Professional Documents
Culture Documents
التجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري
التجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري
مقدمة:
يتبدى للدارس لشخصية األمير عبد القادر الجزائري جملة من الشخصيات ،فهو المجاه##د
المكافح المغوار ،وهو الفارس الذي ال ُيشُق له غبار ،وهو الفقيه العّالمة الموس##وعي ،البح##ر
الزاخر في شتى العلوم والفنون ،وهو المتصوف الشاعر ،والشاعر المتصوف ،ال##ذي ُع رف
بتغريده في سماوات الشعر ،وتحليقه في آفاقه الرحبة ،وطرقه لمختلف األغراض الشعرية.
ومن خالل هذا البحث نسعى إللقاء بعض األضواء على تجربة األمير عبد القادر الشعرية،
وذلك من خالل تلمس أهم األغراض التي طرقها األمير ،بغرض تجلية أهم السمات التي طبعت
هذه التجربة ،وليس من شك في أن مئات الصفحات ال يمكن أن ُتقدم دراسة وافي##ة ،وإحاط##ة
شاملة ،بشعر األمير عبد القادر من مختلف الجوانب الفنية ،واألسلوبية ،والتركيبية.
إن هذه الصفحات تقدم لمحات مقتضبة عن التجربة الشعرية لدى األمير عبد القادر ،وذلك
نظرًا التساع تجربة األمير ،وعمقها ،وغموضها في كثير من الجوانب ،والسيما منها الج##انب
الصوفي ،الذي يحتاج بمفرده إلى دراسات مستقلة ،لكي يستطيع الدارس تحليل##ه ،وتش##ريحه،
وفهم كنهه ،وإدراك أعماقه.
وقبل الولوج إلى الكون الشعري عند األمير عبد القادر ،نرى أنه من المفيد أن نقدم لمحة
مقتضبة عن شخصيته ،ومكانته ،مما ُيسهم في نفض بعض الغبار على أفك##اره ،ورؤاه ال##تي
ستنتصب لنا ،ونتصدى لها من خالل شعره.
إن األمير عبد القادر واحد من الشخصيات الفذة التي ستظل األجيال ت##ذكرها على م##ر
األزمان ،وهو مصباح من المصابيح الوهاجة التي قلما يجود الزمان بأمثالها ،وبادئ ذي ب##دء
نقدم هذا الوصف الشامل الذي أورده العّالمة الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوان#ه ،وال#ذي
وصفه به ابنه األمير محمد في كتابه (تحفة الزائر في تاريخ الجزائر واألمير عبد الق##ادر) ،إذ
يقول عنه:
«كان معتدل الطول ،مليء الجسم ،يعلوه رأس ضخم ،يتوجه شعر كّث مختضب بالسواد .يبرز
من بين عينيه الشهالوين أنف أقنى ،مطّل على فم مطبق ،تموج فيه ابتسامة تطمع بحنان ناعم،
#توفز،#د كالمس##تقيمًا ،ويقع#
#ي مس# وراءه حزم حازم ،يشع من عينين نافذتين كالكهرباء .يمش#
وينهض بعزم ،إذا ركب وثب إلى ظهر الج#واد وثبً#ا ،وبقي إلى آخ#ر أيام#ه يحّب الخي#ل،
#بحويداعبها،وُيعنى بها ،وال يسير إال مزعًا وإرقاًال .يصحو من نومه قبل الفجر ،فيصّلي الص#
#زوغ #د ب#
#ا بع#حاضرًا ،ويقرأ ورده المعتاد بصوت هادئ مسموع ،ثم يضطجع ،فيغفو إلى م#
#اب#ه ،أو كت#الشمس ،وينهض ليمأل نهاره بعمل مستمر .ال ينقطع لحظة واحدة عن عمل يؤدي#
#ائله من#ثر رس# #ا ...وأك##الة يحّبره##ا ،أو رس# يستفيد منه ،أو مؤلف يعّده ،أو قصيدة ينظمه#
المطوالت ،فإذا وجد فضلة من وقت اشترك في خياطة ثوب ،أو مباراة بالشطرنج م##ع أح##د
أخصائه.
وكان ُيجيد استخدام اإلبرة في السلم إجادته استخدام السيف في الحرب ،ال يه##دأ و ال يف##تر:
عامًال ،جادًا طوال يومه ،حتى يصلي العشاء اآلخرة ،فيذهب إلى فراشه ليستريح من عناء نهار
كامل ،لم يترك فيه دقيقة واحدة بغير عمل .وكان حاّد ال##ذكاء ،عجيب الحافظ##ة ،بارعً##ا في
1
تصريف األمور ،شديد التمسك بدينه ،حافظًا عهوده ،ووعوده ،غير أنه كان عصبي الم##زاج،
عنيفًا في الدفاع عما يعتقد أنه حق ،ال يلين للقوة مهما قست وطغت ،فيه ش##يء من عنهجي##ة
البادية وعنادها على ليونة في القلب أمام الجمال ،وتراٍخ لعزة المرأة»(.)1
وال يختلف اثنان في شجاعة األمير عبد القادر ،وبسالته الخارقة ،فال نعجب عندما يقترح
عليه والده الشيخ محيي الدين قيادة الحركة الجهادية ،فُيلبي مباش##رة دون أي اع##تراض على
الرغم من حداثة سنه قائًال « :إن واجبي طاعة أوامر والدي».
#د#ه العقي##ال عن#وقد كان األمير حاكمًا عادًال ،وفارسًا مقدامًا ،وشاعرًا خنذيذًا ،وقائدًا فذًا ،فق#
اإلنجليزي شارل هنري تشرشل متحدثًا عن شخصيته ،وعن نظرة مواطنيه إلي##ه :إنهم ك##انوا
ينظرون إليه «بتقديس خرافي إلى رجل يتمتع بشخصية رسمية ،ويتقدم بال خوف دون أن يلحقه
#كل أذى حيثما هدد الخطر ،فهو مرة يمرق من صفوف الرماة األعداء ،ومرة يطلق النار في ش#
#ل #اض إلى قناب# تربيعي ،ويكتسح حربات البنادق بسيفه ،وأخرى يقف دون حراك مشيرًا بامتع#
#دوة في #ل ق##ان الرج# المدافع وهي تئز حول رأسه ،وإلى القذائف وهي تنفجر حول قدميه .فك#
الشجاعة والثبات مثل الحلم والعدل مع خصومه أسرى بين يديه ،فكان المح##ارب الموه##وب،
#برت #ة أج#والحاكم الفذ ،فسجل له التاريخ في كل ذلك ،وفي جهاده بشكل أخص مواقف بطولي#
#دريب #دوره للت##تغلها ب#أعتى الجنراالت الفرنسيين على إبرام هدنات معه ،واتفاقيات كان يس#
والتنظيم واستيراد السالح من خارج الجزائر ،فمضى على هذا النهج حتى كانت الفاجعة ال##تي
اضطرته إلى وضع السالح ،عام1947م بعد الخيانات والمؤامرات ،بشروط أخّل بها المحتلون
#ا#ا وجهوه# الفرنسيون ،فبدل أن ُيفسحوا له في باخرة لهم لالتجاه إلى المشرق العربي أو تركي#
نحو فرنسا ،فبات في وضع أسير تحت اإلقامة الجبرية في أمبواز بجنوب فرنس##ا ،حيث مكث
حتى عام1852م ،حين أطلق سراحه ،فانتقل إلى إسطنبول ،فأهداه السلطان العثم##اني قص##رًا
في(بروسة) لم يمكث فيه أكثر من سنتين بعدها قّر ر االستقرار في دمشق ،منطلقًا منها في عدة
رحالت داخل الوطن العربي وخارجه حتى وفاته سنة1300( :هـ1883/م)»(.)2
األغراض الشعرية عند األمير عبد القادر:
لم يكن األمير عبد القادر رجل سياسة وجهاد ،وشجاعة فحسب ،بل كان أيضًا رجل فكر
وعلم ،وأدبُ ،ع رف بعكوفه على القراءة ،واجتهاده الكبير في سبيل التحصيل العلمي ،حيث إنه
اطلع على الكثير من الكتب الفكرية العالمية مترجمة ،كما راز في التراث الشعري العربي بدءًا
من العصر الجاهلي ،حتى العباسي ،وحفظ عشرات األبيات لفحول الشعراء ،وهذا ما جعل منه
مؤلفًا ،وكاتبًا ،وباحثًا ،وشاعرًا فذًا.
إن المتتبع لتجربة األمير الشعرية ُيدرك أن الشعر قد الزم األمير طوال حياته ،وكان يحُل
معه حيثما حّل ،وكان أنيسه وصاحبه أيام الفرح والقرح ،وفي ليالي الشجن والسرور ،ورافق##ه
#ق، عندما أضحى أسيرًا في فرنسا ،وبعد ذلك في تركيا ،وفي المدينة المنورة ،ومكة ،وفي دمش#
وغيرها من األصقاع التي أبدع فيها األمير قصائده العذاب.
وقبل الولوج إلى عوالم األمير عبد القادر الشعرية ،تجدر اإلشارة إلى أن الكثير من الباحثين
#اين #ه ،بتب##اين من حيث قيمت# #ه متب# الذين تصدوا لشعر األمير بالدراسة والتحليل ،يرون بأن#
#أن #رى ب# األغراض ،وبانتقال األمير من موضوع إلى آخر .فهذا األستاذ األديب رابح بونار ي#
2
#وف، #ر ،والتص# #ة ،والفخ# #يع الحماس#شعر األمير تظهر عليه روح شعرية مقبولة في مواض#
#فاف ،واألغالط #ف ،واإلس# #ه التكل#
والغزل .وأما إنشاؤه في غير هذه الموضوعات فيبدو علي#
النحوية ،وضعف الخيال ،وفتور العاطفة.
وفي دراسة الدكتور فؤاد صالح السيد أكد على أن شعر األمير عبد الق#ادر من الناحي#ة
#ر#عر الفخ# #رى أن ش# #عرية ،إذ ي#التاريخية ارتبطت كل مرحلة منه بفن معين من الفنون الش#
والحماسة هو أوثق صلة بحياة األمير من شعر الوصف ،وُيرجع ذلك إلى أن أشعاره في الفخر
والحماسة هي انعكاس مباشر ،ونتيجة لمعاناته في حروبه ،وهي تعبر عن تجربته الحربية.
#ودومن الناحية النفسية رأى أن األمير ارتاح لبعض الفنون الشعرية أكثر من غيرها ،وهذا يع#
إلى الجو النفسي الذي مّر به األمير في كل مرحلة من مراحل حياته ،وقد ضرب مثًال بش##عره
الصوفي ،ومساجالته مع شيخه محمد الشاذلي القسنطيني ،فهو األقرب كما يرى الباحث لألمير
أثناء أسره باألمبواز في فرنسا.
أما شعر المدح األدبي فقد كان األكثر صلة به أثناء وجوده في دمشق.
أوًال:الفخر والحماسة:
ُيجمع الكثير من الدارسين لشعر الفخر والحماسة عند األمير عبد القادر على أنه ينقسم إلى
قسمين رئيسين :الفخر الطبيعي(الفطري) ،والفخر الوضعي(االكتسابي) ،ويرون بأنه أح##د أهم
الفنون الشعرية التي عالجها األمير في ديوانه ،وذلك الرتباطه بنض##ال األم##ير ،وبطوالت##ه،
وحماسته ،والتزامه بقضايا أمته ،وفي مقدمتها قضية التحرر ،والخالص من المستعمر الفرنسي.
ومن جانب آخر فال نستغرب من استكثار األمير للفخر والحماسة،فهو ابن عائلة ش##ريفة ،ذات
حسب ونسب ،عظيمة الشأن ،فهو ينتمي إلى«الدوحة النبوية الشريفة ،فهو من الفرع الحس##ني،
الذي يستمد قدره من رسول اهلل-صلى اهلل عليه وسلم .-من هنا كانت حتمي##ة تق##ديم ال##والء
#تقرار
#ه االس# #رء لنفس# والطاعة لهذه الدوحة النبوية ،وطلب الشفاعة النبوية ،وبذلك يؤمن الم#
الروحي والنفسي:
أبُو نا رسوُل اهلل خيُر الورى ُط را فمن في الورى يبغي يطاولنا قدرا
والنا غدًا دينًا وفرضًا ُمَح تمًا على كل ذي لب به يأمُن الغدرا
#ة
#ال للمقارن##ه ال مج# ويكتفي األمير بهذا الفخر عن كل منصب ،وعن كل رتبة دنيوية ،ألن#
والمفاضلة بين فخر وفخر ،خصوصًا إذا كانت المقارنة والمفاضلة بين فخر نبوي شريف ،وبين
فخر مادي دنيوي.
وحسبي بهذا الفخر من ُك ل منصٍب وعن رتبة تسمو وبيضاء أو صفرا»(.)3
ويؤكد األمير تمسكه العميق ،وحبه الكبير هلل سبحانه تعالى ،ولرسولنا الكريم صلى اهلل عليه
وسلم ،وسريانه في عروقه ،وهو أساس عزته ،ونجاحه في الدنيا واآلخرة ،فال عزة وال كرامة
من دون إيماننا باهلل سبحانه وتعالى ،واتباعنا لسنة رسول اهلل الصادق األمين:
بعليائنا ،يعلو الفخار ،وإن يكن به قد سما قوم ونالوا بها نصرا
وباهلل أضحى عزنا ،وجمالنا بتقوى وعلم والتزود لألخرى
ومن رام إذالًال لنا قلت:حسبنا إله الورى ،والجد،أنعم به ذخرا!
#ؤاد
وفي نفس سياق الفخر الطبيعي الفطري افتخر األمير بعروبته ،وكما يرى الباحث ف#
صالح السيد ففخر األمير بعروبته ال يبرز بروزًا واضحًا ،وال ينال حظًا وافرًا بالمقارنة مع ما
3
يحوزه فخره بنسبه النبوي الشريف ،وكما رأى الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوانه بش##أن
#رن #و ق#فكرة افتخاره بعروبته أن«القومية العربية قد توضحت عنده ،وقد سبق بها زمنه بنح#
تقريبًا.
ويعتبر األمير نفسه وارثًا للسيادة العربية ،والمجد العربي اللذين يبقيان في نظر األمير ،وإن
زالت السماء والجبال:
ورثنا سؤددًا للعرب يبقى وما تبقى السماء والجبال
أما المصدر الثاني من مصادر عظمة األمير ،الذي أراد أن يحققه بإرادته تحقيقًا عمليً##ا،
ويمارسه ممارسة تطبيقية ،فهو النسب الوضعي االكتسابي ،وتتوسع دائرة هذا الفخر حتى تشمل
#ته في #جاعته وحماس# الفخر بمناقبه األخالقية الحميدة ،وبثقافته وعلمه ،وباإلمارة والملك ،وبش#
الحروب ،ويمكننا تجاوزًا أن ندخل محيط هذه الدائرة أيضًا ،فخره بشجاعة ص##حبه ،وحس##ن
بالئهم ،وبالبداوة»(.)4
ومن خالل الفخر الوضعي(االكتسابي) تجلت لنا مناقب األمير األخالقية الحميدة ،وتبدت لنا
بطوالته،ومكارمه ،ورحالته في سبيل طلب الُع ال ،وتحمل األهوال والمشقات إلى غاية الوصول
#ايا في#ذه القض# #ع ه# إلى األهداف اإلنسانية النبيلة ،واألخالق الكريمة الفاضلة ،فقد صاغ جمي#
قصائد بديعة ،وأبيات رقيقة ،مثل قوله في هذه األبيات:
ومن فوق السماك لنا رجاُل لنا في ُك ل مكُر مة مجال
ركبنا للمكارم كل هول وخضنا أبحرًا ولها زجاُل
إذا عنا توانى الغيُر عجزًا فنحن الراحلون لها الِعجاُل
#ا، #ول إليه# ومن المناقب الحميدة التي كثيرًا ما نلفي األمير يسعى جاهدًا بغرض الوص#
ولـطالما رددها في شعره :التنزه عن اللؤم ،وصد الضيم واألذى ،والحلم والك#رم ،والسياس#ة
العادلة ،والصبر واإلرادة.
#رم، فبالنسبة للتنزه عن اللؤم؛ فاألمير عبد القادر يؤكد دائمًا على ضرورة بذل النفس ،والك#
والسعي إلى التضحية والوفاء ،وهذا ما يحاول أن يبرزه لنا في أشعاره ،إذ يحلو له أن تق##ترن
أقواله بأفعاله ،ونستنتج أن هناك توافقا تاما بين النظرية والتطبيق ،حيث إنه صادق كل الصدق
في تنزهه عن اللؤم قوًال وفعًال ،ويقول في هذا الشأن:
َو َأقَو الي ُتَص ِّد ُقَه ا الِفَع اُل َر َفْع َنا َثْو َبَنا َع ن ُك ِّل ُل
ؤٍم
ويذكرنا األمير من خالل جملة من أشعاره في الفخر والحماسة ،والسيما ما يتعلق منه##ا
بصد الضيم واألذى بمواقف عنترة بن شداد العبسي ،الذي يبرز لنا في أشعاره المفعمة بالفخر
كيف أنه يبيت على الطوى ،حتى ينال به الكريم المأكل:
َح َّتى أَنال بِه َك ِر يَم الَم أَك ِل َو َلَقْد أبيُت َع َلى الطَو ى َو أَظ َّلُه
ويقول األمير عبد القادر ،وهو بصدد الحديث عن صبره الطويل ،وتحمل##ه للظم##أ الش##ديد،
وصبره على العطش الشديد:
َلَك اَن َلَنا َع َلى الَّظ ماِء احِتَم اُل َو َلْو َنْد ِر ي ِبماِء الُم ْز ِن َيزري
#فهاءأما الحلم والكرم والعطاء ،فاألمير يشير في هذا الشأن إلى أن عقابه ومجازاته للس#
ليس بالتعسف ،واالضطهاد ،بل إنه بالحلم والتروي ،والصبر والعفو:
َو َنْح ُلُم إْن َج َنى الُّس فهاُء َيْو مًا َو ِمن َقْبِل الُّس ؤاِل َلَنا َنَو اُل
4
وافتخر األمير بسياسته العادلة ،وقيادته الحكيمة ،وتدبيره الدقيق ،ويشبه عدالته في بعض
أشعاره بعدالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي اهلل عنه ،-ويتمنى أن تكون هذه السياسة
بمثابة السراج المنير ،الذي يضيء الليالي الحالكات ،ويبعد الظالم والجهل ،بعد حين من الدهر
كادت أن ُتطفئ فيه أنوار الهداية واإليمان ،حيث يقول األمير عن سياسته العادلة:
َو َقْد ِس ْر ُت فيهم ِس يرة ُع َم ِر ية وأْس َقْيُت َظ اِميها الهداَية فاْر َتَو ى
َو إنَي ألرجو أن أكون أنا الذي ُينيُر الَدياِج ي بالسنا َبْع َد َم ا َلَو ى
وُيدلل األمير على إرادته الفوالذية ،وصبره الكبير عند اشتداد البأس قائًال :
الجوُد والعلُم النفيُس وإنني ألنا الَص بوُر َلَدى اْش ِتداِد البأِس
وعن عدم توانيه ،وتخاذله ،ويأسه يشير األمير إلى أن جميع هذه الفضائل مرجعها األساس هو
الصبر ،إذ يقول:
َو ِمْن َع َج ٍب َص ْبِر ي ِلُك ِل َك ِر يَه ٍة َو َح ْم ِلي أْثَقاًال ُتَج ُّل َع ِن الَع ِّد()5
#ه،#ه ،وثقافت#وكما افتخر األمير ببطوالته وشجاعته ،وصبره ،فكذلك الشأن بالنسبة لعلم#
وقدراته الفكرية ،حيث يقول مفتخرًا بتمكنه من العلوم العربية ،ودرايته بالحديث ،والفقه المالكي
قائًال :
َلَنا ُس ُفٌن َبْح ُر الَح ِديِث ِبَه ا َج َر ى َو َخ اَض ت َفَط اَب الِو ْر ُد ِم َّم ن ِبَه ا ارَتَو ى
َو إْن رمت ِفْق ه األْص بحي َفُع ج َع َلى َمَج اِلِس َنا َتْش َه ْد ِلَو اَء الَع َنا َد َو ا
َغ َدا ُيْذ ِع ُن الَبْص ري ُز ْه دًا ِبما َر َو ى َو إن ِش ْئَت َنْح وًا فانِح نا َتْلَق َم اَلُه
بدا لنا األمير عبد القادر في شعر الحماسة والحرب ُم دافعًا عن كرامة وطن##ه ،يبث روح
الكفاح والعزم واإلقدام في نفوس المجاهدين .وقد رسم لنا من خالل قصائده صورًا ال ُتمحى من
ذاكرة األجيال التي تأملت قصائده الجهادية والحماسية فنراه «يجذ رؤوس األبطال من ض##باط
الجيش الفرنسي العدو جذًا ،بل يعتز بأنه يتقدم جنوده وال يدفعهم أمامه ،فيطيح رأس قائد جيش
العدو مفتخرًا بقوة تسديده وتصويبه ،معتزًا بجنوده من رجال أشداء ذوي عزم وعزيمة يبذلون
أنفسهم فداًء له .وربما كان النموذج الذي يلخص هذه الروح التي تشيع في فخ##ره ومنازالت##ه
إحدى معاركه عام1832:م ،وقد صار وجهًا لوجه أمام القائد الفرنسي ،فتتداخل لديه هنا صور
المعارك السابقة مع المعارك الحاضرة ،ليصير ذلك كله إحدى ص##ور البطول##ة واالس##تماتة
#ة في #ة واقعي##ان دالل# والتحدي والصمود من لدنه وجنوده حوله ،فتتجلى في ذلك مالمح المك#
جانب ،وصورة رمزية في جانب آخر لحياة اإلنسان العربي عامة ،وابن البادية خاص##ة ،م##ع
حضور االعتزاز الرمزي بالنسب النبوي ،إباًء وصرامة من جهة ،وحمايًة رمزية للجه##اد في
#ع في #ا وق#سبيل الحق من جهة أخرى»( ،)6وهذا ما تجلى بشكل بارز في وصفه الدقيق لم#
معركة خنق النطاح الشهيرة.
وعظمة األمير عبد القادر تتجلى في واقعيته ،فهو المناضل الذي «يضرب بتواضعه لك##ل
واجب مثًال للمناضل الحقيقي ،وهو البطل يضع بطولته في طليعة الجيش ،وهو اآلمر يف##رض
بفعاليته طاعة أوامره ،وهو األمير إمارته تسابق إلى االستشهاد ،وتطلع إلى ساحات الشرف:
أميٌر إذا ما كان جيشي ُم قبًال وُم وقد ناِر الحرِب إذ لم يُك ن لها صال
إذا ما لقيُت الخيل إني ألوُل وإن جال أصحابي فإني لها تال
ُأدافُع عنهم ما يخافون من ردى فيشُك ُر ُك ل الخلِق من ُح سِن أفعاِلي
5
#دلولها
ويعرض األمير في سخرية الذعة بالسادات الذين يحملون من البطولة اسمها ،وم#
#ارة
#اب اإلم# براء منهم ،يدفعون الجيش إلى أتون المعارك ويحتمون بمؤخرته ،متس#ترين بألق#
والقيادة:
ومن عادِة الَس اَداِت بالجيِش تحَتِمي وبي يحتِمي جيشي وُتحرُس أبَط اِلي
فالفروسية عند األمير ليست ادعاء ،ولكنها تجارب مريرة ،ومعاناة واقعية ،وفخرياته ليست
قعقعة جوفاء ،ولكنها صدى لقعقعات سالحه ،وال هي برق خلب ،ولكنها وميض س##يوف ،وال
هي ضباب زائف ،ولكنها غبار حروب ،فهو الفعال قبل أن يقول ،وهو الذي ُيفرق بين االدعاء
واألصالة ،بين اللفظة الجوفاء ،واللفظة المشحونة بالبرهان الواقعي ،فهو القائل:
وما ُك ُّل شهِم يدعي السبق صادٌق إذا سيق للميدان بأن لُه الُخ سُر
إذا ثار نقُع الحرب والجّو مغبُر وما ُك ُّل من يعلو الجواد بفاِر ٍس
وما ُك ُّل سيف (ذو الفقار) بحِّده وال كل كَّر اٍر (عليا) إذا َك ُّر وا
وما ُك ُّل طيِر طار في الجو فاتكًا وما كل صباح إذا صرصر الَّص قُر
على قدم صدق ،طبيبًا له خبُر فذا مثُل للمّدعين ،ومن يكن
#رس ،وال هي #ر الف# وليست الفروسية عند العرب ،وال عند األمير براعة وثبة على ظه#
الشجاعة الخرقاء المتهورة .إن الفروسية أخالق كريمة ومثل عليا ،وهو ما نلمسه عند األم##ير
#المخبر،عبد القادر فهو حين يهديك صورته ،يحذرك أن تقنع منها بالمظهر ،فإن اعتزازه هو ب#
يرجوك أال تقف عند حد المالمح والسمات ،ولكن أنفذ إلى األعماق وتلمس الذات األصلية:
لئن كان هذا الرسُم ُيعطيك ظاِه ري فليس ُيريك الرسُم صورتنا الُع ظمى
له همة تعلو بأخمصها النجما فثم وراء الرسم شخٌص ُم حٌبّج
وما المرُء بالوجِه الصبيِح افتخاُر ُه ولكنه بالعقِل والُخ ُلِق األسمى
وإن ُج معت للمرء هذي وهذه فتلك التي ال ُيبتغى بعدها ُنْع مى»(.)7
#الن في #ان ال ينفص# وتذهب رؤية بعض الدارسين إلى أن كًال من األمير والجياد هما توأم#
فخره وحماسته ،وذكره للحروب ،فما إن يحضر األمير حتى تحضر معه الجياد ،وهذا ما تجلى
لنا بشكل واضح في قوله:
وِع ر جيادًا جاد بالنفس كُر ها وقد أشرفت-مما عراها-على التوى
أال كم-جرت-طلقًا بنا تحت غيهب وخاضت بحار اآلل من شدة الجوى
ومن العناصر التي يلحظها الدارس لشعر األمير ،وتظهر في غرض الحماسة مجموعة من
المواضيع المهمة أشار إليها الباحث فؤاد صالح السيد من بينها:
«-معاناته وصدقه :إن شعر الحماسة يتميز بالخبرة والتجربة ،والمعاناة التي اس##تمرت س##بع
عشرة سنة من الجهاد المتواصل ،واألمير مخلص وصادق في شعره الحماسي ،ألنه ال يتخي##ل
المعارك تخيًال ،بل يصف ما رآه ،وعاناه وقاساه ،وصف الخبير الذي خاض المعارك ،ومارسها
ممارسة الجندي والقائد.
#يوف #ورة الس# #ي ص# #عره الحماس# -السيوف العطشى المرتوية :ويحلو لألمير أن يردد في ش#
العطشى المتلهفة لالرتواء .فإذا بها ترتوي بدم األعادي بعد صدورها من كل معركة:
وأسياُفنا قد ُج ردت من ُج فونها وُر دت إليها بعد ٍو رِد وقد روى
6
-الضيغم :شبه األمير نفسه في واقعة «برج رأس العين» بالضيغم الذي يزيد األع##داء حزنً##ا
وأسًى حين ينزل ساحة الوغى فتتالحق ضربات سيفه الذي ال يعرف التباطؤ والتخاذل:
نزلُت بُبرج العين نزلة ضيغٍم فزادوا بها ُح زنًا وعمُه ُم الجوى
#ادة-دفاعه عن جيشه :ويبلغ شعره ذروة الحماسة حين ُينصب نفسه للدفاع عن جيشه خالفًا لع#
#اثلون#ذين يم# الملوك واألمراء ،فهو الدرع الواقي ،والحزام األمين لجيشه ،فهؤالء الفوارس ال#
األشبال قسوة وشجاعة وهيبة يتقنون الطعن والضرب باألمير الذي ُيدافع عنهم ويحميهم:
وبي ُتتقى يوم الطعان فوارس تخالينهم في الحرب أمثال أشبال
إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمما أقول لها :صبرًا كصبري وإجمالي
وقد كان األمير كثير االعتداد بنفسه ،حتى ليظن المرء الذي ال يعرف شيئًا عن سيرته أنه من
قبيل المبالغة والغلو ،بيد أنه صادق في حقيقة األمر ،وخير دليل على ذلك جهاده الذي اس##تمر
سبع عشرة سنة»(.)8
ومهما يكن من أمر؛ فقد أبدع األمير عبد القادر في فخره وحماسته أيما إب##داع! فكتب
بحروف من ذهب بطوالته ،وشجاعته ،وانتصاراته الساحقة ،فتلك االنتص##ارات ال##تي لم تكن
لُتخلد ،وتحفظ مجرياتها لو لم يتوفر فخر األمير ،وحماسته ،ودقة وصفه لمجرياتها(.يتبع الجزء
الثاني)
الهوامش:
()1د.ممدوح حقي :من مقدمة ديوان األمير عبد القادر الجزائري ،دار اليقظة العربية ،بيروت،
1965م ،ص.11:
()2د.عمربن قينة :دوخ جنراالت فرنسا ،ودوخته أم البنين :مقال منشور في مجل##ة الفيص##ل
األدبية ،المجلد الرابع ،العددان الثالث والرابع ،جم##ادى األولى-رجب1429هـ2007/م،ص:
87ومابعدها.
()3د.فؤاد صالح السيد :األمير عبد القادر الجزائري متصوفًا وش##اعرًا ،المؤسس##ة الوطني##ة
للكتاب ،د،ط،الجزائر1985،م ،ص.191:
()4د.فؤاد صالح السيد :األمير عبد القادر الجزائري متصوفًا وشاعرًا ،ص.194:
()5د.فؤاد صالح السيد :المصدر نفسه ،ص195:ومابعدها.
( )6د.عمر بن قينة :دوخ جنراالت فرنسا،ودوخته أم البنين ،المصدر السابق ،ص.93:
()7د.صالح خرفي :في ذكرى األمير ،المؤسسة الوطنية للكتاب ،د،ط،الجزائ##ر1984،م ،ص:
35ومابعدها.
()8رابح بونار :األمير عبد القادر حياته وأدبه ،مقال منشور في مجلة آمال ،العدد ،08:يوليه،
1970م،ص 17:وما بعدها.
7
ثانيًا:الغزل:
'لة،
كما هو معروف فإن غزل األمير عبد القادر المعروف برصانته ،وأخالقه الفاض'
ونسبه الشريف ،هو ليس ذلك الغزل المادي الفاحش الذي نلفيه لدى الكثير من الشعراء ،ب''ل
'ا
'ه به'هو غزل «من نوع الغزل الروحي يتحدث فيه عن صبابته إلى زوجته أم البنين ،وتغزل'
صادق جياش بالعواطف النبيلة ،فكان إذا غاب عنها شكا ،وإذا ذكرها تحسر ،وإذا أجنه اللي''ل
وهي بعيدة عنه صاح من أعماقه بشعر عليه لفحات الحب،وظالل اللوعة والحرقة:
أال قل للتي سلبت فؤادي وأبقتني أهيم بكل واد
تركت الصب ملتهبا حشاه حليف شجى يذوب بكل ناد
ومالي في اللذائذ من نصيب تودع منه مسلوب الفؤاد
وحينما يشتد هيامه ،وتستأثره أشواقه يعتريه قلق ويحفزه تمرد فيعاتب نفسه قائًال:
إالم فؤادي بالحبيب هتوُر ؟ ونار الجوى بين الضلوع تثوُر
وحزني مع الساعات يرنو مجددًا وليلي طويل والمنام نفوُر
وحتى متى أرعى النجوم مسامرًا لها دموع العين ثم تفوُر
وإذا تتبعنا غزل األمير عبد القادر وجدناه يستهدف منه بث شكواه ،وتص''وير لواعج''ه
المحرقة إزاء بعض نسائه ،وهذا النمط من الغزل هو المحمود لدى من يميل''ون إلى الج''انب
'د
'وفة ،ونج' 'ة المتص' الروحي في المرأة ،ولعل الذي طبع األمير على ذلك هو دراساته األدبي'
لألمير مقطوعة جيدة أنشأها سنة1272 :هـ ،وفيها يصف أشواقه إلى زوجته في بروس''ة،
وهي تتسم بعاطفة صادقة ملتهبة ،وشكوى صارخة ،لبعده عنها ،وحرمانه من رؤيتها ،وفيها
تودد الفارس وذلة العاشق ،وأنة المحروم في أسلوب خفيف سهل ،ونبرات روحي''ة حزين''ة،
حيث يقول فيها:
أقول لمحبوب تخلف من بعدي عليًال بأوجاع الفراق وبالبعِد
أما أنت حقًا لو رأيت صبابتي لهان عليك األمر من شدة الوجِد
وقلت أرى المسكين عذبه الهوى وأنحله حقًا إلى منتهى الحِد
8
وساءك ما قد نلت من شدة الجوى فقلت وما للشوق يرميك بالجِّد
ونار الجوى بين الجوانح في وقِد وإني وحق اهلل دائم لوعة
غريق أسير السقم من كلم الحشى حريق بنار الهجر والوجد والصِّد
ويتعجب األمير من سطوة الحب وانهزام شجاعته القوية أمامها ،حيث يقول:
ومن عجب صبري لكل كريهة وحملي أثقاًال تجل عن الحِّد
ولست أهاب البيض كال وال القنا بيوم تصير الهام للبيض كالغمِد
وأفنى فؤادي بل تعدى عن الحِّد وقد هالني بل أفاض مدامعي
وقلبي خال من سعاد ومن دعِد»(.)9 فراق الذي أهواه كهًال ويافعًا
ويجدر بنا قبل التعمق أكثر في عوالم الغزل عند األمير عبد القادر ،أن ننتقل إلى سؤال
مهم طرحه الباحث فؤاد صالح السيد ،إذ تساءل عن سبب خضوع األمير عبد القادر للم''رأة؟،
وكأن الباحث من خالل هذا السؤال يريد أن يشير ضمنيًا إلى أن ذلك الفارس المغوار الذي أذل
كبراء جنراالت الجيش الفرنسي ،وألحق بهم الهزائم تلو األخرى ،ال يب''دو أن''ه سيض''عف،
ويخضع للمرأة..
إن اإلجابة عن هذا السؤال تبدو سهلة« ،ولكنها في حقيقة األمر صعبة ،ألن األمير نفسه
'طوة الحب'و يتعجب من س' في بداية األمر ،لم يجد تعليًال لهذه الحال الغريبة التي اعترته ،فه'
على قلبه ونفسه ،فأدى ذلك إلى انهزام شجاعته القوية ،ويمكن حصر هذه األسباب في سببين
أساسيين هما :األمومة ،والجمال.
'دة
إذ إن السر في هذا الخضوع للمرأة كامن وراء إعجابه الشديد بأمه ،وحِّبه إياها ،وش'
تعلقه بها ،فقد كان األمير شديد االحترام لها ،يأخذ برأيها ،ويستشيرها في الملّم ات الص''عبة،
واألمور العسيرة ،حتى اتهم بأنه يخضع لما تصدره من :مكاتبات ،وتحارير ،ومراسالت موقعة
باسمه...
وكان األمير شديد التعلق بوالدته ،يصطحبها في أسفاره ،وكأنه يتلمس من عقلها الراجح،
ومن روحها العضد والطمأنينة ،والعزاء لروحه المضطرم ،فقد رافقته إلى األسر ،وحملها معه
إلى استانبول ،وبروسة ،ودمشق.
ويبدو تأثير الوالدة على ولدها بعد حادثة وفاتها ،فقد عظم على األمير مصابه ،وح''زن
عليها حزنًا شديدًا ،وبعد رجوعه من دفنها بمقبرة «الدحداح» إلى منزل''ه في حي«العم''ارة»
بدمشق ،توقف عدة مرات في الطريق من هول المصيبة ،فقال له بعض من كانوا معه« :ارفق
'ا
'ه األرض؟ ».فربم' بنفسك»! فقال لهم« :كيف ذلك وأنا فقدُت أعظم من كان يحبني على وج'
كان لهذه المحبة العميقة ،والخضوع الكلي ،واإلعجاب الشديد الذي كان ُيبديه األمير لوالدت''ه
األثر الفعال في تحويل محبته ،وخضوعه ،وإعجابه إلى المرأة بشكل عاٍم وأساسي.
وأما بالنسبة لسلطان الجمال؛ فاألمير نفسه يعجب من واقعه الغريب ،ثم إنه يستدرك هذا
األمر ،وُيذكر بأنه فارس ،والجدير بالفارس أن يخضع لسلطان واحد ال غ''ير ،ه''و س''لطان
الجمال الذي يمتلك مهج الفرسان ،ويخضعهم لسلطانه ،إذ يقول في هذا الشأن:
9
وِمْن َع َج ٍب َتَه اُب اُألْس ُد َبَط ِش ي وَيَم ْن ُع ِني َغ َز اٌل َع ْن ُمَر اِدي!
وَم اَذ ا؟ َغ يَر َأَّن َلُه َج َم اال َتَم َّلك مهجِتي ُم ْلَك الَّس َو اِد
فُس ْلَط اُن الَج َم اِل َلُه اْع ِتَز اٌز َع َلى الَخ ْي ِل والَّر جِل الَج َو اِد»(.)10
إن األمير عبد القادر ذلك المجاهد البطل المغوار ،الذي «دّو خ جنراالت فرنسا بصالبته
السياسية ،وشجاعته العسكرية إقدامًا وبأسًا ،من دون أن تلين له عريكة ال تخ''دم وطن''ه في
مفاوضات سياسية ،وال مواجهات عسكرية ،لكن التي دوخته هي زوجه(أم البنين) األثيرة لديه
دائمًا ،التي تزوجها في وهران نحو عام1822:م ،وهو في الخامسة عشرة من عمره ،أي قبل
رحلته مع والده للحج عام(1825م) ،فسرعان ما ملكت عليه أمره ،فكان يحّن إليها في حربه
'زأر في 'ذي ي' 'د ال' 'ادر األس' وفي سلمه ،شاكيًا صدودها وبرودتها ،حتى بدا األمير عبد الق'
المعارك ،ويقارع الجنراالت ،حمًال وديعًا ساذجًا أمام (أم البنين) ،يثغو فيرتد إليه صدى ثغائ''ه
كئيبًا باردًا ،يئن شكوى وعتابًا في القرب منها مثل البعد عنها في المعارك ،وهذا قدر النفوس
الكبيرة حيث تجتمع األضداد ،فاألمير عبد القادر الذي يجّذ رؤوس األعداء بسيفه جّذ ا ،فيخوض
في دمائهم مبتهجًا بالنصر ،يملك عليه الفزع أمره في الجمال نفسه من وجنة حسناء تتعرض
للوشم فتخدش ،فتكون الصورة أمامه مثيرة للفزع ،كما عّبر عن ذلك في أحد نماذجه بالديوان
عندما ورد أن حديثًا جرى عن الموضوع في مجلس بمدينة الطائف كان األمير حاضرًا في''ه-
أرجح أن يكون هذا في حجته الثالثة بعد إقامته في دمشق-فقال:
فباللحظ ال الُم وسى تخدش وجنة فيا ويلتا منه! ويا طول حسرتي!
'ة'رام ،وال الزين'
'م ح' وهنا قيمة جمالية في النظر إلى المرأة ،فهو لم ُيشر إلى أن الوش'
بالصيغة الطبيعية الشرعية غير ممنوعة ،بقدر ما هيمن على فكره الصورة الجمالية المعنوية
التي تعكس زاوية من قيمه في المرأة ،وهي الحياء .فالمرأة العفيفة ذات الحياء تحمر وجنتاها
حياًء وخجًال من موقف أو نظرة ،فتزداد بذلك جم''اًال على جم''ال من دون تش''ويه تلحق''ه
(الموسى) بوجنة واحدة باحثة عن زينة سبيلها تشويه ما خلقها اهلل عليه ،فتعيث فس''ادًا في
الطبيعة.
'زوج هذه السمة مما توافرت في (أم البنين) فيما يبدو ،فهي ذات حياء حتى من مبادلة ال'
مشاعر المودة والرحمة التي جعلها اهلل بين الزوجين ،كما استقرت في وجدانها-ربما -تقاليد
المحيط التي ترى صميم العالقة الزوجية هي الغريزة البشرية والحيوانية ليس غير.
'ه،في هذه الخلفية شيء من عزاء للشاعر في هيامه وتضرعه وتفهمه في الوقت نفس'
'ورة 'م ص' وإن أودى به في نماذج إلى السقوط في مباشرة ال تخلو من إسفاف وسطحية ترس'
'دود،'ان وص' 'تركز في حرم' 'ة ،ت' مادية ال فن فيها وال خيال ،بل رغبات مادية مباشرة معلن'
مصدرهما األساسي طبيعة الحياة ،وقيم المجتمع:
ُأقاسي الُح ّب من قاِس ي الُف ؤاد وأرعاه وال يرعى ودادي
وأبكيها فتضحُك ملء فيها وأسهُر وهي في ِط يِب الُر قاِد
وأبُذ ُل ُم هجتي في لثِم فيها فتمنُع ني و أرجُع جَّد صاِد
10
وما أنفك في ُذ ّلي ُأنادي»(.)11 فما تنفُك عني ذات عّز
ويعود األساس األول لعدم خوض األمير في الغزل المادي الماجن إلى تربيته الدينية ،في
طفولته ،وتركيز أسرته ،على الجوانب الُخ ُلقية والروحية ،وابتعادها عن النواحي المادية ،فنشأ
األمير على حب الطهارة ،والعفة ،باإلضافة إلى« تأثر األمير بالتصوف في مراحل حياته كله''ا
في الجزائر ،وفرنسة ،وبروسة ،ودمشق.
ومن المعروف أن التصوف ينمي الجوانب الروحية والُخ ُلقية في اإلنسان ،ويبعده عن الجوانب
'ر'يان من عناص' المادية الضيقة المغلقة .وال يخفى أن الحب والغزل اإللهيان عنصران أساس'
الشعر الصوفي في اإلسالم.
'روز'د أدى إلى ب' فإن التآلف بين التصوف ونفسية األمير ،ورغباته ،وميوله الفطرية ،ق'
الجوانب الروحية الُخ ُلقية بروزًا واضحًا في سلوكه اليومي ،وتصرفاته الحيوية .فانعكست هذه
الناحية الروحية الُخ ُلقية في أشعاره الغزلية ،فكان هذا االتجاه العذري في الغزل عند األم''ير،
غزل الحنين واألنين ،غزل األسى واللوعة والحرمان»()12
ومن أبرز الخصائص التي تظهر للمتأمل في غزل األمير ،بروز شخصيته ،وظه''ور
معاناته ،ومن ذلك قوله:
حنيني أنيني زمرتي ومضرتي دموعي خضوعي قد أبان الذي عندي
وكذلك يظهر على غزله تأكيده على عفة الحبيبة ،والسيطرة التامة لذلك الحب على الجانبين
العقلي ،والعاطفي ،أي الوجدان ،والعقل ،وقد تجلى هذا األمر في قوله:
لقد أضحت مراتعه فؤادي أال من منصفي من ظبي قفر
أي أن الحبيب قد سيطر على كامل وجدانه ،ومن ذلك قوله أيضًا:
وبي ما ُيزيُل العقل عن مستقره فال تعجبوا إن قيل فيه خباُل
وقد ظهر حرصه على العفة والطهارة في قوله:
فتمنعني وأرجع منها صاِد وأبذل ُم هجتي في لثم فيها
وكذلك في قوله:
تودع منه مسلوب الرقاِد ومالي في اللذائذ من نصيب
ويشير إلى هذا األمر كذلك ضمنيًا في قوله:
فإن هو لم يجد بالوصل أصًال وُيدني الطيف من سكني وداري
وموتي فالقضاء عليك جاٍر أُق ل للنفس :ويك أال فذوبي
وكذلك من أهم الخصائص ،والسمات التي طبعت غزل األمير ،حرص''ه على تص''وير
'عره
'ر من ش' 'ا يظه' الفراق في صور بديعة ،حتى كأن المرء يجد الصورة مجسدة أمامه ،كم'
الغزلي مدى حبه للسهر والليالي ،ومناجاته للحبيبة الغائبة ،ويتبدى ذله ،وانكساره ،وش''جنه
العميق ،الذي يظهر من خالل األسئلة الكثيرة التي يثيرها ،واالستغاثات المتوالية التي يطلقها،
ومنها تظهر أنواع من العتاب لغياب الحبيب ،وقسوته ،وبعده عنه.
11
ثالثًا :الوصف:
من المسلم به أن كل شعر فني يندرج تحت لواء الوصف ،فالشاعر عن''دما يتغ''زل
يصف ،وعندما يمدح يصف ،وعندما يرثي يصف ،وعندما يفخر ك''ذلك يلج''أ إلى الوص''ف،
'و'ف ه' «وكذلك كان شعر األمير في فخره ،ووجدانياته ،لكن من المواقع ما يصير فيها الوص'
السائد حتى يكاد الموضوع نفسه يذوب فيه حين تدق مشاعر الشاعر الوجداني''ة بم''ا فيه''ا
'ة'ا طبيع''ر لن' 'تي ُتظه' المشاعر الدينية ،أو تجنح أشواق الذكرى والحنين .ولعل الصورة ال'
الوصف عند األمير إثر وقوفه قرب جبل أحد في بستان ،حيث مكث وقتًا في المدينة المن''ورة،
فاحتدمت المشاعر في نفسه ،وتداخلت بين إرادة المكث في المدينة ،وضرورة المغادرة حسب
مقتضى الحال ،فقد هدته المعاناة جسدًا وروحًا ،فطفق يصف الموقف قائًال:
إلى اهلل أشكو ما أالقي من النوى وحملي ثقيل ال تقوم به األيدي
'ك المش''اعر بين إرادة يص''عب فقد وصف لنا الشاعر اللحظة والمكان ،واحت''دام تل'
'تى'وء من ش' تحقيقها،بل ال سبيل إلى ذلك،فيصف لنا حالته النفسية أدق الوصف،مسلطًا الض'
الجوانب،فكأنه يقدم لنا مسحًا شامًال،ورؤية مكتملة لوضعيته النفسية في هذه الحال حيث إن''ه
يقول:
تذكرت وشك البين قبل حلوله فجادت عيوني بالدموع على الخِّد
وفي القلب نيران تأجج حّر ها سرت في عظامي ثم سارت إلى جلدي
فيا ليت قبل البين سارت إلى اللحِد ومالي نفس تستطيع فراقهم
بطيبة طاب العيش ثم تمررت حالوته ،فالنحس أربى على السعِد
وبين قباها ثم ألوي إلى ُأُح ِد أردد طرفي بين وادي عقيقها
وكهًال إلى أن صرت بالشيب في برِد»(.)13 منازل من أهواه طفًال ويافعًا
ويظهر لنا للوهلة األولى أن وصف األمير في هذه المقطوعة البديعة هو وصف معنوي،
فهو يصف الحالة النفسية الداخلية ،ويقدم لنا رؤية عما يختلج فؤاده إثر فراق ه''ذه المدين''ة
الطيبة ،مدينة اإليمان ،والسالم.
وقد انقسم الوصف عند األمير إلى قسمين رئيسين وفقًا لرؤية الباحث فؤاد صالح السيد،
فأحيانًا هو يظهر أنه وصف بدوي ،كما ظهر في قصيدته الشهيرة التي يصف فيها البدو :
ياعاِذرًا المرئ ،قد هام في الحضر وعاذًال لُم حب البدو والقفِر
ال تذَّم َّن بيوتًا خف محملها وتمدحَّن بيوت الطين والحجِر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني لكن جهلت ،وكم في الجهل من ضرِر
أو ُك نت أصبحت في الصحراء ُم رتقيًا بساط رمل به الحصباء كالدرِر
أو ُج لت في روضة راق منظرها بكل لون جميل شيق عِط ِر
أو كنت في ُص بح ليٍل هاج هاتنه علوت في مرقب أو جلت بالنظِر
رأيت في كل وجه من بسائطها سربًا من الوحش يرعى أطيب الشجِر
فيا لها وقفة! لم تبق من حزن في قلب مضنى وال كدا لذي ضجِر
12
وأما الوصف الحضري فقد أناخ بكلكله على المرحلة الثالثة من حياة األمير نظرًا البتعاده
على حياة البدو ،واقترابه من الحياة الحضرية ،عندما أقام في مدن المشرق العربي فخص''ص
له قصائد مستقلة انضوت تحت لواء هذا الغرض ،ولم تدخلها أغ''راض أخ''رى ،في حين أن
'ة من 'راض متنوع' الغزل البدوي لم يأت في قصائد خاصة ،بل جاء ممزوجًا ومضمنًا في أغ'
بينها الفخر والحماسة.
'ف 'ا بين الوص' 'تراوح م' وما يثير انتباه المتأمل في وصف األمير عبد القادر للحضر أنه ي'
'ة األولى إلى النسِخ ي الحسي التقريري ،والوصف التشخيصي الوجداني .ويعود ذلك في الدرج'
الجو الفرنسي والحيوي الذي كان ُيحيط باألمير في أثناء نظمه للقصيدة الوصفية ،فالوص''ف
'ا'اور واديه' 'ذي يج' النسخي الحسي التقريري ظهر في قصيدته التي وصف بها قصر ُد َّم ر ال'
البديع ،فقد كان األمير يتردد على هذه المدينة لالصطياف ،حيث يقول في هذه القصيدة:
ُع ْج ِبيَ-ف َد ْي ُتَك -في َأَباِط ِح ُد َّم ِر َذ اِت الَّر ياِض الزهرات الُّنَّض ِر
َذ اِت الِمياِه الَج اِر ياِت َع َلى الَّص َف ا َف َك أَنَه ا ِمْن َم اِء نْه ِر الَك وَثِر
ُيغنيَك عن َز َبٍد وِمسٍك أَذَف ِر َذ اِت الَّنِس يِم الَّط ِّيِب العطر الذي
والَّط ْيُر في َأْد َو اِح ها ُم َتَر ِّنٌم ِبَر خِيِم َص ْو ٍت نغَم َة ِم ْز َه ِر
َم ا َبْي َن َأْذ كار َو َبيَن تفكِر َم ْغًنى ِبِه الُنَّس اُك َيزُه و َح اُلَه ا
َم ا ِش ئَت َأْن َتْلَق ى ِبها ِمن َناسك أو َف اتك في َف ْت ِكِه ُم َتَط ِّو ِر
َأْي َن الُّرَص اَف ُة والَّس ِديُر َو َش عُب بَّو اٍن ..إَذ ا َأْن َص َف تها ِمْن ُد َّم ِر (.)14
وقد ظهر الوصف الوجداني التشخيصي في شعر األمير في بعض المقطوعات القصيرة ،وق''د
'ر 'ع خري' تميز هذا النوع عند األميربلغته العذبة والرقيقة والتي تبلغ حد الليونة ،إذ تنساب م'
'ويره'ا في تص' 'دى لن' الجداول ،وتغريد الطيور ،وتحليق النور ،وتعالق األشياء .وهذا ما يتب'
الرائع لتلك الناعورة العاشقة التي ألصق بها صفات إنسان ينوح ويدمع« ،فلم تعد الناعورة في
لوحته الفنية شيًئا حسيًا ماديًا جامدًا ،وإنما تحولت بطريقة تشخيصية إلى عنصر ت''دُّب في''ه
الروح والحياة والحيوية .إنها صورة الناعورة التي تجيب الشاعر عن تس''اؤالته ،فحاوره''ا
وحاورته ،وسألها وأجابته ،فهي كالعاشق الذليل الذي أذله الحُّب ،فهو تارة يطأطئ رأسه حزنًا
وتذلًال ،وتارة يرفع رأسه للعويل والبكاء:
َو َناُع وَر ة َناَش ْد ُتَه ا َع ْن َح ِنينَه ا َح نين الحواِر والُّد ُم وُع َتِس يُل
فقالت َو أْب َد ْت عذَر َه ا ِبَم َق اِلَه ا وللِّص دِق آياٌت َع َليِه َدِليُل
َأَلْس َت َتَر اِني َألِق ُم الثدي َلْح َظ ًة ! َو أْد َف ُع عْن ُه َو الَبَالُء َط ِو يُل
َو َح اِلي َك َح اِل الِع ْش ِق َبات مخَّلًف ا َيُدوُر ِبَداِر الحِّب َو هَو َذ ِليُل
َو َيرَف ع أخرى والعويُل عويُل ُيَط أِط ئ ُح زنًا َر أَس ه بتذلل
وتحت لواء الوصف الوجداني التشخيصي انضوى وصف األمير لعود الِّط يب الذي ُيَتَبَّخ ر ب''ه،
'دور 'الورد ،أي بالص' فقد ذكره الُع ود بالَع ود ،أي بالعودة إلى أرض الوطن وذَّك ره ال 'َو ْر د ب'
والرجوع:
13
َتَبَّخ ْر ِبُع وِد الَّط يِب َال ِز ْلَت طيبًا َو ُر َّش ِبَم اِء الزْه ِر َيا ِخ ُّل َو الَو ْر ِد
َو َم ا ُبْغ َيِتي َه َذ ا َو َلِكن َتَف اؤًال ِبُع وٍد إلى َع ْو ٍد َو َو ْر ٍد إلى ِو ْر ِد»()15
رابعًا :التصوف في شعر األمير عبد القادر:
يجمع الباحثون الذين اهتموا بالتصوف عند األمير عبد القادر على أنه كانت له ميوالت
منذ الصغر نحو التصوف ،وذلك يعود إلى نشأته الدينية المحافظة ،وطبيعته االنطوائي''ة ،حيث
'ة من 'اءت جمل' 'د ج' إنه كما أشرنا سلفًا كان ينكب على القراءة ،وينصرف إلى المطالعة ،وق'
العوامل لتؤخره عن التصوف في شبابه ،وأبرز هذه العوامل انشغاله بالنضال والجه''اد ض''د
المستعمر الفرنسي.
ويحدثنا األستاذ األديب رابح بونار عن هذا األمر قائًال « :كان األمير يميل إلى التصوف من''ذ
صغره ،وال شك أن أباه محيي الدين الذي كان صوفيًا كبيرًا من أتباع القادرية ك''ان ذا ت''أثير
عليه في تربيته الدينية ،وكان أكبر موجه له في حياته الروحية الصوفية ،كان العصر عص''ر
تصوف انتشرت فيه طرق كثيرة ،ورسخ في األذهان أن اتخاذ شيخ عارف ضروري ،ولهذا كله
كان األمير متصوفًا ،ولكننا عندما رجعنا إلى ديوانه لم نجد له قصائد في التصوف في مرحلته
األولى بالجزائر ،وإنما تجد له قصائد تعود إلى ما بعد االعتقال ،واالستقرار بالشام .وقد يكون
ذلك عائدًا إلى أنه لم ينظم في فترته األولى لعدم نضجه في األدب الصوفي ،وبعد نض''جه في
الفترة الثانية أخذ يقرض فيه القصائد ،واألمير في شعره الصوفي قد يكون متأثرًا بمحيي الدين
بن عربي ،وابن الفارض ،والنابلسي ،وغيرهم .وهو في شعره هذا ُيعنى بتصوير ما يحس به،
ويسجل الواردات التي ترد على خاطره ،ومن الحق أن نقول :إن األمير في ش''عره الص''وفي
يتجلى عن روح شعرية ،ويطفح بعواطف صادقة ،وأخيلة ملونة في أسلوب سهل متوسط .وقد
استغل األمير رمزية المتصوفة فزان بها شعره ،ومن أشهر قصائده في هذا الموضوع قصيدته
الرائية ،التي صور فيها بروح قصصية فتوحاته الربانية مع شيخه محمد الفاسي ال''ذي التقى
به في مكة المكرمة ،وأخذ عنه الطريقة ،وفي مطلعها يقول:
أمسعود جاء السعد والخير واليسُر وولت جيوش النحس ليس لها ذكُر »(.)16
لقد وظف األمير عبد القادر في شعره الذي يندرج ضمن هذا الباب الرمزية الص''وفية
بشقيها الغزلي ،والخمري وهو متأثر في ذلك تأثرًا كبيرًا بكبار المتصوفة في العالم اإلسالمي.
'ورة 'ة) بص' ومن الرموز التي بدت في شعره بشكل واضح وصف الخمرة ،والحبيب أو(المحب'
عامة .فاألمير «لم يفرد للخمرة الحسية المادية قصائد ومقطوعات في ديوان''ه ،ولم ي''ذكرها
بتاتًا ،وإنما ذكر هذه الخمرة اإللهية التي وصفها وصفًا يكاد يكون شبيهًا بوصف ابن الفارض
لخمرته التي اعتبرها هذا األخير رمزًا من رموز المعرفة اإللهية ،أو لمعرفة الح''بيب األزلي،
أي واجب المطلق...
إن قصيدة األمير الصوفية التي ضمنها ذكر الخمرة تكاد تكون صورة طبق األصل لقصيدة ابن
الفارض ،بيد أن الفرق الوحيد بينهما هو أن موضوع قصيدة الخمرة اإللهية فقط ،أما قص''يدة
األمير فيكون الموضوع الخمري جزءًا منها»(.)17
14
وقد تجلت الخمرة في شعر األمير من خالل مجموعة من الصور من بينها :الخم''رة
المعتقة ،والخمرة التي ال تكسر ،والهج'رة إلى الخم'رة ،والخم'رة هي العلم ،والخم'رة هي
الغنيمة الكبرى وغيرها من الصور التي تبدت فيها في قصائد األمير.
'ر 'ا :الخم' أما الرمز الغزلي فقد ظهر لنا في شعره من خالل مزجه بين موضوعين هم'
والمحبة ،ومن ذلك وصفه لليالي اللقاء متوجهًا توجها كليًا للح''بيب ،ويتح''دث عن وص''ال
الحبيب ولقائه قائًال :
أوقات وصلكم عيُد وأفراُح يا من هم الروح لي والَّر وُح والراُح
يا من إذا اكتحلت عيني بطلعتهم وحققت في محيا الُح سن ترتاُح
وقد تجلى كذلك الرمز الغزلي من خالل جملة من العناصر ،من أبرزها :رؤية الح''بيب،
'ق اإللهي ،إذ 'ل العش' والتوجه الكلي ،وليالي اللقاء ،وصبر المحبين ،ومن خالل موقفه من أه'
يقول في هذا الصدد:
هلكى مما كتموا وصرحوا ويَح أهَل العشق هذا حُظ ُه م
خامسًا :المدح:
'ير،'اة األم' تغير المدح في شعر األمير عبد القادر جملة من التغيرات ،وذلك بتغير حي'
وتنوعها من مرحلة إلى أخرى ،وقد اختلفت أنواعه باختالف ظروف حياة األمير ،فبعد مرحلة
التعمق في التصوف ظهر مدح سمي بالمدح الصوفي ،ومما قاله في هذا الجانب يمدح شيوخه
بالكرم ،والجاه ،والجمال:
وليس لها-يومًا-بمجلسه نشُر وما زهرُة الدنيا بشيء له ُيرى
وقوله كذلك يمدح شيخه الشاذلي ،ويؤكد أن حضوره يبعد اآلالم ،واألشجان ،إذ يقول:
أهًال وسهًال بالحبيب القادم هذا النهار-لدي-خيُر المواسم
جاء السروُر ُم صاحبًا لُق دومه وانزاح ما قد كان قبل ُم الزمي
طالت مساءلتي الُّر كاب تشُو قًا لجمال رؤية وجهك المتعاظم
في حين أن مدحه السياسي تميز بقلة العدد مقارنة مع بقية القصائد ،وتميز باستقالله عن
الفنون األخرى ،كما تضمن مدحه السياسي أفكارًا دينية ،وإشارات إلى ض''رورة ال''دفاع عن
شريعتنا اإلسالمية قوًال وفعًال .
خاتمة:
'تي من خالل رحلتنا مع عوالم األمير عبد القادر الشعرية ،تجلت لنا جملة من الصور ال'
يمكن أن نصفها بأنها كانت متباينة عن شعر األمير عبد القادر ،فنلفي األمير عبد القادر ُم كثرًا
في أغراض ،وُم قًال في أغراض أخرى ،وعلى سبيل المثال :فقد أكثر في الفخ''ر والحماس''ة،
وبالمقارنة مع المدح نجده ُم قًال ،وهذا يعود إلى طبيعة األمير فهو ينتمي إلى عائلة شريفة ذات
حسب ونسب ،فمن الطبيعي أن يغلب الفخر على المدح ،وكما تباينت األغراض من حيث الكثرة
والقلة ،فقد اختلفت أساليب األمير ،وجودة قصائده من غرض إلى آخر .فالمتأم''ل في ش''عره
يقف على جملة من االختالفات التي ظهرت بشكل واضح ،ففي أغراض يجد الق''ارئ قص''ائد
15
بديعة ساحرة ،متينة السبك ،جيدة األسلوب ،رقيقة األلفاظ ،حسنة التركيب ،وفي بعض القصائد
ُيلفي القارئ ضعفًا وركاكة في بعض األساليب.
ومهما يكن األمر؛ يمكن القول :إن أهم ما يمكن أن يخرج به المتتبع للتجربة الشعرية عند
األمير عبد القادر الجزائري هو أنه كان صادقًا مخلصًا في كتاباته ،فقصائده هي بمثابة انعكاس
ألحداث حياته ،فقد عبر عنها بكل صدق ،وشفافية ،فشعر األمير يمكن اتخاذه كوسيلة لتوثي''ق
حياته ،نظرًا لصلته العميقة بها ،فقدم لنا صورًا عن ثقافة عصره ،وأبرز لنا بعمق الكث''ير من
القضايا التي سادت في بيئته.
الهوامش:
()9د.عمر بن قينة :المصدر السابق ،ص 98:وما بعدها.
( )10د.فؤاد صالح السيد :المصدر السابق ،ص214:ومابعدها.
( )11د.عمر بن قينة :المصدر السابق ،ص ،95:وما بعدها.
( )12د.فؤاد صالح السيد :المصدر نفسه ،ص.217:
( )13رابح بونار :األمير عبد القادر حياته وأدبه ،المصدر السابق،ص 15:وما بعدها.
()14د.فؤاد صالح السيد :المصدر نفسه ،ص.260،258:
()15المصدر نفسه ،ص.261:
( )16د.فؤاد صالح السيد :المصدر السابق ،ص229:ومابعدها.
()17د.فؤاد صالح السيد :المصدر نفسه ،ص 228:و ما بعدها
16