Professional Documents
Culture Documents
جسد بلا روح
جسد بلا روح
روٌح مفقودة
عند األلم نطرق كل أبواب النسيان ،فالبعض يبكي كي ينسى ,والبعض يضحك كي ينسى ،والبعض ينام
كي ينسى ,والبعض يصمت كي ينسى ,والبعض يواجه كي ينسى..ولكن ماذا إذا لم يكن خيار النسيان
بأيدينا؟ ماذا إذا أرغمتنا الحياة على النسيان؟
كنت قد ذهبت إلى زيارة صديقة جدتي التي تدعى ليلى ,كما اعتدت زيارتها في يوم الجمعة من كل
أسبوع برفقة جدتي .كانت ليلى هي صديقة جدتي منذ الطفولة.دائًم ا ما كانت تحب أن أطلق عليها "تيتة
ليلى" .كانت تفوح منها رائحة اللين والعطف,وتحب اآلخرين وتغمرهم باألدعية وإن كانت ال تعرفهم
حق المعرفة .في كل مرٍة أذهب إليها تقص علّي مواقف من حياتها,ونتبادل أطراف الحديث,ثم تقدم لي
الطعام وبعد ذلك أجلب لنا كأسين من الشاي ونجلس في الشرفة .وعندما يحين موعد مغادرتي دائًم ا تردد
هذه الجملة "عشان خاطري متغيبيش عني وتعالي مع تيتة صفاء".
كان كل شيء على ما يرام,ولكن ما الحظته على مدى ثالثة أسابيع أنها كانت تقّص علّي موقًفا واًحدا
فحسب,كان ذلك الموقف هو موقف من طفولتها .ولكن بدا هذا األمر غير مألوًفا لي,قلت ربما تحب
الحديث عن ذلك الموقف وفي كل مرٍة تريد ذكره مجدًدا .ولكن ,لماذا ذلك الموقف بالتحديد؟ وِلَم تتحدث
عن ذلك الموقف كأنها ال تتذكر سواه؟ كانت تلك االسئلة تتردد في ذهني .لم يمر سوى أيام حتى علمت
بما حدثُ..أصيبت تيتة ليلى بمرض فقدان الذاكرة والذي يسمى بالزهايمر .لم أستطع مواجهة األمر,ولم
أستطع زيارتها إال بعد مرور أسبوعين على إصابتها بالزهايمر .كنت اشتاق إليها ولكن في الوقت ذاته
كنت أشعر بالحزن الشديد .ذهبت لرؤيتها مع جدتي .وجدتها كما هي ،لم يغير الزهايمر من مظهرها
ولكن فعل ماهو اسوأ من ذلك ,فقد محى األسماء وطمس وجوه األحبة .لم تكن تتذكر شيًئا سوى عدة
مواقف من طفولتها,استطاعت تذكر جدتي ألنها صديقتها منذ الطفولة ولكنها لم تتذكرني,فقد غرقت
ذاكرة صديقة جدتي في طوفان النسيان.وأصبحت ال تعرفني,شعرت بأن جزًء ا من حياتي مفقود,أفتقدها
بشدة وهي أمامي,وأفتقد مكاني في ذاكرتها .ولكن حزني ال يعد حزًنا عند ذكر حزن أبنائها,فهي ال
تستطيع تذكر أسمائهم وال تتذكر أنها من أنجبتهم.فعلمت حًقا أن وطأة الشوق للحاضر الغائب أشد على
القلب من الشوق للغائب.
جعلني هذا األمر أفكر قلياًل ,إننا ال نعلم حًقا ماهو النسيان .في بعض األحيان نتمنى نسيان شيًئا
ما,وخاصًة كل ما هو مؤلم ومحزن .ولكننا لم نفكر قط بأن النسيان ليس شيًئا كما يبدو ,وأن حياتنا ال
تمثل شيًئا دون ذكرياتنا,حتى المؤلم منها .فما يجعل اإلنسان إنساًنا هو السعادة والحزن في آٍن
واحد.حياتنا هي عبارة عن لحظات من الحزن والسعادة,يمكن للسعادة أن تخفف من الحزن ولكن ال
نستطيع ان نحيا بشعور دون اآلخر .فلوال الذكريات المؤلمة لما عرفنا قيمة الذكريات التي تجلب
السعادة .وأن الذكريات بمثابة الروح ألجسادنا,فما فائدة الجسد حينما اليتذكر اإلنسان كيف كانت أيامه،وال
يتذكر أحبائه,وال حتى من تركوه في منتصف الطريق
سنوات تمر من حياتنا ونحن ال نعلم حًقا القيمة التي تمثلها ذكرياتنا في الحياة ,ونتمنى احياًنا زوال
بعض الذكريات دون تفكير في هذا األمر .إصابة صديقة جدتي بالزهايمر جعلتني أدركت ماهية شعور
النسيان،ولم أتمنى حدوثه طوال حياتي .وأدركت ايًضا أن االكثر إيالًم ا هو أن ترغمنا الحياة على
النسيان.في تلك الحالة ال ينسى اإلنسان الذكريات المؤلمة فحسب,بل ينسى جميع ذكرياته,وقد ينسى نفسه
أيًض ا .وتعلمت أن الذكريات ال تمثل جزًء ا من حياتي فحسب,بل إنها تمثل حياتي بأكملها.