You are on page 1of 16

‫التجربة الشعرية عند األمير عبد القادر الجزائري‪.

‬‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫يتبدى للدارس لشخصية األمير عبد القادر الجزائري جملة من الشخصيات‪ ،‬فهو المجاه‪##‬د‬
‫المكافح المغوار‪ ،‬وهو الفارس الذي ال ُيشُق له غبار‪ ،‬وهو الفقيه العّالمة الموس‪##‬وعي‪ ،‬البح‪##‬ر‬
‫الزاخر في شتى العلوم والفنون‪ ،‬وهو المتصوف الشاعر‪ ،‬والشاعر المتصوف‪ ،‬ال‪##‬ذي ُع رف‬
‫بتغريده في سماوات الشعر‪ ،‬وتحليقه في آفاقه الرحبة‪ ،‬وطرقه لمختلف األغراض الشعرية‪.‬‬
‫ومن خالل هذا البحث نسعى إللقاء بعض األضواء على تجربة األمير عبد القادر الشعرية‪،‬‬
‫وذلك من خالل تلمس أهم األغراض التي طرقها األمير‪ ،‬بغرض تجلية أهم السمات التي طبعت‬
‫هذه التجربة‪ ،‬وليس من شك في أن مئات الصفحات ال يمكن أن ُتقدم دراسة وافي‪##‬ة‪ ،‬وإحاط‪##‬ة‬
‫شاملة‪ ،‬بشعر األمير عبد القادر من مختلف الجوانب الفنية‪ ،‬واألسلوبية‪ ،‬والتركيبية‪.‬‬
‫إن هذه الصفحات تقدم لمحات مقتضبة عن التجربة الشعرية لدى األمير عبد القادر‪ ،‬وذلك‬
‫نظرًا التساع تجربة األمير‪ ،‬وعمقها‪ ،‬وغموضها في كثير من الجوانب‪ ،‬والسيما منها الج‪##‬انب‬
‫الصوفي‪ ،‬الذي يحتاج بمفرده إلى دراسات مستقلة‪ ،‬لكي يستطيع الدارس تحليل‪##‬ه‪ ،‬وتش‪##‬ريحه‪،‬‬
‫وفهم كنهه‪ ،‬وإدراك أعماقه‪.‬‬
‫وقبل الولوج إلى الكون الشعري عند األمير عبد القادر‪ ،‬نرى أنه من المفيد أن نقدم لمحة‬
‫مقتضبة عن شخصيته‪ ،‬ومكانته‪ ،‬مما ُيسهم في نفض بعض الغبار على أفك‪##‬اره‪ ،‬ورؤاه ال‪##‬تي‬
‫ستنتصب لنا‪ ،‬ونتصدى لها من خالل شعره‪.‬‬
‫إن األمير عبد القادر واحد من الشخصيات الفذة التي ستظل األجيال ت‪##‬ذكرها على م‪##‬ر‬
‫األزمان‪ ،‬وهو مصباح من المصابيح الوهاجة التي قلما يجود الزمان بأمثالها‪ ،‬وبادئ ذي ب‪##‬دء‬
‫نقدم هذا الوصف الشامل الذي أورده العّالمة الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوان‪#‬ه‪ ،‬وال‪#‬ذي‬
‫وصفه به ابنه األمير محمد في كتابه (تحفة الزائر في تاريخ الجزائر واألمير عبد الق‪##‬ادر)‪ ،‬إذ‬
‫يقول عنه‪:‬‬
‫«كان معتدل الطول‪ ،‬مليء الجسم‪ ،‬يعلوه رأس ضخم‪ ،‬يتوجه شعر كّث مختضب بالسواد‪ .‬يبرز‬
‫من بين عينيه الشهالوين أنف أقنى‪ ،‬مطّل على فم مطبق‪ ،‬تموج فيه ابتسامة تطمع بحنان ناعم‪،‬‬
‫‪#‬توفز‪،‬‬‫‪#‬د كالمس‪#‬‬‫‪#‬تقيمًا‪ ،‬ويقع‪#‬‬
‫‪#‬ي مس‪#‬‬ ‫وراءه حزم حازم‪ ،‬يشع من عينين نافذتين كالكهرباء‪ .‬يمش‪#‬‬
‫وينهض بعزم‪ ،‬إذا ركب وثب إلى ظهر الج‪#‬واد وثب‪ً#‬ا‪ ،‬وبقي إلى آخ‪#‬ر أيام‪#‬ه يحّب الخي‪#‬ل‪،‬‬
‫‪#‬بح‬‫ويداعبها‪،‬وُيعنى بها‪ ،‬وال يسير إال مزعًا وإرقاًال‪ .‬يصحو من نومه قبل الفجر‪ ،‬فيصّلي الص‪#‬‬
‫‪#‬زوغ‬ ‫‪#‬د ب‪#‬‬
‫‪#‬ا بع‪#‬‬‫حاضرًا‪ ،‬ويقرأ ورده المعتاد بصوت هادئ مسموع‪ ،‬ثم يضطجع‪ ،‬فيغفو إلى م‪#‬‬
‫‪#‬اب‬‫‪#‬ه‪ ،‬أو كت‪#‬‬‫الشمس‪ ،‬وينهض ليمأل نهاره بعمل مستمر‪ .‬ال ينقطع لحظة واحدة عن عمل يؤدي‪#‬‬
‫‪#‬ائله من‬‫‪#‬ثر رس‪#‬‬ ‫‪#‬ا‪ ...‬وأك‪#‬‬‫‪#‬الة يحّبره‪#‬‬‫‪#‬ا‪ ،‬أو رس‪#‬‬ ‫يستفيد منه‪ ،‬أو مؤلف يعّده‪ ،‬أو قصيدة ينظمه‪#‬‬
‫المطوالت‪ ،‬فإذا وجد فضلة من وقت اشترك في خياطة ثوب‪ ،‬أو مباراة بالشطرنج م‪##‬ع أح‪##‬د‬
‫أخصائه‪.‬‬
‫وكان ُيجيد استخدام اإلبرة في السلم إجادته استخدام السيف في الحرب‪ ،‬ال يه‪##‬دأ و ال يف‪##‬تر‪:‬‬
‫عامًال ‪ ،‬جادًا طوال يومه‪ ،‬حتى يصلي العشاء اآلخرة‪ ،‬فيذهب إلى فراشه ليستريح من عناء نهار‬
‫كامل‪ ،‬لم يترك فيه دقيقة واحدة بغير عمل‪ .‬وكان حاّد ال‪##‬ذكاء‪ ،‬عجيب الحافظ‪##‬ة‪ ،‬بارع‪ً##‬ا في‬

‫‪1‬‬
‫تصريف األمور‪ ،‬شديد التمسك بدينه‪ ،‬حافظًا عهوده‪ ،‬ووعوده‪ ،‬غير أنه كان عصبي الم‪##‬زاج‪،‬‬
‫عنيفًا في الدفاع عما يعتقد أنه حق‪ ،‬ال يلين للقوة مهما قست وطغت‪ ،‬فيه ش‪##‬يء من عنهجي‪##‬ة‬
‫البادية وعنادها على ليونة في القلب أمام الجمال‪ ،‬وتراٍخ لعزة المرأة»(‪.)1‬‬
‫وال يختلف اثنان في شجاعة األمير عبد القادر‪ ،‬وبسالته الخارقة‪ ،‬فال نعجب عندما يقترح‬
‫عليه والده الشيخ محيي الدين قيادة الحركة الجهادية‪ ،‬فُيلبي مباش‪##‬رة دون أي اع‪##‬تراض على‬
‫الرغم من حداثة سنه قائًال ‪« :‬إن واجبي طاعة أوامر والدي»‪.‬‬
‫‪#‬د‬‫‪#‬ه العقي‪#‬‬‫‪#‬ال عن‪#‬‬‫وقد كان األمير حاكمًا عادًال‪ ،‬وفارسًا مقدامًا‪ ،‬وشاعرًا خنذيذًا‪ ،‬وقائدًا فذًا‪ ،‬فق‪#‬‬
‫اإلنجليزي شارل هنري تشرشل متحدثًا عن شخصيته‪ ،‬وعن نظرة مواطنيه إلي‪##‬ه‪ :‬إنهم ك‪##‬انوا‬
‫ينظرون إليه «بتقديس خرافي إلى رجل يتمتع بشخصية رسمية‪ ،‬ويتقدم بال خوف دون أن يلحقه‬
‫‪#‬كل‬ ‫أذى حيثما هدد الخطر‪ ،‬فهو مرة يمرق من صفوف الرماة األعداء‪ ،‬ومرة يطلق النار في ش‪#‬‬
‫‪#‬ل‬ ‫‪#‬اض إلى قناب‪#‬‬ ‫تربيعي‪ ،‬ويكتسح حربات البنادق بسيفه‪ ،‬وأخرى يقف دون حراك مشيرًا بامتع‪#‬‬
‫‪#‬دوة في‬ ‫‪#‬ل ق‪#‬‬‫‪#‬ان الرج‪#‬‬ ‫المدافع وهي تئز حول رأسه‪ ،‬وإلى القذائف وهي تنفجر حول قدميه‪ .‬فك‪#‬‬
‫الشجاعة والثبات مثل الحلم والعدل مع خصومه أسرى بين يديه‪ ،‬فكان المح‪##‬ارب الموه‪##‬وب‪،‬‬
‫‪#‬برت‬ ‫‪#‬ة أج‪#‬‬‫والحاكم الفذ‪ ،‬فسجل له التاريخ في كل ذلك‪ ،‬وفي جهاده بشكل أخص مواقف بطولي‪#‬‬
‫‪#‬دريب‬ ‫‪#‬دوره للت‪#‬‬‫‪#‬تغلها ب‪#‬‬‫أعتى الجنراالت الفرنسيين على إبرام هدنات معه‪ ،‬واتفاقيات كان يس‪#‬‬
‫والتنظيم واستيراد السالح من خارج الجزائر‪ ،‬فمضى على هذا النهج حتى كانت الفاجعة ال‪##‬تي‬
‫اضطرته إلى وضع السالح‪ ،‬عام‪1947‬م بعد الخيانات والمؤامرات‪ ،‬بشروط أخّل بها المحتلون‬
‫‪#‬ا‬‫‪#‬ا وجهوه‪#‬‬ ‫الفرنسيون‪ ،‬فبدل أن ُيفسحوا له في باخرة لهم لالتجاه إلى المشرق العربي أو تركي‪#‬‬
‫نحو فرنسا‪ ،‬فبات في وضع أسير تحت اإلقامة الجبرية في أمبواز بجنوب فرنس‪##‬ا‪ ،‬حيث مكث‬
‫حتى عام‪1852‬م‪ ،‬حين أطلق سراحه‪ ،‬فانتقل إلى إسطنبول‪ ،‬فأهداه السلطان العثم‪##‬اني قص‪##‬رًا‬
‫في(بروسة) لم يمكث فيه أكثر من سنتين بعدها قّر ر االستقرار في دمشق‪ ،‬منطلقًا منها في عدة‬
‫رحالت داخل الوطن العربي وخارجه حتى وفاته سنة‪1300( :‬هـ‪1883/‬م)»(‪.)2‬‬
‫األغراض الشعرية عند األمير عبد القادر‪:‬‬
‫لم يكن األمير عبد القادر رجل سياسة وجهاد‪ ،‬وشجاعة فحسب‪ ،‬بل كان أيضًا رجل فكر‬
‫وعلم‪ ،‬وأدب‪ُ ،‬ع رف بعكوفه على القراءة‪ ،‬واجتهاده الكبير في سبيل التحصيل العلمي‪ ،‬حيث إنه‬
‫اطلع على الكثير من الكتب الفكرية العالمية مترجمة‪ ،‬كما راز في التراث الشعري العربي بدءًا‬
‫من العصر الجاهلي‪ ،‬حتى العباسي‪ ،‬وحفظ عشرات األبيات لفحول الشعراء‪ ،‬وهذا ما جعل منه‬
‫مؤلفًا‪ ،‬وكاتبًا‪ ،‬وباحثًا‪ ،‬وشاعرًا فذًا‪.‬‬
‫إن المتتبع لتجربة األمير الشعرية ُيدرك أن الشعر قد الزم األمير طوال حياته‪ ،‬وكان يحُل‬
‫معه حيثما حّل ‪ ،‬وكان أنيسه وصاحبه أيام الفرح والقرح‪ ،‬وفي ليالي الشجن والسرور‪ ،‬ورافق‪##‬ه‬
‫‪#‬ق‪،‬‬ ‫عندما أضحى أسيرًا في فرنسا‪ ،‬وبعد ذلك في تركيا‪ ،‬وفي المدينة المنورة‪ ،‬ومكة‪ ،‬وفي دمش‪#‬‬
‫وغيرها من األصقاع التي أبدع فيها األمير قصائده العذاب‪.‬‬
‫وقبل الولوج إلى عوالم األمير عبد القادر الشعرية‪ ،‬تجدر اإلشارة إلى أن الكثير من الباحثين‬
‫‪#‬اين‬ ‫‪#‬ه‪ ،‬بتب‪#‬‬‫‪#‬اين من حيث قيمت‪#‬‬ ‫‪#‬ه متب‪#‬‬ ‫الذين تصدوا لشعر األمير بالدراسة والتحليل‪ ،‬يرون بأن‪#‬‬
‫‪#‬أن‬ ‫‪#‬رى ب‪#‬‬ ‫األغراض‪ ،‬وبانتقال األمير من موضوع إلى آخر‪ .‬فهذا األستاذ األديب رابح بونار ي‪#‬‬
‫‪2‬‬
‫‪#‬وف‪،‬‬ ‫‪#‬ر‪ ،‬والتص‪#‬‬ ‫‪#‬ة‪ ،‬والفخ‪#‬‬ ‫‪#‬يع الحماس‪#‬‬‫شعر األمير تظهر عليه روح شعرية مقبولة في مواض‪#‬‬
‫‪#‬فاف‪ ،‬واألغالط‬ ‫‪#‬ف‪ ،‬واإلس‪#‬‬ ‫‪#‬ه التكل‪#‬‬
‫والغزل‪ .‬وأما إنشاؤه في غير هذه الموضوعات فيبدو علي‪#‬‬
‫النحوية‪ ،‬وضعف الخيال‪ ،‬وفتور العاطفة‪.‬‬
‫وفي دراسة الدكتور فؤاد صالح السيد أكد على أن شعر األمير عبد الق‪#‬ادر من الناحي‪#‬ة‬
‫‪#‬ر‬‫‪#‬عر الفخ‪#‬‬ ‫‪#‬رى أن ش‪#‬‬ ‫‪#‬عرية‪ ،‬إذ ي‪#‬‬‫التاريخية ارتبطت كل مرحلة منه بفن معين من الفنون الش‪#‬‬
‫والحماسة هو أوثق صلة بحياة األمير من شعر الوصف‪ ،‬وُيرجع ذلك إلى أن أشعاره في الفخر‬
‫والحماسة هي انعكاس مباشر‪ ،‬ونتيجة لمعاناته في حروبه‪ ،‬وهي تعبر عن تجربته الحربية‪.‬‬
‫‪#‬ود‬‫ومن الناحية النفسية رأى أن األمير ارتاح لبعض الفنون الشعرية أكثر من غيرها‪ ،‬وهذا يع‪#‬‬
‫إلى الجو النفسي الذي مّر به األمير في كل مرحلة من مراحل حياته‪ ،‬وقد ضرب مثًال بش‪##‬عره‬
‫الصوفي‪ ،‬ومساجالته مع شيخه محمد الشاذلي القسنطيني‪ ،‬فهو األقرب كما يرى الباحث لألمير‬
‫أثناء أسره باألمبواز في فرنسا‪.‬‬
‫أما شعر المدح األدبي فقد كان األكثر صلة به أثناء وجوده في دمشق‪.‬‬
‫أوًال‪:‬الفخر والحماسة‪:‬‬
‫ُيجمع الكثير من الدارسين لشعر الفخر والحماسة عند األمير عبد القادر على أنه ينقسم إلى‬
‫قسمين رئيسين‪ :‬الفخر الطبيعي(الفطري)‪ ،‬والفخر الوضعي(االكتسابي)‪ ،‬ويرون بأنه أح‪##‬د أهم‬
‫الفنون الشعرية التي عالجها األمير في ديوانه‪ ،‬وذلك الرتباطه بنض‪##‬ال األم‪##‬ير‪ ،‬وبطوالت‪##‬ه‪،‬‬
‫وحماسته‪ ،‬والتزامه بقضايا أمته‪ ،‬وفي مقدمتها قضية التحرر‪ ،‬والخالص من المستعمر الفرنسي‪.‬‬
‫ومن جانب آخر فال نستغرب من استكثار األمير للفخر والحماسة‪،‬فهو ابن عائلة ش‪##‬ريفة‪ ،‬ذات‬
‫حسب ونسب‪ ،‬عظيمة الشأن‪ ،‬فهو ينتمي إلى«الدوحة النبوية الشريفة‪ ،‬فهو من الفرع الحس‪##‬ني‪،‬‬
‫الذي يستمد قدره من رسول اهلل‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ .-‬من هنا كانت حتمي‪##‬ة تق‪##‬ديم ال‪##‬والء‬
‫‪#‬تقرار‬
‫‪#‬ه االس‪#‬‬ ‫‪#‬رء لنفس‪#‬‬ ‫والطاعة لهذه الدوحة النبوية‪ ،‬وطلب الشفاعة النبوية‪ ،‬وبذلك يؤمن الم‪#‬‬
‫الروحي والنفسي‪:‬‬
‫أبُو نا رسوُل اهلل خيُر الورى ُط را فمن في الورى يبغي يطاولنا قدرا‬
‫والنا غدًا دينًا وفرضًا ُمَح تمًا على كل ذي لب به يأمُن الغدرا‬
‫‪#‬ة‬
‫‪#‬ال للمقارن‪#‬‬‫‪#‬ه ال مج‪#‬‬ ‫ويكتفي األمير بهذا الفخر عن كل منصب‪ ،‬وعن كل رتبة دنيوية‪ ،‬ألن‪#‬‬
‫والمفاضلة بين فخر وفخر‪ ،‬خصوصًا إذا كانت المقارنة والمفاضلة بين فخر نبوي شريف‪ ،‬وبين‬
‫فخر مادي دنيوي‪.‬‬
‫وحسبي بهذا الفخر من ُك ل منصٍب وعن رتبة تسمو وبيضاء أو صفرا»(‪.)3‬‬
‫ويؤكد األمير تمسكه العميق‪ ،‬وحبه الكبير هلل سبحانه تعالى‪ ،‬ولرسولنا الكريم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وسريانه في عروقه‪ ،‬وهو أساس عزته‪ ،‬ونجاحه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فال عزة وال كرامة‬
‫من دون إيماننا باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬واتباعنا لسنة رسول اهلل الصادق األمين‪:‬‬
‫بعليائنا‪ ،‬يعلو الفخار‪ ،‬وإن يكن به قد سما قوم ونالوا بها نصرا‬
‫وباهلل أضحى عزنا‪ ،‬وجمالنا بتقوى وعلم والتزود لألخرى‬
‫ومن رام إذالًال لنا قلت‪:‬حسبنا إله الورى‪ ،‬والجد‪،‬أنعم به ذخرا!‬
‫‪#‬ؤاد‬
‫وفي نفس سياق الفخر الطبيعي الفطري افتخر األمير بعروبته‪ ،‬وكما يرى الباحث ف‪#‬‬
‫صالح السيد ففخر األمير بعروبته ال يبرز بروزًا واضحًا‪ ،‬وال ينال حظًا وافرًا بالمقارنة مع ما‬
‫‪3‬‬
‫يحوزه فخره بنسبه النبوي الشريف‪ ،‬وكما رأى الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوانه بش‪##‬أن‬
‫‪#‬رن‬ ‫‪#‬و ق‪#‬‬‫فكرة افتخاره بعروبته أن«القومية العربية قد توضحت عنده‪ ،‬وقد سبق بها زمنه بنح‪#‬‬
‫تقريبًا‪.‬‬
‫ويعتبر األمير نفسه وارثًا للسيادة العربية‪ ،‬والمجد العربي اللذين يبقيان في نظر األمير‪ ،‬وإن‬
‫زالت السماء والجبال‪:‬‬
‫ورثنا سؤددًا للعرب يبقى وما تبقى السماء والجبال‬
‫أما المصدر الثاني من مصادر عظمة األمير‪ ،‬الذي أراد أن يحققه بإرادته تحقيقًا عملي‪ً##‬ا‪،‬‬
‫ويمارسه ممارسة تطبيقية‪ ،‬فهو النسب الوضعي االكتسابي‪ ،‬وتتوسع دائرة هذا الفخر حتى تشمل‬
‫‪#‬ته في‬ ‫‪#‬جاعته وحماس‪#‬‬ ‫الفخر بمناقبه األخالقية الحميدة‪ ،‬وبثقافته وعلمه‪ ،‬وباإلمارة والملك‪ ،‬وبش‪#‬‬
‫الحروب‪ ،‬ويمكننا تجاوزًا أن ندخل محيط هذه الدائرة أيضًا‪ ،‬فخره بشجاعة ص‪##‬حبه‪ ،‬وحس‪##‬ن‬
‫بالئهم‪ ،‬وبالبداوة»(‪.)4‬‬
‫ومن خالل الفخر الوضعي(االكتسابي) تجلت لنا مناقب األمير األخالقية الحميدة‪ ،‬وتبدت لنا‬
‫بطوالته‪،‬ومكارمه‪ ،‬ورحالته في سبيل طلب الُع ال‪ ،‬وتحمل األهوال والمشقات إلى غاية الوصول‬
‫‪#‬ايا في‬‫‪#‬ذه القض‪#‬‬ ‫‪#‬ع ه‪#‬‬ ‫إلى األهداف اإلنسانية النبيلة‪ ،‬واألخالق الكريمة الفاضلة‪ ،‬فقد صاغ جمي‪#‬‬
‫قصائد بديعة‪ ،‬وأبيات رقيقة‪ ،‬مثل قوله في هذه األبيات‪:‬‬
‫ومن فوق السماك لنا رجاُل‬ ‫لنا في ُك ل مكُر مة مجال‬
‫ركبنا للمكارم كل هول وخضنا أبحرًا ولها زجاُل‬
‫إذا عنا توانى الغيُر عجزًا فنحن الراحلون لها الِعجاُل‬
‫‪#‬ا‪،‬‬ ‫‪#‬ول إليه‪#‬‬ ‫ومن المناقب الحميدة التي كثيرًا ما نلفي األمير يسعى جاهدًا بغرض الوص‪#‬‬
‫ولـطالما رددها في شعره‪ :‬التنزه عن اللؤم‪ ،‬وصد الضيم واألذى‪ ،‬والحلم والك‪#‬رم‪ ،‬والسياس‪#‬ة‬
‫العادلة‪ ،‬والصبر واإلرادة‪.‬‬
‫‪#‬رم‪،‬‬ ‫فبالنسبة للتنزه عن اللؤم؛ فاألمير عبد القادر يؤكد دائمًا على ضرورة بذل النفس‪ ،‬والك‪#‬‬
‫والسعي إلى التضحية والوفاء‪ ،‬وهذا ما يحاول أن يبرزه لنا في أشعاره‪ ،‬إذ يحلو له أن تق‪##‬ترن‬
‫أقواله بأفعاله‪ ،‬ونستنتج أن هناك توافقا تاما بين النظرية والتطبيق‪ ،‬حيث إنه صادق كل الصدق‬
‫في تنزهه عن اللؤم قوًال وفعًال ‪ ،‬ويقول في هذا الشأن‪:‬‬
‫َو َأقَو الي ُتَص ِّد ُقَه ا الِفَع اُل‬ ‫َر َفْع َنا َثْو َبَنا َع ن ُك ِّل ُل‬
‫ؤٍم‬
‫ويذكرنا األمير من خالل جملة من أشعاره في الفخر والحماسة‪ ،‬والسيما ما يتعلق منه‪##‬ا‬
‫بصد الضيم واألذى بمواقف عنترة بن شداد العبسي‪ ،‬الذي يبرز لنا في أشعاره المفعمة بالفخر‬
‫كيف أنه يبيت على الطوى‪ ،‬حتى ينال به الكريم المأكل‪:‬‬
‫َح َّتى أَنال بِه َك ِر يَم الَم أَك ِل‬ ‫َو َلَقْد أبيُت َع َلى الطَو ى َو أَظ َّلُه‬
‫ويقول األمير عبد القادر‪ ،‬وهو بصدد الحديث عن صبره الطويل‪ ،‬وتحمل‪##‬ه للظم‪##‬أ الش‪##‬ديد‪،‬‬
‫وصبره على العطش الشديد‪:‬‬
‫َلَك اَن َلَنا َع َلى الَّظ ماِء احِتَم اُل‬ ‫َو َلْو َنْد ِر ي ِبماِء الُم ْز ِن َيزري‬
‫‪#‬فهاء‬‫أما الحلم والكرم والعطاء‪ ،‬فاألمير يشير في هذا الشأن إلى أن عقابه ومجازاته للس‪#‬‬
‫ليس بالتعسف‪ ،‬واالضطهاد‪ ،‬بل إنه بالحلم والتروي‪ ،‬والصبر والعفو‪:‬‬
‫َو َنْح ُلُم إْن َج َنى الُّس فهاُء َيْو مًا َو ِمن َقْبِل الُّس ؤاِل َلَنا َنَو اُل‬

‫‪4‬‬
‫وافتخر األمير بسياسته العادلة‪ ،‬وقيادته الحكيمة‪ ،‬وتدبيره الدقيق‪ ،‬ويشبه عدالته في بعض‬
‫أشعاره بعدالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي اهلل عنه‪ ،-‬ويتمنى أن تكون هذه السياسة‬
‫بمثابة السراج المنير‪ ،‬الذي يضيء الليالي الحالكات‪ ،‬ويبعد الظالم والجهل‪ ،‬بعد حين من الدهر‬
‫كادت أن ُتطفئ فيه أنوار الهداية واإليمان‪ ،‬حيث يقول األمير عن سياسته العادلة‪:‬‬
‫َو َقْد ِس ْر ُت فيهم ِس يرة ُع َم ِر ية وأْس َقْيُت َظ اِميها الهداَية فاْر َتَو ى‬
‫َو إنَي ألرجو أن أكون أنا الذي ُينيُر الَدياِج ي بالسنا َبْع َد َم ا َلَو ى‬
‫وُيدلل األمير على إرادته الفوالذية‪ ،‬وصبره الكبير عند اشتداد البأس قائًال ‪:‬‬
‫الجوُد والعلُم النفيُس وإنني ألنا الَص بوُر َلَدى اْش ِتداِد البأِس‬
‫وعن عدم توانيه‪ ،‬وتخاذله‪ ،‬ويأسه يشير األمير إلى أن جميع هذه الفضائل مرجعها األساس هو‬
‫الصبر‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫َو ِمْن َع َج ٍب َص ْبِر ي ِلُك ِل َك ِر يَه ٍة َو َح ْم ِلي أْثَقاًال ُتَج ُّل َع ِن الَع ِّد(‪)5‬‬
‫‪#‬ه‪،‬‬‫‪#‬ه‪ ،‬وثقافت‪#‬‬‫وكما افتخر األمير ببطوالته وشجاعته‪ ،‬وصبره‪ ،‬فكذلك الشأن بالنسبة لعلم‪#‬‬
‫وقدراته الفكرية‪ ،‬حيث يقول مفتخرًا بتمكنه من العلوم العربية‪ ،‬ودرايته بالحديث‪ ،‬والفقه المالكي‬
‫قائًال ‪:‬‬
‫َلَنا ُس ُفٌن َبْح ُر الَح ِديِث ِبَه ا َج َر ى َو َخ اَض ت َفَط اَب الِو ْر ُد ِم َّم ن ِبَه ا ارَتَو ى‬
‫َو إْن رمت ِفْق ه األْص بحي َفُع ج َع َلى َمَج اِلِس َنا َتْش َه ْد ِلَو اَء الَع َنا َد َو ا‬
‫َغ َدا ُيْذ ِع ُن الَبْص ري ُز ْه دًا ِبما َر َو ى‬ ‫َو إن ِش ْئَت َنْح وًا فانِح نا َتْلَق َم اَلُه‬
‫بدا لنا األمير عبد القادر في شعر الحماسة والحرب ُم دافعًا عن كرامة وطن‪##‬ه‪ ،‬يبث روح‬
‫الكفاح والعزم واإلقدام في نفوس المجاهدين‪ .‬وقد رسم لنا من خالل قصائده صورًا ال ُتمحى من‬
‫ذاكرة األجيال التي تأملت قصائده الجهادية والحماسية فنراه «يجذ رؤوس األبطال من ض‪##‬باط‬
‫الجيش الفرنسي العدو جذًا‪ ،‬بل يعتز بأنه يتقدم جنوده وال يدفعهم أمامه‪ ،‬فيطيح رأس قائد جيش‬
‫العدو مفتخرًا بقوة تسديده وتصويبه‪ ،‬معتزًا بجنوده من رجال أشداء ذوي عزم وعزيمة يبذلون‬
‫أنفسهم فداًء له‪ .‬وربما كان النموذج الذي يلخص هذه الروح التي تشيع في فخ‪##‬ره ومنازالت‪##‬ه‬
‫إحدى معاركه عام‪1832:‬م‪ ،‬وقد صار وجهًا لوجه أمام القائد الفرنسي‪ ،‬فتتداخل لديه هنا صور‬
‫المعارك السابقة مع المعارك الحاضرة‪ ،‬ليصير ذلك كله إحدى ص‪##‬ور البطول‪##‬ة واالس‪##‬تماتة‬
‫‪#‬ة في‬ ‫‪#‬ة واقعي‪#‬‬‫‪#‬ان دالل‪#‬‬ ‫والتحدي والصمود من لدنه وجنوده حوله‪ ،‬فتتجلى في ذلك مالمح المك‪#‬‬
‫جانب‪ ،‬وصورة رمزية في جانب آخر لحياة اإلنسان العربي عامة‪ ،‬وابن البادية خاص‪##‬ة‪ ،‬م‪##‬ع‬
‫حضور االعتزاز الرمزي بالنسب النبوي‪ ،‬إباًء وصرامة من جهة‪ ،‬وحمايًة رمزية للجه‪##‬اد في‬
‫‪#‬ع في‬ ‫‪#‬ا وق‪#‬‬‫سبيل الحق من جهة أخرى»(‪ ،)6‬وهذا ما تجلى بشكل بارز في وصفه الدقيق لم‪#‬‬
‫معركة خنق النطاح الشهيرة‪.‬‬
‫وعظمة األمير عبد القادر تتجلى في واقعيته‪ ،‬فهو المناضل الذي «يضرب بتواضعه لك‪##‬ل‬
‫واجب مثًال للمناضل الحقيقي‪ ،‬وهو البطل يضع بطولته في طليعة الجيش‪ ،‬وهو اآلمر يف‪##‬رض‬
‫بفعاليته طاعة أوامره‪ ،‬وهو األمير إمارته تسابق إلى االستشهاد‪ ،‬وتطلع إلى ساحات الشرف‪:‬‬
‫أميٌر إذا ما كان جيشي ُم قبًال وُم وقد ناِر الحرِب إذ لم يُك ن لها صال‬
‫إذا ما لقيُت الخيل إني ألوُل وإن جال أصحابي فإني لها تال‬
‫ُأدافُع عنهم ما يخافون من ردى فيشُك ُر ُك ل الخلِق من ُح سِن أفعاِلي‬
‫‪5‬‬
‫‪#‬دلولها‬
‫ويعرض األمير في سخرية الذعة بالسادات الذين يحملون من البطولة اسمها‪ ،‬وم‪#‬‬
‫‪#‬ارة‬
‫‪#‬اب اإلم‪#‬‬ ‫براء منهم‪ ،‬يدفعون الجيش إلى أتون المعارك ويحتمون بمؤخرته‪ ،‬متس‪#‬ترين بألق‪#‬‬
‫والقيادة‪:‬‬
‫ومن عادِة الَس اَداِت بالجيِش تحَتِمي وبي يحتِمي جيشي وُتحرُس أبَط اِلي‬
‫فالفروسية عند األمير ليست ادعاء‪ ،‬ولكنها تجارب مريرة‪ ،‬ومعاناة واقعية‪ ،‬وفخرياته ليست‬
‫قعقعة جوفاء‪ ،‬ولكنها صدى لقعقعات سالحه‪ ،‬وال هي برق خلب‪ ،‬ولكنها وميض س‪##‬يوف‪ ،‬وال‬
‫هي ضباب زائف‪ ،‬ولكنها غبار حروب‪ ،‬فهو الفعال قبل أن يقول‪ ،‬وهو الذي ُيفرق بين االدعاء‬
‫واألصالة‪ ،‬بين اللفظة الجوفاء‪ ،‬واللفظة المشحونة بالبرهان الواقعي‪ ،‬فهو القائل‪:‬‬
‫وما ُك ُّل شهِم يدعي السبق صادٌق إذا سيق للميدان بأن لُه الُخ سُر‬
‫إذا ثار نقُع الحرب والجّو مغبُر‬ ‫وما ُك ُّل من يعلو الجواد بفاِر ٍس‬
‫وما ُك ُّل سيف (ذو الفقار) بحِّده وال كل كَّر اٍر (عليا) إذا َك ُّر وا‬
‫وما ُك ُّل طيِر طار في الجو فاتكًا وما كل صباح إذا صرصر الَّص قُر‬
‫على قدم صدق‪ ،‬طبيبًا له خبُر‬ ‫فذا مثُل للمّدعين‪ ،‬ومن يكن‬
‫‪#‬رس‪ ،‬وال هي‬ ‫‪#‬ر الف‪#‬‬ ‫وليست الفروسية عند العرب‪ ،‬وال عند األمير براعة وثبة على ظه‪#‬‬
‫الشجاعة الخرقاء المتهورة‪ .‬إن الفروسية أخالق كريمة ومثل عليا‪ ،‬وهو ما نلمسه عند األم‪##‬ير‬
‫‪#‬المخبر‪،‬‬‫عبد القادر فهو حين يهديك صورته‪ ،‬يحذرك أن تقنع منها بالمظهر‪ ،‬فإن اعتزازه هو ب‪#‬‬
‫يرجوك أال تقف عند حد المالمح والسمات‪ ،‬ولكن أنفذ إلى األعماق وتلمس الذات األصلية‪:‬‬
‫لئن كان هذا الرسُم ُيعطيك ظاِه ري فليس ُيريك الرسُم صورتنا الُع ظمى‬
‫له همة تعلو بأخمصها النجما‬ ‫فثم وراء الرسم شخٌص ُم حٌبّج‬
‫وما المرُء بالوجِه الصبيِح افتخاُر ُه ولكنه بالعقِل والُخ ُلِق األسمى‬
‫وإن ُج معت للمرء هذي وهذه فتلك التي ال ُيبتغى بعدها ُنْع مى»(‪.)7‬‬
‫‪#‬الن في‬ ‫‪#‬ان ال ينفص‪#‬‬ ‫وتذهب رؤية بعض الدارسين إلى أن كًال من األمير والجياد هما توأم‪#‬‬
‫فخره وحماسته‪ ،‬وذكره للحروب‪ ،‬فما إن يحضر األمير حتى تحضر معه الجياد‪ ،‬وهذا ما تجلى‬
‫لنا بشكل واضح في قوله‪:‬‬
‫وِع ر جيادًا جاد بالنفس كُر ها وقد أشرفت‪-‬مما عراها‪-‬على التوى‬
‫أال كم‪-‬جرت‪-‬طلقًا بنا تحت غيهب وخاضت بحار اآلل من شدة الجوى‬
‫ومن العناصر التي يلحظها الدارس لشعر األمير‪ ،‬وتظهر في غرض الحماسة مجموعة من‬
‫المواضيع المهمة أشار إليها الباحث فؤاد صالح السيد من بينها‪:‬‬
‫«‪-‬معاناته وصدقه‪ :‬إن شعر الحماسة يتميز بالخبرة والتجربة‪ ،‬والمعاناة التي اس‪##‬تمرت س‪##‬بع‬
‫عشرة سنة من الجهاد المتواصل‪ ،‬واألمير مخلص وصادق في شعره الحماسي‪ ،‬ألنه ال يتخي‪##‬ل‬
‫المعارك تخيًال ‪ ،‬بل يصف ما رآه‪ ،‬وعاناه وقاساه‪ ،‬وصف الخبير الذي خاض المعارك‪ ،‬ومارسها‬
‫ممارسة الجندي والقائد‪.‬‬
‫‪#‬يوف‬ ‫‪#‬ورة الس‪#‬‬ ‫‪#‬ي ص‪#‬‬ ‫‪#‬عره الحماس‪#‬‬ ‫‪-‬السيوف العطشى المرتوية‪ :‬ويحلو لألمير أن يردد في ش‪#‬‬
‫العطشى المتلهفة لالرتواء‪ .‬فإذا بها ترتوي بدم األعادي بعد صدورها من كل معركة‪:‬‬
‫وأسياُفنا قد ُج ردت من ُج فونها وُر دت إليها بعد ٍو رِد وقد روى‬

‫‪6‬‬
‫‪-‬الضيغم‪ :‬شبه األمير نفسه في واقعة «برج رأس العين» بالضيغم الذي يزيد األع‪##‬داء حزن‪ً##‬ا‬
‫وأسًى حين ينزل ساحة الوغى فتتالحق ضربات سيفه الذي ال يعرف التباطؤ والتخاذل‪:‬‬
‫نزلُت بُبرج العين نزلة ضيغٍم فزادوا بها ُح زنًا وعمُه ُم الجوى‬
‫‪#‬ادة‬‫‪-‬دفاعه عن جيشه‪ :‬ويبلغ شعره ذروة الحماسة حين ُينصب نفسه للدفاع عن جيشه خالفًا لع‪#‬‬
‫‪#‬اثلون‬‫‪#‬ذين يم‪#‬‬ ‫الملوك واألمراء‪ ،‬فهو الدرع الواقي‪ ،‬والحزام األمين لجيشه‪ ،‬فهؤالء الفوارس ال‪#‬‬
‫األشبال قسوة وشجاعة وهيبة يتقنون الطعن والضرب باألمير الذي ُيدافع عنهم ويحميهم‪:‬‬
‫وبي ُتتقى يوم الطعان فوارس تخالينهم في الحرب أمثال أشبال‬
‫إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمما أقول لها‪ :‬صبرًا كصبري وإجمالي‬
‫وقد كان األمير كثير االعتداد بنفسه‪ ،‬حتى ليظن المرء الذي ال يعرف شيئًا عن سيرته أنه من‬
‫قبيل المبالغة والغلو‪ ،‬بيد أنه صادق في حقيقة األمر‪ ،‬وخير دليل على ذلك جهاده الذي اس‪##‬تمر‬
‫سبع عشرة سنة»(‪.)8‬‬
‫ومهما يكن من أمر؛ فقد أبدع األمير عبد القادر في فخره وحماسته أيما إب‪##‬داع! فكتب‬
‫بحروف من ذهب بطوالته‪ ،‬وشجاعته‪ ،‬وانتصاراته الساحقة‪ ،‬فتلك االنتص‪##‬ارات ال‪##‬تي لم تكن‬
‫لُتخلد‪ ،‬وتحفظ مجرياتها لو لم يتوفر فخر األمير‪ ،‬وحماسته‪ ،‬ودقة وصفه لمجرياتها‪(.‬يتبع الجزء‬
‫الثاني)‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫(‪)1‬د‪.‬ممدوح حقي‪ :‬من مقدمة ديوان األمير عبد القادر الجزائري‪ ،‬دار اليقظة العربية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1965‬م‪ ،‬ص‪.11:‬‬
‫(‪)2‬د‪.‬عمربن قينة‪ :‬دوخ جنراالت فرنسا‪ ،‬ودوخته أم البنين‪ :‬مقال منشور في مجل‪##‬ة الفيص‪##‬ل‬
‫األدبية‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬العددان الثالث والرابع‪ ،‬جم‪##‬ادى األولى‪-‬رجب‪1429‬هـ‪2007/‬م‪،‬ص‪:‬‬
‫‪ 87‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪)3‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬األمير عبد القادر الجزائري متصوفًا وش‪##‬اعرًا‪ ،‬المؤسس‪##‬ة الوطني‪##‬ة‬
‫للكتاب‪ ،‬د‪،‬ط‪،‬الجزائر‪1985،‬م‪ ،‬ص‪.191:‬‬
‫(‪)4‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬األمير عبد القادر الجزائري متصوفًا وشاعرًا‪ ،‬ص‪.194:‬‬
‫(‪)5‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪195:‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )6‬د‪.‬عمر بن قينة‪ :‬دوخ جنراالت فرنسا‪،‬ودوخته أم البنين‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.93:‬‬
‫(‪)7‬د‪.‬صالح خرفي‪ :‬في ذكرى األمير‪ ،‬المؤسسة الوطنية للكتاب‪ ،‬د‪،‬ط‪،‬الجزائ‪##‬ر‪1984،‬م‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ 35‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪)8‬رابح بونار‪ :‬األمير عبد القادر حياته وأدبه‪ ،‬مقال منشور في مجلة آمال‪ ،‬العدد‪ ،08:‬يوليه‪،‬‬
‫‪1970‬م‪،‬ص‪ 17:‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ثانيًا‪:‬الغزل‪:‬‬
‫'لة‪،‬‬
‫كما هو معروف فإن غزل األمير عبد القادر المعروف برصانته‪ ،‬وأخالقه الفاض'‬
‫ونسبه الشريف‪ ،‬هو ليس ذلك الغزل المادي الفاحش الذي نلفيه لدى الكثير من الشعراء‪ ،‬ب''ل‬
‫'ا‬
‫'ه به'‬‫هو غزل «من نوع الغزل الروحي يتحدث فيه عن صبابته إلى زوجته أم البنين‪ ،‬وتغزل'‬
‫صادق جياش بالعواطف النبيلة‪ ،‬فكان إذا غاب عنها شكا‪ ،‬وإذا ذكرها تحسر‪ ،‬وإذا أجنه اللي''ل‬
‫وهي بعيدة عنه صاح من أعماقه بشعر عليه لفحات الحب‪،‬وظالل اللوعة والحرقة‪:‬‬
‫أال قل للتي سلبت فؤادي وأبقتني أهيم بكل واد‬
‫تركت الصب ملتهبا حشاه حليف شجى يذوب بكل ناد‬
‫ومالي في اللذائذ من نصيب تودع منه مسلوب الفؤاد‬
‫وحينما يشتد هيامه‪ ،‬وتستأثره أشواقه يعتريه قلق ويحفزه تمرد فيعاتب نفسه قائًال‪:‬‬
‫إالم فؤادي بالحبيب هتوُر ؟ ونار الجوى بين الضلوع تثوُر‬
‫وحزني مع الساعات يرنو مجددًا وليلي طويل والمنام نفوُر‬
‫وحتى متى أرعى النجوم مسامرًا لها دموع العين ثم تفوُر‬
‫وإذا تتبعنا غزل األمير عبد القادر وجدناه يستهدف منه بث شكواه‪ ،‬وتص''وير لواعج''ه‬
‫المحرقة إزاء بعض نسائه‪ ،‬وهذا النمط من الغزل هو المحمود لدى من يميل''ون إلى الج''انب‬
‫'د‬
‫'وفة‪ ،‬ونج'‬ ‫'ة المتص'‬ ‫الروحي في المرأة‪ ،‬ولعل الذي طبع األمير على ذلك هو دراساته األدبي'‬
‫لألمير مقطوعة جيدة أنشأها سنة‪1272 :‬هـ‪ ،‬وفيها يصف أشواقه إلى زوجته في بروس''ة‪،‬‬
‫وهي تتسم بعاطفة صادقة ملتهبة‪ ،‬وشكوى صارخة‪ ،‬لبعده عنها‪ ،‬وحرمانه من رؤيتها‪ ،‬وفيها‬
‫تودد الفارس وذلة العاشق‪ ،‬وأنة المحروم في أسلوب خفيف سهل‪ ،‬ونبرات روحي''ة حزين''ة‪،‬‬
‫حيث يقول فيها‪:‬‬
‫أقول لمحبوب تخلف من بعدي عليًال بأوجاع الفراق وبالبعِد‬
‫أما أنت حقًا لو رأيت صبابتي لهان عليك األمر من شدة الوجِد‬
‫وقلت أرى المسكين عذبه الهوى وأنحله حقًا إلى منتهى الحِد‬

‫‪8‬‬
‫وساءك ما قد نلت من شدة الجوى فقلت وما للشوق يرميك بالجِّد‬
‫ونار الجوى بين الجوانح في وقِد‬ ‫وإني وحق اهلل دائم لوعة‬
‫غريق أسير السقم من كلم الحشى حريق بنار الهجر والوجد والصِّد‬
‫ويتعجب األمير من سطوة الحب وانهزام شجاعته القوية أمامها‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫ومن عجب صبري لكل كريهة وحملي أثقاًال تجل عن الحِّد‬
‫ولست أهاب البيض كال وال القنا بيوم تصير الهام للبيض كالغمِد‬
‫وأفنى فؤادي بل تعدى عن الحِّد‬ ‫وقد هالني بل أفاض مدامعي‬
‫وقلبي خال من سعاد ومن دعِد»(‪.)9‬‬ ‫فراق الذي أهواه كهًال ويافعًا‬
‫ويجدر بنا قبل التعمق أكثر في عوالم الغزل عند األمير عبد القادر‪ ،‬أن ننتقل إلى سؤال‬
‫مهم طرحه الباحث فؤاد صالح السيد‪ ،‬إذ تساءل عن سبب خضوع األمير عبد القادر للم''رأة؟‪،‬‬
‫وكأن الباحث من خالل هذا السؤال يريد أن يشير ضمنيًا إلى أن ذلك الفارس المغوار الذي أذل‬
‫كبراء جنراالت الجيش الفرنسي‪ ،‬وألحق بهم الهزائم تلو األخرى‪ ،‬ال يب''دو أن''ه سيض''عف‪،‬‬
‫ويخضع للمرأة‪..‬‬
‫إن اإلجابة عن هذا السؤال تبدو سهلة‪« ،‬ولكنها في حقيقة األمر صعبة‪ ،‬ألن األمير نفسه‬
‫'طوة الحب‬‫'و يتعجب من س'‬ ‫في بداية األمر‪ ،‬لم يجد تعليًال لهذه الحال الغريبة التي اعترته‪ ،‬فه'‬
‫على قلبه ونفسه‪ ،‬فأدى ذلك إلى انهزام شجاعته القوية‪ ،‬ويمكن حصر هذه األسباب في سببين‬
‫أساسيين هما‪ :‬األمومة‪ ،‬والجمال‪.‬‬
‫'دة‬
‫إذ إن السر في هذا الخضوع للمرأة كامن وراء إعجابه الشديد بأمه‪ ،‬وحِّبه إياها‪ ،‬وش'‬
‫تعلقه بها‪ ،‬فقد كان األمير شديد االحترام لها‪ ،‬يأخذ برأيها‪ ،‬ويستشيرها في الملّم ات الص''عبة‪،‬‬
‫واألمور العسيرة‪ ،‬حتى اتهم بأنه يخضع لما تصدره من‪ :‬مكاتبات‪ ،‬وتحارير‪ ،‬ومراسالت موقعة‬
‫باسمه‪...‬‬
‫وكان األمير شديد التعلق بوالدته‪ ،‬يصطحبها في أسفاره‪ ،‬وكأنه يتلمس من عقلها الراجح‪،‬‬
‫ومن روحها العضد والطمأنينة‪ ،‬والعزاء لروحه المضطرم‪ ،‬فقد رافقته إلى األسر‪ ،‬وحملها معه‬
‫إلى استانبول‪ ،‬وبروسة‪ ،‬ودمشق‪.‬‬
‫ويبدو تأثير الوالدة على ولدها بعد حادثة وفاتها‪ ،‬فقد عظم على األمير مصابه‪ ،‬وح''زن‬
‫عليها حزنًا شديدًا‪ ،‬وبعد رجوعه من دفنها بمقبرة «الدحداح» إلى منزل''ه في حي«العم''ارة»‬
‫بدمشق‪ ،‬توقف عدة مرات في الطريق من هول المصيبة‪ ،‬فقال له بعض من كانوا معه‪« :‬ارفق‬
‫'ا‬
‫'ه األرض؟‪ ».‬فربم'‬ ‫بنفسك»! فقال لهم‪« :‬كيف ذلك وأنا فقدُت أعظم من كان يحبني على وج'‬
‫كان لهذه المحبة العميقة‪ ،‬والخضوع الكلي‪ ،‬واإلعجاب الشديد الذي كان ُيبديه األمير لوالدت''ه‬
‫األثر الفعال في تحويل محبته‪ ،‬وخضوعه‪ ،‬وإعجابه إلى المرأة بشكل عاٍم وأساسي‪.‬‬
‫وأما بالنسبة لسلطان الجمال؛ فاألمير نفسه يعجب من واقعه الغريب‪ ،‬ثم إنه يستدرك هذا‬
‫األمر‪ ،‬وُيذكر بأنه فارس‪ ،‬والجدير بالفارس أن يخضع لسلطان واحد ال غ''ير‪ ،‬ه''و س''لطان‬
‫الجمال الذي يمتلك مهج الفرسان‪ ،‬ويخضعهم لسلطانه‪ ،‬إذ يقول في هذا الشأن‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫وِمْن َع َج ٍب َتَه اُب اُألْس ُد َبَط ِش ي وَيَم ْن ُع ِني َغ َز اٌل َع ْن ُمَر اِدي!‬
‫وَم اَذ ا؟ َغ يَر َأَّن َلُه َج َم اال َتَم َّلك مهجِتي ُم ْلَك الَّس َو اِد‬
‫فُس ْلَط اُن الَج َم اِل َلُه اْع ِتَز اٌز َع َلى الَخ ْي ِل والَّر جِل الَج َو اِد»(‪.)10‬‬
‫إن األمير عبد القادر ذلك المجاهد البطل المغوار‪ ،‬الذي «دّو خ جنراالت فرنسا بصالبته‬
‫السياسية‪ ،‬وشجاعته العسكرية إقدامًا وبأسًا‪ ،‬من دون أن تلين له عريكة ال تخ''دم وطن''ه في‬
‫مفاوضات سياسية‪ ،‬وال مواجهات عسكرية‪ ،‬لكن التي دوخته هي زوجه(أم البنين) األثيرة لديه‬
‫دائمًا‪ ،‬التي تزوجها في وهران نحو عام‪1822:‬م‪ ،‬وهو في الخامسة عشرة من عمره‪ ،‬أي قبل‬
‫رحلته مع والده للحج عام(‪1825‬م)‪ ،‬فسرعان ما ملكت عليه أمره‪ ،‬فكان يحّن إليها في حربه‬
‫'زأر في‬ ‫'ذي ي'‬ ‫'د ال'‬ ‫'ادر األس'‬ ‫وفي سلمه‪ ،‬شاكيًا صدودها وبرودتها‪ ،‬حتى بدا األمير عبد الق'‬
‫المعارك‪ ،‬ويقارع الجنراالت‪ ،‬حمًال وديعًا ساذجًا أمام (أم البنين)‪ ،‬يثغو فيرتد إليه صدى ثغائ''ه‬
‫كئيبًا باردًا‪ ،‬يئن شكوى وعتابًا في القرب منها مثل البعد عنها في المعارك‪ ،‬وهذا قدر النفوس‬
‫الكبيرة حيث تجتمع األضداد‪ ،‬فاألمير عبد القادر الذي يجّذ رؤوس األعداء بسيفه جّذ ا‪ ،‬فيخوض‬
‫في دمائهم مبتهجًا بالنصر‪ ،‬يملك عليه الفزع أمره في الجمال نفسه من وجنة حسناء تتعرض‬
‫للوشم فتخدش‪ ،‬فتكون الصورة أمامه مثيرة للفزع‪ ،‬كما عّبر عن ذلك في أحد نماذجه بالديوان‬
‫عندما ورد أن حديثًا جرى عن الموضوع في مجلس بمدينة الطائف كان األمير حاضرًا في''ه‪-‬‬
‫أرجح أن يكون هذا في حجته الثالثة بعد إقامته في دمشق‪-‬فقال‪:‬‬
‫فباللحظ ال الُم وسى تخدش وجنة فيا ويلتا منه! ويا طول حسرتي!‬
‫'ة‬‫'رام‪ ،‬وال الزين'‬
‫'م ح'‬ ‫وهنا قيمة جمالية في النظر إلى المرأة‪ ،‬فهو لم ُيشر إلى أن الوش'‬
‫بالصيغة الطبيعية الشرعية غير ممنوعة‪ ،‬بقدر ما هيمن على فكره الصورة الجمالية المعنوية‬
‫التي تعكس زاوية من قيمه في المرأة‪ ،‬وهي الحياء‪ .‬فالمرأة العفيفة ذات الحياء تحمر وجنتاها‬
‫حياًء وخجًال من موقف أو نظرة‪ ،‬فتزداد بذلك جم''اًال على جم''ال من دون تش''ويه تلحق''ه‬
‫(الموسى) بوجنة واحدة باحثة عن زينة سبيلها تشويه ما خلقها اهلل عليه‪ ،‬فتعيث فس''ادًا في‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫'زوج‬ ‫هذه السمة مما توافرت في (أم البنين) فيما يبدو‪ ،‬فهي ذات حياء حتى من مبادلة ال'‬
‫مشاعر المودة والرحمة التي جعلها اهلل بين الزوجين‪ ،‬كما استقرت في وجدانها‪-‬ربما‪ -‬تقاليد‬
‫المحيط التي ترى صميم العالقة الزوجية هي الغريزة البشرية والحيوانية ليس غير‪.‬‬
‫'ه‪،‬‬‫في هذه الخلفية شيء من عزاء للشاعر في هيامه وتضرعه وتفهمه في الوقت نفس'‬
‫'ورة‬ ‫'م ص'‬ ‫وإن أودى به في نماذج إلى السقوط في مباشرة ال تخلو من إسفاف وسطحية ترس'‬
‫'دود‪،‬‬‫'ان وص'‬ ‫'تركز في حرم'‬ ‫'ة‪ ،‬ت'‬ ‫مادية ال فن فيها وال خيال‪ ،‬بل رغبات مادية مباشرة معلن'‬
‫مصدرهما األساسي طبيعة الحياة‪ ،‬وقيم المجتمع‪:‬‬
‫ُأقاسي الُح ّب من قاِس ي الُف ؤاد وأرعاه وال يرعى ودادي‬
‫وأبكيها فتضحُك ملء فيها وأسهُر وهي في ِط يِب الُر قاِد‬
‫وأبُذ ُل ُم هجتي في لثِم فيها فتمنُع ني و أرجُع جَّد صاِد‬

‫‪10‬‬
‫وما أنفك في ُذ ّلي ُأنادي»(‪.)11‬‬ ‫فما تنفُك عني ذات عّز‬

‫ويعود األساس األول لعدم خوض األمير في الغزل المادي الماجن إلى تربيته الدينية‪ ،‬في‬
‫طفولته‪ ،‬وتركيز أسرته‪ ،‬على الجوانب الُخ ُلقية والروحية‪ ،‬وابتعادها عن النواحي المادية‪ ،‬فنشأ‬
‫األمير على حب الطهارة‪ ،‬والعفة‪ ،‬باإلضافة إلى« تأثر األمير بالتصوف في مراحل حياته كله''ا‬
‫في الجزائر‪ ،‬وفرنسة‪ ،‬وبروسة‪ ،‬ودمشق‪.‬‬
‫ومن المعروف أن التصوف ينمي الجوانب الروحية والُخ ُلقية في اإلنسان‪ ،‬ويبعده عن الجوانب‬
‫'ر‬‫'يان من عناص'‬ ‫المادية الضيقة المغلقة‪ .‬وال يخفى أن الحب والغزل اإللهيان عنصران أساس'‬
‫الشعر الصوفي في اإلسالم‪.‬‬
‫'روز‬‫'د أدى إلى ب'‬ ‫فإن التآلف بين التصوف ونفسية األمير‪ ،‬ورغباته‪ ،‬وميوله الفطرية‪ ،‬ق'‬
‫الجوانب الروحية الُخ ُلقية بروزًا واضحًا في سلوكه اليومي‪ ،‬وتصرفاته الحيوية‪ .‬فانعكست هذه‬
‫الناحية الروحية الُخ ُلقية في أشعاره الغزلية‪ ،‬فكان هذا االتجاه العذري في الغزل عند األم''ير‪،‬‬
‫غزل الحنين واألنين‪ ،‬غزل األسى واللوعة والحرمان»(‪)12‬‬
‫ومن أبرز الخصائص التي تظهر للمتأمل في غزل األمير‪ ،‬بروز شخصيته‪ ،‬وظه''ور‬
‫معاناته‪ ،‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫حنيني أنيني زمرتي ومضرتي دموعي خضوعي قد أبان الذي عندي‬
‫وكذلك يظهر على غزله تأكيده على عفة الحبيبة‪ ،‬والسيطرة التامة لذلك الحب على الجانبين‬
‫العقلي‪ ،‬والعاطفي‪ ،‬أي الوجدان‪ ،‬والعقل‪ ،‬وقد تجلى هذا األمر في قوله‪:‬‬
‫لقد أضحت مراتعه فؤادي‬ ‫أال من منصفي من ظبي قفر‬
‫أي أن الحبيب قد سيطر على كامل وجدانه‪ ،‬ومن ذلك قوله أيضًا‪:‬‬
‫وبي ما ُيزيُل العقل عن مستقره فال تعجبوا إن قيل فيه خباُل‬
‫وقد ظهر حرصه على العفة والطهارة في قوله‪:‬‬
‫فتمنعني وأرجع منها صاِد‬ ‫وأبذل ُم هجتي في لثم فيها‬
‫وكذلك في قوله‪:‬‬
‫تودع منه مسلوب الرقاِد‬ ‫ومالي في اللذائذ من نصيب‬
‫ويشير إلى هذا األمر كذلك ضمنيًا في قوله‪:‬‬
‫فإن هو لم يجد بالوصل أصًال وُيدني الطيف من سكني وداري‬
‫وموتي فالقضاء عليك جاٍر‬ ‫أُق ل للنفس‪ :‬ويك أال فذوبي‬
‫وكذلك من أهم الخصائص‪ ،‬والسمات التي طبعت غزل األمير‪ ،‬حرص''ه على تص''وير‬
‫'عره‬
‫'ر من ش'‬ ‫'ا يظه'‬ ‫الفراق في صور بديعة‪ ،‬حتى كأن المرء يجد الصورة مجسدة أمامه‪ ،‬كم'‬
‫الغزلي مدى حبه للسهر والليالي‪ ،‬ومناجاته للحبيبة الغائبة‪ ،‬ويتبدى ذله‪ ،‬وانكساره‪ ،‬وش''جنه‬
‫العميق‪ ،‬الذي يظهر من خالل األسئلة الكثيرة التي يثيرها‪ ،‬واالستغاثات المتوالية التي يطلقها‪،‬‬
‫ومنها تظهر أنواع من العتاب لغياب الحبيب‪ ،‬وقسوته‪ ،‬وبعده عنه‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الوصف‪:‬‬
‫من المسلم به أن كل شعر فني يندرج تحت لواء الوصف‪ ،‬فالشاعر عن''دما يتغ''زل‬
‫يصف‪ ،‬وعندما يمدح يصف‪ ،‬وعندما يرثي يصف‪ ،‬وعندما يفخر ك''ذلك يلج''أ إلى الوص''ف‪،‬‬
‫'و‬‫'ف ه'‬ ‫«وكذلك كان شعر األمير في فخره‪ ،‬ووجدانياته‪ ،‬لكن من المواقع ما يصير فيها الوص'‬
‫السائد حتى يكاد الموضوع نفسه يذوب فيه حين تدق مشاعر الشاعر الوجداني''ة بم''ا فيه''ا‬
‫'ة‬‫'ا طبيع'‬‫'ر لن'‬ ‫'تي ُتظه'‬ ‫المشاعر الدينية‪ ،‬أو تجنح أشواق الذكرى والحنين‪ .‬ولعل الصورة ال'‬
‫الوصف عند األمير إثر وقوفه قرب جبل أحد في بستان‪ ،‬حيث مكث وقتًا في المدينة المن''ورة‪،‬‬
‫فاحتدمت المشاعر في نفسه‪ ،‬وتداخلت بين إرادة المكث في المدينة‪ ،‬وضرورة المغادرة حسب‬
‫مقتضى الحال‪ ،‬فقد هدته المعاناة جسدًا وروحًا‪ ،‬فطفق يصف الموقف قائًال‪:‬‬
‫إلى اهلل أشكو ما أالقي من النوى وحملي ثقيل ال تقوم به األيدي‬
‫'ك المش''اعر بين إرادة يص''عب‬ ‫فقد وصف لنا الشاعر اللحظة والمكان‪ ،‬واحت''دام تل'‬
‫'تى‬‫'وء من ش'‬ ‫تحقيقها‪،‬بل ال سبيل إلى ذلك‪،‬فيصف لنا حالته النفسية أدق الوصف‪،‬مسلطًا الض'‬
‫الجوانب‪،‬فكأنه يقدم لنا مسحًا شامًال‪،‬ورؤية مكتملة لوضعيته النفسية في هذه الحال حيث إن''ه‬
‫يقول‪:‬‬
‫تذكرت وشك البين قبل حلوله فجادت عيوني بالدموع على الخِّد‬
‫وفي القلب نيران تأجج حّر ها سرت في عظامي ثم سارت إلى جلدي‬
‫فيا ليت قبل البين سارت إلى اللحِد‬ ‫ومالي نفس تستطيع فراقهم‬
‫بطيبة طاب العيش ثم تمررت حالوته‪ ،‬فالنحس أربى على السعِد‬
‫وبين قباها ثم ألوي إلى ُأُح ِد‬ ‫أردد طرفي بين وادي عقيقها‬
‫وكهًال إلى أن صرت بالشيب في برِد»(‪.)13‬‬ ‫منازل من أهواه طفًال ويافعًا‬
‫ويظهر لنا للوهلة األولى أن وصف األمير في هذه المقطوعة البديعة هو وصف معنوي‪،‬‬
‫فهو يصف الحالة النفسية الداخلية‪ ،‬ويقدم لنا رؤية عما يختلج فؤاده إثر فراق ه''ذه المدين''ة‬
‫الطيبة‪ ،‬مدينة اإليمان‪ ،‬والسالم‪.‬‬
‫وقد انقسم الوصف عند األمير إلى قسمين رئيسين وفقًا لرؤية الباحث فؤاد صالح السيد‪،‬‬
‫فأحيانًا هو يظهر أنه وصف بدوي‪ ،‬كما ظهر في قصيدته الشهيرة التي يصف فيها البدو ‪:‬‬
‫ياعاِذرًا المرئ‪ ،‬قد هام في الحضر وعاذًال لُم حب البدو والقفِر‬
‫ال تذَّم َّن بيوتًا خف محملها وتمدحَّن بيوت الطين والحجِر‬
‫لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني لكن جهلت‪ ،‬وكم في الجهل من ضرِر‬
‫أو ُك نت أصبحت في الصحراء ُم رتقيًا بساط رمل به الحصباء كالدرِر‬
‫أو ُج لت في روضة راق منظرها بكل لون جميل شيق عِط ِر‬
‫أو كنت في ُص بح ليٍل هاج هاتنه علوت في مرقب أو جلت بالنظِر‬
‫رأيت في كل وجه من بسائطها سربًا من الوحش يرعى أطيب الشجِر‬
‫فيا لها وقفة! لم تبق من حزن في قلب مضنى وال كدا لذي ضجِر‬

‫‪12‬‬
‫وأما الوصف الحضري فقد أناخ بكلكله على المرحلة الثالثة من حياة األمير نظرًا البتعاده‬
‫على حياة البدو‪ ،‬واقترابه من الحياة الحضرية‪ ،‬عندما أقام في مدن المشرق العربي فخص''ص‬
‫له قصائد مستقلة انضوت تحت لواء هذا الغرض‪ ،‬ولم تدخلها أغ''راض أخ''رى‪ ،‬في حين أن‬
‫'ة من‬ ‫'راض متنوع'‬ ‫الغزل البدوي لم يأت في قصائد خاصة‪ ،‬بل جاء ممزوجًا ومضمنًا في أغ'‬
‫بينها الفخر والحماسة‪.‬‬
‫'ف‬ ‫'ا بين الوص'‬ ‫'تراوح م'‬ ‫وما يثير انتباه المتأمل في وصف األمير عبد القادر للحضر أنه ي'‬
‫'ة األولى إلى‬ ‫النسِخ ي الحسي التقريري‪ ،‬والوصف التشخيصي الوجداني‪ .‬ويعود ذلك في الدرج'‬
‫الجو الفرنسي والحيوي الذي كان ُيحيط باألمير في أثناء نظمه للقصيدة الوصفية‪ ،‬فالوص''ف‬
‫'ا‬‫'اور واديه'‬ ‫'ذي يج'‬ ‫النسخي الحسي التقريري ظهر في قصيدته التي وصف بها قصر ُد َّم ر ال'‬
‫البديع‪ ،‬فقد كان األمير يتردد على هذه المدينة لالصطياف‪ ،‬حيث يقول في هذه القصيدة‪:‬‬
‫ُع ْج ِبي‪َ-‬ف َد ْي ُتَك ‪-‬في َأَباِط ِح ُد َّم ِر َذ اِت الَّر ياِض الزهرات الُّنَّض ِر‬
‫َذ اِت الِمياِه الَج اِر ياِت َع َلى الَّص َف ا َف َك أَنَه ا ِمْن َم اِء نْه ِر الَك وَثِر‬
‫ُيغنيَك عن َز َبٍد وِمسٍك أَذَف ِر‬ ‫َذ اِت الَّنِس يِم الَّط ِّيِب العطر الذي‬
‫والَّط ْيُر في َأْد َو اِح ها ُم َتَر ِّنٌم ِبَر خِيِم َص ْو ٍت نغَم َة ِم ْز َه ِر‬
‫َم ا َبْي َن َأْذ كار َو َبيَن تفكِر‬ ‫َم ْغًنى ِبِه الُنَّس اُك َيزُه و َح اُلَه ا‬
‫َم ا ِش ئَت َأْن َتْلَق ى ِبها ِمن َناسك أو َف اتك في َف ْت ِكِه ُم َتَط ِّو ِر‬
‫َأْي َن الُّرَص اَف ُة والَّس ِديُر َو َش عُب بَّو اٍن ‪..‬إَذ ا َأْن َص َف تها ِمْن ُد َّم ِر (‪.)14‬‬
‫وقد ظهر الوصف الوجداني التشخيصي في شعر األمير في بعض المقطوعات القصيرة‪ ،‬وق''د‬
‫'ر‬ ‫'ع خري'‬ ‫تميز هذا النوع عند األميربلغته العذبة والرقيقة والتي تبلغ حد الليونة‪ ،‬إذ تنساب م'‬
‫'ويره‬‫'ا في تص'‬ ‫'دى لن'‬ ‫الجداول‪ ،‬وتغريد الطيور‪ ،‬وتحليق النور‪ ،‬وتعالق األشياء‪ .‬وهذا ما يتب'‬
‫الرائع لتلك الناعورة العاشقة التي ألصق بها صفات إنسان ينوح ويدمع‪« ،‬فلم تعد الناعورة في‬
‫لوحته الفنية شيًئا حسيًا ماديًا جامدًا‪ ،‬وإنما تحولت بطريقة تشخيصية إلى عنصر ت''دُّب في''ه‬
‫الروح والحياة والحيوية‪ .‬إنها صورة الناعورة التي تجيب الشاعر عن تس''اؤالته‪ ،‬فحاوره''ا‬
‫وحاورته‪ ،‬وسألها وأجابته‪ ،‬فهي كالعاشق الذليل الذي أذله الحُّب ‪ ،‬فهو تارة يطأطئ رأسه حزنًا‬
‫وتذلًال‪ ،‬وتارة يرفع رأسه للعويل والبكاء‪:‬‬
‫َو َناُع وَر ة َناَش ْد ُتَه ا َع ْن َح ِنينَه ا َح نين الحواِر والُّد ُم وُع َتِس يُل‬
‫فقالت َو أْب َد ْت عذَر َه ا ِبَم َق اِلَه ا وللِّص دِق آياٌت َع َليِه َدِليُل‬
‫َأَلْس َت َتَر اِني َألِق ُم الثدي َلْح َظ ًة ! َو أْد َف ُع عْن ُه َو الَبَالُء َط ِو يُل‬
‫َو َح اِلي َك َح اِل الِع ْش ِق َبات مخَّلًف ا َيُدوُر ِبَداِر الحِّب َو هَو َذ ِليُل‬
‫َو َيرَف ع أخرى والعويُل عويُل‬ ‫ُيَط أِط ئ ُح زنًا َر أَس ه بتذلل‬
‫وتحت لواء الوصف الوجداني التشخيصي انضوى وصف األمير لعود الِّط يب الذي ُيَتَبَّخ ر ب''ه‪،‬‬
‫'دور‬ ‫'الورد‪ ،‬أي بالص'‬ ‫فقد ذكره الُع ود بالَع ود‪ ،‬أي بالعودة إلى أرض الوطن وذَّك ره ال 'َو ْر د ب'‬
‫والرجوع‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫َتَبَّخ ْر ِبُع وِد الَّط يِب َال ِز ْلَت طيبًا َو ُر َّش ِبَم اِء الزْه ِر َيا ِخ ُّل َو الَو ْر ِد‬
‫َو َم ا ُبْغ َيِتي َه َذ ا َو َلِكن َتَف اؤًال ِبُع وٍد إلى َع ْو ٍد َو َو ْر ٍد إلى ِو ْر ِد»(‪)15‬‬
‫رابعًا‪ :‬التصوف في شعر األمير عبد القادر‪:‬‬
‫يجمع الباحثون الذين اهتموا بالتصوف عند األمير عبد القادر على أنه كانت له ميوالت‬
‫منذ الصغر نحو التصوف‪ ،‬وذلك يعود إلى نشأته الدينية المحافظة‪ ،‬وطبيعته االنطوائي''ة‪ ،‬حيث‬
‫'ة من‬ ‫'اءت جمل'‬ ‫'د ج'‬ ‫إنه كما أشرنا سلفًا كان ينكب على القراءة‪ ،‬وينصرف إلى المطالعة‪ ،‬وق'‬
‫العوامل لتؤخره عن التصوف في شبابه‪ ،‬وأبرز هذه العوامل انشغاله بالنضال والجه''اد ض''د‬
‫المستعمر الفرنسي‪.‬‬
‫ويحدثنا األستاذ األديب رابح بونار عن هذا األمر قائًال‪ « :‬كان األمير يميل إلى التصوف من''ذ‬
‫صغره‪ ،‬وال شك أن أباه محيي الدين الذي كان صوفيًا كبيرًا من أتباع القادرية ك''ان ذا ت''أثير‬
‫عليه في تربيته الدينية‪ ،‬وكان أكبر موجه له في حياته الروحية الصوفية‪ ،‬كان العصر عص''ر‬
‫تصوف انتشرت فيه طرق كثيرة‪ ،‬ورسخ في األذهان أن اتخاذ شيخ عارف ضروري‪ ،‬ولهذا كله‬
‫كان األمير متصوفًا‪ ،‬ولكننا عندما رجعنا إلى ديوانه لم نجد له قصائد في التصوف في مرحلته‬
‫األولى بالجزائر‪ ،‬وإنما تجد له قصائد تعود إلى ما بعد االعتقال‪ ،‬واالستقرار بالشام‪ .‬وقد يكون‬
‫ذلك عائدًا إلى أنه لم ينظم في فترته األولى لعدم نضجه في األدب الصوفي‪ ،‬وبعد نض''جه في‬
‫الفترة الثانية أخذ يقرض فيه القصائد‪ ،‬واألمير في شعره الصوفي قد يكون متأثرًا بمحيي الدين‬
‫بن عربي‪ ،‬وابن الفارض‪ ،‬والنابلسي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وهو في شعره هذا ُيعنى بتصوير ما يحس به‪،‬‬
‫ويسجل الواردات التي ترد على خاطره‪ ،‬ومن الحق أن نقول‪ :‬إن األمير في ش''عره الص''وفي‬
‫يتجلى عن روح شعرية‪ ،‬ويطفح بعواطف صادقة‪ ،‬وأخيلة ملونة في أسلوب سهل متوسط‪ .‬وقد‬
‫استغل األمير رمزية المتصوفة فزان بها شعره‪ ،‬ومن أشهر قصائده في هذا الموضوع قصيدته‬
‫الرائية‪ ،‬التي صور فيها بروح قصصية فتوحاته الربانية مع شيخه محمد الفاسي ال''ذي التقى‬
‫به في مكة المكرمة‪ ،‬وأخذ عنه الطريقة‪ ،‬وفي مطلعها يقول‪:‬‬
‫أمسعود جاء السعد والخير واليسُر وولت جيوش النحس ليس لها ذكُر »(‪.)16‬‬
‫لقد وظف األمير عبد القادر في شعره الذي يندرج ضمن هذا الباب الرمزية الص''وفية‬
‫بشقيها الغزلي‪ ،‬والخمري وهو متأثر في ذلك تأثرًا كبيرًا بكبار المتصوفة في العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫'ورة‬ ‫'ة) بص'‬ ‫ومن الرموز التي بدت في شعره بشكل واضح وصف الخمرة‪ ،‬والحبيب أو(المحب'‬
‫عامة‪ .‬فاألمير «لم يفرد للخمرة الحسية المادية قصائد ومقطوعات في ديوان''ه‪ ،‬ولم ي''ذكرها‬
‫بتاتًا‪ ،‬وإنما ذكر هذه الخمرة اإللهية التي وصفها وصفًا يكاد يكون شبيهًا بوصف ابن الفارض‬
‫لخمرته التي اعتبرها هذا األخير رمزًا من رموز المعرفة اإللهية‪ ،‬أو لمعرفة الح''بيب األزلي‪،‬‬
‫أي واجب المطلق‪...‬‬
‫إن قصيدة األمير الصوفية التي ضمنها ذكر الخمرة تكاد تكون صورة طبق األصل لقصيدة ابن‬
‫الفارض‪ ،‬بيد أن الفرق الوحيد بينهما هو أن موضوع قصيدة الخمرة اإللهية فقط‪ ،‬أما قص''يدة‬
‫األمير فيكون الموضوع الخمري جزءًا منها»(‪.)17‬‬

‫‪14‬‬
‫وقد تجلت الخمرة في شعر األمير من خالل مجموعة من الصور من بينها‪ :‬الخم''رة‬
‫المعتقة‪ ،‬والخمرة التي ال تكسر‪ ،‬والهج'رة إلى الخم'رة‪ ،‬والخم'رة هي العلم‪ ،‬والخم'رة هي‬
‫الغنيمة الكبرى وغيرها من الصور التي تبدت فيها في قصائد األمير‪.‬‬
‫'ر‬ ‫'ا‪ :‬الخم'‬ ‫أما الرمز الغزلي فقد ظهر لنا في شعره من خالل مزجه بين موضوعين هم'‬
‫والمحبة‪ ،‬ومن ذلك وصفه لليالي اللقاء متوجهًا توجها كليًا للح''بيب‪ ،‬ويتح''دث عن وص''ال‬
‫الحبيب ولقائه قائًال ‪:‬‬
‫أوقات وصلكم عيُد وأفراُح يا من هم الروح لي والَّر وُح والراُح‬
‫يا من إذا اكتحلت عيني بطلعتهم وحققت في محيا الُح سن ترتاُح‬
‫وقد تجلى كذلك الرمز الغزلي من خالل جملة من العناصر‪ ،‬من أبرزها‪ :‬رؤية الح''بيب‪،‬‬
‫'ق اإللهي‪ ،‬إذ‬ ‫'ل العش'‬ ‫والتوجه الكلي‪ ،‬وليالي اللقاء‪ ،‬وصبر المحبين‪ ،‬ومن خالل موقفه من أه'‬
‫يقول في هذا الصدد‪:‬‬
‫هلكى مما كتموا وصرحوا‬ ‫ويَح أهَل العشق هذا حُظ ُه م‬
‫خامسًا‪ :‬المدح‪:‬‬
‫'ير‪،‬‬‫'اة األم'‬ ‫تغير المدح في شعر األمير عبد القادر جملة من التغيرات‪ ،‬وذلك بتغير حي'‬
‫وتنوعها من مرحلة إلى أخرى‪ ،‬وقد اختلفت أنواعه باختالف ظروف حياة األمير‪ ،‬فبعد مرحلة‬
‫التعمق في التصوف ظهر مدح سمي بالمدح الصوفي‪ ،‬ومما قاله في هذا الجانب يمدح شيوخه‬
‫بالكرم‪ ،‬والجاه‪ ،‬والجمال‪:‬‬
‫وليس لها‪-‬يومًا‪-‬بمجلسه نشُر‬ ‫وما زهرُة الدنيا بشيء له ُيرى‬
‫وقوله كذلك يمدح شيخه الشاذلي‪ ،‬ويؤكد أن حضوره يبعد اآلالم‪ ،‬واألشجان‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫أهًال وسهًال بالحبيب القادم هذا النهار‪-‬لدي‪-‬خيُر المواسم‬
‫جاء السروُر ُم صاحبًا لُق دومه وانزاح ما قد كان قبل ُم الزمي‬
‫طالت مساءلتي الُّر كاب تشُو قًا لجمال رؤية وجهك المتعاظم‬
‫في حين أن مدحه السياسي تميز بقلة العدد مقارنة مع بقية القصائد‪ ،‬وتميز باستقالله عن‬
‫الفنون األخرى‪ ،‬كما تضمن مدحه السياسي أفكارًا دينية‪ ،‬وإشارات إلى ض''رورة ال''دفاع عن‬
‫شريعتنا اإلسالمية قوًال وفعًال ‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫'تي‬ ‫من خالل رحلتنا مع عوالم األمير عبد القادر الشعرية‪ ،‬تجلت لنا جملة من الصور ال'‬
‫يمكن أن نصفها بأنها كانت متباينة عن شعر األمير عبد القادر‪ ،‬فنلفي األمير عبد القادر ُم كثرًا‬
‫في أغراض‪ ،‬وُم قًال في أغراض أخرى‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ :‬فقد أكثر في الفخ''ر والحماس''ة‪،‬‬
‫وبالمقارنة مع المدح نجده ُم قًال‪ ،‬وهذا يعود إلى طبيعة األمير فهو ينتمي إلى عائلة شريفة ذات‬
‫حسب ونسب‪ ،‬فمن الطبيعي أن يغلب الفخر على المدح‪ ،‬وكما تباينت األغراض من حيث الكثرة‬
‫والقلة‪ ،‬فقد اختلفت أساليب األمير‪ ،‬وجودة قصائده من غرض إلى آخر‪ .‬فالمتأم''ل في ش''عره‬
‫يقف على جملة من االختالفات التي ظهرت بشكل واضح‪ ،‬ففي أغراض يجد الق''ارئ قص''ائد‬

‫‪15‬‬
‫بديعة ساحرة‪ ،‬متينة السبك‪ ،‬جيدة األسلوب‪ ،‬رقيقة األلفاظ‪ ،‬حسنة التركيب‪ ،‬وفي بعض القصائد‬
‫ُيلفي القارئ ضعفًا وركاكة في بعض األساليب‪.‬‬
‫ومهما يكن األمر؛ يمكن القول‪ :‬إن أهم ما يمكن أن يخرج به المتتبع للتجربة الشعرية عند‬
‫األمير عبد القادر الجزائري هو أنه كان صادقًا مخلصًا في كتاباته‪ ،‬فقصائده هي بمثابة انعكاس‬
‫ألحداث حياته‪ ،‬فقد عبر عنها بكل صدق‪ ،‬وشفافية‪ ،‬فشعر األمير يمكن اتخاذه كوسيلة لتوثي''ق‬
‫حياته‪ ،‬نظرًا لصلته العميقة بها‪ ،‬فقدم لنا صورًا عن ثقافة عصره‪ ،‬وأبرز لنا بعمق الكث''ير من‬
‫القضايا التي سادت في بيئته‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫(‪)9‬د‪.‬عمر بن قينة‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪ 98:‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )10‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪214:‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )11‬د‪.‬عمر بن قينة‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪ ،95:‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )12‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.217:‬‬
‫(‪ )13‬رابح بونار‪ :‬األمير عبد القادر حياته وأدبه‪ ،‬المصدر السابق‪،‬ص‪ 15:‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪)14‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.260،258:‬‬
‫(‪)15‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.261:‬‬
‫(‪ )16‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪229:‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪)17‬د‪.‬فؤاد صالح السيد‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 228:‬و ما بعدها‬

‫‪16‬‬

You might also like