You are on page 1of 258

‫فصلية ثقافية | عدد ‪0‬‬

‫|‬ ‫أحمد بيضون | برنار خوري | حازم األمني | حازم صاغ ّية | حسام عيتاين‬
‫|‬ ‫حسن خرض | حسن داوود | حيدر ابراهيم عيل | دالل البزري | رامي األمني‬
‫|‬ ‫ربيع مروة | شاكر األنباري | رشبل هرب | عباس بيضون | عزّة رشارة بيضون‬
‫مليا جريج | منال خرض | هاين درويش | ياسني الحاج صالح‬
‫امللف | خطوط التامس‬
‫نكاد هنا يف لبنان‪ ،‬كام يف البلدان العرب ّية األخرى‪ ،‬نفتقد ملنابر ح ّرة‪ .‬فسواء تع ّلق األمر‬
‫املحطات التلفزيون ّية‪ ،‬بات يصعب الكالم عن وسيلة إعالم ّية‬ ‫ّ‬ ‫بالصحف أو اإلذاعات أو‬
‫واحدة متح ّررة مماّ يعتقده "داعموها" ومم ّولوها‪ .‬أما املجلاّ ت الشهر ّية أو الفصل ّية التي‬
‫سبق للمث ّقفني العرب أن عرفوا تجارب رائدة منها‪ ،‬فانكمش حضورها وتراجع‪.‬‬
‫لتلك الحاجة إىل إعادة النقاش املفقود أو ّ‬
‫املعطل بني الت ّيارات الفكر ّية والثقاف ّية‪،‬‬
‫التقينا‪ ،‬مجموعة من الك ّتاب واملث ّقفني‪ ،‬لنتحاور حول تلك الحاجة الرضورة‪ ،‬ولنصل‪ ،‬يف ما‬
‫نراه بدء املطاف‪ ،‬إىل أن نضع إصدار "كلمن" األ ّول هذا‪ ،‬يف أيدي ق ّرائها‪.‬‬
‫ونحن سنحرص‪ ،‬يف ما سيتلو من أعداد املج ّلة‪ ،‬عىل أن نوسع حلقة امللتقني حولها‪،‬‬
‫ك ّتابا وق ّراء‪ ،‬ليقيننا أنّها لن تغتني إال بتع ّدد اآلراء وتفاعل األفكار عىل صفحاتها‪ .‬كام سنحرص‬
‫عىل أن تكون وثيقة الصلة بالراهن من املواقف واألحداث‪ ،‬ساعية إىل قراءته ومناقشته‬
‫واسترشاف مآالته‪.‬‬
‫ويف سعينا للتقريب بني املث ّقفني‪ ،‬نعرف أنّ ما نحتاج إليه اآلن هو إيجاد مجال ثقايف‬
‫تعطل فاعل ّية الثقافة والرأي‬ ‫يزداد اتساعا مع اتّساع دائرة املقبلني عليه‪ .‬ذاك أنّ من أسباب ّ‬
‫النصـ ّية واألكادمي ّية‪ ،‬وعزلة الف ّنانني يف أصناف‬
‫عندنا‪ ،‬تش ّتت الك ّتاب عىل اختالف وجهاتهم ّ‬
‫فنونهم وأنواعها‪ ،‬إىل ح ّد االكتفاء منها بكونها مهناً ألصحابها فحسب‪.‬‬
‫وسعت الحروب والنزاعات‬ ‫كام أننا نطمح إىل أن تكون "كلمن" جرساً يصل بني أجيال ّ‬
‫مساحات التباعد بينها‪ ،‬واختلفت مصادر ثقافاتها بني أمناط تعبري ّية سبقت‪ ،‬وأخرى ال تفتأ‬
‫تبحث عن وسائط جديدة تزداد تف ّرعاً وتن ّوعاً عىل الدوام‪.‬‬
‫طبعا‪ ،‬لن تكون مج ّلتنا حاملة رسالة إيديولوج ّية ض ّيقة تقع يف أرسها‪ .‬فهي‪ ،‬كام نرجو‬
‫لكل من يساعد عىل تطويرها وتوسيع أفقها‪.‬‬ ‫ونأمل‪ ،‬ستكون مفتوحة ّ‬

‫هيئة التحرير‬ ‫‬

‫‪1‬‬
‫تصدر عن جمعية سني‪ ،‬بريوت‬
‫بناية فرعون‪ ،‬الطابق الثاين‪ ،‬شارع غورو‪ ،‬الجميزة‬
‫ت ‪ /‬ف‪01-566275 :‬‬
‫هيئة التحرير‬
‫أحمد بيضون‪ ،‬بشار حيدر‪ ،‬حازم صاغية‪ ،‬حسام عيتاين‪ ،‬حسن داوود‪ ،‬ربيع مروة‪ ،‬سامر فرنجية‪ ،‬عباس‬
‫بيضون‪ ،‬عزة رشارة بيضون‪ ،‬منال خرض‬
‫تحرير العدد صفر‬
‫حازم صاغية‪ ،‬حسن داوود‬

‫© كلمن ‪2010‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‪.‬‬
‫ •ال يحق إعادة النرش أو االقتباس إال بعد ترخيص خطي من إدارة املجلة‪.‬‬
‫تعب عن آراء أصحابها وحدهم‪.‬‬ ‫ •املقاالت املنشورة رّ‬
‫ •يشرتط يف املساهامت التي تردنا أن ال تكون قد نرشت قب ًال يف أي مجلة أو كتاب‪.‬‬
‫ •ال تراجع املجلة يف شأن املساهامت التي تردها طوع ًا‪ ،‬من دون طلب منها‪ .‬وهذه املساهامت ال ترد‪.‬‬

‫التوزيع يف لبنان وسائر البلدان ‪ :‬دار الساقي‬

‫بناية النور‪ ،‬شارع العويني‪ .‬فردان ‪ .‬ص‪.‬ب‪113/5342 .‬‬


‫ت‪ 00961-1-866442 :‬ف‪00961-1-866443 :‬‬

‫لإلشرتاك‪www.kalamon.org :‬‬
‫إلرسال املساهامت‪info@kalamon.org :‬‬

‫هذا العدد صدر بدعم من جمعية سيدرونا للثقافة‬


‫املحتويات‬

‫‪ 93‬يف إستعادة لثالثة بيوت قاهرية‬ ‫‪ 5‬الع ّد الطائفي وسياسات الخسارة‬


‫هاين درويش‬ ‫يف لبنان‪ :‬رسقات صيفية‬
‫‪ 114‬ترشيح فيلم مل ينجز أبداً‬ ‫عباس بيضون‬
‫سياسة‬
‫مليا جريج‬
‫‪ 122‬املقاربة النسوية لدراسة الرجولة‪:‬‬ ‫‪ 18‬مذاهب املف ّكرين السوريني يف‬
‫حالة نوال السعداوي‬ ‫"الدولة العربية"‪ :‬تفحص نقدي‬
‫ع ّزة رشارة بيضون‬ ‫ياسني الحاج صالح‬
‫فكر سيايس‬
‫نسو ّيات‬

‫‪ 136‬سيوف من لهب‪ :‬أسباب‬ ‫‪ 42‬ثورة الجامهري‪!...‬‬


‫حسن خرض‬
‫الفتوحات اإلسالم ّية واستقبال‬ ‫فكر سيايس‬
‫الشعوب املفتوحة لها‬
‫حسام عيتاين‬ ‫‪ 49‬باكورة "الجهاد العاملي"‪ :‬صالح‬
‫تاريخ‬ ‫رسية ومحمد سامل الرحال‬
‫حازم األمني‬
‫‪ 153‬أبراج الله وبرج د ّيب (تحقيق يف‬ ‫أصول ّيات‬
‫الفيزيك وامليتافيزيك)‬
‫حازم صاغ ّية‬ ‫‪ 58‬النقاب‬
‫نقد‬ ‫دالل البزري‬
‫أصول ّيات‬
‫‪ 182‬مائة ومثانون غروبا أم عرشون‬
‫سنة؟‬ ‫ فلملاخطوط التامس‬
‫أحمد بيضون‬
‫نقد‬ ‫‪ 69‬الخريطة البغدادية تتمرد عىل‬
‫منعزالتها‬
‫‪ 189‬وما بعد الروك يا عمر‬ ‫شاكر األنباري‬
‫رشبل هرب‬
‫موسيقى‬ ‫‪ 79‬الحائط املسدود‪ :‬مسائل العروبة‬
‫واإلسالم يف السودان‬
‫حيدر ابراهيم عيل‬

‫‪3‬‬
‫املحتويات‬

‫‪ 193‬يف بيتنا رجل‪ ...‬ودموعي‬


‫وابتسامتي‬
‫رامي األمني‬
‫نص‬
‫ّ‬
‫‪ 197‬أملنيوم‬
‫حسن داوود‬
‫نص‬
‫ّ‬
‫‪ 208‬مرآة فرنكشتني‬
‫ع ّباس بيضون‬
‫نص‬
‫ّ‬
‫‪ 218‬احتفا ًال بالعنف‬
‫برنار خوري‬
‫بناء‪/‬هدم‬

‫‪ 220‬بورتريه عائلة فلسطينية تحب‬


‫ّ‬
‫املسخن‬
‫منال خرض‬
‫نص‬

‫‪ 227‬سكان الصور‬
‫ربيع مروة‬
‫محارضة غري أكادميية‬
‫سياسة‬

‫الع ّد الطائفي وسياسات الخسارة يف لبنان‪:‬‬


‫رسقات صيفية‬
‫عباس بيضون‬

‫القوى املسيحية رفضت مجتمعة مسعى رئيس مجلس النواب إلقرار بند يف اتفاق الطائف‬
‫يدعو إىل الرشوع بتأسيس لجنة إللغاء الطائفية وقد وافق تيار املستقبل عىل ذلك‪ .‬رفضت‬
‫القوى املسيحية تخفيض سن االنتخاب وتيار املستقبل وافق من جهته‪ .‬حصل خالف عىل‬
‫التعيينات االدارية رشح منه مطالبة التيار الوطني الحر باسرتداد منصب مدير األمن العام‬
‫للمسيحيني من الشيعة‪.‬‬
‫ثالثة حوداث متصلة تؤكد اليشء نفسه‪ ،‬تتالحق يف الفرتة ذاتها تقريباً بدون أن‬
‫تتصدر الحياة السياسية أو تخترص وجهتها‪.‬‬
‫يف الوقت ذاته يستمر االنقسام املسيحي حيال التعامل مع سوريا‪ ،‬ويستمر تحالف‬
‫التيار الوطني الحر مع حزب الله وتزداد مشاطرتهام للرعاية السورية؛ وال يؤذن انسحاب‬
‫وليد جنبالط من ‪ 14‬آذار بردم الفارق بني ‪ 8‬و ‪ 14‬آذار؛ ويتواصل تعبيد طريق دمشق من‬
‫قبل املسؤولني اللبنانيني؛ وال ميانع السيد نرص الله يف غمرة هذا الهدوء‪ ،‬ورمبا بسببه ‪ ،‬يف أن‬
‫يعيل صوته بنربة حربية ويهدد بثأر عظيم‪.‬‬
‫ميكن القول إن وقائع كهذه‪ ،‬ال تزال تواصل‪ ،‬ولو بربودة وتراخ‪ ،‬السجال اللبناين الذي‬
‫تحصل بعد اغتيال الحريري‪ .‬انهيار املعسكرين مل يستتبعه نشوء بدائل وهام ال يزاالن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وإن بخروق‪ ،‬إطارين الزمني‪ .‬واالنقسام بينهام هو املحرك‪ ،‬وانقسامهام عىل سالح حزب الله‬
‫والتعامل مع سوريا ال يزال‪ ،‬وإن بتطفيف‪ ،‬يف األساس‪ .‬ذلك يعني أن سلسلة الوقائع األوىل‬
‫ليست املقلب الرئييس للسياسة اللبنانية التي مل تتشكل بعد يف وجهة‪.‬‬
‫اتفق املسيحيون اللبنانيون عىل أمرين يخالفان اتفاق الطائف ودعوى اإلصالح‪ .‬تنكر‬
‫جناح ‪ 14‬آذار للطائف العزيز وتنكر التيار الوطني الحر لإلصالح الذي عيرّ نوابه بقية‬
‫األطراف بتخليهم عنه‪ .‬توقف الطرفان عىل رفض تحريك الطابق الطائفي اللبناين‪ ،‬ولو نظريا‬
‫أو رمزيا‪ ،‬ولو باإلشارة وتالقوا عىل السعي شبه السحري إىل قتل اسمه وكلمته وإخراجه من‬
‫الفكر والكالم‪.‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫قال فؤاد السنيورة يف احتفال ‪ 14‬آذار األخري إننا أوقفنا الع ّد‪ ،‬والحال أن العد اآلن‬
‫هو السائد أكرث من أي مرة أخرى‪ .‬وقال جعجع يف حوار مع تلفزيون املستقبل‪ ،‬بحكمة‪،‬‬
‫إن املسيحيني ال يستطيعون العيش يف طلب الحامية والخوف والذعر من تكاثر اآلخرين‪.‬‬
‫فليتكاثر اآلخرون‪ ،‬قال‪ ،‬كام شاؤوا (صحتني عىل قلبهم)‪ ،‬لكن القوات صوتت ضد تخفيض‬
‫سن االنتخاب ليك ال يصري للتكاثر رقم رسمي‪ .‬إنه ذات املسعى "اليائس" الذي رفضه‬
‫جعجع يف كالمه‪ ،‬أن يستغرق املسيحيون وقتهم يف تأجيل الواقع‪ ،‬وأن يعتمدوا عىل يشء‬
‫غريما لديهم فع ًال‪ :‬تاريخهم وأفضليتهم الثقافية واالقتصادية واالدارية أو سعيهم لتكوين‬
‫هذه األفضلية‪.‬‬
‫الع ّد وحده هو األساس‪ .‬ال ّعد من هنا وهناك‪ .‬الع ّد السلبي والع ّد اإليجايب‪ .‬يجتمع‬
‫املسيحيون عىل الخوف وهذا ما انتبه جعجع إىل أنه ال يساهم يف تكوين سياسة لهم أو‬
‫لبعضهم‪ .‬لكن هذا األمر ليس مام ميكن ط ّيه أو إبقاؤه بال اسم‪ .‬رمبا لذلك بقيت سلسلة‬
‫الوقائع املتضمنة رفض إنشاء لجنة إلغاء الطائفية ثانوية بقدر من التمويه االرادي‪ ،‬وبقيت‬
‫نذرها إىل اآلن خافية‪ ،‬وفضل الجميع أن يتبلغوها كام هي‪ .‬األمر الذي مل يرد أحد تسميته‬
‫هو أن الجهة املوجودة يف ما يدعى عادة "الخلل" الدميوغرايف‪ ،‬هي يف املرات الثالث واحدة‪:‬‬
‫إنها الشيعة‪ .‬عرف الجميع هذا‪ ،‬واألسوأ أن الشيعة عرفوه أيضا‪ .‬هذا‪ ،‬رمبا‪ ،‬ما جعل املواجهة‬
‫تبقى يف حدود "تقنية" وتتجنب أن تتخذ كامل بعدها السيايس (فالطائفي)‪.‬‬
‫للجميع مع الشيعة أمور تتصدر عىل هذه املسألة‪ .‬هناك من جهة مسيحيي ‪ 14‬آذار‬
‫مسألة السالح‪ ،‬ومن جهة مسيحيي التيار الوطني الحر هناك أولوية التحالف السيايس‪ .‬مل‬
‫يتجنب التيار مع ذلك املواجهة مع الشيعة‪ ،‬فهذه مسائل أرشط وجوده بها بالتدريج وجعلها‬
‫أساساً يف سياسته‪ ،‬إن مل تكن سياسته الوحيدة‪ ...‬لقد وضع نفسه هنا وما عاد يف وسعه أن‬
‫يتزحزح حتى كرمى لرشيكه الشيعي الذي وضعه أمام إحراج حقيقي‪ .‬أمام حزب الله يواجه‬
‫التيار الشيعة قاطبة يف مسائل تتناول فوراً مكانة الطائفة وحصتها من السلطة‪ .‬أقل من‬
‫ذلك قد يحدث يف املعرتك اللبناين الراهن عواقب وخيمة‪ .‬أقل من ذلك ميكن توظيفه‪ ،‬إىل‬
‫أبعد مدى‪ ،‬يف حقن طائفي‪ .‬لكن حزب الله ليس التنظيم الذي يخطئ يف حساب اولوياته‪.‬‬
‫اكتفى السيد نرص الله باإلشارة يف احدى خطبه إىل صعوبة املسألة‪ ،‬فالكالم عىل لجنة إللغاء‬
‫الطائفية يستفز‪ ،‬فكيف بإلغاء الطائفية نفسها‪ .‬مع ذلك فإن استهداف الشيعة يف رفض هذه‬
‫اللجنة أمر ال ميكن لحزب الله تجاهله‪ ،‬لذا دافع نواب الحزب عن مقرتح الرئيس بري‪ ،‬دفاعاً‬
‫احتاط به الحزب لشيعيته لكنه سمح بتدوير املسألة وإبقائها يف حدود غري خطرة‪ .‬أما إىل‬
‫متى فهذا ال ميكن التكهن به‪.‬‬

‫***‬

‫‪6‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫من يراجع التاريخ اللبناين الحديث يف مجلدي أحمد بيضون‪" ،‬رياض الصلح يف زمانه"‪ ،‬ميكنه‬
‫أن يفهم من يوميات السياسة اللبنانية‪ ،‬قبل اإلستقالل وبعده‪ ،‬هذا الخوف املسيحي املقيم‬
‫من التكاثر االسالمي‪ ،‬واستعداد البعض للتضحية يف سبيل ذلك بأساسيات سياسية ووطنية‪.‬‬
‫يبني الخوف الحايل إذاً عىل ارث حقيقي‪ .‬لقد تفاقم لكنه ليس إبن ساعته‪ .‬ميكن القول إن‬
‫اإلقصاء املسيحي يف عهد الوصاية كان جزءا من احتكار السياسة تقريباً‪ ،‬فإغراق اللبنانيني‬
‫يف مشاحنات جانبية‪ .‬وإذ يبدو إرث الوصاية مستمراً يف العجز عن إيجاد نصاب سيايس‪ ،‬إال‬
‫أننا ال نبالغ إذا قلنا إن اإلقصاء املسيحي كان املقابل الستتباع بعض املسيحيني والطوائف‬
‫األخرى‪ .‬أي أن اإلقصاء املسيحي كان‪ ،‬يف جانب منه‪ ،‬مثن املقاومة‪ ،‬وهذا كان‪ ،‬يف الدرجة‬
‫األوىل مثناً سياسياً‪ .‬بكلمة أخرى كان املجتمع اللبناين بكليته‪ ،‬مهمشاً واملسيحيون وحدهم‬
‫قاوموا هذا التهميش‪ ،‬وحدهم أرصوا عىل حراك سيايس‪ .‬لنقل إذاً إن التهميش املسيحي‬
‫كان سياسياً فيام مل يكن كذلك متاماً بالنسبة للجامعات األخرى التي خضعت لتسلط حر‬
‫بدا أحياناً مجانياً وطوعياً‪.‬‬
‫وحدهم املسيحيون خرسوا عندما قاوموا‪ ،‬واليوم يريد البعض أن يسقط هذه‬
‫املعادلة‪ ،‬ويكتفي بجردة احصائية للخسائر وكأنها مل تكن سوى "رسقات صيفية" إذا استعدنا‬
‫اسم فيلم يرسي نرص الله ‪ .‬ال يعني هذا إال أن املسيحيني‪ ،‬فرتة الوصاية‪ ،‬وهذا يعيدنا إىل‬
‫قرنة شهوان وسجن جعجع ونفي ميشال عون‪ ،‬كانوا الديناميكية السياسية الوحيدة يف البلد‪.‬‬
‫وأنهم‪ ،‬فيام بدوا مبعدين داخل مجتمع كله معطل ومحارص‪ ،‬كانوا يقومون‪ ،‬بعد عرثات‬
‫وأخطاء مرتاكمة وخاصة يف عهد أمني الجميل‪ ،‬بدورهم التاريخي يف الصدارة اللبنانية‪ :‬أي‬
‫صياغة مرشوع استقاليل وتوحيدي ودولتي‪.‬‬
‫حني يتكلم‪ ،‬اليوم‪ ،‬بعض من املسيحيني عن خسارة هذا املوقع أو ذاك‪ ،‬أو يتحرس‬
‫عىل انكشافهم كأقلية‪ ،‬ينىس أن هذه األقلية كانت خالل عهد الوصاية عصب املجتمع‬
‫هم‬
‫اللبناين‪ .‬إنها استعادت‪ ،‬أثناء ذلك‪ ،‬دورها القيادي‪ ،‬الذي وحده‪ ،‬ميكن أن يشفي من ّ‬
‫األقلية ورعبها‪ .‬ليس الخلل الدميوغرايف‪ ،‬كام يسمى‪ ،‬مام ميكن رأبه‪ ،‬وليس إال تعزيز املوقع‬
‫السيايس املسيحي والتصدي للقيادة التاريخية كفيالن بتعويض التناقص العددي‪ .‬لكن ذلك‬
‫ال يتم بالغرق يف املشاحنات والحرتقات الداخلية‪ ،‬فهنا فقط تبدو األقلية يف أقليتها‪ .‬إنها يف‬
‫مامرسة من هذا النوع‪ ،‬كام يحدث اليوم غالباً‪ ،‬تتساوى مع األقليات األخرى‪ ،‬وتتنازل طوعاً‬
‫عن الدعم الذي يقدمه لها حضورها التاريخي‪ ،‬الذي مل يكن مرشوطاً بالعدد‪.‬‬

‫***‬
‫مل تكن مسألة الخلل العددي وال االنكفاء املسيحي جديدة‪ .‬مل يستطع املسيحيون أن‬
‫يتصالحوا مع خوفهم من أكرثية املحيط العريب أوالً ومن التكاثر اإلسالمي اللبناين ثانياً‪ ،‬فيام‬
‫مل يجد املسلمون يف الصدارة املسيحية سوى تزوير للتاريخ وغصب سيايس‪ .‬اقرتن التاريخ‬

‫‪7‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫املسيحي اللبناين بالصدارة‪ ،‬ومن الواضح أنه بدونها يتعرث ويفقد نصابه‪ .‬ميكننا هكذا أن‬
‫نجد تفاوتاً بني الدور التاريخي والوعي التاريخي الذي ظل امتياز نخب سياسية وثقافية‪ ،‬يف‬
‫حني أن الرشاكة ظلت بالنسبة للجمهور املسيحي واملسلم أمراً عصياً عىل التصور وال مقابل‬
‫له يف الوعي‪ .‬من الصعب أن نتخيل سابقة تاريخية يف إنجاز لبنان املتعدد‪ ،‬بل من الصعب‬
‫تصور هذا اللبنان كمرشوع تاريخي بادر اليه املسيحيون أو قام يف وعيهم‪ .‬ال بد أن النخب‬
‫املسيحية امتلكت قبل غريها إرهاصاً بهذا املرشوع فيام بدا أن الجمهور قبل بالصدارة مثناً‬
‫للرضا بهذا اللبنان‪ .‬ال بد أنه اخرتع أيضاً يف لغة جارت ديبلوماسية السلم األهيل وهي لغة‬
‫مخرتعة بدورها‪ .‬ليس للمرشوع اللبناين أو لبنان كمرشوع‪ ،‬مثال سابق أو وجود تاريخي‬
‫إذ مل يكن يف البدء سوى ناتج صوري لعالقات مستجدة كونت بالنسبة ألطرافها واقعاً ال‬
‫ميت إىل أحد‪ .‬كان لبنان الكبري‪ ،‬يف ما يبدو‪ ،‬صناعياً بالنسبة للمسلمني واملسيحيني والجميع‬
‫قبلوه عىل مضض‪ .‬كان واقعاً بال أصل وبال أسطورة وبال تاريخ يف النهاية‪ .‬كان بحت عالقات‬
‫جغرافيا واقتصاد وتقسيم استعامري‪ ،‬وهذه ال تنتج أم ًام وبالداً وال تشعر بقدر تاريخي‬
‫ومبدأ أعىل‪ .‬يبدو اإلستقالل اللبناين عىل سبيل املثال يتي ًام ال يدعيه أحد يف الحقيقة‪ .‬يبقى‬
‫عىل حداثته‪ ،‬عرضة لنسيان يتواطأ عليه الجميع‪ ،‬شأنه شأن كل ما ال يخص جامعة بعينها‪.‬‬
‫يعتربونه منحة ويستق ّلون ما يبذل ألجله ويستخفون بشهيده الواحد ناسني أن معركته‬
‫كبدت عرشات الشهداء الذين ال يجدون من يتب ّناهم‪ .‬مل يكن عامده الدم وال التأسيس‬
‫البطويل كام هو األمر عند السوريني مث ًال‪ .‬كان بالنسبة للبنانيني حصيلة جمع واقعية ليس‬
‫فيها رس‪ .‬سيكون عليه أن مييض وقتاً طوي ًال قبل أن يغدو أكرث من ذلك‪ ،‬أي كياناً ومرشوعاً‪،‬‬
‫وسيحصل ذلك بدون أوهام ونتيجة تفاعالت الواقع نفسه‪.‬‬
‫سيكتشف اللبنانيون لبنان ببطء وصعوبة وسيكلف هذا احتكاكات دامية وحروباً‪.‬‬
‫سيدفعون يف حروبهم الداخلية ما مل يدفعوه الستقاللهم‪ .‬ستكون هذه حروباً مفتوحة‬
‫وستنشأ عنها وقائع أشد هوالً وحارض أكرث ضيقاً وآفاق أكرث انسداداً‪ .‬مع ذلك فإن الرصاع‬
‫ضد لبنان غدا عليه والرصاع ضد الرشاكة غدا عليها‪ .‬صار البلد حصيلة هائلة من الدم واآلالم‬
‫والفناء‪ ،‬لكن وجوده الصناعي واملركب‪ ،‬الخايل من امللحمة‪ ،‬امتحن مراراً أثناء ذلك وبدا‬
‫يف كل مرة رضورة‪ ،‬ومن الصعب فرطه‪ .‬لقد امتلك حقيقة من الجمع الذي فيه واملصالح‬
‫التي ميثلها‪ .‬الواقع بحد ذاته قيمة وال يحتاج إىل سبب أكرث‪ .‬لقد وجد بلد ألن الجغرافيا‬
‫واالقتصاد وحق االختالف والوساطة الثقافية والسياسية والرشاكة أسباب كافية لوجود بلد‪،‬‬
‫وأكرث كفاية‪ ،‬أحياناً‪ ،‬من األصل وامللحمة والقدر التاريخي‪.‬‬

‫***‬
‫كان البطريرك أول من تنبه إىل أن النائب املسيحي بحسب قانون اإلنتخاب ينتخب بفضل‬
‫الصوت املسلم وعىل قوائم تحت هيمنة اسالمية‪ .‬احتج عىل ذلك قبل خروج الجيش السوري‬

‫‪8‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫واتفق مع الحريري وبري (عىل مضض) عىل اعتامد قانون الستني‪ .‬بدت املطالبة البطركية‬
‫وكأنها موعد مع املستقبل‪ .‬اإلستجابة الجامعة كانت أيضاً ذات إشارة مستقبلية‪ .‬بدت املطالبة‬
‫البطركية‪ ،‬ببساطة‪ ،‬ترتيباً داخلياً ضمن البيت اللبناين برضا وتفاهم الجميع‪ .‬قبول الحريري‬
‫ومراعاة بري منّا عن درجة من اإلشرتاك والتفاهم بني الزعامات‪ ،‬وبالتايل بني الجامعات‬
‫اللبنانية‪ .‬كان ذلك عبارة عن مداراة طوائفية وتقديم السلم األهيل عىل كل اعتبار‪.‬‬
‫تم بالتفاهم تحول بعد مقتل الحريري‪ ،‬بقدرة قادر‪ ،‬إىل معركة وإىل حد سيايس‪.‬‬ ‫ما ّ‬
‫تضاعفت املعارضة للوصاية بنزول الشارع السني والدرزي‪ ،‬وتحولت‪ ،‬بفضل ذلك‪ ،‬إىل قوة‬
‫ضاربة غريت الواقع وأدت‪ ،‬بالتضافر مع عوامل أخرى‪ ،‬إىل خروج الوصاية وإرساء واقع‬
‫جديد بدا وكأنه تأسيس جديد للبنان ولجمهورية ثانية‪ .‬أطيح باالنفراد املسيحي باملعارضة‬
‫الذي طاملا تشىك املسيحيون منه‪ ،‬لكنه‪ ،‬يف القرارة‪ ،‬كان يعطيهم امتيازاً وأرجحية يتصالن‬
‫بدور تاريخي هو صيانة الكيان واالنفراد بحمل مفاتيحه‪ .‬كان هذا يعني ضمناً الصدارة‬
‫واالمتياز‪ ،‬لكن هذا الدور ضعف بعد الطائف وما نشأ بعد اغتيال الحريري يشكل تهديداً‬
‫أكرب‪ .‬لقد تغريت املعادلة وما كان يبدو حقاً تاريخياً طار يف لحظة‪ .‬مل يعد هناك شك بأن‬
‫املسيحيني مل يعودوا وحدهم حراس الكيان‪ ،‬فمشاركة املسلمني بدت مساوية‪ ،‬إن مل تكن‬
‫أحياناً راجحة‪ .‬انتهاء االنفراد املسيحي إنذار بانتهاء االمتياز املسيحي أو عىل األقل اشعار‬
‫بأنه بات بال قاعدة‪ .‬هذا ما جعل مسألة التمثيل النيايب املسيحي‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬معركة‪ .‬اتصل‬
‫التمثيل مبوضوعة االمتياز واملعادلة اللبنانية كلها‪ .‬مل يعد االمتياز متص ًال‪ ،‬مل يعد االمتياز مبنياً‬
‫عىل انفراد رصيح‪ ،‬لذا بدا عارياً وبات من الرضوري الدفاع املبكر عنه‪.‬‬
‫وعي البطريرك كان مبكراً‪ .‬ففي عز معركة االستقالل طرح مسألة التمثيل ورسعان‬
‫ما التقطها مناور جاهز كالعامد عون‪ .‬يف ذروة املشاركة واملخاض التاريخي طرحت مسألة‬
‫املعادلة اللبنانية وتجىل الخوف عىل ضياع االمتياز يف املعادلة الجديدة‪ .‬مسألة التمثيل‬
‫كانت هذه املرة تنطوي عىل ذلك كله‪ ،‬املشاركة الحالية قد تقرتح صيغة أخرى‪ .‬ظهرت‬
‫الخربة املسيحية العريقة يف هذا الحذر املبكر‪ .‬وكان من الرضوري البدء بدفاع استباقي‪.‬‬
‫كان عىل مسألة التمثيل أن تكون حصن هذا الدفاع‪ ،‬أي أن تكون معركة وراءها ما وراءها‪.‬‬
‫ما وافق الرئيسان الحريري وبري عليه أعاد البطريرك طرحه بقدر من التظلم املوجه هذه‬
‫املرة ال إىل الوصاية ولكن إىل الرشيك املسلم‪ .‬حني غادر السوري مل يعد يف الساحة سوى‬
‫"املستفيد" املسلم‪ ،‬مل يكن هذا بال مربر‪ .‬السالح يف يد الشيعة والحكومة يف يد السنة‪ ،‬وهذا‬
‫الوضع إذا مل يتم تداركه ميكن أن يغدو أبدياً‪.‬‬
‫أراد البطريرك كراع أن ينبه إىل املكانة املسيحية يف معادلة جديدة مفرتضة‪ .‬كان‬
‫هذا استئنافاً ملطالبه بينام التقطه العامد عون ليجعل منه بداية معركة منهجية ومنتظمة‪،‬‬
‫وليغدو‪ ،‬شيئاً فشيئاً‪ ،‬سياسته الوحيدة‪ ،‬متجاه ًال طبيعة املشكلة نفسها‪ .‬إذا كان التنبه إىل‬
‫استقالل املسيحيني النسبي مبمثليهم بديهياً واجامعياً‪ ،‬فإن الذهاب عىل نحو منتظم‪ ،‬فيه‬
‫يتجاهل تناقضات أصلية‪ .‬فاملكانة املسيحية يف هذا املنطق مهددة بخلل دميوغرايف ال سبيل‬

‫‪9‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫إىل الحد من تفاقمه‪ ،‬وال ميكن معالجته مبناقشة مفاعيله وإنكاره يف الوقت ذاته‪ .‬فاملطالبة‬
‫باستعادة مناصب كانت للمسيحيني يف وقت مىض والحؤول دون تخفيض سن االقرتاع يف آن‬
‫معا يوقعان يف تناقض واضح‪ .‬يف الحال االوىل معالجة مفاعيل نتجت عن النمو الدميوغرايف‬
‫ويف الحال الثانية انكار لهذا النمو‪ .‬وهو انكار رمزي‪ ،‬فأبناء الثامنة عرشة سيكربون ويغدون‬
‫ذوي أصوات‪ .‬وإذا كنا ال نريد لهذا أن يلقى اعرتافا‪ ،‬وأن ال يغدو معدوداً‪ ،‬إذا كنا ال نريد‬
‫للنمو الدميوغرايف أن يصبح عام ًال سياسياً‪ ،‬فأحرى بنا أن ال نزاوج بني االعرتاف واالنكار وبني‬
‫النفي واالثبات‪.‬‬
‫يتصل التمثيل يف الحكومة والربملان واالدارة بالنمو الدميوغرايف املتفاوت‪ .‬سياسة‬
‫العامد عون هي التهويل بهذا الخلل ومتويهه يف آن معاً‪ .‬نتصدى لهذا النمو وال نعرتف‬
‫به‪ .‬لكن هذا النمو ال يختفي مبجرد انكاره‪ ،‬فهو ليس شيئاً بال مقاومة وال ثقل وال قدرة‬
‫المتناهية ومتزايدة عىل الضغط‪ .‬يقول السنيورة توقفنا عن العد والحال ان يف االمتناع‬
‫عن التصويت عىل تخفيض سن االقرتاع مسألة عد فحسب‪ .‬عد سلبي إذا جاز التعبري‪ .‬نع ّد‬
‫لنخفي نتيجة الع ّد ونلغيها‪ .‬مسألة الع ّد السلبي هي أيضاً يف مسألة لجنة إلغاء الطائفية‪.‬‬
‫إنه الع ّد باتجاه االنكار والتمويه‪ .‬لكن الع ّد ال ميكن أن يكون فقط يف اتجاه واحد‪ .‬االخرون‬
‫يع ّدون أيضاً‪ ،‬والع ّد باتجاه االثبات أقوى منه يف اتجاه اإلنكار‪ .‬ال يريد العامد عون أن ينظر‬
‫إىل الطرف اآلخر من املعادلة‪ .‬ال يريد أن يرى ثقل ومقاومة الطرف اآلخر‪ ،‬يتجاهله وكأنه‬
‫خصم نظري‪ ،‬أو أنها معركة من طرف واحد‪ .‬لقد جر العامد عون املعركة إىل حيث ال‬
‫ميكن الفوز اال ضد ال أحد‪ .‬نقص التمثيل املسيحي أمر ممكن مناقشته والتفاهم عليه‪ ،‬اما‬
‫مطاردة حقوق املسيحيني املسلوبة‪ ،‬اما رعب التناقص العددي والحديث املثابر عن خطر‬
‫زوال املسيحية يف الرشق والتامهي مسبقاً مع هذا املصري املأساوي‪ ،...‬كل ذلك قد ينجح يف‬
‫إقامة تالحم مأساوي لكن بثمن الترصف مسبقاً كخارس تقريباً‪ ،‬إن مل يكن الترصف كمقامر‪.‬‬
‫فج ّر املسيحيني إىل معركة بال نهاية‪ ،‬مستحيلة منطقياً وموضوعياً‪ ،‬وارصاراه عىل أن يعادل‬
‫وجودهم بهذه املعركة ومتاهيهم مبسيحيي الرشق أي بالزوال النسبي‪ ،‬كل هذا قائم عىل‬
‫مفارقات كثرية‪ .‬مطاردة الحقوق السلبية والعمل عىل اسرتدادها من لبنانيني آخرين يجعل‬
‫التظلم هو السياسة األوىل العونية للمسيحيني‪ .‬تظلم الطائفة التي أمسكت مبقاليد األمور‬
‫وكونت البلد وأعطته طابعه ودوره ال يجعل املسيحيني أفضل حاالً بكثري من املسيحيني‬
‫العراقيني واملرصيني‪ .‬ينقلها من الصدارة وصياغة الدولة والثقافة والوساطة إىل رعب ذمي‬
‫وإىل مجرد أقلية مشغولة بخوفها ورثائها لذاتها‪ .‬املفارقة هنا‪ :‬فاملسيحيون ال يحتاجون إىل‬
‫معركة يومية ليكرسوا أقلويتهم ويجعلوا منها همهم األوحد‪ .‬أما املفارقة الثانية يف السياسة‬
‫العونية فهي يف عجزها عن التمييز بني الحقوق واالمتيازات‪ .‬ما يراه العونيون حقوقاً هو‬
‫امتيازات لقاء دور تاريخي مل يعد أكيداً‪ ،‬والعونية بالذات ال تريد أن تسرتده‪ .‬يف الحقيقة‬
‫تحاول أن تبيعه أو تؤجره لجهة أخرى لقاء الحفاظ عىل االمتياز والتحريض عىل املطالبة مبا‬
‫سلب منه‪ .‬تحالف ميشال عون مع حزب الله مثال عىل ذلك‪ .‬يوكل التيار لحزب الله الدفاع‬

‫‪10‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫والسيادة مقابل اسرتداد ما أمكن من الحصة املوروثة يف السلطة‪.‬‬


‫مل ميانع املسلمون اللبنانيون قانون الستني حني طلبه البطريرك‪ ،‬فيام وقف السنة إىل‬
‫جانب االجامع املسيحي يف مسألة لجنة إلغاء الطائفية وتخفيض سن االقرتاع وضد "االجامع‬
‫الشيعي"‪ .‬يف هذه مل يكن املسلمون واحداً‪ .‬ال نقول إن التظلم املسيحي وهم‪ ،‬فالحقيقة‬
‫إن الخوف املسيحي راسخ متأرث وال يقاس عىل ظرف أو واقعة‪ .‬مع ذلك فإن فتح معركة‬
‫باسمه وتحويله إىل صيحة استنفار وتعبئة يومية‪ ،‬سعي بال أفق‪ .‬إنها معركة استباقية أو‬
‫وقائية‪ ،‬وقائية بدليل تجنب اآلخرين لها‪ ،‬لكنه تجنب لن يدوم بالطبع‪ .‬فام يغيب عن‬
‫الحركة العونية أنها تفتح معركة ليست مضمونة للمسيحيني‪ ،‬لكنها ستحول الحياة السياسية‬
‫اللبنانية كلها إىل هذا املقلب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أخرجت العونية املسيحيني أو جانبا عريضا منهم من املباراة السياسية‪ ،‬من مسائل‬
‫هي مقومات وقواعد الصدارة املسلوبة‪ :‬الدفاع والسيادة والكيان والوساطة الثقافية‬
‫والسياسية‪ .‬يف كل هذه تخىل التيار الوطني الحر عن القيادة والصياغة عل ًام بأن هذه هي‬
‫مفاتيح الصدارة ومن ميلكها يفوز بها‪ .‬ترك هذه لحليفه الشيعي واعتمد عليه فقط يف‬
‫الحصة املسيحية‪.‬‬
‫يخوض التيار العوين لذلك معركته منفرداً‪ .‬ال ننىس أنه الطرف الوحيد الذي يجهر‬
‫مبطالبة طائفية معلنة ومستدمية‪ .‬حاله اليوم حال الشيعة يف فرتة ماضية‪ ،‬لكن الشيعة‬
‫كانوا يومذاك أيتام املجتمع‪ ،‬ودعمهم كان يومذاك معياراً أخالقياً وسياسياً ووطنياً‪ .‬املطالبة‬
‫العونية يف أصلها ثأر من الوصاية السورية‪ ،‬والوصاية السورية كام نعلم اعتداء عىل ما ميثله‬
‫لبنان للمسيحيني وما ميثله املسيحيون للبنان‪.‬‬
‫كان التهميش يف األساس سياسياً‪ ،‬واإلداري والنيايب من لواحقه‪ .‬وسعت الوصاية‬
‫للشيعة بدون شك لكن الكبت الحيقيقي للمسيحيني كان سياسياً‪ .‬كان كبتاً لتنظيامتهم‬
‫وزعامئهم ومبادئهم العريقة‪ .‬كان نفي عون وسجن جعجع عنوانني أساسيني لهذا الكبت‪.‬‬
‫بل كان سجن وتوقيف واغتيال مناضلني وقادة مسيحيني ظواهره ومعامله األبرز‪ .‬ال بد‬
‫يشك إميل لحود‬ ‫أن تقديم وتأخري الزعامة املسيحية يتبع قربها وبعدها من الوصاية‪ .‬مل ُ‬
‫أو سليامن فرنجية من التضييق‪ ،‬ومل تكن مصالحهم‪ ،‬مبا يف ذلك االدارية‪ ،‬غري مصانة‪ .‬إذا‬
‫كان قد حدث خلل يف املحاصصة لغري صالح املسيحيني فإن هذا مام أمكن نقاشه يف عهد‬
‫الوصاية ومل ُيرضب ُحرم عليه‪ .‬طالب به آنذاك مسيحيون "صميمون" لكن الجناية األكرب‬
‫عىل املسيحيني كانت سياسية‪ .‬وهذه رغم وقوعها أكرث عىل املسيحيني إال أنها‪ ،‬حتى يف هذه‬
‫الحال‪ ،‬لبنانية أو يف سبيلها ألن تغدو لبنانية‪.‬‬
‫ً‬
‫مهام كانت عالقات الطوائف‪ ،‬مل يكن الكبت السيايس مقبوال لدى اللبنانيني‪ ،‬مسلميهم‬
‫أيضاً‪ ،‬مبا يف ذلك الصحافة املؤيدة للوصاية‪ .‬مواقفها ضد االعتقاالت شاهد عىل ذلك‪ .‬الكبت‬
‫السيايس للمسيحيني هو بالتأكيد آنذاك قضيتهم األوىل‪ ،‬والثأر الحقيقي‪ ،‬إذا جازت الكلمة‪،‬‬
‫كان يف انتفاضة اللبنانيني وخروج الجيش السوري‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫ما فعله عون هو تحويل هذا الظلم إىل قضية إدارية وانتخابية‪ .‬أي تجريده من‬
‫فحواه االنساين‪ .‬لقد غدا يف املحاصصة واملحاصصة فقط‪ ،‬وأمكن لذلك توجيهه‪ ،‬مبنطق‬
‫املحاصصة والتنازع عليها‪ ،‬ضد الجامعات األخرى‪ ،‬أي تحويله إىل نزاع داخيل‪.‬‬
‫إذا كانت املطالبة الشيعية‪ ،‬قبل الحرب‪ ،‬أساس الدعوة إىل مزيد من االندماج والتوازن‬
‫الوطني‪ ،‬فإن الدعوة العونية‪ ،‬بخالف ذلك‪ ،‬دعوة إىل نزاع أهيل مستمر عىل املحاصصة‪ .‬إنها‬
‫يف جوهرها ربط النصاب السيايس كله بهذا النزاع واهامل املستوى السيايس بكليته‪.‬‬
‫اقرتاب عون من سوريا وتحالفه مع زعامات الشيعة املستفيدة األوىل من الوصاية‪ ،‬ال‬
‫يض ّيعان فقط جذور مسألة الخلل يف املحاصصة بل هام‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬تعليق كامل للمسالة‬
‫السياسية والخالف السيايس‪ ،‬ودعوة إىل اللبنانيني للغرق جميعا يف ماء املحاصصة الضيق‪.‬‬
‫ال يعني ذلك سوى ابقاء النزاع اللبناين الداخيل مفتوحاً‪ .‬مسألة املحاصصة ال مشرتك فيها‬
‫والجميع فيها عىل حد سواء يف تشددهم ويف استجابتهم الغريزية للنعرة الكامنة‪ ،‬خاصة‬
‫وأن التشدد العوين رمى ناراً يف هشيم املطالبات الطائفية‪ .‬استطاع يف البدء جر الطرف‬
‫املسيحي الخصم وابقاءه نصب هذه املسألة‪ .‬التحدي العوين هنا حاسم وكان عىل مسيحيي‬
‫‪ 14‬آذار أن يجاروه فيه‪.‬‬
‫يطالب ميشال عون لنفسه وتياره بنصف حصة املسيحيني من التعيينات االدارية‪ ،‬أي‬
‫بنصف حصة املسيحيني يف االدارة مام قد يجعله‪ ،‬لدى حصول ذلك‪ ،‬سنرتال خدمات‪ .‬يف ذلك‬
‫ال يخرج عون عن األمر الواقع الذي ينيط بزعامء معددوين كل ما يتصل بجامعاتهم ويوكل‬
‫اليهم وحدهم الترصف بحصصها يف االدارة ‪ .‬هذا ال يجدد فردانية بل وشخصانية هؤالء يف‬
‫التقرير والحكم وال يناقض مبدأ الدولة فحسب‪ ،‬بل يؤدي يف الواقع إىل تهميش الجزء األكرب‬
‫من الطائفة‪ ،‬الذي ليس يف حلقة الزعيم وحاشيته‪ ،‬وابعاده عن الخدمة العامة‪ ،‬وغالباً ما‬
‫يحوي هذا الجزء افضل كفاءات الجامعة‪ ،‬ولعل الطائفة الشيعية مثال واضح عىل ذلك‪.‬‬
‫ليست مطالبة عون بنصف موظفي املسيحيني إذاً إال تكريس األمر الواقع‪ .‬وأين من‬
‫ذلك دعوى اإلصالح‪ .‬إال أن هذا املوقع االداري ال صلة له بالسلطة الفعلية التي ليست يف‬
‫االدارة وال الحكم‪ .‬هذان ليسا سوى نقطة تقاطع ارادات الجامعات اللبنانية التي ال تنبع‬
‫من مصالحها فحسب‪ ،‬بل أيضاً من مواقعها الدفاعية وصالتها الدولية واإلقليمية‪ .‬هذه‬
‫الجامعات تتصارع عىل السلطة وتتقاسمها‪ .‬أما رصاعها عىل االدارة فهو لتناهبها واالتجار‬
‫بها‪ ،‬أي اخراجها الكامل من أدوارها وتحويلها إىل شبكات للخدمات والتنفيعات واملصالح‬
‫الخاصة‪ ،‬فض ًال عن تجزئتها وتقسيمها‪ .‬ليست مؤسسة الحكم إذاً إال هذه الشبكات وليست‬
‫بحد ذاتها من السلطة يف يشء‪ .‬املطالبة بحصة أكرب منها‪ ،‬أو احتكار حصة‪ ،‬ليسا اسرتداداً‬
‫للقيادة وال للصدارة وال حتى للسلطة‪ .‬يف هذه ال يطالب عون بيشء‪ ،‬فهو ال يطمح إىل‬
‫اسرتداد املفاتيح التي كانت بأيدي الجامعة لقاء سهرها عىل الكيان واالنفراد بالقرارات‬
‫املصريية يف دفاعه ومحله االقليمي والدويل ووساطته الثقافية واالقتصادية الخ‪.‬‬
‫من الواضع أن ميشال عون ليس يف هذا كله فاع ًال أو مطالباً‪ ،‬وال سياسة له تجاهه‬

‫‪12‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫سوى مداراة حليفه الشيعي‪ ،‬أي توكيله بالقرارات املصريية لقاء تلك الحصة يف االدارة‬
‫والحكم‪ ،‬والتي ليست سوى شبكة من التنفيعات والخدمات‪ .‬أي أن الطائفة‪ ،‬كام يريدها‬
‫عون‪ ،‬تتنازل عن القرار لقاء حصة من الخدمات‪ .‬ليس يف ذلك سوى إمعان يف التهميش‬
‫السيايس للطائفة ومبادلة دورها السيايس بهوامش ادارية‪ ،‬أي التخيل النهايئ عن الصدارة‬
‫والقيادة اللتني تعنيان االرشاف السيايس والعسكري‪ .‬ال يسرتد هذا شيئاً مذكوراً للطائفة‬
‫بل يزيد يف إقصائها‪ .‬إنه يتاجر بالرشعية التاريخية لكنه ُيخرج الطائفة من دورها التاريخي‬
‫ويغرقها‪ ،‬آخر اآلمر‪ ،‬يف زبائنية شاملة‪.‬‬

‫***‬
‫السلطة الحقيقة هي يف الدولة وخارجها معاً‪ .‬إنها يف توازن تحالفني‪ ،‬لكنها أيضاً يف توازن‬
‫طرفني ميسكان داخل كل حلف بوظائف الدولة‪ ،‬حزب الله يف التحالف االول وتيار املستقبل‬
‫يف التحالف الثاين‪ .‬تشكل الهيمنة السياسية لكل طرف يف حلفه لحمة التحالف‪ ،‬فكل منهام‬
‫يعمل عىل تنسيق االرادات وادارة الخالفات داخل الحلف وصياغة خطط ومواقف مشرتكة‪،‬‬
‫وكل منهام يقوم بالتحكيم داخل حلفه‪ ،‬وينتزع تفويضاً يجعل منه الناطق السيايس باسم‬
‫التحالف‪ .‬ذلك يعني أن كال من الطرفني يتخطى موقعه الطائفي الذي يستثمره كركيزة‬
‫لهيمنته السياسية‪ ،‬ومييل عليه موقعه التحكيمي أن يدفع أحياناً من زعامته الطائفية‬
‫وموقعه الدويل والعريب مثناً للتنسيق واملصالحات والدعم داخل حلفه‪.‬‬
‫مل ينب تحالف حزب الله والتيار العوين عىل أي رشاكة سياسية سابقة‪ ،‬لذا تم التفاهم‬
‫عىل "صفقة" يتبنى فيها التيار الحزب سياسياً‪ ،‬ويتبنى فيها الحزب التيار مطلبياً‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫املطالبة الطائفية‪ .‬بينام تبنى تيار املستقبل الخطاب السيايس لقرنة شهوان وبدا يف تبنيه‬
‫الرابح األكرب‪ .‬وال بد أن ربحه‪ ،‬والحلف الجنبالطي‪ ،‬معركة هي أساساً للمسيحيني‪ ،‬كان أساس‬
‫تظلم بارشه البطريرك‪ ،‬واستثمره برسعة‪ ،‬ميشال عون‪.‬‬
‫يقوم الركنان‪ ،‬حزب الله وتيار املستقبل‪ ،‬بوظائف الدولة‪ ،‬وذلك بتقدميهام الصعيد‬
‫السيايس والرصاع السيايس واستثامر موقعهام الطائفيني يف سبيل ذلك‪ .‬ال يبايل حزب الله‬
‫كثرياً بالحصة الوزراية والنيابية وحتى االدارية‪ .‬تنازل لحلفائه يف املجاالت الثالثة ودفع من‬
‫حصته لرأب الخالفات‪ .‬كذلك فعل تيار املستقبل وإن بدرجة أقل‪ .‬راعى كل من الطرفني‬
‫حليفه املسيحي فيام دخل هذان الحليفان‪ ،‬بفعل املزايدة العونية‪ ،‬يف تنافس عىل املطالبة‬
‫مبا يسمى حقوق املسيحيني‪.‬‬
‫بدت هذه املطالبة وكأنها إرث رشعي للوصاية و َدين مستحق عىل اللبنانيني جميعا‪ً،‬‬
‫مام رفعها وحدها إىل مصاف وطني ومنحها شبه إجامع‪ .‬كان تصحيح التمثيل النيايب‬
‫عنواناً أول لهذه املطالبة‪ ،‬وهو‪ ،‬بالرغم من تخصيصه للمسيحيني‪ ،‬جامع وإصالحي‪ ،‬وبهذه‬
‫الصفة عابر للطوائف إذا جاز القول‪ .‬غري أن تحويل هذه املطالبة إىل اسرتاتيجية سياسية‬

‫‪13‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫وشاغل يومي يجعلها‪ ،‬أكرث فأكرث‪ ،‬تتحول إىل منازلة داخلية‪ .‬فالخصم هذه املرة لن يكون‬
‫سوى مغتصب ملنصب‪ ،‬وبالطبع بالنيابة عن طائفة أخرى وباسمها‪ .‬أي أننا ندخل هنا يف‬
‫زواريب مواجهات مع بقية الجامعات اللبنانية‪ ،‬مام يجعل النظام الطائفي‪ ،‬املسدود أساساً‬
‫واملحسوب عىل الشعرة‪ ،‬يف حال غليان واضطراب مستمرين‪ .‬ال تقرتح املطالبة العونية أي‬
‫منفس بالطبع لهذا النظام وال أي تعديل بنيوي‪ .‬جل ما تفعله هو اللعب الخطر‪ ،‬وبال أفق‪،‬‬
‫بحرز العالقات الطوائفية الحريز‪ ،‬والعبث بصندوق بندورا الواجب اغالقه‪.‬‬
‫بقي العبث العوين بالنظام الطوائفي‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬محصورا مراقبا نسبيا يف وجود زعامتني‬
‫عابريت طوائف لحزب الله وتيار املستقبل‪ ،‬عملتا عىل امتصاص الصدمة‪ ،‬وتوفري تلبية نسبية‬
‫يف حدود املحاصصة وأولوياتها (قانون الستني‪ ،‬متثيل عون للمعارضة يف املفاوضة الوزارية‪،‬‬
‫حصة التيار يف الوزارة) لكن العملية ليست بسيطة‪.‬‬
‫يحصله انتزعه بقوة‬‫يريد التيار العوين أن يبدو أمام مسيحييه قوياً وقادراً ليظهر أن ما ّ‬
‫ومل يأته منحة‪ .‬يتم ذلك بأن يضع حزب الله يف رصيده كامل قوته ومينحه تفويضاً كام ًال‪.‬‬
‫األمر نفسه يحدث‪ ،‬ولو بتفاوت‪ ،‬يف املقلب اآلخر لـ ‪ 14‬آذار‪ .‬الواضح أن تقدير حزب الله‬
‫للتفويض السيايس الذي يأتيه من التيار الوطني الحر كبري للغاية‪ ،‬انفراد الحزب باملقاومة‬
‫والسالح‪ ،‬واسرتاتيجيته الحربية تجعله موضوعياً خارج النظام اللبناين‪ ،‬ما يحوجه لرشعية‬
‫مجانية وبدون رشوط من التيار تحمي انفراده وخروجه‪ .‬يف ّوض الحزب التيار العوين باللعبة‬
‫الداخلية التي يبقى عىل حدودها ويحاول أن ال ميارسها إال يف الحد األدىن‪ .‬ال يستطيع تيار‬
‫املستقبل أن يفعل ذلك متاماً مع مسيحيي ‪ 14‬آذار‪ .‬دون ذلك أمور منها توزع فريق ‪ 14‬آذار‬
‫وتوزع املسيحيني داخله وانتفاء حاجة سياسية مامثلة لتيار املستقبل‪ .‬لكنه مع ذلك يعطي‬
‫املنافسة السياسية حقها‪ .‬فاملسيحيون يف االستقطاب اللبناين الحايل طرف مرجح‪ ،‬وهذا‬
‫أمر يفعله تيار املستقبل‪ .‬النتيجة أن مسيحيي كل طرف يتمتعون بحظوة وامتياز يقلقان‬
‫التحالف نفسه‪ .‬فاالطراف األخرى ستضيق مبا تعتربه ابتزازاً ولن تجد نفسها مكلفة مبا يكلف‬
‫تيار املستقبل وحزب الله نفسيهام به‪ .‬قد يكون هذا عام ًال أساسياً يف خروج جنبالط من ‪14‬‬
‫آذار واستقالل حركة أمل يف ‪ 8‬آذار‪.‬‬
‫ليست حركة أمل سوى هامش من هوامش املحاصصة الطائفية الخارجة عىل الدولة‬
‫والضالعة يف نهبها وتقاسمها واالتجار بها‪ .‬فيام تتلون الجنبالطية أكرث‪ ،‬وما انتهت اليه ال‬
‫يخلو من تشابه مع العونية‪ ،‬بل إن العونية قد تكون املثال والنموذج‪.‬‬
‫مثل العونية‪ ،‬انتهت الجنبالطية إىل استنفاد السياسة التي كان جنبالط أول صانعيها‪.‬‬
‫مثل العونية تؤثر الجنبالطية‪ ،‬ولو تحت دخان من اسرتداد الوعي والعودة إىل الرتاث‪،‬‬
‫الخروج من املعمعة السياسية والرصاع الذي كان جنبالط ركناً فيه‪ ،‬بل ناطقه السيايس‬
‫وأحياناً طليعته وصائغه‪ .‬يتم االنتقال السيايس تحت دخان أيديولوجي يتعمد جنبالط‬
‫أن يكون ركيكاً ومفككاً ومتناقضاً‪ ،‬إذ ليس سوى مالذ لفظي وتخريج سفسطايئ وانكار‬
‫مموه للسياسة‪ .‬مثل عون يعود جنبالط إىل املحاصصة الطائفية واللعبة الداخلية‪ ،‬وعىل‬

‫‪14‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫خطاها يسعى إىل "صفقة" مع حزب الله يبادل فيها التفويض السيايس بدرجة من التفويض‬
‫الداخيل ورزمة من املصالح الداخلية‪ .‬مثل ميشال عون يبادل رمزيته والرشعية التاريخية‬
‫للدروز رشكاء املسيحيني يف التأسيس التاريخي واالسطورة اللبنانية‪ ،‬فضال عن رمزية دوره يف‬
‫االنتفاضة يبادل بها فاتورة من املنافع قد يكون بينها كف حزب الله عن الجبل‪.‬‬
‫فهم جنبالط من معركة الجبل أن السياسة وحدها ال تكفي يف لبنان‪ ،‬ان هذا املستوى‬
‫بحد ذاته مركب للغاية ورهن ارادات كبرية داخلية وخارجية‪ ،‬عربية ودولية‪ .‬ان القيام به‬
‫يقيده بالتزام صعب بل وبتنازالت غري مرغوبة‪ ،‬فض ًال عن تآكل هذا املستوى ونخره من‬
‫قبل التجاذبات الداخلية وعالقات املحاصصة‪ .‬أدرك جنبالط أنه‪ ،‬بطائفة صغرية‪ ،‬ال يستطيع‬
‫خوض هذا الغامر‪ ،‬وأن كونه أكرب من طائفته ليس شيئاً يعول عليه إىل األخري‪ .‬أعاده ذلك‬
‫إىل الطائفة واملوازنات الداخلية‪.‬‬

‫***‬
‫بأقل من االعرتاف برشعية سالح الحزب‪ .‬فحزب الله‬ ‫اقرتاب جنبالط من حزب الله مل يكن ّ‬
‫يخاصم أو يحالف بهذا الرشط السيايس وال تزال هذه أولويته‪ ،‬فيام يبدو أن السقف السيايس‬
‫ينخفض أو يختفي لدى االطراف االخرى‪ .‬تيار املستقبل يقبل بأي درجة من التفاهم مع‬
‫جنبالط‪ ،‬ويغطي نسبياً عىل الخالفات مع حزب الله وسوريا‪ ،‬ويستبقي من عنارص النزاع‬
‫املحكمة الدولية‪ .‬وهذه يف إطار التفاهامت األخرى‪ ،‬تفقد الكثري من رمزيتها السياسية‪ ،‬ثم‬
‫هناك ازاحة الخالف مع حزب الله وسوريا إىل الطرف املسيحي يف ‪ 14‬آذار وهذا يندرج أكرث‬
‫يف الرصاع مع التيار الوطني الحر‪ .‬كل هذا يدل عىل أن وترية الرصاع السيايس يف لبنان تخف‬
‫واللحمة السياسية تضعف‪ .‬إذا كان التفاهم السيايس داخل كل حلف ال يزال يسري يف خط‬
‫مواز مع التنافس عىل املصالح فإن املستوى السيايس يفقد هيمنته‪.‬‬
‫اختالف اللهجات السياسية بني الحلفاء ليس بال داللة‪ ،‬اللهجات تؤذن‪ ،‬يف مدى أبعد‪،‬‬
‫باختالفات أعمق‪ .‬ليس االجامع اللبناين عىل تيار املستقبل مجرد انعكاس للتفاهم السوري‬
‫السعودي‪ .‬االرجح انه ضمناً‪ ،‬حصار للقلعة األكرب واألكرث تأثرياً يف املدى الداخيل والعريب‬
‫والدويل‪ ،‬والتي باسقاطها أو عزلها ميكن تصفية الرصاع واعادته إىل حدوده الهامشية االوىل‬
‫زمن الوصاية‪ .‬ال بد أن نقص هجومية ‪ 14‬آذار ونقص صمودها‪ ،‬طوال سنوات يف دفاع‬
‫لكن االمعان يف الحصار تحت ستار الهدوء ال يعني إال أن فقدان الوجهة‬ ‫متعب‪ ،‬أنهكها‪ّ ،‬‬
‫السياسية يؤذن باسترشاء النزاع عىل املصالح الخاصة وانزال العامل السيايس إىل الدرجة‬
‫الثانية‪ .‬لهذا أسبابه بالتأكيد‪ ،‬إال أننا ال نتوقف عند هذه األسباب وحدها‪ ،‬وال ميكن رد األمر‬
‫إىل حتمية ال ميكن تداركها أو التدخل فيها‪.‬‬
‫بالرغم من معرفتنا بتداخل السيايس مع الطوائفي والداخيل مع الخارجي وتظاهر كل‬
‫منهام يف اآلخر‪ ،‬إال أننا ال نستطيع بسهولة أن نركن إىل أن الرتدي إىل املنقلب الطائفي هو‬

‫‪15‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫حكم الظرف والواقع‪ ،‬وأن املتنفذين والزعامء براء منه‪ .‬ميكننا أن نرى حتى يف مسايرة هذا‬
‫الظرف والنزول عنده‪ ،‬تهمة‪ .‬بعد حرب أهلية طويلة واستبداد ال يقل عنه طوالً‪ ،‬كان عىل‬
‫القادة اللبنانيني أن يكونوا أكرث تطلباً‪ ،‬وأن تقرتن الحاجة إىل السلم بالحاجة إىل التعايش‪،‬‬
‫إن مل يكن التداخل واملصالحة‪ .‬من الصعب أن ال نرى االنتفاضة اللبنانية ظرفاً وواقعاً‪ ،‬ومن‬
‫الصعب‪ ،‬تاريخياً‪ ،‬أن ال نرى يف كل خطوة انقساماً ومجابهة تضييعاً لهذا الظرف‪ .‬الواضح‬
‫أن االجتامع اللبناين ليس اولوية لدى الجميع وال املصالحة‪ ،‬واملعاناة اللبنانية الطويلة ال‬
‫تفرضه كأولوية مطلقة‪ .‬لقد منت من اللحظة األوىل دعوة إىل االنقسام وإن تحت شعار‬
‫آخر‪ .‬مل يحسن القامئون عىل االنتفاضة تطمني أطراف شعرت أنها ستكون عرضة لالبعاد أو‬
‫االنتقام‪ ،‬أسيئ بعبث وقصور نظر فهم ظاهرة عون كام أسيئ التعامل مع قلق الشيعة‪.‬‬
‫ركب الطرفان‪ ،‬كل من جهته‪ ،‬االنقسام وجره إىل نهاياته‪ .‬ماذا لو مل يحشد حزب الله يف‬
‫تظاهرة شكراً سوريا‪ ،‬ماذا لو مل يستخف جنبالط ومعه أركان ‪ 14‬آذار بالظاهرة العونية‪ ،‬ماذا‬
‫لو مل يرفع عون التظلم املسيحي إىل مستوى اسرتاتيجي؟‪ .‬بل نسأل أيضاً ماذا لو مل يساير‬
‫أركان ‪ 14‬آذار التهديد الطائفي ومانعوا من داخل الرساي‪ ،‬ردوداً من نفس النوع (الصالة‬
‫يف الرساي مث ًال)؟‪ .‬ال نريد أن نكيل التهم لكننا نفهم أن القيادات اللبنانية مل تقرص‪ ،‬إن يف‬
‫االستثامر الطائفي أو عىل األقل يف مسايرته أو النكوص عن مجابهته‪.‬‬

‫***‬
‫كانت دعوة بري إىل الغاء لجنة طائفية آخر دعوة طائفية بالطبع‪ ،‬لكن هذا كان ينبغي‬
‫حسابه‪ .‬قول ذلك ال يكفي لرد الدعوة يف بلد يغيل باملطالبات والحساسيات الطائفية‪.‬‬
‫كان أوىل بالحركة العونية ومن رشع لها أن يفهموا أن األمر ال يقف عند هذا الحد‪ .‬عندما‬
‫تتظلم الطائفة االكرث امتيازاً‪ ،‬فإنها تستفز حك ًام الطائفة األقل امتيازاً إىل مطالبة مامثلة‪.‬‬
‫ليس هذا مجرد قياس منطقي‪ .‬بدأ االحتكاك العوين الربي أبكر من ذلك‪ ،‬فالتحريض العوين‬
‫وتظلمه يذهب يف أكرث من اتجاه‪ .‬التشابك االنتخايب ورمبا االداري بني الشيعة واملسيحيني‬
‫يفوق ما بني املسيحيني والسنة‪ .‬ثم ان اسرتداد الحقوق املسيحية قد يعني استعادة ما‬
‫تس ّقطه الشيعة أثناء الوصاية‪ ،‬كام قد يعني إعادة الشيعة إىل موقعهم الثانوي أثناء تصدر‬
‫املوارنة‪ .‬بري يف مطالبة كهذه ال يرمي فقط إىل مجابهة عون الذي دعا‪ ،‬بلغة فجة‪ ،‬إىل‬
‫تحرير جزين‪ ،‬ولكن باألوىل إىل االستقالل عن حزب الله‪ .‬إزاء اعادة تركيب السلطة وطرح‬
‫مسألة املحاصصة‪ ،‬هناك موقف حزب الله الذي يعطي األولوية للسالح‪ ،‬ومينح حلفاءه‬
‫من حصته التي هي أيضاً من حصة الشيعة‪ ،‬وهناك مواقف بري الذي ترعرعت حركته‬
‫يف غامر السلطة واملحاصصة‪.‬‬
‫يستطيع حزب الله أن يعوض الشيعة مبقاومته‪ ،‬التي هي‪ ،‬يف حساب ما‪ ،‬قوة للشيعة‪،‬‬
‫ومبؤسساته‪ .‬لكن هذا التعويض‪ ،‬كام بدا بعد حرب متوز‪ ،‬ليس كافياً‪ .‬ليس ممكناً‪ ،‬يف أي‬

‫‪16‬‬
‫نوضيب سابع‬ ‫انبل يف ةراسخلا تاسايسو يفئاطلا ّدعلا‬

‫يوتوبيا‪ ،‬ابقاء جامعة أو زعامة لبنانية طوي ًال خارج السلطة التي هي الرتجمة املتحركة‬
‫للعالقات الطوائفية‪ .‬بل ومن املستحيل‪ ،‬يف أي يوتوبيا‪ ،‬أن متنح طائفة حصتها مقابل أي‬
‫خدمة كانت‪ ،‬إىل جامعة أخرى‪ .‬هبة كهذه تحرج حزب الله وتحرج تيار املستقبل أيضاً‪.‬‬
‫قد تكون حركة أمل اختارت الوقت الذي تراه مالمئاً لالنفراد عن حزب الله‪ ،‬ليس‬
‫سياسياً ولكن يف املطالبة الطائفية التي ال يستطيع حزب الله أن يعارضها فيها‪ ،‬كام ال‬
‫تستطيع هي أن تعارضه يف توجهه السيايس‪ .‬هي املرة األوىل‪ ،‬بعد زمن طويل‪ ،‬التي تجر‬
‫فيها حركة أمل حزب الله بدالً من أن تنجر وراءه‪ .‬حزب الله يؤيد لكنه أيضاً يعمل عىل‬
‫امتصاص الصدمة والعواقب‪.‬‬
‫حركة أمل تطالب بإلغاء الطائفية‪ .‬فالنظام الطوائفي متشبع باالمتيازات وال قدم‬
‫لطائفة أخرى فيه‪ .‬ال يستطيع الشيعة أن يطالبوا بامتياز يف هذا الزحام‪ ،‬وإذا طالبوا سيكون‬
‫ذلك من الحصة االكرب من االمتيازات‪ ،‬حصة املوارنة‪.‬‬
‫اراد ميشال عون اسرتداد منصب مدير االمن العام من الشيعة‪ .‬مل يعترب مام حصل‬
‫عند اقالة مدير أمن املطار الشيعي‪ .‬مل ينتبه إىل أن معركة املحاصصة الكربى‪ ،‬التي مل تدر‬
‫بعد‪ ،‬هي معركة الشيعة‪ ،‬وبالقوة التي قاد بها الشيعة الهجوم عىل سلطة ‪ 14‬آذار‪ ،‬ال ميكن‬
‫االستهانة بأي معركة يخوضونها‪ ،‬وليس من الحكمة‪ ،‬بحال‪ ،‬استدراجهم إىل املعركة‪ .‬من‬
‫انتخابات جزين إىل معركة الغاء الطائفية فتخفيض سن االقرتاع يبدو أن شقاً يتكون بني‬
‫الشيعة والحليف املسيحي‪ .‬ففي املعركتني اآلخريتني صوت حزب الله حك ًام مع حركة أمل‪.‬‬
‫إذ لن يفهم الشيعة يف ظرف املطالبة الطائفية والنزاع عىل املحاصصة اال أن التصويت ضد‬
‫االقرتاح تصويت ضدهم‪ ،‬وانهم هنا أفردوا وحورصوا‪ ،‬وهذا هو أسوأ مخاوفهم‪ .‬ال ننىس أن‬
‫للشيعة أيضاً خوفاً متأرثاً من االنفراد واملحارصة تجدد بخروج السوريني‪.‬‬
‫ص ّوت حزب الله مع االقرتاحني‪ .‬سيتيح له ذلك امتصاص أثر التصويت العوين‪ .‬لكن‬
‫املعركة تر ّدت إىل هذا الدرك وسيخوض بري قدما معركة يجد الحزب نفسه غائباً عنها وإن‬
‫كان ال يستطيع تجاهلها‪.‬‬
‫يحمل الحليف الشيعي عن الحزب عبء مطالبة ال يستطيع الحزب أن يقوم بها اال‬
‫بثمن اتهام طائفي يرجع عىل مقاومته وسالحه‪ ،‬وبالتايل عىل سالحه ورشعيته وتحالفاته‪.‬‬
‫لكن مطالبه ال بد‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬أن تحرج الحزب الذي لن يستطيع أن يعيش فقط عىل التهديد‬
‫االرسائييل‪ ،‬وعىل االستعداد لحرب ال تحصل كل يوم‪ ،‬وإذا حصلت ستكون ضارية مرعبة عىل‬
‫الشيعة خصوصاً‪ .‬لذا يقرتن االستعداد باالستبعاد للحرب وهذا ما يجعله غري كاف سياسياً‪.‬‬
‫خاصة حني تنحدر السياسة يف لبنان إىل املشاحنة عىل الحصص التي تستغرق أكرث فأكرث‬
‫اليوميات السياسية‪ .‬التحدي الطائفي والتحريض الطائفي واالستفزاز الطائفي امور معدية‬
‫وال نعرف كيف ستفعل يف انقسام اهيل جاهز أساساً‪ ،‬ستكون قابلة لكل االحتامالت‪ .‬من‬
‫هنا نرى االفق الذي تفتحه املطالبة العونية‪ ،‬افق املامحكة الطائفية املتسلسلة والوقوف‬
‫عىل الحافة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫فكر سيايس‬

‫مذاهب املف ّكرين السوريني‬


‫يف "الدولة العربية"‪ :‬تفحص نقدي‬
‫ياسني الحاج صالح‬

‫متايزت‪ ،‬يف العقدين األخريين‪ ،‬ثالث مقاربات يف شأن الدولة وعالقتها باملجتمع يف تفكري‬
‫املثقفني السوريني األبرز‪ ،‬وإن أحالت ثالثتها عىل الدول العربية أو "الوطن العريب" جريا عىل‬
‫ُس ّنة كتابية سورية أصيلة‪ .‬تتكلم مقاربة أوىل عىل دولة قمعية أو استبدادية‪ ،‬تحكم بالقوة‬
‫العارية مجتمعات مقهورة؛ وتصدر املقاربة الثانية عن افرتاض رضب من تعادل بني الدولة‬
‫واملجتمع‪ ،‬أو عىل كون تلك "تعبريا" عن هذا؛ فيام تقرر مقاربة ثالثة أن الدولة أكرث تقدما‬
‫من املجتمع‪ ،‬وأنها عاملة عىل تحديثه وتر ّقيه التاريخي‪.‬‬
‫نسمي املقاربة األوىل دميوقراطية‪ ،‬والثانية تعبريية‪ ،‬والثالثة تحديثية‪.‬‬
‫ال يقرر النقد الدميوقراطي (منثل عليه بربهان غليون) أن نُظم الحكم العربية‬
‫استبدادية‪ 1‬فقط‪ ،‬تتوسل القوة أساسا لحكمها‪ ،‬وإمنا هو يش ِّكل محور الوعي الذايت لحركات‬
‫سياسية‪ ،‬تتطلع إىل تغيري "دميوقراطي" لنظم الحكم القامئة‪ ،‬وينخرط مناضلوها يف أنشطة‬
‫معارضة لها‪.‬‬
‫وضد هذه‪ ،‬تقرر املقاربة الثانية (ممثّلة بجورج طرابييش) أن نظمنا القامئة مل تنزل‬
‫من السامء‪ ،‬وأنها يف الواقع انعكاس ملجتمعاتنا‪ ،‬لثقافتها ومستواها الحضاري بخاصة‪ .‬قد‬
‫تكون نظمنا استبدادية وفاسدة‪ ،‬لكنها تعبري أمني عنا‪ .‬فـ"كام تكونون ُيولىّ عليكم"‪ .‬وعموما‬
‫يجري تعريف ما "نكون" ثقافيا‪ .‬فاملقاربة التعبريية ثقافوية جوهريا‪.‬‬
‫وال تكتفي املقاربة الثالثة (ميثلها عزيز العظمة) بالتعويل عىل الدولة املتقدمة‬

‫‪ 1 1‬قد توصف عموما بأنها تسلطية أو ديكتاتورية أو شمولية‪ ،‬دون تدقيق كاف‪ .‬واألصل يف عدم‬
‫التدقيق هو تضخم البعد النضايل والعميل يف املقاربة الدميوقراطية عىل حساب بعدها النظري‬
‫والتحلييل‪ .‬وإذ متنح النزعة النضالية أولوية لدواعي التحشيد وتوحيد القوى‪ ،‬أي لالنضباط التعبوي‪،‬‬
‫تنزع إىل تصوير الواقع الذي يجري النضال ضده ككلتة مصمتة من الرش السيايس‪ ،‬ما يغذي زهدا‬
‫بالتدقيقات النظرية ويضعف مطلب االنضباط املفهومي ويدفع االنشغاالت التحليلية إىل الوراء‪.‬‬
‫عىل أننا سرنى أن املقاربتني األخريني ليستا أقل نضالية وال أكرث انضباطا معرفيا‪.‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫من أجل تق ّدم املجتمع املحكوم ومجانسته وتر ّقيه‪ ،‬بل وتجنح إىل معاداة نقاد "الدولة"‬
‫ومعارضيها‪.‬‬
‫ال تقع املقاربات الثالث عىل مستوى واحد‪ .‬يلتقي يف األوىل تفكري نظري مع نشاط‬
‫سيايس عميل‪ .‬فيام الثانية عقيدة تربيرية‪ ،‬موجهة أساسا ضد سابقتها‪ .‬أما الثالثة فهي‬
‫استقراء تاريخي نظري‪ ،‬مبني أساسا عىل مفهوم الدولة املجرد‪ .‬هذا ال يعني أن املقاربتني‬
‫منزهتني عن السياسة والرصاع السيايس‪ .‬ليستا كذلك بحال‪،‬‬
‫التعبريية الثقافوية والتحديثية ّ‬
‫وسرنى أنهام تشاركان املقاربة األوىل يف ترتيب قول يف الدميوقراطية‪ ،‬فكرة وحركة ‪ ،‬عىل‬
‫‪2‬‬

‫قولهام يف الدولة‪.‬‬

‫املقاربة الدميوقراطية‪ ...‬سياسوية‬


‫موجه نحو تغيري صيغ‬ ‫تؤسس املقاربة الدميوقراطية لخيار سيايس مختلف أو "معارض"‪َّ ،‬‬
‫الحكم‪ ،‬مبا يضمن مساءلة الحاكمني وحريات أوسع للمحكومني ومساواة أكرب بني جمهور‬
‫السكان وسيادة قوانني عامة وتداوال للسلطة‪ ،‬ومبا ُيفرتَض أنه يتيح تجاوز اإلعاقة التاريخية‬
‫تشل العامل العريب وبلدانه جميعا منذ عقود‪ .‬كان ُأعيد اعتبار فكرة الدميوقراطية‬ ‫التي ُّ‬
‫يف سبعينات القرن العرشين‪ ،‬يف أوساط معنية بالتقدم والتحرر العريب والوحدة العربية‬
‫(لياسني الحافظ الفضل األكرب يف هذا الشأن)‪ ،‬وتنظر إىل الدميوقراطية كمنهج عميل للتق ُّرب‬
‫من تلك األهداف‪ .‬وال ُيستغ َرب أن العنوان الدميوقراطي مل يو ّفر نظرات أكرث تدقيقا يف نظام‬
‫العالقة بني الدولة واملجتمع يف بلداننا‪ .‬فهو يف أصوله الفكرية عرو ٌيب عام‪ ،‬األمر الذي قلام‬
‫أتاح له أكرث من نظرة طائر إىل املجتمعات العربية العيانية‪ ،‬مبا فيها السوري‪ .‬وهو من جهة‬
‫ثانية موجه نحو العمل‪ ،‬فال ينشغل كثريا بالتحليل النظري واملعرفة التفصيلية‪.‬‬
‫وفقا ملقاربة غليون الدميوقراطية‪ ،‬تبدو املجتمعات العربية مق ّيدة من قبل "دول"‪،‬‬
‫هي مبثابة "وحش يغتال الحريات"‪ ،3‬تحكم بسبل "عنيفة وميكانيكية‪ ،‬بل هستريية‬
‫أحيانا"‪ .4‬و"الدولة التعسفية" هذه‪ ،‬املوصوفة بأن "التعسف دستورها الحقيقي"‪ 5‬هي مبثابة‬
‫"آلة تحارص املجتمع من كل صوب وتخضعه إلرادتها وتفرغه من أية ماهية سياسية"‪.6‬‬
‫إنها "وحش مقدس"‪ ،‬تريد أن "تبتلع املجتمع" وتجعل من نفسها "املعبود األول" له‪.7‬‬
‫وهي تحكم عرب "تضخيم أجهزة القمع ووسائله لدرجة أصبح معها معدل بناء السجون‬

‫ويف الثقافة ويف الدين ويف العلامنية ويف املجتمع‪ ،‬مام لن نتطرق إليه إال ملاما‪.‬‬ ‫‪2 2‬‬
‫برهان غليون‪ :‬املحنة العربية‪ ،‬الدولة ضد األمة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫‪ 3 3‬‬
‫بريوت‪ .2003 ،‬ص ‪.221‬‬
‫املصدر نفسه (م‪ .‬ن)‪ ،‬ص ‪230‬‬ ‫‪4 4‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.239‬‬ ‫‪ 5 5‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪243‬‬ ‫‪ 6 6‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.191‬‬ ‫‪ 7 7‬‬

‫‪19‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫واملعتقالت ومعسكرات التجميع واملراقبة ونقاط التفتيش وأجهزة املخابرات أكرب من معدل‬
‫بناء املستشفيات أو املدارس أو الخدمات االجتامعية"‪.8‬‬
‫غليون يعرب عن توجه عريض‪ ،‬هيمن يف الثقافة العربية يف العقدين األخريين من القرن‬
‫العرشين‪ ،‬وكان أحد شعبتي التيار القومي اليساري الذي ظهر يف الستينات والسبعينات‪،‬‬
‫وتفرعت عنه شعبة ثانية انرصف تركيزها أكرث إىل الحداثة والعلامنية‪.‬‬
‫انصب نقده عىل "الدولة التحديثية"‪ ،‬القمعية جوهريا‪ ،‬فام أمكن للطرح‬ ‫ّ‬ ‫وإذ‬
‫الدميوقراطي أن يتساءل عام إذا كانت النُظم االستبدادية الحاكمة تستفيد من أشياء أخرى‬
‫غري القمع‪ .‬كان القمع تشخيصا للعالقة بني الدولة واملجتمع‪ ،‬يفرتض خارجية العالقة بينهام‬
‫و"غربة" تلك عن هذا‪ ،‬أو "أجنبيتها" حياله‪ .‬وكان الفائض القمعي‪ ،‬امللموس فعال‪ ،‬برهانا‬
‫يغني عن مزيد من النظر‪.‬‬
‫والواقع أنه قلام امتنع دميوقراطيون عرب يف مثانينات القرن العرشين‪ ،‬حيث دانت‬
‫الهيمنة للفكرة الدميوقراطية دون منازع‪ ،‬عن قطع املسافة بني القول إن نظمنا قامعة‬
‫ملحكوميها‪ ،‬متسلطة‪ ،‬وحشية‪ ،...‬وبني القول إنها غريبة عليه‪" ،‬خارجية" أو "أجنبية" عليه‪.9‬‬
‫لكن معنى "املجتمع" هو ما يختلف باالنتقال من العبارة األوىل إىل الثانية‪ .‬يف األوىل هو‬
‫"شعب" مقموع‪ ،‬بينام هو يف العبارة الثانية "أمة" مستلبة‪ .‬يجري تعريفه هنا بلغة الثقافة‬
‫املرجح لهذه جميعا هو "اإلسالم"؛ وليس بلغة االجتامع‬‫و"الهوية" و"الذات" و"األمة"‪ ،‬واملرىس ّ‬
‫واالقتصاد والفرد والحق والطبقات واملؤسسات املوحدة التي يفرتض أنها تع ِّرف "الشعب"‪.‬‬
‫نحن هنا حيال أمة مواطنني محتملة‪ ،‬بينام هناك حيال أمة ثقافية أو دينية ُمض َمرة‪ .‬وبقدر‬
‫‪11‬‬
‫ما يتمحور النقد الدميوقراطي لغليون عىل "الدولة التحديثية‪ "10‬التي هي "أداة عمياء"‬
‫ملصالح مسيطرة‪ ،‬يتكلم أيضا عىل "ذات" تبدو معطاة ومتكونة قبل الدولة‪" ،‬ذات" يجري‬
‫"االنتقاص" منها بل "إنكارها"‪ 12‬من قبل "نخبات اجتامعية" توصف بأنها "عىل صلة أكرث‬
‫بالغرب"‪ .13‬يتكلم كذلك عىل "رفض الذات والتمثيل بالنفس"‪ ،‬من قبل "بعض أجنحة هذه‬
‫النخبة" التي هي مبثابة "أصولية معادية لإلسالم" تتعمد "تسويد صفحة التاريخ العريب‬
‫واإلسالمي"‪ .14‬ويشري إىل "اكتشاف الذاتية ومراجعة مسائل الهوية والخصوصيات التاريخية"‪،‬‬
‫وإىل أن "تجاهل الذاتية (‪ )...‬هو ما حول عملية التنمية إىل مسألة مراكمة لآلالت امليتة‬
‫والبضائع واملنتجات‪.15"...‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪218‬‬ ‫‪8 8‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص‪.221‬‬ ‫‪ 9 9‬‬
‫مقدمة الكتاب‪ ،‬بخاصة ص ص ‪ .23-13‬املفهوم مركزي يف تحليله‪.‬‬ ‫‪ 1010‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.221‬‬ ‫‪ 1111‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪254‬‬ ‫‪ 1212‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.253‬‬ ‫‪ 1313‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪261‬‬ ‫‪ 1414‬‬
‫م‪ .‬ن‪.247 ،‬‬ ‫‪ 1515‬‬

‫‪20‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫وبينام يوجه غليون أعنف نقده إىل ما سامه "حثالة الحداثة" أو "حداثة – حثالة"‪،16‬‬
‫أو "تحديثية رثة"‪ ،17‬يث ّمن كثريا "الذاتية" و"الهوية" و"األنا العميقة"‪.18‬‬
‫ويف املحصلة‪ ،‬يس ِّهل طرح غليون تصور أن "الدولة" استبدادية سياسيا ألنها "أجنبية"‬
‫عىل املجتمع ثقافيا‪ ،‬مع رد الثقافة ذاتها إىل "ذاتية" ال مضمون فعليا لها غري "اإلسالم"‪ .‬وهو‬
‫ما يضمن متاهيا ميسورا للمسلمني بـ"األمة"‪ ،‬فيام ُيغ ِّرب عنها األقل متاهيا باإلسالم‪ ،‬مبن فيهم‬
‫من قد يكونون مسلمني سوسيولوجيا يف األصل‪.‬‬
‫ال يوفر هذا الطرح ضامنات ضد تصور الدميوقراطية مبثابة إعادة األمور إىل نصاب‬
‫"طبيعي" لها‪ ،‬بحيث "تعبرِّ " الدولة عن املجتمع‪ ،‬أو "تطابقه"‪ .‬ولقد س ّهل هذا االنتقال الخفي‬
‫وغري الرشعي من شعور عموم اإلسالميني السياسيني بأنهم دميوقراطيون ال ينقصهم يشء‪،‬‬
‫ملجرد كونهم معارضني للدولة التحديثية االستبدادية‪ .‬وسيسهم هذا التساهل يف تصور أكرث‬
‫تبسيطا للدميوقراطية بعد‪ ،‬يردها إىل حكم األكرثية‪ ،‬الذي و ّفرت مناخات تلك الفرتة (عقد‬
‫الثامنينات عقد "الرتاث" و"الهوية"‪ ،‬وصعود اإلسالميني‪ ،‬كام قد نذكر) وحتى وقت قريب‬
‫انزياحا معجميا ضمنيا يحيلها إىل األكرثية الدينية أو يكاد‪ ،‬وهو أمر كان ال بد أن يفاقمه‬
‫تدهور االندماج الوطني وتنامي الوعي الذايت الفئوي يف بلداننا يف الفرتة نفسها‪ .‬ويف سياق‬
‫هذا االنزياح السيايس والداليل‪ ،‬وتفاع ًال معه‪ ،‬سيظهر تيار فكري واجتامعي يع ّرف نفسه‬
‫بالعلامنية‪ ،‬مع ّرفة بدورها بصيغة مبسطة وإجرائية‪ :‬فصل الدين عن الدولة‪ .‬ومالبسات‬
‫ظهور هذا التيار ستتسبب بدورها يف انزياح معجمي مقابل‪ ،‬يطابق بني الدين واإلسالم‬
‫حرصا‪ ،‬وبصيغته السنية تحديدا‪ .19‬يشد من أزره يف هذا املسلك االختزايل صعود حركات‬
‫إسالمية (سنية) متشددة أو عنيفة وتدهور االندماج الوطني‪ ،‬يف الفرتة نفسها أيضا‪.‬‬
‫وبعد أن كان ياسني الحافظ يوحد املطلبني الدميوقراطي والعلامين معا عىل أرضية‬
‫قومية عربية واشرتاكية‪ ،‬شهدنا تف ّرقهام يف العقد األخري من القرن العرشين‪ .‬إن برهان‬
‫غليون من جهة‪ ،‬وجورج طرابييش من جهة ثانية‪ ،‬تف ّرعان عن دميوقراطية الحافظ العلامنية‪،‬‬
‫العروبية واملاركسية يف آن معا‪ .‬وال ريب أن األصل يف هذا االنقسام هو تفكك القومية‬
‫العربية التي كانت حركة علامنية وقاعدة مبدئية لتشكل أكرثية أو أمة جديدة‪ ،‬مختلفة‬
‫عن األمة الدينية‪.‬‬

‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ص ‪215 -214‬‬ ‫‪16 16‬‬


‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.303‬‬ ‫‪ 1717‬‬
‫م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.248‬‬ ‫‪ 1818‬‬
‫هذه وقائع غري مدروسة بصورة منهجية‪ ،‬بل يبدو أن ال سبيل إىل دراستها بسبب تحرج عموم‬ ‫‪ 1919‬‬
‫املثقفني من تناولها بالتحليل‪ ،‬األمر الذي ال يندر أن يقرتن بقلة تحرج عملية وشفهية يف تناولها‪،‬‬
‫بل وبرتك الباب مفتوحا إلباحيني طائفيني‪" ،‬يلغبصون" بأيديهم العارية يف أحشاء بنياتنا االجتامعية‬
‫املعارصة‪ .‬لكن األسوأ هو إفساد فكريت الدميوقراطية والعلامنية معا‪ ،‬وإفساد النقاش حولهام‪:‬‬
‫الدميوقراطية هي حكم األكرثية (= العربية املسلمة السنية) والعلامنية هي فصل الدين (= اإلسالم‬
‫السني) عن الدولة‪ .‬هذا معجم يعرفه الجميع يف سورية ويتواطأون عىل إنكاره‪ ،‬كل ألسبابه‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫ويف واقع األمر‪ ،‬ليست الدولة غريبة عن املجتمع باملعنى الثقايف للكلمة‪ .‬بل إن هذه‪،‬‬
‫بينام كانت توغل يف االستبداد وتراهن عىل الخلود يف الحكم (ما يتضمن توريثه سالليا)‪،‬‬
‫كانت تقرتب من املجتمع املحكوم ثقافيا‪ ،‬أو مام يفرتض أنها ثقافته‪ ،‬كام سرنى‪.‬‬

‫***‬
‫يف السنوات األخرية‪ ،‬التالية لـ‪ 11‬أيلول ‪ ،2001‬والحتالل العراق يف ربيع ‪ 2003‬بخاصة‪،‬‬
‫أضحى التشخيص الدميوقراطي الذي يتكلم عىل "قمع" وعىل "غربة" عائقا معرفيا‪ ،‬يحول‬
‫دون معرفة أوسع بوقائع العالقة بني الدولة واملجتمع‪ ،‬فكان من ثم عامال مهام يف تراجع‬
‫الفكرة الدميوقراطية ذاتها‪ .‬لقد أخذ يظهر هنا شيئان جديدان أو ثالثة‪ .‬أولها‪ ،‬توترات دينية‬
‫ومذهبية وإثنية محتدمة تخرتق مجتمعاتنا‪ ،‬وقد تتفجر بعنف إذا رفع الغطاء عنها‪ .‬هذا‬
‫يثري تساؤال عام إذا مل يكن "االستبداد" نوعا من الحل‪ .‬ثانيها تكوينات إسالمية متنوعة‬
‫الوجوه‪ ،‬قد تكون عنيفة أو أعنف‪ ،‬لكنها حتى حني ال تكون‪ ،‬تحمل طوىب مناقضة للدولة‬
‫الوطنية الحديثة‪ ،‬األمة اإلسالمية املنتظمة حول "الرشيعة"‪ ،‬فتثري قلق قطاعات واسعة من‬
‫املجتمعات العربية‪ .‬وهي يف جميع األحوال ال تخفي تطلعاتها السياسية‪ ،‬مبا فيها الوصول‬
‫إىل الحكم وفرض نظام إسالمي‪ .‬وثالثها تدخالت خارجية كثيفة وقوية‪ ،‬قد تصل اىل حد‬
‫االحتالل‪ ،‬وبيئة دولية وإقليمية خطرة‪ ،‬ما يهدد البلدان الضعيفة بأن تكون "دوال فاشلة"‪.‬‬
‫وتتوحد هذه الظواهر الثالث يف أنها ترفع الطلب عىل "الدولة القوية"‪ .‬ويف مناخات سياسية‬
‫وفكرية ونفسية مضطربة كمناخات املرشق يف ما انقىض من سنوات هذا القرن‪ ،‬سريجح‬
‫للفرق بني دولة قوية ودولة قمعية أن ميحي‪ ،‬أو يعترب تز ُّيدا كامليا يف التدقيق‪ .‬وإذا ارتفع‬
‫الطلب عىل األمن‪ ،‬فهل سيبقى نقد "الدولة األمنية" (التعبري لطيب تيزيني) محتفظا‬
‫بقيمته؟ كل هذا أضعف قضية الدميوقراطيني أكرث‪ .‬ولعله يبيح لنا القول إن هيمنة الفكرة‬
‫الدميوقراطية انتهت عربيا يف وقت ما بني أيلول ‪ 2001‬ونيسان ‪ ،2003‬بعد أن كانت دامت‬
‫نحو ربع قرن‪.‬‬
‫ويف حدود علمي مل يطور الدميوقراطيون العرب (وأنا منهم‪ ،‬وعىل والء ثابت‬
‫لتطلعاتهم) مقاربة أكرث تعقيدا‪ .‬هذا يقود منذ اآلن إىل تصلب فكري وسيايس يف أوساطهم‪،‬‬
‫يتولد عن الثبات عىل صيغة واحدة للفكرة ضمن واقع كرثوي متغري‪ ،‬عىل نحو ما كنا رأينا‬
‫بخصوص الشيوعية قبل نحو عقدين؛ أو يقود إىل هجر الفكرة الدميوقراطية إىل غريها‪ ،‬أو‬
‫أخريا إىل التخيل عن كل اهتامم عام‪ .20‬البديل الجدي هو تطوير الطاقة االستيعابية للطرح‬
‫الدميوقراطي‪ ،‬يك يكون مؤهال نظريا وعمليا للرد عىل املسائل والتحديات الجديدة‪ .‬فليس‬

‫‪ 2020‬عىل هذه البدائل توزع الطيف السوري املعارض يف سنوات ما بعد "إعالن دمشق" (‪ .)2005‬والسمة‬
‫الغالبة ملن هجروا الطرح الدميوقراطي ومل يقعدوا يف بيوتهم هي النكوص إىل عتاد شيوعي أو‬
‫قومي عريب تقليدي‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫االستبداد هو الحل‪ ،‬بل هو مشكلة تزداد تعقيدا‪ ،‬وتجعل بلداننا رهينة بينه وبني "الفشل"‬
‫والنزاع األهيل‪.‬‬

‫***‬
‫والواقع أن تط ّلب تفكري أكرث تعقيدا مل يكن غائبا متاما عن أفق الدميوقراطيني السوريني‪،‬‬
‫ستجب له بصورة مبدعة‪ .‬لقد ميزوا‪ ،‬ورمبا بتأثري من برهان غليون أكرث من غريه‪،‬‬ ‫وإن مل ُي َ‬
‫بني الدولة والسلطة ‪ ،‬حيث الدولة مؤسسة (أو ُمر ّكب مؤسسات) عامة وسيادية‪ ،‬والسلطة‬
‫‪21‬‬

‫وظيفة من وظائفها‪ ،‬قد يتوسلها طاقم حاكم لتحصني مصالحه الخاصة بصورة أساسية‪.‬‬
‫التمييز مفيد‪ ،‬لكنه ال يتيح رؤية الفاعلية التدخلية واإليجابية للدولة‪ .‬الدولة‪ ،‬مبا هي كذلك‪،‬‬
‫تع َّلم وتنظم وتَض ِبط وتريب وتقمع‪ ،‬وليس فقط "تعبرِّ " أو "متّثل"‪ .‬مفهوم الدولة التي ليست‬
‫مجرد سلطة ال يكفي‪ .‬بل قد يكون جوهر املشكلة السياسية يف سورية اليوم أن هناك‬
‫بالفعل سلطة جهازية ُمتضخِّ مة‪ ،‬منشغلة أوال وأساسا بدوامها إىل درجة أن تدخالتها يف‬
‫املجتمع ال تنضبط بنسق عقالين مفهوم‪ ،‬وهي أقرب إىل أن تكون محدودة‪ ،‬عىل عكس‬
‫ما قد يستخلص من األدب الدميوقراطي الشائع‪ .‬فليس لها سياسة تربوية وطنية دامجة‪،‬‬
‫أو سياسة تطوير ونهوض وطني‪ ،‬أو سياسة ثقافية مج ِّددة‪ ،‬وال ينضبط رجالها بأخالقيات‬
‫رفيعة ليصلحوا قدوة ملوطنيهم‪ ،‬أما قمعها فموجه ضد من ينازعها السلطة‪ ،‬فيام تكاد ترتك‬
‫كل يشء آخر للمحيل واألهيل‪ .‬هذا فوق أنها منخورة باملحسوبيات والتبعيات الشخصية‬
‫والفئوية وعالقات القرابة والثقة واملعرش‪ ،‬ما يقوض مبدأ الدولة العام من األساس‪.‬‬
‫بحكم أولويتها العليا تلك‪ ،‬تجد "الدولة" نفسها مغلولة اليد‪ ،‬إن مل نقل مشجعة‪،‬‬
‫لتطورات اجتامعية ودينية بالغة الخطورة من نوع تنامي املللية‪ ،‬وتأثري متزايد ألجهزة دينية‬
‫متنوعة متارس سلطات سيادية أو ما يقاربها (مجال األحوال الشخصية بخاصة)‪ ،‬فضال عن‬
‫"فساد" مجتاح بالغ العدوانية وكيل الحضور‪ ،‬وعن موت الثقافة أو عيشها كنبتة برية‪ ،‬كام‬
‫عن تصحر مساحات واسعة من البالد وهجرة مئات األلوف إىل مخيامت بؤس حول املدن‪.‬‬
‫حيال هذا الرشط يلزم الدفاع عن دولة أكرث تدخلية‪ ،‬ال أقل‪ .‬وكذلك التحول من تصور‬
‫الدميوقراطية كاشرتاكية سياسية‪ ،‬تقوم عىل توزيع السلطة املتاحة إىل تصورها كإنتاج ملزيد‬
‫من السلطة من أجل التوحيد والضبط والتنظيم االجتامعي‪ .‬وإن كان يتعني ضبط سلطة‬
‫الدولة القمعية‪ ،‬ففي سياق يقتيض مزيدا من وظائفها االجتامعية من جهة‪ ،‬وبالخصوص‬
‫مزيدا من ضبط عشوائيتها وتعسفها واستسهالها الرتويع والحلول االعضلية للمشكالت‬

‫‪" 2121‬عرص التنظيم‪ :‬الدولة والسلطة"‪ ،‬هو عنوان الفصل الثالث من كتاب املحنة العربية‪ .‬لكن الرشح‬
‫الالحق يف املنت أوثق صلة باتجاه تفكري املثقفني والناشطني الدميوقراطيني السوريني يف الفرتة ما بني‬
‫"ربيع دمشق" ‪ ،2001-2000‬و"إعالن دمشق" ‪ ،2005‬مام بأفكار غليون‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫االجتامعية والسياسية‪ .22‬أما التفكري يف الدميوقراطية كتقييد للسلطة‪ ،‬أو كدفاع عن الدولة‬
‫ضد السلطة‪ ،‬فيجعل املطالبة بوظائف اجتامعية أكرث غري مريئ وغري ممكن معا‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫املطلوب املزيد من الدولة واملزيد من السلطة‪ ،‬واألقل من العشوائية‪.‬‬
‫لكن هل نبقى ضمن إشكالية الدميوقراطية حني نتكلم عىل إنتاج السلطة مقابل‬
‫ومنظم للدولة؟ أال نعود بذلك إىل إشكالية البناء‬ ‫ّ‬ ‫موحد ومعقلِن‬
‫توزيعها‪ ،‬وعىل دور ِّ‬
‫الوطني (الدولة املربية الدامجة املوحدة)‪ ،‬ورمبا نعيد االعتبار ملفهوم الديكتاتورية الوطنية؟‬
‫وبعد تجاربنا مع هذه‪ ،‬وبخاصة انزالقها املتواتر إىل ديكتاتورية طائفية مق ّنعة ال إىل‬
‫دميوقراطية وطنية‪ ،‬من يجرؤ عىل قول كلمة طيبة بحقها؟ هذا مربر إضايف ملزيد من النظر‬
‫النقدي يف املوضوع‪.‬‬

‫املقاربة التعبريية‪ ...‬ثقافوية‬


‫املقاربة الثانية‪ ،‬التعبريية‪" ،‬لحظة" من معرفة سديدة‪ ،‬قد تتلخّ ص يف أن الدولة يف أي‬
‫مجتمع تشبهه بصورة ما‪ ،‬أنها منه وليست "غريبة" عنه أو "أجنبية" عليه‪ ،‬أنها ما كانت‬
‫لتتس ّلط وتستب َّد لو أن املحكومني أرفع ثقافة وخلقا وأرسخ وحدة؛ وقد ُيستخ َلص من ذلك‬
‫أن مسؤولية تغيريها مرهونة بتغيري ما بأنفسهم وهو ما يقع عىل عاتقهم وحدهم‪ .‬وهذا‬
‫سليم متاما‪.‬‬
‫لكن املقاربة هذه تنزلق بثبات إىل تربير الحكم االستبدادي أو إضفاء صفة‬
‫نسبية عليه‪.‬‬
‫وبينام ال نجد تعبريا عالِ ًام واضحا عن هذه املقاربة‪ ،‬إال أنه ظهرت يف العقدين‬
‫األخريين‪ ،‬واشتد عودها يف سنوات ما بعد ‪ 11‬أيلول ‪ ،2001‬نظرة ثقافوية إىل مجتمعاتنا‬
‫املعارصة‪ ،‬تنزع إىل استخالص أوضاعها السياسية من ثقافتها وذهنيتها‪ ،‬أو من "صندوق‬

‫‪ 2222‬املسألة اليوم يف سورية ليست يف شدة القمع (ال يزال شديدا وفائضا) بل يف عشوائيته والعقالنيته‪.‬‬
‫أذكر مام خربت شخصيا أن املحسوبيات تحدث فروقا مهمة يف أوضاع سجناء السياسيني‪ ،‬أنه مل ميكن‬
‫يف أي يوم تبني قاعدة مطردة تنضبط بها أوضاع سجناء ارتكبوا"جرائم" متامثلة‪ ،‬أن السلطات قلام‬
‫احرتمت أحكام محاكمها هي بالذات‪ ،‬األمر الذي يعني أن إرادة أو نوازع أفراد نافذين كانت غالبا‬
‫فوق القوانني العامة‪ .‬ماذا يبقى من "الدولة" إذن؟ وأالحظ أن ما تىل "الثورة القمعية" يف مثانينات‬
‫القرن العرشين هو تعمم عالقات املحسوبية والثقة املشخصة‪ ،‬وأن التعمم هذا رمبا له "الفضل"‬
‫يف الحاجة إىل قدر أقل من القمع املبارش يف العرشية املنقضية من هذا القرن‪ .‬بعبارة أخرى لزمت‬
‫"ثورة" من أجل تكريس العالقات األهلية اجتامعيا‪ ،‬حتى إذا ترسخت تحولت الثورة إىل "دولة"‪،‬‬
‫هي ما أسميها "الدولة السلطانية املحدثة"‪ .‬ويبدو أن هذه تحتاج إىل مستوى أدىن من القمع العام‬
‫السائل‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫رأس" عام‪ ،‬يبدو أن اإلسالم أبرز محتوياته‪ .23‬ويف السنوات األخرية‪ ،‬النصف الثاين من هذا‬
‫العقد بخاصة‪ ،‬حازت هذه النظرية التي تعي نفسها ضد الشعبوية عىل شعبية واسعة‪.24‬‬
‫ومع انتشارها الشعبي‪ ،‬انسلخت عن صيغتها األصلية‪ ،‬وأخذت متيل نسقياً‪ ،‬يف السياق‬
‫السوري‪ ،‬إىل ل ْوم املجتمع املحكوم وتحميله املسؤولية عن أوضاعه البائسة‪ ،‬فوق تكوين‬
‫وأفعال نخب السلطة الحاكمة له‪.25‬‬
‫تخفق هذه النظرية يف تفسري القمع الواسع الذي متارسه السلطات‪ .‬فإذا كانت تعبريا‬
‫عن محكوميها‪ ،‬فينبغي أال تضطر إىل هذه الدرجة من القمع‪ .‬لكن يحصل أن يقال أحيانا‬
‫إن املحكومني‪ ،‬البعض املعارض منهم عىل األقل‪ ،‬ال يفهمون غري لغة القوة‪ ،‬وأن االضطرار إىل‬
‫"تكسري رؤوسهم" متولد عن "يباستها"‪.26‬‬
‫ويخص دعاته بأعنف‬
‫ُّ‬ ‫ثم إن هذا الطرح محافظ سياسيا‪ ،‬يتشكك بالتغيري السيايس‪،‬‬
‫مطردة للمقاربة الثقافوية‪ .‬ال غرابة أن يواليها طيف اجتامعي‬ ‫سخطه‪ .‬هذه سِ مة جوهرية ّ‬
‫متنوع‪ ،‬مستفيد من األوضاع القامئة‪ ،‬أو لديه ما يخشاه من تغريها‪ ،‬دون أن يكون بالرضورة‬
‫من صلب النظام‪ .‬وهو ما ينطبق عموما عىل "الثقافويني العلامنيني"‪ .27‬وال تكاد الصيغة‬
‫األشيع لهذه املقاربة تجد شيئا تؤاخذ "الدولة" عليه‪ ،‬أو تطلب منها دورا إيجابيا يف إصالح‬
‫أحوال محكوميها‪ .‬وبينام قد يستخلص من صيغتها العامة أن املحكومني هم وحدهم‬
‫املسؤولون عن تغيري أوضاعهم كام أسلفنا‪ ،‬فإن عموم أصحاب هذه املقاربة يكتفون من‬

‫كتاب طرابييش‪ :‬يف ثقافة الدميوقراطية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ .1998 ،‬ص ‪ .17‬وبتنقيح‬ ‫‪ 2323‬‬
‫محدود أعاد نرش املقالة الرئيسية يف الكتاب‪" ،‬إشكاليات الدميوقراطية العربية"‪ ،‬يف كتابه هرطقات‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬دار الساقي ‪.2006‬‬
‫توفرت شبكة االنرتنت عىل ما ال يحىص من نسخ شعبية لهذه األطروحة‪ .‬لكن من أكرثها إثارة كتاب‬ ‫‪ 2424‬‬
‫أيب حسن‪ :‬هويتي‪..‬من أكون؟ يف الطائفية واإلثنية السوريتني‪ .‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار بيسان‪ ،‬بريوت‬
‫‪ .2008‬والكتاب وثيقة سوسيولوجية مثينة جدا لكاتب شاب‪ ،‬يرصح بأنه "علوي" ينحدر من "طائفة"‬
‫قدمت له "منجزات ومكاسب اجتامعية وحضارية عىل طبق من ذهب" فبات يخىش من فقدان‬
‫"تلك املكاسب يف ظل التمدد الوهايب ضمن سوريا!"‪ .‬ص ‪ .156‬وكذلك ‪.226‬‬
‫يقول أ‪ .‬حسن يف املصدر السابق إن "سوريا ليست أسرية نظام نشكو منه وال حتى عائلة نحملها‬ ‫‪ 2525‬‬
‫وزر ما يجري (كام يحلو للبعض التشدق)‪ ،‬قدر ما هي أسرية تلك الثقافة الكسيحة املريضة‪ .‬وإن‬
‫النظام الذي طاملا قارعناه بأقالمنا ليس سوى نتاج طبيعي لتلك الثقافة"‪ .‬ويضيف‪" :‬وألنه كذلك –‬
‫أي النظام‪ -‬فإنه ال يستطيع فعل يشء إزاءها سوى املناورة تارة‪ ،‬والحوار تارة أخرى‪ ،‬واملهادنة قدر‬
‫اإلمكان‪ ،‬وعندما يضيق ذرعا‪ ،‬تكون املجابهة التي عادة ما تفيض بأحدنا إىل السجن بتهم هي يف‬
‫األساس نتاج ثقافتنا‪ ،‬وليس النظام هنا سوى معرب أمني عن تلك الثقافة الكائنة يف أعامقنا ووجداننا"‬
‫ص ‪( .225‬التشديد مني‪ ،‬ياسني)‪ .‬عىل أن الكاتب اجتهد يف كل صفحات كتابه تقريبا يف نسبة‬
‫"الثقافة الكسيحة املريضة" تلك إىل اإلسالم السني‪.‬‬
‫أستعيد هذه التعابري من اطالع شخيص عىل قاموس اللغة األمنية املعتمدة يف سورية‪.‬‬ ‫‪26 26‬‬
‫متييزا عن ثقافويني إسالميني‪ ،‬أو عن اإلسالميني عموما‪ ،‬وهم ثقافويون تلقائيا‪ .‬تنظر مقالتي‪:‬‬ ‫‪ 2727‬‬
‫"الثقافوية العربية املعارصة‪ :‬خصائص منهجية ومحددات أساسية"‪ ،‬ملحق النهار الثقايف‪،‬‬
‫‪.2009/12/12/13‬‬

‫‪25‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫مطلب التغيري بلوم املحكومني عىل انعدامه‪ .‬التفسري هنا تربير محض‪.‬‬
‫ولعل أصل هذا االنقالب يتمثل يف أن الشاغل املستويل عىل أذهان الثقافويني‬
‫العلامنيني السوريني هو "األصولية"‪ .‬كل يشء آخر يهون أمام هذا البعبع الذي يتضاءل‬
‫أمامه موقع "الدولة التحديثية" يف كتاب غليون املشار إليه فوق‪.‬‬
‫والحال‪ ،‬إن هذه املقاربة التربيرية هي نقيض وطباق املقاربة الدميوقراطية الثقافوية‬
‫التي تقرر أن الدولة "غريبة" عن املجتمع‪ .‬فبقدر ما جنحت هذه إىل تعريف املجتمع‬
‫ثقافيا‪ ،‬فس ُتؤىت من مكمنها‪ ،‬و ُير ُّد عليها بتعريف الدولة ذاتها ثقافيا‪ :‬تفرسون االستبداد‬
‫بغربة الدولة عن املجتمع؛ طيب‪ ،‬لكن من أين أتت "الدولة"؟ إنها استبدادية فعال‪ ،‬لكن‬
‫ليس ألنها غريبة عىل املجتمع‪ ،‬بل ألنها منه‪ ،‬غريبة مثله عىل الحداثة والعرص! وتاليا ال‬
‫"حل" بربط الدولة باملجتمع أو بنزع غربتها‪ ،‬بل بـ"العلامنية"‪ ،‬فصل الدين عن الدولة‪.‬‬
‫تكتسب العلامنية يف هذا السياق معنى موجها بصورة حرصية ضد "اإلسالم"‪ ،28‬نخبويا يف‬
‫الغالب‪ ،‬ومحافظا سياسيا‪.‬‬
‫للمقاربة التعبريية طابع سجايل‪ ،‬بل رصاعي‪ ،‬عنيف ومكتوم يف آن معا‪ .‬أوفر إشارات‬
‫طرابييش الغاضبة موجهة‪ ،‬وإن دون ذكره باالسم‪ ،‬إىل برهان غليون‪ ،‬املوصوف بالشعبوية‬
‫والدميوقراطوية‪ .29‬وليس شعار الشعبوية‪ ،‬حسب طرابييش‪ ،‬غري عبارة "الدولة ضد األمة"‪،30‬‬
‫العنوان الفرعي لكتاب غليون "املحنة العربية"‪.‬‬
‫وكام قلنا‪ ،‬تشيع هذه النظرية التعبريية لدى من مييلون إىل تعريف املجتمع بجوهر‬
‫ثقايف أو اجتامعي يقع يف ما وراء السياسة‪ ،‬إىل درجة أن السياسة ال تكاد تؤ ِّثر عليه‪ ،‬بينام‬
‫له عليها التأثري كله‪ .‬فقط إذا تغري هذا الجوهر‪ ،‬ستتغري السياسية والدولة‪ .‬وال يبدو أن‬
‫هذا يعني تغيري نظام املجتمع القانوين أو هياكله االقتصادية‪ ،‬أو اهتامما أوسع بالتعليم‬
‫والرتبية‪ ،‬أو "ثورة ثقافية"‪ ،‬دع عنك حريات سياسية أوسع‪ ،‬بل هو أقرب إىل انقالب كياين‪،‬‬
‫يطال ما يفرتض أنه الجوهر العميق للمجتمع‪" ،‬صندوق رأسه" الفاسد أو "ثقافته الكسيحة‬
‫املريضة"‪.‬‬
‫منتقداً الطرح الدميوقراطي املهيمن‪" ،‬الشعبوي" و"الدميوقراطوي"‪ ،‬يقابل جورج‬
‫طرابييش بني صناديق االقرتاع التي تنتهي إليها "الحرية الدميوقراطية"‪ ،‬ويبدو أن عموم‬

‫‪ 28 28‬واإلسالم هذا اسم ألشياء متنوعة جدا‪ ،‬يوحدها أنها األشياء التي ال نريدها‪ .‬نجازف بالقول إن اإلسالم‬
‫صنيعة سياسية واجتامعية غري محددة املالمح ألصناف من العلامنيني‪ ،‬يبنون هويتهم وروابطهم‬
‫بالتاميز عنها‪ ،‬ويحتجون إىل غموضها كهامش مناورة لتنويع وتسويغ تفضيالتهم السياسية‬
‫وااالجتامعية التي ال تقر عىل حال‪ .‬يشاركهم يف صنع "اإلسالم"‪ ،‬إسالميون متنوعون‪ ،‬يناسبهم أن‬
‫يكون اإلسالم اسام لكل ما يصادف أن يريدوا‪.‬‬
‫‪ 2929‬هرطقات‪ ،...‬ص ‪ .15‬وكذلك هرطقات ‪ ،2‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ .2008 ،‬ص ص ‪90‬‬
‫و‪.106‬‬
‫‪ 3030‬هرطقات‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪26‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫الدميوقراطيني يكتفون بها‪ ،‬وبني صناديق الرؤوس التي "تنطلق منها"‪" .31‬املجتمع أساسا‬
‫نسيج من العقليات"‪ ،‬فإذا مل "يتضامن صندوق الرأس مع صندوق االقرتاع‪ ،‬فإن هذا األخري‬
‫لن يكون إال معربا إىل طغيان غالبية العدد"‪ .32‬وال يعينِّ طرابييش هذه باالسم‪ ،‬لكن إشاراته‬
‫وتلميحاته تتحرك يف أفق تشغله مدركات مثل "األصولية" و"الغالبية العمودية" و‪" ...‬اإلسالم"‪.‬‬
‫ومن تعريف املجتمع بكونه "نسيجا من العقليات" مييض مؤلف "هرطقات" إىل أن "األنظمة‬
‫العربية ال تتحمل انتخابا حرا‪ ،‬ولكن املجتمعات العربية ال تتحمل رأيا حرا"‪ .‬ال يربهن عىل‬
‫كالمه‪ ،‬وال يبدو أنه شعر بحاجة إىل الربهنة عليه‪ ،‬وال هو يعينّ أية مجتمعات بالضبط‪ ،‬وال‬
‫يف أية فرتة زمنية‪ .‬واالنطباع الذي تب ُّثه عباراته املرسلة يوحي أن رفض "املجتمعات العربية"‬
‫للرأي الحر واقعة أولية‪ ،‬متصلة بجوهر ثابت لها‪ ،‬بـ"نسيج عقلياتها"‪ ،‬وليس شأنا سياسيا‬
‫وتاريخيا‪ ،‬نسبيا ومتحوال‪ .‬الدول وسياساتها وأجهزتها وتكوين نخبها ال تبدو شيئا مؤثرا عىل‬
‫"نسيج العقليات" هذا‪ ،‬بل لعلها ضحية له‪.‬‬
‫ويبلغ املؤلف ذروة تهنئة الذات عىل "هرطقته" حني يقرتح "نصابا تعليميا" لحق‬
‫االنتخاب الدميوقراطي‪ .‬ويسوق حججا لدعم موقفه من نوع أن "زهرة الدميوقراطية" "ال‬
‫ميكن أن تنمو يف تربة األمية"‪ ،‬وأن "سفينة الدميوقراطية" ال تستطيع اإلبحار يف "بحر‬
‫االنفجار الدميوغرايف"‪ ،33‬وأن "األصوليني أبرع من يركب موجة األمية"‪ .34‬ولسبب ما‪ ،‬يخطر‬
‫بباله تقييد الدميوقراطية بنصاب تعليمي بدل اقرتاح أبسط وأكرث وجاهة‪ ،‬يقيض بوجوب‬
‫املبارشة بخطة وطنية ملحو األمية خالل عقد من السنني مثال‪ .‬كام ال يوضح مستوى التعليم‬
‫املطلوب من أجل "ثقافة الدميوقراطية"‪ ،‬أو يربهن عىل أن املتعلمني‪ ،‬واملثقفني‪ ،‬ال يدخلون‬
‫يف "كيس البطاطا" ويسلسون قيادهم لـ"القطيعية"‪ ،35‬فيص ِّوتون تصويتا عموديا‪.‬‬
‫ليست هذه أمورا عارضة‪ .‬هي أوثق صلة بالنظر إىل مجتمعاتنا املعارصة كطبائع‪ ،‬أو‬
‫"صناديق رأس" و"أنسجة عقليات"‪ ،‬تشغل يف الثقافوية املوقع التفسريي املح ِّدد الذي كانت‬
‫تحتله البنية التحتية يف االقتصادوية املاركسية قبل جيل واحد‪.‬‬

‫يف ثقافة الدميوقراطية‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪31 31‬‬


‫م‪ .‬ن‪ ،‬الصفحة نفسها‪ .‬وتوجس املؤلف من طغيان محتمل قد تتمخض عنه صناديق االقرتاع يشغله‬ ‫‪ 3232‬‬
‫عن قول أي يشء عن طغيان محقق دون صناديق اقرتاع‪ .‬كان ميكن لنقاش طرابييش أن يحوز قدرة‬
‫إقناعية لو توفر مثال واحد لـ"طغيان غالبية العدد" تم بلوغه عن طريق صناديق االقرتاع بدء من‬
‫وضع أقل طغيانا‪ .‬والحكم التبخييس املضمن يف عبارة "غالبية العدد" يتضمن نزوعا عنرصيا غري‬
‫خفي‪ .‬ومعلوم أنه هو التعبري الذي كان يسوقه الحكم العنرصي يف جنوب أفريقيا ضد مطالب‬
‫املساواة للسود‪ .‬وهو ما كشف مضمراته سيايس لبناين حني تكلم عن أن "النوع" يف صف جامعته يف‬
‫االستقطاب اللبناين يف السنوات األخرية‪ ،‬وإن مل تكن أكرثية العدد معهم‪.‬‬
‫يف ثقافة الدميوقراطية ص ‪ .21‬عبارات من نوع‪ :‬ال ميكن أن‪ ..‬أو‪ :‬ال ميكن إال أن‪ ..‬وما يف معناها‬ ‫‪ 3333‬‬
‫متواترة جدا يف كتابه‪ .‬ولعلها تدل عىل نازع سيطرة متمكن‪ ،‬فوق ما تتضمنه من نزوع حتموي‪.‬‬
‫م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪22‬‬ ‫‪34 34‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪ 3535‬‬

‫‪27‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫قضية إصالح الدولة واإلصالح السيايس خارج أفق هذا التفكري الذي يفرتض بإطالق أن‬
‫الروابط األهلية تشكل خيارات األفراد السياسية دون أن يرشح ملاذا‪ ،‬أو يقرتح شيئا لتجاوز‬
‫‪36‬‬
‫األمر‪ ،‬أو يوضح ما إذا كان هذا الواقع ينترش أم ينحرس‪ .‬ولن تقول لنا "ثقافة الدميوقراطية"‬
‫شيئا عن كيفية إصالح "صندوق الرأس"‪ ،‬وال ما إذا كان ينبغي رفض أية انتخابات عامة حرة‬
‫قد تجري هنا أو هناك‪ ،‬وال تقرتح شيئا لتحسني نتائج صناديق اقرتاعها املزدراة‪ ،‬وسبل تجنب‬
‫أن تكون أوالها هي األخرية‪.37‬‬

‫***‬
‫والنظرية التعبريية للدولة التي يصدر عموم أصحاب املقاربة هذه عنها‪ ،‬أعني اعتبار الدولة‬
‫مجرد "معبرِّ أمني" عن مجتمعات مع ّرف ٍة ثقافيا‪ ،‬تؤدي إىل إسقاط األسايس يف مفهوم الدولة‬
‫وتوحد‬
‫الوطنية الحديثة‪ .‬هذه ليست تعبريا‪ .‬إنها تتدخل وتبادر‪ ،‬تعلم وتريب وتط ّور وتنمي ِّ‬
‫رشع وتفرض وتراقب وتضبط و‪ ...‬تقمع‪ .‬إنها مولجة بتطور املجتمع‬ ‫و"تجانِس" وتح ِّدث وت ِّ‬
‫وتقدمه األخالقي واملادي‪.‬‬
‫حني يحشد التعبرييون كل قواهم للتنديد باألصولية وبالشعبوية‪ ،‬ثم يغلبهم الهوى‬
‫النخبوي فيعمون عن مضمون عنرصي لعبارة "غالبية العدد"‪ ،‬التي ال تتوسل غري "صناديق‬
‫االقرتاع" سلام لطغيانها‪ ،‬ينسون االستنجاد بـ‪" ...‬الدولة"‪ ،‬القوة املنظمة األكرث تأثريا دومنا‬
‫ريب يف مصري محكوميها‪ ،‬واألكرث قوة وانتشارا‪ ،‬والتي لطاملا أظهرت عزما هائال يف سحق‬
‫أية مقاومة تواجه سلطة نخبها القائدة؛ ينسون االستنجاد بها لوضع خطط وطنية وتطوير‬
‫‪ 36 36‬باملناسبة‪ ،‬ليست ثقافة الدميوقراطية وعيا ذاتيا بعمليات الكفاح من أجل الدميوقراطية ومصاعبها‬
‫وانتكاساتها وتناقضاتها‪ ،‬ليست شيئا متصال بتجارب الدميوقراطيني‪ ،‬ينظر فيها وينتقدها ويكشف‬
‫حدودها‪ ،‬لكنه يتعاطف معها أو يضع نفسه يف مستواها‪ .‬هي موقف سلطوي متعامل منهم‪ ،‬يتعاىل‬
‫عىل كفاحهم الذي يجهله باسم جهلهم هم ثقافة للدميوقراطية مصدرها تأمالت املعلم والكتب‬
‫الفرنسية التي قرأها‪ .‬ال يورد مثاال واحدا‪ ،‬مهام يكن جزئيا‪ ،‬عىل صلة بحركات دميوقراطية عربية‬
‫واقعية‪ .‬األرجح أن الرجل ال يعرف عنها شيئا‪ .‬يطلق أحكاما عمومية وانطباعية شتى بال برهان‪،‬‬
‫ودون إحالة مرجعية واحدة‪ .‬وبنربة تقريعية دوما‪.‬‬
‫‪ 3737‬الشاغل هذا حارض يف نقاش طرابييش‪ ،‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ .15‬من جهتي ومساجلة مع مجمل طرح طرابييش‬
‫أنحاز إىل نتائج "صناديق االقرتاع" أيا تكن (العراقية يف آذار ‪ 2010‬مثال) ضد صناديق رؤوس رؤساء‬
‫يفرضون بالقوة ما يرون‪ ،‬وضد صناديق رؤوس نخبوية تجعل من سجل أهوائها "ثقافة دميوقراطية"‪.‬‬
‫لكن ال يجب أن نكون مقيدين بهذين الخيارين‪ .‬ما آخذه عىل طرابييش أنه ضد طغيان "غالبية‬
‫عدد" محتملة يسكت عىل طغيان واقعي محقق‪ .‬مثل ذلك ينطبق عىل عزيز العظمة كام سرنى‪.‬‬
‫واملثري جدا أن املفكرين يربطان بني "صندوق االقرتاع" و"الدميوقراطية االستفتائية" وبني "طغيان‬
‫األكرثية"‪ .‬يبدو أن الطغيان ال يتهددنا إال إذا حصلت انتخابات حرة يف بالدنا‪ .‬وعليك أن تستنتج ملن‬
‫ينحاز كبار املفكرين من حرص خياراتنا بني طغيان فعيل معاش‪ ،‬وبني دميوقراطية تامة النضج سوف‬
‫نبلغها يوما حني تكتمل مسرية العلامنية وتعم ثقافة الدميوقراطية‪ ،‬ويقرأ األميون آخر كتب جورج‬
‫طرابييش (ليس أقدمها بحال)‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫سياسات تضعف فرص الطغيان امله ِّدد‪ .‬أخمن أن لهذا النسيان منطقا‪ .‬من جهة يريدون‬
‫الدولة نخبوية وامتيازية‪ ،‬طاملا هذا عىل حساب خصومهم وأعدائهم‪ ،‬وليس عىل حسابهم‬
‫هم؛ ومن جهة ثانية‪ ،‬رمبا يدركون أن هناك القليل من الدولة يف "الدولة"‪ ،‬وأن من شأن‬
‫االستنجاد بهذا القليل أن يفاقم ِق ّلته‪ ،‬ويكشف انحيازا مخجال إىل طغيان فعيل‪.‬‬

‫املقاربة التحديثية‪ ...‬تاريخانية‬


‫بني املثقفني السوريني‪ ،‬عزيز العظمة هو من يصوغ بأوضح صورة فكرة أن الدولة متقدمة‬
‫عىل املجتمع‪ .‬يقول إنها "دولة تنظيامتية كانت‪ ،‬وما زالت إىل حد كبري اليوم‪ ،‬أكرث تقدما من‬
‫املجتمع املعني يف جامع بعض حركاته (كذا)‪ ،‬دولة رمت إىل تشكيل مجتمع لها"‪ ،38‬يس ّميه‬
‫"مجتمع الدولة"‪ ،39‬وهذا يبتغي التحقق "عن طريق هندسة اجتامعية تتوسل الترشيع‬
‫واملأسسة منطا لفعلها‪ ،‬فكان الهدف منه إنشاء مجتمع دولة مكون من أفراد‪ ،‬وليس من‬
‫جامعات تستتبعها الدولة مبا هي جامعات أولية"‪.40‬‬
‫ومثل سابقتها‪ ،‬املقاربة هذه سجالية وعالية النربة‪ ،‬ومثلها هي أيضا قول سلبي يف‬
‫الدميوقراطية‪ 41‬املوصوف مفهومها بالشعبوية‪ 42‬والدميوقراطوية‪ ،43‬مضافا إليها "التوتاليتارية‬
‫االستفتائية"‪ ،44‬ودون نسيان "استبداد األكرثية العددية الظرفية"‪.45‬‬
‫لكن أليس تقدم الدولة هذا مسألة تعريف لها‪ ،‬شيئا نابعا من مفهومها املجرد؟‬
‫ُيفرتَض للوهلة األوىل أنه ال يسع أي دولة‪ ،‬مبا يف ذلك دولنا‪ ،‬إال أن تكون دولة وطنية حديثة‬
‫بدرجة ما‪ .‬واليتها عامة ال تقبل منافسا مبدئيا‪ ،‬تنزع ما استطاعت إىل احتكار القمع‪ ،‬مبا‬
‫فيه القمع الرمزي‪ ،‬أي التخوين‪ .‬وهي تدخلية حتام‪ ،‬تصبو إىل تحقيق "التقدم"‪ .‬بل هي‬
‫الوكيل التاريخي للتقدم وتجسيده السيايس‪ .‬ويفرتض أن التقدم هنا ال يعني الرتاكم املادي‬

‫دنيا الدين يف حارض العرب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ .2002 ،‬ص ‪ .58 -57‬أيضا ص ‪.37‬‬ ‫‪38 38‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪ 3939‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫‪ 4040‬‬
‫مقلصة إىل "خطاب"‪ .‬حركات املعارضة الدميوقراطية غري موجودة ببساطة‪ .‬معظم االقتباسات من‬ ‫‪ 4141‬‬
‫مقالة بعنوان "املجتمع العريب وخطاب الدميقارطية‪ ،‬يف كتاب‪ :‬دنيا الدين‪...‬‬
‫دنيا الدين‪ ،..‬ص ‪69‬‬ ‫‪42 42‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪66‬‬ ‫‪ 4343‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ .79‬يف مكان آخر يقول العظمة إن نسبة من يقرتع لشعار "اإلسالم هو الحل" ال يتجاوز‬ ‫‪ 4444‬‬
‫الثالثني باملائة تقريبا"‪ ،‬مستندا يف ذلك إىل "نتائج االنتخابات التي اشرتكت فيها جامعات إسالمية"‪،‬‬
‫وإن مل يقل أين جرت‪ ،‬ومتى‪ .‬مقالته‪" :‬التباس الحداثة ورغبة الفوات"‪ ،‬يف كتاب الحداثة والحداثة‬
‫العربية‪ ،‬طبعة أوىل‪ ،‬دار برتا‪ ،‬دمشق‪ .2005 ،‬ص ‪ .293‬هل من مسوغ إذن للخوف من "طغيان‬
‫األكرثية" (م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ )299‬الذي مل يتكلم عليه العظمة وطرابييش إال يف سياق نقد "خطاب‬
‫الدميوقراطية" والتنديد بـ"صندوق االقرتاع" حرصا‪.‬‬
‫دنيا الدين‪ ،...‬ص ‪ 79‬أيضا‬ ‫‪ 4545‬‬

‫‪29‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫فقط‪ ،‬وإمنا درجة من التجريد والتوحيد والتعميم‪ ،46‬وكذلك الرت ّقي األخالقي (تعليم‪ ،‬رفاهية‬
‫السكان‪ ،‬املساواة بينهم‪ .)...‬ليست الدولة أكرث تقدما من املجتمع‪ ،‬إال ألن "التقدم" عنرصها‬
‫و"رسالتها"‪" ،‬هويتها" كدولة‪ .‬بل برنامجها الورايث‪ .‬قد تكون الدولة "تقدمية" أو "رجعية"‬
‫إيديولوجيا‪ ،‬بيد أنها وكالة للتقدم يف كل حال‪ .‬هناك بريوقراطية منظمة‪ ،‬وهناك قوانني عامة‬
‫مبدئيا‪ ،‬وأجهزة متثيلية‪ ،‬ولو شكلية‪ .‬هذا فوق أنها منفتحة عىل مجال دويل تدرك‪ ،‬حتى حني‬
‫تكون ثورية‪ ،‬منطقه الواقعي والعقالين‪ ،‬وتتحمل حدا أدىن من املسؤولية حياله‪ .‬الدولة هذه‬
‫بالفعل "متقدمة" عىل املجتمع‪ ،‬املتناثر عموما‪ ،‬و"الطبيعي"‪ .‬ليس مثة سؤال هنا‪.‬‬
‫السؤال هو‪ :‬عىل افرتاض أن كل ما قلناه للتو ُمح ّقق متاما‪ ،‬والحال بالقطع ليست‬
‫كذلك‪ ،‬هل "الدولة املتقدمة" هذه فاعل تقدم مجتمعي عام اليوم يف بلداننا؟ هل تطرح‬
‫عىل نفسها مهام توحيد وعقلنة وترقي املجتمع املحكوم بصورة نسقية وفعالة‪ ،‬ولو عرب‬
‫تذليل ما يعاكس ذلك؟ هل تعمل عىل نهوض محكوميها األخالقي واملادي‪ ،‬أم باألحرى‬
‫يناسبها انكفاؤهم وانفصالهم عن بعضهم وعن العامل؟ هل تجد لها مصلحة جوهرية مبحو‬
‫األمية؟ هل هي عامل "مجانسة ثقافية" كام يقول العظمة‪ ،47‬أم باألحرى عامل استتباع‬
‫وتبعرث؟ هل يتعمق ويتسع االندماج الوطني يف ظلها أم يرتاجع أم يثبت عىل حاله؟ هل هي‬
‫"حاملة مسؤولية العمل التاريخي العريب وفاعلته ورافعته" حسب عبارة العظمة املفخمة‪48‬؟‬
‫وهل صحيح أنها "الضامن الوحيد الباقي المتناع الديار العربية عىل محاوالت قيادتها (كذا)‬
‫النكوص االجتامعي والثقايف‪ ،‬بل والتاريخي‪ ،‬إىل ما قبل الدولة الجمهورية الحديثة"‪49‬؟ ويف‬
‫املجمل‪ ،‬هل تحوز الدولة طاقة تقدم كامنة مت ّكنها من تعميم التقدم عىل محكوميها؟ هل‬
‫يف سريتها التاريخية املحققة ما يسوغ الرهان عليها؟‬
‫يبدو يل من املثال السوري أن "الدولة" ليست عامل تقدم وطني عام‪ ،‬ومل تكن منذ‬
‫أواسط سبعينات القرن العرشين عىل األقل‪ .‬إنها منظمة أكرث من املجتمع‪ ،‬متلك سلطات‬
‫كبرية وموارد كبرية‪ ،‬وهي دومنا ريب الجهة األكرث تأثريا عىل أوضاع محكوميها جميعا‪،‬‬
‫لكنها تنزع ألن تكون دولة تعبريية وسلطانية أو "دولة استتباع" بتعبري العظمة‪ .50‬يبدو‬
‫التبعرث االجتامعي والوطني أنسب لها من التامسك والتوحد‪ .‬ولعلها من هذا الباب تقمع‬

‫عبد الله العروي‪ ،‬مفهوم الدولة‪ ،‬ص ص ‪.79-69‬‬ ‫‪46 46‬‬


‫دنيا الدين‪ ،..‬ص ‪ 53‬ومواقع شتى‬ ‫‪ 4747‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪ 4848‬‬
‫ص ‪ 72‬أيضا‪ .‬هل من داع لقول يشء عن مصري "الدولة الجمهورية الحديثة" التي كانت "الدولة"‬ ‫‪ 4949‬‬
‫الضامن الوحيد" ملنع "النكوص االجتامعي والثقايف‪ ،‬بل والتاريخي" إىل ما قبلها؟ أذكر بأين أعتمد‬
‫عىل طبعة للكتاب صادرة عام ‪.2002‬‬
‫كتابه‪ :‬العلامنية‪ ،...‬ص ‪.113‬‬ ‫‪ 5050‬‬

‫‪30‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫التجارب االجتامعية والسياسية األكرث تقدما وعمال عىل تعزيز الثقة والتامسك الوطني‪.51‬‬
‫معلوم أنه لطاملا تعرضت التنظيامت السياسية واالجتامعية التي تتيح مستوى أرفع من‬
‫تعارف السوريني واختالطهم وتعاونهم مام هو متاح وطنيا حتى عىل مستوى نخبة السلطة‪،‬‬
‫تعرضت إىل قمع مدمر‪ ،‬أفىض يف املحصلة إىل حرص خيارات السكان بني أطرهم "الطبيعية"‬
‫(أو األهلية) وبني التبعية ملنظامت حكومية مربمجة عىل "الوالء املطلق"‪ .‬وليس لهذه‬
‫املنظامت أي دور مدين واستقاليل‪ ،‬يضمن لها اختالفا عن األطر األهلية‪ ،‬هذه التي تلقى‪،‬‬
‫باملقابل‪ ،‬تسامحا عريضا ومتثيال رسميا (من وراء حجاب)‪ ،‬مبا يبيح لنا القول إنها منظامت‬
‫سياسية ال توجد إال يف الدولة وبالدولة‪.‬‬
‫وعىل هذا النحو‪ ،‬تشبه املنظامت الحكومية (تسمى "املنظامت الشعبية" يف سورية)‬
‫روابط أهلية قامئة عىل الوالء والتبعية الشخصية والخضوع‪ ،‬بينام تربط التشكيالت األهلية‬
‫املوروثة حبالها بالدولة‪ ،‬مبا يقيض بأن إعادة إنتاج أحداهام متر عرب إعادة إنتاج األخرى‪،‬‬
‫وليس عرب اضمحاللها‪ .‬ال عالقة ٍ‬
‫تناف بني الدولة واألطر األهلية‪ ،‬بل هي عالقة تفاعل معقدة‪،‬‬
‫مزيد من "الدولة" ال يعني بحال مزيدا من "مجتمع‬ ‫ال تنضبط مببدأ املحصلة الصفرية‪ٌ .‬‬
‫الدولة" والقليل من املجتمع األهيل و"وحداته االستتباعية" ‪ ،‬بل الكثري من هذه والقليل‬
‫‪52‬‬

‫من ذاك‪.‬‬
‫هذا هو منوذج "الدولة السلطانية املحدثة"‪.‬‬
‫نحن بعيدون جدا هنا عن دولة وطنية تصهر وتوحد‪ ،‬تراقب وتعاقب‪ ،‬تكافئ وتقمع‪.‬‬
‫ال يشء من "مجتمع الدولة" املكون من أفراد‪ .‬ال يشء "يعقوبيا" أو جمهوريا أو "نابليونيا"‬
‫يف هذه الدولة‪.‬‬
‫رمبا يقال إن العظمة مل يكن يتكلم عىل سورية‪ .‬بىل‪ .‬الواقع أنه ال يتكلم عىل أي‬
‫بلد بعينه‪ .‬لكن نظرياته ال تظهر حساسية تُذ َكر ألوضاع أي بلد عريب أيضا‪ ،‬وال تساعد يف‬
‫فهم يشء من تطورات أي منها‪ ،‬بل مل تنجح حتى يف إدماج ما صادف أن الحظته ("تحويل‬
‫العملية االنتخابية [الصحيح‪ :‬االستفتائية املهرجانية القرسية] إىل بيعة جامعية يف جمهورية‬
‫عربية"‪ )53‬ضمن مقوالتها‪ .‬بعد هذه املالحظة‪ ،‬كام قبلها‪ ،‬يبقى كل اعرتاض عىل سياسات‬

‫‪ 51 51‬بل ويحصل أن متنح مقاوالت قمعية لبعض مواطنيها ضد بعض آخرين منهم‪ .‬تنظر مقالتي‬
‫املبنية عىل تجربة شخصية‪" :‬عىل رشف حالة الطوارئ‪ ،‬حفلة صيد للخونة بني قرص العدل وساحة‬
‫الشهداء"‪ ،‬ملحق النهار الثقايف‪ .2005/3/20 ،‬مقاوالت كهذه شائعة باملناسبة‪.‬‬
‫‪ 5252‬تعبري "الوحدات االستتباعية" للعظمة‪ .‬كتابه‪ :‬العلامنية‪ ...‬ص ‪.123‬‬
‫‪ 5353‬دنيا الدين‪ ،..‬ص ‪ .92‬ال نستطيع اتهام العظمة بأنه غري مدرك ملا يقول حني يستطيع وصف‬
‫الدميوقراطية يف خطابها املتداول بأنها "دميوقراطية استفتائية" (ص ‪ )70‬بينام يجعل من "البيعة"‬
‫وتجديد الوالية القرسي لحكام مزمنني "عملية انتخابية"‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫"الدولة" وطغيانها "نبذا"‪ 54‬للدولة بالذات‪ ،‬وعالمة عىل "عدمية تجاه الدولة"‪ .55‬هذا رغم أن‬
‫البيعة ولوازمها كانت مضخّ ًة هائلة للعالقات االستتباعية يف املجتمع السوري‪.‬‬
‫تبدو "دولة" العظمة كيانا واحدا متجانسا يفيض عقال ونظاما وتقدما‪ ،‬وليست عالقة‬
‫اجتامعية أو تكوينا اجتامعيا تاريخيا مركبا‪ .‬وال مييز يف أي مكان بينها وبني وظيفة السلطة‬
‫أو نخبتها أو طاقم الحكم‪ ،‬وال يستخدم أبدا مدرك "النظام"‪ .‬املعارضون هم "ضد الدولة"‪،‬‬
‫وليس ضد سياسات لها أو فريق حاكم أو "سلطة" أو "نظام"‪" .‬الخطاب الدميوقراطي"‬
‫املوصوف بأنه "طلسمي" مرة‪ ،56‬و"شعبوي"‪ 57‬مرة‪ ،‬و"ساذج"‪ 58‬دوما‪ ،‬يبدو عدوانيا حيال‬
‫"الدولة"‪ .‬وال يتفهم املؤلف "نقد الدميوقراطية غري الكاملة املتمثلة يف خطاب الدولة" إال‬
‫بقدر ما "يتضمن عنارص بناءة‪ ،‬دون مواقف الرفض الكيل لالنفراج السيايس"‪ .59‬أي انفراج؟‬
‫أين؟ متى؟ ومن رفضه؟ هذه أشياء ال يوفر ناقد "الخطاب الطلسمي" أية إجابات عنها‪ .‬ما‬
‫أحىل الطالسم!‬
‫عىل أن العظمة محق‪ ،‬يف ما نرى‪ ،‬يف نقد فكرة "انفصام الدولة عن املجتمع"‪ ،‬وما‬
‫يرتتب عليه من وجوب "إعادة لحمة التطابق بني االثنني من أجل درء اغرتاب الدولة عن‬
‫األصل املزعوم لها"‪ .60‬غري أن تحمسه الدوغاميئ لـ"الدولة" مينعه من رؤية يشء آخر يف جملة‬
‫ظواهر "االستبداد" غري مجرد "انفصال" بنيوي ووظيفي‪" ،‬واقع أويل من وقائع سوسيولوجيا‬
‫السياسة"‪ .61‬لكن هل نفهم شيئا من وضع الدولة العربية عامة‪ ،‬أو أي دولة‪ ،‬بإغراقها يف‬
‫عمومية كهذه‪ ،‬ترشكها مع أية دولة أخرى يف العامل؟ هذا ليس فهام‪ ،‬بل هو هوى نخبوي‬

‫م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫‪ 5454‬‬


‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ 72‬وص ‪ .41‬ال يبدو أن هناك شيئا صحيحا يقوم به معارضو "الدولة"‪ ،‬دميوقراطويني‬ ‫‪55 55‬‬
‫وشعبويني‪ ،‬يف لغة العظمة كام يف لغة طرابييش‪ ،‬أو إسالميني‪ .‬ال يذكرون يف سياق إيجايب أو‬
‫متعاطف قط‪.‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪56 56‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪ 5757‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪ 5858‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪ .68‬من أجل فكرة عن "الدميوقراطية غري الكاملة املتمثلة يف خطاب الدولة (كذا)"‪ ،‬تنظر‬ ‫‪ 5959‬‬
‫الصفحة ‪.67‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪60 60‬‬
‫م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪ 6161‬‬

‫‪32‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫جامح شغل موقع تحليل غائب‪.62‬‬

‫***‬
‫لدينا "دولة" تتحىل بغريزة بقاء نامية جدا‪ ،‬ال يكاد يحرض املجتمع املحكوم إال كركيزة حكم‬
‫ال بد منها من جهة‪ ،‬وكمصدر أخطار محتملة يتعني التح ّرز منها وتوجيه رضبات استباقية‬
‫عشوائية ملظانِّها املحتملة من جهة أخرى‪.‬‬
‫هذا دون قول يشء عن تعايش "الدولة" مع تدهور التعليم‪ ،‬ومع نشوء نظامي‬
‫تعليم‪ :‬نخبوي راق ال يتعلم يف غريه أبناء الطاقم الحاكم ومحاسيبهم‪ ،‬وآخر شعبي متدهور‬
‫ال يتاح غريه لعموم السكان‪ ،‬وقبل ذلك عن تحزيب التعليم وربطه مبقتضيات أمن الحكم ال‬
‫بالتقدم الوطني‪ .‬دون أن نقول شيئا أيضا عن لربلة جارية لالقتصاد‪ ،‬ال نرتاب يف أنها وسيلة‬
‫لتمكني وترشيع سيطرة طبقة جديدة عىل االقتصاد الوطني‪ ،‬دون وجود مؤرشات حاسمة‬
‫عىل انعكاسات تنموية عامة لهذه السياسات االقتصادية الجديدة‪.‬‬
‫ويبدو أن ما يقال عىل سورية ميكن أن يقال عىل غريها‪.‬‬
‫هذا كله ال تراه املقاربة التحديثية‪ ،‬التي متيس مشكلة مضاعفة حني ُيجعل منها‬
‫عقيدة سياسية‪ ،‬أعني حني يح ّول تحليل نظري مجادل فيه إىل سياسة عملية مبارشة‪ ،‬تقرر‬
‫أن "التاريخ" بالذات ُي ْفتي برضورة الوقوف إىل جانب "الدولة" يف أية رصاعات اجتامعية‬
‫وسياسية عينية‪ ،‬هنا أو هناك‪ .‬هذا ما يقوم به العظمة دون تردد‪ ،‬مستهديا بنظرية مفرطة‬
‫العمومية‪ ،‬متنح الدولة (واملثقف) فاعلية اخرتاقية للمجتمع‪.63‬‬
‫وبينام جعلت املقاربة الدميوقراطية من تدخلية الدولة املرغوبة أمرا غري مريئ‪ ،‬فإن‬

‫‪ 62 62‬يف حوار أجراه معه‪ ،‬يالحظ عبد اإلله بلقزيز أن من شأن انحيازات العظمة السياسية املضادة‬
‫للدميوقراطية أن تجعل السياسة "إقطاعة يف يد نخبة خاصة تتوىل إدارة الحياة العامة‪ ،‬وليست شأنا‬
‫عاما‪ .‬وهذا خطري‪ ،‬ومظهر لفشستة السياسة"‪ ،‬فال ميلك العظمة إال التسليم بأن "هذا يعرب [فعال]‬
‫عن االستئثار بالسياسة من قبل نخبة معينة"‪ ،‬هذا قبل أن مييض إىل قول يشء عن أن الدميوقراطية‬
‫"نتيجة رصاعات سياسية طويلة‪ ،‬رصاعات أجيال"‪ .‬والحال إن هذا ينقض توجهه النخبوي الفوقي‪،‬‬
‫وال يثبته‪ .‬فألن الدميوقراطية مسألة رصاع سيايس مديد فال ينبغي تجميد هذه الرصاعات عىل يد‬
‫طغم أوليغارشية فاسدة‪ .‬دنيا الدين‪ ،...‬ص ‪.209‬‬
‫‪ 6363‬العلامنية من منظور مختلف‪ .‬ص ‪ .267‬الرجل إىل جانب العسكر الجزائريني ضد "الدميوقراطية‬
‫التوتاليتارية االستفتائية" التي قادت إىل فوز اإلسالميني‪ ،‬ويزيك "فتح الباب للدميوقراطية عىل‬
‫الطريقة التونسية" (دنيا الدين‪ ،...‬ص ‪ ،209‬ولسبب ما مل تلج الدميوقراطية بابها املفتوح يف تونس)‪،‬‬
‫ويقف مع الحكم السوري قبل ‪ 2000‬وبعده ضد أي معارضني‪ .‬وكان باالشرتاك مع فيصل دراج كتب‬
‫عام ‪ 2001‬مقالة متك ِّلفة ُمتعاملة تس ِّفه "أنصار املجتمع املدين" يف سورية‪ ،‬وتندد بعدوانهم عىل‬
‫الدولة التي يبدو يف املقالة أنها "تتداعى" وقد "تنهار" تحت وطأة هجامتهم‪ ،‬وتدعو إىل "إيقاظ‬
‫السياسة"‪ ،‬دون أن تقول كيف‪ ،‬من نومها‪ ،‬ودون أن يبذل كاتبا املقالة أي جهد إيقاظي آخر منذ‬
‫ذلك الوقت‪" .‬الحياة"‪.2001/6/29 ،‬‬

‫‪33‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫املقاربة التحديثية تجعل أي قمع منفلت أمرا غري مريئ‪ ،‬نوعاً من أثر جانبي لـ"اخرتاق"‬
‫محمود أو "واقع أويل من وقائع سوسيولوجيا السياسية"‪ .‬هنا ال يكاد يكون هناك قمع ميكن‬
‫استنكاره‪ ،‬وبالكاد تسمع شكوى خافتة من املبالغة فيه يف كتابات عزيز العظمة‪.‬‬

‫دولة سلطانية محدثة؟‬


‫الطرح الدميوقراطي تبسيطي‪ ،‬فليس بالقمع وحده تحكم األنظمة‪ .‬والطرح الثقافوي‬
‫التعبريي تربيري‪ ،‬ال يقدم رشحا مفيدا فوق إغفاله مسألة التغيري متاما‪ .‬أما الطرح التحديثي‬
‫فغري صحيح‪ ،‬ويخلط بني مفهوم الدولة املجرد والعمليات السياسية الواقعية‪ .‬الدولة العيانية‬
‫يف بلداننا املعارصة ليست قوة تنظيم وتفريد ومجانسة وعقلنة للمجتمع‪ .‬إنها باألحرى‬
‫قوة بعرثة وعزل وتج ُّزؤ‪ .‬وبقدر ما يستقر األمر لها‪ ،‬فإنها ال تقود مجتمعاتنا إال إىل الركود‬
‫واالنقسام واالنغراز يف االستبداد والبنى االستتباعية‪.‬‬
‫هناك حاجة‪ ،‬إذن‪ ،‬إىل تحليل مختلف للعالقة بني الدولة واملجتمع يف بلداننا‪ .‬نلتزم‬
‫هنا باإلطار السوري لظننا أننا نعرفه أكرث من غريه‪ .64‬أقرتح يف هذا اإلطار مفهوم "الدولة‬
‫السلطانية املحدثة" لتسمية النموذج السوري‪ .‬وأرى يف حزيران ‪ 2000‬تاريخا مفصليا يف‬
‫التاريخ السيايس السوري‪ ،‬ورمبا العريب‪ ،‬أسس منوذجا جديدا للدولة‪ ،‬وإن كان مكنونا ُ‬
‫قبل يف‬
‫تطلب الحكم "إىل األبد" كأولوية عليا لـ"الدولة"‪.‬‬
‫"الدولة" هذه تقمع من ينازع سلطتها‪ ،‬لكنها ليست قمعية فحسب‪ .‬إنها مكونة من‬
‫مركز سلطة ُمشخْ َصن‪ ،‬يحتله زعيم أب ال يقارن بغريه‪ ،‬قد يوصف بأنه "سيد الوطن"‪ .‬ويقوم‬
‫النظام جوهريا عىل عالقات املحسوبية والوالء‪ ،‬ويسند دوامه إىل أهل الثقة الذين ال يأمن‬
‫لغريهم‪ ،‬األمر الذي يجعل منه مصدرا لنرش وتعميم عالقات الثقة الطبيعية (عالقات املعرش‬
‫والوجه) ال عالقات املواطنة املجردة‪ ،‬وال "مجتمع الدولة" املكون من أفراد‪ .‬وهذا ما يتسبب‬
‫يف خلق أزمة ثقة وطنية عامة‪ .‬الجامعات املنزوعة الصفة الوطنية التي يحولها النظام إىل‬
‫وحدات ارتكازه ال تثق ببعضها ألن ك ًال منها مبني تكوينيا عىل الثقة الداخلية وحدها‪ .‬ميكن‬
‫استخدام مفهوم العصبية هنا‪ ،‬لكن بحذر‪ .‬فالعصبيات مصنوعة وليست طبيعية وال صانعة‪.‬‬
‫وهي تاليا منظامت سياسية بصورة ما‪ .‬وكنا أرشنا إىل أن املنظامت الحكومية أو "الشعبية"‬
‫مبنية عىل الوالء‪ ،‬وتفتقر إىل الطوعية واالستقالل‪ ،‬ما يجعلها أشبه بروابط عضوية‪ .‬ومجموع‬
‫الروابط املوروثة املحولة إىل "وحدات استتباع" للنظام‪ ،‬واملنظامت الحديثة الوالئية املعدومة‬
‫الشخصية‪ ،‬تشكل "مجتمع الدولة"‪ ...‬السلطانية الجديدة‪.‬‬
‫الحكم السلطاين املحدث يضمن عموما رضبا من التمثيل الساكن "العادل" للسكان‪.‬‬

‫‪ 6464‬قد يبدو أننا ننتقد مثقفني سوريني عىل ما قالوه عن "الدولة العربية"‪ .‬لكن إما أن سورية دولة‬
‫عربية‪ ،‬وينبغي أن يصح ما يقولون عن الدولة العربية عليها‪ ،‬أو أن الدولة العربية غري موجودة‪ ،‬ما‬
‫يعني أنه يقولون كالما ال موضوع له‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫حني ال يقرر معاقبة هذه املدينة أو تلك‪ ،‬هذا القطاع من الرعايا أو ذاك‪ ،‬فإنه يتيح حصصا‬
‫متثيلية تضمن للجميع أنصبة يف النفاذ إىل أروقة السلطة العليا‪ .‬هذه بالطبع ليست متثيلية‪.‬‬
‫إنها متعالية‪ ،‬ال تُسا َءل‪ ،‬وليس سؤال تغيريها مطروحا وال لـ"دولتها" حدود زمنية أو قيود‬
‫قانونية‪ .‬وهي وراثية عىل هذا املستوى العايل‪ .‬فاالستمرارية ال تكفل إال عرب حكم ساليل‪،‬‬
‫ُي ْعيل رابطة الدم عىل روابط املواطنة‪ .‬عىل أن "الب ْيعة" هنا تتكرر د ْور ًّيا‪ ،‬وإن كان التكرار‬
‫طقسيا ومضمون النتيجة‪ .‬هو يف الواقع ليس استقصاء وال حتى استفتاء‪ ،‬بل مفصل زمني‬
‫لضخ القوة والشباب يف جسم النظام‪ ،‬ومرسحة ملشهد الخضوع العام وتعميمه اجتامعيا‪.‬‬
‫عيد التجديد‪ .‬يسمى يف سورية رصاحة "تجديد البيعة"‪.‬‬
‫ولعل توريث السلطة املرجح يف عدة جمهوريات عربية‪ ،‬وقيام سالالت حاكمة فيها‪،‬‬
‫يشري إىل انبعاث عام للسلطانية‪ ،‬ويدفع إىل الظن بأن لألمر محددات اجتامعية ثقافية‬
‫عامة‪.65‬‬
‫ومثل الدولة السلطانية القدمية تخىش الدولة السلطانية املحدثة أكرث ما تخىش‬
‫"الفتنة"‪ ،‬ما يسمى بلغة اليوم الحرب األهلية‪ .‬وليست "الفتنة" عارضا قد يصيب الدولة‬
‫هذه‪ ،‬بل هي قرينتها‪ ،‬وجهها اآلخر‪ .‬فهذه ذاتها "فتنة نامئة"‪ ،‬يخىش أن تستيقظ‪ .‬أو لنقل إن‬
‫"الدولة" ال تكف عن صنع "الفتنة" وعن ضبطها‪ .‬لذلك ميكن لهذه أن تنفجر دوما إن خف‬
‫الضبط السلطاين لسبب ما‪ .‬يف الوقت نفسه الخوف من الفتنة هو مصدر الرشعية األقوى‬
‫لهذه الدولة السلطانية املحدثة التي ال تكف عن صنع الرشوط املولدة للفتنة وعن تنوميها‪.‬‬
‫واألرجح أن من شأن زوالها املفاجئ أن يتسبب فعال يف استيقاظ فتنة واسعة‪ .66‬ولعل األصل‬
‫يف ذلك أن السلم األهيل يف ظل الدولة السلطانية هو سلم أهيل فعال‪ ،‬أعني مجرد انتفاء‬
‫سلبي للنزاع األهيل املتفجر دون مساس بالتكوين األهيل للمجتمع‪ ،‬بل بتنمية الطابع‬
‫األهيل أو االستتباعي كام قلنا‪ .‬ويغرينا يف هذا املقام أن نعرف الدولة السلطانية املحدثة‬
‫باحتكار الحرب األهلية أو الفتنة‪ ،‬وبتوزيعها عىل العموم عند اللزوم‪.‬‬
‫ورمبا ميثل لبنان حالة طرفية للدولة السلطانية الفتقاره إىل مركز حكم ساليل قوي‪ .‬إنه‬
‫دولة سلطانية محدثة دون مر كز سلطاين قادر عىل احتكار "الفتنة"‪.‬‬
‫وعىل نحو ما ترعى الدولة السلطانية التقليدية فقهاء يح ِّذرون من الفتنة‪ ،‬ويجعلونها‬
‫الرش املطلق الذي يتفوق سوءا عىل الظلم (ظلم يدوم وال فتنة تقوم)‪ ،‬ترعى السلطانية‬

‫‪ 65 65‬وقد نالحظ أن الساللية ال تقترص عىل الحكام‪ ،‬بل تتعداهم إىل أحزاب ومنظامت‪ ،‬مبا فيها منظامت‬
‫ٌ‬
‫طليعية هنا أيضا‪ .‬أورث املرحوم خالد بكداش حزبه‬ ‫شيوعية‪ .‬سورية‪ ،‬وهي أول جمهورية عربية‪،‬‬
‫الشيوعي لزوجته وصال‪ ،‬ويعتقد أنها سوف تورثه لنجلهام عامر من بعدها‪ .‬هذا‪ ،‬ومعه التوريث‬
‫الكوري الشاميل والكويب‪ ،‬يرجح أن األمر أوثق عالقة بتطلب السلطة الدامئة والتجميد القرسي‬
‫للمواقع واألدوار االجتامعية‪ ،‬منه بأصول ثقافية ثابتة‪.‬‬
‫‪ 6666‬االجتامع السيايس السلطاين يربط بني "استيقاظ السياسة" الذي يرغب فيه عزيز العظمة وفيصل‬
‫دراج وبني استيقاظ الفتنة (هامش رقم ‪ ،)63‬فيجعل من "الفتنة" عيدا مرغوبا للسياسة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫املحدثة فقهاء تقليديني يشجعون مواقف التحمل والصرب (الصرب القدري عىل املكارِه‪،‬‬
‫وليس صرب املثابرة والدأب)‪ ،‬وإيديولوجيني يعلون من شأن "االستقرار واالستمرار"‪ ،‬ومثقفني‬
‫حديثني ينرشون مناخا ثقافيا متشامئا‪ ،‬ويؤكدون أن البديل الوحيد عن األوضاع الحالية هو‬
‫النزاع األهيل أو حكم إسالمي مستبد‪ .‬ال َبعد لهذين الرشّ ْين‪ .‬فلنبق هنا!‬
‫ويف الواقع‪ ،‬البنية السلطانية مغلقة أو تكاد‪ ،‬فال مجال فيها لنشوء ثقافة تحرر‬
‫واستقالل‪ .‬وهو ما يعني أن ال بديل تحرريا ناجزا يعقب السلطانية املحدثة‪ .‬هناك فقط‬
‫اضطراب مفتوح و"استيقاظ للسياسة" عاصف‪ ،‬و" ِفنتٌ"‪ ،‬و"رصاعات سياسية طويلة"‪ .‬تاريخ‪.‬‬
‫نقص وراء نقص‪.‬‬
‫عىل كل حال تحتاط السلطانية املحدثة للتغيري بكل السبل‪ .‬ترفع مركز السلطة‬
‫املشخص فوق املرتبة البرشية‪ ،‬تس ِّيجه بأهل الثقة‪ ،‬تُف ِّرق يك تسود‪ ،‬تقمع بقسوة متناهية‪.‬‬
‫اليشء الوحيد الذي ال تنجح يف ضبطه هو ذاته مصدر حداثتها املشوهة‪ :‬الواقع العاملي‬
‫املتغري‪ .‬لكن هذا الواقع ذاته متأزم اليوم عىل مستويني‪ :‬من جهة هناك أزمة دميوقراطية‬
‫عاملية عىل مستوى الدول واملنظامت الدولية وتراجع للقيم التحررية والجمهورية‬
‫واملساواتية يف العامل ككل‪ ،‬ومن جهة ثانية إن مركز املبادرات الفكرية والسياسية والقيمية‬
‫العاملية‪ ،‬الغرب‪ ،‬غري ودود حيال مجتمعاتنا‪ ،‬فال يسهل التامهي به أو حتى االنجذاب إليه‬
‫إال لقطاعات ض ِّيقة منها‪ .‬يف املحصلة‪ ،‬ال نتوقع يف املدى املنظور تأثريا إيجابيا للديناميات‬
‫العاملية عىل بنى الدولة وعالقاتها مبحكوميها يف منطقتنا‪.‬‬

‫***‬
‫لكن ما أصل التحول السلطاين املحدث للدولة الوطنية الحديثة عندنا؟‬
‫لألمر صلة بال ريب بتعذر القطيعة مع السلطانية القدمية‪ ،‬بنى اجتامعية وذهنية ‪.‬‬
‫‪67‬‬

‫وزجتها يف‬
‫رجت بقوة مجتمعاتنا ّ‬ ‫وهنا كان دور الحداثة العاملية وال يزال متناقضا‪ .‬فقد ّ‬
‫سياقات عاملية جديدة وكرست انتظاماتها املوروثة وأضعفت هيمنة تقاليد قدمية فيها‪،‬‬
‫لكنها يف الوقت نفسه أثارت ارتكاسات دفاعية فيها وجعلت من أسسها الثقافية والدينية‬
‫القدمية سندا ملواجهاتها الحديثة ا ُملتعسرِّ ة‪ .‬ال يغيب عن بالنا أن "الغرب" الذي هو مركز‬

‫‪ 6767‬يرفض برهان غليون أية صلة بني استبداد الدولة التحديثية والدولة السلطانية التقليدية ويقرر‬
‫قطيعة ناجزة بينهام (املحنة العربية‪ ،...‬ص ص ‪ ،)123 -114 ،35‬وينشغل كثريا بإعفاء الثقافة‬
‫وبلوم الدولة عن أوضاعنا الحارضة‪ .‬والحال إن تطور الدولة السورية يف العقود األخرية ورمبا دول‬
‫عربية أخرى يشري إىل وفرة من التامثالت مع الدولة السلطانية‪ ،‬األمر الذي يشكك يف قطيعة ناجزة‪.‬‬
‫من جهته‪ ،‬جورج طرابييش يقر باالستبداد مع غليون‪ ،‬لكنه ينكر القطيعة‪ ،‬ويف دراسته "العلامنية‬
‫كإشكالية إسالمية‪ -‬إسالمية" ينسب استمرارية تاريخية ال شعث فيها للتاريخ العريب متمحورا حول‬
‫"اإلسالم" و"الطائفية" (هرطقات ‪ 2‬ص ص ‪ 12‬و‪ .)89‬أما العظمة فينفي االستبداد ذاته‪ ،‬لكنه أقرب‬
‫إىل غليون يف فكرة القطيعة (دنيا الدين‪ ،..‬ص ‪ .)57‬ونظريته حول العلامنية مبنية عليها‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫الحداثة العاملية كان مستع ِمرا هنا‪ ،‬قبل أن يرتك يف قلب العامل العريب هدية مسمومة ال‬
‫يكف عن رعايتها‪ ،‬إرسائيل‪ ،‬فوق نفور ثقايف متبادل وعريق‪ ،‬وذاكرة مسمومة بدورها منذ‬
‫قرون‪ .‬فوق أيضا أنه يف كل مرة تنامى حضور "الخارج" وتأثريه يف منطقتنا‪ ،‬منذ القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬انعكس ذلك زالزل يف "دواخلها" االجتامعية وحضورا أكرب لألهيل والطائفي يف ثقافتها‬
‫وسياستها وسيكولوجيتها‪.‬‬
‫أوهن القوى والتطلعات األكرث انفتاحا عىل‬ ‫َ‬ ‫املفعول اإلجاميل لهذه العمليات‬
‫"الحداثة"‪ ،‬وعزز من وزن القوى والبنى التقليدية‪ .‬وهو أيضا ما أضعف فرص عملية إصالح‬
‫ديني مستدامة‪ ،‬تحرر اإلميان الديني من سلطة أجهزة دينية متحكمة‪ ،‬ورمبا تسهم يف‬
‫تش ّكل ذهنية عامة أكرث استقالال وفردانية‪ .‬وهذا أعاق كذلك توسيع القاعدة االجتامعية‬
‫واإلنسانية لتفكري أكرث نقدية واستقاللية‪ .‬هذا مع ما هو معلوم من أن مجتمعاتنا دخلت‬
‫يف ركود عميق طوال ستة قرون أو سبعة‪ ،‬بني القرن الثاين عرش والقرن التاسع عرش‪ .‬وأن‬
‫"اإلسالم" كان مبدأ تكامل وثبات ورشعية تقاليد متونها االجتامعية ونظم حياتها‪ ،‬حتى حني‬
‫كانت هذه متعارضة مع مبادئه املعيارية‪ .‬من جهة ال مناص من عملية إصالحية كربى تمَ ُّس‬
‫تشك ُله يف صيغ مث ِّبتة ("الرشيعة")‪ ،‬ومن جهة تعمل‬ ‫دور الدين التثبيتي واملحافظ‪ ،‬وكذلك ُّ‬
‫ظروف متعددة عىل إعاقة هذه العملية‪ ،‬بل عىل رفع الطلب العام عىل الثبات‪.‬‬
‫كل ذلك أبقى الطريق سالكا لتج ّدد البنى السلطانية‪ ،‬مع احتامل اعتبار التجدد‬
‫هذا مقاومة ومامنعة مرغوبتني يف ما وراء كون املامنعة واملقاومة عنوانني إيديولوجيني‬
‫لخيارات سياسية ظرفية‪ ،‬هام البيئة النفسية والفكرية واالجتامعية األنسب النبعاث القيم‬
‫واملامرسات السلطانية واألبوية‪ ،‬وإلضفاء قيمة إيجابية عىل هذا االنبعاث‪ .‬وكذلك للجم‬
‫فرص االنشقاق والطليعية والتمرد الثقايف‪ .‬ليس مصادفة أن تكون سورية مركز املامنعة‬
‫وطليعة انبعاث السلطانية‪.‬‬
‫وعىل هذا النحو أخذت مقاوماتنا الوطنية تقرتن بتغذية االمتثالية والخنوع الثقايف‬
‫واألخالقي واالجتامعي‪ ،‬بينام أخذت أي مقاومة ثقافية وتجربة انشقاقية تبدو خيانة ومروقا‬
‫أو كفرا‪ ،‬حني ال تستسلم هي ذاتها للنخبوية واالنعزال ا ُملرت ِّفع عن الجمهور العام‪ .‬أما الجمع‬
‫بني مقاومات تحررية فعالة وحساسية نقدية وطليعية مجددة ودميوقراطية‪ ،‬تقاوم األبوية‬
‫واملحافظة الثقافية واالجتامعية (يف وضع املرأة بخاصة)‪ ،‬فقد أقيص إىل مجال املستحيل‪.‬‬
‫فإذا التقت هذه االستعدادات الثقافية واالجتامعية املوروثة مع تَط ّلب سلطة مطلقة‬
‫دامئة‪ ،68‬تُنشِّ ط وتعيد هيكلة املوروث ذاته يف اتجاه سلطاين‪ ،‬حصلنا عىل الدولة السلطانية‬
‫املحدثة‪ .‬ويبدو أن البيئة العربية عموما توفر فرصا كبرية لهذا التالقي بني استعداد ثقايف‬

‫‪ 6868‬هذا مطلب برشي عام‪ .‬عكسه يحتاج إىل تأهيل خاص أو "قطيعة"‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫ونزوع سلطوي‪ .‬لذلك يبدو لنا أن السلطانية املحدثة عربية‪ ،‬وليست سورية حرصا‪.69‬‬
‫ومن املثال السوري‪ ،‬القابل للتعميم يف تقديري‪ ،‬فإن الدولة السلطانية ليربالية‬
‫اجتامعيا‪ ،‬وإن تكن ليرباليتها عرفية‪ ،‬وهي حريصة جدا عىل ُح ْسن تساكن رعاياها‪ ،‬وال‬
‫تقبل بحال هيمنة "إسالمية" عليهم‪ .70‬الدولة السلطانية ليست إسالمية‪ ،‬بل تعبريية‪" ،‬متثِّل"‬
‫املجتمع و"تعرب" عنه بأمانة‪ ،‬لكن بالضبط ألنها تعمل عىل تشكيله يف صورة ساكنة‪ ،‬تعبريية‪،‬‬
‫تج ِّمده يف صورة هويات متساكنة ومرتاصفة و"طبيعية"‪ .‬ليس خطأ القول إن االستبداد‬
‫الحكومي نتاج "ثقافة مريضة"‪ ،‬لكنه جزيئ ومغرض‪ ،‬يهمل أن الثقافة هذه ليست طبيعة‬
‫منقوشة يف ِج ِبالتنا‪ ،‬ليست "سجية" مجتمعاتنا عىل ما يقول بحق عزيز العظمة‪ ،71‬أن الثقافة‬
‫هذه بالذات ُمتش ِّكلة تاريخيا‪ ،‬وأن "االستبداد" مبثابة آلية تزكية وانتقاء وتثبيت لها‪ ،‬من‬
‫مخزون حي تحتل فيه موقعا مميزا بحق‪ .72‬هذا املوقع يسهل عىل االستبداد املعارص عمله‪،‬‬
‫لكنه ال يفرس هذا العمل ذاته‪ ،‬وال الرهانات التي تُح ِّفزه‪ ،‬وال ما يتمتع به من قدرة عىل‬
‫املبادرة ومن استقالل يف خياراته‪.‬‬
‫يف واقع األمر يجد املركز السلطاين‪ ،‬املربمج عىل االستئثار بالسلطة كلها كل الزمن‪،‬‬
‫يجد نفسه مسوقا إىل تأليف قلوب النخب االجتامعية األكرث محافظة وتز َمتاً‪ ،‬وإىل اعتبار‬

‫ال يبدو أن أي بلد عريب حقق قطيعة مكتملة وغري عكوس عن الذهنية والبنى السلطانية‪ .‬يبدو أن‬ ‫‪ 6969‬‬
‫تونس‪ ،‬أكرثها تقدما‪ ،‬تشهد إعداد زوج ابنة رئيسها املزمن خليفة لهذا‪ .‬وحال مرص وليبيا معروف‪.‬‬
‫ورمبا اليمن‪.‬‬
‫لكنها ال تعمل كذلك إال من أجل رضب من "املجانسة" السلطانية لهم‪ ،‬أعني أن يعرفوا أنفسهم‬ ‫‪ 7070‬‬
‫جميعا بأصولهم وأنسابهم وهوياتهم املوروثة‪ ،‬أو بانخراطهم يف وحدات استتباع محدثة‪ .‬املواطنة‬
‫غري ممكنة‪ ،‬ومتريناتها العابرة للروابط األهلية ترضب بقسوة‪ .‬والحق السيايس الوحيد املعرتف به‬
‫هو والء الجميع للمركز السلطاين املشخص عىل نحو ما تعرب عنه "البيعات" الدورية‪.‬‬
‫العظمة‪ ،‬دنيا الدين‪ ،..‬ص ‪.128‬‬ ‫‪71 71‬‬
‫لهذا املخزون اسم شهري‪ ،‬هو "اإلسالم"‪ .‬ومن هذا الباب يتعني االشتباك مع "اإلسالم" بوصفه حامال‬ ‫‪ 7272‬‬
‫ملورثات وذاكرة سلطانية‪ ،‬ومن أجل تأهيل قيم وثقافة تحررية وإنسانية‪ .‬ال نرى سبيال للرتبية‬
‫العامة واالرتقاء باملستوى الفكري والروحي للجمهور العريض يف بلداننا ال مير بالرصاع مع اإلسالم‪.‬‬
‫وال منهج لتغيري ما بأنفسنا ال يعمل عىل تغيريه‪ .‬ولعل عرس ذلك هو ما يغذي تطلعات إىل تغيري‬
‫أنفسنا ذاتها‪ ،‬واالنفصال املطلق والعدمي عن اإلسالم‪ .‬هذا فضال عن أن تحررا فكريا وسياسيا يبلغ‬
‫عرب االشتباك مع اإلسالم‪ ،‬ميثاقنا األكرب مع العامل‪ ،‬هو تحرر عزيز‪ ،‬ليس مثله أي تحرر آخر‪ .‬وبينام‬
‫قد يكون صحيحا أن اإلسالميني املعارصين "جمهوريون" أكرث مام هم سلطانيني‪ ،‬السلفيني الجهاديني‬
‫من أنصار "الحاكمية اإللهية" بخاصة أكرث من اإلخوان دعاة "تطبيق الرشيعة"‪ ،‬فإننا نرجح أن تتطور‬
‫النزعة الجمهورية اإلسالمية بعد حني إىل دولة سلطانية محدثة‪ ،‬ال تختلف عن السلطانيات القامئة‬
‫واملحتملة إال بغاللتها اإليديولوجية‪ .‬ومن هذا املنطلق نتصور أن متام القطيعة مع السلطانية متر‬
‫عرب نقد "اإلسالم" والرصاع معه‪.‬‬
‫كيف ميكن خوض هذا الرصاع مع الحؤول دون تلوثه بالطائفية أو تسخريه ملصلحة بنى سلطانية‬
‫أخرى؟ مبا يف الرضب السلبي والسلطاين من العلامنية‪ ،‬الذي يفضل استبدادا استئصاليا عازال‬
‫لإلسالميني عىل فتح امللف الديني السيايس كله؟‬

‫‪38‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫وجهائها املمثلني األكرث رشعية للجامعات املحلية واألهلية‪ .‬هذا ألنه يخىش قدرتها عىل‬
‫التهييج والتحريض ضده‪ ،‬ويطمع يف فاعليتهم االستتباعية‪ .‬لكن نوعية أولويته (الخلود‬
‫يف السلطة)‪ ،‬وليس تركيبا ما خالدا للمجتمع املحكوم‪ ،‬هي ما يدفع هؤالء إىل الصدارة‬
‫متوسع من األتباع‪ ،‬ضد متدينني أكرث انفتاحا‬
‫ويعظم تأثريهم ويت ّربع لهم بجمهور ِّ‬ ‫االجتامعية ّ‬
‫وتحررا واستقالال وتجردا‪ .‬أن يخاطب الشيخ البوطي‪ ،‬الذي ال صفة عامة له‪ ،‬السوريني‬
‫طوال عقود من التلفزيون الحكومي‪ ،‬وأن يمُ َنح عام ‪ 1991‬امتياز أن يعلن قبل الجميع قرب‬
‫اإلفراج عن ألوف من املعتقلني السياسيني (معظمهم إسالميون)؛ وأن يكون الشيخ عبد‬
‫الرحمن الكويك من املقربني ‪ ،73‬وأن يصدر تعميم حزيب بعثي يقول عن مجموعة إسالمية‬
‫متزمتة تتبع الشيخ عبد الهادي الباين‪" :‬هدف هذه الجامعة هو إقامة أمة إسالمية وليست‬
‫عربية‪ ،‬وتؤمن بعدم تحرير املرأة وعدم مخالطتها للرجال وتقف ضد عملها وخروجها من‬
‫يرصح بأن "موقف الحزب منها ليس‬ ‫املنزل‪ ،‬وتعترب وجود التلفزيون يف املنزل حراماًَ"‪ ،‬ثم ِّ‬
‫سلبياً طاملا أنها بقيت يف مجال املعتقد الديني"‪ ،74‬أقول ليس باألمر العارض أن تتمكن أشياء‬
‫كهذه وتتكاثر نظرياتها يف السنوات األخرية‪ .‬إنها نابعة من األولوية العليا التي ترتبها "الدولة"‬
‫لنفسها وتفرضها كمقدس وطني‪ .‬فإذا ُشفِعت برضب صيغ االنتظام املدنية واملستقلة‪ ،‬ال‬
‫يبقى لنا غري الرتحم عىل دولة العظمة التنظيامتية وعىل مجتمعها املكون من أفراد‪.‬‬
‫ويف النهاية‪ ،‬ليست النظرية التعبريية يف الدولة غري انعكاس إيديولوجي لواقع هذه‬
‫الدولة السلطانية‪ .‬ومثل كل انعكاس إيديولوجي فهو جزيئ ومش ّوه‪ُ ،‬ير ِّكز عىل الحصائل ال‬
‫عىل العمليات‪ ،‬وعىل املاهيات ال عىل العالقات‪ ،‬فوق أنه يقلب العالقة بني السبب والنتيجة‪،‬‬
‫ليبدو املايض سببا للحارض‪ ،‬و"نسيج العقليات" سببا أوحد للخيارات السياسية‪.‬‬
‫وبالتأكيد مل يعد الزما القول إن هذه ليست دولة وطنية تحديثية‪ ،‬وليس لديها برنامج‬
‫تحديث وطني من أي نوع‪ .‬أوليتها الجوهرية‪ ،‬صون ِم ْلكِها وتوريثه سالليا‪ ،‬تحول دون بلورة‬
‫‪ 73 73‬اعتقل الكويك لبضعة شهور بني ‪ 2009‬و‪ ،2010‬إثر ظهور له مل يكن األول يف برنامج "االتجاه‬
‫املعاكس" يف قناة "الجزيرة"‪ ،‬فشل فيه يف الرد عىل مساجل مرصي‪ ،‬أقذع يف مهاجمة الحكم‬
‫السوري‪ .‬يف الحلقة عبرّ الكويك عن وجهات نظر دينية اجتامعية بالغة التزمت‪ ،‬ترى مثال أن غري‬
‫املربقعات فاجرات‪ .‬وقد سارع بعد اإلفراج عنه إىل إعالن "والء ووفاء" منه "لسيد الوطن وقائده‬
‫السيد الدكتور بشار األسد"‪ ،‬وأنه "مع قيادته لهذا البلد‪ ،‬ونهجه‪ ،‬وأي كالم آخر ينقل عني يخالف‬
‫هذا الكالم فأنا بريء منه‪ ،‬وال أساس له من الصحة"‪ .‬جريدة "الوطن" السورية‪.2010/2/22 .‬‬
‫‪ 7474‬التعميم مؤرخ يف ‪ .2009/8/23‬وقد ترسب إىل نرشة "كلنا رشكاء" الواسعة االنتشار‪ .‬ومن املؤسف‬
‫أن جميع من ع ّلقوا عليه‪ ،‬وهم كرث‪ ،‬شخّ صوا تواطؤا بعثيا مع "األصوليني"‪ ،‬وساءهم أال يتعرض‬
‫هؤالء ملزيد من القمع‪ ،‬بدل أن يتب ّينوا منطق الوثيقة البعثية التي ال تكتم أنها ال تهتم بجامعة‬
‫الباين طاملا هم ال يخرجون من نطاق املعتقد الديني‪ .‬هذا يدل‪ ،‬يف تصوري‪ ،‬عىل تقدم حاسم‬
‫تحقق ملنطق التجزؤ السلطاين يف أوساط عموم املتعلمني واملثقفني‪ .‬وال أرى سبيال ملواجهة مجتمع‬
‫الدولة السلطانية هذا‪ ،‬املكون من أمثال جامعات الشيخ البوطي والكويك والباين‪ ...‬وأحزاب "الجبهة‬
‫الوطنية التقدمية"‪ ،‬يف غري سياق العمل عىل تحويل الدولة السلطانية إىل‪ ...‬جمهورية أو دولة‬
‫مواطنني‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫برنامج كهذا رغم أي نيات طيبة محتملة‪.‬‬

‫خالصة عامة‬
‫ميزنا بني ثالث أطروحات يف الدولة ملثقفني سوريني بارزين‪ .‬واستندنا إىل كتابات لهم‬
‫يف مراحل النضج وما بعده‪ .‬برهان غليون يرى الدولة استبدادية‪ ،‬وجورج طرابييش يرى‬
‫استبداد الدولة محصلة الستبداد املجتمع ا ُملع ِّرف ثقافيا‪ ،‬فيام ينكر عزيز العظمة استبداد‬
‫الدولة أو يضفي عليه صفة نسبية جدا عىل أساس تاريخاين‪ .‬ال نفهم من تحليالت غليون‬
‫السوسيولوجية السياسية ملاذا الدولة استبدادية‪ ،‬وال تساعدنا تحليالت طرابييش الثقافية‬
‫الكيفية عىل بلورة سياسات إصالحية أو مجرد تخ ّيلها‪ ،‬وتُز ِّود تاريخانية العظمة الوالء غري‬
‫النقدي لـ"الدولة" االستبدادية بضمري مرتاح‪ .‬نلحظ تقليصا الفتا للمناهج الثالثة (علم‬
‫االجتامع السيايس‪ ،‬التحليل الثقايف‪ ،‬التاريخانية)‪ .‬نخ ّمن أن لـ "السياسة" وإكراهاتها وضغوطها‬
‫فضال فيه‪ .‬مثة أيضا قدر مدهش من النضالية يف كتابات املفكرين الثالثة‪ .‬ويتصل بالنضالية‬
‫ويؤسس لها نظرة ثنوية إىل مجتمعاتنا املعارصة‪ ،‬تَر ُّدها "دولة" و"أمة" عند غليون‪ ،‬وإىل‬
‫علامنية محمولة أساسا عىل الدولة وأصولية إسالمية ُمتش ّهية للسلطة تتبناها قوى نكوصية‬
‫ونافلة عند العظمة‪ ،‬وإىل "حداثة" و"قدامة" مامثلتني لذاتيهام مختلفتني كليا عن بعضهام‬
‫عند طرابييش‪ .‬وهذه النظرة تقوض منهجيا استقالل املثقفني وفرص قيام حركات سياسية‬
‫وثقافية ال تلتحق بأحد طريف االستقطاب‪ .75‬بل تتامهى به مادام مفكرونا‪ ،‬وبهوى مشبوب‪،‬‬
‫يجسدون الخري الخالص يف قطب والرش املحض يف القطب املقابل‪ .‬ولعل النظرة نفسها تفرس‬
‫جانبا من أجواء التجزؤ والقطيعة املشتدة يف أوساط "االنتلجنسيا" السورية‪.‬‬
‫وعىل أرضية طرح غليون نفسه‪ ،‬قد ننتقد مبالغته يف تسييس الدميوقراطية أو محورتها‬
‫املفرطة حول مسألة السلطة‪ .‬لكن نقد طرابييش " ُيث ْقفِنها" (يفرس االستبداد بثقافة‪ ،‬ويرشط‬
‫الدميوقراطية بثقافة أخرى)‪ ،‬ونقد العظمة " ُي ْرتخِ نها" (ينزع صفتها السياسية باملرة ويدرجها‬
‫يف مخطط تاريخي كوين مجرد)‪ ،‬فتبقى أوضاع الجمهور العام وأصواته ومطالبه واحتجاجاته‬
‫خارج التفكري‪ .‬وعىل هذا النحو يضاف قيد نخبوي يغ ّيب الجمهور إىل قيدين سلطانيني‪،‬‬
‫التضييق عليه قمعيا ومتزيقه ملليا‪.‬‬
‫اقرتحت مفهوم "الدولة السلطانية املحدثة" الذي (‪)1‬‬ ‫ُ‬ ‫واستنادا إىل الواقع السوري‪،‬‬
‫ينصف املقاربة الثقافوية‪ :‬بىل‪ ،‬حكامنا منا‪ ،‬تولوا علينا ألننا نحن من نحن‪ .‬لكنه يحاول‬
‫كشف جذورها االجتامعية والسياسية‪ ،‬ويرفض نزوعها املحافظ والتربيري‪ .‬يفتحها عىل‬

‫‪ 7575‬يسجل لغليون متايزا يف هذا الشأن‪ ،‬يف نشاطه العميل عىل األقل‪ ،‬املنفتح عىل أنشطة املثقفني‬
‫واملعارضني الدميوقراطيني السوريني‪ .‬بني كبار املثقفني السوريني‪ ،‬ينفرد العظمة وطرابييش بأنهام‬
‫مرضبان باملطلق عن املشاركة يف التوقيع عىل أي بيان يدعو إىل الحريات أو يتضامن مع معتقيل‬
‫رأي‪ ،‬أو عريضة تدعو إىل إصالحات وطنية‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫لاص جاحلا نيساي‬ ‫يبرعلا ةلودلا" يف نييروسلا نيرّكفملا بهاذم‬

‫انقطاع تاريخي وأفق تغيريي تحرري‪.‬‬


‫و(‪ )2‬يتيح تجاوز تبسيط املقاربة الدميوقراطية‪ ،‬مع احتفاظه بكل أهدافها ورهاناتها‪.‬‬
‫ولعله يزود تطلعاتها السياسية ببعد تأسييس ال يبدو أنه ميكن إغفاله‪.‬‬
‫لكنه (‪ )3‬يتشكك كثريا يف املقاربة التحديثية التي تخلط بني املفهوم املجرد والواقع‬
‫املعاين‪ ،‬وتذيب الفاعلية السياسية يف مخطط تاريخاين متجاوِز‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫فكر سيايس‬

‫ثورة الجامهري‪!...‬‬
‫حسن خرض‬

‫‪1‬‬
‫نرشت جريدة "القدس العريب" اللندنية يف الثالثني من ترشين الثاين (نوفمرب)‪ ،‬نقال عن وكالة‬
‫"رويرتز" لألنباء الخرب التايل‪:‬‬
‫"توفيت األمرية فريال‪ ،‬ابنة امللك فاروق وامللكة فريدة‪ ،‬أمس يف سويرسا عن ‪ 71‬عاما‪ً.‬‬
‫ُولدت فريدة يف مدينة اإلسكندرية الساحلية يوم ‪ 17‬ترشين الثاين عام ‪ ،1938‬وغادرت مرص‬
‫مع والدها يوم ‪ 26‬متوز (يوليو) ‪ 1952‬بعد أيام من قيام الثورة‪ ،‬التي أنهت حكم أرسة محمد‬
‫عيل‪ ،‬وبعدها بعام حل الحكم الجمهوري محل الحكم املليك‪ .‬وقالت لوتس عبد الكريم يف‬
‫بيان يف القاهرة إن فريال كانت تعاين من مرض الرسطان‪ ،‬وانها كربى بنات امللك فاروق‬
‫األ ّول‪ ،‬وانها التحقت يف الخمسينات بكلية السكرتاريا‪ ،‬وعملت سكرترية‪ ،‬ومد ّرسة لآللة‬
‫الكاتبة‪ ،‬ثم تزوجت عام ‪ 1966‬من السويرسي جان بيري‪ ،‬الذي مات عام ‪ ،1968‬وأنجبت منه‬
‫ابنتها الوحيدة ياسمني‪ ،‬التي تعيش يف القاهرة‪ ،‬وأن أمها استدعتها قبل وفاتها بأيام قليلة‬
‫لتودعها‪ .‬وفريال آخر بنات امللك فاروق‪ ،‬بعد وفاة شقيقتيها فوزية وفاديا‪ ،‬وقال البيان إن‬
‫الجثامن سيصل إىل القاهرة غدا الثالثاء"‪ .‬انتهى الخرب‪.‬‬
‫يف ذيل الخرب ع ّلق قارئ اسمه سعيد مبا ييل‪:‬‬
‫"تز ّوجت عام ‪ 1966‬من السويرسي جان بيري‪ ،‬الذي مات عام ‪ ،1968‬وأنجبت منه‬
‫ابنتها الوحيدة ياسمني‪ .‬هل هذا يعني أن األمرية املسلمة تز ّوجت من نرصاين‪ ،‬وأنجبت منه‪،‬‬
‫أم أنها تنصرّ ت‪ ،‬أم أنه أعلن إسالمه‪ ،‬فهذا أضحى عندي أهم من خرب موتها"‪.‬‬
‫كيف ُنفسرّ هذا التعليق؟‬
‫بداية‪ ،‬نحن ال نعرف من هو سعيد‪ ،‬ال نعرف اسم العائلة‪ ،‬وقد يكون االسم األ ّول‬
‫صحيحا‪ ،‬أو قناعا لشخص يختفي وراء االسم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬نعرف بأنه أحد الق ّراء الذين وجدوا‬
‫يف الخرب ما يستحق التعليق‪ ،‬ونعرف بأنه عريب ومسلم‪ ،‬ولكننا ال نعرف مهنته‪ ،‬وال فئته‬
‫العمرية‪ ،‬وال بلده‪ ،‬وإن ك ّنا نعرف‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬بأنه يعيش يف أحد البلدان العربية‪ ،‬أو‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫انتقل منها إىل بلدان الهجرة يف الغرب‪ .‬وهذه املعرفة القامئة عىل تسليم مسبق باملجهولية‬
‫متنح سعيدا هذا صفة متثيلية أكرب‪ .‬فهو العريب الذي يجيد القراءة والكتابة‪ ،‬ويستخدم‬
‫اإلنرتنت‪ ،‬ويجد من واجبه التعليق عىل أمور تتع ّلق بالشأن العام‪.‬‬
‫بيد أن التعليق الذي صاغه يف ذيل الخرب مي ّكننا من الحصول عىل معلومات إضافية‬
‫عن طبيعة ثقافته‪ ،‬واهتامماته‪ ،‬ورمبات ميوله السياسية‪ .‬فلنفكر يف أشياء من نوع‪ :‬أن موت‬
‫أمرية ال يعنيه من قريب أو بعيد‪ ،‬وحقيقة أنها أنفقت حياتها يف املنفى‪ ،‬واشتغلت سكرترية‪،‬‬
‫ومع ّلمة لآللة الكاتبة‪ ،‬وهي مهنة ال تنسجم كثريا مع املصري املت ّوقع ألمرية رشقية‪ ،‬ال تثري‬
‫لديه أدىن حس باملفارقة‪ ،‬وال يحرضه موت زوجها بعد عامني من الزواج عىل التفكري يف‬
‫املصائر املأساوية لبني البرش‪ .‬املهم يف نظره التدقيق يف أمر زواجها من نرصاين‪ ،‬وما إذا كان‬
‫منسجام مع ضوابط الرشيعة أم ال‪.‬‬
‫من الواضح أن االسم األجنبي (جان بيري) قرع أكرث من جرس لإلنذار يف رأس سعيد‪،‬‬
‫ويبدو أن األجراس كانت قوية إىل حد مل يجد معه من وسيلة للخالص منها إال بالكتابة عنها‪.‬‬
‫ويف هذا السياق فإن سعيدا هذا بقدر ما طرح من أسئلة أقلقته‪ ،‬أجاب أيضا عن أسئلة‬
‫يترصف باعتباره حارسا لألخالق‪ ،‬ورقيبا عىل أفعال اآلخرين‪ ،‬يحرص عىل‬ ‫تهم الباحث‪ .‬فهو ّ‬
‫التدقيق يف مدى انسجامها مع ضوابط الرشيعة‪ ،‬ويحرص‪ ،‬بالقدر نفسه‪ ،‬عىل تعميم هذا‬
‫الحرص‪ ،‬أي إذاعته عىل املأل‪ ،‬لتنبيه آخرين إىل ما قد يكون فاتهم عند قراءة الخرب‪.‬‬
‫عند الوصول بالتحليل إىل هذا الحد ميكن القول إن املعلومات التي قدمها سعيد عن‬
‫نفسه‪ ،‬بقدر ما تُسهم يف إبراز الدالالت الثقافية والسياسية لصفته التمثيلية‪ ،‬تسهم أيضا‬
‫يف التقليل من أهمية ما نجم عن غياب معلومات تخصه من نوع العمر‪ ،‬والبلد‪ ،‬واملستوى‬
‫التعليمي‪ ،‬واالسم الحقيقي‪.‬‬
‫والدليل أن أغلب ما تنرشه الجرائد اليومية من تعليقات الق ّراء عىل صفحاتها‬
‫اإللكرتونية‪ ،‬وما تفيض به املواقع اإللكرتونية‪ ،‬وما يتناهى إىل األسامع من كالم "املواطنني"‬
‫العرب يف منابر الفضائيات املفتوحة للجمهور‪ ،‬ال يختلف من حيث الجوهر عن الوظيفة‬
‫التي اختارها سعيد لنفسه‪ ،‬أي مهنة الرقابة والحرص والحراسة‪ ،‬برصف النظر عن طبيعة‬
‫الشأن املحروس‪ .‬فاألمر س ّيان‪ ،‬سواء تع ّلق بالدين أم السياسة‪ ،‬وما ينجم عن هذه وتلك ما‬
‫ال يحىص من التداعيات األخالقية واأليديولوجية‪.‬‬
‫بهذا املعنى‪ ،‬مل يعد سعيد مجهوال إىل حد كبري‪ ،‬بل ميكن رسم صورة جانبية لحياته‪:‬‬
‫رمبا كان يف العقد الثالث من العمر‪ ،‬ومرب ٌر الرتجيح أن نسبة الشباب يف العامل العريب تصل‪،‬‬
‫حسب بعض التقديرات إىل ‪ 60‬يف املئة من إجاميل س ّكان العامل العريب‪ .‬وهذه الفئة هي‬
‫األكرث إقباال عىل عامل اإلنرتنت وتكنولوجيا االتصاالت‪ .‬وهو قد يكون عاطال عن العمل‪ ،‬ففي‬
‫العامل العريب يصل عدد العاطلني عن العمل إىل ‪ 21‬مليون نسمة‪ ،‬أو رمبا يكون جزءا من‬
‫جيوش املوظفني الجرارة يف مختلف البلدان‪ ،‬والتي متثل بدورها نوعا من البطالة ا ُملق ّنعة‪ ،‬أو‬
‫رمبا كان جزءا من الفئات االجتامعية الجديدة‪ ،‬التي نشأت عىل هامش اقتصاد الخدمات‪،‬‬

‫‪43‬‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫وال تنتمي إىل مهنة أو رشيحة اجتامعية ميكن تعريفها عىل نحو دقيق‪.‬‬
‫االحتامالت كثرية‪ ،‬وميكن أن نضيف إليها حقيقة أنه يستطيع القراءة والكتابة‪ .‬فهو‬
‫يقرأ جريدة يومية عىل اإلنرتنت‪ ،‬ويعلق عىل ما جاء فيها من أخبار‪ .‬وهذه‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬ميزة‬
‫إضافية يف عامل يصل عدد األميني فيه إىل مئة مليون نسمة من إجاميل ‪ 328‬مليون نسمة من‬
‫العرب‪ .‬وبالتايل قد يكون طالبا حصل عىل تعليم مت ّوسط‪ ،‬ورمبا تخ ّرج من إحدى الجامعات‪،‬‬
‫يف عامل عريب تحتل جامعاته املرتبة الدنيا بني أفضل الجامعات يف العامل‪.‬‬
‫ويف السياق نفسه نفرتض أن سعيدا هذا يقيم‪ ،‬أو سيقيم قريبا‪ ،‬يف مدينة من املدن‬
‫العربية الكثرية‪ .‬فقد بلغ عدد س ّكان املدن يف العامل العريب قبل عرش سنوات ‪ 53‬يف املئة من‬
‫إجاميل عدد الس ّكان‪ ،‬و ُينتظر أن تصل النسبة إىل ‪ 61‬يف املئة بعد عرش سنوات‪.‬‬
‫وليك تتضح الصورة الجانبية لسعيد عىل نحو أفضل‪ ،‬يصعب التغايض عن حقيقة أنه‬
‫يعيش يف عامل عريب ينقسم إىل أغنياء وفقراء‪ ،‬حيث يتمركز األغنياء يف مناطق الخليج والجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬ونسبتهم تقل عن عرشة يف املئة من إجاميل عدد العرب‪ ،‬بينام تعيش الغالبية‬
‫العظمى من العرب يف حوارض وصل فيها مرشوع بناء الدولة‪ -‬األمة إىل طريق مسدودة‪.‬‬
‫ولهذا االنقسام أبعاد سياسية وثقافية بعيدة املدى‪ .‬فمجتمعات األغنياء تقليدية‬
‫ومحافظة‪ ،‬لكنها متلك من املال ما مي ّكنها من مامرسة نفوذ يتجاوز حجمها وأهميتها‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫سواء كان سعيد هذا مقيام يف معسكر األغنياء أم الفقراء‪ ،‬فإن املهنة التي اختارها لنفسه‬
‫تنسجم إىل حد بعيد مع البضاعة األيديولوجية لألغنياء‪ .‬وبقدر ما يتع ّلق األمر مبؤهالته‬
‫الثقافية فإن فيها ما يكفي لجعله مستهلكا جيدا ملنتجات املنابر اإلعالمية التي ميلكها‬
‫األغنياء‪ ،‬وهي األوسع انتشارا واألكرث تأثريا يف عامل العرب اليوم‪.‬‬
‫ولكل ما تق ّدم دالالت مفزعة‪ .‬فالتح ّوالت الدميوغرافية الهائلة التي تعيشها بلدان‬
‫الفقراء‪ ،‬وانهيار الدور التقليدي للحوارض املدينية تحت وطأة أنظمة سلطانية ومملوكية‬
‫وعثامنية مستحدثة‪ ،‬وصعود سعيد باعتباره ظاهرة اجتامعية وثقافية جديدة‪ ،‬أمور من‬
‫شأنها إغالق أبواب املستقبل أمام العرب عىل امتداد هذا القرن خاصة إذا كان منوذج سعيد‬
‫رأس جليدها العائم‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ميكن‪ ،‬اآلن‪ ،‬التق ّدم خطوة إضافية‪ ،‬أي االنتقال من محاولة رسم صورة جانبية لسعيد‪ ،‬إىل‬
‫محاولة البحث عن تعريف لسعيد باعتباره ظاهرة جديدة‪ .‬ويف هذا الصدد يبدو أورتيغا‬
‫غاسيت مرجعا شديد الغواية‪ ،‬ليس ألنه استنبط تعريفا لظاهرة مشابهة عرفتها أوروبا يف‬
‫مطلع القرن العرشين وحسب‪ ،‬ولكن ألنه فعل ذلك قبيل اندالع الحريق الكبري‪ ،‬الذي التهم‬
‫أوروبا يف الحرب العاملية الثانية‪ ،‬فكان شاهدا ونذيرا‪.‬‬
‫قبل الحرب العاملية الثانية بثامين سنوات نرش غاسيت كتابا صغريا بعنوان "ثورة‬

‫‪44‬‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫الجامهري"‪ ،‬مالحظا أن املشكلة ال تكمن يف صعود "الجامهري"‪ :‬فقد أصبح الصعود ممكنا‬
‫وتحسن األوضاع الصحية والتعليمية والرتفيهية والثقافية‬ ‫ّ‬ ‫بفضل الزيادة الدميوغرافية‪،‬‬
‫للغالبية العظمى من الناس‪ ،‬وازدياد حجم ودور املدن‪ ،‬وانهيار الحواجز الطبقية التقليدية‬
‫نتيجة صعود الطبقة الوسطى‪ .‬املشكلة أن "الجامهري" تتك ّون من أفراد فقدوا احرتامهم‬
‫للمعرفة‪ .‬ففي أزمنة مضت كان ُيفرتض بالعاملني يف السياسة والثقافة والفنون واآلداب أن‬
‫يكونوا أكفاء‪ ،‬وأصحاب مؤهالت‪ ،‬لكن هذه الفرضية مل تعد قامئة نتيجة ما تبديه "الجامهري"‬
‫الجديدة من افتتان خاص باملساواة‪ ،‬وما تك ّنه من كراهية للتم ّيز‪ ،‬ولكل ما هو فوق املت ّوسط‪.‬‬
‫بتعبري آخر‪ :‬لقد فرغ املرسح من املمثلني ومل يبق سوى الكومبارس‪ .‬والكلامت لغاسيت‪.‬‬
‫ويف محاولة منه لتعريف أصغر وحدة تتك ّون منها "الجامهري"‪ ،‬نحت غاسيت تعبري‬
‫"رجل الكتلة" أو "الحشد"‪ ،‬الذي اكتشف يف سياق تح ّوالت متسارعة مكانا ومكانة اجتامعيني‬
‫مل يتوفرا ألسالفه قبل عقود‪ ،‬كام أصبح صاحب حقوق اجتامعية وسياسية مل يأبه كثريا ملا‬
‫ُبذل يف صياغتها من جهد باملعنى الفكري‪ ،‬وتضحيات مادية‪ ،‬يف عهود مضت‪ .‬املهم أن "رجل‬
‫الكتلة" مدرك لقوته وحقوقه ومفتون بفكرة املساواة‪ ،‬فال أحد أفهم أو أعلم من أحد‪.‬‬
‫ولعل شيئا شبيها بهذا يحدث يف عامل العرب اليوم‪ ،‬يف ما ال يحىص من املنتديات‪،‬‬
‫وغرف الدردشة‪ ،‬والصفحات اإللكرتونية‪ ،‬ويف منابر الفضائيات املك ّرسة للجمهور‪ .‬ويف هذا‬
‫الصدد يفسرّ يرسي فودة‪ ،‬أحد النجوم السابقني يف فضائية "الجزيرة" القطرية رس نجاح‬
‫املحطة عىل النحو التايل‪" :‬من الناحية املهنية مل نُضف كثريا إىل عامل الصحافة التلفزيونية‬
‫عندما وضعنا مذيعا يف األستوديو ومعه ضيف أو اثنان‪ .‬لكن الواقع العريب اكتسب الكثري‬
‫عندما أضيف إىل االستوديو عنرص آخر مل يعرفه من قبل‪ ،‬ومل يكن يف حاجة إىل ميزانية‪،‬‬
‫وال إىل عبقرية‪ :‬خط هاتف مفتوح ملن يريد أن يتك ّلم عىل الهواء أمام املاليني داخل بالده‬
‫وخارجها‪ .‬لقد كان هذا ببساطة انقالبا يف واقع املواطن العريب"‪.‬‬
‫ما مل يقله فودة أن الشخص الذي كان عىل الطرف اآلخر للخط الهاتفي املفتوح هو‬
‫سعيد‪ ،‬الذي انقلب واقعه‪ ،‬بالفعل‪ ،‬عندما اكتشف أن الكالم يف السياسة أبسط مام ت ّوقع‬
‫قبل عرص الفضائيات واإلنرتنت‪ .‬فهو ال يحتاج‪ ،‬من ناحية عملية‪ ،‬إىل ثروة لغوية استثنائية‪،‬‬
‫الترصف عىل سجيته‪ ،‬خاص ًة‬‫أو إىل ذخرية معرفية‪ ،‬أو حتى إىل كفاءة عقلية‪ ،‬وما عليه سوى ّ‬
‫وقد أصبح محط اهتامم كبري يف زمن االحتكام إىل صناديق االقرتاع‪ ،‬والتنافس بني النخب‬
‫الحاكمة واملعارضة عىل الرشعية والتمثيل‪ ،‬ومع هذا وقبله نتيجة رفع تعبري "الجامهري" إىل‬
‫مرتبة املق ّدس تقريباً يف عهود مضت‪ ،‬عهود الكفاح ضد الكولونيالية وبناء الدولة القومية‬
‫الحديثة يف الحوارض العربية‪.‬‬
‫ويف هذه القداسة‪ ،‬بالذات ـ وهي بال قيمة يف نظر األصوليات الدينية ألنها تستمد‬
‫رشعية وجودها من الحق اإللهي ـ ما يلقي بالغشاوة عىل أبصار وأذهان ما ال يحىص من‬
‫القوميني واليساريني العرب‪ ،‬الذين يستمدون منها مربر تأييدهم لحركات تتبنى أيديولوجيات‬
‫رجعية متثل يف الجوهر نفياً لكل ما يعتنقونه من أفكار (إن كانوا صادقني)‪ ،‬أو توفر للعاطلني‬

‫‪45‬‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫عن العمل منهم منابر مجانية وقضايا مت ّوهمة تضمن وجودهم يف املشهد السيايس والثقايف‬
‫العام‪ .‬ويف الحالتني تسهم القداسة يف تسهيل وتسويغ عملية الفصل بني السياسة ومضمونها‬
‫االجتامعي‪ ،‬وبالتايل تُختزل مشاكل املجتمعات العربية‪ ،‬وخصوصية تط ّورها‪ ،‬يف رصاع مع‬
‫عدو يف الخارج‪ ،‬ورصاع ضد عدو ينارصه أو يخضع لرشوطه يف الداخل‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ورغم أن سعيدا هذا يكتسب املزيد من الثقة بالنفس كلام سمع أو قرأ‬
‫كالما إيجابيا عنه يطلقه أشخاص يفوقونه معرفة ومؤهالت‪ ،‬إال أنه ال يثق بهم‪ .‬فهم من‬
‫طينة غري طينته‪ ،‬ويعبرّ ون عن األفكار البسيطة التي يؤمن بها بطريقة معقدة‪ ،‬لذلك تُنتج‬
‫ظاهرة سعيد مثقفها "العضوي" الخاص‪ .‬مبعنى آخر ينتج "رجل الكتلة" مثقفا عىل صورته‪،‬‬
‫يتك ّلم لغته‪ ،‬ويتبنى قيمه‪ .‬وعىل هذه الخلفية‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬ميكن فهم وتحليل ظاهرة الدعوة‬
‫والدعاة املتلفزة‪ ،‬والربامج الحوارية التي تشبه عراك الديكة‪ ،‬ونجوم التعليق عىل الشأن‬
‫العام يف الفضائيات‪ .‬عموما‪ ،‬ميكن فهم وتحليل الداللة السياسية والثقافية للعالقة بني‬
‫ظاهرة سعيد والتلفزيون بطريقة جديدة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مل يعش لينني يف زمن الفضائيات‪ ،‬ولو حكمت عليه األقدار بالعودة إىل الحياة‪ ،‬ملا ف ّكر يف‬
‫الجريدة باعتبارها منفاخ الحدادة الهائل‪ ،‬بل بفضائية تُشعل لهيب الثورة يف كل مكان‪.‬‬
‫ميكن للتدليل عىل هذا الرأي االستعانة بفكرة شائعة ملارشال مكلوهن حول العالقة الوثيقة‬
‫بني التغيرّ ات االجتامعية‪ ،‬ونشوء تكنولوجيا وتقنيات جديدة‪ .‬الثورات البورجوازية الكربى‪،‬‬
‫التي انتقلت من مكان إىل آخر يف أوروبا القرن التاسع عرش‪ ،‬أصبحت ممكنة بفضل ظهور‬
‫القطارات كواسطة لنقل البرش والبضائع واألفكار‪ .‬ويف السياق نفسه ربط بندكت أندرسون‬
‫بني ظهور الطباعة وصعود القوميات كظاهرة جديدة يف التاريخ‪.‬‬
‫وبقدر ما يتع ّلق األمر بسعيد‪ ،‬مثة عالقة أكيدة بني صعوده كظاهرة اجتامعية ذات‬
‫مضامني سياسية وثقافية بعيدة املدى وبني تكنولوجيا االتصاالت والثورة يف وسائل وتقنيات‬
‫اإلعالم‪ .‬التكنولوجيا وثورة وسائل اإلعالم واالتصال مل تخلق ظاهرة سعيد‪ .‬للظاهرة أبعاد‬
‫دميوغرافية وسياسية وثقافية أعمق وأعرض بطبيعة الحال‪ .‬لكنها أسهمت يف تعميمها‪،‬‬
‫وأضفت عليها ق ّوة إضافية‪ ،‬إذ تصادف وقوع التح ّوالت الدميوغرافية واالجتامعية الكربى مع‬
‫تق ّدم التكنولوجيا وثورة وسائل وتقنيات اإلعالم‪.‬‬
‫ولو فكر شخص ما بكتابة التاريخ السيايس للعامل العريب يف النصف الثاين من القرن‬
‫العرشين‪ ،‬استنادا إىل فكرة مكلوهن‪ ،‬سيجد نفسه أمام دالالت يصعب تجاوزها‪ ،‬أو‬
‫التغايض عنها‪.‬‬
‫يصعب‪ ،‬مث ًال‪ ،‬تجاهل العالقة بني آالت الطباعة‪ ،‬وبشكل خاص آلة الستناسل الرخيصة‪،‬‬
‫وصعود الحركات اليسارية والقومية الراديكالية يف العامل العريب‪ .‬وإذا عدنا إىل املذكرات‬

‫‪46‬‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫الشخصية لعرب انخرطوا يف تلك الحركات إىل ما قبل عقود قليلة مضت‪ ،‬سنجد أن إنشاء‪،‬‬
‫أو إخفاء‪ ،‬أو تشغيل مطبعة الحزب‪ ،‬أو تعرضها للـمصادرة عىل يد أجهزة الدولة األمنية‪،‬‬
‫يشكل ذلك الجزء من سرية الحزب الذي ال ميكن االستغناء عنه يف جميع األحوال لدى كتابة‬
‫سرية أمينة وصادقة‪.‬‬
‫ورغم أن أجهزة الراديو تبدو يف الوقت الحارض ضحية منوذجية لـمنطق النشوء‬
‫واالرتقاء‪ ،‬إذا ما قورنت بالفضائيات‪ ،‬واإلنرتنت‪ ،‬إال أنها عاشت أزمنة ذهبية‪ ،‬ومارست نفوذاً‬
‫يتجاوز من حيث الحجم واألهمية‪ ،‬والقدرة عىل تجاوز الرقابة‪ ،‬الـمطابع والـمطبوعات‬
‫الرسية منها والعلنية‪.‬‬
‫فلن يتمكن أحد‪ ،‬مث ًال‪ ،‬من تفسري النفوذ الكبري للنارصية‪ ،‬خارج حدود مرص‪ ،‬يف‬
‫الستينات‪ ،‬دون الكالم عن "صوت العرب"‪ ،‬اسم العلـم‪ ،‬الذي ال يحتاج إىل رشح يف منت‬
‫األدب السيايس العريب وهوامشه‪ ،‬والذي لـم يكن ممكناً دون ت ّوفر وانتشار الرتانزستور عىل‬
‫نطاق واسع يف تلك الفرتة‪ .‬وال شك يف أن أعداداً كبرية من العرب الذين بلغوا سن الرشد‪ ،‬يف‬
‫عقدي الخمسينات والستينات‪ ،‬وانخرطوا يف الـمعارضة‪ ،‬تعرضوا لـمؤثرات راديكالية قوية‬
‫عن طريق موجات األثري القادمة من القاهرة‪.‬‬
‫ومع تق ّدم التكنولوجيا إىل حد يسمح بحفظ‪ ،‬ونسخ‪ ،‬وتداول‪ ،‬الـمواد السمعية من‬
‫جانب األفراد‪ ،‬خاصة مع ظهور أرشطة للتسجيل صغرية الحجم‪ ،‬ورخيصة الثمن‪ ،‬تقدمت‬
‫التعبئة عن طريق األذن خطوة هائلة إىل األمام‪ ،‬إذ أصبح باإلمكان للـم ّرة األوىل يف التاريخ‬
‫مامرسة الدعاية عن بعد‪ ،‬يف مأمن من أجهزة الدولة الرقابية والقمعية‪ ،‬وإيصالها إىل أوسع‬
‫عدد ممكن من الناس‪ ،‬يف الـمدن‪ ،‬واألرياف‪ ،‬ويف أوساط أعداد ال حرص منها من األميني‪،‬‬
‫الذين كان من الصعب الوصول إليهم من قبل‪.‬‬
‫وقد اقرتن اسم أحد أهم الثورات يف الربع األخري من القرن العرشين‪ ،‬أي الثورة‬
‫اإليرانية‪ ،‬باألرشطة الـمهربة‪ ،‬التي مت ّكن آية الله الخميني بفضلها من تعبئة أعداد كبرية عن‬
‫بعد‪ ،‬من منفاه العراقي‪ ،‬والحقاً الفرنيس‪ ،‬قبل العودة ظافراً إىل طهران‪.‬‬
‫مل تكن التجربة اإليرانية األوىل يف هذا املضامر‪ ،‬لكنها مارست نفوذاً كبرياً عىل الخاليا‬
‫األصولية الناشئة حديثاً‪ ،‬يف العامل العريب‪ ،‬وبدعم مبارش من بعض األنظمة القامئة‪ ،‬كام حدث‬
‫يف مرص‪ .‬وعىل مدار عقدين نجحت أرشطة التسجيل الصغرية يف ابتكار أنواع جديدة من‬
‫الدعاية والدعاة‪ ،‬ألنها أقل تطلباً من الكتابة التي تشرتط قدراً من التمكن من فنون الكتابة‪،‬‬
‫ومن الـمعارف الدينية‪ .‬ويف هذا السياق ظهر دعاة أنصاف متعلـمني‪ ،‬لكنهم أصحاب‬
‫مهارات تحريضية عالية‪ ،‬وظهرت دعاية بدائية ومتقشفة‪ ،‬لكنها سهلة االستيعاب والهضم‬
‫من جانب املستهلكني‪.‬‬
‫مثة سامت ميكن الكالم عنها للتدليل عىل وجود عالقة بني أداة التحريض‪ ،‬ونوعية‬
‫جمهورها من ناحية‪ ،‬وأشكالها التنظيمية املحتملة من ناحية ثانية‪ .‬فجريدة الحزب‪ ،‬وما‬
‫يدخل يف حكمها‪ ،‬كانت تقتيض معرفة بالقراءة والكتابة من جانب الـمستهلكني‪ ،‬أو وجود‬

‫‪47‬‬
‫ضخ نسح‬ ‫‪..‬ريهامجلا ةروث‬

‫متعلـمني (وقد اتسم هذا الدور برومانسية خاصة) ميارسون دور الوسيط‪ ،‬لنقل وتفسري‪ ،‬ويف‬
‫أحيان كثرية‪ ،‬تبسيط مضمونها لآلخرين‪ .‬وهذا‪ ،‬بالتايل‪ ،‬أضفى نوعاً من النخبوية عىل نشاط‬
‫األحزاب والحركات القومية منها واليسارية‪ ،‬وحرصها يف مناطق مدينية وشبه مدينية يف‬
‫أغلب األحيان‪ .‬حتى التعبئة عن طريق الراديو كانت محكومة بضوابط كثرية منها السيطرة‬
‫الـمركزية لجهاز الدولة‪ ،‬واملعايري املهنية للبريوقراطية‪.‬‬
‫أما أرشطة التسجيل‪ ،‬فلـم تكن تحتاج إىل وسيط‪ ،‬بل كانت تستطيع الوصول إىل فئات‬
‫مختلفة من الناس‪ ،‬ومناطق نائية‪ ،‬فتمكنت من خلق جبهة واسعة من املستهلكني‪ ،‬ال تتسم‬
‫تجلياتها التنظيمية بالنخبوية‪ ،‬وال تتمركز حلقاتها األساسية‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬يف املدن‪.‬‬
‫وقد ورث التلفزيون جهاز الراديو ورشيط التسجيل معا‪ ،‬وأضاف إليهام الصورة‪ ،‬فأصبح‬
‫األداء‪ ،‬أي التمثيل‪ ،‬جزءا من الرسالة‪ .‬ويف حني فقدت مهارات مثل القراءة والكتابة مكانتها‪،‬‬
‫ازدادت أهمية العني‪ ،‬أي تعزز مبدأ الفرجة‪ ،‬كام اختفى من املشهد دور الوسيط املبارش‪،‬‬
‫القادر عىل تفسري وتحليل مضمون الرسالة‪ ،‬وأصبح التلقي واالستيعاب شأنا فرديا يصعب‬
‫قياسه أو التحقق من جدواه‪ .‬ويف سياق فوىض القياس واملرجعيات‪،‬مل يعد سعيد مستهلكا بل‬
‫أصبح رشيكا‪ ،‬وقد متلكه إحساس بأنه ال يتف ّرج عىل األخبار بل يسهم يف صناعتها‪.‬‬
‫اإلحساس باملشاركة يف صنع األخبار ليس جديدا يف التاريخ اإلنساين‪ ،‬لكن مبدأ‬
‫التمثيل والفرجة جديد‪ .‬وإذا اجتمع هذا مع اكتشاف مفاجئ ملكان ومكانة اجتامعيني‪،‬‬
‫ومع حقوق ال يهم كيف ومن أين أتت‪ ،‬ومع مرتبة تتاخم حد القداسة‪ ،‬ومع إحساس مطلق‬
‫بالصواب‪ ،‬وكراهية تكاد تكون عضوية للتف ّوق‪ ،‬وإرصار عىل املساواة‪ ،‬تكون ظاهرة سعيد قد‬
‫اكتملت‪ ،‬ومعها تكتمل ثورة الجامهري العربية‪ .‬وما ينجم عن انتصار الثورة من نتائج كارثية‬
‫ال يستدعي التكهن بالغيب‪ ،‬بل التحديق يف مالمح سعيد عىل الشاشة‪ ،‬وتأمل بالغة األداء‬
‫والفرجة لديه‪ ،‬وقراءة ما يكتب‪ ،‬إذا كتب‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫أصول ّيات‬

‫باكورة "الجهاد العاملي"‪:‬‬


‫صالح رسية ومحمد سامل الرحال‬
‫حازم األمني‬

‫تُعترب تجربة صالح رسية أحد املؤرشات املبكرة جداً إىل قابلية الشتات لنقل الضائقة‬
‫الفلسطينية اىل ما يتعداها من معانٍ وأفعال‪ ،‬وذلك عرب نفيها بصفتها ضائقة وطنية ثم‬
‫اإلمعان يف هذا النفي اىل حد تجاوزها وتهميشها يف سياق استبدالها بضائقة "أممية" يشكل‬
‫اإلسالم جوهرها‪ .‬ففي مراجعة رسيعة لـ"رسالة اإلميان" التي كتبها صالح رسية والتي تعترب‬
‫مانيفستو الجامعة التي تزعمها يف مرص‪ ،‬تبدو فلسطني هامشاً ضيقاً وتكاد ال تذكر يف سياق‬
‫السعي لالنقالب عىل األنظمة "الكافرة" وتحديد وجهات عمل املسلم يف الدول التي ال تعترب‬
‫اإلسالم دستور عملها وفيصل أحكامها‪.‬‬
‫كتب رسية "رسالة اإلميان" يف ‪ ،1973‬وظهرت يف الرسالة منذ ذلك الوقت بذور "سلفية‬
‫جهادية" غري متبلورة‪ ،‬ال موضوعة وطنية لها‪ ،‬وال هموم متصلة بشكل الدولة الحديثة‪.‬‬
‫فلسطني نفسها بصفتها أرضاً محتلة‪ ،‬كانت عىل هامش جوهر قضية "رسالة اإلميان" املتمثلة‬
‫بتغيري األنظمة العربية‪ ،‬عىل ان تكون البداية من مرص‪ ،‬أكرب دولة "إسالمية" يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫عل ًام ان رسية وقع البيان الذي كان من املفرتض ان ُيذاع يف حال نجاح الهجوم عىل "الفنية‬
‫العسكرية" يف القاهرة باسم "أمري البالد صالح رسية"‪.‬‬
‫تبدو املؤرشات السابقة عىل النزوح يف حياة صالح رسية ضعيفة التأثري يف سريته‬
‫"الجهادية"‪ ،‬وهو ما يشرتك فيه مع كثريين غريه من شيوخ "الجهاد" الذين ولدوا يف فلسطني‬
‫قبل النكبة مثل عبدالله عزام‪ .‬فبينام غذت إخوانية األخري وقطبيته يف املرحلة الشتاتية‬
‫ميوله "الجهادية" التي مل تكن فلسطني موضوعها الوحيد‪ ،‬يبدو ان رسية ارتبط يف بداياته‬
‫بحزب التحرير اإلسالمي الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاين يف القدس يف ‪ ،1950‬ورمبا‬
‫كان ذلك سبب سبقه أصحاب امليول اإلخوانية اىل "الجهاد"‪ .‬فحزب التحرير‪ ،‬وان مل يكن‬
‫"سلفياً"‪ ،‬فإنه "جهادي" وتضم أدبياته دعوات مبارشة إىل قلب األنظمة و"إقامة الخالفة"‪،‬‬
‫بينام يتوسط بني "الجهاد" وبني العمل الدعوي يف السرية اإلخوانية تراث من العالقة غري‬
‫الصدامية مع الدول واألنظمة‪.‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫ولد صالح رسية يف قرية إجزم يف قضاء حيفا سنة ‪ ،1937‬ونُقل يف ‪ 1948‬مع عائلته‬
‫من قبل الجيش العراقي‪ ،‬الذي كان ُيقاتل يف حينها ضمن "جيش اإلنقاذ"‪ ،‬اىل بغداد التي‬
‫نشأ فيها ودرس وعمل‪ ،‬اىل ان انتقل اىل جامعة عني شمس يف القاهرة أواخر ستينات القرن‬
‫الفائت ونال شهادة الدكتوراه يف الرتبية وكانت رسالته عن تعليم العرب يف إرسائيل‪.‬‬
‫ميت رسية بعالقة قرابة بعيدة اىل مؤسس حزب التحرير اإلسالمي تقي الدين النبهاين‪،‬‬
‫وهو أمر له تأثري يف البيئة الفلسطينية‪ ،‬اذ لطاملا شكلت القرابات مصدراً للتأثري املبارش أو غري‬
‫املبارش‪ .‬وإذا كان "السلفيون الجهاديون" الجدد الذين يعتربون رسية واحداً من بواكريهم‬
‫مييلون اىل نفي أو اىل التخفيف من أهمية عالقته األوىل بحزب التحرير بسبب الخصومة‬
‫الشديدة بينهم وبني هذه الجامعة "املرجئة"‪ ،‬فإن وقائع ومعلومات أخرى تؤكدها‪ ،‬منها‬
‫ما أعلنته األجهزة األمنية املرصية أثناء تقصيها شخصية الرجل يف أعقاب محاولته االنقالبية‬
‫يف ‪.1974‬‬
‫يف السنوات القليلة التي سبقت تشكيله جامعة "الفنية العسكرية"‪ ،‬من الواضح‬
‫ان رسية مل تكن تربطه عالقة بحزب التحرير‪ ،‬ال بل ان مثة مؤرشات اىل عالقته باإلخوان‬
‫املسلمني املرصيني ثم الحقاً بجامعات "الجهاد" األخرى‪ .‬لكن هذا ال ينفي عىل اإلطالق‬
‫صدور رسية من "تحريرية" بقيت مالزمة نشاطه وطبعت خطوته األخرية بطابعها‪ .‬فتقنية‬
‫اإلنقالب العسكري من خالل اإلمساك بالجيش هي واحدة من ركائز دعوات حزب التحرير‬
‫العمالنية يف "جهاد األنظمة"‪ .‬ثم ان حزب التحرير‪ ،‬الذي تأسس يف القدس بعد عامني فقط‬
‫من النكبة‪ ،‬مثّل التجليّ الفلسطيني األول لفكرة "الجهاد العاملي" بصفته بدي ًال للجهاد يف‬
‫سبيل األوطان‪ ،‬وهذه فكرة تحايك من دون شك أمزجة شيوخ "الجهاد" السلفيني‪ ،‬وان مل‬
‫تحاكهم أفكار أخرى حملها الحزب‪ .‬وأن يبقى من "تحريرية" رسية مزاج "الجهاد غري‬
‫الوطني" مستبعداً ما هو غري سلفي يف وعيه هذا‪ ،‬فإن األمر يبدو ممكناً ال بل مرجحاً‪.‬‬
‫رمبا مثل صالح رسية منوذجاً أوضح من غريه عىل اضطراب العالقة بني الناشطني‬
‫الفلسطينيني يف شتاتهم وبني املجتمعات واألنظمة التي حلوا فيها‪ .‬ففي العراق كان طالباً‬
‫متفوقاً منعته فلسطينيته من الدخول اىل الجامعة فلجأ اىل زعيم جامعة اإلخوان املسلمني‬
‫العراقيني محمد الصواف الذي كان يرأس "جمعية إنقاذ فلسطني" فأدخله األخري اىل كلية‬
‫الرشيعة يف بغداد‪ .‬ويبدو ان تلك الفرتة (أوائل خمسينات القرن الفائت) شهدت "تضييقاً"‬
‫عىل النشاط السيايس للفلسطينيني يف بغداد‪ ،‬ويبدو ان اإلخوان املسلمني العراقيني كانوا‬
‫وسيطاً يف العالقة بني الدولة والفلسطينيني‪ .‬ويؤكد رسية يف اعرتافاته لألمن املرصي انه انتمى‬
‫إىل جامعة اإلخوان يف العراق‪ ،‬ال بل أشار اىل انه صار عضواً يف هيئتها التنفيذية‪.‬‬
‫لكن سرية رسية اإلخوانية يف العراق شهدت تقلبات غري منسجمة مع ما تفرتضه‬
‫السرية الحزبية‪ ،‬فهو تجاوز اإلخوان وأسس جامعة فلسطينية أطلق عليها اسم "جبهة‬
‫التحرير الفلسطينية"‪ ،‬لكنه يف الوقت نفسه مل يرتك نشاطه اإلخواين‪ ،‬اذ أبقى عىل عالقة‬
‫أكيدة مع قيادتها‪ ،‬واختار من بني القيادات من ميتون بصالت ما اىل املؤسسة العسكرية‬

‫‪50‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫العراقية يف حينه‪ .‬ويف الوقت الذي تشري معلومات اىل عالقة ما مع عبد الكريم قاسم قبل‬
‫انقالب األخري عىل الحكم املليك يف ‪ ،1958‬ينفي هو هذه املعلومات‪ ،‬ويؤكد انه كان يسعى‬
‫يف حينه إىل انقالب عسكري تتوىل فيه جامعة اإلخوان قيادة البالد وليس قاسم‪.‬‬
‫من الواضح أن اإلخوان املسلمني كانوا قناة رئيسية الستيعاب الناشطني الفلسطينيني‬
‫يف املجتمعات التي استقبلتهم يف أعقاب النكبة‪.‬‬
‫لكن من الواضح أيضاً ان اإلخوان مل يلبوا ما تطلبه هؤالء من صدام مع األنظمة‪،‬‬
‫فراحوا يعملون عىل ضفاف التنظيم ويف هوامشه األمنية والدينية يف مشاريع تلتقي أحياناً‬
‫مع املزاج اإلخواين لكنها غري منسجمة مع ميول قيادة اإلخوان يف عالقتها الهادئة مع األنظمة‪.‬‬
‫فاإلخوان‪ ،‬سواء يف األردن أم مرص أم العراق‪ ،‬كانوا الحركة التي أتاحت لغري مواطني هذه‬
‫الدول االنخراط يف العمل السيايس والدعوي‪ ،‬بصفتهم جزءاً من "أمة املسلمني"‪ .‬ويف الوقت‬
‫نفسه تصدى اإلخوان ملوضوعات "وطنية" وصلت يف بعض األحيان اىل حدود االنقالبات‬
‫العسكرية‪ ،‬وهو أمر عرض هذه الدول لطموحات "غري وطنية" بفعل اشرتاك ناشطني من‬
‫غري مواطنيها يف هذه األنشطة‪ .‬ورسية‪ ،‬سواء يف نشاطه السيايس يف العراق أم يف مرص‪ ،‬مثّل‬
‫ذروة هذه العالقة‪ .‬فهو يف العراق تحالف مع أطراف يف مواجهة أطراف أخرى‪ ،‬وكانت لذلك‬
‫نتائج دموية‪ ،‬ويف مرص كانت عملية الفنية العسكرية باكورة النشاط املسلح للجامعات‬
‫اإلسالمية املرصية‪.‬‬
‫ربطت صالح رسية يف مرحلته العراقية عالقة بعبد السالم عارف قبل ان ينقلب األخري‬
‫عىل عبد الكريم قاسم ويصبح رئيساً للعراق يف ‪ .1963‬كان رسية قد تعرف اىل عارف يف‬
‫‪ 1956‬حني كان األخري مقرباً من جامعة اإلخوان املسلمني يف العراق‪.‬‬
‫ويف هذه املرحلة ظهر تأثري رسية الواضح يف جامعة اإلخوان عىل رغم صغر سنه‪.‬‬
‫فهو توىل االتصال مجدداً بعارف الذي كان ابتعد عن الجامعة‪ ،‬بعد ان شعرت األخرية‬
‫بالحاجة اليه يف سياق اشرتاكها مع قاسم يف عملية التحضري لالنقالب العسكري‪ .‬لكن رسية‬
‫عاد واختلف مع اإلخوان العتقاده بأن من املفرتض ان يتولوا وحدهم عملية االنقالب ال‬
‫ان يكونوا تحت قيادة "العلامين عبد الكريم قاسم"‪ .‬وبعد حصول االنقالب ونجاحه‪ ،‬وكان‬
‫ممثل اإلخوان يف "مجلس قيادة الثورة" الرائد محمد فرج‪ ،‬توجه رسية اىل وزارة الدفاع‬
‫وقابل فرج وأبلغه احتجاجه‪ ،‬فرد األخري بأن اإلخوان بصدد التحضري لالنقالب عىل قاسم‬
‫واستالم السلطة‪ .‬لكن يبدو أن الخرب وصل لقاسم الذي نظم حملة اعتقاالت واسعة لجامعة‬
‫اإلخوان نجا منها صالح رسية ألسباب غري معروفة‪ ،‬ثم ما لبث ان بارش يف تأسيس "جبهة‬
‫التحرير الفلسطينية"‪.‬‬
‫ً‬
‫"جبهة التحرير الفلسطينية" (وهي غري الجبهة التي ُعرفت الحقا بهذا االسم وترأسها‬
‫أبو العباس) كانت االختبار األول لرسية يف العمل املسلح‪ ،‬فقد بارش ناشطو هذه الجامعة‬
‫يف العراق استهداف اليهود العراقيني ومصالحهم يف بغداد‪ .‬ويقول رسية يف اعرتافاته لألمن‬
‫املرصي‪" :‬ارتأيت أنا ان نسطو عىل يهود العراق لالستيالء عىل أموالهم ونستعني بها يف‬

‫‪51‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫تنظيمنا‪ ،‬وكانت أخطر حادثة يف هذا الصدد‪ ،‬من بني ما قمنا به من عمليات سطو عديدة‬
‫عىل اليهود‪ ،‬حادثة السطو عىل رشكة يهودية يف حي البنوك يف بغداد جرى فيها إطالق‬
‫الرصاص بني رجالنا واليهود وقبض عىل شخص واحد من أفراد الجبهة‪ ...‬وهذه القضية‬
‫أعجبت مفتي فلسطني أمني الحسيني وهو قبل هذه الحادثة كان يرفض متويل الجبهة‬
‫وبعدها أبدى استعداده للتمويل"‪.‬‬
‫أعتقل رسية يف العراق يف ‪ 1963‬يف عهد صديقه السابق عبد السالم عارف وبقي أقل‬
‫من سنة يف السجن‪ .‬وبعد اإلفراج عنه التقى بيارس عرفات الذي جاء اىل بغداد عارضاً عليه‬
‫ضم جامعته اىل حركة فتح‪ .‬وقبل رسية العرض وصار عضواً يف املجلس الوطني الفلسطيني‪.‬‬
‫ويف هذا الوقت ورد اسمه يف التحقيق بإحدى املحاوالت االنقالبية يف األردن‪ .‬وبالتزامن مع‬
‫ذلك بات قلقاً عىل وضعه يف العراق بعد انقالب البعث يف ‪ ،1968‬اذ قام أحمد حسن البكر‬
‫يف حينه بإعدام عدد من ضباط اإلخوان املسلمني الذين مل ُيشارك قسم منهم يف االنقالب‪.‬‬
‫غادر رسية اىل سورية لحضور اجتامع املجلس الوطني الفلسطيني‪ ،‬ومنها اىل القاهرة‬
‫بهدف متابعة دراسته يف جامعة عني شمس‪ ،‬حيث ستبدأ مرحلته املرصية التي افتتحها‬
‫بزيارة زينب الغزايل‪ ،‬وهي من وجوه جامعة اإلخوان املسلمني املرصيني‪.‬‬
‫يف الحقبة العراقية غلب عىل نشاط رسية الدعوي واألمني البعد العميل منزوعاً منه‬
‫عمقه الديني‪ ،‬فإخوانية الرجل مل تحل دون تأسيسه حزباً "فلسطينياً" مستق ًال‪ ،‬كام مل تحل‬
‫دون قبوله عضوية املجلس الوطني الفلسطيني الذي مل يكن اإلخوان‪ ،‬حتى الفلسطينيون‬
‫منهم‪ ،‬ممثلني فيه‪ .‬ويف املقابل كان نشاطه العراقي املتصل بإخوانيته "العراقية" جزءاً من‬
‫سياق عراقي اذا صحت العبارة‪ .‬فهو سبق أن سعى لالنقالب عىل قاسم‪ ،‬والحقاً استهدف‬
‫يهود العراق لتمويل تنظيمه الذي ال يبدو انه كان بصدد التحضري لعمل يف فلسطني‪ ،‬بل يف‬
‫العراق‪ .‬وهو غادر بغداد اىل القاهرة يف سياق أزمة مع البعث‪ .‬وتتايل هذه الوقائع يف سرية‬
‫رسية العراقية ال يفيض جميعه اىل استنتاج حول مضمون فلسطينيته‪ ،‬بل دارت "حركيته"‬
‫عىل عناوين أخرى تبدو فلسطني أضعفها‪.‬‬
‫عىل أ ّية حال‪ ،‬ففي اللقاء الرسي يف القاهرة مع القيادية اإلخوانية زينب الغزايل‪ ،‬دار‬
‫الحديث بينهام حول خيبة أمل رسية من ميول اإلخوان الدعوية واستبعادهم "القوة" من‬
‫نشاطهم‪ .‬كان ذلك يف ‪ 1971‬أي يف أعقاب تويل الرئيس املرصي الراحل أنور السادات الحكم‬
‫وإفراجه عن القيادات اإلخوانية من سجون سلفه جامل عبد النارص‪.‬‬
‫يف ذلك العام مل تكن قد ظهرت أية انشقاقات "جهادية" عن جامعات اإلخوان‬
‫املرصيني‪ ،‬وبهذا املعنى مثّلت وجهة نظر رسية سبقاً عىل هذا الصعيد‪ .‬وكان واضحاً ان‬
‫لفلسطينية الرجل دوراً تغذيه ميول كانت بدأت تتبلور يف الهامش اإلخواين املرصي‪ .‬ويف‬
‫ذلك الوقت كان ملا أجابت به غزايل عىل تذمرات رسية داللة تُحدث فرزاً واضحاً بني‬
‫الخيارين‪ ،‬فقد قالت‪" :‬ما زلنا يف مرحلة الدعوة‪ ،‬والقيادة خارجة حديثاً من السجن وليست‬
‫لدينا القوة التي تطالبنا يف إظهارها"‪ .‬والحقاً تكرر النقاش نفسه بني رسية ومرشد اإلخوان‬

‫‪52‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫املرصيني يف حينه حسن الهضيبي‪.‬‬


‫والنقاش بني رسية وقيادة اإلخوان يف مرص يردنا من دون شك اىل نقاشات أعقبتها‬
‫بني الجامعات "الجهادية" وبني جامعة اإلخوان‪ ،‬مع فارق ان النقاشات يف املرحلة الالحقة‬
‫تطورت اىل مرحلة انعدام الود‪ ،‬ال بل التكفري يف الكثري من األحيان‪ ،‬يف حني تكمن أهمية‬
‫النقاشات األوىل بكونها قدمت للثانية‪ ،‬وكانت عينة عام ستؤول إليه العالقات بني "الجهاديني‬
‫الجدد" والتنظيم األم‪.‬‬
‫اذاً مل يؤ ِد الخالف بني رسية وجامعة اإلخوان يف مرص اىل انعدام الود بني طرفيه‪ ،‬وبقي‬
‫رسية يرتدد عىل منزل الغزايل يف الوقت الذي كان بارش فيه بناء تنظيمه الرسي‪ .‬وهذا األمر‬
‫دفع الكثري من الباحثني اىل ربط تنظيم الفنية العسكرية باإلخوان املرصيني الذين دفع رسية‬
‫برباءتهم أمام محكمة أمن الدولة أثناء محاكمته‪.‬‬
‫األرجح ان رسية كان الفلسطيني الوحيد يف التنظيم الرسي الذي بناه يف مرص‪ .‬ففي‬
‫محارض األمن املرصي ما يفيد بأن التنظيم تألف من نحو ‪ 92‬شخصاً معظمهم من طالب‬
‫الجامعات وترتاوح أعامرهم بني ‪ 19‬و‪ 37‬سنة‪ ،‬وان التنظيم تألف من مجموعات عنارصها‬
‫من مناطق مختلفة من مرص‪ .‬ويبدو ان فشلهم يف تنفيذ العملية مرده اىل وشاية متأخرة‬
‫أقدم عليها أحد زمالئهم يف التنظيم‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬أفىض تأخر الوشاية اىل مبارشتهم‬
‫العملية‪ ،‬ولكن تم القضاء عىل املحاولة يف مراحلها التنفيذية األوىل‪.‬‬
‫لكن ُشبهة اإلخوان املسلمني مل تفارق الباحثني يف أصل تنظيم الفنية العسكرية‪ ،‬فتويل‬
‫رسية أثناء محاكمته تربئ َة األخوان مل ُيزل الشكوك‪ ،‬فالبيئة التي عمل فيها الرجل والتي ج ّند‬
‫واستثمر فيها بيئة إخوانية مرصية‪ ،‬وأعقب العملية بسنوات ترسب معلومات عن ان قيادة‬
‫اإلخوان كانت عىل علم بنشوء تنظيم عسكري يف خارصتها‪ ،‬واملرشد حسن الهضيبي مل يكن‬
‫راضياً عن الفكرة لكنه مل يقاومها‪.‬‬
‫وتكمن أهمية مجموعة رسية يف السياق املرصي يف أنها كانت تجربة "الجهاد املسلح"‬
‫األوىل يف مرص‪ ،‬فام سبقها كان محض نيات أو محاوالت مل ُيتح للمخططني لها نقلها اىل‬
‫الصعيد العميل‪ .‬وتكشف النقاشات التي ترافقت مع تأسيس تنظيم الفنية العسكرية ان‬
‫ما كان يعوق انتقال "الجهاديني" يف هامش اإلخوان اىل املستوى العمالين يف تحركهم ضد‬
‫الدولة كان حسابات محلية متعلقة بالحرص عىل قيادة تنظيم اإلخوان أو شعورهم بقوة‬
‫السلطة وال جدوى "جهادها"‪ ،‬يف حني كان مجيء رسية من خارج هذه الحسابات عام ًال‬
‫مرسعاً وحاس ًام يف قرار "التنفيذ" الرسيع الذي اتخذه والذي تُجمع أدبيات زمالئه املرصيني‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يف املجموعات األخرى عىل انه كان قرارا مترسعا مل يتم اإلعداد له عىل نحو كاف مبا يضمن‬
‫له النجاح‪.‬‬
‫لكن هذا مل مينع باحثني من اإلشارة اىل تورط اإلخوان مع مجموعة الفنية العسكرية‪،‬‬
‫فيشري الباحث يف مركز األهرام للدراسات عزمي فهمي اىل شهادة القيادي يف تنظيم الفنية‬
‫العسكرية طالل األنصاري التي تتضمن معلومات حول معرفة زينب الغزايل بتفاصيل‬

‫‪53‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫تشكيل التنظيم‪ ،‬وان األنصاري كان قد سبق رسية اىل تشكيل نواته وانه سلمه قيادة‬
‫التنظيم يف منزل الغزايل عندما التقيا بوجودها‪ .‬لكن تبقى هذه الشهادة غري كافية يف ظل‬
‫عدم تحرك األمن املرصي عىل ضوئها‪.‬‬
‫وخالفاً لشخصيات "الجهاد العاملي" التي ظهرت بعده‪ ،‬تستبطن سرية صالح رسية‬
‫قدراً من التفاوت يف العالقة مع األنظمة السياسية والجامعات اإلسالمية والقومية التي‬
‫كانت تسود سبعينات القرن الفائت‪ ،‬وهو أمر ليس غريباً يف ظل عدم تبلور سلفية جهادية‬
‫واضحة الوجهة يف ذلك الحني‪ .‬فرسية فاوض عرفات عىل االندماج مع "فتح" يف العراق‪ ،‬وهذا‬
‫ليس دأب هذا النمط من الجامعات‪ ،‬وهو أصبح عضواً يف املجلس الوطني الفلسطيني‪،‬‬
‫وأيضاً يبدو ذلك خروجاً عن نسق العالقة بني السلفية الجهادية والهيئات املنبثقة من‬
‫"شبهة العمل الوطني"‪ .‬ثم ان رسية‪ ،‬وأثناء وجوده يف مرص‪ ،‬كان يعمل يف جامعة الدول‬
‫العربية‪ ،‬وهذا عنرص ثالث ال يشبه فيه شيوخ "الجهاد" الذين أعقبوه‪ .‬لكن يف مقابل ذلك‬
‫تبدو "رسالة اإلميان" التي كتبها حول األنظمة وكفرها ورضورة إطاحتها‪ ،‬سياقاً مختلفاً متاماً‬
‫عماّ تيش به تلك املؤرشات‪ .‬فـ"رسالة اإلميان" وثيقة "سلفية جهادية" ال تشوب صفتها هذه‬
‫شائبة‪ .‬ولعل االرتباك الناجم عن عدم انسجامها مع بعض محطات حياة رسية مرده اىل‬
‫"شطط البدايات"‪.‬‬
‫والسبق الذي أحرزه رسية عىل غريه من الناشطني املرصيني‪ ،‬عىل صعيد نقل "الدعوة"‬
‫اىل السياق العمالين‪ ،‬ميكن رده أوالً اىل صدور الرجل عن "إخوانية" ممزوجة بأصل تحريري‬
‫(نسبة اىل حزب التحرير الذي كان يأخذ عىل اإلخوان قعودهم عن الجهاد)‪ .‬لكن‪ ،‬وقبل‬
‫ذلك‪ ،‬ال بد من التوقف عند تشتت الرجل بني هويات أخضعها تن ّقله بني فلسطني والعراق‬
‫ومرص اىل اختبارات مل ترتسخ يف مزاج "وطني" واضح وكابح ألي شطط أو مغامرة‪.‬‬
‫ويبدو ان سبعينات القرن الفائت كانت مرحلة البدايات املرصية لـ"الجهاد"‪ .‬فهناك‬
‫شخصية فلسطينية ثانية برزت يف القاهرة يف أوساط مجموعات "الجهاد" التي كانت قد‬
‫بدأت تظهر آنذاك‪ ،‬وستكون لهذه الشخصية أهمية خاصة‪ ،‬اذ يعترب باحثون انها شكلت حلقة‬
‫الوصل األوىل بني "الجهاد املرصي" وبني باكورة العمل الفلسطيني يف األردن يف هذا امليدان‪.‬‬
‫انه الشيخ محمد سامل الرحال الذي كان انتقل من األردن اىل مرص يف أوائل السبعينات‬
‫للدراسة يف األزهر‪ ،‬وهناك يف القاهرة أنشأ مجموعته الخاصة التي بارشت التخطيط الغتيال‬
‫فكشفت واعتقل الرحال ثم أبعد اىل األردن‪.‬‬ ‫الرئيس املرصي أنور السادات‪ُ ،‬‬
‫والسبعينات تلك شهدت وصول الكثري من الطالب الفلسطينيني اىل القاهرة للدراسة‪،‬‬
‫فشكل قدومهم مخترباً حقيقياً الحتامالت "الجهاد" وفقاً ملصادر وفادتهم تلك‪ .‬فالتأثر‬
‫بجامعات "الجهاد" املرصي تم وفقاً ملعادلة الداخل والخارج‪ .‬فمن بني القادمني اىل القاهرة‬
‫من الضفة الغربية وغزة كان فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة‪ ،‬ومن بني فلسطينيي‬
‫الشتات كان صالح رسية ومحمد سامل الرحال‪ .‬وشهدت تلك الحقبة نقاشاً حول أولويات‬
‫"الجهاد"‪ :‬فبينام رأت جامعة الداخل (عودة – الشقاقي) أولو ّية التحرير املبارش‪ ،‬أو ما أطلق‬

‫‪54‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫عليه يف حينه "الجهاد الوطني" الذي أمىل عىل الرجلني العودة اىل الداخل وتأسيس "حركة‬
‫الجهاد اإلسالمي" الفلسطينية‪ ،‬وجد كل من رسية ورحال (الشتاتيني) يف "الجهاد العاملي"‬
‫واطاحة األنظمة ضالتهام‪ .‬وهنا يبدو الفرز بني الداخل والشتات منوذجياً يف الخلوص اىل‬
‫استنتاج شتاتية "القاعدة" عىل املستوى الفلسطيني‪ .‬لكن القطع‪ ،‬عىل رجحانه‪ ،‬بصحة هذه‬
‫املعادلة‪ ،‬يبقى نسبياً وال يخلو من تعميم‪ ،‬اذ ان العمق السلفي لجامعات "الجهاد" الوطني‬
‫لطاملا جعلها عرضة لشطط "الجهاد العاملي"‪.‬‬
‫ومن املمكن سحب هذه العالقة التامثلية والتنابذية بني الجهادين الوطني والعاملي‬
‫عىل بدايات نشوء حركة "حامس" وإن عىل نحو مختلف‪ .‬فقد شهدت الحركة‪ ،‬بحسب‬
‫مقربني منها‪ ،‬يف تلك الفرتة تجاذباً بني قيادات الخارج القادمة يف حينه من الكويت عقب‬
‫حرب الخليج الثانية (خالد مشعل ومحمد نزال وعامد العلمي وموىس ابو مرزوق) وقيادات‬
‫الداخل يف غزة (عبدالعزيز الرنتييس ومحمود الزهار واسامعيل ابو هنية)‪ .‬فقيادة الخارج‬
‫كانت تريد االنتقال من "املقاومة السلبية" عرب األطر الشعبية والتحركات االحتجاجية‪ ،‬اىل‬
‫"املقاومة اإليجابية" اي العمل العسكري املبارش‪ .‬اما قيادة الداخل فكانت تريد االستمهال‪.‬‬
‫فلطاملا كان الخارج والشتات اكرث راديكالية من الداخل‪ ،‬وهو أمر يفرس ايضاً‬
‫بعض أسباب تأخر "القاعدة" يف الوصول اىل الداخل الفلسطيني‪ ،‬هذا التأخر الذي‬
‫يقول بعض املرتددين عىل األوساط "القاعدية" انه يسبب الكثري من اإلرباك يف الوسط‬
‫"الجهادي السلفي" ويطرح شكوكاً واسئلة حول دور هذه الجامعات ووظيفتها‪.‬‬
‫وعىل نحو ما كانت "عاملية" دعوات عبد الله عزام "الجهادية" غري منفصلة عن معضلته‬
‫الفلسطينية‪ ،‬كذلك ال تخلو فلسطينية حركة "الجهاد اإلسالمي"‪ ،‬وحركة "حامس" (وان‬
‫بدرجة اقل)‪ ،‬من "عاملية"‪ ،‬لطاملا نقلت نزاعات يف مناطق بعيدة من العامل اىل قلب القضية‬
‫الفلسطينية‪ .‬ويف منطقة املراوحة هذه تجد "القاعدة" حظوظها يف القضية الفلسطينية‪ .‬انها‬
‫املنطقة التي تضيع فيها الحدود بني فلسطني كوطن وفلسطني كوديعة مقدسة‪ ،‬وهذه الثنائية‬
‫تكاد تكون ملمحاً ثابتاً يف الهوية الفلسطينية‪ ،‬ولكنه ملمح يع ّرضها لضياع األرض وبقاء الفكرة‪.‬‬
‫هذا االفرتاض يوازي متاماً الفارق بني "السلفية الوطنية" والسلفية الجهادية العاملية والتنقل‬
‫بينهام‪ ،‬فكيف سيكون الحال اذا مل يكن لألوىل أصل متني يف كتب السلف واجتهادات أتباعهم؟‬
‫ومحمد سامل الرحال من الجئي ‪ ،1948‬أي ان عائلته انتقلت اىل األردن يف ذلك التاريخ‪،‬‬
‫قادمة من قرية عرتوف غرب القدس بعد ان احتلها اإلرسائيليون‪ .‬واذا كان الرجل قد صدر‬
‫عن أرسة محافظة متدينة فيبدو ان قصة النزوح قد غذت هذا التدين بحكاية لطاملا أوردها‬
‫منارصو الرحال وأقاربه يف األردن‪ .‬وهم يوردونها بوصفها "رواية مؤسسة" عىل رغم ان‬
‫وقائعها جرت قبل والدة الرحال يف األردن يف ‪ .1955‬ففي أثناء الهجوم عىل القرية‪ ،‬الذي‬
‫قاده بحسب رواية سكانها رفائيل ايتان‪ ،‬مل يكن بحوزة السكان سوى أربع بنادق قدمية‬
‫حاولوا صد الهجوم بها‪ ،‬وعىل أثر ذلك أصيب أحدهم ويدعى احمد عبدالفتاح الرحال‪.‬‬
‫هذا الرجل‪ ،‬الذي سيصبح الحقاً أيقونة العائلة‪ ،‬نُقل مصاباً اىل القدس و ُكتبت له الحياة‬

‫‪55‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫وانخرط الحقاً يف "حزب التحرير اإلسالمي"‪ ،‬وبعد نكسة ‪ 1967‬نزح إىل األردن وأقام يف‬
‫مدينة الزرقاء‪.‬‬
‫هذه الحكاية التي قد ال يشعر املرء بأنها تستحق ان تكون رواية مؤسسة لوعي‬
‫جامعة أو مجموعة أو أفراد‪ ،‬هي من ذلك النوع الذي حمله الفلسطينيون معهم يف نزوحهم‪،‬‬
‫وجعلوها واحدة من قنوات عالقتهم مبأساتهم يف شتاتهم‪ .‬واذا ما أضيف اليها موقع القرابة‬
‫الدموية يف مجتمع ُيق ّدم هذه العالقة عىل غريها‪ ،‬أصبح مفهوماً مدى تغذيتها وعي الدائرة‬
‫القرابية املحيطة بها‪ .‬فباحثون فلسطينيون ُكرث أشاروا اىل عالقة محمد سامل الرحال بحزب‬
‫التحرير معتمدين عىل قرابته ألحمد عبد الفتاح‪ ،‬وهذا األمر وان كان غري ٍ‬
‫كاف لتأكيد‬
‫"تحريرية" األول فهو ليس خطأً باملطلق‪ .‬فالقرابة الدموية يف عرف الباحثني الفلسطينيني‪،‬‬
‫كام هي يف الواقع‪ ،‬تُرشح من يرتابطون بها اىل نوع من التأثري‪ ،‬خصوصاً اذا كانت معقودة‬
‫عىل "رواية مؤسسة" من ذلك النوع الذي حمله معهم آل الرحال من بلدتهم عرتوف‪.‬‬
‫وقد شهدت مرص يف فرتة وصول الرحال إليها والدة الكثري من املجموعات "الجهادية"‬
‫املتفاوتة األصول والرتاكيب‪ ،‬فناهز عددها عرش مجموعات ارتبط بعضها بعالقات متفاوتة‬
‫يف ما بينها‪ ،‬وبقيت أخرى مستقلة‪ .‬ويف هذه الحقبة برزت مجموعة أمين الظواهري‪ ،‬ويف‬
‫الفرتة نفسها ظهرت أيضاً مجموعة محمد سامل الرحال التي اتهمت باملشاركة يف التخطيط‬
‫لعملية اغتيال السادات واعتقل عىل أثرها الرحال‪ ،‬ثم أبعد الحقاً اىل األردن كام سلف‪.‬‬
‫ومرة أخرى علينا ان نُدقق يف جوهر ذلك الوعي الذي حمله معه محمد سامل الرحال‬
‫من األردن اىل مرص التي بارش فيها "جهاده"‪ .‬فمن البيئة التقليدية املتدينة‪ ،‬اىل الوعي‬
‫"التحريري" املبثوث يف وجدان العائلة جراء حكاية "بطلها"‪ ،‬وصوالً اىل اإلخوانية التي كانت‬
‫متفشية يف ذلك الوقت يف بيئة التد ّين الفلسطيني الشتاتية‪ ،‬وكل هذا مؤسس عىل غياب‬
‫بوصلة وطنية واضحة‪ ،‬رمبا مثلت منظمة التحرير الفلسطينية الحقاً تعويضاً عنها‪ ،‬جعل من‬
‫احتامالت الخروج اىل رحاب "الجهاد العاملي" أمراً ممكناً‪ .‬ففلسطني يف ذلك الوعي املشكل‬
‫من هذه العنارص مل تكن ضائقة وطنية‪ ،‬انها واحدة من ضائقات املسلمني الكثرية‪ ،‬ورمبا‬
‫تقدمت عليها يف األولويات مرص التي يشري صالح رسية اىل أنها الوجهة األهم لكونها أكرب‬
‫دولة إسالمية‪.‬‬
‫واذا كانت األصول "التحريرية" قد جمعت بني رسية والرحال‪ ،‬فال يبدو ان مثة لقاء‬
‫ضمهام يف القاهرة عىل رغم إشارة بعض املصادر املرصية اىل ذلك‪ .‬وال يبدو أيضاً ان الرحال‬
‫انضم اىل "مجتمع اإلخوان املسلمني املرصيني"‪ ،‬فهو اختار الهامش "الجهادي" يف البيئة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وكان هذا الهامش قد بارش ابتعاده عن تنظيم اإلخوان بصفته تنظي ًام "مهادناً"‬
‫وال برنامج "جهادياً" لديه‪.‬‬
‫أما يف األردن‪ ،‬وفور عودته‪ ،‬فبارش الرحال استئناف محاوالته التي كان قد بدأها‬
‫يف القاهرة‪ ،‬فأسس تنظي ًام أطلق عليه اسم تنظيمه نفسه يف القاهرة أي "تنظيم الجهاد‬
‫وتم اعتقال الرحال الذي أفرج عنه الحقاً‬‫اإلسالمي"‪ .‬ومل يلبث ان ُف ّكك هذا التنظيم يف ‪ّ 1984‬‬

‫‪56‬‬
‫مألا مزاح‬ ‫يملاعلا داهجلا" ةروكاب‬

‫لينهي حياته "الجهادية" عىل نحو مأسوي‪ :‬فهو خرج من السجن مصاباً بالشيزوفرينيا‪ .‬ويف‬
‫لحظة صدام مع والده أقدم عىل طعنه بسكني حتى املوت‪ ،‬وهو اليوم يف السجن "تفادياً"‬
‫إلقدامه عىل فعلة مشابهة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أصول ّيات‬

‫النقاب‬
‫دالل البزري‬

‫النقاب ينترش يف القاهرة بأرسع مام انترش الحجاب‪ .‬األخري احتاج اىل عقدين وبضع سنوات‬
‫يعم اآلن‪ ،‬وبوترية متسارعة‪ .‬كل يوم‬
‫ليأخذ طريقه اىل الغالبية العظمى من املرصيات‪ .‬النقاب ّ‬
‫تخرج اىل الشارع‪ ،‬أو اىل أي من هذه األمكنة التي يلتقي بها الناس‪ ،‬تجد من ّقبة اضافية‪ ،‬ربة‬
‫عائلة‪ ،‬أو مبفردها‪ ،‬أو مجموعة منقبات يف املرتو أو السينام أو الفندق أواملطار أو الجامعة‬
‫أو "املوالت"‪ ،‬أواملنتجعات السياحية عىل الشواطىء‪ ،‬حيث يسبحن بكامل النقاب يف البحر‪،‬‬
‫ويخرجن اىل شواطئه مح ّمالت بأثقال نقابهن املب ّلل مبياهه‪ ...‬أو فوق دراجة نارية خلف‬
‫الزوج‪ ،‬تتش ّبنث بطفل او اثنني‪ .‬أيضاً يف األحياء الفقرية والراقية‪ ،‬بالخط البياين نفسه الذي‬
‫سلكه الحجاب‪ :‬من األفقر اىل األغنى من بني الطبقات‪ .‬وتجد هذا الخيط مجازاً يف بعض‬
‫األمهات املن ّقبات بصحبة بناتهن اللوايت مل يبلغن بعد السن "الرشعي" الرتداء الحجاب‪ .‬بنات‬
‫دون السادسة‪ ،‬وأحيانا بنات رضيعات‪ ،‬يرتدين الحجاب برفقة امهاتهن املنقبات؛ للقول رمبا‬
‫بأن هذا الحجاب هو إعداد للنقاب‪ ،‬خطوة نحوه‪ ،‬فور بلوغ السن "الرشعي"‪.‬‬
‫دخلت من ّقبة مل يسألها البواب عن‬
‫ْ‬ ‫يف العامرة التي سكنت فيها يف املعادي القدمية‪،‬‬
‫مقصدها‪ ،‬كأنه يعرفها‪ .‬سألته عنها‪ ،‬فقال انها استاذة الدين لزوجات أصحاب العامرة‪ .‬وهن‬
‫ثالثة ربات بيوت شابات يرتدين الحجاب "السبور" واألنيق‪ ،‬ولكن "املث ّبت" جيدا‪ .‬يف يوم‬
‫زرت "مقهى حنان الرتك" يف مرص القدمية مع رفيقتي سلوى‪ ،‬نستطلع معا هذا املكان‬ ‫آخر ُ‬
‫املحجبات واملن ّقبات‪ .‬املكان مغْلق‪ ،‬ويجب‬
‫خصصته هذه النجمة "التائبة" للمسلامت ّ‬ ‫الذي ّ‬
‫رنّ الجرس ليك ُيفتح بابه عىل من يرتدنه‪ .‬السيدة الجالسة خلف مكتب يف مدخله‪ ،‬مثل‬
‫حارسة معبده‪ ،‬تد ّقق بطبيعة الحجاب الذي عىل رؤوسنا إيذانا بالدخول‪ ،‬بعد ان تسجل‬
‫اسمينا وعنوايننا‪ .‬ال تبدو سعيدة بنا؛ فاألرجح انها تأكدت مام أبلغته عنا املوظفة الواقفة‬
‫يرق لها حجابنا‪ :‬سلوى وضعت‬ ‫خلف العني الرسية‪ ،‬من اننا لسنا محجبات "جديات"‪ .‬مل ْ‬
‫شاال عىل رأسها وربطته مثلام ُيربط الحنك بعد خلع سن من االسنان‪ .‬اما أنا‪ ،‬فكان حجايب‬
‫مبحجبة‪ .‬املهم اننا وجدنا مقهى وصالون تجميل وبوتيك‬ ‫واضحاً‪ ،‬يريد ان يقول اين لست ّ‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫لألناقة املرتفعة األسعار‪ ،‬يفوق قدرات امرأة من الطبقة املتوسطة العالية‪ .‬بعض اللوايت‬
‫انضممن اىل هذا املقهى املغلق من املن ّقبات اللوايت‪ ،‬ما أن اسفرن عن وجوهها حتى بانت‬
‫البحبوحة‪ ،‬يتجولن يف زوايا املقهى الفسيح‪ ،‬يشرتين الجالليب الفاخرة الالمعة‬ ‫عليها نعم ْ‬
‫بأناقة ويرس‪ ،‬من غري التدقيق بأسعارها املرتفعة جداً‪.‬‬
‫هذا للقول بأن النقاب عبرَ َ الطبقات االجتامعية كلها‪ .‬واذا مل يكن قد شمل حتى اآلن‬
‫املرجح انه س َل َك طريقه نحو األقل نجومية من بني‬ ‫نجامت بعينهن اكتفني بالحجاب‪ ،‬فمن ّ‬
‫نساء الفئات األكرث مت َكناً‪ .‬وهي فئة يصعب التع ّرف عىل دواخلها‪ ،‬سيام وانها نادرا ما ترت ّدد‬
‫اىل الشارع‪ ،‬أو اىل أي من االمكنة التي يلتقي فيها املواطنون العاديون من الطبقات األدىن‪:‬‬
‫مرتو أوتوبيس‪ ،‬ميني باص‪ ،‬تاكيس‪ ...‬فاألغنياء األغنياء‪ ،‬وج ّلهم أغنياء ُجدُ د تقريبا‪ ،‬باتوا‬
‫يعيشون يف "مدن" مقفلة‪" ،‬مدن" صحراوية لها كل مستلزمات املجمعات الفاخرة‪ :‬من‬
‫الرتفيه اىل املساحات الخرضاء واملقاهي واملوالت التجارية واملدارس والعيادات الخاصة‪...‬‬
‫هاجرين ضفاف النيل وتاركني مشكالتها املستعصية ملن خانتهن جيوبهم أو ظروفهم‪.‬‬
‫واملنقبات لسن طبقات فقط‪ .‬بل أذواق وطبائع وجنسيات‪.‬‬
‫الرث بالقامش الصناعي الخانق واأللوان الفاقعة الباهتة؛ أمهات‬ ‫بينهن ذات النقاب ّ‬
‫بالشبشب‪ ،‬مح ّمالت بالرضع‪ ،‬يج ْرجرن أطفالهن األكرب سناً‪ .‬بينهن أيضا امهات "عرصيات"؛‬‫ْ‬
‫ولد واحد تحمله أمه بنقاب مرتّب أنيق‪ ،‬ال ذيل له يلملم غبار الطريق‪ .‬رشيقات رياضيات‬
‫يلبسن الـ"تنيس شوز" ويحملن شنطة خلف الظهر والرضيع عىل الصدر‪ ،‬مثل االمهات‬
‫األوروبيات املتنقالت يف املدن املزدحمة‪ ،‬أو اللوايت نتخيلهن هكذا‪ .‬ومنهن من ال ّ‬
‫تقل‬
‫أناقة عن املتربجات‪" :‬جلباب" عىل املقاس‪ ،‬مع د ْرزة فوق الخرص وتحت الصدر‪ ،‬د ْرزة‬
‫تض ّيقهام‪ ،‬فتعطي للجسم شكله االنثوي ا ُمل ْريض؛ وعىل الرأس نقاب فاتن‪ ،‬عيون ّ‬
‫مكحلة‬
‫بالسواد‪ ،‬قفازات من الحرير األسود تغطي الخواتم واألساور‪ ،‬وعطور تعبق يف املكان‪...‬‬
‫التقيت باثنتني من هذا الصنف من املن ّقبات يف رحلة بالقطار من القاهرة اىل االسكندرية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كن جالسات يف املقعد أمامي‪ .‬رائحتهن تسبقهن وفرحتهن تعلو‪ ،‬ثم ضحكتهن‪ ،‬مع االبتعاد‬
‫عن محطة القاهرة‪ .‬واألسباب الظاهرة لهذه الفرحة انهن خلعن النقاب والقفازات‪ ،‬فبدت‬
‫التقيت عىل مدخل‬ ‫ُ‬ ‫وجوههن املتربجة‪ ،‬وخوامتهن ال َرباقة ظهرت أخريا للعيان! مرة أخرى‬
‫بني اللون‪ ،‬ض ّيق وطويل حتى القدمني‪ ،‬وعىل‬ ‫أحد املستشفيات بامرأة ترتدي تايور كالسييك‪ّ ،‬‬
‫وجهها نقاب أسود مط ّرز ومربوط عىل رأسها عىل الطريقة امللكية الفرعونية‪ ،‬مرفوع عىل‬
‫يشء صلب‪ ،‬كارتون رمبا؛ ترى جزءا من جبينها وفسحة فوق حاجبيها‪ ،‬املكشوفني بدورهام‪.‬‬
‫وهذه من ّقبة من الصنف "املتحرر"‪ .‬الفرق بينها وبني املن ّقبة "املتشددة" انها أعطت فكرة‬
‫عن ق ّدها وعن عيونها؛ فضال عن انها مل تلبس القفازات السوداء‪ ،‬وصوتها يسمعه الجميع‪.‬‬
‫لكن اللوايت تتفوق أناقتهن عىل جميع املنقبات هن املنقبات الخليجيات‪ ،‬وقد ازداد‬
‫ايضا عددهن يف الفنادق واملج ّمعات التجارية والسياحية‪ .‬املنقبة الخليجية تستطيع ان‬
‫تعرفها عن ُبعد‪ .‬نوع القامش والتطريز الثمني‪ ،‬واأللوان الغامقة املزركشة والعطر والحذاء‬

‫‪59‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫ذو الكعب العايل؛ ناهيك عن لفة الرأس املتميزة‪ ،‬التي تعلوها كتلة‪ ،‬تبدو كأنها تتمة لتاج‪.‬‬
‫اما اليمنيات‪ ،‬فتصادفهن يف شوارع وسط البلد‪ ،‬بني محالته التجارية؛ يتجولن بأعداد كبرية‬
‫ومعهن رجل أو رجالن‪ .‬نقابهن أكرث تواضعا‪ ،‬أقل كلفة‪ .‬لكن بعضهن يلبسنه كام لو كان‬
‫قبعة جامدة ي ْكسوها سواد‪ .‬رمبا أيضاً بوحي من التاج الذي كانت امللكة بلقيس تضعه‬
‫فوق رأسها‪.‬‬
‫ال تستطيع طبعا أن تد َقق بأعامر أولئك املنقبات؛ لكن بوسعك التقدير بأن الغالب‬
‫بينهن هن الشابات‪ .‬هذا ما تستنتجه من املفاصل العامة للجسم‪ ،‬من الحيوية التي تنضح‬
‫والعصبية‪ .‬والنادرات من العجائز اللوايت يرتدينه ال تخطئهن العني‬ ‫َ‬ ‫من حركته‪ ،‬الرشيقة‬
‫ورث‪ .‬وقد تكون هذه الفئة من املنقبات يف اسفل السلم‬ ‫املجردة‪ :‬هندامهن كله مهلهل ّ‬
‫االجتامعي القاهري من بني من ّقبات العاصمة‪.‬‬
‫نقاب فقري أو ثري‪ ،‬ورع او مغناج‪ ، ،‬ممشوق أو مرهق‪ ،‬مرصي أو خليجي‪ ،‬متحرر أو‬
‫متش ّدد‪ ...‬النقاب بأوجهه املختلفة‪ ،‬والذي يتجاوز بتنوعه وابتكاراته مج ّرد االلتزام الديني‪،‬‬
‫هذا النقاب أقرب اىل املوضة الناشئة والواعدة‪ .‬موضة جديدة عىل مشهد الهندام النسايئ‪.‬‬
‫يختلف عن املوضة التي ألفنا‪ .‬مثل املوضة مييل اىل التنميط‪ ،‬اىل التشابه‪ .‬لكن مصدرها هذه‬
‫املرة ليس الغرب‪ ،‬بل مام ُيتص َّور عىل انه اإلسالم أو البيئة االسالمية الرشقية املاضية‪ .‬وان‬
‫كانت بعض تفاصيل هذا النقاب ما زالت "تستورد" من الغرب ابتكاراته الفرعية االخرى؛‬
‫مثل الحذاء بالكعب العايل او املتوسط او "التنيس شوز" (االمرييك)‪ ،‬والحقيبة ذات األشكال‬
‫القصات الخاصة والث ْنيات عىل القامش‪ ،‬أو املساحيق‬ ‫الغربية املختلفة‪ ،‬ايضا‪ ،‬ناهيك عن ّ‬
‫التي تضعها بعضهن عىل عيونهن والعطور الباريسية‪ .‬انها املوضة األنتي موضة‪ .‬موضة‬
‫معادية للمصدر التقليدي الغريب للموضة‪ .‬هي مثل االستئناف ملا سبقها‪ ،‬أي الحجاب‪ .‬وهي‬
‫إنقالب عىل ما سبق الحجاب‪.‬‬
‫لكن النقاب هذا‪ ،‬نقاب األلفية الثالثة‪ ،‬ال يشبه النقاب التقليدي الذي كانت ترتديه‬
‫النساء القليالت الخارجات من بيوتهن يف مطلع القرن املايض‪ .‬يتصور هذا االنقالب الجديد‬
‫انه عائد اىل زمن أسبق‪ .‬لكنه يف الواقع يرتجم روح هذا العرص‪ ،‬الذي يهيمن عليه دين‬
‫طقويس عِبادي‪ ،‬مل تعهده العصور االسالمية السالفة؛ دين محوره الطقوس والعبادات‪ ،‬ال‬
‫االخالق واملعامالت‪ .‬فمثل الحجاب‪ ،‬يعترب أهل النقاب ان ارتداءه "عبادة" غايتها "درء‬
‫املزيد من الفتنة"‪ ..‬لكن الغواية االثنوية ماهرة يف مدارة "العبادة" و"الفتنة" يف آن‪ .‬ال‬
‫تستطيع غري ذلك‪ ،‬خاصة اذا كانت األنثى ما زالت شابة‪ ،‬ومهام اختلفت الطبائع والسِ يرَ ‪.‬‬
‫واالبتكارات والتفاصيل الصغرية التي متنح كل منقبة فرديتها االنثوية هي خري شاهد عىل‬
‫كيفية ادارة هذا الثنايئ الجه ّنمي‪" :‬الفتنة" و"العبادة"‪.‬‬
‫الرجال املرافقون ألولئك املن ّقبات قليال ما تجدهم يلبسون ما ي ّتسق مع املناخ‬
‫املاضوي أو الرتايث الذي يحاكيه النقاب‪ ،‬أي الهندام السلفي‪ :‬بالجلباب القصري واللحية‬
‫املنفلتة‪ ،‬وأحيانا القبعة األشبه باألفغانية؛ فاألرجح ان أصحاب هذا الهندام ال يسمحون‬

‫‪60‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫لنسائهم بالخروج إال عند الرضورة القصوى‪ .‬فالرجل املرافق للمن ّقبة يرتدي عادة بنطلون‪،‬‬
‫"جينز" أمرييك غالبا‪ ،‬وقميص وسرتة جاكيت قصرية‪ .‬وأحيانا "يت شريت" قصري أو ضيق أو من‬
‫دون أكامم‪ .‬وحذاؤه ايضا "تنس شوز" أمرييك أو مجرد حذاء أورويب التصميم‪ .‬وشعره ذو‬
‫القصة الدارجة‪" ،‬سباييك" أو "مارينز" أو مجرد "جل" يل ّمعه‪ .‬كأن املوضة املنقلبة عىل الغرب‬
‫ليست سوى قضية نسائية‪ .‬تخص النساء دون الرجال‪.‬‬
‫اذا أردت تقدير حجم هذا االنقالب‪ ،‬تص ّور نفسك بعد ‪ 50‬عاما تتص ّفح كتابا عن‬
‫االزياء عرب العهود‪ .‬ماذا عن الفرتة املمتدة بني القرن املايض الذي انقىض‪ ،‬وحتى اآلن‪ ،‬العام‬
‫‪2010‬؟ النساء كن من ّقبات يف أوائل القرن املايض‪ ،‬ثم خلعن النقاب يف ثالثينياته وأربعينياته‪،‬‬
‫ثم خلعن الحجاب يف خمسينياته وستينياته‪ .‬وبعد ذلك مضني يف السفور والبنطلون والتنورة‬
‫الخ‪ .‬ثم عدن ثانية اىل الحجاب من السبعينات وحتى اآلن‪ ،‬وقد بدأ ينافسه النقاب‪ .‬نقاب‬
‫وحجاب جديدان‪ ،‬ال يشبهان نقاب وحجاب اوائل القرن املايض أو ثالثينياته‪.‬‬
‫كيف نتصور اكتامل الحلقة؟ أن يسود النقاب عىل الحجاب بعد حني؟ ثم ماذا بعد‬
‫ذلك؟ املحللون متفقون عىل انه طاملا استمرت املواجهة بيننا وبني الغرب‪ ،‬فسوف يبقى‬
‫النقاب منترشا‪ ،‬تزيد نسبته كلام اشتدت هذه املواجهة‪ .‬أنظر‪ ،‬يتابعون‪ ،‬متى بدأ انتشار‬
‫النقاب يف مرص؟ بعد ‪ 11‬سبتمرب‪ ،‬ثم بعد االجتياح االمرييك للعراق الذي شهدت شوارع‬
‫القاهرة عىل اثره انتشار التشادور‪ ،‬الشبيه بااليراين‪ ،‬ولكن مع ربطة اضافية حول العنق‪...‬‬
‫حت كتابا عن االزياء عرب العهود‪ ،‬ويف ما يخص منطقتنا وزمننا‪ ،‬فمن‬ ‫اذن‪ ،‬لو تص ّف َ‬
‫هندام النساء سوف تخلص اىل فهم طبيعة العالقة مع الغرب‪ ،‬متاهياً مع ثقافته أو لفظاً‬
‫لها‪ .‬ولو قارنت بني هندام النساء وهندام الرجال فسوف تالحظ ان الرجال اكتفوا بخلع‬
‫الطربوش االحمر‪ ،‬وبقوا عىل ما كانوا عليه من موضة‪ ،‬أي مع اضافات هامشية مل تنقلب‬
‫رأسا عىل عقب كام يف حال النساء‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬عىل أجساد النساء ترتسم معامل الحرب‬
‫والسلم والنرص والهزمية واسرتاتيجيات املواجهة وهوية املتواجهني‪ .‬أتساءل أحياناً‪ :‬كيف‬
‫يكون املشهد لو كانت نساء الغرب منقبات بحكم دين أو دين أو عقيدة؟ كيف سترتجم‬
‫العالقة مع الغرب عرب لباس النساء؟ أو‪ ،‬أيضا‪ :‬ماذا لو مل تحصل هزمية ‪ 1967‬ومل يسقط‬
‫معه الخط "التقدمي" الذي نزع النقاب ثم الحجاب‪ ،‬وال حصل ذاك االنقالب الديني؟ كيف‬
‫يكون هندام النساء ساعتئذ؟‬
‫أقول هذا لنفيس‪ ،‬أرشد‪ ،‬وأتابع النقاش الدائر بني املرصيني‪ :‬من يكون رئيس مرص‬
‫بعد الرئيس حسني مبارك؟ جامل ابنه؟ أم "االخوان املسلمون"؟ ما الذي سوف يتغري يف‬
‫العهد الجديد بالنسبة للسافرات من أمثايل؟ ان جاء "االخوان" فسوف يفرضون الحجاب‬
‫بالقانون‪ ،‬كام يف ايران واململكة العربية السعودية‪ .‬فهذا مكتوب يف برنامجهم‪ .‬اما اذا أىت‬
‫جامل مبارك‪ ،‬فاألرجح انه سوف يفرض الحجاب بالقانون عمال بحكمة "الرئيس املؤمن"‬
‫االول‪ ،‬أنور السادات‪ ،‬الذي ع ّدل الدستور عام ‪ ،1980‬فجعل من املادة الثانية للدستور هي‬
‫"املصدر الرئيس للترشيع"‪ ...‬فيزايد مثل سلف أبيه ويكون حجاب النساء بالقانون تلبية‬

‫‪61‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫ملشهد شعبي ونخبوي عارم من املحجبات‪ .‬ذلك ان الرشعية سوف تنقصه اكرث من السادات‬
‫نفسه‪ ،‬الذي عينه عبد النارص نائبا له‪ ،‬والذي مل يكن ال وريثا وال مدنيا‪.‬‬
‫أتساءل ماذا أفعل يف حال ُفرض الحجاب بالقانون‪ .‬واجابتي العفوية هي انني ساعتئذ‬
‫سوف ارتدي النقاب‪ .‬ملاذا النقاب؟ ال الحجاب مثال؟ ال اعرف الجواب متاما‪ ،‬لكنني احدس‬
‫امرا يف مسألة النقاب هذه‪ ،‬يدفعني اىل التعرف شخصيا اىل منقبات‪ .‬ملياء ومنى وسمر‪ .‬ثالث‬
‫التقيت بهن عىل باب املرتو بواسطة احدى املعارف‪ .‬ادعوهن ملنزيل‪ ،‬القريب من‬ ‫ُ‬ ‫منقبات‬
‫محطة املرتو‪ ،‬ملياء ومنى معا‪ ،‬وسمر مبفردها‪ .‬وجه ملياء الثالثيني منرشح وممتىلء‪ ،‬وشعرها‬
‫أسود طويل’ تشبه الفنانة شادية بانوثتها العذبة‪ .‬ال متانع يف احتساء البرية‪ .‬شديدة الحامسة‬
‫ملا تصفه بـ"تحررها"‪ .‬وهو "تحرر" تقارنه بـ"تش ّدد" قريباتها وجاراتها من املنقبات اللوايت‬
‫ال يسمح لهن أزواجهن بالخروج من البيت مبفردهن‪ .‬ملاذا تتنقب ملياء؟ ال لسبب محدد‪،‬‬
‫غري الجريان واالقارب‪" .‬ترتاح" به ألنها معه ال تشعر بأنها خرجت من "الح ّتة"‪ .‬أحالمها‬
‫كلها "ف ْرفشة" و"دماغها" ال يطيق النكد‪ .‬لذلك تنقبت‪ .‬منى أكرث شباباً من ملياء‪ ،‬أواسط‬
‫العرشينات عىل األرجح‪ .‬ولكنها شاحبة وعاقدة الحاجبني‪ .‬من دون غضب وال توتر‪ ،‬هكذا‬
‫هو وجهها‪ .‬مطبوع عليه أ َث ُر مشاجرة عنيفة مع أخيها الذي حاول استغالل صالون حالقة‬
‫ّأسسته مع جارتها‪ .‬الحق مبرشوعها االذى والرضر‪ .‬فاضطرت لالختفاء خلف النقاب لتعيد‬
‫بناء مرشوعها بعيدا عن عيون اخيها‪.‬‬
‫اما سمر فمختلفة نوعا‪ .‬شابة ايضا‪ ،‬جذابة وخجولة‪ ،‬مطلقة وأم لثالثة أطفال‪ .‬تعيش‬
‫عند أهلها وتعمل يف صالة عرض مفروشات‪ .‬محجبة منذ أن أفاقت عىل الدنيا‪ ،‬وهي اآلن‬
‫من ّقبة‪ .‬ملاذا النقاب؟ ترت ّدد سمر يف االجابة‪ ،‬ثم تجيب بعد حني‪ :‬منذ أشهر‪ ،‬اشتدت ع ّ‬
‫يل‬
‫األعباء املادية؛ وعندما طالبت صاحب العمل بزيادة راتبي قليال‪ ،‬أجابني‪ ،‬وبايحاءت مفهومة‪،‬‬
‫"إريض الزبائن أوال!"‪ .‬فهمت قصده ولكنني بدل ان أريض زبائن الصالة‪ ،‬ابتعدت عن ح ّينا‬
‫ورحت أبحث عن زبائن يف االحياء البعيدة‪ .‬ولبس النقاب حامية يل من قلق الناس‪."...‬‬ ‫ُ‬
‫طبعا ال متثل هذه العينة الضيئلة اال نفسها‪.‬‬
‫ولكن متابعة ظاهرتني أخريني تدفع بتساؤاليت اىل األمام‪ :‬الظاهرة االوىل هي معارك‬
‫قضائية‪ ،‬بالنيابة أو باالصالة‪ ،‬من أجل احتفاظ املنقبات بنقابهن‪ :‬يف املستشفيات واملدارس‬
‫حيث يتزايد عددهن‪ ،‬ويتس ّبنب بسجال عنيف بني وزير الصحة الرافض له‪ ،‬ونقيب األطباء‬
‫املرحب به‪ .‬يف الجامعة االمريكية يف القاهرة حيث يكسنب قانونيا الحق بالدخول اىل حرمها‪.‬‬
‫ويف جامعة القاهرة الرسمية حيث ما زلن يرفضن خلع النقاب يف قاعات املحارضات‬
‫واالمتحانات‪ ...‬كام أوىص غري مسؤول رسمي‪ ،‬من االزهر اىل الحكومة‪ .‬يؤازرهن يف ذلك‬
‫تنظيم "االخوان املسلمني" و"مجمع بحوث االزهر"‪ ،‬املتطرف دينياً واملناهض لسياسة شيخ‬
‫االزهر الرسمية‪ ،‬فضال عن قضاة بارزين وجمعيات حقوق اإلنسان التي ترفض الهجمة‬
‫"الحكومية عىل املنقبات"‪ ،‬وتدافع عن نقابهن بإسم "الحرية الشخصية"‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫الظاهرة الثانية هي إرتداء مشبوهني من الرجال النقاب تغطية عىل جنحة أو جرمية‪.‬‬
‫ُ‬
‫تابعت يف الصحافة‬ ‫مثل العالقات الغرامية غري املرشوعة‪ ،‬أو السطو أو الغش الخ‪ .‬وأطرف ما‬
‫قصة تلك املنقبة التي كانت تزور صديقتها املتزوجة يوميا يف الصباح الباكر‪ .‬يفتح لها زوج‬
‫صديقتها الباب‪ ،‬وال تتف ّوہ بكلمة‪ ،‬ألنها‪ ،‬كام ترشح له زوجته‪ ،‬من املن ّقبات املتش ّددات‬
‫اللوايت يعتربن صوت املرأة "عورة"‪ ...‬تدخل املنقبة املنزل اذن‪ ،‬ويذهب الزوج اىل عمله‬
‫مطمئنا اىل صحبة زوجته‪ .‬لسبب من االسباب‪ ،‬يعود الزوج يوما اىل منزله باكراً‪ ،‬وفور دخوله‪،‬‬
‫يجد ثوب النقاب مرمياً عىل االرض‪ ،‬فيرسع اىل حجرة النوم ليجد صديقة زوجته "املنقبة"‬
‫وقد تحولت اىل رجل يف رسيره معها‪...‬‬
‫منظمة ومؤثرة‬ ‫الظاهرة االوىل تدل عىل السند القوي الذي تالقيه املنقبة من قطاعات ّ‬
‫يف املجتمع‪ ،‬والثانية تشري اىل غرق النقاب يف الفوىض االخالقية العاتية‪ ،‬وطبعا اىل الحامية‬
‫التي مينحها النقاب للتف ّلت من رقابة القانون او املجتمع‪.‬‬
‫لست هنا بصدد التشكيك بالحافز الديني لدى غالبية املنقبات‪ ،‬بنفس القدر‬ ‫طبعا ُ‬
‫تلح عيل ليست‬ ‫الذي ال أناقش فيه أيضا كون هذا النقاب "من االسالم أم ال"‪ .‬التساؤالت التي ّ‬
‫من باب الدين أو الصدقية‪ .‬فليس من املمكن خلف النقاب اإلحاطة مبا يقف خلفه وخلف‬
‫صاحبته‪ ،‬اال عرب دراسة وبحث مضن َيني‪ ،‬ال أملك إمكانا لهام اآلن‪ .‬تساؤاليت ح ْدسية‪ ،‬تختلط‬
‫فيها املعرفة‪ ،‬القارصة بالرضورة‪ ،‬ثم املخيلة‪ ،‬غري املوضوعية بالرضورة‪ ،‬ومبحاولة االحساس‪،‬‬
‫يل‪ :‬فهل ما‬‫أو الفهم‪ ،‬عرب التامهي؛ أي عرب وضع نفيس مكان هذه املرأة املنقبة الغريبة ع ّ‬
‫أتت به املوجة الدينية العارمة هو لباس تتعامل معه النساء كل بحسب ظروفها وطبائعها‬ ‫ْ‬
‫وقصتها الخاصة؟ وهل تكون حجة "درء الفتنة" التي متيل عليهن‪ ،‬أو هكذا يعتقدن‪ ،‬االختفاء‬
‫وراء هذا السواد العارم هي آخر الدوافع؟ عىل ماذا ينطوي النقاب؟ ضعف أم قوة؟‬
‫أهجس بالتساؤالت‪ ،‬وما من يشء يهدئها أكرث من خوض التجربة‪ ،‬شخصيا‪ .‬رشيكتي‬
‫هذه املرة هي ثريا‪ .‬أسالها عن املتجر الذي اشرتي منه كل لباس النقاب‪ .‬تنصحني بنقاب‬
‫"شعبي"‪ ،‬يك ال أبدو "خليجية" كام تقول‪ ،‬فينفر مني املارة‪ .‬وأفضل املتاجر لهذه الدرجة‬
‫االجتامعية من النقاب هي محالت "التوحيد والنور"؛ وصاحبها سيد رجب السويريك‪ ،‬امللقب‬
‫بـ"شهريار" مرص‪ ،‬والذي يقيض حكام بالسجن ملدة سبع سنوات بتهمة تزوير مستندات‬
‫واقرتانه بخمس زوجات يف وقت واحد‪ ،‬بدل أربع كام يسمح الرشع‪" .‬التوحيد والنور" يف‬
‫حي املنيل هو االقرب‪ :‬ندخل اليه‪ ،‬ثريا وأنا‪ ،‬ونصعد اىل الطابق الثاين‪ ،‬حيث مستلزمات‬ ‫ّ‬
‫النقاب‪ .‬البائع ملتح عىل الطريقة السلفية‪ ،‬واألرجح انه صائم‪ .‬عبوسه ال يف ْرت اال عندما‬
‫أرشح له بأنني اريد رشاء "نقاب كامل ألختي"‪ ،‬فأقيسه وأطلب منه أن يد ّلني عىل كيفية‬
‫يقص الشاش الذي يغطي العيون بالقدر ا ُملستطاع‪ ...‬فيبتسم ساعتئذ‪،‬‬ ‫ربطه برأيس‪ ،‬وأن ّ‬
‫رمبا ألنه وجد نفسه فجأة امام لعبة‪ ،‬أبطالها امرأتان سافرتان يف متجر ال يستقبل غري‬
‫املحجبات واملنقبات‪ .‬واللعب من عمل الشيطان ‪ ،‬مكروه محبوب‪ ...‬رسعان ما تنطفىء‬
‫هذه ااالبتسامة‪...‬‬

‫‪63‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫ثريا مل ترغب يف ارتداء النقاب‪ .‬تكتفي بوضع الحجاب عىل رأسها‪ .‬يف البيت‪ ،‬حيث‬
‫نتسعد للخروج‪ ،‬هي بحجابها وأنا بنقايب‪ ،‬أضع اللمسات األخرية‪ :‬كعب عالٍ وكحل عىل‬
‫العيون‪ ،‬وتوسيع الشاش الذي عىل العيون أكرث فأكرث‪ .‬وألن املشوار كله مشيا عىل االقدام‪،‬‬
‫أتد ّرب عىل امليش بهذه العباءة الطويلة العريضة‪ ،‬بذيلها الخلفي‪ ،‬وقد ص ّمم خصيصا‪ ،‬كام‬
‫علمت‪ ،‬ليك ال يظهر يشء من "الخلف" لو ه ّبت الريح فجأة‪ ...‬الذيل ي ْربكني‪ ،‬ولكن ال أشعر‬
‫بأن شيئا تغري‪" .‬الصرب" تقول ثريا‪...‬‬
‫متوجهات اىل املرتو‪ .‬ويف الشارع‪ ،‬يتغري هذا اليشء‪ .‬فجأة‪ ،‬وعند‬ ‫ننزل اىل الشارع ّ‬
‫اللقاء بأول مار يف الشارع‪ ،‬أشعر بقوة هائلة‪ .‬ال أحد يستطيع أن يتف ّرس يف وجهي‪ ،‬او يح ّدق‬
‫يل حكام‪ ،‬ال أحد يعرفني‪ .‬أنا لست امرأة خفية‪ ،‬و لست‬ ‫بتفاصيل من جسمي‪ ،‬أو يطلق ع ّ‬
‫شبحا؛ بل دبابة‪ ،‬أتقدم مثل الكتلة الواحدة‪ ،‬بثقة‪ ،‬محمية من سالح النظر‪ .‬االجنبيات اللوايت‬
‫التقيتهن يف هذه الطريق‪ ،‬أو اللوايت التقني يب‪ ،‬وأنا يف هذا النقاب‪ ،‬ال ينظرن ا ّيل مبارشة‪ ،‬كام‬
‫يفعلن يف حالتي العادية‪ ،‬وأنا سافرة‪ .‬يسرتقن النظر‪ ،‬مثل لصوص خائفني من جرم مشهود‪.‬‬
‫انهن يخفن مني‪ .‬هو الخوف من عجز نظرهن عن معرفة وجهي‪ ،‬هويتي‪ .‬خوف من‬
‫مجهول غامض‪ ،‬خطِ ر بالتأكيد‪ .‬ليس من املتسبعد ان تكون االجنبيات الخائفات من منظري‬
‫قد ربطن بيني وبني السواد الذي يتختبىء خلفه االرهاب الديني االسالمي‪.‬‬
‫يف املرتو‪ ،‬أنتبه اىل "االنتامء الطبقي" لنِقايب‪ .‬ثريا قالت يل انه "شعبي"‪ .‬ولكن يف املرتو‬
‫أقابل نقابا أكرث "شعبية"‪ :‬املنقبة الحاملة طفلها والتي أوسعت يل بنوع من الرتحاب‪ ،‬كانت‬
‫عيونها منطفئة‪ ،‬ش ْبشبها من البالستيك ونقابها من القامش الصناعي البايل وااللوان الباهتة‬
‫املختلفة؛ كأنها صنعت نقابها من القامش املتوفر لديها‪ .‬وأنا من ّقبة هكذا‪ ،‬أمامها‪ ،‬بالصورة‬
‫التي وصفتها ثريا بالـ"شعبية"‪ ،‬أتخيل أنني من منقبات طبقة شعبية معينة؛ أقل شعبية من‬
‫وددت لو اسألها‪ ،‬من أين هي آتية‪ .‬من واحدة من العشوائيات‬ ‫ُ‬ ‫تلك املنقبة الجالسة بقريب‪.‬‬
‫الواقعة قريبا أو بعيدا عن خط مرتو حلوان‪-‬املرج الذي يربط بني جنوب القاهرة ورشقها؟‬
‫لكن يشء ما يلهيني عنها‪ .‬ذلك االحساس بالهيبة واالحرتام يف مقصورة النساء للمرتو‪ .‬تأخذين‬
‫يل مثل االدانة الشديدة‬ ‫املقارنة‪ ،‬بني االيام العادية واآلن‪ :‬يف االوىل كانت األنظار ّ‬
‫تحط ع ّ‬
‫لسفوري‪ ،‬وشعري املسرتْسل‪ .‬ويف الثانية‪ ،‬ها أنا أنعم بدفء سوف يالزمني طوال التجربة‪.‬‬
‫املقارنة تستمر عندما نخرج من املرتو‪ ،‬ومنيش يف شوارع وسط البلد‪ ،‬متجهات نحو‬
‫مقهى "غرويب" الصارم املتقشف‪ ،‬الواقع يف ميدان طلعت حرب‪ .‬أنا أميش اآلن مرتاحة‪ .‬عند‬
‫مروري يف وسط زحمة الرجال‪ ،‬يبتعد هؤالء اىل جوانب الطريق‪ ،‬ويكرثون من ذكر ارادة‬
‫الله‪ .‬كل الدفاعات التي كنت أعبىء نفيس بها اثناء التجول "العادي" يف هذه الشوارع‪ ...‬كل‬
‫الدفاعات أرخيت‪ .‬جسمي مرتاح رغم تعرثات الذيل والحرارة والعطش‪ .‬بالتأكيد تقاسيم‬
‫وجهي مسرتْخية ايضا‪ ،‬مقبلة بشغف عىل هذا املشهد الجديد؛ ال أنا مستف َّزة‪ ،‬وال هم‬
‫مست َفزون‪ .‬كنت يف االيام العادية‪ ،‬أميش يف أسواق البلد مشية الرجل املتأهب ألي اعتداء‪،‬‬
‫ألي تحرش‪ .‬وها أنا أميش اآلن مثل امللكة‪ ،‬كأنني أرتدي درعا‪ ،‬ال نقاب‪ .‬أفكر وأنا أميش‪ :‬هل‬

‫‪64‬‬
‫رزبلا لالد‬ ‫باقنلا‬

‫خضت التجربة يف شوارع بريوت؟ هل كانت سوف‬ ‫ُ‬ ‫ستكون هذه االحاسيس هي نفسها لو‬
‫تغريني التجربة هناك؟ هل ستنضح باملعاين نفسها؟‬
‫لكنني ألعب أيضا‪ :‬مبن ينظر ايل ومبن ال ينظر‪ .‬لعبة تعلمتها من منقبات املرتو؛ حيث‬
‫ال تسمح املنقبة بالنظر اليها اال اذا هي سمحت‪ ،‬وبحكم نقابها وحده‪ .‬أستمر باللعبة‪ ،‬حتى‬
‫يل‪ ،‬وأستأذن ثريا للخروج قليال اىل‬ ‫وصولنا اىل املقهى‪ .‬أريد أن ارشب شيئا باردا‪ .‬يحل الح ّر ع ّ‬
‫مدخل املقهى بحثا عن ممر هواء‪ .‬وألننا دخلنا املقهى من الباب الخلفي‪ ،‬مل أنتبه لجنود‬
‫األمن املركزي يقفون صفوفاً عىل هذا املدخل بالتحديد ملراقبة أنشطة حزب "الغد" املعارض‬
‫يشجعني عىل‬ ‫يف الطابق الرابع من العامرة نفسها‪ .‬أتردد قليال‪ ،‬ولكن إغضاءهم برصهم عني ّ‬
‫الوقوف‪ .‬هكذا عند املدخل‪ ،‬من دون غرض محدد سوى طلب الهواء‪ .‬فتأيت املقارنة تلقائيا‪:‬‬
‫بالتأكيد‪ ،‬لو كنت سافرة‪ ،‬ملا كان بوسعي التمتع بالهواء عند ممراته‪ ،‬من دون حساب‪.‬‬
‫اآلن ذروة املشوار‪ :‬نتوجه اىل شارع طلعت املتفرع من ميدانه‪ ،‬حيث أقسمت اليمني‬
‫مرة أن ال أعود وأزوره اال بعد التسعني من عمري‪ .‬طبعا بسبب التحرشات الفظة‪" .‬الدرع"‬
‫فلنمش يف وسط‬‫ِ‬ ‫زاد من ثقتي وقلت لرثيا‪" :‬هيا نأخذ الثأر من شارع طلعت حرب‪!...‬‬
‫الشارع‪ ،‬بني السيارات‪ ،‬ولرنَ‪ ."...‬كانت املتعة‪ :‬متعة الحصانة ال الثأر‪ .‬ومج ّرد الحصانة‪ ،‬عدم‬
‫االستباحة‪ ،‬بالنظر أو اللسان أو اللمس‪ ،‬تُغني عن متعة الثأر‪.‬‬
‫انتهى املشوار‪ .‬نوقف سيارة تاكيس‪ .‬زحمة السري خانقة والتاكيس شبه واقف‪ .‬وسط‬
‫رجل برأسه من نافذة سيارة التاكيس؛ رجل وقور‪ ،‬وعىل وجهه أسف‬ ‫يل ٌ‬ ‫يطل ع ّ‬
‫هذا كله ّ‬
‫ومرارة‪ ،‬يقول يل الهثاً‪" :‬مش حرام اليل بتعمليه بنفسك ده؟!"‪ .‬حرام ديني؟ أم حرام‬
‫"جاميل"؟ بالتأكيد ال يقصد بأن ما ألبسه حرام دينيا‪ .‬انه عىل األرجح حرام "جاميل"؛ أي ان‬
‫ما بدا مني من خلف النقاب "يوعد" باألجمل منه‪ .‬وهذا األجمل‪ ،‬حرمت عيون هذا الرجل‬
‫بالتمتع به‪ ،‬وحرمت نفيس ايضا بالتمتع مبتعة نظر غريي‪ .‬ولكن من قال ان الوعد بالجامل‬
‫يقل متعة عن تحقيقه؟ رمبا تفكر املنقبة املهتمة بأثر أنوثتها عىل هذا النحو‪ ،‬ورمبا ال تفكر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أو تفكر بيشء آخر‪...‬‬
‫ملاذا أختار النقاب اذن‪ ،‬لو كان الحجاب مفروضا بقانون؟ رمبا ألن النقاب سوف يتيح‬
‫يل أن اسخر من قوانني الدولة‪ ،‬بعدما ُأشبعت قوانني املجتمع فوىض وتقهقراً‪ .‬وإال فالهروب‬
‫اىل الجحيم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫امللف‬
‫خطوط التامس‬

‫معرب املتحف‪ ،‬بريوت ‪ ،1982‬فؤاد الخوري‬


‫عراق‬

‫الخريطة البغدادية‬
‫تتمرد عىل منعزالتها‬
‫شاكر األنباري‬

‫متتلك بغداد أمناطا عدة من التوزع السكاين‪ ،‬يشمل كامل خارطتها تقريبا‪ ،‬وللنمط عالقة‬
‫بالدين‪ ،‬والطائفة‪ ،‬والقومية‪ .‬واملعروف أن سكان بغداد‪ ،‬البالغ عددهم أكرث من ستة ماليني‬
‫نسمة‪ ،‬يتألفون من الشيعة والسنة‪ ،‬املسلمني واملسيحيني‪ ،‬العرب واألكراد والرتكامن‪ ،‬مع‬
‫قليل من اإلثنيات كالصابئة واألرمن والشبك‪ .‬حتى العام ألفني وثالثة ‪ ،‬أي سنة إسقاط‬
‫النظام البعثي‪ ،‬واحتالل العراق‪ ،‬واقتالع الدولة من جذورها‪ ،‬وحل الجيش والقوى األمنية‪،‬‬
‫كانت األمناط متداخلة‪ ،‬بهذه النسبة أو تلك‪ ،‬يف معظم املناطق‪ ،‬مع غلبة هذا املكون‬
‫عىل ذاك يف مساحات معينة‪ ،‬ومن النادر أن يجد املرء منطقة صافية‪ ،‬أي تقترص عىل هذه‬
‫الطائفة أو تلك‪ ،‬هذه القومية أو غريها‪ .‬بغداد ظلت مغناطيسا جاذبا للجميع‪ ،‬منذ نهاية‬
‫الدولة العثامنية وحتى اليوم‪ ،‬ألسباب كثرية‪ .‬هي مكان عمل‪ ،‬وخدمات جيدة‪ ،‬وعاصمة‪،‬‬
‫ومقصد الطالب للتعلم‪ ،‬والضباط الطامحني اىل السلطة‪ ،‬والشيوخ‪ ،‬والهاربني من االقطاع‬
‫سابقا أو من التقاليد العشائرية‪ ،‬ومن االضطهاد الجنيس والديني والقومي‪ .‬قصدتها مئات‬
‫النساء هاربات من عائالتهن‪ ،‬وآالف األرس التي اضطهدت يف قراها أو مدنها‪ .‬قصدها كذلك‬
‫رعايا دول أخرى مثل الهنود‪ ،‬الباكستانيني‪ ،‬االيرانيني‪ ،‬واألكراد الفيلية الذين قدموا من ايران‬
‫للعمل والزيارات الدينية‪ ،‬فلبثوا يف أزقة العاصمة بعد أن تقطعت بهم السبل‪ ،‬تزوجوا أو‬
‫وجدوا مصدر رزق‪ .‬كانت نسيجا ملونا يختلط فيه أبناء املحافظات كلهم‪ ،‬ولهذا مل تعد‬
‫تحسب عىل أي من الطوائف أو القوميات‪.‬‬
‫أفرز هذا االشتباك املعييش اليومي‪ ،‬ولعقود متتالية‪ ،‬نتائج واضحة عىل املجتمع‬
‫البغدادي‪ .‬حصل تزاوج كبري بني هذا الخليط غري املتجانس‪ .‬العائالت تواصلت يف ما‬
‫بينها‪ ،‬تنوعت واختلطت قوميا‪ ،‬ومذهبيا‪ ،‬وحتى دينيا بعض األحيان‪ .‬مثة مسلمون تزوجوا‬
‫مسيحيات أو العكس‪ ،‬وكان مثة تالقح يف الثقافات‪ ،‬والطقوس‪ ،‬واملعتقدات‪ ،‬أذاب لحد كبري‬
‫الفوارق النافرة‪ ،‬وجعل التامس‪ ،‬يف كل األمور‪ ،‬سلسا اىل درجة واضحة‪ .‬السني عىل سبيل‬
‫املثال يشارك الشيعي يف طقوس عاشوراء‪ ،‬ويتربك بأرضحة الكاظم والعباس والحسني وعيل‪،‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫والشيعي يزور رضيح االمام األعظم أيب حنيفة أو يتربك بقرب عبد القادر الكيالين يف منطقة‬
‫باب الشيخ‪ .‬وكان املسلمون يشاركون املسيحيني يف أعيادهم‪ ،‬ويدخلون كنائسهم تربكا أو‬
‫مشاركة‪ ،‬وكان الصابئة يقيمون طقوسهم عىل ضفاف دجلة معمدين أبناءهم يف الهواء‬
‫الطلق‪ .‬وكانت أعياد نوروز الكردية يحتفل بها يف أزقة باب الشيخ‪ ،‬والفضل‪ ،‬وحي األكراد‬
‫والحيدرخانة‪ .‬الطقوس كانت مشرتكة بني الجميع‪ ،‬يف رمضان‪ ،‬واألعياد‪ ،‬واملناسبات الدينية‬
‫واالجتامعية والوطنية‪ .‬التامسات بني الطوائف واالثنيات مل تكن مصمتة‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬كانت‬
‫مهلهلة تكاد تختفي يف مراحل معينة‪ ،‬ويف أزمان تذوب‪ .‬رغم غلبة البعد االسالمي للمدينة‬
‫اال أنها مل تعدم وجود ثقافات فرعية لها خصوصية دينية‪ ،‬وسلوكية‪ ،‬وطقوسية‪ ،‬ومن ذلك‬
‫البهائيون واالزيديون وامللحدون واملاسونيون والرشكس واألرمن‪ .‬تنوع بغداد مل يكن وليد‬
‫قرن واحد فقط‪ ،‬بل بدأ منذ تأسيسها عىل يد أيب جعفر املنصور‪ ،‬وظلت أحيانا موئال‬
‫للغزاة من أتراك‪ ،‬وفرس‪ ،‬ومامليك‪ ،‬وطاجيك‪ ،‬وأوروبيني‪ .‬تشكلت طبقات من ذلك االندماج‪،‬‬
‫والتزاوج‪ ،‬والتالقح‪ ،‬ماعاد الخالص منه سهال‪ .‬من يريد جعل بغداد لونا واحدا عليه أن يه ّدها‬
‫من األساس‪ ،‬ويعيد بناءها عىل ضوء مجازر‪ ،‬وقتال‪ ،‬وحروب‪ .‬وهذا ما كاد يحصل يف العقد‬
‫األخري‪ ،‬وتم ايقافه بتناغم ظروف كثرية وأسباب عديدة‪ ،‬مل تكن لتنجح سوى يف العراق رمبا‪،‬‬
‫وهذا جزء من متيزها وتجربتها يف العرص الحديث‪.‬‬

‫مناطق صافية وأخرى مختلطة‬


‫بغداد مدينة ذات أمناط عديدة‪ ،‬ما جعل من شخصيتها متنوعة ذات أوجه‪ ،‬وطبقات‪،‬‬
‫ودهاليز‪ ،‬فهي مصهر أنتج خليطا ميتلك هوية متفردة ليس من السهل قراءتها‪ .‬منط من‬
‫بغداد هي املدن واملناطق التي تكون األغلبية فيها لطائفة‪ ،‬ومنها مدينة الثورة‪ ،‬الصدر حاليا‪،‬‬
‫اذ كان السكان املتحدرون من محافظات الجنوب هم الغالبية‪ ،‬وهؤالء يدينون باالسالم عىل‬
‫املذهب الجعفري‪ ،‬ولهم عشائرهم ولهجاتهم ومحافظاتهم وحتى محا ّلهم‪ ،‬اذ عادة ما كان‬
‫أهل املحافظة الواحدة يتجمعون يف الزقاق ذاته‪ ،‬أو ينترشون يف أزقة متجاورة‪ .‬األغلبية‬
‫كانت شيعية اال انه ال يعدم وجود نسبة قليلة من السنة‪ ،‬ومن األكراد‪ ،‬ذوي الدخول‬
‫املحدودة‪ ،‬لهم جوامعهم ومعامالتهم ووظائفهم‪ .‬يقدر عدد سكان مدينة الثورة اليوم بأكرث‬
‫من مليونني‪ ،‬والبعض يجعلهم ثالثة ماليني‪ .‬اشتهرت بكونها موطنا لألفكار اليسارية‪ ،‬وكانت‬
‫قاعدة للشيوعيني حتى العقد الثامن من القرن املايض‪ .‬ثم راجت فيها الحقا‪ ،‬بعد أن صفي‬
‫الحزب الشيوعي قبل الحرب العراقية االيرانية وبعدها‪ ،‬األفكا ُر الدينية‪ ،‬خاصة تعاليم محمد‬
‫صادق الصدر‪ ،‬والد مقتدى الصدر‪ ،‬الذي قيل ان صدام حسني هو من أمر بتصفيته يف نهاية‬
‫التسعينات‪.‬‬
‫وهناك منطقة األعظمية‪ ،‬وهي سنية بشكل عام‪ ،‬تتمحور شخصيتها حول مرقد االمام‬
‫األعظم أيب حنيفة النعامن املطل عىل دجلة‪ .‬وال يفصلها عن الكاظمية التي تضم مرقد االمام‬

‫‪70‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫موىس بن جعفر‪ ،‬امللقب بالكاظم‪ ،‬سوى النهر‪ .‬اشتهرت األعظمية منذ بدايات القرن املايض‬
‫بكونها مكان سكن للضباط الكبار‪ ،‬والنخب السياسية‪ ،‬واملوظفني امليسورين‪ ،‬ورجال الدين‪،‬‬
‫وظلت مركزا لالحتفاالت الدينية منذ قرون كاملوالد النبوية‪ ،‬واألعياد‪ ،‬واملظاهرات القومية‪،‬‬
‫وغريها‪ .‬يف األعظمية نسبة صغرية من الشيعة كذلك‪ .‬لهذا تعترب منطقة سنية صافية تقريبا‪،‬‬
‫ولطاملا هيمن عليها الفكر القومي‪ ،‬والفكر االخواين‪ ،‬ثم كانت الغلبة منذ السبعينيات ألفكار‬
‫البعث‪ ،‬فاعتربت موطنا للفكر البعثي وقادته حتى اللحظة األخرية‪ .‬وقيل أن آخر ظهور‬
‫لصدام حسني يف التاسع من نيسان ألفني وثالثة‪ ،‬حني دخلت الدبابات األمريكية اىل القرص‬
‫الجمهوري‪ ،‬كان يف االعظمية‪ ،‬قبل أن يغيب غيبته العجيبة‪ ،‬ثم ليقبض عليه الحقا يف‬
‫حفرته التكريتية بعد أقل من سنة‪ .‬األمر ذاته ينطبق عىل مناطق أخرى من بغداد‪ :‬الشعلة‬
‫والكاظمية والحرية شيعية‪ ،‬الدورة واملنصور سنيتان‪ ،‬البياع والسيدية مختلطتان‪ ،‬وكذلك‬
‫بغداد الجديدة والشعب والصليخ‪ .‬مناطق االختالط تكون فيها النسب الغالبة للشيعة‬
‫أو السنة‪ ،‬لكن االختالط كبري‪ ،‬وكذلك بغداد الجديدة التي تحتوي عىل نسبة عالية من‬
‫املسيحيني‪ ،‬مثلها مثل الدورة السنية‪ .‬التامس بني هذه املناطق ارتدى شكلني‪ ،‬أو وجهني‪،‬‬
‫األول متاس املناطق الصافية‪ ،‬وهذه متت فيها املواجهات بني املنطقة الصافية واألخرى‬
‫الصافية أو املختلطة‪ ،‬كام جرت األمور بني الثورة واألعظمية‪ .‬بينام كان الوجه اآلخر للتامس‬
‫حني تتواجه مع نفسها‪ ،‬يف املناطق ذات االختالط كام حدث يف السيدية‪ ،‬والدورة‪ ،‬حيث‬
‫كانت املواجهات تتم يف داخل املدينة ذاتها‪ ،‬بني شارع وشارع‪ ،‬لتهجري السنة او ابادتهم‪ ،‬أو‬
‫لتهجري الشيعة أو ابادتهم‪ ،‬بينام كان املسيحيون ضحايا للطرفني تقريبا‪ .‬اذ هم مل يواجهوا‬
‫أيا من القوى املتصارعة‪ ،‬لعدم امتالكهم مليليشيات مسلحة‪ ،‬وكذلك لنسبتهم الصغرية أمام‬
‫املتصارعني الكبار‪.‬‬
‫فر املسيحيون من مناطق القتل التي اندلعت تدريجيا بني الطوائف بعد انهيار‬
‫النظام يف الحرب ودخول أكرث من مئتي الف جندي من مختلف الجنسيات اىل العراق‪ .‬رسا‬
‫قسم منهم يف قرى املوصل املسيحية وقصباتها‪ ،‬كتلكيف وشيخان وسنجار‪ ،‬أو اختاروا بعض‬
‫مناطق اقليم كردستان للسكن مثل عينكاوة التي تبعد أقل من خمس كيلومرتات عن مركز‬
‫أربيل عاصمة االقليم‪.‬‬
‫استطاع حزب البعث الذي استمر حكمه حوايل خمسا وثالثني سنة‪ ،‬القضاء عىل كافة‬
‫األحزاب املناوئة له‪ ،‬ومنها الحزب الشيوعي‪ ،‬وحزب الدعوة‪ ،‬واالخوان املسلمني‪ ،‬وحركة‬
‫القوميني العرب‪ ،‬واألحزاب الكردية‪ .‬استفرد بالشعب ليصبح الحزب الوحيد املسموح له‬
‫بالعمل‪ ،‬من زاخو شامال وحتى البرصة جنوبا‪ .‬رضبت األطر املدنية‪ ،‬والنقابات‪ ،‬واالتحادات‪،‬‬
‫والفاعليات االجتامعية كلها‪ ،‬عدا املرتبطة بذلك الحزب‪ .‬وبعد تآكل البعث خالل الحروب‬
‫السابقة‪ ،‬والتصفيات الحزبية والعسكرية‪ ،‬واالنتفاضة التي اعقبت هزمية الجيش العراقي‬
‫يف حرب الكويت‪ ،‬والحصار الذي أكل العقد األخري من القرن املايض‪ ،‬مل يعد أمام عامة‬
‫الناس‪ ،‬غري البعثيني‪ ،‬سوى االرتداد اىل الدين‪ ،‬بشكله املذهبي املتطرف‪ .‬صار هو املالذ‪،‬‬

‫‪71‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫وقفز عىل منظومة الحزب التي مل تعد توفر الحامية سوى لحلقة ضيقة من العائلة الحاكمة‬
‫وأقربائها‪.‬‬
‫شهدت املحافظات الجنوبية حركة ارتدادية تبنت التعاليم الشيعية‪ ،‬عينها عىل‬
‫املجلس األعىل للثورة االسالمية يف العراق الذي نشأ يف ايران‪ ،‬وفيلق بدر‪ ،‬وحزب الدعوة‬
‫االسالمية املغرتب‪ ،‬وحركة محمد صادق الصدر يف الداخل‪ ،‬وهي ما سميت الحقا باملرجعية‬
‫الناطقة‪ .‬فيام تنامت االتجاهات األصولية يف املناطق السنية‪ ،‬وتداخلت مع طروحات حزب‬
‫البعث‪ ،‬حتى تحول بعض منها اىل حركات دراويش‪ ،‬كام حدث للطريقة النقشبندية التي‬
‫تبناها نائب مجلس قيادة الثورة آنذاك عزة الدوري‪ ،‬وأصبحت متارس نشاطها األصويل علناً‬
‫يف األنبار‪ ،‬واملوصل‪ ،‬ودياىل‪ ،‬وكركوك‪ ،‬وتكريت‪ ،‬فضال عن بغداد وغريها من املناطق‪ .‬وكانت‬
‫محكومة بالعداء الشديد للغرب‪ ،‬والتقوقع عىل املذهب السني‪ ،‬والوالء لعبدالله املؤمن‪،‬‬
‫وكان حينذاك صدام حسني‪ .‬وشكلت بيئة خصبة للقاعدة بعد سقوط النظام يف عام ألفني‬
‫وثالثة‪ .‬الجامهري املفرغة من االيديولوجيا كانت جاهزة لتقبل األفكار املتطرفة مذهبيا‪ ،‬بعد‬
‫أن دخلت القوات متعددة الجنسية وأجهزت عىل الدولة العراقية‪ ،‬وأطاحت باملؤسسات‬
‫األمنية التي حلت بقرار رسمي من الحاكم املدين بول برمير‪ ،‬مام جرد املجتمع متاما من أية‬
‫مرجعية ضابطة اليقاعاته‪.‬‬

‫منظومة الدولة يف مجتمع متخلف‬


‫منظومة الدولة‪ ،‬املستوردة من الحداثة الغربية‪ ،‬تبني الحقا أنها أكرث تطورا من بنية املجتمع‪،‬‬
‫التي تعود اىل عهود التخلف العثامين‪ ،‬والظالم القروسطي بعد انتهاء الدولة العباسية‪ .‬هي‬
‫مؤسسة تجمع يف بناها املختلفة‪ ،‬وعىل طاولة واحدة‪ ،‬جميع املكونات العراقية‪ .‬ضمن‬
‫قوانينها‪ ،‬وآلياتها البريوقراطية املتوارثة منذ عرشينات القرن العرشين‪ ،‬تزول الجدران بني‬
‫الطوائف واألديان‪ ،‬لتصبح فكرة الوطن هي املثال األعىل ملنتسبيها‪ .‬يف أيلول من العام ألفني‬
‫وثالثة‪ ،‬أي بعد خمسة أشهر من سقوط النظام‪ ،‬مل يكن من يتجول يف شوارع بغداد يرى‬
‫حتى رشطي مرور واحد ينظم السري‪ .‬ومل يكن هناك من حضور سوى للجيش األمرييك الذي‬
‫كان ينظم حركة الطرق‪ ،‬ويبيع البنزين‪ ،‬ويوزع الرواتب عىل املوظفني‪ ،‬ويدفع للمتعهدين‬
‫لتنظيف قاممة بغداد‪ ،‬ويحل املشاكل اليومية للمواطنني‪ ،‬ويسيرّ معظم شؤون الحياة يف‬
‫عاصمة تم نهبها عىل مرأى من خمسة مليارات انسان يعيشون عىل هذه األرض‪ .‬ال كهرباء‪،‬‬
‫ال ماء‪ ،‬ال بنزين‪ ،‬ال محاكم‪ ،‬ال رشطة‪ ،‬ال جيش‪ ،‬وهذه حال مناطق مثل األعظمية‪ ،‬والثورة‪،‬‬
‫والشعلة‪ ،‬والدورة‪ ،‬والغزالية‪ ،‬وزيونة‪ ،‬والبياع‪ ،‬والسيدية‪ ،‬والصليخ‪ ،‬والشعب‪ ،‬والكاملية‪.‬‬
‫املدن املليونية التي مل تجد حولها أي أثر للدولة‪ ،‬وكل ما رأته هو جيش أجنبي يزرع‬
‫شوارعها بالرصاص‪ ،‬والقناصني‪ ،‬والدبابات املتعددة األغراض‪ ،‬دون أن يقدم بديال ايديولوجيا‪،‬‬
‫أو روحيا مقنعا لوجوده‪ .‬هذه الرتبة املتفسخة انتجت الحقا فطر امليليشيات‪ ،‬والعصابات‪،‬‬

‫‪72‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫واالرهاب املنفلت‪ .‬وهي التي فجرت التناحرات التاريخية‪ ،‬واألسئلة املذهبية والدينية التي‬
‫تنظم صفوفه‪،‬‬‫ظلت كامنة لقرون‪ .‬وبعد انهيار الدولة مل يعد املجتمع ميتلك أية مرجعية ّ‬
‫وتحل رصاعاته‪ ،‬وتحافظ عىل وجوده املديني‪ .‬قوة االحتالل فقدت هذا الدور كونها‪ ،‬منذ‬
‫اليوم األول لدخولها بغداد‪ ،‬فتحت باب النهب والسلب عىل مرصاعيه دون أن تحرك ساكنا‪.‬‬
‫اعتقدت انها بذلك توفر فرصة للمواطن ليك ينهب مؤسسات الدولة ورموزها‪ ،‬ويزيح‬
‫عدوانيته ونقمته عن الوجود األجنبي امللتبس بني تحرير واحتالل‪ ،‬متناسية أن هذا الفعل‬
‫سيقود الحقا اىل تفكيك املجتمع ذاته‪ ،‬بل وين ّمي لدى الفرد مشاعر الالانتامء‪ ،‬والعدمية‪،‬‬
‫اذ ان الشعور السائد كان هو اختفاء مفهوم الوطن‪ .‬البارادوكس املرعب هو أن مؤيدي‬
‫النظام السابق اعتربوا أن العراق مل يعد وطنا‪ ،‬كونه خرج من سلطتهم‪ .‬واملناوئون اعتربوا‬
‫أن ذلك الوطن هو وطن صدام والبعثيني‪ ،‬لذلك شارك الجميع باستباحته‪ .‬استبيح عرب‬
‫تقويض الوزارات‪ ،‬واملؤسسات‪ ،‬ورسقة كيبالت الكهرباء ومحوالتها‪ ،‬ونهبت املخازن‪ ،‬وتناثرت‬
‫السجالت والوثائق بني أجهزة محلية وأجنبية يك تقرأ تاريخ البلد كيفام تشاء‪ .‬حزب البعث‪،‬‬
‫والقائد األوحد صدام حسني‪ ،‬ربطا مصري الدولة والوطن بشخصه‪ ،‬ومنظومة حزبه‪ .‬وكانت‬
‫االستباحة شاملة‪ .‬هنا بدأ مفهوم املجتمع يف بغداد يتآكل هو اآلخر‪ ،‬ليك يصبح مجتمعات‬
‫متعددة‪ ،‬بوالءات طائفية ودينية‪ ،‬كل واحدة من تلك الشظايا تحاول تسيري شؤونها بنفسها‬
‫عرب قواها الفاعلة ضمن حيز جغرايف مصغّر‪ .‬يف مدينة الثورة عىل سبيل املثال منا جيش‬
‫املهدي واتسع ليفرض هيمنته عىل املدينة بقوة السالح‪ ،‬وباملال‪ ،‬وااليديولوجيا الطائفية‬
‫التي يحملها‪ ،‬والتي طرحها يك يكتسب رشعية أمام جمهوره‪ .‬وااليديولوجيا هي أنه قوة‬
‫شيعية مسلحة تدافع عن الشيعة‪ ،‬وتحل مشاكلهم‪ ،‬اضافة اىل خوض مقاومة عسكرية ضد‬
‫قوة محتلة هي جيوش التحالف‪ ،‬وخاصة الجيش األمرييك‪.‬‬
‫كان جيش املهدي يدير توزيع الحصة التموينية‪ ،‬ويوزع البنزين‪ ،‬ويحل املشاكل بني‬
‫السكان‪ ،‬ويوزع نقاط حراساته يف كل شوارع مدينة الثورة‪ ،‬ويهيمن عىل املجالس البلدية‬
‫يف املنطقة‪ ،‬ويدرب عنارصه عىل السالح‪ .‬حل محل أجهزة الدولة املنحلة‪ ،‬يف مناطق نفوذه‬
‫عىل األقل‪ .‬ومتددت مناطق نفوذه اىل ساحات أخرى من بغداد كمدينة الحرية‪ ،‬والشعلة‪،‬‬
‫وبغداد الجديدة‪ ،‬وغريها‪ .‬وهو‪ ،‬بسيطرته عىل هذه املناطق‪ ،‬خاض مواجهات عنيفة مع‬
‫التنظيامت املسلحة التي انبثقت بعد سقوط النظام مثل جيش املجاهدين‪ ،‬وأنصار السنة‪،‬‬
‫والقاعدة يف بالد الرافدين‪ ،‬وكتائب ثورة العرشين‪ ،‬وجيش عمر‪ .‬وكلها فصائل سنية متطرفة‬
‫يف تدينها املفتعل‪ ،‬ويف محاربتها للميليشيات الشيعية‪ .‬ويف الطريقة ذاتها رفعت القاعدة‪،‬‬
‫والفصائل املسلحة القريبة منها‪ ،‬شعارا مشابها‪ :‬حامية السنة‪ ،‬ومحاربة املحتل‪ ،‬وتنظيم‬
‫شؤون الحياة يف املناطق التي تسيطر عليها بغياب الدولة املنحلة‪ .‬وبشكل عام كانت القوى‬
‫الشيعية املسلحة تنظر اىل هذه التنظيامت باعتبارها امتداداً لحزب البعث وبقايا النظام‬
‫وأجهزته‪ .‬بينام تنظر القوى السنية اىل امليليشيات الشيعية باعتبارها موالية اليران‪ ،‬وللمحتل‬
‫األمرييك‪ ،‬وتريد تحويل العراق اىل محمية صفوية‪ .‬ويف السنوات تلك راجت فكرة مرعبة‬

‫‪73‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫للسنة‪ ،‬ودول الجوار‪ ،‬وهي أن هناك مخططا لتشييع بغداد‪ .‬وهذا معناه ترشيد السنة من‬
‫مناطق سكنهم‪ ،‬أو تصفيتهم جامعيا‪ .‬ومل تكن املواجهات تعتمد عىل طروحات فكرية أو‬
‫مناظرات آيديولوجية‪ ،‬بل عىل مواجهات مسلحة للسيطرة عىل أكرب مساحة ممكنة من‬
‫املناطق املختلطة طائفيا‪.‬‬

‫تكتيكات الفصائل املسلحة‬


‫بدأت املناطق الصافية الحرب مع نفسها‪ ،‬اذ نظفت بالقوة العنارص الغريبة عىل املجتمع‬
‫الصغري ذاك‪ .‬تنظيف الشيعة من املناطق السنية وتنظيف املناطق الشيعية من السنة‪ ،‬عرب‬
‫االغتياالت‪ ،‬والتهديدات التي كانت تتم عرب الرسائل أو بواسطة املنشورات‪ .‬كل بيت يجد‬
‫أمام بابه طلقة يف مظروف عىل سبيل املثال تدعوه إىل أن يشد رحاله ومييض اىل مناطق‬
‫طائفته‪ .‬وهذا ما دعي يف حينها بالتهجري‪ ،‬سواء داخل بغداد أو اىل املحافظات الصافية‬
‫األخرى‪.‬‬
‫أما من ميتلك الدخل الكايف‪ ،‬ويرفض الدخول يف لعبة التصفيات الطائفية‪ ،‬من املتنورين‬
‫خاصة‪ ،‬فهاجر اىل أقرب العواصم مثل سورية‪ ،‬واألردن‪ ،‬ومرص‪ ،‬واالمارات‪ ،‬والبعض نحو‬
‫أوروبا وأمريكا‪ .‬ويف كافة األحوال انحرست فاعلية القوى السياسية التي شكلت الحكومات‬
‫الهزيلة املتعاقبة اىل أدىن مستوى‪ ،‬سواء يف بغداد أو املحافظات‪ ،‬مع فلتان أمني ضخم يف‬
‫املناطق املختلطة التي تتم فيها املواجهات يوميا‪ ،‬بني قوى التطرف الشيعي والسني‪ ،‬وبتورط‬
‫أمرييك مع الطرفني‪ .‬وكان للميليشيات الشيعية نفوذ واسع يف األجهزة األمنية كالرشطة‬
‫والجيش‪ ،‬األمر الذي جعل امليليشيات السنية تقف‪ ،‬ال مبواجهة الجيش األمرييك فقط‪،‬‬
‫بل واألجهزة الحكومية أيضا‪ .‬كثري من جرائم القتل‪ ،‬واالختطاف‪ ،‬يف املناطق السنية‪ ،‬متت‬
‫بسيارات الرشطة والجيش‪ .‬وظلت القوات األمريكية تتلقى الرضبات من الجميع‪ ،‬وكانت‬
‫الجثث مجهولة الهوية تلقى يف الشوارع واملناطق النائية‪ ،‬ومل تسلم من ذلك ال املناطق‬
‫الصافية وال املختلطة‪ ،‬وهنا دخلت السيارات املفخخة لتحصد أرواح الشيعة يف املناطق‬
‫الصافية‪ ،‬ومن ثم بعد ذلك أرواح الجميع بعد التغريات البنيوية التي حصلت يف املشهد‬
‫العراقي‪ .‬مل يسلم بيت يف بغداد‪ ،‬اال يف ما ندر‪ ،‬من دفع رضيبة املواجهات اليومية‪ .‬شباب‪،‬‬
‫أطفال‪ ،‬نساء‪ ،‬شيوخ‪ ،‬حتى آمنت املدينة حقا أنها يف غياهب نفق مظلم ال أحد يتكهن اىل‬
‫أي جهة يقود‪.‬‬
‫الطرق حول بغداد تحولت اىل أفخاخ للمواطنني الشيعة‪ .‬مثلث املوت الذي يشمل‬
‫املحمودية‪ ،‬واللطيفية‪ ،‬واليوسفية‪ ،‬والصويرة‪ ،‬التي متر بها طرق محافظات الجنوب‪ ،‬ومناطق‬
‫العظيم التي تصعد اىل كركوك واقليم كردستان‪ ،‬ثم الطريق الدويل عرب الرمادي الذي يربط‬
‫العراق بسورية واالردن‪ ،‬كلها أصبحت مكائد موت عىل الهوية‪ .‬خالل ذلك تحولت مدينة‬
‫الحرية والشعلة اىل منطقتني صافيتني للشيعة‪ ،‬ومثلها الثورة والشعب‪ ،‬وأصبحت الدورة‬

‫‪74‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫أمارة اسالمية للقاعدة بعد أن صفي التواجد الشيعي واملسيحي‪ ،‬والغزالية سنية صافية‪،‬‬
‫وصارت منطقة السيدية تعيش برعب‪ ،‬فيمكن للجميع أن يقتل الجميع كونها مختلطة‬
‫بنسبة كبرية‪ .‬وكان الرديف للتصفيات اما جيش املهدي أو القاعدة‪ .‬املواطنون العاديون‬
‫أجربوا عىل االصطفاف طائفيا مع مقاتليهم‪ ،‬فالحرب أصبحت عىل الهوية‪ .‬يف تلك الحقبة‬
‫كان البعض من السكان ميتلك أكرث من هوية أحوال مدنية مزورة يك يعرضها عىل أي حاجز‬
‫وهمي يف الطريق‪ .‬أما من يخطئ بابراز الهوية املناسبة فمصريه املوت‪ .‬االسم وحده سبب‬
‫كاف للقتل‪ .‬عمر يف مدينة الثورة يقتل‪ ،‬وعبد الزهرة عىل طريق الرمادي األردن ّ‬
‫يقطع‬
‫ويرمى عىل الرصيف‪ .‬لذلك كانت الهويات املزورة تلك عادة ما تستخدم أسامء وهمية‪،‬‬
‫محايدة‪ ،‬ال ميكن نسبتها اىل هذا املذهب أو ذاك‪ ،‬هذا الدين أو غريه‪ .‬والقاتل هو القاتل‪،‬‬
‫حسب القاعدة االنسانية املتوارثة‪ ،‬وليس هناك قتل مرشوع وآخر غري مرشوع‪ ،‬اذ استدار‬
‫القتلة من الطرفني‪ ،‬وبشهية الضباع‪ ،‬ليلتهموا أبناء جلدتهم‪ ،‬ومذهبهم‪ ،‬ليصبحوا أخريا‬
‫قتلة محرتفني‪ ،‬ومتسيدين عىل اتباعهم‪ ،‬فارضني سطوتهم عىل الناس يف املأكل‪ ،‬واملرشب‪،‬‬
‫حجبت النساء‪ ،‬وحوربت املوسيقى‪ ،‬وقتل الحالقون‪ ،‬ومنعت الخمور‬ ‫والحديث‪ ،‬والسلوك‪ّ .‬‬
‫والسينامت‪ ،‬وحوربت األفكار غري الطائفية‪ ،‬ومنعت الصحف عدا التي ترىض عنها الجامعات‬
‫تلك‪ ،‬وأغلقت املعامل والرشكات واملطاعم اال تلك التي تدفع جزية ألمراء القتل‪ .‬ورشعت‬
‫الصورة تزداد قتامة يف بغداد يوما بعد آخر‪ .‬وكان الخطر ميتد اىل العراق كله‪ ،‬وصارت‬
‫خطى الحرب األهلية تطرق بقوة‪ ،‬مع تصاعد الهجامت بالسيارات املفخخة عىل األسواق‬
‫الشعبية‪ ،‬واملدنيني يف املناطق الشيعية الصافية‪ .‬متددت امليليشيات لتبتلع القوى السياسية‬
‫املعتدلة‪ ،‬وتبدأ بتهديد املرجعيات الدينية‪ ،‬وشيوخ العشائر‪ ،‬واألكادمييني‪ ،‬واملؤسسات املدنية‬
‫كاملستشفيات واملدارس والدوائر الحكومية‪ ،‬والجامعات‪ ،‬متهيدا لتمزيق آخر الخيوط التي‬
‫تصنع مجتمعا مدينيا‪ ،‬فرح ذات يوم بانزياح غيمة البعث وعائلة الرئيس‪ .‬ومل ينج من هذا‬
‫التوسع املدجج بالقتل والسالح ال الشيعة وال السنة‪ ،‬ال مؤيدو النظام السابق وال املعارضون‪،‬‬
‫فسكني املوت راحت تحصد الكل‪ .‬والوطن برمته صار ساحة للمواجهة‪ .‬وهنا دق ناقوس‬
‫خطر ضخم انتبه له الجميع فجأة‪.‬‬

‫الخرائب تبتكر حال‬


‫ُ‬
‫القوات األمريكية التي تكبدت ضحايا مؤملة خالل األربع سنوات‬ ‫أول املتنبهني لالنهيار الشامل‬
‫املنرصمة‪ .‬أدرك األمريكيون أن مثة تخطيطا مييش باالتجاه الخطأ‪ .‬وينبغي اعادة النظر بكل‬
‫االسرتاتيجيات السابقة التي جاءوا بها‪ .‬وهذا ما حصل أيضا ملعظم القوى السياسية التي‬
‫تطمح اىل بناء دولة تخلف دولة البعث‪ ،‬وتربر تحالفها االسرتاتيجي مع الواليات املتحدة‪،‬‬
‫التحالف الذي قاد اىل اسقاط النظام‪ .‬امليليشيات الشيعية بالغت بردة الفعل تجاه ما‬
‫يجري‪ ،‬كونها استهدفت بعض األحيان مدنيني من مناطق سنية صافية كاألعظمية‪ ،‬والفضل‪،‬‬

‫‪75‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫والصليخ‪ ،‬وذلك ردا عىل هجامت القاعدة بالسيارات املفخخة واألحزمة الناسفة يف مدينة‬
‫الثورة والشعب والكاظمية والشعلة‪ .‬وهذا ما تنبه اليه املرجع الديني السيد السيستاين بعد‬
‫تفجري مرقد االمامني العسكريني‪ .‬بحكمته فهم أن املعركة مل تكن مع السنة بل مع االرهابيني‪،‬‬
‫فثمة ادانة كبرية من قبل السنة للهجامت االرهابية تلك‪ .‬وكان هذا مفتتحاً لنزع الغطاء‬
‫الرشعي عن جيش املهدي وامليليشيات األخرى‪ .‬وعىل الجانب اآلخر اقتنع رجال دين سنة‬
‫كرث اىل اللعبة الطائفية تلك‪ ،‬وأصدروا فتاوى تحرم قتل الشيعة‪ ،‬وتدعو اىل التوافق واملحبة‬
‫بني مكونات املجتمع‪ ،‬ورفض الفكر التكفريي الذي جلبته القاعدة يف املناطق السنية وقاد‬
‫اىل تصفيات كثرية للقيادات السنية ذاتها‪ ،‬مبن فيهم شيوخ عشائر‪ ،‬وأكادمييون‪ ،‬وساسة دعوا‬
‫اىل تجنيب البلد نار حرب أهلية تسارعت خطاها‪ ،‬وشايعوا الدستور والعملية السياسية‪.‬‬
‫بدأت هناك مؤمترات مصالحة‪ ،‬وصلوات جامعية يف جوامع وحسينيات‪ ،‬ولقاءات‬
‫سياسية‪ ،‬ووفود شعبية بني املناطق املختلطة والصافية‪ ،‬ساعد يف نجاحها عوامل عدة‪ .‬من‬
‫ذلك وجود عشائر عراقية مختلطة سنية وشيعية‪ ،‬مثل العيساويني والتميميني‪ ،‬والعلوانيني‪،‬‬
‫والجبور‪ ،‬وشمر‪ ،‬وغريهم‪ ،‬انتبهوا اىل حقيقة أنهم يذبحون بعضهم بعضا دون أن يعوا‪.‬‬
‫تنامي أجهزة الدولة من رشطة وجيش ومخابرات بدأت تنظف بيئتها من امليليشيات‪ ،‬مام‬
‫أوجد جهات محايدة نسبيا يف الرصاع بني نقاط التامس‪ ...‬أخذت الثقة تنمو قليال قليال يف‬
‫املناطق السنية او املختلطة بتلك العنارص‪ .‬املصاهرات الواسعة بني العوائل يف املجتمع‬
‫البغدادي‪ ،‬اذ نادرا ما كانت هناك عائالت صافية‪ ،‬كانت فرامل خفيفة إلبطاء السقوط يف‬
‫الهاوية‪ .‬انقالب التفكري االسرتاتيجي األمرييك الذي اعتمد يف بداية دخول قوات التحالف عىل‬
‫الفصائل الشيعية كونها حليفة ما قبل الحرب‪ ،‬وكونها أيضا مل تقف عىل عداء مع وجوده‪.‬‬
‫ونتيجة للتغلغل االيراين املحسوس‪ ،‬واملبالغة يف العنف ضد السكان عرب بعض امليليشيات‪،‬‬
‫ابتكرت القوات األمريكية فكرة جديدة اال وهي التفاوض مع بعض القوى السنية املسلحة‬
‫التي تختلف مع القاعدة‪ ،‬ويهمها مصري العراق‪ ،‬والوقوف يف وجه النفوذ االيراين‪ .‬وهكذا‬
‫استطاعت التفاوض مع جيش املجاهدين‪ ،‬وأنصار السنة‪ ،‬وكتائب ثورة العرشين‪ ،‬وشيوخ‬
‫العشائر يف املناطق السنية‪ ،‬والقوى السياسية‪ ،‬والضباط القدامى‪ ،‬لتبتكر فكرة الصحوات‪،‬‬
‫وكانت ابتدأت بصحوة األنبار التي غريت املعادلة جذريا يف الواقع العراقي‪.‬‬
‫يف غضون ألفني وسبعة وجهت تلك القوى‪ ،‬وبدعم من الجيش األمرييك‪ ،‬رضبة‬
‫قاصمة لتنظيم القاعدة‪ ،‬يف أغلب املناطق الغربية من العراق‪ ،‬ليمتد التأثري اىل العاصمة‬
‫ذاتها‪ ،‬فأنشئ يف كل منطقة سنية كيان للصحوات‪ ،‬تك ّفل بتصفية التنظيامت التكفريية من‬
‫جذورها‪ ،‬خاصة وأن املجاميع املسلحة تلك تعرف بعضها بعضا مبا يف ذلك عنارص القاعدة‪،‬‬
‫ودولة العراق االسالمية كام سميت الحقا‪ .‬وكان هناك تنسيق واضح بني الصحوات‪ ،‬والقوات‬
‫األمريكية‪ ،‬وقوى األمن العراقية‪ ،‬مبباركة القوى السياسية أجمع‪ ،‬سنية وشيعية وكردية‪ .‬هذا‬
‫عىل صعيد امليليشيات السنية‪ ،‬لكن جيش املهدي ظل عىل قوته‪ ،‬يسيطر عىل املناطق‬
‫الشيعية الصافية‪ ،‬ومنها معاقله الرئيسية يف مدينة الثورة‪ ،‬والشعلة‪ ،‬والحرية‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫رضب القاعدة يف املناطق السنية سحب البساط من تحت اقدام ميليشيا جيش املهدي‪،‬‬
‫خاصة ورقته التي يقول فيها إنه يدافع عن الشيعة ضد التكفرييني والقاعدة‪ .‬ويف الوقت‬
‫ذاته طرح رئيس الوزراء نوري املاليك وحزبه‪ ،‬يف خطوة متقدمة‪ ،‬فكرة دولة القانون‪ ،‬حيث‬
‫السالح ينبغي أن يكون يف يد الدولة فقط‪ .‬الدولة هي التي يفرتض أن تحمي مواطنيها‪ ،‬وال‬
‫فرق بني املواطنني مهام اختلفت طوائفهم وأديانهم‪ .‬هذه الرؤية وافق عليها الجميع تقريبا‪،‬‬
‫صاحبها مرشوع املصالحة الوطنية مع من مل تتلطخ يداه بدم العراقيني‪ ،‬خاصة البعثيني‪،‬‬
‫والضباط الكبار‪ ،‬واملؤيدين السابقني لحزب البعث‪ .‬وهنا كان الجو مهيئا لرضب الطرف‬
‫اآلخر يف املعادلة‪ ،‬معادلة العنف الطائفي التي ولدت ثم ترعرعت يف نهاية الفني وخمسة‬
‫مع تفجري املرقدين العسكريني يف سامراء‪ ،‬أي ميليشيا جيش املهدي‪ .‬خالل املتغريات تلك‪،‬‬
‫وتصاعد الهجامت بالسيارات املفخخة‪ ،‬والتحضري لرضب جيش املهدي يف البرصة‪ ،‬والديوانية‪،‬‬
‫والكوت‪ ،‬وبغداد‪ ،‬تفتق ذهن القوات األمريكية عن فكرة املنعزالت للسيطرة عىل األماكن‬
‫املكتظة بالسكان‪ ،‬مناطق التامس الطائفية‪ ،‬ومناطق االختالط كذلك‪ .‬سيطرة مطلقة عىل كل‬
‫من يدخل ويخرج من تلك األماكن‪ .‬وهكذا أحاطت مدينة الثورة بسياج كونكريتي يرتفع‬
‫حواىل ثالثة امتار‪ ،‬من البلوك املسلح الجاهز‪ ،‬وكذلك الدورة واألعظمية والسيدية والحرية‬
‫والغزالية وأحياء أخرى‪ ،‬ومل ترتك سوى منفذ أو منفذين تسيطر عليها نقاط تفتيش تواجد‬
‫فيها يف البداية الجيش االمرييك‪ ،‬ثم الحقا بعد توقيع االتفاقية األمنية‪ ،‬واالنسحاب من املدن‪،‬‬
‫الجيش العراقي والرشطة املحلية باالشرتاك مع افراد الصحوات أحيانا‪.‬‬
‫مل تعد امليليشيات حرة الحركة يف الدخول والخروج للتصفيات الطائفية‪ .‬كام أصبح‬
‫عسريا اخراج األحزمة الناسفة والعبوات املتفجرة‪ ،‬وانخفضت اىل حد كبري عمليات االختطاف‬
‫التي كانت تتم بوضع املختطف يف الشنطة الخلفية للسيارة‪ .‬الحفاظ عىل وحدة بغداد‬
‫صار بتقطيع أوصالها‪ ،‬عكس مجرى تاريخها الذي اعتادت عليه‪ ،‬اي عرب التزاوج‪ ،‬والتالقح‪،‬‬
‫واالختالط‪ .‬بذلك انخفض العنف يف املناطق املختلطة‪ ،‬وساد املناطق الصافية طائفيا هدوء‬
‫معقول‪ ،‬يف ذات الوقت الذي متنت فيه جسد الدولة الجديدة‪ ،‬وتعمقت التفاهامت السياسية‬
‫بني األطراف كلها‪ .‬التفاهامت أدت الحقا اىل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية‪ ،‬عرب مفهوم‬
‫الدميقراطية التوافقية الذي يفسح املجال واسعا ملشاركة األطراف كافة‪ .‬منعزالت بغداد‬
‫يراها املرء بنفور اليوم‪ ،‬ويرفضها املواطنون كلهم تقريبا‪ ،‬اال انها كانت حال مؤقتا لوقت‬
‫استثنايئ يتطلب السيطرة عىل األرض‪ .‬ويتفاءل الجميع بزوالها يف أوقات قريبة‪ ،‬كون‬
‫املجتمع بدأ‪ ،‬قليال قليال‪ ،‬يستعيد مفهومه املديني‪ ،‬بعد رفض القوى السياسية‪ ،‬حتى املتطرفة‬
‫منها‪ ،‬للمحاصصة الطائفية يف الحكم‪ ،‬أو تقسيم العراق اىل فئات ثالث هي الشيعة‪ ،‬والسنة‪،‬‬
‫واألكراد‪.‬‬
‫املرحلة السابقة تسببت بجروح غائرة يف الروح العراقية‪ ،‬ومل تعد فكرة املنعزالت‬
‫مقنعة ألي شخص‪ ،‬خاصة وأن البغداديني اليوم ميكنهم الدخول والخروج اىل أي من‬
‫املنعزالت تلك دون أن يسألهم أحد عن انتامءاتهم الطائفية والدينية‪ .‬فقبضة القوى األمنية‬

‫‪77‬‬
‫رابنألا ركاش‬ ‫هتالزعنم ىلع درمتت ةيدادغبلا ةطيرخلا‬

‫محكمة يف هذا الجانب‪ ،‬وهذا ما يؤمن به الجميع‪ .‬تجربة بغداد أكدت مبا ال يقبل الشك‬
‫حقيقة أن مجتمعاتنا الرشقية ما زالت خارج مفهوم الحداثة‪ ،‬والدولة منظومة متقدمة‬
‫عىل نسيج تلك املجتمعات‪ ،‬وأن أي ازاحة للدولة‪ ،‬سواء كانت دولة يقودها حزب واحد أو‬
‫مجموعة أحزاب‪ ،‬سواء كان الحكم دميقراطيا أو ديكتاتوريا‪ ،‬ستنتج كوارث انسانية ال حرص‬
‫لها‪ .‬إزالة الدولة يقود اىل الحرب األهلية‪ ،‬هذه البديهية كانت عىل ما يبدو إما غائبة عن‬
‫التخطيط األمرييك‪ ،‬قبل اسقاط النظام‪ ،‬أو أنها نظرت اىل الواقع العراقي بتبسيط هائل‪ .‬وكال‬
‫اإلفرتاضني أوصال الوضع يف العراق اىل ما كان عليه‪ .‬لكن األكيد من كل ذلك أن املواجهات‬
‫التي حصلت يف بغداد‪ ،‬رغم أنها عنيفة‪ ،‬وذات مستويات متعددة‪ ،‬اال انها مل تحل األسئلة‬
‫التاريخية املتوارثة بني الطوائف واألديان‪ .‬صحيح أن الجميع تقيأ ما بجعبته من مثالب‪،‬‬
‫وحجج‪ ،‬ومكبوتات تاريخية تجاه اآلخر‪ ،‬غري أن فكرة تحطيم الدولة‪ ،‬مهام كانت صفتها‪،‬‬
‫أصبحت مرفوضة وينظر لها الشعب بريبة‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫سودان‬

‫الحائط املسدود‪:‬‬
‫مسائل العروبة واإلسالم يف السودان‬
‫حيدر ابراهيم عيل‬

‫لدى كل واحد من الشعوب قضية محورية تشغله ك ّله‪ ،‬باملؤيدين لها أو املعارضني‪ّ ،‬‬
‫سم‬
‫هذه القض ّية قضية قومية‪ ،‬أو قضية وجود‪ ،‬أو اسرتاتيجية‪ ،‬أو ثوابت أمة‪ .‬فهي التي متثل‬
‫الدافع واملسبب واملوجه لكل حركة الجامعة وتفاعالتها ورصاعاتها‪ ،‬وهي قد تكون روح‬
‫األمة (‪ .)ethos‬ويف السودان كانت القضية هي‪ :‬الهوية الثقافية أو الذاتية‪ ،‬وأحيانا الهوية‬
‫الوطنية أو القومية‪ .‬وهذا اختالف شكيل‪ ،‬ألن املهم أن الجميع يطرح سؤال‪ :‬من نحن؟‪ ،‬هل‬
‫نحن عرب أم أفارقة أم مستعربون أفارقة؟‪.‬‬
‫ومن الوضح أن السودانيني وقعوا منذ البداية يف فخ سؤال بال اجابة‪ ،‬مفتوح عىل كل‬
‫االحتامالت والتفسريات‪ ،‬ثم بعد ذلك عىل االختالفات والرصاعات‪ .‬فالهوية مفهوم شديد‬
‫التجريد‪ ،‬وجوهراين‪ ،‬وثابت‪ ،‬وأقرب اىل امليتافيزيكيا حني يستخدم يف وصف الجامعات‬
‫والنظم وحتى الثقافة‪ .‬ورغم ذلك ربط السودانيون مهمة بناء الدولة الوطنية‪ ،‬وتحقيق‬
‫الوحدة الوطنية والتنمية‪ ،‬بتحديد هويتهم‪ .‬ودخلوا يف مناقشات تضاهي الجدل البيزنطي‪،‬‬
‫أعاقتهم يف عملية رسم السياسات‪ .‬اذ مل يكن من املمكن اتخاذ قرار ال يستهدي مبكونات‬
‫الهوية‪ .‬وهذا ما يفرس ملاذا اهتم السياسيون السودانيون كثرياً مبتطلبات وضع دستور دائم‬
‫للبالد‪ ،‬قائم عىل ثوابت االمة وهويتها؟‪ ،‬ويف الوقت نفسه أهملوا وضع الخطط للتنمية ومن‬
‫ثم العمل عىل تنفيذها‪.‬‬
‫يصف د‪ .‬فرانسيس دينق‪ ،‬االكادميي والديبلومايس الجنويب املرموق‪ ،‬واملكتوي باملشكلة‬
‫مبارشة‪ ،‬القضية بكثري من الدقة‪ ،‬حني يكتب‪" :‬هل الحرب االهلية يف السودان نزاع بني هوية‬
‫عربية‪-‬اسالمية يف مواجهة هوية افريقية‪ -‬مسيحية‪-‬وثنية؟ ماهي الهوية الحقيقية للبالد؟‬
‫ما هي األسس التي تحدد مثل هذه الهوية؟ ما مدى متثيل التعريف الرسمي الراهن للهوية‬
‫للرتكيبة الداخلية للبالد؟ واذا مل تكن ممثلة‪ ،‬ما هي الهوية األكرث متثيال للسودان؟ وماهي‬
‫موحدة؟ هل من املمكن‬ ‫العقبات‪ ،‬وعىل من تقع مسؤوليات عرقلة تصحيح وتبني هوية ّ‬
‫تخطي تلك العقبات لدعم االحساس بهوية تكون للبالد بكل مكوناتها؟‪ .‬اذا كانت الردود‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫بااليجاب‪ ،‬ما هي االسرتاتيجيات املمكن اتخاذها للتغلب عىل العقبات؟"‪.1‬‬


‫ويطالب دينق‪ ،‬بكل وضوح‪ ،‬بتحديد الهوية املوحدة ليك نبني عليها كل األشياء‬
‫األخرى‪ .‬وهذا مطلب يبدو يف شكله الخارجي سهال‪ ،‬ولكنه صعب يصل إىل حد االستحالة‬
‫واقعياً‪ .‬وذلك ببساطة ألن الهوية ليست معطى موجودا هناك‪ ،‬معطى علينا أن نبحث عنه‬
‫وحني نجده تُحل كل العقد‪ .‬لكن الهوية يف معناها وشكلها الجوهراين والثابت‪ ،‬وهم يف‬
‫أحسن الفروض‪ .‬ففي الحقيقة‪ ،‬الهوية مك ّونة اجتامعياً‪ ،‬أي أن كل جامعة أو ثقافة تح ّدد‬
‫ما تسميه هويتها من خالل قناعات‪ ،‬هي غالبا ذاتية‪ ،‬قد تُدعم‪ ،‬أو ال تُدعم‪ ،‬مبعطيات‬
‫ومؤرشات موضوعية‪ .‬فحني أقول نحن السودانيني أشجع أو أكرم الناس‪ ،‬فهذه ال تعدو أن‬
‫تكون صورتنا عن أنفسنا وكفى‪ .‬لكننا قد نسعى اىل البحث عن امثلة تؤكد وجود هذا الكرم‬
‫أو الشجاعة‪ ،‬وقد ال تكون النامذج متكررة وعامة‪.‬‬
‫هنا مكمن أزمة "الهوية السودانية"‪ :‬من الذي يحددها؟ وبأية معايري؟‪ .‬فمن املعروف‬
‫أن السودان دولة تتسم بتنوع هائل وبتاميزات إثنية وثقافية‪ .‬وهذا وضع طبيعي‪ ،‬بل‬
‫وايجايب يف ما لو تم توظيفه بعقالنية‪ .‬ذاك أن التاميز حقيقة وواقع وال يسبب يف حد ذاته‬
‫خلال أو تناقضا‪ .‬لكن املشكلة تأيت حني يح َّول هذا التاميز‪ ،‬بآليات معينة‪ ،‬اىل امتياز ويصبح‬
‫أداة للتفضيل ولرتاتب اجتامعي وسيايس‪ .‬ولألسف ‪،‬هذا ما حدث يف السودان املعارص‪.‬‬
‫ويصف د‪ .‬عبد السالم نورالدين‪ ،‬عن حق‪ ،‬الهوية السودانية بقوله‪" :‬انها من صنع‬
‫الصفوة السياسية وليست ظاهرة وطنية شعبية"‪ .‬ويضيف‪" :‬تحولت الهوية السودانية‬
‫عىل أيدي خاطفيها من الطائفيني والذين آل اليهم الحكم يف السودان‪ ،‬بالوراثة أو القوة‬
‫العسكرية‪ ،‬اىل ايديولوجية قومية ودينية"‪.2‬‬

‫املك ّون املفرتض األول للهوية‪ :‬العروبة‬


‫كان من الواضح أن الفئات والقوى االجتامعية النيلية الوسطية‪ ،‬وهي عربية أو مستعربة‬
‫واسالمية‪ ،‬هي األقدر ألسباب تاريخية واقتصادية‪-‬اجتامعية جعلتها األكرث تطوراً‪ ،‬عىل فرض‬
‫هوية معينة عىل البالد‪ .‬وكان الخيار الطبيعي هو العروبة واالسالم‪ ،‬فلم تكن مصادفة أن‬
‫يتصدر نشيد املؤمتر‪ ،‬أي مؤمتر الخريجني‪ ،‬طليعة الحركة الوطنية‪ ،‬هذا البيت لوصف األمة‬
‫السودانية‪:‬‬
‫"أم�������ة أص���ل���ه���ا ال������ع������رب‪ /‬دي���ن���ه���ا خ��ي��ر دي������ن ي���ح���ب"‬
‫لكن عروبة السودان واجهتها صعوبات يف التعريف والتوصيف‪ ،‬بسبب عقبات‬

‫‪ 1 1‬كتاب‪ :‬رصاع الرؤى – نزاع الهويات يف السودان‪ .‬ترجمة د‪ .‬عوض حسن‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪،‬‬
‫‪ ،2001‬ص‪401‬‬
‫‪ 2 2‬حوار اجراه صالح شعيب‪ ،‬نرش يف موقع "سودانيز أونالين" وصحيفة "األحداث" السودانية‬

‫‪80‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫النسب (الدم) واللون‪ .‬وسارع الكثريون اىل القول إن العروبة ال تقوم عىل العرق ولكن عىل‬
‫الثقافة‪ ،‬أو بصورة أدق‪ ،‬اللغة‪" :‬إمنا العربية لسان فمن تحدث العربية فهو عريب"‪ .‬ولكن‬
‫الكثريين من السودانيني مل يقتنعوا أو يكتفوا بعامل اللغة أو الثقافة فقط‪ .‬اذ كان ال بد‬
‫من اكامل ذلك الرشط‪ ،‬خاصة لدى املواطنني العاديني والذين يتحدثون العامية السودانية‪،‬‬
‫بتأكيد "مادي" أكرث يتط ّلبه النسب العرويب‪.‬‬
‫ولفكرة العروبة واالسالم جذورها التاريخية البعيدة لدى السودانيني‪ .‬اذ تروي املصادر‬
‫أن السلطان سليم‪ ،‬بعد أن أخضع ساحل البحر االحمر‪ ،‬ودخل الحبشة بقصد الزحف عىل‬
‫سنار‪ ،‬خاطب ملكها عامرة دنقس (‪ )1534-1505‬يدعوه اىل الطاعة‪ ،‬فأجابه‪" :‬اين ال أعلم‬
‫ما الذي يحملك عىل حريب‪ ،‬وامتالك بالدي‪ ،‬فان كان ألجل تأييد دين االسالم‪ ،‬فاين أنا وأهل‬
‫مملكتي عرب مسلمون ندين بدين رسول الله"‪ .‬وأرسل له مع الكتاب كتاب أنساب قبائل‬
‫العرب الذين يف مملكته‪ .‬وكان قد جمعه له االمام السمرقندي أحد علامء سنار‪ .‬فلام وصل‬
‫الكتابان اىل السلطان سليم اعجبه ما فيهام وع ّدل عن حرب سنار‪ .‬وقيل إنه أخذ كتاب‬
‫االنساب معه اىل اآلستانة‪ ،‬ووضعه يف خزانة كتبها‪ .3‬هذا وقد انترشت فكرة شجرة النسب‬
‫بني املستعربني السودانيني‪ ،‬وهم غالبا ما يوصلون نسبهم اىل العباس أو بني امية أو اىل‬
‫هارون الرشيد‪ .‬وهذا مجال واسع مثري للسخرية‪ .‬فعىل سبيل املثال فقط‪ ،‬نأخذ الرشايدة‬
‫أوالزبيدية‪ ،‬اذ تقول املصادر‪" :‬يفخر الرشايدة بانتسابهم اىل العباسيني واىل هارون الرشيد‬
‫وزوجته زبيدة بالذات‪ ،‬وهم يقولون إن تسميتهم بالرشايدة والزبيدية امنا جاءت بسبب‬
‫هذا االنتساب‪ ،‬ويقول يف ذلك أحد أفراد هذه القبيلة من ديوان‪ :‬املدائح البهية يف مدح خري‬
‫‪4‬‬
‫الربية‪ ،‬تأليف الفقري اىل ربه نفاع بركات غويتم الرشيدي أصال والنجدي موطنا‪:‬‬
‫"أن�����ا ن���ف���اع ب���ن ب���رك���ات ب��ي�ن‪ /‬وم����وص����ول ب����ه����ارون ال��رش��ي��د‬
‫‪4‬‬
‫أن���ا يف م��وط��ن ال���س���ودان ق��اط��ن‪ /‬وأص�ل�ي ن��ج��د وال��ش�رق السعيد"‬
‫ويحاول الجعليون‪ ،‬وهم من القبائل الكبرية يف الشامل‪ ،‬حرص النسب بالعباس أو بني هاشم‪.‬‬
‫وترسد بعض رواياتهم الشعبية‪" :‬ونقول يف نسب العرب التي اشتهرت بجعل ونسلهم‪.‬‬
‫هم اصحاب الدولة يف بالد السودان ولهم الصولة من مكانتهم من بني هاشم‪ .‬اما سبب‬
‫تشاجر وقع بني بني امية وبني هاشم وخرجت طائفة من بني‬ ‫خروجهم اىل بالد السودان‪ُ ،‬‬
‫هاشم اىل املغرب ثم عادوا اىل دنقال وتغلبوا عىل أهلها" ‪ .‬وللفونج قصة مشابهة‪ ،‬تقول‪" :‬ان‬
‫‪5‬‬

‫العباسيني ملا تغلبوا عىل األمويني يف الشام ونزعوا امللك من ايديهم سنة ‪ 132‬هجرية‪750 ،‬م‪،‬‬
‫أخذ من بقي من االمويني ومن واالهم بالفرار‪ ،‬فتفرقوا يف أنحاء العامل فذهبت جامعة منهم‬
‫اىل اسبانيا فأسسوا مملكة االندلس عىل ما هو مشهور‪ ،‬وذهب آخرون اىل السودان فأسسوا‬
‫‪ 3 3‬نعوم شقري‪ .‬تاريخ السودان‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪ ،1981 ،‬ص ‪100‬‬
‫‪ 4 4‬السني بانقا ومصطفى عيل احمد‪ :‬الرشايدة‪ ،‬ب‪ .‬ن‪ ،.‬ب‪ .‬ت‪ ،.‬ص‪7‬‬
‫‪ 5 5‬محمد سعيد معروف ومحمود محمد عيل منر‪ :‬الجعليون‪.‬الخرطوم‪ ،‬دار البلد‪ ،‬ب‪ .‬ن‪ ،.‬ص‪8‬‬

‫‪81‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫مملكة سنار"‪.6‬‬
‫هذه هي الهوية – االيديولوجيا التي اخرتعتها النخب الشاملية‪ ،‬العربية –املسلمة‪،‬‬
‫ولكنها مل تكن محكمة ومقنعة خاصة حني اعتمدت عىل العرق أو الدم‪ .‬فقد حدث متازج‬
‫اضاع بعض السامت الفيزيقية العربية مثل اللون‪ .‬وهذا ما جعل سودانيا ينتمي اىل ارسة‬
‫"العبايس" يندهش‪ ،‬ويبحث عن االعذار‪ .‬فحني خذله لونه ص ّدته فتاة عربية (بيضاء)‪ ،‬اذ‬
‫يبدو أنه أبدى االعجاب أو أراد التقرب‪ ،‬فقال بانكسار‪ :‬أألن السواد يغمرين ليس يل فيه يا‬
‫فتاة يد!؟‬
‫والشاعر صالح احمد ابراهيم‪ ،‬الذي كتب يف احدى املقاالت "نحن عرب العرب"‪ ،‬بينّ‬
‫ذلك بأن السوداين ليس فقط عربياً‪ ،‬بل هو أقرب من البداوة والفطرة الصحراوية التي متثل‬
‫الوجه الحقيقي للعريب مبا تعكسه اللغة واالخالق والروح القومية"‪.7‬‬
‫ولكن شاعرنا يواجه تجربة تجربه عىل موقف مختلف‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫"أنا من افريقيا حرارتها الكربى وخط االستواء"‪.‬‬
‫ويقول يف قصيدة بعنوان‪ :‬فكر معي ملوال (اسم شائع بني الجنوبيني)‪:‬‬
‫"ك ّذاب الذي يقول يف السودان إنني الرصيح‪ ،‬إنني النقي العرق‪ ،‬إنني املحض‪ ...‬أجل‬
‫ك ّذاب"‪.‬‬
‫وتواجه الهوية العربية بعدد من املشكالت واالشكاليات يف حالة التحديد الدقيق‪ .‬اذ‬ ‫َ‬
‫تظهر ثنائيات عديدة‪ ،‬عىل رأسها العروبة عند العامة‪ ،‬التي تكتفي بعروبة القبيلة املستندة‬
‫عىل النسب واألصل‪ ،‬مقابل عروبة املثقفني والنخب وهي سياسية (تتمثل يف احزاب البعث‬
‫والنارصيني والقوميني العرب) وثقافية تظهر يف نقاشات وحوارات االدباء والكتاب‪ .‬ويف‬
‫كثري من االحيان‪ ،‬يتقاطع املوقفان ويستخدم املثقفون مقوالت العامة لدعم قضاياهم‪،‬‬
‫خاصة تلك التي تحتاج اىل سند شعبي‪ .‬وقد ترسخت "عنرصية عروبية وقبلية" يف الوجدان‬
‫السوداين‪ ،‬ولألسف الزم ذلك الشعور العنرصي واملوقف غري املتسامح الحرك َة الوطنية منذ‬
‫بدايتها‪ ،‬ثم سارت عىل نفس الطريق‪ ،‬االحزاب السياسية منذ نشأتها االوىل‪ .‬ومع الزمن‪،‬‬
‫اصبحت العنرصية السافرة أواملبطنة ‪ ،‬جزءا اصيال من السياسة ونظام الحكم حتى اليوم‪.‬‬
‫كانت أول انتفاضة وطنية ضد االستعامر‪ ،‬ذات توجه قومي‪ ،‬قد متثلت يف هبة أو‬
‫ثورة ‪ 1924‬بقيادة عيل عبد اللطيف‪ .‬ولكنها اخمدت رسيعا‪ ،‬لوقوف زعامء القبائل العربية‬
‫والطرق الصوفية ضدها‪ .‬وقد أفصح عن املوقف العنرصي‪ ،‬املعبرَّ عنه قبليا‪ ،‬الصحايف حسني‬
‫رشيف‪ ،‬بقوله‪" :‬ان البالد قد اهينت ملا تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز‬
‫يف املجتمع‪ .‬وان الزوبعة التي أثارها الدهامء‪ ،‬قد ازعجت التجار ورجال االعامل"‪ .‬ودعا اىل‬
‫استئصال شأفة اوالد الشوارع‪" :‬ذلك أن الشعب السوداين ينقسم اىل قبائل وبطون وعشائر‬

‫‪ 6 6‬نعوم شقري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.97‬‬


‫‪ 7 7‬جريدة الصحافة ‪ ،1967/11/6‬أورده عبد الهادي الصديق يف أصول الشعر السوداين‪ .‬الخرطوم‪ ،‬دار‬
‫جامعة الخرطوم للنرش‪ ،1989 ،‬ص‪162‬‬

‫‪82‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ‪ ،‬وهؤالء هم اصحاب الحق يف الحديث عن البالد‪ .‬من‬
‫هو عيل عبد اللطيف الذي أصبح مشهورا حديثا وإىل أي قبيلة ينتمي؟"‪ 8‬ورغم أن عيل‬
‫عبد اللطيف سوداين من قبيلة الدينكا‪ ،‬فألن قبيلته غريعربية مل يعرتف بها الكاتب كقبيلة‪.‬‬
‫ومثل هذا الحديث ليس تاريخا‪ ،‬بل استمرت مفاعيله حتى اليوم‪ .‬فحني يكتب الطيب‬
‫مصطفى‪ ،‬صاحب صحيفة "االنتباهة" عن باقان اموم‪ ،‬االمني العام للحركة الشعبية‪ ،‬يقول‬
‫نفس الكالم ضمنا وتلميحا ألن الظروف مل تعد تسمح له بنفس الرصاحة السابقة‪ .‬ويظل‬
‫املوقف والشعور كام هام ال يتغريان‪ ،‬وذلك ألن املجتمع السوداين راكد‪ ،‬مل تتغري كثريا عالقاته‬
‫االنتاجية‪ ،‬وال وسائله االنتاجية‪ ،‬خاصة يف الريف والبوادي‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة املبكرة من تاريخ الحركة الوطنية‪ ،‬كان يتم التعبري عن العروبة من‬
‫خالل العالقة مع مرص واملوقف منها‪ .‬وظهرت حينئذ دعوات الوحدة أو االتحاد مع مرص‪.‬‬
‫وكانت هذه دعوات متقدمة يف ميدان الفكر والسياسة واالدب‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬ولكن ال‬
‫يسمح الحيز املتاح‪ ،‬واملَقام‪ ،‬مبتابعتها بإسهاب‪ .‬اال ان الحركة الوطنية وبالذات االتحاديني‪،‬‬
‫تطلعوا شامال واهملوا الجنوب املختلف واملعوق‪ .‬وكأين بهم‪ ،‬يريدون اوال اثبات عروبتهم‬
‫ثم يلتفتون بعد ذلك اىل التنوع واالختالف يف وطنهم‪ .‬لكن الشامليني مل يلتفتوا اىل الجنوب‪،‬‬
‫حتى حمل السالح ومترد بعنف‪ .‬وبدأ التنوع الثقايف يفرض نفسه بوضوح‪ ،‬وتقدم موضوع‬
‫الهوية مجدداً‪ ،‬ولكن يف أجواء التوتر والنزاع والخصومات الحادة‪ .‬ووسط الحرب األهلية‪،‬‬
‫انشغل السودانيون بتعريف انفسهم وتساءلوا من نحن؟‪ ،‬وهو سؤال يف عمقه يدل اىل أن‬
‫السودان بالفعل هو تعبري جغرايف‪ ،‬باعتبار أنه مل يعرف خالل تاريخه ‪ -‬وهذا موضوع شائك‬
‫وطويل ‪ -‬الدولة املركزية وال املجتمع املوحد وال الثقافة الشاملة‪ ،‬الجامعة‪.‬‬
‫لقد برز موقف يقبل التعدد الثقايف نتيجة صدمة الحرب‪ ،‬ويف نفس الوقت ال يخجل‬
‫بصفة الهجني أو الخليط أو الخالسية يف وصف الشامليني املستعربني‪ .‬وميكن التأريخ لهذا‬
‫االتجاه بكتابات املحجوب املبكرة ومعارك محمد محمد عيل حول قومية االدب السوداين‪.‬‬
‫ثم تجي مدرسة "الغابة والصحراء"‪ ،‬يف ستينات القرن املايض‪ ،‬كمحاولة اصيلة ولكن قصرية‬
‫العمر‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬فإن أصحابها مل يط ّوروها‪ ،‬بل أنكرها بعضهم‪ .‬وكان لبعض روادها ومضات‬
‫وارشاقات يف تحديد الهوية‪ ،‬أهمها وأعمقها قصيدة "سنار" للدكتور محمد عبد الحي‪ ،‬يف‬
‫قوله‪:‬‬
‫"افتحوا للعائد التائه أبواب املدينة‬
‫– –بدوي أنت؟‬
‫– –ال‬
‫– –من بالد الزنج؟‬
‫– –ال‬

‫‪ 8 8‬صحيفة الحضارة ‪1924/6/25‬‬

‫‪83‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫– –أنا منكم كافرا تهت – تغربت سنينا‬


‫– –مستعريا يل قناعا وعيونا‬
‫– –وضالال ويقينا وجنونا‬
‫– –أتغ ّنى بلسان‪ -‬وأصليّ بلسان‪.‬‬
‫– –بني حانات املوانئ"‪.‬‬
‫وبالفعل هذا هو االنسان السوداين‪ :‬ليس عربيا كامال وال زنجيا خالصا‪ ،‬فهو يغني‬
‫باللسان االفريقي‪ ،‬ويصيل بلسان عريب فصيح ما امكن‪.‬‬
‫وهذا هو وضع االنسان الشاميل املستعرب عىل مستوى الفكر والنظر‪ .‬لكن يف‬
‫منتصف سبعينات القرن املايض‪ ،‬مع الفورة النفطية واألزمة االقتصادية يف السودان‪ ،‬تعرض‬
‫السودانيون لتجربة هجرة واسعة للخليج والجزيرة العربية‪ .‬وكان يف هذه الهجرة‪ ،‬االختبار‬
‫الحقيقي لـ"أصالة"عروبتهم‪ ،‬من خالل االحتكاك املبارش ببقية العرب‪ .‬اذ اكتشف السودانيون‬
‫املستعربون الشامليون‪ ،‬أنهم هناك يف نفس موقع الجنويب والنوباوي والغرباوي يف سلم‬
‫الرتتيب العرقي الذي يطبقونه داخل السودان‪ .‬وأربكتهم‪ ،‬مثال‪ ،‬صدمة أن صفة "عبد" التي‬
‫يطلقونها ببساطة يف بالدهم ميكن أن تطلق عليهم بنفس السهولة يف املهاجر‪ .‬ورغم أن‬
‫املغرتبني العاديني مل يسجلوا انطباعاتهم كتابة‪ ،‬فإنهم قالوها وعاشوها‪ .‬ولكن بعض املثقفني‬
‫السودانيني فعلوا ذلك‪ .‬وأورد هنا‪ ،‬مثاال ملثقف وأكادميي مرموق سجل بعضا من تجربته‪،‬‬
‫قائ ًال يف استبيان منشور‪" :‬ذهبت اىل السعودية و ُرفضت كعريب من الوهلة االوىل‪ .‬كان يقال‬
‫يل دامئا‪ :‬أنت افريقي‪ ،‬برغم تحدثك العربية‪ .‬أعلن اسالمك واذهب اىل الجامع‪ .‬وما زلت‪...‬‬
‫افريقياً"‪ .9‬ويف نفس االستبيان يقول اكادميي آخر‪" :‬يدرك السودانيون اكرث واكرث بأنهم‬
‫يختلفون عن العرب‪ ،‬خاصة من ذهب اىل الخليج من امثالنا‪ .‬يعود السودانيون مدركني‬
‫جدا بأنهم مختلفون‪ .‬بالطبع يستفيدون من‪ ،‬ويرغبون يف‪ ،‬االنتامء للعرب‪ ،‬ألنه بدون ذلك‬
‫رمبا ال يسمح لهم باالقامة‪ ،‬ولكن يف داخلهم يشعرون بأنهم مختلفون (‪ )...‬ويجدون بأنهم‬
‫مختلفون متاما عنهم‪ ،‬ليس فقط عرقيا بل ثقافيا واجتامعيا‪ .‬ولدى عودتهم للسودان ال‬
‫اعتقد بأنهم سوف يرغبون يف االنتامء للعرب"‪ .10‬وأوضح الجنويب السوداين‪ ،‬ساميون‪ ،‬الذي‬
‫عمل ايضا يف الخليج‪" :‬قضيت اربع سنوات يف الخليج وتجولت فيه‪ .‬نحن السودانيني يف‬
‫الخليج ال نعترب عربا‪ .‬فكيف يجوز لنا العودة للبالد والتظاهر بأننا عرب؟"‪ .‬وضمن العام‬
‫الذي يشبه الخاص‪ ،‬أحيك ما ال بد أن احكيه‪ .‬اذ ورغم اندماجي العرويب الصادق‪ ،‬فكراً وفع ًال‪،‬‬
‫مررت بتجارب تعيسة للغاية وعىل مستوى النخبة العربية‪ .‬ففي عام ‪ 1999/98‬تم اختياري‬
‫كأمني عام للجمعية العربية لعلم االجتامع‪ ،‬ونزل األمر كالصاعقة عىل اصدقاء من دولة‬
‫شقيقة جدا‪ .‬وهم اصدقاء حقيقيون يل‪ ،‬لكنهم مل يستطعوا بلع الفكرة‪ ،‬واضطررت لالستقالة‬

‫‪ 9 9‬مرجع سابق‪ :‬رصاع الرؤى‪ ،‬ص‪.406‬‬


‫‪ 1010‬مرجع سابق‪ :‬رصاع الرؤى‪ ،‬ص‪406‬‬

‫‪84‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫ولدي قامئة سوداء ببعض الدول العربية التي‬


‫يف نفس العام‪ ،‬فاقدا املوقع واالصدقاء معا‪ّ .‬‬
‫ارفض زيارتها‪ .‬فقد عملت يف بعض جامعاتها ملدة اربعة أو خمسة شهور مع أن العقد‬
‫كان لسنوات‪ .‬باختصار‪ ،‬تجارب السودانيني يف الدول العربية عموما محزنة‪ ،‬وال تصدقوا‬
‫املجامالت واالبتسامات‪.‬‬
‫وقد ادرك الجنوبيون هذا املأزق العرويب الذي يعيشه الشامليون‪ ،‬ولذلك نراهم‬
‫والكف عن محاولة الهيمنة عليهم‪ .‬ويقول الزعيم جون‬ ‫ّ‬ ‫يطالبونهم بالواقعية وعدم التعايل‬
‫قرنق‪ ،‬يف خطاب له يف اجتامع بكوكادام يف آذار (مارس) ‪" :1986‬ان قضيتنا الرئيسية تتمثل‬
‫يف أن السودان ظل وما زال يبحث عن ذاته‪ ،‬وعن هويته الحقيقية‪ .‬ولفشلهم يف معرفة‬
‫ذاتهم يلجأ السودانيون اىل العروبة‪ ،‬وبفشلهم يف ذلك ايضا يلجأون اىل االسالم كعامل جامع‬
‫وموحد‪ .‬ويصاب اآلخرون باالحباط وخيبة األمل لدى فشلهم يف فهم أن يتحولوا اىل العرب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بينام اراد لهم الخالق غري ذلك‪ ،‬وعندها يلجأون اىل االنفصال‪ .‬وداخل كل هذا يسود كثري‬
‫من الغموض والتحريف لخدمة مصالح طائفية متباينة‪ .‬ليس هناك وضوح قاطع يف أمر‬
‫هويتنا؛ نحتاج اىل التخلص من الترشذم والنظر بعمق داخل بالدنا"‪.‬‬
‫وهناك شبه اجامع بني الجنوبيني وبعض الشامليني‪ ،‬حول التحريف والتشويه الذي‬
‫حدث للهوية التي تم تركيبها‪ ،‬بحيث تغدو هوية مهيمنة تعمل عىل فرض نفسها عىل بقية‬
‫السودانيني من خالل آليات بعينها‪ .‬فاللغة العربية تم تسييسها‪ ،‬فهناك جنوبيون يجيدون‬
‫اللغة العربية ولكنهم يتجنبون التحدث بها ليك ال يتامهون مع "املضطهِد العريب"‪ .‬وقد أورد‬
‫دينق قصة زعيم الدينكا والقائد الروحي ماكوي بيلكوي‪ ،‬الذي زعم أن االله قد أمر بعدم‬
‫تعلمها‪ ،‬ألن تعلمها يجعل منه شخصا سيئاً‪ .11‬ومن املعروف أن معرفة اللغة العربية من‬
‫رشوط االلتحاق بأي عمل يف أغلب الحاالت‪ .‬كام ارتبطت الهوية العربية مبامرسة هيمنة‬
‫سياسية واقتصادية يعاد انتاجها من خالل الوراثة أو التحالفات القبلية والعشائرية‪ .‬ويف هذه‬
‫العملية يتم تثبيت أفضلية العرب من بني السودانيني‪ ،‬رغم أنهم يف الحقيقة هجني أنتجته‬
‫عمليات التزاوج والتالقح بني املجموعات املحلية والهجرات العربية‪ .‬ويجتهد الشامليون من‬
‫أجل التربؤ من أي أصل افريقي أو زنجي‪.‬‬
‫كيف ميكن تفسري هذا االرصار عىل االبتعاد عن االنتامء االفريقي؟ يعود السبب‬
‫اىل تاريخ مخجل سادت فيه تجارة الرقيق التي مارسها العرب وبقية االجانب املغامرين‬
‫يف افريقيا‪ .‬وقد الغيت تجارة الرقيق ‪ -‬رسمياً‪ -‬يف السودان‪ ،‬بعد انتهاء الحرب العاملية‬
‫االويل عام ‪ .1919‬وكانت عمليات صيد الرقيق يف السودان قد وقعت اكرث ما وقعت عىل‬
‫املجموعات الزنجية والداكنة اللون وذات الشعر األجعد‪ .‬كام اشتهرت بعض القبائل النيلية‬
‫الوسطية املستعربة‪ ،‬بأنها كانت نشطة يف هذه التجارة‪ .‬كذلك كانت القبائل الضعيفة‬
‫عموما عرضة للقنص البرشي‪ ،‬لذلك لجأت القبائل املستعربة بالذات اىل استخدام الشلوخ‬

‫‪ 1111‬مرجع سابق‪ :‬رصاع الرؤى‪ ،‬ص‪.415‬‬

‫‪85‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫عىل الوجه أي الفصود والعالمات عىل الخدين‪ ،‬لتمييز كل قبيلة عن أخرى‪ .‬وقد ساد‬
‫الخوف وعدم االمان بني القبائل‪ .‬ولذلك ضُ خّ م البحث عن خصائص لتصنيف من هو‬
‫"العبد" أو "الحر"‪ .‬واهتم السودانيون بهذا التصنيف كثريا يف تحديد عالقاتهم االجتامعية‬
‫وتراتبهم االجتامعي ومكانتهم‪ .‬وقد درج الشامليون عىل تصنيف الجنوبيني‪ ،‬بال تردد‪ ،‬يف‬
‫موقع"العبيد" مع ما يرتتب عليه من تعال معلن أو مضمر‪ .‬وهذا ايضا ليس من التاريخ‪،‬‬
‫فالكلمة مستعملة استعامالً عادياً‪ ،‬ومام يدهشني أن االجيال الشابة تستخدمها دون حرج‬
‫كبري‪ .‬وتقدم روايتا "طائر الشوم" لفرانسيس دينق‪ ،‬و"الحنق" لشوقي بدري‪ ،‬وصفا حيا لهذه‬
‫الوضعية‪ .‬فمن املالحظ أنه تم الغاء مؤسسة الرق قانونيا ورسميا لكنها استمرت كثقافة‬
‫حية يصعب انهاؤها بالقانون أو بالقوة‪ .‬وغالبا ما ُيتخذ التزاوج بني املجموعات املختلفة‬
‫معياراً جيداً ودقيقاً لتحديد املكانة‪ .‬وظلت تثري اهتاممي منذ مدة‪ ،‬قضية عرضت عىل‬
‫املحاكم يف منتصف سبعينات القرن املايض أي قبل أربعة عقود‪ .‬فقد حكمت املحكمة‬
‫االبتدائية بالخرطوم بعدم رشعية زواج شاب بفتاة‪ ،‬ألن يف "دمه" بقايا رق أو عبودية‪ .‬ويقال‬
‫يف العامية السودانية ملثل هذه الحالة "فيه عرق"‪ ،‬فيام برر القايض حكمه بعدم الكفاءة‬
‫بني الطرفني‪ .‬ويف ما ييل منوذج للغة املستخدمة يف الحكم من قبل محامي أهل الفتاة‪..." :‬‬
‫االحرار الذين مل يجر الرق يف أصلهم فهم أك ّفاء لبعضهم إن استووا يف النسب‪ ،‬واملوايل من‬
‫جرى يف أصلهم رق‪ .‬فمن جرى يف أصله رق ليس كفئا ملن جرى يف أصله الثاين رق وأصله‬
‫األول حر‪ ،‬اذن املوايل أنفسهم ليسوا أكفاء لبعضهم بعضاً ناهيك أن يكونوا أكفاء لألحرار‪،‬‬
‫وموكلته تطالب بالزواج ملن جرى يف أصله األول رق وهو موىل من أهايل نورى مركز مروى‪،‬‬
‫وهي من أصل حر أماً وأباً‪ ،‬فـ[هو] إذن ليس كفئا لها‪ ،‬والرشيعة تأىب هذا الزواج"‪ .12‬هل‬
‫نصدق أن هذا نقاش يف محكمة سودانية يف نهاية القرن العرشين؟ ويف بلد ميكن أن يكون‬
‫موحدا ودميوقراطيا؟‪.‬‬

‫املك ّون املفرتض الثاين للهوية‪ :‬االسالم‬


‫شغل االهتامم بالهوية الجميع بعد خروج املستعمر‪ ،‬خاصة وقد رفع آباء االستقالل شعار‪:‬‬
‫تحرير ال تعمري‪ .‬ويقع ضمن التحرير أو التحرر‪ ،‬التخلص من القوانني التي وضعها املستعمر‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬كان من أهم مظاهر تأكيد الهوية وضع دستور اسالمي يكمل الوجه العريب لهويتنا‪.‬‬
‫فهناك تالزم بني االسالم والعروبة‪ ،‬ويصعب عىل السودانيني العاديني ادراك وجود عريب‬
‫غري مسلم أو مسيحي عريب‪ .‬حتى االقليات املسيحية السودانية ‪،‬هم نوبيون‪ ،‬أو نوبة‪ ،‬أو‬
‫اقباط والذين يطلق عليهم اسم النقادة‪ .‬وليس من املعتاد وصفهم بالعرب كام يوصف مث ًال‬
‫السعوديون أو حتى الشوام الذين يتفردون يف التصنيف السوداين‪.‬‬
‫لقد بادرت مجموعة صغرية من املتعلمني املتأثرين – بطريقة أو أخرى ‪ -‬بتنظيم‬

‫‪ 1212‬قرار النقض منرة ‪ 1973/41‬الصادر يوم السبت ‪ 24‬شعبان ‪ 1393‬املوافق ‪1973/9/22‬‬

‫‪86‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫االخوان املسلمني املرصيني‪ ،‬بربط االستقالل منذ الوهلة االوىل بـ"معركة" الدستور االسالمي‪.‬‬
‫فقد تزامنت متاما‪ ،‬ودون أي فارق زمني‪ ،‬حملة الدعوة للدستور االسالمي مع االعالن الرسمي‬
‫لالستقالل‪ .‬ففي ‪ 1955/12/11-10‬وجه االخوان املسلمون و"جامعة التبشري االسالمي‬
‫واالصالح" الدعوة اىل الهيئات االسالمية يف السودان‪ ،‬الجتامع للنظر "يف أمر الدستور حتى‬
‫يجيء متفقا مع ارادة الشعب السوداين املسلم ومستندا اىل كتاب الله وسنة رسوله (ص)"‪.‬‬
‫وقد استجاب اىل هذه الدعوة العاطفية والتي لعبت عىل اوتار العواطف الدينية‪ ،‬اعداد‬
‫كبرية من اعضاء االحزاب السياسية والجمعيات الخريية والطوعية واالندية والجامعات‬
‫الثقافية‪ .‬وتكونت جبهة الدستور االسالمي‪ ،‬وأعلنت أهدافها كام وردت يف املذكرة التي‬
‫صاغها الشيخ حسن مدثر‪ ،‬قايض قضاة السودان يف ‪ ،1956/11/18‬عىل النحو التايل‪" :‬ان‬
‫القوانني التي سنها املستعمرون –وهم ليسوا مبسلمني‪ -‬أباحت رضوبا من املعايص التي‬
‫ح ّرمها االسالم‪ ،‬وقد فرضوها مبا لهم من سلطان وقتئذ وهي قوانني ال ترعى عقيدة األمة‬
‫وتقاليدها‪ ،‬ولنئ ُأكره الناس عىل االذعان لها يف املايض‪ ،‬فليس مثة ما يسوغ قبولها بعد زوال‬
‫الحكم االجنبي‪ .‬ويتعني عىل أهل السودان ‪ -‬وسوادهم األعظم يدين باالسالم ‪ -‬أن يضعوا‬
‫دستورا اسالميا وأن يتخذوا القوانني التي تحمي عقيدتهم وتقاليدهم العربية االصيلة"‪.‬‬
‫واصبحت هذه املذكرة هي "مانيفستو" االحزاب الطائفية املهيمنة والحركة االسالموية‬
‫منذ االستقالل حتى اليوم‪ .‬وقد حملت يف احشائها كل بذور الشقاق والنزاعات التي‬
‫ابتيل بها الوطن‪ .‬فهي قد حددت "الهوية" بالعروبة االصيلة واالسالم الذي يدين به سواد‬
‫السودانيني االعظم‪ .‬وهنا مقتل هذه االيديولوجية‪ :‬فأين موقع من هم خارج هذا "السواد‬
‫االعظم" من املواطنني مهام كان عددهم ووزنهم السكاين؟ ومن هنا كانت بداية التهميش‬
‫واالقصاء اللذين عانت منهام قطاعات كبرية من الشعب السوداين‪ .‬فقد أبعد أهل املذكرة‬
‫حق املواطنة‪ ،‬وحلت محله العقيدة الدينية والتقاليد "العربية االصيلة"‪ .‬وادخلت الحركة‬
‫االسالموية كل العمل السيايس السوداين يف نفق مظلم وحرصت كل االهتامم يف قضية‬
‫الدستور االسالمي‪ :‬ما بني مؤيد ومعارض ومحايد وتوفيقي‪ .‬وحتى الحزب الشيوعي مل يكن‬
‫استثناء يف هذا املأزق‪ ،‬لذلك كان عىل القيادي الشيوعي الرشيد نايل املحامي أن يدبج كراسة‬
‫بعنوان‪ :‬الدستور االسالمي‪ .‬ومل يجد الربملان املنتخب الوقت ليك يناقش حفر اآلبار يف مناطق‬
‫العطش يف غرب السودان‪ ،‬وال األمراض االستوائية املستوطنة يف الجنوب‪ ،‬وال املجاعات‬
‫املوسمية يف الرشق‪ .‬ورغم أن االسالمويني مل يكونوا أغلبية يف الربملان فإنّهم مثلوا قوة ضغط‬
‫بطرحهم للموضوع الذي يخاطب العاطفة الجامهريية ويلبي شوق النخبة الباحثة عن‬
‫ذاتها‪ .‬وكانت االحزاب الطائفية التقليدية قد تبنت فكرة الدستور االسالمي بعد أن أجربتها‬
‫حملة الدعوة للدستور عىل ذلك‪ .‬بل لقد اعطتها مسودة برنامج‪ ،‬هي التي دخلت السياسة‬
‫معتمدة عىل الوالء والطاعة‪ .‬ومن الواضح ان النخبة السودانية مل تحسن اختيار اولويات‬
‫سودان ما بعد االستقالل‪ .‬كام أن السودان الحديث االستقالل‪ ،‬قد سلك طريقا خاطئا‪ .‬فهو‬
‫مل يتجه نحو التنمية والوحدة الوطنية‪ ،‬بل غرق يف جدل اسالمية الدولة والدستور االسالمي‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫وهذه قضية غري شعبية يف حقيقتها‪ ،‬أي ال يفهم فيها املواطن العادي كثريا‪ ،‬ولكن تزييف‬
‫الوعي يفعل فعله‪ .‬كذلك فهو ال يراد له أن يفهم‪ ،‬اذ يكفي حشد الجامهري ملواكب ترفع‬
‫شعار‪ :‬تطبيق رشع الله‪.‬‬
‫ومن أهم وأخطر تطورات االسالم السوداين املتميز بغلبة الطابع الصويف املتسامح‪،‬‬
‫ترسب التعصب والعنف الذي مييز االسالم السيايس ممثال يف االخوان املسلمني‪ ،‬اىل الحياة‬
‫السياسية السودانية‪ .‬ويعود ذلك اىل رصاع جامعات االسالم السيايس املحموم حول السلطة‬
‫السياسية‪ ،‬واستخدام كل االساليب للوصول اليها سلميا أو االستيالء عليها بالقوة‪ .‬وقد عرف‬
‫السودان الحديث االستقالل االنقسامية والترشذم واالنشقاق‪ ،‬خالفا للوحدة الوطنية التي‬
‫عرفها خالل مقاومة االستعامر‪ .‬ومن مظاهر التعصب التي فاقمت الرصاع‪ ،‬قرار حل الحزب‬
‫الشيوعي السوداين‪ ،‬وطرد نوابه األحد عرش من الربملان عام ‪ ،1965‬بعد أن هندس االخوان‬
‫املسلمون حادثة طالب معهد املعلمني تحت دعوى االساءة لنساء النبي‪ .‬وذلك رغم عدم‬
‫دستورية القرار وعدم منطقيته ديومقراطياً‪ ،‬ألن نوابا يطردون من الربملان نوابا مثلهم مل‬
‫ينتخبوهم ليك يسحبوا الثقة منهم‪ .‬وتربص الحزب الشيوعي بالربملان واالحزاب‪ ،‬حتى أطاح‬
‫بالجميع يف انقالب ‪ 25‬أيار (مايو) ‪.1969‬‬
‫من ناحية اخرى‪ ،‬كان االخوان املسلمون خلف مالحقة االستاذ محمود محمد طه‬
‫بتهمة ال ّردة‪ ،‬وذلك منذ ‪ .1968‬ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬بدأت الحملة من محاكم تفتيش نصبها‬
‫بعض اساتذة الجامعة االسالمية ورجال االنتهاء‪ ،‬حتى اكتملت بإقناع الرئيس جعفر النمريي‬
‫بإعدام طه يف ‪ 18‬كانون الثاين (يناير) ‪ .1985‬و ُيعد الحدثان‪ ،‬حل الحزب الشيوعي السوداين‬
‫واعدام محمود محمد طه‪ ،‬من أخطر حلقات التآمر عىل الديومقراطية والوحدة الوطنية‬
‫يف السودان‪ .‬وللمفارقة تعترب الحركة االسالموية السودانية هذين الحدثني أهم انجازين يف‬
‫تاريخ الحركة‪ ،‬باعتبار أن األول أزال أكرب عقبة سياسية وشعبية من طريق مرشوع الدستور‬
‫االسالمي‪ .‬أما الثاين‪ ،‬فقد خلصهم من العقبة الفكرية‪ ،‬إذ كان طه ناقدا عميقا وقادرا عىل‬
‫تعرية املرشوع من داخل الفكر االسالمي نفسه‪.‬‬
‫وبعد أربع سنوات من هذه املؤامرة الكربى االخرية‪ ،‬كان الطريق قد متهد الستيالء‬
‫االسالمويني عىل السلطة بالقوة عن طريق االنقالب‪ ،‬معلنني رسميا شهادة وفاة ملرشوع قيام‬
‫سودان ديومقراطي‪ ،‬موحد‪ ،‬ومتعدد الثقافات‪ ،‬يتسع للجميع‪ :‬مسلمني وغري مسلمني‪ .‬وأعلن‬
‫االسالمويون ما أسموه املرشوع الحضاري االسالمي‪ ،‬والذي تم تدشينه أو تعميده بالدم‪:‬‬
‫اعالن الجهاد ضد الجنوبيني املتمردين‪ .‬كام فتحوا ابواب الجنان لـ"شهدائهم" يف الجنوب‪،‬‬
‫حيث كان يقام عرس الشهيد ويربم الشيخ حسن الرتايب شخصيا عقود قران الشهداء مع‬
‫بنات الحور يف الجنة!‬

‫‪88‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫االنحطاط يف دارفور‬
‫لكن الجهاد أوصلهم اىل نيفاشا وليس اىل الجنة‪ ،‬حيث عقدت اتفاقية السالم الشامل‪ ،‬تحت‬
‫ضغوط خارجية‪ ،‬أقوى من االرادة الوطنية السودانية‪ .‬وتعامل االسالمويون مع االتفاقية‬
‫باعتبارها محاولة خبيثة لتفكيك النظام سلميا‪ .‬ولذلك ترصفوا ضد روح االتفاقية‪ :‬تحقيق‬
‫السالم‪ ،‬محاولني االستفادة من الفرتة االنتقالية لتحقيق املزيد من املكاسب الحزبية‪ ،‬أو‪،‬‬
‫حسب لغتهم‪ ،‬التمكني‪ .‬ودخل الرشيك االكرب‪ ،‬حزب املؤمتر الوطني‪ ،‬الذي ص ّفى وورث‬
‫الحركة االسالموية‪ ،‬يف مسلسل املناورات والتآمر والتسويف‪ ،‬لتعطيل نفس االتفاق الذي‬
‫وقعه امام العامل‪ .‬وهكذا اوصلنا نقض العهود ومحاولة توظيف االتفاقية من أجل مزيد من‬
‫"التمكني"‪ ،‬اىل حافة الهاوية أو الوضع الخطر الذي يعيشه السودان اآلن‪.‬‬
‫وباختصار‪ ،‬يتحمل االسالمويون وحلفاؤهم من دعاة الدستور االسالمي وكل سدنة‬
‫املرشوع الحضاري االسالمي ‪ -‬مبا يف ذلك املنش ّقون عنهم ‪ -‬املسؤولية التاريخية واالخالقية‬
‫النفصال الجنوب القادم‪ .‬فقد فرضوا عىل السودان منذ االستقالل الدخول يف نفق مظلم‬
‫ليبحثوا عن قطة سوداء‪ .‬وهكذا اضاعوا علينا أكرث من نصف قرن من عمر االستقالل‪ ،‬شاغلني‬
‫الناس بقضية هامشية‪ :‬الدستور االسالمي‪ .‬وهذا ألن هذه القضية ال تصيب الهدف املركزي‬
‫واملصريي لالستقالل‪ :‬التنمية الشاملة‪ ،‬واملستقلة‪ ،‬والعادلة‪ ،‬واملحققة للوحدة والتنوع يف‬
‫وطن واحد‪.‬‬
‫لقد كشف حكم االسالمويني عجزهم عن ايجاد حل سلمي ملشكلة التنوع االثني يف‬
‫السودان‪ .‬ولكن الفشل‪-‬الفضيحة‪ ،‬كان يف سفور تفرقتهم العنرصية من خالل العودة للقبلية‬
‫واثننة الرصاع السيايس‪ .‬وقد ظهر ذلك جليا يف ازمة دارفور‪ ،‬حني سلكوا طريق ثقافة العامة‬
‫يف التمييز بني "أوالد العرب" والزرقة‪ ،‬أي العبيد‪.‬‬
‫يف البداية‪ ،‬ظهرت‪ ،‬داخل الحركة االسالمية‪ ،‬صعوبة التزاوج بني "العرب" واوالد الغرب‬
‫مثال‪ ،‬رغم كسبهم الديني والحزيب‪ .‬وقد تدخلت القيادة يف حاالت كثرية‪ ،‬لفرض زيجات‬
‫"مختلطة"‪ .‬هذا وقد واجه املسلمون تاريخياً معضلة القدرة عىل مساواة املسلمني غري‬
‫العرب باملسلمني العرب‪ ،‬رغم ان االسالم‪ ،‬كنص وموعظة اخالقية‪ ،‬كان واضحا‪ :‬ال فضل لعريب‬
‫عىل أعجمي اال بالتقوى‪ .‬ولكن الواقع واملامرسة خالفا تعاليم االسالم ‪.‬‬
‫ومن املعلوم أن االسالم مل يلغ الرق متاما‪ ،‬واكتفى بتجفيف منابعه من خالل العتق‪،‬‬
‫كام اوىص بحسن املعاملة‪ .‬ومل تبذل الحركة االسالموية السودانية نفسها جهداً يف ايجاد‬
‫حلول لهذه املسألة يف السودان‪ .‬فرواسب العبودية موجودة وحية تظهر عند الرضورة يف‬
‫منتهى قوتها‪ .‬وهنا يخضع االسالمويون والشيوعيون لقواعد الثقافة الشعبية التي استبقت‬
‫العبودية يف عالقاتها‪ .‬فهناك قولة يرددها الشيوعيون كطرفة‪ ،‬ولكنها يف حقيقتها موقف‬
‫ونظرة‪ :‬العبد عبد‪ ،‬واملرأة مرأة! فهذه ثوابت اجتامعية سودانية تتحدى كل تحليل طبقي‬
‫أو حركة تاريخ أو دين مساوايت‪ .‬وقد جاء االجتهاد الوحيد عن الرق من االستاذ محمود‬

‫‪89‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫محمد طه ولكنه مل يزد عن رفع شعار‪" :‬الرق ليس اصال يف االسالم"‪ .13‬ومل يذهب بعيدا حني‬
‫قال‪" :‬مل يكن من املمكن أن يبطل الترشيع نظام الرق‪ ،‬بجرة قلم‪ ،‬متشيا مع األصل املطلوب‬
‫يف الدين‪ ،‬وامنا تقتيض حاجة األفراد املسرتقني‪ ،‬ثم حاجة املجتمع‪ ،‬االجتامعية‪ ،‬واالقتصادية‪،‬‬
‫باالبقاء عىل هذا النظام‪ ،‬مع العمل املستمر عىل تطويره‪ ،‬حتى يخرج كل مسرتق‪ ،‬من ربقة‬
‫الرق‪ ،‬اىل باحة الحرية املعاملة‪ .14" .‬ويف النهاية‪ ،‬نراه يكتفي برضورة حسن‬
‫ومن الظاهر‪ ،‬يبدو أن كل محاوالت التجديد واالجتهاد‪ ،‬مل تصمد امام ثقل الواقع‬
‫السوداين‪ ،‬واالسالمي عموما‪ ،‬املتمسك بثقافة العبودية‪ ،‬سواء يف عقله الباطن‪ ،‬أو يف عالقاته‬
‫االجتامعية الجادة واملؤثرة‪ .‬وقد حاول عون الرشيف‪ ،‬االسالمي املستقل‪ ،‬تجاوز هذا املأزق‬
‫بالحديث عن "قومية اسالمية" وليس عن دين اسالمي فقط‪ .‬والفكرة تقوم عىل عملية‬
‫التذويب للعنارص أو تعايشها حسب اسالمها املشرتك‪ ،‬اذ يقول‪" :‬ومن هنا يصح الحديث‬
‫عن القومية االسالمية التي تحقق للمجموعة املحلية‪ ،‬التوحد يف اطار مواصفاتها الجغرافية‬
‫والثقافية والبرشية‪ ،‬فتكتسب الوحدة الوطنية يف اطار اسالمها‪ .‬ومعنى ذلك‪ ،‬أن االسالم ال‬
‫يلغي شخصيات الشعوب وال يحارب موروثها االنساين ومعطيات تاريخها وحضارتها‪ ،‬اال حني‬
‫يصادم ذلك تعاليمه االساسية يف وحدانية الله ووحدة البرش وكرامة االنسان"‪.15‬‬
‫كذلك عبرّ عيل الحاج‪ ،‬وهو قيادي اسالمي بارز لكنه ينتمي اىل مجموعة ال تعول‬
‫كثريا عىل ادعاء العروبة الخالصة‪ ،‬عن البحث عن الحل يف الجمع بني االنتامء والتباين‬
‫يف عالقة جدلية‪ ،‬حني قال‪" :‬اذا ما قال أحد بأن السودان اسالمي أو عريب‪ ،‬نعتقد أن ذلك‬
‫ال ميثل الوصف الصحيح لهويتنا يف واقع االمر‪ ،‬نحن أفارقة يف السودان‪ ،‬ولك ّنا ال نشبه‬
‫االفريقيني اآلخرين‪ ،‬لسنا كاألفارقة يف غرب أو رشق افريقيا‪ .‬نختلف عنهم ولك ّنا افريقيون‪.‬‬
‫نعم يتحدث بعضنا العربية ولكن نختلف عن العرب‪ .‬ونحن ايضا‪ ،‬بعضنا مسلمون‪ ،‬ولك ّنا ال‬
‫نشابه املسلمني اآلخرين‪ .‬وحتى اذا ما نظرنا اىل الدول العربية االخرى أو الدول االسالمية‪،‬‬
‫نجد أن سلوك السودانيني يختلف‪ ،‬واعتقد أن ذلك ناتج من هوية تكونت عرب التاريخ"‪.16‬‬
‫فهو‪ ،‬رغم أنه ملتزم ومنظم يف حزب اسالمي‪ ،‬مسلم مختلف‪ ،‬وايضا عريب مختلف‪ ،‬وافريقي‬
‫مختلف‪ .‬وهنا ميكن أن نفهم‪ ،‬ملاذا رفض حسن الرتايب االنضامم للتنظيم العاملي لالخوان‬
‫املسلمني‪ :‬فقد تغلبت سودانيته‪ ،‬رغم حديثه املعلن عن االمة االسالمية‪ ،‬عىل اسالميته‪ .‬وكان‬
‫يرى سيطرة مرصية عىل التنظيم‪.‬‬
‫ومن ناحية اخرى ‪،‬ميكن أن نفهم ملاذا حارب االسالموي النشط‪ ،‬الفوراوي‪ ،‬يحي بوالد‪،‬‬
‫ثم خليل ابراهيم‪ ،‬النظام االسالمي الذي شاركا يف قيامه‪ .‬فالنظام االسالمي ه ّمش الزغاوة‬
‫والفور‪ ،‬ومل يغفر لهم تغلب العصبية القبلية وثقافة العبودية‪.‬‬

‫الرسالة الثانية من االسالم‪ .‬الطبعة السادسة‪ ،1986 ،‬ص ‪124‬‬ ‫‪13 13‬‬
‫الرسالة الثانية من االسالم‪ .‬الطبعة السادسة‪ ،1986 ،‬ص‪.125-124‬‬ ‫‪ 1414‬‬
‫مجلة الثقافة السودانية‪ ،‬آب‪/‬اغسطس‪ ،1995 ،‬ص ‪36‬‬ ‫‪ 1515‬‬
‫رصاع الرؤى‪ ،‬مرجع سابق‪405 ،‬‬ ‫‪ 1616‬‬

‫‪90‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫حصاد الهشيم‬
‫واخريا‪ ،‬بعد أن طىل الغراب نفسه باللون االبيض‪ ،‬مل يعرف اىل أي رسب يذهب؟ هذا هو‬
‫حال السودان‪ ،‬فقد ف ّرط يف وحدته الوطنية‪ ،‬ومل ينجح يف االنتامء اىل هوية مستعصية‪:‬‬
‫عربية أو اسالمية‪ .‬ويف السنوات االخرية‪ ،‬تعالت اصوات تقول‪ :‬هل من املمكن أن نقول‬
‫اننا سودانيون وكفى؟‪ ،‬أليس هذا تعريفا كامال وشامال أو جامعا مانعا‪ ،‬يحتوي عىل كل‬
‫مكوناتنا‪ ،‬وال يحتاج النتساب عرويب وال افريقي؟ وكانت البداية يف الثقافة والفن‪ ،‬حني ّ‬
‫سك‬
‫احمد الطيب زين العابدين ورفاقه مفهوم ‪":‬السودانوية"‪ ،‬وهي نسخة ليست توفيقية‬
‫لفكرة الغابة والصحراء‪ .،‬لكنها واجهت حملة نقد تقول بأننا نتنازل عن‪ ،‬أو نخجل بهويتنا‬
‫"العربية‪-‬االسالمية" متلقا للجنوبيني‪ .‬وهذا مع أن فكرة"السودانوية" هي‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬اجتهاد‬
‫ثقايف لتعديل خطأ تاريخي وانحياز ثقايف سادا الواقع السوداين‪.‬‬
‫أما عىل املستوى السيايس‪ ،‬فقد جاء تأكيد الشك من الخارج‪ ،‬حني وقف العرب‬
‫واملسلمون يتفرجون عىل السودان‪ ،‬خاصة وهو يغرق يف مستنقع دارفور‪ .‬فقد انحاز كثريون‬
‫ايل جانب النظام وفضلوا مبدأ‪ :‬انرص اخاك ظاملا كان أو مظلوما‪ .‬وال ميكن أن ننىس املوقف‬
‫البائس‪ ،‬للدكتور محمد سليم العوا‪ ،‬االمني العام لالتحاد العاملي لعلامء املسلمني‪ ،‬حني‬
‫زار دارفور قبل ثالث سنوات‪ ،‬ثم عاد ليرشح ماذا تعني كلمة غصب واغتصب يف اللغة‪،‬‬
‫ليك يقول يف النهاية‪ :‬ان الذي حدث يف دارفور ليس هو االغتصاب الذي نعرفه! اما دليل‬
‫االهامل والتجاهل فيظهر يف جانب العون االنساين‪ ،‬اذ تدفقت املنظامت االنسانية االجنبية‬
‫اىل دارفور من "بالد النصارى"‪ ،‬بينام تكاد تغيب متاما املنظامت االسالمية والعربية‪ ،‬عدا‬
‫استثناءات ضئيلة متفرقة‪ .‬ويتكرر اليشء نفسه يف الجنوب‪ ،‬حيث يتهدد املوت جوعا حواىل‬
‫أربعة ماليني ونصف مليون مواطن‪ ،‬وال يحرك األشقاء األغنياء ساكنا‪.‬‬
‫فالعرب غابوا عن وساطات حل مشكلة الجنوب ثم دارفور‪ .‬فقد كانت مرص هي‬
‫األجدر واألقدر عىل استضافة محادثات للسالم بدال من كينيا‪ ،‬حيث كانت كل املعارضة‬
‫تقيم يف القاهرة‪ ،‬كام أن زيارات قرنق ال تنقطع ملرص‪ .‬والنظام السوداين كان يلهث لتحسني‬
‫عالقته مع مرص‪ ،‬ليك يغسل آثار محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك‪ .‬ولكن مرص توقفت‬
‫عند ورود عبارة تقرير املصري‪ ،‬وقرأتها االنفصال‪ ،‬وبالتايل نفضت يدها عن كل يشء بدعوى‬
‫أنها ال تريد أن تكون شاهدا أو راعيا النفصال السودان‪ .‬ومل تعد مرص تهتم كثريا بالسودان‬
‫اال يف حاالت اشتداد االزمات‪ ،‬وبالتايل يضعف الدور املرصي املميز تدريجيا‪ ،‬ولكن برسعة‪.‬‬
‫ويصف حازم صاغ ّية هذه التطورات‪ :‬بقوله "‪ ...‬فإذا انفصل جنوب السودان يف وقت الحق‪،‬‬
‫فاملؤكد أنه سيجد ترتيبه الخاص يف افريقيا ومعها‪ .‬أما يف حالة استمرار الوحدة السودانية‬
‫برشوط ديومقراطية وتعددية جديدة‪ ،‬فالواضح أن مرص مل تعد متلك الجاذب االيديولوجي‬
‫واالقتصادي الذي يبقي السودانيني يف نطاقها عىل ما كانت الحال تقليديا‪ .‬يعزز هذا التوقع‬

‫‪91‬‬
‫لع ميهاربا رديح‬ ‫ودسملا طئاحلا‬

‫ضعف الروابط التي تشد العامل العريب‪ ،‬من خالل مرص‪ ،‬اىل السودان"‪.17‬‬
‫ويف األزمة الحالية‪ ،‬هناك دول عربية تتوسط‪ ،‬ويف الوقت نفسه تقدم السالح‬
‫للمتقاتلني‪ ،‬أو تتوسط من أجل البحث عن دور‪ ،‬مع استعراض للنفس يفوق الحرص عىل‬
‫انقاذ السودان‪ .‬ومن ناحية اخرى‪ ،‬ال متثل املساعدات االقتصادية وقروض الصناديق العربية‬
‫االفريقية شيئا يذكر يف ما يخص السودان‪ .‬وحتى اآلن ال يهتم العرب مبستقبل السودان‪،‬‬
‫بينام يف الغرب ال تنقطع املؤمترات‪ ،‬وكتابة التقارير‪ ،‬عنه‪ ،‬وال تتوقف الوفود واملبعوثون‬
‫الرسميون إليه أو منظامت املجتمع املدين فيه‪.‬‬
‫لقد دخل السودان‪ ،‬اآلن‪ ،‬يف عزلة ب ّينة‪ ،‬أو تفكك يف عالقاته عىل كافة املستويات‪:‬‬
‫الرسمي والشعبي والحزيب‪ .‬وكذلك الحال مع محيطيه االقليمي والدويل‪ .‬يضاف اىل ذلك‪،‬‬
‫وجود دولة فاشلة فقدت سيطرتها عىل كامل ترابها الوطني‪ .‬فقد سمح النظام بنرش قوات‬
‫أجنبية‪ ،‬وهي‪ ،‬مهام كانت تسميتها‪ ،‬تبقى تعريفاً غري سودانية‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن‬
‫عددها اضعاف الجيوش التي تم إجالؤها عند خروج الربيطانيني من السودان‪ .‬وعىل‬
‫مستوى السياسات واتخاذ القرار‪ ،‬صار املبعوث األمرييك ميثل دور املندوب السامي‪ .‬وأصبح‬
‫أمرا عاديا أن تستدعي واشنطن الرشيكني الحاكمني اىل الواليات املتحدة للتشاور عند بروز‬
‫أي خالف‪ .‬ومل يعد النظام مهتام بتوفري الخدمات‪ ،‬وال بتلبية الحاجات االساسية ملواطنيه‪ ،‬ألن‬
‫جل االموال العامة تذهب لألمن واملفاوضات والعالقات العامة‪ .‬أما االحزاب السياسة ففي‬ ‫ّ‬
‫حالة ترشذم وانقسامات ال تنتهي‪ .‬فهي تعيش ضعفا واضحاً وفقراً يف املوارد مينعها حتى‬
‫من اصدار صحف خاصة بها‪ .‬كذلك‪ ،‬وقع املجتمع املدين يف نفس العيوب التقليدية للعمل‬
‫العام‪ .‬فقد سادت يف تكوينه وحركته الشللية‪ ،‬والصفوية‪ ،‬واالسرتزاق‪ ،‬ومل ميتد اىل الريف‬
‫والهوامش‪ .‬وهذا يعني غياب ارادة وطنية مت ّكن السودانيني من ايجاد حلول ذاتية ومبادرات‬
‫داخلية‪ .‬اما الفرد السوداين ُفأخضع لعملية ليس من املبالغة وصفها بأنها "حيونة" ممنهجة‪،‬‬
‫تهدف للعودة به اىل مرحلة جمع أو تدبري الطعام‪ .‬كام أنه ُيحرم كل وسائل الرتفيه والسعادة‬
‫وتقوية الروح املعنو ّية‪ .‬وهكذا أصبح السودان غري قادر‪ ،‬بل عاجزا ذاتياً‪ ،‬وهو‪ ،‬يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬ال يجد من يساعده من اصدقا ٍء هم أصحاب "الهويات" التي انحاز السودانيون اليها‪،‬‬
‫لكن ذلك أثبت‪ ،‬عند الش ّدة‪ ،‬أنّه بال جدوى‪.‬‬
‫وحاولوا أن يجدوا انفسهم فيها‪ّ ،‬‬

‫‪ 1717‬حازم صاغ ّية‪ :‬وداع العروبة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الساقي‪ ،1999 ،‬ص ‪168‬‬

‫‪92‬‬
‫مرص‬

‫يف إستعادة لثالثة بيوت قاهرية‬


‫هاين درويش‬

‫نادرا ما يتوافر ألبناء جييل هذه الفرصة من اإلرتحاالت واإلقامات يف مدينة واحدة‪ .‬فأنا من‬
‫جيل يدور يف فلك إقامتني عىل أقىص تقدير‪ ،‬األوىل يف املنزل العائيل ألب قدم يف الستينات‬
‫من ريف الصعيد أو الدلتا‪ ،‬والثانية يف خروج الشخص نفسه من الكنف العائيل للسكن‬
‫الخاص إما صعودا أو هبوطا يف السلم الطبقي‪ .‬أما املقر أعاله فشاءت صدف متتالية بعضها‬
‫ينتمي لنفس ميكانيزمات اإلمتداد العائيل‪ ،‬وبعضها يخص مسرية األوجاع الطبقية الخاصة‬
‫يف تعدد مناطق اإلقامة داخل النسيج املديني نفسه لنحو قرن‪.‬‬
‫الدراما األرسية الفاقعة وأالعيب الحظ العاثر هي ما مدد رقعة عالقتي باملدينة‪ ،‬التي‬
‫ميكن إحصاؤها يف أربع مراحل أساسية‪ ،‬األوىل حيث امليالد يف حي الخليفة التاريخي (يطلق‬
‫عليه حي القلعة‪ ،‬اي قلعة محمد عيل)‪ ،‬والثانية يف كنف إستقالل األرسة النووية يف حي‬
‫املطرية الشعبي الستيني‪ ،‬والثالثة قادتها صدفة تفجري عبثي تآمري قام به صاحب املنزل‬
‫الثاين‪ ،‬طردتنا شامال يف الجيب العشوايئ التسعيني يف حي عزبة النخل‪ ،‬ورابعها مستقري‬
‫اآلن مط ًال عىل سفح الهرم يف حي بورجوازي حديث هو هضبة الهرم يف محافظة الجيزة التي‬
‫صهرتني إقليميا فيام بات يعرف اآلن بإقليم القاهرة الكربى‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬وأنا أتم عامي السادس والثالثني‪ ،‬تضيق الخطوة وتكتنز األماكن يف زياريت‬
‫اإلستعادية لتلك املناطق بعد هجرانها لسنوات طويلة‪ .‬وألن ما ارتبط بها من ذكريات هو‬
‫يف األساس ما تبقى من عوامل الحذف واإلضافة‪ ،‬واألسطرة تضخيام لألماكن واألحداث‪ ،‬او‬
‫التقزيم لبعضها وفقا ملصايف الوعي الحارضة والتي رمبا مل ترحم كنزا تم إهداره‪ .‬لكل تلك‬
‫العوامل استحرضت األماكن‪ ،‬او ما بقي من رائحتها بالفوتوغرافيا‪.‬‬
‫مسرييت املدينية تلك‪ ،‬والتي سأركز فيها عىل املراحل الثالث األوىل‪ ،‬تبعا لعمقها‪،‬‬
‫وإحرتاما لحفرها العميق يف الوجدان‪ ،‬وهو ما ال يتوفر يف املستقر البورجوازي الجديد‪ ،‬تلك‬
‫املسرية‪ ،‬ال تعرب إال عن مصادفات قدرية شخصية كان لها األثر يف انشغايل الدائم بتحوالت‬
‫املدينة‪ ،‬ال كرقعة مسجونة عىل خرائط عمرانية‪ ،‬بل كمسار متداخل لحكاية واحدة متصلة‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫ذات انقطاعات جربية أو اختيارية‪ ،‬يصح لنا أن نتعامل معها كرسدية متخيلة تحتاج اىل‬
‫رسديات أخرى متفاطعة لكشف منطقها الخاص‪ ،‬أو مشرتكاتها األعم التي ترسم جدارية شبه‬
‫واسعة ملجمل التحوالت السياسية واإلجتامعية والنفسية لقاهرة القرن املايض‪.‬‬
‫أدوايت يف هذه القراءة الرسدية ال تقف عند حدود الخرائط الفوقية واللقطات الجوية‬
‫التي تشكل عني نرس طائر ال يعرف الرؤية الرأسية (خاصة وأنا دارس للجغرافيا أعرف متاما‬
‫خداع النظرة املجردة لتك الوريقات التي تبتني وهام بالتسطيح)‪ .‬الفوتوغرافيا اإلستعادية‬
‫التي قمت بها عىل مدار أسبوع يف األماكن الثالثة هي النظرة الرأسية التي تبحث يف ما‬
‫استقر وانهدم من عمران‪ ،‬يف ما بقي يف الوجوه التي تنظر للكامريا من عالقة بزمن الحكاية‬
‫األصلية‪ .‬والحكاية أو الحكايات التي سأرويها هي الدخول إىل ظالل تلك األماكن عرب الذاكرة‪.‬‬
‫فأنا أنشّ ط الذاكرة ال أكرث بتلك اللقطات الواقعية التي تحمل القليل من حقيقة ما حدث‪،‬‬
‫وإن تنسمنا منها بعضا من رائحة تلك األزمنة‪.‬‬
‫من املالحظات األساسية ‪ -‬قبل الدخول يف الحكايات‪ -‬رسوخ الزمن وبقاؤه عىل حاله‬
‫يف األماكن القدمية‪ ،‬تحديدا يف الخليفة‪ .‬ويتزامن ذلك مع الخواء‪ ،‬أي تفريغ تلك األماكن من‬
‫ناسها‪ ،‬مع تقلص قدرتها عىل االمتداد ومن ثم صعوبة احتوائها ألجيال جديدة‪ .‬ففي الخليفة‬
‫مثال‪ ،‬تغريت بحدود طفيفة أسامء الشوارع‪ ،‬ونتيجة وقوع شياخة الحطابة (املكان الدقيق‬
‫مليالدي) يف حرم منطقة اثرية هي القلعة وعسكرية هي سور املتحف الحريب املرصي‪،‬‬
‫منعت بتاتا أعامل ترميم املنازل‪ .‬بقيت للتهالك عىل أصحابها دون حتى أي مخططات‬
‫لتطويرها‪ .‬فالسلطة تراهن عىل الزمن وحده إلخراج اآلالف املتبقية دون مصادمات عنيفة‪،‬‬
‫فإذا ما سقط جدار ال يحق لك رفع بقاياه‪ ،‬وقرارات اإلزالة اإلدارية للحي جاهزة ومتواطأ‬
‫عىل تنفيذها نتيجة الكلفة السياسية الكبرية للصدام اآلين باألهايل‪ .‬واألخريون‪ ،‬مل يتبق منهم‬
‫إال العجائز الذين مل ترغد حياة ابنائهم وأحفادهم لدرجة تكرميهم بسكن الئق يف مناطق‬
‫جديدة‪ ،‬أو رفض بعضهم الخروج طوعا من منبتهم األصيل‪ .‬لذا ال تزدهر الحطابة إال يف‬
‫نهاية األسبوع‪ ،‬حني يطل األحفاد أو األبناء يف سيارتهم املركونة أسفل الطريق الطالع لحدود‬
‫الطوايب وقد حرضوا ملعاينة عجائزهم‪ ،‬والذي تؤسطرهم جملة ماما كرمية ‪" :‬عايشني من‬
‫قلة املوت يا بني"‪.‬‬
‫يف ما يتعلق بالزمن يف املطرية‪ ،‬ال يتجاوز األمر بقاء عائالت الستينات وقد ع ّدلوا‬
‫من بيئتهم العمرانية املكتظة مبا يسمح لهم بالبقاء‪ ،‬يتوارث األبناء الفقراء مهن آبائهم‪.‬‬
‫أما األغنياء منهم فقد تركوا الحي وانزاحوا جغرافياً إىل حي مرص الجديدة البورجوازي أو‬
‫امتداده الصحراوي يف أحياء النزهة ومدينة نرص‪ ،‬مع األخذ يف اإلعتبار االنزياح شامال إىل حي‬
‫مدينة السالم املخطط الستيعاب األجيال الجديدة يف بيئة مساكن شعبية متدهورة الحال‬
‫ملن مل يلحق منهم بالس ّلم الطبقي الصاعد‪ .‬لذا بقي كوالج السبعينات والثامنينات العمراين‬
‫متوافقا مع البنية الريفية التي انبنى الحي عليها زمن الخمسينات والستينات‪.‬‬
‫أما عزبة النخل‪ ،‬فهي أرض املهجرين ألسفل السلم الطبقي‪ ،‬من األحياء الشعبية‬

‫‪94‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫الستينية مثل املطرية والزاوية الحمراء والواييل‪ .‬جاء ابناء الجيل الثاين فحولوا ريفه إىل‬
‫عشوائيات جديدة‪ ،‬التحمت بالريف الخلفي ملحافظات الجوار‪ .‬مت ّددت العزبة ولحمت من‬
‫كل الجهات األحياء التي كانت بعيدة‪ .‬التحمت باملطرية‪ ،‬مسطرد‪ ،‬الخصوص‪ ،‬املرج وعني‬
‫شمس‪ ،‬واخرتعت شياخات إدارية جديدة واسامء للمناطق ابتداء من التسعينات‪ ،‬وانفجرت‬
‫األرض مبئات األلوف يخرجون من بوابات املرتو نزوال إىل شوارعها الضيقة ذات البنايات‬
‫املرتفعة والكآبة والفقر والعنف الطائفي اليومي‪ .‬لذا ال اشكو الخالء‪ ،‬بل يف زياريت أحس‬
‫اغرتاب من ينصهر مع مئات األلوف من الغرباء العنيفني‪ ،‬خاصة وان العائالت القدمية تكاد‬
‫تختفي متاما أمام سيولة الدفق املستمر بتوازناته العائلية الجديدة أو الطائفية العتيدة أو‬
‫الريفية املتأصلة‪.‬‬
‫إىل أين تطرد املدينة أناسها؟ من قلب الخليفة العائد لزمن محمد عيل‪ ،‬إىل حداثة‬
‫متدين ثورة يوليو يف املطرية‪ ،‬إىل عشوائيات الرئيس مبارك يف عزبة النخل‪ ،‬إىل أين املفر؟‬
‫من القلب إىل األطراف إىل أطراف األطراف‪ ،‬واليوم يتم تحزيم املدينة من خارج أطراف‬
‫األطراف بالطريق الدائري لتخلق املدينة مراكزها الجديدة التي كانت أطرافا‪ ،‬وتنتيش‬
‫أطراف األطراف باألمل يف الحياة التي هي أقرب إىل موت غري نادر هذه املرة‪.‬‬

‫الحطابة… امليالد بجور قطعة لحم مل تفسد‬


‫يقال حول بناء قلعة صالح الدين إن القائد جوهر الصقيل وضع يف أعىل تالل املقطم قطعة‬
‫لحم مل تتعفن‪ ،‬فابتنى القلعة حيث الهواء النقي‪ ،‬لكن ذلك مل يكن يف حسابات جدي‬
‫محمد الصادق إبراهيم املتفاخر بنسبه املهدي العائد لثورة القائد السوداين نهاية القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬فهاجر من قرية كلبشو (مسامة عىل اسم كلبة الخواجة شو‪ ،‬مالك أراضيها‬
‫الخصبة) اىل نواحي بركة السبع مركز السنطة غربية يف بداية القرن العرشين‪ .‬اصطحب‬
‫أخته "أم سليامن" تاركا أخاه سليامن عىل قراريط صغرية بالقرية‪ ،‬وعمل يف خدمة سالح‬
‫الهجانة (حرس الحدود) الذي كان يتم اختيار أفراده من أهايل منطقة وادي حلفا الحدودية‬
‫بني مرص والسودان‪ .‬جاء جنديا يف الحرس املليك (للملك فؤاد) ومات "صوال" يف السابعة‬
‫والثامنني يف أرشيف تحت أريضّ إلدارة مرور القاهرة بالدراسة‪ .‬أنجب من زوجته الفالحة‬
‫الكلبشاوية "فاطمة"‪ ،‬ابنة هي "سامية" ماتت أمها بحمى النفاس بعد إنجابها‪ .‬فرتك مهمة‬
‫تربيتها إىل أخته غري الولود ام سليامن مبنزلها الكائن بدرب ابن القرطبي من درب الوسطاين‬
‫بالحطابة‪ .‬وكانت األخرية قد اصطربت كثريا عىل عدم إنجابها من الشيخ عبد الحميد أحد‬
‫مجاذيب الطريقة البيومية والذي قىض حياته كاملة مع أهل الخطوة متتبعا خرائط املوالد‬
‫الصوفية من أسوان إىل اإلسكندرية‪ .‬يف غرفة ام سليامن تربت أمي "سامية" كطفلة يتيمة‬
‫مل يشفع لها مرصوف قليل يرسله األب الذي هجر الحطابة رسيعا بزوجة جديدة أنجبت‬
‫له تسعة أبناء‪ ،‬مل يشفع لها ذلك باعتبارها يتيمة الحي التي متصمص النساء شفاههن عليها‬

‫‪95‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫شفقة‪ ،‬ضاربات بها املثل يف قسوة الزمان‪ .‬اشرتى "األب"مقربة يف "خارطة التونيس" القريبة‬
‫وابتنى منزال عائليا تفنن يف تقسيمه إىل شقتني‪ ،‬كل شقة مكونة من غرفة وصالة وحامم‬
‫(يف ما ال يزيد عن ‪ 30‬مرتاً إجاميل كل شقة) إحتسابا لخزن ابنائه الكرث يف حال زواجهم‬
‫تحت عينه العسكرية التي ال ترحم‪ .‬تربت أمي حاقدة عىل ابيها ومل تنس له أبداً مشهد‬
‫تفضيله أبناءه الذكور عليها يف تقسيم منابات اللحم يف زياراتها األسبوعية القليلة‪ ،‬كام مل‬
‫تنس له "تدليعه" لألبناء الذكور من "ستي أم يارس" التي حملت شارته ندبة يف الرأس بعد‬
‫ان رفسها "يارس" من الدور الثاين فأوقعها مرضجة بدمائها مع سبع غرز مل تخفها التجاعيد‬
‫حتى شيخوختها‪.‬‬
‫وصل ايب من قرية كلباشو يف سن السادسة عرشة إىل الحطابة‪ ،‬قدم يف وظيفة مالحظ‬
‫عامل يف رشكة مرص ألعامل اإلسمنت املسلح –إحدى الرشكات التي بنت مجد ثورة يوليو‬
‫اإلنشايئ‪ .‬وصل يف حدود العام ‪ ،1961‬وسكن منزال لعزاب قريته يف "وسعاية الدرب الوسطاين"‬
‫وشاركه الغرفة ابن بلدته محمد الطيب الطالب يف الكلية الحربية‪.‬‬
‫كانت الحطابة مبنازلها التي ال يزيد ارتفاعها عن دورين قبلة قاهرية ملهاجري‬
‫القرية‪ :‬منازل مقسمة إىل غرف تتشارك حامما واحدا‪ ،‬ويبدو أنها كانت منازل أرس فردية‬
‫إزدهرت احوالها التجارية يف أوائل القرن فهجروها إىل أحياء املال يف الجاملية وباب الشعرية‬
‫نهايات القرن التاسع عرش‪ .‬وتكونت داخل الغرف عائالت تتشارك نفس األسقف املعرشة‬
‫الخشبية وحيطاناً مبنية مبزيج من الطوب الحجري مع ما تيرس من أخشاب‪ .‬وتعود الحطابة‬
‫بتسميتها الشهرية إىل ما بعد تأسيس القلعة حيث أقام الحطابون املشاركون يف بناء القلعة‬
‫بيوتهم‪ .‬وتظهر التسمية يف حوليات التاريخ الرسمي ألنحاء القاهرة القدمية بدءاً من العرص‬
‫الفاطمي نزوال حتى اآلن‪ ،‬بنفس اإلسم‪ .‬وهي من املشيخات التي ظهرت يف أعامل مؤرخي‬
‫القرون الوسطى كابن اياس‪ .‬كان الب ّناؤون األوائل للحي يجعلون من جدار القلعة عند بابها‬
‫الغريب حائطا داخليا للبيت‪ ،‬ونتيجة للطبيعة التاللية ينزلون هبوطا بالبيت ملتصقا باآلخر يف‬
‫ما يشبه األسامل املعامرية امللتحفة بالحائط الصخري الجبار للقلعة‪ .‬فعرفت املنطقة دروبا‬
‫تبدأ بسالمل طالعة وأخرى نازلة‪ .‬فدرب ابن القرطبي‪ ،‬حيث ولدت وتر ّبت امي‪ ،‬يتكون من‬
‫أربع مصاطب واسعة متدرجة يف ما يزيد عن ‪ 30‬سم تنتهي مبنزل الجدة أم سليامن الذي‬
‫يحيط بطابية حراسة قدمية للقلعة‪ .‬هذا البناء االختالقي الشعبي عوض تجاوره والتصاقه‬
‫مبدارات للحواري‪ .‬فإن مل تكن من سكان الحارة الوسطانية وشعاب دروبها امللتفة تفاجأ‬
‫حتى اليوم مبن يديم فيك النظر وكأنك يف صالة منزله ال يف شارع يحمل رقام بريدياً ويحق‬
‫للغرباء التمشية فيه‪ .‬وهو يختلف بذلك يف بنيته التخطيطية عن أنوية "الربع" الشهرية‬
‫يف أعامل نجيب محفوظ‪ .‬فغالبا ال تنتهي الدروب ببوابات‪ ،‬بل تتعدد املسارب الخلفية‬
‫من تلك الدروب نزوال إىل الصحراء الخلفية واملقابر يف الجبانة القدمية الواقعة عىل طريق‬
‫صالح سامل‪ .‬وانت حني تدخل البيت الذي سكنته الجدة ام سليامن املتوفاة سنة ‪،1980‬‬
‫يفاجئك متاهي حجراته مع الربوز واالنكفاء الداخيل الناتج عن إلتحامه بالجبل‪ .‬تصعد‬

‫‪96‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫السلم الخشبي بعد ثالث غرف جانبية لتفاجأ مبخرج عىل سفح الجبل تقع فيه غرفة "ماما‬
‫كرمية"‪ ،‬أم البنات الخمس التي مل تلد ذكرا‪ ،‬وبالتفافة دائرية تصعد اربع درجات ليواجهك‬
‫الحامم الحجري الضيق وغرفتان إحداهام لعمي عبد العزيز األخرس (وصفا واقعيا ال كناية‬
‫مجازية)‪ ،‬واألخرى لجديت أم سليامن‪ .‬والغرفة األخرية‪ ،‬عىل رسيرها النحايس وتحت ملبة الكاز‬
‫منرة ‪ ،2‬ولدت فيام قدمي تتحسس الصخور الكبرية لسور القلعة‪.‬‬
‫أحب أيب العازب املوظف الجديد ابنة "الحتة" وبلدياته (ابنة قريته األصلية)‪ .‬كلمة‬
‫"الحتة" يف تراث الستينات هي معنى املوطن املديني ونقيض "بلديايت" القامئة عىل عصبوية‬
‫ريفية‪" .‬بنت الحتة" كلمة تظهر تحديدا يف تراث األغنية املدينية كتوسيع لكلمة "بنت‬
‫الحارة"‪ ،‬واألخرية تظهر يف موال شفيق جالل الشهري الذي يغنيه يف فيلم "ريا وسكينة"‪:‬‬
‫ب������ن������ت ال�����������ح�����������ارة ي���������ا ب������ن������ت ال��������ح��������ارة‬
‫ح������ب������ي������ت������ك ي������������ا أم ح��������ل��������ق ت������������ارة‬
‫وبالعودة لـ"الحتة" وابنتها‪ ،‬كانت االبنة طالبة فاشلة تعليميا ترسب للمرة الخامسة‬
‫يف الشهادة اإلبتدائية‪ .‬كانت إبنة الكسل والترسب من التعليم بعد أن بنت عىل يدها‬
‫"كاريرا"‪ .‬انتظمت املراهقة سامية محمد الصادق يف دبلوم "خياطة" وأزياء وحصلت عىل‬
‫دورات يف إحدى األتيليهات األجنبية يف وسط العاصمة‪ ،‬فانتقلت ملهارتها من محل أزياء‬
‫حرميي مبنطقة الحلمية الجديدة إىل عامل أزياء وسط البلد‪ .‬كانت إحدى "صنيعيات" "التايري"‬
‫الستيني املهرة‪ ،‬وكللت حرفتها بالعمل يف أتيليه "رجاء الجداوي"‪ ،‬املمثلة الشهرية حاليا‬
‫والتي بدأت عالقتها بالفن كمصممة ازياء شهرية يف الستينات‪.‬‬
‫مراهقة شابة ترتدي امليني جيب‪ ،‬مستقلة حرون تكاد تكره الرجال‪ .‬شهامة الشاب‬
‫العازب اقتضت أن ينتظرها ليال أكرث من مرة لالطمئنان عىل عدم معاكستها من ميدان‬
‫الرميلة إىل شارع األنتيكخانة صعودا إىل بوابة باب الوزير التي يتسكع عندها الشباب‬
‫"التالف"‪ ،‬خاصة وأن مهنة الخياطة كانت مهنة تلوكها األلسن انسجاماً مع الخيال الشعبي‬
‫عن عالقة من متتهنها بأسطوات املهنة الذكور التالفني‪ .‬الحقيقة ان الحب كان قد أضناه‪.‬‬
‫تقدم لخطبتها من ابيها‪ .‬رفضت وحرنت تحت أضواء عامل وسط املدينة الواعد مبجد غرامي‪،‬‬
‫ورمبا نقلة اجتامعية تخرجها من ظالل "يتيمة الخارطة"‪ .‬صرب الشاب الدسوقي بدر درويش‬
‫وحارص الجدة أم سليامن بالزيارات والود‪ .‬هكذا كانا يحكيان ويختلفان بدرجات متفاوتة‬
‫حتى نهاية عمره حول"دهولته" عليها‪ ،‬منتظرا رد األب‪ .‬واألخري‪ ،‬بعد بحث بسيط‪ ،‬أدرك‬
‫املعادلة‪ :‬أن يزوج االبنة الحرون وتنتهي مسؤوليته عنها ملقيا باملوضوع عىل كتف ابن‬
‫أصول ريفية مضمونة ومستقبل وظيفي مضمون بحسابات املدينة‪.‬‬
‫ظلت أمي حتى مامتها تدعو الله عىل جدي الذي باعها‪ ،‬كام تعتقد‪ ،‬لزوج"فقري"‪،‬‬
‫وعاشت حياتها تذكر أمامنا ان جدي استغل مهرها يف تشييد الدور الثالث باملنزل فيام‬
‫جهزها بـ"العفش املستعمل" بعد أن "أكل" مرياثها من أمها‪ .‬هل كانت الشابة غري الجميلة‬

‫‪97‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫تستحق أكرث من الشاب ذي السوالف الخجول "اليل مابرفعش عينه عن األرض"‪ ،‬كام كانت‬
‫تردد جديت؟‬
‫أتذكر أن طفولتي يف الحطابة كانت مضمخة بأرسار شقاوة الكبارالتي تبدأ من‬
‫الجلوس يف قهوة زوج عمتي سيد الحرصي املواجهة ملبني األنتيكخانة يف شارع "الباب‬
‫الجديد"‪ ،‬حيث لعب الكوتشينة والقامر وتدخني الحشيش يف "غرزة" كان يرشف عليها زوج‬
‫عمتي رجاء املتوفاة منذ عام‪.‬‬

‫يف بيت الحطابة كنت ابن النساء جميعا‪ .‬ملَ ال وأنا أول ذكر لكربيات بناته‪ ،‬تعلمت خطوايت‬
‫األوىل عىل سفح الجبل املواجه لغرفة "ماما كرمية"‪ .‬الغرف كانت بأسامء نسائها ال الرجال‪،‬‬
‫فيام عدا عم عبد العزيز األخرس وزوجته الخرساء‪ ،‬إذ يبدو أن خرسه أكسبه القيادة يف‬
‫التسمية‪ .‬أنجب هو وزوجته الحقا أبنا وبنتا ينطقان‪ ،‬كانت مراقبتهام وهام يفهامن األب‬
‫واألم باإلشارة والصوتيات املتقطعة التي تشبه رصاخا أعجوبة الطفولة‪ ،‬فكيف ينجب‬
‫أخرسان طفلني ناطقني؟‬
‫"ماما كرمية" املتزوجة من "عم حسن" الصامت كانت مركز البيت‪ ،‬ببناته األربع‬
‫الجميالت‪ .‬عىل حجرهن تربيت‪ ،‬وأحببت صغراهن هالة التي كانت مراهقة حني بلغت‬
‫السادسة‪ .‬يف زياريت االستعادية أشارت ماما كرمية التي دخلت السبعينات بقدم ملفوفة يف‬
‫الشاش من أثر"السكري"‪ ،‬أن ايب يف فرتة خطوبته كان يلقي لهالة بالزهور الحمراء الصغرية‬
‫من "املنور" املشرتك بني الغرفتني‪ .‬ياإلهي‪ ،‬حتى يف ذلك يا ايب سبقتني‪ .‬منى‪ ،‬كربى بنات ماما‬
‫كرمية‪ ،‬كانت أول من ميمت رشقا‪ ،‬تزوجت من عم "عريب" مكوجي أحد أمراء الكويت وبنت‬
‫بيتا عائليا يف منطقة منشية التحرير بعني شمس‪ .‬تبعتها عزة يف برج سكني جديد اوائل‬
‫الثامنينات عىل واجهة محطة مرتو املطرية‪ .‬ثم عفاف الحقاً‪ .‬أما ماما كرمية فاستقبلتني يف‬
‫غرفتها‪ ،‬وعىل "كنبة" السطح‪ ،‬بكوب شاي منعنع ورائع‪ .‬مل تصدق أين ال أزال احلم –كام‬
‫لو كنت طفال‪ -‬باكتشاف كنز أثري كله سيوف وخ َوذ جيوش عربية يف السطيحة الخربة‬
‫املمتدة أمام غرفتها‪ .‬بعد أن نقبنا انا واخي الصغري عنه كثريا يف سني الطفولة املبكرة‪ .‬أتذكر‬
‫كيف كان أهل املنزل يضبطون ساعات استيقاظهم صباحا يك يسبقوا األخرس يف دخول‬
‫الحامم الحجري املشرتك‪ ،‬وإال وقفنا طابورا باملناشف تحت رحمة إقامته الطويلة وروائحه‬
‫النفاذة الناتجة عن كميات البصل والثوم الزائدة يف كل وجباته‪.‬‬
‫إذا ما تدحرجت نزوال يف العرشين مرتاً املميزة لدرب ابن القرطبي تصل إىل منزل‬
‫زوج عمتي رجاء‪ .‬هي ابنة عمة غري شقيقة أليب‪ ،‬وظلت عالقتها بأمي تشوبها إشاعة تصميم‬
‫جديت شفيقة عىل تزويجها أليب‪ .‬أنجبت عمتي رجاء ثالثة بنات ثم أتحفتنا بصبيني‪ ،‬وجاء‬
‫تصميم "سيد الحرصي"‪ ،‬زوجها‪ ،‬عىل الوصول بها إىل محمد‪ ،‬بعد أن شعر أن عربته السوزويك‬
‫(وهو أول من ادخلها الحي زمن السبعينات للتكيف مع أشغال شوارع ضيقة) ومقهاه‬
‫الشهري سيؤوالن إىل أزواج بناته يف املستقبل‪ .‬غرفة عمتي رجاء عىل الناصية كانت تواجه‬

‫‪98‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫وكالة أثرية مهملة وغامضة مل تعلن اي جهة حتى اآلن مسؤوليتها عنها ولو حتى بيافطة‬
‫تبني تاريخها‪ ،‬استعملناها ونحن أطفال كمخبأة لكنوزنا الصغرية من "بيل" ملون واطواق‬
‫كاوتشوك نسيرّ ها بعصا يف سباقات جوالة داخل الدروب‪ ،‬ثم بقيت ببوابتها الخشبية القدمية‬
‫والضخمة وحديد واجهتها املشغول‪ ،‬أدوات تنشيط لخيالنا يف الليل‪ ،‬حني تخبو اإلضاءة‬
‫وتدخل النساء بعد جلسات النميمة املمتدة نهارا‪ ،‬من شباك غرفة عمتي التي تنزل لها‬
‫درجات حجرية واطئة كان ميكن مراقبة القادمني من الدرب الوسطاين وووسعته الشهرية‪.‬‬
‫أتذكر ستارة من التل األبيض تخ ّبئ لون الغرفة الكلسية اللبنية اللون تحت إضاءات اللمبات‬
‫"السهاري" ذات الفولت املنخفض‪ .‬الستارة تحتك بأصيص من الصبار موزع يف الفرجة بني‬
‫الشباك الواطئ وحديد مزخرف بطوله يحمي الغرفة من الرسقة‪.‬‬
‫يف نهاية الحارة من ناحية الوسعاية كانت غرفة ستي شفيقة‪ ،‬الغرفة األوطأ يف كل‬
‫بيوت الخارطة‪ ،‬مظلمة للغاية وتتحرك بها ستي ذات التق ّوس من املؤخرة ببطء مرعب‪،‬‬
‫بطء يكتمل هذيانه ووحشته بصوتها املبحوح وعينيها املفتوحتني وقد انقلب محجراهام بني‬
‫الحول والعمش‪ .‬كانت تخبئ قروشها يف رصة "بافتا" برباط وتقيض يومها يف شتم أبناء الجريان‬
‫ومطاردتهم باملقشة ولعن "حظها الواطي" الذي يجمع مجاري الحارة يف قاع غرفتها‪.‬‬
‫منذ ست سنوات‪ ،‬شاهدت انا وزوجتي فيلم "عوكل" للنجم محمد سعد‪ .‬كدت أن‬
‫موت ضحكا فوق ضحك الصالة ودمعت عيناي‪ .‬الفيلم تدور أحداثه‪ ،‬للصدفة‪ ،‬يف الحطابة‪،‬‬
‫وللبطل جدة تسمي "أطاطا" تشبه جديت شفيقة لحد إعجازي‪ ،‬يف الشكل وطريقة الكالم‪ .‬خطيبة‬
‫البطل عوكل إسمها "أوشة" عىل اسم إحدى بنات عمتي رجاء‪ ،‬وأخو الخطيبة "الرشدوحة"‬
‫تلفت كثريا يف قاعة العرض وانا أتخيل سطوع األضواء‬
‫إسمه "سيد" ويلعب القامر عىل املقهى‪ّ .‬‬
‫فجأة وقد متركز ضحك املئات عىل وجهي قبل ان يخرج من يشري إىل كامريا مخبأة معلنا فقرة‬
‫من فقرات الكامريا الخفية ُص ّممت خصيصاً للسخرية من تاريخي العائيل‪.‬‬
‫يف زياريت اإلستعادية صعدت من أسفل ميدان صالح الدين‪ ،‬وبينام كان شارع الباب‬
‫الجديد الذي يلتوي صعودا يكاد يكون حكرا عىل أبناء الحطابة وباب الوزير‪ ،‬متر منه اآلن‬
‫خطوط ميكروباص املنشية ومدينة نرص ومدينة السالم‪ .‬ما زال مقام صغري ألحد العارفني‬
‫بالله قامئا يف سور القلعة‪ ،‬فيام اغلقت الدولة ممىش س ّلمياً صاعدا كان يخترص نصف قطر‬
‫الدائرة ليصل مطلع دربنا مبنتصف الشارع‪ .‬استولت الدولة عىل فضائه وضمته ببوابات‬
‫معدنية اىل حرم اإلنتيكخانة التي أصبحت إدارة للميكروفيلم‪ .‬هذا املمىش ُصورت فيه‬
‫معركة األخوة الثالثة حول تقسيم غنيمة املخدرات يف فيلم "العار" لعيل عبد الخالق‪.‬‬
‫استخدم املخرج تدرجات مصاطب املمىش وإضاءته الصفراء املنعكسة عىل األسطح الحجرية‬
‫ملبنى األنتكخانة وسور القلعة إلضفاء سحره عىل مكاشفات القدر السيئ ألخوة من علية‬
‫القوم اكتشفوا‪ ،‬بعد رحيل أبيهم‪ ،‬أن مرياثهم رهن لشحنة مخدرات كبرية‪ ،‬وأن "الحاج" كان‬
‫أكرب تاجر مخدرات يف مرص‪ .‬يف املايض‪ ،‬كانت األنتيكخانة تضم سجالت النفوس املركزية‬
‫لكل مواطني مرص‪ ،‬عىل بابها كنت تجد الفالح والصعيدي واألفندي يف مشاوير استخراج‬

‫‪99‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫مستخرجات رسمية لشهادات امليالد‪ .‬كانت مشوارا الحقا لتصفية الرتكات وحاالت إثبات‬
‫النسب (لهذا رمبا كان اختيارها يف الفيلم)‪.‬‬
‫منذ بداية التسعينات متت أمتتة سجالت النفوس‪ ،‬كام جرى وصل طريق صالح سامل‬
‫من الخلف بشارع الباب الجديد‪ .‬اصبح العبور الرسيع مليكروباصات تحمل العامل والحرفيني‬
‫إىل مناطق أشغالهم يف االمتدادات الخلفية لجبل املقطم مناسبا أكرث ملوقع الحطابة‪ ،‬كديكور‬
‫بالحجم الطبيعي لزمن فات‪.‬‬
‫ركنت قليال يف مقهي سيد الحرصي‪ .‬طلبت قهوة أعرف غلبة النب املحروق فيها من‬
‫"عضمة" القهوجي‪ .‬كانت "ترابيزة" (منضدة) الكونكان قد نصبت‪ .‬كان املتنافسان يف لعب‬
‫القامر عجوزا ذا لحية وقورة اسمه شكوكو وأربعينياً من الصنايعية‪ ،‬انضم إليهام "حاج"‬
‫بالجلباب األبيض‪ .‬التدين الشكيل مل يهاجم الحطابة‪ .‬التلفزيون دائر بإهامل عىل القناة‬
‫الثانية حيث مذيعة من الوزن الثقيل واملكياج األثقل والشعر األصفر "املاشيت" تتمنى‬
‫للسيد الرئيس متام عافية (مرارته) قبل أن تنتقل‪ ،‬بنفس الخفة‪ ،‬اىل فقرة عن عمر السعادة‬
‫الزوجية التي ال تدوم‪ ،‬كام تقول إحدى الدراسات الحديثة‪ ،‬أكرث من ثالث سنوات فقط‪.‬‬

‫املطرية و ما طرية إال هيا‪. . . . .‬‬


‫تزوج أبواي عام ‪ 1972‬يف املطرية‪ ،‬كانت شقتهام األوىل يف عزبة ريفية جديدة لعامل منطقة‬
‫األمريية الصاعدة زمن الستينات‪ .‬إسم العزبة "عزبة مريس خليل" وتجاور مصنع الكابالت‬
‫الكبري‪ .‬ورغم أن أمي كانت تتحدث عن املياه التي التجيء إال ليال يف الحطابة فإن سخريتها‬
‫الدامئة من "حنفية بالش" ومجارير "الطرنشات" وبذاءة نساء العزبة الريفيات وشجارهن‬
‫الدائم‪ ،‬كل هذه العوامل دفعت ايب املو ّله بحب زوجته لنقل إقامتهم إىل شقة بيت عم‬
‫خلف يف ‪ 38‬شارع أحمد عيىس باملطرية‪ ،‬عىل مقربة من جامع سيدي أحمد املطراوي وعىل‬
‫بعد خطوات من محطة اتوبيس ‪ 41‬الشهري‪ .‬الشوارع مسفلتة واملنطقة مبجملها متثل نقلة‬
‫اجتامعية جديرة بزمن أفندي قطاع عام‪.‬‬
‫بيت املطرية هو الطفولة التي انقطعت فجأة‪ .‬ففي الدور الرابع من بيتنا املدهون‬
‫بكلس أبيض‪ ،‬وعىل س ّلمه الذي به فتحتان لإلنارة يف مفارق األدوار عىل هيئة معينّ ‪ ،‬يف‬
‫بلكونته الطويلة بطول واجهة املنزل‪ ،‬الضيقة العرض بخمسني سنتيمرتاً‪ ،‬تربيت‪ ،‬حلمت‬
‫وعشقت وصادقت‪ ،‬ثم ُفطمت يف املراهقة‪.‬‬
‫كان اليوم يبدأ ال بزقزقة بل بصداع العصافري‪ .‬فأمام املنزل ذي األربعة طوابق كانت‬
‫فيال وحديقة ترجع إىل زمن الباشوية‪ .‬الحديقة فيها غابة من أشجار الكافور القدمية واملهملة‬
‫التي ترتفع لتقارب بلكونتنا يف الدور الرابع‪ .‬تقع الفيال داخل سور يدور عىل هيئة مر ّبع‪،‬‬
‫يف ركنيه القريبني منا محالن ُبنيا للخارج‪ ،‬اي أنهام يطالن عىل شارع أحمد عيىس‪ .‬احدهام‬
‫كوافري "جي جي" لصاحبه عمر القريب الشبه باملمثل السبعيني الشهري زين العشاموي‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫كوافريه بؤرة للنميمة واإلشاعات التي تنطلق لتمس سرية كل فتيات "الحتة"‪ .‬املحل الثاين هو‬
‫"جزمجي املعلم نعيم"‪ ،‬مباكيناته لخياطة األحذية التي تهز جدران الشارع بصوت موتورها‬
‫الدقاق‪ ،‬يواجهه يف منزلنا عم منعم الكهربايئ‪ ،‬وهو موظف اليفتح محله إال بعد الظهر ناصبا‬
‫ملعب الدومينو‪ .‬ويالصق باب بيتنا الحديدي ذي الجنزير محل عم نصيف الكواء‪ ،‬أمامه‬
‫محل حالقة "الشامي" لصاحبه عم أحمد الشامي األبيض البدين القصري ذو الشعر املدهون‬
‫ومسحة الشنب الهتلري‪ ،‬وتجاوره "أم نعمة" مبحل الفول والطعمية الذي يرصف عىل بناتها‬
‫اليتامى األب‪ .‬كل هذه املحالت يف دائرة قطرها عرشة أمتار ال اكرث‪ ،‬تعطي إنطباعا بسوق‬
‫صغري عىل مقاس التقاطع بحرف "يت" الذي يقع منزلنا فيه عىل نقطة االلتقاء‪.‬‬
‫العودة لصباحات الحديقة الغ ّناء والقرص السحري‪ .‬كان القرص مهجورا وتعيش فيه‬
‫عائلة من الخدم الفلسطينني املهاجرين من زمن حرب الـ‪ ،48‬كانوا يسكنون ثالث غرف منه‬
‫ال تطل عىل الشارع نهائياً‪ .‬أرسة ال تتبادل أي ود وتكاد حياتها ان تكون شأناً رسياً‪ .‬ورغم‬
‫ذلك يتحكمون يف عالقة كل البيوت املحيطة بفضاء الحديقة املهجورة‪ .‬فهم‪ ،‬كخدم للقرص‪،‬‬
‫كانوا أقرب ملالكيه‪ ،‬دون اي بادرة مثال لإلهتامم بالحديقة أو التوسع مثال يف بقية غرفه‬
‫املهجورة‪ .‬كان ولدهم أرشف الكبري يختبئ خلف الباب الخشبي يشاهد طفولتنا املنتشية‬
‫بلعب الكرة يف الحديقة قبل ان ينقض كنمر مفرتس وهويرصخ ليستويل عىل الكرة وميزقها‬
‫بسكني كاملجنون‪.‬‬
‫شارعنا طويل للغاية‪ ،‬يبلغ نحو كيلو مرت كامل مبوازاة شارع املطراوي الرئيس الرابط‬
‫كل الحي‪ ،‬لكنه شارع اليزيد عرضه عن الستة أمتار‪ ،‬لذا كان مشهد حديقة الفيال الكبرية‬
‫أمامنا تعويضا عن ضعف مشهد املسقط العمودي للشارع‪.‬‬
‫تلخص املطرية مفهوم الهوية املرصية الحديثة‪ ،‬فهي جغرافيا منبنية عىل نواة‬
‫تخطيطة لشارع طويل مواز للحد الرشقي(شارع املطراوي) املتمثل يف خط سكك حديد‬
‫كوبري الليمون‪ .‬شارع املطراوي يفصل بني الجزء البلدي منها والجزء األفرنجي أو ما‬
‫يس ّمى بـ"خارجة املطرية" أو "الخارجة" إختصارا‪ .‬وبطول الشارع املذكور تتعدد الهويات‬
‫املتداخلة للحي‪ .‬فبعد ميدانه بأمتار يقع مسجد سيدي أحمد املطراوي أحد تالمذة السيد‬
‫أحمد البدوي والذي يشري مشجر نسبه إىل السيد عيل الرشيف بن السيد نجم الدين‬
‫الرشيف بن السيد نجيم الدين الرشيف بن السيد نارص الدين الرشيف بن السيد احمد‬
‫الرشيف بن السيد شهاب الدين بن السيد جالل الدين الرشيف بن السيد رشف الدين بن‬
‫شمس الدين الرشيف بن السيد محمد الرشيف بن السيد عبد العزيز الرشيف بن السيد‬
‫احمد بو الطيب بن السيد مرزوق الكفايف بن السيد شهاب الدين الرشيف بن السيد‬
‫محمد الجواد بن السيد عيل الريض بن السيد مويس الكاظم بن السيد جعفر الصادق‬
‫بن السيد محمد الباقر بن السيد عيل زين العابدين بن السيد االمام الحسني بن السيد‬
‫االمام عيل بن ايب طالب بن عم الرسول صىل الله عليه وسلم سيدنا محمد بن عبد الله ‪.‬‬
‫يف وسط الشارع تقع منطقة شجرة مريم الشهرية التي جلست اسفلها العذراء‪ ،‬ويقول‬

‫‪101‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫املتنيح العالمة األنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا بكلية الالهوت القبطية‪:‬‬
‫"ويف املطرية استظلت العائلة املقدسة تحت شجرة تعرف إىل اليوم بـ"شجرة مريم"‪.‬‬
‫وهناك أنبع الرب يسوع عني ماء ورشب منه وباركه‪ .‬ثم غسلت فيه العذراء القديسة‬
‫مريم مالبس الطفل اإللهي وصبت غسالتها عىل األرض‪ ،‬فنبت يف تلك البقعة نبات‬
‫عطري ذو رائحة جميلة هو املعروف بنبات البلسم أو البلسان‪ ،‬يضيفونه إىل أنواع‬
‫العطور واألطياب التي يصنعون منها مسحة املريون ‪) MYRON‬املستخدم يف الطقوس‬
‫الكنسية يف تدشني وتقديس مياه املعمودية‪ ،‬وتدشني أعضاء املعمدين بعد تعميدهم‪،‬‬
‫ومسحهم يف ستة وثالثني موضعا من أبدانهم (هي مجموع الحواس واألعضاء واملفاصل)‪،‬‬
‫ويف تدشني الكنائس والهياكل واملذابح وكل أدواتها‪ ،‬ويف مسح الكهنة وامللوك املسيحيني‪.‬‬
‫وقد أقيمت يف املطرية كنيسة مدشنة باسم العذراء القديسة مريم‪ ،‬وهي كنيسة‬
‫أثرية كانت ومازالت لها شهرة عظيمة‪ .‬وال يزال الناس‪ ،‬مرصيون وأجانب‪،‬‬
‫يحجون إليها للتربك بها وبالبرئ الشهرية التي أنبعها السيد املسيح بنفسه‪.‬‬
‫وقد صارت املطرية لذلك مركزا من املراكز األسقفية املهمة‪ .‬ويروي املؤرخون أن الجنود‬
‫الفرنسيني بقيادة الفرنيس كليرب (‪ )1880-1753‬الذي توىل الحكم يف مرص بعد نابليون‬
‫بونابرت‪ ،‬بعد أن انترصوا عىل الجيوش الرتكية يف معركة عني شمس‪ ،‬عرجوا يف طريقهم عىل‬
‫شجرة مريم‪ ،‬وكتبوا عىل فروعها أسامءهم‪ ،‬مستخدمني يف ذلك أسنة حرابهم وسيوفهم‪ ،‬وقد‬
‫نال بعضهم الشفاء لعيونهم من الرمد بعد أن اغتسلوا من ماء البرئ‪ ،‬وشفي البعض اآلخر‬
‫من أمراض أخرى‪ ،‬وسجلوا شكرهم لله عىل ما نالهم من خري‪ ،‬بربكة "شجرة مريم" وماء البرئ‬
‫األثرية الذي أنبعه املسيح له املجد بيده الطاهرة إذ رسم باصبعه عىل األرض‪ ،‬فتفجر املاء‬
‫نبعا حلوا عجائبيا"‪.‬‬
‫ومام يذكره مؤرخون الحقون أن شجرة مريم األصلية التى اسرتاحت تحتها العائلة‬
‫املقدسة ىف املطرية قد أدركها الوهن نتيجة للشيخوخه فسقطت وماتت سنة ‪ 1656‬وقام‬
‫بجمع فروعها وأغصانها جامعة من كهنة اآلباء الفرنسيسكان‪.‬‬
‫أما الشجرة املوجودة حالياً فقد نبتت مكانها من جذور الشجرة األوىل وهى ترجع‬
‫إىل عام ‪ .1672‬وقامت مصلحة اآلثار ببناء سور حولها وحولتها إىل مزار سياحي‪ .‬ويرد ذكر‬
‫املطرية يف موسوعة سليم حسن األثرية كام تظهر يف رسوم كتاب "وصف مرص" لعلامء‬
‫الحملة الفرنسية‪.‬‬

‫ينتهي شارع املطراوي املحوري واملفصيل بعد كيلومرتين من بعد إمتداده الشاميل مبيدان‬
‫هو ميدان املسلة الذي تقع فيه مسلة امللك سنورست األول "مسلة املطرية" وهي اآلثر‬
‫الوحيد الباقى من معامل مدينة "أون" أو هليوبوليس باليونانية وتعني الربج أو الفنار‪.‬‬
‫ويرجع تاريخ هذه املسلة اىل عرص الدولة الوسطى اي األلف الثاين قبل امليالد‪ ،‬وامللك الذي‬
‫شيدها هو من ملوك االرسة الثانية عرشة الذين بذلوا جهدا كبريا يف بناء الدولة بعد فرتة‬

‫‪102‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫اضمحالل سبقت هذه الفرتة وهي أقدم‪ ‬مسلة‪ ‬يف العامل‪ .‬وكانت مدينة املطرية أحد أجزاء‬
‫مدينة هليوبوليس مبثابة املركز الديني والعلمي ملرص‪.‬‬
‫تجاور تلك الهويات الزمانية يف حيز ضيق أثر بال شك يف عالقة برش املكان ببعضهم‬
‫البعض ويف تصوراتهم عن املكان‪ .‬فقد شاع زمن السبعينات تسمية األطفال األشقياء يف أي‬
‫عائلة باملطراوي خوفا من الحسد‪ .‬لكن أبناء هذه التسمية كانوا غالبا من ذوي املوت املبكر‪،‬‬
‫من ناحية أخري يثار جدل حول التسمية ونشأتها‪ .‬فالبعض يرون أن املطرية هي تخفيف ملا‬
‫قالته السيدة العذراء بأن املاء يف هذا املكان كان طريا (عىل الرغم من أن السيدة العذراء مل‬
‫تضبط متلبسة بلسان عريب)‪ ،‬فيام اخرتعت الذائقة الحاذقة للشعبيني سخرية عىل املعنى‪،‬‬
‫طري إال املؤخرة‪.‬‬
‫بأن "ما طرية إال هيا"‪ ،‬اي ليس هناك ّ‬
‫لاّ‬
‫بعد الصباحات الصاخبة‪ ،‬كانت "أم مندور" د لة حارة الصعايدة متارس مهنتها‬
‫الصباحية اإلستثنائية‪ ،‬وهي املرور عىل نساء الشارع الصطحاب أطفالهن إىل حضانة "األبلة‬
‫زينب"‪ ،‬تتسلمنا يف طابور اشبه بالقطار‪ ،‬تكون هي يف املقدمة بينام يضع كل طفل يده‬
‫اليمني عىل كتف من أمامه‪ ،‬نحمل "خرجا" مثبتا من الكتف االمين إىل الخارصة اليرسى‬
‫يحوي كراريس وأقالما وبعض الطعام‪.‬‬
‫نصل إىل الفيال الجبارة ذات النافورة التي تعمل يف املناسبات‪ ،‬حيث إستأجرت العائلة‬
‫الرتبوية ألبلة زينب الفيال فيام تسكن العائلة يف املنزل الخلفي‪ .‬متارس أبلة زينب وابنتاها‬
‫وولداها وزوجها األستاذ حسن ما يشبه مامرسة املؤسسة الرتبوية األوىل‪ .‬تستقبل اطفاال‬
‫من سن العامني قبل التحاقهم مستقبال باملدرسة اإلبتدائية املجاورة‪ ،‬نقلة بسيطة من فيال‬
‫الحضانة إىل فيال مدرسة األهوانية املجاورة‪.‬‬
‫هذا التجاور املدهش معامريا بني بيوت شبه ريفية أو نصف حداثية مع أطالل بنية‬
‫بورجوازية كان مربكا للغايةز فرتييف تلك الفيالت باألنشطة التجارية أو تركها نهبا لإلهامل‬
‫الخرائبي كان شيئا عصيا عىل الفهم‪ .‬فعىل بعد ‪ 50‬مرتاً من فيلتي الدراسة كان بيت عائلة‬
‫عمدة املطرية الشهري‪ .‬عائلة بأكملها حكمت التاريخ القروي للحي وبقي منها فقط بيت‬
‫العائلة و"زريبة بهائم" تنتج للحي أفضل أنواع األلبان‪ .‬ورغم ذلك دخلت الحداثة‪ ،‬أي‬
‫األسفلت إىل املستوى الثاين من الشوارع الفرعية‪.‬‬
‫ميدان املطرية الشهري كان منبتا لوسائل املواصالت الحداثية الجديدة‪ .‬فمن جانبه‬
‫األمين تخرج اتوبيسات رشق الدلتا حيث متثل املطرية البوابة الرشقية للقاهرة‪ ،‬وأمام املوقف‬
‫كان يرتبع عامل الرتاحيل الطازج قدومهم من األرياف مبعاولهم ومسامري ومطارق فيام‬
‫أسامه الحقا املخرج التسجييل حسام عيل "سوق الرجال"‪ .‬فقد اقتحم أشهر مخرج وثائقي‬
‫مثانيني عامل ساحة عامل الرتاحيل يف املطرية بكامريته التسجيلية‪ ،‬عىل الجانب املقابل كانت‬
‫محطة املطرية للرتام‪ ،‬يف خط يتشعب من املطرية وصوال إىل السيدة زينب يف أقىص غرب‬
‫القاهرة‪ ،‬ماراً عىل أحياء الرشابية وباب الشعرية والعتبة‪ .‬كان الرتام برحلته التي متتد إىل‬
‫ما يزيد عن الثالث ساعات هو الرابط بني موطن امليالد يف الحطابة غري البعيدة عن أعامل‬

‫‪103‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫السيدة زينب وموطن الطفولة‪ .‬أما فائدته الحقيقية فكانت ربط أحياء الصناعة الستينية‬
‫يف املطرية (مصانع الدواء مثل رشكة املستحرضات الطبية‪ ،‬ورشكة سيد‪ ،‬مصانع النسيج مثل‬
‫رشكة تريكونا‪ ،‬مصانع األغذية مثل مرص لأللبان) بأخواتها يف الرشابية واألمريية وصوال إىل‬
‫بقايا الصناعات التقليدية يف العتبة‪ ،‬وبني العامل الذين يتحركون لهاثا خلف مواطن العمل‬
‫التي وفرتها النهضة الصناعية للثورة‪.‬‬
‫من القطر املوازي بامليدان كانت محطة النهاية ملرتو مرص الجديدة الشهري‪ .‬ثالثة‬
‫حي مرص الجديدة التجاري‪،‬‬ ‫خطوط تنتهي مبيدان املطرية‪ ،‬احدها ينتهي يف روكيس قلب ّ‬
‫واآلخر إىل حدود صحراء املريغني حيث تقع الكلية الحربية‪ ،‬واألخري يصل إىل الدراسة‬
‫حي مدينة نرص الناهض بورجوازيا منذ نهاية‬ ‫قبل أن تخرج منه تفريعة صغرية تالمس ّ‬
‫السبعينات يف رشفته الجنوبية (شارع الطريان)‪.‬‬
‫املطرية يف فيلم أحالم هند وكاميليا ملحمد خان كانت املكان الذي تسكنه الخادمتان‬
‫الفقريتان‪ .‬كانتا تركبان املرتو الكهريب وصوال إىل شقق مخدوميهم يف مرص الجديدة‪.‬‬
‫ورغم مركزية امليدان الذي يتصل بكل مناطق القاهرة التقليدية بخطوط مبارشة‪ ،‬كان‬
‫لشارع املطراوي ميزته اإلستثنائية التي ال تجعل سكانه يف احتياج إىل ميدانهم‪ .‬فتوزعت‬
‫فيه ثالث محطات أتوبيس‪ ،‬يخدمها نحو ستة أتوبيسات وصوال إىل قلب املدينة‪ ،‬العباسية‪،‬‬
‫رمسيس‪ ،‬التحرير‪ ،‬السيدة زينب‪ .‬واألخري‪ ،‬أي خط السيدة زينب برقم ‪ ،303‬كان أتوبيس‬
‫هيئة املعونة األمريكية الذي أسامه األهايل "كارتر"‪ ،‬بألوانه الحمراء الزهرية وتصميم فضائه‬
‫األمرييك الذي يعتمد الوقوف أكرث من الجلوس‪ .‬ثم أخريا بشعار هيئة املعونة األمريكية (يد‬
‫امريكية تصافح يدا مرصية عىل خلفية العلم األمرييك) عىل مقدمته القبابية األقرب شبها‬
‫ألتوبيسات املدارس الكالسيكية‪.‬‬
‫مركزية خطوط املواصالت يف املطرية كانت امليزة اإلستثنائية للحي‪ .‬فإذا ما اضفنا ملا‬
‫سبق محطة قطار بإسم الحي عىل خط كوبري الليمون يف منطقة الخارجة‪ ،‬ألدركنا كيف أن‬
‫حياً ال تتجاوز مساحته الستة كيلومرتات مربعة قد قدر له أن يكون منطلقا لعالقة املدينة‬
‫بأطرافها ومحيطها اإلقليمي‪.‬‬
‫كيف أثر ذلك عىل طفولتي؟ ببساطة كنت مالحا لرسب أطفال شارعنا يف الخروج‬
‫من الحي‪ .‬فعالقتي بالحطابة وعمل أيب املتنقل بني وسط العاصمة وأطرافها سبكني كمرشد‬
‫سياحي‪ .‬كنت أصطحب أصدقايئ إىل اكتشاف األحياء الشعبية القدمية كالقلعة والسيدة‬
‫والحسني منذ عمر الست سنوات‪ ،‬رحالت تنتهي بسينامت أحياء الجنوب‪ ،‬كنت عراب الطفولة‬
‫السينامئية لجييل‪ .‬وعرب أتوبيس كارتر أو ترام السيدة‪ ،‬أكتشف اصدقايئ يف األعياد سينامت‬
‫"وهبي" و"الرشق" و"إيزيس" و"الحلمية" و"الهالل" مبيدان السيدة‪ ،‬وسينام "فيكتوريا"‬
‫بشارع الجمهورية بوسط البلد‪ ،‬وسينام "سهري" و"مرص" يف منطقة باب الشعرية والضاهر‪.‬‬
‫سكنت بيتنا أربع عائالت‪ ،‬كل عائلة إمتلكت شقة يف دور واحد‪ .‬تطل غرفتان عىل‬
‫الواجهة‪ ،‬بينام الصالة والغرفة الثالثة كانتا تطالن عىل "منور" داخيل يربط بيتنا ببيت خلفي‬

‫‪104‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫يقع يف حارة الصعايدة الخلفية‪ .‬عندما سكنا شقة الدور الرابع (حيث يحسب الدور األريض‬
‫دوراً أول)‪ .‬كان البيت الخلفي ينتهي يف الدور الثالث فأطلت شقتنا عىل سطح املنزل‬
‫الخلفي‪ .‬إستغلينا فتحة يف الجدار بحجم باب قصري يسمح بعبور طفل وبنينا "عشة فراخ"‬
‫بالطوب اللنب يف السطح املجاور‪ .‬وكأن الشقة خرج منها ورم معامري صغري‪ ،‬طلينا الحوائط‬
‫باللون األخرض الزرعي موضة الثامنينات‪ ،‬وكاد الباب القصري أن يتوه من دقة رسمه فبدا‬
‫وكأنه باب رسي‪ .‬هذه الفسحة اإلستثنائية جعلت يل مكانا خارج‪/‬داخل الشقة‪ .‬فبعد "فرات"‬
‫متتالية ماتت كل الدواجن‪ ،‬وأصبح خم الدجاج أول مكتبة ومعزل للقراءة منذ سنوايت األوىل‬
‫‪ ،‬بل إين ادخلت وصلة كهرباء ألصل الليل بالنهار يف جلستي الدامئة بها‪.‬‬
‫مل يقف األمر عند حدود هذه الفسحة التي اخرتعها الكوالج املعامري‪ .‬كانت هناك‬
‫"فسحة" مبلطة أمام شقتنا طويلة وغري مسقوفة‪ ،‬وهي نطاق إنتقايل بني سطحي البنايتني‪.‬‬
‫رسعان ما قام والدي أوائل الثامنينات بتسقيفها خشبيا وإزاحة باب الشقة للخارج لنكسب‬
‫غرفة إضافية‪.‬‬
‫يف الدور األريض كانت تسكن عائلة أم أحمد أمني‪ .‬عم أمني غول أسود بشعر أكرت‬
‫وهو "صول" بالقوات الجوية‪ ،‬يخرج صباحا مبوتوسيكله الياباين الجاوا األحمر بعد أن يسخنه‬
‫لنحو نصف ساعة‪ .‬ومع خروجه يبدأ العامل السحري ملهنة الست أم أحمد زوجته‪ .‬فهي تعمل‬
‫"ح ّفافة" أو "ب ّالنة"‪ ،‬تتوافد النساء زرافات لشقتهم شبه املظلمة‪ ،‬ويف الضوء الشحيح الداخل‬
‫من املنور املشرتك تبدأ عمل "فتلة الحواجب" ونزع شعر اإلبط وشعر اليدين والقدمني‬
‫وصوال إىل العانة بالحالوة السكرية‪ .‬تشتغل هكذا إىل حني عودة زوجها‪ ،‬بل انها‪ ،‬قبل‬
‫عودته‪ ،‬عليها أن تخفي كل أثر ملهنتها الرسية‪ .‬كان صوت رصاخها حدثاً شبه يومي عندما‬
‫يكتشف زوجها البطاش ‪ -‬الذي أشك يف رفضه لعملها‪ -‬أنها "رجعت للشغالنة الوسخة" عىل‬
‫حد تعبريه‪ ،‬وهو ينهال عليها رضبا‪ .‬يف ساعات عملها كب ّالنة‪ ،‬تستقبل األمهات مع أبنائهن‪.‬‬
‫وكنت مع خروج أمي للتسوق صباحا أترىب عىل أفخاذ نساء شاكيات متواطئات يف عريهن‬
‫العام‪ .‬وعىل حجرهن أخذت رضعايت الصناعية فإن رفضت الرضاعة الطبيعية‪ ،‬كانت "ماما‬
‫أم أحمد" بؤرة أخرى للحكايات والنميمة النسوية‪ ،‬تواجه‪ ،‬بل تصارع‪ ،‬بؤرة كوافري جي جي‬
‫اإلفرنجي بلمسة أكرث شعبوية‪.‬‬
‫كانت النسوة يقمن بأعامل منزل "األسطى أم أحمد"‪ .‬فبعد اإلهتامم برضيع مثيل‬
‫توزع عليهن تالل الخرضوات للتنظيف والتقطيع‪ .‬واحدة لتنقية األرز‪ ،‬وأخرى لتفصيص‬
‫الثوم‪ ،‬وثالثة لتنظيف الكرشة‪ ،‬بحيث ينتهي يوم عملها بوقفة رسيعة عىل البوتوغاز لتسوية‬
‫الطعام قبل حضور أبو أحمد‪ ،‬ووصل مددها للمستوى الذي جعل كل نساء البيت الباقيات‬
‫يستفدن من خدمات زبوناتها املجانيات‪.‬‬
‫ألم أحمد فتى وفتاة‪ ،‬أحمد ومنى‪ ،‬وهام يكرباين بسنوات‪ .‬كانا مراهقني يافعني‬
‫سمراوين وأنا الزلت أمسح مخاطي‪ ،‬يختفيان مع بدء سهر أبيهام اللييل‪ .‬فهو يحتل الغرفة‬
‫املطلة عىل الشارع مبارشة‪ .‬الغرفة الزرقاء التي ال ينقطع خروج سحابات تدخني الحشيش‬

‫‪105‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫منها بدءا من الخامسة ظهرا‪ ،‬حيث تتحول أم أحمد للتخديم عىل نار بحجم الزمرد تتأجج‬
‫عىل صهللة شلة الحشيش التي ال تجد غضاضة يف فتح الشباك وإزعاج الحي بالضحك‬
‫الهيستريي حتي الفجر‪.‬‬
‫يف الدور الثاين‪ ،‬أو األول بعد األريض بلغة هذه األيام‪ ،‬كانت شقة الست أم شوشو‪،‬‬
‫وهي مهاجرة سويرسية جاءت من زمن تهجري مدن القناة‪ .‬يعمل زوجها سائقا طول العام‬
‫يف الكويت‪ ،‬ولديها طارق وهشام وشوشو‪ .‬وهي بيضاء ذات حواجب ثقيلة وعيون شبه‬
‫مجهدة من السكر الدائم‪ .‬ولداها الذكران كانا قلييل التعامل مع أبناء جيلهام من جرياننا‪.‬‬
‫والعائلة تتعامل بتعال شبه مسترت مع مجمل حياة البيت‪ .‬كانت أم شوشو العدوة الرئيسية‬
‫ألمي‪ ،‬وانتهى رصاعهام املكتوم لسنوات بـ"علقة" شاركت فيها خالتي كوثر املراهقة يف‬
‫ذلك الحني‪ ،‬وكان املاسرت سني لخالتي وهي تلبسها "صفيحة الزبالة" بعد أن "بركت" عليها‬
‫وستولت عنوة عىل كيلوتها األسود‪.‬‬
‫يف الدور الثالث شقة أم ميمي‪ ،‬بأوالدها الذكور الخمسة العاملقة‪ ،‬زوجها يعمل‬
‫طوال العام يف السعودية‪ ،‬وأصغر ابنائها أحمد يكربين بأربعة أعوام‪ ،‬وميمي الفيل األكرب‬
‫يدرس الهندسة‪ .‬عائلة من مواهب التعليم العايل املتنوع‪ ،‬بعد املهندس ميمي هناك الطبيب‬
‫أسامة‪ ،‬وخالد املحامي‪ ،‬وأمين الضابط‪ ،‬وأحمد الكيميايئ‪ ،‬واألب املغرتب يأيت يل بهدية سنوية‬
‫عبارة عن يت شريت ريايض ماركة لوتو أصيل‪ ،‬ومرطبان من مسحوق "التانج" الذي يحول‬
‫الصيف إىل ليايل بطعم الربتقال‪.‬‬
‫من صغري‪ ،‬متنيت ان تكون أم ميمي أمي‪ ،‬ألنها محبة ألبنائها الوحوش الذين ال‬
‫يتوقفون عن التصادم والشجار طول اليوم‪ ،‬وهو شجار ينتهي غالبا بإرسالها اصغرهم لرشاء‬
‫‪ 2‬كيلو كباب و‪ 2‬كيلو بسبوسة يف عز الليل‪ .‬يف الصباح تدهن أم ميمي‪ ،‬الطيبة الصبورة‬
‫ذات الحضن اإلستثنايئ والرائحة الزكية‪ ،‬وجهها ويديها بالزبدة البلدي‪ ،‬فتبقى المعة طوال‬
‫اليوم‪ ،‬يف حني يسعى الذكور حولها كشغيلة النحل‪ ،‬واحد يدعك املواعني‪ ،‬واآلخر يطبخ‪،‬‬
‫وثالث يغسل املالبس‪ .‬انه بؤس بيت بال فتيات‪ ،‬لكنهم جميعا يجتمعون عىل رسير واحد‬
‫للمذاكرة ليال‪ .‬عىل الرسير يأكلون ويشاهدون التلفزيون خاصة مباريات املصارعة الحرة‬
‫باملالبس الداخلية‪.‬‬
‫ولدت عام ‪ ،1974‬وبني الحطابة واملطرية قضيت سنوات طفولتي األويل‪ ،‬نهاية األسبوع‬
‫يف الحطابة وبداياته يف املطرية‪ .‬وولد أخي تامر بعدي بسنتني‪ ،‬ثم سلوى بأربع سنوات ‪،‬‬
‫وجاءت اسامء وأنا يف سن العرش سنوات‪ .‬وتصادف أن الشارع والحارة املواجهة له عمودياً‪،‬‬
‫والواصلة إىل شارع املطراوي‪ ،‬تتكون من نفس الرشيحة العمرية‪ ،‬فكانت شلة الطفولة هي‬
‫‪ 12‬صديقا من الجريان متساوي السن‪ ،‬إما من عمري أو عمر أخي‪ .‬يف منزل الحاج عامر‬
‫املقابل يساراهناك عوض وفريد‪ ،‬بعده بأمتار تامر وعمرو‪ ،‬ثم عالء ومحيي‪ ،‬ثم محمد‬
‫السوداين‪ .‬ويف العامرة املالصقة إبراهيم ومدحت‪ .‬ويف إمتداد الشارع لنحو عرشة أمتار مييناً‬
‫ويساراً‪ ،‬هناك محمود ابن بائع البطاطا املشوية‪ ،‬وسعيد وموىس يف آخر اإلمتدادات‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫فريقان لكرة القدم مكونان من ستة العبني‪ ،‬وامللعب هو حديقة الفيال التي كنا‬
‫نستيقظ يوم الجمعة لتهيئتها وتنظيفها ورش أرضها باملياه‪ .‬كانت أمي ترهن موافقتها‬
‫عىل اللعب بتكليفات منزلية مثل املسح والغسيل أوال‪ ،‬وإال فمراقبة املاتش من البالكونة‬
‫واملشاركة بفارة حازمة يف التحكيم‪ .‬ليلة الخميس هي ليلة تحضري الكرة‪ ،‬نفخ قلبها البالوين‬
‫البالستيك عند عم سامل‪ ،‬صاحب محل تأجري العجل يف شارع املطراوي‪ ،‬رشاء "الكافر" الجلدي‬
‫وتخييطه من الخارج بعد نفخ القلب البالون‪ ،‬إعادة رسم الجول الشاميل بالطباشري‪ .‬تخطيط‬
‫امللعب بالطباشري كان يتم صباحا بعد "ترويق" األرض‪.‬‬
‫كانت "حتة" من الذكور‪ ،‬ال بنات فيها إال سحر بنت عم غريب‪ ،‬ذات السمعة السيئة‬
‫كأخواتها وأبيها‪ .‬أخواتها الذكور حرامية وهجامني‪ .‬أبوها سائق تاكيس سليط اللسان ومرعب‬
‫للجريان‪ .‬تريب العائلة ماعزاً ميأل الحارة بروثه ومأمأته‪ ،‬والبنت ترتدي املالءة اللف من سن‬
‫العرش سنوات وتضع بعضا من املاكياج وتختفي يف املغارب‪ .‬كان تامر جارهم أول من تجرأ‬
‫و"زنقها" يف حوش بيتهم ونال قبلة –طبعت عىل شفاهه أحمر قانيا عىل حد قوله‪.‬‬
‫من ناحيتي كنت يف سن الست سنوات أحب بصمت جارة بعيدة تحت إدامة إقامتي‬
‫يف البلكونة‪ ،‬ابنة لألرسة املسيحية الوحيدة يف حارتنا‪ .‬كنت ال اراها جيدا يف بلكونتهم البعيدة‪.‬‬
‫كانت كتلة من السواد الدائم بعد موت أبيها املفاجئ‪ .‬ورغم تباعد البيتني‪ ،‬كانت أمها‬
‫وأختها الكبرية تخص أمي دونا عن باقي الجريان املسلمني بالزيارات يف األعياد‪ ،‬وتخصني‬
‫هي شخصيا بكتبها الدراسية من عام آلخر‪ .‬كانت تسبقني بعام‪ ،‬متدينة متأل الكتب بصلبان‬
‫وزهور‪ ،‬وترتك جيهان مرقص ونيس‪-‬هكذا إسمها‪ -‬بعضا من وريقات لعبة بنك الحظ يف‬
‫كتبها‪ .‬ترتدي نظارة بإطار أسود وشعرها معقود‪ .‬بيضاء ومربربة‪ ،‬تحت ظالل حبها الصامت‬
‫ارتبكت وسهرت وتعذبت لسنوات‪ .‬صحبتني أختها يف إحد األعياد إىل كنيسة شجرة مريم‬
‫القريبة‪ ،‬فأحببت املسيح كام تحبه فتاتان دون ذكر وأم مرتملة حديثا‪.‬‬
‫يف زياريت التي صاحبها طقس مغرب مل يتذكرين أحد‪ .‬حتى ماما "أم زيزي" ُ‬
‫عرفت‪ ،‬بعد‬
‫أن فتح ابنها حسن باب الشقة‪ ،‬أنها ماتت منذ سبع سنوات‪ .‬صورت فرن العيش البلدي‪،‬‬
‫بقي محل حالقة عم أحمد الشامي‪ ،‬وأرص ماهر حفيد عم نصيف الكواء‪ ،‬عىل ذكر اسمه‬
‫بالكامل يك يؤكد أن جده الذي أسلم يف لحظة‪ ،‬ضعف عاد مسيحيا قبل وفاته‪ .‬فجده‬
‫الذي استمر لسنوات يويص القادمني من الحجاز بالسبح واملصاحف وسجاجيد الصالة فاجأ‬
‫الجميع عندما أعلن إسالمه وهجر زوجته‪ .‬مل يضف إسالمه شيئا إىل عالقته مبن حوله‪ .‬ظل‬
‫نفس الشخص الكتوم الذي ينفث الرزاز عرب ماكينة نحاسية صغرية‪ ،‬يفتح باكرا ويغلق محله‬
‫يف موعد عودة املوظفني‪.‬‬
‫انتقلت يف رحلتي إىل مساكن شجرة مريم‪ ،‬سألت عن البلوك الذي يسكنه "مصطفى‬
‫البلد" فلم أعرث عليه‪ .‬أخذت إسرتاحة عىل مقهى مكتب الصحة القديم وتأملت املساكن‬
‫الشعبية الصفراء التي تشكل مدخل منطقة خارجة املطرية‪ .‬استعنت بصديق عرب املوبايل‪،‬‬
‫أعطاين "كود املنطقة"‪ .‬عدت للسؤال هذه املرة عن "جامل سوابق" الساكن يف الشقة‬

‫‪107‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫املجاورة ملصطفى الناجي كام يعرف يف دوائر املثقفني‪.‬‬


‫مصطفي الناجي سائق قطار وروايئ ورسام تشكييل‪ .‬أبن ألرسة عاملية يسارية شهرية‬
‫يف نطاق يسار "رشق القاهرة"‪ .‬تعلم الكتابة عىل كرب‪ .‬كتب روايته األوىل "دم فاسد" وصدرت‬
‫من ضمن إصدارات "جامعة الجراد" يف بداية التسعينات‪ .‬مل يرتك السكك الحديدية رغم ما‬
‫يل جنيس‪ ،‬حساس‬ ‫ترتب عىل روايته الهذيانية السوداوية البديعة من مشاكل‪ .‬مصطفى مث ّ‬
‫ومهذب‪ ،‬قدم يف روايته عاملا غرائبيا لكوابيس السياسة عندما تطحن عام ًال فقرياً مثلياً‪،‬‬
‫كتب نهاية التسعينات روايته الثانية "علية الليل املعدنية" مل يتحمس نارش واحد لهذيانه‬
‫اإلبداعي الذي تخصص هذه املرة يف تأمل محطات السكك الحديدية وعالقات الجنس بني‬
‫النباتات والحيوانات يف أحراش مهملة‪ .‬أتذكر مشهدا بديعا من روايته يقابل فيه الراوي‬
‫الروائية اليسارية يف منزلها ليعرض عليها مخطوط روايته‪ .‬تسأله عن ابيه وأخته وعائلته‪ ،‬ثم‬
‫تقطع اسرتسالها عن اليسار بسؤاله عن إمكانية تصليح شطافة حاممها مبا أنه سائق سكة‬
‫حديد‪ .‬يدخل الراوي عىل "قاعدة حامم" املثقفة الكبرية ويبدأ يف رسد تأمالته لعالقة خرائها‬
‫املتجلط باملاء وأثره عىل الشطافة‪.‬‬
‫يستقبلني مصطفى بود من تركني ليلة أمس عىل الرغم من انقطاع عالقتنا منذ‬
‫أربع سنوات‪ .‬مصطفى انقطع عن عامل وسط البلد كله‪ ،‬نال دورة تدريبة يف ترميم اللوحات‬
‫الفنية وخرج معاش مبكر من هيئة السكك الحديدة‪ .‬دخل عىل حد قوله "كهف الرسم"‪،‬‬
‫عرض عيل آخر رسومه ملحطات القطارات كام رأها طفال يف السكك الحديدية‪ ،‬وجلس ليحيك‬
‫روايته عن خارجة املطرية‪:‬‬
‫"بص يا بلد (أنظر يا بلديايت)‪ ،‬الزم تتكلم يف مقالك عن سوق سميكة اليل يف آخر‬
‫املساكن‪ .‬إتسمى عىل إسم سميكة هانم‪ ،‬وه ّيا أرمنية كانت صاحبة القرص اليل بيطل عىل‬
‫السكك الحديد واليل مكانه دلوقتي نادي املطرية‪ .‬الست دي كان عندها ولد وحيد هوا‬
‫فريد سميكة‪ .‬كان غاوي طريان رشاعي‪ .‬وكان سور القرص الكبري بيطل عىل منطقة الليمون‬
‫اتسمت باإلسم دا ألنها كانت حدايق ملون‪ ،‬أهل املنطقة الشعبية دي‬ ‫الشعبية‪ ،‬املنطقة اليل ّ‬
‫كانوا بينطوا السور ويرسقوا القرص‪ ،‬إبنها اقسم أنه حيرضب النار ع اليل حيشوفه بيرسق‪،‬‬
‫وحصل اليل حصل‪ ،‬رضب واد حرامي بطلقة موته جوة جنينة القرص‪ ،‬هجم الرعاع عليهم‪،‬‬
‫عملت معاهم إتفاق أنهم ياخدو حتة أرض كبرية من القرص كدية إلبنها‪ ،‬إبنها الشهيد اليل‬
‫مات بعد كدة يف حرب ‪ 48‬وإتسمى عىل إسمه شارع يف عني شمس"‪.‬‬
‫"إحيك كامن يابلد عىل الحج نظيف‪ ،‬املقاول املرصي اليل عىل اسمه الجامع الكبري يف‬
‫ناصية السوق‪ ،‬الراجل دا هوا اليل بنا لألجانب الفيالت املشهورة يف شوارع البلسان والبلسم‪،‬‬
‫متعرفش منني جاب تصميامت الروكوك والباروك املختلط دي‪ .‬الفيالت اليل سكنها أجانب‬
‫طليان وأرمن ويهود كانوا بيشتغلوا يف السكة الحديد وبورصة القطن ورشكة التورماي يف‬
‫العرشينات‪ .‬كان شارع البلسان فيه محالت بتقدم فطار أورويب عىل الطريقة الفرنسية‪،‬‬
‫والله لحقتها يا بلد‪ ،‬فطار فيه قهوة ولنب وجبنة رومي‪ ،‬كامن البارات اليل باقي منها بس‬

‫‪108‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫محل أورفنديس بتاعة البرية‪ ،‬الحاج نظيف دا طلب من الربنس يوسف كامل (اليل القرص‬
‫بتاعه دلوقتي معهد بحوث الصحراء واليل إتصور فيه فيلم "رد قلبي") طلب منه التربع‬
‫لبناء الجامع‪ ،‬الربنس دا كان خال امللك فاروق واملثال محمود سعيد وهو اليل أسس مدرسة‬
‫الفنون الجميلة سنة ‪ ،1908‬وكامن هو اليل بعت املثال محمود مختار باريس ورصف عىل‬
‫دراسته هناك ‪ 5‬سنني"‪.‬‬
‫أصور لوحات مصطفي الطفولية وأتركه إلكامل الجزء األجمل من املطرية‪ ،‬الخارجة يف‬
‫شارعي البلسان والبلسم‪ .‬أبدأ من كنيسة عذراء الكاثوليك الروم‪ ،‬ملجأ الربوتستانت لأليتام‪،‬‬
‫بقايا الفيلل القدمية وصوال إىل محطة املرتو ومقهى الخارجة‪ .‬اختفت الفيلل وحلت محلها‬
‫مدراس إسالمية خاصة‪ ،‬محالت مالبس بأسامء أجنبية ورسم ابناء الحي املهاويس شعارات‬
‫الرتس نادي الزمالك عىل أحد الحوائط‪ .‬لكن ما بقي من اشجار وظالل يسمح حتى اآلن‬
‫مثلام سمح قبل عرشين عاما ألطفال املدارس املتسكعني يف لعب ماتش كورة (ع املايش)‬
‫قبل دخول املغرب‪.‬‬
‫قبل عرشين عاما‪ ،‬كان الليل يعني مشوارا إىل الخارجة للتمشية بني الفيلل‪ .‬هناك‬
‫ظهرت البوتيكات األوىل‪ ،‬محالت الكاسيت‪ ،‬أفضل فرن إفرنجي‪ ،‬فتيات مسدالت الشعر‬
‫يخرجن للتجول بالبسكيالتات‪ ،‬ومكتبة عم زكريا التي تبادل ألغاز الشهر بالشهر السابق‬
‫مقابل خمسة قروش للنسخة املقروءة واملحافظ عليها دون ثنيات‪.‬‬
‫عند حدود منطقة القصور أمام املحطة‪ ،‬أالحظ الربج الضخم الذي شغل مكان سينام‬
‫النهضة الصيفي‪ .‬عىل رصيف نادي املطرية يظهر قرص األمري محمد وحيد الدين سليم‪.‬‬
‫استولت الدولة عىل قرصه عام ‪ 1998‬بعد اتفاق تاريخي مع لجنة املصادرات يعود لنحو ‪55‬‬
‫عاما‪ .‬حني متركز األمري بحرسه وكالبه رافضا فتح البوابات أمام لجنة نزع امللكية‪ ،‬أطلق النار‬
‫وكادت تحدث مجزرة‪ .‬تم اإلتفاق عىل تنازله عن ممتلكاته فيام عدا القرص حتى وفاته‪.‬‬
‫عشت وتركت املطرية وأنا اتخيل هذا األمري املسجون يف قرصة يري الثورة تهزم وتنترص‪.‬‬
‫ميوت سيدها ويأيت رديفها‪ ،‬وهو باق يف قرصه‪ ،‬لكن ذاكرة الدولة ال تنىس اتفاقاتها‪ ،‬ال تنىس‬
‫الثأر‪ ،‬وتعود لتسرتد د ّيتها كام يف حالة ثوار سميكة هانم‪.‬‬
‫مل يكن عم خلف صاحب منزل املطرية يحتاج إلصبع الديناميت يك يأيت بقرار اإلزالة‪.‬‬
‫لو كان صرب قليال عىل رصاعنا التاريخي مع جيوش النمل التي كانت تنخر يف كل شققه ومل‬
‫تنفع معها كل املقاومات الكيميائية‪ ،‬لو كان شاهد قبل الليلة املشؤومة منظر رأس أخي‬
‫النائم لجواري وقد كساه النمل كديدان الجثث‪ ،‬لو شاهد فم أخيه مفتوحاً ومنل بحجم‬
‫الرصاصري يخرج منه‪ ،‬لرتك املنزل لحاله‪ ،‬فقد كنا ال محالة خارجني منه‪ .‬مل يصرب ال عىل النمل‬
‫ومل يقدر عىل التفاوض معنا برفع اإليجار عن ستة جنيهات شهريا‪ .‬وضع إصبع الديناميت‪،‬‬
‫لكن القدر مل ميهله‪ ،‬هدم املنزل وابتنى قبل وفاته منزال من دورين اصبح كـ"البيت الوقف"‪،‬‬
‫تشاجرالورثة فلم يسكنوه ومل يهتموا بإسكانه حتى اآلن‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫عزبة النخل‪ ...‬أو النمل‪ ...‬أو الصني الشعبية‬


‫زياريت األوىل لعزبة النخل كانت يف العام ‪ .1986‬كنت مع ايب يف زيارة لصديقه إبراهيم‬
‫أبو العطا‪ ،‬إشرتينا من فالحات إفرتشن مدخل محطة السكك الحديدية منشتان من البلح‬
‫الرطب‪ .‬مل أتخيل أين سأترك املطرية بعدها بعامني ألسكن هذه اإلقطاعية الريفية‪ .‬فرغم أن‬
‫الفارق اليتعدى محطتي قطار‪ ،‬لكن مشهد محطة القطار ذات التعريشة الخشبية الخرضاء‬
‫الباهتة‪ ،‬السالمل الرخامية البالية‪ ،‬الشوارع شبه الزراعية‪ ،‬كانت كالعودة إىل أرياف املنوفية‬
‫موطن األب‪.‬‬
‫يف رحيلنا من املطرية‪ ،‬وفيام ننقل عفشنا عىل عربة نقل كبرية‪ ،‬مل أودع أحدا من‬
‫رفاقي‪ ،‬فالبيت مل يغلق بعد‪ .‬شقتنا ظلت مكانا للزيارة وإطعام دجاجات أطلقناها يف‬
‫فراغاتها ملدة عامني‪ ،‬كان الخروج أقرب للظالم التدريجي يف السينام‪ .‬انسحاب تشوبه وصمة‬
‫الفقر وعدم القدرة عىل استبدال شقتنا بشقة يف نفس الحي‪ .‬عوض وعمرو هيثم وعدوين‬
‫بالود والزيارة‪ ،‬لكن العزبة كانت نقلة ال تحتمل افتعال الود‪.‬‬
‫عىل خطي أحمد بدير يف مرسحية ريا وسكينة‪ ،‬أمر أيب أمي أن تخلع مجوهراتها‬
‫الذهبية‪ .‬كان من املمكن بخمسة آالف من الجنيهات يف ذلك الزمن السكن يف شقة نصف‬
‫مشطبة بالقرب من محطة القطار عىل األقل‪ ،‬عىل أن نستكمل تشطيبها الحقا‪ .‬لكن أيب‬
‫أصرّ عىل أال نشعر باختالف يف اإلنتقال‪ ،‬بل كانت الشقة يف شارع عيل عبد املجيد مشطبة‬
‫بالسرياميك والقيشاين ويف حالة أفضل من شقة املطرية‪ .‬رمبا أحس برضورة مكافأتنا لتحمل‬
‫الصدمة‪ ،‬ورمبا مل يركز بقدر كاف‪ ،‬ورمبا نفذ نصيحة صديقه إبراهيم أبو العطا التي كانت‬
‫أقرب ملؤامرة سيتكشف معناها الحقا‪.‬‬
‫يف تقاطع عمودي عىل رشيط القطار متر الرتعة التوفيقية‪ ،‬وهي تفصل جغرافيا بني‬
‫العزبة االفرنجية والعزب الفرعية الداخلية‪ ،‬وهي فرع من ترعة اإلسامعيلية الشهرية تتصل‬
‫لتصل مياه النيل يف إقطاعات رشق القاهرة التي التزال زراعية‪.‬‬
‫العزبة االفرنجية بقايا فيلل وبيوت ريفية مهندمة ‪ ،‬أسفلت ومياه نظيفة ومركز‬
‫شباب ومسجد وشارع مدارس طويل‪ .‬لكن مبجرد العبور عىل كباري من الصاج تنتقل‬
‫إىل القرن الثامن عرش بغمضة عني‪ .‬شارعنا الرئييس هو الرتعة الطوايل‪ ،‬وصلنا إليه وكانت‬
‫الرتعة يف طوار الردم‪ ،‬تالل ومرتفعات‪ ،‬رصف صحي مكشوف‪ ،‬مياه طلمبات تعمل باملواتري‪،‬‬
‫وتركيبة من املتزوجني الجدد‪.‬‬
‫سك ّنا عامرة الحاج قطب‪ ،‬ليس حاجا ومل يذهب إىل مكة أصال‪ .‬كان ماسح أحذية يف‬
‫الرشابية‪ ،‬وعمل يف طائفة املعامر لدرجة أنه عمل كنفر فرتة يف الرشكة التي يعمل بها أيب‬
‫باملواميية (عامل مياوم)‪ .‬سافر إىل السعودية فيام ربطت زوجته عىل بطنها وبطون ابنائها‬
‫لتبني دورا تلو اآلخر من عرق غربته‪ ،‬عاد من السعودية ليفتح محل ألبان يجلس أمامه وهو‬
‫يعبث يف شقوق قدمه التي خلفها طول التجوال بصندوق البوية وقصعة اإلسمنت‪ .‬رغم‬

‫‪110‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫ذلك كان يعمل كمبيض محارة‪ ،‬صاحب العامرة مبيض املحارة الذي جاورنا مباعزه وبهامئه‬
‫وكان صارما يف ّمل الشهرية‪.‬‬
‫كنت يف الصف األول الثانوي‪ ،‬وعىل محطة القطار اكتشفت أننا أربعة صبيان فقط‬
‫يف هذه املرحلة العمرية‪ ،‬نركب القطار ونعاكس أربع فتيات من أرجاء العزبة املنوعة‬
‫بالنظرات وبالهمسات وببعض الغناء الذي يتقنه أوسمنا مروان‪.‬‬
‫أمام املحطة كانت مكتبة الباش مهندس‪ ،‬صاحبها مهندس يسكن روكيس مبرص‬
‫الجديدة‪ ،‬يأيت كل يوم بسيارته الرينو ليفتح محله فتتمدد الجرائد واملجالت والكتب‬
‫وإصدارت الدولة الرخيصة ملواجهة املد اإلسالمي يف ما عرف بإسم مرشوع التنوير‪ .‬ويف‬
‫مركز الشباب عرفنا أنشطة الكشافة ولعب كرة القدم تحت أضواء الكشافات‪ ،‬لكننا كنا ابناء‬
‫العزبة الجوانية‪ ،‬السكان الجدد‪ ،‬الفقراء‪.‬‬
‫من البلكونة التي تسترت بزجاج وستائر كان من الصعب التلصص عىل أحد‪ .‬فالعامرات‬
‫متواجهة بشكل يجعل أي نظرة يف أي إتجاه شكال من اشكال التلصص‪ .‬عامرات ال تتناسب‬
‫شوارعها مع إرتفاعاتها‪ ،‬فتنظر من البلكون كأنك تنظر يف منور مظلم‪ .‬غالبا ماال تصل‬
‫الشمس إىل سطح الشارع‪ ،‬ومع الرتبة األصلية الطينية‪ ،‬وانعدام األسفلت‪ ،‬تتحول الشوارع‬
‫شتاء إىل برك متصلة وفقا لدرجة املطر‪ .‬أما الصيف فيعني انفجار بالوعات املجارير األهلية‬
‫مبا ال يلذ وال يطيب له الذكر‪.‬‬
‫يسبقنا ببيتني منزل عائلة غايل املسيحية‪ ،‬ثالثة ذكور بغال الشكل بأسامء إسالمية‪،‬‬
‫ارشف وعادل ورفعت وبنت وحيدة هي تريزة‪ .‬تكربين األخرية بعام‪ .‬أخجلتني بعد ثاين نظرة‬
‫تلصصت فيها عىل فخذها األبيض بعد أن وضعت مقدمة جلبابها يف أستك الكيلوت وهي‬
‫تنظف البلكونة‪ .‬كرست عيني بصباح الخري ونظرة عينها الخرضاء الساحرة اىل أعىل‪ ،‬تحولت‬
‫إىل الصديق "املبضون" بعد ان ارست يل عىل املحطة بحبها لعبده‪ ،‬صاحب محل البويات‬
‫غري املتعلم‪" .‬أبضنتها" فكنت أقطع مذاكرتنا سويا‪ -‬نسيت ان اقول إنها رسبت عاما بعد أن‬
‫شقت مالبسها فيام البغال الثالثة ينهالون عليها رفسا وقد اعتربوها مجنونة لرتتبط بـشاب‬
‫غري متعلم‪-‬أقول اقطع مذاكرتنا بطلب مالءة نظيفة يك أصيل العرص‪ ،‬كانت تحرض يل مالءة‬
‫نظيفة وتغلق ع ّ‬
‫يل الباب‪.‬‬
‫فيام عدا هذا املشهد للسلم األهيل العتيق‪ ،‬الذي جلبته عائلتنا من تراث املطرية‪،‬‬
‫وجلبته عائلة غايل من تراث منطقتها األصلية يف حدائق القبة‪ ،‬كان الرصاع الطائفي مكتوما‬
‫لكن يبدو نظيفا‪ .‬فالعزبة كانت موطن ترحيل املسيحيني تحت الضغط من أحيائهم األثرية‬ ‫ْ‬
‫يف رشق القاهرة‪ ،‬من الزيتون‪ ،‬حدائق القبة‪ ،‬شربا‪ ،‬أو الذين جاؤوا من الصعيد امللتهب‬
‫أص ًال‪ ،‬من أسيوط الجامعات اإلسالمية ‪ ،‬ليتجمعوا يف منطقة تخدمها ثالث مؤسسات كنسية‪،‬‬
‫كنيسة العذراء مريم بشارع الفريد إىل جوار املحطة‪ ،‬والتي تصدر منها اآلن مجلة "الكتيبة‬
‫الطيبة" املتطرفة الشهرية والتي كانت سببا يف مالسنات فضائية طائفية شهرية‪ ،‬وحيث‬
‫ظهرت العذراء الحقا‪ ،‬ودير راهبات مريم مبستشفاه يف منطقة الراهبات نهاية الطوايل‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫وأخريا كنيسة الزرائب‪ ،‬التي أسستها األم تريزة الشهرية يف منطقة حرق املخلفات والزبالة‬
‫نهاية شارعنا‪ ،‬حيث ميتد عامل تدوير مخلفات القاهرة العامرة وحظائر الخنازير الشهرية‪.‬‬
‫يف عزبة النخل اختفى القيادي الشهري أمين الظواهري ألربع سنوات فاصلة بني عودته‬
‫من أفغانستان ألول مرة نهاية الثامنينات وإنطالقه مع بن الدن الحقا‪ .‬فتح عيادة باسم‬
‫مستعار وتزوج ومارس املهنة بعيدا عن أعني األمن الذي كان ال يجرؤ عىل عبور الحد الفاصل‬
‫بني العزبة اإلفرنجية الفياللية‪ ،‬وعزبتنا‪ ،‬عزبة القرن الثامن عرش‪ .‬رسقت جامعة التكفري‬
‫والهجرة محل مجوهرات صديقنا ارشف املسيحي عىل ناصية الشارع وتوغلت بعد إطالق‬
‫النار يف الزرايب‪ .‬جاء أمن الدولة بعدها بيومني‪ ،‬وألن شارعنا يقع إىل جانبه األمين يف القاهرة‬
‫وجانبه األيرس يف القليوبية‪ ،‬ألقى كل طرف املسؤولية عىل اآلخر‪ .‬ملَ ال والعزبة مقسمة بني‬
‫ثالثة أحياء كلها بعيدة يف األصل عنها‪ :‬املطرية حيث تنتمي منطقة املحطة وصوال إىل ترعة‬
‫التوفيقية‪ ،‬املرج ميني شارعنا‪ ،‬الخصوص شامل شارعنا‪ .‬العزبة لقيطة الفراغات اإلدارية التي‬
‫ال تظهر عىل خرائط الدولة حتى اآلن إال يف شكل خطوط وهمية تفصل بني نطاقات زراعية‬
‫قدمية‪ ،‬وحتى اآلن يفضح النخل النابت شيطانياً بني البيوت ذلك التاريخ الزراعي القديم‪.‬‬
‫دخل مرتو األنفاق عزبة النخل عام ‪ .1988‬فجرت انهار األسمنت والطوب األحمر‪ ،‬تم‬
‫هدم الفيلل‪ ،‬والبيوت القدمية‪ ،‬لتحل محلها عامئر قبيحة ملونة بألوان الكانتلوب والليمون‬
‫فيام تجللها آيات القرآن أو الصلبان الحجرية‪ .‬جاء إليها أو خرج منها اإلسالم املتطرف‬
‫فالتحى أخي وتحجبت أخوايت البنات وعاد أيب إىل الصالة يف املسجد وتخمرت أمي التي ال‬
‫تحفظ الفاتحة‪.‬‬
‫جاء التمدين القرسي بكهربة املرتو فانزرع الناس متهالكني عىل نفس البنية التحتية‬
‫الخربة وتكالبوا يف عنف عىل امتصاص الهواء والفراغات‪ ،‬باختطاف البنات املسيحيات تارة‪،‬‬
‫بتطهري الشوارع تارة أخرى من أقليتها الدينية إسالما أو مسيحيني‪ ،‬والدولة حارضة مبرشديها‬
‫من تجار املخدرات وعربة األمن املركزي الدورية التي تنزل لتخترب كل موسم قطاف الفقر‬
‫من املتطرفني يف إعتقاالت عشوائية مؤقتة إلكامل الدفاتر وإثبات الهيبة‪.‬‬
‫يف شارع املدارس تهالكت مدرسة "الجيل الحر" الحكومية تحت أكوام الزبالة فيام‬
‫متددت مدراس "براعم" اإلميان اإلسالمية الخاصة و"جابر األنصاري" اإلسالمية الخاصة‪،‬‬
‫ثم "الفراعنة" و"الرشق األوسط" اللتان ال تحتاجان إىل كلمة "املسيحية الخاصة"‪،‬‬
‫وانترشت التكاتك (جمع التوك التوك)‪ ،‬وانترشت محالت اإلتصاالت الخلوية‪ ،‬وانترشت‬
‫محالت املالبس الصينية‪ ،‬كذلك انترش مجمل اخرتاعات الحياة كام يتفنن يف إنتاجها أبناء‬
‫مخلصون للزمن العشوايئ‪.‬‬
‫تظهر مكاسب املوبايل و"إتكلم براحتك" فتفتح عرشات املحالت املتجاورة‪ ،‬متتص‬
‫السوق فتغلق جميعا‪ .‬تفتح محالت املنتجات الصينية الشهرية بـ"‪ 2‬ونص" فتامرس كل‬
‫املبيعات ثم يخرب سوقها‪ .‬يظهر التوك توك فتشرتي كل العائالت تلك املاكينات الهندية‬
‫ثم تركد‪ ،‬وهكذا مع املقاهي‪ ،‬وهكذا مع محالت الستااليت‪ ،‬وهكذا األدوات املنزلية‪ :‬عقل‬

‫‪112‬‬
‫يورد يناه‬ ‫رهاق تويب ةثالثل ةداعتسإ يف‬

‫جمعي يتذاىك ويخرتع حلوال مؤقتة قبل أن يعود لنقطة صفره األوىل‪ ،‬فيعاود إشعال الحرائق‬
‫يف جريانه املسيحيني‪.‬‬
‫مل أكن احتاج إىل زيارة إستعادية لعزبة الصني الشعبية‪ ،‬فأنا مل أخرج منها إال من‬
‫سنوات قبل الزواج‪ .‬خرجت منها بعد حادثة بسيطة جدا‪ .‬كنت عائدا مع صديق يعمل‬
‫بجنوب سيناء لفرتات طويلة ويرشفني بإجازاته القصية يف شقتي التي اشرتيتها منذ عوديت‬
‫من باريس‪ .‬توقفت ألشرتي طعاما أسفل منزلنا‪ .‬منذ سنوات مل اعد معروفا يف املنطقة‪.‬‬
‫املنطقة تزدحم وأنا ابتعد ألدخلها ليال مرسبال يف الظالم‪ .‬كنت أتخيل ان برجي العاجي يف‬
‫شقة يف الدور التاسع ال تُرى ُمضاءة إال يف الفجر ويسكنها شخص قليل الكالم‪ ،‬غري مرصودة‬
‫أو متا َبعة‪ .‬قام شاب يف تلك الليلة من أشقياء املنطقة تحت تأثري سيجارة بانجو مرضوبة‬
‫ليستعرض عيل مبطواة قرن غزال‪ .‬جاء يسألني "أنت إبن مني ياد؟"‪ .‬بهت صديقي الذي‬
‫عمل مرشدا سياحيا‪ .‬تكهرب الجو وفيام كنت أتلعثم أكمل إهانته وأنا أقف أخرس‪ .‬حتى‬
‫ليساري محب للفقراء ّ‬
‫ومنظر لفلسفة الصعاليك‬ ‫ّ‬ ‫هذه اللحظة كانت الرواسب اإليدولوجية‬
‫تجعلني إبناً للمنطقة‪ .‬مل أدر بنفيس إال وساقاي تجريان نحو املنزل‪ .‬ارصخ باسم اخي‬
‫السلفي الشهري زمن شقاوته والذي متاهي منذ زمن مع العزبة‪ .‬نزل أخي‪ ،‬نزلت أخوايت‬
‫البنات‪ ،‬نزل ايب‪ ،‬ولفيف من جريان منزلنا‪ ،‬وهجموا عىل الشاب‪ .‬جلجل صوت أخي وهو‬
‫يسب أهايل املنطقة والشارع بفخر فيام ميرمغ كرامة البلطجي ركال وتعنيفا‪ .‬األخري كان‬
‫يعتذر ويق ّبل يد أخي األصغر‪ .‬أحسست فجأة بفراغ املشهد‪ ،‬أحسست أين بعيد‪ ،‬رمبا خلف‬
‫الكامريا أو أمام شاشة عرض‪ .‬كنت سأموت هكذا بطعنة من تافه يف السادسة عرشة‪ ،‬هل‬
‫تفهمونني‪ ،‬ال اظن!‬
‫يف زياريت األخرية‪ ،‬مل أمر عىل منزل العائلة‪ .‬فبعد وفاة والدي وانحشار كفنه عىل‬
‫سلم املنزل الضيق بعد ثالث ساعات من "تغسيل رشعي" أرشف عليه خمسة من أعضاء‬
‫الجامعة السلفية هواة "حصد ثواب املوت"‪ .‬وبعد أن اوصلته إىل قرب العائلة يف قريته التي‬
‫خرج منها يف الستينات‪ ،‬عرفت أن فطامي قد تم‪ .‬لكن رغم ذلك تغريت العزبة‪ ،‬وأصبحت‬
‫أكرث غربة عن ناسها وأنا أتخفى بكامريا ديجيتال‪ .‬قضيت ثالث ساعات يف أرض املنتجات‬
‫الصينية أبحث عن بطاريات اإلنرجيزر يك تدور الكامريا‪ .‬يف مقهى من مئات املقاهي التي‬
‫تعمر بالسلفيني املتعطلني وداهني الهواء دوكو‪ ،‬جلست أشاهد انفجار الشوارع بالفتيات‬
‫املسيحيات بشعورهن املسدلة وقد جحظت عيون "داخيل الجنة بثواب أسلمة املسيحيني"‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر متيش وجوه الحجاب مجهدة مستغفرة مكفهرة‪ .‬الهواء يكاد يشتعل‪ ،‬من‬
‫حرق النفايات املتناثرة عىل أجمة الشوارع‪ ،‬من أصوات الرتانيم املتصاعدة يف مواجهة قرآن‬
‫سلطت الكامريا ‪-‬خوفا من الوجوه‪ -‬عىل أسامء املحالت‪،‬‬‫ُ‬ ‫الحذيفي من مح ّلني متجاورين‪.‬‬
‫التقطت ما تيرس من صور فيام عيون ترقبني‪ ،‬وجريت رسيعا‪ ،‬رسيعا‪ ،‬بل ارسع مام تتوقعون‬
‫يف مثل تلك الحاالت‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫لبنان‬

‫ترشيح فيلم مل ينجز أبداً‬


‫مليا جريج‬

‫عندما ُطلب مني أن أكتب حول موضوع خطوط التامس‪ ،‬أدركت أن كلمة متاس بالنسبة‬
‫إيل تعبرّ اليوم عن فكرة التقسيم واالنفصال‪ .‬يبدو يل من املستحيل أن تكون هذه الكلمة‬
‫قد حملت يوما ما معنى آخر‪ ،‬إذ أنها تجسد فكرة الحرب األهلية بعينها‪ ،‬تلك الحرب التي‬
‫عشناها وعشنا انطالقا منها حروبا أهلية أخرى‪.‬‬
‫كلمة متاس جزء من موسوعتنا الحربية ولن تشمل معناها األصيل الذي يعرب عن‬
‫املس وفكرة التجاور‪ ،‬يف غياب السلم الحقيقي‪ .‬فنحن ال نعيش بعد يف زمن السلم‪ ،‬وهذا ما‬
‫أكدته‪ ،‬ولألسف‪ ،‬مجموعة من األحداث‪ ،‬خاصة تلك التي حصلت يف بريوت يف أيار ‪.2008‬‬
‫يف أيار ‪ 2008‬سمعنا مجددا صوت طلقات النار يف الشوارع‪ ،‬واملحزن أن أكرث من‬
‫مائة وخمسني شخصا لقوا حتفهم يف ذلك األسبوع‪ .‬لكن األمر الذي لفتني بشكل خاص كان‬
‫مشهد "الرينغ" املهجور واملسدود باملتاريس‪ .‬فهذا املشهد كان صورة مطابقة عام كان عليه‬
‫الرينغ يف الثامنينات خالل الحرب‪ .‬مل يتغري يشء يف الصورة‪ .‬لرمبا كانت هذه الصورة جزءا‬
‫من الزمن والتاريخ يحمل ذاكرته الخاصة‪ .‬أحداث تمُ ثل أو سيعاد متثيلها يف املسقبل‪.‬‬

‫هذا اإلنقسام املادي واملعنوي لبريوت والذي جسدته خطوط التامس كان يف صلب عملني‬
‫من أعاميل أرغب بالتأمل فيهام من منظور اليوم‪ :‬فيلم الفيديو الوثائقي "هنا ورمبا هناك"‬
‫(‪ 54‬دقيقة – ‪ ، 1)2003‬والقصة الخيالية القصرية التي تحمل العنوان ذاته (‪.2)2003-1996‬‬

‫وعرض يف العام ‪ .2003‬كتابة واخراج وانتاج مليا‬


‫‪" 1 1‬هنا ورمبا هناك" (‪ 54‬دقيقة) ُص ِّور يف العام ‪ُ ،2002‬‬
‫جريج‪ ،‬وانتاج مشرتك مع ‪ 03 Productions‬ديب‪.‬‬
‫‪" 2 2‬هنا ورمبا هناك"‪ ،‬رواية قصرية كتبتها مليا جريج بالفرنسية يف ‪ ،1996‬واعادت النظر بها يف ‪.2003‬‬
‫نرشت باللغتني الفرنسية واألملانية يف ‪ 2003‬مبناسبة معرض ‪ ،DisORIENTation‬الذي نظمه جاك‬
‫برسيكيان يف ‪ Haus der kulturen Der Welt‬يف برلني يف ‪ .2003‬وقد أنشأ املؤلف موقعاً الكرتونياً‬
‫عام ‪ 2009‬لهذه الرواية بدالً من نرشها باللغتني العربية واالنكليزية‪ ،‬مام يتيح للقارىء مشاركة‬
‫افضل ‪Here and perhaps elsewhere.com‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫يف كال العملني‪ ،‬يبدو املكان امللقب بخط التامس أو بالخط الفاصل‪ ،‬مركزيا كصورة‬
‫وكرمز‪ ،‬ومع ذلك ال يتم تعريفه كام انه ال يقبل التمثيل‪ .‬ميكن القول إنه بالرغم من الوجود‬
‫املادي لخط التامس‪ ،‬فهو أصبح مع الزمن خطا معنويا يج ّزئ هذه املدينة ويق ّوض املظاهر‬
‫املختلطة من حياتها بطريقة غري قابلة ألن تُعكس‪.‬‬
‫ملحة لرواية ورمبا تصوير‬ ‫يف ‪ 1993‬كنت طالبة يف حقل السينام وشعرت بحاجة ّ‬
‫الحروب اللبنانية برصيا‪ .‬بعدما شاهدت الفيلم "راشومون"‪ 3‬قررت أن أصنع فيل ًام روائياً‬
‫يل نقل القصة ووضعها يف سياق‬ ‫طوي ًال مستوحى منه ومبنياً عىل األسس ذاتها‪ .‬امنا كان ع ّ‬
‫الحرب اللبنانية‪ .‬يف ‪ 1996‬بدأت العمل عىل تطوير أشخاص الفيلم‪ ،‬وبقيت لسنوات عدة‬
‫أغ ّذي رغبتي يف إنجاز هذا الفيلم الروايئ‪ .‬وبالرغم من ذلك مل أعمل بشكل جدي عىل‬
‫املرشوع بسبب تعرثي بأسئلة مهمة ووثيقة الصلة باملوضوع‪.‬‬
‫كيف ميكنني إعادة خلق ديكور الحرب؟ هل إعادة خلق أحداث تلك الفرتة املأساوية‬
‫بشكل خيايل أمر مناسب اآلن؟ هل ال يزال من املمكن أن نؤمن بتصوير الحروب بطريقة‬
‫واقعية وتقريبا طبيعية؟ هل من املناسب العمل مع ممثلني محرتفني ليجسدوا شخصيات‬
‫أبطال الحروب؟ وهل من املمكن أص ًال تصوير أو رواية هذه الحروب؟‬
‫هل بإمكان السينام‪ ،‬التي بالكاد لها تاريخ وتفتقر إىل صناعة حقيقية يف بلدنا‪،‬‬
‫أن تنجح يف متثيل الحروب اللبنانية؟ واألهم من ذلك هو أنه تم صناعة عدد كبري من‬
‫األفالم املثرية عن الحروب يف أماكن أخرى من العامل‪ ،‬وبالتايل أليس من املفرتض أن تدفعنا‬
‫خصوصيات الحروب اللبنانية إىل إعادة التفكري بطرق وأساليب تأليفنا الرسدي‪.‬‬
‫بدأت الشكوك تراودين بشأن هذا الفيلم الروايئ‪ ،‬ومع ذلك فإن األسئلة حول كيفية‬
‫متثيل الحروب اللبنانية وكيف ميكن لنا أن نكون شهوداً عليها بقيت تنتابني‪ .‬كيف ميكنني‬
‫التعامل مع تاريخنا الحديث‪ ،‬أي صورة له ميكنني االحتفاظ بها‪ .‬أي صورة له سأعاود‬
‫خلقها؟‬
‫بعض الحقائق واملآيس والتجارب لن تصلنا وستبقى طي الكتامن‪ ،‬مدفونة‪ ،‬لن نتمكن‬
‫من أن نشهد عىل وجودها‪ ،‬ميكننا فقط افرتاض أنها موجودة ولكن مفقودة‪ .‬هذا نتيجة‬
‫آللية الذاكرة‪ ،‬بتشوهاتها وبامكانية النسيان وحتى بحاجة البرش للنسيان‪ .‬كام أن ذلك عائد‬
‫الستحالة مهمة تجميع كل الشهادات والوثائق املتعلقة باالحداث السابقة بسبب ضيق‬
‫ولكن أيضا‪ ،‬ويف حال الحروب اللبنانية تحديدا‪ ،‬بسبب وجود أمراء الحرب يف السلطة‬ ‫الوقت ْ‬
‫حتى اليوم‪ ،‬ما مينعنا من التنقيب يف هذه األحداث والحكم عليها‪ ،‬يضاف إىل هذا كله أن‬
‫الحرب مل تنته بعد‪.‬‬

‫‪ Rashomon 3 3‬فيلم ياباين اخرجه ‪ Akira Kurosawa‬يف ‪ ،1950‬وهو يتناول فكرة الحقيقة النسبية‬
‫من خالل وصفه لجرمية قتل ساموراي واغتصاب زوجته‪ ،‬كام يرويها بأشكال مختلفة اربعة شهود‬
‫والضحية نفسها (عرب وسيط روحي)‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫لذلك‪ ،‬ومع مرور األعوام أصبح واضحا بالنسبة يل أن الطريقة الوحيدة إلمكانية‬
‫تصوير أو رواية الحروب اللبنانية تكمن يف تقبل عدم قدرتنا عىل تصويرها‪ .‬ميكنني فقط‬
‫اقرتاح محاوالت للتصوير وأجزاء من التاريخ وأجزاء من الحقيقة وقصص شخصية‪ .‬ويف‬
‫معرض دحيض لفكرة الحقيقة الفريدة سأحاول طرح خطاب مضاد للخطاب الرسمي أو‬
‫لغياب أي خطاب رسمي‪.‬‬
‫أجد نفيس منسابة بني االغراء أو حتى الحاجة لرسد تاريخنا وبني استحالة الوصول‬
‫إليه بشكل كامل‪ .‬وقد تبني يل أن شكيل التعبري‪ ،‬الوثائقي والخيايل ‪ ،‬محدودان بأساليبهام‬
‫يف التمثيل‪ .‬أصبحت مهتمة بفكرة تغبييش هذين النمطني وبإعادة النظر يف العالقة بني‬
‫الحقيقة التاريخية والخيال‪ .‬ركزت عىل تجميع و‪/‬أو انتاج وثائق أو مادة أرشيفية باإلضافة‬
‫إىل عنارص خيالية ملقاربة العالقة بني القصص الفردية والتاريخ الجامعي‪.‬‬
‫ميكن القول إن الكثري من الفنانني من أبناء جييل الذين أنجزوا أعامالً منذ مطلع‬
‫التسعينات وحتى يومنا هذا يف بريوت قد أثاروا أسئلة مشابهة يف أعاملهم‪ .‬من املؤكد أن‬
‫ذلك مل يأت صدفة‪ .‬فأعامل هؤالء الفنانني تجد لها أصداء يف أعامل فنانني آخرين من مناطق‬
‫أخرى يف العامل هم أيضا مهتمون بالقدر ذاته مبسألة استخدام الوثائق كوسيلة ملقاربة‬
‫التاريخ وآلية الذاكرة‪.‬‬
‫الكاتب والق ّيم عىل املعارض أوكوي إينويزور يستنتج يف مقالة له نرشت يف كاتالوغ‬
‫" أركايف فيفر" (حمى األرشيف)‪ ،‬وهو املعرض الذي نظمه يف مركز التصوير الدويل يف‬
‫نيويورك )‪ (ICP‬عام ‪" 4 2008‬يف إطار معرض ‪ Archive Fever‬يربز الفنان بوصفه عنرصا‬
‫تاريخيا للذاكرة‪ ،‬بينام يربز األرشيف كمكان تتم فيه مالمسة مسائل تتعلق باملايض عرب‬
‫االنبثاق الصارم للموت والدمار والتحلل‪ .‬لكن‪ ،‬وخالفاً لألشكال املعارصة لفقدان الذاكرة‪،‬‬
‫التي يصبح األرشيف مبقتضاها موقعاً لألصول املفقودة وتضحي الذاكرة فاقدة لذاتها‪ ،‬يحصل‬
‫فعل التذكر والتجدد يف داخل األرشيف نفسه‪ ،‬وهناك أيضاً تقوم اللحمة بني املايض والحارض‬
‫يف الفسحة غري املحددة بني الحدث والصورة وبني الوثيقة والنُصب"‪.‬‬
‫هجرت مرشوع صناعة فيلم روايئ وقررت بدال عنه أن أقوم بعملني‪ :‬االول عبارة عن‬
‫إصدار قصة قصرية مبنية عىل بنية فيلم "راشومون" بحيث ُينقل سياق أحداثه إىل بريوت‬
‫يف الثامنينات‪ .‬سيشتمل هذا العمل عىل صور هي عبارة عن وثائق لبريوت خالل الحرب‬
‫وصور بورتريه من مجموعة "املؤسسة العربية للصورة"‪ ،‬باالضافة إىل بعض الصور التي‬
‫التقطها فنانون معارصون حديثاً‪ .‬لن يتم فصل العنارص الخيالية واملادة األرشيفية‪ ،‬إمنا يتم‬
‫يصور‬
‫استخدامها بشكل متسا ٍو يف عملية رسد الرواية‪ .‬املرشوع الثاين عبارة عن فيلم فيديو ّ‬
‫قسم بريوت إىل منطقة غربية وأخرى‬ ‫يف بريوت عىل طول ما كان يعرف بخط التامس الذي ّ‬

‫‪ 4 4‬معرض ‪ Archive Fever‬يضم اعامالً مرتبطة باستعامل األرشيف والوثائق لفنانني محليني هام وليد‬
‫رعد ومليا جريج‪ ،‬وكذلك لفنانني من بلدان مختلفة‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫رشقية‪ .‬سأتّبع يف التصوير "األسلوب الوثائقي" مستخدمة صورا من األرشيف بهدف قص‬
‫الرواية‪ .‬وبالرغم من ذلك فإن شهادات األشخاص الذين سأقابلهم ستشتمل عىل عنارص‬
‫خيالية‪ .‬سأحاول اسرتداد صورة مفقودة لبريوت‪ ،‬صورة تجزأت يف مخيلتي منذ سنوات‬
‫كثرية‪ .‬كيف يل أن أصور بريوت؟ هل تصوير بريوت املجزأة ممكن فقط عرب صورة مجزأة‬
‫هي أيضاً؟‬
‫يف الفيديو "هنا ورمبا هناك"‪ ،‬حيث كنت أعلم أن آالف األشخاص اختطفوا ومل ُيعثرَ‬
‫يف معظم الحاالت عليهم كام بقيت ظروف خطفهم مجهولة‪ ،‬سأسأل السكان الذين التقيهم‬
‫بينام كنت أعرب بريوت يف محاذاة ما كان يوصف بخط التامس‪ ،‬ما إذا كانوا يعرفون شخصا‬
‫اختطف "هنا" خالل الحرب‪.‬‬
‫باألساس كنت قررت استخدام اسم مبتكر أو اسم شخص سمعته بينام كنت أعرب‬
‫بريوت سعياً إلجراء تحقيقي‪ .‬الفكرة كانت أنه مع كل مقابلة تكرب "االشاعة" ويصبج‬
‫الشخص "املبتكر" شخصاً "حقيقياً" ليكتشف املشاهد رسيعا أن هذه الشخصية غري حقيقية‬
‫وأنها كانت مجرد أداة تفعيل لعملية الذاكرة ولكشف تعدد الخطاب املوجود حول الحرب‬
‫باالضافة إىل عظم املأساة‪.‬‬
‫عندما بدأت التصوير‪ ،‬أدركت الحدود األخالقية ملرشوع من هذا القبيل ولجوانبه‬
‫الفكاهية‪ .‬ومع أنني توقعت سامع تجارب مأساوية كثرية‪ ،‬إال أنني صعقت من هول ما‬
‫سمعته‪ .‬تقريبا يف كل شارع عربته قابلت شخصا عىل األقل عاىن من الفقد خالل الحرب‪.‬‬
‫الحقيقة كانت أسوأ مام كان ميكن يل أن أتخيل‪ .‬عندما بدأت رحلتي واجهتني عىل الفور‬
‫جروح وأوجاع الناس الذين قابلتهم وكشفوا عن قصصهم أمام كامرييت‪ .‬بعضهم كان مىض‬
‫عىل مآسيهم العائلية أكرث من عرشين عاما‪ .‬مل يعد بإمكاين أن أمثل خدعة "الشخصية‬
‫املبتكرة"‪ .‬أقول هذا من غري أن أعني أن الخيال كان مستحيال‪ ،‬بل ألقول إنه يف هذا االطار‬
‫تحديدا أصبح الخيال خارج املوضوع‪ .‬لو أنني قررت امليض يف مخططي األول لكنت شعرت‬
‫بأنني منتحلة‪.‬‬
‫تخليت عن فكرة "الشخصية املبتكرة" وأخذت أصور بينام أسأل من أقابلهم‪ :‬هل‬
‫تعرفون احدا خطف هنا خالل الحرب؟ استمر التصوير ثالثة أسابيع تتبعت خاللها خريطة‬
‫لبريوت‪ .‬وبينام عربت املدينة اكتشفت أمكنة مثقلة بالتاريخ‪ .‬قسمت رحلتي عرب وقفات‬
‫عند مواقع الحواجز التي كانت موجودة عىل امتداد خط التامس‪ ،‬مستخدمة صورا من‬
‫األرشيف لتحديد مواقعها الحالية بدقة‪ .5‬أحيانا كان يعجز الناس عن تحديد مواقع تلك‬
‫الحواجز‪ ،‬وعندما ينجحون يف ذلك غالبا ما كانت هذه املواقع غري متطابقة مع املواقع التي‬
‫تحددها صور االرشيف‪ .‬هكذا كان الحال مع معرب املرفأ الذي يقابل اليوم مكب نفايات‬

‫‪ 5 5‬معظم الصور املستخدمة يف فيديو "هنا ورمبا هناك" التقطها املصور عباس سلامن‪ ،‬وقد تم‬
‫االستحصال عليها من ارشيف جريدة السفري‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫النورمندي املحاذي للبحر يف منطقة أعيد استثامرها من قبل سوليدير‪ .6‬ولكن املثري أيضا أن‬
‫بعض هذه النقاط ما زالت متاما كام كانت عليه يف الصور التي التقطت عام ‪ ،1989‬مثل‬
‫معربي املتحف‪-‬الرببري والسوديكو‪.‬‬
‫وبينام كنت أصور بدون اعداد مسبق‪ ،‬سجلت األحاديث التي استثارتها الصورة‬
‫وأسئلتي ويف الوقت ذاته التي استثارتها آلية الذاكرة‪ .‬هذه العملية تسمح للاميض بأن ينبعث‬
‫يف الحارض الرسدي كام تفتح املجال أمام إمكانية إضافة قصص أخرى عديدة يف املستقبل‪.‬‬
‫الناقدة الفنية كايلني ويلسون غولدي كتبت‪" :7‬إن مجاورة الصور الساكنة واملتحركة ال‬
‫تعمل فقط عىل تحديد إيقاع العمل برصياً‪ ،‬بل تخلق أيضا فصال مؤقتاً بني املايض والحارض‪.‬‬
‫هذا الفصل يتضاعف عندما يتكلم األشخاص الذين تقابلهم جريج‪ .‬فهم يجيبون عن أسئلتها‬
‫بقصص عميقة وغامضة يف آن‪ ،‬مرتبطة باملوضوع االساس أو بعيدة عنه‪ .‬تنساب بني الحقيقة‬
‫والخيال‪ ،‬بني ما هو تذ ّكر مبارش لحوادث سابقة وما هو تأويل لذكريات يتم استدعاؤها إىل‬
‫الحارض‪ .‬وكام يقرتح عنوان الفيلم‪ ،‬فهذه القصص موجودة هنا وهناك يف الوقت عينه"‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫– –بتعرف يش عن حدا انخطف؟‬
‫– –هيي صارت معي مرة الحادثة‪ .‬وصلت عىل املعرب‪ ،‬قال وراق البيك آب‪ .‬أعطيت‬
‫الوراق‪ .‬بنط واحد بيقليل أه ًال ‪ ...‬شو أه ًال؟ أخد الوراق وبلش اإلتصاالت‪ .‬بعد شوي‬
‫أخدوين عىل ساحة العبد‪ .‬يليل بعد املتحف‪ ،‬بعد ساحة العدلية‪ ،‬هيدي بيسموها‬
‫ساحة العبد‪ .‬كان عندهم مركز هونيك‪ .‬قعدنا‪ .‬كنت اشتغل عند ناس الله يحميهن‪،‬‬
‫كانت كتري أخالقهم عالية من بيت الهرب‪ .‬قليل إزا بيصري معك يش بتقلهن أنا بخص‬
‫الحج هاون‪ .‬كان هونيك امللقب‪ ،‬هوي من بيت الهرب‪ .‬وملا قلتهن أنا بخص الهاون‬
‫ما الهاون‪ ،‬سحبوين عاملركز‪ ،‬اتصلوا فيه‪ ،‬والال بيجييل واحد بيفوت بيقليل‪ :‬من وين‬
‫بتعرفني وليه؟ قلتلهن أنا بشتغل عند أبو طوين‪ ،‬إييل هرب وقليل ّأي يش بيصري معك‬
‫اتصل فيك‪ .‬قاليل حدن دقرك‪ ،‬حدن قرب يش صوبك؟ قلتلو ال ال ال‪ ...‬بس أنا شو‬
‫كنت؟ كنت خالص‪ .‬كان معي شخص نزلوا لتحت‪ .‬كان معي شخص بالقوضا‪ ،‬إزاز‬
‫فوميه‪ ...‬نزلوه لتحت‪ ...‬ما عدت شفت يش‪.‬أنا أخدوين‪ .‬ضهروين‪ ...‬قال خلص وال‬
‫قطعوين عاملعرب‬‫يهمك‪ ...‬قلتلن أل ما بضهر أال ليجي معلمي أبو طوين‪ .‬تلفنيلو إلجا‪ّ .‬‬
‫ورحت‪ .‬وبعد يش خمس ايام أسبوع الرتاحت أعصايب‪ ،‬رجعنا فتنا‪ .‬كان كل يش‬
‫إنو عىل أساس بدهن والد خالتي‪ .‬والد خالتي كانو ساكنني باألرشفية بناية الجيش‬
‫بيقولوال‪ ،‬عىل كرم الزيتون‪ .‬ألنو ه ّني كانوا بالحزب القومي السوري‪ ،‬وبدهن ياهن‪.‬‬
‫والبيك آب كان بإسم ابن خالتي‪ .‬عرفت يومتها‪ ،‬قمت تركت البيك آب واشرتيت بيك‬

‫‪ 6 6‬سوليدير هو اسم الرشكة التي كلفت بتطوير واعادة تعمري وسط مدينة بريوت‪.‬‬
‫‪ 7 7‬كايلن ويلسن – غولدي‪Contemporary Art Practice in post-war Lebanon : An ،‬‬
‫‪ introduction‬منشورة يف ‪ Out of Beirut‬يف ‪.2006‬‬
‫‪ 8 8‬مقتطف من فيديو "هنا ورمبا هناك"‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫آب غريو‪ .‬ومن يومتها قويل الحمدالله‪ ،‬ضلينا نروح ونجي‪ ،‬الله حامنا‪.‬‬
‫– –يليي أخدو معك ّردوه؟‬
‫– –أل‪ ،‬ما عرفت يش عنو أبد ًا‪ ،‬ألنو أنا سألت‪ ،‬يليل بينزل لتحت خلص! هيدي يومتها كان‬
‫بساحة العبد‪.‬‬
‫– –تحت شو يعني‪ ،‬غرفة؟‬
‫زي ما كان ع ّنا غرف كتري هون‪ ،‬كان ع ّنا غرف كتري هون‪ .‬يعني ال تواخزيني‪ ،‬بس‬ ‫–– ّ‬
‫املر بيشهد ع هاليش كامن‪ .‬كان عاملينو تحت‪ ،‬وغريه غريه‪ .‬يعني إزا بدنا نحيك‬ ‫برج ّ‬
‫عن األحزاب هويل‪ ،‬نحيك عن األحزاب يليل ع ّنا‪ .‬ما نفس اليش!‬

‫مع تتبعي لخط التامس الجغرايف مستخدم ًة صوراً أرشيفية ومرددة السؤال ذاته‪ ،‬أكون قد‬
‫خلقت أداة أعمل من خاللها عىل تجميع ومراكمة مجموعات من الرسد هي مثل أجزاء‬
‫كثرية من التاريخ‪ .‬هذه األجزاء هي ذاكرة ونسيان يف الوقت ذاته‪ ،‬أجزاء من وحدة غري‬
‫مكتملة تم تجميعها الحقاً‪ .‬وهي بينام يعاد ترتيبها أو تفسريها تصبح مجاورة للخيال‪.‬‬
‫بقيامي بذلك آمل أن أكون قد اسرتجعت خطاباً أساس ّياً‪ .‬أن أكون قد جعلت ذلك‬
‫الخطاب مرئياً ومسموعاً بعدما كان مطموساً بقصد أو عن غري قصد‪ ،‬أو أنه كان موضع‬
‫تجاهل‪ .‬هذا رضوري ألن ذلك الخطاب له دالالت عىل فرتة خاصة من تاريخنا‪ ،‬رضوري‬
‫حتى حني يصبح خيالياً ألنه شاهد عىل التجارب االنسانية القوية والنادرة والتي‪ ،‬مع أنها‬
‫مرتبطة بواقع معني‪ ،‬تكتسب أبعادا عاملية‪ .‬وبينام تضع عالمة استفهام عىل منهج التوثيق‪،‬‬
‫فإن تن ّوع القصص الكثرية التي رويت‪ ،‬وتراكمها وتردادها غري املتساوي‪ ،‬تربط كل تجربة‬
‫شخصية بتلك الجامعية‪ ،‬ما يجعل من الصعب‪ ،‬إن مل يكن من املستحيل‪ ،‬الوصول إىل فكرة‬
‫الحقيقة الفريدة‪.‬‬

‫كايلني ويلسون غولدي كتبت‪" 9‬مثلام يقوم "هنا ورمبا هناك" بكشف الصدع بني املايض‬
‫والحارض وبني الحقيقة والخيال‪ ،‬فإن الفيلم نفسه يتنقل بني عنارص توثيقية ومامرسات‬
‫فنية‪ .‬إن جريج تنتقل بشكل منهجي من موقع إىل آخر‪ .‬تعيد طرح مجموعة األسئلة ذاتها‬
‫وكأنها عاملة بوصف االجناس البرشية تقوم ببحث ميداين‪ .‬ومع ذلك فإن هنا ورمبا هناك‬
‫مرتابط بأجوائه وبنحو غري محكم‪ .‬لطاملا كان النهج التوثيقي برمته موضع سجال‪ ،‬وجريج‬
‫بدورها تجرب املشاهد عىل التفكري يف معنى التوثيق عرب فيلم أو فيديو‪ .‬فجريج تستخدم‬
‫يف فيلمها بعض العنارص التقليدية يف صناعة األفالم الوثائقية‪ ،‬ولكنها كذلك تنحرف عنها‪.‬‬
‫تتدخل بشكل فاعل مع أشخاص فيلمها‪ .‬ال تستخدم صوت الراوي وال تقدم إحصاءات‪،‬‬

‫‪ 9 9‬كايلن ويلسن – غولدي‪Contemporary Art Practice in post-war Lebanon : An ،‬‬


‫‪ introduction‬منشورة يف ‪ Out of Beirut‬يف العام ‪.2006‬‬

‫‪119‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫وليس من أدلة دامغة أو رسيعة لتدعم تاريخ الحرب األهلية‪ .‬فالفيلم ال يقدم دراسة نهائية‬
‫عن موضوع الخطف أو املفقودين‪ .‬هنا ورمبا هناك يطرح األسئلة التالية‪ :‬ما هي النظرة إىل‬
‫الحرب االهلية اللبنانية من قبل هؤالء الذين عاشوها؟ هل تم حل الرصاع بالفعل؟ هل تم‬
‫التطرق إىل أسبابها ونتائجها بشكل كاف أو حتى مناسب؟"‪.‬‬
‫مع أن التصوير تم يف ‪ 2002‬فالحرب كانت موجودة يف معظم القصص التي ُس ّجلت‪.‬‬
‫هي كانت موجودة أيضا يف ما رفض الناس أن يقولوه ويف ما خافوا أن يعربوا عنه‪ ،‬أو ما مل‬
‫يتذكروه‪ ،‬ويف االحاديث التي رددها شخص بعد آخر‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫– –بتعريف يش عن حدن انخطف هون بالحرب؟‬
‫– –إيه يف ابن خيي‪ ،‬بس مش هون‪ .‬أظن فوق عالجمهور انخطف‪ .‬ابن‬
‫خيي وابن خالو‪ .‬انخطفوا أثناء الحرب‪ .‬بأيام‪ ...‬ما بقدر قول‪ ،‬بخاف‪ .‬‬
‫هون قصقص‪ .‬طريق الطيونة هون‪ .‬هاي كلها طريق الطيونة‪ .‬عندك املتحف من‬
‫هون‪ .‬لييك‪ ،‬أنا بتذكر كانت مارقة سيارة وفيها شب وتقنص‪.‬‬

‫يف كل من الفيديو والقصة القصرية أؤكد عىل الخسائر والثغرات يف الذاكرة والتاريخ‬
‫متقبلة إياها كجزء ال يتجزأ من الرسد غري الخطي‪ ،‬مشرية إىل عدم إمكانية الوصول إىل‬
‫رواية كاملة لألحداث‪.‬‬
‫تقع أحداث القصة القصرية "هنا ورمبا هناك" يف زمن الحرب األهلية يف منطقة خط‬
‫متاس يف بريوت‪ .‬تعمدت أن أبقي جغرافية املكان مبهمة‪ ،‬وكذلك كل معلومة تفصح عن‬
‫هوية جامعة أو ميليشيا معينة‪ .‬ومع ذلك فكون مكان وقوع القصة قريباً من منطقة خط‬
‫التامس مهم إليصال فكرة تجزئة املكان وتقسيم املجتمع‪ ،‬باالضافة إىل خلق جغرافيا ُمتخ ّيلة‬
‫تعكس‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬حقيقة مأساوية‪.‬‬
‫ايلول ‪ .1987‬يف أحد أحياء بريوت عند خط التامس‪ ،‬يتحرى رجل عن إختفاء أو‬
‫احتامل مقتل وحيد صالح‪ :‬ثالثيني‪ ،‬أسمر البرشة وملتح‪ .‬يف ذلك اليوم كان يرتدي رسواال‬
‫‪11‬‬
‫رماديا وقميصا ابيض‪ :‬كان ذلك يف ‪ 15‬حزيران ‪.1986‬‬

‫حادثة اختفاء واحتامل قتل وحيد صالح املأساوية يرويها خمسة هم أبطال الرواية‪ ،‬مبن‬
‫فيهم القتيل نفسه‪ .‬روايات األبطال تتعاقب يف محاولة وهمية إلعادة تركيب الحادثة‬
‫من خالل مفاتيح معينة والتفحص املتقاطع‪ .‬إن الثغرات يف القصة تحول دون وصولنا‬
‫إىل حقيقة فريدة‪.‬‬

‫‪ 10 10‬مقتطف من فيديو "هنا ورمبا هناك"‪.‬‬


‫‪ 1111‬مقدمة الرواية القصرية "هنا ورمبا هناك" للميا جريج‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫يرج ايمل‬ ‫دبأ زجني مل مليف حيرشت‬

‫زياد (قناص)‬ ‫‪12‬‬

‫أذكر جيدا هذا الحادث‪ .‬كانت هذه آخر مرة أطلق فيها النار من عىل سطح هذا‬
‫املبنى‪ .‬مل تكن العملية سهلة‪ ،‬كان الرجل يركض برسعة ويف كل االتجاهات‪ .‬بعدها اضطررنا‬
‫إىل التخيل عن هذا املبنى ووجدنا النفسنا مخبأ جيدا يف زاوية أخرى هادئة‪.‬‬

‫زاهي (صديق أمنة)‬


‫‪13‬‬

‫كنت منهمكا بالتفكري عندما سمعناه يقرتب‪ .‬دخل الغرفة ونظر إيل وعىل وجهه تبدو‬
‫عالمات التوتر‪ .‬وبخطوات رسيعة ومدروسة توجه نحوي‪ .‬فقدت القدرة عىل التفكري وعىل‬
‫الحركة‪ .‬مد يده بعنف ليسرتد سالحه‪ .‬شعرت بالخوف‪ .‬ماذا ميكن أن يفعل بنا؟ أزحت‬
‫ذراعي بشكل تلقايئ هربا من يده‪ .‬كانت أصابعي املتشنجة تتمسك باملسدس عندما حاول‬
‫للمرة الثانية أن ينتزعه مني‪ .‬خرجت الرصاصة من املسدس بشكل مفاجئ‪ ،‬مل أكن أنوي‬
‫قتله‪ ،‬فأنا لست مقاتال وال مجرما‪ .‬أصابته الرصاصة يف الراس‪ ،‬وسقط أمامي‪13.‬‬

‫كل من األبطال يزعم أنه هو الذي قتل وحيد صالح‪ ،‬وهو ما يثري التساؤل حول املسؤولية‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وما يجعل أيضا ك ًال م ّنا العباً محتم ًال يف هذه الجرمية‪ ،‬وبناء عليه يجعل ك ًال م ّنا العباً يف‬
‫هذه الحرب‪.‬‬

‫‪ 12 12‬مقتطف من شهادة زياد‪ ،‬القناص يف الرواية القصرية "هنا ورمبا هناك"‪.‬‬


‫‪ 1313‬مقتطف من شهادة زاهي‪ ،‬صديق أمنة‪ ،‬يف الرواية القصرية "هنا ورمبا هناك"‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫نسو ّيات‬

‫املقاربة النسوية لدراسة الرجولة‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫حالة نوال السعداوي‬
‫عزّة رشارة بيضون‬

‫‪1‬‬
‫ملن وملاذا؟‬
‫يف مطلع مقدمة كتابها الرجل والجنس‪( 2‬الصادر يف العام ‪ ،)1976‬تقول نوال السعداوي إن‬
‫فكرة كتابة بحث علمي عن "الرجل والجنس" مل تكن يف ذهنها؛ لكن ما إن صدرت كتبها‬
‫السابقة‪ 3‬حتى أصبح الرجال هم األغلبية من ضمن الذين يطلبون منها "الرأي واملساعدة‬
‫‪4‬‬
‫لعالج مشكالتهم النفسية والجسدية"‪ .‬وهي ملست خالل عملها العيادي الطبي جهل‬
‫الرجال والنساء معاً لألمور املتع ّلقة بجنسانياتهم وبجنسانية اآلخر‪ .‬فإذا كان الجهل آفة‪،‬‬
‫فإن الجهل يف الجنسانية ذو مرتتبات سلبية ال تقترص‪ ،‬برأيها‪ ،‬عىل الجاهل لوحده‪ ،‬بل تؤ ّثر‬
‫عىل الرشيك وعىل اآلخرين يف األرسة وعىل املجتمع ورفاهه‪ .‬فالجنس‪ ،‬وفق ما ترى‪ ،‬ليس‬
‫عملية بيولوجية وال كيميائية‪ ،5‬بل هو تعبري عن أسمى درجات الحب الحقيقي‪ .‬أما الحب‬
‫فهو "تعاطف وجداين" بني املرأة والرجل‪ ،‬فيفيض عدم فهم واحد من الجنسني اآلخر إىل‬
‫"عجز يف إقامة عالقة عميقة بينهام‪ ."6‬وافتقاد الحب الحقيقي بني الجنسني هو أهم عيوب‬
‫الحضارة الذكرية‪ .7‬فتغدو املعرفة بالجنس رضورة للرجال والنساء إلرساء الحب بني الجنسني‬
‫عىل أسس تجعل حضارتنا أكرث إنسانية‪.‬‬

‫تطوير ملداخلة ألقيت يف "مؤمتر النسوية العربية‪ :‬نظرة نقدية" الذي أقامه "تج ّمع الباحثات‬ ‫‪ 1 1‬‬
‫اللبنانيات" يف الجامعة األمريكية يف بريوت‪ ،‬بني ‪ 7-4‬ترشين األول‪2009 ،‬‬
‫نوال السعداوي‪ (،‬التاريخ غري مذكور)‪ ،‬الرجل والجنس‪ ( ،‬األعامل الفكرية)‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ 2 2‬‬
‫الطبعة ( غري مذكور رقمها)‬
‫هو الثالث بعد املرأة والجنس (‪ )1971‬واألنثى هي األصل(‪)1974‬‬ ‫‪3 3‬‬
‫يف الفصل األ ّول من كتابها املرأة والجنس‪ ،‬مث ًال‪ ،‬وردت كلمة جهل ومشتقاتها ثالث عرشة م ّرة‪،‬‬ ‫‪ 4 4‬‬
‫ووردت مقا ِبالتها مثان مرات‪ ..‬كل هذه املرات يف صفحات تسع!‬
‫الرجل والجنس ص‪195 .‬‬ ‫‪5 5‬‬
‫الرجل والجنس‪ ،‬ص‪183.‬‬ ‫‪ 6 6‬‬
‫الرجل والجنس ص‪245 .‬‬ ‫‪ 7 7‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫يف كتابها الرجل والجنس‪ ،‬تسعى السعداوي للتعريف بجنسانية الرجل وتق ّلباتها‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬وكام هي حال جنسانية املرأة التي ال تُفهم إال بعالقتها مع الرجل وبرغباته‪ ،‬فإن دراسة‬
‫جنسانية الرجل ال تستقيم إال بارتباطها مع جنسانية املرأة‪ .‬وهي رافقت‪ ،‬يف فصول الكتاب‬
‫تباعاً‪ ،‬تقلبات جنسانية الرجل وتط ّور تجلياتها عرب العصوروتن ّوع املجتمعات واألنظمة‬
‫السياسية واالقتصادية‪ ،‬دون إهامل األطر اإليديولوجية والدينية املحددة لتعبرياتها‪ ،‬وللقواعد‬
‫كل هذه تربز املرأة قريناً‪ ،‬واقعياً أو متخ ّي ًال‪ ،‬ناظ ًام لجنسانية‬‫واملعايري التي تحكمها‪ ...‬يف ّ‬
‫الرجل ومنتظ ًام بها‪.‬‬
‫والكتاب يق ّدم للقارئ وللقارئة معلومات حول جنسانية الرجل‪ .‬لكن هذه املعلومات‬
‫يتسن‬
‫مل تكن خالية من أحكام قيمية أطلقتها الكاتبة‪ ،‬ومفادها أن جنسانية الرجل طفولية‪ 8‬مل ّ‬
‫لها‪ ،‬يف الغالب‪ ،‬أن تبلغ مرحلة الرشد أو النضوج‪ .‬ومن مظاهر تلك الطفولية استواء جنسانية‬
‫الرجل مسجونة يف تخييالت وتصورات قارصة‪ ،‬بفعل العوامل الكثرية التي تحارصها‪ّ ،‬‬
‫لعل‬
‫الخوف من األنثى‪ /‬األم‪ /‬املرأة هو األكرث تأثرياً يف صياغة التخييالت والتصورات املذكورة‪.‬‬
‫تكتب نوال السعداوي‪ ،‬إذاً‪ ،‬من أجل إزالة غشاء الوهم عن هذه التخييالت وتلك‬
‫خاصة‪ ،‬وإبراز الوظيفة‬ ‫التص ّورات التي يحملها الرجال‪ ،‬املتع ّلقة مبوقعهم املتف ّوق عىل املرأة ّ‬
‫املتعددة األوجه لثبات ذلك الوهم واستمراره‪ .‬فمواجهة التعقيدات الناجمة عن عيش‬
‫الرجل لجنسانيته ال تتحقق‪ ،‬برأيها‪ ،‬إال بسرب أصول املعاين التي أسبغها عىل املرأة‪ ،‬ومحورية‬
‫هذه املعاين يف صوغ تلك الجنسانية‪.‬‬
‫وتكتب السعداوي أخرياً من أجل جالء ارتباط جنسانية الرجال الوثيق بجنسانية‬
‫النساء‪ ،‬ومن أجل توضيح تأثر هذه الجنسانية بالبنى االجتامعية والسياسية واالقتصادية‬
‫التي صاغتها يف شكلها الطفويل ومنعت عنها نضوجها وتأ ّلقها‪ ،‬فمنعت‪ ،‬تالياً‪ ،‬نضوج جنسانية‬
‫النساء وتألقها‪ .‬إن هذه الكتابة من شأنها أن تريس قاعدة علمية للتغيري‪ :‬تغيري النساء‬
‫والرجال‬
‫إىل ذواتهم الفضىل‪.‬‬

‫منارصة الرجل ومناهضة فكره؟‬


‫خصت بالذكر ركائز خمسة‪ 9‬حاملة لبنيانه‪.‬‬
‫ترفض نوال السعداوي الفكر الرجويل‪ ،‬وهي ّ‬
‫وهذه تتمثل اوالً بفصل الروح والنفس عن الجسد وجعل كل واحد منها يف "حجرة‬

‫‪ 8 8‬عالجت الكاتبة العناوين ‪ /‬املك ّونات التالية لبحث جنسانية الرجل ‪:‬خوف الرجل من املرأة وعقدة‬
‫النقص‪ ،‬اإلحساس بالذنب‪ ،‬الرجل والسادية‪ ،‬الرجل واألورغازم الجنيس‪ ،‬حنني الرجل ألن يكون أنثى‪،‬‬
‫الرجل والشذوذ الجنيس‪ ،‬الرجل واالستعراض الجنيس‪ ،‬خياالت الرجل الجنسية‪ ،‬االعتداء الجنيس عىل‬
‫األطفال‪ .‬وهي تحيل األواليات النفسانية التي تحكم كل واحدة من هذه املك ّونا إىل طفولة نفسانية‬
‫وإىل قصور يف التوصل إىل النضج‪.‬‬
‫‪ 9 9‬الرجل والجنس‪ ،‬ص‪18 .‬‬

‫‪123‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫منفصلة"‪ ،‬والقبول بدونية املرأة بالنسبة للرجل‪ ،‬ثانياً‪ ،‬واعتبار جنس املرأة جنساً آمثاً‪ ،‬ثالثاً‪،‬‬
‫واعتبار امللكية الخاصة محددة لقيمة اإلنسان‪ ،‬رابعاً‪ ،‬والقول بأن العدوان من طبيعة الرجال‬
‫الفطرية‪ ،‬أخرياً‪ .‬إضافة إل ذلك‪ ،‬تعبرّ الكاتبة عن حذرها من النتاج العلمي؛ وذلك ألنه "نتاج‬
‫ترصح بعدم‬ ‫الرجال" وتنقصه " نصف عقول البرش"‪ 10‬بسبب ندرة النساء العاملات‪ .‬لذا فهي ّ‬
‫انبهارها بذلك العلم‪ ،‬وتعمل عىل تفكيك كل أفكاره ونتاجاته‪ ،‬حتى املوثوقة منها‪.‬‬
‫إىل ذلك‪ ،‬فهي طأمنت الرجل – موضوع الدراسة‪ -‬بأن غرض البحث ال ينطوي عىل‬
‫"جعله يف قفص االتهام"‪ ،‬وال عىل "إصدار الحكم ض ّده"‪ ،‬إمنا هو ( الغرض) محاولة "فهم‬
‫األسباب التي ا ّدت إىل تشويه حياة الرجال والنساء معاً"؛ بل أيضاً‪ ،‬إىل "محاولة القضاء عىل‬
‫تلك األسباب من أجل بناء مجتمع افضل‪ ..‬وأرسة أكرث سعادة"‪.11‬‬

‫السياق والشمول‬
‫مشكالت الرجال‪ ،‬التي تكلمت عنها الكاتبة‪ ،‬متحورت أساساً حول الخوف الذي ينتابهم من‬
‫احتامل فقدان قدراتهم الجنسية‪ ،‬اي عجز قضيبهم عن االنتصاب‪ .12‬وهو خوف ال يسببه‬
‫حرص الواح ِد منهم عىل أحاسيسه الجنسية فحسب‪ ،‬إمنا أيضاً قل ُقه من العواقب املرتتبة‬ ‫ُ‬
‫عن ذلك الفقدان‪ ،‬لعل أهمها "أن زوج َته سوف تكتشف ضع َفه وعج َزه وتذهب إىل رجل‬
‫آخر"‪ ،‬فتهتز صورتُه ويخرس هيبة رجولتِه يف نظرها‪ ،‬ويف نظر محيطه األرسي ومجتمعه‪ .‬إن‬
‫اإلحالة املبارشة ملشكلة تستدعي استشارة طبيبة – الكاتبة نفسِ ها‪ -‬إىل النفيس واالجتامعي‬
‫من قِبل ملتمس االستشارة نفسه‪ ..‬هذه اإلحالة وجدتها الكاتبة ب ّينة عىل رجاحة موقعها‬
‫العلمي‪ ،‬وعىل صحة املبدأ الذي تعتمده يف معالجاتها البحثية‪ .‬وهو ما تكرر يف كتبها الثالثة‬
‫األوىل؛ ومفا ُدها أن املشكالت الجنسية املعروضة عليها بوصفها طبيبة محتاج ُة للمعالجة‬
‫يف سياق أشمل من الطب وتخصصاته‪ .‬فاملشكلة ذات العوارض الجسدية غالباً ما تكون‬
‫أسبا ُبها متجذرة خارج بيولوجيا الجسد‪ ،‬وأن البحث عن تلك األسباب يفرتض تجاو َز دائرة‬
‫الطب إىل دوائر العلوم اإلنسانية واالجتامعية كافة‪:‬إىل اإلقتصاد‪ 13‬إىل الفلسفة والتاريخ‪ ،‬إىل‬

‫الرجل والجنس‪ ،‬ص‪17.‬‬ ‫‪10 10‬‬


‫الرجل والجنس‪ ،‬ص‪13.‬‬ ‫‪ 1111‬‬
‫تقول السعداوي‪" :‬قال يل بعض األزواج أن أكرث يشء يؤرقهم ليس الخوف من أن يطردوا من عملهم‬ ‫‪ 1212‬‬
‫أو أن يجوعوا أو أن يتع ّروا ولكن ما يؤرقهم دامئاً هو أن يفقدوا قوتهم الجنسية يوماً ويصبح‬
‫عضوهم الذكري عاجزاً عن االنتصاب‪ .‬وسألت أحدهم ‪ :‬وما الذي يخيفك من هذا؟ قال‪ :‬زوجتي‪.‬‬
‫قلت وماذا ستفعل زوجتك؟ قال سوف تذيع عىل الناس انني مل أعد رج ًال‪ ...‬وإذا مل تتكلم فهي‬
‫عىل األقل سوف تشعر بأنني ال أرضيها وقد تبحث عن رجل آخر‪ ...‬إن ذهاب زوجتي إىل رجل آخر‬
‫يخيفني‪ "....‬الرجل والجنس‪ ،‬ص‪100-99 .‬‬
‫" وقد نتج عن امتالك الرجل لجسد املراة مشاكل جنسية ونفسية لكل من املالك واململوك‪ ....‬بني‬ ‫‪ 1313‬‬
‫علم االقتصاد وعلم الجنس‪ ...‬إن الجشع االقتصادي قد أ ّدى إىل قهر جسدي وجنيس ‪"...‬‬

‫‪124‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫والسياسة واالجتامع‪ ،14‬إىل امليثولوجيا والدين وعلم النفس والتحليل النفيس ‪ 15‬إلخ‪ ...‬فال‬
‫البحث يف جنسانية الرجل دون استدعاء كل هذه العلوم لفهم املؤ ّثرات املتداخلة يف‬ ‫ُ‬ ‫ينفع‬
‫تشكيل الجنسانية هذه عبى ما هي عليه‪.‬‬
‫برأي السعداوي‪ ،‬إذاً‪ ،‬ال وجود لجنسانية بيولوجية رصفة‪ ،‬وال الجنسانية ثابتة يف‬
‫الزمان واملكان؛ هي دا ّلة السياق الذي يحيط بها‪ ،‬لذا فهي متغيرّ ة يف تجلياتها الجسامنية‬
‫والسلوكية والعالئقية‪ ،‬ويف التص ّورات والقيم واألحكام املرتبطة بها؛ وذلك تبعاً لتغيرّ السياق‪.‬‬
‫بتفحصها منفردة‪ ،‬وال باختزالها إىل الشخيص أو‬ ‫من هنا‪ ،‬فإن محاول َة فهمها ال تستوي ّ‬
‫فيصح يف هذا املجال القول بأن "ما هو شخيص هو أيضاً سيايس"‪ ،‬باملعنى األشمل‬ ‫البيولوجي‪ّ .‬‬
‫للسياسة‪ .‬هي املنطلقات نفسها التي تأسست عليها دراسة الكاتبة لجنسانية املرأة‪ .‬وقد‬
‫أمثرت املقاربة تلك "ربحاً" يف حساب الدعوة إىل تحرر املرأة‪ .‬فإذا كانت دونية املرأة غري‬
‫متأصلة يف بيولوجيتها ‪ ،‬وال يف سامتها الشخصية‪ ،‬وإذا كان استعبا ُدها ال يح ّتمه‪ ،‬تالياً‪ٌ ،‬‬
‫خلل يف‬
‫ناتج ِبنى اجتامعية وسياسية واقتصادية يف سياقات‬ ‫تكوينها البيولوجي أو الشخيص‪ ،‬بل هو ُ‬
‫ويصح‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬ ‫يصح‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬مت ّرد املرأة عىل تلك ال ِبنى‪ ،‬وعىل السياقات التي تحارصها‪،‬‬
‫بعينها‪ّ ،‬‬
‫ذاك‪ ،‬تغيريها مع تغيرّ يطالها‪.‬‬
‫وبالطريقة ذاتها‪ ،‬تعالج السعداوي جنسانية الرجل‪ .‬فهذه ليست عدوانية وال قامعة‬
‫بالسليقة‪ .‬وللداللة عىل ذلك ترصد الكاتبة تب ّدالتها عرب التاريخ بالتناسب مع تب ّدل األنظمة‬
‫االقتصادي ّة ومتطلباتها املتعاقبة‪ .16‬وهي تستعني يف سعيها لذلك الرصد بالتعبريات الثقافية‬
‫والدينية التي تنتجها هذه األنظمة‪.‬‬
‫األعم املحدد لجنسانية الرجل‪ .‬فكام تحددت جنسانية‬ ‫وتربز الكاتبة املرأة من السياق ّ‬
‫املرأة بعالقتها بالرجل وبرغباته وحاجاته‪ ،‬فإن املرأة ( األنثى واألم )‪ ،‬وعالقات القوى التي‬
‫تتوسل التحليل النفيس منهجاً‬ ‫تنعقد بني الرجل وبينها‪ ،‬مح ّددة لجنسانيته‪ .‬إىل ذلك‪ ،‬فهي ّ‬
‫ً‬
‫يف البحث عن الديناميات التي تحكم هذه العالقة‪ ،‬لتستنتج بأن تشويها أصاب جنسانية‬
‫الرجل تجلىّ يف تث ّبتها ‪ fixation‬يف مراحل طفلية دفاعية ضد املرأة‪ ،‬وعدوانية تجاهها‪ ،‬ما‬

‫‪ " 14 14‬ولهذا يجد القراء أن هذا البحث بالرغم أنه يتناول املشاكل الجنسية والنفسية للرجال إال‬
‫أنه مل يستطع إال أن يتع ّرض أيضاً لبعض الفكار املندرجة تحت الفلسفة أو الدين أو التاريخ أو‬
‫املجتمع"‪ "...‬الرجل والجنس‪ ،‬ص‪.13.‬‬
‫‪ 1515‬تستعني الكاتبة بالتاريخ املرصي والعريب الجاهيل‪ ،‬مث ًال‪ ، ،‬وبامليثولوجيا اليونانية‪ ،‬وبنصوص من‬
‫الدين البهودي‪ ،‬من أجل إثبات عل ّو شأن املرأة سابقاً قبل إخضاعها من قبل الرجل جنسياً إثر‬
‫سيادة امللكية الخاصة نظاماً اقتصادياً ‪ ،‬وشيوع رديفه النظام األبوي‪ .‬كام تستعني بالتحليل النفيس‬
‫وبالدراسات املسحية النفس‪ -‬جنسية من أجل تأويل" بغض املرأة"‪ ،‬والخوف منها‪ ،‬ورضورة قمعها‬
‫جنسياً‪ ،‬مبا هو رشط رضوري لتثبيت أركان جنسانية الرجل‪.‬‬
‫‪ 1616‬انظر الصفحات ‪ 137-134‬من الرجل والجنس‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫جعلها عاجزة‪ 17‬عن الوصول إىل مرحلة ناضجة وسامية تليق باإلنسان‪.‬‬

‫مقاربة ح ّرة‬
‫املقاربة البحثية ملوضوع جنسانية الرجل ارادتها السعداوي شمولية‪ ،‬متاماً كام كانت‬
‫مقاربتها ملوضوع املرأة والجنس‪ ،‬فعاينت ذلك املوضوع من زوايا ‪ /‬ميادين متعددة‪ .‬وهي‬
‫أعلنت عن ذلك يف اكرث من موقع يف كتبها األوىل الثالثة‪ .‬لكن ما ال تعلنه رصاحة هو أن‬
‫األسلوب الذي تعتمد يف مقاربتها تلك هو أسلوب ح ّر من اي تقييد شكيل‪ .‬ففي كتابها‬
‫الرجل والجنس‪ ،‬متاماً كام هي الحال يف كتاب املرأة والجنس‪ ،‬تتص ّدر الكتاب مق ّدمة تتبعها‬
‫فصول غري مر ّقمة‪ ،‬تحمل عناوين للمسائل قيد املعالجة؛ وهي ال تس ّوغ يف مطلع هذه‬
‫الفصول‪ ،‬وال يف نهاية سابقاتها‪ ،‬ألهمية معالجة هذه املسائل‪ ،‬دون غريها‪ ،‬يف إطار املوضوع‬
‫األعم‪ .‬بل إن الكالم حولها ينساب (بسالسة جذابة) وفق منطق داخيل‪ ،‬غري ُمعلن‪ ،‬هو أقرب‬
‫إىل التداعيات الح ّرة من كونه متعاقباً تنفيذاً لخطة واضحة املعامل للقارئ‪.‬‬
‫إىل ذلك‪ ،‬فإن كتاب الرجل والجنس خالٍ متاماً من توثيق اإلسناد باملعنى املتعارف‬
‫عليه يف الكتب ذات الصفة العلمية؛ مع أن هذا الكتاب ي ّدعي هذه الصفة جهاراً‪ ،‬كام‬
‫تتم العودة إىل فرويد وآدلر ويونغ وهورين وجونس‪ ،‬وكينزي وماسرتز‬ ‫سبق وذكرنا‪ .‬هكذا ّ‬
‫وجونسون وشرييف ومِيد وسيمون دو بوفوار ‪ ،‬وإنغلز وماركس وإيريك فروم‪ ،‬وغريهم‬
‫أقل شهرة وانتشاراً من عرشات الكتاب الغربيني‪ ،‬وبعض املرصيني والعرب املعارصين‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬
‫األقدمني ايضاً‪ُ ...‬يستدعى كل هؤالء فتتم مساجلة افكارهم رفضاً وقبوالً‪ ،‬وتُقتبس نتائج‬
‫دراسات بعضهم امليدانية اإلحصائية أو النوعية إلثبات حجة ما‪ ،‬أو ملقارعة فكرة شائعة‪.‬‬
‫يتم‪ ،‬غالباً‪ ،‬دون ذكر املرجع ال يف هامش النص‪ ،‬وال يف متنه‪ .‬ناهيك عن كتابتها يف‬‫وذلك كله ّ‬
‫ً‬
‫أكرث من موقع كالما يشبه ما ييل‪":‬يؤكد أكرث العلامء" أو " تشري املصادر التاريخية" و" من‬
‫الحقائق العلمية املعروفة"‪ ،‬وإلخ‪.‬‬
‫إن اإلغفال عن توثيق اإلسناد‪ ،‬كام ال يخفى‪ ،‬غري مألوف يف بحث علمي‪ ،‬ويجعل‬
‫املرء يتساءل‪:‬‬
‫ُ‬
‫ملاذا إهامل التقاليد األكادميية التي تفرتض األمانة والد ّقة يف توثيق املراجع املسند‬
‫‪18‬‬

‫‪ 17 17‬فغدت جنسانية الرجال ‪ ،‬بذلك‪ ،‬إشكالية بنتيجة ضخامة العبء الذي وضعه النظام األبوي عىل‬
‫الرجل ج ّراء رضورة مامرسة القمع الجنيس عىل املرأة‪ ،‬وما استتبعه من قمع يف كل املجاالت األخرى‪.‬‬
‫إن قمع املرأة جنسياً يتطلب قوة متناسبة مع قوة املرأة و"رشّها"‪ ،‬ما يؤدي إىل الشعور بالعجز‬
‫املؤدي بدوره إىل القلق العظيم من فقدان السيطرة الجنسية عليهن‪ .‬فتميس قوة الرجال وتفوقهم‪،‬‬
‫بذلك‪ ،‬مبثابة دفاع عن عجزهم‪ ،‬وتعويضاً عن ضعفهم تجاه قوة النساء ومغالبة لحد قدراتهن‬
‫املتص ّورة‪ .‬الرجل والجنس‪ ،‬ص‪105-104 .‬‬
‫‪ 1818‬ال يعوز الكاتبة الدقة واألمانة واملعرفة باألصول العلمية للتوثيق واإلسناد‪ .‬وهي قد أثبتت توثيقاً‬
‫دقيقاً إلسناداتها وملراجعها يف كتابها األنثى هي األصل الصادر قبل الكتاب قيد املناقشة‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫إليها؟ ما هي مس ّوغات استعارة أفكار ونتائج دراسات آخرين من أجل توضيح بعض افكار‬
‫الكاتبة‪ ،‬أو من أجل دعم صحة بعضها اآلخر‪ ،‬دون توفري مصادرها للقارئ أو القارئة؟ هل‬
‫إن ذلك من بعض التم ّرد عىل التقاليد العلمية‪ -‬وهي من صنع الرجل‪ ،‬مالك العلم وواضع‬
‫قواعده‪ -‬كام تشري الكاتبة يف أكرث من موقع؟‬
‫أم أن إغفال التوثيق من تجليات الثقة بالنفس– تلك السمة التي تص ّدرت مجموعة‬
‫السامت التي يتعينّ عىل الباحث يف هذه األمور التحليّ بها يك يكون‪ ،‬وفق ما قالته الكاتبة‪،‬‬
‫موجهة‬ ‫"باحثاً ناقداً للشائع" واملتعارف عليه‪ ،‬فيميس ذلك اإلغفال‪ ،‬استطراداً‪ ،‬دعوة ضمنية ّ‬
‫من الكاتبة إىل قرائها للثقة مبعلوماتها وبصحة إسناداتها‪ ...‬أم أنه بعض من خيالء فكري؟‬
‫هل إن غياب املس ّوغات التي يو ّفرها الكاتب‪ ،‬يف العادة‪ ،‬لقرائه لدى اختياره مواضيع‬
‫معالجته دون غريها‪ ...‬هل يتضمن ذلك الغياب دعوة شبيهة بالوثوق بشمول معالجتها‬
‫العناوين الفرعية املفضية إىل توضيح املوضوع ومالبساته؟ أم أننا بصدد دعوة "مؤمنني‬
‫معروف حاص ًال لديهم؟‬
‫ٌ‬ ‫ومؤمنات" بالقضية فال داعي لبذل الجهد من اجل إثبات ما هو‬
‫ملاذا مل تستبق الكاتبة ردود فعل الشكاكني والشكاكات من كالم يتح ّدى الشائع‬
‫و"الثابت" يف وجدان الخاصة من الناس‪ ،‬ال العامة منهم فقط ؟ كيف نفسرّ غياب أي‬
‫جهد السرتضاء "ذوق" هؤالء الشكاكني والشكاكات املنهجي‪ ،‬يف حني ُيستحسن مجاراة ذلك‬
‫الذوق‪ ،‬بل يسهل "إغراؤه" باملنهج العلمي الصارم‪ ،‬ليكون "حصانَ طروادة" يسمح بالولوج‬
‫إىل عامل هؤالء الشكاكني والشكاكات‪ ،‬قبل التعامل مع ثوابت بنيانه؟‬
‫ما نأخذه عىل مقاربة السعداوي ال يقترص عىل كونها تحتمل نفور الرجال من أسلوبها‬
‫"غري العلمي"‪ ،‬وبكونها تو ّفر لهم حجة جاهزة لتجاهل ما تقول‪ ،‬مع أنهم املستهدفون‬
‫الرئيسيون بكتابها‪ -‬عىل ما تعلن يف مطلع كتابها‪ .‬بل إننا نأخذ عىل الكاتبة أنه‪ ،‬وعرب إهاملها‬
‫التوثيق وعدم تسويغها لتناول مواضيع دون أخرى يف معالجتها لجنسانية الرجل‪ ،‬مث ًال‪،‬‬
‫تجعل كالمها وكأنه استعادة لنموذج من مخاطب ٍة للقارئ ُمتشاكِل ‪ isomorphic‬مع ّ‬
‫التوجه‬
‫االستبدادي يف املخاطبة؛ أي‪ ،‬ذاك الذي يفرتض القبول غري النقدي للقارئ بأفكار الكاتب‬
‫وحججه‪ .‬فتكون بذلك قد كررت ما يفعله الخطاب التس ّلطي بالنساء‪ ،‬واستبدلت توجهاً‬
‫بتوجه استبدادي آخر‪ ،‬وسلبت من مه ّمتها األساسية (املتمثّلة بتفكيك املعتقدات‬ ‫استبدادياً ّ‬
‫الرائجة) ضامن صدقيتها‪.‬‬
‫ننس أنّ موقع السعداوي الرائد يف حركة تحرر املرأة العربية يق ّدم منوذجاً‬ ‫وال َ‬
‫ُيحتذى‪ ،‬فتتح ّمل بذلك مسؤولية أوفر تجاه ق ّرائها؛ وذلك ألن مقارب َتها‪ ،‬وتبعاً ملوقعها هذا‪،‬‬
‫مبثابة دعوة ضمنية للكاتبات النسويات مبحاكاتها‪ .‬فتف ّوت عىل هؤالء‪ ،‬بذلك‪ ،‬درساً مهماّ ً‬
‫مفاده أن االلتزام مبنهج علمي سائد ال يش ّكل عقبة يف وجه تحرر النساء‪ ،‬فال توجد رضورة‬
‫لتجاوز إمالءاته يف حال اختري ملعالجة مسألة مطروحة‪ .‬فالع ّلة ال تسكن يف املنهج وال يف‬
‫الطريقة‪ ،‬إمنا يف مستخدميها‪ :‬يف منطلقاتهم ومبادئهم‪ ،‬يف طبيعة تساؤالتهم‪ ،‬يف اختيار‬
‫متغريات أبحاثهم ومجتمعاتها‪ ،‬ويف القبول غري املرشوط بنظريات أصحاب السلطة العلمية‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫ويف سيادة العمى اإلدرايك الذي يحجب عن الباحث تعقيدات الوضعية املدروسة وتأويل‬
‫أسباب تجلياتها‪.‬‬

‫كل اللهجات‬
‫إىل ذلك‪ ،‬تخرتق معالجة الكاتبة رواية لحاالت عالجتها أو ُطلبت مشورتها بصددها‪ ،‬ورسداً‬
‫ملالحظاتها العفوية غري املنهجية‪ ،‬متجاورة جنباً إىل جنب‪ ،‬ودومنا حرج‪ ،‬مع ما قاله فرويد‪،‬‬
‫مث ًال‪ ،‬أو أعالم كبار من صنفه‪ .‬ويختلط يف سياق كالمها الخطاب العلمي مع لهجات ترتاوح‬
‫بني التساؤل بهزء أو بسخرية أو بتعجب أوبتتفيه‪ ، trivialisation 19‬بل واالتهام والتقريع‬
‫أحياناً‪ .20‬وتتساوى مستويات الكالم املرسل يف كتابها بني إعامل املنطق ورصد التناقضات‪،‬‬
‫واستدعاء التاريخ والواقع التجريبي‪ ،‬جنباً إىل جنب مع األخالقي والديني والفلسفي‬
‫واملوقِفي الشخيص‪ ،‬ويف الفقرة ذاتها‪ ،‬أحياناً‪.‬‬
‫وتتجلىّ الحرية يف مقاربة دراسة جنسانية الرجل – متاماً كام كان الحال يف دراسة‬
‫متعصبة‪ .‬فحيث نال سيغموند فرويد‪ 21‬نصي َبه من االنتقاد‬ ‫جنسانية املرأة‪ -‬يف انتقائية غري ّ‬
‫القايس‪ ،‬مث ًال‪ ،‬بالتناغم مع التقليد النسوي الذي راج لدى نسويات الستينات والسبعينات‬
‫من القرن املايض ج ّراء أصوليته البيولوجية يف تحليل الشخصية األنثوية‪ ..‬فإن مقاربته‬
‫التحليلنفسية‪ ،‬واملفاهيم التي صاغها‪ ،‬بل النتائج التي توصل إليها كانت‪ ،‬ك ّلها‪ ،‬حارضة يف‬
‫تم تب ّني مفاهيم وفرضيات من التحليل النفيس تشتمل‬ ‫تحليل الكاتبة لجنسانية الرجل‪ .‬كام ّ‬
‫السواء وتجلياته واملرض وأوالياته والنضج النفساين ورشوطه إلخ‪.‬‬

‫‪ 19 19‬من هذه مث ًال‪ ،‬ويف معرض الكالم عن كون املسيح قد مسح ذنوب الناس‪ ،‬تتساءل إذا جاء املسيح‬
‫من العذراء الطاهرة‪ ،‬وهي امرأة‪ ،‬فلامذا مل متسح ذنوب النساء أيضاً‪" :‬يبدو أن هؤالء الفالسفة كانوا‬
‫يف ّكرون بنصف عقولهم( وال بد أنه كان نصف عقولهم الذكرية أيضاً)" الرجل والجنس ص‪50.‬‬
‫يف معرض استعراضها للفكر ة التي شاعت يف القرون الوسطى بأن الرجل جسد ورأس وإنسان كامل‬
‫وصورة كاملة عن الله‪ ،‬فيام املرأة جسد بغري رأس وعليها أن تصليّ وأن تغطي رأسها‪ ،‬تتساءل " ال‬
‫أدري كيف ميكن أن يكون رأس املرأة غري موجود أص ًال‪ ،‬ثم يطلب إليها أن تغطيه؟" الرجل والجنس‬
‫ص‪.40 .‬‬
‫وأيضاً‪ " ....‬كيف تكون املرأة بغري رأس وبغري عقل ثم تستطيع أن تفعل يف آدم ما عجز الشيطان أن‬
‫يفعله؟ وتستطيع أيضاً تحطيم صورة الله وتسبب املوت للعامل وإلبن الله؟!" الرجل والجنس ص‪41 .‬‬
‫‪ 2020‬تقول يف معرض كالمها عن تربير املجتمع األبوي تحريم خيانة املرأة تحرمياً قاطعاً "‪ ...‬إن مسؤولية‬
‫املرأة يف الخيانة أشد ألنها مسؤولة عن تربية األوالد والحفاظ عىل األرسة‪...‬أما األب الذي تنتسب‬
‫إليه هذه األرسة فليس مسؤوالً عنها؟! تربير لالزدواجية األخالقية بازدواجية اجتامعية والحجة هنا‬
‫أقبح من الذنب" الرجل والجنس ص‪54.‬‬
‫‪ 2121‬تستعيد السعداوي نقدها الذي كانت قد رشحته بالتفصيل يف كتابيها املرأة والجنس (‪1‬و‪ )2‬لنظرية‬
‫فرويد يف األنوثة ومحورية الترشيح الجسامين يف تش ّكلها يف الفصل املعنون بـ" الرجل والعلم‬
‫والجنس"‪ " ،‬الرجل والجنس ص‪.‬ص‪.85 -73 .‬‬

‫‪128‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫الالفت أن السعداوي تجد يف الرتاث العاملي‪ ،‬والغريب تحديداً‪ ،‬مخزوناً صالحاً لحججها‪،‬‬
‫صحة ما تقول‪ ،‬أو‬‫يستدل من استدعاء أعالمه – أمريكيني وأوروبيني‪ -‬لـ"الشهادة" عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫كام‬
‫هي تستعني ببعضهم ملقارعة أفكار بعضهم اآلخر‪ .‬هذا‪ ،‬بالرغم من عدائها السيايس لألنظمة‬
‫الرأساملية الغربية‪ ،22‬وبالرغم من إعالنها عن تج ّذرها يف مجتمعها املرصي‪ ،‬وعن انتامئها‬
‫بأي منهام‪ ،‬وال يبدو عليها الحذر من التهمة‬ ‫العريب اإلسالمي؛ فهي تبدو للقارئ غري مق ّيدة ٍ‬
‫الرائجة عندنا‪ ،‬والتي يختزل بواسطتها مناهضو حركة تحرر املرأة العربية أسباب مناهضتها؛‬
‫الحجة التي ترفع يف وجهنا جميعاً‪" :‬االنجرار وراء األفكار الغربية‬
‫نتك ّلم‪ ،‬كام ال يخفى‪ ،‬عن ّ‬
‫والغريبة عن تراثنا"‪.‬‬

‫األطر املرجعية‬
‫إن التحرر من الضوابط التي تحكم الشكل املتعارف عليه يف تقديم البحث العلمي‪ -‬عىل ما‬
‫أسلوب ذلك البحث وشك َله فحسب‪ ،‬إمنا يطول أيضاً إىل‬ ‫َ‬ ‫تدعو الكاتبة مطالعتها‪ -‬ال يصف‬
‫ً‬
‫األطر املرجعية التي يتظلل بها‪ .‬والكاتبة تُبدي رفضها‪ ،‬ضمنا ورصاحة‪ ،‬للحدود التي تُرسم‬
‫حول امليادين العلمية عا ّمة؛ كام أنها ال تلتزم بالقواعد املفروضة‪ ،‬ال عىل األساليب املتبعة‬
‫يف تلك امليادين‪ ،‬وال عىل نتاجاتها‪ ،‬يف حال كانت مخالفة للمبادئ واملنطلقات التي ترتكز‬
‫عليها حججها الخاصة‪.‬‬
‫ً‬
‫وهي ترى بان العلوم كلها – والطب (اختصاصها املهني) ضمنا‪ -‬غري حيادية؛ فهي‬
‫تخفي‪ ،‬برأيها‪ ،‬انحيازاتها خلف موضوعية مزعومة ت ّدعي امتالك املعرفة املطلقة‪ ،‬يف حني أن‬
‫املعرفة ا ُملنتجة يف ميادين هذه العلوم مثقلة بقيم الثقافة الذكورية وباهتامماتها وبأهدافها‪،‬‬
‫وكل هذه العلوم تندرج‪ ،‬من وجهة نظرها‪ ،‬يف سياق تدعيم‬ ‫وتحمل تالوين مسلماّ تها ؛ ّ‬
‫السلطة األبوية والعمل عىل ضامن استمرار سيطرتها‪.‬‬
‫نفسها من "تهمة" الالحيادية بل تعلن انحيازاتها رصاحة‪ :‬فهي تعلن‬ ‫والكاتبة ال تعفي َ‬
‫منطلقاتها واملبادئ والقيم واألخالقيات التي تعتنقها‪ ،‬باإلضافة إىل اتجاهاتها حيال األديان‬
‫واألنظمة السياسية والنظريات التي تعتمدها يف معالجتها‪ ،‬يف ّ‬
‫كل م ّرة تربز الحاجة لذلك؛‬
‫وهذه مبثوثة يف ثنايا كتبها‪ ،‬بل هي أعلنتها يف مبادئ تشبه "البيان السيايس" الذي يحدد‬
‫أبعاد نسويتها‪ .‬وذلك بعد املقدمة يف كتابها األنثى هي األصل‪ .23‬الفرق بني املوقعني ( املوقع‬
‫الذكوري وموقع الكاتبة) يتمثّل تحديداً يف اإلعالن الرصيح عن ذلك املوقع؛ وذلك‪ ،‬باملقارنة‬
‫مع التخ ّفي خلف حيادية وموضوعية مزعومة‪ ،‬فال يفرتض القارئ أن ما يقال هو املعرفة‬
‫النص‪ ،‬وبأن ما يقال هو صحيح بالتناغم مع‬ ‫املطلقة‪ ،‬إذا تو ّفرت له األسس التي قام عليها ّ‬
‫املسلامت واملنطلقات املتب ّناة أوالً‪ ،‬ويف الزمان واملكان املح ّد َدين ثانياً‪ ،‬ومن موقع سيايس‬

‫‪ " 22 22‬الرجل والجنس ص‪.140-139.‬‬


‫‪ 2323‬األنثى هي األصل ص‪18-17 .‬‬

‫‪129‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫وإيديولوجي رصيح‪ ،‬أخرياً‪ ...‬هو املوقع النسوي ذو النكهة السياسية الرصيحة‪.‬‬

‫الدين والنقد املؤجل‬


‫يحتل تحليل الرواية التوراتية لطرد آدم من الجنة حيزاً غري قليل يف محاولة فهم املعاين والقيم‬
‫ا ُملسبغة عىل جنس اإلناث يف املجتمعات األبوية‪ .‬وذلك يف معرض تأويل الكاتبة ملس ّوغات‬
‫قمع النساء وألصول كرههن وتأثيمهن وإلقاء اللوم عليهن ج ّراء كل الباليا التي اصابت‬
‫لعل حرمانَه من الخلود يف الجنة هو أهمها‪ .‬وهي تع ّقبت االتجاهات يف‬ ‫الجنس البرشي‪ّ ،‬‬
‫األديان وسلوك ا ُملمسكني بزمام أمورها من رجال دين عىل م ّر العصور‪ .‬وذلك من أجل رصد‬
‫التح ّوالت التي تع ّرضت لها وربط تلك التح ّوالت باألنظمة االقتصادية والسياسية‪ ،‬بوصفها‬
‫الخلفية املادية لها‪ .‬وهي تناولت الدين اليهودي‪ ،‬وما سب َقه من أديان ذكرية املنحى‪ ،‬لتبيان‬
‫دورها يف تكريس تأثيم املرأة ودونيتها‪ .‬كام تناولت االنحراف الذي طاول الدين املسيحي‬
‫عىل أيدي رجال الدين يف القرون الوسطى‪ ،‬والقمع الرهيب الذي تع ّرضت له النساء اللوايت‬
‫ُوصمن بالسحر‪.‬‬
‫أما ما يطول إىل الدين اإلسالمي ‪ ،‬فإننا نجد لدى السعداوي تب ّدال ً يف اللهجة‪ .‬فهي‬
‫‪24‬‬

‫كل واحد منها مظهراً من مظاهر التمييز ضد‬ ‫تلجأ‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬إىل تساؤالت يتناول ّ‬
‫املرأة‪ .‬من هذه‪ ،‬مث ًال‪ ،‬تعدد الزوجات‪ ،‬الطالق التعسفي‪ ،‬منع الحضانة والوالية عن النساء‪،‬‬
‫إيالء القوامة للرجال‪ ،‬جعل املرأة نصف شاهدة ونصف وارثة‪ ،‬إلخ من أحكام دينية مل تعد‪،‬‬
‫برأيها‪ ،‬مناسبة مع تط ّور أحوال النساء يف املجتمع املرصي املعارص‪ .‬وهي تصوغ التساؤالت‬
‫هذه بلهجة مستنكرة‪ ،‬داعية القارئ والقارئة للشهادة عىل ال معقوليتها‪ ،‬وللتأ ّمل يف تنافرها‬
‫موجه صوب رجال الدين املسلمني يف مرص‪ ،‬ال‬ ‫الصارخ مع روح العرص‪ .‬لكن استنكارها ّ‬
‫الدين اإلسالمي‪ .‬فهي تُنهي كالمها بأنها ليست بصدد "مناقشة وضع املرأة يف اإلسالم‪ ...‬فهذه‬
‫كل حال‪ ،‬أن األديان ظاهرة روحية نقية‬ ‫املناقشة تحتاج إىل وقت آخر"!‪ .‬لكنها تستنج‪ ،‬عىل ّ‬
‫ترتكز عىل الحق واملساواة‪ ،‬وليس عىل الظلم والتفرقة‪ ،‬وترتكز عىل الثورة والتق ّدم وليس‬
‫عىل الجمود والتخ ّلف‪ ...‬لقد كان عيىس ومحمد بالذات ثورة عىل الظلم ودفاعاً عن حقوق‬
‫املرأة والفقراء‪ ،"....‬فهل يعقل أن يكون جوهر األديان مسؤوالً عن الظلم والالعدل الذي‬
‫تتعرض له املرأة؟‬
‫تقفز نوال السعداوي فوق الوقائع التي تعرفها جيداً‪ ،‬وتُسقط من علٍ عىل القارئ‬
‫والقارئة قراءة خاصة بها لألديان‪ ،‬وتعريفاً لجوهرها ولوظائفها يعفيها عن تعرية مكامن‬
‫التمييز املعروفة ضد املرأة يف نصوص رصيحة لهذه األديان‪ .‬يف هذا املجال – مجال املق ّدس‪-‬‬
‫لتنضم إىل "الحشد" ‪ the mob‬أو الجموع يف بالدنا العربية ‪ -‬الذين ميارسون‬
‫ّ‬ ‫تعود السعداوي‬
‫رقابة صارمة عىل ذواتهم يف كالم يطال نصوص األديان الساموية خاصة‪ ،‬فال يتوانون عن‬

‫‪ 2424‬الرجل والجنس ص‪71-66 .‬‬

‫‪130‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫خيانة عقولهم واملساومة عىل مبادئهم‪ .‬يف هذه الحالة كان الصدق والرشف والعقالنية‬
‫املبادئ املعلنة‪ ،25‬وكان تح ّدي األفكار الشائعة وتفكيكها دون مهادنة‪ ،‬من املبادئ املضمرة‬
‫تم تجاهلها‪.‬‬‫التي ّ‬
‫ّ‬
‫لعل الكاتبة افرتضت أن تح ّدي مح ّرمات‪ /‬تابو الكالم عن جنسانية الرجل ( ومن ِق َبل‬
‫امرأة!)‪ ،‬يكون أكرث قبوالً إذا ما ترافق مع تفادي الكالم عن األديان‪ -‬وعن الدين اإلسالمي‬
‫لعل االكتفاء بتناول منط واحد‪ 26‬من املح ّرمات‪( ،‬الجنس فقط) جاء "رفقاً" بالقارئ‪،‬‬
‫تحديداً‪ّ .‬‬
‫ورغبة بعدم إثارة حفيظته إىل درجتها القصوى‪.‬‬

‫بالنيابة عن موضوع البحث؟‬


‫أقل تقدير؛ فهل‬ ‫بني كتابيَ ْ الرجل والجنس واملرأة والجنس متاثل مقصود ييش به العنوان‪ ،‬يف ّ‬
‫جاءت املقاربة متامثلة؟‬
‫إن واحدة من ركائز النقد النسوي للكتابة حول املرأة متثّلت بفكرة مفادها أن تلك‬
‫الكتابة متّت بالنيابة عنها‪ .‬وأن ما كت َبه الرجال حول جنسانيتها‪ ،‬مث ًال‪ ،‬تجاهل رغباتِها وحاجاتِها‪،‬‬
‫وجاء متوافقاً مع حاجات الرجل ورغباتِه والتص ّورات والتخييالت التي يحملها حول موقع‬
‫املرأة يف جنسانيته هو‪ .‬وكلنا يذكر النقاش الشهري حول مسألة "اإلزاحة البظرية‪ -‬املهبلية"‬
‫‪ ،clitoral-vaginal transfer‬الذي شاركت فيه نسويات من أعالم الستينات والسبعينات‬
‫من القرن املايض‪ ،‬ومنهن نوال السعداوي نفسها‪ -‬بوصفها (أي اإلزاحة املذكورة)‪ ،‬منوذجاً‬
‫صافياً عن إهامل عضو جسامين لدى األنثى (البظر)‪ ،‬بل بترْ وجوده؛ نذ ّكر ان هذا البرت ّ‬
‫يتم‬
‫فعلياً بالختان‪( 27‬يف بعض املجتمعات اإلفريقية خاصة)‪ ،‬أو نفسياً بتعيينه موقعاً طفولياً‬
‫لإلثارة الجنسية ُيفرتض باألنثى "نسيان وجوده"‪ ،‬عرب كبت املشاعر واألحاسيس التي يثريها‬
‫فيها كبتاً نهائياً من أجل تحقيق نضجها األنثوي (لدى املجتمعات األوروبية‪ ،‬مث ًال)‪ .‬والغاية‬
‫كل ما هو غري مرتبط بجنسانية الرجل‪ ،‬وافتقاد لزوم دوره يف اإلنجاب؛‬ ‫من ذلك كان إلغاء ّ‬
‫أي دور املرأة الذي يط ّهرها – كام يرى الرجل – من إثم الجنس‪.‬‬

‫‪" 25 25‬إن القدرة عىل التنفكري النقدي ‪ ....‬تقتيض ثقة بالنفس وشجاعة وحر ّية‪ ....‬إن الباحث عن‬
‫الحقيقة يف اي مجال ال ب ّد أن يكون محرراً من الخوف واألفكار املسبقة املس ّلطة ‪ ،"...‬يف األنثى هي‬
‫األصل ص‪12-11.‬‬
‫‪ 2626‬الدين ليس التابو‪ /‬املح ّرم الوحيد الذي ال تتناوله الكاتبة ‪ .‬ال تتك ّلم السعداوي عن "جنسانيات"‬
‫‪Sexualities‬الرجال‪ ،‬بل عن الجنسانية الغريية ‪ heterosexuality‬بوصفها الجنسانية الوحيدة‪.‬‬
‫وهي تلجأ إىل نظرية التحليل النفيس يف السواء من أجل نعت الجنسية املثلية ‪homosexuality‬‬
‫بالطفولية الدفاعية‪ ،‬الخائفة واملصدودة من األنثى‪ .‬لذا فهي انحراف عن السواء وشذوذ عماّ ينبغي‬
‫أن تكون‪.‬‬
‫‪ 2727‬تروي نوال السعداوي عن واحد من مرتتبات الختان عىل جنسانية الرجل املرصي ومفادها إحساسه‬
‫بالعجز عن إرضاء رشيكته مام يجعله يلجأ إىل الحشيش‪ .‬الرجل والجنس ص‪ ،195 .‬وص‪.161 .‬‬

‫‪131‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫إن الكالم نيابة عن النساء كان هو السائد‪ .‬ومل تبدأ املرأة مسار اسرتجاع صوتها إال بعد‬
‫أن أرست حركة تحرر املرأة الغربية قواعد للكالم‪ ،‬بات معه اشتامل صوت النساء املختلف‬
‫يف الخطاب العام‪ ،‬أمراً ال ميكن السكوت عن إغفاله‪ ،‬ألن ذلك اإلغفال ‪-‬عىل ما يقال‪" -‬ال‬
‫يصح سياسياً"‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬فإن الكيل مبكيالني عامة‪ ،‬ويف أمور الجنس خاصة ينايف بداهة‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬ويف ُعرف النسويات‪ ،‬أخالقيات البحث؛ وقد كانت النساء ضحايا الكيل مبكيالني‪ ،‬ما جعلهن‬
‫أكرث تنبهاً ملظاهره‪ ،‬وأكرث حامساً لرفضه‪.‬‬
‫يف كتاب املرأة والجنس يلمس املرء تعاطفاً وجدانياً مع املرأة متثّل بشكل محسوس‬
‫برواية لـشهادات متعددة‪ُ ،‬أعطيت النساء‪ ،‬مبوجبها‪ ،‬فسحة للتعبري عماّ يرغنب قولَه‪ ،‬ووصف‬
‫مكامن معاناتهن ومظاهر قمعِهن واستبعادِهن من تقرير أشكال تعبريات جنسانيتهن من‬
‫قبل الرجال‪ .‬لكن معالجة جنسانية الرجال يف الكتاب الرديف الرجل والجنس مل تخضع ملعيار‬
‫‪28‬‬
‫"املعاملة باملثل"‪ .‬فالشهادات الشخصية‪ ،‬أسوة بالحاالت العيادية تكاد أن تكون معدومة‬
‫فيه‪ .‬فلم تتوافر للرجال فسحة شبيهة بالفسحة التي أعطيت للنساء للتعبري مبارشة عن‬
‫أفكارهم ومشاعرهم وأحاسيسهم املتع ّلقة بالجنس‪ .‬صحيح أن الكاتبة تروي أحياناً ما قال‬
‫لها رجل ما‪ ،‬لكنها روايات قلام تتع ّدى قوالً مخترصاً‪ ،‬أو ُحك ًام أو شكوى‪ ،‬فلم نسمع صوت‬
‫الرجل فع ًال‪ .‬فبدت الفصول املتتالية التي تناولت مك ّونات جنسانيته استعادة ألقوال الخرباء‬
‫والعلامء النفسانيني خاصة حولها ‪ ،‬مع الرتكيز عىل موقع املرأة املتخ ّيل واإلشكايل خاصة‪،‬‬
‫النص يبدو للقارئ‪ ،‬تكراراً ملا‬
‫من هذه الجنسانية‪ .‬بل إن هيمنة املرأة‪ ،‬ومحورية وجودها يف ّ‬
‫جاء يف كتابيها األولَينْ ‪ ،‬ويشري إىل أن الكتاب ُكتب‪ ،‬رمبا‪ ،‬ال تعاطفاً مع الرجال – زائري عيادة‬
‫الطبيبة السعداوي‪ ،‬ورغبة يف محو جهلهم بجنسانيتهم‪ ،‬إمنا لتزويد النساء ُبع ّدة نضالية ضد‬
‫هؤالء الرجال‪ ،‬عرب تعرية جنسانيتهم من َو ْه ِم جربوتها املتو ّرم‪ ،‬وفضح حجمها الحقيقي‪.‬‬
‫بل إننا نقرأ أحياناً تحريضاً عىل الرجال وإلقاء اللوم عليهم لتسببهم باألمراض النفسية التي‬
‫تصيب النساء‪.29‬‬

‫هذه معالجة افتقدت‪ ،‬إذاً‪ ،‬أسلوباً أو موقعاً من مواضيع البحث افرتضته النسويات أساسياً‬
‫يف إنتاج معرفة دقيقة وصادقة حول املرأة‪ ،‬ميكن أن نطلق عليه "التعاطف الوجداين"‬
‫‪empathy‬؛ وتجاهلت‪ ،‬تالياً‪ ،‬مبدأ "املعاملة باملثل" ألنها مل تت َّنب األسلوب َ‬
‫نفسه يف مقاربتها‬

‫‪ 28 28‬يف كتاب الرجل والجنس‪ ،‬رواية فريدة لحوار دار بني الكاتبة وبني رجل يشكو الخوف من فقدان‬
‫انتصاب قضيبه( أنظر سابقاً) ص‪ ،100-99 .‬ورواية لحالة مداعبة ج ّد جنسياً لحفيدته‪ .‬وهي عىل كل‬
‫حال بلسان الحفيدة ( بعد أن صارت راشدة) ص‪.231 .‬‬
‫‪ 2929‬تقول السعداوي يف سياق الكالم عن العالقة غري السوية بني الرجال والنساء يف مجتمعاتنا "‪ ...‬وقد‬
‫أجريت بحثاً عام ‪ 1972‬بقسم األمراض النفسية يف كلية طب عني شمس عن أسباب عصاب النساء‪.‬‬
‫واتضح يل أن السبب األول كان الرجل األب‪ ،‬أو الزوج‪ ،‬أو أي رجل آخر ينصب نفسه مسؤوالً عن‬
‫األرسة"‪ ،‬الرجل والجنس ص‪260 .‬‬

‫‪132‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫لدراسة الرجل؛ وف ّوتت‪ ،‬بذلك‪ ،‬فرصة مثينة إلثبات جدوى هذا األسلوب أو املوقع يف دراسة‬
‫الجنسانية الرجالية‪ .‬هي فرصة مثينة ألن إثبات جدواها يف دراسة الرجل‪ ،‬كان سيعزز النتائج‬
‫املحصلة بواسطة األسلوب نفسه لدى دراسة املرأة‪ .‬وكان للكاتبة أن تُث ِبت‪ ،‬عرب استعراض‬ ‫ّ‬
‫ُمعاش الرجال لجنسانيتهم يف شهاداتهم‪ ،‬مث ًال‪ ،‬متاماً كام استعرضت يف شهادات نسائية‬
‫ُمعاش النساء لجنسانياتهن‪ ،‬بأن النظام األبوي الذي قمع النساء وش ّوہ تلك الجنسانية‪،‬‬
‫قام ايضاً بتقزيم جنسانية الرجال‪ ،‬بجعلها مرشوطة بقمع النساء‪ .‬وكان لها‪ ،‬أخرياً‪ ،‬أن تبينّ‬
‫بامللموس بأن ما هو "شخيص هو أيضاً سيايس"‪ ،‬فتبني‪ ،‬بذلك‪ ،‬وعىل قاعدة صلبة‪ ،‬جرساً بني‬
‫االتجاهات الرافضة للقمع الجنيس الذي يخضع له النساء والرجال‪ ،‬وبني مصلحتهم يف بناء‬
‫مجتمع املساواة والعدل والتحرر‪.‬‬
‫هذا تحديداً ما استنتجته السعداوي‪ .‬لكنها تقوله بطريقة تقريرية عارِفة‪ ،‬فال تُرشك‬
‫القارئ والقارئة ال مبق ّدمات هذا االستنتاج‪ ،‬وال باملعلومات العيادية التي افضت بها إىل‬
‫معرفتها الواثقة به‪.‬‬

‫صعوبة التغيري ورضورته‬


‫إىل ذلك‪ ،‬فإن ما تُر ّدده الكاتبة يف أكرث من موقع من أن اإلشكاليات املحيطة بجنسانية الرجل‬
‫مصدرها عوامل "خارج" شخصه‪ ،‬ال "داخله"‪ ،‬متاماً كام هي إشكاليات الجنسانية النسائية‪ .‬إن‬
‫إحالة هذه اإلشكاليات كلها إىل البنى االجتامعية والسياسية واالقتصادية املحيطة بالرجل‪،‬‬
‫جعل هذه اإلشكاليات تبدو أسرية لهذه البنى عىل نحو ال فكاك منه؛ األمر الذي ترك هامشاً‬
‫ضيقاً جداً لجنسانية رجالية مغايرة‪ .‬ونحن قرأنا اكرث من م ّرة يف كتابها فكرة متشامئة مفادها‬
‫أن جنسانية ذكرية‪ ،‬تتمتع بالصحة النفسية والنضج‪ ،30‬أمر نادر جداً‪ ،‬وأنه من الصعوبة‬
‫الرقي بالجنس إىل مصاف الحب الحقيقي يف ّ‬
‫ظل نظام امللكية الفردية والنظام األبوي‬ ‫مبكان ّ‬
‫الذي يس ّوغ لها‪ .‬فالحب مرشوط نشوئه‪" ،‬بتغيري املفاهيم القدمية املتعلقة بالذكر واألنثى‬
‫والزواج والجنس والرشف والعمل بحيث يسرتد كل من الرجل واملرأة إنسانيتهام املفقودة‬
‫ورشفهام املفقود"‪.‬‬
‫وهي تُنهي كتابها يف فصل أخري عنونته بـ" نحو حضارة أكرث عدالة وأكرث اخالقية"‬
‫بجردة من املبادئ و"املطالب" النسوية‪ ،‬وسجاالً مع معرتضني مفرتضني عىل نهجها التحرري‪.‬‬
‫وراهنية الكالم عن املبادئ النسوية يف كتاب عن الرجل وجنسانيته‪ ،‬مصدره ارتباط تحريرهام‬
‫الواحد باالخر‪ .‬فـ "قضية تحرير النساء ال تنفصل عن قضية تحرير الرجال‪ ،‬وهي قضية‬
‫سياسية‪ ،‬أساساً‪ ،‬وليست مجرد قضية جنسية اجتامعية"‪ .‬إن تركيز الكاتبة عىل مسألة تحرير‬

‫‪ 3030‬يخرتق مفهوم النضج النص حول جنسانية الرجال بأكمله‪ .‬هناك تعريف للنضج ص‪، 229 ،227 .‬‬
‫وتعريف للحب الناضج ص‪ ،197 ،177 ،169 ،129 .‬ولرشوط النضج ص‪ ،108 .‬إضافة إىل جعل غيابه‬
‫سبباً نهائياً لكل اإلتواءات الجنسية التي تصيب الرجل بعالقته مع املرأة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫املرأة ونضالها من أجل إحقاق املساواة بينها وبني الرجل يف كتاب عن الرجل والجنس‪ ،‬يجد‬
‫مس ّوغاته يف مس ّلمة تفرتض أن "الحب ال ميكن أن ينشأ بني أعىل وأدىن‪ ،‬وال بني صاحب‬
‫سلطة وخاضع لهذه السلطة‪ :‬الحب ال ميكن أن ينشأ إال يف ظل العالقات القامئة عىل‬
‫املساواة والعدالة والحرية واالستقالل والنضوج"‪.31‬‬
‫فإذا كانت الجنسانية ال تفهم إال يف سياق‪ ،‬فإن إزالة الشوائب املتج ّذرة يف املجتمع‬
‫األبوي والنظام الرأساميل (السياق) اللذين أحدثا تش ّوها فيها وأعاقا تألقها ونضجها‪ ،‬فال‬
‫يرجى تغيري يف الجنسانية (يف التفصيل)‪ ،‬إال بالعمل الهادف إىل إحداث تغيريات اجتامعية‬
‫(يف السياق) مؤاتية لنضجها وتألقها‪ .‬هكذا‪ ،‬تضع السعداوي‪ ،‬وانسجاماً مع مس ّلامتها‪ ،‬نضالها‬
‫النسوي من أجل جنسانية أرقى وأنضج للنساء والرجال معاً‪ ،‬يف إطار النضال من أجل‬
‫مجتمع العدالة واملساواة والحرية‪ .‬وهي تلتقي مع الحركة النسائية يف بالدنا العربية التي‬
‫انضوت‪ ،‬يف تلك الفرتة من الزمن‪ ،‬تحت لواء حركات التحرر الوطني واالجتامعي‪ ،‬رافعة‬
‫يتم يف إطار تحرر املجتمع"‪.‬‬
‫شعار "تحرر املرأة ّ‬

‫نوال السعدواي منوذجاً‬


‫كانت نوال السعدواي إحدى أوائل النسويات العربيات اللوايت جهرن بنسويتهن‪ ،‬إن مل تكن‬
‫ولعل كتا َبها الرجل والجنس هو األ ّول الذي طرح موضوع الرجولة بوصفها‬ ‫األوىل إطالقاً‪ّ .‬‬
‫فيصح الكالم‪ ،‬إذاً‪ ،‬عن كونه ميثل أوىل املقاربات النسوية لدراسة الرجولة‪ .‬وما‬
‫ّ‬ ‫مر ّكب إشكايل‪.‬‬
‫حاولنا القيام به‪ ،‬يف هذه الورقة‪ ،‬هو رصد معامل هذه املقاربة‪.‬‬
‫مل ترسم الكاتبة مخططاً رصيحاً لدراستها‪ ،‬ومل تجعل القارئ عىل ب ّينة من مس ّوغات‬
‫خياراتها ملك ّونات الجنسانية التي اختارتها دون غريها؛ لكنها أفصحت له‪ ،‬تباعاً‪ ،‬عن أطرها‬
‫املرجعية‪ ،‬وعن املس ّلامت العلمية واملعايري األخالقية الضابطة لكالمها‪ .‬فتكون‪ ،‬بذلك‪ ،‬قد‬
‫أعلنت عن ال حياديتها وعن تح ّيزاتها غري القليلة‪.‬‬
‫وهي ال ت ّدعي املوضوعية‪ ،‬فكتاب االرجل والجنس كتاب هادف‪ ،‬وغرضه تبيان الخلل‬
‫الذي أصاب جنسانية الرجل بسبب تص ّورات دفاعية وطفلية لجنسانية النساء‪ ،‬استتبعت‬
‫قمع هذه ألخرية اوتشويهها‪ .‬ويق ّدم الكتاب تص ّوراً إلعادة تصحيح جنسانية النساء‪ ،‬والرجال‪،‬‬
‫ودعوة إىل ذلك التصحيح يف إطار حركة سياسية شاملة تهدف إىل إحقاق العدل واملساواة‬
‫يف املجتمع‪.‬‬
‫وهي إذ تعلن عن رفضها للفكر الرجويل‪ ،‬فإن كتاب َتها غري املنضبطة بالشكل املنهجي‬
‫املتعا َرف عليه يف تقاليد البحث العلمي هو من تعبريات ذلك الرفض‪ .‬وهو ٌ‬
‫رفض انتقايئ ح ّر‪،‬‬
‫كل حال‪ ،‬ألنه ليس إقصائياً‪ :‬فاملعلومات التي ساقتها حول املوضوع قيد املعالجة جاء‬ ‫عىل ّ‬
‫أكرثها من مد ّونة البحوث العلمية الرجالية‪ .‬وحججها ارتكزت عىل معطيات تج ّمعت‪ ،‬أو‬

‫‪ 3131‬الرجل والجنس ص‪.245 .‬‬

‫‪134‬‬
‫وضيب ةرارش ةّزع‬ ‫لوجرلا ةساردل ةيوسنلا ةبراقملا‬

‫تم تطويرها‪ ،‬يف ميادين علمية ذات أكرثية رجالية‪ ،‬وتعتمد مناهج وطرقاً رجالية‪،‬‬ ‫نظريات ّ‬
‫تم‬
‫بالرضورة‪ .‬هذه املعطيات وتلك النظريات أخضعتها الكاتبة إلعامل العقل واملنطق‪ ،‬كام ّ‬
‫فحصها عىل ضوء املس ّلامت واألطر املرجعية املتب ّناة من املوقع النسوي الرصيح‪.‬‬
‫وهي عالجت موضوعها يف سياقه املجتمعي والتاريخي نازعة عنه الصفة الثابتة‪.‬‬
‫وحاولت تبيان املؤثرات السياسية واالقتصادية واإليديولوجية يف صياغة تجلياته‪ .‬ودرست‬
‫أوج ّه تقلباتِه يف إطارالعالقة الواقعية واملتخ ّيلة مع الطرف اآلخر املعني بها – املرأة‪.‬‬

‫يف كل ما سبق انض ّمت نوال السعداوي إىل التيار النسوي العاملي‪ ،‬وانضوت تحت مظ ّلة‬
‫لكل أشكال الهيمنة والقمع مبا‬ ‫"روح العرص" حيث سادت الحركات التحررية ك ّلها‪ ،‬والرافضة ّ‬
‫ألنهن نساء‪ .‬وهي صاغت تص ّو َرها لتصحيح ميزان العالقة املختل‬ ‫فيه قمع الرجال للنساء‪ّ ،‬‬
‫بني النساء والرجال يف مجال الجنسانية‪ ،‬واستعادت تعيني هذه الجنسانية عام ًال للتا ّلق‬
‫خوف (من قبل الرجال)‪ ،‬وسبباً للقمع استطراداً (ميارس عىل‬ ‫موضوع ٍ‬
‫َ‬ ‫والتحرر‪ ،‬بدل كونِها‬
‫النساء)‪ ...‬هذا التص ّور يندرج يف إطار تحرر املجتمع السيايس واالقتصادي ويتمثّل بالشعار‬
‫"تحرر املرأة يف مسار تحرر املجتمع وبنتيجته"‪.‬‬
‫يبقى أن نوال السعداوي قد أخفقت يف اشتامل الرجال يف مقاربتها التي م ّيزتها‬
‫كنسوية‪ .‬فلم تُب ِد التعاطف الوجداين تجاه موضوع دراستها‪ -‬الرجل؛ وذلك مقارنة مع‬
‫التعاطف الوجداين الذي ملسنا مع موضوع دراستها‪ -‬املرأة يف كتابها املرأة والجنس يف‬
‫جزئيه‪ .‬فتكون قد "ارتكبت" فعل التح ّيز الذي افرتضته هي والنسويات عا ّمة "ازدواجية‬
‫معيارية" مرفوضة من قبلهن‪ ،‬رفضاً ال جدال فيه‪.‬‬
‫األقل‪ ،‬يتمثّل باالمتناع عن تناول‬ ‫كام أنها "خضعت" ملح ّرم ثقايف عريب واحد ‪،‬عىل ّ‬
‫كل العنارص التي تسمح بذلك النقد‪.‬‬ ‫األديان الساموية بالنقد الرصيح‪ ،‬بالرغم من إثبات ّ‬
‫وذلك‪ ،‬برغم ادعائها اعتامد الصدق‪ ،‬ورغم تح ّليها بشجاعة استثنائية ال ميلك املعادون لها‪،‬‬
‫قبل منارصيها‪ ،‬إال االعرتاف بها‪.‬‬
‫إن كتابة نوال السعداوي بيانٌ عن شجاعتها االستثنائية‪.‬‬
‫أليست هي البادئة عندنا بنبش املح ّرمات من تحت ركام ثقيل من األفكار "العلمية"‪،‬‬
‫ومن املعتقدات املنسوجة بخيوط متينة من اإليديولوجيا والدين‪ ،‬ناهيك بوطأة الواقع الذي‬
‫يحارص النساء والرجال ويعيد إنتاج مواقع الفئتني املرسومة واملك ّبله للطرفني؟‬
‫كل الخري‪ّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫هي إن فتحت صندوق باندورا فإن "الرشور" التي انسكبت منه‪ ،‬فيها ّ‬
‫األمل بالنسبة لنا نحن النساء‪:‬‬
‫أمل يكن ما أطلقته من نقاشات عىل املأل الثقايف العريب إضاءات من زوايا أضافت عىل‬
‫األنوار التي غمرتنا يف عقود الثورات التحررية من القرن املايض والتي‪ ...‬بالرغم من سواد‬
‫الظالمية اليقينية التي عادت لتخ ّيم عىل أجوائنا العا ّمة‪ ،‬ما زلنا نستيضء بها؟‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫تاريخ‬

‫سيوف من لهب‪ :‬أسباب الفتوحات‬


‫اإلسالم ّية واستقبال الشعوب املفتوحة لها‬
‫حسام عيتاين‬

‫يف شبه إجامع‪ ،‬اعتربت الشعوب املغلوبة الفتوحات العربية عقاباً من الله عىل ذنوب سابقة‪.‬‬
‫منها ما يعود إىل الخالفات الداخلية املتعلقة باإلميان والرصاعات بني الكنائس املختلفة التي‬
‫أغضبت إلهاً مل يعتد الشقاق بني أبنائه وسئم من سوء أخالقهم ومن آثامهم املمتدة من‬
‫الخروج عىل سلطة الكنيسة إىل موبقات يرتكبونها يف حياتهم اليومية‪ ،‬ومنها ما يشكل‬
‫تحقيقاً لنبوءات قدمية‪.‬‬
‫وكان ك ّتاب الحوليات والكهنة أعلنوا توقعهم حصول الفتوحات التي تحدثت عنها‬
‫كتب األولني‪ .‬وجاء يف أكرث من مصدر قديم‪ ،‬أخبار عن سيوف من الشهب ظهرت يف سامء‬
‫سوريا وبالد ما بني النهرين قبل أعوام أو أشهر من بداية الفتوحات ومن سقوط ماملك‬
‫الروم والفرس‪ .‬فالتاريخ النسطوري يبلغنا‪ ،‬مث ًال‪ ،‬أن يونان صاحب عمر (دير) برطورا والذي‬
‫أقام يف جبل سنجار‪ ،‬تنبأ قبل وفاته "ببطالن ملك الفرس وظهور العرب وما يلحق الناس من‬
‫الشدة"‪ ،‬وذلك بعدما اجتمع إليه الرهبان لبناء الدير فخاطبهم قائال "سيجيء العرب ولد‬
‫اسمعيل (أوالد إسامعيل) من الربية وميلكون‪ .‬ويخرب هذا العمر‪ .‬وبعد سبع سنني يكون‬
‫سكون يف العامل وتعودون إىل العمر من حيث تبددتم وتجتمعون فيه" ‪ .1‬ويتابع التاريخ‬
‫ذاته انه بعد استقرار ا ُمللك ليزدجرد بن شهريار‪ ،‬آخر ملوك الفرس‪ ،‬واصطحاب أنصاره له‬
‫من اصطخر اىل املدائن بعد الرصاعات التي عمت اإلمرباطورية الساسانية يف أعقاب حروب‬
‫العقد الثاين من القرن السابع ضد البيزنطيني‪" ،‬ظهر يف السامء مثل الرمح من الجنوب اىل‬
‫الشامل‪ .‬ثم انبسط إىل املرشق واملغرب ومكث عىل ذلك خمسا وثالثني ليلة‪ .‬فتفاءل الناس‬
‫إنها عالمة ظهور ملك العرب" ‪.2‬‬

‫‪Histoire Nestorienne (Chronique de Seert), Texte Arabe publié par Mgr Aadai 1 1‬‬
‫‪Scher in "Patrologia Orientalis" – Tome XIII- pp 469-470.‬‬
‫‪Ibid- p 580. 2 2‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫املؤرخ البيزنطي ثيوفانس يشري إىل الظاهرة ذاتها ضمن أحداث عام ‪ 632-631‬حيث يقول‬
‫بعد حديثه عن هجوم املسلمني عىل غزة‪" :‬يف الوقت ذاته تقع زلزلة يف فلسطني وتظهر‬
‫عالمة يف السامء يقال لها "دوكيتس" يف اتجاه الجنوب تنذر بالفتح العريب‪ .‬ظلت مدة ثالثني‬
‫يوما وتحركت من الجنوب إىل الشامل واتخذت شكل سيف" ‪.3‬‬
‫ويذكر الالهويت واملؤرخ االنكليزي بيديه (‪ )Bede‬ظهور مذنّبني يف السامء "كإنذار‬
‫بالكارثة املقبلة" ‪ 4‬يف الحقبة التي كانت الجيوش اإلسالمية تغزو فيها إسبانيا وجنوب فرنسا‪،‬‬
‫من دون أن يهتم‪ ،‬عىل غرار معارصيه‪ ،‬بأسباب الفتوحات وال مبعتقدات الفاتحني‪.‬‬
‫ويقول كاتب سرية القديس ثيودور من سيكيون الواقعة قرب غاالطيا يف آسيا الصغرى‬
‫واملتوىف عام ‪ ،613‬إن بطريرك القسطنطينية توماس سأل القديس ما إذا كانت ظاهرة‬
‫اهتزاز الصلبان الصغرية أثناء االبتهاالت يف الكنائس حقيقة‪ ،‬وعندما علم من القديس أنها‬
‫صحيحة‪ ،‬راح يرجوه تفسري معنى اإلشارة هذه‪ .‬وبعد إظهار ثيودور لقلة شأنه وقوله إنه هو‬
‫خاطئ بائس‪ ،‬أجاب بأنه ال يعلم ردا عىل السؤال‪ .‬حينها هوى توماس عند قدمي القديس‬
‫وأمسكهام محتجا بأنه لن ينهض عن األرض ما مل يلقَ ردا من ثيودور‪ .‬وبعد إلحاح البطريرك‪،‬‬
‫بىك القديس بكاء مراً وقال "ال أرغب يف إزعاجك‪ ،‬وما من فائدة لك يف معرفة هذه األمور‪.‬‬
‫لكن مبا أنك سألت فإن اهتزاز الصلبان ينبئنا بالكثري من الخطوب املؤملة والخطرية‪ -‬انه‬
‫يعني انعدام االستقرار يف إمياننا و ُيعلمنا بالجحود ومبجيء العديد من الشعوب الرببرية‬
‫وسفك الكثري من الدماء و(الوقوع يف) األرس يف كل أنحاء العامل‪ ،‬وهيمنة الحزن عىل الكنائس‬
‫املقدسة وتوقف القداديس واختالل وسقوط اإلمرباطورية وارتباك الدولة ومرورها بأوقات‬
‫حرجة‪ ،‬ويؤذن ذلك أن قدوم "العدو" (الشيطان) بات وشيكا" ‪.5‬‬
‫ومثة اتفاق بني املؤرخني عىل أن اإلشارات األوىل إىل وقوع اضطرابات غري‬
‫محددة طبيعتها يف شبه الجزيرة العربية جاءت يف "تعاليم يعقوب ا ُملعمد حديثاً"‬
‫(‪ ،)Doctrina Jacobi Nuper Baptizati‬وهي نص سجايل‪ -‬دفاعي مع اليهود كتب عىل‬
‫األرجح يف إفريقيا عام ‪ 634‬ويعترب من سلسلة النصوص الدفاعية املسيحية التي ازدهرت يف‬
‫القرنني الخامس والسادس وتركزت عىل تفنيد الرشيعة والتقاليد الدينية اليهودية والدفاع‬
‫عن الكنيسة وعن العقيدة املسيحية‪ ،‬وخصوصا بعد اعرتاض الالهويت مكسيموس املعرتف‬
‫(‪ )Maximus the Confessor‬عىل التنصري القرسي ليهود اإلمرباطورية البيزنطية بناء عىل‬
‫أوامر هرياكليوس عام ‪ ،632‬وباألخص ليهود قرطاجة وشامل إفريقيا‪ .‬وجاءت "التعاليم"‬
‫لتبني صحة تنصري اليهود الذين ما عاد من داع لتمسكهم بدينهم بعد ظهور املسيح‪.‬‬
‫وتُنسب "التعاليم" إىل يعقوب‪ ،‬وهو تاجر يهودي من فلسطني كان يف رحلة إىل‬

‫‪Theophanes Confessor- "The Chronicle" -C. Mango and R. Scott (trans. & edit.) 3 3‬‬
‫‪Clarendon Press- Oxford- 1997- p 467‬‬
‫‪Hoyland- Seeing Islam as Others Saw it- Darwin Press- 1998- p 227 4 4‬‬
‫‪Hoyland- Seeing Islam- p 53 5 5‬‬

‫‪137‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫قرطاجة حيث داهمته األحداث املتعلقة بالتنصري الذي شمله يف من شمل‪ .‬ويف خضم هذه‬
‫الحوادث يصل من فلسطني قريب ليعقوب يدعى جوستوس حام ًال أخبار بعض ما يجري‬
‫هناك وما أثاره من قلق بني أهله بسبب "ظهور نبي مزيف"‪ .‬كان أول ما سمعه جوستوس‬
‫عن "النبي املزيف" يدور حول قتل الرساسنة أحد ضباط الحرس اإلمرباطوري وابتهاج اليهود‬
‫ملقتل الضابط وقولهم إن النبي قد ظهر وانه آت مع الرساسنة وهو يبرش مبجيء املسيح‪.‬‬
‫ويتوجه جوستوس من قيرصية إىل سيكامينا (‪ )Sykamina‬حيث يلتقي عجوزا ضليعا مبا‬
‫تقول الكتب‪ ،‬ويسأله جوستوس عن النبي الجديد فريد العجوز متنهدا "انه مزيف‪.‬ال يأيت‬
‫األنبياء شاهرين السيف‪ .‬والحق انهم (الرساسنة) يعملون لنرش الفوىض التي نراها اليوم‪.‬‬
‫وأخىش أن يكون املسيح الذي جاء والذي يعبده املسيحيون هو املسيح الذي أرسله الله‬
‫وبدال (من اإلميان به) رحنا نستعد الستقبال عدو املسيح" ‪. 6‬‬
‫أما النص غري اإلسالمي األقدم الذي يتحدث "من موقع الحدث" (إذا جاز القول)‬
‫فهو خطبة بطريرك القدس سوفرونيوس (أو صفرونيوس)‪ ،‬والتي سبقت حديث املصادر‬
‫العربية عن أحداث تلك األعوام بقرن ونصف القرن عىل األقل‪ .‬ففي رسالة غري مؤرخة يبدو‬
‫أنها كتبت أواخر عام ‪ 633‬أو مطلع ‪ 634‬وجهها بطريرك القدس املعني حديثا اىل مجمع‬
‫ديني عقد يف روما‪ ،‬ويؤكد فيها التزامه باإلميان الخلقيدوين مقابل انتشار عقيدة املشيئة‬
‫الواحدة‪ ،‬يعدد سوفرونيوس البدع التي تنبغي محاربتها وإلقاء الحرم عىل اتباعها إىل أن‬
‫يبدي أمله يف أن يتيح الله "ألباطرتنا املحبني للمسيح عزما قويا وحازما لتحطيم كربياء كل‬
‫الربابرة‪ ،‬وخصوصا الرساسنة الذين ظهروا فجأة بسبب خطايانا ودمروا كل يشء بتصميم‬
‫وحيش ال يط َّوع‪ ،‬وبجرأة ال تعرف التقوى وال اإلميان بالله‪ .‬لذا‪ ،‬نرجو قداستكم‪ ،‬أكرث من أي‬
‫وقت مىض‪ ،‬التوجه بترضعات عاجلة اىل املسيح حتى يتلقاها منكم برىض ويهدئ برسعة‬
‫من غلوهم (الرساسنة) الغاضب ويعيد هذه املخلوقات الرشيرة إىل ما كانت عليه‪ ،‬موطئا‬
‫ألقدام أباطرتنا الذين جاد علينا الرب بهم"‪.‬‬
‫ويف كانون األول (ديسمرب) ‪ ،634‬حالت الغارات العربية دون حج املسيحيني إىل بيت‬
‫لحم واضطر سوفرونيوس اىل إلقاء عظة امليالد التي تُلقى عادة يف كنيسة املهد‪ ،‬يف القدس‪.‬‬
‫وهو بعدما عبرّ عن فرحته املزدوجة ملصادفة امليالد يف يوم أحد (ما يؤكد ان السنة كانت‬
‫‪ 634‬بحسب التقويم املعتمد حينها)‪ ،‬قال‪" :‬علينا الكفاح لنستحق مكافأة الله لنا بجلب‬
‫هبات اإلميان واألعامل الصالحة كام جلب الرعاة واملجوس هباتهم إىل يسوع يف بيت لحم"‪.‬‬
‫وقادت املقدمة هذه سوفرونيوس إىل التطرق إىل األحداث واستخدامها لتوجيه رسالة إىل‬
‫أهله بقوله‪" :‬لكننا وبسبب خطايانا التي ال تحىص وسلوكنا شديد اإلثم‪ ،‬كنا عاجزين عن‬
‫رؤية هذه األمور وعن الدخول إىل بيت لحم‪ .‬ويف معزل عن إرادتنا‪ ،‬بالفعل‪ ،‬وعىل خالف‬
‫متنياتنا‪ُ ،‬طلب منا البقاء يف بيوتنا‪ ،‬ومل تعقنا أربطة جسدية‪ ،‬بل أعاقنا الخوف من الرساسنة"‪.‬‬

‫‪Hoyland- Seeing Islam- pp 54-57 6 6‬‬

‫‪138‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫ويتابع أن املسيحيني يف القدس مثل آدم الذي حظر عليه دخول الجنة برغم "أننا ال نرى‬
‫السيف املتقلب امللتهب ‪ ،7‬بل نرى [سيف] الرساسنة الرببري الجامح امليلء بكل التوحش‬
‫الشيطاين‪ .‬ونحن كموىس محظور علينا دخول أرض امليعاد ومأزقنا يشبه مأزق داود‪ :‬هو‬
‫واجه الفلسطينيني‪ ،‬فيام اآلن استوىل الرساسنة الذين ال يؤمنون بالله عىل بيت لحم وقطعوا‬
‫علينا الطريق اليها ويهددون بالقتل والدمار اذا غادرنا هذه املدينة املقدسة وتجرأنا عىل‬
‫االقرتاب من بيت لحم الحبيبة واملقدسة"‪.‬‬
‫و ُيبلغ سوفرونيوس املجتمعني يف الكنيسة لإلستامع اىل عظته‪ ،‬بالرد‪ -‬وبه يصل اىل‬
‫ذروة كالمه‪ -‬وهو يف التوبة والخضوع ملشيئة الله فقط‪" ،‬وإذا كان علينا العيش مبا يريض‬
‫الله ويرسه‪ ،‬فسنبتهج لسقوط الرساسنة األعداء ومراقبة دمارهم الوشيك وانهيارهم األخري‪.‬‬
‫وستنغرز نِصالهم املشتهية للدماء يف قلوبهم وستتحطم أقواسهم وستصيبهم سهامهم"‪،‬‬
‫يتجل الله كبرش ويتعذب من أجلنا‪ .‬لقد كان اإلله الحق وابن اإلنسان‪ .‬طبيعته‬ ‫وتساءل‪" :‬أمل َ‬
‫واحدة مع األب فيام يظهر نفسه كرجل مثلنا‪ .‬وتتجىل طبيعته كاثنني‪ ،‬كإله وإنسان ال‬
‫انفصال بينهام‪ .‬ويظل مسيحاً واحداً ال ميسه تبدل وال زيغ وال انشقاق وال انقسام"‪.‬‬
‫ويظهر الوصف املفصل للهجامت العربية يف عظة البطريرك سوفرونيوس يف عيد‬
‫الغطاس يف عام ‪ 636‬او ‪ .637‬القسم األعظم من العظة مخصص لتفسري معنى عامدة يسوع‬
‫املسيح حيث يقول سوفرونيوس إن العامدة كانت اللقاء بني القانون والنعمة اإللهيني‪ :‬األول‬
‫رس العامدة يوحنا املعمدان‪ ،‬والنعمة هي التي حملها يسوع اىل‬ ‫وضعه موىس وجسده يف ّ‬
‫بني البرش‪ .‬وبعد رشح مستفيض‪ ،‬ينتقل البطريرك إىل تناول الفظائع التي يرتكبها العرب‬
‫مبا أن ذلك يضع دعوته إىل املصلني لإلقالع عن آثامهم يف قالب الطلب العاجل‪ ،‬خصوصا‬
‫ألن اآلثام تلك أثارت غضب يسوع واستياءه‪ ،‬فيقول‪" :‬بيد ان الظروف الراهنة ترغمني‬
‫عىل التفكري تفكريا مختلفاً عن سبب كرثة الحروب بيننا‪ .‬ملاذا ُيغيرِ الربابرة حولنا؟ ملاذا‬
‫تهاجمنا قوات الرساسنة؟ ملاذا وقع الكثري من الدمار والنهب؟ ملاذا ُيسفك الدم البرشي‬
‫بال توقف؟ ملاذا تَفرتس جوارح السامء أجساد البرش؟ ملاذا تُهدم الكنائس؟ ملاذا يتعرض‬
‫الصليب إىل السخرية؟ ملاذا تجدف األفواه الوثنية عىل املسيح وهو موزِّع كل الخريات‬
‫ومزود كل ا ُملبهجات؟ لذا هو يرصخ فينا "بسببكم يجدف عىل اسمي بني الوثنيني"‪ ،‬وهذا‬
‫أسوأ من كل األمور الرهيبة التي تجري لنا‪ .‬لهذا يجول الرساسنة املنتقمون والكارهون لله‪،‬‬
‫وهم عار التخيل الذي ابلغنا األنبياء به بالغاً واضحاً‪ ،‬يف األماكن املحظورة عليهم‪ .‬ينهبون‬
‫املدن ويدمرون الحقول ويحرقون القرى ويرضمون النار يف الكنائس املقدسة ويقلبون‬
‫أعىل األديرة املبجلة أسفلها ويواجهون الجيوش البيزنطية التي تندفع لصدهم‪ ،‬ويكدسون‬

‫‪ 7 7‬يشري سوفرونيوس هنا اىل اآليات ‪ 24-22‬من سفر التكوين " َو َق َال ال َّر ُّب االلَهُ‪ُ :‬ه َو َذا االن َْسانُ َق ْد َصا َر‬
‫َك َواحِ ٍد ِمنَّا َعارِفا ا ْلخَ يرْ َ َوالشرَّ َّ ‪َ .‬والاْ نَ لَ َع َّل ُه يمَ ُدُّ َيد َُه َو َياخُ ُذ م ِْن شَ َج َر ِة ا ْل َح َيا ِة ا ْيضا َو َيا ُك ُل َو َي ْح َيا الىَ‬
‫اال َبدِ‪َ .‬فاخْ َر َج ُه ال َّر ُّب االلَ ُه م ِْن َج َّن ِة َع ْدنٍ لِ َي ْع َم َل اال ْر َض ا َّلتِي اخِ َذ ِم ْن َها‪َ .‬ف َط َر َد االن َْسانَ َوا َقا َم شرَ ْق َِّي‬
‫ِيب َس ْي ٍف ُم َت َق ِّل ٍب لِحِ َر َاس ِة َطر ِ‬
‫ِيق شَ َج َر ِة ا ْل َح َياة ِ"‪.‬‬ ‫يم َولَه َ‬ ‫َج َّن ِة َع ْدنٍ ا ْل َك ُرو ِب َ‬

‫‪139‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫الغنائم يف القتال‪ .‬ومجددا هاهم ينهضون ويأتون ضدنا ويزيدون من تجديفهم عىل املسيح‬
‫والكنيسة‪ ،‬ويطلقون أبغض التجديف عىل الله‪ .‬ويتشدق أعداء الله هؤالء بالنرص عىل‬
‫الجميع‪ ،‬ويقلدون بإلحاح وبال وازع الشيطان قائدهم ويفوقونه يف الخيالء التي طرد بسببها‬
‫من الجنة وقيض عليه بالبقاء يف الظلمة الحزينة‪ .‬لكن هؤالء األرشار ما كانوا ليبلغوا هذا‬
‫القدر من القوة التي أتاحت لهم ارتكاب األفعال هذه ضد القانون‪ ،‬لو مل نُهن نحن أوالً الهبة‬
‫[العامدة] ونلوث الطهارة ونُح ِزن بذلك املسيح‪ ،‬واهب الهبات‪ ،‬ونحضه عىل الغضب منا‪،‬‬
‫برغم طيبته وكرهه للرش‪ ،‬وبرغم أنه نبع الرقة وال يتمنى دمار وهالك اإلنسان‪ .‬يف الحقيقة‪،‬‬
‫نحن املسؤولون عن كل هذه األمور ولن نجد كلمة واحدة يف الدفاع عن أنفسنا‪ .‬أي كلمة‬
‫أو مكان سيمنح لنا لندافع عن أنفسنا بعدما أخذنا كل هذه الهبات منه‪ ،‬ووسخناها ولوثنا‬
‫كل يشء بأعاملنا الرشيرة؟" ‪.8‬‬
‫عظتا سوفرونيوس توفران منوذجا مه ًام للطريقة التي سينظر فيها املسيحيون ومن‬
‫ثم الغرب عموما إىل العرب واملسلمني‪ .‬فمن جهة‪ ،‬ال تزيد الفتوحات العربية واملعاناة‬
‫التي ترافقها ‪ -‬عىل غرار الحروب جميعاً ‪ -‬عن كونها عقاباً إلهياً ينزله رب غاضب باملؤمنني‬
‫املقرصين يف واجباتهم الدينية واملخلني يف سلوكهم االجتامعي املتفلت من الضوابط التي‬
‫ينص الدين عليها‪ .‬ومن الجهة الثانية‪ُ ،‬يالحظ تطور طفيف يف فهم املسلمني ودوافعهم‪.‬‬
‫ففي العظة األوىل (يف عيد امليالد) يكون الرساسنة‪ ،‬يف عني البطريرك‪ ،‬مجموعات من الوثنيني‬
‫والغوغاء الذين يعيثون يف األرض فسادا ويعيقون إمتام الشعائر الدينية‪ ،‬لكنهم يف الثانية‬
‫(عِظة عيد الغطاس) وبعد مرور عامني أو ثالثة من االحتكاك مع املسلمني وتوسع وجود‬
‫هؤالء وعملياتهم العسكرية‪ ،‬واألرجح تكثيف نشاطهم الديني‪ ،‬باتوا جزءا من خطة تزداد‬
‫معاملها وتفاصيلها وضوحاً‪ ،‬يقودها الشيطان للقضاء عىل املسيحية بعدما أرسف أتباع يسوع‬
‫يكن كرهاً لإلنسان‪.‬‬
‫يف إثارة غضبه‪ ،‬وهو الحليم الذي ال ّ‬
‫يتعني القول إن مالمح الجداالت الدينية تربز واضحة يف عظة سوفرونيوس‪ ،‬ليس مع‬
‫املسلمني بطبيعة الحال‪ ،‬بعدما وضعهم يف خانة أعداء الله واملجدفني عىل املسيح وبعدما‬
‫حرص رؤيته إليهم كغوغاء وهمج يغريون عىل املدن والقرى طمعا يف األسالب‪ ،‬بل مع‬
‫الكنائس األخرى التي مل يجد البطريرك مانعاً من استعراض مقومات إميانه األرثوذكيس أمام‬
‫اتباعه كرسالة موجهة إىل الخصوم من أنصار الطبيعة الواحدة واليعاقبة وغريهم من أتباع‬
‫الفرق املسيحية‪ .‬ويبدو ذلك واضحاً بتالوته ملقاطع تالوة شبه حرفية من مقررات مجمع‬
‫خلقدونيا املنعقد عام ‪ 451‬حيث يتساءل سوفرونيوس عن تجيل املسيح وطبيعته وصلبه‬
‫وعذابه‪ ،‬وهو ما يبدو رداً يقصد به اعرتاضات النساطرة عىل ما هو بينّ ‪.‬‬
‫وال تو ّفر اإلدانة الشديدة للغارات العربية يف كالم سوفرونيوس توضيحاً مقنعاً للقارئ‬
‫املعارص عن السبب الذي جاء العرب من أجله من شبه الجزيرة إىل فلسطني‪ .‬لكن مصدراً‬

‫‪Hoyland- Seeing Islam- p 69-70-71-72 8 8‬‬

‫‪140‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫قريباً زمنياً من الفتوحات يحاول رشح الخلفية التي ظهرت الفتوحات عليها‪ ،‬وهو املؤرخ‬
‫األرمني سيبيوس الذي عاش وكتب يف القرن السابع حيث يقول ان رج ًال ظهر بني العرب‬
‫وأعاد االعتبار إىل صلة النسب التي تربطهم باسامعيل (بإيحاء من اليهود) وقرر دفع بني‬
‫قومه إىل استعادة األرض املوعودة يف فلسطني ‪.9‬‬
‫واملهم يف كالم املؤرخ األرمني انه كان األول الذي يضيف إىل اإلنسياق املتوقع يف‬
‫مقولة جعل العرب‪ ،‬أو باألحرى فتوحاتهم‪ ،‬أداة العقاب والغضب اإللهيني لخطايا املسيحيني‬
‫ويسعى‪ ،‬إىل جانب ذلك‪ ،‬نقال عمن يقول انهم أرمن فروا من األرس العريب‪ ،‬إىل وضع نظرية‬
‫"موضوعية" ألسباب الفتوحات تتعلق بدوافع فاعليها والقامئني بها وليس مبن يتلقون‬
‫الفعل‪.‬‬
‫ومقابل محاولة بطريرك القدس تفسري الفتح اإلسالمي يف سياق ديني‪ ،‬يتبنى سيبيوس‬
‫مقاربة عاطفية تستأنف حديث الغضب الرباين حيث يقول‪" :‬مرة أخرى ينبغي عيل الحديث‬
‫عن الرش الذي نزل بنا يف زمننا هذا‪ ،‬وكيف متزق رداء اإلميان القديم وكيف نفث القيظ‬
‫الجاف رياحه علينا وأحرق األشجار املورقة الجميلة الباسقة يف بساتيننا الحانية‪ .‬وهذه هي‬
‫الحقيقة‪ ،‬ألننا ارتكبنا اإلثم ضد الرب وأغضبنا قديس إرسائيل‪ .‬لقد قال "إذا أرضاكم ذلك‬
‫ميكنكم اللحاق يب‪ ،‬وميكنكم أخذ طيبات األرض‪ .‬لكن إذا رغبتم يف عدم اإلنصات سيفرتسكم‬
‫السيف‪ ،‬لقد نطق الرب بذلك"‪ .‬لقد ظهرت هذه الدوامة سابقا فوق بابل وبلغت بعد ذلك‬
‫كل البالد‪ ...‬واآلن إىل جنوبها‪ ،‬وخصوصا شعوب الهند والذين يقطنون الصحراء وهم أبناء‬
‫ابراهيم املحرومون املولودون من هاجر ومن روتري وإسامعيل وعمرام وموغان وماديان‬
‫ويقظان ومليساوي ويسباوي ‪ 10‬وأبناء لوط حيث أمون ومؤاب وأبناء عيسو يف أدوم‪ ...‬هي‬
‫تلك الصحراء الهائلة والرهيبة التي جاءت منها دوامة الشعوب تلك املرتفعة كالعاصفة‬
‫والغازية لكل البالد واملستولية عليها‪ .‬لقد تحقق القول "ان الوحش الرابع سيخلق اململكة‬
‫الرابعة عىل االرض‪ ،‬أكرث رشاً من املاملك األخرى‪ ،‬وس ُتحيل كل البلدان اىل صحارى"‪.‬‬
‫بهذه القصة عن الوحوش األربعة املستمدة من سفر دانيال‪ ،‬يكرس سيبيوس تقليداً‬
‫سيتبعه فيه كرث من رجال الكنيسة ومن املؤرخني يف بحثهم عن تفسريات للفتوحات االسالمية‪.‬‬
‫ورمبا كانت عودة سيبيوس ومن جاء بعده إىل املصادر املتوفرة والتي ال تنقصها الصدقية‬
‫اإللهية العالية عند أبناء الشعوب املسيحية املغلوبة‪ ،‬أسلوباً مفهوماً من الناحية املعرفية يف‬
‫اللجوء إىل األدوات املوثوقة لفهم العامل حتى لو بدت األدوات تلك خارج العرص‪.‬‬
‫وجاء يف سفر دانيال ان امللك نبوخذنصرّ رأى حل ًام عجز حكامء الكلدانيني واملجوس‬
‫عن تفسريه‪ ،‬لذا أمر بقتلهم فيام متكن دانيال اليهودي السبي من رشحه للملك وفق الصيغة‬
‫التي تبدأ من اآلية ‪ 31‬من اإلصحاح الثاين‪:‬‬

‫‪Sebeos- History-Chapter 30 9 9‬‬


‫‪ 1010‬األرجح أن سيبيوس يشري هنا اىل اسامء القبائل العربية القدمية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫عظيم هائِلٍ كث ِري ال َبهاءِ‪ .‬كانَ وا ِق ًفا أما َم َك‬ ‫ِ‬ ‫رأيت فإذا ِبتِمثالٍ‬ ‫"أنت أ ُّيها املَل ُِك َ‬ ‫َ‬
‫وص ْد ُر ُه و ِذراعا ُه م ِْن‬ ‫خالص‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذه ٍب‬ ‫رأس ُه م ِْن َ‬ ‫وكانَ َمنظ ُر ُه رهي ًبا‪ ،32 ،‬وكانَ ُ‬ ‫َ‬
‫ُحاس‪ ،33 ،‬وساقا ُه م ِْن حدي ٍد و َق َدما ُه بعضُ ُهام م ِْن‬ ‫فِضَّ ةٍ‪ ،‬و َبط ُن ُه و َفخذا ُه م ِْن ن ٍ‬
‫نقط َع حج ٌر م َِن الج َبلِ‬ ‫َنظ ُر إلي ِه اَ َ‬ ‫أنت ت ُ‬ ‫والبعض م ِْن خ َز ٍف‪ ،34 ،‬و َبي َنام َ‬ ‫ُ‬ ‫حدي ٍد‬
‫ني م ِْن حدي ٍد وخ َز ٍف‬ ‫مثال عىل ق َد َمي ِه ال َّلت ِ‬ ‫م ِْن دونِ أنْ َت ْل َم َس ُه َي ٌد‪ ،‬فضرَ ََب ال ِّت َ‬
‫حاس والفِضَّ ُة وال َّذ َه ُب م ًعا‪،‬‬ ‫نس َحقَ الحديدُ والخ َز ُف وال ُّن ُ‬ ‫وسح َق ُهام‪ ،35 ،‬فاَ َ‬ ‫َ‬
‫يح وما ُوج َد لها أ َث ٌر‪ .‬أ َّما‬ ‫فح َم َل ْتها ال ِّر ُ‬ ‫يف‪َ ،‬‬ ‫الص ِ‬ ‫وصا َرت ُك ُّلها َك ِتبنْ ِ ال َبي َد ِر يف َّ‬
‫األرض ُك َّلها‪« ، 36،‬هذا ه َو‬ ‫مثال‪ ،‬فصا َر ج َب ًال كب ًريا و َم َأل َ‬ ‫رضَب ال ِّت َ‬ ‫الحج ُر الذي َ‬
‫أنت أ ُّيها املَل ُِك َمل ُِك ا ُمللوكِ ‪ ،‬ألِنَّ‬ ‫الح ُل ُم‪ .‬أ َّما تفس ُريه ُفأخ ُرب َك ب ِه أ ُّيها املَل ُِك‪َ ،37 :‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫السام ِء وه َبك الم ُ ْلك وال ِع َّز َة وال ُق ْد َر َة والجالل‪ ،38 ،‬وك َل ما َيسكنُه َبنو البشرَ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إل َه َّ‬
‫أس الذي‬ ‫فأنت ال َّر ُ‬‫وس َّل َط َك ع َلي ِه جمي ًعا‪َ ،‬‬ ‫لك َ‬ ‫وه َب ُه َ‬ ‫السام ِء َ‬ ‫وطيو ُر َّ‬ ‫حوش البرَ ِّ ُ‬ ‫و ُو ُ‬
‫ُ‬
‫ذه ٍب‪ ،39 ،‬و َبع َد َك تقو ُم َمم َل َك ٌة أخرى أص َغ ُر م ِْن َمم َل َكت َِك‪ُ ،‬ث َم َمم َل َك ٌة ثالِ َث ٌة‬ ‫م ِْن َ‬
‫الحها‬ ‫يكون سِ ُ‬ ‫األرض‪ُ ،40 ،‬ث َم َمم َل َك ٌة را ِب َع ٌة ُ‬ ‫ُحاس ف َت َت َس َّل ُط عىل ُك ِّل ِ‬ ‫الحها م ِْن ن ٍ‬ ‫سِ ُ‬
‫طح ُن ُك َل يشءٍ‪ .‬فكام أنَّ الحدي َد ُي َح ِّط ُم‪،‬‬ ‫سحقُ و َي َ‬ ‫َص ْل ًبا كالحديدِ‪ ،‬ألِنَّ الحدي َد َي َ‬
‫عض‬ ‫رأيت أنَّ َب َ‬‫ِلك املَاملِكِ ‪ ،41 ،‬كام َ‬ ‫جميع ت َ‬ ‫َ‬ ‫َسحقُ هذِهِ املَم َل َك ُة وت َُح ِّط ُم‬ ‫كذل َِك ت َ‬
‫تكون‬ ‫عض اآلخ َر م ِْن حديدٍ‪ ،‬فلذل َِك ُ‬ ‫ني واألصا ِب ِع م ِْن خ َز ِف الفخا ِر وال َب َ‬ ‫الق َد َم ِ‬
‫رأيت ُمخ َتل َِط‬ ‫ولكن فيها قسو ُة الحدي ِد ألنَّ الحدي َد مِث َلام َ‬ ‫املَم َل َك ُة ُمن َقس َم ًة‪ْ ،‬‬
‫ني‪َ ،‬بعضُ ها م ِْن حدي ٍد و َبعضُ ها م ِْن‬ ‫ني‪ ،42 ،‬وكام أنَّ أصا ِب َع الق َد َم ِ‬ ‫ِبخ َز ٍف م َِن ِّ‬
‫الط ِ‬
‫ورأيت‬ ‫َ‬ ‫يع االنكِسارِ‪،43 ،‬‬ ‫عض سرَ َ‬ ‫عض املَم َل َك ِة َص ْل ًبا وال َب ُ‬ ‫يكون َب ُ‬ ‫خ َز ٍف‪ ،‬فكذل َِك ُ‬
‫ِلك املَم َل َك ِة َيخ َتلِطونَ‬ ‫لوك ت َ‬ ‫ني فهذا َيعني أنَّ ُم َ‬ ‫الط ِ‬ ‫أنَّ الحدي َد ُمخ َتل َِط ِبخ َز ِف ِّ‬
‫عض بال َّزواج‪ ،‬فال َيل َتحِ مونَ كام أنَّ الحدي َد ال َيخ َتل ُِط بالخ َز ِف‪،‬‬ ‫مع َب ٍ‬ ‫َبعضُ ُهم َ‬
‫السام ِء َمم َل َك ًة ال تَخ َر ُب أب ًدا‪ ،‬وال َيغلِب‬ ‫قيم إل ُه َّ‬ ‫‪ ،44‬ويف أ ّيا ِم هؤال ِء ا ُمللوكِ ُي ُ‬
‫وهي تَث ُب ُت إىل األبدِ‪،‬‬ ‫ِلك املَاملِكِ ‪َ ،‬‬ ‫جميع ت َ‬ ‫َ‬ ‫سحقُ و َت ْفني‬ ‫شعب آخ ُر‪ ،‬ف َت َ‬ ‫ُسلطانَها ٌ‬
‫فس َحقَ الحدي َد‬ ‫ورأيت أنَّ حج ًرا اَن َق َط َع م َِن الج َبلِ م ِْن ُدونِ أنْ تَل َم َس ُه َي ٌد‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫‪،45‬‬
‫العظيم أع َل َم املَل َِك ما‬ ‫َ‬ ‫حاس والخ َز َف والفِضَّ َة وال َّذ َه َب‪ ،‬فهذا َيعني أنَّ اإلل َه‬ ‫وال ُّن َ‬
‫صحيح وتفسريي لَه صاد ٌِق»‪ ،46 .‬ف َو َق َع املَلِكُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سيكون َبع َد هذِهِ األ ّيا ِم‪ُ .‬حل ُمك‬ ‫ُ‬
‫وقال‬‫وذبيح ِة ِرضىً ‪َ ،47 ،‬‬ ‫َ‬ ‫لدانيال وأم َر لَه ِب َتق ِد َم ٍة‬ ‫َ‬ ‫نَبوخذ َنصرَّ ُ عىل وج ِه ِه ساج ًدا‬
‫ِرت أنْ تكشِ َف‬ ‫ورب ا ُمللوكِ ‪ ،‬ألن ََّك َقد َ‬ ‫لدانيال‪« :‬إل ُه ُكم ه َو إل ُه اآللِ َه ِة ح ُقا ُّ‬ ‫َ‬ ‫املَل ُِك‬
‫وس َّل َط ُه عىل ُك ِّل ِ‬
‫إقليم‬ ‫دانيال‪ ،‬ف َو َه َب ُه هدايا كثري ًة‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫هذا السرِّ َّ »‪ ،48،.‬وأك َر َم املَل ُِك‬
‫با ِب َل‪ ،‬وج َع َل ُه عىل ال َّدوا ِم س ِّي َد ُح َّكامِها جمي ًعا"‪.‬‬
‫وتبوأت مملكة املسلمني موقع الوحش الرابع من سلسلة الوحوش‪ /‬املاملك التي تنبأ‬
‫دانيال بها مئات األعوام إىل أن تغريت أوضاع الخالفة وتوسعت آفاق التفكري‪.‬‬
‫ويف إطار الرصاعات املسيحية‪ ،‬يكتب القديس أناستاسيوس السينايئ(‪Saint‬‬

‫‪142‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫‪ ،)Anastasius the Sinaite‬عند أواخر القرن السابع‪ ،‬صالة يرجع فيها النجاحات العسكرية‬
‫العربية إىل تجاوزات اإلمرباطور كونستانس الثاين لإلميان القويم‪ ،‬ويف هذه الحالة‪ ،‬للكنيسة‬
‫الكاثوليكية‪ .‬ويندد أناستاسيوس خصوصاً بإساءة كونستانس معاملة البابا مارتينوس األول‬
‫قائ ًال‪" :‬لقد نفى حفيد هرياكليوس (كونستانس الثاين) مارتينوس ورسعان ما ظهر من‬
‫الصحراء العامليق (القبائل العربية املتأسلمة) الذين رضبونا‪ ،‬نحن شعب املسيح‪ .‬هذا هو‬
‫السقوط األول واألشد رهبة والذي ال شفاء منه للجيش الروماين (البيزنطي)‪ .‬أتحدث عن‬
‫سفك الدماء يف الريموك وداثن اللتني جرى االستيالء بعدهام عىل مدن فلسطني وسفكت‬
‫الدماء فيها‪ ،‬وصوال إىل قيرصية وأورشليم‪ .‬وبعد دمار مرص حصل استعباد ال عالج له لألرايض‬
‫(املحيطة بـ) البحر املتوسط وجزره‪ .‬بيد أن املهيمنني عىل اإلمرباطورية الرومانية مل يفهموا‬
‫هذه األمور‪ .‬لقد استدعوا أقىص الناس يف الكنائس الرومانية وقطعوا ألسنتهم وبرتوا أيديهم‪.‬‬
‫ماذا بعد؟ جاء رد الله عىل ما يبدو دمار الجيش الروماين دماراً كام ًال (يف معركة) فونيكس‬
‫(‪ 11)Phoenix‬ودمار االسطول ودمار الشعب املسيحي برمته ويف كل األمكنة أثناء حكمه‬
‫(كونستانس الثاين)‪ .‬مل يتوقف هذا إال عندما قتل مضطهد مارتينوس حتفه بالسيف يف‬
‫صقلية" ‪ ،12‬يف إشارة إىل مقتل كونستانس عام ‪ 668‬عىل يد أحد املشاركني يف مؤامرة لالستيالء‬
‫عىل عرش اإلمرباطور‪.‬‬
‫واملثري لالهتامم أن بعض مسجيل التاريخ القدامى ربطوا بني عدد من األحداث‬
‫التي كانت شبه الجزيرة العربية وتخومها القريبة تشهدها‪ .‬فالكاتب املجهول لـ"الحوليات‬
‫الجورجية" التي ُيعتقد أن صياغتها التي وصلت إلينا تعود إىل القرن الثاين عرش كحصيلة‬
‫جمع لعدد من الوثائق األقدم‪ُ ،‬يعلن أن "ما من أحد قادر عىل تسجيل الكوارث التي‬
‫مر املسيحيون بها بسبب الرساسنة الذين كانوا يسمون يف السابق "كأغرت أكناك"‪ .‬وقد‬
‫ذكر التوراة ان ألسنة الكأغرت ‪ 13‬ستلعق دماء األبرياء"‪ .‬يقول‪" :‬يف بدء قوة ذلك الشعب‬
‫(الرساسنة)‪ ،‬كان مثة شخص حكم بعضاً من االسامعيليني املحيطني به‪ .‬ويف أيامه‪ ،‬استوىل‬
‫أحد أمراء بالد ما بني النهرين ويدعى رسجيس‪ ،‬عىل ممتلكات عدد من التجار اإلسامعيليني‪.‬‬
‫وطلب أمري الكأغرت من السارق عدم تكرار ذلك‪ ،‬لكن (رسجيس) مل يلق باال‪ .‬فجمع أمريهم‬
‫حشداً هائ ًال من شعبه وذهب واستعاد ما كان له وما كان لغريه‪ .‬وبعد فوزه أصبح ذلك‬

‫‪ 11 11‬وهي التي يسميها العرب معركة ذات الصواري عام ‪655‬‬


‫‪W. Kaegi- "Initial Byzantine Reactions to the Arab Conquest"- Church History 1212‬‬
‫‪–XXXVIII- n 2 – p 142.‬‬
‫‪ 1313‬يرتك محقق املخطوطة ومرتجمها روبرت بدروسيان )‪ (R. Bedrosian‬اإلحالة اىل التوراة من دون‬
‫توضيح‪ ،‬لكن يجوز االعتقاد ان املقصود هنا هم العامليق الذين تتحدث التوراة عنهم يف أسفار‬
‫التكوين والخروج والعدد والتثنية وغريها‪ ،‬والذين يصورون عىل أنهم االعداء االصليون لليهود‬
‫خصوصا أن اسم ملك هؤالء القوم الذي تشري اليه الحوليات هو كاغرت أكناك ‪K'aghrt' Aknak‬‬
‫والذي ميكن ان يكون تحريفا السم ملك العامليق الوارد يف التوراة وهو أغاغ ‪ Agag‬الذي قتله امللك‬
‫شاول بحسب سفر صاموئيل‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫الشعب أقوى‪ .‬ويف تلك الفرتة التقوا محمداً‪ ،‬ا ُملطارد من قومه‪ .‬كان محمد قد درس عند‬
‫أحد الرهبان ويدعى اريانوس‪ ...‬واقنع (الرساسنة) محمداً باملجيء إليهم وجعلوه قائدهم‬
‫العسكري‪ .‬وحاربوا جميع البلدان للتكفري عن خطايا املسيحيني يف اليونان وأرمينيا وسوريا‬
‫وأغبانايا وإيبرييا (جورجيا) فاغتنوا واستولوا عىل صولجان اإليرانيني ما جعل كل الشعوب‬
‫تخضع لهم" ‪.14‬‬
‫يف قراءة ثانية ملا يقول كاتب الحوليات‪ ،‬تبدو مالمح من حروب اإلمارات العربية‬
‫املؤيدة للفرس والبيزنطيني ومن قصة هجرة النبي إىل يرثب ومن الحكاية التي تتكرر‬
‫كثريا يف األدبيات املسيحية الرشقية عن لقاء النبي بالراهب بحرية أو رسجيوس وقيام هذا‬
‫بتلقني محمد أسس الديانتني املسيحية واليهودية‪ .‬ومعلوم أن الحكاية هذه تردد صدى‬
‫عالقة الرسول العريب بورقة بن نوفل الذي تقول املصادر اإلسالمية إنه كان من األحناف أو‬
‫من املسيحيني العرب‪ ،‬إضافة إىل التأكيد عىل أن الدافع إىل حروب الرساسنة كان "خطايا‬
‫املسيحيني يف اليونان وأرمينيا وسوريا‪."...‬‬
‫أما يوحنا اسقف نقيوس القبطي الذي عاش يف أواخر القرن السابع‪ ،‬فيلوم البيزنطيني‬
‫عىل خطاياهم التي جلبت الغضب اإللهي املتجسد يف الفتح العريب ‪.15‬‬

‫ويدعو يوحنا من فنك أو بنك الواقعة عىل ضفة نهر دجلة‪( ،‬جون بار فنك ‪John bar‬‬
‫‪ Penkaye‬الذي عاش يف النصف الثاين من القرن السابع)‪ ،‬إىل عدم اعتبار ظهور أبناء هاجر‬
‫أمراً عادياً "بل إىل أخذه كنتيجة لعمل إلهي‪ .‬فعندما جاء هؤالء الناس‪ ،‬بأمر من الله‪،‬‬
‫واستولوا عىل ما كان للمملكتني‪ ...‬وضع الله النرص بني أيديهم كام لو أن الكلامت التي‬
‫تعنيهم تنفذ بحذافريها‪ :‬رجل يطارد ألفاً وأثنان يهزمون عرشة االف (سفر التثنية‪ -‬اإلصحاح‬
‫‪ -32‬اآلية ‪ .)30‬وإال كيف أمكن لعراة ميتطون (جيادهم) من دون دروع أو تروس أن يفوزوا‪،‬‬
‫يف غنى عن املساعدة اإللهية‪ ،‬لقد دعاهم الله من أقايص األرض حتى يدمر بهم "مملكة‬
‫آمثة" (سفر عاموس‪ -‬االصحاح التاسع ‪ -‬اآلية ‪ )8‬وحتى يذل بهم روح الفرس املتفاخرة" ‪.16‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬فإن املسيحيني اليونانيني الذين متسكوا مبقررات مجمع خلقيدونيا حول‬
‫الطبيعتني‪ ،‬رأوا يف تأييد اإلمرباطور كونستانس الثاين‪ ،‬حفيد هرياكليوس‪ ،‬ملقولة املشيئة‬
‫الواحدة التي روج لها هرياكليوس وخلفاؤه كتسوية بني فكريت الطبيعة الواحدة اليعقوبية‬
‫والتي تبنتها الكنائس الرشقية ومقولة الطبيعتني التي أرص عليها الخلقيدونيون‪ ،‬السبب‬
‫الحقيقي للفتوحات العربية‪ ،‬خصوصا وان كونستاتس الذي اتسم بالرعونة كان قد أساء‬
‫اىل البابا مارتينوس األول الذي استدعي من روما إىل القسطنطينية ثم ُعذب ونفي إىل‬
‫إحدى قرى شبه جزيرة القرم عىل البحر األسود بعد اعرتاضه عىل تكريس املشيئة الواحدة‬
‫‪The Georgian Chronicle- Chapter 16 14 14‬‬
‫‪John Bishop of Nikiu- Chronicle 120-200 1515‬‬
‫‪Hoyland- Seeing Islam- p 524 1616‬‬

‫‪144‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫عقيدة للكنيسة ‪.17‬‬


‫مل ينحرص العقاب اإللهي يف املرشق‪ ،‬بل شمل األندلس ايضا‪ .‬وجاء سقوط مملكة‬
‫القوط هناك ليصدم اإلميان املسيحي صدمة شديدة‪ ،‬خصوصا وان الغوط كانوا قد‬
‫تركوا لتوهم البدعة اإليروسية وانتقلوا اىل اإلميان القويم بعد جهود خارقة بذلها عدد‬
‫من كبار شخصيات الكنيسة مثل إيزدور اإلشبييل‪ .‬لكن اإلنجاز الرائع هذا والذي بدا‬
‫وكأنه قد شيد عىل أرض صلبة من الدين والرشيعة‪ ،‬تضعضع بفعل االجتياح العريب‪.‬‬
‫وال يرتدد مدونو الحوليات يف ذكر السبب‪" :‬لقد أفرط القوط يف إساءتهم إىل الله‬
‫بغرورهم حتى استحقوا السقوط بسيف الرساسنة"‪ ،‬أو بحسب العبارة التي رددوها‬
‫"‪."Peccatis exigentibus, victi sunt Christiani‬‬
‫وقال امللك سانشو النافاري (‪ )Sancho of Navarre‬الذي حكم الشامل اإلسباين‬
‫بعد الفتوحات بثالثة قرون يف وثيقة تأسيس دير القديس مارتن املعروف بدير البلدة‬
‫)‪" :(Abbey of Albelda‬ارتكب أسالفنا اآلثام بال ندم‪ ،‬كانوا ينتهكون يوميا وصايا الرب‪،‬‬
‫وملعاقبتهم العقاب الذي يستحقون ولحملهم عىل العودة إليه‪ ،‬سلمهم قايض القضاة‬
‫وأكرثهم عدال إىل شعب همجي"‪ .‬لكن واقع األمر هو إن القسم األكرب من إسبانيا مل ينتقل‬
‫إىل الكاثوليكية‪ ،‬ووقف املجتمع الذي تسوده الهرطقة‪ ،‬من وجهة النظر الكاثوليكية‪ ،‬عاجزا‬
‫أمام إميان املسلمني‪ .‬أما الشامل اإلسباين الذي كانت الكاثوليكية قد رسخت فيه‪ ،‬فشكل‬
‫املركز الذي تجمعت فيه القوى التي شنت حروب االسرتداد الالحقة (‪ )Reconquista‬والذي‬
‫قدم الدليل عىل صدق االعتقادات الكاثوليكية ‪ .18‬بل إن املؤرخني الكاثوليك ال يرتددون يف‬
‫إلقاء تبعات وصول الفتوحات العربية إىل شامل أفريقيا وإسبانيا عىل األباطرة البيزنطيني‬
‫املؤيدين للمشيئة الواحدة وعىل "سياستهم القاتلة" ‪.19‬‬
‫ويوجد نص رسياين ُيعتقد ان واضعه كاهن ملكاين أو يعقويب من شامل بالد ما بني‬
‫الرافدين ومنسوب إىل ميتوديوس‪ ،‬أسقف أولبميوس املتوىف عام ‪ .315‬و ُيرجح أن النص كتب‬
‫يف تسعينات القرن السابع أي بعد انقضاء سبعني عاماً من األعوام املئة التي راجت تكهنات‬
‫بأال يزيد العهد العريب عنها‪ .‬كاتب نبوءة ميثوديوس املنحول (‪)Pseudo Methodius‬‬
‫يكتشف يف االنحالل الجنيس خطيئة أهانت الله فسلط عىل مرتكبيها سيف الرساسنة فيقول‬
‫عنهم‪" :‬ليس ألن الله يحبهم منحهم القوة للسيطرة عىل أرايض املسيحيني‪ ،‬بل لتفلت‬
‫املسيحيني من القانون تفلتاً مل يقع مثيل له ورمبا لن تشهده أجيال بكاملها عىل األرض‪ .‬ملاذا‬
‫ارتدى الرجال ثياب النساء الزانيات واملومسات وزينوا أنفسهم بزينة النساء ووقفوا علناً‬

‫‪S.P. Brock, "Syriac Views of Emergent Islam," in G.H.A. Juynboll (ed.), Studies on 17 17‬‬
‫‪the First Century of Islamic Society (Carbondale, III., 1982), pp. 87-97‬‬
‫‪William Holden Hutton -The Church and the Barbarians- Being an Outline of the 1818‬‬
‫‪History of the Church from A.D. 461 to A.D. 1003”, p 78‬‬
‫‪Ibid-p 102 1919‬‬

‫‪145‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫يف الساحات واألسواق وبدلوا عاداتهم الطبيعية بأخرى غري طبيعية‪...‬؟‪ .‬األمر ذاته فعلته‬
‫النساء‪ .‬لقد المس األب واإلبن واألخ املرأة ذاتها التي تالمس كل األقارب‪ ...‬لهذه األسباب‬
‫سلمهم الله إىل الربابرة‪ ،‬بسبب خطاياهم ونتنهم‪ .‬ستلوث النساء أنفسهن بالرجال الذين‬
‫تلوثوا سابقاً وسيحصل أبناء إسامعيل عىل الغنائم" ‪.20‬‬
‫كذلك يذهب القديس بونيفاس (‪ )Saint Boniface‬الذي عارص االندفاعة العربية إىل‬
‫جنوب فرنسا وخصوصا يف مقاطعتي بروفنس وبورغوندي‪ ،‬إىل أن السلوك الجنيس املشني الذي‬
‫ساد بني الغوط هو الذي دفع "القايض الكيل القدرة" اىل السامح باجتياح الرساسنة إلسبانيا‬
‫‪ .21‬ومالحظة بونيفاس هذه‪ ،‬التي ال تخرج عن إطار تحميل الذات أوزار الحروب والسياسات‬
‫ومآالتها مقدمة تفسري غري جديد لها‪ ،‬جاءت بعد هزمية العرب يف بواتييه واالنحسار النسبي‬
‫للتهديد الذي واجهته أوروبا يف النصف االول من القرن الثامن‪ ،‬بحيث بات يف وسع النخب‬
‫األوروبية إعامل التفكري يف ما يجري حولها‪ ،‬بهدوء يزيد – بطبيعة الحال‪ -‬عن فرتات املعارك‬
‫والحروب‪ .‬وهو ما سيربز يف القرون التالية‪.‬‬

‫من جانب ثانٍ ‪ ،‬ال جديد يف املوقف املسيحي يف تحميل الذات الخاطئة تبعات الهزائم‬
‫العسكرية والسياسية‪ .‬فاإلمرباطور هرياكليوس خاطب الجنود الفرس الذين جاؤوا الحتالل‬
‫القسطنطينية بقيادة األمري شاهرباراز عام ‪ 626‬بالقول‪" :‬مل يعطكم الله النرص بفضل تقواكم‬
‫بل لقلة تقوانا‪ ...‬لقد (أعطتكم النرص) خطايانا وليس شجاعتكم" ‪ .22‬كام سرنى الحقا ان تغري‬
‫النظرة املسيحية الرشقية ثم الغربية إىل الفتوحات العربية واىل اإلسالم واملسلمني عملية‬
‫مركبة استغرقت مئات األعوام‪ ،‬وميكن الزعم أنها مل تنته حتى اليوم‪ ،‬متاما كام مل ينته تطور‬
‫اإلسالم وتغري مواقعه يف الحياة االجتامعية والسياسية للمؤمنني به‪ ،‬أو تغري الزاوية التي‬
‫تتعامل معه الديانات والثقافات والحضارات غري العربية وغري اإلسالمية‪ ،‬خصوصا الحضارة‬
‫الغربية الحديثة‪.‬هكذا تبدو الفكرة القائلة بتموضع حضارتني يف رصاع أزيل بينهام وزج كل‬
‫النتاج الفكري لهاتني الحضارتني يف ثنائية الهيمنة (من جهة الغرب) والتحرر (من جهة‬
‫الرشق)‪ ،‬متيل مي ًال شديداً إىل التبسيط املرسف‪.‬‬
‫ونسجا عىل املنوال الذي نسج سوفرونيوس عظتيه عليه‪ ،‬اندرجت الفتوحات يف‬
‫األجواء السياسية والفكرية السائدة يف املرشق يف تلك الحقبة‪ .‬فإذا كانت الفتوحات العربية‬
‫مبثابة العقاب للخطاة‪ ،‬فإن ال مجال ‪ -‬يف رأي رؤوس الكنائس املتنازعة ‪ -‬سوى عىل التشديد‬
‫عىل أن خطايا البعض أعمق وأخطر من خطايا اآلخرين‪ .‬وقد تبادل اليعاقبة واألرثوذكس‬
‫امللكيون اللوم يف التسبب مبجيء العرب‪ .‬فهؤالء عند اليعاقبة عقاب من الله للبيزنطيني‬
‫عىل آثامهم منذ مجمع خلقدونيا واضطهادهم أبناء الكنائس األخرى‪ ،‬وعند البيزنطيني ومن‬
‫‪Hoyland– Seeing Islam»- p 224 and W. Kaegi–Initial Byzantine Reaction- p 143 20 20‬‬
‫‪Hoyland- Seeing Islam- p 227 2121‬‬
‫‪Sebeos – History- Chptr 26 2222‬‬

‫‪146‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫واالهم يف أمور العقيدة‪ ،‬مصيبة أنزلها الرب باليعاقبة املهرطقني‪.23‬‬


‫ويصل الشعور بالذنب اىل مستويات تدفع مؤرخني مسيحيني إىل وضع االتهامات‬
‫بارتكاب املسيحيني للخطايا عىل ألسنة القادة املسلمني‪ .‬وينسب مخائيل الرسياين‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬إىل معاوية بن أيب سفيان قوله أثناء قيادته الحملة التي أعقبت استيالئه عىل‬
‫قيرصية فلسطني التي كان حكامؤها ال يعملون مبا يريض الله والتي انترش الفساد فيها ‪:24‬‬
‫"نحن صاعدون إىل بلد ميلء بالذهب وبالرثوات من كل صنف‪ .‬لقد وضع الله هذه البالد‬
‫بني أيدينا بسبب آثام سكانها"‪ .‬ويف مدن كيليكيا يرتكب الجنود املسلمون مجازر وفواحش‬
‫"حتى وسط الكنائس" ويستعبدون "كل الشعب‪ :‬الرجال والنساء واألطفال"‪ .‬وهم بعد‬
‫جمعهم كل الرثوات راحوا يعذبون األغنياء واألعيان إلرغامهم عىل كشف مخابئ ذهبهم‪،‬‬
‫من دون أن يخامر املؤرخ الشك يف أن كل أعامل الطائيني (العرب) هذه وغريها عقاب من‬
‫الله للمؤمنني‪.‬‬
‫عىل أن لوم الذات ليس محض بضاعة مسيحية‪ .‬فها هو كاتب زرداشتي حديث من‬
‫ساللة الفرس الذي فروا من بالدهم ولجأوا اىل الهند هرباً من الفتوحات العربية‪ ،‬يح ّمل‬
‫أسالفه مسؤولية ما أصابهم‪ .‬ويقول كاهن البارسيس (الفرس) األكرب يف كراتيش مانكجي‬
‫نورسفانجي دهاال (‪" )Maneckji Nusservanji Dhalla‬عمت املجاعة واألمراض وانترش‬
‫وجلبت من األرايض األجنبية أساليب البذخ من دون رقيب‪ ،‬مع كل‬ ‫خرابها يف أرجاء البالد‪ُ .‬‬
‫ما تنطوي عليه من آثام‪ ،‬وبساطة الحياة التي علمها وأوىص زرداشت بها وحضت الدساتري‬
‫عليها بشدة‪ُ ،‬أهملت وتُركت‪ .‬ومل ينأَ الجمهور عن بذخ النبالء وآثامهم‪ ،‬ومكان حب البساطة‬
‫حل حب محموم للمتعة‪ .‬وانحرست العادات البسيطة‪ ...‬لقد ترضر رضراً عميقا كل النسيج‬
‫االجتامعي اإليراين‪ .‬وجفت مصادر حب الوطن وضعفت الشجاعة التي كان الفرس القدماء‬
‫يواجهون بها أعداء بالدهم‪ .‬لقد حل عرص الضعف واالنحطاط مكان عرص البسالة‪ .‬هذه‬
‫هي املسائل التي فاقمت من تدهور إيران وغطت عىل الكارثة املقبلة ومل يظهر أحد كمنقذ‬
‫يف تلك الحقبة األشد ظالما من معاناة األمة‪ ،‬لتجنب الدمار الوشيك‪ .‬يف وسط املعمعة‬
‫واالرتباك هذين‪ ،‬جلس يزدجرد الثالث وهو األخري من بيت ساسان الشهري‪ ،‬عىل العرش‬
‫املتأرجح" ‪.25‬‬
‫فلنلق نظرة اآلن عىل التفسريات التي قدمها عدد من املسترشقني الغربيني الحديثني‬
‫‪John Tolan- Saracens- Columbia University Press- 2002- p 40 23 23‬‬
‫‪ 2424‬هناك التباس أو لعله سوء فهم يف شأن مناسبة ومكان هذا الكالم‪ .‬ويشري ميخائيل الرسياين اىل ان‬
‫معاوية قاله بعد استيالئه عىل قيرصية وقبل «صعوده اىل بلد اليهود»‪ ،‬ما يعطي االنطباع بأنه كان‬
‫متوجها اىل عمق فلسطني أو اىل الجليل‪ ،‬يف حني إن والرت كايغي يرى ان معاوية كان يتحدث اىل‬
‫جنوده قبل صعودهم هضبة االناضول‪ .‬راجع ‪Chronique de Michel le Syrien- Edité par J.B.‬‬
‫‪ Chabot–p 431‬و ‪246 Walter Kaegi–Byzantium and the Early Islamic Conquests–p‬‬
‫‪Maneckji Nusservanji Dhalla (High Priest of the Parsis, Karachi, India)- History of 2525‬‬
‫‪Zoroastrianism- p 543.‬‬

‫‪147‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫والتي تقوم يف جانب منها عىل دراسة املصادر العربية بعدما أصبحت هذه متاحة لجمهور‬
‫الباحثني‪.‬‬
‫يذهب وليام مويري (‪ )William Muir‬إىل أن التزايد السكاين الكبري يف شبه الجزيرة‬
‫العربية جعل من االكتظاظ مشكلة غري قابلة للحل سوى عرب الفتوحات واالندفاع إىل خارج‬
‫املناطق الفقرية "كأرساب الجراد" التي سودت وجه الدنيا‪ .‬وهو ما يرفضه ليوين كايتاين( (�‪Le‬‬
‫‪ )one Caetani‬مشرياً إىل أن أعداد العرب واملسلمني مل تكن كثيفة‪ ،‬من دون ان ينفي وجود‬
‫مشكلة اقتصادية جراء القحط ساهمت يف دفع العرب اىل الهجرة وبالتايل إىل االصطدام‬
‫بالبيزنطيني وبالفرس‪ .‬أما هرني المنس (‪ )Henri Lammens‬فيعيد السبب‪ ،‬من جهة‪ ،‬إىل‬
‫طبيعة العرب امليالة إىل القتال والغزو وبروز قدرة تنظيمية عسكرية متفوقة عىل أعدائهم‬
‫جراء الخضوع التام لألوامر عند الجنود واملستقى من الطاعة القبلية للكبار‪ ،‬وإىل عنف‬
‫مفرط يف التعامل مع العدو‪ ،‬من الجهة املقابلة‪.‬‬
‫وسعى كارل بيكر (‪ )Carl Becker‬إىل رسم صورة مركبة ذات أحداث متصاعدة يف‬
‫الفتوحات بوضعها يف سياق حوادث تفاقمت الحقا لتصل إىل حدود الحمالت املنظمة‪،‬‬
‫بعدما ظهرت فوائدها من غنائم وسيطرة عىل األرايض الخصبة‪ .‬وبعد ذلك فقط حصلت‬
‫يفصله ويقدم الرباهني عليه ماكس فون اوبنهايم ‪(Max Von‬‬ ‫الهجرات العربية‪ .‬وهو ما ّ‬
‫)‪ .Oppenheim‬ومييز كيه‪ .‬دبليو‪ .‬بوتزر (‪ )K.W. Butzer‬بني انتشار اإلسالم وبني الهجرات‬
‫العربية‪ ،‬فيام يقيم ج‪ .‬هـ‪ .‬بوكيه (‪ )G.H. Bouquet‬حدوداً بني طبيعة الفتوحات وبني‬
‫أسباب نجاحها‪ ،‬أي االلتزام الديني قبل إغراء األسالب إىل جانب ضعف بيزنطة وفارس‬
‫ووجود قادة اكفاء يف الجانب العريب‪ ،‬وهو رأي موريس كانورد (‪)Maurice Canord‬‬
‫ويفصل أم‪ .‬أيه‪ .‬شابان‬
‫ِّ‬ ‫وفرانشسكو غابريليل (‪ )Franscesco Gabrielli‬يف الوقت عينه‪.‬‬
‫(‪ )M.A. Shaban‬الحاجات االقتصادية العربية بعد حرب الردة ‪.26‬‬
‫ويجزم صاحب "تاريخ اإلمرباطورية البيزنطية" ألكسندر فاسيلييف (‪)A.A Vasiliev‬‬
‫هم لهم سوى‬ ‫أن البدو الذين شكلوا األكرثية الساحقة من جنود الفتوحات مل يكن من ّ‬
‫األسالب والنهب فيام كانت معرفتهم باإلسالم معرفة سامعية فقط‪ ،‬مشدداً عىل غياب‬
‫العامل الديني يف الفتوحات‪ ،‬ما يذ ّكر بالنتائج التي توصل كايتاين إليها عن ضآلة موارد‬
‫الجزيرة العربية وعدم قدرتها عىل تلبية احتياجات السكان من دون التبني الكامل لها ‪.27‬‬
‫ويستنتج برنارد لويس (‪ )Bernard Lewis‬استنتاجاً مشابهاً بقوله إن الفتوحات‬
‫العربية هي توسع لألمة العربية وليس لإلسالم‪ ،‬بسبب االكتظاظ الدميوغرايف‪ ،‬وانها من‬
‫طينة الهجرات التي حملت الساميني مرات تلو املرات إىل الهالل الخصيب وما بعده‪ .‬وقد‬
‫حصلت يف القرنني السادس والسابع حاالت متدد عربية إىل مناطق الهالل الخصيب يف حني‬

‫‪ 26 26‬بعض قراءات املسترشقني الحديثني السباب الفتوحات موجود يف ‪Fred McGraw Donner-‬‬
‫‪«The Early Islamic Conquests»- Princeton University Press- 1981- pp 3-7.‬‬
‫‪A.A. Vasiliev – “The History Of Byzantine Empire”- p 157. 2727‬‬

‫‪148‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫أن العديد من املدن مثل ُبرصى وغزة كانت تضم نسبة مهمة من سكانها من العرب‪ .‬وساعد‬
‫يف نجاح الفتوحات أن السدين الفاريس والبيزنطي اللذين كان ميكنهام التصدي ملوجات‬
‫الفتوحات والهجرات العربية‪ ،‬كانا ضعيفني ‪ .28‬وهذا الضعف هو تحديداً ما يدين العرب‬
‫بانتصاراتهم له‪ ،‬بحسب غيبون (‪ )Gibbon‬الذي يرى انه لو ُولِد محمد يف أيام القيرصين‬
‫تراجان أو قسطنطني او امللك شارملان لكان "هؤالء متكنوا من صد هجامت الرساسنة العراة‬
‫ولكانت الحامسة الدينية قد ضاعت يف رمال الصحراء"‪ ،‬أي أن القول بأولوية الدافع الديني‬
‫اإلسالمي ليست كافية لتفسري االنتصارات إذ أن ضعف الطرف املقابل هو األساس‪ ،‬وفق‬
‫النظرة تلك ‪.29‬‬
‫وباالعتامد عىل املصادر العربية‪ ،‬يخلص فريد دونر (‪ )Fred Donner‬إىل أن سوريا‬
‫شكلت عنرص جذب قوياً للعرب الذين اتحدوا بعد فتح مكة‪ ،‬خصوصا وان زعامء قريش‬
‫الذين اصبحوا جزءا رئيسا من النخبة اإلسالمية السياسية والدينية الحاكمة‪ ،‬كانوا عىل اطالع‬
‫وثيق عىل ازدهار الحوارض السورية وأن بعضا منهم‪ ،‬كأيب سفيان‪ ،‬امتلك أرايض قرب دمشق‪.‬‬
‫ويجوز االعتقاد بأن قريشاً سعت عند محمد اىل فتح الشام وانه رأى يف تلك األرض ما يوفر‬
‫مصادر عيش الجامعة اإلسالمية الجديدة‪ ،‬من دون أن يلغي ذلك بحال حقيقة أن الشام‬
‫احتلت مكانة مميزة يف العقيدة اإلسالمية وأن القدس ‪-‬أوىل القبلتني واملكان الذي أرسى‬
‫محمد إليه ليلة اإلرساء واملعراج‪ -‬هي‪ ،‬يف نهاية املطاف‪ ،‬من حوارض سوريا‪ ،‬التي شهدت‬
‫نزول الرساالت السابقة عىل اإلسالم أيضا‪.‬‬
‫زيادة عىل األسباب االقتصادية والدينية‪ ،‬توجد بال ريب ‪ -‬بحسب دونر وعدد من‬
‫املسترشقني اآلخرين ‪ -‬دوافع سياسية – اسرتاتيجية وضعت سوريا يف رأس أولويات محمد‬
‫والخلفاء‪ .‬فأهمية توحيد القبائل العربية يف كيان سيايس مركزي‪ ،‬بدت حاسمة أثناء الرصاع‬
‫مع قريش ومل تتقلص أهميته بعد فتح مكة‪ ،‬بل العكس استناداً إىل تجربة حرب الردة‪:‬‬
‫فقد اتضح أن بقاء الدولة والدين الجديدين يتطلب ضم القبائل الرحل يف األجزاء الشاملية‬
‫الحضرَ ‪ ،‬خصوصا أن من‬ ‫القريبة من الحجاز يف املقام األول واملدن والبلدات التي يقطنها َ‬
‫هذه املنطقة كان يصدر الخطر واملنافسة األبرز للدولة العربية من قبل بيزنطة التي راحت‬
‫تعيد بناء تحالفاتها مع مؤيديها العرب بعد االنكسار الفاريس وبعد تفكيك اإلمرباطور‬
‫الساساين خرسو برويز ململكة الحرية العربية قبل اندالع الجولة األخرية من الحروب‬
‫البيزنطية –الفارسية التي أطاحت أيضا ببقايا مملكة الغساسنة‪ .‬ويجوز االعتقاد بأن الصدام‬
‫اإلسالمي ‪ -‬البيزنطي وقع نتيجة سعي الجانبني اىل التمدد يف املنطقة ذاتها من شامل شبه‬
‫الجزيرة العربية‪.‬‬

‫‪B. Lewis- The Arabs in History- p 55 28 28‬‬


‫‪Edward Gibbon- The History of the Decline and Fall of the Roman Empire- vol. 2929‬‬
‫‪5-50 -1782 (Written) , 1845 (Revised)- p 296‬‬

‫‪149‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫فقد كانت الدولة اإلسالمية تعمل عىل ترسيخ وجودها بني القبائل أثناء حرب الردة وبعدها‬
‫فيام كان البيزنطيون يعملون عىل إعادة ترتيب منطقة نفوذ سابق استعادوها بشق األنفس‬
‫بعد حربهم املدمرة ضد الفرس‪ .‬ولعل اإلشارات اإلسالمية املبكرة إىل خطر الغساسنة ‪ 30‬وفشل‬
‫املحاولة التي قام بها "ملكهم" جبلة بن االيهم لالنضامم اىل اإلسالم (بتكليف من البيزنطيني‪،‬‬
‫عىل األرجح) تبني املحاوالت التي وضعت يف قالب أسطوري بعد ذلك عن اتصاالت جرت‬
‫بني الروم والعرب املسلمني لضم األخريين إىل األولني‪ .‬ولعل الرسايا التي بعث النبي بها إىل‬
‫الجنوب السوري (إىل ذات أطلح يف ربيع أول من العام الثامن للهجرة وإىل مؤتة يف جامدى‬
‫اآلخرة من العام ذاته وتبوك ودومة الجندل يف العام التاسع)‪ ،‬تشري اىل ان مؤسس الدين‬
‫األول شعروا جميعاً بإلحاح حسم املوقف يف سوريا ملصلحتهم‪،‬‬ ‫والدولة اإلسالميني والخلفاء ُ‬
‫ليس ألسباب اقتصادية ودينية وحسب‪ ،‬بل أيضا ألسباب سياسية واسرتاتيجية حيث بدا‬
‫أن السامح بالتقاط بيزنطة أنفاسها بعد حربها ضد الفرس سيؤدي إىل منع توحيد القبائل‬
‫العربية التي ستجد يف اإلمرباطورية البيزنطية سيدا قويا يصعب التحرر من قبضته ‪.31‬‬
‫لقد كان الرتابط بني نتائج حروب الردة وبني الفتوحات موضع اهتامم عدد من‬
‫املؤرخني‪ ،‬حيث يقول لويس إن الفتحني‪ ،‬أي ذاك الذي جرى داخل الجزيرة العربية واآلخر‬
‫الذي شمل املقاطعات املجاورة لكل من سوريا والعراق ومرص‪ ،‬كانا متزامنني ومرتابطني‬
‫وليسا متتابعني‪ .‬ولعل القبائل العربية مل تكن لتقبل بخضوعها للفتح لو مل تُتح لها الفتوحات‬
‫يف الشامل الحل الجذاب ملشكالتها االقتصادية يف شبه الجزيرة العربية‪ .‬وكانت الحمالت‬
‫األوىل عبارة عن غارات تهدف إىل السلب‪ ،‬فيام جاءت الحمالت الالحقة فقط بعدما تبني‬
‫ضعف العدو‪ .‬وقد وفر اإلسالم للفاتحني ثقة بالنفس ورمزا للنرص والوحدة‪ .‬ولعل شخصيات‬
‫مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص التي أدت األدوار األخطر يف الفتوحات كانت صلتها‬
‫باإلميان صلة أداتية‪ ،‬فيام قبع األكرث تدينا يف الصفوف الخلفية‪ ،‬مع استثناءات قليلة‪ .‬ويف‬
‫قلب هذه الصورة تأيت أوراق الربدى املرصية التي وصلت اىل املؤرخني املعارصين من القرن‬
‫الهجري األول لتقول إن اهتاممات الفاتحني كانت عملية ‪ -‬تنفيذية يف املقام األول مبعنى‬
‫االهتامم مبصالح األرستقراطية الدينية –العسكرية‪ ،‬وأن الخليفة كان يف هذه املهمة مبثابة‬
‫أمني الرس أو املؤمتن من قبل الجامعة عىل حسن إدارة مصالح جامعته‪.32‬‬
‫إن عدم فرادة الفتوحات العربية باعتبارها ظاهرة تتكرر منذ فجر التاريخ‪ ،‬منذ‬
‫هجرات الساميني القدامى التي جرت ألسباب اقتصادية وبيئية يف املقام األول‪ ،‬تلقى سنداً‬
‫قوياً يف األسئلة التي تطرحها غزوات بني ُس َل ْيم وبني هالل لصعيد مرص وشامل أفريقيا‬

‫‪ 30 30‬والذي ميكن االستدالل عليه من اللعنة التي يقول الجاحظ يف «البيان والتبيني» إن النبي العريب‬
‫صبها عىل الغساسنة‬
‫‪ .Donner- Early Islamic Conquest- pp 96-101 3131‬ملزيد من التفاصيل عن الصدامات األوىل بني‬
‫املسلمني والبيزنطيني ميكن العودة اىل ‪Kaegi-Byzantium and Early Islamic Conquests‬‬
‫‪B. Lewis- Arabs- pp 55-56 3232‬‬

‫‪150‬‬
‫ناتيع ماسح‬ ‫بهل نم فويس‬

‫والتي مل يكن أصحابها يف حاجة إىل أي تربير "إيديولوجي" أو ديني لينتقلوا من شامل ووسط‬
‫شبه الجزيرة العربية ومن محيط املدينة املنورة إىل صعيد مرص ومن ثم إىل شامل أفريقيا‬
‫وتونس‪ ،‬وهي الغزوات التي يحملها ابن خلدون مسؤولية دمار حضارة كانت مزدهرة بني‬
‫السودان والبحر األبيض املتوسط ‪.33‬‬
‫بيد أن القراءة هذه والتي ميكن أن تلخص الخطوط العريضة لفهم مؤرخي ومسترشقي‬
‫القرنني التاسع عرش والعرشين األوروبيني‪ ،‬كانت بعيدة عن تصورات كتاب الحوليات من‬
‫البيزنطيني والفرس أو من مسيحيي املرشق يف القرنني السابع والثامن الذين ربطوا الفتوحات‬
‫العربية مبعطيات الغيب‪ .‬ذلك أن األدوات املعرفية التي كانت يف حوزة كتاب الشعوب‬
‫املغلوبة واملتحملة أوزار حقبة الفتوحات مل تكن تتجاوز األدبيات الدينية والالهوتية التي‬
‫سادت بعدما انحرست آثار الحضارة الهيلينية‪ ،‬أو باألحرى الجوانب العقالنية منها‪ ،‬بفعل‬
‫مئات األعوام من الرصاع مع الوعي الديني‪.‬‬

‫‪Ibid-158 3333‬‬

‫‪151‬‬
‫برج د ّيب‪ ،‬آذار ‪ ،2010‬شذا رشف الدين‬
‫نقد‬

‫أبراج الله وبرج د ّيب‬


‫(تحقيق يف الفيزيك وامليتافيزيك)‬
‫حازم صاغ ّية‬

‫حب معقود عىل كراهية‪ .‬فليس سخا ًء يف‬ ‫وكل من الدين وامليثولوجيا عالقة ّ‬ ‫بني األبراج ّ‬
‫الرتميز أن توصف األبراج بأنّها صواريخ أطلقها البرش مبكراً يف اشتباكهم املديد مع الله‪.‬‬
‫الشعبي يف استقائه الدالالت البعيدة من‬
‫ّ‬ ‫ميت إىل مبالغات علم النفس‬ ‫والوصف هذا ال ّ‬
‫تشابه سهل بني الصور‪.‬‬
‫والحال أنّ البرش األوائل مل يجدوا إلعالء ذواتهم وإطالة أجسامهم خرياً من األبراج‪ ،‬فيام‬
‫تلك الذوات واألجسام كانت مطالَبة دوماً بأن تصغر وتتصاغر وتنام عىل ضيم أز ّيل‪ .‬فالربج‬
‫الوسيلة التي تنطح السحاب فتصري ناطحة سحاب‪ ،‬كام يراودها اخرتاق السامء واالنغراز‪،‬‬
‫عموداً أو قضيباً‪ ،‬فيها‪ .‬والنطح‪ ،‬كام هو معروف ج ّيداً‪ ،‬فعل عدوان يتأتىّ عن قرن الثور‪،‬‬
‫آلة عدوانه‪.‬‬
‫َ‬
‫السموي واألدىن األريضّ ُمحكم ونها ّيئ ال ي ّتسع‬
‫ّ‬ ‫ذاك أن الرتاتُب الفاصل بني األعىل‬
‫لحِ راك ُيعيل األدىن أو ُيدين األعىل أو يخلط هذا بذاك‪ .‬وقد سبق إلله التوحيد أن طلب من‬
‫وجهه اآلمر إىل‬ ‫املسيحي أن يسأله‪« :‬ع ّلمني حقوقك»‪ ،‬بدل حقوقي‪ .‬وهو األمر الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫عابده‬
‫«عبيد الله» مراراً يف كتب أخرى وبلغات ش ّتى‪.‬‬
‫منصة‬
‫تخل بنظام الرتاتُب ذاك وتحيل الكون ّ‬ ‫أ ّما ما يقدم عليه الربج فريقى إىل ثورة ّ‬
‫الستعراض الفوىض‪ .‬فـ»أبونا» هو املقيم حرصاً «يف السموات» عىل ما يقول املسيح ّيون حني‬
‫يل» يف اإلسالم ُجعل وصفه هذا إس ًام من أسامئه الحسنى‪ .‬ولنئ طالبنا‬ ‫يخاطبونه‪ ،‬وهو «الع ّ‬
‫القرآن بالتسبيح «باسم ر ّبك األعىل»‪ ،‬وهو دامئاً «رفيق أعىل»‪ ،‬أ ّكدت صالة النصارى عىل‬
‫خص الطبقات السفىل‪ ،‬بعد أن تُق ّر بالرتاتُب وتذعن إىل‬ ‫أنّ املجد له «يف العىل»‪ ،‬أ ّما يف ما ّ‬
‫سكونه‪ ،‬فـ «عىل األرض السالم ويف الناس املح ّبة»‪.‬‬
‫نبت الصلة بسائر األمكنة‪ ،‬بل تطاول الوظائف‬ ‫واملسألة ال تقترص عىل مكان إقام ٍة ُم ّ‬
‫والدالالت كذلك‪ .‬فام دام «ساكن العايل»‪ ،‬كام س ّمته أغنية رحبان ّية تحايك الصالة‪ ،‬ليس‬
‫إ ّال الله‪ ،‬بات الصعود حرك ًة يف املعنى تناظر الحركة التي يف الجغرافيا‪ .‬و»عيد الصعود»‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫املسيحي بعد القيامة‪ ،‬أو صعود جسد العذراء مريم إىل السامء‪ ،‬تعبريان من تعابري الفصل‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫الذي ال يمُ َّوه بني َمن هم فوق و َمن هم تحت‪ .‬فالحركة هذه تبدو شبيهة مبا يجري يف‬
‫كل من الطرفني املتنازعني جثث قتاله‪ ،‬فال يرتكها بني يدي عد ّوه‪ .‬أ ّما‬ ‫الحروب‪ ،‬حيث يسرت ّد ّ‬
‫األرسي‪ ،‬أو من إقامة العائالت مقابرها يف‬ ‫ّ‬ ‫يف أزمنة السلم‪ ،‬ففيها يشء من عمل ّيات ّمل الشمل‬
‫مكان بعينه فال تختلط مبقابر عائالت سواها‪.‬‬
‫ولطاملا تك ّررت محاوالت االستحواذ االنسا ّين عىل هذا املعنى الذي انترص له الدين‪،‬‬
‫ولطاملا كان الربج مركز ّياً يف محاوالت التج ّرؤ تلك‪ .‬ذاك أن الذين تج ّرأوا هم الذين أرادوا بناء‬
‫أبراج فكر ّية أو أبراج فعل ّية‪ ،‬وبعضهم مل ُيخف التأ ّثر بالفرز الحاسم بني األعىل واألدىن‪ .‬ففي‬
‫التصاعدي تق ّد ٌم أكرب‬
‫ّ‬ ‫لولبي للتاريخ» يقيم يف مساره‬‫«خط ّ‬ ‫زمن الحق تح ّدث ماركس ّيون عن ّ‬
‫يل‪ .‬وقبلهم استعار الخيميائ ّيون شكل الربج فأعطوه للفرن‬ ‫واقرتاب أكرث من التاريخ الفع ّ‬
‫وعرف بـ»أثانور»‪ ،‬كيام يظهروا أن أعامل التحويل ت ّتخذ منحى التصاعد‪:‬‬ ‫الذي استخدموه ُ‬
‫من القصدير إىل الذهب‪ ،‬ومن وسخ الجسد إىل طهارة الروح‪ .‬هكذا ُس ّمي «أثانور» هذا‬
‫«فرن الربج»‪.‬‬
‫ً‬
‫ويف ارتكاز الربج عىل مركز‪ ،‬أو يف استوائه مركزا‪ ،‬ينتزع لنفسه صفة األصل واملصدر‪،‬‬
‫ال العل ّو فحسب‪ .‬فكيف متى كان املركز «عامل ّياً» عىل ما ُس ّمي الربج النيويور ّيك املغدور‬
‫الذي د ّمره ش ّبان ع ّينوا أنفسهم جنوداً لله‪ ،‬ومل يكتموا م ّر ًة عداءهم ملا اعتربوه عت ّواً وجربوتاً‬
‫يجسده الربج‪.‬‬ ‫يتجسد كام ّ‬
‫أمريك ّيني؟‪ .‬والرعد والربق «اإلله ّيان» يدمنان رضب العت ّو الذي ال ّ‬

‫ما ال ميزح الله فيه‬


‫ف َمن يزعم أنّ له تلك الصفات يصل يف اعتدائه عىل وظائف الله إىل ح ّد تحويل الطبيعة‬
‫والتح ّكم يف مصادر اشتغالها‪ .‬وهو معنى مل يغب عن شاعر لبنا ّين نسب إىل الجبل الذي‬
‫ينتمي إليه مركز ّية يف الكون تجعله «يلد النور ويعطيه األنام»‪ .‬كذلك عاش املعنى املذكور‬
‫ضامراً‪ ،‬وال يزال‪ ،‬عند الذين اعتربوا األبراج أفالكاً‪ ،‬وعند من ربطوا بها قراءة الحظوظ‪ ،‬وعند‬
‫من أوكلوا إليها االستطالع واملراقبة فقالوا «برج استطالع» و»برج مراقبة»‪ ،‬فض ًال عن تكليفها‬
‫االستباقي لتح ّركات األعداء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كشف حركة السفن أو الرصد‬
‫كل يشء‪ .‬ومن‬ ‫بكل يشء والقدير عىل ّ‬ ‫وهذا ك ّله مماّ ال ميزح الله فيه‪ ،‬هو العليم ّ‬
‫يراهن عىل تسويات وحلول سلم ّية بني الخالق وعبيده‪ ،‬وهم «من الرتاب» و»إىل الرتاب‬
‫يعودون»‪ ،‬عليه بامليثولوجيا التي تو ّثق استحالة التسويات‪ .‬فتلك التي ظهرت يف ما بني‬
‫النهرين جعلت جلقامش‪ ،‬نصف اإلله ونصف اإلنسان‪ ،‬محكوماً بسقف منخفض‪ ،‬كام تقول‬
‫لغة الصحافة الحديثة‪ .‬فقد ُمنع من الخلود‪ ،‬الذي هو تع ّدي الرشط األريضّ ‪ ،‬إذ املوت مصري‬
‫الحي بينام الخلود لله وحده‪.‬‬
‫الكائن ّ‬
‫وغالباً ما ظهر امللوك والعاملقة املتطاولون عىل عمل أبيهم وعىل وظائفه الحرص ّية‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫وقد كان لطموحهم الفائض هذا أن ج ّر عليهم غضباً ونقمة من سو ّية دمو ّية‪ .‬وال يزال‬
‫اإلجراء العقا ّيب األش ّد تعبرياً عن حظر الصعود إىل األعىل‪ ،‬ذاك القصاص الذي ُأنزل بامللك‬
‫سيزيف (سيسيفوس)‪ ،‬خادع إله املوت ثانتوس ومك ّبله‪ .‬هكذا جازاه زيوس بأن جعله يرفع‬
‫صخرة ضخمة إىل الجبل‪ ،‬فال يوشك عىل إيصالها ح ّتى تتدحرج هبوطاً‪ ،‬وهكذا دواليك عىل‬
‫امتداد األبد ّية‪.‬‬
‫ماّ‬
‫وزيوس‪ ،‬كبري اآللهة وحاكم الروح اليونا ّين‪ ،‬الذي س ه هومريوس الس ّيد ووالد اآللهة‬
‫والرجال‪ ،‬كام لو أنّه يبحث له عن أسامء حسنى‪ ،‬هو من رأى فيه مريشيا إلياد «النمط‬
‫البد ّيئ ألب العائلة البطرير ّيك»‪ .‬وهو‪ ،‬يف الحاالت جميعاً‪ ،‬كان ذا صالح ّيات مطلقة‪ ،‬ومصدراً‬
‫يسء أيضاً‪ ،‬وهو مس ّلح بالعواصف والرعد‪ ،‬منتج‬ ‫كل ج ّيد يأيت منه ّ‬
‫وكل ّ‬ ‫لكل طاقة نبو ّية‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫للصواعق‪ ،‬يجمع بني ك ّفيه الغيوم‪.‬‬
‫وهذا جميعاً يقول إنّ من يبني برجاً سوف ينه ّد عىل رأسه الربج‪ .‬أ ّما الربهان الذي‬
‫ال يخطىء فيد ّلنا إليه برج بابل الذي اكتسب رمز ّية كون ّية يف عبورها الثقافات واألمم‪ .‬فقد‬
‫كان يحدو املتم ّردين األوائل اسرتدا ُد الصفات التي رأى فيلسوف أملا ّين أن البرش َمن أسبغها‬
‫عىل الله بعدما انتزعوها من أنفسهم‪ ،‬مودعني أفضل ما فيهم فيه‪.‬‬
‫فتبعاً لسفر التكوين‪ ،‬رشع نسل نوح‪ ،‬بعد الطوفان‪ ،‬يبني ذاك الربج بغية أن يجمعه‬
‫مكان واحد من األرض فال يتب ّدد‪ .‬وكان قصد ال ُبناة رشع ّياً وعادالً‪ ،‬أماله عليهم السعي إىل‬
‫نب ألنفسنا‬ ‫تج ّنب الكارثة بأن يجعلوا العامل ك ّله مملكة واحدة يف وجه الطبيعة‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬فلن ِ‬
‫أوج ُه يف السامء‪ ،‬ولنجعل ألنفسنا إس ًام‪ .‬وحيازة االسم حيازة معنى‪ ،‬ومن‬ ‫مدينة وبرجاً يكون ُ‬
‫وأي وجود‪.‬‬
‫ألي استقالل ّ‬ ‫ثم هو رشط شارط ّ‬ ‫ّ‬
‫فالربج ذاك مل ُينب‪ ،‬إذاً‪ ،‬لعبادة الله‪ ،‬بل ملجد اإلنسان و»اسمه»‪ .‬ذاك أنّ هؤالء إن مل‬
‫سموا ُش ّتتوا يف الخارج هامئني عىل وجوههم إىل أن يتل ّقفهم العدم‪ .‬بيد أنّ يهوه اإلله الذي‬ ‫ُي َّ‬
‫ً‬
‫أغضبته ن ّيات الب ّنائني‪ ،‬ومن ورائهم امللك الباين منرود‪ ،‬نزل بنفسه إىل األرض غاضبا‪ ،‬فخلط‬
‫لغاتهم وف ّرق الشعب وب ّدده يف بقاع األرض جميعاً‪.‬‬
‫وقد بات الربج املذكور‪ ،‬س ّيد األبراج املشاكسة‪ ،‬ال يرمز إ ّال إىل االختالط والتش ّوش‪ .‬بل‬
‫العربي الذي يعني اللبس‪ .‬فلنئ سعى البرش العصاة‬ ‫ّ‬ ‫االسم نفسه‪ ،‬بابل‪ ،‬مشتقّ من جذر «بلل»‬
‫وراء الوضوح الذي يجلوه االسم‪ ،‬عوقبوا بالبلبلة‪ ،‬ولنئ حاولوا تجنيب أنفسهم التش ّتت‪،‬‬
‫التلصص عىل‬ ‫عوقبوا بالتشتيت‪ .‬وهذا‪ ،‬عموماً‪ ،‬مصري الغرور اإلنسا ّين إذ يحاول‪ ،‬عرب الربج‪ّ ،‬‬
‫الرب‪ ،‬إذ‬
‫ينجيهم من غضب ّ‬ ‫الله أو إزاحته عن عرشه‪ .‬فهو ال مي ّكن من يعتصمون به وال ّ‬
‫«يدرككم املوت ولو كنتم يف بروج مش ّيدة» عىل ما ه ّدد القرآن‪.‬‬
‫وليس بال داللة ذاك التعاقب الذي اعتمده «العهد القديم»‪ .‬ذاك أنّ الربج ّ‬
‫يحتل‬
‫البرشي‪ ،‬وقبل تناول «البطاركة» بلغة‬ ‫ّ‬ ‫مكانه يف نهاية الفصول التي ترسم بدايات الجنس‬
‫أقل ميثولوج ّية وأش ّد كرونولوج ّية‪ .‬فكأنّه يقع ما بعد إخضاع ثورة البرش يف الطور اإلنسا ّين‬ ‫ّ‬
‫األ ّول‪ ،‬حيث املخ ّيالت الطليقة تبني اإلمرباطور ّيات العظمى وتنىشء املدن الكربى‪ .‬لك ّنه يقع‬

‫‪155‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫اطي» واثق لشؤون‬ ‫أيضاً ما قبل استتباب النظام لله واالنتقال‪ ،‬من ّ‬
‫ثم‪ ،‬إىل تسيري «بريوقر ّ‬
‫والفت للنظر أن ي ّتسم انرصام حقبة ثور ّية كتلك بظاهرة اجتامع ّية وبكارثة اجتامع ّية‬
‫العامل‪ٌ .‬‬
‫يف الوقت نفسه‪.‬‬

‫مصدر السلطات ك ّلها‬


‫فخط التامس هذا‬ ‫قصة برج بابل تيش باستحالة أن يالمس البرش الخالق‪ّ .‬‬ ‫وقصارى القول إنّ ّ‬
‫اإللهي ذاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ممنوع‪ ،‬ما إن ينشأ ح ّتى تلتهب الجبهات الحرب ّية جميعاً ويستعرض الغضب‬
‫ذاك أنّ ما يبنيه الناس بالتعارض مع باريهم‪ ،‬سوف يتولىّ يهوه تشتيت ُبناته‪ .‬أي أنّ الله‪،‬‬
‫جامعي عىل خطيئة جامع ّية‪ ،‬اتّبع ما درج البعض عىل وصف اإلمربيال ّية‬ ‫ّ‬ ‫من خالل عقاب‬
‫الحديثة به‪ ،‬حني قيل إنّها «تف ّرق لتسود»‪.‬‬
‫غري أنّ جدل األعىل واألدىن ال يقف هنا‪ .‬فالله‪ ،‬وهو املعنى الذي تك ّرره األديان‪،‬‬
‫ال يلبث أن يعاود تجميع األمم يف السامء بعد أن يكون قد ُب ّت لصالحه أمر السلطة‬
‫اليهودي بخمسني يوماً‪ ،‬فيلوح‬‫ّ‬ ‫حل عيد العنرصة الذي ييل عيد الفصح‬ ‫والخضوع‪ .‬وهو ُي ّ‬
‫الرتاتُب واالستتباع واضحني‪ .‬والعنرصة‪ ،‬من وجه آخر‪ ،‬تر ّد إىل العالقة التي مل تغب م ّرة عن‬
‫ذهن الخالق بني سلطة العل ّو وسلطة العقل واللسان‪ .‬فعند اليهود يتزامن االحتفال بها مع‬
‫نزول الوصايا العرش يف جبل سيناء‪ .‬أ ّما عند املسيح ّيني فتقرتن بهبوط الروح القدس عىل‬
‫تالميذ املسيح وحلولها فيهم‪ .‬أ ّما «تنزيل» القرآن فأوضح من أن يستدعي التأويل‪ .‬فنحن‪،‬‬
‫للخط الذي يسلكه الربج‪ ،‬بحيث ينتقل املعنى والكلمة من‬ ‫خط معاكس متاماً ّ‬ ‫هنا‪ ،‬أمام ّ‬
‫األبوي ّ‬
‫محل املبادرة والتج ّرؤ اإلنسان ّيني‪ .‬وهذا‪ ،‬بدوره‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويحل التوجيه‬ ‫األعىل إىل األدىن‪،‬‬
‫كل أتباع الله معاً يف املكان ذاته‪،‬‬ ‫رؤيوي‪ :‬ففي يوم العنرصة‪ ،‬يكون ّ‬‫ّ‬ ‫يتح ّقق من دون عنف‬
‫وفجأة يندلع من السامء ضجيج مثل صوت الريح العاتية‪ ،‬فيمأل البيت الذي يقيمون فيه‪،‬‬
‫كل‬‫وترتاءى لهم ألسنة نار ّية تتح ّرك يف االتّجاهات جميعاً‪ ،‬قبل أن يحرض لسان يجثم فوق ّ‬
‫واحد فيهم‪ .‬هكذا يتولىّ الروح القدس أمرهم ويستويل عليهم بحيث يتك ّلمون اللغات التي‬
‫اختار لهم أن يتك ّلموها‪ .‬فهو‪ ،‬إذاً‪ ،‬مصدر السلطة يف تقرير الطول‪ ،‬وأيضاً يف تقرير الرأس‬
‫وما يؤمر به اللسان‪.‬‬
‫وألنّ السلطة عىل هذه الدرجة من السلطو ّية واالستئثار‪ ،‬الفعل ّيني والرمز ّيني‪ ،‬بدا‬
‫يك من يد البابا‪ ،‬ممثّل الله‬ ‫صادماً للعامل املوشك عىل الحداثة أن ينتزع نابوليون التاج املل ّ‬
‫عىل األرض‪ ،‬وأن يضعه بنفسه عىل رأسه‪ .‬فالضابط الذي صيرّ نفسه إمرباطوراً‪ ،‬يف ‪ ،1804‬إنمّ ا‬
‫يستف «ترب‬ ‫ّ‬ ‫هو متطاول عىل طويل‪ ،‬باملعنى الذي قصده شاعر من صعاليك العرب آثر أن‬
‫األرض» يك ال «يرى عليه من الطول امرؤ متطاول»‪.‬‬
‫والحقّ أنّ السلطات الزمن ّية املطلقة‪ ،‬ومل تكن بعيدة عن الله‪ ،‬أغراها منذ زمن قديم‬
‫أن تق ّلده يف ذلك‪ .‬فربج لندن الذي بدأ وليم الفاتح بناءه يف ‪ 1078‬ليكون حصناً‪ ،‬ومن ّ‬
‫ثم‬

‫‪156‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يك وسجن للمساجني من ذوي الدم األزرق ومن عل ّية القوم‪ ،‬رسيعاً ما صار موقعاً‬ ‫كقرص مل ّ‬
‫للتعذيب وقطع الرؤوس‪ ،‬ولك ّنه أيضاً صار حديقة للحيوانات ومستودعاً للوثائق الرسم ّية‬
‫لسك العملة‪ ،‬ومنذ ‪ 1303‬غدا حافظاً لجواهر العرش كذلك‪ .‬فهو إذاً‬ ‫ومرصد أفالك ومركزاً ّ‬
‫حاز معظم وظائف الدولة وكان مص ّغراً عنها‪ .‬بيد أنّ الوظيفة القمع ّية ظ ّلت لقرون أبرز‬
‫اإلنكليزي ُ«أرسل إىل الربج» ال يعني إ ّال «سيق إىل السجن»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وظائفه بحيث أمىس التعبري‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وهذا أيضاً ما استهوى عدداً من األسرَ الغن ّية والحاكمة يف أوروبا القروسط ّية‪ّ ،‬‬
‫مرتجحة يف‬
‫الرقعة الرماد ّية بني اإلذعان لله وبني استعارة الحامية منه‪ ،‬فض ًال عن تباهيها بصنيعها‪ .‬هكذا‬
‫األرس املذكورة تستخدم األبراج دفاعاً عن مدنها بقدر ما تستخدمها واجه ًة لعرض ثرائها‬ ‫رأينا ُ‬
‫وحذلقة حياتها املرتفة واملث ّقفة‪ .‬ومن هذا القبيل كان أن علت أبراج بولونيا يف إيطاليا القرن‬
‫ثم بعد قرون خمسة ُح ّولت أندنربه االسكتلند ّية مدينة ملباين السكن املرتفع‪،‬‬ ‫الثاين عرش‪ّ ،‬‬
‫يحيطها سور يعينّ حدودها ويحميها‪ .‬وقبل ذلك بقليل‪ ،‬يف السادس عرش‪ ،‬عرفت مدينة‬
‫شبام يف اليمن‪ ،‬وكانت عاصمة حرضموت‪ ،‬املباين الطين ّية الشهرية التي استهدفت حامية‬
‫س ّكان املدينة املستق ّرين من هجامت البدو‪.‬‬

‫استحواذ عىل القمم‬


‫وهذا يف محاكاته األفعال اإلله ّية ال يطرح عىل نفسه تح ّديها أو الحلول مح ّلها‪ ،‬بل يف حاالت‬
‫كثرية عملت االستعانة ببيوت العبادة يف داخل الربج عىل طرد مثل هاتني الشبهة والتهمة‪.‬‬
‫والكنائس‪ ،‬بدورها‪ ،‬وجدت أنّها أحقّ من غريها يف االستحواذ عىل القمم‪ ،‬بحيث تنتزع أعىل‬
‫اإلنكليزي إل ِرد أوف‬
‫ّ‬ ‫كل طامع أو طامح وتسرت ّدہ إىل الله وحده‪ .‬وكان للقديس‬ ‫املواقع من ّ‬
‫ريافو‪ ،‬يف القرن الثاين عرش‪ ،‬رأي مفاده أنّ نظام الرهبنة «املغلقة»‪ ،‬املعروف بالسيسترييك ّية‪،‬‬
‫رب العاملني‪ .‬إذاً يصار‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬إىل رفع البرش‬‫ُيعيل الصمت برجاً ترتفع به األرواح إىل ّ‬
‫يك يقفوا بصمتهم‪ ،‬ال بالضجيج واملطالب‪ ،‬بني يدي الله‪ .‬والصمت قيمة من ّزهة يف الثقافات‬
‫محل األب ليصري االحتكاك الجسام ّين فرصة‬ ‫تضمحل أوهام الحلول ّ‬ ‫ّ‬ ‫األبو ّية جميعاً‪ ،‬معه‬
‫ذهب ّية لتقبيل اليد وطلب الرضاء‪.‬‬
‫وفع ًال اتّخذت كاتدرائ ّية لينكولن يف إنكلرتا شكل برج‪ ،‬مطالع القرن الرابع عرش‪،‬‬
‫فكانت املبنى األ ّول يف التاريخ الذي يفوق أهرام الجيزة ارتفاعاً‪ ،‬بعد آالف قليلة من‬
‫ثم يف أواسط السادس عرش حذت‬ ‫السنوات احتفظ خاللها الهرم املذكور بقصب السبق‪ّ .‬‬
‫أقل من قرن‬ ‫كنيسة القديس أوالف‪ ،‬يف تا ّلني بأستونيا‪ ،‬حذو الكاتدرائ ّية اإلنكليز ّية‪ ،‬وبعد ّ‬
‫ُبنيت عىل هذا الغرار كنيسة الق ّديسة ماري يف أملانيا‪ ،‬ومن بعدها كنيسة سرتاسبورغ يف‬
‫لكن هنا أيضاً كان ال ب ّد من الحذر‪ .‬ذاك أنّ الكنائس نفسها ينبغي أ ّال تنخدع بأبراجها‬
‫فرنسا‪ْ .‬‬
‫الرب‪ .‬وهذا ربمّ ا كان مقصد األسطورة األستون ّية من أن باين‬
‫ف ُتغريها باالستقالل عن مقاصد ّ‬
‫كنيسة تا ّلني‪ ،‬أعىل برج يف العامل عهدذاك‪ ،‬سقط من أعىل برجه فيام خرجت من فمه أفعى‬

‫‪157‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫وضفدع‪ .‬ذاك أنّ من يجرؤ عىل االرتفاع نحو السامء ال ب ّد أن يجد نصريه يف قوى الظلمة‪.‬‬
‫ومل تكن الحضارة اإلسالم ّية بعيدة عن ربط العل ّو بوظيفة وداللة علو ّيتني‪ .‬هكذا نيط‬
‫باملأذنة‪ ،‬التي أضيفت بعد عقود عىل اإلسالم األ ّول‪ ،‬دعوة املؤمنني إىل الصالة‪ .‬أ ّما أن يكون‬
‫أرض فتحها لت ّوهم املسلمون‪ ،‬فهذا ما‬ ‫األموي‪ ،‬أي يف ٍ‬ ‫ّ‬ ‫معاوية باين املأذنة األوىل فوق الجامع‬
‫املسيحي مبوضوع اإلميان وحده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يضيف زهواً بالذات املؤمنة وصنيعها إىل الزهو‬
‫رسام النهضة‬‫املسيحي األورو ّيب‪ ،‬جاء ما فعله بياتر بروغل «األكرب»‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وربمّ ا‪ ،‬يف النطاق‬
‫الهولند ّية للقرن السادس عرش‪ ،‬ر ّداً منه عىل متاهي الكنائس مع الربج‪ .‬فهو رسم لوحتني‬
‫لربج بابل‪ ،‬أو باألحرى لهندسة عامرته‪ ،‬جاع ًال إ ّياه يحايك املد ّرج الروما ّين الشهري الذي رأى‬
‫الدنيوي املعت ّد بنفسه‪ .‬وبروغل كان‬
‫ّ‬ ‫إليه قدامى املسيح ّيني كرمز الضطهادهم وللتطاول‬
‫فع ّد أ ّول من ينقلها لذاتها‪ ،‬ال بوصفها‬ ‫إنسانو ّياً‪ّ ،‬‬
‫انكب عىل رسم الحياة الريف ّية والف ّالح ّية‪ُ ،‬‬
‫خلف ّية لرسوم تاريخ ّية أو ملحم ّية أو دين ّية‪ .‬وهو أوىل اهتاممه لحياة ف ّالحي بلده وعاداتهم‪،‬‬
‫مماّ كان نادراً يف زمنه ذاك‪ ،‬واصفاً طقوس أهل القرية زراع ًة وصيداً وغذا ًء ورقصاً وألعاباً‬
‫ومواسم واحتفاالت‪ .‬وقد ذهب دارسو لوحتيه إىل أنّ بروغل أراد بهام أن ير ّد انهيار الربج‪،‬‬
‫ال إىل بلبلة أحدثها الله فجأة‪ ،‬بل إىل صعوبات هندس ّية مل يكن أهل ما بني النهرين قادرين‬
‫عىل تذليلها‪.‬‬
‫وما فعله بروغل‪ ،‬وربمّ ا سواه‪ ،‬أىت مسبوقاً بتجربة معروفة يف تقليص مهابة األبراج‬
‫والح ّد من حمولتها الفخيمة‪ ،‬أكانت حمولة متج ّرئة عىل الله أو مؤمنة تبتغي االستحواذ‬
‫عىل تلك الفكرة‪.‬‬
‫فتاريخ األبراج إنمّ ا عرف أبراجاً مائلة كثرية أه ّمها برج بيزا اإليطا ّيل الذي بدأ ينحني‬
‫ُبعيد بنائه يف ‪ ،1173‬تبعاً لخطأ شاب األساس الضعيف الذي استند إليه‪ ،‬كام بسبب اختيار‬
‫فع ّمرت طوابق‬ ‫لكن القرون التالية أطلقت مبادرات إلصالحه ُ‬ ‫تربة ال تقوى عىل حمله‪ّ .‬‬
‫جانحة إىل الجهة املعاكسة لجهة الرجحان األ ّول‪ ،‬فإذا بها مت ّيل الربج يف ذاك االتّجاه املعاكس‪.‬‬
‫والديني الذي‬
‫ّ‬ ‫شك يف أنّ ذلك أسهم يف أنسنة األبراج‪ ،‬كام يف أنسنة البذخ األريستوقر ّ‬
‫اطي‬ ‫وال ّ‬
‫تتوزّعه طوابقها‪ .‬فالربج‪ ،‬إذاً‪ ،‬مثلنا نحن البرش‪ ،‬قد يعرتيه عوج أو خلل‪ ،‬وقد ُيس َتشفى أيضاً‪.‬‬
‫لك ّنه‪ ،‬وهذا ال يخلو من استنطاق مسخرة بارود ّية‪ ،‬ما قد يفشل األط ّباء قي تطبيبه أو أنّهم‬
‫يبثّون يف جسمه أمراضاً غري تلك التي ُقصد املستشفى لعالجها‪.‬‬
‫إ ّال أن األمرباطور ّيات اإلمربيال ّية أو التي يسوقها طموح إمربيا ّيل هي التي أعادت‬
‫وتعم‪ .‬فمع الرأسامل ّية والدروب‬ ‫تتوسع ّ‬ ‫إطالق األبراج من خالل ناطحات سحاب رشعت ّ‬
‫الشيوعي»‪ ،‬رشع اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫التي ش ّقتها إىل العامل ّية‪ ،‬وهو ما مل ميدحه كتاب كام مدحه «البيان‬
‫ينتج األدوات التي ترسمه مركز الكون وقائد تط ّوره‪ .‬هكذا نشأت الفرصة األوىل التي تتيح‬
‫اإلبداعي‪ ،‬ألسالفه املش ّتتني يف برج بابل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫له أن ينتفم‪ ،‬مبعنى من التجاوز‬

‫‪158‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫أبراج الرأسامل ّية و»العامل الجديد»‬


‫الناطحة األوىل كانت بناية «إيكويتابل اليف أشّ ورنس» يف نيويورك عام ‪ ،1870‬ثم بناية‬
‫«هوم إنشورنس» يف شيكاغو يف ‪ .1885‬وكام تفعل األديان غالباً إذ تستعري منجزات الحداثة‬
‫فتستخدمها ض ّدها‪ُ ،‬بنيت‪ ،‬يف ‪ ،1874‬ناطحة سحاب لإلميان هي كنيسة القديس نيكوالي يف‬
‫هامبورغ بأملانيا‪ ،‬ثم بني‪ ،‬ح ّتى ‪ ،1889‬خمسة مبانٍ عباد ّية مامثلة‪ ،‬اثنتان يف أملانيا واثنتان‬
‫يف فرنسا وواحدة يف الواليات امل ّتحدة‪.‬‬
‫لكن الثابت أنّ الدين الذي بات ُيحت َفل به يومذاك مل يعد الدين‪ ،‬بل التجارة العامل ّية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫املبني بني ‪1887‬‬‫وهذا ما رفدته باريس مبساهمة نُصب ّية هائلة من خالل برج إيفل‪ ،‬مِعلمها ّ‬
‫العاملي الذي اف ُتتح فيها مع املئو ّية‬
‫ّ‬ ‫و‪ 1889‬ناهضاً عىل قوس ُأع ّد الستقبال معرض التجارة‬
‫األوىل للثورة الكربى‪ .‬ومل يكن من االفتعال أن يربط الفرنس ّيون بني حدث أنجب حقوق‬
‫اإلنسان وحدث واعد بازدهاره‪.‬‬
‫كل تلك املعاين التي حملها أو ُح ّملها‪ ،‬عىل‬ ‫يتسن لهم أن يتو ّقعوا ّ‬
‫لكن ُبناة الربج مل ّ‬ ‫ّ‬
‫التجاري»‪ ،‬من كليشيهات التضارب بني‬ ‫ّ‬ ‫مدى عقود الحقة‪ .‬فقد صار إيفل‪ ،‬هذا «اليشء‬
‫مواقف املث ّقفني وحياتهم‪ .‬ذاك أنّ هؤالء‪ ،‬ويف عدادهم مهندسو عامرة معروفون‪ ،‬هاجموه‬
‫موباسان الذي بلغ كرهه له ما مل يبلغه كره سواه‪ ،‬كان يتناول‬ ‫ّ‬ ‫برضاوة‪ .‬بيد أنّ الروا ّيئ غي دو‬
‫غداءه يوم ّياً يف مطعم الربج‪ .‬وحني سئل عن ذلك قال إنّه وهو يف داخل الربج يضمن أنّه ال‬
‫وأهم من ذلك أنّ برج إيفل الذي انخفض قلي ًال بعدما تجاوزه يف العل ّو «مبنى‬ ‫يرى هيكله‪ّ .‬‬
‫احتل األخريون‬ ‫كرايزلر» النيويور ّيك عام ‪ ،1931‬بقي أرفع بال قياس من الناز ّيني‪ .‬فعندما ّ‬
‫عطل عماّ ل إيفل مصاعده فبات الجنود األملان يصعدون إىل ق ّمته سرياً عىل أقدامهم‪.‬‬ ‫فرنسا‪ّ ،‬‬
‫وهناك صورة شهرية لهتلر‪ ،‬الذي مل يصعد‪ ،‬وهو ينظر إىل أعاله من جواره األريضّ الواطىء‪.‬‬
‫النازي‪ ،‬عىل ما ع ّلقت عبارة راجت يومذاك‪ ،‬غزا باريس ومل ينجح يف غزو‬ ‫ّ‬ ‫فالديكتاتور‬
‫برجها‪ .‬إ ّال أنّ العظمة التي يف برج إيفل‪ ،‬ومعها املهابة التاريخ ّية‪ ،‬هام نفسهام أخرجاه‪ ،‬بعد‬
‫منتصف القرن العرشين‪ ،‬من املزاج السائد‪ .‬هكذا استولت عليه أفالم هوليوود التي تث ّبته‬
‫كليشيهاً سياح ّياً عن عاصمة فرنسا‪.‬‬
‫أ ّما يف أمريكا‪ ،‬فباتت غلبة الرشكات واملصارف عىل أسامء املباين ال تدع للبس مجاالً‪.‬‬
‫كذلك بدت الرأسامل ّية العامل ّية تستعرض إنجازاتها الج ّبارة وتتشاوف بها‪ ،‬وأ ّم اإلنجازات‬
‫كانت الواليات امل ّتحدة ذاتها‪.‬‬
‫والراهن أنّ االفتتان بـ»الجديد» كان أحد األسباب التي جعلت الوجهة الراهنة‬
‫تعاكس الوجهة السابقة للرأسامل ّية وسلعها‪ :‬من «العامل الجديد» إىل أوروبا فسائر العامل‪،‬‬
‫وليس من «العامل القديم» إىل القا ّرة التي تف ّرعت عنها‪.‬‬
‫الصناعي للزجاج وللفوالذ موقعاً غري مسبوق يف بناء‬ ‫ّ‬ ‫هنا أعطت الحداثة والعرص‬
‫صناعي جعله رخص الطاقة‬ ‫ّ‬ ‫كل حساب‪ ،‬يبقى أنّ ناطحات السحاب مفهوم‬ ‫املباين‪ .‬وبعد ّ‬

‫‪159‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫واملوا ّد األول ّية ممكناً‪ .‬فاملبنى الطويل القامة يتط ّلب الكثري منها كيام يستند إليه‪ ،‬فيام‬
‫يستدعي طوله من الطاقة ما مي ّكن من إنهاض موا ّد البناء ومن ضخّ املاء إىل ذاك العل ّو‬
‫ثم إنّ األبراج كتج ّمعات سكن وعمل تخترص استخدام مساحات األرض وتلخّ صه‪،‬‬ ‫الشاهق‪ّ .‬‬
‫متيح ًة تكثيف النشاط املنتج وتبادل إنتاجه واستهالكه يف رقع أصغر‪ ،‬وهذا جميعاً ما يالئم‬
‫البيئي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النقل العا ّم ويساعد يف االقتصاد وعدم التفريط‬
‫زجت الحداثة والصناعة يف ميدان االستخدام ع ّد ًة آل ّية كانت ضئيلة الحضور‬ ‫هكذا ّ‬
‫القوي‪ ،‬أو أنّها مل تكن موجودة من قبل كاملصاعد‪.‬‬ ‫سابقاً‪ ،‬كمثل مضخّ ات املياه ذات الضغط ّ‬
‫وهو ما ظهر ظهوره األ ّول يف ‪ ،1864‬حني ُبنيت «أوريال تشاميربز» يف ليفربول بربيطانيا‪،‬‬
‫يؤطرها الحديد بالكامل فيام تُكىس جدرانها بالزجاج‪ .‬كذلك‬ ‫فكانت العامرة األوىل التي ّ‬
‫توحده الرأسامل ّية للم ّرة‬ ‫باتت فكرة املركز أش ّد مركز ّية‪ :‬ذاك أنّ الغرب مركز العامل الذي ّ‬
‫األوىل يف التاريخ‪ ،‬فيام أمريكا املركز الناىشء لذاك الغرب‪ .‬وهذا ما منح‪ ،‬عىل نطاق الوحدات‬
‫األصغر‪ ،‬معنى إضاف ّياً وزمن ّياً لإلرشاف عىل جوار وعىل محيط يدوران حول املركز ويقرصان‬
‫عنه حك ًام‪ .‬أ ّما هو ّيات املدن فأضحت تُستقى‪ ،‬ال من الوظائف البريوقراط ّية والعسكر ّية‪،‬‬
‫الصناعي‪ .‬هكذا‬
‫ّ‬ ‫وال من ألوان الس ّكان أو أديانهم وأصولهم‪ ،‬بل أساساً من جربوتها املا ّيل أو‬
‫املبني يف ‪ 1884‬أن تجاوز كاتدرائ ّية لينكولن طوالً‪ .‬ويف العام نفسه بني‬ ‫كان لنُصب واشنطن ّ‬
‫ثم‪ ،‬يف ‪ ،1891‬نهض «وايرنايت بلدينغ» يف سان لويس‬ ‫«هوم إنشورنس بلدينغ» يف شيكاغو‪ّ ،‬‬
‫فكان أ ّول مبنى ّ‬
‫يؤطر بالفوالذ‪.‬‬
‫وسجلت تسعينات القرن التاسع عرش طفرة كان مرسحاها الكبريان واملتنافسان‬ ‫ّ‬
‫تم اإلقالع يف اتّجاه لندن فميلبورن يف أوسرتاليا‪ .‬ويف هذه الغضون‬ ‫شيكاغو ونيويورك‪ ،‬ومنهام ّ‬
‫ثم يف أمريكا‪ ،‬مت ّكن‬ ‫كانت الحداث ّية الوظيف ّية التي أعلتها مدرسة «الباو هاوس»‪ ،‬يف أملانيا أ ّوالً‪ّ ،‬‬
‫الوجهة تلك وتُغني احتامالتها‪.‬‬
‫وقد تخ ّلل هذه القفزة التي قفزها العامل الجديد اعرتاض أبدته بعض طبقات العامل‬
‫القديم ممثّلة بامللكة فيكتوريا‪ .‬فهذه التي ش ّقت للرأسامل ّية الربيطان ّية أعرض طرقها‪ ،‬ظ ّلت‬
‫الشك مبقت‬ ‫متسكها بعرص اإلقطاع وأخالقه‪ ،‬كام امتزجت إمربيال ّيتها التي ال يرقى إليها ّ‬ ‫عىل ّ‬
‫الشك أيضاً إليه‪ .‬وقد ح ّدت فيكتوريا من حقّ املباين يف االرتفاع فاستم ّر‪،‬‬ ‫لليربال ّية ال يرقى ّ‬
‫ح ّتى الخمسينات‪ ،‬ما خال استثناءات قليلة‪ ،‬إذعان اململكة امل ّتحدة لتلك الرغبة امللك ّية‪ .‬أ ّما‬
‫أمريكا فبقي احتفالها كام ًال غري منقوص بعظمة اإلله الجديد وعل ّو قدره‪ .‬هكذا استقبلت‬
‫الخاليص «مبنى كرايزلر» و»مبنى إمباير ستايت» اللذين نرصا‪ ،‬يف أوائل‬ ‫ّ‬ ‫بيشء من الصخب‬
‫الثالثينات‪ ،‬مهدهام النيويور ّيك عىل شيكاغو وك ّرسا األول عاصمة العامل األوىل‪.‬‬
‫الفرنيس روالن بارت نظام األولو ّيات الجديد‪ ،‬فرأى أن‬ ‫ّ‬ ‫ويف وقت الحق صاغ الناقد‬
‫«ناطحة السحاب تنىشء الكتلة‪ ،‬والكتلة تنىشء الشارع‪ ،‬والشارع يق ّدم نفسه لإلنسان»‪.‬‬
‫واألبراج ما لبثت‪ ،‬بعد الحرب العامل ّية الثانية‪ ،‬أن انتقلت إىل أمريكا الالتين ّية وآسيا‪،‬‬
‫وبات املستب ّدون‪ ،‬كام الكنائس من قبل‪ ،‬يحاولون االستثامر يف هذه النُصب إروا ًء ُلعظامهم‬

‫‪160‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫النصبي‪ .‬فبني ‪ 1947‬و‪ 1953‬بنى ستالني «الشقيقات السبع» أو «مباين ستالني الطويلة» كام‬ ‫ّ‬
‫أسامها الروس‪ .‬وكان فرانكو قد سمح يف الخمسينات ببناء األبراج‪ .‬غري أنّ األوىل «اليسار ّية»‪،‬‬
‫كام الثانية «اليمين ّية»‪ ،‬بدت كالحة وجامدة وصلدة تشبه الزعامء اآلباء الذين أنشأوها‪ .‬أ ّما‬
‫واملرحبة بوفادته إليها‪ ،‬متزج العمل‬
‫ّ‬ ‫الرأسامل ّية الليربال ّية فراحت‪ ،‬هي املرشعة عىل خارجها‬
‫باللعب‪ ،‬وتتحايل عىل الج ّد ّي‪ .‬ذاك أنّ املصالح استدعت تدمري مبانٍ عمالقة عىل نحو أثار‬
‫ىس وحزناً معلنني‪ ،‬وغيرّ خرائط األهم ّية التي تحت ّلها املناطق واملراكز واألسواق‪ .‬إ ّال أنّ‬ ‫أ ً‬
‫التدمري هذا زاد يف األنسنة التي تقول لنا إنّ املباين متوت أيضاً مثلام منوت نحن البرش‪ ،‬بعدما‬
‫قالت العامرات املائلة إنّها مترض وتعالَج‪ .‬وشعور كهذا كان يخ ّفف وطأة الطول والجربوت‬
‫يحسون بضآلتهم حيال ناطحة السحاب‪ ،‬أو يستدعون الخوارق إىل مخ ّيالتهم حني‬ ‫عن برش ّ‬
‫يرون هذا الكائن الخارق‪ .‬ذاك أنّ الصواعق وأفعال الطبيعة املجنونة قد تنتاب الناظر إىل‬
‫الربج بوصفها وحدها ما يعادله ويناهضه‪ ،‬ووحدها ما يستطيع تدمريه وأخذه‪ ،‬هو الناظر‪،‬‬
‫جامعي غري موعى بالخطيئة‬ ‫ّ‬ ‫يف طريقها‪ .‬ولربمّ ا نجم االستدعاء الهيو ّيل هذا عن شعور‬
‫الناجمة عن تح ّدي الله‪ .‬فل ُيقدم الخُ طاة‪ ،‬إذاً‪ ،‬عىل تدمريه‪ ،‬ول ُيضعفوا وطأته عليهم فيام‬
‫عظموها عندما بنوه‪ .‬هكذا ميكن لترصيف الذنب ومشاعره‬ ‫يعظمون أنفسهم ثاني ًة بعدما ّ‬ ‫ّ‬
‫أن ي ّتخذ شك ًال يغاير أشكاله السابقة حاضّ اً عىل الوقوع يف التجربة والخروج منها مرفوعي‬
‫الرأس‪ .‬وهل يعجز من تح ّدى الله عن تح ّدي األبراج؟‪.‬‬
‫لقد راج الطلب عىل ما يتغيرّ إذ املتح ّول بات وحده الفاتن‪ ،‬أ ّما الثوابت‪ ،‬كمثل برج‬
‫الفرنيس‪ ،‬فزادت األعناق التي تلوي عنها عاماً بعد عام‪ .‬ومنذ تسعينات القرن التاسع‬ ‫ّ‬ ‫إيفل‬
‫عرش‪ ،‬كان الناقد األمري ّيك هرني جيمس قد الحظ كيف أنّ الدالالت واملعاين رشعت تنقلب‪.‬‬
‫خص ناطحات السحاب‪« ،‬ليس فقط ال يت ّوجها‪ ،‬بل هي ال متلك للتاريخ‬ ‫فـ «التاريخ»‪ ،‬يف ما ّ‬
‫احتامل وقت وجيه»‪ .‬وربمّ ا جاز القول إنّ اإلرهاب ّيني الذين فعلوا فعلتهم يف ‪ 11‬أيلول ‪2001‬‬
‫أسهموا يف إرجاع األمريك ّيني إىل ثبات مل يكن يف طباعهم‪ ،‬وإىل إرصار عىل استعادة ما انهدم‬
‫بسبب الطريقة التي انهدم فيها‪.‬‬
‫يف غري هذا االستثناء‪ ،‬وقفت الرأسامل ّية وحدها‪ ،‬ووقفت دامئاً‪ ،‬تصالح الفرد مع‬
‫الفردي مع العظيم‪ ،‬جاعل ًة هذا التاريخ العريض معرضاً ملصالحاتها‪ .‬ومنذ‬ ‫ّ‬ ‫العظمة وتوائم‬
‫السبعينات‪ ،‬وعىل أيدي مهندسني كروبرت فينتوري وريكاردو بوفيل وسواهام‪ ،‬تط ّور «مزاج»‬
‫ما بعد الحداثة وتط ّور معه اللعب املوكل إىل التزيني والحذاقة والدعابة وخلط املراجع‬
‫التاريخ ّية لحقب العامرة واحدها باآلخر‪ .‬هنا ُأعلن موت الوظيف ّية والنخبو ّية والج ّد‪ ،‬وبولغ‬
‫لكن املؤ ّكد أنّ وجهة جديدة جعلت تشقّ طريقها‪ ،‬وهذا فيام كانت‬ ‫أحياناً يف إماتتها‪ّ .‬‬
‫األسواق تطرح ُل َعب أطفال تُع َرف بألعاب «الدفاع عن الربج» الذي لطاملا احتكره الرجال‬
‫القساة املدافعون‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫د ّيب‪ :‬اتّصال ال انفصال‬


‫لقائل أن يقول إنّ القرن العر ّيب الحادي والعرشين بدأ يوم الرابع من كانون الثاين (يناير)‬
‫‪ :2010‬يومذاك اف ُتتح الربج الهائل يف د ّيب‪ ،‬بالتزامن مع الذكرى الرابعة لتوليّ الشيخ مح ّمد‬
‫بن راشد آل املكتوم حكم اإلمارة‪ .‬و ّمثة‪ ،‬بالطبع‪ ،‬من ير ّد البداية إىل أحداث أخرى‪ ،‬أكرث‬
‫سياس ّية‪ ،‬كـ»الحرب عىل اإلرهاب» وحرب العراق‪ ،‬أو حريب لبنان وغ ّزة‪ ،‬أو ربمّ ا إىل إفالت‬
‫كل ضابط يف رقعة متت ّد من السودان إىل الخليج وصوالً إىل اليمن‪.‬‬ ‫التف ّتت من ّ‬
‫وهذا مألوف يف حجج التأريخ ومجادالته‪ :‬فهل ولدت الحداثة ومسائلها مع مقاومة‬
‫أحمد عرايب لإلنكليز أم مع املرشوع العمرا ّين للخديوي اسامعيل؟‪ ،‬وهل يتش ّكل املفصل‬
‫اللبنا ّين األكرب من تجربة رفيق الحريري‪ ،‬ويف القلب منها «إعامر بريوت»‪ ،‬أم من الحروب‬
‫بكل ما يقف عىل قدمني يف بريوت؟‪.‬‬ ‫التي كادت تفتك ّ‬
‫والحال أنّ التأريخ بالربج كمثل التأريخ بشقّ قناة السويس خامت ًة سعيدة للقرن‬
‫التاسع عرش وما انبنى عليه من «عرص ليربا ّيل»‪ .‬ذاك أنّ تط ّورات كهذه قد متلك دميومة أبعد‬
‫وأثراً أعمق إذ متكث منقوشة يف األرض‪ ،‬تخدش الطبيعة وحياءها‪ ،‬فيام تصنع للبرش عالقات‬
‫جديدة ينج ّرون إليها عىل غفلة منهم‪.‬‬
‫وال يبالغ من يقول إنّنا ك ّنا دوماً مقسومني مدرستني‪ ،‬واحد ًة متت ّد من اسامعيل إىل د ّيب‪،‬‬
‫مروراً بالحريري‪ ،‬والثانية متت ّد من عرايب باشا إىل املقاومات واملامنعات‪ .‬وال يبالغ‪ ،‬كذلك‪ ،‬من‬
‫يتج ّرأ فيطرح فكرة صادمة مفادها أنّ املدرستني هاتني تتواصالن وتتقاطعان أكرث مماّ تنفصل‬
‫ّ‬
‫تستخف‬ ‫النارصي العابر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واحدتهام عن األخرى‪ .‬صحيح أنّ املدرسة الثانية‪ ،‬ما خال اعرتاضها‬
‫بكل تعمري‪ ،‬وتستحرض ترسانات األفكار والخرافات يف نقدها‪ ،‬فرتى فيه التغريب أو خدمة‬ ‫ّ‬
‫عل ّية القوم ذوقاً ومصلح ًة‪ ،‬كام تستنفر مقاتليها‪ ،‬مثلام حصل يف لبنان‪ ،‬لهدم الحجر عطفاً‬
‫عىل قتل البرش‪ .‬غري أنّ تعمرياً يفتقر إىل وعيه وثقافته‪ ،‬ينتهي إىل تجويف ال تخرج من ثقوبه‬
‫معظمها حقّ ُيراد به باطل‪ ،‬من نوع النُصب ّية‬ ‫ُ‬ ‫إ ّال الراديكال ّيات العدم ّية‪ ،‬آخذ ًة عليه مآخذ‬
‫املبالغ فيها‪ ،‬وعدم التالؤم بني االستعراض والحاجة‪ ،‬والتبديد والهدر واالستدانة بال رقيب‪.‬‬
‫عىل أنّه سبق‪ ،‬عىل نطاق أصغر بال قياس من النطاق الدبيا ّين‪ ،‬أن ج ّرب عرب القرن‬
‫العرشين حفر أسامءهم‪ ،‬عرب األبراج‪ ،‬يف الطبيعة ويف الزمن‪ .‬هكذا كان برج القاهرة يف الزمالك‬
‫الذي بني بني ‪ 1956‬و‪ 1961‬وارتفع ‪ 187‬مرتاً فكان أعىل بـ‪ 43‬مرتاً من أهرام الجيزة‪.‬‬
‫يومذاك كانت النارص ّية توايل التح ّدي‪ ،‬مستخدم ًة التحديث لص ّد الحداثة األشمل‪.‬‬
‫فالفرتة املذكورة هي التي شهدت تأميم قناة السويس والتص ّدي لـ»العدوان الثال ّيث» ّ‬
‫ثم‬
‫إقامة الوحدة مع سور ّيا التي انف ّكت بعد ن ّيف وثالث سنوات‪ ،‬أي يف العام الذي انتهى فيه‬
‫القاهري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بناء الربج‬
‫السوري‪ ،‬وبني االحتفال بالربج‪ ،‬مل يكن‬‫ّ‬ ‫والتالزم بني هزمية ُم ّرة للنارص ّية‪ ،‬كاالنفصال‬
‫مشجعاً عىل التح ّدي وال باعثاً عىل التفاؤل يف صدده‪ّ .‬‬
‫لكن امليلودراما املرص ّية‪ ،‬وكانت قوم ّية‬ ‫ّ‬

‫‪162‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يومذاك‪ ،‬ابتذلت رواية الربج ونزعت عنها الزخم الذي ييش به تاريخ األبراج بوصفه رصاعاً‬
‫م ّتص ًال مع الله‪ .‬ذاك أنّ ماليني الجنيهات التي ُأنفقت عىل بنائه جيء بها‪ ،‬حسب الرواية‬
‫النارص ّية الرسم ّية‪ ،‬من الواليات امل ّتحدة‪ ،‬وكان هدفها رشوة جامل عبد النارص ودفعه إىل‬
‫تغيري سياساته والتعاون مع «وكالة املخابرات املركز ّية» األمريك ّية‪ .‬ومتيض الرواية تلك فتقول‬
‫إنّ املبلغ حمله «يف حقيبة يد» مستشار عبد النارص يومها‪ ،‬حسن التهامي‪ ،‬آتياً به من‬
‫واشنطن إىل القاهرة‪ .‬بيد أنّ «زعيم القوم ّية العرب ّية» ما إن تس ّلم املبلغ ذاك ح ّتى شعر‬
‫باإلهانة مق ّرراً إنفاقه عىل بناء برج‪.‬‬
‫األهم الذي غ ّنى‬
‫ويشع عىل إيقاع «الله أكرب»‪ ،‬نشيد النارص ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكان هذر كهذا ي ّتسع‬
‫تح ّدياتها جاع ًال برجها ال يناطح إ ّال‪« ...‬االستعامر»‪.‬‬
‫إنّ يف األمر لَكِيتشاً إذاً‪ .‬وهو ما نعود فنلقاه يف د ّيب عىل هيئة أخرى وبأرقام ال تُقارن‬
‫باألرقام القدمية املتواضعة‪ .‬فام ُع ّمر يف تلك اإلمارة الصغرى أطول برج يصنعه االنسان‪:‬‬
‫طوله ‪ 828‬مرتاً‪ ،‬مصاعده‪ ،‬وعددها سبعة وخمسون‪ ،‬تعلو وتهبط برسعة ‪ 64‬كيلومرتاً يف‬
‫الساعة‪ ،‬وفيه أيضاً أعىل مسجد يف العامل‪ ،‬يقيم يف الطابق الـ ‪ 158‬منه‪ .‬ويف هذا‪ ،‬ويف غريه‪،‬‬
‫ال ب ّد من عقل مجنون ومن مخ ّيلة وحش ّية‪ :‬ذاك أنّ األرقام الفلك ّية تتساوى وال تعود عرضة‬
‫للفن»‪ .‬وال ّ‬
‫يكف‬ ‫«الفن ّ‬
‫ُّ‬ ‫للقياس واملقارنات‪ ،‬إذ الرقم يصري «للرقم» باملعنى الذي يقال فيه‬
‫أفعل التفضيل عن التد ّفق يف ما ُس ّمي «سوبر ناطحة سحاب» دبيان ّية‪.‬‬
‫فالكلفة االجامل ّية للمرشوع بلغت ‪ 1،5‬بليون دوالر‪ ،‬وهي جزء من الـ‪ 20‬بليوناً التي‬
‫ك ّلفتها «داون تاون ديب» الجديدة التي تشمل الربج‪ .‬والنُصب هذا‪ ،‬املنترش صعوداً عىل ‪160‬‬
‫يضم تسعة فنادق ومواقف‬ ‫طابقاً‪ ،‬والذي استغرق العمل فيه خمس سنوات‪ ،‬مص ّمم يك ّ‬
‫يقل عن ‪ 19‬برجاً سكن ّياً صغرياً من ‪ 1044‬ش ّقة سكن ّية‪،‬‬ ‫س ّيارات مبساحة ثالثة هكتارات وما ال ّ‬
‫ومركزاً تجار ًّيا ضخ ًام هو أكرب مراكز التس ّوق يف العامل‪ ،‬وبحرية اصطناع ّية ذات مساحة تبلغ‬
‫‪ 12‬هكتاراً‪ ،‬ومدينة مال ٍه مساحتها ضعف مساحة «عامل ديزين» يف فلوريدا‪ .‬ويف الربج سوف‬
‫ُخص املكاتب بـ‪ 49‬طابقاً‪ .‬وحسب الرواية الرسم ّية‪،‬‬ ‫يقيم ما يزيد عىل ‪ 800‬رشكة وسوف ت ّ‬
‫الخاصة ك ّلها بعد مثاين ساعات عىل إنزالها إىل السوق‪ ،‬عل ًام بتقدير‬ ‫ّ‬ ‫بيعت الشقق السكن ّية‬
‫مثن املرت املر ّبع الواحد‪ ،‬يف آذار (مارس) ‪ ،2009‬بأكرث من ‪ 43‬ألف دوالر‪.‬‬
‫والربج سوف تتز ّين دواخله بأكرث من ألف قطعة فن ّية‪ ،‬فض ًال عن أعامل برونز ّية‬
‫سيحتل ‪ 15‬طابقاً من الطوابق الـ‪39‬‬ ‫ّ‬ ‫يتمثّل فيها ‪ 196‬بلداً من العامل‪ .‬أ ّما فندقه ّ‬
‫األهم الذي‬
‫األدىن‪ ،‬فسوف يز ّينه جورجيو أرماين‪ ،‬املص ّمم الشهري‪ .‬ولسوف يعيش هناك ‪ 25‬ألف شخص‪،‬‬
‫فيام يستطيع الربج‪ ،‬يف أ ّية لحظة‪ ،‬أن يستوعب ‪ 35‬ألفاً‪.‬‬
‫وال يتو ّقف ت ّيار املدهش والعجيب‪ :‬فهو ميكن أن ُيرى من ُبعد ‪ 95‬كيلومرتاً‪ ،‬ولغسل‬
‫كل منها يحمل آالت‬ ‫شبابيكه البالغ عددها ‪ 24384‬ش ّباكاً‪ ،‬الت ّفت من حوله طرق أفق ّية ّ‬
‫وزنها ‪ 1500‬كلغ قابلة للتحريك صعوداً وهبوطاً‪ .‬أ ّما يف األوضاع الطبيع ّية‪ ،‬حني تكون سائر‬
‫وحدات الصيانة جاهزة للعمل‪ ،‬فيتط ّلب تنظيف واجهته الخارج ّية ‪ 36‬عام ًال يعملون ما بني‬

‫‪163‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫ثالثة أشهر وأربعة‪ .‬وللربج نافورة هي أعىل مثيالتها يف العامل‪ ،‬يبلغ طولها ‪ 275‬مرتاً‪ ،‬ويضيئها‬
‫‪ 6600‬ضوء و‪ 50‬بروجيكتوراً مل ّوناً‪ ،‬فيام تقذف املاء بطول ‪ 150‬مرتاً يف الهواء‪.‬‬
‫وملّا نهض هذا املرشوع عىل مقربة كيلومرت واحد من الصحراء‪ ،‬مل يبق ملراسل‬
‫«الغارديان» الربيطان ّية ستيف روز‪ ،‬وهو يقف مواجهاً هذا النُصب العمالق‪ ،‬إ ّال أن يسأل‪:‬‬
‫قصة سوريال ّية مهلوسة من نوع ما»‪.‬‬ ‫«لسنا متأ ّكدين ما إذا كان ملهاة أو مأساة أو ّ‬
‫فإذا ما أخذ البعض عىل املج ّمعات التجار ّية أنّها تلخّ ص تجربة البرش مع املكان‪،‬‬
‫حيث تتج ّمع السوق والكاراج والسينام واملطعم يف مكان واحد‪ ،‬فإنّ نقداً كهذا يحظى‬
‫املسطحة والض ّيقة الرقعة تجعل الربج ال‬ ‫ّ‬ ‫بوجاهة أكرب يف د ّيب الصغرى‪ .‬فكيف وأنّ األرض‬
‫يطل إال عىل برج‪ ،‬كام تق ّدم البلد وأرضه كأنّهام ذريعة لألبراج‪.‬‬
‫لكن أسباب التباهي تبقى‪ ،‬مع هذا‪ ،‬كثرية متن ّوعة‪ ،‬بعضها مصدره د ّيب نفسها وبعضها‬ ‫ّ‬
‫الخليج‪ ،‬وهناك بالتأكيد اإلسالم‪ .‬فلنئ نطحت ناطحة عبد النارص االستعامر‪ ،‬مع ّول ًة عىل‬
‫دعم الله‪ ،‬فإن ناطحة د ّيب تشاركها البحث عن خصوم أرض ّيني‪ .‬ي ّتضح هذا ال يف بناء أعىل‬
‫يل املستوحاة من هندسة‬ ‫مساجد العامل فحسب‪ ،‬وال يف اعتامد القباب ذات الشكل البص ّ‬
‫العامرة اإلسالم ّية‪ ،‬أو زهرة زنبقة الصحراء املعروفة يف الخليج‪ ،‬بل كذلك يف مواصفات أخرى‬
‫تتناثر هنا وهناك‪ .‬فالربج «غلب» برج «تايبه ‪ »101‬عل ّواً‪ ،‬وكان األطول ح ّتى تلك اللحظة‪،‬‬
‫لكن ألنّها عوملة تستنطق جذور «األصالة» العتيقة‪ ،‬رأينا الربج‬ ‫مثبتاً سبقه يف زمن العوملة‪ْ .‬‬
‫الدبيا ّين ُيرجع إىل منطقتنا امتيازها حني احت ّلت «أعىل نقطة يف العامل»‪ ،‬وهو ما خرسته‬
‫منذ أن أقدمت كاتدرائ ّية لينكولن اإلنكليز ّية عىل تجاوز أهرام الجيزة‪ .‬والعد ّو الغر ّيب دامئاً‬
‫معني بالدفاع عن كاتدرائ ّية مقيمة يف ماضيه امل ّيت‪ .‬مع‬ ‫سهل العداوة‪ ،‬بعيد املسافة‪ ،‬غري ّ‬
‫يل بعضها األصغر‪ ،‬بينام صنع‬ ‫هذا فمعاداته تنهل من ذاكرات ال تنضب صنع التاريخ الفع ّ‬
‫التعليم واألحزاب الراديكال ّية وخطب الجمعة وأصداء االنقالبات العسكر ّية يف املنطقة‬
‫بعضها األكرب‪.‬‬
‫لكن برج د ّيب‪ ،‬أو برج خليفة «األعىل يف العامل»‪ ،‬ال يكتفي باختيار أعداء يسهل‬ ‫ّ‬
‫خصت «األعىل»‬ ‫نطحهم‪ ،‬بل يحتفظ لنفسه بوظيفة سهلة نسب ّياً‪ .‬ذاك أنّ شعوباً أخرى ّ‬
‫اإلنجازي يف حقل ما‪ :‬ففي روس ّيا تُع ّد جامعة موسكو الرسم ّية (‪ 240‬مرتاً) البناية‬ ‫ّ‬ ‫بالتف ّوق‬
‫تعليمي‪ ،‬ويف انكلرتا يقف مستشفى غي اللند ّين (‪ 143‬مرتاً) بنايةً‬ ‫ّ‬ ‫األعىل يف العامل كمركز‬
‫يصح يف مكتبة شنغهاي الصين ّية (‪ 106‬أمتار) بني‬ ‫أعىل كمركز استشفاء‪ ،‬واليشء نفسه ّ‬
‫لكن د ّيب‪ ،‬وقبل أن تبني برجها األخري‪ ،‬كانت قد تف ّوقت يف مبنى‬ ‫األبراج املسكونة باملكتبات‪ّ .‬‬
‫للفنادق ُس ّمي «برج العرب» طوله ‪ 321‬مرتاً وكان أ ّول «فندق سبع نجوم» يف العامل‪.‬‬
‫إذاً االختيار واقع عىل الفندق حرصاً‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫«األ ّول» و»الدو ّيل» و»املعرض»‬


‫يل ومصنع األلومينيوم‬ ‫تتفجر املشاريع الكربى‪ ،‬فأنجز ميناء جبل ع ّ‬ ‫يف أواخر السبعينات بدأت ّ‬
‫ثم يف ‪ 1985‬أنشئت املنطقة الح ّرة حول امليناء املذكور‪ .‬وبالنتيجة غدت د ّيب تحتوي‬ ‫دوبال‪ّ ،‬‬
‫‪ 70‬بناية يتجاوز طول واحدتها الـ‪ 180‬مرتاً‪ ،‬و‪ 51‬بناية تتجاوز واحدتها الـ‪ 200‬مرت‪ ،‬فيام ال‬
‫متلك نيويورك من هذا الصنف األخري إ ّال ‪ 50‬بناية‪.‬‬
‫فكلمة «الدويل» أو «العاملي» ال تُسمع كام تُسمع يف د ّيب‪ ،‬واليشء نفسه ينطبق عىل‬
‫مفردات من صلب القاموس الدبيا ّين‪ ،‬كتعبريي «أ ّول» و»معرض»‪ .‬ففي ‪ 1989‬أقيم معرض‬
‫د ّيب للطريان‪ ،‬ويف ‪ ،1993‬معرض إيدكس‪ ،‬أو الدفاع الدو ّيل‪ ،‬ويف ‪ ،1996‬مهرجان د ّيب للتس ّوق‪.‬‬
‫تأسست‪ ،‬يف ‪ ،2001‬مدينة د ّيب لإلعالم منطق ًة ح ّرة‪ ،‬وما لبث أن أنىشء مركز د ّيب املا ّيل‬ ‫وقد ّ‬
‫لكن هذا مل يبدأ العمل إال‬ ‫العاملي الذي نافس مركزين آخرين يف الخليج‪ ،‬يف البحرين وقطر‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫يف ‪ :2004‬فقد استقال مسؤوالن غرب ّيان يف أعىل هرم ّيته آخذين عىل املرشوع إدارته وتسيريه‬
‫الفاسدين‪ ،‬فيام ُر ّد عىل ذلك بأنه «تضخيم ميارسه الغرب»‪.‬‬
‫لكن السبحة كانت قد ك ّرت‪ُ ،‬فأ ّسست جائزة د ّيب للصحافة يف ‪ ،2002‬ومهرجان ديب‬ ‫ّ‬
‫العاملي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السينام ّيئ الدويل يف ‪ ،2004‬ودورة عامل ّية لكرة الس ّلة يف ‪ ،2005‬كام أنىشء كأس د ّيب‬
‫يضم أكرث من ‪ 4000‬صالة فن ّية ملنتجات من العامل ك ّله‪ ،‬ومعرض د ّيب‬ ‫ومعرض «آرت د ّيب» الذي ّ‬
‫الدو ّيل للس ّيارات‪ ،‬وهو أكرب مثالئه يف الرشق األوسط‪ ،‬ومعرض د ّيب الدو ّيل للطريان‪ ،‬ومعرض‬
‫لكن مل يفت‬ ‫الخط العر ّيب‪ .‬وهكذا دواليك‪ْ .‬‬ ‫لفن ّ‬ ‫د ّيب الدو ّيل لكتاب الطفل‪ ،‬ومعرض د ّيب الدو ّيل ّ‬
‫غطى «آرت د ّيب»‪ ،‬أن يالحظ خل ّو هذا املعرض‬ ‫وستكوت‪ ،‬مراسل «الغارديان» الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫جيمس‬
‫السيايس الواضح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املهيب والجميل من أعامل العري‪ ،‬ومن األعامل ذات املضمون‬
‫ويف هذا االحتفال املتواصل الذي ُيبهج الذات بذاتها‪ ،‬تو ّقف كثريون عند مرتو د ّيب‬
‫الذي اف ُتتح شطره األ ّول يف أيلول (سبتمرب) ‪ .2009‬فهو طبعاً األ ّول يف شبه الجزيرة العرب ّية‪،‬‬
‫ما إن يكتمل العمل به ح ّتى يغدو أطول شبكة مرتو كل ّية املكننة يف العامل‪ ،‬بال سائقني وال‬
‫من يحزنون‪ .‬وأ ّما مطار د ّيب الدو ّيل فالسادس عرش بني مطارات العامل يف نقل البرش‪ ،‬إذ نقل‪،‬‬
‫يف ‪ ،2009‬أكرث من أربعني مليون مسافر وعائد وعابر‪ ،‬غري أنّه الحادي عرش لجهة الحمولة‬
‫التي يحملها‪.‬‬
‫وهذا ناهيك عن طوفان معاهد التعليم الدول ّية‪ ،‬وطبعاً الفنادق الدول ّية‪ ،‬عل ًام بأنّ‬
‫نسبة املرتفة منها إىل تلك االقتصاد ّية ربمّ ا كانت األعىل يف العامل‪ .‬ذاك أنّه يف ‪ ،2007‬مث ًال‪ ،‬بلغ‬
‫الوسطي ألسعار الغرف ‪ 51،308‬دوالراً لليلة الواحدة‪ ،‬وهذا كثري ج ّداً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املع ّدل‬
‫اإلسالمي الذي‪ ،‬هو اآلخر‪« ،‬أ ّول» بنك‬ ‫ّ‬ ‫واملعنى ال يكتمل من دون اإلشارة إىل بنك د ّيب‬
‫إسالمي يف العامل‪ .‬وهو‪ ،‬حسب دعايته الذات ّية‪ ،‬يق ّدم «حلوالً مرصف ّية شاملة متوافقة مع‬ ‫ّ‬
‫أحكام الرشيعة»‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫إسالمي‪ .‬فواحد من النُصب‬‫ّ‬ ‫الحرف ّية ملا هو غري‬


‫اإلسالمي ال يعيق املحاكاة َ‬
‫ّ‬ ‫إ ّال أنّ البنك‬
‫العاملي‪ ،‬الذي نُسج يف ‪ 1979‬عىل املنوال النيويور ّيك‬
‫ّ‬ ‫التجاري‬
‫ّ‬ ‫الدبيان ّية األبكر هو مركز د ّيب‬
‫كل‬‫املغدور‪ ،‬مقي ًام يف ناطحة من ‪ 37‬طابقاً‪ ،‬ويف عداده معرض د ّيب الدو ّيل حيث تُعرض ّ‬
‫السلع التي ميكن أن يطاولها التف ّكر‪ ،‬من صاالت وأغذية وس ّيارات وقوارب ومجوهرات إىل‬
‫وخط‪ ،‬وهو‪ ،‬حسب تسميته‪ ،‬مركز «للمؤمترات واملعارض»‪.‬‬ ‫كتاب ّ‬
‫يلح يف استدعاء همفري بوغارت شبحاً يجثم عىل وودي ألن يف‬ ‫لكن هذا التش ّبه ّ‬ ‫ّ‬
‫«إلعبها ثانية يا سام»‪ .‬ففي د ّيب ال ترتاءى نيويورك‪ ،‬بل يلوح تحويل الطبيعة أقرب إىل تط ّهر‬
‫من املكان وإىل تعقيم للزمن‪ .‬فد ّيب‪ ،‬ملهنديس العامرة‪ ،‬فرصة تجريب هائلة‪ ،‬لك ّنها‪ ،‬كام الحظ‬
‫ستيف روز‪ ،‬مكان «ميكن أن تفعل فيه ّأي يشء (‪ )...‬فال يبدو أن أحداً يقول ال‪ ،‬فيام هناك‬
‫دامئاً شخص آخر يدفع»‪.‬‬
‫يرسع الركض وراء الجديد والج ّدة كام لو أنّهام عاصفتان تغيرّ ان املشهد يف‬ ‫وهذا ما ّ‬
‫محل العواصف الرمل ّية التي‬‫كل لحظة‪ .‬ولربمّ ا جاز القول إن عواصف التقن ّية ح ّلت‪ ،‬هناك‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وتضج‪ .‬هكذا تو ّلت األوىل فرض سيطرتها الكاملة عىل األخرى‪ ،‬منتقم ًة‬ ‫ّ‬ ‫ضجت بها الصحراء‬ ‫ّ‬
‫منها بطريقتها الهوجاء إ ّياها‪.‬‬
‫والحال أنّه مل يعد ّمثة وقت للضجر يف د ّيب‪ ،‬حيث تصعد يف ّ‬
‫كل ساعة بناية تغيرّ‬
‫املِعلم املحيط‪ ،‬جاعل ًة اإلمارة يف سباق تس ّلح عمرا ّين مع ذاتها‪ .‬عىل أنّ طرد الضجر بهذه‬
‫الطريقة يرتك يف مح ّله خواء يفوقه خطراً‪ .‬فإذ متوت ذاكرة املكان متاماً‪ ،‬فيام يستويل الدوار‬
‫يكف الضجر عن االمتداد يف الح ّيز الجغرا ّيف لينحفر فراغاً يف صلب‬ ‫عىل الرؤوس املنشدهة‪ّ ،‬‬
‫َمن يعانيه‪.‬‬
‫ُ‬
‫قصة برج آخر من أبراج د ّيب‪ :‬فقد كان مق ّرراً‪ ،‬عىل ما أعلن يف ‪،2008‬‬ ‫وهذا ما تجلوه ّ‬
‫أن ُيفتتح‪ ،‬هذا العا ّم‪ ،2010 ،‬برج د ّوار هو األ ّول من نوعه يف الكون‪ .‬وهذا من بنات أفكار‬
‫املهندس اإليطا ّيل ديفيد فيرش الذي جاء يط ّبق اخرتاعه يف اإلمارة الخليج ّية‪ ،‬بحيث ال يتك ّرر‬
‫كل واحد من طوابقه يدور حول مركزه‬ ‫الب ّتة مشهد‪ّ ،‬أي مشهد‪ ،‬يف نظر الناظر‪ .‬ذاك أنّ ّ‬
‫مستقل عن دوران الطوابق األخرى‪ ،‬فال يرى ساكن الش ّقة‪ ،‬طوال حياة مديدة قد‬ ‫ّ‬ ‫عىل نحو‬
‫يعيشها‪ ،‬ما سبق أن رآه قب ًال‪ .‬ومن يشاهد الصورة التخطيط ّية للربج الد ّوار‪ ،‬يقع برصه عىل‬
‫ثم بظهره عىل صدره‪ ،‬يف‬ ‫ويلتف بصدره عىل ظهره‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫كائن يرقص رقصة ُيعيل فيها خرصه‬
‫حركة تتواىل صعوداً‪ ،‬يصعد معها اللون تاركاً ما يخليه يف الطوابق األدىن للون آخر‪ .‬هكذا‬
‫يلتقي يف تلك الحركة اللولب ّية التي تنترش عىل برجني مرتاكبني‪ ،‬كثري من اإلغراء بكثري من‬
‫الخجل‪ ،‬ويف الحالني ّمثة تشا ُوفان من جنسني مختلفني‪.‬‬
‫ويف األوضاع كا ّفة‪ ،‬يلوح هذا العشق للج ّدة الدامئة كأنه هرب مماّ «نحن فيه»‪،‬‬
‫وضجر عميق يبحث عن عالج نفسه بال انقطاع‪ ،‬ألنّ صاحبه ما إن يخلو بنفسه ح ّتى‬
‫صح القول‪ .‬يكفي لتبينّ ذلك أن نذ ّكر بالوطأة‬ ‫ميوت‪ .‬لك ّنها ج ّدة وظيف ّية أو أدات ّية إن ّ‬
‫املقابلة للمق ّدس عىل العقل العا ّم يف د ّيب‪ ،‬حيث يناط باملسجد األعىل يف العامل أن يستأنف‬

‫‪166‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫«الله أكرب» النارص ّية‪ .‬فهناك «دين الدولة اإلسالم» كام يف سائر البقاع العرب ّية واإلسالم ّية‪،‬‬
‫يل فيلحظ درس الدين ساع ًة يف اليوم للتالمذة منذ دخولهم املدرسة ح ّتى‬ ‫أ ّما التعليم املح ّ‬
‫تخ ّرجهم منها‪.‬‬
‫وقد كان من آخر التج ّليات‪ ،‬يف استعراضات العقل العا ّم‪ ،‬ما أفتى به كبري املفتني يف‬
‫األسطوري‪ ،‬رأى الشيخ املذكور‬
‫ّ‬ ‫الجزيرة الخليج ّية‪ ،‬أحمد عبد العزيز‪ .‬فعىل مقربة من الربج‬
‫أنّ «سجود العبي كرة القدم يف املالعب عىل صورته الحالية‪ ...‬باطل»‪ .‬ذاك أنّ الالعبني ينبغي‬
‫أ ّال يسجدوا يف املالعب «إ ّال إذا تو ّفرت لهم رشوط الطهارة وسرت العورة واستقبال القبلة»‪.‬‬

‫تجربة بال سوابق‬


‫هنا تختلف د ّيب عن سوابق «غريبة عجيبة» تشاطرها بعض السامت العابرة‪ .‬فـ «ألف‬
‫ليلة وليلة»‪ ،‬حسب رأي عاشقها بورخيس‪ ،‬تنبع أهم ّيتها الحرص ّية من داخل ّيتها ومن شبهها‬
‫يك بل العنرص الداخ ّ‬
‫يل املك ِّون يف ثقافاتنا والذي‬ ‫غري املد َرك بنا‪ .‬فهي ليست اآلخ َر اإلكزوتي ّ‬
‫يش ّكل جزءاً من ذاكراتنا‪ .‬لقد نشأ ولع بورخيس بها من أنّها بال نهاية‪ ،‬تشبه الدمى الروس ّية‬
‫يحب ما ال نهاية له بوصفه الخيال الذي تزخر األديان‬ ‫االرجنتيني ّ‬
‫ّ‬ ‫يف ذلك‪ .‬إ ّال أنّ األديب‬
‫واملعتقدات امليثولوج ّية مبثله‪ ،‬فيام األدب ال يستند إ ّال إليه‪.‬‬
‫خارج يستأصل املألوف استئصاالً كل ّياً كام حال املتاهة‬ ‫فاملتاهة هذه ال تأيت‪ ،‬إذاً‪ ،‬من ٍ‬
‫الدبيان ّية‪ .‬وهو ما يفسرّ أنّ اإلمارة الخليج ّية مل تنتج أدباً وال كانت إ ّال نادراً موضوعاً ألدب‪.‬‬
‫السعودي هاين نقشبندي رواية حملت عنوان «ليلة واحدة‬ ‫ّ‬ ‫فحني أصدر الصحا ّيف والروا ّيئ‬
‫قصته حول امرأة عاشت وحيدة هناك‪ ،‬وما إن استيقظت ذات يوم ح ّتى‬ ‫يف د ّيب»‪ ،‬دارت ّ‬
‫اكتشفت أنّ الشمس التي استقبلت بها الصباح غ ُري الشمس التي تعرفها‪ .‬أ ّما السبب فناطحة‬
‫سحاب نبتت‪ ،‬بني ليلة وضحاها‪ ،‬يف جوارها‪ ،‬يزيد عدد املقيمني الغرباء ك ّلام زاد ارتفاعها‬
‫وزادت شققها السكن ّية‪ .‬وهذا إنمّ ا كان‪ ،‬لبطلة نقشبندي‪ ،‬سبباً لضياع يف الهو ّية وتبخّ ر يف‬
‫الذاكرة تأ ّدى عنهام نسيانها اسمها‪.‬‬
‫وعندما شاء مخرج أملا ّين إسمه ميخائيل شندهيلم أن يؤ ّلف كتاباً عن د ّيب‪ ،‬أعطى‬
‫لكتابه عنوان ‪ Dubaispeed‬كام استخدم هذه التسمية نفسها ملوقع له عىل االنرتنت يرصد‬
‫لكن انكباب املخرج هذا مر ّدہ ال إىل عشق لألدب أو غرام بالعمران‪،‬‬ ‫عمران اإلمارة وأخباره‪ّ .‬‬
‫بل ألنّ حاكم د ّيب الشيخ محمد بن راشد سبق أن استدعاه يف ‪ 2007‬يك يرشف عىل تأسيس‬
‫مج ّمع للتبادل الثقا ّيف «بني الرشق والغرب»‪ ،‬تكون إمارته مق ّراً له‪.‬‬
‫كذلك فد ّيب ليست الس فيغاس‪ ،‬عاصمة الكيتش الكون ّية‪ ،‬حيث ُيبنى العامل القديم‪،‬‬
‫كام يقال دعائ ّياً‪ ،‬يف ح ّلة جديدة‪ .‬صحيح أنّ املدينتني قد تشرتكان يف إعطاء املشهد والنجوم ّية‬
‫موقعاً متص ّدراً‪ .‬بيد أنّ الفانتازيا الفيغاس ّية املستم ّدة من استعادة املايض‪ ،‬ولو كيتش ّياً‪،‬‬
‫ليست من سامت د ّيب‪ .‬فهنا‪ ،‬يف هذه األخرية‪ ،‬ال يحرض التاريخ‪ ،‬كائناً ما كان الحضور املقصود‪،‬‬

‫‪167‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫إ ّال قتي ًال‪ .‬واليشء ذاته يقال يف الباروديا التي تزخر بها الس فيغاس ألنّها‪ ،‬مبعنى ما‪ ،‬متسخر‬
‫الديني منه‪ ،‬الذي تو ّثق‬
‫ّ‬ ‫ماضيها‪ .‬أ ّما د ّيب‪ ،‬فانفصالها عنه ال يرتك لها ما متسخره‪ ،‬فيام الشطر‬
‫ارتباطها به‪ ،‬ينتمي إىل مق ّدس ال يحتمل املسخرة أص ًال‪.‬‬
‫ومماّ يرتتّب عىل هذا أنّ د ّيب ال تؤخذ بخ ّفة‪ ،‬فال تكون‪ ،‬كام الس فيغاس‪ ،‬لحظة‬
‫اليومي أو راح ًة منها‪ ،‬مبا يشبه الذهاب اىل حديقة عا ّمة أو إىل قرية جبل ّية‬
‫ّ‬ ‫استقالة عابرة من‬
‫لقضاء يومني يف آخر األسبوع‪.‬‬
‫إنّ د ّيب تطرح نفسها حياة كاملة بديلة‪.‬‬
‫وهي ال يسعها‪ ،‬حك ًام‪ ،‬أن تكون البندق ّية‪ .‬فلنئ اشرتك املكانان يف قابل ّية التح ّول‬
‫بطاقتني بريد ّيتني تخدمان السياحة‪ ،‬بقي الباهر يف املدينة اإليطال ّية صدور عظمتها عن‬
‫الطبيعة مثلام هي الطبيعة‪ .‬فمدينة املاء والجسور والقنوات‪ ،‬عم ًال بألقابها الكثرية‪ ،‬ق ّدمتها‬
‫تلك املواصفات عينها إنس ّية إىل ح ّد استثارة التعاطف‪ ،‬ال س ّيام وأنّها مرشّ حة للغرق يف مائها‬
‫الذي جعلها ما صارت عليه‪ .‬وهنا يؤ ّلف الرتادف بني أسباب الحياة وأسباب املوت عنرصاً‬
‫والتفسخ‬
‫ّ‬ ‫تراجيد ّياً تندر املدن التي متتلك مثله‪ ،‬يع ّززه ذاك التناقض الراسخ بني التداعي‬
‫من جهة والعظمة من جهة أخرى‪ .‬وذات م ّرة رأت الكاتبة االسكتلند ّية مورييل سبارك أنّ‬
‫أظن أنّ أمرها ي ّتصل مبر ّكب الهواء واملاء‬
‫البندق ّية «مدينة ال توحي األفكار بل األحاسيس‪ّ .‬‬
‫والعامرة واألصوات»‪.‬‬
‫فوق هذا‪ ،‬ال تنفصل الطبيعة الفائضة هناك عن فائض يف التاريخ‪ ،‬تاريخ الشامل‬
‫اإليطا ّيل‪ ،‬وتاريخها هي نفسها كجمهور ّية يف عرص النهضة وكإحدى عواصم التجارة‬
‫البحر ّية املبكرة‪.‬‬
‫يف هذه املعاين جميعاً‪ ،‬تلوح جوهرة إيطاليا داخل ّية ج ّداً‪ ،‬ح ّتى لألشخاص الذين‬
‫كل واحد قفا الواقع الذي يعهده وبطانة التاريخ‬ ‫مل يعرفوها وال تخ ّيلوها‪ .‬فهي لدى ّ‬
‫الذي يعانيه‪.‬‬
‫وقد يجد البعض شبهاً وربمّ ا محاكاة بني د ّيب وسنغافوره‪ .‬فالثانية‪ ،‬الصغرية ج ّداً‪ ،‬أصغر‬
‫كثرياً من األوىل ذات املساحة البالغة ‪ 4000‬كيلومرت مر ّبع‪ .‬فهي قد ردمت البحر ووصلت‬
‫الجزر الصغرى واحدتها باألخرى من أجل أن تصري مساحتها ‪ 710‬كيلومرتات مر ّبعة ال غري‪.‬‬
‫وسنغافوره‪ ،‬إىل هذا‪ ،‬انضوت يف وحدة ماليزيا الفيدرال ّية التي ذهبت يف وحدو ّيتها أبعد‬
‫مماّ بلغت اإلمارات العرب ّية امل ّتحدة‪ ،‬مع أنّها ما لبثت أن انسحبت منها‪ .‬غري أنّ ناطحات‬
‫السحاب السنغافور ّية والوحدات التي يتش ّكل منها ذاك املركز املا ّيل الج ّبار تقف عىل أرض‬
‫وكوزموبوليتي فع ًال‪ ،‬حيث اإلنكليز ّية‬
‫ّ‬ ‫دي‬
‫أصلب وأغنى بال قياس‪ :‬فسنغافوره مجتمع تع ّد ّ‬
‫والصين ّية ولغتا املاالي والتاميل لغات رسم ّية‪ .‬وهذا ما يطمنئ العاملة األجنب ّية و ُيشعرها‬
‫باألمان‪ .‬وهي‪ ،‬إىل هذا‪ ،‬جمهور ّية برملان ّية استعارت نظام ويستمنسرت يف الدميوقراط ّية‬
‫وتتباهى بذلك‪ ،‬متاماً كام تتباهى بأنّ «سنغوره القدمية» موصوفة يف مهابهاراتا‪ ،‬امللحمة‬
‫أقل بلدان آسيا فساداً‪ ،‬تعتربها‬ ‫ثم إنّ سنغافوره ّ‬ ‫السنسكريت ّية عن الهند الكربى القدمية‪ّ .‬‬

‫‪168‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫األقل فساداً يف العامل‪ .‬وهي واحد من «منور»‬ ‫ّ‬


‫«منظمة الشفاف ّية الدول ّية» بني الدول العرش ّ‬
‫خطأت نهض ُتها االقتصاد ّية نظر ّيات‬ ‫آسيا‪ ،‬إىل جانب هونكونغ وكوريا الجنوب ّية وتايوان‪ّ ،‬‬
‫تكويني يف اشتغال النظام الرأسام ّيل‬‫ّ‬ ‫بعض اليسار عن تبع ّية «األطراف» لـ»املركز» كجزء‬
‫املحطة‪ ،‬اعتمدت سنغافوره‪ ،‬وال تزال‪ ،‬عىل التصدير وعىل التصنيع‬ ‫العاملي‪ .‬ولبلوغها هذه ّ‬
‫ّ‬
‫امللحق‪ ،‬أو ا ُملضاف إىل السلع املستوردة‪ ،‬مماّ يش ّكل أكرث من ربع إجام ّيل ناتجها املحيل‪ّ.‬‬
‫ح ّتى يف العامرة نفسها‪ ،‬احتفظت تلك الدولة اآلسيو ّية بـ»بيوت املاليا» املحل ّية‬
‫وباألمناط العمران ّية الرتاث ّية األخرى‪ ،‬كـ»مباين الدكاكني» املط ّعمة باملعامر الغر ّيب‪ ،‬وهو ما‬
‫يصح أيضاً يف «البنغَلو» التي درج أوروب ّيو القرن التاسع عرش وكولونيال ّيوه عىل اإلقامة فيها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الزمني من «اآلرت ديكو» صعودا‪ً.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لكن أمناط الهندسة الغرب ّية ُوجدت كلها هناك يف تتا ُبعها‬‫ّ‬
‫يوسع الرقعة الض ّيقة وين ّوعها فيتحايل عىل ضآلتها‪ .‬وبدورها‪ ،‬تُع ّد إعادة‬ ‫ومثل هذا التع ّدد ّ‬
‫اكتشاف العامرات القدمية أحد ت ّيارات الجهد العمرا ّين هناك‪ ،‬ما أنعش برنامجاً غن ّياً للحفاظ‬
‫وسع صناعة إحيائها وتكييفها مع استخدامات جديدة‪ .‬وهذا جميعاً‬ ‫عىل تلك املباين بقدر ما ّ‬
‫إذ يقيم عىل مقربة من ناطحات السحاب واإليقونات العمران ّية األكرث ج ّدة‪ ،‬يو ّفر أرضاً‬
‫خصبة ملفهوم التجا ُور )‪ (juxstaposition‬ما بعد الحدا ّيث‪.‬‬
‫وذلك ال يعني بحال أنّ د ّيب تفتقر إىل املايض وإىل التاريخ‪ .‬فجزؤها القديم‪ ،‬أو منطقة‬
‫الصناعي‪ .‬فهناك‬
‫ّ‬ ‫بستاكيا‪ ،‬ذات الحارات واألز ّقة‪ ،‬تعود بنا إىل ما قبل زمن الكهرباء والتربيد‬
‫تنترش البيوت ذات الباحات الواسعة التي تك ّيفها األبراج الهوائ ّية املعروفة بـ»الرباجيل»‪،‬‬
‫الخشبي القديم املس ّمى محل ّياً «داو»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل واحد منها فلجاً‪ ،‬أو جدوالً‪ ،‬ميخره القارب‬
‫يجاور ّ‬
‫ويف نطاق باستاكيا تقف قلعة الفهيدي العائدة إىل ‪ ،1799‬والتي ُجعلت متحفاً‪ .‬واملنطقة‬
‫هذه حظيت فع ًال ببعض اإلنفاق الذي ح ّولها سوقاً ومركزاً ثقاف ّياً صغريين‪ .‬إ ّال أنّ مساحتها ال‬
‫تتع ّدى الواحد يف املئة من مساحة د ّيب الحديثة‪ ،‬وهي خارج النظر والرتكيز‪ ،‬تحجبها األبراج‬
‫العالية ومحيطها كام تطمسها الدعاية السياح ّية السائدة‪.‬‬

‫ّأي زمن؟‬
‫كل يشء‪ ،‬فكيف األمر يف مكان كد ّيب هارب من ّ‬
‫كل‬ ‫فإذا كان للزمن أن يرتك بصامته عىل ّ‬
‫زمن إىل مستقبل متخ ّيل؟‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬يسع املقارنات النافية والسالبة أن تع ّلمنا شيئاً‪.‬‬
‫فاالحتفال الهيو ّيل بالربج مل يشهد ما يشبه أوبرا «عايدة» التي أ ّلفها فريدي بطلب‬
‫من الخديوي اسامعيل يك ُيدشّ ن بها افتتاح قناة السويس‪ .‬ذاك أنّ األوبرا‪ ،‬كجنس ف ّن ّي‪ ،‬أفل‬
‫نجمها‪ ،‬وصارت يف البلدان الغرب ّية ذاتها اهتامماً بالغ النخبو ّية ال يعيش إ ّال بفضل الدعم‬
‫الرسمي‪ .‬صحيح أن د ّيب ك ّلفت املهندسة الربيطان ّية‪ ،‬العراق ّية األصل‪ ،‬زها حديد‪ ،‬بناء دار‬‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ماّ‬
‫ضخمة لها‪ ،‬دا ٍر يبدو أنّها‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬مثلها مثل الربج الد ّوار‪ ،‬م عطلت األزمة املال ّية‬

‫‪169‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫لكن فرجة األوبرا غري األوبرا مماّ ال يشبه د ّيب ولن تشبهه د ّيب‪ .‬فذاك الجنس مثقل‬ ‫استكامله‪ّ .‬‬
‫بحمولة التاريخ‪ .‬ولنئ رشع مهده األورو ّيب نفسه يهجره‪ ،‬بعدما عصفت به الدميوقراط ّية‬
‫والتعميم‪ ،‬قبل أن يستورد الرسعة و»العمل ّية» األمريك ّيتني‪ ،‬فهذا ما مل يحصل إ ّال بعد عيش‬
‫األوبرا واستنفادها‪ .‬والفارق‪ ،‬هنا‪ ،‬كبري‪ ،‬ال ميكن إحراق املراحل فيه واالكتفاء‪ ،‬تالياً‪ ،‬بقطف‬
‫آخر الثامر‪.‬‬
‫لكن سوء الفهم بني العرب واألوبرا كان قد بدأ مع اسامعيل نفسه‪ .‬ذاك أنّ فريدي‬ ‫ّ‬
‫الذي مل يسعفه الحضور إىل القاهرة‪ ،‬يف ‪ ،1871‬يوم االفتتاح‪ ،‬ساءه أنّ الجمهور املدع ّو اقترص‬
‫يل مل يحصل‬ ‫ُدع إليه عا ّمة الناس‪ .‬هكذا اعترب أنّ االفتتاح الفع ّ‬
‫عىل أعيان القوم وعل ّيته‪ ،‬ومل ت َ‬
‫يف العاصمة املرص ّية‪ ،‬بل يف ميالنو يف شباط (فرباير) ‪.1872‬‬
‫ذاك أنّ األوبرا قبل أن تصبح أريستوقراط ّية وتذوي عىل هذا النحو‪ُ ،‬ولدت شعب ّية‬
‫التاريخي الذي يستبطنه التعبري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعاشت طوي ًال هكذا‪ .‬فهي‪ ،‬أص ًال‪« ،‬خطاب» مبعنى التامسك‬
‫نص «ليربي ّتو» ومن موسيقى‪ ،‬فيام كلمة «أوبرا»‪ ،‬الالتين ّية فاإليطال ّية‪ ،‬ال تعني‬ ‫واملؤ ّلف من ّ‬
‫إ ّال «العمل» الذي ينطوي عىل ذاك الجهد املر ّكب‪ .‬ورشاء األوبرا‪ ،‬أكان مع اسامعيل أو يف‬
‫د ّيب بعد قرن ونصف القرن‪ ،‬يجايف معنى «العمل» ذاته‪ .‬أبعد من ذلك أنّ التعارض ميت ّد إىل‬
‫تاريخ األوبرا التي ولدت يف إيطاليا إ ّبان عرص نهضتها ومنها امت ّدت إىل سائر أنحاء القا ّرة‪.‬‬
‫لكن امل ّتفق عليه أنّ األوبرا األوىل «دِفني» لجاكوبو بريي‪ ،‬والتي ُوضعت يف ‪ ،1597‬إنمّ ا كانت‬ ‫ّ‬
‫محاولة إلحياء الدراما اإلغريق ّية الكالسيك ّية مماّ ش ّكل جزءاً تأسيس ّياً من النهضة وعرصها‪.‬‬
‫وهذه ثور ّية احتملها اسامعيل بأن دفع مثنها وح ّولها فرج ًة لوجهاء بلده وأغنيائها‪ ،‬يف‬
‫كل ما يفد فيه من الغرب فرجة‪ .‬أ ّما د ّيب فيصعب أن تحتمل «عايدة» التي تروي‬ ‫زمن كان ّ‬
‫العسكري‬
‫ّ‬ ‫قصة أمرية إثيوب ّية ُقبض عليها وجيء بها إىل قوافل العبيد يف مرص‪ّ .‬‬
‫لكن القائد‬ ‫ّ‬
‫أمرنيس‪ ،‬ابنة‬
‫ّ‬ ‫رادا ِّمس‪ ،‬الذي كابد االختيار بني ح ّبه لها ووالئه لفرعونه‪ ،‬مل يستطع أن يبادل‬
‫الفرعون‪ ،‬الغرام الذي ك ّنته له‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬ظهر‪ ،‬ذات م ّرة‪َ ،‬من فضّ لوا العبدة عىل األمرية‪ ،‬وهذا خطري ومقلق ج ّداً‪.‬‬
‫إنّ «الجديد»‪ ،‬وعىل نحو مفارق ظاهراً‪ ،‬يبدو رجع ّياً يف هذه الحال‪ ،‬إذ ال يبقى منه‬
‫يصح هذا يف قول ٍة كثرياً ما ير ّددها‬ ‫قديم هو‪ ،‬بالضبط‪ ،‬تاريخ تج ّرؤ وانشقاق‪ّ .‬‬ ‫إ ّال الهرب من ٍ‬
‫لكن ح ّتى لو‬ ‫عرب محافظون من أنّ األحزاب والنقابات انتهى زمنها يف بلدان الغرب ذاتها‪ْ .‬‬
‫صحت الفرض ّية تلك بقي الفارق ضخ ًام بني من ج ّرب وتجاوز وبني مل يج ّرب أص ًال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عىل أ ّية حال‪ ،‬فلدى افتتاح «برج خليفة»‪ ،‬ذاك املوقع ا ُملع ّد الستقبال ستة آالف ضيف‬
‫فض ًال عن جيش من اإلعالم ّيني‪ ،‬اع ُتمد عىل عنارص حياد ّية بال حمولة من تاريخ أو من رصاع‬
‫حي‪ .‬ذاك أنّ املياه اتّخذت أشكال الزهر واألفاعي‬ ‫كل يشء ّ‬ ‫وتنازع‪ .‬وح ّقاً ُجعل من املاء ّ‬
‫والنجوم واألعمدة‪ ،‬وطبعاً األلعاب‪ .‬وكانت مال َبسة الضوء للامء مرت َكز اللوحات البرص ّية‬
‫قصة د ّيب وتط ّور برج‬ ‫هل االفتتاح بفيلم قصري عن ّ‬ ‫املدهشة املتفاوتة حج ًام وتعبرياً‪ .‬وقد اس ُت ّ‬
‫ثم انفجر الصوت والضوء واملاء واأللعاب النار ّية مماّ ُق ّطع عىل عروض ثالثة كربى‬ ‫خليفة‪ّ ،‬‬

‫‪170‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫كان موضوع أ ّولها عالقة زهور الصحراء بالربج الهائل‪.‬‬


‫ّ‬
‫الذكري فيها‪ ،‬بل الفحويل‪ .‬فرتطيب‬ ‫ّ‬ ‫وهذه جميعاً رمز ّيات مؤ ّلفة ومر ّكبة‪ ،‬لك ّنها ال تكتم‬
‫الطبيعي‪ ،‬معانٍ ال تفوت الناظر اللبيب‪ .‬إ ّال أنّها‬ ‫ّ‬ ‫الجاف وإضاءة املعتم واخرتاق الجميل‬ ‫ّ‬
‫حل التجميل الذي يكاد‬ ‫جميعاً ال ترتّب عىل صاحبها مسؤول ّية تُذ َكر‪ :‬فهو‪ ،‬بيرس وسهولة‪ُ ،‬ي ّ‬
‫محل تح ّدي اإلرادة اإلنسان ّية يف الخَ لق واإلنشاء‪ .‬هكذا ميكن إمتام‬ ‫إلرسافه يغدو بهلوان ّياً‪ّ ،‬‬
‫ثم ر ّد هذه‬ ‫املشهد الذي صنعته التقن ّية بتعليق مندهش من نوع‪« :‬ال إله إ ّال الله»‪ ،‬ومن ّ‬
‫جل جالله‪.‬‬ ‫الصناعة اإلنسان ّية إىل الخالق بوصفه الصانع األ ّول ّ‬
‫تحض مخاطره عىل اإلذعان والتسليم‪ ،‬خصوصاً أنّ ما‬ ‫وهذا وذاك يج ّدان يف محيط ّ‬
‫من أحد ميلك السيطرة عليه‪ .‬ويف اتّكال كهذا عىل الله‪ ،‬تكون د ّيب‪ ،‬وهي األضعف بني قوى‬
‫املنطقة‪ ،‬األش ّد اتّكاالً‪ .‬ذاك أنّ اإلمارة التي تبني وتع ّمر ليست بعيدة عن مرسح تدمري‬
‫يل‪ .‬ومعلوم أنّ اإلشارات كثرية إىل‬ ‫محتمل كالنزاع اإليرا ّين‪-‬األمري ّيك‪ ،‬أو ربمّ ا اإليرا ّين‪-‬اإلرسائي ّ‬
‫قاعدي تر ّدد أنّ‬
‫ّ‬ ‫حضور اإليران ّيني برشاً وماالً وتبييض مال يف د ّيب‪ ،‬تتخ ّللها إشارات إىل نشاط‬
‫األمريك ّيني مل يف ْتهم التحذير منه‪.‬‬
‫ً‬
‫يف هذه الغضون يلوح عامل اإلمارة تقليدا لعامل جيمس بوند‪ ،‬مبا يك ّمل الكيتيشّ الذي‬
‫الجورجي األصل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ينضح به‪ .‬ففي ربيع ‪ ،2006‬ثارت مسألة زهار كنيازيفيتش كاالشوف‪،‬‬
‫وأحد زعامء العصابات الذين اعتقلوا يف د ّيب لدى مغادرته اجتامعاً لزعامء املافيا األوروب ّية‬
‫ثم يف نيسان (ابريل) ‪ ،2007‬سطا «أوروب ّيون» عىل «وايف سنرت» للمجوهرات‪،‬‬ ‫الرشق ّية‪ّ .‬‬
‫ُ‬
‫وتر ّدد أنّ املافيا الروس ّية َمن ن ّفذ العمل ّية‪ .‬ويف صيف ‪ 2008‬طعنت املطربة اللبنان ّية سوزان‬
‫مرصي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫متيم بالس ّكني يف ش ّقتها يف د ّيب‪ .‬وكان للجرمية تلك‪ ،‬وقد اتُّهم بارتكابها رجل أعامل‬
‫وإثاري مل يهدأ بعد‪ .‬ويف آذار ‪ 2009‬اغتيل‬ ‫ّ‬ ‫إعالمي‬
‫ّ‬ ‫أثر عىل حياة مرص السياس ّية واكبه ضجيج‬
‫سليم يامادييف يف د ّيب‪ ،‬وهو خصم بارز للرئيس الشيشا ّين رمضان قادروف‪ .‬وقد ُوجدت‬
‫وبغض النظر عن مدى القهر وراء‬ ‫ّ‬ ‫جثّة يامادييف داخل مرآب للس ّيارات تحت األرض‪.‬‬
‫اعرتافات عبد امللك ريغي‪ ،‬زعيم «جند اإلسالم» الس ّن ّية اإليران ّية‪ ،‬نُقل عنه أنّه يف د ّيب التقى‬
‫رجاالت املخابرات املركز ّية األمريك ّية‪.‬‬
‫القيادي يف‬
‫ّ‬ ‫يل‪ُ ،‬قتل يف أواخر كانون الثاين ‪2010‬‬ ‫وأخرياً‪ ،‬وعىل يد املوساد اإلرسائي ّ‬
‫«حامس» الفلسطين ّية محمود املبحوح يف واحد من فنادق د ّيب‪ .‬والحادث األخري هذا كان له‬
‫عاملي المس أطراف العالقات بني أوروبا وأسرتاليا بالدولة العرب ّية‪ ،‬كام س ّلط أضواء عىل‬ ‫دوي ّ‬ ‫ّ‬
‫جوازات السفر استخداماً وتزويراً‪ .‬بيد أنّ عمل ّية املبحوح طالت أمكنة عميقة يف الجسمني‬
‫الفلسطيني والدبيا ّين‪ ،‬وش ّكلت للكثريين مناسبة يقولون فيها بعضاً من املسكوت عنه طوي ًال‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫فث ّمة من اتّهم عنارص يف السلطة الفلسطين ّية نفسها‪ ،‬ومثة من اتّهم عنارص يف «حامس» التي‬
‫ُذكر أنّ املبحوح جرس عالقتها بإيران تس ّلحاً ومتوي ًال‪ .‬أ ّما يف د ّيب‪ ،‬فانفجر االعتداد بنجاح األمن‬
‫الدبيا ّين يف كشف العمل ّية‪ ،‬كام يف كشف العمل ّيات السابقة‪ ،‬وذهب البعض إىل اعتبار يقظتها‬
‫األمن ّية عالمة تق ّدم أخرى تقف إىل جانب األبراج واملواصالت والتقن ّية‪ .‬ومل يرت ّدد قائد رشطة‬

‫‪171‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يترصف‬ ‫اإلمارة‪ ،‬ضاحي خلفان‪ ،‬يف أن يطلب رأس «رأس املوساد» مئري دغان‪ ،‬ويطالبه بأن ّ‬
‫«كرجل»‪ ،‬فيام كان يتكشّ ف أنّ أكرث من ‪ 1500‬كامريا للمراقبة تتوزّع أرجاء اإلمارة وفنادقها‬
‫وجه املامنعون انتقادات رصيحة النفتاح د ّيب‪ ،‬فقيل إنّ‬ ‫ومراكز التس ّوق فيها‪ .‬ويف املقابل‪ّ ،‬‬
‫الرصاع مع إرسائيل يستدعي تغيري طبيعة اإلمارة واقتصادها‪ ،‬ح ّتى أن «حزب الله» اللبنا ّين‬
‫وسع البيكار متسائ ًال عن «اإلجراءات [اللبنان ّية] بحقّ الوافدين بجوازات أوروب ّية»‪ .‬وبفرح‬ ‫ّ‬
‫وتوجس عند البعض اآلخر‪ ،‬قيل إنّ د ّيب ضُ ّمت إىل ميادين الرصاع العر ّيب‪-‬‬ ‫عند البعض‪ّ ،‬‬
‫يل‪ .‬أ ّما األكرث حذلقة بني دعاة العزلة‪ ،‬فن ّبهوا إىل أن إرسائيل «تستهدف تجربة د ّيب»‬ ‫اإلرسائي ّ‬
‫«اليسء»‬ ‫ّ‬ ‫وتعمل عىل «تقويضها»‪ .‬وطبعاً ظهر‪ ،‬بني الخليج ّيني خصوصاً‪ ،‬من الم اإلعالم لتأثريه‬
‫لكن آخرين‬ ‫املنظمة‪ّ .‬‬ ‫عىل صورة د ّيب‪ ،‬إذ «ربطها» بنزاعات أجهزة االستخبارات والجرمية ّ‬
‫استوقفهم اهتامم اإلعالم الغر ّيب‪ ،‬والربيطا ّين خصوصاً‪ ،‬باغتيال املبحوح وباألزمة املال ّية قبله‪،‬‬
‫فرأوا يف األمر قرينة عىل مؤامرة شبه استعامر ّية تُحاك هذه امل ّرة ض ّد د ّيب‪ .‬وقد ظهر من‬
‫التجاري إليران‪ ،‬والذي يتيح لها التحايل عىل الحصار‬ ‫ّ‬ ‫الحظوا أنّ قطع الطريق عىل التس ّلل‬
‫لكن ما إن أعلن ضاحي خلفان عن «منع‬ ‫املحتمل‪ ،‬يستدعي حرمانها املم ّر الدبيا ّين ّ‬
‫الرس ّي‪ْ .‬‬
‫يل‪ ،‬ح ّتى‬ ‫دخول َحـ َملة الجنس ّيات املزدوجة»‪ ،‬تفادياً لتس ّلل ّأي شخص ُيشتبه يف أنّه إرسائي ّ‬
‫الهجان‪ .‬هكذا صدرت صحيفة‬ ‫الحت يف أفق العرب مالمح أ ّول ّية لبطل جديد يذ ّكر برأفت ّ‬
‫األمني‬
‫ّ‬ ‫عرب ّية راديكال ّية الهوى بعنوان يقول‪ :‬الفريق خلفان أصبح نج ًام تلفزيون ّياً‪ :‬النجاح‬
‫ثم تح ّدثت وسيلة إعالم ّية عن مشاهدة «طائرات مروح ّية‬ ‫الذي أحرج إرسائيل واملوساد»‪ّ .‬‬
‫غامضة» تح ّوم فوق بيته‪ ،‬فيام تناول عبد الباري عطوان‪ ،‬رئيس تحرير «القدس العر ّيب»‪،‬‬
‫شعبي‪ ،‬ليس يف دولة اإلمارات‪ ،‬وإنمّ ا يف الوطن العر ّيب بأرسه‪ ،‬ألنّه أظهر‬ ‫ّ‬ ‫تح ّوله «إىل بطل‬
‫كفاءة أمن ّية عالية يف كشف هو ّيات املتو ّرطني يف الجرمية‪ ،‬وألحق رضراً كبرياً بإرسائيل»‪.‬‬
‫وكان الفتاً أنّ اإلعالمني العرب ّيني «املامنع» و»املعتدل» التقيا عىل كيل املديح إىل‬
‫حب للض ّباط ال يكتم نوستالجياه إىل الزمن‬ ‫ضابط األمن الدبيا ّين‪ .‬فقد عبرّ أ ّولهام عن ّ‬
‫النارصي‪ ،‬بينام ن ّوہ الثاين برصامة األمراء يف توجيه األوامر لض ّباط ين ّفذونها برصامة مامثلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وعىل العموم أضيفت د ّيب‪ ،‬يف مناخ األزمة املال ّية واالقتصاد ّية‪ ،‬إىل ركب «القض ّية» مماّ‬
‫اش ُتهرت به األنظمة العسكر ّية القوم ّية‪ ،‬أ ّما العنوان فكان‪ ،‬هذه امل ّرة‪« ،‬قهر املوساد»‪.‬‬
‫لقد بدا يف التث ّبت عىل موضوع املبحوح واملوساد كأنّ الدبيان ّيني يرصخون «وجدناها»‪،‬‬
‫متغ ّلبني عىل العقدة املرشق ّية حيث قضايا املصري نهر ال ينضب‪ .‬وبدورهم‪« ،‬اتّحد» العرب‬
‫جميعهم عند استنطاق رغبة ف ّم ّية ال تشبع‪.‬‬

‫برش بال حقوق‬


‫لكن ما الذي يجمع «أبطال» القتل يف د ّيب‪ ،‬أي أجهزة املخابرات‪ ،‬وشبكات املافيات‪ ،‬وقادة‬ ‫ْ‬
‫الحركات الراديكال ّية‪ ،‬والف ّنانات املهاجرات‪ ،‬والقادة املنش ّقني؟‪ ،‬وما الذي ّ‬
‫يلم أجزاء «الفيلم»‬

‫‪172‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫الذي «ميثّلونه» جميعاً‪ ،‬وأمناط التحليل التي راجت يف فهم ما يجري ويف تأويله؟‪.‬‬
‫غني عن القول إنّ «د ّيب الند»‪ ،‬املختلطة امللتبسة املتداخلة‪ ،‬هي الجامع املشرتك‪ .‬إنّها‬ ‫ّ‬
‫املرسح والحبكة والقض ّية يف وقت واحد‪ .‬غري أنّ املوت الذي يحدث يف د ّيب ليس من صنف‬
‫آحادي‬
‫ّ‬ ‫ضاج ومثري‪ ،‬إ ّال أنّه قليل الكثافة‪،‬‬ ‫ما يحدث يف البندق ّية مماّ رسده توماس مان‪ .‬فهو ّ‬
‫محطات القطار يف أوروبا‪.‬‬ ‫التقليدي أو مكتبات ّ‬ ‫ّ‬ ‫البعد‪ ،‬أشبه مبا يحتويه الـ» ِبست سيلر»‬
‫فهناك تُبنى تجربة تنطوي عىل أموال تستهوي السارقني وتستقطب الف ّنانات والف ّنانني‪،‬‬
‫وعىل انفتاح يغري االستخبارات كام يغري الراديكال ّيني واملنش ّقني‪ .‬وهذا مبثابة تحصيل‬
‫حاصل قد تنجح اليقظة األمن ّية يف الح ّد من أرضاره ويف إحراج األصوات التي تتذ ّرع به‬
‫إلغالق العرب‪ ،‬بلداً بلداً‪ ،‬عن العامل‪.‬‬
‫لكن ما ُيبنى يف د ّيب فرجة بال مشاعر‪ .‬فمن يبحث عن ما ّدة رومنطيق ّية أو مثرية للحنني‬ ‫ّ‬
‫أو للتأ ّمل فعن عبث يبحث‪ .‬وهو ما ال يؤ ّكده املوت فحسب بل تو ّثقه الحياة أيضاً‪.‬‬
‫نص طويل نسب ّياً كتبه الشاعر اللبنا ّين فادي طفييل عن «مهاجرة» ف ّرت من حرب‬ ‫ففي ّ‬
‫متّوز ‪ 2006‬إىل د ّيب‪ ،‬رأت تلك الس ّيدة أنّ «من الصعب ج ّدا ً تكوين صداقات حميمة [هناك]‪.‬‬
‫ينصب عىل زيادة الدخل املا ّيل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وه ُّم الجميع األ ّول‬‫فالنزعة املاد ّية تجرف معظم األشخاص‪َ ،‬‬
‫هم األكرث‬ ‫كذلك‪ ،‬ما من فسحة للفرد يف د ّيب‪ ،‬حيث «املتز ّوجون الذين يعيشون مع عائالتهم ّ‬
‫رضاً وسعادة‪ .‬أ ّما األفراد الذين يحاولون باستمرار املواءمة بني تجميع ما يستطيعونه من مال‪،‬‬
‫وبني الرتفيه الجامح عن أنفسهم‪ ،‬فيزدادون اضطراباً وتو ّتراً يوماً بعد يوم»‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬حركة فيزيائ ّية ج ّبارة ذات جلبة مرتفعة‪ ،‬أ ّما الحركة يف دواخل‬ ‫فحركة د ّيب‪ ،‬من ّ‬
‫النفس فمعدومة أو تكاد‪ .‬وهذا مصدر ألصول ّية محتملة ينتجها االنبهار بالعظيم والهيو ّيل‪،‬‬
‫وباألصوات واألصداء‪ ،‬من دون تفكريها‪ .‬فاملوت والحياة يف د ّيب ال يعرثان عىل أدوات تع ّقلهام‪،‬‬
‫وهي مه ّمة تستحيل مع انعدام املشاركة يف إنتاج ّأي من أسباب ذينك الحياة واملوت‪.‬‬
‫فد ّيب‪ ،‬حك ًام‪ ،‬سوف تستقطب ما استقطبته من تح ّديات ألمنها‪ ،‬مماّ تبدي نجاحاً‬
‫األمني‬
‫ّ‬ ‫لكن األمر يقف هنا وال يتق ّدم‪ .‬وهذا سبب آخر وراء طغيان‬ ‫واضحاً يف التعامل معه‪ّ .‬‬
‫والتآمري الذي خبطته األفكار يف‬ ‫ّ‬ ‫الغامض عىل أحداث املوت‪ ،‬كام وراء الخبط العشوا ّيئ‬
‫تفسريها األزمة‪ ،‬أو يف رشحها اغتيال املبحوح ومضاعفاته‪.‬‬
‫واملرء‪ ،‬من موقع آخر‪ ،‬يتذ ّكر بضع أفكار تص ّدت بالتأويل لهزمية عبد النارص يف ‪،1967‬‬
‫من نوع أنّنا «تخ ّلينا عن الله فتخلىّ الله ع ّنا»‪ .‬فلم يكن بال داللة‪ ،‬بالتايل‪ ،‬أن منظومة الوعي‬
‫اإلسالمي ما لبثت أن ظهرت كأقوى ورثة عبد النارص يف الرصاع عىل العقل العا ّم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أنّ‬
‫ويف إحدى خلف ّيات االنتقال هذا النارص ّية‪ ،‬بكاريزما صاحبها‪ ،‬كام بالس ّد العايل‬
‫والوحدة وسائر «املنجزات»‪ ،‬بقيت غريبة عن شعبها املفرتض‪ ،‬إ ّما بسبب الديكتاتور ّية‬
‫العسكر ّية‪ ،‬وهي حائل دائم‪ ،‬وإ ّما بسبب توليّ السوفيات واألوروب ّيني الرشق ّيني مهماّ ت‬
‫وجارحة‪ ،‬يف هذا املعرض‪ ،‬لك ّنها بليغة‪ ،‬تلك النكتة التي شاعت من أن العماّ ل املرص ّيني‬ ‫ٌ‬ ‫البناء‪.‬‬
‫كانوا يغ ّنون مع عبد الحليم حافظ «إحنا بنينا وإحنا حنبني الس ّد العايل»‪ ،‬فيام الخرباء‬

‫‪173‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يل‪.‬‬‫واملخططون واملهندسون‪ ،‬الروس والتشيك ّيون واألملان والبولند ّيون‪ ،‬ينجزون العمل الفع ّ‬ ‫ّ‬
‫ومع د ّيب‪ ،‬ال تختلف املسألة‪ .‬فإذا نحن بحثنا عنها يف برجها‪ ،‬واجهتنا حقائق جارحة‬
‫هي األخرى‪ .‬ذاك أنّ رشكة «سمسونغ» للهندسة والبناء التي بنت الربج كور ّية جنوب ّية‪ .‬وقد‬
‫تم‪ ،‬يف أسرتاليا‪ ،‬تطوير نظام‬ ‫عاد تصميمه إىل رشكة «ودز باغوت» الهندس ّية األسرتال ّية‪ ،‬فيام ّ‬
‫تنظيف الربج‪ .‬وتتداعى أسامء رشكات كـ»سكيدمور» و»ترنر كونسرتاكشن»‪ ،‬وكذلك أشخاص‬
‫يصعب العثور عىل مطلق صلة بينهم وبني د ّيب أو الخليج أو العرب ثقاف ًة أو نسباً أو ديناً أو‬
‫«أصال ًة»‪ ،‬من مهندسه األمري ّيك املشهور بناطحاته أدريان سميث إىل جورجيو أرماين‪.‬‬
‫فهذا الحدث‪ ،‬إذاً‪ ،‬يندرج يف تاريخ الفرجة كام يف حركة انتقال املال والتقن ّية‪ْ ،‬‬
‫لكن‬
‫ليس يف تاريخ االقتصاد الذي يبني مجتمعات‪ ،‬وال يف تاريخ الثقافة والعقل العا ّم والخربات‬
‫ثم يراكمها‪.‬‬
‫التي يكتسبها ّ‬
‫يصح يف العاملة األجنب ّية التي تُق ّدر نسبتها اىل‬ ‫يصح يف الخربات التي تُشرتى ّ‬ ‫وما ّ‬
‫تنم فحسب عن العزل واالنفصال‪ ،‬مماّ‬ ‫املواطنني بعرشة مقابل واحد‪ .‬إ ّال أنّ أوضاع هؤالء ال ّ‬
‫تنم عن أمر‬ ‫تدل إليه مناطق إقامتهم الطرف ّية البائسة‪ ،‬فض ًال عن رشوط السكن الرديئة‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬
‫آخر أسوأ‪ ،‬هو فراغ الربج الدبيا ّين من مضمون إنسا ّين كذاك الذي حكم مسرية األبراج يف‬
‫التاريخ‪ ،‬جاع ًال منها اعرتاض الكرامة اإلنسان ّية عىل وحدان ّية الله‪ .‬فهنا ال تصدر بلبلة األلسن‬
‫نئ يف د ّيب‪ ،‬بل تنجم عن صناعة برش ّية لئيمة‪.‬‬ ‫عن انتقام ر ّبا ّين‪ ،‬إذ الله مسرتيح ومطم ّ‬
‫النجار املاهر ‪ 4،34‬جنيهاً اسرتلين ّياً‬
‫فحسب أرقام تعود إىل ابتداء تعمري الربج‪ ،‬تقاىض ّ‬
‫يف اليوم‪ ،‬والعامل غري املاهر ‪ 2،84‬جنيهاً‪ .‬وحسب تحقيق لـ»يب يب يس» و»هيومن رايتس‬
‫واتش» معاً‪ ،‬كثرياً ما كابد العماّ ل اآلسيو ّيون التأخّ ر يف الدفع‪ ،‬وتع ّرضت أجورهم للحسم‬
‫أحياناً‪ ،‬كام صادر أرباب عملهم جوازات سفرهم‪ ،‬وهذه أشبه برياضة وطن ّية هناك‪ّ .‬‬
‫وأهم‬
‫من ذلك أنّ ظروف العمل تس ّببت بأرقام مرتفعة من املوت والتع ّرض لألذى‪ .‬فالعماّ ل‬
‫ظل حرارة ال تُطاق‪ .‬وبعد تح ّركات‬ ‫هناك يعملون ‪ 12‬ساعة يوم ّياً لس ّتة أ ّيام يف األسبوع يف ّ‬
‫متقطعة بدأت يف ‪ 2004‬انفجر األمر يف ‪ 21‬آذار ‪ :2006‬فاحتجاجاً منهم عىل هزال‬ ‫عماّ ل ّية ّ‬
‫احتج العماّ ل يف موقع الربج ح ّتى بلغ‬ ‫األجور ورشوط العمل ومصاعب املواصالت العا ّمة‪ّ ،‬‬
‫وحطموا أجهزة كومبيوتر ومع ّدات بناء‪،‬‬ ‫بهم الغضب أن أحرقوا س ّيارات وهاجموا مكاتب ّ‬
‫أي أنّهم ر ّدوا رمز ّياً عىل الرموز التي ت ّتصل بعملهم وظروفه‪ .‬وهو سلوك وإن مل يكن األكرث‬
‫حكمة‪ ،‬يبقى مفهوماً ومتو ّقعاً‪ ،‬سبق أن ّأسسته‪ ،‬مع بدايات الثورة الصناع ّية اإلنكليز ّية‪،‬‬
‫حطمت ما كانت تستخدمه يف العمل من‬ ‫الحركة اللود ّية‪ ،‬تي ّمناً باسم العامل لود‪ ،‬والتي ّ‬
‫آالت‪ .‬ويف الحاالت جميعاً‪ ،‬مات ثالثة عماّ ل أجانب أثناء بنائهم الربج‪ ،‬وهذا يف زمن مل تعد‬
‫املقارنة ببناء األهرامات جائزة أخالق ّياً أو اقتصاد ّياً‪.‬‬
‫صحيح أنّ دولة اإلمارات العرب ّية‪ ،‬ال د ّيب وحدها‪ ،‬بعيدة الليربال ّية قياساً بجاريها‬
‫لكن هذا ال يكفي‪ ،‬وال يس ّوغ الكالم عن «تجربة حضار ّية»‬ ‫السعودي واإليرا ّين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الكبريين‬
‫مؤسسات هناك منتخبة دميوقراط ّياً‪ ،‬واملواطنون ال يسعهم‬ ‫توصف اإلمارة ببنائها‪ .‬فام من ّ‬

‫‪174‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫تغيري حكوماتهم أو تشكيل أحزاب‪ .‬وبدورها‪ ،‬مل تو ّقع حكومة اإلمارات عىل معظم االتّفاقات‬
‫خص حقوق االنسان وحقوق العمل والعاملة‪ .‬أ ّما الصحافة‪،‬‬ ‫واملعاهدات الدول ّية يف ما ّ‬
‫وعىل رغم وجود مدينة د ّيب لإلعالم‪ ،‬فتامرس رقابة ذات ّية صارمة ودقيقة‪ .‬ويف ترشين الثاين‬
‫محطتي تلفزيون باكستان ّيتني بطلب من حاكم باكستان يومئذ‬ ‫(نوفمرب) ‪ 2007‬أوقفت د ّيب ّ‬
‫برويز مرشف‪.‬‬
‫وهذا ليس من الحداثة يف يشء وال من الرأسامل ّية‪ .‬ذاك أنّ الخليج‪ ،‬ما خال البحرين‪،‬‬
‫ال يزال يط ّبق «نظام الكفيل»‪ ،‬هو القائم عىل كفالة املواطنني املحل ّيني للوافدين‪ ،‬مخضعاً‬
‫موظفون‬ ‫إ ّياهم لرشوطهم املاد ّية واملعنو ّية‪ .‬كذلك ال توجد للعماّ ل نقابات‪ ،‬بحيث يتولىّ ّ‬
‫«حل» مشاكل العمل‪.‬‬ ‫مع ّينون حكوم ّياً ّ‬
‫وهو جميعاً ما ينىشء‪ ،‬حيال الحقوق والواجبات‪ ،‬نظاماً صارم املراتب ّية والتبويب‪،‬‬
‫نص فادي طفييل إ ّياه‪ ،‬تح ّدثت تلك «املهاجرة» اللبنان ّية عن‬ ‫عابراً للمهن والجنس ّيات‪ .‬ففي ّ‬
‫زميالتها الفيليبين ّيات وزمالئها الهنود الذين «كانوا من االختصاص ّيني التقن ّيني يف املهن الطب ّية‬
‫ومعظمهم يحمل شهادة املاسرت‪ .‬كانوا جميعهم أكرث كفاءة م ّني‪ ،‬لك ّنني كنت رئيسة العمل‪،‬‬
‫الـ ‪ ،boss‬املرشفة عىل ما يقومون به‪ ،‬وذلك ألنيّ لبنان ّية»‪.‬‬
‫وهي إذ تصف ما يتح ّكم بالعمل هناك‪ ،‬تالحظ أنّ «منط العالقة هذه منط شائع يف‬
‫ديب‪ ،‬وسائد بني العرب‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبني األجانب القادمني من بلدان العامل الثالث كالفيليبني‪،‬‬
‫من جهة أخرى‪ .‬فالعرب واللبنان ّيون أمام هؤالء «العامل ثالث ّيني» هم مدراء العمل ورؤساؤه‪،‬‬
‫هرمي صارم خال من أ ّية مشاعر أو لني»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ميارسون عىل األخريين سلطتهم هذه عىل نحو‬
‫وبدأت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫واملوظفني‪،‬‬ ‫لك ّنها هي نفسها ما لبثت أن أصبحت «أكرث خربة يف التعامل مع الناس‬
‫الهندي‬
‫ّ‬ ‫أدرك أصول التفرقة والتمييز يف التعامل مع الذين يعيشون يف د ّيب‪ ،‬فأجيد التك ّلم مع‬
‫الهرمي الدقيق‬
‫ّ‬ ‫كل بحسب موقع بني جلدته يف نظام العالقات‬ ‫والعر ّيب والربيطا ّين واإليرا ّين‪ٌّ ،‬‬
‫يف تلك املدينة الحافلة بالعابرين»‪.‬‬
‫صح القول‪ ،‬عىل نحو مفارق‪ ،‬إنّ األزمة االقتصاد ّية األخرية ساهمت يف أنسنة د ّيب‬ ‫بل ربمّ ا ّ‬
‫أقل مراتب ّية‪ ،‬أو حسب لغة «املهاجرة» اللبنان ّية‪« ،‬ح ّلت ظاهرة ‘إعادة التموضع’‬ ‫ويف جعلها ّ‬
‫السكني يف أحياء ومناطق عديدة‪ ،‬فانتقل َمن كان يسكن أحياء مرتفعة اإليجارات للسكن يف‬ ‫ّ‬
‫فحل فيها َمن مل يكن يحلم يف سكنها»‪.‬‬ ‫أحياء أرخص‪ ،‬وانخفضت اإليجارات يف بعض املناطق ّ‬
‫طبقي غري مسبوق‪ ،‬حيث مل يعد ممكناً تعيني الطبقة‬ ‫ّ‬ ‫وعن هذا نجمت «ظاهرة اختالط‬
‫االجتامع ّية للمقيمني من خالل معرفة عناوين سكنهم‪ ،‬كام كان سائداً‪ .‬لقد تداخلت الطبقات‬
‫االجتامع ّية أكرث فأكرث وبات املزاج العا ّم ينحو نحو املزيد من السخرية والته ّكم والقلق»‪.‬‬
‫لكن‬‫ذاك أنّ مراتب ّية صارمة كتلك مرشّ حة‪ ،‬ما مل تنكرس‪ ،‬أن تنتج صخباً وعنفاً كبريين‪ْ .‬‬
‫يف «يوكناباتاوفا كاونتي» التي تخ ّيلها وليم فوكرن‪ ،‬تقف الخادمة السوداء‪ ،‬دلساي‪ ،‬يف مقابل‬
‫عائلة كومبسون املتداعية‪ ،‬وهي تقف متامسكة‪ ،‬عىل ضعفها‪ ،‬فخور ًة وسط عامل يذوي‬
‫وميوت‪ ،‬تنظر إىل ما يتع ّداها فتتم ّكن وتقوى‪ ،‬وهم ينظرون يف دواخلهم الض ّيقة فيضيقون‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫ذاك أنّ عائلة كومبسون‪ ،‬الجنوب ّية واألريستوقراط ّية‪ ،‬ال تفعل‪ ،‬يف آخر املطاف‪ ،‬سوى تد ّبر‬
‫أمر انهيارها ومحاولة االلتفاف عىل تص ّدع سمعتها املتآكلة‪.‬‬
‫فهل تكون العاملة املهاجرة دلساي الدبيان ّية؟‪.‬‬

‫أنياب األزمة‬
‫وتحل األزمة وتنشب‬‫لكن ماذا يحصل حني ينضب املال ّ‬ ‫هي‪ ،‬إذاً‪ ،‬مج ّرد «مكان» لجمع املال‪ْ .‬‬
‫أنيابها‪ ،‬واألزمة ح ّلت فع ًال؟‬
‫الحال أنّ أحداً ال يستطيع‪ ،‬إ ّال يف السيناريوات الخالص ّية والخراف ّية‪ ،‬تج ّنب األزمات‪.‬‬
‫كل مرشوع‪ ،‬كام أنّها قد تفد من مصادر ع ّدة‪ ،‬وأحياناً من مصدر النجاح عينه‪.‬‬ ‫فهي تالزم ّ‬
‫فـ»دوكالندز»‪ ،‬املدينة التي ُبنيت رشق لندن وكثرياً ما تسلىّ مهندسو العامرة وتف ّننوا يف‬
‫بنائها‪ ،‬مل تقلع‪ .‬وقد اع ُترب فشلها‪ ،‬أواخر التسعينات‪ ،‬تعبرياً نُصب ّياً عن دخول الثاترش ّية‬
‫اإلقليمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التجاري يف بريوت ارتبط بآمال السالم‬
‫ّ‬ ‫الربيطان ّية طور أفولها‪ .‬ونعرف أنّ الوسط‬
‫اإلقليمي هو ما ذ ّر قرنه فانطوت التجربة عىل نفسها‪.‬‬‫ّ‬ ‫إ ّال أن التوتّر‬
‫هكذا الدنيا‪ ،‬يصعب التك ّهن مبساراتها‪ .‬مع هذا‪ ،‬فإن شيئاً من التواضع ومن حسن‬
‫التقدير وعقالن ّيته‪ ،‬فض ًال عن فرملة السعي وراء الربح الجامح‪ ،‬قد يخ ّفف وطأتها ويحارص‬
‫اآلثار الناشئة عنها‪.‬‬
‫لقد انتهى بناء الربج بعد شهر عىل متاخمة اإلفالس وانهيار العقارات وانكامش البناء‪،‬‬
‫فأنعش األمر فكرة أخرى عن البعث والقيامة‪ .‬ويبدو أنّ حاكم د ّيب الشيخ محمد بن راشد‬
‫رغب يف تحويل األنظار عن األزمة إىل مستقبل واعد لإلمارة‪ .‬وحذا اإلعالم حذو تلك الرغبة‪،‬‬
‫فراح يشيع أوهاماً تدور يف مدار الفكرتني األسطور ّيتني هاتني‪ .‬وبالطبع حرضت «املؤامرة»‬
‫حضورها املهيب‪ :‬فإىل الغرب وإرسائيل املتح ّفزتني لـ»االنتقام» من منوذج د ّيب ومن «حكمة‬
‫ح ّكامها»‪ُ ،‬وجد َمن يضبط إيران متل ّبسة بالجرم ذاته‪.‬‬
‫ويف هذه الغضون‪ ،‬راحت تتتاىل الوقائع التي ال تحجبها «املؤامرات» وال‬
‫تطمسها املدائح‪.‬‬
‫فبعدما أقام ربع روافع البناء يف العامل هناك‪ ،‬وهو رقم اكتسب هالة خراف ّية يف‬
‫ذروة اإلقبال عىل امللك ّيات‪ ،‬باتت الرشكات تناضل يك تنزع روافعها من أرض ّيات البناء الذي‬
‫تو ّقف‪ ،‬محاول ًة الحؤول دون صدأ املئات من تلك الروافع الهامدة‪ .‬وبدا كأنّ «األعىل»‬
‫و»األطول» و»األعظم» سيغدو خاتم األبراج‪ ،‬ال مبعنى مواصلة االحتفال بل مبعنى االقرتاب‬
‫من ساعة الحقيقة‪.‬‬
‫كذلك راحت الصحف الغرب ّية واليابان ّية تتح ّدث عن رشكات كربى توقف عقودها‪،‬‬
‫تبطىء أعاملها يف مشاريع ضخمة‬ ‫أو تطالب بإعادة التفاوض حول عقود مربمة سابقاً‪ ،‬أو ّ‬
‫كاملرتو وبعض األبراج والقاعات غري املكتملة‪ .‬كذلك ذاعت أخبار «الخالفات حول الدفع»‬

‫‪176‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫التي كانت تنفيها اإلمارة أ ّوالً بأ ّول يف موازاة خليط من قصص وشائعات عن س ّيارات مركونة‬
‫يف موقف مطار د ّيب تركها أصحابها فا ّرين إىل بلدانهم‪.‬‬
‫ذاك أنّ املشاريع العقار ّية التي تو ّقف العمل بها بلغت قيمتها ‪ 190‬بليون دوالر يف‬
‫شح املال بالذعر‬ ‫عدادها بناء ثالمثئة جزيرة ُيفرتض أن تقوم فوق البحر املردوم‪ .‬وقد تس ّبب ّ‬
‫يف البورصات واألسواق‪ ،‬وتر ّدى أداء بورصة د ّيب فصار األسوأ يف العامل‪ ،‬فيام املستثمرون غدوا‬
‫كل َدين عا ّم تتك ّبده حكومات غطست يف مديون ّيتها‪ .‬وبينام كانت رشكة «د ّيب‬ ‫ينفرون من ّ‬
‫تصب‬ ‫العامل ّية» تطالب بتأجيل سدادها لديونها س ّتة أشهر‪ ،‬رشعت أخبار اليونان وأزمتها ّ‬
‫وتحث الهاربني مبالهم عىل استعجال الهرب الكبري‪.‬‬‫ّ‬ ‫الزيت عىل نار املخاوف‬
‫تحت وطأة األزمة ُغـيرّ إسم الربج من «برج د ّيب» إىل «برج خليفة»‪ ،‬تكرمياً لرئيس‬
‫دولة اإلمارات وأمري أبو ظبي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان‪ ،‬وكان هذا إقراراً بتف ّوق أبو‬
‫لكن األمر‪ ،‬وهو ما تكشّ ف رسيعاً‪ ،‬انطوى‬ ‫ظبي وبغلبة املال يف مصادره عىل املال يف تداوله‪ّ .‬‬
‫عىل كرس األرقام القياس ّية لحقوق التسمية‪ .‬فنحن‪ ،‬يف د ّيب‪ ،‬أمام أفعل تفضيل آخر‪ :‬إنّه أرفع‬
‫سعر ُيدفع مقابل إسم‪.‬‬
‫فـ»يف آخر لحظة»‪ ،‬كام كتبت صحف خليج ّية وعرب ّية‪ ،‬ه ّبت أبو ظبي إلنجاد أبناء‬
‫العم يف د ّيب‪ ،‬حسب تعبري «ول سرتيت جورنال»‪ ،‬بعرشة باليني دوالر‪ .‬هكذا راحت الصحف‬ ‫ّ‬
‫العرب ّية نفسها تطنب يف امتداح «حكمة» حاكم أبو ظبي ورئيس دولة اإلمارات بعد إطنابها‬
‫العم‬
‫العم األكرب‪ ،‬لن يستطيع ابن ّ‬ ‫يف امتداح «حكمة» حاكم د ّيب‪ .‬ذاك أنّه من دون عون ابن ّ‬
‫األصغر أن يدفع الديون التي جعلته مشاريعه‪ ،‬ال س ّيام الربج و»داون تاونـ»ـه‪ ،‬يراكمها‪.‬‬
‫ظبي‬ ‫هكذا استيقظت الشياطني العرب ّية التي تنام تحت مخمل القرابة ونظامها‪ .‬فأبو ّ‬
‫ود ّيب اإلمارتان األكرب يف دولة اإلمارات امل ّتحدة‪ ،‬ما يعني أنّ تنافسهام عىل الزعامة هو الوجه‬
‫اآلخر لـ»اتّحادهام»‪ .‬وهو تنافس كان قد بلغ أوجه يف عهدي األمريين الراحلني زايد بن سلطان‬
‫آل نهيان الظبيا ّين وراشد بن سعيد آل املكتوم الدبيا ّين‪ ،‬ح ّتى بات من املك ّونات التأسيس ّية‬
‫تجف‪ .‬فهو وجد نسغاً له‬ ‫لإلمارتني ومن هويتيهام‪ .‬لك ّنه تنافس تغ ّذى عىل موارد أخرى ال ّ‬
‫النفطي مباله الجاهز مقابل تباهي اقتصاد التجارة والعقارات والسياحة‬ ‫ّ‬ ‫يف تباهي االقتصاد‬
‫النفطي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والخدمات املال ّية بشطارته‪ ،‬هو املدرك لوسائل اإلفادة من وقوعه يف قلب املحيط‬
‫لقد أمكن لد ّيب‪ ،‬حسب ثنائ ّية ميثولوج ّية قدمية‪ ،‬أن تق ّدم نفسها بوصفها العقل قياساً‬
‫بالجسد‪ ،‬واملهارة قياساً مبنح الطبيعة‪.‬‬
‫والتباهيان كانت العامرات النُصب ّية أبرز ساحاتهام‪ .‬فالظبيان ّيون سبق أن أنشأوا «قرص‬
‫الفرنيس عىل «برج العرب»‪ ،‬ثم تعاقدوا مع متحف‬ ‫ّ‬ ‫اإلمارات» ليكون ر ّداً من جنس فرساي‬
‫الفرنيس‬
‫ّ‬ ‫لوفر يك يبني لهم فرعاً منه يف أبو ظبي‪ .‬واملرشوع هذا الذي يتو ّالہ مهندس العامرة‬
‫جون نوفيل‪ُ ،‬يفرتض إنجازه يف ‪ ،2012‬مقابل ‪ 1،3‬بليون دوالر‪ .‬وترمي أبو ظبي إىل تشييد‬
‫مدينة «مصدر» لتكون «أ ّول» مدينة يف العامل‪ ،‬ويف التاريخ‪ ،‬تخلو من الكربون ومن النفايات‬
‫وتعتمد اعتامداً كام ًال عىل الطاقة املتج ّددة‪ .‬وتستع ّد أبو ظبي‪ ،‬ومعها قطر‪ ،‬ملنافسة د ّيب‬

‫‪177‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫املفلسة يف محاولتها بناء مالعب ضخمة تستطيع أن تستضيف أحداثاً يف حجم مباريات‬
‫كأس العامل أو األلعاب اآلسيو ّية‪.‬‬
‫وهذا غيض من فيض االستئناف الحدا ّيث‪ ،‬يف أش ّد تأويالت الحداثة شكالن ّية‪ ،‬للتنافس‬
‫العصبي القديم‪ .‬فإذا كان آل نهيان زعامء قبائل بني ياس‪ ،‬فإنّ آل املكتوم مل يك ّفوا عن‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫أنّ‬
‫حج ُتهم يف ذلك أرومتهم‪ ،‬بو فالسه‪ ،‬أعىل كعبا من بو فالح‪،‬‬ ‫منافستهم عىل تلك الزعامة‪ّ ،‬‬
‫أرومة النهيان ّيني‪.‬‬
‫العم ال يعوزها االلتواء‪ .‬فقد تناقلت األلسن «العارفة»‪ ،‬كام أوحت‬ ‫وعالقات أبناء ّ‬
‫الصحف «بني سطورها»‪ ،‬أنّ أبو ظبي فرضت عىل الدبيان ّيني رشوطاً سياس ّية ملزمة قبل‬
‫تقدميها املعونة‪ .‬ذاك أنّ املطلوب إقرار األخريين‪ ،‬م ّرة وإىل األبد‪ ،‬بأنّ صاحب النفط واملال‬
‫هو صاحب اليد الطوىل‪ ،‬فض ًال عن انضوائهم يف سياسة خليج ّية أش ّد حذراً حيال اإليران ّيني‬
‫وأموالهم وتوظيفاتهم‪ ،‬خصوصاً أنّ الذين يدخلون منهم إىل د ّيب يستطيعون «التس ّلل»‪ ،‬من‬
‫دون تأشريات دخول‪ ،‬إىل باقي اإلمارات العرب ّية امل ّتحدة‪.‬‬
‫أقل مماّ ُظ ّن‪ .‬فد ّيب كشفت يف‬
‫فوق هذا تبينّ ‪ ،‬بعد التهليل باالنقاذ الظبيا ّين‪ ،‬أنّ االنقاذ ذاك ّ‬
‫‪ 18‬كانون الثاين عن أن نصف العرشة باليني يعود إىل اتّفاق أسبق عهداً من األزمة‪ .‬وكان لإلعالن‬
‫املذكور أن ج ّدد األسئلة الكثرية عن مستويات الشفاف ّية والرصاحة لدى حكومات منطقتنا‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬ويف خامتة غري سعيدة بامل ّرة‪ُ ،‬أعلن عن إغالق الربج «مو ّقتاً»‪ ،‬من دون أن ُيح ّدد موعد‬ ‫ّ‬
‫هي‪ ،‬ح ّتى أذاعت «إعامر»‪ ،‬الرشكة‬ ‫زمني إلعادة تشغيله‪ .‬فلم ميض غري شهر عىل افتتاحه األ ّب ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫الرسم ّية التي متلكه‪ ،‬أن أعطاال كهربائ ّية وزحمة «غري متو ّقعة» تحول دون استقبال الس ّياح‬
‫الزائرين‪ .‬وكان لإلعالن املفاجىء هذا أن خ ّيب أمل األخريين الذين حجزوا أمكنة لهم يف‬
‫صف اسرتجاع ما دفعوه مقابل بطاقات الزيارة التي انتظروا أ ّياماً البتياعها‪.‬‬ ‫صف آخر‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أرص الزائر عىل زيارته يف اليوم‬ ‫لكن إذا ّ‬ ‫وجدير بالذكر أن سعر البطاقة ‪ 27‬دوالراً أمريك ّياً‪ْ ،‬‬
‫نفسه لرشائه البطاقة‪ ،‬كان عليه أن يدفع ضعف ذاك املبلغ‪.‬‬

‫الرأسامل ّية (الغرب ّية) واإلسالم‬


‫وقد ُوجد من يكتشف لألزمة ُبعداً آخر‪ .‬فقبل عرشات السنني‪ ،‬حاول املؤ ّرخ واملسترشق‬
‫يفك عقدة العالقة بني «اإلسالم والرأسامل ّية»‪ ،‬عىل ما يقول‬ ‫الفرنيس مكسيم رودنسون أن ّ‬ ‫ّ‬
‫عنوان كتاب شهري أصدره أواسط الستينات‪ .‬ففي معارضة منه ملاكس فيرب‪ ،‬الذي وضع‬
‫اإلسالم يف مقابل الرأسامل ّية وحاضنتها الربوتستانت ّية‪ ،‬جادل رودنسون بأنّ الدين العر ّيب ال‬
‫يعيق الربح والتجارة‪ ،‬كام ال ميكن‪ ،‬باالستناد إليه‪ ،‬تع ّقل الت ّيارات األعرض يف حياة املجتمعات‬
‫املسلمة‪.‬‬
‫ويف معنى ما‪ ،‬يجوز تقديم د ّيب برهاناً ملموساً عىل صدق األطروحة تلك‪.‬‬
‫بيد أنّ مناخ األزمة املال ّية وإحباطها أعادا االعتبار إىل «نظر ّية» أخرى‪ ،‬ال تخفى‬

‫‪178‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫تآمر ّيتها‪ ،‬توحي بأنّ الرأسامل ّية الغرب ّية هي ما يحول دون نجاح الرأسامل ّية يف مجتمعات‬
‫هب من مواقع محافظة و»ميين ّية»‪ ،‬ال ُيع َدم الصلة برأي آخر‪،‬‬ ‫املسلمني‪ .‬وهذا الرأي‪ ،‬وإن ّ‬
‫و»يساري»‪ ،‬مؤ ّداه أن الغرب املتق ّدم مينع «العامل‬ ‫ّ‬ ‫مي»‬
‫«وطني» و»تق ّد ّ‬
‫ّ‬ ‫معروف َّ‬
‫ومنظر‪،‬‬
‫الثالث» عن التق ّدم‪.‬‬
‫يف األحوال كا ّفة‪ ،‬احت ّلت صدار َة االهتامم رشكتا «نخيل» و»د ّيب العامل ّية» الرسم ّيتان‬
‫اللتان وقعتا يف «براثن» رشكتي «كيو يف يت فايننشيال» و»أشورست» الغرب ّيتني‪ .‬فهاتان‬
‫املعن ّيتان بتصفية الديون‪ ،‬مل تتأخّ را يف «اقتناص» األصول الثمينة ملا متلكه األوليان عقار ٍ‬
‫ات‬
‫ومشاريع ترفيه وسياحة‪.‬‬
‫ووطأة املشكلة مل تنفصل عن واقع الصكوك اإلسالم ّية التي تُع ّد دولة اإلمارات الدولة‬
‫الثانية إصداراً لها بعد ماليزيا‪ .‬وهذه‪ ،‬وبوصفها بدي ًال عن السندات واألسهم‪ ،‬هي ما منا التعامل‬
‫به يف السنوات األخرية تبعاً لخل ّوها من الفائدة املح ّرمة رشعاً‪ .‬هكذا ازدهرت الصكوك‪ ،‬عىل‬
‫املتوسط والطويل األجل‪ ،‬فكانت صكوك الرشكة واملضاربة واملزارعة‬ ‫ّ‬ ‫أنواعها‪ ،‬لالستثامرين‬
‫واملساقاة واملغارسة واإلجارة واالستصناع وغريها‪ .‬غري أنّ افتقادها القاعدة القانون ّية التي‬
‫ُحل التساوق بينها وبني املعايري التي تحكم السندات واألسهم‪ ،‬جعلها‬ ‫ُيفرتض أن تحكمها‪ ،‬وت ّ‬
‫الخارصة الرخوة للرأسامل ّية الدبيان ّية‪ .‬فام إن رضبت األزمة ح ّتى ترنّحت رشكتا الصكوك‪.‬‬
‫وهذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ما ال ينفي تهمة الطمع عن رشكات غرب ّية مل تصف نفسها م ّرة بالسخاء‬
‫محصنة من الذعر الذي يرضب‬ ‫الحامتي أو باالشتغال باملال لوجه الله‪ ،‬كام مل ت ّدع أنّها ّ‬ ‫ّ‬
‫الرشكات إ ّبان األزمات ويحملها عىل الهرب‪.‬‬
‫ويتذ ّكر أصحاب الذاكرات القو ّية أنّ األزمة ما إن رضبت رضبتها يف الخليج‪ ،‬ح ّتى‬
‫أطلقت ألسن ًة‪ ،‬ليست بالهامش ّية وال بال َعرض ّية‪ ،‬جزمت يف وجود مؤامرة غرب ّية لـ»جعل‬
‫أموالنا تتبخّ ر»‪ .‬إ ّال أنّ حكومة د ّيب ما لبثت أن أعلنت عن تقديم ‪ 9،5‬بليون دوالر إلعانة‬
‫عل ذلك يطمنئ املستثمرين ويه ّدىء روعهم‪.‬‬ ‫«د ّيب العامل ّية»‪ّ ،‬‬
‫لقد سبق للسينام ّيئ اللبنا ّين مح ّمد سويد‪ ،‬يف عمل جميل‪ ،‬أن وضع د ّيب يف مقابل‬
‫لكن ُيخىش‪ ،‬عىل مدى أبعد‪ ،‬أن تحمل د ّيب يف بطنها الخصب هانوي غري شيوع ّية‬ ‫هانوي‪ْ .‬‬
‫محل الشيوع ّية يف فيتنام‪.‬‬‫يحل فيها اإلسالم الراديكا ّيل أو كراهية الغريب‪ ،‬أو االثنان معاً‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫فالعاملة األجنب ّية والغرب املتآمر‪ ،‬إعالماً وحقوق إنسان وقوانني ورشكات‪ ،‬ثم منذ‬
‫اغتيال املبحوح‪ ،‬إرسائيل‪ ،‬هي ما ينطحه برج خليفة‪ ،‬آخذاً يف طريقه «الشقيقة» أبو ظبي‪.‬‬
‫وليس من سبب لالعتقاد بأنّ أبو ظبي‪ ،‬يف لو انقلبت األدوار‪ ،‬كانت لتختار منطوحني‬
‫آخرين غري هؤالء ُيضافون إىل د ّيب‪ .‬وهذا مبثابة استئناف‪ ،‬بأسامء وعناوين وأرقام أخرى‪،‬‬
‫وعصبي وكاره للغريب‪ ،‬خالصته التحديث من غري حداثة‪ .‬ففي هذا‬ ‫ّ‬ ‫لتاريخ عر ّيب متعجرف‬
‫السوري الراحل ياسني الحافظ «تأخّ رال ّية عرب ّية» تجمع بني التأخّ ر‬‫ّ‬ ‫يتساوى ما أسامه املث ّقف‬
‫والرأسامل ّية‪ ،‬و»تأخّ راك ّية عرب ّية» يندمج فيها التأخّ ر باالشرتاك ّية‪ .‬أ ّما األبراج فال تع ّمر‪ ،‬لسوء‬
‫ّ‬
‫الحظ‪ ،‬طوي ًال‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يسء يفضلون‬ ‫إ ّال أنّ التساوي ليس تا ّماً يف الرداءة والقصور‪ .‬فالذين يبنون يف شكل ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬يبقى اإلنفاق الدبيا ّين‬ ‫الذين يهدمون مسوقني بخالص ّية املوت والخراب‪ .‬وعىل رغم ّ‬
‫للرثوة أفضل من إنفاقها كام عهدناه يف النُظم الثور ّية‪ ،‬ال س ّيام منها النفط ّية الغن ّية‪ ،‬كليبيا‬
‫والجزائر وعراق ص ّدام حسني‪ .‬ففي د ّيب أو يف أبو ظبي‪ ،‬يحول تواضع الحجم وغياب املزاعم‬
‫اإليديولوج ّية املضخّ مة دون التس ّلح ودون م ّد اآلخرين م ّمن هم خارج البلد بالسالح‪ .‬كذلك‬
‫يل‪ ،‬عىل القمع‪ ،‬أق ّله بحقّ‬ ‫السيايس شبه األه ّ‬
‫ّ‬ ‫الرتكيب الس ّكا ّين عن بناء النظام‪ ،‬شبه‬
‫ُ‬ ‫يردع‬
‫املواطنني‪ .‬ويف الحاالت جميعاً‪ ،‬وأللف سبب‪ُ ،‬يستب َعد أن تندرج إمارات الخليج يف حروب‬
‫أهل ّية كالتي عرفتها الجزائر‪ ،‬أو يف حروب خارج ّية كالتي خاضها ص ّدام حسني‪.‬‬
‫ولد ّيب فضيلة تنطلق منها‪ ،‬تشاركها فيها إمارات الخليج األخرى‪ :‬فهي مدينة – أ ّمة‬
‫ظل استعدادات فقرية لذلك‪ .‬ذلك أنّ الدول‬ ‫ال يراودها الطموح ألن تصبح دولة – أ ّمة يف ّ‬
‫وحدها أكرث‬ ‫املرشقي ال تزال تكابد الرتكة التي أثقلها بها االستعامر حني ّ‬‫ّ‬ ‫– األمم يف الجوار‬
‫مماّ تطيقه مجتمعاتها ذات العنارص املتكارهة‪ .‬وألنّ د ّيب ليست مف ّتتة من داخلها‪ ،‬أو ألنّها‬
‫أصغر من أن تكون كذلك‪ ،‬ال نسمع لها ّأي رصاخ تعوييضّ مرتفع النربة عن «أ ّمة عرب ّية»‬
‫وأخرى «إسالم ّية»‪.‬‬
‫اآلسيوي وأن تتفاعل معه‪ ،‬عىل‬ ‫ّ‬ ‫كذلك ق ّيض املوقع الجغرا ّيف لها أن تنفتح عىل الصعود‬
‫اقتصادات ومنوراً وتنانني‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويسجل‪ ،‬صعود آسيا‬
‫ّ‬ ‫سجل‪،‬‬ ‫نحو أو آخر‪ .‬وهو ما تالزم مع ظرف ّ‬
‫لغات وخربات وثقافات‪.‬‬ ‫ولكن أيضاً ٍ‬ ‫ْ‬
‫ً‬
‫ومع أنّ االستعدادات خصبة دامئا لشتم الغرب وتعهريه‪ ،‬فهذا ما ال يظهر‪ ،‬لحسن‬
‫الخليجي‪ ،‬والعر ّيب‬‫ّ‬ ‫الحظ‪ ،‬إ ّال باللغة العرب ّية‪ .‬ويتأتىّ عن ذلك أن الرضر الذي يصاب به الوعي‬ ‫ّ‬
‫استطراداً‪ ،‬ال يقف حائ ًال دون استمرار العالقة العضو ّية بالرأسامل ّية الغرب ّية وحركتها‪ ،‬أو أن‬
‫يظل صحيحاً ح ّتى إشعار آخر‪.‬‬ ‫هذا ما ّ‬
‫وغني عن القول إن هؤالء الدبيان ّيني املهت ّمني بالبناء‪ ،‬يبقون أفضل‪ ،‬بال قياس‪ ،‬من‬ ‫ّ‬
‫مواطنيهم األصول ّيني الذين ساهموا يف االرهاب النيويور ّيك أو غريه من نشاطات مامثلة‪.‬‬
‫تؤهل د ّيب أن تسبق جوارها‪ ،‬ولو من حيث املبدأ‪ ،‬ال‬ ‫عىل أنّ تلك املواصفات التي ّ‬
‫تؤهلها التأثري فيه‪ .‬ذاك أنّ أ ّول العالقة وجود لسان حال ولغة‬ ‫ترافقها املواصفات التي ّ‬
‫بغض النظر عن الجوائز التي تُق ّدم للمتنافسني العرب عليها‪،‬‬ ‫تخاطب بني طرفيها‪ .‬ود ّيب‪ّ ،‬‬
‫تظل عدمية القدرة عىل تشكيل منوذج مؤ ّثر‪ ،‬أو ح ّتى منوذج مفهوم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ولربمّ ا جاز الذهاب أبعد والقول إنّها‪ ،‬محكوم ًة بهذه املسافة عن محيطها‪ ،‬قد تزكيّ‬
‫العوملة يف وجهها السالب‪ ،‬أي بوصفها انقطاعاً بني البرش‪ ،‬أكرث مماّ تع ّززها يف وجهها املوجب‪،‬‬
‫أي كتكامل يطاول البرش والسلع والحاجات‪ .‬وهنا أيضاً تتقاطع التجربة الدبيان ّية مع‬
‫مرصي‬
‫ّ‬ ‫الراديكال ّية «الوطن ّية» العرب ّية التي آلت وحدتها املرص ّية – السور ّية إىل أرشس عداء‬
‫اليمني يف ‪ 1962‬إىل حرب مرص ّية – مين ّية‪ ،‬فيام تأ ّدى عن‬ ‫ّ‬ ‫سوري‪ ،‬كام آل دعمها لالنقالب‬ ‫ّ‬ ‫–‬
‫األخوي» للبنان إىل كره وتحا ُقد غري مسبوقني بني البلدين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السوري –‬
‫ّ‬ ‫«اإلنقاذ –‬

‫‪180‬‬
‫ةّيغاص مزاح‬ ‫يبد جربو هللا جاربأ‬

‫يتأسس عليه معنى‪ ،‬وال ميت ّد‬ ‫لقد شاءت د ّيب لنفسها أن تكون مج ّرد «مكان»‪ ،‬مكانٍ ال ّ‬
‫فوقه جرس‪ .‬ومكانٌ هذه مواصفاته يستحرض الحسد البحت لدى اآلخرين‪ ،‬وقد يستنطق‬
‫فيهم نوازع العدوان الذي ت ّتجه شفرته إليها‪ .‬وك ّنا رأينا ع ّينة مشابهة‪ ،‬وإن غري مطابقة‪ ،‬يف‬
‫وقوف «الجامهري العرب ّية» مع ص ّدام حسني حني غزا الكويت الغن ّية والخليج ّية هي أيضاً‪.‬‬
‫فد ّيب إذ تعالت عىل تاريخها‪ ،‬وانقلبت عىل طبيعتها انقالباً كام ًال‪ ،‬ح ّولت نفسها فرجة‬
‫تدل تجارب ال تُحىص‪ ،‬ال تحمي نفسها بنفسها فيام‬ ‫باهرة فحسب‪ .‬والواجهات‪ ،‬عىل ما ّ‬
‫تج ّرىء األيدي عىل كرس زجاجها الذي يرونه هشّ اً يقبل االنكسار‪ .‬أ ّما الشطر من التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فيبقى تأثريه أقرب إىل التبشري بني‬‫ّ‬ ‫الذي احتفظت اإلمارة الخليج ّية به‪ ،‬أي الشقّ‬
‫تقني ُمشرتى‬‫الظن أن األثر الذي قد يرتكه كو ّالج الدين والتحديث‪ ،‬كمعطى ّ‬ ‫مؤمنني‪ .‬وأغلب ّ‬
‫الديني بالقدرة الوهم ّية عىل رشاء الحداثة وتشغيلها كام‬ ‫ّ‬ ‫باملال‪ ،‬لن يتع ّدى تطعيم االفتخار‬
‫صح أنّ د ّيب «مخترب للحداثة»‪ ،‬كام يرى بعض امل ّداحني‪ ،‬فإنّ‬ ‫ُيشغّل العبيد عند السادة‪ .‬فإذا ّ‬
‫انتكاسها هو ما ستدفع الحداثة مثنه‪ ،‬فال يرسخ منها إ ّال «مؤامرتها» عىل العرب واملسلمني‪.‬‬
‫عكسه منوذج لبنان حني كان لبنان‪ ،‬رغم نواقصه جميعاً‪ ،‬منوذجاً‪ .‬فهنا‬ ‫وهذا ما يقول َ‬
‫اإلسالمي أو لجهة املدى الذي بلغه التأثرّ‬ ‫ّ‬ ‫املسيحي –‬
‫ّ‬ ‫نقع عىل معانٍ ‪ ،‬أكان لجهة التعايش‬
‫بالغرب واستدخاله‪ ،‬فض ًال عن ح ّر ّيات مؤ ّكدة حزب ّية وإعالم ّية ونقاب ّية‪ .‬لك ّننا‪ ،‬عىل ما يبدو‪،‬‬
‫تصطف فيه النامذج والالمناذج جنباً إىل‬ ‫ّ‬ ‫نتساوى جميعنا يف بناء متحف‪ ،‬هو أكرب متاحفنا‪،‬‬
‫جنب‪ ،‬وك ّلها جثث هامدة تحت برص الله معطوفاً عىل آلهة كثريين‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫نقد‬

‫مائة ومثانون غروبا أم عرشون سنة؟‬


‫أحمد بيضون‬

‫القص فيها أربعة رواة‪ .‬تبدو‬


‫تتألف رواية حسن داوود هذه من مثانية فصول يتداول فعل ّ‬
‫الزهرانية التي استوطنها هؤالء الرواة حالة عمرانية تصعب نسبتها إىل فئة من الفئات‬
‫املألوفة التي تصنف إليها حاالت العمران عادة‪ .‬فال هي مدينة وال هي بلدة وال هي قرية‪...‬‬
‫وإمنا هي مقام استحدثه عىل قارعة الطريق الساحيل أناس جاؤوا إليه من مواطن مختلفة‬
‫وإن تكن هذه املواطن تبقى هي أيضا غري محددة‪ .‬ونحدس أن الطريق كان لها األثر األبرز‬
‫شجعت عىل إنشاء املحالت التجارية‪ .‬ونخمن أيضا – مج ّرد‬ ‫يف نشوء هذا املقام إذ هي ّ‬
‫تخمني ال يزكيه أي من الرواة – أن األرض هناك كانت مباحة أو مستباحة ملن يريد البناء ال‬
‫مثن لها‪ .‬وما يؤكد هذا االضطراب الذي يشوب هوية هذا العمران املسمى الزهرانية إمنا هو‬
‫افتقاده إىل مقربة وهو ما يالحظه الراوي األول يف مستهل الرواية موحيا أنه تأخر كثريا حتى‬
‫انتبه إىل هذا األمر‪ .‬هذا فيام تنبئنا راوية أخرى نعلم أنها بقيت أمية هي وإخوتها الصغار‪،‬‬
‫أن الزهرانية بال مدرسة أيضا‪.‬‬
‫هذا االضطراب ال يعني أن الزهرانية منت كيفام اتفق‪ .‬فنحن رسعان ما نعلم أن‬
‫البيوت املحاذية للبحر هي بيوت املسيحيني‪ .‬وهذه بيوت قدمية يرجح الراوي األول نفسه‬
‫أن شخصا واحدا‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬كان قد مات يف كل منها‪ ،‬حني جاء هو وأخوه قبل عرشين‬
‫سنة إىل الزهرانية‪ .‬وهو ما يحمل عىل السؤال عن هوية الذين تعلو بيوتهم املحالت فوق‬
‫الطريق وعن هوية آخر القادمني‪ ،‬أولئك املتكاثرين يف بنايات أخذت تتكاثر فوق الهضبة‪.‬‬
‫الذين يف الوسط فوق الطريق‪ ،‬ومنهم يخرج الرواة األربعة‪ ،‬نخلص إىل هويتهم بعد تردد‬
‫منشأه األسامء األعالم املحايدة من قبيل عاطف وطاهر وسلمى وكوثر وتيسري وجميل‪...‬‬
‫وحتى وليد‪ .‬وال يقطع الرتدد إال والدة طفل لسلمى وطاهر يف الدامنارك يسميانه عمر‪.‬‬
‫أخريا نرجح أن الذين حلوا‪ ،‬عىل عجل‪ ،‬فوق الهضبة يف بنايات تكاثرت عىل عجل أيضا‪،‬‬
‫هم من الشيعة‪ .‬ونزداد ترجيحا لذلك حني ينزلون يف عرض لكرثتهم إىل الطريق بعد خالف‬
‫"حدودي" مع واحد من أصحاب املحالت‪ ...‬ينزلون عرشات أو مئات فتقول السن ّية زوجة‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫أبو عاطف إنهم مائة ألف!‬


‫ال يرمي تكثري الرواة إىل استحضار وجهات نظر الفئات التي أفىض اختالل موازين‬
‫العالقات بينها‪ ،‬مع زحف الحرب‪ ،‬إىل خراب الزهرانية‪ .‬فإن اثنني من الرواة أخوان والثالثة‬
‫جارتهام يف املبنى الذي يضم محلهام ومنزلهام والرابع قريب إىل هؤالء أيضا وإن يكن منزله‬
‫يعلو الطريق شيئا ما وال نجاوز من معرفتنا بهويته الطائفية تخميننا أنه مسلم هو أيضا‪.‬‬
‫فالذين اضطلعوا باألدوار الحاسمة‪ ،‬سواء أكانت ترسيع العمران مبا جلبه من توتّر أم كانت‬
‫تسليح املسيحيني (الذي ال نعاين ما يثبته فعال فيبقى أدىن إىل الخرب الطائش أو الشائعة) أم‬
‫كانت تهجري هؤالء املسيحيني أنفسهم من طريق البحر بعد أن أصبحوا مهددين أم كانت‬
‫االنقضاض عىل بيوتهم ونهبها يبقون‪ ،‬يف الرواية‪ ،‬أشبه بجامعات األشباح فال نسمع من‬
‫كالمهم شيئا وال نلم إال بالصورة العامة ألفعالهم أو بعناوينها‪ .‬وأما الذين تناط بهم الروايات‬
‫املتقاطعة فصوال يف هذه الرواية أو املتضافرة عىل تأليفها فهم بني األقل فاعلية وإقداما‪...‬‬
‫حتى لتبدو أفعالهم مبا فيها ما تحملهم عليه شهواتهم أقرب إىل أن تقع عليهم وقوعا منها‬
‫إىل أن يكونوا هم املبادرين إليها‪ .‬هذا إىل أن تقاربهم يف القرابة والسكن ومتاثلهم يف املصدر‬
‫الطائفي أيضا‪ ،‬عىل األرجح‪ ،‬يضيقان كثريا من مجال رؤيتهم‪ .‬واملؤكد أن ضعف الفاعلية هذا‬
‫وضيق التمثيل يوفران املنطلق إىل منح رؤى هؤالء الرواة صفة املواربة يف عالقتها باملرسح‬
‫العام‪ ،‬وهي صفة قد يصح اعتبارها مرتكزا لجامل الرسد يف كل من الفصول وللتكوين البديع‬
‫الذي ينتهي إليه الهيكل اإلجاميل للرواية‪.‬‬
‫ويف موقع الركن من هذه املواربة نفسها يقع الشخص الذي تلتقي عنده معظم‬
‫الخيوط يف نسيج الرسد ويبدو أكرث شخوص الرواية حضورا وقوة‪ .‬فهذا الشخص – واسمه‬
‫تيسري – شخص ساهِ ٌم‪ ،‬ال يصدر عنه إال ما يبدو شتات كلامت وفتات أفكار‪ .‬وكان قد أفىض‬
‫به حادث إىل يشء من القصور العقيل فضال عن تشوه خارجي يف رأسه‪ .‬عىل أن سهوم تيسري‬
‫ليس عاما‪ ،‬بل هو يبدو إىل النباهة أقرب حني يبارش نصيبه من القص الذي أواله إياه املؤلف‬
‫إذ جعله واحدا من الرواة‪ .‬إذ ذاك يبدو قصوره محصورا يف النطق ويف بعض من وجوه‬
‫السلوك دون غريها‪ .‬فهو‪ ،‬عىل األخص‪ ،‬حا ّد اإلدراك لكل حركة أو تغيري يف موقعه الرمزي‬
‫من أبيه أو من إخوته وهو دقيق التمييز للفروق يف سلوك من يؤذونه من الشبان املتبطلني‬
‫حني يكون ذاهبا لبيع عصافريه أو عائدا من رحلته اليومية تلك‪.‬‬
‫وإذ تبدأ النباهة من تيسري (وهو القارص العقل يف نظر املحيطني به) فهي تنترش إىل‬
‫سائر الرواة كاشفة هماّ مركزيا من هموم هذه الرواية‪ .‬فكام أن املواربة هي السمة املنظورية‬
‫وهي امليزة الفنية للرسد هاهنا فإن الصفة االسرتاتيجية هي ما يصف سلوك الشخوص‬
‫بعضهم حيال بعض أي أنها محور الرواية العالئقي‪ .‬الشخوص هنا ذوو اسرتاتيجيات مبعنى‬
‫أن الغلبة هي مرمى كل حركة يأتيها أحدهم وهي املعنى الذي ينسبه إىل كل حركة‬
‫يأتيها سواه‪ .‬ويشتمل التنازع الدائب هذا عىل مجال الغرام وال يقترص ظهوره عىل الكالم‬
‫وحده‪ .‬فالحوار قليل جدا يف هذه الرواية – وهذه القلة ديدن لحسن داوود يف سائر‬

‫‪183‬‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫رواياته – والكالم الذي يقال ينقله كل من الرواة عىل ذمته – إن جازت هذه العبارة – أو‬
‫ترصف‬
‫يوجزه‪ ،‬عىل األغلب‪ ،‬يف الصيغة التي يستنسبها إليجازه‪ .‬ولعل حركة العني ومعها ّ‬
‫األجساد بأوضاعها ومبواقعها هاهنا أوفر من الكالم حمولة بالدالالت يف التنازع املشار‬
‫إليه‪ .‬فيبدو مصري عالقة برمتها أو تحديد محتواها ومآلها رهنا بنظرة بعينها تطول ثانية‬
‫أو تقرص ثانية‪ .‬ويبدو ميزان االنتامء أو عدمه إىل جامعة مستجدة متعلقا بخطوة إىل‬
‫األمام أو بأخرى إىل الوراء‪ .‬أو هو يتعلق بالتلبث ألكرث من طرفة عني حيث يع ّد التلبث‬
‫استعجاال مفرطا المتياز ما أو ادعاء يف غري أوانه لدرجة من درجات االنتامء مل تستأهل بعد‬
‫وهي قد ال تستأهل أبدا‪.‬‬
‫يف اللعب االسرتاتيجي هذا – وهو يتقدم عىل أنه لعب يعمد إليه البرش مبصائرهم –‬
‫يجهد الشخوص يف استبقاء ما يكونون موجودين بفعله وجودا شخصيا‪ .‬يجهدون يف حيازة‬
‫يشء خاص بهم مع كونه دامئا عالقة بآخر‪ .‬بل إن هذا اليشء الخاص يقتيض حتى يكون‬
‫وجوده تاما أن يكون عالقة مبارشة بآخر وعالقة مداورة بثالث‪ .‬وأكرث ما يكون االستحواذ‬
‫عىل هذا اليشء الخاص بالنظر ولكنه قد يكون أيضا بتحويل الشهوة وإشباعها إىل منازلة‬
‫لثالث متخيل‪ .‬ومن أول الرواية يتقابل يف اإليحاء باملناخ االسرتاتيجي موضعان هام قطب‬
‫سرت وقطب كشف‪ .‬أما قطب الكشف فهو بيت أبو عاطف الذي يبقى باب مدخله وأبوابه‬
‫األخرى مفتوحة لكل ناظر ويقبع صاحبه البصاص عىل الرشفة ال يعفي شيئا أو أحدا من‬
‫جوالت عينيه النهمتني‪ .‬والرشفة تبدو مركز البيت الفعيل هي والشباك الذي ستكشف من‬
‫خلفه سلمى عن صدرها لتيسري وستغلقه بعد ذلك عىل ما تسميه زوجة أخيها كوثر لعبا‬
‫معها وما ترى فيه هي شيئا أبعد من اللعب‪ .‬وأما قطب السرت فهو غرفتان فارغتان خلف‬
‫املحل الذي يبيع فيه األخوان الراويتان ألعابا وهو أيضا يف بيتهام غرفة احتياطية للنوم‬
‫وأخرى مهملة يحرش فيها وليد سلمى حني ميكنه من إخضاعها لشهوته افتضاح تعريها‬
‫لتيسري‪ :‬افتضاحه للداين‪ ،‬بال ريب‪ ،‬وللقايص أيضا‪ ،‬عىل األرجح‪ .‬ال تكاد توجد وظيفة لهذه‬
‫الغرف سوى افتعال فراغ موحش جعل منه اإلهامل موطنا لألرسار وراح يزيد من الوحشة‬
‫فيه تضافر ح ّر الشمس ورطوبة البحر املالحة عىل تفسيخه ونهشه‪ .‬وهي وحشة تنترش‬
‫لتوحي عرب تفاصيل كثرية أن األشخاص إمنا يوجدون بقدر ما يسعهم أن يس ّوروا مواضع‬
‫لرسهم وأن يحجبوها إال عمن يس ّلمون مبشاطرتهم هذا الرس حقيقة أو من يشاطرهم إياه‬ ‫ّ‬
‫يف أخيلتهم‪ .‬األشخاص يوجدون بقدر ما يسعهم أن يستقلوا بإدارة الرشكة التي ينشئونها‬
‫ألرسارهم وأن يجعلوا من أعاملها أعامل تغ ّلب عىل رشكاء يف هذه األرسار حارضين أو غائبني‬
‫ولكن ال مناص من استحضارهم إذا غابوا‪.‬‬
‫وبني ما يتيحه تكثري الرواة اكتشافنا أن ما يحتسب مستورا قد كشفه الجميع يف‬
‫الواقع‪ .‬وهذا يف مجال ضيق تختزل فيه الغلبة االسرتاتيجية إىل توسيع لزاوية الرؤية أو‬
‫إىل كشف لرقعة شاءها اآلخر غري مرئية‪ .‬فوليد يعلم أن أخاه يشتهي امرأة جاره‪ ،‬خالفا‬
‫للوصية العارشة‪ ،‬وهو ميازحه يف شأنها من غري أن يسعى إىل تحصيل ترصيح قاطع منه‬

‫‪184‬‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫أو إىل إفحامه‪ .‬بل إن سلمى نفسها ال يفوتها اشتهاء "الثخني" الذي ال نعرف له اسام آخر‬
‫المرأة أبيها‪ .‬والشبيبة البطالون الذين ميضون شطورا معتربة من أيامهم عند عمود الكهرباء‬
‫يعلمون أن وليد كان قد وصل إىل سلمى‪ ،‬قبل زواجها اإلكراهي ورحيلها إىل الدامنرك مسوقة‬
‫بوقع فضيحتها مع تيسري‪ .‬وكان وليد يطلق العنان معها‪ ،‬عىل كره منه وندم يظهران حاملا‬
‫تنقيض لبانته‪ ،‬لرضب من فورة الشهوة املستعجلة فيام هو يحفظ يف رسه تعلقا بربناديت‬
‫املسيحية مل تع ّتم الحرب أن قطعته قبل أن يجرؤ عىل كشفه‪.‬‬
‫وقد وجد تيسري أيضا‪ ،‬ولكن يف املدينة أو البلدة التي يذهب إليها لبيع العصافري‪،‬‬
‫أي يف خارج الزهرانية‪ ،‬مطرحا لرسه عند امرأة كانت من زبائنه‪ .‬وال يخفي تيسري ضيقه‬
‫حني يشعر بإلحاح تجنح إليه هذه السيدة الخمسينية يف السؤال عن التفاصيل‪ .‬فهذا يخرج‬
‫السامع من ح ّد التوصل إىل ألفة يريدها تيسري ملا يفعله هو وسلمى ويجعل منه (أي من‬
‫السامع) استثامرا جديدا تقبل عليه الزبونة تنشيطا لتهوميها الخاص‪ .‬فينشأ من ذلك تناسل‬
‫تهوميي آخر يضاف إىل التناسل السابق للشهوة التيسريية يف شهوة كوثر وسلمى‪ .‬ثم إن رس‬
‫تيسري مل يلبث أن جاوز اإلثنني بل األربعة فشاع وذاع‪ .‬ويف التنازع االسرتاتيجي بني شخوص‬
‫حسن داوود‪ ،‬يبدو الهتك أي اقتحام املوضع الذي جعل فيه اآلخر رسه أقرب يشء إىل ما‬
‫يسميه املالكمون الرضبة القاضية‪ .‬ويبدو البصاص أبو عاطف يف مطلع الرواية شخصية‬
‫جامعة بلجاجة وفجاجة ملا يحاوله ويجهد فيه مبزيد من الحذق أو من الرتكيز شخوص‬
‫الرواية اآلخرون‪ .‬هذا ويستحسن أن منيض يف استنطاق الشبه باملالكمة إىل حده األقىص‪ .‬فقد‬
‫يوجد ما يشبه تبادل اللكامت واالحتيال للتفادي منها بني شخوص حسن داوود يف موقف‬
‫عارض ال يلبث أن ينقيض فيكون أشبه بجولة تزيد أو تنقص يف الخلل الذي يسم ميزان‬
‫العالقة بني شخصني ولكن من غري حسم‪ ...‬يبدو كافيا‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬تت ّبع أفعال الخصم‬
‫أي أقواله ونظراته وحركاته لحظات‪ .‬اليقظة ورسعة البديهة يبدوان كافيني مؤقتا وال يفوتهام‬
‫التكفل بيشء من التغيري‪ .‬وهذا إىل أن يحصل ما يجعل الحسم أو نقل ميزان العالقة برمته‬
‫من حال إىل حال أمرا ممكنا‪.‬‬

‫***‬
‫تداري سلمى افتضاح رسها بالرحيل إىل الدامنرك بعد أن وجدت من م ّد إليها طوق النجاة‬
‫هذا مشرتطا أن يجعل من تكثري األيدي التي امت ّدت إىل جسدها منشطا لشهوته ومرغام‬
‫زوجته يف سبيل ذلك بالترصيح مبا حصل ومبا مل يحصل من نزهات األيدي عىل جسدها‪.‬‬
‫وأما تيسري رشيكها يف رسها املفتضح فلم يكن له من مهرب غري العنف األقىص بعد أن‬
‫تهاوت حصونه كلها‪ .‬انهارت صورة أبيه الشديد البأس وأصبح يبدو عاجزا عن حاميته فلم‬
‫يعد مستأهال خوفه وال طاعته‪ .‬كانت قد شاعت أخبار انتشار السالح يف الزهرانية ووصول‬
‫أكرثه إىل أيدي الشبيبة ّ‬
‫البطالة‪ .‬فعادت هذه الزمرة إىل اضطهاد تيسري معت ّدة بفقدان والده‬

‫‪185‬‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫ما كان له من قدرة عىل الردع وبتوجسه من الدعم الذي اعتقد أن البطالني يتلقونه من‬
‫خارج الزهرانية‪ .‬هكذا مل يبق لتيسري إال قوة جسده وحقده عىل ميخا بالذات‪ .‬وقد أصبح‬
‫استعداده للدفاع العنيف عن نفسه من غري ح ّد إذ كان انكشافه لألذى قد أصبح من غري‬
‫ح ّد أيضا إال اتّقاد ركام العنف الذي كان مضطهدوه قد مألوا نفسه به‪.‬‬
‫وال يفوت املؤلف أن يجعل من ميخا‪ ،‬وهو‪ ،‬يف ما مىض من الرواية‪ ،‬أقرب إىل أن يكون‬
‫أضحوكة رفاقه‪ ،‬أرسع هؤالء مبادرة إىل مسلك االستفزاز مبا يف ذلك العودة إىل اضطهاد‬
‫تيسري‪ .‬مع اقرتاب أصوات القذائف وما يصحبه من اضطراب يف حركة السيارات‪ ،‬كان ميخا‪،‬‬
‫وليس جوزف الذي كان يناكده أول املقبلني عىل ارتداء السرتة العسكرية وعىل استعراض‬
‫عنجهيته املستج ّدة وقد أوكل إىل نفسه حامية الحي‪ .‬لهذا تعينّ أن يحصل النزال األخري بني‬
‫ميخا وتيسري‪ ...‬وهذا بعد أن كان األخري قد غادر منزله مخالفا رغبة أبيه وأخيه يف االحتباس‬
‫خلف سور املنزل عىس أن ينفع االحتباس يف دفع املصائب الزاحفة‪ .‬حصل النزال بأقىص‬
‫العنف من جهة تيسري بعد أن استقبله ميخا بإيغال يف اإلهانة جعلها مختلفة عن املعتاد من‬
‫مناكدة مل تكن تتجاوز‪ ،‬بحسب ما وصفها أبو تيسري‪ ،‬أن تجعل "املنايك" يحسبون أنفسهم‬
‫رجاال‪ .‬هكذا قتل تيسري ميخا‪ .‬قتله برضبه تكرارا عىل رأسه بحجر كبري‪ .‬وكام أن اللذة‬
‫يف عامل الزهرانية يشحذها دخول ثالث بني طرفيها‪ ،‬مل يسع تيسري أن يبقي طي الكتامن‬
‫فعلته التي مل يشهدها أحد‪ .‬جرى إىل محل األلعاب والحجر يف يده وأنبأ األخوين صاحبي‬
‫املحل مبا فعل‪.‬‬
‫وذاك أن التثليث‪ ،‬هنا‪ ،‬بتكرار لزومه‪ ،‬يبدو مطلبا أصليا للبرش أو ركنا لحالهم يف الدنيا‬
‫أو يبدو وكأنه حال الدنيا‪ .‬يف غرفة ذات نافذة مفتوحة عىل الخالء‪ ،‬ال تفلح كوثر وسلمى يف‬
‫استحضار الله إليقاد الشهوة بالذنب فتكتفيان بتيسري‪ .‬تأخذان برضورة هتك الرس لشاهد‬
‫الرس رضورة لوجود‬‫وبرضورة أن ينحرص شهود الهتك بح ّد ال يبطل معه الرس من أصله‪ّ .‬‬
‫الشخص‪ ،‬مبا هو فرد‪ ،‬وكشف طرف من سرته رضورة أيضا ليبدو الفرد شخصا من الشخوص‬
‫أي العبا ذا قناع ودور‪ .‬الالعب ال يكفيه من يلعب معه بل ال ب ّد له من متفرج‪ .‬كذلك‬
‫يستحرض طاهر زوج سلمى ثالثني يهيجون شهوته حني تتعرى له زوجته ويستكرث من‬
‫الثالثني مضيفا إليهم من يجوز توهمه‪ .‬وبالطبع يحيل التثليث إىل التسليم الحاصل يف‬
‫العلوم االجتامعية باعتبار العالقة االجتامعية عالقة بني ثالثة‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬وال تقوم باثنني‪.‬‬
‫والتثليث نفسه يحيل أيضا إىل ما ساقه فرويد يف الطوطم والطابو من رضورة قتل األب حتى‬
‫يستقيم لألبناء الذكور أن يكرسوا احتكاره اإلناث‪ .‬ففي منطوق هذا األرختيب أن موضوع‬
‫املتعة ال بد أن يسلب من آخر وأن الحضارة إمنا هي نظام هذا السلب‪ .‬فيبدو أن التثليث‬
‫العنيف هو األصل الذي اشتقت منه رضوب أخرى من التثليث كذاك الذي تزاوله سلمى‬
‫وكوثر وال يتكشف عن عنف ظاهر‪ ...‬ما خال العنف يف مناطحته نظام القيم السائد‪ .‬وهذا‬
‫عنف يبلغ من الشدة مبلغا يحول بني الشبيبة وبني فهم ما يجري حني يلمح أحدهم كوثر‬
‫وهي واقفة يف الغرفة خلف سلمى املتعرية لتيسري‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫والحال أن العنف ماثل يف كل موضع من رواية حسن داوود ذات الطابع االسرتاتيجي‪.‬‬
‫يف كل حوار يرتاءى سعي إىل الغلبة‪ .‬هي جوالت تحىص فيها اللكامت وتلوح يف أفقها‬
‫الرضبات القاضية‪ .‬وكل متعة تؤول إىل طرد من استمتع به بعد استعامله أو هي تتأىت‬
‫باستخالصه من يد أخرى بعد ّيل الذراع‪ .‬هذا والسعي إىل حرص الدائرة التي يسوغ فيها‬
‫كشف الرس جارٍ‪ ،‬طبعا‪ ،‬عىل قدم وساق يف بوادر كل يوم‪ .‬والسعي إىل هتك األستار كلها جا ٍر‬
‫أيضا كلام الحت فرصة‪ .‬نسجت الحضارة ههنا ما يكفي من األستار لجعل االستشفاف الذي‬
‫يفرتضه الفن أمرا ممكنا‪ ،‬إذ هو الزم‪ ،‬ال أمرا محاال‪ .‬ولكن ال يبدو أن الحضارة نسجت ههنا‬
‫ما يكفي من األستار لتمويه أصلها‪ .‬فال غرو إن ظهرت الحرب من حوايش العامل الضيق الذي‬
‫يضطرب فيه شخوص هذه الرواية واجتاحه الخراب من الداخل ومن الخارج‪.‬‬

‫***‬
‫للوهلة األوىل‪ ،‬تبدو السنون العرشون التي يقول األخ "الثخني" إنها مضت عىل وجوده وأخاه‬
‫يف الزهرانية قطعة من الزمن مفرطة الطول بالقياس إىل ما يناسب من زمن الحتواء سلسلة‬
‫حمل سلمى بثالثة أوالد يف الدامنرك ال‬ ‫الحوادث التي ترتى حلقاتها يف هذه الرواية‪ .‬فحتى ْ‬
‫يحتاج إىل هذه املدة‪ .‬ولوال اإلشارة إىل هذا الحمل ومعها إشارة أو اثنتان أخريان لشعرنا أن‬
‫مائة ومثانني غروبا (وهي ما ال نعلم من الرواية أبدا كيف استوت عنوانا لها) تبقى قصرية‬
‫ولكن ال تبدو مفرطة القرص عىل سلسلة األحداث تلك‪ .‬من مجاورة وليد وأخيه لبيت أيب‬
‫عاطف إىل خمول اشتهاء "الثخني" لزوجة هذا األخري بعد أن أصبح يتعذر جعلها امرأتني‬
‫يف واحدة‪ :‬امرأة للشهوة وأخرى للنفور‪ ...‬ومن مبارشة سلمى استثامر تيسري لـ"حرقصة"‬
‫الشبيبة املتحلقة عند عمود الكهرباء إىل افتضاح تعريها له بعد دخول كوثر اللعبة التي‬
‫انتقلت من الرشفة إىل الغرفة وزالت عنها صفة اللعب‪ ...‬ومن مبارشة الشبيبة مناكدة‬
‫تيسري إىل قتل هذا األخري ميخا مع وصول نذر الحرب إىل الزهرانية‪ ...‬ومن دخول وليد‬
‫دخوال ملجوما حلقة الشبيبة املسيحيني املرتددين عىل املسبح وتعلقه الخجول بربناديت‬
‫إىل انقطاعه عن الحلقة بعد أن أخذت تبدو عليها بوادر االعتصاب الحريب‪ ...‬ومن تكاثر‬
‫البنايات التي أنشأها رجل واحد عىل الهضبة وحل يف إحدى شققها الكملجم مروان الذي‬
‫اشتهته كوثر ضدا يظهر حسنه ضده الذي هو تيسري ويؤدي معه وظيفة وسيط الشهوة‬
‫نفسها إىل خراب بيوت املسيحيني املحاذية للبحر ونهبها‪ ،‬إلخ‪ ،.‬إلخ‪ ...‬من هذا إىل ذاك إىل‬
‫ذلك‪ ،‬يبدو كل يشء قابال لالحتواء يف سنوات أربع أو خمس وغري قابل‪ ،‬يف كل حال‪ ،‬للتمدد‬
‫عىل عرشين‪ .‬ففي عرشين سنة‪ ،‬ال يبقى شبيبة عمود الكهرباء شبيبة وال تبقى البنات‬
‫قريباتهم بنات قابالت لتحفظ وليد حيالهن ولغرامه املرتدد بإحداهن وال تبقى سلمى هي‬
‫سلمى وتبقى شهوة زوجها تتقد مبالمسات يفرتض حصولها يف الزهرانية‪...‬‬
‫لعل الرواة األربعة ال يروون يف زمن واحد إذن وإن كانوا يرسدون أخبارا متقاطعة‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫نوضيب دمحأ‬ ‫نس نورشع مأ ابورغ نونامثو ةئام‬

‫لعل "الثخني"‪ ،‬صاحب محل األلعاب‪ ،‬يروي بعد سنوات كثرية من أصل العرشين أمضاها‬
‫وأخاه يف صحبة البحر وحده وانتقلت فيها حركة السيارات إىل األوتوسرتاد الجديد ومال‬
‫العمران إىل االبتعاد عن محل األلعاب ومالت التجارة إىل اللحم املشوي‪ .‬لعلها هذه الخلوة‬
‫بالبحر سنني كثرية من أصل العرشين ما احتاج إليه كل يشْ ليصدأ‪ :‬الحديد وموارد الشهوة‬
‫يف أجسام البرش ومياه الرشب نفسها‪ .‬ذاك ما انتهت إليه الزهرانية وذاك ما ينتهي إليه كل‬
‫عمران ال تتولد منه يف األفراد وال يف الجامعة إرادة لدفع غائلة البحر‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫موسيقى‬

‫وما بعد الروك يا عمر‬


‫رشبل هرب‬

‫كانت السينام املرص ّية يف ازدهار‪ ،‬وكانت بريوت البيئة األمثل للسينام‪ .‬عمر كان شا ّباً جمي ًال‪،‬‬
‫وكان غيتاره ذو التم ّوجات أفضل تسجيالت تلك املدينة البهيجة‪ ،‬بكازينواتها األ ّبه ّية‪ ،‬وعلب‬
‫الحب‪ .‬وحينام كانت الراقصات الرشق ّيات يرشّفن‬ ‫ليلها املتداعية‪ ،‬وبساكنيها الباحثني عن ّ‬
‫خصورهن التي تنضح إثار ًة‪ ،‬كان عمر هناك‪ .‬وعندما صدح صوت‬ ‫ّ‬ ‫"جاك هايداواي" بحركات‬
‫"بيسني عاليه"‪ ،‬كان عمر هناك‪ .‬ويوم التقطت الكامريا ال َدوران املخ ّدر واملسرتسل‬ ‫أ ّم كلثوم يف ّ‬
‫ل ِوريك ناديا جامل‪ ،‬كانت ناديا تغزل حول عمر‪.‬‬
‫النوستالجي‬
‫ّ‬ ‫اسم عمر خورشيد غالباً ما ُيربط بهذا النوع من الصور‪ .‬فبالنسبة إىل ا ُملولَع‬
‫واملحافظ بالسبعينات‪ ،‬ش ّكل خورشيد التأويل العر ّيب الحديث لالعب الطنبورة [املاندولني]‬
‫الحب الشبا ّيب‬‫اليونان ّية الكالسيك ّية‪ ،‬مع هدف أوحد يف الحياة هو الغناء املتواصل ألناشيد ّ‬
‫النوستالجي بالسبعينات الذي يفوقه مت ّرداً‪ ،‬والذي‬‫ّ‬ ‫يف مجتمع مث َقل باألخالق‪ .‬أ ّما ا ُملولَع‬
‫عاش م ّر ًة حلم الـ"بيتش بويز"‪ ،‬فقد أحالته موسيقى خورشيد إىل املنتجعات البحر ّية شبه‬
‫املتوسط الحا ّر‪ ،‬وإىل حياة ليل ّية مألى بالضجيج‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الكاليفورن ّية‪ ،‬وأبناء‬
‫كل العنارص املذكورة‬ ‫الحب"‪ ،‬ذاك الفيلم الذي ظهر يف ‪ ،1973‬يشتمل عىل ّ‬ ‫و"غيتار ّ‬
‫أعاله‪ .‬وهو ما سيذكره النوعان االثنان من املولعني لدى السؤال عن خورشيد‪ .‬إنّه مرجعهم‬
‫الرئيس‪ .‬ولسوف يتح ّدث أفراد هذين النوعني عن مظهره الجميل وعن سحره الذي ال‬
‫ُيغ َلب‪ ،‬وأخرياً وليس آخراً‪ ،‬عن غيتاره الكهربا ّيئ‪ .‬فاآللة تلك كانت متنح الشعور بيشء طفيف‬
‫من الح ّدة ألولئك الذين أرادوا أشياء أكرث من غري أن يخاطروا كثرياً‪ :‬أولئك الذين هم‪،‬‬
‫بكلمتني‪ ،‬متم ّردون ُمح َتوون‪.‬‬
‫ما كان هؤالء يعجزون عن التقاطه تكراراً هو الشكل املتق ّدم الذي به أ ّلف خورشيد‬
‫السطحي‬
‫ّ‬ ‫األغاين العرب ّية الكالسيك ّية وأعاد تأويلها‪ .‬فهم كانوا دامئاً ما يؤ ّكدون عىل الشكل‬
‫كالسيك ّياً بدل املضمون األش ّد تخريباً‪ .‬وبهذا كانوا يرتكبون الخطأ كام ًال‪ .‬فقد عجزوا عن‬
‫املوسيقي الذي كان سيعاين‬ ‫ّ‬ ‫التقاط النسمة التجديد ّية التي مثّلتها مقاربته لذاك الجنس‬
‫ه لبرش‬ ‫رمع اي كورلا دعب امو‬

‫انحداره الحا ّد إبداعاً وتجديداً‪.‬‬


‫السطحي لعمل خورشيد يقود إىل برت تأثريه ووجهة ذاك التأثري‪ .‬ذاك أن تذ ّكره‬ ‫ّ‬ ‫فالفهم‬
‫ماض بعيد وسعيد‪ ،‬يحرم موسيقاه قيمتها البارزة‪ ،‬كام يج ّمدها سلباً‬ ‫السائد‪ ،‬كواحد من بقايا ٍ‬
‫يف الزمن بدل أن يجعلها عابرة لألزمنة‪ .‬فحني يشري معظم الناس إىل "إيقاعات رشقية"‪ ،‬ألبوم‬
‫خورشيد الذي أنتجته رشكة "صوت لبنان" عام ‪ ،1974‬أو إىل إصداراته األخرى يف السبعينات‪،‬‬
‫غالباً ما توصف املوسيقى بأنّها موسيقى روك عىل طريقة ديك دايل يف عزفه األلحان املحل ّية‬
‫تقاطع آخر بني الرشق والغرب ال‬ ‫ومهجن ًة مبيلود ّيات العود‪ .‬أي أنّها ُ‬ ‫لكاليفورنيا‪ ،‬مخلوط ًة ّ‬
‫أكرث‪ .‬وهذا قد يكون وصفاً ممتعاً إ ّال أنّه ليس الحقيقة ك ّلها‪.‬‬
‫ففي من ّوها‪ ،‬انفصلت موسيقى خورشيد عن عنارص التأثري األساس ّية لزمن الطفولة‪،‬‬
‫فغدت كياناً موسيق ّياً ناضجاً ومستق ًّال بذاته‪ .‬لقد صارت موسيقى عرب ّية بسيكيديل ّية حديثة‪،‬‬
‫وهذه حجر الزاوية أل ّية حركة عرب ّية ما بعد الروك قد تولد‪.‬‬
‫موسيقي عميق وقابل‬
‫ّ‬ ‫لقد أريد ملوسيقاه أن تتط ّور‪ ،‬وأن ُيع ّرف بها‪ ،‬كقاعدة لجنس‬
‫للوصول إليه‪ ،‬لك ّنها قاعدة كاملة االستقالل عن الت ّيارات املوسيق ّية العرب ّية الكالسيك ّية‪ .‬ال بل‬
‫إنّ مواصفاتها السينامتوغراف ّية تجعلها أكرث توكيداً عىل ما كان ينبغي أن تكونه املتف ّرعات‬
‫املستقبل ّية عن ما بعد الروك‪.‬‬

‫شاب ما بعد رويك يعيش يف القرن الحادي والعرشين؟‬


‫كيف سريى األمر ّ‬
‫طبقات صوت السينثيسايزر "موغ" كانت تتأرجح بني االيقاعات العاصية التي يلعبها‬
‫خورشيد عىل أورغ ذاك الزمن‪ ،‬حيث تتداحل أصوات اآلآلت االيقاعية‪ .‬وهذه ش ّكلت مشهد‬
‫أشجار النخيل وليايل الفحش واملجون وشواطئ املدينة‪ ،‬كام مثّلت أيضاً املعامل الشاهدة عىل‬
‫كل هذا مبثابة املرجع الحلم بالنسبة إىل ّأي‬‫الذبذبات التي سبح فيها بشبق غيتار خورشيد‪ّ .‬‬
‫تجريبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫موسيقي روك‬
‫ّ‬
‫من الواضح أن خورشيد ببساطة بطل حديث للغيتار‪ .‬هو ليس عازفاً منفرداً يف أ ّية‬
‫نحات صوت‪ ،‬يستخدم صوت الغيتار كام ّدة‪ ،‬والذبذبة كأداة أساس ّية يف النحت‪.‬‬ ‫حال‪ ،‬لك ّنه ّ‬
‫حجة‬ ‫ال بل هو حريص عىل تشكيل كامل املحيط الذي تط ّور فيه صوت غيتاره‪ ،‬وهذا مبثابة ّ‬
‫املوسعة‪.‬‬
‫أقوى لصالح مغامرته املوسيق ّية ّ‬
‫امليلودي وصوالً إىل‬
‫ّ‬ ‫فرتتيبات السِ نثيسايزر تتجاوز دور اإليقاع البسيط والتعزيز‬
‫سيطرة الغيتار الكهربا ّيئ‪ .‬فبالقطع ليس اإليقاع والتعزيز هنا بغرض ملء الفراغ الذي‬
‫يخ ّلفه التكرار الذي يفتقر الخليط إليه‪ .‬فبدل أن يكونا عنرصين تابعني‪ ،‬تتداخل طبقات‬
‫"الكيبورد" مع صوت "فيندر توين ريفريب" الفضا ّيئ للمكبرّ ات يك تبعث الحياة يف صوت ّيات‬
‫حرير ّية مته ّدلة‪.‬‬
‫إذاً ماذا لو اعترُ ف بعمل عمر خورشيد تبعاً لألسباب الفعل ّية التي تحمل عىل االعرتاف‬

‫‪190‬‬
‫ه لبرش‬ ‫رمع اي كورلا دعب امو‬

‫به‪ ،‬بدالً من األسباب الظاهر ّية؟‪ ،‬وماذا لو أنّ الكالسي ّ‬


‫يك مل يثقل بظ ّله عىل الحديث املتم ّرد‬
‫نحات الصوت أن يهزم املؤ ّلف‬ ‫الشعبي عن موسيقاه؟‪ ،‬وماذا لو استطاع ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف معظم التص ّور‬
‫يزج املزيد من‬‫التقليدي فيه؟‪ ،‬وماذا لو مل ميت عمر يف حادث سري وأتيح له الوقت الكايف يك ّ‬ ‫ّ‬
‫الطراوة والفسحات يف مؤ ّلفات للمستقبل؟‪.‬‬
‫لربمّ ا‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬ك ّنا أحرزنا مشهداً رو ّك ّياً عرب ّياً أكرث تجديداً‪ ،‬أواخر الثامنينات وعىل‬
‫مدى التسعينات‪ ،‬ومعه‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬أكرث من قبضة صغرية من فِرق ما بعد ّ‬
‫الروك العر ّيب التي‬
‫نلقاها اآلن محشورة ما بني القاهرة وبريوت‪ .‬أو أنّ واحدنا كان ببساطة سيحصل عىل مزيد‬
‫من الغيتار الكهربا ّيئ يف اصطفافات البوب العر ّيب ليومنا الحا ّيل‪ ،‬وسيكون هناك العب غيتار‬
‫الرشقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جميل يقف وراء أ ّية ديفا للبوب‬
‫هناك يشء واحد أنا واثق منه‪ :‬ك ّنا لنمتلك تسجيالت سينامئ ّية أفضل يف العامل‬
‫العر ّيب الراهن‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫محمد عبد الوهاب‪~1950 ،‬‬
‫نص‬
‫ّ‬

‫يف بيتنا رجل‪ ...‬ودموعي وابتسامتي‬


‫رامي األمني‬

‫اتذ ّكر كان يف بيتنا رجل‪ .‬اذكر جيداً صوته‪ ،‬لكنه كان بال صورة‪ .‬حينها مل أكن قد قرأت بعد‬
‫رواية احسان عبد القدوس‪ ،‬الذي أدمنت رواياته يف سن الثالثة عرشة‪ .‬وال أعرف ما الشغف‬
‫الذي أمل يب يف تلك الفرتة ألقرأ عبد القدوس‪ ،‬بعدما كان نجيب محفوظ مفروضاً علينا يف‬
‫املدرسة‪ .‬كانت أمي تحب احسان‪ ،‬وأنا كنت أمتاهى معها‪ .‬أحب ما تحب‪ ،‬حتى وجدتني‬
‫أحياناً أحب الطبخ والكنس وجيل الصحون‪ .‬كنت أستعري من مكتبة املدرسة روايات عبد‬
‫القدوس وألتهمها يف الصف ويف الفرصة ولدى عوديت إىل البيت‪ .‬وكان مفعولها ّيف كمفعول‬
‫البرية يف خايل‪ ،‬الذي كان يرشب ويدخل الحامم ثم يرشب ويدخل الحامم‪ ،‬إىل أن يدخل‬
‫الحامم ويدلق البرية يف املرحاض ويطلق السيفون‪ ،‬مخترصاً املسافة بني البرية واعضائه‬
‫التناسلية‪.‬‬
‫كانت روايات عبد القدوس تدخل إىل عقيل وتخرج منه من دون أي مفعول يذكر‪،‬‬
‫حتى أنني اليوم ال أذكر فكرة واحدة من بنات "أفكاره"‪ ،‬هذا إذا كانت لديه أفكار جديرة‬
‫بالتذ ّكر والتف ّكر‪ .‬رمبا يكون عنوان "يف بيتنا رجل" هو الوحيد الذي علق يف ذاكريت‪ ،‬ألنني‬
‫شاهدته فيل ًام عىل شاشة التلفزيون‪ .‬ولهذا افكر فيه كلام تذكرت الرجل الذي كان يف بيتنا‪،‬‬
‫أو باألحرى صوت الرجل بال صورته‪ .‬وكان هذا الرجل محمد عبد الوهاب‪.‬‬
‫كان صوته ميأل البيت يف احيان كثرية‪ ،‬خارجاً من مسجلة قدمية تدور فيها ارشطة‬
‫سوداء من نوع الكاسيت من مخلفات ديسكوتيك كان ميلكه والدي يف منطقة الشياح أيام‬
‫تفجره إحدى امليليشيات لتط ّهره من الدنس‪ ،‬وحينها طارت مع كاسيتات‬ ‫الحرب‪ ،‬قبل أن ّ‬
‫فناين وفنانات ذلك الزمن‪ ،‬كاسيتات ذكر حكيم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد‪ ،‬ومل‬
‫ينج من املحل سوى بعض األرشطة ملحمد عبد الوهاب‪ ،‬فايزة أحمد‪ ،‬نجاة‪ ،‬وردة‪ ،‬ومجموعة‬
‫صغرية من تسجيالت عبد الصمد‪ ،‬كان من بينها سورة يوسف‪ .‬كان هذا "الكنز" جامثاً عىل‬
‫حافة العل ّية فوق الحامم الذي يتوسط غرفة نومنا أنا وأخي وغرفة نوم أمي وايب‪ .‬وكان يبدو‬
‫عالياً جداً ال ميكن الوصول إليه بسبب قرص قامتي‪ .‬وبقي هناك فرتة طويلة‪ .‬وحده محمد‬
‫مألا يمار‬ ‫تماستباو يعومدو ‪...‬لجر انتيب يف‬

‫املسجلة‪ ،‬ليخرج صوته‬ ‫ّ‬ ‫عبد الوهاب نزل تدريجياً يف بعض أغنياته ليأخذ مكانه أحياناً يف‬
‫وقوراً بأغنيات مل أكن افقه منها شيئاً يف تلك الفرتة‪ ،‬وبدت يل كأنها تالوات خفيضة‪ ،‬من‬
‫بينها "مضناك جفاه مرقده"‪.‬‬
‫أظن تلك األغنية غري عربية‪ ،‬وأحياناً أنصت إليها‪ ،‬ألجد فيها تشابهاً مع تعابري‬ ‫كنت ّ‬
‫القرآن الذي كانت له مناسباته يف البيت أيضاً‪ ،‬يف ذكرى عاشوراء‪ ،‬التي كانت تحتفل فيها‬
‫أمي عىل طريقتها‪ ،‬فتقيم مجالس العزاء يف البيت وتدعو الجريان إليها‪ ،‬وتبدأ بآي من الذكر‬
‫الحكيم‪ ،‬قبل أن تضع أمي رشيطاً لسم ّيتها القارئة حسيبة‪ ،‬التي كانت مشهورة يف النبطية‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬لجامل صوتها‪ ،‬وقدرتها عىل إبكاء النساء يف مجالسهن‪ ،‬وكانت أجمل مراحل‬
‫املجلس‪ ،‬توزيع البونجوس والراحة والبسكويت يف النهاية‪ ،‬طبعاً من بعد تناول "الهريسة"‪.‬‬
‫وحسيبة كام جاء يف سريتها عىل موقع "النبطية" اإللكرتوين "أحبت الحسني (عليه السالم)‬
‫فسقاها من إكسري خلوده‪ ...‬تطل يف كل عاشوراء مكذبة املوىت ساخرة بالزمن‪ ...‬تطلق صوتها‬
‫فينساب يف أزقة حي الرساي وبيوتاته ويف ساحة عاشوراء ليسكن القلوب دافئ ًا عذب ًا شجي ًا‪،‬‬
‫فيلهب الجرح الذي لن يلتئم أبد ًا‪ ..‬جرح كربالء"‪ .‬وحسيبة إياها‪ ،‬ذكرها شوقي بزيع يف‬
‫إحدى قصائده النضالية واملقاومة‪ ،‬التي تحول بعضها إىل أغنيات بصوت مارسيل خليفة‪.‬‬
‫هكذا كان البيت مغموراً باملوسيقى التي بدت يل دامئاً ذات بعد روحي وإسالمي‪،‬‬
‫قومجي احياناً و"مقاوم"‪ ،‬حتى تعرفت إىل اغنية "بالش تبوسني" وكانت تلك ليلة مل أنم فيها‬
‫يدب كالنمل يف جسدي‪ .‬هنا بدأت أملس روح‬ ‫لحظة واحدة وأنا أفكر يف النغم الذي راح ّ‬
‫املوسيقى‪ ،‬خصوصاً تلك التي يصنعها عبد الوهاب كمن يصنع نبيذا‪ ،‬يصري أطيب كلام م ّر‬
‫ً‬
‫ميسني بالصميم‬ ‫عليه الزمن‪ .‬وانتبهت إىل أن عبد الوهاب يختلف كثرياً عن اآلخرين‪ ،‬وأنه ّ‬
‫حينام أنصت إىل ألحانه‪ ،‬وتناغمها مع كلامت أغنياته‪ ،‬كام إىل صوته الذي بدا حنوناً‪ ،‬يعوض‬
‫عن غياب صوت األب‪ ،‬الذي لطاملا كان الحوار معه مقطوعاً‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬خرج الرجل من منزلنا ومل يعد‪ .‬ذلك اليوم كان يوم وفاة أختي‪ .‬تسلل‬
‫الحزن إىل البيت كغيم الشتاء‪ ،‬احتل سامءنا‪ ،‬وبات يشكل نقطة ارتكاز حياتنا وعالقاتنا‬
‫ببعضنا البعض‪ .‬كان املوت أشبه بأغنية تستحوذ عىل الذاكرة وال يلتقط اللسان غريها‪ .‬كأنها‬
‫أبدي المتناهٍ‪ .‬هكذا كان األمر بالنسبة إ ّيل يف األيام األوىل‪ ،‬ثم ما لبثت األغنية‬
‫تعاد يف رشيط ّ‬
‫أن تغريت‪ ،‬وصارت عىل الرشيط أغنيات أخرى تنحو كلها نحو الحزن واملرارة‪ .‬صارت كربالء‬
‫يف منزلنا‪ ،‬وصارت أمي حسيبة‪ ،‬أشبه بحسيبة قارئة العزاء‪ ،‬إذ صارت تنوح كل يوم حتى‬
‫يختفي صوتها وتختنق بنحيبها وتنام‪.‬‬
‫م ّر وقت الحزن بطيئاً‪ .‬خرج البيت رويداً رويدا من طقوس الحداد‪ .‬تقلصت زيارات‬
‫األقارب والجريان‪ ،‬وعدنا عائلة صغرية من أم وأب وثالثة صبيان‪ ،‬أكربهم أنا‪ ،‬وأكرثهم‬
‫هشاشة‪ ،‬بالروح والجسد والعظام‪ ،‬لكنني أكرثهم متاساً مع املوسيقى واألدب‪ .‬ووجدتني بعد‬
‫انسحاب عساكر الحزن من ارضنا‪ ،‬استبدل راياته‪ ،‬ولحنه الحزين بألحان أكرث بهجة‪ ،‬حتى‬
‫عرثت يوماً عىل الرجل الذي كان يف بيتنا‪ ،‬مختبئاً يف أحد األدراج‪ ،‬وعىل الكاسيت العتيق أكرث‬

‫‪194‬‬
‫مألا يمار‬ ‫تماستباو يعومدو ‪...‬لجر انتيب يف‬

‫من ست أغنيات‪ ،‬من بينها‪ ،‬عىل ما أذكر‪" ،‬يا ورد مني يشرتيك"‪ ،‬التي ابكتني كأمنا بها مجلس‬
‫عاشورايئ‪ .‬ورصت أفكر ملاذا ال يستخدمون أغنيات مامثلة يف املجالس طاملا أنها تؤدي‬
‫الوظيفة التي يفرتض بالسرية الحسينية أن تنجزها‪ .‬لكني مل اطرح فكريت هذه عىل أحد‪،‬‬
‫ألنني ال أحب التدخل يف شؤون اآلخرين‪ .‬لهم سريتهم الحسينية‪ ،‬ويل سرييت املوسيقية‪.‬‬
‫وسرييت هذه‪ ،‬مل ترتبط مبحمد عبد الوهاب وحده‪ ،‬ومل تقترص عىل عدد محدد من‬
‫الفني (عىل ما يقول الفنانون) مطربني وملحنني‬
‫الفنانني‪ ،‬بل وجدتني أكتشف يف مشواري ّ‬
‫يصيبون مني مرصعاً‪ ،‬باملعنى املجازي طبعاً‪ .‬ومنهم عبد الحليم حافظ وفريوز وسيد درويش‬
‫ونجاة الصغرية‪ ...‬وصوالً إىل مارسيل خليفة وزياد الرحباين وخالد الهرب وسامي حواط‪ .‬هنا‬
‫كنت قد بدأت أتعرف إىل طالب شيوعيني يف املدرسة‪ .‬وكنت أخاف من هؤالء‪ ،‬ألن الشيوعي‬
‫كان رديفاً للكافر‪ .‬وكنت ال أزال أعتقد أن الله لديه حباالً يدليها من السامء ليشنقني يف‬
‫نومي إذا ما أقدمت عىل الكفر أو اإللحاد‪ .‬وكنت أطرد الله وحباله بالبسملة‪ ،‬أي أداويها‬
‫بالتي كانت هي الداء‪ .‬ومع تقدم معاريف بهؤالء الطالب‪ ،‬بدأت أكتشف عاملاً موسيقياً‬
‫ميس الوتر اإلجتامعي والسيايس‪ ،‬ورصت اشرتي من السوق أرشطة لزياد الرحباين‬ ‫مختلفاً‪ّ ،‬‬
‫جل ما أعجبني فيها‬‫واسمعها يف سيارة أيب‪ ،‬ومن بينها مرسحيته "فيلم أمرييك طويل"‪ ،‬التي ّ‬
‫يف ذلك الوقت السباب والكلامت البذيئة التي يستخدمها رشيد من وقت إىل آخر‪.‬‬
‫عىل هذا املنوال نسيت الله وحباله‪ ،‬ورصت ألعب عىل حبال اليسار‪ ،‬مع حذري‬
‫الشديد من الوقوع يف احد أحزابه‪ ،‬ألنني لطاملا سمعت ايب ين ّبهنا من مساوئ اإلنتامء‬
‫الحزيب‪ .‬وهكذا كان‪ ،‬وبقيت صديقاً لليسار‪ ،‬لكني مل انتم إىل أي من أحزابه التي كانت‬
‫تنترش يف املدرسة‪ .‬أما اليمني املتمثل حينذاك بحركة أمل‪ ،‬فكان يبدو يل بليداً يف صناعة ّ‬
‫الفن‪،‬‬
‫يقترص األمر معه عىل األناشيد الجوفاء‪.‬‬
‫جمعت رصيداً جيداً من الثقافة الفنية عىل مدى سنوات‪ .‬كنت أشرتي األرشطة‬
‫واجمعها يف خزانتي‪ ،‬حتى وصل عرص األقراص املدمجة‪ ،‬ورصت اجمع املال من العيديات‬
‫ألشرتي انتاجات موسيقية غربية‪ ،‬من الجاز إىل البلوز‪ ،‬إىل املوسيقى الكالسيكية‪ .‬وكان أخي‬
‫األصغر يهددين دامئاً بتكسري وإتالف كنزي هذا اذا مل استجب ملطالبه‪ .‬ونظراً لهشاشتي‬
‫التي سبق وأرشت إليها‪ ،‬كنت انصاع‪ ،‬ألنه يف املرة األوىل التي رفضت فيها طلب إعارته‬
‫حذايئ الريايض‪ ،‬رمى أربعة اقراص مدمجة من عن الرشفة لتتهشم عىل اإلسفلت‪ .‬وطبعاً‬
‫كان أخي من ر ّواد الفن الحديث آنذاك‪ ،‬اعني من محبي راغب عالمة ونوال الزغبي ووائل‬
‫كفوري وغريهم‪.‬‬
‫كنت أسمع هؤالء‪ ،‬لكنني مل أشعر يوماً بأن أغنياتهم تغني أو تسمن من جوع إىل‬
‫التعبري‪ .‬حتى لو تهشموا عىل اإلسفلت بكميات كبرية ما كنت ألحزن عليهم‪ .‬اليوم ال أحزن‬
‫عليهم أيضاً‪ ،‬بعد إضافة آالف األسامء املستنسخة من الفنانني والفنانات‪ .‬شعوري نفسه‬
‫ينطبق اليوم عىل احسان عبد القدوس‪ ،‬الذي كان صديقاً لعبد الحليم حافظ ويعتربه ثقيل‬
‫الظل عىل املرسح‪ ،‬لكنه يرى يف صوته خامة لن تتكرر‪ .‬ال أذكر شيئاً من أدب عبد القدوس‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪195‬‬
‫مألا يمار‬ ‫تماستباو يعومدو ‪...‬لجر انتيب يف‬

‫وكأن مكانه يف ذاكريت قد تهشّ م عىل اسفلت األيام‪ .‬ارى اسمه احياناً يف بداية بعض األفالم‬
‫واملسلسالت املرصية القدمية‪ ،‬اذكر منها "دمي ودموعي وابتسامتي"‪ .‬أبتسم كأنني ارى‬
‫وجهاً قدمياً ال يسعني التأكد من مالمحه‪ .‬وأقلب املحطة‪ ،‬لتظهر هيفاء وهبي أو نانيس أو‬
‫سواهام‪ .‬فأراقب حركة الزمن يف متايل األجساد املثرية‪ .‬أقلب املحطة‪ ،‬ألسمع أم كلثوم عىل‬
‫قناة الطرب ترصخ‪" :‬إمنا للصرب حدود‪ ...‬للصرب حدود يا حبيبي"‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫نص‬
‫ّ‬

‫أملنيوم‬
‫حسن داوود‬

‫يحب أحدا‪.‬‬ ‫يف سنة ما سقطت الطائرة قرب ضيعتهم برهن أهل الشومرا أن ال أحد منهم ّ‬
‫كانوا يشون عىل بعضهم البعض ك ّلام أىت اإلنكليز مع ترجامنهم ليسألوا أين هو الط ّيار‪.‬‬
‫انخض من ق ّوتهام رأسه‪" .‬أين يا ديب‬ ‫ّ‬ ‫حتى أنّ ديب حجازي وىش عىل أبيه بعد لكمتني‬
‫خ ّبيت الط ّيار‪ ..‬أين؟" صار يقول له أبوه أمام اإلنكليز‪ .‬وكان يجيبه إبنه "إيه إنتي"‪" .‬ولك‬
‫ديب‪ ،‬أنا؟" يعود يسأله أبوه‪ ،‬فيجيب ديب‪ ،‬مك ّلام اإلنكليز والرتجامن‪ :‬إيه ه ّوي‪ ،‬ه ّوي اليل‬
‫خ ّبا الط ّيار‪.‬‬
‫وذلك من فرط ما كان الرضب قو ّيا‪" .‬أ ّول واحد أخذوه كان حسني إبن أم أحمد‬
‫سكنة‪ ،‬وملّا رج ّعوه بعد يومني كان أطرش ما بيسمع يش"‪ .‬صار رفاقه يف الضيعة يعلون‬
‫ثم صاروا يحاكونه بالرصاخ‪ ،‬وهو ال يسمع‪ .‬وحني راحوا‬ ‫أصواتهم ليسمع‪ ،‬وهو ال يسمع‪ّ .‬‬
‫يرصخون يف أذنه‪ ،‬يف داخل أذنه‪ ،‬عرف السيد هاشم أنّه لن يسمع أبدا‪ .‬قال لهم إنّه طرش‬
‫وإنّ عليهم‪ ،‬ل ُيف ّهموه‪ ،‬أن يحاكوه بالحركات‪.‬‬
‫مصاحبة‬
‫َ‬ ‫كام إنّه كان مصدوما أيضا‪ .‬ظ ّلوا نصف ساعة يسألونه‪ ،‬بتحريك األيدي‬
‫بتحريك الشفاه‪ ،‬إىل أين أخذه اإلنكليز‪ .‬ومل يحصلوا منه إ ّال عىل تلك النظرة التي تبديه كأنّه‬
‫يف ّكر إن كان قد سبق له أن عرف هذا الذي يك ّلمه‪" .‬أتركوه يذهب إىل البيت لريتاح" قال‬
‫ظل واقفا يف مكانه ال‬ ‫لهم السيد هاشم‪ .‬لك ّنهم‪ ،‬بعد أن تراجعوا عنه مفسحني له الطريق‪ّ ،‬‬
‫يتح ّرك‪" .‬ض ّيع البيت" قال واحد‪ ،‬وقال آخر إنّه يخاف أن مييش لوحده‪ ،‬وقال واحد ثالث إنّه‬
‫ال يريد أن يذهب إىل البيت فرتاه أ ّمه سكنة مرضوبا هكذا وأطرش‪.‬‬
‫رجعوه لَ ْي َف ّهموا‬ ‫رجعوه ألنّو ّ‬
‫بطل يفهم عليهن ويفهموا عليه" أو "إنّن ّ‬ ‫"ميكن اإلنكليز ّ‬
‫بالكل"‪ .‬وقد خاف الناس جميعهم‪ .‬أولئك الذين رسقوا‬ ‫أهل الضيعة إنّن هيك رح يعملوا ّ‬
‫األملنيوم من الط ّيارة‪ ،‬وهم "خمس شباب‪ ،‬او س ّتة ‪ ...‬أو أل خمسة" هربوا أو اختبأوا‪" .‬ميكن‬
‫فسد عليهن تحت األتل‪ ." ...‬يف تلك الليلة األوىل هربوا إىل الخاليل‬ ‫حسني إبن أحمد سكنة ّ‬
‫وناموا فيها‪ .‬بعضهم رجع يف النهار‪ ،‬لكن إىل بيته ليعرف‪ ،‬حني يجيء الليل‪ ،‬أين يجب أن ينام‪.‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫"أحمد داوود كان متخ ّبي باملغارة"‪ ،‬وقد وىش عنه أخوه الصغري من دون أن يعرف‬
‫ماذا يفعل‪ .‬كان يف الرابعة أو الخامسة من عمره حني صار الرتجامن يقول ألبيه إن اإلنكليز‬
‫يريدون أن يعرفوا أين هو إبنه أحمد داوود‪" .‬باملغارة‪ ،‬تحت باملغارة" قال لهم هاين الصغري‪.‬‬
‫لو مل يد ّلهم أخوه ملا كانوا عرفوا مكانه أبدا‪ .‬حتى أنّهم حني نظروا من فتحة املغارة قالوا‬
‫لكن أحدهم سمع شيئا‪ .‬قال‬ ‫بلغتهم إنها برئ ماء وإنّ الولد الذي أخربهم صغري وال يفهم‪ّ .‬‬
‫ثم قال‬‫للرتجامن أن يقول ألحمد داوود أنّهم عرفوا أين هو وليصعد من املغارة أحسن له‪ّ .‬‬
‫له الرتجامن بعد دقيقة أن يطلع وإ ّال فإنّهم سينزلون إليه ويغ ّرقونه يف املاء ح ّتى يفطس‪.‬‬
‫وألنّه مل يتأخّ ر كثريا يف الظهور من تحت الصخرة التي ال ّ‬
‫يغطيها املاء‪ ،‬ف ّكروا أنّه‬
‫استعجل يف الظهور ألن هناك آخرين يختبئون معه‪ .‬إطلع‪ ...‬إطلع‪ ،‬صار يقول له املرتجم‪.‬‬
‫وحني طلع ووقف أمامهم سألوه َمن يختبىء هناك أيضا‪ .‬وملّا قال إنّه اختبأ هناك وحده‬
‫ثم لكموه م ّرة ثانية من دون أن يسألوه عن يشء‪ .‬وملا قال لهم أبوه‬ ‫لكموه عىل وجهه‪ّ .‬‬
‫إنّه لوحده وإنّهم يستطيعون أن ينزلوا إىل الغارة ليت‪ ...‬أسكته الضابط اإلنكليزي ‪" .‬إنتا ما‬
‫خصك" ‪ ،‬قال له‪ ،‬بعرب ّية مكسرّ ة‪ ،‬لكن لئيمة أيضا‪.‬‬
‫ّ‬

‫قال أحمد داوود إنّه تأخّ ر عنهم يف الوصول إىل الطائرة‪ ،‬وهو ‪ ،‬حني عرف عنها‪ ،‬كانت قد‬
‫صارت مثل هيكل عظمي‪ .‬كان أهل صفورية قد سبقوا أهل الشومرا إليها ألنّها سقطت‬
‫يف أرضهم‪ " .‬ديب حجازي وحسني إبن أحمد سكنة وعيل قاسم وفايز الحج خليل ومحمد‬
‫حسني فرحات تو ّفأوا باألملينو ألنّن كانوا ميرقوا من ح ّد ص ّفور ّية وهني ورايحني ليشتغلوا‬
‫بس ّكة الحديد ح ّد عدلون‪ .‬أنا ملّا رحت كانت الط ّيارة خالصة"‪ .‬لك ّنه مت ّكن من أخذ شقف‬
‫أملنيوم صغرية باعها لعيل ياسني بنصف لرية‪ " .‬كانت بتسوى أكرت"‪ ،‬لكن عيل ياسني كان‬
‫نص‬‫يرسق األملنيوم من الذين يرسقونه‪ .‬كان يشرتي الكيلو بعرشة قروش "وأنا‪ ،‬ملّا عطاين ّ‬
‫لرية‪ ،‬قليل إنّوا عميعطيني ّياها هيك‪ ،‬كرمايل"‪.‬‬
‫أَركبوا أحمد داوود بس ّيارتهم وأقعدوه بينهم وهو مبلول ك ّله باملاء‪ .‬صار أبوه الحاج‬
‫أسعد يسألهم إىل أين سيأخذونه‪ ،‬وهم ال ير ّدون عليه‪ " .‬ق ّلك خ ّليك هون" ترجم له‬
‫الرتجامن ما قاله الضابط اإلنكليزي بعدما رآه يلحق بالس ّيارة ماشيا وراءها‪ .‬عىل الطريق مل‬
‫يك ّلموا أحمد داوود أبدا‪ ،‬ال اإلنكليز وال الرتجامن‪ ،‬وهم أيضا مل يك ّلموا بعضهم البعض‪ .‬كانوا‬
‫يرفعون وجوههم إىل األعىل لي ّربدها الهواء‪ ،‬والجند ّيان اللذان أقعداه يف الوسط بينهام صارا‬
‫يزيحان عنه ليك ال يب ّلل املاء ثيابهام‪.‬‬
‫حني وصلوا به إىل معسكرهم الذي يف عني الحلوة رأى حسني جعفر الذي يكربه‬
‫بسنة وأربعة أشهر موجودا هناك عندهم‪ .‬كان مشنوقا من رجليه ويداه مربوطتان بحبل‪.‬‬
‫"م ّوتوين من األتل" قال ألحمد داوود الذي أبعد نظره عنه ألنّه استحى أن يراه مثلام خلقه‬
‫ر ّبه‪ .‬ثم صار حسني جعفر يبيك وهو مقلوب رجاله يف األعىل ورأسه يف األسفل‪ ،‬ويحلف بأنّه‬
‫مل يفعل شيئا ليع ّذبوه هكذا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫ويف الشومرا صاروا يف ّزعون بعضهم البعض باإلنكليز‪ .‬إذا قال ولد أمامهم "إجو" يروحون‬
‫يتلف ّتون حولهم مستع ّدين ليهربوا‪ .‬السيد هاشم صار يخاف مثله مثل غريه واألوالد رأوه‬
‫أكرث من م ّرة مييش مهروال مثل ولد عمره خمسة عرش سنة‪ .‬من كان يزيد يف تخويفهم‬
‫كل من ُيذكر‬‫الرتجامن الذي صار يأيت إىل الشومرا لوحده ليقول لهم إنّ اإلنكليز سيأخذون ّ‬
‫لهم إسمه يف التحقيق‪ " .‬ب ّدوا مصاري‪ ...‬يج ّرب حدا يعطيه مصاري" قال لهم السيد هاشم‪.‬‬
‫لكن أحدا مل يجروء عىل ذلك "إلنّو اليل بيعطيه بيكون عمبيقول إنّو عامل يش‪".‬‬
‫ملّن شفنا اإلنكليز جايني من النقيعة ومعن مكنة شحن فاضية إلنا إنّن رايحني يض ّبوا‬
‫الكل هربوا‪ .‬السيد هاشم راح يركض باتجاه أرض السبيل‬ ‫كل النيس‪ ...‬أ ّبعنا كلنا بالركد"‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫وهو يغلق عباءته بيد وميسك طربوشه بيده الثانية‪" .‬أين وفايز الحاج خليل ركدنا ورصنا‬
‫تطلعش لورا‪ ،‬رصت إ ّلو إلنّو كل ما ركد أربع‬ ‫نأول لبعضنا إنّا مش رح نرجع عالشومرا‪ .‬ما ّ‬
‫عجل‪ .‬ملّا وصللنا عخ ّلة‬‫عجل‪ ،‬ولك ّ‬ ‫خمس فشخات يربم ويصري يتط ّلع وراه‪ .‬ورصت إ ّلو ّ‬
‫الدمئيأة شفنا ديب حجازي مخ ّبا ب َل ْطوة الصخرة‪ .‬أوم‪ ...‬أوم إلت ّلو‪ .‬أ ّلو فايز الحج خليل من‬
‫كل الضيعة‪ .‬ركد معني‪ .‬من خ ّلة الدمئيأة لخربة إلطين ّية لضهر بوغربة‬ ‫ورايي إنّن جايني يض ّبو ّ‬
‫معش ف ّيي‪ .‬وكامن يأول عطشت ب ّدي‬ ‫كل نتفة نحنا وعمرنكد ْيأول فايز الحج خليل ّ‬ ‫للئلوع‪ّ .‬‬
‫إرشب‪ .‬وملّا وصلنا عنبعة الزغرية آل ب ّدو ِي ُئعد يرتيح‪.‬‬
‫ليلتها مننا بالئلوع‪ ،‬بال أكل‪ .‬الصبح ملّا فِئنا أليّ فايز الحج خليل‪ :‬شو بعدك فزعان؟‬
‫تط ّلعت بديب حجازي وإلت ّلو‪ :‬سامع الخرا‪ ،‬آل إين فزعان‪ .‬كرهتو‪.‬صار ب ّدو يتمسخر عل ّيي‬
‫كيف خ ّليتو يركد من الضيعة عالئلوع‪.‬‬

‫أخذوا يف الشاحنة أربعة‪ :‬محمد حسني فرحات وثالثة ال دخل لهم باألملنيوم‪ .‬محمد حسني‬
‫يفسد عليه أحد‪ .‬بعد أن‬ ‫فرحات كان مختبئا بالت ّبانة وما كان اإلنكليز ليهتدوا إليه لو مل ّ‬
‫فسد عىل‬ ‫رحلوا بس ّيارتهم وشاحنتهم جاء أبوه إىل الساحة وصار يقول إنّه سيعرف من ّ‬
‫ثم صار يقول‬ ‫ويسب الناس يف الضيعة لكن من دون أن ُيس ّمي أحدا‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫إبنه‪ .‬وهو راح يرصخ‬
‫ثم‬‫ثم قال إنّه سيقتله حني يجيء إىل الشومرا‪ّ .‬‬ ‫"وينو هالرتجامن الكلب ب ّدي إح ُرء دينو"‪ّ .‬‬
‫ثم قال "خمس وعرشين لرية أخو‬ ‫قال إنّه‪ ،‬هو الرتجامن‪ ،‬يأيت إىل الشومرا ليضحك عليهم‪ّ .‬‬
‫الرشموطة‪ ...‬خمس وعرشين لرية أخد"‪ .‬وبعد أن كان يس ّبهم عاد يقول إنّ أهل الضيعة‬
‫يجب أن يقتلوا الرتجامن ويقربوه يف أ ّول م ّرة يأيت لينصب عليهم‪.‬‬
‫وحني صار يقول بعد يوم إنّ عىل أهل الضيعة أن يجمعوا من بعضهم الخمس‬
‫مرصا‬
‫وجن‪" .‬لو ما دزّوا عليه ماكنتش حكيت"‪ ،‬كان يقول ّ‬ ‫وعرشين لرية قالوا إنّه فقد عقله ّ‬
‫عىل أخذ الخمس وعرشين لرية‪ .‬فوق الدرب العالية التي جعلوها بدل الساحة ألنّهم منها‬
‫يستطيعون أن يروا مجيء اإلنكليز وهم بعد يف الوادي‪ ،‬صاروا يبتعدون عنه‪ .‬واحد يقول‬
‫له "أمعيش وال إرش"‪ ،‬واحد آخر ُيخرج أمامه جيبي رشواله لرييه أنّهام فارغتان‪ ،‬واحد ثالث‬
‫ميسك بإصبعني طرف س ّنه ويش ّدہ بنرتة واحدة ليبدو كأنّه يقلعه‪ .‬وملّا بدا له أن ال أحد سري ّد‬

‫‪199‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫عليه بدأ يقول إنّه سيد ّز عليهم عليهم مثلام دزّوا عىل إبنه‪ .‬وراح يقول إنّه باق هنا حيث‬
‫هو حتى مجيئهم‪" .‬ال حول وال ق ّوة إلاّ بالله" قال الس ّيد هاشم فيام هو ينفض ّ‬
‫ميسح يديه‬
‫واحدة باألخرى مفهام إياهم أنّ حسني فرحات ن ّفض ومل يعد يف رأسه يشء‪ّ .‬‬
‫ثم قال لهم أن‬
‫يد ّبروا له املصاري ع ّله يرىض ويسكت‪.‬‬

‫ركضوا كلهم ملالقاة الشابني اللذين ظهرا لهم قادمني من أ ّول الوادي‪ .‬عىل الطريق النازلة‬
‫كل الذين‬‫إىل هناك من ال ْنأيعة أخذوا يتح ّزرون‪ ،‬فيام هم يركضون أو يهرولون‪ ،‬فيس ّمون ّ‬
‫أخذهم اإلنكليز‪ .‬واحد يقول "هِ يدا أحمد داوود‪ ...‬عرفتو من مشيتو" ثم يجيبه آخر "واليل‬
‫معو حسني جعفر"‪ .‬ثالث يقول إن ذاك الطويل هو مح ّمد حسني فرحات‪ ،‬ليضيف بعد ذلك‬
‫أنّ "الرتجامن ط ّلعو"‪.‬‬
‫أقل من ‪ 15‬كيلو‪ .‬كانا جلدا عىل عظم وإن‬ ‫كل منهام ال ّ‬‫يف أربعة أ ّيام فقط ضعف ّ‬
‫كان رأساهام كبريين كأنهام لبسا طاسات فوقها‪" .‬وينو مح ّمد؟" ‪ ،‬قال لهام أبوه حسني‬
‫فرحات‪ .‬وإذ مل ُيجيباه ألنّهام كانا يتط ّلعان بالناس الذين تج ّمعوا حولهام وصاروا يبحلقون‬
‫يف وجهيهام‪ ،‬عاد وسألهام م ّرة ثانية‪ ،‬يف وجهيهام هذه امل ّرة‪ ،‬وبصوت بدا به كأنّهام يه ّددهام‪:‬‬
‫"وينو مح ّمد ‪ ..‬كيف جيتو وتركتوه؟"‪ .‬و ّلماّ مل يجيبوه‪ ،‬من لبكتهام هذه امل ّرة‪ ،‬قال إنّه ذاهب‬
‫إليهم‪ ،‬إىل اإلنكليز‪ ،‬ومىش باإلتّجاه الذي جاء منه الشا ّبان‪ ،‬مرسعا يف الخطوات األوىل‪ ،‬تلك‬
‫التي كان يه ّز معها كتفيه ليك ُيبعد عنه الذين لحقوا به ليرُ جعوه‪.‬‬
‫" خ ّليهن يرتاحو باأل ّول"‪ ،‬صاروا يقولون لبعضهم البعض قبل أن يفسحوا لهام الطريق‬
‫ليسريا يف األمام‪ .‬وإذ قال أحدهام‪ ،‬وهو جعفر إبن الحجة خشفة‪ ،‬أنّه عطشان‪ ،‬طلع صوته‬
‫"حطولن يش عراسن"‪" ...‬حدا يركد يجيب َم ّي من بيت‬ ‫ناشفا كأنّه مل يرشب ماء من شهر‪ّ .‬‬
‫رجعوهن"‪" .‬ما عملناش يش"‪ ،‬قال‬ ‫شملكني بالنأيعة"‪" ...‬ه ّني ما عملوش يش‪ ،‬عشان هاك ّ‬
‫الزط‪ ،‬الذي ولد حني كان أبوه يف عمر السبعني‪ .‬وقد طلع صوته ناشفا‬ ‫الراجع الثاين‪ ،‬عيل ّ‬
‫أيضا‪ ،‬كأنه يعلك شقفة كرتون‪.‬‬
‫كان اإلنكليز قد ح ّذروهام من الحيك‪ ،‬وهم قالوا لهام أنّهام سريجعانهام إىل الكمب‬
‫إن قاال شيئا‪ .‬لكن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬إلتفت عيل الزط إىل حسني سعدى الذي كان ماشيا بقربه‬
‫دل عىل ذلك مب ّدہ إصبعه إىل فمه ليمسح به‬ ‫ثم ّ‬
‫وقال له إنّ أحمد داوود صار بال أسنان‪ّ ،‬‬
‫ثم قال بعد دقيقة‪ ،‬مق ّلدا كيف يحيك أحمد داوود‪:‬‬ ‫صف أسنانه التي كشف شفتيه عنها‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫"عطثني ب ّدي إثلب بيقول ملّا يكون ب ّدو يرشب"‪ .‬لك ّنه عاد وسكت حني سأله حسني سعدى‬
‫يحب أن يحيك إال ما يخطر عىل باله‪ .‬بعد أن‬ ‫عن اآلخرين‪ ،‬ليس من خوفه فقط‪ ،‬بل ألنّه ال ّ‬
‫رشب أكرث من ثالثة أرباع اإلبريق عىل مصطبة شملكان‪ ،‬وأكمل مشيه مع الجميع بعد ذلك‪،‬‬
‫راح يف ّتش بعينيه عن حسني سعدى ليحيك له‪ .‬وقد عاد حسني سعدى ‪ ،‬حني رآه يبحث عنه‪،‬‬
‫من مطرحه‪ ،‬ليميش بجانبه‪" .‬حسني جعفر ما تح ّملش األتل‪ ،‬جابولو الحكيم ليح ّكموا‪."...‬‬
‫وكان سيزيد شيئا عن حسني جعفر لو مل ينتبه إىل أن إثنني من ورائه كانا مق ّربان اذنيهام إليه‬

‫‪200‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫ليسمعا‪" .‬بعدين‪ ...‬بعدين"‪ ،‬قال لحسني سعدى الذي وافقه به ّز رأسه م ّرتني‪.‬‬
‫الزط‪ ،‬وقد أ ّيده بعد ذلك جعفر إبن الحجة خشفة بأن قال‬ ‫"ب ّدن الط ّيار" قال عيل ّ‬
‫أنّهم " مش عميسألو عن األملينو أبدا"‪ .‬ح ّتى أنّ اإلنكليزي الذي كان يقف بقربهم وهم‬
‫يتع ّذبون كان يسألهم‪ ،‬بالعريب‪" ،‬فينو ط ّيار‪..‬فينو؟"‪ .‬كام أنّه كان ي َو ّطي رأسه ليصري وجهه يف‬
‫وجوه املشنوقني من أرجلهم ويقول لهم "نو ط ّيار إنتا بيموت"‪.‬‬

‫حني رجع مح ّمد حسني فرحات إىل الشومرا مل يكن لوحده‪ .‬رافقه الرتجامن‪ ،‬ليس من‬
‫مفرق الضيعة فقط بل من أ ّول طريق عني الحلوة حيث أفلته اإلنكليز‪ .‬كان أبوه نامئا يف‬
‫يحب أن يس ّلمه إبنه يف بيته‪.‬‬ ‫بيته حني وصال‪ ،‬وإذ أرسلوا أحدا ليوقظه قال الرتجامن إنّه ّ‬
‫ثم قال ملح ّمد حسني فرحات‪ ،‬الذي كان ضعيفا لكن ال أثر للرضب عىل وجهه‪" ،‬يالال خدنا‬ ‫ّ‬
‫عىل البيت"‪ .‬خدنا يعني يأخذهم ك ّلهم‪ .‬كان الرتجامن يقصد ذلك من أجل أن يعتمد عليه‬
‫أهل الضيعة‪ .‬وقد دخلوا جميعهم إىل حوش حسني فرحات الذي كان أفاق من نومه ووقف‬
‫تغطي رأسه‪ .‬وبينام كان الواقفون يف الخلف يقولون "والال‬ ‫عىل املصطبة حافيا وبال كوف ّية ّ‬
‫الخمسا وعرشين لرية اشتغلت" أو "ميش حالو الربطيل" أو " الرتجامن تربطل وبرطل"‪ ،‬قال‬
‫حسني فرحات من حيث يقف عىل املصطبة‪ " ،‬تأخّ رت عليه يا جورج" ‪ ،‬مك ّلام الرتجامن‪.‬‬
‫وقبل أن ير ّد الرتجامن بيشء طلع صوت من وسط الواقفني يف الحوش‪" :‬وهوليك؟"‪.‬‬
‫مل يجبه الرتجامن لك ّنه‪ ،‬بعد دقيقة‪ ،‬قال لحسني فرحات‪" :‬شو بنبأى هيك ب ّرة؟"‪،‬‬
‫قاصدا أن يكون يف داخل البيت مع حسني فرحات وإبنه وحدهام‪ .‬لكن‪ ،‬عندما صعد إىل‬
‫املصطبة‪ ،‬لحق به الذين يف الحوش‪ .‬وعندما دخل إىل الغرفة دخلوا معه وهم س ّدوا بابها‬
‫من كرثتهم‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬أمامهم جميعا‪ ،‬بدأ يحيك عن اإلنكليز‪ .‬قال إنّ ما يه ّمهم هو أن يعرفوا أين هو‬
‫كل الناس عالكمب‪،‬‬ ‫الط ّيار‪ ،‬وهم سيظ ّلون "يح ّققون" مع الناس ح ّتى يجدوه‪" .‬فيهن ين ّزلوا ّ‬
‫املهم ب ّدن الط ّيار‪ ."...‬قال أيضا أنّهم حني يح ّققون مع أحد ال‬
‫كبار زغار ما بتفروء َم ُعن‪ّ ،‬‬
‫كل يشء وأنّهم ال يراعون أحدا وأنهم‪ " ...‬إي ومنان بدنا‬ ‫يتوقفون عنه حتى يأخذوا منه ّ‬
‫نج ْبل ُهن الط ّيار" قال واحد قبل أن يستدير من حيث يقف قرب الباب ليخرج‪ .‬وقد تبعه‬ ‫ِ‬
‫العجأة"‪.‬‬
‫بيفطس من كرت ْ‬ ‫آخرون إىل الحوش قائلني لبعضهم البعض إنّ الج ّو "باألوضا ّ‬
‫خ ّوفهم الرتجامن أكرث مام كانوا خائفني‪ ،‬لك ّنهم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬قالوا إنّه فعل ذلك "إلنّو‬
‫ب ّدو مصاري"‪ .‬وهو‪ ،‬فيام كانوا ينظرون إليه خارجا من الضيعة‪ ،‬واعدا إ ّياهم بأنّه سيعود‬
‫إىل زيارتهم ولن يرتكهم‪ ،‬صاروا يقولون بأنّه سيجيء لينهبهم العكروت إبن الحرام‪" .‬خمسا‬
‫وعرشين لريا؟ إي ومني معو خمسا وعرشين لريا"‪ ،‬بدأوا يقولون متش ّكني مام أصابهم‪ .‬ثم‬
‫بدأوا يسألون مستفهمني‪" :‬ط ّيب بياخد غراض؟" أو "بيئبل مونة؟"‬

‫‪201‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫قال محمد حسني فرحات إنّهم مل يرضبوه كام رضبوا غريه وإنّهم مل يشنقوه من رجليه‪.‬‬
‫كل يشء هناك‪" :‬متل‬ ‫"ك ّلهن علأّ وهن"‪ ،‬راح يقول للذين صاروا ميشون معه ليخربهم عن ّ‬
‫عالخطافيت مش عالحبل"‪" .‬ك ّلن مع بعضن؟" يسألونه‪" .‬أل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بس‬
‫الغسيل اليل بينرشوه‪ّ ،‬‬
‫ويحطوا واحد" يجيب‪ .‬وحني يسألونه "من عمياكل أتل أكرت أهل الشومرا والال‬ ‫ّ‬ ‫يشيلو واحد‬
‫أهل الص ّفورية" يروح يجعل نفسه كأنّه يتذ ّكر أو يف ّكر‪ ،‬أو يع ّد‪ ،‬إذ كان‪ ،‬فيام هو يصفن يف‬
‫الهواء‪ ،‬يح ّرك إبهامه إىل الجهتني‪ ،‬م ّرة إىل جهة أهل الشومرا وم ّرة إىل جهة أهل الص ّفور ّية‪.‬‬
‫"بس أهل الشومرا كانوا ينوجعوا أكرت"‪.‬‬‫"ميكن أ ّد بعضن" يقول‪ّ ،‬‬
‫يظل يكسدر يف الطرقات‪ ،‬ماشيا عىل مهله‪ ،‬حني يكون لوحده ليس معه أحد‪.‬‬ ‫وكان ّ‬
‫وكان‪ ،‬ليفرجيهم أنّ الوضع طبيعي بالنسبة له‪ ،‬يقف مثال لينظر إىل الشجرات التي تحت‬
‫السبيل كأنها تعجبه‪ ،‬أو يرفع رأسه بعد أن يكون قد وقف ليتذ ّكر شيئا‪ ،‬ثم يعود ماشيا‬
‫من حيث أىت‪ " .‬كإنّو مف ّكر إنّو هالخمسا وعرشين لريا مش راح تخلص" كانوا يقولون‬
‫من ّكتني عليه‪.‬‬
‫ثم تح ّولوا إىل أن يقولوا لبعضهم البعض أن ال يتك ّلموا معه بيشء‪ ،‬إذ ميكن أن يكون‬ ‫ّ‬
‫يتجسس عليهم‪" .‬مبارح شفتو وائف تحت ش ّباك حسن الحج‪...‬‬ ‫اإلنكليز قد ج ّندوه جاسوسا ّ‬
‫ّ‬
‫وعميطلع حواليه"‪،‬‬ ‫وائف مش عميعمل يش" أو "بو رائف شافو املغرب مايش لورا النأيعة‬
‫أو "مدري وين كني اليوم الصبح َم َح َدنْش شافو"‪.‬‬
‫وما جعلهم يزدادون ش ّكا فيه وصول املرتجم إىل الساحة وقوله للناس الذين س ّلم‬
‫عليهم إنّه سيذهب إىل بيت مح ّمد حسني فرحات‪ ،‬هكذا مس ّميا البيت باسمه ال باسم أبيه‪.‬‬
‫ثم قال‬ ‫"بدهن يعملو إجتميع" قال واحد منهم فيام املرتجم يتق ّدم ماشيا باتجاه البيت‪ّ .‬‬
‫آخر‪ ،‬ضا ّما حسني فرحات إىل اإلجتامع‪" :‬أبتعرفش‪ ،‬ميكن ب ّيو عمل جاسوس متلو"‪ .‬وفيام‬
‫كان "اإلجتامع" قامئا يف البيت الذي ال يبعد عن الساحة أكرث من دقيقتني كانوا هم يتكاثرون‬
‫يف الساحة‪" .‬بكرا حسني فرحات بيد ّز علينا ك ّلني" صاروا يقولوا متذ ّكرين فصوال مماّ كان‬
‫يفعله‪" .‬إجو‪ ...‬إجو‪ "...‬قال‪ ،‬راكضا نحوهم‪َ ،‬من كان يقف تحت ش ّباك البيت محاوال أن‬
‫يتنصت عليهم‪ .‬كانوا هم الثالثة‪ :‬الرتجامن وحسني فرحات وأباه‪ ،‬ماشني معا‪ .‬وملّا وصلوا‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫إليهم وصاروا أمامهم صار املرتجم يتطلع يف وجوههم كأنّه ينتظر أن يقولوا له شيئا‪ .‬وكانوا‬
‫ينتظرون هم أيضا أن يقول هو لهم شيئا‪ .‬لذلك طال وقت سكوتهم إىل أن قطعه واحد‬
‫منهم‪" :‬هولييك شو؟‪ ...‬شو صار فيهن؟"‪.‬‬

‫كان بعض منهم قد جمعوا ما أمكنهم من املصاري‪ .‬بل إنّ بعض هؤالء كانوا حاملني املصاري‬
‫معهم‪ ،‬فيام هم يقفون أمامه‪ ،‬وإن كانوا لن يخرجوها من جيوبهم‪ .‬ألذين كان أوالدهم‬
‫محبوسني يف الكمب كانوا يقولون إنّهم لن يعطوه شيئا ألنّ أوالدهم "أكلو األتل وخلصو"‬
‫ولن يعود اإلنكليز إىل رضبهم بعد أن ح ّققوا معهم‪ .‬أ ّما الذين مل يؤخذ أوالدهم فراح الواحد‬
‫منهم يف ّكر أنّه سيعطيه فقط إن جاء اإلنكليز وأخذو أحدا من أوالده‪ ،‬هكذا مثلام فعل‬

‫‪202‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫حسني فرحات حني أخذوا إبنه‪ .‬أ ّما أن يعطوه هكذا مسبقا فيعني ذلك إنّهم يعطونه هكذا‬
‫عىل الفايض‪ ،‬فيقبض منهم العكروت إبن الحرام وال يكون إبنهم مطلوبا‪.‬‬

‫ثم أضاف بعد أن‬ ‫"بعد ما عرفو يش عن الط ّيار"‪ ،‬قال لهم فيام هو ين ّقل نظره بينهم‪ّ .‬‬
‫حملق يف وجوههم‪" :‬أهل الصف ّور ّية (يقصد املحبوسني منهم) بيأولو إنّو مع أهل الشومرا‪،‬‬
‫خصهن‪...‬‬ ‫وأهل الشومرا بيأولو إنّو مع أهل الص ّفور ّية‪ ...‬وك ّلهن املألوطني تحت بيأولو ما ّ‬
‫يعني شو؟"‪.‬‬
‫– –يعني ب ّدن يض ّلوا ياخدو عامل‪ ،‬قال حسني فرحات الواقف ما زال بجانب الرتجامن‪.‬‬
‫– –حرام هالشباب‪ ...‬وحرام إنتو كامن‪ ،‬إلنّو الجامعة مش رايحني يسكتو‪ .‬بدهن الط ّيار‬
‫يعني بدهن الط ّيار‪ ،‬إنتو ما بتعرفوهن‪ ...‬أنا باعرفهن‪ ،‬كبار زغار رجال نسوان ما‬
‫بتفرؤ معن‪.‬‬
‫– –النسوين‪ ،‬أعوذ بالله‪ ،‬شوهالبل ّية اليل نزلت علينا‪ ،‬قال السيد هاشم من حيث يقف‬
‫يف ص ّفهم األمامي‪ ،‬لكن ليس يف وسطه إذ مل يعد هو يطلب من الناس أن يس ّلموا له‬
‫وينتظروا أن يقول لهم ماذا عليهم أن يفعلوا‪ .‬بل كان ميكن له أن يكون واقفا وراء‬
‫الصف األ ّول‪ ،‬يرفع رأسه إىل األعىل إن س ّد عليه الرجل الواقف أمامه‬ ‫ّ‬ ‫هؤالء الذين يف‬
‫رؤية الرتجامن‪.‬‬
‫ً‬
‫– –أنا بساعد‪ ،‬قال الرتجامن مربهنا عىل ذلك بالتفاته إىل حسني فرحات وإبنه الواقفني‬
‫معا بقربه‪" .‬أنا بساعد‪ ،‬بس إنتو باأل ّول الزم تساعدو حالكن‪ .‬الزم تعرفوا وينو الط ّيار‬
‫وتأولو وينو‪."...‬‬
‫ماخصنيش‪ ،‬يروحوا يجيبوه من الص ّفور ّية‪ ،‬قال‪ ،‬بنربة متح ّدية‪ ،‬واحد من الواقفني‬ ‫– –نحنا ّ‬
‫يف الوراء‪ ،‬وقد بدا بنربته تلك كأنّه يتح ّدى الرتجامن‪ .‬كأنّه يقول له‪ :‬رح جيبو إنتي‬
‫الصفور ّية‪.‬‬
‫من ّ‬
‫ثم يعودون‬ ‫ثم صار الذين هناك يف الوراء يحاكون بعضهم البعض وترتفع أصواتهم ّ‬ ‫ّ‬
‫إىل خفضها‪ .‬بل وصار الذين يف األمام يلتفتون إليهم التفاتات تطول‪ ،‬بل ميشون إليهم من‬
‫حيث يقفون تاركني الرتجامن ال يعرف إن كان عليه أن يتك ّلم أو أن يقف هكذا يف مكانه‬
‫ال يعرف ماذا يفعل‪.‬‬
‫وقد تف ّرق أكرثهم عنه‪ ،‬فيام تق ّدم الباقون ليصريوا قريبني إليه يك ّلمهم كأنّه يك ّلم ّ‬
‫كل‬
‫واحد منهم مبفرده‪ .‬وهو مل يعجبه ذلك‪ .‬مل ينتظر أن يأخذوا أماكنهم حوله‪ .‬أدار وجهه إىل‬
‫ثم إىل حسني فرحات‪" :‬أنا ِب ّدي إميش"‪ ،‬قال له كأنّه يسأله إن‬ ‫حسني فرحات‪ ،‬ثم إىل إبنه‪ّ ،‬‬
‫كان هو وإبنه ميشيان معه ليوصاله إىل النقيعة أو إىل الوادي الذي بعدها‪.‬‬

‫يف اليوم التايل جاء اإلنكليز‪ :‬شاحنة وسيارتني ود ّبابة كانت تسري خلف بعضها البعض‬
‫عىل مهلها‪" .‬معهن د ّبابة"‪ ،‬صار يقول الواقفون يف الساحة م ّرة بعد م ّرة كأنّهم ُيخيفون‬

‫‪203‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫أنفسهم من أجل أن يكون هربهم رسيعا‪ .‬حتى أنّهم‪ ،‬فيام هم يركضون من الساحة‬
‫باتجاه الخاليل‪ ،‬صاروا يرصخون بأصوات عالية ليك يسمع أولئك الذين يف البيوت‪" :‬معهن‬
‫ثم يك ّرر‪ ،‬ألولئك الذين سمعوه ومل يفهموا‪" :‬ولك د ّبايب‪،‬‬ ‫د ّبايب" يقول واحدهم يف رصاخه‪ّ ،‬‬
‫معهن د ّبابييييي‪."...‬‬
‫حني وصل اإلنكليز رأوا الساحة خالية ال أحد فيها‪ .‬كان الصوت يطلع قو ّيا من‬
‫املوتورات التي أبقوها تهدر حتى بعد أن نزلوا منها متط ّلعني يف اإلتّجاهات حولهم‪ .‬ظ ّلوا‬
‫متو ّقفني هناك يف الساحة حواىل عرش دقائق أو ربع ساعة راحوا يف أثنائها ميشون‪ ،‬حاملني‬
‫بواريدهم‪ ،‬إىل مفارق الزواريب‪ ،‬يقفون عند مداخلها أو ميشون فيها خطوات ثم يرجعون‬
‫ثم قال لهم الضابط‪ ،‬فيام هو يه ّز رأسه مثلام يفعل من‬ ‫ليقولوا للضابط إنّهم مل يجدوا أحدا‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫يتو ّعد ويقول "سأفرجيهم"‪ ،‬أن يصعدوا كلهم إىل أماكنهم‪ .‬لكن بدال من أن تسري قافلتهم‬
‫مكملة الطريق إىل الساحة التحتان ّية الصغرية لتصري هناك بني البيوت‪ ،‬نزلت باتجاه بركة‬
‫ثم أكملت سريها إىل الغربة‪ ،‬املط ّلة عىل الضيعة وليس‬ ‫املاء حيث تو ّقفت ّ‬
‫ألقل من دقيقة ّ‬
‫فيها إ ّال بيت واحد هو بيت أبوقاسم عوايل‪ .‬هناك مل ينزل إال الضابط مع إثنني من الجنود‬
‫ثم بعد ذلك راح‬ ‫راح الضابط يك ّلمهام وهو يشري بيده إىل الضيعة وإىل التالل التي حولها‪ّ .‬‬
‫ثم أعطى الناظور ألحد الرجلني لينظر فيه هو أيضا‪ .‬ثم رجعوا هم الثالثة‬ ‫ينظر بالناظور‪ّ .‬‬
‫إىل أماكنهم‪ .‬وإذ بدأوا يديرون الدبابة والشاحنة والس ّيارتني إىل جهة الطريق قوي الهدير‬
‫وصارت الدبابة والشاحنة كأنهام تجعران من ق ّوتهام‪.‬‬
‫من الغربة عادوا من الطريق ذاتها التي ذهبوا منها‪ .‬مل يبطئوا سريهم عندما وصلوا‬
‫إىل بركة املاء وهم‪ ،‬يف الطلعة التي بعدها‪ ،‬أطلعوا دخانا كثريا من الدواخني‪ .‬وملّا وصلوا إىل‬
‫الساحة تو ّقفوا‪ ،‬يف وسطها‪ .‬وبعد قليل أطفأوا مح ّركاتها ما عدا س ّيارة الجيب التي يف األمام‪.‬‬
‫ثم أصوات العصافري‪ .‬املختبئون‬ ‫لكن مع ذلك هدأ الج ّو وصارت تُسمع أصوات الرصاصري ّ‬
‫يف البيوت ف ّكروا أن الجنود سيبدأون اآلن هجومهم وأخْ َذ من يقبضون عليه إىل الشاحنة‪.‬‬
‫ثم ف ّكروا أن الدبابة والشاحنة وسيارة من السيارتني سرتابط يف الضيعة‪ ،‬وذلك حني تح ّركت‬ ‫ّ‬
‫الس ّيارة األوىل‪ ،‬تلك التي أبقوا مح ّركها يدور‪ ،‬مرسعة كأنّها ستعود إىل الكمب وحدها‪.‬‬
‫لك ّنها عادت بعد أن وصلت إىل ت ّلة النفيس‪ ،‬املط ّلة عىل الضيعة أيضا لكن مل يع ّمر‬
‫ثم‬
‫أحد بيته فيها‪ .‬وملا صارت أمام قافلتها استدارت يف مكانها لتعود إىل مطرحها يف املق ّدمة‪ّ ،‬‬
‫عاد الهدير قويا ضخام من جديد‪.‬‬

‫قال لهم الرتجامن إنّهم إ ّما سيهجمون عىل الضيعة بالدبابات التي سينزلون بها من الغربة‬
‫"كل البيوت؟" سأله قاسم زعرور الذي‬ ‫والنفيس‪ ،‬وإما سيقصفونها من الجو بالط ّيارات‪ّ .‬‬
‫كان مستندا إىل حائط بيته‪ ،‬هناك يف الساحة‪" .‬أل‪ ...‬ميكن أل" أجابه الرتجامن‪ .‬وقد استحى‬
‫قاسم زعرور أن يسأله‪ ،‬ولو بالتلميح‪ّ ،‬أي البيوت هي التي سيقصفونها ألنّه سيبدو كأنّه‬
‫يسأل عن بيته فقط وال ته ّمه بيوت الضيعة األخرى‪" .‬ط ّيب إزا طلعو علينا الط ّيارات كيف‬

‫‪204‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫بدنا نعمِل؟" سألت زوجة قاسم زعرور عن املصطبة التي كانت تقف عليها ساندة كتفها‬
‫بطرف الحائط‪.‬‬
‫"عندك منديل أبيض؟" سألها الرتجامن مع أنها كانت ترتدي واحدا عىل رأسها‪.‬‬
‫– –عندي‬
‫– –هاتيه‬
‫ومل ترت ّدد زوجة قاسم زعرور‪ .‬ذهبت إىل داخل بيتها ثم خرجت منه لتعطي الرتجامن‬
‫غطت رأسها بقامشة نيل ّية كان عليها‪ ،‬لصغرها‪ ،‬أن متسك‬ ‫املنديل الذي كانت ترتديه وقد ّ‬
‫طرفيها وتش ّدهام ش ّدا إىل ذقنها‪ .‬ومن حيث كانت تقف عىل املصطبة‪ ،‬ق ّربت املنديل‬
‫لزوجها ليعطيه للرتجامن‪.‬‬
‫ّ‬
‫– –ب ّدك تفلشيه‪ ،‬قال فيام هو يتطلع باملنديل من ذلك القرب تاركا يديه اإلثنتني تن ّقالنه‬
‫ثم يق ّربه من عينيه م ّرة بعد م ّرة‪َ " ...‬ر ْح يخْ وت جوزها" قال واحد‬ ‫من جهة إىل جهة‪ّ ،‬‬
‫من الواقفني بصوت رمبا وصل إىل أذين قاسم زعرور الذي قال للرتجامن فيام هو‬
‫يتق ّدم إليه ما ّدا يديه‪" :‬خليّ ع ّنك أين بس ّويه"‪ .‬لكن الرتجامن‪ ،‬وقد صار املنديل منفلشا‬
‫بني يديه‪ ،‬أزاح قاسم زعرور بحركة من كتفه‪" :‬شويف‪ "...‬قال للمرأة التي ما زالت شا ّدة‬
‫ثم راح يل ّوح به يف الهواء ناظرا‬
‫طريف القامشة حول ذقنها‪ " ،‬ب ّدك تل ْوحي فيه هيك"‪ّ ،‬‬
‫إىل املرأة وإىل الرجال الواقفني أمامه‪ ،‬الناظرين إليه ساكتني رغم أنّهم يعرفون مثلام‬
‫يعرف هو ما يع ّلمهم إ ّياه‪.‬‬
‫– –هيك ب ّدك تعميل ملّن بتِجي الط ّيارة‪.‬‬

‫وقد بينّ الرتجامن عن هبله ألهل الضيعة‪ " .‬شو مف ّكرنا حمري‪ ،‬الحامر" صاروا يقولون لري ّددوا‬
‫بعد ذلك أنّهم "ظمتوا" بتأجيلهم إعطاء املصاري له م ّرة بعد م ّرة‪ .‬وكان هو قد يئس أصال‬
‫من ذلك‪ ،‬وإ ّال مل يكن ليقول إنّ اإلنكليز سيهجمون عليهم بالد ّبابات والطائرات‪" .‬كان‬
‫كل الضيعة؟" راحوا يسألون بعضهم بعضا من ّكتني‬ ‫مف ّكر ميكن إنّو بدنا نجمعلو مصاري من ّ‬
‫مستهزئني‪ .‬أو يقولون إنّه هو األهبل سيمنع اإلنكليز من رضب الشومرا!؟‬
‫لك ّنهم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬راحوا يف بيوتهم يف ّتشون عن مناديل عتيقة أو قطع قامش بيضاء‬
‫مي ّزقونها من الرشاشف‪ ،‬أو يرتكون الرشاشف كام هي ليل ّوحوا بها ك ّلها فرتاها الط ّيارات مهام‬
‫كانت علية يف الج ّو‪ .‬أ ّما الدبابات فيستطيعون أن ي ّتقوا خطرها بأن يهربوا من لحظة ما‬
‫يشاهدونها آتية من الوادي‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫بعد أن ّ‬
‫حل عنهم اإلنكليز عرف أهل الشومرا أنّ تفاخرهم بق ّوة أجسامهم مل يكن إال وهام‪.‬‬
‫كل الذين أخذهم اإلنكليز رجعوا معطوبني‪ .‬حسني إبن إم أحمد سكنة‪ ،‬الذي جاء أطرش‬ ‫ّ‬

‫‪205‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫سمعه أبدا‪ .‬أحمد داوود الذي كان مييش مكسدرا عىل‬


‫ظل أطرش ومل يرجع إليه ُ‬ ‫من عندهم ّ‬
‫طرف الربكة مش ّمرا عن زنديه ومغ ّنيا لبهيجة بصوته املخنخن (مثل صوت الد ّبور بالج ّرة‪،‬‬
‫كام كانت تقول هي)‬
‫ورم���ي���ت���ن���ي ب���ال���ج���ان���ريك‬ ‫ع����ال����ع����م���� ّي����م ع����ال��ب�ريك‬
‫س���اع���ة م����ا خ��� ّل���ت���ن���ي ن���ام‬ ‫ي����ح����رىء أل���ب���ا ش����و ح���ريك‬
‫الكف عىل خ ّدہ ووجهه ويقول "يا إمييييييي" ليك‬‫أحمد داوود كان يرصخ ح ّتى من لطمة ّ‬
‫يشفق عليه اإلنكليز‪ .‬وحني رجع إىل الضيعة صار يشتغل مع أبيه ويقعد يف البيت بعد‬
‫ظل هكذا بال أسنان حتى سنة ‪1946‬‬ ‫الظهر لكرثة ما كان مستحيا من تكسرّ أسنانه (وهو ّ‬
‫حني أخذه أبوه إىل حكيم يف صيدا ور ّكب له وجبة بعد أن قلع أرم ّيات أسنانه املكسرّ ة)‪.‬‬
‫عيل زبيب الذي أخذوه مع محمد حسني فرحات ومل يرجعوه إنكرست يده والتوت فصارت‬
‫ك ّفه ممدودة إىل الوراء كأنّه يستعطي من الذين ميشون وراءه وال يرون وجهه‪ .‬كام أنّه مل‬
‫يعد يستطيع أن يحمل شيئا بيديه اإلثنتني‪ .‬حسني جعفر مل يتح ّمل الرضب أبدا فكان يغمى‬
‫عليه واإلنكليز يقولون إنّه كان يكذب عليهم فيصريوا يرضبونه وهو مغمى عليه‪ .‬وحني‬
‫فصححه لكنهم عادوا يرضبونه بعد ذلك‪ .‬وملا‬ ‫مرض عرضوه عىل حكيم الكمب اإلنكليزي ّ‬
‫صار يقول لهم إن الط ّيار موجود يف الخاليل بني الشومرا والكوثرة كانوا يص ّدقونه‪ ،‬فيأخذونه‬
‫إىل هناك ليك ال يجدوا الط ّيار‪ .‬وحني يرجعونه إىل الكمب ويبدأون الرضب يقول لهم إنّ‬
‫أهل الكوثرة نقلوه من هناك ليك ال يجده اإلنكليز قريبا من أرضهم فيبدأون التعذيب‬
‫تظل تبيك ألنّه كان ولدها الوحيد وهي‪ ،‬بعد أن صاروا يحكون أنّ‬ ‫بهم‪ .‬وكانت أ ّمه سكيبة ّ‬
‫ليتوسط لألوالد‪ ،‬إنتظرت مروره من أمام بيتها وقالت له إن ليس‬ ‫ّ‬ ‫الرتجامن يأخذ مصاري‬
‫معها مصاري لتعطيه‪ .‬وهي‪ ،‬بدل املصاري‪ ،‬قالت له إنّها ستعطيه البقرة وعِجلتها‪ .‬بل إنّها‬
‫جاءت بالبقرة مربوطة برسنها وعجلتها تتبعها بال رسن وقالت له‪ ،‬بعد أن كان قد مىش‬
‫ذاهبا إىل أرض العريض‪ ،‬خذ البقرة‪ ...‬خذ البقرة‪ .‬وقد ر ّدها عنه حسني فرحات الذي كان‬
‫ماشيا معه من دون إبنه‪ .‬وحني رآها حسني فرحات بعد الظهر‪ ،‬وكان قد رحل الرتجامن‪ ،‬قال‬
‫لها‪" :‬شو إنتي خوتا لتعطيه َبأَرة للزملي"‪.‬‬
‫حني مات إبنها أرسلوا الرتجامن ليك يقول لها أن تنزل إىل الكمب يف عني الحلوة‬
‫لتأخذه‪ .‬وهي نزلت إىل هناك وحدها إذ مل تستطع يف ذلك اليوم أن تب ّلغ ع ّمه الذي كان‬
‫محل خرضوات يف بريوت ومل يقبل أن ينزل معها أحد من الشومرا‪.‬‬ ‫يشتغل يف ّ‬

‫ظل أهل الشومرا يروون حكاياتهم عن الطائرة والط ّيار‬‫بعد سنوات عىل رحيل اإلنكليز ّ‬
‫متف ّرقة نتفة من هنا ونتفة من هناك‪ .‬أحمد داوود يحيك كيف ظ ّلوا يرضبونه ح ّتى كسرّ وا‬
‫أسنانه ليقول يف آخر حكايته‪ ،‬أو قبل آخرها بقليل‪ ،‬إنّه كان ملّا يسمع رصخات حسني جعفر‬
‫كان يقول يف نفسه إنّه سيموت من الرضب وسيموت هو من بعده‪ .‬عيل زبيب مل يكن يخبرّ‬

‫‪206‬‬
‫دوواد نسح‬ ‫وينملأ‬

‫ظل يستحي من نفسه ك ّلام انتبه إىل أحد يح ّدق فيها‪.‬‬ ‫شيئا عن يده امللو ّية إىل الوراء ألنّه ّ‬
‫أ ّما أهله فكانوا يقولون إنّ اإلنكليز ع ّذبوه ولووا يده وإنّ حسني جعفر مات من تعذيبهم‪.‬‬
‫أو يقول بعضهم إنّ قطعة كبرية من حديد الطائرة أخذها أهل حبوس وهم نقلوها إىل‬
‫ظل محتفظا بشقفة أملنيوم يف جورة قرب‬ ‫ضيعتهم عىل ظهر جمل‪ .‬كام قال أحدهم إنّه ّ‬
‫بيته عىل رغم الغارات التي كان يقوم بها اإلنكليز‪ .‬كانت ك ّلها حكايات متف ّرقة ال يشء يجمع‬
‫بينها أو يسلسلها مثلام يفعلون املتع ّلمون يف هذه األ ّيام حني يسلسلون التاريخ‪ .‬شقف‬
‫متف ّرقة‪ ،‬واحدة من هنا واحدة من هناك‪ .‬مثل أملنيوم الط ّيارة التي كان يقول أهل الص ّفور ّية‬
‫الصفور ّية رسقوا ما رسقوه‬‫إنّ أهل الشومرا أخذوا أكرثها فيام يقول هؤالء األخريون إنّ أهل ّ‬
‫وهم عزموا أهل الكوثرة عىل الطائرة ليرسقوا األملنيوم معهم‪.‬‬
‫كام أنّهم‪ ،‬ومعهم أهل الص ّفور ّية‪ ،‬وأيضا أهل الكوثرة‪ ،‬صاروا يقولون أشياء من هنا‬
‫وأشياء من هناك عن الط ّيار‪ .‬يف سنة يقول هؤالء إنّهم نزل ح ّيا من طائرته وهو تلفن‬
‫حي‪ .‬يف سنة أخرى يقول أولئك إنّه كان جريحا وفيه حروق‬ ‫بالالسليك إىل القيادة ليقول إنّه ّ‬
‫وإنّ عائلة كانت يف أصلها من البدو نقلته إىل بيتها يف خراج الص ّفوريه لتداويه باألعشاب‬
‫ليك تس ّلمه بعد أن يشفى لإلنكليز "وتقبض مصاري عليه"‪ .‬لك ّنه "مات عندهم" واحتاروا‬
‫ماذا يفعلون به‪ .‬بعض آخر يقول إنه سقط ميتا محروقا وإنّ امرأة لقبها حنجولة (وهو من‬
‫األسامء التي تس ّمى بها البقرات) قطعت إصبعه لتأخذ الخاتم منه‪.‬‬
‫ويف سنوات أخرى تلت وصل اإلختالف إىل ح ّد أن بعض الناس أخذوا يقولون إنّهام‬
‫طائرتان وليست طائرة واحدة‪ ،‬إحداهام سقطت يف أرض الص ّفور ّية والثانية يف كافالي‪ .‬وقال‬
‫آخرون إنّ الذين كانوا يف الكمب إسرتال ّيون وليسوا إنكليز‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ويف سنوات أخرى تلت تلك السنوات األخرية ُوجد من راح الناس يص ّدقونه‪ .‬ذاك‬
‫ألنّه صار يحيك عن سقوط الطائرتني ( وليس طائرة الص ّفورية وحدها) مثلام تكون األشياء‬
‫مكتوبة يف الكتب‪ .‬وهو بدأ بالكالم عن الحرب بني الحلفاء وهتلر‪ ،‬ذاكرا أسامء بينها فييش‬
‫وسبريس ومعارك جرت يف أماكن سماّ ها بني الدامور والرصفند‪ .‬كام س ّمى أشهرا وسنوات‬
‫مثل أيلول ‪ .1942‬قال أيضا إنّ الطائرتني أسقطتهام مدافع الفرنسيني املؤ ّيدة لهتلر وق ّوات‬
‫املحور‪ .‬كان يعرف أشياء ك ّلها صحيحة‪ ،‬لكن ليس عن أهل الشومرا الذين مل يذكر عنهم إال‬
‫ما عرفه عن القتيل‪.‬‬

‫"األخبار" املد ّون عنها أعاله بعضها حقيقي وبعضها متخ ّيل‪ .‬كام أنّ األسامء الواردة ليست أسامء أصحابها‬
‫الفعل ّيني‪ ،‬وإن كان من املمكن لها أن تنطبق عليهم‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫نص‬
‫ّ‬

‫مرآة فرنكشتني‬
‫ع ّباس بيضون‬

‫فننا الكبري‬
‫كانوا أوقفوا عمر ورياض‪ ،‬وألس ّهل األمر عىل نفيس قلت إن التملص عبث وانتظرتهم يف‬
‫منزيل بعد أن لبست شيئا سميكا ألتقي الرضب‪ .‬فوجئوا بوجودي وكانوا يظنون أن رجال‬
‫ناضجا مثيل ال بد سيلجأ إىل اإلختباء‪ .‬أما أنا فآثرت الذهاب إىل السجن بدالً من التو ّرط يف‬
‫مامطلة ال أحسنها‪ ،‬إذ ال طاقة يل عىل أن أبتكر لكل ساعة وأحتال لكل ليلة وأرتجل كل يوم‬
‫شجاعة جديدة‪ .‬كنا وزّعنا مناشري ضد الجيش واستحقينا السجن‪ .‬علموا كل يشء من عمر‪،‬‬
‫يل أن أنكر تفاصيل ال ميكن دحضها‪ .‬فقد روى كيف أعطيته ماالً ألجرة‬ ‫ومع ذلك كان ع ّ‬
‫يل أن أنكر‬ ‫السيارة وإىل أين ذهب ومن وجد هناك ومن س ّلمه املناشري‪ ...‬إلخ‪ .‬مع ذلك فإن ع ّ‬
‫ألن إنكاري يضعف القضية‪ ،‬كنت أفهم أن أحمي ارساراً بصمتي أما أن أرفع قدمي عىل آلة‬
‫الفلق وأدور حولها كالف ّروج وأحتمل عىل كفي رضبات السوط ليك ال ُأضعف القضية وال‬
‫أزيد أدلة اإلثبات‪ ،‬فهذا ما ال أفهمه‪ .‬سكت يومني ثم ملّا رفعوا عني الرضب تك ّلمت خوفاً من‬
‫ضحيت من‬ ‫أن يعاودوه‪ .‬قضيت يف السجن أسابيع مل أف ّكر خاللها يف أنني ُظلمت أو أنني ّ‬
‫أجل مباديئ‪ .‬جوزيت عىل يشء كنت أعرف متاماً نتيجته فلم أتظ ّلم‪ ،‬وقال يل املحقق لو كنت‬
‫ضحيت‪ ،‬وحني صادفت زمي ًال‬ ‫مظلوماً لنزلت من عينيك دمعة‪ .‬مل أشعر أيضا بالرضا ألنني ّ‬
‫أحذ يح ّرضني بالقول إن الثورة الصينية انترصت يف كذا سنة والثورة الكوبية انترصت يف كذا‬
‫قدمي املتورمتني‬
‫ّ‬ ‫سنة‪ ،‬أمسكت نفيس عن السخرية التي غلت يف قلبي ومل أجد نسبة بني‬
‫ووجهي املحبحب وانتصار الثورة الكوبية‪.‬‬
‫مل نكن سذجا حتى اإلميان بأن الثورة عندنا ستقوم أو تنترص‪ ،‬وكنت هنا إلثبات أمر‬
‫آخر‪ .‬أمر آخر أثبته لنفيس وال أدري أو مل أعد أدري ما هو‪ ،‬لكن ما فعلته كان بالنسبة إ ّيل‬
‫اختياراً خاصاً‪ ،‬ومل أستطع أن أراه جزءاً من مسرية‪ .‬ذهبت إىل اليسار الشيوعي كام ذهب‬
‫غريي من أمثايل يومذاك‪ .‬كان ذلك مقدوراً علينا‪ ،‬ومل نذهب بفعل تجاربنا الخاصة‪ ،‬وأنا مل‬
‫تكن يل تجربة‪ .‬مل أكن ميسوراً لكني مل أنتبه إىل أنني كذلك‪ ،‬وكانت يل حاجات أل ّبي بعضها‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫وال أل ّبي بعضها‪ ،‬لكن ما ال أل ّبيه ال يورثني حزازة وال أذى‪ ،‬وأخرجه بال جهد من تفكريي‪.‬‬
‫زماليئ األكرث قدرة مني مل أحسدهم‪ .‬كنت أحسب أن ما عندي يفوقهم‪ .‬حضور فيلم‬
‫أو أكل قرن بوظة أو رشاء ساندويش زيادة مل تكن أموراً تقارن بفني الكالمي وال بالرثوة التي‬
‫لدي‪ .‬كان يف‬‫أملكها يف لساين‪ .‬هذا الرصيد الكالمي الذي يتضخم بدون جهد كبري هو كل ما ّ‬
‫عطل أي إمكانية حياة أخرى‪ ،‬إذ كيف ميكن تحويل هذه اململكة‬ ‫الواقع عالياً ودافقاً بحيث ّ‬
‫إىل تدابري وأعامل ومبادرات‪ ،‬فذلك أشبه بصناعة منافض سيجارة من ماس‪ .‬كيف ميكن مع‬
‫هذه اململكة مغازلة فتاة أو‪ ،‬بحسب تلك األيام‪ ،‬مالحقتها يف الشارع؟ كان ذلك بالنسبة إ ّيل‬
‫سخفا بالطبع لكنه يحتاج إىل جرأة ال أملكها‪ .‬كيف يل أن أميش بخطوات طبيعية وأنا أفعل‬
‫ذلك؟ كيف يل أن أقول تلك الكلامت البلهاء "حلوة‪ ،‬حبيبتي" يف أثر الفتاة بصوت طبيعي؟‪.‬‬
‫أستحق مباراة أفضل بالطبع لكن النتيجة كانت مخجلة‪ ،‬ومن هم دوين يصلون بسهولة إىل‬
‫ما ال يتس ّنى يل‪ .‬حتى حني أفعل مثلهم ال أنجح‪ ،‬وأبدو يف الغالب غري واثق وثقي ًال‪ ،‬حتى‬
‫الكالم القوي ال يؤثر كام تؤثر بسمة أو وسامة‪ .‬ال بد أين أقبح من أن أؤ ّثر‪.‬‬
‫الحقت مرة فتاة طوال الطريق لكني مل استطع قول تلك الكلمة‪ ،‬وحني صعدت إىل‬
‫بيتها وقفت لحظة تحت شباكها‪ ،‬ووجدتها تفتحه عىل وسعه وتسألني من فوق ماذا أريد‬
‫يل من‬ ‫منها‪ .‬هذه املرة مل أستطع نطق تلك الكلمة‪ ،‬قلت ال يشء وانرصفت‪ .‬مل يكن بني مجاي ّ‬
‫يتكلم مثيل‪ ،‬ليس فقط ُجميل ولكن أيضا لهجتي‪ .‬يف طفولتي وجدوين لذلك غريباً فس ّموين‬
‫الشاعر وقلبوها بسخرية إىل "شارع"‪ .‬عندما كربت قلي ًال نسوا هذا اللقب املؤمل وتخلصت‬
‫أنا بصعوبة من رضّ ته‪ .‬انتبهت إىل أنني أعيش بني أناس ال يحسنون الكالم‪ ،‬وكان ما أقوله‬
‫إعجازاً بالنسبة إليهم‪ .‬يصغون إ ّيل يف الحلقة وأنا أتق ّدم يف الحيك وكلام اسرتسلت تحطمت‬
‫طبقة من خجيل واستطعت أن أتف ّكه وأن ُأم ّتع‪ .‬ال شك أن الطفل الذي جعلوه أضحوكة‬
‫بسبب موهبته يثأر اآلن‪ ،‬ولقد نجح يف أن يبهرهم أخرياً‪ .‬أثناء ذلك كم طوقا من الخجل‬
‫نفسه‪ ،‬كم مالطاً من االبتالع والتظاهر والصمت‪ .‬إنه اآلن يبسط عليهم ظل كالمه‪،‬‬ ‫لبسته ُ‬
‫وهم اآلن تحت هيمنته‪ .‬مل تكن أموالهم وال أشكالهم مهمة ما داموا ال يحسنون الكالم‪.‬‬
‫معسل به‪ ،‬أنتيش بحايل‬ ‫وأحس أن جويف ّ‬‫ّ‬ ‫كنت أستطعم كالمي‪ ،‬أتذ ّوقه قبل أن يخرج مني‬
‫وأجعلهم عبيد هذه النشوة‪ .‬ماذا كانوا وأنا أتكلم‪ ،‬فانني وما ميلكونه فانٍ بالطبع‪ .‬مع ذلك‬
‫كان كل يشء أسهل عليهم‪ .‬يصلون إىل النساء وير ّبون صداقات وميضون أيامهم بسهولة فيام‬
‫كانت كل خطوة مني تجاه ّأي يشء تتطلب جهداً مضاعفاً‪ .‬فيام كنت متأهباً دامئاً وأمام تح ّد‬
‫مستمر‪ ،‬وحتى فني الكالمي ما كان ليظهر أمام من ال يبالون به‪ ،‬وكان ميكن أن يتحول إىل‬
‫لجلجة إذا قوبل باإلهامل‪ .‬كنت أحتاج إىل حامية وإىل ما يشبه الحياة يف األكواريوم‪ .‬كثرياً ما‬
‫أبتلع لساين أمام أي درجة من الهجوم أو االزدراء‪ ،‬ومن املمكن يف لحظة أن أعود "شارعاً"‪،‬‬
‫وأنطوي يف صمتي‪ .‬كنت سابحاً يف فني بالطبع لكني أخ َر ُق يف كل يشء آخر‪ ،‬حتى يف الطعام‬
‫ال أحسن معالجة صحني‪ ،‬أترك لطخة يف كل مكان ويل يف كل لخطة غلطة‪ .‬بالطبع مل تكن‬
‫هذه األمور مهمة يف نظري‪ ،‬إنها سخافات وال عربة بإتقانها‪ .‬مل أكن نافعا للرتتيب وال الحرتقة‬

‫‪209‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫وال السباحة وال الرقص وال الحب الذي بسبب ذلك تأخر كثرياً‪ .‬مل أكن نافعا لذلك وال أحتاج‬
‫إليه‪ .‬بإمكاين الحياة بدونه‪ .‬ال أحتاج إىل أن أتع ّلم شيئاً‪ .‬ال تحتاج حيايت إىل تجربة‪ .‬إن يل‬
‫الوقت كله وأستطيع أن أخلق فيه‪.‬‬
‫كان مقدورا علينا إذاً أن نكون شيوعيني‪ .‬الشيوعية بالنسبة إلينا أشبه بطبقة صوتية‬
‫مالمئة أو موجة ميكن التحدث عليها‪ .‬ال نحتاج سوى إىل تدريب بسيط لنحسن ذلك‪ ،‬وال‬
‫بد بالطبع من بعض السهر‪ .‬بقليل من القراءة واإلصغاء والتمرين يغدو فننا كبرياً ومتيناً‬
‫فن كان لعدد قليل‬ ‫لدرجة نُذعن لها نحن أيضاً‪ .‬إنه اآلن ينتمي إىل ّ‬
‫فن أكرب وأعظم بالطبع‪ٍّ ،‬‬
‫من الكلامت والصيغ أثر عجيب يف تقويته وجعله فاع ًال‪ .‬غدونا نحن أكرث اقتناعاً به وكأننا‬
‫نسمعه من غرينا‪ ،‬وبدت ابتكاراتنا وحتى حذلقاتنا صحيحة‪ ،‬وصار كالمنا حقيقياً لدرجة أننا‬
‫بتنا أول املؤمنني به‪ .‬هذه بالطبع لعبة مع أنفسنا رصنا نظنها مع الوقت قانوناً‪.‬‬
‫كان لنا مع ّلم يف داخلنا وغدونا تالميذ أنفسنا‪ .‬ليس يف ذلك قوة شامانية بالطبع‪ ،‬فقد‬
‫عرثنا عىل الطريقة وها هي تعمل من تلقائها‪ .‬قمنا برتتيب صحيح وال بد أن هذا أنتج‪.‬‬
‫تفكرينا الخاص‪ ،‬بتدريب ما‪ ،‬ال يعود خاصاً‪ .‬إنه بانتفاء ملا هو شخيص وبأدوات غري شخصية‬
‫املس‪ ،‬متى تندلع رشارة الواقع‪ ،‬فهذه كمسألة‬ ‫ينفذ إىل طبيعة األمور‪ .‬أما متى يحدث ّ‬
‫الخلق تبقى حلقة مفقودة‪ .‬املهم أن ف ّننا يتحول هكذا إىل نظام ويكون علينا أن ننحني‬
‫له قبل غرينا‪ .‬وسنكون أول من يص ّدقونه وستستمر هذه الخدعة طوي ًال‪ .‬سيكون علينا أن‬
‫نصغي بامتثال عميق ألنفسنا‪ ،‬أن نرتك حجرة للتاريخ أو الواقع يف رؤوسنا‪ ،‬حجرة أو مرصداً‪،‬‬
‫وأن نق ّدم تقارير عن الواقع أو التاريخ بدون أية نية يف أن نفعلهام‪ .‬كان كالمنا متقاطعاً‬
‫ومتشابكاً وكأنه خريطة أو صورة جوية لهام‪ ،‬يهمنا أن يكون مطابقاً لكن بدون أي أمل‬
‫بيشء آخر‪ .‬من كامل تحليلنا ذلك الوقت أن يكون الواقع متكام ًال وال نفاذ ممكناً إليه‪.‬‬
‫مل نفكر يف أن نبني اشرتاكية يف لبنان‪ ،‬وكان تحليلنا قامئاً عىل استحالتها‪ ،‬لكن ذلك مل‬
‫مينع من أن نكون اشرتاكيني بل زادنا إرصاراً‪ .‬كان هذا اليأس يجعلنا جنود املستقبل أو جنود‬
‫املستحيل‪ ،‬وهذه املجانية تليق بعمل مل يكن يف قراراته إال فناً‪ .‬حني بدأنا نقرتب من مسائل‬
‫عملية كاالنتخابات مث ًال صعب علينا االنتقال‪ ،‬فقد كان تحطيم هذه املرآة إىل أجزاء صغرية‬
‫صعباً للغاية‪ .‬كنا جميعا غري راضني عماّ وجدناه يف أيدينا‪ ،‬والحطام الذي حصلنا عليه كان‬
‫محزناً‪ ،‬وفننا العظيم يتحول إىل حرتقات صغرية‪ .‬اختلفنا وتف ّرقنا‪ .‬أغلبنا كتب أشعاراً وقصصاً‪.‬‬
‫كانت هنا الكرس املتبقية من ف ّننا الكبري‪.‬‬

‫اسها ْر بعد اسها ْر‬


‫يف السابعة والعرشين حرضت أول عيد رأس سنة‪ ،‬كان هذا أيضا أول حفل يل من نوعه‪.‬‬
‫ذهبت منفرداً وكذلك صديقتي املخطوبة‪ ،‬فالعرف ال يسمح لنا بأن ندخل معاً‪ .‬االحتياط‬
‫ينضم كل منا إىل حلقة رشيكاً آخر‪.‬‬
‫قىض بأن نبقى منفصلني معظم الوقت‪ ،‬وملزيد منه أن ّ‬

‫‪210‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫مع الرشب والوقت قل االختالف من َجمعة إىل أخرى واستقر كل يف حلقته وانفرد برشيكه‪.‬‬
‫كانت رشيكتي فتاة جميلة تع ّرفت عليها من سنني يف نشاط شبايب‪ ،‬ومنذ اللحظة األوىل‬
‫وجدنا دافعاً للتقرب من بعضنا بعضاً ودخلنا يف ج ّو من الخفة واملرح والتواصل السهل‪،‬‬
‫لكننا استنفدنا ذلك كله يف اللقاء األول تقريباً ومل نتجاوزه بعد ذلك أبداً‪ .‬يحدث ذلك‬
‫معي كثرياً وأظنني لست وحيداً فيه‪ .‬كانت رشيكتي مثلة وهذا ما دفعها غالباً إىل أن تبقى‬
‫لصقي يدعوها خوفها من وضعها إىل اإلحتامء يب‪ .‬مل أكن مث ًال لكن رشبت كفايتي وهذه‬
‫الدعوة وصلتني وتق ّبلتها برسعة‪ .‬درت معها يف الرقصة‪ ،‬ومل أكن راقصاً جيداً لكن الرقص‬
‫يف هذه اللحظة مل يحتج إىل أكرث من أن أط ّوق ظهرها بذراعي وتط ّوق عنقي بيديها‪ .‬كنا‬
‫قطعنا وقتاً كافياً من السهرة والرقص والرشب‪ ،‬لذا شعرت بأن السهرة مل تعد واحدة وأن كل‬
‫اثنني أو ثالثة‪ ،‬وكل حلقة‪ ،‬يف غيمتها الخاصة‪ ،‬وأن شيئاً من الخصوصية يحصل بني األزواج‬
‫والجمعات‪ .‬مل أكن واعياً ألحد وأفرتض أن أحداً مل يكن واعياً يل‪ .‬كان الرقص اآلن هذا ّ‬
‫الضم‬
‫وج ّر قدمني بأي خطوة ويف موضعهام تقريباً‪ ،‬فالحلبة يف هذه اللحظة كانت مساحة متحركة‬
‫واملوسيقى كانت نوعاً من رحلة خاصة‪ .‬وضعت الفتاة فمها عىل أذين وبدأت تغني "اسهار‪،‬‬
‫بعد اسهار" لفريوز‪ .‬عرصتني يداها وتطابق جسدانا‪ ،‬وانضغط صدرها يف جسدي ودخلت يف‬
‫حوضها‪ .‬وحني كنت كلياً يف غيمتي أدور فيها‪ ،‬أخذت أالحظ أن مثة غيوماً أخرى متر قريب‪،‬‬
‫ويف واحدة كانت صديقتي املخطوبة تريح رأسها عىل صدر أجمل ش ّبان السهرة‪.‬‬
‫مل يكن يف الواقع أول عيد رأس سنة أحرضه‪ ،‬قد يكون الرابع أو الخامس‪ ،‬لكن العيد‬
‫يل‪ .‬بل كانت سهرة العيد التي تضم جمعاً غري متعارف بالرضورة وال تجمعه‬ ‫كان جديداً ع ّ‬
‫حال واحدة جديد ًة ع ّ‬
‫يل‪ .‬كنا بدأنا من زمن نزدري حياتنا ونكره أثناء ذلك مناسباتها وأعيادها‪.‬‬
‫ومل يكن هذا من أشخاص معدودين أو حتى نواة مثقفة فحسب‪ ،‬بل كان استعداد طبقة‬
‫كاملة بدأت تك ّون فكرتها الخاصة عن الحياة املدينية‪ .‬مل يكن يف هذه الفكرة أي إبداع أو‬
‫وتخل عن تقاليد اع ُتربت‪ ،‬بدون سبب‪ ،‬عام ّية وبال ذوق‪ .‬هجرت هكذا‬ ‫اقرتاح وكل ما فيها نبذ ّ‬
‫تقاليد العرس وتقاليد الطهور وتقاليد الجنازة وتقاليد الصيام وتقاليد املوالد وتقاليد السريان‬
‫والرحلة‪ ...‬وبالطبع تقاليد األعياد‪ .‬لقد بدا لنا أن النضج والتعقل يقتضيان الحياة بدونها وأن‬
‫التمدين الحقيقي ينافيها‪ .‬كنا نتخىل عن حياة قامئة بدون اي بديل من أي نوع‪ .‬بالتدريج‬
‫رصنا عملياً بال حياة‪ .‬األعياد نفسها حرصناها باألطفال واعتربنا أن الرشد والبلوغ يرتبطان‬
‫بالتخيل عنها‪ .‬كانت مدننا مرتجلة وأشبه مبخيامت‪ ،‬أما حياتنا فيها فغدت يف النهاية عدداً‬
‫من رضورات البقاء ال أكرث‪ .‬املأوى والتس ّوق والعمل املنزيل والزيارات للنساء ولعب الورق يف‬
‫املقهى للرجال‪ ،‬كل هذا ال يحتاج إىل أسلوب وال طريقة‪ ،‬كنا نبارشه كام هو بدون أن نوجد‬
‫فناً ما لإلقامة أو األكل أو اللعب‪ .‬حسبنا أن أقرص الطرق إىل أغراضنا عني العقل‪ ،‬وأن الزخرف‬
‫واالستعداد والطقوس هدر للوقت وتضييعه عىل النوافل واملظاهر‪ ،‬هذا فضال عن كونه سخفاً‬
‫وتقليداً‪ .‬لقد كنا يف الواقع ن ّتهم املخ ّيلة‪ ،‬كل لحظة‪ ،‬بأنها األخت الصغرى للرياء‪.‬‬
‫ال أعرف إذا كان اآلخرون يفكرون مثيل يف أن سهرات رأس السنة كانت بداية ابتكار‬

‫‪211‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫حياة بديلة‪ .‬معها ابتدأت أيضا األعياد الشخصية والحفالت الخاصة‪ .‬لقد بدأ إشغال الليل‪،‬‬
‫إذ إن حياتنا يف األساس قامت كلها عىل النهار‪ ،‬وأعيادنا وأعراسنا ومناسباتنا كلها نهارية‪،‬‬
‫واإلفطار عىل حدود النهار ولو بدا أنه يقتطع مع السحور هامشاً من الليل‪ .‬لقد بدأ اآلن كل‬
‫يشء يف املقلب الثاين الفارغ لحياتنا وفيها‪ ،‬بدون رقابة وال اعتداء عىل الزمن الرشعي‪ ،‬تكون‬
‫البديل‪ .‬كان األمر يف أوله باهراً‪ ،‬لقد انفتح باب جديد وكان علينا أن نبتكر‪ ،‬وقد ابتكرت‬
‫خروقات وخيانات كبرية‪ .‬بدا أن شيئاً يشبه حق الخيانة قد تع ّمم‪ ،‬ففي مدينة صغرية كهذه‬
‫تنتهي الحفلة كل مرة بإباحة ما‪ .‬يف ع ّز الرقص تنفرط زواجات وتتكون عالقات مح ّرمة‬
‫وتُتحدى رشائع راسخة‪ .‬كان هذا حق السهرة‪ ،‬يتكلم عنه الناس فيام بعد خلسة ورمبا‬
‫يتجاهله املعنيون‪ .‬يفضّ ل الزوج الذي وجد زوجته يف أحضان آخر والزوجة التي رأته منفرداً‬
‫بأخرى أحياناً كثرية أن ال يعودا إىل املوضوع‪ ،‬فهذا من حق السهرة وما يحصل يف السهرة‬
‫يبقى فيها‪ .‬مل أك ّلم صديقتي ومل تك ّلمني‪ ،‬أما الفتاة التي راقصتها والشاب الذي راقص ْته فبقيا‬
‫دامئا‪ ،‬بالنسبة إ ّيل وإليها‪ ،‬ذلك الثالث الذي هو رشيك دائم يف الرقاد الغرامي‪.‬‬
‫ال أعرف ماذا جرى متاما بعد ذلك‪ .‬استمرت سهرات رأس السنة‪ ،‬لكن يف السهرة‬
‫العارشة أو الخامسة عرشة‪ ،‬ال أذكر‪ ،‬التقينا يف بيتي‪ .‬حرض كل مع زوجته وجلس جنبها‪.‬‬
‫صديقتي السابقة أيضا حرضت مع زوجها‪ .‬جلس الجميع جنباً إىل جنب يف حلقة واسعة‬
‫اس‪ ،‬ثم قاموا إىل املائدة وعادوا بصحون‬ ‫منتظمة عىل طول الصالة وعرضها من كنبات وكر ٍ‬
‫كبرية وكؤوس مألى‪ .‬تك ّفلت النساء مبلء الكؤوس من جديد وإعادة ملء الصحون‪ .‬تحدث‬
‫الجميع للجميع مع استثناءات جانبية بني الجريان يف املقاعد‪ .‬دار الكالم يف السياسة الذي‬
‫تذ ّمر منه البعض ووجده غري جدير باملناسبة‪ .‬انتقل الكالم إىل رواية النكات وطال حتى‬
‫وحدهن‪ .‬أحيانا كان الزوج يقف يف الحلقة أمام زوجته‬
‫ّ‬ ‫ورقصن‬
‫َ‬ ‫طفا‪ .‬عندئذ نهضت النساء‬
‫ويهز خرصه قلي ًال ويرفع كتفه ويده ضاحكا من نفسه وكأنه يقوم بفاصل تهريجي‪ُ ،‬يتبع‬
‫ذلك بحركات مستهجنة ثم يعود إىل مقعده‪ .‬استمر هذا حتى سئم الحارضون منه‪ .‬كانت‬
‫الساعة تجاوزت منتصف الليل بساعة وأكرث‪ ،‬وصار هناك عذر للخروج فخرج اكرث الساهرين‬
‫لكن قبل أن يتم ذلك دخلت صديقتي مع أخريات إىل‬ ‫وبقيت قلة تف ّرقت واحداً واحداً‪ْ ،‬‬
‫وغسلن اآلنية‪.‬‬
‫َ‬ ‫املطبخ‬

‫حلم ريشة‬
‫ال أعرف متى شعرت أين أفكر‪ .‬ال أذكر عمري آنذاك وال هيئتي وال طويل‪ .‬كنت نحي ًال ونحي ًال‬
‫جداً‪ ،‬يتعجب الكثريون من نحويل ويروزونني بسواعدهم وأك ّفهم أحياناً مظهرين أنهم‬
‫ال يشعرون بوزن‪ .‬كانت أمي تنظر إ ّيل كممروض وتجتهد يف أن تقيتني بكل ما هو أحمر‬
‫تعج بدمها وكثريا من الكبد النيئ‬ ‫يف اللحم‪ .‬ابتلعت بالرغم عني كثريا من الطحاالت التي ّ‬
‫والكروش املحمرة التي أغالب قريف منها‪ .‬كانت تلحقني بها وتكرر عىل سمعي أين ضعيف‬

‫‪212‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫لكن استقر عندي أين ضعيف‪.‬‬ ‫وأضعف من ريشة‪ .‬مل أسمن ْ‬


‫كان أيب معلم املدرسة الوحيد ومديرها‪ ،‬يقوم وحده بعدة صفوف‪ ،‬أما أنا فتعلمت‬
‫سن التدريس‪ .‬كنت ألحقه إىل املدرسة وأجثم يف تجويف النافذة ومن هناك‬ ‫القراءة قبل ّ‬
‫أجاوب بدالً عن التالميذ‪ .‬كانوا فخورين يب يف البيت والقرية مام جعلني معتداً ومدل ًال‪.‬‬
‫هكذا رحت أدفع التالميذ وأرضبهم وأقفز عليهم إىل أن الحظ أيب أين أستبد بهم فقال‬
‫لهم‪ ،‬لريدعني ‪ُ ":‬ر ّدوا عليه"‪ .‬بهتني ذلك ومنذ ذلك الحني كففت خوفا‪ .‬وقع يف ظني أنهم‬
‫سيجازونني ويقسونني إذا تج ّرأت عليهم‪ .‬مل يبق حديث أمي عن ضعفي يف الهواء‪ .‬وجد‬
‫برسعة محكاً‪ .‬كنت حقاً ضعيفاً وخ ّوافاً وال أجرس عىل أن أبدأ عراكاً‪.‬‬
‫ال أعرف متى شعرت أين أفكر‪ ،‬وال أعرف صلة ذلك بنحويل وضعفي‪ .‬ال ب ّد من سبب‬
‫أخف من ريشة‪ ،‬الريشة تفكر بسهولة أكرث من كومة لحم‪ .‬إذا كان‬ ‫ألفكر فيهام معاً‪ .‬كنت ّ‬
‫الضعف ال يقوى عىل العراك فهو أقدر عىل التفكري‪ .‬ال بد أن هناك أموراً تجمعهام‪ ،‬فاألفكار‬
‫هي أيضاً بال وزن‪ ،‬وهي أيضاً خفيفة طائرة‪ .‬كنت خ ّوافاً وضعيفاً يف حني أن كل يشء كان‬
‫ُيحسم عندها بالعراك‪ .‬ال بد أن هذه األفكار التي تزورين بال انقطاع مل تأت لاليشء‪.‬‬
‫كنت أدور مع صاحبي يف القرية‪ .‬ال أذكر أين‪ ،‬فالقرية كلها بهتت يف ذاكريت وحني‬
‫أقل بكثري مام تخ ّيلته‪ .‬الربكة‬ ‫زرتها بعد خمسة وعرشين عاماً وجدت جميع ما فيها بحجم ّ‬
‫أصغروالنهر أقرب واألشجار أقل‪ .‬أذكر فقط أين كنت أجر فيها شنتتي (ثوب كالجالبية)‪،‬‬
‫اقرتنت يف‬
‫ْ‬ ‫التي عانيت لدى استبدالها بالبنطلون‪ ،‬تروما حقيقية وحنيناً فعلياً‪ .‬ال ب ّد أن‬
‫بايل بالفضاء والتجول والحرية‪ ...‬والتفكري‪ .‬كنت حينها إبن خمس أو ست‪ ،‬ال أذكر‪ ،‬لكن‬
‫بات يل منذ ذلك العمر ماض وصار يف وسعي أن أنظر إىل الوراء‪ .‬ال أعرف ما الذي كرهته‬
‫يف البنطلون‪ .‬أظن أن الشنتة ارتبطت يف ذهني بتلك السياحة يف الحقول ويف األفكار‪ .‬مل‬
‫أكن أنتقل فيها برأيس برسعة فحسب‪ ،‬بل بجسدي‪ ،‬وبالطبع بشنتتي‪ .‬لرمبا أحسست أن‬
‫البنطلون يعوقني عن اإلنتقال يف أفكاري‪ ،‬وأن الشنتة تحملني أرسع‪.‬‬
‫هذه األفكار التي كانت أيضاً تجواال تحتاج إىل الهواء والفضاء والشنتة املفتوحة تؤ ّمن‬
‫ذلك أكرث‪ .‬التفكري مل يكن يف الذهن فقط‪ ،‬كان يتم باأليدي واألرجل والرأس ويتم بامليش‬
‫والركض بالتأكيد‪ ،‬وحينام كنت أفكر‪ ،‬أفعل ذلك وأنا أرقص وأقفز وأتعمشق وأطري‪ .‬مل يكن‬
‫البنطلون‪ ،‬كام توجست‪ ،‬مؤاتياً متاماً‪ ،‬لذا كرهته وظللت وقتا غري قليل أتحرس عىل شنتتي‪،‬‬
‫تراءى يل أنه سي ُثقل حركتي وتفكريي وأنني معه لن أستطيع أن أكون فيهام حراً مبا يكفي‪.‬‬
‫التفكري مل يكن أسئلة فحسب‪ .‬كان يف الغالب قصصاً وسيناريوهات‪ .‬ال أذكر متاماً‬
‫كيف كان‪ .‬كان شيئاً يسري من تلقائه وينترش‪ ،‬نوعاً من سياحة لطيفة‪ .‬رمبا مل يكن األمر كذلك‬
‫متاماً‪ ،‬إمنا ال بد أن وقتاً مىض قبل أن ننتبه إىل أن هناك فرقاً بني أن نفكر أو أن نعيش قبل‬
‫أن نخ ّلص هذا من ذاك‪ .‬حني انتبهت غمرتني السعادة‪ .‬كنت عند نفيس الوحيد الذي يفكر‪،‬‬
‫الذين أصحبهم ال يظهر عليهم أنهم يفكرون‪ .‬يصمتون لحظة قبل أن يقرروا شيئاً‪ ،‬لكن هذا‬
‫مل يكن التفكري‪ .‬التفكري مل يكن لإلختيار بني الذهاب إىل الربكة أو إىل الدكان‪ ،‬مل يكن ألي‬

‫‪213‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫سبب‪ ،‬كان لنفسه فقط‪ .‬أن أفكر يعني أن أفعل كل يشء بخيايل‪ .‬يعني أن يكون هناك واقع‬
‫آخر يف رأيس‪ .‬أن تكون هناك أمور تحصل مبجرد أن تخطر‪ .‬كان هذا اعجازياً‪ ،‬سحراً خالصاً‪،‬‬
‫وبالتأكيد امتيازاً هائ ًال‪.‬‬
‫كان عاملي‪ ،‬كام أظن‪ ،‬يزيد عن الذي ألصحايب أضعافاً مضاعفة‪ .‬ليس هناك أص ًال سبب‬
‫للقياس‪ .‬كنت بالقياس لهم هائ ًال‪ .‬جميعهم ال ميلكون ظفراً مام أملك‪ .‬ليس لديهم باألصل‬
‫تلك الم َ َلكة التي ُأعطيت يل‪ .‬كنت تحت رعاية خاصة‪ .‬يل طبيعة أخرى‪ .‬كنت وحدي‪ ،‬ورمبا‬
‫يف العامل كله‪ ،‬أفكر‪.‬‬
‫يل وحدي أيضاً قدرات أخرى‪ ،‬كنت قادراً عىل أن أفعل بالجسد شيئاً مام أفعله‬
‫أشك يف أن ذلك ممكن حتى وإن مل أفعله‪ .‬الحظت يف يوم أين أسري يف خفة تشابه‬ ‫بالفكر‪ .‬مل ّ‬
‫الطريان‪ .‬حني ف ّكرت يف ذلك بدأ مشيي يشابه الطريان أكرث‪ ،‬لدرجة أين بدأت أسري بارتفاع‬
‫قليل عن األرض‪ .‬بدا أين‪ ،‬عىل نحو ما‪ ،‬أسبح يف الهواء‪ .‬كان هذا متريناً يندمج فيه خيايل‬
‫وجسمي‪ ،‬ولوقت طويل بقيت أمارسه‪ ،‬وال أذكر متى فقدت القدرة عليه‪ .‬لك ّني حتى اآلن‬
‫متأكد من أنني طرت قلي ًال من قبل‪.‬‬
‫حني تخليت عن شنتتي عرص قلبي حنني قاس إىل الشنتة وإىل يشء أكرب من ذلك‪،‬‬
‫ال أعرفه لكن بدا يل أين أفارقه مع الشنتة‪ .‬كان الحنني اكتشايف الثاين‪ ،‬دون اآلخرين‪ .‬كنت‬
‫آنذاك الوحيد الذي يحن‪ .‬سيعرتضني هذا الحنني يف كل فقرة من حيايت‪ .‬كل قفزة ستخ ّلف‬
‫وراءها ماضياً جديداً ال عودة إليه‪.‬‬
‫حني غادرت القرية كنت أعرف أين لن أبقى فيها‪ .‬ولدت فيها وأمضيت طفولتي لكنها‬
‫مل تكن قريتي وال بلدي‪ .‬يف هذه البالد قلام نولد يف مواطننا وال ندين بيشء إىل حيث نولد‪.‬‬
‫نعرف مهام طال الوقت أننا عابرون وسنغادر يف يوم بال عودة‪ .‬مع ذلك عرص قلبي حنني‬
‫يل ثانية أن أترك بدون أن أنظر إىل‬‫ممزوج بالخوف‪ ،‬أو خوف كبري ممزوج بالحنني‪ .‬كان ع ّ‬
‫الخلف‪ .‬كنت يف الثامنة أو التاسعة يومذاك لكن بدا يل أننا ننتقل دامئا إىل يشء أضيق‪.‬‬
‫جعلني البنطلون مرئياً أكرث ومسؤوالً أكرث‪ .‬أخرجني من اإلغفال الواسع الذي خلت أن‬
‫الشنتة تضعني فيه‪ ،‬وها هو االنتقال إىل املدينة يجعلني مجدداً تحت العني‪ ،‬ولن يكون بعد‬
‫يف وسعي أن أختفي بالقدر نفسه أو أسوح عىل راحتي‪.‬‬
‫الحنني كان أيضاً لعنتي أو هو طبيعتي الثانية التي أتناساها إىل أن تداهمني مجدداً‬
‫ومتألين خوفاً من نفيس‪ .‬ينعرص قلبي لدى ذكر أي فراق‪ .‬أذكر كيف شقّ ع ّ‬
‫يل يف فت ّويت أن‬
‫أتخيل فراقاً لعادة كالتدخني قىض فيها الواحد ‪ 40‬عاما‪ .‬كان هذا بالنسبة يل خوفاً من‬
‫األبدية‪ .‬أقول يف نفيس كيف يستطيع األنسان أن يرتك إىل األبد شيئاً‪ ،‬أي يشء‪ .‬أتخيل أن يف‬
‫هذا ذهابا يف العدم إىل العودة‪ .‬حني ال يكون هناك أقل فرصة لبقاء أثر ما‪ ،‬حني ال يعود‬
‫هناك سوى التبدد الكامل‪.‬‬
‫مع ذلك كان حنيني للشنتة وحنيني للقرية بال موضوع تقريباً‪ .‬لعله ليس سوى‬
‫خوف من يشء أكرب‪ .‬مل أحاول العودة إىل القرية‪ .‬رغم أن هذا يكلف أقل من ساعة يف‬

‫‪214‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫السيارة‪ ،‬مل أفكر يف العودة‪ .‬مل تعش اللوعة أكرث من يوم ‪ .‬كان ه ّمي فقط أن ال يالحظ أحد‬
‫أنني ابن ريف‪ .‬بالفعل بدلت لهجتي يف ليلة واحدة فلم ينتبه أحد يف الغد إىل أنني أميل‬
‫بالياء‪ .‬كأن مل يكن الحنني حقيقياً وليس سوى فكرة تع ّذب أكرث بكثري من الواقع‪ .‬أوكأن ذلك‬
‫كان مرصوفاً إىل يشء آخر‪ ،‬إىل فجوة أصلية‪ ،‬وجرح أصيل ال أعرف متى تك ّونا‪.‬‬
‫تبدو األشياء مرعبة يف الخيال والفكر أكرث مام هي يف الحقيقة‪ .‬رمبا أعاين من "ميوب"‬
‫يف عقيل‪ .‬أعيش يف رأيس دامئاً وكأين ال أرى أو أرى دامئاً بيشء من االنحراف‪.‬‬
‫وصلت إىل صور ابن تسع تقريباً‪ .‬مذاك اجتهدت ألنخرط ونجحت مبقدار‪ .‬تقدمت ما‬
‫حسبت أنه يكفيني ومل أتجاوزه‪ .‬فعلت ذلك بتصميم وكلفتني كل خطوة شيئاً من العناء‪،‬‬
‫وكان ال بد من أن أتوقف قبل مسافة وأن ال أكمل‪ .‬اإلندماج ال يتم بإرادة وحساب‪ ،‬وأنا مل‬
‫املك حتى الفضول ألفعل‪ .‬مل أكن مهت ًام‪ ،‬بقيت هكذا بني بني‪ .‬أنجح حني ال يجربني أحد‬
‫يف أن أبدو صورياً‪ .‬صحيح أين مل أتقن السباحة‪ ،‬لكن مل أكن الوحيد‪ .‬مل أعرف مبا يكفي‬
‫أخبار الحي وأهله لكن أحداً مل ميتح ّني‪ .‬بالطبع الحظوا رشودي لكن األسوأ كان مالحظتهم‬
‫لتفوقي‪ .‬تباهيت بقدريت عىل قراءة القرآن وتالوته‪ ،‬وكان هذا أعىل بكثري من قدرات أوالد‬
‫جاؤوا من بيوت مل يروا فيها كتاباً‪ ،‬لكنه مل يكن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬تحدياً حقيقياً‪ .‬مل يكونوا قادرين‬
‫عىل فهم أن شيئاً كهذا قد يكون مجاالً للتسابق‪ .‬نظروا إليه باستغراب‪ .‬وجدوه فقط طريفاً‬
‫ثم ما لبثوا أن ضحكوا منه كأنه نوع من األكروباسية‪.‬‬
‫كان تفوقي محل رهان خارس‪ .‬جرحني هذا لكني مل ألبث أن تس ّل ّيت‪ .‬أمتلك باستمرار‬
‫هذه الحياة املوازية التي أطري فيها عىل كيفي‪ .‬مل أندمج كلياً‪ ،‬مل أكن بحاجة إىل االندماج‪،‬‬
‫أخذت منه حاجتي وما بقي بقي يل‪ .‬كنت ألعب وحدي‪ ،‬ألعب بخيايل وقدمي‪ ،‬مل أكن‬
‫بحاجة إىل آخرين‪ .‬أقرأ ساعات وأغيب يف القراءة إىل أن أنتبه إىل صياحهم يدعونني إىل‬
‫الغداء‪ .‬أتعمشق عىل سطح املطبخ ألصل إىل الدالية املنشورة فوقه ثم أسقط بخفة عنه‬
‫كالعصفور‪ .‬يل أصحاب يف الصف ال أشاركهم يف اللعب‪ .‬أصحاب يف الحي ألعب معهم‬
‫باحرتاس‪ ،‬االحرتاس هو طبيعتي وال أصل إىل تطابق مع أحد أو يشء‪ .‬يف رأيس باستمرار هذا‬
‫الفرق غري املريئ الذي يجعلني جانباً‪.‬‬
‫بقي يل أيضاً‪ ،‬ما حسبته‪ ،‬تفوقي بالفكر والخيال وبعدها بالقراءة والكالم‪ .‬هنا ال مجال‬
‫للمقارنة‪ .‬مل أحتج حتى إىل إظهار قدريت‪ .‬تفوقي عىل أصحايب ثم عىل أساتذيت كان واضحاً‪،‬‬
‫تقدمت فيه برسعة شيطانية‪ .‬كنت من هذه الناحية طف ًال متعملقاً‪ ،‬أما هم فال أعرف كيف‬
‫كانوا يرونني‪ .‬استضعفوين بالتأكيد وكنت أرتجف منهم وأحمي نفيس بجواب سديد‪ ،‬أو‬
‫استعطاف خفي‪ ،‬ليجعلني أقواهم تحت حاميته‪.‬‬
‫ً‬
‫املدينة ال أعرف إذا كنت الوحيد الذي مل يفكر فيها‪ .‬كنا جميعا نعيش يف الحد األدىن‪.‬‬
‫بيوت بال فن‪ ،‬حياة بال أسلوب‪ .‬جدران عارية تقريباً وطوابق مرتجلة ومبنية كام اتفق‪،‬‬
‫شوراع تتوسطها سواق ضيقة تندفق فيها مياه الغسيل والجيل‪ ،‬أقذار يف الطريق وحيوانات‬
‫شاردة وأحياناً نافقة‪ .‬هل كان هذا يكفي لرؤية املدينة؟ كان هناك أيضاً البحر الذي جرينا‬

‫‪215‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫عىل صخوره بدون أن نشعر أن هذا يغري يف اإلطار‪ .‬الحرش الذي طاملا هربنا من الصف‬
‫إليه بدون أن نالحظ أنه يضيف شيئاً‪ .‬كل هذا يختلط باإلسمنت العاري والشوارع الجرداء‬
‫وعظام الحيوانات‪ .‬كانت املدينة تخرج من أحيائها القدمية إىل الخالء الرميل حيث ترتجل‬
‫مباين وشوارع‪ ،‬جميعها طبق الحاجات األوىل‪ ،‬إذ ليس بعد الرقاد والطعام والتسوق أي‬
‫مطلب‪ .‬حياة يف الحد األدىن أو مجرد بقاء عىل قيد الحياة‪.‬‬
‫ال أريد أن أسرتسل أكرث‪ ،‬فلست يف الحقيقة مقتنعاً بأن هذا هو السبب يف المباالتنا‪.‬‬
‫ما دمنا ال نرى وال نالحظ فلن يكون هذا سبباً‪ .‬كنا قبل هذه األشياء‪ ،‬وأنشئت عىل قدر‬
‫حاجاتنا وخيالنا‪ .‬مل نطلب شيئاً أكرث مام هو رضوري ومل نهتم بغري ذلك‪ .‬لقد صنعنا أشياء‬
‫طبق احتياجاتنا ومل نصنع شيئاً لخيالنا‪.‬‬
‫هل كنا فع ًال غري منتبهني‪ .‬أم أن هذه حايل وحدها‪ .‬أنا مل أفكر يف األمر‪ .‬مل استبشع‬
‫جداراً منخوراً‪ ،‬ومل اشمئز من رائحة رؤوس الرسدين املكومة تحت الحيطان‪ ،‬ومل أنزعج من‬
‫منظر الصابون الذي يكرج يف السواقي‪ ،‬وال من الطفلة التي تقف فيها وتسكب منها عىل‬
‫رأسها‪ .‬مل أكره األزقة املظلمة‪ ،‬ومل أنرشح للبحر الهائج تحت الطريق‪ .‬حتى حني حاولت‪،‬‬
‫بتأثري األدب‪ ،‬أن أرصف انتباهاً خاصاً للبحر مل أداوم عىل ذلك وسلوته برسعة‪ .‬مل أكن أرى‪ .‬يف‬
‫الحقيقة مل أكن أشعر‪ .‬مل أظن مرة أن عيل أن أحب أو أكره ما يحيط يب‪ .‬كنت ألبسه بدون‬
‫أن أعرف وبدون أن أنتبه‪ .‬ك ّنا واحداً إىل الدرجة التي ال ميكنني فيها أن أراه‪ .‬كان موجوداً‬
‫أمامي وال يحتاج إىل أن أنظر إليه‪ ،‬ال يسأل عن رأيي فيه‪ .‬وأنا كنت أدور يف هذا املكان بدون‬
‫أن أحس به‪ ،‬أعربه بقدمي فقط وال أعريه أي يشء آخر‪ .‬كانت يف الغالب غفلة شاملة‪ .‬تجرنا‬
‫أقدامنا إىل صخور البحر أو املقربة‪ .‬ال فرق‪ ،‬املهم أن نجد مسرتاحاً‪ .‬يف بيوتنا ال يهم إال أن‬
‫نجد مأوى‪ .‬هذه أشياء ننساها مبجرد أن ننال ما نريده منها‪.‬‬
‫كنا جميعاً غف ًال ووسط إغفال شامل‪ .‬كنا يف آخر العامل‪ ،‬وجودنا ال يساوي كثرياً‪ ،‬ليس‬
‫لدينا الكثري الذي يستحق أن نتذكره‪ ،‬ليس هناك ما يستحق أن نالحظه‪ .‬بالقياس إىل أفكاري‬
‫السيالة والهائجة دامئاً مل يكن هذا املكان يكفيني‪ .‬مل أكن أفكر يف هذا املكان وال لهذا املكان‪.‬‬
‫كنت كمن يعيش يف سحابة وال أتذكر اآلن حيايت إال عىل أنها نوع من الغيبوبة‪ .‬مل أكن واعياً‬
‫لغفلتي وغري دار بأن حيايت الخصبة يف رأيس وصلتي بالواقع شبه آلية‪ .‬أعرفه فقط بقدمي‬
‫ومعديت بدون أن أنتبه إىل أن ما يبعدين عن الجنون هو هذه اآللية‪ .‬هي وحدها الخيط‬
‫الضغيف الذي يصلني بالعامل‪.‬‬
‫كنت بر ّياً إىل حد بعيد‪ .‬جاه ًال تقريباً بكل اللياقات‪ .‬حني الحظ أيب أنني أجيب بكلمة‬
‫«عال» عىل كل سؤال اجتامعي‪ ،‬علمني بضع أجوبة متاميزة‪« :‬بنظرك عىل كيفك‪ ،‬إىل من‬ ‫ْ‬
‫هو أشوق عىل مشتاقني»‪ .‬كنت أدليّ رجيل عىل جانب الكنبة يف حضور أي كان بدون ان‬
‫يخطر يل أين أسيئ الترصف‪ .‬أقول للشيخ عبد الوهاب الذي يحمل نفسه من بيته بأن والدي‬
‫يل أن أفتح له الصالون وأنادي والدي‪ .‬كنت بر ّياً متاماً واحتجت‬ ‫نائم‪ ،‬بدون أن أعرف أن ع ّ‬
‫إىل وقت طويل ليك أتدرب عىل اللياقات االجتامعية‪ .‬رمبا كانت نسيانايت املتكررة وسهوي‬

‫‪216‬‬
‫نوضيب ساّبع‬ ‫يتشكنرف ةآرم‬

‫من آثار هذه الربية‪ ،‬إذ يفوتني أحياناً كل ما هو اجتامعي‪.‬‬


‫ال أعرف متى بدأت هذا التدريب‪ .‬أخىش أن أقول إين بعد وفاة أيب فهمت أنني منذ‬
‫يل أن أعرف كيف أترصف‪ .‬كأمنا كان أيب يقوم بذلك عني‪ .‬كأين بعد وفاته‬ ‫اآلن مسؤول وع ّ‬
‫يل أن أفعل األشياء بنفيس‪ ،‬أو لعلها رغبتي يف أن أحل محل أيب‬ ‫انكشفت للجميع وبات ع ّ‬
‫حصلته‪ .‬أبالغ أحياناً‬
‫حصل ذلك وأبقى غري واثق مام ّ‬ ‫يل أن أجتهد ّأل ّ‬‫وأترصف مكانه‪ .‬كان ع ّ‬
‫ملعرفتي أنه لن يغدو أبداً طبيعة يل‪ ،‬وأين كل مرة سأف ّوت شيئاً ما‪ .‬أنجح أو ال أنجح ولكني‬
‫أظل لدى أي طارئ قاب ًال لالرتباك‪ .‬ال أملك جواباً حارضاً يف كثري من األمور وكثرياً ما أغمغم‬
‫بدال من أن أجيب‪ .‬ال أملك بالتأكيد بديهة من أي نوع‪ ،‬وأكتفي بأن أستعيد ما تعلمته‪ ،‬باقيا‬
‫باستمرار تحت خوف املفاجأة‪.‬‬
‫ً‬
‫أفكر اآلن أن ما فعلته‪ ،‬وإن بدا ناقصا‪ ،‬هو تدريب شاق وتط ّبع تدريجي‪ ،‬وأن هذا‬
‫الدأب أنقذين من الجنون‪ .‬لرمبا أنقذتني منه ايضاً غيبتي الطويلة‪ .‬مع ذلك أتساءل إذا مل‬
‫أكن حقاً مجنوناً‪ .‬ال زلت أنكشف وال أستطيع أن استمر يف تظاهري‪ .‬لكن هذا ال يهم‪ ،‬ما‬
‫يهم هو أن مجهودي اإلرادي صار حقيقياً‪ .‬تأخرت لكني وصلت‪ ،‬تأخرت يف الحب وتأخرت‬
‫يف العمل وتأخرت يف الكتابة‪ .‬تأخرت عن الحياة‪ ،‬تأخرت وال أزال لكني عوضت ذلك بالصرب‪.‬‬
‫معه نلت كفايتي من الحب والعمل وكتبت كثرياً بالنسبة لواحد يف سهوي‪ .‬أبدو قاب ًال‬
‫للنكوص لكني أبقى وأنتظر يف النهاية أكرث مام ينتظر الباقون‪ .‬يقال إين أحب بيشء من‬
‫اآللية وأجامع بقدر من السهو وأعمل كأين ال أعمل‪ .‬ال يفهم كثريون كيف أستطيع أن أجمع‬
‫نفيس ألفعل أي يشء‪ ،‬وكيف ميكنني أن أجد نسقاً ما يف بحر الفوىض‪ .‬أنا نفيس ال أفهم‬
‫كيف ميكنني أن أنتظر أو أصرب بهذا املقدار‪ .‬أظ ّنني أفوز ألين أؤجل مرة بعد مرة‪ ،‬وكل ثانية‬
‫تقريباً‪ ،‬قرار انسحايب‪ .‬أظ ّنني أصرب وأثابر ألنني ال أجرؤ عىل الهجوم وأؤثر أن أبقى خلف‬
‫دفاعايت‪ .‬لكن املهم هو أن الصرب واإلنتظار يأتيانني بسهولة‪ ،‬فلست بالرجل الذي يتحمل‬
‫الصعب‪ .‬إنها السهولة نفسها التي كنت بها أر ّكب افكاري وأتركها تحملني مل متنعني أيضاً‬
‫من أن الطى يف مكاين واركز وأنتظر‪ .‬أن أميض ساعات يف انتظار جملة بدون أن أتزحزح‪ .‬ال‬
‫زلت باستمرار أزور الواقع‪ ،‬وأحتاج كل مرة أفعل بها ذلك إىل تحضري وإىل تهيئة‪ .‬ال أصل إىل‬
‫لتخطيه‪ .‬لكن هذا يساعدين عىل‬ ‫أن التحم به عفواً‪ .‬مثة باستمرار فارق يقتيض وقتاً وتحمية ّ‬
‫أن أعاود البدء دامئاً‪ .‬أقول أحياناً إين محظوظ وإين نجوت مبعجزة تقريباً‪ .‬نجحت يف التظاهر‬
‫حتى بدوت أحياناً أكرث من أَصيل‪ .‬محظوظ ألين ُأنقذت من الجنون يف اللحظة األخرية‪ .‬لكن‬
‫تم ساع َة أردته وكأنه حصل بسحر ما‪ .‬لوال هذه السهولة‬ ‫تم بسهولة وكأنه مبعجزة‪ّ .‬‬ ‫هذا ّ‬
‫لتحطمت‪ ،‬إذ ليس يل القوة عىل أن أعاود املحاولة‪ ،‬وال طاقة يل عىل أي تصحيح أو مراجعة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫محظوظ ألين ال أزال أسوح بني عاملني متصلني بحبل أو خيط‪ ،‬عامل العائدين من الجنون وعامل‬
‫الواقع املستأنَف دامئاً‪ .‬ال زلت هنا ّ‬
‫لكن امليزان اختلف‪ .‬العيش يف األفكار اآلن يعذب كثرياً‪،‬‬
‫فلم تعد هذه نزهة يف السامء‪ .‬إنها يف الغالب لقاء مع أشباح‪ ،‬فثمة دامئاً مخاوف وثقوب‬
‫سوداء‪ .‬لذا يتكرر هريب من اإلثنني فهنا حيث أعمل كآلة أجد شيئاً من السلوان‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫بناء‪/‬هدم‬

‫احتفا ًال بالعنف‬


‫برنار خوري‬

‫‪ 15‬آذار ‪ .2012‬مر أكرث من عامني عىل االستفتاء‬


‫الذي أيدت مبوجبه غالبية الشعب السويرسي‬
‫منع بناء املآذن عىل األرايض السويرسية‪.‬‬
‫أعلن أمئة املساجد السويرسية األربعة‬
‫املتبقية بناء آلة هدم حول كل من هذه‬
‫املساجد‪ ،‬بحيث تعكس الهندسة املعامرية‬
‫العمودية للآمذن‪ُ .‬وجهت دعوة مفتوحة لكل‬
‫املواطنني السويرسيني يك يشاركوا يف اجتثاث‬
‫املآذن املتبقية‪.‬‬
‫اآللة هدفها ترجمة هذا العنف إىل‬
‫فعل هنديس‪ .‬وهذه اإلشارة تؤكد عىل اختفاء‬
‫املادة‪ ،‬كمقابلٍ لتقليد زرع ال ُبنى أو النُصب‬
‫بوصفه تعبرياً مادياً عن فعل سيايس‪ .‬هكذا‬
‫أناط األمئة بأنفسهم أن يكتبوا تاريخهم الخاص‬
‫عرب اإلدانة والرتجمة الفيزيائية للمخاوف التي‬
‫نرشها الحزب الحاكم‪.‬‬
‫االحتفاالت التي وصفها االعالم الدويل‬
‫بـ "عاشوراء" الهندسية‪ ،‬تحدث يف جنيف‬
‫وزوريخ وفينرت تور وفانغني باي أولتني‬
‫حيث املآذن األربع املعنية يقضمها ف ّكا‬
‫اآللة الرشسان‪.‬‬
‫يروخ رانرب‬ ‫فنعلاب ًالافتحا‬

‫‪219‬‬
‫نص‬

‫بورتريه عائلة فلسطينية تحب املسخّ ن‬


‫منال خرض‬

‫املط ّبات الجوية‬


‫مل يبق إال ساعة عىل انتهاء هذه الرحلة املزرية املتجهة من بريوت إىل مراكش‪ .‬مط ّبات‬
‫هوائية متواصلة وضجيج بال توقف وشجار بني إحدى املضيفات ومواطن صالح قرر أن‬
‫يل من‬‫يدخن سيجارته يف حامم الطائرة‪ .‬فهو أجلس مبحاذاته مبارشة فكاد أن يغمى ع ّ‬
‫الرائحة الكريهة التي ترسبت منه طوال الرحلة‪.‬‬
‫باملطلق أنا شخص يخاف ركوب الطائرة‪ ،‬وأخجل من نفيس يف كل مرة أقيم الدنيا‬
‫وال أقعدها عندما تتعرض الرحلة إىل مطبات جوية‪ .‬يف خضم تلك املطبات أخذت أفكر‬
‫يف رحلتي املقبلة التي سأقوم بها مع عائلتي بعد أسبوع لزيارة األهل يف رام الله‪ .‬هذا ما‬
‫يحصل معي عادة عندما أكون عىل منت رحلة "مزعجة"‪ .‬أبدأ باستعراض جدول سفرايت‬
‫املقبلة وأفكر يف إمكانية إلغاء كل ما هو غري رضوري منها‪ .‬ولحسن الحظ أنىس املوضوع‬
‫بعد خروجي من الطائرة‪ .‬حاولت تهدئة نفيس بالقول إن بإمكاننا القيام بالرحلة من بريوت‬
‫إىل فلسطني براً‪ .‬وافقني زوجي كريم‪ ،‬الذي كان يجلس إىل جانبي‪ ،‬مجربا‪ .‬أنا أعرف أنه ال‬
‫يحب السفر براً‪ .‬فكرت‪ ،‬بيشء من الخبث‪ ،‬بأن هذا هو الوقت املناسب ألنتزع منه تعهداً‬
‫باملوافقة عىل السفر بالتاكيس إىل عامن‪ .‬فهو يتجنب مجادلتي عندما أكون متوترة‪ .‬لقد‬
‫الحظ توتري عندما بدأت أخلع بعضا من طبقات مالبيس الكثرية‪ ،‬فأنا‪ ،‬يف العادة‪ ،‬أبرد يف‬
‫لكن عندما تصيبني نوبات الخوف أشعر‬ ‫الطائرة‪ ،‬وتحسبا لذلك ُأكرث من املالبس املد ّفئة‪ْ .‬‬
‫بالحر وأبدأ بخلع بعض منها ليعاودين‪ ،‬بعد استقرار الطائرة‪ ،‬الشعور بالربد فألبسها من‬
‫جديد‪ .‬كان كريم يراقبني وأنا أحاول إبعاد قبة قمييص الصويف العالية عن رقبتي بيد وأه ّوي‬
‫باليد األخرى باتجاهها متذ ّمر ًة من الحر‪ .‬قال يل بهدوء‪" :‬معك حق‪ ،‬الجو حار"‪.‬‬
‫هذه ستكون أول زيارة يقوم بها كريم إىل فلسطني‪ ،‬هذا إذا ُسمح له بالعبور‪ ،‬إذ‬
‫منعه االرسائيليون من ذلك قبل عام‪ُ .‬أعلنت إشارة ربط األحزمة استعداداً لهبوط الطائرة‪.‬‬
‫مستوى توتري ارتفع مع دخول الطائرة يف غيوم سوداء بدت يل من دون نهاية‪ .‬كريم‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫سألني‪ ،‬محاوال إلهايئ‪ ،‬عن برنامجنا يف رام الله‪ .‬فهو قلق من زيارة عائلتي والتعرف اليها‬
‫لعلمه بأنه غري متمرس يف عامل املجامالت االجتامعية‪ .‬سؤال ليس يف وقته‪ .‬أردت أن أقص‬
‫عليه حكاية "الباربكيو يف الحديقة"‪ ،‬ولكني عىل األرجح تأتأت ببعض الجمل غري املفهومة‬
‫عىل وقع تخبط الطائرة بالغيوم‪.‬‬
‫القصة معقدة‪ ،‬وأنا لست متأكدة من أنني أستطيع أن أرويها اآلن وأنا يف كامل وعيي‪.‬‬
‫لكن ال بأس باملحاولة‪.‬‬
‫قبل نحو سنتني كنا أنا وابنتي علياء يف زيارة لألهل يف رام الله‪ .‬كان يوم جمعة‪ .‬والدي‬
‫ال يعمل أيام الجمعة وكذلك أخي وأختي‪ .‬والديت ال تعمل أص ًال‪ .‬هو كان منعها عن العمل‬
‫بعد الزواج ألنه‪ ،‬كام تقول‪ ،‬كان يغار عليها بسبب جاملها وتحديدا جامل ساقيها‪ .‬هي‪،‬‬
‫معلمة الرياضيات‪ ،‬مل يراودها م ّر ًة أن ساقيها سيقفان عائقا أمام مزاولتها مهنتها يف تعليم‬
‫الحساب للصفوف االبتدائية‪ .‬كان الطقس ربيعياً‪ ،‬فطلبت علياء من جدها فؤاد أن تخرج يف‬
‫نزهة مع كافة افراد العائلة‪ .‬وافق فؤاد الذي ال يقوى عىل رفض طلب لحفيدته املفضلة‪ ،‬أو‬
‫التي كانت مفضلته حتى والدة فؤاد الصغري‪ ،‬ابن شقيقي‪.‬‬
‫سأع ّرفكم أوالً بأفراد عائلتي‪ .‬والدي فؤاد‪ ،‬والديت عايدة‪ ،‬أخي طارق وزوجته سمر‬
‫وابنتهام منى وابنهام فؤاد (طبعا)‪ .‬عذرا عىل اإلطالة‪ ،‬لكن القصة ستزيد تعقيدا الحقا‪،‬‬
‫وعليكم معرفة َمن يكون َمن‪ .‬وهناك أيضا شقيقتي شادن وزوجها عمر وابنهام الوحيد‬
‫زيد‪ ،‬الذي يكره االزعاج ويعشق تكسري كل ما حوله‪ .‬هكذا قال يل عندما كان يف الثالثة من‬
‫عمره‪ ،‬بينام كان يق ّلب بهدوء قوارير "الز ّريعة" عىل البلكون فيام يسمع زمامري السيارات‬
‫صح؟!"‪.‬‬
‫يف الشارع‪" :‬إزعاج خالتو ّ‬
‫إذاً‪ ،‬قهوة صباحية عىل بلكون الوالدة املطل عىل جبل زيتون‪ ،‬أو عىل األقل كان‬
‫كذلك قبل فورة اإلعامر يف رام الله‪ .‬موضوع الحديث محاولة تحديد برنامج اليوم‪ .‬علياء‬
‫اقرتحت القدس ورسعان ما ُحسم األمر ألن غالبية أفراد العائلة ال متلك التصاريح الالزمة‬
‫من السلطات االرسائيلية للعبور إىل هذه املدينة املتاخمة لرام الله‪ ،‬علام أنها مسقط رأس‬
‫لكن مبا أننا عائلة غري معروفة بالرومانسية‪ ،‬تخطينا املوضوع من‬ ‫معظم أفراد العائلة‪ْ .‬‬
‫دون إفراط يف ندب حظنا وانتقلنا عىل الفور اىل التفكري يف مكان آخر‪ .‬مل أعد أذكر من‬
‫اقرتح أريحا‪ .‬الجميع رحب باملوضوع‪ ،‬فهذه املدينة ال تبعد سوى ‪ 30‬كيلومرتا عن رام الله‪،‬‬
‫وطقسها يف الربيع بديع‪ ،‬ولنا أصدقاء هناك بارعون يف إعداد طبق املسخّ ن‪.‬‬
‫علياء تحب أكلة املسخّ ن‪ ،‬الطبق الفلسطيني بامتياز الذي تم تحديثه يف االردن‬
‫ولبنان حيث فقد كيانه وطعمه وأصبح يؤكل بالشوكة والسكني‪ .‬هذا الطبق عالمة امتيازه‪،‬‬
‫كام يقول الفلسطينيون‪" ،‬الزيت الذي يرشرش من االكواع"‪ .‬فهو مصنوع من كثري من البصل‬
‫وزيت الزيتون عىل خبز الطابون باالضافة إىل نصف دجاجة فوق كل طبق‪.‬‬
‫لكن هنا اندلع السجال الذي خلته هذياناً حول من ميكن له عبور ّأي من الحواجز‪،‬‬ ‫ْ‬
‫وأي الطرق‪ ،‬للوصول إىل املطعم‪ .‬فقبل االنتفاضة الثانية‪ ،‬أي قبل العام ألفني‪ ،‬كان طريق رام‬ ‫ّ‬

‫‪221‬‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫لكن بعد إغالق القدس إغالقا تاما بالجدار‪ ،‬أمام‬ ‫الله ‪ -‬أريحا مير عرب مناطق تابعة للقدس‪ْ ،‬‬
‫فلسطينيي الضفة الغربية وطبعا قطاع غزة‪ ،‬تم شق طريق التفايف يربط املدينتني من دون‬
‫ثم‪ ،‬هناك حواجز إرسائيلية عىل مداخل كل مدينة يف الضفة‪ ،‬وهي‬ ‫العبور يف مناطق القدس‪ّ .‬‬
‫تتطلب تصاريح تختلف يف حيثياتها تبعاً لألهواء االرسائيلية‪.‬‬
‫عمر (زوج أختي) وسمر زوجة أخي‪ ،‬كالهام من مواليد سكان القدس ويحمالن‬
‫الهوية املقدسية الزرقاء التي تصدرها إرسائيل‪ ،‬وبالتايل ُيسمح لهام بالتجول يف كافة املناطق‬
‫التي ُيسمح لالرسائيليني بالتجول فيها‪ ،‬أي أن وصولهام إىل املطعم ممكن وإمنا عرب حواجز‬
‫مخصصة لالرسائيليني ولحاميل الهوية املقدسية‪ .‬باقي أفراد عائلتهام‪ ،‬أي شادن شقيقتي‬
‫ووسيم شقيقي واالطفال الثالثة‪ ،‬ال ميلكون تصاريح‪ ،‬وبالتايل ميكنهم فقط عبور مدينة‬
‫أريحا من املدخل الجنويب عىل أن يغادروها من املدخل الشاميل‪ .‬والدي بصفته عضوا يف‬
‫نقابة التجار‪ ،‬تتكرم عليه السلطات االرسائيلية‪ ،‬بني حني وآخر‪ ،‬بترصيح مرور بني املناطق‬
‫(أ) و(ب) و(ج) يف الضفة الغربية‪ .‬يومها كان يف حوزة والدي ترصيح يخوله مغادرة رام الله‬
‫وعبور أريحا ومغادرتها من مدخلها الجنويب‪ .‬والديت ال متلك ترصيحا وامنا بسبب تقدم سنها‬
‫ولدواع بقيت غامضة يل‪ ،‬كان علينا سلوك‬ ‫ٍ‬ ‫قد ُيسمح لها مبرافقة والدي‪ .‬أنا وعلياء ابنتي‪،‬‬
‫الطريق الشاملية لرام الله للتوجه إىل أريحا‪ .‬إنّه طريق متعرج وصعب قد يستغرق وصولنا‬
‫إىل مدينة املسخّ ن عربه ساعتني‪ ،‬هذا يف حال سمح لنا بدخول أريحا‪.‬‬
‫نصف ساعة من الجدل العقيم عىل الطريقة العربية بعدما افرتشت طاولة القهوة‬
‫أعداد هائلة من التصاريح وبطاقات الهوية‪ .‬علياء حاولت أخذ ورقة وقلم لتدوين لوائح‬
‫تشمل من سيستقل هذه الطريق ومن سيستقل تلك‪ .‬النتيجة أن العائلة ال متلك العدد‬
‫الكايف من السيارات لكل هذه املسالك‪ .‬يف غضون ذلك تض ّمن ضجيجنا عرشات االقرتاحات‬
‫منها محاوالت استبدال املرشوع أو املدينة ك ّلها‪ ،‬وهذا ما وضع والدي ح ّداً له بقرار حاسم‬
‫ال يقبل األخذ والرد‪" :‬باربكيو" يف حديقة املنزل!‬

‫املطبات األرضية‬
‫رحلتي مع كريم وعلياء من بريوت إىل رام الله بدأت عرصا‪ .‬استقللنا سيارة تاكيس لتوصلنا‬
‫إىل عامن‪ ،‬حيث سنميض الليلة‪ ،‬لنتوجه صباح اليوم التايل إىل جرس املللك حسني ومنه نعرب‬
‫إىل الضفة الغربية‪ .‬الطريق من بريوت إىل عامن طويلة تستغرق خمس ساعات عىل االقل‪،‬‬
‫تتخللها عدة وقفات عند الحدود اللبنانية ومن ثم السورية وأخريا االردنية‪ .‬علياء وكريم‬
‫غرقا يف النوم رسيعا‪ ،‬بينام قاومت أنا شعوري بالنعاس مجرب ًة‪ ،‬وذلك لتسلية السائق الذي‬
‫لكن كلام اقرتبنا من الحدود زاد ضعفي يف مقاومة النوم‪ .‬غريب هذا‬ ‫بدا التعب عىل وجهه‪ْ .‬‬
‫الشعور بالنعاس الذي ينتابني يف كل مرة أعرب الحواجز والحدود‪ .‬فأنا لطاملا اعتقدت أن‬
‫النعاس مرتبط بالطأمنينة‪ ،‬وأتذ ّكر دوماً ما قالته يل صديقة لبنانية من أنها تتثاءب ال شعوريا‬

‫‪222‬‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫كلام اقرتبت من حاجز للجيش أو للرشطة‪ .‬قالت يل إن ذلك يعود‪ ،‬عىل االرجح‪ ،‬إىل أيام‬
‫طفولتها عندما كان والدها يطلب منها ومن اخوتها أن يتظاهروا بالنوم لتسهيل عبورهم‬
‫عند وصول سيارة العائلة إىل حاجز للجيش أو للميليشيات‪.‬‬
‫السائق بدا يف وضع جيد‪ .‬وصلنا إىل منطقة ضهر البيدر الجبلية‪ .‬لست أدري ما إذا‬
‫كانت الجغرافيا هي السبب‪ ،‬إذ أخذت أتخيل مشهد املال عمر عندما نجح‪ ،‬مستعيناً بعني‬
‫واحدة‪ ،‬يف الهروب يف جبال تورا بورا الوعرة عىل دراجته النارية الصغرية‪ ،‬أو "الطزطيزة" كام‬
‫نسميها‪ ،‬بينام طائرات ال يب ‪ 42‬االمريكية تالحقه من دون جدوى‪.‬‬
‫اقرتبنا من نقطة الحدود اللبنانية‪ .‬أيقظت علياء من نومها ألذكرها بدرس الحدود‬
‫كام تسميه‪ :‬ما عليها أن تقوله وما عليها أال تتفوه به‪" .‬ال تنيس يا علياء عند الحدود‬
‫اللبنانية والسورية‪ :‬ال تلفظي كلمة رام الله‪ .‬إذا سألونا عن وجهتنا قويل عامن"‪ .‬نحن نحمل‬
‫جواز السفر اللبناين‪ .‬ويف ظل قوانني وطننا الجديد ُيحظر علينا السفر إىل فلسطني ألننا‬
‫بفعلنا هذا نكون قد قطعنا حدوداً تسيطر عليها إرسائيل‪ ،‬وبالتايل نُصبح يف نظر السلطات‬
‫اللبنانية‪ ،‬وطبعا السورية‪ ،‬من املتعاونني مع العدو‪ .‬أخرجت جوازات السفر الفلسطينية‬
‫من حقيبتي متهيداً إلخفائها يف حال ُأخضعنا للتفتيش‪ .‬علياء اقرتحت أن تضعها يف الجيب‬
‫الخلفي لبنطالها‪" :‬ماما‪ ،‬لن يفتشوا بنطلوين"‪ .‬فكرة جيدة‪ ،‬أعطيتها الجوازات‪ .‬مل يسألنا أحد‬
‫عن وجهتنا يف نقطة حدود املصنع اللبنانية‪ .‬الحدود السورية كانت خالية من املسافرين‪،‬‬
‫هم بختم الجوازات‪،‬‬‫سلمنا جوازات سفرنا إىل الضابط عىل الشباك املخصص للبنانيني‪ ،‬وبينام ّ‬
‫سأل عن املرافقني وقال بلطف "أين هي الست علياء الجميلة؟"‪ ،‬فيام هو ينظر إىل صورتها‬
‫عىل الجواز‪ .‬وما إن أرشت بيدي إليها حتى وجدتها ترتجف‪ .‬مل ينتبه الضابط‪ .‬ابتسم لها‬
‫وطبع االختام ومتنى لنا رحلة طيبة‪ .‬عدنا إىل السيارة وطلبت مني علياء أن أخ ّبئ الجوازات‬
‫بنفيس يف املرة القادمة‪.‬‬
‫أمامنا ساعتان من الوقت داخل االرايض السورية قبل أن يحني موعد درس الحدود‬
‫الرقم ‪ .2‬علياء وكريم استغرقا مجددا يف النوم‪ .‬وقرر السائق‪ ،‬وهو أردين من أصل فلسطيني‪،‬‬
‫أن يس ّليني ومي ّوہ عني وحديت‪ :‬هل أخربتكِ أنني كنت يف غزة بعد الحرب االخرية عليها‬
‫نئ ع ّمن تبقى من عائلتي هناك؟‪.‬‬ ‫ألطم ّ‬
‫– –وكيف وصلت إىل غزة؟‪ ،‬سألته‪.‬‬
‫– –عرب أحد األنفاق من مدينة رفح املرصية‪.‬‬
‫– –وكيف هي االنفاق؟‬
‫– –شاقة بعض اليشء ألين‪ ،‬وبسبب ارتفاع رسوم عبورها‪ ،‬أضطر إىل سلوك النفق العادي‪،‬‬
‫ال ذلك املخصص للـ "يف آي يب"‪ .‬خمسمئة دوالر لقاء العبور عرب النفق العادي‪ ،‬أي‬
‫أحد تلك االنفاق الضيقة التي يقطعها العابر منحنيا بسبب انخفاض سقفها‪ .‬قطعت‬
‫مسافة سبعامئة مرت وأنا منحنٍ أحمل عىل ظهري أنبوبة االوكسجني وضوءاً‪ .‬أما‬
‫نفق الـ "يف آي يب" فيمكن للمرء عبوره واقفا وهو مضاء‪ ،‬لكن رسومه تتعدى األلف‬

‫‪223‬‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫دوالر‪.‬‬
‫ابتسم ثم قال يل‪:‬‬
‫– –هل تعلمني أن سلطة حامس يف غزة تع ّد الفتتاح حديقة حيوانات؟ لقد نقلوا الكثري‬
‫من الحيوانات من مرص عرب االنفاق‪ ،‬حتى أن أسداً كان يف عدادها‪ ،‬وهذا بعدما‬
‫خ ّدروه طبعاً‪ .‬لكن حتى اآلن مل يتمكنوا من نقل الفيل إذ ال يوجد نفق يتسع لفيل‪.‬‬
‫– –وكيف هي العائلة؟‪،‬‬
‫– –بخري واملعنويات مرتفعة‪.‬‬

‫ليلتنا يف عامن كانت قصرية إذ توجهنا باكرا إىل جرس املللك حسني (جرس أللنبي)‪ .‬اليوم كان‬
‫يوم جمعة‪ ،‬ويف أيام الجمعة يغلق االرسائيليون املعرب باكرا استعدادا لعطلة نهاية االسبوع‬
‫اليهودية (الشاباط)‪ .‬الحدود االردنية كانت شبه خالية‪ ،‬فأنجزنا معامالت الدخول برسعة‪.‬‬
‫قبل التوجه إىل الطرف اآلخر من املعرب الذي تسيطر عليه إرسائيل‪ ،‬اتفقنا أنا وكريم‬
‫عىل خطة موحدة‪ .‬أوالً علينا إخفاء جوازات سفرنا اللبنانية‪ .‬كريم يستخدم جواز سفره‬
‫الفرنيس‪ ،‬وأنا وعلياء الفلسطيني‪ .‬اتفقنا أن يقول كريم إنه يعيش يف فرنسا وإنه متوجه‬
‫إىل القدس لزيارة االماكن املقدسة‪ .‬أكدت عليه أ ّال يقول إنه متزوج من فلسطينية وإنه لن‬
‫يذهب إىل الضفة الغربية وال يعرف أي فلسطيني‪ .‬افرتقنا عند املعرب‪ .‬توجه كريم من ممر‬
‫االجانب‪ ،‬وأنا وعلياء من ممر الفلسطينيني‪ ،‬عىل أن نلتقي عند أول نقطة بعد الحدود‪.‬‬
‫تاكيس ومن بعده باص وباص آخر حتى وصلنا أخرياً إىل نقطة التفتيش االرسائيلية‪ .‬وبينام‬
‫نحن ننتظر يف الصف أمام شباك تدقيق الجوازات‪ ،‬قالت يل علياء إنها ستصبح مليونرية‪،‬‬
‫مشرية بيدها إىل يافطة كبرية معلقة عىل الحائط‪ :‬جائزة بقيمة عرشة ماليني دوالر تقدمها‬
‫دولة إرسائيل ملن يقدم أي معلومة قيمة عن جنديني ارسائيليني اختفيا عام ‪ 1982‬يف جنوب‬
‫لكن علياء رسيعاً ما‬
‫لبنان مع صورة لهام‪ .‬سأبحث عنهام عندما نعود إىل لبنان‪ .‬أوبس‪ّ .!...‬‬
‫نسيت أنه يجب أ ّال تُذكر كلمة لبنان هنا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫انتبهت إىل خطئها‪ :‬لقد‬
‫وصلنا إىل املكان املفرتض أن نالقي فيه كريم‪ .‬انتظرنا أربع ساعات‪ .‬مل يأت‪ .‬هاتفني‬
‫بعد عودته إىل الحدود االردنية‪ .‬مل يسمح له االرسائيليون بالعبور‪ :‬بعد التدقيق يف جواز‬
‫سفره الفرنيس املدون عليه أنه من مواليد بريوت‪ ،‬طلبوا منه الجلوس عىل حدة‪ ،‬وبعد ثالث‬
‫ساعات أعادوا إليه جواز السفر طالبني منه العودة من حيث أىت‪ ،‬إذ ليس لديهم الوقت‬
‫وقعها كبري‪ .‬ذاك أن أخطر ما ميكن‬
‫الكايف للتدقيق يف ملفه األمني‪ .‬ملف كريم األمني! كلمة ُ‬
‫أن يجدوه مجموعة من وصفات الطبخ االيرانية التي يجهد‪ ،‬هو املولع باملآكل العابرة ّ‬
‫لكل‬
‫حدود‪ ،‬إلتقانها‪.‬‬
‫باص ومن ثم تاكيس وتاكيس ثانٍ أوصلنا أخريا إىل منطقة قلنديا‪ ،‬عند مدخل رام الله‪،‬‬
‫حيث يوجد أيضا معرب قلنديا الذي يفصل مدينتنا عن القدس‪ .‬املعرب الذي اس ُتحدث قبل‬
‫أعوام‪ ،‬مينع عبور الفلسطينيني إىل تلك املدينة إال بترصيح من االرسائيليني‪ ،‬وهو عبارة عن‬

‫‪224‬‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫فتحة يف الجدار االسمنتي الذي يبلغ ارتفاعه تسعة أمتار‪.‬‬


‫انها ليست املواجهة االوىل يل مع الجدار‪ .‬انتابني شعور أبله بالتحدي لدى وقويف‬
‫أمامه‪ ،‬لست أدري تحدي من أو تحدي ماذا‪ ،‬لك ّنه شعور رسعان ما تبخر‪ ،‬رمبا بفعل الفارق‬
‫بني حجمي وحجمه‪ .‬حاولت التلصص من فتحته عىل ما آل إليه العامل الذي يقع خلفه‪.‬‬
‫تذكرت صنع الله ابراهيم عندما قال تعقييبا عىل روايته "التلصص"‪ ،‬إنه قصد بعنوانه هذا‬
‫التلصص عىل املايض‪ .‬كيف ميكن لشخص أن يتلصص عىل ماضيه؟‪ ،‬كيف يل أن أتلصص‬
‫عىل طريق رام الله ‪ -‬القدس التي كنت أجتازها يوميا وبقيت أجدها‪ ،‬طوال تلك السنوات‪،‬‬
‫قبيحة‪ .‬علمت بأن االرسائيليني مدوا سكة حديد عىل طول هذه الطريق لتسهيل وصول‬
‫املستوطنني إىل مستعمراتهم يف الضفة الغربية‪.‬‬
‫ّ‬
‫بينام انتظرنا التاكيس الذي سيق ّلنا إىل البيت سألت مجموعة فتيان كانوا يتسكعون يف‬
‫املنطقة وهم يتفقدون الرسومات الجديدة عىل الجدار‪ ،‬والتي ترسم عىل األرجح خلسة‪ ،‬إذا‬
‫كانوا هم من رسمها‪ .‬نفوا وقالوا إنها رسومات رديئة وإن اإلرسائيليني‪ ،‬يف املقابل‪ ،‬يرسمون‬
‫مشاهد طبيع ّية عىل امتداد الجدار من جانبه االرسائييل‪ :‬غابات وتالل خرضاء‪ ،‬وكأن ما وراء‬
‫هذا السور من هذه الجهة أرض عذراء خالية من البرش ورمبا مليئة بالحيونات الربية‪ ،‬أو ما‬
‫يشبه املحمية طبيعية‪ .‬كنت قرأت مؤخراً أن املستوطنات االرسائيلية التي تبنى عىل رؤوس‬
‫تالل الضفة الغربية مبنية بطريقة تجعل املستوطن‪ ،‬إذا ما نظر من نافذة غرفته أو حماّ مه‪،‬‬
‫ال يرى إال املستوطنات عىل التالل االخرى‪ .‬ذاك أن معظم القرى واملدن الفلسطينية مبني‬
‫يف الوديان‪.‬‬
‫أخريا وصلنا‪ .‬االهل كانوا يف االنتظار‪ .‬ولكن أين سمر واالوالد (زوجة أخي وطفالهام)؟‪،‬‬
‫سألت علياء‪ .‬ميكننا تناول الغداء‪ ،‬لن ننتظرهم‪ ،‬قالت أمي‪ .‬هم يف القدس‪ ،‬وال نعرف موعد‬
‫رجوعهم‪ .‬حسب "التساهيل"‪ .‬التساهيل كلمة ليست يف محلها هنا‪.‬‬
‫هل ال تزال سمر تذهب إىل القدس كل يوم؟‪ .‬نعم‪ ،‬أجابت أمي‪ ،‬ففؤاد ومنى مل‬
‫يحصال عىل أوراقهام الثبوتية بعد‪.‬‬
‫هذا هو كابوس فلسطينيي القدس كافة‪ .‬هم يحملون الهوية املقدسية الزرقاء‬
‫التي تصدرها إرسائيل‪ ،‬وهم مهددون بفقدانها يف حال أثبتت السلطات االرسائيلية أنهم ال‬
‫يسكنون داخل حدود القدس‪ .‬وهنا املعضلة‪ :‬سمر ال تستطيع أن تسكن يف رام الله مع زوجها‬
‫خشية فقدان هويتها‪ .‬أخي طارق ال يستطيع أن يسكن مع سمر يف القدس ألن السلطات‬
‫االرسائيلية لن متنحه الترصيح بذلك‪ .‬الحل هو بيت يف رام الله وبيت يف القدس‪ ،‬ومشاوير‬
‫يومية إىل القدس تُضطر سمر اىل القيام بها مع الطفلني لتثبت للسلطات االرسائيلية‪ ،‬التي‬
‫ترسل مندوبني إىل منازل الفلسطينيني عىل شكل "كبسات" ال تسبقها مواعيد وال إخطارات‪،‬‬
‫بأنها تسكن فعال يف القدس‪ .‬زياراتها اليومية تتضمن تعبئة الثالجة باملأكوالت والحليب‪،‬‬
‫ووضع ح ّفاضات االطفال املستعملة يف سلة النفيات‪ ،‬ونرث االلعاب يف البيت‪ ،‬وكل ما يتطلبه‬
‫األمر يك تثبت للمندوب أنها تقيم فعال يف هذا البيت مع الطفلني‪ .‬نعم‪ ،‬خاصة مع الطفلني‪،‬‬

‫‪225‬‬
‫ضخ لانم‬ ‫ّخسملا بحت ةينيطسلف ةلئاع هيرتروب‬

‫إذ أن منى وفؤاد سيبقيان من دون أوراق ثبوتية ريثام تتأكد السلطات الرسائيلية من‬
‫بصامتهام منطبعة عىل كل كريس وطاولة وصحن يف بيتهم املقديس‪.‬‬
‫عند البطون تضيع العقول‪ .‬مثل ينطبق عىل عائلتي‪ .‬مل ننتظر سمر واالطفال وانهمكنا‪،‬‬
‫أنا وعلياء‪ ،‬مع أفراد العائلة املوجودين بأكل امللوخ ّية التي تعدها الوالدة عىل الطريقة‬
‫الفلسطينية‪ ،‬أي مع كثري من الحامض والفلفل االخرض الح ّراق‪.‬‬
‫القهوة كانت مثل العادة عىل فارندة الوالدة املجهزة بحاسوب وع ّدة الرنجيلة‪.‬‬
‫فساعات بعد الظهر تخصصها والديت للعب الورق "أون لني"‪ ،‬بينام تدخن نرجيلتها بهدوء‬
‫ريثام يعود االطفال من القدس ويعود الضجيج اىل البيت‪ .‬هي ساعة االسرتاحة الوحيدة‬
‫التي أحظى بها يف اليوم‪ ،‬قالت أمي‪ .‬املوضوع استفز والدي عىل ما يبدو إذ رد بعصبية‬
‫موجهاً الحديث إيل‪" :‬ال تصدقيها‪ ،‬ثالث ساعات عىل االقل كل يوم تتحول خاللها والدتك‬ ‫ّ‬
‫اىل صنم‪ .‬ال ترسل وال تستقبل‪ .‬تتجاهلني خاللها متاما‪ .‬تقوم الدنيا وتقعد وهي ليست هنا‪.‬‬
‫حتى اذا رن جهاز الهاتف امللتصق بحاسوبها‪ ،‬ر ّدت بعد عرش رنات‪ ،‬ترفع السامعة‪ ،‬تقول‬
‫وتبسمت أنا إذ‬
‫"آلو" وتصمت حتى يعتقد املتصل أن مكروها ما حصل لها"‪ .‬عبست والديت‪ّ ،‬‬
‫فهمت سبب فتورها عندما كنت أهاتفها من بريوت يف ساعات بعد الظهر‪.‬‬
‫"إنس غرامك راح" يف منطقة‬ ‫يف املساء اقرتحت شقيقتي أن يكون العشاء يف مطعم َ‬
‫بريزيت القريبة من رام الله‪ .‬وهكذا كان‪.‬‬
‫أخرياً أنا يف رسيري أو ما افرتضت أنه كذلك‪ .‬والديت ال ترتك شيئاً عىل حاله‪ :‬يا له من‬
‫عامل افرتايض‪ :‬اإلرسائييل‪ ،‬أكان يف تل أبيب أو يف مستوطنة ما يف الضفة الغربية‪ ،‬يفرتضني غري‬
‫موجودة‪ .‬وهنا‪ ،‬عىل كل حال‪ ،‬يبدو الزمان واملكان وأشياء أخرى كثرية حاالت افرتاضية‪ .‬أن‬
‫تعطي موعدا لشخص ال يعني أنك ستلتقيه يف املوعد أو يف املكان املحدد‪ .‬وأن تقرر القيام‬
‫برياضة الركض اليومية إذا كنت من محبيها‪ ،‬وهذا ما أفعله يف بريوت‪ ،‬فهذا أمر إشكا ّيل‪.‬‬
‫ففي الركض هناك ليس العقل ما يق ّرر الوجهة‪ ،‬وال الرجالن ما يح ّدد عدد السعرات الحرارية‬
‫املبذولة‪.‬‬
‫إذاً‪ ،‬سأفرتض اليومني اللذين قضيتهام عىل الطريق مع علياء يومني افرتاض ّيني فحسب‪.‬‬

‫عجت بكثري من الحمص‬‫لن أخوض يف تفاصيل األيام الستة التالية من العطلة العائلية‪ .‬لقد ّ‬
‫والبامية واملقلوبة واملسخّ ن والباربكيو‪ ،‬ومبشاعر مشوبة بالتواطؤ مع املال عمر اختلطت‬
‫أحيانا ببعض من حسد وغرية‪ .‬نعم‪ ،‬مشاعر غرية من املال عمر!‬

‫‪226‬‬
‫محارضة غري أكادميية‬

‫سكان الصور*‬
‫ربيع مروة‬

‫الفصل األول‬
‫الصورة األوىل‬
‫صف ع جنب‪ .‬ط ّفي الس ّيارة‪ .‬نزال ع األرض‪ .‬اعطيني الكامريا‪.‬‬
‫هويتك‪ .‬وراق الس ّيارة‪ .‬رخصة السواقه‪.‬‬
‫افتاح الصندوق‪ .‬التابلو‪ .‬اعطيني الكامريا‪.‬‬
‫وين ساكن؟ من وين باألصل؟ شو بتشتغل؟ وين بتشتغل؟‬
‫صحايف؟ مرسحي؟ ممثل؟ وين بتمثل؟‬
‫مثلنا شوي؟ إيه هون‪ ..‬بنص الطريق‪ ..‬شو فيها؟‪ ..‬بتستحي؟ بتخاف؟ بتتلبك؟ بتخجل؟‬
‫بتنحرج؟‬
‫ولو! ممثل وبيخاف ميثل ق ّدام العامل؟‬
‫مثل!‬
‫افتاح الكامريا؟‬
‫مني هاي؟ مني هيدا؟ مني هول؟‬
‫وين هاي؟ إميتني هاي وهاي؟ شو هاي؟ وين هاي؟ مني هاي؟‬
‫وهاي؟‬

‫حل عنواناً يف عمل ربيع مروة‬


‫* ‪" /‬سكان الصور" عنوان رواية ملحمد أيب سمرة عن دار النهار ‪ّ ،2..3‬‬
‫بدون إذن من الكاتبني‪.‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ليه هامللصق بالذات؟‬

‫ما بتعرف إنو ممنوع التصوير باملنطقه هون؟‬


‫ما قلتليل‪ ،‬ليه هالصورة؟ ليه هامللصق بالتحديد؟‬

‫هيك بلشت قصة‬


‫هامللصق‪ ...‬بتذ ّكر كتري منيح‪ ،‬كنت بالسيارة مبنطقة قريطم‪ ،‬وتحديداً باملربع األمني آلل‬
‫الحريري‪ ،‬بلمح صورة جامل عبد النارص مع رفيق الحريري واقفني سوا‪.‬‬
‫باألول ما صدقت‪ ،‬عملت ل ّفه ورجعت ألتأكد‪ ..‬صحيح‪ ...‬عبد النارص والحريري سوا مجتمعني‬
‫بنفس الصورة‪ .‬كثري غريب‪ ..‬أنا بعرف أنو الحريري وعبد النارص ما بحياتهم التقو‪ ..‬كيف‬
‫ممكن تظهر هيك صورة؟ فع ًال يش غريب ومش عادي‪ ..‬قلت الزم آخد صورة لهالصورة‬
‫املش عاديه واحتفظ فيها‪ ..‬متل ما بالعاده ممكن يصري بأغلب املناطق اللبنانية‪ ،‬يش أخدت‬
‫الصورة‪ ،‬بيو ّقفني شاب من أمن القرص وبيصري يحقق معي‪ ..‬بقيت تقريباً ساعتني بالتحقيق‬
‫لكن قبل ما‬
‫لحد ما اقتنع إنو ما يف برايس أي مخطط مشبوه‪ .‬هيك‪ ،‬تركني يف حال سبييل‪ْ ،‬‬
‫انطلق‪ ،‬طلب مني إنو خ ّليه ببايل إذا يش م ّرة احتجت ملمثّل‪ ،‬وقاليل‪:‬‬
‫أنا بحب التمثيل‪ ..‬بحب مثّل من أنا وزغري‪ ..‬وبحس أين بقدر مثّل أي دور‪ ..‬مث ًال فيي إبيك‬
‫برسعة ووقت اليل بدي‪ ..‬بدك إبيك؟ بدك إبيك هلق هون؟ إذا بدك إبيك ببيك‪ ..‬رح إبيك‪..‬‬
‫هـ‪...‬‬
‫سألتو إزا فيي آخدلو كم صورة هيك ما بنساه‪ ،‬وبيضل ببايل‪ ..‬قاليل أكيد‪.‬‬
‫هول الصور‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫للحقيقة‪ ،‬هول صور صديقي زياد‪ ..‬هو‬


‫ما ق ِبل ص ّورو‪ ..‬كان ب ّدو‪ ،‬بس قال ما بيقدر لرضورات أمنية إلها عالقا بطبيعة عملو‪..‬‬
‫خاف‪ ..‬قلتلو‪ ،‬ولو! باألمن وارضب واطرح وبتخاف ناخدلك صورة؟ زجرين‪ ..‬حملت حايل‬
‫وف ّليت عالرسيع‪..‬‬

‫***‬

‫فع ًال هالصورة غريبه‪ .‬يف يش ما بريكب‬


‫بالراس‪ ..‬قصدي كيف ممكن يكون شخصني ما التقو وال م ّرة بالحياة عندهن هيك صورا؟‬
‫وكيف ممكن يلتقي شخصني مع بعض إزا كانو اتنيناتهن صارو بينتمو لعامل األموات؟ هل‬
‫هيدا بيعني أنو هاللقاء صار بعد املوت؟ ط ّيب مني أخد الصورة؟ مصور ميت كامن أو يش‬

‫‪229‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫مصور هاوي ومش محرتف متيل كان عم بيصور شو ما كان وفجأة بينّ يش بالصورة ما ممكن‬
‫ينشاف بالعني املج ّردة؟‬

‫فرجيت هالصورة ألحد األصدقاء‪ ،‬قاليل هيدي فوتومونتاج أو فوتو مانيبيوليشن‪ .‬وبالعريب‬
‫بيصح قول‪ :‬تالعب بالصور أو صور مفربكه‪.‬‬
‫ضجه بوقتها‪.‬‬
‫قصة إلها عالقة مبوضوع الصور املفربكة‪ ،‬عملت ّ‬‫تز ّكرت ّ‬
‫بسنة الـ‪ ،82‬مجلة "ناشونال جيوغرافيك" بتقرر تق ّرب هرمني من أهرامات مرص لحد بعض‪،‬‬
‫حتى يركبو بقلب صورة الغالف اليل هي عامودية‪ ،‬ف َز َركوهن عبعض‪.‬‬

‫ما بعرف‪ ..‬فكرت ممكن يكون الهرم‬


‫األول هو عبد النارص والهرم التاين رفيق الحريري‪ ،‬وأنّو شخص ما قرر يقربهن عبعض ليصريو‬
‫بصورا وحده‪ .‬بس ليه بدو يعمل هيك؟‬

‫مر ّكبه وهاللقاء ما تم وننهي املوضوع‪.‬‬ ‫أكيد هينّ نقول إنو هيدي صورة‬
‫جمعهن مع بعض‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫أو منقول مث ًال‪ :‬واحد جايي عبالو يلعب أو يعمل عمل فضائحي‪،‬‬
‫أو ممكن كامن نحط هالصورة تحت هدف نضايل تعبوي من خالل هاللقاء ا ُمل َتخ ّيل‪ .‬بنقدر‬
‫حب يستدعي الرجلني العتبارات سياسيه آن ّيه‪ ،‬فحرشهن يف‬ ‫نزيد كامن إنو الحريري اإلبن ّ‬
‫صورة وحده ليأكدلنا أنو وريث سياسه عروبو ّيه عريقه ذات تاريخ نضايل طويل ومرير ضد‬
‫االمربيالية العاملية وربيبتها الدولة الصهيونية؛ تاريخ نضايل عنوانه األول فلسطني العربيه‬
‫وشعاره التالت الءات‪ :‬ال صلح‪ ،‬ال تفاوض‪ ،‬ال اعرتاف‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ممكن كامن نقول عن هالصورة باعتبارها ُمر ّكبه‪ ،‬أنها تستنفر األموات يف عامل األحياء‪ ،‬يف‬
‫معاركهن اليوميه اليل مل تنت ِه‬
‫ْ‬ ‫الستخدامهن كسالح يف‬
‫ْ‬ ‫أمواتهن‬
‫ْ‬ ‫يرص سكانو عىل استدعاء‬ ‫بلد ّ‬
‫وعىل األرجح لن تنتهي‪.‬‬
‫وفينا نحيك ونقول كتري أشيا عن هالصورة من حيث انها صورة ُمر ّكبه‪ ،‬بس يليل مش قانعني‬
‫باملوضوع هوي ليه يليل ر ّكب هالصورة قرر يخفي املونتاج اليل عملو ويخلق هالوهم بأنّو‬
‫هالصورة مزبوطة ومش مر ّكبه؟‬
‫قصدي‪ ،‬كان فيه يصمم امللصق من دون هالتالعب متل ما بيصري مبعظم امللصقات‪..‬‬
‫مث ًال خود هالتالت أمثله‪:‬‬

‫هول صور دعائيه سياسيه ما فيها أي لبس أو تالعب‪ ...‬املونتاج واضح‪ ..‬والرتكيب أيضاً‬

‫املونتاج مش واضح‬ ‫مفضوح‪ ..‬ما يف يش مخ ّبا‪ ..‬بس هون بهامللصق‪،‬‬


‫والرتكيب مخ ّبا‪ ..‬يف فربكة عم تجرب تخفي أدواتها‪ .‬وللرصاحة ما عم القي سبب مقنع ليه‬
‫بدو هالشخص يخلق عنا هالوهم وه ّوي بيعرف متاماً إنو ما حدا رح يصدق أنو هاللقاء تم‬
‫أو ممكن بيوم من األيام يتم‪.‬‬
‫أنا شخصياً ُمرص أنو ما يف تالعب بهالصورة وال تركيب وال مونتاج‪ ..‬هاي صورة مزبوطة وهيدا‬
‫اللقاء صار وعن جد صار بس بعد ما ماتو مش قبل‪ ..‬يعني عبد النارص التقى بالحريري‬
‫بالصورة‪ ،‬من بعد املوت‪ ..‬وهاللقاء ما كان ممكن أنو يحصل لو ما اتنيناتهم بينتمو لعامل‬
‫األموات‪ ..‬يعني كان من املستحيل أنو يصري وبأي شكل من األشكال قبل مقتل الحريري‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫بالحقيقة يف كتري صور من هالقبيل ‪..‬وكأنو األموات بيتنقلو من صورة لصورة ‪..‬بيرتكو صورة‬
‫ليسكنو بصورة تانيه ‪.‬هاي مجموعة من الصور‪.‬‬

‫وح ّلو بصور تانيه‪ ..‬الصور متل األوطان ‪ ،‬متل البيوت أحياناً‪،‬‬
‫يف كتري صور هجرها أصحابها‪َ ..‬‬
‫الواحد بيضطر يرتكها أو بيجي عبالو يغريها من وقت للتاين‪ ..‬هاي أمثله أخرى لصور‬
‫هجرها أصحابها‪:‬‬

‫بعرف إنو اليل عم قولو مش منطقي والعلمي ورضب من الهلوسه‪ .‬إيه موافق‪ .‬بس رغم‬
‫هاليش أنا مرص ص ّدق أنو عبد النارص والحريري التقو‪ .‬واألدق أنو عبد النارص ه ّوي اليل‬
‫التقى بالحريري‪ ..‬راح زارو بقرصو بقريطم والدليل أنو الصورة األصليه للحريري واقف‬

‫صورة باأللوان‪ ..‬هلق ملن إجا لعندو عبدالنارص‬ ‫قدام قرصو‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫صارت الصورة باألبيض واألسود متل ما مالحظني‪ .‬ف ّتشت عالصورا األصليه اليل باألساس إجا‬
‫منها عبد النارص‪ ،‬ما لقيتها‪ .‬لكن باملقابل لقيت هامللصق اليل انعمل بذكرى ميالدو‪..‬‬

‫ ‬
‫لقيتو بأرشيف الجامعة األمريكية‪ ..‬طبعاً ملّن ترك عبد النارص الصورة ليزور الحريري‪ ،‬امللصق‬
‫األصيل صار فايض‪.‬‬

‫ ‬
‫بس مني هوي جامل عبد النارص ومني هوي رفيق الحريري؟‬
‫أكيد هالشخصني بغنى عن التعريف‪ ،‬لهيك رح نقفز فوق النقطة ونك ّفي‪.‬‬

‫***‬

‫‪233‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫وبالقيها كتري عاديه‪ ..‬ما فيها إخراج فني‪ .‬شخصني واقفني‬ ‫بتط ّلع عالصورة‬
‫حد بعض عىل طبيعتهن من دون أي تكلف‪ .‬ما عم يتط ّلعو صوب املصور وال طبعاً بال َع َدسه‪..‬‬
‫ما يف هيبة شخص مفروضه عىل الشخص التاين‪ ..‬اتنني مرتاحني‪ ..‬مش مشدودين‪ ..‬كأنو كل‬
‫يش طبيعي ورايق‪ ..‬زيارة ود ّيه ال أكرت وال أقل‪ ..‬وما بتحمل أي مفاجآت‪ ..‬كأنها صورة‬
‫مأخوده لنحفظها بألبوم العيله‪ ..‬ما كـأنها صورة بتأ ّرخ لقاء زعيمني‪ .‬ال بل توحي أكرث‬
‫بلقاء أب مع أب يف يوم عطلة‪َ .‬ب َّيني راضيني عن شو أنجزو خالل أسبوع عمل‪ ..‬وكأنو مش‬
‫أول لقاء بيناتهن وال آخر لقاء‪ ..‬صورة ُأخذت ع غفله منهن‪ ..‬ويف حال مش ع غفلة وكان‬
‫معهن خربها‪ ،‬فهدفها بهالحاله إنها تبث الطأمنينه يف نفوس مشاهديها بإظهار هالحميميه‬
‫بيناتهن‪ ..‬ألنو هاي صورة ما ال ُتقطت عىل طاولة مفاوضات‪ ،‬وال خالل إجتامع عمل وال يف‬
‫مقر أو مركز سيايس رسمي‪ ،‬إمنا بـبيت خاص وتحديداً بحديقة البيت‪ .‬والحديقة هون متل‬
‫البلكون‪ ..‬رشفة البيت واليل برتمز للمكان الواقع بني داخل البيت وخارجو‪ .‬املكان املعلق‬
‫بني الخاص والعام‪ ..‬وكأنو هالصورة بتفرجي الزعيمني بهاملكان املعلق بني الخاص والعام‪...‬‬
‫ما بني بني‪ ..‬يعني‪ ،‬بعد ما خلصو إجتامعهن الخاص وقبل ما يط ّلو عالعام ليعلنوا نتيجة‬
‫هالخلوه للناس‪..‬‬
‫خالصة القول إنو هالصورة مانها دعائيه وال هدفها دعم أي حمله سياسيه وال هدفها‬
‫باألساس تعبوي جامهريي‪..‬‬
‫عىل عكس استخدام امللصق إللها‪ ..‬إيه؛ يف الصورة ويف امللصق اليل بقلبو هالصورة‪ ..‬هامللصق‬
‫اليل بيحمل توقيع حركة النارصيني األحرار‪.‬‬

‫هيدا امللصق برأيي عم بيخون الصورة‪ ،‬ألنو هدفو تعبوي‪.‬‬


‫قصة بحد ذاتا‪ .‬بيكفي نذكر إنها حركه لبنانيه انشقت حديثاً عن‬
‫وحركة النارصيني األحرار ّ‬
‫الحركة األم اليل تأسست ببدايات الحرب األهليه وعرفت بإسم املرابطون – حركة النارصيني‬

‫‪234‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫اليل قرر‬ ‫املستقلني‪ ..‬املرابطون هني اليل صممو امللصق األول‬


‫جامل عبد النارص يرتكو بعد ما تعب من وحدة قاتلة وهلك من ثورة ال تهدأ ّ‬
‫ومل من حياة‬
‫ال متوت‪ .‬فقرر الهجر‪..‬‬

‫فواضح أنو اللقاء ما عندو تاريخ محدد‪ ..‬ما‬ ‫أما بالنسبه للوقت بهالصورة‬
‫بنعرف بأي يوم التقوا وال بأي ساعة‪ ..‬حتى ما فينا نجزم إذا كان بالنهار أو بالليل ألنو الضو‬
‫مش واضح بالصورة‪ ..‬حتى التياب اليل البسينها ما بيفيدونا بهاملوضوع‪ .‬بدله فيها تنلبس‬
‫بالشتا وبالصيف‪ ،‬بالنهار وبالليل وبتصلح لكل املناسبات الرسمية وغري الرسمية ولكل‬
‫الفصول واألوقات‪ ..‬اليش الوحيد اليل فينا نأكدو هو مكان اللقاء‪ :‬متل ما ذكرت قبل‪ :‬حديقة‬
‫قرص الحريري يف منطقة املربع األمني‪ /‬قريطم‪ ،‬بريوت الغربية ‪ ،‬لبنان‪ ،‬الرشق األوسط‪...‬‬
‫واليل فينا كامن نأكدو هو أنو هاللقاء تم بعد اغتيال الحريري مش قبل‪ ،‬يعني بعد ‪14‬‬
‫شباط الـ ‪.2005‬‬
‫برأيي‪ ،‬هالنوع من الصور يزدري الوقت‪ ..‬وما بيعريو أي اهتامم‪ ..‬وكأنّو الوقت يف عامل‬
‫األموات وقت فالت وحسبانو بيتم مبقاييس مختلفه عن كيفية حسبان الوقت بعامل األحياء‪.‬‬
‫ميكن الوقت بهالصورة بيشبه الوقت باألحالم‪ .‬لهيك يف يكون رفيق الحريري بالصورة أكرب‬
‫سناً من جامل عبد النارص من دون ما نستغرب األمر‪ .‬مع إنو الحريري خلق بسنة الـ ‪44‬‬
‫وعبد النارص بسنة الـ‪.18‬‬

‫عىل كل حال‪ ،‬الصور بت ّدعي أنو مبقدورها تج ّمد الوقت وتحبسو مقابل هروبو الدائم‬

‫‪235‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫بالحياة‪ ..‬لهيك فينا كامن نشوف‪ ،‬مث ًال‪ ،‬مبلصقات حركة أمل اليل بنشوف فيها صورة لرئيس‬
‫الحركه نبيه بري وإىل جانب صورتو صورة لإلمام املغ ّيب موىس الصدر‪ ،‬بنالحظ كيف نبيه‬
‫بري عم يكرب بالعمر بني ملصق والتاين بينام اإلمام الصدر بعدو بكل الصور بنفس العمر‪..‬‬
‫وطاملا اإلمام ُمغيب إذاً رح يضل عمرو بالصورة ‪ 49‬سنة ‪ .....‬أما ب ّري فمع الوقت رح يضل‬
‫يكرب ويكرب ليجي اليوم اليل خلص؛ ما بقا فيه يكرب أكرت‪...‬‬
‫بس خلينا مبوضوعنا‪ ..‬لقاء عبد النارص ‪ -‬الحريري‪.‬‬
‫مبا إنو من الصعب ال بل مستحيل‪ ،‬تحديد تاريخ اللقاء‪ ،‬فينا عالقليله نزعم إنو هاللقاء صار‬
‫قبل كم يوم من النهار اليل شفت فيه امللصق‪ ،‬يعني بآب ‪.2007‬‬
‫بس شو صار بآب ‪2007‬؟‬
‫للرصاحة ما بتذكر شو صار‪ ،‬بس بعدين بذكر شو صار بأول هالسنه‪ ،‬يعني بكانون التاين‬
‫‪ ..2007‬أكيد بعد ما حدا من سكان بريوت نيس االشتباكات والصدامات اليل صارت بالجامعة‬
‫العربية ومحيطها بني منارصي قوى الرابع عرش من آذار و َع َراسهم تيار املستقبل التابع‬
‫للحريري وقوى الثامن من آذار و َع َراسهم حزب الله وحركة أمل‪ .‬ومتل ما معروف وقتها‪،‬‬
‫رسعان ما تحولت هاالشتباكات إىل تشنج واصطدام طائفي ‪ -‬إسالمي بني الس ّنه والشيعه‪..‬‬
‫ومتل ما معروف كامن أنو هاملشكل الطائفي منو جديد عالبلد وال عاملنطقه بأرسها‪ ..‬لكن‬
‫بعد هالحادثه تفاقمت األمور أكرت بني الطائفتني وطبعاً املقصود بلبنان‪ ..‬لهيك‪ ،‬هل فينا‬
‫نعترب هاللقاء بني الحريري وعبد النارص ملا ميثل كل منهام للبنان والعرب وللطائفه السنيه‪،‬‬
‫كلقاء دعم للحريري اإلبن يف لحظة سياسيه ورمبا عسكريه َح ِرجه و ُمر ِبكه؟ هل هي محاوله‬
‫وج خطر املد الشيعي باملنطقة واملدعوم إيرانياً‪ ،‬مع‬ ‫لتحريك أو تجييش الطائفه السنيه يف ّ‬
‫"‪ "nuance‬زغري وهوي أنو هالتجييش يجب أن يأيت بعيداً عن التعصب الطائفي! إيه! يعني‬
‫طائفي بس بال تعصب‪..‬‬
‫األب ‪ -‬الحريري‪ ،‬املسلم املعتدل‪ ،‬الليربايل‪ ،‬النهضوي‪ ،‬العروبوي يدعو عبد النارص اليل هوي‬
‫مسلم معتدل أيضاً‪ ،‬نهضوي أيضاً‪ ،‬وعروبوي طبعاً‪ ،‬ليلتقي به يف قرصه‪ .‬يلبي عبد النارص‬
‫الدعوه ويأيت ليبايع الحريري االبن ع الخالفة للخط العرويب األصيل‪ ،‬فيعلنا معاً‪ ،‬أن عروبتنا‬
‫هي العروبة الحقيقية‬

‫‪236‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫وج عروبة هؤالء‪ ،‬املزيفة واملشبوهة‪ .‬عروبتنا هي االسالم املعتدل‪ ،‬وليس السلفي‪ ،‬وال‬‫يف ّ‬
‫املتزمت وال األصويل‪ .‬هذا هو اإلسالم الحق وهذه هي العروبة الحقة‪ ،‬وكل ما عداهام فهو‬
‫باطل‪ .‬باملقابل‪ ،‬الحريري األب يؤكد لعبد النارص الزعيم أن عروبته لن متوت وأن النارصية‬
‫ستبقى حية ما دامت الراية يف عهدة الحريري االبن الذي حت ًام سريفعها عالية خفاقة‪.‬‬

‫***‬

‫عىل كل االحوال هاللقاء مع عبد النارص ما عندو أي تقل‪ ،‬وما بقا عندو‬
‫الوقع نفسو اليل كان ممكن يكون عندو ّياه ملن كان عبد النارص بعدو عىل قيد الحياة‪..‬‬
‫وقتها كان ممكن يغري كتري باملعا َدله‪ ،‬بس اليوم ما يش‪ ..‬فإذاً هيدا اللقاء م ّنو إال لقاء معنوي‬
‫ويف أقىص مهامتو فيه يكون لقاء استشاري أو لقاء تبادل آراء ال أكرث وال أقل‪..‬‬

‫ويف وصف عروبة عبد النارص فعل تأنيث‪ ،‬ميكن هيدا إلو عالقة مبوتو‬
‫العادي وغري الدراماتييك واليل أىت عىل عكس مقتل الحريري امللحمي والعنيف جداً‪.‬‬
‫وبالعوده للسؤال حول معنى هاللقاء‪ ،‬رمبا رمز ّيتو جايي من الطابع الجنساين ملوتتني‬
‫مختلفني‪ :‬موت عبد النارص ذو الطابع األنثوي‪ ،‬وموت الحريري ذو الطابع الذكوري‪ .‬وكأن‬
‫اللقاء هو عقد زواج بني هاملوتتني‪.‬‬
‫ما ننىس أنو عبد النارص مات مهزوم واألعالم العربية كانت ال تزال من ّكسه‪ .‬وعىل ما كتب‬
‫جورج طرابييش بكتابو "املرض بالغرب"‪ :‬إرسائيل خصت األب املتمثل وقتها بعبد النارص وما‬
‫تركتلو خيار سوى املوت قهراً‪ .‬وعىل الرغم من وفاء الجامهري العربية لهالقائد العريب الكبري‪،‬‬
‫بقيت مرارة الهزمية معلقة يف كل فم‪ ،‬وخاصة بعد رحيله املفاجىء من جراء موته طبيعيه‪.‬‬
‫موته ال تليق باألبطال‪ .‬رحيلو إجا قبل ما تسرتد األمة العربية كرامتها وعزتها‪.‬‬
‫مات من دون ما يوفيّ بـ"وعده الصادق"‪ .‬مات من جراء الحزن‪ ،‬من أىس الهزمية اليل ألحقتها‬
‫إرسائيل بالعرب بحرب حزيران الـ‪ .67‬مات متل ما ممكن يش ُأ ّم متوت من ورا الحزن الكبري‬
‫واألىس العميق اليل ممكن يصيبها بعد فقدان ولد حبيب‪ .‬أما الحريري ف ُقتل‪ ،‬اغتيل‪ُ ،‬ف ّجر‪...‬‬
‫متل ما األبطال بيحلمو ميوتو‪ ..‬القتلة كانوا بحاجة ليش مية كيلوغرام وأكرث من املتفجرات‬
‫والـ ت‪.‬ن‪.‬ت‪ .‬ليتخ ّلصو منو‪ .‬ما كان هدف سهل‪ ،‬وهو ما س ّلم بسهوله أبداً‪ .‬مات شهيد‪ ..‬أما‬
‫بالنسبه لعبدالنارص‪ ،‬فالجيش اإلرسائييل احتاج ‪ 6‬ايام بس ليلحق الهزميه بالجيوش العربيه‬

‫‪237‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ويذل قائدها وبالتايل تتخلص منو من دون ما تحتاج حتى إنو تدقروا جسدياً‪.‬‬
‫لقاء الحريري بنارص منو إال محاوله لجمع‪ ،‬أو يصح أيضاً ُجامع‪ ،‬بني مرشوع عروبوي ُأجهض‬
‫مبوت القائد؛ املوت ذو الطابع األنثوي‪ ،‬بـــاستشهاد ملحمي ح ّول رجل أعامل وسيايس‬
‫ولكن من دون أي مرشوع للعرب والعروبويني‪ ..‬من هون أهمية هاللقاء‪ ..‬لقاء‬ ‫إىل قائد‪ْ ،‬‬
‫الرشاكة إىل حد التزاوج إلنجاب صورة عن عروبه مكتمله وتقدميها للحريري االبن‪ ،‬وريثهام‬
‫الرشعي يف لبنان‪...‬‬
‫ولكن واقتباساً مام كتب حازم صاغ ّية يف كتابو "وداع العروبة"‪ ،‬إنو هالرغبه الستعادة‬
‫العروبه بهالطريقة‪ ،‬مانها إال "رغبة أولية وطفلية سابقة عىل التجربة واالجتامع‪ ،‬تشبه‬
‫البقاء يف الزمن السابق عىل قطع حبل الرسة"‪.‬‬
‫عىل االقل خلينا نقول أنو محاولة جمع عروبة عبد النارص بعروبة الحريري فيها يش بيذكرّ‬
‫بقصص األطفال‪ ،‬وتحديداً قصة "األمرية النامئة" اليل ما رح توعى إال ببوسة األمري‪.‬‬
‫فيها تكون عروبة الحريري األب هي األمري اليل عم بيفتش عأمريتو اليل مانها إال عروبة عبد‬
‫النارص الناميه‪ .‬وما إضافة عروبة األول عىل عروبة التاين إال هالقبلة عىل الشفاه اليل ستوقظ‬
‫العروبة الحقيقيه من نومها الطويل‪ ،‬ناهض ًة من كبوتها‪ ،‬بهي ًة تشع نوراً فوق كل األقطار‬
‫العربية التي ال بد وأن يأيت يوم وتتحد كلها يف أمة واحدة ذات رسالة خالدة‪ ...‬وفينا نغري‬
‫الشعار إزا حدا عندو حساسيه منو‪..‬‬
‫فع ًال هيدا لقاء استثنايئ بيجمع رجلني‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬اتنيناتهم حداثويني مع الفارق واالختالف‬
‫الكبري بني نظرة كل واحد منهن ملفهوم الحداثه‪.‬‬
‫عبدالنارص اشرتايك ‪ ،‬حمل لواء النهضة والتحديث مبرص عىل طريقتو مع كل العلل واملصايب‬
‫اليل رافقت هاملرشوع‪.‬‬
‫الحريري ليربايل‪ ،‬كامن حمل لواء النهضة ببلدو الزغري والتحديث عىل طريقتو وبرغم كل‬
‫العلل واالخطاء اليل رافقت مرشوعو‪.‬‬
‫األول ُقتل رمزياً عىل يد النظام اإلرسائييل والثاين‪ ،‬وعىل حد ما قيل يف أوساط الحريري اإلبن‪،‬‬
‫إنه قتل أيضاً رمزياً عىل يد النظام املخابرايت يف سوريا والله أعلم‪ ...‬وكأنو هاللقاء اليل حصل‬
‫بهامللصق‪ ،‬بيفضح بطريقه مواربه ومخف ّيه تواطوء وغري مقصود بني نظامني يف حالة عداء‬
‫دائم ورصاع مؤبد‪ .‬هالنظامان يجهدان أبداً إلجهاض أي محاولة نهضوية أو تحديثية عىل‬
‫صعيد بناء دولة مؤسسات ذات حقوق مدنية يف أي بلد عريب‪ ،‬حتى لو كانت هاملحاوالت‬
‫ضعيفه وركيكه ومش ّوهه؛ وذلك ملصلحة بقاء نظامهام عىل قيد الحياة‪.‬‬

‫***‬

‫‪238‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫بنهاية هالفصل‪ ،‬بحب ضيف مالحظة أخرية‪:‬‬


‫بالعاده‪ ،‬األحياء بيدرسو اليل إجو قبلهن‪ ..‬أما األموات فكأنهن بيدرسو اليل إجو من‬
‫بعدهن‪..‬‬
‫لهيك عبد النارص ه ّوي اليل زار الحريري ومش العكس‪ ..‬ميكن إجا لعندو ليسألو شو صار‬
‫بالعروبة‪ ،‬شو صار بفلسطني وبالقضية الفلسطينية‪ ..‬كيف الوضع بالسودان‪ ،‬بغزة‪ ..‬كيف‬
‫لبنان‪ ..‬يسألو عن االتحاد السوفيايت والحرب الباردة‪ ..‬وطبعاً عن الرصاع العريب اإلرسائييل‪..‬‬
‫وشو صار مبرص من بعد مويت‪ ..‬وميكن الحريري خبرّ و إنو السادات ح ّرر مرص عن طريق‬
‫التفاوض والصلح واالستسالم ‪ ..‬ودفع حياتو متن هاليش‪..‬‬
‫بأي صورة‪ .‬ميكن‬ ‫ميكن اتفقو يروحو يزوروا السادات بيش صورة‪ ،‬وميكن راحو وما القوه ّ‬
‫السادات قرر يهجر ويسكن بيش صورة بعيدة وما حدا فيه يالقيها‪ ..‬وميكن وميكن وميكن‪..‬‬
‫وباآلخر ك ّلو هيدا بيبدا بـ"ميكن"‪ ،‬وما يف يش أكيد إال هالتخمينات اليل بتب ّلش بهالكلمه‪:‬‬
‫ميكن‪ ..‬وميكن هيدا أحىل يش باملوضوع‪ ..‬ميكن‪...‬‬

‫‪239‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫الفصل الثاين‬
‫الصورة الثانية‬

‫الفصل الثاين رح يكون عن هامللصقات‪.‬‬


‫أول م ّرة شفتهن كنت بسياريت‪ ..‬شفتهن بالصدفه‪ ..‬باألساس هامللصقات ظهرت بعد حرب‬
‫متوز ‪ 2006‬بضاحية بريوت الجنوبية املعروفة بالضاحيه‪ ..‬هاملنطقة اليل تعرضت ألعنف‬
‫عملية تدمري من قبل طريان العدو اإلرسائييل‪.‬‬

‫تاين م ّرة شفت هامللصقات كنت كامن بسياريت بس هامل ّرة ما كانت بالصدفه‪ ..‬قصدت روح‬
‫شوفهن‪..‬‬
‫هول صور ملجاهدي املقاومه اإلسالميه يف حزب الله‪ ،‬يليل سقطو شهداء أثناء تصديهم‬
‫للجيش اإلرسائييل يف جنوب لبنان‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ثالت م ّرة شفت هامللصقات ما كنت بسياريت‪ ،‬ال‪ ..‬كنت بالبيت وشفتهن عالكومبيوتر‪،‬‬
‫واملقصود من هاإلشارة إنو قول أنو ما أنا اليل أخدت هالصور‪ ..‬التصوير بالضاحيه مش‬
‫مزحة‪ ..‬بدك إذن خاص من حزب الله بالتصوير‪ ،‬وبيعود األمر لكتري اعتبارات‪ ،‬وخاصة بعد‬
‫حرب الـ ‪ 2006‬اليل ح ّولت الضاحيه كلها ملربع أمني محصن ضد أي احتامل ألي اخرتاق‬
‫مخابرايت من قبل األعداء الصهاينة وعمالئهم من لبنانيني وعرب أو ضد أي عملية إعتداء‬
‫عسكرية ممكن تطال الحزب بالضاحية‪ ...‬لهيك الحاميه واجبه‪ ..‬ولهيك كامن‪ ،‬إزا لقطوك عم‬
‫بتصور بال إذن مسبق مصيبه‪ ،‬عن جد مش مزحة‪ ،‬وفيك تبيك بنص الشارع عن جد ومش‬
‫متثيل‪ ..‬قلت لنفيس‪ ،‬شو بدي بهالعلقة‪ ،‬بالها‪ ..‬خيل حدا غريي يصوريل ياهن‪ ..‬حدا شغلتو‬
‫التصوير فيه يقوم باملهمه من دون مشاكل‪ ..‬وباألخري مش عم نصور يش خطري‪ ..‬وهيك‬
‫طلبت من صديقي حسام مشيمش أنو يقوم باملهمه عني‪ ..‬وهيدا اليل صار‪..‬‬
‫متل ما واضح بالصورة‪ ،‬امللصقات مركبني عىل عواميد اإلنارة‪ ،‬عىل ارتفاع تالت أمتار‬
‫من األرض‪ ،‬بنص البولفار اليل بيفصل الخطني ‪ -‬خطني السري ‪ -‬عن بعض‪ .‬عىل كل‬
‫عامود فيه ملصقني مركبني بقفا بعض‪ ،‬واحد بتشوفو َع خط الدخول وواحد َع خط‬
‫الخروج‪ .‬امللصقات مصفوفه ورا بعضها بالتتابع‪ .‬كل شهيد مجاهد عندو صورة واحدة‪،‬‬
‫وكل امللصقات متطابقة‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫بالبدايه‪ ،‬ما الحظت أي يش خارج عن املألوف‪ .‬بلبنان معودين نشوف صور الشهدا وين ما‬
‫كان‪ ،‬بأي شارع وبأي منطقة‪ ،‬ولكل التنظيامت واالحزاب‪...‬‬
‫كامن ما الحظت أي يش خارج عن املألوف بالنسبة للتطابق املوجود يف تصميم هامللصقات‪..‬‬
‫بلبنان كامن معودين نشوف ملصقات متطابقة وعندها نفس التصميم الفني‪.‬‬
‫هاي مث ًال مجموعة أوىل لشهداء الحزب السوري القومي االجتامعي‪ ،‬من أرشيف‬
‫الجامعة األمريكية‪.‬‬

‫إجامالً التطابق بالتصميم إذا ّ‬


‫بيدل ع يش فهو التايل‪ :‬عند االستشهاد كل الرتب الحزبيه‬
‫تصبح متساويه وتختفي الرتاتُبيه‪ ..‬هيك اليل كان قائد مجموعا أو قائد فصيل أو مقاتل‬
‫عادي بيصري برتبة شهيد‪ ..‬الكل سواسية وبرتبة واحدة أال وهي‪ :‬الشهيد البطل أو الرفيق‬
‫الشهيد أو املجاهد الشهيد وإىل آخره‪ ..‬ما حدا أعىل من حدا‪ ..‬وال أفضلية لحدا عىل حدا‪..‬‬

‫‪242‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫لهيك كل صور الشهدا بيحقّ لها نفس امللصق لتسكن فيه‪ ..‬ملصقات مصممة بشكل الئق‬
‫وجيد‪ ..‬متساويه وبتشبه بعض‪.‬‬
‫ومتل ما معروف‪ ،‬باإلسالم متل ما كامن بكل األحزاب األصولية واإليديولوجية‪ ،‬الشهادة أعىل‬
‫املراتب وليس قبلها وال بعدها مرتبه‪ ،‬اللهم إال إذا كان الشهيد بوزن عامد مغنية القائد‬
‫واملوجه العسكري يف حزب الله أو األمني العام السابق للحزب نفسه السيد عباس املوسوي‬
‫اليل اتنيناتهن قضو اغتياالً‪ ..‬شهداء من هالوزن تبقى رتبهم وتُعىل مكانتها؛ فيصبح الواحد‬
‫منهم شيخاً للشهداء أو سيد الشهداء‪ ...‬لهيك بتستحق صورهن ملصقات مميزة وأكرب حج ًام‬
‫لتسكن فيها‪.‬‬

‫***‬

‫بالحقيقة بعد ما يف يش خارج عن املعتاد بهامللصقات باستثناء تفصيل واحد ه ّوي الجاكيتات‬
‫العسكريه اليل البسينها‪ .‬كلهن البسني نفس الجاكيت‪ ...‬نفس البدله العسكريه‪...‬‬
‫املوحد؟ هل منطق هالصور بيتطابق مع منطق الصور‬ ‫إميتى تم تصوير هاألشخاص بهالزي ّ‬
‫الشمسيه اليل عاد ًة تُؤخذ لكل جندي بأي جيش نظامي؟ بهالحاله‪ ،‬هل فينا نعترب أنو‬
‫هالبدله العسكريه متثل اللباس الرسمي ملقاتيل حزب الله؟ وهل حزب الله وتحديداً‬
‫املقاومه اإلسالميه تعترب نفسها جيش نظامي متل أي جيش نظامي بالعامل؟ ولكن نحنا‬
‫بنعرف انو هاملقاومه عندها تنظيم رسي‪ .‬هل هيدا بيعني انو هالصور ما بتظهر إال بعد‬
‫املوت؟ بهالحاله السؤال هو إميتى ُأخذت هالصور؛ قبل انطالقهن للقتال بوقت قليل أو‬
‫بوقت طويل؟ وهل املجاهدين كانوا مدركني ملوتهن فتصورا هالصور ليك تُستخدم بعد‬
‫الشهادة يف ملصق ُيفرتض انو يكون تذكار وتكريم لتضحياتهن وعطاءاتهن اليل فع ًال ال تُق ّدر‬
‫بثمن؟ صورا أرادوها ملا بعد املوت؟ جهزوها وحفظوها قبل الرحيل الكبري ككفن؟ هل‬
‫هالصور يف هذا السياق‪ ،‬مبثابة كفن الشهداء؟‬

‫‪243‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫لكن بيبقى فيه سؤال مع ّلق مرتبط بهاملسأله تحديداً‪ .‬ليه تم اختيار بدله عسكريه ومش‬
‫بدله إسالميه كلباس موحد‪ .‬أو بكل بساطه‪ ،‬ثيابهن العاديه‪..‬‬

‫اليوميه‪ ..‬متل ما باقي الشهدا اليل ظهرو بامللصقات ذات التصميم املوحد؟‬

‫عم بسأل ألنو إجامالً البدالت العسكريه ما عندها هو ّيه واضحه‪ .‬فيها تكون ألي جيش‬
‫بالعامل حتى جيش العدو نفسو‪ .‬إذاً‪ ،‬ليه تم اختيار بدله عسكريه "متغ ّربة" (نسبة للغرب)‬
‫‪ُ ،‬مع ّممه و ُمعومله؟ شو اإلغراء اليل بتقدمو هالبدله؟‬
‫وبالحديث عن اللباس املوحد‪ ،‬يخطر عبايل اللباس الرشعي للمرا املسلمه‪ ،‬وتحديداً الحجاب‪.‬‬
‫يقول الشيخ نعيم قاسم‪" :‬إننا أردنا للباس الرشعي للمرأة املسلمة‪ ،‬أن يحمل معاين الجهاد‬
‫واملامنعة للمرشوع الغريب املتأمرك واملتصهني ملنطقتنا الرشق أوسطية‪".‬‬
‫ولكن بهالحاله كيف فينا نفرس اختيار رجال حزب الله ألنفسن هالبدله العسكر ّيه‬ ‫ْ‬
‫"املتغ ّربة" كلباس موحد ملجاهديهن؟ وكيف فيه الحزب يفسرّ هالتناقض بني هويتني‪ ،‬وحده‬
‫مامنعا للغرب ووحده تتامهى مع الغرب؟‬

‫***‬

‫‪244‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫بالحقيقة ملن شفت هامللصقات بتاين مشوار عملتو‪ ،‬الحظت فيهن يش غريب‪ ،‬بس ما كنت‬
‫تأكدت شكويك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أكيد من املوضوع‪ .‬ملن مت ّعنت فيهن منيح‬

‫الغريب بهالصور هو أجساد الشهداء‪ .‬اكتشفت أنو كلهن عندهن نفس الجسد‪ ..‬وهالصور‬
‫مانها إال صور مر ّكبه‪ ،‬يعني فوتومونتاج‪ ..‬أي مفربكني‪ .. ..‬واملونتاج طبعاً مش واضح أو‬
‫مقصود يكون مش واضح ليخلق هالوهم براس الناظر‪ ،‬وبالتايل يصدق إنو هالصور ما فيهن‬
‫أي تالعب وال فربكه‪ .‬ولكن إذا بتط ّلع منيح بالحظ إنو هالجسد مش لهالوجوه‪ .‬هيدا جسد‬
‫من دون هويه‪ .‬جسد لواحد مجهول‪.‬‬

‫يبدو أنو املصممني الفنيني بجهاز حزب الله‪َ ،‬ج ّهزوا ملصق خاص لتكريم‬
‫وتخليد شهدائهن‪.‬‬
‫ملصق واحد لكل مجاهد شهيد‪ .‬الخلفية نفسها‪ ،‬األلوان هي هي‪ ،‬والخط نفسو ‪ ،‬الحجم‬

‫‪245‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ُهوي ُهوي‪ ،‬أما الجسد فنفسو ُهوي بذاتو بيتكرر‪ ..‬م ّرا بيكون جالس ‪ frontal‬وم ّرا مايل‬
‫شوي عاليمني وم ّرا معكوس أفقياً ‪ - )flip canvas horizontal( -‬فبيصري مايل شوي‬
‫عالشامل‪ ..‬الجسد نفسو بتالت وضعيات جاهزة لتستقبل وجوه الشهداء حسب الوضعيه‬
‫اليل آخدها كل واحد منهن بالصورة األصلية… ملصق حارض وجاهز وما ناقصو إال الراس‬
‫الوج ليكتمل‪ .‬االسم كامن عندو مح ّلو تحت كلمتني مطبوعتني بخط‬ ‫واإلسم‪ :‬اسم صاحب ّ‬
‫كبري نسبياً‪:‬‬
‫املجاهد الشهيد اليل بيتص ّدرو أسفل امللصق‪ .‬وطبعاً بفضل الفوتوشوب ُيقص الراس من‬
‫الصورة األصل و ُيلصق عىل امللصق املع ّد والجاهز؛ أي ‪.Cut and paste‬‬
‫رزمة من التساؤالت‪:‬‬
‫ليه تكريم الشهدا ب ّدو يكون عرب استبدال أجسادهن بجسد آخر مجهول؟ شو صار‬
‫بأجسادهن الشخصية؟ وينها؟ وليه تّم استبعادها عن الصورة؟ هل ألنها ما بتليق بصور‬
‫الشهيد مع أل التعريف؟ أو ألنو الصورة اليل صارت أحد أسلحة حزب الله األساسيه مبعركتو‬
‫ضد األعداء؛ هيدي الصورة برتفض تستقبل أجساد ما عندها رشوط هاملعركه الطاحنه اليل‬
‫عم بتدور رحاها يف ميدان امليديا أو اإلعالم؟‬
‫هل مجتمع املقاومة بيخاف من أجساد أبنائو فبيستأصلها من الصور ويبعدها جانباً؟ هل‬
‫هوي خوف من الجسد بحد ذاتو ملا ميكن أن ُيفرزو من نجاسات متوالدة دامئاً وأبداً؟ جسد‬
‫مع ّرض دامئاً للتلوث وعليه ُيطلب أن ُيط ّهر من رجسه؟ هل لهيدي األسباب وغريها يتم حذف‬
‫أجساد األفراد واستبدالها بجسد واحد صلب قوي ونظيف‪ ..‬جسد واحد لجميع الوجوه؟‬
‫عاألرجح هالوجوه بهامللصقات ما بتمثل أصحابها كأفراد أمنا بتمثل الجامعة اليل‬
‫بتنتمي إلها؟‬
‫الوج متل ما معروف‪ ،‬هو الهو ّيه الفرد ّيه لكل واحد منا واليل بتم ّيزو عن األشخاص اآلخرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫والوج فيه يفضح أرسار صاحبو وفيه يخ ّبيها‪ ..‬بس الوجوه بهالصور ما عم بتخ ّبي أرسار‪..‬‬ ‫ّ‬
‫بوج واحد‪ ،‬عكس‬ ‫فسيامؤهم عىل وجوههم‪ .‬وجوهم تُفصِ ح عماّ يف قلوبها‪ ..‬كل واحد منهم ّ‬
‫ووج‪ ..‬وجوه الشهدا عم بتقول كلها نفس القول‪ ،‬وكأنو كلهن عندهن‬ ‫وج ّ‬ ‫العدو يليل بألف ّ‬
‫وج واحد عم بيقول نحنا عشاق الشهاده‪ .‬والشهاده هنا لوجه الله ومرتضاه‪.‬‬ ‫الوج‪ّ ..‬‬
‫نفس ّ‬
‫والله ال وجه له ألنه وعىل ما كتب جالل توفيق‪ :‬الله فعل رصف‪ .‬لهيك وجوه الشهداء كلها‬
‫مجتمع ًة معاً هي وجه الله يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫***‬
‫جسد بانتظار رأس‪...‬‬
‫ما بعرف بشو كانو عم بيفكرو املصممني الفنيني بحزب الله ه ّني وعم بيقومو بعملية‬
‫قطع الرووس عالفوتوشوب‪ .‬ما بعرف‪ .‬بس هل إجا َعبالهن للحظة مقتلة الحسني وما‬

‫‪246‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫أصابو‪ ..‬عاألرجح أل‪ ،‬واملوضوع فيه يكون موجود بالالوعي الجامعي عند هالطايفه اليل كل‬
‫سنه بتستعيد مقتلة الحسني يف ذكرى عاشوراء‪ ..‬وأكيد ما رح أدخل بعملية تحليل نفيس‬
‫لكن‪...‬‬
‫للجامعة‪ْ ،‬‬
‫ولكن‪ ...‬عندي ميل لقول أنو هالصور مزبوطني وما فيهن أي تركيب‪ ..‬وهامليل اليل عندي‬ ‫ْ‬
‫جاي من هالخوف‪ .‬الخوف أنو حدا يتجرأ ويلعب بصور األموات‪ .‬بالقي هالفعل عنيف‬
‫مبحل ما‪ ،‬ح َدن عن سابق تصور وتصميم يقص صورة ميت ويلعب‬ ‫وبيوجع ومؤذي؛ أنو ّ‬ ‫ّ‬
‫فيها‪ ،‬حتى لو كان هاليش جاي عن حسن ن ّيه وقصد رشيف‪ .‬فيه هالة حول صور األموات‬
‫ما فينا ما نحرتمها‪.‬‬
‫هوي هالخوف ميكن كامن نابع من أنو هالعاده تصري موضة‪ ،‬منوذج ُيحتذى به من قِبل‬ ‫ّ‬
‫األحزاب والتنظيامت األخرى‪ ،‬متل ما كل يش بهالزمن‪ ،‬فيه يتحول برسعة ملوضة ويفقد‬
‫قيمتو‪ ...‬عىل كل حال يبدو ب ّلش هاألمر يصري‪ .‬شوفو هامللصق ليل ُأع ّد الستقبال مقاتيل‬
‫حركة أمل اليل استشهدوا دفاعاً عن أرض لبنان‪.‬‬

‫فيه يش ما عم ميرق بسهولة‪.‬‬

‫يعني‪ ،‬شو رأي أصحاب هالصور بجسدهم الجديد؟ هل بيسعدهن؟ بيحزنهن؟ شو بيقولو‬
‫عوائل الشهداء ملا رح يشوفو والدهن بأجساد جديده؟ أرملة الشهيد كيف بتتطلع عىل‬
‫جسد زوجها املستجد؟‬

‫‪247‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫رح أقطع رايس منها‪.‬‬ ‫هاي صوريت‪.‬‬


‫ور ّكبه ع هالجسد‪ .‬وبالنسبة لجسمي الشخيص أنا‪ ،‬ما بقا عندو عازه‪ ،‬فينا نرميه‬
‫بسلة املهمالت‪.‬‬
‫وكأين عم بشهد َع جرمية عم تحصل بعامل افرتايض‪ .‬ما يف مكان محدد للجرمية‪ ،‬ما يف أدلة‬
‫ماد ّيه بني إيدينا‪ ..‬ما يف جثّه‪ ،‬وال يف قاتل‪ ..‬جرمية ما فيها دم وال حتى بصامت‪ .‬جرمية عم‬
‫تحصل بنظافه ُمطلقة‪.‬‬

‫لهيك‪ ،‬أنا شخصياً بفضّ ل أنو ص ّدق أن هالصور‬


‫مش مفربكني وال ملعوب فيهن‪ ..‬هول صور مزبوطني وما فيهن أي مونتاج‪ ..‬ومبا إنو هالصور‬
‫ما ُأخذت ملن كان اصحابها عىل قيد الحياة‪ ،‬لهيك بقرتح أنّو هالصور ُأخذت بعد املوت‪.‬‬
‫بعرف إنو باقرتاحي هيدا فيه كفر وتجديف‪ .‬بس أنا ما هديف برهن هاليش وال أقنع حدا‬
‫كحجه لفهم هالصور والتعمق بهالظاهرة والتف ّكر‬
‫فيه‪ ،‬كل املوضوع هو اقرتاح غري واقعي ّ‬
‫مبعنى ظهور الشهداء مبلصقات متطابقة وبجسد واحد متكرر‪..‬‬

‫***‬
‫بطـ ّلع ع هامللصقات وبقول لحايل ميكن هاملجاهدين الشهداء قررو يكونو سوا واختاروا‬ ‫ّ‬
‫هالجسد الذكوري القوي ببدلتو العسكر ّيه ليظهروا وكأنهن كتلة واحدة متامسكة وقو ّية‪،‬‬
‫بحيث أنو ما يف حدا يخرقها أو يتع ّرضلها بأي أذى‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫متل ما بتعرفو بهالبلد كل يش عرضة لالعتداء وخاصة امللصقات والصور‪ .‬يعني إذا يف ملصق‬
‫واحد بيش شارع‪ ،‬أكيد ماكسيموم بأسبوع زمان بيكون طار من محلو‪.‬‬

‫بس إذا كان عرش ملصقات ع نفس الحيط‪ ،‬التعدي عليهن بيصري أصعب‪.‬‬

‫ويف حال كانو فوق األربعني ملصق سوا أكيد هون ما حدا بيسرتجي يق ّرب صوبهن‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫ميكن من هون إجت فكرة هالتجمع النظامي والعسكري مللصقات شهداء حزب الله ليحمو‬
‫بعض من أي وافد غريب‪.‬‬
‫أنا شخصياً أحصيت أربع حاالت للملصق بلبنان‪ ،‬وأكيد يف حاالت أكرث‪ ..‬بس أنا رح إكتفي‬
‫بأربع فقط‪:‬‬
‫‪1 .1‬الحالة األوىل‪ :‬ملصقات منفرده‪ ،‬مستق ّله‪ ،‬كانت ِعرضة العتداءات مبارشة من قبل‬
‫آخرين‪ ،‬فتخزقت‪ ،‬تخرمشت‪ ،‬تشوهت‪ ،‬تنتّفت و ُف ّجرت‪ .‬أنا بسميهن ملصقات‬
‫مأساوية‪ .‬وهاي بعض أ ْم ِثله‪.‬‬

‫‪2 .2‬الحالة التانية‪ :‬مجموعة من امللصقات ُطردت وهُ جرت من أماكن إقامتها‪ ..‬ما قدرت‬
‫تحمي حالها‪ ،‬وبالتايل اضطرت تنزح إىل حيطان تانيه بأماكن مجهولة‪ .‬أنا بسميهن‬
‫ملصقات منفية‪ .‬وهاي بعض أمثله‪.‬‬

‫‪3 .3‬الحالة الثالثة‪ :‬صور إرفت من الوضع فقررت تبقى محلها بس من دون ما تتعاطى‬
‫مع حدا‪ ..‬كأنها طربقت البواب والشبابيك وما بقا بدها تضهر‪ ،‬س ّكرت عحالها أو‬
‫حدن س ّكر عليها ِبشكل إنو ما حدا يشوفها وال تشوف حدا‪ ...‬أنا بسميهن ملصقات‬
‫مصدومة‪ .‬وهاي بعض أمثله‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫‪4 .4‬الحالة الرابعة‪ :‬تجمع مللصقات من نفس الفصيل‪ ،‬قررت تظهر حالها كأنها جيش‬
‫نظامي مبجتمع واحد مس ّكر‪ .‬بحيث أنو ما ممكن حدا يقدر يخرق هالتجمع‪/‬املجتمع‬
‫وال يدق فيه‪ . .‬أنا بسميهن دولة امللصقات‪ .‬وهاي بعض أمثله‪.‬‬

‫***‬

‫من املفيد نقول أنو هالشهدا‬ ‫بالعوده ملوضوعنا األساس‪،‬‬


‫شباب من هاملجتمع اللبناين‪ ،‬بترتاوح أعامرهن بني ‪ 18‬و ‪ 34‬وبتجمعهن قوة اإلميان بالله‬
‫وعشقهن للشهادة‪ .‬وأكيد ما حدن منهن عم يستشهد من أجل أي مكسب مادي‪ .‬وإذا سلمنا‬
‫فرضاً إنو هالصور مزبوطني وظهرت بعد املوت‪ ،‬منالحظ إنو املجاهد بعد استشهادو رح‬
‫يكسب جسد مقاتل قوي وصلب‪ .‬الشهيد بريجع عىل عامل األحياء البس هالجسد املحارب‪،‬‬

‫ليقاتل من جديد و يستشهد‪ ،‬لريجع من جديد يجاهد حتى االستشهاد‬


‫ويرجع‪ ...‬وهكذا دواليك‪ .‬متاماً متل ما قال محمد رسول الله‪" :‬ما من أحد يدخل الجنة‬
‫ويحب أن يرجع إىل الدنيا إال الشهيد‪ ،‬فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عرش مرات"‪.‬‬
‫الشهداء يعودون أبداً‪ ،‬برغبتهم وبطواعيتهم‪...‬‬
‫مجاهدو حزب الله‪ ،‬أناس زاهدون‪ ،‬ال يبحثون عن الجنة كهدف وال يريدون سوى رضا‬
‫الله والتقرب من رسوله ومن صحبه أجمعني‪ ..‬مثالهم الحسني ومرادهم الحسني ومطلبهم‬
‫الشهادة عىل خطى الحسني وأمنيتهم لقاء الحسني‪ ...‬ولقاء عيل وحمزة وجعفر والحسن‬

‫‪251‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫وزين العابدين‪ ...‬شجرة ترضب جزورها عميقاً يف التاريخ وتفرد أغصانها إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫سلسلة متصلة تبدأ بالشهيد األول الحسني عليه السالم وتنتقل من شهيد إىل شهيد‪ .‬شهداء‬
‫ُرفعت صورهن كسلسلة ال تنتهي‪ ..‬يصطفون وراء بعضهم البعض‪ ..‬علقت عىل أعمدة‬
‫اإلنارة‪ ،‬كل شهيد ينظر أمامه إىل الشهيد الذي سبقه‪ ،‬ومن خلفه شهيد آخر ينظر إليه‪..‬‬
‫إنهم املشهد واملشاهدون يف نفس الوقت‪ ...‬كل واحد منهن بيملك نظرتني؛ نظرة عم تتطلع‬
‫صوب حالهن كشهداء أبطال ونظرة تانية عم تتطلع صوب األحياء مبجتمعهن‪ ..‬هاملجتمع أو‬
‫األصح االجتامع من األحياء يليل ه ّوي كامن بيملك نظرتني؛ نظرة عم تتطلع من تحت لفوق‬
‫عالشهدا بنظرة إكبار وتقديس ونظرة تانيه عم تتطلع عىل حالهن كأحياء‪ ،‬نظرة مفعمة‬
‫بالكرامة وبعزة النفس‪.‬‬
‫بتميش إنت وعم تتطلع بتشوف صور مصفوفه ورا بعضها ‪..‬املسافة بني صورة وصورة هي‬
‫نفسها‪ ،‬دامياً نفسها ‪...‬واالرتفاع عن األرض ه ّوي نفسو‪ ،‬اإلطار تبع كل صورة ه ّوي ذاتو‪،‬‬
‫نفس الشكل ونفس القياس ‪..‬وطبعاً الجسد ه ّوي ذاتو ‪..‬ما يف يش عم يتغري وال يش عم‬
‫يتبدل إال هالوجوه واألسامء ‪....‬بتميش إنت وعم تتطلع بتحس إنك مش عم متيش ال بل‬
‫ثابت بأرضك عم بتشوف نفس اإلطار وب َقلبو نفس الجسد‪ ،‬إطار ثابت بينام ّ‬
‫الوج عم يتغري‬
‫واإلسم كامن ‪...‬جسد مرغوب ما فيك متلكو أكرث من لحظة ‪..‬عم تتناوب عليه الوجوه‪ ،‬واحد‬
‫ورا التاين وكذا االسامء‪..‬‬
‫بنميش‪ ...‬ويف حال قررنا نوقف‪ ،‬رح نالقي صعوبه بالغة‪ ..‬الوقوف تحت صورة وحدي مش‬
‫بهالسهولة‪ ..‬رح يتسبب بقطع هالسلسلة‪ ،‬وبإعاقة حركة الشهاده‪ ..‬عملياً‪ ،‬الوقوف تحت‬
‫بوج واحد‪ ..‬رح يصري فينا نقرا إسمو‬
‫صورة وحده‪ ،‬رح يسمحلنا نتم ّعن بشهيد واحد‪ّ ،‬‬
‫وجو‪ ،‬نستجلب تاريخه الفردي‬ ‫بوضوح ونحفظه عن غايب‪ ..‬رح يصري فينا نتف ّرس بقسامت ّ‬

‫‪ ..‬نسأل‬ ‫والخاص‪ ،‬نشوف لون العيون‪ ،‬نتذكر اإلسم‬


‫مني َح ّب وشو كان يعمل‪ ،‬وشو كانت هواياتو‪ ،‬شو عندو والد‪ ،‬مني أبوه‪ ،‬مني أمه‪ ...‬التوقف‬
‫يرجع لكل شهيد فرديته ومتيزه عن الباقيني‪ ..‬رح ينتشلو من قلب‬ ‫تحت كل صورة رح ّ‬
‫الجامعة‪ ..‬وهاليش أكيد رح يسبب بفرط هالسلسله املرتابطه‪ ،‬وبالتايل بتفكك هالجسد‬
‫الواحد املصنوع للجامعة‪.‬‬
‫عىل كل حال صعوبة التوقف متأتّيه من املكان اليل ُرفعت فيه الصور‪ ..‬اليل هو بولفار‪،‬‬
‫مش شارع وال زقاق‪..‬‬

‫‪252‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫صور ُرفعت بوسط جادة عريضة بتفصل بني خطني مخصصني لسري السيارات‪ ،‬بولفار مه ّمتو‬
‫يرسع الحركة‪ ،‬واإلبطاء عليه غري مسموح‪ ..‬وأكيد ما يف رصيف للمشاة‪ ...‬عالقليله‬ ‫أنو ّ‬
‫بالنص‪ ،‬محل ما امللصقات معلقني‪.‬‬
‫ّ‬
‫االحتامل الوحيد لنقدر نشوف صورة وحده وبشكل واضح هو أنو نستعري تقنية السينام‪،‬‬
‫نطلع عىل‬ ‫نركب عىل ‪ Vespa‬أو نركب سيارة ونطل راسنا من الشباك‪ ..‬وهي ماشيه بنصري ّ‬
‫هاإلطارات عم متيش ورا بعضها‪ ..‬حركتنا الرسيعة رح تركب اإلطارات ورا بعض متل ما بيصري‬
‫بفيلم سيناميئ عم يربم‪ ..‬ولكن مبا إنو اإلطار ه ّوي نفسو عم يتكرر ما بنشوف إال (‪)still‬‬
‫لصورة وحده ثابته هي صورة املجاهد الشهيد‪ ،‬بجسد مقاتل بال إسم وال وجه‪ ..‬فالرسعة رح‬
‫تخليّ الوجوه واالسامء اليل عم تتعاقب برسعة إنّو متّحى‪..‬‬

‫وهيك اإلسم رح يحمل كل األسامء ومتل ما كتب نيتشه‪ :‬وكل االسامء بالتاريخ أنا‪ ...‬أما‬
‫وج‬
‫وج‪ ..‬أو ّ‬ ‫الوج‪ ،‬فسيحمل أيضاً مالمح كل الوجوه وألوان كل العيون فيتحول إىل ّ‬
‫وج بال ّ‬ ‫ّ‬
‫لكل الوجوه‪ ..‬إنه وجه الله‪ ..‬والله نور ملن اهتدى‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫الفصل الثالث‬
‫الصورة الثالثة‬

‫هالصور مأخودين من رشيط فيديو‪ ،‬األصح من عدة رشايط‪ ..‬أكرثهن مأخودين من‬
‫املسجله لبعض شهداء الحزب الشيوعي اللبناين اليل نفذو عمليات قتاليه وأحياناً‬
‫الشهادات ّ‬
‫استشهاديه ضد االحتالل اإلرسائييل ضمن العمل يف جبهة املقاومة الوطنية اللبنانية‪ ..‬من‬
‫يش سنه تقريباً وأنا وعم بقرا كتاب زينة معارصي‪ :‬مالمح النزاع‪ ،‬امللصق السيايس يف‬
‫الحرب اللبنانية‪ ،‬وتحديداً الفصل اليل بتحلل فيه ملصقات الشهداء‪ ،‬بانتبه ليش بهالشهادات‬
‫املسجله فاجأين‪َ ،‬وهلني‪ ..‬يش كان موجود معي من زمان بس ما كنت منتبهلو من قبل‪ ،‬اليل‬

‫‪254‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫هوي‪ :‬ملّن الواحد بيستشهد بيصري صورة معلقا ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو قبل ما‬
‫يروح عاملوت‪ ،‬وملّن يستشهد بدورو رح يصري صورة إىل جانب الصورة اليل قبل‪ ،‬اتنيناتهن‬
‫معلقني ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو قبل ما يروح عاملوت‪ ،‬وملّن يستشهد بدورو‬
‫رح يصري صورة إىل جانب الصورتني اليل قبل‪ ،‬معلقني ورا الشخص اليل عم بيسجل شهادتو‬
‫قبل ما يروح عاملوت‪ ،‬وملّن يستشهد بدورو رح يصري‪ ...‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫اليل َو َهلني هو بالزبط الفكرة اليل قريتها بكتاب زينة‪ ،‬أنّو ملّن رح موت‪ ،‬بصري صورة بقلب‬
‫صورة‪ ،‬اليل هيي كامن صورة بقلب صورة وهكذا إىل ما ال نهاية‪..‬‬
‫ما بعرف‪ ،‬بس حاسس حايل مش قادر ع ّمق كثري بتحلييل لهالظاهرة عند الحزب الشيوعي‪.‬‬
‫خصو بأفراد علامن ّيني بعاد عن املعتقد الديني واإلميان بحياة أخرى بعد‬ ‫ميكن ألنو يف يش ّ‬
‫املوت‪ .‬أو ميكن ألنيّ أنا نفيس كنت عضو بهالحزب وبعدين ما قادر إخلق املسافه الكافيه‬
‫اليل بتسمحيل قوم بهالتحليل وهالتف ّكر؟‬
‫بني هالصورتني اليل حكيتلكن عنهن‪ :‬صورة عبد النارص والحريري وصورة شهداء املقاومه‬
‫اإلسالميه‪ ،‬يف صورة تالتي هيي هاي‪ ،‬فيها تكون صورتنا اليوم‪ ،‬صورة بالغياب‪ ..‬غياب هالحزب‬
‫عن لعب أي دور‪ ،‬غيابنا كيسار‪ ،‬كعلامنيني‪ .‬واألصح‪ ،‬غيابنا كأفراد بهاملجتمع الطائفي‪.‬‬
‫هاي الصور‪ ،‬موجوده بقلب أرشطة فيديو محفوظة بخجل‪ ،‬مخ ّبايه بأماكن مجهوله بقلب‬
‫هاملدينه اليل عم ترفض تقدم لهالشهدا ولو جدار واحد ليط ّلو منو‪ ..‬الحيطان متل املدن‬
‫السلطة وبس‪..‬‬‫متل األوطان‪ ،‬هني ملك اليل عندو ُ‬

‫لوال استشهدت وصارت صورة مع ّلقا ورا وفاء اليل بدورها استشهدت وصارت صورة إىل‬
‫جانب صورة لوال ورا جامل اليل بدورو استشهد وصار صورة إىل جانب الصورتني اليل قبل‬
‫ورا الياس اليل بدورو استشهد وصار صورة إىل جانب الصور التالته اليل قبل ورا خالد اليل‬

‫‪255‬‬
‫ةورم عيبر‬ ‫روصلا ناكس‬

‫استشهد وهكذا‪ ..‬وباملناسبه خالد ه ّوي دور لعبتو بسنة الـ ‪ 2000‬بعرض عملتو مع إلياس‬
‫خوري بعنوان‪ :‬ثالثة ملصقات‪ .‬كنت عم بلعب دور الشهيد وكل هالشهدا ورايي من دون‬
‫ما انتبه‪..‬‬
‫قي من اليسار اللبناين بعدهن أرسى‬ ‫بفكر بكل هاألمور‪ ،‬وبحس إنو الحزب الشيوعي وما َب َ‬
‫هاملرحله يليل ما بقا إلها وجود‪ ..‬مرحله من املايض وين كان بعد عندو هاليسار معنى‬
‫لوجوده‪ ..‬مرحله تم تجميدها ل ُتبقي عىل هالوهم؛ إنو بعد يف معنى لوجودنا متل كأنو‬
‫بعدنا عايشني بـ امبارح‪..‬‬
‫وكأنو هالفرتة ُوضعت بني مرايتني مواجهني بعض‪ ..‬وصاروا ضايعني بهاملتاهة اليل خلقتها‬
‫هاملرايتني‪ ..‬بهالصورة املرضوبه ببعضها إىل ما ال نهاية‪ّ .‬‬
‫بيطلعو لورا‪ ،‬عاملايض‪ ،‬بيشوفو تاريخ‬
‫حافل بالنضاالت والبطوالت ‪ ،‬بيتط ّلعو لق ّدام‪ ،‬عاملستقبل‪ ،‬وبيشوفو األفق مفتوح وواعد‬
‫آت ال محال‪ .‬بينام هوي بالحقيقة أنهن علقانني ونحنا علقانني معهن بني هالصورتني‪..‬‬ ‫بنرص ٍ‬
‫بني هاملرايتني‪ ...‬بني هالحيطني اليل كتري ضيقني ورح ّ‬
‫يفطسونا ال محال‪..‬‬
‫بالنسبه لهالصورة بالذات‪ ،‬رح أكتفي بهالقدر وأترك األمر لحدن تاين قادر يقوم باملهمه‬
‫أفضل مني‪..‬‬

‫خامتة‬
‫الصورة األخرية‬
‫َب َعتت رسالة لبعض معاريف‪ ،‬كتبت فيها التايل‪:‬‬
‫إذا ُطلب منك أن تختار صورة لرسمك الشخيص يك تبقى تذكاراً ملح ّبيك من أقارب وأصدقاء‬
‫يف غيابك األخري‪ ،‬صورة واحدة فقط ‪ ...‬فأية صورة تختار؟‬
‫َب َعتت هالرسالة لخمسني شخص ترتاوح أعامرهن بني الـ ‪ 18‬والـ ‪ ،34‬ما حدن استجاب لطلبي‬
‫إلاّ شخص واحد هو أنا نفيس‪ ..‬أنا أنا‪ ..‬لكن بدل الصورة كتبت لحايل رسالة بقول فيها‪:‬‬
‫عزيزي ربيع‬
‫أما بعد‪..‬‬
‫أينام تذهب فإنك مقتول‪ ،‬يف الدنيا ويف اآلخرة‪.‬‬
‫فعذراً منك لعدم استجابتي لطلبك ورفيض إرسال الصورة التي أردت؛‬
‫إذ ال أريد لصوريت من بعدي أن تُقتل أيضاً‪...‬‬
‫والسالم‬
‫ربيع‬
‫​‬

‫"سكان الصور"‪ ،‬كانون الثاين ‪ ،2..9‬إنتاج مشرتك‪ :‬أشكال ألوان ‪ -‬مجلة بدون – تانز كورتييه فيينا‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫أبراج الله وبرج ديبّ | أملنيوم | احتفاالً بالعنف | الحائط املسدود | الخريطة‬
‫البغدادية تتمرد عىل منعزالتها | الع ّد الطائفي وسياسات الخسارة يف لبنان | املقاربة‬
‫النسوية لدراسة الرجولة | النقاب | باكورة "الجهاد العاملي" | بورتريه عائلة‬
‫املسخن | ترشيح فيلم مل ينجز أبداً | رجل الجامهري | سكان الصور‬‫فلسطينية تحب ّ‬
‫| سيوف من لهب | يف إستعادة لثالثة بيوت قاهرية | يف بيتنا رجل‪ ...‬ودموعي‬
‫وابتسامتي | مائة ومثانون غروبا أم عرشون سنة؟ | مذاهب املف ّكرين السوريني يف‬
‫"الدولة العربية" | مرآة فرنكشتني | وما بعد الروك يا عمر‬

You might also like