Professional Documents
Culture Documents
| أحمد بيضون | برنار خوري | حازم األمني | حازم صاغ ّية | حسام عيتاين
| حسن خرض | حسن داوود | حيدر ابراهيم عيل | دالل البزري | رامي األمني
| ربيع مروة | شاكر األنباري | رشبل هرب | عباس بيضون | عزّة رشارة بيضون
مليا جريج | منال خرض | هاين درويش | ياسني الحاج صالح
امللف | خطوط التامس
نكاد هنا يف لبنان ،كام يف البلدان العرب ّية األخرى ،نفتقد ملنابر ح ّرة .فسواء تع ّلق األمر
املحطات التلفزيون ّية ،بات يصعب الكالم عن وسيلة إعالم ّية ّ بالصحف أو اإلذاعات أو
واحدة متح ّررة مماّ يعتقده "داعموها" ومم ّولوها .أما املجلاّ ت الشهر ّية أو الفصل ّية التي
سبق للمث ّقفني العرب أن عرفوا تجارب رائدة منها ،فانكمش حضورها وتراجع.
لتلك الحاجة إىل إعادة النقاش املفقود أو ّ
املعطل بني الت ّيارات الفكر ّية والثقاف ّية،
التقينا ،مجموعة من الك ّتاب واملث ّقفني ،لنتحاور حول تلك الحاجة الرضورة ،ولنصل ،يف ما
نراه بدء املطاف ،إىل أن نضع إصدار "كلمن" األ ّول هذا ،يف أيدي ق ّرائها.
ونحن سنحرص ،يف ما سيتلو من أعداد املج ّلة ،عىل أن نوسع حلقة امللتقني حولها،
ك ّتابا وق ّراء ،ليقيننا أنّها لن تغتني إال بتع ّدد اآلراء وتفاعل األفكار عىل صفحاتها .كام سنحرص
عىل أن تكون وثيقة الصلة بالراهن من املواقف واألحداث ،ساعية إىل قراءته ومناقشته
واسترشاف مآالته.
ويف سعينا للتقريب بني املث ّقفني ،نعرف أنّ ما نحتاج إليه اآلن هو إيجاد مجال ثقايف
تعطل فاعل ّية الثقافة والرأي يزداد اتساعا مع اتّساع دائرة املقبلني عليه .ذاك أنّ من أسباب ّ
النصـ ّية واألكادمي ّية ،وعزلة الف ّنانني يف أصناف
عندنا ،تش ّتت الك ّتاب عىل اختالف وجهاتهم ّ
فنونهم وأنواعها ،إىل ح ّد االكتفاء منها بكونها مهناً ألصحابها فحسب.
وسعت الحروب والنزاعات كام أننا نطمح إىل أن تكون "كلمن" جرساً يصل بني أجيال ّ
مساحات التباعد بينها ،واختلفت مصادر ثقافاتها بني أمناط تعبري ّية سبقت ،وأخرى ال تفتأ
تبحث عن وسائط جديدة تزداد تف ّرعاً وتن ّوعاً عىل الدوام.
طبعا ،لن تكون مج ّلتنا حاملة رسالة إيديولوج ّية ض ّيقة تقع يف أرسها .فهي ،كام نرجو
لكل من يساعد عىل تطويرها وتوسيع أفقها. ونأمل ،ستكون مفتوحة ّ
1
تصدر عن جمعية سني ،بريوت
بناية فرعون ،الطابق الثاين ،شارع غورو ،الجميزة
ت /ف01-566275 :
هيئة التحرير
أحمد بيضون ،بشار حيدر ،حازم صاغية ،حسام عيتاين ،حسن داوود ،ربيع مروة ،سامر فرنجية ،عباس
بيضون ،عزة رشارة بيضون ،منال خرض
تحرير العدد صفر
حازم صاغية ،حسن داوود
© كلمن 2010
جميع الحقوق محفوظة.
•ال يحق إعادة النرش أو االقتباس إال بعد ترخيص خطي من إدارة املجلة.
تعب عن آراء أصحابها وحدهم. •املقاالت املنشورة رّ
•يشرتط يف املساهامت التي تردنا أن ال تكون قد نرشت قب ًال يف أي مجلة أو كتاب.
•ال تراجع املجلة يف شأن املساهامت التي تردها طوع ًا ،من دون طلب منها .وهذه املساهامت ال ترد.
لإلشرتاكwww.kalamon.org :
إلرسال املساهامتinfo@kalamon.org :
3
املحتويات
227سكان الصور
ربيع مروة
محارضة غري أكادميية
سياسة
القوى املسيحية رفضت مجتمعة مسعى رئيس مجلس النواب إلقرار بند يف اتفاق الطائف
يدعو إىل الرشوع بتأسيس لجنة إللغاء الطائفية وقد وافق تيار املستقبل عىل ذلك .رفضت
القوى املسيحية تخفيض سن االنتخاب وتيار املستقبل وافق من جهته .حصل خالف عىل
التعيينات االدارية رشح منه مطالبة التيار الوطني الحر باسرتداد منصب مدير األمن العام
للمسيحيني من الشيعة.
ثالثة حوداث متصلة تؤكد اليشء نفسه ،تتالحق يف الفرتة ذاتها تقريباً بدون أن
تتصدر الحياة السياسية أو تخترص وجهتها.
يف الوقت ذاته يستمر االنقسام املسيحي حيال التعامل مع سوريا ،ويستمر تحالف
التيار الوطني الحر مع حزب الله وتزداد مشاطرتهام للرعاية السورية؛ وال يؤذن انسحاب
وليد جنبالط من 14آذار بردم الفارق بني 8و 14آذار؛ ويتواصل تعبيد طريق دمشق من
قبل املسؤولني اللبنانيني؛ وال ميانع السيد نرص الله يف غمرة هذا الهدوء ،ورمبا بسببه ،يف أن
يعيل صوته بنربة حربية ويهدد بثأر عظيم.
ميكن القول إن وقائع كهذه ،ال تزال تواصل ،ولو بربودة وتراخ ،السجال اللبناين الذي
تحصل بعد اغتيال الحريري .انهيار املعسكرين مل يستتبعه نشوء بدائل وهام ال يزاالن، ّ
وإن بخروق ،إطارين الزمني .واالنقسام بينهام هو املحرك ،وانقسامهام عىل سالح حزب الله
والتعامل مع سوريا ال يزال ،وإن بتطفيف ،يف األساس .ذلك يعني أن سلسلة الوقائع األوىل
ليست املقلب الرئييس للسياسة اللبنانية التي مل تتشكل بعد يف وجهة.
اتفق املسيحيون اللبنانيون عىل أمرين يخالفان اتفاق الطائف ودعوى اإلصالح .تنكر
جناح 14آذار للطائف العزيز وتنكر التيار الوطني الحر لإلصالح الذي عيرّ نوابه بقية
األطراف بتخليهم عنه .توقف الطرفان عىل رفض تحريك الطابق الطائفي اللبناين ،ولو نظريا
أو رمزيا ،ولو باإلشارة وتالقوا عىل السعي شبه السحري إىل قتل اسمه وكلمته وإخراجه من
الفكر والكالم.
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
قال فؤاد السنيورة يف احتفال 14آذار األخري إننا أوقفنا الع ّد ،والحال أن العد اآلن
هو السائد أكرث من أي مرة أخرى .وقال جعجع يف حوار مع تلفزيون املستقبل ،بحكمة،
إن املسيحيني ال يستطيعون العيش يف طلب الحامية والخوف والذعر من تكاثر اآلخرين.
فليتكاثر اآلخرون ،قال ،كام شاؤوا (صحتني عىل قلبهم) ،لكن القوات صوتت ضد تخفيض
سن االنتخاب ليك ال يصري للتكاثر رقم رسمي .إنه ذات املسعى "اليائس" الذي رفضه
جعجع يف كالمه ،أن يستغرق املسيحيون وقتهم يف تأجيل الواقع ،وأن يعتمدوا عىل يشء
غريما لديهم فع ًال :تاريخهم وأفضليتهم الثقافية واالقتصادية واالدارية أو سعيهم لتكوين
هذه األفضلية.
الع ّد وحده هو األساس .ال ّعد من هنا وهناك .الع ّد السلبي والع ّد اإليجايب .يجتمع
املسيحيون عىل الخوف وهذا ما انتبه جعجع إىل أنه ال يساهم يف تكوين سياسة لهم أو
لبعضهم .لكن هذا األمر ليس مام ميكن ط ّيه أو إبقاؤه بال اسم .رمبا لذلك بقيت سلسلة
الوقائع املتضمنة رفض إنشاء لجنة إلغاء الطائفية ثانوية بقدر من التمويه االرادي ،وبقيت
نذرها إىل اآلن خافية ،وفضل الجميع أن يتبلغوها كام هي .األمر الذي مل يرد أحد تسميته
هو أن الجهة املوجودة يف ما يدعى عادة "الخلل" الدميوغرايف ،هي يف املرات الثالث واحدة:
إنها الشيعة .عرف الجميع هذا ،واألسوأ أن الشيعة عرفوه أيضا .هذا ،رمبا ،ما جعل املواجهة
تبقى يف حدود "تقنية" وتتجنب أن تتخذ كامل بعدها السيايس (فالطائفي).
للجميع مع الشيعة أمور تتصدر عىل هذه املسألة .هناك من جهة مسيحيي 14آذار
مسألة السالح ،ومن جهة مسيحيي التيار الوطني الحر هناك أولوية التحالف السيايس .مل
يتجنب التيار مع ذلك املواجهة مع الشيعة ،فهذه مسائل أرشط وجوده بها بالتدريج وجعلها
أساساً يف سياسته ،إن مل تكن سياسته الوحيدة ...لقد وضع نفسه هنا وما عاد يف وسعه أن
يتزحزح حتى كرمى لرشيكه الشيعي الذي وضعه أمام إحراج حقيقي .أمام حزب الله يواجه
التيار الشيعة قاطبة يف مسائل تتناول فوراً مكانة الطائفة وحصتها من السلطة .أقل من
ذلك قد يحدث يف املعرتك اللبناين الراهن عواقب وخيمة .أقل من ذلك ميكن توظيفه ،إىل
أبعد مدى ،يف حقن طائفي .لكن حزب الله ليس التنظيم الذي يخطئ يف حساب اولوياته.
اكتفى السيد نرص الله باإلشارة يف احدى خطبه إىل صعوبة املسألة ،فالكالم عىل لجنة إللغاء
الطائفية يستفز ،فكيف بإلغاء الطائفية نفسها .مع ذلك فإن استهداف الشيعة يف رفض هذه
اللجنة أمر ال ميكن لحزب الله تجاهله ،لذا دافع نواب الحزب عن مقرتح الرئيس بري ،دفاعاً
احتاط به الحزب لشيعيته لكنه سمح بتدوير املسألة وإبقائها يف حدود غري خطرة .أما إىل
متى فهذا ال ميكن التكهن به.
***
6
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
من يراجع التاريخ اللبناين الحديث يف مجلدي أحمد بيضون" ،رياض الصلح يف زمانه" ،ميكنه
أن يفهم من يوميات السياسة اللبنانية ،قبل اإلستقالل وبعده ،هذا الخوف املسيحي املقيم
من التكاثر االسالمي ،واستعداد البعض للتضحية يف سبيل ذلك بأساسيات سياسية ووطنية.
يبني الخوف الحايل إذاً عىل ارث حقيقي .لقد تفاقم لكنه ليس إبن ساعته .ميكن القول إن
اإلقصاء املسيحي يف عهد الوصاية كان جزءا من احتكار السياسة تقريباً ،فإغراق اللبنانيني
يف مشاحنات جانبية .وإذ يبدو إرث الوصاية مستمراً يف العجز عن إيجاد نصاب سيايس ،إال
أننا ال نبالغ إذا قلنا إن اإلقصاء املسيحي كان املقابل الستتباع بعض املسيحيني والطوائف
األخرى .أي أن اإلقصاء املسيحي كان ،يف جانب منه ،مثن املقاومة ،وهذا كان ،يف الدرجة
األوىل مثناً سياسياً .بكلمة أخرى كان املجتمع اللبناين بكليته ،مهمشاً واملسيحيون وحدهم
قاوموا هذا التهميش ،وحدهم أرصوا عىل حراك سيايس .لنقل إذاً إن التهميش املسيحي
كان سياسياً فيام مل يكن كذلك متاماً بالنسبة للجامعات األخرى التي خضعت لتسلط حر
بدا أحياناً مجانياً وطوعياً.
وحدهم املسيحيون خرسوا عندما قاوموا ،واليوم يريد البعض أن يسقط هذه
املعادلة ،ويكتفي بجردة احصائية للخسائر وكأنها مل تكن سوى "رسقات صيفية" إذا استعدنا
اسم فيلم يرسي نرص الله .ال يعني هذا إال أن املسيحيني ،فرتة الوصاية ،وهذا يعيدنا إىل
قرنة شهوان وسجن جعجع ونفي ميشال عون ،كانوا الديناميكية السياسية الوحيدة يف البلد.
وأنهم ،فيام بدوا مبعدين داخل مجتمع كله معطل ومحارص ،كانوا يقومون ،بعد عرثات
وأخطاء مرتاكمة وخاصة يف عهد أمني الجميل ،بدورهم التاريخي يف الصدارة اللبنانية :أي
صياغة مرشوع استقاليل وتوحيدي ودولتي.
حني يتكلم ،اليوم ،بعض من املسيحيني عن خسارة هذا املوقع أو ذاك ،أو يتحرس
عىل انكشافهم كأقلية ،ينىس أن هذه األقلية كانت خالل عهد الوصاية عصب املجتمع
هم
اللبناين .إنها استعادت ،أثناء ذلك ،دورها القيادي ،الذي وحده ،ميكن أن يشفي من ّ
األقلية ورعبها .ليس الخلل الدميوغرايف ،كام يسمى ،مام ميكن رأبه ،وليس إال تعزيز املوقع
السيايس املسيحي والتصدي للقيادة التاريخية كفيالن بتعويض التناقص العددي .لكن ذلك
ال يتم بالغرق يف املشاحنات والحرتقات الداخلية ،فهنا فقط تبدو األقلية يف أقليتها .إنها يف
مامرسة من هذا النوع ،كام يحدث اليوم غالباً ،تتساوى مع األقليات األخرى ،وتتنازل طوعاً
عن الدعم الذي يقدمه لها حضورها التاريخي ،الذي مل يكن مرشوطاً بالعدد.
***
مل تكن مسألة الخلل العددي وال االنكفاء املسيحي جديدة .مل يستطع املسيحيون أن
يتصالحوا مع خوفهم من أكرثية املحيط العريب أوالً ومن التكاثر اإلسالمي اللبناين ثانياً ،فيام
مل يجد املسلمون يف الصدارة املسيحية سوى تزوير للتاريخ وغصب سيايس .اقرتن التاريخ
7
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
املسيحي اللبناين بالصدارة ،ومن الواضح أنه بدونها يتعرث ويفقد نصابه .ميكننا هكذا أن
نجد تفاوتاً بني الدور التاريخي والوعي التاريخي الذي ظل امتياز نخب سياسية وثقافية ،يف
حني أن الرشاكة ظلت بالنسبة للجمهور املسيحي واملسلم أمراً عصياً عىل التصور وال مقابل
له يف الوعي .من الصعب أن نتخيل سابقة تاريخية يف إنجاز لبنان املتعدد ،بل من الصعب
تصور هذا اللبنان كمرشوع تاريخي بادر اليه املسيحيون أو قام يف وعيهم .ال بد أن النخب
املسيحية امتلكت قبل غريها إرهاصاً بهذا املرشوع فيام بدا أن الجمهور قبل بالصدارة مثناً
للرضا بهذا اللبنان .ال بد أنه اخرتع أيضاً يف لغة جارت ديبلوماسية السلم األهيل وهي لغة
مخرتعة بدورها .ليس للمرشوع اللبناين أو لبنان كمرشوع ،مثال سابق أو وجود تاريخي
إذ مل يكن يف البدء سوى ناتج صوري لعالقات مستجدة كونت بالنسبة ألطرافها واقعاً ال
ميت إىل أحد .كان لبنان الكبري ،يف ما يبدو ،صناعياً بالنسبة للمسلمني واملسيحيني والجميع
قبلوه عىل مضض .كان واقعاً بال أصل وبال أسطورة وبال تاريخ يف النهاية .كان بحت عالقات
جغرافيا واقتصاد وتقسيم استعامري ،وهذه ال تنتج أم ًام وبالداً وال تشعر بقدر تاريخي
ومبدأ أعىل .يبدو اإلستقالل اللبناين عىل سبيل املثال يتي ًام ال يدعيه أحد يف الحقيقة .يبقى
عىل حداثته ،عرضة لنسيان يتواطأ عليه الجميع ،شأنه شأن كل ما ال يخص جامعة بعينها.
يعتربونه منحة ويستق ّلون ما يبذل ألجله ويستخفون بشهيده الواحد ناسني أن معركته
كبدت عرشات الشهداء الذين ال يجدون من يتب ّناهم .مل يكن عامده الدم وال التأسيس
البطويل كام هو األمر عند السوريني مث ًال .كان بالنسبة للبنانيني حصيلة جمع واقعية ليس
فيها رس .سيكون عليه أن مييض وقتاً طوي ًال قبل أن يغدو أكرث من ذلك ،أي كياناً ومرشوعاً،
وسيحصل ذلك بدون أوهام ونتيجة تفاعالت الواقع نفسه.
سيكتشف اللبنانيون لبنان ببطء وصعوبة وسيكلف هذا احتكاكات دامية وحروباً.
سيدفعون يف حروبهم الداخلية ما مل يدفعوه الستقاللهم .ستكون هذه حروباً مفتوحة
وستنشأ عنها وقائع أشد هوالً وحارض أكرث ضيقاً وآفاق أكرث انسداداً .مع ذلك فإن الرصاع
ضد لبنان غدا عليه والرصاع ضد الرشاكة غدا عليها .صار البلد حصيلة هائلة من الدم واآلالم
والفناء ،لكن وجوده الصناعي واملركب ،الخايل من امللحمة ،امتحن مراراً أثناء ذلك وبدا
يف كل مرة رضورة ،ومن الصعب فرطه .لقد امتلك حقيقة من الجمع الذي فيه واملصالح
التي ميثلها .الواقع بحد ذاته قيمة وال يحتاج إىل سبب أكرث .لقد وجد بلد ألن الجغرافيا
واالقتصاد وحق االختالف والوساطة الثقافية والسياسية والرشاكة أسباب كافية لوجود بلد،
وأكرث كفاية ،أحياناً ،من األصل وامللحمة والقدر التاريخي.
***
كان البطريرك أول من تنبه إىل أن النائب املسيحي بحسب قانون اإلنتخاب ينتخب بفضل
الصوت املسلم وعىل قوائم تحت هيمنة اسالمية .احتج عىل ذلك قبل خروج الجيش السوري
8
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
واتفق مع الحريري وبري (عىل مضض) عىل اعتامد قانون الستني .بدت املطالبة البطركية
وكأنها موعد مع املستقبل .اإلستجابة الجامعة كانت أيضاً ذات إشارة مستقبلية .بدت املطالبة
البطركية ،ببساطة ،ترتيباً داخلياً ضمن البيت اللبناين برضا وتفاهم الجميع .قبول الحريري
ومراعاة بري منّا عن درجة من اإلشرتاك والتفاهم بني الزعامات ،وبالتايل بني الجامعات
اللبنانية .كان ذلك عبارة عن مداراة طوائفية وتقديم السلم األهيل عىل كل اعتبار.
تم بالتفاهم تحول بعد مقتل الحريري ،بقدرة قادر ،إىل معركة وإىل حد سيايس. ما ّ
تضاعفت املعارضة للوصاية بنزول الشارع السني والدرزي ،وتحولت ،بفضل ذلك ،إىل قوة
ضاربة غريت الواقع وأدت ،بالتضافر مع عوامل أخرى ،إىل خروج الوصاية وإرساء واقع
جديد بدا وكأنه تأسيس جديد للبنان ولجمهورية ثانية .أطيح باالنفراد املسيحي باملعارضة
الذي طاملا تشىك املسيحيون منه ،لكنه ،يف القرارة ،كان يعطيهم امتيازاً وأرجحية يتصالن
بدور تاريخي هو صيانة الكيان واالنفراد بحمل مفاتيحه .كان هذا يعني ضمناً الصدارة
واالمتياز ،لكن هذا الدور ضعف بعد الطائف وما نشأ بعد اغتيال الحريري يشكل تهديداً
أكرب .لقد تغريت املعادلة وما كان يبدو حقاً تاريخياً طار يف لحظة .مل يعد هناك شك بأن
املسيحيني مل يعودوا وحدهم حراس الكيان ،فمشاركة املسلمني بدت مساوية ،إن مل تكن
أحياناً راجحة .انتهاء االنفراد املسيحي إنذار بانتهاء االمتياز املسيحي أو عىل األقل اشعار
بأنه بات بال قاعدة .هذا ما جعل مسألة التمثيل النيايب املسيحي ،هذه املرة ،معركة .اتصل
التمثيل مبوضوعة االمتياز واملعادلة اللبنانية كلها .مل يعد االمتياز متص ًال ،مل يعد االمتياز مبنياً
عىل انفراد رصيح ،لذا بدا عارياً وبات من الرضوري الدفاع املبكر عنه.
وعي البطريرك كان مبكراً .ففي عز معركة االستقالل طرح مسألة التمثيل ورسعان
ما التقطها مناور جاهز كالعامد عون .يف ذروة املشاركة واملخاض التاريخي طرحت مسألة
املعادلة اللبنانية وتجىل الخوف عىل ضياع االمتياز يف املعادلة الجديدة .مسألة التمثيل
كانت هذه املرة تنطوي عىل ذلك كله ،املشاركة الحالية قد تقرتح صيغة أخرى .ظهرت
الخربة املسيحية العريقة يف هذا الحذر املبكر .وكان من الرضوري البدء بدفاع استباقي.
كان عىل مسألة التمثيل أن تكون حصن هذا الدفاع ،أي أن تكون معركة وراءها ما وراءها.
ما وافق الرئيسان الحريري وبري عليه أعاد البطريرك طرحه بقدر من التظلم املوجه هذه
املرة ال إىل الوصاية ولكن إىل الرشيك املسلم .حني غادر السوري مل يعد يف الساحة سوى
"املستفيد" املسلم ،مل يكن هذا بال مربر .السالح يف يد الشيعة والحكومة يف يد السنة ،وهذا
الوضع إذا مل يتم تداركه ميكن أن يغدو أبدياً.
أراد البطريرك كراع أن ينبه إىل املكانة املسيحية يف معادلة جديدة مفرتضة .كان
هذا استئنافاً ملطالبه بينام التقطه العامد عون ليجعل منه بداية معركة منهجية ومنتظمة،
وليغدو ،شيئاً فشيئاً ،سياسته الوحيدة ،متجاه ًال طبيعة املشكلة نفسها .إذا كان التنبه إىل
استقالل املسيحيني النسبي مبمثليهم بديهياً واجامعياً ،فإن الذهاب عىل نحو منتظم ،فيه
يتجاهل تناقضات أصلية .فاملكانة املسيحية يف هذا املنطق مهددة بخلل دميوغرايف ال سبيل
9
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
إىل الحد من تفاقمه ،وال ميكن معالجته مبناقشة مفاعيله وإنكاره يف الوقت ذاته .فاملطالبة
باستعادة مناصب كانت للمسيحيني يف وقت مىض والحؤول دون تخفيض سن االقرتاع يف آن
معا يوقعان يف تناقض واضح .يف الحال االوىل معالجة مفاعيل نتجت عن النمو الدميوغرايف
ويف الحال الثانية انكار لهذا النمو .وهو انكار رمزي ،فأبناء الثامنة عرشة سيكربون ويغدون
ذوي أصوات .وإذا كنا ال نريد لهذا أن يلقى اعرتافا ،وأن ال يغدو معدوداً ،إذا كنا ال نريد
للنمو الدميوغرايف أن يصبح عام ًال سياسياً ،فأحرى بنا أن ال نزاوج بني االعرتاف واالنكار وبني
النفي واالثبات.
يتصل التمثيل يف الحكومة والربملان واالدارة بالنمو الدميوغرايف املتفاوت .سياسة
العامد عون هي التهويل بهذا الخلل ومتويهه يف آن معاً .نتصدى لهذا النمو وال نعرتف
به .لكن هذا النمو ال يختفي مبجرد انكاره ،فهو ليس شيئاً بال مقاومة وال ثقل وال قدرة
المتناهية ومتزايدة عىل الضغط .يقول السنيورة توقفنا عن العد والحال ان يف االمتناع
عن التصويت عىل تخفيض سن االقرتاع مسألة عد فحسب .عد سلبي إذا جاز التعبري .نع ّد
لنخفي نتيجة الع ّد ونلغيها .مسألة الع ّد السلبي هي أيضاً يف مسألة لجنة إلغاء الطائفية.
إنه الع ّد باتجاه االنكار والتمويه .لكن الع ّد ال ميكن أن يكون فقط يف اتجاه واحد .االخرون
يع ّدون أيضاً ،والع ّد باتجاه االثبات أقوى منه يف اتجاه اإلنكار .ال يريد العامد عون أن ينظر
إىل الطرف اآلخر من املعادلة .ال يريد أن يرى ثقل ومقاومة الطرف اآلخر ،يتجاهله وكأنه
خصم نظري ،أو أنها معركة من طرف واحد .لقد جر العامد عون املعركة إىل حيث ال
ميكن الفوز اال ضد ال أحد .نقص التمثيل املسيحي أمر ممكن مناقشته والتفاهم عليه ،اما
مطاردة حقوق املسيحيني املسلوبة ،اما رعب التناقص العددي والحديث املثابر عن خطر
زوال املسيحية يف الرشق والتامهي مسبقاً مع هذا املصري املأساوي ،...كل ذلك قد ينجح يف
إقامة تالحم مأساوي لكن بثمن الترصف مسبقاً كخارس تقريباً ،إن مل يكن الترصف كمقامر.
فج ّر املسيحيني إىل معركة بال نهاية ،مستحيلة منطقياً وموضوعياً ،وارصاراه عىل أن يعادل
وجودهم بهذه املعركة ومتاهيهم مبسيحيي الرشق أي بالزوال النسبي ،كل هذا قائم عىل
مفارقات كثرية .مطاردة الحقوق السلبية والعمل عىل اسرتدادها من لبنانيني آخرين يجعل
التظلم هو السياسة األوىل العونية للمسيحيني .تظلم الطائفة التي أمسكت مبقاليد األمور
وكونت البلد وأعطته طابعه ودوره ال يجعل املسيحيني أفضل حاالً بكثري من املسيحيني
العراقيني واملرصيني .ينقلها من الصدارة وصياغة الدولة والثقافة والوساطة إىل رعب ذمي
وإىل مجرد أقلية مشغولة بخوفها ورثائها لذاتها .املفارقة هنا :فاملسيحيون ال يحتاجون إىل
معركة يومية ليكرسوا أقلويتهم ويجعلوا منها همهم األوحد .أما املفارقة الثانية يف السياسة
العونية فهي يف عجزها عن التمييز بني الحقوق واالمتيازات .ما يراه العونيون حقوقاً هو
امتيازات لقاء دور تاريخي مل يعد أكيداً ،والعونية بالذات ال تريد أن تسرتده .يف الحقيقة
تحاول أن تبيعه أو تؤجره لجهة أخرى لقاء الحفاظ عىل االمتياز والتحريض عىل املطالبة مبا
سلب منه .تحالف ميشال عون مع حزب الله مثال عىل ذلك .يوكل التيار لحزب الله الدفاع
10
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
11
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
ما فعله عون هو تحويل هذا الظلم إىل قضية إدارية وانتخابية .أي تجريده من
فحواه االنساين .لقد غدا يف املحاصصة واملحاصصة فقط ،وأمكن لذلك توجيهه ،مبنطق
املحاصصة والتنازع عليها ،ضد الجامعات األخرى ،أي تحويله إىل نزاع داخيل.
إذا كانت املطالبة الشيعية ،قبل الحرب ،أساس الدعوة إىل مزيد من االندماج والتوازن
الوطني ،فإن الدعوة العونية ،بخالف ذلك ،دعوة إىل نزاع أهيل مستمر عىل املحاصصة .إنها
يف جوهرها ربط النصاب السيايس كله بهذا النزاع واهامل املستوى السيايس بكليته.
اقرتاب عون من سوريا وتحالفه مع زعامات الشيعة املستفيدة األوىل من الوصاية ،ال
يض ّيعان فقط جذور مسألة الخلل يف املحاصصة بل هام ،يف الحقيقة ،تعليق كامل للمسالة
السياسية والخالف السيايس ،ودعوة إىل اللبنانيني للغرق جميعا يف ماء املحاصصة الضيق.
ال يعني ذلك سوى ابقاء النزاع اللبناين الداخيل مفتوحاً .مسألة املحاصصة ال مشرتك فيها
والجميع فيها عىل حد سواء يف تشددهم ويف استجابتهم الغريزية للنعرة الكامنة ،خاصة
وأن التشدد العوين رمى ناراً يف هشيم املطالبات الطائفية .استطاع يف البدء جر الطرف
املسيحي الخصم وابقاءه نصب هذه املسألة .التحدي العوين هنا حاسم وكان عىل مسيحيي
14آذار أن يجاروه فيه.
يطالب ميشال عون لنفسه وتياره بنصف حصة املسيحيني من التعيينات االدارية ،أي
بنصف حصة املسيحيني يف االدارة مام قد يجعله ،لدى حصول ذلك ،سنرتال خدمات .يف ذلك
ال يخرج عون عن األمر الواقع الذي ينيط بزعامء معددوين كل ما يتصل بجامعاتهم ويوكل
اليهم وحدهم الترصف بحصصها يف االدارة .هذا ال يجدد فردانية بل وشخصانية هؤالء يف
التقرير والحكم وال يناقض مبدأ الدولة فحسب ،بل يؤدي يف الواقع إىل تهميش الجزء األكرب
من الطائفة ،الذي ليس يف حلقة الزعيم وحاشيته ،وابعاده عن الخدمة العامة ،وغالباً ما
يحوي هذا الجزء افضل كفاءات الجامعة ،ولعل الطائفة الشيعية مثال واضح عىل ذلك.
ليست مطالبة عون بنصف موظفي املسيحيني إذاً إال تكريس األمر الواقع .وأين من
ذلك دعوى اإلصالح .إال أن هذا املوقع االداري ال صلة له بالسلطة الفعلية التي ليست يف
االدارة وال الحكم .هذان ليسا سوى نقطة تقاطع ارادات الجامعات اللبنانية التي ال تنبع
من مصالحها فحسب ،بل أيضاً من مواقعها الدفاعية وصالتها الدولية واإلقليمية .هذه
الجامعات تتصارع عىل السلطة وتتقاسمها .أما رصاعها عىل االدارة فهو لتناهبها واالتجار
بها ،أي اخراجها الكامل من أدوارها وتحويلها إىل شبكات للخدمات والتنفيعات واملصالح
الخاصة ،فض ًال عن تجزئتها وتقسيمها .ليست مؤسسة الحكم إذاً إال هذه الشبكات وليست
بحد ذاتها من السلطة يف يشء .املطالبة بحصة أكرب منها ،أو احتكار حصة ،ليسا اسرتداداً
للقيادة وال للصدارة وال حتى للسلطة .يف هذه ال يطالب عون بيشء ،فهو ال يطمح إىل
اسرتداد املفاتيح التي كانت بأيدي الجامعة لقاء سهرها عىل الكيان واالنفراد بالقرارات
املصريية يف دفاعه ومحله االقليمي والدويل ووساطته الثقافية واالقتصادية الخ.
من الواضع أن ميشال عون ليس يف هذا كله فاع ًال أو مطالباً ،وال سياسة له تجاهه
12
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
سوى مداراة حليفه الشيعي ،أي توكيله بالقرارات املصريية لقاء تلك الحصة يف االدارة
والحكم ،والتي ليست سوى شبكة من التنفيعات والخدمات .أي أن الطائفة ،كام يريدها
عون ،تتنازل عن القرار لقاء حصة من الخدمات .ليس يف ذلك سوى إمعان يف التهميش
السيايس للطائفة ومبادلة دورها السيايس بهوامش ادارية ،أي التخيل النهايئ عن الصدارة
والقيادة اللتني تعنيان االرشاف السيايس والعسكري .ال يسرتد هذا شيئاً مذكوراً للطائفة
بل يزيد يف إقصائها .إنه يتاجر بالرشعية التاريخية لكنه ُيخرج الطائفة من دورها التاريخي
ويغرقها ،آخر اآلمر ،يف زبائنية شاملة.
***
السلطة الحقيقة هي يف الدولة وخارجها معاً .إنها يف توازن تحالفني ،لكنها أيضاً يف توازن
طرفني ميسكان داخل كل حلف بوظائف الدولة ،حزب الله يف التحالف االول وتيار املستقبل
يف التحالف الثاين .تشكل الهيمنة السياسية لكل طرف يف حلفه لحمة التحالف ،فكل منهام
يعمل عىل تنسيق االرادات وادارة الخالفات داخل الحلف وصياغة خطط ومواقف مشرتكة،
وكل منهام يقوم بالتحكيم داخل حلفه ،وينتزع تفويضاً يجعل منه الناطق السيايس باسم
التحالف .ذلك يعني أن كال من الطرفني يتخطى موقعه الطائفي الذي يستثمره كركيزة
لهيمنته السياسية ،ومييل عليه موقعه التحكيمي أن يدفع أحياناً من زعامته الطائفية
وموقعه الدويل والعريب مثناً للتنسيق واملصالحات والدعم داخل حلفه.
مل ينب تحالف حزب الله والتيار العوين عىل أي رشاكة سياسية سابقة ،لذا تم التفاهم
عىل "صفقة" يتبنى فيها التيار الحزب سياسياً ،ويتبنى فيها الحزب التيار مطلبياً ،مبا يف ذلك
املطالبة الطائفية .بينام تبنى تيار املستقبل الخطاب السيايس لقرنة شهوان وبدا يف تبنيه
الرابح األكرب .وال بد أن ربحه ،والحلف الجنبالطي ،معركة هي أساساً للمسيحيني ،كان أساس
تظلم بارشه البطريرك ،واستثمره برسعة ،ميشال عون.
يقوم الركنان ،حزب الله وتيار املستقبل ،بوظائف الدولة ،وذلك بتقدميهام الصعيد
السيايس والرصاع السيايس واستثامر موقعهام الطائفيني يف سبيل ذلك .ال يبايل حزب الله
كثرياً بالحصة الوزراية والنيابية وحتى االدارية .تنازل لحلفائه يف املجاالت الثالثة ودفع من
حصته لرأب الخالفات .كذلك فعل تيار املستقبل وإن بدرجة أقل .راعى كل من الطرفني
حليفه املسيحي فيام دخل هذان الحليفان ،بفعل املزايدة العونية ،يف تنافس عىل املطالبة
مبا يسمى حقوق املسيحيني.
بدت هذه املطالبة وكأنها إرث رشعي للوصاية و َدين مستحق عىل اللبنانيني جميعاً،
مام رفعها وحدها إىل مصاف وطني ومنحها شبه إجامع .كان تصحيح التمثيل النيايب
عنواناً أول لهذه املطالبة ،وهو ،بالرغم من تخصيصه للمسيحيني ،جامع وإصالحي ،وبهذه
الصفة عابر للطوائف إذا جاز القول .غري أن تحويل هذه املطالبة إىل اسرتاتيجية سياسية
13
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
وشاغل يومي يجعلها ،أكرث فأكرث ،تتحول إىل منازلة داخلية .فالخصم هذه املرة لن يكون
سوى مغتصب ملنصب ،وبالطبع بالنيابة عن طائفة أخرى وباسمها .أي أننا ندخل هنا يف
زواريب مواجهات مع بقية الجامعات اللبنانية ،مام يجعل النظام الطائفي ،املسدود أساساً
واملحسوب عىل الشعرة ،يف حال غليان واضطراب مستمرين .ال تقرتح املطالبة العونية أي
منفس بالطبع لهذا النظام وال أي تعديل بنيوي .جل ما تفعله هو اللعب الخطر ،وبال أفق،
بحرز العالقات الطوائفية الحريز ،والعبث بصندوق بندورا الواجب اغالقه.
بقي العبث العوين بالنظام الطوائفي ،إىل اآلن ،محصورا مراقبا نسبيا يف وجود زعامتني
عابريت طوائف لحزب الله وتيار املستقبل ،عملتا عىل امتصاص الصدمة ،وتوفري تلبية نسبية
يف حدود املحاصصة وأولوياتها (قانون الستني ،متثيل عون للمعارضة يف املفاوضة الوزارية،
حصة التيار يف الوزارة) لكن العملية ليست بسيطة.
يحصله انتزعه بقوةيريد التيار العوين أن يبدو أمام مسيحييه قوياً وقادراً ليظهر أن ما ّ
ومل يأته منحة .يتم ذلك بأن يضع حزب الله يف رصيده كامل قوته ومينحه تفويضاً كام ًال.
األمر نفسه يحدث ،ولو بتفاوت ،يف املقلب اآلخر لـ 14آذار .الواضح أن تقدير حزب الله
للتفويض السيايس الذي يأتيه من التيار الوطني الحر كبري للغاية ،انفراد الحزب باملقاومة
والسالح ،واسرتاتيجيته الحربية تجعله موضوعياً خارج النظام اللبناين ،ما يحوجه لرشعية
مجانية وبدون رشوط من التيار تحمي انفراده وخروجه .يف ّوض الحزب التيار العوين باللعبة
الداخلية التي يبقى عىل حدودها ويحاول أن ال ميارسها إال يف الحد األدىن .ال يستطيع تيار
املستقبل أن يفعل ذلك متاماً مع مسيحيي 14آذار .دون ذلك أمور منها توزع فريق 14آذار
وتوزع املسيحيني داخله وانتفاء حاجة سياسية مامثلة لتيار املستقبل .لكنه مع ذلك يعطي
املنافسة السياسية حقها .فاملسيحيون يف االستقطاب اللبناين الحايل طرف مرجح ،وهذا
أمر يفعله تيار املستقبل .النتيجة أن مسيحيي كل طرف يتمتعون بحظوة وامتياز يقلقان
التحالف نفسه .فاالطراف األخرى ستضيق مبا تعتربه ابتزازاً ولن تجد نفسها مكلفة مبا يكلف
تيار املستقبل وحزب الله نفسيهام به .قد يكون هذا عام ًال أساسياً يف خروج جنبالط من 14
آذار واستقالل حركة أمل يف 8آذار.
ليست حركة أمل سوى هامش من هوامش املحاصصة الطائفية الخارجة عىل الدولة
والضالعة يف نهبها وتقاسمها واالتجار بها .فيام تتلون الجنبالطية أكرث ،وما انتهت اليه ال
يخلو من تشابه مع العونية ،بل إن العونية قد تكون املثال والنموذج.
مثل العونية ،انتهت الجنبالطية إىل استنفاد السياسة التي كان جنبالط أول صانعيها.
مثل العونية تؤثر الجنبالطية ،ولو تحت دخان من اسرتداد الوعي والعودة إىل الرتاث،
الخروج من املعمعة السياسية والرصاع الذي كان جنبالط ركناً فيه ،بل ناطقه السيايس
وأحياناً طليعته وصائغه .يتم االنتقال السيايس تحت دخان أيديولوجي يتعمد جنبالط
أن يكون ركيكاً ومفككاً ومتناقضاً ،إذ ليس سوى مالذ لفظي وتخريج سفسطايئ وانكار
مموه للسياسة .مثل عون يعود جنبالط إىل املحاصصة الطائفية واللعبة الداخلية ،وعىل
14
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
خطاها يسعى إىل "صفقة" مع حزب الله يبادل فيها التفويض السيايس بدرجة من التفويض
الداخيل ورزمة من املصالح الداخلية .مثل ميشال عون يبادل رمزيته والرشعية التاريخية
للدروز رشكاء املسيحيني يف التأسيس التاريخي واالسطورة اللبنانية ،فضال عن رمزية دوره يف
االنتفاضة يبادل بها فاتورة من املنافع قد يكون بينها كف حزب الله عن الجبل.
فهم جنبالط من معركة الجبل أن السياسة وحدها ال تكفي يف لبنان ،ان هذا املستوى
بحد ذاته مركب للغاية ورهن ارادات كبرية داخلية وخارجية ،عربية ودولية .ان القيام به
يقيده بالتزام صعب بل وبتنازالت غري مرغوبة ،فض ًال عن تآكل هذا املستوى ونخره من
قبل التجاذبات الداخلية وعالقات املحاصصة .أدرك جنبالط أنه ،بطائفة صغرية ،ال يستطيع
خوض هذا الغامر ،وأن كونه أكرب من طائفته ليس شيئاً يعول عليه إىل األخري .أعاده ذلك
إىل الطائفة واملوازنات الداخلية.
***
بأقل من االعرتاف برشعية سالح الحزب .فحزب الله اقرتاب جنبالط من حزب الله مل يكن ّ
يخاصم أو يحالف بهذا الرشط السيايس وال تزال هذه أولويته ،فيام يبدو أن السقف السيايس
ينخفض أو يختفي لدى االطراف االخرى .تيار املستقبل يقبل بأي درجة من التفاهم مع
جنبالط ،ويغطي نسبياً عىل الخالفات مع حزب الله وسوريا ،ويستبقي من عنارص النزاع
املحكمة الدولية .وهذه يف إطار التفاهامت األخرى ،تفقد الكثري من رمزيتها السياسية ،ثم
هناك ازاحة الخالف مع حزب الله وسوريا إىل الطرف املسيحي يف 14آذار وهذا يندرج أكرث
يف الرصاع مع التيار الوطني الحر .كل هذا يدل عىل أن وترية الرصاع السيايس يف لبنان تخف
واللحمة السياسية تضعف .إذا كان التفاهم السيايس داخل كل حلف ال يزال يسري يف خط
مواز مع التنافس عىل املصالح فإن املستوى السيايس يفقد هيمنته.
اختالف اللهجات السياسية بني الحلفاء ليس بال داللة ،اللهجات تؤذن ،يف مدى أبعد،
باختالفات أعمق .ليس االجامع اللبناين عىل تيار املستقبل مجرد انعكاس للتفاهم السوري
السعودي .االرجح انه ضمناً ،حصار للقلعة األكرب واألكرث تأثرياً يف املدى الداخيل والعريب
والدويل ،والتي باسقاطها أو عزلها ميكن تصفية الرصاع واعادته إىل حدوده الهامشية االوىل
زمن الوصاية .ال بد أن نقص هجومية 14آذار ونقص صمودها ،طوال سنوات يف دفاع
لكن االمعان يف الحصار تحت ستار الهدوء ال يعني إال أن فقدان الوجهة متعب ،أنهكهاّ ،
السياسية يؤذن باسترشاء النزاع عىل املصالح الخاصة وانزال العامل السيايس إىل الدرجة
الثانية .لهذا أسبابه بالتأكيد ،إال أننا ال نتوقف عند هذه األسباب وحدها ،وال ميكن رد األمر
إىل حتمية ال ميكن تداركها أو التدخل فيها.
بالرغم من معرفتنا بتداخل السيايس مع الطوائفي والداخيل مع الخارجي وتظاهر كل
منهام يف اآلخر ،إال أننا ال نستطيع بسهولة أن نركن إىل أن الرتدي إىل املنقلب الطائفي هو
15
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
حكم الظرف والواقع ،وأن املتنفذين والزعامء براء منه .ميكننا أن نرى حتى يف مسايرة هذا
الظرف والنزول عنده ،تهمة .بعد حرب أهلية طويلة واستبداد ال يقل عنه طوالً ،كان عىل
القادة اللبنانيني أن يكونوا أكرث تطلباً ،وأن تقرتن الحاجة إىل السلم بالحاجة إىل التعايش،
إن مل يكن التداخل واملصالحة .من الصعب أن ال نرى االنتفاضة اللبنانية ظرفاً وواقعاً ،ومن
الصعب ،تاريخياً ،أن ال نرى يف كل خطوة انقساماً ومجابهة تضييعاً لهذا الظرف .الواضح
أن االجتامع اللبناين ليس اولوية لدى الجميع وال املصالحة ،واملعاناة اللبنانية الطويلة ال
تفرضه كأولوية مطلقة .لقد منت من اللحظة األوىل دعوة إىل االنقسام وإن تحت شعار
آخر .مل يحسن القامئون عىل االنتفاضة تطمني أطراف شعرت أنها ستكون عرضة لالبعاد أو
االنتقام ،أسيئ بعبث وقصور نظر فهم ظاهرة عون كام أسيئ التعامل مع قلق الشيعة.
ركب الطرفان ،كل من جهته ،االنقسام وجره إىل نهاياته .ماذا لو مل يحشد حزب الله يف
تظاهرة شكراً سوريا ،ماذا لو مل يستخف جنبالط ومعه أركان 14آذار بالظاهرة العونية ،ماذا
لو مل يرفع عون التظلم املسيحي إىل مستوى اسرتاتيجي؟ .بل نسأل أيضاً ماذا لو مل يساير
أركان 14آذار التهديد الطائفي ومانعوا من داخل الرساي ،ردوداً من نفس النوع (الصالة
يف الرساي مث ًال)؟ .ال نريد أن نكيل التهم لكننا نفهم أن القيادات اللبنانية مل تقرص ،إن يف
االستثامر الطائفي أو عىل األقل يف مسايرته أو النكوص عن مجابهته.
***
كانت دعوة بري إىل الغاء لجنة طائفية آخر دعوة طائفية بالطبع ،لكن هذا كان ينبغي
حسابه .قول ذلك ال يكفي لرد الدعوة يف بلد يغيل باملطالبات والحساسيات الطائفية.
كان أوىل بالحركة العونية ومن رشع لها أن يفهموا أن األمر ال يقف عند هذا الحد .عندما
تتظلم الطائفة االكرث امتيازاً ،فإنها تستفز حك ًام الطائفة األقل امتيازاً إىل مطالبة مامثلة.
ليس هذا مجرد قياس منطقي .بدأ االحتكاك العوين الربي أبكر من ذلك ،فالتحريض العوين
وتظلمه يذهب يف أكرث من اتجاه .التشابك االنتخايب ورمبا االداري بني الشيعة واملسيحيني
يفوق ما بني املسيحيني والسنة .ثم ان اسرتداد الحقوق املسيحية قد يعني استعادة ما
تس ّقطه الشيعة أثناء الوصاية ،كام قد يعني إعادة الشيعة إىل موقعهم الثانوي أثناء تصدر
املوارنة .بري يف مطالبة كهذه ال يرمي فقط إىل مجابهة عون الذي دعا ،بلغة فجة ،إىل
تحرير جزين ،ولكن باألوىل إىل االستقالل عن حزب الله .إزاء اعادة تركيب السلطة وطرح
مسألة املحاصصة ،هناك موقف حزب الله الذي يعطي األولوية للسالح ،ومينح حلفاءه
من حصته التي هي أيضاً من حصة الشيعة ،وهناك مواقف بري الذي ترعرعت حركته
يف غامر السلطة واملحاصصة.
يستطيع حزب الله أن يعوض الشيعة مبقاومته ،التي هي ،يف حساب ما ،قوة للشيعة،
ومبؤسساته .لكن هذا التعويض ،كام بدا بعد حرب متوز ،ليس كافياً .ليس ممكناً ،يف أي
16
نوضيب سابع انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا
يوتوبيا ،ابقاء جامعة أو زعامة لبنانية طوي ًال خارج السلطة التي هي الرتجمة املتحركة
للعالقات الطوائفية .بل ومن املستحيل ،يف أي يوتوبيا ،أن متنح طائفة حصتها مقابل أي
خدمة كانت ،إىل جامعة أخرى .هبة كهذه تحرج حزب الله وتحرج تيار املستقبل أيضاً.
قد تكون حركة أمل اختارت الوقت الذي تراه مالمئاً لالنفراد عن حزب الله ،ليس
سياسياً ولكن يف املطالبة الطائفية التي ال يستطيع حزب الله أن يعارضها فيها ،كام ال
تستطيع هي أن تعارضه يف توجهه السيايس .هي املرة األوىل ،بعد زمن طويل ،التي تجر
فيها حركة أمل حزب الله بدالً من أن تنجر وراءه .حزب الله يؤيد لكنه أيضاً يعمل عىل
امتصاص الصدمة والعواقب.
حركة أمل تطالب بإلغاء الطائفية .فالنظام الطوائفي متشبع باالمتيازات وال قدم
لطائفة أخرى فيه .ال يستطيع الشيعة أن يطالبوا بامتياز يف هذا الزحام ،وإذا طالبوا سيكون
ذلك من الحصة االكرب من االمتيازات ،حصة املوارنة.
اراد ميشال عون اسرتداد منصب مدير االمن العام من الشيعة .مل يعترب مام حصل
عند اقالة مدير أمن املطار الشيعي .مل ينتبه إىل أن معركة املحاصصة الكربى ،التي مل تدر
بعد ،هي معركة الشيعة ،وبالقوة التي قاد بها الشيعة الهجوم عىل سلطة 14آذار ،ال ميكن
االستهانة بأي معركة يخوضونها ،وليس من الحكمة ،بحال ،استدراجهم إىل املعركة .من
انتخابات جزين إىل معركة الغاء الطائفية فتخفيض سن االقرتاع يبدو أن شقاً يتكون بني
الشيعة والحليف املسيحي .ففي املعركتني اآلخريتني صوت حزب الله حك ًام مع حركة أمل.
إذ لن يفهم الشيعة يف ظرف املطالبة الطائفية والنزاع عىل املحاصصة اال أن التصويت ضد
االقرتاح تصويت ضدهم ،وانهم هنا أفردوا وحورصوا ،وهذا هو أسوأ مخاوفهم .ال ننىس أن
للشيعة أيضاً خوفاً متأرثاً من االنفراد واملحارصة تجدد بخروج السوريني.
ص ّوت حزب الله مع االقرتاحني .سيتيح له ذلك امتصاص أثر التصويت العوين .لكن
املعركة تر ّدت إىل هذا الدرك وسيخوض بري قدما معركة يجد الحزب نفسه غائباً عنها وإن
كان ال يستطيع تجاهلها.
يحمل الحليف الشيعي عن الحزب عبء مطالبة ال يستطيع الحزب أن يقوم بها اال
بثمن اتهام طائفي يرجع عىل مقاومته وسالحه ،وبالتايل عىل سالحه ورشعيته وتحالفاته.
لكن مطالبه ال بد ،مع ذلك ،أن تحرج الحزب الذي لن يستطيع أن يعيش فقط عىل التهديد
االرسائييل ،وعىل االستعداد لحرب ال تحصل كل يوم ،وإذا حصلت ستكون ضارية مرعبة عىل
الشيعة خصوصاً .لذا يقرتن االستعداد باالستبعاد للحرب وهذا ما يجعله غري كاف سياسياً.
خاصة حني تنحدر السياسة يف لبنان إىل املشاحنة عىل الحصص التي تستغرق أكرث فأكرث
اليوميات السياسية .التحدي الطائفي والتحريض الطائفي واالستفزاز الطائفي امور معدية
وال نعرف كيف ستفعل يف انقسام اهيل جاهز أساساً ،ستكون قابلة لكل االحتامالت .من
هنا نرى االفق الذي تفتحه املطالبة العونية ،افق املامحكة الطائفية املتسلسلة والوقوف
عىل الحافة.
17
فكر سيايس
متايزت ،يف العقدين األخريين ،ثالث مقاربات يف شأن الدولة وعالقتها باملجتمع يف تفكري
املثقفني السوريني األبرز ،وإن أحالت ثالثتها عىل الدول العربية أو "الوطن العريب" جريا عىل
ُس ّنة كتابية سورية أصيلة .تتكلم مقاربة أوىل عىل دولة قمعية أو استبدادية ،تحكم بالقوة
العارية مجتمعات مقهورة؛ وتصدر املقاربة الثانية عن افرتاض رضب من تعادل بني الدولة
واملجتمع ،أو عىل كون تلك "تعبريا" عن هذا؛ فيام تقرر مقاربة ثالثة أن الدولة أكرث تقدما
من املجتمع ،وأنها عاملة عىل تحديثه وتر ّقيه التاريخي.
نسمي املقاربة األوىل دميوقراطية ،والثانية تعبريية ،والثالثة تحديثية.
ال يقرر النقد الدميوقراطي (منثل عليه بربهان غليون) أن نُظم الحكم العربية
استبدادية 1فقط ،تتوسل القوة أساسا لحكمها ،وإمنا هو يش ِّكل محور الوعي الذايت لحركات
سياسية ،تتطلع إىل تغيري "دميوقراطي" لنظم الحكم القامئة ،وينخرط مناضلوها يف أنشطة
معارضة لها.
وضد هذه ،تقرر املقاربة الثانية (ممثّلة بجورج طرابييش) أن نظمنا القامئة مل تنزل
من السامء ،وأنها يف الواقع انعكاس ملجتمعاتنا ،لثقافتها ومستواها الحضاري بخاصة .قد
تكون نظمنا استبدادية وفاسدة ،لكنها تعبري أمني عنا .فـ"كام تكونون ُيولىّ عليكم" .وعموما
يجري تعريف ما "نكون" ثقافيا .فاملقاربة التعبريية ثقافوية جوهريا.
وال تكتفي املقاربة الثالثة (ميثلها عزيز العظمة) بالتعويل عىل الدولة املتقدمة
1 1قد توصف عموما بأنها تسلطية أو ديكتاتورية أو شمولية ،دون تدقيق كاف .واألصل يف عدم
التدقيق هو تضخم البعد النضايل والعميل يف املقاربة الدميوقراطية عىل حساب بعدها النظري
والتحلييل .وإذ متنح النزعة النضالية أولوية لدواعي التحشيد وتوحيد القوى ،أي لالنضباط التعبوي،
تنزع إىل تصوير الواقع الذي يجري النضال ضده ككلتة مصمتة من الرش السيايس ،ما يغذي زهدا
بالتدقيقات النظرية ويضعف مطلب االنضباط املفهومي ويدفع االنشغاالت التحليلية إىل الوراء.
عىل أننا سرنى أن املقاربتني األخريني ليستا أقل نضالية وال أكرث انضباطا معرفيا.
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
من أجل تق ّدم املجتمع املحكوم ومجانسته وتر ّقيه ،بل وتجنح إىل معاداة نقاد "الدولة"
ومعارضيها.
ال تقع املقاربات الثالث عىل مستوى واحد .يلتقي يف األوىل تفكري نظري مع نشاط
سيايس عميل .فيام الثانية عقيدة تربيرية ،موجهة أساسا ضد سابقتها .أما الثالثة فهي
استقراء تاريخي نظري ،مبني أساسا عىل مفهوم الدولة املجرد .هذا ال يعني أن املقاربتني
منزهتني عن السياسة والرصاع السيايس .ليستا كذلك بحال،
التعبريية الثقافوية والتحديثية ّ
وسرنى أنهام تشاركان املقاربة األوىل يف ترتيب قول يف الدميوقراطية ،فكرة وحركة ،عىل
2
قولهام يف الدولة.
ويف الثقافة ويف الدين ويف العلامنية ويف املجتمع ،مام لن نتطرق إليه إال ملاما. 2 2
برهان غليون :املحنة العربية ،الدولة ضد األمة ،الطبعة الثالثة ،مركز دراسات الوحدة العربية، 3 3
بريوت .2003 ،ص .221
املصدر نفسه (م .ن) ،ص 230 4 4
م .ن ،ص .239 5 5
م .ن ،ص 243 6 6
م .ن ،ص.191 7 7
19
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
واملعتقالت ومعسكرات التجميع واملراقبة ونقاط التفتيش وأجهزة املخابرات أكرب من معدل
بناء املستشفيات أو املدارس أو الخدمات االجتامعية".8
غليون يعرب عن توجه عريض ،هيمن يف الثقافة العربية يف العقدين األخريين من القرن
العرشين ،وكان أحد شعبتي التيار القومي اليساري الذي ظهر يف الستينات والسبعينات،
وتفرعت عنه شعبة ثانية انرصف تركيزها أكرث إىل الحداثة والعلامنية.
انصب نقده عىل "الدولة التحديثية" ،القمعية جوهريا ،فام أمكن للطرح ّ وإذ
الدميوقراطي أن يتساءل عام إذا كانت النُظم االستبدادية الحاكمة تستفيد من أشياء أخرى
غري القمع .كان القمع تشخيصا للعالقة بني الدولة واملجتمع ،يفرتض خارجية العالقة بينهام
و"غربة" تلك عن هذا ،أو "أجنبيتها" حياله .وكان الفائض القمعي ،امللموس فعال ،برهانا
يغني عن مزيد من النظر.
والواقع أنه قلام امتنع دميوقراطيون عرب يف مثانينات القرن العرشين ،حيث دانت
الهيمنة للفكرة الدميوقراطية دون منازع ،عن قطع املسافة بني القول إن نظمنا قامعة
ملحكوميها ،متسلطة ،وحشية ،...وبني القول إنها غريبة عليه" ،خارجية" أو "أجنبية" عليه.9
لكن معنى "املجتمع" هو ما يختلف باالنتقال من العبارة األوىل إىل الثانية .يف األوىل هو
"شعب" مقموع ،بينام هو يف العبارة الثانية "أمة" مستلبة .يجري تعريفه هنا بلغة الثقافة
املرجح لهذه جميعا هو "اإلسالم"؛ وليس بلغة االجتامعو"الهوية" و"الذات" و"األمة" ،واملرىس ّ
واالقتصاد والفرد والحق والطبقات واملؤسسات املوحدة التي يفرتض أنها تع ِّرف "الشعب".
نحن هنا حيال أمة مواطنني محتملة ،بينام هناك حيال أمة ثقافية أو دينية ُمض َمرة .وبقدر
11
ما يتمحور النقد الدميوقراطي لغليون عىل "الدولة التحديثية "10التي هي "أداة عمياء"
ملصالح مسيطرة ،يتكلم أيضا عىل "ذات" تبدو معطاة ومتكونة قبل الدولة" ،ذات" يجري
"االنتقاص" منها بل "إنكارها" 12من قبل "نخبات اجتامعية" توصف بأنها "عىل صلة أكرث
بالغرب" .13يتكلم كذلك عىل "رفض الذات والتمثيل بالنفس" ،من قبل "بعض أجنحة هذه
النخبة" التي هي مبثابة "أصولية معادية لإلسالم" تتعمد "تسويد صفحة التاريخ العريب
واإلسالمي" .14ويشري إىل "اكتشاف الذاتية ومراجعة مسائل الهوية والخصوصيات التاريخية"،
وإىل أن "تجاهل الذاتية ( )...هو ما حول عملية التنمية إىل مسألة مراكمة لآلالت امليتة
والبضائع واملنتجات.15"...
م .ن ،ص 218 8 8
م .ن ،ص.221 9 9
مقدمة الكتاب ،بخاصة ص ص .23-13املفهوم مركزي يف تحليله. 1010
م .ن ،ص .221 1111
م .ن ،ص 254 1212
م .ن ،ص .253 1313
م .ن ،ص 261 1414
م .ن.247 ، 1515
20
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
وبينام يوجه غليون أعنف نقده إىل ما سامه "حثالة الحداثة" أو "حداثة – حثالة"،16
أو "تحديثية رثة" ،17يث ّمن كثريا "الذاتية" و"الهوية" و"األنا العميقة".18
ويف املحصلة ،يس ِّهل طرح غليون تصور أن "الدولة" استبدادية سياسيا ألنها "أجنبية"
عىل املجتمع ثقافيا ،مع رد الثقافة ذاتها إىل "ذاتية" ال مضمون فعليا لها غري "اإلسالم" .وهو
ما يضمن متاهيا ميسورا للمسلمني بـ"األمة" ،فيام ُيغ ِّرب عنها األقل متاهيا باإلسالم ،مبن فيهم
من قد يكونون مسلمني سوسيولوجيا يف األصل.
ال يوفر هذا الطرح ضامنات ضد تصور الدميوقراطية مبثابة إعادة األمور إىل نصاب
"طبيعي" لها ،بحيث "تعبرِّ " الدولة عن املجتمع ،أو "تطابقه" .ولقد س ّهل هذا االنتقال الخفي
وغري الرشعي من شعور عموم اإلسالميني السياسيني بأنهم دميوقراطيون ال ينقصهم يشء،
ملجرد كونهم معارضني للدولة التحديثية االستبدادية .وسيسهم هذا التساهل يف تصور أكرث
تبسيطا للدميوقراطية بعد ،يردها إىل حكم األكرثية ،الذي و ّفرت مناخات تلك الفرتة (عقد
الثامنينات عقد "الرتاث" و"الهوية" ،وصعود اإلسالميني ،كام قد نذكر) وحتى وقت قريب
انزياحا معجميا ضمنيا يحيلها إىل األكرثية الدينية أو يكاد ،وهو أمر كان ال بد أن يفاقمه
تدهور االندماج الوطني وتنامي الوعي الذايت الفئوي يف بلداننا يف الفرتة نفسها .ويف سياق
هذا االنزياح السيايس والداليل ،وتفاع ًال معه ،سيظهر تيار فكري واجتامعي يع ّرف نفسه
بالعلامنية ،مع ّرفة بدورها بصيغة مبسطة وإجرائية :فصل الدين عن الدولة .ومالبسات
ظهور هذا التيار ستتسبب بدورها يف انزياح معجمي مقابل ،يطابق بني الدين واإلسالم
حرصا ،وبصيغته السنية تحديدا .19يشد من أزره يف هذا املسلك االختزايل صعود حركات
إسالمية (سنية) متشددة أو عنيفة وتدهور االندماج الوطني ،يف الفرتة نفسها أيضا.
وبعد أن كان ياسني الحافظ يوحد املطلبني الدميوقراطي والعلامين معا عىل أرضية
قومية عربية واشرتاكية ،شهدنا تف ّرقهام يف العقد األخري من القرن العرشين .إن برهان
غليون من جهة ،وجورج طرابييش من جهة ثانية ،تف ّرعان عن دميوقراطية الحافظ العلامنية،
العروبية واملاركسية يف آن معا .وال ريب أن األصل يف هذا االنقسام هو تفكك القومية
العربية التي كانت حركة علامنية وقاعدة مبدئية لتشكل أكرثية أو أمة جديدة ،مختلفة
عن األمة الدينية.
21
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
ويف واقع األمر ،ليست الدولة غريبة عن املجتمع باملعنى الثقايف للكلمة .بل إن هذه،
بينام كانت توغل يف االستبداد وتراهن عىل الخلود يف الحكم (ما يتضمن توريثه سالليا)،
كانت تقرتب من املجتمع املحكوم ثقافيا ،أو مام يفرتض أنها ثقافته ،كام سرنى.
***
يف السنوات األخرية ،التالية لـ 11أيلول ،2001والحتالل العراق يف ربيع 2003بخاصة،
أضحى التشخيص الدميوقراطي الذي يتكلم عىل "قمع" وعىل "غربة" عائقا معرفيا ،يحول
دون معرفة أوسع بوقائع العالقة بني الدولة واملجتمع ،فكان من ثم عامال مهام يف تراجع
الفكرة الدميوقراطية ذاتها .لقد أخذ يظهر هنا شيئان جديدان أو ثالثة .أولها ،توترات دينية
ومذهبية وإثنية محتدمة تخرتق مجتمعاتنا ،وقد تتفجر بعنف إذا رفع الغطاء عنها .هذا
يثري تساؤال عام إذا مل يكن "االستبداد" نوعا من الحل .ثانيها تكوينات إسالمية متنوعة
الوجوه ،قد تكون عنيفة أو أعنف ،لكنها حتى حني ال تكون ،تحمل طوىب مناقضة للدولة
الوطنية الحديثة ،األمة اإلسالمية املنتظمة حول "الرشيعة" ،فتثري قلق قطاعات واسعة من
املجتمعات العربية .وهي يف جميع األحوال ال تخفي تطلعاتها السياسية ،مبا فيها الوصول
إىل الحكم وفرض نظام إسالمي .وثالثها تدخالت خارجية كثيفة وقوية ،قد تصل اىل حد
االحتالل ،وبيئة دولية وإقليمية خطرة ،ما يهدد البلدان الضعيفة بأن تكون "دوال فاشلة".
وتتوحد هذه الظواهر الثالث يف أنها ترفع الطلب عىل "الدولة القوية" .ويف مناخات سياسية
وفكرية ونفسية مضطربة كمناخات املرشق يف ما انقىض من سنوات هذا القرن ،سريجح
للفرق بني دولة قوية ودولة قمعية أن ميحي ،أو يعترب تز ُّيدا كامليا يف التدقيق .وإذا ارتفع
الطلب عىل األمن ،فهل سيبقى نقد "الدولة األمنية" (التعبري لطيب تيزيني) محتفظا
بقيمته؟ كل هذا أضعف قضية الدميوقراطيني أكرث .ولعله يبيح لنا القول إن هيمنة الفكرة
الدميوقراطية انتهت عربيا يف وقت ما بني أيلول 2001ونيسان ،2003بعد أن كانت دامت
نحو ربع قرن.
ويف حدود علمي مل يطور الدميوقراطيون العرب (وأنا منهم ،وعىل والء ثابت
لتطلعاتهم) مقاربة أكرث تعقيدا .هذا يقود منذ اآلن إىل تصلب فكري وسيايس يف أوساطهم،
يتولد عن الثبات عىل صيغة واحدة للفكرة ضمن واقع كرثوي متغري ،عىل نحو ما كنا رأينا
بخصوص الشيوعية قبل نحو عقدين؛ أو يقود إىل هجر الفكرة الدميوقراطية إىل غريها ،أو
أخريا إىل التخيل عن كل اهتامم عام .20البديل الجدي هو تطوير الطاقة االستيعابية للطرح
الدميوقراطي ،يك يكون مؤهال نظريا وعمليا للرد عىل املسائل والتحديات الجديدة .فليس
2020عىل هذه البدائل توزع الطيف السوري املعارض يف سنوات ما بعد "إعالن دمشق" ( .)2005والسمة
الغالبة ملن هجروا الطرح الدميوقراطي ومل يقعدوا يف بيوتهم هي النكوص إىل عتاد شيوعي أو
قومي عريب تقليدي.
22
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
االستبداد هو الحل ،بل هو مشكلة تزداد تعقيدا ،وتجعل بلداننا رهينة بينه وبني "الفشل"
والنزاع األهيل.
***
والواقع أن تط ّلب تفكري أكرث تعقيدا مل يكن غائبا متاما عن أفق الدميوقراطيني السوريني،
ستجب له بصورة مبدعة .لقد ميزوا ،ورمبا بتأثري من برهان غليون أكرث من غريه، وإن مل ُي َ
بني الدولة والسلطة ،حيث الدولة مؤسسة (أو ُمر ّكب مؤسسات) عامة وسيادية ،والسلطة
21
وظيفة من وظائفها ،قد يتوسلها طاقم حاكم لتحصني مصالحه الخاصة بصورة أساسية.
التمييز مفيد ،لكنه ال يتيح رؤية الفاعلية التدخلية واإليجابية للدولة .الدولة ،مبا هي كذلك،
تع َّلم وتنظم وتَض ِبط وتريب وتقمع ،وليس فقط "تعبرِّ " أو "متّثل" .مفهوم الدولة التي ليست
مجرد سلطة ال يكفي .بل قد يكون جوهر املشكلة السياسية يف سورية اليوم أن هناك
بالفعل سلطة جهازية ُمتضخِّ مة ،منشغلة أوال وأساسا بدوامها إىل درجة أن تدخالتها يف
املجتمع ال تنضبط بنسق عقالين مفهوم ،وهي أقرب إىل أن تكون محدودة ،عىل عكس
ما قد يستخلص من األدب الدميوقراطي الشائع .فليس لها سياسة تربوية وطنية دامجة،
أو سياسة تطوير ونهوض وطني ،أو سياسة ثقافية مج ِّددة ،وال ينضبط رجالها بأخالقيات
رفيعة ليصلحوا قدوة ملوطنيهم ،أما قمعها فموجه ضد من ينازعها السلطة ،فيام تكاد ترتك
كل يشء آخر للمحيل واألهيل .هذا فوق أنها منخورة باملحسوبيات والتبعيات الشخصية
والفئوية وعالقات القرابة والثقة واملعرش ،ما يقوض مبدأ الدولة العام من األساس.
بحكم أولويتها العليا تلك ،تجد "الدولة" نفسها مغلولة اليد ،إن مل نقل مشجعة،
لتطورات اجتامعية ودينية بالغة الخطورة من نوع تنامي املللية ،وتأثري متزايد ألجهزة دينية
متنوعة متارس سلطات سيادية أو ما يقاربها (مجال األحوال الشخصية بخاصة) ،فضال عن
"فساد" مجتاح بالغ العدوانية وكيل الحضور ،وعن موت الثقافة أو عيشها كنبتة برية ،كام
عن تصحر مساحات واسعة من البالد وهجرة مئات األلوف إىل مخيامت بؤس حول املدن.
حيال هذا الرشط يلزم الدفاع عن دولة أكرث تدخلية ،ال أقل .وكذلك التحول من تصور
الدميوقراطية كاشرتاكية سياسية ،تقوم عىل توزيع السلطة املتاحة إىل تصورها كإنتاج ملزيد
من السلطة من أجل التوحيد والضبط والتنظيم االجتامعي .وإن كان يتعني ضبط سلطة
الدولة القمعية ،ففي سياق يقتيض مزيدا من وظائفها االجتامعية من جهة ،وبالخصوص
مزيدا من ضبط عشوائيتها وتعسفها واستسهالها الرتويع والحلول االعضلية للمشكالت
" 2121عرص التنظيم :الدولة والسلطة" ،هو عنوان الفصل الثالث من كتاب املحنة العربية .لكن الرشح
الالحق يف املنت أوثق صلة باتجاه تفكري املثقفني والناشطني الدميوقراطيني السوريني يف الفرتة ما بني
"ربيع دمشق" ،2001-2000و"إعالن دمشق" ،2005مام بأفكار غليون.
23
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
االجتامعية والسياسية .22أما التفكري يف الدميوقراطية كتقييد للسلطة ،أو كدفاع عن الدولة
ضد السلطة ،فيجعل املطالبة بوظائف اجتامعية أكرث غري مريئ وغري ممكن معا .باختصار،
املطلوب املزيد من الدولة واملزيد من السلطة ،واألقل من العشوائية.
لكن هل نبقى ضمن إشكالية الدميوقراطية حني نتكلم عىل إنتاج السلطة مقابل
ومنظم للدولة؟ أال نعود بذلك إىل إشكالية البناء ّ موحد ومعقلِن
توزيعها ،وعىل دور ِّ
الوطني (الدولة املربية الدامجة املوحدة) ،ورمبا نعيد االعتبار ملفهوم الديكتاتورية الوطنية؟
وبعد تجاربنا مع هذه ،وبخاصة انزالقها املتواتر إىل ديكتاتورية طائفية مق ّنعة ال إىل
دميوقراطية وطنية ،من يجرؤ عىل قول كلمة طيبة بحقها؟ هذا مربر إضايف ملزيد من النظر
النقدي يف املوضوع.
2222املسألة اليوم يف سورية ليست يف شدة القمع (ال يزال شديدا وفائضا) بل يف عشوائيته والعقالنيته.
أذكر مام خربت شخصيا أن املحسوبيات تحدث فروقا مهمة يف أوضاع سجناء السياسيني ،أنه مل ميكن
يف أي يوم تبني قاعدة مطردة تنضبط بها أوضاع سجناء ارتكبوا"جرائم" متامثلة ،أن السلطات قلام
احرتمت أحكام محاكمها هي بالذات ،األمر الذي يعني أن إرادة أو نوازع أفراد نافذين كانت غالبا
فوق القوانني العامة .ماذا يبقى من "الدولة" إذن؟ وأالحظ أن ما تىل "الثورة القمعية" يف مثانينات
القرن العرشين هو تعمم عالقات املحسوبية والثقة املشخصة ،وأن التعمم هذا رمبا له "الفضل"
يف الحاجة إىل قدر أقل من القمع املبارش يف العرشية املنقضية من هذا القرن .بعبارة أخرى لزمت
"ثورة" من أجل تكريس العالقات األهلية اجتامعيا ،حتى إذا ترسخت تحولت الثورة إىل "دولة"،
هي ما أسميها "الدولة السلطانية املحدثة" .ويبدو أن هذه تحتاج إىل مستوى أدىن من القمع العام
السائل.
24
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
رأس" عام ،يبدو أن اإلسالم أبرز محتوياته .23ويف السنوات األخرية ،النصف الثاين من هذا
العقد بخاصة ،حازت هذه النظرية التي تعي نفسها ضد الشعبوية عىل شعبية واسعة.24
ومع انتشارها الشعبي ،انسلخت عن صيغتها األصلية ،وأخذت متيل نسقياً ،يف السياق
السوري ،إىل ل ْوم املجتمع املحكوم وتحميله املسؤولية عن أوضاعه البائسة ،فوق تكوين
وأفعال نخب السلطة الحاكمة له.25
تخفق هذه النظرية يف تفسري القمع الواسع الذي متارسه السلطات .فإذا كانت تعبريا
عن محكوميها ،فينبغي أال تضطر إىل هذه الدرجة من القمع .لكن يحصل أن يقال أحيانا
إن املحكومني ،البعض املعارض منهم عىل األقل ،ال يفهمون غري لغة القوة ،وأن االضطرار إىل
"تكسري رؤوسهم" متولد عن "يباستها".26
ويخص دعاته بأعنف
ُّ ثم إن هذا الطرح محافظ سياسيا ،يتشكك بالتغيري السيايس،
مطردة للمقاربة الثقافوية .ال غرابة أن يواليها طيف اجتامعي سخطه .هذه سِ مة جوهرية ّ
متنوع ،مستفيد من األوضاع القامئة ،أو لديه ما يخشاه من تغريها ،دون أن يكون بالرضورة
من صلب النظام .وهو ما ينطبق عموما عىل "الثقافويني العلامنيني" .27وال تكاد الصيغة
األشيع لهذه املقاربة تجد شيئا تؤاخذ "الدولة" عليه ،أو تطلب منها دورا إيجابيا يف إصالح
أحوال محكوميها .وبينام قد يستخلص من صيغتها العامة أن املحكومني هم وحدهم
املسؤولون عن تغيري أوضاعهم كام أسلفنا ،فإن عموم أصحاب هذه املقاربة يكتفون من
كتاب طرابييش :يف ثقافة الدميوقراطية ،الطبعة األوىل ،دار الطليعة ،بريوت .1998 ،ص .17وبتنقيح 2323
محدود أعاد نرش املقالة الرئيسية يف الكتاب" ،إشكاليات الدميوقراطية العربية" ،يف كتابه هرطقات،
الطبعة األوىل ،دار الساقي .2006
توفرت شبكة االنرتنت عىل ما ال يحىص من نسخ شعبية لهذه األطروحة .لكن من أكرثها إثارة كتاب 2424
أيب حسن :هويتي..من أكون؟ يف الطائفية واإلثنية السوريتني .الطبعة األوىل ،دار بيسان ،بريوت
.2008والكتاب وثيقة سوسيولوجية مثينة جدا لكاتب شاب ،يرصح بأنه "علوي" ينحدر من "طائفة"
قدمت له "منجزات ومكاسب اجتامعية وحضارية عىل طبق من ذهب" فبات يخىش من فقدان
"تلك املكاسب يف ظل التمدد الوهايب ضمن سوريا!" .ص .156وكذلك .226
يقول أ .حسن يف املصدر السابق إن "سوريا ليست أسرية نظام نشكو منه وال حتى عائلة نحملها 2525
وزر ما يجري (كام يحلو للبعض التشدق) ،قدر ما هي أسرية تلك الثقافة الكسيحة املريضة .وإن
النظام الذي طاملا قارعناه بأقالمنا ليس سوى نتاج طبيعي لتلك الثقافة" .ويضيف" :وألنه كذلك –
أي النظام -فإنه ال يستطيع فعل يشء إزاءها سوى املناورة تارة ،والحوار تارة أخرى ،واملهادنة قدر
اإلمكان ،وعندما يضيق ذرعا ،تكون املجابهة التي عادة ما تفيض بأحدنا إىل السجن بتهم هي يف
األساس نتاج ثقافتنا ،وليس النظام هنا سوى معرب أمني عن تلك الثقافة الكائنة يف أعامقنا ووجداننا"
ص ( .225التشديد مني ،ياسني) .عىل أن الكاتب اجتهد يف كل صفحات كتابه تقريبا يف نسبة
"الثقافة الكسيحة املريضة" تلك إىل اإلسالم السني.
أستعيد هذه التعابري من اطالع شخيص عىل قاموس اللغة األمنية املعتمدة يف سورية. 26 26
متييزا عن ثقافويني إسالميني ،أو عن اإلسالميني عموما ،وهم ثقافويون تلقائيا .تنظر مقالتي: 2727
"الثقافوية العربية املعارصة :خصائص منهجية ومحددات أساسية" ،ملحق النهار الثقايف،
.2009/12/12/13
25
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
مطلب التغيري بلوم املحكومني عىل انعدامه .التفسري هنا تربير محض.
ولعل أصل هذا االنقالب يتمثل يف أن الشاغل املستويل عىل أذهان الثقافويني
العلامنيني السوريني هو "األصولية" .كل يشء آخر يهون أمام هذا البعبع الذي يتضاءل
أمامه موقع "الدولة التحديثية" يف كتاب غليون املشار إليه فوق.
والحال ،إن هذه املقاربة التربيرية هي نقيض وطباق املقاربة الدميوقراطية الثقافوية
التي تقرر أن الدولة "غريبة" عن املجتمع .فبقدر ما جنحت هذه إىل تعريف املجتمع
ثقافيا ،فس ُتؤىت من مكمنها ،و ُير ُّد عليها بتعريف الدولة ذاتها ثقافيا :تفرسون االستبداد
بغربة الدولة عن املجتمع؛ طيب ،لكن من أين أتت "الدولة"؟ إنها استبدادية فعال ،لكن
ليس ألنها غريبة عىل املجتمع ،بل ألنها منه ،غريبة مثله عىل الحداثة والعرص! وتاليا ال
"حل" بربط الدولة باملجتمع أو بنزع غربتها ،بل بـ"العلامنية" ،فصل الدين عن الدولة.
تكتسب العلامنية يف هذا السياق معنى موجها بصورة حرصية ضد "اإلسالم" ،28نخبويا يف
الغالب ،ومحافظا سياسيا.
للمقاربة التعبريية طابع سجايل ،بل رصاعي ،عنيف ومكتوم يف آن معا .أوفر إشارات
طرابييش الغاضبة موجهة ،وإن دون ذكره باالسم ،إىل برهان غليون ،املوصوف بالشعبوية
والدميوقراطوية .29وليس شعار الشعبوية ،حسب طرابييش ،غري عبارة "الدولة ضد األمة"،30
العنوان الفرعي لكتاب غليون "املحنة العربية".
وكام قلنا ،تشيع هذه النظرية التعبريية لدى من مييلون إىل تعريف املجتمع بجوهر
ثقايف أو اجتامعي يقع يف ما وراء السياسة ،إىل درجة أن السياسة ال تكاد تؤ ِّثر عليه ،بينام
له عليها التأثري كله .فقط إذا تغري هذا الجوهر ،ستتغري السياسية والدولة .وال يبدو أن
هذا يعني تغيري نظام املجتمع القانوين أو هياكله االقتصادية ،أو اهتامما أوسع بالتعليم
والرتبية ،أو "ثورة ثقافية" ،دع عنك حريات سياسية أوسع ،بل هو أقرب إىل انقالب كياين،
يطال ما يفرتض أنه الجوهر العميق للمجتمع" ،صندوق رأسه" الفاسد أو "ثقافته الكسيحة
املريضة".
منتقداً الطرح الدميوقراطي املهيمن" ،الشعبوي" و"الدميوقراطوي" ،يقابل جورج
طرابييش بني صناديق االقرتاع التي تنتهي إليها "الحرية الدميوقراطية" ،ويبدو أن عموم
28 28واإلسالم هذا اسم ألشياء متنوعة جدا ،يوحدها أنها األشياء التي ال نريدها .نجازف بالقول إن اإلسالم
صنيعة سياسية واجتامعية غري محددة املالمح ألصناف من العلامنيني ،يبنون هويتهم وروابطهم
بالتاميز عنها ،ويحتجون إىل غموضها كهامش مناورة لتنويع وتسويغ تفضيالتهم السياسية
وااالجتامعية التي ال تقر عىل حال .يشاركهم يف صنع "اإلسالم" ،إسالميون متنوعون ،يناسبهم أن
يكون اإلسالم اسام لكل ما يصادف أن يريدوا.
2929هرطقات ،...ص .15وكذلك هرطقات ،2الطبعة األوىل ،دار الساقي ،بريوت .2008 ،ص ص 90
و.106
3030هرطقات ،ص .15
26
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
الدميوقراطيني يكتفون بها ،وبني صناديق الرؤوس التي "تنطلق منها"" .31املجتمع أساسا
نسيج من العقليات" ،فإذا مل "يتضامن صندوق الرأس مع صندوق االقرتاع ،فإن هذا األخري
لن يكون إال معربا إىل طغيان غالبية العدد" .32وال يعينِّ طرابييش هذه باالسم ،لكن إشاراته
وتلميحاته تتحرك يف أفق تشغله مدركات مثل "األصولية" و"الغالبية العمودية" و" ...اإلسالم".
ومن تعريف املجتمع بكونه "نسيجا من العقليات" مييض مؤلف "هرطقات" إىل أن "األنظمة
العربية ال تتحمل انتخابا حرا ،ولكن املجتمعات العربية ال تتحمل رأيا حرا" .ال يربهن عىل
كالمه ،وال يبدو أنه شعر بحاجة إىل الربهنة عليه ،وال هو يعينّ أية مجتمعات بالضبط ،وال
يف أية فرتة زمنية .واالنطباع الذي تب ُّثه عباراته املرسلة يوحي أن رفض "املجتمعات العربية"
للرأي الحر واقعة أولية ،متصلة بجوهر ثابت لها ،بـ"نسيج عقلياتها" ،وليس شأنا سياسيا
وتاريخيا ،نسبيا ومتحوال .الدول وسياساتها وأجهزتها وتكوين نخبها ال تبدو شيئا مؤثرا عىل
"نسيج العقليات" هذا ،بل لعلها ضحية له.
ويبلغ املؤلف ذروة تهنئة الذات عىل "هرطقته" حني يقرتح "نصابا تعليميا" لحق
االنتخاب الدميوقراطي .ويسوق حججا لدعم موقفه من نوع أن "زهرة الدميوقراطية" "ال
ميكن أن تنمو يف تربة األمية" ،وأن "سفينة الدميوقراطية" ال تستطيع اإلبحار يف "بحر
االنفجار الدميوغرايف" ،33وأن "األصوليني أبرع من يركب موجة األمية" .34ولسبب ما ،يخطر
بباله تقييد الدميوقراطية بنصاب تعليمي بدل اقرتاح أبسط وأكرث وجاهة ،يقيض بوجوب
املبارشة بخطة وطنية ملحو األمية خالل عقد من السنني مثال .كام ال يوضح مستوى التعليم
املطلوب من أجل "ثقافة الدميوقراطية" ،أو يربهن عىل أن املتعلمني ،واملثقفني ،ال يدخلون
يف "كيس البطاطا" ويسلسون قيادهم لـ"القطيعية" ،35فيص ِّوتون تصويتا عموديا.
ليست هذه أمورا عارضة .هي أوثق صلة بالنظر إىل مجتمعاتنا املعارصة كطبائع ،أو
"صناديق رأس" و"أنسجة عقليات" ،تشغل يف الثقافوية املوقع التفسريي املح ِّدد الذي كانت
تحتله البنية التحتية يف االقتصادوية املاركسية قبل جيل واحد.
27
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
قضية إصالح الدولة واإلصالح السيايس خارج أفق هذا التفكري الذي يفرتض بإطالق أن
الروابط األهلية تشكل خيارات األفراد السياسية دون أن يرشح ملاذا ،أو يقرتح شيئا لتجاوز
36
األمر ،أو يوضح ما إذا كان هذا الواقع ينترش أم ينحرس .ولن تقول لنا "ثقافة الدميوقراطية"
شيئا عن كيفية إصالح "صندوق الرأس" ،وال ما إذا كان ينبغي رفض أية انتخابات عامة حرة
قد تجري هنا أو هناك ،وال تقرتح شيئا لتحسني نتائج صناديق اقرتاعها املزدراة ،وسبل تجنب
أن تكون أوالها هي األخرية.37
***
والنظرية التعبريية للدولة التي يصدر عموم أصحاب املقاربة هذه عنها ،أعني اعتبار الدولة
مجرد "معبرِّ أمني" عن مجتمعات مع ّرف ٍة ثقافيا ،تؤدي إىل إسقاط األسايس يف مفهوم الدولة
وتوحد
الوطنية الحديثة .هذه ليست تعبريا .إنها تتدخل وتبادر ،تعلم وتريب وتط ّور وتنمي ِّ
رشع وتفرض وتراقب وتضبط و ...تقمع .إنها مولجة بتطور املجتمع و"تجانِس" وتح ِّدث وت ِّ
وتقدمه األخالقي واملادي.
حني يحشد التعبرييون كل قواهم للتنديد باألصولية وبالشعبوية ،ثم يغلبهم الهوى
النخبوي فيعمون عن مضمون عنرصي لعبارة "غالبية العدد" ،التي ال تتوسل غري "صناديق
االقرتاع" سلام لطغيانها ،ينسون االستنجاد بـ" ...الدولة" ،القوة املنظمة األكرث تأثريا دومنا
ريب يف مصري محكوميها ،واألكرث قوة وانتشارا ،والتي لطاملا أظهرت عزما هائال يف سحق
أية مقاومة تواجه سلطة نخبها القائدة؛ ينسون االستنجاد بها لوضع خطط وطنية وتطوير
36 36باملناسبة ،ليست ثقافة الدميوقراطية وعيا ذاتيا بعمليات الكفاح من أجل الدميوقراطية ومصاعبها
وانتكاساتها وتناقضاتها ،ليست شيئا متصال بتجارب الدميوقراطيني ،ينظر فيها وينتقدها ويكشف
حدودها ،لكنه يتعاطف معها أو يضع نفسه يف مستواها .هي موقف سلطوي متعامل منهم ،يتعاىل
عىل كفاحهم الذي يجهله باسم جهلهم هم ثقافة للدميوقراطية مصدرها تأمالت املعلم والكتب
الفرنسية التي قرأها .ال يورد مثاال واحدا ،مهام يكن جزئيا ،عىل صلة بحركات دميوقراطية عربية
واقعية .األرجح أن الرجل ال يعرف عنها شيئا .يطلق أحكاما عمومية وانطباعية شتى بال برهان،
ودون إحالة مرجعية واحدة .وبنربة تقريعية دوما.
3737الشاغل هذا حارض يف نقاش طرابييش ،م .ن ،ص .15من جهتي ومساجلة مع مجمل طرح طرابييش
أنحاز إىل نتائج "صناديق االقرتاع" أيا تكن (العراقية يف آذار 2010مثال) ضد صناديق رؤوس رؤساء
يفرضون بالقوة ما يرون ،وضد صناديق رؤوس نخبوية تجعل من سجل أهوائها "ثقافة دميوقراطية".
لكن ال يجب أن نكون مقيدين بهذين الخيارين .ما آخذه عىل طرابييش أنه ضد طغيان "غالبية
عدد" محتملة يسكت عىل طغيان واقعي محقق .مثل ذلك ينطبق عىل عزيز العظمة كام سرنى.
واملثري جدا أن املفكرين يربطان بني "صندوق االقرتاع" و"الدميوقراطية االستفتائية" وبني "طغيان
األكرثية" .يبدو أن الطغيان ال يتهددنا إال إذا حصلت انتخابات حرة يف بالدنا .وعليك أن تستنتج ملن
ينحاز كبار املفكرين من حرص خياراتنا بني طغيان فعيل معاش ،وبني دميوقراطية تامة النضج سوف
نبلغها يوما حني تكتمل مسرية العلامنية وتعم ثقافة الدميوقراطية ،ويقرأ األميون آخر كتب جورج
طرابييش (ليس أقدمها بحال).
28
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
سياسات تضعف فرص الطغيان امله ِّدد .أخمن أن لهذا النسيان منطقا .من جهة يريدون
الدولة نخبوية وامتيازية ،طاملا هذا عىل حساب خصومهم وأعدائهم ،وليس عىل حسابهم
هم؛ ومن جهة ثانية ،رمبا يدركون أن هناك القليل من الدولة يف "الدولة" ،وأن من شأن
االستنجاد بهذا القليل أن يفاقم ِق ّلته ،ويكشف انحيازا مخجال إىل طغيان فعيل.
دنيا الدين يف حارض العرب ،الطبعة الثانية ،دار الطليعة ،بريوت .2002 ،ص .58 -57أيضا ص .37 38 38
م .ن ،ص .53 3939
م .ن ،ص .54 4040
مقلصة إىل "خطاب" .حركات املعارضة الدميوقراطية غري موجودة ببساطة .معظم االقتباسات من 4141
مقالة بعنوان "املجتمع العريب وخطاب الدميقارطية ،يف كتاب :دنيا الدين...
دنيا الدين ،..ص 69 42 42
م .ن ،ص 66 4343
م .ن ،ص .79يف مكان آخر يقول العظمة إن نسبة من يقرتع لشعار "اإلسالم هو الحل" ال يتجاوز 4444
الثالثني باملائة تقريبا" ،مستندا يف ذلك إىل "نتائج االنتخابات التي اشرتكت فيها جامعات إسالمية"،
وإن مل يقل أين جرت ،ومتى .مقالته" :التباس الحداثة ورغبة الفوات" ،يف كتاب الحداثة والحداثة
العربية ،طبعة أوىل ،دار برتا ،دمشق .2005 ،ص .293هل من مسوغ إذن للخوف من "طغيان
األكرثية" (م .ن ،ص )299الذي مل يتكلم عليه العظمة وطرابييش إال يف سياق نقد "خطاب
الدميوقراطية" والتنديد بـ"صندوق االقرتاع" حرصا.
دنيا الدين ،...ص 79أيضا 4545
29
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
فقط ،وإمنا درجة من التجريد والتوحيد والتعميم ،46وكذلك الرت ّقي األخالقي (تعليم ،رفاهية
السكان ،املساواة بينهم .)...ليست الدولة أكرث تقدما من املجتمع ،إال ألن "التقدم" عنرصها
و"رسالتها"" ،هويتها" كدولة .بل برنامجها الورايث .قد تكون الدولة "تقدمية" أو "رجعية"
إيديولوجيا ،بيد أنها وكالة للتقدم يف كل حال .هناك بريوقراطية منظمة ،وهناك قوانني عامة
مبدئيا ،وأجهزة متثيلية ،ولو شكلية .هذا فوق أنها منفتحة عىل مجال دويل تدرك ،حتى حني
تكون ثورية ،منطقه الواقعي والعقالين ،وتتحمل حدا أدىن من املسؤولية حياله .الدولة هذه
بالفعل "متقدمة" عىل املجتمع ،املتناثر عموما ،و"الطبيعي" .ليس مثة سؤال هنا.
السؤال هو :عىل افرتاض أن كل ما قلناه للتو ُمح ّقق متاما ،والحال بالقطع ليست
كذلك ،هل "الدولة املتقدمة" هذه فاعل تقدم مجتمعي عام اليوم يف بلداننا؟ هل تطرح
عىل نفسها مهام توحيد وعقلنة وترقي املجتمع املحكوم بصورة نسقية وفعالة ،ولو عرب
تذليل ما يعاكس ذلك؟ هل تعمل عىل نهوض محكوميها األخالقي واملادي ،أم باألحرى
يناسبها انكفاؤهم وانفصالهم عن بعضهم وعن العامل؟ هل تجد لها مصلحة جوهرية مبحو
األمية؟ هل هي عامل "مجانسة ثقافية" كام يقول العظمة ،47أم باألحرى عامل استتباع
وتبعرث؟ هل يتعمق ويتسع االندماج الوطني يف ظلها أم يرتاجع أم يثبت عىل حاله؟ هل هي
"حاملة مسؤولية العمل التاريخي العريب وفاعلته ورافعته" حسب عبارة العظمة املفخمة48؟
وهل صحيح أنها "الضامن الوحيد الباقي المتناع الديار العربية عىل محاوالت قيادتها (كذا)
النكوص االجتامعي والثقايف ،بل والتاريخي ،إىل ما قبل الدولة الجمهورية الحديثة"49؟ ويف
املجمل ،هل تحوز الدولة طاقة تقدم كامنة مت ّكنها من تعميم التقدم عىل محكوميها؟ هل
يف سريتها التاريخية املحققة ما يسوغ الرهان عليها؟
يبدو يل من املثال السوري أن "الدولة" ليست عامل تقدم وطني عام ،ومل تكن منذ
أواسط سبعينات القرن العرشين عىل األقل .إنها منظمة أكرث من املجتمع ،متلك سلطات
كبرية وموارد كبرية ،وهي دومنا ريب الجهة األكرث تأثريا عىل أوضاع محكوميها جميعا،
لكنها تنزع ألن تكون دولة تعبريية وسلطانية أو "دولة استتباع" بتعبري العظمة .50يبدو
التبعرث االجتامعي والوطني أنسب لها من التامسك والتوحد .ولعلها من هذا الباب تقمع
30
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
التجارب االجتامعية والسياسية األكرث تقدما وعمال عىل تعزيز الثقة والتامسك الوطني.51
معلوم أنه لطاملا تعرضت التنظيامت السياسية واالجتامعية التي تتيح مستوى أرفع من
تعارف السوريني واختالطهم وتعاونهم مام هو متاح وطنيا حتى عىل مستوى نخبة السلطة،
تعرضت إىل قمع مدمر ،أفىض يف املحصلة إىل حرص خيارات السكان بني أطرهم "الطبيعية"
(أو األهلية) وبني التبعية ملنظامت حكومية مربمجة عىل "الوالء املطلق" .وليس لهذه
املنظامت أي دور مدين واستقاليل ،يضمن لها اختالفا عن األطر األهلية ،هذه التي تلقى،
باملقابل ،تسامحا عريضا ومتثيال رسميا (من وراء حجاب) ،مبا يبيح لنا القول إنها منظامت
سياسية ال توجد إال يف الدولة وبالدولة.
وعىل هذا النحو ،تشبه املنظامت الحكومية (تسمى "املنظامت الشعبية" يف سورية)
روابط أهلية قامئة عىل الوالء والتبعية الشخصية والخضوع ،بينام تربط التشكيالت األهلية
املوروثة حبالها بالدولة ،مبا يقيض بأن إعادة إنتاج أحداهام متر عرب إعادة إنتاج األخرى،
وليس عرب اضمحاللها .ال عالقة ٍ
تناف بني الدولة واألطر األهلية ،بل هي عالقة تفاعل معقدة،
مزيد من "الدولة" ال يعني بحال مزيدا من "مجتمع ال تنضبط مببدأ املحصلة الصفريةٌ .
الدولة" والقليل من املجتمع األهيل و"وحداته االستتباعية" ،بل الكثري من هذه والقليل
52
من ذاك.
هذا هو منوذج "الدولة السلطانية املحدثة".
نحن بعيدون جدا هنا عن دولة وطنية تصهر وتوحد ،تراقب وتعاقب ،تكافئ وتقمع.
ال يشء من "مجتمع الدولة" املكون من أفراد .ال يشء "يعقوبيا" أو جمهوريا أو "نابليونيا"
يف هذه الدولة.
رمبا يقال إن العظمة مل يكن يتكلم عىل سورية .بىل .الواقع أنه ال يتكلم عىل أي
بلد بعينه .لكن نظرياته ال تظهر حساسية تُذ َكر ألوضاع أي بلد عريب أيضا ،وال تساعد يف
فهم يشء من تطورات أي منها ،بل مل تنجح حتى يف إدماج ما صادف أن الحظته ("تحويل
العملية االنتخابية [الصحيح :االستفتائية املهرجانية القرسية] إىل بيعة جامعية يف جمهورية
عربية" )53ضمن مقوالتها .بعد هذه املالحظة ،كام قبلها ،يبقى كل اعرتاض عىل سياسات
51 51بل ويحصل أن متنح مقاوالت قمعية لبعض مواطنيها ضد بعض آخرين منهم .تنظر مقالتي
املبنية عىل تجربة شخصية" :عىل رشف حالة الطوارئ ،حفلة صيد للخونة بني قرص العدل وساحة
الشهداء" ،ملحق النهار الثقايف .2005/3/20 ،مقاوالت كهذه شائعة باملناسبة.
5252تعبري "الوحدات االستتباعية" للعظمة .كتابه :العلامنية ...ص .123
5353دنيا الدين ،..ص .92ال نستطيع اتهام العظمة بأنه غري مدرك ملا يقول حني يستطيع وصف
الدميوقراطية يف خطابها املتداول بأنها "دميوقراطية استفتائية" (ص )70بينام يجعل من "البيعة"
وتجديد الوالية القرسي لحكام مزمنني "عملية انتخابية".
31
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
"الدولة" وطغيانها "نبذا" 54للدولة بالذات ،وعالمة عىل "عدمية تجاه الدولة" .55هذا رغم أن
البيعة ولوازمها كانت مضخّ ًة هائلة للعالقات االستتباعية يف املجتمع السوري.
تبدو "دولة" العظمة كيانا واحدا متجانسا يفيض عقال ونظاما وتقدما ،وليست عالقة
اجتامعية أو تكوينا اجتامعيا تاريخيا مركبا .وال مييز يف أي مكان بينها وبني وظيفة السلطة
أو نخبتها أو طاقم الحكم ،وال يستخدم أبدا مدرك "النظام" .املعارضون هم "ضد الدولة"،
وليس ضد سياسات لها أو فريق حاكم أو "سلطة" أو "نظام"" .الخطاب الدميوقراطي"
املوصوف بأنه "طلسمي" مرة ،56و"شعبوي" 57مرة ،و"ساذج" 58دوما ،يبدو عدوانيا حيال
"الدولة" .وال يتفهم املؤلف "نقد الدميوقراطية غري الكاملة املتمثلة يف خطاب الدولة" إال
بقدر ما "يتضمن عنارص بناءة ،دون مواقف الرفض الكيل لالنفراج السيايس" .59أي انفراج؟
أين؟ متى؟ ومن رفضه؟ هذه أشياء ال يوفر ناقد "الخطاب الطلسمي" أية إجابات عنها .ما
أحىل الطالسم!
عىل أن العظمة محق ،يف ما نرى ،يف نقد فكرة "انفصام الدولة عن املجتمع" ،وما
يرتتب عليه من وجوب "إعادة لحمة التطابق بني االثنني من أجل درء اغرتاب الدولة عن
األصل املزعوم لها" .60غري أن تحمسه الدوغاميئ لـ"الدولة" مينعه من رؤية يشء آخر يف جملة
ظواهر "االستبداد" غري مجرد "انفصال" بنيوي ووظيفي" ،واقع أويل من وقائع سوسيولوجيا
السياسة" .61لكن هل نفهم شيئا من وضع الدولة العربية عامة ،أو أي دولة ،بإغراقها يف
عمومية كهذه ،ترشكها مع أية دولة أخرى يف العامل؟ هذا ليس فهام ،بل هو هوى نخبوي
32
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
***
لدينا "دولة" تتحىل بغريزة بقاء نامية جدا ،ال يكاد يحرض املجتمع املحكوم إال كركيزة حكم
ال بد منها من جهة ،وكمصدر أخطار محتملة يتعني التح ّرز منها وتوجيه رضبات استباقية
عشوائية ملظانِّها املحتملة من جهة أخرى.
هذا دون قول يشء عن تعايش "الدولة" مع تدهور التعليم ،ومع نشوء نظامي
تعليم :نخبوي راق ال يتعلم يف غريه أبناء الطاقم الحاكم ومحاسيبهم ،وآخر شعبي متدهور
ال يتاح غريه لعموم السكان ،وقبل ذلك عن تحزيب التعليم وربطه مبقتضيات أمن الحكم ال
بالتقدم الوطني .دون أن نقول شيئا أيضا عن لربلة جارية لالقتصاد ،ال نرتاب يف أنها وسيلة
لتمكني وترشيع سيطرة طبقة جديدة عىل االقتصاد الوطني ،دون وجود مؤرشات حاسمة
عىل انعكاسات تنموية عامة لهذه السياسات االقتصادية الجديدة.
ويبدو أن ما يقال عىل سورية ميكن أن يقال عىل غريها.
هذا كله ال تراه املقاربة التحديثية ،التي متيس مشكلة مضاعفة حني ُيجعل منها
عقيدة سياسية ،أعني حني يح ّول تحليل نظري مجادل فيه إىل سياسة عملية مبارشة ،تقرر
أن "التاريخ" بالذات ُي ْفتي برضورة الوقوف إىل جانب "الدولة" يف أية رصاعات اجتامعية
وسياسية عينية ،هنا أو هناك .هذا ما يقوم به العظمة دون تردد ،مستهديا بنظرية مفرطة
العمومية ،متنح الدولة (واملثقف) فاعلية اخرتاقية للمجتمع.63
وبينام جعلت املقاربة الدميوقراطية من تدخلية الدولة املرغوبة أمرا غري مريئ ،فإن
62 62يف حوار أجراه معه ،يالحظ عبد اإلله بلقزيز أن من شأن انحيازات العظمة السياسية املضادة
للدميوقراطية أن تجعل السياسة "إقطاعة يف يد نخبة خاصة تتوىل إدارة الحياة العامة ،وليست شأنا
عاما .وهذا خطري ،ومظهر لفشستة السياسة" ،فال ميلك العظمة إال التسليم بأن "هذا يعرب [فعال]
عن االستئثار بالسياسة من قبل نخبة معينة" ،هذا قبل أن مييض إىل قول يشء عن أن الدميوقراطية
"نتيجة رصاعات سياسية طويلة ،رصاعات أجيال" .والحال إن هذا ينقض توجهه النخبوي الفوقي،
وال يثبته .فألن الدميوقراطية مسألة رصاع سيايس مديد فال ينبغي تجميد هذه الرصاعات عىل يد
طغم أوليغارشية فاسدة .دنيا الدين ،...ص .209
6363العلامنية من منظور مختلف .ص .267الرجل إىل جانب العسكر الجزائريني ضد "الدميوقراطية
التوتاليتارية االستفتائية" التي قادت إىل فوز اإلسالميني ،ويزيك "فتح الباب للدميوقراطية عىل
الطريقة التونسية" (دنيا الدين ،...ص ،209ولسبب ما مل تلج الدميوقراطية بابها املفتوح يف تونس)،
ويقف مع الحكم السوري قبل 2000وبعده ضد أي معارضني .وكان باالشرتاك مع فيصل دراج كتب
عام 2001مقالة متك ِّلفة ُمتعاملة تس ِّفه "أنصار املجتمع املدين" يف سورية ،وتندد بعدوانهم عىل
الدولة التي يبدو يف املقالة أنها "تتداعى" وقد "تنهار" تحت وطأة هجامتهم ،وتدعو إىل "إيقاظ
السياسة" ،دون أن تقول كيف ،من نومها ،ودون أن يبذل كاتبا املقالة أي جهد إيقاظي آخر منذ
ذلك الوقت" .الحياة".2001/6/29 ،
33
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
املقاربة التحديثية تجعل أي قمع منفلت أمرا غري مريئ ،نوعاً من أثر جانبي لـ"اخرتاق"
محمود أو "واقع أويل من وقائع سوسيولوجيا السياسية" .هنا ال يكاد يكون هناك قمع ميكن
استنكاره ،وبالكاد تسمع شكوى خافتة من املبالغة فيه يف كتابات عزيز العظمة.
6464قد يبدو أننا ننتقد مثقفني سوريني عىل ما قالوه عن "الدولة العربية" .لكن إما أن سورية دولة
عربية ،وينبغي أن يصح ما يقولون عن الدولة العربية عليها ،أو أن الدولة العربية غري موجودة ،ما
يعني أنه يقولون كالما ال موضوع له.
34
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
حني ال يقرر معاقبة هذه املدينة أو تلك ،هذا القطاع من الرعايا أو ذاك ،فإنه يتيح حصصا
متثيلية تضمن للجميع أنصبة يف النفاذ إىل أروقة السلطة العليا .هذه بالطبع ليست متثيلية.
إنها متعالية ،ال تُسا َءل ،وليس سؤال تغيريها مطروحا وال لـ"دولتها" حدود زمنية أو قيود
قانونية .وهي وراثية عىل هذا املستوى العايل .فاالستمرارية ال تكفل إال عرب حكم ساليل،
ُي ْعيل رابطة الدم عىل روابط املواطنة .عىل أن "الب ْيعة" هنا تتكرر د ْور ًّيا ،وإن كان التكرار
طقسيا ومضمون النتيجة .هو يف الواقع ليس استقصاء وال حتى استفتاء ،بل مفصل زمني
لضخ القوة والشباب يف جسم النظام ،ومرسحة ملشهد الخضوع العام وتعميمه اجتامعيا.
عيد التجديد .يسمى يف سورية رصاحة "تجديد البيعة".
ولعل توريث السلطة املرجح يف عدة جمهوريات عربية ،وقيام سالالت حاكمة فيها،
يشري إىل انبعاث عام للسلطانية ،ويدفع إىل الظن بأن لألمر محددات اجتامعية ثقافية
عامة.65
ومثل الدولة السلطانية القدمية تخىش الدولة السلطانية املحدثة أكرث ما تخىش
"الفتنة" ،ما يسمى بلغة اليوم الحرب األهلية .وليست "الفتنة" عارضا قد يصيب الدولة
هذه ،بل هي قرينتها ،وجهها اآلخر .فهذه ذاتها "فتنة نامئة" ،يخىش أن تستيقظ .أو لنقل إن
"الدولة" ال تكف عن صنع "الفتنة" وعن ضبطها .لذلك ميكن لهذه أن تنفجر دوما إن خف
الضبط السلطاين لسبب ما .يف الوقت نفسه الخوف من الفتنة هو مصدر الرشعية األقوى
لهذه الدولة السلطانية املحدثة التي ال تكف عن صنع الرشوط املولدة للفتنة وعن تنوميها.
واألرجح أن من شأن زوالها املفاجئ أن يتسبب فعال يف استيقاظ فتنة واسعة .66ولعل األصل
يف ذلك أن السلم األهيل يف ظل الدولة السلطانية هو سلم أهيل فعال ،أعني مجرد انتفاء
سلبي للنزاع األهيل املتفجر دون مساس بالتكوين األهيل للمجتمع ،بل بتنمية الطابع
األهيل أو االستتباعي كام قلنا .ويغرينا يف هذا املقام أن نعرف الدولة السلطانية املحدثة
باحتكار الحرب األهلية أو الفتنة ،وبتوزيعها عىل العموم عند اللزوم.
ورمبا ميثل لبنان حالة طرفية للدولة السلطانية الفتقاره إىل مركز حكم ساليل قوي .إنه
دولة سلطانية محدثة دون مر كز سلطاين قادر عىل احتكار "الفتنة".
وعىل نحو ما ترعى الدولة السلطانية التقليدية فقهاء يح ِّذرون من الفتنة ،ويجعلونها
الرش املطلق الذي يتفوق سوءا عىل الظلم (ظلم يدوم وال فتنة تقوم) ،ترعى السلطانية
65 65وقد نالحظ أن الساللية ال تقترص عىل الحكام ،بل تتعداهم إىل أحزاب ومنظامت ،مبا فيها منظامت
ٌ
طليعية هنا أيضا .أورث املرحوم خالد بكداش حزبه شيوعية .سورية ،وهي أول جمهورية عربية،
الشيوعي لزوجته وصال ،ويعتقد أنها سوف تورثه لنجلهام عامر من بعدها .هذا ،ومعه التوريث
الكوري الشاميل والكويب ،يرجح أن األمر أوثق عالقة بتطلب السلطة الدامئة والتجميد القرسي
للمواقع واألدوار االجتامعية ،منه بأصول ثقافية ثابتة.
6666االجتامع السيايس السلطاين يربط بني "استيقاظ السياسة" الذي يرغب فيه عزيز العظمة وفيصل
دراج وبني استيقاظ الفتنة (هامش رقم ،)63فيجعل من "الفتنة" عيدا مرغوبا للسياسة.
35
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
املحدثة فقهاء تقليديني يشجعون مواقف التحمل والصرب (الصرب القدري عىل املكارِه،
وليس صرب املثابرة والدأب) ،وإيديولوجيني يعلون من شأن "االستقرار واالستمرار" ،ومثقفني
حديثني ينرشون مناخا ثقافيا متشامئا ،ويؤكدون أن البديل الوحيد عن األوضاع الحالية هو
النزاع األهيل أو حكم إسالمي مستبد .ال َبعد لهذين الرشّ ْين .فلنبق هنا!
ويف الواقع ،البنية السلطانية مغلقة أو تكاد ،فال مجال فيها لنشوء ثقافة تحرر
واستقالل .وهو ما يعني أن ال بديل تحرريا ناجزا يعقب السلطانية املحدثة .هناك فقط
اضطراب مفتوح و"استيقاظ للسياسة" عاصف ،و" ِفنتٌ" ،و"رصاعات سياسية طويلة" .تاريخ.
نقص وراء نقص.
عىل كل حال تحتاط السلطانية املحدثة للتغيري بكل السبل .ترفع مركز السلطة
املشخص فوق املرتبة البرشية ،تس ِّيجه بأهل الثقة ،تُف ِّرق يك تسود ،تقمع بقسوة متناهية.
اليشء الوحيد الذي ال تنجح يف ضبطه هو ذاته مصدر حداثتها املشوهة :الواقع العاملي
املتغري .لكن هذا الواقع ذاته متأزم اليوم عىل مستويني :من جهة هناك أزمة دميوقراطية
عاملية عىل مستوى الدول واملنظامت الدولية وتراجع للقيم التحررية والجمهورية
واملساواتية يف العامل ككل ،ومن جهة ثانية إن مركز املبادرات الفكرية والسياسية والقيمية
العاملية ،الغرب ،غري ودود حيال مجتمعاتنا ،فال يسهل التامهي به أو حتى االنجذاب إليه
إال لقطاعات ض ِّيقة منها .يف املحصلة ،ال نتوقع يف املدى املنظور تأثريا إيجابيا للديناميات
العاملية عىل بنى الدولة وعالقاتها مبحكوميها يف منطقتنا.
***
لكن ما أصل التحول السلطاين املحدث للدولة الوطنية الحديثة عندنا؟
لألمر صلة بال ريب بتعذر القطيعة مع السلطانية القدمية ،بنى اجتامعية وذهنية .
67
وزجتها يف
رجت بقوة مجتمعاتنا ّ وهنا كان دور الحداثة العاملية وال يزال متناقضا .فقد ّ
سياقات عاملية جديدة وكرست انتظاماتها املوروثة وأضعفت هيمنة تقاليد قدمية فيها،
لكنها يف الوقت نفسه أثارت ارتكاسات دفاعية فيها وجعلت من أسسها الثقافية والدينية
القدمية سندا ملواجهاتها الحديثة ا ُملتعسرِّ ة .ال يغيب عن بالنا أن "الغرب" الذي هو مركز
6767يرفض برهان غليون أية صلة بني استبداد الدولة التحديثية والدولة السلطانية التقليدية ويقرر
قطيعة ناجزة بينهام (املحنة العربية ،...ص ص ،)123 -114 ،35وينشغل كثريا بإعفاء الثقافة
وبلوم الدولة عن أوضاعنا الحارضة .والحال إن تطور الدولة السورية يف العقود األخرية ورمبا دول
عربية أخرى يشري إىل وفرة من التامثالت مع الدولة السلطانية ،األمر الذي يشكك يف قطيعة ناجزة.
من جهته ،جورج طرابييش يقر باالستبداد مع غليون ،لكنه ينكر القطيعة ،ويف دراسته "العلامنية
كإشكالية إسالمية -إسالمية" ينسب استمرارية تاريخية ال شعث فيها للتاريخ العريب متمحورا حول
"اإلسالم" و"الطائفية" (هرطقات 2ص ص 12و .)89أما العظمة فينفي االستبداد ذاته ،لكنه أقرب
إىل غليون يف فكرة القطيعة (دنيا الدين ،..ص .)57ونظريته حول العلامنية مبنية عليها.
36
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
الحداثة العاملية كان مستع ِمرا هنا ،قبل أن يرتك يف قلب العامل العريب هدية مسمومة ال
يكف عن رعايتها ،إرسائيل ،فوق نفور ثقايف متبادل وعريق ،وذاكرة مسمومة بدورها منذ
قرون .فوق أيضا أنه يف كل مرة تنامى حضور "الخارج" وتأثريه يف منطقتنا ،منذ القرن التاسع
عرش ،انعكس ذلك زالزل يف "دواخلها" االجتامعية وحضورا أكرب لألهيل والطائفي يف ثقافتها
وسياستها وسيكولوجيتها.
أوهن القوى والتطلعات األكرث انفتاحا عىل َ املفعول اإلجاميل لهذه العمليات
"الحداثة" ،وعزز من وزن القوى والبنى التقليدية .وهو أيضا ما أضعف فرص عملية إصالح
ديني مستدامة ،تحرر اإلميان الديني من سلطة أجهزة دينية متحكمة ،ورمبا تسهم يف
تش ّكل ذهنية عامة أكرث استقالال وفردانية .وهذا أعاق كذلك توسيع القاعدة االجتامعية
واإلنسانية لتفكري أكرث نقدية واستقاللية .هذا مع ما هو معلوم من أن مجتمعاتنا دخلت
يف ركود عميق طوال ستة قرون أو سبعة ،بني القرن الثاين عرش والقرن التاسع عرش .وأن
"اإلسالم" كان مبدأ تكامل وثبات ورشعية تقاليد متونها االجتامعية ونظم حياتها ،حتى حني
كانت هذه متعارضة مع مبادئه املعيارية .من جهة ال مناص من عملية إصالحية كربى تمَ ُّس
تشك ُله يف صيغ مث ِّبتة ("الرشيعة") ،ومن جهة تعمل دور الدين التثبيتي واملحافظ ،وكذلك ُّ
ظروف متعددة عىل إعاقة هذه العملية ،بل عىل رفع الطلب العام عىل الثبات.
كل ذلك أبقى الطريق سالكا لتج ّدد البنى السلطانية ،مع احتامل اعتبار التجدد
هذا مقاومة ومامنعة مرغوبتني يف ما وراء كون املامنعة واملقاومة عنوانني إيديولوجيني
لخيارات سياسية ظرفية ،هام البيئة النفسية والفكرية واالجتامعية األنسب النبعاث القيم
واملامرسات السلطانية واألبوية ،وإلضفاء قيمة إيجابية عىل هذا االنبعاث .وكذلك للجم
فرص االنشقاق والطليعية والتمرد الثقايف .ليس مصادفة أن تكون سورية مركز املامنعة
وطليعة انبعاث السلطانية.
وعىل هذا النحو أخذت مقاوماتنا الوطنية تقرتن بتغذية االمتثالية والخنوع الثقايف
واألخالقي واالجتامعي ،بينام أخذت أي مقاومة ثقافية وتجربة انشقاقية تبدو خيانة ومروقا
أو كفرا ،حني ال تستسلم هي ذاتها للنخبوية واالنعزال ا ُملرت ِّفع عن الجمهور العام .أما الجمع
بني مقاومات تحررية فعالة وحساسية نقدية وطليعية مجددة ودميوقراطية ،تقاوم األبوية
واملحافظة الثقافية واالجتامعية (يف وضع املرأة بخاصة) ،فقد أقيص إىل مجال املستحيل.
فإذا التقت هذه االستعدادات الثقافية واالجتامعية املوروثة مع تَط ّلب سلطة مطلقة
دامئة ،68تُنشِّ ط وتعيد هيكلة املوروث ذاته يف اتجاه سلطاين ،حصلنا عىل الدولة السلطانية
املحدثة .ويبدو أن البيئة العربية عموما توفر فرصا كبرية لهذا التالقي بني استعداد ثقايف
6868هذا مطلب برشي عام .عكسه يحتاج إىل تأهيل خاص أو "قطيعة".
37
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
ونزوع سلطوي .لذلك يبدو لنا أن السلطانية املحدثة عربية ،وليست سورية حرصا.69
ومن املثال السوري ،القابل للتعميم يف تقديري ،فإن الدولة السلطانية ليربالية
اجتامعيا ،وإن تكن ليرباليتها عرفية ،وهي حريصة جدا عىل ُح ْسن تساكن رعاياها ،وال
تقبل بحال هيمنة "إسالمية" عليهم .70الدولة السلطانية ليست إسالمية ،بل تعبريية" ،متثِّل"
املجتمع و"تعرب" عنه بأمانة ،لكن بالضبط ألنها تعمل عىل تشكيله يف صورة ساكنة ،تعبريية،
تج ِّمده يف صورة هويات متساكنة ومرتاصفة و"طبيعية" .ليس خطأ القول إن االستبداد
الحكومي نتاج "ثقافة مريضة" ،لكنه جزيئ ومغرض ،يهمل أن الثقافة هذه ليست طبيعة
منقوشة يف ِج ِبالتنا ،ليست "سجية" مجتمعاتنا عىل ما يقول بحق عزيز العظمة ،71أن الثقافة
هذه بالذات ُمتش ِّكلة تاريخيا ،وأن "االستبداد" مبثابة آلية تزكية وانتقاء وتثبيت لها ،من
مخزون حي تحتل فيه موقعا مميزا بحق .72هذا املوقع يسهل عىل االستبداد املعارص عمله،
لكنه ال يفرس هذا العمل ذاته ،وال الرهانات التي تُح ِّفزه ،وال ما يتمتع به من قدرة عىل
املبادرة ومن استقالل يف خياراته.
يف واقع األمر يجد املركز السلطاين ،املربمج عىل االستئثار بالسلطة كلها كل الزمن،
يجد نفسه مسوقا إىل تأليف قلوب النخب االجتامعية األكرث محافظة وتز َمتاً ،وإىل اعتبار
ال يبدو أن أي بلد عريب حقق قطيعة مكتملة وغري عكوس عن الذهنية والبنى السلطانية .يبدو أن 6969
تونس ،أكرثها تقدما ،تشهد إعداد زوج ابنة رئيسها املزمن خليفة لهذا .وحال مرص وليبيا معروف.
ورمبا اليمن.
لكنها ال تعمل كذلك إال من أجل رضب من "املجانسة" السلطانية لهم ،أعني أن يعرفوا أنفسهم 7070
جميعا بأصولهم وأنسابهم وهوياتهم املوروثة ،أو بانخراطهم يف وحدات استتباع محدثة .املواطنة
غري ممكنة ،ومتريناتها العابرة للروابط األهلية ترضب بقسوة .والحق السيايس الوحيد املعرتف به
هو والء الجميع للمركز السلطاين املشخص عىل نحو ما تعرب عنه "البيعات" الدورية.
العظمة ،دنيا الدين ،..ص .128 71 71
لهذا املخزون اسم شهري ،هو "اإلسالم" .ومن هذا الباب يتعني االشتباك مع "اإلسالم" بوصفه حامال 7272
ملورثات وذاكرة سلطانية ،ومن أجل تأهيل قيم وثقافة تحررية وإنسانية .ال نرى سبيال للرتبية
العامة واالرتقاء باملستوى الفكري والروحي للجمهور العريض يف بلداننا ال مير بالرصاع مع اإلسالم.
وال منهج لتغيري ما بأنفسنا ال يعمل عىل تغيريه .ولعل عرس ذلك هو ما يغذي تطلعات إىل تغيري
أنفسنا ذاتها ،واالنفصال املطلق والعدمي عن اإلسالم .هذا فضال عن أن تحررا فكريا وسياسيا يبلغ
عرب االشتباك مع اإلسالم ،ميثاقنا األكرب مع العامل ،هو تحرر عزيز ،ليس مثله أي تحرر آخر .وبينام
قد يكون صحيحا أن اإلسالميني املعارصين "جمهوريون" أكرث مام هم سلطانيني ،السلفيني الجهاديني
من أنصار "الحاكمية اإللهية" بخاصة أكرث من اإلخوان دعاة "تطبيق الرشيعة" ،فإننا نرجح أن تتطور
النزعة الجمهورية اإلسالمية بعد حني إىل دولة سلطانية محدثة ،ال تختلف عن السلطانيات القامئة
واملحتملة إال بغاللتها اإليديولوجية .ومن هذا املنطلق نتصور أن متام القطيعة مع السلطانية متر
عرب نقد "اإلسالم" والرصاع معه.
كيف ميكن خوض هذا الرصاع مع الحؤول دون تلوثه بالطائفية أو تسخريه ملصلحة بنى سلطانية
أخرى؟ مبا يف الرضب السلبي والسلطاين من العلامنية ،الذي يفضل استبدادا استئصاليا عازال
لإلسالميني عىل فتح امللف الديني السيايس كله؟
38
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
وجهائها املمثلني األكرث رشعية للجامعات املحلية واألهلية .هذا ألنه يخىش قدرتها عىل
التهييج والتحريض ضده ،ويطمع يف فاعليتهم االستتباعية .لكن نوعية أولويته (الخلود
يف السلطة) ،وليس تركيبا ما خالدا للمجتمع املحكوم ،هي ما يدفع هؤالء إىل الصدارة
متوسع من األتباع ،ضد متدينني أكرث انفتاحا
ويعظم تأثريهم ويت ّربع لهم بجمهور ِّ االجتامعية ّ
وتحررا واستقالال وتجردا .أن يخاطب الشيخ البوطي ،الذي ال صفة عامة له ،السوريني
طوال عقود من التلفزيون الحكومي ،وأن يمُ َنح عام 1991امتياز أن يعلن قبل الجميع قرب
اإلفراج عن ألوف من املعتقلني السياسيني (معظمهم إسالميون)؛ وأن يكون الشيخ عبد
الرحمن الكويك من املقربني ،73وأن يصدر تعميم حزيب بعثي يقول عن مجموعة إسالمية
متزمتة تتبع الشيخ عبد الهادي الباين" :هدف هذه الجامعة هو إقامة أمة إسالمية وليست
عربية ،وتؤمن بعدم تحرير املرأة وعدم مخالطتها للرجال وتقف ضد عملها وخروجها من
يرصح بأن "موقف الحزب منها ليس املنزل ،وتعترب وجود التلفزيون يف املنزل حراماًَ" ،ثم ِّ
سلبياً طاملا أنها بقيت يف مجال املعتقد الديني" ،74أقول ليس باألمر العارض أن تتمكن أشياء
كهذه وتتكاثر نظرياتها يف السنوات األخرية .إنها نابعة من األولوية العليا التي ترتبها "الدولة"
لنفسها وتفرضها كمقدس وطني .فإذا ُشفِعت برضب صيغ االنتظام املدنية واملستقلة ،ال
يبقى لنا غري الرتحم عىل دولة العظمة التنظيامتية وعىل مجتمعها املكون من أفراد.
ويف النهاية ،ليست النظرية التعبريية يف الدولة غري انعكاس إيديولوجي لواقع هذه
الدولة السلطانية .ومثل كل انعكاس إيديولوجي فهو جزيئ ومش ّوهُ ،ير ِّكز عىل الحصائل ال
عىل العمليات ،وعىل املاهيات ال عىل العالقات ،فوق أنه يقلب العالقة بني السبب والنتيجة،
ليبدو املايض سببا للحارض ،و"نسيج العقليات" سببا أوحد للخيارات السياسية.
وبالتأكيد مل يعد الزما القول إن هذه ليست دولة وطنية تحديثية ،وليس لديها برنامج
تحديث وطني من أي نوع .أوليتها الجوهرية ،صون ِم ْلكِها وتوريثه سالليا ،تحول دون بلورة
73 73اعتقل الكويك لبضعة شهور بني 2009و ،2010إثر ظهور له مل يكن األول يف برنامج "االتجاه
املعاكس" يف قناة "الجزيرة" ،فشل فيه يف الرد عىل مساجل مرصي ،أقذع يف مهاجمة الحكم
السوري .يف الحلقة عبرّ الكويك عن وجهات نظر دينية اجتامعية بالغة التزمت ،ترى مثال أن غري
املربقعات فاجرات .وقد سارع بعد اإلفراج عنه إىل إعالن "والء ووفاء" منه "لسيد الوطن وقائده
السيد الدكتور بشار األسد" ،وأنه "مع قيادته لهذا البلد ،ونهجه ،وأي كالم آخر ينقل عني يخالف
هذا الكالم فأنا بريء منه ،وال أساس له من الصحة" .جريدة "الوطن" السورية.2010/2/22 .
7474التعميم مؤرخ يف .2009/8/23وقد ترسب إىل نرشة "كلنا رشكاء" الواسعة االنتشار .ومن املؤسف
أن جميع من ع ّلقوا عليه ،وهم كرث ،شخّ صوا تواطؤا بعثيا مع "األصوليني" ،وساءهم أال يتعرض
هؤالء ملزيد من القمع ،بدل أن يتب ّينوا منطق الوثيقة البعثية التي ال تكتم أنها ال تهتم بجامعة
الباين طاملا هم ال يخرجون من نطاق املعتقد الديني .هذا يدل ،يف تصوري ،عىل تقدم حاسم
تحقق ملنطق التجزؤ السلطاين يف أوساط عموم املتعلمني واملثقفني .وال أرى سبيال ملواجهة مجتمع
الدولة السلطانية هذا ،املكون من أمثال جامعات الشيخ البوطي والكويك والباين ...وأحزاب "الجبهة
الوطنية التقدمية" ،يف غري سياق العمل عىل تحويل الدولة السلطانية إىل ...جمهورية أو دولة
مواطنني.
39
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
خالصة عامة
ميزنا بني ثالث أطروحات يف الدولة ملثقفني سوريني بارزين .واستندنا إىل كتابات لهم
يف مراحل النضج وما بعده .برهان غليون يرى الدولة استبدادية ،وجورج طرابييش يرى
استبداد الدولة محصلة الستبداد املجتمع ا ُملع ِّرف ثقافيا ،فيام ينكر عزيز العظمة استبداد
الدولة أو يضفي عليه صفة نسبية جدا عىل أساس تاريخاين .ال نفهم من تحليالت غليون
السوسيولوجية السياسية ملاذا الدولة استبدادية ،وال تساعدنا تحليالت طرابييش الثقافية
الكيفية عىل بلورة سياسات إصالحية أو مجرد تخ ّيلها ،وتُز ِّود تاريخانية العظمة الوالء غري
النقدي لـ"الدولة" االستبدادية بضمري مرتاح .نلحظ تقليصا الفتا للمناهج الثالثة (علم
االجتامع السيايس ،التحليل الثقايف ،التاريخانية) .نخ ّمن أن لـ "السياسة" وإكراهاتها وضغوطها
فضال فيه .مثة أيضا قدر مدهش من النضالية يف كتابات املفكرين الثالثة .ويتصل بالنضالية
ويؤسس لها نظرة ثنوية إىل مجتمعاتنا املعارصة ،تَر ُّدها "دولة" و"أمة" عند غليون ،وإىل
علامنية محمولة أساسا عىل الدولة وأصولية إسالمية ُمتش ّهية للسلطة تتبناها قوى نكوصية
ونافلة عند العظمة ،وإىل "حداثة" و"قدامة" مامثلتني لذاتيهام مختلفتني كليا عن بعضهام
عند طرابييش .وهذه النظرة تقوض منهجيا استقالل املثقفني وفرص قيام حركات سياسية
وثقافية ال تلتحق بأحد طريف االستقطاب .75بل تتامهى به مادام مفكرونا ،وبهوى مشبوب،
يجسدون الخري الخالص يف قطب والرش املحض يف القطب املقابل .ولعل النظرة نفسها تفرس
جانبا من أجواء التجزؤ والقطيعة املشتدة يف أوساط "االنتلجنسيا" السورية.
وعىل أرضية طرح غليون نفسه ،قد ننتقد مبالغته يف تسييس الدميوقراطية أو محورتها
املفرطة حول مسألة السلطة .لكن نقد طرابييش " ُيث ْقفِنها" (يفرس االستبداد بثقافة ،ويرشط
الدميوقراطية بثقافة أخرى) ،ونقد العظمة " ُي ْرتخِ نها" (ينزع صفتها السياسية باملرة ويدرجها
يف مخطط تاريخي كوين مجرد) ،فتبقى أوضاع الجمهور العام وأصواته ومطالبه واحتجاجاته
خارج التفكري .وعىل هذا النحو يضاف قيد نخبوي يغ ّيب الجمهور إىل قيدين سلطانيني،
التضييق عليه قمعيا ومتزيقه ملليا.
اقرتحت مفهوم "الدولة السلطانية املحدثة" الذي ()1 ُ واستنادا إىل الواقع السوري،
ينصف املقاربة الثقافوية :بىل ،حكامنا منا ،تولوا علينا ألننا نحن من نحن .لكنه يحاول
كشف جذورها االجتامعية والسياسية ،ويرفض نزوعها املحافظ والتربيري .يفتحها عىل
7575يسجل لغليون متايزا يف هذا الشأن ،يف نشاطه العميل عىل األقل ،املنفتح عىل أنشطة املثقفني
واملعارضني الدميوقراطيني السوريني .بني كبار املثقفني السوريني ،ينفرد العظمة وطرابييش بأنهام
مرضبان باملطلق عن املشاركة يف التوقيع عىل أي بيان يدعو إىل الحريات أو يتضامن مع معتقيل
رأي ،أو عريضة تدعو إىل إصالحات وطنية.
40
لاص جاحلا نيساي يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم
41
فكر سيايس
ثورة الجامهري!...
حسن خرض
1
نرشت جريدة "القدس العريب" اللندنية يف الثالثني من ترشين الثاين (نوفمرب) ،نقال عن وكالة
"رويرتز" لألنباء الخرب التايل:
"توفيت األمرية فريال ،ابنة امللك فاروق وامللكة فريدة ،أمس يف سويرسا عن 71عاماً.
ُولدت فريدة يف مدينة اإلسكندرية الساحلية يوم 17ترشين الثاين عام ،1938وغادرت مرص
مع والدها يوم 26متوز (يوليو) 1952بعد أيام من قيام الثورة ،التي أنهت حكم أرسة محمد
عيل ،وبعدها بعام حل الحكم الجمهوري محل الحكم املليك .وقالت لوتس عبد الكريم يف
بيان يف القاهرة إن فريال كانت تعاين من مرض الرسطان ،وانها كربى بنات امللك فاروق
األ ّول ،وانها التحقت يف الخمسينات بكلية السكرتاريا ،وعملت سكرترية ،ومد ّرسة لآللة
الكاتبة ،ثم تزوجت عام 1966من السويرسي جان بيري ،الذي مات عام ،1968وأنجبت منه
ابنتها الوحيدة ياسمني ،التي تعيش يف القاهرة ،وأن أمها استدعتها قبل وفاتها بأيام قليلة
لتودعها .وفريال آخر بنات امللك فاروق ،بعد وفاة شقيقتيها فوزية وفاديا ،وقال البيان إن
الجثامن سيصل إىل القاهرة غدا الثالثاء" .انتهى الخرب.
يف ذيل الخرب ع ّلق قارئ اسمه سعيد مبا ييل:
"تز ّوجت عام 1966من السويرسي جان بيري ،الذي مات عام ،1968وأنجبت منه
ابنتها الوحيدة ياسمني .هل هذا يعني أن األمرية املسلمة تز ّوجت من نرصاين ،وأنجبت منه،
أم أنها تنصرّ ت ،أم أنه أعلن إسالمه ،فهذا أضحى عندي أهم من خرب موتها".
كيف ُنفسرّ هذا التعليق؟
بداية ،نحن ال نعرف من هو سعيد ،ال نعرف اسم العائلة ،وقد يكون االسم األ ّول
صحيحا ،أو قناعا لشخص يختفي وراء االسم .ومع ذلك ،نعرف بأنه أحد الق ّراء الذين وجدوا
يف الخرب ما يستحق التعليق ،ونعرف بأنه عريب ومسلم ،ولكننا ال نعرف مهنته ،وال فئته
العمرية ،وال بلده ،وإن ك ّنا نعرف ،بطبيعة الحال ،بأنه يعيش يف أحد البلدان العربية ،أو
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
انتقل منها إىل بلدان الهجرة يف الغرب .وهذه املعرفة القامئة عىل تسليم مسبق باملجهولية
متنح سعيدا هذا صفة متثيلية أكرب .فهو العريب الذي يجيد القراءة والكتابة ،ويستخدم
اإلنرتنت ،ويجد من واجبه التعليق عىل أمور تتع ّلق بالشأن العام.
بيد أن التعليق الذي صاغه يف ذيل الخرب مي ّكننا من الحصول عىل معلومات إضافية
عن طبيعة ثقافته ،واهتامماته ،ورمبات ميوله السياسية .فلنفكر يف أشياء من نوع :أن موت
أمرية ال يعنيه من قريب أو بعيد ،وحقيقة أنها أنفقت حياتها يف املنفى ،واشتغلت سكرترية،
ومع ّلمة لآللة الكاتبة ،وهي مهنة ال تنسجم كثريا مع املصري املت ّوقع ألمرية رشقية ،ال تثري
لديه أدىن حس باملفارقة ،وال يحرضه موت زوجها بعد عامني من الزواج عىل التفكري يف
املصائر املأساوية لبني البرش .املهم يف نظره التدقيق يف أمر زواجها من نرصاين ،وما إذا كان
منسجام مع ضوابط الرشيعة أم ال.
من الواضح أن االسم األجنبي (جان بيري) قرع أكرث من جرس لإلنذار يف رأس سعيد،
ويبدو أن األجراس كانت قوية إىل حد مل يجد معه من وسيلة للخالص منها إال بالكتابة عنها.
ويف هذا السياق فإن سعيدا هذا بقدر ما طرح من أسئلة أقلقته ،أجاب أيضا عن أسئلة
يترصف باعتباره حارسا لألخالق ،ورقيبا عىل أفعال اآلخرين ،يحرص عىل تهم الباحث .فهو ّ
التدقيق يف مدى انسجامها مع ضوابط الرشيعة ،ويحرص ،بالقدر نفسه ،عىل تعميم هذا
الحرص ،أي إذاعته عىل املأل ،لتنبيه آخرين إىل ما قد يكون فاتهم عند قراءة الخرب.
عند الوصول بالتحليل إىل هذا الحد ميكن القول إن املعلومات التي قدمها سعيد عن
نفسه ،بقدر ما تُسهم يف إبراز الدالالت الثقافية والسياسية لصفته التمثيلية ،تسهم أيضا
يف التقليل من أهمية ما نجم عن غياب معلومات تخصه من نوع العمر ،والبلد ،واملستوى
التعليمي ،واالسم الحقيقي.
والدليل أن أغلب ما تنرشه الجرائد اليومية من تعليقات الق ّراء عىل صفحاتها
اإللكرتونية ،وما تفيض به املواقع اإللكرتونية ،وما يتناهى إىل األسامع من كالم "املواطنني"
العرب يف منابر الفضائيات املفتوحة للجمهور ،ال يختلف من حيث الجوهر عن الوظيفة
التي اختارها سعيد لنفسه ،أي مهنة الرقابة والحرص والحراسة ،برصف النظر عن طبيعة
الشأن املحروس .فاألمر س ّيان ،سواء تع ّلق بالدين أم السياسة ،وما ينجم عن هذه وتلك ما
ال يحىص من التداعيات األخالقية واأليديولوجية.
بهذا املعنى ،مل يعد سعيد مجهوال إىل حد كبري ،بل ميكن رسم صورة جانبية لحياته:
رمبا كان يف العقد الثالث من العمر ،ومرب ٌر الرتجيح أن نسبة الشباب يف العامل العريب تصل،
حسب بعض التقديرات إىل 60يف املئة من إجاميل س ّكان العامل العريب .وهذه الفئة هي
األكرث إقباال عىل عامل اإلنرتنت وتكنولوجيا االتصاالت .وهو قد يكون عاطال عن العمل ،ففي
العامل العريب يصل عدد العاطلني عن العمل إىل 21مليون نسمة ،أو رمبا يكون جزءا من
جيوش املوظفني الجرارة يف مختلف البلدان ،والتي متثل بدورها نوعا من البطالة ا ُملق ّنعة ،أو
رمبا كان جزءا من الفئات االجتامعية الجديدة ،التي نشأت عىل هامش اقتصاد الخدمات،
43
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
وال تنتمي إىل مهنة أو رشيحة اجتامعية ميكن تعريفها عىل نحو دقيق.
االحتامالت كثرية ،وميكن أن نضيف إليها حقيقة أنه يستطيع القراءة والكتابة .فهو
يقرأ جريدة يومية عىل اإلنرتنت ،ويعلق عىل ما جاء فيها من أخبار .وهذه ،يف الواقع ،ميزة
إضافية يف عامل يصل عدد األميني فيه إىل مئة مليون نسمة من إجاميل 328مليون نسمة من
العرب .وبالتايل قد يكون طالبا حصل عىل تعليم مت ّوسط ،ورمبا تخ ّرج من إحدى الجامعات،
يف عامل عريب تحتل جامعاته املرتبة الدنيا بني أفضل الجامعات يف العامل.
ويف السياق نفسه نفرتض أن سعيدا هذا يقيم ،أو سيقيم قريبا ،يف مدينة من املدن
العربية الكثرية .فقد بلغ عدد س ّكان املدن يف العامل العريب قبل عرش سنوات 53يف املئة من
إجاميل عدد الس ّكان ،و ُينتظر أن تصل النسبة إىل 61يف املئة بعد عرش سنوات.
وليك تتضح الصورة الجانبية لسعيد عىل نحو أفضل ،يصعب التغايض عن حقيقة أنه
يعيش يف عامل عريب ينقسم إىل أغنياء وفقراء ،حيث يتمركز األغنياء يف مناطق الخليج والجزيرة
العربية ،ونسبتهم تقل عن عرشة يف املئة من إجاميل عدد العرب ،بينام تعيش الغالبية
العظمى من العرب يف حوارض وصل فيها مرشوع بناء الدولة -األمة إىل طريق مسدودة.
ولهذا االنقسام أبعاد سياسية وثقافية بعيدة املدى .فمجتمعات األغنياء تقليدية
ومحافظة ،لكنها متلك من املال ما مي ّكنها من مامرسة نفوذ يتجاوز حجمها وأهميتها .لذلك،
سواء كان سعيد هذا مقيام يف معسكر األغنياء أم الفقراء ،فإن املهنة التي اختارها لنفسه
تنسجم إىل حد بعيد مع البضاعة األيديولوجية لألغنياء .وبقدر ما يتع ّلق األمر مبؤهالته
الثقافية فإن فيها ما يكفي لجعله مستهلكا جيدا ملنتجات املنابر اإلعالمية التي ميلكها
األغنياء ،وهي األوسع انتشارا واألكرث تأثريا يف عامل العرب اليوم.
ولكل ما تق ّدم دالالت مفزعة .فالتح ّوالت الدميوغرافية الهائلة التي تعيشها بلدان
الفقراء ،وانهيار الدور التقليدي للحوارض املدينية تحت وطأة أنظمة سلطانية ومملوكية
وعثامنية مستحدثة ،وصعود سعيد باعتباره ظاهرة اجتامعية وثقافية جديدة ،أمور من
شأنها إغالق أبواب املستقبل أمام العرب عىل امتداد هذا القرن خاصة إذا كان منوذج سعيد
رأس جليدها العائم.
2
ميكن ،اآلن ،التق ّدم خطوة إضافية ،أي االنتقال من محاولة رسم صورة جانبية لسعيد ،إىل
محاولة البحث عن تعريف لسعيد باعتباره ظاهرة جديدة .ويف هذا الصدد يبدو أورتيغا
غاسيت مرجعا شديد الغواية ،ليس ألنه استنبط تعريفا لظاهرة مشابهة عرفتها أوروبا يف
مطلع القرن العرشين وحسب ،ولكن ألنه فعل ذلك قبيل اندالع الحريق الكبري ،الذي التهم
أوروبا يف الحرب العاملية الثانية ،فكان شاهدا ونذيرا.
قبل الحرب العاملية الثانية بثامين سنوات نرش غاسيت كتابا صغريا بعنوان "ثورة
44
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
الجامهري" ،مالحظا أن املشكلة ال تكمن يف صعود "الجامهري" :فقد أصبح الصعود ممكنا
وتحسن األوضاع الصحية والتعليمية والرتفيهية والثقافية ّ بفضل الزيادة الدميوغرافية،
للغالبية العظمى من الناس ،وازدياد حجم ودور املدن ،وانهيار الحواجز الطبقية التقليدية
نتيجة صعود الطبقة الوسطى .املشكلة أن "الجامهري" تتك ّون من أفراد فقدوا احرتامهم
للمعرفة .ففي أزمنة مضت كان ُيفرتض بالعاملني يف السياسة والثقافة والفنون واآلداب أن
يكونوا أكفاء ،وأصحاب مؤهالت ،لكن هذه الفرضية مل تعد قامئة نتيجة ما تبديه "الجامهري"
الجديدة من افتتان خاص باملساواة ،وما تك ّنه من كراهية للتم ّيز ،ولكل ما هو فوق املت ّوسط.
بتعبري آخر :لقد فرغ املرسح من املمثلني ومل يبق سوى الكومبارس .والكلامت لغاسيت.
ويف محاولة منه لتعريف أصغر وحدة تتك ّون منها "الجامهري" ،نحت غاسيت تعبري
"رجل الكتلة" أو "الحشد" ،الذي اكتشف يف سياق تح ّوالت متسارعة مكانا ومكانة اجتامعيني
مل يتوفرا ألسالفه قبل عقود ،كام أصبح صاحب حقوق اجتامعية وسياسية مل يأبه كثريا ملا
ُبذل يف صياغتها من جهد باملعنى الفكري ،وتضحيات مادية ،يف عهود مضت .املهم أن "رجل
الكتلة" مدرك لقوته وحقوقه ومفتون بفكرة املساواة ،فال أحد أفهم أو أعلم من أحد.
ولعل شيئا شبيها بهذا يحدث يف عامل العرب اليوم ،يف ما ال يحىص من املنتديات،
وغرف الدردشة ،والصفحات اإللكرتونية ،ويف منابر الفضائيات املك ّرسة للجمهور .ويف هذا
الصدد يفسرّ يرسي فودة ،أحد النجوم السابقني يف فضائية "الجزيرة" القطرية رس نجاح
املحطة عىل النحو التايل" :من الناحية املهنية مل نُضف كثريا إىل عامل الصحافة التلفزيونية
عندما وضعنا مذيعا يف األستوديو ومعه ضيف أو اثنان .لكن الواقع العريب اكتسب الكثري
عندما أضيف إىل االستوديو عنرص آخر مل يعرفه من قبل ،ومل يكن يف حاجة إىل ميزانية،
وال إىل عبقرية :خط هاتف مفتوح ملن يريد أن يتك ّلم عىل الهواء أمام املاليني داخل بالده
وخارجها .لقد كان هذا ببساطة انقالبا يف واقع املواطن العريب".
ما مل يقله فودة أن الشخص الذي كان عىل الطرف اآلخر للخط الهاتفي املفتوح هو
سعيد ،الذي انقلب واقعه ،بالفعل ،عندما اكتشف أن الكالم يف السياسة أبسط مام ت ّوقع
قبل عرص الفضائيات واإلنرتنت .فهو ال يحتاج ،من ناحية عملية ،إىل ثروة لغوية استثنائية،
الترصف عىل سجيته ،خاص ًةأو إىل ذخرية معرفية ،أو حتى إىل كفاءة عقلية ،وما عليه سوى ّ
وقد أصبح محط اهتامم كبري يف زمن االحتكام إىل صناديق االقرتاع ،والتنافس بني النخب
الحاكمة واملعارضة عىل الرشعية والتمثيل ،ومع هذا وقبله نتيجة رفع تعبري "الجامهري" إىل
مرتبة املق ّدس تقريباً يف عهود مضت ،عهود الكفاح ضد الكولونيالية وبناء الدولة القومية
الحديثة يف الحوارض العربية.
ويف هذه القداسة ،بالذات ـ وهي بال قيمة يف نظر األصوليات الدينية ألنها تستمد
رشعية وجودها من الحق اإللهي ـ ما يلقي بالغشاوة عىل أبصار وأذهان ما ال يحىص من
القوميني واليساريني العرب ،الذين يستمدون منها مربر تأييدهم لحركات تتبنى أيديولوجيات
رجعية متثل يف الجوهر نفياً لكل ما يعتنقونه من أفكار (إن كانوا صادقني) ،أو توفر للعاطلني
45
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
عن العمل منهم منابر مجانية وقضايا مت ّوهمة تضمن وجودهم يف املشهد السيايس والثقايف
العام .ويف الحالتني تسهم القداسة يف تسهيل وتسويغ عملية الفصل بني السياسة ومضمونها
االجتامعي ،وبالتايل تُختزل مشاكل املجتمعات العربية ،وخصوصية تط ّورها ،يف رصاع مع
عدو يف الخارج ،ورصاع ضد عدو ينارصه أو يخضع لرشوطه يف الداخل.
مع ذلك ،ورغم أن سعيدا هذا يكتسب املزيد من الثقة بالنفس كلام سمع أو قرأ
كالما إيجابيا عنه يطلقه أشخاص يفوقونه معرفة ومؤهالت ،إال أنه ال يثق بهم .فهم من
طينة غري طينته ،ويعبرّ ون عن األفكار البسيطة التي يؤمن بها بطريقة معقدة ،لذلك تُنتج
ظاهرة سعيد مثقفها "العضوي" الخاص .مبعنى آخر ينتج "رجل الكتلة" مثقفا عىل صورته،
يتك ّلم لغته ،ويتبنى قيمه .وعىل هذه الخلفية ،بالتحديد ،ميكن فهم وتحليل ظاهرة الدعوة
والدعاة املتلفزة ،والربامج الحوارية التي تشبه عراك الديكة ،ونجوم التعليق عىل الشأن
العام يف الفضائيات .عموما ،ميكن فهم وتحليل الداللة السياسية والثقافية للعالقة بني
ظاهرة سعيد والتلفزيون بطريقة جديدة.
3
مل يعش لينني يف زمن الفضائيات ،ولو حكمت عليه األقدار بالعودة إىل الحياة ،ملا ف ّكر يف
الجريدة باعتبارها منفاخ الحدادة الهائل ،بل بفضائية تُشعل لهيب الثورة يف كل مكان.
ميكن للتدليل عىل هذا الرأي االستعانة بفكرة شائعة ملارشال مكلوهن حول العالقة الوثيقة
بني التغيرّ ات االجتامعية ،ونشوء تكنولوجيا وتقنيات جديدة .الثورات البورجوازية الكربى،
التي انتقلت من مكان إىل آخر يف أوروبا القرن التاسع عرش ،أصبحت ممكنة بفضل ظهور
القطارات كواسطة لنقل البرش والبضائع واألفكار .ويف السياق نفسه ربط بندكت أندرسون
بني ظهور الطباعة وصعود القوميات كظاهرة جديدة يف التاريخ.
وبقدر ما يتع ّلق األمر بسعيد ،مثة عالقة أكيدة بني صعوده كظاهرة اجتامعية ذات
مضامني سياسية وثقافية بعيدة املدى وبني تكنولوجيا االتصاالت والثورة يف وسائل وتقنيات
اإلعالم .التكنولوجيا وثورة وسائل اإلعالم واالتصال مل تخلق ظاهرة سعيد .للظاهرة أبعاد
دميوغرافية وسياسية وثقافية أعمق وأعرض بطبيعة الحال .لكنها أسهمت يف تعميمها،
وأضفت عليها ق ّوة إضافية ،إذ تصادف وقوع التح ّوالت الدميوغرافية واالجتامعية الكربى مع
تق ّدم التكنولوجيا وثورة وسائل وتقنيات اإلعالم.
ولو فكر شخص ما بكتابة التاريخ السيايس للعامل العريب يف النصف الثاين من القرن
العرشين ،استنادا إىل فكرة مكلوهن ،سيجد نفسه أمام دالالت يصعب تجاوزها ،أو
التغايض عنها.
يصعب ،مث ًال ،تجاهل العالقة بني آالت الطباعة ،وبشكل خاص آلة الستناسل الرخيصة،
وصعود الحركات اليسارية والقومية الراديكالية يف العامل العريب .وإذا عدنا إىل املذكرات
46
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
الشخصية لعرب انخرطوا يف تلك الحركات إىل ما قبل عقود قليلة مضت ،سنجد أن إنشاء،
أو إخفاء ،أو تشغيل مطبعة الحزب ،أو تعرضها للـمصادرة عىل يد أجهزة الدولة األمنية،
يشكل ذلك الجزء من سرية الحزب الذي ال ميكن االستغناء عنه يف جميع األحوال لدى كتابة
سرية أمينة وصادقة.
ورغم أن أجهزة الراديو تبدو يف الوقت الحارض ضحية منوذجية لـمنطق النشوء
واالرتقاء ،إذا ما قورنت بالفضائيات ،واإلنرتنت ،إال أنها عاشت أزمنة ذهبية ،ومارست نفوذاً
يتجاوز من حيث الحجم واألهمية ،والقدرة عىل تجاوز الرقابة ،الـمطابع والـمطبوعات
الرسية منها والعلنية.
فلن يتمكن أحد ،مث ًال ،من تفسري النفوذ الكبري للنارصية ،خارج حدود مرص ،يف
الستينات ،دون الكالم عن "صوت العرب" ،اسم العلـم ،الذي ال يحتاج إىل رشح يف منت
األدب السيايس العريب وهوامشه ،والذي لـم يكن ممكناً دون ت ّوفر وانتشار الرتانزستور عىل
نطاق واسع يف تلك الفرتة .وال شك يف أن أعداداً كبرية من العرب الذين بلغوا سن الرشد ،يف
عقدي الخمسينات والستينات ،وانخرطوا يف الـمعارضة ،تعرضوا لـمؤثرات راديكالية قوية
عن طريق موجات األثري القادمة من القاهرة.
ومع تق ّدم التكنولوجيا إىل حد يسمح بحفظ ،ونسخ ،وتداول ،الـمواد السمعية من
جانب األفراد ،خاصة مع ظهور أرشطة للتسجيل صغرية الحجم ،ورخيصة الثمن ،تقدمت
التعبئة عن طريق األذن خطوة هائلة إىل األمام ،إذ أصبح باإلمكان للـم ّرة األوىل يف التاريخ
مامرسة الدعاية عن بعد ،يف مأمن من أجهزة الدولة الرقابية والقمعية ،وإيصالها إىل أوسع
عدد ممكن من الناس ،يف الـمدن ،واألرياف ،ويف أوساط أعداد ال حرص منها من األميني،
الذين كان من الصعب الوصول إليهم من قبل.
وقد اقرتن اسم أحد أهم الثورات يف الربع األخري من القرن العرشين ،أي الثورة
اإليرانية ،باألرشطة الـمهربة ،التي مت ّكن آية الله الخميني بفضلها من تعبئة أعداد كبرية عن
بعد ،من منفاه العراقي ،والحقاً الفرنيس ،قبل العودة ظافراً إىل طهران.
مل تكن التجربة اإليرانية األوىل يف هذا املضامر ،لكنها مارست نفوذاً كبرياً عىل الخاليا
األصولية الناشئة حديثاً ،يف العامل العريب ،وبدعم مبارش من بعض األنظمة القامئة ،كام حدث
يف مرص .وعىل مدار عقدين نجحت أرشطة التسجيل الصغرية يف ابتكار أنواع جديدة من
الدعاية والدعاة ،ألنها أقل تطلباً من الكتابة التي تشرتط قدراً من التمكن من فنون الكتابة،
ومن الـمعارف الدينية .ويف هذا السياق ظهر دعاة أنصاف متعلـمني ،لكنهم أصحاب
مهارات تحريضية عالية ،وظهرت دعاية بدائية ومتقشفة ،لكنها سهلة االستيعاب والهضم
من جانب املستهلكني.
مثة سامت ميكن الكالم عنها للتدليل عىل وجود عالقة بني أداة التحريض ،ونوعية
جمهورها من ناحية ،وأشكالها التنظيمية املحتملة من ناحية ثانية .فجريدة الحزب ،وما
يدخل يف حكمها ،كانت تقتيض معرفة بالقراءة والكتابة من جانب الـمستهلكني ،أو وجود
47
ضخ نسح ..ريهامجلا ةروث
متعلـمني (وقد اتسم هذا الدور برومانسية خاصة) ميارسون دور الوسيط ،لنقل وتفسري ،ويف
أحيان كثرية ،تبسيط مضمونها لآلخرين .وهذا ،بالتايل ،أضفى نوعاً من النخبوية عىل نشاط
األحزاب والحركات القومية منها واليسارية ،وحرصها يف مناطق مدينية وشبه مدينية يف
أغلب األحيان .حتى التعبئة عن طريق الراديو كانت محكومة بضوابط كثرية منها السيطرة
الـمركزية لجهاز الدولة ،واملعايري املهنية للبريوقراطية.
أما أرشطة التسجيل ،فلـم تكن تحتاج إىل وسيط ،بل كانت تستطيع الوصول إىل فئات
مختلفة من الناس ،ومناطق نائية ،فتمكنت من خلق جبهة واسعة من املستهلكني ،ال تتسم
تجلياتها التنظيمية بالنخبوية ،وال تتمركز حلقاتها األساسية ،بالرضورة ،يف املدن.
وقد ورث التلفزيون جهاز الراديو ورشيط التسجيل معا ،وأضاف إليهام الصورة ،فأصبح
األداء ،أي التمثيل ،جزءا من الرسالة .ويف حني فقدت مهارات مثل القراءة والكتابة مكانتها،
ازدادت أهمية العني ،أي تعزز مبدأ الفرجة ،كام اختفى من املشهد دور الوسيط املبارش،
القادر عىل تفسري وتحليل مضمون الرسالة ،وأصبح التلقي واالستيعاب شأنا فرديا يصعب
قياسه أو التحقق من جدواه .ويف سياق فوىض القياس واملرجعيات،مل يعد سعيد مستهلكا بل
أصبح رشيكا ،وقد متلكه إحساس بأنه ال يتف ّرج عىل األخبار بل يسهم يف صناعتها.
اإلحساس باملشاركة يف صنع األخبار ليس جديدا يف التاريخ اإلنساين ،لكن مبدأ
التمثيل والفرجة جديد .وإذا اجتمع هذا مع اكتشاف مفاجئ ملكان ومكانة اجتامعيني،
ومع حقوق ال يهم كيف ومن أين أتت ،ومع مرتبة تتاخم حد القداسة ،ومع إحساس مطلق
بالصواب ،وكراهية تكاد تكون عضوية للتف ّوق ،وإرصار عىل املساواة ،تكون ظاهرة سعيد قد
اكتملت ،ومعها تكتمل ثورة الجامهري العربية .وما ينجم عن انتصار الثورة من نتائج كارثية
ال يستدعي التكهن بالغيب ،بل التحديق يف مالمح سعيد عىل الشاشة ،وتأمل بالغة األداء
والفرجة لديه ،وقراءة ما يكتب ،إذا كتب.
48
أصول ّيات
تُعترب تجربة صالح رسية أحد املؤرشات املبكرة جداً إىل قابلية الشتات لنقل الضائقة
الفلسطينية اىل ما يتعداها من معانٍ وأفعال ،وذلك عرب نفيها بصفتها ضائقة وطنية ثم
اإلمعان يف هذا النفي اىل حد تجاوزها وتهميشها يف سياق استبدالها بضائقة "أممية" يشكل
اإلسالم جوهرها .ففي مراجعة رسيعة لـ"رسالة اإلميان" التي كتبها صالح رسية والتي تعترب
مانيفستو الجامعة التي تزعمها يف مرص ،تبدو فلسطني هامشاً ضيقاً وتكاد ال تذكر يف سياق
السعي لالنقالب عىل األنظمة "الكافرة" وتحديد وجهات عمل املسلم يف الدول التي ال تعترب
اإلسالم دستور عملها وفيصل أحكامها.
كتب رسية "رسالة اإلميان" يف ،1973وظهرت يف الرسالة منذ ذلك الوقت بذور "سلفية
جهادية" غري متبلورة ،ال موضوعة وطنية لها ،وال هموم متصلة بشكل الدولة الحديثة.
فلسطني نفسها بصفتها أرضاً محتلة ،كانت عىل هامش جوهر قضية "رسالة اإلميان" املتمثلة
بتغيري األنظمة العربية ،عىل ان تكون البداية من مرص ،أكرب دولة "إسالمية" يف ذلك الوقت.
عل ًام ان رسية وقع البيان الذي كان من املفرتض ان ُيذاع يف حال نجاح الهجوم عىل "الفنية
العسكرية" يف القاهرة باسم "أمري البالد صالح رسية".
تبدو املؤرشات السابقة عىل النزوح يف حياة صالح رسية ضعيفة التأثري يف سريته
"الجهادية" ،وهو ما يشرتك فيه مع كثريين غريه من شيوخ "الجهاد" الذين ولدوا يف فلسطني
قبل النكبة مثل عبدالله عزام .فبينام غذت إخوانية األخري وقطبيته يف املرحلة الشتاتية
ميوله "الجهادية" التي مل تكن فلسطني موضوعها الوحيد ،يبدو ان رسية ارتبط يف بداياته
بحزب التحرير اإلسالمي الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاين يف القدس يف ،1950ورمبا
كان ذلك سبب سبقه أصحاب امليول اإلخوانية اىل "الجهاد" .فحزب التحرير ،وان مل يكن
"سلفياً" ،فإنه "جهادي" وتضم أدبياته دعوات مبارشة إىل قلب األنظمة و"إقامة الخالفة"،
بينام يتوسط بني "الجهاد" وبني العمل الدعوي يف السرية اإلخوانية تراث من العالقة غري
الصدامية مع الدول واألنظمة.
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
ولد صالح رسية يف قرية إجزم يف قضاء حيفا سنة ،1937ونُقل يف 1948مع عائلته
من قبل الجيش العراقي ،الذي كان ُيقاتل يف حينها ضمن "جيش اإلنقاذ" ،اىل بغداد التي
نشأ فيها ودرس وعمل ،اىل ان انتقل اىل جامعة عني شمس يف القاهرة أواخر ستينات القرن
الفائت ونال شهادة الدكتوراه يف الرتبية وكانت رسالته عن تعليم العرب يف إرسائيل.
ميت رسية بعالقة قرابة بعيدة اىل مؤسس حزب التحرير اإلسالمي تقي الدين النبهاين،
وهو أمر له تأثري يف البيئة الفلسطينية ،اذ لطاملا شكلت القرابات مصدراً للتأثري املبارش أو غري
املبارش .وإذا كان "السلفيون الجهاديون" الجدد الذين يعتربون رسية واحداً من بواكريهم
مييلون اىل نفي أو اىل التخفيف من أهمية عالقته األوىل بحزب التحرير بسبب الخصومة
الشديدة بينهم وبني هذه الجامعة "املرجئة" ،فإن وقائع ومعلومات أخرى تؤكدها ،منها
ما أعلنته األجهزة األمنية املرصية أثناء تقصيها شخصية الرجل يف أعقاب محاولته االنقالبية
يف .1974
يف السنوات القليلة التي سبقت تشكيله جامعة "الفنية العسكرية" ،من الواضح
ان رسية مل تكن تربطه عالقة بحزب التحرير ،ال بل ان مثة مؤرشات اىل عالقته باإلخوان
املسلمني املرصيني ثم الحقاً بجامعات "الجهاد" األخرى .لكن هذا ال ينفي عىل اإلطالق
صدور رسية من "تحريرية" بقيت مالزمة نشاطه وطبعت خطوته األخرية بطابعها .فتقنية
اإلنقالب العسكري من خالل اإلمساك بالجيش هي واحدة من ركائز دعوات حزب التحرير
العمالنية يف "جهاد األنظمة" .ثم ان حزب التحرير ،الذي تأسس يف القدس بعد عامني فقط
من النكبة ،مثّل التجليّ الفلسطيني األول لفكرة "الجهاد العاملي" بصفته بدي ًال للجهاد يف
سبيل األوطان ،وهذه فكرة تحايك من دون شك أمزجة شيوخ "الجهاد" السلفيني ،وان مل
تحاكهم أفكار أخرى حملها الحزب .وأن يبقى من "تحريرية" رسية مزاج "الجهاد غري
الوطني" مستبعداً ما هو غري سلفي يف وعيه هذا ،فإن األمر يبدو ممكناً ال بل مرجحاً.
رمبا مثل صالح رسية منوذجاً أوضح من غريه عىل اضطراب العالقة بني الناشطني
الفلسطينيني يف شتاتهم وبني املجتمعات واألنظمة التي حلوا فيها .ففي العراق كان طالباً
متفوقاً منعته فلسطينيته من الدخول اىل الجامعة فلجأ اىل زعيم جامعة اإلخوان املسلمني
العراقيني محمد الصواف الذي كان يرأس "جمعية إنقاذ فلسطني" فأدخله األخري اىل كلية
الرشيعة يف بغداد .ويبدو ان تلك الفرتة (أوائل خمسينات القرن الفائت) شهدت "تضييقاً"
عىل النشاط السيايس للفلسطينيني يف بغداد ،ويبدو ان اإلخوان املسلمني العراقيني كانوا
وسيطاً يف العالقة بني الدولة والفلسطينيني .ويؤكد رسية يف اعرتافاته لألمن املرصي انه انتمى
إىل جامعة اإلخوان يف العراق ،ال بل أشار اىل انه صار عضواً يف هيئتها التنفيذية.
لكن سرية رسية اإلخوانية يف العراق شهدت تقلبات غري منسجمة مع ما تفرتضه
السرية الحزبية ،فهو تجاوز اإلخوان وأسس جامعة فلسطينية أطلق عليها اسم "جبهة
التحرير الفلسطينية" ،لكنه يف الوقت نفسه مل يرتك نشاطه اإلخواين ،اذ أبقى عىل عالقة
أكيدة مع قيادتها ،واختار من بني القيادات من ميتون بصالت ما اىل املؤسسة العسكرية
50
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
العراقية يف حينه .ويف الوقت الذي تشري معلومات اىل عالقة ما مع عبد الكريم قاسم قبل
انقالب األخري عىل الحكم املليك يف ،1958ينفي هو هذه املعلومات ،ويؤكد انه كان يسعى
يف حينه إىل انقالب عسكري تتوىل فيه جامعة اإلخوان قيادة البالد وليس قاسم.
من الواضح أن اإلخوان املسلمني كانوا قناة رئيسية الستيعاب الناشطني الفلسطينيني
يف املجتمعات التي استقبلتهم يف أعقاب النكبة.
لكن من الواضح أيضاً ان اإلخوان مل يلبوا ما تطلبه هؤالء من صدام مع األنظمة،
فراحوا يعملون عىل ضفاف التنظيم ويف هوامشه األمنية والدينية يف مشاريع تلتقي أحياناً
مع املزاج اإلخواين لكنها غري منسجمة مع ميول قيادة اإلخوان يف عالقتها الهادئة مع األنظمة.
فاإلخوان ،سواء يف األردن أم مرص أم العراق ،كانوا الحركة التي أتاحت لغري مواطني هذه
الدول االنخراط يف العمل السيايس والدعوي ،بصفتهم جزءاً من "أمة املسلمني" .ويف الوقت
نفسه تصدى اإلخوان ملوضوعات "وطنية" وصلت يف بعض األحيان اىل حدود االنقالبات
العسكرية ،وهو أمر عرض هذه الدول لطموحات "غري وطنية" بفعل اشرتاك ناشطني من
غري مواطنيها يف هذه األنشطة .ورسية ،سواء يف نشاطه السيايس يف العراق أم يف مرص ،مثّل
ذروة هذه العالقة .فهو يف العراق تحالف مع أطراف يف مواجهة أطراف أخرى ،وكانت لذلك
نتائج دموية ،ويف مرص كانت عملية الفنية العسكرية باكورة النشاط املسلح للجامعات
اإلسالمية املرصية.
ربطت صالح رسية يف مرحلته العراقية عالقة بعبد السالم عارف قبل ان ينقلب األخري
عىل عبد الكريم قاسم ويصبح رئيساً للعراق يف .1963كان رسية قد تعرف اىل عارف يف
1956حني كان األخري مقرباً من جامعة اإلخوان املسلمني يف العراق.
ويف هذه املرحلة ظهر تأثري رسية الواضح يف جامعة اإلخوان عىل رغم صغر سنه.
فهو توىل االتصال مجدداً بعارف الذي كان ابتعد عن الجامعة ،بعد ان شعرت األخرية
بالحاجة اليه يف سياق اشرتاكها مع قاسم يف عملية التحضري لالنقالب العسكري .لكن رسية
عاد واختلف مع اإلخوان العتقاده بأن من املفرتض ان يتولوا وحدهم عملية االنقالب ال
ان يكونوا تحت قيادة "العلامين عبد الكريم قاسم" .وبعد حصول االنقالب ونجاحه ،وكان
ممثل اإلخوان يف "مجلس قيادة الثورة" الرائد محمد فرج ،توجه رسية اىل وزارة الدفاع
وقابل فرج وأبلغه احتجاجه ،فرد األخري بأن اإلخوان بصدد التحضري لالنقالب عىل قاسم
واستالم السلطة .لكن يبدو أن الخرب وصل لقاسم الذي نظم حملة اعتقاالت واسعة لجامعة
اإلخوان نجا منها صالح رسية ألسباب غري معروفة ،ثم ما لبث ان بارش يف تأسيس "جبهة
التحرير الفلسطينية".
ً
"جبهة التحرير الفلسطينية" (وهي غري الجبهة التي ُعرفت الحقا بهذا االسم وترأسها
أبو العباس) كانت االختبار األول لرسية يف العمل املسلح ،فقد بارش ناشطو هذه الجامعة
يف العراق استهداف اليهود العراقيني ومصالحهم يف بغداد .ويقول رسية يف اعرتافاته لألمن
املرصي" :ارتأيت أنا ان نسطو عىل يهود العراق لالستيالء عىل أموالهم ونستعني بها يف
51
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
تنظيمنا ،وكانت أخطر حادثة يف هذا الصدد ،من بني ما قمنا به من عمليات سطو عديدة
عىل اليهود ،حادثة السطو عىل رشكة يهودية يف حي البنوك يف بغداد جرى فيها إطالق
الرصاص بني رجالنا واليهود وقبض عىل شخص واحد من أفراد الجبهة ...وهذه القضية
أعجبت مفتي فلسطني أمني الحسيني وهو قبل هذه الحادثة كان يرفض متويل الجبهة
وبعدها أبدى استعداده للتمويل".
أعتقل رسية يف العراق يف 1963يف عهد صديقه السابق عبد السالم عارف وبقي أقل
من سنة يف السجن .وبعد اإلفراج عنه التقى بيارس عرفات الذي جاء اىل بغداد عارضاً عليه
ضم جامعته اىل حركة فتح .وقبل رسية العرض وصار عضواً يف املجلس الوطني الفلسطيني.
ويف هذا الوقت ورد اسمه يف التحقيق بإحدى املحاوالت االنقالبية يف األردن .وبالتزامن مع
ذلك بات قلقاً عىل وضعه يف العراق بعد انقالب البعث يف ،1968اذ قام أحمد حسن البكر
يف حينه بإعدام عدد من ضباط اإلخوان املسلمني الذين مل ُيشارك قسم منهم يف االنقالب.
غادر رسية اىل سورية لحضور اجتامع املجلس الوطني الفلسطيني ،ومنها اىل القاهرة
بهدف متابعة دراسته يف جامعة عني شمس ،حيث ستبدأ مرحلته املرصية التي افتتحها
بزيارة زينب الغزايل ،وهي من وجوه جامعة اإلخوان املسلمني املرصيني.
يف الحقبة العراقية غلب عىل نشاط رسية الدعوي واألمني البعد العميل منزوعاً منه
عمقه الديني ،فإخوانية الرجل مل تحل دون تأسيسه حزباً "فلسطينياً" مستق ًال ،كام مل تحل
دون قبوله عضوية املجلس الوطني الفلسطيني الذي مل يكن اإلخوان ،حتى الفلسطينيون
منهم ،ممثلني فيه .ويف املقابل كان نشاطه العراقي املتصل بإخوانيته "العراقية" جزءاً من
سياق عراقي اذا صحت العبارة .فهو سبق أن سعى لالنقالب عىل قاسم ،والحقاً استهدف
يهود العراق لتمويل تنظيمه الذي ال يبدو انه كان بصدد التحضري لعمل يف فلسطني ،بل يف
العراق .وهو غادر بغداد اىل القاهرة يف سياق أزمة مع البعث .وتتايل هذه الوقائع يف سرية
رسية العراقية ال يفيض جميعه اىل استنتاج حول مضمون فلسطينيته ،بل دارت "حركيته"
عىل عناوين أخرى تبدو فلسطني أضعفها.
عىل أ ّية حال ،ففي اللقاء الرسي يف القاهرة مع القيادية اإلخوانية زينب الغزايل ،دار
الحديث بينهام حول خيبة أمل رسية من ميول اإلخوان الدعوية واستبعادهم "القوة" من
نشاطهم .كان ذلك يف 1971أي يف أعقاب تويل الرئيس املرصي الراحل أنور السادات الحكم
وإفراجه عن القيادات اإلخوانية من سجون سلفه جامل عبد النارص.
يف ذلك العام مل تكن قد ظهرت أية انشقاقات "جهادية" عن جامعات اإلخوان
املرصيني ،وبهذا املعنى مثّلت وجهة نظر رسية سبقاً عىل هذا الصعيد .وكان واضحاً ان
لفلسطينية الرجل دوراً تغذيه ميول كانت بدأت تتبلور يف الهامش اإلخواين املرصي .ويف
ذلك الوقت كان ملا أجابت به غزايل عىل تذمرات رسية داللة تُحدث فرزاً واضحاً بني
الخيارين ،فقد قالت" :ما زلنا يف مرحلة الدعوة ،والقيادة خارجة حديثاً من السجن وليست
لدينا القوة التي تطالبنا يف إظهارها" .والحقاً تكرر النقاش نفسه بني رسية ومرشد اإلخوان
52
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
53
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
تشكيل التنظيم ،وان األنصاري كان قد سبق رسية اىل تشكيل نواته وانه سلمه قيادة
التنظيم يف منزل الغزايل عندما التقيا بوجودها .لكن تبقى هذه الشهادة غري كافية يف ظل
عدم تحرك األمن املرصي عىل ضوئها.
وخالفاً لشخصيات "الجهاد العاملي" التي ظهرت بعده ،تستبطن سرية صالح رسية
قدراً من التفاوت يف العالقة مع األنظمة السياسية والجامعات اإلسالمية والقومية التي
كانت تسود سبعينات القرن الفائت ،وهو أمر ليس غريباً يف ظل عدم تبلور سلفية جهادية
واضحة الوجهة يف ذلك الحني .فرسية فاوض عرفات عىل االندماج مع "فتح" يف العراق ،وهذا
ليس دأب هذا النمط من الجامعات ،وهو أصبح عضواً يف املجلس الوطني الفلسطيني،
وأيضاً يبدو ذلك خروجاً عن نسق العالقة بني السلفية الجهادية والهيئات املنبثقة من
"شبهة العمل الوطني" .ثم ان رسية ،وأثناء وجوده يف مرص ،كان يعمل يف جامعة الدول
العربية ،وهذا عنرص ثالث ال يشبه فيه شيوخ "الجهاد" الذين أعقبوه .لكن يف مقابل ذلك
تبدو "رسالة اإلميان" التي كتبها حول األنظمة وكفرها ورضورة إطاحتها ،سياقاً مختلفاً متاماً
عماّ تيش به تلك املؤرشات .فـ"رسالة اإلميان" وثيقة "سلفية جهادية" ال تشوب صفتها هذه
شائبة .ولعل االرتباك الناجم عن عدم انسجامها مع بعض محطات حياة رسية مرده اىل
"شطط البدايات".
والسبق الذي أحرزه رسية عىل غريه من الناشطني املرصيني ،عىل صعيد نقل "الدعوة"
اىل السياق العمالين ،ميكن رده أوالً اىل صدور الرجل عن "إخوانية" ممزوجة بأصل تحريري
(نسبة اىل حزب التحرير الذي كان يأخذ عىل اإلخوان قعودهم عن الجهاد) .لكن ،وقبل
ذلك ،ال بد من التوقف عند تشتت الرجل بني هويات أخضعها تن ّقله بني فلسطني والعراق
ومرص اىل اختبارات مل ترتسخ يف مزاج "وطني" واضح وكابح ألي شطط أو مغامرة.
ويبدو ان سبعينات القرن الفائت كانت مرحلة البدايات املرصية لـ"الجهاد" .فهناك
شخصية فلسطينية ثانية برزت يف القاهرة يف أوساط مجموعات "الجهاد" التي كانت قد
بدأت تظهر آنذاك ،وستكون لهذه الشخصية أهمية خاصة ،اذ يعترب باحثون انها شكلت حلقة
الوصل األوىل بني "الجهاد املرصي" وبني باكورة العمل الفلسطيني يف األردن يف هذا امليدان.
انه الشيخ محمد سامل الرحال الذي كان انتقل من األردن اىل مرص يف أوائل السبعينات
للدراسة يف األزهر ،وهناك يف القاهرة أنشأ مجموعته الخاصة التي بارشت التخطيط الغتيال
فكشفت واعتقل الرحال ثم أبعد اىل األردن. الرئيس املرصي أنور الساداتُ ،
والسبعينات تلك شهدت وصول الكثري من الطالب الفلسطينيني اىل القاهرة للدراسة،
فشكل قدومهم مخترباً حقيقياً الحتامالت "الجهاد" وفقاً ملصادر وفادتهم تلك .فالتأثر
بجامعات "الجهاد" املرصي تم وفقاً ملعادلة الداخل والخارج .فمن بني القادمني اىل القاهرة
من الضفة الغربية وغزة كان فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة ،ومن بني فلسطينيي
الشتات كان صالح رسية ومحمد سامل الرحال .وشهدت تلك الحقبة نقاشاً حول أولويات
"الجهاد" :فبينام رأت جامعة الداخل (عودة – الشقاقي) أولو ّية التحرير املبارش ،أو ما أطلق
54
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
عليه يف حينه "الجهاد الوطني" الذي أمىل عىل الرجلني العودة اىل الداخل وتأسيس "حركة
الجهاد اإلسالمي" الفلسطينية ،وجد كل من رسية ورحال (الشتاتيني) يف "الجهاد العاملي"
واطاحة األنظمة ضالتهام .وهنا يبدو الفرز بني الداخل والشتات منوذجياً يف الخلوص اىل
استنتاج شتاتية "القاعدة" عىل املستوى الفلسطيني .لكن القطع ،عىل رجحانه ،بصحة هذه
املعادلة ،يبقى نسبياً وال يخلو من تعميم ،اذ ان العمق السلفي لجامعات "الجهاد" الوطني
لطاملا جعلها عرضة لشطط "الجهاد العاملي".
ومن املمكن سحب هذه العالقة التامثلية والتنابذية بني الجهادين الوطني والعاملي
عىل بدايات نشوء حركة "حامس" وإن عىل نحو مختلف .فقد شهدت الحركة ،بحسب
مقربني منها ،يف تلك الفرتة تجاذباً بني قيادات الخارج القادمة يف حينه من الكويت عقب
حرب الخليج الثانية (خالد مشعل ومحمد نزال وعامد العلمي وموىس ابو مرزوق) وقيادات
الداخل يف غزة (عبدالعزيز الرنتييس ومحمود الزهار واسامعيل ابو هنية) .فقيادة الخارج
كانت تريد االنتقال من "املقاومة السلبية" عرب األطر الشعبية والتحركات االحتجاجية ،اىل
"املقاومة اإليجابية" اي العمل العسكري املبارش .اما قيادة الداخل فكانت تريد االستمهال.
فلطاملا كان الخارج والشتات اكرث راديكالية من الداخل ،وهو أمر يفرس ايضاً
بعض أسباب تأخر "القاعدة" يف الوصول اىل الداخل الفلسطيني ،هذا التأخر الذي
يقول بعض املرتددين عىل األوساط "القاعدية" انه يسبب الكثري من اإلرباك يف الوسط
"الجهادي السلفي" ويطرح شكوكاً واسئلة حول دور هذه الجامعات ووظيفتها.
وعىل نحو ما كانت "عاملية" دعوات عبد الله عزام "الجهادية" غري منفصلة عن معضلته
الفلسطينية ،كذلك ال تخلو فلسطينية حركة "الجهاد اإلسالمي" ،وحركة "حامس" (وان
بدرجة اقل) ،من "عاملية" ،لطاملا نقلت نزاعات يف مناطق بعيدة من العامل اىل قلب القضية
الفلسطينية .ويف منطقة املراوحة هذه تجد "القاعدة" حظوظها يف القضية الفلسطينية .انها
املنطقة التي تضيع فيها الحدود بني فلسطني كوطن وفلسطني كوديعة مقدسة ،وهذه الثنائية
تكاد تكون ملمحاً ثابتاً يف الهوية الفلسطينية ،ولكنه ملمح يع ّرضها لضياع األرض وبقاء الفكرة.
هذا االفرتاض يوازي متاماً الفارق بني "السلفية الوطنية" والسلفية الجهادية العاملية والتنقل
بينهام ،فكيف سيكون الحال اذا مل يكن لألوىل أصل متني يف كتب السلف واجتهادات أتباعهم؟
ومحمد سامل الرحال من الجئي ،1948أي ان عائلته انتقلت اىل األردن يف ذلك التاريخ،
قادمة من قرية عرتوف غرب القدس بعد ان احتلها اإلرسائيليون .واذا كان الرجل قد صدر
عن أرسة محافظة متدينة فيبدو ان قصة النزوح قد غذت هذا التدين بحكاية لطاملا أوردها
منارصو الرحال وأقاربه يف األردن .وهم يوردونها بوصفها "رواية مؤسسة" عىل رغم ان
وقائعها جرت قبل والدة الرحال يف األردن يف .1955ففي أثناء الهجوم عىل القرية ،الذي
قاده بحسب رواية سكانها رفائيل ايتان ،مل يكن بحوزة السكان سوى أربع بنادق قدمية
حاولوا صد الهجوم بها ،وعىل أثر ذلك أصيب أحدهم ويدعى احمد عبدالفتاح الرحال.
هذا الرجل ،الذي سيصبح الحقاً أيقونة العائلة ،نُقل مصاباً اىل القدس و ُكتبت له الحياة
55
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
وانخرط الحقاً يف "حزب التحرير اإلسالمي" ،وبعد نكسة 1967نزح إىل األردن وأقام يف
مدينة الزرقاء.
هذه الحكاية التي قد ال يشعر املرء بأنها تستحق ان تكون رواية مؤسسة لوعي
جامعة أو مجموعة أو أفراد ،هي من ذلك النوع الذي حمله الفلسطينيون معهم يف نزوحهم،
وجعلوها واحدة من قنوات عالقتهم مبأساتهم يف شتاتهم .واذا ما أضيف اليها موقع القرابة
الدموية يف مجتمع ُيق ّدم هذه العالقة عىل غريها ،أصبح مفهوماً مدى تغذيتها وعي الدائرة
القرابية املحيطة بها .فباحثون فلسطينيون ُكرث أشاروا اىل عالقة محمد سامل الرحال بحزب
التحرير معتمدين عىل قرابته ألحمد عبد الفتاح ،وهذا األمر وان كان غري ٍ
كاف لتأكيد
"تحريرية" األول فهو ليس خطأً باملطلق .فالقرابة الدموية يف عرف الباحثني الفلسطينيني،
كام هي يف الواقع ،تُرشح من يرتابطون بها اىل نوع من التأثري ،خصوصاً اذا كانت معقودة
عىل "رواية مؤسسة" من ذلك النوع الذي حمله معهم آل الرحال من بلدتهم عرتوف.
وقد شهدت مرص يف فرتة وصول الرحال إليها والدة الكثري من املجموعات "الجهادية"
املتفاوتة األصول والرتاكيب ،فناهز عددها عرش مجموعات ارتبط بعضها بعالقات متفاوتة
يف ما بينها ،وبقيت أخرى مستقلة .ويف هذه الحقبة برزت مجموعة أمين الظواهري ،ويف
الفرتة نفسها ظهرت أيضاً مجموعة محمد سامل الرحال التي اتهمت باملشاركة يف التخطيط
لعملية اغتيال السادات واعتقل عىل أثرها الرحال ،ثم أبعد الحقاً اىل األردن كام سلف.
ومرة أخرى علينا ان نُدقق يف جوهر ذلك الوعي الذي حمله معه محمد سامل الرحال
من األردن اىل مرص التي بارش فيها "جهاده" .فمن البيئة التقليدية املتدينة ،اىل الوعي
"التحريري" املبثوث يف وجدان العائلة جراء حكاية "بطلها" ،وصوالً اىل اإلخوانية التي كانت
متفشية يف ذلك الوقت يف بيئة التد ّين الفلسطيني الشتاتية ،وكل هذا مؤسس عىل غياب
بوصلة وطنية واضحة ،رمبا مثلت منظمة التحرير الفلسطينية الحقاً تعويضاً عنها ،جعل من
احتامالت الخروج اىل رحاب "الجهاد العاملي" أمراً ممكناً .ففلسطني يف ذلك الوعي املشكل
من هذه العنارص مل تكن ضائقة وطنية ،انها واحدة من ضائقات املسلمني الكثرية ،ورمبا
تقدمت عليها يف األولويات مرص التي يشري صالح رسية اىل أنها الوجهة األهم لكونها أكرب
دولة إسالمية.
واذا كانت األصول "التحريرية" قد جمعت بني رسية والرحال ،فال يبدو ان مثة لقاء
ضمهام يف القاهرة عىل رغم إشارة بعض املصادر املرصية اىل ذلك .وال يبدو أيضاً ان الرحال
انضم اىل "مجتمع اإلخوان املسلمني املرصيني" ،فهو اختار الهامش "الجهادي" يف البيئة
اإلسالمية ،وكان هذا الهامش قد بارش ابتعاده عن تنظيم اإلخوان بصفته تنظي ًام "مهادناً"
وال برنامج "جهادياً" لديه.
أما يف األردن ،وفور عودته ،فبارش الرحال استئناف محاوالته التي كان قد بدأها
يف القاهرة ،فأسس تنظي ًام أطلق عليه اسم تنظيمه نفسه يف القاهرة أي "تنظيم الجهاد
وتم اعتقال الرحال الذي أفرج عنه الحقاًاإلسالمي" .ومل يلبث ان ُف ّكك هذا التنظيم يف ّ 1984
56
مألا مزاح يملاعلا داهجلا" ةروكاب
لينهي حياته "الجهادية" عىل نحو مأسوي :فهو خرج من السجن مصاباً بالشيزوفرينيا .ويف
لحظة صدام مع والده أقدم عىل طعنه بسكني حتى املوت ،وهو اليوم يف السجن "تفادياً"
إلقدامه عىل فعلة مشابهة.
57
أصول ّيات
النقاب
دالل البزري
النقاب ينترش يف القاهرة بأرسع مام انترش الحجاب .األخري احتاج اىل عقدين وبضع سنوات
يعم اآلن ،وبوترية متسارعة .كل يوم
ليأخذ طريقه اىل الغالبية العظمى من املرصيات .النقاب ّ
تخرج اىل الشارع ،أو اىل أي من هذه األمكنة التي يلتقي بها الناس ،تجد من ّقبة اضافية ،ربة
عائلة ،أو مبفردها ،أو مجموعة منقبات يف املرتو أو السينام أو الفندق أواملطار أو الجامعة
أو "املوالت" ،أواملنتجعات السياحية عىل الشواطىء ،حيث يسبحن بكامل النقاب يف البحر،
ويخرجن اىل شواطئه مح ّمالت بأثقال نقابهن املب ّلل مبياهه ...أو فوق دراجة نارية خلف
الزوج ،تتش ّبنث بطفل او اثنني .أيضاً يف األحياء الفقرية والراقية ،بالخط البياين نفسه الذي
سلكه الحجاب :من األفقر اىل األغنى من بني الطبقات .وتجد هذا الخيط مجازاً يف بعض
األمهات املن ّقبات بصحبة بناتهن اللوايت مل يبلغن بعد السن "الرشعي" الرتداء الحجاب .بنات
دون السادسة ،وأحيانا بنات رضيعات ،يرتدين الحجاب برفقة امهاتهن املنقبات؛ للقول رمبا
بأن هذا الحجاب هو إعداد للنقاب ،خطوة نحوه ،فور بلوغ السن "الرشعي".
دخلت من ّقبة مل يسألها البواب عن
ْ يف العامرة التي سكنت فيها يف املعادي القدمية،
مقصدها ،كأنه يعرفها .سألته عنها ،فقال انها استاذة الدين لزوجات أصحاب العامرة .وهن
ثالثة ربات بيوت شابات يرتدين الحجاب "السبور" واألنيق ،ولكن "املث ّبت" جيدا .يف يوم
زرت "مقهى حنان الرتك" يف مرص القدمية مع رفيقتي سلوى ،نستطلع معا هذا املكان آخر ُ
املحجبات واملن ّقبات .املكان مغْلق ،ويجب
خصصته هذه النجمة "التائبة" للمسلامت ّ الذي ّ
رنّ الجرس ليك ُيفتح بابه عىل من يرتدنه .السيدة الجالسة خلف مكتب يف مدخله ،مثل
حارسة معبده ،تد ّقق بطبيعة الحجاب الذي عىل رؤوسنا إيذانا بالدخول ،بعد ان تسجل
اسمينا وعنوايننا .ال تبدو سعيدة بنا؛ فاألرجح انها تأكدت مام أبلغته عنا املوظفة الواقفة
يرق لها حجابنا :سلوى وضعت خلف العني الرسية ،من اننا لسنا محجبات "جديات" .مل ْ
شاال عىل رأسها وربطته مثلام ُيربط الحنك بعد خلع سن من االسنان .اما أنا ،فكان حجايب
مبحجبة .املهم اننا وجدنا مقهى وصالون تجميل وبوتيك واضحاً ،يريد ان يقول اين لست ّ
رزبلا لالد باقنلا
لألناقة املرتفعة األسعار ،يفوق قدرات امرأة من الطبقة املتوسطة العالية .بعض اللوايت
انضممن اىل هذا املقهى املغلق من املن ّقبات اللوايت ،ما أن اسفرن عن وجوهها حتى بانت
البحبوحة ،يتجولن يف زوايا املقهى الفسيح ،يشرتين الجالليب الفاخرة الالمعة عليها نعم ْ
بأناقة ويرس ،من غري التدقيق بأسعارها املرتفعة جداً.
هذا للقول بأن النقاب عبرَ َ الطبقات االجتامعية كلها .واذا مل يكن قد شمل حتى اآلن
املرجح انه س َل َك طريقه نحو األقل نجومية من بني نجامت بعينهن اكتفني بالحجاب ،فمن ّ
نساء الفئات األكرث مت َكناً .وهي فئة يصعب التع ّرف عىل دواخلها ،سيام وانها نادرا ما ترت ّدد
اىل الشارع ،أو اىل أي من االمكنة التي يلتقي فيها املواطنون العاديون من الطبقات األدىن:
مرتو أوتوبيس ،ميني باص ،تاكيس ...فاألغنياء األغنياء ،وج ّلهم أغنياء ُجدُ د تقريبا ،باتوا
يعيشون يف "مدن" مقفلة" ،مدن" صحراوية لها كل مستلزمات املجمعات الفاخرة :من
الرتفيه اىل املساحات الخرضاء واملقاهي واملوالت التجارية واملدارس والعيادات الخاصة...
هاجرين ضفاف النيل وتاركني مشكالتها املستعصية ملن خانتهن جيوبهم أو ظروفهم.
واملنقبات لسن طبقات فقط .بل أذواق وطبائع وجنسيات.
الرث بالقامش الصناعي الخانق واأللوان الفاقعة الباهتة؛ أمهات بينهن ذات النقاب ّ
بالشبشب ،مح ّمالت بالرضع ،يج ْرجرن أطفالهن األكرب سناً .بينهن أيضا امهات "عرصيات"؛ْ
ولد واحد تحمله أمه بنقاب مرتّب أنيق ،ال ذيل له يلملم غبار الطريق .رشيقات رياضيات
يلبسن الـ"تنيس شوز" ويحملن شنطة خلف الظهر والرضيع عىل الصدر ،مثل االمهات
األوروبيات املتنقالت يف املدن املزدحمة ،أو اللوايت نتخيلهن هكذا .ومنهن من ال ّ
تقل
أناقة عن املتربجات" :جلباب" عىل املقاس ،مع د ْرزة فوق الخرص وتحت الصدر ،د ْرزة
تض ّيقهام ،فتعطي للجسم شكله االنثوي ا ُمل ْريض؛ وعىل الرأس نقاب فاتن ،عيون ّ
مكحلة
بالسواد ،قفازات من الحرير األسود تغطي الخواتم واألساور ،وعطور تعبق يف املكان...
التقيت باثنتني من هذا الصنف من املن ّقبات يف رحلة بالقطار من القاهرة اىل االسكندرية. ُ
كن جالسات يف املقعد أمامي .رائحتهن تسبقهن وفرحتهن تعلو ،ثم ضحكتهن ،مع االبتعاد
عن محطة القاهرة .واألسباب الظاهرة لهذه الفرحة انهن خلعن النقاب والقفازات ،فبدت
التقيت عىل مدخل ُ وجوههن املتربجة ،وخوامتهن ال َرباقة ظهرت أخريا للعيان! مرة أخرى
بني اللون ،ض ّيق وطويل حتى القدمني ،وعىل أحد املستشفيات بامرأة ترتدي تايور كالسييكّ ،
وجهها نقاب أسود مط ّرز ومربوط عىل رأسها عىل الطريقة امللكية الفرعونية ،مرفوع عىل
يشء صلب ،كارتون رمبا؛ ترى جزءا من جبينها وفسحة فوق حاجبيها ،املكشوفني بدورهام.
وهذه من ّقبة من الصنف "املتحرر" .الفرق بينها وبني املن ّقبة "املتشددة" انها أعطت فكرة
عن ق ّدها وعن عيونها؛ فضال عن انها مل تلبس القفازات السوداء ،وصوتها يسمعه الجميع.
لكن اللوايت تتفوق أناقتهن عىل جميع املنقبات هن املنقبات الخليجيات ،وقد ازداد
ايضا عددهن يف الفنادق واملج ّمعات التجارية والسياحية .املنقبة الخليجية تستطيع ان
تعرفها عن ُبعد .نوع القامش والتطريز الثمني ،واأللوان الغامقة املزركشة والعطر والحذاء
59
رزبلا لالد باقنلا
ذو الكعب العايل؛ ناهيك عن لفة الرأس املتميزة ،التي تعلوها كتلة ،تبدو كأنها تتمة لتاج.
اما اليمنيات ،فتصادفهن يف شوارع وسط البلد ،بني محالته التجارية؛ يتجولن بأعداد كبرية
ومعهن رجل أو رجالن .نقابهن أكرث تواضعا ،أقل كلفة .لكن بعضهن يلبسنه كام لو كان
قبعة جامدة ي ْكسوها سواد .رمبا أيضاً بوحي من التاج الذي كانت امللكة بلقيس تضعه
فوق رأسها.
ال تستطيع طبعا أن تد َقق بأعامر أولئك املنقبات؛ لكن بوسعك التقدير بأن الغالب
بينهن هن الشابات .هذا ما تستنتجه من املفاصل العامة للجسم ،من الحيوية التي تنضح
والعصبية .والنادرات من العجائز اللوايت يرتدينه ال تخطئهن العني َ من حركته ،الرشيقة
ورث .وقد تكون هذه الفئة من املنقبات يف اسفل السلم املجردة :هندامهن كله مهلهل ّ
االجتامعي القاهري من بني من ّقبات العاصمة.
نقاب فقري أو ثري ،ورع او مغناج ، ،ممشوق أو مرهق ،مرصي أو خليجي ،متحرر أو
متش ّدد ...النقاب بأوجهه املختلفة ،والذي يتجاوز بتنوعه وابتكاراته مج ّرد االلتزام الديني،
هذا النقاب أقرب اىل املوضة الناشئة والواعدة .موضة جديدة عىل مشهد الهندام النسايئ.
يختلف عن املوضة التي ألفنا .مثل املوضة مييل اىل التنميط ،اىل التشابه .لكن مصدرها هذه
املرة ليس الغرب ،بل مام ُيتص َّور عىل انه اإلسالم أو البيئة االسالمية الرشقية املاضية .وان
كانت بعض تفاصيل هذا النقاب ما زالت "تستورد" من الغرب ابتكاراته الفرعية االخرى؛
مثل الحذاء بالكعب العايل او املتوسط او "التنيس شوز" (االمرييك) ،والحقيبة ذات األشكال
القصات الخاصة والث ْنيات عىل القامش ،أو املساحيق الغربية املختلفة ،ايضا ،ناهيك عن ّ
التي تضعها بعضهن عىل عيونهن والعطور الباريسية .انها املوضة األنتي موضة .موضة
معادية للمصدر التقليدي الغريب للموضة .هي مثل االستئناف ملا سبقها ،أي الحجاب .وهي
إنقالب عىل ما سبق الحجاب.
لكن النقاب هذا ،نقاب األلفية الثالثة ،ال يشبه النقاب التقليدي الذي كانت ترتديه
النساء القليالت الخارجات من بيوتهن يف مطلع القرن املايض .يتصور هذا االنقالب الجديد
انه عائد اىل زمن أسبق .لكنه يف الواقع يرتجم روح هذا العرص ،الذي يهيمن عليه دين
طقويس عِبادي ،مل تعهده العصور االسالمية السالفة؛ دين محوره الطقوس والعبادات ،ال
االخالق واملعامالت .فمثل الحجاب ،يعترب أهل النقاب ان ارتداءه "عبادة" غايتها "درء
املزيد من الفتنة" ..لكن الغواية االثنوية ماهرة يف مدارة "العبادة" و"الفتنة" يف آن .ال
تستطيع غري ذلك ،خاصة اذا كانت األنثى ما زالت شابة ،ومهام اختلفت الطبائع والسِ يرَ .
واالبتكارات والتفاصيل الصغرية التي متنح كل منقبة فرديتها االنثوية هي خري شاهد عىل
كيفية ادارة هذا الثنايئ الجه ّنمي" :الفتنة" و"العبادة".
الرجال املرافقون ألولئك املن ّقبات قليال ما تجدهم يلبسون ما ي ّتسق مع املناخ
املاضوي أو الرتايث الذي يحاكيه النقاب ،أي الهندام السلفي :بالجلباب القصري واللحية
املنفلتة ،وأحيانا القبعة األشبه باألفغانية؛ فاألرجح ان أصحاب هذا الهندام ال يسمحون
60
رزبلا لالد باقنلا
لنسائهم بالخروج إال عند الرضورة القصوى .فالرجل املرافق للمن ّقبة يرتدي عادة بنطلون،
"جينز" أمرييك غالبا ،وقميص وسرتة جاكيت قصرية .وأحيانا "يت شريت" قصري أو ضيق أو من
دون أكامم .وحذاؤه ايضا "تنس شوز" أمرييك أو مجرد حذاء أورويب التصميم .وشعره ذو
القصة الدارجة" ،سباييك" أو "مارينز" أو مجرد "جل" يل ّمعه .كأن املوضة املنقلبة عىل الغرب
ليست سوى قضية نسائية .تخص النساء دون الرجال.
اذا أردت تقدير حجم هذا االنقالب ،تص ّور نفسك بعد 50عاما تتص ّفح كتابا عن
االزياء عرب العهود .ماذا عن الفرتة املمتدة بني القرن املايض الذي انقىض ،وحتى اآلن ،العام
2010؟ النساء كن من ّقبات يف أوائل القرن املايض ،ثم خلعن النقاب يف ثالثينياته وأربعينياته،
ثم خلعن الحجاب يف خمسينياته وستينياته .وبعد ذلك مضني يف السفور والبنطلون والتنورة
الخ .ثم عدن ثانية اىل الحجاب من السبعينات وحتى اآلن ،وقد بدأ ينافسه النقاب .نقاب
وحجاب جديدان ،ال يشبهان نقاب وحجاب اوائل القرن املايض أو ثالثينياته.
كيف نتصور اكتامل الحلقة؟ أن يسود النقاب عىل الحجاب بعد حني؟ ثم ماذا بعد
ذلك؟ املحللون متفقون عىل انه طاملا استمرت املواجهة بيننا وبني الغرب ،فسوف يبقى
النقاب منترشا ،تزيد نسبته كلام اشتدت هذه املواجهة .أنظر ،يتابعون ،متى بدأ انتشار
النقاب يف مرص؟ بعد 11سبتمرب ،ثم بعد االجتياح االمرييك للعراق الذي شهدت شوارع
القاهرة عىل اثره انتشار التشادور ،الشبيه بااليراين ،ولكن مع ربطة اضافية حول العنق...
حت كتابا عن االزياء عرب العهود ،ويف ما يخص منطقتنا وزمننا ،فمن اذن ،لو تص ّف َ
هندام النساء سوف تخلص اىل فهم طبيعة العالقة مع الغرب ،متاهياً مع ثقافته أو لفظاً
لها .ولو قارنت بني هندام النساء وهندام الرجال فسوف تالحظ ان الرجال اكتفوا بخلع
الطربوش االحمر ،وبقوا عىل ما كانوا عليه من موضة ،أي مع اضافات هامشية مل تنقلب
رأسا عىل عقب كام يف حال النساء .مرة أخرى ،عىل أجساد النساء ترتسم معامل الحرب
والسلم والنرص والهزمية واسرتاتيجيات املواجهة وهوية املتواجهني .أتساءل أحياناً :كيف
يكون املشهد لو كانت نساء الغرب منقبات بحكم دين أو دين أو عقيدة؟ كيف سترتجم
العالقة مع الغرب عرب لباس النساء؟ أو ،أيضا :ماذا لو مل تحصل هزمية 1967ومل يسقط
معه الخط "التقدمي" الذي نزع النقاب ثم الحجاب ،وال حصل ذاك االنقالب الديني؟ كيف
يكون هندام النساء ساعتئذ؟
أقول هذا لنفيس ،أرشد ،وأتابع النقاش الدائر بني املرصيني :من يكون رئيس مرص
بعد الرئيس حسني مبارك؟ جامل ابنه؟ أم "االخوان املسلمون"؟ ما الذي سوف يتغري يف
العهد الجديد بالنسبة للسافرات من أمثايل؟ ان جاء "االخوان" فسوف يفرضون الحجاب
بالقانون ،كام يف ايران واململكة العربية السعودية .فهذا مكتوب يف برنامجهم .اما اذا أىت
جامل مبارك ،فاألرجح انه سوف يفرض الحجاب بالقانون عمال بحكمة "الرئيس املؤمن"
االول ،أنور السادات ،الذي ع ّدل الدستور عام ،1980فجعل من املادة الثانية للدستور هي
"املصدر الرئيس للترشيع" ...فيزايد مثل سلف أبيه ويكون حجاب النساء بالقانون تلبية
61
رزبلا لالد باقنلا
ملشهد شعبي ونخبوي عارم من املحجبات .ذلك ان الرشعية سوف تنقصه اكرث من السادات
نفسه ،الذي عينه عبد النارص نائبا له ،والذي مل يكن ال وريثا وال مدنيا.
أتساءل ماذا أفعل يف حال ُفرض الحجاب بالقانون .واجابتي العفوية هي انني ساعتئذ
سوف ارتدي النقاب .ملاذا النقاب؟ ال الحجاب مثال؟ ال اعرف الجواب متاما ،لكنني احدس
امرا يف مسألة النقاب هذه ،يدفعني اىل التعرف شخصيا اىل منقبات .ملياء ومنى وسمر .ثالث
التقيت بهن عىل باب املرتو بواسطة احدى املعارف .ادعوهن ملنزيل ،القريب من ُ منقبات
محطة املرتو ،ملياء ومنى معا ،وسمر مبفردها .وجه ملياء الثالثيني منرشح وممتىلء ،وشعرها
أسود طويل’ تشبه الفنانة شادية بانوثتها العذبة .ال متانع يف احتساء البرية .شديدة الحامسة
ملا تصفه بـ"تحررها" .وهو "تحرر" تقارنه بـ"تش ّدد" قريباتها وجاراتها من املنقبات اللوايت
ال يسمح لهن أزواجهن بالخروج من البيت مبفردهن .ملاذا تتنقب ملياء؟ ال لسبب محدد،
غري الجريان واالقارب" .ترتاح" به ألنها معه ال تشعر بأنها خرجت من "الح ّتة" .أحالمها
كلها "ف ْرفشة" و"دماغها" ال يطيق النكد .لذلك تنقبت .منى أكرث شباباً من ملياء ،أواسط
العرشينات عىل األرجح .ولكنها شاحبة وعاقدة الحاجبني .من دون غضب وال توتر ،هكذا
هو وجهها .مطبوع عليه أ َث ُر مشاجرة عنيفة مع أخيها الذي حاول استغالل صالون حالقة
ّأسسته مع جارتها .الحق مبرشوعها االذى والرضر .فاضطرت لالختفاء خلف النقاب لتعيد
بناء مرشوعها بعيدا عن عيون اخيها.
اما سمر فمختلفة نوعا .شابة ايضا ،جذابة وخجولة ،مطلقة وأم لثالثة أطفال .تعيش
عند أهلها وتعمل يف صالة عرض مفروشات .محجبة منذ أن أفاقت عىل الدنيا ،وهي اآلن
من ّقبة .ملاذا النقاب؟ ترت ّدد سمر يف االجابة ،ثم تجيب بعد حني :منذ أشهر ،اشتدت ع ّ
يل
األعباء املادية؛ وعندما طالبت صاحب العمل بزيادة راتبي قليال ،أجابني ،وبايحاءت مفهومة،
"إريض الزبائن أوال!" .فهمت قصده ولكنني بدل ان أريض زبائن الصالة ،ابتعدت عن ح ّينا
ورحت أبحث عن زبائن يف االحياء البعيدة .ولبس النقاب حامية يل من قلق الناس."... ُ
طبعا ال متثل هذه العينة الضيئلة اال نفسها.
ولكن متابعة ظاهرتني أخريني تدفع بتساؤاليت اىل األمام :الظاهرة االوىل هي معارك
قضائية ،بالنيابة أو باالصالة ،من أجل احتفاظ املنقبات بنقابهن :يف املستشفيات واملدارس
حيث يتزايد عددهن ،ويتس ّبنب بسجال عنيف بني وزير الصحة الرافض له ،ونقيب األطباء
املرحب به .يف الجامعة االمريكية يف القاهرة حيث يكسنب قانونيا الحق بالدخول اىل حرمها.
ويف جامعة القاهرة الرسمية حيث ما زلن يرفضن خلع النقاب يف قاعات املحارضات
واالمتحانات ...كام أوىص غري مسؤول رسمي ،من االزهر اىل الحكومة .يؤازرهن يف ذلك
تنظيم "االخوان املسلمني" و"مجمع بحوث االزهر" ،املتطرف دينياً واملناهض لسياسة شيخ
االزهر الرسمية ،فضال عن قضاة بارزين وجمعيات حقوق اإلنسان التي ترفض الهجمة
"الحكومية عىل املنقبات" ،وتدافع عن نقابهن بإسم "الحرية الشخصية".
62
رزبلا لالد باقنلا
الظاهرة الثانية هي إرتداء مشبوهني من الرجال النقاب تغطية عىل جنحة أو جرمية.
ُ
تابعت يف الصحافة مثل العالقات الغرامية غري املرشوعة ،أو السطو أو الغش الخ .وأطرف ما
قصة تلك املنقبة التي كانت تزور صديقتها املتزوجة يوميا يف الصباح الباكر .يفتح لها زوج
صديقتها الباب ،وال تتف ّوہ بكلمة ،ألنها ،كام ترشح له زوجته ،من املن ّقبات املتش ّددات
اللوايت يعتربن صوت املرأة "عورة" ...تدخل املنقبة املنزل اذن ،ويذهب الزوج اىل عمله
مطمئنا اىل صحبة زوجته .لسبب من االسباب ،يعود الزوج يوما اىل منزله باكراً ،وفور دخوله،
يجد ثوب النقاب مرمياً عىل االرض ،فيرسع اىل حجرة النوم ليجد صديقة زوجته "املنقبة"
وقد تحولت اىل رجل يف رسيره معها...
منظمة ومؤثرة الظاهرة االوىل تدل عىل السند القوي الذي تالقيه املنقبة من قطاعات ّ
يف املجتمع ،والثانية تشري اىل غرق النقاب يف الفوىض االخالقية العاتية ،وطبعا اىل الحامية
التي مينحها النقاب للتف ّلت من رقابة القانون او املجتمع.
لست هنا بصدد التشكيك بالحافز الديني لدى غالبية املنقبات ،بنفس القدر طبعا ُ
تلح عيل ليست الذي ال أناقش فيه أيضا كون هذا النقاب "من االسالم أم ال" .التساؤالت التي ّ
من باب الدين أو الصدقية .فليس من املمكن خلف النقاب اإلحاطة مبا يقف خلفه وخلف
صاحبته ،اال عرب دراسة وبحث مضن َيني ،ال أملك إمكانا لهام اآلن .تساؤاليت ح ْدسية ،تختلط
فيها املعرفة ،القارصة بالرضورة ،ثم املخيلة ،غري املوضوعية بالرضورة ،ومبحاولة االحساس،
يل :فهل ماأو الفهم ،عرب التامهي؛ أي عرب وضع نفيس مكان هذه املرأة املنقبة الغريبة ع ّ
أتت به املوجة الدينية العارمة هو لباس تتعامل معه النساء كل بحسب ظروفها وطبائعها ْ
وقصتها الخاصة؟ وهل تكون حجة "درء الفتنة" التي متيل عليهن ،أو هكذا يعتقدن ،االختفاء
وراء هذا السواد العارم هي آخر الدوافع؟ عىل ماذا ينطوي النقاب؟ ضعف أم قوة؟
أهجس بالتساؤالت ،وما من يشء يهدئها أكرث من خوض التجربة ،شخصيا .رشيكتي
هذه املرة هي ثريا .أسالها عن املتجر الذي اشرتي منه كل لباس النقاب .تنصحني بنقاب
"شعبي" ،يك ال أبدو "خليجية" كام تقول ،فينفر مني املارة .وأفضل املتاجر لهذه الدرجة
االجتامعية من النقاب هي محالت "التوحيد والنور"؛ وصاحبها سيد رجب السويريك ،امللقب
بـ"شهريار" مرص ،والذي يقيض حكام بالسجن ملدة سبع سنوات بتهمة تزوير مستندات
واقرتانه بخمس زوجات يف وقت واحد ،بدل أربع كام يسمح الرشع" .التوحيد والنور" يف
حي املنيل هو االقرب :ندخل اليه ،ثريا وأنا ،ونصعد اىل الطابق الثاين ،حيث مستلزمات ّ
النقاب .البائع ملتح عىل الطريقة السلفية ،واألرجح انه صائم .عبوسه ال يف ْرت اال عندما
أرشح له بأنني اريد رشاء "نقاب كامل ألختي" ،فأقيسه وأطلب منه أن يد ّلني عىل كيفية
يقص الشاش الذي يغطي العيون بالقدر ا ُملستطاع ...فيبتسم ساعتئذ، ربطه برأيس ،وأن ّ
رمبا ألنه وجد نفسه فجأة امام لعبة ،أبطالها امرأتان سافرتان يف متجر ال يستقبل غري
املحجبات واملنقبات .واللعب من عمل الشيطان ،مكروه محبوب ...رسعان ما تنطفىء
هذه ااالبتسامة...
63
رزبلا لالد باقنلا
ثريا مل ترغب يف ارتداء النقاب .تكتفي بوضع الحجاب عىل رأسها .يف البيت ،حيث
نتسعد للخروج ،هي بحجابها وأنا بنقايب ،أضع اللمسات األخرية :كعب عالٍ وكحل عىل
العيون ،وتوسيع الشاش الذي عىل العيون أكرث فأكرث .وألن املشوار كله مشيا عىل االقدام،
أتد ّرب عىل امليش بهذه العباءة الطويلة العريضة ،بذيلها الخلفي ،وقد ص ّمم خصيصا ،كام
علمت ،ليك ال يظهر يشء من "الخلف" لو ه ّبت الريح فجأة ...الذيل ي ْربكني ،ولكن ال أشعر
بأن شيئا تغري" .الصرب" تقول ثريا...
متوجهات اىل املرتو .ويف الشارع ،يتغري هذا اليشء .فجأة ،وعند ننزل اىل الشارع ّ
اللقاء بأول مار يف الشارع ،أشعر بقوة هائلة .ال أحد يستطيع أن يتف ّرس يف وجهي ،او يح ّدق
يل حكام ،ال أحد يعرفني .أنا لست امرأة خفية ،و لست بتفاصيل من جسمي ،أو يطلق ع ّ
شبحا؛ بل دبابة ،أتقدم مثل الكتلة الواحدة ،بثقة ،محمية من سالح النظر .االجنبيات اللوايت
التقيتهن يف هذه الطريق ،أو اللوايت التقني يب ،وأنا يف هذا النقاب ،ال ينظرن ا ّيل مبارشة ،كام
يفعلن يف حالتي العادية ،وأنا سافرة .يسرتقن النظر ،مثل لصوص خائفني من جرم مشهود.
انهن يخفن مني .هو الخوف من عجز نظرهن عن معرفة وجهي ،هويتي .خوف من
مجهول غامض ،خطِ ر بالتأكيد .ليس من املتسبعد ان تكون االجنبيات الخائفات من منظري
قد ربطن بيني وبني السواد الذي يتختبىء خلفه االرهاب الديني االسالمي.
يف املرتو ،أنتبه اىل "االنتامء الطبقي" لنِقايب .ثريا قالت يل انه "شعبي" .ولكن يف املرتو
أقابل نقابا أكرث "شعبية" :املنقبة الحاملة طفلها والتي أوسعت يل بنوع من الرتحاب ،كانت
عيونها منطفئة ،ش ْبشبها من البالستيك ونقابها من القامش الصناعي البايل وااللوان الباهتة
املختلفة؛ كأنها صنعت نقابها من القامش املتوفر لديها .وأنا من ّقبة هكذا ،أمامها ،بالصورة
التي وصفتها ثريا بالـ"شعبية" ،أتخيل أنني من منقبات طبقة شعبية معينة؛ أقل شعبية من
وددت لو اسألها ،من أين هي آتية .من واحدة من العشوائيات ُ تلك املنقبة الجالسة بقريب.
الواقعة قريبا أو بعيدا عن خط مرتو حلوان-املرج الذي يربط بني جنوب القاهرة ورشقها؟
لكن يشء ما يلهيني عنها .ذلك االحساس بالهيبة واالحرتام يف مقصورة النساء للمرتو .تأخذين
يل مثل االدانة الشديدة املقارنة ،بني االيام العادية واآلن :يف االوىل كانت األنظار ّ
تحط ع ّ
لسفوري ،وشعري املسرتْسل .ويف الثانية ،ها أنا أنعم بدفء سوف يالزمني طوال التجربة.
املقارنة تستمر عندما نخرج من املرتو ،ومنيش يف شوارع وسط البلد ،متجهات نحو
مقهى "غرويب" الصارم املتقشف ،الواقع يف ميدان طلعت حرب .أنا أميش اآلن مرتاحة .عند
مروري يف وسط زحمة الرجال ،يبتعد هؤالء اىل جوانب الطريق ،ويكرثون من ذكر ارادة
الله .كل الدفاعات التي كنت أعبىء نفيس بها اثناء التجول "العادي" يف هذه الشوارع ...كل
الدفاعات أرخيت .جسمي مرتاح رغم تعرثات الذيل والحرارة والعطش .بالتأكيد تقاسيم
وجهي مسرتْخية ايضا ،مقبلة بشغف عىل هذا املشهد الجديد؛ ال أنا مستف َّزة ،وال هم
مست َفزون .كنت يف االيام العادية ،أميش يف أسواق البلد مشية الرجل املتأهب ألي اعتداء،
ألي تحرش .وها أنا أميش اآلن مثل امللكة ،كأنني أرتدي درعا ،ال نقاب .أفكر وأنا أميش :هل
64
رزبلا لالد باقنلا
خضت التجربة يف شوارع بريوت؟ هل كانت سوف ُ ستكون هذه االحاسيس هي نفسها لو
تغريني التجربة هناك؟ هل ستنضح باملعاين نفسها؟
لكنني ألعب أيضا :مبن ينظر ايل ومبن ال ينظر .لعبة تعلمتها من منقبات املرتو؛ حيث
ال تسمح املنقبة بالنظر اليها اال اذا هي سمحت ،وبحكم نقابها وحده .أستمر باللعبة ،حتى
يل ،وأستأذن ثريا للخروج قليال اىل وصولنا اىل املقهى .أريد أن ارشب شيئا باردا .يحل الح ّر ع ّ
مدخل املقهى بحثا عن ممر هواء .وألننا دخلنا املقهى من الباب الخلفي ،مل أنتبه لجنود
األمن املركزي يقفون صفوفاً عىل هذا املدخل بالتحديد ملراقبة أنشطة حزب "الغد" املعارض
يشجعني عىل يف الطابق الرابع من العامرة نفسها .أتردد قليال ،ولكن إغضاءهم برصهم عني ّ
الوقوف .هكذا عند املدخل ،من دون غرض محدد سوى طلب الهواء .فتأيت املقارنة تلقائيا:
بالتأكيد ،لو كنت سافرة ،ملا كان بوسعي التمتع بالهواء عند ممراته ،من دون حساب.
اآلن ذروة املشوار :نتوجه اىل شارع طلعت املتفرع من ميدانه ،حيث أقسمت اليمني
مرة أن ال أعود وأزوره اال بعد التسعني من عمري .طبعا بسبب التحرشات الفظة" .الدرع"
فلنمش يف وسطِ زاد من ثقتي وقلت لرثيا" :هيا نأخذ الثأر من شارع طلعت حرب!...
الشارع ،بني السيارات ،ولرنَ ."...كانت املتعة :متعة الحصانة ال الثأر .ومج ّرد الحصانة ،عدم
االستباحة ،بالنظر أو اللسان أو اللمس ،تُغني عن متعة الثأر.
انتهى املشوار .نوقف سيارة تاكيس .زحمة السري خانقة والتاكيس شبه واقف .وسط
رجل برأسه من نافذة سيارة التاكيس؛ رجل وقور ،وعىل وجهه أسف يل ٌ يطل ع ّ
هذا كله ّ
ومرارة ،يقول يل الهثاً" :مش حرام اليل بتعمليه بنفسك ده؟!" .حرام ديني؟ أم حرام
"جاميل"؟ بالتأكيد ال يقصد بأن ما ألبسه حرام دينيا .انه عىل األرجح حرام "جاميل"؛ أي ان
ما بدا مني من خلف النقاب "يوعد" باألجمل منه .وهذا األجمل ،حرمت عيون هذا الرجل
بالتمتع به ،وحرمت نفيس ايضا بالتمتع مبتعة نظر غريي .ولكن من قال ان الوعد بالجامل
يقل متعة عن تحقيقه؟ رمبا تفكر املنقبة املهتمة بأثر أنوثتها عىل هذا النحو ،ورمبا ال تفكر، ّ
أو تفكر بيشء آخر...
ملاذا أختار النقاب اذن ،لو كان الحجاب مفروضا بقانون؟ رمبا ألن النقاب سوف يتيح
يل أن اسخر من قوانني الدولة ،بعدما ُأشبعت قوانني املجتمع فوىض وتقهقراً .وإال فالهروب
اىل الجحيم.
65
امللف
خطوط التامس
الخريطة البغدادية
تتمرد عىل منعزالتها
شاكر األنباري
متتلك بغداد أمناطا عدة من التوزع السكاين ،يشمل كامل خارطتها تقريبا ،وللنمط عالقة
بالدين ،والطائفة ،والقومية .واملعروف أن سكان بغداد ،البالغ عددهم أكرث من ستة ماليني
نسمة ،يتألفون من الشيعة والسنة ،املسلمني واملسيحيني ،العرب واألكراد والرتكامن ،مع
قليل من اإلثنيات كالصابئة واألرمن والشبك .حتى العام ألفني وثالثة ،أي سنة إسقاط
النظام البعثي ،واحتالل العراق ،واقتالع الدولة من جذورها ،وحل الجيش والقوى األمنية،
كانت األمناط متداخلة ،بهذه النسبة أو تلك ،يف معظم املناطق ،مع غلبة هذا املكون
عىل ذاك يف مساحات معينة ،ومن النادر أن يجد املرء منطقة صافية ،أي تقترص عىل هذه
الطائفة أو تلك ،هذه القومية أو غريها .بغداد ظلت مغناطيسا جاذبا للجميع ،منذ نهاية
الدولة العثامنية وحتى اليوم ،ألسباب كثرية .هي مكان عمل ،وخدمات جيدة ،وعاصمة،
ومقصد الطالب للتعلم ،والضباط الطامحني اىل السلطة ،والشيوخ ،والهاربني من االقطاع
سابقا أو من التقاليد العشائرية ،ومن االضطهاد الجنيس والديني والقومي .قصدتها مئات
النساء هاربات من عائالتهن ،وآالف األرس التي اضطهدت يف قراها أو مدنها .قصدها كذلك
رعايا دول أخرى مثل الهنود ،الباكستانيني ،االيرانيني ،واألكراد الفيلية الذين قدموا من ايران
للعمل والزيارات الدينية ،فلبثوا يف أزقة العاصمة بعد أن تقطعت بهم السبل ،تزوجوا أو
وجدوا مصدر رزق .كانت نسيجا ملونا يختلط فيه أبناء املحافظات كلهم ،ولهذا مل تعد
تحسب عىل أي من الطوائف أو القوميات.
أفرز هذا االشتباك املعييش اليومي ،ولعقود متتالية ،نتائج واضحة عىل املجتمع
البغدادي .حصل تزاوج كبري بني هذا الخليط غري املتجانس .العائالت تواصلت يف ما
بينها ،تنوعت واختلطت قوميا ،ومذهبيا ،وحتى دينيا بعض األحيان .مثة مسلمون تزوجوا
مسيحيات أو العكس ،وكان مثة تالقح يف الثقافات ،والطقوس ،واملعتقدات ،أذاب لحد كبري
الفوارق النافرة ،وجعل التامس ،يف كل األمور ،سلسا اىل درجة واضحة .السني عىل سبيل
املثال يشارك الشيعي يف طقوس عاشوراء ،ويتربك بأرضحة الكاظم والعباس والحسني وعيل،
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
والشيعي يزور رضيح االمام األعظم أيب حنيفة أو يتربك بقرب عبد القادر الكيالين يف منطقة
باب الشيخ .وكان املسلمون يشاركون املسيحيني يف أعيادهم ،ويدخلون كنائسهم تربكا أو
مشاركة ،وكان الصابئة يقيمون طقوسهم عىل ضفاف دجلة معمدين أبناءهم يف الهواء
الطلق .وكانت أعياد نوروز الكردية يحتفل بها يف أزقة باب الشيخ ،والفضل ،وحي األكراد
والحيدرخانة .الطقوس كانت مشرتكة بني الجميع ،يف رمضان ،واألعياد ،واملناسبات الدينية
واالجتامعية والوطنية .التامسات بني الطوائف واالثنيات مل تكن مصمتة ،بل بالعكس ،كانت
مهلهلة تكاد تختفي يف مراحل معينة ،ويف أزمان تذوب .رغم غلبة البعد االسالمي للمدينة
اال أنها مل تعدم وجود ثقافات فرعية لها خصوصية دينية ،وسلوكية ،وطقوسية ،ومن ذلك
البهائيون واالزيديون وامللحدون واملاسونيون والرشكس واألرمن .تنوع بغداد مل يكن وليد
قرن واحد فقط ،بل بدأ منذ تأسيسها عىل يد أيب جعفر املنصور ،وظلت أحيانا موئال
للغزاة من أتراك ،وفرس ،ومامليك ،وطاجيك ،وأوروبيني .تشكلت طبقات من ذلك االندماج،
والتزاوج ،والتالقح ،ماعاد الخالص منه سهال .من يريد جعل بغداد لونا واحدا عليه أن يه ّدها
من األساس ،ويعيد بناءها عىل ضوء مجازر ،وقتال ،وحروب .وهذا ما كاد يحصل يف العقد
األخري ،وتم ايقافه بتناغم ظروف كثرية وأسباب عديدة ،مل تكن لتنجح سوى يف العراق رمبا،
وهذا جزء من متيزها وتجربتها يف العرص الحديث.
70
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
موىس بن جعفر ،امللقب بالكاظم ،سوى النهر .اشتهرت األعظمية منذ بدايات القرن املايض
بكونها مكان سكن للضباط الكبار ،والنخب السياسية ،واملوظفني امليسورين ،ورجال الدين،
وظلت مركزا لالحتفاالت الدينية منذ قرون كاملوالد النبوية ،واألعياد ،واملظاهرات القومية،
وغريها .يف األعظمية نسبة صغرية من الشيعة كذلك .لهذا تعترب منطقة سنية صافية تقريبا،
ولطاملا هيمن عليها الفكر القومي ،والفكر االخواين ،ثم كانت الغلبة منذ السبعينيات ألفكار
البعث ،فاعتربت موطنا للفكر البعثي وقادته حتى اللحظة األخرية .وقيل أن آخر ظهور
لصدام حسني يف التاسع من نيسان ألفني وثالثة ،حني دخلت الدبابات األمريكية اىل القرص
الجمهوري ،كان يف االعظمية ،قبل أن يغيب غيبته العجيبة ،ثم ليقبض عليه الحقا يف
حفرته التكريتية بعد أقل من سنة .األمر ذاته ينطبق عىل مناطق أخرى من بغداد :الشعلة
والكاظمية والحرية شيعية ،الدورة واملنصور سنيتان ،البياع والسيدية مختلطتان ،وكذلك
بغداد الجديدة والشعب والصليخ .مناطق االختالط تكون فيها النسب الغالبة للشيعة
أو السنة ،لكن االختالط كبري ،وكذلك بغداد الجديدة التي تحتوي عىل نسبة عالية من
املسيحيني ،مثلها مثل الدورة السنية .التامس بني هذه املناطق ارتدى شكلني ،أو وجهني،
األول متاس املناطق الصافية ،وهذه متت فيها املواجهات بني املنطقة الصافية واألخرى
الصافية أو املختلطة ،كام جرت األمور بني الثورة واألعظمية .بينام كان الوجه اآلخر للتامس
حني تتواجه مع نفسها ،يف املناطق ذات االختالط كام حدث يف السيدية ،والدورة ،حيث
كانت املواجهات تتم يف داخل املدينة ذاتها ،بني شارع وشارع ،لتهجري السنة او ابادتهم ،أو
لتهجري الشيعة أو ابادتهم ،بينام كان املسيحيون ضحايا للطرفني تقريبا .اذ هم مل يواجهوا
أيا من القوى املتصارعة ،لعدم امتالكهم مليليشيات مسلحة ،وكذلك لنسبتهم الصغرية أمام
املتصارعني الكبار.
فر املسيحيون من مناطق القتل التي اندلعت تدريجيا بني الطوائف بعد انهيار
النظام يف الحرب ودخول أكرث من مئتي الف جندي من مختلف الجنسيات اىل العراق .رسا
قسم منهم يف قرى املوصل املسيحية وقصباتها ،كتلكيف وشيخان وسنجار ،أو اختاروا بعض
مناطق اقليم كردستان للسكن مثل عينكاوة التي تبعد أقل من خمس كيلومرتات عن مركز
أربيل عاصمة االقليم.
استطاع حزب البعث الذي استمر حكمه حوايل خمسا وثالثني سنة ،القضاء عىل كافة
األحزاب املناوئة له ،ومنها الحزب الشيوعي ،وحزب الدعوة ،واالخوان املسلمني ،وحركة
القوميني العرب ،واألحزاب الكردية .استفرد بالشعب ليصبح الحزب الوحيد املسموح له
بالعمل ،من زاخو شامال وحتى البرصة جنوبا .رضبت األطر املدنية ،والنقابات ،واالتحادات،
والفاعليات االجتامعية كلها ،عدا املرتبطة بذلك الحزب .وبعد تآكل البعث خالل الحروب
السابقة ،والتصفيات الحزبية والعسكرية ،واالنتفاضة التي اعقبت هزمية الجيش العراقي
يف حرب الكويت ،والحصار الذي أكل العقد األخري من القرن املايض ،مل يعد أمام عامة
الناس ،غري البعثيني ،سوى االرتداد اىل الدين ،بشكله املذهبي املتطرف .صار هو املالذ،
71
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
وقفز عىل منظومة الحزب التي مل تعد توفر الحامية سوى لحلقة ضيقة من العائلة الحاكمة
وأقربائها.
شهدت املحافظات الجنوبية حركة ارتدادية تبنت التعاليم الشيعية ،عينها عىل
املجلس األعىل للثورة االسالمية يف العراق الذي نشأ يف ايران ،وفيلق بدر ،وحزب الدعوة
االسالمية املغرتب ،وحركة محمد صادق الصدر يف الداخل ،وهي ما سميت الحقا باملرجعية
الناطقة .فيام تنامت االتجاهات األصولية يف املناطق السنية ،وتداخلت مع طروحات حزب
البعث ،حتى تحول بعض منها اىل حركات دراويش ،كام حدث للطريقة النقشبندية التي
تبناها نائب مجلس قيادة الثورة آنذاك عزة الدوري ،وأصبحت متارس نشاطها األصويل علناً
يف األنبار ،واملوصل ،ودياىل ،وكركوك ،وتكريت ،فضال عن بغداد وغريها من املناطق .وكانت
محكومة بالعداء الشديد للغرب ،والتقوقع عىل املذهب السني ،والوالء لعبدالله املؤمن،
وكان حينذاك صدام حسني .وشكلت بيئة خصبة للقاعدة بعد سقوط النظام يف عام ألفني
وثالثة .الجامهري املفرغة من االيديولوجيا كانت جاهزة لتقبل األفكار املتطرفة مذهبيا ،بعد
أن دخلت القوات متعددة الجنسية وأجهزت عىل الدولة العراقية ،وأطاحت باملؤسسات
األمنية التي حلت بقرار رسمي من الحاكم املدين بول برمير ،مام جرد املجتمع متاما من أية
مرجعية ضابطة اليقاعاته.
72
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
واالرهاب املنفلت .وهي التي فجرت التناحرات التاريخية ،واألسئلة املذهبية والدينية التي
تنظم صفوفه،ظلت كامنة لقرون .وبعد انهيار الدولة مل يعد املجتمع ميتلك أية مرجعية ّ
وتحل رصاعاته ،وتحافظ عىل وجوده املديني .قوة االحتالل فقدت هذا الدور كونها ،منذ
اليوم األول لدخولها بغداد ،فتحت باب النهب والسلب عىل مرصاعيه دون أن تحرك ساكنا.
اعتقدت انها بذلك توفر فرصة للمواطن ليك ينهب مؤسسات الدولة ورموزها ،ويزيح
عدوانيته ونقمته عن الوجود األجنبي امللتبس بني تحرير واحتالل ،متناسية أن هذا الفعل
سيقود الحقا اىل تفكيك املجتمع ذاته ،بل وين ّمي لدى الفرد مشاعر الالانتامء ،والعدمية،
اذ ان الشعور السائد كان هو اختفاء مفهوم الوطن .البارادوكس املرعب هو أن مؤيدي
النظام السابق اعتربوا أن العراق مل يعد وطنا ،كونه خرج من سلطتهم .واملناوئون اعتربوا
أن ذلك الوطن هو وطن صدام والبعثيني ،لذلك شارك الجميع باستباحته .استبيح عرب
تقويض الوزارات ،واملؤسسات ،ورسقة كيبالت الكهرباء ومحوالتها ،ونهبت املخازن ،وتناثرت
السجالت والوثائق بني أجهزة محلية وأجنبية يك تقرأ تاريخ البلد كيفام تشاء .حزب البعث،
والقائد األوحد صدام حسني ،ربطا مصري الدولة والوطن بشخصه ،ومنظومة حزبه .وكانت
االستباحة شاملة .هنا بدأ مفهوم املجتمع يف بغداد يتآكل هو اآلخر ،ليك يصبح مجتمعات
متعددة ،بوالءات طائفية ودينية ،كل واحدة من تلك الشظايا تحاول تسيري شؤونها بنفسها
عرب قواها الفاعلة ضمن حيز جغرايف مصغّر .يف مدينة الثورة عىل سبيل املثال منا جيش
املهدي واتسع ليفرض هيمنته عىل املدينة بقوة السالح ،وباملال ،وااليديولوجيا الطائفية
التي يحملها ،والتي طرحها يك يكتسب رشعية أمام جمهوره .وااليديولوجيا هي أنه قوة
شيعية مسلحة تدافع عن الشيعة ،وتحل مشاكلهم ،اضافة اىل خوض مقاومة عسكرية ضد
قوة محتلة هي جيوش التحالف ،وخاصة الجيش األمرييك.
كان جيش املهدي يدير توزيع الحصة التموينية ،ويوزع البنزين ،ويحل املشاكل بني
السكان ،ويوزع نقاط حراساته يف كل شوارع مدينة الثورة ،ويهيمن عىل املجالس البلدية
يف املنطقة ،ويدرب عنارصه عىل السالح .حل محل أجهزة الدولة املنحلة ،يف مناطق نفوذه
عىل األقل .ومتددت مناطق نفوذه اىل ساحات أخرى من بغداد كمدينة الحرية ،والشعلة،
وبغداد الجديدة ،وغريها .وهو ،بسيطرته عىل هذه املناطق ،خاض مواجهات عنيفة مع
التنظيامت املسلحة التي انبثقت بعد سقوط النظام مثل جيش املجاهدين ،وأنصار السنة،
والقاعدة يف بالد الرافدين ،وكتائب ثورة العرشين ،وجيش عمر .وكلها فصائل سنية متطرفة
يف تدينها املفتعل ،ويف محاربتها للميليشيات الشيعية .ويف الطريقة ذاتها رفعت القاعدة،
والفصائل املسلحة القريبة منها ،شعارا مشابها :حامية السنة ،ومحاربة املحتل ،وتنظيم
شؤون الحياة يف املناطق التي تسيطر عليها بغياب الدولة املنحلة .وبشكل عام كانت القوى
الشيعية املسلحة تنظر اىل هذه التنظيامت باعتبارها امتداداً لحزب البعث وبقايا النظام
وأجهزته .بينام تنظر القوى السنية اىل امليليشيات الشيعية باعتبارها موالية اليران ،وللمحتل
األمرييك ،وتريد تحويل العراق اىل محمية صفوية .ويف السنوات تلك راجت فكرة مرعبة
73
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
للسنة ،ودول الجوار ،وهي أن هناك مخططا لتشييع بغداد .وهذا معناه ترشيد السنة من
مناطق سكنهم ،أو تصفيتهم جامعيا .ومل تكن املواجهات تعتمد عىل طروحات فكرية أو
مناظرات آيديولوجية ،بل عىل مواجهات مسلحة للسيطرة عىل أكرب مساحة ممكنة من
املناطق املختلطة طائفيا.
74
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
أمارة اسالمية للقاعدة بعد أن صفي التواجد الشيعي واملسيحي ،والغزالية سنية صافية،
وصارت منطقة السيدية تعيش برعب ،فيمكن للجميع أن يقتل الجميع كونها مختلطة
بنسبة كبرية .وكان الرديف للتصفيات اما جيش املهدي أو القاعدة .املواطنون العاديون
أجربوا عىل االصطفاف طائفيا مع مقاتليهم ،فالحرب أصبحت عىل الهوية .يف تلك الحقبة
كان البعض من السكان ميتلك أكرث من هوية أحوال مدنية مزورة يك يعرضها عىل أي حاجز
وهمي يف الطريق .أما من يخطئ بابراز الهوية املناسبة فمصريه املوت .االسم وحده سبب
كاف للقتل .عمر يف مدينة الثورة يقتل ،وعبد الزهرة عىل طريق الرمادي األردن ّ
يقطع
ويرمى عىل الرصيف .لذلك كانت الهويات املزورة تلك عادة ما تستخدم أسامء وهمية،
محايدة ،ال ميكن نسبتها اىل هذا املذهب أو ذاك ،هذا الدين أو غريه .والقاتل هو القاتل،
حسب القاعدة االنسانية املتوارثة ،وليس هناك قتل مرشوع وآخر غري مرشوع ،اذ استدار
القتلة من الطرفني ،وبشهية الضباع ،ليلتهموا أبناء جلدتهم ،ومذهبهم ،ليصبحوا أخريا
قتلة محرتفني ،ومتسيدين عىل اتباعهم ،فارضني سطوتهم عىل الناس يف املأكل ،واملرشب،
حجبت النساء ،وحوربت املوسيقى ،وقتل الحالقون ،ومنعت الخمور والحديث ،والسلوكّ .
والسينامت ،وحوربت األفكار غري الطائفية ،ومنعت الصحف عدا التي ترىض عنها الجامعات
تلك ،وأغلقت املعامل والرشكات واملطاعم اال تلك التي تدفع جزية ألمراء القتل .ورشعت
الصورة تزداد قتامة يف بغداد يوما بعد آخر .وكان الخطر ميتد اىل العراق كله ،وصارت
خطى الحرب األهلية تطرق بقوة ،مع تصاعد الهجامت بالسيارات املفخخة عىل األسواق
الشعبية ،واملدنيني يف املناطق الشيعية الصافية .متددت امليليشيات لتبتلع القوى السياسية
املعتدلة ،وتبدأ بتهديد املرجعيات الدينية ،وشيوخ العشائر ،واألكادمييني ،واملؤسسات املدنية
كاملستشفيات واملدارس والدوائر الحكومية ،والجامعات ،متهيدا لتمزيق آخر الخيوط التي
تصنع مجتمعا مدينيا ،فرح ذات يوم بانزياح غيمة البعث وعائلة الرئيس .ومل ينج من هذا
التوسع املدجج بالقتل والسالح ال الشيعة وال السنة ،ال مؤيدو النظام السابق وال املعارضون،
فسكني املوت راحت تحصد الكل .والوطن برمته صار ساحة للمواجهة .وهنا دق ناقوس
خطر ضخم انتبه له الجميع فجأة.
75
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
والصليخ ،وذلك ردا عىل هجامت القاعدة بالسيارات املفخخة واألحزمة الناسفة يف مدينة
الثورة والشعب والكاظمية والشعلة .وهذا ما تنبه اليه املرجع الديني السيد السيستاين بعد
تفجري مرقد االمامني العسكريني .بحكمته فهم أن املعركة مل تكن مع السنة بل مع االرهابيني،
فثمة ادانة كبرية من قبل السنة للهجامت االرهابية تلك .وكان هذا مفتتحاً لنزع الغطاء
الرشعي عن جيش املهدي وامليليشيات األخرى .وعىل الجانب اآلخر اقتنع رجال دين سنة
كرث اىل اللعبة الطائفية تلك ،وأصدروا فتاوى تحرم قتل الشيعة ،وتدعو اىل التوافق واملحبة
بني مكونات املجتمع ،ورفض الفكر التكفريي الذي جلبته القاعدة يف املناطق السنية وقاد
اىل تصفيات كثرية للقيادات السنية ذاتها ،مبن فيهم شيوخ عشائر ،وأكادمييون ،وساسة دعوا
اىل تجنيب البلد نار حرب أهلية تسارعت خطاها ،وشايعوا الدستور والعملية السياسية.
بدأت هناك مؤمترات مصالحة ،وصلوات جامعية يف جوامع وحسينيات ،ولقاءات
سياسية ،ووفود شعبية بني املناطق املختلطة والصافية ،ساعد يف نجاحها عوامل عدة .من
ذلك وجود عشائر عراقية مختلطة سنية وشيعية ،مثل العيساويني والتميميني ،والعلوانيني،
والجبور ،وشمر ،وغريهم ،انتبهوا اىل حقيقة أنهم يذبحون بعضهم بعضا دون أن يعوا.
تنامي أجهزة الدولة من رشطة وجيش ومخابرات بدأت تنظف بيئتها من امليليشيات ،مام
أوجد جهات محايدة نسبيا يف الرصاع بني نقاط التامس ...أخذت الثقة تنمو قليال قليال يف
املناطق السنية او املختلطة بتلك العنارص .املصاهرات الواسعة بني العوائل يف املجتمع
البغدادي ،اذ نادرا ما كانت هناك عائالت صافية ،كانت فرامل خفيفة إلبطاء السقوط يف
الهاوية .انقالب التفكري االسرتاتيجي األمرييك الذي اعتمد يف بداية دخول قوات التحالف عىل
الفصائل الشيعية كونها حليفة ما قبل الحرب ،وكونها أيضا مل تقف عىل عداء مع وجوده.
ونتيجة للتغلغل االيراين املحسوس ،واملبالغة يف العنف ضد السكان عرب بعض امليليشيات،
ابتكرت القوات األمريكية فكرة جديدة اال وهي التفاوض مع بعض القوى السنية املسلحة
التي تختلف مع القاعدة ،ويهمها مصري العراق ،والوقوف يف وجه النفوذ االيراين .وهكذا
استطاعت التفاوض مع جيش املجاهدين ،وأنصار السنة ،وكتائب ثورة العرشين ،وشيوخ
العشائر يف املناطق السنية ،والقوى السياسية ،والضباط القدامى ،لتبتكر فكرة الصحوات،
وكانت ابتدأت بصحوة األنبار التي غريت املعادلة جذريا يف الواقع العراقي.
يف غضون ألفني وسبعة وجهت تلك القوى ،وبدعم من الجيش األمرييك ،رضبة
قاصمة لتنظيم القاعدة ،يف أغلب املناطق الغربية من العراق ،ليمتد التأثري اىل العاصمة
ذاتها ،فأنشئ يف كل منطقة سنية كيان للصحوات ،تك ّفل بتصفية التنظيامت التكفريية من
جذورها ،خاصة وأن املجاميع املسلحة تلك تعرف بعضها بعضا مبا يف ذلك عنارص القاعدة،
ودولة العراق االسالمية كام سميت الحقا .وكان هناك تنسيق واضح بني الصحوات ،والقوات
األمريكية ،وقوى األمن العراقية ،مبباركة القوى السياسية أجمع ،سنية وشيعية وكردية .هذا
عىل صعيد امليليشيات السنية ،لكن جيش املهدي ظل عىل قوته ،يسيطر عىل املناطق
الشيعية الصافية ،ومنها معاقله الرئيسية يف مدينة الثورة ،والشعلة ،والحرية.
76
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
رضب القاعدة يف املناطق السنية سحب البساط من تحت اقدام ميليشيا جيش املهدي،
خاصة ورقته التي يقول فيها إنه يدافع عن الشيعة ضد التكفرييني والقاعدة .ويف الوقت
ذاته طرح رئيس الوزراء نوري املاليك وحزبه ،يف خطوة متقدمة ،فكرة دولة القانون ،حيث
السالح ينبغي أن يكون يف يد الدولة فقط .الدولة هي التي يفرتض أن تحمي مواطنيها ،وال
فرق بني املواطنني مهام اختلفت طوائفهم وأديانهم .هذه الرؤية وافق عليها الجميع تقريبا،
صاحبها مرشوع املصالحة الوطنية مع من مل تتلطخ يداه بدم العراقيني ،خاصة البعثيني،
والضباط الكبار ،واملؤيدين السابقني لحزب البعث .وهنا كان الجو مهيئا لرضب الطرف
اآلخر يف املعادلة ،معادلة العنف الطائفي التي ولدت ثم ترعرعت يف نهاية الفني وخمسة
مع تفجري املرقدين العسكريني يف سامراء ،أي ميليشيا جيش املهدي .خالل املتغريات تلك،
وتصاعد الهجامت بالسيارات املفخخة ،والتحضري لرضب جيش املهدي يف البرصة ،والديوانية،
والكوت ،وبغداد ،تفتق ذهن القوات األمريكية عن فكرة املنعزالت للسيطرة عىل األماكن
املكتظة بالسكان ،مناطق التامس الطائفية ،ومناطق االختالط كذلك .سيطرة مطلقة عىل كل
من يدخل ويخرج من تلك األماكن .وهكذا أحاطت مدينة الثورة بسياج كونكريتي يرتفع
حواىل ثالثة امتار ،من البلوك املسلح الجاهز ،وكذلك الدورة واألعظمية والسيدية والحرية
والغزالية وأحياء أخرى ،ومل ترتك سوى منفذ أو منفذين تسيطر عليها نقاط تفتيش تواجد
فيها يف البداية الجيش االمرييك ،ثم الحقا بعد توقيع االتفاقية األمنية ،واالنسحاب من املدن،
الجيش العراقي والرشطة املحلية باالشرتاك مع افراد الصحوات أحيانا.
مل تعد امليليشيات حرة الحركة يف الدخول والخروج للتصفيات الطائفية .كام أصبح
عسريا اخراج األحزمة الناسفة والعبوات املتفجرة ،وانخفضت اىل حد كبري عمليات االختطاف
التي كانت تتم بوضع املختطف يف الشنطة الخلفية للسيارة .الحفاظ عىل وحدة بغداد
صار بتقطيع أوصالها ،عكس مجرى تاريخها الذي اعتادت عليه ،اي عرب التزاوج ،والتالقح،
واالختالط .بذلك انخفض العنف يف املناطق املختلطة ،وساد املناطق الصافية طائفيا هدوء
معقول ،يف ذات الوقت الذي متنت فيه جسد الدولة الجديدة ،وتعمقت التفاهامت السياسية
بني األطراف كلها .التفاهامت أدت الحقا اىل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ،عرب مفهوم
الدميقراطية التوافقية الذي يفسح املجال واسعا ملشاركة األطراف كافة .منعزالت بغداد
يراها املرء بنفور اليوم ،ويرفضها املواطنون كلهم تقريبا ،اال انها كانت حال مؤقتا لوقت
استثنايئ يتطلب السيطرة عىل األرض .ويتفاءل الجميع بزوالها يف أوقات قريبة ،كون
املجتمع بدأ ،قليال قليال ،يستعيد مفهومه املديني ،بعد رفض القوى السياسية ،حتى املتطرفة
منها ،للمحاصصة الطائفية يف الحكم ،أو تقسيم العراق اىل فئات ثالث هي الشيعة ،والسنة،
واألكراد.
املرحلة السابقة تسببت بجروح غائرة يف الروح العراقية ،ومل تعد فكرة املنعزالت
مقنعة ألي شخص ،خاصة وأن البغداديني اليوم ميكنهم الدخول والخروج اىل أي من
املنعزالت تلك دون أن يسألهم أحد عن انتامءاتهم الطائفية والدينية .فقبضة القوى األمنية
77
رابنألا ركاش هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا
محكمة يف هذا الجانب ،وهذا ما يؤمن به الجميع .تجربة بغداد أكدت مبا ال يقبل الشك
حقيقة أن مجتمعاتنا الرشقية ما زالت خارج مفهوم الحداثة ،والدولة منظومة متقدمة
عىل نسيج تلك املجتمعات ،وأن أي ازاحة للدولة ،سواء كانت دولة يقودها حزب واحد أو
مجموعة أحزاب ،سواء كان الحكم دميقراطيا أو ديكتاتوريا ،ستنتج كوارث انسانية ال حرص
لها .إزالة الدولة يقود اىل الحرب األهلية ،هذه البديهية كانت عىل ما يبدو إما غائبة عن
التخطيط األمرييك ،قبل اسقاط النظام ،أو أنها نظرت اىل الواقع العراقي بتبسيط هائل .وكال
اإلفرتاضني أوصال الوضع يف العراق اىل ما كان عليه .لكن األكيد من كل ذلك أن املواجهات
التي حصلت يف بغداد ،رغم أنها عنيفة ،وذات مستويات متعددة ،اال انها مل تحل األسئلة
التاريخية املتوارثة بني الطوائف واألديان .صحيح أن الجميع تقيأ ما بجعبته من مثالب،
وحجج ،ومكبوتات تاريخية تجاه اآلخر ،غري أن فكرة تحطيم الدولة ،مهام كانت صفتها،
أصبحت مرفوضة وينظر لها الشعب بريبة.
78
سودان
الحائط املسدود:
مسائل العروبة واإلسالم يف السودان
حيدر ابراهيم عيل
لدى كل واحد من الشعوب قضية محورية تشغله ك ّله ،باملؤيدين لها أو املعارضنيّ ،
سم
هذه القض ّية قضية قومية ،أو قضية وجود ،أو اسرتاتيجية ،أو ثوابت أمة .فهي التي متثل
الدافع واملسبب واملوجه لكل حركة الجامعة وتفاعالتها ورصاعاتها ،وهي قد تكون روح
األمة ( .)ethosويف السودان كانت القضية هي :الهوية الثقافية أو الذاتية ،وأحيانا الهوية
الوطنية أو القومية .وهذا اختالف شكيل ،ألن املهم أن الجميع يطرح سؤال :من نحن؟ ،هل
نحن عرب أم أفارقة أم مستعربون أفارقة؟.
ومن الوضح أن السودانيني وقعوا منذ البداية يف فخ سؤال بال اجابة ،مفتوح عىل كل
االحتامالت والتفسريات ،ثم بعد ذلك عىل االختالفات والرصاعات .فالهوية مفهوم شديد
التجريد ،وجوهراين ،وثابت ،وأقرب اىل امليتافيزيكيا حني يستخدم يف وصف الجامعات
والنظم وحتى الثقافة .ورغم ذلك ربط السودانيون مهمة بناء الدولة الوطنية ،وتحقيق
الوحدة الوطنية والتنمية ،بتحديد هويتهم .ودخلوا يف مناقشات تضاهي الجدل البيزنطي،
أعاقتهم يف عملية رسم السياسات .اذ مل يكن من املمكن اتخاذ قرار ال يستهدي مبكونات
الهوية .وهذا ما يفرس ملاذا اهتم السياسيون السودانيون كثرياً مبتطلبات وضع دستور دائم
للبالد ،قائم عىل ثوابت االمة وهويتها؟ ،ويف الوقت نفسه أهملوا وضع الخطط للتنمية ومن
ثم العمل عىل تنفيذها.
يصف د .فرانسيس دينق ،االكادميي والديبلومايس الجنويب املرموق ،واملكتوي باملشكلة
مبارشة ،القضية بكثري من الدقة ،حني يكتب" :هل الحرب االهلية يف السودان نزاع بني هوية
عربية-اسالمية يف مواجهة هوية افريقية -مسيحية-وثنية؟ ماهي الهوية الحقيقية للبالد؟
ما هي األسس التي تحدد مثل هذه الهوية؟ ما مدى متثيل التعريف الرسمي الراهن للهوية
للرتكيبة الداخلية للبالد؟ واذا مل تكن ممثلة ،ما هي الهوية األكرث متثيال للسودان؟ وماهي
موحدة؟ هل من املمكن العقبات ،وعىل من تقع مسؤوليات عرقلة تصحيح وتبني هوية ّ
تخطي تلك العقبات لدعم االحساس بهوية تكون للبالد بكل مكوناتها؟ .اذا كانت الردود
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
1 1كتاب :رصاع الرؤى – نزاع الهويات يف السودان .ترجمة د .عوض حسن ،مركز الدراسات السودانية،
،2001ص401
2 2حوار اجراه صالح شعيب ،نرش يف موقع "سودانيز أونالين" وصحيفة "األحداث" السودانية
80
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
النسب (الدم) واللون .وسارع الكثريون اىل القول إن العروبة ال تقوم عىل العرق ولكن عىل
الثقافة ،أو بصورة أدق ،اللغة" :إمنا العربية لسان فمن تحدث العربية فهو عريب" .ولكن
الكثريين من السودانيني مل يقتنعوا أو يكتفوا بعامل اللغة أو الثقافة فقط .اذ كان ال بد
من اكامل ذلك الرشط ،خاصة لدى املواطنني العاديني والذين يتحدثون العامية السودانية،
بتأكيد "مادي" أكرث يتط ّلبه النسب العرويب.
ولفكرة العروبة واالسالم جذورها التاريخية البعيدة لدى السودانيني .اذ تروي املصادر
أن السلطان سليم ،بعد أن أخضع ساحل البحر االحمر ،ودخل الحبشة بقصد الزحف عىل
سنار ،خاطب ملكها عامرة دنقس ( )1534-1505يدعوه اىل الطاعة ،فأجابه" :اين ال أعلم
ما الذي يحملك عىل حريب ،وامتالك بالدي ،فان كان ألجل تأييد دين االسالم ،فاين أنا وأهل
مملكتي عرب مسلمون ندين بدين رسول الله" .وأرسل له مع الكتاب كتاب أنساب قبائل
العرب الذين يف مملكته .وكان قد جمعه له االمام السمرقندي أحد علامء سنار .فلام وصل
الكتابان اىل السلطان سليم اعجبه ما فيهام وع ّدل عن حرب سنار .وقيل إنه أخذ كتاب
االنساب معه اىل اآلستانة ،ووضعه يف خزانة كتبها .3هذا وقد انترشت فكرة شجرة النسب
بني املستعربني السودانيني ،وهم غالبا ما يوصلون نسبهم اىل العباس أو بني امية أو اىل
هارون الرشيد .وهذا مجال واسع مثري للسخرية .فعىل سبيل املثال فقط ،نأخذ الرشايدة
أوالزبيدية ،اذ تقول املصادر" :يفخر الرشايدة بانتسابهم اىل العباسيني واىل هارون الرشيد
وزوجته زبيدة بالذات ،وهم يقولون إن تسميتهم بالرشايدة والزبيدية امنا جاءت بسبب
هذا االنتساب ،ويقول يف ذلك أحد أفراد هذه القبيلة من ديوان :املدائح البهية يف مدح خري
4
الربية ،تأليف الفقري اىل ربه نفاع بركات غويتم الرشيدي أصال والنجدي موطنا:
"أن�����ا ن���ف���اع ب���ن ب���رك���ات ب��ي�ن /وم����وص����ول ب����ه����ارون ال��رش��ي��د
4
أن���ا يف م��وط��ن ال���س���ودان ق��اط��ن /وأص�ل�ي ن��ج��د وال��ش�رق السعيد"
ويحاول الجعليون ،وهم من القبائل الكبرية يف الشامل ،حرص النسب بالعباس أو بني هاشم.
وترسد بعض رواياتهم الشعبية" :ونقول يف نسب العرب التي اشتهرت بجعل ونسلهم.
هم اصحاب الدولة يف بالد السودان ولهم الصولة من مكانتهم من بني هاشم .اما سبب
تشاجر وقع بني بني امية وبني هاشم وخرجت طائفة من بني خروجهم اىل بالد السودانُ ،
هاشم اىل املغرب ثم عادوا اىل دنقال وتغلبوا عىل أهلها" .وللفونج قصة مشابهة ،تقول" :ان
5
العباسيني ملا تغلبوا عىل األمويني يف الشام ونزعوا امللك من ايديهم سنة 132هجرية750 ،م،
أخذ من بقي من االمويني ومن واالهم بالفرار ،فتفرقوا يف أنحاء العامل فذهبت جامعة منهم
اىل اسبانيا فأسسوا مملكة االندلس عىل ما هو مشهور ،وذهب آخرون اىل السودان فأسسوا
3 3نعوم شقري .تاريخ السودان .بريوت ،دار الجيل ،1981 ،ص 100
4 4السني بانقا ومصطفى عيل احمد :الرشايدة ،ب .ن ،.ب .ت ،.ص7
5 5محمد سعيد معروف ومحمود محمد عيل منر :الجعليون.الخرطوم ،دار البلد ،ب .ن ،.ص8
81
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
مملكة سنار".6
هذه هي الهوية – االيديولوجيا التي اخرتعتها النخب الشاملية ،العربية –املسلمة،
ولكنها مل تكن محكمة ومقنعة خاصة حني اعتمدت عىل العرق أو الدم .فقد حدث متازج
اضاع بعض السامت الفيزيقية العربية مثل اللون .وهذا ما جعل سودانيا ينتمي اىل ارسة
"العبايس" يندهش ،ويبحث عن االعذار .فحني خذله لونه ص ّدته فتاة عربية (بيضاء) ،اذ
يبدو أنه أبدى االعجاب أو أراد التقرب ،فقال بانكسار :أألن السواد يغمرين ليس يل فيه يا
فتاة يد!؟
والشاعر صالح احمد ابراهيم ،الذي كتب يف احدى املقاالت "نحن عرب العرب" ،بينّ
ذلك بأن السوداين ليس فقط عربياً ،بل هو أقرب من البداوة والفطرة الصحراوية التي متثل
الوجه الحقيقي للعريب مبا تعكسه اللغة واالخالق والروح القومية".7
ولكن شاعرنا يواجه تجربة تجربه عىل موقف مختلف ،فيقول:
"أنا من افريقيا حرارتها الكربى وخط االستواء".
ويقول يف قصيدة بعنوان :فكر معي ملوال (اسم شائع بني الجنوبيني):
"ك ّذاب الذي يقول يف السودان إنني الرصيح ،إنني النقي العرق ،إنني املحض ...أجل
ك ّذاب".
وتواجه الهوية العربية بعدد من املشكالت واالشكاليات يف حالة التحديد الدقيق .اذ َ
تظهر ثنائيات عديدة ،عىل رأسها العروبة عند العامة ،التي تكتفي بعروبة القبيلة املستندة
عىل النسب واألصل ،مقابل عروبة املثقفني والنخب وهي سياسية (تتمثل يف احزاب البعث
والنارصيني والقوميني العرب) وثقافية تظهر يف نقاشات وحوارات االدباء والكتاب .ويف
كثري من االحيان ،يتقاطع املوقفان ويستخدم املثقفون مقوالت العامة لدعم قضاياهم،
خاصة تلك التي تحتاج اىل سند شعبي .وقد ترسخت "عنرصية عروبية وقبلية" يف الوجدان
السوداين ،ولألسف الزم ذلك الشعور العنرصي واملوقف غري املتسامح الحرك َة الوطنية منذ
بدايتها ،ثم سارت عىل نفس الطريق ،االحزاب السياسية منذ نشأتها االوىل .ومع الزمن،
اصبحت العنرصية السافرة أواملبطنة ،جزءا اصيال من السياسة ونظام الحكم حتى اليوم.
كانت أول انتفاضة وطنية ضد االستعامر ،ذات توجه قومي ،قد متثلت يف هبة أو
ثورة 1924بقيادة عيل عبد اللطيف .ولكنها اخمدت رسيعا ،لوقوف زعامء القبائل العربية
والطرق الصوفية ضدها .وقد أفصح عن املوقف العنرصي ،املعبرَّ عنه قبليا ،الصحايف حسني
رشيف ،بقوله" :ان البالد قد اهينت ملا تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز
يف املجتمع .وان الزوبعة التي أثارها الدهامء ،قد ازعجت التجار ورجال االعامل" .ودعا اىل
استئصال شأفة اوالد الشوارع" :ذلك أن الشعب السوداين ينقسم اىل قبائل وبطون وعشائر
82
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ ،وهؤالء هم اصحاب الحق يف الحديث عن البالد .من
هو عيل عبد اللطيف الذي أصبح مشهورا حديثا وإىل أي قبيلة ينتمي؟" 8ورغم أن عيل
عبد اللطيف سوداين من قبيلة الدينكا ،فألن قبيلته غريعربية مل يعرتف بها الكاتب كقبيلة.
ومثل هذا الحديث ليس تاريخا ،بل استمرت مفاعيله حتى اليوم .فحني يكتب الطيب
مصطفى ،صاحب صحيفة "االنتباهة" عن باقان اموم ،االمني العام للحركة الشعبية ،يقول
نفس الكالم ضمنا وتلميحا ألن الظروف مل تعد تسمح له بنفس الرصاحة السابقة .ويظل
املوقف والشعور كام هام ال يتغريان ،وذلك ألن املجتمع السوداين راكد ،مل تتغري كثريا عالقاته
االنتاجية ،وال وسائله االنتاجية ،خاصة يف الريف والبوادي.
يف تلك الفرتة املبكرة من تاريخ الحركة الوطنية ،كان يتم التعبري عن العروبة من
خالل العالقة مع مرص واملوقف منها .وظهرت حينئذ دعوات الوحدة أو االتحاد مع مرص.
وكانت هذه دعوات متقدمة يف ميدان الفكر والسياسة واالدب ،يف ذلك الوقت ،ولكن ال
يسمح الحيز املتاح ،واملَقام ،مبتابعتها بإسهاب .اال ان الحركة الوطنية وبالذات االتحاديني،
تطلعوا شامال واهملوا الجنوب املختلف واملعوق .وكأين بهم ،يريدون اوال اثبات عروبتهم
ثم يلتفتون بعد ذلك اىل التنوع واالختالف يف وطنهم .لكن الشامليني مل يلتفتوا اىل الجنوب،
حتى حمل السالح ومترد بعنف .وبدأ التنوع الثقايف يفرض نفسه بوضوح ،وتقدم موضوع
الهوية مجدداً ،ولكن يف أجواء التوتر والنزاع والخصومات الحادة .ووسط الحرب األهلية،
انشغل السودانيون بتعريف انفسهم وتساءلوا من نحن؟ ،وهو سؤال يف عمقه يدل اىل أن
السودان بالفعل هو تعبري جغرايف ،باعتبار أنه مل يعرف خالل تاريخه -وهذا موضوع شائك
وطويل -الدولة املركزية وال املجتمع املوحد وال الثقافة الشاملة ،الجامعة.
لقد برز موقف يقبل التعدد الثقايف نتيجة صدمة الحرب ،ويف نفس الوقت ال يخجل
بصفة الهجني أو الخليط أو الخالسية يف وصف الشامليني املستعربني .وميكن التأريخ لهذا
االتجاه بكتابات املحجوب املبكرة ومعارك محمد محمد عيل حول قومية االدب السوداين.
ثم تجي مدرسة "الغابة والصحراء" ،يف ستينات القرن املايض ،كمحاولة اصيلة ولكن قصرية
العمر .وللمفارقة ،فإن أصحابها مل يط ّوروها ،بل أنكرها بعضهم .وكان لبعض روادها ومضات
وارشاقات يف تحديد الهوية ،أهمها وأعمقها قصيدة "سنار" للدكتور محمد عبد الحي ،يف
قوله:
"افتحوا للعائد التائه أبواب املدينة
– –بدوي أنت؟
– –ال
– –من بالد الزنج؟
– –ال
83
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
84
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
85
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
عىل الوجه أي الفصود والعالمات عىل الخدين ،لتمييز كل قبيلة عن أخرى .وقد ساد
الخوف وعدم االمان بني القبائل .ولذلك ضُ خّ م البحث عن خصائص لتصنيف من هو
"العبد" أو "الحر" .واهتم السودانيون بهذا التصنيف كثريا يف تحديد عالقاتهم االجتامعية
وتراتبهم االجتامعي ومكانتهم .وقد درج الشامليون عىل تصنيف الجنوبيني ،بال تردد ،يف
موقع"العبيد" مع ما يرتتب عليه من تعال معلن أو مضمر .وهذا ايضا ليس من التاريخ،
فالكلمة مستعملة استعامالً عادياً ،ومام يدهشني أن االجيال الشابة تستخدمها دون حرج
كبري .وتقدم روايتا "طائر الشوم" لفرانسيس دينق ،و"الحنق" لشوقي بدري ،وصفا حيا لهذه
الوضعية .فمن املالحظ أنه تم الغاء مؤسسة الرق قانونيا ورسميا لكنها استمرت كثقافة
حية يصعب انهاؤها بالقانون أو بالقوة .وغالبا ما ُيتخذ التزاوج بني املجموعات املختلفة
معياراً جيداً ودقيقاً لتحديد املكانة .وظلت تثري اهتاممي منذ مدة ،قضية عرضت عىل
املحاكم يف منتصف سبعينات القرن املايض أي قبل أربعة عقود .فقد حكمت املحكمة
االبتدائية بالخرطوم بعدم رشعية زواج شاب بفتاة ،ألن يف "دمه" بقايا رق أو عبودية .ويقال
يف العامية السودانية ملثل هذه الحالة "فيه عرق" ،فيام برر القايض حكمه بعدم الكفاءة
بني الطرفني .ويف ما ييل منوذج للغة املستخدمة يف الحكم من قبل محامي أهل الفتاة..." :
االحرار الذين مل يجر الرق يف أصلهم فهم أك ّفاء لبعضهم إن استووا يف النسب ،واملوايل من
جرى يف أصلهم رق .فمن جرى يف أصله رق ليس كفئا ملن جرى يف أصله الثاين رق وأصله
األول حر ،اذن املوايل أنفسهم ليسوا أكفاء لبعضهم بعضاً ناهيك أن يكونوا أكفاء لألحرار،
وموكلته تطالب بالزواج ملن جرى يف أصله األول رق وهو موىل من أهايل نورى مركز مروى،
وهي من أصل حر أماً وأباً ،فـ[هو] إذن ليس كفئا لها ،والرشيعة تأىب هذا الزواج" .12هل
نصدق أن هذا نقاش يف محكمة سودانية يف نهاية القرن العرشين؟ ويف بلد ميكن أن يكون
موحدا ودميوقراطيا؟.
86
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
االخوان املسلمني املرصيني ،بربط االستقالل منذ الوهلة االوىل بـ"معركة" الدستور االسالمي.
فقد تزامنت متاما ،ودون أي فارق زمني ،حملة الدعوة للدستور االسالمي مع االعالن الرسمي
لالستقالل .ففي 1955/12/11-10وجه االخوان املسلمون و"جامعة التبشري االسالمي
واالصالح" الدعوة اىل الهيئات االسالمية يف السودان ،الجتامع للنظر "يف أمر الدستور حتى
يجيء متفقا مع ارادة الشعب السوداين املسلم ومستندا اىل كتاب الله وسنة رسوله (ص)".
وقد استجاب اىل هذه الدعوة العاطفية والتي لعبت عىل اوتار العواطف الدينية ،اعداد
كبرية من اعضاء االحزاب السياسية والجمعيات الخريية والطوعية واالندية والجامعات
الثقافية .وتكونت جبهة الدستور االسالمي ،وأعلنت أهدافها كام وردت يف املذكرة التي
صاغها الشيخ حسن مدثر ،قايض قضاة السودان يف ،1956/11/18عىل النحو التايل" :ان
القوانني التي سنها املستعمرون –وهم ليسوا مبسلمني -أباحت رضوبا من املعايص التي
ح ّرمها االسالم ،وقد فرضوها مبا لهم من سلطان وقتئذ وهي قوانني ال ترعى عقيدة األمة
وتقاليدها ،ولنئ ُأكره الناس عىل االذعان لها يف املايض ،فليس مثة ما يسوغ قبولها بعد زوال
الحكم االجنبي .ويتعني عىل أهل السودان -وسوادهم األعظم يدين باالسالم -أن يضعوا
دستورا اسالميا وأن يتخذوا القوانني التي تحمي عقيدتهم وتقاليدهم العربية االصيلة".
واصبحت هذه املذكرة هي "مانيفستو" االحزاب الطائفية املهيمنة والحركة االسالموية
منذ االستقالل حتى اليوم .وقد حملت يف احشائها كل بذور الشقاق والنزاعات التي
ابتيل بها الوطن .فهي قد حددت "الهوية" بالعروبة االصيلة واالسالم الذي يدين به سواد
السودانيني االعظم .وهنا مقتل هذه االيديولوجية :فأين موقع من هم خارج هذا "السواد
االعظم" من املواطنني مهام كان عددهم ووزنهم السكاين؟ ومن هنا كانت بداية التهميش
واالقصاء اللذين عانت منهام قطاعات كبرية من الشعب السوداين .فقد أبعد أهل املذكرة
حق املواطنة ،وحلت محله العقيدة الدينية والتقاليد "العربية االصيلة" .وادخلت الحركة
االسالموية كل العمل السيايس السوداين يف نفق مظلم وحرصت كل االهتامم يف قضية
الدستور االسالمي :ما بني مؤيد ومعارض ومحايد وتوفيقي .وحتى الحزب الشيوعي مل يكن
استثناء يف هذا املأزق ،لذلك كان عىل القيادي الشيوعي الرشيد نايل املحامي أن يدبج كراسة
بعنوان :الدستور االسالمي .ومل يجد الربملان املنتخب الوقت ليك يناقش حفر اآلبار يف مناطق
العطش يف غرب السودان ،وال األمراض االستوائية املستوطنة يف الجنوب ،وال املجاعات
املوسمية يف الرشق .ورغم أن االسالمويني مل يكونوا أغلبية يف الربملان فإنّهم مثلوا قوة ضغط
بطرحهم للموضوع الذي يخاطب العاطفة الجامهريية ويلبي شوق النخبة الباحثة عن
ذاتها .وكانت االحزاب الطائفية التقليدية قد تبنت فكرة الدستور االسالمي بعد أن أجربتها
حملة الدعوة للدستور عىل ذلك .بل لقد اعطتها مسودة برنامج ،هي التي دخلت السياسة
معتمدة عىل الوالء والطاعة .ومن الواضح ان النخبة السودانية مل تحسن اختيار اولويات
سودان ما بعد االستقالل .كام أن السودان الحديث االستقالل ،قد سلك طريقا خاطئا .فهو
مل يتجه نحو التنمية والوحدة الوطنية ،بل غرق يف جدل اسالمية الدولة والدستور االسالمي.
87
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
وهذه قضية غري شعبية يف حقيقتها ،أي ال يفهم فيها املواطن العادي كثريا ،ولكن تزييف
الوعي يفعل فعله .كذلك فهو ال يراد له أن يفهم ،اذ يكفي حشد الجامهري ملواكب ترفع
شعار :تطبيق رشع الله.
ومن أهم وأخطر تطورات االسالم السوداين املتميز بغلبة الطابع الصويف املتسامح،
ترسب التعصب والعنف الذي مييز االسالم السيايس ممثال يف االخوان املسلمني ،اىل الحياة
السياسية السودانية .ويعود ذلك اىل رصاع جامعات االسالم السيايس املحموم حول السلطة
السياسية ،واستخدام كل االساليب للوصول اليها سلميا أو االستيالء عليها بالقوة .وقد عرف
السودان الحديث االستقالل االنقسامية والترشذم واالنشقاق ،خالفا للوحدة الوطنية التي
عرفها خالل مقاومة االستعامر .ومن مظاهر التعصب التي فاقمت الرصاع ،قرار حل الحزب
الشيوعي السوداين ،وطرد نوابه األحد عرش من الربملان عام ،1965بعد أن هندس االخوان
املسلمون حادثة طالب معهد املعلمني تحت دعوى االساءة لنساء النبي .وذلك رغم عدم
دستورية القرار وعدم منطقيته ديومقراطياً ،ألن نوابا يطردون من الربملان نوابا مثلهم مل
ينتخبوهم ليك يسحبوا الثقة منهم .وتربص الحزب الشيوعي بالربملان واالحزاب ،حتى أطاح
بالجميع يف انقالب 25أيار (مايو) .1969
من ناحية اخرى ،كان االخوان املسلمون خلف مالحقة االستاذ محمود محمد طه
بتهمة ال ّردة ،وذلك منذ .1968ومنذ ذلك الوقت ،بدأت الحملة من محاكم تفتيش نصبها
بعض اساتذة الجامعة االسالمية ورجال االنتهاء ،حتى اكتملت بإقناع الرئيس جعفر النمريي
بإعدام طه يف 18كانون الثاين (يناير) .1985و ُيعد الحدثان ،حل الحزب الشيوعي السوداين
واعدام محمود محمد طه ،من أخطر حلقات التآمر عىل الديومقراطية والوحدة الوطنية
يف السودان .وللمفارقة تعترب الحركة االسالموية السودانية هذين الحدثني أهم انجازين يف
تاريخ الحركة ،باعتبار أن األول أزال أكرب عقبة سياسية وشعبية من طريق مرشوع الدستور
االسالمي .أما الثاين ،فقد خلصهم من العقبة الفكرية ،إذ كان طه ناقدا عميقا وقادرا عىل
تعرية املرشوع من داخل الفكر االسالمي نفسه.
وبعد أربع سنوات من هذه املؤامرة الكربى االخرية ،كان الطريق قد متهد الستيالء
االسالمويني عىل السلطة بالقوة عن طريق االنقالب ،معلنني رسميا شهادة وفاة ملرشوع قيام
سودان ديومقراطي ،موحد ،ومتعدد الثقافات ،يتسع للجميع :مسلمني وغري مسلمني .وأعلن
االسالمويون ما أسموه املرشوع الحضاري االسالمي ،والذي تم تدشينه أو تعميده بالدم:
اعالن الجهاد ضد الجنوبيني املتمردين .كام فتحوا ابواب الجنان لـ"شهدائهم" يف الجنوب،
حيث كان يقام عرس الشهيد ويربم الشيخ حسن الرتايب شخصيا عقود قران الشهداء مع
بنات الحور يف الجنة!
88
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
االنحطاط يف دارفور
لكن الجهاد أوصلهم اىل نيفاشا وليس اىل الجنة ،حيث عقدت اتفاقية السالم الشامل ،تحت
ضغوط خارجية ،أقوى من االرادة الوطنية السودانية .وتعامل االسالمويون مع االتفاقية
باعتبارها محاولة خبيثة لتفكيك النظام سلميا .ولذلك ترصفوا ضد روح االتفاقية :تحقيق
السالم ،محاولني االستفادة من الفرتة االنتقالية لتحقيق املزيد من املكاسب الحزبية ،أو،
حسب لغتهم ،التمكني .ودخل الرشيك االكرب ،حزب املؤمتر الوطني ،الذي ص ّفى وورث
الحركة االسالموية ،يف مسلسل املناورات والتآمر والتسويف ،لتعطيل نفس االتفاق الذي
وقعه امام العامل .وهكذا اوصلنا نقض العهود ومحاولة توظيف االتفاقية من أجل مزيد من
"التمكني" ،اىل حافة الهاوية أو الوضع الخطر الذي يعيشه السودان اآلن.
وباختصار ،يتحمل االسالمويون وحلفاؤهم من دعاة الدستور االسالمي وكل سدنة
املرشوع الحضاري االسالمي -مبا يف ذلك املنش ّقون عنهم -املسؤولية التاريخية واالخالقية
النفصال الجنوب القادم .فقد فرضوا عىل السودان منذ االستقالل الدخول يف نفق مظلم
ليبحثوا عن قطة سوداء .وهكذا اضاعوا علينا أكرث من نصف قرن من عمر االستقالل ،شاغلني
الناس بقضية هامشية :الدستور االسالمي .وهذا ألن هذه القضية ال تصيب الهدف املركزي
واملصريي لالستقالل :التنمية الشاملة ،واملستقلة ،والعادلة ،واملحققة للوحدة والتنوع يف
وطن واحد.
لقد كشف حكم االسالمويني عجزهم عن ايجاد حل سلمي ملشكلة التنوع االثني يف
السودان .ولكن الفشل-الفضيحة ،كان يف سفور تفرقتهم العنرصية من خالل العودة للقبلية
واثننة الرصاع السيايس .وقد ظهر ذلك جليا يف ازمة دارفور ،حني سلكوا طريق ثقافة العامة
يف التمييز بني "أوالد العرب" والزرقة ،أي العبيد.
يف البداية ،ظهرت ،داخل الحركة االسالمية ،صعوبة التزاوج بني "العرب" واوالد الغرب
مثال ،رغم كسبهم الديني والحزيب .وقد تدخلت القيادة يف حاالت كثرية ،لفرض زيجات
"مختلطة" .هذا وقد واجه املسلمون تاريخياً معضلة القدرة عىل مساواة املسلمني غري
العرب باملسلمني العرب ،رغم ان االسالم ،كنص وموعظة اخالقية ،كان واضحا :ال فضل لعريب
عىل أعجمي اال بالتقوى .ولكن الواقع واملامرسة خالفا تعاليم االسالم .
ومن املعلوم أن االسالم مل يلغ الرق متاما ،واكتفى بتجفيف منابعه من خالل العتق،
كام اوىص بحسن املعاملة .ومل تبذل الحركة االسالموية السودانية نفسها جهداً يف ايجاد
حلول لهذه املسألة يف السودان .فرواسب العبودية موجودة وحية تظهر عند الرضورة يف
منتهى قوتها .وهنا يخضع االسالمويون والشيوعيون لقواعد الثقافة الشعبية التي استبقت
العبودية يف عالقاتها .فهناك قولة يرددها الشيوعيون كطرفة ،ولكنها يف حقيقتها موقف
ونظرة :العبد عبد ،واملرأة مرأة! فهذه ثوابت اجتامعية سودانية تتحدى كل تحليل طبقي
أو حركة تاريخ أو دين مساوايت .وقد جاء االجتهاد الوحيد عن الرق من االستاذ محمود
89
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
محمد طه ولكنه مل يزد عن رفع شعار" :الرق ليس اصال يف االسالم" .13ومل يذهب بعيدا حني
قال" :مل يكن من املمكن أن يبطل الترشيع نظام الرق ،بجرة قلم ،متشيا مع األصل املطلوب
يف الدين ،وامنا تقتيض حاجة األفراد املسرتقني ،ثم حاجة املجتمع ،االجتامعية ،واالقتصادية،
باالبقاء عىل هذا النظام ،مع العمل املستمر عىل تطويره ،حتى يخرج كل مسرتق ،من ربقة
الرق ،اىل باحة الحرية املعاملة .14" .ويف النهاية ،نراه يكتفي برضورة حسن
ومن الظاهر ،يبدو أن كل محاوالت التجديد واالجتهاد ،مل تصمد امام ثقل الواقع
السوداين ،واالسالمي عموما ،املتمسك بثقافة العبودية ،سواء يف عقله الباطن ،أو يف عالقاته
االجتامعية الجادة واملؤثرة .وقد حاول عون الرشيف ،االسالمي املستقل ،تجاوز هذا املأزق
بالحديث عن "قومية اسالمية" وليس عن دين اسالمي فقط .والفكرة تقوم عىل عملية
التذويب للعنارص أو تعايشها حسب اسالمها املشرتك ،اذ يقول" :ومن هنا يصح الحديث
عن القومية االسالمية التي تحقق للمجموعة املحلية ،التوحد يف اطار مواصفاتها الجغرافية
والثقافية والبرشية ،فتكتسب الوحدة الوطنية يف اطار اسالمها .ومعنى ذلك ،أن االسالم ال
يلغي شخصيات الشعوب وال يحارب موروثها االنساين ومعطيات تاريخها وحضارتها ،اال حني
يصادم ذلك تعاليمه االساسية يف وحدانية الله ووحدة البرش وكرامة االنسان".15
كذلك عبرّ عيل الحاج ،وهو قيادي اسالمي بارز لكنه ينتمي اىل مجموعة ال تعول
كثريا عىل ادعاء العروبة الخالصة ،عن البحث عن الحل يف الجمع بني االنتامء والتباين
يف عالقة جدلية ،حني قال" :اذا ما قال أحد بأن السودان اسالمي أو عريب ،نعتقد أن ذلك
ال ميثل الوصف الصحيح لهويتنا يف واقع االمر ،نحن أفارقة يف السودان ،ولك ّنا ال نشبه
االفريقيني اآلخرين ،لسنا كاألفارقة يف غرب أو رشق افريقيا .نختلف عنهم ولك ّنا افريقيون.
نعم يتحدث بعضنا العربية ولكن نختلف عن العرب .ونحن ايضا ،بعضنا مسلمون ،ولك ّنا ال
نشابه املسلمني اآلخرين .وحتى اذا ما نظرنا اىل الدول العربية االخرى أو الدول االسالمية،
نجد أن سلوك السودانيني يختلف ،واعتقد أن ذلك ناتج من هوية تكونت عرب التاريخ".16
فهو ،رغم أنه ملتزم ومنظم يف حزب اسالمي ،مسلم مختلف ،وايضا عريب مختلف ،وافريقي
مختلف .وهنا ميكن أن نفهم ،ملاذا رفض حسن الرتايب االنضامم للتنظيم العاملي لالخوان
املسلمني :فقد تغلبت سودانيته ،رغم حديثه املعلن عن االمة االسالمية ،عىل اسالميته .وكان
يرى سيطرة مرصية عىل التنظيم.
ومن ناحية اخرى ،ميكن أن نفهم ملاذا حارب االسالموي النشط ،الفوراوي ،يحي بوالد،
ثم خليل ابراهيم ،النظام االسالمي الذي شاركا يف قيامه .فالنظام االسالمي ه ّمش الزغاوة
والفور ،ومل يغفر لهم تغلب العصبية القبلية وثقافة العبودية.
الرسالة الثانية من االسالم .الطبعة السادسة ،1986 ،ص 124 13 13
الرسالة الثانية من االسالم .الطبعة السادسة ،1986 ،ص.125-124 1414
مجلة الثقافة السودانية ،آب/اغسطس ،1995 ،ص 36 1515
رصاع الرؤى ،مرجع سابق405 ، 1616
90
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
حصاد الهشيم
واخريا ،بعد أن طىل الغراب نفسه باللون االبيض ،مل يعرف اىل أي رسب يذهب؟ هذا هو
حال السودان ،فقد ف ّرط يف وحدته الوطنية ،ومل ينجح يف االنتامء اىل هوية مستعصية:
عربية أو اسالمية .ويف السنوات االخرية ،تعالت اصوات تقول :هل من املمكن أن نقول
اننا سودانيون وكفى؟ ،أليس هذا تعريفا كامال وشامال أو جامعا مانعا ،يحتوي عىل كل
مكوناتنا ،وال يحتاج النتساب عرويب وال افريقي؟ وكانت البداية يف الثقافة والفن ،حني ّ
سك
احمد الطيب زين العابدين ورفاقه مفهوم ":السودانوية" ،وهي نسخة ليست توفيقية
لفكرة الغابة والصحراء .،لكنها واجهت حملة نقد تقول بأننا نتنازل عن ،أو نخجل بهويتنا
"العربية-االسالمية" متلقا للجنوبيني .وهذا مع أن فكرة"السودانوية" هي ،يف الواقع ،اجتهاد
ثقايف لتعديل خطأ تاريخي وانحياز ثقايف سادا الواقع السوداين.
أما عىل املستوى السيايس ،فقد جاء تأكيد الشك من الخارج ،حني وقف العرب
واملسلمون يتفرجون عىل السودان ،خاصة وهو يغرق يف مستنقع دارفور .فقد انحاز كثريون
ايل جانب النظام وفضلوا مبدأ :انرص اخاك ظاملا كان أو مظلوما .وال ميكن أن ننىس املوقف
البائس ،للدكتور محمد سليم العوا ،االمني العام لالتحاد العاملي لعلامء املسلمني ،حني
زار دارفور قبل ثالث سنوات ،ثم عاد ليرشح ماذا تعني كلمة غصب واغتصب يف اللغة،
ليك يقول يف النهاية :ان الذي حدث يف دارفور ليس هو االغتصاب الذي نعرفه! اما دليل
االهامل والتجاهل فيظهر يف جانب العون االنساين ،اذ تدفقت املنظامت االنسانية االجنبية
اىل دارفور من "بالد النصارى" ،بينام تكاد تغيب متاما املنظامت االسالمية والعربية ،عدا
استثناءات ضئيلة متفرقة .ويتكرر اليشء نفسه يف الجنوب ،حيث يتهدد املوت جوعا حواىل
أربعة ماليني ونصف مليون مواطن ،وال يحرك األشقاء األغنياء ساكنا.
فالعرب غابوا عن وساطات حل مشكلة الجنوب ثم دارفور .فقد كانت مرص هي
األجدر واألقدر عىل استضافة محادثات للسالم بدال من كينيا ،حيث كانت كل املعارضة
تقيم يف القاهرة ،كام أن زيارات قرنق ال تنقطع ملرص .والنظام السوداين كان يلهث لتحسني
عالقته مع مرص ،ليك يغسل آثار محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك .ولكن مرص توقفت
عند ورود عبارة تقرير املصري ،وقرأتها االنفصال ،وبالتايل نفضت يدها عن كل يشء بدعوى
أنها ال تريد أن تكون شاهدا أو راعيا النفصال السودان .ومل تعد مرص تهتم كثريا بالسودان
اال يف حاالت اشتداد االزمات ،وبالتايل يضعف الدور املرصي املميز تدريجيا ،ولكن برسعة.
ويصف حازم صاغ ّية هذه التطورات :بقوله " ...فإذا انفصل جنوب السودان يف وقت الحق،
فاملؤكد أنه سيجد ترتيبه الخاص يف افريقيا ومعها .أما يف حالة استمرار الوحدة السودانية
برشوط ديومقراطية وتعددية جديدة ،فالواضح أن مرص مل تعد متلك الجاذب االيديولوجي
واالقتصادي الذي يبقي السودانيني يف نطاقها عىل ما كانت الحال تقليديا .يعزز هذا التوقع
91
لع ميهاربا رديح ودسملا طئاحلا
ضعف الروابط التي تشد العامل العريب ،من خالل مرص ،اىل السودان".17
ويف األزمة الحالية ،هناك دول عربية تتوسط ،ويف الوقت نفسه تقدم السالح
للمتقاتلني ،أو تتوسط من أجل البحث عن دور ،مع استعراض للنفس يفوق الحرص عىل
انقاذ السودان .ومن ناحية اخرى ،ال متثل املساعدات االقتصادية وقروض الصناديق العربية
االفريقية شيئا يذكر يف ما يخص السودان .وحتى اآلن ال يهتم العرب مبستقبل السودان،
بينام يف الغرب ال تنقطع املؤمترات ،وكتابة التقارير ،عنه ،وال تتوقف الوفود واملبعوثون
الرسميون إليه أو منظامت املجتمع املدين فيه.
لقد دخل السودان ،اآلن ،يف عزلة ب ّينة ،أو تفكك يف عالقاته عىل كافة املستويات:
الرسمي والشعبي والحزيب .وكذلك الحال مع محيطيه االقليمي والدويل .يضاف اىل ذلك،
وجود دولة فاشلة فقدت سيطرتها عىل كامل ترابها الوطني .فقد سمح النظام بنرش قوات
أجنبية ،وهي ،مهام كانت تسميتها ،تبقى تعريفاً غري سودانية .ومن الجدير بالذكر أن
عددها اضعاف الجيوش التي تم إجالؤها عند خروج الربيطانيني من السودان .وعىل
مستوى السياسات واتخاذ القرار ،صار املبعوث األمرييك ميثل دور املندوب السامي .وأصبح
أمرا عاديا أن تستدعي واشنطن الرشيكني الحاكمني اىل الواليات املتحدة للتشاور عند بروز
أي خالف .ومل يعد النظام مهتام بتوفري الخدمات ،وال بتلبية الحاجات االساسية ملواطنيه ،ألن
جل االموال العامة تذهب لألمن واملفاوضات والعالقات العامة .أما االحزاب السياسة ففي ّ
حالة ترشذم وانقسامات ال تنتهي .فهي تعيش ضعفا واضحاً وفقراً يف املوارد مينعها حتى
من اصدار صحف خاصة بها .كذلك ،وقع املجتمع املدين يف نفس العيوب التقليدية للعمل
العام .فقد سادت يف تكوينه وحركته الشللية ،والصفوية ،واالسرتزاق ،ومل ميتد اىل الريف
والهوامش .وهذا يعني غياب ارادة وطنية مت ّكن السودانيني من ايجاد حلول ذاتية ومبادرات
داخلية .اما الفرد السوداين ُفأخضع لعملية ليس من املبالغة وصفها بأنها "حيونة" ممنهجة،
تهدف للعودة به اىل مرحلة جمع أو تدبري الطعام .كام أنه ُيحرم كل وسائل الرتفيه والسعادة
وتقوية الروح املعنو ّية .وهكذا أصبح السودان غري قادر ،بل عاجزا ذاتياً ،وهو ،يف الوقت
نفسه ،ال يجد من يساعده من اصدقا ٍء هم أصحاب "الهويات" التي انحاز السودانيون اليها،
لكن ذلك أثبت ،عند الش ّدة ،أنّه بال جدوى.
وحاولوا أن يجدوا انفسهم فيهاّ ،
1717حازم صاغ ّية :وداع العروبة .بريوت ،دار الساقي ،1999 ،ص 168
92
مرص
نادرا ما يتوافر ألبناء جييل هذه الفرصة من اإلرتحاالت واإلقامات يف مدينة واحدة .فأنا من
جيل يدور يف فلك إقامتني عىل أقىص تقدير ،األوىل يف املنزل العائيل ألب قدم يف الستينات
من ريف الصعيد أو الدلتا ،والثانية يف خروج الشخص نفسه من الكنف العائيل للسكن
الخاص إما صعودا أو هبوطا يف السلم الطبقي .أما املقر أعاله فشاءت صدف متتالية بعضها
ينتمي لنفس ميكانيزمات اإلمتداد العائيل ،وبعضها يخص مسرية األوجاع الطبقية الخاصة
يف تعدد مناطق اإلقامة داخل النسيج املديني نفسه لنحو قرن.
الدراما األرسية الفاقعة وأالعيب الحظ العاثر هي ما مدد رقعة عالقتي باملدينة ،التي
ميكن إحصاؤها يف أربع مراحل أساسية ،األوىل حيث امليالد يف حي الخليفة التاريخي (يطلق
عليه حي القلعة ،اي قلعة محمد عيل) ،والثانية يف كنف إستقالل األرسة النووية يف حي
املطرية الشعبي الستيني ،والثالثة قادتها صدفة تفجري عبثي تآمري قام به صاحب املنزل
الثاين ،طردتنا شامال يف الجيب العشوايئ التسعيني يف حي عزبة النخل ،ورابعها مستقري
اآلن مط ًال عىل سفح الهرم يف حي بورجوازي حديث هو هضبة الهرم يف محافظة الجيزة التي
صهرتني إقليميا فيام بات يعرف اآلن بإقليم القاهرة الكربى.
اليوم ،وأنا أتم عامي السادس والثالثني ،تضيق الخطوة وتكتنز األماكن يف زياريت
اإلستعادية لتلك املناطق بعد هجرانها لسنوات طويلة .وألن ما ارتبط بها من ذكريات هو
يف األساس ما تبقى من عوامل الحذف واإلضافة ،واألسطرة تضخيام لألماكن واألحداث ،او
التقزيم لبعضها وفقا ملصايف الوعي الحارضة والتي رمبا مل ترحم كنزا تم إهداره .لكل تلك
العوامل استحرضت األماكن ،او ما بقي من رائحتها بالفوتوغرافيا.
مسرييت املدينية تلك ،والتي سأركز فيها عىل املراحل الثالث األوىل ،تبعا لعمقها،
وإحرتاما لحفرها العميق يف الوجدان ،وهو ما ال يتوفر يف املستقر البورجوازي الجديد ،تلك
املسرية ،ال تعرب إال عن مصادفات قدرية شخصية كان لها األثر يف انشغايل الدائم بتحوالت
املدينة ،ال كرقعة مسجونة عىل خرائط عمرانية ،بل كمسار متداخل لحكاية واحدة متصلة
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
ذات انقطاعات جربية أو اختيارية ،يصح لنا أن نتعامل معها كرسدية متخيلة تحتاج اىل
رسديات أخرى متفاطعة لكشف منطقها الخاص ،أو مشرتكاتها األعم التي ترسم جدارية شبه
واسعة ملجمل التحوالت السياسية واإلجتامعية والنفسية لقاهرة القرن املايض.
أدوايت يف هذه القراءة الرسدية ال تقف عند حدود الخرائط الفوقية واللقطات الجوية
التي تشكل عني نرس طائر ال يعرف الرؤية الرأسية (خاصة وأنا دارس للجغرافيا أعرف متاما
خداع النظرة املجردة لتك الوريقات التي تبتني وهام بالتسطيح) .الفوتوغرافيا اإلستعادية
التي قمت بها عىل مدار أسبوع يف األماكن الثالثة هي النظرة الرأسية التي تبحث يف ما
استقر وانهدم من عمران ،يف ما بقي يف الوجوه التي تنظر للكامريا من عالقة بزمن الحكاية
األصلية .والحكاية أو الحكايات التي سأرويها هي الدخول إىل ظالل تلك األماكن عرب الذاكرة.
فأنا أنشّ ط الذاكرة ال أكرث بتلك اللقطات الواقعية التي تحمل القليل من حقيقة ما حدث،
وإن تنسمنا منها بعضا من رائحة تلك األزمنة.
من املالحظات األساسية -قبل الدخول يف الحكايات -رسوخ الزمن وبقاؤه عىل حاله
يف األماكن القدمية ،تحديدا يف الخليفة .ويتزامن ذلك مع الخواء ،أي تفريغ تلك األماكن من
ناسها ،مع تقلص قدرتها عىل االمتداد ومن ثم صعوبة احتوائها ألجيال جديدة .ففي الخليفة
مثال ،تغريت بحدود طفيفة أسامء الشوارع ،ونتيجة وقوع شياخة الحطابة (املكان الدقيق
مليالدي) يف حرم منطقة اثرية هي القلعة وعسكرية هي سور املتحف الحريب املرصي،
منعت بتاتا أعامل ترميم املنازل .بقيت للتهالك عىل أصحابها دون حتى أي مخططات
لتطويرها .فالسلطة تراهن عىل الزمن وحده إلخراج اآلالف املتبقية دون مصادمات عنيفة،
فإذا ما سقط جدار ال يحق لك رفع بقاياه ،وقرارات اإلزالة اإلدارية للحي جاهزة ومتواطأ
عىل تنفيذها نتيجة الكلفة السياسية الكبرية للصدام اآلين باألهايل .واألخريون ،مل يتبق منهم
إال العجائز الذين مل ترغد حياة ابنائهم وأحفادهم لدرجة تكرميهم بسكن الئق يف مناطق
جديدة ،أو رفض بعضهم الخروج طوعا من منبتهم األصيل .لذا ال تزدهر الحطابة إال يف
نهاية األسبوع ،حني يطل األحفاد أو األبناء يف سيارتهم املركونة أسفل الطريق الطالع لحدود
الطوايب وقد حرضوا ملعاينة عجائزهم ،والذي تؤسطرهم جملة ماما كرمية " :عايشني من
قلة املوت يا بني".
يف ما يتعلق بالزمن يف املطرية ،ال يتجاوز األمر بقاء عائالت الستينات وقد ع ّدلوا
من بيئتهم العمرانية املكتظة مبا يسمح لهم بالبقاء ،يتوارث األبناء الفقراء مهن آبائهم.
أما األغنياء منهم فقد تركوا الحي وانزاحوا جغرافياً إىل حي مرص الجديدة البورجوازي أو
امتداده الصحراوي يف أحياء النزهة ومدينة نرص ،مع األخذ يف اإلعتبار االنزياح شامال إىل حي
مدينة السالم املخطط الستيعاب األجيال الجديدة يف بيئة مساكن شعبية متدهورة الحال
ملن مل يلحق منهم بالس ّلم الطبقي الصاعد .لذا بقي كوالج السبعينات والثامنينات العمراين
متوافقا مع البنية الريفية التي انبنى الحي عليها زمن الخمسينات والستينات.
أما عزبة النخل ،فهي أرض املهجرين ألسفل السلم الطبقي ،من األحياء الشعبية
94
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
الستينية مثل املطرية والزاوية الحمراء والواييل .جاء ابناء الجيل الثاين فحولوا ريفه إىل
عشوائيات جديدة ،التحمت بالريف الخلفي ملحافظات الجوار .مت ّددت العزبة ولحمت من
كل الجهات األحياء التي كانت بعيدة .التحمت باملطرية ،مسطرد ،الخصوص ،املرج وعني
شمس ،واخرتعت شياخات إدارية جديدة واسامء للمناطق ابتداء من التسعينات ،وانفجرت
األرض مبئات األلوف يخرجون من بوابات املرتو نزوال إىل شوارعها الضيقة ذات البنايات
املرتفعة والكآبة والفقر والعنف الطائفي اليومي .لذا ال اشكو الخالء ،بل يف زياريت أحس
اغرتاب من ينصهر مع مئات األلوف من الغرباء العنيفني ،خاصة وان العائالت القدمية تكاد
تختفي متاما أمام سيولة الدفق املستمر بتوازناته العائلية الجديدة أو الطائفية العتيدة أو
الريفية املتأصلة.
إىل أين تطرد املدينة أناسها؟ من قلب الخليفة العائد لزمن محمد عيل ،إىل حداثة
متدين ثورة يوليو يف املطرية ،إىل عشوائيات الرئيس مبارك يف عزبة النخل ،إىل أين املفر؟
من القلب إىل األطراف إىل أطراف األطراف ،واليوم يتم تحزيم املدينة من خارج أطراف
األطراف بالطريق الدائري لتخلق املدينة مراكزها الجديدة التي كانت أطرافا ،وتنتيش
أطراف األطراف باألمل يف الحياة التي هي أقرب إىل موت غري نادر هذه املرة.
95
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
شفقة ،ضاربات بها املثل يف قسوة الزمان .اشرتى "األب"مقربة يف "خارطة التونيس" القريبة
وابتنى منزال عائليا تفنن يف تقسيمه إىل شقتني ،كل شقة مكونة من غرفة وصالة وحامم
(يف ما ال يزيد عن 30مرتاً إجاميل كل شقة) إحتسابا لخزن ابنائه الكرث يف حال زواجهم
تحت عينه العسكرية التي ال ترحم .تربت أمي حاقدة عىل ابيها ومل تنس له أبداً مشهد
تفضيله أبناءه الذكور عليها يف تقسيم منابات اللحم يف زياراتها األسبوعية القليلة ،كام مل
تنس له "تدليعه" لألبناء الذكور من "ستي أم يارس" التي حملت شارته ندبة يف الرأس بعد
ان رفسها "يارس" من الدور الثاين فأوقعها مرضجة بدمائها مع سبع غرز مل تخفها التجاعيد
حتى شيخوختها.
وصل ايب من قرية كلباشو يف سن السادسة عرشة إىل الحطابة ،قدم يف وظيفة مالحظ
عامل يف رشكة مرص ألعامل اإلسمنت املسلح –إحدى الرشكات التي بنت مجد ثورة يوليو
اإلنشايئ .وصل يف حدود العام ،1961وسكن منزال لعزاب قريته يف "وسعاية الدرب الوسطاين"
وشاركه الغرفة ابن بلدته محمد الطيب الطالب يف الكلية الحربية.
كانت الحطابة مبنازلها التي ال يزيد ارتفاعها عن دورين قبلة قاهرية ملهاجري
القرية :منازل مقسمة إىل غرف تتشارك حامما واحدا ،ويبدو أنها كانت منازل أرس فردية
إزدهرت احوالها التجارية يف أوائل القرن فهجروها إىل أحياء املال يف الجاملية وباب الشعرية
نهايات القرن التاسع عرش .وتكونت داخل الغرف عائالت تتشارك نفس األسقف املعرشة
الخشبية وحيطاناً مبنية مبزيج من الطوب الحجري مع ما تيرس من أخشاب .وتعود الحطابة
بتسميتها الشهرية إىل ما بعد تأسيس القلعة حيث أقام الحطابون املشاركون يف بناء القلعة
بيوتهم .وتظهر التسمية يف حوليات التاريخ الرسمي ألنحاء القاهرة القدمية بدءاً من العرص
الفاطمي نزوال حتى اآلن ،بنفس اإلسم .وهي من املشيخات التي ظهرت يف أعامل مؤرخي
القرون الوسطى كابن اياس .كان الب ّناؤون األوائل للحي يجعلون من جدار القلعة عند بابها
الغريب حائطا داخليا للبيت ،ونتيجة للطبيعة التاللية ينزلون هبوطا بالبيت ملتصقا باآلخر يف
ما يشبه األسامل املعامرية امللتحفة بالحائط الصخري الجبار للقلعة .فعرفت املنطقة دروبا
تبدأ بسالمل طالعة وأخرى نازلة .فدرب ابن القرطبي ،حيث ولدت وتر ّبت امي ،يتكون من
أربع مصاطب واسعة متدرجة يف ما يزيد عن 30سم تنتهي مبنزل الجدة أم سليامن الذي
يحيط بطابية حراسة قدمية للقلعة .هذا البناء االختالقي الشعبي عوض تجاوره والتصاقه
مبدارات للحواري .فإن مل تكن من سكان الحارة الوسطانية وشعاب دروبها امللتفة تفاجأ
حتى اليوم مبن يديم فيك النظر وكأنك يف صالة منزله ال يف شارع يحمل رقام بريدياً ويحق
للغرباء التمشية فيه .وهو يختلف بذلك يف بنيته التخطيطية عن أنوية "الربع" الشهرية
يف أعامل نجيب محفوظ .فغالبا ال تنتهي الدروب ببوابات ،بل تتعدد املسارب الخلفية
من تلك الدروب نزوال إىل الصحراء الخلفية واملقابر يف الجبانة القدمية الواقعة عىل طريق
صالح سامل .وانت حني تدخل البيت الذي سكنته الجدة ام سليامن املتوفاة سنة ،1980
يفاجئك متاهي حجراته مع الربوز واالنكفاء الداخيل الناتج عن إلتحامه بالجبل .تصعد
96
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
السلم الخشبي بعد ثالث غرف جانبية لتفاجأ مبخرج عىل سفح الجبل تقع فيه غرفة "ماما
كرمية" ،أم البنات الخمس التي مل تلد ذكرا ،وبالتفافة دائرية تصعد اربع درجات ليواجهك
الحامم الحجري الضيق وغرفتان إحداهام لعمي عبد العزيز األخرس (وصفا واقعيا ال كناية
مجازية) ،واألخرى لجديت أم سليامن .والغرفة األخرية ،عىل رسيرها النحايس وتحت ملبة الكاز
منرة ،2ولدت فيام قدمي تتحسس الصخور الكبرية لسور القلعة.
أحب أيب العازب املوظف الجديد ابنة "الحتة" وبلدياته (ابنة قريته األصلية) .كلمة
"الحتة" يف تراث الستينات هي معنى املوطن املديني ونقيض "بلديايت" القامئة عىل عصبوية
ريفية" .بنت الحتة" كلمة تظهر تحديدا يف تراث األغنية املدينية كتوسيع لكلمة "بنت
الحارة" ،واألخرية تظهر يف موال شفيق جالل الشهري الذي يغنيه يف فيلم "ريا وسكينة":
ب������ن������ت ال�����������ح�����������ارة ي���������ا ب������ن������ت ال��������ح��������ارة
ح������ب������ي������ت������ك ي������������ا أم ح��������ل��������ق ت������������ارة
وبالعودة لـ"الحتة" وابنتها ،كانت االبنة طالبة فاشلة تعليميا ترسب للمرة الخامسة
يف الشهادة اإلبتدائية .كانت إبنة الكسل والترسب من التعليم بعد أن بنت عىل يدها
"كاريرا" .انتظمت املراهقة سامية محمد الصادق يف دبلوم "خياطة" وأزياء وحصلت عىل
دورات يف إحدى األتيليهات األجنبية يف وسط العاصمة ،فانتقلت ملهارتها من محل أزياء
حرميي مبنطقة الحلمية الجديدة إىل عامل أزياء وسط البلد .كانت إحدى "صنيعيات" "التايري"
الستيني املهرة ،وكللت حرفتها بالعمل يف أتيليه "رجاء الجداوي" ،املمثلة الشهرية حاليا
والتي بدأت عالقتها بالفن كمصممة ازياء شهرية يف الستينات.
مراهقة شابة ترتدي امليني جيب ،مستقلة حرون تكاد تكره الرجال .شهامة الشاب
العازب اقتضت أن ينتظرها ليال أكرث من مرة لالطمئنان عىل عدم معاكستها من ميدان
الرميلة إىل شارع األنتيكخانة صعودا إىل بوابة باب الوزير التي يتسكع عندها الشباب
"التالف" ،خاصة وأن مهنة الخياطة كانت مهنة تلوكها األلسن انسجاماً مع الخيال الشعبي
عن عالقة من متتهنها بأسطوات املهنة الذكور التالفني .الحقيقة ان الحب كان قد أضناه.
تقدم لخطبتها من ابيها .رفضت وحرنت تحت أضواء عامل وسط املدينة الواعد مبجد غرامي،
ورمبا نقلة اجتامعية تخرجها من ظالل "يتيمة الخارطة" .صرب الشاب الدسوقي بدر درويش
وحارص الجدة أم سليامن بالزيارات والود .هكذا كانا يحكيان ويختلفان بدرجات متفاوتة
حتى نهاية عمره حول"دهولته" عليها ،منتظرا رد األب .واألخري ،بعد بحث بسيط ،أدرك
املعادلة :أن يزوج االبنة الحرون وتنتهي مسؤوليته عنها ملقيا باملوضوع عىل كتف ابن
أصول ريفية مضمونة ومستقبل وظيفي مضمون بحسابات املدينة.
ظلت أمي حتى مامتها تدعو الله عىل جدي الذي باعها ،كام تعتقد ،لزوج"فقري"،
وعاشت حياتها تذكر أمامنا ان جدي استغل مهرها يف تشييد الدور الثالث باملنزل فيام
جهزها بـ"العفش املستعمل" بعد أن "أكل" مرياثها من أمها .هل كانت الشابة غري الجميلة
97
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
تستحق أكرث من الشاب ذي السوالف الخجول "اليل مابرفعش عينه عن األرض" ،كام كانت
تردد جديت؟
أتذكر أن طفولتي يف الحطابة كانت مضمخة بأرسار شقاوة الكبارالتي تبدأ من
الجلوس يف قهوة زوج عمتي سيد الحرصي املواجهة ملبني األنتيكخانة يف شارع "الباب
الجديد" ،حيث لعب الكوتشينة والقامر وتدخني الحشيش يف "غرزة" كان يرشف عليها زوج
عمتي رجاء املتوفاة منذ عام.
يف بيت الحطابة كنت ابن النساء جميعا .ملَ ال وأنا أول ذكر لكربيات بناته ،تعلمت خطوايت
األوىل عىل سفح الجبل املواجه لغرفة "ماما كرمية" .الغرف كانت بأسامء نسائها ال الرجال،
فيام عدا عم عبد العزيز األخرس وزوجته الخرساء ،إذ يبدو أن خرسه أكسبه القيادة يف
التسمية .أنجب هو وزوجته الحقا أبنا وبنتا ينطقان ،كانت مراقبتهام وهام يفهامن األب
واألم باإلشارة والصوتيات املتقطعة التي تشبه رصاخا أعجوبة الطفولة ،فكيف ينجب
أخرسان طفلني ناطقني؟
"ماما كرمية" املتزوجة من "عم حسن" الصامت كانت مركز البيت ،ببناته األربع
الجميالت .عىل حجرهن تربيت ،وأحببت صغراهن هالة التي كانت مراهقة حني بلغت
السادسة .يف زياريت االستعادية أشارت ماما كرمية التي دخلت السبعينات بقدم ملفوفة يف
الشاش من أثر"السكري" ،أن ايب يف فرتة خطوبته كان يلقي لهالة بالزهور الحمراء الصغرية
من "املنور" املشرتك بني الغرفتني .ياإلهي ،حتى يف ذلك يا ايب سبقتني .منى ،كربى بنات ماما
كرمية ،كانت أول من ميمت رشقا ،تزوجت من عم "عريب" مكوجي أحد أمراء الكويت وبنت
بيتا عائليا يف منطقة منشية التحرير بعني شمس .تبعتها عزة يف برج سكني جديد اوائل
الثامنينات عىل واجهة محطة مرتو املطرية .ثم عفاف الحقاً .أما ماما كرمية فاستقبلتني يف
غرفتها ،وعىل "كنبة" السطح ،بكوب شاي منعنع ورائع .مل تصدق أين ال أزال احلم –كام
لو كنت طفال -باكتشاف كنز أثري كله سيوف وخ َوذ جيوش عربية يف السطيحة الخربة
املمتدة أمام غرفتها .بعد أن نقبنا انا واخي الصغري عنه كثريا يف سني الطفولة املبكرة .أتذكر
كيف كان أهل املنزل يضبطون ساعات استيقاظهم صباحا يك يسبقوا األخرس يف دخول
الحامم الحجري املشرتك ،وإال وقفنا طابورا باملناشف تحت رحمة إقامته الطويلة وروائحه
النفاذة الناتجة عن كميات البصل والثوم الزائدة يف كل وجباته.
إذا ما تدحرجت نزوال يف العرشين مرتاً املميزة لدرب ابن القرطبي تصل إىل منزل
زوج عمتي رجاء .هي ابنة عمة غري شقيقة أليب ،وظلت عالقتها بأمي تشوبها إشاعة تصميم
جديت شفيقة عىل تزويجها أليب .أنجبت عمتي رجاء ثالثة بنات ثم أتحفتنا بصبيني ،وجاء
تصميم "سيد الحرصي" ،زوجها ،عىل الوصول بها إىل محمد ،بعد أن شعر أن عربته السوزويك
(وهو أول من ادخلها الحي زمن السبعينات للتكيف مع أشغال شوارع ضيقة) ومقهاه
الشهري سيؤوالن إىل أزواج بناته يف املستقبل .غرفة عمتي رجاء عىل الناصية كانت تواجه
98
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
وكالة أثرية مهملة وغامضة مل تعلن اي جهة حتى اآلن مسؤوليتها عنها ولو حتى بيافطة
تبني تاريخها ،استعملناها ونحن أطفال كمخبأة لكنوزنا الصغرية من "بيل" ملون واطواق
كاوتشوك نسيرّ ها بعصا يف سباقات جوالة داخل الدروب ،ثم بقيت ببوابتها الخشبية القدمية
والضخمة وحديد واجهتها املشغول ،أدوات تنشيط لخيالنا يف الليل ،حني تخبو اإلضاءة
وتدخل النساء بعد جلسات النميمة املمتدة نهارا ،من شباك غرفة عمتي التي تنزل لها
درجات حجرية واطئة كان ميكن مراقبة القادمني من الدرب الوسطاين وووسعته الشهرية.
أتذكر ستارة من التل األبيض تخ ّبئ لون الغرفة الكلسية اللبنية اللون تحت إضاءات اللمبات
"السهاري" ذات الفولت املنخفض .الستارة تحتك بأصيص من الصبار موزع يف الفرجة بني
الشباك الواطئ وحديد مزخرف بطوله يحمي الغرفة من الرسقة.
يف نهاية الحارة من ناحية الوسعاية كانت غرفة ستي شفيقة ،الغرفة األوطأ يف كل
بيوت الخارطة ،مظلمة للغاية وتتحرك بها ستي ذات التق ّوس من املؤخرة ببطء مرعب،
بطء يكتمل هذيانه ووحشته بصوتها املبحوح وعينيها املفتوحتني وقد انقلب محجراهام بني
الحول والعمش .كانت تخبئ قروشها يف رصة "بافتا" برباط وتقيض يومها يف شتم أبناء الجريان
ومطاردتهم باملقشة ولعن "حظها الواطي" الذي يجمع مجاري الحارة يف قاع غرفتها.
منذ ست سنوات ،شاهدت انا وزوجتي فيلم "عوكل" للنجم محمد سعد .كدت أن
موت ضحكا فوق ضحك الصالة ودمعت عيناي .الفيلم تدور أحداثه ،للصدفة ،يف الحطابة،
وللبطل جدة تسمي "أطاطا" تشبه جديت شفيقة لحد إعجازي ،يف الشكل وطريقة الكالم .خطيبة
البطل عوكل إسمها "أوشة" عىل اسم إحدى بنات عمتي رجاء ،وأخو الخطيبة "الرشدوحة"
تلفت كثريا يف قاعة العرض وانا أتخيل سطوع األضواء
إسمه "سيد" ويلعب القامر عىل املقهىّ .
فجأة وقد متركز ضحك املئات عىل وجهي قبل ان يخرج من يشري إىل كامريا مخبأة معلنا فقرة
من فقرات الكامريا الخفية ُص ّممت خصيصاً للسخرية من تاريخي العائيل.
يف زياريت اإلستعادية صعدت من أسفل ميدان صالح الدين ،وبينام كان شارع الباب
الجديد الذي يلتوي صعودا يكاد يكون حكرا عىل أبناء الحطابة وباب الوزير ،متر منه اآلن
خطوط ميكروباص املنشية ومدينة نرص ومدينة السالم .ما زال مقام صغري ألحد العارفني
بالله قامئا يف سور القلعة ،فيام اغلقت الدولة ممىش س ّلمياً صاعدا كان يخترص نصف قطر
الدائرة ليصل مطلع دربنا مبنتصف الشارع .استولت الدولة عىل فضائه وضمته ببوابات
معدنية اىل حرم اإلنتيكخانة التي أصبحت إدارة للميكروفيلم .هذا املمىش ُصورت فيه
معركة األخوة الثالثة حول تقسيم غنيمة املخدرات يف فيلم "العار" لعيل عبد الخالق.
استخدم املخرج تدرجات مصاطب املمىش وإضاءته الصفراء املنعكسة عىل األسطح الحجرية
ملبنى األنتكخانة وسور القلعة إلضفاء سحره عىل مكاشفات القدر السيئ ألخوة من علية
القوم اكتشفوا ،بعد رحيل أبيهم ،أن مرياثهم رهن لشحنة مخدرات كبرية ،وأن "الحاج" كان
أكرب تاجر مخدرات يف مرص .يف املايض ،كانت األنتيكخانة تضم سجالت النفوس املركزية
لكل مواطني مرص ،عىل بابها كنت تجد الفالح والصعيدي واألفندي يف مشاوير استخراج
99
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
مستخرجات رسمية لشهادات امليالد .كانت مشوارا الحقا لتصفية الرتكات وحاالت إثبات
النسب (لهذا رمبا كان اختيارها يف الفيلم).
منذ بداية التسعينات متت أمتتة سجالت النفوس ،كام جرى وصل طريق صالح سامل
من الخلف بشارع الباب الجديد .اصبح العبور الرسيع مليكروباصات تحمل العامل والحرفيني
إىل مناطق أشغالهم يف االمتدادات الخلفية لجبل املقطم مناسبا أكرث ملوقع الحطابة ،كديكور
بالحجم الطبيعي لزمن فات.
ركنت قليال يف مقهي سيد الحرصي .طلبت قهوة أعرف غلبة النب املحروق فيها من
"عضمة" القهوجي .كانت "ترابيزة" (منضدة) الكونكان قد نصبت .كان املتنافسان يف لعب
القامر عجوزا ذا لحية وقورة اسمه شكوكو وأربعينياً من الصنايعية ،انضم إليهام "حاج"
بالجلباب األبيض .التدين الشكيل مل يهاجم الحطابة .التلفزيون دائر بإهامل عىل القناة
الثانية حيث مذيعة من الوزن الثقيل واملكياج األثقل والشعر األصفر "املاشيت" تتمنى
للسيد الرئيس متام عافية (مرارته) قبل أن تنتقل ،بنفس الخفة ،اىل فقرة عن عمر السعادة
الزوجية التي ال تدوم ،كام تقول إحدى الدراسات الحديثة ،أكرث من ثالث سنوات فقط.
100
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
كوافريه بؤرة للنميمة واإلشاعات التي تنطلق لتمس سرية كل فتيات "الحتة" .املحل الثاين هو
"جزمجي املعلم نعيم" ،مباكيناته لخياطة األحذية التي تهز جدران الشارع بصوت موتورها
الدقاق ،يواجهه يف منزلنا عم منعم الكهربايئ ،وهو موظف اليفتح محله إال بعد الظهر ناصبا
ملعب الدومينو .ويالصق باب بيتنا الحديدي ذي الجنزير محل عم نصيف الكواء ،أمامه
محل حالقة "الشامي" لصاحبه عم أحمد الشامي األبيض البدين القصري ذو الشعر املدهون
ومسحة الشنب الهتلري ،وتجاوره "أم نعمة" مبحل الفول والطعمية الذي يرصف عىل بناتها
اليتامى األب .كل هذه املحالت يف دائرة قطرها عرشة أمتار ال اكرث ،تعطي إنطباعا بسوق
صغري عىل مقاس التقاطع بحرف "يت" الذي يقع منزلنا فيه عىل نقطة االلتقاء.
العودة لصباحات الحديقة الغ ّناء والقرص السحري .كان القرص مهجورا وتعيش فيه
عائلة من الخدم الفلسطينني املهاجرين من زمن حرب الـ ،48كانوا يسكنون ثالث غرف منه
ال تطل عىل الشارع نهائياً .أرسة ال تتبادل أي ود وتكاد حياتها ان تكون شأناً رسياً .ورغم
ذلك يتحكمون يف عالقة كل البيوت املحيطة بفضاء الحديقة املهجورة .فهم ،كخدم للقرص،
كانوا أقرب ملالكيه ،دون اي بادرة مثال لإلهتامم بالحديقة أو التوسع مثال يف بقية غرفه
املهجورة .كان ولدهم أرشف الكبري يختبئ خلف الباب الخشبي يشاهد طفولتنا املنتشية
بلعب الكرة يف الحديقة قبل ان ينقض كنمر مفرتس وهويرصخ ليستويل عىل الكرة وميزقها
بسكني كاملجنون.
شارعنا طويل للغاية ،يبلغ نحو كيلو مرت كامل مبوازاة شارع املطراوي الرئيس الرابط
كل الحي ،لكنه شارع اليزيد عرضه عن الستة أمتار ،لذا كان مشهد حديقة الفيال الكبرية
أمامنا تعويضا عن ضعف مشهد املسقط العمودي للشارع.
تلخص املطرية مفهوم الهوية املرصية الحديثة ،فهي جغرافيا منبنية عىل نواة
تخطيطة لشارع طويل مواز للحد الرشقي(شارع املطراوي) املتمثل يف خط سكك حديد
كوبري الليمون .شارع املطراوي يفصل بني الجزء البلدي منها والجزء األفرنجي أو ما
يس ّمى بـ"خارجة املطرية" أو "الخارجة" إختصارا .وبطول الشارع املذكور تتعدد الهويات
املتداخلة للحي .فبعد ميدانه بأمتار يقع مسجد سيدي أحمد املطراوي أحد تالمذة السيد
أحمد البدوي والذي يشري مشجر نسبه إىل السيد عيل الرشيف بن السيد نجم الدين
الرشيف بن السيد نجيم الدين الرشيف بن السيد نارص الدين الرشيف بن السيد احمد
الرشيف بن السيد شهاب الدين بن السيد جالل الدين الرشيف بن السيد رشف الدين بن
شمس الدين الرشيف بن السيد محمد الرشيف بن السيد عبد العزيز الرشيف بن السيد
احمد بو الطيب بن السيد مرزوق الكفايف بن السيد شهاب الدين الرشيف بن السيد
محمد الجواد بن السيد عيل الريض بن السيد مويس الكاظم بن السيد جعفر الصادق
بن السيد محمد الباقر بن السيد عيل زين العابدين بن السيد االمام الحسني بن السيد
االمام عيل بن ايب طالب بن عم الرسول صىل الله عليه وسلم سيدنا محمد بن عبد الله .
يف وسط الشارع تقع منطقة شجرة مريم الشهرية التي جلست اسفلها العذراء ،ويقول
101
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
املتنيح العالمة األنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا بكلية الالهوت القبطية:
"ويف املطرية استظلت العائلة املقدسة تحت شجرة تعرف إىل اليوم بـ"شجرة مريم".
وهناك أنبع الرب يسوع عني ماء ورشب منه وباركه .ثم غسلت فيه العذراء القديسة
مريم مالبس الطفل اإللهي وصبت غسالتها عىل األرض ،فنبت يف تلك البقعة نبات
عطري ذو رائحة جميلة هو املعروف بنبات البلسم أو البلسان ،يضيفونه إىل أنواع
العطور واألطياب التي يصنعون منها مسحة املريون ) MYRONاملستخدم يف الطقوس
الكنسية يف تدشني وتقديس مياه املعمودية ،وتدشني أعضاء املعمدين بعد تعميدهم،
ومسحهم يف ستة وثالثني موضعا من أبدانهم (هي مجموع الحواس واألعضاء واملفاصل)،
ويف تدشني الكنائس والهياكل واملذابح وكل أدواتها ،ويف مسح الكهنة وامللوك املسيحيني.
وقد أقيمت يف املطرية كنيسة مدشنة باسم العذراء القديسة مريم ،وهي كنيسة
أثرية كانت ومازالت لها شهرة عظيمة .وال يزال الناس ،مرصيون وأجانب،
يحجون إليها للتربك بها وبالبرئ الشهرية التي أنبعها السيد املسيح بنفسه.
وقد صارت املطرية لذلك مركزا من املراكز األسقفية املهمة .ويروي املؤرخون أن الجنود
الفرنسيني بقيادة الفرنيس كليرب ( )1880-1753الذي توىل الحكم يف مرص بعد نابليون
بونابرت ،بعد أن انترصوا عىل الجيوش الرتكية يف معركة عني شمس ،عرجوا يف طريقهم عىل
شجرة مريم ،وكتبوا عىل فروعها أسامءهم ،مستخدمني يف ذلك أسنة حرابهم وسيوفهم ،وقد
نال بعضهم الشفاء لعيونهم من الرمد بعد أن اغتسلوا من ماء البرئ ،وشفي البعض اآلخر
من أمراض أخرى ،وسجلوا شكرهم لله عىل ما نالهم من خري ،بربكة "شجرة مريم" وماء البرئ
األثرية الذي أنبعه املسيح له املجد بيده الطاهرة إذ رسم باصبعه عىل األرض ،فتفجر املاء
نبعا حلوا عجائبيا".
ومام يذكره مؤرخون الحقون أن شجرة مريم األصلية التى اسرتاحت تحتها العائلة
املقدسة ىف املطرية قد أدركها الوهن نتيجة للشيخوخه فسقطت وماتت سنة 1656وقام
بجمع فروعها وأغصانها جامعة من كهنة اآلباء الفرنسيسكان.
أما الشجرة املوجودة حالياً فقد نبتت مكانها من جذور الشجرة األوىل وهى ترجع
إىل عام .1672وقامت مصلحة اآلثار ببناء سور حولها وحولتها إىل مزار سياحي .ويرد ذكر
املطرية يف موسوعة سليم حسن األثرية كام تظهر يف رسوم كتاب "وصف مرص" لعلامء
الحملة الفرنسية.
ينتهي شارع املطراوي املحوري واملفصيل بعد كيلومرتين من بعد إمتداده الشاميل مبيدان
هو ميدان املسلة الذي تقع فيه مسلة امللك سنورست األول "مسلة املطرية" وهي اآلثر
الوحيد الباقى من معامل مدينة "أون" أو هليوبوليس باليونانية وتعني الربج أو الفنار.
ويرجع تاريخ هذه املسلة اىل عرص الدولة الوسطى اي األلف الثاين قبل امليالد ،وامللك الذي
شيدها هو من ملوك االرسة الثانية عرشة الذين بذلوا جهدا كبريا يف بناء الدولة بعد فرتة
102
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
اضمحالل سبقت هذه الفرتة وهي أقدم مسلة يف العامل .وكانت مدينة املطرية أحد أجزاء
مدينة هليوبوليس مبثابة املركز الديني والعلمي ملرص.
تجاور تلك الهويات الزمانية يف حيز ضيق أثر بال شك يف عالقة برش املكان ببعضهم
البعض ويف تصوراتهم عن املكان .فقد شاع زمن السبعينات تسمية األطفال األشقياء يف أي
عائلة باملطراوي خوفا من الحسد .لكن أبناء هذه التسمية كانوا غالبا من ذوي املوت املبكر،
من ناحية أخري يثار جدل حول التسمية ونشأتها .فالبعض يرون أن املطرية هي تخفيف ملا
قالته السيدة العذراء بأن املاء يف هذا املكان كان طريا (عىل الرغم من أن السيدة العذراء مل
تضبط متلبسة بلسان عريب) ،فيام اخرتعت الذائقة الحاذقة للشعبيني سخرية عىل املعنى،
طري إال املؤخرة.
بأن "ما طرية إال هيا" ،اي ليس هناك ّ
لاّ
بعد الصباحات الصاخبة ،كانت "أم مندور" د لة حارة الصعايدة متارس مهنتها
الصباحية اإلستثنائية ،وهي املرور عىل نساء الشارع الصطحاب أطفالهن إىل حضانة "األبلة
زينب" ،تتسلمنا يف طابور اشبه بالقطار ،تكون هي يف املقدمة بينام يضع كل طفل يده
اليمني عىل كتف من أمامه ،نحمل "خرجا" مثبتا من الكتف االمين إىل الخارصة اليرسى
يحوي كراريس وأقالما وبعض الطعام.
نصل إىل الفيال الجبارة ذات النافورة التي تعمل يف املناسبات ،حيث إستأجرت العائلة
الرتبوية ألبلة زينب الفيال فيام تسكن العائلة يف املنزل الخلفي .متارس أبلة زينب وابنتاها
وولداها وزوجها األستاذ حسن ما يشبه مامرسة املؤسسة الرتبوية األوىل .تستقبل اطفاال
من سن العامني قبل التحاقهم مستقبال باملدرسة اإلبتدائية املجاورة ،نقلة بسيطة من فيال
الحضانة إىل فيال مدرسة األهوانية املجاورة.
هذا التجاور املدهش معامريا بني بيوت شبه ريفية أو نصف حداثية مع أطالل بنية
بورجوازية كان مربكا للغايةز فرتييف تلك الفيالت باألنشطة التجارية أو تركها نهبا لإلهامل
الخرائبي كان شيئا عصيا عىل الفهم .فعىل بعد 50مرتاً من فيلتي الدراسة كان بيت عائلة
عمدة املطرية الشهري .عائلة بأكملها حكمت التاريخ القروي للحي وبقي منها فقط بيت
العائلة و"زريبة بهائم" تنتج للحي أفضل أنواع األلبان .ورغم ذلك دخلت الحداثة ،أي
األسفلت إىل املستوى الثاين من الشوارع الفرعية.
ميدان املطرية الشهري كان منبتا لوسائل املواصالت الحداثية الجديدة .فمن جانبه
األمين تخرج اتوبيسات رشق الدلتا حيث متثل املطرية البوابة الرشقية للقاهرة ،وأمام املوقف
كان يرتبع عامل الرتاحيل الطازج قدومهم من األرياف مبعاولهم ومسامري ومطارق فيام
أسامه الحقا املخرج التسجييل حسام عيل "سوق الرجال" .فقد اقتحم أشهر مخرج وثائقي
مثانيني عامل ساحة عامل الرتاحيل يف املطرية بكامريته التسجيلية ،عىل الجانب املقابل كانت
محطة املطرية للرتام ،يف خط يتشعب من املطرية وصوال إىل السيدة زينب يف أقىص غرب
القاهرة ،ماراً عىل أحياء الرشابية وباب الشعرية والعتبة .كان الرتام برحلته التي متتد إىل
ما يزيد عن الثالث ساعات هو الرابط بني موطن امليالد يف الحطابة غري البعيدة عن أعامل
103
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
السيدة زينب وموطن الطفولة .أما فائدته الحقيقية فكانت ربط أحياء الصناعة الستينية
يف املطرية (مصانع الدواء مثل رشكة املستحرضات الطبية ،ورشكة سيد ،مصانع النسيج مثل
رشكة تريكونا ،مصانع األغذية مثل مرص لأللبان) بأخواتها يف الرشابية واألمريية وصوال إىل
بقايا الصناعات التقليدية يف العتبة ،وبني العامل الذين يتحركون لهاثا خلف مواطن العمل
التي وفرتها النهضة الصناعية للثورة.
من القطر املوازي بامليدان كانت محطة النهاية ملرتو مرص الجديدة الشهري .ثالثة
حي مرص الجديدة التجاري، خطوط تنتهي مبيدان املطرية ،احدها ينتهي يف روكيس قلب ّ
واآلخر إىل حدود صحراء املريغني حيث تقع الكلية الحربية ،واألخري يصل إىل الدراسة
حي مدينة نرص الناهض بورجوازيا منذ نهاية قبل أن تخرج منه تفريعة صغرية تالمس ّ
السبعينات يف رشفته الجنوبية (شارع الطريان).
املطرية يف فيلم أحالم هند وكاميليا ملحمد خان كانت املكان الذي تسكنه الخادمتان
الفقريتان .كانتا تركبان املرتو الكهريب وصوال إىل شقق مخدوميهم يف مرص الجديدة.
ورغم مركزية امليدان الذي يتصل بكل مناطق القاهرة التقليدية بخطوط مبارشة ،كان
لشارع املطراوي ميزته اإلستثنائية التي ال تجعل سكانه يف احتياج إىل ميدانهم .فتوزعت
فيه ثالث محطات أتوبيس ،يخدمها نحو ستة أتوبيسات وصوال إىل قلب املدينة ،العباسية،
رمسيس ،التحرير ،السيدة زينب .واألخري ،أي خط السيدة زينب برقم ،303كان أتوبيس
هيئة املعونة األمريكية الذي أسامه األهايل "كارتر" ،بألوانه الحمراء الزهرية وتصميم فضائه
األمرييك الذي يعتمد الوقوف أكرث من الجلوس .ثم أخريا بشعار هيئة املعونة األمريكية (يد
امريكية تصافح يدا مرصية عىل خلفية العلم األمرييك) عىل مقدمته القبابية األقرب شبها
ألتوبيسات املدارس الكالسيكية.
مركزية خطوط املواصالت يف املطرية كانت امليزة اإلستثنائية للحي .فإذا ما اضفنا ملا
سبق محطة قطار بإسم الحي عىل خط كوبري الليمون يف منطقة الخارجة ،ألدركنا كيف أن
حياً ال تتجاوز مساحته الستة كيلومرتات مربعة قد قدر له أن يكون منطلقا لعالقة املدينة
بأطرافها ومحيطها اإلقليمي.
كيف أثر ذلك عىل طفولتي؟ ببساطة كنت مالحا لرسب أطفال شارعنا يف الخروج
من الحي .فعالقتي بالحطابة وعمل أيب املتنقل بني وسط العاصمة وأطرافها سبكني كمرشد
سياحي .كنت أصطحب أصدقايئ إىل اكتشاف األحياء الشعبية القدمية كالقلعة والسيدة
والحسني منذ عمر الست سنوات ،رحالت تنتهي بسينامت أحياء الجنوب ،كنت عراب الطفولة
السينامئية لجييل .وعرب أتوبيس كارتر أو ترام السيدة ،أكتشف اصدقايئ يف األعياد سينامت
"وهبي" و"الرشق" و"إيزيس" و"الحلمية" و"الهالل" مبيدان السيدة ،وسينام "فيكتوريا"
بشارع الجمهورية بوسط البلد ،وسينام "سهري" و"مرص" يف منطقة باب الشعرية والضاهر.
سكنت بيتنا أربع عائالت ،كل عائلة إمتلكت شقة يف دور واحد .تطل غرفتان عىل
الواجهة ،بينام الصالة والغرفة الثالثة كانتا تطالن عىل "منور" داخيل يربط بيتنا ببيت خلفي
104
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
يقع يف حارة الصعايدة الخلفية .عندما سكنا شقة الدور الرابع (حيث يحسب الدور األريض
دوراً أول) .كان البيت الخلفي ينتهي يف الدور الثالث فأطلت شقتنا عىل سطح املنزل
الخلفي .إستغلينا فتحة يف الجدار بحجم باب قصري يسمح بعبور طفل وبنينا "عشة فراخ"
بالطوب اللنب يف السطح املجاور .وكأن الشقة خرج منها ورم معامري صغري ،طلينا الحوائط
باللون األخرض الزرعي موضة الثامنينات ،وكاد الباب القصري أن يتوه من دقة رسمه فبدا
وكأنه باب رسي .هذه الفسحة اإلستثنائية جعلت يل مكانا خارج/داخل الشقة .فبعد "فرات"
متتالية ماتت كل الدواجن ،وأصبح خم الدجاج أول مكتبة ومعزل للقراءة منذ سنوايت األوىل
،بل إين ادخلت وصلة كهرباء ألصل الليل بالنهار يف جلستي الدامئة بها.
مل يقف األمر عند حدود هذه الفسحة التي اخرتعها الكوالج املعامري .كانت هناك
"فسحة" مبلطة أمام شقتنا طويلة وغري مسقوفة ،وهي نطاق إنتقايل بني سطحي البنايتني.
رسعان ما قام والدي أوائل الثامنينات بتسقيفها خشبيا وإزاحة باب الشقة للخارج لنكسب
غرفة إضافية.
يف الدور األريض كانت تسكن عائلة أم أحمد أمني .عم أمني غول أسود بشعر أكرت
وهو "صول" بالقوات الجوية ،يخرج صباحا مبوتوسيكله الياباين الجاوا األحمر بعد أن يسخنه
لنحو نصف ساعة .ومع خروجه يبدأ العامل السحري ملهنة الست أم أحمد زوجته .فهي تعمل
"ح ّفافة" أو "ب ّالنة" ،تتوافد النساء زرافات لشقتهم شبه املظلمة ،ويف الضوء الشحيح الداخل
من املنور املشرتك تبدأ عمل "فتلة الحواجب" ونزع شعر اإلبط وشعر اليدين والقدمني
وصوال إىل العانة بالحالوة السكرية .تشتغل هكذا إىل حني عودة زوجها ،بل انها ،قبل
عودته ،عليها أن تخفي كل أثر ملهنتها الرسية .كان صوت رصاخها حدثاً شبه يومي عندما
يكتشف زوجها البطاش -الذي أشك يف رفضه لعملها -أنها "رجعت للشغالنة الوسخة" عىل
حد تعبريه ،وهو ينهال عليها رضبا .يف ساعات عملها كب ّالنة ،تستقبل األمهات مع أبنائهن.
وكنت مع خروج أمي للتسوق صباحا أترىب عىل أفخاذ نساء شاكيات متواطئات يف عريهن
العام .وعىل حجرهن أخذت رضعايت الصناعية فإن رفضت الرضاعة الطبيعية ،كانت "ماما
أم أحمد" بؤرة أخرى للحكايات والنميمة النسوية ،تواجه ،بل تصارع ،بؤرة كوافري جي جي
اإلفرنجي بلمسة أكرث شعبوية.
كانت النسوة يقمن بأعامل منزل "األسطى أم أحمد" .فبعد اإلهتامم برضيع مثيل
توزع عليهن تالل الخرضوات للتنظيف والتقطيع .واحدة لتنقية األرز ،وأخرى لتفصيص
الثوم ،وثالثة لتنظيف الكرشة ،بحيث ينتهي يوم عملها بوقفة رسيعة عىل البوتوغاز لتسوية
الطعام قبل حضور أبو أحمد ،ووصل مددها للمستوى الذي جعل كل نساء البيت الباقيات
يستفدن من خدمات زبوناتها املجانيات.
ألم أحمد فتى وفتاة ،أحمد ومنى ،وهام يكرباين بسنوات .كانا مراهقني يافعني
سمراوين وأنا الزلت أمسح مخاطي ،يختفيان مع بدء سهر أبيهام اللييل .فهو يحتل الغرفة
املطلة عىل الشارع مبارشة .الغرفة الزرقاء التي ال ينقطع خروج سحابات تدخني الحشيش
105
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
منها بدءا من الخامسة ظهرا ،حيث تتحول أم أحمد للتخديم عىل نار بحجم الزمرد تتأجج
عىل صهللة شلة الحشيش التي ال تجد غضاضة يف فتح الشباك وإزعاج الحي بالضحك
الهيستريي حتي الفجر.
يف الدور الثاين ،أو األول بعد األريض بلغة هذه األيام ،كانت شقة الست أم شوشو،
وهي مهاجرة سويرسية جاءت من زمن تهجري مدن القناة .يعمل زوجها سائقا طول العام
يف الكويت ،ولديها طارق وهشام وشوشو .وهي بيضاء ذات حواجب ثقيلة وعيون شبه
مجهدة من السكر الدائم .ولداها الذكران كانا قلييل التعامل مع أبناء جيلهام من جرياننا.
والعائلة تتعامل بتعال شبه مسترت مع مجمل حياة البيت .كانت أم شوشو العدوة الرئيسية
ألمي ،وانتهى رصاعهام املكتوم لسنوات بـ"علقة" شاركت فيها خالتي كوثر املراهقة يف
ذلك الحني ،وكان املاسرت سني لخالتي وهي تلبسها "صفيحة الزبالة" بعد أن "بركت" عليها
وستولت عنوة عىل كيلوتها األسود.
يف الدور الثالث شقة أم ميمي ،بأوالدها الذكور الخمسة العاملقة ،زوجها يعمل
طوال العام يف السعودية ،وأصغر ابنائها أحمد يكربين بأربعة أعوام ،وميمي الفيل األكرب
يدرس الهندسة .عائلة من مواهب التعليم العايل املتنوع ،بعد املهندس ميمي هناك الطبيب
أسامة ،وخالد املحامي ،وأمين الضابط ،وأحمد الكيميايئ ،واألب املغرتب يأيت يل بهدية سنوية
عبارة عن يت شريت ريايض ماركة لوتو أصيل ،ومرطبان من مسحوق "التانج" الذي يحول
الصيف إىل ليايل بطعم الربتقال.
من صغري ،متنيت ان تكون أم ميمي أمي ،ألنها محبة ألبنائها الوحوش الذين ال
يتوقفون عن التصادم والشجار طول اليوم ،وهو شجار ينتهي غالبا بإرسالها اصغرهم لرشاء
2كيلو كباب و 2كيلو بسبوسة يف عز الليل .يف الصباح تدهن أم ميمي ،الطيبة الصبورة
ذات الحضن اإلستثنايئ والرائحة الزكية ،وجهها ويديها بالزبدة البلدي ،فتبقى المعة طوال
اليوم ،يف حني يسعى الذكور حولها كشغيلة النحل ،واحد يدعك املواعني ،واآلخر يطبخ،
وثالث يغسل املالبس .انه بؤس بيت بال فتيات ،لكنهم جميعا يجتمعون عىل رسير واحد
للمذاكرة ليال .عىل الرسير يأكلون ويشاهدون التلفزيون خاصة مباريات املصارعة الحرة
باملالبس الداخلية.
ولدت عام ،1974وبني الحطابة واملطرية قضيت سنوات طفولتي األويل ،نهاية األسبوع
يف الحطابة وبداياته يف املطرية .وولد أخي تامر بعدي بسنتني ،ثم سلوى بأربع سنوات ،
وجاءت اسامء وأنا يف سن العرش سنوات .وتصادف أن الشارع والحارة املواجهة له عمودياً،
والواصلة إىل شارع املطراوي ،تتكون من نفس الرشيحة العمرية ،فكانت شلة الطفولة هي
12صديقا من الجريان متساوي السن ،إما من عمري أو عمر أخي .يف منزل الحاج عامر
املقابل يساراهناك عوض وفريد ،بعده بأمتار تامر وعمرو ،ثم عالء ومحيي ،ثم محمد
السوداين .ويف العامرة املالصقة إبراهيم ومدحت .ويف إمتداد الشارع لنحو عرشة أمتار مييناً
ويساراً ،هناك محمود ابن بائع البطاطا املشوية ،وسعيد وموىس يف آخر اإلمتدادات.
106
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
فريقان لكرة القدم مكونان من ستة العبني ،وامللعب هو حديقة الفيال التي كنا
نستيقظ يوم الجمعة لتهيئتها وتنظيفها ورش أرضها باملياه .كانت أمي ترهن موافقتها
عىل اللعب بتكليفات منزلية مثل املسح والغسيل أوال ،وإال فمراقبة املاتش من البالكونة
واملشاركة بفارة حازمة يف التحكيم .ليلة الخميس هي ليلة تحضري الكرة ،نفخ قلبها البالوين
البالستيك عند عم سامل ،صاحب محل تأجري العجل يف شارع املطراوي ،رشاء "الكافر" الجلدي
وتخييطه من الخارج بعد نفخ القلب البالون ،إعادة رسم الجول الشاميل بالطباشري .تخطيط
امللعب بالطباشري كان يتم صباحا بعد "ترويق" األرض.
كانت "حتة" من الذكور ،ال بنات فيها إال سحر بنت عم غريب ،ذات السمعة السيئة
كأخواتها وأبيها .أخواتها الذكور حرامية وهجامني .أبوها سائق تاكيس سليط اللسان ومرعب
للجريان .تريب العائلة ماعزاً ميأل الحارة بروثه ومأمأته ،والبنت ترتدي املالءة اللف من سن
العرش سنوات وتضع بعضا من املاكياج وتختفي يف املغارب .كان تامر جارهم أول من تجرأ
و"زنقها" يف حوش بيتهم ونال قبلة –طبعت عىل شفاهه أحمر قانيا عىل حد قوله.
من ناحيتي كنت يف سن الست سنوات أحب بصمت جارة بعيدة تحت إدامة إقامتي
يف البلكونة ،ابنة لألرسة املسيحية الوحيدة يف حارتنا .كنت ال اراها جيدا يف بلكونتهم البعيدة.
كانت كتلة من السواد الدائم بعد موت أبيها املفاجئ .ورغم تباعد البيتني ،كانت أمها
وأختها الكبرية تخص أمي دونا عن باقي الجريان املسلمني بالزيارات يف األعياد ،وتخصني
هي شخصيا بكتبها الدراسية من عام آلخر .كانت تسبقني بعام ،متدينة متأل الكتب بصلبان
وزهور ،وترتك جيهان مرقص ونيس-هكذا إسمها -بعضا من وريقات لعبة بنك الحظ يف
كتبها .ترتدي نظارة بإطار أسود وشعرها معقود .بيضاء ومربربة ،تحت ظالل حبها الصامت
ارتبكت وسهرت وتعذبت لسنوات .صحبتني أختها يف إحد األعياد إىل كنيسة شجرة مريم
القريبة ،فأحببت املسيح كام تحبه فتاتان دون ذكر وأم مرتملة حديثا.
يف زياريت التي صاحبها طقس مغرب مل يتذكرين أحد .حتى ماما "أم زيزي" ُ
عرفت ،بعد
أن فتح ابنها حسن باب الشقة ،أنها ماتت منذ سبع سنوات .صورت فرن العيش البلدي،
بقي محل حالقة عم أحمد الشامي ،وأرص ماهر حفيد عم نصيف الكواء ،عىل ذكر اسمه
بالكامل يك يؤكد أن جده الذي أسلم يف لحظة ،ضعف عاد مسيحيا قبل وفاته .فجده
الذي استمر لسنوات يويص القادمني من الحجاز بالسبح واملصاحف وسجاجيد الصالة فاجأ
الجميع عندما أعلن إسالمه وهجر زوجته .مل يضف إسالمه شيئا إىل عالقته مبن حوله .ظل
نفس الشخص الكتوم الذي ينفث الرزاز عرب ماكينة نحاسية صغرية ،يفتح باكرا ويغلق محله
يف موعد عودة املوظفني.
انتقلت يف رحلتي إىل مساكن شجرة مريم ،سألت عن البلوك الذي يسكنه "مصطفى
البلد" فلم أعرث عليه .أخذت إسرتاحة عىل مقهى مكتب الصحة القديم وتأملت املساكن
الشعبية الصفراء التي تشكل مدخل منطقة خارجة املطرية .استعنت بصديق عرب املوبايل،
أعطاين "كود املنطقة" .عدت للسؤال هذه املرة عن "جامل سوابق" الساكن يف الشقة
107
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
108
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
محل أورفنديس بتاعة البرية ،الحاج نظيف دا طلب من الربنس يوسف كامل (اليل القرص
بتاعه دلوقتي معهد بحوث الصحراء واليل إتصور فيه فيلم "رد قلبي") طلب منه التربع
لبناء الجامع ،الربنس دا كان خال امللك فاروق واملثال محمود سعيد وهو اليل أسس مدرسة
الفنون الجميلة سنة ،1908وكامن هو اليل بعت املثال محمود مختار باريس ورصف عىل
دراسته هناك 5سنني".
أصور لوحات مصطفي الطفولية وأتركه إلكامل الجزء األجمل من املطرية ،الخارجة يف
شارعي البلسان والبلسم .أبدأ من كنيسة عذراء الكاثوليك الروم ،ملجأ الربوتستانت لأليتام،
بقايا الفيلل القدمية وصوال إىل محطة املرتو ومقهى الخارجة .اختفت الفيلل وحلت محلها
مدراس إسالمية خاصة ،محالت مالبس بأسامء أجنبية ورسم ابناء الحي املهاويس شعارات
الرتس نادي الزمالك عىل أحد الحوائط .لكن ما بقي من اشجار وظالل يسمح حتى اآلن
مثلام سمح قبل عرشين عاما ألطفال املدارس املتسكعني يف لعب ماتش كورة (ع املايش)
قبل دخول املغرب.
قبل عرشين عاما ،كان الليل يعني مشوارا إىل الخارجة للتمشية بني الفيلل .هناك
ظهرت البوتيكات األوىل ،محالت الكاسيت ،أفضل فرن إفرنجي ،فتيات مسدالت الشعر
يخرجن للتجول بالبسكيالتات ،ومكتبة عم زكريا التي تبادل ألغاز الشهر بالشهر السابق
مقابل خمسة قروش للنسخة املقروءة واملحافظ عليها دون ثنيات.
عند حدود منطقة القصور أمام املحطة ،أالحظ الربج الضخم الذي شغل مكان سينام
النهضة الصيفي .عىل رصيف نادي املطرية يظهر قرص األمري محمد وحيد الدين سليم.
استولت الدولة عىل قرصه عام 1998بعد اتفاق تاريخي مع لجنة املصادرات يعود لنحو 55
عاما .حني متركز األمري بحرسه وكالبه رافضا فتح البوابات أمام لجنة نزع امللكية ،أطلق النار
وكادت تحدث مجزرة .تم اإلتفاق عىل تنازله عن ممتلكاته فيام عدا القرص حتى وفاته.
عشت وتركت املطرية وأنا اتخيل هذا األمري املسجون يف قرصة يري الثورة تهزم وتنترص.
ميوت سيدها ويأيت رديفها ،وهو باق يف قرصه ،لكن ذاكرة الدولة ال تنىس اتفاقاتها ،ال تنىس
الثأر ،وتعود لتسرتد د ّيتها كام يف حالة ثوار سميكة هانم.
مل يكن عم خلف صاحب منزل املطرية يحتاج إلصبع الديناميت يك يأيت بقرار اإلزالة.
لو كان صرب قليال عىل رصاعنا التاريخي مع جيوش النمل التي كانت تنخر يف كل شققه ومل
تنفع معها كل املقاومات الكيميائية ،لو كان شاهد قبل الليلة املشؤومة منظر رأس أخي
النائم لجواري وقد كساه النمل كديدان الجثث ،لو شاهد فم أخيه مفتوحاً ومنل بحجم
الرصاصري يخرج منه ،لرتك املنزل لحاله ،فقد كنا ال محالة خارجني منه .مل يصرب ال عىل النمل
ومل يقدر عىل التفاوض معنا برفع اإليجار عن ستة جنيهات شهريا .وضع إصبع الديناميت،
لكن القدر مل ميهله ،هدم املنزل وابتنى قبل وفاته منزال من دورين اصبح كـ"البيت الوقف"،
تشاجرالورثة فلم يسكنوه ومل يهتموا بإسكانه حتى اآلن.
109
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
110
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
ذلك كان يعمل كمبيض محارة ،صاحب العامرة مبيض املحارة الذي جاورنا مباعزه وبهامئه
وكان صارما يف ّمل الشهرية.
كنت يف الصف األول الثانوي ،وعىل محطة القطار اكتشفت أننا أربعة صبيان فقط
يف هذه املرحلة العمرية ،نركب القطار ونعاكس أربع فتيات من أرجاء العزبة املنوعة
بالنظرات وبالهمسات وببعض الغناء الذي يتقنه أوسمنا مروان.
أمام املحطة كانت مكتبة الباش مهندس ،صاحبها مهندس يسكن روكيس مبرص
الجديدة ،يأيت كل يوم بسيارته الرينو ليفتح محله فتتمدد الجرائد واملجالت والكتب
وإصدارت الدولة الرخيصة ملواجهة املد اإلسالمي يف ما عرف بإسم مرشوع التنوير .ويف
مركز الشباب عرفنا أنشطة الكشافة ولعب كرة القدم تحت أضواء الكشافات ،لكننا كنا ابناء
العزبة الجوانية ،السكان الجدد ،الفقراء.
من البلكونة التي تسترت بزجاج وستائر كان من الصعب التلصص عىل أحد .فالعامرات
متواجهة بشكل يجعل أي نظرة يف أي إتجاه شكال من اشكال التلصص .عامرات ال تتناسب
شوارعها مع إرتفاعاتها ،فتنظر من البلكون كأنك تنظر يف منور مظلم .غالبا ماال تصل
الشمس إىل سطح الشارع ،ومع الرتبة األصلية الطينية ،وانعدام األسفلت ،تتحول الشوارع
شتاء إىل برك متصلة وفقا لدرجة املطر .أما الصيف فيعني انفجار بالوعات املجارير األهلية
مبا ال يلذ وال يطيب له الذكر.
يسبقنا ببيتني منزل عائلة غايل املسيحية ،ثالثة ذكور بغال الشكل بأسامء إسالمية،
ارشف وعادل ورفعت وبنت وحيدة هي تريزة .تكربين األخرية بعام .أخجلتني بعد ثاين نظرة
تلصصت فيها عىل فخذها األبيض بعد أن وضعت مقدمة جلبابها يف أستك الكيلوت وهي
تنظف البلكونة .كرست عيني بصباح الخري ونظرة عينها الخرضاء الساحرة اىل أعىل ،تحولت
إىل الصديق "املبضون" بعد ان ارست يل عىل املحطة بحبها لعبده ،صاحب محل البويات
غري املتعلم" .أبضنتها" فكنت أقطع مذاكرتنا سويا -نسيت ان اقول إنها رسبت عاما بعد أن
شقت مالبسها فيام البغال الثالثة ينهالون عليها رفسا وقد اعتربوها مجنونة لرتتبط بـشاب
غري متعلم-أقول اقطع مذاكرتنا بطلب مالءة نظيفة يك أصيل العرص ،كانت تحرض يل مالءة
نظيفة وتغلق ع ّ
يل الباب.
فيام عدا هذا املشهد للسلم األهيل العتيق ،الذي جلبته عائلتنا من تراث املطرية،
وجلبته عائلة غايل من تراث منطقتها األصلية يف حدائق القبة ،كان الرصاع الطائفي مكتوما
لكن يبدو نظيفا .فالعزبة كانت موطن ترحيل املسيحيني تحت الضغط من أحيائهم األثرية ْ
يف رشق القاهرة ،من الزيتون ،حدائق القبة ،شربا ،أو الذين جاؤوا من الصعيد امللتهب
أص ًال ،من أسيوط الجامعات اإلسالمية ،ليتجمعوا يف منطقة تخدمها ثالث مؤسسات كنسية،
كنيسة العذراء مريم بشارع الفريد إىل جوار املحطة ،والتي تصدر منها اآلن مجلة "الكتيبة
الطيبة" املتطرفة الشهرية والتي كانت سببا يف مالسنات فضائية طائفية شهرية ،وحيث
ظهرت العذراء الحقا ،ودير راهبات مريم مبستشفاه يف منطقة الراهبات نهاية الطوايل،
111
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
وأخريا كنيسة الزرائب ،التي أسستها األم تريزة الشهرية يف منطقة حرق املخلفات والزبالة
نهاية شارعنا ،حيث ميتد عامل تدوير مخلفات القاهرة العامرة وحظائر الخنازير الشهرية.
يف عزبة النخل اختفى القيادي الشهري أمين الظواهري ألربع سنوات فاصلة بني عودته
من أفغانستان ألول مرة نهاية الثامنينات وإنطالقه مع بن الدن الحقا .فتح عيادة باسم
مستعار وتزوج ومارس املهنة بعيدا عن أعني األمن الذي كان ال يجرؤ عىل عبور الحد الفاصل
بني العزبة اإلفرنجية الفياللية ،وعزبتنا ،عزبة القرن الثامن عرش .رسقت جامعة التكفري
والهجرة محل مجوهرات صديقنا ارشف املسيحي عىل ناصية الشارع وتوغلت بعد إطالق
النار يف الزرايب .جاء أمن الدولة بعدها بيومني ،وألن شارعنا يقع إىل جانبه األمين يف القاهرة
وجانبه األيرس يف القليوبية ،ألقى كل طرف املسؤولية عىل اآلخر .ملَ ال والعزبة مقسمة بني
ثالثة أحياء كلها بعيدة يف األصل عنها :املطرية حيث تنتمي منطقة املحطة وصوال إىل ترعة
التوفيقية ،املرج ميني شارعنا ،الخصوص شامل شارعنا .العزبة لقيطة الفراغات اإلدارية التي
ال تظهر عىل خرائط الدولة حتى اآلن إال يف شكل خطوط وهمية تفصل بني نطاقات زراعية
قدمية ،وحتى اآلن يفضح النخل النابت شيطانياً بني البيوت ذلك التاريخ الزراعي القديم.
دخل مرتو األنفاق عزبة النخل عام .1988فجرت انهار األسمنت والطوب األحمر ،تم
هدم الفيلل ،والبيوت القدمية ،لتحل محلها عامئر قبيحة ملونة بألوان الكانتلوب والليمون
فيام تجللها آيات القرآن أو الصلبان الحجرية .جاء إليها أو خرج منها اإلسالم املتطرف
فالتحى أخي وتحجبت أخوايت البنات وعاد أيب إىل الصالة يف املسجد وتخمرت أمي التي ال
تحفظ الفاتحة.
جاء التمدين القرسي بكهربة املرتو فانزرع الناس متهالكني عىل نفس البنية التحتية
الخربة وتكالبوا يف عنف عىل امتصاص الهواء والفراغات ،باختطاف البنات املسيحيات تارة،
بتطهري الشوارع تارة أخرى من أقليتها الدينية إسالما أو مسيحيني ،والدولة حارضة مبرشديها
من تجار املخدرات وعربة األمن املركزي الدورية التي تنزل لتخترب كل موسم قطاف الفقر
من املتطرفني يف إعتقاالت عشوائية مؤقتة إلكامل الدفاتر وإثبات الهيبة.
يف شارع املدارس تهالكت مدرسة "الجيل الحر" الحكومية تحت أكوام الزبالة فيام
متددت مدراس "براعم" اإلميان اإلسالمية الخاصة و"جابر األنصاري" اإلسالمية الخاصة،
ثم "الفراعنة" و"الرشق األوسط" اللتان ال تحتاجان إىل كلمة "املسيحية الخاصة"،
وانترشت التكاتك (جمع التوك التوك) ،وانترشت محالت اإلتصاالت الخلوية ،وانترشت
محالت املالبس الصينية ،كذلك انترش مجمل اخرتاعات الحياة كام يتفنن يف إنتاجها أبناء
مخلصون للزمن العشوايئ.
تظهر مكاسب املوبايل و"إتكلم براحتك" فتفتح عرشات املحالت املتجاورة ،متتص
السوق فتغلق جميعا .تفتح محالت املنتجات الصينية الشهرية بـ" 2ونص" فتامرس كل
املبيعات ثم يخرب سوقها .يظهر التوك توك فتشرتي كل العائالت تلك املاكينات الهندية
ثم تركد ،وهكذا مع املقاهي ،وهكذا مع محالت الستااليت ،وهكذا األدوات املنزلية :عقل
112
يورد يناه رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف
جمعي يتذاىك ويخرتع حلوال مؤقتة قبل أن يعود لنقطة صفره األوىل ،فيعاود إشعال الحرائق
يف جريانه املسيحيني.
مل أكن احتاج إىل زيارة إستعادية لعزبة الصني الشعبية ،فأنا مل أخرج منها إال من
سنوات قبل الزواج .خرجت منها بعد حادثة بسيطة جدا .كنت عائدا مع صديق يعمل
بجنوب سيناء لفرتات طويلة ويرشفني بإجازاته القصية يف شقتي التي اشرتيتها منذ عوديت
من باريس .توقفت ألشرتي طعاما أسفل منزلنا .منذ سنوات مل اعد معروفا يف املنطقة.
املنطقة تزدحم وأنا ابتعد ألدخلها ليال مرسبال يف الظالم .كنت أتخيل ان برجي العاجي يف
شقة يف الدور التاسع ال تُرى ُمضاءة إال يف الفجر ويسكنها شخص قليل الكالم ،غري مرصودة
أو متا َبعة .قام شاب يف تلك الليلة من أشقياء املنطقة تحت تأثري سيجارة بانجو مرضوبة
ليستعرض عيل مبطواة قرن غزال .جاء يسألني "أنت إبن مني ياد؟" .بهت صديقي الذي
عمل مرشدا سياحيا .تكهرب الجو وفيام كنت أتلعثم أكمل إهانته وأنا أقف أخرس .حتى
ليساري محب للفقراء ّ
ومنظر لفلسفة الصعاليك ّ هذه اللحظة كانت الرواسب اإليدولوجية
تجعلني إبناً للمنطقة .مل أدر بنفيس إال وساقاي تجريان نحو املنزل .ارصخ باسم اخي
السلفي الشهري زمن شقاوته والذي متاهي منذ زمن مع العزبة .نزل أخي ،نزلت أخوايت
البنات ،نزل ايب ،ولفيف من جريان منزلنا ،وهجموا عىل الشاب .جلجل صوت أخي وهو
يسب أهايل املنطقة والشارع بفخر فيام ميرمغ كرامة البلطجي ركال وتعنيفا .األخري كان
يعتذر ويق ّبل يد أخي األصغر .أحسست فجأة بفراغ املشهد ،أحسست أين بعيد ،رمبا خلف
الكامريا أو أمام شاشة عرض .كنت سأموت هكذا بطعنة من تافه يف السادسة عرشة ،هل
تفهمونني ،ال اظن!
يف زياريت األخرية ،مل أمر عىل منزل العائلة .فبعد وفاة والدي وانحشار كفنه عىل
سلم املنزل الضيق بعد ثالث ساعات من "تغسيل رشعي" أرشف عليه خمسة من أعضاء
الجامعة السلفية هواة "حصد ثواب املوت" .وبعد أن اوصلته إىل قرب العائلة يف قريته التي
خرج منها يف الستينات ،عرفت أن فطامي قد تم .لكن رغم ذلك تغريت العزبة ،وأصبحت
أكرث غربة عن ناسها وأنا أتخفى بكامريا ديجيتال .قضيت ثالث ساعات يف أرض املنتجات
الصينية أبحث عن بطاريات اإلنرجيزر يك تدور الكامريا .يف مقهى من مئات املقاهي التي
تعمر بالسلفيني املتعطلني وداهني الهواء دوكو ،جلست أشاهد انفجار الشوارع بالفتيات
املسيحيات بشعورهن املسدلة وقد جحظت عيون "داخيل الجنة بثواب أسلمة املسيحيني".
عىل الجانب اآلخر متيش وجوه الحجاب مجهدة مستغفرة مكفهرة .الهواء يكاد يشتعل ،من
حرق النفايات املتناثرة عىل أجمة الشوارع ،من أصوات الرتانيم املتصاعدة يف مواجهة قرآن
سلطت الكامريا -خوفا من الوجوه -عىل أسامء املحالت،ُ الحذيفي من مح ّلني متجاورين.
التقطت ما تيرس من صور فيام عيون ترقبني ،وجريت رسيعا ،رسيعا ،بل ارسع مام تتوقعون
يف مثل تلك الحاالت.
113
لبنان
عندما ُطلب مني أن أكتب حول موضوع خطوط التامس ،أدركت أن كلمة متاس بالنسبة
إيل تعبرّ اليوم عن فكرة التقسيم واالنفصال .يبدو يل من املستحيل أن تكون هذه الكلمة
قد حملت يوما ما معنى آخر ،إذ أنها تجسد فكرة الحرب األهلية بعينها ،تلك الحرب التي
عشناها وعشنا انطالقا منها حروبا أهلية أخرى.
كلمة متاس جزء من موسوعتنا الحربية ولن تشمل معناها األصيل الذي يعرب عن
املس وفكرة التجاور ،يف غياب السلم الحقيقي .فنحن ال نعيش بعد يف زمن السلم ،وهذا ما
أكدته ،ولألسف ،مجموعة من األحداث ،خاصة تلك التي حصلت يف بريوت يف أيار .2008
يف أيار 2008سمعنا مجددا صوت طلقات النار يف الشوارع ،واملحزن أن أكرث من
مائة وخمسني شخصا لقوا حتفهم يف ذلك األسبوع .لكن األمر الذي لفتني بشكل خاص كان
مشهد "الرينغ" املهجور واملسدود باملتاريس .فهذا املشهد كان صورة مطابقة عام كان عليه
الرينغ يف الثامنينات خالل الحرب .مل يتغري يشء يف الصورة .لرمبا كانت هذه الصورة جزءا
من الزمن والتاريخ يحمل ذاكرته الخاصة .أحداث تمُ ثل أو سيعاد متثيلها يف املسقبل.
هذا اإلنقسام املادي واملعنوي لبريوت والذي جسدته خطوط التامس كان يف صلب عملني
من أعاميل أرغب بالتأمل فيهام من منظور اليوم :فيلم الفيديو الوثائقي "هنا ورمبا هناك"
( 54دقيقة – ، 1)2003والقصة الخيالية القصرية التي تحمل العنوان ذاته (.2)2003-1996
يف كال العملني ،يبدو املكان امللقب بخط التامس أو بالخط الفاصل ،مركزيا كصورة
وكرمز ،ومع ذلك ال يتم تعريفه كام انه ال يقبل التمثيل .ميكن القول إنه بالرغم من الوجود
املادي لخط التامس ،فهو أصبح مع الزمن خطا معنويا يج ّزئ هذه املدينة ويق ّوض املظاهر
املختلطة من حياتها بطريقة غري قابلة ألن تُعكس.
ملحة لرواية ورمبا تصوير يف 1993كنت طالبة يف حقل السينام وشعرت بحاجة ّ
الحروب اللبنانية برصيا .بعدما شاهدت الفيلم "راشومون" 3قررت أن أصنع فيل ًام روائياً
يل نقل القصة ووضعها يف سياق طوي ًال مستوحى منه ومبنياً عىل األسس ذاتها .امنا كان ع ّ
الحرب اللبنانية .يف 1996بدأت العمل عىل تطوير أشخاص الفيلم ،وبقيت لسنوات عدة
أغ ّذي رغبتي يف إنجاز هذا الفيلم الروايئ .وبالرغم من ذلك مل أعمل بشكل جدي عىل
املرشوع بسبب تعرثي بأسئلة مهمة ووثيقة الصلة باملوضوع.
كيف ميكنني إعادة خلق ديكور الحرب؟ هل إعادة خلق أحداث تلك الفرتة املأساوية
بشكل خيايل أمر مناسب اآلن؟ هل ال يزال من املمكن أن نؤمن بتصوير الحروب بطريقة
واقعية وتقريبا طبيعية؟ هل من املناسب العمل مع ممثلني محرتفني ليجسدوا شخصيات
أبطال الحروب؟ وهل من املمكن أص ًال تصوير أو رواية هذه الحروب؟
هل بإمكان السينام ،التي بالكاد لها تاريخ وتفتقر إىل صناعة حقيقية يف بلدنا،
أن تنجح يف متثيل الحروب اللبنانية؟ واألهم من ذلك هو أنه تم صناعة عدد كبري من
األفالم املثرية عن الحروب يف أماكن أخرى من العامل ،وبالتايل أليس من املفرتض أن تدفعنا
خصوصيات الحروب اللبنانية إىل إعادة التفكري بطرق وأساليب تأليفنا الرسدي.
بدأت الشكوك تراودين بشأن هذا الفيلم الروايئ ،ومع ذلك فإن األسئلة حول كيفية
متثيل الحروب اللبنانية وكيف ميكن لنا أن نكون شهوداً عليها بقيت تنتابني .كيف ميكنني
التعامل مع تاريخنا الحديث ،أي صورة له ميكنني االحتفاظ بها .أي صورة له سأعاود
خلقها؟
بعض الحقائق واملآيس والتجارب لن تصلنا وستبقى طي الكتامن ،مدفونة ،لن نتمكن
من أن نشهد عىل وجودها ،ميكننا فقط افرتاض أنها موجودة ولكن مفقودة .هذا نتيجة
آللية الذاكرة ،بتشوهاتها وبامكانية النسيان وحتى بحاجة البرش للنسيان .كام أن ذلك عائد
الستحالة مهمة تجميع كل الشهادات والوثائق املتعلقة باالحداث السابقة بسبب ضيق
ولكن أيضا ،ويف حال الحروب اللبنانية تحديدا ،بسبب وجود أمراء الحرب يف السلطة الوقت ْ
حتى اليوم ،ما مينعنا من التنقيب يف هذه األحداث والحكم عليها ،يضاف إىل هذا كله أن
الحرب مل تنته بعد.
Rashomon 3 3فيلم ياباين اخرجه Akira Kurosawaيف ،1950وهو يتناول فكرة الحقيقة النسبية
من خالل وصفه لجرمية قتل ساموراي واغتصاب زوجته ،كام يرويها بأشكال مختلفة اربعة شهود
والضحية نفسها (عرب وسيط روحي).
115
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
لذلك ،ومع مرور األعوام أصبح واضحا بالنسبة يل أن الطريقة الوحيدة إلمكانية
تصوير أو رواية الحروب اللبنانية تكمن يف تقبل عدم قدرتنا عىل تصويرها .ميكنني فقط
اقرتاح محاوالت للتصوير وأجزاء من التاريخ وأجزاء من الحقيقة وقصص شخصية .ويف
معرض دحيض لفكرة الحقيقة الفريدة سأحاول طرح خطاب مضاد للخطاب الرسمي أو
لغياب أي خطاب رسمي.
أجد نفيس منسابة بني االغراء أو حتى الحاجة لرسد تاريخنا وبني استحالة الوصول
إليه بشكل كامل .وقد تبني يل أن شكيل التعبري ،الوثائقي والخيايل ،محدودان بأساليبهام
يف التمثيل .أصبحت مهتمة بفكرة تغبييش هذين النمطني وبإعادة النظر يف العالقة بني
الحقيقة التاريخية والخيال .ركزت عىل تجميع و/أو انتاج وثائق أو مادة أرشيفية باإلضافة
إىل عنارص خيالية ملقاربة العالقة بني القصص الفردية والتاريخ الجامعي.
ميكن القول إن الكثري من الفنانني من أبناء جييل الذين أنجزوا أعامالً منذ مطلع
التسعينات وحتى يومنا هذا يف بريوت قد أثاروا أسئلة مشابهة يف أعاملهم .من املؤكد أن
ذلك مل يأت صدفة .فأعامل هؤالء الفنانني تجد لها أصداء يف أعامل فنانني آخرين من مناطق
أخرى يف العامل هم أيضا مهتمون بالقدر ذاته مبسألة استخدام الوثائق كوسيلة ملقاربة
التاريخ وآلية الذاكرة.
الكاتب والق ّيم عىل املعارض أوكوي إينويزور يستنتج يف مقالة له نرشت يف كاتالوغ
" أركايف فيفر" (حمى األرشيف) ،وهو املعرض الذي نظمه يف مركز التصوير الدويل يف
نيويورك ) (ICPعام " 4 2008يف إطار معرض Archive Feverيربز الفنان بوصفه عنرصا
تاريخيا للذاكرة ،بينام يربز األرشيف كمكان تتم فيه مالمسة مسائل تتعلق باملايض عرب
االنبثاق الصارم للموت والدمار والتحلل .لكن ،وخالفاً لألشكال املعارصة لفقدان الذاكرة،
التي يصبح األرشيف مبقتضاها موقعاً لألصول املفقودة وتضحي الذاكرة فاقدة لذاتها ،يحصل
فعل التذكر والتجدد يف داخل األرشيف نفسه ،وهناك أيضاً تقوم اللحمة بني املايض والحارض
يف الفسحة غري املحددة بني الحدث والصورة وبني الوثيقة والنُصب".
هجرت مرشوع صناعة فيلم روايئ وقررت بدال عنه أن أقوم بعملني :االول عبارة عن
إصدار قصة قصرية مبنية عىل بنية فيلم "راشومون" بحيث ُينقل سياق أحداثه إىل بريوت
يف الثامنينات .سيشتمل هذا العمل عىل صور هي عبارة عن وثائق لبريوت خالل الحرب
وصور بورتريه من مجموعة "املؤسسة العربية للصورة" ،باالضافة إىل بعض الصور التي
التقطها فنانون معارصون حديثاً .لن يتم فصل العنارص الخيالية واملادة األرشيفية ،إمنا يتم
يصور
استخدامها بشكل متسا ٍو يف عملية رسد الرواية .املرشوع الثاين عبارة عن فيلم فيديو ّ
قسم بريوت إىل منطقة غربية وأخرى يف بريوت عىل طول ما كان يعرف بخط التامس الذي ّ
4 4معرض Archive Feverيضم اعامالً مرتبطة باستعامل األرشيف والوثائق لفنانني محليني هام وليد
رعد ومليا جريج ،وكذلك لفنانني من بلدان مختلفة.
116
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
رشقية .سأتّبع يف التصوير "األسلوب الوثائقي" مستخدمة صورا من األرشيف بهدف قص
الرواية .وبالرغم من ذلك فإن شهادات األشخاص الذين سأقابلهم ستشتمل عىل عنارص
خيالية .سأحاول اسرتداد صورة مفقودة لبريوت ،صورة تجزأت يف مخيلتي منذ سنوات
كثرية .كيف يل أن أصور بريوت؟ هل تصوير بريوت املجزأة ممكن فقط عرب صورة مجزأة
هي أيضاً؟
يف الفيديو "هنا ورمبا هناك" ،حيث كنت أعلم أن آالف األشخاص اختطفوا ومل ُيعثرَ
يف معظم الحاالت عليهم كام بقيت ظروف خطفهم مجهولة ،سأسأل السكان الذين التقيهم
بينام كنت أعرب بريوت يف محاذاة ما كان يوصف بخط التامس ،ما إذا كانوا يعرفون شخصا
اختطف "هنا" خالل الحرب.
باألساس كنت قررت استخدام اسم مبتكر أو اسم شخص سمعته بينام كنت أعرب
بريوت سعياً إلجراء تحقيقي .الفكرة كانت أنه مع كل مقابلة تكرب "االشاعة" ويصبج
الشخص "املبتكر" شخصاً "حقيقياً" ليكتشف املشاهد رسيعا أن هذه الشخصية غري حقيقية
وأنها كانت مجرد أداة تفعيل لعملية الذاكرة ولكشف تعدد الخطاب املوجود حول الحرب
باالضافة إىل عظم املأساة.
عندما بدأت التصوير ،أدركت الحدود األخالقية ملرشوع من هذا القبيل ولجوانبه
الفكاهية .ومع أنني توقعت سامع تجارب مأساوية كثرية ،إال أنني صعقت من هول ما
سمعته .تقريبا يف كل شارع عربته قابلت شخصا عىل األقل عاىن من الفقد خالل الحرب.
الحقيقة كانت أسوأ مام كان ميكن يل أن أتخيل .عندما بدأت رحلتي واجهتني عىل الفور
جروح وأوجاع الناس الذين قابلتهم وكشفوا عن قصصهم أمام كامرييت .بعضهم كان مىض
عىل مآسيهم العائلية أكرث من عرشين عاما .مل يعد بإمكاين أن أمثل خدعة "الشخصية
املبتكرة" .أقول هذا من غري أن أعني أن الخيال كان مستحيال ،بل ألقول إنه يف هذا االطار
تحديدا أصبح الخيال خارج املوضوع .لو أنني قررت امليض يف مخططي األول لكنت شعرت
بأنني منتحلة.
تخليت عن فكرة "الشخصية املبتكرة" وأخذت أصور بينام أسأل من أقابلهم :هل
تعرفون احدا خطف هنا خالل الحرب؟ استمر التصوير ثالثة أسابيع تتبعت خاللها خريطة
لبريوت .وبينام عربت املدينة اكتشفت أمكنة مثقلة بالتاريخ .قسمت رحلتي عرب وقفات
عند مواقع الحواجز التي كانت موجودة عىل امتداد خط التامس ،مستخدمة صورا من
األرشيف لتحديد مواقعها الحالية بدقة .5أحيانا كان يعجز الناس عن تحديد مواقع تلك
الحواجز ،وعندما ينجحون يف ذلك غالبا ما كانت هذه املواقع غري متطابقة مع املواقع التي
تحددها صور االرشيف .هكذا كان الحال مع معرب املرفأ الذي يقابل اليوم مكب نفايات
5 5معظم الصور املستخدمة يف فيديو "هنا ورمبا هناك" التقطها املصور عباس سلامن ،وقد تم
االستحصال عليها من ارشيف جريدة السفري.
117
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
النورمندي املحاذي للبحر يف منطقة أعيد استثامرها من قبل سوليدير .6ولكن املثري أيضا أن
بعض هذه النقاط ما زالت متاما كام كانت عليه يف الصور التي التقطت عام ،1989مثل
معربي املتحف-الرببري والسوديكو.
وبينام كنت أصور بدون اعداد مسبق ،سجلت األحاديث التي استثارتها الصورة
وأسئلتي ويف الوقت ذاته التي استثارتها آلية الذاكرة .هذه العملية تسمح للاميض بأن ينبعث
يف الحارض الرسدي كام تفتح املجال أمام إمكانية إضافة قصص أخرى عديدة يف املستقبل.
الناقدة الفنية كايلني ويلسون غولدي كتبت" :7إن مجاورة الصور الساكنة واملتحركة ال
تعمل فقط عىل تحديد إيقاع العمل برصياً ،بل تخلق أيضا فصال مؤقتاً بني املايض والحارض.
هذا الفصل يتضاعف عندما يتكلم األشخاص الذين تقابلهم جريج .فهم يجيبون عن أسئلتها
بقصص عميقة وغامضة يف آن ،مرتبطة باملوضوع االساس أو بعيدة عنه .تنساب بني الحقيقة
والخيال ،بني ما هو تذ ّكر مبارش لحوادث سابقة وما هو تأويل لذكريات يتم استدعاؤها إىل
الحارض .وكام يقرتح عنوان الفيلم ،فهذه القصص موجودة هنا وهناك يف الوقت عينه".
8
– –بتعرف يش عن حدا انخطف؟
– –هيي صارت معي مرة الحادثة .وصلت عىل املعرب ،قال وراق البيك آب .أعطيت
الوراق .بنط واحد بيقليل أه ًال ...شو أه ًال؟ أخد الوراق وبلش اإلتصاالت .بعد شوي
أخدوين عىل ساحة العبد .يليل بعد املتحف ،بعد ساحة العدلية ،هيدي بيسموها
ساحة العبد .كان عندهم مركز هونيك .قعدنا .كنت اشتغل عند ناس الله يحميهن،
كانت كتري أخالقهم عالية من بيت الهرب .قليل إزا بيصري معك يش بتقلهن أنا بخص
الحج هاون .كان هونيك امللقب ،هوي من بيت الهرب .وملا قلتهن أنا بخص الهاون
ما الهاون ،سحبوين عاملركز ،اتصلوا فيه ،والال بيجييل واحد بيفوت بيقليل :من وين
بتعرفني وليه؟ قلتلهن أنا بشتغل عند أبو طوين ،إييل هرب وقليل ّأي يش بيصري معك
اتصل فيك .قاليل حدن دقرك ،حدن قرب يش صوبك؟ قلتلو ال ال ال ...بس أنا شو
كنت؟ كنت خالص .كان معي شخص نزلوا لتحت .كان معي شخص بالقوضا ،إزاز
فوميه ...نزلوه لتحت ...ما عدت شفت يش.أنا أخدوين .ضهروين ...قال خلص وال
قطعوين عاملعربيهمك ...قلتلن أل ما بضهر أال ليجي معلمي أبو طوين .تلفنيلو إلجاّ .
ورحت .وبعد يش خمس ايام أسبوع الرتاحت أعصايب ،رجعنا فتنا .كان كل يش
إنو عىل أساس بدهن والد خالتي .والد خالتي كانو ساكنني باألرشفية بناية الجيش
بيقولوال ،عىل كرم الزيتون .ألنو ه ّني كانوا بالحزب القومي السوري ،وبدهن ياهن.
والبيك آب كان بإسم ابن خالتي .عرفت يومتها ،قمت تركت البيك آب واشرتيت بيك
6 6سوليدير هو اسم الرشكة التي كلفت بتطوير واعادة تعمري وسط مدينة بريوت.
7 7كايلن ويلسن – غولديContemporary Art Practice in post-war Lebanon : An ،
introductionمنشورة يف Out of Beirutيف .2006
8 8مقتطف من فيديو "هنا ورمبا هناك".
118
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
آب غريو .ومن يومتها قويل الحمدالله ،ضلينا نروح ونجي ،الله حامنا.
– –يليي أخدو معك ّردوه؟
– –أل ،ما عرفت يش عنو أبد ًا ،ألنو أنا سألت ،يليل بينزل لتحت خلص! هيدي يومتها كان
بساحة العبد.
– –تحت شو يعني ،غرفة؟
زي ما كان ع ّنا غرف كتري هون ،كان ع ّنا غرف كتري هون .يعني ال تواخزيني ،بس –– ّ
املر بيشهد ع هاليش كامن .كان عاملينو تحت ،وغريه غريه .يعني إزا بدنا نحيك برج ّ
عن األحزاب هويل ،نحيك عن األحزاب يليل ع ّنا .ما نفس اليش!
مع تتبعي لخط التامس الجغرايف مستخدم ًة صوراً أرشيفية ومرددة السؤال ذاته ،أكون قد
خلقت أداة أعمل من خاللها عىل تجميع ومراكمة مجموعات من الرسد هي مثل أجزاء
كثرية من التاريخ .هذه األجزاء هي ذاكرة ونسيان يف الوقت ذاته ،أجزاء من وحدة غري
مكتملة تم تجميعها الحقاً .وهي بينام يعاد ترتيبها أو تفسريها تصبح مجاورة للخيال.
بقيامي بذلك آمل أن أكون قد اسرتجعت خطاباً أساس ّياً .أن أكون قد جعلت ذلك
الخطاب مرئياً ومسموعاً بعدما كان مطموساً بقصد أو عن غري قصد ،أو أنه كان موضع
تجاهل .هذا رضوري ألن ذلك الخطاب له دالالت عىل فرتة خاصة من تاريخنا ،رضوري
حتى حني يصبح خيالياً ألنه شاهد عىل التجارب االنسانية القوية والنادرة والتي ،مع أنها
مرتبطة بواقع معني ،تكتسب أبعادا عاملية .وبينام تضع عالمة استفهام عىل منهج التوثيق،
فإن تن ّوع القصص الكثرية التي رويت ،وتراكمها وتردادها غري املتساوي ،تربط كل تجربة
شخصية بتلك الجامعية ،ما يجعل من الصعب ،إن مل يكن من املستحيل ،الوصول إىل فكرة
الحقيقة الفريدة.
كايلني ويلسون غولدي كتبت" 9مثلام يقوم "هنا ورمبا هناك" بكشف الصدع بني املايض
والحارض وبني الحقيقة والخيال ،فإن الفيلم نفسه يتنقل بني عنارص توثيقية ومامرسات
فنية .إن جريج تنتقل بشكل منهجي من موقع إىل آخر .تعيد طرح مجموعة األسئلة ذاتها
وكأنها عاملة بوصف االجناس البرشية تقوم ببحث ميداين .ومع ذلك فإن هنا ورمبا هناك
مرتابط بأجوائه وبنحو غري محكم .لطاملا كان النهج التوثيقي برمته موضع سجال ،وجريج
بدورها تجرب املشاهد عىل التفكري يف معنى التوثيق عرب فيلم أو فيديو .فجريج تستخدم
يف فيلمها بعض العنارص التقليدية يف صناعة األفالم الوثائقية ،ولكنها كذلك تنحرف عنها.
تتدخل بشكل فاعل مع أشخاص فيلمها .ال تستخدم صوت الراوي وال تقدم إحصاءات،
119
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
وليس من أدلة دامغة أو رسيعة لتدعم تاريخ الحرب األهلية .فالفيلم ال يقدم دراسة نهائية
عن موضوع الخطف أو املفقودين .هنا ورمبا هناك يطرح األسئلة التالية :ما هي النظرة إىل
الحرب االهلية اللبنانية من قبل هؤالء الذين عاشوها؟ هل تم حل الرصاع بالفعل؟ هل تم
التطرق إىل أسبابها ونتائجها بشكل كاف أو حتى مناسب؟".
مع أن التصوير تم يف 2002فالحرب كانت موجودة يف معظم القصص التي ُس ّجلت.
هي كانت موجودة أيضا يف ما رفض الناس أن يقولوه ويف ما خافوا أن يعربوا عنه ،أو ما مل
يتذكروه ،ويف االحاديث التي رددها شخص بعد آخر.
10
– –بتعريف يش عن حدن انخطف هون بالحرب؟
– –إيه يف ابن خيي ،بس مش هون .أظن فوق عالجمهور انخطف .ابن
خيي وابن خالو .انخطفوا أثناء الحرب .بأيام ...ما بقدر قول ،بخاف .
هون قصقص .طريق الطيونة هون .هاي كلها طريق الطيونة .عندك املتحف من
هون .لييك ،أنا بتذكر كانت مارقة سيارة وفيها شب وتقنص.
يف كل من الفيديو والقصة القصرية أؤكد عىل الخسائر والثغرات يف الذاكرة والتاريخ
متقبلة إياها كجزء ال يتجزأ من الرسد غري الخطي ،مشرية إىل عدم إمكانية الوصول إىل
رواية كاملة لألحداث.
تقع أحداث القصة القصرية "هنا ورمبا هناك" يف زمن الحرب األهلية يف منطقة خط
متاس يف بريوت .تعمدت أن أبقي جغرافية املكان مبهمة ،وكذلك كل معلومة تفصح عن
هوية جامعة أو ميليشيا معينة .ومع ذلك فكون مكان وقوع القصة قريباً من منطقة خط
التامس مهم إليصال فكرة تجزئة املكان وتقسيم املجتمع ،باالضافة إىل خلق جغرافيا ُمتخ ّيلة
تعكس ،مع ذلك ،حقيقة مأساوية.
ايلول .1987يف أحد أحياء بريوت عند خط التامس ،يتحرى رجل عن إختفاء أو
احتامل مقتل وحيد صالح :ثالثيني ،أسمر البرشة وملتح .يف ذلك اليوم كان يرتدي رسواال
11
رماديا وقميصا ابيض :كان ذلك يف 15حزيران .1986
حادثة اختفاء واحتامل قتل وحيد صالح املأساوية يرويها خمسة هم أبطال الرواية ،مبن
فيهم القتيل نفسه .روايات األبطال تتعاقب يف محاولة وهمية إلعادة تركيب الحادثة
من خالل مفاتيح معينة والتفحص املتقاطع .إن الثغرات يف القصة تحول دون وصولنا
إىل حقيقة فريدة.
120
يرج ايمل دبأ زجني مل مليف حيرشت
أذكر جيدا هذا الحادث .كانت هذه آخر مرة أطلق فيها النار من عىل سطح هذا
املبنى .مل تكن العملية سهلة ،كان الرجل يركض برسعة ويف كل االتجاهات .بعدها اضطررنا
إىل التخيل عن هذا املبنى ووجدنا النفسنا مخبأ جيدا يف زاوية أخرى هادئة.
كنت منهمكا بالتفكري عندما سمعناه يقرتب .دخل الغرفة ونظر إيل وعىل وجهه تبدو
عالمات التوتر .وبخطوات رسيعة ومدروسة توجه نحوي .فقدت القدرة عىل التفكري وعىل
الحركة .مد يده بعنف ليسرتد سالحه .شعرت بالخوف .ماذا ميكن أن يفعل بنا؟ أزحت
ذراعي بشكل تلقايئ هربا من يده .كانت أصابعي املتشنجة تتمسك باملسدس عندما حاول
للمرة الثانية أن ينتزعه مني .خرجت الرصاصة من املسدس بشكل مفاجئ ،مل أكن أنوي
قتله ،فأنا لست مقاتال وال مجرما .أصابته الرصاصة يف الراس ،وسقط أمامي13.
كل من األبطال يزعم أنه هو الذي قتل وحيد صالح ،وهو ما يثري التساؤل حول املسؤولية، ٌ
وما يجعل أيضا ك ًال م ّنا العباً محتم ًال يف هذه الجرمية ،وبناء عليه يجعل ك ًال م ّنا العباً يف
هذه الحرب.
121
نسو ّيات
1
ملن وملاذا؟
يف مطلع مقدمة كتابها الرجل والجنس( 2الصادر يف العام ،)1976تقول نوال السعداوي إن
فكرة كتابة بحث علمي عن "الرجل والجنس" مل تكن يف ذهنها؛ لكن ما إن صدرت كتبها
السابقة 3حتى أصبح الرجال هم األغلبية من ضمن الذين يطلبون منها "الرأي واملساعدة
4
لعالج مشكالتهم النفسية والجسدية" .وهي ملست خالل عملها العيادي الطبي جهل
الرجال والنساء معاً لألمور املتع ّلقة بجنسانياتهم وبجنسانية اآلخر .فإذا كان الجهل آفة،
فإن الجهل يف الجنسانية ذو مرتتبات سلبية ال تقترص ،برأيها ،عىل الجاهل لوحده ،بل تؤ ّثر
عىل الرشيك وعىل اآلخرين يف األرسة وعىل املجتمع ورفاهه .فالجنس ،وفق ما ترى ،ليس
عملية بيولوجية وال كيميائية ،5بل هو تعبري عن أسمى درجات الحب الحقيقي .أما الحب
فهو "تعاطف وجداين" بني املرأة والرجل ،فيفيض عدم فهم واحد من الجنسني اآلخر إىل
"عجز يف إقامة عالقة عميقة بينهام ."6وافتقاد الحب الحقيقي بني الجنسني هو أهم عيوب
الحضارة الذكرية .7فتغدو املعرفة بالجنس رضورة للرجال والنساء إلرساء الحب بني الجنسني
عىل أسس تجعل حضارتنا أكرث إنسانية.
تطوير ملداخلة ألقيت يف "مؤمتر النسوية العربية :نظرة نقدية" الذي أقامه "تج ّمع الباحثات 1 1
اللبنانيات" يف الجامعة األمريكية يف بريوت ،بني 7-4ترشين األول2009 ،
نوال السعداوي (،التاريخ غري مذكور) ،الرجل والجنس ( ،األعامل الفكرية) ،مكتبة مدبويل ،القاهرة. 2 2
الطبعة ( غري مذكور رقمها)
هو الثالث بعد املرأة والجنس ( )1971واألنثى هي األصل()1974 3 3
يف الفصل األ ّول من كتابها املرأة والجنس ،مث ًال ،وردت كلمة جهل ومشتقاتها ثالث عرشة م ّرة، 4 4
ووردت مقا ِبالتها مثان مرات ..كل هذه املرات يف صفحات تسع!
الرجل والجنس ص195 . 5 5
الرجل والجنس ،ص183. 6 6
الرجل والجنس ص245 . 7 7
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
يف كتابها الرجل والجنس ،تسعى السعداوي للتعريف بجنسانية الرجل وتق ّلباتها.
لكن ،وكام هي حال جنسانية املرأة التي ال تُفهم إال بعالقتها مع الرجل وبرغباته ،فإن دراسة
جنسانية الرجل ال تستقيم إال بارتباطها مع جنسانية املرأة .وهي رافقت ،يف فصول الكتاب
تباعاً ،تقلبات جنسانية الرجل وتط ّور تجلياتها عرب العصوروتن ّوع املجتمعات واألنظمة
السياسية واالقتصادية ،دون إهامل األطر اإليديولوجية والدينية املحددة لتعبرياتها ،وللقواعد
كل هذه تربز املرأة قريناً ،واقعياً أو متخ ّي ًال ،ناظ ًام لجنسانيةواملعايري التي تحكمها ...يف ّ
الرجل ومنتظ ًام بها.
والكتاب يق ّدم للقارئ وللقارئة معلومات حول جنسانية الرجل .لكن هذه املعلومات
يتسن
مل تكن خالية من أحكام قيمية أطلقتها الكاتبة ،ومفادها أن جنسانية الرجل طفولية 8مل ّ
لها ،يف الغالب ،أن تبلغ مرحلة الرشد أو النضوج .ومن مظاهر تلك الطفولية استواء جنسانية
الرجل مسجونة يف تخييالت وتصورات قارصة ،بفعل العوامل الكثرية التي تحارصهاّ ،
لعل
الخوف من األنثى /األم /املرأة هو األكرث تأثرياً يف صياغة التخييالت والتصورات املذكورة.
تكتب نوال السعداوي ،إذاً ،من أجل إزالة غشاء الوهم عن هذه التخييالت وتلك
خاصة ،وإبراز الوظيفة التص ّورات التي يحملها الرجال ،املتع ّلقة مبوقعهم املتف ّوق عىل املرأة ّ
املتعددة األوجه لثبات ذلك الوهم واستمراره .فمواجهة التعقيدات الناجمة عن عيش
الرجل لجنسانيته ال تتحقق ،برأيها ،إال بسرب أصول املعاين التي أسبغها عىل املرأة ،ومحورية
هذه املعاين يف صوغ تلك الجنسانية.
وتكتب السعداوي أخرياً من أجل جالء ارتباط جنسانية الرجال الوثيق بجنسانية
النساء ،ومن أجل توضيح تأثر هذه الجنسانية بالبنى االجتامعية والسياسية واالقتصادية
التي صاغتها يف شكلها الطفويل ومنعت عنها نضوجها وتأ ّلقها ،فمنعت ،تالياً ،نضوج جنسانية
النساء وتألقها .إن هذه الكتابة من شأنها أن تريس قاعدة علمية للتغيري :تغيري النساء
والرجال
إىل ذواتهم الفضىل.
8 8عالجت الكاتبة العناوين /املك ّونات التالية لبحث جنسانية الرجل :خوف الرجل من املرأة وعقدة
النقص ،اإلحساس بالذنب ،الرجل والسادية ،الرجل واألورغازم الجنيس ،حنني الرجل ألن يكون أنثى،
الرجل والشذوذ الجنيس ،الرجل واالستعراض الجنيس ،خياالت الرجل الجنسية ،االعتداء الجنيس عىل
األطفال .وهي تحيل األواليات النفسانية التي تحكم كل واحدة من هذه املك ّونا إىل طفولة نفسانية
وإىل قصور يف التوصل إىل النضج.
9 9الرجل والجنس ،ص18 .
123
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
منفصلة" ،والقبول بدونية املرأة بالنسبة للرجل ،ثانياً ،واعتبار جنس املرأة جنساً آمثاً ،ثالثاً،
واعتبار امللكية الخاصة محددة لقيمة اإلنسان ،رابعاً ،والقول بأن العدوان من طبيعة الرجال
الفطرية ،أخرياً .إضافة إل ذلك ،تعبرّ الكاتبة عن حذرها من النتاج العلمي؛ وذلك ألنه "نتاج
ترصح بعدم الرجال" وتنقصه " نصف عقول البرش" 10بسبب ندرة النساء العاملات .لذا فهي ّ
انبهارها بذلك العلم ،وتعمل عىل تفكيك كل أفكاره ونتاجاته ،حتى املوثوقة منها.
إىل ذلك ،فهي طأمنت الرجل – موضوع الدراسة -بأن غرض البحث ال ينطوي عىل
"جعله يف قفص االتهام" ،وال عىل "إصدار الحكم ض ّده" ،إمنا هو ( الغرض) محاولة "فهم
األسباب التي ا ّدت إىل تشويه حياة الرجال والنساء معاً"؛ بل أيضاً ،إىل "محاولة القضاء عىل
تلك األسباب من أجل بناء مجتمع افضل ..وأرسة أكرث سعادة".11
السياق والشمول
مشكالت الرجال ،التي تكلمت عنها الكاتبة ،متحورت أساساً حول الخوف الذي ينتابهم من
احتامل فقدان قدراتهم الجنسية ،اي عجز قضيبهم عن االنتصاب .12وهو خوف ال يسببه
حرص الواح ِد منهم عىل أحاسيسه الجنسية فحسب ،إمنا أيضاً قل ُقه من العواقب املرتتبة ُ
عن ذلك الفقدان ،لعل أهمها "أن زوج َته سوف تكتشف ضع َفه وعج َزه وتذهب إىل رجل
آخر" ،فتهتز صورتُه ويخرس هيبة رجولتِه يف نظرها ،ويف نظر محيطه األرسي ومجتمعه .إن
اإلحالة املبارشة ملشكلة تستدعي استشارة طبيبة – الكاتبة نفسِ ها -إىل النفيس واالجتامعي
من قِبل ملتمس االستشارة نفسه ..هذه اإلحالة وجدتها الكاتبة ب ّينة عىل رجاحة موقعها
العلمي ،وعىل صحة املبدأ الذي تعتمده يف معالجاتها البحثية .وهو ما تكرر يف كتبها الثالثة
األوىل؛ ومفا ُدها أن املشكالت الجنسية املعروضة عليها بوصفها طبيبة محتاج ُة للمعالجة
يف سياق أشمل من الطب وتخصصاته .فاملشكلة ذات العوارض الجسدية غالباً ما تكون
أسبا ُبها متجذرة خارج بيولوجيا الجسد ،وأن البحث عن تلك األسباب يفرتض تجاو َز دائرة
الطب إىل دوائر العلوم اإلنسانية واالجتامعية كافة:إىل اإلقتصاد 13إىل الفلسفة والتاريخ ،إىل
124
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
والسياسة واالجتامع ،14إىل امليثولوجيا والدين وعلم النفس والتحليل النفيس 15إلخ ...فال
البحث يف جنسانية الرجل دون استدعاء كل هذه العلوم لفهم املؤ ّثرات املتداخلة يف ُ ينفع
تشكيل الجنسانية هذه عبى ما هي عليه.
برأي السعداوي ،إذاً ،ال وجود لجنسانية بيولوجية رصفة ،وال الجنسانية ثابتة يف
الزمان واملكان؛ هي دا ّلة السياق الذي يحيط بها ،لذا فهي متغيرّ ة يف تجلياتها الجسامنية
والسلوكية والعالئقية ،ويف التص ّورات والقيم واألحكام املرتبطة بها؛ وذلك تبعاً لتغيرّ السياق.
بتفحصها منفردة ،وال باختزالها إىل الشخيص أو من هنا ،فإن محاول َة فهمها ال تستوي ّ
فيصح يف هذا املجال القول بأن "ما هو شخيص هو أيضاً سيايس" ،باملعنى األشمل البيولوجيّ .
للسياسة .هي املنطلقات نفسها التي تأسست عليها دراسة الكاتبة لجنسانية املرأة .وقد
أمثرت املقاربة تلك "ربحاً" يف حساب الدعوة إىل تحرر املرأة .فإذا كانت دونية املرأة غري
متأصلة يف بيولوجيتها ،وال يف سامتها الشخصية ،وإذا كان استعبا ُدها ال يح ّتمه ،تالياًٌ ،
خلل يف
ناتج ِبنى اجتامعية وسياسية واقتصادية يف سياقات تكوينها البيولوجي أو الشخيص ،بل هو ُ
ويصح ،إذ
ّ يصح ،إذ ذاك ،مت ّرد املرأة عىل تلك ال ِبنى ،وعىل السياقات التي تحارصها،
بعينهاّ ،
ذاك ،تغيريها مع تغيرّ يطالها.
وبالطريقة ذاتها ،تعالج السعداوي جنسانية الرجل .فهذه ليست عدوانية وال قامعة
بالسليقة .وللداللة عىل ذلك ترصد الكاتبة تب ّدالتها عرب التاريخ بالتناسب مع تب ّدل األنظمة
االقتصادي ّة ومتطلباتها املتعاقبة .16وهي تستعني يف سعيها لذلك الرصد بالتعبريات الثقافية
والدينية التي تنتجها هذه األنظمة.
األعم املحدد لجنسانية الرجل .فكام تحددت جنسانية وتربز الكاتبة املرأة من السياق ّ
املرأة بعالقتها بالرجل وبرغباته وحاجاته ،فإن املرأة ( األنثى واألم ) ،وعالقات القوى التي
تتوسل التحليل النفيس منهجاً تنعقد بني الرجل وبينها ،مح ّددة لجنسانيته .إىل ذلك ،فهي ّ
ً
يف البحث عن الديناميات التي تحكم هذه العالقة ،لتستنتج بأن تشويها أصاب جنسانية
الرجل تجلىّ يف تث ّبتها fixationيف مراحل طفلية دفاعية ضد املرأة ،وعدوانية تجاهها ،ما
" 14 14ولهذا يجد القراء أن هذا البحث بالرغم أنه يتناول املشاكل الجنسية والنفسية للرجال إال
أنه مل يستطع إال أن يتع ّرض أيضاً لبعض الفكار املندرجة تحت الفلسفة أو الدين أو التاريخ أو
املجتمع" "...الرجل والجنس ،ص.13.
1515تستعني الكاتبة بالتاريخ املرصي والعريب الجاهيل ،مث ًال ، ،وبامليثولوجيا اليونانية ،وبنصوص من
الدين البهودي ،من أجل إثبات عل ّو شأن املرأة سابقاً قبل إخضاعها من قبل الرجل جنسياً إثر
سيادة امللكية الخاصة نظاماً اقتصادياً ،وشيوع رديفه النظام األبوي .كام تستعني بالتحليل النفيس
وبالدراسات املسحية النفس -جنسية من أجل تأويل" بغض املرأة" ،والخوف منها ،ورضورة قمعها
جنسياً ،مبا هو رشط رضوري لتثبيت أركان جنسانية الرجل.
1616انظر الصفحات 137-134من الرجل والجنس.
125
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
جعلها عاجزة 17عن الوصول إىل مرحلة ناضجة وسامية تليق باإلنسان.
مقاربة ح ّرة
املقاربة البحثية ملوضوع جنسانية الرجل ارادتها السعداوي شمولية ،متاماً كام كانت
مقاربتها ملوضوع املرأة والجنس ،فعاينت ذلك املوضوع من زوايا /ميادين متعددة .وهي
أعلنت عن ذلك يف اكرث من موقع يف كتبها األوىل الثالثة .لكن ما ال تعلنه رصاحة هو أن
األسلوب الذي تعتمد يف مقاربتها تلك هو أسلوب ح ّر من اي تقييد شكيل .ففي كتابها
الرجل والجنس ،متاماً كام هي الحال يف كتاب املرأة والجنس ،تتص ّدر الكتاب مق ّدمة تتبعها
فصول غري مر ّقمة ،تحمل عناوين للمسائل قيد املعالجة؛ وهي ال تس ّوغ يف مطلع هذه
الفصول ،وال يف نهاية سابقاتها ،ألهمية معالجة هذه املسائل ،دون غريها ،يف إطار املوضوع
األعم .بل إن الكالم حولها ينساب (بسالسة جذابة) وفق منطق داخيل ،غري ُمعلن ،هو أقرب
إىل التداعيات الح ّرة من كونه متعاقباً تنفيذاً لخطة واضحة املعامل للقارئ.
إىل ذلك ،فإن كتاب الرجل والجنس خالٍ متاماً من توثيق اإلسناد باملعنى املتعارف
عليه يف الكتب ذات الصفة العلمية؛ مع أن هذا الكتاب ي ّدعي هذه الصفة جهاراً ،كام
تتم العودة إىل فرويد وآدلر ويونغ وهورين وجونس ،وكينزي وماسرتز سبق وذكرنا .هكذا ّ
وجونسون وشرييف ومِيد وسيمون دو بوفوار ،وإنغلز وماركس وإيريك فروم ،وغريهم
أقل شهرة وانتشاراً من عرشات الكتاب الغربيني ،وبعض املرصيني والعرب املعارصين ،أو ّ
األقدمني ايضاًُ ...يستدعى كل هؤالء فتتم مساجلة افكارهم رفضاً وقبوالً ،وتُقتبس نتائج
دراسات بعضهم امليدانية اإلحصائية أو النوعية إلثبات حجة ما ،أو ملقارعة فكرة شائعة.
يتم ،غالباً ،دون ذكر املرجع ال يف هامش النص ،وال يف متنه .ناهيك عن كتابتها يفوذلك كله ّ
ً
أكرث من موقع كالما يشبه ما ييل":يؤكد أكرث العلامء" أو " تشري املصادر التاريخية" و" من
الحقائق العلمية املعروفة" ،وإلخ.
إن اإلغفال عن توثيق اإلسناد ،كام ال يخفى ،غري مألوف يف بحث علمي ،ويجعل
املرء يتساءل:
ُ
ملاذا إهامل التقاليد األكادميية التي تفرتض األمانة والد ّقة يف توثيق املراجع املسند
18
17 17فغدت جنسانية الرجال ،بذلك ،إشكالية بنتيجة ضخامة العبء الذي وضعه النظام األبوي عىل
الرجل ج ّراء رضورة مامرسة القمع الجنيس عىل املرأة ،وما استتبعه من قمع يف كل املجاالت األخرى.
إن قمع املرأة جنسياً يتطلب قوة متناسبة مع قوة املرأة و"رشّها" ،ما يؤدي إىل الشعور بالعجز
املؤدي بدوره إىل القلق العظيم من فقدان السيطرة الجنسية عليهن .فتميس قوة الرجال وتفوقهم،
بذلك ،مبثابة دفاع عن عجزهم ،وتعويضاً عن ضعفهم تجاه قوة النساء ومغالبة لحد قدراتهن
املتص ّورة .الرجل والجنس ،ص105-104 .
1818ال يعوز الكاتبة الدقة واألمانة واملعرفة باألصول العلمية للتوثيق واإلسناد .وهي قد أثبتت توثيقاً
دقيقاً إلسناداتها وملراجعها يف كتابها األنثى هي األصل الصادر قبل الكتاب قيد املناقشة.
126
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
إليها؟ ما هي مس ّوغات استعارة أفكار ونتائج دراسات آخرين من أجل توضيح بعض افكار
الكاتبة ،أو من أجل دعم صحة بعضها اآلخر ،دون توفري مصادرها للقارئ أو القارئة؟ هل
إن ذلك من بعض التم ّرد عىل التقاليد العلمية -وهي من صنع الرجل ،مالك العلم وواضع
قواعده -كام تشري الكاتبة يف أكرث من موقع؟
أم أن إغفال التوثيق من تجليات الثقة بالنفس– تلك السمة التي تص ّدرت مجموعة
السامت التي يتعينّ عىل الباحث يف هذه األمور التحليّ بها يك يكون ،وفق ما قالته الكاتبة،
موجهة "باحثاً ناقداً للشائع" واملتعارف عليه ،فيميس ذلك اإلغفال ،استطراداً ،دعوة ضمنية ّ
من الكاتبة إىل قرائها للثقة مبعلوماتها وبصحة إسناداتها ...أم أنه بعض من خيالء فكري؟
هل إن غياب املس ّوغات التي يو ّفرها الكاتب ،يف العادة ،لقرائه لدى اختياره مواضيع
معالجته دون غريها ...هل يتضمن ذلك الغياب دعوة شبيهة بالوثوق بشمول معالجتها
العناوين الفرعية املفضية إىل توضيح املوضوع ومالبساته؟ أم أننا بصدد دعوة "مؤمنني
معروف حاص ًال لديهم؟
ٌ ومؤمنات" بالقضية فال داعي لبذل الجهد من اجل إثبات ما هو
ملاذا مل تستبق الكاتبة ردود فعل الشكاكني والشكاكات من كالم يتح ّدى الشائع
و"الثابت" يف وجدان الخاصة من الناس ،ال العامة منهم فقط ؟ كيف نفسرّ غياب أي
جهد السرتضاء "ذوق" هؤالء الشكاكني والشكاكات املنهجي ،يف حني ُيستحسن مجاراة ذلك
الذوق ،بل يسهل "إغراؤه" باملنهج العلمي الصارم ،ليكون "حصانَ طروادة" يسمح بالولوج
إىل عامل هؤالء الشكاكني والشكاكات ،قبل التعامل مع ثوابت بنيانه؟
ما نأخذه عىل مقاربة السعداوي ال يقترص عىل كونها تحتمل نفور الرجال من أسلوبها
"غري العلمي" ،وبكونها تو ّفر لهم حجة جاهزة لتجاهل ما تقول ،مع أنهم املستهدفون
الرئيسيون بكتابها -عىل ما تعلن يف مطلع كتابها .بل إننا نأخذ عىل الكاتبة أنه ،وعرب إهاملها
التوثيق وعدم تسويغها لتناول مواضيع دون أخرى يف معالجتها لجنسانية الرجل ،مث ًال،
تجعل كالمها وكأنه استعادة لنموذج من مخاطب ٍة للقارئ ُمتشاكِل isomorphicمع ّ
التوجه
االستبدادي يف املخاطبة؛ أي ،ذاك الذي يفرتض القبول غري النقدي للقارئ بأفكار الكاتب
وحججه .فتكون بذلك قد كررت ما يفعله الخطاب التس ّلطي بالنساء ،واستبدلت توجهاً
بتوجه استبدادي آخر ،وسلبت من مه ّمتها األساسية (املتمثّلة بتفكيك املعتقدات استبدادياً ّ
الرائجة) ضامن صدقيتها.
ننس أنّ موقع السعداوي الرائد يف حركة تحرر املرأة العربية يق ّدم منوذجاً وال َ
ُيحتذى ،فتتح ّمل بذلك مسؤولية أوفر تجاه ق ّرائها؛ وذلك ألن مقارب َتها ،وتبعاً ملوقعها هذا،
مبثابة دعوة ضمنية للكاتبات النسويات مبحاكاتها .فتف ّوت عىل هؤالء ،بذلك ،درساً مهماّ ً
مفاده أن االلتزام مبنهج علمي سائد ال يش ّكل عقبة يف وجه تحرر النساء ،فال توجد رضورة
لتجاوز إمالءاته يف حال اختري ملعالجة مسألة مطروحة .فالع ّلة ال تسكن يف املنهج وال يف
الطريقة ،إمنا يف مستخدميها :يف منطلقاتهم ومبادئهم ،يف طبيعة تساؤالتهم ،يف اختيار
متغريات أبحاثهم ومجتمعاتها ،ويف القبول غري املرشوط بنظريات أصحاب السلطة العلمية،
127
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
ويف سيادة العمى اإلدرايك الذي يحجب عن الباحث تعقيدات الوضعية املدروسة وتأويل
أسباب تجلياتها.
كل اللهجات
إىل ذلك ،تخرتق معالجة الكاتبة رواية لحاالت عالجتها أو ُطلبت مشورتها بصددها ،ورسداً
ملالحظاتها العفوية غري املنهجية ،متجاورة جنباً إىل جنب ،ودومنا حرج ،مع ما قاله فرويد،
مث ًال ،أو أعالم كبار من صنفه .ويختلط يف سياق كالمها الخطاب العلمي مع لهجات ترتاوح
بني التساؤل بهزء أو بسخرية أو بتعجب أوبتتفيه ، trivialisation 19بل واالتهام والتقريع
أحياناً .20وتتساوى مستويات الكالم املرسل يف كتابها بني إعامل املنطق ورصد التناقضات،
واستدعاء التاريخ والواقع التجريبي ،جنباً إىل جنب مع األخالقي والديني والفلسفي
واملوقِفي الشخيص ،ويف الفقرة ذاتها ،أحياناً.
وتتجلىّ الحرية يف مقاربة دراسة جنسانية الرجل – متاماً كام كان الحال يف دراسة
متعصبة .فحيث نال سيغموند فرويد 21نصي َبه من االنتقاد جنسانية املرأة -يف انتقائية غري ّ
القايس ،مث ًال ،بالتناغم مع التقليد النسوي الذي راج لدى نسويات الستينات والسبعينات
من القرن املايض ج ّراء أصوليته البيولوجية يف تحليل الشخصية األنثوية ..فإن مقاربته
التحليلنفسية ،واملفاهيم التي صاغها ،بل النتائج التي توصل إليها كانت ،ك ّلها ،حارضة يف
تم تب ّني مفاهيم وفرضيات من التحليل النفيس تشتمل تحليل الكاتبة لجنسانية الرجل .كام ّ
السواء وتجلياته واملرض وأوالياته والنضج النفساين ورشوطه إلخ.
19 19من هذه مث ًال ،ويف معرض الكالم عن كون املسيح قد مسح ذنوب الناس ،تتساءل إذا جاء املسيح
من العذراء الطاهرة ،وهي امرأة ،فلامذا مل متسح ذنوب النساء أيضاً" :يبدو أن هؤالء الفالسفة كانوا
يف ّكرون بنصف عقولهم( وال بد أنه كان نصف عقولهم الذكرية أيضاً)" الرجل والجنس ص50.
يف معرض استعراضها للفكر ة التي شاعت يف القرون الوسطى بأن الرجل جسد ورأس وإنسان كامل
وصورة كاملة عن الله ،فيام املرأة جسد بغري رأس وعليها أن تصليّ وأن تغطي رأسها ،تتساءل " ال
أدري كيف ميكن أن يكون رأس املرأة غري موجود أص ًال ،ثم يطلب إليها أن تغطيه؟" الرجل والجنس
ص.40 .
وأيضاً " ....كيف تكون املرأة بغري رأس وبغري عقل ثم تستطيع أن تفعل يف آدم ما عجز الشيطان أن
يفعله؟ وتستطيع أيضاً تحطيم صورة الله وتسبب املوت للعامل وإلبن الله؟!" الرجل والجنس ص41 .
2020تقول يف معرض كالمها عن تربير املجتمع األبوي تحريم خيانة املرأة تحرمياً قاطعاً " ...إن مسؤولية
املرأة يف الخيانة أشد ألنها مسؤولة عن تربية األوالد والحفاظ عىل األرسة...أما األب الذي تنتسب
إليه هذه األرسة فليس مسؤوالً عنها؟! تربير لالزدواجية األخالقية بازدواجية اجتامعية والحجة هنا
أقبح من الذنب" الرجل والجنس ص54.
2121تستعيد السعداوي نقدها الذي كانت قد رشحته بالتفصيل يف كتابيها املرأة والجنس (1و )2لنظرية
فرويد يف األنوثة ومحورية الترشيح الجسامين يف تش ّكلها يف الفصل املعنون بـ" الرجل والعلم
والجنس" " ،الرجل والجنس ص.ص.85 -73 .
128
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
الالفت أن السعداوي تجد يف الرتاث العاملي ،والغريب تحديداً ،مخزوناً صالحاً لحججها،
صحة ما تقول ،أويستدل من استدعاء أعالمه – أمريكيني وأوروبيني -لـ"الشهادة" عىل ّ ّ كام
هي تستعني ببعضهم ملقارعة أفكار بعضهم اآلخر .هذا ،بالرغم من عدائها السيايس لألنظمة
الرأساملية الغربية ،22وبالرغم من إعالنها عن تج ّذرها يف مجتمعها املرصي ،وعن انتامئها
بأي منهام ،وال يبدو عليها الحذر من التهمة العريب اإلسالمي؛ فهي تبدو للقارئ غري مق ّيدة ٍ
الرائجة عندنا ،والتي يختزل بواسطتها مناهضو حركة تحرر املرأة العربية أسباب مناهضتها؛
الحجة التي ترفع يف وجهنا جميعاً" :االنجرار وراء األفكار الغربية
نتك ّلم ،كام ال يخفى ،عن ّ
والغريبة عن تراثنا".
األطر املرجعية
إن التحرر من الضوابط التي تحكم الشكل املتعارف عليه يف تقديم البحث العلمي -عىل ما
أسلوب ذلك البحث وشك َله فحسب ،إمنا يطول أيضاً إىل َ تدعو الكاتبة مطالعتها -ال يصف
ً
األطر املرجعية التي يتظلل بها .والكاتبة تُبدي رفضها ،ضمنا ورصاحة ،للحدود التي تُرسم
حول امليادين العلمية عا ّمة؛ كام أنها ال تلتزم بالقواعد املفروضة ،ال عىل األساليب املتبعة
يف تلك امليادين ،وال عىل نتاجاتها ،يف حال كانت مخالفة للمبادئ واملنطلقات التي ترتكز
عليها حججها الخاصة.
ً
وهي ترى بان العلوم كلها – والطب (اختصاصها املهني) ضمنا -غري حيادية؛ فهي
تخفي ،برأيها ،انحيازاتها خلف موضوعية مزعومة ت ّدعي امتالك املعرفة املطلقة ،يف حني أن
املعرفة ا ُملنتجة يف ميادين هذه العلوم مثقلة بقيم الثقافة الذكورية وباهتامماتها وبأهدافها،
وكل هذه العلوم تندرج ،من وجهة نظرها ،يف سياق تدعيم وتحمل تالوين مسلماّ تها ؛ ّ
السلطة األبوية والعمل عىل ضامن استمرار سيطرتها.
نفسها من "تهمة" الالحيادية بل تعلن انحيازاتها رصاحة :فهي تعلن والكاتبة ال تعفي َ
منطلقاتها واملبادئ والقيم واألخالقيات التي تعتنقها ،باإلضافة إىل اتجاهاتها حيال األديان
واألنظمة السياسية والنظريات التي تعتمدها يف معالجتها ،يف ّ
كل م ّرة تربز الحاجة لذلك؛
وهذه مبثوثة يف ثنايا كتبها ،بل هي أعلنتها يف مبادئ تشبه "البيان السيايس" الذي يحدد
أبعاد نسويتها .وذلك بعد املقدمة يف كتابها األنثى هي األصل .23الفرق بني املوقعني ( املوقع
الذكوري وموقع الكاتبة) يتمثّل تحديداً يف اإلعالن الرصيح عن ذلك املوقع؛ وذلك ،باملقارنة
مع التخ ّفي خلف حيادية وموضوعية مزعومة ،فال يفرتض القارئ أن ما يقال هو املعرفة
النص ،وبأن ما يقال هو صحيح بالتناغم مع املطلقة ،إذا تو ّفرت له األسس التي قام عليها ّ
املسلامت واملنطلقات املتب ّناة أوالً ،ويف الزمان واملكان املح ّد َدين ثانياً ،ومن موقع سيايس
129
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
كل واحد منها مظهراً من مظاهر التمييز ضد تلجأ ،يف هذه الحالة ،إىل تساؤالت يتناول ّ
املرأة .من هذه ،مث ًال ،تعدد الزوجات ،الطالق التعسفي ،منع الحضانة والوالية عن النساء،
إيالء القوامة للرجال ،جعل املرأة نصف شاهدة ونصف وارثة ،إلخ من أحكام دينية مل تعد،
برأيها ،مناسبة مع تط ّور أحوال النساء يف املجتمع املرصي املعارص .وهي تصوغ التساؤالت
هذه بلهجة مستنكرة ،داعية القارئ والقارئة للشهادة عىل ال معقوليتها ،وللتأ ّمل يف تنافرها
موجه صوب رجال الدين املسلمني يف مرص ،ال الصارخ مع روح العرص .لكن استنكارها ّ
الدين اإلسالمي .فهي تُنهي كالمها بأنها ليست بصدد "مناقشة وضع املرأة يف اإلسالم ...فهذه
كل حال ،أن األديان ظاهرة روحية نقية املناقشة تحتاج إىل وقت آخر"! .لكنها تستنج ،عىل ّ
ترتكز عىل الحق واملساواة ،وليس عىل الظلم والتفرقة ،وترتكز عىل الثورة والتق ّدم وليس
عىل الجمود والتخ ّلف ...لقد كان عيىس ومحمد بالذات ثورة عىل الظلم ودفاعاً عن حقوق
املرأة والفقراء ،"....فهل يعقل أن يكون جوهر األديان مسؤوالً عن الظلم والالعدل الذي
تتعرض له املرأة؟
تقفز نوال السعداوي فوق الوقائع التي تعرفها جيداً ،وتُسقط من علٍ عىل القارئ
والقارئة قراءة خاصة بها لألديان ،وتعريفاً لجوهرها ولوظائفها يعفيها عن تعرية مكامن
التمييز املعروفة ضد املرأة يف نصوص رصيحة لهذه األديان .يف هذا املجال – مجال املق ّدس-
لتنضم إىل "الحشد" the mobأو الجموع يف بالدنا العربية -الذين ميارسون
ّ تعود السعداوي
رقابة صارمة عىل ذواتهم يف كالم يطال نصوص األديان الساموية خاصة ،فال يتوانون عن
130
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
خيانة عقولهم واملساومة عىل مبادئهم .يف هذه الحالة كان الصدق والرشف والعقالنية
املبادئ املعلنة ،25وكان تح ّدي األفكار الشائعة وتفكيكها دون مهادنة ،من املبادئ املضمرة
تم تجاهلها.التي ّ
ّ
لعل الكاتبة افرتضت أن تح ّدي مح ّرمات /تابو الكالم عن جنسانية الرجل ( ومن ِق َبل
امرأة!) ،يكون أكرث قبوالً إذا ما ترافق مع تفادي الكالم عن األديان -وعن الدين اإلسالمي
لعل االكتفاء بتناول منط واحد 26من املح ّرمات( ،الجنس فقط) جاء "رفقاً" بالقارئ،
تحديداًّ .
ورغبة بعدم إثارة حفيظته إىل درجتها القصوى.
" 25 25إن القدرة عىل التنفكري النقدي ....تقتيض ثقة بالنفس وشجاعة وحر ّية ....إن الباحث عن
الحقيقة يف اي مجال ال ب ّد أن يكون محرراً من الخوف واألفكار املسبقة املس ّلطة ،"...يف األنثى هي
األصل ص12-11.
2626الدين ليس التابو /املح ّرم الوحيد الذي ال تتناوله الكاتبة .ال تتك ّلم السعداوي عن "جنسانيات"
Sexualitiesالرجال ،بل عن الجنسانية الغريية heterosexualityبوصفها الجنسانية الوحيدة.
وهي تلجأ إىل نظرية التحليل النفيس يف السواء من أجل نعت الجنسية املثلية homosexuality
بالطفولية الدفاعية ،الخائفة واملصدودة من األنثى .لذا فهي انحراف عن السواء وشذوذ عماّ ينبغي
أن تكون.
2727تروي نوال السعداوي عن واحد من مرتتبات الختان عىل جنسانية الرجل املرصي ومفادها إحساسه
بالعجز عن إرضاء رشيكته مام يجعله يلجأ إىل الحشيش .الرجل والجنس ص ،195 .وص.161 .
131
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
إن الكالم نيابة عن النساء كان هو السائد .ومل تبدأ املرأة مسار اسرتجاع صوتها إال بعد
أن أرست حركة تحرر املرأة الغربية قواعد للكالم ،بات معه اشتامل صوت النساء املختلف
يف الخطاب العام ،أمراً ال ميكن السكوت عن إغفاله ،ألن ذلك اإلغفال -عىل ما يقال" -ال
يصح سياسياً" .يضاف إىل ذلك ،فإن الكيل مبكيالني عامة ،ويف أمور الجنس خاصة ينايف بداهة ّ
،ويف ُعرف النسويات ،أخالقيات البحث؛ وقد كانت النساء ضحايا الكيل مبكيالني ،ما جعلهن
أكرث تنبهاً ملظاهره ،وأكرث حامساً لرفضه.
يف كتاب املرأة والجنس يلمس املرء تعاطفاً وجدانياً مع املرأة متثّل بشكل محسوس
برواية لـشهادات متعددةُ ،أعطيت النساء ،مبوجبها ،فسحة للتعبري عماّ يرغنب قولَه ،ووصف
مكامن معاناتهن ومظاهر قمعِهن واستبعادِهن من تقرير أشكال تعبريات جنسانيتهن من
قبل الرجال .لكن معالجة جنسانية الرجال يف الكتاب الرديف الرجل والجنس مل تخضع ملعيار
28
"املعاملة باملثل" .فالشهادات الشخصية ،أسوة بالحاالت العيادية تكاد أن تكون معدومة
فيه .فلم تتوافر للرجال فسحة شبيهة بالفسحة التي أعطيت للنساء للتعبري مبارشة عن
أفكارهم ومشاعرهم وأحاسيسهم املتع ّلقة بالجنس .صحيح أن الكاتبة تروي أحياناً ما قال
لها رجل ما ،لكنها روايات قلام تتع ّدى قوالً مخترصاً ،أو ُحك ًام أو شكوى ،فلم نسمع صوت
الرجل فع ًال .فبدت الفصول املتتالية التي تناولت مك ّونات جنسانيته استعادة ألقوال الخرباء
والعلامء النفسانيني خاصة حولها ،مع الرتكيز عىل موقع املرأة املتخ ّيل واإلشكايل خاصة،
النص يبدو للقارئ ،تكراراً ملا
من هذه الجنسانية .بل إن هيمنة املرأة ،ومحورية وجودها يف ّ
جاء يف كتابيها األولَينْ ،ويشري إىل أن الكتاب ُكتب ،رمبا ،ال تعاطفاً مع الرجال – زائري عيادة
الطبيبة السعداوي ،ورغبة يف محو جهلهم بجنسانيتهم ،إمنا لتزويد النساء ُبع ّدة نضالية ضد
هؤالء الرجال ،عرب تعرية جنسانيتهم من َو ْه ِم جربوتها املتو ّرم ،وفضح حجمها الحقيقي.
بل إننا نقرأ أحياناً تحريضاً عىل الرجال وإلقاء اللوم عليهم لتسببهم باألمراض النفسية التي
تصيب النساء.29
هذه معالجة افتقدت ،إذاً ،أسلوباً أو موقعاً من مواضيع البحث افرتضته النسويات أساسياً
يف إنتاج معرفة دقيقة وصادقة حول املرأة ،ميكن أن نطلق عليه "التعاطف الوجداين"
empathy؛ وتجاهلت ،تالياً ،مبدأ "املعاملة باملثل" ألنها مل تت َّنب األسلوب َ
نفسه يف مقاربتها
28 28يف كتاب الرجل والجنس ،رواية فريدة لحوار دار بني الكاتبة وبني رجل يشكو الخوف من فقدان
انتصاب قضيبه( أنظر سابقاً) ص ،100-99 .ورواية لحالة مداعبة ج ّد جنسياً لحفيدته .وهي عىل كل
حال بلسان الحفيدة ( بعد أن صارت راشدة) ص.231 .
2929تقول السعداوي يف سياق الكالم عن العالقة غري السوية بني الرجال والنساء يف مجتمعاتنا " ...وقد
أجريت بحثاً عام 1972بقسم األمراض النفسية يف كلية طب عني شمس عن أسباب عصاب النساء.
واتضح يل أن السبب األول كان الرجل األب ،أو الزوج ،أو أي رجل آخر ينصب نفسه مسؤوالً عن
األرسة" ،الرجل والجنس ص260 .
132
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
لدراسة الرجل؛ وف ّوتت ،بذلك ،فرصة مثينة إلثبات جدوى هذا األسلوب أو املوقع يف دراسة
الجنسانية الرجالية .هي فرصة مثينة ألن إثبات جدواها يف دراسة الرجل ،كان سيعزز النتائج
املحصلة بواسطة األسلوب نفسه لدى دراسة املرأة .وكان للكاتبة أن تُث ِبت ،عرب استعراض ّ
ُمعاش الرجال لجنسانيتهم يف شهاداتهم ،مث ًال ،متاماً كام استعرضت يف شهادات نسائية
ُمعاش النساء لجنسانياتهن ،بأن النظام األبوي الذي قمع النساء وش ّوہ تلك الجنسانية،
قام ايضاً بتقزيم جنسانية الرجال ،بجعلها مرشوطة بقمع النساء .وكان لها ،أخرياً ،أن تبينّ
بامللموس بأن ما هو "شخيص هو أيضاً سيايس" ،فتبني ،بذلك ،وعىل قاعدة صلبة ،جرساً بني
االتجاهات الرافضة للقمع الجنيس الذي يخضع له النساء والرجال ،وبني مصلحتهم يف بناء
مجتمع املساواة والعدل والتحرر.
هذا تحديداً ما استنتجته السعداوي .لكنها تقوله بطريقة تقريرية عارِفة ،فال تُرشك
القارئ والقارئة ال مبق ّدمات هذا االستنتاج ،وال باملعلومات العيادية التي افضت بها إىل
معرفتها الواثقة به.
3030يخرتق مفهوم النضج النص حول جنسانية الرجال بأكمله .هناك تعريف للنضج ص، 229 ،227 .
وتعريف للحب الناضج ص ،197 ،177 ،169 ،129 .ولرشوط النضج ص ،108 .إضافة إىل جعل غيابه
سبباً نهائياً لكل اإلتواءات الجنسية التي تصيب الرجل بعالقته مع املرأة.
133
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
املرأة ونضالها من أجل إحقاق املساواة بينها وبني الرجل يف كتاب عن الرجل والجنس ،يجد
مس ّوغاته يف مس ّلمة تفرتض أن "الحب ال ميكن أن ينشأ بني أعىل وأدىن ،وال بني صاحب
سلطة وخاضع لهذه السلطة :الحب ال ميكن أن ينشأ إال يف ظل العالقات القامئة عىل
املساواة والعدالة والحرية واالستقالل والنضوج".31
فإذا كانت الجنسانية ال تفهم إال يف سياق ،فإن إزالة الشوائب املتج ّذرة يف املجتمع
األبوي والنظام الرأساميل (السياق) اللذين أحدثا تش ّوها فيها وأعاقا تألقها ونضجها ،فال
يرجى تغيري يف الجنسانية (يف التفصيل) ،إال بالعمل الهادف إىل إحداث تغيريات اجتامعية
(يف السياق) مؤاتية لنضجها وتألقها .هكذا ،تضع السعداوي ،وانسجاماً مع مس ّلامتها ،نضالها
النسوي من أجل جنسانية أرقى وأنضج للنساء والرجال معاً ،يف إطار النضال من أجل
مجتمع العدالة واملساواة والحرية .وهي تلتقي مع الحركة النسائية يف بالدنا العربية التي
انضوت ،يف تلك الفرتة من الزمن ،تحت لواء حركات التحرر الوطني واالجتامعي ،رافعة
يتم يف إطار تحرر املجتمع".
شعار "تحرر املرأة ّ
134
وضيب ةرارش ةّزع لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا
تم تطويرها ،يف ميادين علمية ذات أكرثية رجالية ،وتعتمد مناهج وطرقاً رجالية، نظريات ّ
تم
بالرضورة .هذه املعطيات وتلك النظريات أخضعتها الكاتبة إلعامل العقل واملنطق ،كام ّ
فحصها عىل ضوء املس ّلامت واألطر املرجعية املتب ّناة من املوقع النسوي الرصيح.
وهي عالجت موضوعها يف سياقه املجتمعي والتاريخي نازعة عنه الصفة الثابتة.
وحاولت تبيان املؤثرات السياسية واالقتصادية واإليديولوجية يف صياغة تجلياته .ودرست
أوج ّه تقلباتِه يف إطارالعالقة الواقعية واملتخ ّيلة مع الطرف اآلخر املعني بها – املرأة.
يف كل ما سبق انض ّمت نوال السعداوي إىل التيار النسوي العاملي ،وانضوت تحت مظ ّلة
لكل أشكال الهيمنة والقمع مبا "روح العرص" حيث سادت الحركات التحررية ك ّلها ،والرافضة ّ
ألنهن نساء .وهي صاغت تص ّو َرها لتصحيح ميزان العالقة املختل فيه قمع الرجال للنساءّ ،
بني النساء والرجال يف مجال الجنسانية ،واستعادت تعيني هذه الجنسانية عام ًال للتا ّلق
خوف (من قبل الرجال) ،وسبباً للقمع استطراداً (ميارس عىل موضوع ٍ
َ والتحرر ،بدل كونِها
النساء) ...هذا التص ّور يندرج يف إطار تحرر املجتمع السيايس واالقتصادي ويتمثّل بالشعار
"تحرر املرأة يف مسار تحرر املجتمع وبنتيجته".
يبقى أن نوال السعداوي قد أخفقت يف اشتامل الرجال يف مقاربتها التي م ّيزتها
كنسوية .فلم تُب ِد التعاطف الوجداين تجاه موضوع دراستها -الرجل؛ وذلك مقارنة مع
التعاطف الوجداين الذي ملسنا مع موضوع دراستها -املرأة يف كتابها املرأة والجنس يف
جزئيه .فتكون قد "ارتكبت" فعل التح ّيز الذي افرتضته هي والنسويات عا ّمة "ازدواجية
معيارية" مرفوضة من قبلهن ،رفضاً ال جدال فيه.
األقل ،يتمثّل باالمتناع عن تناول كام أنها "خضعت" ملح ّرم ثقايف عريب واحد ،عىل ّ
كل العنارص التي تسمح بذلك النقد. األديان الساموية بالنقد الرصيح ،بالرغم من إثبات ّ
وذلك ،برغم ادعائها اعتامد الصدق ،ورغم تح ّليها بشجاعة استثنائية ال ميلك املعادون لها،
قبل منارصيها ،إال االعرتاف بها.
إن كتابة نوال السعداوي بيانٌ عن شجاعتها االستثنائية.
أليست هي البادئة عندنا بنبش املح ّرمات من تحت ركام ثقيل من األفكار "العلمية"،
ومن املعتقدات املنسوجة بخيوط متينة من اإليديولوجيا والدين ،ناهيك بوطأة الواقع الذي
يحارص النساء والرجال ويعيد إنتاج مواقع الفئتني املرسومة واملك ّبله للطرفني؟
كل الخريّ ،
وكل هي إن فتحت صندوق باندورا فإن "الرشور" التي انسكبت منه ،فيها ّ
األمل بالنسبة لنا نحن النساء:
أمل يكن ما أطلقته من نقاشات عىل املأل الثقايف العريب إضاءات من زوايا أضافت عىل
األنوار التي غمرتنا يف عقود الثورات التحررية من القرن املايض والتي ...بالرغم من سواد
الظالمية اليقينية التي عادت لتخ ّيم عىل أجوائنا العا ّمة ،ما زلنا نستيضء بها؟.
135
تاريخ
يف شبه إجامع ،اعتربت الشعوب املغلوبة الفتوحات العربية عقاباً من الله عىل ذنوب سابقة.
منها ما يعود إىل الخالفات الداخلية املتعلقة باإلميان والرصاعات بني الكنائس املختلفة التي
أغضبت إلهاً مل يعتد الشقاق بني أبنائه وسئم من سوء أخالقهم ومن آثامهم املمتدة من
الخروج عىل سلطة الكنيسة إىل موبقات يرتكبونها يف حياتهم اليومية ،ومنها ما يشكل
تحقيقاً لنبوءات قدمية.
وكان ك ّتاب الحوليات والكهنة أعلنوا توقعهم حصول الفتوحات التي تحدثت عنها
كتب األولني .وجاء يف أكرث من مصدر قديم ،أخبار عن سيوف من الشهب ظهرت يف سامء
سوريا وبالد ما بني النهرين قبل أعوام أو أشهر من بداية الفتوحات ومن سقوط ماملك
الروم والفرس .فالتاريخ النسطوري يبلغنا ،مث ًال ،أن يونان صاحب عمر (دير) برطورا والذي
أقام يف جبل سنجار ،تنبأ قبل وفاته "ببطالن ملك الفرس وظهور العرب وما يلحق الناس من
الشدة" ،وذلك بعدما اجتمع إليه الرهبان لبناء الدير فخاطبهم قائال "سيجيء العرب ولد
اسمعيل (أوالد إسامعيل) من الربية وميلكون .ويخرب هذا العمر .وبعد سبع سنني يكون
سكون يف العامل وتعودون إىل العمر من حيث تبددتم وتجتمعون فيه" .1ويتابع التاريخ
ذاته انه بعد استقرار ا ُمللك ليزدجرد بن شهريار ،آخر ملوك الفرس ،واصطحاب أنصاره له
من اصطخر اىل املدائن بعد الرصاعات التي عمت اإلمرباطورية الساسانية يف أعقاب حروب
العقد الثاين من القرن السابع ضد البيزنطيني" ،ظهر يف السامء مثل الرمح من الجنوب اىل
الشامل .ثم انبسط إىل املرشق واملغرب ومكث عىل ذلك خمسا وثالثني ليلة .فتفاءل الناس
إنها عالمة ظهور ملك العرب" .2
Histoire Nestorienne (Chronique de Seert), Texte Arabe publié par Mgr Aadai 1 1
Scher in "Patrologia Orientalis" – Tome XIII- pp 469-470.
Ibid- p 580. 2 2
ناتيع ماسح بهل نم فويس
املؤرخ البيزنطي ثيوفانس يشري إىل الظاهرة ذاتها ضمن أحداث عام 632-631حيث يقول
بعد حديثه عن هجوم املسلمني عىل غزة" :يف الوقت ذاته تقع زلزلة يف فلسطني وتظهر
عالمة يف السامء يقال لها "دوكيتس" يف اتجاه الجنوب تنذر بالفتح العريب .ظلت مدة ثالثني
يوما وتحركت من الجنوب إىل الشامل واتخذت شكل سيف" .3
ويذكر الالهويت واملؤرخ االنكليزي بيديه ( )Bedeظهور مذنّبني يف السامء "كإنذار
بالكارثة املقبلة" 4يف الحقبة التي كانت الجيوش اإلسالمية تغزو فيها إسبانيا وجنوب فرنسا،
من دون أن يهتم ،عىل غرار معارصيه ،بأسباب الفتوحات وال مبعتقدات الفاتحني.
ويقول كاتب سرية القديس ثيودور من سيكيون الواقعة قرب غاالطيا يف آسيا الصغرى
واملتوىف عام ،613إن بطريرك القسطنطينية توماس سأل القديس ما إذا كانت ظاهرة
اهتزاز الصلبان الصغرية أثناء االبتهاالت يف الكنائس حقيقة ،وعندما علم من القديس أنها
صحيحة ،راح يرجوه تفسري معنى اإلشارة هذه .وبعد إظهار ثيودور لقلة شأنه وقوله إنه هو
خاطئ بائس ،أجاب بأنه ال يعلم ردا عىل السؤال .حينها هوى توماس عند قدمي القديس
وأمسكهام محتجا بأنه لن ينهض عن األرض ما مل يلقَ ردا من ثيودور .وبعد إلحاح البطريرك،
بىك القديس بكاء مراً وقال "ال أرغب يف إزعاجك ،وما من فائدة لك يف معرفة هذه األمور.
لكن مبا أنك سألت فإن اهتزاز الصلبان ينبئنا بالكثري من الخطوب املؤملة والخطرية -انه
يعني انعدام االستقرار يف إمياننا و ُيعلمنا بالجحود ومبجيء العديد من الشعوب الرببرية
وسفك الكثري من الدماء و(الوقوع يف) األرس يف كل أنحاء العامل ،وهيمنة الحزن عىل الكنائس
املقدسة وتوقف القداديس واختالل وسقوط اإلمرباطورية وارتباك الدولة ومرورها بأوقات
حرجة ،ويؤذن ذلك أن قدوم "العدو" (الشيطان) بات وشيكا" .5
ومثة اتفاق بني املؤرخني عىل أن اإلشارات األوىل إىل وقوع اضطرابات غري
محددة طبيعتها يف شبه الجزيرة العربية جاءت يف "تعاليم يعقوب ا ُملعمد حديثاً"
( ،)Doctrina Jacobi Nuper Baptizatiوهي نص سجايل -دفاعي مع اليهود كتب عىل
األرجح يف إفريقيا عام 634ويعترب من سلسلة النصوص الدفاعية املسيحية التي ازدهرت يف
القرنني الخامس والسادس وتركزت عىل تفنيد الرشيعة والتقاليد الدينية اليهودية والدفاع
عن الكنيسة وعن العقيدة املسيحية ،وخصوصا بعد اعرتاض الالهويت مكسيموس املعرتف
( )Maximus the Confessorعىل التنصري القرسي ليهود اإلمرباطورية البيزنطية بناء عىل
أوامر هرياكليوس عام ،632وباألخص ليهود قرطاجة وشامل إفريقيا .وجاءت "التعاليم"
لتبني صحة تنصري اليهود الذين ما عاد من داع لتمسكهم بدينهم بعد ظهور املسيح.
وتُنسب "التعاليم" إىل يعقوب ،وهو تاجر يهودي من فلسطني كان يف رحلة إىل
Theophanes Confessor- "The Chronicle" -C. Mango and R. Scott (trans. & edit.) 3 3
Clarendon Press- Oxford- 1997- p 467
Hoyland- Seeing Islam as Others Saw it- Darwin Press- 1998- p 227 4 4
Hoyland- Seeing Islam- p 53 5 5
137
ناتيع ماسح بهل نم فويس
قرطاجة حيث داهمته األحداث املتعلقة بالتنصري الذي شمله يف من شمل .ويف خضم هذه
الحوادث يصل من فلسطني قريب ليعقوب يدعى جوستوس حام ًال أخبار بعض ما يجري
هناك وما أثاره من قلق بني أهله بسبب "ظهور نبي مزيف" .كان أول ما سمعه جوستوس
عن "النبي املزيف" يدور حول قتل الرساسنة أحد ضباط الحرس اإلمرباطوري وابتهاج اليهود
ملقتل الضابط وقولهم إن النبي قد ظهر وانه آت مع الرساسنة وهو يبرش مبجيء املسيح.
ويتوجه جوستوس من قيرصية إىل سيكامينا ( )Sykaminaحيث يلتقي عجوزا ضليعا مبا
تقول الكتب ،ويسأله جوستوس عن النبي الجديد فريد العجوز متنهدا "انه مزيف.ال يأيت
األنبياء شاهرين السيف .والحق انهم (الرساسنة) يعملون لنرش الفوىض التي نراها اليوم.
وأخىش أن يكون املسيح الذي جاء والذي يعبده املسيحيون هو املسيح الذي أرسله الله
وبدال (من اإلميان به) رحنا نستعد الستقبال عدو املسيح" . 6
أما النص غري اإلسالمي األقدم الذي يتحدث "من موقع الحدث" (إذا جاز القول)
فهو خطبة بطريرك القدس سوفرونيوس (أو صفرونيوس) ،والتي سبقت حديث املصادر
العربية عن أحداث تلك األعوام بقرن ونصف القرن عىل األقل .ففي رسالة غري مؤرخة يبدو
أنها كتبت أواخر عام 633أو مطلع 634وجهها بطريرك القدس املعني حديثا اىل مجمع
ديني عقد يف روما ،ويؤكد فيها التزامه باإلميان الخلقيدوين مقابل انتشار عقيدة املشيئة
الواحدة ،يعدد سوفرونيوس البدع التي تنبغي محاربتها وإلقاء الحرم عىل اتباعها إىل أن
يبدي أمله يف أن يتيح الله "ألباطرتنا املحبني للمسيح عزما قويا وحازما لتحطيم كربياء كل
الربابرة ،وخصوصا الرساسنة الذين ظهروا فجأة بسبب خطايانا ودمروا كل يشء بتصميم
وحيش ال يط َّوع ،وبجرأة ال تعرف التقوى وال اإلميان بالله .لذا ،نرجو قداستكم ،أكرث من أي
وقت مىض ،التوجه بترضعات عاجلة اىل املسيح حتى يتلقاها منكم برىض ويهدئ برسعة
من غلوهم (الرساسنة) الغاضب ويعيد هذه املخلوقات الرشيرة إىل ما كانت عليه ،موطئا
ألقدام أباطرتنا الذين جاد علينا الرب بهم".
ويف كانون األول (ديسمرب) ،634حالت الغارات العربية دون حج املسيحيني إىل بيت
لحم واضطر سوفرونيوس اىل إلقاء عظة امليالد التي تُلقى عادة يف كنيسة املهد ،يف القدس.
وهو بعدما عبرّ عن فرحته املزدوجة ملصادفة امليالد يف يوم أحد (ما يؤكد ان السنة كانت
634بحسب التقويم املعتمد حينها) ،قال" :علينا الكفاح لنستحق مكافأة الله لنا بجلب
هبات اإلميان واألعامل الصالحة كام جلب الرعاة واملجوس هباتهم إىل يسوع يف بيت لحم".
وقادت املقدمة هذه سوفرونيوس إىل التطرق إىل األحداث واستخدامها لتوجيه رسالة إىل
أهله بقوله" :لكننا وبسبب خطايانا التي ال تحىص وسلوكنا شديد اإلثم ،كنا عاجزين عن
رؤية هذه األمور وعن الدخول إىل بيت لحم .ويف معزل عن إرادتنا ،بالفعل ،وعىل خالف
متنياتناُ ،طلب منا البقاء يف بيوتنا ،ومل تعقنا أربطة جسدية ،بل أعاقنا الخوف من الرساسنة".
138
ناتيع ماسح بهل نم فويس
ويتابع أن املسيحيني يف القدس مثل آدم الذي حظر عليه دخول الجنة برغم "أننا ال نرى
السيف املتقلب امللتهب ،7بل نرى [سيف] الرساسنة الرببري الجامح امليلء بكل التوحش
الشيطاين .ونحن كموىس محظور علينا دخول أرض امليعاد ومأزقنا يشبه مأزق داود :هو
واجه الفلسطينيني ،فيام اآلن استوىل الرساسنة الذين ال يؤمنون بالله عىل بيت لحم وقطعوا
علينا الطريق اليها ويهددون بالقتل والدمار اذا غادرنا هذه املدينة املقدسة وتجرأنا عىل
االقرتاب من بيت لحم الحبيبة واملقدسة".
و ُيبلغ سوفرونيوس املجتمعني يف الكنيسة لإلستامع اىل عظته ،بالرد -وبه يصل اىل
ذروة كالمه -وهو يف التوبة والخضوع ملشيئة الله فقط" ،وإذا كان علينا العيش مبا يريض
الله ويرسه ،فسنبتهج لسقوط الرساسنة األعداء ومراقبة دمارهم الوشيك وانهيارهم األخري.
وستنغرز نِصالهم املشتهية للدماء يف قلوبهم وستتحطم أقواسهم وستصيبهم سهامهم"،
يتجل الله كبرش ويتعذب من أجلنا .لقد كان اإلله الحق وابن اإلنسان .طبيعته وتساءل" :أمل َ
واحدة مع األب فيام يظهر نفسه كرجل مثلنا .وتتجىل طبيعته كاثنني ،كإله وإنسان ال
انفصال بينهام .ويظل مسيحاً واحداً ال ميسه تبدل وال زيغ وال انشقاق وال انقسام".
ويظهر الوصف املفصل للهجامت العربية يف عظة البطريرك سوفرونيوس يف عيد
الغطاس يف عام 636او .637القسم األعظم من العظة مخصص لتفسري معنى عامدة يسوع
املسيح حيث يقول سوفرونيوس إن العامدة كانت اللقاء بني القانون والنعمة اإللهيني :األول
رس العامدة يوحنا املعمدان ،والنعمة هي التي حملها يسوع اىل وضعه موىس وجسده يف ّ
بني البرش .وبعد رشح مستفيض ،ينتقل البطريرك إىل تناول الفظائع التي يرتكبها العرب
مبا أن ذلك يضع دعوته إىل املصلني لإلقالع عن آثامهم يف قالب الطلب العاجل ،خصوصا
ألن اآلثام تلك أثارت غضب يسوع واستياءه ،فيقول" :بيد ان الظروف الراهنة ترغمني
عىل التفكري تفكريا مختلفاً عن سبب كرثة الحروب بيننا .ملاذا ُيغيرِ الربابرة حولنا؟ ملاذا
تهاجمنا قوات الرساسنة؟ ملاذا وقع الكثري من الدمار والنهب؟ ملاذا ُيسفك الدم البرشي
بال توقف؟ ملاذا تَفرتس جوارح السامء أجساد البرش؟ ملاذا تُهدم الكنائس؟ ملاذا يتعرض
الصليب إىل السخرية؟ ملاذا تجدف األفواه الوثنية عىل املسيح وهو موزِّع كل الخريات
ومزود كل ا ُملبهجات؟ لذا هو يرصخ فينا "بسببكم يجدف عىل اسمي بني الوثنيني" ،وهذا
أسوأ من كل األمور الرهيبة التي تجري لنا .لهذا يجول الرساسنة املنتقمون والكارهون لله،
وهم عار التخيل الذي ابلغنا األنبياء به بالغاً واضحاً ،يف األماكن املحظورة عليهم .ينهبون
املدن ويدمرون الحقول ويحرقون القرى ويرضمون النار يف الكنائس املقدسة ويقلبون
أعىل األديرة املبجلة أسفلها ويواجهون الجيوش البيزنطية التي تندفع لصدهم ،ويكدسون
7 7يشري سوفرونيوس هنا اىل اآليات 24-22من سفر التكوين " َو َق َال ال َّر ُّب االلَهُُ :ه َو َذا االن َْسانُ َق ْد َصا َر
َك َواحِ ٍد ِمنَّا َعارِفا ا ْلخَ يرْ َ َوالشرَّ َّ َ .والاْ نَ لَ َع َّل ُه يمَ ُدُّ َيد َُه َو َياخُ ُذ م ِْن شَ َج َر ِة ا ْل َح َيا ِة ا ْيضا َو َيا ُك ُل َو َي ْح َيا الىَ
اال َبدَِ .فاخْ َر َج ُه ال َّر ُّب االلَ ُه م ِْن َج َّن ِة َع ْدنٍ لِ َي ْع َم َل اال ْر َض ا َّلتِي اخِ َذ ِم ْن َهاَ .ف َط َر َد االن َْسانَ َوا َقا َم شرَ ْق َِّي
ِيب َس ْي ٍف ُم َت َق ِّل ٍب لِحِ َر َاس ِة َطر ِ
ِيق شَ َج َر ِة ا ْل َح َياة ِ". يم َولَه َ َج َّن ِة َع ْدنٍ ا ْل َك ُرو ِب َ
139
ناتيع ماسح بهل نم فويس
الغنائم يف القتال .ومجددا هاهم ينهضون ويأتون ضدنا ويزيدون من تجديفهم عىل املسيح
والكنيسة ،ويطلقون أبغض التجديف عىل الله .ويتشدق أعداء الله هؤالء بالنرص عىل
الجميع ،ويقلدون بإلحاح وبال وازع الشيطان قائدهم ويفوقونه يف الخيالء التي طرد بسببها
من الجنة وقيض عليه بالبقاء يف الظلمة الحزينة .لكن هؤالء األرشار ما كانوا ليبلغوا هذا
القدر من القوة التي أتاحت لهم ارتكاب األفعال هذه ضد القانون ،لو مل نُهن نحن أوالً الهبة
[العامدة] ونلوث الطهارة ونُح ِزن بذلك املسيح ،واهب الهبات ،ونحضه عىل الغضب منا،
برغم طيبته وكرهه للرش ،وبرغم أنه نبع الرقة وال يتمنى دمار وهالك اإلنسان .يف الحقيقة،
نحن املسؤولون عن كل هذه األمور ولن نجد كلمة واحدة يف الدفاع عن أنفسنا .أي كلمة
أو مكان سيمنح لنا لندافع عن أنفسنا بعدما أخذنا كل هذه الهبات منه ،ووسخناها ولوثنا
كل يشء بأعاملنا الرشيرة؟" .8
عظتا سوفرونيوس توفران منوذجا مه ًام للطريقة التي سينظر فيها املسيحيون ومن
ثم الغرب عموما إىل العرب واملسلمني .فمن جهة ،ال تزيد الفتوحات العربية واملعاناة
التي ترافقها -عىل غرار الحروب جميعاً -عن كونها عقاباً إلهياً ينزله رب غاضب باملؤمنني
املقرصين يف واجباتهم الدينية واملخلني يف سلوكهم االجتامعي املتفلت من الضوابط التي
ينص الدين عليها .ومن الجهة الثانيةُ ،يالحظ تطور طفيف يف فهم املسلمني ودوافعهم.
ففي العظة األوىل (يف عيد امليالد) يكون الرساسنة ،يف عني البطريرك ،مجموعات من الوثنيني
والغوغاء الذين يعيثون يف األرض فسادا ويعيقون إمتام الشعائر الدينية ،لكنهم يف الثانية
(عِظة عيد الغطاس) وبعد مرور عامني أو ثالثة من االحتكاك مع املسلمني وتوسع وجود
هؤالء وعملياتهم العسكرية ،واألرجح تكثيف نشاطهم الديني ،باتوا جزءا من خطة تزداد
معاملها وتفاصيلها وضوحاً ،يقودها الشيطان للقضاء عىل املسيحية بعدما أرسف أتباع يسوع
يكن كرهاً لإلنسان.
يف إثارة غضبه ،وهو الحليم الذي ال ّ
يتعني القول إن مالمح الجداالت الدينية تربز واضحة يف عظة سوفرونيوس ،ليس مع
املسلمني بطبيعة الحال ،بعدما وضعهم يف خانة أعداء الله واملجدفني عىل املسيح وبعدما
حرص رؤيته إليهم كغوغاء وهمج يغريون عىل املدن والقرى طمعا يف األسالب ،بل مع
الكنائس األخرى التي مل يجد البطريرك مانعاً من استعراض مقومات إميانه األرثوذكيس أمام
اتباعه كرسالة موجهة إىل الخصوم من أنصار الطبيعة الواحدة واليعاقبة وغريهم من أتباع
الفرق املسيحية .ويبدو ذلك واضحاً بتالوته ملقاطع تالوة شبه حرفية من مقررات مجمع
خلقدونيا املنعقد عام 451حيث يتساءل سوفرونيوس عن تجيل املسيح وطبيعته وصلبه
وعذابه ،وهو ما يبدو رداً يقصد به اعرتاضات النساطرة عىل ما هو بينّ .
وال تو ّفر اإلدانة الشديدة للغارات العربية يف كالم سوفرونيوس توضيحاً مقنعاً للقارئ
املعارص عن السبب الذي جاء العرب من أجله من شبه الجزيرة إىل فلسطني .لكن مصدراً
140
ناتيع ماسح بهل نم فويس
قريباً زمنياً من الفتوحات يحاول رشح الخلفية التي ظهرت الفتوحات عليها ،وهو املؤرخ
األرمني سيبيوس الذي عاش وكتب يف القرن السابع حيث يقول ان رج ًال ظهر بني العرب
وأعاد االعتبار إىل صلة النسب التي تربطهم باسامعيل (بإيحاء من اليهود) وقرر دفع بني
قومه إىل استعادة األرض املوعودة يف فلسطني .9
واملهم يف كالم املؤرخ األرمني انه كان األول الذي يضيف إىل اإلنسياق املتوقع يف
مقولة جعل العرب ،أو باألحرى فتوحاتهم ،أداة العقاب والغضب اإللهيني لخطايا املسيحيني
ويسعى ،إىل جانب ذلك ،نقال عمن يقول انهم أرمن فروا من األرس العريب ،إىل وضع نظرية
"موضوعية" ألسباب الفتوحات تتعلق بدوافع فاعليها والقامئني بها وليس مبن يتلقون
الفعل.
ومقابل محاولة بطريرك القدس تفسري الفتح اإلسالمي يف سياق ديني ،يتبنى سيبيوس
مقاربة عاطفية تستأنف حديث الغضب الرباين حيث يقول" :مرة أخرى ينبغي عيل الحديث
عن الرش الذي نزل بنا يف زمننا هذا ،وكيف متزق رداء اإلميان القديم وكيف نفث القيظ
الجاف رياحه علينا وأحرق األشجار املورقة الجميلة الباسقة يف بساتيننا الحانية .وهذه هي
الحقيقة ،ألننا ارتكبنا اإلثم ضد الرب وأغضبنا قديس إرسائيل .لقد قال "إذا أرضاكم ذلك
ميكنكم اللحاق يب ،وميكنكم أخذ طيبات األرض .لكن إذا رغبتم يف عدم اإلنصات سيفرتسكم
السيف ،لقد نطق الرب بذلك" .لقد ظهرت هذه الدوامة سابقا فوق بابل وبلغت بعد ذلك
كل البالد ...واآلن إىل جنوبها ،وخصوصا شعوب الهند والذين يقطنون الصحراء وهم أبناء
ابراهيم املحرومون املولودون من هاجر ومن روتري وإسامعيل وعمرام وموغان وماديان
ويقظان ومليساوي ويسباوي 10وأبناء لوط حيث أمون ومؤاب وأبناء عيسو يف أدوم ...هي
تلك الصحراء الهائلة والرهيبة التي جاءت منها دوامة الشعوب تلك املرتفعة كالعاصفة
والغازية لكل البالد واملستولية عليها .لقد تحقق القول "ان الوحش الرابع سيخلق اململكة
الرابعة عىل االرض ،أكرث رشاً من املاملك األخرى ،وس ُتحيل كل البلدان اىل صحارى".
بهذه القصة عن الوحوش األربعة املستمدة من سفر دانيال ،يكرس سيبيوس تقليداً
سيتبعه فيه كرث من رجال الكنيسة ومن املؤرخني يف بحثهم عن تفسريات للفتوحات االسالمية.
ورمبا كانت عودة سيبيوس ومن جاء بعده إىل املصادر املتوفرة والتي ال تنقصها الصدقية
اإللهية العالية عند أبناء الشعوب املسيحية املغلوبة ،أسلوباً مفهوماً من الناحية املعرفية يف
اللجوء إىل األدوات املوثوقة لفهم العامل حتى لو بدت األدوات تلك خارج العرص.
وجاء يف سفر دانيال ان امللك نبوخذنصرّ رأى حل ًام عجز حكامء الكلدانيني واملجوس
عن تفسريه ،لذا أمر بقتلهم فيام متكن دانيال اليهودي السبي من رشحه للملك وفق الصيغة
التي تبدأ من اآلية 31من اإلصحاح الثاين:
141
ناتيع ماسح بهل نم فويس
عظيم هائِلٍ كث ِري ال َبهاءِ .كانَ وا ِق ًفا أما َم َك ِ رأيت فإذا ِبتِمثالٍ "أنت أ ُّيها املَل ُِك َ َ
وص ْد ُر ُه و ِذراعا ُه م ِْن خالصَ ، ٍ ذه ٍب رأس ُه م ِْن َ وكانَ َمنظ ُر ُه رهي ًبا ،32 ،وكانَ ُ َ
ُحاس ،33 ،وساقا ُه م ِْن حدي ٍد و َق َدما ُه بعضُ ُهام م ِْن فِضَّ ةٍ ،و َبط ُن ُه و َفخذا ُه م ِْن ن ٍ
نقط َع حج ٌر م َِن الج َبلِ َنظ ُر إلي ِه اَ َ أنت ت ُ والبعض م ِْن خ َز ٍف ،34 ،و َبي َنام َ ُ حدي ٍد
ني م ِْن حدي ٍد وخ َز ٍف مثال عىل ق َد َمي ِه ال َّلت ِ م ِْن دونِ أنْ َت ْل َم َس ُه َي ٌد ،فضرَ ََب ال ِّت َ
حاس والفِضَّ ُة وال َّذ َه ُب م ًعا، نس َحقَ الحديدُ والخ َز ُف وال ُّن ُ وسح َق ُهام ،35 ،فاَ َ َ
يح وما ُوج َد لها أ َث ٌر .أ َّما فح َم َل ْتها ال ِّر ُ يفَ ، الص ِ وصا َرت ُك ُّلها َك ِتبنْ ِ ال َبي َد ِر يف َّ
األرض ُك َّلها« ، 36،هذا ه َو مثال ،فصا َر ج َب ًال كب ًريا و َم َأل َ رضَب ال ِّت َ الحج ُر الذي َ
أنت أ ُّيها املَل ُِك َمل ُِك ا ُمللوكِ ،ألِنَّ الح ُل ُم .أ َّما تفس ُريه ُفأخ ُرب َك ب ِه أ ُّيها املَل ُِكَ ،37 : ُ
ُ ُ َ
السام ِء وه َبك الم ُ ْلك وال ِع َّز َة وال ُق ْد َر َة والجالل ،38 ،وك َل ما َيسكنُه َبنو البشرَ ِ َ َ إل َه َّ
أس الذي فأنت ال َّر ُوس َّل َط َك ع َلي ِه جمي ًعاَ ، لك َ وه َب ُه َ السام ِء َ وطيو ُر َّ حوش البرَ ِّ ُ و ُو ُ
ُ
ذه ٍب ،39 ،و َبع َد َك تقو ُم َمم َل َك ٌة أخرى أص َغ ُر م ِْن َمم َل َكت َِكُ ،ث َم َمم َل َك ٌة ثالِ َث ٌة م ِْن َ
الحها يكون سِ ُ األرضُ ،40 ،ث َم َمم َل َك ٌة را ِب َع ٌة ُ ُحاس ف َت َت َس َّل ُط عىل ُك ِّل ِ الحها م ِْن ن ٍ سِ ُ
طح ُن ُك َل يشءٍ .فكام أنَّ الحدي َد ُي َح ِّط ُم، سحقُ و َي َ َص ْل ًبا كالحديدِ ،ألِنَّ الحدي َد َي َ
عض رأيت أنَّ َب َِلك املَاملِكِ ،41 ،كام َ جميع ت َ َ َسحقُ هذِهِ املَم َل َك ُة وت َُح ِّط ُم كذل َِك ت َ
تكون عض اآلخ َر م ِْن حديدٍ ،فلذل َِك ُ ني واألصا ِب ِع م ِْن خ َز ِف الفخا ِر وال َب َ الق َد َم ِ
رأيت ُمخ َتل َِط ولكن فيها قسو ُة الحدي ِد ألنَّ الحدي َد مِث َلام َ املَم َل َك ُة ُمن َقس َم ًةْ ،
نيَ ،بعضُ ها م ِْن حدي ٍد و َبعضُ ها م ِْن ني ،42 ،وكام أنَّ أصا ِب َع الق َد َم ِ ِبخ َز ٍف م َِن ِّ
الط ِ
ورأيت َ يع االنكِسارِ،43 ، عض سرَ َ عض املَم َل َك ِة َص ْل ًبا وال َب ُ يكون َب ُ خ َز ٍف ،فكذل َِك ُ
ِلك املَم َل َك ِة َيخ َتلِطونَ لوك ت َ ني فهذا َيعني أنَّ ُم َ الط ِ أنَّ الحدي َد ُمخ َتل َِط ِبخ َز ِف ِّ
عض بال َّزواج ،فال َيل َتحِ مونَ كام أنَّ الحدي َد ال َيخ َتل ُِط بالخ َز ِف، مع َب ٍ َبعضُ ُهم َ
السام ِء َمم َل َك ًة ال تَخ َر ُب أب ًدا ،وال َيغلِب قيم إل ُه َّ ،44ويف أ ّيا ِم هؤال ِء ا ُمللوكِ ُي ُ
وهي تَث ُب ُت إىل األبدِ، ِلك املَاملِكِ َ ، جميع ت َ َ سحقُ و َت ْفني شعب آخ ُر ،ف َت َ ُسلطانَها ٌ
فس َحقَ الحدي َد ورأيت أنَّ حج ًرا اَن َق َط َع م َِن الج َبلِ م ِْن ُدونِ أنْ تَل َم َس ُه َي ٌدَ ، َ ،45
العظيم أع َل َم املَل َِك ما َ حاس والخ َز َف والفِضَّ َة وال َّذ َه َب ،فهذا َيعني أنَّ اإلل َه وال ُّن َ
صحيح وتفسريي لَه صاد ٌِق» ،46 .ف َو َق َع املَلِكُ ٌ َ ُ
سيكون َبع َد هذِهِ األ ّيا ِمُ .حل ُمك ُ
وقالوذبيح ِة ِرضىً َ ،47 ، َ لدانيال وأم َر لَه ِب َتق ِد َم ٍة َ نَبوخذ َنصرَّ ُ عىل وج ِه ِه ساج ًدا
ِرت أنْ تكشِ َف ورب ا ُمللوكِ ،ألن ََّك َقد َ لدانيال« :إل ُه ُكم ه َو إل ُه اآللِ َه ِة ح ُقا ُّ َ املَل ُِك
وس َّل َط ُه عىل ُك ِّل ِ
إقليم دانيال ،ف َو َه َب ُه هدايا كثري ًةَ ، َ هذا السرِّ َّ » ،48،.وأك َر َم املَل ُِك
با ِب َل ،وج َع َل ُه عىل ال َّدوا ِم س ِّي َد ُح َّكامِها جمي ًعا".
وتبوأت مملكة املسلمني موقع الوحش الرابع من سلسلة الوحوش /املاملك التي تنبأ
دانيال بها مئات األعوام إىل أن تغريت أوضاع الخالفة وتوسعت آفاق التفكري.
ويف إطار الرصاعات املسيحية ،يكتب القديس أناستاسيوس السينايئ(Saint
142
ناتيع ماسح بهل نم فويس
،)Anastasius the Sinaiteعند أواخر القرن السابع ،صالة يرجع فيها النجاحات العسكرية
العربية إىل تجاوزات اإلمرباطور كونستانس الثاين لإلميان القويم ،ويف هذه الحالة ،للكنيسة
الكاثوليكية .ويندد أناستاسيوس خصوصاً بإساءة كونستانس معاملة البابا مارتينوس األول
قائ ًال" :لقد نفى حفيد هرياكليوس (كونستانس الثاين) مارتينوس ورسعان ما ظهر من
الصحراء العامليق (القبائل العربية املتأسلمة) الذين رضبونا ،نحن شعب املسيح .هذا هو
السقوط األول واألشد رهبة والذي ال شفاء منه للجيش الروماين (البيزنطي) .أتحدث عن
سفك الدماء يف الريموك وداثن اللتني جرى االستيالء بعدهام عىل مدن فلسطني وسفكت
الدماء فيها ،وصوال إىل قيرصية وأورشليم .وبعد دمار مرص حصل استعباد ال عالج له لألرايض
(املحيطة بـ) البحر املتوسط وجزره .بيد أن املهيمنني عىل اإلمرباطورية الرومانية مل يفهموا
هذه األمور .لقد استدعوا أقىص الناس يف الكنائس الرومانية وقطعوا ألسنتهم وبرتوا أيديهم.
ماذا بعد؟ جاء رد الله عىل ما يبدو دمار الجيش الروماين دماراً كام ًال (يف معركة) فونيكس
( 11)Phoenixودمار االسطول ودمار الشعب املسيحي برمته ويف كل األمكنة أثناء حكمه
(كونستانس الثاين) .مل يتوقف هذا إال عندما قتل مضطهد مارتينوس حتفه بالسيف يف
صقلية" ،12يف إشارة إىل مقتل كونستانس عام 668عىل يد أحد املشاركني يف مؤامرة لالستيالء
عىل عرش اإلمرباطور.
واملثري لالهتامم أن بعض مسجيل التاريخ القدامى ربطوا بني عدد من األحداث
التي كانت شبه الجزيرة العربية وتخومها القريبة تشهدها .فالكاتب املجهول لـ"الحوليات
الجورجية" التي ُيعتقد أن صياغتها التي وصلت إلينا تعود إىل القرن الثاين عرش كحصيلة
جمع لعدد من الوثائق األقدمُ ،يعلن أن "ما من أحد قادر عىل تسجيل الكوارث التي
مر املسيحيون بها بسبب الرساسنة الذين كانوا يسمون يف السابق "كأغرت أكناك" .وقد
ذكر التوراة ان ألسنة الكأغرت 13ستلعق دماء األبرياء" .يقول" :يف بدء قوة ذلك الشعب
(الرساسنة) ،كان مثة شخص حكم بعضاً من االسامعيليني املحيطني به .ويف أيامه ،استوىل
أحد أمراء بالد ما بني النهرين ويدعى رسجيس ،عىل ممتلكات عدد من التجار اإلسامعيليني.
وطلب أمري الكأغرت من السارق عدم تكرار ذلك ،لكن (رسجيس) مل يلق باال .فجمع أمريهم
حشداً هائ ًال من شعبه وذهب واستعاد ما كان له وما كان لغريه .وبعد فوزه أصبح ذلك
143
ناتيع ماسح بهل نم فويس
الشعب أقوى .ويف تلك الفرتة التقوا محمداً ،ا ُملطارد من قومه .كان محمد قد درس عند
أحد الرهبان ويدعى اريانوس ...واقنع (الرساسنة) محمداً باملجيء إليهم وجعلوه قائدهم
العسكري .وحاربوا جميع البلدان للتكفري عن خطايا املسيحيني يف اليونان وأرمينيا وسوريا
وأغبانايا وإيبرييا (جورجيا) فاغتنوا واستولوا عىل صولجان اإليرانيني ما جعل كل الشعوب
تخضع لهم" .14
يف قراءة ثانية ملا يقول كاتب الحوليات ،تبدو مالمح من حروب اإلمارات العربية
املؤيدة للفرس والبيزنطيني ومن قصة هجرة النبي إىل يرثب ومن الحكاية التي تتكرر
كثريا يف األدبيات املسيحية الرشقية عن لقاء النبي بالراهب بحرية أو رسجيوس وقيام هذا
بتلقني محمد أسس الديانتني املسيحية واليهودية .ومعلوم أن الحكاية هذه تردد صدى
عالقة الرسول العريب بورقة بن نوفل الذي تقول املصادر اإلسالمية إنه كان من األحناف أو
من املسيحيني العرب ،إضافة إىل التأكيد عىل أن الدافع إىل حروب الرساسنة كان "خطايا
املسيحيني يف اليونان وأرمينيا وسوريا."...
أما يوحنا اسقف نقيوس القبطي الذي عاش يف أواخر القرن السابع ،فيلوم البيزنطيني
عىل خطاياهم التي جلبت الغضب اإللهي املتجسد يف الفتح العريب .15
ويدعو يوحنا من فنك أو بنك الواقعة عىل ضفة نهر دجلة( ،جون بار فنك John bar
Penkayeالذي عاش يف النصف الثاين من القرن السابع) ،إىل عدم اعتبار ظهور أبناء هاجر
أمراً عادياً "بل إىل أخذه كنتيجة لعمل إلهي .فعندما جاء هؤالء الناس ،بأمر من الله،
واستولوا عىل ما كان للمملكتني ...وضع الله النرص بني أيديهم كام لو أن الكلامت التي
تعنيهم تنفذ بحذافريها :رجل يطارد ألفاً وأثنان يهزمون عرشة االف (سفر التثنية -اإلصحاح
-32اآلية .)30وإال كيف أمكن لعراة ميتطون (جيادهم) من دون دروع أو تروس أن يفوزوا،
يف غنى عن املساعدة اإللهية ،لقد دعاهم الله من أقايص األرض حتى يدمر بهم "مملكة
آمثة" (سفر عاموس -االصحاح التاسع -اآلية )8وحتى يذل بهم روح الفرس املتفاخرة" .16
يف املقابل ،فإن املسيحيني اليونانيني الذين متسكوا مبقررات مجمع خلقيدونيا حول
الطبيعتني ،رأوا يف تأييد اإلمرباطور كونستانس الثاين ،حفيد هرياكليوس ،ملقولة املشيئة
الواحدة التي روج لها هرياكليوس وخلفاؤه كتسوية بني فكريت الطبيعة الواحدة اليعقوبية
والتي تبنتها الكنائس الرشقية ومقولة الطبيعتني التي أرص عليها الخلقيدونيون ،السبب
الحقيقي للفتوحات العربية ،خصوصا وان كونستاتس الذي اتسم بالرعونة كان قد أساء
اىل البابا مارتينوس األول الذي استدعي من روما إىل القسطنطينية ثم ُعذب ونفي إىل
إحدى قرى شبه جزيرة القرم عىل البحر األسود بعد اعرتاضه عىل تكريس املشيئة الواحدة
The Georgian Chronicle- Chapter 16 14 14
John Bishop of Nikiu- Chronicle 120-200 1515
Hoyland- Seeing Islam- p 524 1616
144
ناتيع ماسح بهل نم فويس
S.P. Brock, "Syriac Views of Emergent Islam," in G.H.A. Juynboll (ed.), Studies on 17 17
the First Century of Islamic Society (Carbondale, III., 1982), pp. 87-97
William Holden Hutton -The Church and the Barbarians- Being an Outline of the 1818
History of the Church from A.D. 461 to A.D. 1003”, p 78
Ibid-p 102 1919
145
ناتيع ماسح بهل نم فويس
يف الساحات واألسواق وبدلوا عاداتهم الطبيعية بأخرى غري طبيعية...؟ .األمر ذاته فعلته
النساء .لقد المس األب واإلبن واألخ املرأة ذاتها التي تالمس كل األقارب ...لهذه األسباب
سلمهم الله إىل الربابرة ،بسبب خطاياهم ونتنهم .ستلوث النساء أنفسهن بالرجال الذين
تلوثوا سابقاً وسيحصل أبناء إسامعيل عىل الغنائم" .20
كذلك يذهب القديس بونيفاس ( )Saint Bonifaceالذي عارص االندفاعة العربية إىل
جنوب فرنسا وخصوصا يف مقاطعتي بروفنس وبورغوندي ،إىل أن السلوك الجنيس املشني الذي
ساد بني الغوط هو الذي دفع "القايض الكيل القدرة" اىل السامح باجتياح الرساسنة إلسبانيا
.21ومالحظة بونيفاس هذه ،التي ال تخرج عن إطار تحميل الذات أوزار الحروب والسياسات
ومآالتها مقدمة تفسري غري جديد لها ،جاءت بعد هزمية العرب يف بواتييه واالنحسار النسبي
للتهديد الذي واجهته أوروبا يف النصف االول من القرن الثامن ،بحيث بات يف وسع النخب
األوروبية إعامل التفكري يف ما يجري حولها ،بهدوء يزيد – بطبيعة الحال -عن فرتات املعارك
والحروب .وهو ما سيربز يف القرون التالية.
من جانب ثانٍ ،ال جديد يف املوقف املسيحي يف تحميل الذات الخاطئة تبعات الهزائم
العسكرية والسياسية .فاإلمرباطور هرياكليوس خاطب الجنود الفرس الذين جاؤوا الحتالل
القسطنطينية بقيادة األمري شاهرباراز عام 626بالقول" :مل يعطكم الله النرص بفضل تقواكم
بل لقلة تقوانا ...لقد (أعطتكم النرص) خطايانا وليس شجاعتكم" .22كام سرنى الحقا ان تغري
النظرة املسيحية الرشقية ثم الغربية إىل الفتوحات العربية واىل اإلسالم واملسلمني عملية
مركبة استغرقت مئات األعوام ،وميكن الزعم أنها مل تنته حتى اليوم ،متاما كام مل ينته تطور
اإلسالم وتغري مواقعه يف الحياة االجتامعية والسياسية للمؤمنني به ،أو تغري الزاوية التي
تتعامل معه الديانات والثقافات والحضارات غري العربية وغري اإلسالمية ،خصوصا الحضارة
الغربية الحديثة.هكذا تبدو الفكرة القائلة بتموضع حضارتني يف رصاع أزيل بينهام وزج كل
النتاج الفكري لهاتني الحضارتني يف ثنائية الهيمنة (من جهة الغرب) والتحرر (من جهة
الرشق) ،متيل مي ًال شديداً إىل التبسيط املرسف.
ونسجا عىل املنوال الذي نسج سوفرونيوس عظتيه عليه ،اندرجت الفتوحات يف
األجواء السياسية والفكرية السائدة يف املرشق يف تلك الحقبة .فإذا كانت الفتوحات العربية
مبثابة العقاب للخطاة ،فإن ال مجال -يف رأي رؤوس الكنائس املتنازعة -سوى عىل التشديد
عىل أن خطايا البعض أعمق وأخطر من خطايا اآلخرين .وقد تبادل اليعاقبة واألرثوذكس
امللكيون اللوم يف التسبب مبجيء العرب .فهؤالء عند اليعاقبة عقاب من الله للبيزنطيني
عىل آثامهم منذ مجمع خلقدونيا واضطهادهم أبناء الكنائس األخرى ،وعند البيزنطيني ومن
Hoyland– Seeing Islam»- p 224 and W. Kaegi–Initial Byzantine Reaction- p 143 20 20
Hoyland- Seeing Islam- p 227 2121
Sebeos – History- Chptr 26 2222
146
ناتيع ماسح بهل نم فويس
147
ناتيع ماسح بهل نم فويس
والتي تقوم يف جانب منها عىل دراسة املصادر العربية بعدما أصبحت هذه متاحة لجمهور
الباحثني.
يذهب وليام مويري ( )William Muirإىل أن التزايد السكاين الكبري يف شبه الجزيرة
العربية جعل من االكتظاظ مشكلة غري قابلة للحل سوى عرب الفتوحات واالندفاع إىل خارج
املناطق الفقرية "كأرساب الجراد" التي سودت وجه الدنيا .وهو ما يرفضه ليوين كايتاين( (�Le
)one Caetaniمشرياً إىل أن أعداد العرب واملسلمني مل تكن كثيفة ،من دون ان ينفي وجود
مشكلة اقتصادية جراء القحط ساهمت يف دفع العرب اىل الهجرة وبالتايل إىل االصطدام
بالبيزنطيني وبالفرس .أما هرني المنس ( )Henri Lammensفيعيد السبب ،من جهة ،إىل
طبيعة العرب امليالة إىل القتال والغزو وبروز قدرة تنظيمية عسكرية متفوقة عىل أعدائهم
جراء الخضوع التام لألوامر عند الجنود واملستقى من الطاعة القبلية للكبار ،وإىل عنف
مفرط يف التعامل مع العدو ،من الجهة املقابلة.
وسعى كارل بيكر ( )Carl Beckerإىل رسم صورة مركبة ذات أحداث متصاعدة يف
الفتوحات بوضعها يف سياق حوادث تفاقمت الحقا لتصل إىل حدود الحمالت املنظمة،
بعدما ظهرت فوائدها من غنائم وسيطرة عىل األرايض الخصبة .وبعد ذلك فقط حصلت
يفصله ويقدم الرباهني عليه ماكس فون اوبنهايم (Max Von الهجرات العربية .وهو ما ّ
) .Oppenheimومييز كيه .دبليو .بوتزر ( )K.W. Butzerبني انتشار اإلسالم وبني الهجرات
العربية ،فيام يقيم ج .هـ .بوكيه ( )G.H. Bouquetحدوداً بني طبيعة الفتوحات وبني
أسباب نجاحها ،أي االلتزام الديني قبل إغراء األسالب إىل جانب ضعف بيزنطة وفارس
ووجود قادة اكفاء يف الجانب العريب ،وهو رأي موريس كانورد ()Maurice Canord
ويفصل أم .أيه .شابان
ِّ وفرانشسكو غابريليل ( )Franscesco Gabrielliيف الوقت عينه.
( )M.A. Shabanالحاجات االقتصادية العربية بعد حرب الردة .26
ويجزم صاحب "تاريخ اإلمرباطورية البيزنطية" ألكسندر فاسيلييف ()A.A Vasiliev
هم لهم سوى أن البدو الذين شكلوا األكرثية الساحقة من جنود الفتوحات مل يكن من ّ
األسالب والنهب فيام كانت معرفتهم باإلسالم معرفة سامعية فقط ،مشدداً عىل غياب
العامل الديني يف الفتوحات ،ما يذ ّكر بالنتائج التي توصل كايتاين إليها عن ضآلة موارد
الجزيرة العربية وعدم قدرتها عىل تلبية احتياجات السكان من دون التبني الكامل لها .27
ويستنتج برنارد لويس ( )Bernard Lewisاستنتاجاً مشابهاً بقوله إن الفتوحات
العربية هي توسع لألمة العربية وليس لإلسالم ،بسبب االكتظاظ الدميوغرايف ،وانها من
طينة الهجرات التي حملت الساميني مرات تلو املرات إىل الهالل الخصيب وما بعده .وقد
حصلت يف القرنني السادس والسابع حاالت متدد عربية إىل مناطق الهالل الخصيب يف حني
26 26بعض قراءات املسترشقني الحديثني السباب الفتوحات موجود يف Fred McGraw Donner-
«The Early Islamic Conquests»- Princeton University Press- 1981- pp 3-7.
A.A. Vasiliev – “The History Of Byzantine Empire”- p 157. 2727
148
ناتيع ماسح بهل نم فويس
أن العديد من املدن مثل ُبرصى وغزة كانت تضم نسبة مهمة من سكانها من العرب .وساعد
يف نجاح الفتوحات أن السدين الفاريس والبيزنطي اللذين كان ميكنهام التصدي ملوجات
الفتوحات والهجرات العربية ،كانا ضعيفني .28وهذا الضعف هو تحديداً ما يدين العرب
بانتصاراتهم له ،بحسب غيبون ( )Gibbonالذي يرى انه لو ُولِد محمد يف أيام القيرصين
تراجان أو قسطنطني او امللك شارملان لكان "هؤالء متكنوا من صد هجامت الرساسنة العراة
ولكانت الحامسة الدينية قد ضاعت يف رمال الصحراء" ،أي أن القول بأولوية الدافع الديني
اإلسالمي ليست كافية لتفسري االنتصارات إذ أن ضعف الطرف املقابل هو األساس ،وفق
النظرة تلك .29
وباالعتامد عىل املصادر العربية ،يخلص فريد دونر ( )Fred Donnerإىل أن سوريا
شكلت عنرص جذب قوياً للعرب الذين اتحدوا بعد فتح مكة ،خصوصا وان زعامء قريش
الذين اصبحوا جزءا رئيسا من النخبة اإلسالمية السياسية والدينية الحاكمة ،كانوا عىل اطالع
وثيق عىل ازدهار الحوارض السورية وأن بعضا منهم ،كأيب سفيان ،امتلك أرايض قرب دمشق.
ويجوز االعتقاد بأن قريشاً سعت عند محمد اىل فتح الشام وانه رأى يف تلك األرض ما يوفر
مصادر عيش الجامعة اإلسالمية الجديدة ،من دون أن يلغي ذلك بحال حقيقة أن الشام
احتلت مكانة مميزة يف العقيدة اإلسالمية وأن القدس -أوىل القبلتني واملكان الذي أرسى
محمد إليه ليلة اإلرساء واملعراج -هي ،يف نهاية املطاف ،من حوارض سوريا ،التي شهدت
نزول الرساالت السابقة عىل اإلسالم أيضا.
زيادة عىل األسباب االقتصادية والدينية ،توجد بال ريب -بحسب دونر وعدد من
املسترشقني اآلخرين -دوافع سياسية – اسرتاتيجية وضعت سوريا يف رأس أولويات محمد
والخلفاء .فأهمية توحيد القبائل العربية يف كيان سيايس مركزي ،بدت حاسمة أثناء الرصاع
مع قريش ومل تتقلص أهميته بعد فتح مكة ،بل العكس استناداً إىل تجربة حرب الردة:
فقد اتضح أن بقاء الدولة والدين الجديدين يتطلب ضم القبائل الرحل يف األجزاء الشاملية
الحضرَ ،خصوصا أن من القريبة من الحجاز يف املقام األول واملدن والبلدات التي يقطنها َ
هذه املنطقة كان يصدر الخطر واملنافسة األبرز للدولة العربية من قبل بيزنطة التي راحت
تعيد بناء تحالفاتها مع مؤيديها العرب بعد االنكسار الفاريس وبعد تفكيك اإلمرباطور
الساساين خرسو برويز ململكة الحرية العربية قبل اندالع الجولة األخرية من الحروب
البيزنطية –الفارسية التي أطاحت أيضا ببقايا مملكة الغساسنة .ويجوز االعتقاد بأن الصدام
اإلسالمي -البيزنطي وقع نتيجة سعي الجانبني اىل التمدد يف املنطقة ذاتها من شامل شبه
الجزيرة العربية.
149
ناتيع ماسح بهل نم فويس
فقد كانت الدولة اإلسالمية تعمل عىل ترسيخ وجودها بني القبائل أثناء حرب الردة وبعدها
فيام كان البيزنطيون يعملون عىل إعادة ترتيب منطقة نفوذ سابق استعادوها بشق األنفس
بعد حربهم املدمرة ضد الفرس .ولعل اإلشارات اإلسالمية املبكرة إىل خطر الغساسنة 30وفشل
املحاولة التي قام بها "ملكهم" جبلة بن االيهم لالنضامم اىل اإلسالم (بتكليف من البيزنطيني،
عىل األرجح) تبني املحاوالت التي وضعت يف قالب أسطوري بعد ذلك عن اتصاالت جرت
بني الروم والعرب املسلمني لضم األخريين إىل األولني .ولعل الرسايا التي بعث النبي بها إىل
الجنوب السوري (إىل ذات أطلح يف ربيع أول من العام الثامن للهجرة وإىل مؤتة يف جامدى
اآلخرة من العام ذاته وتبوك ودومة الجندل يف العام التاسع) ،تشري اىل ان مؤسس الدين
األول شعروا جميعاً بإلحاح حسم املوقف يف سوريا ملصلحتهم، والدولة اإلسالميني والخلفاء ُ
ليس ألسباب اقتصادية ودينية وحسب ،بل أيضا ألسباب سياسية واسرتاتيجية حيث بدا
أن السامح بالتقاط بيزنطة أنفاسها بعد حربها ضد الفرس سيؤدي إىل منع توحيد القبائل
العربية التي ستجد يف اإلمرباطورية البيزنطية سيدا قويا يصعب التحرر من قبضته .31
لقد كان الرتابط بني نتائج حروب الردة وبني الفتوحات موضع اهتامم عدد من
املؤرخني ،حيث يقول لويس إن الفتحني ،أي ذاك الذي جرى داخل الجزيرة العربية واآلخر
الذي شمل املقاطعات املجاورة لكل من سوريا والعراق ومرص ،كانا متزامنني ومرتابطني
وليسا متتابعني .ولعل القبائل العربية مل تكن لتقبل بخضوعها للفتح لو مل تُتح لها الفتوحات
يف الشامل الحل الجذاب ملشكالتها االقتصادية يف شبه الجزيرة العربية .وكانت الحمالت
األوىل عبارة عن غارات تهدف إىل السلب ،فيام جاءت الحمالت الالحقة فقط بعدما تبني
ضعف العدو .وقد وفر اإلسالم للفاتحني ثقة بالنفس ورمزا للنرص والوحدة .ولعل شخصيات
مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص التي أدت األدوار األخطر يف الفتوحات كانت صلتها
باإلميان صلة أداتية ،فيام قبع األكرث تدينا يف الصفوف الخلفية ،مع استثناءات قليلة .ويف
قلب هذه الصورة تأيت أوراق الربدى املرصية التي وصلت اىل املؤرخني املعارصين من القرن
الهجري األول لتقول إن اهتاممات الفاتحني كانت عملية -تنفيذية يف املقام األول مبعنى
االهتامم مبصالح األرستقراطية الدينية –العسكرية ،وأن الخليفة كان يف هذه املهمة مبثابة
أمني الرس أو املؤمتن من قبل الجامعة عىل حسن إدارة مصالح جامعته.32
إن عدم فرادة الفتوحات العربية باعتبارها ظاهرة تتكرر منذ فجر التاريخ ،منذ
هجرات الساميني القدامى التي جرت ألسباب اقتصادية وبيئية يف املقام األول ،تلقى سنداً
قوياً يف األسئلة التي تطرحها غزوات بني ُس َل ْيم وبني هالل لصعيد مرص وشامل أفريقيا
30 30والذي ميكن االستدالل عليه من اللعنة التي يقول الجاحظ يف «البيان والتبيني» إن النبي العريب
صبها عىل الغساسنة
.Donner- Early Islamic Conquest- pp 96-101 3131ملزيد من التفاصيل عن الصدامات األوىل بني
املسلمني والبيزنطيني ميكن العودة اىل Kaegi-Byzantium and Early Islamic Conquests
B. Lewis- Arabs- pp 55-56 3232
150
ناتيع ماسح بهل نم فويس
والتي مل يكن أصحابها يف حاجة إىل أي تربير "إيديولوجي" أو ديني لينتقلوا من شامل ووسط
شبه الجزيرة العربية ومن محيط املدينة املنورة إىل صعيد مرص ومن ثم إىل شامل أفريقيا
وتونس ،وهي الغزوات التي يحملها ابن خلدون مسؤولية دمار حضارة كانت مزدهرة بني
السودان والبحر األبيض املتوسط .33
بيد أن القراءة هذه والتي ميكن أن تلخص الخطوط العريضة لفهم مؤرخي ومسترشقي
القرنني التاسع عرش والعرشين األوروبيني ،كانت بعيدة عن تصورات كتاب الحوليات من
البيزنطيني والفرس أو من مسيحيي املرشق يف القرنني السابع والثامن الذين ربطوا الفتوحات
العربية مبعطيات الغيب .ذلك أن األدوات املعرفية التي كانت يف حوزة كتاب الشعوب
املغلوبة واملتحملة أوزار حقبة الفتوحات مل تكن تتجاوز األدبيات الدينية والالهوتية التي
سادت بعدما انحرست آثار الحضارة الهيلينية ،أو باألحرى الجوانب العقالنية منها ،بفعل
مئات األعوام من الرصاع مع الوعي الديني.
Ibid-158 3333
151
برج د ّيب ،آذار ،2010شذا رشف الدين
نقد
حب معقود عىل كراهية .فليس سخا ًء يف وكل من الدين وامليثولوجيا عالقة ّ بني األبراج ّ
الرتميز أن توصف األبراج بأنّها صواريخ أطلقها البرش مبكراً يف اشتباكهم املديد مع الله.
الشعبي يف استقائه الدالالت البعيدة من
ّ ميت إىل مبالغات علم النفس والوصف هذا ال ّ
تشابه سهل بني الصور.
والحال أنّ البرش األوائل مل يجدوا إلعالء ذواتهم وإطالة أجسامهم خرياً من األبراج ،فيام
تلك الذوات واألجسام كانت مطالَبة دوماً بأن تصغر وتتصاغر وتنام عىل ضيم أز ّيل .فالربج
الوسيلة التي تنطح السحاب فتصري ناطحة سحاب ،كام يراودها اخرتاق السامء واالنغراز،
عموداً أو قضيباً ،فيها .والنطح ،كام هو معروف ج ّيداً ،فعل عدوان يتأتىّ عن قرن الثور،
آلة عدوانه.
َ
السموي واألدىن األريضّ ُمحكم ونها ّيئ ال ي ّتسع
ّ ذاك أن الرتاتُب الفاصل بني األعىل
لحِ راك ُيعيل األدىن أو ُيدين األعىل أو يخلط هذا بذاك .وقد سبق إلله التوحيد أن طلب من
وجهه اآلمر إىل املسيحي أن يسأله« :ع ّلمني حقوقك» ،بدل حقوقي .وهو األمر الذي ّ ّ عابده
«عبيد الله» مراراً يف كتب أخرى وبلغات ش ّتى.
منصة
تخل بنظام الرتاتُب ذاك وتحيل الكون ّ أ ّما ما يقدم عليه الربج فريقى إىل ثورة ّ
الستعراض الفوىض .فـ»أبونا» هو املقيم حرصاً «يف السموات» عىل ما يقول املسيح ّيون حني
يل» يف اإلسالم ُجعل وصفه هذا إس ًام من أسامئه الحسنى .ولنئ طالبنا يخاطبونه ،وهو «الع ّ
القرآن بالتسبيح «باسم ر ّبك األعىل» ،وهو دامئاً «رفيق أعىل» ،أ ّكدت صالة النصارى عىل
خص الطبقات السفىل ،بعد أن تُق ّر بالرتاتُب وتذعن إىل أنّ املجد له «يف العىل» ،أ ّما يف ما ّ
سكونه ،فـ «عىل األرض السالم ويف الناس املح ّبة».
نبت الصلة بسائر األمكنة ،بل تطاول الوظائف واملسألة ال تقترص عىل مكان إقام ٍة ُم ّ
والدالالت كذلك .فام دام «ساكن العايل» ،كام س ّمته أغنية رحبان ّية تحايك الصالة ،ليس
إ ّال الله ،بات الصعود حرك ًة يف املعنى تناظر الحركة التي يف الجغرافيا .و»عيد الصعود»
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
املسيحي بعد القيامة ،أو صعود جسد العذراء مريم إىل السامء ،تعبريان من تعابري الفصل ّ
ً
الذي ال يمُ َّوه بني َمن هم فوق و َمن هم تحت .فالحركة هذه تبدو شبيهة مبا يجري يف
كل من الطرفني املتنازعني جثث قتاله ،فال يرتكها بني يدي عد ّوه .أ ّما الحروب ،حيث يسرت ّد ّ
األرسي ،أو من إقامة العائالت مقابرها يف ّ يف أزمنة السلم ،ففيها يشء من عمل ّيات ّمل الشمل
مكان بعينه فال تختلط مبقابر عائالت سواها.
ولطاملا تك ّررت محاوالت االستحواذ االنسا ّين عىل هذا املعنى الذي انترص له الدين،
ولطاملا كان الربج مركز ّياً يف محاوالت التج ّرؤ تلك .ذاك أن الذين تج ّرأوا هم الذين أرادوا بناء
أبراج فكر ّية أو أبراج فعل ّية ،وبعضهم مل ُيخف التأ ّثر بالفرز الحاسم بني األعىل واألدىن .ففي
التصاعدي تق ّد ٌم أكرب
ّ لولبي للتاريخ» يقيم يف مساره«خط ّ زمن الحق تح ّدث ماركس ّيون عن ّ
يل .وقبلهم استعار الخيميائ ّيون شكل الربج فأعطوه للفرن واقرتاب أكرث من التاريخ الفع ّ
وعرف بـ»أثانور» ،كيام يظهروا أن أعامل التحويل ت ّتخذ منحى التصاعد: الذي استخدموه ُ
من القصدير إىل الذهب ،ومن وسخ الجسد إىل طهارة الروح .هكذا ُس ّمي «أثانور» هذا
«فرن الربج».
ً
ويف ارتكاز الربج عىل مركز ،أو يف استوائه مركزا ،ينتزع لنفسه صفة األصل واملصدر،
ال العل ّو فحسب .فكيف متى كان املركز «عامل ّياً» عىل ما ُس ّمي الربج النيويور ّيك املغدور
الذي د ّمره ش ّبان ع ّينوا أنفسهم جنوداً لله ،ومل يكتموا م ّر ًة عداءهم ملا اعتربوه عت ّواً وجربوتاً
يجسده الربج. يتجسد كام ّ
أمريك ّيني؟ .والرعد والربق «اإلله ّيان» يدمنان رضب العت ّو الذي ال ّ
154
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
وقد كان لطموحهم الفائض هذا أن ج ّر عليهم غضباً ونقمة من سو ّية دمو ّية .وال يزال
اإلجراء العقا ّيب األش ّد تعبرياً عن حظر الصعود إىل األعىل ،ذاك القصاص الذي ُأنزل بامللك
سيزيف (سيسيفوس) ،خادع إله املوت ثانتوس ومك ّبله .هكذا جازاه زيوس بأن جعله يرفع
صخرة ضخمة إىل الجبل ،فال يوشك عىل إيصالها ح ّتى تتدحرج هبوطاً ،وهكذا دواليك عىل
امتداد األبد ّية.
ماّ
وزيوس ،كبري اآللهة وحاكم الروح اليونا ّين ،الذي س ه هومريوس الس ّيد ووالد اآللهة
والرجال ،كام لو أنّه يبحث له عن أسامء حسنى ،هو من رأى فيه مريشيا إلياد «النمط
البد ّيئ ألب العائلة البطرير ّيك» .وهو ،يف الحاالت جميعاً ،كان ذا صالح ّيات مطلقة ،ومصدراً
يسء أيضاً ،وهو مس ّلح بالعواصف والرعد ،منتج كل ج ّيد يأيت منه ّ
وكل ّ لكل طاقة نبو ّيةّ : ّ
للصواعق ،يجمع بني ك ّفيه الغيوم.
وهذا جميعاً يقول إنّ من يبني برجاً سوف ينه ّد عىل رأسه الربج .أ ّما الربهان الذي
ال يخطىء فيد ّلنا إليه برج بابل الذي اكتسب رمز ّية كون ّية يف عبورها الثقافات واألمم .فقد
كان يحدو املتم ّردين األوائل اسرتدا ُد الصفات التي رأى فيلسوف أملا ّين أن البرش َمن أسبغها
عىل الله بعدما انتزعوها من أنفسهم ،مودعني أفضل ما فيهم فيه.
فتبعاً لسفر التكوين ،رشع نسل نوح ،بعد الطوفان ،يبني ذاك الربج بغية أن يجمعه
مكان واحد من األرض فال يتب ّدد .وكان قصد ال ُبناة رشع ّياً وعادالً ،أماله عليهم السعي إىل
نب ألنفسنا تج ّنب الكارثة بأن يجعلوا العامل ك ّله مملكة واحدة يف وجه الطبيعة ،ثم قالوا :فلن ِ
أوج ُه يف السامء ،ولنجعل ألنفسنا إس ًام .وحيازة االسم حيازة معنى ،ومن مدينة وبرجاً يكون ُ
وأي وجود.
ألي استقالل ّ ثم هو رشط شارط ّ ّ
فالربج ذاك مل ُينب ،إذاً ،لعبادة الله ،بل ملجد اإلنسان و»اسمه» .ذاك أنّ هؤالء إن مل
سموا ُش ّتتوا يف الخارج هامئني عىل وجوههم إىل أن يتل ّقفهم العدم .بيد أنّ يهوه اإلله الذي ُي َّ
ً
أغضبته ن ّيات الب ّنائني ،ومن ورائهم امللك الباين منرود ،نزل بنفسه إىل األرض غاضبا ،فخلط
لغاتهم وف ّرق الشعب وب ّدده يف بقاع األرض جميعاً.
وقد بات الربج املذكور ،س ّيد األبراج املشاكسة ،ال يرمز إ ّال إىل االختالط والتش ّوش .بل
العربي الذي يعني اللبس .فلنئ سعى البرش العصاة ّ االسم نفسه ،بابل ،مشتقّ من جذر «بلل»
وراء الوضوح الذي يجلوه االسم ،عوقبوا بالبلبلة ،ولنئ حاولوا تجنيب أنفسهم التش ّتت،
التلصص عىل عوقبوا بالتشتيت .وهذا ،عموماً ،مصري الغرور اإلنسا ّين إذ يحاول ،عرب الربجّ ،
الرب ،إذ
ينجيهم من غضب ّ الله أو إزاحته عن عرشه .فهو ال مي ّكن من يعتصمون به وال ّ
«يدرككم املوت ولو كنتم يف بروج مش ّيدة» عىل ما ه ّدد القرآن.
وليس بال داللة ذاك التعاقب الذي اعتمده «العهد القديم» .ذاك أنّ الربج ّ
يحتل
البرشي ،وقبل تناول «البطاركة» بلغة ّ مكانه يف نهاية الفصول التي ترسم بدايات الجنس
أقل ميثولوج ّية وأش ّد كرونولوج ّية .فكأنّه يقع ما بعد إخضاع ثورة البرش يف الطور اإلنسا ّين ّ
األ ّول ،حيث املخ ّيالت الطليقة تبني اإلمرباطور ّيات العظمى وتنىشء املدن الكربى .لك ّنه يقع
155
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
اطي» واثق لشؤون أيضاً ما قبل استتباب النظام لله واالنتقال ،من ّ
ثم ،إىل تسيري «بريوقر ّ
والفت للنظر أن ي ّتسم انرصام حقبة ثور ّية كتلك بظاهرة اجتامع ّية وبكارثة اجتامع ّية
العاملٌ .
يف الوقت نفسه.
156
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يك وسجن للمساجني من ذوي الدم األزرق ومن عل ّية القوم ،رسيعاً ما صار موقعاً كقرص مل ّ
للتعذيب وقطع الرؤوس ،ولك ّنه أيضاً صار حديقة للحيوانات ومستودعاً للوثائق الرسم ّية
لسك العملة ،ومنذ 1303غدا حافظاً لجواهر العرش كذلك .فهو إذاً ومرصد أفالك ومركزاً ّ
حاز معظم وظائف الدولة وكان مص ّغراً عنها .بيد أنّ الوظيفة القمع ّية ظ ّلت لقرون أبرز
اإلنكليزي ُ«أرسل إىل الربج» ال يعني إ ّال «سيق إىل السجن».
ّ وظائفه بحيث أمىس التعبري
ً ُ
وهذا أيضاً ما استهوى عدداً من األسرَ الغن ّية والحاكمة يف أوروبا القروسط ّيةّ ،
مرتجحة يف
الرقعة الرماد ّية بني اإلذعان لله وبني استعارة الحامية منه ،فض ًال عن تباهيها بصنيعها .هكذا
األرس املذكورة تستخدم األبراج دفاعاً عن مدنها بقدر ما تستخدمها واجه ًة لعرض ثرائها رأينا ُ
وحذلقة حياتها املرتفة واملث ّقفة .ومن هذا القبيل كان أن علت أبراج بولونيا يف إيطاليا القرن
ثم بعد قرون خمسة ُح ّولت أندنربه االسكتلند ّية مدينة ملباين السكن املرتفع، الثاين عرشّ ،
يحيطها سور يعينّ حدودها ويحميها .وقبل ذلك بقليل ،يف السادس عرش ،عرفت مدينة
شبام يف اليمن ،وكانت عاصمة حرضموت ،املباين الطين ّية الشهرية التي استهدفت حامية
س ّكان املدينة املستق ّرين من هجامت البدو.
157
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
وضفدع .ذاك أنّ من يجرؤ عىل االرتفاع نحو السامء ال ب ّد أن يجد نصريه يف قوى الظلمة.
ومل تكن الحضارة اإلسالم ّية بعيدة عن ربط العل ّو بوظيفة وداللة علو ّيتني .هكذا نيط
باملأذنة ،التي أضيفت بعد عقود عىل اإلسالم األ ّول ،دعوة املؤمنني إىل الصالة .أ ّما أن يكون
أرض فتحها لت ّوهم املسلمون ،فهذا ما األموي ،أي يف ٍ ّ معاوية باين املأذنة األوىل فوق الجامع
املسيحي مبوضوع اإلميان وحده.
ّ يضيف زهواً بالذات املؤمنة وصنيعها إىل الزهو
رسام النهضةاملسيحي األورو ّيب ،جاء ما فعله بياتر بروغل «األكرب»ّ ، ّ وربمّ ا ،يف النطاق
الهولند ّية للقرن السادس عرش ،ر ّداً منه عىل متاهي الكنائس مع الربج .فهو رسم لوحتني
لربج بابل ،أو باألحرى لهندسة عامرته ،جاع ًال إ ّياه يحايك املد ّرج الروما ّين الشهري الذي رأى
الدنيوي املعت ّد بنفسه .وبروغل كان
ّ إليه قدامى املسيح ّيني كرمز الضطهادهم وللتطاول
فع ّد أ ّول من ينقلها لذاتها ،ال بوصفها إنسانو ّياًّ ،
انكب عىل رسم الحياة الريف ّية والف ّالح ّيةُ ،
خلف ّية لرسوم تاريخ ّية أو ملحم ّية أو دين ّية .وهو أوىل اهتاممه لحياة ف ّالحي بلده وعاداتهم،
مماّ كان نادراً يف زمنه ذاك ،واصفاً طقوس أهل القرية زراع ًة وصيداً وغذا ًء ورقصاً وألعاباً
ومواسم واحتفاالت .وقد ذهب دارسو لوحتيه إىل أنّ بروغل أراد بهام أن ير ّد انهيار الربج،
ال إىل بلبلة أحدثها الله فجأة ،بل إىل صعوبات هندس ّية مل يكن أهل ما بني النهرين قادرين
عىل تذليلها.
وما فعله بروغل ،وربمّ ا سواه ،أىت مسبوقاً بتجربة معروفة يف تقليص مهابة األبراج
والح ّد من حمولتها الفخيمة ،أكانت حمولة متج ّرئة عىل الله أو مؤمنة تبتغي االستحواذ
عىل تلك الفكرة.
فتاريخ األبراج إنمّ ا عرف أبراجاً مائلة كثرية أه ّمها برج بيزا اإليطا ّيل الذي بدأ ينحني
ُبعيد بنائه يف ،1173تبعاً لخطأ شاب األساس الضعيف الذي استند إليه ،كام بسبب اختيار
فع ّمرت طوابق لكن القرون التالية أطلقت مبادرات إلصالحه ُ تربة ال تقوى عىل حملهّ .
جانحة إىل الجهة املعاكسة لجهة الرجحان األ ّول ،فإذا بها مت ّيل الربج يف ذاك االتّجاه املعاكس.
والديني الذي
ّ شك يف أنّ ذلك أسهم يف أنسنة األبراج ،كام يف أنسنة البذخ األريستوقر ّ
اطي وال ّ
تتوزّعه طوابقها .فالربج ،إذاً ،مثلنا نحن البرش ،قد يعرتيه عوج أو خلل ،وقد ُيس َتشفى أيضاً.
لك ّنه ،وهذا ال يخلو من استنطاق مسخرة بارود ّية ،ما قد يفشل األط ّباء قي تطبيبه أو أنّهم
يبثّون يف جسمه أمراضاً غري تلك التي ُقصد املستشفى لعالجها.
إ ّال أن األمرباطور ّيات اإلمربيال ّية أو التي يسوقها طموح إمربيا ّيل هي التي أعادت
وتعم .فمع الرأسامل ّية والدروب تتوسع ّ إطالق األبراج من خالل ناطحات سحاب رشعت ّ
الشيوعي» ،رشع اإلنسان
ّ التي ش ّقتها إىل العامل ّية ،وهو ما مل ميدحه كتاب كام مدحه «البيان
ينتج األدوات التي ترسمه مركز الكون وقائد تط ّوره .هكذا نشأت الفرصة األوىل التي تتيح
اإلبداعي ،ألسالفه املش ّتتني يف برج بابل.
ّ له أن ينتفم ،مبعنى من التجاوز
158
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
159
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
واملوا ّد األول ّية ممكناً .فاملبنى الطويل القامة يتط ّلب الكثري منها كيام يستند إليه ،فيام
يستدعي طوله من الطاقة ما مي ّكن من إنهاض موا ّد البناء ومن ضخّ املاء إىل ذاك العل ّو
ثم إنّ األبراج كتج ّمعات سكن وعمل تخترص استخدام مساحات األرض وتلخّ صه، الشاهقّ .
متيح ًة تكثيف النشاط املنتج وتبادل إنتاجه واستهالكه يف رقع أصغر ،وهذا جميعاً ما يالئم
البيئي.
ّ النقل العا ّم ويساعد يف االقتصاد وعدم التفريط
زجت الحداثة والصناعة يف ميدان االستخدام ع ّد ًة آل ّية كانت ضئيلة الحضور هكذا ّ
القوي ،أو أنّها مل تكن موجودة من قبل كاملصاعد. سابقاً ،كمثل مضخّ ات املياه ذات الضغط ّ
وهو ما ظهر ظهوره األ ّول يف ،1864حني ُبنيت «أوريال تشاميربز» يف ليفربول بربيطانيا،
يؤطرها الحديد بالكامل فيام تُكىس جدرانها بالزجاج .كذلك فكانت العامرة األوىل التي ّ
توحده الرأسامل ّية للم ّرة باتت فكرة املركز أش ّد مركز ّية :ذاك أنّ الغرب مركز العامل الذي ّ
األوىل يف التاريخ ،فيام أمريكا املركز الناىشء لذاك الغرب .وهذا ما منح ،عىل نطاق الوحدات
األصغر ،معنى إضاف ّياً وزمن ّياً لإلرشاف عىل جوار وعىل محيط يدوران حول املركز ويقرصان
عنه حك ًام .أ ّما هو ّيات املدن فأضحت تُستقى ،ال من الوظائف البريوقراط ّية والعسكر ّية،
الصناعي .هكذا
ّ وال من ألوان الس ّكان أو أديانهم وأصولهم ،بل أساساً من جربوتها املا ّيل أو
املبني يف 1884أن تجاوز كاتدرائ ّية لينكولن طوالً .ويف العام نفسه بني كان لنُصب واشنطن ّ
ثم ،يف ،1891نهض «وايرنايت بلدينغ» يف سان لويس «هوم إنشورنس بلدينغ» يف شيكاغوّ ،
فكان أ ّول مبنى ّ
يؤطر بالفوالذ.
وسجلت تسعينات القرن التاسع عرش طفرة كان مرسحاها الكبريان واملتنافسان ّ
تم اإلقالع يف اتّجاه لندن فميلبورن يف أوسرتاليا .ويف هذه الغضون شيكاغو ونيويورك ،ومنهام ّ
ثم يف أمريكا ،مت ّكن كانت الحداث ّية الوظيف ّية التي أعلتها مدرسة «الباو هاوس» ،يف أملانيا أ ّوالًّ ،
الوجهة تلك وتُغني احتامالتها.
وقد تخ ّلل هذه القفزة التي قفزها العامل الجديد اعرتاض أبدته بعض طبقات العامل
القديم ممثّلة بامللكة فيكتوريا .فهذه التي ش ّقت للرأسامل ّية الربيطان ّية أعرض طرقها ،ظ ّلت
الشك مبقت متسكها بعرص اإلقطاع وأخالقه ،كام امتزجت إمربيال ّيتها التي ال يرقى إليها ّ عىل ّ
الشك أيضاً إليه .وقد ح ّدت فيكتوريا من حقّ املباين يف االرتفاع فاستم ّر، لليربال ّية ال يرقى ّ
ح ّتى الخمسينات ،ما خال استثناءات قليلة ،إذعان اململكة امل ّتحدة لتلك الرغبة امللك ّية .أ ّما
أمريكا فبقي احتفالها كام ًال غري منقوص بعظمة اإلله الجديد وعل ّو قدره .هكذا استقبلت
الخاليص «مبنى كرايزلر» و»مبنى إمباير ستايت» اللذين نرصا ،يف أوائل ّ بيشء من الصخب
الثالثينات ،مهدهام النيويور ّيك عىل شيكاغو وك ّرسا األول عاصمة العامل األوىل.
الفرنيس روالن بارت نظام األولو ّيات الجديد ،فرأى أن ّ ويف وقت الحق صاغ الناقد
«ناطحة السحاب تنىشء الكتلة ،والكتلة تنىشء الشارع ،والشارع يق ّدم نفسه لإلنسان».
واألبراج ما لبثت ،بعد الحرب العامل ّية الثانية ،أن انتقلت إىل أمريكا الالتين ّية وآسيا،
وبات املستب ّدون ،كام الكنائس من قبل ،يحاولون االستثامر يف هذه النُصب إروا ًء ُلعظامهم
160
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
النصبي .فبني 1947و 1953بنى ستالني «الشقيقات السبع» أو «مباين ستالني الطويلة» كام ّ
أسامها الروس .وكان فرانكو قد سمح يف الخمسينات ببناء األبراج .غري أنّ األوىل «اليسار ّية»،
كام الثانية «اليمين ّية» ،بدت كالحة وجامدة وصلدة تشبه الزعامء اآلباء الذين أنشأوها .أ ّما
واملرحبة بوفادته إليها ،متزج العمل
ّ الرأسامل ّية الليربال ّية فراحت ،هي املرشعة عىل خارجها
باللعب ،وتتحايل عىل الج ّد ّي .ذاك أنّ املصالح استدعت تدمري مبانٍ عمالقة عىل نحو أثار
ىس وحزناً معلنني ،وغيرّ خرائط األهم ّية التي تحت ّلها املناطق واملراكز واألسواق .إ ّال أنّ أ ً
التدمري هذا زاد يف األنسنة التي تقول لنا إنّ املباين متوت أيضاً مثلام منوت نحن البرش ،بعدما
قالت العامرات املائلة إنّها مترض وتعالَج .وشعور كهذا كان يخ ّفف وطأة الطول والجربوت
يحسون بضآلتهم حيال ناطحة السحاب ،أو يستدعون الخوارق إىل مخ ّيالتهم حني عن برش ّ
يرون هذا الكائن الخارق .ذاك أنّ الصواعق وأفعال الطبيعة املجنونة قد تنتاب الناظر إىل
الربج بوصفها وحدها ما يعادله ويناهضه ،ووحدها ما يستطيع تدمريه وأخذه ،هو الناظر،
جامعي غري موعى بالخطيئة ّ يف طريقها .ولربمّ ا نجم االستدعاء الهيو ّيل هذا عن شعور
الناجمة عن تح ّدي الله .فل ُيقدم الخُ طاة ،إذاً ،عىل تدمريه ،ول ُيضعفوا وطأته عليهم فيام
عظموها عندما بنوه .هكذا ميكن لترصيف الذنب ومشاعره يعظمون أنفسهم ثاني ًة بعدما ّ ّ
أن ي ّتخذ شك ًال يغاير أشكاله السابقة حاضّ اً عىل الوقوع يف التجربة والخروج منها مرفوعي
الرأس .وهل يعجز من تح ّدى الله عن تح ّدي األبراج؟.
لقد راج الطلب عىل ما يتغيرّ إذ املتح ّول بات وحده الفاتن ،أ ّما الثوابت ،كمثل برج
الفرنيس ،فزادت األعناق التي تلوي عنها عاماً بعد عام .ومنذ تسعينات القرن التاسع ّ إيفل
عرش ،كان الناقد األمري ّيك هرني جيمس قد الحظ كيف أنّ الدالالت واملعاين رشعت تنقلب.
خص ناطحات السحاب« ،ليس فقط ال يت ّوجها ،بل هي ال متلك للتاريخ فـ «التاريخ» ،يف ما ّ
احتامل وقت وجيه» .وربمّ ا جاز القول إنّ اإلرهاب ّيني الذين فعلوا فعلتهم يف 11أيلول 2001
أسهموا يف إرجاع األمريك ّيني إىل ثبات مل يكن يف طباعهم ،وإىل إرصار عىل استعادة ما انهدم
بسبب الطريقة التي انهدم فيها.
يف غري هذا االستثناء ،وقفت الرأسامل ّية وحدها ،ووقفت دامئاً ،تصالح الفرد مع
الفردي مع العظيم ،جاعل ًة هذا التاريخ العريض معرضاً ملصالحاتها .ومنذ ّ العظمة وتوائم
السبعينات ،وعىل أيدي مهندسني كروبرت فينتوري وريكاردو بوفيل وسواهام ،تط ّور «مزاج»
ما بعد الحداثة وتط ّور معه اللعب املوكل إىل التزيني والحذاقة والدعابة وخلط املراجع
التاريخ ّية لحقب العامرة واحدها باآلخر .هنا ُأعلن موت الوظيف ّية والنخبو ّية والج ّد ،وبولغ
لكن املؤ ّكد أنّ وجهة جديدة جعلت تشقّ طريقها ،وهذا فيام كانت أحياناً يف إماتتهاّ .
األسواق تطرح ُل َعب أطفال تُع َرف بألعاب «الدفاع عن الربج» الذي لطاملا احتكره الرجال
القساة املدافعون.
161
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
162
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يومذاك ،ابتذلت رواية الربج ونزعت عنها الزخم الذي ييش به تاريخ األبراج بوصفه رصاعاً
م ّتص ًال مع الله .ذاك أنّ ماليني الجنيهات التي ُأنفقت عىل بنائه جيء بها ،حسب الرواية
النارص ّية الرسم ّية ،من الواليات امل ّتحدة ،وكان هدفها رشوة جامل عبد النارص ودفعه إىل
تغيري سياساته والتعاون مع «وكالة املخابرات املركز ّية» األمريك ّية .ومتيض الرواية تلك فتقول
إنّ املبلغ حمله «يف حقيبة يد» مستشار عبد النارص يومها ،حسن التهامي ،آتياً به من
واشنطن إىل القاهرة .بيد أنّ «زعيم القوم ّية العرب ّية» ما إن تس ّلم املبلغ ذاك ح ّتى شعر
باإلهانة مق ّرراً إنفاقه عىل بناء برج.
األهم الذي غ ّنى
ويشع عىل إيقاع «الله أكرب» ،نشيد النارص ّية ّ ّ وكان هذر كهذا ي ّتسع
تح ّدياتها جاع ًال برجها ال يناطح إ ّال« ...االستعامر».
إنّ يف األمر لَكِيتشاً إذاً .وهو ما نعود فنلقاه يف د ّيب عىل هيئة أخرى وبأرقام ال تُقارن
باألرقام القدمية املتواضعة .فام ُع ّمر يف تلك اإلمارة الصغرى أطول برج يصنعه االنسان:
طوله 828مرتاً ،مصاعده ،وعددها سبعة وخمسون ،تعلو وتهبط برسعة 64كيلومرتاً يف
الساعة ،وفيه أيضاً أعىل مسجد يف العامل ،يقيم يف الطابق الـ 158منه .ويف هذا ،ويف غريه،
ال ب ّد من عقل مجنون ومن مخ ّيلة وحش ّية :ذاك أنّ األرقام الفلك ّية تتساوى وال تعود عرضة
للفن» .وال ّ
يكف «الفن ّ
ُّ للقياس واملقارنات ،إذ الرقم يصري «للرقم» باملعنى الذي يقال فيه
أفعل التفضيل عن التد ّفق يف ما ُس ّمي «سوبر ناطحة سحاب» دبيان ّية.
فالكلفة االجامل ّية للمرشوع بلغت 1،5بليون دوالر ،وهي جزء من الـ 20بليوناً التي
ك ّلفتها «داون تاون ديب» الجديدة التي تشمل الربج .والنُصب هذا ،املنترش صعوداً عىل 160
يضم تسعة فنادق ومواقف طابقاً ،والذي استغرق العمل فيه خمس سنوات ،مص ّمم يك ّ
يقل عن 19برجاً سكن ّياً صغرياً من 1044ش ّقة سكن ّية، س ّيارات مبساحة ثالثة هكتارات وما ال ّ
ومركزاً تجار ًّيا ضخ ًام هو أكرب مراكز التس ّوق يف العامل ،وبحرية اصطناع ّية ذات مساحة تبلغ
12هكتاراً ،ومدينة مال ٍه مساحتها ضعف مساحة «عامل ديزين» يف فلوريدا .ويف الربج سوف
ُخص املكاتب بـ 49طابقاً .وحسب الرواية الرسم ّية، يقيم ما يزيد عىل 800رشكة وسوف ت ّ
الخاصة ك ّلها بعد مثاين ساعات عىل إنزالها إىل السوق ،عل ًام بتقدير ّ بيعت الشقق السكن ّية
مثن املرت املر ّبع الواحد ،يف آذار (مارس) ،2009بأكرث من 43ألف دوالر.
والربج سوف تتز ّين دواخله بأكرث من ألف قطعة فن ّية ،فض ًال عن أعامل برونز ّية
سيحتل 15طابقاً من الطوابق الـ39 ّ يتمثّل فيها 196بلداً من العامل .أ ّما فندقه ّ
األهم الذي
األدىن ،فسوف يز ّينه جورجيو أرماين ،املص ّمم الشهري .ولسوف يعيش هناك 25ألف شخص،
فيام يستطيع الربج ،يف أ ّية لحظة ،أن يستوعب 35ألفاً.
وال يتو ّقف ت ّيار املدهش والعجيب :فهو ميكن أن ُيرى من ُبعد 95كيلومرتاً ،ولغسل
كل منها يحمل آالت شبابيكه البالغ عددها 24384ش ّباكاً ،الت ّفت من حوله طرق أفق ّية ّ
وزنها 1500كلغ قابلة للتحريك صعوداً وهبوطاً .أ ّما يف األوضاع الطبيع ّية ،حني تكون سائر
وحدات الصيانة جاهزة للعمل ،فيتط ّلب تنظيف واجهته الخارج ّية 36عام ًال يعملون ما بني
163
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
ثالثة أشهر وأربعة .وللربج نافورة هي أعىل مثيالتها يف العامل ،يبلغ طولها 275مرتاً ،ويضيئها
6600ضوء و 50بروجيكتوراً مل ّوناً ،فيام تقذف املاء بطول 150مرتاً يف الهواء.
وملّا نهض هذا املرشوع عىل مقربة كيلومرت واحد من الصحراء ،مل يبق ملراسل
«الغارديان» الربيطان ّية ستيف روز ،وهو يقف مواجهاً هذا النُصب العمالق ،إ ّال أن يسأل:
قصة سوريال ّية مهلوسة من نوع ما». «لسنا متأ ّكدين ما إذا كان ملهاة أو مأساة أو ّ
فإذا ما أخذ البعض عىل املج ّمعات التجار ّية أنّها تلخّ ص تجربة البرش مع املكان،
حيث تتج ّمع السوق والكاراج والسينام واملطعم يف مكان واحد ،فإنّ نقداً كهذا يحظى
املسطحة والض ّيقة الرقعة تجعل الربج ال ّ بوجاهة أكرب يف د ّيب الصغرى .فكيف وأنّ األرض
يطل إال عىل برج ،كام تق ّدم البلد وأرضه كأنّهام ذريعة لألبراج.
لكن أسباب التباهي تبقى ،مع هذا ،كثرية متن ّوعة ،بعضها مصدره د ّيب نفسها وبعضها ّ
الخليج ،وهناك بالتأكيد اإلسالم .فلنئ نطحت ناطحة عبد النارص االستعامر ،مع ّول ًة عىل
دعم الله ،فإن ناطحة د ّيب تشاركها البحث عن خصوم أرض ّيني .ي ّتضح هذا ال يف بناء أعىل
يل املستوحاة من هندسة مساجد العامل فحسب ،وال يف اعتامد القباب ذات الشكل البص ّ
العامرة اإلسالم ّية ،أو زهرة زنبقة الصحراء املعروفة يف الخليج ،بل كذلك يف مواصفات أخرى
تتناثر هنا وهناك .فالربج «غلب» برج «تايبه »101عل ّواً ،وكان األطول ح ّتى تلك اللحظة،
لكن ألنّها عوملة تستنطق جذور «األصالة» العتيقة ،رأينا الربج مثبتاً سبقه يف زمن العوملةْ .
الدبيا ّين ُيرجع إىل منطقتنا امتيازها حني احت ّلت «أعىل نقطة يف العامل» ،وهو ما خرسته
منذ أن أقدمت كاتدرائ ّية لينكولن اإلنكليز ّية عىل تجاوز أهرام الجيزة .والعد ّو الغر ّيب دامئاً
معني بالدفاع عن كاتدرائ ّية مقيمة يف ماضيه امل ّيت .مع سهل العداوة ،بعيد املسافة ،غري ّ
يل بعضها األصغر ،بينام صنع هذا فمعاداته تنهل من ذاكرات ال تنضب صنع التاريخ الفع ّ
التعليم واألحزاب الراديكال ّية وخطب الجمعة وأصداء االنقالبات العسكر ّية يف املنطقة
بعضها األكرب.
لكن برج د ّيب ،أو برج خليفة «األعىل يف العامل» ،ال يكتفي باختيار أعداء يسهل ّ
خصت «األعىل» نطحهم ،بل يحتفظ لنفسه بوظيفة سهلة نسب ّياً .ذاك أنّ شعوباً أخرى ّ
اإلنجازي يف حقل ما :ففي روس ّيا تُع ّد جامعة موسكو الرسم ّية ( 240مرتاً) البناية ّ بالتف ّوق
تعليمي ،ويف انكلرتا يقف مستشفى غي اللند ّين ( 143مرتاً) بنايةً ّ األعىل يف العامل كمركز
يصح يف مكتبة شنغهاي الصين ّية ( 106أمتار) بني أعىل كمركز استشفاء ،واليشء نفسه ّ
لكن د ّيب ،وقبل أن تبني برجها األخري ،كانت قد تف ّوقت يف مبنى األبراج املسكونة باملكتباتّ .
للفنادق ُس ّمي «برج العرب» طوله 321مرتاً وكان أ ّول «فندق سبع نجوم» يف العامل.
إذاً االختيار واقع عىل الفندق حرصاً.
164
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
165
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
166
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
«الله أكرب» النارص ّية .فهناك «دين الدولة اإلسالم» كام يف سائر البقاع العرب ّية واإلسالم ّية،
يل فيلحظ درس الدين ساع ًة يف اليوم للتالمذة منذ دخولهم املدرسة ح ّتى أ ّما التعليم املح ّ
تخ ّرجهم منها.
وقد كان من آخر التج ّليات ،يف استعراضات العقل العا ّم ،ما أفتى به كبري املفتني يف
األسطوري ،رأى الشيخ املذكور
ّ الجزيرة الخليج ّية ،أحمد عبد العزيز .فعىل مقربة من الربج
أنّ «سجود العبي كرة القدم يف املالعب عىل صورته الحالية ...باطل» .ذاك أنّ الالعبني ينبغي
أ ّال يسجدوا يف املالعب «إ ّال إذا تو ّفرت لهم رشوط الطهارة وسرت العورة واستقبال القبلة».
167
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
إ ّال قتي ًال .واليشء ذاته يقال يف الباروديا التي تزخر بها الس فيغاس ألنّها ،مبعنى ما ،متسخر
الديني منه ،الذي تو ّثق
ّ ماضيها .أ ّما د ّيب ،فانفصالها عنه ال يرتك لها ما متسخره ،فيام الشطر
ارتباطها به ،ينتمي إىل مق ّدس ال يحتمل املسخرة أص ًال.
ومماّ يرتتّب عىل هذا أنّ د ّيب ال تؤخذ بخ ّفة ،فال تكون ،كام الس فيغاس ،لحظة
اليومي أو راح ًة منها ،مبا يشبه الذهاب اىل حديقة عا ّمة أو إىل قرية جبل ّية
ّ استقالة عابرة من
لقضاء يومني يف آخر األسبوع.
إنّ د ّيب تطرح نفسها حياة كاملة بديلة.
وهي ال يسعها ،حك ًام ،أن تكون البندق ّية .فلنئ اشرتك املكانان يف قابل ّية التح ّول
بطاقتني بريد ّيتني تخدمان السياحة ،بقي الباهر يف املدينة اإليطال ّية صدور عظمتها عن
الطبيعة مثلام هي الطبيعة .فمدينة املاء والجسور والقنوات ،عم ًال بألقابها الكثرية ،ق ّدمتها
تلك املواصفات عينها إنس ّية إىل ح ّد استثارة التعاطف ،ال س ّيام وأنّها مرشّ حة للغرق يف مائها
الذي جعلها ما صارت عليه .وهنا يؤ ّلف الرتادف بني أسباب الحياة وأسباب املوت عنرصاً
والتفسخ
ّ تراجيد ّياً تندر املدن التي متتلك مثله ،يع ّززه ذاك التناقض الراسخ بني التداعي
من جهة والعظمة من جهة أخرى .وذات م ّرة رأت الكاتبة االسكتلند ّية مورييل سبارك أنّ
أظن أنّ أمرها ي ّتصل مبر ّكب الهواء واملاء
البندق ّية «مدينة ال توحي األفكار بل األحاسيسّ .
والعامرة واألصوات».
فوق هذا ،ال تنفصل الطبيعة الفائضة هناك عن فائض يف التاريخ ،تاريخ الشامل
اإليطا ّيل ،وتاريخها هي نفسها كجمهور ّية يف عرص النهضة وكإحدى عواصم التجارة
البحر ّية املبكرة.
يف هذه املعاين جميعاً ،تلوح جوهرة إيطاليا داخل ّية ج ّداً ،ح ّتى لألشخاص الذين
كل واحد قفا الواقع الذي يعهده وبطانة التاريخ مل يعرفوها وال تخ ّيلوها .فهي لدى ّ
الذي يعانيه.
وقد يجد البعض شبهاً وربمّ ا محاكاة بني د ّيب وسنغافوره .فالثانية ،الصغرية ج ّداً ،أصغر
كثرياً من األوىل ذات املساحة البالغة 4000كيلومرت مر ّبع .فهي قد ردمت البحر ووصلت
الجزر الصغرى واحدتها باألخرى من أجل أن تصري مساحتها 710كيلومرتات مر ّبعة ال غري.
وسنغافوره ،إىل هذا ،انضوت يف وحدة ماليزيا الفيدرال ّية التي ذهبت يف وحدو ّيتها أبعد
مماّ بلغت اإلمارات العرب ّية امل ّتحدة ،مع أنّها ما لبثت أن انسحبت منها .غري أنّ ناطحات
السحاب السنغافور ّية والوحدات التي يتش ّكل منها ذاك املركز املا ّيل الج ّبار تقف عىل أرض
وكوزموبوليتي فع ًال ،حيث اإلنكليز ّية
ّ دي
أصلب وأغنى بال قياس :فسنغافوره مجتمع تع ّد ّ
والصين ّية ولغتا املاالي والتاميل لغات رسم ّية .وهذا ما يطمنئ العاملة األجنب ّية و ُيشعرها
باألمان .وهي ،إىل هذا ،جمهور ّية برملان ّية استعارت نظام ويستمنسرت يف الدميوقراط ّية
وتتباهى بذلك ،متاماً كام تتباهى بأنّ «سنغوره القدمية» موصوفة يف مهابهاراتا ،امللحمة
أقل بلدان آسيا فساداً ،تعتربها ثم إنّ سنغافوره ّ السنسكريت ّية عن الهند الكربى القدميةّ .
168
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
ّأي زمن؟
كل يشء ،فكيف األمر يف مكان كد ّيب هارب من ّ
كل فإذا كان للزمن أن يرتك بصامته عىل ّ
زمن إىل مستقبل متخ ّيل؟.
هنا ،يسع املقارنات النافية والسالبة أن تع ّلمنا شيئاً.
فاالحتفال الهيو ّيل بالربج مل يشهد ما يشبه أوبرا «عايدة» التي أ ّلفها فريدي بطلب
من الخديوي اسامعيل يك ُيدشّ ن بها افتتاح قناة السويس .ذاك أنّ األوبرا ،كجنس ف ّن ّي ،أفل
نجمها ،وصارت يف البلدان الغرب ّية ذاتها اهتامماً بالغ النخبو ّية ال يعيش إ ّال بفضل الدعم
الرسمي .صحيح أن د ّيب ك ّلفت املهندسة الربيطان ّية ،العراق ّية األصل ،زها حديد ،بناء دارّ
ّ ماّ
ضخمة لها ،دا ٍر يبدو أنّها ،هي األخرى ،مثلها مثل الربج الد ّوار ،م عطلت األزمة املال ّية
169
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
لكن فرجة األوبرا غري األوبرا مماّ ال يشبه د ّيب ولن تشبهه د ّيب .فذاك الجنس مثقل استكاملهّ .
بحمولة التاريخ .ولنئ رشع مهده األورو ّيب نفسه يهجره ،بعدما عصفت به الدميوقراط ّية
والتعميم ،قبل أن يستورد الرسعة و»العمل ّية» األمريك ّيتني ،فهذا ما مل يحصل إ ّال بعد عيش
األوبرا واستنفادها .والفارق ،هنا ،كبري ،ال ميكن إحراق املراحل فيه واالكتفاء ،تالياً ،بقطف
آخر الثامر.
لكن سوء الفهم بني العرب واألوبرا كان قد بدأ مع اسامعيل نفسه .ذاك أنّ فريدي ّ
الذي مل يسعفه الحضور إىل القاهرة ،يف ،1871يوم االفتتاح ،ساءه أنّ الجمهور املدع ّو اقترص
يل مل يحصل ُدع إليه عا ّمة الناس .هكذا اعترب أنّ االفتتاح الفع ّ
عىل أعيان القوم وعل ّيته ،ومل ت َ
يف العاصمة املرص ّية ،بل يف ميالنو يف شباط (فرباير) .1872
ذاك أنّ األوبرا قبل أن تصبح أريستوقراط ّية وتذوي عىل هذا النحوُ ،ولدت شعب ّية
التاريخي الذي يستبطنه التعبري،
ّ وعاشت طوي ًال هكذا .فهي ،أص ًال« ،خطاب» مبعنى التامسك
نص «ليربي ّتو» ومن موسيقى ،فيام كلمة «أوبرا» ،الالتين ّية فاإليطال ّية ،ال تعني واملؤ ّلف من ّ
إ ّال «العمل» الذي ينطوي عىل ذاك الجهد املر ّكب .ورشاء األوبرا ،أكان مع اسامعيل أو يف
د ّيب بعد قرن ونصف القرن ،يجايف معنى «العمل» ذاته .أبعد من ذلك أنّ التعارض ميت ّد إىل
تاريخ األوبرا التي ولدت يف إيطاليا إ ّبان عرص نهضتها ومنها امت ّدت إىل سائر أنحاء القا ّرة.
لكن امل ّتفق عليه أنّ األوبرا األوىل «دِفني» لجاكوبو بريي ،والتي ُوضعت يف ،1597إنمّ ا كانت ّ
محاولة إلحياء الدراما اإلغريق ّية الكالسيك ّية مماّ ش ّكل جزءاً تأسيس ّياً من النهضة وعرصها.
وهذه ثور ّية احتملها اسامعيل بأن دفع مثنها وح ّولها فرج ًة لوجهاء بلده وأغنيائها ،يف
كل ما يفد فيه من الغرب فرجة .أ ّما د ّيب فيصعب أن تحتمل «عايدة» التي تروي زمن كان ّ
العسكري
ّ قصة أمرية إثيوب ّية ُقبض عليها وجيء بها إىل قوافل العبيد يف مرصّ .
لكن القائد ّ
أمرنيس ،ابنة
ّ رادا ِّمس ،الذي كابد االختيار بني ح ّبه لها ووالئه لفرعونه ،مل يستطع أن يبادل
الفرعون ،الغرام الذي ك ّنته له.
إذاً ،ظهر ،ذات م ّرةَ ،من فضّ لوا العبدة عىل األمرية ،وهذا خطري ومقلق ج ّداً.
إنّ «الجديد» ،وعىل نحو مفارق ظاهراً ،يبدو رجع ّياً يف هذه الحال ،إذ ال يبقى منه
يصح هذا يف قول ٍة كثرياً ما ير ّددها قديم هو ،بالضبط ،تاريخ تج ّرؤ وانشقاقّ . إ ّال الهرب من ٍ
لكن ح ّتى لو عرب محافظون من أنّ األحزاب والنقابات انتهى زمنها يف بلدان الغرب ذاتهاْ .
صحت الفرض ّية تلك بقي الفارق ضخ ًام بني من ج ّرب وتجاوز وبني مل يج ّرب أص ًال. ّ
عىل أ ّية حال ،فلدى افتتاح «برج خليفة» ،ذاك املوقع ا ُملع ّد الستقبال ستة آالف ضيف
فض ًال عن جيش من اإلعالم ّيني ،اع ُتمد عىل عنارص حياد ّية بال حمولة من تاريخ أو من رصاع
حي .ذاك أنّ املياه اتّخذت أشكال الزهر واألفاعي كل يشء ّ وتنازع .وح ّقاً ُجعل من املاء ّ
والنجوم واألعمدة ،وطبعاً األلعاب .وكانت مال َبسة الضوء للامء مرت َكز اللوحات البرص ّية
قصة د ّيب وتط ّور برج هل االفتتاح بفيلم قصري عن ّ املدهشة املتفاوتة حج ًام وتعبرياً .وقد اس ُت ّ
ثم انفجر الصوت والضوء واملاء واأللعاب النار ّية مماّ ُق ّطع عىل عروض ثالثة كربى خليفةّ ،
170
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
171
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يترصف اإلمارة ،ضاحي خلفان ،يف أن يطلب رأس «رأس املوساد» مئري دغان ،ويطالبه بأن ّ
«كرجل» ،فيام كان يتكشّ ف أنّ أكرث من 1500كامريا للمراقبة تتوزّع أرجاء اإلمارة وفنادقها
وجه املامنعون انتقادات رصيحة النفتاح د ّيب ،فقيل إنّ ومراكز التس ّوق فيها .ويف املقابلّ ،
الرصاع مع إرسائيل يستدعي تغيري طبيعة اإلمارة واقتصادها ،ح ّتى أن «حزب الله» اللبنا ّين
وسع البيكار متسائ ًال عن «اإلجراءات [اللبنان ّية] بحقّ الوافدين بجوازات أوروب ّية» .وبفرح ّ
وتوجس عند البعض اآلخر ،قيل إنّ د ّيب ضُ ّمت إىل ميادين الرصاع العر ّيب- عند البعضّ ،
يل .أ ّما األكرث حذلقة بني دعاة العزلة ،فن ّبهوا إىل أن إرسائيل «تستهدف تجربة د ّيب» اإلرسائي ّ
«اليسء» ّ وتعمل عىل «تقويضها» .وطبعاً ظهر ،بني الخليج ّيني خصوصاً ،من الم اإلعالم لتأثريه
لكن آخرين املنظمةّ . عىل صورة د ّيب ،إذ «ربطها» بنزاعات أجهزة االستخبارات والجرمية ّ
استوقفهم اهتامم اإلعالم الغر ّيب ،والربيطا ّين خصوصاً ،باغتيال املبحوح وباألزمة املال ّية قبله،
فرأوا يف األمر قرينة عىل مؤامرة شبه استعامر ّية تُحاك هذه امل ّرة ض ّد د ّيب .وقد ظهر من
التجاري إليران ،والذي يتيح لها التحايل عىل الحصار ّ الحظوا أنّ قطع الطريق عىل التس ّلل
لكن ما إن أعلن ضاحي خلفان عن «منع املحتمل ،يستدعي حرمانها املم ّر الدبيا ّين ّ
الرس ّيْ .
يل ،ح ّتى دخول َحـ َملة الجنس ّيات املزدوجة» ،تفادياً لتس ّلل ّأي شخص ُيشتبه يف أنّه إرسائي ّ
الهجان .هكذا صدرت صحيفة الحت يف أفق العرب مالمح أ ّول ّية لبطل جديد يذ ّكر برأفت ّ
األمني
ّ عرب ّية راديكال ّية الهوى بعنوان يقول :الفريق خلفان أصبح نج ًام تلفزيون ّياً :النجاح
ثم تح ّدثت وسيلة إعالم ّية عن مشاهدة «طائرات مروح ّية الذي أحرج إرسائيل واملوساد»ّ .
غامضة» تح ّوم فوق بيته ،فيام تناول عبد الباري عطوان ،رئيس تحرير «القدس العر ّيب»،
شعبي ،ليس يف دولة اإلمارات ،وإنمّ ا يف الوطن العر ّيب بأرسه ،ألنّه أظهر ّ تح ّوله «إىل بطل
كفاءة أمن ّية عالية يف كشف هو ّيات املتو ّرطني يف الجرمية ،وألحق رضراً كبرياً بإرسائيل».
وكان الفتاً أنّ اإلعالمني العرب ّيني «املامنع» و»املعتدل» التقيا عىل كيل املديح إىل
حب للض ّباط ال يكتم نوستالجياه إىل الزمن ضابط األمن الدبيا ّين .فقد عبرّ أ ّولهام عن ّ
النارصي ،بينام ن ّوہ الثاين برصامة األمراء يف توجيه األوامر لض ّباط ين ّفذونها برصامة مامثلة.
ّ
وعىل العموم أضيفت د ّيب ،يف مناخ األزمة املال ّية واالقتصاد ّية ،إىل ركب «القض ّية» مماّ
اش ُتهرت به األنظمة العسكر ّية القوم ّية ،أ ّما العنوان فكان ،هذه امل ّرة« ،قهر املوساد».
لقد بدا يف التث ّبت عىل موضوع املبحوح واملوساد كأنّ الدبيان ّيني يرصخون «وجدناها»،
متغ ّلبني عىل العقدة املرشق ّية حيث قضايا املصري نهر ال ينضب .وبدورهم« ،اتّحد» العرب
جميعهم عند استنطاق رغبة ف ّم ّية ال تشبع.
172
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
الذي «ميثّلونه» جميعاً ،وأمناط التحليل التي راجت يف فهم ما يجري ويف تأويله؟.
غني عن القول إنّ «د ّيب الند» ،املختلطة امللتبسة املتداخلة ،هي الجامع املشرتك .إنّها ّ
املرسح والحبكة والقض ّية يف وقت واحد .غري أنّ املوت الذي يحدث يف د ّيب ليس من صنف
آحادي
ّ ضاج ومثري ،إ ّال أنّه قليل الكثافة، ما يحدث يف البندق ّية مماّ رسده توماس مان .فهو ّ
محطات القطار يف أوروبا. التقليدي أو مكتبات ّ ّ البعد ،أشبه مبا يحتويه الـ» ِبست سيلر»
فهناك تُبنى تجربة تنطوي عىل أموال تستهوي السارقني وتستقطب الف ّنانات والف ّنانني،
وعىل انفتاح يغري االستخبارات كام يغري الراديكال ّيني واملنش ّقني .وهذا مبثابة تحصيل
حاصل قد تنجح اليقظة األمن ّية يف الح ّد من أرضاره ويف إحراج األصوات التي تتذ ّرع به
إلغالق العرب ،بلداً بلداً ،عن العامل.
لكن ما ُيبنى يف د ّيب فرجة بال مشاعر .فمن يبحث عن ما ّدة رومنطيق ّية أو مثرية للحنني ّ
أو للتأ ّمل فعن عبث يبحث .وهو ما ال يؤ ّكده املوت فحسب بل تو ّثقه الحياة أيضاً.
نص طويل نسب ّياً كتبه الشاعر اللبنا ّين فادي طفييل عن «مهاجرة» ف ّرت من حرب ففي ّ
متّوز 2006إىل د ّيب ،رأت تلك الس ّيدة أنّ «من الصعب ج ّدا ً تكوين صداقات حميمة [هناك].
ينصب عىل زيادة الدخل املا ّيل». ّ وه ُّم الجميع األ ّولفالنزعة املاد ّية تجرف معظم األشخاصَ ،
هم األكرث كذلك ،ما من فسحة للفرد يف د ّيب ،حيث «املتز ّوجون الذين يعيشون مع عائالتهم ّ
رضاً وسعادة .أ ّما األفراد الذين يحاولون باستمرار املواءمة بني تجميع ما يستطيعونه من مال،
وبني الرتفيه الجامح عن أنفسهم ،فيزدادون اضطراباً وتو ّتراً يوماً بعد يوم».
ثم ،حركة فيزيائ ّية ج ّبارة ذات جلبة مرتفعة ،أ ّما الحركة يف دواخل فحركة د ّيب ،من ّ
النفس فمعدومة أو تكاد .وهذا مصدر ألصول ّية محتملة ينتجها االنبهار بالعظيم والهيو ّيل،
وباألصوات واألصداء ،من دون تفكريها .فاملوت والحياة يف د ّيب ال يعرثان عىل أدوات تع ّقلهام،
وهي مه ّمة تستحيل مع انعدام املشاركة يف إنتاج ّأي من أسباب ذينك الحياة واملوت.
فد ّيب ،حك ًام ،سوف تستقطب ما استقطبته من تح ّديات ألمنها ،مماّ تبدي نجاحاً
األمني
ّ لكن األمر يقف هنا وال يتق ّدم .وهذا سبب آخر وراء طغيان واضحاً يف التعامل معهّ .
والتآمري الذي خبطته األفكار يف ّ الغامض عىل أحداث املوت ،كام وراء الخبط العشوا ّيئ
تفسريها األزمة ،أو يف رشحها اغتيال املبحوح ومضاعفاته.
واملرء ،من موقع آخر ،يتذ ّكر بضع أفكار تص ّدت بالتأويل لهزمية عبد النارص يف ،1967
من نوع أنّنا «تخ ّلينا عن الله فتخلىّ الله ع ّنا» .فلم يكن بال داللة ،بالتايل ،أن منظومة الوعي
اإلسالمي ما لبثت أن ظهرت كأقوى ورثة عبد النارص يف الرصاع عىل العقل العا ّم. ّ
أنّ
ويف إحدى خلف ّيات االنتقال هذا النارص ّية ،بكاريزما صاحبها ،كام بالس ّد العايل
والوحدة وسائر «املنجزات» ،بقيت غريبة عن شعبها املفرتض ،إ ّما بسبب الديكتاتور ّية
العسكر ّية ،وهي حائل دائم ،وإ ّما بسبب توليّ السوفيات واألوروب ّيني الرشق ّيني مهماّ ت
وجارحة ،يف هذا املعرض ،لك ّنها بليغة ،تلك النكتة التي شاعت من أن العماّ ل املرص ّيني ٌ البناء.
كانوا يغ ّنون مع عبد الحليم حافظ «إحنا بنينا وإحنا حنبني الس ّد العايل» ،فيام الخرباء
173
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يل.واملخططون واملهندسون ،الروس والتشيك ّيون واألملان والبولند ّيون ،ينجزون العمل الفع ّ ّ
ومع د ّيب ،ال تختلف املسألة .فإذا نحن بحثنا عنها يف برجها ،واجهتنا حقائق جارحة
هي األخرى .ذاك أنّ رشكة «سمسونغ» للهندسة والبناء التي بنت الربج كور ّية جنوب ّية .وقد
تم ،يف أسرتاليا ،تطوير نظام عاد تصميمه إىل رشكة «ودز باغوت» الهندس ّية األسرتال ّية ،فيام ّ
تنظيف الربج .وتتداعى أسامء رشكات كـ»سكيدمور» و»ترنر كونسرتاكشن» ،وكذلك أشخاص
يصعب العثور عىل مطلق صلة بينهم وبني د ّيب أو الخليج أو العرب ثقاف ًة أو نسباً أو ديناً أو
«أصال ًة» ،من مهندسه األمري ّيك املشهور بناطحاته أدريان سميث إىل جورجيو أرماين.
فهذا الحدث ،إذاً ،يندرج يف تاريخ الفرجة كام يف حركة انتقال املال والتقن ّيةْ ،
لكن
ليس يف تاريخ االقتصاد الذي يبني مجتمعات ،وال يف تاريخ الثقافة والعقل العا ّم والخربات
ثم يراكمها.
التي يكتسبها ّ
يصح يف العاملة األجنب ّية التي تُق ّدر نسبتها اىل يصح يف الخربات التي تُشرتى ّ وما ّ
تنم فحسب عن العزل واالنفصال ،مماّ املواطنني بعرشة مقابل واحد .إ ّال أنّ أوضاع هؤالء ال ّ
تنم عن أمر تدل إليه مناطق إقامتهم الطرف ّية البائسة ،فض ًال عن رشوط السكن الرديئة ،بل ّ ّ
آخر أسوأ ،هو فراغ الربج الدبيا ّين من مضمون إنسا ّين كذاك الذي حكم مسرية األبراج يف
التاريخ ،جاع ًال منها اعرتاض الكرامة اإلنسان ّية عىل وحدان ّية الله .فهنا ال تصدر بلبلة األلسن
نئ يف د ّيب ،بل تنجم عن صناعة برش ّية لئيمة. عن انتقام ر ّبا ّين ،إذ الله مسرتيح ومطم ّ
النجار املاهر 4،34جنيهاً اسرتلين ّياً
فحسب أرقام تعود إىل ابتداء تعمري الربج ،تقاىض ّ
يف اليوم ،والعامل غري املاهر 2،84جنيهاً .وحسب تحقيق لـ»يب يب يس» و»هيومن رايتس
واتش» معاً ،كثرياً ما كابد العماّ ل اآلسيو ّيون التأخّ ر يف الدفع ،وتع ّرضت أجورهم للحسم
أحياناً ،كام صادر أرباب عملهم جوازات سفرهم ،وهذه أشبه برياضة وطن ّية هناكّ .
وأهم
من ذلك أنّ ظروف العمل تس ّببت بأرقام مرتفعة من املوت والتع ّرض لألذى .فالعماّ ل
ظل حرارة ال تُطاق .وبعد تح ّركات هناك يعملون 12ساعة يوم ّياً لس ّتة أ ّيام يف األسبوع يف ّ
متقطعة بدأت يف 2004انفجر األمر يف 21آذار :2006فاحتجاجاً منهم عىل هزال عماّ ل ّية ّ
احتج العماّ ل يف موقع الربج ح ّتى بلغ األجور ورشوط العمل ومصاعب املواصالت العا ّمةّ ،
وحطموا أجهزة كومبيوتر ومع ّدات بناء، بهم الغضب أن أحرقوا س ّيارات وهاجموا مكاتب ّ
أي أنّهم ر ّدوا رمز ّياً عىل الرموز التي ت ّتصل بعملهم وظروفه .وهو سلوك وإن مل يكن األكرث
حكمة ،يبقى مفهوماً ومتو ّقعاً ،سبق أن ّأسسته ،مع بدايات الثورة الصناع ّية اإلنكليز ّية،
حطمت ما كانت تستخدمه يف العمل من الحركة اللود ّية ،تي ّمناً باسم العامل لود ،والتي ّ
آالت .ويف الحاالت جميعاً ،مات ثالثة عماّ ل أجانب أثناء بنائهم الربج ،وهذا يف زمن مل تعد
املقارنة ببناء األهرامات جائزة أخالق ّياً أو اقتصاد ّياً.
صحيح أنّ دولة اإلمارات العرب ّية ،ال د ّيب وحدها ،بعيدة الليربال ّية قياساً بجاريها
لكن هذا ال يكفي ،وال يس ّوغ الكالم عن «تجربة حضار ّية» السعودي واإليرا ّينّ ،
ّ الكبريين
مؤسسات هناك منتخبة دميوقراط ّياً ،واملواطنون ال يسعهم توصف اإلمارة ببنائها .فام من ّ
174
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
تغيري حكوماتهم أو تشكيل أحزاب .وبدورها ،مل تو ّقع حكومة اإلمارات عىل معظم االتّفاقات
خص حقوق االنسان وحقوق العمل والعاملة .أ ّما الصحافة، واملعاهدات الدول ّية يف ما ّ
وعىل رغم وجود مدينة د ّيب لإلعالم ،فتامرس رقابة ذات ّية صارمة ودقيقة .ويف ترشين الثاين
محطتي تلفزيون باكستان ّيتني بطلب من حاكم باكستان يومئذ (نوفمرب) 2007أوقفت د ّيب ّ
برويز مرشف.
وهذا ليس من الحداثة يف يشء وال من الرأسامل ّية .ذاك أنّ الخليج ،ما خال البحرين،
ال يزال يط ّبق «نظام الكفيل» ،هو القائم عىل كفالة املواطنني املحل ّيني للوافدين ،مخضعاً
موظفون إ ّياهم لرشوطهم املاد ّية واملعنو ّية .كذلك ال توجد للعماّ ل نقابات ،بحيث يتولىّ ّ
«حل» مشاكل العمل. مع ّينون حكوم ّياً ّ
وهو جميعاً ما ينىشء ،حيال الحقوق والواجبات ،نظاماً صارم املراتب ّية والتبويب،
نص فادي طفييل إ ّياه ،تح ّدثت تلك «املهاجرة» اللبنان ّية عن عابراً للمهن والجنس ّيات .ففي ّ
زميالتها الفيليبين ّيات وزمالئها الهنود الذين «كانوا من االختصاص ّيني التقن ّيني يف املهن الطب ّية
ومعظمهم يحمل شهادة املاسرت .كانوا جميعهم أكرث كفاءة م ّني ،لك ّنني كنت رئيسة العمل،
الـ ،bossاملرشفة عىل ما يقومون به ،وذلك ألنيّ لبنان ّية».
وهي إذ تصف ما يتح ّكم بالعمل هناك ،تالحظ أنّ «منط العالقة هذه منط شائع يف
ديب ،وسائد بني العرب ،من جهة ،وبني األجانب القادمني من بلدان العامل الثالث كالفيليبني،
من جهة أخرى .فالعرب واللبنان ّيون أمام هؤالء «العامل ثالث ّيني» هم مدراء العمل ورؤساؤه،
هرمي صارم خال من أ ّية مشاعر أو لني». ّ ميارسون عىل األخريين سلطتهم هذه عىل نحو
وبدأت ُ ّ
واملوظفني، لك ّنها هي نفسها ما لبثت أن أصبحت «أكرث خربة يف التعامل مع الناس
الهندي
ّ أدرك أصول التفرقة والتمييز يف التعامل مع الذين يعيشون يف د ّيب ،فأجيد التك ّلم مع
الهرمي الدقيق
ّ كل بحسب موقع بني جلدته يف نظام العالقات والعر ّيب والربيطا ّين واإليرا ّينٌّ ،
يف تلك املدينة الحافلة بالعابرين».
صح القول ،عىل نحو مفارق ،إنّ األزمة االقتصاد ّية األخرية ساهمت يف أنسنة د ّيب بل ربمّ ا ّ
أقل مراتب ّية ،أو حسب لغة «املهاجرة» اللبنان ّية« ،ح ّلت ظاهرة ‘إعادة التموضع’ ويف جعلها ّ
السكني يف أحياء ومناطق عديدة ،فانتقل َمن كان يسكن أحياء مرتفعة اإليجارات للسكن يف ّ
فحل فيها َمن مل يكن يحلم يف سكنها». أحياء أرخص ،وانخفضت اإليجارات يف بعض املناطق ّ
طبقي غري مسبوق ،حيث مل يعد ممكناً تعيني الطبقة ّ وعن هذا نجمت «ظاهرة اختالط
االجتامع ّية للمقيمني من خالل معرفة عناوين سكنهم ،كام كان سائداً .لقد تداخلت الطبقات
االجتامع ّية أكرث فأكرث وبات املزاج العا ّم ينحو نحو املزيد من السخرية والته ّكم والقلق».
لكنذاك أنّ مراتب ّية صارمة كتلك مرشّ حة ،ما مل تنكرس ،أن تنتج صخباً وعنفاً كبريينْ .
يف «يوكناباتاوفا كاونتي» التي تخ ّيلها وليم فوكرن ،تقف الخادمة السوداء ،دلساي ،يف مقابل
عائلة كومبسون املتداعية ،وهي تقف متامسكة ،عىل ضعفها ،فخور ًة وسط عامل يذوي
وميوت ،تنظر إىل ما يتع ّداها فتتم ّكن وتقوى ،وهم ينظرون يف دواخلهم الض ّيقة فيضيقون.
175
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
ذاك أنّ عائلة كومبسون ،الجنوب ّية واألريستوقراط ّية ،ال تفعل ،يف آخر املطاف ،سوى تد ّبر
أمر انهيارها ومحاولة االلتفاف عىل تص ّدع سمعتها املتآكلة.
فهل تكون العاملة املهاجرة دلساي الدبيان ّية؟.
أنياب األزمة
وتحل األزمة وتنشبلكن ماذا يحصل حني ينضب املال ّ هي ،إذاً ،مج ّرد «مكان» لجمع املالْ .
أنيابها ،واألزمة ح ّلت فع ًال؟
الحال أنّ أحداً ال يستطيع ،إ ّال يف السيناريوات الخالص ّية والخراف ّية ،تج ّنب األزمات.
كل مرشوع ،كام أنّها قد تفد من مصادر ع ّدة ،وأحياناً من مصدر النجاح عينه. فهي تالزم ّ
فـ»دوكالندز» ،املدينة التي ُبنيت رشق لندن وكثرياً ما تسلىّ مهندسو العامرة وتف ّننوا يف
بنائها ،مل تقلع .وقد اع ُترب فشلها ،أواخر التسعينات ،تعبرياً نُصب ّياً عن دخول الثاترش ّية
اإلقليمي،
ّ التجاري يف بريوت ارتبط بآمال السالم
ّ الربيطان ّية طور أفولها .ونعرف أنّ الوسط
اإلقليمي هو ما ذ ّر قرنه فانطوت التجربة عىل نفسها.ّ إ ّال أن التوتّر
هكذا الدنيا ،يصعب التك ّهن مبساراتها .مع هذا ،فإن شيئاً من التواضع ومن حسن
التقدير وعقالن ّيته ،فض ًال عن فرملة السعي وراء الربح الجامح ،قد يخ ّفف وطأتها ويحارص
اآلثار الناشئة عنها.
لقد انتهى بناء الربج بعد شهر عىل متاخمة اإلفالس وانهيار العقارات وانكامش البناء،
فأنعش األمر فكرة أخرى عن البعث والقيامة .ويبدو أنّ حاكم د ّيب الشيخ محمد بن راشد
رغب يف تحويل األنظار عن األزمة إىل مستقبل واعد لإلمارة .وحذا اإلعالم حذو تلك الرغبة،
فراح يشيع أوهاماً تدور يف مدار الفكرتني األسطور ّيتني هاتني .وبالطبع حرضت «املؤامرة»
حضورها املهيب :فإىل الغرب وإرسائيل املتح ّفزتني لـ»االنتقام» من منوذج د ّيب ومن «حكمة
ح ّكامها»ُ ،وجد َمن يضبط إيران متل ّبسة بالجرم ذاته.
ويف هذه الغضون ،راحت تتتاىل الوقائع التي ال تحجبها «املؤامرات» وال
تطمسها املدائح.
فبعدما أقام ربع روافع البناء يف العامل هناك ،وهو رقم اكتسب هالة خراف ّية يف
ذروة اإلقبال عىل امللك ّيات ،باتت الرشكات تناضل يك تنزع روافعها من أرض ّيات البناء الذي
تو ّقف ،محاول ًة الحؤول دون صدأ املئات من تلك الروافع الهامدة .وبدا كأنّ «األعىل»
و»األطول» و»األعظم» سيغدو خاتم األبراج ،ال مبعنى مواصلة االحتفال بل مبعنى االقرتاب
من ساعة الحقيقة.
كذلك راحت الصحف الغرب ّية واليابان ّية تتح ّدث عن رشكات كربى توقف عقودها،
تبطىء أعاملها يف مشاريع ضخمة أو تطالب بإعادة التفاوض حول عقود مربمة سابقاً ،أو ّ
كاملرتو وبعض األبراج والقاعات غري املكتملة .كذلك ذاعت أخبار «الخالفات حول الدفع»
176
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
التي كانت تنفيها اإلمارة أ ّوالً بأ ّول يف موازاة خليط من قصص وشائعات عن س ّيارات مركونة
يف موقف مطار د ّيب تركها أصحابها فا ّرين إىل بلدانهم.
ذاك أنّ املشاريع العقار ّية التي تو ّقف العمل بها بلغت قيمتها 190بليون دوالر يف
شح املال بالذعر عدادها بناء ثالمثئة جزيرة ُيفرتض أن تقوم فوق البحر املردوم .وقد تس ّبب ّ
يف البورصات واألسواق ،وتر ّدى أداء بورصة د ّيب فصار األسوأ يف العامل ،فيام املستثمرون غدوا
كل َدين عا ّم تتك ّبده حكومات غطست يف مديون ّيتها .وبينام كانت رشكة «د ّيب ينفرون من ّ
تصب العامل ّية» تطالب بتأجيل سدادها لديونها س ّتة أشهر ،رشعت أخبار اليونان وأزمتها ّ
وتحث الهاربني مبالهم عىل استعجال الهرب الكبري.ّ الزيت عىل نار املخاوف
تحت وطأة األزمة ُغـيرّ إسم الربج من «برج د ّيب» إىل «برج خليفة» ،تكرمياً لرئيس
دولة اإلمارات وأمري أبو ظبي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ،وكان هذا إقراراً بتف ّوق أبو
لكن األمر ،وهو ما تكشّ ف رسيعاً ،انطوى ظبي وبغلبة املال يف مصادره عىل املال يف تداولهّ .
عىل كرس األرقام القياس ّية لحقوق التسمية .فنحن ،يف د ّيب ،أمام أفعل تفضيل آخر :إنّه أرفع
سعر ُيدفع مقابل إسم.
فـ»يف آخر لحظة» ،كام كتبت صحف خليج ّية وعرب ّية ،ه ّبت أبو ظبي إلنجاد أبناء
العم يف د ّيب ،حسب تعبري «ول سرتيت جورنال» ،بعرشة باليني دوالر .هكذا راحت الصحف ّ
العرب ّية نفسها تطنب يف امتداح «حكمة» حاكم أبو ظبي ورئيس دولة اإلمارات بعد إطنابها
العم
العم األكرب ،لن يستطيع ابن ّ يف امتداح «حكمة» حاكم د ّيب .ذاك أنّه من دون عون ابن ّ
األصغر أن يدفع الديون التي جعلته مشاريعه ،ال س ّيام الربج و»داون تاونـ»ـه ،يراكمها.
ظبي هكذا استيقظت الشياطني العرب ّية التي تنام تحت مخمل القرابة ونظامها .فأبو ّ
ود ّيب اإلمارتان األكرب يف دولة اإلمارات امل ّتحدة ،ما يعني أنّ تنافسهام عىل الزعامة هو الوجه
اآلخر لـ»اتّحادهام» .وهو تنافس كان قد بلغ أوجه يف عهدي األمريين الراحلني زايد بن سلطان
آل نهيان الظبيا ّين وراشد بن سعيد آل املكتوم الدبيا ّين ،ح ّتى بات من املك ّونات التأسيس ّية
تجف .فهو وجد نسغاً له لإلمارتني ومن هويتيهام .لك ّنه تنافس تغ ّذى عىل موارد أخرى ال ّ
النفطي مباله الجاهز مقابل تباهي اقتصاد التجارة والعقارات والسياحة ّ يف تباهي االقتصاد
النفطي.
ّ والخدمات املال ّية بشطارته ،هو املدرك لوسائل اإلفادة من وقوعه يف قلب املحيط
لقد أمكن لد ّيب ،حسب ثنائ ّية ميثولوج ّية قدمية ،أن تق ّدم نفسها بوصفها العقل قياساً
بالجسد ،واملهارة قياساً مبنح الطبيعة.
والتباهيان كانت العامرات النُصب ّية أبرز ساحاتهام .فالظبيان ّيون سبق أن أنشأوا «قرص
الفرنيس عىل «برج العرب» ،ثم تعاقدوا مع متحف ّ اإلمارات» ليكون ر ّداً من جنس فرساي
الفرنيس
ّ لوفر يك يبني لهم فرعاً منه يف أبو ظبي .واملرشوع هذا الذي يتو ّالہ مهندس العامرة
جون نوفيلُ ،يفرتض إنجازه يف ،2012مقابل 1،3بليون دوالر .وترمي أبو ظبي إىل تشييد
مدينة «مصدر» لتكون «أ ّول» مدينة يف العامل ،ويف التاريخ ،تخلو من الكربون ومن النفايات
وتعتمد اعتامداً كام ًال عىل الطاقة املتج ّددة .وتستع ّد أبو ظبي ،ومعها قطر ،ملنافسة د ّيب
177
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
املفلسة يف محاولتها بناء مالعب ضخمة تستطيع أن تستضيف أحداثاً يف حجم مباريات
كأس العامل أو األلعاب اآلسيو ّية.
وهذا غيض من فيض االستئناف الحدا ّيث ،يف أش ّد تأويالت الحداثة شكالن ّية ،للتنافس
العصبي القديم .فإذا كان آل نهيان زعامء قبائل بني ياس ،فإنّ آل املكتوم مل يك ّفوا عن ّ
ً أنّ
حج ُتهم يف ذلك أرومتهم ،بو فالسه ،أعىل كعبا من بو فالح، منافستهم عىل تلك الزعامةّ ،
أرومة النهيان ّيني.
العم ال يعوزها االلتواء .فقد تناقلت األلسن «العارفة» ،كام أوحت وعالقات أبناء ّ
الصحف «بني سطورها» ،أنّ أبو ظبي فرضت عىل الدبيان ّيني رشوطاً سياس ّية ملزمة قبل
تقدميها املعونة .ذاك أنّ املطلوب إقرار األخريين ،م ّرة وإىل األبد ،بأنّ صاحب النفط واملال
هو صاحب اليد الطوىل ،فض ًال عن انضوائهم يف سياسة خليج ّية أش ّد حذراً حيال اإليران ّيني
وأموالهم وتوظيفاتهم ،خصوصاً أنّ الذين يدخلون منهم إىل د ّيب يستطيعون «التس ّلل» ،من
دون تأشريات دخول ،إىل باقي اإلمارات العرب ّية امل ّتحدة.
أقل مماّ ُظ ّن .فد ّيب كشفت يف
فوق هذا تبينّ ،بعد التهليل باالنقاذ الظبيا ّين ،أنّ االنقاذ ذاك ّ
18كانون الثاين عن أن نصف العرشة باليني يعود إىل اتّفاق أسبق عهداً من األزمة .وكان لإلعالن
املذكور أن ج ّدد األسئلة الكثرية عن مستويات الشفاف ّية والرصاحة لدى حكومات منطقتنا.
ثم ،ويف خامتة غري سعيدة بامل ّرةُ ،أعلن عن إغالق الربج «مو ّقتاً» ،من دون أن ُيح ّدد موعد ّ
هي ،ح ّتى أذاعت «إعامر» ،الرشكة زمني إلعادة تشغيله .فلم ميض غري شهر عىل افتتاحه األ ّب ّ ّ
ً
الرسم ّية التي متلكه ،أن أعطاال كهربائ ّية وزحمة «غري متو ّقعة» تحول دون استقبال الس ّياح
الزائرين .وكان لإلعالن املفاجىء هذا أن خ ّيب أمل األخريين الذين حجزوا أمكنة لهم يف
صف اسرتجاع ما دفعوه مقابل بطاقات الزيارة التي انتظروا أ ّياماً البتياعها. صف آخرّ ، ّ
أرص الزائر عىل زيارته يف اليوم لكن إذا ّ وجدير بالذكر أن سعر البطاقة 27دوالراً أمريك ّياًْ ،
نفسه لرشائه البطاقة ،كان عليه أن يدفع ضعف ذاك املبلغ.
178
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
تآمر ّيتها ،توحي بأنّ الرأسامل ّية الغرب ّية هي ما يحول دون نجاح الرأسامل ّية يف مجتمعات
هب من مواقع محافظة و»ميين ّية» ،ال ُيع َدم الصلة برأي آخر، املسلمني .وهذا الرأي ،وإن ّ
و»يساري» ،مؤ ّداه أن الغرب املتق ّدم مينع «العامل ّ مي»
«وطني» و»تق ّد ّ
ّ معروف َّ
ومنظر،
الثالث» عن التق ّدم.
يف األحوال كا ّفة ،احت ّلت صدار َة االهتامم رشكتا «نخيل» و»د ّيب العامل ّية» الرسم ّيتان
اللتان وقعتا يف «براثن» رشكتي «كيو يف يت فايننشيال» و»أشورست» الغرب ّيتني .فهاتان
املعن ّيتان بتصفية الديون ،مل تتأخّ را يف «اقتناص» األصول الثمينة ملا متلكه األوليان عقار ٍ
ات
ومشاريع ترفيه وسياحة.
ووطأة املشكلة مل تنفصل عن واقع الصكوك اإلسالم ّية التي تُع ّد دولة اإلمارات الدولة
الثانية إصداراً لها بعد ماليزيا .وهذه ،وبوصفها بدي ًال عن السندات واألسهم ،هي ما منا التعامل
به يف السنوات األخرية تبعاً لخل ّوها من الفائدة املح ّرمة رشعاً .هكذا ازدهرت الصكوك ،عىل
املتوسط والطويل األجل ،فكانت صكوك الرشكة واملضاربة واملزارعة ّ أنواعها ،لالستثامرين
واملساقاة واملغارسة واإلجارة واالستصناع وغريها .غري أنّ افتقادها القاعدة القانون ّية التي
ُحل التساوق بينها وبني املعايري التي تحكم السندات واألسهم ،جعلها ُيفرتض أن تحكمها ،وت ّ
الخارصة الرخوة للرأسامل ّية الدبيان ّية .فام إن رضبت األزمة ح ّتى ترنّحت رشكتا الصكوك.
وهذا ،بالطبع ،ما ال ينفي تهمة الطمع عن رشكات غرب ّية مل تصف نفسها م ّرة بالسخاء
محصنة من الذعر الذي يرضب الحامتي أو باالشتغال باملال لوجه الله ،كام مل ت ّدع أنّها ّ ّ
الرشكات إ ّبان األزمات ويحملها عىل الهرب.
ويتذ ّكر أصحاب الذاكرات القو ّية أنّ األزمة ما إن رضبت رضبتها يف الخليج ،ح ّتى
أطلقت ألسن ًة ،ليست بالهامش ّية وال بال َعرض ّية ،جزمت يف وجود مؤامرة غرب ّية لـ»جعل
أموالنا تتبخّ ر» .إ ّال أنّ حكومة د ّيب ما لبثت أن أعلنت عن تقديم 9،5بليون دوالر إلعانة
عل ذلك يطمنئ املستثمرين ويه ّدىء روعهم. «د ّيب العامل ّية»ّ ،
لقد سبق للسينام ّيئ اللبنا ّين مح ّمد سويد ،يف عمل جميل ،أن وضع د ّيب يف مقابل
لكن ُيخىش ،عىل مدى أبعد ،أن تحمل د ّيب يف بطنها الخصب هانوي غري شيوع ّية هانويْ .
محل الشيوع ّية يف فيتنام.يحل فيها اإلسالم الراديكا ّيل أو كراهية الغريب ،أو االثنان معاًّ ، ّ
فالعاملة األجنب ّية والغرب املتآمر ،إعالماً وحقوق إنسان وقوانني ورشكات ،ثم منذ
اغتيال املبحوح ،إرسائيل ،هي ما ينطحه برج خليفة ،آخذاً يف طريقه «الشقيقة» أبو ظبي.
وليس من سبب لالعتقاد بأنّ أبو ظبي ،يف لو انقلبت األدوار ،كانت لتختار منطوحني
آخرين غري هؤالء ُيضافون إىل د ّيب .وهذا مبثابة استئناف ،بأسامء وعناوين وأرقام أخرى،
وعصبي وكاره للغريب ،خالصته التحديث من غري حداثة .ففي هذا ّ لتاريخ عر ّيب متعجرف
السوري الراحل ياسني الحافظ «تأخّ رال ّية عرب ّية» تجمع بني التأخّ رّ يتساوى ما أسامه املث ّقف
والرأسامل ّية ،و»تأخّ راك ّية عرب ّية» يندمج فيها التأخّ ر باالشرتاك ّية .أ ّما األبراج فال تع ّمر ،لسوء
ّ
الحظ ،طوي ًال.
179
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يسء يفضلون إ ّال أنّ التساوي ليس تا ّماً يف الرداءة والقصور .فالذين يبنون يف شكل ّ
كل يشء ،يبقى اإلنفاق الدبيا ّين الذين يهدمون مسوقني بخالص ّية املوت والخراب .وعىل رغم ّ
للرثوة أفضل من إنفاقها كام عهدناه يف النُظم الثور ّية ،ال س ّيام منها النفط ّية الغن ّية ،كليبيا
والجزائر وعراق ص ّدام حسني .ففي د ّيب أو يف أبو ظبي ،يحول تواضع الحجم وغياب املزاعم
اإليديولوج ّية املضخّ مة دون التس ّلح ودون م ّد اآلخرين م ّمن هم خارج البلد بالسالح .كذلك
يل ،عىل القمع ،أق ّله بحقّ السيايس شبه األه ّ
ّ الرتكيب الس ّكا ّين عن بناء النظام ،شبه
ُ يردع
املواطنني .ويف الحاالت جميعاً ،وأللف سببُ ،يستب َعد أن تندرج إمارات الخليج يف حروب
أهل ّية كالتي عرفتها الجزائر ،أو يف حروب خارج ّية كالتي خاضها ص ّدام حسني.
ولد ّيب فضيلة تنطلق منها ،تشاركها فيها إمارات الخليج األخرى :فهي مدينة – أ ّمة
ظل استعدادات فقرية لذلك .ذلك أنّ الدول ال يراودها الطموح ألن تصبح دولة – أ ّمة يف ّ
وحدها أكرث املرشقي ال تزال تكابد الرتكة التي أثقلها بها االستعامر حني ّّ – األمم يف الجوار
مماّ تطيقه مجتمعاتها ذات العنارص املتكارهة .وألنّ د ّيب ليست مف ّتتة من داخلها ،أو ألنّها
أصغر من أن تكون كذلك ،ال نسمع لها ّأي رصاخ تعوييضّ مرتفع النربة عن «أ ّمة عرب ّية»
وأخرى «إسالم ّية».
اآلسيوي وأن تتفاعل معه ،عىل ّ كذلك ق ّيض املوقع الجغرا ّيف لها أن تنفتح عىل الصعود
اقتصادات ومنوراً وتنانني، ٍ ويسجل ،صعود آسيا
ّ سجل، نحو أو آخر .وهو ما تالزم مع ظرف ّ
لغات وخربات وثقافات. ولكن أيضاً ٍ ْ
ً
ومع أنّ االستعدادات خصبة دامئا لشتم الغرب وتعهريه ،فهذا ما ال يظهر ،لحسن
الخليجي ،والعر ّيبّ الحظ ،إ ّال باللغة العرب ّية .ويتأتىّ عن ذلك أن الرضر الذي يصاب به الوعي ّ
استطراداً ،ال يقف حائ ًال دون استمرار العالقة العضو ّية بالرأسامل ّية الغرب ّية وحركتها ،أو أن
يظل صحيحاً ح ّتى إشعار آخر. هذا ما ّ
وغني عن القول إن هؤالء الدبيان ّيني املهت ّمني بالبناء ،يبقون أفضل ،بال قياس ،من ّ
مواطنيهم األصول ّيني الذين ساهموا يف االرهاب النيويور ّيك أو غريه من نشاطات مامثلة.
تؤهل د ّيب أن تسبق جوارها ،ولو من حيث املبدأ ،ال عىل أنّ تلك املواصفات التي ّ
تؤهلها التأثري فيه .ذاك أنّ أ ّول العالقة وجود لسان حال ولغة ترافقها املواصفات التي ّ
بغض النظر عن الجوائز التي تُق ّدم للمتنافسني العرب عليها، تخاطب بني طرفيها .ود ّيبّ ،
تظل عدمية القدرة عىل تشكيل منوذج مؤ ّثر ،أو ح ّتى منوذج مفهوم. ّ
ولربمّ ا جاز الذهاب أبعد والقول إنّها ،محكوم ًة بهذه املسافة عن محيطها ،قد تزكيّ
العوملة يف وجهها السالب ،أي بوصفها انقطاعاً بني البرش ،أكرث مماّ تع ّززها يف وجهها املوجب،
أي كتكامل يطاول البرش والسلع والحاجات .وهنا أيضاً تتقاطع التجربة الدبيان ّية مع
مرصي
ّ الراديكال ّية «الوطن ّية» العرب ّية التي آلت وحدتها املرص ّية – السور ّية إىل أرشس عداء
اليمني يف 1962إىل حرب مرص ّية – مين ّية ،فيام تأ ّدى عن ّ سوري ،كام آل دعمها لالنقالب ّ –
األخوي» للبنان إىل كره وتحا ُقد غري مسبوقني بني البلدين.
ّ السوري –
ّ «اإلنقاذ –
180
ةّيغاص مزاح يبد جربو هللا جاربأ
يتأسس عليه معنى ،وال ميت ّد لقد شاءت د ّيب لنفسها أن تكون مج ّرد «مكان» ،مكانٍ ال ّ
فوقه جرس .ومكانٌ هذه مواصفاته يستحرض الحسد البحت لدى اآلخرين ،وقد يستنطق
فيهم نوازع العدوان الذي ت ّتجه شفرته إليها .وك ّنا رأينا ع ّينة مشابهة ،وإن غري مطابقة ،يف
وقوف «الجامهري العرب ّية» مع ص ّدام حسني حني غزا الكويت الغن ّية والخليج ّية هي أيضاً.
فد ّيب إذ تعالت عىل تاريخها ،وانقلبت عىل طبيعتها انقالباً كام ًال ،ح ّولت نفسها فرجة
تدل تجارب ال تُحىص ،ال تحمي نفسها بنفسها فيام باهرة فحسب .والواجهات ،عىل ما ّ
تج ّرىء األيدي عىل كرس زجاجها الذي يرونه هشّ اً يقبل االنكسار .أ ّما الشطر من التاريخ
اإلسالمي ،فيبقى تأثريه أقرب إىل التبشري بنيّ الذي احتفظت اإلمارة الخليج ّية به ،أي الشقّ
تقني ُمشرتىالظن أن األثر الذي قد يرتكه كو ّالج الدين والتحديث ،كمعطى ّ مؤمنني .وأغلب ّ
الديني بالقدرة الوهم ّية عىل رشاء الحداثة وتشغيلها كام ّ باملال ،لن يتع ّدى تطعيم االفتخار
صح أنّ د ّيب «مخترب للحداثة» ،كام يرى بعض امل ّداحني ،فإنّ ُيشغّل العبيد عند السادة .فإذا ّ
انتكاسها هو ما ستدفع الحداثة مثنه ،فال يرسخ منها إ ّال «مؤامرتها» عىل العرب واملسلمني.
عكسه منوذج لبنان حني كان لبنان ،رغم نواقصه جميعاً ،منوذجاً .فهنا وهذا ما يقول َ
اإلسالمي أو لجهة املدى الذي بلغه التأثرّ ّ املسيحي –
ّ نقع عىل معانٍ ،أكان لجهة التعايش
بالغرب واستدخاله ،فض ًال عن ح ّر ّيات مؤ ّكدة حزب ّية وإعالم ّية ونقاب ّية .لك ّننا ،عىل ما يبدو،
تصطف فيه النامذج والالمناذج جنباً إىل ّ نتساوى جميعنا يف بناء متحف ،هو أكرب متاحفنا،
جنب ،وك ّلها جثث هامدة تحت برص الله معطوفاً عىل آلهة كثريين.
181
نقد
183
نوضيب دمحأ نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام
رواياته – والكالم الذي يقال ينقله كل من الرواة عىل ذمته – إن جازت هذه العبارة – أو
ترصف
يوجزه ،عىل األغلب ،يف الصيغة التي يستنسبها إليجازه .ولعل حركة العني ومعها ّ
األجساد بأوضاعها ومبواقعها هاهنا أوفر من الكالم حمولة بالدالالت يف التنازع املشار
إليه .فيبدو مصري عالقة برمتها أو تحديد محتواها ومآلها رهنا بنظرة بعينها تطول ثانية
أو تقرص ثانية .ويبدو ميزان االنتامء أو عدمه إىل جامعة مستجدة متعلقا بخطوة إىل
األمام أو بأخرى إىل الوراء .أو هو يتعلق بالتلبث ألكرث من طرفة عني حيث يع ّد التلبث
استعجاال مفرطا المتياز ما أو ادعاء يف غري أوانه لدرجة من درجات االنتامء مل تستأهل بعد
وهي قد ال تستأهل أبدا.
يف اللعب االسرتاتيجي هذا – وهو يتقدم عىل أنه لعب يعمد إليه البرش مبصائرهم –
يجهد الشخوص يف استبقاء ما يكونون موجودين بفعله وجودا شخصيا .يجهدون يف حيازة
يشء خاص بهم مع كونه دامئا عالقة بآخر .بل إن هذا اليشء الخاص يقتيض حتى يكون
وجوده تاما أن يكون عالقة مبارشة بآخر وعالقة مداورة بثالث .وأكرث ما يكون االستحواذ
عىل هذا اليشء الخاص بالنظر ولكنه قد يكون أيضا بتحويل الشهوة وإشباعها إىل منازلة
لثالث متخيل .ومن أول الرواية يتقابل يف اإليحاء باملناخ االسرتاتيجي موضعان هام قطب
سرت وقطب كشف .أما قطب الكشف فهو بيت أبو عاطف الذي يبقى باب مدخله وأبوابه
األخرى مفتوحة لكل ناظر ويقبع صاحبه البصاص عىل الرشفة ال يعفي شيئا أو أحدا من
جوالت عينيه النهمتني .والرشفة تبدو مركز البيت الفعيل هي والشباك الذي ستكشف من
خلفه سلمى عن صدرها لتيسري وستغلقه بعد ذلك عىل ما تسميه زوجة أخيها كوثر لعبا
معها وما ترى فيه هي شيئا أبعد من اللعب .وأما قطب السرت فهو غرفتان فارغتان خلف
املحل الذي يبيع فيه األخوان الراويتان ألعابا وهو أيضا يف بيتهام غرفة احتياطية للنوم
وأخرى مهملة يحرش فيها وليد سلمى حني ميكنه من إخضاعها لشهوته افتضاح تعريها
لتيسري :افتضاحه للداين ،بال ريب ،وللقايص أيضا ،عىل األرجح .ال تكاد توجد وظيفة لهذه
الغرف سوى افتعال فراغ موحش جعل منه اإلهامل موطنا لألرسار وراح يزيد من الوحشة
فيه تضافر ح ّر الشمس ورطوبة البحر املالحة عىل تفسيخه ونهشه .وهي وحشة تنترش
لتوحي عرب تفاصيل كثرية أن األشخاص إمنا يوجدون بقدر ما يسعهم أن يس ّوروا مواضع
لرسهم وأن يحجبوها إال عمن يس ّلمون مبشاطرتهم هذا الرس حقيقة أو من يشاطرهم إياه ّ
يف أخيلتهم .األشخاص يوجدون بقدر ما يسعهم أن يستقلوا بإدارة الرشكة التي ينشئونها
ألرسارهم وأن يجعلوا من أعاملها أعامل تغ ّلب عىل رشكاء يف هذه األرسار حارضين أو غائبني
ولكن ال مناص من استحضارهم إذا غابوا.
وبني ما يتيحه تكثري الرواة اكتشافنا أن ما يحتسب مستورا قد كشفه الجميع يف
الواقع .وهذا يف مجال ضيق تختزل فيه الغلبة االسرتاتيجية إىل توسيع لزاوية الرؤية أو
إىل كشف لرقعة شاءها اآلخر غري مرئية .فوليد يعلم أن أخاه يشتهي امرأة جاره ،خالفا
للوصية العارشة ،وهو ميازحه يف شأنها من غري أن يسعى إىل تحصيل ترصيح قاطع منه
184
نوضيب دمحأ نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام
أو إىل إفحامه .بل إن سلمى نفسها ال يفوتها اشتهاء "الثخني" الذي ال نعرف له اسام آخر
المرأة أبيها .والشبيبة البطالون الذين ميضون شطورا معتربة من أيامهم عند عمود الكهرباء
يعلمون أن وليد كان قد وصل إىل سلمى ،قبل زواجها اإلكراهي ورحيلها إىل الدامنرك مسوقة
بوقع فضيحتها مع تيسري .وكان وليد يطلق العنان معها ،عىل كره منه وندم يظهران حاملا
تنقيض لبانته ،لرضب من فورة الشهوة املستعجلة فيام هو يحفظ يف رسه تعلقا بربناديت
املسيحية مل تع ّتم الحرب أن قطعته قبل أن يجرؤ عىل كشفه.
وقد وجد تيسري أيضا ،ولكن يف املدينة أو البلدة التي يذهب إليها لبيع العصافري،
أي يف خارج الزهرانية ،مطرحا لرسه عند امرأة كانت من زبائنه .وال يخفي تيسري ضيقه
حني يشعر بإلحاح تجنح إليه هذه السيدة الخمسينية يف السؤال عن التفاصيل .فهذا يخرج
السامع من ح ّد التوصل إىل ألفة يريدها تيسري ملا يفعله هو وسلمى ويجعل منه (أي من
السامع) استثامرا جديدا تقبل عليه الزبونة تنشيطا لتهوميها الخاص .فينشأ من ذلك تناسل
تهوميي آخر يضاف إىل التناسل السابق للشهوة التيسريية يف شهوة كوثر وسلمى .ثم إن رس
تيسري مل يلبث أن جاوز اإلثنني بل األربعة فشاع وذاع .ويف التنازع االسرتاتيجي بني شخوص
حسن داوود ،يبدو الهتك أي اقتحام املوضع الذي جعل فيه اآلخر رسه أقرب يشء إىل ما
يسميه املالكمون الرضبة القاضية .ويبدو البصاص أبو عاطف يف مطلع الرواية شخصية
جامعة بلجاجة وفجاجة ملا يحاوله ويجهد فيه مبزيد من الحذق أو من الرتكيز شخوص
الرواية اآلخرون .هذا ويستحسن أن منيض يف استنطاق الشبه باملالكمة إىل حده األقىص .فقد
يوجد ما يشبه تبادل اللكامت واالحتيال للتفادي منها بني شخوص حسن داوود يف موقف
عارض ال يلبث أن ينقيض فيكون أشبه بجولة تزيد أو تنقص يف الخلل الذي يسم ميزان
العالقة بني شخصني ولكن من غري حسم ...يبدو كافيا ،يف هذه الحالة ،تت ّبع أفعال الخصم
أي أقواله ونظراته وحركاته لحظات .اليقظة ورسعة البديهة يبدوان كافيني مؤقتا وال يفوتهام
التكفل بيشء من التغيري .وهذا إىل أن يحصل ما يجعل الحسم أو نقل ميزان العالقة برمته
من حال إىل حال أمرا ممكنا.
***
تداري سلمى افتضاح رسها بالرحيل إىل الدامنرك بعد أن وجدت من م ّد إليها طوق النجاة
هذا مشرتطا أن يجعل من تكثري األيدي التي امت ّدت إىل جسدها منشطا لشهوته ومرغام
زوجته يف سبيل ذلك بالترصيح مبا حصل ومبا مل يحصل من نزهات األيدي عىل جسدها.
وأما تيسري رشيكها يف رسها املفتضح فلم يكن له من مهرب غري العنف األقىص بعد أن
تهاوت حصونه كلها .انهارت صورة أبيه الشديد البأس وأصبح يبدو عاجزا عن حاميته فلم
يعد مستأهال خوفه وال طاعته .كانت قد شاعت أخبار انتشار السالح يف الزهرانية ووصول
أكرثه إىل أيدي الشبيبة ّ
البطالة .فعادت هذه الزمرة إىل اضطهاد تيسري معت ّدة بفقدان والده
185
نوضيب دمحأ نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام
ما كان له من قدرة عىل الردع وبتوجسه من الدعم الذي اعتقد أن البطالني يتلقونه من
خارج الزهرانية .هكذا مل يبق لتيسري إال قوة جسده وحقده عىل ميخا بالذات .وقد أصبح
استعداده للدفاع العنيف عن نفسه من غري ح ّد إذ كان انكشافه لألذى قد أصبح من غري
ح ّد أيضا إال اتّقاد ركام العنف الذي كان مضطهدوه قد مألوا نفسه به.
وال يفوت املؤلف أن يجعل من ميخا ،وهو ،يف ما مىض من الرواية ،أقرب إىل أن يكون
أضحوكة رفاقه ،أرسع هؤالء مبادرة إىل مسلك االستفزاز مبا يف ذلك العودة إىل اضطهاد
تيسري .مع اقرتاب أصوات القذائف وما يصحبه من اضطراب يف حركة السيارات ،كان ميخا،
وليس جوزف الذي كان يناكده أول املقبلني عىل ارتداء السرتة العسكرية وعىل استعراض
عنجهيته املستج ّدة وقد أوكل إىل نفسه حامية الحي .لهذا تعينّ أن يحصل النزال األخري بني
ميخا وتيسري ...وهذا بعد أن كان األخري قد غادر منزله مخالفا رغبة أبيه وأخيه يف االحتباس
خلف سور املنزل عىس أن ينفع االحتباس يف دفع املصائب الزاحفة .حصل النزال بأقىص
العنف من جهة تيسري بعد أن استقبله ميخا بإيغال يف اإلهانة جعلها مختلفة عن املعتاد من
مناكدة مل تكن تتجاوز ،بحسب ما وصفها أبو تيسري ،أن تجعل "املنايك" يحسبون أنفسهم
رجاال .هكذا قتل تيسري ميخا .قتله برضبه تكرارا عىل رأسه بحجر كبري .وكام أن اللذة
يف عامل الزهرانية يشحذها دخول ثالث بني طرفيها ،مل يسع تيسري أن يبقي طي الكتامن
فعلته التي مل يشهدها أحد .جرى إىل محل األلعاب والحجر يف يده وأنبأ األخوين صاحبي
املحل مبا فعل.
وذاك أن التثليث ،هنا ،بتكرار لزومه ،يبدو مطلبا أصليا للبرش أو ركنا لحالهم يف الدنيا
أو يبدو وكأنه حال الدنيا .يف غرفة ذات نافذة مفتوحة عىل الخالء ،ال تفلح كوثر وسلمى يف
استحضار الله إليقاد الشهوة بالذنب فتكتفيان بتيسري .تأخذان برضورة هتك الرس لشاهد
الرس رضورة لوجودوبرضورة أن ينحرص شهود الهتك بح ّد ال يبطل معه الرس من أصلهّ .
الشخص ،مبا هو فرد ،وكشف طرف من سرته رضورة أيضا ليبدو الفرد شخصا من الشخوص
أي العبا ذا قناع ودور .الالعب ال يكفيه من يلعب معه بل ال ب ّد له من متفرج .كذلك
يستحرض طاهر زوج سلمى ثالثني يهيجون شهوته حني تتعرى له زوجته ويستكرث من
الثالثني مضيفا إليهم من يجوز توهمه .وبالطبع يحيل التثليث إىل التسليم الحاصل يف
العلوم االجتامعية باعتبار العالقة االجتامعية عالقة بني ثالثة ،عىل األقل ،وال تقوم باثنني.
والتثليث نفسه يحيل أيضا إىل ما ساقه فرويد يف الطوطم والطابو من رضورة قتل األب حتى
يستقيم لألبناء الذكور أن يكرسوا احتكاره اإلناث .ففي منطوق هذا األرختيب أن موضوع
املتعة ال بد أن يسلب من آخر وأن الحضارة إمنا هي نظام هذا السلب .فيبدو أن التثليث
العنيف هو األصل الذي اشتقت منه رضوب أخرى من التثليث كذاك الذي تزاوله سلمى
وكوثر وال يتكشف عن عنف ظاهر ...ما خال العنف يف مناطحته نظام القيم السائد .وهذا
عنف يبلغ من الشدة مبلغا يحول بني الشبيبة وبني فهم ما يجري حني يلمح أحدهم كوثر
وهي واقفة يف الغرفة خلف سلمى املتعرية لتيسري.
186
نوضيب دمحأ نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام
والحال أن العنف ماثل يف كل موضع من رواية حسن داوود ذات الطابع االسرتاتيجي.
يف كل حوار يرتاءى سعي إىل الغلبة .هي جوالت تحىص فيها اللكامت وتلوح يف أفقها
الرضبات القاضية .وكل متعة تؤول إىل طرد من استمتع به بعد استعامله أو هي تتأىت
باستخالصه من يد أخرى بعد ّيل الذراع .هذا والسعي إىل حرص الدائرة التي يسوغ فيها
كشف الرس جارٍ ،طبعا ،عىل قدم وساق يف بوادر كل يوم .والسعي إىل هتك األستار كلها جا ٍر
أيضا كلام الحت فرصة .نسجت الحضارة ههنا ما يكفي من األستار لجعل االستشفاف الذي
يفرتضه الفن أمرا ممكنا ،إذ هو الزم ،ال أمرا محاال .ولكن ال يبدو أن الحضارة نسجت ههنا
ما يكفي من األستار لتمويه أصلها .فال غرو إن ظهرت الحرب من حوايش العامل الضيق الذي
يضطرب فيه شخوص هذه الرواية واجتاحه الخراب من الداخل ومن الخارج.
***
للوهلة األوىل ،تبدو السنون العرشون التي يقول األخ "الثخني" إنها مضت عىل وجوده وأخاه
يف الزهرانية قطعة من الزمن مفرطة الطول بالقياس إىل ما يناسب من زمن الحتواء سلسلة
حمل سلمى بثالثة أوالد يف الدامنرك ال الحوادث التي ترتى حلقاتها يف هذه الرواية .فحتى ْ
يحتاج إىل هذه املدة .ولوال اإلشارة إىل هذا الحمل ومعها إشارة أو اثنتان أخريان لشعرنا أن
مائة ومثانني غروبا (وهي ما ال نعلم من الرواية أبدا كيف استوت عنوانا لها) تبقى قصرية
ولكن ال تبدو مفرطة القرص عىل سلسلة األحداث تلك .من مجاورة وليد وأخيه لبيت أيب
عاطف إىل خمول اشتهاء "الثخني" لزوجة هذا األخري بعد أن أصبح يتعذر جعلها امرأتني
يف واحدة :امرأة للشهوة وأخرى للنفور ...ومن مبارشة سلمى استثامر تيسري لـ"حرقصة"
الشبيبة املتحلقة عند عمود الكهرباء إىل افتضاح تعريها له بعد دخول كوثر اللعبة التي
انتقلت من الرشفة إىل الغرفة وزالت عنها صفة اللعب ...ومن مبارشة الشبيبة مناكدة
تيسري إىل قتل هذا األخري ميخا مع وصول نذر الحرب إىل الزهرانية ...ومن دخول وليد
دخوال ملجوما حلقة الشبيبة املسيحيني املرتددين عىل املسبح وتعلقه الخجول بربناديت
إىل انقطاعه عن الحلقة بعد أن أخذت تبدو عليها بوادر االعتصاب الحريب ...ومن تكاثر
البنايات التي أنشأها رجل واحد عىل الهضبة وحل يف إحدى شققها الكملجم مروان الذي
اشتهته كوثر ضدا يظهر حسنه ضده الذي هو تيسري ويؤدي معه وظيفة وسيط الشهوة
نفسها إىل خراب بيوت املسيحيني املحاذية للبحر ونهبها ،إلخ ،.إلخ ...من هذا إىل ذاك إىل
ذلك ،يبدو كل يشء قابال لالحتواء يف سنوات أربع أو خمس وغري قابل ،يف كل حال ،للتمدد
عىل عرشين .ففي عرشين سنة ،ال يبقى شبيبة عمود الكهرباء شبيبة وال تبقى البنات
قريباتهم بنات قابالت لتحفظ وليد حيالهن ولغرامه املرتدد بإحداهن وال تبقى سلمى هي
سلمى وتبقى شهوة زوجها تتقد مبالمسات يفرتض حصولها يف الزهرانية...
لعل الرواة األربعة ال يروون يف زمن واحد إذن وإن كانوا يرسدون أخبارا متقاطعة.
187
نوضيب دمحأ نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام
لعل "الثخني" ،صاحب محل األلعاب ،يروي بعد سنوات كثرية من أصل العرشين أمضاها
وأخاه يف صحبة البحر وحده وانتقلت فيها حركة السيارات إىل األوتوسرتاد الجديد ومال
العمران إىل االبتعاد عن محل األلعاب ومالت التجارة إىل اللحم املشوي .لعلها هذه الخلوة
بالبحر سنني كثرية من أصل العرشين ما احتاج إليه كل يشْ ليصدأ :الحديد وموارد الشهوة
يف أجسام البرش ومياه الرشب نفسها .ذاك ما انتهت إليه الزهرانية وذاك ما ينتهي إليه كل
عمران ال تتولد منه يف األفراد وال يف الجامعة إرادة لدفع غائلة البحر.
188
موسيقى
كانت السينام املرص ّية يف ازدهار ،وكانت بريوت البيئة األمثل للسينام .عمر كان شا ّباً جمي ًال،
وكان غيتاره ذو التم ّوجات أفضل تسجيالت تلك املدينة البهيجة ،بكازينواتها األ ّبه ّية ،وعلب
الحب .وحينام كانت الراقصات الرشق ّيات يرشّفن ليلها املتداعية ،وبساكنيها الباحثني عن ّ
خصورهن التي تنضح إثار ًة ،كان عمر هناك .وعندما صدح صوت ّ "جاك هايداواي" بحركات
"بيسني عاليه" ،كان عمر هناك .ويوم التقطت الكامريا ال َدوران املخ ّدر واملسرتسل أ ّم كلثوم يف ّ
ل ِوريك ناديا جامل ،كانت ناديا تغزل حول عمر.
النوستالجي
ّ اسم عمر خورشيد غالباً ما ُيربط بهذا النوع من الصور .فبالنسبة إىل ا ُملولَع
واملحافظ بالسبعينات ،ش ّكل خورشيد التأويل العر ّيب الحديث لالعب الطنبورة [املاندولني]
الحب الشبا ّيباليونان ّية الكالسيك ّية ،مع هدف أوحد يف الحياة هو الغناء املتواصل ألناشيد ّ
النوستالجي بالسبعينات الذي يفوقه مت ّرداً ،والذيّ يف مجتمع مث َقل باألخالق .أ ّما ا ُملولَع
عاش م ّر ًة حلم الـ"بيتش بويز" ،فقد أحالته موسيقى خورشيد إىل املنتجعات البحر ّية شبه
املتوسط الحا ّر ،وإىل حياة ليل ّية مألى بالضجيج.
ّ الكاليفورن ّية ،وأبناء
كل العنارص املذكورة الحب" ،ذاك الفيلم الذي ظهر يف ،1973يشتمل عىل ّ و"غيتار ّ
أعاله .وهو ما سيذكره النوعان االثنان من املولعني لدى السؤال عن خورشيد .إنّه مرجعهم
الرئيس .ولسوف يتح ّدث أفراد هذين النوعني عن مظهره الجميل وعن سحره الذي ال
ُيغ َلب ،وأخرياً وليس آخراً ،عن غيتاره الكهربا ّيئ .فاآللة تلك كانت متنح الشعور بيشء طفيف
من الح ّدة ألولئك الذين أرادوا أشياء أكرث من غري أن يخاطروا كثرياً :أولئك الذين هم،
بكلمتني ،متم ّردون ُمح َتوون.
ما كان هؤالء يعجزون عن التقاطه تكراراً هو الشكل املتق ّدم الذي به أ ّلف خورشيد
السطحي
ّ األغاين العرب ّية الكالسيك ّية وأعاد تأويلها .فهم كانوا دامئاً ما يؤ ّكدون عىل الشكل
كالسيك ّياً بدل املضمون األش ّد تخريباً .وبهذا كانوا يرتكبون الخطأ كام ًال .فقد عجزوا عن
املوسيقي الذي كان سيعاين ّ التقاط النسمة التجديد ّية التي مثّلتها مقاربته لذاك الجنس
ه لبرش رمع اي كورلا دعب امو
190
ه لبرش رمع اي كورلا دعب امو
191
محمد عبد الوهاب~1950 ،
نص
ّ
اتذ ّكر كان يف بيتنا رجل .اذكر جيداً صوته ،لكنه كان بال صورة .حينها مل أكن قد قرأت بعد
رواية احسان عبد القدوس ،الذي أدمنت رواياته يف سن الثالثة عرشة .وال أعرف ما الشغف
الذي أمل يب يف تلك الفرتة ألقرأ عبد القدوس ،بعدما كان نجيب محفوظ مفروضاً علينا يف
املدرسة .كانت أمي تحب احسان ،وأنا كنت أمتاهى معها .أحب ما تحب ،حتى وجدتني
أحياناً أحب الطبخ والكنس وجيل الصحون .كنت أستعري من مكتبة املدرسة روايات عبد
القدوس وألتهمها يف الصف ويف الفرصة ولدى عوديت إىل البيت .وكان مفعولها ّيف كمفعول
البرية يف خايل ،الذي كان يرشب ويدخل الحامم ثم يرشب ويدخل الحامم ،إىل أن يدخل
الحامم ويدلق البرية يف املرحاض ويطلق السيفون ،مخترصاً املسافة بني البرية واعضائه
التناسلية.
كانت روايات عبد القدوس تدخل إىل عقيل وتخرج منه من دون أي مفعول يذكر،
حتى أنني اليوم ال أذكر فكرة واحدة من بنات "أفكاره" ،هذا إذا كانت لديه أفكار جديرة
بالتذ ّكر والتف ّكر .رمبا يكون عنوان "يف بيتنا رجل" هو الوحيد الذي علق يف ذاكريت ،ألنني
شاهدته فيل ًام عىل شاشة التلفزيون .ولهذا افكر فيه كلام تذكرت الرجل الذي كان يف بيتنا،
أو باألحرى صوت الرجل بال صورته .وكان هذا الرجل محمد عبد الوهاب.
كان صوته ميأل البيت يف احيان كثرية ،خارجاً من مسجلة قدمية تدور فيها ارشطة
سوداء من نوع الكاسيت من مخلفات ديسكوتيك كان ميلكه والدي يف منطقة الشياح أيام
تفجره إحدى امليليشيات لتط ّهره من الدنس ،وحينها طارت مع كاسيتات الحرب ،قبل أن ّ
فناين وفنانات ذلك الزمن ،كاسيتات ذكر حكيم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ،ومل
ينج من املحل سوى بعض األرشطة ملحمد عبد الوهاب ،فايزة أحمد ،نجاة ،وردة ،ومجموعة
صغرية من تسجيالت عبد الصمد ،كان من بينها سورة يوسف .كان هذا "الكنز" جامثاً عىل
حافة العل ّية فوق الحامم الذي يتوسط غرفة نومنا أنا وأخي وغرفة نوم أمي وايب .وكان يبدو
عالياً جداً ال ميكن الوصول إليه بسبب قرص قامتي .وبقي هناك فرتة طويلة .وحده محمد
مألا يمار تماستباو يعومدو ...لجر انتيب يف
املسجلة ،ليخرج صوته ّ عبد الوهاب نزل تدريجياً يف بعض أغنياته ليأخذ مكانه أحياناً يف
وقوراً بأغنيات مل أكن افقه منها شيئاً يف تلك الفرتة ،وبدت يل كأنها تالوات خفيضة ،من
بينها "مضناك جفاه مرقده".
أظن تلك األغنية غري عربية ،وأحياناً أنصت إليها ،ألجد فيها تشابهاً مع تعابري كنت ّ
القرآن الذي كانت له مناسباته يف البيت أيضاً ،يف ذكرى عاشوراء ،التي كانت تحتفل فيها
أمي عىل طريقتها ،فتقيم مجالس العزاء يف البيت وتدعو الجريان إليها ،وتبدأ بآي من الذكر
الحكيم ،قبل أن تضع أمي رشيطاً لسم ّيتها القارئة حسيبة ،التي كانت مشهورة يف النبطية
يف ذلك الوقت ،لجامل صوتها ،وقدرتها عىل إبكاء النساء يف مجالسهن ،وكانت أجمل مراحل
املجلس ،توزيع البونجوس والراحة والبسكويت يف النهاية ،طبعاً من بعد تناول "الهريسة".
وحسيبة كام جاء يف سريتها عىل موقع "النبطية" اإللكرتوين "أحبت الحسني (عليه السالم)
فسقاها من إكسري خلوده ...تطل يف كل عاشوراء مكذبة املوىت ساخرة بالزمن ...تطلق صوتها
فينساب يف أزقة حي الرساي وبيوتاته ويف ساحة عاشوراء ليسكن القلوب دافئ ًا عذب ًا شجي ًا،
فيلهب الجرح الذي لن يلتئم أبد ًا ..جرح كربالء" .وحسيبة إياها ،ذكرها شوقي بزيع يف
إحدى قصائده النضالية واملقاومة ،التي تحول بعضها إىل أغنيات بصوت مارسيل خليفة.
هكذا كان البيت مغموراً باملوسيقى التي بدت يل دامئاً ذات بعد روحي وإسالمي،
قومجي احياناً و"مقاوم" ،حتى تعرفت إىل اغنية "بالش تبوسني" وكانت تلك ليلة مل أنم فيها
يدب كالنمل يف جسدي .هنا بدأت أملس روح لحظة واحدة وأنا أفكر يف النغم الذي راح ّ
املوسيقى ،خصوصاً تلك التي يصنعها عبد الوهاب كمن يصنع نبيذا ،يصري أطيب كلام م ّر
ً
ميسني بالصميم عليه الزمن .وانتبهت إىل أن عبد الوهاب يختلف كثرياً عن اآلخرين ،وأنه ّ
حينام أنصت إىل ألحانه ،وتناغمها مع كلامت أغنياته ،كام إىل صوته الذي بدا حنوناً ،يعوض
عن غياب صوت األب ،الذي لطاملا كان الحوار معه مقطوعاً.
ذات يوم ،خرج الرجل من منزلنا ومل يعد .ذلك اليوم كان يوم وفاة أختي .تسلل
الحزن إىل البيت كغيم الشتاء ،احتل سامءنا ،وبات يشكل نقطة ارتكاز حياتنا وعالقاتنا
ببعضنا البعض .كان املوت أشبه بأغنية تستحوذ عىل الذاكرة وال يلتقط اللسان غريها .كأنها
أبدي المتناهٍ .هكذا كان األمر بالنسبة إ ّيل يف األيام األوىل ،ثم ما لبثت األغنية
تعاد يف رشيط ّ
أن تغريت ،وصارت عىل الرشيط أغنيات أخرى تنحو كلها نحو الحزن واملرارة .صارت كربالء
يف منزلنا ،وصارت أمي حسيبة ،أشبه بحسيبة قارئة العزاء ،إذ صارت تنوح كل يوم حتى
يختفي صوتها وتختنق بنحيبها وتنام.
م ّر وقت الحزن بطيئاً .خرج البيت رويداً رويدا من طقوس الحداد .تقلصت زيارات
األقارب والجريان ،وعدنا عائلة صغرية من أم وأب وثالثة صبيان ،أكربهم أنا ،وأكرثهم
هشاشة ،بالروح والجسد والعظام ،لكنني أكرثهم متاساً مع املوسيقى واألدب .ووجدتني بعد
انسحاب عساكر الحزن من ارضنا ،استبدل راياته ،ولحنه الحزين بألحان أكرث بهجة ،حتى
عرثت يوماً عىل الرجل الذي كان يف بيتنا ،مختبئاً يف أحد األدراج ،وعىل الكاسيت العتيق أكرث
194
مألا يمار تماستباو يعومدو ...لجر انتيب يف
من ست أغنيات ،من بينها ،عىل ما أذكر" ،يا ورد مني يشرتيك" ،التي ابكتني كأمنا بها مجلس
عاشورايئ .ورصت أفكر ملاذا ال يستخدمون أغنيات مامثلة يف املجالس طاملا أنها تؤدي
الوظيفة التي يفرتض بالسرية الحسينية أن تنجزها .لكني مل اطرح فكريت هذه عىل أحد،
ألنني ال أحب التدخل يف شؤون اآلخرين .لهم سريتهم الحسينية ،ويل سرييت املوسيقية.
وسرييت هذه ،مل ترتبط مبحمد عبد الوهاب وحده ،ومل تقترص عىل عدد محدد من
الفني (عىل ما يقول الفنانون) مطربني وملحنني
الفنانني ،بل وجدتني أكتشف يف مشواري ّ
يصيبون مني مرصعاً ،باملعنى املجازي طبعاً .ومنهم عبد الحليم حافظ وفريوز وسيد درويش
ونجاة الصغرية ...وصوالً إىل مارسيل خليفة وزياد الرحباين وخالد الهرب وسامي حواط .هنا
كنت قد بدأت أتعرف إىل طالب شيوعيني يف املدرسة .وكنت أخاف من هؤالء ،ألن الشيوعي
كان رديفاً للكافر .وكنت ال أزال أعتقد أن الله لديه حباالً يدليها من السامء ليشنقني يف
نومي إذا ما أقدمت عىل الكفر أو اإللحاد .وكنت أطرد الله وحباله بالبسملة ،أي أداويها
بالتي كانت هي الداء .ومع تقدم معاريف بهؤالء الطالب ،بدأت أكتشف عاملاً موسيقياً
ميس الوتر اإلجتامعي والسيايس ،ورصت اشرتي من السوق أرشطة لزياد الرحباين مختلفاًّ ،
جل ما أعجبني فيهاواسمعها يف سيارة أيب ،ومن بينها مرسحيته "فيلم أمرييك طويل" ،التي ّ
يف ذلك الوقت السباب والكلامت البذيئة التي يستخدمها رشيد من وقت إىل آخر.
عىل هذا املنوال نسيت الله وحباله ،ورصت ألعب عىل حبال اليسار ،مع حذري
الشديد من الوقوع يف احد أحزابه ،ألنني لطاملا سمعت ايب ين ّبهنا من مساوئ اإلنتامء
الحزيب .وهكذا كان ،وبقيت صديقاً لليسار ،لكني مل انتم إىل أي من أحزابه التي كانت
تنترش يف املدرسة .أما اليمني املتمثل حينذاك بحركة أمل ،فكان يبدو يل بليداً يف صناعة ّ
الفن،
يقترص األمر معه عىل األناشيد الجوفاء.
جمعت رصيداً جيداً من الثقافة الفنية عىل مدى سنوات .كنت أشرتي األرشطة
واجمعها يف خزانتي ،حتى وصل عرص األقراص املدمجة ،ورصت اجمع املال من العيديات
ألشرتي انتاجات موسيقية غربية ،من الجاز إىل البلوز ،إىل املوسيقى الكالسيكية .وكان أخي
األصغر يهددين دامئاً بتكسري وإتالف كنزي هذا اذا مل استجب ملطالبه .ونظراً لهشاشتي
التي سبق وأرشت إليها ،كنت انصاع ،ألنه يف املرة األوىل التي رفضت فيها طلب إعارته
حذايئ الريايض ،رمى أربعة اقراص مدمجة من عن الرشفة لتتهشم عىل اإلسفلت .وطبعاً
كان أخي من ر ّواد الفن الحديث آنذاك ،اعني من محبي راغب عالمة ونوال الزغبي ووائل
كفوري وغريهم.
كنت أسمع هؤالء ،لكنني مل أشعر يوماً بأن أغنياتهم تغني أو تسمن من جوع إىل
التعبري .حتى لو تهشموا عىل اإلسفلت بكميات كبرية ما كنت ألحزن عليهم .اليوم ال أحزن
عليهم أيضاً ،بعد إضافة آالف األسامء املستنسخة من الفنانني والفنانات .شعوري نفسه
ينطبق اليوم عىل احسان عبد القدوس ،الذي كان صديقاً لعبد الحليم حافظ ويعتربه ثقيل
الظل عىل املرسح ،لكنه يرى يف صوته خامة لن تتكرر .ال أذكر شيئاً من أدب عبد القدوس، ّ
195
مألا يمار تماستباو يعومدو ...لجر انتيب يف
وكأن مكانه يف ذاكريت قد تهشّ م عىل اسفلت األيام .ارى اسمه احياناً يف بداية بعض األفالم
واملسلسالت املرصية القدمية ،اذكر منها "دمي ودموعي وابتسامتي" .أبتسم كأنني ارى
وجهاً قدمياً ال يسعني التأكد من مالمحه .وأقلب املحطة ،لتظهر هيفاء وهبي أو نانيس أو
سواهام .فأراقب حركة الزمن يف متايل األجساد املثرية .أقلب املحطة ،ألسمع أم كلثوم عىل
قناة الطرب ترصخ" :إمنا للصرب حدود ...للصرب حدود يا حبيبي".
196
نص
ّ
أملنيوم
حسن داوود
يحب أحدا. يف سنة ما سقطت الطائرة قرب ضيعتهم برهن أهل الشومرا أن ال أحد منهم ّ
كانوا يشون عىل بعضهم البعض ك ّلام أىت اإلنكليز مع ترجامنهم ليسألوا أين هو الط ّيار.
انخض من ق ّوتهام رأسه" .أين يا ديب ّ حتى أنّ ديب حجازي وىش عىل أبيه بعد لكمتني
خ ّبيت الط ّيار ..أين؟" صار يقول له أبوه أمام اإلنكليز .وكان يجيبه إبنه "إيه إنتي"" .ولك
ديب ،أنا؟" يعود يسأله أبوه ،فيجيب ديب ،مك ّلام اإلنكليز والرتجامن :إيه ه ّوي ،ه ّوي اليل
خ ّبا الط ّيار.
وذلك من فرط ما كان الرضب قو ّيا" .أ ّول واحد أخذوه كان حسني إبن أم أحمد
سكنة ،وملّا رج ّعوه بعد يومني كان أطرش ما بيسمع يش" .صار رفاقه يف الضيعة يعلون
ثم صاروا يحاكونه بالرصاخ ،وهو ال يسمع .وحني راحوا أصواتهم ليسمع ،وهو ال يسمعّ .
يرصخون يف أذنه ،يف داخل أذنه ،عرف السيد هاشم أنّه لن يسمع أبدا .قال لهم إنّه طرش
وإنّ عليهم ،ل ُيف ّهموه ،أن يحاكوه بالحركات.
مصاحبة
َ كام إنّه كان مصدوما أيضا .ظ ّلوا نصف ساعة يسألونه ،بتحريك األيدي
بتحريك الشفاه ،إىل أين أخذه اإلنكليز .ومل يحصلوا منه إ ّال عىل تلك النظرة التي تبديه كأنّه
يف ّكر إن كان قد سبق له أن عرف هذا الذي يك ّلمه" .أتركوه يذهب إىل البيت لريتاح" قال
ظل واقفا يف مكانه ال لهم السيد هاشم .لك ّنهم ،بعد أن تراجعوا عنه مفسحني له الطريقّ ،
يتح ّرك" .ض ّيع البيت" قال واحد ،وقال آخر إنّه يخاف أن مييش لوحده ،وقال واحد ثالث إنّه
ال يريد أن يذهب إىل البيت فرتاه أ ّمه سكنة مرضوبا هكذا وأطرش.
رجعوه لَ ْي َف ّهموا رجعوه ألنّو ّ
بطل يفهم عليهن ويفهموا عليه" أو "إنّن ّ "ميكن اإلنكليز ّ
بالكل" .وقد خاف الناس جميعهم .أولئك الذين رسقوا أهل الضيعة إنّن هيك رح يعملوا ّ
األملنيوم من الط ّيارة ،وهم "خمس شباب ،او س ّتة ...أو أل خمسة" هربوا أو اختبأوا" .ميكن
فسد عليهن تحت األتل ." ...يف تلك الليلة األوىل هربوا إىل الخاليل حسني إبن أحمد سكنة ّ
وناموا فيها .بعضهم رجع يف النهار ،لكن إىل بيته ليعرف ،حني يجيء الليل ،أين يجب أن ينام.
دوواد نسح وينملأ
"أحمد داوود كان متخ ّبي باملغارة" ،وقد وىش عنه أخوه الصغري من دون أن يعرف
ماذا يفعل .كان يف الرابعة أو الخامسة من عمره حني صار الرتجامن يقول ألبيه إن اإلنكليز
يريدون أن يعرفوا أين هو إبنه أحمد داوود" .باملغارة ،تحت باملغارة" قال لهم هاين الصغري.
لو مل يد ّلهم أخوه ملا كانوا عرفوا مكانه أبدا .حتى أنّهم حني نظروا من فتحة املغارة قالوا
لكن أحدهم سمع شيئا .قال بلغتهم إنها برئ ماء وإنّ الولد الذي أخربهم صغري وال يفهمّ .
ثم قالللرتجامن أن يقول ألحمد داوود أنّهم عرفوا أين هو وليصعد من املغارة أحسن لهّ .
له الرتجامن بعد دقيقة أن يطلع وإ ّال فإنّهم سينزلون إليه ويغ ّرقونه يف املاء ح ّتى يفطس.
وألنّه مل يتأخّ ر كثريا يف الظهور من تحت الصخرة التي ال ّ
يغطيها املاء ،ف ّكروا أنّه
استعجل يف الظهور ألن هناك آخرين يختبئون معه .إطلع ...إطلع ،صار يقول له املرتجم.
وحني طلع ووقف أمامهم سألوه َمن يختبىء هناك أيضا .وملّا قال إنّه اختبأ هناك وحده
ثم لكموه م ّرة ثانية من دون أن يسألوه عن يشء .وملا قال لهم أبوه لكموه عىل وجههّ .
إنّه لوحده وإنّهم يستطيعون أن ينزلوا إىل الغارة ليت ...أسكته الضابط اإلنكليزي " .إنتا ما
خصك" ،قال له ،بعرب ّية مكسرّ ة ،لكن لئيمة أيضا.
ّ
قال أحمد داوود إنّه تأخّ ر عنهم يف الوصول إىل الطائرة ،وهو ،حني عرف عنها ،كانت قد
صارت مثل هيكل عظمي .كان أهل صفورية قد سبقوا أهل الشومرا إليها ألنّها سقطت
يف أرضهم " .ديب حجازي وحسني إبن أحمد سكنة وعيل قاسم وفايز الحج خليل ومحمد
حسني فرحات تو ّفأوا باألملينو ألنّن كانوا ميرقوا من ح ّد ص ّفور ّية وهني ورايحني ليشتغلوا
بس ّكة الحديد ح ّد عدلون .أنا ملّا رحت كانت الط ّيارة خالصة" .لك ّنه مت ّكن من أخذ شقف
أملنيوم صغرية باعها لعيل ياسني بنصف لرية " .كانت بتسوى أكرت" ،لكن عيل ياسني كان
نصيرسق األملنيوم من الذين يرسقونه .كان يشرتي الكيلو بعرشة قروش "وأنا ،ملّا عطاين ّ
لرية ،قليل إنّوا عميعطيني ّياها هيك ،كرمايل".
أَركبوا أحمد داوود بس ّيارتهم وأقعدوه بينهم وهو مبلول ك ّله باملاء .صار أبوه الحاج
أسعد يسألهم إىل أين سيأخذونه ،وهم ال ير ّدون عليه " .ق ّلك خ ّليك هون" ترجم له
الرتجامن ما قاله الضابط اإلنكليزي بعدما رآه يلحق بالس ّيارة ماشيا وراءها .عىل الطريق مل
يك ّلموا أحمد داوود أبدا ،ال اإلنكليز وال الرتجامن ،وهم أيضا مل يك ّلموا بعضهم البعض .كانوا
يرفعون وجوههم إىل األعىل لي ّربدها الهواء ،والجند ّيان اللذان أقعداه يف الوسط بينهام صارا
يزيحان عنه ليك ال يب ّلل املاء ثيابهام.
حني وصلوا به إىل معسكرهم الذي يف عني الحلوة رأى حسني جعفر الذي يكربه
بسنة وأربعة أشهر موجودا هناك عندهم .كان مشنوقا من رجليه ويداه مربوطتان بحبل.
"م ّوتوين من األتل" قال ألحمد داوود الذي أبعد نظره عنه ألنّه استحى أن يراه مثلام خلقه
ر ّبه .ثم صار حسني جعفر يبيك وهو مقلوب رجاله يف األعىل ورأسه يف األسفل ،ويحلف بأنّه
مل يفعل شيئا ليع ّذبوه هكذا.
198
دوواد نسح وينملأ
ويف الشومرا صاروا يف ّزعون بعضهم البعض باإلنكليز .إذا قال ولد أمامهم "إجو" يروحون
يتلف ّتون حولهم مستع ّدين ليهربوا .السيد هاشم صار يخاف مثله مثل غريه واألوالد رأوه
أكرث من م ّرة مييش مهروال مثل ولد عمره خمسة عرش سنة .من كان يزيد يف تخويفهم
كل من ُيذكرالرتجامن الذي صار يأيت إىل الشومرا لوحده ليقول لهم إنّ اإلنكليز سيأخذون ّ
لهم إسمه يف التحقيق " .ب ّدوا مصاري ...يج ّرب حدا يعطيه مصاري" قال لهم السيد هاشم.
لكن أحدا مل يجروء عىل ذلك "إلنّو اليل بيعطيه بيكون عمبيقول إنّو عامل يش".
ملّن شفنا اإلنكليز جايني من النقيعة ومعن مكنة شحن فاضية إلنا إنّن رايحني يض ّبوا
الكل هربوا .السيد هاشم راح يركض باتجاه أرض السبيل كل النيس ...أ ّبعنا كلنا بالركد"ّ .
ّ
وهو يغلق عباءته بيد وميسك طربوشه بيده الثانية" .أين وفايز الحاج خليل ركدنا ورصنا
تطلعش لورا ،رصت إ ّلو إلنّو كل ما ركد أربع نأول لبعضنا إنّا مش رح نرجع عالشومرا .ما ّ
عجل .ملّا وصللنا عخ ّلةعجل ،ولك ّ خمس فشخات يربم ويصري يتط ّلع وراه .ورصت إ ّلو ّ
الدمئيأة شفنا ديب حجازي مخ ّبا ب َل ْطوة الصخرة .أوم ...أوم إلت ّلو .أ ّلو فايز الحج خليل من
كل الضيعة .ركد معني .من خ ّلة الدمئيأة لخربة إلطين ّية لضهر بوغربة ورايي إنّن جايني يض ّبو ّ
معش ف ّيي .وكامن يأول عطشت ب ّدي كل نتفة نحنا وعمرنكد ْيأول فايز الحج خليل ّ للئلوعّ .
إرشب .وملّا وصلنا عنبعة الزغرية آل ب ّدو ِي ُئعد يرتيح.
ليلتها مننا بالئلوع ،بال أكل .الصبح ملّا فِئنا أليّ فايز الحج خليل :شو بعدك فزعان؟
تط ّلعت بديب حجازي وإلت ّلو :سامع الخرا ،آل إين فزعان .كرهتو.صار ب ّدو يتمسخر عل ّيي
كيف خ ّليتو يركد من الضيعة عالئلوع.
أخذوا يف الشاحنة أربعة :محمد حسني فرحات وثالثة ال دخل لهم باألملنيوم .محمد حسني
يفسد عليه أحد .بعد أن فرحات كان مختبئا بالت ّبانة وما كان اإلنكليز ليهتدوا إليه لو مل ّ
فسد عىل رحلوا بس ّيارتهم وشاحنتهم جاء أبوه إىل الساحة وصار يقول إنّه سيعرف من ّ
ثم صار يقول ويسب الناس يف الضيعة لكن من دون أن ُيس ّمي أحداّ . ّ إبنه .وهو راح يرصخ
ثمثم قال إنّه سيقتله حني يجيء إىل الشومراّ . "وينو هالرتجامن الكلب ب ّدي إح ُرء دينو"ّ .
ثم قال "خمس وعرشين لرية أخو قال إنّه ،هو الرتجامن ،يأيت إىل الشومرا ليضحك عليهمّ .
الرشموطة ...خمس وعرشين لرية أخد" .وبعد أن كان يس ّبهم عاد يقول إنّ أهل الضيعة
يجب أن يقتلوا الرتجامن ويقربوه يف أ ّول م ّرة يأيت لينصب عليهم.
وحني صار يقول بعد يوم إنّ عىل أهل الضيعة أن يجمعوا من بعضهم الخمس
مرصا
وجن" .لو ما دزّوا عليه ماكنتش حكيت" ،كان يقول ّ وعرشين لرية قالوا إنّه فقد عقله ّ
عىل أخذ الخمس وعرشين لرية .فوق الدرب العالية التي جعلوها بدل الساحة ألنّهم منها
يستطيعون أن يروا مجيء اإلنكليز وهم بعد يف الوادي ،صاروا يبتعدون عنه .واحد يقول
له "أمعيش وال إرش" ،واحد آخر ُيخرج أمامه جيبي رشواله لرييه أنّهام فارغتان ،واحد ثالث
ميسك بإصبعني طرف س ّنه ويش ّدہ بنرتة واحدة ليبدو كأنّه يقلعه .وملّا بدا له أن ال أحد سري ّد
199
دوواد نسح وينملأ
عليه بدأ يقول إنّه سيد ّز عليهم عليهم مثلام دزّوا عىل إبنه .وراح يقول إنّه باق هنا حيث
هو حتى مجيئهم" .ال حول وال ق ّوة إلاّ بالله" قال الس ّيد هاشم فيام هو ينفض ّ
ميسح يديه
واحدة باألخرى مفهام إياهم أنّ حسني فرحات ن ّفض ومل يعد يف رأسه يشءّ .
ثم قال لهم أن
يد ّبروا له املصاري ع ّله يرىض ويسكت.
ركضوا كلهم ملالقاة الشابني اللذين ظهرا لهم قادمني من أ ّول الوادي .عىل الطريق النازلة
كل الذينإىل هناك من ال ْنأيعة أخذوا يتح ّزرون ،فيام هم يركضون أو يهرولون ،فيس ّمون ّ
أخذهم اإلنكليز .واحد يقول "هِ يدا أحمد داوود ...عرفتو من مشيتو" ثم يجيبه آخر "واليل
معو حسني جعفر" .ثالث يقول إن ذاك الطويل هو مح ّمد حسني فرحات ،ليضيف بعد ذلك
أنّ "الرتجامن ط ّلعو".
أقل من 15كيلو .كانا جلدا عىل عظم وإن كل منهام ال ّيف أربعة أ ّيام فقط ضعف ّ
كان رأساهام كبريين كأنهام لبسا طاسات فوقها" .وينو مح ّمد؟" ،قال لهام أبوه حسني
فرحات .وإذ مل ُيجيباه ألنّهام كانا يتط ّلعان بالناس الذين تج ّمعوا حولهام وصاروا يبحلقون
يف وجهيهام ،عاد وسألهام م ّرة ثانية ،يف وجهيهام هذه امل ّرة ،وبصوت بدا به كأنّهام يه ّددهام:
"وينو مح ّمد ..كيف جيتو وتركتوه؟" .و ّلماّ مل يجيبوه ،من لبكتهام هذه امل ّرة ،قال إنّه ذاهب
إليهم ،إىل اإلنكليز ،ومىش باإلتّجاه الذي جاء منه الشا ّبان ،مرسعا يف الخطوات األوىل ،تلك
التي كان يه ّز معها كتفيه ليك ُيبعد عنه الذين لحقوا به ليرُ جعوه.
" خ ّليهن يرتاحو باأل ّول" ،صاروا يقولون لبعضهم البعض قبل أن يفسحوا لهام الطريق
ليسريا يف األمام .وإذ قال أحدهام ،وهو جعفر إبن الحجة خشفة ،أنّه عطشان ،طلع صوته
"حطولن يش عراسن"" ...حدا يركد يجيب َم ّي من بيت ناشفا كأنّه مل يرشب ماء من شهرّ .
رجعوهن"" .ما عملناش يش" ،قال شملكني بالنأيعة"" ...ه ّني ما عملوش يش ،عشان هاك ّ
الزط ،الذي ولد حني كان أبوه يف عمر السبعني .وقد طلع صوته ناشفا الراجع الثاين ،عيل ّ
أيضا ،كأنه يعلك شقفة كرتون.
كان اإلنكليز قد ح ّذروهام من الحيك ،وهم قالوا لهام أنّهام سريجعانهام إىل الكمب
إن قاال شيئا .لكن ،مع ذلك ،إلتفت عيل الزط إىل حسني سعدى الذي كان ماشيا بقربه
دل عىل ذلك مب ّدہ إصبعه إىل فمه ليمسح به ثم ّ
وقال له إنّ أحمد داوود صار بال أسنانّ ،
ثم قال بعد دقيقة ،مق ّلدا كيف يحيك أحمد داوود: صف أسنانه التي كشف شفتيه عنهاّ . ّ
"عطثني ب ّدي إثلب بيقول ملّا يكون ب ّدو يرشب" .لك ّنه عاد وسكت حني سأله حسني سعدى
يحب أن يحيك إال ما يخطر عىل باله .بعد أن عن اآلخرين ،ليس من خوفه فقط ،بل ألنّه ال ّ
رشب أكرث من ثالثة أرباع اإلبريق عىل مصطبة شملكان ،وأكمل مشيه مع الجميع بعد ذلك،
راح يف ّتش بعينيه عن حسني سعدى ليحيك له .وقد عاد حسني سعدى ،حني رآه يبحث عنه،
من مطرحه ،ليميش بجانبه" .حسني جعفر ما تح ّملش األتل ،جابولو الحكيم ليح ّكموا."...
وكان سيزيد شيئا عن حسني جعفر لو مل ينتبه إىل أن إثنني من ورائه كانا مق ّربان اذنيهام إليه
200
دوواد نسح وينملأ
ليسمعا" .بعدين ...بعدين" ،قال لحسني سعدى الذي وافقه به ّز رأسه م ّرتني.
الزط ،وقد أ ّيده بعد ذلك جعفر إبن الحجة خشفة بأن قال "ب ّدن الط ّيار" قال عيل ّ
أنّهم " مش عميسألو عن األملينو أبدا" .ح ّتى أنّ اإلنكليزي الذي كان يقف بقربهم وهم
يتع ّذبون كان يسألهم ،بالعريب" ،فينو ط ّيار..فينو؟" .كام أنّه كان ي َو ّطي رأسه ليصري وجهه يف
وجوه املشنوقني من أرجلهم ويقول لهم "نو ط ّيار إنتا بيموت".
حني رجع مح ّمد حسني فرحات إىل الشومرا مل يكن لوحده .رافقه الرتجامن ،ليس من
مفرق الضيعة فقط بل من أ ّول طريق عني الحلوة حيث أفلته اإلنكليز .كان أبوه نامئا يف
يحب أن يس ّلمه إبنه يف بيته. بيته حني وصال ،وإذ أرسلوا أحدا ليوقظه قال الرتجامن إنّه ّ
ثم قال ملح ّمد حسني فرحات ،الذي كان ضعيفا لكن ال أثر للرضب عىل وجهه" ،يالال خدنا ّ
عىل البيت" .خدنا يعني يأخذهم ك ّلهم .كان الرتجامن يقصد ذلك من أجل أن يعتمد عليه
أهل الضيعة .وقد دخلوا جميعهم إىل حوش حسني فرحات الذي كان أفاق من نومه ووقف
تغطي رأسه .وبينام كان الواقفون يف الخلف يقولون "والال عىل املصطبة حافيا وبال كوف ّية ّ
الخمسا وعرشين لرية اشتغلت" أو "ميش حالو الربطيل" أو " الرتجامن تربطل وبرطل" ،قال
حسني فرحات من حيث يقف عىل املصطبة " ،تأخّ رت عليه يا جورج" ،مك ّلام الرتجامن.
وقبل أن ير ّد الرتجامن بيشء طلع صوت من وسط الواقفني يف الحوش" :وهوليك؟".
مل يجبه الرتجامن لك ّنه ،بعد دقيقة ،قال لحسني فرحات" :شو بنبأى هيك ب ّرة؟"،
قاصدا أن يكون يف داخل البيت مع حسني فرحات وإبنه وحدهام .لكن ،عندما صعد إىل
املصطبة ،لحق به الذين يف الحوش .وعندما دخل إىل الغرفة دخلوا معه وهم س ّدوا بابها
من كرثتهم.
هناك ،أمامهم جميعا ،بدأ يحيك عن اإلنكليز .قال إنّ ما يه ّمهم هو أن يعرفوا أين هو
كل الناس عالكمب، الط ّيار ،وهم سيظ ّلون "يح ّققون" مع الناس ح ّتى يجدوه" .فيهن ين ّزلوا ّ
املهم ب ّدن الط ّيار ."...قال أيضا أنّهم حني يح ّققون مع أحد ال
كبار زغار ما بتفروء َم ُعنّ ،
كل يشء وأنّهم ال يراعون أحدا وأنهم " ...إي ومنان بدنا يتوقفون عنه حتى يأخذوا منه ّ
نج ْبل ُهن الط ّيار" قال واحد قبل أن يستدير من حيث يقف قرب الباب ليخرج .وقد تبعه ِ
العجأة".
بيفطس من كرت ْ آخرون إىل الحوش قائلني لبعضهم البعض إنّ الج ّو "باألوضا ّ
خ ّوفهم الرتجامن أكرث مام كانوا خائفني ،لك ّنهم ،مع ذلك ،قالوا إنّه فعل ذلك "إلنّو
ب ّدو مصاري" .وهو ،فيام كانوا ينظرون إليه خارجا من الضيعة ،واعدا إ ّياهم بأنّه سيعود
إىل زيارتهم ولن يرتكهم ،صاروا يقولون بأنّه سيجيء لينهبهم العكروت إبن الحرام" .خمسا
وعرشين لريا؟ إي ومني معو خمسا وعرشين لريا" ،بدأوا يقولون متش ّكني مام أصابهم .ثم
بدأوا يسألون مستفهمني" :ط ّيب بياخد غراض؟" أو "بيئبل مونة؟"
201
دوواد نسح وينملأ
قال محمد حسني فرحات إنّهم مل يرضبوه كام رضبوا غريه وإنّهم مل يشنقوه من رجليه.
كل يشء هناك" :متل "ك ّلهن علأّ وهن" ،راح يقول للذين صاروا ميشون معه ليخربهم عن ّ
عالخطافيت مش عالحبل"" .ك ّلن مع بعضن؟" يسألونه" .أل، ّ بس
الغسيل اليل بينرشوهّ ،
ويحطوا واحد" يجيب .وحني يسألونه "من عمياكل أتل أكرت أهل الشومرا والال ّ يشيلو واحد
أهل الص ّفورية" يروح يجعل نفسه كأنّه يتذ ّكر أو يف ّكر ،أو يع ّد ،إذ كان ،فيام هو يصفن يف
الهواء ،يح ّرك إبهامه إىل الجهتني ،م ّرة إىل جهة أهل الشومرا وم ّرة إىل جهة أهل الص ّفور ّية.
"بس أهل الشومرا كانوا ينوجعوا أكرت"."ميكن أ ّد بعضن" يقولّ ،
يظل يكسدر يف الطرقات ،ماشيا عىل مهله ،حني يكون لوحده ليس معه أحد. وكان ّ
وكان ،ليفرجيهم أنّ الوضع طبيعي بالنسبة له ،يقف مثال لينظر إىل الشجرات التي تحت
السبيل كأنها تعجبه ،أو يرفع رأسه بعد أن يكون قد وقف ليتذ ّكر شيئا ،ثم يعود ماشيا
من حيث أىت " .كإنّو مف ّكر إنّو هالخمسا وعرشين لريا مش راح تخلص" كانوا يقولون
من ّكتني عليه.
ثم تح ّولوا إىل أن يقولوا لبعضهم البعض أن ال يتك ّلموا معه بيشء ،إذ ميكن أن يكون ّ
يتجسس عليهم" .مبارح شفتو وائف تحت ش ّباك حسن الحج... اإلنكليز قد ج ّندوه جاسوسا ّ
ّ
وعميطلع حواليه"، وائف مش عميعمل يش" أو "بو رائف شافو املغرب مايش لورا النأيعة
أو "مدري وين كني اليوم الصبح َم َح َدنْش شافو".
وما جعلهم يزدادون ش ّكا فيه وصول املرتجم إىل الساحة وقوله للناس الذين س ّلم
عليهم إنّه سيذهب إىل بيت مح ّمد حسني فرحات ،هكذا مس ّميا البيت باسمه ال باسم أبيه.
ثم قال "بدهن يعملو إجتميع" قال واحد منهم فيام املرتجم يتق ّدم ماشيا باتجاه البيتّ .
آخر ،ضا ّما حسني فرحات إىل اإلجتامع" :أبتعرفش ،ميكن ب ّيو عمل جاسوس متلو" .وفيام
كان "اإلجتامع" قامئا يف البيت الذي ال يبعد عن الساحة أكرث من دقيقتني كانوا هم يتكاثرون
يف الساحة" .بكرا حسني فرحات بيد ّز علينا ك ّلني" صاروا يقولوا متذ ّكرين فصوال مماّ كان
يفعله" .إجو ...إجو "...قال ،راكضا نحوهمَ ،من كان يقف تحت ش ّباك البيت محاوال أن
يتنصت عليهم .كانوا هم الثالثة :الرتجامن وحسني فرحات وأباه ،ماشني معا .وملّا وصلوا ّ
ّ
إليهم وصاروا أمامهم صار املرتجم يتطلع يف وجوههم كأنّه ينتظر أن يقولوا له شيئا .وكانوا
ينتظرون هم أيضا أن يقول هو لهم شيئا .لذلك طال وقت سكوتهم إىل أن قطعه واحد
منهم" :هولييك شو؟ ...شو صار فيهن؟".
كان بعض منهم قد جمعوا ما أمكنهم من املصاري .بل إنّ بعض هؤالء كانوا حاملني املصاري
معهم ،فيام هم يقفون أمامه ،وإن كانوا لن يخرجوها من جيوبهم .ألذين كان أوالدهم
محبوسني يف الكمب كانوا يقولون إنّهم لن يعطوه شيئا ألنّ أوالدهم "أكلو األتل وخلصو"
ولن يعود اإلنكليز إىل رضبهم بعد أن ح ّققوا معهم .أ ّما الذين مل يؤخذ أوالدهم فراح الواحد
منهم يف ّكر أنّه سيعطيه فقط إن جاء اإلنكليز وأخذو أحدا من أوالده ،هكذا مثلام فعل
202
دوواد نسح وينملأ
حسني فرحات حني أخذوا إبنه .أ ّما أن يعطوه هكذا مسبقا فيعني ذلك إنّهم يعطونه هكذا
عىل الفايض ،فيقبض منهم العكروت إبن الحرام وال يكون إبنهم مطلوبا.
ثم أضاف بعد أن "بعد ما عرفو يش عن الط ّيار" ،قال لهم فيام هو ين ّقل نظره بينهمّ .
حملق يف وجوههم" :أهل الصف ّور ّية (يقصد املحبوسني منهم) بيأولو إنّو مع أهل الشومرا،
خصهن... وأهل الشومرا بيأولو إنّو مع أهل الص ّفور ّية ...وك ّلهن املألوطني تحت بيأولو ما ّ
يعني شو؟".
– –يعني ب ّدن يض ّلوا ياخدو عامل ،قال حسني فرحات الواقف ما زال بجانب الرتجامن.
– –حرام هالشباب ...وحرام إنتو كامن ،إلنّو الجامعة مش رايحني يسكتو .بدهن الط ّيار
يعني بدهن الط ّيار ،إنتو ما بتعرفوهن ...أنا باعرفهن ،كبار زغار رجال نسوان ما
بتفرؤ معن.
– –النسوين ،أعوذ بالله ،شوهالبل ّية اليل نزلت علينا ،قال السيد هاشم من حيث يقف
يف ص ّفهم األمامي ،لكن ليس يف وسطه إذ مل يعد هو يطلب من الناس أن يس ّلموا له
وينتظروا أن يقول لهم ماذا عليهم أن يفعلوا .بل كان ميكن له أن يكون واقفا وراء
الصف األ ّول ،يرفع رأسه إىل األعىل إن س ّد عليه الرجل الواقف أمامه ّ هؤالء الذين يف
رؤية الرتجامن.
ً
– –أنا بساعد ،قال الرتجامن مربهنا عىل ذلك بالتفاته إىل حسني فرحات وإبنه الواقفني
معا بقربه" .أنا بساعد ،بس إنتو باأل ّول الزم تساعدو حالكن .الزم تعرفوا وينو الط ّيار
وتأولو وينو."...
ماخصنيش ،يروحوا يجيبوه من الص ّفور ّية ،قال ،بنربة متح ّدية ،واحد من الواقفني – –نحنا ّ
يف الوراء ،وقد بدا بنربته تلك كأنّه يتح ّدى الرتجامن .كأنّه يقول له :رح جيبو إنتي
الصفور ّية.
من ّ
ثم يعودون ثم صار الذين هناك يف الوراء يحاكون بعضهم البعض وترتفع أصواتهم ّ ّ
إىل خفضها .بل وصار الذين يف األمام يلتفتون إليهم التفاتات تطول ،بل ميشون إليهم من
حيث يقفون تاركني الرتجامن ال يعرف إن كان عليه أن يتك ّلم أو أن يقف هكذا يف مكانه
ال يعرف ماذا يفعل.
وقد تف ّرق أكرثهم عنه ،فيام تق ّدم الباقون ليصريوا قريبني إليه يك ّلمهم كأنّه يك ّلم ّ
كل
واحد منهم مبفرده .وهو مل يعجبه ذلك .مل ينتظر أن يأخذوا أماكنهم حوله .أدار وجهه إىل
ثم إىل حسني فرحات" :أنا ِب ّدي إميش" ،قال له كأنّه يسأله إن حسني فرحات ،ثم إىل إبنهّ ،
كان هو وإبنه ميشيان معه ليوصاله إىل النقيعة أو إىل الوادي الذي بعدها.
يف اليوم التايل جاء اإلنكليز :شاحنة وسيارتني ود ّبابة كانت تسري خلف بعضها البعض
عىل مهلها" .معهن د ّبابة" ،صار يقول الواقفون يف الساحة م ّرة بعد م ّرة كأنّهم ُيخيفون
203
دوواد نسح وينملأ
أنفسهم من أجل أن يكون هربهم رسيعا .حتى أنّهم ،فيام هم يركضون من الساحة
باتجاه الخاليل ،صاروا يرصخون بأصوات عالية ليك يسمع أولئك الذين يف البيوت" :معهن
ثم يك ّرر ،ألولئك الذين سمعوه ومل يفهموا" :ولك د ّبايب، د ّبايب" يقول واحدهم يف رصاخهّ ،
معهن د ّبابييييي."...
حني وصل اإلنكليز رأوا الساحة خالية ال أحد فيها .كان الصوت يطلع قو ّيا من
املوتورات التي أبقوها تهدر حتى بعد أن نزلوا منها متط ّلعني يف اإلتّجاهات حولهم .ظ ّلوا
متو ّقفني هناك يف الساحة حواىل عرش دقائق أو ربع ساعة راحوا يف أثنائها ميشون ،حاملني
بواريدهم ،إىل مفارق الزواريب ،يقفون عند مداخلها أو ميشون فيها خطوات ثم يرجعون
ثم قال لهم الضابط ،فيام هو يه ّز رأسه مثلام يفعل من ليقولوا للضابط إنّهم مل يجدوا أحداّ .
ّ
يتو ّعد ويقول "سأفرجيهم" ،أن يصعدوا كلهم إىل أماكنهم .لكن بدال من أن تسري قافلتهم
مكملة الطريق إىل الساحة التحتان ّية الصغرية لتصري هناك بني البيوت ،نزلت باتجاه بركة
ثم أكملت سريها إىل الغربة ،املط ّلة عىل الضيعة وليس املاء حيث تو ّقفت ّ
ألقل من دقيقة ّ
فيها إ ّال بيت واحد هو بيت أبوقاسم عوايل .هناك مل ينزل إال الضابط مع إثنني من الجنود
ثم بعد ذلك راح راح الضابط يك ّلمهام وهو يشري بيده إىل الضيعة وإىل التالل التي حولهاّ .
ثم أعطى الناظور ألحد الرجلني لينظر فيه هو أيضا .ثم رجعوا هم الثالثة ينظر بالناظورّ .
إىل أماكنهم .وإذ بدأوا يديرون الدبابة والشاحنة والس ّيارتني إىل جهة الطريق قوي الهدير
وصارت الدبابة والشاحنة كأنهام تجعران من ق ّوتهام.
من الغربة عادوا من الطريق ذاتها التي ذهبوا منها .مل يبطئوا سريهم عندما وصلوا
إىل بركة املاء وهم ،يف الطلعة التي بعدها ،أطلعوا دخانا كثريا من الدواخني .وملّا وصلوا إىل
الساحة تو ّقفوا ،يف وسطها .وبعد قليل أطفأوا مح ّركاتها ما عدا س ّيارة الجيب التي يف األمام.
ثم أصوات العصافري .املختبئون لكن مع ذلك هدأ الج ّو وصارت تُسمع أصوات الرصاصري ّ
يف البيوت ف ّكروا أن الجنود سيبدأون اآلن هجومهم وأخْ َذ من يقبضون عليه إىل الشاحنة.
ثم ف ّكروا أن الدبابة والشاحنة وسيارة من السيارتني سرتابط يف الضيعة ،وذلك حني تح ّركت ّ
الس ّيارة األوىل ،تلك التي أبقوا مح ّركها يدور ،مرسعة كأنّها ستعود إىل الكمب وحدها.
لك ّنها عادت بعد أن وصلت إىل ت ّلة النفيس ،املط ّلة عىل الضيعة أيضا لكن مل يع ّمر
ثم
أحد بيته فيها .وملا صارت أمام قافلتها استدارت يف مكانها لتعود إىل مطرحها يف املق ّدمةّ ،
عاد الهدير قويا ضخام من جديد.
قال لهم الرتجامن إنّهم إ ّما سيهجمون عىل الضيعة بالدبابات التي سينزلون بها من الغربة
"كل البيوت؟" سأله قاسم زعرور الذي والنفيس ،وإما سيقصفونها من الجو بالط ّياراتّ .
كان مستندا إىل حائط بيته ،هناك يف الساحة" .أل ...ميكن أل" أجابه الرتجامن .وقد استحى
قاسم زعرور أن يسأله ،ولو بالتلميحّ ،أي البيوت هي التي سيقصفونها ألنّه سيبدو كأنّه
يسأل عن بيته فقط وال ته ّمه بيوت الضيعة األخرى" .ط ّيب إزا طلعو علينا الط ّيارات كيف
204
دوواد نسح وينملأ
بدنا نعمِل؟" سألت زوجة قاسم زعرور عن املصطبة التي كانت تقف عليها ساندة كتفها
بطرف الحائط.
"عندك منديل أبيض؟" سألها الرتجامن مع أنها كانت ترتدي واحدا عىل رأسها.
– –عندي
– –هاتيه
ومل ترت ّدد زوجة قاسم زعرور .ذهبت إىل داخل بيتها ثم خرجت منه لتعطي الرتجامن
غطت رأسها بقامشة نيل ّية كان عليها ،لصغرها ،أن متسك املنديل الذي كانت ترتديه وقد ّ
طرفيها وتش ّدهام ش ّدا إىل ذقنها .ومن حيث كانت تقف عىل املصطبة ،ق ّربت املنديل
لزوجها ليعطيه للرتجامن.
ّ
– –ب ّدك تفلشيه ،قال فيام هو يتطلع باملنديل من ذلك القرب تاركا يديه اإلثنتني تن ّقالنه
ثم يق ّربه من عينيه م ّرة بعد م ّرةَ " ...ر ْح يخْ وت جوزها" قال واحد من جهة إىل جهةّ ،
من الواقفني بصوت رمبا وصل إىل أذين قاسم زعرور الذي قال للرتجامن فيام هو
يتق ّدم إليه ما ّدا يديه" :خليّ ع ّنك أين بس ّويه" .لكن الرتجامن ،وقد صار املنديل منفلشا
بني يديه ،أزاح قاسم زعرور بحركة من كتفه" :شويف "...قال للمرأة التي ما زالت شا ّدة
ثم راح يل ّوح به يف الهواء ناظرا
طريف القامشة حول ذقنها " ،ب ّدك تل ْوحي فيه هيك"ّ ،
إىل املرأة وإىل الرجال الواقفني أمامه ،الناظرين إليه ساكتني رغم أنّهم يعرفون مثلام
يعرف هو ما يع ّلمهم إ ّياه.
– –هيك ب ّدك تعميل ملّن بتِجي الط ّيارة.
وقد بينّ الرتجامن عن هبله ألهل الضيعة " .شو مف ّكرنا حمري ،الحامر" صاروا يقولون لري ّددوا
بعد ذلك أنّهم "ظمتوا" بتأجيلهم إعطاء املصاري له م ّرة بعد م ّرة .وكان هو قد يئس أصال
من ذلك ،وإ ّال مل يكن ليقول إنّ اإلنكليز سيهجمون عليهم بالد ّبابات والطائرات" .كان
كل الضيعة؟" راحوا يسألون بعضهم بعضا من ّكتني مف ّكر ميكن إنّو بدنا نجمعلو مصاري من ّ
مستهزئني .أو يقولون إنّه هو األهبل سيمنع اإلنكليز من رضب الشومرا!؟
لك ّنهم ،مع ذلك ،راحوا يف بيوتهم يف ّتشون عن مناديل عتيقة أو قطع قامش بيضاء
مي ّزقونها من الرشاشف ،أو يرتكون الرشاشف كام هي ليل ّوحوا بها ك ّلها فرتاها الط ّيارات مهام
كانت علية يف الج ّو .أ ّما الدبابات فيستطيعون أن ي ّتقوا خطرها بأن يهربوا من لحظة ما
يشاهدونها آتية من الوادي.
2
بعد أن ّ
حل عنهم اإلنكليز عرف أهل الشومرا أنّ تفاخرهم بق ّوة أجسامهم مل يكن إال وهام.
كل الذين أخذهم اإلنكليز رجعوا معطوبني .حسني إبن إم أحمد سكنة ،الذي جاء أطرش ّ
205
دوواد نسح وينملأ
ظل أهل الشومرا يروون حكاياتهم عن الطائرة والط ّياربعد سنوات عىل رحيل اإلنكليز ّ
متف ّرقة نتفة من هنا ونتفة من هناك .أحمد داوود يحيك كيف ظ ّلوا يرضبونه ح ّتى كسرّ وا
أسنانه ليقول يف آخر حكايته ،أو قبل آخرها بقليل ،إنّه كان ملّا يسمع رصخات حسني جعفر
كان يقول يف نفسه إنّه سيموت من الرضب وسيموت هو من بعده .عيل زبيب مل يكن يخبرّ
206
دوواد نسح وينملأ
ظل يستحي من نفسه ك ّلام انتبه إىل أحد يح ّدق فيها. شيئا عن يده امللو ّية إىل الوراء ألنّه ّ
أ ّما أهله فكانوا يقولون إنّ اإلنكليز ع ّذبوه ولووا يده وإنّ حسني جعفر مات من تعذيبهم.
أو يقول بعضهم إنّ قطعة كبرية من حديد الطائرة أخذها أهل حبوس وهم نقلوها إىل
ظل محتفظا بشقفة أملنيوم يف جورة قرب ضيعتهم عىل ظهر جمل .كام قال أحدهم إنّه ّ
بيته عىل رغم الغارات التي كان يقوم بها اإلنكليز .كانت ك ّلها حكايات متف ّرقة ال يشء يجمع
بينها أو يسلسلها مثلام يفعلون املتع ّلمون يف هذه األ ّيام حني يسلسلون التاريخ .شقف
متف ّرقة ،واحدة من هنا واحدة من هناك .مثل أملنيوم الط ّيارة التي كان يقول أهل الص ّفور ّية
الصفور ّية رسقوا ما رسقوهإنّ أهل الشومرا أخذوا أكرثها فيام يقول هؤالء األخريون إنّ أهل ّ
وهم عزموا أهل الكوثرة عىل الطائرة ليرسقوا األملنيوم معهم.
كام أنّهم ،ومعهم أهل الص ّفور ّية ،وأيضا أهل الكوثرة ،صاروا يقولون أشياء من هنا
وأشياء من هناك عن الط ّيار .يف سنة يقول هؤالء إنّهم نزل ح ّيا من طائرته وهو تلفن
حي .يف سنة أخرى يقول أولئك إنّه كان جريحا وفيه حروق بالالسليك إىل القيادة ليقول إنّه ّ
وإنّ عائلة كانت يف أصلها من البدو نقلته إىل بيتها يف خراج الص ّفوريه لتداويه باألعشاب
ليك تس ّلمه بعد أن يشفى لإلنكليز "وتقبض مصاري عليه" .لك ّنه "مات عندهم" واحتاروا
ماذا يفعلون به .بعض آخر يقول إنه سقط ميتا محروقا وإنّ امرأة لقبها حنجولة (وهو من
األسامء التي تس ّمى بها البقرات) قطعت إصبعه لتأخذ الخاتم منه.
ويف سنوات أخرى تلت وصل اإلختالف إىل ح ّد أن بعض الناس أخذوا يقولون إنّهام
طائرتان وليست طائرة واحدة ،إحداهام سقطت يف أرض الص ّفور ّية والثانية يف كافالي .وقال
آخرون إنّ الذين كانوا يف الكمب إسرتال ّيون وليسوا إنكليز ...إلخ.
ويف سنوات أخرى تلت تلك السنوات األخرية ُوجد من راح الناس يص ّدقونه .ذاك
ألنّه صار يحيك عن سقوط الطائرتني ( وليس طائرة الص ّفورية وحدها) مثلام تكون األشياء
مكتوبة يف الكتب .وهو بدأ بالكالم عن الحرب بني الحلفاء وهتلر ،ذاكرا أسامء بينها فييش
وسبريس ومعارك جرت يف أماكن سماّ ها بني الدامور والرصفند .كام س ّمى أشهرا وسنوات
مثل أيلول .1942قال أيضا إنّ الطائرتني أسقطتهام مدافع الفرنسيني املؤ ّيدة لهتلر وق ّوات
املحور .كان يعرف أشياء ك ّلها صحيحة ،لكن ليس عن أهل الشومرا الذين مل يذكر عنهم إال
ما عرفه عن القتيل.
"األخبار" املد ّون عنها أعاله بعضها حقيقي وبعضها متخ ّيل .كام أنّ األسامء الواردة ليست أسامء أصحابها
الفعل ّيني ،وإن كان من املمكن لها أن تنطبق عليهم.
207
نص
ّ
مرآة فرنكشتني
ع ّباس بيضون
فننا الكبري
كانوا أوقفوا عمر ورياض ،وألس ّهل األمر عىل نفيس قلت إن التملص عبث وانتظرتهم يف
منزيل بعد أن لبست شيئا سميكا ألتقي الرضب .فوجئوا بوجودي وكانوا يظنون أن رجال
ناضجا مثيل ال بد سيلجأ إىل اإلختباء .أما أنا فآثرت الذهاب إىل السجن بدالً من التو ّرط يف
مامطلة ال أحسنها ،إذ ال طاقة يل عىل أن أبتكر لكل ساعة وأحتال لكل ليلة وأرتجل كل يوم
شجاعة جديدة .كنا وزّعنا مناشري ضد الجيش واستحقينا السجن .علموا كل يشء من عمر،
يل أن أنكر تفاصيل ال ميكن دحضها .فقد روى كيف أعطيته ماالً ألجرة ومع ذلك كان ع ّ
يل أن أنكر السيارة وإىل أين ذهب ومن وجد هناك ومن س ّلمه املناشري ...إلخ .مع ذلك فإن ع ّ
ألن إنكاري يضعف القضية ،كنت أفهم أن أحمي ارساراً بصمتي أما أن أرفع قدمي عىل آلة
الفلق وأدور حولها كالف ّروج وأحتمل عىل كفي رضبات السوط ليك ال ُأضعف القضية وال
أزيد أدلة اإلثبات ،فهذا ما ال أفهمه .سكت يومني ثم ملّا رفعوا عني الرضب تك ّلمت خوفاً من
ضحيت من أن يعاودوه .قضيت يف السجن أسابيع مل أف ّكر خاللها يف أنني ُظلمت أو أنني ّ
أجل مباديئ .جوزيت عىل يشء كنت أعرف متاماً نتيجته فلم أتظ ّلم ،وقال يل املحقق لو كنت
ضحيت ،وحني صادفت زمي ًال مظلوماً لنزلت من عينيك دمعة .مل أشعر أيضا بالرضا ألنني ّ
أحذ يح ّرضني بالقول إن الثورة الصينية انترصت يف كذا سنة والثورة الكوبية انترصت يف كذا
قدمي املتورمتني
ّ سنة ،أمسكت نفيس عن السخرية التي غلت يف قلبي ومل أجد نسبة بني
ووجهي املحبحب وانتصار الثورة الكوبية.
مل نكن سذجا حتى اإلميان بأن الثورة عندنا ستقوم أو تنترص ،وكنت هنا إلثبات أمر
آخر .أمر آخر أثبته لنفيس وال أدري أو مل أعد أدري ما هو ،لكن ما فعلته كان بالنسبة إ ّيل
اختياراً خاصاً ،ومل أستطع أن أراه جزءاً من مسرية .ذهبت إىل اليسار الشيوعي كام ذهب
غريي من أمثايل يومذاك .كان ذلك مقدوراً علينا ،ومل نذهب بفعل تجاربنا الخاصة ،وأنا مل
تكن يل تجربة .مل أكن ميسوراً لكني مل أنتبه إىل أنني كذلك ،وكانت يل حاجات أل ّبي بعضها
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
وال أل ّبي بعضها ،لكن ما ال أل ّبيه ال يورثني حزازة وال أذى ،وأخرجه بال جهد من تفكريي.
زماليئ األكرث قدرة مني مل أحسدهم .كنت أحسب أن ما عندي يفوقهم .حضور فيلم
أو أكل قرن بوظة أو رشاء ساندويش زيادة مل تكن أموراً تقارن بفني الكالمي وال بالرثوة التي
لدي .كان يفأملكها يف لساين .هذا الرصيد الكالمي الذي يتضخم بدون جهد كبري هو كل ما ّ
عطل أي إمكانية حياة أخرى ،إذ كيف ميكن تحويل هذه اململكة الواقع عالياً ودافقاً بحيث ّ
إىل تدابري وأعامل ومبادرات ،فذلك أشبه بصناعة منافض سيجارة من ماس .كيف ميكن مع
هذه اململكة مغازلة فتاة أو ،بحسب تلك األيام ،مالحقتها يف الشارع؟ كان ذلك بالنسبة إ ّيل
سخفا بالطبع لكنه يحتاج إىل جرأة ال أملكها .كيف يل أن أميش بخطوات طبيعية وأنا أفعل
ذلك؟ كيف يل أن أقول تلك الكلامت البلهاء "حلوة ،حبيبتي" يف أثر الفتاة بصوت طبيعي؟.
أستحق مباراة أفضل بالطبع لكن النتيجة كانت مخجلة ،ومن هم دوين يصلون بسهولة إىل
ما ال يتس ّنى يل .حتى حني أفعل مثلهم ال أنجح ،وأبدو يف الغالب غري واثق وثقي ًال ،حتى
الكالم القوي ال يؤثر كام تؤثر بسمة أو وسامة .ال بد أين أقبح من أن أؤ ّثر.
الحقت مرة فتاة طوال الطريق لكني مل استطع قول تلك الكلمة ،وحني صعدت إىل
بيتها وقفت لحظة تحت شباكها ،ووجدتها تفتحه عىل وسعه وتسألني من فوق ماذا أريد
يل من منها .هذه املرة مل أستطع نطق تلك الكلمة ،قلت ال يشء وانرصفت .مل يكن بني مجاي ّ
يتكلم مثيل ،ليس فقط ُجميل ولكن أيضا لهجتي .يف طفولتي وجدوين لذلك غريباً فس ّموين
الشاعر وقلبوها بسخرية إىل "شارع" .عندما كربت قلي ًال نسوا هذا اللقب املؤمل وتخلصت
أنا بصعوبة من رضّ ته .انتبهت إىل أنني أعيش بني أناس ال يحسنون الكالم ،وكان ما أقوله
إعجازاً بالنسبة إليهم .يصغون إ ّيل يف الحلقة وأنا أتق ّدم يف الحيك وكلام اسرتسلت تحطمت
طبقة من خجيل واستطعت أن أتف ّكه وأن ُأم ّتع .ال شك أن الطفل الذي جعلوه أضحوكة
بسبب موهبته يثأر اآلن ،ولقد نجح يف أن يبهرهم أخرياً .أثناء ذلك كم طوقا من الخجل
نفسه ،كم مالطاً من االبتالع والتظاهر والصمت .إنه اآلن يبسط عليهم ظل كالمه، لبسته ُ
وهم اآلن تحت هيمنته .مل تكن أموالهم وال أشكالهم مهمة ما داموا ال يحسنون الكالم.
معسل به ،أنتيش بحايل وأحس أن جويف ّّ كنت أستطعم كالمي ،أتذ ّوقه قبل أن يخرج مني
وأجعلهم عبيد هذه النشوة .ماذا كانوا وأنا أتكلم ،فانني وما ميلكونه فانٍ بالطبع .مع ذلك
كان كل يشء أسهل عليهم .يصلون إىل النساء وير ّبون صداقات وميضون أيامهم بسهولة فيام
كانت كل خطوة مني تجاه ّأي يشء تتطلب جهداً مضاعفاً .فيام كنت متأهباً دامئاً وأمام تح ّد
مستمر ،وحتى فني الكالمي ما كان ليظهر أمام من ال يبالون به ،وكان ميكن أن يتحول إىل
لجلجة إذا قوبل باإلهامل .كنت أحتاج إىل حامية وإىل ما يشبه الحياة يف األكواريوم .كثرياً ما
أبتلع لساين أمام أي درجة من الهجوم أو االزدراء ،ومن املمكن يف لحظة أن أعود "شارعاً"،
وأنطوي يف صمتي .كنت سابحاً يف فني بالطبع لكني أخ َر ُق يف كل يشء آخر ،حتى يف الطعام
ال أحسن معالجة صحني ،أترك لطخة يف كل مكان ويل يف كل لخطة غلطة .بالطبع مل تكن
هذه األمور مهمة يف نظري ،إنها سخافات وال عربة بإتقانها .مل أكن نافعا للرتتيب وال الحرتقة
209
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
وال السباحة وال الرقص وال الحب الذي بسبب ذلك تأخر كثرياً .مل أكن نافعا لذلك وال أحتاج
إليه .بإمكاين الحياة بدونه .ال أحتاج إىل أن أتع ّلم شيئاً .ال تحتاج حيايت إىل تجربة .إن يل
الوقت كله وأستطيع أن أخلق فيه.
كان مقدورا علينا إذاً أن نكون شيوعيني .الشيوعية بالنسبة إلينا أشبه بطبقة صوتية
مالمئة أو موجة ميكن التحدث عليها .ال نحتاج سوى إىل تدريب بسيط لنحسن ذلك ،وال
بد بالطبع من بعض السهر .بقليل من القراءة واإلصغاء والتمرين يغدو فننا كبرياً ومتيناً
فن كان لعدد قليل لدرجة نُذعن لها نحن أيضاً .إنه اآلن ينتمي إىل ّ
فن أكرب وأعظم بالطبعٍّ ،
من الكلامت والصيغ أثر عجيب يف تقويته وجعله فاع ًال .غدونا نحن أكرث اقتناعاً به وكأننا
نسمعه من غرينا ،وبدت ابتكاراتنا وحتى حذلقاتنا صحيحة ،وصار كالمنا حقيقياً لدرجة أننا
بتنا أول املؤمنني به .هذه بالطبع لعبة مع أنفسنا رصنا نظنها مع الوقت قانوناً.
كان لنا مع ّلم يف داخلنا وغدونا تالميذ أنفسنا .ليس يف ذلك قوة شامانية بالطبع ،فقد
عرثنا عىل الطريقة وها هي تعمل من تلقائها .قمنا برتتيب صحيح وال بد أن هذا أنتج.
تفكرينا الخاص ،بتدريب ما ،ال يعود خاصاً .إنه بانتفاء ملا هو شخيص وبأدوات غري شخصية
املس ،متى تندلع رشارة الواقع ،فهذه كمسألة ينفذ إىل طبيعة األمور .أما متى يحدث ّ
الخلق تبقى حلقة مفقودة .املهم أن ف ّننا يتحول هكذا إىل نظام ويكون علينا أن ننحني
له قبل غرينا .وسنكون أول من يص ّدقونه وستستمر هذه الخدعة طوي ًال .سيكون علينا أن
نصغي بامتثال عميق ألنفسنا ،أن نرتك حجرة للتاريخ أو الواقع يف رؤوسنا ،حجرة أو مرصداً،
وأن نق ّدم تقارير عن الواقع أو التاريخ بدون أية نية يف أن نفعلهام .كان كالمنا متقاطعاً
ومتشابكاً وكأنه خريطة أو صورة جوية لهام ،يهمنا أن يكون مطابقاً لكن بدون أي أمل
بيشء آخر .من كامل تحليلنا ذلك الوقت أن يكون الواقع متكام ًال وال نفاذ ممكناً إليه.
مل نفكر يف أن نبني اشرتاكية يف لبنان ،وكان تحليلنا قامئاً عىل استحالتها ،لكن ذلك مل
مينع من أن نكون اشرتاكيني بل زادنا إرصاراً .كان هذا اليأس يجعلنا جنود املستقبل أو جنود
املستحيل ،وهذه املجانية تليق بعمل مل يكن يف قراراته إال فناً .حني بدأنا نقرتب من مسائل
عملية كاالنتخابات مث ًال صعب علينا االنتقال ،فقد كان تحطيم هذه املرآة إىل أجزاء صغرية
صعباً للغاية .كنا جميعا غري راضني عماّ وجدناه يف أيدينا ،والحطام الذي حصلنا عليه كان
محزناً ،وفننا العظيم يتحول إىل حرتقات صغرية .اختلفنا وتف ّرقنا .أغلبنا كتب أشعاراً وقصصاً.
كانت هنا الكرس املتبقية من ف ّننا الكبري.
210
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
مع الرشب والوقت قل االختالف من َجمعة إىل أخرى واستقر كل يف حلقته وانفرد برشيكه.
كانت رشيكتي فتاة جميلة تع ّرفت عليها من سنني يف نشاط شبايب ،ومنذ اللحظة األوىل
وجدنا دافعاً للتقرب من بعضنا بعضاً ودخلنا يف ج ّو من الخفة واملرح والتواصل السهل،
لكننا استنفدنا ذلك كله يف اللقاء األول تقريباً ومل نتجاوزه بعد ذلك أبداً .يحدث ذلك
معي كثرياً وأظنني لست وحيداً فيه .كانت رشيكتي مثلة وهذا ما دفعها غالباً إىل أن تبقى
لصقي يدعوها خوفها من وضعها إىل اإلحتامء يب .مل أكن مث ًال لكن رشبت كفايتي وهذه
الدعوة وصلتني وتق ّبلتها برسعة .درت معها يف الرقصة ،ومل أكن راقصاً جيداً لكن الرقص
يف هذه اللحظة مل يحتج إىل أكرث من أن أط ّوق ظهرها بذراعي وتط ّوق عنقي بيديها .كنا
قطعنا وقتاً كافياً من السهرة والرقص والرشب ،لذا شعرت بأن السهرة مل تعد واحدة وأن كل
اثنني أو ثالثة ،وكل حلقة ،يف غيمتها الخاصة ،وأن شيئاً من الخصوصية يحصل بني األزواج
والجمعات .مل أكن واعياً ألحد وأفرتض أن أحداً مل يكن واعياً يل .كان الرقص اآلن هذا ّ
الضم
وج ّر قدمني بأي خطوة ويف موضعهام تقريباً ،فالحلبة يف هذه اللحظة كانت مساحة متحركة
واملوسيقى كانت نوعاً من رحلة خاصة .وضعت الفتاة فمها عىل أذين وبدأت تغني "اسهار،
بعد اسهار" لفريوز .عرصتني يداها وتطابق جسدانا ،وانضغط صدرها يف جسدي ودخلت يف
حوضها .وحني كنت كلياً يف غيمتي أدور فيها ،أخذت أالحظ أن مثة غيوماً أخرى متر قريب،
ويف واحدة كانت صديقتي املخطوبة تريح رأسها عىل صدر أجمل ش ّبان السهرة.
مل يكن يف الواقع أول عيد رأس سنة أحرضه ،قد يكون الرابع أو الخامس ،لكن العيد
يل .بل كانت سهرة العيد التي تضم جمعاً غري متعارف بالرضورة وال تجمعه كان جديداً ع ّ
حال واحدة جديد ًة ع ّ
يل .كنا بدأنا من زمن نزدري حياتنا ونكره أثناء ذلك مناسباتها وأعيادها.
ومل يكن هذا من أشخاص معدودين أو حتى نواة مثقفة فحسب ،بل كان استعداد طبقة
كاملة بدأت تك ّون فكرتها الخاصة عن الحياة املدينية .مل يكن يف هذه الفكرة أي إبداع أو
وتخل عن تقاليد اع ُتربت ،بدون سبب ،عام ّية وبال ذوق .هجرت هكذا اقرتاح وكل ما فيها نبذ ّ
تقاليد العرس وتقاليد الطهور وتقاليد الجنازة وتقاليد الصيام وتقاليد املوالد وتقاليد السريان
والرحلة ...وبالطبع تقاليد األعياد .لقد بدا لنا أن النضج والتعقل يقتضيان الحياة بدونها وأن
التمدين الحقيقي ينافيها .كنا نتخىل عن حياة قامئة بدون اي بديل من أي نوع .بالتدريج
رصنا عملياً بال حياة .األعياد نفسها حرصناها باألطفال واعتربنا أن الرشد والبلوغ يرتبطان
بالتخيل عنها .كانت مدننا مرتجلة وأشبه مبخيامت ،أما حياتنا فيها فغدت يف النهاية عدداً
من رضورات البقاء ال أكرث .املأوى والتس ّوق والعمل املنزيل والزيارات للنساء ولعب الورق يف
املقهى للرجال ،كل هذا ال يحتاج إىل أسلوب وال طريقة ،كنا نبارشه كام هو بدون أن نوجد
فناً ما لإلقامة أو األكل أو اللعب .حسبنا أن أقرص الطرق إىل أغراضنا عني العقل ،وأن الزخرف
واالستعداد والطقوس هدر للوقت وتضييعه عىل النوافل واملظاهر ،هذا فضال عن كونه سخفاً
وتقليداً .لقد كنا يف الواقع ن ّتهم املخ ّيلة ،كل لحظة ،بأنها األخت الصغرى للرياء.
ال أعرف إذا كان اآلخرون يفكرون مثيل يف أن سهرات رأس السنة كانت بداية ابتكار
211
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
حياة بديلة .معها ابتدأت أيضا األعياد الشخصية والحفالت الخاصة .لقد بدأ إشغال الليل،
إذ إن حياتنا يف األساس قامت كلها عىل النهار ،وأعيادنا وأعراسنا ومناسباتنا كلها نهارية،
واإلفطار عىل حدود النهار ولو بدا أنه يقتطع مع السحور هامشاً من الليل .لقد بدأ اآلن كل
يشء يف املقلب الثاين الفارغ لحياتنا وفيها ،بدون رقابة وال اعتداء عىل الزمن الرشعي ،تكون
البديل .كان األمر يف أوله باهراً ،لقد انفتح باب جديد وكان علينا أن نبتكر ،وقد ابتكرت
خروقات وخيانات كبرية .بدا أن شيئاً يشبه حق الخيانة قد تع ّمم ،ففي مدينة صغرية كهذه
تنتهي الحفلة كل مرة بإباحة ما .يف ع ّز الرقص تنفرط زواجات وتتكون عالقات مح ّرمة
وتُتحدى رشائع راسخة .كان هذا حق السهرة ،يتكلم عنه الناس فيام بعد خلسة ورمبا
يتجاهله املعنيون .يفضّ ل الزوج الذي وجد زوجته يف أحضان آخر والزوجة التي رأته منفرداً
بأخرى أحياناً كثرية أن ال يعودا إىل املوضوع ،فهذا من حق السهرة وما يحصل يف السهرة
يبقى فيها .مل أك ّلم صديقتي ومل تك ّلمني ،أما الفتاة التي راقصتها والشاب الذي راقص ْته فبقيا
دامئا ،بالنسبة إ ّيل وإليها ،ذلك الثالث الذي هو رشيك دائم يف الرقاد الغرامي.
ال أعرف ماذا جرى متاما بعد ذلك .استمرت سهرات رأس السنة ،لكن يف السهرة
العارشة أو الخامسة عرشة ،ال أذكر ،التقينا يف بيتي .حرض كل مع زوجته وجلس جنبها.
صديقتي السابقة أيضا حرضت مع زوجها .جلس الجميع جنباً إىل جنب يف حلقة واسعة
اس ،ثم قاموا إىل املائدة وعادوا بصحون منتظمة عىل طول الصالة وعرضها من كنبات وكر ٍ
كبرية وكؤوس مألى .تك ّفلت النساء مبلء الكؤوس من جديد وإعادة ملء الصحون .تحدث
الجميع للجميع مع استثناءات جانبية بني الجريان يف املقاعد .دار الكالم يف السياسة الذي
تذ ّمر منه البعض ووجده غري جدير باملناسبة .انتقل الكالم إىل رواية النكات وطال حتى
وحدهن .أحيانا كان الزوج يقف يف الحلقة أمام زوجته
ّ ورقصن
َ طفا .عندئذ نهضت النساء
ويهز خرصه قلي ًال ويرفع كتفه ويده ضاحكا من نفسه وكأنه يقوم بفاصل تهريجيُ ،يتبع
ذلك بحركات مستهجنة ثم يعود إىل مقعده .استمر هذا حتى سئم الحارضون منه .كانت
الساعة تجاوزت منتصف الليل بساعة وأكرث ،وصار هناك عذر للخروج فخرج اكرث الساهرين
لكن قبل أن يتم ذلك دخلت صديقتي مع أخريات إىل وبقيت قلة تف ّرقت واحداً واحداًْ ،
وغسلن اآلنية.
َ املطبخ
حلم ريشة
ال أعرف متى شعرت أين أفكر .ال أذكر عمري آنذاك وال هيئتي وال طويل .كنت نحي ًال ونحي ًال
جداً ،يتعجب الكثريون من نحويل ويروزونني بسواعدهم وأك ّفهم أحياناً مظهرين أنهم
ال يشعرون بوزن .كانت أمي تنظر إ ّيل كممروض وتجتهد يف أن تقيتني بكل ما هو أحمر
تعج بدمها وكثريا من الكبد النيئ يف اللحم .ابتلعت بالرغم عني كثريا من الطحاالت التي ّ
والكروش املحمرة التي أغالب قريف منها .كانت تلحقني بها وتكرر عىل سمعي أين ضعيف
212
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
213
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
سبب ،كان لنفسه فقط .أن أفكر يعني أن أفعل كل يشء بخيايل .يعني أن يكون هناك واقع
آخر يف رأيس .أن تكون هناك أمور تحصل مبجرد أن تخطر .كان هذا اعجازياً ،سحراً خالصاً،
وبالتأكيد امتيازاً هائ ًال.
كان عاملي ،كام أظن ،يزيد عن الذي ألصحايب أضعافاً مضاعفة .ليس هناك أص ًال سبب
للقياس .كنت بالقياس لهم هائ ًال .جميعهم ال ميلكون ظفراً مام أملك .ليس لديهم باألصل
تلك الم َ َلكة التي ُأعطيت يل .كنت تحت رعاية خاصة .يل طبيعة أخرى .كنت وحدي ،ورمبا
يف العامل كله ،أفكر.
يل وحدي أيضاً قدرات أخرى ،كنت قادراً عىل أن أفعل بالجسد شيئاً مام أفعله
أشك يف أن ذلك ممكن حتى وإن مل أفعله .الحظت يف يوم أين أسري يف خفة تشابه بالفكر .مل ّ
الطريان .حني ف ّكرت يف ذلك بدأ مشيي يشابه الطريان أكرث ،لدرجة أين بدأت أسري بارتفاع
قليل عن األرض .بدا أين ،عىل نحو ما ،أسبح يف الهواء .كان هذا متريناً يندمج فيه خيايل
وجسمي ،ولوقت طويل بقيت أمارسه ،وال أذكر متى فقدت القدرة عليه .لك ّني حتى اآلن
متأكد من أنني طرت قلي ًال من قبل.
حني تخليت عن شنتتي عرص قلبي حنني قاس إىل الشنتة وإىل يشء أكرب من ذلك،
ال أعرفه لكن بدا يل أين أفارقه مع الشنتة .كان الحنني اكتشايف الثاين ،دون اآلخرين .كنت
آنذاك الوحيد الذي يحن .سيعرتضني هذا الحنني يف كل فقرة من حيايت .كل قفزة ستخ ّلف
وراءها ماضياً جديداً ال عودة إليه.
حني غادرت القرية كنت أعرف أين لن أبقى فيها .ولدت فيها وأمضيت طفولتي لكنها
مل تكن قريتي وال بلدي .يف هذه البالد قلام نولد يف مواطننا وال ندين بيشء إىل حيث نولد.
نعرف مهام طال الوقت أننا عابرون وسنغادر يف يوم بال عودة .مع ذلك عرص قلبي حنني
يل ثانية أن أترك بدون أن أنظر إىلممزوج بالخوف ،أو خوف كبري ممزوج بالحنني .كان ع ّ
الخلف .كنت يف الثامنة أو التاسعة يومذاك لكن بدا يل أننا ننتقل دامئا إىل يشء أضيق.
جعلني البنطلون مرئياً أكرث ومسؤوالً أكرث .أخرجني من اإلغفال الواسع الذي خلت أن
الشنتة تضعني فيه ،وها هو االنتقال إىل املدينة يجعلني مجدداً تحت العني ،ولن يكون بعد
يف وسعي أن أختفي بالقدر نفسه أو أسوح عىل راحتي.
الحنني كان أيضاً لعنتي أو هو طبيعتي الثانية التي أتناساها إىل أن تداهمني مجدداً
ومتألين خوفاً من نفيس .ينعرص قلبي لدى ذكر أي فراق .أذكر كيف شقّ ع ّ
يل يف فت ّويت أن
أتخيل فراقاً لعادة كالتدخني قىض فيها الواحد 40عاما .كان هذا بالنسبة يل خوفاً من
األبدية .أقول يف نفيس كيف يستطيع األنسان أن يرتك إىل األبد شيئاً ،أي يشء .أتخيل أن يف
هذا ذهابا يف العدم إىل العودة .حني ال يكون هناك أقل فرصة لبقاء أثر ما ،حني ال يعود
هناك سوى التبدد الكامل.
مع ذلك كان حنيني للشنتة وحنيني للقرية بال موضوع تقريباً .لعله ليس سوى
خوف من يشء أكرب .مل أحاول العودة إىل القرية .رغم أن هذا يكلف أقل من ساعة يف
214
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
السيارة ،مل أفكر يف العودة .مل تعش اللوعة أكرث من يوم .كان ه ّمي فقط أن ال يالحظ أحد
أنني ابن ريف .بالفعل بدلت لهجتي يف ليلة واحدة فلم ينتبه أحد يف الغد إىل أنني أميل
بالياء .كأن مل يكن الحنني حقيقياً وليس سوى فكرة تع ّذب أكرث بكثري من الواقع .أوكأن ذلك
كان مرصوفاً إىل يشء آخر ،إىل فجوة أصلية ،وجرح أصيل ال أعرف متى تك ّونا.
تبدو األشياء مرعبة يف الخيال والفكر أكرث مام هي يف الحقيقة .رمبا أعاين من "ميوب"
يف عقيل .أعيش يف رأيس دامئاً وكأين ال أرى أو أرى دامئاً بيشء من االنحراف.
وصلت إىل صور ابن تسع تقريباً .مذاك اجتهدت ألنخرط ونجحت مبقدار .تقدمت ما
حسبت أنه يكفيني ومل أتجاوزه .فعلت ذلك بتصميم وكلفتني كل خطوة شيئاً من العناء،
وكان ال بد من أن أتوقف قبل مسافة وأن ال أكمل .اإلندماج ال يتم بإرادة وحساب ،وأنا مل
املك حتى الفضول ألفعل .مل أكن مهت ًام ،بقيت هكذا بني بني .أنجح حني ال يجربني أحد
يف أن أبدو صورياً .صحيح أين مل أتقن السباحة ،لكن مل أكن الوحيد .مل أعرف مبا يكفي
أخبار الحي وأهله لكن أحداً مل ميتح ّني .بالطبع الحظوا رشودي لكن األسوأ كان مالحظتهم
لتفوقي .تباهيت بقدريت عىل قراءة القرآن وتالوته ،وكان هذا أعىل بكثري من قدرات أوالد
جاؤوا من بيوت مل يروا فيها كتاباً ،لكنه مل يكن ،مع ذلك ،تحدياً حقيقياً .مل يكونوا قادرين
عىل فهم أن شيئاً كهذا قد يكون مجاالً للتسابق .نظروا إليه باستغراب .وجدوه فقط طريفاً
ثم ما لبثوا أن ضحكوا منه كأنه نوع من األكروباسية.
كان تفوقي محل رهان خارس .جرحني هذا لكني مل ألبث أن تس ّل ّيت .أمتلك باستمرار
هذه الحياة املوازية التي أطري فيها عىل كيفي .مل أندمج كلياً ،مل أكن بحاجة إىل االندماج،
أخذت منه حاجتي وما بقي بقي يل .كنت ألعب وحدي ،ألعب بخيايل وقدمي ،مل أكن
بحاجة إىل آخرين .أقرأ ساعات وأغيب يف القراءة إىل أن أنتبه إىل صياحهم يدعونني إىل
الغداء .أتعمشق عىل سطح املطبخ ألصل إىل الدالية املنشورة فوقه ثم أسقط بخفة عنه
كالعصفور .يل أصحاب يف الصف ال أشاركهم يف اللعب .أصحاب يف الحي ألعب معهم
باحرتاس ،االحرتاس هو طبيعتي وال أصل إىل تطابق مع أحد أو يشء .يف رأيس باستمرار هذا
الفرق غري املريئ الذي يجعلني جانباً.
بقي يل أيضاً ،ما حسبته ،تفوقي بالفكر والخيال وبعدها بالقراءة والكالم .هنا ال مجال
للمقارنة .مل أحتج حتى إىل إظهار قدريت .تفوقي عىل أصحايب ثم عىل أساتذيت كان واضحاً،
تقدمت فيه برسعة شيطانية .كنت من هذه الناحية طف ًال متعملقاً ،أما هم فال أعرف كيف
كانوا يرونني .استضعفوين بالتأكيد وكنت أرتجف منهم وأحمي نفيس بجواب سديد ،أو
استعطاف خفي ،ليجعلني أقواهم تحت حاميته.
ً
املدينة ال أعرف إذا كنت الوحيد الذي مل يفكر فيها .كنا جميعا نعيش يف الحد األدىن.
بيوت بال فن ،حياة بال أسلوب .جدران عارية تقريباً وطوابق مرتجلة ومبنية كام اتفق،
شوراع تتوسطها سواق ضيقة تندفق فيها مياه الغسيل والجيل ،أقذار يف الطريق وحيوانات
شاردة وأحياناً نافقة .هل كان هذا يكفي لرؤية املدينة؟ كان هناك أيضاً البحر الذي جرينا
215
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
عىل صخوره بدون أن نشعر أن هذا يغري يف اإلطار .الحرش الذي طاملا هربنا من الصف
إليه بدون أن نالحظ أنه يضيف شيئاً .كل هذا يختلط باإلسمنت العاري والشوارع الجرداء
وعظام الحيوانات .كانت املدينة تخرج من أحيائها القدمية إىل الخالء الرميل حيث ترتجل
مباين وشوارع ،جميعها طبق الحاجات األوىل ،إذ ليس بعد الرقاد والطعام والتسوق أي
مطلب .حياة يف الحد األدىن أو مجرد بقاء عىل قيد الحياة.
ال أريد أن أسرتسل أكرث ،فلست يف الحقيقة مقتنعاً بأن هذا هو السبب يف المباالتنا.
ما دمنا ال نرى وال نالحظ فلن يكون هذا سبباً .كنا قبل هذه األشياء ،وأنشئت عىل قدر
حاجاتنا وخيالنا .مل نطلب شيئاً أكرث مام هو رضوري ومل نهتم بغري ذلك .لقد صنعنا أشياء
طبق احتياجاتنا ومل نصنع شيئاً لخيالنا.
هل كنا فع ًال غري منتبهني .أم أن هذه حايل وحدها .أنا مل أفكر يف األمر .مل استبشع
جداراً منخوراً ،ومل اشمئز من رائحة رؤوس الرسدين املكومة تحت الحيطان ،ومل أنزعج من
منظر الصابون الذي يكرج يف السواقي ،وال من الطفلة التي تقف فيها وتسكب منها عىل
رأسها .مل أكره األزقة املظلمة ،ومل أنرشح للبحر الهائج تحت الطريق .حتى حني حاولت،
بتأثري األدب ،أن أرصف انتباهاً خاصاً للبحر مل أداوم عىل ذلك وسلوته برسعة .مل أكن أرى .يف
الحقيقة مل أكن أشعر .مل أظن مرة أن عيل أن أحب أو أكره ما يحيط يب .كنت ألبسه بدون
أن أعرف وبدون أن أنتبه .ك ّنا واحداً إىل الدرجة التي ال ميكنني فيها أن أراه .كان موجوداً
أمامي وال يحتاج إىل أن أنظر إليه ،ال يسأل عن رأيي فيه .وأنا كنت أدور يف هذا املكان بدون
أن أحس به ،أعربه بقدمي فقط وال أعريه أي يشء آخر .كانت يف الغالب غفلة شاملة .تجرنا
أقدامنا إىل صخور البحر أو املقربة .ال فرق ،املهم أن نجد مسرتاحاً .يف بيوتنا ال يهم إال أن
نجد مأوى .هذه أشياء ننساها مبجرد أن ننال ما نريده منها.
كنا جميعاً غف ًال ووسط إغفال شامل .كنا يف آخر العامل ،وجودنا ال يساوي كثرياً ،ليس
لدينا الكثري الذي يستحق أن نتذكره ،ليس هناك ما يستحق أن نالحظه .بالقياس إىل أفكاري
السيالة والهائجة دامئاً مل يكن هذا املكان يكفيني .مل أكن أفكر يف هذا املكان وال لهذا املكان.
كنت كمن يعيش يف سحابة وال أتذكر اآلن حيايت إال عىل أنها نوع من الغيبوبة .مل أكن واعياً
لغفلتي وغري دار بأن حيايت الخصبة يف رأيس وصلتي بالواقع شبه آلية .أعرفه فقط بقدمي
ومعديت بدون أن أنتبه إىل أن ما يبعدين عن الجنون هو هذه اآللية .هي وحدها الخيط
الضغيف الذي يصلني بالعامل.
كنت بر ّياً إىل حد بعيد .جاه ًال تقريباً بكل اللياقات .حني الحظ أيب أنني أجيب بكلمة
«عال» عىل كل سؤال اجتامعي ،علمني بضع أجوبة متاميزة« :بنظرك عىل كيفك ،إىل من ْ
هو أشوق عىل مشتاقني» .كنت أدليّ رجيل عىل جانب الكنبة يف حضور أي كان بدون ان
يخطر يل أين أسيئ الترصف .أقول للشيخ عبد الوهاب الذي يحمل نفسه من بيته بأن والدي
يل أن أفتح له الصالون وأنادي والدي .كنت بر ّياً متاماً واحتجت نائم ،بدون أن أعرف أن ع ّ
إىل وقت طويل ليك أتدرب عىل اللياقات االجتامعية .رمبا كانت نسيانايت املتكررة وسهوي
216
نوضيب ساّبع يتشكنرف ةآرم
217
بناء/هدم
219
نص
سألني ،محاوال إلهايئ ،عن برنامجنا يف رام الله .فهو قلق من زيارة عائلتي والتعرف اليها
لعلمه بأنه غري متمرس يف عامل املجامالت االجتامعية .سؤال ليس يف وقته .أردت أن أقص
عليه حكاية "الباربكيو يف الحديقة" ،ولكني عىل األرجح تأتأت ببعض الجمل غري املفهومة
عىل وقع تخبط الطائرة بالغيوم.
القصة معقدة ،وأنا لست متأكدة من أنني أستطيع أن أرويها اآلن وأنا يف كامل وعيي.
لكن ال بأس باملحاولة.
قبل نحو سنتني كنا أنا وابنتي علياء يف زيارة لألهل يف رام الله .كان يوم جمعة .والدي
ال يعمل أيام الجمعة وكذلك أخي وأختي .والديت ال تعمل أص ًال .هو كان منعها عن العمل
بعد الزواج ألنه ،كام تقول ،كان يغار عليها بسبب جاملها وتحديدا جامل ساقيها .هي،
معلمة الرياضيات ،مل يراودها م ّر ًة أن ساقيها سيقفان عائقا أمام مزاولتها مهنتها يف تعليم
الحساب للصفوف االبتدائية .كان الطقس ربيعياً ،فطلبت علياء من جدها فؤاد أن تخرج يف
نزهة مع كافة افراد العائلة .وافق فؤاد الذي ال يقوى عىل رفض طلب لحفيدته املفضلة ،أو
التي كانت مفضلته حتى والدة فؤاد الصغري ،ابن شقيقي.
سأع ّرفكم أوالً بأفراد عائلتي .والدي فؤاد ،والديت عايدة ،أخي طارق وزوجته سمر
وابنتهام منى وابنهام فؤاد (طبعا) .عذرا عىل اإلطالة ،لكن القصة ستزيد تعقيدا الحقا،
وعليكم معرفة َمن يكون َمن .وهناك أيضا شقيقتي شادن وزوجها عمر وابنهام الوحيد
زيد ،الذي يكره االزعاج ويعشق تكسري كل ما حوله .هكذا قال يل عندما كان يف الثالثة من
عمره ،بينام كان يق ّلب بهدوء قوارير "الز ّريعة" عىل البلكون فيام يسمع زمامري السيارات
صح؟!".
يف الشارع" :إزعاج خالتو ّ
إذاً ،قهوة صباحية عىل بلكون الوالدة املطل عىل جبل زيتون ،أو عىل األقل كان
كذلك قبل فورة اإلعامر يف رام الله .موضوع الحديث محاولة تحديد برنامج اليوم .علياء
اقرتحت القدس ورسعان ما ُحسم األمر ألن غالبية أفراد العائلة ال متلك التصاريح الالزمة
من السلطات االرسائيلية للعبور إىل هذه املدينة املتاخمة لرام الله ،علام أنها مسقط رأس
لكن مبا أننا عائلة غري معروفة بالرومانسية ،تخطينا املوضوع من معظم أفراد العائلةْ .
دون إفراط يف ندب حظنا وانتقلنا عىل الفور اىل التفكري يف مكان آخر .مل أعد أذكر من
اقرتح أريحا .الجميع رحب باملوضوع ،فهذه املدينة ال تبعد سوى 30كيلومرتا عن رام الله،
وطقسها يف الربيع بديع ،ولنا أصدقاء هناك بارعون يف إعداد طبق املسخّ ن.
علياء تحب أكلة املسخّ ن ،الطبق الفلسطيني بامتياز الذي تم تحديثه يف االردن
ولبنان حيث فقد كيانه وطعمه وأصبح يؤكل بالشوكة والسكني .هذا الطبق عالمة امتيازه،
كام يقول الفلسطينيون" ،الزيت الذي يرشرش من االكواع" .فهو مصنوع من كثري من البصل
وزيت الزيتون عىل خبز الطابون باالضافة إىل نصف دجاجة فوق كل طبق.
لكن هنا اندلع السجال الذي خلته هذياناً حول من ميكن له عبور ّأي من الحواجز، ْ
وأي الطرق ،للوصول إىل املطعم .فقبل االنتفاضة الثانية ،أي قبل العام ألفني ،كان طريق رام ّ
221
ضخ لانم ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب
لكن بعد إغالق القدس إغالقا تاما بالجدار ،أمام الله -أريحا مير عرب مناطق تابعة للقدسْ ،
فلسطينيي الضفة الغربية وطبعا قطاع غزة ،تم شق طريق التفايف يربط املدينتني من دون
ثم ،هناك حواجز إرسائيلية عىل مداخل كل مدينة يف الضفة ،وهي العبور يف مناطق القدسّ .
تتطلب تصاريح تختلف يف حيثياتها تبعاً لألهواء االرسائيلية.
عمر (زوج أختي) وسمر زوجة أخي ،كالهام من مواليد سكان القدس ويحمالن
الهوية املقدسية الزرقاء التي تصدرها إرسائيل ،وبالتايل ُيسمح لهام بالتجول يف كافة املناطق
التي ُيسمح لالرسائيليني بالتجول فيها ،أي أن وصولهام إىل املطعم ممكن وإمنا عرب حواجز
مخصصة لالرسائيليني ولحاميل الهوية املقدسية .باقي أفراد عائلتهام ،أي شادن شقيقتي
ووسيم شقيقي واالطفال الثالثة ،ال ميلكون تصاريح ،وبالتايل ميكنهم فقط عبور مدينة
أريحا من املدخل الجنويب عىل أن يغادروها من املدخل الشاميل .والدي بصفته عضوا يف
نقابة التجار ،تتكرم عليه السلطات االرسائيلية ،بني حني وآخر ،بترصيح مرور بني املناطق
(أ) و(ب) و(ج) يف الضفة الغربية .يومها كان يف حوزة والدي ترصيح يخوله مغادرة رام الله
وعبور أريحا ومغادرتها من مدخلها الجنويب .والديت ال متلك ترصيحا وامنا بسبب تقدم سنها
ولدواع بقيت غامضة يل ،كان علينا سلوك ٍ قد ُيسمح لها مبرافقة والدي .أنا وعلياء ابنتي،
الطريق الشاملية لرام الله للتوجه إىل أريحا .إنّه طريق متعرج وصعب قد يستغرق وصولنا
إىل مدينة املسخّ ن عربه ساعتني ،هذا يف حال سمح لنا بدخول أريحا.
نصف ساعة من الجدل العقيم عىل الطريقة العربية بعدما افرتشت طاولة القهوة
أعداد هائلة من التصاريح وبطاقات الهوية .علياء حاولت أخذ ورقة وقلم لتدوين لوائح
تشمل من سيستقل هذه الطريق ومن سيستقل تلك .النتيجة أن العائلة ال متلك العدد
الكايف من السيارات لكل هذه املسالك .يف غضون ذلك تض ّمن ضجيجنا عرشات االقرتاحات
منها محاوالت استبدال املرشوع أو املدينة ك ّلها ،وهذا ما وضع والدي ح ّداً له بقرار حاسم
ال يقبل األخذ والرد" :باربكيو" يف حديقة املنزل!
املطبات األرضية
رحلتي مع كريم وعلياء من بريوت إىل رام الله بدأت عرصا .استقللنا سيارة تاكيس لتوصلنا
إىل عامن ،حيث سنميض الليلة ،لنتوجه صباح اليوم التايل إىل جرس املللك حسني ومنه نعرب
إىل الضفة الغربية .الطريق من بريوت إىل عامن طويلة تستغرق خمس ساعات عىل االقل،
تتخللها عدة وقفات عند الحدود اللبنانية ومن ثم السورية وأخريا االردنية .علياء وكريم
غرقا يف النوم رسيعا ،بينام قاومت أنا شعوري بالنعاس مجرب ًة ،وذلك لتسلية السائق الذي
لكن كلام اقرتبنا من الحدود زاد ضعفي يف مقاومة النوم .غريب هذا بدا التعب عىل وجههْ .
الشعور بالنعاس الذي ينتابني يف كل مرة أعرب الحواجز والحدود .فأنا لطاملا اعتقدت أن
النعاس مرتبط بالطأمنينة ،وأتذ ّكر دوماً ما قالته يل صديقة لبنانية من أنها تتثاءب ال شعوريا
222
ضخ لانم ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب
كلام اقرتبت من حاجز للجيش أو للرشطة .قالت يل إن ذلك يعود ،عىل االرجح ،إىل أيام
طفولتها عندما كان والدها يطلب منها ومن اخوتها أن يتظاهروا بالنوم لتسهيل عبورهم
عند وصول سيارة العائلة إىل حاجز للجيش أو للميليشيات.
السائق بدا يف وضع جيد .وصلنا إىل منطقة ضهر البيدر الجبلية .لست أدري ما إذا
كانت الجغرافيا هي السبب ،إذ أخذت أتخيل مشهد املال عمر عندما نجح ،مستعيناً بعني
واحدة ،يف الهروب يف جبال تورا بورا الوعرة عىل دراجته النارية الصغرية ،أو "الطزطيزة" كام
نسميها ،بينام طائرات ال يب 42االمريكية تالحقه من دون جدوى.
اقرتبنا من نقطة الحدود اللبنانية .أيقظت علياء من نومها ألذكرها بدرس الحدود
كام تسميه :ما عليها أن تقوله وما عليها أال تتفوه به" .ال تنيس يا علياء عند الحدود
اللبنانية والسورية :ال تلفظي كلمة رام الله .إذا سألونا عن وجهتنا قويل عامن" .نحن نحمل
جواز السفر اللبناين .ويف ظل قوانني وطننا الجديد ُيحظر علينا السفر إىل فلسطني ألننا
بفعلنا هذا نكون قد قطعنا حدوداً تسيطر عليها إرسائيل ،وبالتايل نُصبح يف نظر السلطات
اللبنانية ،وطبعا السورية ،من املتعاونني مع العدو .أخرجت جوازات السفر الفلسطينية
من حقيبتي متهيداً إلخفائها يف حال ُأخضعنا للتفتيش .علياء اقرتحت أن تضعها يف الجيب
الخلفي لبنطالها" :ماما ،لن يفتشوا بنطلوين" .فكرة جيدة ،أعطيتها الجوازات .مل يسألنا أحد
عن وجهتنا يف نقطة حدود املصنع اللبنانية .الحدود السورية كانت خالية من املسافرين،
هم بختم الجوازات،سلمنا جوازات سفرنا إىل الضابط عىل الشباك املخصص للبنانيني ،وبينام ّ
سأل عن املرافقني وقال بلطف "أين هي الست علياء الجميلة؟" ،فيام هو ينظر إىل صورتها
عىل الجواز .وما إن أرشت بيدي إليها حتى وجدتها ترتجف .مل ينتبه الضابط .ابتسم لها
وطبع االختام ومتنى لنا رحلة طيبة .عدنا إىل السيارة وطلبت مني علياء أن أخ ّبئ الجوازات
بنفيس يف املرة القادمة.
أمامنا ساعتان من الوقت داخل االرايض السورية قبل أن يحني موعد درس الحدود
الرقم .2علياء وكريم استغرقا مجددا يف النوم .وقرر السائق ،وهو أردين من أصل فلسطيني،
أن يس ّليني ومي ّوہ عني وحديت :هل أخربتكِ أنني كنت يف غزة بعد الحرب االخرية عليها
نئ ع ّمن تبقى من عائلتي هناك؟. ألطم ّ
– –وكيف وصلت إىل غزة؟ ،سألته.
– –عرب أحد األنفاق من مدينة رفح املرصية.
– –وكيف هي االنفاق؟
– –شاقة بعض اليشء ألين ،وبسبب ارتفاع رسوم عبورها ،أضطر إىل سلوك النفق العادي،
ال ذلك املخصص للـ "يف آي يب" .خمسمئة دوالر لقاء العبور عرب النفق العادي ،أي
أحد تلك االنفاق الضيقة التي يقطعها العابر منحنيا بسبب انخفاض سقفها .قطعت
مسافة سبعامئة مرت وأنا منحنٍ أحمل عىل ظهري أنبوبة االوكسجني وضوءاً .أما
نفق الـ "يف آي يب" فيمكن للمرء عبوره واقفا وهو مضاء ،لكن رسومه تتعدى األلف
223
ضخ لانم ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب
دوالر.
ابتسم ثم قال يل:
– –هل تعلمني أن سلطة حامس يف غزة تع ّد الفتتاح حديقة حيوانات؟ لقد نقلوا الكثري
من الحيوانات من مرص عرب االنفاق ،حتى أن أسداً كان يف عدادها ،وهذا بعدما
خ ّدروه طبعاً .لكن حتى اآلن مل يتمكنوا من نقل الفيل إذ ال يوجد نفق يتسع لفيل.
– –وكيف هي العائلة؟،
– –بخري واملعنويات مرتفعة.
ليلتنا يف عامن كانت قصرية إذ توجهنا باكرا إىل جرس املللك حسني (جرس أللنبي) .اليوم كان
يوم جمعة ،ويف أيام الجمعة يغلق االرسائيليون املعرب باكرا استعدادا لعطلة نهاية االسبوع
اليهودية (الشاباط) .الحدود االردنية كانت شبه خالية ،فأنجزنا معامالت الدخول برسعة.
قبل التوجه إىل الطرف اآلخر من املعرب الذي تسيطر عليه إرسائيل ،اتفقنا أنا وكريم
عىل خطة موحدة .أوالً علينا إخفاء جوازات سفرنا اللبنانية .كريم يستخدم جواز سفره
الفرنيس ،وأنا وعلياء الفلسطيني .اتفقنا أن يقول كريم إنه يعيش يف فرنسا وإنه متوجه
إىل القدس لزيارة االماكن املقدسة .أكدت عليه أ ّال يقول إنه متزوج من فلسطينية وإنه لن
يذهب إىل الضفة الغربية وال يعرف أي فلسطيني .افرتقنا عند املعرب .توجه كريم من ممر
االجانب ،وأنا وعلياء من ممر الفلسطينيني ،عىل أن نلتقي عند أول نقطة بعد الحدود.
تاكيس ومن بعده باص وباص آخر حتى وصلنا أخرياً إىل نقطة التفتيش االرسائيلية .وبينام
نحن ننتظر يف الصف أمام شباك تدقيق الجوازات ،قالت يل علياء إنها ستصبح مليونرية،
مشرية بيدها إىل يافطة كبرية معلقة عىل الحائط :جائزة بقيمة عرشة ماليني دوالر تقدمها
دولة إرسائيل ملن يقدم أي معلومة قيمة عن جنديني ارسائيليني اختفيا عام 1982يف جنوب
لكن علياء رسيعاً ما
لبنان مع صورة لهام .سأبحث عنهام عندما نعود إىل لبنان .أوبسّ .!...
نسيت أنه يجب أ ّال تُذكر كلمة لبنان هنا.
ْ انتبهت إىل خطئها :لقد
وصلنا إىل املكان املفرتض أن نالقي فيه كريم .انتظرنا أربع ساعات .مل يأت .هاتفني
بعد عودته إىل الحدود االردنية .مل يسمح له االرسائيليون بالعبور :بعد التدقيق يف جواز
سفره الفرنيس املدون عليه أنه من مواليد بريوت ،طلبوا منه الجلوس عىل حدة ،وبعد ثالث
ساعات أعادوا إليه جواز السفر طالبني منه العودة من حيث أىت ،إذ ليس لديهم الوقت
وقعها كبري .ذاك أن أخطر ما ميكن
الكايف للتدقيق يف ملفه األمني .ملف كريم األمني! كلمة ُ
أن يجدوه مجموعة من وصفات الطبخ االيرانية التي يجهد ،هو املولع باملآكل العابرة ّ
لكل
حدود ،إلتقانها.
باص ومن ثم تاكيس وتاكيس ثانٍ أوصلنا أخريا إىل منطقة قلنديا ،عند مدخل رام الله،
حيث يوجد أيضا معرب قلنديا الذي يفصل مدينتنا عن القدس .املعرب الذي اس ُتحدث قبل
أعوام ،مينع عبور الفلسطينيني إىل تلك املدينة إال بترصيح من االرسائيليني ،وهو عبارة عن
224
ضخ لانم ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب
225
ضخ لانم ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب
إذ أن منى وفؤاد سيبقيان من دون أوراق ثبوتية ريثام تتأكد السلطات الرسائيلية من
بصامتهام منطبعة عىل كل كريس وطاولة وصحن يف بيتهم املقديس.
عند البطون تضيع العقول .مثل ينطبق عىل عائلتي .مل ننتظر سمر واالطفال وانهمكنا،
أنا وعلياء ،مع أفراد العائلة املوجودين بأكل امللوخ ّية التي تعدها الوالدة عىل الطريقة
الفلسطينية ،أي مع كثري من الحامض والفلفل االخرض الح ّراق.
القهوة كانت مثل العادة عىل فارندة الوالدة املجهزة بحاسوب وع ّدة الرنجيلة.
فساعات بعد الظهر تخصصها والديت للعب الورق "أون لني" ،بينام تدخن نرجيلتها بهدوء
ريثام يعود االطفال من القدس ويعود الضجيج اىل البيت .هي ساعة االسرتاحة الوحيدة
التي أحظى بها يف اليوم ،قالت أمي .املوضوع استفز والدي عىل ما يبدو إذ رد بعصبية
موجهاً الحديث إيل" :ال تصدقيها ،ثالث ساعات عىل االقل كل يوم تتحول خاللها والدتك ّ
اىل صنم .ال ترسل وال تستقبل .تتجاهلني خاللها متاما .تقوم الدنيا وتقعد وهي ليست هنا.
حتى اذا رن جهاز الهاتف امللتصق بحاسوبها ،ر ّدت بعد عرش رنات ،ترفع السامعة ،تقول
وتبسمت أنا إذ
"آلو" وتصمت حتى يعتقد املتصل أن مكروها ما حصل لها" .عبست والديتّ ،
فهمت سبب فتورها عندما كنت أهاتفها من بريوت يف ساعات بعد الظهر.
"إنس غرامك راح" يف منطقة يف املساء اقرتحت شقيقتي أن يكون العشاء يف مطعم َ
بريزيت القريبة من رام الله .وهكذا كان.
أخرياً أنا يف رسيري أو ما افرتضت أنه كذلك .والديت ال ترتك شيئاً عىل حاله :يا له من
عامل افرتايض :اإلرسائييل ،أكان يف تل أبيب أو يف مستوطنة ما يف الضفة الغربية ،يفرتضني غري
موجودة .وهنا ،عىل كل حال ،يبدو الزمان واملكان وأشياء أخرى كثرية حاالت افرتاضية .أن
تعطي موعدا لشخص ال يعني أنك ستلتقيه يف املوعد أو يف املكان املحدد .وأن تقرر القيام
برياضة الركض اليومية إذا كنت من محبيها ،وهذا ما أفعله يف بريوت ،فهذا أمر إشكا ّيل.
ففي الركض هناك ليس العقل ما يق ّرر الوجهة ،وال الرجالن ما يح ّدد عدد السعرات الحرارية
املبذولة.
إذاً ،سأفرتض اليومني اللذين قضيتهام عىل الطريق مع علياء يومني افرتاض ّيني فحسب.
عجت بكثري من الحمصلن أخوض يف تفاصيل األيام الستة التالية من العطلة العائلية .لقد ّ
والبامية واملقلوبة واملسخّ ن والباربكيو ،ومبشاعر مشوبة بالتواطؤ مع املال عمر اختلطت
أحيانا ببعض من حسد وغرية .نعم ،مشاعر غرية من املال عمر!
226
محارضة غري أكادميية
سكان الصور*
ربيع مروة
الفصل األول
الصورة األوىل
صف ع جنب .ط ّفي الس ّيارة .نزال ع األرض .اعطيني الكامريا.
هويتك .وراق الس ّيارة .رخصة السواقه.
افتاح الصندوق .التابلو .اعطيني الكامريا.
وين ساكن؟ من وين باألصل؟ شو بتشتغل؟ وين بتشتغل؟
صحايف؟ مرسحي؟ ممثل؟ وين بتمثل؟
مثلنا شوي؟ إيه هون ..بنص الطريق ..شو فيها؟ ..بتستحي؟ بتخاف؟ بتتلبك؟ بتخجل؟
بتنحرج؟
ولو! ممثل وبيخاف ميثل ق ّدام العامل؟
مثل!
افتاح الكامريا؟
مني هاي؟ مني هيدا؟ مني هول؟
وين هاي؟ إميتني هاي وهاي؟ شو هاي؟ وين هاي؟ مني هاي؟
وهاي؟
228
ةورم عيبر روصلا ناكس
***
229
ةورم عيبر روصلا ناكس
مصور هاوي ومش محرتف متيل كان عم بيصور شو ما كان وفجأة بينّ يش بالصورة ما ممكن
ينشاف بالعني املج ّردة؟
فرجيت هالصورة ألحد األصدقاء ،قاليل هيدي فوتومونتاج أو فوتو مانيبيوليشن .وبالعريب
بيصح قول :تالعب بالصور أو صور مفربكه.
ضجه بوقتها.
قصة إلها عالقة مبوضوع الصور املفربكة ،عملت ّتز ّكرت ّ
بسنة الـ ،82مجلة "ناشونال جيوغرافيك" بتقرر تق ّرب هرمني من أهرامات مرص لحد بعض،
حتى يركبو بقلب صورة الغالف اليل هي عامودية ،ف َز َركوهن عبعض.
مر ّكبه وهاللقاء ما تم وننهي املوضوع. أكيد هينّ نقول إنو هيدي صورة
جمعهن مع بعض. ْ أو منقول مث ًال :واحد جايي عبالو يلعب أو يعمل عمل فضائحي،
أو ممكن كامن نحط هالصورة تحت هدف نضايل تعبوي من خالل هاللقاء ا ُمل َتخ ّيل .بنقدر
حب يستدعي الرجلني العتبارات سياسيه آن ّيه ،فحرشهن يف نزيد كامن إنو الحريري اإلبن ّ
صورة وحده ليأكدلنا أنو وريث سياسه عروبو ّيه عريقه ذات تاريخ نضايل طويل ومرير ضد
االمربيالية العاملية وربيبتها الدولة الصهيونية؛ تاريخ نضايل عنوانه األول فلسطني العربيه
وشعاره التالت الءات :ال صلح ،ال تفاوض ،ال اعرتاف.
230
ةورم عيبر روصلا ناكس
ممكن كامن نقول عن هالصورة باعتبارها ُمر ّكبه ،أنها تستنفر األموات يف عامل األحياء ،يف
معاركهن اليوميه اليل مل تنت ِه
ْ الستخدامهن كسالح يف
ْ أمواتهن
ْ يرص سكانو عىل استدعاء بلد ّ
وعىل األرجح لن تنتهي.
وفينا نحيك ونقول كتري أشيا عن هالصورة من حيث انها صورة ُمر ّكبه ،بس يليل مش قانعني
باملوضوع هوي ليه يليل ر ّكب هالصورة قرر يخفي املونتاج اليل عملو ويخلق هالوهم بأنّو
هالصورة مزبوطة ومش مر ّكبه؟
قصدي ،كان فيه يصمم امللصق من دون هالتالعب متل ما بيصري مبعظم امللصقات..
مث ًال خود هالتالت أمثله:
هول صور دعائيه سياسيه ما فيها أي لبس أو تالعب ...املونتاج واضح ..والرتكيب أيضاً
231
ةورم عيبر روصلا ناكس
بالحقيقة يف كتري صور من هالقبيل ..وكأنو األموات بيتنقلو من صورة لصورة ..بيرتكو صورة
ليسكنو بصورة تانيه .هاي مجموعة من الصور.
وح ّلو بصور تانيه ..الصور متل األوطان ،متل البيوت أحياناً،
يف كتري صور هجرها أصحابهاَ ..
الواحد بيضطر يرتكها أو بيجي عبالو يغريها من وقت للتاين ..هاي أمثله أخرى لصور
هجرها أصحابها:
بعرف إنو اليل عم قولو مش منطقي والعلمي ورضب من الهلوسه .إيه موافق .بس رغم
هاليش أنا مرص ص ّدق أنو عبد النارص والحريري التقو .واألدق أنو عبد النارص ه ّوي اليل
التقى بالحريري ..راح زارو بقرصو بقريطم والدليل أنو الصورة األصليه للحريري واقف
232
ةورم عيبر روصلا ناكس
صارت الصورة باألبيض واألسود متل ما مالحظني .ف ّتشت عالصورا األصليه اليل باألساس إجا
منها عبد النارص ،ما لقيتها .لكن باملقابل لقيت هامللصق اليل انعمل بذكرى ميالدو..
لقيتو بأرشيف الجامعة األمريكية ..طبعاً ملّن ترك عبد النارص الصورة ليزور الحريري ،امللصق
األصيل صار فايض.
بس مني هوي جامل عبد النارص ومني هوي رفيق الحريري؟
أكيد هالشخصني بغنى عن التعريف ،لهيك رح نقفز فوق النقطة ونك ّفي.
***
233
ةورم عيبر روصلا ناكس
وبالقيها كتري عاديه ..ما فيها إخراج فني .شخصني واقفني بتط ّلع عالصورة
حد بعض عىل طبيعتهن من دون أي تكلف .ما عم يتط ّلعو صوب املصور وال طبعاً بال َع َدسه..
ما يف هيبة شخص مفروضه عىل الشخص التاين ..اتنني مرتاحني ..مش مشدودين ..كأنو كل
يش طبيعي ورايق ..زيارة ود ّيه ال أكرت وال أقل ..وما بتحمل أي مفاجآت ..كأنها صورة
مأخوده لنحفظها بألبوم العيله ..ما كـأنها صورة بتأ ّرخ لقاء زعيمني .ال بل توحي أكرث
بلقاء أب مع أب يف يوم عطلةَ .ب َّيني راضيني عن شو أنجزو خالل أسبوع عمل ..وكأنو مش
أول لقاء بيناتهن وال آخر لقاء ..صورة ُأخذت ع غفله منهن ..ويف حال مش ع غفلة وكان
معهن خربها ،فهدفها بهالحاله إنها تبث الطأمنينه يف نفوس مشاهديها بإظهار هالحميميه
بيناتهن ..ألنو هاي صورة ما ال ُتقطت عىل طاولة مفاوضات ،وال خالل إجتامع عمل وال يف
مقر أو مركز سيايس رسمي ،إمنا بـبيت خاص وتحديداً بحديقة البيت .والحديقة هون متل
البلكون ..رشفة البيت واليل برتمز للمكان الواقع بني داخل البيت وخارجو .املكان املعلق
بني الخاص والعام ..وكأنو هالصورة بتفرجي الزعيمني بهاملكان املعلق بني الخاص والعام...
ما بني بني ..يعني ،بعد ما خلصو إجتامعهن الخاص وقبل ما يط ّلو عالعام ليعلنوا نتيجة
هالخلوه للناس..
خالصة القول إنو هالصورة مانها دعائيه وال هدفها دعم أي حمله سياسيه وال هدفها
باألساس تعبوي جامهريي..
عىل عكس استخدام امللصق إللها ..إيه؛ يف الصورة ويف امللصق اليل بقلبو هالصورة ..هامللصق
اليل بيحمل توقيع حركة النارصيني األحرار.
234
ةورم عيبر روصلا ناكس
فواضح أنو اللقاء ما عندو تاريخ محدد ..ما أما بالنسبه للوقت بهالصورة
بنعرف بأي يوم التقوا وال بأي ساعة ..حتى ما فينا نجزم إذا كان بالنهار أو بالليل ألنو الضو
مش واضح بالصورة ..حتى التياب اليل البسينها ما بيفيدونا بهاملوضوع .بدله فيها تنلبس
بالشتا وبالصيف ،بالنهار وبالليل وبتصلح لكل املناسبات الرسمية وغري الرسمية ولكل
الفصول واألوقات ..اليش الوحيد اليل فينا نأكدو هو مكان اللقاء :متل ما ذكرت قبل :حديقة
قرص الحريري يف منطقة املربع األمني /قريطم ،بريوت الغربية ،لبنان ،الرشق األوسط...
واليل فينا كامن نأكدو هو أنو هاللقاء تم بعد اغتيال الحريري مش قبل ،يعني بعد 14
شباط الـ .2005
برأيي ،هالنوع من الصور يزدري الوقت ..وما بيعريو أي اهتامم ..وكأنّو الوقت يف عامل
األموات وقت فالت وحسبانو بيتم مبقاييس مختلفه عن كيفية حسبان الوقت بعامل األحياء.
ميكن الوقت بهالصورة بيشبه الوقت باألحالم .لهيك يف يكون رفيق الحريري بالصورة أكرب
سناً من جامل عبد النارص من دون ما نستغرب األمر .مع إنو الحريري خلق بسنة الـ 44
وعبد النارص بسنة الـ.18
عىل كل حال ،الصور بت ّدعي أنو مبقدورها تج ّمد الوقت وتحبسو مقابل هروبو الدائم
235
ةورم عيبر روصلا ناكس
بالحياة ..لهيك فينا كامن نشوف ،مث ًال ،مبلصقات حركة أمل اليل بنشوف فيها صورة لرئيس
الحركه نبيه بري وإىل جانب صورتو صورة لإلمام املغ ّيب موىس الصدر ،بنالحظ كيف نبيه
بري عم يكرب بالعمر بني ملصق والتاين بينام اإلمام الصدر بعدو بكل الصور بنفس العمر..
وطاملا اإلمام ُمغيب إذاً رح يضل عمرو بالصورة 49سنة .....أما ب ّري فمع الوقت رح يضل
يكرب ويكرب ليجي اليوم اليل خلص؛ ما بقا فيه يكرب أكرت...
بس خلينا مبوضوعنا ..لقاء عبد النارص -الحريري.
مبا إنو من الصعب ال بل مستحيل ،تحديد تاريخ اللقاء ،فينا عالقليله نزعم إنو هاللقاء صار
قبل كم يوم من النهار اليل شفت فيه امللصق ،يعني بآب .2007
بس شو صار بآب 2007؟
للرصاحة ما بتذكر شو صار ،بس بعدين بذكر شو صار بأول هالسنه ،يعني بكانون التاين
..2007أكيد بعد ما حدا من سكان بريوت نيس االشتباكات والصدامات اليل صارت بالجامعة
العربية ومحيطها بني منارصي قوى الرابع عرش من آذار و َع َراسهم تيار املستقبل التابع
للحريري وقوى الثامن من آذار و َع َراسهم حزب الله وحركة أمل .ومتل ما معروف وقتها،
رسعان ما تحولت هاالشتباكات إىل تشنج واصطدام طائفي -إسالمي بني الس ّنه والشيعه..
ومتل ما معروف كامن أنو هاملشكل الطائفي منو جديد عالبلد وال عاملنطقه بأرسها ..لكن
بعد هالحادثه تفاقمت األمور أكرت بني الطائفتني وطبعاً املقصود بلبنان ..لهيك ،هل فينا
نعترب هاللقاء بني الحريري وعبد النارص ملا ميثل كل منهام للبنان والعرب وللطائفه السنيه،
كلقاء دعم للحريري اإلبن يف لحظة سياسيه ورمبا عسكريه َح ِرجه و ُمر ِبكه؟ هل هي محاوله
وج خطر املد الشيعي باملنطقة واملدعوم إيرانياً ،مع لتحريك أو تجييش الطائفه السنيه يف ّ
" "nuanceزغري وهوي أنو هالتجييش يجب أن يأيت بعيداً عن التعصب الطائفي! إيه! يعني
طائفي بس بال تعصب..
األب -الحريري ،املسلم املعتدل ،الليربايل ،النهضوي ،العروبوي يدعو عبد النارص اليل هوي
مسلم معتدل أيضاً ،نهضوي أيضاً ،وعروبوي طبعاً ،ليلتقي به يف قرصه .يلبي عبد النارص
الدعوه ويأيت ليبايع الحريري االبن ع الخالفة للخط العرويب األصيل ،فيعلنا معاً ،أن عروبتنا
هي العروبة الحقيقية
236
ةورم عيبر روصلا ناكس
وج عروبة هؤالء ،املزيفة واملشبوهة .عروبتنا هي االسالم املعتدل ،وليس السلفي ،واليف ّ
املتزمت وال األصويل .هذا هو اإلسالم الحق وهذه هي العروبة الحقة ،وكل ما عداهام فهو
باطل .باملقابل ،الحريري األب يؤكد لعبد النارص الزعيم أن عروبته لن متوت وأن النارصية
ستبقى حية ما دامت الراية يف عهدة الحريري االبن الذي حت ًام سريفعها عالية خفاقة.
***
عىل كل االحوال هاللقاء مع عبد النارص ما عندو أي تقل ،وما بقا عندو
الوقع نفسو اليل كان ممكن يكون عندو ّياه ملن كان عبد النارص بعدو عىل قيد الحياة..
وقتها كان ممكن يغري كتري باملعا َدله ،بس اليوم ما يش ..فإذاً هيدا اللقاء م ّنو إال لقاء معنوي
ويف أقىص مهامتو فيه يكون لقاء استشاري أو لقاء تبادل آراء ال أكرث وال أقل..
ويف وصف عروبة عبد النارص فعل تأنيث ،ميكن هيدا إلو عالقة مبوتو
العادي وغري الدراماتييك واليل أىت عىل عكس مقتل الحريري امللحمي والعنيف جداً.
وبالعوده للسؤال حول معنى هاللقاء ،رمبا رمز ّيتو جايي من الطابع الجنساين ملوتتني
مختلفني :موت عبد النارص ذو الطابع األنثوي ،وموت الحريري ذو الطابع الذكوري .وكأن
اللقاء هو عقد زواج بني هاملوتتني.
ما ننىس أنو عبد النارص مات مهزوم واألعالم العربية كانت ال تزال من ّكسه .وعىل ما كتب
جورج طرابييش بكتابو "املرض بالغرب" :إرسائيل خصت األب املتمثل وقتها بعبد النارص وما
تركتلو خيار سوى املوت قهراً .وعىل الرغم من وفاء الجامهري العربية لهالقائد العريب الكبري،
بقيت مرارة الهزمية معلقة يف كل فم ،وخاصة بعد رحيله املفاجىء من جراء موته طبيعيه.
موته ال تليق باألبطال .رحيلو إجا قبل ما تسرتد األمة العربية كرامتها وعزتها.
مات من دون ما يوفيّ بـ"وعده الصادق" .مات من جراء الحزن ،من أىس الهزمية اليل ألحقتها
إرسائيل بالعرب بحرب حزيران الـ .67مات متل ما ممكن يش ُأ ّم متوت من ورا الحزن الكبري
واألىس العميق اليل ممكن يصيبها بعد فقدان ولد حبيب .أما الحريري ف ُقتل ،اغتيلُ ،ف ّجر...
متل ما األبطال بيحلمو ميوتو ..القتلة كانوا بحاجة ليش مية كيلوغرام وأكرث من املتفجرات
والـ ت.ن.ت .ليتخ ّلصو منو .ما كان هدف سهل ،وهو ما س ّلم بسهوله أبداً .مات شهيد ..أما
بالنسبه لعبدالنارص ،فالجيش اإلرسائييل احتاج 6ايام بس ليلحق الهزميه بالجيوش العربيه
237
ةورم عيبر روصلا ناكس
ويذل قائدها وبالتايل تتخلص منو من دون ما تحتاج حتى إنو تدقروا جسدياً.
لقاء الحريري بنارص منو إال محاوله لجمع ،أو يصح أيضاً ُجامع ،بني مرشوع عروبوي ُأجهض
مبوت القائد؛ املوت ذو الطابع األنثوي ،بـــاستشهاد ملحمي ح ّول رجل أعامل وسيايس
ولكن من دون أي مرشوع للعرب والعروبويني ..من هون أهمية هاللقاء ..لقاء إىل قائدْ ،
الرشاكة إىل حد التزاوج إلنجاب صورة عن عروبه مكتمله وتقدميها للحريري االبن ،وريثهام
الرشعي يف لبنان...
ولكن واقتباساً مام كتب حازم صاغ ّية يف كتابو "وداع العروبة" ،إنو هالرغبه الستعادة
العروبه بهالطريقة ،مانها إال "رغبة أولية وطفلية سابقة عىل التجربة واالجتامع ،تشبه
البقاء يف الزمن السابق عىل قطع حبل الرسة".
عىل االقل خلينا نقول أنو محاولة جمع عروبة عبد النارص بعروبة الحريري فيها يش بيذكرّ
بقصص األطفال ،وتحديداً قصة "األمرية النامئة" اليل ما رح توعى إال ببوسة األمري.
فيها تكون عروبة الحريري األب هي األمري اليل عم بيفتش عأمريتو اليل مانها إال عروبة عبد
النارص الناميه .وما إضافة عروبة األول عىل عروبة التاين إال هالقبلة عىل الشفاه اليل ستوقظ
العروبة الحقيقيه من نومها الطويل ،ناهض ًة من كبوتها ،بهي ًة تشع نوراً فوق كل األقطار
العربية التي ال بد وأن يأيت يوم وتتحد كلها يف أمة واحدة ذات رسالة خالدة ...وفينا نغري
الشعار إزا حدا عندو حساسيه منو..
فع ًال هيدا لقاء استثنايئ بيجمع رجلني ،إىل حد ما ،اتنيناتهم حداثويني مع الفارق واالختالف
الكبري بني نظرة كل واحد منهن ملفهوم الحداثه.
عبدالنارص اشرتايك ،حمل لواء النهضة والتحديث مبرص عىل طريقتو مع كل العلل واملصايب
اليل رافقت هاملرشوع.
الحريري ليربايل ،كامن حمل لواء النهضة ببلدو الزغري والتحديث عىل طريقتو وبرغم كل
العلل واالخطاء اليل رافقت مرشوعو.
األول ُقتل رمزياً عىل يد النظام اإلرسائييل والثاين ،وعىل حد ما قيل يف أوساط الحريري اإلبن،
إنه قتل أيضاً رمزياً عىل يد النظام املخابرايت يف سوريا والله أعلم ...وكأنو هاللقاء اليل حصل
بهامللصق ،بيفضح بطريقه مواربه ومخف ّيه تواطوء وغري مقصود بني نظامني يف حالة عداء
دائم ورصاع مؤبد .هالنظامان يجهدان أبداً إلجهاض أي محاولة نهضوية أو تحديثية عىل
صعيد بناء دولة مؤسسات ذات حقوق مدنية يف أي بلد عريب ،حتى لو كانت هاملحاوالت
ضعيفه وركيكه ومش ّوهه؛ وذلك ملصلحة بقاء نظامهام عىل قيد الحياة.
***
238
ةورم عيبر روصلا ناكس
239
ةورم عيبر روصلا ناكس
الفصل الثاين
الصورة الثانية
تاين م ّرة شفت هامللصقات كنت كامن بسياريت بس هامل ّرة ما كانت بالصدفه ..قصدت روح
شوفهن..
هول صور ملجاهدي املقاومه اإلسالميه يف حزب الله ،يليل سقطو شهداء أثناء تصديهم
للجيش اإلرسائييل يف جنوب لبنان.
240
ةورم عيبر روصلا ناكس
ثالت م ّرة شفت هامللصقات ما كنت بسياريت ،ال ..كنت بالبيت وشفتهن عالكومبيوتر،
واملقصود من هاإلشارة إنو قول أنو ما أنا اليل أخدت هالصور ..التصوير بالضاحيه مش
مزحة ..بدك إذن خاص من حزب الله بالتصوير ،وبيعود األمر لكتري اعتبارات ،وخاصة بعد
حرب الـ 2006اليل ح ّولت الضاحيه كلها ملربع أمني محصن ضد أي احتامل ألي اخرتاق
مخابرايت من قبل األعداء الصهاينة وعمالئهم من لبنانيني وعرب أو ضد أي عملية إعتداء
عسكرية ممكن تطال الحزب بالضاحية ...لهيك الحاميه واجبه ..ولهيك كامن ،إزا لقطوك عم
بتصور بال إذن مسبق مصيبه ،عن جد مش مزحة ،وفيك تبيك بنص الشارع عن جد ومش
متثيل ..قلت لنفيس ،شو بدي بهالعلقة ،بالها ..خيل حدا غريي يصوريل ياهن ..حدا شغلتو
التصوير فيه يقوم باملهمه من دون مشاكل ..وباألخري مش عم نصور يش خطري ..وهيك
طلبت من صديقي حسام مشيمش أنو يقوم باملهمه عني ..وهيدا اليل صار..
متل ما واضح بالصورة ،امللصقات مركبني عىل عواميد اإلنارة ،عىل ارتفاع تالت أمتار
من األرض ،بنص البولفار اليل بيفصل الخطني -خطني السري -عن بعض .عىل كل
عامود فيه ملصقني مركبني بقفا بعض ،واحد بتشوفو َع خط الدخول وواحد َع خط
الخروج .امللصقات مصفوفه ورا بعضها بالتتابع .كل شهيد مجاهد عندو صورة واحدة،
وكل امللصقات متطابقة.
241
ةورم عيبر روصلا ناكس
بالبدايه ،ما الحظت أي يش خارج عن املألوف .بلبنان معودين نشوف صور الشهدا وين ما
كان ،بأي شارع وبأي منطقة ،ولكل التنظيامت واالحزاب...
كامن ما الحظت أي يش خارج عن املألوف بالنسبة للتطابق املوجود يف تصميم هامللصقات..
بلبنان كامن معودين نشوف ملصقات متطابقة وعندها نفس التصميم الفني.
هاي مث ًال مجموعة أوىل لشهداء الحزب السوري القومي االجتامعي ،من أرشيف
الجامعة األمريكية.
242
ةورم عيبر روصلا ناكس
لهيك كل صور الشهدا بيحقّ لها نفس امللصق لتسكن فيه ..ملصقات مصممة بشكل الئق
وجيد ..متساويه وبتشبه بعض.
ومتل ما معروف ،باإلسالم متل ما كامن بكل األحزاب األصولية واإليديولوجية ،الشهادة أعىل
املراتب وليس قبلها وال بعدها مرتبه ،اللهم إال إذا كان الشهيد بوزن عامد مغنية القائد
واملوجه العسكري يف حزب الله أو األمني العام السابق للحزب نفسه السيد عباس املوسوي
اليل اتنيناتهن قضو اغتياالً ..شهداء من هالوزن تبقى رتبهم وتُعىل مكانتها؛ فيصبح الواحد
منهم شيخاً للشهداء أو سيد الشهداء ...لهيك بتستحق صورهن ملصقات مميزة وأكرب حج ًام
لتسكن فيها.
***
بالحقيقة بعد ما يف يش خارج عن املعتاد بهامللصقات باستثناء تفصيل واحد ه ّوي الجاكيتات
العسكريه اليل البسينها .كلهن البسني نفس الجاكيت ...نفس البدله العسكريه...
املوحد؟ هل منطق هالصور بيتطابق مع منطق الصور إميتى تم تصوير هاألشخاص بهالزي ّ
الشمسيه اليل عاد ًة تُؤخذ لكل جندي بأي جيش نظامي؟ بهالحاله ،هل فينا نعترب أنو
هالبدله العسكريه متثل اللباس الرسمي ملقاتيل حزب الله؟ وهل حزب الله وتحديداً
املقاومه اإلسالميه تعترب نفسها جيش نظامي متل أي جيش نظامي بالعامل؟ ولكن نحنا
بنعرف انو هاملقاومه عندها تنظيم رسي .هل هيدا بيعني انو هالصور ما بتظهر إال بعد
املوت؟ بهالحاله السؤال هو إميتى ُأخذت هالصور؛ قبل انطالقهن للقتال بوقت قليل أو
بوقت طويل؟ وهل املجاهدين كانوا مدركني ملوتهن فتصورا هالصور ليك تُستخدم بعد
الشهادة يف ملصق ُيفرتض انو يكون تذكار وتكريم لتضحياتهن وعطاءاتهن اليل فع ًال ال تُق ّدر
بثمن؟ صورا أرادوها ملا بعد املوت؟ جهزوها وحفظوها قبل الرحيل الكبري ككفن؟ هل
هالصور يف هذا السياق ،مبثابة كفن الشهداء؟
243
ةورم عيبر روصلا ناكس
لكن بيبقى فيه سؤال مع ّلق مرتبط بهاملسأله تحديداً .ليه تم اختيار بدله عسكريه ومش
بدله إسالميه كلباس موحد .أو بكل بساطه ،ثيابهن العاديه..
اليوميه ..متل ما باقي الشهدا اليل ظهرو بامللصقات ذات التصميم املوحد؟
عم بسأل ألنو إجامالً البدالت العسكريه ما عندها هو ّيه واضحه .فيها تكون ألي جيش
بالعامل حتى جيش العدو نفسو .إذاً ،ليه تم اختيار بدله عسكريه "متغ ّربة" (نسبة للغرب)
ُ ،مع ّممه و ُمعومله؟ شو اإلغراء اليل بتقدمو هالبدله؟
وبالحديث عن اللباس املوحد ،يخطر عبايل اللباس الرشعي للمرا املسلمه ،وتحديداً الحجاب.
يقول الشيخ نعيم قاسم" :إننا أردنا للباس الرشعي للمرأة املسلمة ،أن يحمل معاين الجهاد
واملامنعة للمرشوع الغريب املتأمرك واملتصهني ملنطقتنا الرشق أوسطية".
ولكن بهالحاله كيف فينا نفرس اختيار رجال حزب الله ألنفسن هالبدله العسكر ّيه ْ
"املتغ ّربة" كلباس موحد ملجاهديهن؟ وكيف فيه الحزب يفسرّ هالتناقض بني هويتني ،وحده
مامنعا للغرب ووحده تتامهى مع الغرب؟
***
244
ةورم عيبر روصلا ناكس
بالحقيقة ملن شفت هامللصقات بتاين مشوار عملتو ،الحظت فيهن يش غريب ،بس ما كنت
تأكدت شكويك.
ْ أكيد من املوضوع .ملن مت ّعنت فيهن منيح
الغريب بهالصور هو أجساد الشهداء .اكتشفت أنو كلهن عندهن نفس الجسد ..وهالصور
مانها إال صور مر ّكبه ،يعني فوتومونتاج ..أي مفربكني .. ..واملونتاج طبعاً مش واضح أو
مقصود يكون مش واضح ليخلق هالوهم براس الناظر ،وبالتايل يصدق إنو هالصور ما فيهن
أي تالعب وال فربكه .ولكن إذا بتط ّلع منيح بالحظ إنو هالجسد مش لهالوجوه .هيدا جسد
من دون هويه .جسد لواحد مجهول.
يبدو أنو املصممني الفنيني بجهاز حزب اللهَ ،ج ّهزوا ملصق خاص لتكريم
وتخليد شهدائهن.
ملصق واحد لكل مجاهد شهيد .الخلفية نفسها ،األلوان هي هي ،والخط نفسو ،الحجم
245
ةورم عيبر روصلا ناكس
ُهوي ُهوي ،أما الجسد فنفسو ُهوي بذاتو بيتكرر ..م ّرا بيكون جالس frontalوم ّرا مايل
شوي عاليمني وم ّرا معكوس أفقياً - )flip canvas horizontal( -فبيصري مايل شوي
عالشامل ..الجسد نفسو بتالت وضعيات جاهزة لتستقبل وجوه الشهداء حسب الوضعيه
اليل آخدها كل واحد منهن بالصورة األصلية… ملصق حارض وجاهز وما ناقصو إال الراس
الوج ليكتمل .االسم كامن عندو مح ّلو تحت كلمتني مطبوعتني بخط واإلسم :اسم صاحب ّ
كبري نسبياً:
املجاهد الشهيد اليل بيتص ّدرو أسفل امللصق .وطبعاً بفضل الفوتوشوب ُيقص الراس من
الصورة األصل و ُيلصق عىل امللصق املع ّد والجاهز؛ أي .Cut and paste
رزمة من التساؤالت:
ليه تكريم الشهدا ب ّدو يكون عرب استبدال أجسادهن بجسد آخر مجهول؟ شو صار
بأجسادهن الشخصية؟ وينها؟ وليه تّم استبعادها عن الصورة؟ هل ألنها ما بتليق بصور
الشهيد مع أل التعريف؟ أو ألنو الصورة اليل صارت أحد أسلحة حزب الله األساسيه مبعركتو
ضد األعداء؛ هيدي الصورة برتفض تستقبل أجساد ما عندها رشوط هاملعركه الطاحنه اليل
عم بتدور رحاها يف ميدان امليديا أو اإلعالم؟
هل مجتمع املقاومة بيخاف من أجساد أبنائو فبيستأصلها من الصور ويبعدها جانباً؟ هل
هوي خوف من الجسد بحد ذاتو ملا ميكن أن ُيفرزو من نجاسات متوالدة دامئاً وأبداً؟ جسد
مع ّرض دامئاً للتلوث وعليه ُيطلب أن ُيط ّهر من رجسه؟ هل لهيدي األسباب وغريها يتم حذف
أجساد األفراد واستبدالها بجسد واحد صلب قوي ونظيف ..جسد واحد لجميع الوجوه؟
عاألرجح هالوجوه بهامللصقات ما بتمثل أصحابها كأفراد أمنا بتمثل الجامعة اليل
بتنتمي إلها؟
الوج متل ما معروف ،هو الهو ّيه الفرد ّيه لكل واحد منا واليل بتم ّيزو عن األشخاص اآلخرين.
ّ
والوج فيه يفضح أرسار صاحبو وفيه يخ ّبيها ..بس الوجوه بهالصور ما عم بتخ ّبي أرسار.. ّ
بوج واحد ،عكس فسيامؤهم عىل وجوههم .وجوهم تُفصِ ح عماّ يف قلوبها ..كل واحد منهم ّ
ووج ..وجوه الشهدا عم بتقول كلها نفس القول ،وكأنو كلهن عندهن وج ّ العدو يليل بألف ّ
وج واحد عم بيقول نحنا عشاق الشهاده .والشهاده هنا لوجه الله ومرتضاه. الوجّ ..
نفس ّ
والله ال وجه له ألنه وعىل ما كتب جالل توفيق :الله فعل رصف .لهيك وجوه الشهداء كلها
مجتمع ًة معاً هي وجه الله يف الدنيا واآلخرة.
***
جسد بانتظار رأس...
ما بعرف بشو كانو عم بيفكرو املصممني الفنيني بحزب الله ه ّني وعم بيقومو بعملية
قطع الرووس عالفوتوشوب .ما بعرف .بس هل إجا َعبالهن للحظة مقتلة الحسني وما
246
ةورم عيبر روصلا ناكس
أصابو ..عاألرجح أل ،واملوضوع فيه يكون موجود بالالوعي الجامعي عند هالطايفه اليل كل
سنه بتستعيد مقتلة الحسني يف ذكرى عاشوراء ..وأكيد ما رح أدخل بعملية تحليل نفيس
لكن...
للجامعةْ ،
ولكن ...عندي ميل لقول أنو هالصور مزبوطني وما فيهن أي تركيب ..وهامليل اليل عندي ْ
جاي من هالخوف .الخوف أنو حدا يتجرأ ويلعب بصور األموات .بالقي هالفعل عنيف
مبحل ما ،ح َدن عن سابق تصور وتصميم يقص صورة ميت ويلعب وبيوجع ومؤذي؛ أنو ّ ّ
فيها ،حتى لو كان هاليش جاي عن حسن ن ّيه وقصد رشيف .فيه هالة حول صور األموات
ما فينا ما نحرتمها.
هوي هالخوف ميكن كامن نابع من أنو هالعاده تصري موضة ،منوذج ُيحتذى به من قِبل ّ
األحزاب والتنظيامت األخرى ،متل ما كل يش بهالزمن ،فيه يتحول برسعة ملوضة ويفقد
قيمتو ...عىل كل حال يبدو ب ّلش هاألمر يصري .شوفو هامللصق ليل ُأع ّد الستقبال مقاتيل
حركة أمل اليل استشهدوا دفاعاً عن أرض لبنان.
يعني ،شو رأي أصحاب هالصور بجسدهم الجديد؟ هل بيسعدهن؟ بيحزنهن؟ شو بيقولو
عوائل الشهداء ملا رح يشوفو والدهن بأجساد جديده؟ أرملة الشهيد كيف بتتطلع عىل
جسد زوجها املستجد؟
247
ةورم عيبر روصلا ناكس
***
بطـ ّلع ع هامللصقات وبقول لحايل ميكن هاملجاهدين الشهداء قررو يكونو سوا واختاروا ّ
هالجسد الذكوري القوي ببدلتو العسكر ّيه ليظهروا وكأنهن كتلة واحدة متامسكة وقو ّية،
بحيث أنو ما يف حدا يخرقها أو يتع ّرضلها بأي أذى.
248
ةورم عيبر روصلا ناكس
متل ما بتعرفو بهالبلد كل يش عرضة لالعتداء وخاصة امللصقات والصور .يعني إذا يف ملصق
واحد بيش شارع ،أكيد ماكسيموم بأسبوع زمان بيكون طار من محلو.
بس إذا كان عرش ملصقات ع نفس الحيط ،التعدي عليهن بيصري أصعب.
ويف حال كانو فوق األربعني ملصق سوا أكيد هون ما حدا بيسرتجي يق ّرب صوبهن.
249
ةورم عيبر روصلا ناكس
ميكن من هون إجت فكرة هالتجمع النظامي والعسكري مللصقات شهداء حزب الله ليحمو
بعض من أي وافد غريب.
أنا شخصياً أحصيت أربع حاالت للملصق بلبنان ،وأكيد يف حاالت أكرث ..بس أنا رح إكتفي
بأربع فقط:
1 .1الحالة األوىل :ملصقات منفرده ،مستق ّله ،كانت ِعرضة العتداءات مبارشة من قبل
آخرين ،فتخزقت ،تخرمشت ،تشوهت ،تنتّفت و ُف ّجرت .أنا بسميهن ملصقات
مأساوية .وهاي بعض أ ْم ِثله.
2 .2الحالة التانية :مجموعة من امللصقات ُطردت وهُ جرت من أماكن إقامتها ..ما قدرت
تحمي حالها ،وبالتايل اضطرت تنزح إىل حيطان تانيه بأماكن مجهولة .أنا بسميهن
ملصقات منفية .وهاي بعض أمثله.
3 .3الحالة الثالثة :صور إرفت من الوضع فقررت تبقى محلها بس من دون ما تتعاطى
مع حدا ..كأنها طربقت البواب والشبابيك وما بقا بدها تضهر ،س ّكرت عحالها أو
حدن س ّكر عليها ِبشكل إنو ما حدا يشوفها وال تشوف حدا ...أنا بسميهن ملصقات
مصدومة .وهاي بعض أمثله.
.
250
ةورم عيبر روصلا ناكس
4 .4الحالة الرابعة :تجمع مللصقات من نفس الفصيل ،قررت تظهر حالها كأنها جيش
نظامي مبجتمع واحد مس ّكر .بحيث أنو ما ممكن حدا يقدر يخرق هالتجمع/املجتمع
وال يدق فيه . .أنا بسميهن دولة امللصقات .وهاي بعض أمثله.
***
251
ةورم عيبر روصلا ناكس
وزين العابدين ...شجرة ترضب جزورها عميقاً يف التاريخ وتفرد أغصانها إىل يومنا هذا.
سلسلة متصلة تبدأ بالشهيد األول الحسني عليه السالم وتنتقل من شهيد إىل شهيد .شهداء
ُرفعت صورهن كسلسلة ال تنتهي ..يصطفون وراء بعضهم البعض ..علقت عىل أعمدة
اإلنارة ،كل شهيد ينظر أمامه إىل الشهيد الذي سبقه ،ومن خلفه شهيد آخر ينظر إليه..
إنهم املشهد واملشاهدون يف نفس الوقت ...كل واحد منهن بيملك نظرتني؛ نظرة عم تتطلع
صوب حالهن كشهداء أبطال ونظرة تانية عم تتطلع صوب األحياء مبجتمعهن ..هاملجتمع أو
األصح االجتامع من األحياء يليل ه ّوي كامن بيملك نظرتني؛ نظرة عم تتطلع من تحت لفوق
عالشهدا بنظرة إكبار وتقديس ونظرة تانيه عم تتطلع عىل حالهن كأحياء ،نظرة مفعمة
بالكرامة وبعزة النفس.
بتميش إنت وعم تتطلع بتشوف صور مصفوفه ورا بعضها ..املسافة بني صورة وصورة هي
نفسها ،دامياً نفسها ...واالرتفاع عن األرض ه ّوي نفسو ،اإلطار تبع كل صورة ه ّوي ذاتو،
نفس الشكل ونفس القياس ..وطبعاً الجسد ه ّوي ذاتو ..ما يف يش عم يتغري وال يش عم
يتبدل إال هالوجوه واألسامء ....بتميش إنت وعم تتطلع بتحس إنك مش عم متيش ال بل
ثابت بأرضك عم بتشوف نفس اإلطار وب َقلبو نفس الجسد ،إطار ثابت بينام ّ
الوج عم يتغري
واإلسم كامن ...جسد مرغوب ما فيك متلكو أكرث من لحظة ..عم تتناوب عليه الوجوه ،واحد
ورا التاين وكذا االسامء..
بنميش ...ويف حال قررنا نوقف ،رح نالقي صعوبه بالغة ..الوقوف تحت صورة وحدي مش
بهالسهولة ..رح يتسبب بقطع هالسلسلة ،وبإعاقة حركة الشهاده ..عملياً ،الوقوف تحت
بوج واحد ..رح يصري فينا نقرا إسمو
صورة وحده ،رح يسمحلنا نتم ّعن بشهيد واحدّ ،
وجو ،نستجلب تاريخه الفردي بوضوح ونحفظه عن غايب ..رح يصري فينا نتف ّرس بقسامت ّ
252
ةورم عيبر روصلا ناكس
صور ُرفعت بوسط جادة عريضة بتفصل بني خطني مخصصني لسري السيارات ،بولفار مه ّمتو
يرسع الحركة ،واإلبطاء عليه غري مسموح ..وأكيد ما يف رصيف للمشاة ...عالقليله أنو ّ
بالنص ،محل ما امللصقات معلقني.
ّ
االحتامل الوحيد لنقدر نشوف صورة وحده وبشكل واضح هو أنو نستعري تقنية السينام،
نطلع عىل نركب عىل Vespaأو نركب سيارة ونطل راسنا من الشباك ..وهي ماشيه بنصري ّ
هاإلطارات عم متيش ورا بعضها ..حركتنا الرسيعة رح تركب اإلطارات ورا بعض متل ما بيصري
بفيلم سيناميئ عم يربم ..ولكن مبا إنو اإلطار ه ّوي نفسو عم يتكرر ما بنشوف إال ()still
لصورة وحده ثابته هي صورة املجاهد الشهيد ،بجسد مقاتل بال إسم وال وجه ..فالرسعة رح
تخليّ الوجوه واالسامء اليل عم تتعاقب برسعة إنّو متّحى..
وهيك اإلسم رح يحمل كل األسامء ومتل ما كتب نيتشه :وكل االسامء بالتاريخ أنا ...أما
وج
وج ..أو ّ الوج ،فسيحمل أيضاً مالمح كل الوجوه وألوان كل العيون فيتحول إىل ّ
وج بال ّ ّ
لكل الوجوه ..إنه وجه الله ..والله نور ملن اهتدى.
253
ةورم عيبر روصلا ناكس
الفصل الثالث
الصورة الثالثة
هالصور مأخودين من رشيط فيديو ،األصح من عدة رشايط ..أكرثهن مأخودين من
املسجله لبعض شهداء الحزب الشيوعي اللبناين اليل نفذو عمليات قتاليه وأحياناً
الشهادات ّ
استشهاديه ضد االحتالل اإلرسائييل ضمن العمل يف جبهة املقاومة الوطنية اللبنانية ..من
يش سنه تقريباً وأنا وعم بقرا كتاب زينة معارصي :مالمح النزاع ،امللصق السيايس يف
الحرب اللبنانية ،وتحديداً الفصل اليل بتحلل فيه ملصقات الشهداء ،بانتبه ليش بهالشهادات
املسجله فاجأينَ ،وهلني ..يش كان موجود معي من زمان بس ما كنت منتبهلو من قبل ،اليل
254
ةورم عيبر روصلا ناكس
هوي :ملّن الواحد بيستشهد بيصري صورة معلقا ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو قبل ما
يروح عاملوت ،وملّن يستشهد بدورو رح يصري صورة إىل جانب الصورة اليل قبل ،اتنيناتهن
معلقني ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو قبل ما يروح عاملوت ،وملّن يستشهد بدورو
رح يصري صورة إىل جانب الصورتني اليل قبل ،معلقني ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو
قبل ما يروح عاملوت ،وملّن يستشهد بدورو رح يصري ...وهكذا دواليك.
اليل َو َهلني هو بالزبط الفكرة اليل قريتها بكتاب زينة ،أنّو ملّن رح موت ،بصري صورة بقلب
صورة ،اليل هيي كامن صورة بقلب صورة وهكذا إىل ما ال نهاية..
ما بعرف ،بس حاسس حايل مش قادر ع ّمق كثري بتحلييل لهالظاهرة عند الحزب الشيوعي.
خصو بأفراد علامن ّيني بعاد عن املعتقد الديني واإلميان بحياة أخرى بعد ميكن ألنو يف يش ّ
املوت .أو ميكن ألنيّ أنا نفيس كنت عضو بهالحزب وبعدين ما قادر إخلق املسافه الكافيه
اليل بتسمحيل قوم بهالتحليل وهالتف ّكر؟
بني هالصورتني اليل حكيتلكن عنهن :صورة عبد النارص والحريري وصورة شهداء املقاومه
اإلسالميه ،يف صورة تالتي هيي هاي ،فيها تكون صورتنا اليوم ،صورة بالغياب ..غياب هالحزب
عن لعب أي دور ،غيابنا كيسار ،كعلامنيني .واألصح ،غيابنا كأفراد بهاملجتمع الطائفي.
هاي الصور ،موجوده بقلب أرشطة فيديو محفوظة بخجل ،مخ ّبايه بأماكن مجهوله بقلب
هاملدينه اليل عم ترفض تقدم لهالشهدا ولو جدار واحد ليط ّلو منو ..الحيطان متل املدن
السلطة وبس..متل األوطان ،هني ملك اليل عندو ُ
لوال استشهدت وصارت صورة مع ّلقا ورا وفاء اليل بدورها استشهدت وصارت صورة إىل
جانب صورة لوال ورا جامل اليل بدورو استشهد وصار صورة إىل جانب الصورتني اليل قبل
ورا الياس اليل بدورو استشهد وصار صورة إىل جانب الصور التالته اليل قبل ورا خالد اليل
255
ةورم عيبر روصلا ناكس
استشهد وهكذا ..وباملناسبه خالد ه ّوي دور لعبتو بسنة الـ 2000بعرض عملتو مع إلياس
خوري بعنوان :ثالثة ملصقات .كنت عم بلعب دور الشهيد وكل هالشهدا ورايي من دون
ما انتبه..
قي من اليسار اللبناين بعدهن أرسى بفكر بكل هاألمور ،وبحس إنو الحزب الشيوعي وما َب َ
هاملرحله يليل ما بقا إلها وجود ..مرحله من املايض وين كان بعد عندو هاليسار معنى
لوجوده ..مرحله تم تجميدها ل ُتبقي عىل هالوهم؛ إنو بعد يف معنى لوجودنا متل كأنو
بعدنا عايشني بـ امبارح..
وكأنو هالفرتة ُوضعت بني مرايتني مواجهني بعض ..وصاروا ضايعني بهاملتاهة اليل خلقتها
هاملرايتني ..بهالصورة املرضوبه ببعضها إىل ما ال نهايةّ .
بيطلعو لورا ،عاملايض ،بيشوفو تاريخ
حافل بالنضاالت والبطوالت ،بيتط ّلعو لق ّدام ،عاملستقبل ،وبيشوفو األفق مفتوح وواعد
آت ال محال .بينام هوي بالحقيقة أنهن علقانني ونحنا علقانني معهن بني هالصورتني.. بنرص ٍ
بني هاملرايتني ...بني هالحيطني اليل كتري ضيقني ورح ّ
يفطسونا ال محال..
بالنسبه لهالصورة بالذات ،رح أكتفي بهالقدر وأترك األمر لحدن تاين قادر يقوم باملهمه
أفضل مني..
خامتة
الصورة األخرية
َب َعتت رسالة لبعض معاريف ،كتبت فيها التايل:
إذا ُطلب منك أن تختار صورة لرسمك الشخيص يك تبقى تذكاراً ملح ّبيك من أقارب وأصدقاء
يف غيابك األخري ،صورة واحدة فقط ...فأية صورة تختار؟
َب َعتت هالرسالة لخمسني شخص ترتاوح أعامرهن بني الـ 18والـ ،34ما حدن استجاب لطلبي
إلاّ شخص واحد هو أنا نفيس ..أنا أنا ..لكن بدل الصورة كتبت لحايل رسالة بقول فيها:
عزيزي ربيع
أما بعد..
أينام تذهب فإنك مقتول ،يف الدنيا ويف اآلخرة.
فعذراً منك لعدم استجابتي لطلبك ورفيض إرسال الصورة التي أردت؛
إذ ال أريد لصوريت من بعدي أن تُقتل أيضاً...
والسالم
ربيع
"سكان الصور" ،كانون الثاين ،2..9إنتاج مشرتك :أشكال ألوان -مجلة بدون – تانز كورتييه فيينا.
256
أبراج الله وبرج ديبّ | أملنيوم | احتفاالً بالعنف | الحائط املسدود | الخريطة
البغدادية تتمرد عىل منعزالتها | الع ّد الطائفي وسياسات الخسارة يف لبنان | املقاربة
النسوية لدراسة الرجولة | النقاب | باكورة "الجهاد العاملي" | بورتريه عائلة
املسخن | ترشيح فيلم مل ينجز أبداً | رجل الجامهري | سكان الصورفلسطينية تحب ّ
| سيوف من لهب | يف إستعادة لثالثة بيوت قاهرية | يف بيتنا رجل ...ودموعي
وابتسامتي | مائة ومثانون غروبا أم عرشون سنة؟ | مذاهب املف ّكرين السوريني يف
"الدولة العربية" | مرآة فرنكشتني | وما بعد الروك يا عمر