ،وبقي وحيداً في
صومعته كما كان دائم ًا مع كتبه وأوراقه ،وحين سيطر شذاذ اآلفاق على المدينة
ونكبتُ ،نكب معها إبراهيم الخليل ،والتزم بيته أكثر ،وفقد مكتبته الضخمة ،وقد كان
ُ
أبناء الرقة ُيفاخرون بمكتباتهم وعدد قراءاتهم ،ولطالما تحولت جلساتهم إلى حوارات
ثقافية وأدبية ال تخلو من المشاحانت والمناكفات والمبارزات اللغوية ،وكان إبراهيم
الخليل نداً قوياً ومرجعاً مهم ًا.
رغم كل التضييق ،بقي إبراهيم الخليل في المدينة ،ولم يغادرها ،وقد بدأ العدوان
األمريكي عليها وهو فيها ،يراقب األحداث عن كثب ،إال أنه اضطر لمغادرتها مع
وكتبت له النجاة .ومازال مثاب ار في عطائه
اشتداد القصف الهمجي ،وقد ُقصف بيتهُ ،
وكأنه ينهل من نبع ال ينضب.
355
أوراق العدد المزدوج 02-91
إبراهيم العلوش
إذا كانت أعمال الدكتور عبد السالم العجيلي ،هي البداية والتأسيس الراسخ ،فإن
المجموعة القصصية "الدم ليس أحمر" هي مفصل أو مفرق على طريق يقود الى
أصوات جديدة ،في القصة القصيرة واالعمال السردية الرقية.
صدرت المجموعة القصصية الجماعية "الدم ليس أحمر" عام 2624بإشراف واعداد
الشاعر إبراهيم الجرادي وتحرير الصحافي سعيد مطر ،وباالستعانة بأرشيف وعالقات
طه الطه صاحب المتحف التاريخي والفكري واألدبي ،وضمت المجموعة مشروع
القصاصين والكتاب المؤسسين لبداية كتابات العقدين التاليين بعد تاريخ إصدارها.
وليست المجموعة تعبي ار عن الجيل الذي تال العجيلي ،بل هي تعبير عن الجيل الثاني
من الكتاب والقصاصين الرقاويين ،بعد الجيل الذي تألق فيه إبراهيم الخليل القاص
والروائي الذي يتسم مع العجيلي بوفائه للرقة كمكان ،ولم يغادرها الى اليوم .وقد ظل
إبراهيم الخليل خبي ار بتفاصيل الرقة وبدروبها وبحكايات أهلها السرية والعلنية،
وبفضائحها المخبأة بالمال أو بالنفوذ ،أو خلف لحى مزيفة وعقيمة.
صدرت مجموعة الدم ليس أحمر بعد موجة االعتقاالت الجماعية التي شنها حافظ
األسد وعلي دوبا على جيل الثمانينات السوري ،وزرعا الخوف فيمن نجا من االعتقال
الى درجة أنك صرت ترى عائالت تغير كنيتها من اجل التخلص من االستدعاءات
األمنية .وكانت المجموعة محاولة لتجاوز عقدة الصمت والذهول التي خلفها النهج
356
أوراق العدد المزدوج 02-91
المخابراتي الذي انتصر على السوريين ،وبدأ يحلم بإركاع سوريا وتحويلها الى جمهورية
خوف!
كانت المجموعة محاولة للتمرد على السائد ،ومحاولة لتجريب األفكار الجديدة التي
تدعو الى الثورة ،وعدم االستسالم .وكانت أفكارهم ماتزال غائمة ،وتنوس بين الثورة
والعدمية .ورغم أنها كانت نقطة انعطاف مهمة ،لكن لم يصمد الكثير من كتابها في
تحمل أعباء الكتابة والتضحية من أجلها ،فاستمر عدد قليل منهم مثل معن الحسون
المسكون بالحلم ،وبسام الحافظ الذي أسرته التفاصيل ،ومحمد جاسم الحميدي رجل
الحكاية والتراث القصصي الشعبي ،باإلضافة الى أحمد مصارع وعبد الرحمن مطر
وأحمد جاسم الحميدي .وترك محمد غانم الكتابة األدبية الى شؤون الجداالت اليومية،
وارسين قومجيان ذهب إلى الثقافي بأبعاده العامة ،ومحمد فياض األحمد صمت مضيعاً
صوته المميز ،وكذلك عبد الرزاق عبيد ،وخليل الطه ،وغيب الموت أحمد محمود
المصطفى بشكل مبكر في حادث سير.
ظلت الساحة األدبية ،مفروشة برفاهية الحكاية وتجلياتها الجميلة في أدب عبد السالم
العجيلي ،وكانت التمردات األدبية ضد الحكاية الكالسيكية في القص ،قد بدأت مع
مجلة صوت الرافقة التي كان يصدرها عدد من طالب ومعلمي ثانوية الرشيد ،وبرزت
فيها أسماء أدبية لم يستمر الكثير منها وتحول بعضهم الى حرف وأعمال أخرى أدبية
أو سياسية أو غابوا عن الفضاء العام متوارين في خضم مشاغل الحياة الكثيرة.
ورغم أن األسم اء التي برزت في تلك المرحلة الذين أسسوا لما يدعى "ثورة الحرف"
أمثال إبراهيم الخليل وعبد االله حمزاوي ،وعبد الله أبو هيف وفيصل حقي ،وخليل
جاسم الحميدي وإبراهيم الجرادي .كانت شديدة االنتقاد ألدب العجيلي ،الى درجة
التحرش بمكانته االجتماعية والعامة ،فان أدب العجيلي ظل موجودا ،وله قراؤه ،وظلت
موهبة العجيلي القصصية وموهبته في كتابة المقال والقاء المحاضرات تسر القراء
والجمهور ،وتأسرهم الى درجة حبس األنفاس.
357
أوراق العدد المزدوج 02-91
وظل العجيلي أبا روحيا للكتاب والمثقفين الرقيين ،وكتب العديد من المقدمات لكتبهم،
أمثال تقديمه لرواية حارة البدو إلبراهيم الخليل ،ولمجموعة قمر على بابل لمحمد الحاج
صالح ،وكلمة الغالف لمجموعة من مجموعات نجاح إبراهيم ،وأعطى مقابالت كثيرة
لكتاب وصحفيي الرقة ،ومن أشهرها مقابالته مع ماجد رشيد العويد ،الذي كانت له
مكانة خاصة لدى العجيلي.
وفي مطلع التسعينات ،برز جيل جديد تجاوز نهج األجيال السابقة وصدرت عدة
مجموعات قصصية تركت أث ار مهما في الحياة األدبية الرقية والسورية أمثال مجموعة
"قمر على بابل" ومجموعة "القاشور" ،ورواية "شمس الدين" لمحمد جاسم الحميدي،
و"بصوت خفيض " لماجد رشيد العويد .وبرزت أسماء مثل صبحي دسوقي وسامي
حمزة ،و مصطفى حقي وفيصل حقي وشهال العجيلي ،وبرز الممثل والكاتب يحيى
الكفري ،ولعل صدور رواية سوالويسي لخليل الرز في مطلع التسعينات ،هي من أهم
اإلعالنات األدبية في الرقة اذ انطلق نشاط خليل الرز الذي صار من أهم الكتاب
السوريين والعرب ،في نهجه الفني وفي تقنياته األدبية ،وفي مزج الثقافة العربية ،مع
الثقافة الروسية ،باإلضافة الى االقتصاد الشعري في بناء الجملة القصصية ،وقد اعتنى
بمزاوجة المسرح مع القص مع الفن التشكيلي ،اذ ان الكثير من شخصياته تكاد أن
تكون عالمات وصفية في لوحات فنية ،مزينة باأللون ويحميها التجريد من الخوض
في الحياة اليومية ومشاكلها.
استمرت األجيال األدبية في التفاعل وفي التنافس فيما بينها وفيما بين أساليبها التي
ابتدأها العجيلي بفن الحكاية ،والتي استمرت في توظيف جمالياتها شهال العجيلي وأيمن
ناصر ،وعمر الحمود ،وتركي رمضان في روايته برج لينا .فيما ظل التجريب القصصي
والروائي سائدا في اعمال ماجد رشيد العويد وإبراهيم العلوش وإبراهيم الكبة الذي أبحر
عميقا في عوالم الخيال والبالغة اللغوية والنفسية.
358
أوراق العدد المزدوج 02-91
وبرز مزج الشعر مع الحكاية والتصوف في أعمال إبراهيم الخليل وأسعد آل فخري،
بينما نحا محمد الحاج صالح الى السياسي والفكري وصار الهم العام فوق همه
القصصي ،خاصة وأنه من عائلة منكوبة باالعتقال الجماعي سواء على يد نظام األسد
أو من قبل تنظيم داعش الذي اختطف اخاه فراس الى اليوم ،وبرز يوسف الدعيس في
التقاط الحياة اليومية وتفاصيلها متحر ار من لغة الشعر والتصوف التي جمدت
النصوص األدبية وجعلتها مجرد كتل بالغية تكاد أن تكون منفصلة عن الواقع.
وجاء إسماعيل الخليل بروايته "ذاكرة العوسج والصبار" التي كانت أول رواية يتم
توقيعها في الرقة التي تدمر 21بالمئة من بيوتها وشوارعها ومقوماتها الحضرية،
المدينة التي سطرت ذاكرة 261عاما من االستقرار على ضفة الفرات ومن محاولة
احياء المدينة العريقة في تاريخها التي سكنها هارون الرشيد ودمرتها عائلة األسد
باالشتراك مع داعش وإيران وروسيا ،والقوات الغربية وحلفائها الذين حولوها الى خراب،
وقد جاءت رواية المغيرة الهويدي "قماش أسود" التي فازت مؤخ ار بجائزة غسان كنفاني
بعضا من تاريخ المدينة.
لتؤرخ ً
والبد من التعريج إلى أدب السجون الذي تألق فيه هيثم الخوجة بمجوعته القصصية
اليتيمة "القحط" ولم يتمكن من متابعة مسيرته القصصية ألن الموت عاجله بعد خروجه
من المعتقل اذ خرج محقونا بسموم علي دوبا التي أباد بها جيال من السوريين من أجل
ترسيخ عبودية السوريين لعائلة األسد.
وكذلك رواية "قبل حلول الظالم" لمعبد الحسون عن المعتقالت التي عايشها طوال عقد
كامل اذ يروي حكايات من الجحيم الذي يشبه جحيم دانتي وبأسلوب قصصي أخاذ.
وقد استكمل مسيرته األدبية في بلدان اللجوء التي ساقها اليه نظام األسد.
وقد فاجأ أيمن ناصر األوساط القصصية بصدور روايته "اللحاف" ،التي القت نجاحا
واقباال من القراء وإن كانت الحكاية هي محور اهتمامها بعيدا عن االسقاط السياسي،
359
أوراق العدد المزدوج 02-91
والتجريب الذي عذب كتاب القصة وارهقهم باالختزال والتصورات البعيدة الى حد
االنفصال عن الواقع في كثير من األحيان.
أما التجارب النسائية في الرقة فلها مساحة ليست قليلة مثل سحر سليمان التي لم
تستكمل تجربتها بعدما هاجرت وانشغلت بصعوبات الحياة ،باإلضافة الى فوزية المرعي
التي لم ترتق تجربتها عن كونها تأمالت وخواطر أدبية ممزوجة بالشعر ،وكذلك نجاح
إب ارهيم التي أثارت الكثير من النقاش حول تجربتها ،وشهال العجيلي الكاتبة والناقدة
والتي وصلت بعض أعمالها الى الشهرة على مستوى العالم العربي بعدما تم ترشيح
روايتها "سماء قريبة من بيتنا" الى القائمة القصيرة في البوكر العربي عام .1126
والبد من ذكر العبين لم ينزلوا الى الملعب وكانوا أشبه بالمحرضين والمحفزين على
االبداع ومن أبرزهم طه الطه صاحب المتحف الفكري واالدبي ،وعبد السالم حياني
المتابع والناقد االدبي ،وكذلك عبد الغفور الشعيب الذي يعتبر العقل االستراتيجي لتطور
الثقافة في الرقة عبر إدارته للمركز الثقافي فيها ،وتألق اإلنتاج الفني واالدبي والفكري
في عصره ،رغم أن النظام كان قد كافأه باالعتقال في عصر األسد االب ،وبالتهجير
في عصر األسد االبن ،وقد توفي غريبا في تركيا بعيدا عن المدينة التي أحبها وكرس
فكره وجهده لتألق االبداع فيها.
سكت الكثير من الكتاب وفروا الى زوايا نائية في السياسة وفي االقتصاد والميديا ومن
لم يتمكن من الفرار فقد فضل الصمت ،الصمت الذي يضيع التجربة وتجليات الخيال
وأحالم المستقبل ،لكن جيال جديدا من الكتاب بدأ البروز على الساحة العامة سواء
داخل سوريا أو خارجها ،ما يزال هذا الجيل يعاني من قسوة الحياة وظرف االستبداد
والتهجير ،وما نزال نأمل بإصدار روايات وقصص األجيال القادمة من االدباء الرقيين
خاص وأن المكان لم يعد يتسع لهم وصاروا أبناء المدن والمهاجر الجديدة وما علينا
اال انتظار النصوص الجديدة التي ستخط الدروب الجديدة نحو المستقبل!
361
أوراق العدد المزدوج 02-91
شهدت منطقة وادي الفرات ومدينة الرقة تحديداً منذ منتصف القرن المنصرم إقباالً
ملحوظاً على خوض غمار الكتابة الروائية؛ حيث أصبحت الرواية تتصدر المشهد
األدبي في العالم العربي ،وراحت رويداً رويدًا تحتل مكان الصدارة بين مختلف األجناس
األدبية في األدب العربي الحديث.
برز اسم األديب الراحل د .عبد السالم العجيلي في تلك المرحلة من خالل كتاباته
القصصية والروائية على حد سواء .وقد تُرجمت كثير من أعماله إلى لغات أجنبية
عديدة ،وحظيت باهتمام النقاد على مر العقود الماضية.
إال أن كثي اًر من األقالم اإلبداعية في مدينة الرقة ظهرت في تلك الفترة إلى جانب أدب
العجيلي ورواياته ،وأبدع كتابها في إنتاج أعمال روائية ذات قيمة فنية تستحق الوقوف
عندها ،وتسليط الضوء على جوانب اإلبداع الروائي فيها.
تطور النشاط األدبي في الرقة منذ سبعينيات القرن الفائت مع ظهور أسماء مثل:
إبراهيم الخليل وخليل جاسم الحميدي ود .عبد الله أبو هيف ود .إبراهيم الجرادي وماجد
رشيد العويد وإبراهيم العلوش وغيرهم الكثير ممن خاضوا غمار الكتابة القصصية أو
الروائية أو حتى الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي؛ كان لهذا الزخم أن يترك أثره في
الحركة األدبية في مدينة الرقة ،إذ بدأت تلك الطاقات اإلبداعية بعرض منتوجها األدبي
خارج النطاق المحلي من خالل المهرجانات واللقاءات األدبية التي شهدتها مدينة الرقة
مطلع األلفية الجديدة ،سواء في مهرجان "الدكتور عبد السالم العجيلي للرواية العربية"
أو "مهرجان مصطفى الحسون للشعر العربي" أو غيره من اللقاءات والمنتديات األدبية.
361
أوراق العدد المزدوج 02-91
يلحظ المتتبع للمنتج الروائي الرقي التصاق أدباء الرقة بقضايا متنوعة تتمركز حول
اإلطار المحلي المتصل بمدينة الرقة تحديداً ،ومن ثم االنطالق إلى قضايا أكثر تنوعاً
تشمل مختلف نواحي الحياة التي تهم اإلنسان العربي مثل قضايا الحرية ،والحياة،
والموت ،وغيرها.
غير أننا نقف هنا عند مالمح الخطاب الروائي تحديداً لدى الكتاب الرقيين بوصفه
سم ًة تكاد تكون مشتركة لدى العديد منهم.
لعل أبرز ما يميز الخطاب الروائي الرقي هو توظيف الموروث الشعبي في الرواية،
ليغدو هذا الموروث حامالً أساسياً تُبنى عليه الرواية ،وتنتج عنه الشخصيات وتدور
في فلكه؛ وهذا ما يبرز في معظم روايات أدباء الرقة ومنهم( :إبراهيم الخليل) في معظم
أعماله ،مثل" :الهدس"" ،حارة البدو"" ،حارس الماعز" وغيرها.
في حديثه عن القادمين الجدد نحو الحي ،وما سيمثله وجودهم من تغيير في قوانين
الحياة التي كانت سائدة ،يلمح الكاتب إلى ثقافة الجهل داخل مجتمع الرواية ،حيث
تسيطر الخرافة والتعاويذ على حياة كثير من الناس في المنطقة ،والسبب في ذلك هو
جهلهم ،واستغالل كثير من االنتهازيين لهذه الحالة ،بهدف سلبهم أموالهم وابتزازهم،
وأكثر فئة كانت تتعرض لذلك هي النساء ،حيث يقول:
362
أوراق العدد المزدوج 02-91
في اإلطار ذاته سعى (إبراهيم الخليل) في روايته "حارة البدو" إلى اعتماد الموروث
الشعبي ركيزًة من ركائز خطابه الروائي للتعبير عن رفضه للعادات والتقاليد البالية
داخل مجتمعه ،من خالل نقده ظاهرة الثأر التي انتشرت فترًة من الزمن ،حيث سيطرة
فكرة نقد الثأر على مجريات السرد بشكل كبير ،وراح الكاتب يوجه سهام نقده إلى هذه
الظاهرة مستخدماً أساليباً متنوع ًة ،في مقدمتها الموروث الشعبي ،حيث يستدعي طقوس
المجتمع الرقي في حاالت الفرح والحزن ،وما يرافقها من مظاهر داخل المجتمع القبلي
الخاضع لرؤية شيخ العشيرة:
"ربما يستيقظ اآلن كل شيء ،الطفولة ،والتزاحم في والئم األعياد على مناسف الشيخ
"جدعان الناصر" ،وتهريب قطع اللحم والثريد في الجالبيات القذرة ،مجموعة من
صبية الفالحين والعبيد ،والرعاة ،واأليتام ،تختلط بمجموعة من العجزة ،وأولئك الذين
بترت ألغام الحدود بعض أعضائهم ،وطلة الشيخ التي ترهب الجميع ،فتقف األفواه،
والعيون ،واأليدي".
أما (ماجد رشيد العويد) فقد بنى أولى أعماله الروائية المعنونة بـ "الغلس" وفق رؤيته
السياسية ورغبته في التعبير عن واقع التهميش ،وسياسة القمع التي يعاني منها
السوريون عامة .الغلس يمثل الحد الفاصل بين النور والظالم ،وهي نقطة التبئير
المركزية في الرواية؛ حيث تتجلى رغبة الكاتب في استحضار النور وانقشاع الظالم،
حتى لو كانت تلك اللحظة هي الغلس ،بداية النهاية لهذا الظالم الذي تعيش داخله
شخصيات الرواية.
تُعد "الغلس" من أولى األعمال التي استشرفت المستقبل ،وربما مهدت له؛ والحديث
هنا عن الثورة السورية التي انطلقت ش اررتها بعد بضعة أشهر من صدور الرواية .مهد
الكاتب لتلك األحداث في روايته ،حيث قام بنقد الواقع االجتماعي المعيش من جهة،
ومن جهة أخرى قام بتعرية الواقع السياسي وفضحه من خالل رسم شخصية دكتاتورية
هي "العم حمود" النائم الغائب في سباته العميق ،ولكنه يبعث الرعب والخوف في
363
أوراق العدد المزدوج 02-91
"استهوته كثي ارً القصص التي قرأها عن الحجاج ،وكثي ارً ما تم ّثل شخصيته ،وتم ّثل
بالتحديد جانب القوة والجبروت فيه".
"كان يرى أن ّ
القوة أساس الملك ،حتى وإن جاءت القوة بالظلم ،فإنها تبقى أساس
الملك".
ال ينسى الكاتب غ ازرة الموروث الشعبي في المنطقة ،فيعتمد عليه في تكوين شخصية
البطل "هالل" الذي يخضع لتغيرات كثيرة تط أر على شخصيته؛ إذ ينتقل هالل من
شخصية الساذج العابث الذي يعيش عالمه الخاص به ،إلى شخصية السجين السياسي
الذي يتعرض إلى شتى صنوف القهر والعذاب؛ ومن ثم إلى الشخصية الواعية التي
تدرك بعد تجربتها القاسية داخل السجن ،أن عمه "حمود" ما هو إال دكتاتو اًر ظالماً
يجب الخالص منه ،وأن جميع األحاديث عن كرامته وقوته ليست سوى محاوالت
لتخدير الشعوب؛ وبالتالي يجب الخالص منه بهدف الوصول إلى النور من هذه
الظلمة.
ينطلق الكاتب من شخصية هالل الساذج ليجعلها مكافئاً موضوعياً لمجتمع الرواية،
وشخصياتها الخاضعين لسلطة الدكتاتور النائم أو المسبوت ،حيث يحدد مدينته الرقة
فضاء مكانياً لروايته؛ ومن جهة ثانية يتسع الفضاء المكاني لتصبح صورة المجتمع ً
في الرقة انعكاساً لواقع الشعوب العربية التي تسمع أخبار الحرب العالمية ،وال قدرة لها
على تغيير مصيرها ،على الرغم من وقوع معارك كبرى من هذه الحرب على أرضها:
"كانت تلك الحكايات ،إلى جانب حكايات أخرى تنشرها أفواه الجدات حول المدافئ
شتاء وفي األحواش صيفاً ،الزاد الوحيد والتسلية اليتيمة ألناس قبعوا في "قضائهم"
مستسلمين لما يصلُ إلى مسامعهم من أخبار الحرب التي حّلت في العالم".
364
أوراق العدد المزدوج 02-91
"أما الصبر فهو الطبع الغالب على أناس تعودوا الدخول في نومهم باك ارً من كل يوم،
يمتد مثل موال ساعة األصيل .وعلى رنين كؤوس الشاي يتالشى األنين وتختفي
صبر ٌّ
الشكوى ،وينتشر فرحٌ غامض غير محسوس بحكايات الرشيد وألف ليلة وليلة،
وحكاية حي بن يقظان الذي أرضعته ظبية ،صارت أمّاً له .وما إن يعبر أحد شوارع
"القضاء" حتى يسمع اللحن ،وال يدري من أين انبجس ،فيقول الذي انتابه ٌ
ذعر :إنّه
الجن ،وإنها األشباح الطائرة".
تترصد رواية "الغ لس" مالمح المتغيرات السياسية واالجتماعية من خالل استخدام
أداة لتعرية هذا الواقع ،حيث يسأل
وتوظيف الموروث الشعبي الذي اعتمده الكاتب ً
الناس هالل عن جنيته التي يعاشرها ،في إشارة واضحة إلى انتشار الخرافات واإليمان
بها في مجتمع تلك المنطقة؛ وهي من األمور الكثيرة التي كانت سبباً في عذاباتهم
وانصياعهم للدكتاتور المسبوت:
"قل لي يا هالل هل صاحبتك الجنية ما تزال تأتيك؟" " .وهل هي من الجن الرحماني
يا هالل؟".
أما (د .شهال العجيلي) فقد اعتمدت بشكل واضح على الموروث الشعبي في معظم
أعمالها الروائية ،مثل:
ففي روايتها "سماء قريبة من بيتنا" تقارب العجيلي واقع مدينة الرقة إبان الثورة السورية،
وما تالها من أحداث أدت بشكل مباشر إلى تشظي المجتمع ،ناهيك عن تشظي
365
أوراق العدد المزدوج 02-91
المدينة ذاتها وتدميرها بشكل شبه كامل؛ فتلجأ في تلك الرواية إلى استلهام الحزن
المخيم على مدينة الرقة من خالل استحضار المواويل والمقامات الحزينة التي تسبغ
على السرد مسحة حزن جماعي على ما حل بالمدينة ،فتعنون الفصل األول من
روايتها بـ "ليالي األنس" ،ليغدو عنوان الفصل أيضاً مدخالً لما هو قادم داخل الفصل
من مشاهد الحنين ،واسترجاع الماضي ،واألمل بمستقبل ربما أفضل؛ ثم ال تتوقف عند
ذلك ،بل تكثر من الموشحات الحلبية ،والقدود والمقامات:
يا ال ال ال ال ال يا ليل
بأهداب العيون
يا ال ال ال ال يا ال ال يا ال ال لي
بعيداً عن الحزن واللعب على مشاعر المتلقي من خالل مقاطع األغنيات العربية لعبد
الحليم حافظ أو فريد األطرش ،نجد أن الكاتبة ال تغفل عن ذكر األمثال والمقوالت
الدارجة ،في عملية توظيفها المتكرر للموروث الشعبي داخل روايتها ،فنجد كثي اًر من
األمثلة على ذلك:
"بدران سرسري"
إلى جانب ذلك تلمح من خالل السرد إلى العادات والخرافات التي كان يؤمن بها أهل
المنطقة ،لتعكس الواقع االجتماعي والثقافي الذي كان سائداً بين أهالي الرقة:
"جوجو ،ال تجلسي على العتبة ،فالجان يتناكحون على العتبة ،وأنت تزعجينهم".
366
أوراق العدد المزدوج 02-91
"شدي ظهرك ،عدلي جلستك ،افردي كتفيك ،ضمي رجليك ،ضعي ساقا على ساق،
نزلي تنورتك ،ابتعدي عن الشمس".
"آخ يا (نانا) ،ما فائدة المشدات ،والكعب العالي ،وكريم إيديال ،إذا كانت كلها
ستنتهي إلى ما انتهيت إليه!
وهو ما يتكرر أيضاً في روايتها "صيف مع العدو" ،حيث تزخر الرواية بالذكريات
المرتبطة بمدينة الرقة ،في حوار داخلي (مونولوج) يعبر عن حالة الحنين والفقد من
جهة ،ومن جهة أخرى يؤكد التصاق الكاتبة ببيئتها ،واالعتماد على التراث الشعبي
بمختلف تكويناته داخل السرد:
-كي ال تدمع عيناي .من تدمع عيناها يعني أنها تخاف من أهل زوجها!
أما األم داخل الرواية ،فهي تعكس بمقوالتها واقع الثقافة الشعبية السائدة في المدينة،
من خالل ذكر األقوال المأثورة التي هي منتج شعبي جماعي وليس فردي ،من شأنه
االستمرار على مر أجيال متعددة تتناقله ليغدو قانوناً يسير حياتهم داخل المجتمع:
367
أوراق العدد المزدوج 02-91
"أعرف أن الناس كلهم يبيتون عند مرضاهم في مستشفى المدينة الوحيد ،فكيف
تركته؟ األهالي هناك يجلسون على الرصيف ،بشايهم وقهوتهم وطعامهم ،وثمة
عائالت كاملة مع الجيران تبقى حتى الصباح بانتظار مود الزيارة".
من جانب آخر يبرز اسم (د .موسى رحوم عباس) في روايته "بيالن" حيث يؤسس
لخطاب جديد في روايات أدباء الرقة؛ إذ يغاير سابقيه من خالل قدرته على الغوص
داخل شخصيات روايته ،والحفر عميقاً في دواخلها ،معتمداً على خلفيته الثقافية
وتخصصه في مجال علم النفس .تعود الرقة أيضاً في رواية "بيالن" إلى مركزية
الحدث ،ولكن الكاتب هنا يختار قرية "كسرة مريبط" مسقط رأسه ،والحقيقة الوحيدة في
هذه الرواية كما أعلنها هو في مقدمة الكتاب.
يقوم الخطاب الروائي هنا على التوازي بين مجتمعين يقسم بينهما درب بيالن .هذا
الدرب هو الحد الذي يفصل مجتمع الرواية إلى مجتمعين ،لكل منهما خصوصيته
وخلفيته الثقافية ،على الرغم من التقارب العشائري السائد في تلك القرية .إال أن الكاتب
أراد جعل بيالن رم اًز لحالة أو حدث اجتماعي مهم ،في إشارة إلى الثورة السورية ،وما
أحدثته من انقسام داخل المجتمع السوري ،والرقي على وجه الخصوص.
يسعى الكاتب أيضاً إلى استلهام التراث الشعبي ،وتوظيفه تقنياً للتعبير عن الحالة
الثقافية السائدة في تلك المنطقة من جهة ،ومن جهة الرغبة للتأكيد على الهوية والتمسك
بها في ظل تشظي السوريين وتشردهم في جهات األرض األربع .تبرز شخصية "أم
الواجعات" وهي المرأة التي تداوي العيون التي علقت بها ذرة غبار أو شيء دخيل،
وذلك من خالل لسانها الذي تلحس به العين المصابة ،وهي عادة منتشرة في الرقة
ولها أسماء شخصيات خالدة في ذاكرة أهل الرقة ،مثل :سارة "أم الواجعات" التي يعرفها
جميع أهالي الرقة .ناهيك عن أن الخرافة والجهل يسيطران بشكل كبير على مجتمع
الرواية:
368
أوراق العدد المزدوج 02-91
-الوضع يا بني ليس عالقة بالطب ،هذا األمر ال يقدر عليه إال الشيوخ_
دستور من خاطرهم_
-هذا مقام سيدي الشيخ عرودة ،صاحب الكرامات التي هزمت اإلنكشارية،
وحبست جنودهم وجعلتهم كاألرانب.
وإلى جانب توظيف الموروث الشعبي داخل السرد ،يقارب الخطاب الروائي مشكالت
مجتمع الرقة السياسية واالجتماعية والثقافية ،حيث تعكس الرواية واقع المنطقة إبان
استالم حزب البعث السلطة في سورية ،وبناء سد الفرات في تلك المنطقة ،وما نتج
عنه من آثار ومشكالت اجتماعية أخرى كان د .عبد السالم العجيلي قد سلط الضوء
عليها سابقاً في روايته "المغمورون".
إال أن الكاتب آثر تعرية الواقع االجتماعي ونقده ،من خالل رمزية بيالن وما يمثله من
خط فاصل بين قسمي المجتمع السوري ،وما تال ذلك من أحداث أفرزتها الثورة السورية
ساهمت في زيادة االنقسام بشكل أكثر حدية من قبل.
مفقود
ٌ فردوس
ٌ "بيالن ذلك الفاصل بين عالمين متالقيين متنافرين ،وجزيرة األمير
وعالمٌ من المتعة ،وأهلين بابن العم ،تغيب كلّ الوجوه حتى وجه كارمن ،تظلله أشجار
الغرب والطرفاء".
أما (عبد الرحمن مطر) ،فقد اعتمد السيرة الذاتية إلنتاج خطاب روائي أكثر حدة من
سابقيه ،وراح يصور عذابات بطل روايته ،وهو صحفي وسجين سياسي ،يتعرض
ألنواع القهر والعذاب على يد األنظمة الحاكمة في كل من سورية وليبيا .إذ تندرج
رواية "سراب بري" تحت مسمى (أدب السجون) برأي كثير من النقاد ،إال أن الكاتب
حاول من خالل روايته تجسيد جرأة الخطاب الروائي التحرري ،الذي يرفض ما سبقه
من ترميز وإحاالت تاريخية بهدف الهرب من مقص الرقيب.
369
أوراق العدد المزدوج 02-91
لجأ الكاتب إلى المواجهة وعدم الحياد في خطابهُ ،مسمياً األمور بمسمياتها؛ بدءاً من
عنوان الرواية الذي يرمز إلى حالة هذيان وتبدد الظالم والسجن ،لتغدو سراباً غير
واضح المعالم يضغط على أبطال الرواية في تصويرها سيرة البطل ،أو الكاتب نفسه
وهو يناضل ضد جالديه ،مرو اًر بباقي أحداث الرواية.
استخدم (عبد الرحمن مطر) لغ ًة شعرية يتقنها ،وهو الشاعر والصحفي؛ جاءت انسيابية
متقنة استطاع من خاللها رصد مالمح العذاب الداخلي للمعتقلين ،وفضح وحشية
سجانيهم وهمجيتهم:
"عاد الى مسمعه هدير الطائرة التي خلفت وراء عبورها مشاهد أرغفة الخبز الملونة
بالدم ،لم يحتمل تلك الظهيرة أن يلتقط رغيفا ظلّ مرمياً على كتف الطريق دون أن
ينتبه إليه العابرون ،والجوع يفتك به،
يتلوى من شدته ،لكن العطش صرفه بعيداً عن الجوع ،هل ثمة خبز هنا؟
"حازم في التاسعة عشرة ،آثار التعذيب في خاصرته ،ثقبان غائران في الجسد الطري ،
أحدثهما إغماد سبطانة الكالشينكوف ،أثناء التحقيق في فرع األربعين ،بالجسر
ينز دماً".
األبيض .والجرح الطازج بعد مرور ثالثة أسابيع – كما رآه – ما يزال ّ
بعيداً عن التقرير والخطابية ،يلجأ الكاتب إلى توضيح موقفه واالصطفاف إلى جانب
الثوار في سورية ،وهو ما لم نشهده سابقاً عند غيره من الروائيين الذين قاربوا مسألة
االستبداد والدكتاتورية؛ حيث كان الروائيون يلجؤون إلى الترميز أو األحداث التاريخية
في مثل تلك المواقف؛ ففي وصف أحد السجناء ،وهو أبو محمد الملقب بـ "السلطان"،
يتعمد الكاتب الوضوح في التعبير عن رؤيته السياسية وموقفه من السلطة الحاكمة في
دمشق على لسان الراوي:
خرج السلطان شخصاً آخر ،فاقداً كل شيء .دون أن يريحه الموت ،لكنه لم ينس
تلك العبارة التي قلبت حياته:
371
أوراق العدد المزدوج 02-91
يتابع الكاتب في سرده شبكة العالقات داخل مجتمع الرواية ،جاعالً من بطله الصحفي
"عامر" البطل األوحد الذي يحمل هموم مجتمعه ،ليتقاطع العام بالشخصي ،ألنه يدرك
أن الهم العام مرتبط بكل تفاصيل حياته ،كما أنه يسعى إلى التأكيد أن هموم الفرد
ليست إال جزءاً من الهم العام ،لذلك أخذ على عاتقه هذا الحمل وراح يناطح جالوزة
االستبداد بكل جرأة ودون هوادة:
أجاب عامر ،بتصميم على انتزاع المبادرة ،وكأنه يريد توجيه دفة التحقيق اآلن
بنفسه ،وليكن ،ما يكن بعد ذلك:
نعرف بعض األشياء ..نعم ،ولكن ثمة الكثير المخفيّ ،ما الذي يدعوك لزيارة الصين؟
ومتابعة للخطاب المتمرد في روايات أدباء الرقة ،تفتح رواية "باب األبواب" للكاتب
والصحفي (يوسف الدعيس) باباً من أبواب التجديد في الخطاب الروائي .حيث استخدم
الكاتب تقنية مختلفة عن سابقيه في سرده ألحداث الرواية ،حيث قسم روايته إلى
فصول ،يعبر كل فصل عن باب من األبواب التي اختارها الكاتب لتكون مفاتيح نصية
ترافق القارئ من البداية إلى النهاية ،بحيث يغدو النص رشيقاً ال تكلف فيه.
371
أوراق العدد المزدوج 02-91
يفتح الكاتب أبوابه بيسر وسالسة ليجد القارئ في كل باب من هذه األبواب عالماً
يحاكي العالم الواقعي ،ولكن بلغة بسيطة وسهلة خالية من التقعر والتعقيد.
إال أن السمة الواضحة في رواية "باب األبواب" هي الخطاب المباشر في تعرية شخوص
الرواية ومجتمع الرقة ،واتخاذ الراوي بلسان السارد موقفاً واضحاً من الواقع السياسي
المرافق ألحداث الرواية؛ وهو ما لمسناه أيضاً في رواية "سراب بري" من قبل ،إذ يلحظ
القارئ انحياز الراوي /الكاتب إلى الثورة السورية بوضوح ال مجال للشك فيه:
باإلضافة إلى االنحياز الواضح لمجريات األحداث المرافقة في الرواية ،والتي تجلت
في الثورة السورية منذ 1122تبرز سمة أخرى يسعى الكاتب إلى تأطيرها داخل خطابه
الروائي ،وهي التجديد على الصعيد اللغوي؛ حيث ظهرت في رواية (باب األبواب) لغة
جديدة لم تكن معهودة لدى كتاب الرقة ،وربما كتاب سورية عام ًة .إذ أن مفردات
الحرب ،واللجوء ،والقصف ،والبراميل ،والمخيمات...وغيرها من التراكيب اللفظية التي
استخدمها الدعيس تبدو غريبة عن مجتمع أهل الرقة الذين ربما لم يشاهدوا طيلة العقود
السابقة طائرًة تطير في سماء الرقة سوى الطائرات الزراعية التي ترش األراضي
بالمبيدات الحشرية في أوقات معينة من فصول السنة.
372
أوراق العدد المزدوج 02-91
"اخترقت الطائرة المشهد ،ثم غابت مع صخبها نهائياً ،صرخ من كل قلبه هذه المرة:
لست خائناً .لست خائناً .والله ما فررت إال لكي أنجو بنفسي وعيالي من هذه
المذبحة".
"الناس في الرقة صاروا يميزون بين قذيفة الهاون والصاروخ وما بين البرميل
المتفجر والقنبلة الصوتية أو العنقودية ،وصار مألوفاً أكثر ما يقوم بجمعه األطفال
من بقايا القنابل والصواريخ ،وصار الفتاً أن ترى جمهرة من الفتية والصبية والكبار
والنساء تتجه أنظارهم إلى األعلى ،في محاولة يائسة للبحث عن مكان سقوط
القذائف ،أو على أقل تقدير توقع مكان سقوطها ،ونسبة األذى الناجمة عن االنفجار،
وتحليل شكل وقوة القذيفة ،ونوع الطائرة ،سيخوي أم ميغ .صرنا محللين عسكريين،
وقبلها سياسيين وإعالميين ،وال نعرف ماذا يخبئ لنا القدر".
وتتابع الرواية واقعيتها المباشرة ليصف الكاتب رحلة (األب باولو) وهو أحد نشطاء
الثورة ضد النظام السوري ،حيث يسافر إلى الرقة رغب ًة في التوسط للصلح بين الفصائل
المسلحة المتناحرة التي سيطرت على المدينة في مرحلة من مراحل الثورة:
"لم تنفع تحذيرات الناشطين واألصدقاء من ثني األب باولو عن عزيمته في لقاء قادة
داعش ،وإن استطاع أن يلتقي بالبغدادي ،فهو جاهز ،وأخي ارً وقعت الفأس بالرأس،
ودخل األب باولو غار األفعى ،معقل الدولة في عاصمة الخالفة المزعومة ،وغادرنا
إلى غير رجعة".
في ضوء ما سبق ،يمكن الحديث عن تنوع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة ،من
خالل تتبع مسارات هذا الخطاب في ضوء التجارب الشخصية؛ لتبرز نواحي هذا التنوع
باالعتماد على الموروث الشعبي الغزير في تلك المنطقة ،واالنحياز إلى التجربة الذاتية
بشكل واضح ،والجرأة في طرح القضايا المصيرية ،والسيما السياسية منها ،ونقد الحكام
بشكل صريح بعيداً عن الترميز واستجداء الحوادث التاريخية.
373
أوراق العدد المزدوج 02-91
كما تبرز إرهاصات التجديد التي شهدها الخطاب الروائي من خالل ظهور لغة جديدة
تواكب مجريات الواقع وتؤسس ألدب الحرب أو اللجوء الذي راح يزدهر في مختلف
البالد العربية ما بعد أحداث الربيع العربي.
وفي طبيعة الحال يجد المتابع جرأة الخطاب في معالجة قضايا اإلنسان المعاصر،
وهمومه دون االعتراف بالمحظورات التقليدية ،كالجنس والسياسة والدين وغيرها من
المحظورات التي تمت مقاربتها بحرية أكثر من ذي قبل.
ومن الطبيعي أن تكون هناك تجارب روائية أخرى لم يتم تسليط الضوء عليها بسبب
صعوبة الحصول عليها ،إال أن ذلك ال يمنع من الحديث عنها مستقبالً بشكل أوسع،
وربطها بالتنوع األدبي الحاصل في مدينة الرقة ،والذي نرى أنه يؤسس لجيل روائي
جديد يسعى إلى إثبات ذاته وفرض رؤاه وخطابه الروائي.
374
أوراق العدد المزدوج 02-91
عمر الحمود
تنتمي هذه الرواية إلى مايسمى (الرواية القصصية القصيرة) ،ومن نماذجها رواية قنديل
أم هاشم ليحيى حقي ورواية الشيخ والبحر لهمنغواي .وهي من جملة روايات قصيرة
ضمن مسيرة الكاتب إبراهيم الخليل الروائية كرواية حارس الماعز ورواية حارة البدو.
وتنطبق عليها مقولة :سيرة المكان سيرة اإلنسان ،حيث يعيد الكاتب اكتشاف (الرقة)
المغيبة عن المكان في المشهد الروائي السوري ،وفي ذلك إعادة الروح إلى األطراف
لتكون فاعلة في الرواية ،وليست في القصة والشعر فقط.
من المعروف أن ظهور الرواية ارتبط بالمدن ،فالرواية بنت المدينة بامتياز ،وكعادته
تعامل معه كما دأب كبار المبدعين
يهتم الخليل بالمكان ومفرداته كفضاء خاصَ ،
بوصفه حي اًز جغرافياً وحي اًز إنسانياً ،يؤثر هذا الحيز ،ويتأثر ،ويعكس معالمه على
رواياته ،فوثق المكان بعناية وحداثة حتى تكاد أن تجزم أن المكان نص مواز لرواياته،
يعطرها بالخصوصية ،ويثريها بالتفاصيل ،فاهتم بالمدينة وريفها كأمكنة تتمسرح فيها
األحداث ،وبدت الرقة الحاضرة الحالية (مدينة الرقة وريفها في فترة الخمسينيات من
القرن الماضي دليلنا على ذلك انتشار أحزاب يسارية وزراعة القطن وحلم الوحدة)،
وليست المدينة التاريخية القديمة المتألقة بسحرها والمزهوة بأوابدها.
الرقة أمكنة تتواسد فيها المتناقضات ،فهي تتعلم مبادىء ماركس الشيوعية ،وتؤمن
بكرامات عبد القادر الجيالني الصوفية ...
المكان الرقاوي مكان مستباح وقاهر ومقهور ،ينهبه الغريب بعون القريب ،ويتكاثر
فيه السوء والضياع والوحدة وغدر األصدقاء وخياناتهم تكاثر الدود الطفيلي في الجوف.
375
أوراق العدد المزدوج 02-91
ومكان ال يبعث على االطمئنان ،وكما يقول ابن عربي( :المكان إذا لم يؤنث اليعول
عليه) ،وبدا المكان خالياً من مظاهر (النهضة المدنية) كما في المدن الكبيرة ،سواء
بمعالمه العمرانية أو بتفكير اإلنسان ،فبيوت الرقة متقابلة ولضيقها تكاد أن تتالقى،
وهي بسيطة البناء ومتالصقة كأنها تحتمي ببعضها بعضاً من غزو مؤكد ،وحجارتها
منهوبة من السور العتيق واألوابد األثرية ،فتشتم منها رائحة المكان القديم ورائحة المكان
الجديد المقام على أنقاضه أو من أحجاره ...
مدينة بفندق ريفي وحيد يبتلع القادمين من المدن األخرى ،ثم يقيئهم ،وبوابات المساجد
وألرصفة تمتلىء بهم في رحالت البحث عن رزق شبه معدوم.
وأكل الدهر ،وشرب على وسائل النقل فيها ،عبارة عن بوسطات (البوسطة نصف
باص معدل) مهشمة في أكثر من جانب ،وباعتبار هذه الوسيلة مكاناً متحركاً ،فإنها
كذلك فقيرة بأثاثها ،مقاعد بالية ،ومحرك بالكاد يعمل ،وتهب من داخلها روائح البشر
والمازوت والبصل والغنم والدخان الثقيل( :البوسطة ضيقة خانقة كعلبة من الدخان)
ص .16إنها أشبه بقبر ،وليست بوسيلة نقل.
وفراتها طاغية ،فيضاناته تغير معالم المكان ،وتجرف البيوت والشجر والبشر ،وبليخها
يجري نحيالً ال يرضي العين وب ارريها عراء مفتوح وخالء موحش ،وفوق قسوة المكان
جفوة اإلنسان ،فهي موسومة بمظاهر البيروقراطية إلى درجة المرض.
فحمدو القاسم الموظف في مديرية التربية بالرقة يعامل أحمد العميان بجالفة ألنه فقير،
وينظر إلى من هم مثل أحمد كأنهم حشرات ال تستحق الحياة ،فأوراق تعيينه جاهزة
منذ أسبوع ،وهو يماطله كل يوم لرغبة دفينة في نفسه كأنه ينتقم من آخر لعب معه
الدور نفسه ذات يوم ،وفي الوقت نفسه يمتثل هذا الموظف لطاعة أصحاب النفوذ بكل
رصى وخنوع( :رن جرس الهاتف األسود الجليل ،تناوله بلهفة من يريد إطالة عذاب
الذبيحة) ص .2
376
أوراق العدد المزدوج 02-91
المدينة عبارة عن أمكنة قاهرة مقهورة اعتادت على الخضوع للسلطة ،وقامت بدورها
بقهر اإلنسان ،فدجنت اإلنسان ليستمر في الخضوع إلى درجة االفتخار بظلم السلطة
له:
(روى والده :ذات يوم كان أحدنا يعود فرحاً طروباً إلى المضافة ،ويبدأ حديثاً طويالً
مفاخ اًر أن رئيس الدرك أو أحد الدرك قد بصق عليه ،أو ضربه في الطريق بال سبب)
ص.21
ال بعد جيل ،وبعد تحالف القوى عليها من قوى طبيعية (المحل
وهذا الخضوع تراكم جي ً
يقتل المواسم ،السيل يجرف الزرع ،العراء األجرد يميت الحياة ،الفرات يمحو ماحوله
من مزارع وبيوت .)...
وقوى بشرية (قمع السلطة ممثلة بالمخفر ،إهمال المسؤولين ،تنكيل السلطة بأبنائها
الذين انتسوا إلى أحزاب يسارية تناوىء السلطة ،الحرب التي قتلت بعض أبنائها مثل
ثالج الصالح ،أو تسببت السلطة بمقتلهم كأبي عايد) .وكأن القدر خصها بالقمع ،فمن
قمع ونواهي القبيلة إلى قمع الشرطة والقوانين التي ال تطبق إال على الفقير .قهر يسلب
من فيها صفاته اإلنسانية في مواقع كثيرة ،فعلوان ُيدمن الضرب في السجون حتى
تحولت قدماه إلى خفي بعير ،ركاب البوسطة اعتادوا االنتظار الممل ،عوام الناس
اعتادوا تسييد العفون وحثاالت البشر.
وتذل الفقراء من أبنائها ،وتجعلهم في درجة متدنية من درجات المخلوقات ،يقول أحد
األبطال فيها( :أنا كلب ابن كلب ،فقي من الدرجة الثالثة ،أقف على قائمتين ،وأنبح
أكثر) ص .16
تخصي أبناءها بسادية ،وتجعل الرجل أنثى أمام عشيقته( :كانت سرتها عين تسخر
منك ،والنهد مخرز) ص.22
377
أوراق العدد المزدوج 02-91
هذا التضييق على اإلنسان ُيسهم في تأسيس حالة عداء مع المكان ،فيؤطر عالقاته
ضمن إطار نفعي مقيت ،يهدد التماسك المجتمعي في المكان.
المدينة مرك اًز وريفاً منبع طيبة وخيرات لآلخرين ،يأتيها الغريب فقي اًر ،وخالل فترة قصيرة
يصير غنياً كما حصل مع (خوش قدم) ،ويعيث فساداً فيها ،وكأنها مرصودة للغرباء
والغزاة ،وأهلها راضين فيها بقدرية وبطيبة تصل إلى حد السذاجة ،يقول عنهم حمدو
القاسم( :القرويون طيبون إذا عرفت كيف تتعامل معهم) ص.21
وأبطال الرواية المثقفين يرفضون هذا الواقع ،ويستنكرون فعل الغريب الضال والمضل
فيها ،ويرونها مكان اغتراب وخلخلة لعالقات اجتماعية سائدة.
وقد ترحمها سياط الكاتب ،وتمنحها فرصة دفاع عن ذاتها ،أو تلقي نظرة لوم على
جالدها ،تخبره فيها بأن روحها ثابتة وقوية ،وإن بدت هشةـ وما يمر بي عبارة عن
زبد.
( :هي كالرمل ُبغوي خنوعها ،فتندفع ،وفجأة يطويك داخلها ،ويدمر روحك ،ويكتم
أنفاسك) ص.21
ربما تستمد عزماً من وجود النهر قربها ،هذا الجبار الذي يحزنها مرة ،ويسعدها أخرى،
وهي تزداد التصاقاً به في عالقة متينة.
وظهر الريف في الرواية مكاناً واسعاً مفتوحاً ،وفقي اًر بمعالمه العمرانية وموارده
شتاء ،وتنبع فئراناً ونمالًـ حظائر ماشيةـ
االقتصادية ،بيوتات من طين .قواويش تدلف ً
أكوام حطب .مخافر متناثرة صغيرةـ دروب ترابيةـ مراعي وقت المطرـ سهول جرداء
وعراء موحش وقت المحل.
فقر يطغى على محاسن اتساع المكان ،وجعل الشخصية مهمشة أو ضائعة متالشية،
ويؤثر المكان الواسع المفتوح تأثي اًر سلبياً على الشخصية ،فالعراء يوقظ الغرائز الراقدة،
378
أوراق العدد المزدوج 02-91
وامتداد الخالء يحفل بمفاجآت صادمة ،وال تسلم من هذا األمكنة الرسمية ،فالفتقارها
لألساس المتين تنهار عند هبوب الريح ،أو نزول المطر كما حدث للمدرسة.
ويذل
وال يبعد هذا عن المدينة ،فاألمكنة الضيقة والمغلقة فيها ُيهان فيها اإلنسانُ ،
(مكتب التربية ومكتب التحقيق) ،وال تحقق له الراحة (الفندق) ،أو تتسبب في قتله
(سطح المخفر) ،أو تقهره بضيقها وروائحها المتعفنة حتى تبدو كتابوت (البوسطة)،
أو ترغمه على رؤية ال يشتهيها (البيت) وهو عبارة عن غرفة واحدة ،تستريح فيها
األسرة كلها ،وتأكل وتنام( :هل أريت أباك ينام مع أمك ،أنا رأيته ،أنا المحكوم أن أنام
معهم في غرفة واحدة ألننا ال نملك غيرها ،وسيرى ذلك أخي األصغر) ص.16
فقر المكان يسهم في إفقار اإلنسان ،لتعاقب سنوات المحل وتوالي الجدب والقحط
وإهمال السلطة ،وهذا يدفع الناس للركض وراء أي فرصة عمل تلوح في األفق ،ولو
كانت من وعود فارغة وسراب خداع ،ففي مديرية التربية كومات مهملة من الم ارجعين
الباحثين عن عمل مؤقت ،وتفوح منهم رائحة التعب والجوع والخوف.
ومكان العلم معطل ،فحين يهدم المطر المدرسة يجمع التالميذ القطن ،ويؤجل التعليم
سنة كاملة!.
الريف مكان منسي وساكن برتابة قاتلة ،ال يعكر سكونه إال أجراس الغنم ونباح الكالب،
وفراغه متعب للنظر ودروبه عارية جرداء .ولكسر هذه الرتابة وفتح نوافذ نور في هذا
الفراغ والعماء المرهق يلجأ اإلنسان إلى وسائل خاصة يسهم المكان والبعد عن الرقابة
والحاجة إلى الذكورة في خلقها كما في لعبة أنبتها العراء الموحش والغرائز المكبوتة،
لعبة (السكارات)* اللعبة الحقيقية التي تفردت بها قرى البليخ ،وظلت مستمرة إلى
بداية الستينيات من القرن الماضي ،واستمدها الكاتب من الذاكرة القريبة ....
379
أوراق العدد المزدوج 02-91
لعبة بطقس خاص تقوم بها الصبايا على هامش عملهن لرفع منسوب مياه نهر البليخ
ليصلح للريُ ،قتل رجال فيها على يد الصبايا ،وهذا الطقس يشبه في وجه من الوجوه
اسطورة (عروس النيل) في مصر القديمة التي تُقدم للنيل قرباناً كي يفيض ،وينشر
الخير على مصر.
في رواية الضباع ظل الكاتب ينتقل بين األمكنة الضيقة واألمكنة الواسعة شاه اًر راية
حر جميالً ،وانعكس
الهجاء لقبح وقهر يموجان في المكان ،فلم يظهر المكان مكاناً اً
هذا على اإلنسان فيه ،فبدت عالقة اإلنسان بالمكان عالقة مشوهة.
-الضباع رواية قصيرة للكاتب ابراهيم الخليل .تقع في 12صفحة من القطع الوسط.
صادرة عن دار الحوار .سورية .9116
-لعبة الس ّكارات*( :عند انخفاض مجرى نهر البليخ عن المنسوب الصالح للري ،تجمع
القرى عذارى ،يعزلن قرب النهر ،يجمعن الحطب وعروق السوس في حزم كبيرةُ ،تدفع
متجاورة إلى النهر في أضيق مجرى له ،ويردمه الشبان بأكياس التراب ،فيستقر ،ويش ّكل
سك اًر ،وفي هذا العراء والوحدة يسوء حظ الرجل
سداً بدائياً يرفع منسوب المياه ،يسمى ْ
قربهن وحيدا ،يحاصرنه بالفؤوس ،يجردنه من ثيابه ،ويربطن ذكره بخيط تمسك
ّ مر
إذا ّ
إحداهن ،وتتعرى غيرها ،وتدور العارية حوله ،تقترب منه ،وقبل أن يلتحم بها تنتر
ّ به
وفر حتى الفتاة القابضة على الخيط ،فيتلوى عضوه بألم ،وهكذا تدور اللعبة بين ّ
كر ّ
يشارف الرجل من الهالك).
381
أوراق العدد المزدوج 02-91
لم يتسـنَ لي أن أجري هذه المحاورة الشــعرية مع فيصل بليبــل في حياته ،فرجعت
ي بعد وفاتــه ،أبحث ألســئلتي الحائرة عن إجابات،
إلى دوواينه وأوراقه التي آلت إل َّ
فكـانت هذه المحاورة الشـــــعرية التي قد تــدخل ذات يـوم فيما يمكن تسـميته بأدب
مســامرة األموات.
حاور َموتى
َ هل ســمعتم قبل هذا اليــوم من
السر يُؤتى
ّ من تُرى من بعد عيسى مثل هذا
ْ
راحل الفكر
ِ ســرا ً أن يُنـاجى عبقر ّ
ي ّ ليــس
ْ
ماثــل الكون
ِ غادر الدنيــــا ولكن فكــرهُ في
َ
ْ
الغابـــرين العظام
ِ هكذا التاري ُخ من صنـــعِ
ْ
ّــــــتين إنّــــــهم أحيـــــا ُء واألحيـا ُء حينا ً مي
فاسمعوا الفيص َل ما قد قا َل لل ُجلّى وأنشــــ ْد
ي إذا ما اله ّم أنــــــج ْد
القــــدس ،ونـجد ٌّ
ُ ه ّمه
يكتـــــب ّإال في ال ّ
سياســـه ُ الفكر ال
ِ ي
يعرب ُّ
يرهب باسـَــــه
ُ كال والليس َيخشــى حاكما ً ّ
َ
ق ليس يقضـي والشــعر بــــا ٍ
ُ قد قَ َ
ضــــــى
هكذا الشــعرا ُء تبقى حينــما الح ّكا ُم تمضـي
381
أوراق العدد المزدوج 02-91
*
السؤال األول :
شـــاعر للنيــ ِل يـحدو
ٌ وحــــاف ُ
ظُ الشــعر شــــوقي وهو فر ُد
ِ أمير
ُ
ي ما جــاراهُ نِــــــ ُّد
فـذا البـــــدو ُّ ب ال ُم َجــلّي
شــــاعر العـَـر ِ
ُ وأ ّما
أنـت إن ذكــروا وعـــدّوا
َ فمـاذا ي قــالوا
الشــــأعر القومـ ُّ
ُ وأنت
َ
فيصل بليبل :
راســـان
ِ أندلـــس حتى ُخ
ٍ أرض
ِ من ُ
دمشـق دمي في ك ِّل رابيــــــــ ٍة أنا
مصر وبـــغدان ِ
ٍ شمس العروبة ِفي
ُ أنا الشـآ ُم ولوال الشام ما ســــطعت
نيسان
ِ روض
ِ زهرا ً به َّ
ي الشذى من أنا الذي لم يزل يـُـــهدي الجال ُء له
للبــذ ِل ما كان يوم البـذ ِل أســــخاني بالراحتيـــن دمائـــي كنُتُ أحملــها
ِ
ي شــيءٍ كان أغرانـي
فليـــذكروا أ َّ يُغري ال ُحطا ُم رجاأل ُ لست أذكرهم
قصائــــدا ً ُ
ض ِ ّمنت ديني وإيـــــماني بدمشــق ويتلو ســادة ٌ نُجـــــ ُ ٌ
ُ تتلو
فــان
ِ ّ
ســــــطروا له الخــلو ُد وما قد العصور غدا ً
ُ مهالً ســتقرأ ديواني
الســؤال الثاني :
يـــــن
ِ ٌ
مؤمن بـــل ملح ٌد بالد بــــل ي وقالو يـــــميني
قالـــوا يســــار ٌ
صري ويـــقينـي لديـــــك تبــــ ّ
َ ّإال اليقيـــن فلـم أجــ ْد
ِ إنّي بحثتُ عن
فيصل بليبل :
اليســـــار قِبــــلةَ ديــــــني
ُ وكان ب يساريا ٌ
كنـــتُ في ميع ِة الشـــبا ِ
فأصبحتُ في يـــــمين اليمي ِ
ــــن والعار
ُ ي
وأتانا اليســــــار والخز ُ
( وأضاف فيصل بليبل مجيبا ً عن ال ِشــق الثاني من السؤال المتعلق بدين الشاعر )
أطهـر
ُ الطهر
ِ َأال ّ
إن محرابــي من يـــــقولون هذا ملح ٌد يـــالجهلـهم
نشــر
ُ فكيــف وأكفاني لها الموت َي ع َم َر اإليـــــمان قلبــي يافعا ً
فقد َ
سري غير ما كنتُ أ ُ ُ
ظهر وما كان ّ سيفص ُل ربي بين قولي وقولـِهم
السؤال الثالث :
منبـــــــر
ُ ياشــــــاعرا ً له في السياس ِة إنّي سألتُ وكان قصدي واضحا ً
382
أوراق العدد المزدوج 02-91
384
أوراق العدد المزدوج 02-91
385
أوراق العدد المزدوج 02-91
ب " بيانا
نحن نبغي من " الرقي ِ ولو انّا مثل الرجــا ِل لكنّــــــا
ب جبانا
ِالعيـــــش ويا سـوأةِ األدي ِ
ِ النــــفوس في طلب
ِ لضـــعف
ِ يا
السؤال الثامن :
أعطيت قلبَك جانبـــا
َ ضــــر لو
َّ ما يا شــاعرا ً جعل الســياسةَ مذهبا
طربـَـا
البواتر ُم َ
ِ ت
ويكون من صو ِ يبصر في البال ِد حبيبـةً
ُ فالبعض
صبــَـــا
وصـــالك قد َ
ِ ّ
إن الفؤا َد إلى للقدس قـال مغازالً
ِ شــاعر
ٍ كـــم
القدس الحبيبــــ ِة كاعبا
ِ ورأيت في ماذا تـــقول إذا فؤادك قـــد هفـا
فيصل بليبل :
آذنتنـــــا ببينـــــــها أســــــما ُء
أنا والقــــــدس أيـّــــها الشــعرا ُء
القدس بالبيـــــن وأخشـــى أن اليــــكون لقا ُء
ِ آذنتنــــــا عروبــــــــةُ
ك ّل أيـــــامنا جميـــــعا ً شــــتا ُء َحــــدثونا عن الربيـــــع فقلنـــــا
شعــر الطبيع ِة والحــبّ فقـــد عاث في الحمـــى األعدا ُء
َ ما عرفنــــا
السؤال التاسع :
والقدس عائــــــدة ٌ ومثلك يُنـــــكر
ُ الشاعر
ُ ليأســــك أيَّهذا
َ عجبـــــا ً
فســـل الجرائ َد واإلذاعـــةُ تـ ُ ُ
خبر بالســـلم عائـــدة ٌ ورغم عداتنــا
ِ
فيصل بليبل :
ُ
تصدق ساعه ليس
تنطق الشهر َ والقدس ما سـمعنا اإلذاعه
ُ أنا
للشـــياطين ريشــةٌ ويـَـــــراعه ما قرأنـــا جرائدا ً ســــطرتها
أخبــارنا حديث اإلشــــاعه
ِ ك ّل ما قرأنـــا وال سمعـــنا ولكن
السؤال العاشر :
ــــقطع
ْ وســــواك بعود ِتــها َي
َ ْ
ذهبت الـقدس تقــــــو ُل لــقد
تلمع ()6
ْ لســــــيوفٍ ُمشــــ َهرةٍ وأرى فيــــــروزَ مهــلـلــــةً
أجـــراس العـودة فلتــــقر ْ
ع) ( اآلن اآلن ولـيــس غـــــدا ً
للمطلـع
ْ صــفّقَ
ولمن قـــــد َ لفيـــــــروز
ٍ قلـــت
َ ماذا قــد
فيصل بليبل :
386
أوراق العدد المزدوج 02-91
تسـمع ()7
ْ وقلـــوب الناـــس لها فيـــــروز مغـــــردة ً
ُ قـــالت
أجراس الـــعود ِة فلتــــــقر ْ
ع ُ وليــــس غـــــــدا ً
َ اآلن اآلن
مــــدفع
ْ الـــعودة ُ يــــــلزمها من أيــــنَ العودة ُ يـــــاهـذي
إصبتع
ْ ُ
يــكون لها والكــف
ُ كـــــف
ٌ والمدفــــ ُع تلــــزمه
يشـبع ()8
ْ قد شــــبع الجوعُ ولم واإلصــب ُع منـــــهمكٌ يــلهو
أجــراس العودة لن تـــقرع ْ
ُ فيــــروز ومعــذرة ً
ُ ال يــــا
عسع
س ْ َـــرم الشيخِ إلى َ
من ش ِ ُ
الخــــازوق بأســـــفلنـا د َُّق
( المحاور يحاول تغيير مجرى الحديث )
السؤال الحادي عشر :
تجيب
ُ غيـــــر الســياســ ِة ال
ِ وفي تجيب عن السيــاس ِة ك َّل حيـن ٍ
ُ
خصـيب
ُ ــعر َك واض ُح المعنى
و ِش ُ لشــــعر
ٍ أال في الحــبّ ُمتســ ٌع
الحــبيب
ُ وآخــــر قـــــال تيّمنـــي
ُ لألوطان حبـّـــي
ِ فكم من قــا ِل
أديـــــــب
ُ ق كم غنّـــى
ولألخـــال ِ الــــكرام وللمبـــادي
ِ ولألهــ ِل
نــــصيب
ُ وهل للحــبّ ِ عنـــدكمو إن تغنّى
فمن هو حبُّ فيصــ َل ْ
فيصل بليبل :
وأُحـــبّ صومعتـــي وكأســـــي أ ّما أنـــــــا فأُحــــبُّ نفســــــي
وأحــــــبُّ أنــــــظر حين أصبــــــــــــــــح للجما ِل وحـــينَ أمســــي
ســــــقينَ ِحرمانــــــي وبـــؤســــــي
ت َ
تــــــلك المحســـنا ِ
َ وأحـــــبُّ
وللرجــــــــا ِل أحــــبّ " مكســـي " للنســــــاء
ِ وأحــــبّ " مينـي "
قيـــــــــس
ِ أكـــــاد أغـــــدو مــثل ت
وأحــــبّ حســــــنا َء اللغـــا ِ
بـــــدبــــــــس
ِ كـــي أقايـــــــضه شــعير
ٌ وأحــــبّ لو شــــعري
وأحـــــبّ أن يُـــــلقى علــــى " عبد الســــــالم " ببــــعض تَعســـــي ()9
إنـــــــــس
ِ ـــــن زاده أم صــنــــــع
أعــــــرف صنـــــــع ِج ٍ
ُ وأُحــــبّ
الضيــــــم في العه ِد الفرنســــي
َ وأحـــــبّ شــــــعبا ً كـــــان يــــــأ َبى
ُّ
تحـــــــن نفســـــــــي وأحــــبُّ عهــــــد البـــــــــرلمــان وللجــــــالء
387
أوراق العدد المزدوج 02-91
همـــــــس
ِ وأحــــبّ نـــــــق َد الحـــاكميـــــنَ صـــــــراحةً مـــن ِ
دون
وأحــــبّ لـــــو قلمــــي تُــــــــفك قيـــــــــودهُ ويـــــــطو ُل حبســـــي
شمـــــس
ِ وأحــــبّ ذمـّــــا ً من عبيــــــــ ِد الحـــــــز ِ
ب ال مـــن عبــــ ِد
جبـــس
ِ وأحــــبّ شـــــــرعا ً ال كشرعِ اإلشــــــتراكييـــن يُــــعلي ك ّل
ب الحــــكـوم ِة رجــــ َل كرســــي
وأحـــبّ أغـــــدو مـــث َل أقطـــــــــا ِ
ليشــــــرب الفــــال ُح ببــــــــسي
َ جــــف الفـــــــراتُ
ّ وأحــــبّ لـــــو
وعبـــــــس
ِ ذبيــــــان
ٍ حــــــــرب
ُ وأُحــــبّ لـــــو عـــــادت إلينـــــــا
َــــس
ق على األخ ِ ّ
ـــيــس من الرفــــــا ِ
ُ وأحــــبّ لـــــو بــــــــا َل الخَسـ
الحســـــين قطـــعتُه وأرحــــــتُ نفـســــــي
ِ وأحـــبّ لــــــو عــِـــرق
وأحـــبّ يـــــوما ً غيــــــــر أيـّــــــامـي وأمســــا ً غيـــــــر أمســــــي
رؤوس عصــــــــاب ٍة ويــــــطير رأســــــــي
ُ وأحـــبّ لــو طـــــارت
وأحـــبّ طـــــوفــانـــا يُـــــــــطهر أرضنـــــــا من كـــــل رجـــــس ِ
وأحـــبُّ ..
( المحاور مقاطعا ً الشاعر خشية اســتطراده )
388
أوراق العدد المزدوج 02-91
389
أوراق العدد المزدوج 02-91
هوامش
فيصل بليبل -1984 -1919 :له ديوانان مطبوعان (قصائد مزقها عبد الناصر)
و(وافيصاله)
والعديد من المخطوطات التي لم تحظ بموافقة النشر منها الدروب الى حزيران ،أهل
حزيران ،أصنام في السماء ..ومن أقواله في لقاء صحافي معه بعد هزيمة حزيران
ُمعرفا ً بنفسه:
391
أوراق العدد المزدوج 02-91
ُّ
ومت على ضفاف بردى ،1967ولم أدفن بعد". "ولدت على ضفاف الفرات ،1919
قال عنه الدكتور أحمد بسام ساعي :يُعد فيصل بليبل من أبرز رواد النظرة المستقبلية
في الشعر السياسي الحديث.
-1األردن /نهر األردن :المقصود تحويل مياه نهر األردن للنقب ،عبر ما أســـمته
إســـرائيل /مشروع الناقل الوطني للمياه /الذي أسـست له خطة السنوات الــسبع
( )1961 -1953وقــد استطاعت بعد هزيمة حزيران 1967أن تستولي بالكامل
على المنابع الشمالية لنهر األردن.
-2جمال :الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ،وموقف الشـــاعر فيصل بليبل منه في
ديـــوانه (قصائد مزقها عبد الناصر) الذي ُمنع من التدوال وتم جمعه من المكتبات.
-3فلحوط :الدكتور صابر فلحوط ،كاتب وشاعر بعثي ،أذاع بالغات انــقالب الثامن
مـن آذار 1963من إذاعة حلب ،حيث كان يخدم في كلية الضباط ،تولى العديد من
المناصب الحزبيــة والرقـابيـة ،مديــــــر الدعاية واألنبـــــاء ،مديـــر عام دار البعث،
رئيـــس تـــحرير جريــدة البعث ،الرئيــس الفخري التحاد الصحافيين السوريين .....
الخ.
-4لومومبا :باتريس لومومبا ،مناضل كنغولي ،ذو ميول اشتراكية ،أول رئيس وزراء
منتــخب في تاريخ الكونغو أثناء االحتالل البلجيكي لبالده ،قتله البلجيكيون سنة 1961
بعد ســـنة واحدة من توليه الحكم بموافقة أمريكية .لقي اهتمام وتعاطف عربي،
والسيما من مصر وعبد الناصر الذي أولى عائلة لومومبا اهتمام خاص.
-5ليس يغني عن الظماء الســـراب :هذا البيت والذي يليــه من قصــيدة للشـاعر
فيصــل بليبل بعنوان (إلى رئيس اتحاد الكتاب العرب).
"سـيف فليُشــهر" أو "اآلن اآلن
ٌ -6لسيوفٍ مشهرةٍ تلمع :إشارة إلى أغنية فيروز
وليس غدا ً".
-7قالت فيروز مغردة ً :القصــيدة التي كتبـها فيصل بليبل ردا ً على أغنية فيروز،
(اآلن اآلن وليــس غدا ً /أجراس العودة فلتـقرع) ونُسـبت خطأ ً إلى نــزار قباني ،وهي
واحدة من قصـائد فيصل بليبل في مخطوط ديوانه (الدروب إلى حزيران) الذي ُمنع
من النشر.
-8قد شبع الجوع ولم يشبع :وفي رواية أخرى :في طيــ ...الشعب له مرتع .
-9عبد السالم :مداعبة من الشاعر فيصل بليبل لألديب الكبير د .عبد السالم
العجيلي.
391
أوراق العدد المزدوج 02-91
أحمد العربي
قيامة اليتامى رواية أحمد خميس تعتمد أسلوب السرد على لسان الراوي ،وفي كثير من
األحيان ينتقل السرد الى لغة المتكلم ،على لسان أحد شخصيات الرواية المحورية.
تبدأ الرواية من يعرب الشاب السوري ابن مدينة الرقة ،الذي يعيش في باريس ،حيث
تسرد واقع حياته اليومية هناك .ومن خالل تتبع السرد ،تسترجع الرواية ماضيه،
وماضي حياة الشبكة المحيطة به من أصدقائه الذين تعرف إليهم وتعايش معهم هناك،
اصدقاؤه بشارة الفلسطيني ،وسلينا العراقية ،وبرناديت الفرنسية ،وغيرهم كثير.
يعيش يعرب حياته في فرنسا بعد طلبه اللجوء إليها ،وحصوله عليه بصفته أحد ناشطي
الثورة السورية التي انطلقت في ربيع ٠٢٢٢م ،كان من قادة الناشطين في المرحلة
السلمية في مدينته الرقة ،ومع تسليح الثورة ،صار له دور مع ناشطي الثورة من الجيش
الحر ،وعندما انقلب العالم كله على الثورة السورية ،وبدأ ظهور اإلسالميين المتشددين،
مثل داعش ،أصبحت حياته في خطر من النظام المجرم ومن داعش ،فما كان أمامه
سوى الخروج من سوريا ،حيث استقر في باريس.
تسير حياته وفق روتين محدد في بيته ،وفي المقهى ،وفي لقائه بالناشطين الهاربين
من ديارهم من بطش المستعمر ،أو االنظمة المستبدة .أحد أهم أصدقائه بشارة
الفلسطيني ابن مدينة اريحا ،الذي غادر فلسطين الى فرنسا حامال معه جرح فلسطين
النازف منذ عقود ،فلسطين التي يحتل الكيان الصهيوني جزءاً منها ،والتي يعيش
بعضها الباقي قضماً صهيونيا مع بطش واعتقال وقتل شبه يومي .ماهر في العزف
على الكمان ،يقود فرقة موسيقية ،وأصبح له حضوره وأعماله المتميزة .العالقة بين
392
أوراق العدد المزدوج 02-91
يعرب وبشارة حميمية جدا ،فيها تواصل وجداني ،ومشاعر االنتماء الى قضية رسالية:
ثورة الشعب السوري وقضية فلسطين.
أعاد يعرب رسم ماترسب في نفسه من معاناة عاشها في الثورة ،وخاصة استشهاد
اصدقائه في المظاهرات في مواجهة النظام ،عبر عن ذلك في لوحات كثيرة رسمها،
عبر فيها عن ذاته وعما عاشه .كما تعرف يعرب ،إلى سلينا الفتاة العراقية ،التي تركت
بلدها مع زوجها الذي يكبرها بسنوات كثيرة ،تزوجته في ظل ظروف عائلية سيئة :والد
متوفى ،وأم ضعيفة ،مغلوب على أمرها .انتقلت للعيش معه في فرنسا .وهناك ،وبعد
سنوات توفي الزوج ،وأصبحت سيلينا حرة في تصرفاتها ورثت بعض المال عن زوجها
الثري .تمتلك صوتا جميال ،مكنها من المشاركة بالغناء مع فرقة بشارة الموسيقية،
وكان ذلك مدخالً لحصول عالقة حب حميمة بينهما.
عمل يعرب وبشارة وسيلينا بشكل مشترك ،لخدمة قضاياهم ،والتنوير على مآسي بلدانهم
الثالث سوريا وفلسطين والعراق ،عبر أعمالهم الموسيقية والغنائية ،والرسم أيضا .كما
تعرف يعرب على برناديت الصحفية الفرنسية ،والتي تبنته وحصلت بينهما عواطف
حب وود .مما جعل برناديت قريبة من نشاط يعرب وبشارة وسيلينا ،تساعدهم وتدعمهم
طوال الوقت…
لم تسر أمور هذه المجموعة في مناشطها بشكل سلس ،لقد كانت األقدار هناك حاضرة،
حيث مرض بشارة بالسرطان ،ولم يخبر أحداً ِم َمن حوله بذلك ،وقاطع حبيبته سيلينا
بطريقة فظة ،دفعتها لمحاولة انتحار فاشلة ،وبعد ذلك عادت إلى العراق ،خدمت أمها
التي تقيم في دار للمسنين ،وخدمت من كان مع أمها ،ثم أحضرت بعض أموالها،
وساعدت الدار وجعلتها أقرب انسانياً لتلبية حاجة هؤالء العجزة المقطوعين من األهل
والدعم المادي والنفسي .وعادت الى فرنسا مجددا باحثة عن حبيبها بشارة الذي علمت
أنه مصاب بالسرطان وأنه يعاني سكرات الموت ،لتصل إليه بعد فوات األوان .وتقرر
استعادة االرتباط بذكراه ،وإحياء حبه ،والقيام بدورها اإلنساني في دار المسنين.
393
أوراق العدد المزدوج 02-91
مرض بشارة وعزلته ،ووفاته ،أنهت عمل المجموعة المنسجمة ،لكن يعرب اختار
المضي في الحياة الرتيبة المريرة صعوداً .فقد توثقت عالقته مع برناديت ،وعمل معها،
لعرض لوحاته التي تحكي قصة الثورة السورية ،في ذكراها السنوية الرابعة .وحقق بذلك
نجاحاً ملفتاً .وأصبح يعرب من أهم الوجوه الفنية المعبرة عن الثورة السورية ،بصفاء
وانتماء ومصداقية ،وبات قبلة الصحافة واإلعالم في فرنسا وأوروبا عموما .مما جعله
تحت انظار الخاليا االمنية التابعة للنظام السوري ،والتي تعمل على تصفية الناشطين
الثوريين في الخارج بشكل علني ،أو سري ،المهم التخلص منهم…
لقد صنع النظام شبكة قتل واسعة في أوروبا ،اعتمد في ذلك على البرمجة الذهنية،
وغسل الدماغ ودفع العميل لإلدمان على المخدرات ،واعطائه المال وتوريطه مع شبكة
للعاهرات ،وجعله مصابا بمرض االيدز ،واألهم هو دعمه بالمال والمخدرات عند كل
عملية اغتيال أو قتل.
كان داود رأس شبكة تنفيذ المهام القذرة هذه في باريس ،أُعطي األمر له من سيدة
ترتبط مباشرة مع المسؤول الدبلوماسي السوري األول في فرنسا ،الذي تتلقى تعليماته،
وتعطيها لداود ،الذي يقوم مع القتلة المأجورين ،بعملية التصفية الجسدية .كانت لديهم
قائمة بالناشطين المطلوبين بالعشرات ،في فرنسا وأوروبا .وهكذا كان يعرب على أرس
القائمة المستهدفة باالغتيال في باريس ،خاصة أنه أصبح من أنشط الثائرين المعبرين
عن الثورة السورية والناجحين في ذلك .خطط المسؤول الدبلوماسي ،ونفذت السيدة
العميلة ،عبر قتلة مأجورين اغتيال يعرب ،وتم كشف العملية كلها عبر داوود نفسه
الذي صحا ضميره أخي ار ،واعترف لألمن الفرنسي بكل شيء ،قبل موته باإليدز الذي
كان مصابا به.
تابعت برناديت الصحفية الفرنسية حبيبة يعرب وصديقته والتي أصبحت وكيلة أعماله
ونشاطه ،مالحقة قضية اغتيال يعرب والقبض على المسؤول الدبلوماسي وعلى السيدة
394
أوراق العدد المزدوج 02-91
العميلة وعلى القتلة ،وحوسبوا كلهم ،وتم إبعاد المسؤول الدبلوماسي السوري ُ
وسجن
الباقون…
في النهاية كانت برناديت قد دونت هذه األحداث كلها منذ تعرفها على يعرب وأصدرتها
على شكل رواية…
لقد نجحت الرواية على امتداد ٥٢٢صفحة ،أن تخوض عميقا في تالفيف العالقات
االنسانية بشكل شبكي ،يغوص عميقا في حالة كل شخصية على حدة :يعرب السوري،
والثورة السورية ،وبشارة الفلسطيني ،والجرح الفلسطيني النازف ،وسيلينا الع ارقية ،وجرح
العراق الممتد الى عقود ،عبر ترابط جميل لشخصيات الرواية األساسية ،دون اقحام،
وبسالسة مقنعة…
كما نجحت الرواية بالربط بين الشخصي ،والحميمي الوجداني ،والغوص في استقرائه،
وبين االنتماء العام لكل شخصية ،وأن تجعل ذات كل منها ،حاضرة في الحب ،وفي
العالقات المحيطة بها وفي انتماءاتها األصيلة العميقة ،الملتزمة بقضايا بالدها
الدامية…
لقد لفتت الرواية إلى صمت العالم ،عما حصل في سوريا على يد النظام ،من قتل
وتشريد واعتقال للشعب السوري ،وتدمير البالد ،وأن الغرب محكوم بثالثية ال أرى ،ال
أتكلم ،وال أسمع ،وعلى الرغم من توافر كل األدلة ،على التورط الحكومي السوري في
اغتيال ناشط الجئ في فرنسا .تم إبعاد المسؤول فقط ؟!! .وأن ذلك ُيسحب على
صمت أوروبا والعالم ،حيال التدخل العسكري واألمني الروسي – اإليراني ،وكذلك
تغول داعش في سوريا ،وتم تحويل أجندة العالم من دعم السوريين في مطالبهم العادلة،
في إسقاط االستبداد وبناء الدولة الديمقراطية العادلة ،الى محاربة إرهاب داعش ،وترك
395
أوراق العدد المزدوج 02-91
الشعب السوري لمصيره األسود ،تحت سلطة النظام المجرم وحلفائه… وهذا يعني أن
"الغرب قائد العالم" راض عما حصل ،وان لم يباركه علنا…
أحمد خميس كاتب سوري متميز ،ينتمي إلى جيل الثورة السورية ،وهو ما يقودني
للقول ،بأن روايته هذه ،نجحت في توثيق الحدث السوري ،وبالتبعية عليه الفلسطيني
العراقي ،وان الجرح واحد والعدو واحد ،وأننا متوحدون في الهم والحل ،وفي األمل ،وأن
هذه الرواية وأمثالها من موجة اإلنتاج الروائي العربي ،يجعلنا نقدم شهادتنا الذاتية –
ولن نغفر ،وهذه شهادتنا للتاريخ…
ولن ننسىْ ،
العامة ،وأننا ْلم ْ
وأن ثورتنا ثورة حق وانتصار للكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية وأن مسؤوليتنا مستمرة
في ثورتنا حتى اسقاط االستبداد الظالم ومحاسبة القتلة المجرمين…
* قيامة اليتامى ،أحمد خميس ،فضاءات للنشر والتوزيع ،عمان -األردن ،ط/ ٢
٠٢٠٢م
396
أوراق العدد المزدوج 02-91
د.مصطفى عبدالقادر
يبدو أن اتساع رقعة المدن ،وكبر حجمها ال عالقة له بعطائها ،وتقدمها ،وتصدرها
للمشهد الثقافي .فكم من مدينة كبيرة بمساحتها الجغرافية ،وبعدد سكانها الكثر ،ومع
فقر في مناحي الحراك الثقافي األدبي والفني والفكري ،على عكس مدينة
ذلك فإن لديها اً
الرقة الصغيرة مساحة -إذا ما قيست بكبريات المدن السورية -والكبيرة بنتاجها ذائع
الصيت والصدى ،في مختلف الحقول الثقافية واألدبية.
إن بداية احتكاكي بفعلها الثقافي المشهود له ،كان في بداية ثمانينيات القرن المنصرم
حين ذهبنا إلى دمشق ،للمشاركة بعرض مسرحي ،ضمن عروض المهرجان المسرحي
العمالي ،الذي اعتبر في حينه واجهة المهرجانات المسرحية القطرية وأقواها جودة
واهتماما .آنذاك قدمت فرقة الرقة عرضا مسرحيا بعنوان (الجمجمة) إخراج الفنان نجم
عليان ،وتمثيل ثلة من الشباب بطاقاتهم المتفجرة أذكر منهم (فواز الجدوع ،موسى
الخضر ،شكرية الخضر .)..هذا العرض ،كان متمي از ،حيث القى استحسان الجمهور
والنقاد ،بأداء ممثليه ،والرؤية الفنية اإلخراجية الموفقة ،ثم كرت السبحة في صعود
متواتر ..إلى أن استطاع بعض عناصر هذه الفرقة الوصول إلى الشاشة الصغيرة،
عبر مسلسالت درامية الفتة ،القت تقبال ورواجا لدى المشاهدين.
ثم بزغ نجم فرقة الفنون الشعبية في الرقة بقيادة مدربها ،واألب الروحي لها األستاذ
إسماعيل العجيلي ،فازداد إعجابنا بذلك النهوض الفني المتسارع لتلك المدينة الوادعة
حيث كانت فرقة العجيلي هي الواجهة الفنية لسوريا تمثلها في المهرجات الدولية ،كيف
ال ،وهي التي بزت فرقة أمية للفنون الشعبية المعتمدة رسميا من قبل الدولة .وراحت
397
أوراق العدد المزدوج 02-91
فرقة "العجيلي" تجوب العالم بفتيانها وفتياتها ،وهي تحمل قد ار عالياً من االجتهاد
واالنضباط والمسؤولية ،إذ أخذت على عاتقها تقديم الفولكلور الفراتي ،برؤية عصرية
متطورة .
لم نلبث إن تابعنا توهج المركز الثقافي العربي في الرقة ،وما قدمه من أنشطة وفعاليات
ومهرجانات استقطبت أسماء المعة ،لها وزنها على الساحة العربية الثقافية .لقد قيض
لي تقديم عرض مسرحي على خشبة ثقافي الرقة وذلك بحضور رسمي ،وجماهيري
واسع ،كانت الصالة ممتلئة عن بكرة أبيها ،والممرات ال مكان فيها لوافد جديد ،مازاد
في تحريضنا على تقديم أفضل وأجود مالدينا..
تتالت األيام ،ومرت السنون ،وتكررت زياراتي لمدينة الرقة العتبارات شتى حيث تعرفت
إلى جملة من األدباء الذين أثبتوا وجودهم سواء في مجال الرواية أو القصة أو الشعر.
إذ قدموا نتاجا متمي از له بصمته وخصوصيته ،كما أتيح لي بحكم تعاطي مهنة األدب،
أن أتشرف بإقامة أكثر من أمسية أدبية في مدينة الرقة ،وسط حضور نوعي ،ناقشني
بأدق التفاصيل ،ما يدل على فهم ،وتفهم ،لما يتلى على مسامعهم ،إضافة لذائقتهم
األدبية التي تجلت بالتفاعل والتصفيق ،مع كل جملة المست شعورهم.
ومن األسماء التي تشرفت بمعرفتها وتوليد صداقات متينة معها ،الروائي المتميز،
صاحب الكلمة الحرة األستاذ إبراهيم الخليل ،وهو من وضع مكتبته العامرة تحت
تصرفي إبان النزوح إلى الرقة ،وكذا األستاذ خليل جاسم الحميدي ،حيث أهداني خمس
مجموعات قصصية له ،وأيضا األديبة فوزية المرعي التي جمعتني بها أمسية مشتركة،
وكذلك الفنان التشكيلي والروائي الماتع األستاذ أيمن الناصر ،الذي فتح لي قلبه ،وبيته
لدرجة أننا كنا نتناقش بما نكتب قبل استكمال مخطوطاتنا األدبية.
ومن الشعراء الذين تشرفت بمعرفتهم األستاذ إبراهيم الجرادي الذي شغل عضوية
المكتب التنفيذي التحاد الكتاب العرب بدمشق الحقا .ومن األسماء التي لم تغب عن
ذهني د .حمدي الموصللي الذي حصد جائزة محمود تيمور للتأليف المسرحي بمصر،
398
أوراق العدد المزدوج 02-91
والروائي تركي رمضان ،واألديب الصحفي محمد جاسم الحميدي ،والروائي يوسف
دعيس ،والشاعر األنيق بسام بليبل ..والكثير من األسماء التي خانتني الذاكرة
باستحضارها.
أما أيقونة الرقة ،وشيخ األدب فيها المرحوم عبدالسالم العجيلي الذي فاق أدبه طبه،
ووصل اسمه إلى أقاصي المعمورة ،فالحديث عنه يحتاج لصفحات وصفحات ،ومما
يحسب له أنه ألتصق بمدينته حتى آخر العمر ،على الرغم من كل المغريات التي
عرضت عليه ،فبقي قرب فراته ،ينهل من نمير مائه ،ويتغنى بمويجاته.
كل هؤالء وغيرهم ،نقشوا اسم الرقة بحروف من ذهب ،ما جعلنا نغبطهم ،وننظر إليهم
بمزيد من االحترام ،والتقدير ،واإلكبار.
399
أوراق العدد المزدوج 02-91
حل أهلك
علواه ْت َر َ
وتجيبهم هينا
بهذا البيت الفراتي الرقيق ،كنت أتلقى تحية الصباح يومياً ،من الشاعر الفراتي المرحوم
محمود الذخيرة ،عندما كنا نعلم في مدرسة الوحدة العربية االبتدائية في حي المشلب،
لعدة سنوات بدءا من 2622ومابعدها .هو سليل الشاعر الشعبي محمد الذخيرة العالم
حليلة ،كما لقبه أهل زمانه ،إذ برع في شعر الموليا الفراتية..حيث الفرات والزيزفون،
جوان
والتوت والطرفاء والعاقول ،والشيح والقيصوم ،ورد الخاثر والندى ..هنا نما أبو َ
محمود الذخيرة ..الطبيعة الفراتية وهباتها الجمالية ،العائلة وتحليل الشعر وقرضه..
والهوى.
زار النهر ..الذي تذهب إليه الورادات لجلب الماء ،على ظهور الدواب في الُق َرب أو
القواديس ،خطرات عدة ،وقد حضرت الحبيبة ونهلت من الفرات وغادرت مع
صويحباتها .جلس بجانب الماء وقد شم أثر طيبها ،ولما يزل في الماء فقال (نايل):
411
أوراق العدد المزدوج 02-91
برع الذخيرة في لون (النايل) ،وقد كتب مايجاوز ألف بيت ،عن الشوق والحب والحنين،
والغزل والفراق ،وغيرها من أنواع الشعر الوجداني ومنه:
بعيونا أُوكات
وحاجوزنا البسمات
وكذلك:
الدنيا بس أربعة
الخالن
وماليع ُ
ْ
ومن قصيدة طويلة له ،تسمى مصرع ،حيث يتم استيالد البيت الثاني من الشطر
االخير للبيت األول ،وقد بدأها بهذا البيت الجميل:
تاه بتواصيفو
411
أوراق العدد المزدوج 02-91
ليلة وعشوية
وكذلك:
وعليهم ِ
لسهر الحارة من العن
كتب الشاعر محمود الذخيرة القصيدة ذات الشطرين ،تغزل فيها بالمرأة الفراتية ،ومن
أجمل ماكتب في ذلك قصيدة "شحدت الشوق" ،ومنها هذه األبيات:
412
أوراق العدد المزدوج 02-91
حضنك بس يوسعني
أما قصيدة (بالعشق ما أقدر أُقلك) فإن لها شجونها وحكايتها ،وقد حضرت تفاصيل
مخاضها ،ومنها هذا المقطع:
لم يكن الوطن بعيداً عن اهتماماته الشعرية ،فكتب قصيدة (ديرة هلي) وهي قصيدة
رائعة ،منها أقتبس هذا المقطع:
متوايج
بيها الزلم
413
أوراق العدد المزدوج 02-91
غنى له المطرب الشعبي الراحل حسين الحسن ،والذي الزمه كثي اًر في حياته .كما انه
كتب ُجل أغاني فرقة الرقة للفنون الشعبية.
كان شاع اًر يحب ويحترم المرأة بوصفها األم والحبيبة ،والزوجة واألخت واالبنة .وقد
كان يعلم بمحاوالتي في الكتابة الشعرية الشعبية الفراتية ،وكنت أنكر ذلك أمامه احترام ًا
لقامته .وقد أوصاني بأن أذكر المرأة بعفافها وقيمتها الكبيرة ،وأحترمها في كتاباتي،
كما كان هو على هذا الديدن.
تجدر اإلشارة هنا ،إلى أنه كتب أيضاً في الشعر العمودي ،باللغة العربية الفصحى،
وله قصائد عديدة في ذلك.
في أوخر أيامه بدأ بكتابة دراسة توثيقية عن الرقة (الرقة في ثالثة قرون) ،صدر منها
الجزء األول في الحياة البشرية ،ولم تصدر األجزاء األخرى حتى تاريخه ،وهي جاهزة
للنشر قبل رحيله ..وقد اطلعت عليها حينذاك..
محمود الذخيرة شاعر متميز ،يجيد فن الكتابة الشعرية ،في أشكالها التعبيرية المختلفة،
غير انه أخلص للشعر الشعبي الفراتي ،وتربع على عرشه.
414
أوراق العدد المزدوج 02-91
"الطلياني"
ركب َة
الم َ
السردية ُ
سيرية العائلة َ
َّ بين
أسعد آل فخري
415
أوراق العدد المزدوج 02-91
العربي " "1122التي تبدت على شكل نبوءات ،أو استشرافات مرتبطة بنتائج المرحلتين
السابقتين لها ،لنتحصل من بعد ذلك على عمل روائي حاذق في إضاءة العديد من
األسئلة األخالقية الكبرى ،والتي لفتت األنظار في تَصدياتها التعبيرية ()meaningful
المكينة تجاه القضايا السياسية ،والفكرية لمرحلة هامة ،وفارقة داخل زمن
وتعرضاتها َ
التحوالت التونسية بامتياز ،ومقدرة رصدت من خاللها لوحة الصخب ،والفوضى التي
سرعان ما انعكست تداعياتها على مجمل الحياة السياسية ،واألخالقية ،وكذلك
االجتماعية ،لعموم المجتمع التونسي ،في الوقت الذي يلفت االنتباه داخل مسارد الرواية
قوة تدفق وسيولة األحداث والوقائع ،واستنادها إلى مرجعية تنتمي إلى حاالت التوثيق،
الذي أسرف الروائي من خاللها في ذكر مجاميع تلك األحداث ،واالحتربات السياسية،
كما أنه أسهب في سياقات المسارد داخل سردية "الطلياني" إلى درجة تمظهرت فيها
مناخات الملل ،ولربما الحاجة إلى كسر حالة االنتظار .على الرغم من أن الرواية ال
تخلو من الجذب ،والتشويق ،إال أن أبعاد مسألة التوثيق ،والوقائع التاريخية لتلك
المراحل قامت ،ونمت من خالل معايرة استرجاع األحداث الماضية ()retrospection
وتسريد بنية الحكايات فيها ،مما أنتج أبعاداً إشكالية في أسلوب التعبير ()locution
عن تلك الحكايات ،وعن تفاصيل أنساقها التي لم تخرج في حقيقة األمر عن نطاق،
وإطار المسرد الواقعي المباشر المحكوم بالوصف ،إلى درجة أن الكثير من الوقائع
الوثائقية ( )Documentary narrativeتحول إلى مسرد تسجيلي ،غرق في
التوصيف ،والتوثيق التاريخي بعيداً عن القيمة التعبيرية للسرد الروائي.
ثمة مفاعيل سردية تمظهرت في رواية الطلياني ،وقد اعتمدت التاريخ بعداً تأسيسي ًا
المتخيَّل السردي(epidiascope"لميثتها الحكائية" إذ استدعت من خالله منصة ُ
)narrativeكم هائل من المشهدية التوثيقية والتي في ظننا ،واعتقادنا أنها كانت
المعيار الذي يتم عبره إدراك المسافة بين زمن الحدث ،وزمن كتابته ،وهو أي "المخيال"
( )imaginaryمن يحدد األبعاد التي يخلفها أثر التاريخ ،داخل مفاعيل حركية الوقائع،
ومرجعياتها السوسيولوجية ( )Sociologyحيث أشارت الرواية إلى العديد من
416
أوراق العدد المزدوج 02-91
اإلحاالت الرمزية التي تُعد مرجعي ًة لألحداث وفق ما تعرضت لها رواية الطلياني مثل:
(يوم النصر في 2611ـ وصول "بوك علي" إلى العاصمة ـ مؤتمر الطلبة في قربة
2621ـ الخميس األسود 2622ـ ثورة الخبز )2624والعديد من األحداث المختلفة في
سياقها التاريخي ،والتي لم تغفلها السردية ،وهي في حقيقة األمر َّ
جذرت حضور تلك
األحداث بصورة ،وصفية ( )descriptionال تخلو من المواقف التي ترسم مشهدها
التعبيري ( )expressiveهنا أو هناك .ال سيما أن الروائي المبخوت ما انفك ،وهو
ال يخفي رغبته في إعادة الحياة إلى الرواية الكالسيكية المتنوعة المناحي ،واالتجاهات
مؤكداً أهمية مقولته" :إن التجريد الروائي وصل إلى طريق مسدودة عند الغرب ،ومنها
انتقل إلى العالم العربي متأخ اًر ،وعندها وصل إلى طريق مسدودة أيضاً عندنا ،بحيث
وصلنا إلى روايات ال نستطيع أن نتجاوز فيها عشر صفحات ،أو عشرين صفحة وهنا
أتحدث عن نفسي كقارئ ،ولست روائياً في هذا المعنى" ( )1ربما يحتاج األمر هنا إلى
مراجعة خاصة بما يتعلق بحالة الجزم التي أبداها الروائي المبخوت بما يتعلق ،ويخص
الرواية التجريدية ،والطريق المغلق الذي وصلت إليه ،لكن من المفيد االلتفات في هذا
المفصل إلى أن ضرورة وجود الحكاية ومتوالياتها السردية في ماهية مسارد الرواية،
هي (أي الحكاية) األصل في العملية السردية ،وتلك نقطة ال خالف حولها نظ اًر إلى
أن تمظهر إجرائية مفهوم "أن تكون هناك رواية دون حكاية" ليس صحيحاً ،من حيث
إن هذه المعايرة هي التي يرغبها المبخوت ،ويؤكد على وجودها بعيداً عن التجريد
السردي القادم من الغرب "قاتل خفي للحكاية" حيث ال ينفك عن اعتبار أهمية الحكاية،
وأحداثها الواقعية ،كما لعبة يحتاجها الطفل للحكي أو لإلنصات طبقاً لما يقول ":أنا
فضاء للحلم
ً كالطفل الذي يحب الحكاية ،وجميعنا يحب الحكاية ،ألنها تحمل
وللتفاعل"( )2تماماً كما هو مثلث التقريرية المقدس "التاريخية والتسجيلية ،والوثائقية" في
الوقت الذي كادت أن تتالشى تقريباً كل تلك التصنيفات السردية في المشهد الروائي
العربي إال من نثار ال يذكر هنا أو هناك ،حيث بدا أن الروائي المبخوت غير آبه ،وال
ملتفت إلى بعض معايير الحديث السردي الذي اشتغل عليه بصورة أو بأخرى ،ممظه اًر
417
أوراق العدد المزدوج 02-91
المفاصل التاريخية للمراحل المختلفة ،دون االعتداد بصيرورة كل مرحلة ،وقد اتسمت
مشاهد الصراعات بين األجيال االجتماعية ،والسياسية ،إلى مشاهد من المواجهة
االحترابية ،والمقارعة ( )fightالصراعية وفق صورتها المباشرة حيث " تعالى صوت
عبد الناصر رغم محافظة صالح الدين على هدوئه .خرج األب إلى وسط الدار بعد
أن صلى العشاء ،كان الجميع ينصت إلى األخوين ،وال أحد على األرجح فهم شيئاً
عدا توتر عبد الناصر .صرخ سي محمود في وجه ابنه األصغر :متى ستكف عن
ال :ـ ليس لدي
وقاحتك ،وأنت تتحدث إلى سيدك خوك؟! ـ أجاب عبد الناصر منفع ً
سيد ،ولست عبدًا ألحد ..لقد تركت أخالق العبيد لكم .ـ اخرس يا كلب ،قالها األب
ويداه ترتعشان ،ويهم بضرب الفتى الوقح ...أمسكه صالح الدين من يده ،وهو يتمنع
ويتفلت .هدأ من روعه والتفت إلى أبيه موجهاً إليه الخطاب :ـ يا حاج عليك أن تفتخر
بابنك .إن الناس يحسدونك عليه ،وهو أفضل مني ثقافة وتجربة ،وعمقاً في التفكير
نضيف إلى ذلك أيضاً ما كان عليه جواب (ص 26ـ )22
مقارنة بي حيث كنت في سنه"
الروائي المبخوت في الحوار الذي جرى حول روايته الطلياني ،وبالتحديد ما يتعلق
بمسألة الحرية الفردية داخل األسرة ،أو في إطار المجتمع مؤكداً العبارة الالفتة التي
قذفها عبد الناصر بوجه أبيه " ما يجمع بين الشخصيات هو بحث يسعى إلى بلورة
مسار فردي قائم على الحرية الفردية يخفق بطبيعة الحال ،ألن هذه المجتمعات
المحافظة ،ال تؤمن بالحرية الفردية .هذا الفرد مقموع في جسده في خياله في لغته،
وليس مقموعاً سياسياً فقط وهنا السؤال الذي يفرض نفسه "هل يمكن أن نصنع مجتمعاً
()4
ح اًر بأفراد مستعبدين"
418
أوراق العدد المزدوج 02-91
"سي محمود" في الوقت الذي وجدنا فيه جيل مرحلة "بورقيبة" التي تصدى للتعبير
عتها األخ األكبر "صالح الدين" أما جيل مرحلة "بن علي" وما بعده فقد مثله االبن
األصغر (عبد الناصر) "الطلياني" الذي خرج عن صمته المعهود ،ليعلن رأيه ،وموقفه
المسكوت عنه بصراحة ،وشجاعة مدهشتين ،وكأن الروائي "شكري المبخوت" أراد أن
ومركبة ،إلى دوافع ،وتبديات ما جرى في بدايات ثورات الربيع يشير بصورة رمزية ُ
العربي التي افتُِتحت أناشيدها في الشوارع التونسية منذ لحظاتها األولى ،تماماً كما
صرح المبخوت بذاته قائالً " :لم أكن بحاجة إلى القيام ببحث تاريخي ،ألنها فترة جيلي
أنا .وعلى كل حال تلك الفترة من تاريخ تونس ليست مكتوبة ،والتحدي الذي خضته
هو أن أكتب قصة جيلي سردياً ،وفي اآلن نفسه مسيرة بلد يعيش تلك التحوالت
في الوقت الذي نجده يتحدث عن ثورة الياسمين التونسية ()1
والتناقضات واألزمات"
معتب اًر أن التوافق بين زمنين ":زمن الرواية ،وزمن الكتابة البد سيكون نوعاً من التوافق
الذي لم أخطط له ،ولكن وأنا أختار مقر هذه الشخصية ،وجدت تشابهاً بين
المرحلتين ...مرحلة نهاية بورقيبة ،وبداية بن علي ،ومرحلة نهاية بن علي ،وبداية
الثورة والواقع الذي يربط بين الفترتين هما أنهما فترة انتقال ،وتحول ووعود وآمال
وتخوف ...هذا ما عشناه في الفترتين"( )6وهذا ما جعلنا ننظر نحو سردية الطلياني
برمتها ،وفق مناظير حضور ،وتجلي أبعاد ،ومعايير مختلفة تخص ماهية الرواية
المركبة( )syntagm narrationوالتي تكون بطبيعتها منفتحة على مغاليق الكتابة
التي تنتهج السرد الواقعي ،والمباشر والتاريخي في اآلن ذاته.
419
أوراق العدد المزدوج 02-91
عاشها ويعرفها ،وكذلك المراحل السابقة لها والالحقة بها ،وكأن المسألة هي في ُك َليِتها
السردية التي توثيق ما جرى ،وفق الصورة التي يريدها المبخوت ،وهي جعل وظيفة
التوثيق ( )authentication functionمنصة أساسية يتم الحديث من خاللها عن
مراحل مختلفة لم يتم تدوينها من قبل في الوقت الذي وجدنا اشتغال "المبخوت" يغرد
بعيداً عن سرب مفاعيل التحليق في الفضاء السردي الذي سيساهم بالتأكيد في إخراج
سردية الطلياني من عزلتها التوثيقية ،وتخليصها من "العوز" في بعض مفاصلها التي
بدت مترهلة جراء االستغراق داخل دوامة التفاصيل السياسية وااليدولوجية الفائضتين،
ف ارحت أنساق الحكاية أو الحدوثة تخرج عن مساراتها الكالسيكية كرواية واقعية ،وانكبت
تحدثنا ،وهي تطل علينا من نافذة مفاعيل تقنيات سردية مختلفة ،حيث شرع الروائي
عاكفاً على تعليم بعض شخصياته الروائية مراحل ،ومسارات كيفية إعداد "مقال
صحفي" أو َرِق ْن مادة كتابية على صفحة الجريدة ،حيث البد من تتبع المراحل األساسية
في تنزيل ،وطباعة المادة الكتابية على صفحة الجريدة أو المجلة ":قواعد بسيطة يمكن
استعمالها حتى قبل رقن المقال ،قال له :معدل الكلمات في السطر الواحد مضروب
في عدد األسطر تقريب ًا ،حينها تعرف الحجم ،سترى أن الفروق تتصل بحجم الخط،
وكيفية قطع أعمدة المقال المكتوب على عمود عادي أو عمودين أو أكثر .هكذا يكون
احتساب الفراغات بين األعمدة وهوامش الصفحة في أعالها وأسفلها ،وكيفية إعداد
الورقات قبل الشروع في أي تصور للمحتوى البصري لهذه الصفحة أو تلك ،بالتجربة
ستعرف الزوايا الثابتة ،والصفحات التي ال تتغير ،والصفحات التي يتبدل محتواها دون
شكلها إال في ما ندر .ما تقوم به أشبه بوضع سكة الحديد ،وعلى المصمم وضع
القطارات ،وتنظيم أوقات خروجها ودخولها" (ص )261إضافة إلى ما شابه ذلك أيضاً من
تأثيثات مختلفة أخرى في العديد من المناحي واألدوات ،والتي تتعلق بكيفية إيصال
فكرة درسية أو مهمة تعليمية ":وتقتصر الدائرة الرابعة على الطلبة الذين ُي ْكتَفى بتكوينهم
غير السري في مجال العمل النقابي الطالبي :تشرح لهم مبادئ الحركة الطالبية
النقابية ،ويروى على أسماعهم تاريخ االتحاد العام لطلبة تونس ،والنقلة النوعية بعد
411
أوراق العدد المزدوج 02-91
مؤتمر قربة وحركة فيفر" "2621المجيدة وما ترتب عنها بالخصوص من قطيعة
سياسية ،وتنظيمية مع النظام الكمبرادوري العميل ،ودور الحركة الطالبية في التغيير
في الوقت الذي نجد فيه تناوباً الفتاً بين أسماء األعالم من الكتاب، الثوري"
(12ـ)14
والمفكرين ،وبين سياق الشروحات السياسية التبشيري منها والتعليمي ،وذلك ما ترك
ال على أنساق السردية ،ولغة الحوارات فيها ،وأخرج جماليات الحوار السردي
وقعاً ثقي ً
المركب إلى فسحات مختلفة ساهمت بصورة مباشرة في جعل األمر متاهة لِ َك ِم كبير
من المعلومات التي عادة ما تكون أشبه بتوشية تضيء الحوار ( )dialogueداخل
العمل السردي ليس أكثر .وهذا ما جعل الرواية تقع فريسة سهلة للعوز الفني ،وتفقد
كذلك ميزة هامة من مائزاتها السردية ذات األبعاد التركيبية جراء الحشو الزائد في
المعلومة غير المفيدة ،والتي يمكننا إزالتها من نسيج الرواية دون أن تترك أث اًر بالغاً
على مفاعيل سياق السردية وأهدافها.
411
أوراق العدد المزدوج 02-91
إن االعتناء ،والحرص الشديدين على تفعيل األبعاد التفصيلية ،وماهية السياقات
الوصفية داخل األنساق السردية ،واهتمام الروائي الملحوظ على استحضارها،
واستعادتها من ماضيها ( )analepsisشكلت في مجملها عبئاً أثقل كاهل الرواية،
وبعثر أهدافها األساسية ،وتلك حقيقة سرعان ما نشعر بها ،ونالحظها داخل دوامة
تتبع أنساق المسارد .يضاف إلى ذلك تركيزها على تأريخ التحوالت السياسية،
المحتربة،
واالجتماعية للمراحل التي تصدت لها الرواية ،وانشغالها بتقسيمات األجيال ُ
وفق الصورة التركيبية للبنية السردية العميقة ( )deep structure narrationوتوثيق
المفاصل التي تَنتُج من جراء ذلك االشتغال ،وتوالي مفاعيله التي حولت الرواية إلى
للتحصل ،والتعرف على مجريات توثيقية
ُّ أرشيف تأريخي ،وشاهد يمكن العودة إليه
لتلك الفترة ،في الوقت الذي كان من المفترض أن ينخرط الروائي "المبخوت" في
االشتغال على تنمية شخصياته الروائية التي بدت في مختلف أبعادها التركيبية،
ومفاصلها السردية قابلة لفعلين أساسيين مهمين في بعديهما التأويلي والرمزي
( )interpretation and symbolicوكذلك جعل سردية الطلياني مرصداً متقدماً
412
أوراق العدد المزدوج 02-91
للبعد األخالقي في المجتمع التونسي ،لما تحمله من أبعاد تأثيثية ،ونمنمات اجتماعية
تعتمد على المخيال ،والواقع في اآلن ذاته ،وهذا من وجهة نظرنا ُيعد بعداً سردياً َّ
شكل
قيمة مضافة ،إال أنه لم يستثمر ،ولم يتم االشتغال على مفاعيله بالصورة المطلوبة
التي ال بد أن تولي شخصيات الرواية حضورها الذي تستحقه داخل مساردها ،ومن
جهة أخرى تأهيل البعد السردي داخل طيات سلوكات تلك الشخصيات ،وسياقاتها
المختلفة التي البد ستتعايش مع النمو الوجودي لحضورها في السياق الروائي ضمن
سردية الطلياني ،وفق تناسل ،وتوالد حساسية السرود ()Narrative sensitivity
وأبعادها المختلفة ،داخل العمل الروائي وقابلية خلخلة الزمن في أنساق مسارده
المتنوعة.
413
أوراق العدد المزدوج 02-91
على صعيد "روينة السيرة" أو "سيرنة الرواية" ،حيث تحولت السردية بالتدريج إلى صورة
وثائقية تم تكريس أبعادها السردية من أجل اإلشارة وثائقياً ،وتأريخياً إلى حالة االنكسار،
والخراب الذي أصاب أجيال عديدة عبر توثيق أبعادها السياسية واالجتماعية
واأليدولوجية.
لقد استطاعت رواية الطلياني أن تقدم نفسها على هيئة "سيرية أجيال" من خالل
حديثها عن أدق تفاصيل ،ومجريات ،ووقائع بعينها جرت في أمكنة ،وأزمنة مختلفة
كانت حاضرة في سياقها التاريخي ،وكما مسرد وثائقي ()Documentary narrative
من قبل أن تتناولها رواية الطلياني ،حيث استغرقت تلك الوقائع التاريخية ،وتفصيالتها
التحليلية ما يزيد على أكثر من نصف عدد صفحات الرواية ،في الوقت الذي وجدنا
فيه أيضاً أن النصف اآلخر من الرواية استثمر مسألة الوقائع التسجيلية في النصف
غير الوثائقي ،وهذا ما يؤكد أن اتكاء الرواية على فترات محددة من التاريخ الممتد ما
بين نهايات مرحلة ما قبل بورقيبة ،ومرحلة بن علي وبداية ثورة الياسمين ( )1122لها
مرجعيتها ،وأسبقيتها كتأريخ اشتغلت ،واعتمدت عليه الرواية في تأثيث حضورها
السردي ،واستحضار ميراث خلفته األجيال السابقة بقضها وقضيضها.
414
أوراق العدد المزدوج 02-91
هي رغبة الروائي "المبخوت" المستميتة في تفعيل أدوات إيقاظ الزمن الفائت أو العتيق
من خالل الكثافة الواضحة ،والصريحة الستدعاء تفاصيل استرجاع ()flashback
صور الوقائع ،وأحداث الماضي ،وهو بذلك يجعل من حكاياته سياقات تقبل البناء
عليها مما يمنح الخطاب السردي فيها بعداً تحديثياً لكونها رواية تنتمي كما يراها الروائي
إلى الواقعية الكالسيكية بامتياز ،وهذا ما دفع المبخوت إلى تفعيل محاولة إخراج
سرديته من لعبة قواعد الشروط الواقعية الصارمة ،وجعلها سردية منفتحة على بعض
المركبة ( )synthesisللسياقات الروائية المتنوعة ،وهو بذلك يحققأدوات المفاعيل ُ
العديد من الغايات ،والم ارمي الفنية ،والسردية داخل متون َ
الم ْسرود الروائي المشغول
عليه استناداً إلى الماهية التركيبية لحكاية السيرة الذاتية ()Biographical novel
ذات الطابع التوثيقي لرواية الطلياني.
تبدأ رواية "الطلياني" أناشيدها السردية من خواتيمها ،وهي تصف لنا مراسم دفن
الحا ج محمود ،والد عبد الناصر الملقب بالطلياني ،بطل الرواية وساردها العليم الذي
يترك حشد المشيعين في حيرة من أمرهم ،حين يندفع كمن أصابه المس تجاه الشيخ
عاللة الدرويش الذي كان منكباً وقتئذ إلى جوار حفرة القبر ،وهو ِ
يلقن الميت الحاج
محمود العبارات المعتادة ،حسب طقوس الدفن ،لينهال حينها عليه الطلياني ،ركالً،
وضرباً مبرحين حتى يدميه" يلعن دين والديك ،يا منافق ،يا نذل ،يا ساقط ،اخرج من
غادي يا نيـ ...كان اإلمام يتأوه ،ويئن أنيناً م اًر ،نزفت الدماء من فمه ،فاختلطت
بقميصه السكري ،وبدعيته فاتحة اللون ...تعالى الصخب ،واختلطت األصوات" :
(ص)2
اإلمام غارق في دمائه" " عبد الناصر الطلياني ضرب اإلمام"
ولكي نعلم لِ َم أقدم الطلياني على فعلته الصادمة تلك ،سنحتاج شوطاً طويالً من
السرود ،والحكايات بلغت ذراها في خواتيم الرواية حيث نتعرف من خاللها على أحد
أهم أسرارها حين يستقيم السرد ،ليحدثنا عن وقائع حكاية الطلياني مع الشيخ عاللة،
وقتئذ راح عبد الناصر “الطلياني" يستطرد بقص حكايته ،والغصة في حلقه وهو يسرد،
415
أوراق العدد المزدوج 02-91
ويصف مشاهد اغتصابه من قبل الشيخ ،وألكثر من مرة ،حين كان في سن اليفاعة،
لنكتشف من بعد ذلك أيضاً أننا داخل شبكة معقدة من المشكالت األخالقية ،والسلوكية،
كما سنتعرف أيضاً على مفصل مهم من حياة "الطلياني" الذي عاش ظروفاً فيها الكثير
من زهوة االنتصارات الواهمة ،على الصعيد السياسي واالجتماعي ،كما هي كذلك
حقيقة االنكسار الذي اجتاح جيله بأكمله في اآلن ذاته على مختلف األصعدة فكرياً،
وإيديولوجياً وأخالقياً ،حيث تبدى من خاللها عبد الناصر الطلياني داعي ًة للحرية،
ومبش اًر بأهمية تحرر الفرد قبل تحرر المجتمع ،وقد أظهر اشتغاالً منقطع النظير في
تأثيث أخالقيات الحرية الفردية ( )individual freedomالتي تسبق حرية المجتمع
الواسعة والعامة ( )Broad and general freedomداخل العديد من المفاصل،
وهو غير منفك عن تأكيد أهمية حرية الفرد ،وأسبقيتها ،وكأنه يريد القول أن من
المستحيل أن تكون هناك حرية اجتماعية ،وسياسية إال بعد أن يحقق الفرد حريته
الشخصية ،وهذا ما جعل مفاهيم الحريات وأسبقياتها داخل مسرودات الرواية مفاهيم
عائمة تحتاج الكثير من التروي ،والضبط ،وكذلك البحث عن صيغ اصطالحية متفق
عليها من ناحية علمي االجتماع والسياسة ،إضافة إلى معايير منطقية نستطيع من
خاللها ضبط ،وتحديد معالم الطريق الصحيح نحو إيجاد أسس يتم من خاللها اكتشاف
صحة األسبقية من أجل الوصول إلى الحرية بعيداً عن االعتباطية ،وقسر المفاهيم
اإلشكالية على مقاس وقياس شخصيات سردية بعينها لديها رغبة التعبير عن هذا
المفهوم ،أو ذاك من أجل تحقيق هدف فكري محدد يعالج مسألة األبعاد األيديولوجية
داخل الرواية ،ومفاعيل أنساق تسريداتها الفكرية.
تلك هي واحدة من متواليات عديدة ،من الميثات ،والتي يعد عبد الناصر "الطلياني"
الميثة السردية الكبرى فيها ،ومنهل المسرودات جميعها ،بحكم وظيفته كسارد عليم
وم ْبتَناها ،على الرغم من ِ
( )omniscient narratorكما أنه عماد العمارة الروائية ُ
غموض محياه ،وظهوراته المواربة التي تلفت إلى تنامي مفعوالت سياقية تشير إليه
بصورة ،أو بأخرى كشخصية ذات أنساق فصامية ( )schizophreniaمتوارية خلف
416
أوراق العدد المزدوج 02-91
آ ــ زينة (أنروز):
417
أوراق العدد المزدوج 02-91
انعكست أدوارها التمثيلية على سلوكات الرجال في العائلة السردية ،وكانت (أي المرأة)
أحد أبرز المحركات الحكائية والتسريدية التي ساهمت في تنامي األحداث داخل سياقات
حكاية الطلياني ،حيث تبدت ظهورات الشخصيات مقرونة بمراتب هرمية ،تبدو فيها
مفاعيل التأثيث ذات أبعاد خالفية تتعلق بالرؤية ،والنهج كمعادلين سياسيين ينحوان
بصورة خاصة إلى تأكيد صورة المرأة ومقدار أثرها ،حيث نلحظ الحضور األنثوي عبر
أضَفت على السرود قيمة اعتبارية شكلت في أبعادها المعيار
شخصية "زينة" التي ْ
األمَي ْز لخصوصيتها ،من حيث أنها تحولت إلى امرأة خارقة ()Super woman ْ
متميزة الحضور ضمن ظهوراتها ،ومفاعيلها السردية التي ال تقل في ميثاتها التركيبية
أهمية عن شخصية عبد الناصر ،فكل منهما ُي ْكمل نشيد اآلخر سردياً ،إذ إن عبد
الناصر كان زعيماً كبي اًر أيضاً ،ويمثل تيا اًر سياسياً تحررياً في الجامعة ،كما أنه كان
خطيباً بارعاً ،ومقنعاً في خطاباته الصارخة والمؤثرة ،في الوقت الذي كانت زينة من
السباب أكبر منتقديه والئميه ،في الوقت الذي ال تجد حرجاً من َك ِ
يل الكثير من الشاتم و ُّ
لكل ُخطب وتوجهات عبد الناصر ،وهي التي كانت تنعته على الدوام ،بالمدعي ،ومن
معه أيضاً حتى وصل األمر إلى اتهام تياره السياسي بالمخادع ،واالنتهازي من قبلها.
418
أوراق العدد المزدوج 02-91
التنظيم ،اخرج واترك مكانك للثوريين الحقيقيين .هذه العاهرة ينبغي أن تزاح ،وإن لم
(ص)64
تكن قاد اًر على ذلك سأتصرف"
ال شك أن حراك زينة السياسي ،وتقديمها لنفسها بقوة قد لفت عبد الناصر ،كما
أن حيويتها ،وجمالها األخاذين جعال من عبد الناصر الطلياني فريسة سهلة المنال
أمام عنفوانها ،وسحرها ،فهو الذي أحس منذ أن رآها بجاذبية شخصيتها ،وسحر
عينيها ،وامتشاق قامتها ،وقد استيقظت أحاسيسه تجاهها دفعة واحدة ،لم يستطع آنذاك
مقاومتها مذ التقيا لمناقشة الطلب إليها ،كي تخفف من انتقاداتها القاسية تجاه التيار
الذي ينتمي إليه الطلياني ،لكنهما من بعد ذلك أصبحا يلتقيان كثي اًر ،وقد تطورات
العالقة بينهما ،وعقدا العزم أخي اًر على الزواج ،لتبدأ من بعد زواجهما رحلتهما المليئة
بصخب الصراع الذي أراد الروائي المبخوت أن يبني عليه التاريخ المضطرب لحقبة
من عمر "تونس" ،والتحوالت االحترابية التي أصابت البلد داخل تياراته السياسية
المختلفة.
تلك كانت محاولة من الروائي "المبخوت" لجعل شخصية (زينة) المرأة الجميلة،
والقاهرة لمن حولها ،أقرب ما تكون إلى شخصية قوية ( )strong personalityليس
لها مثيل في واقع المرأة التونسية ،أو بمعنى أصح بين كل نساء الراوي العليم عبد
الناصر ،الالتي تحولن إلى فرائس ،وطرائد له ولنزواته ،وهي أي "زينة" في حضورها
الالفت ،كانت التعبير األشمل ،كما أنها التمثيل الذي يصور في ماهيته ،شخصية
المرأة المتمردة ،والخارجة عن المألوف ،بجمالها الساحر وقوة حضورها كشخصية تعتز
بنفسها ،وتدافع بشراسة عن وجودها ،والتي قدمت نفسها بصورة ال تخلو من التركيب
والقصدية ،إذ كثي اًر ما يتبادر إلى الذهن أن نبحث عن المكان الالئق الذي تستحقه
شخصية "زينة" المرأة التي تحمل كل تلك التناقضات التي غرقت بها أنساق سردية
الطلياني ومساردها ،في الوقت الذي ال نستطيع إخفاء الحيرة التي تنتاب كل من
يتقصى مفاعيل شخصية زينة ،والتي البد ستتحول بالضرورة إلى سؤال كبير قد ال
419
أوراق العدد المزدوج 02-91
نجد داخل أنساق الرواية ،اإلجابة الكافية عنه ،وذلك لشدة التحوالت التي انتابت تلك
الشخصية ،وجعلت منها شخصية مستديرة ومعقدة ،كما أنها متعددة األبعاد والمعاني
( )round characterيغمرها القلق ،وتنتابها أحاسيس الهزيمة ،واالنكسار ،أمام هول
ما مرت به من مشكالت عديدة ،ومؤلمة ،وقد تبدى ذلك في ردها على الطلياني قائلة:
(ص)212
"سري وورقتي مهتوكتان ،شيء بغيض كريه في اللحم ال في الذهن"
البد من التأكيد على أن شخصية زينة على الصعيد الفكري ،والسياسي ،شخصية
"يسارية" كما أوحت بها سياقات مسارد الرواية ،أما الجانب اآلخر لحضورها
( )Presenceفهو البعد السحري الجاذب في شخصيتها ،إضافة إلى جماليات شكلها
الخاصة ،وتَبدي خصوصيتها المائزة ،وكما تقول الرواية ":تنحدر زينة واسمها الحقيقي
(أنروز) من إحدى القرى البربرية بالشمال العربي .ولم يكن يعرف اسمها األمازيغي
إال األصفياء الخلص مثلي أنا وعبد الناصر ،فقد فرض بورقيبة على البربر أن يسجلوا
أبناءهم في البلديات بأسماء عربية ....كانت أنروز ممشوقة القوام كالرمح ،وجه قمحي
وضاح ،شعر قصير سبط بتسريحة مميزة ...ما يشد األنظار إنما هو عيناها
الخض اروان ،خضرة ،أخاذة غامقة ....ويقسم جل الخبيرين بالنساء من أصدقائنا أنها
لو اعتنت بإبراز الحد األدنى من أنوثتها لقلبت الدنيا رأساً على عقب ،وربما بسبب من
ان
ذلك ،حسداً أو اشتهاء أو تشفياً من هذا الجمال الذي يعسر الوصول إليه ،لم يتو َ
خصوم طلبة اليسار من اإلسالميين ،وغير اإلسالميين من تكنيتها بـ "عاهرة الثورة
في الوقت الذي نجدها بعد كل تلك (ص 46ـ )11
البروليتارية" أو بقرة القيادة الثورية"
الحسن الجاذب ،والجمال األخاذ الموشىالملكات الثقافية والفكرية ،وكذلك معالم ُ
بشغبها ،وتشاقيها ،ووعيها ،امرأة ليست كما باقي النساء تمتاز بالمشاكسة ،يضاف إلى
ذلك أنها في حقيقة األمر كانت عنيدة ،وصلبة المراس ،وليس لديها رغبة التغريد داخل
سرب االتجاهات اليسارية المختلفة ،نتيجة نقدها الحاد ،والصريح لكل تلك التنظيمات
بأطيافها المختلفة ،وهذا ما يجعلنا نتوقف عند تحوالت حيواتها ،ونتقصى كذلك مفاعيل
سلوكها ،من حيث أنها الطالبة الجامعية المشاكسة ،واليسارية المتطرفة ،وقد لفتت
421
أوراق العدد المزدوج 02-91
االنتباه داخل حراك االحتجاجات الطالبية ،دون أن تكون منتمية إلى أي حزب سياسي
بعينه ،وكانت تدخن السيجارة أمام الجميع ،كما تصفها الرواية في الوقت الذي يذهب
الطلبة اآلخرون لممارسة التدخين في المراحيض " كانت تجاهر بالتدخين وال تدخن
على غرار بقية التالميذ فتياناً وفتيات إلى المراحيض أوقات االستراحة كي تعمر
رأسها .كانت تقف في ركن من أركان الساحة صحبة أصدقاء لها من األوالد والبنات
يضحكون ،ويتحادثون وهي وسطهم تمسك بسيجارتها كأنها أستاذة" (ص.)46
لقد تميزت "زينة" بصراحتها الواضحة التي سرعان ما تتحول في لحظة ما إلى درجة
الوقاحة ،لتبدو آنذاك شخصية إشكالية ( )problemفي الوقت الذي ال تقيم فيه وزناً
لقوانين متعارف ،ومتفق عليها ،وإنما كانت تفعل ما تؤمن به ،وتعتقد أنه التصرف
الصحيح بعيداً عن أي قيد اجتماعي أو أخالقي ،وما انفكت تجاهر بصراعها مع
السلفيين ،واألحزاب الشيوعية التقليدية ،وتكيل لهم الشتائم والسباب ،وتؤمن إيماناً مطلقاً
بحرية الجسد ،والجنس ،وتمارس متعتهما بمنتهى السعادة والحرية ".صارت تغادر
المبيت ،دون رخصة من اإلدارة ،أو الولي متى شاءت ،وتعود إليه في أي ساعة تريد.
قال لها المدير يوماً :لسنا فندقاً هنا .عليك االلتزام بالنظام الداخلي وإال طردن ِ
اك...
أجابته" :حين تصلحون النوافذ المكسورة التي تدخل إلينا منها الرياح واالمطار ،وحين
تنظفون المراحيض ،وتقضون على الروائح الكريهة التي تنتشر في الممرات واألدراج
وقاعات النوم ...وحين تعتنون بصحة التالميذ ،وال تكتفون بحبة أسبرين ....يومها
تصبحون فندقاً مريحاً ،ال يهرب منه التالميذ .ـ ـ أنت وقحة سأطردك من المبيت
والمعهد ،ردت زينة على تهديده بتهديد أقوى .ـ إذاً أنت ستنتقم للقيم العام الذي ال
(ص46
أعرفه ،أين ذهب؟ أنت "إخوانجي" أعرف ذلك ،تكره المرأة وتعادي سياسة الدولة"
ـ )42
ذات يوم است دعي والد "زينة" إلى المعهد الذي تدرس فيه ،لمناقشته حول وضع
ابنته ،وإخباره عن تصرفاتها ،فكان رده حاسماً حين قال " :إنه ال يتحكم فيها فهي ابنة
421
أوراق العدد المزدوج 02-91
مما ال شك فيه أن شخصية "زينة" القلقة على الدوام ،كانت أشبه بالريح التي
تعصف بكل من يقف في طريقها دون اعتبا اًر وال استثناء ،وهي في ذلك ما انفكت
تبحث بال هوادة عن استعادة ( )reconquestكرامتها المهدورة في بيت أبيها آنذاك،
وكذلك اإلهمال الذي ُمورس نحوها ،وحرمها من حقوقها اإلنسانية ،وكرامتها جراء
اغتصابها من قبل أبيها أو أخيها ،أو شخص آخر من خارج البيت ،في الوقت الذي
هي ال تعلم أياً منهم قام بفعل ذلك األمر في لحظة ما ،وقتها لم تتمكن من الدفاع عن
نفسها كما تقول ":كان أبوها وأخوها ينامان على الدكة يتصاعد شخيرهما من شدة
التعب ،ومفعول السجائر وال شك ،أما هي ،فتنام على الحصير في األسفل ،وقد التفتت
إ لى حائط الدكة .أحست ليلتها أو فجرها ،أو قبيل الفجر بسكين من لحم يخترقها من
الخلف نحو الدبر والقبل مرة أخرى كان السكين ينزلق بفعل الزيت الذي دهنت به ،أو
بفعل ماء آخر سال من السكين ،أو بفعل الدم الذي نزف منها ،ووجدته على مالبسها،
وفوق الحصير ،حين استفاقت .لم تصدق .أرادت أن تلتفت ،أن تصرخ ،أن تبتعد
بجسمها ،ولكن السكين كان صلباً قاطعاً يتحرك داخلها كالمنشار .يد على فمها تكتم
أنفاسها تمنعها من الصراخ ،واألخرى تلصق رأسها بالحائط ،حتى تشل حركتها ...
من صاحب السكين؟ أبوها؟ أخوها؟ شخص آخر؟ لكن الرائحة تعرفها رائحة السنابل
والتراب" (ص 212ـ .)216
ذلك ما يجعلها شخصية مستديرة ،ومتعددة األبعاد كما أنها متكاملة ( round
)characterتحتمل أوجهاً وأدوا اًر َّ
مركبة ،وعديدة لكونها "شخصية تعويضية" في بنيتها
وعمارة تفاصيلها ،متغيرة ومتبدلة ،وتعاني حالة االكتئاب الذاتي ()Self-sufficiency
422
أوراق العدد المزدوج 02-91
تجاه العديد من المواقف التي تتعرض لها في الوقت الذي نجدها ال تتوانى عن فعل
كل ما يحلو لها كشخصية قلقة ( )anxious characterتحاول في كل مرة التأكيد
ثم لآلخرين بأنها تمتلك حريتها ،وكرامتها التي سلبت منها ذات ليلة،
لنفسها أوالً ومن َّ
حين فقدت بكارتها بفعل ِسفاح المحارم )incest( ،وهذا ما جعلها تعيش حالة شك
تجاه كل الثوابت التي تعلمتها ،وتصب جام غضبها على "التيارات الدينية ،والحركات
ان عن تصويب مدافعها الفكرية الفتاكة ،والمؤثرة تجاهالسلفية الجهادية كما لم تتو َ
اليسار بعديد ألوانه األيديولوجية المختلفة ،إضافة إلى الحركات الطالبية ،والنقابات
المهنية التي وجدتها تغرق في الفساد ،إذ كانت جل تصريحاتها وكلماتها " نقداً حادًا
عنيفاً لما تسميه الوعي الطالبي البائس ،والحركات الفاشية ذات المشروع الديني
االستبدادي ،واليسار بمركزيته المفرطة ،وتشرذمه السرطاني ،البيروقراطي .كانت
ترفض االحتراب الحزبي السياسي ،وتعتبر عبد الناصر من هذا ِ
الصنف" (ص )14وكأن
"الروائي المبخوت" أرادها أن تكون شخصية إشكالية ،وأنموذجاً الفتاً لليسار السياسي،
والفكري الذي وجد نفسه في متاهة معقدة َغيَّبت أهدافه ،وقضمت قيمه األخالقية
لتتحول شخصية زينة المعبرة عنه ،والممثلة له بعد طالقها من عبد الناصر التي كانت
بالنسبة له وحسب ما َس َّر به لصديقه المقرب ":تعرف هذا العقل الجبار الذي أمامك
(يقصد عقل زينة) صوب لي أخطاء معرفية ومنهجية لم أتفطن إليها أبداً ....إنها
شعلة من الذكاء ...ولكن الراجح عندي أنه يجلس منها مجلس التلميذ أمام أستاذه
حتى إنها في (ص)161
خالطاً بين العلم ،وموضوعيته ،وما بينهما من عالقة ملتبسة"
إحدى المرات واجهت عبد الناصر ،وأحرجته حين ردت عليه قائلة ":أنت تصادر رأي
حقي في التعبير شأنك شأن نظام بورقيبة" (ص.)62
لكن األمر بدا في خواتيم رحلتها مع عبد الناصر الطلياني الفتاً ،ويحمل في
طياته مأساة امرأة داخل أنساق سرديتها ،حيث بدت "زينة" أكثر واقعية في مناقشة
خارطة طريق تنهي عالقتها بالطلياني ،وتسافر إلى فرنسا لتتزوج برجل فرنسي ُم َسن
ائر يلقي بعض الدروس في
يدعى "إريك" كانت قد تعرفت إليه حين كان أستاذاً ز اً
423
أوراق العدد المزدوج 02-91
الجامعة بتونس ،وحين عاد إلى فرنسا بقيا على تراسل حتى في الفترة التي كانت
متزوجة من الطلياني حيث بدت العالقة بين زينة وزوجها الجديد "أريك" متناغمة،
ومنسجمة ،وال تخلو من الود والمحبة ،فهو على الدوام يتأملها ،ويداعبها كما دمية في
الوقت الذي نجده يحاول إشعارها باألمان ،واالستقرار بعد أن انتقلت للعيش معه في
باريس .على الرغم من فارق السن الكبير بينهما لكنه كان يعبر لها دائماً عن سعادته
الغامرة في الوقت الذي نجد فيه الراوي الغائب (" )absent narratorصديق" عبد
الناصر ،وصديقها السابق أيضاً ال يتوانى عن نقل أخبار زينة الباريسية قائالً ":والواقع
أن القليل الذي عرفته عن زينة في تجربتها الباريسية ،وعن حياتها مع إريك وبعض
األخبار التي أمدتني بها ،أو حصلت عليها من باب الصدفة .....تمكنني من أن
أتصور المسار المأساوي الذي سارت فيه ،والنهاية المرعبة التي انتهت إليها ...ذهبت
من أجل أن تصبح مبرزة أو دكتورة أو أستاذة جامعية ،فلم تحقق من حلمها إال أن
أصبحت تعيش في كنف إريك طفلة شقية يتلهى بها ،وهو الشيخ المتصابي بمعاييرنا
التونسية ..وعلى كل حال لم يعجبني المصير الذي آلت إليه زينة ،لو بقيت مع عبد
الناصر لكانت حالها مختلفة" (ص.)161
وال يفوتنا هنا في هذا المفصل أن ثمة أم اًر هاماً أيضاً ذكرته "زينة" كما يقول صديقها
السارد المتواري ( )overt narratorوكانت قد أخبرته به من قبل ،وشرع ِ
يفسر األمر
فسرت لي زينة بعد أن ترددت في فرنسا على طبيب نفساني بأن
للطلياني قائالً ":وقد َّ
األمر كما قال لها الطبيب المحلل ،يحمل ذكرى بعيدة من يوم سكين اللحم الذي
خرقها ،واعترفت أنها استراحت بعد ذلك بمدة قصيرة" (ص )262في الوقت الذي خسرت
فيه زينة آخر أوراقها التي كانت تراهن على اللعب بها باسم اليسار ،والتقدمية ،والفكر
الحر بصورة مباشرة وواقعية ،وعملية أيضاً من خالل انخراطها بين الناس ،ودخول
التجمعات الشعبية والطالبية لممارسة الحق المشروع في التعبير عن حريتها،
صدمت حين لم تتحصل على والمساهمة في توعية الناس ،لكنها في حقيقة األمر ُ
المريع والداهم بأم عينها مما جعلها تتحول
النتائج التي كانت ترجوها ،ورأت الفشل ُ
424
أوراق العدد المزدوج 02-91
عندئذ إلى االتجاه اآلخر كتجربة عالمية أو لنقل أممية وجدت ضالتها في فكر "اليسار
الباريسي" الذي عمق حضوره الفكري ومظهر أبعاده اإلنسانية في حياتها ،وقد ساعد
ها في ذلك زوجها األخير الفرنسي "إريك".
تلك هي الصفات ،والمفاعيل التي قدمت شخصية "زينة" ومنحتها أبعاداً سردية
خاصة ،ومتميزة انعكست بدورها على حراك الشخصيات التي دارت في فلكها الحكائي
مثل شخصية "نجالء" ،وشخصية "إنجيليكا" اللتين تشاركتا معها مهمة اللعبة األخالقية،
وبعدي الهزيمة ،واالنكسار في تجاربهم العتيدة مع الطلياني في السرير ،أو خارجه أو
في العلم أو غيابه جملة من المتناقضات دارت رحاها بيت الطلياني وفرائسه التي
كانت على رأسها زينة الجميلة.
ليس أشد قذارًة ،واتساخاً على الثياب والهيئة من عبد الناصر حين كان صغي اًر
سوى "بوك علي" هكذا كانت أخته "جويدة" تصفه كلما وجدته غارقاً في أوساخه ،وقذارة
هيئته ":كان "بوك علي" في خيال العائلة شخصاً يضرب به المثل .فحين يذهب
الطلياني لينام دون أن يغسل رجليه ،أو يتكاسل عن غسل يديه بعد الطعام أو يعود
إلى البيت متسخ الثياب ،أو حين تحك له أخته جويدة جسمه في الحمام ،وتجد ركبتيه
متسختين إثر الكجة كثي اًر ما كانت تردد على مسامعه ":ما أكثر وسخك كأنك بوك
علي" (ص12ـ )16تلك قذارة عبد الناصر في ثيابه ،والتي سرعان ما تزول حال غسلها،
واالهتمام بها ،إال إن األمر المتعلق بقذارة مواقفه السياسية ،أو األخالقية ،فإنهما
بالضرورة ،ال يمكن أن تزول قذاراتهما وأوساخهما بالماء ،والصابون ،كما كانت أخت
الطلياني جويدة تفعل بثيابه حال اتساخها ،أو كما هي أجزاء من جسمه المتسخ ،واألمر
األكثر إدهاشاً أن "القذارة" على الصعيدين األخالقي ،والسياسي قد الزمتا الطلياني في
مسار رحلته حتى مآالت خواتيمها أيضاً ،في الوقت الذي كان يرد على المحتجين من
األسرة على قذارة ثيابه ،وإهماله داخل غرفته التي ورثها من أخيه صالح الدين قائال:
425
أوراق العدد المزدوج 02-91
" غرفتي وأنا حر فيها ،أو أحب األوساخ اتركوني وشأني ،وإال غادرت البيت دون
. (ص)24
رجعة"
لكن ولكثرة ما كانت األم زينب تلح عليه ،وتأنبه من جهة ،وكذلك أخته جويدة
من جهة أخرى ،وهما تنعتانه بالوسخ ،وأنه شبيه بقذارة وإهمال "بوك علي" ونتيجة توتر
األوضاع بينهم تدخلت لآل جنينة زوجة الشيخ عاللة لتهدئة احتراب األم زينب،
واألخت جويدة مع الصبي عبد الناصر آنذاك بعد أن قالت أمه زينب للجميع ":لم
ومن يومها صارت لآل جنينة المسؤول األول، (ص)22
يعد يعنيني أمر ولد الحرام"
واألخير عن الطلياني دون غيرها " :جنينة هي التي أصبحت تعتني به حتى في
(ص)22
اغتساله وتدلله ،وتشبعه قبالت حارة ،وتضعه بين يديها وفي حجرها تالعبه"
ومن يومها أصبحت لآل جنينة كل شيء بالنسبة له " بدأ الطلياني يتعلم على يدي لآل
جنينة ألواناً من فنون الجسد المختلفة ،كانت معلمة ماهرة لم ِ
تخف عليه أي شيء ،ولم
. (ص 26ـ )41
أح َّس أحياناً بالتخمة فقد كانت جنينة نهمة شرهة"
تبخل عليهَ ،
لقد تعلم الطلياني فنون مراوغة ،ومداعبة النساء ،وخداعهن كما أدرك منذ صباه أن
الخيانة مسألة ليست شائنة في بعدها األخالقي ،وهي حاجة تُستخدم حين تدق ساعة
الحاجة لها ،كما أن الخيانة وقد ألفاها أسلوباً يحقق نوعاً من زهو التذاكي ،والشعور
باألهمية القصوى حين خداع أحد ما ،أو خيانته ،وهو أي "الطلياني" كان قد استساغ
تعرف على كل
فعل الخيانة ،والمخادعة منذ أن سوغتها له مربيته لآل جنينة ،وقد َّ
تفاصيل خيانتها لزوجها معه هو ،ومن قبله كان أخوه صالح الدين عشيقها قبل أن
يسافر إلى بلجيكا ،ولربما غيرهما أيضاً“ :عرف بالخصوص رائحة جنينة باعتبارها
خالصة روح األرواح ..كانت تجلس قربه تتأمله وهو يراجع دروسه ...تنظر إليه
بعينين ساهمتين أحياناً حالمتين أحياناً أخرى .تبتسم له ...لم يفهم عبد الناصر وقتها
ِل َم كانت تفعل ذلك ..أصبحت لآل جنينة تزيد من احتضانه وتسرف في تقبيله وهو ابن
الرابعة أو الخامسة عشرة من العمر .في البداية كانت تقبله كعادتها منذ صغره من
426
أوراق العدد المزدوج 02-91
لكن شفتاها وهي تقبله صارتا كتلتين من لهب تلسعانه لسعاً لذيذاً
خديه ورقبتهْ ،
(ص)22
...تمص رقبته برقة أحياناً وبعنف أحياناً أخرى"
إن ما اكتسبه الطلياني في صباه على يد لآل جنينة ،الزمه ورافقه في حيواته شاباً
في الجامعة ،وفي عمله كصحفي المع من بعد ذلك إضافة إلى شكله الوسيم الذي ال
يقاوم ،وملكته المدهشة في لفت األنظار نحوه ،وهو غير منفك عن مراوغة جميع من
حوله حتى إنه صار يشعر ،ويحس أن ما يفعله هو فراسة ،وخبرة بمعرفة النساء،
ورغباتهن من جهة ،ومن الجهة األخرى وجد نفسه سياسياً بارعاً في إذاعة شعارات
مخادعة تَعد بما ليس فيها حتى إنه بدأ يطلب من اآلخرين تصديق شعاراته اليسارية،
أخبر الناس بكذبها ،وخيبة أهدافها مما اضطر التنظيم السياسي الذي يتبع له
وهو ُ
الطلياني بالتحفظ على وجوده داخل التنظيم ،واعتباره انتهازياً حيث إن ":من أهداف
التيار القضاء على االنتهازيين وبالخصوص عبد الناصر الذي يتهمه األستاذ باالنقالب
على مبادئ التيار وأكبر عيوبه أنه "بلدي" من العاصمة برجوازي صغير ،حقير مستعد
(ص)62
للتحالف مع الشيطان بما في ذلك الدساترة ،والخوانجية للحفاظ على زعامته"
حتى تبدى له األمر كما حاالت من الضياع ،والهزيمة ،واالنكسار بعدما تسربت إليه
المعلومات القاضية باستهدافه ،وطرده من "التيار" في وقت أدرك من خالله أن ال
شيء قابل للتحقيق من كل تلك الشعارات المخادعة ،التي أطلق لها العنان في سماء
الجامعة بين الطلبة ،وعلى المنابر الثقافية ،والسياسية المختلفة ،وقد أدرك مبك اًر مهزلة
خواتيم تجربته السياسية.
لذا كان الطلياني أول من أعلن الهزيمة ،واستسلم لنزواته ممهداً الطريق لقبول
معادلة الخالص الفردي ،الذي ال بد سيريحه من عناء القلق والتفكير بمستقبل تأكد
من عبثية انتظاره واستحالة أن يكون له مكان فيه ،وحين وجد الفرصة المناسبة تقبل
فكرة العمل في صحيفة حكومية يفعل ما تريده منه ،وفقاً لما يقارب نهجها الرسمي،
والحكومي على الرغم من إبداء بعض التبرم بالرفض في بادئ األمر ،لكن في خواتيم
427
أوراق العدد المزدوج 02-91
تعنته يقبل العالقة ،وينصاع لما طلبه منه "سي عبد الحميد" المدير العام من أجل
الكتابة عن البطل "بن علي" الذي عده المخلص ،أو المنقذ من مرحلة "بورقيبة" حتى
لو حاول تبرير األمر وفق جملة من الشروط ":دعاه سي عبد الحميد وهمس في أذنه
":افعل ما تشاء ما يهمني هو الصفحة األولى ودعم التغير وبن علي أفهت؟ هذا ليس
عدداُ من الجريدة إنه موقف سياسي .انكب عبد الناصر على عمله ،أعد تصميم
(ص)124
الصفحات بسرعة مذهله".
لقد كان للتبديات األولى التي انعكست على سلوك الطلياني ثمة العديد من
المتغيرات الجوهرية التي هيمنت بصورة ،أو بأخرى على حيواته ،فقد أصبح منذ قبوله
التعاون والتشارك مع "سي عبد الحميد" شخصاً مطواعاً في حراكه ،ومنصتاً بكل أناة
إلى الهسهسات اإلشارية التي كان يهمس بها المدير المسؤول عن الجريدة ،وقد ألفاها
" الطلياني" لغة تؤدي دور فلسفة مفهوم الدولة ،وسياقها التاريخي في رأسه الذي خضع
لغسيل دماغ أنفق سي عبد الحميد الوقت الكثير لتخليصه من ذاكرته اليسارية الهشة
والمنكسرة والمخذولة أيضاً لكثرة الهزائم في أهدافها وتقلب دعاتها ،وهو "أي سي عبد
الحميد" غير منفك يتلو على مسامع الطلياني وصايا الطاعة ،وقد وجدناه وقتئذ في
إنصاته ،مسترخياً ،وسعيداً في متاهات ملذات السلطة ،وتباشير الخالص الفردي الذي
طمح له مؤخ اًر ،حيث وجد سعادة ال توصف في معاشرة كبار المسؤولين ":الدولة أكبر
كذبة صنعتها البشرية وصدقتها ،الدولة هي أنا وأنت والسكرتيرة التي تبذل لي في
المكتب جسدها دون أن أطلب ذلك ألنني أمثل الدولة في عينها .معروف منذ القدم
أن الدولة أمارات وعالمات ،ولكنها ال تلمس أنها إله خفي لم يحقق أخد وجوده ال
(ص)121
يرى ،لذلك يحبونه ويكرهونه"
ما من شك أن الطلياني كان مدركاً للعبة التي جذبه نحوها المدير العام "سي عبد
الحميد " منذ البداية كما أنه أحس بمقدار ،وأهمية سي عبد الحميد ،وتأثيره على نجاحه
في عمله ،أو لربما طرده من وظيفته التي بدأت ثمار لعبتها القذرة تنضج ،وسيحين
428
أوراق العدد المزدوج 02-91
بالضرورة قطافها ،فراح ينصت من جديد إلى تعليمات المعلم األول ،والصديق الوفي
سي عبد الحميد في اآلن ذاته ":الصحفي الحقيقي هو الذي له صالت بالداخلية..
بالكبار فيها يتزود بالمعلومات ليعرف اتجاه الريح .البد له من عالقات مع دوائر القرار
شريطة أال يصبح واشياً قواداً نماماً رخيصاً ،فتغلق دونه حنفية األسرار ،ولحاساً متزلفاً
حقي اًر ،فيركل ويرمى خارج الدائرة" (ص )212في حين من ذلك البد أن يفهم األمر على
أنه رسالة وجهها سي عبد الحميد بصورة مبطنة ،وغير مباشرة كعادته إلى عبد الناصر
بعد أن تمكن منه وجذبه نحو التغيير الذي يراد له أن يكون فيه فاعالً " :فهم عبد
السكر .كان يعرف ذلك إذا أصبح متطرفاً
الناصر أن سي عبد الحميد قد أطبق عليه ُّ
في أفكاره يعمم ويسعى إلى البرهنة على تعميماته .كان يحتقر الشعب وال يؤمن إال
بالنخبة ،وال يأسف إال على انحدار النخب إلى مستوى الرعاع في طريقة التفكير
والطموح واألحالم الصغيرة ومما كان يعجب عبد الناصر في الرئيس المدير العام أنه
ال يستثني نفسه من هذا النقد القاسي حين تبدأ آلة عقله الكاسحة ،تزيل كل ما يوجد
(ص)122
أمامها"
على الضفة األخرى كأن جذوة الخيانة ،والغدر قد استيقظت في أعماق الطلياني
وتعرف في
دفعة واحدة حين زار برفقة زوجته زينة أخاه صالح الدين في سويسراَّ ،
سهرة الليلة األولى لوصولهم على أخت زوجة أخيه صالح الدين المدعوة "إنجيليكا"
نصب األشراك ،و ِ
الفخاخ بأسلوب رقيق ودافئ تعود على استخدامه ِ لتبدأ آنذاك لعبة
فيهعبد الناصر حين تصطخب في رأسه لذة الخيانة ،والغدر في الوقت الذي لم ُي ِق ْم
أي شكل من أشكال االحترام لزينة زوجته ،وحبيبته ،وقد شرع ينصت إلى انجيليكا وهي
تهمس له ":تراني مبتهجة دائماً" ..ال يغرنك" تلك طريقتي في تجاوز وجعي ..لست
صحيح أن الطلياني كان المبادر دون شك لكن إنجيليكا كانت أيض ًا (ص)222
قديسة"
تحاول غوايته ،وقد شرع كل منهما يستدرج اآلخر دون أي التفات لمن حولهم مما
استدعى أخاه صالح الدين إلى طلب الحديث معه على انفراد هامساً:
429
أوراق العدد المزدوج 02-91
" همس في أذنه :ـ أعرف أنك انجذبت إلى إنجيليكا ولكن كن كيساً وال تثر غيرة
زينة
ـ ال وقت للنقاش .كنت جذالً وأنت تنصت إليها وكانت زينة ترمقكما بين الفينة
(ص)224
واألخرى"
من المؤكد أن صالح الدين أعرف المقربين من غيره بأخيه الطلياني ،كما أنه
الداري ،والخبير بما يفكر أخوه المتحفز ،وهو يحيك شباكه وأشراكه الصطياد "إنجيليكا"
لكن الطلياني وعلى الرغم من تحذير صالح الدين المبطن له وألنه يعلم أن التحذير
من أجل أن ال يكت شف أمره أمام زينة ،ولم يكن قصد صالح الدين ثنيه عن االقتراب
من "إنجيليكا" أو منعه عنها ،وهذا ما جعله يشعر بموافقة أخيه صالح الدين على
األمر أو حياديته أصالً أمام مسألة رغبة معاشرة أخت زوجته ،ألخيه ،وهذا ما جعل
الطلياني يقدم على االنفراد بها بعد أن ذهبت زينة إلى غرفتها ":غادر الجميع قاعة
الجلوس إال إنجيليكا وعبد الناصر على أريكتين متقابلتين ،غيرت مكانها التحقت
باألريكة التي يجلس عليها ..نظرت في عينيه وسألته إن كان يريد جعة أو كأس
شمبانيا ..كانت لطيفة معه ،كانت جم اًر يلتهب موقداً بال رماد يتقد حطبه اتقاداً ،غمرته
بأنوثة مميزة شفتان تحدثان دغدغة في الجسم كريش نعام ..كانت تؤدي دورها بحماس
(ص222ـ )226
وابتهاج ووجع".
كل ذلك جرى بعيداً عن عيون زينة ،وقريباً منها ،وهي التي يعتبرها الطلياني
الحبيبة الخالدة ،واألزلية في أعماقه ،وال ينفك عن مغازلتها بين الفيفة واألخرى ،وكذلك
اإلشادة بجمالها ،وسحرها األخاذين إضافة إلى مديح تجربتهما ،ورابطهما المقدس عبر
زواجهما ومصيرهما المشترك في الوقت الذي تتمظهر خيانة جديدة للطلياني من خالل
عالقته الصادمة مع "نجالء" صديقة زوجته زينة ،والتي سرعان ما تتحول إلى لبوة
شرسة ،وهي تدافع عن صديقتها لكنها في اآلن ذاته ال تدخر جهداً أمام قبول خيانتها
431
أوراق العدد المزدوج 02-91
مع الطلياني " :كانت متنمرة في الدفاع عن زينة بشكل لم يتخيله .تخونها مع زوجها
(ص)111
وتدافع عنها"
يومها تحول الطلياني إلى حالة من االستجابة المطلقة أمام نجالء التي اقتلعته من
جذوره ،وقد تبدت كما ريح عاصفة كلما انتابتها رغبة لقاء الطلياني تسارع دون رادع
أو تحرج إلى خلق أي مناسبة من أجل زيارة صديقتها زينة ":ظلت نجالء بهية سخية
تعرف ماذا تريد من الطلياني .تمنحه كل ما ينقصه وأكثر ،وال تزعجه في حياته .تعرف
يمس روحها
متى تظهر له ومتى تختفي دائماً متجددة ال يؤثر فيها كر األيام ،وال ُ
الحلوة المرحلة .فتنة بعثها الله للطلياني" (ص )111وعلى الرغم من ذلك أحس الطلياني
في لحظة ما بالذنب ،وقد امتد في باله شريط خياناته كلها ،وكأن رائحة لآل جنينة في
ذاكرته ،كما مفاعيل عصف سرعان ما يتحول إلى دافع يتضوع رائحتها على الدوام،
كلما نبتت في طريقة امرأة جميلة ،وساحرة ،كما هي نجالء التي حينما خان زينب معها
في بيت الزوجية .تحولت تلك الليلة المجيدة التي قضاها معها إلى ليلة ليالء ،حيث
نامت في أحضانه ،وعلى همس نجالء الجميلة ،والساحرة وفي فراش صديقتها المقربة
زينة ،غرق الطلياني في خيانته التي استساغ طعمها اللذيذ ،وسعى كمن أصابه َم ٌّس
من الجنون وشرع يعلن أمام نجالء عن رغبته القاتلة في أن يزيد إلى ملتقاهم هذا
ليلتين إضافيتين معها في فنادق الحمامات ":اقتربت منه ،ورسمت على وجنته بشفتين
مرتعشتين قبلة ،أغمض عينيه يتصنع التخدر .قال لها وهو يرد القبلة على خديها
بأحسن منها ـ ما أطيب رائحتك ...وما أرق قبلتك! كفى ،قرصت يده ،وأسرعت تقطع
(ص)222
الطريق"
لم تُظهر نجالء من أخالقيات الصداقة ،والوفاء إال تبرير خطوات خيانتها
أفاعيله َّن بحجج
ُ يذهبن في تبرير
َ لصديقتها ،وفق أخالق العاهرات وبنات الكار حين
ما أنزل الله بها من سلطان فهي التي ":احترفت العهر ببطاقة شبه رسمية .أصبحت
تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة .صارت المفضلة لدى
431
أوراق العدد المزدوج 02-91
المناضلة الكبيرة في جمعية األمهات ،تدفعها إلى أن تكون أماً لكل يتيم من أبناء بن
علي تساعده حتى يؤدي مهامه الجليلة من أجل الوطن في دولة التغيير المبارك والعهد
في الوقت الذي جعلت نجالء من مسألة عدم الوفاء لزينة يعود (ص)164
الجديد السعيد"
إلى انشغالها بالدراسة ،وطموحها للتحصل على الدكتوراه ،وهذا كان سبباً كافياً إلهمال
زوجها المسكين والمظلوم "عبد الناصر" الذي ما انفك هو اآلخر يسوق أعذار غدره،
وخيانته لزوجته زينة ،ويبرر على مسامع نجالء عبر خطابه الكاذب ،والمراوغ كما
خطاباته السياسية على الرفاق في التيار ،وكأن المسألة مجرد مقاربة ،يبرز كل منهما
األسباب الموجبة التي دفعته للغدر والخيانة ،في الوقت تتبدى علينا سرودات شخصية
"نجالء" صديقة زينة بعد تعرفها على الطلياني ،من خالل زيارتها لهم في منزلهم.
حيث يعرف عبد الناصر بعد أن يدور بينهما حديث حميم أن نجالء مطلقة ،وهي
صديقة أيضاً لصاحبة ِوكر ترفيهي للمسؤولين يخص الكبار في الدولة ،وهي تعمل
موظفة فيه بصفة مسؤولة عالقات عامة ،بيد أنها ،وبعد فترة ،وجيزة تحولت إلى عاهرة
تتنقل بين أحضان كبار المسؤولين في الدولة ،وضباط األجهزة األمنية والعسكرية،
والكثير من رجال األعمال والتجار الكبار في البلد.
أما ِوكر العالقات العامة ،فهو" صالون لتصفيف شعر السيدات" وكانت المسؤولة
عنه سيدة تدعى الحالقة ،لم تترك أث اًر لها في السرود سوى إشارة مواربة تشير إلى أن
الشخصية المقصودة ربما تكون هي السيدة األولى "ليلى الطرابلسي" التي وصلت من
خالل وكرها هذا إلى تاج قرطاج كزوجة للرئيس زين العابدين بن علي .ذلك ما جعل
الطلياني يعيد النظر في عالقته الحميمة بنجالء ،حيث " :انتهى كل شيء بين عبد
الناصر ونجالء ،وبدون ضجيج ،ألنه أصبح يعافها ،ويشم في جسدها روائح عفنة
(ص)161
ألصناف من الرجال الذين ال يطيقهم رغم ليت ارت العطور التي تستحم بها"
لكن في الجانب اآلخر من سردية طرائد عبد الناصر ،وضحاياه من النساء ،تنبت
في نهاية الطريق شخصية "ريم" الفتاة الجميلة الفارعة الممشوقة ،وإصباحة وجهها
432
أوراق العدد المزدوج 02-91
الوردية ،في الوقت الذي أعرب الطلياني لها عن رغبته أمام جمالها الساحر مشاركتها
معه في مسلسل تلفزيوني يستعد له ،وفي لحظة مارقة مرت في ذاكرته رائحة الآل
جنينة ،التي ظلت كما هوس يالزم رغبته حينئذ تحول الطلياني إلى مخادع ،أمام
فتاة تحلم بالنجومية والشهرة ،وال تجد عيباً في ممارسة الحب مع رجل وسيم ،وله
جاذبيته الخاصة ،كما عبد الناصر في الوقت الذي لن يبخل عليها في مساعدته
الالمحدودة ،من أجل صقل مواهبها وإدراكها ،ووعيها الثقافي وعلى يديه أيضاً البد
أنها ستتعلم الكثير من معايير اإلحساس ،والتحرر ،وقيمتها كأنثى لها مكانتها،
الحياة في ومقدارها
وهي في حضورها الخاطف ،كما "القشة التي قصمت ظهر البعير" إن صح التعبير.
فمنذ أن فقد الطلياني زينة الفيلسوفة أصبحت له خارطة طريق خاصة للتصالح مع
ذاته ،وانكساراته ،وهزائمه أيضاً فقد " :قرر الطلياني بعد خيبته مع الفيلسوفة أال يهتم
بحليب يشتريه بالجملة ،بل يكتفي بالتفصيل .سيبقى ثو اًر ينتقي من هذه المزرعة الكبيرة
(ص)211
أحلى بقراتها"
فهي في حقيقة األمر ضحية أخرى استدرجها الطلياني كما فريسة إلى مختبر
شهواته في المزرعة ،مستغال طموحها في دخول عالم التمثيل ،وهي التي كما تقول
السردية "سكنت رأس الطلياني"(ص )214وهي أيضاً من ساهمت ،وكانت سبباً في
ظهورات مفاعيل استدعاء صورة الشيخ عاللة الم ِ
غتصب للطلياني ،كما أنها التي ُ
أيقظت ،وأشعلت نيران ،وحرائق مشهد اغتصاب الطلياني من قبل الشيخ عاللة ،حين
ِ
يهمان ببعضهما متوثبان نحو فردوس الحميمية، كان صبياً وقتما كانا معاً على السرير
لكن وقع الحديث الذي دار بين ريم ،وعبد الناصر في فراش الحميمية فعل فعلته وكان
كما فأس وقعت على رأسه ":ال ال أنا عذراء! استدارت فهم أنها تعرض عليه شيئ ًا
آخر ،جن جنونه ولكنه لم يحرك ساكناً .لم تكن تنظر إليه ،لم تفهم ما وقع التفتت إليه
(ص)226
وجدته شاخصاً بعينيه شارد الذهن ،كمن يستذكر شيئاً سألته :ما بك؟ لم يجبها"
433
أوراق العدد المزدوج 02-91
ال شك أن الصورة التي ظهرت بها شخصية "ريم" داخل أنساق السرود (Layout
ونماء شخصية فتاة في َّ
)narrationالروائية َخلف آثا اًر مهمة على تركيب ،وتخليقَ ،
مقتبل العمر ،تستطيع بغوايتها اإليقاع بالطلياني الذي استكان لحبال سحرها ،لكن ما
حصل في السرير بينهما كان أم اًر صادماً بالنسبة إلى عبد الناصر وذلك ما جعله
يستعيد في تلك اللحظة ما أحس به وقتذاك ،ويبوح بإحساسه لصديقه القديم الذي شرع
يسرد هو اآلخر ما قاله الطلياني مستذك اًر " :كان مترنح بطنه ابتلعت آلته"(ص )222في
الوقت الذي كان الراوي المتواري أو الغائب ( )overt narratorصديق الطلياني يسرد
ع يصف مشهد الطلياني ،وهو ما قاله عبد الناصر بألم وحزن شديدين ،وقتما شر َ
يجهش ببكاء حار دفع صديقه القديم للقول " :كان يتكلم ،ويبكي وأنا ال أعرف ما أفعل
لم يكن من الالئق أن أكذبه نعم أنا صديقه ،ولكنني لست طبيباً .حاولت أن أفسر له
أنه مجرد شعور ،ويجب مراجعة الطبيب ،فلعله اضطراب نفسي نتيجة عجزه عن
مجامعة ريم .كان يصر على أنه ذكرى رجل ،فلم يعد قاد اًر على تحريك ساكن من
جسد امرأة ،كان مص اًر على أن ما يتدلى بين فخذيه مجرد حبل مترنح في أحسن
(ص 222ـ )222
الحاالت"
إن مسأ لة خواتيم العالقات الجنسية ،أو الحميمية التي يقيمها الطلياني مع من
عرف عليهن من النساء على تنوع تلك العالقات ،وتعددها واختالفها ،فهي في حقيقة
تَ َّ
األمر ليست سوى إجرائية لها متواليات تشكل أبعاد صورة البنية العميقة ( deep
)structureالتي ما انفك الطلياني يحاول استخدام سياقات مختلفة للتعبير عن حالة
نفسية تعويضية ( )psychological compensationفي بنيتها ،وماهية تفاصيلها
من خالل تفعيل معايير تقوم على إيجاد إجرائية يتحقق من حاللها تظهير بدائل لحبيبته
"زينة" التي فقدها بعد أن تخلت عنه ،لتكون خواتيم مشهد غيابها حالة من الضياع
والتيه ،وكما يقول صديق عبد الناصر ،ومن منظار رؤيته الخاصة ":إن الطلياني قد
أضاع الجهات الست بعد طالقه من زينة ،دون أن يفقد عقله تماماً ،أصبح كل يوم
يبحث عن طريدة جديدة ،لم يكن يهتم بسنها أو جمالها أو صفاتها أو ذاتها .أتصور
434
أوراق العدد المزدوج 02-91
أن بيت صالح الدين بحي النصر أصبح مبغى وحانة ،إلى أن ذهبت بعقله ألمر ما
(ص)211
ريم"
منذ أن غابت زينة عن ناظري الطلياني بعد انفصالهما ،سرعان ما استبد به
الهاجس القديم متمثالً بشخصيتين هما (الآل جنينة والشيخ عاللة) وما تركته صورتهما
من آثار بليغة ومؤلمة ،شكلتا داخل حيواته العديد من التوقفات المؤلمة ،ومفاصل
المراحل األشد قسوة وقهرية ،والتي جلبت له أيض ًا الكآبة والضياع ،بين غوايات النساء
اللواتي أغرقنه بتيههن ،في الوقت الذي كان ":حلم الطلياني أن يترك أث اًر فنياً ما دامت
مر من هذا
زينة قد حرمته من أن يصنع معها رائعة من لحم ودم تثبت له أنه قد َّ
العالم ،وترك أث اًر بديعاً" (ص )216إال أننا لم نجد مما حلم به الطلياني إال المزيد من
الضياع والتيه والهزيمة واالنكسار ،وقد بدا أمر انهياره الصحي ،والنفسي يتبدى عليه
أمام من هم حوله ،ومن كانوا يعرفون كيف كان الطلياني ،وكيف أصبح حاله اآلن،
حيث تحولت حكاية ضربه للشيخ عالله يوم دفن والده ،حكاية تلوكها كل األلسن،
وقتئذ لم تنفك نسوة الجيران في الحي عن تهامسهن على أبواب بيوتهن ،وهن يستعدن
حكاية عبد الناصر ،والحال التي وصل إليها ":ال أحد يجرؤ على أن يتحدث إلى عبد
الناصر ،فقد انهار إثر الحادثة ....شحب وجهه وذهب ألقه ،ونحل نحوالً مرضياً بعد
أن غرق في الكحول ،والسجائر والعزلة"(ص )22لكن األمر األكثر أهمي ًة في هذا المفصل،
وقد شكلت أنساقه السردية نقطة تحول في سلوك عبد الناصر الذي بدا أكثر حميمي ًة
تجاه أخته (يسر) "التي َي ُّ
كن لها محبة خاصة ...كانت تردد .اعذروا عبد الناصر.
كل إنسان وظروفه"(ص )2ذلك ما جعل عبد الناصر يحرص ،ويخاف عليها كثي اًر مما
جعله يعجل في فتح حساب بريدي جار باسمها ،إبان فترة محنته التي كان مجب اًر فيها
على طالق زوجته زينة ":فتح لها حساباُ جارياً بالبريد تجمع فيه أموالها ،وحين كانت
تستكثر ذلك كان يجيبها :ـ أريدك أن تشتري لجهازك أفضل ما يوجد ...كانت تضع
رأسه بين يديها ،وتقبل جبينه ،وقد اغرورقت عيناها دمعاً ...وهو يستعد للطالق من
زينة قالت له ...يا حسرة عليك أنت سيد الرجال ...ابتسم ابتسامة صفراء ،ورد
435
أوراق العدد المزدوج 02-91
(ص)21-22
عليها :أنا الذي غير مناسب ،تأكدي مما أقول ..أنا ال أصلح لشيء البتة"
تلك كانت خواتيم عبد الناصر الطلياني ،بقضها وقضيضها ،ليعترف آنذاك أنه ال
يصلح أن يكون ،كما وصفته أخته يسر ،ألنه في حقيقة األمر فقد كل شيء بعد أن
تخلى وزينة عن بعضهما وافترقا.
لم تدخر سردية الطلياني جهداً من خالل محاولتها الالهثة في إيجاد آلية تمكنها
من االشتغال والعزف على مآثر الثالوث المحرم (" )Forbidden Trinityالسياسةـ
الدين ـ الجنس" والتنامي الحكائي الذي يخلفه ذلك الثالوث داخل تفاصيل منظومة
األبعاد األساسية لسيمياء السرد ،وتجاذباته الثرية والمتعددة ،والغنية أيض ًا بإشارياتها
( ) denotativeالتي البد سينعكس حضورها الالفت على آلية تأثيث البعد التاريخي
المباشر ،الذي تحول بصورة الفتة مع سيولة الحكاية وتناسلها ،وتداخل أبعاد معايير
سرديتي المعنى ،والهدف فيها إلى بعد إشكالي مركب ،من حيث إن شخصيات الرواية
التي هي األخرى ما انفكت ،تجاهد وتحاول ،وهي تشتغل على ذاك "التابو" ()taboo
مان رواية الطلياني من لغة حكائية بارعة اتسمت بجاذبية خاصة،
بكل ما ملكت ْأي ُ
وكذلك بقدرتها على تأثيث معادلة شد القارئ نحوها ،عبر كثافة سيولة مشاهد ،وصور
"التابو" ومتواليات صراع ،واحتراب التيارات السياسية التي تقوم باألساس على المقارعة
والصراع بين اليسار واليمين ،وما بينهما بكافة أصنافهم ،وتالوينهم ،حيث بدت تلك
اإلشكالية االحترابية أشبه بساحة واسعة ممتدة يحاول كل طرف من األطراف إثبات
الحقيقة ،كما يراها ،ويتصورها ،إال أن رواية الطلياني التي لم تكن تمتلك أصالً أدوات
مفاعيل السرد الدائري ،وال محددات العودة إلى نقطة البدء السردية كما مجاز مفتوح
( )figuralعلى كل أوجه التأويل ،لذا وجدنا رواية الطلياني قد تحولت فيها المسارد،
التكثيف ذات واألحداث الوقائع، من جملة إلى الحكائية وأنساقها
()Condensationالحكائي العالي ،والتي امتلكت جراء ذلك حضورها اآلسر ،مما
436
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوجد األسباب التي جعلت منها سردية متماسكة ،ال تروم الخروج من متاهتها ،وهذا
ما جعلها أيضاً منصة للتعبير الذي يعد من وجهة نظرنا ،منصة مختلفة في جوهرها
وماهية حضورها ،بعيداً عن منبر الوصف ( )descriptionالسردي ،وإشكالياته
المختلفة ،إذ البد من مفاعيل تسم الرواية بميسم الخصوصية ،والتحفز المتيقظ ،داخل
األبعاد الوقائعية الخاصة التي يتَ َّ
خلق في دوامتها التركيبية ،جل الشخصيات السردية، َ
كما أنها ال بد ستحقق االنفتاح على جملة من المتتاليات ( )sequencesالمكانية
األخرى ،قد تختلف في النمط واألسلوب ،لكنها في حقيقة األمر تمتلك بشكل عام
فضاء مكانياً يكون حاضنة لبنية خصوصيتها ،في الوقت الذي البد أن يكون فيه ً
منطلقاً ،ومنص ًة تنبعث من خاللها ُحظورات الفضاء الروائي األشمل ،واألوسع ،وهذا
ما يم نح السردية بصورة خاصة مقدار مكانتها ،ووظيفتها التعبيرية ( expressive
)functionوكذلك مدى تأثيرها ،وبراعتها في استلهام األبعاد اإلنسانية التي يقارعها
(الثالوث المحرم) ويجعل منها ضحية استناداً إلى معاييره ،ووصاياه القهرية
( )compulsivelyحيث البد من تطويع تلك اإلشكالية المركبة لخدمة سردية الرواية
ليس إال.
لقد تعثرت رواية الطلياني ،ولم نتحصل من مفاعيلها الحكائية على لوافت ( Draw
)attentionمهمة ،تحاكي موضوعاتها المتعددة ،والمختلفة ،إضافة إلى أن أبعاد
سرودها األساسية قد لعبت دو اًر ضحالً هي األخرى في تنضيد األسئلة الكبرى التي
كان من المفترض على الرواية أن تتصدى لها ،إال أنها في حقيقة األمر لم تُ َم ِكن
موضوعاتها األساسية ،االجتماعية والسياسية ،واالقتصادية من التمظهر،
والتجلي( )manifestationبصورة منطقية داخل مشاهد حكاياتها التعبيرية ،في الوقت
الذي لم نتحصل من السردية إال على النزر اليسير ،بما يتعلق بمعايير (الثالوث
المحرم) على أهميته ،حيث لم يتجاوز األمر إال مرو اًر عاب اًر في خضم إشكالية كبيرة،
كان البد على الروائي "المبخوت" أن يوليها االهتمام ،والحرص الشديدين ،لما لهما من
ِثَقل أساسي في تنظيم العالقة بين تفاصيل حضور (الدين ،والسياسة ،والجنس)،
437
أوراق العدد المزدوج 02-91
كمفهوم يحدد ويرسم أبعاد عالقته بالشخصيات الروائية التي تمظهرت ضمن الملعب
الرحب للسرود من أجل تكوين األبعاد السردية التي تُعد ماهية ،وبنية حكاية الطلياني،
والشخصيات الدائرة في فلكها ،والذين كانوا جميعاً حاضرين كشخصيات لها مهماتها،
وشجونها السردية اعتماداً على تفاصيل ،وأبعاد ذلك "الثالوث" والذي ما انفك هو اآلخر
يشكل األسباب الرئيسة في عملية تحفيزهم على التسريد ،إضافة إلى تمظهر حضورهم
ككينونة للحكاية الكبرى ،وأبعاد حضور ماهية بنيتها العميقة ()deep structure
التي شكلت انعكاساً لحيواتهم كشخصيات سردية فاعلة من خالل تماهيها بمقاربة تعدد
األصوات ( )poly phonic narratorداخل متون رواية "الطلياني" التي أرادت أن
تحمل عبء مواجهة الثالوث المحرم بسالح "الحرية الفردية" ()individual freedom
دون غيره من األسلحة المختلفة ،والتي لها مقدرة كبيرة ال يستهان بها هي األخرى على
مقارعة (تابو) ذلك الثالوث العتيق المتجدد الذي اكتسب صفات العنقاء من خالل
استم ارره في السياق التاريخي لألمم ،والشعوب في الوقت الذي أدخلتنا سردية الطلياني
في مسألة خالفية تتعلق بمعايير الحرية الفردية ،والحرية بمفهومها الواسع ( Broad
)and general freedomوأيهما البد من تحقيقه في البداية ،للتحصل على محتوى
( )contentاآلخر من خالل تلك اللعبة المركبة ،والمعقدة في تداخلها ،وتواشجها.
إن سيرية الشخصيات داخل أنساق رواية الطلياني ،وفق أبعاد الخطيئة ،وانعكاسها
التكفيري على سلوك معايير الشخصيات ،تُعد من السمات األساسية التي تقوم عليها
موازين معادلة لعبة مفاعيل نماء الشخصية السردية ،ومنحها حيوات منطقية لحضور
يحقق لها تاريخاً ،وسلوكاً تستطيع من خاللهما إيجاد صورة تَمظهرها المؤثر ،وفق
الدور المرسوم لها ،وذلك ما يجعلنا نحدد مفاصل تَ ْرُسم تبديات الشخصية اعتماداً على
العمارة السردية ( )Narrative architectureلسيريتها التي تعتبر المدخل البنيوي
الذي نتحصل من خالله على التفاصيل التي تختفي خلفها شياطين الحكاية ،وأهدافها
ومتوالياتها.
438
أوراق العدد المزدوج 02-91
ما من شك أننا أمام ذهول المفارقة ،ال بد أن نجد ،ونلمس مالمح حضور صورة
ما من خالل استحضار الماضي العتيق ( )retrospectionللعديد من هذا الحشد
المرضية ،والتعويضية ،عبر وقائعها التي عانت االكتئاب
المنتخب من الشخصيات َ
جراء ماضيها المؤلم ،وتاريخها المثلوم ،والمكلوم في اآلن ذاته ،إضافة إلى غرق
المشاهد السردية ،لرواية الطلياني في أتون المتاهات األخالقية ضمن العديد من
المقاربات التي تتعلق ب ـ سفاح المحارم ،وكذلك الشذوذ الجنسي( Incest and
)Homosexualityواللواطة ،والدعارة أيضاً ،في الوقت الذي كانت كل تلك المقاربات
ال للجسد ،وقرائن الغرائز التي تحولت عبرها إلى عائلة سردية وطدت عالقاتها
تغرد تبجي ً
الملتبسة مع الحالة الملتبسة ليس إال ودون اعتبار للمشهد السردي ،الذي توافق مع
معادلة "األيروتيكية" والتي شكلت هي األحرى عماد رواية الطلياني ،ومصدر جاذبيتها،
ومقتلها في اآلن ذاته ،في الوقت الذي كان على رواية الطلياني أن تثير زوابع األسئلة
الكبرى داخل متونها التي اكتفت بأن تكون مسرداً وثائقي ًا (narrative
)Documentaryيجتر وقائع تاريخية بعينها ،كما أنها أردفت السردية بالعديد من
الشخصيات التي اعتبرتها ثانوية ،في الوقت الذي لمسنا في تلك الشخصيات من خالل
لمعان كبيرة ،كان من الممكن االشتغال عليها،
تقرينا لها ،ما يشير إلى أنها حمالة َ
وتفعيل أدوار حكاياتها القابلة للتنامي السردي ( )narratableداخل مسارد الرواية،
وكما يبدو فقد تمت محاولة انتخاب تلك الشخصيات بعناية من أجل التعبير عن
هواجسها السياسية ،والالهوتية ،والجنسية أيضاً ضمن إطار المجاز الفني ،والرمزي
للسردية وأنساقها الروائية.
439
أوراق العدد المزدوج 02-91
عبد الناصر الفحولية ( )virilityوهواجسه الجنسية تجاه أي عالقة تنشأ بينه ،وبين أي
امرأة يأنس لها ،وتأنس له ،وإن حضور المرأة في سياق حيواته السردية المتعلقة بحقوقها
أو حريتها ،ليس أكثر من زبد ،وادعاء كاذب ،ومراوغ كما هي لعبته في خطاباته
السياسية ،وشعاراتها المخادعة وقتذاك ،في حين من ذلك نلمس حالة االنكسار الوجودي
الكبير الذي أصاب البلد ،وأخذها إلى متاهة بحر الظلمات ،استناداً إلى مجموعة من
التقصيات ،تم تحديد مفاعيلها ما بين مرحلتين كانتا مفصالً حقيقياً ،حمل بين طياته
السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية ،كما عادتها في األعمال السردية الهامة ،والمؤثرة،
في الوقت الذي لم نتحصل على السؤال الكبير ،وفق ما أذاعته سرود الطلياني ،في
الحين الذي لم نلمس من خالله حضو اًر الفتاً يشير إلى السؤال الهام الذي كان على
الرواية أن تشهره في وجه الحالة الغامضة التي خلفتها خواتيمها ،على الرغم من
جاذبيتها ،وحيوية موضوعاتها الوثائقية.
441
أوراق العدد المزدوج 02-91
تحويله إلى مفاعيل السردية ليس أكثر من واقعة ماهيتها مفاعيل تسجيلية ،ومسرد
للتوثيق ( )Documentary narrativeليس أكثر.
لقد عانت بنية الشخصيات السردية داخل متون مسرودات رواية الطلياني من
إشكاليات عديدة بدأت بعوز تأثيث حضورها المنفرد بذاته ،لتتحول إلى مفاعيل سردية
مستقلة عما يحيط بها من الشخصيات األخرى ،بصورة مباشرة ،بمعنى أنها كانت
شخصيات تحمل رغبة التبعيد واالستقاللية في وقائعها ،وهذا ما حرمها من امتالك
بنية تأثيثية تقبل التشاركية مع الشخصيات األخرى وتتساعد معها في إدارة مفاعيل
التكامل ،والتأثير ،المشترك بما يخدم هدف ومعنى الرواية ،إال أن غياب تلك الصورة
جعل كل شخصية من شخصيات رواية الطلياني ،تعيش حالة من العزلة داخل الشريط
السردي الذي ما انفك يحاول استجماعها على هدف سام يخلصها من الهروب إلى
مصائر الخالص الفردي ( )individual salvationالذي وقعت فيه أغلب شخصيات
الرواية وسروداتها.
441
أوراق العدد المزدوج 02-91
ثمة العديد من األشراك والفخاخ السردية التي وقعت بها رواية الطلياني ،وهي مثار
تساؤالت عديدة ،ومهمة سأتعرض للقليل منها على سبيل المثال ،فما حدث حين تم
اعتقال الطلياني ،وزينة من قبل جهة أمنية في اضطرابات الجامعة ،يتم استدعاؤه من
الزنزانة التي وضع فيها إلى غرفة رئيس الفرع المسؤول ،وبعد حديث مطول بينهما
يعتذر المسؤول األمني منه ،ويغادر الغرفة ألمر طارئ ،بعد أن يغلق بابها بالمفتاح،
ويتركه وحيداً فيها ،يستغل الطلياني الفرصة ،ويبدأ رحلة تفتيش في األدراج وبين
األوراق ،والمغلفات حيث يعثر على بعض المعلومات الخطيرة ،والتقارير الهامة التي
تخصه ،وتخص رفاقاً له ،بعد قليل يعود المسؤول إلى غرفته ،ودون سابق انذار يقوم
الضابط بأخالء سبيل الطلياني مع صديقته زينة في الذي يبقى فيه
السؤال حاض اًر في الذهن :كيف يترك المسؤول األمني معتقالً عنده في غرفة مكتبه
بمفرده ،والمكتب يغص بالمعلومات ،والوثائق السرية المتعلقة بالمعتقل ذاته؟
442
أوراق العدد المزدوج 02-91
داخل أنساق السرود على ما يبرر ذلك االشتغال التسريدي بحذاقته البوليسية ،لكنها
لألسف لم تكن محكمة التفاصيل ،والتنقالت المنطقية التي كان ال بد من استخدام آلية
سردية مقنعة ،في الوقت الذي نجد فيه أيضاً ما حصل على الصفحات ( من 262
ولغاية الصفحة )266حيث تحولت السرود إلى رواية تعليمية ( educational
)novelاتخذت من نفسها منب اًر لدروس مهنة الصحافة ،وما هي الطرق األسلم
واألفضل ،والمعمول بها في مطابع الصحف العالمية والعربية ،إضافة إلى تعلم الطرق
الصحيحة التي يمكن من خاللها رصف المواد ،وأساليب تنضيدها ثم وضعها وفق
المهنية. الطرائق
لقد أثقلت هكذا مثالب فنية كاهل السرود ،وشكلت ِهَنة ال مبرر للوقوع فيها ،وهذا
ما يدفعنا للقول أن رواية الطلياني جاهدت كثي اًر ،لتكون رواية تستطيع اإلضافة،
والتجديد ،لكنها لم تخرج عن إطار مقروئيتها كعمل سردي نال جاذبيته من خالل لغته
اإلخبارية الجميلة من جهة ،واقتدار العمل الروائي على روينة السيرة الذاتية
( )Biographical novelالتي شكلت في مناحيها ،الكم األكبر من حيوات شخصيات
لها حضورها الواقعي على الرغم من محاولة الروائي تفعيل العديد من مناورات التخفي
وارتداء األقنعة ليس إال.
هوامش:
2ـ الطلياني :رواية شكري المبخوت صادرة عن دار التنوير في طبعتها األولى عام
"264" 1124صفحة.
1ـ 2ـ 4ـ 1ـ 6ـ حوار د .مع شكري المبخوت على هامش الدورة 11لمعرض
الكتاب الدولي بالدار البيضاء 1126
443
أوراق العدد المزدوج 02-91
المصطلحية
ّ التقعيدية والبنية
ّ السيميائيات بين األصول
ياسين الخلطي
باحث من المغرب العربي ،ماستر في اللسانيات وسنة ثالثة دكتوراه بكلية التربية في
الرباط.
إذا ما نظرنا إلى العالم الكوني الذي يحيط بنا ،وجدنا أن هناك مجموعة من اإلشارات
والرموز ،تحيل على دالالت كثيرة .لكن اإلنسان ال يستطيع أن يصل إلى تلك المعاني
والدالالت ،كونه يكتفي بالمعطى المباشر؛ الذي يبقى متقوقعا داخل التجربة المادية
والعادية؛ التي ال تتجاوز حدود النظرة البيولوجية للعين المجردة.
وألن هذا اإلنسان يسعى إلى التطور والرقي المعرفي والعلمي ،قام بتأسيس علم يعينه
على فضوله المعرفي ،لِ ُكنه مكنونات األشياء المحيطة به هو علم السيميائيات؛ الذي
ُيؤول كل معطيات التجربة اإلنسانية؛ عبر إدخالها في عوالم مجردة تتقابل مع عالمها
المباشر .يقول سعيد بنكراد بهذا الصدد" وليست اإلحاالت الداللية المتنوعة ،وطرق
إنتاجها وسبل تداولها واستهالكها؛ سوى حصيلة حركة (ترميزية) ،دفعت اإلنسان إلى
التخلص من عبء األشياء والتجارب المباشرة اللصيقة بالزمان والفضاء ،وقادته أيضا
إلى بناء عوالم متحررة من قيود الواقع وتأليفاته المحدودة"()2؛ وهنا يظهر جليا أن
السيميائيات ،تحول الواقع إلى مجموعة من الرموز ،تعلق من قيمة المعرفة ،كون
األشياء عندما تصل إلى درجة اعتبارها رمزا ،تصبح أكثر تعبيرا ،وتساهم في تقويم
التجربة اإلنسانية ،ألنها تتبنى العديدة من الدالالت والمعاني؛ التي ال تبقى ثابتة على
تأليفات الواقع النسبية .يضيف امبرتو إيكو إلى هذا الكالم " وجود المجتمع ذاته رهين
بوجود تجارة للعالمات ،فبفضل العالمات استطاع اإلنسان أن يتخلص من اإلدراك
الخام ،وأن يتخلص من التجربة الصافية"( .)1هذا ويمكن القول ،إن العالمة تتقاطع
444
أوراق العدد المزدوج 02-91
مع الرمز في فقه كينونة األشياء المعزولة عن الواقع الحسي ،إال أن العالمة تتميز
باعتبارها قطب الرحى لعلم السيميائيات ،ألننا ال نستطيع أن نخوض في غمار هذا
العلم في معزل عنها ،كما سنعرض بكل تفصيل في محاور هذا المقال.
وإذا ما أردنا التعرف أكثر على علم السيميائيات ،وجب علينا أن نتعرف على
األسس الفلسفية التي ساهمت في بناء صرح هذا العلم ،حيث يضيف سعيد بنغراد في
السيميائيات "أنها علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية
كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي واألنثروبولوجي ،ومن هذه الحقول
استمدت السيميائيات أغلب مفاهيمها وطرق تحليلها"( ،)2وهذا يوضح سعة مرجعيات
السيميائيات ،كونها تهتم بكل ما يمكن أن يعينها على فهم التجربة اإلنسانية .فاللسانيات
والمنطق بخاصة ،سيكونان من أبرز المرجعيات التي استندت إليها ،كما سنرى مع
كل من فردناند دو سوسور ،وشارل ساندرس بورس.
445
أوراق العدد المزدوج 02-91
باللسانيات ،مما يجعلنا ننظر إليه كعلم للسيميائيات ،وذلك لتقاطعه مع هذا العلم ،فقد
ذكر في النص أعاله أن السيميولوجيا علم لم يوجد بعد في زمانه ،إنما بشر به ،وما
يؤكد هذا هو تعريفه للسان بقوله ":إن اللسان نسق من العالمات المعبرة عن أفكار،
وهو بذلك شبيه بأبجدية الصم والبكم وبالطقوس الرمزية ،وبأشكال اآلداب واإلشارات
العسكرية ،إنه يعد أرقى هذه األنساق ،ومنه تأتي إمكانية البحث عن علم يقوم بدراسة
هذه العالمات داخل الحياة االجتماعية( .)...ويمكن أن نطلق على هذا العلم
السيميولوجيا ،وستكون مهمته التعرف على عمق العالمات ،وعلى القوانين التي
تحكمها .وبما أن هذا العلم لم يوجد بعد ،فإننا ال نستطيع التنبؤ ال بجوهره وال بالشكل
الذي سيتخذه"( ،)1وهذا اعتراف صريح من سوسور ،بأن علم السيميولوجيا لم تظهر
قواعده بشكل جلي في عصره.
وإذا ما أمعنا النظر في النص األخير لسوسور ،وجدناه يتطرق إلى موضوع آخر،
يدخل في صلب ما سنتحدث عنه في علم سيميولوجيا ،أال وهو موضوع اللسان .فهذا
األخير باعتباره مفهوما لسانيا ،ال يعدو أن يكون نتاجا اجتماعيا ،يشتغل خارج دائرة
الفرد ،إذا ما ربطناه بالمنطلقات السيميائية عند سوسور ،ألنه وظفه في هذا العلم
بمنظور جديد ،رغم أنه احتفظ باألسس الرئيسة للسان؛ التي تجعله يتوافق مع مفهوم
العالمة ،التي ذكرها في معرض تعريفه للسان .حيث اعتبره نسقا من العالمات المعبرة
عن أفكار ،وأرقى األنساق الموجودة في الكون ،ألنه األداة التي تجعل العالم يحضر
بمعطياته المادية وغير المادية ،في أذهاننا على شاكلة ما نسميه بالفكر ،واللسان وحده
الذي يتميز بهذه الخاصية؛ عكس األنساق األخرى ،ألن قوانينه وقواعده قابلة للعزل
والتصنيف ،كونه نسق من العالمات .كما يقول سعيد بنغراد ":فاللسان باعتباره نسقا
مستقال يتميز باالنسجام والوحدة ،فهو أكثر األنساق قابلية للوصف ،وأكثرها قابلية ألن
تشتق منه قوانين وقواعد سهلة التعميم والتداول .إنه ليس جوهرا ،فهو نسق شكلي
يتكون من عالمات من طبيعة خاصة"( ،)6ومعنى هذا الكالم أن قوانين اللسان نستطيع
446
أوراق العدد المزدوج 02-91
أن نخرجها ،لنجعل منها معايير قابلة للتطبيق على معطيات التجربة اإلنسانية ،لفهم
مضامينها الخفية.
ومن خالل ذلك فاللسان يشتمل على تمفصلين ،يعينانه على كشف مكونات وخبايا
العالم الخارجي ،فهو حصيلة تواضع الجماعة اللغوية فقط ،وليس هناك أي قانون
منطقي يحكمه .فالدال هو الصورة السمعية والنطقية التي يمفصلها جهاز النطق ،وهو
يختلف حسب المنظومة اللغوية التي ينتمي إليها ،أي إن الذات المتكلمة حرة في انتقاء
الدوال ،مادام أن اللسان يشتغل خارج الرمزية الصوتية .والدال ال يكتفي فقط بالعناصر
الصوتية ،بل هو مرتبط بالضرورة بالجانب النفسي ،يقول سعيد بنغراد " الدال هو
البصمة الصوتية التي تلتقطها األذن ،والجانب المادي الذي أحدثه"( ،)2أي إنه خاضع
للدواخل النفسية للباث .إن الدال من جهة أخرى ،هو تمثل للواقع المادي المحسوس،
في شكل تمفصالت صوتية ،فبفضله نستطيع أن نعبر بكل أريحية عن أشياء العالم
الخارجي".
باإلضافة إلى الدال ،هناك تمفصل آخر هو المدلول ،يستند على الصورة الذهنية
التي ترسم في ذهن الشخص ،والتي تشمل األبعاد الواقعية أو المتخيلة للمحيط
الخارجي ،وذلك بتحويل هذه األبعاد من جانبها الملموس ،إلى جانبها التصويري
المجرد ،ألن األشياء ال تحضر في الذهن إال مادة؛ أي إن المدلول يصوغ الوقائع
الموضوعية صياغة تجريدية ،تجعل األشياء تحضر وفق سياقات متعددة.
إن الرابط بين الدال والمدلول هو مبدأ االعتباطية ،الذي يعني حسب بنغراد:
"الطابع الثقافي الذي يحكم الظواهر المكونة للتجربة اإلنسانية في كليتها"( ،)2فهي
تتعارض مع الطبيعة التي تتميز بالثبات واإلطالقية ،ألن االعتباطية ليس لها ما يبرر
وجودها في العقل والمنطق؛ إنما هي تلك التواضعات التي أجمعت عليها الجماعة
اللسانية ،إذا ما ربطناها بحق ل اللسانيات ،والتي تقابلها األعراف والتقاليد في المحيط
447
أوراق العدد المزدوج 02-91
اإلنساني ككل ،فهي مجرد ثقافة أضيفت لألصل الذي هو الطبيعة .فاالعتباطية تحكم
جميع األشكال التعبيرية التي يعتمدها اإلنسان ،في إيصال تجربته ،واإلخبار عنها.
تلك إذا هي المبادئ التي اعتمدها سوسور ،للكشف عن علم السيميولوجيا ،والذي
تعتبر االعتباطية الركيزة األساس فيه ،إذ يجعلها الميدان المحوري لهذا العلم ،وفي هذا
السياق يقول بنغراد " :موضوع السيميولوجيا هو األنساق ذات الطبيعة االعتباطية"(،)6
ورغم هذا الرأي فإن العديد من السيميائيين ال يتفقون مع العالم السويسري ،ألنهم يقولون
بضرورة األنساق غير اللسانية؛ كما هو الشأن بالنسبة للصورة ،بالتالي ال يمكن أن
نعتبر االعتباطية موضوعا للسيميائيات ،كما سنرى في الشق المهتم بمفاهيم هذا العلم.
إن ما يميز سوسور في مجال السيميولوجيا ،هو تطبيقه لقواعد المفاهيم اللسانية؛
ك اللسان والدل والمدلول ،...على حقول غير لسانية ،تعتبر عالمات دالة حبلى
بصيرورة تعبيرية كبيرة ،ستظهر لنا بشكل واضح مع بورس .فاللسان مثال؛ قادر على
أن يؤول كل األنساق بفضل قوانينه التي تحدثنا عنها ،والتي توظف لفهم الصورة
ودالالت اإليماءات ،وغيرها من األنساق التي تقع خارج دائرة اللسانيات .ألن هناك
لغات بخالف اللسان ،تتميز بمنطقها وتركيبها وطرقها في إنتاج الدالالت.
هذا ويمكن القول ،إننا حاولنا استيفاء الخصائص التي تميز سيميولوجيا سوسور؛
والتي كانت البداية لظهور علم السيميائيات ،الذي سيشتغل عليها بورس في أمريكا
بمنطلقات فكرية جديدة.
قبل أن نلج إلى األفكار السيميائية لهذا العالم ،وجب علينا أن نسلط الضوء على
مراحل حياته؛ لكي نتعرف البنية المعرفية التي ساعدته على استنباط قواعده السيميائية.
فبورس كان موسوعيا في معرفته ،حيث قال في نص شهير له " لم يكن في وسعي أن
أدرس أي شيء سواء تعلق األمر بالرياضيات أو األخالق أو الميتافيزيقا أو الجاذبية
أو الديناميكية الح اررية أو علم البصريات أو الكيمياء أو علم التشريح المقارن أو علم
الفلك أو علم النفس أو علم األصوات أو االقتصاد أو تاريخ العلوم ،وكذا الويست (لعبة
الورق) والرجال والنساء والميثولوجيا ،إال من زاوية نظر سميائية"(،)21وهذا النص
يوضح تماما الكم المعرفي الهائل عند بورس ،وهو لم يأتي من فراغ ،كونه ابن العالم
الكبير وأستاذ الرياضيات "بنجمان بورس" .زيادة على هذا فقد حفظ بورس عن ظهر
قلب كتاب "كانط" "نقد العقل الخالص" ،ففلسفة هذا األخير تشكل ركيزة أساسا في
تصورات بورس السيميائية .أما بشأن المسيرة الدراسية لبورس ،فقد تابع دراسته
الجامعية ،بجامعة "هارفرد" في التخصصات الرياضية
ومن أشهر ما خلفه بورس قبل وفاته "أوراق متفرقة" ،وهو عبارة عن مجموعة من
الرسائل التي ضمنها كتاباته السيميائية ،حيث كان يرسلها إلى السيدة "ليدي ولبي"،
التي كانت تهتم بقضايا المعنى والتأويل وإنتاج الدالالت ،فهي بدورها حاولت تأسيس
علم للداللة يكون دقيقا .ولكن الغريب في سيرة بورس ،أنه لم ينشر له عمل وهو على
قيد الحياة؛ فكل كتاباته نشرت بعد وفاته.
بعد هذه اللمحة الطفيفة حول حياة بورس ،سنعكف على تبيين األصول المعرفية
والعلمية ،التي استند عليها لخدمة رؤيته السيميائية ،والتي سنركز فيها أوال على علم
المنطق ،الذي يعتبره بورس تسمية أخرى للسيميائيات .فالمنطق يعتمد على الدراسات
العلمية الرصينة ،التي ال تقبل الشك على اإلطالق؛ فقواعد هذا العلم قابلة ألن تشمل
التجربة اإلنسانية ،كونها تستطيع الوصول للدالالت المتعددة في هذه التجربة .وما
449
أوراق العدد المزدوج 02-91
يؤكد تأثره بعلوم المنطق؛ تخصيصه مقاالت يتحدث فيها عن المنطق عند العالم
المنطقي والرياضي "جورج بول"؛ الشيء الذي يبين مدى توافق هذا العلم مع منطلقاته
السيميائية ،فالعلمين معا يشمالن جميع الرموز ،يضيف طائع الحداوي إلى هذا الرأي"
فإن الذي يسترعي النظر هو أن قواعد المنطق بالنسبة لبورس ،تنطبق على الرموز
الخارجية"( ،)22فقواعد المنطق قابلة للوصف والتعميم ،ألننا يمكن أن نصنفها مع
شبيهاتها؛ كمبادئ اللسان التي تحدثنا عنها سابقا .فالسيميائيات كما يقول أحمد يوسف
"لغة واصفة أو قول شارح بلغة القدماء فهي تتطابق مع المنطق في هذه الصفة لكونها
أرغانونا حسب أرسطو أو علما حسب الدعوى الرواقية فيمكن تطبيقها على كل أنماط
العالمات ،ولهذا نعتقد أن المنطق الواصف هو الذي يرادف الجبر السيميائي"()21؛
وهذا يبين العالقة الحميمية بين العلمين ،فهما أرغانونان (أداتان) قابلتان للتطبيق على
مختلف العالمات للكشف عن خباياها ،فقد تأثر بورس بشكل كبير بالمنطق عند
أرسطو ،الذي كتب عنه (المنطق) هذا األخير في كتابه "األرغانون" .فالمنطق أصبح
أداة لمعالجة الداللة وإشكالية المعنى ،عكس ما كان يعتقده المناطقة العرب ،الذين
اعتبروه آلة تعصم العقل من الزلل أثناء نشاطه الفكري ،زيادة على هذا كان يسعى
بورس من خالل المنطق إلى البحث عن تفسير للظواهر وعللها ،الستكشاف الحقيقة
استكشافا منهجيا ،بعيدا عن التأمالت التي تتعارض وظواهر الواقع المعقول .فالتفكير
المنطقي ال يتولد من التعريفات والقضايا فقط ،كما كان متعارفا في المنطق التقليدي،
ولكن يعتمد على السيرورات التي تساهم في بناء المقدمات ووضع النتائج الداللية،
بمعنى آخر إنه يعتمد على السميوزيس؛ أي السيرورة الداللية الالمتناهية ،والتي تعتبر
صلب موضوع السيميائيات كما سنرى الحقا .وإذا ما أردنا الغوص أكثر في غمار
علم المنطق؛ فرض علينا أن نتحدث عن علم الرياضيات ،فهما مرتبطان أشد االرتباط؛
في عالقة تتأسس على التبعية ،يكون المنطق فيها هو المتبوع .لكن ما يميز سيميائيات
بورس في استيفائها من علم الرياضيات؛ هو توجهها نحو العناصر األساسية للجبر،
دون إعارة االهتمام لحل المسائل وجعل االستدالالت الحسابية عمليات ثانوية ،حيث
451
أوراق العدد المزدوج 02-91
شيد بورس جب ار للعالمات؛ يتأسس على التعامل مع تلك األخيرة ،على أنها تمثيالت
ومعان وقوانين وأفكار.
وهناك مرجعيات أخرى لعلم السيميائيات ،ال تقل أهمية عن سابقاتها ،إذ تشكل
أسا قويا في تصورات هذا العلم ،أال وهي المقوالت الفانوروسكوبية أو الظاهراتية،
فبورس عندما أراد أن يعرف العالمة ،ذكر أنها وجه مرئي لقاعدة فلسفية ترى في
التجربة اإلنسانية كلها ،كيانا منظما من خالل مقوالت ثالث هي الركيزة الرئيسة التي
تستند عليها الفانوروسكوبية وهي :األوالنية والثانيانية والثالثانية ،وأما بخصوص مجال
اشتغالها فيقول طائع الحداوي " فموضوع هذه المقوالت هو ،إذن ،كلية التجربة البشرية
بتشعباتها ومنعرجاتها ومستويات مجاريها و هيكلتها الفردية والجماعية ،بتأثيرها اآلني
والتطوري ،بضروب األسئلة التي تستفهم بها معطيات هذه التجربة مساقاتها المختلفة
وباختصار ،فكل الظواهر ،وكل ما هو معطى في التجربة يمكن أن يدرك انطالقا من
هذه المقوالت األساسية"( ،)22فانطالقا من هذه المقوالت الثالثة ،يكون السبيل إلى
كشف مجمل مكنونات التجربة اإلنسانية ،ألنها األساس الذي يشكل عمق السيرورة
المنتجة لإلدراك والفهم اإلنساني ،لكن كل واحدة من هذه المقوالت تنفرد بمعنى خاص
بها.
فاألوالنية تعني الوجود الذي يكمن في وجود الشيء في ذاته خارج أي سياق أو
تحقق ،وهي تحيل على سلسلة من األحاسيس والنوعيات ،المنظور إليها في ذاتها ،أي
أننا عندما نتحدث عن الحزن واليأس مثال ،ال نستطيع أن نصف هذه األحاسيس
بمعزل ع ن شخص حزين أو يائس ،فهي تحتاج إلى ما يجسدها ،وبالتالي فإن هذه
المقولة تتسم بطابع الغموض واإلبهام ،ألن جميع األمور المؤسسة لها تبقى منحصرة
داخل االحتمال واالفتراض في غياب تجسيد فعلي لها ،فاألوالنية هي األول والبداية
التي تتميز بالحرية والالمحدود.
451
أوراق العدد المزدوج 02-91
أما الثانيانية فيعرفها بورس بقوله "نمط وجود الشيء كما هو في عالقته بثان
دونما اعتبار لثالث ،إنها تعين وجود الواقعة الفردية"( ،)24فهي عنصر ثان ينقل
األحاسيس من وضعها األصلي إلى عنصر داخل عالقة مع شيء آخر ،أي إنها
تجسد عنصر األوالنية ،كقولنا في األحاسيس مثال ،رجل حزين أو يائس ،يقول طائع
الحداوي " بما أن األول ليس أوال بإطالق إذا فكر فيه ثان ،كذلك لكي نفكر في ثان
وكماله ينبغي أن نبعد كل ثالث"( ،)21وبالتالي فهي تقليص لالحتمال واإلمكان،
وإدخال للوجود في الفضاء والزمان ،بحيث يكون فعليا وبعيدا عن الغموض.
لكن هاتين المقولتين ال تشكالن األساس لفهم التجربة اإلنسانية ،فهما تحتاجان
إلى ثالثة تكون الوسيط بينهما ،هي الثالثانية ،ألنها تشكل القانون والقاعدة اللذين يحيا
داخلهما اإلنسان ،فعندما نقول أن الرجل حزين أو بائس ،فإننا نعلل سبب هذا الحزن
أو اليأس ،بوضع قانون يؤدي بالضرورة إليهما: ،أن نقول كل من يفقد أمه يكون
حزينا ،بمعنى أن الثالثانية هي العادة التي تسمح بتأويل سلوك معين.
بعدما تتبعنا المراحل التاريخية التي قطعها علم اللسانيات ليستوي على عوده،
أصبح من الضروري الحديث عن موضوعه ،وذلك إلرساء علميته ،ولكي نخرج من
دائرة الغموض ،وذلك بتحديد البؤرة التي تركز عليها السيميائيات ،رغم ما يظهر من
صعوبة في هذه المهمة ،ألن هذا العلم لم يقتصر على مجال بعينه ؛ فهو يمسك بكل
مجاالت الفعل اإلنساني ،ابتداء من الحواس ،ومرو ار بالطقوس والتقاليد االجتماعية،
ثم انتهاء بالسلوكات الفردية ،وغيرها من الوقائع التي ال تنفصل عن التجربة اإلنسانية
ككل ،والتي تشكل العالقة التوسطية بين اإلنسان وعالمه ،أو ما يسميه "كايسر"
باألشكال الرمزية.
ولكن هذا التعدد في المواضيع ،قد يشكل إبهاما في فهم الموضوع األساسي
للسميائيات؛ وبالتالي أضحى من الضروري أن يكون هناك حصر دقيق لهذا األمر،
452
أوراق العدد المزدوج 02-91
بالقول إن التجربة اإلنسانية التي تشمل جميع العلوم؛ سواء كانت علميو أو إنسانية،
يجب أن تكون جزءا من السيميوزيس ،التي تعني تلك السيرورة الداللية المؤدية إلى
إنتاج المعنى ،الذي يعتبر الموضوع األساس للسيميائيات ،فهو ضالتها التي تسعى
أليها من خالل السيميوزيس ،وهو ال يظهر من خالل المعطى المباشر لألشياء ،ألنه
يكون حصيلة سيرورة تدليلية ،تثمن مواضيع السيميائيات ،والتي تأخذها إلى نواة الفهم
الصحيح للذات اإلنسانية ،وقد أشار سعيد بنغراد إلى ذلك،حيث قال " فليس بمقدورنا
أن نتحدث عن سلوك سيميائي إال إذا نظرنا إلى الفعل خارج تجليه المباشر ،فما
يصدر عن اإلنسان ال ينظر إليه في حرفيته ،بل يدرك باعتباره حالة إنسانية مندرجة
ضمن تسنين ثقافي هو حصيلة لوجود مجتمع"( ،)26لكن هذا المجتمع الذي حدده بن
غراد ،ينظر إليه طبقا للسيميائيات ،على أنه كتلة من العالمات التي تتجاوز حدود
التجربة الصافية ،لتلج إلى عوالم هي في األصل واالشتغال عالمات؛ كون هذه
األخيرة قد تشكل المنتوج الرئيس لإلنسان ،فهو الذي يصنعها ويستهلكها ،باعتبارها
النقطة التي تبدأ منها سلسلة الدالالت؛ التي ال تنتهي عند نقطة محددة ،فهي كما يقول
الزواوي بغورة ":تساؤل حول المعنى وتساؤل حول شروط إنتاجه وأشكال
تمظهره"( ،) 22ومن هذا يمكننا القول أن مجال اشتغال العالمة ،يمثل موضوعا
للسيميائيات ،ألنعا (العالمة) تتكون من بناء ثالثي؛ هو السيميوزيس ،هذا البناء الذي
سنفصل فيه في الفقرات التالية .والسيميائيات ال تقف عند هذه المواضيع ،بل تتجاوزها
إلى مجاالت أخرى ،تريد من خاللها توسيع مجال اشتغالها.حيث تهتم باألنساق
التواصلية؛ كالنسق البصري؛ وكذا اإليمائي ،ألنها ترتبط أشد االرتباط باإلدراك
والمعرفة؛ التي تأتي نتيجة السيرورة الداللية التي ذكرناها سالفا.
بعد هذا الرصد لموضوع السيميائيات ،يظهر لنا أن هذا العلم يهتم بدراسة جملة
من العلوم والمواضيع؛ التي ال نستطيع أن نركز عليها أبحاثنا السيميائية ،على واحدة
دون األخريات ،ألننا سنكون من المقصرين ،فنقلص حقل اشتغال هذا العلم .من هنا
453
أوراق العدد المزدوج 02-91
وجب علينا التحدث عن المعنى ،لنقول إنه البؤرة التي يرتكز عليها علم السيميائيات،
فهو القاسم المشترك بين كل المجاالت والمواضيع سابقة الذكر.
وإلى جانب الموضوع الذي قمنا بتحديده ،تأتي المفاهيم لتفرض نفسها علينا،
فنحن ال نستطيع أن نلج إلى أي علم ،دون أن نتعرف على بنيتة المصطلحية ،ألنها
تشكل األداة التي تمكننا من استيعاب خباياه وإشكاالته .بهذا أضحى من الضروري أن
تهتم بالمصطلحات المؤسسة لعلم السيميائيات؛ والتي تعتبر العالمة signeالمصطلح
األساس فيها ،ألننا ال يمكن أن نعقل أي موضوع داخل هذا العلم؛ دون النظر إليه
باعتباره عالمة؛أي إنها تحيل على عدة مواضيع خارج سياقها المباشر .فهي تثمن
عناصر التجربة اإلنسانية ،فتجعلها باعثة على التفكير والتأمل .باإلضافة إلى كونها
شكل من أشكال التواصل الحاصل بين الباث والمتلقي ،بفضل فاعليتها التعبيرية.
والعالمة مقسمة إلى أنواع؛ عالمات لسانية؛ تتميز بانتمائها إلى اللسانيات ،أو
السيميولوجيا اللسانية .وهي تتفرع بدورها إلى صنفين كبيرين :أولها عالمات الكالم،
التي تشتمل على وحدات صوتية دنيا؛ تسمى الفونيمات ،phonémesزيادة على
مفهومين أساسيين هما الدال والمدلول ،كما أشرنا في سيميولوجيا سوسور .وثانيها
عالما ت الكتابة؛ التي تركز على القاعدة المعجمية األلفبائية ،التي تشكل المحددات
الصغرى للكتابة ،وهذه الكتابة ال تقف عند هذا الحد ،بل تتجاوزه إلى تسنين صوت
اللغة ،بما يسمى النظام الفونولوجي.
بعد هذا الرصد الطفيف للعالمة اللسانية ،أمكننا التحدث عن تصميم علم
السيميائيات؛ الذي يتجلى في العالمة غير اللسانية ،التي تمتاز بخصوصيتها التعبيرية،
إذ تستمد كينونتها الداللية من تكوينات الواقع الثقافية ،هذه العالمة التي نستطيع أن
نقسمها إلى قسمين حسب درجة االهتمام .فالقسم األول يشمل ثالثة أنواع رائدة في
السيميائيات ،كل واحدة تتميز بتعريفها وخصائصها ،وهي األيقونة iconeوالرمز
symboleو اإلشارة .indice
454
أوراق العدد المزدوج 02-91
واأليقونة تعني حسب بورس؛ العالمة التي تحمل عالقة مشابهة مع الشيء الذي
تحيل إليه؛ فهي تحمل بعض خصائص الشيء الممثل ،ومثال ذلك الصورة الفوتوغرافية
التي تتميز بالضرورة ،عكس االعتباطية .ألنها مرتبطة بصاحب الصورة فقط ،واأليقونة
هي كل أنظمة التمثيل القياسي المتميز عن األنظمة اللسانية .وهذا ما أشار إليه
أمبيرتو إيكو حيث يقول" إن العالمة األيقونة ال يمكن أن تحمل خصائص الشيء
الممثل نفسها ،ولكنها تعيد إنتاج بعض شروط اإلدراك الحسي ،تحت قاعدة التسنين
اإلدراكي الذي يحيلنا إلى التجربة الواقعية .يقول مورس ،إن صورة الملكة إيليزايث
للرسام أنيكوني ( ،)Anigoniتحمل خصائص الملكة إيليزابيث نفسها ،أي أن لها
العينين ذاتها واألنف ولون الشعر ...نقول إن لها الشكل ذاته لألنف ،األنف في الواقع
ثالثة أبعاد ()dimentionsفي حين أن األنف في الصورة ال يتكون إال من بعدين
اثنين فقط ،ويمكن القول هنا ،أن ما يحمل خصائص الملكة إليزابيث ليس إال الملكة
نفسها"( .)22ومعنى هذا الرأي ،أن األيقونة ال تستطيع أن تحمل كل خصائص الشيء
أو الشخص الممثل ،أي إننا نتحدث عن األصل والنسخة ،فهذه األخيرة ،اليمكن أن
تصل إلى مستوى األصل ،كونها تظل حبيسة التقليد والمحاكاة .كما هو الشأن في
جمهورية أفالطون ،التي تمثل عالم المثل (األصل) ،الذي يقابل العالم المادي
(النسخة) .ورغم هذا اإلشكال؛ تظل األيقونة الممثل الوحيد للشيء الممَثل.
كذلك الرمز يعد من العالمات التي تستعمل كثيرا ،ويعرفه "جون ليون" بأنه الجانب
االصطالحي أو االعتباطي؛ الرابط بين العالمة وداللتها"( .)26فالداللة التي تعطى
للرمز ال تكون ضرورية كما هو الشأن في األيقونة ،إذ هي نتيجة تواضع بين الجماعة
الثقافية ،ألنه ال يكون هناك مبرر عقلي لها ،كاعتبار الحمامة رم از للسالم؛ فالذي
جعل هذه األخير مرتبطا بالحمامة ،هو ثقافة الشعوب المكتسبة ،وليس ألن الحمام هو
السالم؛ ألننا يمكن أن نضع لها تفسي ار آخر كالحرية ،...وبالتالي فالرمز خاضع لمبدإ
االعتباطية.
455
أوراق العدد المزدوج 02-91
أما اإلشارة فهي عالمة ال تقل شأنا عن سابقتيها؛ فهي تحتل مكانة مهمة داخل
حقل السيميائيات،وقد عرفها جون ليون بأنها " العالمة التي تفقد فو ار الخصائص التي
تعمل العالمة ،إذا لم يكن موضوعها موجودا ،ولكن هي التي ال تفقد هذه الخصائص
حتى وإن لم يكن لها مؤول"()11؛ والمقصود من هذا الكالم أن اإلشارة تفقد خصائص
ومميزات العالمة ،إذا ما غاب عنها الموضوع الذي تحيل إليه تلك العالمة ،لكن ال
تكون كذلك في غياب المؤول .ومثال اإلشارة أو اإليماءة ،Kinemeتعويض اللغة
الكالمية باللغة اإلشارية؛ التي تتعلق ببعض اإلشارات الناجمة عن عدم إتقان لغة
أجنبية ،كاإلشارة إلى شيء إذا لم نعرف اسمه في لغة غير لغتنا .وهي بدورها خاضعة
لمبدإ االعتباطية؛ كونها تتلون والثقافة ،ودليل ذلك هو تغيير معنى عالمة الطلب؛
الذي يختلف بين الكاثوليكية الرومانية ،والعقيدة األرثدوكسية.
وما يميز اإلشارة هو اكتساؤها أهمية مقننة Cidéeفي ممارسة بعض اإلشارات
داخل جماعات معينة ،كالجماعات العسكرية ،في استعمالها القلم األسود للكتابة،
وإمساكها األشياء المقدمة إليها باليد اليسرى عوض اليمنى ،إضافة إلى تحية اليد،
وعالمات مختلفة لإلغاثة ،...فهذه اإلشارات تأخذ طابعها منظما ومقننا ،يرقى بها إلى
درجة اللسان ،كما هو الشأن بالنسبة للصم والبكم.
وهناك التصنيف الثاني للعالمات ،الذي يشمل واحدة أقل استعماال ،كالعالمة
الشمية ،singe olfactifsالتي تتجلى كثي ار في التواصل اإلنساني .وتحققاتها تكون
بكثرة في إشارات العطور؛ فلكي يظهر اإلشهاري جودة العطر المعروض ،يأتي بامرأة
و رجل ،يجسدان هذه العالمة العالمة الشمية؛ التي قد تحيل إلى دالالت جنسية.
وكذلك يظهر لنا النسق الشمي في التمييز بين الجيد والرديء ،والم َّ
صنع واألصلي؛ ُ
إلى غير ذلك.
وكذا العالمة اللمسية تتميز بقدرتها التعبيرية ،رغم نذرة استعمالها في العالقات
اإلنسانية؛ فهي تستعمل كبديل للبصر ،مثل قراءة برايل الخاصة بالمكفوفين ،فهم
456
أوراق العدد المزدوج 02-91
يعقلون الكون الكون بواسطة اللمس ،ويتجلى ذلك في المراحل األولى التواصلية للطفل،
مع األشياء المحيطة به كاإلحساس بالح اررة والبرودة ،والصالبة ،...فقد مررنا بتجارب
مؤلمة أحيانا ،عن طريق اللمس.
وإلى جانب العالمة الشمية واللمسية ،نجد العالمة الذوقية ،gustatifالتي يحددها
فرويد في الغريزة الفموية .labidol oralوهي جد مهمة في التواصل اإلنساني ،حيث
يقول محمد نظيف "ذلك أنه بمجرد أن يأكل اإلنسان المثقف؛ يعقلن االنطباعات
العادية ،ويتقن ويمحص أساليب تحويل األطعمة(الطبخ) ،ويعقلن طريقة األكل
(الذواقة)"() 12؛ فاالنتقال من اللحم النيء الذي كان مع اإلنسان البدائي ،إلى اللحم
المطبوخ في العصر الحديث ،يرسم طريق اإلنسان نحو التقدم التكنولوجي ،أي تقدم
من الطبيعة التي تظهر في الطعام المستهلك كما هو ،نحو الثقافة التي تتجلى في
طعام مستهلك مطبوخ بواسطة النار ،أو استعمال آلة كهربائية ،عكس آلة بدائية
كالحجارة الحادة ،التي كانت تستعمل كسكين.
بعدما رصدنا أنواع العالمة ،سنمر إلى عرض الطريقة التي تكتسب بها دالالتها،
وهي تكون بإخضاعها لسيرورة السيميوزيس ،التي تعني السيرورة التدليلية المشتملة
في داخلها شيئا ما باعتباره عالمة .وهي مقسمة إلى ثالثة عناصر؛ أولها الماثول
الذي يعرفه بورس بقوله" إن العالمة (أو الماثول) يعوض بالنسبة لشخص ما ،شيئا ما
بأية طريقة .إنها تخلق عنده عالمة موازية أو عالمة أكثر تطورا ،إن العالمة التي
يخلقها أطلق عليها مؤوال للعالمة األولى ،وهذه العالمة تحل محل شيء هو
موضوعها"( .)11وهذا الماثول ال يقوم إال بالتمثيل لشيء آخر ،حيث يقوم بتعريفنا
فقط على الشيء ،فهو ال يوجد إال من خالل تحيينه داخل موضوع ما .بالتالي هو
يحيل على الموضوع؛ عبر مؤول يمنح العالمة صحتها.
أما العنصر الثاني من السيميوزس فهو الموضوع؛ الذي يقوم الماثول بتمثيله،
وهو يمكن أن يكون واقعيا أو متخيال أو غير قابل للتخييل ،كما ال يمكن أن يشتغل
457
أوراق العدد المزدوج 02-91
أال كعالمة ،كونه مرتبط أشد االرتباط بنسيج السيميوزس ،بمعنى إنه بعيد كل البعد
عم المواضيع ال عادية ،وال يستطيع االنفصال عن العملية اإليالغية نفسها؛ ألنه يجب
على الباث أو المتلقي أن يمتلك معرفة مسبقة عن موضوع ما ،لكي يكون هناك حوار.
وفيما يتعلق بالعنصر الثالث من السيميوزس فهو المؤول؛ الذي يحدد نسيج هذه
السيرورة ،إذ يشكل التوسط اإللزامي الذي يسمح للماثول ،باإلحالة على موضوعه؛
وفق شروط معينة .وهو ما يجعل االنتقال بينهما ممكنا ،ألنه يعطي للعالمة صحتها،
ويضعها للتداول؛ كواقعة إبالغية.
وفي نهاية هذا المقال ،نكون قد استوفينا أهم المواضيع التي تتصل بعلم
السيميائيات .ابتداء من تعريفه ،ومرو ار بأصوله الفلسفية والعلمية ،وكذا الموضوع
الرئيس له؛ و انتهاء بنيته المفاهيمية .وهذا يعتبر شيئا ضروريا ،كونه يفتح لنا المجال
لولوج السيميائيات بخاصة ،وكل العلوم بعامة.
اإلحاالت
)2سعيد بنغراد ،السيميائيات النشأة والموضوع ،عالم الفكر ،العدد 2المجلد ، 21يناير_
مارس ،1112ص .2
)2سعيد بنغراد ،السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها ،منشورات الزمن ،مطبعة النجاح الجديدة،
الدار البيضاء ،1112 ،ص .26
458
02-91 أوراق العدد المزدوج
، المركز الثقافي العربي، اإلنتاج ومنطق الدالئل، سيميائيات التأويل،) طائع الحداوي22
.224 ص،1116
، العدد العاشر، مجلة عالم الفكر، العالمة والرمز في الفلسفة المعاصرة،) الزواوي بغورة22
.212
459
أوراق العدد المزدوج 02-91
المّرة"،
شاعر وناقد من فلسطين ،أصدر "رسائل إلى شهرزاد"" ،من طقوس القهوة ُ
ِ
وحدك أغنية". "ما يشبه الرثاء"" ،و ِ
أنت
تُعيد النصوص الرديئة -على النقد -طرح المفاهيم األساسية المتصلة بجنسها المؤطرة
ضمنه أو بطريقة التعبير عن أفكارها ،وأهم تلك المفاهيم ،مفهوم الرداءة نفسه ،إذ كيف
يكون النص رديئاً إلى درجة المثال الجيد على هذه الرداءة .ليس في األمر ما يدعو
إلى المفارقة ،أو التالعب باأللفاظ ،إنما هي حالة تشكلت على هيأتها لتكون هي ،كما
استقرت عليها بنموذجها اللغوي والشكلي.
ما مفهوم الرداءة الفنية هنا؟ إنها -باختصار شديد -أال يمثل العمل إضافة نوعية في
موضوعه أو في جنسه ،مع عدم تحقق شروط تكونه األولى ليكون جدي ار بتجنيسه
الذي يمثله .إنه أشبه بحالة من الهذيان أو الثرثرة اللغوية غير أدبية ،إذ تقل أو تنعدم
عناصر شعريته ،فيبهت في نظر المتلقي وال يدعوه إلى القراءة أو االستزادة ،ناهيك
عن عدم التأثير والبقاء في مخيلة القارئ طوي ً
ال أو قليالً ،فال شيء يدوم من تلك
الرداءة في ذهنه ،ألن العقول والقلوب مهيأة على أن تنفعل وتتأثر بكل ما هو جميل
وفريد واستثنائي ،ناهيك عم يحدثه في النفس من مشاعر اإلحباط واالشمئزاز ،وتعزيز
حالة متوهمة من الرداءة قد تصل إلى درجة التعميم على كل شعر أو على كل إنتاج
أدبي حديث ،أو على إنتاج كل أديب ذي أصول معينة أو جنس معين.
كما أن العمل الرديء أيضا يشكل عبئا لغويا على صاحبه ،فيحمله على ظهره،
فيلتصق به في أرض غير ذي زرع في واد قاحل غير مقدس ،فكثير من المبدعين
الرديء
ُ الكبار ضاقوا ذرعاً برديئهم دون أن يكونوا قادرين على التخلص منهم ،فظل هذا
461
أوراق العدد المزدوج 02-91
بقع ًة سوداء في مسيرتهم يحاولون أال يكون في بؤرة الضوء والنقد على أقل تقدير ،لكن
النقد ال يرحم ،والقارئ ال يجامل ،فهو "براغماتي" يبحث عما يفيده ويمتعه ،وال يستطيع
كاتب أن يفرض على قارئ أخالقياته مهما كانت مثالية ،ليمنعه من التنمر مثال في
ظل اتساع رقعة وسائل التواصل االجتماعي ،إذ تصبح فضيحة الشاعر أو الكاتب
الرديء "بجالجل" على رأي التعبير الشعبي المصري المعبر بحرفية في مثل هذه
الحالة.
هذه هي محددات الرداءة التي يمكن أن يستقيها الناقد من مجموع ما قاله النقاد ،وهم
يعالجون النصوص ،ويقرؤونها ،أو وهم يحللونها إلى عناصر شكلية وأخرى موضوعية،
وهي محددات عامة ،ال يختلف حولها النقاد ،بل إنهم مجمعون عليها ،لكن اختالفهم
في مدى انطباقها على نص دون آخر.
من المفترض أن "قدسي الهوى" للمقدسية خولة أحمد إمام ديوان شعر (دار إلياحور
للنشر والتوزيع .)1112 ،والشعر له محددات من لغة خاصة فردية ،وصورة بالغية،
وانزياح داللي ،وتكثيف في الصياغة ،ودهشة في التصور الذهني للموضوع ،سعيا
وراء التأثير في المتلقي.
تعد اللغة أهم عدة للشاعر ،ففيها ومنها وبها يتشكل الشعر ،ويتعامل معها كما يتعامل
الخزاف مع الطين ،ليعيد خلقها دالليا في سياقات ذات وقع خاص على القارئ .فال
توصف اللغة الشعرية بأنها لغة عملية وظيفية تؤدي التعبير عن الفكرة؛ هذه هي مهمة
اللغة االجتماعية التواصلية العادية في البيع والشراء وركوب الحافلة مثالً ،فهي لغة
استهالكية ميتة ،تموت وال يحتفظ بها بعد االنتهاء من وظيفتها ،على خالف األدب-
شعره ونثره -الذي تقوم لغته على "استخدام خاص للغة ،يحقق تميزه باالنحراف عن
اللغة العملية وتشويهها ،فاللغة العملية تستخدم استخداماً يرتبط بأفعال التوصيل ،أما
اللغة األدبية فليس لها أي وظيفة عملية ،وإنما تجعلنا نرى بطريقة مختلفة فحسب".
461
أوراق العدد المزدوج 02-91
(النظرية األدبية المعاصرة ،رامان سلدن ،ترجمة جابر عصفور ،دار قباء للطباعة
والنشر والتوزيع ،2662 ،ص)12
جاءت اللغة في كتاب "قدسي الهوى" مصنوعة من اللغة العادية االستهالكية بكل ما
تعنيه اللغة االستهالكية التي تموت بمجرد قولها ،فهي بعيدة عن سمات لغة الشعر
المعتمدة على االنزياح والتكثيف وخلق دالالت جديدة سياقية لأللفاظ التي ال توجد
معانيها إال بتلك السياقات ،لتكون اللغة الشعرية ساعتئذ قادرة على خلق لغة تبدو كأنها
لغة جديدة مقدودة من لحم اللغة األم ،تستفيد من قشرتها اللفظية لكنها تحقنها بالمعاني
النفسية الذاتية الخاصة ،من هنا يكتسب الشعراء أهميتهم الشعرية ،ال أن يعيدوا
المعروف والمكرور والمكرر حتى لو كان فيه شيء من جمالية التعبير اإلنشائي ،ألن
الشعر -كما يقول أدونيس" -ال يسرد ،وال يخبر ،وال ينقل أفكا اًر ،وال يصدر عن العقل
والمنطق ،وال عن العادة والتقليد .وإنما يوحي ،ويومئ ،ويشير ،فاتحاً للقارئ أفقاً من
الصور ،مؤسساً له مناخات من التخيالت" (الثابت والمتحول ،دار الساقي ،ج،4
462
أوراق العدد المزدوج 02-91
ص ،) 146وعاديته اللغوية تقتل روح الشعر وجماليته ،بحيث يصبح النص ال شعر
فيه إطالقاً.
توهم الكاتبة خولة إمام القارئ باعتمادها على "جماليات" شعر -لغوية ،فتقع في مطبات
القافية المجتلبة ،عندما تصر على التقفية ،فتضطر إلى أن توظف ألفاظاً غير مناسبة،
عدا أنها ألزمت نفسها بالتقفية في جملها القصيرة؛ فجاءت أقرب إلى السجع منها إلى
القافية ،إذ ال تكتب الشاعرة القصيدة العمودية ،بل إنها في أغلب الظن ،كما في هذا
الديوان ،أو في نصوصها التي تنشرها في الصحف ال تتقن الوزن أو متطلبات القصيدة
الكالسيكية ،ما يدخلها في عمليتي الوهم؛ وهم الذات ،والخديعة؛ خديعة القارئ العادي.
فمن األسلم لها أال تلزم نفسها بهذا التقنية التي أصبحت قيدا ألنها ال تتقن توظيفها.
جاء مثال نص "بقايا ذكريات" (ص )62-62مثاال جيدا على رداءة استخدام السجع،
أو ما يمكن أن أسميه َ"و ْهم القافية"؛ فثمة كلمات قلقة في أماكنها ،وثمة كلمات أخرى
ملعوب بها صرفيا للتوافق واإليقاع ،وثمة كلمات محشوة ومحشورة في سياقها إلتمام
هذه العملية.
وعلى العموم فإن أغلب عيوب القافية المجتلبة التي تحدث عنها النقاد في الشعر القديم
سيجدها القارئ في "قدسي الهوى" ،ليصبح الكتاب عالمة على رداءة استخدام إحدى
تقنيات الشعر الكالسيكي الموظفة جب اًر في سياق من الصياغة غير الرصينة التي ال
تمت إلى الشعر الكالسيكي بأية صلة ،ليكون توظيفها غير ضروري .عدا أن هذا
التوظيف كان عنصر تشويه للنص ،ولو خال منه لكانت النصوص أكثر تحمال واقترابا
إلى الشعرية ،فالتخفف من الجماليات أحياناً نوع من الجمال ،فإذا لم نضع الزينة في
موقعها المناسب ستنقلب إلى عامل قبح ورداءة.
تعاني أغلب نصوص الكتاب كذلك من التطويل المخل ،وهذا التطويل المخل أدخل
النصوص في باب الثرثرة والترهل ،فالشاعر ال يحتاج أن يثرثر ،إنما يحتاج أن تكون
عباراته مكثفة مختزنة لمعاني كثيرة في اللفظ األقل ،وكلما كانت العبارة قصيرة دالة
463
أوراق العدد المزدوج 02-91
كانت أدخل في الشعرية ،أما هذا الترفيل غير البالغي والتطويل الممل الذي ال يتبعه
تطور في البناء الكلي للنص أكسبه ملمحا آخر من مالمح الرداءة.
كان لهذا التطويل أثره في تقنية كتابة النص ،فغلبت المنطقية الواعية ،فجاء النص
باهتاً ،ال يثير مخيلة القارئ وال يدعوه إلى المشاركة التفاعلية مع النص ،لتنعدم المتعة،
فالمعنى واضح ومستهلك ،وفيه جريان وراء التوضيح غير الضروري .من ذلك مثال
استخدامها للجمل االستفهامية ،ثم تأتي بعد ذلك وتقول:
لألسئلة شعرية خاصة في النص ،ليس هذا النص بالتأكيد ،إنما النص بشكل عام،
لكن شريطة أن يحسن الشعراء استخدامها ،وأال تكون عشوائية ،كما هو في ديوان
"قدسي الهوى".
ويتصل بهذا أيضا -التطويل غير الفني -تتابع التشبيهات في النص ،دون أن تمنح
تلك التشبيهات بعدا مركبا للجملة ليتطور بها المعنى الكلي للمشهد كله ،تق أر هذا
المقطع:
جدائل شعري
كليل طويل
كموج جسور
كقصر منيف
وبعد هذا وذاك ،فإن المعجم اللغوي لكاتبة هذا الكتاب فقير جدا ،ويدور حول ألفاظ
معينة ،ومرجعيتها الثقافية متدنية المستوى ،إضافة إلى الفقر المدقع في المجاز
واالستعارة والصورة الشعرية المبتكرة ،وتكرار مجموعة من األلفاظ واضح لكل من يق أر
الديوان.
هذه الحالة من الكتابة التي وصفت بالرداءة على الوجه الذي بينته آنفاً ،تطرح سؤاال
مهماً :ما الذي يدفع الكتاب ليكتبوا شع اًر؟
سبق لغسان كنفاني في كتابه "فارس فارس" أن أشار إلى اإلقبال على كتابة الشعر
بغ ازرة في مقال بعنوان "شعراء متهمون بالغش والتزوير" (ينظر ص 226على سبيل
المثال) ،لتجد أنه ال إجابة سوى ما كان قاله في مقال سابق" :هنالك كما يبدو علة
كبيرة لدى كتابنا ،وهي اعتقادهم أنهم إذا أطلقوا على شيء ما اسم شعر ،فإن ذلك
يعتبر بمثابة جواز مرور إلى المجد"( .ص )44-42فهذا الكتاب "قدسي الهوى" -في
أحسن أحواله -كتاب خواطر مسجوعة يغلب عليها البوح الذاتي ،فيها تدريبات أولية
على استخدام اللغة العادية االستهالكية ،وليس له من نصيب كثير أو قليل في الشعر
والشاعرية ،وعلى ذلك فإن "قدسي الهوى" -بوصفه ديوان شعر -مثال جيد على
الرداءة ،ولو تواضعت الكاتبة قليال وجعلته تحت جنس "النصوص" أو الخواطر لكان
أسلم لها ،ألن النصوص أو الخواطر ال تحتاج إلى تلك الفنية العالية التي يحتاجها
الشاعر .فالشعر ال أن تبوح ،أو تنوح ،وإنما أن تصنع اللغة.
465
أوراق العدد المزدوج 02-91
إن الشعر ال يكتب إال إذا كان الكالم نابعا من منطقة مجهولة من داخلك ،دون أن
تعرف وحيها بالضبط ،واترك الالوعي هو من يقودك إلى القصيدة ،دون أن يكون
لعقلك أدنى تفكير أو سيطرة على النص ،وإال سيغرق الشعر في المعقولية والمباشرة
والمنطق ،وساعتئذ ستكون الكتاب ُة نث ار ال شعر فيه ،كما حدث بالضبط في "قدسي
الهوى" ،هذه الحالة الشعرية المطلوبة عبرت عنه الشاعرة نجاة بشارة ولخصته في
قولها:
الكأس
ُ َّت لهُ
الحبر ما ارتَج ْ
ُ ف
كي ير ُش َ
ْ كرِتنا
س َالشعر إال عند َ
َ نكتب
ال ُ
ورحم الله الحطيئة الذي كان من األولين السابقين في اإلشارة إلى أن الشعر فن ليس
كأي فن ،وحذر من استسهال تعاطيه والخوض فيه ،فقال:
فالشعر صعب وطَويل ٌسلّمه إذا ارتَقى ِ
فيه الّذي ال يَعلَمُه ِ
ٌُ ُ ُ َ ٌ َ
ِ
ضيض قدمه والشعر ال يَسطّيعُهُ من يظلمه ِ
َزلّت به إلى الحَ
عربهُ فيُ ِ
عجمُه يريد أن يُ ِ
وعليه ،فإن الشعر كما يصفه الشاعر والناقد الدكتور المتوكل طه" :هو ذلك "القول"
الذي يرقى فور سماعه أو قراءته إلى مراتب النيرفانا ،ويجعلك تشهق ،وي ِ
حدث نبضة
النار في خالياك ،ويبعث ذلك النحل الشرس إلى كل مسامة فيك ،أو أنه كالم إله ٌّي
ويعكر دمك بالعسل ،ويتركك على مفترق التيه اللذيذ.
يأخذ روحك إلى رعشة غائمةُ ،
أرضه نار ثلجية ،وسماؤه أطفال المجرات الالعبين في فضاء غير ُم ْد َرك .بصرف
الشعر أكبر من أي شكل"( .قصيدة "النثر" و ِ
الشعر ،منصة النظر عن شكله ،ألن ِ
َ
االستقالل الثقافية.)12-21-1126 ،
فالشعر -إذاً -هو حالة كونية شاملة ،وليس مجرد كتابة تتجنس بالشعر وتتموضع في
الصفحة على شكل ساللم لغوية بأسطر متناثرة .بل الشعر أكبر من أن يتضمن صورة
شعرية هنا أو هناك ،كما هو في كتاب "قدسي الهوى" ،إذا لم تكن تلك الصور الشعرية
466
أوراق العدد المزدوج 02-91
ذات نسق شعري عميق يحيل على فلسفة خاصة للكاتبة ،بحيث يصبح الشعر رؤيا
جمالية لهذا الكون أو احتجاج جمالي تعبيري على ما فيه من قبح ومآس .وليس هو
"قداسة الموضوع" ،فلن يشفع ذلك للشعر الرديء ،ولن يرفعه إلى مصاف الجودة
المطلوبة ،ويصدق على هذا الكتاب ما قاله غسان كنفاني في حق أحد كتب الشعر
في زمنه" :إن جواز السفر الذي يدخل الرجل إلى وادي عبقر ليس نظافته الوطنية،
ولكن أيضا موهبته .قد تكون الوطنية الصادقة في أحسن الحاالت جواز سفر إلى
سوق عكاظ ،ولكن الموهبة واألصالة والقدرة الفنية هي سمة الدخول .الشعور الوطني
عربة تحتاج إلى وقود ،والوقود هو العبقرية"( .فارس فارس ،ص)26
ومن باب آخر قريب من ذلك ،وإن بشكل أعم ،فإن المعاني -كما قال الجاحظ-
"مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني ،وإنما الشأن
في إقامة الوزن وتخير األلفاظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة
السبك ،فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"( .الحيوان ،ج،2
ص )221-222وأما في العصر الحديث فقد أكد مالرميه "أن الشعر يصنع من
الكلمات نفسها ،قاصدا بذلك الكلمات كأحداث حسية"" ،رافضاً األفكار كمادة للشعر"
(الشعر والتجربة ،أرشيبالد مكليش ،ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي ،2662 ،ص)21
فكم من متطفل على الشعر أفسد الشعر وأبعد القراء عن اقتناء كتب الشعر واالستمتاع
به ،إذ ال شك في أن هؤالء الكتبة الذين يسوقون مثل هذا الذي ُيدعى شع ار عندهم،
أفقد الجمهور الثقة بالشعر والشعراء ،فعمل رديء واحد كفيل بأن يخرب على مائة من
العطارين الممتازين روعة ما ينتجون من جميل الروائح المبهجة التي تشيع في النفس
ولكن لوال هذا القبح لما عرف الجمال ،وكما قال الشاعر" :وبضدها
الجمال واألريحيةْ ،
لتحلو
َ تتبي ُن األشياء" ،و"الضد يظهر حسنه الضد" ،فكأنه ال بد من األعمال الرديئة
في الفكر والقلب األعمال الرصينة العظيمة المؤثرة.
467
أوراق العدد المزدوج 02-91
زينب الزبيدي
كاتبة عراقية
468
أوراق العدد المزدوج 02-91
فاحتلت
ْ النازحين بال مأوى ،فكانوا مبتسمين على الرغم من معاناة النزوح،
صورة األطفال ثلثي صورة الغالف األمامي وما تبقى حمل كتابة العنوان
وخ ٌّ
ط اسم الكاتبة باللون األسود ،مما يعكس دالالت عدة منها الحزن
والضياع والتيه في دروب الغربة والتهجير والخوف واليأس الذي سيطر على
جميع شخصيات المجموعة القصصية ،وكتب العنوان باللون األحمر الذي
يعكس صور القتل والمذابح التي حلت بالسوريين فضالً عن حالة الغضب
واالضطراب في الشعب السوري ،واصطبغت خلفية الصورة ومالبس األطفال
باللون األصفر والبرتقالي داللة على أفول الحياة وغروبها وذهابها نحو خريف
العمر الذي يعقبه الموت ،وكذلك يعكس حالة عدم أتزان الشخصيات في
القصص بسب الغضب والقلق النفسي نتيجة الحرب ،فيما تعكس ابتسامة
األطفال البراءة والفطرة النقية وهم يطالبون العيش بسالم على الرغم من
الحرب في بلدهم.
أما الغالف الخلفي غلب عليه اللون األحمر فهو صورة للمجازر والمذابح
خطت عليها الكاتبة أهم الشخصيات في المجموعة ْ حلت بمجتمعهم ،أذ
التي ْ
القصصية ،فسيميائية اسم "حسام" الذي يقترن اسمه بالسيف والقتل والترهيب،
وكذلك "أياد" يشير إلى قبيلة عربية وهو صورة للفرقة والتناحر بين القبائل
العربية في جاهليتها األولى ،وكذلك إلى انقسام الجيش السوري إلى جيش
النظام والجيش الحر ومليشيات أخرى متعددة األسماء ومتناحرة فيما بينها،
فهي صورة للجاهلية األولى واقتتال قبائلها فيما بينها ألتفه األسباب.
وشخصية "هيثم" اإليجابية تشير إلى العالم ابن الهيثم فهي نموذجا عن الثوار
المعتقلين ،و"أم كفاح" هي األخرى شخصية بناءة تمقت الحرب وتبغي السالم،
469
أوراق العدد المزدوج 02-91
وهي فضالً عن ذلك مكافحة سخرت حياتها في خدمة ابنائها إذ عملت خادمة
في البيوت من أجل معيشة أبنائها ومواصلة تعليمهم لذلك جاء االسم معب اًر
عن دورها في القصة .وكذلك تمثل األمهات الالتي ينتظرن عودة ابنائهن من
الحرب.
عتبة االهداء :وجهت الكاتبة االهداء إلى أطفال سوريا النازحين الذين أجبرتهم
الظروف أن يسكنوا الخيام في الطرق خشية الحرب بعد نزوحهم من مدنهم،
واحثتهم إلى بناء الوطن" ،إلى أطفال سوريا الذين أجبروا على أن يعيشوا
طفولتهم في السماء وفي الخيام ....يمكن بناء الوطن".
قصة ثورة :قصة ثورة تقع أول قصة في المجموعة القصصية تحمل عنوان
الثورة وهي ثورة الشباب األبطال تبدأها في مقولة "الكذب الدين العبيد والحقيقة
هي إله االنسان الحر" تدور أحداثها عن كاتب تحكمه السلطة وتمنعه من
الكتابة في حرية وتقع عينه على هذه المقولة وهي إحدى المذكرات الطفولة
األولى ،واآلن هو زوج وأب وكاتب ولديه معمل صابون ،ولكن في مقابل
ذلك ال يملك الحرية ألنه كتابة كم صفحة تجعله يفقد حياته ،كم صديق له
مغيب في السجن بسبب أفكاره؟ وبعد اندالع الثورة آثر على أن يكتب حتى
لو تطلب االمر حياته ولكن عن ماذا يكتب ،هل يكتب عن الجندي الذي
قتلته العصابات التي تقتل في الجنود؟ أم عن العمال الذين تركوا العمل عنده
لديك؟
وذهبوا إلى رجل اخر وقالوا له أن أجرة اليوم تعادل أجرة عام كامل َ
وعندما أتم كتابة المقال وأرسله ،قتل بالرصاص فكانت أفكار الكتاب تدفعهم
فاختصت الكاتبة عنوان القصة األولى "ثورة" لتعبر عن
ْ إلى فقدان حياتهم
غضب الجماهير واألسباب التي دفعتهم إلى هذه االنتفاضة..
471
أوراق العدد المزدوج 02-91
أم كفاح :تتحدث القصة عن سيدة تدعى "أم كفاح" تفقد ابنها الذي التحق
بالجيش بسبب الفقر فهي منذ أشهر ال تعرف عن مصيره ،هل مذبوح مع
شاهدت صورهم في التلفاز ولم تشاهد جثته بسبب كثرة الجثثْ الجنود الذين
فوقه ،أم أنه حاول الهروب وقتله الجيش ألن ذلك ي َعٌّد خائناً للوطن ،فتطرح
البطلة سؤاالً على القارئ "أال يحق لإلنسان أن يكون جبانا ،أال يحق لشاب
ط ْت القصة الضوء على األمهات يندبن ابناءهن
أن يرفض حمل السالح"َ ،سل َ
سواء كان ابناؤهن مع الثوار أم مع الجيش في كلتا الحالتين هم مقتولون.
فتقوم "أم كفاح" بعد انتظارها كفاح مدة طويلة من الزمن دون خبر عن ابنها
برمي نفسها أمام شاحنة لكي تتخلص من القهر والعذاب ومأساة السنين التي
قضتها وهي تعمل خادمة من أجل مساعدة ابنائها.
هالل :حملت هذه القصة عنوان "هالل" فسيميائية الشخصية تشير إلى ميالد
عهد جديد بعد الموت ،بطلة القصة تدعي هالل وهي فتاة من حلب نازحة
إلى الالذقية بعد أن دمرت الحرب الطائفية منزلها في حلب ،فتلتقي
لت
بالشخصية التي تسرد القصة كونها مشاركة باألحداث المأساوية التي ح ْ
على البالد بعد ما نهرتها على عدم اعطاء االموال إلى المتسولين الذين
يملؤون الطرق يتسولون على أنهم من مدينة حلب لكي يكسبوا عطف المارة،
اال أن هذه الفتاة هالل تصرخ في وجه المرأة التي تستجدي .....في عبارة
أنها من حلب تأخذ هالل بطرح أسئلة من شدة القسوة والقهر في الشعب
السوري الذي يعاني من الصراع الداخلي بسبب االوضاع االقتصادية
والسياسية ،أنها تقول كيف ألخي السوري أن يستغلني وبيتي ودكاني قد تدمر
أحرقت الحرب منزلها الذي يحمل صورها وهي أغلى شيء
ْ في حلب ،بعد أن
471
أوراق العدد المزدوج 02-91
قت كل
عندها صور الطفولة والمراهقة والزواج وحديقة منزلها فالحرب أحر ْ
بقت عالقة في حلب.
شيء جميل لها في حياتها إال روحها التي ْ
قصه "أم إياد" :تناقش صرخة األمهات وسط هذا الصراع الذي يدور في
قضت عمرها تعاني الفقر والعوز من أجل إيصال ابنها "إياد"
ْ سوريا "أم إياد"
إلى أعلى المراتب في التعليم ،أال أنه بعد حصوله على شهادة الهندسة لم
تعرف أن الحرب الطائفية سوف تسرقه منها برصاصات في قلبه ،تصرخ
لقلت انه شهيد،
وتقول "لو أنه قتل في فلسطين لو أنه كان يحارب الصهاينة؟ ُ
لكنه قتل هنا في وطنه طيب من قتله؟ واستشهد مقابل ماذا؟"
قصة طيور النورس ناصعة البياض :ترمز إلى البراءة والسالم والطيور
المالزمة للمياه ،والنورس هنا في القصة يشير إلى القتلى الذين رماهم اإلرهاب
الدموي في نهر العاصي لتسوقهم مياهه إلى مصبها في البحر ،فهم طيور
النورس الذين يتنقلون من مياه العاصي إلى البحر ،تسرد هذه القصة امرأة
في الالذقية تذهب إلى الشاطئ من أجل إزاحة الهموم والقلق من داخلها وإذا
هي في طريقها تنظر من النافذة وتشاهد واقع الشعب الذي تمزق في بسبب
الطائفية ،تشاهد فتاة مبتسمة تحمل لوحة خط عليها "اذا سألوني ما طائفتي
..طائفتي سوريا" أخذت شوارع سوريا تزينها صور الشهداء من الشباب،
وبعدها تذهب الى البحر وتستلقي على رمال البحر كالمصلوب وتحلم في
الشهداء واألطفال الذين قتلوا وتتحدث معهم وهم في عالم الموت ،وكأنه ال
يوجد خط فاصل بين األحياء واألموات الشهداء المذبوحون الذين ألقوا في
ودماءهم النازفة المنبثقة من أعناقهم
َ نهر العاصي ،فترى عيونهم النازفة
المذبوحة ولون ماء البحر األزرق يصبح أحمر بسبب كثرة دمائهم ،وتأخذ
472
أوراق العدد المزدوج 02-91
أعدادهم في تزايد وهم ينظرون إليها ويسألونها بالصوت والواحد هل أنتِ حية
أم مذبوحة؟ فال تستطيع الجواب ،ويأخذها السؤال في داخلها كيف وصل
شهداء نهر العاصي الى البحر؟ وتشعر جسدها ال يقوى على الحراك ويداها
وقدمها مكبلتان وملفوفتان بقطعة قماش خشن وحولها أطفال مكفنين بكفن
أبيض ثم تستيقظ على صوت ضحكات عذبة ،وعند عودت وعيها إليها تقول
إنهم أطفال "الحولة" .فسلطت القصة الضوء على شهداء نهر العاصي وأطفال
"الحولة" الذين قتلوا بالسواطير والسكاكين فجاء عنوان القصة طيور النورس
ناصعة البياض يرمز إلى الشباب والشهداء واالطفال سوريا.
قصة يوم في الالذقية :من العنوان يتضح اسم المدينة في سوريا اسمها
الالذقية ،يبدأ الراوي المشارك بسرد األحداث اليومية في الالذقية في نقل
صور من مشاهدتها األحداث اليومية التي عمت البالد ،ومن خالل مشاركتها
ومشاهدتها لألحداث من شرائح المجتمع السوري تجسد صور الفقر والنزوح
وأطفال بال مأوى ومأكل في مخيمات الالذقية بعد نزوحهم عن منازلهم في
حلب ،فتلتقي في بداية األمر بسائق لتكسي من حلب ،ومن خالل الحديث
الذي دار بينهما تتعرف على أن لديه طفلة مريضة وال يمتلك النقود لعالجها،
وبيته قدُ دمر في حلب وال يمتلك المال الستئجار منزل بسيط يأوي أسرته،
يفترشن األرض ويحمْلن بطاقات هوية من
ْ في شوارع الالذقية تشاهد النساء
المدن المنكوبة المدمرة بسبب الحرب لكي يكسبن عطف المارة ويحصلن
على المال لمساعدة أسرهن .وأطفال نازحون يجوبون الشوارع وهم يحملون
العلكة ويبيعونها على المارة ومن ثم تنتقل البطلة مع صديقتها إلى أصحاب
المخيمات النازحين لكي تقدم لألطفال هدايا العيد وتشاهد امرأة تحمم طفلها
473
أوراق العدد المزدوج 02-91
في زجاجة ماء أمام المارة فتطرح سؤاالً على القارئ ،هل تكفي زجاجة ماء
أن تحمم طفالً؟ وتنقل هذه القصة حجم مأساة أهل حلب بعد تدمير منازلهم
التي أحرقتها نار الحرب ودمرتها ،فوقع عاتقها الكبير على األطفال األبرياء
الذين ال يعرفون ما الحرب؟.
474
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق الحوار
475
أوراق العدد المزدوج 02-91
تقديم:
ومتابعيه؟.
س -9كيف يقدم عبدالسالم الفريج نفسه لقرائه ُ
-مجرد إنسان حمل الوطن في قلبه عبر الزمن ،أحب كل البشر بال تمييز مهما
اختلفت مشاربهم ألن الجميع ينتمون انتماء واحدا فالكل إخوة مع تمايز األهواء.
476
أوراق العدد المزدوج 02-91
-الشعر الفصيح عابر للمناطق واألقاليم تستطيع من خالله التواصل مع العرب في
كل مكان من المغرب إلى اقاصي المشرق بينما الشعر الشعبي يكون مرتبطا بموطنه
وبيئته الحاضنة ،فمن يكتب الشعر الشعبي في َو ْجده على االطلسي لن يفهمه ابن
القلمون أو ابن حماه أو ابن اإلسكندرية ،وكذلك الشعر الفراتي الذي أجد نفسي فيه
كثي ار لن يكون مفهوما لدى من هم خارج اللهجة ،ولكن مع كل هذا أجد نفسي أقرب
للهجتي الفراتية مع اعتزازي بالشعر الفصيح
-ال أخفيك أنني أستمتع بكتابة الشعر وأبحر في قوافيه إبحار عاشق ،لكنني أميل
إلى الرواية ألنها تعطيني مساحة كبيرة للتحليق في آفاق متنوعة ومتقاطعة ،كما تعطيني
مداً وحرية للحركة ال يقيدها وزن أو قافية ،وهناك أيضا مسألة البحث العلمي أو إذا
شئت أن تسميه الخيال العلمي الذي ال أستطيع تناوله شع ار بينما في الرواية يمكن
التوغل فيه بشكل واسع وكبير وهذا ما تجده في روايتي التيه في زمن النبوءات التي
تناولت أبحاث الضوء والطاقة.
-مطلقا ،كما أن مسمى شاعر حمله أشخاص كثر ،لكن لم يخلد التاريخ إال من كتب
بتميز ،وكذلك الرواية لها أسماء خلدها التاريخ خذ ابن خلدون مثاال مؤسس علم
االجتماع الزال الناس يذكرونه ويذكرون مقدمته ،وكثر غيره منذ العهد الكلداني إلى
اإلغريق وهوميروس إلى البطالمة في مصر إلى العصر الحديث حيث طه حسين
والعقاد وغوستاف لوبون ونيتشه ،أسماء كثيرة ولها ما لها من اعتبار وتقدير كبيرين.
س -6الكاتب واألديب الشامل "عبد السالم الفريج" ،هل يرى من ضرورة لتحديد
ألي كاتب ُعموما؟
األدبية ّ
ّ الهوية
ّ
477
أوراق العدد المزدوج 02-91
-ال مبرر لتحديد الكاتب بهوية وتقييده بها ،دعه ينطلق بشمولية واسعة تسمح لإلبداع
بالظهور ،ابن رشد كان عالما فيلسوفا وباحثا حكيما ،والخوارزمي ودافنشي الرسام
والمهندس والمخترع أيضا.
س -0ما بين "بوح الزنازين" ،و"أنا والفرات" ،مساحة وطن جريح ،وهما عنوانان
المختلفة ظاهرا،
كل منهما ُعري ْتين ،بتوّقف بسيط يحكيان سيرة ّ
الش ّلمجموعتيك ّ
ْ
الشوق إلى وطن جريح .فما هو الوطن بعين
المتوالفة باطنا ،التي توازعها الحنين و ّ
و ُ
شاعر وروائي ومف ّكر وفّنان وناقد فني؟
ّ ّ
-6الوطن هو الدفء ،هو شعلة أو قل جذوة متقدة في القلب ،الوطن ليس كما علمونا،
أسالك شائكة وحدود مصطنعة واهية شكلت سجنا لمجموعة بشرية وجعلت منهم عبيدا،
الوطن هو سماء تزهو بالحرية وأرض تحتضن كل القلوب بال قيد وال شرط ،الوطن
هو المكان الذي ال تفقد فيه إنسانيتك وال كرامتك ،باختصار الوطن هو المكان الذي
ال تختصر فيه صوتك حتى الموت.
-2في ساجدة كما أسلفت لك في السؤال السابق يتجلى الوطن في الدفء ،العشق لم
ينتصر ولم يتحقق في ظل الضياع الذي يعيشه الوطن وتتنازعه الحرب وقوى الظالم
واالستبداد ،هذه اشكالية نعيشها منذ الف عام ولم نستطيع وأدها ،لكن ربما الجيل القادم
سيكون أكثر جرأة من االجيال السابقة وسيحقق االنتصار كما حققته غيرنا من شعوب
العالم.
478
أوراق العدد المزدوج 02-91
تجددة
لقضية قديمة ُم ّ
ّ المثير
ان انزياحي بطرحه ُ
يه في زمن الُنبوءات) عنو ٌ
س( -1ال ّت ُ
فسر لنا تناقض فكرة (ال ّتيه)
بهجرة العقول( :إدارة الوطن الّناجحة والعسكر) ،كيف ُت ّ
مع (زمن الُنبوءات)؟
-ال يوجد تناقض أبدا ،بل هو توافق مطرد ،زمن النبوءات العلمية التي تعطي افاقا
مفتوحة للعلماء الذين ال ينفك قادة االستبداد بجعلهم يهيمون تائهين في صحارى الجهل
بعد العلم ليبقى المجتمع يرضخ تحت مظلة العبودية ،من هنا جاء التوافق في هذين
المسميين.
تضادات ،كيف
الم ّالمتناقضات و ُ
سوريا وطن ُ
ّ س -1اإلنسان "عبدالسالم الفريج" من
البشرية بعدم إنجاب األطفال؟
ّ ُيمكن تبرير قرارك القاسي على النفس
-نعم هو قرار عن سابق اصرار وتصميم ،يجب على العبيد أن ال يتوالدون لكي ال
تستمر العبودية ،وأنا في وطن العبودية لن يكون لي ابن يتمتع بالحرية ،بل سيكون
حر
عبدا أخر يتجرع القهر ويحلم بالحرية مثلي ،لذلك عندما أتحرر سوف أنجب طفال ا
ليس فوقه مظلة االستبداد والعبودية.
-21نعم ،الفنان واالديب يستطيعان إيصال الصوت الحر إلى أبعد مدى عبر كل
الوسائل وبشكل أقوى من الرصاص الذي مزق الوطن وقتل االبرياء بشكل وحشي،
اللوحة وريشة الرسام لها وقع كبير وكذلك الفنان على المسرح واالديب في يراعه تهتز
لهم العروش.
479
أوراق العدد المزدوج 02-91
-ال أعتقد أنه سيكون للنخب الثقافية موقع أو رأي بعدما حصل من دمار للوطن وقتل
وتشريد ساكنيه ،لقد استحوذ أمراء الحرب على القرار في ظل تخاذل النخب السياسية
التي لم تكن إال هياكل تابعة لغير الوطن ،وهذا أمر أطال أمد الحرب والمعاناة ،وفتح
المجال لنظام االستبداد باستجالب قوى االستعمار إلى الوطن وتغيير تركيبته السكانية.
سوريا؟ .وماذا
ّ عاما من الحرب والمعاناة ،كيف ترى مستقبل
س -90بعد إثني عشر ً
تقول بكلمة أخيرة؟
-يجب علينا أن نكون منطقيين في رؤيتنا المستقبلية ،فالتفاؤل والعفوية لن تحقق أي
تقدم ،المعاناة لن تنتهي إال إذا تغير النظام بشكل كامل ونهائي ،وتكاتف الجميع سنين
طويلة قادمة؛ لتنتهي المعاناة؛ ثم نتحدث حينها عن مستقبل سورية الجديد.
***
* عبدالسالم بن أحمد المطر الفريج ،من مواليد حلب 2611 /22 /11م .ومن عشيرة الجبور
الذين هاجروا إلى السخنة ومنها إلى الرقة عام .2642ووالدته السيدة مهدية إبراهيم بك ،وكانت
من محبي الشعر الذي ترك أث ار في طفولته ،وعندما التحق بالمدرسة اإلعدادية بدأ يكتب الشعر
الشعبي ،وكانت أولى قصائده باسم (ردتك حبيبي بليلة كمر نسهر).
بعد حصوله على الثانوية لم يكمل دراسته نتيجة تدهور الوضع االقتصادي للعائلة فعمل في مديرية
مالية الرقة سنتين ثم استقال .وغادر إلى السعودية للعمل ،حيث تابع دراسة الكيمياء عبر المراسلة
مع الجامعة األمريكية في "أنقرة" ،وتابع دروس ومحاضرات في جامعة الملك سعود بشكل شخصي،
ثم عمل في المجال الكيميائي بمعالجة الخرسانة وإصالح التربة ،ونفذ مشاريع عديدة كما عمل في
الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض لمدة ثالث سنوات كمستشار للمواد العازلة ومعالجة التسرب.
481
أوراق العدد المزدوج 02-91
صدر له رواية (ساجدة /الموت عشقا) عام 1126عن دار قلم الخيال في الرياض ،وصدرت
روايته الثانية بعنوان (التيه في زمن النبوءات) عام .1111
وله أيضا ديواني شعر ،األول بعنوان (بوح الزنازين) والثاني بعنوان (أنا والفرات).
481
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق الترجمة
482
أوراق العدد المزدوج 02-91
في الرقة العريقة جارة الفرات ،تعبي ارً عن تقدير ،وتذكي ارً بتلك
تبرز مسألة الهوية الحضرية بشكل خاص في الرقة ،التي حافظ سكانها األوائل على
أسلوب حياة رعوي لمدة نصف قرن ،والتي كانت تدار ،منذ ثورة آذار البعثية la
،révolution baathisteمن قبل شبه البدو .وهكذا َّ
تبنى مثقفو الرقة موقفا غامضا
تجاه هويتهم .إنهم مستعدون لإلعالن أن الرقة مدينة للبدو ،بينما ينفون أنهم كذلك.
ويزعمون القيم القبلية بينما يشيرون إلى أنهم ليسوا جماعات قبلية .وحرصاً على التميز
عن شبه البدو وموظفي الخدمة المدنية والتجار الذين اجتذبهم تطور المدينة في
483
أوراق العدد المزدوج 02-91
الستينيات ،قاموا بتأليف تاريخ حضري مجيد للرقة سيكونون األوصياء عليه .وفي
كتاباتهم ومؤتمراتهم ،أصبحت الرقة عاصمة سوريا خالل ثورة فيصل العربية révolte
arabe de Faysalومكاناً رئيساً للمقاومة القومية .وتصور رواياتهم شخصيتين
متكررتين في التاريخ المحلي للرقة :البدي والمديني باسم ساكن المدينة .citadinité
ويتم تقديم هذين الشكلين في بعض األحيان باالتفاق ،وفي بعض األحيان متعارضين،
مما يترك في كلتا الحالتين األغلبية شبه البدوية في الظل.
484
أوراق العدد المزدوج 02-91
"tribaleهو أنسب شخصية بالغية لوصف الروابط التي كونتها العائالت القديمة في
الرقة مع مدينتها.
"الرقة مدينة تتسم بالخشونة والمحافظة ،وتقود حياة متشددة وضيقة في تقاليدها القبلية.
وسكان الرقة بدو أقوياء في عالقاتهم الشخصية ،لكنهم يخضعون ألوامر من الذين
يمسكون بزمام السلطة في أيديهم"( .العجيلي.)2622 ،
ذلك ما كتبه أحد أبرز الشخصيات في الرقة -الشخصية الوحيدة التي جرى ترسيخ
تمثال لها خالل حياته في مدينة الرقة ،إضافة لتمثال الرئيس حافظ األسد -هذا
التوضيح الذي كتبه الروائي عبد السالم العجيلي يأخذنا مباشرة إلى تعقيد هوية
الرقاويين ،المستعدين لمعاملة مواطنيهم على أنهم "بدو" بينما ُينكرون أنهم كذلك،
والذين ينتقدون أحياناً ويتخذون أحياناً أخرى سمات أو صفات قبلية .ومثل األشكال
األخرى للهوية ،فإن الهوية القبلية هي بناء اجتماعي ينبع إما من األفراد المعنيين ،أو
من القادة السياسيين ،أو من الباحثين"1" .
يشار إلى الرقة في الكتابات الرسمية على أنها "مدينة قبلية" .في عام ،2621في
العدد الخاص من مجلة عمران المخصصة للرقة ،يمكن للمرء أن يق أر" :غالبية سكان
المحافظة أصولهم وجذورهم من القبائل العربية األصيلة ويحافظون على شجرة العائلة
وغرف الضيافة واألصالة العربية البدوية ،والتي تكشف نفوس سكان هذه المدينة .سوى
أن هذا له نظيره في بعض العادات األخرى التي بدأت تختفي في وجه التطور والتقدم،
مثل العصبية القبلية بال هدف ،والقبلية العمياء ،وضريبة الدم ،وازدراء العمل "(ريفو
عمران ،2621 ،ص .)244وعند كتابة هذه السطور ،فإن ٪11من سكان المحافظة
ما زالوا من البدو ،والغالبية شبه رحل و ٪26فقط من الحضر.
485
أوراق العدد المزدوج 02-91
ويؤكد العلماء الرقاويون أيضا على أهمية القبلية في العالقات االجتماعية ،حتى لو تم
إضعاف هذه األخيرة تدريجياً بفعل "التطور" و "التقدم" .والخطاب الذي ألقاه عبد السالم
العجيلي في مهرجان الرقة السياحي األول يعرض عناصر هذا الغموض الذي يعاني
منه سكان مدينة الرقة تجاه القبائل التي ينتمون إليها .ويسمى" :الرقة في ذاكرة األجيال"
وظهر عام 2662في كتاب المهرجان وفي يوميات "صوت الرافقة".
"كانت الرقة في الواقع (في بداية القرن العشرين) مجرد نقطة ضائعة تقريب ًا في السهوب
الهائلة التي اجتازها البدو على جمالهم ،وهم يأتون ويذهبون كما يحلو لهم .والقبائل
هي الجذور العميقة لسكان هذه المدينة .ويتم الكشف عنها في الحياة االجتماعية:
سواء كان األمر يتعلق بأسلوب العيش ،أو مسألة الزواج والتحالفات ،أو االنتقام والديَّة،
أو العضوية -إن لم يكن اإلعجاب -في القيم األخالقية البدوية المتمثلة في الشجاعة
والكرم والتقشف ،وانتمى بعض أبناء القرية حتى وقت قريب ،بشكل دائم أو بين الحين
واآلخر ،لبعض القبائل البدوية :تقاسموا أسلوب حياتهم ،ورافقوهم في حروبهم،
وداهموهم".
الكاتب في هذا النص على إعجاب ساكن المدينة بفضائل البدو الرمزية ،والتي
ُ ويشهد
ستكون "الشجاعة والكرم والتقشف" ،وهو إعجاب مألوف في األدب العربي .وقد وصف
العديد من الفالسفة العرب هذه العالقة المتناقضة بين الثقافة العربية والبدو .وبحسب
زكي األرسوزي ،فإن البدوي هو الوصي على العروبة بصفته صاحب لغة عربية
خالصة (بوزيد ،2662ص .)222ووفقاً له ،فإن ثقافة الصحراء ستنقذ الروح العربية.
هذا ما أسماه عبد الله العروي "مفارقة الثقافة العربية paradoxe de la culture
"arabeالتي صاغها مجتمع حضري اختار طريقة تعبير بدائية وقبلية :الشعر البدوي
(القصيدة) .ولم ينت ِم المصممون والشعراء الذين ألفوا القصيدة أبدا إلى هذا المجتمع
البدوي" :كلما ندرت البطولة ،كان على الكلمة أن تحافظ على نكهتها البدوية ،وأصدرت
486
أوراق العدد المزدوج 02-91
القصيدة صوتا صخريا ،ألن ذلك أصبح اآلن االرتباط فقط بعالم ضائع من الحرية
والعظمة" (العروي ،2622 ،ص .)22
في نهاية التسعينيات ،طورت صحيفة المركز الثقافي في الرقة "صوت الرافقة" ،في
العديد من األعداد ،فكرة "أصالة" سكان الرقة ،والتي لم يتم تعريفها أبدا ولكنها تشير
إلى أصول القبائل من السكان .كما رأينا سابقاً " ،"2فإن األخيرة ،مثل صيانة العصبية،
يتم التأكيد عليها وتقديرها من قبل كل من أمين فرع حزب البعث في الرقة ورئيس
البلدية .لكن عالقة النظام غامضة مع االنتماءات القبلية لغالبية سكان المحافظة .ففي
كثير من األحيان ،تكون الشخصية القبلية للمجتمع الرقاوي متباعدة بشكل طوعي ويتم
تحويلها إلى فولكلور ،من خالل العروض الفولكلورية والمعارض التي تقام في متحف
الفنون والتقاليد الشعبية .وتم بناء هذا األخير بين قصر المحافظ وحديقة هارون الرشيد،
بمناسبة هذا المهرجان الشهير األول للسياحة والثقافة على نهر الفرات في عام .2662
ويشكل هذا المتحف طوبوغرافياً رابطا بين المجد العباسي وأحياء البعثيين في الرقة.
حيث أقيمت بالقرب من
ومع ذلك يميزان الموطن الريفي المستقر في شمال المحافظةُ ،
خيمة من وبر اإلبل .وفي هذا االرتباط غير المحتمل بين عالم السهوب ،يتم عرض
أشياء من الحياة اليومية للمقيمين والبدو :مغاسل الزبدة وأفران الخبز لألول ،ونول نسج
السجاد وسروج الجمال لألخيرة .وبالتالي ،فإن لهذا البناء المتحفي للهوية القبلية فضيلة
تعليمية :إظهار أن مدينة الرقة أصبحت بوتقة يختلط فيها عالمان كانا متعارضين في
السابق.
في مقالته بعنوان "الرقة في ذاكرة األجيال" ،أعاد عبد السالم العجيلي تدشين مراحل
بناء مدينته" :هذا الحصن ُشِيد من تلقاء نفسه على شكل أكواخ في ظالل األنقاض،
ثم على شكل منازل بدائية ،ثم مساكن الئقة في الزاوية الجنوبية الغربية للجدار القديم
الذي كانت قلعتهم التي لم تتداع .ثم بنوا مسجد الحميدية والمدرسة الملحقة به .وعندما
487
أوراق العدد المزدوج 02-91
اندلعت الحرب العالمية األولى ،أصبحت الرقة قرية كبيرة وحتى بلدة صغيرة( .مجلة
مركز الرقة الثقافي ،صوت الرافقة ،رقم .)2662 ،26-21وكما ُيذكر المؤرخون
والمفكرون المحليون في الرقة بإصرار ،فإن أول سكان الرقة كانوا عائالت تنسب إلى
بيت وليس قبيلة .ويعكس هذا التأكيد الرغبة في تعريف أنفسهم على أنهم سكان كاملون
في المدينة ،وليسوا كبدو يعيشون في المدينة .التمييز هو األكثر إثارة لالهتمام من
حيث أن كل من هؤالء المؤلفين قادر مع ذلك على تحديد انتمائه إلى قبيلة كذا وكذا؛
لكنه يفعل ذلك فقط باإلشارة إلى أنها مسألة أصل بعيد" .منذ نهاية القرن الثامن عشر،
وصلت عائالت كبيرة إلى المنطقة وليس القبائل .واستقروا حول مركز الدرك العثماني،
وانقسموا إلى تجمعين أو حلفين" (إبراهيم خليل ،حزيران .)1112
والدليل على أن سكان الرقة األوائل لم يصلوا من القبائل ،قيل لي في عدة مناسبات،
أنهم حقيقة تجمعوا معا في تجمعات جمعت عائالت من عدة قبائل ،وهذا في عرف
القبيلة ال يمكن أن يحدث عمليا .كان هذان التجمعان أو التحالفان كما رأينا في الفصل
األول ،تجمع األكراد (حلف الكرد) وتجمع عشرين (قرية عشاره على نهر الف ارت).
قاموا بشكل دوري بتقسيم أراضي المخا ،التي كانت ملكيتها جماعية ولكنها تُستثمر
بشكل فردي .وهي عبارة عن 1111دونم تقع في مستجد نقيب شرقي المدينة جنوب
تل بيا أو (مدينة توتول) .كان لكل فرع نصيبه .ووفقا ألبناء عائالت الرقة العريقة،
فإن أصالة االنتماء للمدينة تقاس بامتالك جزء من هذه األراضي الجماعية" :هل
الرقاوي يملك حصة في مستجد نقيب ."Mustagid Nakib
في نهاية اإلمبراطورية العثمانية ،تخلل التاريخ الحضري للرقة نزاعات أخذت تسمية
"الكاونا " ،"Les kawnaلفظة عامية للصراع أو التنازع" بسبب الخالفات بين
التجمعين الكردي والعشارين على إدارة هذه األراضي الجماعية .وتُظهر روايات هذه
النزاعات االهتمام بشرف كل تجمع ،وإنما كذلك استخدام ممارسات الحكم القبلي
ووسطاء العائالت الشركسية .وقد قام مارك سايكس ،المفاوض في اتفاقيات سايكس
488
أوراق العدد المزدوج 02-91
بيكو ،برواية كاونا "الخالف" عام 2616في كتابه "تراث الخليفة األخير The
."4" "Caliph’s Last Heritageوعند وصوله إلى الرقة ،كتب" :فوجئنا بسماع
ضجيج مخيف في المدينة؛ صرخات النساء الواقفات على المدرجات ،طلقات نارية
في جميع االتجاهات ،صاح الرجال ،وألقوا الشتائم على بعضهم بعضاً" (سايكس،
2621ص .)444وخالل ساعة واحدة ،خلفت االشتباكات بين الكرد والعشارين
،Acharinرغم وصول شرطي عثماني ،ثالثة قتلى وخمسة عشر جريحاً" .خرج حوالي
4111شخص مسلحين بالرماح والسيوف والمسدسات والبنادق بعد ذلك مباشرة لمرافقة
المتوفين إلى قبورهم" (ديهويلس ص .)44
وأخبرني أحد أفراد عائلة سطاف عن كاونا "الغول" عام 2612والتي تسببت أيضا في
العديد من القتلى .وحاول الشركس عبثا فصل أعضاء التجمعين الكردي والعشارين
المتنازعين على توزيع األراضي الجماعية .لكن الجنود العثمانيين نقلوا الجميع إلى
حلب لمحاكمتهم .ومع ذلك ،في الطريق بين الرقة وحلب -كان االنتقال من مدينة
إلى أخرى يستغرق عدة أيام سي ار على األقدام -لجأوا إلى "الديوان العرفي" ،أي لقاء
زعماء العشائر األكثر جدارة بالتعبير عن القانون وتمكنوا من التوفيق .وبهذه الطريقة
عاد الجميع إلى الرقة .وهذه الرواية عن تهرب الرقاويين من السلطات العثمانية ،واإلدارة
الداخلية للصراع من خالل اللجوء إلى العدالة القبلية التي أعادت تفسيرها العائالت
الحضرية ،يرويها محدثي بتسلية كبيرة ،والذي ال يزال فخو ار بأن والديه أحبطا االعتقال.
ويمكن تحليل تدخل الشركس كوسطاء بين المعسكرين كعنصر من عناصر الطابع
الحضري الجديد للرقاويين ،الذين يقبلون االعتماد على نصيحة الزعماء المطلعين على
التقاليد الحضرية .لقد لعبوا دو ار هاما في الوساطة في الكاونا الشهيرة عام ،2621
وهي نزاع حول حيازة بطيخ في مستجد النقيب ،والتي تحولت إلى معركة ضارية ُقتل
فيها اثنا عشر من العشارين وثمانية أكراد (ديهويلس ،ص .)44ولم يتم إبرام اتفاق
489
أوراق العدد المزدوج 02-91
مرض بين الكرد والعشارين حتى عام ،2622ويقسم أرض المخا muchâإلى 121
قطعة ،تم تخصيصها بالتناوب للتجمعين بمعدل 216لكل منهما.
إن حل النزاعات الداخلية في المدينة باللجوء إلى القانون القبلي أو عن طريق وساطة
الشركس يعكس رغبة سكان الرقة في اإلدارة الذاتية في مواجهة السلطات التركية،
ولكن أيضا في مواجهة البدو الرحل الكبار وقد تم إخضاعهم للضريبة .إن عالقات
التبعية أو المعارضة بين الرقاويين لرؤساء فدعان هي في صميم عملية صياغة الهوية
الحضرية للرقاويين .وخير مثال على ذلك هو كتابة العصر الذهبي ،سواء البدو أو
سكان المدينة ،في الرقة.
وللمفارقة ،فإن البناء الخطابي للهوية الحضرية للرقاويين يستند إلى رواية ثالث حلقات
من خضوع مدينتهم إلى البدو الرحل .ومع ذلك ،فإن هذه الروايات الثالث تختلف تماما
في تفسيرها .األولى ،في الواقع ،يقدر إنشاء دولة بدوية في الرقة كحلقة قومية .بينما
تستنكر االثنتان األخريان ،األكثر كالسيكية ،اقتحام البدو للمدينة.
اللوحة :2أهالي بلدة الرقة أمام بوابة بغداد حوالي عام .2611
491
أوراق العدد المزدوج 02-91
اللوحة :2أهالي بلدة الرقة أمام مسجد الحميدية حوالي عام .2611
491
أوراق العدد المزدوج 02-91
العجيلي وعلى مقابالت أجريت معه في الرقة عام .2621وهدفي هو محاولة فهم
أهداف المثقفين المحليين في إعادة كتابة هذه الملحمة لتاريخ الرقة.
فعند سقوط الدولة العثمانية ،بدأت فترة من فراغ السلطة في جزيرة الفرات .حارب
الجيش الفرنسي في كيليكيا ضد األتراك ،في حين أن الثورات القومية حركت منطقة
حلب (بقيادة إبراهيم هنانو) وظهرت ثورات البدو في دير الزور (ثورة العكيدات) والرقة
(بقيادة حاجم بن مهيد) (لويس ،2622 ،ص .)214-242واندلعت ثورة البدو في
دير الزور في عام 2612ولم يتم إخمادها إال في أيلول من قبل الجيش الفرنسي،
بمساعدة شركات اإلبل التي ضمت جزائريين في صفوفها ،وكذلك كرد من قبيلة الملي
(ليلو .)2662وكان قائد الثورة رمضان الشالش ،الذي عينه فيصل والي "كامل منطقة
دير الزور" "."6
في هذا السياق من الثورات المناهضة للفرنسيين ،كان الزعيم البدوي حاجم بن مهيد
قد أقام في محيط الرقة ،من آب 2611إلى كانون األول ،2612دولة بدوية مستقلة،
يدعمها جنود الجيش العثماني ويدعمها الرقاويون سكان المدينة .ووفقا لعبد السالم
العجيلي ،فإن األخير كان سيرسل في 21آب 2611إلى القنصل األمريكي في حلب
إعالنا ُيعلمهم بموجبه عن تأسيس حاجم بن مهيد لهذه الدولة المتمتعة بالحكم الذاتي
في الرقة (لويس ،2622 ،ص .)212ونص تصريح العجيلي على النحو اآلتي:
492
أوراق العدد المزدوج 02-91
قائدنا أن حكومة المنطقة سيكون لها مجلس منتخب من قبل الشعب ،يتولى األوامر
والق اررات الالزمة .لقد قررنا الدفاع عن هذه المنطقة وإذا لزم األمر سنتحالف مع أي
دولة مجاورة نختارها .نرسل هذا البيان إلى جميع الدول عبر القنصل األمريكي في
حلب".
لم تذكر أرشيفات القنصلية األمريكية في حلب وال أرشيفات القنصلية البريطانية وجود
"إعالن الرقة" ،كما وصفه نورمان لويس (لويس ،2622 ،ص .)122وتشير أرشيفات
الوكيل الفرنسي التي تم الرجوع إليها في قصر فينسين Château de Vincennes
إال أن حاجم يحاول االقتراب منا ،لكنه متهم بالسعي لتحريض السكان في منطقة منبج
ضدنا" " ،"2وفي أيلول 2611هناك إشارة" :يسعى حاجم وتحسين بك إلى التجمع في
حزب دفاع وطني وإعالن اتحادهما مع الكماليين" " ."2ومع ذلك ،فإن المحفوظات
الدبلوماسية الفرنسية التي تم الرجوع إليها في نانت Nantesتشير إلى إرسال حاجم
رسائل لمحاولة حشد أعيان دير الزور وكذلك قبائل المنطقة؛ المحاوالت التي كانت
بال جدوى " ."6وفي آب ،2612الحظ ضباط المخابرات الفرنسية وجود حامية تركية
في الرقة وحقيقة أن حاجم وقواته "تصرفوا هناك بصفتهم سادة" .ويضيفون أن المدينة
تدار بالتناوب من قبل قائمقام تركي منفصل عن سنجق أورفة وأحد شيوخ العفادله،
محمد الهويدي الشالش " ."21وفي أيلول ،2612كانت المدينة في حالة حرب ،حيث
قصفتها الطائرات الفرنسية بانتظام .ثم أمضى الرقاويون أيامهم في المالجئ التي
حفروها بالقرب من األسوار العباسية في المدينة ،ولم يعودوا إلى منازلهم إال في الليل
" ."22وفي تشرين الثاني ،2612مال الضباط الفرنسيون إلى التقليل من أهمية حاجم
وأشاروا إلى أنه مكروه من قبل السكان الرقاويين " ."21وفي 22كانون األول ،2612
دخل طابور ديبيوفر الرقة ووضع حداً لفترة الحكم الذاتي للمدينة و"الدولة" التي كان
من المفترض أن تكون عاصمتها.
493
أوراق العدد المزدوج 02-91
وفي تموز ،2662خالل مهرجان الرقة الثقافي األول ،استذكر الكاتب عبد السالم
العجيلي مجد هذه "الدولة":
أصبحت الرقة ،مع استمرار معاناة البالد من تداعيات الحرب ،مقر حدث فريد ال مثيل
ست دراسات وكتباً لهذا الحدث الشهير الذي حدث منذ فترة وجيزة ،والذي
له .لقد كر ُ
أوضحت كيف نجح آباؤنا ،على الرغم من
ُ بقي في ذاكرتنا باسم "حكومة حاجم" .لقد
معرفتهم الضعيفة بالعلوم السياسية وبناء الدولة ،في بناء حكومة مستقلة وجيدة اإلدارة
ذات ُم ُثل عليا .لكن محدودية إمكانياتهم من ناحية وسياسة الدول الكبرى المنتصرة من
ناحية أخرى ،لم تسمح لهذه الدولة بالوجود ألكثر من عام ونصف.
ينسب الروائي في هذا المقطع إلى عائالت الرقة مجد دولة حاجم البدوية .وتسمح له
هذه القصة بتقدير شجاعة وحكمة "آبائه" ممن عرفوا كيف يديرون أنفسهم ،ويخلقون
حكومة "ذات ُم ُثل عليا" ويقاومون المحتلين الفرنسيين .وفي نص آخر وصف عبد
السالم العجيلي بداية العشرينيات ودخول القوات الفرنسية إلى سوريا بـ "أيام عدوانية
مليئة بالثورات واالنتفاضات" التي "حطمت فيها قوات االحتالل الفرنسي بلدنا ومنعته
من المضي نحو التقدم والحضارة"( .العجيلي .)2662
إن حقيقة قيام بعض المثقفين بتفصيل هذا العصر الذهبي هي أكثر إثارة لالهتمام ألن
آبائهم ،أصحاب األراضي الذين استقروا في مدينة الرقة ،عانوا من عمليات السلب
التي أمر بها حاجم بن مهيد .وفرض رئيس البدو ضرائب حرب باهظة على المدينة،
حيث سعى وجهاء الرقة ،بقيادة والد العجيلي نفسه ،إلى إعالم الضباط الفرنسيين بأن
حاجم قد نهبهم .في 22و 11تشرين الثاني ،2612بعثوا رسالتين إلى الشيخ صوان
من السبخة القريب من الفرنسيين المتمركزين في دير الزور ،تم نقلهما إلى ضباط
مخابرات دير الزور ،وترجمتهما:
494
أوراق العدد المزدوج 02-91
منذ إعالن االتفاقية الفرنسية التركية ،سعت إدارة الرقة والضباط األتراك هناك فقط
لنهب الناس .وفضحه لرئيس البعثة .نسمح ألنفسنا بالذهاب دون أن نكون قادرين على
قول أي شيء .إذا احتجنا ،قيل لنا" :نعلم أنكم كنتم من أنصار الفرنسيين منذ البداية".
التوقيع :عبد الله عجيلي وأحمد عجيلي ،آغوات الرقة البارزين 22 ،تشرين الثاني
،SHAT( .2612صندوق - H1074الملف ،1نشرة المخابرات 6 ،222كانون
األول .)2612
َعلِمنا من مصدر موثوق أن حاجم يتواصل مع الحكومة الفرنسية للمطالبة ببقاء الرقة
تحت سلطته .ونحن مقتنعون بأن فرنسا لن توافق على ذلك .إن الحفاظ على سلطته
سيؤدي إلى خراب القضاء .ونطلب منكم نيابة عن جميع السكان رؤية المندوب في
دير الزور وإبالغه حتى ال يكون هناك مفاجآت )...( .ويسعى حاجم والضباط األتراك
للضغط على السكان بإخبارهم أن الفرات هو الحدود .وإذا بقي حاجم في هذا البلد،
علينا فقط مغادرته" .التوقيع :عبد الله عجيلي (أغا الرقة) في 11تشرين الثاني .2612
( ،SHATالمربع - H1074الملف ،1نشرة المخابرات 6 ،222كانون األول
.)2612
وصورت تقارير عدة بالوكالة هذه الفترة على أنها فترة خضوع الرقاويين للبدو .ونق أر
على النحو التالي" :الهدنة والنظام اإلنجليزي والسنوات المضطربة التي تلت ذلك قللت
من الهيمنة على سكان المدينة .وخالل "سنوات الفوضى" هذه (تشرين الثاني 2622
-تشرين الثاني ،)2612اختنق السكان المستقرون في مدنهم وتعرضوا لتعسف رجال
القبائل الذي ال يطاق " ."22حتى زعيم العفادله ،محمد الهويدي ،على الرغم من تعيينه
قائداً في الرقة من قبل حاجم ،أجبر رجاله على ترك قوات األخير (خلف ،2622ص
.)26وبدأت عائالت الرقة ،التي كان جزء منها ال يزال شبه رحل في عام ،2612
تظهر عدم ثقة السكان المستقرين تجاه البدو الرحل وقبائل الوادي ،العفادله والولده.
495
أوراق العدد المزدوج 02-91
يسمح االحتفال بالعصر الذهبي للرقة في عهد حاجم بن مهيد اليوم لمثقفي الرقة بتقدير
قدرتهم على إدارة الذات في سوريا المعاصرة .ومن خالل استحضار هذه الواقعة ،يدعي
سكان البلدة الفضائل القبلية للبدو في الوقت نفسه مثل المجد القومي لمقاومة الفرنسيين.
وتسمح هذه األسطورة بتأكيد غير مألوف للهوية في الخطاب السياسي السوري .ويأخذ
هذا التأكيد معنى خاصا في سوريا المعاصرة :االستقالل الذاتي السابق للمدينة الذي
حاولت الدولة تحويله إلى نموذج لتطور البعث .وال يتسامح النظام مع هذه القصة إال
بقدر ما هي جزء من حلقة مجيدة في التاريخ السوري ،مثلها مثل حكومة فيصل
العربية ،بينما يجب أن تُق أر أيضاً على أنها محاولة لخلق عصر ذهبي حضري.
وهذه الحلقة من تاريخ الرقة بعيدة كل البعد عن اإلجماع بين المثقفين المحليين .ومن
الالفت للنظر أنه لم يرد ذكره في أي نص رسمي :ال في كتاب الرقة ،لؤلؤة الفرات،
وال في الكتيبات البلدية التي تسترجع التاريخ المحلي .حتى اسم حاجم بن مهيد ال
يظهر هناك .الرقة ،لؤلؤة الفرات ،تذكر فقط دولة فيصلية faysalienفي دمشق،
موضحة أن قضاء الرقة كان مرتبطاً بحلب ،في ظل حكومة دمشق العربية "."24
والكتاب البلدي أكثر وضوحاً ،ولكن اسم محافظ الرقة الفيصلية ،رمضان شالش ،هو
فقط لهذه الفترة "."21
شمر في الرقة
مرور غارة ّ
حين كتب عبد السالم العجيلي أن "القبائل هي الجذور العميقة لسكان الرقة" ،فإنه
يروي حادثة مهمة من طفولته :غزو المدينة .من قبل محاربي البدو الرحل شمر في
حرب ضد فدعان عنزة "والذي يُعرف أيضاً بفدعان الخرسة".
496
أوراق العدد المزدوج 02-91
"إن ألوانا من السلوك القبلي ،مما كانت تمارسه في بادية "الجزيرة" الفراتية في قرون
الخراب والتصحر ،ظلت حية في أول زمن التحضر الجديد .وال أزال شخصياً أحمل
"شمر" بـ"الرقة" ،ومبيت طليعتهم ليلة واحدة فيها،
من ذكريات الصبا ،مرور غزاة عشيرة ُ
موزعين كضيوف على دواوين البلدة .كانوا يتأهبون لمنازعة "الفدعان" و"الخرسة" من
عشيرة "عنزة" في الصباح المقبل ،وأذكر أن عقيد غزاة شمر الشيخ "دهام الهادي" ،وهو
آنذاك في أوج شبابه ،كان نزيال في مضافة أسرتنا "العجيلي" ،رأيته فيها يشرب القهوة
ويتناول طعام العشاء قبل أن ينصرف إلى النوم محاطا ببعض رجاله ..ثم انطلقوا عند
الفجر مدججين بأسلحتهم إلى ساحة المعركة .حدث هذا في منتصف العشرينات ،وإذا
بي ذات يوم ،أجد الشيخ "دهام الهادي" زميال لي على مقاعد مجلس النواب السوري
في دمشق .طيلة األعوام 2642و 2642و .2646أيها البرلمانيون والمشرعون إنها
الحقيقة!"
في هذا النص ،يستخدم المؤلف المصطلحين الديوان والمضافة ،بينما يستخدم
المصطلح األخير فقط في الرقة .الديوان ،في المدن السورية الكبرى ،هو غرف
مخصصة الستضافة عائالت األعيان ،في حين أن المضافة هي باألحرى أماكن
للضيافة القبلية " ."26ولفهم رد الفعل المخيف للشاب العجيلي ،يجب أن نتذكر أنه
عندما سافر زعماء فدعان الرحل إلى الرقة ،استمتعوا بضيافة عائلة العجيلي .لذلك
اعتاد الكاتب على رؤية البدو في منزله .كان خوفه باألحرى الخوف من االنتقام من
الفدعانيين الذين ربما كانوا يشتبهون في والء العجيلي لهم .وبشكل أكثر عمومية ،فإن
"استغرابه" من رؤية البدو يصبحون نواباً يعكس غطرسة المدينة التي تثير الدهشة إلى
حد ما في سياق الرقاوي .لقد رأينا أن أول نواب قضاء الرقة في عهد االنتداب كانوا
من شيوخ الفدعان ،وأن هؤالء لعبوا دو اًر حقيقياً في التحكيم بين فصائل المدينة خالل
االنتخابات البلدية والنيابية في الثالثينيات "."22
497
أوراق العدد المزدوج 02-91
خالل الحرب العالمية الثانية ،تم تقسيم سكان قضاء الرقة ،من البدو وكذلك سكان
المدن ،بين المؤيدين لإلنجليزية والمواليين للفرنسيين ،والتي تداخلت مع االنقسام بين
" ،"Gauli wa Fichiأي بين المؤيدين -لديغول والمؤيدين لحكومة فيشي .قام الجنود
الفرنسيون الموالون لفيشي بتسليح الفدعانيين لمهاجمة اإلنجليز (خلف ،2622 ،ص
.)22من ناحية أخرى ،كان زعماء قبائل الفرات مؤيدين لإلنجليز" :خالل معارك
الحرب العالمية الثانية ،بين الفيشيين والديغوليين ،وبين الفرنسيين واإلنجليزَّ ،
فضل
العديد من زعماء البدو اللغة اإلنجليزية :ومنهم البشير الهويدي ،أحمد الحوجة ،بركات
الولده "(مقابلة مع سليل بارز من عائلة رمضان آغا ،من التجمع الكردي ،الرقة ،آب
ْ
.)1112وفي هذا السياق من االنقسام القبلي ،حاول الجنرال ديغول في عام 2642
حشد القبائل البدوية الرئيسة في سوريا ودعوتهم إلى اجتماع كبير .أخبرني أنور بورسان
الولده قصة الحوار بين والده ،شواخ البورسان ،والجنرال ديغول" :في عام (،)2642
جمع الجنرال ديغول جميع زعماء القبائل لمحاربة األلمان ،بمن فيهم شواخ بورسان.
فقال األخير للجنرال ديغول إنه يقدر حقيقة أن األخير طلب منهم مساعدة فرنسا .لكنه
رفض االستجابة لطلبه ألنه لم يقبل احتالل الحلفاء لسوريا .ثم ضرب الشيخ بورسان
رجال احتج على ديغول" (شيخ البورسان الولده ،تموز .)1112في هذا
بمطرقة ثقيلة ً
السياق من الفراغ في السلطة المركزية ،استؤنفت الحرب بين القبائل ،السيما تلك بين
الولده والعفادلة " ."22تسببت معاركهم ،خالل عام ،2642في مقتل عدة مئات من
الجانبين "."91
استغل زعيم عشيرة العفادلة موسى ضاهر هذه الفترة من القتال بين الديغوليين والفيشيين
لمهاجمة مدينة الرقة .لمدة يوم وليلة واحدة في 4تموز ،2642تم نهب المعسكر
واألرشيف الفرنسي ،وإطالق سراح سجناء القانون العام ،ونهب المخازن (خلف ،2622
498
أوراق العدد المزدوج 02-91
ص .)26سميت حلقة الذاكرة السوداء هذه باسم" :حكومة الغفاني" من اسم زعيم
اللصوص:
كان عام 2642هو عام الفوضى في مدينة (الفالتة) منقسمة بين المؤيدين لفيشي
ومؤيدي ديغول .نجيب جرمانوس ،ضابط سوري موالي لفيشي ،قصف المدينة لمنع
وصول اإلنجليز .نهب أهل القرى والمدينة الحي الفرنسي ،معسكر السكنة العسكرية،
وسرقوا جميع الرواتب .الحاج صالح حرك هذه الفوضى و"غافان" الذي أحرق كل
األرشيف .كان من قصر أفنان .كانت تسمى بحكومة الغفانيِ .
أطل َق سراح بعض
األسرى وفق االختبار التالي :هل أنت لص؟ يمكنك أن تغادر .هل أنت سياسي؟ عليك
أن تبقى" .استعادة لقصة " VIVA ZAPATAيعيش زاباتا" (من فيلم للمخرج إيليا
كازان بذات االسم عن قصة الثائر المكسيكي زاباتا ضد الفساد والديكتاتورية بدايات
القرن العشرين).
"البدو مكروهون في الرقة وفي القرى" (البدو مكروهون بالرقة والقرى al-badu
: makrûhîn bil-Raqqa wa-l-quraهكذا في النص .المترجم).
وبحسب شهود عيان على هذه الواقعة ،كان شعار قائد المداهمة" :بشر إمك أنها
الفوضى" .إذ رافق استحضار هذه الحادثة "استياء وعداء أهل الرقة األصليين من
المجموعات العشائرية المجاورة" (خلف ،2622ص .)26
لقراءة نشرات استخبارات جيش المشرق ،يحدث انعكاس في عالقات القوة بين سكان
المدن والبدو في زمن الحرب العالمية الثانية .في عام ،2642صدرت تعليمات لعمالء
المخابرات بعدم السيطرة على القبائل ،كما هو الحال في شمال القضاء ،ولكن سكان
الرقة ،الذين كانوا يتمتعون بسلطة معينة على قبائل الفرات .نق أر بشأنهم على النحو
التالي" :إذا كان من يسيطر على القبائل في تل أبيض يشكل عقلية سكان البلدة كما
يشاء ،فإن من يمسك بيده أبناء مدينة الرقة يتالعب بالعديد من خيوط السياسة القبلية
499
أوراق العدد المزدوج 02-91
على طول نهر الفرات .وهكذا تظل اضطرابات العفادلة-الولده-السبخة التي أبلغتك
بها خالل شهر تشرين األول مرتبطة بالحالة الذهنية السائدة اليوم في مدينة الرقة.
والرقة خاضعة للنفوذ الثالثي لمسئولين من الحزب الكردي بقيادة حسن آغا الككاجي،
رئيس البلدية ،ومن حزب العشارين بزعامة وهبي العجيلي النائب القومي السابق في
الغرفة السورية" (نانت ،سوريا -صندوق لبنان ،سلسلة " ،1222تحليل الوضع
السياسي في الرقة").
خالل هذه الفترة ،كثف تجار السخنة ،المقيمون في الرقة ،حركات التهريب مع اإلفالت
التام من العقاب .تم بيع الزيت واألقمشة والقهوة والشاي في تركيا ،بينما كانت الماشية
واألسلحة والذهب (على شكل ليرة تركية) تمر عبر الرقة .تهريب األسلحة شارك فيه
هؤالء السخنيون الذين قادوا بغال محملة بالبنادق ليالً إلى السبخة ،حيث تم بيع كل
شيء على الفور " ."11مرت تدفقات كبيرة من األسلحة عبر تل أبيض ،تحت حماية
الزعيم فدعان الخرسة عبد الرزاق العمير" ،الحامي المعترف به رسمياً لجميع العناصر
المشبوهة أو الخطيرة على الحدود".
عبارات مثل" :البدو مكروهون في الرقة" ال تعكس بأي حال الشعور العام السائد في
الرقة تجاه البدو .المثقفون المحليون أكثر استعداداً للتأكيد على السمات المشتركة التي
يتشاركونها مع البدو ،وينسبون صفاتهم ألنفسهم ،من أجل التمييز بشكل أفضل بين
المجموعات التي تعتبر "دخيلة" ،وموظفي الخدمة المدنية من القبائل والتجار،
والسخنيين والتواديف (من تادف) ،التي تم تنصيبها مؤخ ار.
يميز الجغرافيون بين المدينة وبين الحضر ،والتي تحدد "الطابع الحضري المناسب
للفضاء" والذي ينتج عن تعظيم العالقات االجتماعية في مساحة محدودة ،الستخدام
تعريف فيبري للمدينة .وبالتالي ،فإن التحضر هو نتاج أقصى تنوع في التفاعالت
االجتماعية التي تم تطويرها في مساحة محدودة ،حيث يتم تقليل المسافة والكثافة
511
أوراق العدد المزدوج 02-91
عالية .يضاف إلى هذين المعيارين للكثافة والتنوع االجتماعي معيار التكوين المكاني،
أي ترتيب األشياء المكانية بينهما والتي يمكن أن تميز بين موقفين حضريين متساويين
في الكثافة والتنوع االجتماعي (لوسو ،1112 ،ص .)666ومنذ سبعينيات القرن
الماضي ،أدى نزوح جماعي قوي من الريف ،إلى جانب هجرات قوية للعمال وموظفي
الخدمة المدنية والتجار ،إلى تكاثر مناطق اإلرشاد وتجديد السكان الرقاويين .ومن ثم
فإن البدو أقل من أفراد قبائل الفرات الذين يتم تصويرهم على أنهم أجانب في المدينة.
وقد الحظت أنيكا رابو في منتصف الثمانينيات أنه من أجل التعبير عن ازدرائهم لجميع
سكان الرقة ،أطلق عليهم مسئولو مشروع الفرات ،القادمون من مدن سورية أخرى ،اسم
الشوايا ،وبالتالي أطلقوا على سكان البلدة المصطلح الذي استخدمه هؤالء السكان لنعت
سكان الوادي شبه الرحل .وبحسب هؤالء المسئولين ،فإن جميع سكان الرقة والغول
ghoulوالريف هم من ذوي الثقافة السيئة .وتشير أنيكا رابو أيضا إلى أنه بالنسبة
لهؤالء األجانب في المنطقة ،يشير مصطلح الشاوي إلى مجموعة من الخصائص
السلبية مثل االفتقار إلى التعليم والجانب الريفي غير المتحضر واالستسالم للقبيلة ...
أو حتى ارتداء الجالبية والجلباب والكوفية الحمراء(رابو ،2626 ،ص .)11
يبدو أن االستخدام المزدري لمصطلح شوايا كان في األصل من عمل البدو الذين أهلوا
بذلك أنصاف البدو .لم يكن البدو الرحل من أصحاب الغارت يحترمون رعاة األغنام
من الشوايا .أخضعوهم للخوة "الضريبة" وعاملوهم على أنهم تابعون واشتقوا اسمهم من
مصطلح "شوي "chwayالذي يعني "القليل" ،وبذلك قالوا إنهم "أناس من األشياء
الصغيرة" (شارل ،2641ص .)26أعاد سكان الرقة إنتاج هذا النمط عندما بدأوا في
إقامة عالقات تفوق مع العفادلة والولدة في الوادي ،كونهم أفضل تعليم ًا وغالباً أكثر
ثراء منهم .عملت العائالت الحضرية الكبيرة كوسطاء بين القرويين والسلطات اإلدارية
والقضائية ،وبالتالي لعبوا دورهم كأعيان ،وقاموا بإيوائهم في مضافاتهم عند قدومهم
511
أوراق العدد المزدوج 02-91
إلى المدينة .أدى تفكك الروابط القبلية خالل الستينيات وبعد الثورة البعثية إلى تعديل
كبير في العالقات بين أهالي الرقة وأبناء عشائر الفرات " ."12هذه العوامل ،المرتبطة
بتحسين النقل ،تعني ،بحسب أنيكا رابو ،أنه لم يعد من الضروري أن يعرف القروي
عائلة رقاوي لكي يأتي إلى المدينة .يمكن لكل منهم أن يستقل الحافلة الصغيرة إلى
قريته في وقت مبكر من بعد الظهر ،عندما تغلق المكاتب ( ،RABO 1986ص.)11
بعد عشرين عاماً من هذه المالحظةُّ ،
أود أن أضيف أن القروي لديه اآلن أقارب في
المدينة يمكنهم إيواؤه بسهولة :سواء في منطقة ألعفادلة في المشلب أو في منطقة
االمتداد الشمالية التي رحبت بالولده النازحين من بحيرة السد.
لم يقدم شبه البدو في الوادي أنفسهم أبداً على أنهم شوايا .دون رفض هذا المصطلح،
يفضلون تقديم أنفسهم باإلشارة إلى قريتهم أو قبيلتهم ،حتى عندما يقيمون في الرقة.
إنهم يفخرون بانتمائهم القبلي ،الذي تغذيه حكايات البطولة التي ال يلعب فيها سكان
المدينة أي دور .إنهم ال ينخدعون بأي شكل من األشكال بالبناء االستطرادي لسكان
المدينة ،وال سيما رواية العصر الذهبي للبدو في الرقة .في آب ،1112تعهد شيخ
الولده أنور بورسان بتصحيح هذه القصة األخيرة ،حيث أخبرني في مقابلة أن "الدكتور
العجيلي ،المحترم للغاية ،يكتب حسب فهمه .وقصة دولة حاجم ليست باإلجماع".
ووفقا له ،فإن الرقاويين كانوا بعد ذلك تحت سيطرة قبائل الفرات ،وهذه القبائل ،وليس
سكان البلدة ،هم من قاوم الفرنسيين .ويؤكد أيضا أنه لم تكن العفادلة ،بل الولده ،الذين
كانوا أكثر المقاتلين شجاعة ضد المحتل وأكثرهم تضر ار من االنتقام العسكري الفرنسي
بعد ذلك:
كان أهل الرقة عبارة عن عدد قليل من العائالت التي تعتمد على ثالث قبائل ولده
وعنزه وعفادلة .كان العنزه أقوياء ألنهم كانوا مدعومين من الفرنسيين ،وخاصة مجحم
بن مهيد .خليل الهاجم كان مع األتراك .خالل الثورة العربية عام ،2622عارض
الولده الفرنسيين ،بينما كان مجهم مع الفرنسيين وحاجم مع األتراك .نجح شواخ بورسان
512
أوراق العدد المزدوج 02-91
في االستيالء على مدينة الرقة 22مرة ضد الفرنسيين .في العشرينات من القرن
الماضي ،أسقط الفرنسيون خمس قنابل ضد الوالده" (مقابلة أنور بورسان ،تموز 1112
في الرقة).
أنور البورسان هو ابن شواخ البورسان الشهير ،شيخ ولده ،وهي قبيلة فقدت تقريباً كل
أراضيها الخصبة المغمورة تحت بحيرة األسد .انتخب نائبا عدة مرات ،وهو يشعر
بالم اررة بشأن وضع قبيلته وحالته الخاصة .يستأجر منزالً متواضعا في االمتداد الشمالي
للمدينة بالقرب من محطة السكة الحديد .إنه كبير بما يكفي ليكون به مدفة ،والتي
تتضمن سلسلة من األروقة المطلة على فناء مظلل "."11
ويرفض منذ البداية أن ُيدعى شيخ ًا ،ألنه لم يعد لديه أرض" :ليس لدي شيء أكثر،
ورجالي ليس لديهم شيء أكثر .لماذا ال يزالون ينادونني بالشيخ؟ إذا وضعت إصبعي
على األرض ،فحتى هذا السطح ليس لي .ليس لدي منزل .لقد استأجرت هذا" (شيخ
البورسان ولده ،تموز .)1112ويمضي في تبرير رفضه بتذكيري ،أمام رجال عشيرته
المجتمعين في مضافته ،ما هي القبيلة" :توجد القبيلة فقط إذا استوفت ثالثة شروط:
أن يكون لها شيخ ،وأن تكون جاهزون للحرب (بيت الحرب) وقادرة على تطبيق القانون
القبلي (األعراف)" (الشيخ أنور بورسان من ولده ،الرقة ،تموز .)1112مع ذلك ،يلعب
أنور بورسان دو ار مهما للولده ،كنائب ومحكم في مسائل القانون والشرف .يحظى
باحترام كبير بسبب معرفته الدينية وحكمته ،ويتم استشارته باستم ارر من قبل أفراد
ونساء .يحكم في مسائل الشرف في مضافته ،وهي بالتالي بيت األعراف،
ً قبيلته ،رجاال
مكان يطبق فيه القانون القبلي ."12" droit tribalمحكمة الرقة تأخذ رأيها في
االعتبار في قضايا النزاعات القبلية "."14
جعل أفراد قبائل الفرات ،الولده مثل العفادلة ،مدينة الرقة ملكا لهم .إنهم ال يشغلون
معظم مناصب الخدمة المدنية فحسب ،بل عالوة على ذلك ،بعد أن أصبحوا أغنياء
خالل الخمسينيات مع طفرة القطن ،أصبحوا قادرين على تزويد أطفالهم بمستوى تعليمي
513
أوراق العدد المزدوج 02-91
يضاهي مستوى سكان مدينة الرقة .أخيرا ،يسارعون إلى تذكر رواياتهم عن تاريخ الرقة
الحديث ،خالل المقابالت ،وتقديمهم كمقاومين حقيقيين لالحتالل الفرنسي .وهذه
الحقيقة األخيرة ُشهدت على القبائل األخرى التي عارضت الجيش الفرنسي في عامي
وعد عدد قليل من المثقفين المحليين
2611و ،2612وال سيما البكارة والعكيداتَ .
لجمع تاريخهم ،مع استثناءات قليلة ملحوظة ،مثل الشاعر محمود الذخيرة من قبيلة
العفادلة الذي كتب تاريخ قبيلته في عدة دفاتر ،أو محمد المدفع مفتش تدريس اللغة
الفرنسية في الرقة .والذي جمع أرشيف عشيرته ،فإن رواياتهم ال تعرف دعاية وال
يمكنها أن توازن كتابات الرقاويين.
بينما ُيظهر سكان الرقة ازدراء للشوايا ،فإن عالقاتهم مع البدو أكثر تعقيداً .في بداية
القرن العشرين ،استقبلتهم العائالت الكبيرة في المدينة عند قدومهم إلى المدينة ،وعمل
الرقاويون المتعلمون كسكرتارية لهم .ويشهد العجيلي في كتاباته عن العصر الذهبي
للبدو في الرقة ،على هذه العالقة المتناقضة بين الثقافة العربية والثقافة البدوية المذكورة
أعاله ،والمكونة من اإلعجاب والتقليد .ومع ذلك ،يبدو أن مثقفي الرقة يتأرجحون بين
هذا الموقف اإلعجابي والنقد الخلدوني الشديد النحطاط البدو على اتصالهم بالمدينة.
وهكذا فإن وصول مجموعات بدوية فقيرة بسبب الجفاف إلى الرقة ،في بداية الستينيات،
غير الرؤية التي كانت لدى سكان المدينة عنهم .الذين يعيشون في أحياء غير نظامية،
مع قطعان هزيلة ،فقدت األخيرة بالفعل كل وجودها.
وفي رواية شهيرة ُنشرت عام 2622بعنوان "حارة البدو" ،وصف إبراهيم خليل هؤالء
البدو بأنهم فقراء ،مجبرون على التسول في شوارع الرقة للبقاء على قيد الحياة ،وبالتالي
جب البدو كثي ارُ .يشير أحد أفراد قبيلة فدعان الخرسة إلى
فقدوا شرفهم .هذا الكتاب َش َ
أن ازدراء ساكن المدينة يمكن رؤيته في استخدام مصطلح "حارة" الريفي ،في عنوان
الرواية ،بدالً من "الحي" المديني ،مما يعني أن البدو ال يمكنهم التكيف مع الحياة
514
أوراق العدد المزدوج 02-91
الحضرية .وكل هذه الرواية بالنسبة له مجرد نسيج من األكاذيب .وبالتالي فهو يجادل
في حقيقة أن جميع بدو الرقة يعيشون في حي محدد وهم فقراء هناك.
بدالً من ذلك ،يقال إن البدو منتشرون في جميع أنحاء المدينة ،والعديد منهم يمتلكون
فيالت ويشغلون وظائف مرموقة .يقتبس لي حالة نموذجية للدكتور محمود الفهد الكورة،
الولده ،وهو طبيب متدرب في ألمانيا والذي بنى،
الفدعان عنزة من عشيرة دانا محمود ُ
في عام ،2666عيادة خاصة فاخرة فيها أربعون سري اًر ،حيث يمارس 22طبيب ًا
عملهم .هذا األخير ،الذي التقى به في مضافته ،يفتخر بأن يصف لي ،باأللمانية،
المواقف المختلفة التي شغلها بدو الرقة .وهكذا ،على أعلى مستوى في الدولة ،في قيادة
الحزب ،يجلس محمود سعيد بختيان ،عضو عنزة - .المهيد محافظ حماة .على مستوى
محافظة الرقة ،قاضي محكمة تل أبيض هو فدعان ،وكذلك محام بارز في الرقة.
فرحان فرحان ،أحد األعضاء المهمين في حزب البعث في الرقة ،بدوي أيضاً .لذلك
لديهم شبكات قوية ،ووجودهم في المدينة واضح من خالل العديد من المدارس التي
يحتفظون بها هناك.
"الحي البدوي" موجود بالفعل ،لكنه بعيد عن إعادة تجميع كل بدو الرقة .يعيش هناك
محاوري ماجد من عائلة دانا ،مع بعض رجال عشيرته الذين بنوا ثالثة عشر منزال
هناك ،ألنه ،كما قال" ،يحب البدو العيش معا" .يتم تنظيم هذه المنازل في الغالب
حول فناء كبير حيث ينام أفراد األسرة الممتدة في الصيف على حصائر وحيث يتم
فصل المضافة عن جسد مكون من غرفتين أو ثالث غرف مخصصة لكل من العائالت
النواة .غالبا ما يكونون من مالكي أراضي السهوب ،البعل ،حيث يستفيدون من
محصول الشعير مرة كل عامين(معاومة) .ويفضل الرجال والنساء حياتهم في المدينة،
حيث يكون تعليم األطفال أسهل وحيث تكون األعمال المنزلية أقل صعوبة .وتحافظ
العائالت على عالقات وثيقة مع أفراد عشيرتها المتواجدين في الرقة أو شمال المحافظة
515
أوراق العدد المزدوج 02-91
شرق "سلوك" .وهناك يتم االحتفال بالزيجات ،تحت الخيام ،التي تجمع جزءا كبي ار من
القبيلة "."11
كما أشار سليمان خلف في أوائل الثمانينيات ،كانت العالقات جيدة نوعا ما بين فدعان
وأعيان المدينة .يؤهلهم بمصطلح تحالف وليس تبعية (خلف ،2622ص .)21هذا
أكثر من مجرد تعامل سكان هذه المدينة مع البدو الذين وصلوا إلى مكانة اجتماعية
عالية .من ناحية أخرى ،تغضب ابنة مجحم بن مهيد الشيخة فوزة ،التي تزوجت من
العفادلة الشيخ محمد الهويدي عام ،2612من ازدراء أهالي الرقة بها لكونها بدوية
تعيش في المشلب .Machlabتحب أن تتذكر أن العجيلي والسطاف ،العائلتان
الكبيرتان في كل تجمع ،ما هما إال خدامها" :كانا كتاب والدي" .تسارع الشيخة فوزة
إلى تذكر أنسابها وتروي في الشعر قصة حلقات الحرب الكبرى التي تميز خاللها
والدها وعمها .كما تثني على كرمهم ،مما جعلهم رؤساء عظماء :وهكذا في عام
،2622خالل شتاء صعب ،تمكن حاجم ،الذي أصبح للتو وجيه العشيرة " ،"16من
إطعام القبيلة بأكملها لمدة 41يوماً من الثلج .أما ولده فقد استأجر أثناء المجاعة
مخابز الرقة ووزع الخبز على الجميع.
االنتخابات التشريعية لحظة أساسية إلعادة حشد الروابط القبلية .وبحسب وجهاء الرقة،
فإن حزب البعث "أعاد تكوين" العشيرة من خالل االنتخابات ،لكسب قواعد دعمها:
"البعث هو الذي أعاد بناء العالقات القبلية :بالنسبة لالنتخابات ،خطط لتوزيع المقاعد
على العشائر .قال لي أحدهم في عام .1112منذ االنتخابات التشريعية عام ،2622
لم يكن لدى محافظة الرقة سوى ثمانية مقاعد ،اثنان منها فقط مستقالن وبالتالي
مفتوحان لالنتخابات .أما المناصب الستة األخرى فيعين من قبل النظام من بين أعضاء
األحزاب المكونة للجبهة الوطنية التقدمية " ."12ويأسف معظم مفكري الرقة وحتى
المسئولون البعثيون على تجميد عدد المقاعد المخصصة لمحافظة الرقة لمدة ثالثين
516
أوراق العدد المزدوج 02-91
عاماً ألنه ال ينبغي أن يكون ثمانية بل عشرين ،ألن المقاعد الثمانية "تمثل" كل منها
211111نسمة في محافظة كان عدد سكانها أكثر من مليون في تعداد .1114
وتتحدث عن "قواعد التعبئة السياسية العربية" لتأهيل استخدام العصبية في التحليالت
السياسية للمجتمعات العربية (بيكار 1116ص.)62 .
اللوحة :6شيخ العفادلة محمد الهويدي ووالدته الشيخة فوزة بنت مهيد من فدعان عنزة
في منزلهما بالمشلب.
517
أوراق العدد المزدوج 02-91
وفي حين أن العالقات القبلية التقليدية قد تراجعت خالل الخمسينيات من القرن الماضي
بسبب إثراء صغار مالك األراضي وتجنيد الفالحين ورجال القبائل الذين ال يملكون
أرضاً والذين كانوا يخضعون سابقاً للشيوخ ،تم عقد عالقات قبلية جديدة ،والتي تظهر
بشكل خاص خالل االنتخابات .يواصل الفالحون العيش كأعضاء في القبائل،
ويظهرون مع ألقابهم القبلية .وفوق كل ذلك ،يدعم معظم سكان الريف وسهوب محافظة
الرقة مرشحي عشائرهم خالل االنتخابات.
وبحسب األمين العام لفرع حزب البعث في الرقة ،عيسى خليل ،المعين عام 1112
والتقيته في آب ،1112فإن "العصبية هي الثقافة السائدة" في محافظة الرقة .ووفقاً
له ،فإن للثورة البعثية خصوصية في محافظة الرقة :وهي أن تظل راسخة في "فهم
خصائصها االجتماعية" .والعصبية ،asabiyyaأو ما يعرف ب "التضامن الجماعي
،"la solidarité de groupeهو المفهوم الرئيس لنظرية ابن خلدون عن تطور
الدولة في العالم العربي في العصور الوسطى .وتم استخدامه على نطاق واسع من
قبل ميشيل سورات في تحليله للدولة السورية .يعرف أوليفييه روي Royبأنه "أي
مجموعة تضامن تقوم على العالقات الشخصية (النسب ،الزوجية ،المحسوبية أو الوالء
….إلخ ).والتي يكون هدفها هو هذا التضامن بالتحديد وليس تنفيذ هدف يبرر إنشاء
المجموعة" ،فإنه تظل البيانات ذات الصلة لتحليل مجتمعات الشرق األوسط في نهاية
التسعينيات(" ،ليس كتعبير عن ديمومة مجتمع تقليدي في دولة حديثة ،ولكن (مثل)
إعادة تشكيل شبكات الوالء السياسي واإلقليمي ،حيث تم تعديل الفضاء بشكل نهائي
بفعل الدولة .ما يتم الحفاظ عليه ليس موضوعات بل نوع من العالقة بالسياسة" (روي،
2666ص .)2-6
518
أوراق العدد المزدوج 02-91
وأمين سر حزب البعث في الرقة ،عيسى خليل ،هو في وضع أفضل للحديث عن هذه
الخصوصية القبلية للمحافظة ،ألنه ،كما يقول لي نفسه ،ينتمي إلى قبيلة بو حميد
العفادلة التي تعيش في المشلب .إن التعبير عن الخصوصية القبلية يتعارض مع
اإليديولوجية البعثية التي بذلت قصارى جهدها لمحاربة التعبير عن الخصوصيات
اإلقليمية والقبلية .ومع ذلك ،وهذه عالمة على تطور النظام ،فقد تبنى محافظ الرقة
عام ،1112فيصل قاسم ،فكرة الخصوصية الثقافية للقبيلة في شرق سوريا .وأهمية
الواقع العشائري في محافظة الرقة هي في الواقع ،حسب رأيه ،خاصية ثقافية ال ينبغي
إهمالها لحشد الطاقات في طريق التقدم .وإن اعتراف سكرتير البعث والمحافظ بالحفاظ
على التضامن الجماعي والنظام القبلي يشهد على التخلي عن إحدى معارك الفكر
البعثي التي كانت تهدف إلى القضاء على هذه الخاصية الرئيسة للمجتمع السوري،
فيما يتعلق بالريف والقبلية وكذلك المدن والطوائف ،وأفضل مثال على ذلك ُيعطى
للمفارقة على ذلك هو التضامن العلوي في قمة هرم السلطة( .شوي .)2661 Chouet
في عام ،1112علق مسئول من بلدية الرقة على االنتخابات الجارية آنذاك" :تجري
االنتخابات بشكل مختلف في الريف والمدينة .في الريف ،القبيلة تقرر التصويت لواحد
فقط ،حتى اآلن" .األمر أكثر تعقيداً في الواقع ،حيث تم تقسيم القبائل وقت التصويت
بين مؤيدي اثنين أو أكثر من المرشحين .وهكذا ،خالل انتخابات 2661و،2664
التي ُخصص فيها ثلث المناصب لمرشحين من غير أعضاء حزب البعث " ،"12انقسم
بدو الفدعان بين مؤيدي دهام الجريش ومؤيدي غازي الحريمين .كذلك انقسمت العفادلة
بين أنصار محمد فيصل الهويدي (نجل النائب فيصل الهويدي وابنة مجحم بن مهيد
من فدعان عنزة) وأنصار عمه العجوز الحاج عبد الرزاق الهويدي .حصل األخير
على 21111صوت داخل قبيلته خالل انتخابات عام ،2661مقابل 21111صوت
519
أوراق العدد المزدوج 02-91
لخصمه ،فقط السبخة ،الذين هاجر جزء كبير منهم إلى المملكة العربية السعودية،
ظلوا متحدين حول شيخهم أنور راكان ،الذي تتم إعادة انتخابه بانتظام.
وخالل االنتخابات التشريعية لعام ،1112تنافس حوالي ثالثين مرشحاً على المقعدين
(أ ،ب) المخصصين لـ "المستقلين" .حصل عشرة منهم على معظم األصوات .ومن
بينهم شيوخ القبائل الرئيسية بالمحافظة :محمد فيصل الهويدي ،عن العفادلة ،وعلي
أنور البورسان ،شيخ الولده ،وعبد المحسن أنور ركان ،شيخ السبخة ،ومحمد إسماعيل
الباري ،شيخ الولده ،بو خميس .لم يمنع وجود الشيوخ بأي حال من األحوال ،كما في
كل انتخابات ،من تقديم مرشحين معارضين أنفسهم ،كما كان الحال مع المرشح إبراهيم
شاكر من الولده للمقعد ب .في المقعد أ ،مرشح العفادلة ،أحمد محمود الهادي ،وتمكن
من حشد قرابة 41ألف صوت ،فيما دعا الشيخ محمد فيصل إلى دعم المرشح أنور
الراكان حليف القبيلة بالزيجات العريقة.
وفي عام ،1112تم انتخاب شيخ العفادلة محمد فيصل الهويدي للمقعد Bمتقدما
على شيخ الولده علي أنور البورسان ( 62.226صوتا مقابل .)16124
أما بالنسبة للمقعد أ ،فقد فاز به رئيس قصير شيخ بو خميس محمد إسماعيل الباري،
متقدماً على مرشح العفادلة أحمد محمود الهادي ( 42422صوتا مقابل 26212
صوتا) .على مستوى كل دائرة انتخابية ،الالفت أن مدينة الرقة لم تقدم أي مرشح
لمقاعد المستقلين .اختار المرشحون من العائالت الكبيرة في المدينة أن يكونوا أعضاء
في أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية لتأكيد سلطتهم في المدينة .وهكذا تم تعيين
المحامي عبد الله حسن بليبل نائباً للحزب عام ،1112إلى جانب القاضية ندوة سلوم،
وهي من سكان المدينة وتعود في أصولها البعيدة للعفادلة .وقت االنتخابات ،صوت
أهالي الرقة ،من عائالت الوجهاء السابقين (الغول Ghoulsمن بو شعبان) ،للمرشح
المستقل الشيخ عفضلة محمد فيصل الهويدي ،الحائز على نصف األصوات المدلى
بها في المدينة.
511
أوراق العدد المزدوج 02-91
وفي غرب المحافظة ،فازت دوائر الثورة والمنصورة والجرنية حيث يقيم غالبية أبناء
قبيلة الولده ،فاز الشيخ علي أنور البورسان بأغلبية األصوات .أيضا في منطقة السبخة
التي بها بعض مجموعات الولده .بالنسبة للبقية ،يفوز شيخ العفادلة بسهولة في
انتخابات المقعد Bفي شمال ووسط وشرق المحافظة .المرشحون الذين يتنافسون على
المقعد (أ) هم أكثر رقبة ورقبة ،وال سيما محمد إسماعيل الباري ،شيخ بو خميس
ومنافسه المباشر أحمد محمود الهادي من عفادلة ،الذين حصلوا على حوالي 41ألف
صوت ،في حين أن شيخ السبخة عبد المحسن أنور ركان حصل على 22266صوتاً.
ويعكس جدول النتائج االنتخابية حسب الدائرة االنتخابية التضامن القبلي السائد في
القرى الواقعة في أعلى المنبع من الرقة على نهر الفرات يسكنها بشكل عام أفراد من
قبيلة الولده .أولئك الذين يقعون في اتجاه مجرى النهر في الرقة يسكنون على الضفة
اليسرى من قبيلة فدعان ،وعلى الضفة اليمنى تسكنها الولده والسبخة والعفادلة .لقد
رأينا سابقاً حجم ملكية األراضي للشيوخ الرئيسيين في عام .2641تمكن هؤالء الشيوخ
من االحتفاظ بجزء كبير من عقاراتهم من خالل تسجيلها باسم ورثتهم خالل
اإلصالحات الزراعية واالستمرار في تشغيل آالف الفالحين .يعرض الجدول 21
تفاصيل التوزيع حسب عشيرة العفادلة لقرى الفرات األوسط .بنيته بعد مقابلة مع شاعر
العفادلة محمود الذخيرة في مشلب المدافعة في شباط .2662
في نهاية االنتخابات التشريعية لعام ،1112تبين أن النواب الثمانية لمحافظة الرقة
هم ستة منهم من ذوي األصول العشائرية المميزة ،كما هو مبين بالتفصيل في الجدول
رقم .22تم انتخاب مواطن واحد فقط من سكان الرقة ،وهو عضو من حزب البعث.
وفاز بالمقعدين المستقلين اثنان من شيوخ القبائل الرئيسين في الجزيرة .وهكذا تمكنوا
من التفوق على أفراد قبيلتهم الذين كانوا يتنافسون معهم .لكنهم وجدوا في البرلمان
أعضاء عشائرهم الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث ومستفيدين من اإلصالح
511
أوراق العدد المزدوج 02-91
الزراعي المضاد .واتخذت الخصومات بين المرشحين منعطفاً أكثر وحشية خالل
االنتخابات التشريعية األخيرة في آذار .1112
الهندسة االنتخابية والتكلفة في النفقات وفي الرجال .قبل شهرين من االنتخابات ،يقوم
المرشحون بجولة في قرى عشيرتهم لعد األطفال الذين أصبحوا بالغين خالل العام
والذين يمكنهم التصويتُ .يطلب من كل زعيم عشيرة أن يكتب على بطاقة جميع أسماء
أبناء كل عضو وأن ينقلها إلى الشيخ المرشح .يدفع المرشح بعد ذلك رسوم التسجيل
في القوائم االنتخابية 21 :ليرات للختم و 11ل.س للبطاقة التي تحمل صورة .هذه
المبالغ المتواضعة تصبح كبيرة عندما تتضاعف في 21111أو ،11111كما يشير
مدير حملة المرشح محمد فيصل الهويدي .ضمنت التسجيل في القوائم االنتخابية لما
ال يقل عن 22ألف شاب من قبيلة العفادلة مدعوين للتصويت لممثل عشيرتهم ،ولكن
أيضاً ،وهذا يبدو لي أكثر إثارة لالهتمام ،سكان مدينة الرقة ،وال سيما عائالت الككاجي
وخضر الذين احتفظت أيضاً بقوائم محدثة لألطفال الذين بلغوا 22عاماً.
وتبدأ عملية الفرز والتسجيل في القوائم االنتخابية ،التي يتم تنفيذها ،في تعيين وكالء
انتخابيين مسؤولين عن توجيه الناخبين إلى مراكز االقتراع .يخطط كل مرشح رئيسي
ألن يكون له ممثالن (رجل وامرأة) في كل من مراكز االقتراع البالغ عددها 416في
512
أوراق العدد المزدوج 02-91
محافظة الرقة .عالوة على ذلك ،وللتأكد من سفر الناخبين من السهوب والريف إلى
مراكز االقتراع ،استأجر ميني باص "ميكرو باص" فيه رجل وامرأة مؤيدان للمرشح.
وبذلك استأجر المرشح محمد فيصل الهويدي 21مكرو باص لكامل المحافظة،
ولمدينة الرقة فقط ثالثين "خدمة" إضافة إلى نحو عشرين سيارة ألنصاره.
واتسمت انتخابات عام 1112بأعمال شغب قبلية بين أنصار المرشحين إسماعيل
مشوج البليخ وعبد المحسن أنور الراكان ،وكانت الرقة تحت حظر التجول لمدة أسبوع.
في 14نيسان ،سافر وزير الداخلية بنفسه إلى الرقة ومعدان لتقييم الوضع ،فيما جرت
مباحثات بين مشايخ العشائر محمد فيصل الهويدي (شيخ عفادلة) وعبد المحسن أنور
الراكان (شيخ السبخة) .وعلي أنور البورسان (شيخ ولده) والمرشح إسماعيل مشوج
البليخ من البارياج (ولده) .وتقرر منح مقعدي النواب المستقلين لمحمد فيصل الهويدي
(النائب الحالي) وعبد المحسن أنور الراكان الحاصلين على أكبر عدد من األصوات.
وعرض الشيخ أنور الراكان مبلغ 21ماليين ليرة سورية ( 211ألف يورو) كتعويض
على المرشح الخاسر إسماعيل مشوج البليخ الذي رفض ذلك .هذا المبلغ كبير ،ال
سيما أن سقف اإلنفاق الرسمي للحملة حدد بموجب القانون بـ 2ماليين ليرة سورية
(تجاوزه في الواقع معظم المرشحين الرئيسين ،ال سيما في دائرة دمشق).
في النهاية ،لم يكن أي من نواب محافظة الرقة الثمانية المنتخبين عام 1112من
مدينة الرقة .تم انتخاب امرأة واحدة فقط ،عضوة في حزب البعث ،من مجتمع تجار
سخان .عين نائب من دير الزور في ائتالف الجبهة المتحالفة مع حزب البعث.
وانتخب شيخا عفادلة والسبخة بعد وساطة المصالحة القبلية .تكشف هذه األحداث عن
اهتمام شيوخ قبائل الفرات التقليديين بالحفاظ على الهيبة المرتبطة بمنصب النائب
وخصائص السلطة التي ينطوي عليها ذلك من حيث توزيع الوظائف والمزايا ،على
الرغم من أن جزءاً كبي اًر من أعضاء حزب البعث تحرروا من عشيرتهم منذ الثورة البعثية
ومشاركتهم في إدارة مشاريع التنمية في محافظة الرقة.
513
أوراق العدد المزدوج 02-91
يضيف مفكرو الرقة إلى العصر الذهبي للعصر العباسي والبعثي في الرقة ،عص ار
ثالثا بإيحاءات قومية ،يتم تقدير استقاللية مدينتهم ومقاومتها للمحتلين الفرنسيين في
عشرينيات القرن الماضي .تم تقديمه على أنه إنشاء دولة بدوية مستقلة من قبل حاجم
بن مهيد ،زعيم فدعان عنزة ،وقد أعاد مثقفو الرقة تفسيرها بالكامل على أنها حلقة من
االستقالل الحضري .ومع ذلك ،فإن المحفوظات بالوكالة الفرنسية تقدم نسخة أخرى
من الحقائق ،وتصف العائالت الحضرية الخاضعة بشدة للضرائب البدوية والتي تسعى
بأي ثمن للتخلص من هؤالء البدو .من جانبهم ،فإن شبه البدو ،الذين غالبا ما يحتقرهم
البدو وسكان البلدة ،يدعون شرف المقاومة للجيش الفرنسي ،وهو ما يرويه بالفعل
األرشيف.
عند نشر رواية حالة حاجم بن مهيد المجهولة ،بعد اثنين وأربعين عاما من األحداث،
نكتشف أن أحفاد هذه العائالت لديهم في صميمهم عظمة هذه الدولة ،فضال عن
الفضائل القبلية ومعتقداتهم كبدو وهم "الشجاعة والكرم والتقشف" .في الوقت نفسه،
يؤكد المثقفون الذين يدعون هذه الفضائل أنهم ليسوا أبناء قبائل ،لكنهم "عائالت"
حضرية تماما .وهكذا تتشابك الخصائص العمرانية والقبلية في التراكيب البالغية
لمفكري الرقة ،مثل عملية التناضح بين العالم المستقر والعالم البدوي التي كانت ستميز
شرق سوريا حسب الجغرافي جاك ويوليرس :تبني المفاهيم البدوية .لذلك فإن هذه
المناطق المحرومة هي التي تتلظى بنار السماء ورياح الخماسين ،هذه الخلطة المذهلة
للقبيلة والمدينة ،الراعي والقافلة ،من البدو والحديقة ،التي منها ولدت الحضارة العربية"
(ويليرس ،2646 ،ص .)211
ومع ذلك ،فإن هذه اإلنشاءات الخطابية ليست سوى عنصر مؤسس للحضارة ،والتي
تتم دراستها من حيث الخطاب بقدر ما تتم دراستها من حيث الممارسات .وعلى الرغم
من أنه يؤكد على الحفاظ على التقاليد القبلية في اإلسكان ،والتحالفات الزوجية،
وتسويات مسائل الشرف واإلعجاب بالقيم البدوية ،إال أن عبد السالم العجيلي يظل
514
أوراق العدد المزدوج 02-91
بعيدا عن أسلوب الحياة هذا الذي يصفه ،قوال وفعال .ولذلك من الضروري إكمال هذه
الدراسة للخطابات حول المدينة من خالل تحليل الممارسات اليومية للفئات االجتماعية
التي تعيش في الرقة ومن خالل تحليل مؤانستهم .إن الجمع بين أيديولوجياتهم اإلقليمية
وممارساتهم سيسمح لنا بمعرفة مناطقهم اإلقليمية.
هوامش:
-2لدراسة مسألة التمدن في الرقة ،أعتمد على العمل المنسق من قبل بيير سينيولز وميشيل لوسو
ونشره من قبل أورباما URBAMAالعمران المعني ،وكذلك على مقال ف .ميرمييه:
-1حدد عالم األنثروبولوجيا ديل إيكلمان أربعة أنماط من صياغة الهوية القبلية في الشرق األوسط:
استخدام اإليديولوجيات العرقية السياسية المحلية من قبل األفراد لشرح تنظيمهم االجتماعي
والسياسي .استخدام المفاهيم من قبل السلطات لألغراض اإلدارية؛ إسناد المفاهيم األنثروبولوجية
من قبل الباحثين؛ تقاسم المفاهيم الضمنية ،غير الرسمية في شكل إيديولوجيا (إيكلمان ،2626
ص .)212
-4قام مارك سايكس بعدة رحالت إلى تركيا والشرق األوسط في بداية القرن العشرين ،والتي ولدت
منها األعمال الثالثة :من خالل خمس مقاطعات تركية في التنكر ،لندن2611 ،؛ سجل رحلة
عبر عشر مقاطعات آسيوية في تركيا ،لندن ،2614 ،تراث الخليفة األخير ،لندن.2621 ،
-1في عهد فيصل ،تم تشكيل حكومة عربية في دمشق من تشرين األول 2622إلى آب 2611
حتى هزيمتها ضد قوات الجنرال غورو في ميسلون .هذه الحلقة من التاريخ السوري ،والتي كانت
مع ذلك فترة سيطرة النظام الملكي الهاشمي على سوريا ،ارتقت إلى مرتبة التراث الوطني السوري
ويذكر البعث بأن "استقالل ووحدة سوريا الطبيعية" .أعلنها المؤتمر السوري
من قبل حزب البعثُ ،
515
أوراق العدد المزدوج 02-91
في 2نيسان ،2611حيث يتم لآلن إحياء ذكرى هزيمة ميسلون كل عام (بيكار ،2621ص
.)122
" -6إلى كل رؤساء قبائل دير الزور ،تحية طيبة ،نقدر كل الجهود التي بذلتموها في الماضي
لخدمة الوطن العزيز .ووفقاً لرغباتكم ،يأتي إليكم العقيد رمضان شالش اليوم ليرسل لكم تحياتنا.
عيناه قائدا لكامل منطقة دير الزور .نحن على ثقة تامة بأنكم ستساعدوه في خدمة الوطن وإنقاذه
من هذه األيام الصعبة .تعالوا واتحدوا .أرسل لك العديد من األوسمة .انهض بسرعة للدفاع عن
الوطن العزيز .توقيع فيصل ،المقر الملكي ،الديوان األول 16 ،شوال 21(" 222تموز )2611
جبارة .)2621 ،قدم القوميون السوريون هذه الثورة كحلقة مهمة في
(نانت ،ملف ،2-146تقرير َ
النضال من أجل االستقالل الوطني ،يمكن مقارنتها بحلقة جبل الدروز عام .2611
-2إشارة ،جيش الشام ،Box 4H107 ،تقرير أجهزة المخابرات بتاريخ 12آب 2611عن الفترة
من 11تموز 2611إلى 11آب .)2611
-2إشارة ،جيش الشام ،carton 4 H107،التقرير الشهري 12أيلول 2611عن الفترة من 26
إلى 12أيلول .)2611
" -6يواصل حاجم بك بن مهيد إرسال الرسائل إلى أهل المدينة وإلى القبائل دون أي نجاح ،ونحن
ال نولي أهمية كبيرة ألفعاله" (نانت ،الملف ،2-146مالحظات عن قضاء دير الزور ،رسالة من
معتقد لواء الزور ،القاضي فاضل العبود ،إلى الجنرال دو الموث 1 ،تشرين األول .)2611
" -21بالرغم من أن قضاء الرقة ينتمي إلى سنجق حلب ،إال أنه ال يمكن تحريره بعد من قبضة
تركيا ،التي تحتفظ ،حسب آخر المعلومات ،بحامية هناك من كتيبة معززة مكونة من 4رشاشات
وبندقيتين .يتصرف حاجم والعنزيون مثل األسياد هناك ،بعد أن أخضعا بالكامل قبائل العفادلة
الذين يشكلون الجزء األوسط من سكان المدينة المستقرين .بالتناوب ،يمارس القائمقام التركي،
المنفصل عن سنجق أورفا ،وشوكت باي ،ومحمد الهويدي الشالش من قبيلة الولده ،سلطة ال تكاد
تمتد إلى الضفة اليسرى.
واالتصاالت التجارية بين الرقة وحلب شبه معدومة ،ويشكل الركود الذي تعاني منه المدينة والقضاء
أفضل دعاية لصالحنا ،مقارنة بالهدوء واالزدهار اللذين تمتع بهما ممبج منذ شهرين .أثر مرور
عمود ليموين ،وهو الرد الشديد الذي تم في 22حزيران على هجمات العفادلة ،في ذروة الرقة،
بشكل كبير على الروح المتنقلة للقبائل التي تأثرت بشدة بمظاهرة القوة الفرنسية .يبدو أن هاتشم قد
516
أوراق العدد المزدوج 02-91
فقدت الكثير من هيبتها وتشعر بالحاجة إلى االقتراب منا .مزواد الجيش ،منافسه في احتالل الرقة،
المخيم حالياً في جبل مونشر ،يطلب أيضاً االتصال بنا .يبدو أن الوقت قد اقترب عندما يكون من
الممكن إعادة الرقة إلى طاعة حلب" ( .شاة carton 4H413 ،التقرير الشهري لشهر تموز
.)2612
-22شاة ،جيش الشام ،carton 4H413 ،التقرير الشهري لشهر أيلول .2612
-21ال ينبغي المبالغة في أهمية شخصية (حاجم) .إن تأثيره محل نقاش كبير .وأهل الرقة
يكرهونه .والعديد من القبائل التي يدعي أنه يقودها ال تعترف به كرئيس لهم .وفي حال توقف دعم
األتراك له ،فسيتوقف قريباً عن اعتباره أي شيء آخر غير زعيم بدوي يقتصر تأثيره على اتحاد
عنزة نظرياً أكثر من كونه حقيقياً" (شاة ،جيش الشام carton 4H107،نشرة الخدمة الشهرية،
المخابرات ،تشرين الثاني ،2612حلب ،ص .)11 - 12
-22نانت ،ملف ،2621 ،2-146خليل جبارة ،تقرير عن الوضع االجتماعي في قضاء الرقة.
" -24بعد انسحاب القوات العثمانية في نهاية الحرب العالمية األولى ،وتقدم القوات الفيصلية للثورة
العربية ،تم ضم الرقة إلى دير الزور .عندما احتلت القوات البريطانية دير الزور في كانون الثاني
،2626جرى إلحاق قضاء الرقة بحلب التي كانت بيد الحكومة العربية في دمشق ،وعين فيها
حاكم .بعد انسحاب القوات اإلنجليزية من دير الزور ،في كانون األول ،2611عاد اللواء إلى
حكومة دمشق العربية ،وأصدر األمير فيصل بن شريف ق ار اًر بضم قضاء الرقة إلى دير الزور.
وبعد معركة ميسلون ،ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق ،كانت سوريا تحت االنتداب الفرنسي،
وأقيمت الحامية الفرنسية في المدن السورية الرئيسة ،بما فيها الرقة ،وفي 26كانون األول 2612
دخلت بعض الوحدات المسلحة الفرنسية .الرقة التي تم إلحاقها بعد ذلك بلواء حلب لكنها لم تبقى
هناك وربطت مرة أخرى بلواء دير الزور"( .الرقة ،لؤلؤة الفرات ،2661 ،ص .)166
" -21في عام ،2626احتلت القوات البريطانية دير الزور وألحقت قضاء الرقة بلواء حلب الذي
كان بيد حكومة فيصل العربية وعين الضابط رمضان شالش محافظاً (حاكم) على الرقة( ".مدينة
الرقة ،2661 ... fil thâlص )26
-26المضافة أماكن ضيافة من سمات التواصل االجتماعي العربي .تمت دراستها في الفصل .2
517
أوراق العدد المزدوج 02-91
-22رفضت الولده ،في نهاية الثالثينيات ،دفع الخوة إلى فدعان مهيد ،وفي نهاية الشجار ،فقد
إسماعيل بن حاجم بن مهيد حياته.
-11شاة ،carton 4H413 ،تقرير بقلم المالزم الثاني بروكاسون ،ضابط الخدمات الخاصة،
رئيس موقعي الرقة وتل أبيض ،بتاريخ 12شري األول .2642
-11يحب المزاح أنه يعيش في "مكان مرتفع" في المدينة :ليس بالقرب من بوابة بغداد أو ساحة
الرئيس ،ولكن بالقرب من "العربة المكسورة" المهجورة على خطوط السكك الحديدية منذ سنوات!
-12وبالمثل ،وجد قضاة القبائل أنفسهم محرومين من وظائفهم القضائية عندما خضعت القبيلة
للقانون العام .وتُرفع القضايا الجنائية أو الخالفات الخطيرة في المصالح اآلن إلى محكمة الدولة
في دير الزور .ومع ذلك ،بالنسبة للنزاعات األقل أهمية ،ال يزال من المفضل اللجوء إلى التحكيم
عن طريق العرف .وهذا الشكل من العدالة الشخصية يبدو أكثر إنسانية ويجعل من الممكن تجنب
تكاليف وتأخير إجراء ال نهاية له" (نفاخ ،2622ص .)222
-14بالنسبة لقبيلة العفادلة ،فإن الشيخ الذي له وظيفة مماثلة لوظيفة الشيخ بورسان الولده ،هو
كلش العفادلة ،من عائلة الهويدي .وهو قادر على الفصل في النزاعات في جميع أنحاء الجزيرة،
ويحمل ختماً يمنحه حق القضاء العرفي .وتتمثل مهمته الرئيسة في تحديد سعر ضريبة الدم في
حالة القتل .وقد جئنا لنتشاور معه في مضافته المشلب من جميع أنحاء شرق سوريا .وعندما
يصدر حكمه ،من المعتاد تمزيق منديل أبيض ،مما يدل على أن القضية قد تمت تسويتها.
-11حضر حفل الزفاف الذي دعيت إليه في تموز 1112حوالي 211شخص من القبيلة.
وجرى فصل الرجال والنساء ضمن االحتفال.
-12الجبهة الوطنية التقدمية ،التي أُنشئت في آذار 2621ضمت إضافة لحزب البعث جناحين
من الحزب الشيوعي السوري بكداش ويوسف فيصل ،االتحاد االشتراكي العربي ،والوحدويين
518
أوراق العدد المزدوج 02-91
االشتراكين ،إضافة لجناحين من حركة االشتراكيين العرب والحقا أصبحت تضم خمسة عشر حزباً.
وتنص المادة 2منه على أن البعث له دور قيادي في هذه الجبهة ويفرض مرشحيه على حساب
حلفائه ( دروز -فيسي ،2666ص .)121
-12منذ انتخابات عام ،2622تم حجز نسبة مئوية من المقاعد للمرشحين "المستقلين" (خارج
الجبهة الوطنية التقدمية) .وزادت هذه النسبة بشكل طفيف في عام .2661
مريم عبابسة فرنسية من أصول جزائرية ،حاصلة على دكتوراه في الجغرافيا من جامعة تورز،
فرنسا ( .)1114ومؤلفة العديد من الكتب .وتعمل زميلة باحثة ومستشارة في الجغرافيا اإلنسانية
في المعهد الفرنسي للشرق األدنى في عمان .Ifpoيركز عملها على تأثير السياسات العامة على
التنمية اإلقليمية والحضرية في األردن وسوريا .وهي تتساءل عن الحوكمة والمشاركة العامة في
سياسات اإلسكان وتقديم الخدمات.
ويشكل البحث المترجم" ،رهان السرد العمران القبلي في الرقة" ،موضوع الفصل السابع من كتاب
متكامل بفصوله الثمانية ،إلى جانب المقدمة ،والنتيجة والمراجع وغيرها ،بعنوان :الرقة واألراضي
والممارسات االجتماعية لمدينة سورية RAQQA VILLE, TERRITOIRES ET
،PRATIQUES SOCIALES D'UNE SYRIENNEوينحصر الفصل بين صفحتي ص.
.126-111وأشير هنا إلى أنني لم أورد قائمة الجداول التي تأخذ حي اًز كبي اًر من البحث ،حيث
اكتفيت بالفكرة المستخَلصة.
وأنوه إلى أنه ربما استعصى علي التعرف على بعض التفاصيل لصعوبة الحصول على األصل
العربي من االستشهادات القديمة ،فاجتهدت في ذلك ،لهذا أعتذر للمعنيين بها مسبقاً.
إنها نجمة الهالل الخصيب الواقعة على نهر الفرات على بعد مائتي كيلومتر شرق حلب ،الرقة
مدينة اتصال بين عالم البدو الرحل وعالم السكان المستقرين وعالم سكان المدن .سادس أكبر
ظا في
مدينة في سوريا في عام ،0221مع ما يقرب من 062ألف نسمة ،كان صعودها ملحو ً
سد الفرات ،والذي كان المشروع التنموي الرئيس لسوريا
أوائل السبعينيات كمركز إداري لمشروع ّ
519
أوراق العدد المزدوج 02-91
البعثية لمدة عشرين عاماً .وجرى بناء ثالثة سدود ومدينة جديدة وخمس عشرة مزرعة حكومية،
مما أدى إلى استقرار اآلالف من الموظفين والعمال والمهندسين السوريين واألجانب في محافظة
الرقة ،الذين أدخلوا ممارسات اجتماعية جديدة هناك.
في الوقت نفسه ،تحولت الرقة إلى معرض للتطور العمراني البعثي مع ساحات االستع ارض
والحدائق والمباني الرسمية والتماثيل والخطابات احتفاال بإحياء المجد العباسي لهذه المدينة
التي كانت العاصمة المؤقتة للخليفة هارون الرشيد.
وأدى االزدهار اإلداري والديموغرافي المزدوج في الرقة إلى تغيير جذري في عالقات القوة بين
أفراد عائالت المدينة السابقة ،وموظفي الخدمة المدنية من القبائل شبه البدوية السابقة،
ومجموعات المهاجرين المستوطنة حديثا في المدينة .وحدث انتقام اجتماعي حقيقي لصالح
صغار مالك األراضي الذين أصبحوا أعضاء في حزب البعث والذين تمكنوا من الوصول إلى
المناصب اإلدارية الرئيسية في المحافظة .لكن سكان المدينة القديمة كانوا قادرين على الحفاظ
على أسس قوتهم االقتصادية ،مع نشر خطابات الهوية المستقلة الخاصة بهم وممارساتهم
الخاصة في التواصل االجتماعي (االجتماع في المضافة ،زيارة مقابر القديسين في المدينة على
الرغم من أن هذه األخيرة قد تغيرت .لصالح أضرحة الشيعة).
وهكذا تشكل الرقة موقعاً مثالياً لمراقبة التغيرات في سوريا المعاصرة نظ اًر لحجم االضطرابات التي
عرفتها منذ نصف قرن ،والتي تتسارع مع اإلصالحات التي أدخلها الرئيس السوري الجديد منذ
عام ( 0222تفكيك مزارع الدولة)( ،تشجيع االستثمار األجنبي) ،والتي تهدف إلى جعل شمال
شرق سوريا منطقة إلدورادو جديدة للتنمية الخاصة.
521
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق التشكيل
521
أوراق العدد المزدوج 02-91
522
أوراق العدد المزدوج 02-91
تعود تجربته التشكيلية الى منتصف سبعينيات القرن الماضي ،وسرعان ما
تبلورت ،وفرضت وجودها على الساحة الثقافية السورية ،منذ تخرجه من كلية
الفنون الجميلة عام ،2622بدرجة امتياز ،بشكل الفت في اختيار موضوعاته
الرئيسة لمشروع التخرج الذي تفرد فيه مبك اًر – في تلك الفترة – بتناول قضايا
القهر والحروب والمغيبين والمعتقلين ،وادوات التعذيب ،التي تستخدم .وقد
حمل مشروعه عنوان "وما يزال القتل مستم اًر " ،وقد عني المشروع حينها
بالفترة التاريخية التي تبدأ مع تأسيس اول دولة في التاريخ :السومرية ،وحتى
العام .2622
وفي الحقيقة هو عنوان وقضية الفتين ،خاصة عند اإلحالة الى فترة منتصف
الثمانيات ،بأحداثها الجسام ،من الحرب اإليرانية – العراقية – الى غزو
اسرائيل للبنان ،مرو اًر بأحداث سوريا في تلك السنوات المريرة ،ومجزرة حماة.
كما أنه يوثق فنياً لحالة تاريخية ما تزال قائمة حتى اليوم ،خاصة في سوريا:
القتل ما يزال مستم اًر.
كما واصل في الثمنانينات تطوير تجربته الفنية ،دون أن تتخلى بعض اعماله
عن نقد األوضاع المأزومة بفعل أنظمة الحكم .أذكر جيداً لوحات له من
مشروع التخرج ،يظهر فيها الدوالب بوضوح ،كما الضحايا .وكذلك أعماالً
أخرى لنماذج من الديكتاتوريات العسكرية ،التي تجمع بين قبعة العسكري،
والسكين المدمي ،والمدن الشهيدة.
لم أشأ لهذا الحوار أن يكون تقليدياً ،وال أن يكون معنياً بإبراز السيرة الذاتية
لفنان تفرض تجربته اإلبداعية نفسها على المشهد التشكيلي ،بتفرد ،خاصة
523
أوراق العدد المزدوج 02-91
في المرحلة األخيرة التي يقول عنها الفياض ،بأنها ذات "رؤية جديدة ،وحالة
جديدة ،وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل سنيني السابقة".
الى الحوار:
بالهم اإلنساني
ّ -9أعمالك الفنية ،خالل السنوات العشر األخيرة ،مرتبطة
نتاج دافق متميز،
على نحو ،يقارب األلم والفجيعة والخراب الذي ُيّلم بناٌ :
وألوان حادة ،الى درجة الصخب.
-عبر مراحل التاريخ المختلفة ،بحلوها ومرها ،كان للفنان عموما وللتشكيلي
خصوصا دو ار ما ،يختلف باختالف موقفه واصطفافه ورؤيته الخاصة من
أحداث بلده أوال ،وأحداث العالم عموما.
من يدرك جيداً ،أن الفن رسالة خير ومحبة وجمال في زمن الرخاء ،وغضب
وتحد وثورة على الظلم والعسف والقتل ووأد الحريات ،في أزمنة الحروب
واالحتالالت ،وحكم الدكتاتوريات ،فقد حقق معادلة الفنان اإلنسان الرائد في
مجتمعه .ومن لم يفهم أو أنه ال يريد أن يفهم دور الفن في الحياة والمجتمع،
فليس سوى فنان قصر أو بالط ،كما في الشعر والمسرح والغناء ..ومنهم
كثر .لكن كثرتهم لم تصنع يوما فناً للبقاء.
524
أوراق العدد المزدوج 02-91
نحن ال نرسم ونوثق مآسينا ،كي تحفظ في األرشيف .وال نرسم إلرضاء جهة
بعينها ،أو قوى محددة مهما تغولت وبطشت .وهي أيضا ال تريد أن تسمع
أو ترى ماننتجه .هناك جمهور يرى ويسمع ،يحب ويكره .وهناك الضمير
الذي يصرخ ،وهناك سجالت للتاريخ يجب أن نكتب ونرسم على صفحاتها
ما يتوجب علينا ،كي تكون مخطوطاتنا وأعمالنا شاهدة على عصرنا ،وآالمه
وأحالمه وغدره وخياناته ..وانتصاراته إن وجدت!
إنها الرسالة التي يتوجب علينا أن نحملها بصدق وإيمان وقوة ،وإال فإن لعنة
التاريخ سوف تحل بنا.
-0في تجربتك اإلبداعية ،محطات مهمة .في العودة الى البدايات ،اتسمت
أعمالك بقدرة خاصة في تطويع اللون ،وفي استخداماته ،بجرأة الطرح ،وفي
وضوح الفكرة ،على الرغم من اسلوبك التجريدي .كيف تنظر الى تجربتك
اليوم؟ وما هو موقعها في حركة التشكيل العربي؟
لم تكن يوما للتسلية وال لالستعراض التقني وال لمجرد الجمال ..أكثر من
خمسين عاما وأنا أرسم هموم شعب ووطن منكوب ،منذ تكوينه الى آخر
الزمان .قليل ما أعتني بطرح األمل .فانا ال أؤمن بأن هذا الوطن ،سيكون له
خالصه مؤقت ،وسالمه مؤقت ،وأفراحه مؤقتة ،كما
ُ خالص مطلق يوماً.
حلمه وحزنه.
إنه قائم ومركب على معتقدات وأساطير ،وقوى ال تسمح لحالة فيه بالثبات..
ونحن نقوم بما يرضي ضميرنا وحلمنا المؤقت .ونرسم للتوعية والتحريض،
525
أوراق العدد المزدوج 02-91
وكشف المستور من خبايا سلطات وأنظمة وقوى ظالمة غاشمة ،تحالفت كلها
لقتل أحالمنا الصغيرة في الحرية والحياة الكريمة ،دون مغاالة.
526
أوراق العدد المزدوج 02-91
الزمن يتغير ..وأساليب اإلنتاج تتغير ،والموضوعات أيضا تتغير .ولكل زمن
خصوصية التعبير وشكله ،ولكن االنسان هو االنسان ،بخيره وشره ،وضعفه
وقوته وهمه وفرحه .والتاريخ في كل مرحلة ،يعيد نفسه.
لم أفكر يوما ماهو موقعي في التشكيل العربي ،وال أعرف ..كل ما أعرفه
أنني أرسم في سوريا ،وأعرض في أي مكان ُيتاح لي على األرض .وأعرف
الكثيرين من فناني العالم ،وكثر يعرفونني جيداً ،وهذا بالنسبة لي إنجاز كبير،
ومهم.
دت خالل الفترة الماضية بإنجاز عدة أعمال فنية تتصل بالرقة مثل:
تفر َ
ّ -3
مدن الله المنسية -الرقة ..هل يمكننا الحديث عن تأثير ما للبيئة الفراتية
الرقية ،في أعمالك ،وفي تجربتك بصورة عامة؟
ّ
-األعمال التي قدمتُها خالل عام ،1111تتسم برؤية جديدة – كما اعتقد
-وحالة جديدة ،وبأسلوب مغاير لما قدمته في كل سنيني السابقة.
كانت حالة من الوجد والشوق والحنين والخوف والغضب ،كلها مجتمعة في
داخلي .يعجز التعبير والتشخيص ،عن جمعها في لوحة واحدة .كما أنني
شعرت باالكتفاء من توثيق الحرب السورية ،منذ يومها االول الى بداية
..1111فسافرت الى كردستان العراق ،وكانت تشبه جزيرتنا ورقتنا ،كما أن
527
أوراق العدد المزدوج 02-91
أهلها وكل مافيها يشبهنا ..فتفتحت الجروح الخاصة ،وعادت الذاكرة لمدينتي
المغدورة :الرقة.
لوحات يتكئ فيها التجريد على الرومانسية ،ويكون اللون فيها ،هو جزء من
الموضوع كما التقنية" .مدن الله المنسية" هي آخر اعمالي التي أحبها جداً..
وقد أحبها كل من شاهدها ،وستستمر!...
528
أوراق العدد المزدوج 02-91
-4أنت أحد مؤسسي تجمع فناني الرقة ،ومن منظور تجربتك كأحد
تقيم تجربة التجمع ،وما آلت إليه ،بعد
التشكيليين المميزين عربياً ،كيف ّ
سنوات طويلة ،هذا من جانب.
من جانب آخر ،هل ترى أن ثمة تأثير للفنون التشكيلية ،على الحياة
الثقافية في الرقة ،خاصة منذ الثمانينات؟
الحقاً ،أربعة من أعضاء التجمع ،انتسبوا إلى كلية الفنون الجميلة ،وتخرجوا
منها بامتياز ،أنا وأحمد معال ،وعالء األحمد ،وفهد الحسن ،أصغرنا سناً،
فيما واصل اآلخرون تجاربهم الفنية ،في ظل التزامهم بالمهن المختلفة التي
كانوا يعملون فيها.
529
أوراق العدد المزدوج 02-91
جميعنا أسسنا فرع نقابة الفنون بالرقة عام ،2622مع من رفدنا من خريجين
آخرين وفنانين جدد أضيفوا للتجمع.
لكن ،وبعد خمسة عشر عاماً بدأ التجمع بالتالشي .فقد هاجر من هاجر،
وترك المدينة من ترك ،واعتكف من اعتكف ..وتوفى من توفى .وانعدم
االهتمام والدعم ،وبرز لنا عداء المسؤولين لكل تجمع إنساني ،ثقافي ،وفكري،
إلى العلن ..فاضطررنا للتوقف ،كما توقف كل عمل جميل ،وخير ومبدع
في بلدنا ..وظل بعضنا المتبقي ،يعمل منفرداً – وبإخالص -فكرمه العالم
الواسع ،بدالً من وطن ضيق حتى االختناق.
531
أوراق العدد المزدوج 02-91
اليوم ،ال يمكننا أن نتحدث ،أو نتناول الحركة التشكيلية السورية المعاصرة،
دون أن نتطرق في العمق ،إلى التجارب المهمة لعدد من الفنانين المؤسسين
لتجمع فناني الرقة.
-لم تكن كل أنواع الفنون تاريخياً ،سوى مرآة للواقع ،أو تحريضاً على مكامن
الخلل فيه ،أو الثورة على الظلم والقهر والقتل.
لم يعرف التاريخ مثاالً لفن ساند القتلة ،إال ما ندر واندثر .الفن الخالد ،هو
رسالة إنسانية للحب والجمال والسالم ،وهو ليس مقر اًر سياسياً واقتصادياً،
وليس من مجموعة الخمس في مجلس األمن المعادية لتطلعات المجتمعات
االنسانية ،نحو الحرية والسالم.
إنه رسالة نبوية ،من يريد أن يؤمن بها ،عليه أن يناضل لكي يحقق حلمه.
ومن يكفر بها ،فعليه أن يتحمل عواقب فعلته.
531
أوراق العدد المزدوج 02-91
ليست مهمة الفن أن يبني االنسان ..لكن مهمته تكمن في تحريض اإلنسان
على كيفية بناء نفسه.
-الحرية عامل مهم ،ومساعد على اإلبداع ،ولكنها ليست شرطاً له ،وإال
كيف أبدع المفكرون ،والفنانون ،في أرجاء العالم ،على الرغم من وجود
بعضهم ،في دول تحكمها الدكتاتوريات ،أو في ظل مستعمر ،أو انظمة
شمولية قمعية ،أوقومية عفنة؟
منذ أن تشكل مفهوم الدولة والحكم والحاكم ،أي منذ ستة آالف عام الى اآلن
..أي حكم أو دولة عبر هذا التاريخ كان شعبها ينعم بالحرية؟ الحرية مفهوم
يتناقض مع الحكم ،ونحن نفهم ذلك جيداً ،لذلك نرسم من خالل فهمنا بأن
كل حكم قمعي وغبي ،ونحن علينا خلق الظروف التي تمكننا من ممارسة
حريتنا ،رغماً عن التضييق ،ودون خوف ،وبذكاء ال يملكونه .ندينهم ونحرض
عليهم ،ونحتقرهم ،ونعريهم ،باستخدام الرمز واللون ،وقصص التاريخ،
وإسقاطها على الواقع أحيانا ..وكلمة في العنوان ..وال يفهمون.
الفن -والتشكيلي منه -ليس بيان رقم واحد ،كما في الثورات واالنقالبات.
532
أوراق العدد المزدوج 02-91
لكنه يشبه لدغة العقرب لمن ينام في العراء ..وعلى المصاب أن يحذر
ويتعلم ،ويتعظ..
533
أوراق العدد المزدوج 02-91
تعرفت على خليل حمسورك في سجن صيدنايا العسكري األول ،حين اعتقل كرفيق في
حزب العمل الشيوعي رغم أنه لم ُيكمل عامه ال .22
أحضر حمسورك معه إلى السجن براءة الطفولة وموهب ًة فني ًة وشغفاً ترك أثره في الحياة
االجتماعية لدى أغلب رفاقه ،فهو فنان سوري موهوب من سكان مدينة الرقة ،ومن
مواليد كوباني ،2666درس في مركز الفنون الجميلة بالرقة ،قبل أن يحترف في
السجن فن الحرق على الخشب.
534
أوراق العدد المزدوج 02-91
وقد أسعدني الحظ أن عالقتي به تواصلت بعد الخروج من السجن ،ألكتشف أنه أصبح
مدرسا لفن الرسم وبشكل خاص لألطفال ،بل وتميز في تعليم األطفال من ذوي
االجتياحات الخاصة ،وربما يكون أول من استخدم الفن بشكل عام لمعالجة هؤالء
األطفال واستعادة الثقة بأنفسهم في مدينة الرقة ،وال أقصد الرسم فقط ،بل استخدم معهم
تقنية المسرح التفاعلي ،وشاركهم في كتابة النص وبناء الديكور والسينوغرافيا وصوالً
لإلخراج ،واستمر بذلك بعد خروجه من الرقة إثر سيطرة "داعش" عليها ،إذ عمل بشكل
تطوعي مع الالجئين السوريين لسنوات في تركيا قبل أن يصبح الجئا في فرنسا ،ويبدأ
مرحلة جديدة من عمله الفني الذي تطور كثي اًر.
وكان لي شرف لقائه في باريس بداية العام " "1112 /2/2أثناء مشاركته في افتتاح
معرضاً في بلدية باريس العاشرة ،حيث اتفقنا على هذا الحوار كجزء من عدد أوراق
حول الفن والثقافة في مدينة الرقة:
-أعتقد أن كل األطفال بالمطلق يهتمون بالرسم ،ألن دهشة الطبيعة هي المؤثر األول
لخلق الرغبة والحب لدى الطفل في تعلم الرسم باعتباره لعبة ليس أكثر ،فإذا استمر
هذا اللعب سيكون هناك خلق وإبداع.
أما أنا فعندما كنت طفالً ،كانت والدتي دائمة القلق علي ،ألنني كنت ألعب بين
األعشاب المحيطة ببيت أهلي في قريتي ،وأغلب تلك األعشاب كانت من نبتة الخباز
الكبيرة بشكل جنوني إضافة لنباتات القندريس والسلبين ،وهذه النباتات تستخدمها نساء
الريف كلها كمواد غذائية للطبخ واألكل ،وأكثر ما أدهشني زهرة القندريس التي مألت
ذاكرتي الطفولية بألوان الطبيعة والحياة.
535
أوراق العدد المزدوج 02-91
بعدها انتقلنا لمحافظة الرقة وكنت حينها بالصف األول االبتدائي ،وكنا نسكن حي
الرميلة الحديث النشأة ،وهو من مناطق المخالفات في مدينة الرقة ،بما يعني افتقاره
لكل الخدمات فال ماء وال كهرباء وال صرف صحي ،وكانت مدرستنا أول بناء طابقي
في بداية الحي مقابل سور الرقة االثري ،وكان معظم مدرسينا فنانين تشكيليين
وخطاطين وعازفين على آلة العود ،وقد نجحوا بتحويل المدرسة الى لوحة فنية كبيرة،
وكان أستاذ الرسم يضع لنا رسمة أو صورة لنرسمها وحين كنت أفشل كنت أنفجر
بالبكاء.
في الصف الثالث االبتدائي كان من حظي أن أكون بصف االستاذ الفنان جورج
شمعون ،ومن هنا تفتح وعيي على الرسم والفن حقيقة ،وتعرفت على المركز الثقافي
والسينما وكل ذلك بفضل ومثابرة االستاذ شمعون ،وفي الصف السادس سجلت في
536
أوراق العدد المزدوج 02-91
مركز الفنون الجميلة وكان غير مسموحا التسجيل فيه لألطفال بعمري ،لكن االستاذ
الفنان والمحامي فواز يونس قبل بي ،وكانت الرقة حينها أي سبعينات القرن الفائت
مليئة بالحركة والنشاطات الفنية والثقافية :فواز يونس ،عنايت عطار ،جورج شمعون،
طالل حسيني ،موفق فرزات ،أحمد معال ،وآخرين ....
بقيت بالمركز حتى فصل الشتاء فقط ،إذ توقفت لصغر سني ،وبسبب البعد والخوف
من المرور بجانب المقبرة ليالً .لكنني عاودت التسجيل بالمركز في الصف التاسع،
وكم أدهشني أن األستاذ فواز يونس قد احتفظ بكل رسوماتي التي رسمتها عندما كنت
طفالً في الصف السادس ،وكان أكثر ما يستهويني في الرسم هو مناظر الطبيعة
والصور ،مما خلق لدي هواية التصوير والبحث في كل الزوايا عن أي لقطة جميلة،
غير أنني اعتقلت في نهاية الدورة الخامسة ،لتبدأ مرحلة عشنا خاللها تجربة جديدة
وقاسية من الحياة.
شت هاجس السجن قبل االعتقال ،ألن تلك الفترة الزمنية كانت غنية ِ
-ربما ع ُ
بالمالحقات والتضييق األمني واالعتقاالت المكثفة .مع ذلك شكل اعتقالي في هذه
السن المبكرة من عمر الطفولة " 22عاما فقط" صدم ًة لم أكن مهيأً لها ،لكنني تماسكت
537
أوراق العدد المزدوج 02-91
أمام قسوة أشكال التعذيب والتسييف في فرع فلسطين للمخابرات العسكرية " حيث ينام
كل شخص على جنبه فقط ،وبطريقة عقب ورأس متبادلة مع اآلخرين نتيجة االزدحام
الشديد وضيق المكان".
اختلف األمر كثي اًر عندما ُنقلنا في المرحلة التالية إلى "سجن صيدنايا العسكري األول
بدمشق" ،حيث التقينا مع رفاقنا من قدماء المعتقلين وبدأنا في هذا السجن تجربة جديدة
من الحياة الجماعية ،محاولين التأقلم خاللها مع المكان الجديد بصفته بيئة سنعيش
فيها لسنوات غير معروفة ،فكان علينا خلق عوالمنا الخاصة بنا من الهوايات واأللعاب
والمطالعة وتعلم اللغات ،وبقدر ما كانت جدران السجن عالية وسميكة وقاسية من
حولنا ،إال أننا استطعنا أن نمأل هذا السجن حرك ًة وصخباً وإبداعاً ،وهذا خفف بالتأكيد
من وطأة السنوات العجاف دون أن يلغيها.
في يوم ما سألتني صديقتي :هل يمكنك أن تصالح بين الضحية والجالد؟
فكان جوابي :أنه من المفروض أن نزيح التوحش من الحياة ،وحينها لن يكون هناك
ال ضحية وال جالد ،سيكون هناك إنسانية وعدل ومساواة وجمال.
بدأنا في السجن ،كما تعرف ،حياة جديدة مليئة بالحيوية والتفاعل ،من تعلم الموسيقى
على يدي أسعد شالش ،إلى تعلم كل اللغات المتاحة ،إضافة للقراءة والرسم وحتى
صناعة بعض المنحوتات الخشبية الصغيرة والميداليات وأشياء أخرى من حبات اللوز
أو بزر الدراق أو قطعة عظم مما يبقى من طعام هزيل ،وصوالً لتجارب المسرح ....
وكان اهتمامي األساسي هو الرسم لكوني طالب فنون سابقاً ،لكن الحرق على الخشب
استهواني حقيقة بأدواته البسيطة التي هي عبارة عن سيخ موضوع ضمن قطعة خشب
دائرية ،لنقوم بعد أن نحمي طرف السيخ وقت تحضير وجبات الطعام على "غاز
538
أوراق العدد المزدوج 02-91
الطهي" بحرق رسومات أولية على ما يتوفر من قطع الخشب المأخوذة من صناديق
الخضار ،حتى غدا الجلوس أمام "غاز الطهي" متعة لي ،إذ لم نكن نملك رفاهية
إشعال موقد الغاز لمجرد هواية الحرق على الخشب.
وقد استهوتني كث ار فكرة المصالحة بين الخشب والنار ،حيث تنتشلك الفكرة من عالم
التفاصيل الصغيرة التي تسيطر في حياة السجن ،الذي ُيوصف غلبا بأنه عالم
539
أوراق العدد المزدوج 02-91
الصغائر ،لكن االنسان في هذا المستوى ُيصبح أكثر فهماً لتفاصيل الحياة الصغيرة،
فالحياة كلها عبارة عن تفاصيل متراكمة ،وهي بتراكمها تصنع الجماليات التي نحبها،
لذلك أدركت أن النار تُحيل كل شيء إلى رماد إال في يدي ،حيث تُحو ُل النار قطعة
خشب مرمية بال معنى إلى قطعة فنية غنية بالجمال ،ولذلك أجرؤ أن أسمي نفسي
"المصالح بين الخشب والنار".
هكذا بدأت رحلتي والتي استمرت سبع سنين عجاف ،لكنها كانت زاخرة بالعمل والتعلم،
وحسب ما أخبرني رفاقي الحقا أنني قد أنجزت أكثر من 2111قطعة خالل مدة
سنوات اعتقالي السبع في صيدنا ،بحيث أصبح في كل بيت من بيوت رفاقي في
السجن لوحة أو أكثر من أعمالي ،وقد تمكنت خاللها تماما من حرفة الحرق بهذه
541
أوراق العدد المزدوج 02-91
الطريقة ،ورسمت صو اًر كثيرة ،ومنذ فترة وجيزة طلب مني أحد رفاقي وهو "عمر رسول"
لوحة رسمتها في سجن صيدنايا لتكون غالف مجموعته الشعرية التي ستصدر قريبا
باسم "كي ال يحزن البنفسج" كترجمة لالسم الكردي " ."Ji bo Binefş Diljar nebin
-كما أخبرتك كان اجتماعنا كرفاق في سجن صيدنايا مهماً للغاية ،إذ استقرت أحوالنا
قليالً ،وأدركنا أن ال مفر لنا سوى الجدران .لكن تجربة السجن القاسية التي عشتها
كشاب صغير في سن المراهقة أنضجتني بالتأكيد وأغنت حياتي ،إذ منحتني رغم
قسوتها تجربة وغنى على صعيد الحياة وفلسفتها وفهمها وإدراك قيمة التكافل والتضامن
ولك أن تتصور سعادتي عندما كنت أقدم تلك الخشبة المحروقة ببساطتها
بين المجموعَ ،
تمنح طفلته أو طفله شيئاً من السعادة أثناء الزيارة ،وهذا حقيقة كان
لرفيق لي ،كي َ
منحني سعادة أكثر بكثير من سعادة ذلك الطفل.
َي ُ
ويمكن القول أن على البشر جميعاً أن يتكافلوا ويكملوا بعضهم بعضاً ،فكلما عاش ُ
اإلنسان تجربة جديدة كلما فهم جمالية هذه الحياة أكثر ،وعرف أيضاً نقيضها القبيح،
وفي هذا المستوى كنا نريد من خالل تلك األنشطة والتفاصيل أن نواجه السجن ونصنع
الحياة التي نريد.
-6كيف تضافرت تلك المقدمات في السجن وما بعدها لبلورة فنان حقيقي متعدد
المواهب وكثير العطاء؟
541
أوراق العدد المزدوج 02-91
542
أوراق العدد المزدوج 02-91
في عام 2666بدأت بتعليم األطفال الرسم ،وقد نالت إحدى طالباتي حنين عروة
مهاوش -صف خامس -الجائزة األولى على مستوى سوريا ،ثم افتتحت مرسمي
الخاص ،في عام 1112وبدأت بتعليم الرسم للشباب الذين يترددون على المرسم.
أهم تجربة لنا بدأناها أنا والفنان محمد العكلة عام ،1112تمثلت بالعمل التطوعي مع
الصم" ،وتم إحراز الجائزة األولى على مستوى الوطن العربي من
األطفال في مدرسة " ُ
دولة اإلمارات العربية المتحدة ،والحقاً ازداد العمل التطوعي وتوسع مع جميع المنظمات
والمراكز الخاصة باألطفال ،كجمعية األيتام وسجن األحداث واألطفال المكفوفين
وأطفال التوحد وأطفال متالزمة داون ،وقد حصل تالمذتنا على 62جائزة دولية وعربية
وسورية ،وأقول نحن ألني شكلت فريق عمل مع الفنانين والخطاطين والموسيقيين
وفنانين تشكيليين وحتى مسرحيين ،حيث عملت كممثل في المسرح ومسرح األطفال
وكمخرج وكاتب في المسرح التفاعلي.
543
أوراق العدد المزدوج 02-91
وحتى عام 1121كان طالبنا قد حصلوا على /62/جائزة دولية وعربية وسورية،
منها 1جوائز من منظمة اليونسيف ،وجائزتان من منظمة اليونسكو،وجائزتان أيضا
من منظمة الصحة العالمية ،كما أنتجت "قناة الجزيرة" فيلما عن تجربتنا مع األطفال
الصم باسم "زمام المبادرة" وهذا هو رابط الفيلمhttps://youtu.be/iu2x31hnlU0 :
-2كيف استطاع خليل حمسورك إنجاز كل هذا العمل في الظرف السوري المعقد
كثيرا؟
-كان علينا منذ البداية أن نتعامل مع شروط هذا الواقع المعقد ،وفي الوقت ذاته
اشتغلنا بروح الجماعة والعمل التطوعي بآن معا ،وقد تلقينا دعماً لعملنا من مديرية
الثقافة في الرقة بإدارة الصديق حمود الموسى ،كما أن العمل التطوعي مع األطفال
األيتام وأطفال مركز مالحظة األحداث في الريف واألحياء المهمشة ....فتح لنا أبواباً
وآفاقاً جديدة للعمل ،حيث ُيمكننا القول أننا غيرنا مفهوم العمل التطوعي الكالسيكي،
حين عملنا مع األطفال المكفوفين لمدة عامين دراسيين وقمنا بتعليمهم الرسم بواسطة
اللمس ....كما ضم فريق عملنا التطوعي كافة االختصاصات من رسم وموسيقى
ومسرح ،وقد انعكست نتائج هذا العمل ليس في مستوى التعلم فقط ،وإنما في مستوى
العالج النفسي لألطفال من ذوي االحتياجات الخاصة بواسطة الفن ،وهي طريقة
معروفة عالمياً ،كما انعكس أيضا في مبادرة المجتمع األهلي لدعم عملنا وبشكل خاص
مع األيتام أو مركز مالحظة األحداث ،حيث قدم لنا أصحاب المحالت في مدينة الرقة
معظم المواد مجاناً ،من مواد الرسم والطعام وحتى اللباس العادي والمدرسي وكانت
تُمنح هذه المواد بكرم فائض ،بالمقابل اشتغلنا كفريق عمل بكل الحب والعطاء.
وهنا سأذكر تجربة مسرحية لي عندما كنت في مديرية الثقافة /قسم ثقافة الطفل والنادي
الصيفي /إذ قمت بكتابة مسرحية مع األطفال عن األغذية الصحية والضارة ،وكان
عدد األطفال /42/بين 2سنوات و 24سنة عمرية ،وكانت الموسيقى الحية على
المسرح للصديقين أحمد دالي وقيصر أبو رز ،وكان العمل ممي اًز وغنياً بالتعليم والثقافة
544
أوراق العدد المزدوج 02-91
لألطفال واألهل معاً ،مما جعل منه حدثاً مهماً ،إذ ألول مرة في مدينة الرقة ُيشارك
األطفال بصناعة النص والديكور واإلخراج.
545
أوراق العدد المزدوج 02-91
-1سبق وتابعت أحد معارض التدريب مع األطفال الصغار في الرقة ،حيث كان
االشتغال على الرسم واأللوان هو األساس ،أين الرسم واأللوان في نشاطك الفني اآلن؟
-اللون هو دراستي وشغفي األول ،هو رفيقي الدائم ،وال زلت أمارس الرسم والتلوين
بين فترة وأخرى أرسم الزيتي واالكريليك ،كما أن معظم العمل مع طالبي يكون باأللوان،
لكن الحرق على الخشب استغرقني أكثر ،وأبحث فيه دائما عن الجديد ،كما أعتقد أن
الحرق على الخشب متالزم مع الرسم والتلوين ،وأنا اآلن بدأت بتطوير تقنية جديدة
ألستخدم التوابل في تلوين أعمال الحرق.
مع ذلك ،ال أدري لماذا أحتفظ دائما بأعمالي اللونية جانباً ،فيما كل ما أنشره هو من
أعمال الحرق على الخشب.
-1بعد سيطرة داعش على الرقة بدأ الخروج باتجاه تركيا ،كيف استطعت نقل تجربتك
الفنية في التعليم والعمل التطوعي إلى هناك أيض ًا؟
546
أوراق العدد المزدوج 02-91
-قبل الهروب من داعش والخروج لتركيا عملنا مع األطفال النازحين للرقة في الشوارع
والمدارس والمعسكرات وحتى في مرسمي أيضاً ،وكان عمالً مهماً خاصة في مستوى
تعافي األطفال نفسيا من صدمة الحرب وهول التفجيرات والقتل والدمار ،ووسيلتنا إلى
ذلك هو الفن ،وكما أشرت هي طريقة معروفة عالمياً.
في تركيا كانت هذه المهمة أكثر إلحاحا لنا ولألطفال أيضاً ،لمحاولة الخروج من
صدمة اللجوء ،فبدأت العمل التطوعي مع منظمة "بيت قامشلو" ،وبعد مجيء الموسيقي
قيصر أبو رز قمنا بالعمل التطوعي في أربع مدارس سورية ومنظمتين ،منها منظمة
بحر.
547
أوراق العدد المزدوج 02-91
كما قمت أيضاً بإخراج عمل مسرحي في ريف أنطاكيا باسم "قرية قوملو" ،عن نص
للصديقة مفيدة عنكير.
وربما كانت أجمل مشاركة لنا مع فريقنا التطوعي في عيد الطفل التركي في مدينة
"غازي عنتاب".
-بعد وصولي لفرنسا تخلصت من القلق واسترخيت حقيقة ،وبدأت بالتعرف على
الثقافة الفرنسية وغيرها ،كما بدأت مداركي تتسع مع كل خطوة وفي كل يوم جديد،
ليس بمعنى االنتقاص من تجربتنا في تركيا ،إذ كانت تجربة مهمة وغنية وال أعتقد أن
أحداً قد أنجز ما أنجزناه في سنة واحدة حيث كان عملنا تطوعياً ،حيث كنت أجلس
في الشارع وأرسم ألعيش ،فيما كان مأوانا أنا وقيصر "بيت قامشلو" ....
بينما افتتحت في مدينة ليون الفرنسية مرسمي الخاص ،كما عملت متطوعاً مع منظمات
فرنسية ،واآلن أسست منظمة لألعمال الفنية واليدوية سورية فرنسية مع صديقي جان
لوك .فأنا كفنان لست متقوقعاً بشخصيتي ،بل أنظر للحياة من نافذة واسعة ،ألن الفن
يمنح أفقا وأمداء أوسع للعقل في اإلبداع الذي ال ينفصل عن المحيط ،لكن السياسة
في مجتمعاتنا المتخلفة خربت كل المفاهيم الجمالية واإلنسانية ،وصوالً لكل أنواع
548
أوراق العدد المزدوج 02-91
الذائقة ،فيما عملت على االحتفاظ بهاجس التغيير والتعلم والبحث المستمر عن كل ما
هو جديد.
وأنا مقتنع أن َفن الحرق على الخشب هو فن أصيل وشائع في كل دول العالم التي
زرتها ،وسيبقى هو عملي المفضل ،حيث قمت بتصميم ديكور لمجموعة مطاعم في
ليون ،كما بدأت بتدريس فن الحرق على الخشب في مدرسة ثانوية متخصصة للديكور
ملت لهم دورة أو "استاج" لمدة أسبوع ،وهو فن قديم ينتمي للغرافيك
الداخلي ،بعد أن َع ُ
أو الحفر على الخشب ،كما ينتمي لعالم الزخرفة والديكور ،لكنه اليوم يظهر كفن
مستقل وله جمالياته الخاصة ،بل يبدو مفتوحا على مجاالت واسعة لالبتكار والتطبيق
وصنع الجماليات في كل مجاالت الحياة ،إذ يبدو متساوقاً مع الموسيقى وتطوير فن
العمارة والسينما األزياء ...باختصار هو موجود في كل المجاالت.
549
أوراق العدد المزدوج 02-91
وقد استطعت تطوير آليات عملي مستفيدا من خبرتي السابقة وتجاربي المتراكمة ،إذ
أضفت تقنيات جديدة على فن الحرق على الخشب ،لم تكن معروفة سابقاً أو عالمياً،
حيث استخدمت ألول مرة الشلمون وجهاز ضخ الهواء الحار والتوابل والحفر أيضاً،
واآلن استخدم الكوالج مع الحرق ،وهي تقنية جديدة بالحرق أيضاً ،وقد أنجز ووثق
"ألند حمسورك" أفالم يوتيوب لهذه اإلضافات المهمة.
ويسعدني جدًا أن طالبي بدأوا بإنتاج أعمالهم الخاصة ،حيث تميزت طالبتي هند أعبوبا
التي شاركت لآلن بأكثر من معرض في فرنسا ،اسوة بطالبنا في الرقة الذين حصدوا
الكثير من الجوائز كما أشرت سابقا .وربما كان أجمل مديح لي هو قول أهالي ليون
"الليونيين" بأني قد أعدت هذا الفن لمدينتهم بعد 41سنة من االنقطاع.
-99دعنا نعود إلى البدايات ثانية ،حيث يبدو واضحاً انعكاس البيئة الفراتية في
وظاللها في أغلب لوحاتك؟
-هذا سؤال إشكالي ،ألني كشخص معجون بالفرات وطقس الرقة الحار وجمالها
وبريتها وخيامها وبيوت الشعر وقطعان الغنم فيها ،وبساطة وكرم أهلها ،لذا عندما
أحاول الهروب من الفرات أجده أمامي ،فال فكاك لي من عشقه.
لقد شكل الفرات وعيي وثقافتي إذ كنت وأصدقائي نمضي أغلب أوقاتنا هناك ،وربما
يكون أجمل ما حلمنا به وحققناه تلك الرحلة عبر تاريخ الرقة "من توتول إلى ماري"
مع نخبة من فناني ومثقفي الرقة ،وهي من أمتع وأجمل الرحالت والمغامرات التي قمنا
بها ،والتي ظلت تتكرر سنويا حتى اندالع الثورة السورية ،حيث توقفت مع اندالع
عنف النظام في مواجهة المطالبين بالحرية والكرامة من أبناء الرقة.
وبالنسبة لي تبقى الرقة والدة ومنعشة بحرها وبردها وعجاجها ،ولي الكثير من األعمال
البانورامية عن تاريخ الرقة وحاضرها.
551
أوراق العدد المزدوج 02-91
دائما تؤكد الرقة ،هذه المدينة التي تغفو على ضفاف نهر الفرات الخالد ،بوداعة تامة.
بأنها مولد استبصار اإلحساسات اإلنسانية ،في فضاء المكان والزمان .لكي يأتي منها
األلق اإلبداعي الجمالي والمعرفي .وذلك هو من مقومات الفن واإلبداع ،هناك وفي
عمق تجربة النحات والفنان التشكيلي ،المدرس والكاتب الروائي المبدع (أيمن الناصر)،
والذي يميل في شتى إبداعاته إلى الواقعية التعبيرية .خاصة عندما يكون الخيال
والتخيل ،هي حامل جهد هذا الفنان ،ونتاجه اإلبداعي المشبع بالروح المحلية والبيئة
الفراتية ،نسبة وادي الفرات.
551
أوراق العدد المزدوج 02-91
وتبرز قيمة االنسان التواق الى الحرية ،في عمق كيانه اإلبداعي الذي خرج من تراب
أجداده القدماء ،في أرض الفرات الخصبة .حيث كان مسقط رأسه واالرض التي ترعرع
بها (مريبط) التي كانت مسرح مالعب طفولته ،بتلتها الشهيرة التي غمرتها مياه الفرات.
بأسطورة النهر سلطان ،والتي كانت تمور بالحب والحياة ،تحت شمس البالد السورية،
وكأنها أقاصي الوهج واألوجاع التي تلون ضفاف الحلم ،في جدلية االنتماء والعطاء.
في عمق الحدس االنساني ،معب اًر عن أحزانه وهواجسه ،من ألم وفرح وحزن وانتظار،
مستمدا من صباحات الريف لوناً وتكويناً غنياً.
552
أوراق العدد المزدوج 02-91
وهذا ما نلمسه في مساحات الحوار واللون ،وفي الشكل والزخرف والمنمنمات الفراتية.
التي تستحق المطالعة والتحليل والدراسة .والتذوق في عمق جماليات الطبيعة عبر
رهافة الخط ،وقوة التشكيل والبنى الجمالية .وهذا شأن مبدعنا الفنان النحات (أيمن
الناصر) ،بما يتسم به من أصالة ،وصدق ،معب اًر عن ذاته وعن محيطه ،ومجتمعه.
حيث الزال الفن في المدن البعيدة ،عن العاصمة بخير .ألنه -إلى درجة ما – ما
يزال بعيدا عن التجارة والمساومات والمزايدة .لهذا سكنت أعماله النحتية بأحجامها
المختلفة ،ميادين الرقة والقرى المحيطة بها .إضافة الى بعض المدن السورية األخرى،
كما وصلت أعماله إلى مدن عربية شقيقة في اليمن والسعودية ولبنان واالردن والسودان.
وقد جسد في العديد من النصب التذكارية ،شخصيات تاريخية مبدعة .تركت أثرها،
ألنها انطلقت أصال من أرض الرقة الى العالم ،كشخصيات "البتاني" ،و"ربيعة الرقي"،
و"ثابت ابن قرة الحراني" ،وصوالً إلى المجاهد الكبير "رمضان الشالش" ،والمعاصرين
أمثال النائب "حامد الخوجة" ،والشاعر "فيصل بليبل" ،والمؤرخ الشاعر "مصطفى
الحسون" ،واألديب الكبير "عبد السالم العجيلي" وآخرون كثر أنجبتهم "الرقة".
وقد استطاع الفنان التشكيلي والروائي القاص (أيمن الناصر) أن يحاكي المناخات
الصعبة .وتحويلها إلى عوالم جمالية كبرى تمثلت بإبداعاته وأعماله الفنية ،التي يمتزج
فيها اإليقاع الصامت بالهادر ،كما فضاءات البادية السورية .والرقة ،تبدو بنتاج
مبدعيها الثقافي ،متحفاً بشرياً من الجماهير الواسعة ،حيث المجتمع العشائري والقبلي،
وحيث البدو والحضر .وأصحاب المهن اليدوية .تضج بالجمال االنساني الريفي ،وتبوح
بصوت األرض واإلنسان .حيث الفرات وجه من خيال ي ِ
رض ُع األرض العظيمة.ُ
من هنا جاء عمله وجوه األمس ،رؤية اليوم المتجددة ،في ابداع ال حدود له .كان قوامه
روح المدينة :الزمان واالنسان .في حركية الحس الفني المرهف وتعبيراته ،التي تنهل
من تاريخ الفنان ،تجربته وبيئته الخصبة والغنية ،التي تتسم بتفرد سلوكه االنساني
واإلبداعي .وصار في صدر البادية الشامية ،والرقاوية ،السورية ،أيقونة تضاهي رهبة
553
أوراق العدد المزدوج 02-91
الفرات ،ولفحة الشمس على صدر النهر ،وترى ألوانه ،وتكوينات أعماله يتبدى في
كحل عيون الفراتيات .عندما يلتقي مع سحر األفق المدهش وهو يطاوع أصابع الفنان
التشكيلي /الرسام (أيمن ناصر).
554
أوراق العدد المزدوج 02-91
حينما رسم النهارات وكأنها (بازار من أرض الفرات) حيث المرأة :األم ،والحبيبة
والصديقة واالخت والزوجة ،والرفيقة ،هي عنوان حياة .وهي شجرة عائلة الفنان الذي
تنعكس ألونه في تصوير انفعاالت االرض ،ومشاعر اإلنسان المرتبط بها ،وبذكرياتها.
والتي تشكلت ظاللها الغافية في الحس الغرافيكي التصويري المتماهي في مونوكرومية
(التدرج في اللون الواحد) ،وهي إحدى طقوس الفنان التشكيلية المموسقة ،إذا جاز
التعبير ،محققاً تآلف األلوان ،وانسجامها وتناغمها .وهنا أيضاً سمة أساسية وخصوصية
تتصل بأسوب الفنان أيمن ناصر ،والذي يسعى لتحقيقها في تجربته التشكيلية.
ثمة غنى مديد في أعماله ،من حيث الموضوعات ،بما يولد لديك إحساساً حيوي ًا باللون،
وشخوص العمل الفني .وخاصة تلك التي تتناول عالقة االنسان واالرض ،عبر سماء
مشبعة بغيوم اللون .هكذا هي أعماله ال يمكن الولوج إليها أو التعبير عنها ،سوى
بالجمل الشعرية أحياناً ،وهو القاص والروائي .وكأنه يكتب قصيدة لونية ،تتنازع الحياة
مع النص القصصي المكتوب ،أو مع فصول وشخوص رواياته .هناك تتلمس جمال
الفرات السري ،وتمضي معه حيث السنابل والتراب والتاريخ والحلم بذكريات حميمية،
أو يأتي بها إليك.
مشاعر الفنان العاشق تتدفق عبر خلجات روحه ،لتولد عبر ريشته وألوانه الخالبة
مصو ار بعين المبدع األرض الفراتية ،وبيوت الطين والشبابيك المتعانقة مع شخوصه
االثيرة ،فوق مسطحه التصويري (قماش اللوحة) متأث اًر بتجريدات مدرسته الفنية
التصويرية .حيث االنطباع االولي :مسرح بصره في ربوع النشأة واليفاع ،ارتباطه
االصيل والحميم بأرضه وناسه ،ودفء بالده ووطنه الكبير .منفحتاً على العالم ،هذا
البيدر الكوني .فالكون ،ما هو سوى قرية صغيرة!
555
أوراق العدد المزدوج 02-91
فهد الحسن
إن الحديث عن الذات ،هو من الصعب بمكان ،ألنه ُيدخل المرء في حيرة شديدة ،تبدأ
من محاولة تلمس خيوط الموضوعية والتمسك بها ،وتنتهي بنكران الذات والرغبة في
التجرد من األثرة واألنانية .ولعل في استعراض البدايات األولى لتفتح الحواس ،يقودنا
إلى بلورة الرؤى والمؤثرات التي رافقت ذلك ،واستخالص النتائج التي قد تفيد في تكوين
نظرة محددة لمجمل التجربة ،وتأثيراتها.
ما أذكره أنني في سبعينيات القرن الماضي كنت طفالً صغي اًر يعيش في كنف أسرة
عادية ...في مدينة منسية تقع شمال شرق سورية اسمها (الرقة) ..وعلى خاصرتها
الجنوبية ،يمر نهر الفرات الذي منحها ديمومة الحياة حتى يومنا هذا ،على الرغم من
كل ما مر بها من إهمال ومحن ونوائب جمة.
هناك تفتح وعيي مبك اًر ،وكان ذلك مرهوناً بحواس استنفرت كل طاقاتها ،لتستكشف ما
حولها بشغف نادر وقدرة هائلة على تتبع أثر المعرفة ،وما تنتجه من عناصر تقود
إلى إكساب العقل غذائه األثير ،عبر البحث والتقصي .كنت متفوقاً في المدرسة ،وقد
ساهم ذلك بتميزي بين أقراني ولداتي وزمالئي ،ومع إعمال الحواس في المشهد الحياتي
المحيط ،قادني شغفي إلى عالم (الرسم) الذي استقبلته حواسي بمزيد من الدهشة
واإلبهار ،مبدداً ما يحيطه من رهبة وغموض وانكماش.
ومع المحاوالت األولى ،تالشت وتكسرت كل الحواجز ،ألدخل محراباً خاصاً ،ببوصلة
فطنة تغوص في التفاصيل بعمق الباحث عن حقيقة ما .وكان ذلك بوابة رحيبة للتجريب
556
أوراق العدد المزدوج 02-91
الواعي والممنهج ،الذي عرفني على قيمة األداة وخصائصها وسماتها واختالفها ،عن
األدوات األخرى.
رحلة البحث هذه ،قادتني إلى سبر أغوار قدرة تلك األداة على تجسيد ما أريده .وكان
ذلك مفتاحاً لدخول عالم فيه من الثراء والدهشة ما لم أكن أتخيله ..ثم تعددت
المحاوالت لكشف كنه األدوات والمواد التي استخدمتها في التعبير عن رؤيتي للعالم
المحيط .وكان كل ذلك تسلسالً منطقياً ،يعكس الصبر واألناة ،في بلورة تجربة تحتاج
إلى وقت طويل ،وإلى بحث مضن لكي تصل الى مرادها.
وهكذا عرفت قيم العناصر وقدرتها على إظهار مالمح األشياء ،وخصوصية كل منها
على حده .بدأت بالقلم الرصاص ثم بأقالم الفلوماستر والشمع والفحم ..ثم امتلكت
ناصية الجرأة في استخدام األلوان المائية ،فأقالم الحبر الجاف والحبر ،وصوالً إلى
األلوان الزيتية ،ذات الخصوصية التي تتفرد بها عن باقي العناصر األخرى.
والذي أذكره أنني أقمت أول معرض لي وأنا في سن الرابعة عشر من عمري .كان
ذلك باكورة عطائي التشكيلي ،والذي استطعت عبر التمكن من أدواته تدريجياً ،من أن
أوظفه الحقاً لخدمة ما اكتنزته من أفكار ورؤى حياتية ،كانت تتبلور مع األيام ،وكان
يحكمها وعي مبكر لحقائق الوجود ،وحوادثه المتنوعة.
وقد الزم ذلك قناعتي الراسخة ،بتوظيف القدرات الفنية ،لخدمة أفكار تتصل وتتوكأ
على إرث ثقافي متنوع ،استطعت تحصيله بالمواظبة على القراءة ،في شتى صنوف
المعرفة ،مما ساعدني على تجسيد قيم الحرية والعدالة ،ومفاهيم البحث عن عالم نقي،
يسوده حق اإلنسان في حياة كريمة تليق بإنسانيته وآدميته.
واستطعت بهذا المعنى ،أن أنتج في سن مبكرة ،لوحات كثيرة ضمن هذا التوجه ،الذي
-بطبيعة الحال -الزم أعمالي مستنداً إلى طابع فكري ،يوظف البعد الفني ،لترجمة
األفكار وبلورتها ،لكي تكون إجابة عن كثير من األسئلة المتعلقة بهموم الناس والبشرية
جمعاء.
557
أوراق العدد المزدوج 02-91
وأستطيع القول أن تجربتي التشكيلية ،سعت إلى خلق توازن محكم ،بين األداة والفكرة.
بمعنى من يبحث عن التمكن في األدوات الفنية( :القدرة على الرسم ،وإظهار الظل
والنور ،وملمس األشياء وخصوصيتها ،والتشريح ،والمنظور ،والبعد الثالث ،وبناء
اللوحة دون خلل ...إلخ) مترافقاً مع وضوح الفكرة ،واالبتعاد عن الفانتازيا والغموض
والمباشرة والسطحية.
وفي اعتقادي ،أن المشاهد والمتابع ألعمالي ،عبر الكثير من المعارض الفنية الفردية
والمشاركات الجماعية ،قد تلقى نتاجي الفني ،بمزيد من القبول والدهشة واإلعجاب،
بتجربة واعدة ،تميل إلى صقل ذاتها عبر اإلبحار في استثمار طاقتها الفنية ،لتجسيد
أفكار حداثية ،وغير مكرورة ،ومترافقة مع وعي الذات والمحيط بآن معاً.
هذه خالصة ما استطعت ترجمته في أعمال فنية ،قوامها التمكن من األداة ،واالجتهاد
الدؤوب نحو ترك أثر فني يدوم تأثيره طويالً ،بعيداً عن الضحالة والسطحية واالبتذال.
558
أوراق العدد المزدوج 02-91
أوراق القضايا
559
أوراق العدد المزدوج 02-91
موفق نيربية
-9-
" ودخل ربيع الثاني (األول) الموافق تشرين الثاني( األول) ،ولم ينزل من السماء قطرة
ماء .وفي ليلة الثالثاء ثامن ربيع الثاني (األول -الموافق 21تشرين األول) من هذه
السنة في الثلث األخير من الليل والمؤذنون في المآذن يشتغلون المراسلة (كذا!) صارت
زلزلة خفيفة وتبعتها ثانية ثم ثالثة ُزلزلت منها دمشق زل ازالً شديداً ،حسبت أهل دمشق
أن القيامة قد قامت ،فتهدمت رؤوس غالب مآذن الشام ودور كثيرة وجوامع وأماكن ال
تحصى ،حتى قبة النصر التي بأعلى جبل قاسيون زلزلتها وأرمت نصفها .وأما قري
الشام فكان فيها الهدم الكثير ،والقتلى التي وجدت تحت الهدم ال تحصى عددا .وفي
الليلة الثانية ُزلزلت أيضاً في الوقت الذي زلزلت فيه األولى ،ثم حصلت في وقت صالة
الصبح وبالنهار أيضاً ،والزالت تتكرر م ار اًر لكنها أخف من األولين .وقد زاد الخوف
والبالء ،وهجرت الناس بيوتهم ،ونامت في األزقة والبساتين وفي المقابر والمرجة ،وفي
صحن الجامع األموي .وفي هذه الزلزلة وقع خان القنيطرة على كل من كان فيه ،فلم
يسلم من الدواب والناس إال القليل ،وكذلك خان سعسع .وقد وردت األخبار إلى دمشق
الشام أن بعض البالد والقرايا انهدمت على أهلها ،فلم يسلم منها وال من دوابها أحد.
وسمع
ثم في ليلة الثالثاء الساعة العاشرة من الليل خامس ربيع األول انشقت السماء ُ
منها صريخ ودمدمة ودوي وهول عظيم ،حتى أن بعض أهل الكشف رأى أن السقوف
561
أوراق العدد المزدوج 02-91
ارتفعت ،وظهرت النجوم وعادت السقوف كما كانت .ووردت أخبار أن في بعض البالد
انطبق جبالن على بعض القرى ،فذهبت القرى ولم يظهر لها أثر .وفي ليلة الجمعة
الثامن عشر من ربيع األول في محل أذان العشاء خر نجم من السماء من جهة الغرب
فسمع له صوت عظيم (أعال) ق
إلى جهة الشر ،فأضاءت منه الجبال والدور .ثم سقط ُ
من المدافع والصواعق.
وفي الزلزلة األولي وقعت صخرة عظيمة في نهر القنوات فسدت النهر ،وانقطع الماد
عن البلد أحد عشر يوماً ،وبقيت ُقطاع األحجار يقطعون فيها أحد عشر يوماً ،فصارت
الناس في غمين :غم الزلزلة وغمة قلة الماء.
في ليلة االثنين سادس ربيع الثاني في الساعة الخامسة صارت هزة عظيمة أعظم من
األولي بدرجات .وقد صارت رجة مهولة أسقطت غالب بقية المآذن ،وأرمت قبة الجامع
األموي الكبيرة والرواق الشمالي جميعه مع مدرسة الكالسة وباب البريد وأبراج القلعة
وغالب دور دمشق ،والذي سلم من الوقوع تناثر من بعضه البعض .وُقتل خلق كثير
خصوصاً في القرايا ،ورحلت الخالئق للبساتين وللجبال والترب وإلى المرجة ،ونصبوا
بها وبالبراري الخيام وناموا بعيالهم وأوالدهم ،ومع ذلك فلم تبطل الزلزلة والرجفان ال
ليالً وال نها اَر"...
-0-
في فجر السادس من شباط ،1112كانا في البدء زلزالين وليس واحداً ،يفصل بينهما
تسع ساعات وبضع دقائق .حدث الزلزال األول ،عند الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة
بتوقيت سوريا .وكانت شدته 2،2على مقياس ريختر ،أكبر مقدار بلغته زالزل المنطقة
في العصر الحديث .وكان مركزه في والية قهرمان مرعش في تركيا وعلى عمق حوالي
22ميالً .وتتالت بعده هزات ارتدادية عديدة ،كان منها ست حدثت في الساعة األولى
تتراوح شدتها بين 1،1و 6،2على مقياس ريختر.
561
أوراق العدد المزدوج 02-91
حدث الزلزال الثاني الشديد الوقع بدوره في الساعة الواحدة وأربع وعشرين دقيقة ظه اًر
من اليوم نفسه ،بشدة 2،1على مقياس ريختر ...وبعدهما تتالت مئات بل آالف
الهزات االرتدادية ،وزلزاالن أيضاً في العشرين من الشهر نفسه ،بشدة 6،4و 1،2على
اء في
التوالي ،تمرك از في والية هاتاي التركية ،وشمال مناطق أوسع في سوريا ،سو ً
مناطق" النظام" أو مناطق "المعارضة" كما شاعت تسميتهما ،وشمل تأثيرهما محافظات
حلب وإدلب والالذقية وحماة.
لم يقتصر التأثير على الزلزالين األولين وال الثانيين ،بل زاده تأثير لهزات ارتدادية هائلة
العدد ،زادت عن عشرة آالف حتى كتابة هذا النص .وخلق هذا الوضع حالة نفسية
اجتماعية أضافت صعوبات على صعوبات عمليات اإلنقاذ والغوث ،واالختناقات
فيهما.
شملت الكارثة عشر واليات في جنوب شرق تركيا ،ونتج عنها هناك أكثر من خمس
وأربعين ألف ضحية ومائة ألف إصابة حتى اللحظة ،إضافة إلى دمار هائل أصاب
أنطاكيا وقهرمان مرعش وغيرهما ،حتى أنه شمل بلدة كاملة هي نورداغ .وعلى الرغم
من اإلمكانيات الهائلة في تركيا ،إال أنه كان هنالك بعض االرتباك والحاجة الملحة
إلى عون ومساعدة العالم ،الذي أرسل آالف فرق اإلنقاذ والتجهيزات الحديثة الضرورية،
وكميات الفتة من المساعدات العاجلة.
أدى انهماك السلطات التركية بالمصيبة الوطنية إلى عجز عن متابعة متطلبات
المناطق األكثر عو اًز على الجانب اآلخر من الحدود ،في شمال غرب سوريا .كما أدى
إلى تحفظ في نظرة السوريين ومطالبتهم بالعون من تركيا وحكومتها ،حتى في طلب
فتح الحد ود ،األمر الذي كان له أهمية حيوية في األيام األولى للكارثة .وظهر نقص
كارثي في المساعدات الالزمة لعمليات اإلنقاذ ،وفي تجهيزات وأدوات هذه العمليات،
مما جعل الخسائر تحت األنقاض أكبر بكثير مما كان ينبغي ،وخلق حالة من اإلحباط
لدى القائمين على عمليات اإلنقاذ ذاتها ،وحتى لدى أصحاب الخوذ البيضاء -الدفاع
562
أوراق العدد المزدوج 02-91
المدني -في شمال غرب البالد ،الذين كانوا يتولون مسؤولية العمليات بكفاءة خارقة
أثارت إعجاب العالم ،أكثر مما أثارت همته على االستعجال بالمساعدة واإلغاثة في
الوقت المناسب.
كانت حصيلة الضحايا السوريين -حتى ساعة الكتابة هنا -حوالي عشرة آالف توزعوا
على 4122في مناطق "المعارضة" شمال شرق البالد ،و 2242بين الالجئين
السوريين في مناطق الكارثة في تركيا ،و 2424في مناطق" النظام" .لم يجد العديد
منهم قب اًر محدداً وجنازة تحترم إنسانيته ،حين جمعت بعضهم قبور جماعية في مناطق
التأثير المركز للزالزل .وبقي الكثيرون تحت األنقاض أليام عديدة حتى خرج حياً أو
ميتاً ،تحت عيون أهلهم وعيون العالم الواجفة.
في األسبوع األول كان عدد المصابين ضعف عدد القتلى في سوريا ،في المناطق
المختلفة .في حين كانت تلك النسبة أربع ًة إلى واحد في تركيا ،القادرة أكثر بمرتين
على األقل بجاهزيتها وكفاءتها وتلقيها للنجدة والمساعدة .وإذا كان العمل الذي قام به
الدفاع المدني في شمال غرب سوريا جدي اًر باإلعجاب والتقدير الكبيرين بين السوريين
والعالم ،فإن عجز أهل النظام وبقايا "الدولة"؛ بما يعتورهما من فوضى وتمزق وقلة
جدوى وفساد؛ عن إغاثة الناس بالوقت والطريقة المناسبين ،الفت بل كارثي ،ال ينفع
معه على اإلطالق ادعاء أن السبب كامن في العقوبات المفروضة على النظام.
يمكن القول إن أبرز مواقع تأثير الكارثة كان في جنديرس وسرمدا في الشمال الغربي،
حيث أكبر الخسائر في الناس والعمران في األولى وفيهما إضافة إلى البنى االقتصادية
في الثانية ،حيث تتركز فعاليات محافظة إدلب التابعة لما يسمى "حكومة اإلنقاذ" وهيئة
تحرير الشام فيها .في حين تأثرت الالذقية وجبلة وريفيهما مع حماة أيضاً في مناطق
"النظام" ،حيث تعطلت مصفاة بانياس مؤقتاً كما يبدو أيضاً.
باإلجمال ،هنالك في شمال غرب البالد 2262مبنى مدمر كلياً ،وحوالي 2111مبنى
مدمر جزئياً ،و 21111مبنى غير صالح للسكن .وفي مناطق "النظام" ،انهار 11
563
أوراق العدد المزدوج 02-91
بناء في حلب منها 22في المدينة نفسها ،وفي األحياء الشرقية خصوصاً حيث مئات ً
المباني المتصدعة منذ قصفها النظام ببراميله عندما كانت "المعارضة" مسيطرة عليها.
وانهار أكثر من 11مبنى بالكامل في الالذقية من بين مائة انهارت جزئياً ،في حين
حدث دمار في مناطق أخرى في المحافظة كجبلة والفاخورة وسطامو ،إضافة إلى كثير
من بيوت القدموس القديمة حول قلعتها .انهار مبنى من خمس طوابق في مدينة حماة
وآخر في بلدة عين الكروم ...وغير ذلك كثير.
-3-
كان لمشاكل االستجابة وأعمال اإلنقاذ واإلغاثة أثر كبير ضاعف المصيبة وزاد من
معاناة السوريين ،وحدث ذلك في مناطق "النظام" و"المعارضة" معاً.
في األولى بسبب تشوه المؤسسات الرسمية وكسلها وفسادها المزمن ،إضافة أيضاً إلى
سوء توزيع الموارد والمستلزمات لمثل هذه الحاالت؛ وفي الثانية بسبب نقص التجهيزات
من آليات وأدوات ومواد الزمة لمثل هذه الحاالت ،وتلكؤ المنظمات األممية في تأمينها
ومالحقة تأمينها.
انشغل النظام منذ اليوم األول باستثمار كارثة شعبه ،وأخذ بالصراخ متهماً العقوبات
والحصار بأنهما السبب في وقوع الدمار والضحايا ،وكان هنالك من ينتظر ذلك خارج
الحدود أيضاً ،حتى بين بعض موظفي المنظمات الدولية .في حين تعامل مع عمليات
اإلنقاذ واإلغاثة بانتقائية وتفاوت في السرعة واألداء ..انعكست "المحسوبية" أيضاً في
بعض األماكن ،وفقد البعض أرواحهم تحت األنقاض وهم ينتظرون إخراجهم ،بعد الفراغ
من إنقاذ من هم "أكثر أهمية" ،وتلك عادة أصيلة في مؤسسات األسد.
في حين قامت منظمة المتطوعين في الدفاع المدني ،أصحاب الخوذ البيضاء ،بعمل
بطولي خارق ودائب لم يتوقف ليالً وال نها اًر وفي كل مكان .قدموا عددًا من الشهداء
أيضاً من بين صفوفهم ،قضوا وهم يحاولون إنقاذ الناس من تحت األنقاض .ورغم
ذلك ،ذهبت صرخاتهم أدراج الرياح ،وهم يصرخون ويناشدون العالم لمساعدتهم في
564
أوراق العدد المزدوج 02-91
األيام الحاسمة األولى لنجدتهم باألدوات والتجهيزات الضرورية ...انصب نقدهم على
األمم المتحدة ،وذلك صحيح أصوالً وهو أحفظ لكرامة السوريين ،في حين كان يمكن
للجميع تقديم ذلك العون .ولم تكن لترفض الحكومة التركية وصول تلك المساعدات
عن طريق معبر باب الهوى ،رغم انشغالها وانهماكها الشديد بحصتها األكبر من
الكارثة.
بعد الزلزالين الكبيرين بثمانية أيام ،أبلغ مارتن غريفيث منسق األمم المتحدة لإلغاثة
في حاالت الطوارئ اجتماعا مغلقا لمجلس األمن الدولي أن "الرئيس السوري" بشار
األسد وافق على السماح لألمم المتحدة بتوصيل المساعدات إلى بلده عبر معبرين
حدوديين آخرين من تركيا لمدة ثالثة أشهر .وغير معروف من الذي نصحه بتلك
النصيحة الغالية ،وهو الذي كان يرفض مجرد البحث بأي فكرة ذات صلة بالمساعدات
اإلنسانية للسوريين خارج أماكن سيطرته.
بذلك استثمر األسد في القانون الدولي نفسه ،واستخدمه ضد أهدافه وغاياته .وحين
طرحت الدول الغربية في مجلس األمن أهمية إصدار قرار بذلك لضمان تحقيقه بشكل
سليم ،قال المندوب الروسي نيبينزيا إن ذلك ليس ضروريا ،ما دام قرار األسد صاد اًر
عن الطرف "الشرعي" بالتصرف بحدوده الدولية و"ال دخل لمجلس األمن في هذه
المسألة السيادية" ..قال ذلك رغم معرفته بأن األمر شكالني محض ،ألن األسد وطغمته
ال يسيطرون على تلك الحدود على اإلطالق!
وكما يحدث عادة في الكوارث ،يستفيد اللصوص والخارجون عن القانون .فقد تدفقت
المساعدات اإلنسانية من كل حدب وصوب باتجاه مطاري حلب ودمشق ،وازدهرت
من جديدة تجارة المساعدات وبيعها بالجملة والمفرق من قبل أهل النظام ،في حين ال
يصل إلى أصحاب الحاجة إال النذر اليسير من تلك الموارد الجديدة.
وليس هنالك من برهان على سوء النية والتدبير ،أكثر مما حدث مع المساعدات التي
وردت بالسرعة الممكنة من مناطق شمال شرق سورية ،من أغذية ومواد صحية
565
أوراق العدد المزدوج 02-91
وتجهيزات إغاثة ،ومن وقود كان الناس بأمس الحاجة إليه للتدفئة والنجاة من خطر
الموت برداً بعد النجاة األولية من الزلزال وعقابيله المباشرة .لقد قوبلت تلك القوافل
القادمة من القامشلي والحسكة ودير الزور والرقة برفض فتح الحواجز أمامها من قبل
جماعات "النظام" و"المعارضة".
ال يجوز تسييس القضاء وال القانون .وال يجوز تسييس ما يتعلق بالحقوق األساسية،
وخصوصاً حق الحياة .لكن معظم األطراف كانت تمارس هذا التسييس ،بعضها ببعض
الحياء والبعض اآلخر من دون حياء وال ستر .كان متوقعاً من نظام قتل مئات اآلالف
من شعبه وهجر نصفه ودمر البالد ،ووضع سوريا على حافة مقلقة تتعلق بمصيرها،
أال يأبه بشيء من هذا ،ويتابع طريقة بسخرية مريرة :يرى في انهيار العشوائيات التي
تركها لفقرائه تحسيناً للتجانس من جديد ،وفي مصائب النازحين نحو الشمال تحسيناً
لفرصته السياسية في العودة تحت األضواء .هي سياسة قديمة قائمة على مبدأ االبتزاز
بالمصائب :من خالل تهديد العالم باإلرهاب ،وزلزلته بالفوضى والقالقل ،وبين الزالزل
والقالقل من القربى شيء كثير.
لكن التسييس الذي كان البعض يحسبه صعباً ،هو ذاك الذي قامت به "المعارضة" في
استجابتها للكارثة ،فمنها ما كان آمناً في مقراته يتكرم بتصريح أو بيان أو منشور على
وسائل التوا صل االجتماعي ،ومنها من كان على أهبة االستعداد لتلبية متطلبات سادته،
حتى لو تمرغت الهيبة بالتراب الدامي.
كانت هيئة تحرير الشام (النصرة "اإلرهابية" سابقاً) وزعيمها الجوالني الذي غير ثيابه
األفغانية مؤخ اًر إلى تلك "المدنية" أو المحلية الدارجة ،من أوائل من استجاب للحدث
ودواعي استثماره :ترأس الجوالني اجتمعاً طارئاً لحكومته -حكومة اإلنقاذ -في إدلب
ُوضعت فيه خطط االستجابة .وخصص هذا االجتماع ما يعادل 2،6مليون دوالر
كميزانية لعمليات اإلغاثة وتكاليف عمليات اإلنقاذ ،ولم ينس القيام بزيارات التفقد وأخذ
الصور بجانب الدمار.
566
أوراق العدد المزدوج 02-91
في حين لم تقم "الفصائل" األخرى بالكثير :بقيت على أهبة االستعداد لمنع أي محاولة
من "اآلخرين" الستثمار الكارثة سياسياً ،ومنعت انتقال الخصوم بمساعداتهم إلى
"الداخل".
-4-
ظل بشار األسد صامتاً حتى العاشر من شباط ،بعد أربعة أيام من الكارثة .لكنه كان
مشغوالً على الهاتف قبل ذلك ،يتلقى كلمات التضامن والدعم من زعماء روسيا والصين
وإيران والعراق ومصر ولبنان واإلمارات والجزائر ،وأبخازيا وبيالروسيا واألردن وغيرها.
وال بد أنه انتبه من غفلته على تلك الفرصة السانحة التي جاءته من خالل الزلزال
وموت اآلالف ودمار البالد من جديد :ربما يمكن للكارثة أن تخفي آثار الجريمة ،بكل
المعاني .ربما كذلك يمكن استعادة ما ضاع من هيبة النظام و"شرعيته" .ربما يعود
أيضاً عودة ظافرة على صهوة حصان العروبة!
فاستفتح ظهوره العلني األول ذاك بضحكات عريضة لم يستطع كبتها ،حين قال له
أحد المتفرجين الذين اجتمعوا حوله وحول زوجته إن الدمار قد ذهب على وجهه،
وطلب صورة "سيلفي" معه .وال بد أنه استمر في ضحكاته مع أسراب الطائرات الحاملة
للمساعدات التي أخذت تحط في مطاري حلب ودمشق وبلغ عددها 112طائرة خالل
عشرين يوماً فقط.
وصل ثلثا المساعدات المرسلة إلى سوريا إلى مناطق "النظام" ،وثلثها إلى مناطق
"المعارضة"؛ على عكس الحصص من الكارثة .وال بد أن السوريين حيث يحكم آل
األسد محتاجون للدعم بالطبع ،وال اعتراض من أحد على حصولهم عليه ،فقط لو تأكد
أنهم من يستفيد منه ،وليس رجاالت النظام وأجهزته ،الذين يعملون على تحويل المواد
القادمة إلى السوق السوداء .نحن -الموجودين خارج بالدنا قس اًر -كنا في سوريا منذ
عشر سنوات ،وكنا نرى تلك المواد معروضة علناً كأي بضاعة للبيع ،وعليها عالمات
مرسليها ،أو عالمات األمم المتحدة وبرنامج الغذاء العالمي .والجميع يرونها حالياً.
567
أوراق العدد المزدوج 02-91
لكن ذلك ليس من ضمن دائرة اهتمام النظام ،إال من حيث إلهاء الناس عنه بأشكال
شتى .ابتدأ باالحتفاء بزواره الذين كانوا صائمين عن زيارته أو الحديث معه ،وخصوصاً
في الدائرة العربية ،أسهل الدوائر اختراقاً .وما خال عدة دول في الخليج وغيره ،كان
هنالك احتفاء عربي أيضاً بالزلزال وما أتاحه من تعبيرات عن أشواق مكبوتة .استطاعت
الكارثة تذكير أهل العروبة بأمجاد الزمن القديم ،يوم كانت الحرب الباردة ونظامها
غطاء لنظام عربي مسكوت أبدًا عن االستبداد في أنظمته ،من دون قضايا ً الدولي
حقوق اإلنسان والحريات والديموقراطية ،والحداثة الثقيلة الوقع والدم.
خرج التطبيع العربي مع النظام السوري عن خطواته الخجولة المترددة ،وظهرت بعض
عالئم النجاح عليه ،لوال بعض التحفظ األمريكي واألوروبي وبعض الخليج .يمكن لهذا
التحفظ لو انهار في يوم قريب أن يفتح أبواب عودة "االستقرار" على ما كان عليه
الوضع قبل الربيع العربي الذي أثبت شؤمه على األنظمة القائمة في أكثر من مكان.
ُيقال إن ذلك التطبيع ،حين جمعه إلى تخفيف العقوبات أو إلغائها ،يمكن أن يؤدي
إلى فتح أبواب جديدة ومختلفة لحل القضية السورية .وكان يمكن تصديق ذلك لو أن
األمر محفوف باتفاق على وقف نهائي مثال إلطالق النار ،وإطالق لآلالف من
المعتقلين ،وكشف قانوني عن مصير عشرات اآلالف من المفقودين .ربما كان يمكن
تصديق ذلك لو الناس معاً ،من دون "المجرمين" الذين قصفوا شعبهم باألسلحة
الكيماوية وبالبراميل ،وقتلوا منه نسبة كبيرة تحت التعذيب ،وتسببوا بموت مئات اآلالف
وتهجير الماليين وتدمير البالد أكثر بعدة أضعاف مما فعله الزلزال.
ذلك مفهوم لدى السوريين كلهم ،إذ يعرفون حكامهم وطغاتهم .وطبيعي أن "يستثمر"
النظام حتى الكارثة ،ألنه فاقد إطالقاً ألية حدود لسلوكه .ما هو غير مفهوم ،أال
تستفيق المعارضة الرسمية وتستثمر بدورها تلك الكارثة بطريقة مختلفة تحاول من
خاللها التطهر والتراجع وإعادة الحسابات السياسية؛ من خالل وقفة جذرية أمام النفس،
ومحاولة استعادة الناس .لكن ذلك أيضاً فيما يبدو لم يكن محتمالً ،بل ربما كانت تلك
568
أوراق العدد المزدوج 02-91
"المعارضة" تنظر إلى "النظام" بشيء من الحسد تحاول أن تتعلم منه طرائق استثمار
الكوارث وتحويلها إلى بضائع مفيدة.
إال أن للكارثة وجوهاً ال يعرفها "النظام" وال "المعارضة" ،كان أكثرها أهمية تكريس اتجاه
كان مغلقاً أو شبه مغلق في السابق ،ما بين تواصل السوريين في المناطق "الحرام"...
بذلك بدأوا مالم تستطع تطويره (وال تريده) الجماعات السائدة ،وهو النظر وإعادة النظر
في كل شيء ،من القاع ،ومن جديد!
-6-
يمضي الحالق البديري في يومياته وفيها يوميات الحكام والزالزل وأهوال الطرفين
المتداخلة المتآلفة .وقد جمعت أوراقه تلك أهل بالد الشام العرب والترك العثمانيين معاً،
كما اجتمع الطرفان معاً في أوراق زالزل الشهر الماضي وإحصاءاته وعقابيله حتى
كل في طريق كما كنا نحسب ونظن حتى
االن وإلى وقت طويل قادم ،بعد أن استقال ٌّ
اآلن .اجتمعت الزالزل أيضاً إلى بؤس الناس وفقرهم ،مع بأس الحكام وجورهم ،كما
أصبح الحال في األعوام أو العقود الماضية( .ومن المصادفات أيضاً أن ذلك الزلزال
المروع القديم قد حصل في عام 2216قبل مائتي عام تماماً من عام صدور يوميات
البديري في القاهرة حديث ًا).
كبير من
كانت زالزل سورية القديمة تلك عبارة عن سلسلة زالزل مدمرة هزت جزءا ا
سورية العثمانية (بالد الشام) في تشرين األول وتشرين الثاني من ذلك العام ،واستمرت
هزاتها المترددة الواردة في تلك اليوميات ألكثر من عامين ،حتى اعتاد الناس على
"االهتزاز" كما يحدث اآلن ..وكان مفترق الطرق الجغرافي هذا في شرق البحر األبيض
المتوسط في ذلك الوقت تحت حكم اإلمبراطورية العثمانية .لقد تعرضت آثار بعلبك
ال ،في سهل البقاع شرق نهر الليطاني ،ألضرار بالغة .ومن المحتمل أن تكون
مث ً
أحداث ذلك العام ،أقوى الزالزل في تاريخ المنطقة ،التي تسببت بأضرار بالغة أيضاً
في مدن حلب ولبنان وفلسطين.
569
أوراق العدد المزدوج 02-91
في ذلك الزمان أيضاً ،كان الحكام يعتبرون البالد منحة من السلطان "ظل الله في
أرضه" ،ويحاولون امتصاص كل ما يقدرون عليه من شرايينها "وكأنهم يموتون غدا"...
وعلى األرض تسرح "ميليشيات" ترتبط وال ترتبط بالسلطة ،تفعل ما تشاء بالناس ،فتقتل
وتنهب من غير حساب ،حيث الناس مجرد رعية ساقها الله لمن يسوسها .كان هنالك
الداالتية والقبقول والزرباوات وما صارت إليه اإلنكشارية والسباهية في القرن الثامن
عشر بعد انحطاط السلطنة ...كأنها "فاطميون" و"الباقر" و"العباس" و"حزب الله" ،وأي
قارئ يستطيع التعداد ببساطة ،على كل الجهات.
فطبيعي أن تفعل الزالزل في بالد كتلك ما فعلته ،وطبيعي أن تفعل ما فعلته بنا اآلن،
ما لم تتغير األحوال جذرياً!
571
أوراق العدد المزدوج 02-91
تحتفل دول العالم في 2آذار من كل عام بيوم المرأة العالمي ،بالرغم من تباين واقع
المرأة تبعاً لتباين الحالة الحضارية والفكرية واالقتصادية والسياسية للدول والمجتمعات،
ومدى سطوة النظام البطريركي والعالقات التقليدية المحافظة فيها ،ففي حين تسود
أغلب المجتمعات الغربية الديمقراطية مبادئ المساواة اإلنسانية والعدالة االجتماعية -
وإن كنا نشهد تراجعاً ملحوظ ًا في هذه القيم في مع تنامي ظاهرة األنظمة الشعبوية-
نجد دول العالم الثالث ،بما في ذلك بلدان المنطقة العربية وسوريا تحديداً ،ال تزال ترزخ
تحت نير النظام البطريركي األبوي ،وسطوة الثقافة التقليدية وهيمنتها على المجتمع،
والتي كرستها النظم االستبدادية عبر عقود من الزمن ،من خالل وسائل اإلعالم
واإلعالنات والبرامج التلفزيونية واإلذاعية والمناهج التعليمية ،وحمتها بقوة الدستور
والنصوص القانونية المنبثقة عنه ،والمستندة في مرجعيتها إلى العرف باعتباره أحد
مصادر التشريع ،وإلى النصوص واالجتهادات الدينية عمالً بالمادة الثالثة من الدستور
السوري التي تنص على أن" :الفقه اإلسالمي مصدر رئيس للتشريع" ،األمر الذي
كرس دونية المرأة وتفوق الرجل في الفضاءين العام والخاص ،على اعتبار أن المرأة
ناقصة "عقل ودين وحظ" ،مما حال وال يزال ،دون تحرر المرأة بشكل حقيقي ودون
تمكينها من ممارسة دورها الفعال في بناء األسرة والمجتمع ،بالرغم من جهود ومحاوالت
منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية عبر العقود الماضية لمساعدتها
على تجاوز ذلك.
ال شك أن تأكيد هذه الحقيقة يتطلب العودة قليالً إلى الوراء ،يوم كان المجتمع السوري
مجتمعا مستق ار متماسكا ولو ظاهرياً ،وكانت المرأة النائب تدخل قبة البرلمان /مجلس
571
أوراق العدد المزدوج 02-91
الشعب ضمن الكوتا التي منحها لها النظام ،وتخرج منه كما دخلت ،دون أن تترك أي
بصمة تؤكد على عملها من أجل تحرر المرأة وحقها بالمساواة التامة بالحقوق والواجبات
مع الرجل ،أو العمل جدياً على صياغة نصوص قانونية تُحسن من واقع المرأة في
الريف أو في البيئات المدنية التقليدية ،وتمنع استعبادها من قبل األسرة والمجتمع،
وتحد من حق األهل في إزهاق روحها ،كما في حال صياغة نص قانوني يجرم القتل
"بدافع الشرف" ،باعتباره يشكل جريمة قتل عمد وليس جريمة شرف .ويعود هذا التقصير
من وجهة نظرنا إلى أن المرأة النائب كانت تهتم بإرضاء الجهات التي دفعت بها إلى
هذا الموقع ،وليس لخدمة مشروع نسوي حقيقي وحضاري ،باإلضافة إلى ذلك ،فإن
هذه النائب هي في األصل لم تغادر العقلية الذكورية ولم تُخرج نفسها من إطار الثقافة
البطريركية وقيمها وتعاليمها السائدة.
واكب ذلك توجه منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية التقدمية السورية آنذاك،
باتجاه إطالق مناشدات خجولة للحكومة السورية ،من أجل تحسين قوانين األحوال
الشخصية وتجميلها ،كرفع سن الحضانة لألطفال ،دون أن يعني ذلك التطرق لحقوق
المرأة األم أو لحقوق الطفل المثلى.
وقد تطورت هذه المناشدات بعد عام ،1111إذ تحولت إلى مطالبات بضرورة تعديل
القوانين بما يخدم قضية تحرر المرأة ومساواتها التامة ،لتتماشى مع ما وقعت عليه
الحكومة السورية وألزمت نفسها به بمجرد مصادقتها على اتفاقية "إلغاء كل أشكال
العنف ضد المرأة" (السيداو) ،إال أن مطالباتها هذه لم تخرج عن حدود وإطار المنتديات
الثقافية وحوارات النخب السياسية والناشطات والناشطين في الحقل العام ،األمر الذي
خلق هوة بين الرائدات النسويات آنذاك ،وبين المرأة الريفية البسيطة ،األمية أو شبه
األمية ،القابعة في األرياف وأحياء السكن العشوائي في المدن ،والتي تحولت إلى مجرد
572
أوراق العدد المزدوج 02-91
يد عاملة رخيصة ،تقارع الفقر والذل مع أطفالها وزوجها ،أو تلك المرأة التقليدية المدينية
المستلبة حبيسة السلطة الذكورية وتسلطها الغاشم.
لذا عندما جاءت انتفاضة السوريين أو ثورة حلم "الكرامة والعدالة اإلنسانية" ،كانت
المرأة والرجل معاً منذ اللحظات األول ،منددين بذل االستعباد والتسلط ،ومستعدين
لمواجهة آلة القتل والدمار واالعتقال والتعذيب في سبيل الكرامة والحرية ،وكان تقبل
ِ
المشاركة في عمليات اإلغاثة أو اإلسعاف أم اًر الرجل للمرأة المحمولة على األكتاف أو
الفتاً ،لكن عنف النظام في مواجهة السوريين ،وما تبعه من نزوح ولجوء إلى المخيمات
في تركيا ولبنان واألردن وصوال إلى كردستان العراق ،كشف النقاب عن حقيقة تردي
الواقع القانوني واالجتماعي واالقتصادي والسياسي للمرأة السورية التقليدية ،والذي تجلى
عبر كثير من اآلفات المجتمعية ،سواء ما تعلق منها بعقود الزواج المختلفة التسميات
والتي تصب في مجملها في مصب االتجار بالفتيات والنساء ،أو ما تعلق بمشكلة
األطفال مكتومي القيد الذين شكلوا وال يزالون ،إشكالية ذات ُبعد اجتماعي وإنساني
على أكثر من صعيد.
نحن ال نجافي الحقيقة إذا أكدنا على صوابية ما دعت وما تزال تدعو إليه المنظمات
المدنية والنسوية ،من تشجيع النساء على كسر حاجز الصمت ،وفضح الممارسات
الالإنسانية التي يتعرضن لها سواء في البيت أو في المجتمع ،لكننا ال نجافي الحقيقة
أيضاً ،إن قلنا أن هيمنة الثقافة التقليدية وقيمها البطريركية على الحياة العامة والخاصة،
ستتسبب في تعريض تلك النسوة والفتيات ألوضاع أكثر صعوبة وألخطار قد تصل
حد القتل ،وقد شهد المجتمع قيام العديد من اآلباء أو األبناء أو األقارب ،بقتل فتيات
أو نساء العائلة ،ممن جرى اعتقالهن وتعذيبهن فور إطالق سراحهن ،وذلك بقصد
التخلص من وصمة العار ،دون أن تَجد تلك النسوة من ينجدهن أو يقدم لهن يد العون
أو سبل الحماية.
573
أوراق العدد المزدوج 02-91
هنا من المفيد اإلشارة إلى أن ثمة اختالف في ظروف وآليات عمل منظمات المجتمع
المدني والمنظمات النسوية المحلية ،عن نظيرتها األوروبية ذات االهتمام المشترك،
التي تتمتع بحماية القانون ودعمه ،مما يتيح لها العمل في بيئة مواتية وآمنة أوالً ،ويتيح
لها اللجوء إلى إعمال القانون في كل ما يتضمنه من نصوص لصيانة ورعاية حقوق
اإلنسان وحقوق المرأة والطفل ،وأولها الحق في الحياة واألمان والكرامة اإلنسانية ثانياً،
وقد مكنها هذا من تحقق أهدافها في تأمين ما تحتاجه المرأة المعنفة من حماية ودعم
وتمكين لتولي شؤونها وشؤون أطفالها بنفسها.
على خالف ذلك ،فأن عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية السورية،
كان دوماً محفوف بالصعوبات ،وبات أكثر خطورة مع تحول الثورة إلى حرب دموية،
وسيطرة الجماعات اإلسالمية المسلحة على مناطق عدة من سوريا ،مما جعل هذه
المنظمات عاجزة عن تقديم أبسط أشكال الدعم والحماية للمرأة السورية في أماكن
تواجدها ،سواء ما تعلق بحمايتها من عنف الحياة اليومية في المخيمات ،أو عنف
العائلة والمجتمع ،أو عنف سلطات األمر الواقع.
ما من شك أن الحرب السورية لم تخلق هذا الواقع بكل رداءته ،وإنما كانت كاشفاً له
وفاضحاً لغياب دور أجهزة الدولة وعجزها المتنامي أثناء الحرب وما بعدها وحتى اآلن،
عن أداء مهامها والقيام بوظائفها ،بحيث بات يتوجب على المعنيين في صياغة مستقبل
سوريا أن يأخذوا بعين االعتبار:
أنه وبالرغم من توقف العمليات العسكرية إال أن الواقع المجتمعي لم يحظى باالستقرار،
فتفتت سوريا جغرافياً وسياسياً منذ أكثر من عقد من الزمن ،نتيجة حرب النظام ضد
شعبه ،والتي أدت إلى خضوع البنى المجتمعية في كل منطقة لقوى وقوانين سلطة
574
أوراق العدد المزدوج 02-91
األمر الواقع ،وخضوع األخيرة في الوقت ذاته ،إلمالءات القوى الداعمة لها إقليمية
كانت أو دولية ،األمر الذي خلق متغيرات اجتماعية واضحة امتدت لتطال الحياة
االجتماعية والثقافية ،بحيث لم يعد ثمة واقع اجتماعي واحد ،وال ثمة امرأة سورية
واحدة ،وإنما بنى اجتماعية مختلفة ونساء سوريات متباينات في ظروفهن ومعاناتهن
بتباين مناطق تواجدهن ،فاحتياجات المرأة السورية في مناطق سيطرة النظام تختلف
عن احتياجاتها في مناطق سيطرة قوات الحماية الكردية "قسد" ،كذلك تختلف عن تلك
المتواجدة في مناطق سيطرة القوات التركية ،وعن احتياجات ومعاناة المرأة في المناطق
الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام /النصرة سابقاً ،فضالً عن السوريات في مخيمات
اللجوء في دول الجوار ،ونظيراتهن في الدول الغربية التي منحتهن كزوجات وأطفال
امتيازات حقوقية ومالية أدت الستقاللهن االقتصادي ،وبالتالي التحرر من هيمنة الرجل
بصفته معيال لألسرة.
على النقيض من ذلك نجد أن معاناة المرأة السورية ،في مخيمات اللجوء طالت كافة
مناحي الحياة ،بل امتدت لتشمل كل الفئات العمرية ومن كال الجنسين ،بحيث باتت
منظمات اإلغاثة الدولية كما المنظمات المحلية عاجزين عن االستمرار في تقديم العون
واإلغاثة المناسبين لهذه المخيمات وألعداد قاطنيها المتزايدة.
وقد عانت المرأة وال تزال ،في مناطق سيطرة الجماعات الجهادية المتشددة (داعش
وهيئة تحرير الشام/النصرة سابقاً) ،في محافظة الرقة سابقا ،وفي إدلب ومحيطها،
إضافة إلى الظروف االقتصادية والمعيشية الصعبة من تخلف وعسف الظالميين
والمتشددين اإلسالميين ومن جور "محاكمهم الشرعية" غير القانونية ،وأحكامها الصادرة
عن مقاتلينُ ،نصبوا ليكونوا قضاة فيها ،والتي تصل حد اإلعدام ،وأحكام الرجم والجلد
لفتيات ونساء ،فقط لمخالفتهن قواعد الشريعة الصارمة ،سواء فيما يتعلق باللباس أو
بممارسة بعض الحقوق الشخصية كالحق في التعلم أو التنقل.
575
أوراق العدد المزدوج 02-91
في حين تعاني المرأة في مناطق سيطرة النظام ،من الفساد السياسي واالقتصادي ومن
االستبداد الديني ،خاصة بعدما عمد النظام إلى مداراة عجزه عن القيام بوظائفه ،بنقل
بعض من صالحياته ومهامه إلى رجاالت الدين ،مما أوجب منحهم المزيد من
االمتيازات لتمكينهم من القيام بتلك المهام ،األمر الذي أدى إلى تمدد وتغول اإلسالم
السياسي في الدولة والمجتمع ،والذي أفرز فيما بعد ،القانون رقم ( )22لعام ،1122
كتعبير عن هذا الواقع الجديد ،وبموجبه تم تكريس ليس هيمنة رجال الدين وسطوتهم
على الحياة المجتمعية الفكرية والقانونية واالقتصادية والسياسية فحسب ،بل أيضا منح
بموجب المادة ( )1من القانون المذكور ،نساء تنظيم "القبيسيات" الحظوة بعدما أطلق
عليهن أسم "عالمات القرآن الكريم" ،واللواتي تكررت اإلشارة لهن في أكثر من مادة،
فأجاز ل ُهن هذا القانون التدخل في الحياة العامة والخاصة للمجتمع ،األمر الذي سيساهم
في تقييد عقل النساء والفتيات على وجه الخصوص ،بقيود الثقافة الذكورية البطريركية
ومفاهيم الفكر الشمولي الغيبي ،وهذا بدوره سيترك بال شك ،آثا اًر سلبية على األسرة
والمجتمع معا ،كما سيحد من قدرة وعمل المنظمات المدنية والنسوية ذات الطابع
الديمقراطي في الداخل ،إن وجدت ،وسيعيق بالتالي محاوالتهم تقديم أشكال من
المساعدة والتمكين للمرأة في هذه المناطق.
أما النساء في مناطق الحماية الكردية فعانين وال يزلن ،من زجهن قس اًر في األعمال
الحربية واالستخباراتية ،بذريعة مساواة النساء بالرجال في كافة المجاالت ،وبالتالي
إخضاعهن لحياة تتعارض مع طموحاتهن وتطلعاتهن ،في حين تُخضع سلطات الحماية
الكردية المنظمات النسوية والحقوقية واإلنسانية غير التابعة لها للمراقبة الصارمة وتحد
من حرية الحركة لديها.
حمل هذا الواقع المتشظي ،باإلضافة إلى فساد سلطة الدولة وعجزها عن تلبية
االحتياجات األساسية للحياة المجتمعية بالحد األدنى ،الكثير من األزمات الحياتية
576
أوراق العدد المزدوج 02-91
والنفسية الضاغطة ،خاصة لدى ذكور العائلة ورجالها لما خلفته من إحساس بالضعف
والعجز وعدم القدرة على التكسب وتأمين الرزق ،وقد كانت المرأة الضحية األكبر لهذا
الواقع ،إذ غدت أداة تفريغ لغضب وعنف الذكورة ،سواء بتعريضها وأطفالها للضرب
والشتم المباشر ،والذ ي كثي ار ما كان يودي بحياتها ،أو بتعريضها للطالق والطرد مع
أبنائها ،وعليه فقد باتت المرأة السورية زوجة كانت أم أختا أم ابنة أو أما ،ضحية على
أكثر من صعيد في آن واحد ،فهي ضحية النظام البطريركي وتخلفه وسطوته وجبروته
أوالً وضحية فساده عجزه ثانيا ،وضحية عجز وضعف المنظمات المدنية والنسوية
ثالثا ،وضحية تخلف وظلم واستبداد سلطات األمر الواقع رابعا ،وضحية الظروف
الحياتية المتعثرة في أماكن ومخيمات اللجوء خامسا وليس أخيرا.
لهذا فنحن نرى أن واقع المرأة السورية ،خاصة في أماكن ومخيمات اللجوء ،وفي
مناطق سيطرة قوى األمر الواقع بما فيها سيطرة النظام ،سيستمر بكل سوداويته ورداءته
بانتظار أن تتوافق الدول الفاعلة في الملف السوري على حل للقضية السورية ،وهذا
يعني أن المنظمات المدنية والنسوية السورية ستبقى عاجزة عن تقديم العون والمساعدة
الحقيقيين لتلك النسوة ،ومن هنا يمكننا التأكيد أن المرأة السورية ال تحتاج إلى الورود
وعبارات التهنئة بيوم المرأة العالمي ،ألنها أبعد ما تكون عن فرح العيد وبهجته ،وألنها
تحتاج حقا ،إلى كل ما من شأنه مساعدتها على تأمين مأوى لها وألطفالها ومساعدتها
على إطعامهم وتأمين العالج الطبي الالزم لها ولهم ،وتقديم ما يمكن تقديمه من الدعم
القانوني من أجل تمكينها من الوصل إلى حقوقها المادية والمعنوية اليوم وغدا.
577
أوراق العدد المزدوج 02-91
هيئة التحرير
579