You are on page 1of 4

‫وما بعدها ) ِم ن قتٍل ُم نظم لمئات من المعارضين والُم حافظين بواسطة « محاكم االسِتقالل » الشهيرة التي َنظمها ُم صطفى

كمال لسحق‬
‫خصومه ومعارضيه ؛ وما وقع في إيطاليا أيام موسوليني والطغيان الفاشستي وما وقع فى اسبانيا الفرنكية في أعقاِب الحرب األهلية في‬
‫سَنتي ‪ 1938‬و ‪1939‬م‪ ،‬من مقاِتل ُم روعة لزعماء اسبانيا الديمقراطية والجمهورية الذين سقطوا فى أيدى فرانكو ومعاونيه؛ وأخيًر ا بما‬
‫يقع فى ظل الُنظم الدكتاتوربة‪ ،‬حيث تقوم‪ ،‬من إجراءات القمع والتقتيل المنظم التي ُتَتخذ لدعم سلطان الطغاة‪ ،‬وفرض نظمهم وإرادتهم‪.‬‬
‫فهل نعجب إذا رأينا طاغية من طغاة العصوِر الوسطى‪ ،‬مثل الحاكم بأمر هللا‪ ،‬يلجأ إلى مثل هذه الوسائل الدموية‪ ،‬حرصًا على سلطانه‬
‫‪.‬من مطامع زعيم أو وزير قوي‪ ،‬ويتذرُع بها ليفرض هيبته على الكافة‪ ،‬وليُبث إلى نفوسهم الروع والرهبة ؟‬
‫ثم أليست القسوة والطغيان واإلرهاب والغدر والنكث ؛ عنوان الفلسفة المكيافيللية التي ُبعثت في عصرنا ؟ لقد مجد مكيافيللى الطغيان‬
‫والقتل وُأعِج ب بطغاة مثل اسكندر بورجيا وابنه شيزارى ألنهم استطاعوا أن ُيؤيدوا سلطانهم بالقتل الذريع دون وازع‪ ،‬ودون التقيد بعهد‬
‫‪.‬أو مبدأ أو زمام‬
‫هذه خواطر وتأمالت نبسطها ال لنبرر شيئًا من إجراءات الحاكم وتصرفاته الدموية‪ ،‬أو أن ُنخفف من وقعها ومسئوليتها الرهيبة أمام‬
‫‪ .‬التاريخ‪ ،‬ولكن لنشرح ظاهرة تاريخية تالزم عصور الطغيان‪ ،‬ولكي نفهم هذه العقلية الدموية على حقيقتها‬
‫هذا ويفسر لنا بعض الروايات‪ ،‬إسراف الحاكم فى القتل‪ ،‬بأنه كان تقربًا منه « لزحل وطاِلعه المريخ »‪ ،‬وقد كان الحاكم شغوفا بالفلك‬
‫ورصد النجوم كما سنرى‪ .‬والظاهر أن الرواية اإلسالمية تنقل هنا عن الرواية الكنسية المعاصرة‪ ،‬فهي التي تقدم إلينا هذا التعليل‪،‬‬
‫وتقول لنا إن الشيطان كان يتشبه للحاكم فى صورة زحل‪ ،‬فيخاطبه فى أمور كثيرة ويذبح له‬

‫ص ‪121‬‬

‫القرابين ؛ بل تزعم فوق ذلك أن الحاكم كان يزهق الضحايا بيده وتروي لنا فى ذلك قصة مروعة‪ ،‬خالصتها أن القائد فضل بن صالح‬
‫دخل يومها على الحاكم بالقصر‪ ،‬فرآه بين يديه صبي مليح ابتاعه بمائة دينار‪ ،‬وقد ذبحه بسكين فى يده‪ ،‬واستخرج أحشاءه وأخذ يقطعها‪،‬‬
‫فارتد الفضل إلى منزله مذعورًا‪ ،‬ولم تمِض ساعة حتى أنفذ إليه الحاكم من قتله بيد أنا النستطيع أن نسيَغ هذا الرأي من الوجهة‬
‫التاريخية‪ ،‬أو نقبل هذه الروايات المغرقة‪ ،‬فليس ف سيرة الحاكم رغم شذوذه‪ ،‬وتباين معتقداته وشغفِه بالخفاء ما يدل على أنه كان يأخُذ‬
‫‪.‬مثل هذه الرسوِم الوثنية المثيرة‬

‫ص ‪122‬‬

‫الفصل السابع‬
‫المراسيم االجتماعية والدينية‬

‫شغف الحاكم بالليل‪ .‬الحياة واألنوار الليلية‪ .‬العاصمة الساطعة المرحة‪ .‬وقف الحياة الليلية‪ .‬مدينة القاهَر ة في هذا العصر‪ .‬الطواف من‬
‫خواص حياة الحاكم‪ .‬عناصرُه االجتماعية والشعبية‪ .‬بعض نوادر عنه‪ .‬موجة المراسيم المدهشة‪ .‬المراسيم االجتماعية‪ .‬تحريم بعض‬
‫البقول واألسماك واألبقار ‪ .‬حظر التبرج على النساء‪ .‬مطاردة المسكرات‪ .‬تحريم الزبيب والعنب واتالفهما‪ .‬مطاردة البغاِء ودور اللهو‪.‬‬
‫قتُل الكالب‪ .‬مراسيم أخرى ‪ .‬اضطراب الحياة االجتماعية‪ .‬المجاَعة والوباء‪ .‬قبض الحاكم على أموال أهله ‪ .‬تحريم الخوض في الشؤون‬
‫العامة‪ .‬منع النساء من زيارة القبور واالجتماع واالستحمام‪ .‬تحريم التنجيم والغناء‪ .‬الحجر المطلق على النساء ‪ .‬الصرامة في تنفيذ هذه‬
‫القوانين‪ .‬المراسيم الدينية‪ .‬مالبس النصارى واليهود ‪ .‬هدم بعض الكنائس ‪ .‬مرسوم بهدم كنيسة القمامة ‪ .‬مالبسات هذا المرسوم ‪ .‬إلغاء‬
‫األعياد النصرانية ‪ .‬التشريع المرهق للذميين ‪ .‬اضطراب المجتمع النصرانى ‪ .‬هدم الكنائس ونهبها ونزع أمالكها ‪ .‬اعتقال البطريرك‬
‫القبطى ‪ .‬محنة الذميين ‪ .‬إطالق الهجرة لهم ‪ .‬هدوء المطاردة ‪ .‬إلغاء القوانين المرهقة ‪ .‬إطالق حرية الشعائر ‪ .‬إعادة بناء الكنائس ‪.‬‬
‫األمان الذي َص در للنصارى ‪ .‬سجالت مختلفة النصارى ‪ .‬بواعث المطاردة الدينية ‪ .‬تطوراتها في الدولة الفاطمية ‪ .‬أول تشريع للذميين‬
‫في اإلسالم ‪ .‬السياسة المذهبية ‪ .‬سب السلف ومحوه ‪ .‬التوفيق بين األحكام الدينية ‪ .‬الصالة واألذان ‪ .‬الزكاة والنجوى ‪ .‬الحاكم وأصول‬
‫‪.‬اإلسالم ‪ .‬أقوال الدعاة السريين فى ذلك ‪ .‬عقيدة الحاكم الدينية‬

‫كان شغف الحاكم بالليل من أظهر خواص هذه المرحلة من حكمه‪ .‬كان الحاكم يعقد مجالسه ليال‪ ،‬ويواصل الركوب كل ليلة‪ ،‬وينفق‬
‫شطرًا كبيرًا من الليل‪ ،‬فى َج وب الشوارع واألزقة ( سنة ‪ 391‬هـ)‪ ،‬وصدرت األوامر بهذه المناسبة بتعليق المصابيح ليال‪ ،‬على جميع‬
‫الحوانيت وأبواب الدور‬
‫والَم حال المختلفة في جميع طرقات القاهرة والفسطاط وتكرر هذا األمر غير‬

‫ص ‪123‬‬

‫مرة فى األعوام التالية » وكان يقرن بأمر آخر هو وجوب كنس الشوارع واألزقة وأمام أبواب الدور في كل مكان‪ ،‬فكانت المدينة تبدو‬
‫في هذه الفترات بالليل كأنها شعلة مضيئة‪ ،‬وتبدو في نفس الوقت في ثوب مشرق من النظافة واألناقة‪ ،‬والزم الحاكم الركوَب في المدينة‬
‫المنيرة‪ ،‬وكان يزوُر كل ليلة حيًا معينًا ويشق طائفة من الشوارع والدروب‪ ،‬ويقيم الحسبة بنفسه أحيانا‪ ،‬ويستطلع أحوال الشعب وأخباره‬
‫فكان يركب إلى موضع موضع‪ ،‬وإلى شارع شارع‪ ،‬وإلى زقاق زقاق “ ؛ وأصبحت جميع األعمال ” ‪ :‬أو على قول المقريزى‬
‫والمعامالت تجري بالليل وتزدهر مواطن السمر‪ ،‬وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف‪ ،‬فتسطع الميادين بالوقود والشموع الكبيرة‪،‬‬
‫وتزين األسواق والقياسر بمختلف أنواع الزينة‪ ،‬وتغص بصنوف اللهو والمرح‪ ،‬وتنفُق األموال الوفيرة في المآكل والمشارب والسماع ؛‬
‫وكان الشعب القاهري يحتشد حول مليكه أينما ُو جد‪ ،‬في جموع غفيرة‪ ،‬وكان الحاكم يشق جموَع الشعب المحتشدة فى بساطٍة وِر قة‪ ،‬وال‬
‫يمنع أحدا من الدنو منه أو من مخاطبته‪ ،‬واستمر الحال على ذلك أشهرا‪ ،‬وظهر النساء فى المجتمعات بكثرة‪ ،‬واشتد تيار المجون‬
‫والغواية‪ ،‬وأصبحت القاهرة بأنوارها الساطعة‪ ،‬ومناظرها المرحة ومالهيها الصاخبة‪ ،‬كأنها تعيد سيرة رومة ومناظر قصفها وفجورها‬
‫في عصر اإلنحالل ‪ .‬فلما خرج الناس فى ذلك عن الحد‪ ،‬وبالغوا فى اللهو واإلسراف والزينة والمجون منع الحاكم النساء من الخروج‬
‫ليال منذ العشاء لكي تخف عوامل الفتنة والغواية‪ ،‬وعوقب المخالفات بشدة ؛ ثم منع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي‪ ،‬وأبطلت بعد‬
‫ذلك جميع األعمال والمعامالت ليال‪ ،‬وعاد الظالم يخيم على القاهرة بالليل‪( ،‬سنة ‪ 393‬هـ) ‪ .‬وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب‬
‫أطواره ونزعاته‪ ،‬حتى لقد لبث مدى حين ُيؤثر الجلوس في الظالم بيد أنه َيُنم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه‪.‬وإنه‬
‫لمن الشائق أن نعرف ماذا كانت عليه مدينة القاهرة المعزية في هذا‬

‫ص ‪124‬‬

‫العصرالمليئ باألحداث المدهشة‪ .‬وقد رأينا كيف نشأت القاهرة على يد جوهر مدينة ملوكية متواضعة ال تتجاوز مساحتها ميًال في ميل‬
‫وتضم القصر الخليفي وحدائقه ومساكن الحاشية ‪ .‬وخطط الجند ويتوسطها الجامع األزهر ومن حولها السور اللبن الساذج الذي أنشأه‬
‫جوهر لحمايتها من عدوان القرامطة‪ .‬يبد أن المدينة الفاطمية أخذت تنمو بسرعة ولم يمِض جيل واحد حتى اتسعت جنباتها ونمت نموًا‬
‫عظيما وقامت األحياء والخطط الجديدة خارج األسوار ؛ واتصلت بمصر الفسطاط وامتزجت المدينتان وتداخلتا وصارتا تكونان معا ؛‬
‫‪ .‬ملديثة من أكبر وأعظم مدن اإلسالم فى العصور الوسطى‬
‫وكان اسم القاهرة المعزية ُيطلق على مجموعة الخطط التى تقع داخل السور الذي أنشأه جوهر‪ ،‬ولكن هذا السور ُغ ير مرارًا أثناء الدولة‬
‫الفاطمية‪ ،‬وأنشئت فيما وراء األسوار القديمة خطط وأحياء جديدة فخمة؛ وكان أعظم تغيير طرأ على األسوار‪ ،‬هو مشروع السور‬
‫العظيم الذى أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى فى عهد المستنصر باهلل فى سنة ‪ 486‬هـ‪ ،‬وهو السور الذى ما زال يقوم من أبوابه العظيمة‬
‫‪ .‬إلى اليوم ثالثة‪ ،‬وهي بابا النصر والفتوح في الشمال‪ ،‬وباب زويلة فى الجنوب‪ ،‬وهي من أعظم اآلثار الفاطمية الباقية‬
‫وكانت القصور الفاطمية‪ ،‬قد نمت‪ ،‬وبلغت فى عصر الحاكم منتهى الضخامة والبذخ‪ .‬وكان القصر الخليفي الكبير أو القصر الشرقي‪،‬‬
‫يقع في وسط المدينة‪ ،‬في منطقة خالية‪ ،‬وأمامه من الناحية الغربية يقع القصر الغربي أو القصر الصغير‪ ،‬وهو الذى أنشأه الخليفة العزيز‬
‫باهلل‪ ،‬وخصص فيما بعد إلقامة ابنته ِس ت الملك‪ ،‬وبينهما ميدان شاسع هو ميدان بين القصرين الشهير‪ ،‬وهو الذي كانت تجتمع فيه‬
‫الجيوش المسافرة‪ ،‬أو الحرس الخليفي‪ ،‬أوطوائف الشعب أيام األعياد واألحداث العامة ‪ .‬وقد وصف لنا ناصرى خسرو الذى زار‬
‫القاهرة بعد عصر الحاكم بنحو ربع قرن فقط ( سنة‪ 438‬هـ)‪ ،‬هذا القصر الفاطمي الكبير بقوله ‪ « :‬انه قصر شاسع تراه من خارج‬
‫المدينة كأنه جبل نظرا لضخامة مبانيه وارتفاعها‪ .‬وال يمكن أن تراه من داخل المدينة إذ تحيط به أسوار شاهقة االرتفاع‪ .‬ويقال إن هذا‬
‫القصر يضم من الحشم اثنتي عشر ألف نفس ‪ .‬ومن ذا الذى يستطيع أن يقول كم يضم من النساء‬

‫ص ‪125‬‬

‫والبنات‪ .‬وهم يؤكدون أنه يضم ثالثين ألف شخص‪ ،‬ويتكون القصر من عشرة أجنحة‪ ،‬وله عشرة أبواب تفضى الى الحرم » ‪.‬ثم يقول‬
‫ناصرى خسرو‪ ،‬إن القاهرة لهاخمسة أبواب‪ ،‬وهى ليست محصورة في رقعة محصنة‪ ،‬ولكن المباني والمنازل مرتفعة جدا‪ ،‬حتى إنها‬
‫تبدو أعلى من الحصن‪ ،‬وكل منزل‪ ،‬وكل قصر يمكن اعتباره قلعة‪ ،‬ومعظم المنازل يضم خمَس أو ست طبقات ‪.‬وقد بنيت منازل القاهرة‬
‫بمنتهى العناية والترف‪ ،‬حتى لُيمكن أن يقاإلنها قد بنيت من األحجار الكريمة‪ ،‬وليس من اآلجر واألحجار العادية‪.‬والمنازل كلها منعزلة‬
‫بحيث أن األشجار القائمة في أحدها ال تصل أغصانها إلى المنزل اآلخر‪ ،‬ويستطيع كل إنسان أن يهدم داره وأن يبنيها دون أن يضار‬
‫أحد‪.‬وتضم القاهرة ما اليقل عن عشرين ألف حانوت كلها من أمالك الخليفة‪،‬ومنها عدد عظيم يؤجر الحانوت منه بعشرة دنانير مغربية‬
‫فى الشهر‪ ،‬والقليل منها يؤجر بأقل من ذلك ‪ .‬كذلك يوجد منها عدد عظيم يصعب حصره من الخانات والحمامات وغيرها من األبنية‬
‫العامة ‪ .‬وهذه كلها أيضا من أمالك الخليفة‪ ،‬إذ الُيسمح إلنسان أن يمتلك منزال أو عقاًر ا إال ما كان من أبنية الخليفة نفسه‪.‬وأما عن مدينة‬
‫مصر أو الفسطاط فيقول لنا ناصرى خسرو‪ ،‬إنها كانتهى العاصمة‪ ،‬وانها تقوم على ربوة مرتفعة تظللها من الناحية الشرقية‪،‬سلسلة‬
‫منخفضة من التالل‪ ،‬ويقوم جامع ابن طولون على مرتفع يشرف على المدينة ‪ .‬وقد ُبنيت مصر على هذا المرتفع الصخري لكى يحميها‬
‫من مياه النيل وأن من يتأملها عن ُبعد‪ ،‬يتوهُم أنه يرى جبال‪ ،‬ومن بين مبانيها دوٌر من أربعة عشرة طابق أو سبعة‪ ،‬وبها سبعة جوامع‬
‫كبيرة‪.‬كانت القاهرة‪ ،‬في عصر الحاكم إذن‪ ،‬سواء من حيث رقعتها ومبانيهاوعمرانها‪ ،‬وأحيائها الداخلية والخارجية‪ ،‬مدينة عظيمة‪،‬‬
‫تموج بسكانها‬

‫ص ‪126‬‬

‫الذين ربما بلغوا مع ضم الفسطاط إليها نحو نصف مليون من األنفس‪ .‬وكان الحاكم يجد فى طوافه الليلي بعاصمته الكبيرة الزاخرة‪ ،‬من‬
‫ضروب الحركة والنشاط‪ ،‬ومن صور الحياة اإلجتماعية المختلفة‪ ،‬ما يشغله ويذكي اهتمامه‪ ،‬ويملي عليه مختلف المشاريع‬
‫والقرارات ‪.‬وشغف الحاكم بالطواف بمدينة القاهرة وضواحيها طول حياته ؛ وقد كان طوافه على هذا النحو‪ ،‬سواء بالنهار أو الليل من‬
‫أبرز مظاهر نشاطه‪ ،‬وحياته العامة‪ ،‬كما كان من أبرز ظواهر حكمه ‪ .‬وقد نقلت إلينا الرواية عنه صورًا ومناظر منوعة‪ ،‬كلها تستحق‬
‫الدرس والتأمل‪ ،‬واإلعجاب أحيانًا ‪ .‬فكان الحاكم فى مستهل حكمِه‪ ،‬كثيرًا ما يركب إلى ناحية سردوس‪ ،‬وإلى بركة الجب‪ ،‬وإلى عين‬
‫شمس وحلوان‪ ،‬للصيد وغيره ‪ .‬ثم كان بعد ذلك يواصل الركوب إلى الصحراء‪ ،‬بحذاء فى رجله‪ ،‬وعلى رأسه فوطة‪ ،‬فيركب كل ليٍل بعد‬
‫المغرب ‪ .‬في أواخر عهده ( سنة ‪ 404‬هـ )‪ ،‬كان الحاكم يواصل الركوب في العشايا ‪ .‬وقد اتخذ له في هذه الفترة خادًم ا ركابيا أسود‪،‬‬
‫كناه بأبي الرضا سعد ‪ .‬وأغدق عليه الحبات واإلقطاعات » فقصدُه الناس فى حوائجهم‪ ،‬وقصدوا بابه لمهماتهم‪ ،‬فكان يتوسط بينهم وبين‬
‫الحاكم‪ ،‬وكان الحاكُم يجيب سؤَله فى أحيان كثيرة ‪ .‬وكانت هذه المواكب الخالفية البسيطُة‪ ،‬تقرن في معظم األحيان‪ ،‬مثل ما كانت فى‬
‫أوائل عهد الحاكم‪ ،‬باحتشاد طوائف الشعب من حوله‪ ،‬وأقبالهم عليه ‪ .‬ويصف لنا المقريزى هذا المنظر فى حوادث رمضان سنة ‪404‬‬
‫هـ‪ ،‬حينَم ا ركب الحاكم لصالة الجمعة بجامع القاهرة ( الجامع األزهر )‪ ،‬فَيقول ‪ « :‬فازدحم الناس عليه بعد ركوبه من الجامع إلى‬
‫القصر‪ ،‬فوقف لهم‪ ،‬وأخذ رقاعهم‪ ،‬وحادثهم وضاحكهم‪ ،‬فلم يرجع إلى القصر من كثرة وقوفه‪ ،‬ومحادثة العوام‪ ،‬إلى غروب الشمس ؛‬
‫ودفع صالت كثيرة » واستمر الحاكم فى العام التالى ( ‪ 405‬هـ ) على ِم نواله فى الركوب والطواف‪ ،‬فكان ُيواصل الركوب ؛ ويأخذ‬
‫الِر قاع‪ ،‬ويقف طويال مع الناس ‪ .‬وفي جمادى األول من هذا العام‪ ،‬كثر ركوبه‪ ،‬حتى كان يركب في اليوم الواحد عدة مرار‪ ،‬وكثرت‬
‫ِهباته وأعطيُته ‪ .‬ثم أمر بابتياع الحمير‪ ،‬وصار‬

‫ص ‪127‬‬

‫يركبها من تحت السرداب إلى باب البستان إلى المقس‪ ،‬وتغلق األبواب النى يتوصل منها إلى المقس وقت ركوبه‪ ،‬ومنع الناس من‬
‫الخروج إلى هذا الموضع ‪ .‬وفي رمضان من نفس العام كثر ركوُب الحاكم بشكل ظاهر‪ ،‬فركب فى يوم واحد ست مرات‪ ،‬تارة على‬
‫فرس‪ .‬وأخرى على حمار‪ ،‬ومرة فى محفة‪ ،‬تحمل على األعناق‪ ،‬ومرة فى عشارى في النيل‪ ،‬وهو يلف رأسه ِبشاشٍة ال عمامة عليها‪،‬‬
‫‪.‬وكثرت إقطاعاته للجند والعبيد‪ ،‬واستمر على الركوب إلى ليلة النحر‬
‫وقد نقلت الينا الرواية أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظرالتى كانت تقترن بهذا الطواف‪ ،‬وعما كان ينزُع اليه الحاكم أحيانا من األهواء‬
‫العنيفة خالل طوافه؛ ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشون ليتمتع بمرأى النيران‪ ،‬وأنه لقى ذات مساء عشرًة من الناس سألوه اإلحسان‪،‬‬
‫فأمر أن ينقسموا الى فريقن يتقاتالن حتى يغلب أحدهما فُينِع م عليه‪ ،‬فتقاتال حتى فنى منهم تسعة وبقي واحد‪ ،‬فألقى اليه الدنانير‪ ،‬فلما‬
‫انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله‪ ،‬وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء‪ ،‬فانتزع منه سكينا وقتل بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما‬
‫سبب معروف‪ ،‬وتركت الجثة فى موضعها‪ ،‬وفى اليوم التالى أنفذ الحاكم اليه كفنا جليال‪ ،‬ودفن مع التكريم ‪ .‬وتزيد الرواية على ذلك أن‬
‫الحاكم كان أحيانا يلهو أثناء طوافه برؤية بعض المناظر الخليعة المثيرة‪ ،‬بيد أن هذه روايات تحمل الطابع القصصي‪ ،‬ويحفها فى نظرنا‬
‫‪.‬كثير من الريب‬
‫وفي تلك الفترة الحافلة من عهد الحاكم‪ ،‬وهى التى تمأل نحو عشرة أعوام من سنة ‪ 395‬هـ إلى سنة ‪ 405‬هـ وهى التى تميزت بنزعاته‬
‫الدموية وكثَر فيها مقتل الزعماء ورجال الدولة وأفراد الرعية‪ ،‬كما تميزت بطوافه المستمر المضنى‪ ،‬نرى الحاكم يصدر تباًعا طائفة‬
‫من األوامر والقوانين ( السجالت) المدهشة التى لم يسمع بمثلها من قبل فى أى مجتمع إسالمي ‪ .‬وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية‪،‬‬
‫وكان مما يزيد فى غرابتها وغموض بواعثها‪ ،‬أنها كانت‬

‫ص ‪128‬‬

‫تصدر ثم ُتمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها ثم يعاد صدورها وهكذا ‪.‬وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور‪ ،‬هذه المراسيم‪،‬‬
‫حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى األحكام ؛ واكتفوا فى تعليلها بنظريةبسيطة‪ ،‬هى أن الحاكم كان ذهنًا مضطربًا اليصدر عن‬
‫روية أو حكمة‪ ،‬ولم تكن هذه األوامر واالجراءات الشاذة‪ ،‬سوى نزعات مخبول ال يستقيم له منطق أو غاية ‪ .‬ويحسن قبل أن نناقش هذا‬
‫الرأى ؛ أن نستعرض هذه المراسيم أوال وأن نحاول أن نتفهمها‪ ،‬وأن نستقصى بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع‬
‫‪ .‬يومئذ‬

‫‪-1-‬‬

‫ونبدأ بالمراسيم االجتماعية ‪ .‬في محرم سنة ‪ 395‬هـ‪ ،‬صدرت أول طائفة من هذه األوامر المدهشة‪ ،‬فصدر سجل يمنع الناس من أكل‬
‫الملوخية والترمس والجرجير والمتوكلية والدلينس‪ ، ¹‬وُح رم ذبح األبقار السليمة إال فى أيام النحر ( عيد األضحى وغيره )‪ ،‬وفي‬
‫غيرها‪ ،‬ال يذبح إال ما كان ذو عاهة أو ما ال يصلح للحرث ؛ وُح رم بيع الفقاع وعمله بأى صورة‪ ،‬وكان الفقاع مسكرًا ذائعًا فى ذلك‬
‫العصر؛ وحرم صيد السمك الذى ال قشر له وكذلك بيعه ؛ وحرم دخول الحمام بال ِم ئزر وهوجمِت الحمامات تباعا وقبض على‬
‫المخالفين فأدُبوا وُش هروا ؛ وُش دد على النخاسين‪ ،‬وتجار الرقيق فى المنع من بيع العبيد واألماء ألهل الذمة‪ ،‬ثم أمر بعد ذلك أال يدخل‬
‫سوق الرقيق أحد إال أن يكون بائع أو مشتريًا ؛ وأن يفرز الجوارى من الغلمان‪ ،‬وأن يجعل لكل منهم يوم خاص ؛ وحرم على النساء أن‬
‫يكشفن وجوههن في الطريق‪ ،‬أو خلف الجنائز‪ ،‬وحرم عليهن التزين والتبرج كما ُح رم البكاء والعويل والصياح وراء الموتى ؛وَشدد‬
‫الحاكم فى تنفيذ هذه األوامر‪ ،‬وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير واإلعدام‪ .‬ثم حرم على الناس أن يخرجوا منمنازلهم إلى‬
‫الطرقات منذ الغروب الى الفجر‪ ،‬وأن يزاولوا البيع والشراء‬

‫‪ .‬قال ابن البيطار فى مفرداته‪ ،‬الدلينس اسم بالديار المصرية لنوع من الصدف صغير ُيؤكل نيئا مملوحًا يتأدم به) ‪( ¹‬‬

‫ص ‪129‬‬

‫‪.‬بالليل‪ ،‬فخلت الطرق من المارة‪ ،‬وأقفرت الشوارع والميادين بالليل‪،‬وغدت القاهرة كالمدينة المحصورة‬
‫وفي ربيع األول سنة ‪ 399‬هـ‪ ،‬صدر سجل بالمنع من عمل النبيذ والمزر‪ ،‬وحذر من التظاهر بشيئ من ذلك‪ ،‬أو من الفقاع والدلينس‪،‬‬
‫والسمك الذى ال قشر له‪ ،‬والترمس المتعفن‪ ،‬وجاء هذا السجل مؤكدًا لهذه المطاردة العنيفة المنظمة التى شهرت فى عهد الحاكم على‬
‫الخمر والمسكرات بأنواعها‪ ،‬والمواد التى تصنع منها ؛ وفي العام التالى صدر سجل بالتشديد فى حظر الخمور وبيعها‪ ،‬وبإراقة النبيذ‬
‫وجميع أنواع المسكرات وكسرت أوانى الخمور‪ ،‬وأريقت فى كل مكان‪ ،‬وشدد على الخمارين وبدد كل ما فى دورهم ومحالتهم‬
‫واستمرت هذه الشدة‪ ،‬وتناهت في العام التالى ( ‪ 401‬هـ) ‪ .‬وفي المحرم من سنة ‪ 402‬هـ‪ ،‬قلدت الشرطتان لمحمد بن نزال‪ ،‬وصدرت‬
‫إليه األوامر‪ ،‬بمضاعفة الحزم فى تتبع المسكرات ومنعها‪ ،‬وأن يحرم بيع الزبيب إال خمسة أرطال فما دونها‪ ،‬وأال ُتباع في الِج رار ‪.‬لم‬
‫‪،‬تمِض إال أشهر قالئل حتى حرم بيع الزبيب إطالقًا‪ ،‬وأمر بمصادرته‪ ،‬وألقيت منه فى النيل مقادير كبيرة‬
‫عمل )هـ ‪ ( 402‬وأحرقت مقادير أخرى كانت فى مخازن التجار‪ ،‬وتوالى هذا اإلحراق أياًم ا عدة بحضرة الشهود ‪ .‬وفي شهر ذى الحجة‬
‫عيد الغدير على رسمه‪ ،‬ومنع مرة أخرى من بيع الزبيب إال أن يكون أربعة أرطال فما دونها‪ ،‬ومنع من اعتصاره‪ ،‬ثم أمر بإتالفه ومنع‬
‫بيعه البتة‪ ،‬وأغرق ما وجد منه فى النيل ‪ .‬وطاف المأُم ورون بأنحاء الجيزة‪ ،‬وكانت يومئذ عامرة بحدائق الكروم فجمعت األعناب‪،‬‬
‫وطرحت تحت أرجل البقر لدوسه‪ ،‬وصدرت األوامر بذلك إلى مختلف الجهات ؛ وتتبع من يبيع العنب‪ ،‬وشدد فى ذلك حتى اختفت آثاره‬
‫‪ .‬ثم ختم بعد ذلك على العسل‪ ،‬وصودرت منه آالف من الِج رار وأغرقت في النيل ؛ وتكرر تحريم المسكرات والفقاع الزبيب في سجل‬
‫‪.‬جديد صدر في جمادى اآلخرة سنة ‪ 403‬هـ‪ ،‬وهكذا خصت الخمر ومصادرها طوال عهد الحاكم بأقسى المطاردات وأعنفها‬

‫ص ‪130‬‬

You might also like