Professional Documents
Culture Documents
الحاكم بأمر الله - ص121 130 -
الحاكم بأمر الله - ص121 130 -
كمال لسحق
خصومه ومعارضيه ؛ وما وقع في إيطاليا أيام موسوليني والطغيان الفاشستي وما وقع فى اسبانيا الفرنكية في أعقاِب الحرب األهلية في
سَنتي 1938و 1939م ،من مقاِتل ُم روعة لزعماء اسبانيا الديمقراطية والجمهورية الذين سقطوا فى أيدى فرانكو ومعاونيه؛ وأخيًر ا بما
يقع فى ظل الُنظم الدكتاتوربة ،حيث تقوم ،من إجراءات القمع والتقتيل المنظم التي ُتَتخذ لدعم سلطان الطغاة ،وفرض نظمهم وإرادتهم.
فهل نعجب إذا رأينا طاغية من طغاة العصوِر الوسطى ،مثل الحاكم بأمر هللا ،يلجأ إلى مثل هذه الوسائل الدموية ،حرصًا على سلطانه
.من مطامع زعيم أو وزير قوي ،ويتذرُع بها ليفرض هيبته على الكافة ،وليُبث إلى نفوسهم الروع والرهبة ؟
ثم أليست القسوة والطغيان واإلرهاب والغدر والنكث ؛ عنوان الفلسفة المكيافيللية التي ُبعثت في عصرنا ؟ لقد مجد مكيافيللى الطغيان
والقتل وُأعِج ب بطغاة مثل اسكندر بورجيا وابنه شيزارى ألنهم استطاعوا أن ُيؤيدوا سلطانهم بالقتل الذريع دون وازع ،ودون التقيد بعهد
.أو مبدأ أو زمام
هذه خواطر وتأمالت نبسطها ال لنبرر شيئًا من إجراءات الحاكم وتصرفاته الدموية ،أو أن ُنخفف من وقعها ومسئوليتها الرهيبة أمام
.التاريخ ،ولكن لنشرح ظاهرة تاريخية تالزم عصور الطغيان ،ولكي نفهم هذه العقلية الدموية على حقيقتها
هذا ويفسر لنا بعض الروايات ،إسراف الحاكم فى القتل ،بأنه كان تقربًا منه « لزحل وطاِلعه المريخ » ،وقد كان الحاكم شغوفا بالفلك
ورصد النجوم كما سنرى .والظاهر أن الرواية اإلسالمية تنقل هنا عن الرواية الكنسية المعاصرة ،فهي التي تقدم إلينا هذا التعليل،
وتقول لنا إن الشيطان كان يتشبه للحاكم فى صورة زحل ،فيخاطبه فى أمور كثيرة ويذبح له
ص 121
القرابين ؛ بل تزعم فوق ذلك أن الحاكم كان يزهق الضحايا بيده وتروي لنا فى ذلك قصة مروعة ،خالصتها أن القائد فضل بن صالح
دخل يومها على الحاكم بالقصر ،فرآه بين يديه صبي مليح ابتاعه بمائة دينار ،وقد ذبحه بسكين فى يده ،واستخرج أحشاءه وأخذ يقطعها،
فارتد الفضل إلى منزله مذعورًا ،ولم تمِض ساعة حتى أنفذ إليه الحاكم من قتله بيد أنا النستطيع أن نسيَغ هذا الرأي من الوجهة
التاريخية ،أو نقبل هذه الروايات المغرقة ،فليس ف سيرة الحاكم رغم شذوذه ،وتباين معتقداته وشغفِه بالخفاء ما يدل على أنه كان يأخُذ
.مثل هذه الرسوِم الوثنية المثيرة
ص 122
الفصل السابع
المراسيم االجتماعية والدينية
شغف الحاكم بالليل .الحياة واألنوار الليلية .العاصمة الساطعة المرحة .وقف الحياة الليلية .مدينة القاهَر ة في هذا العصر .الطواف من
خواص حياة الحاكم .عناصرُه االجتماعية والشعبية .بعض نوادر عنه .موجة المراسيم المدهشة .المراسيم االجتماعية .تحريم بعض
البقول واألسماك واألبقار .حظر التبرج على النساء .مطاردة المسكرات .تحريم الزبيب والعنب واتالفهما .مطاردة البغاِء ودور اللهو.
قتُل الكالب .مراسيم أخرى .اضطراب الحياة االجتماعية .المجاَعة والوباء .قبض الحاكم على أموال أهله .تحريم الخوض في الشؤون
العامة .منع النساء من زيارة القبور واالجتماع واالستحمام .تحريم التنجيم والغناء .الحجر المطلق على النساء .الصرامة في تنفيذ هذه
القوانين .المراسيم الدينية .مالبس النصارى واليهود .هدم بعض الكنائس .مرسوم بهدم كنيسة القمامة .مالبسات هذا المرسوم .إلغاء
األعياد النصرانية .التشريع المرهق للذميين .اضطراب المجتمع النصرانى .هدم الكنائس ونهبها ونزع أمالكها .اعتقال البطريرك
القبطى .محنة الذميين .إطالق الهجرة لهم .هدوء المطاردة .إلغاء القوانين المرهقة .إطالق حرية الشعائر .إعادة بناء الكنائس .
األمان الذي َص در للنصارى .سجالت مختلفة النصارى .بواعث المطاردة الدينية .تطوراتها في الدولة الفاطمية .أول تشريع للذميين
في اإلسالم .السياسة المذهبية .سب السلف ومحوه .التوفيق بين األحكام الدينية .الصالة واألذان .الزكاة والنجوى .الحاكم وأصول
.اإلسالم .أقوال الدعاة السريين فى ذلك .عقيدة الحاكم الدينية
كان شغف الحاكم بالليل من أظهر خواص هذه المرحلة من حكمه .كان الحاكم يعقد مجالسه ليال ،ويواصل الركوب كل ليلة ،وينفق
شطرًا كبيرًا من الليل ،فى َج وب الشوارع واألزقة ( سنة 391هـ) ،وصدرت األوامر بهذه المناسبة بتعليق المصابيح ليال ،على جميع
الحوانيت وأبواب الدور
والَم حال المختلفة في جميع طرقات القاهرة والفسطاط وتكرر هذا األمر غير
ص 123
مرة فى األعوام التالية » وكان يقرن بأمر آخر هو وجوب كنس الشوارع واألزقة وأمام أبواب الدور في كل مكان ،فكانت المدينة تبدو
في هذه الفترات بالليل كأنها شعلة مضيئة ،وتبدو في نفس الوقت في ثوب مشرق من النظافة واألناقة ،والزم الحاكم الركوَب في المدينة
المنيرة ،وكان يزوُر كل ليلة حيًا معينًا ويشق طائفة من الشوارع والدروب ،ويقيم الحسبة بنفسه أحيانا ،ويستطلع أحوال الشعب وأخباره
فكان يركب إلى موضع موضع ،وإلى شارع شارع ،وإلى زقاق زقاق “ ؛ وأصبحت جميع األعمال ” :أو على قول المقريزى
والمعامالت تجري بالليل وتزدهر مواطن السمر ،وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف ،فتسطع الميادين بالوقود والشموع الكبيرة،
وتزين األسواق والقياسر بمختلف أنواع الزينة ،وتغص بصنوف اللهو والمرح ،وتنفُق األموال الوفيرة في المآكل والمشارب والسماع ؛
وكان الشعب القاهري يحتشد حول مليكه أينما ُو جد ،في جموع غفيرة ،وكان الحاكم يشق جموَع الشعب المحتشدة فى بساطٍة وِر قة ،وال
يمنع أحدا من الدنو منه أو من مخاطبته ،واستمر الحال على ذلك أشهرا ،وظهر النساء فى المجتمعات بكثرة ،واشتد تيار المجون
والغواية ،وأصبحت القاهرة بأنوارها الساطعة ،ومناظرها المرحة ومالهيها الصاخبة ،كأنها تعيد سيرة رومة ومناظر قصفها وفجورها
في عصر اإلنحالل .فلما خرج الناس فى ذلك عن الحد ،وبالغوا فى اللهو واإلسراف والزينة والمجون منع الحاكم النساء من الخروج
ليال منذ العشاء لكي تخف عوامل الفتنة والغواية ،وعوقب المخالفات بشدة ؛ ثم منع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي ،وأبطلت بعد
ذلك جميع األعمال والمعامالت ليال ،وعاد الظالم يخيم على القاهرة بالليل( ،سنة 393هـ) .وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب
أطواره ونزعاته ،حتى لقد لبث مدى حين ُيؤثر الجلوس في الظالم بيد أنه َيُنم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه.وإنه
لمن الشائق أن نعرف ماذا كانت عليه مدينة القاهرة المعزية في هذا
ص 124
العصرالمليئ باألحداث المدهشة .وقد رأينا كيف نشأت القاهرة على يد جوهر مدينة ملوكية متواضعة ال تتجاوز مساحتها ميًال في ميل
وتضم القصر الخليفي وحدائقه ومساكن الحاشية .وخطط الجند ويتوسطها الجامع األزهر ومن حولها السور اللبن الساذج الذي أنشأه
جوهر لحمايتها من عدوان القرامطة .يبد أن المدينة الفاطمية أخذت تنمو بسرعة ولم يمِض جيل واحد حتى اتسعت جنباتها ونمت نموًا
عظيما وقامت األحياء والخطط الجديدة خارج األسوار ؛ واتصلت بمصر الفسطاط وامتزجت المدينتان وتداخلتا وصارتا تكونان معا ؛
.ملديثة من أكبر وأعظم مدن اإلسالم فى العصور الوسطى
وكان اسم القاهرة المعزية ُيطلق على مجموعة الخطط التى تقع داخل السور الذي أنشأه جوهر ،ولكن هذا السور ُغ ير مرارًا أثناء الدولة
الفاطمية ،وأنشئت فيما وراء األسوار القديمة خطط وأحياء جديدة فخمة؛ وكان أعظم تغيير طرأ على األسوار ،هو مشروع السور
العظيم الذى أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى فى عهد المستنصر باهلل فى سنة 486هـ ،وهو السور الذى ما زال يقوم من أبوابه العظيمة
.إلى اليوم ثالثة ،وهي بابا النصر والفتوح في الشمال ،وباب زويلة فى الجنوب ،وهي من أعظم اآلثار الفاطمية الباقية
وكانت القصور الفاطمية ،قد نمت ،وبلغت فى عصر الحاكم منتهى الضخامة والبذخ .وكان القصر الخليفي الكبير أو القصر الشرقي،
يقع في وسط المدينة ،في منطقة خالية ،وأمامه من الناحية الغربية يقع القصر الغربي أو القصر الصغير ،وهو الذى أنشأه الخليفة العزيز
باهلل ،وخصص فيما بعد إلقامة ابنته ِس ت الملك ،وبينهما ميدان شاسع هو ميدان بين القصرين الشهير ،وهو الذي كانت تجتمع فيه
الجيوش المسافرة ،أو الحرس الخليفي ،أوطوائف الشعب أيام األعياد واألحداث العامة .وقد وصف لنا ناصرى خسرو الذى زار
القاهرة بعد عصر الحاكم بنحو ربع قرن فقط ( سنة 438هـ) ،هذا القصر الفاطمي الكبير بقوله « :انه قصر شاسع تراه من خارج
المدينة كأنه جبل نظرا لضخامة مبانيه وارتفاعها .وال يمكن أن تراه من داخل المدينة إذ تحيط به أسوار شاهقة االرتفاع .ويقال إن هذا
القصر يضم من الحشم اثنتي عشر ألف نفس .ومن ذا الذى يستطيع أن يقول كم يضم من النساء
ص 125
والبنات .وهم يؤكدون أنه يضم ثالثين ألف شخص ،ويتكون القصر من عشرة أجنحة ،وله عشرة أبواب تفضى الى الحرم » .ثم يقول
ناصرى خسرو ،إن القاهرة لهاخمسة أبواب ،وهى ليست محصورة في رقعة محصنة ،ولكن المباني والمنازل مرتفعة جدا ،حتى إنها
تبدو أعلى من الحصن ،وكل منزل ،وكل قصر يمكن اعتباره قلعة ،ومعظم المنازل يضم خمَس أو ست طبقات .وقد بنيت منازل القاهرة
بمنتهى العناية والترف ،حتى لُيمكن أن يقاإلنها قد بنيت من األحجار الكريمة ،وليس من اآلجر واألحجار العادية.والمنازل كلها منعزلة
بحيث أن األشجار القائمة في أحدها ال تصل أغصانها إلى المنزل اآلخر ،ويستطيع كل إنسان أن يهدم داره وأن يبنيها دون أن يضار
أحد.وتضم القاهرة ما اليقل عن عشرين ألف حانوت كلها من أمالك الخليفة،ومنها عدد عظيم يؤجر الحانوت منه بعشرة دنانير مغربية
فى الشهر ،والقليل منها يؤجر بأقل من ذلك .كذلك يوجد منها عدد عظيم يصعب حصره من الخانات والحمامات وغيرها من األبنية
العامة .وهذه كلها أيضا من أمالك الخليفة ،إذ الُيسمح إلنسان أن يمتلك منزال أو عقاًر ا إال ما كان من أبنية الخليفة نفسه.وأما عن مدينة
مصر أو الفسطاط فيقول لنا ناصرى خسرو ،إنها كانتهى العاصمة ،وانها تقوم على ربوة مرتفعة تظللها من الناحية الشرقية،سلسلة
منخفضة من التالل ،ويقوم جامع ابن طولون على مرتفع يشرف على المدينة .وقد ُبنيت مصر على هذا المرتفع الصخري لكى يحميها
من مياه النيل وأن من يتأملها عن ُبعد ،يتوهُم أنه يرى جبال ،ومن بين مبانيها دوٌر من أربعة عشرة طابق أو سبعة ،وبها سبعة جوامع
كبيرة.كانت القاهرة ،في عصر الحاكم إذن ،سواء من حيث رقعتها ومبانيهاوعمرانها ،وأحيائها الداخلية والخارجية ،مدينة عظيمة،
تموج بسكانها
ص 126
الذين ربما بلغوا مع ضم الفسطاط إليها نحو نصف مليون من األنفس .وكان الحاكم يجد فى طوافه الليلي بعاصمته الكبيرة الزاخرة ،من
ضروب الحركة والنشاط ،ومن صور الحياة اإلجتماعية المختلفة ،ما يشغله ويذكي اهتمامه ،ويملي عليه مختلف المشاريع
والقرارات .وشغف الحاكم بالطواف بمدينة القاهرة وضواحيها طول حياته ؛ وقد كان طوافه على هذا النحو ،سواء بالنهار أو الليل من
أبرز مظاهر نشاطه ،وحياته العامة ،كما كان من أبرز ظواهر حكمه .وقد نقلت إلينا الرواية عنه صورًا ومناظر منوعة ،كلها تستحق
الدرس والتأمل ،واإلعجاب أحيانًا .فكان الحاكم فى مستهل حكمِه ،كثيرًا ما يركب إلى ناحية سردوس ،وإلى بركة الجب ،وإلى عين
شمس وحلوان ،للصيد وغيره .ثم كان بعد ذلك يواصل الركوب إلى الصحراء ،بحذاء فى رجله ،وعلى رأسه فوطة ،فيركب كل ليٍل بعد
المغرب .في أواخر عهده ( سنة 404هـ ) ،كان الحاكم يواصل الركوب في العشايا .وقد اتخذ له في هذه الفترة خادًم ا ركابيا أسود،
كناه بأبي الرضا سعد .وأغدق عليه الحبات واإلقطاعات » فقصدُه الناس فى حوائجهم ،وقصدوا بابه لمهماتهم ،فكان يتوسط بينهم وبين
الحاكم ،وكان الحاكُم يجيب سؤَله فى أحيان كثيرة .وكانت هذه المواكب الخالفية البسيطُة ،تقرن في معظم األحيان ،مثل ما كانت فى
أوائل عهد الحاكم ،باحتشاد طوائف الشعب من حوله ،وأقبالهم عليه .ويصف لنا المقريزى هذا المنظر فى حوادث رمضان سنة 404
هـ ،حينَم ا ركب الحاكم لصالة الجمعة بجامع القاهرة ( الجامع األزهر ) ،فَيقول « :فازدحم الناس عليه بعد ركوبه من الجامع إلى
القصر ،فوقف لهم ،وأخذ رقاعهم ،وحادثهم وضاحكهم ،فلم يرجع إلى القصر من كثرة وقوفه ،ومحادثة العوام ،إلى غروب الشمس ؛
ودفع صالت كثيرة » واستمر الحاكم فى العام التالى ( 405هـ ) على ِم نواله فى الركوب والطواف ،فكان ُيواصل الركوب ؛ ويأخذ
الِر قاع ،ويقف طويال مع الناس .وفي جمادى األول من هذا العام ،كثر ركوبه ،حتى كان يركب في اليوم الواحد عدة مرار ،وكثرت
ِهباته وأعطيُته .ثم أمر بابتياع الحمير ،وصار
ص 127
يركبها من تحت السرداب إلى باب البستان إلى المقس ،وتغلق األبواب النى يتوصل منها إلى المقس وقت ركوبه ،ومنع الناس من
الخروج إلى هذا الموضع .وفي رمضان من نفس العام كثر ركوُب الحاكم بشكل ظاهر ،فركب فى يوم واحد ست مرات ،تارة على
فرس .وأخرى على حمار ،ومرة فى محفة ،تحمل على األعناق ،ومرة فى عشارى في النيل ،وهو يلف رأسه ِبشاشٍة ال عمامة عليها،
.وكثرت إقطاعاته للجند والعبيد ،واستمر على الركوب إلى ليلة النحر
وقد نقلت الينا الرواية أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظرالتى كانت تقترن بهذا الطواف ،وعما كان ينزُع اليه الحاكم أحيانا من األهواء
العنيفة خالل طوافه؛ ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشون ليتمتع بمرأى النيران ،وأنه لقى ذات مساء عشرًة من الناس سألوه اإلحسان،
فأمر أن ينقسموا الى فريقن يتقاتالن حتى يغلب أحدهما فُينِع م عليه ،فتقاتال حتى فنى منهم تسعة وبقي واحد ،فألقى اليه الدنانير ،فلما
انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله ،وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء ،فانتزع منه سكينا وقتل بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما
سبب معروف ،وتركت الجثة فى موضعها ،وفى اليوم التالى أنفذ الحاكم اليه كفنا جليال ،ودفن مع التكريم .وتزيد الرواية على ذلك أن
الحاكم كان أحيانا يلهو أثناء طوافه برؤية بعض المناظر الخليعة المثيرة ،بيد أن هذه روايات تحمل الطابع القصصي ،ويحفها فى نظرنا
.كثير من الريب
وفي تلك الفترة الحافلة من عهد الحاكم ،وهى التى تمأل نحو عشرة أعوام من سنة 395هـ إلى سنة 405هـ وهى التى تميزت بنزعاته
الدموية وكثَر فيها مقتل الزعماء ورجال الدولة وأفراد الرعية ،كما تميزت بطوافه المستمر المضنى ،نرى الحاكم يصدر تباًعا طائفة
من األوامر والقوانين ( السجالت) المدهشة التى لم يسمع بمثلها من قبل فى أى مجتمع إسالمي .وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية،
وكان مما يزيد فى غرابتها وغموض بواعثها ،أنها كانت
ص 128
تصدر ثم ُتمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها ثم يعاد صدورها وهكذا .وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور ،هذه المراسيم،
حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى األحكام ؛ واكتفوا فى تعليلها بنظريةبسيطة ،هى أن الحاكم كان ذهنًا مضطربًا اليصدر عن
روية أو حكمة ،ولم تكن هذه األوامر واالجراءات الشاذة ،سوى نزعات مخبول ال يستقيم له منطق أو غاية .ويحسن قبل أن نناقش هذا
الرأى ؛ أن نستعرض هذه المراسيم أوال وأن نحاول أن نتفهمها ،وأن نستقصى بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع
.يومئذ
-1-
ونبدأ بالمراسيم االجتماعية .في محرم سنة 395هـ ،صدرت أول طائفة من هذه األوامر المدهشة ،فصدر سجل يمنع الناس من أكل
الملوخية والترمس والجرجير والمتوكلية والدلينس ، ¹وُح رم ذبح األبقار السليمة إال فى أيام النحر ( عيد األضحى وغيره ) ،وفي
غيرها ،ال يذبح إال ما كان ذو عاهة أو ما ال يصلح للحرث ؛ وُح رم بيع الفقاع وعمله بأى صورة ،وكان الفقاع مسكرًا ذائعًا فى ذلك
العصر؛ وحرم صيد السمك الذى ال قشر له وكذلك بيعه ؛ وحرم دخول الحمام بال ِم ئزر وهوجمِت الحمامات تباعا وقبض على
المخالفين فأدُبوا وُش هروا ؛ وُش دد على النخاسين ،وتجار الرقيق فى المنع من بيع العبيد واألماء ألهل الذمة ،ثم أمر بعد ذلك أال يدخل
سوق الرقيق أحد إال أن يكون بائع أو مشتريًا ؛ وأن يفرز الجوارى من الغلمان ،وأن يجعل لكل منهم يوم خاص ؛ وحرم على النساء أن
يكشفن وجوههن في الطريق ،أو خلف الجنائز ،وحرم عليهن التزين والتبرج كما ُح رم البكاء والعويل والصياح وراء الموتى ؛وَشدد
الحاكم فى تنفيذ هذه األوامر ،وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير واإلعدام .ثم حرم على الناس أن يخرجوا منمنازلهم إلى
الطرقات منذ الغروب الى الفجر ،وأن يزاولوا البيع والشراء
.قال ابن البيطار فى مفرداته ،الدلينس اسم بالديار المصرية لنوع من الصدف صغير ُيؤكل نيئا مملوحًا يتأدم به) ( ¹
ص 129
.بالليل ،فخلت الطرق من المارة ،وأقفرت الشوارع والميادين بالليل،وغدت القاهرة كالمدينة المحصورة
وفي ربيع األول سنة 399هـ ،صدر سجل بالمنع من عمل النبيذ والمزر ،وحذر من التظاهر بشيئ من ذلك ،أو من الفقاع والدلينس،
والسمك الذى ال قشر له ،والترمس المتعفن ،وجاء هذا السجل مؤكدًا لهذه المطاردة العنيفة المنظمة التى شهرت فى عهد الحاكم على
الخمر والمسكرات بأنواعها ،والمواد التى تصنع منها ؛ وفي العام التالى صدر سجل بالتشديد فى حظر الخمور وبيعها ،وبإراقة النبيذ
وجميع أنواع المسكرات وكسرت أوانى الخمور ،وأريقت فى كل مكان ،وشدد على الخمارين وبدد كل ما فى دورهم ومحالتهم
واستمرت هذه الشدة ،وتناهت في العام التالى ( 401هـ) .وفي المحرم من سنة 402هـ ،قلدت الشرطتان لمحمد بن نزال ،وصدرت
إليه األوامر ،بمضاعفة الحزم فى تتبع المسكرات ومنعها ،وأن يحرم بيع الزبيب إال خمسة أرطال فما دونها ،وأال ُتباع في الِج رار .لم
،تمِض إال أشهر قالئل حتى حرم بيع الزبيب إطالقًا ،وأمر بمصادرته ،وألقيت منه فى النيل مقادير كبيرة
عمل )هـ ( 402وأحرقت مقادير أخرى كانت فى مخازن التجار ،وتوالى هذا اإلحراق أياًم ا عدة بحضرة الشهود .وفي شهر ذى الحجة
عيد الغدير على رسمه ،ومنع مرة أخرى من بيع الزبيب إال أن يكون أربعة أرطال فما دونها ،ومنع من اعتصاره ،ثم أمر بإتالفه ومنع
بيعه البتة ،وأغرق ما وجد منه فى النيل .وطاف المأُم ورون بأنحاء الجيزة ،وكانت يومئذ عامرة بحدائق الكروم فجمعت األعناب،
وطرحت تحت أرجل البقر لدوسه ،وصدرت األوامر بذلك إلى مختلف الجهات ؛ وتتبع من يبيع العنب ،وشدد فى ذلك حتى اختفت آثاره
.ثم ختم بعد ذلك على العسل ،وصودرت منه آالف من الِج رار وأغرقت في النيل ؛ وتكرر تحريم المسكرات والفقاع الزبيب في سجل
.جديد صدر في جمادى اآلخرة سنة 403هـ ،وهكذا خصت الخمر ومصادرها طوال عهد الحاكم بأقسى المطاردات وأعنفها
ص 130