You are on page 1of 216

‫حرية التعبري دون قيد أو رشط‬

‫مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع‬


‫تصدرها رابطة الكتاب السوريني‬

‫رئيس التحرير‪ :‬د‪.‬صادق جالل العظم‬


‫مديرا التحرير‪ :‬حسام الدين محمد وخطيب بدلة‪.‬‬
‫هيئــة التحريــر‪ :‬عــادل بشــتاوي‪ ،‬فــرج بريقــدار‪ ،‬عبــد الرحمــن حــاق‪،‬‬
‫ابراهيــم اليوســف‪ ،‬حليــم يوســف‪ ،‬ابتســام تريــي‪ ،‬احمــد عمــر‪.‬‬
‫اإلخراج الفني‪ :‬خالد سليمان النارصي‬

‫املراسالت‪ :‬باسم مجلة أوراق عىل العنوان التايل‪:‬‬


‫‪AWRAQ‬‬
‫‪Lionel Road North 11‬‬
‫‪BrentfordMiddlesex TW8 9QZ/UK‬‬
‫هاتف‪00442087589223 :‬‬
‫‪Email: awraq@syrianswa.com / awraq@syrianwa.com‬‬
‫‪Website: www.syrianswa.com / www.syrianwa.com‬‬

‫االشــراك الســنوي‪ :‬األفــراد يف البلــدان العربيــة(‪ )100‬دوالر أمريكي‪ ،‬ويف‬


‫البلــدان األوروبيــة (‪ )130‬دوالرا أمريكيــا‪ ،‬ويف أمريــكا وباقــي بلــدان العالــم‬
‫األخــرى (‪ )180‬دوالرا أمريكيــا‪ .‬املؤسســات‪ :‬يف البلدان العربيــة (‪ )130‬دوالرا‬
‫أمريكيــا‪ ،‬وخــارج البلــدان العربيــة (‪ )200‬دوالر أمريكــي‪.‬‬

‫صدر هذا العدد برعاية من‬


‫مؤسسة “بناة املستقبل”‬

‫وبالتعاون مع‬
‫املتوسط لتنمية القراءة والتبادل الثقايف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫حسام الدين محمد‬


‫بالغة البيت‪4.................................................................‬‬

‫عزمي بشارة‬
‫مسألة الطائفية وصناعة األقليات يف املرشق العريب الكبري‪10..............‬‬

‫أوراق البحث ‪21........................................................‬‬


‫د‪ .‬محمد عناد سليمان ‪ /‬يف تناقضات مسألة الخالفة‪22..................‬‬
‫عيل العبدالله ‪ /‬أوكرانيا‪ :‬بؤرة رصاع ‪29.......................................‬‬

‫أوراق امللف ‪37..........................................................‬‬


‫أحمد عمر ‪ /‬العد ّو داخل البيت‪38.........................................‬‬
‫أي بيت؟ ‪40.........................................‬‬
‫زينة أرحيم ‪ /‬بيت‪ّ ...‬‬
‫خطيب بدلة ‪ /‬الدار الكبرية ‪44..............................................‬‬
‫بشري البكر ‪ /‬باب البيت ‪49................................................‬‬
‫فرج بريقدار ‪ /‬البيت األم ‪52...............................................‬‬
‫سليم البيك ‪ /‬بيت سوريا الفلسطيني ‪54...................................‬‬
‫غسان جباعي‪ /‬البيت شهقة الحرية األوىل للبرشية‪57.....................‬‬
‫سوسن جميل حسن ‪ /‬مفتاح العودة‪61....................................‬‬
‫عبد السالم حلوم ‪ /‬شهادة رحيل ‪65........................................‬‬
‫رامي سويد ‪ /‬بيوت أم أحمد ‪70............................................‬‬
‫راتب شعبو ‪ /‬بيتنا القديم واإلسفلت ‪73...................................‬‬
‫هاشم شفيق ‪ /‬األسفار املعطلة ‪76.........................................‬‬
‫عبد الله صخي ‪ /‬غرفة الالجئ العراقي‪82..................................‬‬
‫عبد الله العتيبي ‪ /‬سقف إيران ‪91..........................................‬‬
‫رصة الذهب‪96............................................‬‬
‫هبة عز الدين ‪ّ /‬‬
‫فادي عزام ‪ /‬بيوت تح ّزها الرهافة وتعجز عن قطعها السكني ‪101...........‬‬
‫أحمد عمر ‪ /‬يف شهوة البكاء عىل األطالل ‪107.............................‬‬
‫نارص فرغيل ‪ /‬حيطان مؤقتة‪110............................................‬‬
‫غالية قباني ‪ /‬وطن مؤقت ‪119.............................................‬‬
‫ايوتحملا‬

‫حسام الدين محمد ‪/‬ماذا يعني «البيت»؟‪ :‬نازحو سوريا يتحدثون ‪122.....‬‬
‫عبده وازن ‪ /‬املفاتيح ‪125..................................................‬‬
‫هشام الواوي ‪ /‬كيف تبني بيتاً؟ ‪127........................................‬‬
‫حليم يوسف ‪ /‬أيب البيت وأختي سوريا ‪131................................‬‬
‫إبراهيم اليوسف ‪ /‬القرية ‪134...............................................‬‬

‫أوراق الرسد‪139.......................................................‬‬
‫ألربتينه لوكيليان ‪ /‬العم سليامن واملعلمة ‪140............................‬‬
‫ماهر حميد ‪ /‬أبو مستو العرصة ‪158........................................‬‬
‫محمد فطومي ‪ /‬ال ّناعورة والحجر األملس‪161...............................‬‬
‫عبري درويش ‪ /‬رصاع عىل الورق‪165........................................‬‬

‫أوراق الشعر ‪171......................................................‬‬


‫لوح وصوت ِ‬
‫ُك يرت ّد ُد يف الوديان! ‪172..................‬‬ ‫كريم عبد ‪ /‬وج ُه ِ‬
‫ك يَ ُ‬
‫نادي حافظ ‪ /‬ال يشء أفعله هذا الصباح ‪179..............................‬‬

‫أوراق النقد‪185........................................................‬‬
‫عبد الرحمن حالق ‪« /‬مدن اليامم» للروائية إبتسام ترييس ‪186............‬‬

‫أوراق الحوار ‪193......................................................‬‬


‫يب يفوز بالجائزة األوىل ملسابقة الرواية يف مالطا ‪194....................‬‬
‫عر ّ‬
‫أوراق القضايا ‪205....................................................‬‬
‫نرسين طرابليس ‪ /‬سلطة مزدوجة واملثليون يف كل مكان‪206............ :‬‬
‫«فالحو سوريا‪ :‬أبنا ُء وجهائهم الريفيني األقل شأنًا وسياساتهم»‪212..........‬‬

‫لوحات العدد للفنان السوري تمام عزام‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪4‬‬

‫حسام الدين محمد‬

‫بالغة البيت‬

‫يتنــاول العــدد الخامــس مــن «أوراق» موضوعــة «البيــت» ومــا تتضمنــه مــن‬
‫ســياقات البقــاء والعبــور والشــتات‪ ،‬ويف العالقــة العضويــة الحميمــة بــن البــر‬
‫واملــكان مــن تقديســه إىل الكفــر بــه‪ .‬يشــارك يف امللـ ّـف كتّــاب عــرب وســوريون‪،‬‬
‫قامــوا بالعــودة اىل بيوتهــم يف الذاكــرة واملجــاز‪ ،‬وف ّككــوا ألغــاز بالغــة البيــت يف‬
‫مصغــر أو كبــر (كــا يف املفــردة اإلنكليزيــة ‪ )Homeland‬ويف‬
‫نطقــه حــال وطــن ّ‬
‫تخلخلــه املديــد تحــت ثقــل الطغيــان وتح ّوالتــه الالحقــة اىل خيــام وســفن هجــرة‬
‫ومعســكرات نــزوح ومــوت‪.‬‬

‫يالحــظ أحمــد عمــر مث ـاً بــدء التأريــخ اإلســامي بالهجــرة مــن الوطــن (والبيــت‬
‫ضمن ـاً) باعتبارهــا حدث ـاً مؤسس ـاً‪ ،‬ويتنــاول الذكريــات اىل البيــت باعتبارهــا ســاحاً‬
‫يخيــف الطاغيــة‪ ،‬أمــا هشــام الــواوي فيفــكك مــن خــال حكايــة بنــاء أبيــه بيتـاً للعائلــة‬
‫قوام البلد بأكملها‪ ،‬فتنحفر أساسات البيت ثم تبقى مهجورة أكرث من عام «كانت‬
‫الحركة التصحيحية حينها قد أسست لنفسها بقوة وحفرت لقواعدها جورا ً أعمق‬
‫مــن جــور أيب»‪ ،‬وبعــد ثالثــن عامـاً مــن شــقاء البنــاء وجهــوز البيــت «كان ربيــع دمشــق‬
‫‪5‬‬ ‫يبلا ةغالب‬

‫قــد أصبــح خريفـاً»‪ ،‬ويف حــن زادت قيمــة كل يشء مل تــزد قيمــة بيــت األب «الــذي‬
‫دمحم نيدلا ماسح‬

‫ظــل منفــردا ً وبعيــدا ً ال يرغــب أحــد بزيارتــه وال االقــراب منــه نظــرا ً لوحشــته وابتعاده»‪،‬‬
‫كــا لــو كان بيــت الكاتــب تلخيصـاً لبــؤس مــا آلــت إليــه ســوريا كلّهــا‪.‬‬

‫رسد بعــض كتــاب امللـ ّـف‪ ،‬مثــل خطيــب بدلــة وغاليــة قبــاين وأحمــد عمــر وعبــد‬
‫اللــه صخــي وراتــب شــعبو وســليم البيــك وفــرج بريقــدار وحليــم يوســف وفــادي عــزام‬
‫تواريخهــم أو تواريــخ آبائهــم أو أصدقائهــم عــر رسد قصــص بيوتهــم ومدنهــم وقراهــم‬
‫التــي نشــأوا أو عاشــوا أو مـ ّروا بهــا‪ ،‬فيــا تنــاول آخــرون مثــل زينــة ارحيــم وعبــد الســام‬
‫السوري املعارص املمتلئ حنيناً اىل منزله‪ ،‬كام يف حالة‬
‫ّ‬ ‫حلوم ورامي سويد حكايا‬
‫أم احمــد مــن «األتــارب» التــي تقــول‪« :‬البيــت يــا أســتاذة روح‪ ،‬البيــت شــقا وتعــب‪،‬‬
‫ضحــك ودمــوع»‪ ،‬ويف حالــة زينــة التــي صــار يف بيتهــا يف ادلــب عائلــة نازحــة لــن‬
‫تعرفهــا عندمــا تطــرق البــاب‪ ،‬أو يف حالــة حلــوم الهــارب مــن املنفــى نفســه بعــد أن‬
‫اشــتد الضيــق عــى الســوريني‪.‬‬

‫وفيام قرأ غسان الجباعي وسوسن جميل حسن املعاين الفلسفية والوجودية‬
‫للبيــت وملفتاحــه الــذي هــو «الحــارس الضامــن ألمننــا وســكينتنا»‪ ،‬كــا اشــتغل‬
‫املصــور اإلنكليــزي بــراديل ســيكر عــى تصويــر مفاتيــح الســوريني الالجئــن والهاربني‬
‫واملنفيــن وأخــذ ترصيــح فريــد مــن كل واحــد منهــم عــن معناهــا‪ ،‬قــرأ البعــض اآلخــر‬
‫البيــت شــعرا ً‪ ،‬كــا فعــل عبــده وازن (يف قصيــدة «املفاتيــح») ونــارص فرغــي (يف‬
‫«حيطــان مؤقتــة») وإبراهيــم اليوســف (يف «القريــة»)‪ ،‬وكذلــك فعــل‪ ،‬تقريبـاً‪ ،‬بشــر‬
‫البكــر‪ ،‬يف رسديتــه الشــعرية التــي يتذكــر فيهــا والدتــه وإخوتــه كأنهــم «أفــراخ البــوم»‪،‬‬
‫ويتذكــر رحيلــه اىل جامعــة حلــب كــا لــو كان فــرارا ً‪ ،‬وكذلــك محاولــة العــودة ألول‬
‫بيــت ســكنه حــن ميتنــع ويعرتيــه خــوف شــديد ويعــود مــن حيــث جــاء‪.‬‬

‫تنفــرد هبــة عــز الديــن يف مســاهمتها باســتقراء مــؤمل ألفــكار وذكريــات الغرقــى‬
‫الســوريني يف البحــر يف حــوار بــن أجســادهم التــي حالــت عظامـاً‪« :‬نحــن هنــا كلنــا‬
‫ميتــون‪ ،‬لكننــا نتنــاوب بالنــوم‪ ،‬كــا كنــا نفعــل أيــام معتقــات األســد»‪ ،‬حيــث تخــرج‬
‫إحــدى الشــخصيات مفتــاح بيتهــا وترميــه قائلــة لروحهــا‪« :‬ال تقلقــي إن أضعــت‬
‫املفتــاح‪ .‬ال قيمــة للمفاتيــح يف عــامل األرواح»‪.‬‬

‫الشــاعر العراقي هاشــم شــفيق يدخل اىل امللف‪ ،‬كام فعل عبد الله صخي‪،‬‬
‫بعضـاً مــن الهــم العراقــي الشــبيه‪ ،‬فيتحــدث عــن الكــرادة حيــث «الدبابــات الســمينة‬
‫تتبخــر منتفخــة بالبــارود‪ ،‬جائيــة ذاهبــة تحــرس الضفــة الثانيــة للنطقــة الخــراء التــي‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪6‬‬

‫تجلس فيها الكالب األمريكية والهررة الفارسية والضباع العربية‪ ،‬حيث يأكلون معاً‬
‫مــن قصعــة واحــدة فيهــا ثريــد مــن لحــم ودم املواطــن العراقــي املغلوب واملســلوب‬
‫الحقــوق واإلرادة»‪ ،‬وعــن الســليامنية ويصــل اىل ســقوط املوصــل التــي كانــت يف‬
‫أواسط السبعينات‪« ،‬مدينة سهر وليل»‪ ،‬وصارت اآلن «يف يد الظالم»‪ ،‬أما القاص‬
‫الكويتــي عبــد اللــه العتيبــي فيفتــح بقصــة عنوانهــا «ســقف إيــران»‪ ،‬املشــهد عــى‬
‫قــوس أوســع يف املنطقــة العربيــة وجوارهــا‪ ،‬ولك ّنهــا تشــبه متام ـاً حكايــا الســوريني‪،‬‬
‫فســهراب الخــارج مــن قريتــه «شــهر كــورد» آمــا بالوصــول اىل الرخــاء واملــال يف‬
‫الكويت يصارع البحر مع رفاقه هاربا من دوريات خفر السواحل اإليرانية والكويتية‪،‬‬
‫حيــث ســرميه صاحــب املركــب بعيــدا ً عــن الســاحل الكويتــي‪ ،‬ثــم ســيقيض يف‬
‫ســيارة النقــل ليجــدوا يف يــده جــواز ســفره وقرآنــا صغــرا ومحفظــة مهرتئــة يف داخلها‬
‫مــا يعــادل ‪ 14‬دينــارا كويتيــا و»صــورة طفــل بالــكاد يبتســم‪ ،‬تضمــه بحنــو شــابة تلــف‬
‫رأســها بوشــاح أســود»‪.‬‬

‫يضــم العــدد دراســة كبــرة عــن «مســألة الطائفيــة وصناعــة األقليــات» للمفكــر‬
‫العــريب عزمــي بشــارة‪ ،‬التــي يقــول فيهــا إن «الطائفيــة السياســية مبعناهــا املعــارص‬
‫وليــدة تفاعــل املنظومــة االجتامعيــة القامئــة مــع االســتعامر الحديــث‪ ،‬وطريقــة‬
‫بنائــه الدولــة التــي ســرثها الدولــة الوطنيــة املســتقلة‪ ،‬أو ســتصطدم بهــا بعــده»‪.‬‬
‫ويختــم بشــارة دراســته بالقــول «إن مســألة ادعــاء اإلســام الحقيقــي هــي يف األصــل‬
‫زائفــة‪ ،‬ألنهــا تخلــط بــن الديــن – باألحــرى فهــم الديــن – والتديــن‪ ،‬قــد وصلــت مــع‬
‫ـدي شــك يف أنــه ســوف تجــري‬
‫«داعــش» اىل نهايتهــا القصــوى الكارثيــة‪ ،‬وليــس لـ ّ‬
‫بعدهــا مراجعــات علنيــة ألمــور كثــرة كان مســكوتاً عنهــا يف تاريخنــا»‪.‬‬

‫كــا يضــم دراســة مهمــة ملحمــد عنــاد ســليامن حــول تناقضــات مســألة الخالفــة‬
‫وآخــرى لعــي عبــد اللــه عــن أوكرانيــا باعتبارهــا بــؤرة رصاع‪ ،‬وضمــن بــاب الــرد يرتجــم‬
‫محمــد شــاويش قصــة «العــم ســليامن واملعلمــة» التــي تتنــاول حيــاة عائلــة ســورية‬
‫يف املانيــا‪ ،‬وقصــة «أبــو مســتو العرصــة» للكاتــب الســوري ماهــر حميــد‪ ،‬وقصــة‬
‫«الناعــورة والحجــر األملــس» للقــاص التونــي محمــد فطومــي‪ ،‬وقصــة «رصاع عــى‬
‫الــورق» للقاصــة الســورية عبــر درويــش‪ ،‬ويف بــاب الشــعر تنــر «أوراق» قصيــدة‬
‫الشــاعر العراقــي كريــم عبــد «وجهــك يلــوح وصوتــك يــردد يف الوديــان»‪ ،‬كــا تنــر‬
‫قصيــدة للشــاعر املــري نــادي حافــظ بعنــوان‪« ،‬مــاذا أفعــل هــذا الصبــاح»‪ ،‬ويف‬
‫بــاب النقــد يكتــب عبــد الرحمــن حــاق دراســة نقديــة عــن «مــدن اليــام» للروائيــة‬
‫‪7‬‬ ‫يبلا ةغالب‬

‫ابتســام تريــي‪ ،‬ويب ّنــد شــخصياتها بــن الســمو والوضاعــة‪ ،‬ويف متابعــة‪ ،‬عــى مــا‬
‫دمحم نيدلا ماسح‬

‫يبدو‪ ،‬مللف سابق يف «أوراق»‪ ،‬عن الجندر واالستبداد‪ ،‬تكتب نرسين طرابليس‬
‫دراســة ش ـ ّيقة عــن املثليــن باعتبارهــم ســلطة مزدوجــة‪ ،‬ويف بــاب الحــوار يلتقــي‬
‫الكاتــب واملــؤرخ الفلســطيني عــادل بشــتاوي بالــروايئ الفلســطيني وليــد نبهــان‬
‫الــذي فــازت روايتــه «هجــرة اللقلــق» بجائــزة مســابقة الروايــة لعــام ‪ ،2013‬ويقرأ خالد‬
‫محمــود‪ ،‬يف بــاب الكتــب‪ ،‬كتــاب «فالحــو ســوريا‪ :‬أبنــاء وجهائهــم الريفيــن األقــل‬
‫شــأناً وسياســاتهم» لحنــا بطاطــو‪.‬‬

‫تبدأ «أوراق» يف هذا العدد تقليدا ً جديدا ً تحتفي فيه بلوحات فنان تشكييل‬
‫متميّــز‪ ،‬وســيكون العــدد مخصصـاً هــذه املـ ّرة للفنــان التشــكييل الســوري متــام عزام‬
‫الذي تتصدّر لوحته «سوريا تحرتق»‪ ،‬غالف املجلة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪9‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪10‬‬

‫د‪ .‬عزمي بشارة‬

‫مســألة الطائفيــة وصناعــة األقليــات يف‬


‫املــرق العربــي الكبــر‬

‫‪-1-‬‬

‫ن املقولـ َة التــي تفيـ ُد بــأ ّن الطائفيّـ َة مبعناها‬


‫ـتغرب حتّــى جــز ٌء مــن الباحثـ َ‬
‫ُ‬ ‫قــد يَسـ‬
‫بعض‬ ‫ِ‬
‫ولتبديد ِ‬ ‫الخطاب السيايس العريب يف عرصِنا ظاهر ٌة حديثة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫املقصو ِد يف‬
‫الطوائف والعصب ّي َة ليست ظواه َر حديثةً‪ ،‬وكالهام كام ٌن‬
‫َ‬ ‫االستغراب ُ‬
‫نقول إ ّن‬ ‫ِ‬ ‫هذا‬
‫يف مفهــومِ الطائفيّــة‪ ،‬انطالقًــا مــن ديناميـ ِة املحايَثــة ‪ Immanence‬الرضوريـ ِة بــن‬
‫الطائفيـ ِة والعصبيــة‪ .‬ولكـ ّن املقصــو َد بالطائفيــة يف الخطـ ِ‬
‫ـاب الســيايس العريب يف‬
‫تأسيســه ويفي ـ ُد يف تحليــلِ الظواه ـ ِر االجتامعي ـ ِة‬
‫َ‬ ‫أيّا ِمنــا ســواء أكا َن مفهو ًمــا نحـ ُ‬
‫ـاول‬
‫مختلف عن‬‫ٌ‬ ‫القامئة أَ ْم كان حك َم قيم ٍة تبخيس ًّيا معروفًا عن ظاهر ٍة بغيض ٍة‪ ،‬هو أم ٌر‬
‫مختلف عن الطائف ِة أَي الجامعة‬
‫ٌ‬ ‫ب لِجامع ٍة‪ِّ ،‬‬
‫أي جامعة‪ .‬وهي بالتأكيد أم ٌر‬ ‫التعص ِ‬
‫ّ‬
‫ر‪ .‬ويف الداللـ ِة القرآنيـ ِة‬
‫ذاتهــا‪ ،‬مبعنــى أنّهــا طائفـ ٌة مــن البــر‪ ،‬أو فئـ ٌة مــن جامعـ ٍة أكـ َ‬
‫لِلَ ْفـ ِـظ الطائفــة نجـ ُد وص ًفــا المعياريًّــا لفئـ ٍة هــي جــز ٌء مــن ك ُّل‪ ،‬كــا تُظ ِهــر اآليــاتُ التــي‬
‫ن معياريّـ ًة ســلبي ًة إلّ يف القــرن الرابـعِ الهجــري‪/‬‬ ‫ـب مضامـ َ‬ ‫يكتسـ ْ‬‫ِ‬ ‫تــر ُد فيهــا كلُّهــا‪ .‬ومل‬
‫ـارف املؤ ِّرخــو َن املعــارصو َن عــى وض ِعــه يف أسـ ِ‬
‫ـاس‬ ‫رش امليــادي الــذي يَتعـ ُ‬ ‫العــا ِ‬
‫ر العبّــايس الثــاين؛ طــردًا مــع انقســامِ ِ‬
‫الخالفــة‪ ،‬وتَضَ ْعضُ ـعِ ســلط ِتها‬ ‫تحقي ِب ِهــم للعـ ِ‬
‫مقابل الوِحدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫األطراف املتغلِّب ِة‪ ،‬أ ْو بِ ا يفي ُد الترش ُذ َم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إمارات‬ ‫العباسي ِة ملصلح ِة‬
‫‪11‬‬ ‫ا يبرعلا قرشملا يف تايلقألا ةعانصو ةيفئاطلا ةلأسم‬

‫ـن‬ ‫فالطائف ّي ـ ُة التــي يجــري الحديــثُ ع ْنهــا هــي بالتحديـ ِـد َع ـ ُّد أتبــا ِع الديــنِ ‪ ،‬أو املذهـ ِ‬
‫ـب املعـ َّ ِ‬
‫ةراشب يمزع ‪.‬د‬

‫جامعـ ًة متثِّـ ُـل امتــدادًا أو تواصـ ًـا تاريخيًّــا (أي أ َّن لهــا تاري ًخــا) وذاتَ حــدو ٍد اجتامعيّـ ٍة‪ ،‬ولهــا ناطقــون‬
‫ـش‬‫ـال ِديــن) يَــذودُو َن ع ْنهــا ويصيغــون َمصال َحهــا ِبلُغـ ِة التعايـ ِ‬ ‫باسـ ِمها (ســوا ٌء أكانــوا علامنيِّــن‪ ،‬أ ْم رجـ َ‬
‫ْ‬
‫ـات أُخــرى‪ .‬ويخلِـ ُـق هــذا تصـ ُّو ًرا َعـ ْن كيــانٍ لــه أُســطور ُة َم ْنشـ ٍإ‪ ،‬ورسديـ ٌة تــرا َو ُح بني‬
‫والخُصومـ ِة مــع جامعـ ٍ‬
‫ط‬ ‫ـت التواصـ ُـل التاريخــي‪ ،‬غالبًــا مــا تُسـ َق ُ‬ ‫ـن و َمشــاع ِر االفتخــا ِر وال ِك ْبيــاء‪ .‬ولـ َ ْ‬
‫ـي يَثبـ َ‬ ‫صـ ْو ِغ مشــاع ِر ال ُغـ ْ ِ‬
‫َ‬
‫ومحيطهــا يف الحــارض‪ .‬وهــذا مـاَّ أصفــه باللُّغـ ِة‬‫ِ‬ ‫عــى املــايض مصطلحــاتُ الطائفـ ِة يف فهــمِ ذاتِهــا‬
‫التاريخيـ ِة النقديـ ِة باملغالطـ ِة الزمنيــة‪ ،‬أو الالزمن ّيـ ِة التاريخيــة‪.‬‬

‫ط مبرحل ٍة‬‫سياق الطائف ّي ِة السياسي ِة مبعناها التحاصيص املح َّد ِد‪ ،‬يرتب ُ‬ ‫َ‬ ‫واأله ُّم من هذا كلِّه أ َّن‬
‫وأصبح م ْم ِك ًنا الحديثُ عن عصبي ٍة‬ ‫َ‬ ‫تاريخي ٍة جديد ٍة نَشأتْ فيها الدول ُة الوطني ُة والجامع ُة القوميةُ‪،‬‬
‫بحصـ ٍة يف الدولــة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ـب‪ ،‬وأَصبـ َـح ُيكـ ُن تص ّو ُرهــا واملطالبـ ُة‬ ‫لقطاعـ ٍ‬
‫ـات فيهــا تقــو ُم عــى الديــنِ واملذهـ ِ‬
‫أي قبـ َـل االســتقالل‪ .‬فتختلِـ ُـف الطائفيـ ُة السياسـ ّي ُة املعــارص ُة عــن‬
‫حتّــى حيــثُ مل تنشَ ــأ الدولـ ُة بَعــد‪ْ ،‬‬
‫املحاصصـ ِة السياسـيّ ِة املؤسســي ِة‬
‫َ‬ ‫الطائفيـ ِة الثا ِويـ ِة يف نظــامِ املِلَــلِ العثــاين‪ ،‬يف أنَّهــا تقــو ُم عــى‬
‫شـبْ ِه املؤسســي ِة للطّوائــف‪ ،‬بينــا كان نظــا ُم املِلَــلٍ إطــا ًرا تنظيميًّــا قــد يَنطـوِي عــى التهميـ ِ‬
‫ـش لك ّنــه‬ ‫أو ِ‬
‫املحاصصـ ِة وترســي ِمها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ط عــى‬ ‫ال يَنطــوي قَـ ُّ‬

‫ن الطائفـ ِة بوص ِفهــا جامعـ ًة أهليـ ًة مألوفـ ًة للفــر ِد مــن بيئ ِتــه املحل ّيـ ِة‬
‫وت َتفــا َوتُ هــذه الرسديــاتُ بـ َ‬
‫والطائف ّي ـ ِة األهلي ـ ِة املرتبط ـ ِة بهــا‪ ،‬والجامع ـ ِة الطائف ّي ـ ِة املتخ َّيل ـ ِة يف مرحل ـ ِة ثقاف ـ ِة الجامهــر‪ ،‬ســوا ٌء‬
‫ر محلّي ـ ٍة يف الدولــة الوطنيــة كلِّهــا أَ ْم عابــر ٌة لل ـدُّول‪ .‬ونحــن نَتعامـ ُـل عــاد ًة مــع‬ ‫أَق ِ‬
‫ُص ـ َد بهــا طائف ـ ٌة غ ـ ُ‬
‫ـن لهــا‪،‬‬
‫وليس ـتَا عابرتَـ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ـن يف إطــا ِر ال ـدُّول‪،‬‬ ‫الطائف ّي ـ ِة السياســي ِة وال ّنظــامِ الطائفــي بوص ِفهــا ظاه َرتـ ْ ِ‬
‫ض التد ّخــلِ يف‬ ‫ط تَضامنيّــة‪ ،‬أَ ْو ل َغـ َر ِ‬ ‫ط الطائفـ َّـي العابـ َر للــدو ِل لتَ ْوثيــقِ روابـ َ‬
‫ولك ّنهــا قــد تُسـخِّران الرابـ َ‬
‫ـس بالــرور ِة‬
‫ـات الخارجي ـ ِة التــي تنع ِكـ ُ‬
‫دُو ٍل أخــرى‪ .‬ويتعلّـ ُـق ذلــك باســتخدامِ الطائفي ـ ِة يف ال َعالقـ ِ‬
‫عــى األوضــا ِع الداخليــة‪.‬‬

‫متجانســا‬
‫ً‬ ‫ويف حال ـ ِة الطائف ـ ِة بوص ِفهــا جامع ـ ًة متخ َّيل ـ ًة متجانس ـ ًة تتّ ِب ـ ُع مذه ًبــا أو دي ًنــا تتخ ّيلُــه‬
‫ريهــا وأدواتُهــا‪ .‬وتتح ـ َّوالنِ َســويّ ًة إىل‬‫ط عــى التبع ّي ـ ِة للديــنِ مصطلحــاتُ القوم ّي ـ ِة وتعاب ُ‬ ‫أيضً ــا‪ ،‬تُس ـ َق ُ‬
‫ِ‬
‫وإرشاك العا ّمـ ِة يف‬ ‫ـس عــى مســتوى ال ِوحــد ِة الطائفيّـ ِة‪،‬‬ ‫ـيايس يف داخــلِ الطائفـ ِة‪ ،‬فين َع ِكـ ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫فعــلٍ سـ‬
‫ـب الطائفــة‪ .‬ويَبــدو ال ِف ْعـ ُـل‬ ‫رك ِة املم ّيــز ِة واملح ـدِّد ِة التــي تج َم ُعه ـ ْم ب ُنخـ ِ‬
‫ـر ال ُهويّ ـ ِة املش ـ َ‬
‫السياس ـ ِة عـ ْ َ‬
‫ـب مســاواتي ِة الطابَ ـعِ‬ ‫يف هــذه املرحل ـ ِة ث َ ْوريًّــا يف بعـ ِ‬
‫ـض الحـ ِ‬
‫ـاالت‪ ،‬وقَ ـ ْد يتجــىَّ عــى شــكلِ َمطالـ َ‬
‫ك داخـ َـل الطائفـ ِة عي ِنهــا‪.‬‬ ‫ـف األخــرى‪ ،‬واملشـرَ ِ‬
‫ـاف عــن الطوائـ ِ‬ ‫داخـ َـل الطائفـ ِة‪ ،‬بالتشـ ِ‬
‫ـديد عــى االختـ ِ‬

‫ـف يف املجتم ـعِ‪ ،‬فتَظه ـ ُر يف الــرا ِع‬ ‫أ ّمــا عــى مســتوى َعالق ـ ِة الطائف ـ ِة بالدول ـ ِة‪ ،‬وبقيّ ـ ِة الطوائـ ِ‬
‫ر مــن الدّول ـ ِة ت َرجم ـ ًة ل ـ َوزنٍ دميوغــرايف‪ ،‬أو لق ـ ّو ٍة اقتصادي ـ ٍة وثقافي ـ ٍة‪ ،‬أَ ْو تعويضً ــا‬ ‫ِم ـ ْن أجــلِ ّ‬
‫حص ـ ٍة أك ـ َ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪12‬‬

‫ن التاريخــي أدا ًة لتحصيــلِ امتيـ ٍ‬


‫ـازات‬ ‫ـض عــن ال ُغـ ِ‬‫ـن تاريخـ ّـي أو غـرِ ذلــك‪ .‬وحــن يُسـتَخد ُم التعويـ ُ‬ ‫ل ُغـ ْ ٍ‬
‫ـف مــع قُ ـ ًوى أجنبي ـ ٍة (وهــذا نــو ٌع مــن االمتيــازات) تص ِبـ ُـح‬
‫ر ًرا للتحالـ ِ‬
‫(وليــس حقوقًــا ُمتســاوِية)‪ ،‬أو م ـ ِّ‬
‫ِ‬
‫ورضورات ترســي ِخ ال ُهويّــة‪،‬‬ ‫كتابـ ُة التاريـ ِخ مــن هــذه الزاويـ ِة مســأل َة مصالِـ َـح سياســي ٍة و ُميــو ٍل أيديولوجيـ ٍة‬
‫وباختصــا ٍر إنّــه مســأل ٌة خطاب ّي ـ ٌة (‪ )discursive‬لِـدَوا ٍع عملي ـ ٍة أو سياســي ٍة‪.‬‬
‫ِ‬
‫أمناط اإلدار ِة الذاتي ِة االقتصادي ِة والسياســي ِة‬ ‫الطوائف املحلّي ِة من العصبي ِة و ِمن‬
‫ِ‬ ‫لَ ْم يَخ ُْل عالَ ُم‬
‫ـات‬‫خاصــة‪ ،‬أو حتّــى باملجتمعـ ِ‬
‫ّ‬ ‫املرت ِبطـ ِة بالتنظيــمِ التاريخــي لالجتــا ِع يف املدينـ ِة اإلســامي ِة بصــور ٍة‬
‫شك يف أ َّن األهمي َة هنا هي لالنتام ِء للجامع ِة األهلي ِة‬ ‫حاالت مخصوصة‪ .‬وال َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الريفي ِة أحيانًا‪ِ ،‬‬
‫وف‬
‫ـائد مــا قَ ْبـ َـل الحداثـ ِة الــذي يقــو ُم‬ ‫ـت عشــر ًة أَ ْم طائفـةً‪ ،‬أَ ْ‬
‫ي لن َمـ ِـط الوجــو ِد االجتامعــي السـ ِ‬ ‫ســواء أكانـ ْ‬
‫العالقات األُفقية‪ .‬لك َّن الطائفيّ َة‬
‫ِ‬ ‫مقابل‬
‫َ‬ ‫القات العمودي ِة‬
‫ِ‬ ‫مدرسيًّا وباألَ ْحرى تنميطيًّا عىل سياد ِة ال َع‬
‫ظ عــى‬ ‫ـب دينــي لتحويــلِ أتبــا ِع هــذا الديــنِ إىل جامعـ ٍة تُحافـ ُ‬‫لديــنٍ أَ ْو مل َذهـ ٍ‬
‫مبَعنــى اســتثام ِر التَبعيّـ ِة ِ‬
‫بل ومخاط ِر االستئصالِ‪ ،‬الل َذيْن يه ّددانِ الطائفةَ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والتهميش ْ‬ ‫ج‬‫نفسها يف وج ِه تحدِّي قُط َبي االندما ِ‬ ‫ِ‬
‫ثـ ّم ترجم ِتهــا إىل قـ ّو ٍة سياسـيّ ٍة لهــا مطالـ ُ‬
‫ـب مــن الدّولــة‪ ،‬هــي ظاهــر ٌة منســوب ٌة للدّولـ ِة الحديثــة‪ .‬ولك ّنهــا‬
‫ر مكتَ ِمل ـ ِة التك ـ ُّونِ يف املــايض‪،‬‬ ‫مل تتش ـك َّْل ِمــن ال ْ‬
‫يشء؛ فلِلطائف ـ ِة السياســي ِة وغريِهــا بدايــاتٌ غ ـ ُ‬
‫مبراحـ َـل‪ .‬وبكلم ٍة لهــا جذو ٌر تتغذَّى‬ ‫ِ‬
‫لتكشـ َـف عــن بــذو ِر هــذه الظواهـ ِر قبـ َـل ذلــك َ‬ ‫وهــي بدايــاتٌ كافيـ ٌة‬
‫الرشوط التي تســتد ِعيها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بنفســها يف‬ ‫ذاتيًّا‬

‫ي جــز ًءا ِمــن ك ُّل‪ ،‬لكـ ّن الطائفيـ َة ناتجـ ٌة ِمـ ْن أ َّن هــذا الـك َُّل الجديـ َد‬‫وت ُ َعـ ُّد الجامعـ ُة طائفـ ًة أصـ ًـا‪ ،‬أَ ْ‬
‫ـوط االنتــا ِء إليــه و َمســاراتِه التــي تُ ِّك ُنــه‬
‫ـات املحلّي ـ َة يف َم ـ ِّد خطـ ِ‬ ‫ـس الجامعـ ِ‬ ‫مختلِـ ٌـف تاريخيًّــا وينا ِفـ ُ‬
‫ـات الدولــة‪ ،‬ووســائلِ االتصــا ِل‬ ‫والخدم ـ ِة العســكري ِة‪ ،‬وخ َدمـ ِ‬ ‫الحداث ـ ُة منهــا‪ ،‬مثـ َـل التعليــمِ الرســمي‪ِ ،‬‬
‫الحديث ِة التي ِ‬
‫تص ُل الدول َة مبارش ًة بالفرد‪ .‬أ َّما يف املايض‪ ،‬فلَ ْم ُي ِكن الكياني َة السياسي َة اإلمرباطوري َة‬
‫للجامعات األهلي ِة‪ ،‬وال حتّى عىل مست َوى الوِالية‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القواعد البرشي ِة املشكِّل ِة‬ ‫التواصل مبارش ًة مع‬
‫ُ‬

‫َت ت ُس َّمى يف مرحل ٍة‬ ‫ِمن ناحي ٍة أخرى‪ ،‬إذا كان الك ُُّل هو األ ّم ُة اإلسالميّ ُة أو مجمو ُع املِلّ ِة َ‬
‫كم كان ْ‬
‫أص ًل‬
‫طوائف داخلَها؛ ألنَّهم ليسوا ُجز ًءا من ك ٍُّل ْ‬
‫َ‬ ‫تاريخ ّي ٍة سابق ٍة‪ ،‬فال مي ِك ُن َع ُّد املسيح ِّي َ‬
‫ني واليهو ِد‬
‫ـب املرحلـ ِة السياســي ِة مــن‬ ‫بحسـ ِ‬
‫ر إيجاب ًّيــا وســلب ًّيا َ‬ ‫بَـ ْـل هـ ْم «أهـ ُـل ِذ ّمــة»‪ ،‬وهــو مصطلَـ ٌـح قابـ ٌـل للتفسـ ِ‬
‫الناحي ـ ِة املعياري ـ ِة‪ ،‬لك ّنــه بوص ِفــه مفهو ًمــا فقهيًّــا أصليًّــا هــو َر ْمـ ٌـي ألهــلِ ال ِّذ ّم ـ ِة خار َ‬
‫جهــا‪ .‬أ َّمــا إذا كان‬
‫ض أ َّن املواطن َة‬ ‫تعريـ ُـف الـك ُِّل قــد اختلـ َـف وأصبـ َـح مرج ُعــه اللغـ َة والثّقافـ َة أو الدّولـ َة الوطن ّيـ َة التــي يُف َ‬
‫رت ُ‬
‫ِ‬
‫ينقسمون‬ ‫طوائف‪ ...‬وقد يصب ُِح املسلمون طائفةً‪ ،‬أو‬ ‫َ‬ ‫يصبح هؤالء‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫غي َ‬‫وحدت ُها األساس ّي ُة أو ْ ُ‬
‫إىل طوائـ َـف يف ســياقِ الـ ّ‬
‫ـرا ِع عــى هــذا الـك ُّل‪.‬‬

‫وأل َّن الـك َُّل يف الفكـ ِر القومــي أو الوطنــي هــو مرجـ ُع الرشعيّـ ِة الجديـدُ‪ ،‬ســوا ٌء أكا َن أ ّمـ ًة قوميّـ ًة أم‬
‫ـس بالوحــد ِة‬ ‫دول ـةً‪ ،‬يصبـ ُـح االنتــا ُء لــه ِمعياريًّــا‪ ،‬ويصبـ ُـح تقســي ُمه أم ـ ًرا َم ـ ْرذولً ‪ ،‬فهــو ب ُح ْكــمِ تعري ِفــه َمـ ٌّ‬
‫‪13‬‬ ‫ا يبرعلا قرشملا يف تايلقألا ةعانصو ةيفئاطلا ةلأسم‬

‫ويصبح‬
‫ُ‬ ‫ط الفكـ ُر القومــي أو الوطنــي باللربال ّيـ ِة أو بالدميقراط ّيـ ِة األهل ّيــة‪،‬‬ ‫الوطن ّيــة‪ .‬وحتّــى عن َدمــا يختلِـ ُ‬
‫ةراشب يمزع ‪.‬د‬

‫ري‬ ‫ـب لــه وتحويلُه إىل سياسـ ِ‬


‫ـات ُهويّة أم ًرا غ َ‬ ‫التعصـ ُ‬
‫ّ‬ ‫التنـ ّو ُع داخلَهــا أمـ ًرا مرشو ًعــا وحتّــى مرغوبًــا‪ ،‬يَبْ َقــى‬
‫َمحمــو ٍد عــى املســتوى ال ِقيَمــي‪ ،‬وعــى املســتوى الســيايس‪.‬‬

‫ـص يف أَ َّن تقســي َم املجتم ـعِ إىل‬ ‫ولِهــذا ال ُحكــمِ املِعيــاري أَسـ ٌ‬
‫ـاس يف التحليــلِ ال ّنظــري يتلَ ّخـ ُ‬
‫ـارات السياســي ِة والفكري ـ ِة واألحـ ِ‬
‫ـزاب‪،‬‬ ‫ذات حــدو ٍد مرســوم ٍة س ـلَفًا يختلـ ُـف عــن تعدّديــة الت ّيـ ِ‬
‫طوائـ َـف ِ‬
‫وهــي تعدديـ ٌة متغـ ِّـر ٌة ومتبَ ِّدلــة‪ .‬وإذَا َحـ َّـل هــذا التقســي ُم م َحـ َّـل تنـ ُّو ِع اآلرا ِء والربامـ ِج يف َ‬
‫صـ ْو ِغ مصلحـ ِة‬
‫املجمــوعِ‪ ،‬ت ُصبـ ُـح التعدديّ ـ ُة الطائفيّ ـ ُة ع ـ ُد ًّوا للتعدديّ ـ ِة ال ِفكريّ ـ ِة والحزبيّــة‪ ،‬وت ُصبـ ُـح الطائفيّ ـ ُة ْ‬
‫خصـ ًـا‬
‫للتعدديّ ـ ِة السياس ـ ّي ِة وللدميقراط ّيــة‪ .‬هــذا َعــدا أنَّهــا ت َق َم ـ ُع ح ّري ـ َة االختيــا ِر الفــردي؛ باخ ِتزالِهــا الفــر َد‬
‫إىل تا ِب ـعٍ لِطائفــة‪.‬‬

‫ـذات بالقــو ِل إنَّــه ل ـ ْو لَ ـ ْم نَ ُك ـ ْن نع ـر ُِف بوثــوقٍ تــا ٍّم َعالق ـ َة االســتعام ِر ب ُنشــو ِء‬
‫وأخت ـ ُم هــذا البن ـ َد بالـ ِ‬
‫الطائفيّ ـ ِة السياس ـيّ ِة التحاصصي ـ ِة يف بال ِدنــا‪ ،‬وتحويــلِ املِلَــلِ العثامنيّ ـ ِة إىل طوائـ َـف سياســي ٍة ت ـ ِّ‬
‫ر ُر‬
‫يب يف تلـ َ‬
‫ـك املراحــلِ ‪،‬‬ ‫تد ُّخـ َـل األجنبــي‪ ،‬و ُمواصلـ ِة ذلــك أثنــا َء االنتـ ِ‬
‫ـداب عــى بال ِدنــا يف املــرقِ العــر ّ‬
‫الح ِ‬
‫صص‬ ‫ح املحدَّد ِة ِ‬‫املحاصص ِة الطائفي ِة الب َوا ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫أساس هذه‬ ‫وقيامِ مترصف ّي ِة جبل لبنان ق ْبلَها عىل‬
‫والتمثيــل‪ ،‬لَــكا َن بإمكانِنــا االســتعان ُة بالنظريـ ِة للتأ ُّمــلِ يف معنــى الطائفيّـ ِة ونُفو ِرهــا مــن الرابـ ِـط الوطنــي‬
‫سـ َّيام يف مراحــلِ‬‫أو القومــي الجامـعِ‪ ،‬وتجــا ُوزِه إىل التعــا ُونِ مــع خصو ِمــه الدول ِّيــن‪ ،‬وإعاقـ ِة تك ُّونِــه وال ِ‬
‫نُشــوئِه‪ .‬لَقـ ْد كانــت ذاتَ جــذو ٍر تاريخيـ ٍة‪ ،‬لكـ َّن الطائفيـ َة السياســي َة مبعناهــا املعــارص وليــد ُة تفا ُعــلِ‬
‫ـث‪ ،‬وطريق ـ ِة بنائِــه الدول ـ َة التــي سـ َـرِث ُها الدول ـ ُة‬
‫املنظوم ـ ِة االجتامعي ـ ِة القامئ ـ ِة م ـ َع االســتعام ِر الحديـ ِ‬
‫ِ‬
‫صطد ُم بهــا بعـدَه‪.‬‬‫الوطنيـ ُة املســتقلّةُ‪ ،‬أو سـتَ‬
‫ـن لتَش ـكُّلِ الطائف ّي ـ ِة السياســي ِة‬ ‫ـن النقيضَ ـ ْ ِ‬‫ـك يف نفــي وعقــي أ َّن املســا َريْنِ التاريخ َّيـ ْ ِ‬ ‫وال شـ َّ‬
‫ربــا ال ُهوي ـ َة العربي ـ َة باملعنــى الثقــايف الســيايس‪ ،‬قبـ َـل التح ـ ُّو ِل‬ ‫ـوض العروب ـ ِة أَ ْو ّ‬
‫يف بال ِدنــا كانَــا نُهـ َ‬
‫الســلطوي ِة ألنظم ـ ِة ال ُحكــم؛ والدّول ـ َة الوطنيّ ـ َة و ِبنــا َء‬ ‫إىل القوميّ ـ ِة األيديولوجي ـ ِة والسياس ـيّ ِة التربيريّ ـ ِة ُّ‬
‫ِ‬
‫الجامعات املحل ّي َة األهل ّيةَ‪ .‬وليس صدف ًة أ َّن املسا َريْنِ يف أماكنِ‬ ‫سات الوطن ّي ِة التي َ‬
‫تخت ُِق‬ ‫املؤس ِ‬ ‫ّ‬
‫ـب لألفــكا ِر النهضويّـ ِة واإلبــدا ِع‬ ‫التقائِ ِهــا أو تقاطُ ِع ِهــا أو حتّــى افرتا ِقهــا قَـ ْد شـ َ‬
‫ـكَّل َمصــد ًرا ال ينضـ ُ‬
‫ٍ‬
‫سميات‬ ‫ني‪ ،‬وغالبًا ما ت ُ َع ْن َو ُن بتَ‬
‫بعضنا ال َحن َ‬ ‫األديب والف ِّني‪ ،‬وملظاه َر مدنيّ ٍة عابر ٍة للطوائف تث ُ‬
‫ري يف ِ‬
‫ال ت َتو َّخــى الدقَّـةَ؛ مثـ َـل املرحلـ ِة اللربال ّيـ ِة‪ ،‬واملرحلـ ِة القوم ّيــة‪ ،‬وحتــى «الزمــن الجميــل»‪ ،‬وغـرِ ذلــك‪.‬‬

‫ض ه َذيْــنِ املَســا َريْنِ مــع الطائفي ـ ِة حتّــى اآلن أ َّن‬ ‫ني يف تعــا ُر ِ‬
‫ـت لَنــا أح ـ ٌد مــن املش ـكِّك َ‬
‫ولَ ـ ْم يُث ِبـ ْ‬
‫رتكةُ‪ ،‬والدّول ِة الوطن ّي ِة‬
‫وأساسها اللغ ُة املش َ‬‫ُ‬ ‫بديل عن الثقاف ِة القوم ّي ِة الجامع ِة‬
‫ً‬ ‫اإلنسان ّي َة اكتشف ْ‬
‫َت‬
‫ج تخـر ُِق‬‫أدوات يف االندمــا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـوق السياســي ُة واالجتامعيـةُ‪ ،‬بوص ِفهــا‬ ‫وقوا ُمهــا املواطنـ ُة بِ ــا فيهــا الحقـ ُ‬
‫ـات عشــائري ٍة أو جهويّـ ٍة‪ ،‬أو طوائـ َـف تبعيـ ٍة دين ّيـ ٍة ومذهب ّيـ ٍة تُــدا ُر عالقاتُهــا‬
‫انقســا َم املجتمـعِ إىل جامعـ ٍ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪14‬‬

‫ـت أ َّن ُخصــو َم العربيـ ِة‬‫ـات السياســية‪ .‬وامل ُل ِفـ ُ‬ ‫للصاعـ ِ‬ ‫ـاس ِّ‬ ‫ـش واالحـ ِـر ِ‬
‫اب‪ ،‬وقــد تتحـ َّو ُل إىل أسـ ٍ‬ ‫بالتعايُـ ِ‬
‫ر‬ ‫ـب العـ ِ‬ ‫أو ال ُعروبـ ِة يُع َجبــون بالرابـ ِـط القومــي الثقــايف وحتّــى الســيايس عنـ َد اآلخَريــن‪ ...‬و ِمـ ْن غرائـ ِ‬
‫نفســه عــى تش ـ ُّكلِهم‬ ‫ِ‬ ‫ن يُـ ِ ُّ‬
‫ـر األكــرا ُد يف العــراقِ‬ ‫ـرب العراقيّــو َن إىل طوائـ َـف‪ ،‬يف ح ـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ينقس ـ َم العـ ُ‬ ‫أَ ْن‬
‫ِ‬
‫واملناض ُل الوطني‬ ‫القومي الكُردي املتجا ِو ِز للوطن َّي ِة العراقية‪ .‬ويف الحال ِة السوريّ ِة كان األكادميي‬
‫الســوري العض ـ ُو الدائ ـ ُم يف الكُتل ـ ِة الوطني ـ ِة الســوري ِة إدمــون ربــاط يوضـ ُـح من ـ ُذ عرشينيّـ ِ‬
‫ـات القــرنِ‬
‫طريق بنائِها ك َد ْولة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫طوائف وأقلّياتٌ ‪ ،‬وأَ َّن العروب َة َ‬
‫هي‬ ‫ُ‬ ‫هي‬‫العرشين للجميعِ أَ َّن سورية دو َن العروب ِة َ‬
‫ـت لــه كتابًــا كامـ ًـا هــو‬ ‫ـبق أَ ْن َّ‬
‫خصصـ ُ‬ ‫ـت َمــى‪ ،‬وسـ َ‬ ‫ي وقـ ٍ‬ ‫إل أك ـرَ ِمــن أَ ِّ‬
‫هــذا واضـ ٌـح بال ّنســب ِة َ َّ‬
‫ِ‬
‫املواطــن‪ .‬وأقـ ُ‬
‫ـول‬ ‫ـال يل إ َّن ال َحـ َّـل هــو الدميقراط ّي ـ ُة واللرباليــة وحقـ ُ‬
‫ـوق‬ ‫«املســأل ُة العربيــة»‪ .‬قَ ـ ْد يُقـ ُ‬
‫ـول م ْم ِكن ـةً؛‬‫الســياقِ التاريخــي واألُط ـ ِر التــي تُصبـ ُـح فيهــا هــذه ُحلـ ً‬
‫ال أتح ـ َّدثُ عــن ال ُحلــولِ‪ ،‬بَـ ْـل عــن ِّ‬
‫خارج‬
‫َ‬ ‫كل عــى ِحـدَة‪ ،‬ولِقا ُؤهــا ســويّ ًة يف الدميقراطيّـ ِة اللرباليّــة ْ ُ‬
‫غي مم ِكنٍ‬ ‫فالدميقراطيّـ ُة واللرباليّـ ُة ٌّ‬
‫ـات املحل ّيـ ِة والطوائــف تُتيـ ُـح التعـ ّد َد‬ ‫ســياقِ الثّقافـ ِة التــي ت َجمـ ُع النـ َ‬
‫ـاس وت َ ْب ِنــي «نحــن» عابــر ًة للجامعـ ِ‬
‫وأساســها امل ُواطنــة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ـارج الدّول ـ ِة الوطنيّ ـ ِة الحديث ـ ِة‬
‫ـروب أهليّــة؛ وال خـ َ‬ ‫داخلَهــا ب ـد ََل االنشــطا ِر يف حـ ٍ‬
‫ـث ج ـدِّي عــن صعــو ِد الطائفيّ ـ ِة السياســي ِة يف منطق ِتنــا ال بُ ـ َّد أَ ْن ينتهـ َـي َ‬
‫بســط ٍر أخ ـرٍ طويــلٍ‬ ‫ي بحـ ٍ‬ ‫وأَ ُّ‬
‫رأســها يف بال ِدنــا واز َده ـ َرتْ م ـ َع فَشــلِ ه َذيْــنِ املَســا َريْن‬
‫ـت َ‬ ‫عريـ ٍ‬
‫ـض هــو أ ّن الطائف ّي ـ َة السياس ـ ّي َة َرفَ َعـ ْ‬
‫يف العقــو ِد الخمس ـ ِة أو الس ـتّ ِة األخــرة‪.‬‬

‫ـض الدول ـ ِة الوطني ـ ِة يف‬


‫ـت نقيـ َ‬
‫ح هنــا عــى ذلــك ‪ -‬ليسـ ْ‬ ‫ـب يف اإللحــا ِ‬‫ويَبــدو أ َّن العروب ـ َة ‪ -‬وأَرغـ ُ‬
‫ـس وِحدتِهــا‪ ،‬وأَ َّن بديلَهــا هــو التم ـ ُّز ُق الطائفــي بَـ ْـل واالجتامعــي‬ ‫املــرقِ العــريب‪ ،‬بــل هــي مــن أُسـ ِ‬
‫واملناطقي وليس الوطن ّية‪ .‬فالعروب ُة والوطني ُة ُمتكا ِمالن‪ .‬ليست القومي ُة العربي ُة هي التي قَ َّوضت‬
‫الوطني َة يف املرشِقِ العريب بَل االســتبدا ُد الذي اسـتَخد َم األيديولوجي َة السياســي َة القومي َة ِ‬
‫لخدم ِة‬
‫ج َج الطائفيةَ‪ ،‬و َم َن َع تك ُّو َن املواطَن ِة‬‫العرب‪ ،‬وأ َّ‬
‫ِ‬ ‫العرب وغريِ‬
‫ِ‬ ‫َســيطرتِه ونُظُ ِمه السياســي ِة‪ ،‬وفَ َرضَ ها عىل‬
‫ـر الطائفـ ِة أو العشــر ِة أو الــوال ِء‬‫ـر الفــر ُد عــى املــرو ِر عـ ْ َ‬‫بوص ِفهــا انتــا ًء للدولــة‪ ،‬ومرك ًبــا حقوق ًّيــا ال يُجـ َ ُ‬
‫للســلطانِ مل ُامرسـ ِته‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫ـميات‬ ‫ومــا األدبيــاتُ العربيـ ُة التــي ميكـ ُن تصني ُفهــا نقديـ ًة إلَّ سـ ْي ٌل ِمــن معالجـ ٍ‬
‫ـات ال تتوقَّـ ُـف بتسـ‬
‫مختلف ـ ٍة لِفشَ ــلِ ه َذيْــنِ املســا َريْن‪ .‬ولَ ـ ْن أتط ـ ّر َق هنــا إليهــا‪ .‬ولك ّنــي أتوقَّـ ُـف عن ـ َد مالحظتـ ْ ِ‬
‫ـن أرا ُهــا‬
‫ـن‪:‬‬
‫مه ّمتَـ ْ‬
‫ـض‬ ‫أُوال ُهــا‪ ،‬إ َّن القومي ـ َة العربي ـ َة عــى الرغــم مــن ُعبو ِرهــا الطوائـ َـف وتب ِّنيهــا خطابًــا يس ـ ِّمي ِه البعـ ُ‬
‫علامن ًّيــا بهــذا املعنــى الفريــد‪ ،‬ك ُمضــا ٍّد للطائفي ـ ِة بالدولــة (وهــو ليــس املعنــى الصحيــح تاريخ ًّيــا‬
‫ط التديُّــنِ األك ـرُ ُعرض ـ ًة‬
‫ـعبي (وهــو من ـ ُ‬
‫ومفهوميًّــا للعلامنيــة)‪ ،‬فهــي غالبًــا مــا متلّ َقــت التديُّ ـ َن الشـ َّ‬
‫س َّيام أثنا َء رصا ِعها مع اإلسالمِ السيايس‪،‬‬ ‫ّيات الديني ِة‪ ،‬وال ِ‬ ‫ض َّد األقل ِ‬ ‫للتطيِيف)‪ ،‬وات ّخذتْ موا ِق َف ِ‬
‫‪15‬‬ ‫ا يبرعلا قرشملا يف تايلقألا ةعانصو ةيفئاطلا ةلأسم‬

‫س َّيام يف حال ِة َح ْملِها أيديولوجي ًة تربيري ًة بواسط ِة العسك ِر الذين‬ ‫ّيات طائفي ٍة‪ ،‬وال ِ‬
‫أ ْو ارتك َزتْ إىل أقل ٍ‬
‫ةراشب يمزع ‪.‬د‬

‫تح ـ َّد ُروا ِمــن ال ّريــف واســت َندُوا إىل قوا ِع ِدهــم االجتامعي ـ ِة فيــه‪ ،‬و ُه ـ ْم يف ال ُح ْكــم‪.‬‬

‫العرب بهذا‪ ،‬بل َعدُّوا تأيي َد االستنا ِد إىل طائف ِة األقلّي ِة‬
‫ِ‬ ‫ْتف عدي ٌد من مث َّق ِفي االستبدا ِد‬
‫ولَ ْم يَك ِ‬
‫األقليات تُ َع ُّد علامنيّةً‪ ،‬أ َّما تحيِي ُد الدول ِة‬
‫ِ‬ ‫ت طائفي ُة‬ ‫علامنيةً‪ ،‬ونَ ْقدَها تجاوزًا للعلامنيّة‪ .‬لقَد أصب َح ْ‬
‫تقديس‬
‫َ‬ ‫سيّام أ َّن العلامني ًة غالِبًا ما تَ ْع ِني يف ُعر ِفهم‬‫الديني فلَ ْم يَل َْق االهتام َم الال ِز َم‪ ،‬وال ِ‬
‫ّ‬ ‫يف الشأْنِ‬
‫املســت ِب ِّد ودولـ ِة االسـ ِت ْبداد‪ .‬ويف املقا ِبــلِ وقَـ َع عديـ ٌد ِمـ ْن ُمنا ِهــي االســتبدا ِد يف َو ْهــمِ االســتغنا ِء‬
‫وش ِطهــا األســاس ح ْكــمِ القانــون‪ ،‬واملســاوا ِة أمــا َم القانــون‪ ،‬والحقــوقِ املدنيــة‪،‬‬ ‫عــن الدميقراطي ـ ِة َ‬
‫ـكل مــن أشــكا ِل الدميقراطي ـ ِة التــي أصب َحـ ْ‬
‫ـت مثـ َـل‬ ‫واالســتعاض ِة عنهــا بطائفي ـ ِة األغلبيــة‪ ،‬بوص ِفهــا شـ ً‬
‫ـراب الكــردي مــع االحــرامِ لألكــراد‪.‬‬
‫جـ ِ‬

‫ن‬
‫ـت ب ـ َ‬ ‫َت يف بنــا ِء األُ ّم ـ ِة املواطني ـ ِة ألسـ ٍ‬
‫ـباب عديــد ٍة تَفاوتَـ ْ‬ ‫وثانيتُهــا‪ ،‬إ َّن الدول ـ َة الوطني ـ َة ِ‬
‫فش ـل ْ‬
‫ـت غال ًبــا أيديولوجيـ ًة قوميـ ًة عربيـةً‪ ،‬واألنظمـ ِة امللَكيـ ِة التقليديـ ِة‪،‬‬ ‫ـات العســكري ِة التــي ح َملَـ ْ‬
‫الدكتاتوريـ ِ‬
‫ـازات مــن جه ـ ٍة والق ْم ـعِ مــن جه ـ ٍة أخــرى‪،‬‬
‫أساســا لالمتيـ ِ‬
‫ً‬ ‫َت يف االعتــا ِد عــى الــوال ِء للحكــمِ‬‫واشــرك ْ‬
‫أساســا للحقــوق‪.‬‬
‫ً‬ ‫وليــس عــى املواطن ـ ِة‬

‫‪-2-‬‬

‫ن‬‫ـروف املــرقِ العــريب الكبـرِ التاريخ ّيـ ُة أمــا َم الباحثـ َ‬ ‫ر الــذي وض َعتْــه ظـ ُ‬ ‫ويَ ِ‬
‫نقسـ ُم التحـدِّي الكبـ ُ‬
‫ـن ب َرأْ ِينــا‪ :‬أَوَّلً ‪َ ،‬ر ْ‬
‫ص ـ ُد تح ـ ُّو ِل الطائف ـ ِة االجتامع ّي ـ ِة إىل طائف ـ ٍة‬ ‫ـرب يف موضــو ِع الطائفي ـ ِة‪ ،‬إىل اث َنـ ْ ِ‬
‫العـ ِ‬
‫ِ‬
‫الديانات‬ ‫ِ‬
‫الجامعات أو‬ ‫ص ُد عملي ِة تحويلِ‬ ‫متييزات نظامِ املِلَلِ وسياساتِه؛ وثانيًا‪َ ،‬ر ْ‬
‫ِ‬ ‫سياسيّ ٍة تَتخطَّى‬
‫رف األكرثيــات‬ ‫قياســا بأكرثي ـ ٍة طائفيــة‪ ...‬أَ ْو حتّــى ت ـ ّ‬
‫ً‬ ‫ـب «األخــرى» وت َفكي ِكهــا إىل أقلّيـ ٍ‬
‫ـات‬ ‫واملذاهـ ِ‬
‫ِ‬
‫للجامعات‬ ‫بعقليـ ٍة طائفيــة‪ .‬فهــذا ملْ يَ ُكـ ْن قامئًــا دامئًــا‪ .‬وهــذه عمليـ ُة تحويــلٍ تاريخــي طويلـ ٌة و ُمعقَّد ٌة‬
‫ِ‬
‫الجامعات األك ِ‬
‫رب‬ ‫هي عملي ٌة يف فَ ْهمِ تح ُّو ِل‬
‫ّيات فيام يَرش ُحه مفهو ُم (‪ )minorization‬بِ ا َ‬ ‫إىل أقل ٍ‬
‫دميوغرافيًّــا ِم ـ ْن ناحي ـ ِة الح ْجــمِ إىل أقلّيـ ٍ‬
‫ـات بامل َعنــى العــد ِدي يف َمنظــو ِر الدميوغرافيــا التاريخي ـ ِة‪،‬‬
‫والتــي يُرب ِه ـ ُن التاري ـ ُخ أنَّهــا ت َتح ـ َّو ُل غال ًبــا إىل دميوغرافيــا جهوي ـ ٍة وجبلي ـ ٍة «منع ِزلــة»‪ .‬ومث ّـ َة صــرور ٌة‬
‫َغي و ْزنِهم الدميوغرايف‪ ،‬وذلك بالتعا ُملِ م َعهم‬ ‫ّيات ِم ْن دونِ ت ُّ ِ‬
‫ني إىل أقل ٍ‬ ‫أخرى يف تحويلِ املواطن َ‬
‫كفيل بتحويلِهم‬
‫ٌ‬ ‫الخطاب السيايس السائد‪ .‬هذا وحدَه‬
‫ِ‬ ‫بحسب انتام َءاتِهم الديني ِة يف‬
‫ِ‬ ‫بتصني ِفهم‬
‫ِمـ ْن مواطنـ َ‬
‫ن إىل أقلِّيــات‪.‬‬

‫بإمكانِنــا نظريًّــا ت َخيُّـ ُـل طائفـ ٍة اجتامعيّـ ٍة لهــا بنيـ ٌة ووظيفـ ٌة وحــدو ٌد عــى مســتوى املجتمـعِ األهيل‪،‬‬
‫وهــي وظيفــة مرشوعــة‪ ،‬وقــد تكــون رضوريــة يف حــاالت‪ .‬ولَيــس بالــرورة أن تَتحـ ّو َّل إىل طائفـ ٍة عــى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪16‬‬

‫ومطالب متعلّق ٍة بها‪ ،‬وأخرى متعلّق ٍة مبشارك ِتها‬


‫َ‬ ‫ذات مظالِ َم‬
‫املستوى الوطني‪ ،‬ث ّم إىل ق ّو ٍة سياس ّي ٍة ِ‬
‫مقياســا‬
‫ً‬ ‫يف ال ُحكــمٍ ‪ ،‬وتغي ـرِ نظــامِ الحكــم ليــس إىل نظــامٍ أعـ َ‬
‫ـدل‪ ،‬بــل إىل نظــامٍ يَض َم ـ ُن مشــاركتَها‬
‫وحيـدًا للعدالـ ِة التــي ت َفه ُمهــا‪.‬‬

‫ـف معروف ـ ٌة يف ســيا ِقها االجتامعــي التاريخــي‪،‬‬ ‫والب َنــى والوظائـ ُـف والحــدو ُد االجتامعيّ ـ ُة للطوائـ ِ‬
‫ســواء عــى مســتوى الحاميـ ِة والتضامــنِ ‪ ،‬أو عــى مســتوى الطقـ ِ‬
‫ـوس والشــعائ ِر التــي ت ُعيـ ُد إنتا َجهــا‪،‬‬
‫التخصــص بوظائـ َـف اقتصاديّـ ٍة‬
‫ّ‬ ‫ـف األخــرى‪ ،‬وحتّــى‬ ‫ج املختلـ ِـط مــع الطوائـ ِ‬ ‫أ ْو عــى مســتوى َم ْنـعِ الـ ّزوا ِ‬
‫ف والتجــار ِة‪ْ ،‬‬
‫وغيِهــا‪.‬‬ ‫ـائل مثـ َـل ملكيّـ ِة األرض ِ‬
‫والحـ َر ِ‬ ‫ـب عالق ِتهــا مبسـ َ‬ ‫ـض الحـ ِ‬
‫ـاالت ب َحسـ ِ‬ ‫معيَّنـ ٍة يف بعـ ِ‬
‫ـي‪ .‬تكمــن املشــكلة يف تحوِيلِهــا‬ ‫كَــا أ َّن الطائف ـ َة االجتامعيّ ـ َة ب ُحكــمِ تعري ِفهــا برأ ِينــا ذاتُ طاب ـعٍ محـ ِّ‬
‫إىل طائفـ ٍة تتجــا َو ُز حــدو َد الجامعـ ِة املحليـ ِة‪ ،‬فهــذه غالبــا مــع ترتافــق مـ َع نُشــو ِء أَ ِ‬
‫دوات بنــا ِء الجامعـ ِة‬
‫كم يف حال ِة القوم ّية‪ .‬وت ُراف َُق عاد ًة ب َب ْد ِء نُشو ِء املجتمعِ الجامهريي بأفرا ِده امل ُتذ ِّرري َن‪،‬‬ ‫املتخ َّيل ِة‪َ ،‬‬
‫أَي املتح ِّرريـ َن ِمــن التبعيّـ ِة لِلْجامعـ ِة العضويّــة‪.‬‬

‫بأدوات االنتام ِء إىل الجامع ِة‬


‫ِ‬ ‫ج الطائف ِة‬ ‫ظروف نُشــو ِء مجتمعِ الجامهري‪ ،‬ال ُيك ُن إعاد ُة إنتا ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫املحليّ ـ ِة ف َقــط‪ ،‬وت َ ْنشَ ـأُ هنــا حــاالتُ أَدلج ـ ِة الطائف ـ ِة بواســط ِة إعــاد ِة إنتا ِجهــا جامع ـ ًة متجانس ـ ًة عابــر ًة‬
‫ط هــذا غال ًبا ب َد ْو ٍر ســيايس‬ ‫ِ‬
‫ـأدوات االتّصــا ِل والتنظيــمِ الحديثــة‪ ،‬ويَرت ِبـ ُ‬
‫ر ذلــك بـ‬ ‫للمــكانِ وال ّزمــانِ ‪ ،‬وتدبـ ِ‬
‫ُنافس‬
‫ُ‬ ‫ملذهب أو لدينٍ ت‬ ‫ٍ‬ ‫أساس التبع ّي ِة‬
‫ِ‬ ‫ووظيف ٍة سياسية‪ ،‬ال ِ‬
‫س َّيام أ َّن الجامع َة املتخ َّيل َة قامئ ٌة عىل‬
‫ـات عــى أنوا ِعهــا‪.‬‬
‫ـزب الســيايس واأليديولوجيـ ِ‬ ‫ـات متخيَّلــة مثـ َـل القوميّـ ِة والحـ ِ‬
‫طوائـ َـف أخــرى‪ ،‬وجامعـ ٍ‬
‫ب َرأْ ِينــا‪ ،‬مي ِك ـ ُن بســهول ٍة مراجع ـ ُة ذلــك تاريخ ًّيــا يف كيـ َـف تَح ّولَــت الطوائـ ُـف املحل ّي ـ ُة يف البلـ ِ‬
‫ـدات أو‬
‫ـارات مذهبي ٍة سياسـ ّي ٍة‬
‫ذات طابـعٍ قُطْــري (وأحيانًــا قليلــة متجــاو ٍز للــدول) يف ت ّيـ ٍ‬
‫املـ ُدنِ ‪ ،‬إىل طوائـ َـف ِ‬
‫بعض األحيان؟ ومتى؟ وملاذا؟ وليس بالرضور ِة أن يكو َن هذا التتاب ُع النظري‬ ‫ت ْرعاها ُد َو ٌل إقليمي ٌة يف ِ‬
‫تاريخيًّــا؛ ف َم ْجــرى األمــو ِر التاريخــي مختلـ ٌـف عــن النظــري‪ ،‬وال توج ـ ُد فيــه منــا ِذ ُج نقيّ ـ ٌة عــن الطائفيّ ـ ِة‬
‫ـاذج‬
‫جـ ْد يف الواقـعِ التاريخــي منـ ُ‬ ‫االجتامع ّيـ ِة أو السياسـ ّية‪ .‬فهــذه وظائـ ُـف انفصلَـ ْ‬
‫ـت تدريج ًّيــا‪ ،‬ومل تو َ‬
‫نق ّيـ ٌة قامئـ ٌة بذاتِهــا‪.‬‬

‫ـب اإلســامي ِة تاريخ ًّيــا بســهولة‪ .‬ومث ّـ َة دراســاتٌ متق ّدم ـ ٌة يف هــذا‬ ‫ص ـ ُد نشــو ِء املذاهـ ِ‬ ‫ميك ُننــا َر ْ‬
‫ذات حــدو ٍد ثابتـ ٍة نســبيًّا‬
‫منفصلـ ٍة ِ‬
‫ِ‬ ‫صـ ِـد تَحـ ُّو ِل أتبا ِعهــا إىل طوائـ َـف اجتامعيّـ ٍة‬
‫املوضــوع‪ .‬ولكـ ّن مه ّمـ َة َر ْ‬
‫خاصــة‪ ،‬و ِمـ ْن‬
‫ّ‬ ‫ـب يف التاريــخ‪ ،‬مثـ ًـا يف تاريـ ِخ بغــداد يف القــرنِ الرابـعِ الهجــري بصــور ٍة‬
‫هــي مه ّمـ ٌة أص َعـ ُ‬
‫ني وتشــييعٍ بقـ ّو ِة‬ ‫ث َـ َّم يف تربيـ ِ‬
‫ـرات الــرا ِع العثامين ـ الص َفــوي الطويــلِ ‪ ،‬وآثــارِه‪ ،‬ومــا صاح َبــه مــن تســن ٍ‬
‫ذات وظيفـ ٍة‬‫ـات ِ‬‫ـف إىل جامعـ ٍ‬ ‫الســيف‪ .‬ولك ّننــي أَدعــو إىل تأَ ُّمــلٍ نقــدي يف فكــر ِة تحـ ُّو ِل هــذه الطوائـ ِ‬
‫َّ‬
‫جلِها؛ أل َّن السياس َة يف ذلك الع ِ‬
‫رص ملْ ت ُك ْن وظيف ًة قامئ ًة‬ ‫َطمح للمحاصص ِة وت ُ‬
‫َعمل من أ ْ‬ ‫سياسيّ ٍة ت ُ‬
‫بذاتِهــا‪ ،‬وال كانــت الدّولـ ُة قامئـ ًة كوظيفـ ٍة منفصلـ ٍة عــن املجتمــع‪ .‬ولكــن يصـ ُّـح هــذا إذَا كان املقصــو ُد‬
‫‪17‬‬ ‫ا يبرعلا قرشملا يف تايلقألا ةعانصو ةيفئاطلا ةلأسم‬

‫ـص‪ ،‬وح ِّقهــا يف ُمامرسـ ِة عاداتِهــا‪ ...‬واألهـ ُّم ِمــن هــذا وذاك‬ ‫ـراف بحـ ِّـق تفسـرِها النـ ّ‬ ‫الــرا َع عــى االعـ ِ‬
‫ةراشب يمزع ‪.‬د‬

‫الســلطان‪ ،‬أَ ْو عــى ال ُحظْـ َو ِة لديـ ِه وال ُقـ ِ‬


‫ـرب منــه‪.‬‬ ‫الــرا ُع عــى ُّ‬
‫ـات هــذا التح ـ ُّو ِل يف نُشــو ِء الدّول ـ ِة الفاطميّ ـ ِة كمرحل ـ ٍة أُوىل‪،‬‬ ‫ومــع ذلــك‪ُ ،‬يك ـ ُن مالحظ ـ ُة بدايـ ِ‬
‫ن للمعتزلــة أو للتصـ ُّوف أو لغريِهــا‬ ‫وتحـ ُّو ِل أهــلِ السـ َّن ِة والجامعـ ِة ِمـ ْن جامعـ ٍة مــن العلــا ِء املعارضـ َ‬
‫مــن «ال ِبـدَع» إىل « ِفرقـ ٍة نا ِج َيــة»‪ ،‬أَ ْو تعبئـ ِة العا ّمـ ِة ك ِملّـ ٍة مســتنفر ٍة ضـ َّد الدّولـ ِة الفاطم ّيـ ِة تــار ًة أخــرى‪.‬‬
‫مذهب ِف ً‬
‫عل يف التاري ِخ أيضً ا‬ ‫ٍ‬ ‫املذهب اإلث َن ْي عرشي وتح َّو َل إىل‬
‫ُ‬ ‫ويك ُننا أ ْن نُح ِّد َد بدقّ ٍة متى نَشأَ‬
‫ُ‬
‫ـب أكـرَ تحديـ ُد متَــى تَحـ َّو َل أتبا ُعــه إىل طائفـ ٍة‪ُ .‬‬
‫ويك ُننــا‬ ‫يف املرحلـ ِة التاريخيّـ ِة ِ‬
‫نفســها‪ .‬ول ِكـ ْن‪ ،‬يَص ُعـ ُ‬
‫الرئيس بوص ِفه طائف ًة‬
‫َ‬ ‫الق ْو ُل إنّه ت َبل َو َر أ ّولً مذه ًبا ض َّد اإلســاعيل ّية وليس ض َّد ُ‬
‫السـ ّنة‪ ،‬ولك َّن تح ُّولَه‬
‫ات السكّاني ِة والجغرافية‪ ،‬ولك َّنه صع َد عىل‬ ‫بالتغي ِ‬
‫ُّ‬ ‫ذات عالق ٍة‬
‫الت كربى ِ‬ ‫جرى بني م ٍّد وج ْزرٍ‪ ،‬وتح ّو ٍ‬ ‫َ‬
‫البش االلتزا ُم بها يف ِخض ِّم‬
‫ـات ميك ُن لجامع ٍة كبري ٍة من َ ِ‬ ‫ِيف مبَعنى تحويلِه إىل مامرسـ ٍ‬ ‫مســا ِر التطي ِ‬
‫را‪ ،‬عــى‬‫الــرا ِع بــن الدّولـ ِة العثامن ّيـ ِة والدّولـ ِة الصفَويّـ ِة عــى العــراق‪ .‬وهــذا هــو األخطـ ُر واألكـرُ تأثـ ً‬
‫ـدات الدوليـ ِة بــن العثامنيِّــن واإليرانيِّــن‪.‬‬
‫الســامِ وامل ُعاهـ ِ‬‫الرغــم مــن فُصــو ِل ّ‬
‫ج ْز ٍء من ك ٍُّل باملع َن َي ْي‪،‬‬
‫التنظيامت وبَ ْد ُء تحويلِ أهلِ ال ّذ ّم ِة إىل ُ‬
‫ِ‬ ‫أ ّما املرحل ُة الثالثة‪ ،‬فهي مرحل ُة‬
‫ـت عي ِنــه‪ ،‬ث ـ ّم تد ُّخـ ُـل االســتعام ِر لحامي ـ ِة مــا أصبـ َـح يُعـ ُ‬
‫ـرف فجــأ ًة‬ ‫طوائـ َـف ومواطنــن جزئيًّــا يف الوقـ ِ‬
‫ـس جبــل لبنــان‬ ‫املحاصص ـ ِة الطائفي ـ ِة يف إدار ِة مجلـ ِ‬
‫َ‬ ‫مبأْسس ـ ِة‬ ‫ـات (بلغ ـ ِة األوروب ِّيــن) وقيا ُمــه َ‬
‫باألقلّيـ ِ‬
‫إث ْـ َر مذابـ ِح عــامِ ‪.1860‬‬
‫ـف االجتامع ّي ـ ِة مــن جبــل لبنــان إىل ن ـ ْو ٍع مــن الطوائـ ِ‬
‫ـف‬ ‫ويف هــذه املرحل ـ ِة يَنـ ُ‬
‫ـدرج تح ـ ُّو ُل الطوائـ ِ‬
‫ـف يف املراحــلِ‬‫ـازات ولحاميـ ِة الطوائـ ِ‬‫ـرب أو اســتغاللِه لنظــامِ االمتيـ ِ‬ ‫السياســي ِة مـ َع إعــاد ِة تعريـ ِ‬
‫ـف الغـ ِ‬
‫ِيســها متا ًمــا يف النظــامِ الطائفــي الســيايس الوحيـ ِـد يف‬ ‫األخــر ِة مــن تاريـ ِخ الدولـ ِة العثامنيـ ِة‪ ،‬ثـ ّم ت َْسي ِ‬
‫املنطق ـ ِة العرب ّي ـ ِة يف لبنــان من ـ ُذ نشــو ِء نظــامِ املترصف ّيــة وحتّــى اآلن‪ ،‬عــى الرغــم ِم ـ ْن أ َّن الدســتو َر‬
‫ين الراه ـ َن املنب ِثـ َـق عــن اتّفــاقِ الطائــف يقــو ُم عــى رضور ِة إلْغــا ِء الطائفي ـ ِة السياســية‪ ،‬ولك ّنــه‬
‫اللبنــا َّ‬
‫ين مــا بع ـ َد االســتقال ِل بع ـ ّد ِة سـ ٍ‬
‫ـنوات كان التوزي ـ ُع الطائفـ ُّـي‬ ‫يُعي ـ ُد إنتا َجهــا‪ .‬وحتّــى يف التاري ـ ِخ اللبنــا ّ‬
‫ع ْرفًــا‪ ،‬وكان ميك ـ ُن ملســيحي أرثوذكــي مثـ َـل حبيــب أبــو شــهال يف عــامِ ‪ 1947‬أ ْن يش ـغ ََل منصـ َ‬
‫ـب‬
‫املحاصصـ َة الطائفيـ َة يف بنــا ِء أجهزتِهــا‪ ،‬كـ َـا‬
‫َ‬ ‫ـس النـ ّواب‪ ،‬لكـ ّن الدولـ َة اللبنانيـ َة َمأْ َ‬
‫سســت‬ ‫رئيــس مجلـ ِ‬
‫مارسـتْه‬
‫َ‬ ‫ُطات يف نطــاقِ طوائ ِفهــا بأَعــى بكثـرٍ مـاَّ‬
‫ذات السـل ِ‬ ‫ـس الطائفيـ ِة ِ‬ ‫َمأْ َسســت تشـ َ‬
‫ـكيل املجالـ ِ‬
‫ـداب الفرنــي التــي َز َرعــت عملي ـ َة امل َحاصص ـ ِة الطائفيــة‪.‬‬
‫ســلطاتُ االنتـ ِ‬

‫ـتنتاج بســهول ٍة أنَّــه ليــس لــه تاري ـ ٌخ‬


‫ـف والطائف ّي ـ ِة يف العــراق واالسـ ُ‬ ‫وميك ـ ُن مراجع ـ ُة تاري ـ ِخ الطوائـ ِ‬
‫يف الطائفيّـ ِة السياسـيّ ِة‪ ،‬عــى الرغــمِ مــن أنَّــه لَـ ْم يَ ْخـ ُـل ِمــن الخصومـ ِة الطائفيـ ِة‪ ،‬وأ َّن تحويـ َـل الطائفيّـ ِة‬
‫ب الدّولة‪ ،‬والتد ُّخلِ‬ ‫االجتامع ّية إىل طائف ّي ٍة سياس ّي ٍة هو ِم ْن نتائ ِج التد ُّخلِ األمرييك يف العراق َ ْ‬
‫وض ِ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪18‬‬

‫اإليــراين يف املعارضـ ِة العراقيـ ِة قبـ َـل ذلــك‪ ،‬وبعـدَه يف النظــامِ الــذي قــا َم بعـ َد االحتــال‪ .‬وملْ يتحـ َّول‬
‫ـيايس طائفـ ٍّـي دســتوريًّا‪ ،‬بَـ ْـل حصـ َـل مــا هــو أَس ـ َوأُ؛ فالنظــا ُم الطائفـ ُّـي‬
‫ٍّ‬ ‫النظــا ُم العراقـ ُّـي إىل نظــامٍ سـ‬
‫املحاصص ـ َة لتص ُم ـ َد يف َو ْج ـ ِه املتغـ ّـر ِ‬
‫ات حتّــى‬ ‫َ‬ ‫ـتوري َي َن ـ ُع التح ـ ُّو َل الدميقراطــي‪ ،‬ويصلـ ُ‬
‫ـب‬ ‫الدسـ ُّ‬
‫الطائفي‬
‫ُّ‬ ‫التوافق‬
‫ُ‬ ‫ّيات وحقوقَها‪ ،‬وغالِبًا ما يح ِميها‬
‫متثيل األقل ِ‬‫َ‬ ‫األقل‬
‫الدميوغرافية‪ ،‬ولك َّنه يض َم ُن عىل ِّ‬
‫َثبت هشاشـتُه؛ ف ِفي العراقِ ج َرى تب ِّني نظامٍ دميقراطي ِم ْن حيثُ الشّ ـكْل‪ ،‬فرضه‬ ‫املنظَّ ُم إىل أَ ْن ت َ‬
‫ـاس طائفـ ٍّـي ‪ ،‬وتعا ُمــلِ الدول ـ ِة م َعهــم عــى‬
‫االحتــال وفــرض معــه تنظيــم الس ـكّانِ سياس ـ ًّيا عــى أسـ ٍ‬
‫ـف‬ ‫ـش الطوائـ ِ‬ ‫ـف الدولـ ِة وأجهــز ِة الق ْمـعِ مــع تهميـ ِ‬ ‫ـاس ِ‬
‫نفســه‪ ،‬مــا ج َعـ َـل الدميقراطيـ َة أدا ًة يف تط ِييـ ِ‬ ‫األسـ ِ‬
‫األخــرى‪ .‬وهــذا بالطبـعِ أَسـ َوأُ ِمــن النظــامِ الطائفــي‪ .‬إنّهــا سياسـ ٌة طائفيـ ٌة تُسـ ِّخ ُر الدميقراطيـ َة الشــكليّ َة‬
‫ـات عــى أنوا ِعهــا‪ .‬ويف العــراقِ اعــرف مجلــس الحكــم بالكــر ِد كقوميـ ٍة مــع‬
‫أي حاميـ ٍة لألقلّيـ ِ‬
‫وال تقـ ِّد ُم َّ‬
‫ـرب شــيع ًة وسـ َّنة‪.‬‬
‫أ َّن معظ َم ُهــم ُسـ ّنةٌ‪ ،‬بي َنــا ُعـ َّد العـ ُ‬

‫‪-3-‬‬

‫ـت تاري ـ ُخ املــرقِ العــريب أ َّن التديّـ َـن الســيايس‪ ،‬ب َغـ ِّ‬
‫ـض النظ ـ ِر َعـ ْـن نُشــوئِه‪ ،‬إذَا وق ـ َع يف‬ ‫يُثْبـ ُ‬
‫ـان أصـ ًـا ِمـ ْن عــدمِ اســتقرا ٍر يف ُهويّ ِتهــا الوطنيـ ِة أو القوميـ ِة‪ ،‬فإنَّــه‬ ‫ـات متعـدّد ِة الطوائـ ِ‬
‫ـف وتُعـ ِ‬ ‫مجتمعـ ٍ‬
‫ـيايس الدينــي‪ ،‬ســوا ٌء أكا َن س ـلَف ًّيا أَ ْم‬
‫َّ‬ ‫ول بالــرور ِة إىل طائفي ـ ٍة سياســي ٍة‪ ،‬حامـ ًـا معــه فك ـ َره السـ‬
‫يَ ـ ُؤ ُ‬
‫أصول ًّيا أَ ْم إصالح ًّيا‪ ...‬ويَسـ ِ‬
‫ـتخد ُم الطائف ّي َة يف التحشـ ِ‬
‫ـيد خلْفَه‪ .‬ويف حال ِة الســلف ّي ِة الجهادي ِة التي‬
‫ـت مــع صعــو ِد قـ ّو ِة الطائفيـ ِة وترا ُجـعِ الدولـ ِة الوطنيـ ِة وضع ِفهــا‬‫امتـدَّتْ مؤ ّخـ ًرا إىل دو ِل املــرقِ والْت َقـ ْ‬
‫ـت وحــد ُة الدول ـ ِة باالســتبدا ِد‪ ،‬وقَ ـ َع لقــا ٌء شــدي ُد االنفجــا ِر‬
‫يف ز َمــنِ الثّــورات‪ ،‬وال س ـيَّام حيــثُ ارتبطَـ ْ‬
‫بــن الســلفيّ ِة الجهاديــة والطائفيّــة‪.‬‬

‫تهميش الغالبي ِة‬‫ِ‬ ‫قبْ َل حصو ِل هذا اللِّقا ِء‪ ،‬حادَتْ الطائفي ُة االجتامعي ُة والسياسي ُة املتولِّد ُة َع ْن‬
‫ـف‪ ،‬بالنضــا ِل التحـ ُّرري عــن هد ِفــه األصــي‪ ،‬وهــو التحـ ّر ُر‬
‫يف ظـ ِّـل اســتبدا ٍد يف مجتمـعٍ متعـ ِّد ِد الطوائـ ِ‬
‫الناس املدني َة وكرامتَهم وحرياتِهم‪ .‬ولك َّن السلفي َة‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫حقوق‬ ‫من االستبدا ِد وإقام ُة نظامٍ سيايس يحف ُ‬
‫ظ‬
‫سب‪،‬‬ ‫رص التح ّر ِر يف النضا ِل ض َّد االستبدا ِد و َح ْ‬ ‫ش عن َ‬ ‫الجهادي َة يف حال ِة السياس ِة الطائفي ِة‪ ،‬ال تُه ِّم ُ‬
‫ـوري َع ـ ْن ه َد ِفــه األصــي مــن أَجــلِ التح ـ ُّر ِر مــن االســتبدا ِد إىل نزعـ ٍ‬
‫ـات طائفي ـ ٍة‬ ‫ـرف النضـ َ‬
‫ـال الثـ َّ‬ ‫وال ت َ ْحـ ُ‬
‫تذهب إىل‬
‫ُ‬ ‫بحص ٍة أك َ‬
‫رب‪ ،‬بَ ْل‬ ‫ّ‬ ‫الطوائف املضطَ َهد ِة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بإرشاك‬ ‫سب‪ ،‬وال ت َكتفي باملطالب ِة الطائفي ِة‬
‫و َح ْ‬
‫ِ‬
‫رشوط اللُّعب ِة الطائفية‪.‬‬ ‫نَ ْفـ ِـي اآلخـ ِر وتكفـرِه‪ .‬وليــس ذلــك من‬

‫أصـ ًـا‪ ،‬بــل تجـرِي عليهــا أحــكام أهــلِ ال ّذ ّمـ ِة يف أَسـ َوإِ تفســراتِها‬ ‫ـرف بالطوائـ ِ‬
‫ـف األخــرى ْ‬ ‫إنَّهــا ال تَعـ ُ‬
‫الفقه ّي ِة والسلوكي ِة وأفظَ ِعها‪ ،‬مستلهم ًة ِمن أسوإِ املراحلِ يف تطبي ِقها يف التاري ِخ اإلسالمي‪ ،‬والتي‬
‫‪19‬‬ ‫ا يبرعلا قرشملا يف تايلقألا ةعانصو ةيفئاطلا ةلأسم‬

‫رثه ْم‬ ‫ِ‬


‫الجامعات اإلسالمية‪ ،‬وأك ُ‬ ‫غال ًبا ما تنسب إىل أكري الحكَّامِ تَقْوى يف ِخ ِ‬
‫طاب‬
‫ةراشب يمزع ‪.‬د‬

‫تق ُّربًــا مــن العلــا ِء املتش ـدِّدي َن والعا ّم ـ ِة ب ْحثًــا عــن الرشعيّــة‪( .‬عمــر بــن عبــد العزيــز‪،‬‬
‫وتعصب‬
‫ّ‬ ‫واملتوكّل‪ ،‬وفتاوى ابن تيمية يف مذبحة كرسوان يف عامِ ‪ 507‬هـ‪1305/‬م‪،‬‬
‫ِ‬
‫الجامعات األخرى مسيحي ًة وإسالمية)‪.‬‬ ‫سياسات سالطني املامليك ض َّد‬

‫ســمِ حــدو ِد‬ ‫ـب تحلي ِلنــا ب َر ْ‬ ‫ـاف إىل ذلــك أَ َّن الطائفي ـ َة ترتب ـ ُ‬
‫ط تاريخ ًّيــا مبوجـ ِ‬ ‫يُضـ ُ‬
‫ِ‬
‫الجديد‬ ‫وحص ٍة ضم َن الك ُِّل‬ ‫ّ‬ ‫ني منزل ٍة ومكان ٍة‬ ‫ِ‬
‫الطوائف واســتقرارِها ث ّم َسـ ْعيِها لتحص ِ‬
‫ن‬ ‫ـاب حقــوقِ أفرا ِدهــا‪ .‬أ َّمــا هــذا النمـ ُ‬
‫ط ال َهجـ ُ‬ ‫ألَ وهــو الدولـ ُة الوطن ّيـةُ‪ ،‬ولَـ ْو عــى حسـ ِ‬
‫ـات وحمـ ِ‬
‫ـات‬ ‫مــن الطائفي ـ ِة والســلف ّي ِة الجِهادي ـ ِة‪ ،‬فتقليــد مشــوه مســيس للفتوحـ ِ‬
‫ـر الديــن‪ .‬وهــذا ليــس مرت ِبطًــا بالــرور ِة بالطائفيــة‪ .‬هــذا إذا اســتثنينا‬
‫الدعــو ِة ونـ ْ ِ‬
‫تركيــب الظاهــرة سياســيا مــن قبــل عوامــل سياســية‪ .‬وعــى كل حــال اجتذبــت هــذه‬
‫الظاهرة الفظيعة من االهتامم اإلعالمي واملخاوف الحقيقية واملضخمة ما غطى‬
‫عــى جرائــم أفظــع بكثــر (كــا ونوعــا‪ ،‬إذا صــح هــذا التصنيــف) ارتكبهــا االســتبداد‪.‬‬

‫كـ َـا أ َّن هــؤالء قَتلــوا ِمـ ْن الســنة يف ســورية والعــراق‪ ،‬أي «طائف ِتهــم» املفرتَضـ ِة‬
‫ني‬
‫وليسوا طائف ِّي َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الطوائف األخرى؛ فَ ُه ْم تكفرييّو َن‬ ‫رث ممَّ قتَلُوا ِمن أبنا ِء‬
‫املتخ َّيل ِة‪ ،‬أك َ‬
‫ُكوصــا إىل مرحلـ ِة مــا قبـ َـل الطائفيـ ِة التــي نَع ِرفُهــا إىل مرحل ِة‬ ‫ســب‪ .‬إنَّهــم ميثِّلــون ن ً‬
‫ف َح ْ‬
‫ي حــدو ٍد معروفـ ٍة لطائفـ ٍة‪ ،‬بــل‬ ‫ـروب الدينيــة‪ .‬هــذا إضافـ ًة إىل أنَّهــم ال ينتَمــو َن ألَ ِّ‬
‫الحـ ِ‬
‫ميثِّلــو َن ِإحيــا ًء كارث ًّيــا مش ـ ّو ًها مل َفهــومِ األ ّم ـ ِة ِ‬
‫والخالف ـ ِة‪ ،‬مــا ق ْبـ َـل الدولــة‪ ،‬ومــا قَ ْبـ َـل‬
‫حتّــى الطائفيـ ِة املعرتِضـ ِة عــى الدولــة‪ .‬وال ُيكـ ُن أَ ْن تنتهـ َـي هــذه الــر َّد ُة الكــرى عــن‬
‫التمـ ُّدنِ العــريب إلّ بِ َأْســاة‪.‬‬

‫ـوص تشــويهِها اإلســا َم الحقيقـ َّـي‪ .‬ف َهـ ْـل ِمـ ْـن‬
‫ر نقاشً ــا مســتم ًّرا بخصـ ِ‬
‫وهــي تث ـ ُ‬
‫كل مامرسـ ٍة يقو ُم بها تنظي ُم الدول ِة‬ ‫يش ٍء اسـ ُمه اإلســا ُم الحقيقي؟ ال شـ َّ‬
‫ـك يف أ َّن َّ‬
‫ِ‬
‫مامرسات‬ ‫َف‪ ،‬ويف‬‫كتابات السل ِ‬
‫ِ‬ ‫اإلسالمي ِة يف العراقِ والشامِ يوج ُد لها س َن ٌد يف‬
‫ـكل‬ ‫ِ‬
‫تاريخــه بـ ِّ‬ ‫ـارج‬
‫يئ خـ َ‬
‫يب واســتدعا ٌّ‬
‫يئ واستنســا ٌّ‬ ‫بعـ ِ‬
‫ـض الس ـلَف‪ .‬مــع أنَّــه س ـ َن ٌد انتقــا ٌّ‬
‫تأكيــد‪ ...‬وب َرأْ ِيــي‪ ،‬فــإ َّن مســأل َة ا ِّدعــا ِء اإلســامِ الحقيقـ ِّـي هـ َـي يف األصــلِ زائفـةٌ؛ ألنَّهــا‬
‫ـت مـ َع «داعــش» إىل‬ ‫ن ال ّديــنِ ‪ -‬باألحـ َرى فَ ْهــمِ ال ّديــن ‪ -‬والتديُّــنِ ‪ ،‬قَـ ْد وصلَـ ْ‬ ‫تخلِـ ُ‬
‫ط بـ َ‬
‫شك يف أنَّه سوف تَجرِي بعدَها ُمراجعاتٌ‬ ‫َي ٌّ‬ ‫ُص َوى الكارث َّي ِة‪ ،‬وليس لد َّ‬ ‫نهايَ ِتها الق ْ‬
‫ِ‬
‫تاريخنــا‪.‬‬ ‫علَنيّـ ٌة ألُمــو ٍر كثــر ٍة كان َمســكوت ًا َع ْنهــا يف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪20‬‬
‫‪21‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق البحث‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪22‬‬

‫د‪ .‬محمد عناد سليمان‬

‫اصطالح لــم يكــن مســتخدما ً أيــام الصحابة‬


‫فمــن أيــن جاء؟‬
‫يف تناقضات مسألة الخالفة‬

‫ر حولــه مــن خالفــات كبــرة تجعــل مــن األهميّــة‬


‫إ َّن موضــوع «الخالفــة» ومــا أث ـ َ‬
‫مبــكان البحــث يف مضمونــه‪ ،‬ومعرفــة حقيقتــه‪ ،‬ومتييــز غثِّــه مــن ســمينه‪ ،‬وتــرك غثِّــه‪،‬‬
‫السياســة حــارضة فاعلــة‪ ،‬مـاَّ دفــع‬ ‫ومــا علــق بــه مــن أوهــام بعــض العلــاء‪ ،‬فكانــت ِّ‬
‫كل طائفــة منهــم‪.‬‬
‫بعضهــم إىل اتِّخــاذ ســبيل التَّأويــل املتناســب مــع مــا تــراه ُّ‬

‫وأرى أ َّن مســألة «الخالفــة» كانــت ســب ًبا يف انقســام األ َّمــة اإلســام َّية بعــد وفــاة‬
‫بي صىل الله عليه وسلم‪ ،‬وما جرى من حوادث تاريخ َّية‪ ،‬ال تزال آثارها مستم َّرة‬ ‫ال َّن ّ‬
‫إىل اليــوم؛ بــل إ َّن معظــم مــا تعيشــه األ َّمــة يف عرصنــا مــن ويــات ومصائــب تــكاد‬
‫تعــود إليهــا‪.‬‬

‫ونشري إىل أ َّن املقال لن يتط َّرق إىل خالفات «الس َّنة» و«الشِّ يعة» يف مسألة‬
‫كل منهام‪ ،‬أو البحث يف رشوط «الخليفة» التي بلغت «أحد‬
‫«الخالفة»‪ ،‬وأحقيَّة ّ‬
‫الصــواب متيــل إليــه‪ ،‬بــل قــد‬ ‫عــر» رشطًــا‪ ،‬وأدلَّــة ّ‬
‫كل فريــقٍ منهــا يف جعــل جــادة ُّ‬
‫نكتفــي مبــا يحتاجــه البحــث مــن ذلــك عــى ســبيل االستشــهاد‪ ،‬وليــس عــى ســبيل‬
‫البحــث وال َّنقــد والتَّفنيد‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫الخلا ةلأسم تاضقانت يف‬

‫وإنَّ ــا القصــد مــن املقــال التَّحقيــق يف أصــل املســألة‪ ،‬ووجودهــا‪ ،‬وهــل أصــاب الفريقــان يف‬
‫ناميلس دانع دمحم ‪.‬د‪ ‬‬

‫الذهاب إىل القول بها‪ ،‬والبحث يف األدلَّة التي زعموا أنَّها تشري إليها‪ ،‬ومن ث َّم بنوا خالفاتهم عليها‪.‬‬
‫والحـ ُّـق الــذي نــراه كــا ســيأيت بيانــه‪ ،‬أ َّن املســألة يف ر ِّمتهــا غــر واقعــة‪ ،‬وال وجــود لهــا؛ بــل إ َّن‬
‫كل فريق منهم أن يثبت وجهة نظره من خالل إخضاع‬ ‫حاول ُّ‬‫َ‬ ‫القوم ابتدعوها يف عصور متأخّرة‪ ،‬ث َّم‬
‫«القــرآن الكريــم» لتأويــل يتناســب مــع مــا يذهــب إليــه‪ ،‬إو إيجــاد األحاديــث ونســبتها إىل ال َّنبـ ّـي صــى‬
‫كل منهــم‪.‬‬
‫اللــه عليــه وســلم‪ ،‬لتثبيــت رأيــه‪ ،‬وأ َّن «الخالفــة» مــن نصيــب مــن يــراه ٌّ‬
‫وعنــد العــودة إىل مــا اعتمــدوه مــن أدلَّــة وجدناهــم قــد اتَّخــذوا مــن قولــه تعــاىل‪َ { :‬وإِ ْذ قَـ َ‬
‫ـال َربُّـ َ‬
‫ـك‬
‫ض َخلِي َفـةً} البقــرة‪ ،30 .‬دليــا عــى رضورة وجــود «خليفـ ٍة» يف األرض‬ ‫ف األَ ْر ِ‬
‫ن َجا ِعـ ٌـل ِ‬
‫لِلْ َمالَئِ َكـ ِة إِ ِّ‬
‫يقــوم مبهمــة اســتالم زمــام األمــور فيهــا‪ ،‬وتــؤول العبــاد إليــه يف أمورهــا وشــؤونها‪ ،‬ثــم حــاول الفريقــان‬
‫كل فريــق أنَّــه صاحــب‬
‫مختصــة بعــد وفــاة ال َّنبــي صــى اللــه عليــه وســلم مبــا يــراه ُّ‬
‫َّ‬ ‫إثبــات أ َّن «الخالفــة»‬
‫الحـ ّـق يف ذلــك‪ ،‬وعليــه درجــت األ َّمــة يف خالفهــا حتــى يومنــا الحــارض‪.‬‬
‫ـص عليــه القرطبـ ُّـي بقولــه‪« :‬هــذه اآليــة أصــل يف نصــب إمــام وخليفــة‪ ،‬يســمع لــه‬
‫ومــن ذلــك مــا نـ َّ‬
‫ويطــاع‪ ،‬لتجتمــع بــه الكلمــة‪ ،‬وتنفــذ بــه أحــكام الخليفــة‪ ،‬وال خــاف يف وجــوب ذلــك بــن األ َّمــة‪ ،‬وال‬
‫بــن األمئَّــة‪ ،‬إال مــا روي عــن األصــم‪ ،‬حيــث كان عــن الشَّ يعــة أصــم‪ ،‬وكذلــك مــن قــال بقولــه‪ ،‬واتَّبعــه‬
‫عــى رأيــه ومذهبــه‪ ،‬قــال‪ :‬إنَّهــا غــر واجبــة يف ال ِّديــن‪ ،‬بــل يســوغ ذلــك‪ ،‬وأ َّن األ َّمــة متــى أقامــوا حججهم‬
‫والصدقــات‬
‫َّ‬ ‫وجهادهــم‪ ،‬وتناصفــوا فيــا بينهــم‪ ،‬وبذلــوا الحــق مــن أنفســهم‪ ،‬وقســموا الغنائــم والفــيء‬
‫عىل أهلها‪ ،‬وأقاموا الحدود عىل من وجبت عليه‪ ،‬أجزأهم ذلك‪ ،‬وال يجب عليهم أن ينصبوا إماما‬
‫القرطبي رحمه الله عىل األص ّم حتى ير َّد عليه مبثل ما قال!‬
‫ُّ‬ ‫يتولَّ ذلك»‪ .‬وال أدري ســبب تحامل‬
‫يصح أن تكون هذه اآلية دليال عىل قض َّية‬
‫ُّ‬ ‫وللوقوف عىل حقيقة هذه املسألة وجوهرها‪ ،‬وهل‬
‫الخالفــة أم ال‪ ،‬رأينــا أن نعــود إىل البحــث يف تفســرها‪ ،‬ومعرفــة معانيهــا‪ ،‬مــن خــال مــا تض َّمنتــه‬
‫ـت عليــه يف ذلــك‪ ،‬ومحاولــة إيضاحهــا اعتــادًا عــى منهجنــا يف «تفســر‬
‫كتــب التَّفاســر‪ ،‬ومــا ع َّولـ ْ‬
‫القــرآن بالقــرآن»‪.‬‬
‫ف األَ ْر ِ‬
‫ض َخلِي َفةً}‪:‬‬ ‫ن َجا ِع ٌل ِ‬
‫ك لِلْ َمالَئِ َك ِة إِ ِّ‬ ‫قوله تعاىل‪َ { :‬وإِ ْذ ق َ‬
‫َال َربُّ َ‬
‫اختلف أهل العلم من ال ّنحويِّني واللُّغويِّني يف إعراب «إذ» يف مطلع اآلية عىل أكرث من وجه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مفض إىل املعنى‪ ،‬ال أن يكون املعنى مطوا ًعا له‪.‬‬ ‫وكل يُرد عليه‪ ،‬واإلعراب‬ ‫ربراته وأسبابه‪ُّ ،‬‬
‫وكل له م ِّ‬
‫ٌّ‬

‫األول‪ :‬ذهــب أبــو عبيــدة وابــن قتيبــة إىل أنَّهــا زائــدة‪ ،‬وردَّه الطَّـ ّ‬
‫ـري بقولــه‪« :‬واألمــر يف ذلــك‬
‫بخــاف مــا قــال‪ ،‬وذلــك أن «إذ» حــرف يــأيت مبعنــى الجــزاء‪ ،‬ويـ ّ‬
‫ـدل عــى مجهــول الوقــت‪ ،‬وغــر جائــز‬
‫إبطــال حــرف كان دليـاً عــى معنــى الــكالم»‪ .‬وكذلــك ر َّد ال َّن َّحــاس مــا ذهبــا إليــه فقــال‪« :‬هــذا خطــأ»‪.‬‬
‫املفسيــن»‪ .‬أ َّمــا أبو ح ّياَن‬
‫ِّ‬ ‫جــاج‪« :‬هــذا اجــراء مــن أيب عبيــدة»‪ .‬وقــال القرطبـ ّـي‪« :‬ردَّه جميــع‬
‫وقــال ال َّر َّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪24‬‬

‫فقــد وصــف هــذا الوجــه بأنــه «ليــس بــيء» بــل زاد فقــال‪« :‬وكان أبــو عبيــدة وابــن قتيبــة ضعيفــن‬
‫يف علــم ال َّنحــو»‪.‬‬
‫الثَــاين‪ :‬أ َّن «إذ» هنــا مبعنــى «قــد»‪ ،‬والتّقديــر‪ :‬وقــد قــال ربُّــك‪ ،‬وقــال أبــو حيَّــان‪« :‬وهــذا ليــس‬
‫بــيء»‪.‬‬
‫الثَّالث‪ :‬أنَّها متعلِّقة بفعل تقديره «اذكر»‪ ،‬وقال أبو ح َّيان‪« :‬هذا ليس بيشء؛ أل َّن فيه إخراجها‬
‫ـري يف‬
‫عــن بابهــا‪ ،‬وهــو أنَّــه ال يتـرَّف فيهــا بغــر الظرفيَّــة‪ ،‬أو بإضافــة ظــرف زمــان إليهــا‪ .‬إال أ َّن الزمخـ ّ‬
‫الكشاف‪ ،‬وابن عطية يف املح َّرر قد أجازا ذلك»‪.‬‬
‫ال َّرابــع‪ :‬أنَّهــا ظــرف‪ ،‬يف موضــع ال َّرفــع والتّقديــر‪ :‬ابتــداء خلقكــم‪ ،‬أو يف موضــع نصــب‪ ،‬والتّقديــر‪:‬‬
‫وابتــداء خلقكــم إذ قــال ربُّــك‪ .‬وهــو مناســب لقولــه تعــاىل‪« :‬خلــق لكــم مــا يف األرض جميعــا»‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬إ َّن «إذ» متعلّقة بالفعل «قال» بعدها‪ ،‬وردَّه أبو ح َّيان‪ ،‬معلِّال ذلك بأ َّن «إذ» مضافة‬
‫إىل الجملة بعدها‪ ،‬واملضاف إليه ال يعمل يف املضاف‪.‬‬
‫الســادس‪ :‬أ َّن «إذ» متعلِّقــة بالفعــل «أحياكــم»‪ ،‬والتَّقديــر‪ :‬وهــو الــذي أحياكــم إذ قــال ربُّــك‪،‬‬
‫َّ‬
‫ووصفــه أبــو ح َّيــان بقولــه‪« :‬ليــس بــيء؛ ألنــه حـ ٌ‬
‫ـذف بغــر دليــل‪ ،‬وفيــه أ َّن اإلحيــاء ليــس واق ًعــا يف‬
‫الصلــة»‪.‬‬
‫وقــت قــول املالئكــة‪ ،‬وحــذف املوصــول وصلتــه‪ ،‬وإبقــاء معمــول ِّ‬
‫الســابع‪ :‬أ َّن «إذ» معمــول لـ«خلقكــم» والتَّقديــر‪ :‬اعبــدوا ربَّكــم الــذي خلقكــم إذ قــال ربُّــك‪ ،‬وعليــه‬
‫َّ‬
‫فــإ َّن «الــواو» حينئـ ٍـذ زائــدة‪ ،‬ويكــون قــد وقــع الفصــل بــن العامــل واملعمــول بهــذه الجمــل‪.‬‬
‫وقــد اســتطردتُ يف ذكــر هــذه الوجــوه لنعلـ َم حجـ َم االختالفــات التــي وقــع فيهــا أهــل العلــم يف‬
‫تفســر كثري من آيات «القرآن الكريم»‪ ،‬والذي بنوا عليه فيام بعد خالفات فقهيَّة أدَّت إىل توســيع‬
‫كل فريــق يدعــم رأيــه بتأويلــه الــذي يــراه مناسـ ًبا‪ ،‬فابتعــدوا يف جملتهــم عــن‬
‫الفجــوة بــن األ َّمــة‪ ،‬وراح ُّ‬
‫الصــواب‪ ،‬فوقعــوا فيــا أســميناه «تحريــف القــرآن بالتَّأويــل»‪.‬‬
‫جــادَّة َّ‬
‫إضافــة إىل أنَّــه يُــر ُّد عــى مــن يــرى أ َّن قولهــم ال يُــردُّ‪ ،‬وأ َّن مــا جــاؤوا بــه هــو الحـ ُّـق الــذي ال ِمــراء فيــه‪،‬‬
‫وهــذا أبــو حيَّــان يقــول بعــد كل هــذه الوجــوه‪« :‬فهــذه مثانيــة أقــوال ينبغــي أ ْن ينـ َّزه كتــاب اللــه عنهــا»‪،‬‬
‫ثــم يذكــر الوجــه الــذي يــراه مناسـ ًبا لســياق اآليــات‪ .‬ومــا أدري كيــف جــاز لــه أن يطلــق مثــل هــذا الحكــم‬
‫والقائــل ببعــض هــذه الوجــوه مــن أكابــر علــاء اللُّغــة وال َّنحــو والتَّفســر؟! بــل إنَّــه يجعــل الوجــه الــذي‬
‫الســهل الواضــح‪ ،‬وكيــف مل‬
‫ذهــب إليــه مل يســبقه أحـ ٌد فيــه‪ ،‬فيقــول‪« :‬فانظــر إىل حســن هــذا الوجــه َّ‬
‫يوفَّــق أكــر ال َّنــاس إىل القــول بــه‪ ،‬وارتبكــوا يف دهيــاء‪ ،‬وخبطــوا خبــط عشــواء»‪.‬‬
‫جــح عندنــا عــدم القــول بزيادتهــا؛ أل َّن ليــس يف «القــرآن» مــا ليــس لــه معنــى‪ ،‬وال يجــوز القــول‬
‫واملر َّ‬
‫بال ِّزيــادة يف أي حــرف فيــه‪ ،‬واللــه تعــاىل أعلم‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫الخلا ةلأسم تاضقانت يف‬

‫أ َّما قوله تعاىل «جاعل» فذهبوا فيه مذهبني‪:‬‬


‫ناميلس دانع دمحم ‪.‬د‪ ‬‬

‫األ َّول أنَّــه مبعنــى «خلــق»‪ ،‬وهــو حينئــذ متعـ ٍـد إىل مفعــول واحــد‪ ،‬وهــو قــول أبــو روق‪ ،‬حيــث يــرى‬
‫كل يشء ورد يف القــرآن بلفــظ «جعــل» فهــو مبعنــى «خلــق»‪ ،‬وإليــه ذهــب الحســن وقتــادة فيــا‬
‫أ َّن َّ‬
‫يرويــه الطَّـ ّ‬
‫ـري والقرطبـ ُّـي وابــن كثــر يف تفاســرهم‪.‬‬

‫الثَّــاين‪ :‬أنَّــه مبعنــى «صـرَّ »‪ ،‬وهــو حينئـ ٍـذ متعــد إىل اثنــن‪ ،‬وهو قــول الف َّراء وال َّزمخرشي وال َّر ّ‬
‫ازي‪،‬‬
‫جــح أبــو ح َّيــان القــول األ َّول‪ ،‬حيــث قــال‪« :‬وكال القولــن ســائغ‪ ،‬إال أ َّن األ َّول عنــدي أجــود‪ ،‬ألنَّهــم‬
‫ور َّ‬
‫قالــوا‪ :‬أتجعــل فيهــا مــن يفســد فيهــا‪ ،‬فظاهــر هــذا أنَّــه مقابــل لقولــه‪ :‬جاعــل يف األرض خليفــة‪ ،‬فلــو‬
‫كان «الجعــل» عــى معنــى التَّصيــر لذكــره ثان ًيــا»‪.‬‬

‫ي‪ ،‬خالفًا أليب ح َّيان ومن وافقه‪ ،‬أل َّن منهج‬ ‫والــذي نــراه أنَّــه مبعنــى «صـرَّ » كــا ذهــب إليــه الطـ َّـر ّ‬
‫ـى ِإبْ َرا ِهيـ َم َربُّـ ُه‬
‫«تفســر القــرآن بالقــرآن» يدلَّنــا عليــه‪ ،‬فقــد ورد يف هــذا املعنــى قولــه تعــاىل‪َ { :‬و ِإ ِذ ابْتَـ َ‬
‫ـى‬ ‫ـال اللّـ ُه يَــا ِعيـ َ‬‫ـاس إِ َمامـاً} البقــرة ‪ .124‬وقولــه تعــاىل‪{ :‬إِ ْذ قَـ َ‬ ‫جا ِعلُـ َ‬
‫ـك لِل َّنـ ِ‬ ‫ت فَأَتَ َّ ُهـ َّن قَـ َ‬
‫ـال إِ ِّ‬
‫ن َ‬ ‫ِب َكلِـ َـا ٍ‬
‫ل‬ ‫ك ِمـ َن ال َِّذيـ َن كَ َفـ ُروا ْ َو َجا ِعـ ُـل ال َِّذيـ َن اتَّ َب ُعـ َ‬
‫ـوك فَـ ْو َق ال َِّذيـ َن كَ َفـ ُروا ْ إِ َ‬ ‫ل َو ُمطَ ِّهـ ُر َ‬ ‫ـك َو َرا ِف ُعـ َ‬
‫ـك إِ َ َّ‬ ‫ن ُمتَ َوفِّيـ َ‬ ‫إِ ِّ‬
‫ص ِعيــدا ً ُجـ ُرزا ً} الكهــف ‪ .8‬وقولــه‪:‬‬ ‫يَـ ْومِ الْ ِقيَا َمـ ِة} آل عمــران‪ .55‬وقولــه أيضً ــا‪َ { :‬و ِإنَّــا لَ َجا ِعلُــو َن َمــا َعلَيْ َهــا َ‬
‫ن إِنَّــا َرادُّو ُه‬ ‫ف الْ َيـ ِّم َولَ تَ َخـ ِ‬
‫ـاف َولَ ت َ ْحـ َز ِ‬ ‫ـت َعلَ ْيـ ِه فَأَلْ ِقيـ ِه ِ‬ ‫ض ِعيـ ِه فَـ ِإذَا ِخ ْفـ ِ‬ ‫ـوس أَ ْن أَ ْر ِ‬
‫ل أُ ِّم ُمـ َ‬ ‫{ َوأَ ْو َح ْي َنــا إِ َ‬
‫ات َوالْ َ ْر ِ‬
‫ض َجا ِعــلِ‬ ‫السـ َـا َو ِ‬ ‫ني } القصــص‪ .7‬وقولــه‪{ :‬الْ َح ْم ـ ُد لِلَّ ـ ِه ف ِ‬
‫َاط ـ ِر َّ‬ ‫ـك َو َجا ِعلُــو ُه ِم ـ َن الْ ُم ْر َس ـلِ َ‬
‫إِلَ ْيـ ِ‬
‫ول أَ ْج ِن َحـ ٍة َّمثْ َنــى َو�ثـُ َـاثَ َو ُربَــاعَ} فاطــر‪.1‬‬
‫الْ َم َلئِ َكـ ِة ُر ُسـاً أُ ِ‬
‫الطَّربي عن عطاء عن ابن سابط‬
‫ّ‬ ‫وذهب قوم إىل أ َّن املقصود بـ«األرض» «مكة املك َّرمة»‪ ،‬رواه‬
‫بي صىل الله عليه وسلم حيث قال‪« :‬دحيت األرض مبكَّة‪ ،‬وكانت املالئكة تطوف‬
‫مرفو ًعا إىل ال َّن َّ‬
‫بالبيــت‪ ،‬فهــي أ َّول مــن طــاف بــه‪ ،‬وهــي األرض التــي قــال اللــه‪ :‬إ ِّن جاعــل يف األرض خليفــة»‪ .‬وعلَّــل‬
‫والصالحــون أتاهــا هــو ومــن معــه‪ ،‬فعبــدوا اللــه بهــا حتــى‬
‫َّ‬ ‫ذلــك بــ«أ َّن النبـ ّـي إذا هلــك قومــه‪ ،‬ونجــا هــو‬
‫ميوتــوا‪ ،‬فــإ َّن قــر نــوح‪ ،‬وهــود‪ ،‬وصالــح‪ ،‬وشــعيب‪ ،‬بــن زمــزم والركــن واملقــام»‪ .‬وقــال بعضهــم‪ :‬لذلــك‬
‫سـ ِّميت «ب َّكــة»؛ أل َّن األرض بكــت مــن تحتهــا‪.‬‬

‫وقــد رسد أهــل التَّفســر فيهــا أقــواال كثــرة‪ ،‬منهــا أ َّن «م َّكــة» أ ّول بيــت وضــع لل َّنــاس‪ ،‬وأ َّن اللــه خلــق‬
‫البيــت قبــل األرض بألفــي عــام‪ ،‬وكان زبــدة بيضــاء عــى املــاء‪ ،‬فدحيــت األرض تحتــه‪ .‬وقيــل‪ :‬هــو أ َّول‬
‫بيت بناه آدم يف األرض‪ .‬وقيل‪ :‬ملا أهبط آدم إىل األرض قالت له املالئكة‪ :‬طاف حول هذا البيت‪،‬‬
‫فلقــد طفنــا قبلــك بألفــي عــام‪ ،‬وغــر ذلــك مــن األقاويــل التــي ال تثبــت عنــد التَّحقيــق‪ ،‬واللــه تعــاىل‬
‫السـ ِمي ُع الْ َع ِليـ ُم}‬ ‫ـك أَنـ َ‬
‫ـت َّ‬ ‫ـت َوإِ ْسـ َـا ِع ُ‬
‫يل َربَّ َنــا تَ َق َّبـ ْـل ِم َّنــا إِنَّـ َ‬ ‫يقــول‪َ { :‬وإِ ْذ يَ ْرفَـ ُع إِبْ َرا ِهيـ ُم الْ َق َوا ِعـ َد ِمـ َن الْ َب ْيـ ِ‬
‫أي مســجد وضــع أ َّول؟ قــال‪ :‬املســجد‬
‫البقــرة ‪ .127‬ويؤيِّــده حديــث أيب ذر‪« ،‬قلــت يــا رســول اللــه‪ُّ ،‬‬
‫أي؟ قال‪ :‬املسجد األقىص‪ .‬قلت‪ :‬كم كان بينهام؟ قال‪ :‬أربعون سنة»‪ ،‬ممَّ ُّ‬
‫يدل‬ ‫قلت‪ :‬ث َّم ّ‬
‫ُ‬ ‫الحرام‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪26‬‬

‫الســام أ َّول مــن بنــى البيــت الحــرام‪ .‬واللــه أعلــم‪.‬‬


‫الســابقة مــن أ َّن «إبراهيــم» عليــه َّ‬
‫عــى موافقتــه لآليــة َّ‬
‫خاصة بها؛ أل َّن «القرآن الكريم»‬
‫َّ‬ ‫وليست أرضً ا‬
‫ْ‬ ‫وال َّراجح أ َّن األرض يف ظاهرها مرا ٌد بها العموم‪،‬‬
‫قــد أورد هــذه اللّفظــة يف جميــع آياتــه مبعنــى العمــوم وليــس الخصــوص‪ ،‬إضافــة إىل أنَّــه لــو وجــب‬
‫خاصــا بهــا دون‬
‫ًّ‬ ‫القــول بــأ َّن املقصــود «م َّكــة» بعينهــا للــزم عــى ذلــك أن يكــون «الخليفــة» فيــا بعــد‬
‫غريهــا‪ ،‬وهــو بعيــد‪ ،‬واللــه تعــاىل أعلــم‪.‬‬
‫أ َّما قوله تعاىل «خليفة» فهي املراد يف هذا البحث‪ ،‬والتَّعويل عليها؛ أل َّن القوم جعلوا منها‬
‫دليــا عــى رضورة وجــود «خليفــة» يف األرض يقــوم بأحكامــه وتنفيــذ وصايــاه‪ ،‬وســنذكر مــا قالــوه يف‬
‫ذلــك‪ ،‬ثــم نبيِّــن مــا هــو ال َّراجــح فيهــا‪ ،‬واملقصــود منها‪.‬‬
‫وكــا أنَّهــم درجــوا عــى االختــاف يف التَّفســر وبنــاء األحــكام يف معظــم آيــات «القــرآن الكريــم‬
‫والبغوي أ َّن‬
‫ّ‬ ‫فكذلك اختلفوا يف معنى «الخليفة»‪ ،‬فرأتْ جامعة من أهل العلم كالطَّربي وال َّرازي‬
‫«الخليفــة» مبعنــى «خالــف»‪ ،‬أي‪ :‬يقــوم مقــام غــره يف أمــر مــن األمــور‪ ،‬بينــا ذهــب آخــرون إىل أنَّهــا‬
‫مبعنــى «مفعــول» أي‪ :‬مخلــف‪ ،‬كــا يف قولهــم‪ :‬ذبيحــة‪ ،‬مبعنــى‪ :‬مذبوحــة‪ .‬وذكــر هــذان االحتــاالن‬
‫القرطبــي وأبــو حيَّــان‪.‬‬
‫رد يف مقتضبــه حيــث قــال‪« :‬وذلــك أ َّن فعيـاً‬
‫والصحيــح أنَّهــا مبعنــى «مفعــول»؛ ملــا ذكــره املـ ِّ‬
‫َّ‬
‫هــو اســم الفاعــل مــن الفعــل الــذي ال يتعـدَّى‪ ،‬أي‪ :‬الفعــل الــازم الــذي ال يحتــاج مفعــوال بــه‪ ،‬وعليــه‬
‫فــإ َّن «فعيــل» ال يكــون اســم «فاعــل» مــن الفعــل املتع ـدِّي كـ« َخلَـ َـف»‪ ،‬وميكــن أن يُصــاغ منــه اســم‬
‫«املفعــول» مبعنــى «فعيــل»‪ ،‬و«خليفــة» عــى وزن «فعيــل» لكــن مبعنــى «مفعــول»‪.‬‬
‫وتفـ َّرع عــن اختالفهــم يف معنــى «الخليفــة» اختالفهــم فيمــن هــو «الخالــف»‪ ،‬فذهــب بعضهــم‬
‫الســام‪ ،‬وأنَّــه خليفــة‬
‫والس ـدّي وكثــر مــن أهــل العلــم إىل أنَّــه آدم عليــه َّ‬
‫كابــن مســعود وابــن ع َّبــاس ُّ‬
‫اللــه «يف إمضــاء أحكامــه وأوامــره؛ ألنَّــه أ َّول رســول إىل األرض»‪ ،‬وذكــره القرطبـ ّـي ومــال إليــه‪ ،‬وا َّدعــى‬
‫أ َّن هــذا القــول هــو مذهــب جميــع أهــل التَّأويــل‪.‬‬
‫ـض‬
‫ونالحــظ أ َّن القرطبـ َّـي رحمــه اللــه قــد حــاول بقولــه‪ :‬وهــو مذهــب جميــع أهــل التَّأويــل‪ ،‬أن يغـ َّ‬
‫الطَّــرف ع َّمــن خالفهــم يف ذلــك‪ ،‬أو يكــون رأي املخالــف مل يصلــه بعــد‪ ،‬وهــو بعيــد‪ ،‬ومــا قالــه ليــس‬
‫بصحيــح‪.‬‬
‫ث ـ َّم ذكــر حديثًــا أليب ذ ّر فقــال‪« :‬قلــت‪ :‬يــا رســول اللــه‪ ،‬أنب ًيــا كان مرســا؟ قــال‪ :‬نعــم‪ .‬ويقــال‪:‬‬
‫ملــن كان رســوالً ومل يكــن يف األرض أحــد؟ فيقــال‪ :‬كان رســوالً إىل ولــده‪ ،‬وكانــوا أربعــن ول ـدًا يف‬
‫عرشيــن بط ًنــا‪ ،‬يف كل بطــن ذكــر وأنثــى‪ ،‬وتوالــدوا حتــى كــروا»‪ ،‬ثــم قــال‪« :‬هكــذا ذكــر أهــل التَّــوراة‬
‫وروي عــن وهــب بــن منبــه أنَّــه عــاش ألــف ســنة»‪ .‬وال شـ َّ‬
‫ـك أ َّن هــذا بعيــد‪ ،‬وكــا أشــار أنَّــه مأخــوذ عــن‬
‫الصحيــح‪ ،‬فقــال‪« :‬واملــراد بالخليفــة هنــا آدم‪ ،‬سـاَّ ه خليفــة؛‬
‫أهــل التَّــوراة‪ .‬وكذلــك رأى البغــوي أنَّــه َّ‬
‫‪27‬‬ ‫الخلا ةلأسم تاضقانت يف‬

‫والصحيــح‪ :‬أنَّــه خليفــة اللــه يف أرضــه؛‬


‫َّ‬ ‫ألنَّــه خلــف الجــن‪ ،‬أي جــاء بعدهــم‪ ،‬وقيــل‪ :‬ألنــه يخلفــه غــره‪.‬‬
‫ناميلس دانع دمحم ‪.‬د‪ ‬‬

‫إلقامــة أحكامــه‪ ،‬وتنفيــذ وصايــاه»‪.‬‬


‫وال شـ َّ‬
‫ـك أ َّن اختالفهــم يف ذلــك نابــع مــن فهمهــم ملعنــى «الخليفــة» مــن أن يكــون «خليفــة»‬
‫الســام جــاء‬
‫لســابق‪ ،‬فوقعــوا يف أشــياء عجيبــة ال تثبــت عنــد التَّحقيــق‪ ،‬مــن ذلــك أ َّن «آدم» عليــه َّ‬
‫البغوي‪ ،‬أو يخلف «املالئكة»‪ ،‬أو يخلف‬ ‫ّ‬ ‫ليخلف «الج ّن» بعد أن نفاهم الله من األرض‪ ،‬كام أشار‬ ‫َ‬
‫«اللــه» ســبحانه وتعــاىل يف الحكــم بــن املكلَّفــن مــن خلقــه‪ ،‬وهــو مـ ّ‬
‫ـروي عــن ابــن مســعود‪ ،‬وابــن‬
‫ـكل مــن انتقــل إليــه تدبــر أهــل األرض‪،‬‬
‫والسـدِّي‪ .‬بــل قــال أبــو حيَّــان‪« :‬وقيــل‪ :‬الخليفــة اسـ ٌم لـ ِّ‬
‫عبّــاس‪ُّ ،‬‬
‫كل مــن ويل ال ـ ُّروم‪ :‬قيــر‪ ،‬والفــرس‪ :‬كــرى‪ ،‬واليمــن‪ :‬ت َّبــع»‪ .‬وقــال‬
‫وال َّنظــر يف مصالحهــم‪ ،‬كــا أ َّن ّ‬
‫للســلطان األعظــم خليفــة؛ ألنَّــه يخلــف الــذي كان قبلــه»‪ .‬ومــا قــااله‬
‫ابــن كثــر أيضً ــا‪« :‬ومــن ذلــك قيــل ُّ‬
‫بعيــد ملــا فيــه مــن التكلُّــف‪ ،‬وإيجــاد معنــى جديــد مل يألفــه أهــل اللُّغــة‪.‬‬
‫بينــا ذهــب آخــرون إىل أ َّن املراد «بنــو آدم»‪ ،‬ومنهــم ابــن كثــر حيــث قــال‪« :‬وليــس املــراد هنــا‬
‫السالم فقط»‪« ،‬بل الخالف يف ذلك كثري‪ ،‬حكاه فخر الدّين ال َّرازي يف تفسريه‬
‫بالخليفة آدم عليه َّ‬
‫وغــره‪ ،‬والظَّاهــر أنــه مل يــر ْد آدم عي ًنــا»‪.‬‬
‫وما ذهب إليه ابن كثري هو ال َّراجح الذي نراه صوابًا لسببني‪:‬‬
‫األ َّول‪ :‬مــا ذكــره علــاء اللغــة وال َّنحــو وبعــض أهــل التَّفســر مــن أ َّن «خليفــة» مبعنــى «مفعــول»‬
‫ويكــون املعنــى‪ :‬ســيخلف آدم مــن بنيــه جيــا بعــد جيــل‪ ،‬وهــو املناســب لتت َّمــة اآليــة يف قولــه تعاىل‪:‬‬
‫ـك} البقــرة‬ ‫ِّس لَـ َ‬
‫ك َونُ َق ـد ُ‬ ‫ُس ـبِّ ُح ِب َح ْمـ ِـد َ‬
‫ك ال ِّد َمــاء َونَ ْح ـ ُن ن َ‬‫س ـ ِف ُ‬ ‫{قَالُــوا ْ أَت َ ْج َعـ ُـل ِفي َهــا َمــن يُف ِ‬
‫ْس ـ ُد ِفي َهــا َويَ ْ‬
‫‪ .30‬وباالعتــاد عــى منهــج «تفســر القــرآن بالقــرآن» نجــد مــا يؤيِّــد ذلــك كقولــه تعــاىل‪{ :‬يَــا دَا ُوو ُد ِإنَّــا‬
‫ـك َعــن َسـبِيلِ اللَّـ ِه إِ َّن‬ ‫ضلَّـ َ‬‫ـاس بِالْ َحـ ِّـق َو َل تَتَّ ِبـعِ الْ َهـ َوى فَيُ ِ‬
‫ـن ال َّنـ ِ‬
‫ض فَا ْح ُكــم بَـ ْ َ‬‫ف الْ َ ْر ِ‬
‫ـاك َخ ِلي َفـ ًة ِ‬ ‫َج َعلْ َنـ َ‬
‫ـاب} ص‪ .26‬ومن املعلوم أ َّن‬ ‫سـ ِ‬ ‫َســوا يَ ْو َم ال ِْح َ‬‫َاب شَ ـ ِـدي ٌد بِ َا ن ُ‬‫ضلُّو َن َعن َسـبِيلِ اللَّ ِه لَ ُه ْم َعذ ٌ‬ ‫ال َِّذي َن يَ ِ‬
‫يخلف أحدًا‪ ،‬ومل يسبقه أح ٌد يف الحكم ليكون «خليفة» له‪ .‬وقد ورد هذا‬ ‫ْ‬ ‫السالم مل‬ ‫«داود» عليه َّ‬
‫ض‬ ‫ض َو َرفَ َع بَ ْعضَ ُك ْم فَ ْو َق بَ ْع ٍ‬ ‫املعنى بلفظ الجمع يف قوله تعاىل‪َ { :‬و ُه َو ال َِّذي َج َعلَ ُك ْم َخالَئِ َف األَ ْر ِ‬
‫الســيوطي أ َّن املــراد جمــع «خليفــة»‪ ،‬أي‪ :‬يخلــف بعضكــم بعضً ا‪ ،‬ومنه‬ ‫ـات} األنعــام ‪ ،165‬وزعــم ِّ‬ ‫َد َر َجـ ٍ‬
‫ض ِمــن بَ ْع ِد ِهــم لِ َننظُـ َر كَ ْيـ َـف تَ ْع َملُــونَ} يونــس‪ .14‬وقولــه‪:‬‬ ‫ف األَ ْر ِ‬‫قولــه تعــاىل‪{ :‬ث ُـ َّم َج َعلْ َناكُـ ْم َخالَئِـ َـف ِ‬
‫ـك َو َج َعلْ َنا ُهـ ْم َخالَئِـ َـف َوأَ ْغ َرقْ َنــا ال َِّذيـ َن كَ َّذبُــوا ْ بِآيَاتِ َنــا فَانظُـ ْر كَيْـ َـف‬
‫ف الْ ُفلْـ ِ‬‫{فَ َك َّذبُــو ُه فَ َن َّجيْ َنــا ُه َو َمــن َّم َعـ ُه ِ‬
‫ض فَ َمن كَ َف َر فَ َعلَ ْي ِه‬ ‫ف ْالَ ْر ِ‬ ‫كَا َن َعا ِق َب ُة الْ ُمن َذرِي َن} يونس‪ .73‬ومنه أيضً ا‪ُ { :‬ه َو ال َِّذي َج َعلَ ُك ْم خ ََلئِ َف ِ‬
‫َســارا ً} فاطــر‪.39‬‬ ‫كُ ْفـ ُرهُ َولَ يَ ِزيـ ُد الْكَا ِف ِريـ َن كُ ْف ُر ُهـ ْم ِعنـ َد َربِّ ِهـ ْم إِلَّ َم ْقتـاً َولَ يَ ِزيـ ُد الْكَا ِف ِريـ َن كُ ْف ُر ُهـ ْم إِلَّ خ َ‬
‫الســام مخلــوق ليكــون «خليفــة» يف األرض‪ ،‬أي تخلفــه أجيالــه‬
‫ومــن هنــا نجــد أ َّن «آدم» عليــه َّ‬
‫التــي تتــوارث األرض بعــده‪ ،‬وتســكنه جيــا بعــد جيــل‪ ،‬فهــو ليــس بديــا مــكان أحــد يف األرض‪ ،‬وبهــذا‬
‫ـرون‪ ،‬واجتهــدوا يف إيجادهــا‪ ،‬فابتعــدوا‬
‫املعنــى ميكــن نفــي جميــع املعــاين التــي اصطنعهــا املفـ ِّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪28‬‬

‫ـره «القــرآن» نفســه‪ ،‬وهــو‬


‫الســياق‪ ،‬وكــا يفـ ِّ‬
‫عــن املعنــى املــراد منهــا‪ ،‬كــا يقتضيــه ِّ‬
‫ـري‪.‬‬
‫مــا ذهــب إليــه الحســن البـ ّ‬
‫الثَّــاين‪ :‬عنــد التَّحقيــق يف معنــى «خليفــة» لغويًــا نجــد أنَّهــا مل تـ ِ‬
‫ـأت مبعنــى‬
‫املفسون ومن ذهب مذهبهم‪ ،‬فقد قال‬ ‫ّ‬ ‫الحاكم‪ ،‬أو صاحب الوالية كام نحا إليه‬
‫ابــن فــارس يف مقاييســه‪َ « :‬خلَـ َـف‪ ،‬الخــاء‪ ،‬والــام‪ ،‬والفــاء‪ ،‬أصــول ثالثــة‪ ،‬أحدهــا‪ :‬أن‬
‫يجيء يشء بعد يشء‪ ،‬يقوم مقامه‪ .‬والثَّاين‪ :‬خالف قدَّام‪ .‬والثَّالث‪ :‬التَّغري ومنه‬
‫الصائــم أطيــب عنــد اللــه مــن ريــح املســك»‪.‬‬
‫الحديــث‪ :‬لخلــوف فــم َّ‬
‫ـري وأبــو حيَّــان وابــن كثــر وغريهم من أ َّن «الخليفة»‬ ‫فــا نجــد عنــده مــا ذكــره الطَّـ ُّ‬
‫الســلطان األعظــم‪ ،‬مــا يشــر إىل أنَّــه معنــى طــارئ‪ ،‬ومســتحدث‪ ،‬مل يكــن‬ ‫مبعنــى ُّ‬
‫الســابقة تأباه‪ ،‬وال‬‫معهودًا لدى أهل العلم فيام ســبق‪ ،‬إضافة إىل أ َّن اآلية الكرمية َّ‬
‫ـص ابــن فــارس‪ ،‬ويدعــم مــا ذهبنــا إليــه مــن أ َّن املــراد‬‫تحتمــل إال الوجــه الثَّالــث يف نـ ِّ‬
‫بـ«جاعــل» معنــى «صيَّ »‪.‬‬
‫إضافــة إىل أ َّن أح ـدًا مل يس ـ ِّم أبــا بكــر ريض اللــه عنــه بـ«الخليفــة» املــراد بهــا‬
‫الســلطان األعظــم؛ يدلُّنــا عليــه أ َّن عمــر بــن الخطَّــاب ريض اللــه عنــه ملــا تــولَّ زمــام‬‫ُّ‬
‫األمــور اســتبدلها بكلمــة «أمــر املؤمنــن» لعلمــه أنَّهــا ال تعنــي الحاكــم أو صاحــب‬
‫الســلطة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وبالتَّــايل إســقاط نظريَّــة رضورة «نصــب خليفــة» كــا ذهــب إىل ذلــك ثلَّــة مــن‬
‫العلــاء‪ ،‬وخالفهــم «األص ـ ُّم» يف ذلــك‪ ،‬إضافــة إىل مــا عليــه واقــع الحــال مــن أ َّن‬
‫معظــم مــن ي َّدعــي مــن أهــل العلــم أ َّن الحاكــم القائــم هــو «الخليفــة» هــو مخالــف‬
‫ـروط املعروفــة أن يكــون «قرش ـ ًيا»‪.‬‬
‫ألحــد الـ ُّ‬
‫السؤال التَّايل‪:‬‬ ‫ولعل من أقوى األدلَّة عىل بُعد ما ذهبوا إليه يف تفسري اآلية ُّ‬ ‫َّ‬
‫إذا كان املقصــود بـ«الخليفــة» أن يقــوم بأوامــر اللــه وتنفيــذ وصايــاه يف األرض‪،‬‬
‫أليــس رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم أوىل ال َّنــاس بهــذا اللَّقــب؟! ملَ ملْ نجــد‬
‫وثيقــة تاريخ َّيــة أو دين َّيــة تثبــت لنــا تســميتَه بذلــك؟ ملــاذا ال نج ـ ُد وثائــق تاريخ َّيــة‬
‫أيضً ــا تشــر إىل أ َّن «الخلفــاء» قــد سـ ُّموا فــرة حكمهــم بعهــد «الخالفــة»؟! أليــس‬
‫مــن أطلــق «الخالفــة ال َّراشــدة» أراد أن يدخــل نفســه يف ح ِّيــز «الخالفــة» وإن مل‬
‫تكــن راشــدة؟ إذا كانــت تســمية الخالفــة أو اإلمامــة غــر معروفــة يف عهــد الصحابــة‬
‫ـيايس يف األ َّمــة‬
‫ّ‬ ‫األ َّول فمــن أيــن جــاءت؟ ومــن أراد لهــا أن تكــون موضــع خــاف سـ‬
‫ال ينتهــي إال بانتهائهــا؟‬
‫‪29‬‬ ‫ارص ةرؤب ‪:‬ايناركوأ‬
‫للادبعلا يلع‬

‫عيل العبدالله‬

‫أوكرانيا‪ :‬بؤرة رصاع‬

‫ظهــرت أوكرانيــا كدولــة مســتقلة بعــد انهيــار االتحــاد الســوفيايت عــام ‪ 1991‬وقــد‬
‫كانــت‪ ،‬بســبب موقعهــا وعــدد ســكانها (‪ 46‬مليــون نســمة)‪ ،‬تحتــل موقع ـاً هام ـاً‬
‫يف حلــف وارســو‪ ،‬مبــا يف ذلــك املشــاركة يف تقســيم عمــل يف مجــال الصواريــخ‬
‫النوويــة‪ ،‬ونــر شــبكة صواريــخ بالســتية تحمــل رؤوسـاً نوويــة عــى أراضيهــا‪ ،‬ناهيــك‬
‫عن عالقات تاريخية عميقة مع روسيا‪ :‬والدة األمة الروسية والكنيسة األرثوذوكسية‪،‬‬
‫التي غدت الكنيسة القومية الروسية بعد اعتناق األخرية للمسيحية‪ ،‬يف اوكرانيا‪،‬‬
‫فقرب ميناء سيفاستوبول يف شبه جزيرة القرم‪ ،‬تقول األسطورة الروسية‪ ،‬تم تعميد‬
‫األمــر فالدميــر يف عــام ‪ ،988‬يف أوىل خطــوات دخــول املســيحية لهــذه البــاد‪.‬‬
‫وقد مثّل استيالء الروس عىل جزيرة القرم يف ‪ 1773‬تطورا ً كبريا ً يف مصائر روسيا‪،‬‬
‫التــي أصبــح لهــا للمــرة األوىل مينــاء يف امليــاه الدافئــة وأســطول قــرب املتوســط(‪.)1‬‬

‫تغريت معادلة القوة بني روســيا وأوكرانيا بفعل التحول والتغري الذي طرأ عىل‬
‫روســيا وتوســعها عــى حســاب شــعوب الجــوار‪ ،‬ولكــن العالقــة بينهــا ظلــت متينــة‪،‬‬
‫فقد غدا لروســيا نفوذ كبري فيها‪ ،‬ســواء عىل مســتوى األشــخاص النافذين أو عىل‬
‫مستوى املؤسسات‪ .‬ولكن قاعدتها األكرث وثوقاً وقوة متثلت يف األقلية الروسية‪،‬‬
‫التــي تصــل نســبتها إىل ‪ 17.3‬يف املائــة مــن الســكان‪ ،‬وتتمركــز يف شــبه جزيــرة‬
‫القــرم وأقاليــم الــرق املحاذيــة لروســيا‪ ،‬ففــي هــذه األخــرة‪ ،‬عــى وجــه الخصــوص‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪30‬‬

‫ال تتحــدث أغلبيــة الســكان اللغــة الروســية وحســب‪ ،‬بــل إن صــات الســكان التجاريــة‪ ،‬الصناعيــة‪،‬‬
‫العائليــة بروســيا عــر الحــدود‪ ،‬متتــد إىل عقــود طويلــة‪ ،‬ورمبــا قــرون‪.‬‬

‫تشابك مصالح‬
‫كانت روسيا وما زالت حريصة عىل تعزيز هذا النفوذ‪ ،‬وبناء عالقة سياسية مستقرة ودامئة مع‬
‫أوكرانيا‪ ،‬سواء عىل مستوى العالقات الثنائية‪ ،‬أم ضمن إطار االتحاد األورايس‪ ،‬الذي تصور الرئيس‬
‫الــرويس فالدميــر بوتــن أن أوكرانيــا ســتكون حجــر زاويتــه‪ .‬بــدون أوكرانيــا‪ ،‬يف الحقيقــة‪ ،‬يفقــد االتحــاد‬
‫األورايس معنــاه كليــة‪ ،‬بســبب األهميــة الجيوســراتيجية الكــرى ألوكرانيــا‪ ،‬باعتبارهــا املمــر الســهيل‬
‫لروســيا باتجــاه أوروبــا الغربيــة‪ ،‬وقــد قــال زبيغينيــو بريجنســي‪ ،‬مستشــار األمــن القومــي األمريــي يف‬
‫إدارة الرئيــس جيمــي كارتــر ‪« :1981 -1977‬دون أوكرانيــا لــن تكــون روســيا دولــة عظمــى»‪ .‬فأوكرانيــا‪،‬‬
‫بالنســبة للرئيــس الــرويس‪ ،‬تقــع يف نطــاق دبلوماســية «الجــوار القريــب» التــي اعتمدتهــا روســيا منــذ‬
‫عهــد القيــارصة‪ .‬وهــذه الدبلوماســية اتخــذت‪ ،‬بعــد الحــرب العامليــة الثانيــة‪ ،‬شــكلني ظاهريــن؛ إمــا‬
‫بســط هيمنــة موســكو ب ــ«الواســطة» عــى دول «الجــوار القريــب» ‪ -‬كــا كان الحــال مــع أوكرانيــا ومــا‬
‫هــو حاليـاً مــع طاجيكســتان وأبخازيــا وأوســيتيا الجنوبيــة يف منطقــة القوقــاز‪ -‬أو تحييدهــا قــرا ً ومنــع‬
‫انضاممهــا إىل حلــف الناتــو‪ ،‬كــا هــو الحــال مــع فنلنــدا وبيالروســيا(‪.)2‬‬

‫والعالقات الروســية – األوكرانية ال ميكن حرصها‪ ،‬كام ذهب البعض‪ ،‬باملكاســب أو الخســائر‬
‫االقتصاديــة املتوقعــة تبع ـاً لطبيعــة التقــارب أو التباعــد بــن البلديــن‪ ،‬ألن الرتابــط العضــوي الــذي‬
‫ترســخ عــى مــدى قــرون يضــع أوكرانيــا يف رأس قامئــة أولويــات روســيا‪ .‬فقــد ظلــت العالقــات بــن‬
‫البلديــن أشــبه بعالقــات بلــد واحــد تفصــل أطرافــه حــدود وحواجــز وقوانــن محليــة‪ ،‬فقرابــة نصــف‬
‫ســكان األقاليــم الرشقيــة يتكلمــون اللغــة الروســية ويتطلعــون إىل تعزيــز التقــارب مــع موســكو‪ ،‬وهــذا‬
‫لعــب دورا ً رئيس ـاً يف تحويــل أوكرانيــا إىل ســاحة نفــوذ أساســية للــروس‪ ،‬ونافــذة حيويــة عــى أوروبــا‬
‫ال ميكــن فصلهــا مــن دون إلحــاق أرضار كارثيــة بروســيا نفســها‪ ،‬ألن التحــاق أوكرانيــا باالتحــاد األورويب‬
‫ســيعني التزامهــا بعــدد مــن املواثيــق املشــركة‪ ،‬التــي مــن بينهــا اتخــاذ سياســات دوليــة وإقليميــة‬
‫جــح كثــرون أن الخطــوة التاليــة ســتكون االنضــام إىل حلــف الناتــو‪،‬‬
‫تعــارض مصالــح موســكو‪ ،‬كــا ير ّ‬
‫مــا يعنــي إحــكام تطويــق روســيا عســكرياً‪ ،‬ونــر الصواريــخ الغربيــة تحــت نوافــذ الكرملــن مبــارشة(‪.)3‬‬

‫وعىل الصعيد االقتصادي – الصناعي‪ ،‬مثة خسائر ال تعوض أيضاً‪ .‬إذ متيز النموذج السوفيايت‬
‫بإقامة مجمعات صناعية ضخمة موزعة يف فضائه‪ ،‬وبعد انهيار الدولة السوفياتية تالشت غالبية‬
‫هــذه املجمعــات العمالقــة‪ ،‬إذ مل يعــد ممكن ـاً اســتمرار مجمــع صاروخــي يف العمــل مث ـاً عندمــا‬
‫تنتــج أجــزاء منــه يف ضواحــي موســكو وأجــزاء أخــرى يف كازاخســتان أو يف أوكرانيــا أو بيالروســيا‪ .‬أمــا‬
‫املجمعــات األخــرى التــي ورثتهــا أوكرانيــا ومــا زالــت تشــكل قاعــدة صناعيــة كــرى فظلــت مرتبطــة‬
‫‪31‬‬ ‫ارص ةرؤب ‪:‬ايناركوأ‬

‫بصناعــات مختلفــة يف بلــدان أخــرى عــى رأســها روســيا‪ .‬مثـاً تقــوم مصانــع أوكرانيــة بتقديــم تقنيــات‬
‫للادبعلا يلع‬

‫الزمة لصناعة املحطات الكهروذرية الروسية‪ ،‬وملجمعات الصواريخ وغريها من الصناعات الحيوية‬
‫القتصــادي البلديــن‪ .‬مــا يعنــي أن تداعيــات انضــام أوكرانيــا إىل االتحــاد األورويب ســتكون كبــرة‬
‫وخطــرة‪ .‬يف الوقــت ذاتــه‪ ،‬فــإن الســوق األوكرانيــة مــن أضخــم األســواق بالنســبة إىل الصناعــات‬
‫الروســية التــي لــن تكــون يف الغالــب قــادرة عــى منافســة الصناعــات األوروبيــة إذا ســارت األمــور وفــق‬
‫الســيناريو الســيئ للــروس‪ ،‬مــا يعنــي خســائر كبــرة لقطاعــات مهمــة وحيويــة ســيكون عليهــا البحــث‬
‫عــن أســواق جديــدة لتعويــض خســائرها الفادحــة(‪.)4‬‬

‫ومــا زاد يف تعقيــد الحالــة حجــم التداخــل االقتصــادي الــرويس األوكــراين األورويب‪ ،‬فالتجــارة‬
‫األوكرانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بروسيا وأوروبا عىل حد سواء‪ ،‬فنحو ‪ 60‬يف املائة من حجم التجارة‬
‫األوكرانيــة تتــم مــع بلــدان االتحــاد الســوفيايت الســابق‪ ،‬كــا أن أغلــب منتجاتهــا الصناعيــة تــأيت مــن‬
‫املناطق الرشقية للبالد ذات الكثافة الصناعية الكبرية‪ ،‬هذا باإلضافة إىل الروابط الشخصية التي‬
‫تجمع عددا ً كبريا ً من املواطنني األوكرانيني يف األقاليم الرشقية بروسيا املجاورة‪ ،‬فيام تظل أوروبا‬
‫بالنســبة لهــؤالء بعيــدة جــدا ً(‪ .)5‬أوروبــا مــن جهتهــا مــا زالــت تعتمــد اعتــادا ً كبــرا ً عــى الغــاز والنفــط‬
‫الروســيني‪ .‬فاالتحــاد األورويب يُ َعــد مــن الــركاء االقتصاديــن والتجاريــن الكبــار لروســيا‪ ،‬حيــث تبلــغ‬
‫حصته يف التجارة الخارجية الروسية نحو ‪ 50‬يف املائة‪ .‬ونالحظ هنا أن موارد الطاقة متثل أساس‬
‫هــذه العالقــات عمومـاً‪ ،‬فنحــو ‪ 36‬يف املائــة مــن الغــاز‪ ،‬و‪ 31‬يف املائــة مــن النفــط‪ ،‬و‪ 30‬يف املائــة‬
‫من الفحم من واردات دول االتحاد األورويب مصدره روسيا‪ .‬وهذا ميثل ‪ 80‬يف املائة من إجاميل‬
‫صادراتهــا النفطيــة‪ ،‬و‪ 70‬يف املائــة مــن إجــايل صادراتهــا مــن الغــاز‪ ،‬و‪ 50‬يف املائــة مــن إجــايل‬
‫صادراتهــا مــن الفحــم‪ ،‬بينــا تؤلــف حصــة اآلالت واملعــدات الروســية (الســلع االســتثامرية) أقــل مــن‬
‫‪ 1‬يف املائــة‪ .‬فروســيا تحتــل املركــز الثالــث بعــد الواليــات املتحــدة والصــن يف التجــارة الخارجيــة‬
‫لالتحاد األورويب بحصة تعادل ‪ 7‬يف املائة يف صادراته و‪ 11‬يف املائة يف وارداته‪ .‬وبهذا الشكل‬
‫يوفــر التعــاون مــع االتحــاد األورويب إيــرادات مهمــة للغايــة لخزينــة الدولــة الروســية‪.‬‬

‫يف الوقت نفسه يصل من بلدان االتحاد األورويب إىل روسيا منتجات البرتوكيامويات ‪ 18‬يف‬
‫املائة واملواد الغذائية ‪ 10‬يف املائة والسلع االستثامرية والتكنولوجية من معدات وآالت نحو ‪45‬‬
‫يف املائــة‪ .‬وفيــا يتعلــق بالتعــاون االســتثامري‪ ،‬فــإن ‪ 70‬يف املائــة مــن االســتثامرات األجنبيــة يف‬
‫االقتصــاد الــرويس تعــود إىل دول االتحــاد األورويب‪ .‬وهــذا يعكــس الرتابــط العضــوي بــن االقتصــاد‬
‫الرويس واقتصاد بلدان االتحاد األورويب‪ .‬وقد ظهر عمق التأثري املتبادل بني االقتصادين الرويس‬
‫واألورويب يف ضوء اإلجراءات العقابية األوىل التي أتخذها االتحاد األورويب ضد شخصيات روسية‬
‫وأوكرانيــة مواليــة لروســيا حيــث اهتــز االقتصــاد الــرويس بقــوة‪ ،‬فقــد تراجعــت الســوق املاليــة الروســية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪32‬‬

‫«مايسكس»‪ ،‬وفقدت ‪ 66‬مليار دوالر من أصولها منذ اندالع األزمة‪ ،‬كام فقد الروبل ‪ 11‬يف املائة‬
‫مــن قيمتــه‪ ،‬مــا اضط ـ ّر البنــك املركــزي الــرويس للتد ّخــل وض ـ ّخ ‪ 16‬مليــار دوالر الســتقرار العملــة‬
‫(لــدى البنــك املركــزي الــرويس احتياطيــات تقــدر بــ‪ 494‬مليــار دوالر مــن العمــات والذهــب)‪ .‬كــا‬
‫انســحبت اســتثامرات تُقـدّر ب ـ ‪ 50‬مليــار دوالر مــن األســواق الروســية‪ ،‬ويُتوقّــع أن ينكمــش االقتصــاد‬
‫الــرويس يف هــذا العــام‪ ،‬وأن تدخــل روســيا يف أزمـ ٍة اقتصاديــة جديــدة‪ ،)6(.‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬فــإن‬
‫التبــادل التجــاري بــن روســيا وأمريــكا يزيــد عــن ‪ 40‬مليــار دوالر‪.‬‬

‫خلفية الرصاع الغربي الرويس‬


‫مــع نهايــة الحــرب البــاردة (قمــة مالطــا بــن الرئيســن بــوش األب وغورباتشــوف ‪ )1989‬وانهيــار‬
‫االتحــاد الســوفيايت (‪ )1991‬شــهد العــامل توجه ـاً سياســياً دعــا إىل تصفيــة بــؤر التوتــر والحــروب‬
‫ـر بهــا آخــر رئيــس‬
‫وإقــرار الســلم العاملــي‪ .‬فقــد ســادت‪ ،‬لفــرة وجيــزة‪ ،‬أدبيــات البريوســرويكا التــي بـ ّ‬
‫ســوفيايت‪ :‬ميخائيــل غورباتشــوف‪ ،‬والتــي تدعــو إىل إقامــة نظــام دويل يعتمــد «تــوازن املصالــح»‬
‫قاعــدة لــه‪ ،‬وتعطــي األولويــة للتعــاون الــدويل‪ ،‬مــا يعنــي تراجــع العامــل العســكري وإعطــاء الصــدارة‬
‫يف العالقــات الدوليــة للعاملــن الســيايس واالقتصــادي‪ .‬قــاد هــذا املنــاخ إىل بــروز دعــوات أوروبيــة‬
‫إىل حــل حلــف الناتــو بعــد أن غــدا‪ ،‬بفعــل نهايــة الحــرب البــاردة وحــل حلــف وارســو وانهيــار االتحــاد‬
‫الســوفيايت‪ ،‬بال معنى أو هدف‪ ،‬وإىل قبول دعوة غورباتشــوف إىل إقامة أوروبا واحدة من األورال‬
‫إىل األطليس‪ ،‬وإىل حل النزاعات اإلقليمية بالطرق السلمية‪ ،‬وتقديم يد املساعدة للدول الفقرية‬
‫إلخراجهــا مــن حالــة االنهيــار االقتصــادي والرصاعــات العرقيــة والسياســية‪.‬‬

‫غــر أن أمريــكا رفضــت هــذا التوجــه وقاومتــه بقــوة‪ ،‬فاملحافظــة عــى «تــوازن القــوى» قاعــد ًة‬
‫للعالقــات الدوليــة‪ ،‬وعــى حلــف الناتــو وتوســيعه وتعديــل اســراتيجيته وســاحة عملــه‪ ،‬اعتُــرت‬
‫مصلحــة أمريكيــة‪ .‬لــذا تبنــت سياســات مراوغــة ودفعــت باتجــاه تأزيــم النزاعــات‪ ،‬ودفــع أطرافهــا إىل‬
‫اعتــاد الخيــار العســكري‪ ،‬ولعــل مــا حــدث يف يوغســافيا آنــذاك خــر مثــال عــى هــذا الســلوك‪،‬‬
‫حيث كشفت الهريالد تريبيون (‪ )1992/5/16 -15‬ما قاله جيمس بيكر‪ ،‬وزير الخارجية األمريكية‪،‬‬
‫عام ‪ 1990‬للرئيس اليوغساليف ميلوزوفيتش‪« :‬إن واشنطن مع يوغسالفيا موحدة أرضاً وشعباً»‪،‬‬
‫وهــذا شــجع األخــر عــى االندفــاع يف حــرب مجنونــة دمــرت بــاده وشــعبه وقادتــه إىل محكمــة جرائــم‬
‫الحرب (يذكرنا هذا بلقاء السفرية غالسبي مع الرئيس العراقي صدام حسني قبل اجتياح الكويت‪،‬‬
‫وإعالن ريتشارد ارميتاج‪ ،‬مساعد وزير الخارجية األمريكية‪ ،‬يف دمشق عام ‪ 2004‬أن قضية التمديد‬
‫للرئيــس اللبنــاين إميــل لحــود قضيــة تحــل بالتفاهــم بــن ســورية ولبنــان)‪.‬‬

‫وقــد عملــت أمريــكا يف القمــة الخمســينية للحلــف يف واشــنطن عــام ‪ 1999‬عــى إلــزام الحلفــاء‬
‫بتنفيــذ مقرراتــه والتــي تبنــت تحويــل الحلــف إىل مرجعيــة لقــرار الحــرب والســلم يف العــامل‪ .‬فأمريــكا‬
‫‪33‬‬ ‫ارص ةرؤب ‪:‬ايناركوأ‬

‫تنطلــق مــن تصــور مبنــي عــى رضورة الوجــود العســكري املبــارش يف عــدد مــن األقاليــم حــول العــامل‪،‬‬
‫للادبعلا يلع‬

‫والســيام الــرق األوســط وآســيا الوســطى ومحيــط البحــر األســود‪ ،‬بهــدف الســيطرة عــى التفاعــات‬
‫اإلقليميــة السياســية واالقتصاديــة والتحكــم بالخريطــة الجيوســراتيجية يف هــذه األقاليــم مــن خــال‬
‫ذلــك‪ ،‬مــا جعــل هــدف توســيع الحلــف يحتــل موقعـاً مركزيـاً يف هــذه الخطــة‪.‬‬

‫مل يســتمر حلــف الناتــو ويوســع ســاحة عملــه فقــط بــل واندفــع بتوســيع عضويتــه بضــم دول أوروبــا‬
‫الرشقيــة)*(‪ ،‬حيــث ضــم أحــد عــر بلــدا ً مــن بلــدان أوروبــا الرشقيــة‪ ،‬مبــا فيهــا بولنــدا وبلــدان البلطيــق‬
‫الثالثــة‪ :‬التفيــا وإســتونيا وليتوانيــا‪ ،‬وكان هنــاك حديــث عــن انضــام أوكرانيــا إىل الحلــف‪ ،‬باإلضافــة‬
‫إىل دول أخــرى محاذيــة لروســيا مثــل أرمينيــا‪ ،‬واالقــراب مــن الحــدود الروســية أكــر فأكــر‪ ،‬مســتغالً‬
‫ضعــف روســيا وارتباكهــا ودخولهــا يف حالــة انعــدام وزن خــال فــرة حكــم يلتســن‪ ،‬وقــد جــاء نــر‬
‫أجــزاء مــن الــدرع الصاروخــي يف تشــيخيا ورومانيــا وتركيــا‪ ،‬وأجــزاء أخــرى متحركــة عــى ظهــر ناقــات‬
‫يف دول البلطيــق ليثــر مخــاوف روســيا‪ ،‬ألنــه مينــح أمريــكا فرصــة توجيــه الرضبــة األوىل ويشــل قــدرة‬
‫روسيا عىل الرد‪ .‬ففي ذهن الروس مقولة هرني كيسنجر «روسيا ما زالت كبرية لذا فهي خطرية»‪.‬‬

‫تحفظت روسيا عىل عمليات التوسع لجهة تعارضها مع التفاهم الذي تم بني الغرب واالتحاد‬
‫السوفيايت خالل مفاوضات توحيد أملانيا‪ ،‬لكن موسكو‪ ،‬مع الترصيحات الرسمية الروسية الحادة‬
‫التي ترفض توسع الحلف‪ ،‬رضخت ووقعت مع الحلف يف ‪ ،1997‬عهد الرئيس يلتسني‪« ،‬ميثاق‬
‫باريــس» الــذي فتــح البــاب أمــام انضــام بولنــدا وتشــيخيا واملجــر إىل صفــوف الحلف كدفعة أوىل‪.‬‬
‫وبعــد ذلــك‪ ،‬ويف عهــد الرئيــس بوتــن‪ ،‬تــم التوقيــع عــى «إعــان رومــا» يف ‪ ،2002‬الــذي جــرى‬
‫مبوجبــه تأســيس مجلــس «روســيا ـ الناتــو» ومواصلــة الحلــف ضــم املزيــد مــن دول رشق أوروبــا‪ .‬لقــد‬
‫تقبــل القــادة الــروس عمليــات التوســع حتــى أن بوتــن عندمــا وصــل إىل الســلطة تحــدث عــن احتــال‬
‫انضــام روســيا ذاتهــا إىل الحلــف‪.‬‬

‫مــع رئاســة فالدميــر بوتــن الثالثــة تبنــت روســيا‪ ،‬مدفوعــة بنــزوع قومــي رويس إلعــادة االعتبــار‬
‫لروســيا والثــأر مــن مرحلــة الضعــف واالحتقــار الغــريب‪ ،‬رؤيــة قامئــة عــى قــوة الدولــة وضــان والء‬
‫الكنيسة األرثوذكسية والتمسك بالقيم الثقافية العريقة‪ ،‬واسرتاتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها‬
‫ودورها اإلقليمي والدويل‪ ،‬وعملت عىل تعزيز الوجود العســكري الرويس يف الســاحة الســوفياتية‬
‫الســابقة مــن خــال قواعــد عســكرية يف طاجيكســتان وقرغيزيــا بيالروســيا وأوكرانيــا وأبخازيــا وأوســيتيا‬

‫توسع‬
‫*) كان ع ّراب الحقبة السوفياتية ومهندس الحرب الباردة جورج كينان قد أعلن عام ‪ 1999‬أنه يعارض فكرة ّ‬
‫حلــف الناتــو نحــو الــرق‪ ،‬وأخــر زميلــه تومــاس فريدمــان حينئــذ «بــأن التوســع باتجــاه الــرق ســيكون «خط ـأً مأســاوياً»‬
‫ألن العــدو يف ذلــك الوقــت مل يكــن روســيا‪ ،‬بــل الحــزب الشــيوعي الســوفيايت‪ .‬ومل يكــن مــن الــروري توســيع حلــف‬
‫الناتو‪ ،‬ألن ذلك سوف يجرب روسيا عىل العودة للعب دورها باعتبارها الطرف املعادي للغرب‪ ،‬وقد تسعى إلشعال‬
‫أوار حــرب بــاردة جديــدة‪ .‬وباإلضافــة لــكل هــذا ليســت لدينــا ن ّيــة للذهــاب إىل الحــرب بســبب تلــك البلــدان النائيــة»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪34‬‬

‫الجنوبيــة وأرمينيــا‪ ،‬ومــن خــال تقويــة منظمــة معاهــدة األمــن الجامعــي‪ ،‬التــي تضــم حاليـاً ســت دول‪،‬‬
‫هــي روســيا وبيالروســيا وكازاخســتان وقرغيزيــا وطاجيكســتان وأرمينيــا‪ ،‬ودعــت إىل تشــكيل اتحــاد‬
‫جمــريك يضــم دول االتحــاد الســوفيايت الســابق تحــت اســم االتحــاد األورايس‪ ،‬كإطــار مــواز ومنافــس‬
‫لالتحــاد األورويب‪ ،‬ميثــل برأيهــا عامل ـاً بدي ـاً قامئــا عــى رفــض القيــم الغربيــة‪ ،‬ومبنــي عــى تصــور ال‬
‫يسمح ألية دولة فيه أن تصوغ سياساتها وتحدد أطر مستقبلها بشكل منفرد‪ ،‬ويقع تحت السيطرة‬
‫الروســية الكاملــة(‪.)7‬‬
‫وأطلقت‪ ،‬مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز الذي مكنها من تجاوز حالة العجز التجاري‬
‫واملــايل وحولهــا إىل وضــع إيجــايب مــع احتياطــي نقــدي كبــر‪ ،‬ســمح برفــع املوازنــة العســكرية‪ ،‬برامــج‬
‫اقتصادية وعسكرية إلعادة التوازن لوضعها الداخيل وزيادة قدرتها عىل التحرك اإلقليمي والدويل‪.‬‬
‫وهذا أجج الخالفات مع الغرب بعامة وأمريكا بخاصة‪ ،‬وقد جاءت تحوالت الربيع العريب والترصف‬
‫الغريب يف ليبيا‪ ،‬وانفجار الثورة السورية عىل الضد من هوى الكرملني لتزيد يف سخونة املواجهة‪،‬‬
‫يف ضــوء خشــية موســكو فقــدان آخــر معاقلهــا يف املتوســط‪ ،‬فتبنــى موقفـاً منحــازا ً للنظــام الســوري‬
‫يف محاولــة لتحقيــق هدفــن‪ ،‬األول حاميــة مصالحــه ووجــوده يف املتوســط (قاعــدة طرطــوس)‪،‬‬
‫والثــاين االنتقــام مــن حرمــان روســيا من الكعكة الليبية‪.‬‬
‫تزامن هذا التحرك مع إدارة أمريكية تبنت العتبارات داخلية (الرفض الشعبي للحروب الخارجية‬
‫بسبب الضحايا والتكلفة املالية العالية حيث قدر اجاميل خسائر الحرب يف أفغانستان والعراق‬
‫ب ـ ‪ 8‬تريليــون‪ ،‬خلــل مــايل‪ ،‬مشــكالت اقتصاديــة‪ :‬بطالــة تضخــم‪ ،‬تــآكل البنــى التحتيــة) خيــارات الحــد‬
‫مــن التدخــل الخارجــي‪ ،‬والتعــاون والعمــل املشــرك ملواجهــة املشــكالت والعمــل عــى تحقيــق‬
‫املصالــح بطــرق أقــل تكلفــة مادي ـاً وبرشي ـاً‪ ،‬مــا منــح التحــرك الــرويس فرصــة تســجيل نقــاط ت ّفــوق‬
‫ظاهريــة عــززت اندفاعــة بوتــن ورفعــت مــن أســهمه الداخليــة والدوليــة‪ ،‬ودفعتــه إىل الرفــع مــن نــرة‬
‫التحــدي والتوســع يف عــرض العضــات واســتخدام القــوة ضــد خصومــه الداخليــن والخارجيــن‪،‬‬
‫وقــد أغــراه غيــاب الــرد املبــارش بالعمــل عــى تحقيــق نــر عــى الغــرب يف ســوريا عــر دعــم النظــام‬
‫الســوري بأســباب البقــاء وتغطيتــه إعالميـاً وحاميتــه سياســياً‪.‬‬
‫ردت واشــنطن عــى التشــدد الــرويس يف ســوريا وإفشــاله ل ـ جنيــف‪ ،2‬عــر عــدم قيامــه بالــدور‬
‫املطلوب والضغط عىل النظام لدفعه لالنخراط يف مفاوضات جادة‪ ،‬بتشجيع املعارضة األوكرانية‬
‫وإشــعال حريق يف الحديقة الخلفية لروســيا)*(‪.‬‬

‫*) االنقالب يف أوكرانيا الذي حرضت عليه واشنطن والذي ثبت فشله‪ .‬ويبدو من اإلخفاقات األمنية الفجة‬
‫عشــية «االنقــاب» ذاتــه‪ ،‬أنــه قــد متــت إدارتــه مــن مكتــب شــؤون أوروبــا وروســيا البيضــاء التابــع لــوزارة الخارجيــة األمريكية‪،‬‬
‫والذي تديره فيكتوريا نوالند زوجة روبرت كاجان‪ ،‬مساعدة وزير الخارجية لهذه املناطق‪ .‬ورمبا تكون وكالة االستخبارات‬
‫املركزيــة األمريكيــة‪ ،‬املختصــة يف هــذه الشــؤون‪ ،‬رفضــت التــورط يف مغامــرة فاشــلة‪ ،‬تاركــة إياهــا لنوالنــد‪( .‬أوكرانيــا‬
‫محايــدة‪ ...‬هــذا هــو الحــل‪ ،‬ويليــام فــاف‪ ،‬االتحاد االماراتيــة‪.)2014/5/16:‬‬
‫‪35‬‬ ‫ارص ةرؤب ‪:‬ايناركوأ‬

‫تحركــت موســكو ضــد التظاهــرات األوكرانيــة والربملانيــة وهــروب حليفهــا يانوكوفيتــش بالتدخــل‬
‫للادبعلا يلع‬

‫غــر املعلــن يف جزيــرة القــرم)*( وتشــجيع الــروس هنــاك للمطالبــة بإجــراء اســتفتاء لتقريــر املصــر‪،‬‬
‫وتنفيــذ الخطــوة وضــم الجزيــرة إىل روســيا تحــت ذريعــة نتائــج االســتفتاء)**(‪ .‬جــاء رد الفعــل الــرويس‬
‫يف جزيــرة القــرم‪ ،‬مــع توجــه للّعــب بورقــة حاميــة الــروس والناطقــن بالروســية يف أوكرانيــا‪ ،‬للضغــط‬
‫عــى كييــف للعــودة اىل االتفــاق الــذي تــم بــن يانوكوفيتــش واملعارضــة برعايــة دول غربيــة وإلغاء كل‬
‫الخطــوات التــي أخذهــا قــادة االنقــاب عليــه‪ ،‬وعــى الغــرب للتخــي عــن مســاعيه لضــم اوكرانيــا اىل‬
‫االتحــاد األورويب‪ .‬فموســكو مل تكــن بعيــدة عــن الصــواب عندمــا قــدرت منــذ نهايــة تســعينيات القــرن‬
‫املــايض أن مشــكلتها الكــرى هــي يف الخــارج القريــب‪ ،‬ومحاولتهــا تأمينــه إال أنهــا ووجهــت بتقــدم‬
‫اســراتيجي غــريب حثيــث‪ُ ،‬حمــل يف أغلــب الحــاالت عــى موجــة تحــول دميقراطــي وأحــام االنضــواء‬
‫يف الوحــدة األوروبيــة‪ ،‬فلــم تجــد ســوى تصعيــد الــروح القوميــة الروســية (أســاس الــردود العســكرية‬
‫الروســية املحــدودة‪ ،‬وأســاس الطبيعــة التحكميــة املحافظــة لنظــام الحكــم الــرويس) مرتكــزا ً ملقاومــة‬
‫هــذا التقــدم الغــريب‪ .‬وإن تصاعــد التوتــر بــن روســيا والغــرب لــن يلبــث أن يــرك أثــره عــى مجمــل‬
‫العالقــات الدوليــة(‪.)8‬‬
‫اعتــر الغــرب مــا تــم يف جزيــرة القــرم خرقــا للقانــون الــدويل ورأى فيــه فرصــة لضــم اوكرانيــا اىل‬
‫االتحاد األورويب ورســم الحدود الرشقية لالتحاد وإبعاد روســيا عن دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا‪.‬‬
‫اتفقــت أمريــكا واالتحــاد األورويب عــى الــرد الــذي ســتأخذانه ضــد التحــرك الــرويس يف أوكرانيــا‪:‬‬
‫دعم اوكرانيا اقتصاديا ومعاقبة روسيا‪ ،‬وهذا ما عكسته املباحثات األوروبية االوكرانية واالتفاق عىل‬
‫تقديــم قــروض ماليــة عاجلــة وتفعيــل املباحثــات حــول الرشاكــة التجاريــة بــن الطرفــن‪ ،‬والترصيحــات‬
‫الغربيــة واإلنــذار الــذي ُوجــه إىل موســكو مبعاقبتهــا اقتصادي ـاً وعزلهــا دبلوماســياً‪ .‬وقــد رجــح خــراء‬
‫اقتصاديــون روس أن تكــون أوروبــا أنجــزت مــع أمريــكا وضــع تصــور للوضــع يف أوكرانيــا خــال املرحلــة‬
‫املقبلــة‪ ،‬وبــدأ العمــل عــى تطبيقــه عمليـاً عــى األرض بصــدور رزمــة العقوبــات التــي اتخــذت ضــد‬
‫شــخصيات روســية وأوكرانيــة مواليــة‪ ،‬وضــد بعــض املصــارف والــركات الروســية‪.‬‬

‫غــر ان مراهنــة روســيا عــى ضــم جزيــرة القــرم كانــت أن يشــكل خطــوة يف لعبــة دومينــو وتحــرك‬

‫*) يف حرب القرم ‪ ،1856 -1853‬التي وقفت فيها بريطانيا وفرنسا إىل جانب العثامنيني وانتهت بهزمية كبرية‬
‫محاصيــن يف سيفاســتوبول‪ ،‬يف حادثــة خلدهــا دستويفســي يف روايتــه‬ ‫َ‬ ‫للــروس‪ ،‬صمــد الجنــود الــروس ‪ 11‬شــهرا ً‪،‬‬
‫االخــوة كرامــازوف‪ ،‬مــا لبثــت أن احتلــت موقعـاً بــارزا ً يف الذاكــرة القوميــة الروســية‪.‬‬
‫**) مل يــر ضــم جزيــرة القــرم إىل روســيا حفيظــة الــدول الغربيــة فقــط بــل ودول عــى عالقــة جيــدة بروســيا‪ :‬الصــن‪،‬‬
‫بيالروســيا‪ ،‬كازاخســتان‪ ،‬ودول أخــرى مــن دول االتحــاد الســوفيايت‪ ،‬كل العتباراتــه الخاصــة‪ ،‬فقــد تبنــت الصــن موقف ـاً‬
‫«محايــدا ً» فهــي ال ترغــب يف خــوض معــارك اآلخريــن العتبــارات كثــرة‪ ،‬منهــا األوضــاع يف التبــت وتايــوان‪ .‬ويف الوقــت‬
‫نفسه‪ ،‬ال ترغب الصني يف خسارة روسيا نتيجة احتياجها املتزايد ملوارد الطاقة من أجل مواصلة من ّوها االقتصادي‪.‬‬
‫وقــد تخوفــت بيالروســيا وكازاخســتان مــن قيــام روســيا بذلــك معهــا مســتقبال‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪36‬‬

‫سكان االقاليم الرشقية للمطالبة باالنضامم اىل روسيا)*(‪ ،‬اعتامدا ً عىل أن نحو ‪ 3،17‬يف املائة من‬
‫سكانها هم من الروس‪ ،‬وأن ‪ 43‬ـ ‪ 46‬يف املائة من السكان يتحدثون الروسية‪ ،‬يرتكزون يف رشقها‪،‬‬
‫بجوار الحدود الروسية حيث يسهل دعمهم‪ ،‬الذي ترتكز فيه املوارد والرثوات والطاقات اإلنتاجية‬
‫ويســاهم بأكــر مــن ‪ 70‬يف املائــة يف الناتــج القومــي االوكــراين‪ ،‬وحرمــان اوكرانيــا مــن هــذه املوارد‪.‬‬
‫لقد وقع الرئيس الرويس بضمه جزيرة القرم يف الفخ وارتكب الخطأ القاتل الذي نسف ادعاءه‪،‬‬
‫تربيــرا ً ملوقفــه يف ســوريا‪ ،‬بتمســكه بســيادة الــدول ورفــض التدخــل يف شــؤونها الداخليــة والحفــاظ‬
‫عــى وحــدة أراضيهــا‪ ،‬خاصــة وأنــه بفعلتــه قــد خــرق تعهــدا ً روســياً أمريكيـاً بريطانيـاً ألوكرانيــا وقــع عــام‬
‫‪ 1994‬يتضمــن حاميــة اســتقاللها ووحــدة أراضيهــا مقابــل تخليهــا عــن األســلحة النوويــة الســوفياتية‬
‫املنشــورة عــى أراضيهــا‪ ،‬وعــزل روســيا دولي ـاً وخلــق حالــة عــداء مــع أوكرانيــا أعطاهــا مــررات قويــة‬
‫لالنضــام إىل االتحــاد األورويب‪ ،‬ورمبــا إىل حلــف الناتــو أيضـاً‪ ،‬وأعطــى الغــرب مــا كان يســعى إليــه‬
‫ببسط نفوذه عىل جغرافية أوروبا بالكامل‪ ،‬وغدا عىل مفرتق طرق‪ :‬إما القبول بأوكرانيا دولة أوروبية‬
‫وإمــا الدخــول يف رصاع مديــد ســينعكس ســلباً عــى روســيا بســبب التكلفــة املاديــة التــي ســترتتب‬
‫عىل العقوبات االقتصادية وعىل الدخول يف سباق تسلح ورصاع عىل مناطق نفوذ يف العامل يف‬
‫ضــوء اقتصــاد هــش يعــاين مــن نقطــة ضعــف بنيويــة ثابتــة وهــي اعتــاده عــى تصديــر النفــط والغــاز‪.‬‬

‫مراجع‬
‫‪1 )1‬د‪ .‬بشري موىس نافع‪ :‬شبح األزمة األوكرانية يخيم عىل أوروبا والعامل‪( ،‬القدس العريب)‪2014/3/5‬‬
‫‪2)2‬د‪ .‬بشري نافع‪ ،‬املصدر السابق‬
‫‪3)3‬رائــد جــر‪ :‬الــراع الــرويس ‪ -‬الغــريب عــى أوكرانيــا‪ :‬موســكو خــرت جولــة وأوروبــا تســتعد للتعويــض‪ ،‬الحيــاة‬
‫اللندنيــة ‪2014/2/9‬‬
‫‪4)4‬رائد جرب‪ ،‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪5)5‬كريستيان كاريل‪ :‬إصالحات سياسية‪ ...‬ملنع انقسام أوكرانيا‪ ،‬االتحاد االماراتية‪2014/2/24 :‬‬
‫‪6)6‬صالح عبد الرحمن املانع‪ :‬دروس من األزمة األوكرانية‪ ،‬االتحاد االماراتية‪2014/3/22 :‬‬
‫‪7 )7‬مــارك شــامبيون‪ :‬روســيا والغــرب‪« ...‬الناتــو» قـ ّوض فــرص التعايــش‪ ،‬االتحــاد اإلماراتيــة‪2014/4/15 :‬‬
‫)‪ 8‬د‪ .‬بشري موىس نافع‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬

‫*) رأى خرباء روس أن انضامم جزيرة القرم قد يفتح شــهية أقاليم ومناطق أخرى يف الســاحة الســوفياتية الســابقة‬
‫لطلــب االنضــام إىل االتحــاد الــرويس‪ ،‬وأبــرزت وســائل إعــام روســية أن إقليــم بريدنيســروفييه بجمهوريــة مولدافيــا‬
‫الســوفياتية الســابقة‪ ،‬حيــث يشــكل الــروس نحــو ‪ 30‬يف املائــة مــن ســكانه‪ ،‬يطالــب هــو اآلخــر باالنضــام إىل روســيا‪ .‬مــع‬
‫عــدم اســتبعاد احتــال تزايــد مثــل هــذه الطلبــات يف الفــرة املقبلــة‪ ،‬خاصــة إذا علمنــا أن عــدد الــروس الذيــن وجــدوا‬
‫أنفســهم خــارج روســيا بعــد انهيــار االتحــاد الســوفيايت عــام ‪ ،1991‬ليــس بالقليــل‪ .‬فعــى ســبيل املثــال ال الحــر‪ ،‬يف‬
‫كازاخســتان يعيــش بــن ‪ 23‬و‪ 30‬يف املائــة مــن الــروس‪ ،‬ويف التفيــا نحــو ‪ 29‬يف املائــة‪ ،‬ويف إســتونيا نحــو ‪ 25,5‬يف‬
‫املائــة‪ ،‬يــدور الحديــث هنــا عــن الســكان مــن أصــول روســية فقــط‪ ،‬وإذا أضفنــا إليهــم عــدد الســكان الناطقــن بالروســية‬
‫تصبــح الصــورة أكــر تعقيــدا ً‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق الملف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪38‬‬

‫أحمد عمر‬

‫العدوّ داخل البيت‬

‫مل يرحــل الطاغيــة عــن الكــريس فرحلنــا عــن الديــار كلهــا‪ ...‬اىل أندلــس الزعــري‬
‫وأندلــس كلــس وأندلــس اآلخــرة شــهداء أو‪ ...‬شــهودا ً‪ .‬هــي حــرب وجــود ال حــرب‬
‫حــدود‪ .‬باتــت الخيــام أوطان ـاً‪ ،‬ورمبــا نقــف عــى أطاللهــا يوم ـاً ونبكيهــا!‬

‫يرتبــط الوطــن يف القــرآن الكريــم‪ ،‬يف أكــر مــن موضــع‪ ،‬بجــواز القتــال‪« :‬قَالُــوا‬
‫ف َسـبِيلِ اللَّـ ِه َوقَـ ْد أُ ْخ ِر ْج َنــا ِمــن ِديَا ِرنَــا َوأَبْ َنائِ َنــا فَلَـاَّ كُ ِتـ َ‬
‫ـب َعلَ ْي ِهـ ُم‬ ‫َو َمــا لَ َنــا أَلَّ نُقَاتِـ َـل ِ‬
‫ن» ويف الحديــث الرشيــف بــدأ‬ ‫ـال تَ َولَّ ـ ْوا ِإلَّ قَلِيـ ًـا ِّم ْن ُه ـ ْم َواللَّ ـ ُه َعلِي ـ ٌم بِالظَّالِ ِم ـ َ‬
‫الْ ِقتَـ ُ‬
‫التاريخ الهجري بالهجرة من الوطن ال باملولد النبوي كام عند األمم غري املسلمة‪:‬‬
‫ـت ِم ْنـ ِ‬
‫ـك‬ ‫ل اللَّ ـ ِه‪َ ،‬ولَ ـ ْو َل أَ ِّ‬
‫ن أُ ْخ ِر ْجـ ُ‬ ‫ـب أَ ْر ِ‬
‫ض اللَّ ـ ِه إِ َ‬ ‫ض اللَّ ـ ِه‪َ ،‬وأَ َحـ ُّ‬ ‫ـر أَ ْر ِ‬
‫ـك لَ َخـ ْ ُ‬ ‫َواللَّ ـ ِه إِنَّـ ِ‬
‫َمــا َخ َر ْجــت»‪.‬‬

‫يف «الكتــاب املقــدس»‪ :‬يف البــدء كان الكلمــة‪ ،‬فصــارت الكلمــة وطن ـاً يف‬
‫الشــعر العــريب‪ :‬يف البــدء كان الكلمــة مــن أجــل الديــار وبكائهــا‪ .‬مل يبــك أحــد الديــار‬
‫والوطن كام بكاها الشاعر العريب‪ .‬وعلّقت املعلقات السبعة‪ ،‬التي تبدأ بالوقوف‬
‫عــى األطــال عــى جــدران الكعبــة‪ ،‬البيــت العتيــق‪ ،‬والبيــت العتيــق هــو أول بيــت‬
‫وضــع للنــاس‪ ،‬تقــف الطوابــر عــى بيــوت الشــعراء والعظــاء يف الغــرب‪ :‬لينــن‬
‫ونيشته وغوتنربغ‪ ...‬ليشهدوا أدواتهم وأرسار حيواتهم‪ ،‬وتتوقف الطوابري يف العطل‪،‬‬
‫لكنهــا ال تتوقــف عــن الــدوران حــول البيــت العتيــق‪ .‬االنســان يحــن اىل الفــردوس‬
‫‪39‬‬ ‫تيبلالخاد ّودعلا‬

‫املفقــود‪ ،‬الرحــم الــذي خــرج منــه‪ ،‬وإىل الجنــة‪ ،‬وإىل البيــت األول‪ ،‬فهــو يحلــم دامئـاً‬
‫رمع دمحأ‬

‫بالخلــود‪ ،‬وأطيــب الفواكــه‪ ،‬وألــذ األطعمــة‪ ،‬ومــا جملــة «وعاشــوا يف تبــات ونبــات»‬
‫إال جملــة فردوســية»‪.‬‬

‫يصعــب أحيان ـاً فهــم كيــف تــرك الصهاينــة أوطانهــم واحتلــوا «أرض الحليــب‬
‫والعســل»! أمــا أندلــس بنــي أميــة املغرتبــن‪ ،‬فهــي شــامنا وقــد رحلــت‪ ،‬شــام كانــت‬
‫ا مشــابهاً للوطــن األم يف الــرق‪.‬‬
‫بدي ـ ً‬

‫الديــار‪ ،‬الوطــن‪ ،‬البيــت‪ ،‬العــش‪ ،‬العريــن‪ ،‬مســقط الــرأس‪ ،‬املنفــى‪ ،‬األطــال‪،‬‬


‫السجن الصغري‪ ،‬والسجن الكبري‪« ...‬املثوى األخري»‪ .‬يقول املثل االنكليزي‪no« :‬‬
‫‪ ،»place like home‬ويقــول أبــو متــام‪« :‬وحنينــه أبــدا ً ألول منــزل»‪.‬‬

‫انتــر كتــاب فرجينيــا وولــف «غرفــة للمــرء وحــده» انتشــارا ً كبــرا ً عنــد صــدوره‪.‬‬
‫نحــن نحـ ُّن دامئـاً إىل البيــت األول‪ ،‬وكل روايــة عظيمــة هــي تكبــر للقريــة األوىل‪ ،‬ومل‬
‫يســبق لشــعب أن فقــد وطنــه أبــدا ً كــا فقدهــا الســوري بيت ـاً ووطن ـاً‪ ،‬فقــد اضطــر‬
‫الســوري إىل الهــرب مــن رئيســه ال مــن املحتلــن الذيــن جــاؤوا مــن وراء األســوار كــا‬
‫حــال الفلســطيني!‬

‫ســنقاتل بالحنــن‪ ،‬وتذكّــر األمكنــة واألعشــاش واألشــجار والرشفــات واألقبيــة‪...‬‬


‫فالطغــاة يخافــون مــن الذكريــات ســنتذكر ونحــن إىل البيــت والوطــن حتــى يخلــط‬
‫الجاهــل بــن حنــن املــوت وحنــن الوطــن‪ ،‬وحتــى يختلــط الخلــد بالوطــن‪.‬‬

‫شــعار املــوت وال املذلــة يتضمــن رسا ً وهــو أن املــوت يقتــي قــرا ً يف الوطــن‬
‫أمــا املذلــة فوطنهــا املنفــى‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪40‬‬

‫زينة أرحيم‬

‫بيت‪ ...‬أيّ بيت؟‬

‫مئتــان وخمســون خطــوة‪ ،‬أولهــا طريــق مكشــوف لق ّنــاص يقــظ‪ ،‬يرصــدين‪ ،‬ليعــود‬
‫ســعيدا ً مــع ّ‬
‫قصــة حامســية عــن إنجــازه البطــويل يرويهــا لعائلتــه عــى طاولــة الغــداء‪.‬‬
‫قتــي هــو الخطــوة األوىل عــى الطريــق‪.‬‬

‫متســخ يقــف خجـاً عــى كتــف حــارة ضيقــة‪ .‬عــى ميــن‬


‫ويف األخــرة بنــاء أبيــض ّ‬
‫رع عــى مرصاعيــه دامئــا‪ ،‬أثــر رصاصــة أخطــأت خــايل‬
‫البــاب الحديــدي األســود املـ ّ‬
‫عنــد اقتحــام الجيــش لحارتنــا وعــى يســاره حــرف اســمي خطّتــه بتــأن أليــام عـدّة مــع‬
‫حــرف “اإلس» باإلنكليزيــة لصديقــة عمــري وجــاريت ســناء‪.‬‬

‫مئتــان وخمســون مظاهــرة‪ ،‬ورصاصــة‪ ،‬وعنــرا ً مقطّــب القلــب ـ أســود الوجــه‪،‬‬


‫بينــي وبينــه‪ ،‬وبينــي وبينــه حجــر أرميــه مــلء يــأيس وغضبي وشــوقي فيصيب تحديدا ً‬
‫حيــث الخطــوة مئتــان وتســعة وأربعــون‪ ،‬حائــط نصــف م ّهــدم أمامــه حاويــة فارغــة‬
‫تتوســط كومـاً مــن الزبالــة ّجلهــا قشــور وخضــار مــن أهــايل الحــارة وبقايــا طعــام جاهــز‬
‫للشــبيحة‪ .‬هنــاك حيــث كتــب الثــوار يوم ـاً «يســقط قاتــل األطفــال» فوضــع مؤيــد‬
‫غاضــب قبلهــا «لــن»‪ ،‬قبــل أن يقــرر صاحــب البنــاء أن يدهــن الحائــط باللــون البُ ّنــي‬
‫الغامــق إلعاقــة الراغبــن بالتعبــر عــن مواقفهــم ب ّخـاً‪.‬‬

‫ـت ملّــون أمضيــت يف غرفتــه الربتقاليــة‬


‫عــى بعــد مئتــن وخمســن رفّــة عــن‪ ،‬بيـ ٌ‬
‫مثانيــة عــر عام ـاً تركــت بعدهــا جميلــة شــقراء بغرفــة الجلــوس ال ُفســتقية تحيــك‬
‫‪41‬‬ ‫؟تيب ّيأ ‪...‬تيب‬

‫يل فســتاناً مطـ ّرزا ً للســهرات الدمشــقية‪ ،‬ت َركتــه هــي األخــرى وراءهــا وهربــت بعــد أيــامٍ مــن مداهمــه‬
‫ميحرأ ةنيز‪ ‬‬

‫الجيــش‪ ،‬يومهــا دخــل العنــر الغاضــب وهــي مــع أخواتهــا وبناته ـ ّن يتك ّومــن يف زاويتــه محتميــات‬
‫بالحظ‪ ،‬أُخذ الضابط بصوري املؤط ّرة التي ح ّولتها أمي لجداريات‪ ،‬أنا يف الجامعة‪ ،‬أنا يف البيت‪،‬‬
‫كت للضابط غنجاً وقهرا ً فانشغل يب عن التفتيش ودعا رفيقه اآلخر لتأ ّميل‬ ‫أنا يف السهرات‪ِ ،‬‬
‫ضح ُ‬
‫مطيالً النظر عىل كتفي املكشــوف من الفســتان الذي مل تكمل أمي حياكته‪ ،‬وخرجوا جميعاً دون‬
‫أن يســحبوا خــايل الخائــف نحــو مصــره املجهــول كــا فعلــوا بــكل الرجــال ذاك اليــوم‪.‬‬

‫يف بيتــي اآلن عائلــة نازحــة لــن تعرفنــي إن طرقــت البــاب ولــن يشــهد لهــم رسيــري «هــي الكســولة‬
‫التي أمضت نصف حياتها هنا‪ ،‬أعرفها» وسيتجاهلني الكُريس املقُابل للتلفاز حيث بكيت ألول‬
‫فيلــم “بــودي غــارد» وتعلّمــت كيــف تؤخــذ القبلــة األوىل‪.‬‬

‫إىل اليمني قليالً‪ ،‬خطوتان إىل األمام‪ ،‬اآلن إىل اليسار‪ ،‬هنا هنا‪ ،‬عند محل سامنة صغري يقع‬
‫بيتــي الثــاين الــذي ال أرى ســواه يف أحالمــي‪ ،‬وال أح ـ ّن إال إليــه‪ ،‬نس ـ ّميه بيــت ج ـدّي رغــم أن جــدي‬
‫رحــل عنــه منــذ وقــت طويــل‪.‬‬

‫يف م ّريت األخرية فيه‪ ،‬كنت أقف مع ابنة خالتي عىل الرشفة‪ ،‬نراقب مظاهرة مسائية بالشموع‪،‬‬
‫جاليــة هــي فــا نســتطيع املشــاركة‪ ،‬ال تحتمــل أمــي املتابعــة مــن الرشفــة تنــزل للشــارع بحــذاء‬
‫ر ّ‬
‫ـاض‪ ،‬أنــا أصــور وصــوتٌ يبــي جــاالً خلفــي “الله يحميكم يا قلبي‪ ،‬الله يحرســكم”‪.‬‬
‫املظاهــرات الريـ ّ‬

‫حـ ّـل الرحيــل فو ّدعــت البيــت بدعــوة غــداء جامعيــة حرضهــا ســعادة اليــرق والك ّبــة مع الســفرجل‬
‫مصطّفــن بصحــون زجاجيــة مثينــة بإتقــان عــى طاولــة الخشــب البنــي املحــروق‪ ،‬وحولهــا الكــرايس‬
‫املزركشــة بامل ُخمــل البيــج‪ ،‬لقطــة قريبــة الزدحــام الصحــون واملالعــق يف خلفيتهــا ضحــكات‪ ،‬بعدها‬
‫عا ّمــة طويلــة صامتــة وغامقــة‪ ،‬ســواد‪ ،‬محروق ـاً بيتنــا بعــد أن نُهــب ثــم قــرر شــب ّيح الحــارة املدعــو‬
‫ب»الهرمــوش» أن يهبــه هديــة تقديــر لشــبيح آخــر هــرب مــن رساقــب بعــد تحريرهــا‪ .‬يف بيــت جـدّي‬
‫شــب ّيح ســيقتلني إن قلّــت بينــي وبينهــم املســافة مبقــدار خطــوة‪.‬‬

‫أخلــع عي ّنــي عــن الناضــور‪ ،‬تتكاثــف الخطــوات وتتضاعــف‪ :‬خمــس مئــة‪ ،‬ألــف‪ ،‬ألفــان‪ ،‬رصاصــة‪،‬‬
‫قذيفتــان‪ ،‬ج ـ ّرة غــاز‪ ،‬مدافــع ج ّهنــم‪« ،‬ال نســاء تتوقــف هنا يــا أخــت”‪ ،‬يقــول امللتحــي العابــس ذو‬
‫ـت يف البيــت»!‬ ‫الــرداء األســود‪« ،‬هــذه جبهــة الرجــال مكانـ ِ‬
‫ـك أنـ ِ‬

‫أي بيت؟!‬
‫لكن‪ّ ...‬‬
‫بيــت صديقــي لــؤي دعبــول الــذي كان أول مــن اســتقبيل يف إدلــب «املُحــررة»‪ ،‬غرفتــان ُمرتّبتــان‬
‫تغــزل بهــا زوجتــه النشــيطة والفضوليــة مــع ابنتــه الجميلــة ريــم التــي أنهــت دراســتها يف املعهــد للتــو‬
‫ربعــت يل برسيرهــا بينــا كان حمــودي الخــدوم يخــدم الجميــع بابتســامة «خالــة بــدك تــريب قبــل‬
‫وت ّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪42‬‬

‫مــا تنامــي؟ جبلــك حــرام كــان؟»‪ ،‬كان بيتــي أيضـاً‪ .‬يف الطابــق الرابــع قــرب ســاحة الحريــة يف معــرة‬
‫مرصيــن بقــي صامــدا ً عندمــا فُ ّرغــت البلــدة مــن أهلهــا قصف ـاً إىل أن جفــت فيــه الحيــاة يوم ـاً عــى‬
‫حــن تفجــر‪ ،‬يف بــاب الهــوى‪ ،‬نفـذّت الجرميــة املفخخــة األوىل‪ ،‬وأخــذت األربعــة معـاً مخلفـ ًة شــاباً‬
‫واحــدا ً‪ ،‬بِك ُرهــم أحمــد الــذي أرســله لــؤي للعمــل يف لبنــان ليحيــى‪ ،‬وعــاش‪.‬‬

‫هــل يقصــد املجاهــد بيــت الدكتــور اســاعيل يف ال ّرقــة‪ ،‬رمبــا وصلتــه ضحكاتنــا وراحتنــا نجلــس‬
‫تلف بناته الجميالت حولنا‬
‫حول طاولة العشــاء ونرشب الشــاي عىل وقع القذائف باطمئنان بينام ّ‬
‫لتتأكــد أن كل يشء عــى أكمــل وجــه‪ ،‬ميتــد العشــاء لســاعات بعدهــا نقفــز عــى رؤوس أقدامنــا يف‬
‫املطبــخ لئــا ندعــس عــى امللوخيــة املنشــورة عــى طــول األرض لت ّجف‪.‬‬

‫قلــت لصديقــي يومهــا بعــد أن خرجنــا‪ ،‬لــو أبقــى هنــا دامئـاً‪ ،‬أريــد هــذا الهنــا مــع العائلــة والبيــت‪،‬‬
‫يف اليوم الثاين خطف ملثم من تنظيم «الدولة اإلسالمية» د‪ .‬اسامعيل اإلنساين الثوري املذهل‬
‫بلطفــه‪ ،‬حــدث هــذا يف ترشيــن الثــاين (نوفمــر) ‪ ،2013‬بــرد املنــزل وخــره لصالــح اســتديو ضيــق‬
‫يف عينتــاب الرتكيــة بانتظــار هجــرة بعيــدةً‪ ،‬أبعــد مــن ســجون التنظيــم املزدحمــة‪.‬‬

‫ويل أيضاً يف مدينة دير الزور بيت فيه جميلتان وأم انتهني مؤخرا ً من إصالح آخر ثقب تسببت‬
‫به قذيفة يف جدار غرفة الجلوس واخرتن يل أكرث الغرف أماناً ألنام‪.‬‬

‫نتناول الطعام عىل أعداد قدمية من جريدة الثورة متقصدّين تشويهها ببقايا الطعام‪ ،‬والزيت‬
‫تحديدا ً عىل وجهه الباسم بشامتة عىل الصفحة األوىل‪« ،‬كيف صار بشار؟» أسأل عن رجل املنزل‬
‫امل ُصاب بشظايا أصابت رجولته أثناء أحد االقتحامات‪« ،‬الحمد لله باقي عملية وبريجعلنا»‪.‬‬

‫خمســة عــر قذيفــة وغارتــان للطــران عدّيتهــم بــن الســاعة التاســعة والتاســعة والنصــف صباحـاً‬
‫وأنــا أتقلــب بــدفء الرسيــر املريــح ذي الرشاشــف الخــراء النظيفــة املعـدّة يل خصيصـاً‪.‬‬

‫يقولــون البيــت هــو املــكان الــذي تشــعر فيــه باألمــان‪ ،‬وهنــاك تحــت ســيل الحــرب بحــارة مل ينــج‬
‫ي أن أخــر املهاجــر أن بيتــي هنــاك‪.‬‬
‫منهــا إال بيتهــم‪ .‬شــعرت باألمــان الكامــل‪ ،‬إذن عـ ّ‬
‫لكن ماذا عن بيتي يف مدينة حلب؟‬

‫ـرىس نهائيـاً عــى خــط جبهــة مشــتعلة مــع قــوات النظــام‪ 150 .‬مــرا ً‬
‫يف نيســان املــايض اخرتتــه مـ ً‬
‫للتحديــد‪ ،‬أقــرب مــن القذائــف والرشاشــات وأبعــد عــن الرباميــل املتأرجحــة بــن الصدفــة والعــدم‪،‬‬
‫عــى خــط النــار بيننــا وهــم‪.‬‬

‫يف بيتــي خزانــة ثيــاب غامقــة ال تشــبهني‪ ،‬وســرات أطــول مــن فســاتيني األنيقــة املهجــورة يف‬
‫صنــدوق برتكيــا‪ ،‬وفيــه الشــاي الربيطــاين الــذي أفضّ ــل وقهــوة أمريكيــة ال أرشب غريهــا‪ ،‬يف مطبــخ‬
‫‪43‬‬ ‫؟تيب ّيأ ‪...‬تيب‬

‫بيتــي الجميــل أيض ـاً قطرميــز مــن املكــدوس أعددتــه بنفــي‪ ،‬البيــت الــذي حــر‬
‫ميحرأ ةنيز‪ ‬‬

‫معجــزة صنعــي للمكــدوس ‪ -‬أنــا التــي مل أطبــخ أكــر مــن طبــق بيــض يف أيّــام الســلم‬
‫‪ -‬هــو وال بــد بيتــي النهــايئ‪.‬‬

‫غطّيــت بعنايــة رشفاتــه بســتائر مل ّونــة تتــاءم مــع مســتوى «حرمتــي» يف حــاريت‬
‫املحافظــة‪ ،‬غــرزت مســارا ً يف حفــر خلّفتهــا رصاصــة ق ّنــاص ألعلــق عليهــا قفصــا‬
‫فيــه بديــع ورجــاء وهــا طائـ َري زينــة انتقــا معــي لحلــب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بيضات أنجبتها‬ ‫رجاء مل تشاركني شعور الراحة يف بيتنا الجديد‪ ،‬قتلَت مثا َن‬
‫خــال األشــهر الســت املاضيــة‪ ،‬رمبــا تريــد بيتهــا لهــا وحدهــا أو متلــك مــا يكفــي مــن‬
‫الــذكاء لتحمــي عصافريهــا مــن تعب حياتنا املســدودة‪.‬‬

‫خطــوة‪ ،‬قذيفتــان‪ ،‬ثــاث رصاصــات‪ ،‬أربعــة قبــور وعــرات البيــوت‪ ،‬تــرب‬


‫أعامقــي جــذورا ً يف هــذا الخــراب‪ ،‬أحــاول االســتطالة نحــو األســطحة‪ ،‬أمــد يــدي نحــو‬
‫لفــوق وال أطلــب املســاعدة‪ ،‬معلّقــة أنــا كربميــل هنــا بــن ركام البيــوت وســقف‬
‫القصــص التــي ال تقــي مــن القصــف لك ـ ّن صقيعهــا كافي ـاً ليحيــل كوانيننــا جميع ـاً‬
‫صيف ـاً أبدي ـاً‪.‬‬

‫لهذه البيوت فقط‪ ،‬أكتب‪...‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪44‬‬

‫خطيب بدلة‬

‫الدار الكبرية‬

‫‪-1-‬‬

‫دار عبــد العزيــز آغــا بدلــة‪ ،‬يف الحــارة الغربيــة مــن بلــدة «معرمترصيــن»‪ ،‬يُــرب‬
‫بهــا املثــل‪ ،‬فهــي‪َ :‬سـ َّياحة‪ ،‬نَ َّياحــة‪ ،‬يلعــب يف أرضهــا ال َخ َّيــال‪.‬‬

‫الواجهــة املطلــة عــى الزقــاق مبنيــة مــن الحجــر الســوري‪ ،‬ومثة زاروب يؤدي إىل‬
‫بــاب داخــي َمـ ْن يفت ْحـ ُه ويدخـ ْـل يُصبـ ْـح ضمــن مســاحة مســتطيلة كبــرة‪ ،‬مشمســة‪،‬‬
‫ومهويــة‪ ،‬تتصدرهــا أربــع غــرف كبــرة (عــى القبــي)‪ ،‬ويف الجهــة الشــالية شــقة‬
‫صلَّبــة‪ ،‬ومطبــخ كبــر مخصــص إلعــداد الطعــام‬
‫صغــرة للمؤونــة‪ ،‬وليــوان‪ ،‬وغرفــة ُم َ‬
‫للوالئــم الكثــرة التــي تُقــام يف الــدار‪.‬‬

‫مبالصقــة الجــدار الشــايل املرتفــع بــران ُركبــت عــى كل منهــا « َم َّحالــة»‬


‫مخصصــة ملتــح املــاء‪ ،‬ويف الوســط بركــة مربعــة‪ ،‬يف داخلهــا شــجرة تفــاح وارفــة‬
‫الظــال‪ ،‬مثمــرة‪.‬‬

‫إىل الغرب من الدار حديقة صغرية مزروعة بالفستق الحلبي واألريض شويك‬
‫(األنجنــار) تدعــى الــرج‪ ،‬ذلــك أن الحائــط الغــريب للحديقــة فيــه فتحــات صغــرة‬
‫تســكنها أزواج مــن الحــام الــري‪ ،‬ويفصــل الــرج عــن الــدار حائــط مرتفــع جــدا ً كنــا‬
‫يعــرف باســم‪ :‬ال َج َملُــون‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫ريبكلا رادلا‬

‫يف هــذه الــدار أقامــت الحاجــة «طيبــة» عــرس وحيدهــا عبــد العزيــز الــذي حــره وجهــا ُء أربــع‬
‫ةلدب بيطخ‬

‫وعرشيــن ضيعــة‪ ،‬واملنــادي يــدور يف أزقــة البلــدة وينــادي‪:‬‬

‫‪ -‬العيــش يــا جوعــان واملــاء يــا عطشــان‪ ...‬ال أحــد يــأكل وال أحــد يــرب إال مــن عــرس عبــد العزيــز‬
‫آغــا بدلــة‪.‬‬

‫كان الحــاج خطيــب آغــا قــد تــويف‪ ،‬وعنــده بنتــان مــن زوجتــه األوىل‪ ،‬وبنــت مــن زوجتــه الثانيــة‪،‬‬
‫وكان لــه ولــد وحيــد اســمه «جميــل»‪ .‬كان جميــل شــاباً مدل ـاً بوهيمي ـاً غارق ـاً مبلــذات الحيــاة التــي‬
‫أتاحهــا لــه كــون أبيــه ثريـاً‪ ،‬وقــد ترافقــت بوهيميتُــه مــع يشء مــن الرشاســة والعدوانيــة‪ ،‬حتــى إنــه تســلح‬
‫بقنبلــة «مببــه»‪ ،‬عــدا عــن املســدس «الطبنجــة» الــذي مل يكــن يفارقــه لحظــة‪ ،‬ويف ذات يــوم أحــب‬
‫أن يَطَّلِــع عــى محتويــات (البمبــه)‪ ،‬فانفجــرت وقتلتــه‪.‬‬

‫كان عــى الزوجــة الثالثــة «طيبــة» أن تحــل مشــكلة الولــد للحــاج خطيــب‪ ،‬بعــد مقتــل جميــل‪،‬‬
‫ولكنهــا‪ ،‬مبشــيئة األقــدار‪ ،‬أنجبــت أربــع بنــات متتاليــات‪ ،‬وبعدهــا ُوفِّ َقـ ْ‬
‫ـت بإنجــاب «عبــد العزيــز»‪،‬‬
‫وبعــد ثــاث ســنوات أنجبــت ولــدا ً آخــر باهــر الوســامة أســمته «بهــراوي»‪.‬‬

‫يعنــي‪ ،‬طيبــة‪ ،‬هــي التــي اســتطاعت أن تربــح لقــب «أم عبــدو» ‪ -‬بعدمــا خــرت أم جميــل هــذا‬
‫املركــز ‪ -‬وتربــح معــه الــدالل‪ ،‬والتم ُّيــز‪ ،‬وأصبحــت‪ ،‬بالتــايل‪ ،‬تُؤْتَ َـ ُن عــى األرسار‪ ...‬إذ يُحىك أن الحاج‬
‫خطيــب‪ ،‬حينــا شــعر بدنــو األجــل‪ ،‬وكان قــد شــح بــره‪ ،‬طلــب مــن «طيبــة» أن تســحبه مــن يــده‬
‫وت ُدخلــه إىل الغرفــة املصلبــة‪ ،‬وأن تغلــق البــاب وراءهــا‪ ،‬فلــا شــعر باألمــان حــدد لهــا‪ ،‬بالضبــط‪،‬‬
‫مــكان الصفيحــة املــأى باللــرات الذهبيــة التــي كانــت قــد خبئــت ضمــن حفــرة عميقــة وأهيلــت‬
‫فوقهــا األتربــة‪ ،‬وســويت عــى وجــه األرض بحيــث ال يســتطيع الجــن األزرق إليهــا وصــوالً‪ ..‬وقــال لهــا‪:‬‬

‫‪ -‬عندمــا تلــزم لــك اللــرات طالعيهــا مــن هنــا‪ ،‬اللــرات هــي التــي ميكــن أن تحميــك أنــت واألوالد‬
‫مــن غــدرات الزمــان‪.‬‬

‫‪-2-‬‬

‫ولدت «طيبة» عب َد العزيز يف سنة ‪ ،1917‬وقد أقيم عرسه سنة ‪ ،1935‬عىل زمان الفرنساوي‪،‬‬
‫وأهــل البلــد كانــوا يطلقــون عــى تلــك األيــام «أيــام الفســاد»‪ ،‬فاالنتــداب الفرنــي أحــدث رشخـاً يف‬
‫الرتكيبــة االجتامعيــة للبلــدة‪ ،‬وأرسة آل بدلــة مل تنـ ُـج مــن هــذا الــرخ‪ ،‬ف ِمـ ْن أبنائهــا َمـ ْن كان يقــف مــع‬
‫الفرنســيني‪ ،‬ويســتقوي ببعــض عنــارص ال ـ َد َرك لتحقيــق بعــض املــآرب الشــخصية‪ ،‬ومنهــم مــن كان‬
‫يلتــزم الحيــاد‪ ،‬ويفلســف أمــوره بعبــارة‪:‬‬

‫‪ -‬بكرة الفرنساوي بريوح ونحنا راح نبقى‪ ،‬وكل واحد سيكون وجهه يف وجه ابن بلده‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪46‬‬

‫حينــا بــدأت «طيبــة» تجهــز للعــرس بــدأت املشــاكل التــي ميكــن تصنيفهــا تحــت اســم (غــدرات‬
‫الزمــان) تظهــر‪ .‬فقــد أرســل مختــار البلــدة‪ ،‬وهــو مــن آل بدلــة ولكنــه محســوب عــى الفرنســاوي‪ ،‬إليهــا‬
‫مندوباً محمالً برسالة موجزة مفادُها أن عبد العزيز اآلن يجب أن يكون يف كنف زعيم العائلة‪ ،‬وأن‬
‫يكــون كل يشء مبشــورة الزعيــم‪ ،‬وبإرشافــه‪ ،‬وأن يُقــام العــرس يف الجفتلــك التابــع لــه‪.‬‬

‫كان جواب «طيبة» حاسامً‪ :‬الولد سوف يتزوج يف دار أبيه الحاج خطيب آغا‪ .‬وهو غري قارص‬
‫لــي نضعــه يف كنــف فالن وعالن‪.‬‬

‫يف جلســة‪ ،‬أو اجتــاع‪ ،‬ملــا ميكــن تســميته بلغــة اليــوم «خليــة األزمــة» َو َّز َعــت طيبــة األمــوال عــى‬
‫الرجــال املوالــن لهــا وللحــاج خطيــب‪ ،‬وأرســلت عبــد العزيــز برفقــة القبضــاي «س» إىل حلــب‪،‬‬
‫ومــن هنــاك اســتكريا خمســة وعرشيــن رج ـاً مســلحني بالبمبــات والطبنجــات‪ ،‬ليقومــوا بحراســة‬
‫العــرس‪ ،‬وأرســلت فريقـاً إىل الســوق ليــرب إىل النــاس الخــر نفســه‪ ،‬مــع يشء مــن التهويــل‪ ،‬حتــى‬
‫بلــغ عــدد األشــخاص املكلفــن بحاميــة العــرس‪ ،‬بحســب الترسيــب‪ ،‬مئتــي رجــل‪ ،‬وأشــاعوا أيضـاً أنــه‬
‫مــن املحتمــل أن يقــوم فريــق مــن هــؤالء املســلحني باعتقــال املختــار‪ ،‬ووضعــه يف الحفــظ والصــون‬
‫(اإلقامــة الجربيــة!) ريثــا ينتهــي العــرس‪.‬‬

‫‪-3-‬‬

‫الــدار الكبــرة‪ ،‬كانــت تضــم‪ ،‬عــدا عــن طيبــة وعبــد العزيــز والكنة‪ ،‬بنات الحاج خطيب من زوجتيه‬
‫السابقتني‪ ،‬مع أزواجهن وأوالدهن‪ .‬وكانت تتعرض‪ ،‬بني الحني واآلخر‪ ،‬إىل هجامت من العصابات‬
‫التــي كانــت تحــارب فرنســا وت ُ ْعـ َر ُف باســم «ال َجتَــا» (وهــي كلمــة تركيــة تعنــي حرفيـاً‪ :‬العصابــة)‪ ،‬وكان‬
‫هــذا بعــد أن أوقــف ابراهيــم بيــك هنانــو ثورتــه يف أواســط ســنة ‪ ،1921‬وســافر إىل رشقــي األردن‪،‬‬
‫لتُلقــي عليــه ســلطة االنتــداب الربيطانيــة القبــض وتســلمه لســلطة االنتــداب الفرنســية يف ســورية‪،‬‬
‫لتحاكمــه‪ ،‬هــذه األخــرةُ‪ ،‬عالنيــة‪ ،‬وتعتــره مدافع ـاً عــن بلــده‪ ،‬وتربئــه مــن تهمــة ارتــكاب أفعــال جائيــة‬
‫(يعنــي‪ :‬اإلرهــاب)‪ ،‬ثــم تطلــق رساحــه ليمــي بقيــة عمــره عــى األرايض الســورية عــى عكس ما فعل‬
‫الحــكام اإلرهابيــون مــن عصابــة حافــظ األســد بعــد نصــف قــرن مــن هــذا التاريــخ بــكل مــن عارضهــم‬
‫عســكرياً أو سياســياً‪ ،‬أو حتــى بالحــي‪ ،‬إذ مل يرتكــوا الذبــاب األزرق يعــرف إليهــم ســبيال‪.‬‬

‫اعتــاد الجتــا‪ ،‬يف تلــك األيــام‪ ،‬عــى مهاجمــة بيــوت األغنيــاء وتشــليحها‪ .‬وألن الحــاج خطيــب كان‬
‫يعــد مــن األغنيــاء فقــد كانــوا يغــزون داره خــال فــرات زمنيــة متقاربــة‪ .‬وقــد اعتــاد ســكان الــدار الكــر‬
‫عــى هــذه الغــزوات‪ ،‬فالنســوة أصبحــن يُخبــن مــا ميتلكــن من أســاور وحــي‪ ،‬والرجال يخبئون النقود‬
‫يف مخابــئ مدروســة بعنايــة‪ ،‬وكانــوا‪ ،‬إذا عرفــوا‪ ،‬مــن خــال اإلشــاعات‪ ،‬أن الجتــا ســوف يجــرون للــدار‬
‫(كَ ْبســة)‪ ،‬يكــرون مــن االحتياطــات‪ ،‬ويرتــدون ثيابـاً مهلهلــة ألجــل التمويــه‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫ريبكلا رادلا‬

‫ولكن طيبة‪ ،‬ورغم نباهتها وحذاقتها‪ ،‬ارتكبت خطأ جسيامً إذ علقت يف رأس الطفل «بهراوي»‬
‫ةلدب بيطخ‬

‫مخزمـاً مصنوعـاً مــن الذهــب‪ ،‬وخبأتــه بــن خصــل الشــعر الشــقراء‪ ،‬ويف ذات كبســة للجتــا‪ ،‬يف ليلــة‬
‫مقمــرة‪ ،‬ملــع املخــزم يف رأس الطفــل‪ ،‬فمــد أحــد الغــزاة يــده‪ ،‬واقتلعــه مــن رأســه بعنــف‪ ...‬وعــى أثــر‬
‫ذلك أخذ رأس الولد ينزف‪ ،‬وليس يف معرمترصين مشــفى أو طبيب‪ ،‬فامت‪.‬‬

‫‪-4-‬‬

‫يف هــذه الــدار توفيــت الحاجــة طيبــة‪ ،‬وفيهــا تــزوج عبــد العزيــز والــديت فاطمــة بعــد أن تخــى عــن‬
‫زوجتــه األوىل دون أن تــودع لديــه أوالدا ً‪ ...‬وقــد غــادرت عــايت وأزواجهــن الــدار‪ ،‬وســكنوا يف منــازل‬
‫أخــرى تخصهــم‪.‬‬

‫والــديت خلفــت أوالدا ً كثرييــن‪ ،‬صمــد منهــم أمــام عاديــات الزمــان ســتة صبيــان أنــا املولــود ســنة‬
‫‪ 1952‬راب ُعهــم‪ ،‬وأربــع بنــات‪ .‬وإليهــا وصــل جثامنــه مــن بــروت‪ ،‬يف أواســط ترشيــن األول ‪ ،1967‬وهــو‬
‫ملــا يــزل يف الخمســن مــن عمــره‪.‬‬

‫أمضيت طفولتي وجزءا ً من شبايب‪.‬‬


‫ُ‬ ‫يف هذه الدار الرهيبة‬

‫‪-5-‬‬

‫يف ســنة ‪ ،1970‬وكان قــد مــى ثــاث ســنوات عــى وفــاة الوالــد‪ ،‬وكانــت أحوالنــا املاديــة قــد‬
‫أصبحــت زفت ـاً‪( ،‬فقــد تبعــرت الــروة مــن كــرة الورثــة‪ ،‬ســيام وأن والــدي قــد تــزوج يف ســنة ‪1952‬‬
‫امــرأة أخــرى وأنجبــت لــه ســتة أوالد آخريــن فأصبــح تعــداد االرسة ‪ 16‬ولــدا ً مــن امرأتــن)‪ ،‬وبينــا أنــا‬
‫أحــر للبكالوريــا‪ ،‬خطــر للبلديــة أن تشــق شــارعاً يف الحــارة الغربيــة‪ ،‬ودخــل الشــارع يف قلــب الــدار‪،‬‬
‫وقــص الغرفــة ذات الزخــارف الحجريــة الرائعــة التــي أنجزهــا نحاتــون أرمــن جــاءت بهــم املرحومــة طيبــة‬
‫مــن حلــب بأجــور مرتفعــة‪.‬‬

‫أصبحنــا‪ ،‬نحــن ســكان الــدار‪ ،‬يف الخــاء‪ ،‬أو كــا يقــول أهــل البلــدة‪ :‬عــى اآلجــق‪( ...‬آجــق‪ :‬كلمــة‬
‫تركية تعني مفتوح)‪ ،‬وأصبحت أسالك الكهرباء تتقطع‪ ،‬والغبار يعشش يف ثنايا الدار واملفروشات‬
‫واملالبــس‪ ...‬وبعــد ســنة واحــدة انتقلنــا إىل دار جديــدة بنتهــا والــديت مــن مدخراتهــا يف حــارة طريــق‬
‫إدلب التي كانت تعرف باسم (حارة املسعدات)‪ ...‬وتركنا الدار‪.‬‬

‫‪-6-‬‬

‫بعــد عــدة ســنوات‪ ،‬يف أواســط الســبعينات‪ ،‬قررنــا أن نبيــع الــدار ونتقاســم مثنهــا لنســتعني بــه‬
‫عــى الظــروف الصعبــة التــي بدأنــا منــر بهــا‪ ،‬ولكــن ســوقها بقــي راكــدا ً لزمــن طويــل بســبب اتســاعها‪،‬‬
‫إذ ال توجــد عائلــة كبــرة عــى مقاســها‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪48‬‬

‫ثــم بيعــت بثمــن بخــس‪ ،‬والشــخص الــذي اشــراها قســمها إىل ثــاث أو أربــع‬
‫ـت‪ ،‬كلــا زارين صديــق‬
‫دور‪ ،‬ســكنها أنــاس فقــراء‪ ...‬وخــال هــذه الســنني كلهــا كنـ ُ‬
‫أتقصــد أن أمــر بــه يف الزقــاق الــذي أصبــح شــارعاً اســمه «شــارع الكورنيــش»‪ ،‬وأشــر‬
‫لــه بيــدي إىل جــدار الــدور املقســمة وأحــي لــه عــن ذكريــايت يف هــذه الــدار وعــن‬
‫تاريخهــا الطويــل‪.‬‬

‫‪-7-‬‬

‫يف أحد أيام الثورة السورية عىل نظام وريث حافظ األسد‪ ،‬بالتحديد يف شهر‬
‫آذار مارس ‪ ،2012‬دخل الجيش العريب السوري الباسل إىل مدينة إدلب‪ ،‬بقصد‬
‫ـت إىل معرمترصيــن‪،‬‬
‫إخضــاع أهلهــا وإذاللهــم‪ ،‬وكنــت قــد علمــت بقدومــه‪ ،‬فهربـ ُ‬
‫و(نقلـ ُ‬
‫ـت مكاتبــي الثوريــة إليهــا) باعتبــار أن اســمي موجــود يف قوائــم املطلوبني‪.‬‬

‫ذات يــوم‪ ،‬مــررتُ أمــام الــدار‪ ،‬وإذا يب أرى فرن ـاً جمي ـاً قــد احتــل وســط الســور‬
‫الطويــل‪ ،‬وصاحــب الفــرن هــو واحــد مــن أعــز أصدقــايئ‪ ،‬مــن عائلــة (الحجــي أبــو‬
‫صــوف)‪ .‬كان يقــدم أنواع ـاً متعــددة مــن الخبــز والكعــك اللذيــذة الطازجــة‪.‬‬

‫قال يل صاحب الفرن أبو الحجي‪ :‬بتتذكر داركم؟ هون كانت‪.‬‬

‫قلت له‪ :‬ولو‪ .‬هل أستطيع أن أنساها؟‬

‫قال يل‪ :‬تزعل عليها؟‬

‫قلت‪ :‬ال!‬

‫قال‪ :‬غريبة‪ .‬الناس بتحن لبيوتها القدمية‪.‬‬

‫قلــت لــه‪ :‬صحيــح‪ .‬ولكــن أنــا ال أحــن إليهــا‪ ،‬ويف الوقــت نفســه ال أنكرهــا‪ .‬لــو‬
‫أننــا عشــنا يف دار صغــرة تتألــف مــن ثــاث غــرف مغلقــة‪ ،‬ســهلة التنظيــف‪ ،‬محميــة‬
‫مــن اللصــوص وقطــاع الطــرق‪ ،‬لــكان أحســن لنــا‪ .‬إنهــا دار أغــوات‪ ،‬وأنــا لســت بآغــا‪.‬‬
‫الظــروف تغــرت كثــرا ً‪.‬‬

‫وأضفت‪ :‬عىل كل حال لقد أعجبني هذا املآل للدار‪ .‬فلقد سكن فيها أناس‬
‫فقراء طيبون‪ ،‬وصار فيها فرن يقدم للناس خبزا ً وكعكاً واشياء نافعة‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫تيبلا باب‬
‫كبلا ريشب‬

‫بشري البكر‬

‫باب البيت‬

‫ندخله بال مفاتيح‬

‫ال جرس‪ ...‬ال إنذار‬

‫هنا البيوت مفتوحة‬

‫يكفي أن متر‬

‫أن ترتقي العتبة‬

‫ال ترش املاء خلفك‬

‫يك ال تطرد املالئكة‬

‫كربنــا مثــل فــراخ البــوم وطرنــا‪ ،‬مل ينتبــه لنــا اآلخــرون إال حينــا رصنــا نقــف فــوق‬
‫االغصــان وننــوح كأننــا ننــذر بالخــراب‪ .‬ال أحــد اهتــم بنــا‪ ،‬ولدونــا وتركونــا يف أرضنــا‪.‬‬
‫كيف عشنا‪ .‬كيف كربنا‪ .‬كيف مل منت بالحصبة والجدري وأبو صفار؟ ال أحد لديه‬
‫إجابة كافية‪ .‬مجتمع رؤوس بال أجساد‪ ،‬وأجساد بال رؤوس‪ .‬وليس غريبا أن ينفصل‬
‫هنــا العقــل عــن الجســم‪ ،‬يحتــل كل منهــا مجــاال مختلفــا ال عالقــة لــأول بالثــاين‪.‬‬

‫مثــل فــراخ البــوم التــي يتطــر منهــا النــاس‪ ،‬حتــى أهلنــا مل نعرفهــم جيــدا‪ .‬مــات‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪50‬‬

‫مســد شــعري بيــده‪ .‬أمــا أمــي فلــم أتعــرف عليهــا جيــدا إال حــن غادرتُهــا‬
‫أيب وال أتذكــر أنــه ق ّبلنــي أو ّ‬
‫ـفت أنهــا أكــر مــن أم وأب‪ ،‬هــي عالَ ِمــي وألَ ِمــي‪.‬‬
‫قاصــدا حلــب للدراســة الجامعيــة‪ ،‬هنــاك اكتشـ ُ‬
‫حني قصدت الجامعة‪ ،‬كان احسايس بأين فررت كام نقول بالعامية لفعل طار‪ .‬فرار من رشط‬
‫قاس وتحليق نحو البعيد‪ .‬البعيد فقط من دون هدف محدد مثل فرخ البوم يف العشيات‪ ،‬يطري‬
‫يف اتجاه الليل‪ ،‬ثم يهتدي بحدسه إىل مكان خاص‪.‬‬

‫هناك أجيال ولدت هكذا مثل قمح الجزيرة‪ ...‬يرمي الناس البذور وينتظرون املطر‪ ...‬فإما أن‬
‫متــوت الحبــة أو تعطــي محصــوال وفــرا‪ ،‬واملحاصيــل الوفــرة كانــت هــي الغالبة‪ ،‬وقليلة هي ســنوات‬
‫املحــل‪ .‬ومل يعــرف النــاس الجــدب إال مــع ظهــور السياســة ويف فــرة بدايــات الوحــدة مــع مــر عــى‬
‫وجــه التحديــد‪ ،‬وهــي الســنوات نفســها التــي صــار أوالدهــم يحلّــون خاللهــا يف الســجون‪ ،‬ضــد عبــد‬
‫النارص أو مع البعث أو الشيوعية‪ ،‬ورغم مرور أوقات صعبة يف بداية الستينات‪ ،‬أي سنوات الجراد‪،‬‬
‫فــإن ســنوات املحــل الحقيقيــة هــي ســنوات البعــث التــي دامــت نصــف قــرن‪ ،‬وح ّولــت الجزيــرة اىل‬
‫صحــراء قاحلــة‪ .‬جـ ّـف الخابــور‪ ،‬رشيــان الحيــاة الرئيــي‪ ،‬وضمــرت الحيــاة يف عمــوم الجزيــرة‪ ،‬وحتــى‬
‫البيئــة أصيبــت بنكســة كبرية‪.‬‬

‫كان البيت جار الخابور‪ ،‬كأنه رشيانه الرئييس‪.‬‬

‫كانــت جالســة هنــاك قــرب بــاب الحــوش يف ظــل شــجرة الكينــا‪ ،‬والتنــور إىل جوارهــا‪ ،‬غــر بعيــد‬
‫عنهــا مجــرى نهــر الخابــور‪ .‬لهــا هالــة شــخصية مــن شــخصيات امليثولوجيــا‪ ،‬وحــزن الزمــن نفســه‪.‬‬

‫حــن أغلقــت بــاب البيــت خلفــي‪ ،‬شــعرت بــأين ذاهــب إىل وليمــة أقامهــا الشــيطان للصــوص‬
‫والنهابــن‪ ،‬وأين ســأصل متأخــرا‪ ،‬لــن أدخــل بســهولة‪ ،‬لــن أجــد كرســيا شــاغرا ً‪ ،‬وحتــى بقــايئ واقفــا‬
‫ليــس مرغوبــا فيــه‪ ،‬ألن الوليمــة مخصصــة النتخــاب أفضــل اللصــوص‪ .‬وذات يــوم أبديــت تأففــا بعــد‬
‫أن اجتزت حاجز رشطة الحدود‪ ،‬فالتفت إ ّ‬
‫يل كهل لبناين وقال‪ ،‬يف اليوم الذي يضع فيه االنسان‬
‫قدمــه عــى ســلم الطائــرة‪ ،‬ويغــادر البيــت‪ ،‬عليــه أن يحتمــل كل يشء‪.‬‬

‫الفراري هو الشخص الهارب من العدالة‪ .‬وكنا نسمع جملة «فالن عايش‬


‫ّ‬ ‫فرار من تلك البالد‪.‬‬
‫فــراري»‪ ،‬أي أنــه خــارج عــى القانــون‪ ،‬ومــن يخــرج عــى القانــون ال يســتطيع أن يحتفــظ بعنــوان ثابــت‪.‬‬
‫كل يــوم يف مــكان جديــد‪ .‬ومــن ال بيــت لــه عينــه ال تنــام‪.‬‬

‫البيــت مــكان يشــغلني مــن دون أن أحــس‪ ،‬كثــرا مــا غــادرت منــازل‪ ،‬ومل أشــعر أين أحبهــا إال بعــد‬
‫أن تركتهــا‪ ،‬ليــس هنــاك أي تفســر لهــذا الشــعور ســوى أن املــرء يخلّــف شــيئا مــن ذاتــه يف املــكان‬
‫الــذي يســكنه‪ ،‬وهــو عندمــا يشــعر بحنــن للمــكان فهــو يتــوق للعــودة إىل نفســه‪ .‬منــذ فــرة خطــر يل‬
‫أن اكتــب بتوســع عــن البيــوت التــي ســكنتها يف باريــس‪ ،‬وحــن بــارشت تنفيــذ هــذا الخاطــر‪ ،‬ذهبــت‬
‫‪51‬‬ ‫تيبلا باب‬

‫ألول منــزل ســكنته‪ ،‬لكنــي فشــلت يف دخولــه‪ ،‬ومل أمتكــن مــن صعــود الــدرج‪ .‬ومــا‬
‫كبلا ريشب‬

‫أن اقرتبــت مــن املــكان حتــى تفتقــت حــوايس كلهــا وعــاد يب الزمــن للــوراء‪ .‬توقــف‬
‫تنفــي وأحسســت بحنــن جــارف‪ ،‬عــدت خــال دقيقــة قرابــة ‪ 30‬ســنة‪ .‬ومل أتخيــل‬
‫ان وقــع املــكان ثقيــل اىل هــذا الحــد‪.‬‬

‫قــررت عــدم إكــال الزيــارة‪ ،‬ومل أدخــل املنــزل‪ .‬اعــراين خــوف شــديد‪ .‬وقفــت‬
‫ألقيت‬
‫ُ‬ ‫بالبــاب مــرددا ً حتــى وجدتنــي أســتدير وأعــود مــن حيــث أتيــت‪ .‬ومن الشــارع‬
‫نظــرة رسيعــة نحــو الشــبابيك وأنــا أغــص برائحــة هــواء عتيــق‪ ،‬يــأيت مــن بعيــد‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪52‬‬

‫فرج بريقدار‬

‫البيت األم‬

‫مع دخويل الجامعة شعرت أنه مل يعد لدي بيت باملعنى الوجداين‪ .‬البيت‬
‫بالنسبة يل مقولة وجدانية أوالً‪ ،‬وأحداث وذكريات وأهل وجريان أوالً‪ ،‬وسرية حياة‬
‫بكل مراحلها من الوالدة إىل املوت أوالً وأخريا ً‪.‬‬
‫قبل الجامعة كان بيتنا يتألف من غرفتني بسقف طيني وثالثة بسقف قرميدي‬
‫ا عــى الســقف التوتيــاء يوقظ‬‫ـرد ليـ ً‬‫ورابعــة بســقف مــن التوتيــاء‪ .‬صــوت املطــر أو الـ َ َ‬
‫يف داخــي خوف ـاً مثــرا ً ومش ـ ِّوقاً‪ ،‬أعنــي شــبيهاً مبــا تثــره يب أفــام الرعــب التــي‬
‫أســتطيع إيقافهــا عندمــا أريــد‪ ...‬أمــا عــى الســقف القرميــد فــكان لوقعــه صــوت أو‬
‫إيقــاع املوســيقا وتحريــض الخيــال عــى كتابــة الشــعر‪ .‬مــن هنــاك بــدأت عالقتــي‬
‫بالشعر‪ .‬قرقعة ورنني ما زلت أح ُّن إليهام‪ .‬هل البيت هو الحنني إذا ً‪ ،‬أم الذكريات‬
‫ي اإلجابــة عــى النحــو الــذي أبتغيــه رغــم‬
‫أم غــر ذلــك مــن التفاصيــل؟ تصعــب ع ـ ّ‬
‫تجـ ّريئ عــى التحديــد يف بدايــة املقالــة‪ .‬يف العــادة أســمح لنفــي يف الشــعر مبــا‬
‫ال أســمح بــه يف املقالــة‪ ،‬وآمــل أن تغفــروا يل مخالفتــي لنفــي هنــا‪ ...‬أعنــي يف‬
‫موضوعــة البيــت‪.‬‬
‫البيــوت الالحقــة مل تســتطع أن تكــون بيوتـاً‪ .‬املــدن الجامعيــة أيــام الدراســة يف‬
‫دمشــق أو بودابســت‪ ،‬خــال الخدمــة اإللزاميــة أو الحقـاً يف بــروت‪ ،‬مل تســتطع أن‬
‫تكون بيوتاً‪ .‬أن تبيت يف مكان ما ال يعني أنك يف بيت‪ .‬ال عالقة لإلقامات العابرة‬
‫بالبيــوت‪ ،‬وال عالقــة لهــا عنــدي مبــا قالــه أبــو متــام‪:‬‬
‫‪53‬‬ ‫ألا تيبلا‬

‫وحنينــه أبــدا ً ألول‬


‫ادقريب جرف‬

‫منــزل‬
‫ِ‬ ‫كم منــزل يف األرض يألفه الفتى‬
‫لــو توفَّــر يل اآلن بيــت باملعنــى الوجــداين ومــا يعنيــه مــن أحــداث وذاكــرة وســرة‬
‫لقلــت غــر ذلــك‪.‬‬
‫أول مــرة بعــد الجامعــة أشــعر بتح ُّقــق معنــى البيــت كانــت يف الســجن‪َ .‬س ـكَن‬
‫وأصدقاء مثل األهل وذكريات عىل وجعها‪ ،‬وكانت الرضورات والتوقعات تقتيض‬
‫تحويــل الســجن مــن مــكانٍ مضــا ّد إىل بيــت‪ .‬كنــت أضحــك مبــرارة بينــي وبــن نفــي‬
‫كلام تذكَّرت كتاب ”باشــار” عن جامليات املكان‪ .‬الســجن بيت الرضورة وينتهي‬
‫كبيــت بانتهائهــا‪ .‬إذا ً ويف املحصلــة مل يكــن الســجن بيتـاً‪ .‬املنفــى أو منفـ َ‬
‫ـاي عــى‬
‫األقل ليس مكاناً مضا ّدا ً‪ ،‬ولكنه بعد مرور تسع سنوات مل يستطع أيضاً أن يكون بيتاً‬
‫إال مبقدار ما أث َّثت فيه من وجدانيات يف السنوات األخرية القليلة‪ ...‬يزورنا بيت‬
‫فــان ونــزور بيــت فــان‪ ...‬هكــذا يتســع معنــى البيــت وجدانيـاً بســوريني وســويديني‬
‫وإيرانيني‪ ،‬ولكنه ال يستطع أن يكون بيتاً بكامل املواصفات التي عنيتها يف البدء‪.‬‬
‫هل يعني ذلك أين ما زلت محروماً من هذا الذي اسمه‪ :‬بيت؟‬
‫هــو ســؤال أو تســاؤل يثــر يف داخــي نوع ـاً مــن الخجــل‪ .‬بعــد الثــورة صــار مثــل‬
‫هــذا الســؤال ترفـاً‪ ،‬ذلــك أن أي شــقة يف مــكان آمــن هــي أقــل ســوءا ً ومعانــاة مــن أي‬
‫خيمــة داخــل ســوريا أو خارجهــا‪.‬‬
‫هناك سوريون حملوا بيوتهم يف داخلهم أو ذاكرتهم ورحلوا‪ ،‬وهناك سوريون‬
‫يف بيوتهم يتوقعون القصف يف كل حني‪ ،‬وهناك سوريون تركوا بيوتهم إىل قوارب‬
‫تنــذر باملــوت‪ .‬وبالطبــع هنــاك ســوريون‪ ،‬وغالب ـاً ممــن تقــدم العمــر بهــم‪ ،‬يرفضــون‬
‫مغادرة بيوتهم حتى لو تهدَّمت فوق رؤوسهم‪ .‬ذلك أكرث ما يؤملني ويثري تعاطفي‬
‫ويشــعرين أين بدون بيت‪.‬‬
‫آدا ســالومون‪ ،‬الســويدية التــي تشــارك يف كل التظاهــرات املتعلّقــة بســوريا أو‬
‫غـ ّزة أو بحقــوق اإلنســان‪ ...‬كرسـيّها املتحــرك هــو بيتهــا الجميــل والغنـ ّـي بالالفتــات‬
‫التــي ترفعهــا تضامن ـاً مــع املظلومــن يف كل مــكان‪ ،‬ولكنهــا يف النهايــة تعــود إىل‬
‫بيــت رمبــا هــو البيــت األســاس أو األم‪.‬‬
‫يخطــر يل أحيان ـاً أن البيــت األم هــو البيــت الــذي تســتطيع أن تعيــش آمن ـاً يف‬
‫داخلــه كــا لــو انــه الرحــم‪ ،‬كــا تســتطيع أن تحملــه يف داخلــك أينــا حللــت‪.‬‬
‫رمبــا ســوريا اآلن كلهــا ليســت بيتـاً آمنـاً‪ ،‬ولكنهــا يف داخــل الكثرييــن مــن أهلهــا‪،‬‬
‫وقــد يكــون ذلــك مــرب األمــل مــن أجــل اســتعادتها كبيــت مثلــا كانــت وأجمــل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪54‬‬

‫سليم البيك‬

‫بيت سوريا الفلسطيني‬

‫ضمن الحديث عن الثنائيات األكرث إلحاحاً اليوم‪ ،‬سياسياً واجتامعياً تحديدا ً‪،‬‬
‫تتبــدى ثنائيــة اللجوء‪/‬الوطــن التــي اقتــرت جمعيّ ـاً عــى الفلســطينيني منــذ عــام‬
‫النكبــة‪ ،‬والتــي امتـدّت لتطــال الســوريني منــذ حـ ّول نظــام األســد مطالبهــم الســلمية‬
‫يف ‪ 2013‬إىل نكبــة مســتم ّرة فصولهــا بأشــد أشــكالها بشــاعة إىل يومنــا هــذا‪.‬‬

‫واليــوم‪ ،‬بعــد أن فــاق عــدد الالجئــن الســوريني الثالثــة ماليــن‪ ،‬صــار لجوؤهــم‬
‫قض ّية بح ّد ذاتها‪ ،‬ضمن القض ّية األع ّم وهي حرية الشعب والبلد من نظام األسد‬
‫ومــن (وهــذه جديــدة) تنظيــم «داعــش»‪ .‬وهــا‪ ،‬أي النظــام والتنظيــم‪ ،‬املس ـ ّبب‬
‫األســايس واملبــارش لظاهــرة لجــوء الســوريني (وفلســطينيي ســوريا)‪ ،‬الظاهــرة التــي‬
‫ستكون األشد تأثريا ً عىل املجتمع السوري يف مرحلة ما بعد الثورة ما مل تُحل يف‬
‫أقرب زمن ممكن‪ ،‬فال يصيبهم ما أصاب الفلسطينيني املشتّتني يف «مجتمعات»‬
‫خاصــة بهــم وضمــن مجتمعــات أخــرى‪.‬‬

‫يك نفهــم ج ّيــدا ً داللــة «اللجــوء»‪ ،‬ال بــد مــن محاولــة فهــم املقابــل ضمــن هــذه‬
‫الثنائيــة‪ ،‬أي «الوطــن»‪ .‬والوطــن مفهــوم نســبي‪ ،‬فهــو كــا يفهمــه مــوا ٍل لنظــام األســد‬
‫ُمحتــوى ضمــن النظــام‪ ،‬بــدل أن يكــون النظــام محتــوى ضمــن الوطــن‪ ،‬وطــن كهــذا لــه‬
‫دالالت قــد تكــون حزبيــة أو طائفيــة أو أمنيــة أو كلهــا معـاً‪ ،‬لــن يكــون ذاتــه الوطــن كــا‬
‫يفهمــه الالجــئ عنــه‪ .‬ففــي وقــت يكــون الوطــن هــو الحــزب أو الطائفــة أو مركــز األمــن‬
‫‪55‬‬ ‫ينيطسلفلا ايروس تيب‬

‫بأقبيتــه وزنازينــه‪ ،‬الوطــن عنــد الالجــئ هــو تحديــدا ً البيــت‪ ،‬هــو بإطــار أوســع الحــارة والشــارع واملدينــة‬
‫كيبلا ميلس‬

‫أو القريــة واملحافظــة والوطــن كوحــدة اجتامعيــة وتاريخيــة وسياســية‪.‬‬

‫اللجوء هو ترك البيت اضطرارا ً‪ ،‬البيت وليس الوطن بأكمله‪ ،‬البيت كشكل مكثّف من الوطن‪،‬‬
‫فالنازحــون عــن بيوتهــم إىل أرجــاء مــن الوطــن قــد تبعــد أو تقــرب‪ ،‬هــم الجئــون بقــدر مــا هــم بعيــدون‬
‫عــن بيوتهــم‪ ،‬وال مييّزهــم عــن الالجئــن إىل خــارج الوطــن إال احتــال أقــرب للتح ّقــق بأنهــم أقــدر عــى‬
‫العودة إىل البيت‪ ،‬وفقط البيت‪ .‬والنازحون السوريون أعداد هائلة كذلك ت ُضاف إىل الالجئني‪.‬‬

‫كان أكرث ما سألت عنه جدّي الذي لجأ من قرية ترشيحا يف الجليل إىل سوريا عام ‪ ،1948‬كان‬
‫بيتنا هناك‪ ،‬بيت جدّي وأبيه أقصد‪ ،‬فالقرية التي تكثّف الوطن بها واخترصته‪ ،‬كانت ُمخترص يف‬
‫بيــت أهــل جـدّي هنــاك ومكثّفــة فيــه‪ .‬وكان دامئـاً البيــت هنــاك هــو املــكان الــذي ال تتحقّق القضية‬
‫األساســية للفلســطينيني وهي «حق العودة» بالنســبة يل‪ ،‬إال فيه‪ ،‬وهي ٌ‬
‫حال تجمع الالجئني أينام‬
‫كانــت بيوتهــم وأوطانهــم‪ .‬وهــي حــال الالجئــن والنازحــن الســوريني الذيــن لــن تفــارق أذهانهــم مفــردة‬
‫«الجئ» إال عند عتبة دورهم‪ ،‬وإن كانت مهدّمة‪.‬‬

‫البيــت إذن هــو املــكان الصغــر‪ ،‬هــو املــكان املعنــوي ال الحجــر‪ ،‬لذلــك تُه ـ ّد منــازل وأبنيــة‬
‫بشــققها وت ُبنــى غريهــا‪ ،‬املــكان يبقــى هــذا الفــراغ‪ ،‬روح البيــت‪ ،‬الــراب ومــا يحــل فوقــه‪ ،‬صلــة الرحــم‬
‫رر االنتــاء لــه‪.‬‬
‫بالوطــن وم ـ ّ‬
‫وبالعــودة إىل الثنائيــة ذاتهــا‪ ،‬فاألكــر أمانــة لالجئــن طــرح الثنائيــة ك ـ اللجوء‪/‬البيــت‪ ،‬وأي مقابــل‬
‫ل ـ «لجــوء» أو أي «حـ ّـل» لهــذه الحالــة ال يكــون بالبيــت‪ ،‬بــأل التعريــف‪ ،‬يكــون قــارصا ً عــى إدراك‬
‫معنــى «اللجــوء» لــدى الالجــئ ومعنــى «العــودة»‪ .‬وليــس للمقاربــة املاديــة هنــا أي معنــى‪ ،‬فهــل‬
‫ســتغني شـقّة يف بــرج حديــث يف مدينــة حيفــا مثـاً‪ ،‬عــن بيتنــا يف ترشــيحا؟ ونقــول إن الفلســطيني‬
‫فــان الفــاين نــال ح ّقــه يف العــودة إىل وطنــه؟ وأنــه مل يعــد الجئـاً؟ قطعـاً ال‪ .‬قــد تطـ ّـل الشــقة عــى‬
‫املتوســط‪ ،‬قــد يُشـغّل الفــرن يف مطبخهــا بالكهربــاء ال الغــاز‪ ،‬واملدافــئ‬
‫ّ‬ ‫الكرمــل ومنــه عــى شــواطئ‬
‫كأن أســكن فندق ـاً‪ ،‬ش ـقّة مــا ّرة‬
‫عــى جدرانهــا كذلــك‪ ،‬لكــن يبقــى هــذا منــزالً وليــس بيت ـاً‪ ،‬أنــزل فيــه ّ‬
‫وغــر باقيــة‪ ،‬لــرورة العمــل أو الدراســة يف حيفــا‪ .‬البيــت يكــون حيــث املعنــى والرائحــة والروايــات‬
‫والذكريــات والعائلــة والصــور العتيقــة املعلّقــة‪.‬‬

‫وألن البيت يكون حيث املعنى والروايات والذكريات وكل ذلك‪ ،‬وألن الوطن يكون حيث يكون‬
‫البيــت‪ ،‬صــار بيــت ج ـدّي أل ّمــي يف حمــص‪ ،‬وبيــت ج ـدّي أليب يف حلــب‪ ،‬صــارا بيتَــن يحمــان‪،‬‬
‫عىل مدى ثالثة أجيال‪ ،‬وط َنني‪ ،‬واحد يف فلســطني واآلخر يف ســوريا‪ ،‬وهذا ما ميكن ملســه لدى‬
‫فلســطينيي ســوريا باملجمــل‪« ،‬امتيــاز» انتــاء مــزد َوج لوط َنــن بقــدر مــا هــو انتــاء مــزد َوج للبيــوت‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪56‬‬

‫ازدواجيــة هــي األكــر تعبــرا ً عــن فلســطينية الســوري أو ســورية الفلســطيني‪ ،‬وأكــر‬
‫القســام‪ ،‬اســم الشــهيد الســوري‬
‫ّ‬ ‫تجلّياتها حضورا ً يف هذه األيام هو اســم عز الدين‬
‫والكتائــب الفلســطينية‪.‬‬

‫نال الفلسطينيني يف سوريا ما نال السوريني‪ ،‬فته ّجر ونزح ولجأ الفلسطينيون‬
‫عــن بيوتهــم الســورية كــا الســوريني‪ ،‬بعدمــا لجــأوا فيهــا عــن بيوتهــم الفلســطينية‪،‬‬
‫فصار لـ «حق العودة» معنيان‪ ،‬األول للبيت السوري والثاين للبيت الفلسطيني‪.‬‬
‫ر‬
‫وال يعنــي تدمــر نظــام األســد للعمــران يف ســوريا‪ ،‬للبيــوت بداللتهــا املاديــة‪ ،‬تدمـ َ‬
‫البيوت بداللتها املعنوية‪ ،‬املكانية‪ .‬يحرضين هنا فيلم وثائقي من جزئني للمخرج‬
‫قصــة‬
‫اإلرسائيــي عامــوس جيتــاي‪ .‬الجــزء األول اســمه «بيــت» (‪ ،)1980‬ويحــي ّ‬
‫هدم بيت عائلة دجاين يف القدس‪ ،‬لبناء فيال سكنية يتقاسمها مهاجرون يهود‪،‬‬
‫نشــاهد يف الفيلــم طبيب ـاً عجــوزا ً مــن عائلــة دجــاين‪ ،‬وهــو صاحــب البيــت‪ ،‬يحــي‬
‫للمخرج يف مكان الهدم عن الذكريات فيه‪ ،‬عن املعاين التي يحملها هذا البيت‬
‫والغــرف التــي اســتحالت فراغـاً‪ .‬يف الجــزء الثــاين مــن الفيلــم «بيــت يف القــدس»‬
‫(‪ ،)1998‬نشاهد يهودا ً قادمني من عدّة دول‪ ،‬سكنوا الفيال‪ ،‬تشاركوها‪ ،‬يجهلون‬
‫تاريــخ املــكان والبيــت الــذي تهـدّم والشــارع والحــارة‪ ،‬يعرفــون أن حربـاً حصلــت هنــا‬
‫وأن املــكان صــار عائــدا ً للدولــة‪ .‬يف الفيلــم نفســه نــرى ابــن الطبيــب وحفيدتــه مــن‬
‫العائلــة الفلســطينية‪ ،‬يــزورون مــا بُنــي عــى أنقــاض بيتهــم‪ ،‬يــزورون املــكان واملعنــى‪،‬‬
‫بيتهم‪/‬وطنهــم الــذي طُــردوا منــه ثــم د ّمرتــه إرسائيــل وبنــت آخــر محلّــه‪ ،‬أتــت بيهــود‬
‫ليقســموه ويتشــاركونه كمحتلّــن‪ .‬أصحــاب البيت‪/‬الوطــن زاروه ورأوا‬
‫ّ‬ ‫متف ّرقــن‬
‫الذكريــات واســتعادوا الروائــح يف املــكان الــذي انتمــى لــه بيتهــم‪ ،‬والبيــت الــذي‬
‫انتمــى لــه وطنهــم‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫شبلل ىلوألا ةيرحلا ةقهش تيبلا‬
‫يعابج ناسغ‬

‫غسان جباعي‬

‫البيت شهقة الحرية األوىل للبرشية‬

‫أربعة جدران وسقف وباب ونافذة‪ .‬هذا كل ما ميكن أن يحتاجه اإلنسان لبناء‬
‫بيــت‪ .‬يبــدو هــذا االخــراع ســهالً بســيطاً‪ ،‬وقــد تجــد اليــوم‪ ،‬بيوت ـاً مســبقة الصنــع‪.‬‬
‫لكــن بنــاء البيــوت بالنســبة لإلنســان األول مل يكــن أمــرا ً متاح ـاً‪ .‬بقــي يعيــش آالف‬
‫الســنني‪ ،‬وبشــكل جامعــي‪ ،‬يف الكهــوف واملغــاور‪ ،‬خوف ـاً مــن الوحــوش الجائعــة‪.‬‬
‫وقــد بقــي عــى هــذه الحالــة قرونـاً كثــرة‪ ،‬مل يفكــر خاللها مبغادرة القطيع‪ ،‬ومواجهة‬
‫هــذه املخاطــر املحدقــة بــه‪ ،‬مبفــرده‪ .‬ومل يكــن ميلــك أصـاً املعرفــة وال املــواد وال‬
‫األدوات الالزمــة لذلــك‪ .‬فكانــت املغــارة هــي الرحــم الثــاين الــذي لجــأ إليــه مــن أجــل‬
‫الحفــاظ عــى وجــوده‪.‬‬

‫إن توق الفرد للتحرر من القطيع‪ ،‬دفعه لخوض مغامرة العيش يف الهواء الطلق‪،‬‬
‫فوق سطح األرض‪ ،‬وتحدي املخاطر وعاديات الطبيعية التي ميكن أن يواجهها‪ ،‬والتي‬
‫مل يكن قد فهم قوانينها أو سيطر عليها بعد‪ .‬لكن تطوره البيولوجي وامتالكه لقرشة‬
‫مخ متطورة جدا ً وانتصاب قامته وتحرر يديه وأصابعه وقدراته عىل اكتساب املزيد‬
‫من الخربة واملهارات واملعارف والخيال‪ ،‬مكنته بالتدريج من السيطرة املطَّردة عىل‬
‫قوى الطبيعة ووحوشها‪ ،‬وامتلك الشجاعة عىل الخروج من الكهف ومواجهة العامل‪.‬‬
‫فعاش يف العراء واقتات عىل النباتات والجذور‪ ،‬باإلضافة إىل الصيد‪ ،‬حتى امتلك‬
‫املهارة الالزمة لبناء البيت الذي يشعره باألمان والدفء والحرية‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪58‬‬

‫ويُعتــر البيــت‪ ،‬أو حتــى املغــارة‪ ،‬صلــة الوصــل بــن اإلنســان واألرض التــي بنــى عليهــا بيتــه أو‬
‫مغارته‪ .‬ورمبا نشــأت هذه الصلة قبل أن تكتشــف املرأة الزراعة‪ ،‬وقبل أن تتحول الجامعة البرشية‬
‫من عرص الرعي إىل عرص التحرض واالستقرار وبناء املدينة‪ .‬إنها املحاولة األوىل يف تاريخ البرشية‬
‫الســتعامر واســتثامر األرض التــي ســتصبح وطن ـاً‪ ،‬أو محميــة‪ ،‬والتــي ســيلتصق اإلنســان بهــا ويدافــع‬
‫عنهــا بــكل مــا ميلــك مــن وســائل‪ .‬فدفاعــه عــن تلــك األرض يعنــي دفاعــه عــن بيتــه وأرستــه‪ .‬وخســارته‬
‫لبيتــه تعنــي خســارته لتلــك األرض!‬

‫ويُقــال إن اإلنســان البــدايئ أنشــأ‪ ،‬يف البدايــة‪ ،‬جــدارا ً واحــدا ً ليص ـ ّد عنــه الريــح والــرد مــن جهــة‬
‫واحــدة‪ ،‬ثــم بنــى بعــد ذلــك بقيــة الجــدران‪ ،‬مــن كل الجهــات‪ ،‬وجعــل لهــا‪ ،‬أخــرا ً‪ ،‬ســقفاً مــن جــذوع‬
‫األشــجار واألعشــاب‪ ،‬يقيــه مــن الثلــج واملطــر وأشــعة الشــمس‪ .‬وقــد تــرك يف أحــد الجــدران ممــرا ً‬
‫لدخولــه وخروجــه‪ ،‬أصبــح فيــا بعــد بابـاً بطــول قامتــه‪ .‬كــا تــرك كــوة صغــرة تحولــت جيـ ً‬
‫ا بعــد جيــل‬
‫إىل نافــذة واســعة‪ .‬وال أحــد يــدري كــم مــى عــى هــذا التطــور مــن القــرون حتــى أصبــح البيــت‪ ،‬كــا‬
‫نــراه اليــوم‪ ،‬مكونـاً مــن عــدة طوابــق وغــرف ذات خدمــات مختلفــة‪ :‬غرفــة نــوم وصالــون ومطبــخ وحــام‬
‫وحديقــة‪ ،‬وغــره مــن الخدمــات التــي تلبــي حاجــات اإلنســان‪ ،‬غــر املحــدودة‪.‬‬

‫لقد كان بناء البيت هو أول لبنة يف بناء الحضارة اإلنسانية‪ .‬فمع انتقال املجتمعات البرشية‬
‫مــن عــر املشــاعة البدائيــة وســيادة األنثــى األم‪ ،‬إىل عــر امل ُلكيــة الخاصــة وســيادة الذكــر األب‪،‬‬
‫بــدأت تتكــون األرس والقبائــل‪ .‬فاتســعت البيــوت وكــرت العائــات وبــدأت تتشــكل األحيــاء والقــرى‬
‫ثــم املــدن واملاملــك واإلمرباطوريــات املختلفــة‪.‬‬

‫البيــت إذا ً هــو املدينــة الكبــرة‪ ،‬واخرتاعــه يُعــد نقلــة نوعيــة يف حيــاة البرشيــة وتلبيــة حاجاتهــا‬
‫املاديــة األساســية‪ .‬لكــن اإلنســان مل يكتـ ِ‬
‫ـف يومـاً بتلبيــة حاجاتــه املاديــة فقــط‪ .‬فمــع تطــوره الذهنــي‬
‫واملعريف‪ ،‬بات بحاجة ماسة لتلبية حاجاته الوجدانية أيضاً‪ :‬الروحية واألخالقية والجاملية‪ .‬ومل يعد‬
‫البيــت هــو مجــرد كومــة مــن الحجــارة يلجــأ إليهــا أو مجــرد مــكان آمــن ومســتقر لرتبيــة أطفالــه‪ ،‬أو مجــرد‬
‫ملكية خاصة يحميها ويدافع عنها بل أصبح يشكل مخزناً لذاكرته ومرجعاً لحياته ومستقبل أوالده‪.‬‬
‫فاإلنســان‪ ،‬مــع أنــه يعتــر البيــت‪ :‬شَ ـقَا العمــر‪ ،‬كــا يقــال‪ ،‬غــر أنــه يشــكل يف الواقــع البيئــة الحاضنــة‬
‫للفــرد وعــادات املجتمــع وتقاليــده وقيمــه ولغتــه الخاصــة وثقافتــه‪ .‬إنــه صنــدوق الذكريــات وملعــب‬
‫الطفولــة‪ ،‬واملدرســة الرتبويــة األوىل‪ ،‬األكــر تأثــرا ً يف حيــاة الفــرد مــن الناحيــة املعرفيــة والنفســية‬
‫واالجتامعيــة‪ .‬وهــو مســقط رأســه ومرتــع منــوه وصريورتــه‪ .‬واإلنســان ال يرتــاح إال فيــه‪ ،‬ألنــه مــكان عيشــه‬
‫ومخبــأ أرساره وســاتر عيوبــه ومــأواه عنــد العجــز‪ .‬وهــو املــكان األول يف هــذا العــامل‪ ،‬الــذي تــراه عينــاه‬
‫وتكتشفه حواسه ويدركه عقله‪ .‬إنه مهد الطفولة والفتوة والشباب‪ .‬بيت الجد واألب واألم واألخوة‬
‫واألقارب والجريان‪ .‬تشدك إليه‪ ،‬طوال العمر‪ ،‬أوارص الذكريات املشرتكة والحنني األول والتجارب‬
‫‪59‬‬ ‫شبلل ىلوألا ةيرحلا ةقهش تيبلا‬

‫رسة إىل جدار الرحم‪.‬‬


‫اإلنسانية البكر كالحب والزواج واملرض والوالدة واملوت‪ ،‬كام يشدك حبل ال ّ‬
‫يعابج ناسغ‬

‫إنه االنتامء األول للزمان ‪ /‬الذاكرة‪ ،‬واملكان ‪ /‬الوطن‪.‬‬

‫واإلنســان الــذي ال بيــت لــه ال تاريــخ لــه وال جغرافيــا وال انتــاء وال هويــة‪ .‬ولذلــك اســتخدم الطغــاة‬
‫عــر التاريــخ‪ ،‬تدمــر البيــوت وحرقهــا ونهبهــا وترشيــد ســكانها أو نفيهــم‪ ،‬كواحــدة مــن أشــد العقوبــات‬
‫التــي يســتخدمونها لــردع خصومهــم ومعارضيهم السياســيني‪.‬‬

‫وكــا أن األرسة يف املجتمعــات الحديثــة‪ ،‬تعتــر لبنــة أساســية يف بنــاء املجتمــع‪ ،‬يعتــر البيــت‬
‫رشط ـاً الزم ـاً لتشــكل هــذه األرسة ووحدتهــا ومنوهــا الطبيعــي ونجاحهــا‪ .‬ولذلــك نشــأ هــذا التــازم‬
‫بــن رابطــة الــدم التــي تربــط بــن األبنــاء واآلبــاء‪ ،‬والبيــت الــذي ينشــأ فيــه املــرء مــع أرستــه‪ .‬حتــى باتــت‬
‫العائــات تُعــرف وتلقــب ببيوتهــا‪.‬‬

‫كــا أن البيــت‪ ،‬الــذي يُعتــر حاجــة أساســية مــن حاجــات النــاس‪ ،‬وحق ـاً طبيعي ـاً مــن حقوقهــم‬
‫األساســية‪ ،‬تحــول إىل رمــز لل ُملكيــة الشــخصية واملكانــة االجتامعيــة واالقتصاديــة‪ ،‬التــي تتباهــى بهــا‬
‫العائالت الغنية‪ .‬فرناها‪ ،‬وخاصة يف عرص اإلقطاع‪ ،‬تتسابق لبناء العقارات الكبرية والفيالت األنيقة‬
‫والقصــور الفخمــة التــي تقــام يف مراكــز املــدن‪ ،‬ومت ّيــز طبقتهــا النبيلــة عــن بقيــة طبقــات الشــعب‪،‬‬
‫وتفيــض عــن حاجتهــا عــى حســاب اآلخريــن بينــا تكتفــي العائــات الفقــرة مــن الفالحــن والعــال‬
‫الزراعيني‪ ،‬ببناء أكواخ صغرية‪ ،‬من الطني والقش أو الخشب أو الصفيح‪ ،‬أو الحجارة‪ ،‬حسب البيئة‬
‫التــي تعيــش فيهــا تلــك العائــات‪ .‬وغالبـاً مــا تتجمــع عــى أطــراف املــدن والقــرى‪ ،‬وتكتــظ بأفرادهــا‪،‬‬
‫لكنهــا يف املقابــل تحميهــم مــن التــرد والضيــاع‪.‬‬

‫ومــا زال هــذا التاميــز موجــودا ً‪ ،‬رغــم أن البيــوت يف العــر الحديــث‪ ،‬تحولــت بســبب النمــو‬
‫السكاين‪ ،‬وحاجات املدن الكربى‪ ،‬إىل شقق سكنية يف مج ّمعات ضخمة‪ ،‬تحتوي عىل عدد من‬
‫البنايات العالية‪ ،‬التي تتألف عادة‪ ،‬من طوابق عدة وتحتوي عىل عدد كبري من الوحدات السكنية‬
‫التــي تقطنهــا األرس العاملــة املتنوعــة‪ ،‬مــن حيــث املنشــأ واملهنــة والثقافــة‪ ،‬لكنهــا تنتمــي جميعهــا‬
‫إىل طبقــة واحــدة هــي الطبقــة الفقــرة‪ ،‬ذات الدخــل املحــدود‪ ،‬كــا يقــال عندنــا يف ســورية‪ ،‬والتــي‬
‫تعيــش عــى كفــاف يومهــا‪ .‬مــع العلــم أن الحصــول عــى شــقة ســكنية‪ ،‬يُعتــر بالنســبة لهــذه الطبقــة‪،‬‬
‫حل ـاً صعــب املنــال‪ ،‬قــد يســتغرق تحقيقــه عمــرا ً كام ـاً‪ ،‬أو أكــر وتشــكل هــذه الطبقــة االجتامعيــة‬
‫يف ســورية الغالبيــة العظمــى مــن شــعبها‪ .‬وخاصــة بعــد أن قــام نظــام الفســاد واالســتبداد بتحطيــم‬
‫الطبقة الوسطى وزيادة الفارق بني األغنياء الفاسدين املحميني من السلطة‪ ،‬والفقراء املعدمني‬
‫املرهقني بالرضائب واألقســاط الشــهرية التي يضطرون لدفعها للدولة أو للرشكات الخاصة‪ ،‬لقاء‬
‫الحصــول عــى شــقة أو أثــاث منــزيل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪60‬‬

‫إن تدمري أو حرق أو ضياع البيت ال يعني فقط خسارة الفرد لرزقه وجنى عمره‪،‬‬
‫بل يعني أيضاً ترشد األرسة بكاملها‪ ،‬ومتزق وحدتها وفقدان ذاكرتها وتاريخها وأمنها‬
‫واســتقرارها‪ ،‬وضياع ماضيها وحارضها ومســتقبل أبنائها‪ ،‬وعندما يتم ذلك بشــكل‬
‫جامعي‪ ،‬أي تدمري املدن‪ ،‬كام يحدث يف سورية منذ أربع سنوات‪ ،‬يصبح التدمري‬
‫دمــارا ً شــامالً للمجتمــع وتهجــرا ً منهجيـاً لشــعب بكاملــه‪ ،‬يتحــول فجــأة إىل شــعب‬
‫مرشد يعيش يف مخيامت غريبة‪.‬‬

‫وال يفهم قسوة هذه الحالة ومآسيها إال من عاشها وجربها‪.‬‬


‫‪61‬‬ ‫ةدوعلا حاتفم‬
‫نسح ليمج نسوس‬

‫سوسن جميل حسن‬

‫مفتاح العودة‬

‫تظهــر أعــال التنقيــب ودراســة اآلثــار أن اإلنســان املنتصــب ســكن الكهــوف‬


‫منــذ مليــون عامـاً‪ ،‬أي يف مرحلــة العــر الحجــري األســفل‪ .‬باكــرا ً يف عمــر اإلنســان‬
‫وتطوره أدرك حاجاته األساسية واكتشف سبل تحقيقها ثم أخذ يط ّورها‪ ،‬ورمبا كان‬
‫املسكن من أوائل الحاجات التي سعى إليها‪ .‬كل املخلوقات تركن إىل مساكنها‪،‬‬
‫من أصغرها إىل أرقاها يف سلم التطور‪ .‬لكن املسكن بالنسبة إىل اإلنسان‪ ،‬مثل‬
‫باقي حاجاته‪ ،‬تطور مع الزمن واكتسب دالئل أخرى مع تطوره وتطور ثقافته‪ ،‬ودخل‬
‫يف ميــدان جدليــة االســم واملدلــول‪ ،‬االســم والــيء‪ ،‬صــار البيــت فضــاء متعــدد‬
‫التجليــات‪ ،‬وصــار رمــزا ً يُـ ّ‬
‫ـدل بــه إىل مفاهيــم برشيــة عديــدة‪.‬‬

‫«البيــت‪ ،‬أو املســكن هــو املنشــأة التــي يــأوي إليهــا اإلنســان وعائلتــه للعيــش‪،‬‬
‫واالحتــاء مــن عوامــل الطبيعــة‪ ،‬ولقضــاء احتياجاتــه اليوميــة خــارج نطــاق عملــه‪،‬‬
‫ويستخدمه للراحة والنوم‪ ،‬وتحضري الطعام وتناوله‪ ،‬واللقاءات األرسية واالجتامعية‪،‬‬
‫ومامرســة بعــض النشــاطات والهوايــات األدبيــة أو الفنيــة أو الرياضيــة أو الرتفيهيــة أو‬
‫اإلنتاجيــة»‪ .‬يــا لبــؤس هــذا التعريــف ورصامتــه الجامــدة والصقيعيــة‪.‬‬

‫البيــت هــو حاجــة‪ ،‬تلتبــس بــن الغريــزي واملكتســب‪ ،‬حاجــة كل املخلوقــات‬


‫للمســكن هــو حاجــة غريزيــة أوالً‪ ،‬فحتــى الكائنــات املجهريــة «الفريوســات» تلــك‬
‫التشــكيالت التــي ال تنبــئ بالحيــاة خــارج مســكنها «الخليــة الحيــة»‪ ،‬فــإذا مــا دخلتــه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪62‬‬

‫انطلقــت طاقاتهــا املكنونــة بنشــاط حـ ّـي مزدهــر‪ ،‬حتــى لــو كان هــذا النشــاط مدمــرا ً للخليــة الحيــة‪،‬‬
‫لكنــه بالنســبة لهــا وســيلة التعبــر عــن الوجــود وعيشــه‪ ،‬لهــا مســكن‪.‬‬

‫البيــت بالنســبة للكائــن البــري هــو حجــر أســاس يف مامرســة الوجــود‪ ،‬هــو انتــاء للمــكان‪ ،‬ومــا‬
‫يتفتــق عــن هــذا الوجــود مــن نشــاطات وســلوكيات وإبداعــات‪ .‬ليــس عبثـاً لغويـاً أن يُقــال عــن البيــت‬
‫«مســكن» فاللغــة ال تعبــث لكنهــا قــد تــوارب فتمنــح املعــاين فضــاءات أوســع‪ ،‬املســكن مشــتق مــن‬
‫رحــم الســكينة‪ ،‬والســكينة ينشــدها اإلنســان يف حياتــه ويجدهــا يف بيتــه‪.‬‬

‫ليــس البيــت مــكان «املبيــت» فقــط‪ ،‬هــو أرحــب مــن هــذا بكثــر‪ ،‬بالرغــم مــن قيمــة املبيــت‪،‬‬
‫اكتســبت الكلمــة أبعــادا ً متنوعــة لهــا دالالتهــا حتــى صــارت كلمــة البيــت تشــر إىل مفاهيــم متنوعــة‬
‫لنشــاطات النــاس‪ ،‬فعندمــا نقــول عــى ســبيل املثــال‪ :‬جــاء بيــت عمــي يف زيــارة إلينــا‪ ،‬مــن املؤكــد‬
‫أن ليــس املقصــود بالبيــت هــو هــذا التشــكيل العمــراين الراســخ الــذي ال يغــادر مكانــه‪ ،‬لكــن األرسة‬
‫املكونــة مــن أفــراد تربطنــا معهــم عالقــة مــا وذاكــرة وتاريــخ ومشــاعر وحنــن‪ ،‬الســاكنة لبيــت لوالهــا ال‬
‫يســاوي شــيئاً أكــر مــن مجهــول يحتــاج إىل معلــوم ليع ـ ّرف بــه‪ ،‬هــي التــي جــاءت لزيارتنــا‪ .‬كــا بيــت‬
‫الجــران‪ ،‬حتــى صــارت لعبــة يتوارثهــا األطفــال جي ـاً بعــد جيــل‪ ،‬يتلهــون يف زيــارات بعضهــم بعض ـاً‬
‫مــع أهاليهــم بلعبــة‪ :‬بيــت الجــران‪ ،‬التــي ال زال أطفــال ســورية برغــم قســوة التهجــر ّ‬
‫وذل العيــش يف‬
‫مخيــات معظمهــا انتهــك مفهــوم البيــت وحرمتــه اإلنســانية‪ ،‬ال زالــوا يبــددون وقتهــم بهــا ومينحــون‬
‫أحالمهــم الحيــاة التــي يستشــعرون بخطــر رسقتهــا منهــم‪.‬‬

‫البيــت هــو تعبــر مبطــن عــن هاجــس الخلــود الــذي مــا فتــئ يشــغل اإلنســان منــذ وعــى املــوت‪،‬‬
‫يلــوذ بــه مــن كل أشــكال األخطــار أو مــا يحــرض قلقــه وخوفــه‪ ،‬يقتنــي األغــراض ويؤســس بهــا ذاكــرة‬
‫املــكان التــي يــودع فيهــا ذاكرتــه‪ ،‬ميــدد ويقلــص معنــى البيــت بحســب حاجاتــه الحميميــة حتــى األكرث‬
‫ســفورا ً‪ .‬حتــى املفــردات التــي أدخلتهــا املدنيــة إىل حياتنــا مل تســتطع أن تدفــن الصياغــات الخاصــة‬
‫بهذه الحاجات والتي تربطها بكلمة البيت‪ ،‬ال زال الكثري من رشائح املجتمع يسمون دورات املياه‬
‫مبفــردات البيــت‪ :‬بيــت الخــاء‪ ،‬بيــت األدب‪ ،‬بيــت املــاء‪ .‬فكــم مــن الحمــوالت الثقافيــة ميكــن أن‬
‫تحمل هذه الصياغات‪ ،‬وأن تدل عىل تفكري جمعي مرتفع عن املعنى الجامد لألشياء‪ ،‬بل ربطها‬
‫ببعدهــا اإلنســاين‪ ،‬مثلــا عــر عــن حاجاتــه املاديــة أيضـاً‪ ،‬فهنــاك‪ :‬بيــت املؤونــة‪ ،‬وبيــت الغســيل‪،‬‬
‫وبيــت النــار‪ ،‬وغريهــا‪.‬‬

‫البيــت هــو وحــدة القيــاس الناظمــة لألحيــاء والحــارات‪ ،‬وهــذه تجتمــع لتشــكل القــرى واملــدن‪،‬‬
‫ومجموعهــا يشــكل الوطــن مبفهومــه املــكاين‪ ،‬أمــا البعــد الــداليل فرتتبــه الذاكــرة والتاريــخ وتراكــم‬
‫النشاطات البرشية املنتمية إىل هذه األمكنة عىل م ّر الزمن‪ .‬مع التطور املدين والتعقد الحيايت‬
‫للبــر تطــور البيــت‪ ،‬وصــار لــه مفتــاح‪ ،‬وتطــور املفتــاح‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫ةدوعلا حاتفم‬

‫مفتــاح البيــت‪ ،‬هــذا الحــارس الضامــن ألمننــا وســكينتنا‪ ،‬نتفقــده كلــا أتعبتنــا الحيــاة ليكــون‬
‫نسح ليمج نسوس‬

‫دليلنــا ومرشــدنا يف طريــق العــودة إىل حيــث نقــرب مــن أنفســنا حـ ّد االلتصــاق‪ ،‬إىل حيــث تختبــئ‬
‫أرسارنــا‪ ،‬طموحاتنــا أمانينــا‪ ،‬أحزاننــا خيباتنــا‪ ،‬عذاباتنــا‪ ،‬إىل حيــث ميكــن أن نتعــرى ونواجــه عرينا بجرأة‬
‫أمام مرايا الحقيقة فرنى سوءاتنا وعيوبنا‪ ،‬املفتاح يدخلنا إىل منت ذواتنا حيث ماضينا وتاريخنا‪،‬‬
‫حيــث نتــوزع هــذا املــايض وينبنــي مــرة أخــرى يف أعامقنــا‪ .‬املفتــاح هــو ّ‬
‫رس الولــوج إىل ملجــأ يقينــا‬
‫من الترشد يف العراء‪ ،‬هو وسيلة الوصول إىل اليقني‪ ،‬وهو بالقدر نفسه أداة االنعتاق إذا ملكناه‪.‬‬
‫كــم مــن املفاتيــح نحتــاج يف الحيــاة؟ ســؤال مفتــوح عــى الالنهايــة‪.‬‬

‫منــذ ثــاث ســنوات كان مفتــاح يصــل طولــه إىل تســعة أمتــار‪ ،‬ويحمــل وزن ـاً بثقــل قضيــة صــارت‬
‫حلـاً‪ ،‬يجــوب البقــاع ليســتقر يف معــرض يف برلــن‪ ،‬ويتزاحــم األفــراد حولــه يســجلون توقيعهــم عــى‬
‫جســده يجمعهــم انتامؤهــم إىل اإلنســانية فقــط‪ ،‬هــو مفتــاح يحمــل دالالت كبــرة‪ ،‬املفتــاح الــذي‬
‫يحتفــظ بــه فلســطيني غــادر وطنــه هارب ـاً مــن شــبح املــوت ذات تاريــخ س ـ ّمي بالنكبــة‪ ،‬يحمــل ذاكــرة‬
‫شــعب يعانــد املــوت‪ ،‬هويــة تقــاوم التزويــر‪ ،‬حنينـاً يــأكل مــن شــغاف القلــب يك يبقــى متقــدا ً يجــوب‬
‫العــامل لريويهــا عــى ضامئــره‪.‬‬

‫أخىش أن يكون هناك مفتاح سوري‪ ،‬فلكل مفتاح حكاية‪.‬‬

‫مبــاذا كان يفكــر أولئــك الســوريون قبــل انهــار املــوت عــى بيوتهــم مــن الســاء أو األرض أو مــن‬
‫أي جهــة جــاء‪ ،‬فاملــوت الســوري ال يحتــاج إىل بوصلــة؟ مبــاذا كانــوا يفكــرون قبــل املــوت بلحظــات؟‬
‫وكيــف بقيــت القبضــة مضمومــة عــى مفتــاح؟‬

‫ليــس ألن املفتــاح هــو مــا يحصــن البيــت ضـ ّد اآلخــر‪ ،‬أو ضــد الرسقــة‪ ،‬أو ضــد الســطو واالقتحــام‪،‬‬
‫وليــس ألنــه يحمــي مــن قذيفــة أو برميــل أو صــاروخ‪ ،‬وليــس ألنــه قطعــة معدنيــة قيمتهــا متواضعة لكنها‬
‫تســاوي الكثــر عندمــا تتعشّ ــق القفــل‪ ،‬لكــن املفتــاح هــو اختــزال للبيــت‪ ،‬إمســاك مجــازي بالســكينة‬
‫واألمــان‪ ،‬هــو وعــد بالعــودة عنــد كل خــروج‪ ،‬هــو لهفــة ألمكنــة الذاكــرة‪ ،‬هــو املــاذ وامللجــأ‪ ،‬هــو األم‬
‫التي ال ينقطع الحبل الرسي معها‪ ،‬هو األب واألخوة واألخوات‪ ،‬هو الشجن العذب الذي يسكننا‬
‫ونحن بني حناياه‪ ،‬هو الجزء املتجذر من هويتنا يف املكان‪ .‬هو العودة الدامئة وكل مرة بإحساس‬
‫كأنــه املرة األوىل‪.‬‬

‫يف برلــن‪ ،‬داهمتنــي صــور الدمــار الســوري‪ ،‬عــى وقــع التغريبــة الســورية يف خاطــري‪ ،‬اخرتقتنــي‬
‫صور األطفال وقد حملوا تراب حدائقهم عىل سيقانهم الطرية‪ ،‬وغبار دمار بيوتهم يكسو وجوههم‬
‫بأقنعــة البــؤس فيغيّــب املالمــح الطفوليــة‪ ،‬تركــوا خلفهــم أحالم ـاً بريئــة‪ ،‬وعامل ـاً مــن البهجــة كانــوا‬
‫رستهــم‪ ،‬طافريــن مــن املــوت الغاشــم باتجــاه املجهــول‪ ،‬داهمتنــي تلــك الصــور‬
‫يســتدرجونه إىل أ ّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪64‬‬

‫مبطنــة بأســئلة عديــدة وأنــا أرى يف متحــف كرويتســرغ صــور الدمــار والــركام الــذي‬
‫نهضــت منــه أملانيــا لتصبــح يف وقتنــا الراهــن دولــة ثالــث أكــر اقتصــاد يف العــامل‪،‬‬
‫إن مل يكن أكرث‪ ،‬وأســتمع مبقتنيات برصية ســمعية إىل شــهادات بعض األفراد عن‬
‫تلــك املرحلــة وكيــف نهضــوا مــن تحــت رمــاد مدنهــم وبيوتهــم‪.‬‬

‫مواط ـ ٌن تَقــدم إىل الجهــات املســؤولة يف ح ّيــه مــن أجــل بيــت لــه ولزوجتــه‪ ،‬مل‬
‫مينحــوه املوافقــة عــى بيــت ألن ال أطفــال لديهــا حينهــا‪ ،‬فقــد كان الحــي مدمــرا ً‬
‫بنســبة تفــوق األربعــن باملائــة‪ ،‬واملهجــرون والنازحــون أعدادهــم كبــرة‪ ،‬ســكن هــو‬
‫وزوجتــه مفصولــن عــن بعضهــا البعــض ملــدة أكــر مــن عــام‪ ،‬كل واحــد يف ســكن‬
‫جامعــي‪ ،‬فــراح يعمــل بنصيحــة رفيقــه بــأن يســاعد يف رفــع األنقــاض‪ ،‬اشــتغل أكــر‬
‫من ألف ومائتي ســاعة يرفع الحجارة بيديه‪ ،‬مســاء بعد عمله وأيام الســبت واألحد‬
‫كاملــن‪ ،‬حتــى منــح املوافقــة عــى الحصــول عــى بيــت‪ ،‬وانتظــر حتــى جــاء دوره‪.‬‬

‫الشعب األملاين صنع تجربته‪ ،‬ولنا نحن السوريني تجربتنا التي تختمر يف رحم‬
‫األحــداث والتحــوالت الكبــرة التــي تجــري يف بلدنــا‪ ،‬ســتكون لنــا تجربتنــا‪ ،‬وســتكون‬
‫لنــا ثقافتنــا البديلــة التــي ســتفرزها هــذه الحشــود املجتمعيــة مــن قلــب معاناتهــا‪،‬‬
‫ســوريون بيوتهــم دمــرت‪ ،‬وتراثهــم الحضــاري انتهــك‪ ،‬وذاكرتهــم الجمعيــة تغتصــب‪،‬‬
‫وأحالمهــم هامئــة يف الســاء يطاردونهــا حتــى ال تذهــب بعيــدا ً‪ ،‬ورائحــة الوطــن مــع‬
‫كل هــذا ســتبقى عالقــة عــى ثيابهــم وماثلــة يف وعيهــم‪ ،‬وســيعودون ومفاتيــح الغــد‬
‫بني قبضاتهم‪ ،‬أما مفاتيح بيوتهم التي مل تفارقهم فستبقى تعويذة ومتائم يعلقونها‬
‫يف صــدر غرفهــم الجديــدة يف ســورية الجديــدة ببيوتهــا الجديــدة‪.‬‬
‫‪65‬‬ ‫مولح مالسلا دبع‬
‫ليحر ةداهش‬

‫شهادة رحيل‬

‫عبد السالم حلوم‬

‫الثــورة يف بســتان القــر‪ ،‬يف األيــام األوىل مــن شــهر متــوز ‪ 2012‬مل تعــد مثلــا‬
‫كانــت عليــه‪ ،‬حــن تخــرج مظاهــرة مــن جامــع حذيفــة وتكــر جنوبــا تحــت باقــات الــورد‬
‫وحفنــات الــرز املنهمــرة عــى األكتــاف مــن الرشفــات‪ ،‬تكــر لتلتقــي مظاهــرة أخــرى‬
‫خارجة من جامع بدر يف عمق الحي‪ ،‬وتلتحامن بثالثة يف ساحة الكالسة ليحتشد‬
‫الثائــرون يف تنــوع مدهــش مــن حيــث األديــان والطوائــف‪ ،‬صبايــا وشــباب‪ ،‬مثقفــون‬
‫وسياســيون‪ ،‬عــال وطــاب وعاطلــون عــن الشــغل ويف الالفتــات تتجــى الســلمية‬
‫يف شــمولية الثــورة يف وطــن واحــد‪ ،‬ويف الهتافــات يهــدر النــداء للحريــة ضــد القمــع‬
‫واالستبداد‪ .‬هي اآلن بدأت تأخذ بعدا جديدا بالتوجه إىل الكفاح املسلح‪ ،‬تحرك‬
‫هذا التوجه دوافع قدمية‪ ،‬فهذا الحي كان قد شهد يف ‪ 12‬آب‪/‬أغسطس ‪1980‬‬
‫مجــزرة ضحاياهــا كانــوا ‪ 35‬مدنيــا أعدمــوا ميدانيــا بعــد مجــزرة املشــارقة بيــوم واحــد‪،‬‬
‫كــا تحركــه دوافــع جديــدة فقــد ازداد يف املظاهــرات األخــرة قتــل قــوات النظــام‬
‫للشــباب املتظاهريــن‪ ،‬ليصبــح الحــي تظاهــرة دامئــة‪ ،‬ليــا ونهــارا‪ ،‬ويســقط قتــى‬
‫جدد ليشيعوا يف مظاهرة جديدة‪ ،‬وسط تغلغل عنارص «الجيش الحر» لحاميتها‬
‫وبــدأت تظهــر البنــادق محمولــة عــى األكتــاف ويحمــل حاملهــا أيضــا عــى األكتــاف‬
‫ويشــتد القتــل أكــر لتصبــح شــوارع التظاهــر غارقــة يف بــرك الــدم ويصبــح ليــل الحــي‬
‫فضــاء للرصــاص فقــد أخــذ «الجيــش الحــر» ينســف الحواجــز األمنيــة يف مداخــل‬
‫الحــي الــذي يضــم يف بيوتــه اآلالف مــن الناشــطني ‪ .‬يف ‪22‬متــوز‪ 2012‬بــدأ ثــوار‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪66‬‬

‫األريــاف املســلحون بدخــول مدينــة حلــب‪ ،‬وأعلنــت «كتائــب التوحيــد» مــن «الجيــش الحــر» بــدء‬
‫معركــة تحريــر حلــب‪ ،‬وأعلــن كذلــك النفــر العــام‪ ،‬وطالــب بيان من «الجيش الحر» املواطنني التزام‬
‫بيوتهم حتى تحرير املدينة‪ ،‬ويبرشهم بأنها لن تطول أكرث من ثالثة أسابيع‪ .‬ويف ظهرية اليوم التايل‬
‫بــدأت قذائــف النظــام تنهمــر عــى الحــي‪ ،‬ســقطت قذيفــة عــى رشفــة الطابــق األخــر مــن بنايتنــا‪،‬‬
‫وســقطت أخــرى لتفتــح يف جــوف الشــارع املــوازي للحديقــة حفــرة بحجــم بيتــي‪ ،‬حينهــا أحسســت‬
‫بأنها «طويلة» ال كام يزعم بيان «الجيش الحر»‪ ،‬وعيل أن أغادر هذه املدينة هربا من مصري فاجع‬
‫أقلــه بالنســبة يل االعتقــال وعــي بالوقــت نفســه إنقــاذ األرسة التــي تســكن مبحــاذاة املــوت الــذي‬
‫صــار ينــاوش األم وثالثــة أوالد أكربهــم بنــت يف الرابعــة عــرة يف بيــت مطــل عــى جهنــم ويف ملجــأ‬
‫ظل منســيا لعرشات الســنني كقبو للجرذان واألشــباح ‪،‬مع أن شــباب البناية قاموا بتنظيفه احتياطا‬
‫ليــوم كهــذا‪ ،‬فقــد أحسســت مــن أول ســاعة نزلنــا إليــه ب ــأن هــذا املــكان املطــرود مــن البــال لــن يحمينــا‬
‫وســط حــرب الشــوارع‪ ،‬ولــن أســتطيع أنــا الصــر يف ســجن آخــر ولــو كان بــا ســجان‪ ،‬فهــو أشــبه بقــر‬
‫جامعــي لبــر ميوتــون ببــطء‪ .‬قــدرت يف ســاعات الفجــر األوىل هــدوء عــى الجبهــة فقــد هــدأت‬
‫القذائــف اآلتيــة مــن تلــة حــي اإلذاعــة‪ ،‬وعــي يف ملــح البــر أن أصعــد اىل الطابــق الخامــس وأتلقــف‬
‫حقيبــة األغــراض الشــخصية وســط احتــال املــوت يف أيــة لحظــة‪ ،‬لذلــك مل ألتفــت ورايئ قبــل أن‬
‫أغلــق البــاب‪ ،‬فلــم يخطــر ببــايل أنــه ســيحرق وتدمــر البنايــة بعــد شــهرين‪ ،‬فلــم ألــق عليــه نظــرة الــوداع‬
‫األخــر‪ .‬حســام الــذي ســيموت بعــد ســتة أشــهر‪ ،‬ينقلنــا يف ســيارة الســوزويك املعــدة لنقــل الخضــار‬
‫يف شوارع كان خربها كناشط يف الحراك الثوري‪ ،‬بعيدا عن أعني النظام وأتباعه من «الشبيحة»‪،‬‬
‫ليخرتق بنا حصارهم للمدينة مبهارة فدايئ‪ ،‬ولن أنىس أنه ساق بنا يف رسعة مجنونة ونحن نقطع‬
‫ممرا من املوت عىل مرمى قناصة الراموسة الذين تركوا يف العجالت رصاصا عندما فكها حسام‬
‫عنــد صديقــه يف الطريــق اآلمــن إىل قريــة خــان طومــان الهادئــة بــدت تلــك الرصاصــات كشــظايا يف‬
‫لحــم‪« ،‬أنتــم يف أمــان اآلن «‪ ،‬قالهــا حســام بينــا كنــا نراقــب معــا الطائــرة املروحيــة التــي كانــت تــرش‬
‫األحيــاء باملــوت وهــي تهبــط هنــاك يف فنــاء األكادمييــة العســكرية منهكــة مــن تعــب القتــل‪ .‬أســلمنا‬
‫حســام الــذي ســيموت بعــد أشــهر لصديــق رافــض لدخــول «الجيــش الحــر» شــوارع املدينــة مدلــا‬
‫عىل موقفه من حالنا وحال الكثريين الذين مروا به قبلنا وهو ينقلهم إىل املناطق الباردة‪ ،‬حسب‬
‫توصيفــه‪ ،‬واملناطــق تلــك مل تكــن غــر الريــف الرشقــي مــن محافظــة إدلــب‪ .‬يف قريــة تــل الطوقــان‬
‫التــي تتوســط املســافة يــن مدينــة رساقــب املحــررة مــن قبضــة النظــام ومطــار أبــو الظهــور املحــارص‬
‫مــن «الجيــش الحــر»‪ ،‬كان اللقــاء بأختــي التــي تزوجــت فيهــا مــن أربعــن عامــا حميــا مبلــا بالبــكاء‬
‫والحــرة‪ ،‬بــا عتــاب يف غيــايب عنهــا لســنوات طويلــة‪ ،‬وكان عــي أن أرتــب يف عيــادة أخــي ســعيد‬
‫الدكتــور يف تلــك األريــاف خطــة للخــروج مــن ســورية عــر املناطــق املحــررة صــوب الحــدود الرتكيــة‪،‬‬
‫فهــذه القريــة لــن تظــل مــاذا للنازحــن مــن رساقــب والقــرى املجــاورة وهــي اآلن لــن يغفــر ألهلهــا‬
‫‪67‬‬ ‫مولح مالسلا دبع‬

‫التصفيــق وباقــات الــورد امللقــاة عــى دبابــات النظــام الذاهبــة القتحــام رساقــب‪ ،‬فهــي اآلن منطقــة‬
‫ليحر ةداهش‬

‫تجمــع لكتائــب «الجيــش الحــر» الذاهبــة إىل معركــة حلــب‪ .‬الطريــق مــن تــل الطوقــان اىل بســاتني‬
‫حارم عىل الحدود الرتكية لن يكون عصيا عىل «عامر» الذي يعدد يل بتباه عال املناطق املحررة‬
‫ويــروي قصصــا عــن بطــوالت الثــوار مقرونــة بجرائــم جيــش النظــام ومجــازره يف القــرى الصغــرة وتلــك‬
‫الكبــرة ببطــش لــه القســوة نفســها‪ ،‬وعــى حــدود كفــر تخاريــم املحــررة اتصــل مبحمــود أخــي زوجتــي‬
‫لينقلنــا اىل بســتانه الــذي ال يبعــد ســوى مئــات األمتــار عــن الحــدود الرتكيــة لننــزل ضيوفــا عنــده قبــل‬
‫أن تبــدأ معركــة حــارم األوىل التــي ســيعلم موعدهــا قبــل أيــام‪ .‬كان عبــور األســاك الحدوديــة سلســا‬
‫ويتــم عــى مــرأى مــن حــرس الحــدود األتــراك الذيــن غضــوا البــر عــن أرسة هاربة من املوت وتهريبها‬
‫الوحيد أنفاسها الراغبة بالنجاة‪ .‬يف الطريق إىل مدينة الريحانية كنت أستنهض من الذاكرة أمرين‪،‬‬
‫األول خريطــة ســوريا يف املنهــاج املــدريس وهــي تكــر حينــا وتصغــر حينــا آخــر بحســب مصالــح‬
‫الدكتاتــور‪ ،‬يســلب لــواء اســكندرون مــن الــراب‪ ،‬ويظــل مرســوما فيهــا بنقــاط زرق‪ ،‬يتنــازل عنــه يف‬
‫صفقــة لحاميــة العــرش وليــس الوطــن فيُبــر مــن جســدها عضــو وتبــدو ناشــزة عــى خــر املتوســط‪،‬‬
‫يختلــف الطاغيــة مــع األتــراك فيعــود اللــواء اىل غرتهــا ليعــود إىل وجــدان النــاس كولــد ضائــع ولكــن‬
‫يف اســتغراب ال متحــوه بطــوالت كاذبــة‪ ،‬ويصــدق الكواكبــي مــرة أخــرى حــن يقــول‪« :‬لالســتبداد أثــر‬
‫ســيئ يف كل واد»‪ ،‬األمــر الثــاين أوارص القــرىب التــي تجمعنــي بنــاس هنــا أفتــش عــن مالمحهــا يف‬
‫وجــه «صــاح» الــذي ينقلنــا مــن قربــة «الحامضــة» عــى الحــدود اىل بيتــه اىل أن نســتأجر بيتــا خاصــا‬
‫بنا‪ ،‬األمر الذي أصبح فائق الصعوبة يف بلد يستقبل مئات املهاجرين يوميا وعىل مدار الساعة‪.‬‬
‫الريحانيــة التــي باتــت تعــج بالســوريني‪ ،‬يتضاعــف البــر فيهــا‪ ،‬وهــي املدينــة الزراعيــة التــي تســتيقظ‬
‫باكــرا وتنــام يف العشــاء بعــدد ســكان ال يتجــاوز ‪ 60‬ألفــا‪ ،‬لكنهــا اآلن ال تنــام‪ ،‬وتشــهد يف النهــار حركــة‬
‫مل تشــهدها‪ ،‬تــزداد دخولهــا التجاريــة ويرتفــع إيجــار البيــوت لكــرة الطلــب حتــى أجــرت فيهــا بيــوت‬
‫مهجــورة ومعالــف طليــت بالكلــس‪ ،‬صــار للســوريني مســميات يف الشــوارع‪« ،‬دوار الشــجرة‪ ،‬دوار‬
‫الســراميك‪ ،‬فندق عيل ‪ »...‬كام صار للســوريني الباحثني عن الشــغل شــارع خاص بهم‪ .‬يف كل‬
‫يــوم مهاجــرون جــدد ال ميكــن ملدينــة كهــذه أن تســتوعب أكــر وبخاصــة مــن الذيــن ال يريــدون الخيــام‪،‬‬
‫فتبــدأ رحلــة البحــث عــن لقمــة العيــش يف ذل مل يتعــودوا عليــه‪ ،‬رصنــا نــرى الطوابــر وراء ســيارات‬
‫اإلغاثــة ونــرى يف لوحــات اإلعالنــات الطرقيــة دعــوات ملســاعدة األخ الســوري بــزكاة أو صدقــة جاريــة‬
‫أو كفالة يتيم‪ ،‬ومام يزيد يف حرقة القلب سامع قصص وحكايا عن عاهرات سوريات وعن لصوص‬
‫وشــحاذين‪ ،‬وكل هــذا ألن هــذه املدينــة صــارت املقصــد االول للمهاجريــن مــن أحيــاء حلــب الغربيــة‬
‫وريفها املتاخم لرتكيا وكذلك لريف إدلب بعموم جهاته عدا عن ريف حامة الشاميل‪ ،‬ففي هذه‬
‫املدينــة وجــدوا مــا يســند ظهــر املهجــر‪ ،‬غالبيــة ســكانها عــرب فتحــل مصاعــب التواصــل باللغــة التــي‬
‫مــا زال منطوقــا بهــا كلغــة خاصــة‪ ،‬وعــى املســتوى الدينــي فهــم باملطلــق كاملهجريــن إليهــم إســام‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪68‬‬

‫سـ ّنة‪ ،‬وعــى املســتوى الســيايس فأغلبهــم الســاحق مــن جامهــر حــزب العدالــة والتنميــة وال يخفــى‬
‫موقــف حكومــة أردوغــان يف منــارصة الثــورة الســورية ومــن هنــا فتحــت الحــدود عــى مرصاعيهــا‬
‫الســتقبال الالجئــن وجرحــى الحــرب والناشــطني الباحثــن عــن الدعــم بــكل أنــواع الدعــم‪ .‬يف مقهــى‬
‫أناتوليــا الــذي ال يبعــد عــن الحــدود أكــر مــن ‪ 3‬كــم كنــا نلتقــي‪ ،‬الثــوار الســلميون‪ ،‬املســلحون‪،‬‬
‫املثقفون‪ ،‬السياسيون‪ ،‬الصحفيون العرب واألجانب‪ ،‬إعالميون متدربون‪ ،‬تجار الحروب‪ ،‬سامرسة‬
‫االغاثــة‪ ،‬مهربــو املقاتلــن األجانــب‪ ،‬تجــار الســيارات القادمــة مــن بلغاريــا ومــن رومانيــا حيــث تبــاع‬
‫للصــوص ســيارات ســوريني يعلقــون بهــا أرقــام ســيارات رسقــت أو أحرقــت يف الداخــل وينعمــون‬
‫بسيارات حديثة تليق بأثرياء الثورة السورية الجدد‪ .‬من هذه املقهى نتابع يوميات الحرب‪ ،‬نسمع‬
‫برعب أصوات الرصاص خلف الجبال‪ ،‬وتسقط أكرث من مرة قذائف يف السهول املجاورة‪ ،‬ونحدد‬
‫مبهــارة األماكــن التــي ســقطت عليهــا براميــل النظــام املتفجــرة ونعــرف أن املــكان تحــرر ومــا هــذا إال‬
‫انتقــام مــن األهــايل وباتصــاالت رسيعــة نعــرف عــدد القتــى وأســاءهم وال ننــى كــم كان الرقــم كبريا‬
‫بعــد معركتــي تحريــر حــارم القريبــة‪ .‬يــزداد عــدد الهاربــن مــن القتــل وتــزداد هيمنــة اإلســاميني عــى‬
‫املشــهد يفتحــون املشــايف واملســتوصفات واملــدارس ومكاتــب اإلغاثــة بزخــم كبــر ومــا متــر األيــام‬
‫إال ويزداد الحديث عن فساد يتم باسم شد أزر الثورة وتدعيم مقاومة الداخل‪ ،‬ثم يغيب الكثريون‬
‫منهــم ليظهــر آخــرون يف عمليــة تطهــر الثــورة مــن ضعــاف النفــوس ليقــرب النــر‪ ،‬وتضــج الريحانيــة‬
‫بالزحــام أكــر فأكــر ألستشــعر عــن خــوف أن أمــرا كارثيــا ســيحصل‪ .‬يف حــوايل الســاعة الحاديــة عــرة‬
‫صباحا من ‪ 12‬أيار‪/‬مايو ‪ ،2013‬هز انفجاران رهيبان مدينة الريحانية‪ ،‬كان األول قرب مبنى البلدية‬
‫وبعــده بربــع ســاعة حــدث الثــاين يف مركــز املدينــة قــرب دوار الشــجرة وتحولــت املدينــة اىل ســاحة‬
‫للرعــب والدهشــة‪ ،‬بنايــات تحــرق وجثــث تتناثــر أشــاؤها يف الهــواء‪ ،‬زحــام مــن مســعفني وأهــايل‬
‫يفتشــون بجنــون بــن األنقــاض عــن أوالدهــم دخــان بزنــخ البــارود ميــأ األفــق‪ ،‬عيــون مشــدوهة البــكاء‪،‬‬
‫ركام ودم وعويــل وشــباب غاضــب تفــور جراحــه الطازجــة فيهجمــون عــى كل ســوري يرونــه أمامهــم‬
‫وآخــرون يحطمــون الســيارات الســورية وآخــرون يهاجمــون الالجئــن يف بيوتهــم ويبــدأ الكثــرون منهــم‬
‫بالهــروب خشــية أن ينالهــم الثــأر لعــرات القتــى ومئــات الجرحــى تغــص بهــم املشــايف‪ ،‬وتفــرغ‬
‫الشــوارع إال مــن ســيارات اإلســعاف والباحثــن عــن ســوريني مل يبــق منهــم واحــد إال واختبــأ يف مــكان‬
‫خفــي مــا‪ ،‬وتغــرق املدينــة بصمــت ال يقطعــه إال صــوت النعــي يف الجوامــع لقتــى يكــر عددهــم بــن‬
‫الحني واآلخر وتزدحم املقابر بالجنازات وال يكاد يخلو شارع يف الريحانية من مجلس عزاء أو أكرث‪.‬‬
‫هــا هــي املدينــة التــي كانــت تعــج بالحركــة جثــة هامــدة هــي األخــرى وســينتظر الســوريون أيامــا طويلــة‬
‫ليخــرج مــن تبقــى منهــم فيهــا مــن عزلــة الخــوف ومــن قــدر يالحقهم حتى الشــتات‪ ،‬وتــأيت زيارة الرئيس‬
‫الــريك عبداللــه غــل اىل الريحانيــة حيــث التقــى بأهــايل الضحايــا وبالوجهــاء مخففــا مــن حزنهــم‬
‫وغضبهــم بالتعــازي وبالتعويــض املــادي الكبــر للخســائر‪ ،‬ويدعــم هــذه املبــادرة زيــارة أردوغــان يف‬
‫‪69‬‬ ‫مولح مالسلا دبع‬

‫‪ 25‬أيار‪/‬مايو والتي ساهمت إىل حد كبري يف تخفيف غضب الشارع الذي تظاهر‬
‫ليحر ةداهش‬

‫بعضــه ضــد موقــف أردوغــان مــن الثــورة الســورية معتــرا أن وجــود الســوريني عــى‬
‫أرضهــم ســيجلب لهــم املــوت والهــاك بغــض النظــر عــن الجهــة التــي تقــف وراء‬
‫هذيــن التفجرييــن اللذيــن أكــد أردوغــان أنهــا مــن أفعــال النظــام الســوري املعتــادة‬
‫ومل ينــس أن يطالــب شــعب الريحانيــة بالرتفــق والرحمــة بهــؤالء الســوريني الهاربــن‬
‫من البطش ومعاملتهم كام األنصار للمهاجرين‪ .‬مل تعد املدينة مثلام كانت عليه‬
‫أو أنهــا لــن تعــود‪ ،‬غادرهــا الكثــر ســواء إىل املــدن الكــرى يف العمــق أو إىل القــرى‬
‫املحررة قرب حدود نسوا أو تناسوا أنها مل تكن يف يوم ما عائقا أمام حنني الرتاب‬
‫ألهلــه‪ ،‬وشــيئا فشــيئا تنبــت فكــرة هنــا يف هــذه الــرأس املشــغولة بالحــب والحيــاة؛‬
‫«البــد مــن الخــروج مــن تركيــا ولــو اىل بــاد الــواق واق فثمــة الكثــر أمــام هــذا القلــب‬
‫ليفعله»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪70‬‬

‫رامي سويد‬

‫بيوت أم أحمد‬

‫تصل أم أحمد متأخرة إىل مكتب املنظمة اإلغاثية الذي تعمل به كمستخدمة‬
‫ألعامل التنظيف والخدمات يف مدينة «األتارب» يف ريف حلب‪ ،‬تدخل املكتب‬
‫فتستقبلها املهندسة سلمى املرشفة عىل املكتب بعبارات التأنيب واللوم عىل‬
‫التأخري وعدم مسح الطاوالت صباحاً كام هي العادة يف كل يوم‪ ،‬تتوجه أم أحمد‬
‫إىل املطبخ دون أن تنبس بكلمة‪.‬‬
‫بعــد دقائــق تتوجــه املهندســة ســلمى إىل املطبــخ لتطلــب مــن أم أحمــد إعــداد‬
‫كوب من الشاي فتجدها غارقة يف نوبة بكاء هيستريي‪ ،‬تحاول سلمى فهم سبب‬
‫بكائهــا‪ ،‬تجلــس قربهــا وتعتــذر لهــا عــن كلــات التأنيــب القاســية التــي وجهتهــا لهــا‪،‬‬
‫فتجيبهــا أم أحمــد قائلة‪:‬‬
‫واللــه يــا أســتاذة الحــق مــو عليــي‪ ،‬أنــا مــا عــم أبــي بســبب كالمــك‪ ،‬ألن واجبــي‬
‫أين أمســح الطــاوالت ومــا أتأخــر‪ ،‬أنــا الــي حــارق قلبــي أين بعمــري مــا اشــتغلت عنــد‬
‫حــدا‪ ،‬بعمــري مــا فكــرت أنــو ممكــن أشــتغل بالتنظيــف يف بيــت حــدا‪...‬‬
‫تحاول ســلمى التخفيف عىل أم أحمد بقولها إن هذه الظروف القاســية تواجه‬
‫الجميــع وأن األمــور ستتحســن بعــد فــرة‪ ،‬وســيعود الجميــع إىل بيوتهــم وأشــغالهم‬
‫بعد أن تهدأ األوضاع يف سوريا‪ ،‬يزيد بكاء أم أحمد عند سامعها لهذه الكلامت‪،‬‬
‫تقــول بصــوت مخنــوق‪ :‬أي بيــت يــا اســتاذة؟! ليــش ضــل مــن هالبيــت غــر هالكــم‬
‫حجــر الــي جبتهــم مــن ركامــه؟‬
‫‪71‬‬ ‫دمحأ مأ تويب‬

‫تصدم سلمى بكالم أم أحمد فتقول مستفرسةً‪ :‬ليش بيتكم اليل بحلب انقصف؟‬
‫ديوس يمار‬

‫تجيــب أم أحمــد بحرقــة‪ :‬أي واللــه يــا اســتاذة بيتنــا انقصــف مــن أول أســبوع دخــل فيــه الجيــش‬
‫الحر عىل حلب‪ ،‬وبعد شــهر انقصف بيت أهيل اليل نزحنا عليه أنا والوالد‪ ،‬أول ما دخل الجيش‬
‫الحــر عــى العامريــة صــارت اشــتباكات قويــة بالحــارة‪ ،‬أخــدت البنــات وأحمــد ورحنــا عــى بيــت أهــي‬
‫بالســكري‪ ،‬بعــد أســبوع رحــت شــوف البيــت لقيتــو مهــدوم‪ ،‬كان صايــر كومــات حجــر وتــراب‪ ،‬قعــدت‬
‫ورصت أبــي يــا أســتاذة‪ ،‬بكيــت عــى عرشيــن ســنة مــن الضحــك والســهر والطبــخ واملناســبات‬
‫والضيــوف ولعــب الــوالد بالبيــت‪ ،‬بقيــت أبــي حتــى مــا عــاد يطلــع صــويت‪ ،‬بعدهــا أجــوا شــباب مــن‬
‫الحــارة بدهــم يســاعدوين‪ ،‬صــاروا يســألوين بــدك يش خالــة؟‪ ..‬الزمــك يش؟ قلتلهــم بــدي كيــس!‬
‫دبــرويل كيــس اللــه يــرىض عليكــم! الشــباب راحــوا وجابــوا كيــس‪ ،‬أخــدت الكيــس منهــم‪ ،‬حطيــت فيــه‬
‫خمــس حجــار مــن ركام البيــت‪ ،‬حملتهــم ورحــت عــى بيــت أهــي‪ .‬بعــد أســبوع تعبــت أمــي‪ ،‬كان‬
‫معها رسطان‪ ،‬حطيت البنات وأحمد عند بيت خالهم وأخدتها ع تركيا لتتعالج‪ ،‬ضلينا شهر ونص‬
‫مــن مشــفى ملشــفى‪ ،‬بعدهــا عطونــا أهــل الخــر غرفــة وقــال نبقــى فيهــا حتــى نخلّــص جرعــات العــاج‬
‫الكيــاوي‪ ،‬نزلــت وقتهــا عــى حلــب حتــى جيــب أغــراض وتيــاب مــن بيــت أهــي الــي بالســكري‪،‬‬
‫البيــت كان مــروب‪ ،‬كانــت واجهتــه الــي عــى الشــارع مدمــرة‪ ،‬الغرفــة الداخليــة كانــت ســليمة‪،‬‬
‫أخــدت تيــاب الــوالد وتيــاب أمــي وكيــس الحجــر الــي مــن بيتــي وزرت الــوالد ورجعــت عنــد أمــي الــي‬
‫برتكيــا‪ ...‬بعــد شــهر ونــص أمــي أعطتــك عمرهــا‪ ،‬كانــت وصتنــي قبــل مــا متــوت أنــو إذا صــار عليهــا‬
‫يش ندفنهــا بحديقــة بيتهــا بالســكري‪ ،‬حاولنــا كتــر‪ ...‬اضطرينــا ننتظــر عــر أيــام حتــى قدرنــا ندفنهــا‬
‫بالحديقــة‪ ،‬كانــت االشــتباكات قويــة باملنطقــة‪.‬‬

‫تحوقــل املهندســة ســلمى عــدة مــرات أثنــاء حديــث أم أحمــد‪ ،‬يف النهايــة تنفــخ نفخــة طويلــة‬
‫وتقول ألم أحمد‪ :‬والله يا خالة كلنا رشبنا من هالكأس وكلنا راحت بيوتنا‪ ...‬طويل بالك واحتسبي‬
‫أمرك عند ربك‪ ،‬وإن شاء الله بكرا الحكومة بتعمرلكم بيت بدل عن بيتكم اليل خرستوه بالقصف‪.‬‬

‫تعــاود أم أحمــد البــكاء‪ ...‬تقــول بفــزع‪ :‬يــا أســتاذة أي حكومــة! أي بيــت! الحكومــة بتقــدر تبنــي يل‬
‫بيــت فيــه رصخــة أحمــد ملــا ولدتــه بعــد أربــع بنــات؟ الحكومــة بتقــدر تبنيــي الغرفــة الــي كنــت خيــط‬
‫فيهــا فســاتني بنــايت وهنــن عــم ينطــوا ويلعبــوا حــوا ّ‬
‫يل؟ الحكومــة بتقــدر ترجعــي صــوت الرصصــور‬
‫تحــت شــباك غرفــة النــوم‪ ،‬البيــت يــا أســتاذة روح‪ ،‬البيــت شــقا وتعــب‪ ،‬ضحــك ودمــوع‪.‬‬

‫تواصــل أم أحمــد كالمهــا‪ :‬ببيتــي يــا أســتاذة راحــت صــورة أبــو أحمــد اللــه يرحمــو‪ ،‬الصــورة الوحيدة‬
‫الــي كان طالــع فيهــا حلــو‪ ،‬كنــت مربوظتهــا ومعلقتهــا عــى الحيــط بالصالــون‪ ،‬كانــت صــورة بالبدلــة‬
‫العسكرية ملا كان يخدم بالجيش بلبنان أول أيام زواجنا‪ ،‬بيتنا يا أستاذة كان صغري‪ ،‬ما كان واسعنا‪،‬‬
‫البلكــون عملتلــه بلــور وعملتــه غرفــة للبنــات الصغــار ملــا كــروا ومــا عــادت الغــرف الثالثــة توســعهم‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪72‬‬

‫كانوا البنات الصغار يناموا ع البلكون بالصيف وبالشتاء بنام أنا وبنتي الكبرية ألنه‬
‫نحنــا نتحمــل الــرد بينــا الصغــار مــا بيتحملــوا‪ ،‬تركــت طاقــة صغــرة بالبلــور وقتهــا‬
‫ألقــدر شــوف الســا ملــا أرشب قهــوة الصبــح‪ ،‬كان يف مأذنــة جامــع تظهــر لوحدهــا‬
‫مــع الســا‪ ،‬كان رسب حــام كل يــوم الصبــح يــدور حواليهــا‪ ،‬مــن وقــت مــا تركــت‬
‫البيــت مــا عــدت شــفت حــام‪ ،‬يــا أســتاذة كأنــه مــا يف حــام باألتــارب!‬

‫تحــدث ســلمى نفســها آســفة عــى الحــال الــذي وصلــت لــه أم أحمــد‪ ،‬تقــول‬
‫يف رسهــا‪ :‬لــو مــا كنتــي يــا أم أحمــد ســاكنة ببيــت مــا بتصلــه الشــمس كان شــفتي‬
‫الحــام‪ ،‬اللــه يكــون بعونــك‪.‬‬

‫توجــه ســلمى كالمهــا ألم احمــد قائلــة‪ :‬أيــه يــا أم أحمــد كلنــا تركنــا بيوتنــا‪ ،‬كمــي‬
‫كالمــك شــو تتذكــري أشــياء تانيــة كنــت تعمليهــا بالبيــت‪.‬‬

‫تقــول أم أحمــد بعــد تنهيــدة‪ :‬كنــت يــا أســتاذة برمضــان أبعــت أحمــد يجيــب‬
‫ســوس مــن عنــد أبــو محمــد الســواس الــي بالحــارة‪ ،‬بعــد اإلفطــار ضل أرشب ســوس‬
‫ألشبع‪ ،‬بعدها أتسطح عىل الكنباية بغرفة القعدة واتفرج عىل السقف‪ ،‬كان دهان‬
‫الســقف فيــه تقشــر‪ ،‬كانــت ترتســم أشــكال حلــوة عــى الســقف بســبب هالتقشــر‬
‫بالدهــان‪ ،‬يــا أســتاذة ســلمى كان يف شــكل ســيارة جنــب املروحــة‪ ،‬كنــت اتطلــع‬
‫عليهــا وقــول بكــرا بشــريله ســيارة ألحمــد ملــا يكــر‪ ،‬كان فيــه رســمة طبــق فواكــه كــان‬
‫عــى الســقف فيهــا ثــاث مــوزات‪ ،‬يــا أســتاذة كنــت حــب املــوز كتــر بــس كان غــايل‬
‫مــا أقــدر أشــريه‪ ،‬جنــب طبــق الفواكــه عــى الســقف كان مرســوم وجــه بنــت حلــوة‪،‬‬
‫كنــت اتخيــل كيــف رح يكــون شــكل البنــت الــي بــدي أخطبهــا ألحمــد‪ ،‬أيــه يــا اســتاذة‬
‫راحــت الســيارة وراح طبــق الفواكــه وراحــت البنــت‪ ،‬بــس الحمــد للــه كســبنا شــوفة‬
‫وجهــك الطيــب!‬

‫تقوم أم أحمد من كرسيها وتطلب اإلذن من سلمى آسف ًة عىل إطالة الحديث‬
‫ثم تحمل ممسحتها وتتوجه إىل غرفة املكتب ملسح الطاوالت‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫لفسإلاو ميدقلا انتيب‬
‫وبعش بتار‬

‫راتب شعبو‬

‫بيتنا القديم واإلسفلت‬

‫بــن يــوم وآخــر جعلنــا اإلســفلت غربــاء عــن بيتنــا‪ .‬مــا راكمتــه ســنوات مــن الحيــاة‬
‫العائليــة املتوارثــة كنســه اإلســفلت يف غمضــة عــن وألقــى عليــه ســواده‪ .‬ويف فــرة‬
‫وجيزة شاخ بيتنا وتجرأت عليه النباتات الربية ومألت مساحاته‪ ،‬وصار مطابقاً يف‬
‫ي أن أشــكر اإلســفلت بــدالً مــن لومــه‪،‬‬
‫واقعــه لصــورة البيــت املهجــور‪ .‬رمبــا كان عـ ّ‬
‫فقــد تأخــر يف االســتيالء عــى البيــت وأتــاح يل أن أعــود إليــه بعــد غيبتــي القرسيــة‬
‫الطويلــة وأن أعيــد تواصــي معــه‪.‬‬

‫ال تعنــي كلمــة «اإلســفلت» ألهــل «كفريــة» مــا تعنيــه لغريهــم‪ .‬هــي ال تعنــي‬
‫بالنســبة لهــم مجــرد حجــارة ســوداء لينــة لهــا اســتخدامات معينــة‪ ،‬وال تحيــل يف‬
‫أذهانهــم إىل صــور الشــوارع أو شــبكات الطــرق الرسيعــة‪ ،‬وال تعنــي مــادة العــزل التــي‬
‫تُســتخدم عىل أســطح البيوت وعىل جدران الســفن‪ .‬هذه الكلمة ال تشــر بالنســبة‬
‫ألهل «كفرية» إىل جامد أو إىل يشء‪ ،‬إنها كائن له تاريخ ميالد ومسار حياة ونهاية‪،‬‬
‫رات ومــرارات ومواجــع‪.‬‬
‫لــه مالمــح ورائحــة وفعــل‪ ،‬لهــم معــه ذكريــات ومـ ّ‬
‫بقي اإلســفلت نامئاً تحت بيوتنا وأراضينا لزمن طويل قبل أن يأيت الفرنســيون‬
‫ويوقظوه‪ .‬وما إن استيقظ حتى بدأ يرسم لنفسه مسارا ً صاخباً ال يأبه مبسار حياتنا‬
‫الســابق عــى اســتيقاظه‪ ،‬يرســم مالمحــه بحريــة تامــة‪ ،‬وبحريــة تامــة راح يقرسنــا عــى‬
‫تغيــر مالمــح حياتنــا‪ .‬أعــال حفــر وتنقيــب‪ ،‬ثــم تفجــرات‪ ،‬ثــم أعــال جمــع الصخــور‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪74‬‬

‫وتكســرها ونقلهــا ثــم طبخهــا بالفــرن وتجميــع الزفــت يف قوالــب‪ ...‬إلــخ‪ .‬مــع األيــام صــاغ اإلســفلت‬
‫حياتنا عىل مقاس حركاته هذه وإيقاعها‪ ،‬ولكن مل يكن يف البال أن بيتنا سيكون يف عداد ضحاياه‪.‬‬

‫انبنــى بيتنــا قبــل أن ترشــح أفــكار الحداثــة العمرانيــة إىل بالدنــا‪ ،‬وقبــل أن يصبــح للبيــت بــاب‬
‫رئيــي واحــد ال ميكنــك أن تدخــل إىل أي غرفــة مــن البيــت قبــل املــرور فيــه‪ .‬بــدت يل الغــرف يف‬
‫هــذه التصاميــم الحديثــة‪ ،‬قبــل أن أعتــاد عليهــا كغــري مــن النــاس‪ ،‬مســجونة داخــل البيــت طاملــا‬
‫ا مســتقالً بهــا‪ .‬بنــى جــدي البيــت يف الزمــن الــذي كان يبنــى البيــت فيــه‬
‫أن الغرفــة ال متلــك مدخـ ً‬
‫خطــوة خطــوة‪ ،‬فقــد كان زمــن البنــاء ال ينفصــل متامـاً عــن زمــن الســكن والعيــش‪ .‬يكــون لــدى األرسة‬
‫ميزانيــة ال تكفــي لبنــاء أكــر مــن غرفــة‪ ،‬تبنــي األرسة غرفــة ثــم تســكن فيهــا وتبــدأ مــع الوقــت ومــع تزايــد‬
‫عــدد األوالد ومــع تشــكل أرس فرعيــة جديــدة بتوســيع وتحســن البيــت مــن موقــع الســاكن املقيــم‪.‬‬
‫يتوســع البيــت وميتــد مــع توســع وامتــداد األرسة‪.‬‬

‫يف ذلك الزمن كان يأيت تصميم البيت بطريقة ارتجالية تستجيب للحاجات املستجدة وتحرتم‬
‫أيض ـاً القــدرات املاديــة للعائلــة‪ ،‬فــا ميكــن أن تتوســع أكــر مــا تســمح بــه ميزانيتــك الفقــرة لــراء‬
‫مــواد للبنــاء وأجــور للمعمرجــي ومعاونــه‪ .‬لذلــك ميكنــك أن تجــد‪ ،‬يف تصميــم أحــد البيــوت‪ ،‬غرفــة‬
‫صغــرة إىل جــوار غرفــة أكــر بكثــر‪ ،‬وقــد تــم بنــاء الغرفتــن املتجاورتــن يف زمنــن مختلفــن يفصــل‬
‫بينهــا ســنوات‪ .‬ضيــق الغرفــة يــؤرش إىل ضيــق الحــال حينــا بنيــت‪ ،‬والعكــس بالعكــس‪ .‬كان لــكل‬
‫بيت يف قريتنا تاريخه الخاص‪ ،‬وهو تاريخ يحمل بصامت تاريخ العائلة نفسه يف ضيقها وفرجها‪.‬‬
‫حتــى ميكــن تشــبيه تصاميــم البيــوت يف القريــة بالعــزف االرتجــايل‪ ،‬أو بالتقاســيم‪.‬‬

‫القاسم املشرتك بني بيوت القرية القدمية هو أن تصميم البيت ال يحرم الغرفة من استقالليتها‪.‬‬
‫أنت ال تحتاج‪ ،‬ليك تصل إىل غرفة‪ ،‬للمرور عرب باب رئييس‪ .‬لكل غرفة بابها املفتوح عىل الخارج‪.‬‬
‫لــكل غرفــة اســتقالليتها وشــخصيتها وعالقتهــا املبــارشة بالعــامل الخارجــي‪ .‬تتجــاور الغــرف‪ ،‬ولكــن ال‬
‫تتخــى الغرفــة عــن حريتهــا لصالــح البيــت‪ ،‬ال تقبــل بــأن تصبــح أســرة بــاب رئيــي ليــس بابهــا‪ .‬عــى‬
‫أنها ال ترفض التجاور وال ترفض فتح عالقة مبارشة مع جاراتها‪ .‬وكثريا ً ما ترى باباً داخلياً يفيض من‬
‫غرفــة إىل غرفــة ولكــن كتعبــر عــن التكامــل وحســن الجــوار وليــس عــن الهيمنــة‪ ،‬وحــن يقتــي األمــر‬
‫ميكــن إغــاق هــذا البــاب الداخــي نهائيـاً دون أن تتــأذى وظيفــة أي مــن الغرفتني‪.‬‬

‫غالبـاً مــا كانــت تتواصــل الغــرف عــر الشــبابيك أو الطاقــات‪ ،‬وذلــك لتمريــر املــواد توفــرا ً للجهــد‬
‫والوقت ولتفادي الخروج من الغرفة وال سيام يف الشتاء‪ .‬ورمبا جرى التخاطب بني أهل الغرفتني‬
‫عــر هــذه الشــبابيك والطاقــات التــي توحــد فضــاء البيــت وتعطــي للحميميــة العائليــة مجــاالً متصالً‪.‬‬
‫ويف الحــاالت الطارئــة كانــت تســتخدم هــذه الفتحــات لتهريــب املــواد املمنوعــة (دخــان‪ ،‬ســاح‪...‬‬
‫إلــخ) مــن غرفــة إىل غرفــة للتمويــه عــى الرشطــة وغريهــم مــن «أبنــاء الحكومة»‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫لفسإلاو ميدقلا انتيب‬

‫وكان بيتنــا‪ ،‬الــذي َح َرمنــا منــه «اإلســفلت»‪ ،‬يشــرك مــع بيــوت القريــة يف عــدم احتوائهــا عــى‬
‫وبعش بتار‬

‫تواليــت‪ .‬يجــايف الحــس الســليم أن يتــم قضــاء الحاجــة يف مــكان داخــل البيــت‪ ،‬حتــى لــو كان هــذا‬
‫املكان مخصصاً لقضاء الحاجة‪ .‬كان يفضل القروي‪ ،‬قبل أن تسحق الحضارة تفضيالته‪ ،‬أن يتدبر‬
‫أمــر قضــاء حاجتــه أينــا كان بعيــدا ً عــن البيــت‪ .‬حتــى إذا بنــى القــروي مكانـاً مخصصـاً لقضــاء الحاجة‬
‫(تواليــت) فإنــه يبنيــه يف مــكان بعيــد عــن البيــت‪ .‬هــذا مــا كان يتســبب يف إحــراج النســاء مــن أهــل‬
‫البيــت‪ ،‬ذلــك أن ذهابهــا عــى املــأ باتجــاه التواليــت كان يشــبه إعالنـاً عامـاً عــن نيتهــا يف تلبيــة نداء‬
‫الطبيعــة‪ ،‬وهــو أمــر محــرج بذاتــه‪.‬‬
‫كانــت غــرف بيتنــا ترتاصــف عــى نســق واحــد‪ ،‬ســوى أن الغرفتــن األخريتــن كانتــا تتقدمــان قليالً‬
‫عــن مســتوى النســق احرتامـاً لشــجرة اللــوز الكبــرة التــي كانــت سـتُقطع فيــا لــو جــرى اإلرصار عــى‬
‫ســامة النســق‪ .‬كانــت كل غرفــة يف بيتنــا تتنفــس العــامل الخارجــي مــن رئتــن‪ :‬بــاب وشــباك‪ .‬وكان‬
‫ظهــر الغــرف جميعـاً يســتند إىل الســفح الــذي يحتضــن البيــت كلــه‪ ،‬فــا يوجــد نوافذ خلفية للغرف‪.‬‬
‫وأمــام الغــرف كانــت متتــد فســحة طوالنيــة اعتدنــا أن نســميها «الــدار»‪ .‬عــى ميــن الــدار كانــت‬
‫تنتصــب شــجرة حــور كبــرة تعربــش عليهــا داليــة عنــب تتغلغــل فيهــا حتــى تبــدو عناقيــد العنــب يف‬
‫الصيــف وكأنهــا مــن مثــار «الحــورة»‪ .‬هكــذا كنــا نســمي شــجرة الحــور تلــك‪ .‬وكانــت يف الــدار أيض ـاً‬
‫ثــاث شــجرات تــوت كبــرة إحداهــا شــامية كــا كان يقــول أيب‪ ،‬حيــث كانــت مثارهــا ســوداء فاحمــة‪.‬‬
‫كل تفصيــل يف الــدار يرتبــط بتفصيــل مــن حياتنــا‪ ،‬بذكــرى ســعيدة أو حزينــة‪ .‬مــع الســنني مل تعــد‬
‫الــدار مجــرد مــكان أصــم‪ ،‬صــارت حيــزا ً مشــحوناً ومولــدا ً لالنطباعــات‪ .‬هنــا قريبـاً مــن التوتــة الشــامية‬
‫وقــف رئيــس مفــرزة األمــن مهــددا ً أيب يك يرغمــه عــى تســليم «أخــي» الهــارب مــن وجــه االعتقــال‬
‫الســيايس‪ ،‬ويف تلــك الزاويــة الحزينــة جلــس أيب محبطـاً إىل حــد االنهــاك حــن علــم أن أختــي الفتيــة‬
‫مصابة بذاك املرض املرعب‪ ،‬ويف هذا الدار احتفلت العائلة بالطبول واملزامري فرحاً بعودة ابن‬
‫عمي من مستشفى «املواساة» يف دمشق معاىف بعد مرض كاد يطفئ شمعته‪ ،‬ويف هذه الدار‬
‫كانــت عائلتنــا مجتمعــة عــى نــرة أخبــار «البــي يب يس» حــن ســمعنا خــر اغتيــال أنــور الســادات‬
‫وفرحنــا‪ ...‬كل ذلــك ال يعنــي شــيئاً أمــام زحــف «اإلســفلت»‪.‬‬
‫كان نصيــب بيتنــا أنــه قريــب مــن املــكان الــذي اختــاره الفرنســيون الســتخراج االســفلت‪ ،‬وثابــر‬
‫عليه «الوطنيون»‪ .‬بعد سنوات طويلة‪ ،‬صادقنا اإلسفلت‪ ،‬اعتدنا عىل صوت التفجريات‪ ،‬حفظنا‬
‫مواعيــد التفجــر ورصنــا نلجــأ إىل البيــت هرب ـاً مــن الحجــارة املتطايــرة يف الوقــت املناســب ودون‬
‫حاجــة إىل ســاع صــوت التحذيــر الــذي كان صوتـاً برشيـاً يف البدايــة ثــم تحــول إىل صــوت آيل يشــبه‬
‫صــوت صافــرات اإلنــذار‪ .‬أحببنــا رائحــة اإلســفلت التــي كانــت جــزءا ً أصيـاً مــن روائــح البيئــة عندنــا‪.‬‬
‫لكــن اإلســفلت مخلــوق تحــت أريض وال يقــدر قيمــة مــا فــوق الــراب‪ .‬وقــد جــاء اليــوم الــذي جــرف‬
‫فيــه اإلســفلت بيتنــا دون اعتبــار لــيء‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪76‬‬

‫هاشم شفيق‬

‫األسفار املعطلة‬

‫كان مــن املفــرض أن تلتهــم بغــداد الحصــة األكــر مــن زيــاريت األخــرة لهــذا‬
‫ـي قرابــة الشــهرين بــن األهــل واألقربــاء‬
‫العــام‪ ،‬كــا هــو حــال كل عــام‪ ،‬حيــث أقـ ّ‬
‫واألصدقــاء‪ ،‬ممضيـاً الوقــت صباحـاً يف املــرور عــى املكتبــات يف البــاب الرشقــي‬
‫ويف سوق الرساي وشارع املتنبي‪ ،‬والتعريج فيام بعد اىل املقهى يف الكرادة أو‬
‫القيرصيــة أو شــارع الســعدون‪ ،‬ويكــون ذلــك‪ ،‬بعــد ان نتشــبع بالعناويــن واملفــردات‬
‫والكلامت التي ترفرف فوق حروف الصفحات‪ ،‬وبعد أن نُلم مبا صدر هنا وهناك‬
‫مع اصحاب املكتبات الكربى التي يحلو يل الحديث معهم عن السرية الكتابية‪،‬‬
‫كيــف تســر يف هــذه اآلونــة‪ ،‬وأي كتــاب هــو الســباق اىل يــد املداولــة‪ ،‬حيــث يجــر‬
‫الحديــث الحديــث‪ ،‬فنميــل اىل الكتــاب الســروي‪ ،‬ثــم الســيايس الــذي يتضمــن‬
‫السرية واملذكرات‪ ،‬وبالطبع نقفز بسهولة اىل الرواية‪ ،‬وحديثها ممتع كونها الوليد‬
‫املدلــل للجوائــز العربيــة التــي راحــت تــزداد وراح كتــاب الروايــة يــزدادون ويتســابقون‬
‫اىل كتابــة الجديــد مــن العمــل الــروايئ‪ ،‬مبعــدل عمــل واحــد لــكل عــام أو عامــن‬
‫لــي يجــاري الكاتــب أو الــروايئ ماراثــون الجوائــز العربيــة التــي باتــت تجــزل العطــاء‬
‫وتســتهوي الكثــر مــن كتــاب العربيــة وأدبائهــا وحتــى شــعرائها الذيــن كانــوا قبــل هــذه‬
‫اآلونة الروائية هم النجوم الذين انشئت أوىل الجوائز من أجلهم‪ .‬حديث صاحب‬
‫املكتبــة عــن الشــعر مثــل حديــث نــارشه وموزعــه‪ ،‬ميــر بــه كأنــه عــبء عليهــم‪ ،‬وحــن‬
‫تفيض الكلامت علينا وقبل أن نغرق يف بحر من املعاين والرموز وعالمات الكتابة‬
‫‪77‬‬ ‫طعملا رافسألا‬

‫أي خضـ ّم نحــن‪ ،‬نســارع الخطــى بالذهــاب مشــياً عــى األقــدام‬


‫وأمواجهــا اللذيــذة التــي تنســينا يف ّ‬
‫قيفش مشاه‬

‫اىل املقهــى يف الكــرادة‪ ،‬قاطعــن شــارع ايب نُــواس الصامــت والحزيــن‪ ،‬نتجــاوز نصــب أيب نُــواس‬
‫وعاممته الحجرية وكأسه الخاوية‪ ،‬وهو واقف وقفته الحزىن عىل زمن مىض‪ ،‬كانت بغداد وشارعه‬
‫هــذا يغــص بالحانــات الجميلــة ذات الخامئــل امليــادة والنائســة‪ ،‬بينــا اآلن هــو نفســه يتوســل قطــرة‬
‫الســاف لكأســه الناضبــة ‪.‬‬

‫الشــارع فقــد بهجتــه ومرحــه وصخبــه‪ ،‬دون أن يفقــد رونقــه‪ ،‬فنهــر دجلــة مل يــزل جاريـاً منــذ بدايــة‬
‫الخليقة‪ ،‬والشجرات ـ الصفصاف واليوكالبتوس والسدر العمالقة كربت وطالت وامتألت بالظالل‬
‫والنعــاس وأشــعة القمــر الربتقــايل‪ ،‬مــرات وأنــا أمتــى يف هــذا الشــارع أنحنــي أللتقــط مــن األرض‬
‫حبــة ســدر ناضجــة ســقطت مــن الشــجرة‪ ،‬امســحها بكــم قميــي والتهمهــا‪ ،‬يف الحــال تقفــز الطفولــة‬
‫يل‪ ،‬ولكأين صنوها أو حفيدها‬
‫يل راكضة ورايئ بجالبية مخططة‪ ،‬ســمراء ناحلة‪ ،‬تلكزين وتســلم ع ّ‬
‫ا ّ‬
‫ـت اليــه لتذكــره باأليــام الخــوايل‪.‬‬
‫الــذي كــر اآلن وصــار كهـاً‪ ،‬وحــن ملحتــه قــرب شــجرة الســدر ُهرعـ ْ‬

‫نصــل اىل الكــرادة بعــد أن راعنــا منظــر الدبابــات الســمينة وهــي تتبخــر منتفخــة بالبــارود‪ ،‬جائيــة‬
‫ذاهبــة تحــرس الضفــة الثانيــة للمنطقــة الخــراء التــي تجلس فيها الكالب األمريكية والهررة الفارســية‬
‫والضبــاع العربيــة‪ ،‬حيــث يأكلــون معـاً مــن قصعــة واحــدة فيهــا ثريــد مــن لحــم ودم املواطــن العراقــي‬
‫املغلــوب واملســلوب الحقــوق واإلرادة‪.‬‬

‫يف الكــرادة نبحــث عــن املقهــى فــا نجــده‪ ،‬يقــول العابــر أنــه رحــل يف حــزام ناســف‪ ،‬آخــر يقــول‬
‫انــه ُمحــي بســيارة مفخخــة‪ ،‬وآخــر يدلنــا اىل مقهــى يف الزاويــة نجلــس فيــه مطرقــن وقلقــن من القاتل‬
‫الــذي هــو مثلنــا يرتــدي الجينــز والتــي شــرت‪ ،‬يعمــل أجــرا ً لــدى أشــقاء الهــاك الذيــن يكفــرون حتــى‬
‫الحجــارة‪ ،‬النصــب والتامثيــل الســاكنة مل تســلم مــن حقــد الكائــن الجاهــل املمــرغ بغبــار املــايض‬
‫وأحجياتــه‪ .‬نــرب الشــاي عــى عجــل‪ ،‬منــي ونتلفــت‪ ،‬الشــوارع واألزقــة شــبه خاليــة‪ ،‬املــوت وحــده‬
‫يتجــول هنــاك‪.‬‬

‫رغــم هــذا‪ ،‬كنــت أســافر اىل بغــداد‪ ،‬مغامــرا ً كعــاديت‪ ،‬متخطي ـاً العقبــات الكثــرة‪ ،‬صافح ـاً عــن‬
‫عــن أمــور كثــرة قــد تحــدث ملســافر مثــي تعــود عــى منــط آخــر مــن العيــش‪ ،‬فأغــض النظــر وأقــول‬
‫انهــا يف املحصلــة بــادي‪.‬‬

‫لكــن صيــف هــذا العــام وأنــا يف الســليامنية أعــد العــدة للســفر اىل بغــداد‪ ،‬مثــة هاجــس راودين‬
‫يف تأخــر الرحلــة‪ ،‬مصغي ـاً لنــداء ابنتــي املقيمــة هنــاك‪ ،‬بــأن أتريــث قلي ـ ً‬
‫ا يف طلــب الســفر اىل‬
‫بغداد‪ ،‬ألن األوضاع كام قالت ليست عىل ما يرام‪ ،‬فأرضخ لطلبها‪ ،‬ألقول يف داخيل أنها حجتها‬
‫لتبقينــي فــرة أطــول مقيـاً عندهــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪78‬‬

‫تواتــر املجريــات والوقائــع واألحــداث السياســية وهــي تتقلــب أمامــي عــى نــار ملتهبــة‪ ،‬جعلنــي‬
‫أتراجع عن الذهاب اىل قريتي أيضاً ومسقط رأيس حيث ينابيع الطفولة وشجرياتها وغاب النخيل‬
‫يل بصيــاح الديــوك وخــوار البقــر وصهيــل‬
‫الــذي يشــق ســاواتها‪ ،‬هــذا الغــاب الــذي عــادة مــا يــأيت ا ّ‬
‫الخيول ممزوجاً برنيم الفواخت وأصوات الزرازير وحفيف الهداهد والبالبل الرمادية ذوات الذيول‬
‫القرمزيــة‪ ،‬فضـاً عــن طيــور أيب الحنــاء والقطــا والــدراج الشــهي املحـ ِّرض عــى صيــده‪ ،‬كونــه ممتلئـاً‪،‬‬
‫ولذيــذ اللحــم طريّــه‪ ،‬ناهيــك عــن القبــج والخضــري‬

‫مــع تشــكيلة مذهلــة وناعمــة مــن العصافــر وزاغــات الــزرع والــدوري والهــزار املهــذار يف الفجــر‪،‬‬
‫فهــو الس ـبّاق األول عــى ايقاظــي مــن غفــويت يف العــراء تحــت القبــة الســاوية املرتعــة بالنجــوم‪.‬‬
‫أجلــت ســفري اىل هــذه القريــة الفاتنــة إذ ســوف ال أجــد أحــدا ً هنــاك‪ ،‬فجميعهــم تــرك املــكان خوفـاً‬
‫مــن بطــش الربابــرة الجــدد داعــش والقــوات الطائفيــة الحكوميــة التــي أضحــت تســتخدم الرباميــل‬
‫املتفجــرة‪ ،‬ضــد الســكان االبريــاء بحجــة أنهــا أمكنــة مضــادة‪ ،‬بعــد ســقوط املوصــل وتكريــت ســتقطع‬
‫الطــرق املؤديــة بــن املحافظــات الشــالية وبغــداد‪ ،‬وبــن كركــوك والســليامنية‪ ،‬تحســباً مــن انتقــال‬
‫العــدوى اىل مواضــع أخــرى‪.‬‬

‫السليمانية‬
‫السليامنية مدينة جبلية‪ ،‬صغرية املساحة‪ ،‬قياساً بأربيل التي مساحتها تتجاوز مساحة لبنان‬
‫كلــه‪ ،‬وعمرهــا العمــراين‪ ،‬ال يتعــدى الخمســمئة ســنة‪ ،‬انشــئت يف عهــد ســليامن باشــا ابّــان الخالفــة‬
‫العثامنيــة كقلعــة حصينــة محميــة بالجبــال التــي تحيطهــا مــن كل صــوب‪.‬‬

‫يف العــام ‪ 1991‬جئتهــا كصحــايف مــع وفــد املعارضــة العراقيــة األول الــذي عقــد يف صــاح‬
‫الديــن‪ ،‬حينئــذ كانــت عــى شــكل قريــة صغــرة‪ ،‬مثــة بيوتــات متناثــرة حــول املركــز الــذي هــو البــازار أو‬
‫الســوق مــع بضعــة نــواد قدميــة ومقــاه شــعبية تــزود الوافديــن بالشــاي واملرطبــات‪ ،‬ومــن ضمــن هــذه‬
‫املقاهــي كانــت مقهــى الشــعب الشــهرية التــي يبــدأ بهــا البــازار الكبــر‪ ،‬تتفــرع منــه أزقــة صغــرة تــؤدي‬
‫اىل االطــراف والضواحــي‪.‬‬

‫اآلن الســليامنية‪ ،‬هــي غــر تلــك التــي رأيتهــا قبــل أكــر مــن عرشيــن عامـاً‪ ،‬انهــا اآلن مدينــة حديثــة‪،‬‬
‫متطــورة‪ ،‬تعــج باألســواق الفارهــة والالفتــة املبنيــة وفــق الطــرز الحديثــة‪ ،‬كالتــي نجدهــا يف أوروبــا‬
‫ولبنــان واألمــارات‪ ،‬يجــد فيهــا املقيــم والزائــر كل مــا هــو معــروض مــن تصاميــم اوروبيــة شــهرية‪ ،‬تحمــل‬
‫العالمــات اياهــا للــركات الكــرى يف العــامل‪ ،‬وكذلــك تجــد املطاعــم الرباقــة واألنيقــة اىل جانــب‬
‫املقاهــي ذات املســحة الرومانتيكيــة والفنــادق الصاعــدة محاولــة يف صعودهــا مناوشــة الســحاب‪،‬‬
‫ففيهــا الهلتــون والكارلتــون ورمــادا وغريهــا مــا هــو الفــت يف عــوامل الســكن واإلقامــة‪ ،‬هــذا فضــا‬
‫‪79‬‬ ‫طعملا رافسألا‬

‫عــن الشــوارع الفســيحة والجديــدة مقرونــة بنظــام مــرور دقيــق‪ ،‬دون أن ننــى العوامــل الخدميــة التــي‬
‫قيفش مشاه‬

‫تهيمــن عليهــا وأبرزهــا عامــل النظافــة‪.‬‬

‫مقهى الشعب‬
‫مل يتغــر موقعهــا‪ ،‬لكنهــا رممــت لتتــاىش مــع التطــورات العمرانيــة املعــارصة‪ ،‬مــا زالــت رفــوف‬
‫الكتــب هــي األبــرز يف مشــهدها كمقهــى‪ ،‬الصــور القدميــة للثــوار األكــراد‪ ،‬لرجــال البيــش مركــة معلقــة‬
‫يف زواياهــا ومــن ضمنهــا صاحــب املقهــى ومؤسســها‪ ،‬تتجــاور مــع صــور األدبــاء والكتــاب والفنانــن‬
‫واملوســيقيني‪ ،‬مثــة قصيــدة لشــاعر كــردي مؤطــرة بالزجــاج مهــداة اىل املقهــى تتناثرأبياتهــا أمامــي‬
‫بالكرديــة معلقــة عــى الحائــط‪ ،‬ومثــة أيض ـاً صــورة ألدونيــس الشــاعر الكبــر وهــو جالــس فيهــا واىل‬
‫جانبه يبدو مدير املقهى‪ ،‬أدونيس بدا مغتبطاً وهو يف السليامنية بني األكراد الذين يكنون له حباً‬
‫كبــرا ً لــه ولشــعره وأدبــه بشــكل عــام‪ ،‬الشــاعر اآلخــر الــذي تجــد كتبــه مرتجمــة اىل الكرديــة عــى نطــاق‬
‫واســع هــو نــزار قبــاين‪ ،‬الكتــب العربيــة أخــذت تنحــر‪ ،‬وظهــرت مكانهــا حركــة ترجمــة نشــطة لــأدب‬
‫العاملــي بــكل تاريخــه وأســائه الكــرى والرنانــة‪ ،‬خصوصـاً املفكريــن والفالســفة وحائــزي جائــزة نوبــل‪،‬‬
‫الشــاعر الــذي تــرى كتبــه يف مقهــى الشــعب ويف املكتبــات املجــاورة هــو الشــاعر الكــردي الكبــر‬
‫شــركو يب كــه س الــذي افتقدتــه كثــرا ً يف زيــاريت للســليامنية هــذا العــام‪ ،‬لكنــي عوضــت الفقــدان‬
‫بزيــارة مرقــده يف حديقــة آزادي‪ ،‬مواســياً التمثــال الــذي تعــرض كتمثــال الشــاعرين أيب متــام واملعري‬
‫واملوسيقي عثامن املوصيل اىل يد التخريب الظالمية واألرهابية التي تكفر ربات الجامل والفن‬
‫واإلبــداع حيثــا كانــوا ‪.‬‬

‫شالالت احماوه‬
‫تخففـاً مــن األنبــاء املتواتــرة واملصائــب املتســارعة وارتفــاع منســوب الحــرارة‪ ،‬نقــرر الذهــاب اىل‬
‫مصيــف احــاوه النائــم مبحــاذاة الكهــوف الجبليــة العميقــة‪ ،‬وامليــاه الكريســتالية البــاردة‪ ،‬املســافة‬
‫تكلفنــا قرابــة الثــاث ســاعات بالســيارة‪ ،‬الطريــق اىل هنــاك مل يكــن ســوى لوحــة رومانتيكيــة رســمها‬
‫رســام مثــايل مصليـاً أمــام الجــال الربــاين للطبيعــة‪ ،‬املصيــف ليــس بعيــدا ً عــن التخــوم اإليرانيــة‪.‬‬

‫خرير املاء هو ما يسمع هناك طوال الوقت‪ ،‬الخرير األبدي الذي ال يهدأ ثانية‪ ،‬الريح مع املاء‬
‫والهــواء العــذب الــذي يهــب تحــت شــجرات التــن والبلــوط والجــوز والحــور يؤلــف تناغ ـاً هارموني ـاً‬
‫يــر القلــب والنظــر والــروح‪ ،‬العراقيــون القادمــون مــن كل انحــاء العــراق يجــدون يف هــذا املكان ألفة‬
‫مــا بعدهــا ألفــة وباألخــص الهاربــن مــن القائظــة والحــرارة املرتفعــة يف املــدن الجنوبيــة أو املــدن‬
‫الغربيــة التــي ترتفــع فيهــا ســخونة االحــداث املتالحقــة‪.‬‬

‫األمــان عنــر أســايس يف هكــذا أماكــن ومــدن‪ ،‬وهــو أصبــح للعراقــي أمثــن مــن رغيف الخبز‪ ،‬هنا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪80‬‬

‫تسطيع أن تجد حياتك بني الحوريات الغامضات اللوايت يظهرن بني الزبد‪ ،‬هنا الجبل يقدم نعمته‬
‫وعطاءاتــه الخالــدة‪ ،‬هنــا األرض حبــى بالنعيــم والظــال والنعومــة املســترشية يف النســيم الذهبـ ّـي‪،‬‬
‫ال أصــوات مدافــع وال هاونــات وزخــات صواريــخ ورصــاص ودمــار ينهمــر كاملطــر‪ ،‬هنــا األرض متطــر‬
‫مــن بهــاء الرطوبــة املائيــة‪ ،‬الــكل هنــا بــدا مســرخياً‪ ،‬مســتجامً يف ظــال شــجرة‪ ،‬يوقــد نــار الشــواء‪،‬‬
‫بني الجســور الخشــبية والربك املائية والســواقي الباردة التي يوضع فيها البطيخ والشــام وعناقيد‬
‫العنب لتتربد وتثلج‪ ،‬السالسة هي من قوام املكان بطبيعته األنثوية التي غسلت أفروديت بالقرب‬
‫مــن هــذي الينابيــع جديلتهــا اإلســطورية الطويلــة التــي مــرت ودارت يف الــرق االوســط كلــه‪ ،‬هــي من‬
‫ســكنة البحــرات والــرك والجبــال والبحــار الفائــرة بالحــب والجــال والرغبــة ‪.‬‬

‫سقوط املوصل‬
‫وأنــا عــى الرشفــة‪ ،‬جالــس أمــام الجبــل أتنــاول فطــوري‪ ،‬مصحوب ـاً كالعــادة بصــوت فــروز‪ ،‬وإذا‬
‫بالصدمــة تهــز كيــاين وأنــا اتطلــع اىل محافــظ املوصــل وأمامــه مايكرفونات العامل وهو يتحدث بربود‬
‫عــن ســقوط املوصــل وكأن الــذي ســقط يف يــد داعــش الحركــة الظالميــة الجديــدة هــو أحد البيوتات‬
‫التــي يســكنها يف املوصــل‪ ،‬وليــس الحــارضة والعاصمــة الثانيــة التــي هــي اكــر مــن بغــداد مســاحة‪،‬‬
‫املدينــة التاريخيــة‪ ،‬مدينــة األنبيــاء شــيت ويونــس وجرجــس ودانييــل‪ ،‬هــذا ناهيــك‪ ،‬عــن تعددهــا‬
‫األثنــي‪ ،‬الرسيــاين‪ ،‬الكلــداين اآلشــوري‪ ،‬حيــث يتجــاور فيهــا منــذ مئــات الســنني املســيحي واالزيدي‬
‫والشبيك والقليل من الرتكامن والكرد والعرب‪ ،‬مدينة املواقع األثرية املثىل يف منطقة « الحرض»‬
‫التــي تجمــع الــراث الرافدينــي بــن حجارتهــا الدهريــة ذات البعــد البــديئ لتكـ ّون الحضــارت األوىل ‪.‬‬

‫ينسحب املحافظ من وراء املايكرفون‪ ،‬مثلام انسحب من املوصل‪ ،‬وتركها بيد داعش الكهفية‬
‫ذات البعــد املعتــم والطائفــي بامتيــاز التــي تقتــل عــى الهويــة وعــى اإلســم مثــل بقيــة امليليشــيات‬
‫العراقيــة التــي تحركهــا األهــواء املذهبيــة‪ ،‬فحــذا ِر أيهــا العراقـ ّـي الــريء‪ ،‬وأنــت مت ـ ّر يف موقــع مــا أو‬
‫مدينة ما‪ ،‬أو تتجول تحت سامء عراقية‪ ،‬حذار من حمل إسم عيل وحسن وحسني أو عمر وعثامن‬
‫وبكر أنها أســاء قاتلة‪ ،‬تقتل حاملها مع اإلعتذار للخلفاء الراشــدين والحســن شــهيد اإلنســانية‪.‬‬

‫ـت خدمــة اإلحتيــاط‬


‫كانــت املوصــل يف أواســط الســبعينات‪ ،‬مدينــة ســهر وليــل‪ ،‬هنــاك أ ّديـ ُ‬
‫العســكرية يف ســفح ســنجار ذي البعــد األزيــدي‪ ،‬وبالقــرب مــن معابدهــم التــي كنــت أزورهــا بــن‬
‫الحني والحني من أجل االطالع وإثراء معلومايت عن هذه الطائفة املساملة التي تهرب اىل البعيد‬
‫نحو املتاهات ليك تنفذ بجلدها من األديان األخرى املعادية لها‪ ،‬يف تلك اآلونة كانت املوصل‬
‫مدينــة حيــاة‪ ،‬تجــد مــا لــذ وطــاب فيهــا‪ ،‬مدينــة اســواق تراثيــة‪ ،‬ومواقــع نبويــة‪ ،‬وأرضحــة أوليــاء‪ ،‬مدينــة‬
‫حاممات عريقة‪ ،‬وأمواه شفاء كربيتية ونزهات واصطياف يف غاباتها املعروفة‪ ،‬كنت حني أحصل‬
‫عىل اجازة من ثكنتي املتاخمة للحدود السورية والرتكية‪ ،‬وأنا هناك يف ظالم املجاهل‪ ،‬حيث ال‬
‫‪81‬‬ ‫طعملا رافسألا‬

‫يشء سوى الصمت والخيام العسكرية والريح والثلج وعواء الذئاب الليلية‪ ،‬كنت‬
‫قيفش مشاه‬

‫أحـ ّن اىل املوصــل وللحركــة املدينيــة فيهــا‪ ،‬اىل زاويــة يف مقهــى‪ ،‬اىل مكتبــة خاملــة‬
‫ورصيف ظليل للصحف واملجالت‪ ،‬اىل عتمة يف دار سينام‪ ،‬اىل خميلة يف ظل‬
‫حانــة‪ ،‬كانــت املوصــل تلبــي النــداء عــى عجــل كونهــا القريبة من مخيمنا العســكري‬
‫وكونهــا العاصمــة الحرضيــة الثانيــة التــي تقــع فيهــا عــى مــا تشــتهي وتريــد وترغــب‪.‬‬

‫املوصل اآلن يف يد الظالم‪ ،‬املستقبل معتم وغامض فيها‪ ،‬وال ميكن التكهن‬
‫اال مبزيد من الخراب والتفسخ والتآكل‪ ،‬ليس للموصل فحسب‪ ،‬بل للعراق كله‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪82‬‬

‫عبد الله صخي‬

‫غرفة الالجئ العراقي‬

‫‪  ‬يــا رحمــة للغريــب! طــال ســفره مــن غــر قــدوم‪،‬‬


‫وطــال بــاؤه مــن غــر ذنــب‪ ،‬واشــتد رضره مــن غــر‬
‫تقصــر‪ ،‬وعظــم عنــاؤه مــن غــر جــدوى‪.‬‬
‫أبو حيان التوحيدي (اإلشارات اإللهية)‬

‫منــذ وصولــه إىل الغرفــة رقــم ‪ 9‬وهــو ال يكــف عــن التفكــر بأصدقائــه وغرفهــم يف‬
‫املــدن التــي أقــام بهــا‪ ،‬أو أقامــوا بهــا‪ ،‬أو زاروهــا‪ :‬مواقــع ملتاهــة متصلــة‪ ،‬غــرف ضيقــة‬
‫أو واســعة‪ ،‬محتشــدة أو فارغــة‪ ،‬مضــاءة أو معتمــة‪ ،‬يف الطابــق األريض أو العلــوي‪،‬‬
‫يف أول املدينــة أو آخرهــا‪ ،‬يف مفــرق الطريــق أو مدخلــه‪ ،‬خــارج املدينــة أو يف‬
‫مركزهــا‪ ،‬ملحقــة أو مســتقلة‪ .‬رؤيــا بعيــدة مرتعشــة لرجــل منهــك محمــوم‪ ،‬عاشــق‬
‫يتلظــى بنــران غرامــه وخســائره‪.‬‬

‫كان يحلــم دامئــا بــأن تكــون لــه غرفتــه الخاصــة‪ ،‬متســعا لــه ولألصدقــاء واألرسار‬
‫والســكون‪ ،‬ملجــأ لســاعات القيلولــة واألحــام الطويلــة املتكــررة‪ ،‬فضــا ًء الســتغاثات‬
‫الجســد ويقظــة الحــواس‪ .‬يف بغــداد عــاش مــع أمــه وأخوتــه يف غرفــة واحــدة‪ .‬وحــن‬
‫تــزوج أقــام يف غرفــة واحــدة‪ .‬وعندمــا هاجــرا إىل لبنــان اســتأجرا يف بــروت غرفــة‬
‫واحــدة‪ ،‬ثــم انتقــا إىل دمشــق وســكنا غرفــة واحــدة أيضــا‪ .‬ويف لنــدن‪ ،‬املهجــر‬
‫‪83‬‬ ‫قارعلا ئجاللا ةفرغ‬

‫الجديــد‪ ،‬ســكنا يف بيــت صغــر ضيــق ليســت لــه فيــه غرفــة خاصــة‪ ،‬حتــى جــاء يــوم قالــت لــه زوجتــه‬
‫‪  ‬يخص هللا دبع‬

‫بحــزم‪« :‬لنفــرق‪ ،‬مل أعــد أطيــق حيــاة كهــذه‪ ،‬وجــودك يف هــذا املــكان الضيــق يخنقنــي»‪.‬‬
‫بعــد أيــام اســتأجر الغرفــة رقــم ‪ 9‬يف طابــق علــوي مــن مجمــع للغــرف ب»أكــن تاون» غرب لندن‪.‬‬
‫لكن هذه الغرفة بدت‪ ،‬منذ الســاعات االوىل‪ ،‬كئيبة موحشــة ومعزولة‪.‬‬
‫***‬
‫وهو يرتقي الســامل الحديدية من الجهة الخلفية للمبنى متعرثا بجســده املضطرب‪ ،‬كان يرى‬
‫عــرات النهايــات الحزينــة واألفــول املبكــر واملشــاهد التــي تبعــث فيــه إحساســا بالقلــق والفقــدان‪:‬‬
‫غــروب مفاجــئ لنهــار‪ ،‬اتــكاء الكــرايس عــى الطــاوالت لحظــة إغــاق حانــة‪ ،‬مــوت مباغــت لصديــق‪،‬‬
‫اختفــاء أثــر‪ ،‬محطــة قطــارات مهجــورة‪ ،‬أنقــاض حديقــة‪ ،‬نهايــة مأســاوية لقصــة حــب مدويــة‪.‬‬
‫تظــل أبــواب الغــرف املجــاورة والبعيــدة موصــدة كأن أحــدا مل يســكنها‪ .‬غــرف منعزلــة‪ ،‬كل قطــاع‬
‫منعــزل عــن اآلخــر‪ ،‬حتــى تبــدو مثــل جــزر يفصلهــا الخشــب والحديــد واآلجــر‪ .‬تتصــل الطــرق إليهــا‬
‫بالســامل الحديديــة‪ ،‬عــرات الســامل الحديديــة مــن أســفل املبنــى إىل الغــرف التــي يهيمــن عليهــا‬
‫الصمــت والســكون‪.‬‬
‫***‬
‫كان الوقت مساء‪ ،‬لكن الليل يهبط رسيعا وهو يستلقي عىل الرسير يحدق يف العتمة‪ ،‬مصغيا‬
‫إىل وقع خطوات عىل السالمل الخارجية‪ ،‬أو يف احتشاد الظالم بني األشجار خلف النافذة املطلة‬
‫عــى الجانــب الخلفــي‪ .‬منــذ تلــك الليلــة أحــس مبــرض مــا يــدب يف أوصالــه‪ .‬هــل كان مريضــا حقــا؟‬
‫ال يعــرف بالضبــط مــا كان يحــدث لــه‪ ،‬لكــن العــرق يتصبــب منــه‪ ،‬وإنهــاكا يدفعــه إىل مالزمــة الرسيــر‪،‬‬
‫يتقلــب فيــه متلظيــا بجســد ثقيــل وأعــاق ملتاعــة ذاويــة‪ .‬رشيــط مــن الصــور املتتاليــة التــي غالبــا مــا‬
‫تتوقــف عنــد زمــن مــا ثــم يتواصــل وميضهــا يف لقطــات ملــاض يتمثــل اآلن ويندفــع كأمــواج عنيفــة أو‬
‫هادئــة‪ .‬إنــه يتضــور مــن الحــب‪ ،‬حــب مــن؟‬
‫مــرة حــاول النهــوض متكئــا عــى يديــه الذابلتــن فلمــح بــن اليقظــة والنــوم‪ ،‬صــورة متكــررة ألفعــى‬
‫رسمت عىل الرششف األخرض‪ .‬أمىض األيام األوىل يف الغرفة‪ ،‬ينظر إىل صور األفاعي وهي تزحف‬
‫ببــطء يف أماكــن مختلفــة ثــم تختفــي لرياهــا بعــد ســاعات أو أيــام مرســومة‪ ،‬ثابتــة عــى القــاش‪ .‬أيــام‬
‫متواصلــة كأنهــا ليــل واحــد أو نهــار واحــد‪ .‬مل يطــل عــى الحديقــة خلــف الســامل الخارجيــة املؤديــة‬
‫إىل الشــارع‪ ،‬ومل يطــرق بابــه أحــد‪ .‬مــرة رأى فتــاة إنكليزيــة شــقراء لحظــة خروجهــا مــن الحــام‪ ،‬وملــا‬
‫تــزل مبللــة‪ ،‬متجهــة إىل غرفتهــا رقــم ‪ 7‬املقابلــة لغرفتــه‪ .‬كان ميــي بصعوبــة متكئــا عــى جــدار املمــر‬
‫بــن الغــرف‪ .‬أشــاحت بوجههــا وأرسعــت إىل غرفتهــا‪ .‬بــدت خائفــة منــه‪ .‬أحــس كــا لــو أنــه مخلــوق‬
‫غريــب مفــرس فوجئــت بوجــوده هنــاك‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪84‬‬

‫من تلك الغرفة‪ ،‬مأوى الليل والنهار‪ ،‬من جحيم الحمى الضارية‪ ،‬راح يقتفي آثار غرف أصدقائه‪،‬‬
‫متمنيا أن يراهم‪ ،‬ولو ملرة واحدة‪ ،‬أمنية وداع‪ .‬هكذا يســتدعيهم واحدا واحدا‪ ،‬مفقودين وغائبني‪،‬‬
‫سياســيني وســجناء‪ ،‬منفيــن ومهاجريــن‪ ،‬عشــاقا وخائبــن‪ .‬غــر أن صــورة الفتــاة اإلنكليزيــة املمتلئــة‬
‫بالحيوية والبهجة أطلقت شعاعا منسيا حمل صورة من صباه حني كان يعيش مع عائلته يف غرفة‬
‫واحــدة‪ .‬كان الــكل ينــام مبكــرا ماعــدا أختــه الخياطــة تظــل ســاهرة حتــى منتصــف الليــل‪ .‬تلــك األيــام‪،‬‬
‫ويف كل مســاء‪ ،‬تــأيت فتــاة مــن الجــوار لتتــدرب عــى الخياطــة‪ .‬يجلــس إىل جانبهــا حــول املكنــة فيــا‬
‫تكــون أختــه منشــغلة مبقاســات املالبــس تقــاوم خــدر النعــاس وتعــب النهــار‪ .‬يف لحظــة مــا‪ ،‬وتحــت‬
‫ضغط اإلصغاء العميق للرغبات الدفينة‪ ،‬تسللت يد الفتاة إليه‪ ،‬ثم تسللت يده إليها‪ ،‬فاكتشف‬
‫تلــك الغابــة الرسيــة املعشــبة مــن الشــعر األجعــد بــن الفخذيــن‪ .‬مل يذهــب أي منهــا أبعــد مــن‬
‫ذلــك مــع أن اللعبــة تكــررت‪ .‬تلــك هــي حــدود اللعبــة المــرأة عــذراء وتلــك هــي حــدود الرغبة املحرمة‪.‬‬

‫***‬

‫الليــل يف الغرفــة أشــد ظالمــا مــن الخــارج‪ .‬مل يكــن مبقــدوره النهــوض إلضــاءة النــور‪ .‬استســلم‬
‫لذلــك االســرخاء املبهــم‪ ،‬يتذكــر صــور أصدقائــه‪ ،‬يراهــم يف صورتــه‪ ،‬وحــن يتحــدث عنهــم فإمنــا‬
‫يتحــدث عــن نفســه‪ ،‬إنهــم يتداخلــون يف صــورة واحــدة‪ ،‬وشــخص واحــد‪ ،‬ومصــر واحــد‪.‬‬

‫يتذكر كاظم جوده يوم انتقل من الكوت إىل بغداد‪ .‬كان موظفا يف دائرة حكومية‪ ،‬سكن غرفة‬
‫يف مبنــى عتيــق بشــارع املتنبــي يديــره شــخص قصــر أحمــر الوجــه كثــرا مــا كان يفتخــر بأنــه أمهــر قــواد‬
‫يف املدينــة‪ ،‬لــذا كان بوســع الزائــر أن يقابــل‪ ،‬يف أي وقــت‪ ،‬عاهــرة تتنقــل بــن غــرف املبنــى‪ .‬مل تكــن‬
‫غرفــة كاظــم جــودة تشــبه غــرف املوظفــن اآلخريــن‪ .‬إنهــا تشــبه غرفــة حــاق‪ .‬عــى رف واطــئ صغــر‬
‫رصفــت قنــاين عطــور مختلفــة‪ ،‬مــا أن يفتــح الغرفــة حتــى يشــم رائحــة عطــر‪ .‬كانــت مشــبعة باألريــج‬
‫مــا عــدا اللحظــات التــي يفتــح فيهــا كاظــم جــودة قنينــة عــرق‪ .‬غرفــة ســاخنة تواجــه شــمس الظهــرة‬
‫املحرقــة ومــع ذلــك تحميــه مــن وحشــة النهــار حــن تخلــو الشــوارع مــن املــارة‪ .‬يجلســان متقابلــن‬
‫إىل طاولــة صغــرة‪ .‬يحدثــه كاظــم جــوده حديثــا حــذرا عــن زميلتــه يف الدائــرة‪ .‬أحيانــا يصمــت صمتــا‬
‫طويــا وهــو يتطلــع إىل انحــراف الشــمس عــن النافــذة‪ ،‬فذلــك وقــت اختفــاء اللهــب وقــرب انتهــاء‬
‫النهــار‪ .‬بعــد شــهور عـ ّـر لــه كاظــم جــودة عــن حبــه لزميلتــه‪ ،‬وضجــره مــن تلــك الغرفــة‪ .‬قــال إنهــا تحولــت‬
‫إىل مركــز لشــبكة مــن املومســات الصاخبــات للحــد الــذي مل يعــد بوســعه النــوم وقــت القيلولــة‪،‬‬
‫فأخــذ يذهــب إىل املقهــى بعــد نهايــة الــدوام‪ ،‬وعنــد املســاء يــأوي إىل البــار‪ .‬يخــرج يف الصبــاح‬
‫قبــل الهجــوم املباغــت للمومســات‪ ،‬ويعــود آخــر الليــل‪ .‬ذهــب لزيارتــه مرة فوجد باب الغرفة مغلقا‪.‬‬
‫ســأل البــواب فلــم يجبــه‪ .‬راح إىل الدائــرة فأبلغتــه زميلــة كاظــم هامســة بأنــه اختفــى لســبب تجهلــه‪.‬‬
‫غــاب كاظــم جــوده عــن غرفتــه دون أن يعــرف مكانــه أحــد‪ ،‬حتــى أهلــه الذيــن جــاءوا مــن الكــوت بحثــا‬
‫‪85‬‬ ‫قارعلا ئجاللا ةفرغ‬

‫عنــه مل يعــروا عــى يشء فعــادوا منكرسيــن مهزومــن‪ .‬أربعــة أعــوام مضــت‪ ،‬مــر عــى الغرفة عرشات‬
‫‪  ‬يخص هللا دبع‬

‫غيهــا وفــق رغباتــه واحتياجاتــه‪ ،‬ورمبــا اختفــت رائحــة‬


‫املســتأجرين‪ .‬مــن املؤكــد أن كل واحــد منهــم ّ‬
‫العطــور إىل االبــد‪ .‬يف ليلــة شــتائية وجــد كاظــم جــودة نفســه مرميــا يف الطريــق‪ ،‬أمــام الغرفــة‪ ،‬ال‬
‫يســتطيع حمــل جســده الــذي أنهكــه التعذيــب يف أقبيــة الســجون‪ .‬ال أحــد يعــرف ســبب اعتقالــه وال‬
‫أحــد يعــرف مــا حــل بــه بعــد ذلــك‪.‬‬

‫غرفة النزيل رقم ‪ 9‬بيضاء‪ ،‬فتية‪ ،‬طليت حديثا‪ ،‬لكنها تذكره بغرف املستشفيات‪ ،‬لذلك يشم‬
‫فيهــا دامئــا رائحــة أدويــة‪ .‬يف يقظتــه أو منامــه‪ ،‬ال فــرق‪ ،‬مل يعــد مييــز بــن اليقظــة والنــوم‪ ،‬يتوســل أن‬
‫تتسع جدرانها‪ ،‬لتصبح قاعة كبرية يك ال تطبق عليه لحظة انهيار جسده عىل الرسير‪.‬‬

‫يف حــي الحيدرخانــة ببغــداد تنهــض الغــرف حيــث تنمحــي الشــوارع الفرعيــة الضيقــة وتتهــاوى‬
‫الجــدران أمــام صداقــات أثــرة‪ .‬طــواف نهــاري يف املقاهــي واألســواق وبحــث دائــم عــن طبعــات‬
‫بدائيــة لكتــب قدميــة‪ ،‬ثــم طــواف آخــر تحــت رشفــات شــارع الرشــيد نحــو مقاهــي املســاء أو حاناتــه‬
‫عــى ضفــة النهــر‪ .‬مــا كان يســعده يف تلــك الغــرف هــو قربهــا مــن موقــف الحافلــة التــي تقــل صديقتــه‬
‫(التــي تزوجهــا فيــا بعــد) إىل الجامعــة كل صبــاح‪ .‬كانــت تفصلــه عنهــا بضــع خطــوات‪ ،‬لكــن آالف‬
‫األميــال تفصلــه عنهــا اآلن‪ .‬هكــذا اعتــاد أن يبــدأ يومــه برؤيتهــا‪ ،‬يوصلهــا إىل الجامعــة ثــم يعــود وهــو‬
‫يفكــر بهــا طــوال الطريــق‪.‬‬

‫إنــه يراهــا يف فــراغ غرفتــه املوحشــة تصغــر شــيئا فشــيئا حتــى تلتصــق يف قلــب الجــدار كنحــت‬
‫بــارز‪ ،‬فتظهــر غرفــة النحــات منقــذ ســعيد مــن دهليــز طويــل‪.‬‬

‫بعــد بحــث مضــن عــر منقــذ ســعيد عــى غرفــة مبنــزل مشــرك يف زقــاق ضيــق ينفــذ إليــه مــن‬
‫ســاحة عرنــوس بدمشــق‪ .‬تســكن صاحبــة البيــت الغرفــة األخــرى‪ ،‬امــرأة عجــوز ال تكــف عــن الــراخ‬
‫والتعليــق حتــى وهــي منفــردة‪ .‬مل تكــن تــأيت كثــرا‪ ،‬متــي أوقاتــا عنــد أبنائهــا املتزوجــن غــر أنهــا إذا‬
‫جــاءت‪ ،‬وغالبــا برفقــة أحدهــم يقــود خطاهــا العميــاء‪ ،‬فإنهــا متــي أيامــا عــدة تح ـ ّول خاللهــا حيــاة‬
‫النحــات إىل جحيــم‪ ،‬فهــي ال تخــرج مــن غرفتهــا خجــا مــن الرجــل الغريــب الــذي يجاورهــا‪ .‬لذلــك‬
‫تطلــب منــه أن يغلــق بابــه عندمــا تذهــب إىل دورة امليــاه‪ .‬إنهــا تذهــب إىل دورة امليــاه كل خمــس‬
‫دقائــق تقريبــا‪ .‬كان يراهــا تتنقــل بــن غرفتهــا ودورة امليــاه‪ ،‬ويف كل مــرة ينبغــي عــى النحــات أن يغلق‬
‫بــاب غرفتــه يك متــر‪ .‬مل تكــن تســمح لزميالتــه بزيارتــه‪ ،‬إنهــا تتدخــل يف ابســط شــؤونه‪ ،‬وتســأل عــن كل‬
‫مــن يطــرق البــاب‪ .‬ثرثــرة وزعيــق وأوامــر ال تنتهــي‪ .‬غــر أن مــا كان يضايقهــا أكــر مــن أي يشء آخــر هــو‬
‫منحوتاتــه ورائحــة العــرق‪ .‬كانــت ترجــوه أن يحطــم التامثيــل التــي تســميها أصنامــا‪ ،‬وأن يجلــب عرقــا‬
‫مــن دون رائحــة‪ .‬فاضطــر إىل أن يتــرف برسيــة تامــة‪ ،‬أن يتحــرك مــن دون صــوت داخــل الغرفــة بعــد‬
‫أن جمــع فيهــا كل منحوتاتــه‪ .‬ويومــا فيومــا غصــت الغرفــة بالتامثيــل‪ ،‬والنصــب الصغــرة‪ ،‬واألقنعــة‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪86‬‬

‫والوجــوه‪ ،‬والدراســات‪ ،‬ومشــاريع مــن الجبــس والحجــر والطــن‪ ،‬إضافــة إىل األلــوان املبعــرة فــوق‬
‫مئــات الصفحــات‪ .‬ومــع ذلــك كانــت تناديــه مــن داخــل غرفتهــا الســوداء‪ ،‬بــن دقيقــة وأخــرى‪ ،‬ليلبــي‬
‫لهــا طلباتهــا الكثــرة حتــى ضــاق ذرعــا بهــا فأخــذ يقــي أغلــب أوقاتــه يف الطرقــات منتظــرا الســاعة‬
‫التــي تعــود فيهــا إىل أحــد أبنائهــا‪ .‬حــاول كثــرا أن يجــد ســكنا آخــر فلــم يفلــح‪ .‬وإذ مل يحتمــل ذلــك‬
‫الجحيــم قــرر مغــادرة دمشــق نهائيــا واإلقامــة يف ليبيــا‪ .‬بعــد شــهر وصلــت رســالة منــه قــال فيهــا إنــه‬
‫تــرك‪ ،‬يــوم ســفره‪ ،‬متثــاال كبــرا يف باحــة الحــوش‪ ،‬وطلــب اســتعادته واالحتفــاظ بــه إذ كان يعلــق عليــه‬
‫آمــاال كبــرة‪ .‬وحــن وصــل اصدقــاؤه إىل هنــاك مل يجــدوا ســوى حطــام مــن الجبــس املبعــر عــى‬
‫األرض اإلســمنتية الكئيبــة‪.‬‬
‫بعــد ســنوات توفيــت العجــوز فشــاخت الغرفــة وهرمــت وتهدمــت أطرافهــا ودب فيهــا الســكون‪.‬‬
‫السكون ذاته الذي يخيم اآلن عىل الغرفة رقم ‪ ،9‬سكون يدفعه نحو النافذة فريى يف أعالها غيمة‬
‫رمادية أطلت ذات يوم عىل غرفة مهدي محمد عيل‪ .‬غيمة رمادية عىل سفح جبل يف حي األكراد‬
‫بدمشــق حيــث يقيــم الشــاعر بهواجــس مضطربــة ومســتقبل مجهــول‪ .‬تبــدو الغرفــة وكأنهــا معلقــة يف‬
‫الفراغ العلوي‪ ،‬أو أنها تهبط من السامء‪ .‬داخل الغرفة‪ ،‬كقلب الشاعر‪ ،‬أبيض نقي‪ ،‬وخارجها مثل‬
‫حياتــه بلــون الرصــاص‪ .‬مــا مييــز تلــك الغرفــة الزهــور والنباتــات الصغــرة التــي كان الشــاعر مغرمــا بهــا‪،‬‬
‫حتــى إن إحــدى النباتــات منــت كثــرا فغطــت رسيــره فبــدا كــا لــو أنــه جــزء مــن حقــل فســيح أخــر‪.‬‬
‫وجــاء يــوم ذبــل الحقــل وانــدرس وغــدا أرضــا بريــة قاحلــة غــر أن قصيــدة لــه ظلــت تــردد يف تلــك‬
‫األرجــاء‪ ،‬نشــيد ينهــض مــن الــراب تعزفــه أصــوات مجهولــة تهبــط مــن الغيمــة الرماديــة‪ .‬أمــا الشــاعر‪،‬‬
‫وقــد أصبــح هرمــا‪ ،‬بلحيــة كثــة وشــعر أبيــض طويــل‪ ،‬يجــوب طرقــات دمشــق‪ ،‬يتوقــف أو يجلــس أمــام‬
‫مرقــد الشــيخ محــي الديــن بــن عــريب‪ ،‬متوهــا إنــه يتجــول يف أزقــة البــرة القدميــة‪.‬‬
‫***‬
‫حاول أن ينهض من الرسير فأزاح رششف األفاعي بقدمني متخشبتني‪ .‬متشبثا بالجزء الحديدي‬
‫مــن الرسيــر قــام بصعوبــة‪ .‬متكــن مــن الوقــوف ومــى حتــى توســط الغرفــة رقــم ‪ .9‬كــم مــى عليــه‬
‫هنــا‪ ،‬يومــا‪ ،‬شــهرا‪ ،‬ســنة؟ ال يعــرف بالضبــط‪ .‬إنــه مســتغرق بــن زمنــن مجهولــن ليــس لهــا تواريــخ أو‬
‫حــوادث أو حــدود فاصلــة‪ .‬كل الــذي يتذكــره هــو اليــوم الــذي فزعــت منــه الفتــاة االنكليزيــة‪ .‬أحيانــا‬
‫يحســب الليــل نهــارا‪ ،‬وغرفتــه قــرا واســعا‪ ،‬ثــم يحســبه صغــرا جــدا‪ ،‬ويتســاءل كيــف لــه أن يســعه‪.‬‬
‫النافــذة مغلقــة والســتارة املســدلة تحجــب العتمــة‪ .‬يســمع وقــع خطــوات فــوق الســامل الحديديــة‪،‬‬
‫ثــم طرقــا عــى بابــه‪ .‬الفتــاة االنكليزيــة؟ يفتــح فــا يجــد أحــدا‪ .‬تكــرر هــذا املشــهد مــرات عــدة‪ .‬ويف‬
‫لحظة مباغتة رأى صديقه فاروق صربي يدخل الغرفة‪ .‬ينهض ليعانقه‪ .‬حياه وجلس‪ .‬دخن سيكارة‬
‫وســأل فــاروق ان يعــود بــه إىل غرفتــه يف الحيدرخانــة التــي اســتأجرها فــاروق عندمــا قــدم إىل بغــداد‬
‫لدراســة املــرح يف أكادمييــة الفنــون الجميلــة (عــودة عــر الزمــن املــر املتــرب كالدخــان)‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫قارعلا ئجاللا ةفرغ‬

‫جلســا هنــاك‪ ،‬مدفوعــا بالوهــم الــذي تثــره الحمــى املفرتســة‪ ،‬تحدثــا كثــرا عــن األصدقــاء‪،‬‬
‫‪  ‬يخص هللا دبع‬

‫املنفيــن واملقيمــن‪ .‬تحدثــا عنهــم كــا لــو كانــا يتحدثــان عــن مفقوديــن‪ .‬فجــأة دهمــت الغرفــة أمــرأة‬
‫سمينة‪ ،‬هبت كزوبعة عصفت بالنافذة وصحن السكاير األسود والصور والجرائد‪ ،‬عصفت بصوت‬
‫مــيء بالرعــد والــر‪ .‬هاجمــت فــاروق بأقــى الكلــات وأكرثهــا فحشــا‪ ،‬وطالبتــه بإيجــار متأخــر‪.‬‬
‫يتذكــر أنهــا قالــت لــه‪« :‬ميكنــك تدبــر اإليجــار مــن جهــد أخواتــك يف طرقــات كركــوك»‪ .‬خجــل فــاروق‬
‫وأحمــر وأحنــى رأســه صامتــا حتــى هــدأت العاصفــة وانســحبت وهــي تتوعد‪ .‬أمضيــا الوقت املتبقي‬
‫مــن الليــل صامتــن‪ .‬حــزن فــاروق كثــرا‪ ،‬ليــس بســبب شــتائم املــرأة الســمينة بــل ألنــه ال ميلــك مثــن‬
‫إيجــار الغرفــة ومــروف اليــوم التــايل‪ .‬قبــل النــوم بقليــل قــال فــاروق إن تلــك املــرأة كانــت يومــا مــا‬
‫قــوادة‪ .‬بتلــك العبــارة الباهتــة حــاول أن يدافــع عــن نفســه‪ .‬لكــن املشــهد تكــرر يف الليــايل التاليــة‪.‬‬
‫أحيانــا تنتظرهــا عنــد نافذتهــا املطلــة عــى الزقــاق‪ .‬وإذ يقرتبــان منهــا‪ ،‬وهــا مخمــوران يرتنحــان يف‬
‫الظــام‪ ،‬تنهــال عــى فــاروق بســيل مــن الــكالم البــذيء‪ .‬كان يحــزن يف البدايــة‪ ،‬غــر أنــه رسعــان مــا‬
‫اعتــاد عــى ذلــك خاصــة مــع بدايــة كل شــهر وتأخــره عــن دفــع اإليجــار‪.‬‬

‫تبــدو الغرفــة معتمــة يف أشــد لحظــات النهــار ســطوعا‪ .‬غــر أنهــا مضــاءة يف مخيلــة فــاروق ويف‬
‫أحالمــه‪ .‬عــامل رحيــب يشــبه املــرح‪ .‬الغرفــة مــرح بخشــبة ومشــاهدين وإنــارة‪ .‬يتطلــع يف جدرانهــا‬
‫األربعــة فيفكــر يف هدمهــا إلطــاق مــرح برؤيــة جديــدة خالقــة مبتكــرة تســر يف طــرق مل يســلكها‬
‫أحــد‪ .‬مغامــرة؟ أوهــام؟ رمبــا‪ .‬لكــن املــرح بالنســبة لفنــان مثــل فــاروق يبــدأ مــن هنــا‪ ،‬مــن الغرفــة‪،‬‬
‫مــن الزنزانــة إىل أبعــد قريــة يف العــامل‪ .‬حلــم طويــل متصــل ال ينتهــي وال يتوقــف حــاول فــاروق طيلــة‬
‫حياتــه أن يجــد لــه فرصــة واقعيــة لتطبيقــه ومل يحصــل عليهــا‪ .‬لكنــه ال يــزال يحلــم‪.‬‬

‫إىل جوارهــا غرفــة كريــم عبــد‪ ،‬ملجــأ آخــر لألحــام العســرة‪ .‬غرفــة تصخــب بالدعــاء واملــرات‬
‫الوهميــة يطلقهــا نزيلهــا النحيــل يف فضائهــا الضيــق الــذي يصبــح مــع األمنيــات الكبــرة كونــا ليــس لــه‬
‫حــدود‪ ،‬أفقــا منفتحــا عــى قبــة ســاء مرصعــة بالنجــوم والنــور‪ .‬فجــأة يتغــر كل يشء حــن يغــرق كريم‬
‫بحزنــه وفقدانــه عشــقا فاتنــا تركــه خلفــه يف مدينــة الديوانيــة‪ .‬يومــا مــا‪ ،‬وبحــدس العاشــق عــرف كريــم‬
‫أن فتاتــه يف بغــداد للدراســة الجامعيــة فانشــغل بالســؤال عنهــا فيــا كانــت أحالمــه تــزداد اتســاعا‬
‫يومــا بعــد يــوم‪ ،‬وظنونــه تكــر يومــا بعــد يــوم‪ .‬تــرى هــل كانــت تحبــه حقــا؟ هــل لهــا عالقــة بأحــد اآلن؟‬
‫فجــأة تحولــت تلــك الغرفــة‪ ،‬التــي تشــبه منفضــة الســكائر‪ ،‬إىل حديقــة‪ ،‬غابــة‪ ،‬ســهل مديــد تحلــق‬
‫فيــه األحــرف والكلــات واألغــاين‪ .‬جــاب الطرقــات معلنــا وجــود فتاتــه إىل جــواره‪ .‬تحــدث إىل الباعــة‬
‫والكتــب والكــرايس والجــدران واألرسة‪ ،‬تحــدث عنهــا إىل كل يشء يقابلــه يف ليلــه ونهــاره‪ .‬حتــى إنــه‬
‫فكــر بــأن يخــر املــرأة الســمينة صاحبــة الغرفــة علهــا تشــفق عليــه‪ .‬لكــن ذلــك تبــدد وتــاىش بعــد أن‬
‫قابــل فتاتــه ومل يلمــس منهــا أي اســتجابة‪ .‬انســحبت ضحكتــه العاليــة‪ ،‬وانحــر النشــيد بــن جــدران‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪88‬‬

‫الغرفة التي أصبحت رضيحا صغريا تهوم فوقه حروف عربية من تلك التي نراها يف املخطوطات‬
‫الدينيــة القدميــة‪ .‬خــال فــرة وجيــزة عــاد كريــم إىل طفولتــه وتــوارى فيــا اســتمرت الغرفــة تســتقبل‬
‫نــزالء جــددا الواحــد بعــد اآلخــر‪.‬‬

‫مل يكــن الطقــس حــارا لكــن الغرفــة رقــم ‪ 9‬كانــت حــارة تلــك الليلــة‪ ،‬مليئــة بالدخــان‪ .‬ويف زحمــة‬
‫ضبــاب الخمــر يف رأســه املضطــرب قــرأ لــه عبــاس ديــكان قصائــد لــوردزورث‪ ،‬تشــيليل‪ ،‬ملتــون‪،‬‬
‫بايــرون‪ ،‬وكيتــس‪ .‬ثــم غنــى «ملــا أنــت نــاوي تغيــب عــى طــول‪ .»...‬هــذه الغرفــة يف منطقــة امليــدان‪.‬‬
‫يصــل إليهــا عــر زقــاق طويــل متعــرج كثــر املنعطفــات يف أولــه تســكن فتــاة تدعــى (حريــة) مقابــل‬
‫مدرســة متوســطة‪ .‬ويف آخــره تقــع غرفــة عبــاس ديــكان‪ .‬كانــت واســعة ليــس فيهــا كــراس‪ .‬نزالؤهــا مــن‬
‫الطلبــة يفرتشــون األرض وال يعرفــون وقــت النــوم أو وقــت اليقظــة‪ .‬الليــل هنــاك قصائــد مــن الشــعر‬
‫اإلنكليــزي وأغنيــة طويلــة ال تنتهــي‪ .‬غــر أن مــا كان يحــزن النزيــل رقــم ‪ 9‬هــو أنــه ال يســتطيع رؤيــة (حريــة)‬
‫مــن النافــذة وهــي تقــف يف بــاب منزلهــا‪ .‬كان فســتانها أحمــر وشــعرها بضفريتــن طويلتــن‪ .‬متســك‬
‫بيدهــا كتابــا مدرســيا ال تقــرأ فيــه‪ .‬إنهــا تتمتــع برؤيــة املــارة يف الزقــاق‪ .‬أمــا هــو ورفاقــه العــال فكانــوا‬
‫يتطلعــون فيهــا طــوال النهــار عندمــا كان يعمــل يف بنــاء املدرســة املتوســطة أثنــاء إحــدى العطــات‬
‫الصيفيــة‪( .‬حريــة) تركــت حلــا غزيــر الرغبــات يف قلبــه اســتعاده منــذ أول زيــارة لغرفــة عبــاس ديــكان‪،‬‬
‫أي بعــد نحــو ســبع ســنوات عــى فــراق تلــك الفتــاة العــروس‪ .‬بعــد ذلــك ذهــب مرات عدة‪ ،‬فلم يجد‬
‫ســوى ضجيــج خارجــي‪ .‬لقــد غــاب النــزالء والضيــوف كلهــم‪ .‬مــرة طــرق كثــرا فخــرج طالــب جامعــي‬
‫وقــال‪« :‬عبــاس انتقــل‪ ،‬الغرفــة خاليــة‪ ،‬تفضــل»‪ .‬صعــدا معــا‪ .‬كان النهــار ســاطعا لكــن الغرفــة بــدت‬
‫مظلمــة يعلوهــا الغبــار كــا لــو أن عبــاس تركهــا منــذ عقــود‪ .‬كانــت فارغــة مــن صــور الشــعراء األجانــب‬
‫واملمثالت وامللصقات‪ .‬كانت الجدران عتيقة فخيل إليه أن النوافذ آيلة للسقوط‪ .‬الغرفة مل تعرفه‬
‫ومل تهمــس لــه بــأي صــوت‪ .‬قــال لــه الطالــب‪« :‬ال تبــك»‪ .‬اســتغرب‪ .‬مل يكــن يبــي‪ .‬الفتــاة اإلنكليزيــة‬
‫كانــت تقــف بجــوار بــاب غرفتــه وتبــي‪ .‬حــن رأتــه غــر قــادر عــى النهــوض مــن الرسيــر أعانتــه‪ .‬مشــيا‬
‫خطــوات وســقطا معــا عــى األرض‪ .‬وضعــت رأســها عــى كتفــه واســتمرت تبــي‪ .‬قالــت إن صديقهــا‬
‫هجرهــا وإنــه لــن يعــود إليهــا بعــد اآلن‪ .‬بكــت كثــرا وهــو يربــت عــى كتفهــا وميســح دمعهــا ثــم بــى‬
‫معهــا‪ .‬كانــت دموعــه تختلــط بالعــرق املتصبــب مــن جبينــه وعنقه‪ .‬شــعرت بحرارة جســده وســألته إن‬
‫كان مريضا‪ .‬تحدث بكالم متصل عن النهايات‪ :‬نهايات الليل والنهار‪ ،‬نهايات املخلوقات‪ ،‬نهايات‬
‫الحــب‪ ،‬نهايــات العالقــات الزوجيــة‪ ،‬نهايــات الطــرق‪ ،‬ثــم تحــدث عــن األمل الكبــر الــذي يســحق روح‬
‫العاشــق يف كل فصــل مــن فصــول تلــك النهايــات‪ .‬انســحبت بهدوء وأغلقــت بــاب غرفتهــا بإحــكام‪.‬‬

‫ثــم اســتمع إىل صديقــه شــاهني وهــو يــروي لــه قصــة الغرفــة رقــم ‪ 502‬يف فنــدق فرنــي يطــل‬
‫عــى شــارع مزدحــم صاخــب‪ .‬مل يكــن شــاهني ومحبوبتــه الصغــرة يشــعران بضجيــج الطــرق املجاورة‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫قارعلا ئجاللا ةفرغ‬

‫كانــا‪ ،‬طــوال الوقــت‪ ،‬يصغيــان إىل أصــوات الشــاالت التــي تنهمــر مــن قلبيهــا‪ .‬يف باريــس للزمــن‬
‫‪  ‬يخص هللا دبع‬

‫خفــة الريــح‪ .‬مشــيا طويــا‪ ،‬توقفــا فــوق جــر عــى نهــر الســن‪ ،‬اقرتبــا مــن بعضهــا‪ .‬ينحنــي شــاهني‬
‫عىل الجرس ويحدث محبوبته عن النهر واملدينة‪ .‬يقول لها‪« :‬املدينة رحبة وأليفة‪ ،‬كل يشء فيها‬
‫يتجه نحو النهر‪ .‬النهر هنا مركز األشياء‪ ،‬قوة الجذب السحرية الضاغطة»‪ .‬ثم يستنتج‪« :‬النهر عني‬
‫املدينــة وقلبهــا»‪ .‬أيــن قــرأ شــاهني ذلــك؟ متلكهــا شــعور طــاغ بالفــرح لدقــة الخالصــة‪.‬‬

‫كان شــاهني يــرى محبوبتــه امــرأة مــن ذهــب‪ .‬أنفهــا‪ ،‬قدمهــا‪ ،‬يداهــا‪ ،‬شــفتاها‪ ،‬كل يشء فيهــا‬
‫اجتــزئ مــن ذلــك الربيــق األخــاذ الخاطــف‪ .‬حــن تجلــس يف حجــره وتلقــي رأســها عــى ذراعيــه يشــعر‬
‫كأنه يحمل باقة ورد‪ .‬يقول لها إن زفريها يشــبه النســيم القادم من الجنة‪ .‬حزن شــاهني حني انتهت‬
‫عالقتهام يف يوم خريفي موحش ثقيل‪ ،‬ألن أهلها رفضوا زواجها منه إذ كان يكربها بعرشين عاما‪.‬‬
‫افرتقــا لكــن قلبيهــا ظــا يتصــان لســنوات‪ ،‬ورمبــا إىل اآلن‪ .‬حــزن شــاهني فــرة طويلــة للحــد الــذي‬
‫شــعر أن به مســا إذ بدأ‪ ،‬دون وعي منه‪ ،‬يحدثها طوال اليوم‪ ،‬ويقلد صوتها ومشــيتها‪ .‬حزن شــاهني‬
‫حتــى أرشف عــى االنهيــار‪.‬‬

‫يف يوم ما عادت محبوبته لزيارة باريس لكنها هذه املرة بصحبة زوجها وطفلتها‪ .‬وقفت عىل‬
‫الجــر‪ ،‬يف املــكان ذاتــه‪ ،‬وانحنــت عــى صفحــة النهــر‪ ،‬متامــا كــا فعــل شــاهني ذات يــوم‪ .‬التفتــت‬
‫إىل زوجها وقالت له‪« :‬النهر عني املدينة وقلبها»‪ .‬مل يهتم الزوج ملالحظتها‪ .‬كان منشغال بخاتم‬
‫الذهــب الجديــد يف يــده‪ .‬طلبــت منــه أن يأخذهــا إىل منطقــة الفنــدق الــذي ســكنته ذات يــوم مــع‬
‫شــاهني‪ .‬توقفــت هنــاك‪ ،‬بالضبــط أمــام الغرفــة رقــم ‪ .502‬متنــت أن تلقــي نظــرة عليهــا مــن الداخــل‬
‫لــرى وجههــا القديــم يف املرايــا‪ ،‬يف الجــدران‪ ،‬يف الســتائر‪ ،‬عــى األرض أو فــوق الرسيــر‪ .‬لكنهــا‬
‫اســتدارت يائســة وهــي تســحب طفلتهــا مــن يدهــا‪ .‬شــعرت بــأمل يــري يف أوصالهــا‪ ،‬ومل تتمكــن‬
‫مــن إزاحــة تلــك الغاممــة الســوداء عــن صدرهــا أليــام‪.‬‬

‫وهو يف اســتلقائه عىل الرسير رأى الغرف جميعها تتوحد يف غرفة واســعة مســتطيلة‪ ،‬لتصبح‬
‫قاعــة بيضــاء خاليــة مــن دون نوافــذ‪ ،‬احتشــد اصدقــاؤه الغائبــون يف زاويــة منهــا‪ .‬كانــوا يتطلعــون إليــه‬
‫بعيــون حزينــة‪ ،‬صامتــن فيــا هــو ســعيد برؤيتهــم‪ .‬مل يــدرك ملــاذا كانــوا صامتــن مكتئبــن‪ .‬متنــى لــو‬
‫أنهــم يتقدمــون نحــوه‪ .‬ناداهــم فلم يتحركــوا‪.‬‬

‫***‬

‫اســتيقظت الفتــاة اإلنكليزيــة مــن نومهــا متأخــرة ذلــك االحــد فــرأت بــاب الغرفــة رقــم ‪ 9‬مفتوحــا‪.‬‬
‫أطلــت برأســها‪ ،‬فوجــدت النزيــل نامئــا‪ .‬أمضــت وقتــا طويــا يف ترتيــب غرفتهــا وهــي تفكــر يف نومــه‬
‫العميــق‪ .‬وعندمــا ســاورها القلــق دخلــت عليــه بصخــب متعمــد‪ .‬مــررت يدهــا عــى شــعره‪ ،‬ثــم هزتــه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪90‬‬

‫بعنــف‪ .‬كان جســده بــاردا متخشــبا ملتصقــا بالرسيــر‪ .‬هرعــت إىل الرشفــة املتصلــة‬
‫بالســلم الحديــدي وأطلقــت رصخــة‪ .‬انفتحــت أبــواب الغــرف املجــاورة‪ ،‬فخــرج‬
‫النــزالء كــا لــو أنهــم يخرجــون ألول مــرة مــن أقبيــة أو كهــوف‪ .‬ســألتها النســوة عــا‬
‫حدث فأجابــت بصــوت مكتــوم يغــص بالنشــيج‪« :‬الالجــئ العراقــي‪.»...‬‬

‫بعد ساعات قدم عراقيون منفيون ومهاجرون‪ .‬كان عددهم قليال‪ ،‬حملوه يف‬
‫تابــوت تابــع ملؤسســة دفــن املــوىت‪ .‬هبطــوا الســامل الحديديــة بحــذر واتجهــوا إىل‬
‫الشارع العام‪ .‬خط برشي ضئيل يجري خلف التابوت باتجاه مقربة غرين فورد‪ .‬مل‬
‫يبــك أحــد منهــم‪ ،‬رمبــا اعتــادوا عــى ذلــك لكــرة موتاهــم‪ .‬الفتــاة اإلنكليزيــة وحدهــا‬
‫كانــت تبــي بحرقــة وهــي تســتند إىل ســياج الرشفــة‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫ناريإ فقس‬
‫يبيتعلا هللا دبع‬

‫عبد الله العتيبي‬

‫سقف إيران‬

‫«بضع دقائق وسنصل إىل السواحل الكويتية‪ ...‬استعدوا»‪.‬‬


‫قــال الربــان للــركاب الذيــن يكتــظ بهــم قاربــه الخشــبي‪ ،‬بعــد أن أطفــأ املحــرك‪،‬‬
‫وران صمت يشــبه الخشــوع‪ ،‬مينحه بعدا رومانســيا خرير املاء وهو يرضب القارب‬
‫بحنــو ودلــع‪ ،‬يف فضــاء مفتــوح بنســات حانيــة وبهــاء؛ ولــن كان الــركاب متلهفــن‬
‫لهــذه اللحظــة‪ ،‬وعملــوا كل يشء مــن أجــل الوصــول إليهــا‪ ،‬لكنهــم ترصفــوا مثــل أي‬
‫شــخص حــامل‪ ،‬عندمــا يجــد نفســه يف مواجهــة حلمــه‪ ،‬وهــو يــراه يتحقــق أمــام عينيــه‪،‬‬
‫فيمــي مرتبــكا‪.‬‬
‫صــار ســر «اللنــج» يف مهــب الريــح‪ ،‬بعــد إطفــاء املحــرك‪ ،‬كمصائــر الرجــال‪،‬‬
‫الذيــن بــدأ ربــان القــارب يــوزع عليهــم املجاديــف ويطلــب منهــم التجديــف باتجــاه‬
‫الضوء‪ ،‬وهو يشري نحو الشاطئ الكويتي‪ ،‬وكانوا ينظرون يف وجوه بعضهم‪ ،‬ويوزعون‬
‫ابتســامات وجلــة‪ ،‬ويعضــون عــى أســنانهم لدفــع القــارب نحــو مآلــه بــكل قــوة‪.‬‬
‫أحــس «ســهراب» بدقــات قلبــه تتســارع‪ ،‬خوفــا وإثــارة‪ ،‬وهــو الــذي يســافر للمــرة‬
‫األوىل يف حياته‪ ،‬باتت بالده بعيدة جدا‪ ،‬لكنه يحملها يف داخله‪ ،‬يخالجه شعور‬
‫مل يعهده من قبل‪ ،‬يغمره حب كبري لكل يشء يف إيران‪ ،‬وخصوصا لــ»شهر كورد»‪،‬‬
‫مدينتــه اآلرسة‪ ،‬حتــى ثلوجهــا التــي تصعــب الحيــاة أحيانــا‪ ،‬صــار يحســها اآلن بــردا‬
‫وســاما‪ ،‬أمــام هــذه الرطوبــة الجافــة‪ ،‬لكنــه متعطــش أيضــا لشــاطئ األمــان‪ ،‬شــاطئ‬
‫األمــل‪ ،‬والرخــاء واملــال الوفــر‪ ،‬الســاحل الكويتــي‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪92‬‬

‫نــي كل املعانــاة التــي قاســاها‪ ،‬واملــوت الــذي رآه قريبــا منــه‪ ،‬عــر ســاعات يصارعــون البحــر‪،‬‬
‫واألمواج التي ترضبهم من كل صوب‪ ،‬وتحملهم وتطيح بهم بقسوة‪ ،‬وهم يهربون من طريق دوريات‬
‫خفــر الســواحل‪ ،‬اإليرانيــة والكويتيــة‪ ،‬ويتحاشــون مناطــق الرسايــات البحريــة التــي ابتلعــت الكثرييــن‬
‫مــن قبلهــم‪ ،‬ولفظتهــم إىل الشــواطئ الكويتيــة‪ ،‬وكابــدوا الخــوف والقلــق والتوتــر‪ ،‬ولــوال توســاتهم‬
‫ملــا وافــق ربــان القــارب عــى منحهــم دقائــق معــدودات إلنقــاذ زمالئهــم الذيــن ســقطوا بــن األمــواج‪.‬‬

‫وما زال يشــكر الله «خدايا شــكر»‪ ،‬حينام كادت تخرج روحه ملا مرت قريبا منهم بارجة أجنبية‪،‬‬
‫دفعتهــم بعيــدا عــن مســارهم‪ ،‬شــعروا أنهــا رمــت بــكل أحالمهــم عــرض البحــر‪ ،‬بقــوة املــاء الــذي شــقته‬
‫إىل نصفــن‪ ،‬وهــي تســر كأنهــا مدينــة تتحــرك‪ ،‬وطائراتهــا الرابضــة فــوق الســطح‪ ،‬كأنهــا نســور نامئــة‪،‬‬
‫ودفعــت األمــواج باتجــاه قاربهــم املتواضــع‪ ،‬الــذي يطفئــون محركــه كلــا أحســوا باقــراب الخطــر‪،‬‬
‫واحتاجــوا إىل وقــت طويــل يك يعــودوا إىل مســارهم‪.‬‬

‫ســهراب يســر يف الطريــق الــذي ســلكه كثــر مــن اإليرانيــن لدخــول الكويــت خلســة والعمــل‬
‫فيهــا‪ ،‬وهــي التــي ظلــت منــذ الســتينات والســبعينات متثــل حلــا لإليرانيــن بحثــا عــن الــرزق الوفــر‪،‬‬
‫ومنهم من بقي وحصل عىل الجنسية الكويتية‪ ،‬ولو كان الحجر يتحدث‪ ،‬لقال كيف أن كل بيت أو‬
‫شــارع أو وزارة يف الكويت‪ ،‬شــارك يف بنائها اإليرانيون املعروفون بإخالصهم ومتيزهم يف العمل‪.‬‬

‫هــا نحــن يف العــام ‪ ،2007‬ومــا زال اإليرانيــون ال يجــدون يف بالدهــم مــا يوفــر عليهــم كل هــذه‬
‫املجازفة‪ ،‬ويخاطرون بحياتهم للحصول عىل عمل يسد رمقهم‪ ،‬رغم أن إيران بالد نفطية أيضا‪ ،‬لكن‬
‫أمــوال اإليرانيــن تذهــب لآلخريــن لألســف‪ ،‬ويكــر القلــب منظرهــم‪ ،‬شــيبا وشــبابا‪ ،‬وهــم يفرتشــون‬
‫الطــرق يف الكويــت بانتظــار عمــل‪ ،‬ولــو كانــت العالقــات حضاريــة بــن الجــران يف هــذه املنطقــة‪،‬‬
‫ملا احتاج سهراب إىل املجازفة لعرش ساعات مضنية‪ ،‬وكان يف استطاعته الوصول إىل الكويت‬
‫بواســطة الطائــرة يف ‪ 40‬دقيقــة وحســب‪.‬‬

‫إذا كان البحــر بوابــة اإليرانيــن الحاملــن‪ ،‬الســاعني إىل مصــدر للــرزق والعيــش الكريــم يف بــاد‬
‫النفط‪ ،‬فإن الرب كان طريق القادمني من العراق والجزيرة العربية للوصول إىل الكويت‪ ،‬والسوريون‬
‫والفلسطينيون أيضا‪ ،‬وكانوا يسمون دخول القادمني إىل الكويت بهذه الطريقة «الكعيرب»‪ ...‬وهي‬
‫كلمة غري معروفة األصل‪ ،‬لكنها تعني املتسللني الذين يدخلون إىل الكويت خلسة عرب الحدود‪،‬‬
‫ورمبــا يكــون معناهــا مــي الشــخص بكعبــه يف الــر‪ ،‬ويحــي بعــض كبــار الســن مــن الكويتيــن ذوي‬
‫األصــول العراقيــة والســعودية والســورية‪ ،‬كيــف كان الكثــرون ميوتــون يف الــر بــن العــراق والكويــت‪،‬‬
‫فمنهــم مــن تفرتســهم الذئــاب أو ميوتــون مــن العطــش عندمــا يضلــون الطريــق‪.‬‬

‫رفع قائد القارب كلتا يديه‪ ،‬يشري إليهم بوقف التجديف‪ ،‬وقال لهم بصوت خفيض بالفارسية‬
‫‪93‬‬ ‫ناريإ فقس‬

‫«اللوريــة»‪ ،‬وهــي اللهجــة املحكيــة للبــدو اإليرانيــن‪« ،‬ال تصــدروا أيــة أصــوات‪ ،‬ســتقفزون إىل البحــر‬
‫يبيتعلا هللا دبع‬

‫اآلن‪ ،‬وتســبحون نحــو كيلــو مــر واحــد أو أقــل‪ ،‬ال تنظــروا وراءكــم»‪ ،‬وأضــاف وهــو يشــر باتجــاه األضــواء‬
‫«مــن هنــاك تتفرقــون‪ ،‬تســتأجرون ســيارة توصلكــم إىل العناويــن التــي معكــم‪ ،‬واحــذروا مــن ســيارات‬
‫الرشطة»‪.‬‬

‫معظــم الــركاب الواحــد والعرشيــن مل يكونــوا يحملــون ســوى زمزميــة مــاء علقوهــا عــى رقابهــم‪،‬‬
‫ومأكوالت خفيفة أكلوها يف الطريق‪ ،‬كام حمل كل منهم كيسا بالستيكيا وضع فيه مالبسه ومبلغا‬
‫قليــا مــن املــال‪ ،‬يك ال يبللهــا املــاء‪ ،‬عــا صــوت قائــد القــارب وهــو يطلــب منهــم النــزول إىل البحــر‬
‫والسباحة بقية املسافة‪ ،‬ومل يتأخروا‪ ،‬فقذفوا أنفسهم يف اتجاه األضواء الكويتية املغرية واملخاتلة‪.‬‬

‫تردد اثنان بالقفز‪ ،‬مل يكونا يجيدان السباحة‪ ،‬لكن الربان لن يسمح ببقاء أي شخص‪ ،‬فال يريد‬
‫أن تعتقلــه رشطــة خفــر الســواحل الكويتيــة متلبســا‪ ،‬عندمــا يدعــي أنــه ضــل الطريــق‪ ،‬وخــال دقائــق‬
‫كان الجميــع يســبحون يف اتجــاه الســاحل الكويتــي‪ ،‬لكنهــم فوجئــوا أن املســافة ليســت قصــرة كــا‬
‫قــال لهــم صاحــب املركــب‪ ،‬الــذي اعتــاد أن يتخلــص مــن الــركاب عندمــا يكــون يف اســتطاعتهم رؤيــة‬
‫ساحل البحر‪ ،‬ومن مسافة ال تتجاوز ألف مرت‪ ،‬لكنه يغش مبئات األمتار ليكسب مزيدا من الوقت‬
‫قبل رشوق الشمس عليه وهو يف املياه اإلقليمية الكويتية‪ ،‬رغم أن االتفاق املسبق بني الطرفني‪،‬‬
‫يقــي أن يرتكــوا القــارب عندمــا يصــل منســوب امليــاه إىل أحزمــة الرجــال‪ ،‬أي إىل خصورهــم‪ ،‬وفقـاً‬
‫لحالتــي املــد والجــزر‪ ،‬لكنــه يحــاول خداعهــم مــا اســتطاع‪.‬‬

‫حينــا وصلــوا‪ ،‬كان عددهــم ‪ 20‬شــخصا‪ ،‬مل يعرفــوا أيــن فقــدوا زميلهــم‪ ،‬ومل يكــن لديهــم الوقــت‬
‫للســؤال‪ ،‬توجهوا يف ثالث مجموعات نحو الطريق الرئيســية عىل ســاحل «الفنطاس»(‪ ،)1‬ومل تكن‬
‫تبعــد أكــر مــن خمســن مــرا مــن الســاحل‪ ،‬وهــي مســافة قصــرة جــدا‪ ،‬ولهــذا يختارهــا املهربــون؛‬
‫وبعــد عبورهــم الطريــق الرئيســية‪ ،‬ســيكونون بــن البنايــات وبيــوت املواطنــن‪ ،‬أي يف منطقــة األمــان‪.‬‬

‫كان سهراب ضمن مجموعة تضم سبعة أشخاص‪ ،‬أكربهم يف األربعني من عمره‪ ،‬واألخري كان‬
‫يعــرف الكويــت جيــدا‪ ،‬وكان كفيلــه ألغــى إقامتــه بــا رحمــة ألنــه اختلــف معــه‪ ،‬فعــاد متســلال للبحــث‬
‫عــن كفيــل آخــر‪ ،‬اســتبدلوا ثيابهــم املبتلــة التــي كان يتســاقط املــاء منهــا‪ ،‬باملالبــس الجافــة التــي‬
‫لفوهــا داخــل كيــس بالســتييك يك ال تبتــل‪.‬‬

‫وقفــوا يف الشــارع الرئيــي‪ ،‬يتقدمهــم األربعينــي الخبــر بالكويــت‪ ،‬وعندمــا رأى ســيارة نقــل‬
‫«وانيــت»‪ ،‬أومــأ لهــا بيديــه‪ ،‬ألنهــا ســتكون أفضــل مــن انتظــار تاكــي كبــرة «بوكــس» يك تنقلهــم‬
‫جميعــا‪ ،‬صعــد إىل قمــرة الســيارة دليلهــم ومعــه شــاب بختيــاري مــن منطقــة «ايــزا» القريبة من األهواز‬
‫العربيــة‪ ،‬وطلــب مــن اآلخريــن التوجــه إىل ســطح «الوانيــت» املكشــوف‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪94‬‬

‫«ياخــدا»‪« ،‬يــا عــي»‪ ...‬كانــوا يدعــون وهــم يقفــزون إىل ســطح «الوانيــت» بــكل همــة‪ ،‬وميســكون‬
‫بأيدي بعضهم ليشدوا من أزرهم‪ ،‬ويباركوا ألنفسهم الوصول إىل جنة األحالم العربية‪ ،‬هؤالء البدو‬
‫الكســاىل‪ ،‬الذيــن يحتاجــون إىل مــن يبنــي لهــم قصورهــم‪ ،‬بهــذه األيــدي اإليرانيــة الغضــة‪ ،‬املاهــرة‪،‬‬
‫بعد أن أضحى الوطن موئال للعراقيني واللبنانيني والفلسطينيني والسوريني واألفغان والشيشان‪،‬‬
‫لكنــه ليــس مســتعدا الحتضــان أبنائــه‪.‬‬

‫كان هــواء أكتوبــر العليــل يلفــح وجــه ســهراب‪ ،‬وهــو يســتعيد ضحــكات «عيــى»‪ ،‬ابنــه الذي جاء‬
‫إىل الحيــاة قبــل عامــن‪ ،‬وخاطــر بحياتــه يك يؤمــن لــه مســتقبال جيــدا‪ ،‬وتذكــر زوجتــه فاطمــة‪ ،‬القادمــة‬
‫مــن منطقــة برازجــان يف مدينــة بوشــهر‪ ،‬التــي تشــتهر باحتضانهــا املفاعــل النــووي اإليــراين‪ ،‬وال تعلــم‬
‫انــه ســافر إىل الكويــت متســلال‪ ،‬مل يشــأ أن يقلقهــا‪ ،‬عــى أن يتصــل مــن الكويــت ليفاجئهــا‪ ،‬ويضعهــا‬
‫أمــام األمــر الواقــع‪ ،‬ألنهــا كانــت ترفــض فكــرة ســفره‪ ،‬وكانــت تقــول لــه «حبيبــي‪ ...‬ســنعيش‪ ،‬ســتعمل‬
‫أنــت يف البنــاء‪ ،‬وســأجد عمــا يف خدمــة البيــوت‪ ،‬املهــم أن نبقــى معــا»‪.‬‬

‫تذكــر األصدقــاء يف مدينتــه «شــهر كــورد» أو كــا يطلــق عليهــا «ســقف ايــران» ألنهــا ترتفــع عــن‬
‫ســطح البحر ‪ 2150‬مرتا‪ ،‬وهذا ســبب برودتها حتى يف الصيف‪ ،‬وهطول الثلوج يف الشــتاء بصورة‬
‫كبــرة‪ ،‬ليصــل ارتفاعهــا إىل مرتيــن‪ ،‬تحيلهــا إىل عــروس مرسبلــة بالبيــاض؛ واشــتاق إىل نبــع «دميــه»‬
‫أعذب املياه يف العامل‪ ،‬مقارنة مع هذا الخليج املالح‪ ،‬وشالالت «دره عشق» والغابات‪ ،‬ومناحل‬
‫العســل‪ ،‬وميناء «قيناوا» الذي انطلق منه نحو املســتقبل الواعد‪ ،‬وصوت «شــجاريان» وهو يغني‬
‫مــن أشــعار عمــر الخيــام‪:‬‬

‫بادر فسوف تعود أدراج الفنا‬


‫الروح‬
‫ُ‬ ‫وسترتك الجثامن منك‬
‫وارشب وعش جذال فلست بعامل‬
‫من أين جئت وأين بعد ُ‬
‫تروح‬
‫‪...‬‬
‫إرتشفها فذا لعمري الخلود‬
‫فيه متتاز للشباب عهو ُد‬
‫ذا أوان األزهار والراح والصحب‬
‫نشاوى فاهنأ فهذا الوجو ُد‬
‫‪...‬‬

‫كان املشــهد صادمــا‪ ،‬عندمــا وصلــت ســيارات الرشطــة‪ ،‬منظــر الجثــث املتناثــرة‪ ،‬وهــي تغطــي‬
‫طريــق الفحيحيــل الرسيعــة باتجــاه الكويــت‪ ،‬الســيارة مقلوبــة وبداخلهــا الســائق يــن محشــورا‪ ،‬لكنــه‬
‫‪95‬‬ ‫ناريإ فقس‬

‫يتنفــس‪ ،‬ومثــة أصــوات تصــدر مــن جهــات مختلفــة؛ فدليلهــم األربعينــي كان ينــوح نادبــا حظــه‪ ،‬وهــو‬
‫يبيتعلا هللا دبع‬

‫متكــوم قــرب عجــات الســيارة األماميــة ينــزف دمــا بغــزارة‪ ،‬والبختيــاري الشــاب ملتصــق بالرصيــف‬
‫بفعــل قــوة الرضبــة‪ ،‬يتــأوه بصــوت ميــزق نيــاط القلــب‪ ،‬وينتفــض مــن شــدة األمل يف أوصالــه املمزقــة‪،‬‬
‫وكانــت تتــدىل لحــا مقطعــا وعظامــا مفتتــة‪.‬‬

‫رجال اإلســعاف يحاولون أوال إنقاذ األحياء‪ ،‬واتصلوا إلحضار ســيارات أخرى‪ ،‬بينام ســعى رجال‬
‫الرشطة املشــدوهون من هول املأســاة إىل حرص عدد املصابني‪ ،‬فهم ال يعرفون كم عدد الركاب‬
‫أصــا‪ ،‬وكانــوا يســتدلون عــى الجرحــى مــن أصواتهــم‪ ،‬واســتطاعوا جمــع ‪ 5‬جثــث‪ ،‬بعضهــا اندفــع‬
‫بعيــدا عــن الســيارة بأمتــار عــدة‪ ،‬وســأل أحدهــم الســائق املحتــر «أنــت كويتــي»؟! وبــدا الســؤال‬
‫أكــر إيالمــا للرجــل يف هــذا الوقــت بالــذات‪ ،‬وبالــكاد خــرج صوتــه مبهوتــا‪ ،‬مرتعــا بــاألىس‪ ،‬فــرد بعــد‬
‫أن اســتعان مبــا تبقــى لــه مــن قــوة «آنــا‪ ...‬بــدون»‪ ،‬وكانــت آخــر كلامتــه‪ ،‬فشــهق وقــى أملــا وحــرة‪.‬‬

‫بدأ الفجر ينبلج‪ ،‬والشــفق الربتقايل يشــق الســاء‪ ،‬كأنه لســان هائل من النار‪ ،‬يهزأ من الحياة؛‬
‫تجمــع عــدد مــن املــارة‪ ،‬أوقفــوا ســياراتهم تطفــا لرؤيــة الحــادث‪ ،‬معظمهــم مــن العســكريني الذيــن‬
‫يتوجهون إىل معســكراتهم القريبة‪ ،‬تحلقوا بصمت حول جثة ظهر نصف وجهها‪ ،‬طارت نحو عرشة‬
‫أمتــار عنــد انقــاب الســيارة املفاجــىء‪ ،‬وســقطت يف الجهــة املقابلــة؛ كان الشــخص ملقيــا عــى‬
‫بطنــه‪ ،‬تغطــي الجــزء األعــى مــن جســده دمــاء مختلطــة بالــراب‪ ،‬بــدا نامئــا‪.‬‬

‫عندمــا رفعــوا جثتــه‪ ،‬كان ال يــزال ميســك بيــده اليــرى كيســا بالســتيكيا‪ ،‬بداخلــه جــواز ســفره‬
‫وأوراق ثبوتيــة‪ ،‬وقــرآن صغــر‪ ،‬ومحفظــة مهرتئــة‪ ،‬يف داخلهــا أقــل مــن ‪ 500‬ألــف تومــان‪ ،‬تعــادل نحــو‬
‫‪ 14‬دينــارا كويتيــا‪ ،‬وصــورة طفــل بالــكاد يبتســم‪ ،‬تضمــه بحنــو شــابة تلــف رأســها بوشــاح أســود‪ ،‬تحــاول‬
‫أن تبــدو جــادة‪.‬‬

‫استطاع الرشطي قراءة أوراقه‪ ،‬املكتوبة بالفارسية بحروفها العربية‪:‬‬

‫االسم‪ :‬سهراب فتح الله أحمدي‬


‫العمر‪ 25 :‬عاما‬
‫محل تولد‪ :‬شهر كورد‬
‫(*)‬
‫املهنة‪ :‬بيكار‬

‫*) بيكار تعني باللغة الفارسية «عاطل عن العمل»‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪96‬‬

‫هبة عز الدين‬

‫رصّ ة الذهب‬

‫شدَتْ روحي لتصل مدينة «بنقردان» التونسية‪.‬‬


‫ذات حلم‪َ َ ،‬‬
‫ـت قليالً تشــد شــعر األشــجار لتغطســه يف‬
‫َسـ ْ‬
‫جل َ‬
‫َّت عىل الشــاطئ‪َ ،‬‬
‫عندما َحط ْ‬
‫املياه‪ ،‬فهذه األشجار مل تغتسل منذ زمن بعيد رغم أنها تعيش بجوار املاء‪ ،‬بينام‬
‫نداءات السوريني التي تطلب املاء وصلت حدود امل ُزن ومل تحصل عىل قطرة‪.‬‬

‫قالــت روحــي لنفســها‪ :‬ملَ ال يلــح اإلنســان بطلــب األشــياء إال بعــد أن يفقدهــا؟‬
‫أ َولَـ ْم يخلــق اللــه لإلنســان عقـاً يتدبــر بــه وفكــرا ً يتأمــل بــه؟ إذن مل ال يــدرك بنــو البــر‬
‫جامليــة مــا ميلكــون؟ هــل يجحدونهــا قبــل أن يفقدوهــا؟ تب ـاً لهــم‪ ،‬فهــم يســتحقون‬
‫القصــاص بالفعــل‪.‬‬

‫تأيت‪ ،‬من بعيد‪ ،‬وشوشاتٌ مخنوقة‪ ،‬تنجذب روحي إليها وتنساق خلفها لتعرب‬
‫املــاء وتصــل قــاع املحيــط‪ .‬هنــاك رأت روحــي هيــاكل عظميــة تجلــس عــى ســارية‬
‫أدركت‪ ،‬من لهجتهم‪ ،‬أنهم ســوريون‪ ،‬فمرت من‬
‫ْ‬ ‫ســفينة غرقت منذ آالف الســنني‪.‬‬
‫بني هياكل عظامهم يك تســتمع بوضوح إىل أحاديثهم‪ ،‬فارتطمت بقفص صدري‬
‫ألحدهــم‪ .‬رصخ‪ ،‬وشــتم ديــن الوجــع‪ .‬همــس لــه هيــكل آخــر ملقــي بجانبــه‪ :‬ال تســب‬
‫الديــن‪ .‬سـتُجلد ويُفصــل لح ُمــك عــن عظمــك‪.‬‬

‫قهقه الهيكل «‪ »1‬وقال‪ :‬مل َ‬


‫يبق يل لحم ليفصل عن عظمي‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫هذلا ةّرص‬

‫ـخص نص ُفــه لحــم ونصفــه عظــام‪ .‬يبــدو أنــه حديــث ال َغ ـ َرق‪.‬‬


‫عنــد أعــى الســارية كان يجلــس شـ ٌ‬
‫نيدلا زع ةبه‬

‫جلد واضحة‪ .‬سمعت أصحاب الهياكل العظمية‬ ‫اقرتبت منه روحي‪ ،‬فرأت عىل نصفه اللحمي آثار َ‬
‫ْ‬
‫يدعونــه للجلــوس معهــم‪ ،‬وأكــدوا لــه أنــه ســيعتاد عــى أحاديثهــم اململــة بعــد حــن‪ .‬كانــوا ينادونــه‬
‫«مهندس عصام»‪ ،‬أما هم فقد نسوا أسامءهم وراحوا يتنابذون باألرقام‪ .‬اقرتب منهم «املهندس‬
‫عصــام» وســألهم عــن الوقــت‪ ،‬فنظــروا إىل الهيــاكل النامئــة‪ ،‬وراحــوا يحصــون عدد العظام التي متثل‬
‫األيــام‪ ،‬واملفاصــل التــي متثــل األشــهر‪ .‬بــدت الدهشــة عــى وجــه عصــام وقــال لهــم‪:‬‬

‫‪ -‬مــا هــذه الطريقــة بالعــد؟ إنهــا جديــدة عــي‪ .‬هــل هــؤالء ميتــون أم نيــام؟ وإن كانــوا نيامـاً كيــف‬
‫بإمكانكــم حفــظ األيــام إذا اســتيقظوا؟‬

‫أجابه الهيكل «‪ :»1‬هذه الطريقة اسمها التقويم العظمي‪ ،‬ونحن هنا كلنا ميتون‪ ،‬لكننا نتناوب‬
‫بالنــوم‪ ،‬كــا كنــا نفعــل أيــام معتقــات األســد‪ ،‬وعندمــا ننتهــي نحــن مــن نوبتنــا نرقــد مكانهــم‪ ،‬وبذلــك‬
‫نحافــظ عىل التقويم‪.‬‬

‫ـكل «‪ »2‬مــن القعــر زجاجــة كــوال مملــوءة مبــاء مالــح‪،‬‬


‫جلــس املهنــدس عصــام معهــم وأحــر الهيـ ُ‬
‫وقدمهــا لــه‪ ،‬وراحــوا يتبادلــون األحاديــث عــن وضــع القــاع وأوضــاع القيعــان األخــرى‪ ،‬ويتســاءلون متــى‬
‫ســيتم نقلهــم إليهــا؟ وهــل املــاء يف القيعــان األخــرى أشــد ملوحــة أم عذوبــة؟‬

‫وبينــا هــا يتحادثــان إذ يــأيت مــن قــاع بعيــد ضيــف عظمــي يضــع عــى رأســه شــاغاً‪ .‬تطايــرت‬
‫عظــام املهنــدس عصــام مــن الفرحــة‪ ،‬فهــذا الهيــكل الضيــف مــن الرقــة‪ ،‬نعــم من محافظته‪ ،‬لقد عرفه‬
‫مــن الشــاغ‪ .‬أقبــل عليــه عصــام ليحضنــه فأبعــده الهيــكل الضيــف وقــال‪:‬‬

‫‪ -‬هــداك اللــه يــا شــيخ‪ .‬ال ينقصنــا وجــع عظــام بســبب العنــاق‪ ،‬فــا حبــوب «بروفــن» هنــا وال‬
‫س ـكّنات أخــرى‪ .‬يكفــي أن تحــرك عظــام كتفيــك كإشــارة للعنــاق‪ .‬هــذا هــو العنــاق العظمــي‪.‬‬
‫ُم َ‬
‫انفــرد املهنــدس عصــام بالهيــكل الضيــف‪ ،‬وســأله عــن عشــرته‪ ،‬وتفاصيــل غرقه‪ ،‬فأخربه الضيف‬
‫أنــه كان نامئـاً يف بيتــه عندمــا فــاض نهــر الفــرات وغرقــت جميــع البيــوت املحاذيــة‪ ،‬وقيــل‪ ،‬فيــا بعد‪،‬‬
‫إن ذلك كان بســبب بناء ســد الفرات‪.‬‬

‫كانــت األحــداث التــي يرويهــا الضيــف متــر بذاكــرة عصــام كرشيــط فيلــم قديــم فَ َقـ َد معظــم صوره‪،‬‬
‫لكنــه تذكــر بيــت أمــه األرملــة الطينــي والطاقــة التــي كانــت تطــل عــى بيــت الجــران‪ .‬تلك الطاقة التي‬
‫كان ميــرر مــن خاللهــا الرشائــط امللونــة واألقمشــة املزركشــة التــي اشــراها للحبيبــة بنــت الجــران‬
‫مــن ســوق «امل ْدينــة» بحلــب‪ ،‬وتغلغلــت يف أنفــه رائحـ ُة اللحــم املســلوق والخبــز املحمــص الــذي‬
‫ـره أمــه لوجبــة الرثيــد‪ .‬كــا تذكــر الصنــدوق ذا املرايــا الــذي اشــرته أمــه يوم زفافها‪ ،‬وكيف‬
‫كانــت تحـ ّ‬
‫كان يخبــئ فيــه باكيــت «الحمــراء الطويلــة»‪ ،‬ويختلســها ليدخــن الســجائر خلــف الــدار‪ .‬عــى ذلــك‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪98‬‬

‫الحائــط خلــف الــدار رســم‪ ،‬ذات مراهقــة‪ ،‬قلب ـاً عاشــقاً ووضــع فيــه ســهامً‪ ،‬وكتــب الحرفــن األولــن‬
‫مــن اســمه واســم زميلتــه يف املدرســة‪ .‬وعــى القســم الســفيل مــن الحائــط قــرأ عبــارات مــن كتــاب‬
‫التاريــخ والرياضيــات والفيزيــاء‪ ،‬فقــد كان يكتــب مــا يحفظــه عــى ذلــك الحائــط‪ .‬ضحــك يف نفســه‬
‫وهــو يتذكــر عبــارة «الحيطــان دفاتــر املجانــن»‪ .‬وحــدث نفســه قائـاً‪ :‬الحيطــان دفاتــر الســوريني‪.‬‬

‫تعــود بــه الذاكــرة أيضـاً إىل بــاص النقــل ذي العجــات الهرمــة الــذي أقلــه ذات صبــاح إىل مدينــة‬
‫حلــب قبــل شــهر مــن موعــد االمتحانــات مــع أمــه التــي ال أمــل لهــا يف الحيــاة مــن دونــه‪ ،‬فهــو وحيدهــا‬
‫ومنجيهــا‪ .‬بعــد أســبوع مــن وصولهــا املدينــة رست أخبــار تفيــد بــأن كل البيــوت مبحــاذاة نهــر الفــرات‬
‫قد غرقت مع ساكنيها وغرقت معها الحبيبة والرشائط امللونة وذكريات التدخني الرسية والنقش‬
‫عــى الحائــط‪ ،‬ومل يبــق لهــا ســوى رصة الذهــب التــي كانــت تحملهــا معهــا أمــه حيثــا ذهبــت‪.‬‬

‫يتذكــر عصــام كيــف نــزل وأمــه إىل خــان الذهــب بســوق «امل ْدينــة» وباعــت أمــه أســاورها كلهــا‬
‫لتتمكــن مــن رشاء بيــت يف مدينــة الرقــة‪ ،‬وعــاد األمل ذاتــه يعتــر قلبــه عندمــا تذكــر دمــوع أمــه وهــي‬
‫تفــك الــرة القامشــية وتخــرج األســاور والكــردان لتبيعهــا‪ ،‬لقــد كان هــذا مهرهــا ذات يــوم ولطاملــا‬
‫تزينــت بهــا أمــام صديقاتهــا يف األعــراس‪.‬‬

‫تــردد يف مســمعه صــوت بــكاء أمــه ونحيبهــا عــى غــرق الصنــدوق ذي املرايــا الــذي خبــأت فيــه‬
‫جالبيــة زوجهــا املتــوىف وعباءتــه‪ ،‬فلــم يبــق لهــا منــه ســواهام‪ ،‬وكانــت تحضنهــا كل مســاء وتشــم‬
‫رائحتهــا لتتذكــر أنهــا كانــت يوم ـاً يف ظــل رجــل‪.‬‬

‫عندما عادا إىل الرقة اشرتيا بيتاً يف شارع «تل أبيض»‪ ،‬ذا غرف حجرية واسعة ونوافذ مرسومة‬
‫بشــكل هنــديس عــى خــاف طاقــة البيــت الطينــي‪ .‬الكــف الزرقــاء التــي كانــت معلقــة عــى البــاب‬
‫أبهرتــه‪ ،‬ومتنــى لــو أنــه يعــوم بــن البيــوت الغارقــة ويجــد حبيبتــه ويعطيهــا هــذه الكــف كقــادة‪.‬‬

‫عــى الحائــط‪ ،‬يف غرفــة الجلــوس‪ ،‬كان مثــة رســم ملريــم العــذراء فالبيــت كان يقطنــه مســتأجر‬
‫مســيحي ماهــر بالرســم‪ .‬وقــد كان كل صبــاح ومســاء يقبــل رســم الســيدة ذات الشــعر األشــقر الناعــم‬
‫والعنق البيضاء خلسة عن أمه ويداعب خصل شعرها‪ .‬هذه السيدة بقيت األنثى األوىل واألخرية‬
‫يف مخيلته‪ ،‬فال يوجد جامل يضاهي جاملها بني كل النساء اللوايت رآهن‪ ،‬رمبا ألنها هي الوحيدة‬
‫بني نساء تلك املدينة التي كان يستطيع أن يجلس أمامها عىل األرض‪ ،‬ويأكل بيديه‪ ،‬يف حرضتها‪،‬‬
‫بال ملعقة‪ ،‬وميســك البطيخ ويأكله دون تقشــر‪.‬‬

‫يف الطابــق األريض‪ ،‬تحــت البيــت كان «أبــو زينــة» يبيــع أرشطــة كاســيت لســعد البيــايت ويــاس‬
‫خــر‪ ،‬ورمبــا ألنــه يعشــق صــوت ســعد البيــايت كانــت أغانيــه تصــدح عالي ـاً طيلــة الوقــت‪ .‬أغــاين‬
‫البيــايت امتزجــت مــع صــورة الســيدة العــذراء وأصبحــت جــزءا ً مــن روح املهنــدس عصــام لدرجــة أنــه‬
‫‪99‬‬ ‫هذلا ةّرص‬

‫إذا ســمع يف البــاص صدفــة صــوت البيــايت هــم أن يــرب الســائق‪ ،‬فهــذا الصــوت لــذاك الجســد‬
‫نيدلا زع ةبه‬

‫فقــط‪ ،‬وال يجــوز ألحــد أن يقــرب منهــا‪.‬‬

‫تذكر املهندس عصام أيضاً أنه كان جالساً‪ ،‬ذات مساء‪ ،‬عىل رشفة منزله الكائن يف شارع تل‬
‫أبيــض‪ ،‬وملــح فتــا ًة ممشــوقة القــوام واســعة العينــن طويلــة الشــعر تقــف عنــد مدخــل أحــد املحــات‬
‫لتشــري قامش ـاً‪ .‬لفتــت نظــره الفتــاة فنــزل برسعــة إىل الشــارع وســار خلفهــا حتــى وصلــت بيتهــا‪.‬‬
‫بقــي يراقبهــا كل يــوم وهــي ذاهبــة مــن بيتهــا إىل ملدرســة‪ ،‬فقــد كانــت هــي مدرســة للغــة العربيــة‪.‬‬

‫بعد مدة وقع يف غرامها‪ ،‬وطلب من والدته أن تخطبها له‪ ،‬فت ّم األمر وتزوجا بعد شهر تقريباً‪.‬‬

‫الزوجــة الجميلــة أضفــت ألوانـاً رائعــة لحيــاة املهنــدس عصــام وكانــت تحــر معهــا كل يــوم باقــة‬
‫زهــور مــن طالبهــا وتنتظرهــا حتــى تجــف ليقــوم عصــام بتثبيتهــا عــى الجــدار حــول الســيدة‪ .‬أصبــح‬
‫الحائــط وكأنــه مــزار مقــدس لعشــاق الفــن والجــال ومل يــردد أحــد مــن األصدقــاء الزائريــن أن يضــع‬
‫بصمتــه بتوقيــع عــى ذاك الحائــط‪.‬‬

‫تذكــر عصــام أيضـاً عندمــا حملــت زوجتــه وأنجبــت لــه مريــم التــي كانــت تحبــو قــرب جــدار مريــم‬
‫األوىل وكأمنــا تطــوف حــول مــزار‪ .‬وســط كل تلــك الذكريــات الســاحرة يقفــز جنــي أســود لذاكــرة عصــام‬
‫أســموه «أبــا لقــان الداعــي» الــذي جلــده يف الســاحة العامــة أمــام كل النــاس بســبب ذاك‬
‫الجــدار النــراين يف بيتــه‪ .‬اضطــر بعدهــا عصــام ألن يجمــع كل تلــك الــورود عــى الحائــط ويضعهــا‬
‫يف صنــدوق خشــبي ويدهــن الحائــط وعينــاه تفيضــان دمع ـاً وقهــرا ً‪.‬‬

‫نعــم لقــد اغتصبــوا أحالمــه التــي علقهــا عــى ذاك الحائــط‪ ،‬أمــا الداعــي أبــو لقــان فــكان‬
‫يراقــب عصــام ليتأكــد مــن تنفيــذ الحكــم بقــص رقــاب الذكريــات ودهــان الحائــط‪ .‬نظــر إليــه عصــام‬
‫باحتقــا ٍر وقــال لــه‪:‬‬

‫‪ -‬تم األمر تفضل خارج منزيل‪.‬‬

‫أغضــب تـ ُ‬
‫ـرف عصــام أبــا لقــان‪ ،‬وصــار يضغــط عــى عصــام بــكل شــاردة وواردة يك يغــادر‬
‫املدينــة‪ ،‬وآخــر مــا فعلــه هــو جلــد عصــام للمــرة الثانيــة ألنــه حليــق اللحيــة والشــارب‪.‬‬

‫مل يبــق أمــام عصــام حـ ٌّـل ســوى الهجــرة غــر الرشعيــة عــن طريــق البحــر‪ .‬تــرك والدتــه وزوجتــه وابنتــه‬
‫مريم وسافر إىل تونس يك ينتقل بعدها إىل ليبيا ومنها إىل إيطاليا‪ .‬ويف عرض البحر غرق املركب‬
‫ليجد نفسه بهذا القاع العظمي‪.‬‬

‫كانــت روحــي يف هــذه األثنــاء تفتــش يف جيــب قميصــه األبيــض‪ ،‬فلــم تجــد ســوى مفتــاح بيتــه‪.‬‬
‫مــد يــده إىل جيبــه وأخــرج املفتــاح ورمــاه يف البحــر‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪100‬‬

‫وقال للضيف العظمي‪ :‬مل أعد بحاجة لهذا املفتاح‪ ،‬فاآلن أدركت أن البيت‬
‫ليــس جدرانـاً وبابـاً ومفتاحـاً‪ ،‬ولــو كان كذلــك ملــا بقــي الحائــط الطينــي وحائــط مريــم‬
‫رصحــن رسمديــن يف روحــي‪ ...‬البيــت ذاكــرة وحيــاة بعد مامت‪...‬‬

‫حملت روحي املفتاح وأحرضته معها وألقته عىل طاولتي وهمست يل‪:‬‬

‫ال تقلقي إن أضعت املفتاح‪ .‬ال قيمة للمفاتيح يف عامل األرواح‪.‬‬


‫‪101‬‬ ‫يكسلا اهعطق نع زجعتو ةفاهرلا اهّزحت تويب‬
‫مازع يداف‬

‫فادي عزام‬

‫بيــوت تح ّزهــا الرهافــة وتعجــز عــن قطعهــا‬


‫الســكني‬

‫البيت والكون‬
‫عندما ترتقي قيم سامئنا سيكون لبيتي سقف‪.‬‬
‫إيلوار‬

‫ابتكر السوري مملكة حريته يف بيته‪ ،‬لكنه ظل عىل الدوام رهني تلك العبارة املرعبة‪:‬‬
‫«للحيطان آذان»‪.‬‬

‫نقــرأ البيــت يعنــي أن نقــرأ األلفــة يف البيــوت‪ .‬البيــت الشــامي الشــهري ســليل‬
‫البيت اآلرامي‪ ،‬املدخل الضيق ليجربك عىل االنحاء‪ ،‬القاعة الشاسعة املفتوحة‬
‫عــى الســاء‪ ،‬البحــرة ونافــورة املــاء يف الوســط‪ ،‬النباتــات املتعرشــة يف الجنبــات‪.‬‬
‫غالبــا يكــون اللــون الرخــام باألســود واألبيــض امللــي‪ .‬قــراء العالمــات واألدلــة يــرون‬
‫رمزيتــه التاريخيــة كبيــت يتنــاوب عــى عرشــه الليــل والنهــار‪ ،‬وعــى فضيلتــه الخــر‬
‫والــر‪ ،‬وعــى قســمته األنوثــة والذكــورة‪ .‬لكنــه ســليل املعــار العــريب االنطــوايئ‪،‬‬
‫غيــاب الرشفــة‪ ،‬صغــر النوافــذ‪ ،‬الزقــاق يقــود إىل الالمخــرج‪ ،‬املعــار الدفاعــي‪،‬‬
‫والشســاعة يف الداخــل املحجوبــة عــن اآلخريــن‪ ،‬يعــر عــن إرادة االحتفــاظ بــكل‬
‫إنــاث العائلــة وخصوصيتهــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪102‬‬

‫كان الســوري يعيــش عــى التناقضــات‪ ،‬بــن حريــة التنفــس يف أعشــاش البيــوت وســلطة القلعــة‬
‫الســوداء الرهيبــة الجامثــة عــى قاســيون دمشــق‪ .‬ســلطة مستنســخة يف كل املــدن مــن العســس‬
‫وصــور القائــد والخالــد واألمــل واملثــل‪.‬‬
‫العائلة الحاكمة املجرمة تحتل املدينة‪ ،‬والسوري الحامل يحتمي من سلطة االحتالل بالبيت‪.‬‬
‫الســوري يحلــم بالبيــت أكــر مــا يحلــم بالنــاس‪ ،‬فالنــاس يتحولــون يف مجتمعــات القمــع إىل‬
‫مشــكوك بهــم‪ ،‬وكل العالقــات ســتحددها مســاحات الخــوف واآلمــان‪.‬‬
‫البيــت الســوري حــارب بشــجاعة ضــد العاصفــة‪ ،‬ط ـ ّور نفســه‪ ،‬تخــى عــن امتيــازات الجــال‬
‫واملعــار‪ ،‬لكنــه بقــي مــن الداخــل مملكــة مــن النظافــة‪ ،‬عظيــم التكويــن رغــم االنحشــار واالندحــار‪،‬‬
‫ا ضيق ـاً يتّســع أللــف صديــق‪.‬‬
‫ومح ـ ً‬
‫البيــت الســوري صــار هــو مرتقــى األنفــاس بعــد احتــال املســاجد والكنائــس‪ ،‬ونهــب املعابــد‬
‫وفــرار إيــل وآداد وأدونيــس وعشــتار‪ .‬وحلــول حافــظ األســد كإلــه وثنــي توحــدي والســيد األوحــد يف‬
‫املدينــة املحبوســة داخــل قواريــر ســهلة الكــر كانــت تســمى بيوت ـاً‪.‬‬
‫يســأل العاشــق‪ ،‬أيــن أجــد بيتــا لتبــادل قبلــة مــع الحبيبــة يف دمشــق امللوثــة بالكنايــات والســجع‬
‫البعثــي‪ ،‬ومرتزقــة الفضيلــة وفــرع األمــن الجنــايئ يحتــل الجــدران بينــا العشــق اســتعارات؟!‬
‫وســط لوثــة املصــاب بشــقاق الخــوف‪ ،‬املضــاد لــكل أنــواع الحــب‪ .‬كانــت متــارس طقــوس‬
‫ديونســيس يف البيــوت املســتأجرة‪ .‬واحتــال املحبــون عــى رشطــة األخــاق والعســس باملســاكنة‪.‬‬
‫والغــرف املنكوبــة والشــقق املفروشــة والبيــوت املثقلــة بــاألىس حرســت العشــاق‪.‬‬

‫يف دمشق‬
‫أربعة وعرشون بيتاً مستأجرا ً بأبواب من شتى الصنوف‪ ،‬بعضها يغلق بإحكام سجن‪ ،‬والبعض‬
‫اآلخر ميكن قفله برشيط سلك معدين رفيع أو إحكام إغالقه ببلوكة!‬
‫أبــواب ال رغبــة يل بتذكرهــا اآلن‪ ،‬وبالطبــع ال أريــد أن أخــوض بذاكــرة النوافــذ يف دمشــق‪...‬‬
‫أ ٍه مــن النوافــذ املفتوحــة لبعوضــة شــاردة أو ورقــة شــجر‪ ،‬فباغتتهــا قذيفــة تائهــة أوت إىل البيــت‬
‫وأخرجــت ســكانه إمــا إىل ســاء أو إىل البحــر بعــد أن ضاقــت بهــم األرض‪.‬‬
‫كلــا فتحــت نافــذيت هــذه األيــام أتذكــر شــباكاً يطــل عــى مقــرة يف قدســيا‪ ،‬مقــرة فقــرة عــى‬
‫سفح تل فقري‪ ،‬بوابتها فقرية‪ ،‬وموتاها فقراء‪ ،‬وحارسها اغتنى من بيع الجامجم لطالب كليَّة الطب‪.‬‬
‫أطــل عــى املقــرة وأنتظــر «إيــاد شــاهني» ريثــا ينتهــي مــن عملــه يف معالجــة األفــواه املضنكة باألمل‬
‫والنخــور األبديــة ليــأيت وميــأ املــكان برائحة ضحكاته الخارقة‪.‬‬
‫أتذكــر بيــت الســت أم أكــرم يف املــزة جبــل‪ ،‬وانفتــح املشــهد عــى حائــط تخرتقــه عينــي‪ ،‬فــأرى‬
‫‪103‬‬ ‫يكسلا اهعطق نع زجعتو ةفاهرلا اهّزحت تويب‬

‫حقول الصبار التي جرفتها دبابات بشــار األســد وأطلقت إبرها لتنغرز يف العيون والقلوب الكليلة‬
‫مازع يداف‬

‫املرشعــة وراء النوافــذ‪ .‬بينــا نــاي «لــؤي الحنــاوي»‪ ،‬رشيــي يف تلــك الســكنى املباركــة‪ ،‬يرتــل آيــات‬
‫مــن أســفار جــال الديــن الرومــي الخالــدة‪.‬‬
‫وبيت يف مخيم الريموك‪ ،‬يشــبه بيت الشــاعر «وديع ســعادة»‪ ،‬ولكن غاب عنه الشــعاع‪ ،‬ليس‬
‫بســبب غيمــة عــى األرجــح‪ ،‬إمنــا ألن جــاري القاطــن يف الطابــق األعــى منــي يســكن تحــت األرض‪،‬‬
‫بيتــا عميقــا كمدافــن الفراعنــة ال نوافــذ لــه‪ ،‬تفــوح روائــح البنــج مــن عيادتــه املختصــة باإلجهــاض!‬

‫بيت مفرق أبي عطاف‬


‫كان ســفحاً مــن األمنيــات‪ ،‬نحتــل الســطح املجيــد بثــاث غــرف أقــرب ألوكار الرهبــان‪ .‬مضــادون‬
‫للطائفيــة‪ ،‬نعشــق ونتنشــق األحــام والنشــوات‪ ،‬نفتــك بالوقــت وكأننــا ســنموت غــدا ً‪ ،‬ســوريا تعــر بنــا‬
‫كل يــوم‪ ،‬ونــادرا مــا نبيــت أنــا وحمــد وربيــع بــا ضيــف أو ضيــوف‪.‬‬
‫أصدقاء يهربون إىل خلوتنا ليامرسوا طقوس التأمل والبكاء والضعف والقوة والرغبات املحرمة‪.‬‬
‫من الرشفة الواسعة نرقب الغزالن بصرب الصيادين‪ ،‬منأل فضاء األمسيات بالضجيج‪ ،‬نعلن القيامة‬
‫كل يوم‪ ،‬نقاوم بطالة ما بعد التخرج باالنتظار وتربية الحقد والشعر والكحول والفوائض من غوامض‬
‫الغرام وال نعرف كيف نحب‪.‬‬
‫نحيــل أي حــدث إىل قضيــة‪ ،‬نكــر أي رغبــة إىل أقاصيهــا نتمتــع بخصــال األوغــاد والقديســن‪.‬‬
‫بيــت مفتــوح للجميــع‪ ،‬يزورنــا إمــام الجامــع ومالحــد ٌة مضحكــون‪ ،‬مشــككون ومتصوفــة والكثــر مــن‬
‫الدراويــش‪ .‬أمهاتنــا يضقــن ذرعنــا مبــاذا نفعــل بالشــام فيأتــن‪ ،‬حامــات طناجــر الطبيــخ‪ ،‬فنخفــي‬
‫زجاجــات العــرق ونفتــح كتــب الدراســة عــى صفحــات مبهمــة‪ .‬منثــل الطاعــة‪ ،‬ونســبل العيــون عالمــة‬
‫الطيبــة والفــرح‪ .‬وحــن يغــادرن‪ ،‬ننــط كالســعادين طربــا‪.‬‬
‫يزورنــا معتقلــون ســابقون‪ ،‬وأزواج مــن العشــاق املختلطــن‪ ،‬الكــردي الــذي يعشــق الســمعولية‬
‫والســني الــذي يهيــم بالعلويــة‪ ،‬والدرزيــة الخائفــة مــن الذبــح‪ ،‬والشــامية الهاربــة مع حبيبها الريفي من‬
‫جهنــم الطبقــات‪ ،‬واملســترشقة األملانيــة الباحثــة عــن قامــوس مــن الشــتائم لرســالة دكتــوراه فنزودهــا‬
‫مبئتــي شــتيمة طازجــة ال تخطــر عــى بــال‪.‬‬
‫كانت سوريا املتربعمة التي نحلم بها تتفتح بتالتها يف بيت الدويلعة‪ ،‬لو أحصيت الشهقات‬
‫والزفــرات يف ذلــك البيــت‪ ،‬لــو دونــت اآلهــات والضحــكات‪ ،‬لــو ســجلت الليــايل ودونــت النقاشــات‬
‫واألحــام واأللــوان‪ ،‬لــو جمعــت لوحــات فــرز األلــوان أليب عبــادة‪ .‬لــو فتحــت ســجالت أوالد القــرى‬
‫واملــدن الذيــن زارونــا يف بيــت أيب عطــاف‪ ،‬لوجــدت جبلــة مــع تلبيســة‪ ،‬عامــودا مــع ســلمية‪ ،‬وحلــب‬
‫مــع حمــص‪ ،‬وحــاة مــع الالذقيــة‪ ،‬وادلــب مــع بســنادا‪ ،‬والقريّــة مــع بــرزة‪ ،‬والســويداء مــع الرقــة‪...‬‬
‫ـت‪ :‬ميكــن لدمنــرك أن تخــوض حربــا أهليــة ولكــن مســتحيل أن يحــدث هــذا يف ســوريا!‬
‫لقلـ َ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪104‬‬

‫كان بيتــا جامعــا مانعــا للغــش‪ ،‬ملهــا باالســتقامة‪ ،‬وكل مــن فيــه تــرك اعوجاجــه خارجــا‪ ...‬أيــن أنتــم‬
‫اآلن يــا ســكان ذلــك البيــت‪ .‬أيــن أنــت يــا عبــد؟‬
‫غادر أولنا عبد الرزاق شبلوط ابن حمص إىل اإلمارات‪ .‬أربكنا غيابه‪ .‬كان مثل النذير املرعب‬
‫لكل واحد منا‪ .‬فاألمل مبوت الديناصور تالىش مبجيء الوحش األصغر مل نصدق خطاب القسم‬
‫مل نكن من هواة األحزاب وكنا مخلصني للحدس‪.‬‬
‫ونصف بيت من شعر لفظه املتنبي ذات سفر‪:‬‬
‫«بقايئ شاء ليس هم ارتحاال‪»...‬‬
‫البقاء هو الذي يحملك عىل الرحيل‪ ،‬وحدا تلو آخر سلكوا طريق املطار باستقامة‪ .‬معظمهم‬
‫وصل إىل اإلمارات‪ .‬كان هاجس الخدمة يف جيش النظام مرعباً ومدمرا ً لنا أوالً‪ ،‬وهاجس أن نجد‬
‫رزقــة تحمــي مــا تبقــى من كرامتنا ثانيا‪...‬‬
‫تركنــا البيــوت بــا وداع وال أحصنــة وال رغبــات مشــبوهة بالعــودة‪ ،‬كنــا نهــرب ونــرك البلــد آلل‬
‫ـت آخــر املغادريــن‪.‬‬
‫األســد‪ .‬كنـ ُ‬

‫بيت أبراهيم صموئيل‬


‫أصنفــه ضمــن قوائــم بيــويت الخاصــة‪ ،‬أ ّدعــي أنــه يل‪ ،‬أنــزل مــن الرسفيــس أول جوبــر‪ ،‬أمــي‬
‫مبحــاذاة حائــط كالــح‪ ،‬أقــف أمــام البــاب الصغــر‪ ،‬أقــرع الجــرس الرخيــم‪ ،‬صــوت الخطــو الخفيــف‬
‫تســبقه ضحــكات مجلجلــة ينــزل مــن أعــى يفتــح قلبــه يل البــاب‪ ،‬وترشــدين ابتســامته نصعــد جذىل‪،‬‬
‫إىل اليمــن مبــارشة الصالــون‪ ،‬أريكتــان متقابلتــان أجلــس واالحــراج مينعنــي مــن التحــرك فيكفــي أن‬
‫يجلــس قبالتــي وســتكون املســافة بــن قدمينــا أقــل مــن شــر‪ ،‬أســأل نفــي يــا إلهــي مــاذا أفعــل هنــا‬
‫مــع هــذه العائلــة املحشــورة يف هــذا البيــت الشــديد الضيــق؟!‬
‫خلــف كتفــه لوحــة الشــغيلة ملالفــا‪ ،‬ممزقــة بشــكل زاويــة قامئــة‪ ،‬خــزق وكأنــه صنــع خصيصــا كجــزء‬
‫منهــا‪ .‬بضــع كتــب مرصوصــة وســتار مهفهــف يفصلنــا عــن غرفــة النــوم‪ .‬مداريــا خجــي أقــول لنفــي‬
‫لــن أطيــل املكــوث أكــر مــن زمــن فنجــان قهــوة‪ ،‬تطبخــه املرحومــة مــاري‪ .‬فتطــل مــن املطبــخ‪ ،‬ينــداح‬
‫منها حنان العامل‪ ،‬تفيض حبا‪ ،‬تتدفق كرما‪ .‬وعىل صوتها الرخيم املغموس بحرشجات األملاس‪،‬‬
‫ونفثــات ســيجارتها التــي تتحــول إىل غيمــة مــن الرقــة أرتــاح وينفــك حرجــي قليـاً‪..‬‬
‫يحدثني إبراهيم عن عمر حمدي‪ ،‬وكيف أحرق كل لوحاته ونجت هذه اللوحة‪.‬‬
‫يطــر الحديــث حــول مــن م ـ ّر عــى هــذا البيــت الســوري الطينــي الصغــر‪ ،‬أراه يتمــدد يتســع‬
‫للرفــاق واألحــام واألفــكار‪ ،‬ورويــدا ً رويــدا ً أجــدين أمتــى يف قــر إبراهيــم ومــاري‪ ،‬وقــد صــار بيت ـاً‬
‫ا مــن الــن‪ ،‬يفيــض بنكهتــه عــى األرواح النامئــة‪،‬‬
‫يتســع لنصــف ســوريا‪ ،‬وفنجــان القهــوة أصبــح حق ـ ً‬
‫والدقائــق متتــد حتــى اآلن‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫يكسلا اهعطق نع زجعتو ةفاهرلا اهّزحت تويب‬

‫مرسم عبد الرزاق‬


‫مازع يداف‬

‫كان عبــد الــرزاق الفنــان التشــكييل أول املغادريــن إىل اإلمــارات وأول العائديــن منهــا‪ ،‬رجــع‬
‫ليقطــن يف مرســمه العجيــب‪.‬‬
‫تنــزل يف الســاحة بجرمانــا تدخــل إىل اليمــن بعــد الكازيــة‪ ...‬تســر خطوتــن‪ ...‬ال تســأل أحــدا ً‪...‬‬
‫اتبــع روائح اللــون تدلــك عــى الطريــق‪.‬‬
‫إقرع الباب‪ ،‬إن مل تجد أحدا ً‪ ،‬فتحت الزريعة أو بجوار النافذة املفتاح بانتظارك‪.‬‬
‫كل يشء يأخــذ معنــى أخــر‪ ،‬حتــى الــيء املتخلــص مــن كل رمزيــة ممكنــة تــراه يتالصــف بغــر‬
‫حقيقته أو بتعددها‪ .‬سيقودك فضولك عىل عكس ما هو متوقع إىل مطبخ الوقت حيث يعترص‬
‫الزمــن الفائــر باالرتبــاك‪ ،‬تجثــم عــى طرفــه عجــوز بيضــاء بعــد شــهيقني وزفــر ستكتشــف أنهــا متنكــرة‬
‫بهيئــة ثالجــة بيضــاء‪ .‬افتــح بابهــا ومتــى هــذا الفــراغ الجســور‪.‬‬
‫تدهشــك علــب الرسديــن‪ ،‬مــن الــذي التهــم كل هــذه األســاك املغموســة بالزيــت الــاذع؟‬
‫من الذي نزع قرن الح ّر منها ونظفها ورتبها مصفوف ًة بالعرشات؟‬
‫من يحتفظ بعلب الرسدين الفارغة؟ أنت يف حرضة آخر جامعي اللقى العجيبة‪.‬‬
‫قنــاين العــرق أقــل نب ـاً‪ ،‬ولكنهــا بفوهاتهــا املرشئبــة‪ ،‬متــأ املطبــخ العجائبــي مبحاجــر فقــدت‬
‫ماءهــا‪ ،‬مــن كــرع هــذا العــرق وجــدد عهــد األخــوة مــع العنــب والشــوق املقطــر واأللــق؟‬
‫يا إله الخمر واألمر والسامء ابعث سفريك يحيص أوجاع القناين ومسارب املاء‪.‬‬
‫الجــدران مهــرة بفعــل الهمــس‪ ،‬الرقــص‪ ،‬البــكاء‪ ،‬التــوق‪ ،‬الخــوف‪ ،‬البقــاء‪ ،‬االرتعــاد إن البعــاد‬
‫يهشــل القلــب ويهشــمه‪.‬‬
‫حف به هذا القلب األحمر األخرض املتليف املنقوع مباء النقاء والزهر والعرق‪.‬‬
‫كم جدار ّ‬
‫أخرج من املطبخ قبل أن تتحول إىل وليمة تفرتسك التذكارات‪.‬‬
‫انتصبت وجوه عىل ورق هش‪ ،‬وجوه راســخة تحملها الهشاشــة‪ ...‬اللعنة عليك يا عبد؟ منذ‬
‫عــرة أعــوام وأنــت ترســم البورتريــه نفســه‪ .‬كنــت أســأل مــن أيــن تســتمد الثقــة باإلنســان بهــذا الســوري‬
‫املخلّــع مثــل الصوفــا الجانبيــة التــي تفــرس ظهــري كلــا منت عندك؟‬
‫مــن أيــن لــك هــذا الحــدس وأنــا أرى وجــوه الســوريني بعــد الثورة‪ ،‬كنــت أرى لوحاتــك‪ .‬كــم‬
‫رســمت‪ ...‬كم قلــت‪ ...‬كــم آمنــت بينــا كنــا نطالبــك أن تصبــح ناضجــا وتنجــز معرضــا‪ ...‬اليــوم أفهــم‬
‫أن اللوحــة الخاصــة بالحيــاة التــي ســتأيت غــر قابلــة للعــرض‪ .‬مكانهــا هنــا يف املرســم أقصــد ســوريا‬
‫التــي تحولــت للوحــة يف الفضــاء الطلــق بعــد تدمــر البيــوت وخــروج كل مــا فيهــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪106‬‬

‫ـدس الجــدار بالــورق الجنــوين‪ ،‬وأنفــاس مــن مــروا مــن هنــا ومــا انســفح يف‬
‫ت ُهنـ َ‬
‫األمسيات الشهية‪ ،‬عبق روائح نساء تركن النذالة خارجاً‪ ،‬ودخلن بالشقاء املناسب‬
‫لتكريس هذا الجنون‪.‬‬
‫تخــت عــى شــكل زورق يصلــح لألبحــار ال للنــوم‪ .‬مشــبع بالغبــار واألقاويــل‪ .‬كلام‬
‫تعــدد املبحــرون بــه صــار أطهــر وأخطــر ومرشفـاً عــى الغــرق‪ .‬وحدهــا الذاكــرة طــوق‬
‫نجــاة يصيــح يب عبــد‪.‬‬
‫الذاكرة هي ما نحن عليه اليوم‪.‬‬
‫وألين لــن اقــرأ بعــد أجمــل مــن «نــور يف آب» أهمــس لصديقــي «الذاكــرة تعتقــد‬
‫وبعد ذلك تتذكر»‪.‬‬
‫وكأن فريوز تجبي الكنوز‪ ،‬تحلج قطن الجرح تغطس «بالدوا أحمر» وتكبسه‪.‬‬
‫وبنفس املسجلة الهرمة يخرج صوت أغاين الحصاد يف الذاكرة املتهدمة‬
‫«وع األنعاش يا بوشالش»‬
‫ن حــن تقطــع الكهربــاء‪ ،‬وحــن تــرق ســوريا له ـ َن زينتهــن‪ ،‬وحــن‬ ‫نســاء يض ـ َ‬
‫يقصلهــن الحصــاد فيهربــن مــن منجــل الزمــن‪ ،‬وحــن يلمحــن يف يــد الحطــاب فــأس‬
‫اليأس‪ ،‬يرتكن كل ما ليس لهن ويدخلن إىل دارهن‪ ،‬ليحصوا فحم القلب «األملاس‬
‫رأي الطبيعــة بالفحــم» وأنــن أملــاس هــذا الوجــود يــا نســاء ســوريا الصامــدات‪.‬‬
‫ورجــال ألقمــت أفواههــم العبــوات الناســفة‪ ،‬ورضعــوا زيــت الــكاز مــن خمــوش النــار‪،‬‬
‫يهيلــون مداميــك الحيــاة يوســعون منافــذ الهــواء‪ .‬و»يتلـ َّوذون» مــن زخــة مطــر أو خطر‬
‫مباغتة‪ .‬ويتلون أسامء من ابتلعهم فم الغياب‪ .‬وينتظرون عىل إيقاع تلك الرتنيمة‬
‫العجيبــة‪ ...‬يــا اللــه مــا إلنــا غــرك‪ ...‬يــا اللــه‪.‬‬
‫الشــعب يريــد والوقــت يريــد واملــوت يريــد واملرســم يعيــد صــدى بعيد يــاه‪...‬‬
‫ورسام؟ بال ضوء يف الليل كثري العتم‪ ،‬تغدو الدمعة‬ ‫وهل تتم الشام بدون مرسم ّ‬
‫شمعة‪ .‬مرسم ٌمرتع بالشموع‪ .‬بعض الشموع ال تنطفئ‪ ،‬فهي مرسومة هناك باليد‬
‫التــي تشــعل الحيــاة‪ ،‬تشــعل األمــل‪ ،‬تشــعل الذاكــرة يف صقيــع املســافة‪ ،‬يف بيــوت‬
‫تح ّزهــا الرهافــة ويعجــز عــن قطعها الســكني‪.‬‬
‫بيتي اآلن‪ ،‬ال أعرف شكله‪ ،‬وال ماذا سيكون فأنا موجود يف اململكة املتحدة‪،‬‬
‫بيــوت أصدقــايئ متنحنــي بعضــا مــن الســكينة‪ .‬وجــه لــؤي وجــال وحســام يحــرون‬
‫يل ذلك البيت الســوري الذي ال ميكن أن يتهدم‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫ألا ىلع ءاكبلا ةوهش يف‬
‫ رمع دمحأ‬

‫أحمد عمر‬

‫يف شهوة البكاء عىل األطالل‬

‫جوا‬
‫ُس ُك ْم أو اخْر ُ‬
‫«لو أنّا كتبْنا عليه ْم أن اقْتلوا أنْف َ‬
‫قليل منهم»‬
‫من دياركم ما فعلوه إالَّ ٌ‬
‫(سورة النساء)‬

‫اتفــق التعبــر العــريب القديــم عــى صيغــة الجمــع عنــد ذكــر الــدار‪ .‬فهــي ديــار‬
‫وليســت دارا ً‪ ،‬فــا معنــى للــدار مــن غــر الجــران‪ ،‬واألهــل‪ .‬ومل تكــن القصيــدة لتبــدأ‬
‫إال بالوقــوف عــى األطــال التــي درســتها الريــاح واألزمــان‪ ،‬بعــد االنتقــال طلبـاً للــكأل‬
‫واملرعــى‪ ،‬االنتقــال يجــري اآلن طلبـاً للكرامــة واملرعــى‪ .‬القصيــدة ناقصــة إن مل تحـ ّن‬
‫إىل املــكان األول‪ ،‬أو هــي غــر عــذراء إذا مل تبــدأ بالوقــوف عــى الــدار‪ .‬الوقــوف‬
‫عــى األطــال إعــان للهويــة اإلنســانية والوطنيــة»! والغريــب أنهــم كانــوا عربـاً‪ ،‬رحـاً‪،‬‬
‫يقيمــون يف خيــام متنقلــة‪ .‬فكيــف لــو كانــوا عربـاً ممنوعــن مــن املغــادرة؟ لكــن عفــوا ً‬
‫ا متنقلــن‪ ،‬مقيمــن يف خيــام أو مخيــات‪ ،‬أربعــون باملائــة مــن‬
‫فقــد غدونــا ر ّح ـ ً‬
‫الشــعب الســوري يقيمــون يف مخيــات يف الوطــن حســب تقاريــر األمــم املتحــدة‪.‬‬

‫خــال إقامتــي يف بلــدي ســوريا بدلــت دورا ً كثــرة‪ .‬وكنــت ســعيدا ً عــى غــر‬
‫عهــد األوالد‪ ،‬بــأن يل بيتـاً يقينــي التــرد والــرد والحــر‪ ،‬وتلــك قصــة تحتــاج إىل رشح‬
‫درامــي طويــل‪ ،‬وكنــت معجبـاً كثــرا ً بقصيــدة تحـ ّد يف املرحلــة االبتدائيــة مليخائيــل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪108‬‬

‫نعيمة‪ ،‬تقول يف مطلعها‪ :‬سقف بيتي حديد‪ ...‬ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر‪.‬‬
‫مل يكــن يخطــر لنعيمــة الرباميــل وصواريــخ أرض أرض‪ .‬كنــت شــغوفاً يف صبــاي باســتطالع هندســة‬
‫البيــوت الكرديــة يف عامــودا‪ .‬كانــت القامشــي أكــر قرويــة ومدنيــة‪ ،‬ومل تكــن تغوينــي‪ .‬عامــودا كانــت‬
‫أكــر تناســقاً وتجانسـاً مــع بعضهــا‪.‬‬

‫باكــرا ً‪ ،‬مل يكــن يف بلدتنــا ســوى بيتــن مــن حجــر‪ ،‬متشــابهني يف الهندســة التصميميــة‪ ،‬يبــدو‬
‫أن مهندسـاً واحــدا ً أرشف عــى تشــييدهام‪ ،‬وكانــت زيارتهــا أقــل بهجــة عــى غــر مــا كنــت أتخيــل‪،‬‬
‫فالبيــوت الطينيــة أليفــة‪ :‬البــاب‪ ،‬ثــم «الكنيــف» يف املدخــل دامئ ـاً‪ ،‬حــوش‪ ،‬أو فســحة كبــرة‪ ،‬يف‬
‫وسطها برئ‪ ،‬تؤاخي بركة متأل باملاء عادة‪ ،‬املاء يف البرئ سهلة اإلدراك بدلو يجري عىل بكرة تزقزق‬
‫أو تغــرد فرح ـاً باملــاء‪ ،‬أو عطشــا إىل الزيــت أو أمل ـاً مــن التعذيــب‪ .‬رسيــر حديــدي عــايل الســيقان‪،‬‬
‫يتسع لنوم العائلة كلها‪ ،‬دالية أو سنديانة يف وسط الدار‪ .‬غرفتان عادة تتفرعان من غرفة مدخل‪...‬‬
‫فكــرت كثــرا ً يف فلــم وثائقــي عــن البيــت‪.‬‬

‫ثاين بيت كان يف حلب‪ ،‬يف سيف الدولة‪ ،‬للدراسة‪ ،‬الثالث كان يف حي اإلذاعة‪ ،‬الرابع كان‬
‫يف شــارع النيــل‪ ،‬كان بــاردا ً جــدا ً يف الشــتاء‪ .‬أقــى شــتاء‪ ،‬كنــت قــد ضللــت كثــرا ً‪ ،‬ومــع الضــال‬
‫زاد شــقايئ‪ ،‬الرابــع كان يف القامشــي‪« ،‬غرفتــان فــوق الســطوح» تزوجــت فيهــا زواج ـاً رومانســياً‬
‫ـئت مــدح تلــك الفــرة‪ .‬ثــم انتقلــت إىل القصــر‪ ،‬وســكنت يف غرفــة كبــرة تصلــح بيتـاً لســبعة‬
‫إذا شـ ُ‬
‫خيــول‪ ،‬أو بيتـاً لحصــادة زراعيــة‪ .‬أقــي وقتــي عــى نهــر العــايص‪ .‬مل أســتمتع بالســكنى يف القصــر‪،‬‬
‫وفوجئــت بشــجاعة أهلهــا وبطولتهــم إبــان الثــورة‪ ،‬كانــوا مهربــن‪ ،‬وأنانيــن‪ ،‬لكــن اللــه يبــدل النــاس مــن‬
‫ـوي اســمه عكرمــة‪ ،‬وكانــت أقــى ســكنى يف‬
‫حــال إىل حــال‪ ،‬ثــم ســكنت ملــدة شــهرين يف حــي علـ ّ‬
‫ـوي أصيــل‪ ،‬لكــن الجــران يحســبونه ســنياً «مــن الدرجــة‬
‫حيــايت‪ ،‬صاحــب الــدار‪ ،‬كان يشــكو يل أنــه علـ ّ‬
‫الثانيــة»‪ .‬الصبــاح كان حربيـاً دامئـاً‪ ،‬ففــي الســابعة تبــدأ محــركات الجيــب واظ بالهديــر إيذانـاً بــروع‬
‫الحــرب اليوميــة عــى الشــعب‪ ،‬ويتحــول الصبــاح إىل جحيــم‪ ،‬إىل أن تهــدأ الدبابــات الروســية ذات‬
‫العجــات املطاطيــة يف التاســعة‪ .‬روى يل صاحــب الــدار قصــة مؤملــة فهربــت مــن الــدار‪ ،‬القصــة؛‬
‫هــي أنــه تــزوج مــن صبيــة بدويــة‪ ،‬فباحــت لــه ليلــة الدخلــة‪ ،‬بعــد أن اســتحلفته أن يصــون دمهــا‪ ،‬بــأن‬
‫كلبـاً ولــغ يف اإلنــاء فنكــث وعــده معهــا‪ ،‬وســلمها إىل أهلهــا يف الليلــة‪ ،‬ليســلم الــرف الرفيــع مــن‬
‫األذى! أكــرر‪ :‬كانــت ســكنى مؤملــة‪ .‬عندمــا انتقلــت إىل القريــة العامليــة الصناعيــة بــات الجيب واظ‬
‫ناقوسـاً يــدق يف عــامل النســيان‪.‬‬

‫ســكنت عــر ســنوات يف ســكن حكومــي مهندسـاً موظفـاً يف الريــف‪ ،‬كان ســكناً معقــوالً‪ ،‬لــوال‬
‫قلــة الخدمــة يف الريــف‪ ،‬واالضطــرار للنــزول إىل حمــص مــن أجــل التســوق واالنرتنــت والصحــف‪ ،‬ثــم‬
‫وفّقت إىل التســجيل يف مؤسســة االدخار الســكني‪ ،‬وبعد ســنتني جاء دوري الختيار شــقة؟ الدور‬
‫‪109‬‬ ‫ألا ىلع ءاكبلا ةوهش يف‬

‫ثالث فئات؛ ألف‪ ،‬باء‪ ،‬جيم‪ ،‬والتصنيف حسب املساحة‪ ،‬فاخرتت الشقة األكرب‪،‬‬
‫ رمع دمحأ‬

‫ثم أجلت دوري يف االختيار‪ ،‬ألحصل عىل شقة قصدت اختيارها تقع عىل مفرق‬
‫وتطل عىل حمص كلها‪ ،‬وحصلت عىل الشقة التي كنت فيها أرغب‪ .‬واستطعت‬
‫أن أيف ديــوين بعــد ســنتني‪ ،‬مــن عــرق جبينــي أو مــن عــرق قلمــي‪ .‬أن تحصــل عــى‬
‫بيــت يف ســوريا يعنــي أنــك محظــوظ‪ .‬يف الثامنينــات عرفــت شــاباً خــر قدمـاً يف‬
‫حرب ترشين‪ ،‬وكان سعيدا ً بأنه حصل عىل شقة تعويضاً عن قدمه! يف الحساب‬
‫البعثــي هــذا يعنــي أن يل أربعــة أقــدام! حوافــر يعنــي‪ .‬وجــدت مــرة وحيــدا الفتــة‬
‫بعثيــة تقــول‪ :‬أن ال معنــى للوطــن مــن غــر أن يكــون لــك فيــه منــزل! غريب جدا ً! رفاق‬
‫بعث ّيــون يدركــون معنــى الوطــن! هــذه الالفتــة تشــبه أخــرى وجدتهــا يف أثنــاء إحــدى‬
‫االســتدعاءات إىل األمــن واملخابــرات وكانــت املــرة األخــرة قبــل النــزوح العظيــم‪،‬‬
‫تقول‪ :‬األمن يف خدمة املجتمع‪ .‬الغرابة كانت أن أجد لفظ «املجتمع» يف عرين‬
‫األمــن واملخابــرات! لقــد خدمــوا ســوريا املجتمــع خدمــة ممتــازة‪.‬‬

‫بيتــي القديــم يف عامــودا تحــول إىل علبــة اســمنتية‪ ،‬بعــد أن اشــراه جــار يؤمــن‬
‫بالــرف الرفيــع الــذي ترفــع مــن حولــه الحيطــان واألســوار‪ .‬القصــر تدمــرت‪ ،‬حمــص‬
‫تعرضــت إىل قصــف وحــي‪ ،‬تحقيقـاً «لحلــم حمــص» وتحويلهــا إىل ديب ســورية‪.‬‬
‫دار املؤجــر الرشيــف‪ ،‬الــذي ســلم املغــدورة غــر العــذراء إىل أهلهــا فقتلوهــا‪ ،‬ال‬
‫تزال ســليمة‪ ،‬أقمت نصف ســنة يف اســطنبول‪ ،‬ثم ها أنذا أقيم يف أملانيا مغرتباً‪،‬‬
‫وأشــتهي أن أقــف عــى األطــال وأبْــي ال ّديــا َر‪ ،‬ديــار ليــى وميــة وعبلــة كــا بــى ابـ ُن‬
‫ِخــذامِ وامــرؤ القيــس وعنــرة ومحمــود درويــش‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪110‬‬

‫نارص فرغيل‬

‫حيطان مؤقتة‬

‫باب الدمع‬
‫‪...........‬‬
‫بعد رصي ٍر يشب ُه الدهشة‪،‬‬
‫دق عىل صدرِه مثل أُ ٍّم‬
‫َّ‬
‫حني عربناه يف آخر الليل‬
‫َي بأقدامنا اليمنى‬
‫داخل ْ ِ‬
‫ِ‬
‫وأرواحنا الخفيفة‬
‫الباب الذي‬
‫ُ‬ ‫الباب‪ ...‬هذا‬
‫ُ‬ ‫إنه‬
‫الطريق‬
‫َ‬ ‫أفسح دم ُعه البُ ّن ُّي‬
‫َ‬
‫أللوانِ بالوناتِنا‬
‫الباب الذي‬
‫ُ‬ ‫الباب‪ ...‬هذا‬
‫ُ‬
‫سات‬
‫ّقت فيه ال َح َ‬
‫تشق ْ‬
‫عبتِه يف أول النهار‬
‫حني َ ْ‬
‫وحقائب ثقيلة‬
‫َ‬ ‫حائرتي‬
‫ْ‬ ‫بقدمي‬
‫ِْ‬
‫دومنا التفات ٍة إىل الوراء‬
‫دومنا حتى صفق ٍة أخرية‬
‫‪111‬‬ ‫ةتقؤم ناطيح‬

‫الخشبي عىل الحياة‬


‫ّ‬ ‫تو ِق ُ‬
‫ظ قل َب ُه‬
‫غرف رصان‬

‫الباب الذي‬
‫ُ‬ ‫الباب ‪ ...‬هذا‬
‫ُ‬
‫مت َّنى‬
‫ري نافذة‪.‬‬
‫لو انّه يص ُ‬

‫أغنية عىل املمر‬


‫‪...........‬‬
‫كان ال ب ّد من عدا ٍء مبد ّ‬
‫يئ‬
‫صديقيِ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫قبل أن تصريا‬
‫ِ‬
‫أنت وامل َم ّر‬
‫ِ‬
‫أنت والنه ُر الذي يو ّز ُعنا‬
‫ح واملساء‬
‫عىل مرافئ الصبا ِ‬
‫ب النوم‬ ‫ِمن َذ َه ِ‬
‫إىل ِفضّ ِة ال َح ّمم‬
‫ومن عبقِ القهو ِة إىل غ َزل الحديقة‪.‬‬
‫سمكتي‬
‫ْ‬ ‫وليس أوس َع ِمن مرور‬
‫ٍ‬
‫جسد واحد‬ ‫أو عابريْنِ يف‬
‫ِ‬
‫املمرات الطويلة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يخاف من‬ ‫أحدُهام‬

‫ٍ‬
‫ممرات طويلة‬ ‫كان ال بُ ّد من‬
‫ْت إفها َم ِ‬
‫ك‬ ‫هذا ما حاول ُ‬
‫يك ت ً ْحلُ َو املطاردة‪.‬‬

‫نذهب‬
‫َ‬ ‫وأين كنا لِ‬
‫ِ‬
‫بضحكاتك امل ُجلجلة‬
‫ك ذراعاي‬ ‫كلام احتملتْ ِ‬
‫من ِ‬
‫آخر الصال ِة إىل أول الرسير‬
‫لواله؟ لوال املمر؟‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪112‬‬

‫أجل‪ ،‬كان ال بد من عدا ٍء مبد ّ‬


‫يئ‬
‫قبل أن تصريا‬
‫صديقي‪.‬‬
‫ْ‬

‫رسير الناسك‬
‫‪.....‬‬
‫يف َو َر ِع امل ُريد‬
‫يسابق الج َرس‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫تلميذ‬ ‫ولهف ِة‬
‫أدخل إىل الرسير‬
‫ُ‬
‫جانب واحد‬
‫ٍ‬ ‫ِمن‬
‫هو ذات ُه دامئاً‪.‬‬

‫أعيش‬
‫ُ‬
‫يعيش النامئو َن‬
‫ُ‬ ‫كام‬
‫ِ‬
‫طالس ُمنا عىل الرشاشف‬ ‫تفيض‬
‫ُ‬
‫لكن جدراناً غ َ‬
‫ري مرئية‬
‫ٍ‬
‫وذكريات شائك ًة‬
‫ّس األحال َم‬
‫ت ُ َكد ُ‬
‫ف ذاتِه‪ ،‬دامئاً‬
‫النص ِ‬
‫يف ْ‬
‫النصف اآل َخ َر‬
‫َ‬ ‫تارك ًة‬
‫سقطت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫للكناريات التي‬
‫متتامت ليلِ ِ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ك التي سكبتْها رائحتُ ِ‬
‫ك‬ ‫للّيالِ ِ‬
‫حواس الخمس‬
‫َّ‬ ‫يف‬
‫والص ّبار ِة التي نَ ْ‬
‫َت‬
‫ِ‬
‫عطش الرغبات‪.‬‬ ‫عىل‬
‫‪113‬‬ ‫ةتقؤم ناطيح‬

‫الوسادة الباقية‬
‫غرف رصان‬

‫‪....‬‬
‫أملسها‬
‫َ‬ ‫دون أن‬
‫أُ َم ّ‬
‫س ُد الهوا َء ِمن حولِها‬
‫الوسادة التي‬
‫رأس ِ‬
‫ك‬ ‫تحت ِ‬
‫َ‬ ‫أراحت ُحل َمها‬
‫ْ‬
‫من وجعِ الليل‬
‫وتد ّو َرتْ مع خاطراتِ ِه‬
‫جنت ْيه‪.‬‬ ‫وانحناءات أن ِفه وو ْ‬
‫ِ‬

‫أقرتب‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫قديس‬ ‫ب من أث َ ِر‬
‫كام يُ ْقرتَ ُ‬
‫يف كنيس ٍة نائية‬
‫وبالكاد‬
‫يالمس املجال‬
‫َ‬ ‫أسمح لوجهي أن‬
‫ُ‬
‫بغريزة حيوانٍ أعمى‬
‫أُقل ُ‬
‫ّب يف ألبوم الرائحة‬
‫مستعيدا ً القدرة‬
‫عىل التنفس بعمق‪.‬‬

‫حَ مّ ام األ ُ ْلفة‬


‫‪....‬‬
‫ما الذي ُيك ُن أن أفعل‬
‫ِ‬
‫باملناشف الصغرية‬
‫أو بكريّات ال ُقطْنِ‬
‫كل دهش ٍة‬ ‫ِ‬
‫الوقوف عندَها ًّ‬ ‫سوى‬
‫نفسه‪:‬‬ ‫َ‬
‫السؤال َ‬ ‫مك ِّررا‬
‫ما ‪ -‬ذا‪ -‬ميكنـُ ‪ -‬ين – أ ْن – أفـعل؟!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪114‬‬

‫ما الذي ميك ُن أن أفعل‬


‫بالدوائر التي تركَتْها عىل الرخام‬
‫قواري ُر ِ‬
‫ك املل ّونة‬
‫الحمم‬
‫ّ‬ ‫قبل أن يعود‬
‫إىل ِ‬
‫بياضه الالسع‬

‫يس‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫وملاذا مل ت ْن ْ‬
‫فرشا َة أسنانٍ ؟‬
‫ورديّ ًة ومعقوف ًة ومؤنثة‬
‫بجوار فرشايت الوحيدة‬
‫ِ‬
‫الكأس الوحيد؟‬ ‫يف برودة‬

‫مطبخ األبلة الجميلة‬


‫‪....‬‬
‫ض ِمساح ٍة من البيت‬
‫هو يل َم ْح ُ‬
‫ُك فيها ِمن ظَ ْهرك‬
‫أعانق ِ‬
‫يديك مشغولتان بيش ٍء سواي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ألن‬

‫وإذا رس ْمنا خطوطاً مستقيمة‬


‫بني الثالج ِة والطاولة‬
‫بني الفرنِ والخزانة‬
‫ِ‬
‫الحوض و ِز ّر اإلضاءة‬ ‫بني‬
‫ني شفتيْ ِ‬
‫ك‬ ‫بني حبّ ِة قلبي وس ّك ِ‬
‫فستجدينني دامئاً يف الطريق‬
‫كائناً زائدا عن حاج ِة املكان‬
‫مستع ّدا ً يف أي لحظ ٍة‬
‫لتلقي ملعق ٍة‬
‫أو قُبلة‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫ةتقؤم ناطيح‬

‫آخِ ر دخولنا الجنينة‬


‫غرف رصان‬

‫‪....‬‬
‫كانت الساع ُة عىل الربيع متاما‬
‫وجامل الحديق ِة حاسامً‪.‬‬
‫ُ‬
‫ري أمامي‬
‫هواجيس التي تس ُ‬
‫ِمن ِ‬
‫شدّة البهاء‬
‫س ِ‬
‫ت الخريف‪.‬‬ ‫ال َم َ‬

‫صديق كاد يسق ُ‬


‫ط يف النهر‬ ‫ٌ‬
‫حني طارد ُحزين مثل اإلوزّة‪.‬‬
‫تفويت الحديقة‬
‫َ‬ ‫آ َخ ُر اعترب أن‬
‫“‪ ..‬الجدير ِة بشاع ٍر أندليس ‪”..‬‬
‫قلب الصداقة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طعن ٌة يف‬

‫مل أطعن الصداق َة يف األخري‬


‫غري أن يل أياماً طويلة‬
‫ٍ‬
‫واحد عىل العشب‪.‬‬ ‫بال مرو ٍر‬

‫ِ‬
‫ألنك بعيدة‬ ‫هل‬
‫وأنا‬
‫حدائقي ال ت ُ‬
‫ُرشق‬
‫ح يف قَ ْبو؟‬
‫إال عىل ُرو ٍ‬

‫الرشفة املؤمنة‬
‫‪....‬‬
‫مل ت ُك ْن عالي ًة مبا يكفي‬
‫َمشْ هدًا عاطفيّا‬
‫مل يَ ُك ْن تحتَها ميدا ٌن‬
‫يُغري بخُطب ٍة تاريخي ٍة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪116‬‬

‫ولك ّنها‬
‫فق ْ‬
‫ط‬
‫انتظَ َرت ِ‬
‫ْك‬
‫مبا يُش ُب ُه اإلميان‬

‫َ‬
‫الفصول‬ ‫صادق ِ‬
‫َت‬
‫ص ِ‬
‫ت األيا َم عىل ُسبَ ِح املطر‬ ‫وأ ْح َ‬

‫َت عىل حاف ِة اليأس‬


‫توازن ْ‬
‫ت حجار ُة العابرين‬
‫حتى خفتَ ْ‬
‫رب ِ‬
‫ت الطيو َر‬ ‫أخ َ‬
‫ِ‬
‫أنك آتي ٌة يف ّ‬
‫كل عامٍ َغدًا‪:‬‬

‫“فال تس ُك ِني يا طيور‬


‫وال ت ُغطّني يا لبالب‬
‫ويا غام ُم‪...‬‬
‫ُظلل وحديت”‬
‫ال ت ْ‬

‫وانتظرت ِ‬
‫ْك‬
‫مبا‬
‫يشبه‬
‫اإلميان‪.‬‬

‫فعلت رشف ٌة‬


‫ْ‬ ‫هذا كل ما‬
‫لتكو َن سيد َة الرشفات‪.‬‬

‫مرايا‬
‫‪....‬‬
‫أ ْربَ ُع مرايا يف أربعِ ُحجرات‬
‫‪117‬‬ ‫ةتقؤم ناطيح‬

‫من َحتْ ِ‬
‫ك‬
‫غرف رصان‬

‫ُرص للعب ِة املانيكان‪.‬‬


‫أرب َع ف ٍ‬
‫ص َو ٍر‬
‫الختبار ُ‬
‫ٍ‬
‫وقت ما‪.‬‬ ‫ستلتقطُها كامريا يف‬
‫أحياناً‬
‫يتالمس األنفانِ‬
‫ُ‬
‫ُب يف األغاين‬ ‫ِ‬
‫البحث عن ُهد ٍ‬ ‫يف‬
‫وأحياناً‬
‫ني عىل كريس للتأكد‬
‫تقف َ‬
‫من ُر ّمانِ ساق ْي ِ‬
‫ك‪.‬‬

‫أما أنا‬
‫رص املرايا‬
‫زلت أخت ُ‬
‫فام ُ‬
‫كَ َمنِ استعا َر آل ًة‬
‫ويو ّد أن يعيدَها برسعة‬
‫فاملرايا األربع‬
‫ِ‬
‫الحجرات األربع‬ ‫يف‬
‫مل تكن تعني يل‬
‫ٍ‬
‫وجهات أخرى‬ ‫ري أربع‬
‫غ َ‬
‫ِ‬
‫إليك‪.‬‬ ‫للنظ ِر‬

‫فوىض‬
‫‪....‬‬
‫فوضانا الهشّ ُة‬
‫أث ُر مقشّ اتِنا عىل غُبار الوقت‬
‫الص َو ُر التي فازتْ بنظر ٍة واحدة‬
‫ظل الذاكر ُة جوعى‬
‫لتَ َّ‬
‫والنظ ُر ظآمن‪،‬‬
‫تبادلت ِجلْديْنا‬
‫ْ‬ ‫املالبس التي‬
‫ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪118‬‬

‫وتساقطت يف انهامر املحبة‪،‬‬


‫ْ‬
‫َب غادرت ْها الهدايا‬
‫ُعل ٌ‬
‫فسكنتْها الضحكات‪،‬‬
‫وج) يف موضعٍ واحد‬
‫ني ق ّبلَها (ال ُّر ُ‬
‫فناج ُ‬
‫وكتب أخرى‬
‫ٌ‬ ‫وكتب‬
‫ٌ‬ ‫كتب‬
‫ٌ‬
‫َستُ رِها َن قراءتِها تحت عين ْي ِ‬
‫ك‬ ‫خ ِْ‬
‫تكف عن الح َومان‬
‫موسيقى ال ّ‬
‫عىل مواضعِ خ ِ‬
‫ُطاك‬
‫يهتف‬
‫شعب من النمل ُ‬
‫ٌ‬
‫مبا ِ‬
‫نرثت من الحلوى‪...‬‬

‫قلب‬
‫ٍ‬ ‫بأي‬
‫ّ‬
‫ميك ُن أن أ ُم ّد يدًا‬
‫إىل ما صن َع الل ُه يف هذا املكان؟!‬
‫‪119‬‬ ‫تقؤم نطو‬
‫ ينابق ةيلاغ‬

‫غالية قباني‬

‫وطن مؤقت‬

‫عندما أنظر اىل صور املخيامت من السوريني‪ ،‬أفكر بآالف البيوت التي هجرها‬
‫النازحــون أو ه ّجــروا منهــا‪ .‬بيــوت كانــت قبــل ان تهـدّم او تــزول‪ ،‬او تتهــدد بالــزوال هي‬
‫واحشاؤها (سكانها) بسبب الغارات الجوية‪.‬‬
‫ال يســتطيع االنســان ان يعيش بدون بيت خاص لزمن طويل‪ .‬ومن تابع مناطق‬
‫املخيــات الفلســطينية يف ســوريا واالردن ولبنــان‪ ،‬الحــظ كيــف تحولــت الخيــم او‬
‫األماكن املفتعلة بأسقف من الصفيح‪ ،‬اىل بيوت لها أسوار متيز خصوصيتها عن‬
‫البيوت املجاورة‪ ،‬وترتفع احيانا اىل طابقني او أكرث‪ ،‬تزين االزهار بعض شــبابيكها‪.‬‬
‫بيــوت كانــت تعمــر وتتســع ويتــزوج فيهــا جيــل آخــر احيانــا‪ .‬حــدث ذلــك فلــم يبــق مــن‬
‫املخيم اال اسمه‪ .‬انه حي يحمل اسم «املخيم»‪ .‬مخيم الريموك يف دمشق مثاال‬
‫واضحا عىل ذلك‪ .‬كان ســكانه بحاجة اىل «بيوت» ألنه ال ميكن ان يعيشــوا طويال‬
‫يف خيــم ينتظــرون عودتهــم اىل بيوتهــم االصليــة‪ .‬أنظــر اىل صــور ســكان املخيــات‬
‫السوريني واتساءل ان كانوا سيحولون خيمهم اىل بيوت بالطريقة نفسها ان طالت‬
‫اقامتهــم بها‪.‬‬
‫أنــا أيضــا اضطــررت لــرك بيتــي قبــل اآلن‪ .‬بيتــي الــذي جمــع ايقــاع روحــي وصدى‬
‫ـدي منتصــف ليلــة كانــون‬
‫انفعــااليت يف وهــج الشــباب‪ .‬فيــه ركضــت اىل غرفــة والـ ّ‬
‫الثاين‪/‬ينايــر ‪1988‬عــى وقــع صيحــة اســتنجاد مــن أمــي عندمــا أســلم روحــه عــى‬
‫فراشــه‪ .‬قــال لهــا تصبحــي عــى خــر»‪ ...‬رفــع اللحــاف فــوق رأســه‪ ...‬ورحــل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪120‬‬

‫يف ذلــك البيــت علقــت لوحــات نســخت عــن أعــال أصحابهــا‪ ،‬ولوحتــن أصليتــن مــن رســوم‬
‫ناجــي العــي اشــريتهام منــه يف معرضــه الوحيــد الــذي أقامــه يف الكويــت‪ .‬يف البيــت ذاك كونــت‬
‫مكتبتــي التــي عكســت تطــور وعيــي مــن املراهقــة حتــى النضــج‪ .‬وتراكمــت أوراقــي‪ ،‬رســائل وبطاقــات‬
‫ودفاتــر شــخبطت عليهــا انفعــااليت او كتبــت مشــاريع نصــوص وقصــص‪ .‬بــكل تشــوش هــذا الوعــي‬
‫مــن كتــب متناقضــة أو أكــر مــن اســتيعايب‪ ،‬ألعيــد اكتشــافها الحقــا بعــد ســنوات‪ .‬يف ذلــك البيــت‬
‫تركــت ارشطــة فيديــو ألفــام مختــارة كنــت انــا واصدقــايئ نتبادلهــا يف بلــد ينــدر أن تعــرض الســينام‬
‫فيــه أفالمــا مميــزة مــن النــوع الــذي ال يحقــق ربحــا تجاريــا‪.‬‬

‫تركــت ذلــك البيــت ألن جيــش صــدام غــزا الكويــت‪ .‬البلــد التــي دخلتــه طفلــة صغــرة وغادرتــه‬
‫امــرأة تخصصــت يف العمــل الصحفــي‪.‬‬

‫يف بدايــة عــوديت اىل ســوريا خريــف ‪ ،1990‬كــا حصــل مــع آخريــن مــن أهــل ومعــارف اضطــروا‬
‫للمغــادرة بــدون متهيــد مســبق‪ ،‬يف ســوريا وبعــد شــهور اســتعدت معنــى البيــت‪ ،‬فقــد فتــح اهــي‬
‫بيتهم الذي كان يستقبلنا يف حلب أوقات االجازات وبات بيتا دامئا للعائلة التي وجدت نفسها‬
‫فجــأة بــدون بيتهــا الــذي ضمهــا لســنوات طويلــة يف الكويــت‪.‬‬

‫استعدنا معنى البيت‪ ،‬بيت العائلة وبيت الدميومة‪ ،‬بعد صدمة الغزو العراقي للكويت‪ .‬لكن‬
‫ذلــك البيــت‪ ،‬هنــاك يف حــي «املشــهد» بجبــل الجوشــن املعــروف بـ»األنصــاري» مل يعــد موجودا‪.‬‬
‫باألســاس مل يعــد بيتنــا منــذ أكــر مــن عرشيــن ســنة‪ .‬لكنــي أشــعر بالوجــع وانــا أرى اىل صــور ومقاطــع‬
‫فيديــو تظهــر البيــوت يف املنطقــة وقــد تهدمــت بســبب القصــف الوحــي عــر براميــل املــوت‪ .‬مل‬
‫يعــد بيتنــا هنــاك‪ ،‬لكــن الجــرة يف غالبيتهــا ال تــزال‪ .‬ذكرياتنــا‪ .‬مشــاويرنا اىل مركــز الحــي‪ ،‬حيــث بائعــو‬
‫الخضــار‪ ،‬ومحــات النوفوتيــه التــي تبيــع مســتحرضات الشــعر والتجميــل والتــي كانــت تســعفنا وقــت‬
‫الحاجــة الرسيعــة اليهــا‪ ،‬الصيدليــة وطبيــب الحــي‪ .‬وبيــوت اقربــاء آخريــن غــر بعيدين‪.‬‬

‫مل يكن مجرد بيت باعته أمي قبل أكرث من عرشين سنة لتنتقل اىل حي أرقى يف شارع النيل‪.‬‬
‫حي املشهد كان خالصة تعب أيب يف غربته‪ .‬خالصة صربنا نحن أبناؤه ووزوجته عىل‬
‫البيت يف ّ‬
‫عــدم قضــاء االجــازات يف الوطــن او رشاء مــا يعــد رفاهيــة خــارج األكل ولــوازم الدراســة‪ .‬لقــد وفرنــا‬
‫جميعنــا مــن املتعــة والرفاهيــة والتبطــر‪ ،‬لــي يكــون لنــا بيــت يضــم العائلــة التــي باتــت أكــر مــن ان‬
‫تحــل ضيفــة عــى بيــت عــم او خــال‪ .‬العائلــة التــي كان األبــوان فيهــا يخططــان ملــدة ‪ 30‬ســنة للعــودة‬
‫النهائية! تراكمت األغراض فوق الخزائن وخلفها وتحت األرسة‪ ،‬أطقم صحون وأدوات مطبخ وأغطية‬
‫ومفــارش‪ ،‬كلهــا كانــت تتــرب للبيــت الجديــد بطوابقــه الثالثــة‪ .‬انتهــى بنــاء البيــت وفرشــه ومل تعــد‬
‫العائلــة نهائيــا اىل الوطــن‪ .‬كانــت الجــذور التــي ّ‬
‫رششــت يف البيــت املؤقــت يف املهجــر وإلفتهــا‪،‬‬
‫اقــوى مــن البيــت الدائــم يف الوطــن االصــي مســقط رأس غالبيــة أفرادهــا‪ .‬ثــم دخــل صــدام اىل‬
‫‪121‬‬ ‫تقؤم نطو‬

‫الكويت بقواته وأجرب العائلة املرتددة عىل العودة اىل املنبع‪ ،‬بعد هجرة طالت‪.‬‬
‫ ينابق ةيلاغ‬

‫بيــت العائلــة صــار بيوتــا خــال ربــع قــرن‪ .‬غــاب البيت الكبري بعد رحيل صاحبته‬
‫قبــل ســنوات‪ .‬ومل يعــد يل مــن موقــع دائــم يف مدينــة حلــب غــر ذلــك الــذي يف‬
‫الذاكــرة‪ .‬وبيــوت فرعيــة لألخــوة‪ .‬عندمــا انقســمت حلــب بــن النظــام واملعارضــة‬
‫املســلحة انقســمت العائلــة الكبــرة داخــل الخريطــة‪ .‬ثــم ترسبــت غالبيــة مــن كانــت‬
‫بيوتهــم عــى خــط النــار اىل املناطــق البعيــدة عنهــا قليــا‪ ،‬عائــات اخــوال وخالــة‪،‬‬
‫باســتثناء شــقيقتي التــي تعيــش وحيــدة يف منطقــة تأقلمــت مــع ظروفهــا وحرســها‬
‫وســكان جــدد نازحــن‪ .‬ال تــرىض بالخــروج مــن بيتهــا يك ال يُــرق ويتــم إفراغــه كــا‬
‫حصل مع بيوت اخرى يف املنطقة‪ .‬أقول لها قد يصيبه قصف بواحد من الرباميل‬
‫التــي تلقيهــا الطائــرات ويذهــب البيــت ومــن يف داخلــه‪ .‬أختــي ال تقلــق مــن املوت‪.‬‬
‫يقلقها ضياع البيت‪ .‬بيتها هو صدفتها ومن دونه ستشعر انها مكشوفة وضعيفة‪.‬‬
‫أما بقية العائلة فتحتمي ببيوتها رغم خسارة مواقع العمل‪ ،‬محالت او ورش‪ .‬ترفض‬
‫الخروج اىل املنايف‪ .‬التخوف نفسه يتلبسهم‪ .‬الخوف عىل البيوت من أن يرتكوها‬
‫خلفهم‪ .‬فال يجدونها عندما يعودون‪ .‬برش من غري صدفة‪ .‬برش مفضوحون للعيان‬
‫بــدون خصوصيــة‪ .‬يتمســكون ببيوتهــم كآخــر قطعــة خشــب وســط هــذا التســونامي‬
‫الجــارف‪ .‬ومــا الوطــن إال بيــت‪ .‬ومــا البيــوت اال أوىل حــدود األوطــان‪.‬‬

‫ورغــم ان بقــاء عائلتــي هنــاك يقلقنــي ويجعلنــي خائفــة طــوال الوقــت عــى‬
‫سالمتهم‪ ،‬إال ان قرارهم يحقق يف داخيل نوعا من الغرور‪ ،‬أنهم باقون يف بيوتهم‪،‬‬
‫هنــاك‪ .‬ان الظــروف ســمحت لهــم مبــا حرمــت غريهــم منــه‪ ،‬البيــوت‪.‬‬

‫تلك البيوت ومواقعها وسكانها‪ ،‬متنحني اطمئنانة بأن مدينتي حلب‪ ،‬ال تزال‬
‫قامئــة‪ ،‬وان اســتمرارية مدينــة عريقــة مثلهــا يعنــي حظــا وفــرا الســتمرار مــدن وبلــدات‬
‫ســوريا األخرى‪.‬‬

‫أثنــاء ذلــك‪ ،‬ويف الوقــت الضائــع املقتطــع مــن عمــري ومــن عمــر البــاد‪ ،‬أنتظــر‬
‫بقلق الزمن القادم‪ ،‬وأنا يف بيتي بلندن‪ ،‬البيت الذي اشرتيناه انا وزوجي مبساعدة‬
‫مــن البنــك قبــل ســنوات‪ ،‬مرشوعــا اســتثامريا يســاعدنا مســتقبال يف االســتقرار يف‬
‫الوطن‪ ،‬حيث سنقيض تقاعدنا رفقة األهل واألحبة واألجيال املختلفة التي تؤكد‬
‫اســتمرارية هــذا الشــعب‪ .‬ومــا خــويف اال ان يتحــول هــذا البيــت املؤقــت اىل بيــت‬
‫دائــم يف زمــن االنتظار‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪122‬‬

‫إعداد‪ :‬حسام الدين محمد‬

‫ماذا يعني «البيت»؟‪:‬‬


‫نازحو سوريا يتحدثون‬

‫أكــر مــن مليــون ســوري تركــوا بالدهــم وعــروا الحــدود نحــو تركيــا – ومــع ذلــك‬
‫فــإن العديديــن منهــم مــا زالــوا متمســكني مبفاتيــح بيــوت مــن املســتبعد أن يتمكنــوا‬
‫مــن رؤيتهــا مــن جديــد‪ .‬الصحــايف واملصــور بــراديل ســيكر يســتمع اىل قصصهــم‪...‬‬

‫كل يشء يتعلــق بالتفاصيــل الصغــرة‪ :‬أظافــر مطليّــة‪ ،‬لعبــة ســخيفة‪ ،‬قبضــة‬
‫يائســة‪ .‬كل يــد تقــدم مفتاح ـاً للحيــاة التــي تقــف خلفهــا‪ ،‬ولكــن الشــخص يبقــى‬
‫مجهــوالً بشــكل عــام‪.‬‬

‫لكنهــا‪ ،‬عــى أيــة حــال‪ ،‬كلهــا متلــك شــيئاً مشــركاً واحــدا ً‪ :‬كل يــد تعــود اىل‬
‫شــخص تــم اقتالعــه مــن بيتــه بســبب الحــرب؛ املفاتيــح تنتمــي اىل البيــوت التــي‬
‫أرغــم أصحابهــا عــى املغــادرة‪.‬‬

‫الصــور كلهــا لــراديل ســيكر‪ ،‬وهــو صحــايف ومصــور بريطــاين عمــره ‪ 27‬عام ـاً‬
‫يعيــش ويعمــل يف تركيــا منــذ ‪ ،2012‬يركــز يف عملــه عــى قضايــا الهويــة‪ ،‬الهجــرة‪،‬‬
‫الجنســانية والتأثــر الســيايس االجتامعــي لــكل ذلــك عــى املنطقــة‪ .‬رغــم أن مركــزه‬
‫هــو إســطنبول‪ ،‬فإنــه منــذ حزيــران ‪/‬يونيــو ‪ 2013‬يتجــول يف البــاد ليلتقــي ويصــور‬
‫بعض ـاً مــن املليــون نــازح الذيــن عــروا الحديــد مــن ســوريا‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫نوثدحتي ايروس وحزان‬

‫سـ ّمى ســيكر مرشوعــه «نكبــة»‪ ،‬رغــم أنــه يعلــم أن الكلمــة مشــحونة بالــدالالت يف اإلقليــم‪ ،‬كونهــا‬
‫دمحم نيدلا ماسح ‪:‬دادعإ‬

‫الكلمــة التــي ال ميكــن فصلهــا عــن نتائــج حــرب ‪ 1948‬الفلســطينية‪ ،‬والتــي أدت اىل نــزوح ‪700000‬‬
‫شــخص مــن بالدهــم‪« ،‬أحيانـاً يفهمهــا النــاس مبعنيــن»‪ ،‬يقــول ســيكر‪« .‬لكــن النــاس يفهمــون األمــر‪.‬‬
‫يف نظــري‪ ،‬هــذه أكــر كارثــة خــال العقــد املنــرم مــن حيــث األزمــة اإلنســانية‪ .‬هــذا‪ ،‬جزئيـاً‪ ،‬ســبب‬
‫اســتخدامي لهــذه الكلمــة‪ ،‬ولكــن أيضــا لحــث النــاس عــى الفعــل»‪.‬‬

‫ق ـ ّرر ســيكر أن يصــور قبضــات أبــواب ومفاتيــح الالجئــن بعــد أن قلــق مــن طريقــة تغطيــة وســائل‬
‫اإلعــام للحــرب‪« .‬لقــد قمــت بالكثــر مــن املهــات‪ ،‬مغطيـاً األزمــة وأحسســت أن الكثــر منها امتهن‬
‫وأســاء اســتغالل آالم البــر»‪ .‬ويتابــع‪« :‬أردت أن اعطــي النــاس الذيــن كنــت أصورهــم بعــض االحــرام‬
‫واملجهوليــة‪ .‬الفكــرة خلــف الصــور هــي إيصــال معنــى أنــك فقــدت منزلــك‪ ،‬وأعتقــد أن هــذا يشء‬
‫يســهل ربــط املوضــوع مــع القــراء وبقيــة البــر»‪.‬‬

‫يــرى ســيكر أيضــا ان القبضــات ميكــن أن تعطــي الكثــر مــن املعلومــات عــن أصحابهــا‪« ،‬ميكنــك‬
‫أن تعــرف جنــس الشــخص‪ ،‬والقليــل عــن نوعيــة الحيــاة التــي كان يعيشــها‪ ،‬واملهنــة التــي كان يعمــل‬
‫بهــا‪ .‬إنهــا معـ ّـرة كثــرا»‪.‬‬

‫موضــوع ســيكر األول كان زمــاءه يف الســكن مــن الســوريني‪ .‬منــذ ذلــك الحــن التقــط صــورا ً‬
‫لحــوايل ‪ 80‬شــخصا‪ .‬هــو مــروع مســتمر وقــد أخــذ بــه اىل يف مناطــق تركيــا‪ ،‬مــن مخيــم لالجئــن يف‬
‫«إصالحيــة» إىل موقــف حافلــة يف مدينــة كلّــس عــى الحــدود الســورية‪ ،‬جنــوب البــاد‪ ،‬اىل املــدن‬
‫الرئيســية مثــل إســطنبول يف الشــال‪.‬‬

‫«لــدي الكثرييــن عــى قامئتــي للتصويــر لألســابيع القادمــة‪ .‬األمــر أكــر صعوبة مام تتوقع بالنســبة‬
‫لسلسلة تصويرية من هذا النوع‪ .‬هناك أشخاص ينسون إحضار مفاتيحهم‪ ،‬أو يكونون مشغولني‪،‬‬
‫او يسافرون اىل مكان ما يف اللحظة األخرية قبل موعد التصوير»‪.‬‬

‫املشــاركون يف املــروع ســئلوا أن يقولــوا بعــض الكلــات أيضــا عــن معنــى البيــت بالنســبة‬
‫لهــم‪ .‬والرســالة التــي تثــر املشــاعر تــراوح بــن «روحــي» اىل «املــكان الــذي ســأعود إليــه مفتشـاً عــن‬
‫جــذوري»‪.‬‬

‫«إنــه أمــر مثــر لالهتــام أننــي مل أجــد رســالة تتكــرر» يقــول ســيكر‪« .‬تقريب ـاً كل واحــد قــال شــيئاً‬
‫مميــزا ً بــه‪ .‬أعتقــد أن كل شــخص لديــه رؤيــة مختلفــة عــن البيــت»‪.‬‬

‫كل صورة‪ ،‬إذن‪ ،‬تأيت من قصة شخصية‪ .‬هائل هو شخص محب لكرة القدم وقد حرض مباراة‬
‫ملانشسرت يونايتد مرة يف زيارة له إىل إنكلرتا‪ .‬عبود استخدم لعبة الليغو امللونة‪ ،‬وهي هدية من‬
‫أخيه‪ ،‬كمصدر لإلضاءة حني انقطعت الكهرباء عن بيته خالل القصف‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪124‬‬

‫عــا وعبــود تزوجــا يف تركيــا بعــد أن التقــط ســيكر صــورا ً لهــا‪ ،‬وقــد دعيــاه‪ ،‬عــر‬
‫صديــق لهــا‪ ،‬اللتقــاط صــور لحفــل زفافهــا‪ .‬يتذكــر ســيكر أنهــا كانــت لحظــة م ـ ّرة‬
‫حلوة؛ حيث قام الزوجان ببث حفل زواجهام عرب ســكايب ومن خالل عدة أجهزة‬
‫كومبيوتــر محمولــة إىل أقاربهــا املشــتتني يف أربــع قــارات‪.‬‬

‫مــن املحــزن أن عــددا ً مــن هــؤالء الذيــن أجــروا عــى مغــادرة بيوتهــم ال ميتلكــون‬
‫بيوتــا لــو أنهــم عــادوا أو قــرروا العــودة»‪« .‬بعــض البيــوت دمــرت ‪ -‬لكنهــم مــا زالــوا‬
‫يحتفظــون مبفاتيحهــا»‪ ،‬يقــول ســيكر‪« .‬شــخصيا‪ ،‬لقــد احتفظــت مبفاتيــح ســتة أو‬
‫ســبعة بيــوت ســكنت فيهــا يف بلــدان مختلفــة‪ ،‬أعتقــد أنــه أمــر إنســاين أن نفعــل‬
‫ذلــك‪ .‬هــذه املفاتيــح صــارت رمــوزا ً لبيــوت النــاس‪ ،‬وأيضـاً هــي امتــداد ملــا يحصــل‬
‫يف بالدهــم‪ .‬هنــاك يشء عاطفــي يف كل ذلــك‪.‬‬

‫للمزيد ميكنك اإلطالع عىل رابط الصحايف‪:‬‬

‫‪bradleysecker.com/syrian-nakba‬‬
‫‪125‬‬ ‫يتافملا‬
‫نزاو هدبع‬

‫عبده وازن‬

‫املفاتيح‬

‫املفاتيح وحدها بقيت‬


‫خبأوها كذخائر يف صدورهم‬
‫هم يعلمون أنهم لن يعودوا‬
‫أن البيوت أمست بال أبواب‬

‫املفاتيح ال يتخلّون عنها‬


‫يوقظونها من نومها ليتذكّروا‬
‫ليش ّموا رائحة أبوابهم‬
‫ليلتمع يف عيونهم بريق العتبة‪.‬‬
‫أنها كل ما تبقى لهم‬
‫من حياة كانت هناك‬
‫من سامء كانت تظلّلهم‬
‫من شجرة الباحة‬
‫وبنفسج السياج‬
‫إنها كل ما تبقى‬
‫من أماسيهم املقمرة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪126‬‬

‫من صباحات كانوا يسبقونها‬


‫إىل حقول الشمس‬

‫من ظهريات أيامهم وغروبها‪.‬‬

‫اآلن يجلسون‬
‫ينظرون إىل هناك‬
‫ينتظرون غيمة تحمل إليهم خربا ً‬
‫يرتقّبون نجمة ترشق من أرضهم‬
‫لكنهم يف الليل فقط‬
‫يبرصون أنفسهم هناك‬
‫أمام عتباتهم‬
‫يفتحون األبواب‬
‫ثم يغلقونها‬
‫هم يعلمون أنهم لن يدخلوا‬
‫لكنهم ال يتخلون عن مفاتيحهم‬
‫وحدها سرتافقهم‬
‫يف يومهم األخري‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫؟ًاتيب ينبت فيك‬
‫يواولا ماشه‬

‫هشام الواوي‬

‫كيف تبني بيتاً؟‬

‫مسألة هندسية عقارية سهلة‪ :‬كيف تبني بيتاً؟!‬

‫مل يُ ِجـ ْ‬
‫ـب والــدي عــن هــذا الســؤال مبــارشة‪ ،‬فالرجــل ليــس مهندسـاً وال «نجــار‬
‫باطــون»‪ ،‬بــل إنــه اشــتغل عــى طريقــة املحاربــن القدمــاء‪ ،‬قــدم بيانـاً عمليـاً اســتمر‬
‫ثالثــن عامــا أظهــر فيهــا طريقتــه يف البنــاء‪ ،‬مــن دون مخطــط وال خرائــط‪ .‬اشــتغل‬
‫ِب َن َفــس َغ ـ ّواص‪ ،‬متــوكالً عــى األزمــات واالنتصــارات والخيبــات وبيانــات الحكومــة‪،‬‬
‫وبأســلوب تجــار املفــرق‪ ،‬أصحــاب البضائــع الكاســدة‪ ،‬بنــى بيتــه‪.‬‬

‫بــدأت الحكايــة‪ ،‬بحســب تقديــري‪ ،‬عندمــا افتتحــت املطربــة صبــاح نشــاطها‬


‫الفنــي الطويــل‪ ،‬كانــت كلــات أغانيهــا ســهلة‪ ،‬وألحانهــا ســاذجة‪ ،‬أمــا الصــوت الذي‬
‫يشبه مسكبة صغرية مزروعة بالنعنع فقد طار بالكالم واللحن كاملنطاد فوق املدن‬
‫الصغرية املتكورة عىل ذاتها كاألجنة‪ ،‬وطاف عىل البيوت عرب شبكة إذاعية بدائية‬
‫وبضع تلفزيونات باألسود واألبيض متناثرة بخجل مشحون بالفضول‪ ،‬فضول معرفة‬
‫أرسار الرجــل املتحــرك داخــل الصنــدوق الخشــبي الــذي كانــت النســاء العجائــز‬
‫يغطــن رؤوســهن بحركــة عفويــة عنــد ظهــوره‪ ،‬وكان االســتامع الجامعــي إىل نــرات‬
‫األخبــار شــائعاً عندمــا تتحلــق ثلــة مــن الرجــال حــول مذيــاع ضخــم معلــق عــى الجدار‬
‫ـض ببــطء بعــد أن ينهــي املذيــع وصلتــه عــى صــوت‬
‫كلوحــة مثينــة‪ .‬كان الجمــع ينفـ ُّ‬
‫صبــاح تنــادي وكأنهــا تســكب املازهــر «يــا بيتــي يــا بويتــايت»‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪128‬‬

‫ر شــقيقاً‬
‫ورث أيب عــن أبيــه تســعة أشــجار زيتــون تشــكل زاويــة الكــرم الكبــر الــذي ت َ َو َّزعــه أحــد عـ َ‬
‫وشــقيقة‪ ،‬باعــه أيب يف اليــوم التــايل وهــو يقــول بصــوت جــاف ال أثــر فيــه للزيــت «بعــت الزيتونــات‪...‬‬
‫الزيتونــة مبيــة»‪ ،‬وبعــد أن يســوي مــن قيافتــه املدنيــة ويعــدل مــن جفــاف حنجرتــه بــيء مــن املــاء‬
‫يضيــف‪« :‬حطينــا فوقــن أربــع ميــة وتســع ومتانــن لــرة واشــرينا األرض»‪ .‬كان أيب يصمــت قلي ـاً‬
‫مفســحاً املجــال لعمليــة حســابية رسيعــة أن تُجــرى‪ ،‬تَ ْجمــع ســعر «الزيتونــات»‪ ،‬باملبلــغ الــذي «حطــه‬
‫فوقهــن»‪ ،‬وبعــد أن يطمــن إىل أن العمليــة قــد أجريــت بنجــاح يصيــح وكأنــه خبــر اقتصــادي يذيــع‬
‫بفــرح نتائــج األربــاح الســنوية «ألــف وتالمتيــة وتســعة ومتانــن» ويعلــق‪ :‬هــادا ملــا كانــت اللــرة تحــي!‬

‫كان والدي يعتقد بأن للرية يف املايض لساناً فصيحاً «تحيك» به‪« ،‬ملا كانت اللرية تحيك»‬
‫كانــت الزمــة يكررهــا عنــد كل مناســبة ماليــة كــا كانــت صبــاح تــردد الزمتهــا «يــا بيتــي يــا بويتــايت» بعــد‬
‫كل كوبليه‪.‬‬

‫عمليــة البنــاء ســهلة إذا توفــرت األرض‪ ،‬وغضــت البلديــة أبصارهــا‪ .‬امتلــك أيب بالفعــل هذيــن‬
‫العاملــن لكنــه َوقَـ َـف وســط األرض التــي اشــراها «بألــف وثالمثائــة وتســعة ومثانــون لــرة ملــا كانــت‬
‫اللــرة تحــي» حائــرا ً‪ .‬قاســها بالطــول والعــرض بخطوتــه الواســعة عــرات املــرات وســجل نتائــج‬
‫القيــاس عــى عــدة دفاتــر صغــرة‪ .‬كان يشــر بيــده نحــو زاويــة قريبــة ويقــول «هــون غرفــة» ويتابع حركته‬
‫املدروســة موزعـاً تفاصيــل البيــت عــى األرض الفــراغ «وهــون الصالــون‪ ،‬هــون املطبــخ والحــام ألنــو‬
‫الهــوا رشقــي»‪ ،‬يبتســم أيب بعــد أن يهنــدس الهــواء بيديــه مشــيدا ً بيتـاً بثــاث غــرف «ومنتفعاتهــن»‪.‬‬
‫كانــت فلســفة التوزيــع الجغــرايف التــي يعتمدهــا أيب تتفــوق عــى «البنيويــة» التــي كانــت تلفــظ‬
‫أنفاســها مخليــة الطريــق إىل مــا بعدهــا‪ ،‬ومــا بعــد البنيويــة‪ ،‬يف عــرف صاحــب األرض الــذي يرغــب‬
‫أن يبنــي بيــت أحالمــه‪ ،‬املبــارشة بحفــر «الجــور» لصــب األساســات‪.‬‬

‫حفــر أيب «جــور» األساســات بنفســه ليوفــر أجــرة العــال‪ ،‬كان ينتهــي مــن عملــه الرســمي ويذهب‬
‫مبــارشة إىل األرض فيخلــع قميصــه ويتنــاول فأســه ويبــدأ الحفــر‪ ،‬يف يــوم الحفــر األول كانــت الســينام‬
‫تعــرض فيلــم «نــار الشــوق» الــذي يظهــر فيــه وديــع الصــايف فتـ ًـى قويـاً بصلعتــه الشــهرية ذاتهــا‪ ،‬يتنقــل‬
‫بحزن يف شارع خال ويغني بصوت مصقول كأنه الرخام البدرويس «داري يا داري يا دار»‪ ،‬األغنية‬
‫حزينــة شــجية وضــع فيهــا بليــغ حمــدي إمكانــات موســيقية بديعــة‪ ،‬رافقــت األغنيــة أيب وهــو يحفــر‬
‫أســاس بيتــه‪ ،‬كانــت عمليــة حفــر تســعة عــر حفــرة بعمــق مــر ونصــف عمليــة طويلــة ومجهدة‪ ،‬توقف‬
‫عرض الفيلم وحقق املنتج أرباحاً جيدة مستفيدا ً من مشاهد «هويدا» يف بانيو الحامم‪ ،‬وال يزال‬
‫أمــام أيب جورتــن مســتعصيتني برتبــة قاســية كصــوت وديــع‪.‬‬

‫ظلــت الحفــر كــا هــي أكــر مــن عــام‪ ،‬كانــت «الحركــة التصحيحيــة» حينهــا قــد أسســت لنفســها‬
‫بقــوة وحفــرت لقواعدهــا جــورا ً أعمــق مــن جــور أيب‪ ،‬وقــام تحالــف ثــايث «قــوي» بــن ســورية ومــر‬
‫‪129‬‬ ‫؟ًاتيب ينبت فيك‬

‫وليبيا مل تقو أخبا ُر فوز جورجينا رزق بلقب ملكة جامل الكون بالتغطية عليه‪ ،‬هذا مل مينع الرتاب‬
‫يواولا ماشه‬

‫وبقايــا العلــب البالســتيكية والخشــبية مــن الرتاكــم يف حفــر بيــت أيب الــذي كان يحــاول رشاء حديــد‬
‫وإســمنت لصــب األساســات ولكنــه مل يعــر عــى ُمـ َو ّرد يبيعــه باألقســاط‪ ،‬فاحتفــظ باألقســاط معــه‪،‬‬
‫وانتظــر‪ ،‬ولكــن األســعار كانــت تقفــز أمامــه كأرنــب ســعيد يعيــش بــن أكــوام مــن الجــزر‪ .‬صدقــت‬
‫الحكايــة وتغلبــت ســلحفاة مدخــرات أيب عــى أرنــب األســعار واســتطاع أن يوفــر مثــن حديــد تســليح‬
‫وإسمنت وكل ما يلزم لصب أساسات بيت مكون من ثالث غرف «ومنتفعاتهن»‪ .‬كانت العملية‬
‫رسيعــة وسلســة قبــض املقــاول املــال وبلمــح البــر امتــأت الحفــر بالخرســانة الطازجــة مغلف ـ ًة‬
‫الحديــد الصــدئ مــن كل ناحيــة‪ ،‬وأخــذ اإلســمنت الطــازج شــكل الحفــرة تــاركاً املجــال لبضــع أســياخ‬
‫مــن الحديــد واقفــة بشــموخ معــدين لتبــدأ مــن عندهــا مرحلــة البنــاء التاليــة‪.‬‬

‫الحلــف الثــايث القــوي انهــار بعــد حــرب ترشيــن‪ ،‬عندمــا ســحبوا أيب إىل الخدمــة االحتياطيــة‪،‬‬
‫كمعظــم الرجــال الذيــن تركــوا بيوتهــم وذهبــوا إىل الحــرب‪ ،‬بقيــت فــروز وحدهــا تغنــي» اشــتقتلك يــا‬
‫بيوتنا» مبساندة الحلف الرحباين الذي كان أقوى بكثري من الحلف الثاليث‪ .‬بقي أيب عىل الجبهة‬
‫إىل ما بعد انتهاء الحرب‪ ،‬وكذلك بقيت اإلذاعة متتلئ باألغاين «الوطنية» وتتحدث عن استنزاف‬
‫طويــل دون أن تذيــع أغنيــة فــروز تلــك مــرة واحــدة‪ ،‬مل يكــن أيب رجـاً بــدون حــس وطنــي ولكــن تفكــره‬
‫انــرف إىل صــب «الشــيناجات» التــي تربــط أســاس البيــت‪ ،‬هــذه املــرة كانــت األقســاط أقــل ولكــن‬
‫الحــرب مــع ارسائيــل أخــرت مرشوعــه إىل مــا بعــد حــرب االســتنزاف‪ ،‬اســتنزف االنتظــار الطويــل كل‬
‫مدخراتــه وكان عليــه أن يبــدأ مــن الصفــر مجــددا ً‪ .‬كان هــذا ســبباً إضافيـاً غــر األســباب التــي يرددهــا‬
‫املذيــاع أليب يك يكــره ارسائيــل التــي أخرتــه عــن إنجــاز وعـ ٍـد قطعــه عــى نفســه منــذ زمــن بعيــد‪.‬‬

‫تم‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬صب الشيناجات‪ ،‬ووقفت األعمدة عىل سيقانها كاأليدي املرفوعة بالترضع‪،‬‬
‫ثــم توقــف كل يشء‪ ،‬ألن مــا بعدهــا كان أصعــب مــن كتابــة التاريــخ‪ ،‬فالســقف كيــان هنــديس متمــرد‬
‫يلزمــه الكثــر ليتشــكل‪ ،‬الســقالة املعدنيــة والقالــب الخشــبي الواســع وكميــة مهولــة مــن الحديــد‬
‫واإلســمنت‪ ،‬كانــت البــاد مجهــدة مــن مقارعــة االســتعامر والرجعيــة‪ ،‬واألســواق خاويــة يســر فيهــا‬
‫النــاس ليتفرجــوا عــى بعضهــم البعــض‪ ،‬وأســعار البيــوت واألرايض آخــذة باالرتفــاع‪ .‬فــرك أيب يديــه‬
‫فرحــا عندمــا شــبت األســعار كأشــجار الحــور املزروعــة عــى أكتــاف الســواقي‪ ،‬ولكــن لســوء الحــظ‬
‫فذلــك االرتفــاع مل يشــمل أرض أيب‪ ،‬تضاعــف ســعر كل يشء ثــم تضاعــف مــرة أخــرى بعدهــا أصبــح‬
‫تضا ُعــف األســعار س ـ ّنة وهدي ـاً مبــاركاً‪ ،‬إال األرض التــي يبنــي فيهــا أيب بيتــه مل ينظــر إليهــا أحــد‪ ،‬تــم‬
‫التعامــل مــع تلــك «ال َع َرصــة» كــيء بــا ٍل و ُمعـ ٍـد هربــت مــن جوارهــا كل أشــكال املدنيــة وأصبحــت‬
‫أقــرب إىل مقلــب كبــر يتخلــص فيــه النــاس مــن أشــيائهم غــر املرغــوب فيهــا‪.‬‬

‫بات أيب حزيناً ألن االرتفاع مل يشمل أرضه‪ ،‬وحزيناً أكرث عندما كان يقف بني األعمدة الخرسانية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪130‬‬

‫فيبدو كأحدها‪ ،‬ينظر عالياً ويحلم برقاقة اسمنتية تضطجع فوق هذه األعمدة ولو‬
‫اضطر أن يقف هناك رافعاً يديه ليسندها‪.‬‬

‫هنأ نفســه عندما خوت األســواق من الحديد واإلســمنت‪ ،‬شــمت من قلبه ألن‬
‫منشــآت دورة البحــر األبيــض املتوســط مل تكتمــل ومل تنتشــلها مــن الفشــل ذهبيــة‬
‫كــرة القــدم وال ذهبيــة بطولــة الفروســية التــي أحرزهــا الفــارس الذهبــي باســل األســد‪،‬‬
‫مــع أن كل ميــاه البحــر األبيــض املتوســط مل تكــن كافيــة لتطفــئ الكمــد الحارق الذي‬
‫يعانيــه وهــو ينظــر بانكســار إىل األعمــدة التــي تنتظــر أن تحتضــن الســقف‪.‬‬

‫صب أيب الســقف بعد أن اســتعان بأشــقائه وجريانه وأصدقائه‪ ،‬فقد شــهدت‬
‫األســواق بعــض الرخــاء خــال حــرب الخليــج الثانيــة‪ ،‬حيــث ذهبــت كتائــب وألويــة‬
‫مــن الجيــش الســوري إىل الكويــت وعــادت بقصــص عــن البــذخ والــراء‪ ،‬بعدها أقام‬
‫الجدران‪ ،‬واستطاع الحصول عىل استثناء لرشاء البالط والسرياميك من «مؤسسة‬
‫اإلسكان العسكرية»‪ ،‬تدبر أمر التمديدات الكهربائية والصحية بنفسه‪ ،‬ألن املعلم‬
‫الذي بارش معه توصيالت الكهرباء مات بصعقة تيار قاسية قذفته عدة أمتار‪ ،‬أما‬
‫«معلم الص ّحية» فقيل له بأنه تطوع يف الجيش وذهب إىل لبنان ولكنه رسعان ما‬
‫«شــكل فــرار» وســيق إىل الســجن العســكري يف تدمــر‪ .‬مل يســتطع أن يضــع األطقــم‬
‫الصحيــة بشــكل كامــل فتدبــر أمــر مغســلة واحــدة ومرحــاض عــريب مــن النــوع الــرديء‬
‫الــذي تنتجــه «مؤسســة معامــل الدفــاع»‪ ،‬أمــا الطــاء فقــد كان ســعيدا ً بــأداء مهمــة‬
‫من هذا النوع وأنا شــخصياً ســاهمت بقســط وافر من العملية‪ ،‬فقد كنت أمســك‬
‫الســامل وأديرهــا وأنقــل براميــل الطــاء مــن غرفــة إىل أخــرى‪ .‬كنــت ســعيدا ً بروائــح‬
‫الربافــن املنبعثــة مــن الطــاء وكنــت أعتقــد بأنهــا منعشــة وأســارع إىل كل ســطل‬
‫مفتــوح ألتنشــق مــا طــاب يل منهــا‪.‬‬

‫عندمــا انتهــى تجهيــز البيــت وانتقلنــا إليــه كان ربيــع دمشــق قــد أصبــح خريف ـاً‪،‬‬
‫وزادت أعداد الصحف املحلية وقنوات التلفزيون دون أن تزيد قيمة بيت أيب الذي‬
‫ظــل منفــردا ً وبعيــدا ً ال يرغــب أحــد بزيارتــه وال االقــراب منــه نظــرا ً لوحشــته وابتعــاده‪.‬‬

‫مل يشأ أيب ان يقيص نفسه‪ .‬أراد ‪ -‬فقط ‪ -‬أن يبني بيتاً‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫ايروس يتخأو تيبلا يبأ‬
‫فسوي ميلح‬

‫حليم يوسف‬

‫أبي البيت وأختي سوريا‬

‫مل تكــن عالقتــي مــع البيــت يف يــوم مــن األيــام عــى مــا يــرام‪ .‬ولــدت يف بيــت‬
‫طيني معزول يف بلدة عاموده الحدودية‪ .‬أيب املهاجر من إحدى القرى املحيطة‬
‫بجبــال أومريــان مــن منطقــة (ســه رخــه ت) أو فــوق الخــط‪ ،‬حســب التعبــر الــدارج‪،‬‬
‫والتــي ستســمى فيــا بعــد تركيــا‪ ،‬بنــى لنــا يف طــرف البلــدة‪ ،‬عــى طريــق قامشــلو‪،‬‬
‫بيت ـاً طيني ـاً ككل بيــوت عامــوده الطينيــة آنــذاك‪ .‬مل أكــن أعلــم أن موجــة اإلســمنت‬
‫املســلح التــي ســتداهم البلــدة‪ ،‬ســتقيض يف طريقهــا عــى ذلــك البيــت الطينــي‬
‫الــذي كنــت‪ ،‬وأنــا صغــر‪ ،‬أعتــره بيتـاً أبديـاً يل وملــن ســيأيت بعــدي‪ .‬ومل أكــن أتصــور‬
‫وجود مكان آخر ميكنني اللجوء إليه فيام إذا حدثت كارثة ما‪ ،‬بل ان الكارثة بعينها‬
‫هــي أن نفقــد هــذا البيــت الــذي «يســرنا» عــى حــد قــول أيب‪ ،‬الوحيــد بيننــا الــذي‬
‫اضطر يف هجرته القرسية أن ينام يف العراء وأن يهيم عىل وجهه مترشدا ً‪ ،‬معدماً‪،‬‬
‫ومــا مــن بيــت يؤويــه‪ .‬لذلــك كانــت عالقتــه مــع البيــت الــذي بنــاه لنفســه ولنــا بيديــه‬
‫وبعــرق جبينــه شــديدة الخصوصيــة وتختلــف عــن عالقتنــا نحــن أفــراد عائلتــه بهــذا‬
‫البيــت‪ .‬وعندمــا اكتمــل بنــاء البيــت اإلســمنتي الكبــر يف حــوش بيتنــا الطينــي رفــض‬
‫أيب مغــادرة بيتــه الطينــي القديــم‪ ،‬وعندمــا غــادره الجميــع وســكنوا يف البنايــة ذات‬
‫الطابقني‪ ،‬بقي هو يف غرفته الطينية وحيدا ً‪ ،‬سعيدا ً ببقائه حيث هو‪ُ ،‬م ِ َّ‬
‫صا ً عىل‬
‫عــدم الســاح بهــدم هــذا البيــت أو تغيــره‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪132‬‬

‫كان أيب يعترب التخيل عن بيته القديم نوعاً من نكران الجميل‪ ،‬بعد أن منحه هذا البيت األمان‬
‫والسرت وتشكيل عائلة ومستقبل ملؤه الخري والنجاح ألطفاله الذين يكربون بهدوء‪ ،‬ومنهم َمن وجد‬
‫طريقــه يف الحيــاة وتــزوج وأنجــب أوالدا ً‪ .‬عــدا عــن ذلــك فــإن الــدفء الــذي مينحــه البيــت الطينــي‬
‫يعجز اإلسمنت عن تقدميه لساكنيه يف الشتاء‪ ،‬كذلك الربودة املنعشة التي تتواجد يف البيت‬
‫الطينــي يف الصيــف ال تتواجــد مثلهــا يف البنايــة اإلســمنتية‪ .‬ومل تنفــع معــه إخافتــه بوجــود العقــارب‬
‫املختبئــة يف الطــن ومــا إىل ذلــك مــن وســائل الرتغيــب والرتهيــب التــي كانــت تثــر لديــه ضحــكات‬
‫ســاخرة ال أكــر وال أقــل‪ .‬وظــل يــردد بأنــه ممــن ليــس لبيتــه القديــم فحســب‪ ،‬بــل لهــذا املــكان ذي‬
‫االتســاع الكبــر الــذي بــات اســمه «ســوريا»‪ .‬ولــي يــر ّد جميــل هــذا املــكان الكبــر عليــه أطلــق اســمه‬
‫عــى إحــدى بناتــه‪ .‬واآلن فــان أختــي ســوريا هــذه قــد تجــاوزت الخمســن بقليــل‪.‬‬

‫شــغلتني عالقــة أيب الغريبــة مــع بيتــه القديــم لــدى انتقــايل‪ ،‬الــذي رافقــه الكثــر مــن الفــرح‪ ،‬مــع‬
‫أخــويت إىل البيــت الجديــد‪ ،‬بعــد أن تخلصنــا مــن الخــوف مــن لــدغ العقــارب األفاعــي ومــن خشخشــة‬
‫الفــران واألجســام الغريبــة التــي كانــت تســحب أذيالهــا بــن الفينــة واألخــرى مــن شــقوق الجــدران‬
‫الطينيــة املتشــققة للبيــت القديــم‪ .‬ولــدى خروجــي مــن عامــوده وذهــايب إىل الدراســة يف جامعــة‬
‫حلب‪ ،‬اضطررت كغريي من الطالب‪ ،‬الستئجار بيوت وغرف غالباً ما شاركني آخرون السكن فيها‪.‬‬
‫مل أشــعر يومـاً بــأن البيــت الــذي اســتأجرته يف حلــب هــو يل أو خاصتــي أو هــو «بيتــي» حقـاً‪ .‬وبهــذا‬
‫فــان البيــت الــذي يف عامــوده هــو بيــت أيب‪ ،‬وألننــي كنــت أصغــر إخــويت‪ ،‬فقــد ســبقني إخــويت إىل‬
‫السكن يف البيت الجديد مع عائالتهم‪ ،‬وبقي أيب يسكن البيت القديم‪ .‬ويف النتيجة بقيت وألكرث‬
‫مــن عقــد مــن الزمــن معلق ـاً يف الهــواء‪ ،‬يقولــون يل يف حلــب أن يل بيت ـاً يف عامــوده ويف عامــوده‬
‫يقولــون إن يل بيتــا يف حلــب‪ .‬ويف الحقيقــة مل يكــن يل أي بيــت ال يف عامــوده وال يف حلــب‪.‬‬
‫وبالخــروج النهــايئ مــن الوطــن تتامهــى عالقــة الوطــن بالبيــت تحديــدا ً ويرتقــي البيــت إىل مســتوى‬
‫الوطــن بــكل تفاصيلــه الصغــرة‪ ،‬ويصبحــان جس ـاً واحــدا ً‪ .‬وقــد يقــي املهاجــر عمــره بــن حلمــن‬
‫متعارضــن‪ ،‬يتجســد النصــف األول قبــل الهجــرة يف الحلــم ببنــاء بيــت خــاص‪ ،‬مختلــف‪ ،‬يتطابــق مــع‬
‫املقاســات املثاليــة وفيــه الكثــر مــن الرومانــي‪ .‬ويتجســد النصــف اآلخــر بعــد الهجــرة يف الحلــم‬
‫بعــودة مرشفــة إىل حضــن الوطــن والحنــن الجــارف لــ»أول منــزل» أي للبيــت األول املرتبــط بالــوالدة‬
‫واملجــيء اىل الحيــاة‪ .‬ويف اللغــة الكرديــة يرتبــط البيــت يف جــذره اللغــوي بالغنــى (مــال)‪ ،‬حيــث أن‬
‫ـت لــه هــو إنســان فقــر‪ ،‬معــدم‪ ،‬ومعــدوم الحيلــة‪ .‬ويف بــاد االغــراب ونظــرا ً لعــدم إمكانيــة‬
‫مــن ال بيـ َ‬
‫الركــون إىل اعتبــار وطــن اإلقامــة وطنـاً فعليـاً للمهاجــر‪ ،‬فــإن الركــون إىل البيــت لديــه واتخــاذه مســكناً‬
‫مريحـاً ومطمئنـاً يعتــر يف حكــم املســتحيل‪ ،‬وخاصــة بالنســبة ملــن مل يكــن قــد ولــد يف املهجــر‪ .‬أي‬
‫أن الهجــرة بحــد ذاتهــا ومــا لهــا مــن تبعــات نفســية ووجدانيــة تحــول غالبـاً دون بنــاء عالقــة وطيــدة مــع‬
‫البيــت‪ ،‬هــي وإن مل تجهــز عليهــا فإنهــا تبقيهــا عالقــة مرتبكــة ومشوشــة‪ .‬وبنــاء عــى ذلــك قــد يفقــد‬
‫‪133‬‬ ‫ايروس يتخأو تيبلا يبأ‬

‫البيــت مفعولــه الســحري األخــاذ عــى املســتوى الجغــرايف‪ ،‬فيتمــدد بقــوة هائلــة‬
‫فسوي ميلح‬

‫يف داخــل اإلنســان عــى املســتوى الروحــي‪ ،‬فيأخــذ أحدنــا معــه بيتــه وبكلمــة أخــرى‬
‫وطنــه‪ ،‬حيــث يذهــب‪.‬‬

‫فليتحســس كل منــا روحــه قليـاً‪ ،‬بحثــا عــن يشء مــا‪ ،‬افتقــده الجميــع منــذ زمن‪.‬‬
‫قــد يكــون ذلــك الــيء بيتـاً أو رمبــا‪ :‬وطنـاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪134‬‬

‫إبراهيم اليوسف‬

‫القرية‬

‫ليس من نبأ غريه‪!...‬‬


‫ليس من سبيل إىل مبعث األزيز‬
‫ورعدة الوقت‬
‫ليس من سدرة نحو األهلني‬
‫ليس من خالص من خيوط الوثاق‬
‫ليس من ذبذبات بني األصابع املنفردة‬
‫قرب آلة الطنبور املرمتية‬
‫ليس من أذان هذا الصباح‬
‫يف ثوب الغرباء‬
‫رشر من كل جهة‬
‫ودم‬
‫حساسني ذاهلة‬
‫عىل مقربة من األجساد‬
‫هامدة‬
‫والبيوت مهدمة‬
‫كأسطورة ال تصدق‬
‫‪135‬‬ ‫ةيرقلا‬

‫اطلعي يا شجرة من جلد االخرضار‬


‫فسويلا ميهاربإ‬

‫وتوضأي بصيف ليس عىل ما يرام‬


‫قناديل األمس التزال يف حداد الضوء‬
‫مل يطفئها العابر‬
‫يرسق ال ّرغيف من اصفرار البيدر‬
‫صوت الحاصدة‬
‫ترتك خلفها‬
‫اللعاب‬
‫والدم‬
‫والدخان‬
‫افتح الحدقة عىل أوسع أفق‬
‫افتح الصورة اإللكرتونية‬
‫عىل أوسع بلل وشهقات متيبسة‬
‫هضبة قرب حقل الرمي‬
‫أطفال يف حقائب نهاية العام الدرايس‬
‫هاتف ترد عليه أنامل خشنة‬
‫وصوت مسعور‬
‫نساء يف سمت الوأد‬
‫كهول وشيوخ‬
‫يتيبس عليهم السائل القرمزي‬
‫مشكوالً بروائح أصابع كريهة‬
‫سكاكني فوالذية‬
‫تتعلق بها الشهادة األخرية‬
‫واألغنيات‬
‫والحلم مرتددا ً‬
‫بني الحقل وزرقة السامء الناقصة‬
‫هكذا مير عسكر دجال‬
‫هكذا يسريون نهاية العرض املرسحي‬
‫ال يرتكون علوا ً لقامة أو مقربة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪136‬‬

‫هكذا يعرب زناة الرسالة التليدة‬


‫يف صور سوداء‬
‫شهادة سوداء‬
‫مكائد سوداء‬
‫هم أنفسهم‬
‫تتقطر من فؤوسهم‬
‫ألوان الكعبة‬
‫وهي تتبعرث إثر عبورهم‬
‫األخري‬
‫يحرقون كتب الرب‬
‫ويرمتون يف الرماد‬
‫دون طيور أبابيل‬
‫دون حجارة من سجيل‬
‫ال يشء يضيع من شاشة التلفزيون‬
‫يتلمظ الصور لعاب بلغات ال نهاية لها‬
‫ليس من نبأ غريه‬
‫تالل تتتلل‪:...‬‬
‫تليلية وتل عرن وتل حاصل‬
‫جهات الخريطة‬
‫يف جرحها‬
‫العميق‪ ...‬العميق‪....‬‬
‫ثغاء دون راع‬
‫مالعب دون عطور العشاق‬
‫كتب متبقعة باألحالم والكريات‬
‫ظالل ال تقيسها خطوات املارة‬
‫قل ما شئت يف حرضة الخرافة‬
‫خارجة عن جلد الوقت‬
‫ليس لك إال أن تحيص مداخلها ومخارجها‬
‫من الجهات الست‬
‫‪137‬‬ ‫ةيرقلا‬

‫حيث تستبد بهم يف آخر اللعبة‬


‫فسويلا ميهاربإ‬

‫جهة واحدة‬
‫وجهة واحدة‬
‫ال تدلق دمك عارياً‬
‫يف هذا الرصاط السوري‬
‫دون دوي‬
‫ال تدلق روحك‬
‫قبل أن يلتئم اسمك‬
‫كأنك جئت مبكرا ً‬
‫كأنك عدت متأخرا ً‬
‫يف «رسي كانيي» تطلع الينابيع‬
‫مرة أخرى‬
‫فيها العويل‬
‫وسيل الدم املطواع‬
‫تستطلع ما بعد ميناء ساعة البيت‬
‫تغوص عقاربها يف الدبق‬
‫والخرب األول يف «نرشة األخبار»‬
‫ليس من صوت يلتئم اآلن‬
‫ليس من حكمة ترتصع‬
‫بنزيف قوس قزح‬
‫وشمس الصباح‬
‫مطعونة باملوسيقا امليتة‬
‫ما دمت تظهر‬
‫شاحب الخطوات‬
‫مثقل الشكوى‬
‫ال ترتجمها رياح الصيف‬
‫عصف األكذوبة املاجدة‬
‫ما دام ال يبقى‬
‫سوى بيوت من طني‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪138‬‬

‫ال يبقى من القرية‬


‫إال خطوط بيوت‬
‫وبنات آوى‬
‫وبرئ ال يطمر الصورة املتبقية‬
‫عويلك يرتفع‪...‬‬
‫عويلك يختنق‪...‬‬
‫عويلك ينزل درجات البرئ‬
‫نحو املاء يف لونه الجديد‬
‫نحو املاء يف سورة جديدة‬
‫مل يبق لك‬
‫غري بندقية أبيك‬
‫ترفع عنها الغبار‬
‫كلام عاينت األفق‬
‫تستدرج الجبال إىل محطات السهول‬
‫تقرأ رنني الصوت يف جرحه‬
‫تداري الهواء‬
‫يف هبوب مرتقب‬
‫وطن قريب‬
‫وبوصالت تحرك عقاربها الرائحة املنترشة‬
‫هو دمك‬
‫يهدر عىل عادته‬
‫هو دمك يحجل عىل عادتك‬
‫هو دمك بن أيب‬
‫ليس من نبأ غريه‬
‫يف هذه القرية‬
‫الهامدة‪!...‬‬

‫إيسن ‪2014-5-29‬‬
‫‪139‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق السرد‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪140‬‬

‫ألربتينه لوكيليان ‪ -‬ترجمة‪ :‬محمد شاويش‬

‫العم سليمان واملعلمة‬


‫(من أوائل النصوص األملانية التي تناولت املأساة السورية)‬

‫مقدمة املرتجم‪:‬‬
‫ألربتينــه لوكيليــان كاتبــة أملانيــة مقلّــة تتوجــه يف كتاباتهــا أساس ـاً إىل األطفــال‬
‫واليافعــن‪ .‬تجمــع يف كتاباتهــا بــن االحرتافيــة العاليــة يف فنــي القصــة القصــرة‬
‫والروايــة والتفهــم العميــق لعــامل الصغــار وعالقاتهــم مــع النظــام الرتبــوي‪ .‬وتســتفيد‬
‫يف ذلك من كونها هي نفسها تعيش عالقات عائلية مستقرة فهي متزوجة وتريب‬
‫ثالثــة أطفــال وكرســت للرتبيــة أوقاتهــا‪ .‬تخصصــت لوكيليــان يف الجامعــة يف فرعــي‬
‫األدب األمريــي والدراســات العربيــة وســرى القــارئ يف هــذه القصــة بالــذات آثــارا ً‬
‫لتخصصهــا يف الدراســات العربيــة‪ .‬تنطلــق لوكيليــان يف رؤيتهــا العامــة مــن منظــور‬
‫تلــك الرشيحــة مــن الطبقــة الوســطى األملانيــة التــي قــد ميكــن توصيفهــا بأنهــا لرباليــة‬
‫ذات مالمح إنسانية قوية (ولعل القارئ يعلم أن هذه الطبقة املتوسطة يف الغرب‬
‫تحتــوي عــى أوســاط كثــرة تــراوح بــن اإلنســانيني املدافعــن عــن مجتمــع يحمــي‬
‫البيئة ويحمي التنوع الثقايف وهو اتجاه الكاتبة كام يراه املرء يف نتاجاتها األدبية‪،‬‬
‫وبني اتجاهات أخرى متنوعة ترتاوح بني اليمني واليسار)‪ .‬وسريى القارئ يف هذه‬
‫القصة هذه الخلفية االجتامعية‪-‬الفكرية التي تنبني عليها كتابات ألربتينه لوكيليان‪.‬‬

‫من كتابات لوكيليان‪« :‬الشَّ عر السحري وكعكة البصل»‪.‬‬


‫‪141‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫تعــد هــذه القصــة «العــم ســليامن واملعلمــة» مــن أوائــل النصــوص األدبيــة األملانيــة التــي تناولت‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫املأســاة الســورية‪ ،‬وقــد حــازت عــى جائــزة معــرض بــون للكتــب املتخصصــة يف موضــوع املهاجريــن‬
‫عام ‪.2011‬‬

‫كتبــت القصــة عنــد بدايــات الثــورة الســورية (وكــا يــرى القــارئ حتــى وقــت كتابــة القصــة كان مــن‬
‫املمكــن تصــور زيــارة عائلــة ســوريا إىل أقربائهــا يف أملانيــا ال بهــدف النــزوح بــل كزيــارة عاديــة تنتهــي‬
‫بالرجــوع إىل الوطــن!)‪ .‬وهــي تعالــج عالقــات العــرب (واملثــال هنــا هــو عائلــة ســورية مهاجــرة) مــع‬
‫نظــام التعليــم األملــاين‪.‬‬

‫‪-1 -‬‬

‫يل بعد الدرس؟»‪.‬‬


‫بعد انتهاء الحصة قالت السيدة كونتس بول‪« :‬يا جامل! أميكنك أن تأيت إ ّ‬
‫أومــأ جــال برأســه وأجــاب عــى نظــرة متســائلة لجــاره يف املقعــد بــأن هــز كتفيــه‪ .‬مل يكــن يعلــم مــاذا‬
‫تريــد مربيــة الصــف منــه‪ ،‬لكنــه لــن يكــون أمــرا ً جيــدا ً بالتأكيــد! بعــد أن قــرع الجــرس جمــع أغراضــه ببــطء‬
‫يف حقيبــة‪ .‬مل يكــن يرغــب أن يســمع اآلخــرون التوبيــخ الــذي ســيطاله ال محالــة‪ .‬تقــدم إىل املعلمــة‬
‫ببــطء‪ .‬صعــدت بنظرهــا مــن الدفــر الصغــر الــذي تــدون فيــه مالحظاتهــا بعــد كل حصــة‪.‬‬

‫«آه‪ ..‬نعــم! جــال! هــل بحثــت مــع والديــك يف موضــوع املدرســة التــي ستنتســب إليهــا بعــد‬
‫انتهائــك مــن هــذه؟»‬
‫نظر إىل األرض وهز رأسه نافياً‪.‬‬
‫كان يعلــم أن زمــاءه يف الصــف يف نهايــات األســبوع األخــرة شــاهدوا مــدارس أعــى مــع أهلهــم‬
‫جــال مل يقــل شــيئاً عــن ذلــك ألهلــه ألنــه‬ ‫)*(‬
‫ســينتقلون إليهــا جميعهــم بعــد انتهــاء الصــف الرابــع‪.‬‬
‫يعــرف أنهــم عــى كل حــال مــا كانــوا ليذهبــوا معــه‪ .‬إنهــم مــا كانــوا يعرفــون نظــام املــدارس األملانيــة‪،‬‬
‫ومل يحــروا قــط اجتامعــات األهــل يف املدرســة‪.‬‬

‫«أظن أين سأذهب إىل مدرسة لندنربغ» أجاب بصوت خافت‪ .‬كل األوالد الذين يسكنون يف‬
‫حيــه املؤلــف مــن بنايــات عاليــة ذهبــوا إىل مدرســة لندنــرغ املختلطــة‪ (**).‬عــاوة عــى ذلــك كانــت‬
‫هــي املدرســة الوحيــدة التــي يعرفهــا والــداه إضافة إىل املدرســة االبتدائية‪.‬‬

‫*) يف أملانيــا عندمــا ينهــي التالميــذ الصــف الرابــع يذهــب التلميــذ إىل مدرســة أعــى قــد تكــون تؤهلــه للحصــول‬
‫عــى الشــهادة الثانويــة التــي تؤهلــه للدراســة يف الجامعــة واســمها “غمنازيــوم” ‪ Gymnasium‬وتســمى شــهادتها‬
‫“أبيتــور‪ ،”Abitur‬أو تكــون مــن نــوع يناســب التالميــذ ضعيفــي التحصيــل وهــذه تنتهــي غالباً يف الصف العارش وتســمى‬
‫“مدرســة رئيســية” ‪.Hauptschule‬‬
‫**) يــدل الســكن يف بنايــات عاليــة عــى فقــر الســاكنني‪ .‬يســكن األغنيــاء عــادة يف بيــوت مؤلفــة مــن طابــق واحــد‪.‬‬
‫واملدرســة “مختلطــة” مبعنــى أنهــا تحــوي بــآن واحــد تالميــذ جيــدي التحصيــل وآخريــن ليســوا كذلــك‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪142‬‬

‫ج ّعدت املعلمة أنفها كام تفعل يف الدرس عندما تسمع إجابة ال تعجبها‪.‬‬

‫«صحيح أن مدرسة لندنربغ تقع يف مركز الحي‪ ،‬لكنها ال تناسب تلميذا ً مثلك»‪.‬‬

‫نظر إليها جامل متسائالً‪».‬أود أن أتكلم مع والديك قبل أن يسجالك هناك»‪.‬‬

‫نظــر إليهــا جــال بعينــن مفتوحتــن مــن الخــوف‪ ،‬ومل ينبــس ببنــت شــفة‪ .‬لــو قــال لوالديــه أن‬
‫املعلمــة تريــد أن تكلمهــا فســيظنان أنــه أســاء الســلوك وهــو مــا مل يكــن يريــده‪.‬‬

‫وضعت السيدة كونتس بول يدها عىل ذراعه مطمئنة‪« :‬ال تخف‪ .‬فقط أريد أن أراهام وأتحدث‬
‫معهام حول ذلك املوضوع»‪ .‬حدّق جامل يف األرض وفكر بعمق‪ :‬ماذا يقول!‬

‫«ال أعرف إن كان عندهام وقت»‪ .‬أجاب متهرباً‪.‬‬

‫«بالتأكيــد ســيجدان ربــع ســاعة مــن الوقــت‪ .‬يكفــي أيضـاً أن يــأيت واحــد منهــا‪ ،‬أبــوك أو أمــك‪،‬‬
‫لوحــده»‪.‬‬

‫كاد جــال يضحــك‪ .‬الســيدة كونتــس بــول ال تعلــم‪ .‬مــا كانــت أمــه يف حــال مــن األحــوال لتذهــب‬
‫وحدهــا إىل املدرســة‪ .‬حتــى إىل الســوق كانــت تصطحــب زوجهــا أو واحــدا ً مــن أوالدهــا ألنهــا كانــت‬
‫تخاف أن تضطر إىل التكلم باألملانية ثم ال تفهم ما يقال لها بشكل كاف‪ .‬ض ّيقت املعلمة عينيها‬
‫وهــي تنظــر إليــه برتكيــز ثــم كتبــت عــى ورقــة صغــرة شــيئاً وقالــت‪« :‬خــذ! عــادة ال أعطــي رقــم هاتفــي‬
‫إىل أحــد‪ ،‬ولكــن رمبــا كان مــن األســهل أن يتكلــا معــي بالهاتــف» وأعطتــه الورقــة الصغــرة‪ .‬أخذهــا‬
‫ودســها يف جيــب بنطالــه‪.‬‬

‫عندما رجع جامل إىل البيت فتحت له أخته أمرية التي عمرها ثالث سنوات الباب‪.‬‬

‫«أين أمي»؟ سأل وهو يبحث بعينيه مييناً وشامالً‪.‬‬

‫أشارت أمرية إىل املطبخ‪« :‬ما زالت تطبخ‪ ،‬ألن عمي سليامن وامرأة عمي نورية سيأتيان غدا ً»‪.‬‬

‫بالضبــط! كيــف أمكنــه أن ينــى ذلــك! منــذ أســابيع ال يتكلــم والــداه إال عــن هــذا املوضــوع! كان‬
‫عمــه ســليامن‪ ،‬شــقيق والــده‪ ،‬ســيأيت إليهــم يف زيــارة مــن ســوريا مــع زوجتــه وأوالده‪.‬‬

‫مــد جــال رأســه مــن بــاب املطبــخ ونــادى‪« :‬مرحبــا مامــا‪ ،‬أنــا رجعــت»‪ .‬كانت أمــه تعجن‪ .‬مل تكد‬
‫تنظر إليه‪« :‬اجلس مع أبيك يف الغرفة‪ .‬ســيأيت األكل قريباً»‪.‬‬

‫أغلــق البــاب مــن جديــد‪ .‬ال بــد أنهــا مشــغولة جــدا ً‪ ،‬بدليــل أنهــا مل تالحــظ أنــه عــاد إىل البيــت‬
‫متأخــرا ً كثــرا ً‪.‬‬

‫كان أبــوه كالعــادة يجلــس يف الغرفــة متســمرا ً يتابــع القنــاة الســورية‪ .‬منــذ أن بــدأت االضطرابــات‬
‫‪143‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫السياســية يف ســوريا صــار يجلــس بــا انقطــاع هنــا كــا لــو كان يســتطيع مبتابعــة التلفــاز وحدهــا‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫التأثــر يف األحــداث‪.‬‬

‫حتــى جــال كان يفهــم شــيئاً مــن الســبب يف فعــل والــده هــذا‪ ،‬إذ أن والديــه يف نهايــة األمــر‬
‫قادمان من سوريا ومعظم األقارب ال زالوا يعيشون هناك‪ .‬كل ما كان يعرفه أن أباه أجرب عىل ترك‬
‫البلــد منــذ ســنني عديــدة ومل يكــن يحــب الــكالم يف ذلــك‪ ،‬ولهــذا كانــت معلومــات جــال قليلــة‬
‫عــن تلــك الحقبــة مــن حيــاة أبيــه‪.‬‬

‫مع ذلك كان جامل يفضل لو استطاع أن يشاهد القنوات األملانية التي كان زمالؤه يف الصف‬
‫يحكون كثريا ً عنها‪ .‬لكن هذا مل يكن ممكناً‪ .‬كان أبوه مرصا ً عىل أن الوطن هو األهم‪.‬‬

‫لكــن جــال كان يــرى أن ســوريا بعيــدة جــدا ً وعائلتــه يف نهايــة األمــر تعيــش يف أملانيــا‪ .‬لقــد ولــد‬
‫هنــا وطيلــة حياتــه مل يعــش يف أي مــكان آخــر‪.‬‬

‫وجلــس بجانــب أبيــه عــى األريكــة وشــاهد لبعــض الوقــت الربنامــج العــريب‪ .‬مل يبــد عــى أبيــه‬
‫أنــه الحــظ وجــوده‪ .‬اســتمر يحــدق يف الشاشــة ويعلــق مــن حــن آلخــر تعليقــات غاضبــة عــى مــا يــراه‪.‬‬

‫أمــا جــال فــكان لزامـاً عليــه أن يفكــر باســتمرار يف الورقــة الصغــرة التــي كتبتهــا املعلمــة لوالديــه‬
‫والتــي هــي يف جيبــه‪ .‬كان يســأل نفســه متــى تحــن اللحظــة األنســب ليقــول لوالديــه إن معلمتــه تريــد‬
‫مــن كل بــد الحديــث معهــا‪ .‬مل يكــن يعــرف بالضبــط مــا الــذي تبتغيــه مــن ذلــك‪.‬‬

‫بعــد نصــف ســاعة دخلــت والدتــه تحمــل الطعــام ووضعــت صينيــة كبــرة عــى الطاولــة أمــام‬
‫األريكة وجلبت أختاه األصغر منه أدوات املائدة‪ .‬كانت هناك «مقلوبة»)*(‪ :‬أرز ودجاج وقرنبيط‪،‬‬
‫أكلتــه املفضلــة‪.‬‬

‫ســأل جــال نفســه إن كانــت اللحظــة املناســبة جــاءت إلخــراج الورقــة مــن جيبــه أثنــاء الطعــام‪،‬‬
‫لكنــه مل يســتطع تنفيــذ هــذه الفكــرة فقــد تكلمــت راضيــة طويـاً عــن رحلتهــا إىل حديقــة الحيــوان مــع‬
‫الروضــة‪ ،‬وأســهبت أمــرة يف وصــف مشــاجرتها مــع صديقتهــا ليــزا يف باحــة املدرســة‪ ،‬وأثنــاء ذلــك‬
‫كانــت أمــه تذهــب كثــرا ً إىل املطبــخ وكان أبــوه ال زال غــر منتبــه إال إىل مــا يف التلفــاز‪.‬‬

‫تــرك جــال أختيــه تتكلــان وكان يف الحقيقــة ســعيدا ً لكونــه كان مضطــرا ً لتعليــق تنفيــذ فكرتــه‬
‫وتأجيــل مهمــة تســليم والديــه الورقــة إىل وقــت الحــق‪.‬‬

‫كان عليه إذن أن ينتظر حتى تجيء لحظة مناسبة‪.‬‬

‫*) “املقلوبــة” هــي طبخــة مشــهورة مــن طبخــات بــاد الشــام‪ .‬وتتألــف عــادة مــن أرز وباذنجــان أوقرنبيــط ولحــم وقــد‬
‫يكــون فيهــا مكونــات أخــرى‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪144‬‬

‫‪-2-‬‬

‫«هيــه! هــل تــأيت معــي؟»‪ .‬ســأله فيليــب وهــا يف طريقهــا إىل املنــزل‪« .‬أنــا ذاهــب إىل متجــر‬
‫‪ game center‬أللعــاب الكمبيوتــر وسأشــري اللعبــة الجديــدة ‪.“Need for Speed‬‬

‫وقف جامل وحدق فيه مندهشاً‪“ :‬أتقصد أنها جديدة متاماً؟“‪.‬‬

‫أومأ فيليب برأسه مبتهجاً‪“ :‬اليوم فقط نزلت اللعبة إىل السوق‪ .‬هل تراهن أين سأكون األول‬
‫يف كل املدرسة الذي يحصل عليها؟“‪.‬‬

‫‪“ -‬هذا وارد“‪.‬‬

‫‪“ -‬ماذا إذن؟ هل تأيت معي؟“‪ .‬شده فيليب من كتفه‪.‬‬

‫‪“-‬طبعاً“‪ .‬أجاب هذا وع ّجل خطاه‪.‬‬

‫هــو لــن يســتطيع رشاء مثــل هــذه األلعــاب حتــى ينهــي املدرســة ويذهــب للعمــل‪ ،‬فهــو ال يأخــذ‬
‫حتــى مرصوفـاً يوميـاً‪.‬‬

‫لقــد كان أمــرا ً مزعج ـاً لــه دوم ـاً أن يتكلــم زمــاؤه يف الصــف عــن مقــدار النقــود التــي يحصلــون‬
‫عليهــا مــن أهلهــم كل شــهر‪ .‬يف مناســبات أخــرى كان يحــاول أيضـاً أن يتملــص مــن األحاديــث التــي‬
‫تــرح ظــروف حياتــه املنزليــة‪ .‬لقــد كان مختلفـاً جــدا ً عــن زمالئــه ومل يكــن يريــد أن يســخروا منــه‪ .‬غالبـاً‬
‫كان يف هــذه اللحظــات يغــادر املــكان إىل دورة امليــاه األمــر الــذي جلــب لــه رسيع ـاً لقــب “ملــك‬
‫دورة امليــاه“‪ ،‬وكان هــذا بالنســبة إليــه أقــل ســوءا ً مــن أن يعلــم رفــاق صفــه أنــه مل يكــن أملانيـاً وطبيعيـاً‬
‫بالقدر الذي كان يظهره لهم‪ .‬كان فيليب الوحيد الذي أخربه مرة أنهم يف البيت يتكلمون العربية‪.‬‬

‫تقافــز فيليــب بحبــور قاصـاً مــا جــرى‪“ :‬مل تكــن أمــي تريــد أن أشــري لعبــة أخــرى‪ ،‬فهــي تــرى أننــي‬
‫عــى كل حــال ألعــب أكــر مــن الــازم‪ .‬لكــن أيب أعطــاين اليــوم صباحـاً عرشين يورو إضافية“‪ .‬أضاف‬
‫بفخر‪.‬‬

‫“رائع“‪ .‬أجاب جامل دون أي شعور بالحسد وتوجه إىل باب املتجر‪.‬‬

‫بعــد قليــل كان الصبيّــان قــد رجعــا إىل الرصيــف‪ .‬كان فيليــب يحمــل حقيبــة صغــرة ويهزهــا‬
‫مبتهج ـاً إىل األمــام وإىل الــوراء‪.‬‬

‫“أميكن أن نجربها معاً فيام بعد؟“‪ .‬سأل جامل‪.‬‬

‫كان الولــدان يف الفــرة األخــرة قــد التقيــا مــن وقــت آلخــر بعــد الظهــر عنــد فيليــب ولعبــا بألعــاب‬
‫الكمبيوتــر‪ ،‬وكان جــال متشــوقاً لتجربــة اللعبــة الجديــدة بقــدر تشــوق فيليــب عــى األقل‪.‬‬
‫‪145‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫“هــذا غــر ممكــن“‪ .‬غضّ ــن فيليــب وجهــه آســفاً‪“ .‬خالتــي ســتزورنا اليــوم“ لكــن مالمــح مــن املكــر‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫يل إعداد وظيفة رياضيات‪ ،‬بهذا لن يكون لزاماً أن أظل‬


‫ظهرت عىل وجهه‪“ :‬لكني سأقول ألمي إن ع ّ‬
‫يل غدا ً وعندها أكون عرفت كيف تسري“‪.‬‬
‫موجودا ً‪ ،‬وسأمتكن من تجريب اللعبة‪ .‬تستطيع أن تأيت إ ّ‬
‫هز جامل رأسه‪“ :‬ال‪...‬غدا ً سيزورنا أناس“‪.‬‬

‫“إذن بعد غد“‪.‬‬

‫مل يــرد جــال بــيء‪ .‬إن عمــه مــع عائلتــه ســيمكثون بضعــة أســابيع‪ ،‬ويف هــذا الوقــت ســيكون‬
‫عليــه أن يعتنــي بأبنــاء عمــه‪ ،‬لكنــه مل يكــن يريــد أن يخــر فيليــب بذلــك‪.‬‬

‫عنــد شــجرة الكســتناء العتيقــة افرتقــت طريقــا الصبيــن‪ :‬انحــرف فيليــب ميين ـاً إىل “درب‬
‫الكســتناء“ التــي تقــع فيهــا البيــوت التــي تســكن كالً منهــا عائلــة واحــدة بينــا ســار جــال يف طريــق‬
‫مســتقيم قاطع ـاً مســافة أكــر حتــى بلــغ شــارع “شــرم آليــه“ الكبــر الــذي فيــه متــر الســيارات بكثافــة‬
‫وحيــث تتجــاور فيــه البنايــات العاليــة‪.‬‬

‫أمام باب البناية التي يسكن فيها جامل قبع كالعادة ميهميد وشلته‪ (*).‬منذ أن أنهوا دراستهم‬
‫يف املدرســة صــاروا يقضــون هنــا الكثــر مــن أوقاتهــم‪ .‬بعضهــم مــا كان يرغــب يف العمــل والبعــض‬
‫اآلخــر توقــف محبط ـاً يف وقــت مــا عــن محاولــة إيجــاد مــكان للتعليــم املهني‪“.‬هيــه! أيهــا الصغــر!‬
‫اركــض! مامتــك تنتظــرك“‪ .‬نــادوه مــن بعيــد‪ .‬حــاول جــال أن ميــر مــن جانبهم ويبتعد بارسع ما ميكنه‬
‫عنهــم وتنفــس الصعــداء حــن رأى “الــرويس“ الســاكن يف الطابــق الثالــث يخــرج مــن بــاب البنايــة‪.‬‬
‫ودخــل جــال مــن البــاب برسعــة الــرق‪.‬‬

‫مــن الخــارج ســمع ضحــك الفتيــة املكتــوم وســمع صــوت “داين“‪“ :‬هيــه يــا توفاريــش)**( هــل‬
‫ســرجع إىل روســيا األم أم ســتعود فــورا ً“؟‬

‫قهقه اآلخرون للنكتة‪.‬‬

‫كان املصعد مرة أخرى قد تعطل فصعد جامل إىل الطابق الخامس عىل الدرج‪.‬‬

‫كانــت أمــه تنتظــره وراء البــاب الــذي فتحــت إحــدى درفتيــه‪“ .‬يــا حبيبــي لقــد تأخــرت“ حيتــه بنــرة‬
‫لــوم خفيفــة‪.‬‬

‫*) كــا يــرى القــارئ اســم “ميهميــد” هــو املقابــل الــريك الســم “محمــد”‪ .‬والجاليــة الرتكيــة كــا هــو معلــوم هــي‬
‫األكــر بــن الجاليــات األجنبيــة يف أملانيــا ومــن املعتــاد أن يســكن األجانــب (مثـاً العــرب واألتــراك) يف البنايــات نفســها‬
‫كــا هــو الحــال هنــا‪.‬‬
‫**) “توفاريش” نعمي بالروسية “رفيق”‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪146‬‬

‫ي أن أســاعد فيليــب“ أجــاب جــال‪ .‬صحيــح أن هــذا مل‬


‫لقــد انتبهــت إليــه اليــوم إذن‪“ .‬كان عـ ّ‬
‫يتطابــق مــع الواقــع لكنــه مل يكــن كذبـاً‪.‬‬
‫“أنت تتكلم عن فيليب كثريا ً‪ .‬ادعه مع والديه لزيارتنا“‪.‬‬
‫نظر جامل إىل أمه مندهشاً‪ .‬مل تقل شيئاً كهذا من قبل قط‪.‬‬
‫وهز رأسه‪“ :‬والداه يعمالن طوال النهار‪ ،‬من املؤكد أنه ليس عندهام وقت“‪.‬‬
‫ا كبــرا ً ألن جــال مل يكــن عنــده ألعــاب كمبيوتــر‪ ،‬بــل‬
‫عــاوة عــى ذلــك ســيمل فيليــب عنــده ملـ ً‬
‫مل يكــن عنــده حتــى كمبيوتــر‪.‬‬
‫“لكنه صديقك‪ ،‬أليس هذا صحيحاً“؟‬
‫معي“‬
‫ّ‬ ‫هز جامل منكبيه‪“ .‬هذا صحيح مبعنى‬
‫كان هــذا صحيحـاً‪ .‬كانــا يجلســان يف املدرســة إىل جانــب بعضهــا‪ ،‬وكانــا يظــان يف الفرصــة‬
‫معـاً أيضـاً وأحيانـاً كانــا يلعبــان بعــد الظهــر بألعــاب الكمبيوتــر عنــد فيليــب‪ .‬مــع ذلــك كان جــال يجد‬
‫دعوتــه فكــرة غريبــة وخصوصـاً إن كانــت الدعــوة موجهــة لوالديــه أيضـاً‪ .‬لرمبــا كان النــاس يف ســوريا‬
‫يفعلــون هــذا أمــا هنــا فــا‪.‬‬
‫فجــأة تذكــر مــن جديــد ورقــة الســيدة كونتــس بــول التــي ال زالــت مدسوســة يف جيــب بنطالــه‪.‬‬
‫لرمبا كانت اآلن اللحظة املناسبة إلخراجها‪ .‬دس يده يف جيبه وأمسك بها لكن جرس الباب دق‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫جاءت أم جامل إىل غرفة املعيشة راكضة‪.‬‬
‫“يا حسني“ نادت منفعلة‪ .‬هل سمعت؟ أخوك قادم“‪.‬‬
‫عــاد جــال فســحب يــده مــن جيبــه مســتغرباً ملــاذا كانــت متأكــدة أنهــا الزيــارة املنتظــرة‪ ،‬مــع أن‬
‫املفــروض أن موعدهــا املســاء‪ ،‬لكــن لعــل املوعــد تغــر دون أن يعلــم‪.‬‬
‫ركضــت األم إىل غرفــة النــوم حيــث كانــت شــقيقتاه تجلســان عــى األرض وتلعبــان الــورق‪ .‬غرفــة‬
‫األوالد التــي كان اإلخــوة يتقاســمونها مــن قبــل ســتقوم يف األســابيع القادمــة مبهمــة غرفــة ضيــوف‪.‬‬
‫يل يلّال)*(‪“...‬تعالوا وسلموا عىل أقاربكم“‪.‬‬
‫ّ‬
‫أبعدت البنتني إىل املمر وربطت حول رأسها برسعة أجمل منديل عندها‪.‬‬
‫كان أبــوه قــد ذهــب أمــام البــاب وانتظــر يف املمــر‪ ،‬ووقــف جــال وراءه وســمع خطــوات تقــرب‬

‫يل” بالعربية يف األصل‪.‬‬


‫“يل ّ‬
‫*) ّ‬
‫‪147‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫ولكــن كأن الصــوت كان لشــخص واحــد يصعــد الــدرج‪ .‬لعــل العــم ســليامن جــاء وحــده وظلــت بقيــة‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫العائلــة تحــت مــع الحقائــب‪.‬‬


‫كلام اقرتبت الخطوات ازداد انفعال أم جامل‪ .‬س ّوت ثويب البنتني وثبتت ضفائرهام باملالقط‪،‬‬
‫وعادت للتأكد مام إذا كان منديلها أيضاً يف وضع صحيح‪ .‬اقرتبت الخطوات أكرث‪.‬‬
‫لكن من ظهر من الزاوية مل يكن العم سليامن بل كانت السيدة كونتس بول‪.‬‬
‫انتاب جامل الرعب وشحب وجهه‪ .‬نخزت أمرية ذراعه برفق ونظرت إليه متسائلة‪.‬‬
‫“نهارا ً سعيدا ً“‪ .‬تقدمت املعلمة يف اتجاه أيب جامل ومدت يدها محيية‪“ :‬ال بد أنك السيد‬
‫حلبــي“‪ .‬صافحهــا أبــو جــال ولكنــه تــرك يدهــا فــورا ً‪ ،‬ونظــر إىل املــرأة التــي تقــف أمامــه بريبــة‪ .‬مل يكــن‬
‫يعــرف مــن هــي ومــاذا تريــد منه‪.‬‬
‫“نعــم‪ ...‬واآلن“ أخرجــت نفســها مــن املوقــف وضحكــت مرتبكــة ونظــرت حولهــا‪“ :‬آه‪ ...‬مرحب ـاً‬
‫جــال“‪.‬‬
‫“مرحبا سيدة كونتس بول“‪ .‬أجاب جامل بصوت فائق الغرابة‪ .‬وقلب أبوه نظرة صارمة متسائلة‬
‫بني املرأة الغريبة وابنه‪.‬‬
‫“هذه مربية الصف“ أوضح جامل وقد فقد صوته الرنني‪ .‬ال زال الرعب ميلؤه‪.‬‬
‫“آه‪ ...‬معلمــة‪ ...‬ادخــل“)*( تدخلــت أم جــال اآلن‪ .‬فتحــت البــاب كلــه وأشــارت بيدهــا إليهــا‬
‫لتدخــل‪ .‬نظــرت الســيدة كونتــس بــول بتســاؤل إىل أيب جــال لكنــه اآلن كان أيضـاً يشــر بيــده داعيـاً‬
‫إىل الدخــول إىل الشــقة‪.‬‬
‫ومــا كادت تدخــل الشــقة حتــى دوى صــوت راضيــة مســتاء‪“ :‬يجــب أن تخلعــي الحــذاء“!‬
‫“ششــش‪ “...‬نهرهــا جــال ولكــن الســيدة كونتــس بــول كانــت قــد خلعــت حذاءهــا بالفعــل ووضعتــه‬
‫عــى الرشيــط القــايش‪.‬‬
‫فتحت األم باب غرفة املعيشة‪“ :‬ادخل‪ ...‬ادخل‪ “...‬وم ّهدت بيدها الوسائد ودعتها ألفضل‬
‫مــكان عــى األريكــة ثــم هرعــت إىل املطبخ مرسعة‪.‬‬
‫جلســت الســيدة كونتــس بــول ووضعــت مــرددة حقيبــة اليــد عــى ركبتهــا‪ .‬وخفــض األب مــن‬
‫صــوت التلفــاز وجلــس أيض ـاً‪ ،‬وظــل جــال وشــقيقتاه عنــد البــاب‪.‬‬
‫مــا الــذي تريــده معلمــة الصــف بالضبــط مــن مجيئهــا إىل هنــا؟ أكانــت حق ـاً تنتظــر أن والديــه‬
‫ســيهاتفانها عــى الفــور؟‬

‫*) تتكلم أم جامل يف األصل بلكنة أجنبية تنيئ عن عدم إتقانها اللغة األملانية‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪148‬‬

‫ودس يــده يف جيــب البنطــال‪ ،‬صــار يحــس الورقــة يف هــذه األثنــاء وكأنهــا متوقــدة نــارا ً بــن‬
‫أصابعــه‪ .‬مل مل يعطهــا فــورا ً لوالديــه باألمــس حــن عــاد إىل املنــزل؟ عندهــا ســيكون لديهــا عــى‬
‫األقــل فكــرة عــن املوضــوع‪.‬‬

‫جالت املعلمة بنظرها يف الغرفة‪“ .‬بيتكم لطيف“‪.‬‬

‫هز أبو جامل رأسه وتطلع إليها يف هيئة املنتظر‪.‬‬

‫ســاد صمــت محــرج إىل أن عــادت األم مــن املطبــخ تحمــل صينيــة‪ .‬لقــد جلبــت شــاياً وصحن ـاً‬
‫كبــرا ً مــن البقــاوة‪.‬‬

‫“اجلــس“ قالــت األم بحــدة لجــال مشــرة إىل األريكــة‪ .‬وذهــب باحث ـاً عــن أبعــد مــكان ممكــن‬
‫عــن الســيدة كونتــس بــول‪ ،‬وجلســت شــقيقتاه إىل جانبــه ناظرتــن بفضــول إىل الزائــرة غــر املنتظــرة‪.‬‬

‫مألت األم ثالثة فناجني شاي ويف كل منها وضعت كمية سخية من العسل وقدمت الفنجان‬
‫األول للمعلمة عارضة عليها يف الوقت نفسه ما خبزته‪“ :‬عسل جيد يف الشاي“ قالت موضحة‪.‬‬

‫تنهد جامل‪ :‬مل يسمع أمه قط تتكلم كل هذا القدر باللغة األملانية‪.‬‬

‫“و‪ ...‬و‪ “...‬أجهــدت نفســها يف التفكــر “مريميــة أيض ـاً“ ونظــرت إىل جــال متســائلة فرتجــم‬
‫برسعــة‪.“Salbei“ :‬‬

‫أخذت السيدة كونتس بول جرعة وقالت‪“ :‬هم‪ ...‬الشاي لذيذ جدا ً“‪.‬‬

‫ووضعت الفنجان وأخذت تتجول بنظرها بني األب واألم جيئة وذهاباً‪“ .‬ال شك أنكم تتساءلون‬
‫عام أفعله هنا‪ .‬واآلن‪ :‬األمر يتعلق طبعاً بجامل“‪.‬‬

‫وتوقفت عن الحديث برهة متاماً كام تفعل يف املدرســة عندما تريد أن يصغي الجميع إليها‬
‫باهتامم‪“ .‬إنني مهتمة بالحديث معكم عن خطوته التالية يف الدراسة“‪.‬‬

‫تســاءل جامل بينه وبني نفســه مل هو هذا األمر بالنســبة إليها مهم إىل درجة أنها جاءت بســببه‬
‫بنفسها إىل منزله‪.‬‬

‫نفخ األب بامتعاض‪“ :‬جامل سيذهب إىل مدرسة لندنربغ“‪ ،‬قال موضحاً وقد شبك ساعديه‬
‫عىل صدره‪“ .‬كل الساكنني هنا يذهبون إىل تلك املدرسة“‪.‬‬

‫“هــذا هــو املوضــوع بالضبــط “ أجابــت الســيدة كونتــس بــول ووضعــت حقيبــة اليــد عــى األرض‬
‫وانتقلت إىل حافة األريكة‪“ .‬إن مدرسة لندنربغ هي مدرسة‪ “...‬وترددت يف الكالم‪“ :‬كيف أقول‪...‬‬
‫إنها مدرســة فيها تالميذ صعبون جدا ً جدا ً“‪.‬‬
‫‪149‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫كان جامل يعرف بالضبط ما تعنيه‪ .‬ميهميد ومجموعته من اليافعني كانوا يف مدرسة لندنربغ‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫أيضاً‪ .‬بعضهم كانوا يتباهون عىل الدوام كيف هربوا من الدرس وال عجب أنهم مل يختموا الدراسة‬
‫واآلن ال يجدون عمالً‪.‬‬

‫“إنها ليست املدرسة املناسبة لجامل“ تابعت السيدة كونتس بول حديثها‪“ .‬عليه أن يذهب‬
‫إىل الغمنازيوم ويحصل عىل األبيتور‪ ،‬ألين أرى يف ابنكم تلميذا ً ذا موهبة كبرية“)*(‪.‬‬

‫هــذا هــو املوضــوع إذن‪ .‬فكــر جــال وجــال بنظــره بــن أبيــه واملعلمــة‪ .‬إنــه يحســد زمــاءه األملــان‬
‫الذيــن ســيذهبون كلهــم تقريبـاً إىل الغمنازيــوم‪ ،‬ألنــه يعلــم أن املــرء هنــاك يتعلــم أكــر بكثــر‪.‬‬

‫طقطــق أبــوه بلســانه باحتقــار‪“ :‬ومــا الداعــي لذلــك؟ جــال ســيذهب إىل املدرســة فقــط طاملــا‬
‫كان ذلــك رضوريـاً وبعــد ذلــك ســيذهب للعمــل“‪.‬‬

‫وهــزت األم اآلن برأســها باندفــاع‪“ :‬نعــم‪ .‬الــزوج يتقــاىض قليـاً‪ .‬نحــن عائلــة كبــرة‪ .‬األوالد يكلفــون‬
‫غالياً“‪.‬‬

‫نقر أبو جامل عىل ساقه بأصابعه‪“ :‬إن ابني يعرف ما هي مهمته“‪.‬‬

‫ضغطت املعلمة شفتيها عىل بعضهام بحيث تحولتا إىل خط نحيل وتنهدت‪“ :‬سيد حلبي‪،‬‬
‫ليــس لــدي شــك أنــك أوضحــت لــه هــذا‪ ،‬ولكــن هــل فكــرت أيض ـاً أن جــال بشــهادة “املدرســة‬
‫الرئيســية“ مــن الصعــب أن يجــد عمـاً“؟‬

‫ونظرت إليه قليالً بصمت ثم تابعت‪“ :‬لو تركته يختم دراسة األبيتور ستتضاعف فرصه حتى لو‬
‫مل يتابــع الدراســة بعــد ذلــك“‪ .‬وشــبكت أصابعهــا بقــوة حتــى بــرز بيــاض مفاصــل أصابعهــا وصمتــت‬
‫مــرة أخرى‪.‬‬

‫بعد هذا نظرت إىل جامل‪“ :‬ألن تكون مرسورا ً إن ذهبت إىل الغمنازيوم“؟ قالت له بابتسامة‬
‫ودودة‪.‬‬

‫وما كان يستطيع أن يتخيل شيئاً أجمل من ذلك‪ ،‬ألن التعلم ميتعه كثريا ً‪ ،‬ولكنه كان يعرف متاماً‬
‫كم ينتظر والداه ذلك اليوم الذي يصبح فيه أخريا ً كبريا ً كفاية ليستطيع تحصيل نقود ومساعدتهام‪.‬‬

‫ما الذي عليه أن يقوله اآلن؟ هز كتفيه بعجز ونظر إىل األرض‪.‬‬

‫مــدت الســيدة كونتــس بــول يدهــا إىل حقيبتهــا‪“ :‬واآلن هــذا جيــد‪ .‬تســتطيعون معـاً أن تتكلمــوا‬
‫حــول املوضــوع مــرة أخــرى وعــى مــا أفــرض أعطاكــم جــال رقــم هاتفــي“‪.‬‬

‫*) انظر الهامش رقم ‪.1‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪150‬‬

‫“إيه‪ “...‬احم ّر جامل وانعقد لسانه‪ .‬وهنا قفزت أمه وأرشت بيدها إىل الباب‪“ :‬نعم‪ ...‬نعم‪...‬‬
‫معي رقم هاتف يف مطبخ“‪.‬‬

‫تنفــس جــال الصعــداء‪ .‬لقــد أنقذتــه أمــه‪ .‬صحيــح أنهــا تعنــي عــى األغلــب قامئــة طــاب الصف‬
‫لكــن هــذا اآلن ســيان‪.‬‬

‫“جيد‪ .‬إذن اتصلوا ببساطة يب عندما تتخذون قرارا ً“‪.‬‬

‫نهضــت املعلمــة وذهبــت إىل البــاب وارتــدت حذاءهــا مــرة أخــرى وقالــت بعــد هــذا‪“ :‬شــكرا ً‬
‫جزي ـاً عــى الشــاي اللذيــذ والبقــاوة ســيدة حلبــي“‪.‬‬

‫هزت أم جامل رأسها ضاحكة‪“ :‬اسمي ليس حلبي‪ .‬فقط زوج وأوالد‪ .‬أنا سيدة شوري“‪.‬‬

‫“هكذا؟“ قطبت السيدة كونتس بول جبينها مندهشة‪.‬‬

‫“عندنــا تحتفــظ الزوجــة بعــد الــزواج باســم العائلــة“ أوضــح أبــو جــال‪“ .‬إنهــا‪ ...‬كيــف يقولــون‪...‬‬
‫متحــررة“‪.‬‬

‫“مل أكن أعرف ذلك حتى اآلن باملرة“ مدت السيدة كونتس بول يدها مصافحة والدي جامل‪:‬‬
‫“إىل اللقاء‪ .‬سيد حلبي وسيدة شوري‪ ،‬لقد أسعدين كثريا ً أن أتعرف إىل عائلتكم“‪.‬‬

‫‪-4-‬‬

‫مــا كادت املعلمــة تذهــب حتــى عــاد والــد جــال إىل غرفــة املعيشــة ورفــع صــوت التلفــاز مــن‬
‫جديــد‪ .‬رفعــت األم الصحــون صامتــة وذهبــت بهــا إىل املطبــخ‪ .‬ذهبــت األختــان إىل غرفــة النــوم‬
‫وعادتــا إىل لعــب الــورق‪ ،‬وتبعهــا جــال وألقــى نفســه عــى فراشــه وتنــاول الكتــاب عــن علــم الفلــك‬
‫الــذي اســتعاره مــن مكتبــة املدرســة وبــدأ يف القــراءة ولكــن أفــكاره كانــت تعــود وتجمــح بعيــدا ً‪ .‬إذن‬
‫تريــد الســيدة كونتــس بــول مــن كل بــد أن يذهــب إىل الغمنازيــوم‪ .‬لقــد كان التعلــم ميتعــه وبالتأكيــد‬
‫مــا كان ليصــادف مصاعــب يف الغمنازيــوم‪ .‬إن فيليــب ســيذهب بعــد انتهــاء الصيــف هنــاك أيضـاً‬
‫وكان جــال ســيرسه أن يظــل معــه يف صــف واحــد‪ .‬لكـ ّن أبويــه لــن يوافقــا عــى ذلــك قــط‪ .‬يف نهايــة‬
‫األمــر كان يعلــم أن النقــود التــي يتقاضاهــا أبــوه مــن عملــه حارس ـاً ليلي ـاً أقــل مــن أن تكفــي العائلــة‪.‬‬
‫وفوق هذا كان يظن أن أن أمه ســتنجب قريباُ طفالً آخر وعندها ســيكون من امللح أكرث أن يســاعد‬
‫العائلــة مبــا أنــه االبــن األكــر‪.‬‬

‫“ما هو الغمنازيوم“؟ سمع راضية تسأل فجأة‪ .‬كانت قد بلغت الرابعة للتو لكنها دامئاً كانت‬
‫تحاول أن تفهم بدقة كل يشء وعىل الدوام كانت تطرح أسئلة‪.‬‬

‫“هــذا يعنــي غمنازيــوم“ أوضــح جــال بصــر‪“ .‬وهــي مدرســة يذهــب إليهــا األوالد األذكيــاء عــى‬
‫‪151‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫وجــه الخصــوص الذيــن يريــدون بعــد ذلــك أن يصبحــوا أطبــاء أو مهندســن“‪ .‬ونظــرت إليــه بــرأس مائل‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫مفكــرة‪“ :‬وهــل تريــد أيضـاً أن تصبــح هكــذا“؟‬

‫“رمبا“‪ .‬أجاب جامل متملصاً وهز كتفيه‪.‬‬

‫وبدت راضية مكتفية بهذا الجواب ألنها عادت من جديد إىل لعب الورق‪.‬‬

‫بعد ساعتني دق جرس الباب من جديد‪ ،‬وهذه املرة جاء العم سليامن فعالً مع زوجته وأوالده‪.‬‬

‫ذرفــت أم جــال دمــوع الفــرح حينــا عانقــت الخالــة نوريــة‪ .‬كانتــا بنتــي عــم ومل تريــا بعضهــا منذ‬
‫ســنني عديــدة‪ ،‬وعــى وجــه أبيــه أيضـاً ظــن جــال أنــه رأى عالمــات التأثر‪.‬‬

‫بدا العم سليامن مختلفاً متاماً عن أبيه الذي سمن مع مر السنني وظهرت تجاعيد الهم عىل‬
‫ا مثــل ريــايض وكانــت مثــة تغضّ نــات‬
‫وجهــه املســتدير‪ .‬كان العــم أطــول مبقــدار رأس كامــل ونحي ـ ً‬
‫مرحــة كثــرة عــى وجهــه‪.‬‬

‫“يــا جــال“ حيّــى اآلن ابــن أخيــه مبتهج ـاً‪“ .‬لقــد أصبحــت فتــى كبــرا ً ورصت تــرف اســمك‪.‬‬
‫انظــر‪ .‬هــذا ابنــي عثــان وعمــره أيض ـاً عــر ســنني مثلــك‪ ،‬وهــذان هنــا أخــوه عدنــان وأختــه متيمــة“‪.‬‬

‫وذهبــت املرأتــان مــع الفتيــات بعــد قليــل إىل املطبــخ وتبــع الصبيــان الثالثــة األبويــن إىل غرفــة‬
‫املعيشــة‪.‬‬

‫ويف وقت قصري كان الرجالن غارقني يف الحديث‪ ،‬تبادل أخبار األصدقاء واألقارب وأبو جامل‬
‫طــرح كثــرا ً مــن األســئلة عــن الوضــع الســيايس الراهــن يف ســوريا‪ ،‬وكان عنــد العــم ســليامن جــواب‬
‫عليهــا جميعهــا‪ ،‬ولكــن جــال أخــذ انطباعـاً أنــه يهتــم أقــل بكثــر مــن أبيــه بالسياســة‪ .‬ذلــك حـ ّـره ألن‬
‫عمــه يف نهايــة األمــر هــو مــن يعيــش هنــاك‪.‬‬

‫عثــان وعدنــان ابنــا عمــه كانــا خجولــن كثــرا ً ومل يجيبــا عــى أســئلته إال بكلمــة واحــدة قصــرة‪.‬‬
‫األســابيع القادمــة ميكــن أن تصبــح مســلية مــع مملــن مثــل هذيــن‪ ،‬فكــر ثــم تنفــس الصعــداء حــن‬
‫خفــف عنــه الهــم ظهــور أمــه وخالتــه أخــرا ً آتيتــن بالطعــام‪.‬‬

‫وتكــرر دخولهــا بصحــون وصــواين جديــدة مع ّرمــة مبــآكل لذيــذة‪ .‬ســال لعــاب جــال فــورا ً‪ .‬اآلن‬
‫فهم أيضاً مل كانت أمه يف األيام املاضية عىل هذه الدرجة من االنشغال يف املطبخ‪ .‬لقد كادت‬
‫املائــدة تنهــار تحــت ثقــل املــآكل الكثــرة التــي طبختهــا‪.‬‬

‫‪-5-‬‬

‫انسل جامل من باب غرفة النوم وارمتى عىل فراشه‪ .‬أحس مبتعة أن يكون ملدة قصرية وحيدا ً‪.‬‬
‫ّ‬
‫منذ أن جاء العم سليامن وعائلته قبل أسبوع للزيارة كانت الشقة تئز عىل الدوام كأنها خلية نحل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪152‬‬

‫عثامن وعدنان يف هذه األثناء ما عادا خجولني أبدا ً بل تحوال إىل حد ما إىل صبيني رشسني‬
‫كانــا غالبــان مــا يتجــوالن مزمجريــن يف الشــقة‪ ،‬عــى أن جــال أحبهــا ألنــه اســتطاع معهــا أن يلعــب‬
‫ألعاباً تختلف كل االختالف عام كان يلعبه مع شقيقتيه وألنهام كانا مثل أبيهام ميالني إىل املزاح‪.‬‬
‫وعندمــا كان جــال معهــا ميــرون مبيهميــد ورفاقــه ليذهبــوا إىل ســاحة اللعــب صــار هــؤالء ميتنعــون‬
‫عــن تعليقاتهــم املؤذيــة‪ .‬صــار جــال يتمنــى لــو يكونــان شــقيقني لــه ويبقيان معه دامئاً‪.‬‬
‫مع هذا كان جامل يرس عندما كان يذهب صباحاً إىل املدرسة ويرتك وراءه الضجة والفوىض‬
‫يف الشقة بضع ساعات‪.‬‬
‫كانــت أمــه أوالً تأمــل أنــه ســيبقى يف البيــت طيلــة مــدة الزيــارة ولكــن جــال أقنعهــا وأقنــع أبــاه‬
‫أيض ـاً أنــه ال بــد مــن أن يذهــب كل يــوم إىل املدرســة وإال ذهبــت مربيــة الصــف إليهــا مــن جديــد‪.‬‬
‫منذ زيارة السيدة كونتس بول مل توجد فرصة للحديث عن اقرتاحها أن يذهب إىل الغمنازيوم‪،‬‬
‫وطاملا يف الشقة الصغرية عرشة أشخاص كانت الفرص لذلك غري مواتية وعالوة عىل ذلك كان‬
‫جــال يعلــم رأي أبويــه يف املوضــوع فلــم يكــن هنــاك إذن يشء ميكــن الــكالم عنــه‪ .‬مــع ذلــك كان‬
‫يخــى اســتدعاء الســيدة كونتــس بــول لــه ليــأيت إىل األمــام إىل طاولتهــا‪ .‬بــأي يشء كان ســيجيب‬
‫عندها؟‬
‫كان العــم ســليامن هــو مــن افتتــح فجــأة حديثـاً عــن املدرســة‪“ .‬جــال يــا ابــن أخــي قــل يل‪ :‬أأنــت‬
‫طالــب شــاطر؟ أتأخــذ عالمــات جيــدة“؟ أومــأ جــال برأســه يف تواضــع‪“ .‬هــذا جيــد‪ .‬التعليــم مهــم‪.‬‬
‫انظــر إىل ابنــي عثــان‪ .‬إنــه ذيك ولكنــه كســول‪ .‬وأنــا أقــول لــه دامئـاً‪ :‬تعلــم بجــد لتســتطيع فيــا بعد أن‬
‫تدرس دراسة عليا وتحصل عىل دخل كبري‪ ،‬لكنه يضحك لهذا فحسب ويفضل لعب كرة القدم“‪.‬‬
‫حدق جامل بعمه مندهشاً‪.‬‬
‫“هنــا يف أملانيــا الكثــر مــن املــدارس الجيــدة‪ .‬ميكنــك أن تعــد نفســك ســعيدا ً ألن لديــك ابنـاً‬
‫ذكيـاً مجتهــدا ً يــا أخــي“‪.‬‬
‫“أيــوه)*(‪ ...‬إنــه ابــن جيــد“‪ .‬وافــق أبــوه‪“ .‬ولكــن أملانيــا غاليــة‪ .‬ليــس لدينــا نقــود لنرتكــه يذهــب إىل‬
‫املدرســة مــدة طويلــة“‪.‬‬
‫رفــع العــم ســليامن يديــه للدعــاء وانحنــى عــى أخيــه قائـاً‪“ :‬يــا أخــي أنــت تعيــش مــع عائلتــك يف‬
‫بلــد جيــد فيــه مجــاالت كثــرة‪ ،‬ويف يــوم بعيــد ســنعيش إن شــاء اللــه)**( أيضـاً يف ســوريا هكــذا‪ .‬دع‬
‫أوالدك يتعلمــون مهنــة جيــدة فهــم املســتقبل“‪.‬‬

‫*) “أيوه” بالعربية يف األصل‪.‬‬


‫**) “إن شاء الله” بالعربية يف األصل‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫بعــد ذلــك توجــه إىل جــال قائـاً‪“ :‬اجتهــد يــا جــال دومـاً وعندهــا ميكنــك أن تصبــح مهندسـاً‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫وتعتنــي جيــدا ً بأبويــك“‪.‬‬


‫واســتجمع جــال شــجاعته وقــال بصــوت منخفــض‪“ :‬يف األصــل أريــد أن أصبــح طبيبـاً“‪ .‬رضب‬
‫العــم بيــده عــى فخــذه متحمسـاً ثــم ربّــت بــود عــى كتــف أخيــه‪“ :‬رائــع‪ .‬إن فتــاك يعــرف اآلن بالفعــل‬
‫مــا يريــد‪ .‬فاطمــة‪ ...‬نوريــة‪ ...‬أســمعتام هــذا“؟ نــادى بينــا كانــت أم جــال وزوجتــه تدخــان غرفــة‬
‫املعيشــة‪“ .‬جــال يريــد أن يصبــح طبيبـاً‪ .‬إن الفتــى يعجبنــي“‪.‬‬
‫نظرت أم جامل إىل ابنها مندهشة‪“ :‬هل هذا صحيح“؟‬
‫أومأ جامل برأسه ثم عاد ونظر إىل األرض‪“ .‬رمبا الحقاً عندما تكرب أمرية وراضية“‪.‬‬
‫“عندهــا يكــون الوقــت قــد تأخــر“‪ .‬تدخلــت الخالــة نوريــة فجــأة‪“ .‬انظــر إىل عمــك ســليامن‪.‬‬
‫لقــد كان يريــد أن يصبــح محاميـاً ولكنــه بــدالً مــن ذلــك ذهــب إىل حلــب بعــد املدرســة ليعمــل يف‬
‫ا مه ـاً ولكنــه‬
‫املصنــع الكبــر‪ ،‬واليــوم ال يــزال هنــاك‪ .‬أكيــد أن أحوالنــا ليســت ســيئة وقــد صــار رج ـ ً‬
‫كان يفضــل أن يصبــح محامي ـاً“‪.‬‬
‫“خالتك معها حق“ وافقها العم سليامن‪“ .‬وأنت يا أخي‪ .‬ماذا كنت تريد دوماً أن تصري“؟‬
‫طقطق أبو جامل بلسانه ول ّوح بيده معربا ً عن الرفض‪.‬‬
‫“حسني كان سابقاً صحفياً رائعاً“ قالت أم جامل بصوت خافت فرشقها زوجها بنظرة استياء‪.‬‬
‫“بالطبــع“ رضب العــم ســليامن جبهتــه ضاحــكاً “كيــف نســيت هــذا“! لقــد كتبــت عندمــا كنــت‬
‫يف ســوريا مقــاالت رائعــة‪ .‬مل توقفــت عــن ذلــك ورصت تضيــع حياتــك يف الحراســة الليليــة؟ هنــا‬
‫يف أملانيــا أنــت حــر وميكنــك أن تكتــب مــا تفكــر فيــه‪ ،‬مل ال تســتغل ذلــك“؟‬
‫وقــف أبــو جــال فجــأة وفتــح بــاب غرفــة املعيشــة بحركــة رسيعــة“ “خلــص‪ (*).‬لننــه الحديــث“‪ .‬زأر‬
‫غاضبـاً وتــرك الغرفــة‪.‬‬
‫“بالفعــل لقــد كان هكــذا كان ســابقاً“‪ .‬أوضــح العــم ســليامن دون انفعــال‪“ .‬اآلن ســيقيض بضــع‬
‫ســاعات متأمـاً ويعــود ويتــرف كأن شــيئاً مل يكــن“‪.‬‬
‫“إن شاء الله)**(‪ .‬نأمل ذلك“‪ .‬غمغمت أم جامل‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫بعــد أســبوعني ســافر العــم ســليامن وعائلتــه عائديــن‪ .‬وبقــدر مــا كان جــال مــرورا ً لكونــه صــار‬

‫*) “خلص” بالعربية يف األصل‪.‬‬


‫**) “إن شاء الله” بالعربية يف األصل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪154‬‬

‫عنده من جديد وقت وهدوء ليقرأ كان يفتقد أبناء عمه‪ .‬كانوا قد صاروا أصدقاء حميمني ولعبوا‬
‫كثــرا ً معـاً‪ .‬وقــد افتقــد أيضـاً عمــه ســليامن الــذي كان دامئـاً رائــق املــزاج بصــورة ال تصــدق‪.‬‬

‫أبــوه صــار اآلن نــادر الجلــوس أمــام التلفــاز وغالب ـاً يكــون يف مشــاوير يف الخــارج‪ .‬جــال مــا كان‬
‫يعــرف مــاذا يفعــل ولكنــه الحــظ أن أبــاه أحســن مزاجـاً بكثــر مــن الســابق‪ .‬لقــد تغــر يشء مــا‪.‬‬

‫“يــا جــال‪ .‬كيــف كان األمــر يف املدرســة“؟ ســأل هــذا اليــوم عــى الغــداء‪ .‬يف املــدة األخــرة‬
‫فعــل هــذا كثــرا ً‪ .‬وعندمــا تعجــب جــال مــرة أوضــح لــه أبــوه أنــه يريــد أن يحــاول فهــم نظــام الدراســة‬
‫األملاين‪ .‬مل يكن جامل يعرف ملاذا بدأ اآلن يهتم بذلك ولكنه أجاب بطيب خاطر عىل كل أسئلته‪.‬‬

‫“لقــد أعطونــا املوضــوع الــذي كتبنــاه باألملانيــة وحصلــت عــى العالمــة واحــد“‪ (*).‬نقــل جــال‬
‫الخــر مفتخــرا ً‪.‬‬

‫‪“-‬هذا جيد جدا ً‪ .‬عن أي موضوع كتبتم“؟‬

‫‪“ -‬كان علينا أن نصف يومأ من الصباح الباكر حتى املساء املتأخر“‪.‬‬

‫“وأي يــوم أخــذت“؟ ســألت راضيــة‪“ .‬لــو كنــت أنــا ألخــذت الغــد ألننــي ســأصنع يف الروضــة‬
‫فانوس ـاً“‪.‬‬

‫“هراء‪ .‬عليك أن تأخذي يوماً م ّر بالفعل“‪ ،‬صححت لها أختها الكبرية‪.‬‬

‫الحــظ جــال أن أبــاه كان ينظــر إليــه مرتقبـاً‪ .‬وتــردد ألنــه كان لديــه بعــض الخــوف أنــه ســيغضب من‬
‫جديــد‪ ،‬لكنــه عــاد فقــال برسعــة‪“ :‬لقــد أخــذت اليــوم الــذي تكلــم فيــه العــم ســليامن عــن املدرســة‬
‫والعمــل“‪.‬‬

‫نظر إليه األب متفكرا ً‪“ .‬لقد كان هذا يومأ متميزا ً‪ .‬هل تذكر أين ذهبت بضع ساعات“؟‬

‫أومــأ جــال برأســه‪ .‬كيــف ميكــن لــه أن ينــى انفجــار غضــب أبيــه الــذي كان يف األوقــات األخــرى‬
‫صموتاً؟‬

‫“لقــد ذكــرين عمــك مبــا كنــت عليــه ســابقاً‪ .‬مل يعجبنــي ذلــك‪ ،‬لكنــي بعــد ذلــك بــدأت يف‬
‫التفكــر“‪ .‬ودخــل يف صمــت عميــق ونظــر نظــرة غريبــة كل الغرابــة‪.‬‬

‫نظر جامل إىل أبيه بانتباه وأخذ يرتقب‪.‬‬

‫“بعــد هــريب مــن ســوريا ظللــت مــدة طويلــة بــا هــدف أســعى إليــه‪ .‬عمــك ذكّــرين باألحــام التــي‬
‫كانــت لــدي ســابقا“‪ .‬جــال األب بنظــره منتقـاً مــن جــال إىل زوجتــه ثــم إىل ابنــه مــن جديــد قبــل أن‬

‫*) يتدرج نظام العالمات يف أملانيا من واحد إىل ستة والواحد هو أعىل درجة‪.‬‬
‫‪155‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫يكمــل‪“ :‬لقــد تكلمــت مــع بعــض النــاس الــذي ميكــن أن يســاعدوين‪ .‬مثــة يف املدينــة هنــا مكاتــب‬
‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫)*(‬
‫لجرائــد عربيــة وميكــن أن أعمــل قريبـاً صحفيـاً إن شــاء اللــه“‪.‬‬
‫فعال‬
‫رضبــت أم جــال بيديهــا عــى وجههــا بســعادة “نعــم‪ .‬الحمــد للــه“)**( رمبــا يســتطيع جــال ً‬
‫أن يصبــح طبيباً“‪.‬‬
‫جامل رماها بنظرة مستغربة‪ .‬إذن هي مل تنس مع أنها مل تقل وال كلمة عن املوضوع‪.‬‬
‫منــذ زيــارة الســيدة كونتــس بــول والحديــث مــع العــم ســليامن صــارت أمنيــات جــال أكــر مــن‬
‫الســابق بكثــر‪ .‬أكــر لدرجــة أنــه كان يســهر أحيانـاً ويتخيــل نفســه يعمــل يف مستشــفى كبــر ويشــفي‬
‫النــاس‪.‬‬
‫“اآلن يعلم الله ماذا سيحصل“‪ .‬أجاب األب‪“ .‬لكني قررت أنك يا بني ستذهب إىل الغمنازيوم‬
‫)***(‬
‫إن شاء الله“‬
‫“صحيح“؟ بدأت عينا جامل تشعان فرحاً‪ .‬أومأ أبوه راضياً‪“ .‬معلمتك امرأة ذكية‪ .‬لقد اتصلت‬
‫البارحة مرة أخرى عندما كنت يف املدرســة‪ .‬لقد فكرت طويالً يف مشــكلتنا واقرتحت أنك ميكن‬
‫ا جانبيـاً وتحصــل عــى بعــض النقــود‪ ،‬بحيــث نســتطيع فيــا نأمــل‬
‫أن تعمــل‪ ،‬مــاذا يســمى هــذا‪ ،‬عمـ ً‬
‫أن ندعك تذهب مدة أطول إىل املدرسة“‪.‬‬
‫كان جــال يشــع ســعادة‪ .‬مــا كان يعلــم أن الســيدة كونتــس بــول تكلمــت مــع أبيــه مــرة أخــرى‪ .‬ومل‬
‫يكــن يتوقــع أبــدأ أن أبــاه ســيرتكها تقنعــه‪.‬‬
‫“اآلن ميكــن يل أن أقــدم بالفعــل مســاعدة للتالميــذ يف الــدروس‪ ،‬وحــن أصبــح أكــر ميكــن يل‬
‫أن أعمــل مســاء“‪ .‬اقــرح متحمسـاً‪.‬‬
‫مل مل يخطــر لــه هــذا عــى بــال مــن قبــل؟ شــكرا ً للســيدة كونتــس بــول أنهــا بذلــت جهــدا ً ألجلــه‪.‬‬
‫فكّر جامل بهدوء‪ .‬وشكرا ً للعم سليامن ألنه لواله لكان أبوه عىل األغلب ال زال يجلس أمام التلفاز‬
‫وال يهتــم بغــر السياســة‪.‬‬
‫“حني يستطيع بابا أن يعمل صحفياً رمبا تكفي النقود وعندها لن تحتاج إىل أن تعمل وتستطيع‬
‫أن تركّز كلياً عىل دراستك“‪ .‬فكرت أم جامل بصوت عال‪.‬‬
‫“هــذا ال يعنــي أيضـاً أننــا نســتطيع تــركك تكمــل دراســتك العليــا الحقـاً لكــن عــى األقــل تســتطيع‬
‫أوالً أن تكمــل األبيتــور“‪ .‬قــال األب واضعـاً متحفظـاً‪.‬‬

‫*) “إن شاء الله” بالعربية يف األصل‪.‬‬


‫**) “الحمد لله” بالعربية يف األصل‪.‬‬
‫***) “إن شاء الله” بالعربية يف األصل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪156‬‬

‫أومأ جامل برأسه‪.‬‬


‫حتى ذلك الحني مثة وقت طويل‪ ،‬ولرمبا انفتح طريق آخر‪.‬‬

‫‪-7-‬‬

‫يف صبــاح اليــوم التــايل انتظــر جــال فيليــب بنفــاد صــر‪“ .‬سأســتطيع أيض ـاً الذهــاب إىل‬
‫الغمنازيــوم“ نــاداه مــن بعيــد‪“ .‬عندهــا نســتطيع أن نظــل أصدقــاء“‪.‬‬

‫“نعــم‪ .‬هــذا ســيكون ممتــازا ً‪ .‬لكــن أنحــن ال زلنــا أصدقــاء؟ أنــت ليــس عنــدك وقــت أبــدا ً“‪ .‬دمــدم‬
‫فيليــب ورضب برجلــه حجــرا ً‪.‬‬

‫“أعلــم“ سـلّم جــال لــه بصحــة مــا قــال وأحــس بوخــز الضمــر‪ .‬يف األســابيع األخــرة مل يلعــب إال‬
‫مــع أبنــاء عمــه ومل يعــد أبــدا ً يهتــم بفيليــب‪“ .‬كان عندنــا ضيــوف“‪“ .‬أف‪ ...‬نحــن أيضـاً يأتينــا ضيــوف‬
‫كثــرا ً ولكــن ليــس كل يــوم“‪.‬‬

‫فكر جامل مبقدار املعلومات التي يجب أن يحكيها لفيليب‪ .‬لكنه ترك التحفظ أخريا ً‪“ :‬أقاريب‬
‫كانــوا هنــا ملــدة ثالثــة أســابيع‪ .‬يف األصــل كان والــداي يريــدان حتــى أال أذهــب إىل املدرســة ألمتكــن‬
‫من اللعب مع أبناء عمي دوماً“‪.‬‬

‫“حق ـاً“؟ نظــر فيليــب إىل جــال باســتغراب‪“ .‬أمــي ترســلني إىل املدرســة دوم ـاً حتــى عندمــا‬
‫أقــول إين مريــض“‪.‬‬

‫“ولكنك مل تكن مريضاً أبدا ً“‪.‬‬

‫هز فيليب كتفيه‪“ .‬سيان‪ .‬هل سكن أقاربكم عندكم“؟ أراد أن يعرف‪.‬‬

‫“طبعاً‪ ،‬الخمسة كلهم“‪.‬‬

‫“عجبـاً‪ .‬أنــا أنزعــج حــن تــأيت خالتــي لتزورنــا مــدة ثالثــة أيــام فقــط“‪ .‬تنهــد فيليــب‪“ .‬ألديكــم إذن‬
‫شــقة كبــرة للغايــة“؟‬

‫“ال‪ ...‬لكــن ال بــأس“‪ .‬أجــاب جــال متملص ـاً وطــرح موضوع ـاً آخــر للحديــث‪“ .‬هــل نلعــب يف‬
‫املســاء بلعبتــك ‪“Need for Speed‬؟‬

‫هــز فيليــب رأســه‪“ :‬ال‪ .‬هــذا غــر ممكــن‪ .‬أمــي أخذتهــا منــي منــذ ثالثــة أيــام ألين مل ألتــزم باالتفــاق‬
‫أن ألعــب ســاعة واحــدة يف اليــوم فقــط“‪ .‬وح ـ ّول وجهــه‪ .‬ولكــن فكــرة خطــرة لــه‪“ :‬لكــن بإمــكاين أن‬
‫أجــيء عنــدك“‪.‬‬

‫تــردد جــال فقــط قلي ـاً قبــل أن يجيــب‪“ :‬طبع ـاً‪ .‬صحيــح أننــا ليــس عندنــا كمبيوتــر يف البيــت‬
‫‪157‬‬ ‫ملعملاو ناميلس معلا‬

‫ولكــن قــرب بيتنــا مثــة مــكان لعــب جيــد“‪.‬‬


‫يواش دمحم ‪:‬ةمجرت ‪ -‬نايليكول هنيتربلأ‬

‫“أو يك‪ .‬هــذا أفضــل مــن أن أقبــع وحيــدا ً يف البيــت“‪ .‬قــال فيليــب هــذا الــرأي‬
‫وهــو يفتــح بــاب املدرســة‪.‬‬

‫يف فــرة مــا قبــل الظهــر هــذه وضعــت الســيدة كونتــس بــول مــع الصــف مخطــط‬
‫حفلــة توديــع املدرســة التأسيســية)*(‪ .‬كل الطــاب واألهــل ســيجتمعون معـاً للمــرة‬
‫وكل يجلــب معــه شــيئاً لــأكل‪ .‬بعــض التالميــذ أرادوا حتــى أن يقدمــوا بعض‬
‫األخــرة ٌّ‬
‫االســتعراضات‪ :‬أغنيــة أو حواريــة أو قصيــدة هزليــة‪.‬‬

‫بعــد الــدرس اســتدعت جــال إليهــا يف املقدمــة‪“ .‬اليــوم تبــدو مبتهجـاً بصــورة‬
‫خاصة“‪ .‬الحظت مبتسمة‪“ .‬هل مثة سبب خاص لذلك“؟ هز جامل رأسه بقوة‪.‬‬
‫“ظننت أن حرضتك تعلمني‪ .‬لقد سمح يل بالذهاب إىل الغمنازيوم“! ونظر إليها‬
‫مرشق الوجه‪“ :‬شــكرا ً ألنك أقنعت أيب يا ســيدة كونتس بول“‪.‬‬

‫“أعتقــد أننــي فقــط جعلتــه يفكــر‪ .‬يســعدين أنــك ال زلــت تســتطيع الذهــاب إىل‬
‫مدرســة تناســبك“‪ .‬كان يبــدو عليهــا الــرىض الفائــق‪.‬‬

‫“هل سيأيت والداك إذن أيضاً إىل حفلة التخرج“؟‬

‫قبــل مــدة وجيــزة كان جــال ال زال يومــئ بــأدب ولكنــه كان يعلــم متامـاً أنهــا مــا‬
‫كانــا ســيجيئان‪ .‬ولكــن اآلن مــا عــاد متأكــدا ً مــن ذلــك‪.‬‬

‫“سأسألهام“‪ .‬أكد لها وودعها‪.‬‬

‫عــى البــاب ظــل واقف ـاً قلي ـاً‪“ .‬رمبــا كان بعــد مــن األحســن لــو أن حرضتــك‬
‫دعوتهــا“‬

‫ضحكت املعلمة “هذا ما سأفعله برسور“‪.‬‬

‫*) باألملانيــة‪ Grundschule :‬وهــي املدرســة التــي يــدرس فيهــا التلميــذ يف الصفــوف‬
‫األربعــة األوىل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪158‬‬

‫ماهر حميد‬

‫أبو مستو العرصة‬

‫كنــت أســر يف أحــد األزقــة قــرب «بــاب الحديــد» بحلــب‪،‬‏ لي ـاً‪ ،‬ومل تكــن‬
‫ـت بظــل إنســان يرتنــح أمامــي‬
‫الفوانيــس يف الشــارع كلهــا مضــاءة‪ .‬وفجــأة‪ ،‬أحسسـ ُ‬
‫ـت إىل الشــارع املجــاور مســتطلعاً‬
‫بطريقــة غريبــة‪ .‬كــدت أن أدوس عليــه‪ .‬التفـ ُّ‬
‫مصــد َر الظــل والخشخشــة‪ ،‬فــإذا برجــل مثــل ميــي وقــد عكــس الفانــوس البعيــد‬
‫ظلــة املرتنــح‪ ،‬أجهــد نفســه باملــي حتــى وصــل بــن قدمــي‪.‬‬

‫أسالم عليكم!‬
‫بادرين‪ :‬أس أس أس َّ‬
‫‪ -‬وعليكم السالم‪.‬‬

‫‪ -‬إش هالعــامل التعبانــة يــا أســتاذ؟ ولــك إذا حــدا قــال لــك إنــه يف أعــرص مــن‬
‫«أبــو مســتو» ال تصدقــه!‬

‫‪ -‬مني أبو مستو؟‬

‫‪ -‬أبو مستو ما غريه‪.‬‬

‫‪ -‬طيب‪ ،‬عرفت‪ ،‬ولكن أيش به أبو مستو؟‬

‫‪ -‬قلت لك‪ .‬هو رجل عرصة‪.‬‬

‫ـت بأننــي (ومــن خــال خــريت يف التفاهــم مــع الســكارى باألخــذ‪،‬‬


‫أحسسـ ُ‬
‫‪159‬‬ ‫ةصرعلا وتسم وبأ‬

‫والعطــاء‪ ،‬وتكــرار الــكالم‪ ،‬والضحــك مــن دون ســبب‪ ،‬ورضب الكــف بالكــف) أســتطيع أن أخرجــه مــن‬
‫ ديمح رهام‬

‫ـت مبعلومــة وحيــدة‪ ،‬وهــي أن أبــا مســتو عرصــة!‬


‫حيــز هــذه الفكــرة‪ ،‬ولكننــي‪ ،‬يف املحصلــة‪ ،‬خرجـ ُ‬
‫بعــد ذلــك تأبطنــا ذراع بعضنــا البعــض وتابعنــا املســر‪ ،‬فــراح يتحــدث عــن أخيــه عبــدو الــذي‬
‫نهــب مــراث أبيــه‪ ،‬وعــن زوجتــه بتــول التــي أخــذت األوالد وال َذ َهبــات وطفشــت مــن دون أن تقــول لــه‬
‫بخاطــرك يــا «محمــد»‪ ..‬وبقينــا منــي حتــى رصنــا بجــوار مســجد قديــم فأخــرين أن جــده هــو من قام‬
‫ببناء هذا املسجد وأنه يسكن هنا بجواره‪ .‬وحلف عيل أن أرشب معه كأساً من الشاي‪ .‬والحقيقة‬
‫أننــي كنــت مســتمتعاً باكتشــاف شــخصيته فلــم أتــردد بالدخــول‪.‬‬

‫كانــت الغرفــة التــي يســكنها مالصقــة لحائــط املســجد‪ ،‬ومبنيــة كيفــا اتفــق‪ .‬رمبــا كانــت قبــل‬
‫هــذا مســتودعاً أو غرفــة للكراكيــب‪ ،‬فــكل مــا فيهــا عتيــق وكئيــب ووســخ‪.‬‬

‫بعد أن قدم يل الشاي أخرج من تحت الفراش آلة كامن أحد أوتارها مقطوع‪ .‬قال يل‪:‬‬

‫ارشب الجاي أستاذ‪ ،‬واسمع هاملقطوعة‪.‬‬

‫وبــدأ يعــزف عــى نحــو مل أشــهد مثلــه يف حيــايت‪ .‬إنــه أجمــل مــا ُيكــن أن يُعــزف بجــوار محــراب‬
‫مســجد قديــم‪.‬‬

‫قلت له‪ :‬أنت تعزف مثل نجمي السكري بالضبط‪.‬‬

‫قال متحرسا ً‪ :‬أخ لو عندي كمنجة مثل كمنجته يا أستاذ‪.‬‬

‫دفعني اكتشايف ملعلميته يف العزف إىل أن أعنفه بالكالم‪ ،‬بقدر ما يسمح فارق السن بيني‬
‫وبينــه‪ ،‬عــى مــا يفعلــه بحــق نفســه‪ ،‬إهاملــه لنفســه والســكر إىل حــدود الضيــاع‪ .‬ثــم أخرجــت مبلغـاً‬
‫صغــرا ً ووضعتــه يف يــده‪ .‬ولكنــه رفــض‪ ،‬وأنــا ألححــت عليــه قائـاً‪:‬‬

‫‪ -‬خــذه واشــر بــه أوتــارا ً جديــدة للكمنجــة‪ .‬ألســمع عزفــك يف املــرة القادمــة بشــكل أفضــل‪.‬‬
‫وضحكــت وقلــت مامزح ـاً‪ :‬حتــى تبطــل تحــط الحــق عــى الوتــر املقطــوع‪.‬‬

‫أخذ املبلغ عىل مضض‪ ،‬ووعدين خريا ً‪.‬‬

‫وبعد حوايل خمسة عرش عاماً‪...‬‬

‫كنــت أشــري بعــض املســتلزمات مــن محــل تجــاري‪ ،‬وكان هــو يشــري‪ .‬عندمــا شــاهدين تــرك‬
‫مــا يف يــده واندفــع نحــوي يصافحنــي ويقبــل رأيس بحــرارة ويقــول‪:‬‬

‫‪ -‬أشو يا خاي؟ كأنك ما عرفتني‪ .‬لك أنا محمد‪ ...‬ييل شفتني مرة بباب الحديد‪.‬‬

‫اقرتحت عليه أن نتمم رشاء حاجياتنا ونجلس يف املقهى املجاور‪ .‬وافق بحامس كبري‪ ،‬وحاول‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪160‬‬

‫أن يدفع فاتوريت‪ ،‬ولكنني مل أقبل‪.‬‬

‫قال يل بعد ما جلسنا يف املقهى‪:‬‬

‫‪ -‬أنت لك فضل كبري عيل‪ .‬بتتذكر املصاري ييل عطيتني اياهم؟ رحت ثاين‬
‫يــوم إىل الخــارة‪ ،‬حتــى أرشب كاس‪ ،‬مــا لقيــت يف خلقتــي غــر أبــو مســتو‪ .‬اللــه‬
‫وكيلــك انســدت نفــي‪ ،‬وخرجــت‪ .‬واشــريت باملصــاري أوتــار للكمنجــة‪ .‬ركبــت‬
‫األوتــار‪ ،‬ودوزنتهــا‪ ،‬وعزفــت‪...‬‬

‫‪ -‬متيــت أعــزف يــا أســتاذ لحتــى روقــت‪ ،‬وحملــت حــايل ودخلــت جامــع جــدي‪،‬‬
‫وأخــذت مصحــف وبديــت أقــرا فيــه حتــى صــاح املــؤذن لصــاة الفجــر‪ ...‬اللــه أكــر‪.‬‬
‫وربنــا هــداين يــا أســتاذ‪ .‬اللــه وكيلــك مــا رشبــت نقطــة عــرق مــن يومهــا‪ .‬واشــريت‬
‫مصحــف جديــد لحــايل‪ ،‬صــار عنــدي كمنجــة ومصحــف‪ .‬وعــم بشــتغل هلــق‪ ،‬واللــه‬
‫ي‪ ...‬واســتأجرت بيــت غــر هــداكا‪ ،‬ودهنتــه‪ .‬أنــا دهــان موبيــا بعجبــك‪ ،‬مــا‬
‫فتــح عـ ّ‬
‫بشــتغل غــر الشــغل املدلــل‪ ،‬وحياتــك مــا عــم لحــق شــغل‪.‬‬

‫رسرت لحالــه‪ ،‬ورسرت أكــر بأنــه اســتطاع أن يــدوزن نفســه‪ .‬ومتنيــت لــه الخــر‬
‫وودعتــه‪ .‬وقبــل أن أخــرج مــن البــاب ســألته‪ :‬صحيــح مــا قلتــي؛ كيفــه أبــو مســتو؟‬

‫يل نفضه‪ ،‬واحد عرصة ابن ستني عرصة!‬


‫فاكفه ّر وجهه وقال‪ :‬يلعن أبو ّ‬
‫‪161‬‬ ‫لمألا رجحلاو ةروعاّنلا‬
‫يموطف دمحم‬

‫محمد فطومي‬

‫النّاعورة والحجر األملس‬

‫“سليامن ع ّمي”‪ ،‬وليس العكس‪...‬‬

‫فإ ّما أنّك تعرفه بكنيته تلك عىل شاكلتها املقلوبة‪ ،‬وإ ّما أنّك ال تعرفه البتّة‪.‬‬

‫أ ّمــا األطفــال؛ مريــدوه األكــر نفــرا وإخالصــا‪ ،‬فلــم تكــن تشــغلهم معرفــة اســم‬
‫هــذا الكهــل الضّ خــم‪ ،‬ذي الشّ ــاربني ال ّرماديّــن واملالمــح العصب ّيــة الوديعــة يف آن‪.‬‬
‫الســابق‬
‫ككل الغربــاء الط ّيبــن‪ .‬عامــل املــواىنء ّ‬
‫ولــو اضط ـ ّروا‪ ،‬فســينادونه ع ّمــي ّ‬
‫هــذا‪ ،‬وتاجــر الخــردة املح ّنــك الــذي يعــرف جيّــدا كيــف ت ُلتهــم الحافــات الحكوميّــة‬
‫وشــاحنات املقاولــن حتّــى العظــم‪ ،‬ينتهــي بــه املطــاف حلقــة هــي األكــر تو ّهجا يف‬
‫رات كلّــا نشــبت فرحــة يف املدينــة‪ .‬كان األطفــال فيــا بينهــم يشــرون‬
‫عقــد املـ ّ‬
‫إليــه مختزلــن قامتــه الفارعــة وعربتــه الظّريفــة كجواد قصري‪ ،‬وهالة اإلغواء والتّشــويق‬
‫امل ُحيطــة بهــا بعبــارة وحيــدة‪ :‬ال ّناعــورة‪.‬‬

‫مع ذلك كان سليامن ع ّمي يف عيون األطفال أكرث من مج ّرد ناعورة حظّ‪ ،‬كان‬
‫العيـ َد بـ ّ‬
‫ـكل تفاصيلــه وألوانــه وذكرياتــه وعبثــه ومغامراتــه الجريئــة وحاجتهــم إلنفــاق مــا‬
‫يف جيوبهم دون ضابط‪ .‬سليامن ع ّمي هو العيد‪ ،‬وهالل العيد هالله أيضا‪ .‬عرف‬
‫السك الذي ال يأيت واملرسح الذي‬
‫كيف يحافظ عىل عرشه لسنني مديدة‪ ،‬فهو ّ‬
‫ال يــأيت واملالهــي التــي ال تــأيت‪ .‬لك ّنــه ســيموت وسيُش ـيّع مــا مــن شـ ّ‬
‫ـك‪ ،‬وســتصلح‬
‫السطح‪ ،‬إذّاك لن ميتلك الحجر األملس‬
‫ال ّناعورة يف األخري بابا لق ّن الحامم فوق ّ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪162‬‬

‫فربــا طُمــر يف حفــرة‪ ،‬أو انقلــب حجــر شــوارع إىل األبــد‪ .‬أ ّمــا العيــد فــا ميــوت وسـ ّ‬
‫ـيظل‬ ‫مصــره‪ّ ،‬‬
‫والســعد هــا‬
‫والســعد يح ّومــان يف ســاء املدينــة ويتــداوالن تأليــف حكاياتهــا‪ ...‬ال ّنحــس ّ‬
‫ال ّنحــس ّ‬
‫األبقــى يف ال ّنهايــة لكــن هــذا ال يعنــي أ ّن أحــدا مل يرغمهــا عــى إطعــام عيالــه مقطعــا مــن ال ّزمــن مــن‬
‫ر الكامــن وراء قدرتــه عــى رسقــة االهتــام وخطــف األنظــار‪ ،‬كان ســليامن ع ّمــي‬
‫قبــل‪ .‬بعيــدا عــن الـ ّ‬
‫الســبيل ملــارد القــار األســر داخــل‬
‫مناســبة ســخ ّية ليخــي األطفــال والشّ ــباب املتح ّمســون للحيــاة ّ‬
‫صدورهم الغضّ ة‪ .‬وليطلقوا العنان للخطر اللّطيف يك يدغدغ أبعد نقطة يف مخيّالتهم‪ ،‬ولينتقموا‬
‫كل ملّيــم يف جيوبهــم قــد اتّخــذ قنــاة‬
‫مــن آبائهــم امللحاحــن جـدّا طــوال الوقــت يف التّحقــق مــن أ ّن ّ‬
‫صالحة وعاقلة‪ ،‬وافدا كان أم منرصفا‪ .‬كان ســليامن ع ّمي جديرا بأن يح ّبه األطفال لســبب غامض‬
‫ربا إجالال للغيب الذي يف جوف ال ّناعورة‪ ...‬ال أحد ‪ -‬عىل‬
‫كالغيب الذي يف جوف ال ّناعورة‪ّ ...‬‬
‫أيّة حال ‪ -‬يكره أن ميتّع نفسه بفوز ما من حني إىل آخر‪ ،‬بقي أن نجد من يساعدنا عىل إعادة ال ّنظر‬
‫يك بالقامر أم ال‪ .‬ذاك دور سليامن ع ّمي باستحقاق‪ ،‬فمن‬
‫فيام إذا كانت آالم الشّ هوة ترتقي إىل ال ّ‬
‫غــره يعــرف كيــف يعالــج األمــر‪ ،‬صــره املهيــب‪ ،‬وحجــره األملــس املطواع الذي اســتطاع ترويضه كقرد‬
‫عروض‪ ،‬ســيتكفّالن بهزميتك وامتصاص آالمك‪ ...‬سيكســبانك اتّزانك‪ ،‬ويكســبانه رزقه‪.‬‬
‫تتغي بحسب املبلغ املراهن عليه‪ ...‬يرمي سليامن ع ّمي الحجر األملس فوق‬
‫الّلعبة واحدة ال ّ‬
‫الصغــر يتقافــز وينقــر أرجــاء الدّائــرة كجــرادة‪ ،‬ويظـ ّـل هكــذا يتالطمــه مــوج‬
‫العجلــة الــد ّوارة فــإذا الحجــر ّ‬
‫األصابع الخشبيّة املتحاذية التي تغطّي سائر املساحة املستديرة‪ .‬حتّى تتمكّن الذّراع البالستيكيّة‬
‫املرشــوقة يف خــر ال ّناعــورة مــن إيقافهــا أخــرا‪ .‬قُســمت الدّائــرة إىل أربــع حصــص متســاوية لـ ّ‬
‫ـكل‬
‫منها لون مختلف‪ .‬األسود هو الخرسان طبعا‪ ،‬األحمر هو مضاعفة املبلغ‪ ،‬أما بقيّة األلوان فتعني‬
‫الســاحر‬
‫وربحــت‪ .‬يــد ّ‬ ‫أ ّن العجلــة تديــن لــك بأربــع أضعــاف املبلــغ لــو راهنــت امل ـ ّرة التــي تليهــا‬
‫املد ّربتــن عــى تكــرار الحركــة ذاتهــا بدقّــة متناهيــة أثنــاء الّلعبــة‪ ،‬موكــول لهــا أن تبقيــك عــى مســافة‬
‫مــن الفــوز دون أن تشــعر بأنّــك تخــر‪ .‬وحــن تفرغــان يســمح لهــا س ـيّدها بفســحة انفــات‪ ،‬فرتاهــا‬
‫تحـ ّرك ال ّناعــورة يف االتجاهــن كــا اتّفــق مــن أجــل ضجيــج أكــر‪.‬‬
‫إنّه العيد‪ ...‬إنّه العيد دامئا حني يصري لك هالل‪.‬‬
‫قبالــة متنـ ّزه مسـ ّور بقضبــان عاليــة مــن الحديــد‪ ،‬يقــف ســليامن ع ّمــي أمــام طاولته املرحة كأســد‪.‬‬
‫الســنة الفلكيّــة فتتقــارب أيّامــك األثــرة‪ ...‬واليــوم عيــد‪ ...‬عندمــا تصــل‬
‫حــن يصــر لــك هــال تنتفــي ّ‬
‫البهجة ذروتها وميتىلء املكان بال ّناس والهواء برائحة األلعاب ال ّناريّة سيكون سليامن ع ّمي محاطا‬
‫باألطفال كإبريق حوله فناجني‪ ،‬مطلوب من اإلبريق أن ميأل الفناجني أمال يف مضاعفة مالليمهم‪،‬‬
‫وميــأ درج الطّاولــة مبالليمهــم‪ .‬ســيكون عــى اإلبريــق أيضــا أال ينكــر أمــام الجبابــرة الّذمام املوزّعني‬
‫كل شــر مــن املدينــة لتقــايض معلــوم االنتصــاب‪ .‬كــا ســيكون عليــه أن يجلــب البنتــه ال ّزهــراء‬
‫يف ّ‬
‫القــرط الــذي وعدهــا بــه‪ ،‬وأن يأكلــوا لحــم الضّ ــأن ليومــن متتاليــن‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫لمألا رجحلاو ةروعاّنلا‬

‫كل يشء عــى الـدّوام‪ ،‬يغـ ّـر ســليامن ع ّمــي‬


‫لــدى اقــراب الشّ ــباب املندفعــن الســاخرين مــن ّ‬
‫يموطف دمحم‬

‫القنــاع الــذي عــى وجهــه ليبــدي عــى مالمحــه قســوة وج ّديّــة تعطــف بقســاته نحــو مــا يـ ّ‬
‫ـدل عــى أنّــه‬
‫ثــور جامــح يســتف ّزهم يف صميــم رجولتهــم ويتحدّاهــم أن يركبــوه‪ .‬كانــت تلــك هــي الوســيلة الوحيــدة‬
‫الســتدراج تلــك الكائنــات املتمـ ّردة‪.‬‬

‫ث ّم إ ّن أسد ال ّناعورة يدرك يقينا بأنّه من غري الحكمة الظّهور أمام أولياء األطفال يف مظهر رجل‬
‫رة‬
‫ـك املجهــول‪ ،‬لــن يُص ّدقــوا زعــا كهــذا‪ ،‬وســتنقلب املـ ّ‬ ‫معتــوه اختــار أن يرمــي بقــوت عيالــه يف فـ ّ‬
‫إىل عالمــة من ّفــرة س ـيّئة‪ .‬فالكبــار هــم الكبــار وهــم كبــار ألنّهــم مج ّهــزون باستشــعار خــارق يخ ـ ّول لهــم‬
‫أن يص ّدقــوا متس ـ ّوال ويك ّذبــوا آخــر مهــا بــدا حالــه مثــرا للشّ ــفقة‪ ،‬فكيــف إذن ببهلــوان قطــع نقديّــة‬
‫كســليامن ع ّمــي لــو ا ّدعــي أنّــه يبـذّر األمــوال ح ّبــا يف التّبذيــر‪.‬‬

‫لــذا كان عليــه مــادام تحــت رقابتهــم أن يحــاول‪ُ ،‬مســتعينا بابتســامته العفويّــة امل ُصطنعــة وقبّعــة‬
‫الســعف ال ّنســائ ّية عــى رأســه‪ ،‬أن يدنــو مــا اســتطاع مــن منشّ ــط احتفال ّيــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أمــام املتن ـ ّزه ســكوت يخيّــم حــول ال ّناعــورة‪ ،‬باإلمــكان اإلحســاس بــه وســط الضّ جيــج‪ ...‬طقــس‬
‫الصعــود إىل‬
‫املواجهــة عــى وشــك االنطــاق‪ ...‬األطفــال يط ّوقــون العربــة‪ ،‬القطــع النقديّــة تتســابق ّ‬
‫ـبي‬
‫ظهــر الناعــورة‪ .‬تســتق ّر قطعــة محظوظــة يف درج الطّاولــة‪ ...‬متســك يــد ســليامن ع ّمــي بــرأس خشـ ّ‬
‫يتوســط القــرص الــد ّوار‪ ...‬يغيــب ال ـ ّرأس يف قبضــة ال ّرجــل‪ .‬لثانيــة تثبــت يــده عــى تلــك الوضع ّيــة‬
‫ّ‬
‫ف ُيخ ّيــل للمراهنــن أنّهــا يــوم بــأرسه‪ .‬تنفــر عــروق يــده‪ .‬تتصلّــب عضالتــه‪ .‬تجتمــع حبيبــات عــرق عــى‬
‫جبينــه‪ .‬ينعقــد حاجبــاه‪ .‬تتحـ ّول القامــة العمالقــة إىل كتلــة أعصــاب موتــورة‪ .‬ثـ ّم يف طرفــة عــن يفلــت‬
‫عقال أصابعه فتدور ال ّناعورة‪ ،‬تتامزج األلوان فال يعود بإمكانك متييز األســود من األصفر وال متييز‬
‫الصحــن الــد ّوار‪ ،‬ثـ ّم يرتاجــع نصــف‬
‫ال ّناعــورة مــن ســليامن ع ّمــي‪ .‬عندئــذ يلقــي بالحجــر األملــس فــوق ّ‬
‫خطــوة إىل الــوراء بارتيــاح مشــوب بالقلــق‪.‬‬

‫املهــارة هــي الحـظّ‪ ،‬ولــي متتلــك العيــد بحظّــه عليــك أ ّوال أال تخلــف موعــدك معــه أبــدا مهــا‬
‫بــدا لــك بخيــا‪ .‬ثـ ّم األهـ ّم هــو أن تفســح لنفســك ح ّيــزا بــن ط ّياتــه‪ .‬العــم ســليامن تدبّــر األمــر ج ّيــدا‪ ،‬إذ‬
‫مل ينجح يف ذلك وحسب‪ ،‬بل لقد تح ّول مبرور الوقت إىل موعد‪ .‬ث ّم ها هو يفقد صفة املوعد‬
‫كــا لــو أنّهــا قطــرة مــاء المســت ســطحا ســاخنا‪ .‬فمنــذ أصيــب بالشّ ــلل وهــو يتن ّقــل فقــط بــن فراشــه‬
‫ـريس متحـ ّرك‪ .‬خطــوات كئيبــة‪ ،‬مضجــرة‪ ...‬ال ســعد يف ال ّرتابــة وال نحــس‪...‬‬
‫وبــن الحـ ّـام بواســطة كـ ّ‬
‫منــذ الزم الفــراش وهــو يرفــض الخــروج يف نزهــة‪ ،‬بــل ويرفــض املكــوث أمــام منزلــه لبعــض الوقــت رغــم‬
‫إلحــاح ال ّزهــراء ابنتــه‪ .‬اليــوم‪ ،‬يــوم التنظيــف العــام يف البيــت‪ ،‬اليــوم ينقلــب ســافل البيــت أعــاه‪،‬‬
‫وعــى الشّ ــيخ قــرا أن يخــرج‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪164‬‬

‫وكعادتهــا منــذ بــرك يف البيــت‪ ،‬ســراكم زوجتــه مالبســه املغســولة كلّهــا فــوق‬
‫حبــل الغســيل وتثبّتهــا جميعــا مبشــبك واحــد‪.‬‬

‫ـريس املتح ـ ّرك‪ ،‬وكــا توقّــع مل يجــد تســلية يف مراقبــة املــا ّرة‪ ...‬لك ـ ّن‬
‫خــرج الكـ ّ‬
‫فوجــا مــن التالميــذ اســرعى انتباهــه‪ .‬فــراح يراقــب حركاتهــم بذهــول واضــح‪.‬‬

‫كان ال ّرهــان بينهــم مــن ميــي أكــر خطــوات عــى يديــه‪ .‬كــر هرجهــم‪ .‬تعالــت‬
‫صيحاتهم‪ .‬كاد احتكاك نعالهم عىل األرض يغطّي ضحك بعضهم من بعض كلّام‬
‫ســقط أحدهــم‪ .‬كان الشّ ــيخ ســاهام‪ ،‬شــاردا يح ـدّق فيهــم وعــى محيّــاه ابتســامة‬
‫بعيــدة رســمت عــى وجهــه مــا يوقــع يف ال ّنفــس أنّــه وســطهم يتشــقلب ويضحــك‬
‫ويصــارع‪ .‬كان فمــه نصــف مفتــوح‪ .‬وخيــط لعــاب بــدأ يســيل أطــرف شــفتيه‪.‬‬

‫فجــأة أعادتــه مــن رحلتــه ابنتــه ال ّزهــراء وهــي تنقــر بلطــف عــى كتفــه وبيدهــا كوب‬
‫مــاء بــارد ومروحة ســعف‪.‬‬

‫‪ -‬أيب أين رحت؟‬

‫استعاد «سليامن ع ّمي» رشده ببطء‪.‬‬

‫أدار برصه ناحية الشابّة‪ .‬رمقها بنظرة مبلّلة مرتاخية‪ ،‬ث ّم قال‪:‬‬

‫‪ -‬اعذريني مل أشعر بوجودك ‪ ...‬ث ّم أعقب‪:‬‬

‫يجب أن تعذريني يا ابنتي‪ ...‬إنّها امل ّرة األوىل التي أرى فيها أطفاال‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫ولا ىلع عارص‬
‫يورد ريبع‬

‫عبري درويش‬

‫رصاع عىل الورق‬

‫أف ‪ ...‬أف ‪ ...‬أف‪.‬‬

‫ستتوقف ‪...‬‬

‫دقات الساعة اللعينة تلك عليها أن تتوقف‪،‬‬

‫ستتوقف يوماً ما عن التوتر وعندها سيتوقف قلمي عن إيذاء الكثريين!‬

‫ـارس القتـ َـل عــى األوراق‪ ،‬مل أكــن أعلــم أننــي‬


‫مل أكــن أعلــم حتّــى اليــوم أنّنــي أمـ ُ‬
‫ـت شــعوذيت‬
‫أســتحق الضجيــج ألننــي مــن خلــق األمل هنــا‪ ،‬ألننــي وبــكل حقــد مارسـ ُ‬
‫عــى القــدر ألغـ ّـر أحالمـاً وأكتــب كوابيــس مؤملــة‪.‬‬

‫شــفرات املروحــة تــدور ويــدور رأيس املدجــج باألفــكار‪ ،‬أريــد التخلــص مــن‬
‫عبوديتــي لكننــي ال أســتطيع الفــكاك مــن قصــي وخيــااليت املرســومة يف ذهنــي!‬

‫تضيــق األريكــة عــى جســدي كالقــر فأشــعر باختنــاقٍ شــديد‪ ،‬أفتّــش عــن هــوا ٍء‬
‫آخــر ال يهــرب منــي ويختفــي‪.‬‬

‫هــذا اليــوم ســأكتب النهايــة اللئيمــة لروايتــي‪ ،‬ســأجعل مــن نــزار أضحوك ـ ًة لــكل‬
‫مــن يقــرأ فمنــذ الصفحــة األوىل ونــزار ميتلــك حيــزا ً كبــرا ً مــن الكراهيــة يف داخــي‪،‬‬
‫حاولــت قتلــه مــرارا ً ومل ميــت‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪166‬‬

‫خاض معي الكثري من املعارك ومل يستسلم لقلمي يوماً‪ ،‬يتمتع‬


‫َ‬ ‫رجل عني ٌد عىل األوراق‪،‬‬
‫إنه ٌ‬
‫بذكاء بالغ فيجعلني تائهاً بني الحروف الكتشاف وسيلة ما ملوته ‪....‬‬

‫ال أســتطيع أن أتعــارك معــه حتــى النهايــة فأنــا تعبــت مــن الــر املتصاعــد يف ســلوكه وكل‬
‫محــاواليت لرتويــض أخالقــه بــاءت بالهزميــة‪ ،‬ليــس الســقوط الحتمــي املفاجــئ لــه ســوى رضب مــن‬
‫رضوب الجنــون ألننــي حت ـاً سأســقط معــه ككاتــب وســينتقم مــن قلمــي دون تــردد‪.‬‬

‫أنــا املذنــب يف هــذا فقــد جعلــت مــن تركيبتــه النفســية إعجــازا ً لحلــويل املنطقيــة ومل أتــرك‬
‫مساح ًة لرؤيتي املستقبلية عندما تضخّم غروره وتب ّجح يف وجهي متناسياً أنني من أتحكم مبصريه‪،‬‬
‫لقــد حررتــه مــن قيــودي وهــذا كان خطــأي األكــر!‬

‫« مل تكــن ســلمى تعلــم بقــدوم نــزار إىل القريــة وكانــت قبلهــا بأيــام تــرى كوابيــس عنــه‪ ،‬تشــاهد‬
‫أحداث ـاً مــن اليقظــة دون أن تــدري‪ ،‬وهــي التــي اســتهلكت الكثــر مــن الصــر للتخلــص مــن آثــاره‬
‫املؤملــة عــى روحهــا‪.‬‬

‫كل يشء يف القريــة فكيــف لهــا أن تواجهــه وحيــدة‪ ،‬لقــد قتــل أخاهــا وأقنــع‬
‫كان يســيطر عــى ّ‬
‫الجميــع أنــه بــري ٌء مــن دمــه‪ ،‬أجربهــا عــى التخــي عــن خطيبهــا ســعيد وأوقــع بينهــا وخــرج مبتسـاً‬
‫يســتع ّد الســتقبالها بــن ذراعيــه بــكل وقاحــة‪.‬‬

‫كان انتهازي ـاً ومراوغ ـاً بامتيــاز وعليهــا اليــوم أن تنتهــي مــن ذلــك الضــال الــذي أوقعهــا بــه يف‬
‫رسيــر العبوديــة والخــوف‪.‬‬

‫لــن تضيــع ثاني ـ ًة بــن االفتقــاد للحســم وبــن رغبتهــا املريضــة باالنتقــام فبعــد انتهــا ِء لعبتــه يف‬
‫إفســاد عقــول ضحايــاه أصبــح نــادرا ً مــا يــزور القريــة‪ ،‬ونــادرا ً مــا يكــرث لســلمى وملــا تحملــه يف جوفهــا‬
‫مــن انعكاســات مريــرة لــأمل‪ ،‬إنهــا ال تثــق مبســميات التســامح وال حتــى مبــادئ اإلنســانية املرتاكمــة‬
‫يف عقــول األكرثيــة مــن البــر‪ ،‬مل يكــن أحــد يعلــم مقــدار رصاخهــا يف رسيــره عندمــا ميتــزج الحقــد‬
‫مــع الوجــع‪ ،‬كانــت شــديدة الخصوص ّيــة يف معاناتهــا لذلــك مل تكــن تعــي أ ّن هــذا ســيجعلها ضح ّيـ ًة‬
‫مجهولــة الهويــة يف عــامل نــزار‪.‬‬

‫يف هــذا اليــوم تناقــل أهــل القريــة خــر عودتــه وكأنــه داء الطاعــون القــادم مــن وراء املــوت‪ ،‬كان‬
‫نــزار محاطـاً دامئـاً بالجواســيس رمبــا ألنــه يعلــم حجــم الخــراب الــذي صنعــه يف القريــة لذلــك كانــت‬
‫ســلمى تــرى يف عيونــه نظــرة التأهــب الدامئــة وكثــرا ً مــا كان يغفــو يف أحضانهــا وعينــاه ال تتقابــان‬
‫يف الحلــم‪...‬‬

‫كان مــن الســخف لســلمى أن تفكــر بــدو ٍر آخــر للجرميــة لكنهــا مل تعــد تتمكــن مــن مامرســة الدجــل‬
‫األنثــوي مــر ًة أخــرى حتــى لــو كانــت املــرة األخــرة‪ ،‬أطلقــت العنــان ملخيلتهــا الشــيطانية وفجــأة قــررت‬
‫‪167‬‬ ‫ولا ىلع عارص‬

‫توســع انتقامها لتتخلص من أعمق األوجاع‪ ،‬رحلت بعيدا ً يف رحلتها الشــاقة مع النهاية‪ ،‬حيث‬
‫أن ّ‬
‫يورد ريبع‬

‫يجلــس ســعيد باكيـاً عــى أخيهــا تــار ًة وعــى أنوثتهــا تــار ًة أخــرى‪.‬‬

‫ســعيد ذلــك الحبيــب املنتــي بالرجولــة يقــرر أن يكشــف قناعــه أمامهــا ليخيّــب أحالمهــا دفعـ ًة‬
‫واحــدة وكــم مــن اللحظــات الســيئة ســتبقى يف الذاكــرة إن مل تســتخدم ســعيد أدا ًة لدفــن مرارتهــا‬
‫ـتحق تلــك العقوبــة العادلــة‪.‬‬
‫وهــو الــذي يسـ ّ‬
‫ال أستطيع السري نحو النهاية فهي ُمتع َبة ويكاد قلمي ّ‬
‫يجف إلهامه؟!‬

‫هــل أعــود الســتخدام لغتــي املهجــورة ألحجــب أفــكارا ً وأشــجب أخــرى يف مامرســايت الخبيثــة‬
‫مــع الكتابــة‪.‬‬

‫كنــت أفعلهــا ســابقاً يك ال أقــع يف فــخ األحــداث وأتعـ ّـر باملفــردات الســيئة لكننــي اآلن مج ـ ٌ‬
‫ر‬
‫عــى إثــارة اللياقــة األدبيــة يك تكتســب بعض ـاً مــن االبتــكار فالحبــكات التقليديــة غالب ـاً مــا تتخلخــل‬
‫انفعاالتهــا فتُســقطني يف براثــن الرتابــة وتلتهمنــي ‪....‬‬

‫آآآآآآه ‪...‬‬

‫الغرفة تضيق كلام ضاقت أفكاري وأشعر أنني لست وحيدا ً فيها ‪...‬‬

‫أستحرض وجه نزار القايس ‪...‬‬

‫وجه سلمى املغطى باليأس واألمل ‪...‬‬

‫كل تقاسيم وجهه ‪...‬‬


‫سعيد البارد يف ّ‬

‫وجوه‪ ...‬ووجوه كثرية دخلت تدريجياً إىل روايتي واحتملت معي قواعد الصعود إىل الصفحات‬
‫لتشـ َّـق طريقهــا نحــو األحــداث وتهــوي فجــأة ثــم تضمحـ ُّـل ببــطء حتــى تصــل معــي إىل النهايــة التــي ال‬
‫أعــرف حتــى اللحظــة كيــف أرويهــا ومل يســتحرضين لخياراتهــا ســوى الفــوىض وهــل أســتطيع بــإراديت‬
‫الروائية إدخال املزيد من الوافدين الجدد حتى لو كانت أدوارهم ال متلك أدىن حدود املساحة؟‬

‫كل‬
‫أشــعر برغبــة قويــة يف الهــروب إىل النــوم‪ ...‬ذلــك الفعــل التقليــدي الــدؤوب الــذي أرتكبــه ّ‬
‫مســاء يك أتخلــص مــن فراغــي الفكــري امل ُر َهــق‪.‬‬

‫سلمى‪ :‬استيقظ سيدي‪ ...‬أرجوك أن تستيقظ ‪...‬‬

‫نزار عاد إىل القرية وعليك أن تعلّمني طريق ًة ما لقتله‪...‬‬

‫كنت يف الفصل األول‪.‬‬


‫ُ‬ ‫يل العودة كام‬ ‫ْ‬
‫أرجوك ‪ ...‬ال تخذلني هنا ‪ ...‬إنها النهاية وع ّ‬
‫بكيت عىل موت أخي كثريا ً ومل أقم بخيان ِة حبيبي سعيد يوماً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أنا مل أك ْن سيئة صدّقني‪ ...‬لقد‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪168‬‬

‫أنت من جعله شخصاً بائساً بحقّي‬


‫أنت‪َ ...‬‬
‫أنت ‪ ...‬نعم ْ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫قلمك الجاحد بقلب األحداث بهذه الطريقة املؤذية ألحالمي‪.‬؟!‬ ‫وكيف طاوعك‬
‫أنا ‪...‬أنااااااااا‬
‫ِ‬
‫أريدك هكذا لك ّن عقيل من قادين إىل تلك األمكنة دقيني ‪..‬‬ ‫‪ ...‬مل أكن‬
‫ـت عــى األســطر‬
‫ـؤيس ككاتــب لكــن الطبيعــة االنســانية طفـ ْ‬ ‫ـت ملخيلتــي أن ترحمـ ِ‬
‫ـك مــن بـ ِ‬ ‫قلـ ُ‬
‫ِ‬
‫دورك منســجامً‬ ‫واختــارت النمــوذج األمثــل لــردّات فعلـ ِ‬
‫ـك فــكان‬
‫مع الواقع القصيص ومنطقياً يل آنستي ‪...‬‬
‫سلمى‪ ...‬سلمى‪ ...‬أين اختفيت‪ ...‬كلميني‪ ،‬أنا تائ ٌه وأحمق‪.‬‬
‫ـت‬ ‫ِ‬
‫دورك‪ ،‬لقــد تدفّــق إىل األوراق دون أن أدري‪ ،‬حاولـ ُ‬ ‫ِ‬
‫ـذاءك‪ ...‬مل أكــن متع ّمــدا ً‬ ‫مل أقصــد إيـ‬
‫رضوب األعــراف األدبيّــة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مــرارا ً كبـ َـح انفعالــه املوجــوع والقف ـ َز بــه إىل األمــان دون الوقــوع يف‬
‫كاذب بامتياز ‪...‬‬
‫ٌ‬ ‫كاتب‬
‫ٌ‬ ‫اصمت ‪َ ...‬‬
‫أنت‬ ‫ْ‬ ‫نزار‪:‬‬
‫َ‬
‫روايتك دوين فأنا املحور‬ ‫اخرج من رأس سلمى وكلّمني‪ .‬مل تكن يوماً لتجر َؤ عىل كتابة أحداث‬
‫متتثل لرغبايت ألنّني من سيح ّد ُد النهاية‪.‬‬
‫َ‬ ‫القصة وعليك أن‬
‫ّ‬ ‫األهم يف دوران‬
‫َ‬
‫سأقتلك ‪ ...‬قسامً بقلمي سأقتلك‪.‬‬
‫الهروب من قصايص ولن تحرفني عن الواقع عندما تقرتب النهاية‪.‬‬
‫َ‬ ‫لن تتمكن هذه املرة‬
‫ر للشــفقة‪ ،‬وكيــف لروايتــك أن تعــرف طريقهــا للنــر ومل‬
‫يئ مضحــك ومثـ ٌ‬ ‫مضحـ ْ‬
‫ـك‪ ...‬أنــت روا ٌّ‬
‫تســمح لهــا برخصــة الخــروج عــن املنطــق والتقليــد؟‬
‫ـك مل تــرد عنــي وال حتــى فضيل ـ ًة‬
‫ـت مــن صنعنــي هكــذا ث ـ ّم إنـ َ‬
‫ال تســتخف يب يــا ســيدي فأنـ َ‬
‫واحــدة‪ ،‬لقــد ص ّورتنــي بأبشــع الصفــات ومــن قــال لــك أننــي مل أحــب ســلمى وأنــت مل تــدري كــم مــن‬
‫املــرات كان بيننــا يش ٌء ينمــو عــى صفحاتــك البائســة‪.‬‬

‫أملْ أقل لك أنك ٌّ‬


‫غبي وساذج!‬
‫كال ‪...‬هــذا مســتحيل‪ ،‬لــن أســمح لــك باســتفزازي فأنــت مــي ٌء بالتناقضــات املركبــة وأنــا مــن‬
‫ركّبتهــا لــذا لــن أُملّـ َ‬
‫ـكك نشــوة النــر ولــن أســمح لــك بالتد ّخــل يف لعبــة القيــادة‪ ،‬ســأبقى متأهب ـاً‬
‫ـكل محاوالتــك يف الهــروب مــن مصــر القلــم‪.‬‬
‫لطاقاتــك ولـ ّ‬
‫كل هذا التضخيم؟‬
‫سعيد‪ :‬ملاذا ّ‬
‫ج آخــر لالنتهــاء مــن ســخافة‬
‫دعــه يــا نــزار يكتبنــا كــا يشــاء فهــو الكاتــب وأنــا ال أســتطيع إيجــاد مخــر ٍ‬
‫تلــك الروايــة‪...‬‬
‫‪169‬‬ ‫ولا ىلع عارص‬

‫ـب منــذ شــهور‬


‫لقــد مللــت ‪...‬أريــد أن أرتــاح مــن القلــق واملســؤول ّية‪ ،‬فأنــا متعـ ٌ‬
‫يورد ريبع‬

‫ومل يكــن يســتلهم فكــر ًة مــا إليقــاف هــذه املهزلــة األدبيــة!‬


‫هل علينا أن نبقى هنا أكرث من ذلك؟‬
‫كل ليلة تُذكّرين عيون سلمى بضعفي‪ ،‬وأنا مل أستطع االستمتاع بدوري كرجل‬ ‫َّ‬
‫يف تلك الرواية‪ ،‬الفكرة املتاحة حتامً ستكون جيدة للجميع وأنا ال أكرتث للنتيجة‬
‫إمنا أريد خروجاً آمناً لكل الشخصيات‪.‬‬
‫ـض يــا ســعيد وكيــف لســلمى أن تتق ّبــل توبتــك عــن الخيبــة وأنــت‬
‫نــزار‪ :‬أنــت مريـ ٌ‬
‫تك ّررهــا حدثـاً تلــو اآلخــر؟‬
‫اخرسوا جميعاً ‪...‬اصمتوا ‪...‬لن أدخل معكم يف اللهو والعبث بأفكاري‪ ،‬ولن‬
‫أكتبكم للتشهري بطرائق سلوككم فالتدوين األمثل لتجنبكم هو الخروج عن النص‪،‬‬
‫ي ككاتــب أن أبتعــد عــن االرساف اللفظــي يك‬ ‫عــى قلمــي أن يكبـ َـح غطرســتكم وعـ ّ‬
‫ال أفقــد الصــدق‪ ،‬لــذا لــن أســتطيع التخلّــص منكــم بســهولة فأنــا مرهـ ٌـق منكــم منــذ‬
‫قت‬
‫يغيب عني كلام تع ّم ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكل الرخاء األديب املخ ّزن يف مخيلتي كان‬ ‫الحرف األول ّ‬
‫طويـاً يف إنضــاج تراكــايت الذهنيــة بكــم ‪...‬‬
‫لن تفرضوا إرادتكم عىل سياق الرسد ولن تجعلوين أضحوكة الق ّرا ْء ‪...‬‬
‫توقفي سلمى ‪....‬‬
‫لن يل ّوثك قلمي بدماء نزار ‪...‬‬
‫كل هؤالء املرتزقة ‪...‬‬
‫سلمى لقد أحببتك أكرث من ِّ‬
‫أنــا جديـ ٌر بحبــك يل عــى األوراق‪ ،‬لــن أملســك ســوى بالصمــت فاعذرينــي إن‬
‫كتبتــك كاألنثــى التــي ال تعــرف لــأمل ســوى فعـ َـل االنتقــام‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سارق ولست كاتبا!‬ ‫نزار وسعيد معاً‪ :‬أنت‬
‫َ‬
‫أشكرك ألنك أخرجتني من ورطة األوراق!‬ ‫سلمى‪:‬‬
‫الغرفة تتسع مجددا ً واألوراق تتناثر من يدي ‪...‬‬
‫الساعة الخامسة فجرا ً ومل أمتكن بعد من كتابة النهاية‪...‬؟!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪170‬‬
‫‪171‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق الشعر‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪172‬‬

‫كريم عبد‬

‫وجهُ كِ يَلوحُ وصوتُكِ يرت ّد ُد يف الوديان!‬

‫ِ‬
‫وأنت ُمليك‬ ‫ِ‬
‫عطيك‬‫ماذا أُ‬
‫وماذا تعطيني وأنا الخسارة؟!‬

‫***‬

‫أحيّ ِ‬
‫يك‬
‫بشمس موشك ٍة عىل ثلج الحدائق‬
‫ٍ‬
‫خرس األوراقِ‬
‫َ‬ ‫أخرس اآلن‬
‫ُ‬ ‫رغم إنني‬
‫وذهو ِل األوراق‬
‫فليس ثـ َّم َة بـهج ٌة‬
‫ني يف مرآة الليل‬
‫ني تظهري َن وتختف َ‬
‫ح َ‬
‫***‬
‫يلوح وصوت ِ‬
‫ُك يرت ّد ُد يف الوديان‬ ‫ك ُ‬ ‫وج ُه ِ‬
‫ِ‬
‫يديك تتلمسان قمييص‬ ‫فأسم ُع‬
‫تتلمساين بثلج الحدائق‪...‬‬
‫ِ‬
‫املشمش وخرير السواقي‬ ‫صوت ِ‬
‫ُك طع ُم‬
‫‪173‬‬ ‫ايدولا يف ُدّدرتي ِكُتوصوُحولَي ِكُهجو‬

‫وهيامن الطيور‬
‫دبع ميرك ‬

‫بني صوت ِ‬
‫ِك وثل ِج الحدائقِ يسقط ُ‬
‫قنا ٌع‬
‫األعشاب والجروح‬
‫ُ‬ ‫خانت ُه‬
‫أجراس الليلِ يف وديان الليل‪...‬‬
‫َ‬ ‫فأسم ُع‬
‫ِ‬
‫الشوك وصيح َة الشوك‪.‬‬ ‫أجراس الندى وهسهس َة‬
‫َ‬
‫الروح من غصنِ الرمان‬
‫َ‬ ‫تخطف‬
‫ُ‬ ‫هسهس ٌة‬
‫وبهج ِة زه ِر الرمان‬
‫‪..........‬‬
‫‪..........‬‬
‫يتألألُ وج ُه ِ‬
‫ك يف رشق املرآة‬
‫وغرب املرآة‬
‫فتهج الطيور!‬
‫ُّ‬
‫ٌ‬
‫مذهول‬ ‫لك َّنني‬
‫ك أو أُناديك‬
‫أملس ِ‬
‫ُ‬ ‫كيف‬ ‫ُ‬
‫أعرف َ‬ ‫ال‬
‫أخرس‪...‬‬
‫ُ‬
‫أبي لك سبباً‬ ‫ُ‬
‫أعرف أن ّ َ‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫أعرف كيف‪...‬‬ ‫ال‬
‫ال أعرف‬
‫‪.......‬‬
‫‪.......‬‬
‫القنا ُع يسق ُ‬
‫ط عىل الثلج‬
‫والجرح القدي ُم يُوج ُع القنا َع‬
‫ُ‬
‫أخرس‬
‫ُ‬ ‫لكنني‬
‫ال أعرف كيف!‬
‫***‬
‫ِ‬
‫أنت رائع ٌة أيضاً ألنك جعلتني اآلن‪،‬‬
‫اآلن فقط‬
‫ِ‬
‫الخرس‪.‬‬ ‫أعرف معنى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪174‬‬

‫الخرس وليس الصمت‬


‫ُ‬
‫ورصتُ قادرا ً عىل التفريق بينهام‬
‫وهذا لعمري ليس باليشء القليل‬
‫ِ‬
‫ألست رائع ًة إذن؟!‬
‫‪..........‬‬
‫‪..........‬‬
‫فتضطرب ميا ُه البرئ‬
‫ُ‬ ‫تحت قمييص‬
‫َ‬ ‫تهت ُّز الغيو ُم‬
‫ُ‬
‫تتحرك األيا ُم تتداف ُع مع الليايل‬
‫ِ‬
‫خطاك‬ ‫يهدأُ وق ُع‬
‫تهت ُّز الغيو ُم يف سامء الحديقة‬
‫فأش ُّم رائح َة ليمونٍ يف الهواء الندي‬
‫تحمل املرآ َة ت ُعلّقُها عىل شجرة‬
‫ُ‬ ‫طفل ٌة‬
‫خلف الشمس‬
‫أو تض ُعها َ‬
‫رمبا ت ُلقيها عىل األعشاب‬
‫والدقائق يف املرآة‬
‫ُ‬ ‫فتنبض األيا ُم والساعاتُ‬
‫ُ‬
‫ج الحديقة‬
‫خلف سيا ِ‬
‫تظه ُر وجو ٌه وتختفي وجو ٌه َ‬
‫***‬
‫ط األقنع ُة واأليا ُم والذكرياتُ‬
‫كيف تسق ُ‬
‫يف برئٍ هرمٍ‬
‫ري الفج ِر إىل أشجارنا امل ُنتَ ِظرة؟!‬
‫وال تعو ُد عصاف ُ‬
‫روح رسيع ُة العطب‬
‫ٌ‬
‫تبتهج بيش ٍء‬
‫ُ‬ ‫ال تكاد‬
‫حتى تجد ُه بعيدا ً ُم ِ‬
‫نحدرا ً يتالىش‬
‫‪..............‬‬
‫‪..............‬‬
‫ُ‬
‫تضحك‬ ‫املرآ ُة‬
‫املرآ ُة قنا ٌع آخر‬
‫قنا ٌع ييضء‬
‫مخاتل يظه ُر ويختفي كاشفاً َّ‬
‫كل يشء‬ ‫ٌ‬ ‫قنا ٌع‬
‫‪175‬‬ ‫ايدولا يف ُدّدرتي ِكُتوصوُحولَي ِكُهجو‬

‫الدقائق والساعاتُ يف ظاليل‬


‫ُ‬ ‫تساقط‬
‫ّ‬
‫دبع ميرك ‬

‫يف ظالل الحديقة‬


‫هشاش ُة اإلنسان‬
‫هشاش ُة الزمنِ املكسو ِر‬
‫يضحك واملرآ ِة املطعونة‬
‫ُ‬ ‫والقنا ِع الذي‬
‫***‬
‫تساق ُ‬
‫ط‬ ‫ّ‬
‫الدقائق‬
‫ُ‬
‫والساعاتُ‬
‫والقبالتُ‬
‫عىل األعشاب‬
‫متالشي ًة مع الفجر‬
‫آثار قباليت عىل خد ِ‬
‫ّيك‬
‫ِ‬
‫وجهك املتأللئ يف بحرية الليل‬ ‫عىل‬
‫العشب بالذكريات‬
‫ُ‬ ‫يتألألُ‬
‫تتألألُ األشجا ُر‬
‫أتألألُ‪،‬‬
‫تتألألُ ظاليل‬
‫األرانب يف الرباري‬
‫ِ‬ ‫فتهرب ُ‬
‫آالف‬ ‫ُ‬
‫***‬
‫أقف أما َم األيامِ والليايل‬
‫ُ‬
‫أرى مدين ًة أخرى‬
‫أخرج منها ُمرسعاً‬
‫ُ‬
‫ُك ثاني ًة عند الباب‬
‫لعل أجد َ‬
‫َّ‬
‫أملح ظالل ِ‬
‫َك تتالىش‪...‬‬ ‫لك َّنني ُ‬
‫يدي‬
‫الدقائق والساعاتُ تنفرط من بني َّ‬‫ُ‬
‫ج َه ِ‬
‫ك‬ ‫ندى مضيئ ٌة تبل ُّل و ّ‬
‫ً‬ ‫قطراتُ‬
‫أن قاد ٌر عىل النسيان‬
‫كنت أظ ُّن ّ َ‬
‫ُ‬
‫حتى تعرثتُ ثاني ًة وكدتُ أسق ُ‬
‫ط‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪176‬‬

‫أتكئ عليك‬
‫فوجدتُ نفيس ُ‬
‫كم ِ‬
‫أنت جميل ٌة‬
‫حني تطريي َن مع العصافريِ وهر ِ‬
‫ج العصافري‬
‫قميص ِ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫تحت‬
‫َ‬ ‫تهج من املرآ ِة لتختفي‬
‫وهي ُّ‬
‫ِ‬
‫نهديك‬ ‫آثا ُر الفج ِر عىل‬
‫قباليت يبلّلُها الندى‬
‫الطويل‬
‫ُ‬ ‫الليل‬
‫ُ‬ ‫متى ينتهي هذا‬
‫يك أصل ِ‬
‫َك‬
‫أجراسك‬
‫َ‬ ‫يك أقر َع‬
‫وأتركَها تر ُّن يف أرجاء الحديقة‬
‫يف ليل املدينة ويف أرجاء السموات‬
‫***‬
‫صامتاً‬
‫أطوف العاملَ وحدي‬
‫ُ‬
‫حدائق العشاقِ عىل رأيس‬
‫ُ‬
‫تقدح يف قلبي‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الوجد‬ ‫رشاراتُ‬
‫أغي شيئاً‬ ‫ُ‬
‫أعرف إنني ال أستطي ُع أن ّ َ‬
‫أعرف ِ‬
‫إنك واملرآ َة تفكّران يب‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫أعرف‬
‫وال أستطي ُع الصياح‪...‬‬
‫ني العراق‬
‫بكل ثيايب وجروحي وبسات ِ‬ ‫ُ‬
‫أغرق ِّ‬
‫يف بح ٍر تتالطم أموا ُج ُه يف املرآة‬
‫وأجراس الليل‬
‫ُ‬ ‫الليل‬
‫ُ‬ ‫أرصخ يك يسم َعني‬
‫تركض يف روحي‬
‫ُ‬ ‫األرانب‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫آالف‬
‫تركض يف حقو ٍل مكشوفة‬
‫كأين رأيتُها يف ُحلمٍ‬
‫وغرقت معها يف قطر ِة ندى‬
‫ُ‬ ‫يف غاب ٍة‬
‫تركض‬
‫ُ‬ ‫األرانب‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫آالف‬
‫تركض‪...‬‬
‫ُ‬
‫‪177‬‬ ‫ايدولا يف ُدّدرتي ِكُتوصوُحولَي ِكُهجو‬

‫تركض‪...‬‬
‫ُ‬
‫دبع ميرك ‬

‫وأركض معها‬
‫ُ‬ ‫أصيح من فرحتي‬
‫ُ‬ ‫ال أكا ُد‬
‫تدخل املرآ َة متقافز ًة وتختفي‬
‫َ‬ ‫حتى‬
‫‪...........‬‬
‫‪...........‬‬
‫أفعل شيئاً‪...‬‬
‫َ‬ ‫ال أستطي ُع أن‬
‫مل يع ْد يعنيني يش ٌء‬
‫الصمت وال الكالم‬
‫ُ‬ ‫أخرس ال يه ُّمني‬
‫ُ‬
‫مترشدا ً يف شتا ِء ليلٍ طويل‪...‬‬
‫ما أجمل ِ‬
‫َك حني تطلّني عيلَّ فتتس ُع الحديق ُة‬
‫وجروح البهجة‬
‫ُ‬ ‫الظالل فتغم ُرنا البهج ُة‬
‫ُ‬ ‫ُالمسنا‬
‫ت ُ‬
‫تحت مط ٍر خفيف‬
‫َ‬ ‫ما أجمل ِ‬
‫َك عاري ًة‬
‫ما أجمل ِ‬
‫َك عاري ًة تحيط َ‬
‫ني يب من جميع الجهات‬
‫***‬
‫يدي‬
‫أرف ُع َّ‬
‫فيتوق ُّف املطر‬
‫أخطو وحيدا ً‬
‫كأن ال أح َد يف الحديقة‬
‫ال أح َد يف املدينة‬
‫ال أح َد يف هذا العامل‬
‫‪..........‬‬
‫‪..........‬‬
‫واألجراس واألشجا ُر‬
‫ُ‬ ‫تر ُّن الساعاتُ‬
‫يف جميع الحدائق والليايل‬
‫فنعود إىل املرآة‬
‫ندخلُها ونختفي‬
‫دو َن قنا ٍع أو ذكرى‬
‫دون أن منح َو آثا َر القبلِ املرتبك ِة عىل وجوهنا‬
‫دون أن منح َو آثا َر خطواتِنا عىل األعشاب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪178‬‬

‫حفيف ظاللنا سيبقى هناك‬


‫َ‬ ‫لك َّن‬
‫بني البيوت والذكريات‬
‫بني املرايا والطيور التي تختفي يف املرايا‬
‫ظ الحديق ُة وتغني الحديقة‪...‬‬
‫حتى تستيق َ‬
‫‪179‬‬ ‫بصلا اذه هلعفأ ءيش ال‬
‫ظفاح يدان‬

‫نادي حافظ‬

‫ال يشء أفعله هذا الصباح‬

‫(‪)1‬‬
‫يا ريب‪:‬‬
‫أرب‬
‫ملن ّ‬
‫هذا الجسد‬
‫إذا كان ال يحط عليه طري؟‬

‫(‪)2‬‬
‫قل ملن يلتقيك‪:‬‬
‫رجل مسكو ٌن‬
‫هناك ٌ‬
‫منذ زمن‬
‫مر ًة يتح ّول إىل حديقة‬
‫ألنه يشتاق إىل األطفال‬
‫ومر ًة إىل باص‬
‫ال يجد املحشورون فيه ال َنفَس‬
‫ومر ًة قطة‬
‫ومر ًة َج َم ْل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪180‬‬

‫قل له‪:‬‬
‫ْ‬
‫يا ناس‬
‫اقبضوا عليه إ ْن وجدمتوه‬
‫قبل أ ْن يتح ّول‬
‫إىل قرب‬

‫(‪)3‬‬
‫رأسه محشو بالعفاريت‬
‫وقلبه جامر ٌة‬
‫صديقي الذي قابلني يف متاه ٍة‬
‫ذاتَ حلم‬
‫فجعلت روحي جبّانته‬
‫ُ‬
‫كلّام اشتقت إليه‬
‫أقمت القيامة‬
‫ُ‬
‫الصياح‬
‫َ‬ ‫وقعدتُ أتأ ّم ُل‬
‫يخرج من بنيه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الذي‬

‫(‪)4‬‬
‫ال تلوموا الجدران‬
‫التي ننىس عليها‪ :‬صورنا‬
‫ومعاطفنا ‪ /‬ووجوه أحبابنا ‪ /‬وأحيانا قلوبنا‬
‫إذا احدودب ظهرها‬
‫ال تلوموها‬
‫لبست قمصاننا‬
‫ْ‬ ‫إذا‬
‫وخرجت ذاتَ ليل ٍة‬
‫ْ‬
‫باحث ًة عن البحر‬
‫لتتخلص من غبائنا‬
‫طفحت‬
‫ْ‬ ‫وأعامرنا التي‬
‫عىل جلدها‬
‫‪181‬‬ ‫بصلا اذه هلعفأ ءيش ال‬

‫ال تلوموها‬
‫ظفاح يدان‬

‫إذا استيقظت‬
‫عند صالة الفجر‬
‫حزينة‬
‫ورفعت وجهها إىل السامء‬
‫ورصخت‪:‬‬
‫(يا رب زلزال )‬

‫(‪)5‬‬
‫ِ‬
‫وحدك‬ ‫ِ‬
‫لست‬
‫التي تتحدثُ إليها الحوائط‬
‫ويخ ّر َم ْن يف الرباويز‬
‫عند قدميها‬
‫كلنا ك ّنا كذلك‬
‫ُ‬
‫مالك العامرة‪.‬‬ ‫قبل أن يطردَنا‬

‫(‪)6‬‬
‫إلهي‬
‫يف العتم ِة ال يراين‬
‫بينام تلم ُع ساعتُ ُه‬
‫يف يد ِه العمياء‬
‫التي تل ّو ُح‬
‫للعفاريت‬

‫(‪)7‬‬
‫كل يشء عىل ما يرام‪:‬‬
‫البنت الحامل ُة وأرنبُها‬
‫ُ‬
‫مشتبكني‬
‫يف الرسير‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪182‬‬

‫الضاب ُ‬
‫ط ويد ُه هابطة من السامء‬
‫عىل قفا مواطنه‪.‬‬
‫مدرس اللغة العربية‬
‫وكرشه ينتفخ ك ــ(براشوت)‬
‫كلّام تنفّس‪.‬‬
‫بقميص نو ِمها الربتقايل‬
‫ِ‬ ‫العانس‬
‫نامئة عىل وجهها‬
‫يف أ ّو ِل الليل‪.‬‬
‫الرئيس يف كرس ّيه‬
‫ودخا ُن سيجار ِه‬
‫ميأل سام َء قريتني‪.‬‬
‫كل يشء عىل ما يرام‬
‫وهذا هو العامل‬
‫هذا النهار‬

‫(‪)8‬‬
‫ال يشء أفعله هذا الصباح‬
‫سأكتب وصيتي للنمل‬
‫ُ‬
‫وأبش الصابري َن‬
‫ُّ‬
‫كليب مثري‬
‫ٍ‬ ‫بفيديو‬
‫وأغني قليال‬
‫للذين نسوا أحالمهم يف الخزانات‬
‫ومضوا مظلمني‬
‫سألعق أفكاري‬
‫ُسكّرة‬
‫ُسكّرة‬
‫حتى تجيء الذباب ُة الخرضا ُء‬
‫بدمع جديد‬
‫‪183‬‬ ‫بصلا اذه هلعفأ ءيش ال‬

‫(‪)9‬‬
‫ظفاح يدان‬

‫ترف ُع كأيس يف أ ّو ِل الليل‬


‫روحك يف آخر ِه‬
‫َ‬ ‫وأرف ُع‬
‫أل ّو ُح للعابرين‬
‫وتل ّو ُح‬
‫لنجم ٍة يف السامء‬
‫ح‬
‫سهرتْ للصبا ِ‬
‫ب ُحكمِ «ورديتها» القاسية‬
‫َ‬
‫هناك‬ ‫ترف ُع كأيس‬
‫َ‬
‫روحك هنا‬ ‫وأرف ُع‬
‫كأننا بارعانِ‬
‫يف َح ْملِ األثقال‬

‫(‪)10‬‬
‫هنا‬
‫م ّرتْ عىل شفتي الحيا ُة‬
‫ظل‬ ‫َ‬
‫وطال ّ‬
‫أو مىش عني قليالً‬
‫نحو راحتها عىل األبواب‬
‫ظل يحب الدم‬
‫هل ّ‬
‫رسحت به جن ّي ٌة‬
‫ْ‬ ‫أم‬
‫ضحكت عىل جدّي‬
‫ْ‬
‫وف ّرتْ‬
‫من حكايته؟‬

‫هنا‬
‫كانت أميم ُة ال تنام‬
‫وقطها‬
‫الباب‬
‫ِ‬ ‫يحيك ورا َء‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪184‬‬

‫(أسبابا ملفقة)‬
‫ليدخل حضنها مرحاً‬

‫هنا‬
‫الله يا هذا الـ(هنا)‬
‫ماذا دها‪...‬‬
‫رص أن تبقى‬
‫لت ّ‬
‫هناك؟‬
‫‪185‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق النقد‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪186‬‬

‫عبد الرحمن حالق‬

‫«مدن اليمام» للروائية إبتسام ترييس‪:‬‬


‫شخصيات بني السموّ والوضاعة‬

‫تشكل الثورة حدثاً استثنائياً يف تاريخ الشعوب فهي رصخة الـ (نحن) يف وجه‬
‫ذاتهــا‪ ،‬هــذه الرصخــة التــي قــد ال تحــدث إال ملــرة واحــدة كل عــدة قــرون‪ ،‬وال تحــدث‬
‫إال ضــد الظلــم والفســاد املســتفحلني يف بنيــة املجتمــع الثائــر‪ ،‬ولــذا فهــي مختلفــة‬
‫كلياً عن ثورات التحرر فهذه الثورات تبقى رصخة يف وجه اآلخر الغريب املحتل‪.‬‬
‫ويف حــن تبقــى ثــورات التحــرر ذات تأثــر طفيــف عــى املجتمعــات املحيطــة‪ ،‬فــإن‬
‫الثــورة عــى الــذات تبقــى مثــاالً يحتــذى عــى صعيــد العــامل وتبقــى دوائــر تأثريهــا‬
‫متــوج يف املحيــط فــرة زمنيــة طويلــة‪.‬‬

‫وإذا كانت ثورات التحرر قد حازت عىل انتباه الكتاب واألدباء ردحاً من الزمن‬
‫فإن الثورة عىل الذات تستمر أمدا ً أطول بكثري من حيث كونها مادة ثرية ملختلف‬
‫صنوف اإلبداع‪ ،‬وما نزال حتى يومنا هذا نجد الكثري ممن يتناولون الثورة الفرنسية‬
‫بالكتابة عىل طول العهد بها‪.‬‬

‫عــى صعيــد الثــورة الســورية نســتطيع القــول إنهــا مــا تــزال يف بدايتهــا رغــم مــرور‬
‫أربــع ســنوات عليهــا‪ ،‬ورغــم ذلــك انــرت عــدة أقــام ملواكبــة الحــدث العظيــم هــذا‪،‬‬
‫منها ما كان يعيش الحدث يف الداخل‪ ،‬ومنها ما كان يعيشه وهو يف الخارج‪ .‬من‬
‫قلب الحدث تطل علينا إبتسام ترييس بروايتها (مدن اليامم) ليس ككاتبة تراقب‬
‫‪187‬‬ ‫عاضولاو ّومسلا نيب تايصخش‬

‫ما يحدث لتكتب ولكن كامرأة تشارك يف صنع ما يحدث وتعيش لحظات سموه ولحظات أمله‪،‬‬
‫الح نمحرلا دبع‬

‫وتراقــب عــن كثــب تحوالتــه وانزياحاتــه‪ ،‬تحلــق مــع شــعارات الحريــة وتتــأمل مــن رصــاص املســتبد‪ .‬ثــم‬
‫تقــدم لنــا وبأســلوب أديب أنيــق ولغــة رشــيقة روايتهــا التــي تتنــاول مــن ضمــن مــا تتناولــه فكــرة اســتغالل‬
‫املستبد ألبشع نوازع ال ّ‬
‫رش يف اإلنسان ‪ ،‬ومقدرة املستبد عىل توظيف بعض القناعات الباطنية‬
‫لرتبيــة جيــش مــن املنتفعــن والقتلــة يحفــظ لــه بقــاءه عــى كــريس الحكــم‪ ،‬ويف املقابــل ميكــن أن‬
‫نتلمــس مــن خــال تطــورات الخــط الدرامــي لألحــداث عظمــة شــعب وهــو يقــاوم البطــش والدمــار‪،‬‬
‫يقاوم محاوالت املستبد لتطييف الشعب وتقسيمه‪ ،‬وإرغامه عىل االبتعاد عن كل ما هو سلمي‬
‫مــدين إنســاين‪ ،‬نتلمــس كذلــك عظمــة شــعب يســعى للعيــش يف ظــروف إنســانية ســليمة ال متــت‬
‫بصلــة للتاميــزات الدينيــة أو املذهبيــة أو العرقيــة‪.‬‬

‫تتوقــف الروايــة عنــد الســنة األوىل مــن عمــر الثــورة الســورية‪ .‬بذلــك ميكــن القــول أن الروايــة ترصــد‬
‫بدايات تشــكل الثورة خاصة يف مرحلتها الســلمية‪ .‬عندما كانت قوات املســتبد الســوري تســتبيح‬
‫دمــاء املتظاهريــن ونشــطاء اإلغاثة‪.‬‬

‫وألن الرواية تتناول الحدث من داخله كان البد للراوي أن يكون شخصية مشاركة يف الحدث‪،‬‬
‫ويك ال تقع يف مطبات املبارشة والتسجيلية اعتمدت الكاتبة ثالثة رواة لكل دوره حسب موقعه‪،‬‬
‫وجميعهــم مشــاركون يف الحــدث (األم ‪ -‬حنظلــة ‪ -‬نــورس) هــذه اآلليــة أســهمت وبشــكل كبــر تغطيــة‬
‫شــاملة للمــكان وأعطــت أفضليــة متقاربــة للشــخصيات خاصــة وأن هكــذا حــدث ال يتضمــن بطولــة‬
‫فردية‪ ،‬فالبطل هنا ويف الثورة هم الجموع‪ ،‬لذلك شكلت شخصيات الرواية مجموعة دوال هامة‬
‫يتضمــن كل منهــا معنــاه الــذي يســهم ببنــاء معامريــة النــص ‪ -‬الحــدث‪.‬‬

‫مــن هــذا املنطلــق تــأيت دراســة الشــخصية يف مــدن اليــام عــى جانــب مــن األهميــة مبــكان‪.‬‬
‫خاصــة وأن الزمــن يف مــدن اليــام مؤطــر بالحــدث‪ ،‬والحــدث وإن كان منتظـاً برحلــة بحــث األم عــن‬
‫ابنهــا الناشــط واملعتقــل فيــا بعــد إال أن هــذه الحكايــة تتولــد منهــا حكايــات وتتناســل قصــص تــروي‬
‫بطولــة مــكان قــرر أن يســتعيد وجهــه الحقيقــي الوجــه املــرق ألبنائــه‪.‬‬

‫لهــذا كلــه ارتأيــت أن أتنــاول الشــخصية كونهــا أحــد أهــم مكونــات العمــل الــروايئ إذ ال يســتقيم‬
‫حــدث دون وجــود مــن يقــوم بــه فعــى عاتــق الشــخصية الروائيــة تنهــض األحــداث وعــى عاتقهــا أيضـاً‬
‫ينهــض النــص مبجملــه‪.‬‬

‫بداية لن نجد يف هذه الرواية شخصية رئيسة وأخرى ثانوية فالنص أقرب إىل امللحمة منه إىل‬
‫الروايــة الفــارق أن البطــل امللحمــي يقــود الجمــوع يف سلســلة مواجهــات الغايــة النهائيــة منهــا ترســيخ‬
‫القيــم األخالقيــة التــي ينــادي بهــا املجمــوع وبالتــايل فهــو يعــر عــن مشــاعر املجمــوع وطموحاتــه يف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪188‬‬

‫بناء أمة‪ ،‬بينام نجد يف مدن اليامم أن هذا املجموع مل يسلم قياده لفرد بل توىل بذاته املواجهة‬
‫مــا جعــل الحــدث الــروايئ فيهــا يقتــر عــى حالــة رصاع بــن الخــر والــر‪ ،‬رصاع شــعب ثائــر ألجــل‬
‫حريتــه وكرامتــه يتصــدى لــه املســتبد بــكل مــا ميلــك مــن عصابــات مســتفيدة ومنتفعــة مــن وجــوده‪،‬‬
‫ميدها بكل أسباب القوة‪ ،‬هذا الحدث حتم ظهور شخصيات عديدة ومتنوعة وموزعة عىل مساحة‬
‫واسعة‪ ،‬ويف الوقت ذاته تتساوى إىل حد ما يف الظهور‪ ،‬وكثري منها ال يتعدى ظهوره مساحة دور‬
‫صغــر يف حكايــة أو حــدث‪ ،‬هــذا التنــوع وهــذه التعدديــة جعــل مــن البنــى الحكائيــة تتناســل وتتــواىل‬
‫عــى امتــداد النــص الــروايئ‪ ،‬ويف معظــم هــذه األحــداث نــرى أن الناظــم بينهــا إمــا شــخصية الــراوي‬
‫أو املــكان ذاتــه ويف مجملهــا تعكــس أكــر قــدر مــن هــذا الــراع بــن القبــح والجــال‪ ،‬بــن الــرف‬
‫والوضاعــة‪ ،‬بــن الخــر والــر‪ ،‬وعــى وجــه الخصــوص بــن الحريــة واالســتعباد‪.‬‬

‫وبغيــة تنــاول الشــخصيات يف مــدن اليــام ســأحاول االرتــكاز عــى مــا توصــل إليــه فيليــب هامــون‬
‫يف دراسته حول الشخصية الروائية حيث يحدد ثالثة محاور لدراسة الشخصية تتمثل يف (مدلول‬
‫الشخصية ـ مستويات وصف الشخصية ـ دال الشخصية) وذلك يف ضوء تحليل الشخصية الروائية‪:‬‬
‫“بوصفهــا وحــدة دالليــة قابلــة للتحليــل والوصــف أي مــن حيــث هــي دال ومدلــول‪ ،‬وليــس كمعطــى‬
‫)*(‬
‫قبيل وثابت”‪ ،‬وتتأىت وظيفتها األدبية « حني يحتكم الناقد إىل املقاييس الثقافية والجاملية»‬

‫وبناء عليه يصنف هامون الشخصية الروائية إىل ثالث فئات‪( :‬املرجعية ـ الواصلة ـ التكرارية)‬

‫‪ 1‬ـ الشــخصيات املرجعيــة‪ :‬وهــي شــخصيات تحمــل عالمــة مرجعيــة وإحاليــة (تحيــل عــى معنى‬
‫ممتلئ وثابت‪ ،‬حددته ثقافة ما‪ .‬وباندماج هذه الشخصيات داخل ملفوظ معني‪ ،‬فإنها ستشتغل‬
‫كإرســاء مرجعــي يحيــل عــى النــص الكبــر لإليديولوجيــا أو الثقافــة‪ .‬إنهــا ضــان ملــا يســميه بــارت بأثــر‬
‫الواقعي‪ (**).‬من أهم هذه الشخصيات يف مدن اليامم تأيت شخصية حنظلة الشخصية الشهرية‬
‫ٍ‬
‫خاف عىل أحد مدلول هذه الشخصية بأبعادها‬ ‫التي أنتجها الفنان الفلسطيني ناجي العيل‪ ،‬وغري‬
‫الثقافيــة والنضاليــة التــي تتســم بأرقــى ســات الكفــاح الســلمي إذ تعتمــد الكلمــة والرســم ســاحها‬
‫يف وجــه الــرور الواقعــة عــى اإلنســان باملطلــق‪ .‬وقــد أضافــت الكاتبــة لهــذه الشــخصية مســتويات‬
‫جديــدة بــأن أنســنتها ومنحتهــا دورا ً هامـاً يف تقــي الحقائــق‪ .‬تتســلل شــخصية حنظلــة مــن خــال‬
‫األوراق إىل عــامل الفيــس بــوك وتنشــئ صفحــة رسيــة تضيــف إليهــا شــخصية األم فقــط‪ .‬ومــن خــال‬
‫هذه الصفحة سيكمل حنظلة رواية أحداث يف مناطق ال ميكن لشخصية األم أن تتواجد فيها إنها‬
‫تقنيــة الكاتبــة يف التعويــض عــن الــراوي العليــم واســتبداله بــرا ٍو مشــارك يف الحــدث‪ .‬نــراه بدايــة يف‬
‫جرس الشغور ثم يف حامه وبعد ذلك حمص وأخريا ً يف دمشق‪ ،‬يرصد وينقل األحداث يسبح يف‬

‫*) ـ صـ ‪ 221‬نفسه‬

‫**) ـ صـ ‪ 321‬نفسه‬
‫‪189‬‬ ‫عاضولاو ّومسلا نيب تايصخش‬

‫الزمن من خالل تقنية االسرتجاع فينقل لنا بعضاً مام جرى يف حامه يف مثانينات القرن املايض‪،‬‬
‫الح نمحرلا دبع‬

‫ثــم يعــود إىل الحــارض ليعتقــل ويكمــل رويــه مبــا يعيشــه ويــراه‪ .‬كذلــك تتســم هــذه الشــخصية ببعــض‬
‫ســات الشــخصية التكراريــة‪ ،‬خاصــة فيــا يتعلــق بنقــل األخبــار‪ ،‬وحياكــة االســتدعاء والتذكــر ضمــن‬
‫النســيج العــام للروايــة‪ ،‬وفيــا يتعلــق بالشــخصيات التكراريــة فــإن (مرجعيــة النســق الخــاص للعمــل‬
‫وحدها كافية لتحديد هويتها‪ ،‬فهذه الشخصيات تقوم داخل امللفوظ بنسج شبكة من االستدعاء‬
‫والتذكــر ووظيفتهــا وظيفــة تنظيميــة وترابطيــة باألســاس‪ ،‬إنهــا عالمــات تشــحذ ذاكــرة القــارئ))*(‪.‬‬
‫يشــرك حنظلــة يف ذلــك مــع الشــخصية األســاس يف الروايــة (شــخصية األم) ويف الحديــث عنهــا‬
‫ميكــن القــول أن هــذه الشــخصية تشــكل محــورا ً أساســياً يف الروايــة فمــن حيــث كونهــا مدلــول تحيــل‬
‫إىل تلــك املــرأة التــي ال هـ ّم لهــا ســوى الحفــاظ عــى ســامة ابنهــا ونجاحــه وتتســم بخــوف دائــم عليــه‬
‫أمــا مــن حيــث مســتويات الوصــف فهــي أيضـاً شــخصية مناضلــة وال تســتطيع إال أن تكــون مــع الجمــوع‬
‫الثائرة عىل الظلم ‪ ،‬أما من حيث البناء الروايئ فهي من تخلق خطوط الحكاية وهي الراوي الرئيس‬
‫لها ومن خاللها حرصا ً يحرض الراوي الثاين حنظلة وكذلك الراوي الثالث نورس‪ ،‬إنها أشبه مبخرج‬
‫درامــي تــأرسه األحــداث وتحركــه بــدالً مــن أن يقــوم هــو بتحريكهــا فــا ميتلــك غــر اإلمســاك بالكامــرة‬
‫ليلتقــط أهــم مــا يــراه‪ .‬وبدافــع مــن قيمــه اإلنســانية ينخــرط طواعيــة بالحــدث العــام‪ ،‬تبــدأ الحكايــة برؤيــا‬
‫تبعــث عــى القلــق والخــوف وهــي التــي تخــاف مــن أي منــام تــراه إذ رسعــان مــا يتحقــق‪.‬‬

‫تجلس مع طفلها عىل صخرة وســط مياه الشــاطئ تالعبه ويشــر إىل ســمكة ملونة جميلة وهو‬
‫يضحــك وبلحظــة تتقــدم موجــة هائجــة تغمــره ليختفــي لحظات عن عينيها‪.‬‬

‫تــدرك هــذه األم اآلن أن طفلهــا الــذي كــر لــن يقــف موقف ـاً حيادي ـاً يف ثــورة شــعب انطلقــت‪،‬‬
‫خاصة وأنه يف سنته الجامعية األخرية يف العاصمة دمشق حيث بدأت األحداث تتصاعد‪ ،‬متاماً‬
‫مثلــا أنهــا هــي أيضـاً لــن تســتطيع الوقــوف موقــف املتفــرج مــا يحــدث وهــي ابنــة مدينــة عانــت مــا‬
‫عانــت يف مطلــع الثامنينــات مــن املســتبد ذاتــه‪ .‬وإذ تســافر إىل دمشــق لتلتقــي بولدهــا تتعــرف‬
‫عــى أيب ســعيد الفلســطيني الــذي يهبهــا بعضـاً مــن تاريخــه الشــخيص عــى شــكل دفــر ومجموعــة‬
‫أوراق خاصة تحيك رحلة أبيه يف الترشد والنزوح (حيث طلبت األوراق بدافع فضول الكتابة فهي‬
‫يف الروايــة ليســت أمـاً وفقــط بــل كاتبــة أيضـاً) وتكتشــف بــن األوراق رسـاً مل ينــر مــن قبــل لناجــي‬
‫العــي يصــور فيــه شــخصية حنظلــة‪.‬‬

‫إن شــخصيات الرواية ميكن تقســيمها إىل فئتني وحســب‪( .‬الشــخصيات الثائرة والشــخصيات‬
‫القامعــة للثــورة أو أدوات املســتبد يف القمــع)‪ .‬فباإلضافــة لشــخصية األم وشــخصية حنظلــة نجــد‬
‫الشــخصيات التاليــة والتــي تلعــب دورا ً بــارزا ً يف تكويــن النــص الــروايئ‪:‬‬

‫*) ـ صـ ‪ 223‬نفسه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪190‬‬

‫نور‪:‬‬
‫ويعد االسم بداية داالً مرجعياً يحيل إىل كل ما هو ميضء عىل املستوى اإلنساين وهو طالب‬
‫جامعي فاجأته الثورة قبيل تخرجه يحمل يف داخله عذابات جده وأخواله أيام أحداث الثامنينات‬
‫يعيش يف مخيم الريموك‪ ،‬ينشط منذ األيام األوىل للثورة يف املظاهرات السلمية وعندما يشتد‬
‫القمع يتحول مع مجموعة من أصدقائه للعمل اإلغايث يعتقل أول مرة ويخرج ليعتقل ثانية‪ ،‬ال نرى‬
‫لهــذه الشــخصية حضــورا ً مبــارشا ً يف الحــدث إال يف بعــض مفاصــل الروايــة لكننــا نكتشــف يف رحلــة‬
‫أمــه الثانيــة إىل دمشــق عندمــا اعتقــل للمــرة الثانيــة أنــه أحــد الشــخصيات املؤثــرة والفاعلــة جــدا ً يف‬
‫وســطه لدرجــة أن أمــه أحســت أن كل مــن يف دمشــق يعرفــه ( رصت أنتبــه حتــى إىل أشــجار الطريــق‪،‬‬
‫فتقــول يل همس ـاً إنهــا تعرفــه‪ ،‬وقــد مــر بهــا يوم ـاً‪ ،‬ومســت أصابعــه لحاءهــا بحنــان! هــو هنــا يف كل‬
‫)*(‬
‫مكان يف دمشــق‪ ...‬األزقة والشــوارع ووجوه العابرين‪).‬‬

‫يــأيت هــذا املقبــوس عــى لســان أمــه بعــد أن تكتشــف وهــي يف خضــم العمــل اإلغــايث أن كل‬
‫مــن التقتهــم يعرفــون نــور لهــذا كتبــت يف اإلهــداء (كان نــورا ً يل فقــط‪ ،‬وصــار نــورا ً ملئــات األصدقــاء‬
‫األحــرار‪ ...‬كان ابنــي‪ ،‬وأصبــح ابــن ســوريا‪ ...‬ابــن الشــمس‪ ...‬ميتلكــه الســوريون‪ ...‬يســتبدلون صورتــه‬
‫)**(‬
‫بصورهــم الشــخصية عــى الفيــس بــوك‪ ...‬يكتبــون عنــه‪ ...‬يحبونــه مثــي‪ ،‬ورمبــا أكــر‪)...‬‬

‫نورس‪:‬‬
‫من أصدقاء نور يف النشاط السلمي للثورة‪ ،‬مخرج سيناميئ (وهذه بحد ذاتها عالمة مرجعية)‬
‫يعتقل يف املطار وهو يحاول تهريب فيلمه الذي صنعه عن الدكتاتور‪ ،‬يساهم بدور فعال يف روي‬
‫الحدث من داخل املعتقالت التي تنقل بينها بدءا ً يف دمشق وانتها ًء يف سجن حلب املركزي‪،‬‬
‫مــن خاللــه نكتشــف الــدور العظيــم لــأم وهــي تتابــع قضيتــه مــع املحامــي وتــزوره يف الســجن‪ ،‬كذلــك‬
‫يسهم نورس يف ترسيخ الرؤية الفكرية للرواية من خالل البعد اإلنساين الذي يطرحه‪.‬‬

‫أمــا باقــي الشــخصيات املنضويــة تحــت علــم الثــورة فتــرز الوجــه املــرق لشــعب قــرر أن ينــال‬
‫حريته‪ ،‬هذا الوجه الذي ال ميكن وصفه بغري كلمة (سوري) حيث نجد يف مجموعة العمل اإلغايث‬
‫شــخصيات متثــل معظــم الطوائــف الســورية جمعهــم نــداء الحريــة وعــزز صداقتهــم العمــل عىل تأمني‬
‫الكســاء والغذاء والدواء لضحايا القمع األســدي‪.‬‬

‫يف الجانــب اآلخــر تتحــرك عــدة شــخصيات مختلفــة الدوافــع واألســباب لكنهــا تتفــق جميعـاً يف‬
‫محاربــة كل مــن ثــار عــى املســتبد حربـاً ال هــوادة فيهــا مســتخدمة أبشــع صــور القتــل واإلجــرام وأبشــع‬

‫*) ـ مدن اليامم إبتسام ترييس صـ ‪297‬‬


‫**) ـ مدن اليامم إبتسام ترييس صـ ‪7‬‬
‫‪191‬‬ ‫عاضولاو ّومسلا نيب تايصخش‬

‫أنــواع االنحطــاط األخالقــي بعضهــا دفاع ـاً عــن مكاســبه وطمع ـاً باملزيــد وبعضهــا ناجــم عــن إميــان‬
‫الح نمحرلا دبع‬

‫عميــق أوجدتــه تربيــة خاصــة تخلــو مــن أي وجــود ألي وازع أخالقــي أو دينــي أو فكــري إنهــا شــخصيات‬
‫متثــل أدىن مســتويات الوضاعــة التــي عرفتهــا البرشيــة‪ ،‬لذلــك كان مــن البدهــي أن تحــارب نقيضهــا‬
‫بــا هــوادة‪ .‬وســأتوقف عنــد شــخصيتني اثنتــن منهــا‪:‬‬

‫ست الحسن‪:‬‬
‫شخصية معقدة منحتها الكاتبة كثافة سيكولوجية خاصة بحيث عادت بها إىل مرحلة والدتها‬
‫ألم هربــت مــع عشــيقها وأمضــت عمرهــا تعمــل يف خدمــة البيــوت يف ظــل غيــاب زوجهــا الدائــم أمــا‬
‫األب الحقيقــي لهــذه الطفلــة فهــو مــن يفــرض أن يكــون عمهــا‪ .‬فنحــن أمــام طفلــة نشــأت بدايــة يف‬
‫أرسة منحلــة أخالقيـاً ونتيجــة غيــاب األب وتحــت ضغــط الحاجــة املاديــة فقــد كانــت الصغــرة تتدبــر‬
‫أمورهــا بطــرق خاصــة كأن تحصــل عــى حــذاء أو ثــوب مــن بائــع بعــد أن تســمح لــه ببعــض االســتمتاع‬
‫بهــا وقــد يحــدث كثــرا ً أن يســتمتع بهــا بائــع مــا ثــم يطردهــا بــا أي مقابــل‪ ،‬وعندمــا نضــج جســدها‬
‫بــدأت تفكــر باالنتقــام مــن املجتمــع كلــه ومــن الرجــال عــى وجــه الخصــوص فأنشــأت عالقــات مميــزة‬
‫مــع رجــال األمــن واملســؤولني وبــدأت رحلــة اإلثــراء ومــع بدايــة الثــورة نجدهــا يف معمــل الســكر يف‬
‫جرس الشغور مع الضابط املسؤول عن قمع املتظاهرين‪ ،‬حيث تم اقتياد عدد من األسريات إىل‬
‫داخــل املعمــل وهنــاك تنتقــم منهــن عــى طريقتهــا الخاصــة ‪ ،‬كذلــك نراهــا عــى شاشــة التلفزيــون‬
‫الســوري مــع اثنتــن مــن فصيلتهــا وقــد تحجــن وبــدأن بفربكــة قصــص االغتصــاب املزعومــة لتشــويه‬
‫وجــه الثــوار ‪ .‬ســت الحســن منــوذج للمــرأة الســادية التــي اســتعان بهــا املســتبد كإحــدى أدواتــه يف‬
‫قمــع الثــورة‪ ،‬وتــزداد رشاســتها كلــا اصطدمــت بالنمــوذج املعاكــس الــذي يذكرهــا بوضاعــة أصلهــا‪،‬‬
‫فإحــدى املعتقــات يف معمــل الســكر عندمــا أحســت أن هــذه املــرأة ســتتلذذ بإهانتهــا وهتــك‬
‫عرضهــا وقفــت وبصقــت يف وجههــا ثــم رمــت بنفســها يف املرجــل الــذي يغــي فيــه مــاء الســكر‪.‬‬

‫(عبد السالم) امللقب بالخرض‪:‬‬


‫عندمــا كان يأخــذ بعضـاً مــن صيــد رفاقــه ويعــود إىل البيــت كانــت جدتــه تقــول لــه (شــاطر ياولــد‪،‬‬
‫مل يخــب ظنــي فيــك‪ ،‬أنــت أمهــر مــن فرقاطــة))*( والفرقاطــة اســم لطائــر يطــر فــوق املــاء برسعــة وال‬
‫يجيــد الغــوص أو التعامــل مــع املــاء يعــرف بـ»قرصــان الهــواء» لرباعتــه يف خطــف الفرائــس التــي‬
‫تصطادهــا الطيــور األخــرى‪.‬‬

‫ومتثــل هــذه الشــخصية إحــدى أقــذر أدوات املســتبد يف قمــع الثــورة‪ ،‬إذ يؤمــن عبــد الســام‬
‫إمياناً كلياً بأن املوت يف سبيل الرئيس هو الغاية األسمى يف الوجود‪ ،‬حتى أنه يعنف نفسه كثريا ً‬

‫*) ـ مدن اليامم إبتسام ترييس صـ ‪34‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪192‬‬

‫عندمــا توســوس لــه ولــو مبجــرد خاطــر بغــر ذلــك‪ ،‬وبحكــم تربيتــه املنعزلــة يف منطقة‬
‫جبليــة‪ ،‬وعــدم تلقيــه أي تعليــم نــراه ميتلــك قــدرات جســدية مميــزة واندفاعـاً غرائزيـاً‬
‫غــر مقيــد بــأي وازع عــى اإلطــاق‪ ،‬لقــد أســهمت هــذه الرتبيــة الخاصــة إضافــة ملــا‬
‫تلقاه من تعاليم أثناء خدمته العسكرية يف تكوين عقيدة خاصة‪ .‬تجعله يستبسل‬
‫يف القتــال دفاعـاً عنهــا ويف الوقــت ذاتــه يســتغرب ملــاذا رمــت ميامــة نفســها عــى‬
‫منحــدر صخــري قاتــل لحظــة محاولتــه اغتصابهــا‪ ،‬لقــد خلقــت منــه هــذه العقيــدة‬
‫وحش ـاً ال يعــرف غــر القتــل واللواطــة وال يــردد مطلق ـاً عــن قتــل طفــل ثــم التمتــع‬
‫مبؤخرتــه‪ .‬يشــرك يف هــذه العقيــدة مــع شــخصية أخــرى (املــازم خــر) الــذي تــم‬
‫تكليفــه بنقــل البنــات األســرات إىل معمــل الســكر يف جــر الشــغور حيــث يصــل‬
‫األمر عند هذا املالزم حدا ً جنونياً يف القتل واالغتصاب لدرجة أن وقع أسري شهوة‬
‫القتــل فبــدأ يطلــق النــار حتــى عــى رفاقــه األمــر الــذي أدى إىل مقتلــه‪ ،‬ذلــك بعــد أن‬
‫كان قد أوقف سيارة عىل الطريق العام فيها شاب وفتاة فأردى الشاب بطلقة ثم‬
‫التفت إىل الفتاة فمزق ثيابها وذبحها ثم اغتصب الجثة وأكمل جنونه بأن أمسك‬
‫ســكيناً وبدأ يرســم بها خطوطاً عىل جســد الفتاة‪ .‬إنه شــكل من أشــكال االســتذئاب‬
‫الذي مل يره من قبل علامء النفس وإال ما كانوا اقترصوه عىل املضطربني عقلياً‪،‬‬
‫إنــه خلــل جينــي يعيــد اإلنســان ـ عــر تربيــة محــددة ـ إىل حالــة ذئبيــة خاصــة‪.‬‬

‫إذا ً نحــن أمــام روايــة تســعى جاهــدة لتفكيــك وتحليــل هــذه الرغبــات الجامحــة‬
‫وغري املسبوقة يف القتل واالغتصاب وقهر اإلنسان من خالل تسليط الضوء عىل‬
‫ســلوك الشــخصية تــارة وعــى كثافتهــا الســيكولوجية تــارة أخــرى‪ ،‬وبذلــك تشــكل‬
‫هــذه الروايــة خطــوة أوىل يف مقاربــة هــذه البنيــة االجتامعيــة املغلقــة بغيــة كشــفها‬
‫بشــكل واضــح خاصــة بعــد أن كــرت عــن أنيابهــا بصــورة قاتلــة إنهــا بنيــة االســتبداد‬
‫والرشائــح االجتامعيــة املنتفعــة منــه والتــي تشــكل لــه حاضنــة اجتامعيــة تطيــل مــن‬
‫أمــده عــى حســاب دمــاء بريئــة‪.‬‬

‫«مدن اليمام» رواية للكاتبة إبتسام ترييس‬


‫مكتبة الدار العربية للكتاب ـ القاهرة ـ ط‪ 1‬ـ ‪2014‬‬
‫‪193‬‬ ‫عاضولاو ّومسلا نيب تايصخش‬
‫الح نمحرلا دبع‬

‫أوراق الحوار‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪194‬‬

‫أجرى الحوار‪ :‬عادل سعيد بشتاوي‬

‫ـي يفــوز بالجائــزة األوىل ملســابقة الرواية‬


‫عربـ ّ‬
‫يف مالطا‬
‫وليــد نبهــان‪ :‬رويــت فلســطني ملالطــة‬
‫ومزجتهمــا معــا ً يف روايــة اإلنســان‬

‫احتفلت جمهورية مالطا يف الخامس من كانون األول (ديسمرب) ‪ 2014‬باعالن‬


‫الروائيــن الثالثــة الفائزيــن يف مســابقة الروايــة للعــام ‪ 2013‬وفــاز بالجائــزة األوىل‬
‫الــروايئ والقــاص وليــد نبهــان‪ ،‬وهــو فلســطيني يحمــل الجنســية املالطيّــة‪ .‬شــارك‬
‫يف االحتفــال الــذي جــرى يف القــر الرئــايس (األوبــرج) يف العاصمــة فاليتــا عــدد‬
‫مــن كبــار املســؤولني يتقدمهــم الدكتــور جوزيــف ُمســكات رئيــس الــوزراء رئيس حزب‬
‫العــال املالطــي الــذي قــدم الجوائــز للفائزيــن‪ ،‬ورئيــس املجلــس الوطنــي للكتــاب‬
‫الــذي أرشف عــى تنظيــم الجائــزة واختيــار الفائزيــن‪.‬‬

‫الروايئ والقاص والشاعر وليد نبهان عضو رشف يف رابطة الكتاب السوريني‪،‬‬
‫وقــد نقــل عضــو املكتــب التنفيــذي يف الرابطــة املــؤرخ والــروايئ عــادل بشــتاوي‬
‫باســم الرابطــة تهانيــه للزميــل وليــد نبهــان مبناســبة فــوزه‪ ،‬ومتنــى لــه اســتمرار االنتــاج‬
‫االبداعــي واالنتقــال إىل العامليــة‪ ،‬وكان لهــا هــذا الحــوار‪:‬‬
‫‪195‬‬ ‫إلا ةياور يف ًاعم امهتجزمو ةطلامل نيطسلف تيور ‪:‬ناهبن ديلو‬

‫أوراق‪ :‬ما هو الهدف من الكتابة بالنسبة لك؟‬


‫يواتشب ديعس لداع ‪:‬راوحلا ىرجأ‬

‫وليــد‪ :‬توجــد أســباب كثــرة‪ ،‬رمبــا كان أحدهــا أننــي أريــد روايتــي الخاصــة يب‪ ،‬مــن منظــوري أنــا‬
‫للعامل بأكمله‪ ،‬وأقصد بذلك املنظور االنساين بشكل عام‪ .‬طبعاً هذا سبب لكن هناك اسباب‬
‫اخــرى رمبــا كان منهــا االنســال مــن الواقــع املحيــط وتســجيل مــا يحــدث حولنــا مــن الزاويــة التــي ينظــر‬
‫الــروايئ منهــا‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬هل نتحدث عن املراقبة؟‬

‫وليد‪ :‬بالضبط‪ ،‬الكتابة هي عملية مراقبة دقيقة لنفيس ولآلخرين‪.‬‬

‫عــادل‪ :‬الواضــح أنــك تد ّرجــت يف الكتابــة مــن القصــة إىل الروايــة فهــل هــذا تطــور طبيعــي يف‬
‫الكتابــة؟‬

‫وليــد‪ :‬هــي فعــا عمليــة تــدرج وتشــبه عمليــة االحــاء بالنســبة لالعــب‪ .‬بــدأت بالقصــة القصــرة‬
‫لكــون فضائهــا اصغــر وميكــن مراقبــة أشــخاصها وتوجيههــم بســهولة‪ .‬صــدرت يل مجموعتــان‪ ،‬األوىل‬
‫عــام ‪ 2009‬وكانــت بعنــوان «عائــد إىل البيــت»‪ ،‬والثانيــة عــام ‪ 2011‬بعنــوان «صــوت مــن الفخــار»‪.‬‬
‫بعدهــا وفجــأة اكتشــفت أن القصــة القصــرة مل تعــد تتســع ملتطلبــات شــخويص وتطلعاتهــم‪ .‬كــا‬
‫ان الروايــة يف بعــض الحــاالت ليســت ســوى مجموعــة مــن القصــص القصــرة التــي ميكــن معالجتهــا‬
‫تقنيــا لتشــكل فصــوال يف روايــة‪ ،‬لكــن طبعـاً أســلوب كتابــة القصــة القصــرة يختلــف عــن كتابــة الروايــة‬
‫لــذا مــن الطبيعــي أن تختلــف املعالجــة‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬هل هذه املعالجة ما يصفها البعض أحياناً بأنها معالجة النفس الطويل؟‬

‫وليــد‪ :‬ميكــن قــول ذلــك‪ ،‬لكــن مــا ينطبــق عــى عمــل ال ينطبــق عــى عمــل آخــر‪ .‬مث ـاً‪ ،‬خــال‬
‫كتابــة قصــص املجموعــة الثانيــة شــعرت أن املســاحة املخصصــة لبعــض القصــص مل تكــن كافيــة‬
‫الســتيعاب مــا حاولــت التعبــر عنــه عــى لســان شــخوص تلــك القصــص‪ ،‬لذلــك اضطــررت يف حالــة‬
‫أو أخــرى إىل انهائهــا تقنيــا‪ ،‬لكــن الشــخوص طاردتنــي كثــرا ً بعــد ذلــك‪ ،‬كأن االكتــال مل يتحقــق يف‬
‫بنــاء بعــض القصــص‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬عندمــا تقــول «االكتــال» فهــل هــو اكتــال بنــاء الشــخصية أم اكتــال الــرد‪ ،‬أم مــاذا‬
‫بالضبــط؟‬

‫التوســع يف بعــض قصــص املجموعــة الثانيــة كان متاحـاً يف البنــاء ال يف‬


‫ّ‬ ‫وليــد‪ :‬اعتقــد أن مجــال‬
‫ا يف القصــة القصــرة كان مــن الدوافــع‬
‫املســاحة‪ ،‬فالوعــي بهــذا القصــور املســاحي الكامــن أص ـ ً‬
‫التــي قادتنــي إىل طريــق الروايــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪196‬‬

‫أوراق‪ :‬لكن هل شخوص الرواية أكرث عادة من شخوص القصص القصرية ألن محيطها أوسع؟‬
‫وليد‪ :‬ليس يف الحاالت كلها‪ ،‬وال الزمن رشط أيضاً‪ .‬مثالً‪ ،‬تجد روايات من ألف صفحة أو أكرث‬
‫تــدور أحداثهــا يف ليلــة واحــدة‪ .‬طبعـاً مــا ينطبــق عــى قصــة ال ينطبــق عــى أخــرى‪ .‬ســيجد الكاتــب‬
‫أن بعــض القصــص قابلــة للتع ّمــق أفقي ـاً وعامودي ـاً‪ ،‬مبــا يتضمــن االســتفاضة الرسديــة أو التعبرييــة‬
‫أو التصويريــة‪ ،‬فهــذا نــوع مــن االسرتســال لكــن الفــارق كبــر بــن االسرتســال الــذي يفرضــه الكاتــب‬
‫عــى نفســه‪ ،‬واالسرتســال الــذي تفرضــه طبيعيــة القصــة‪ .‬املشــكلة ليســت بســيطة‪ .‬أحيانـاً تجــد أن‬
‫مك ّونــات بنــاء عــامل روايئ متكامــل موجــودة يف وعــاء القصــة القصــرة‪ .‬أحيانـاً تضــع نقطــة يف نهايــة‬
‫قصــة قصــرة مــا ألنــك تشــعر أنهــا اكتملــت‪ .‬يف أحايــن أخــرى هــذا الشــعور ليــس موجــودا ً‪ ،‬ورمبــا‬
‫لحــق الــرد بعــض البــر لطبيعــة االختــزال يف وعــاء القصــة القصــرة‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬لكــن أال تعتقــد أن ضبــط الــرد مطلــوب أيض ـاً يف الروايــة ألنهــا أكــر مــن القصــة لكــن‬
‫صفحاتهــا محــدودة هــي األخــرى؟‬
‫وليــد‪ :‬الكتابــة هــي موافقــة املك ّونــات كلهــا‪ .‬مثـاً‪ ،‬يف الروايــة األوىل التــي حملــت اســم «هجــرة‬
‫اللقلــق» كانــت التقنيــة عفويــة إىل حــد كبــر‪ ،‬مبعنــى أن نصــف الروايــة بضمــر املتكلــم‪ ،‬أي «أنــا»‪،‬‬
‫ونصفهــا اآلخــر يف الغائــب املفــرد‪ ،‬أي «هــو»‪ ،‬فرمبــا كان هــذا التجــزيء أحــد األســباب يف أن كتابــة‬
‫هــذه الروايــة مل تكــن مضنيــة تقنيــا بــل انهــا تدفقــت بعفويــة اذهلتنــي يف بعــض االحيــان‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬ومن هو «أنا» يف الرواية‪ ،‬ومن هو «هو»؟‬
‫وليد‪« :‬أنا» رمبا هو وليد بكامل امتداداته الشــخوصية واالنســانية‪ .‬رمبا هو شــخص آخر‪ .‬ورمبا‬
‫وجد بعض من يعرفني أن «أنا» يف الرواية يشبهني اىل حد ما‪.‬‬
‫عمن ام وليد الغربة؟‬
‫أوراق‪ :‬وليد املقيم يف ّ‬
‫وليــد‪ :‬وليــد املقيــم يف الــذات‪ .‬الفلســطيني خــارج فلســطني غريــب رمبــا أينــا حــل‪ ،‬وهــذه‬
‫قصــة يجــب أن تُــروى‪ ،‬وبلغــة غــر العربيــة ولقــراء ال يجيدونهــا‪ .‬مــا حاولــت تحقيقــه يف هــذه الروايــة‬
‫هــو روايــة فلســطني ملالطــا‪ ،‬وروايــة مالطــا لفلســطني‪ ،‬ثــم مــزج الروايتــن معـاً يف وطــن روايئ أكــر هــو‬
‫االنســان أينــا كان‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬وما هي النتيجة؟‬
‫وليــد‪ :‬النتيجــة هــي أن توظيــف تقنيتــي رسد يف روايــة واحــدة أتــاح التعبــر بصــورة أكــر دقــة واكــر‬
‫حســن التعبــر عنهــا بضمــر األنــا‪ ،‬وأشــياء‬
‫حميميــة وتفصيـاً‪ .‬توجــد أشــياء يف عمــوم أوعيــة الــرد يَ ُ‬
‫حســن التعبــر عنهــا بضمــر الغائــب‪ .‬أعتقــد أن اســتخدام راويــن كان التقنيــة األفضــل ملثــل‬
‫أخــرى يَ ُ‬
‫هــذا العمــل‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫إلا ةياور يف ًاعم امهتجزمو ةطلامل نيطسلف تيور ‪:‬ناهبن ديلو‬

‫أوراق‪ :‬كيف؟‬
‫يواتشب ديعس لداع ‪:‬راوحلا ىرجأ‬

‫وليــد‪ :‬الــراوي الغائــب غائــب يف املفهــوم القواعــدي لكنــه حــارض يف الــرد‪ .‬يســتطيع الــروايئ‬
‫توظيــف هــذه التقنيــة ألن هــذه الشــخصية أقــدر عــى التعبــر بحميميــة الصــدق واملشــاعر‪ .‬الســبب‬
‫بســيط ألن ضمــر الغائــب خــارج االحــداث فينظــر إليهــا نظــرة املراقــب عــن بعــد‪ .‬النصــف الثــاين‬
‫مــروي باملتكلــم فهــو داخــل األحــداث لكنــه ال يســتطيع أن يــرى أعامقهــا كاملــة ألن قدميــه غائصتــان‬
‫يف التفاصيــل‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬هــل ميكــن القــول إن الروايــة قســان‪ :‬قســم ينظــر مــن الخــارج إىل الداخــل‪ ،‬وقســم ينظــر‬
‫مــن الداخــل إىل الخــارج؟‬

‫وليــد‪ :‬رمبــا‪ ،‬لكــن النظرتــن هــا يف إطــار العمــل الــروايئ الواحــد‪ .‬رمبــا لهــذا ســتجد يف الروايــة‬
‫نظــرة شــديدة الحيــاد تُــروى بعينهــا األحــداث مــن الداخــل‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬أنت نشأت يف َع ّمن ودرست وعشت يف بريطانيا‪ ،‬فهل لهذين املكانني مكان روايئ‬
‫أم أن املكان ّية محصورة بفلسطني ومالطا؟‬

‫وليــد‪ :‬إذا أردت تشــبيهاً وقلــت إن مالطــا جزيــرة وتص ـ ّورت فلســطني جزيــرة فمحيــط الروايــة هــو‬
‫العامل‪ .‬مرسح الرواية يف الدرجة األوىل هو العامل العريب عموماً والدول املعروفة بدول «الطوق»‬
‫بتحديــد أقــرب ألنهــا الــدول التــي اســتقبلت الالجئــن الفلســطينيني عــام ‪ ،1948‬أي مــر وســورية‬
‫ولبنــان واألردن‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬تأريخ؟‬

‫وليد‪ :‬ليس تأريخاً باملعنى الشائع‪ ،‬لكن الرواية معارصة ومن الرضوري أن تعرض بعض جوانب‬
‫التاريــخ املعــارص لهــذه الــدول ومنهــا التقلّبــات الجيوسياســية‪ ،‬فهــذه إضــاءة وجدتهــا مهمــة لفهــم‬
‫انعكاســاتها عــى أحــداث الرواية وشــخوصها‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬أنت تكتب باملالطية وهي من اللغات التي توصف باللغات «السامية»‪ ،‬وفيها جذور‬
‫عربيــة لكنهــا تبقــى لغــة مختلفــة‪ ،‬فــا هــو تقييمــك كــروايئ وقــاص لقدراتهــا التعبرييــة‪ ،‬ومــا هــي أوجــه‬
‫املقارنة بالعربية؟‬

‫وليد‪ :‬اللغة املالطية تتضمن كتلة أساسية هامة ال تبتعد كثريا ً عن العربية‪ ،‬ومن الباحثني من‬
‫يعتقــد أنهــا «عربيــة» يف العمــوم‪ .‬املقصــود بهــذا أن محــرك اللغــة عــريب‪ ،‬لكــن أطرافهــا اليــوم خليــط‬
‫يتضمــن تعبــرات ولفظــات بااليطاليــة واالنكليزيــة والفرنســية‪ .‬هــي إذا ً مــا يطلــق عليــه اســم «اللغــات‬
‫الســامية»‪ ،‬والعربيــة فيهــا عربيــة قدميــة تتضمــن الرببريــة واالمازيغيــة ولغــات الســاحل املغــاريب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪198‬‬

‫بحكــم التقــارب واالتصــال‪ ،‬وكذلــك الصقليــة‪ .‬إذا اســتعرضت أســاء االرس املالطيــة فرمبــا وجــدت‬
‫أن نصفهــا تقريب ـاً ذات أصــول عربيــة والنصــف اآلخــر تقريب ـاً أســاء مــن صقليــة‪ .‬الربوفســور ويتينجــر‬
‫ألــف كتاب ـاً ضخ ـاً عــرض فيــه أصــول خمســة آالف اســم مالطــي كثريهــا عــريب‪ ،‬وعنــده نظريــة كاملــة‬
‫رأى فيهــا أن املالطيــن كانــوا عربـاً ب ّدلــوا ديانتهــم وهــذا واضــح يف قَدَريتهــم‪ ،‬ولغــة العبــادة عندهــم‬
‫يف املجمــل مرشقيــة‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬ال استبعد وال استنكر عىل الروايئ أن يكون شاعرا ً‪ ،‬مع ذلك الشعر فن مختلف يتطلب‬
‫معالجــة مختلفــة‪ ،‬وعنــدك ديــوان يف الشــعر فهــل الشــعر عنــدك مــن صنــف «االخوانيــات» أم أنــه‬
‫لــون أســايس يف لوحتــك الكتابيــة؟‬

‫وليــد‪ :‬صحيــح‪ ،‬يل ديــوان صــدر بعــد املجموعتــن القصصيتــن والروايــة‪ .‬الشــعر يتطلــب كثافــة‬
‫إحساســية أكــر مــن الــرد الــروايئ أو القصــي‪ ،‬لكــن الشــعر‪ ،‬كــا القصــة والروايــة‪ ،‬يتطلــب دقــة‬
‫املالحظة‪ .‬هناك فرق آخر‪ ،‬رمبا‪ ،‬هو أن الشعر يتطلب اقتصادا ً لغوياً وهذا من مقومات الشعر‪.‬‬
‫للروايــة أيضـاً ايقــاع لكــن عاملهــا واســع ومفتــوح‪ .‬الشــعر نبــض يتطلــب حالــة نفســانية معينــة ومنســوباً‬
‫عاطفي ـاً ذا نكهــة معينــة‪ ،‬أو لنقــل إنــه يتطلــب منســوباً تعبــرا ً أعــى مــن الــرد‪ .‬هــذه مــن الحــاالت‬
‫املعروفــة مثــل الفــرح الغامــر أو الحــزن الغامــر والغضــب الشــديد‪ ،‬وغــر ذلــك من الحاالت االنســانية‬
‫املرهفــة‪ .‬نحــن هنــا نتكلــم عــن حالــة نفســانية وذهنيــة معينــة يتفجــر منهــا جــدول الشــعر‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬هل ميكن القول إنه سرب لالوعي؟‬

‫وليد‪ :‬اعتقد انه يف الشعر يجب اإلصغاء جيدا لالوعي‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬أنت استخدمت وصف «يتفجر»‪ ،‬إن كان كذلك فام هو صاعقه؟‬

‫وليد‪ :‬الصاعق أحياناً يف الشعر ليس سوى البساطة وقدرة القصيدة عىل املباغتة واملكاشفة‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬املرأة عند وليد نبهان ما هي؟‬

‫وليد‪( :‬صمت)‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬ملاذا الصمت؟‬

‫وليــد‪ :‬ألن املــرأة كائــن محـ ّـر‪ .‬هــي مخلــوق لغــزي مثــل النــار‪ ،‬ان اقرتبت منها كثريا احرقتك‪ ،‬وان‬
‫ابتعــدت عنهــا كثــرا ً قتلتــك الــرودة حتــى التجمــد‪ .‬التعامــل الصحيــح مــع املــرأة رمبــا كان يف اختيــار‬
‫املسافة الصحيحة لكن املسافة الصحيحة لغز يف حد ذاته لكونها متحركة ومتغرية ضمن ايقاعات‬
‫بيولوجيــة معقــدة‪ .‬لــي يفهــم الرجــل املــرأة رمبــا كان عليــه مجاراتهــا عــى الســطح الهالمي ألن املرأة‬
‫فعال مخلوق معقد إىل حد ما‪ ،‬وال شك أن الكائن االنثوي فيزيولوجياً أكرث تعقيدا ً من الرجل‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫إلا ةياور يف ًاعم امهتجزمو ةطلامل نيطسلف تيور ‪:‬ناهبن ديلو‬

‫وليد نبهان يف أمسية أدبية يف مالطا‬


‫يواتشب ديعس لداع ‪:‬راوحلا ىرجأ‬

‫أوراق‪ :‬هل التعقيد النفساين امتداد للتعقيد الفيزيولوجي‪ ،‬أم هو غري ذلك؟‬

‫وليد‪ :‬اعتقد أنه امتداد ألن التعقيد الفيزيولوجي يقود إىل التعقيد النفساين‪ .‬عليك ان تتخيل‬
‫مثــا مــا ميكــن ان يفعلــه االدرينالــن بنــا‪ .‬هنــاك تغــول هرمــوين مرتبــط عضويــا بالكثــر مــن اإلمــاءات‬
‫الســيكولوجية‪ .‬وهــو رضورة «تطوريــة» مــن دون أدىن شــك‪ .‬لــو مل يحتــج االنســان لهــذا املركــب‬
‫العضــوي كــرورة بقــاء ملــا قــام بتطويــره‪ .‬وهــذا ينســحب عــى املنظومــة الهرمونيــة جميعهــا وهــي‬
‫يف املرأة رمبا أكرث تداخال وتعقيدا مام نعتقد‪ .‬الحالة النفسية يف رأيي‪ ،‬انثوية كانت ام ذكورية‪،‬‬
‫ليســت ســوى نتيجــة فيزيولوجيــة ناتجــة عــن تفاعــات كيميائيــة غايــة يف التعقيــد مرسحهــا الدمــاغ‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬إن مل تكن تنشد للمرأة يف ديوانك فلمن؟‬

‫وليد‪ :‬أنا أنشد للمرأة يف كتابايت كلها ال يف الشعر وحسب‪ .‬هي خالقتي ومرضعتي ونصفي‬
‫الغامــض‪ .‬يحتــاج الرجــل إىل شــاعرية عاليــة‪ ،‬ان مل يكــن ابجديــة مبهمــة لــي يفهــم املــرأة‪ ،‬أو لتحقيــق‬
‫يشء من املقاربة الفهمية ألن فهم املرأة متجردا ً من الشاعرية عيص عىل التق ّبل‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬رمبــا قيــل أن االســتمتاع بلوحــة جميلــة ال يشــرط أن يعــرف الناظــر املســتمتع ميكانيكيــة‬
‫الرســم عنــد الفنــان‪ ،‬مــا رأيــك؟‬

‫وليد‪ :‬معرفة امليكانيكية ليست رضورية‪ ،‬ورمبا كان هذا رس فهم املرأة‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬وهو؟‬

‫وليد‪ :‬كونها عصيّة عىل الفهم الكيل‪ .‬إذا استعرنا املجاز يف اللوحة فلعله من املمكن القول‬
‫إن االغــراق يف التفاصيــل االنثويــة رمبــا أضــاع عــى الناظــر رؤيــة الصــورة األكــر التــي تعرضهــا اللوحــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪200‬‬

‫الدكتور جوزيف موسكات رئيس الوزراء املالطي رئيس حزب العمال يقدم الجائزة األوىل للروائي وليد نبهان‬

‫بالرضورة كل أنثى امرأة لكن ليست كل امرأة بالرضورة أنثى‪ .‬املشكلة أن الرجل ال ينظر إىل املرأة‬
‫كــا هــي بــل كــا «يحبــذ» أن يراهــا هــو‪ .‬هــي‪ ،‬إذا ً‪ ،‬نظــرة ميكــن وصفهــا بالرومانســية‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬والرجل؟‬

‫وليد‪ :‬لدى الرجل منطية ذكورية «مخيفة» عىل املســتوى البيولوجي والســيكولوجي‪ ،‬ال ســيام‬
‫يف املجتمعات «األبوية» االكرث تخلفا‪ .‬الرجال يريدون أن يروا يف املرأة الجامل والرقة والحساسية‬
‫املرهفة‪ ،‬وهذه ليست نظرة واقعية او حتى عقالنية‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬لديــك قارئــات كثــرات جيــد أنهــن ال يعرفــن العربيــة لــذا لــن يقــرأن هــذه املحــاورة‪ ،‬فهــل‬
‫لــك أن تكشــف الفــرق بــن املــرأة املالطيــة واملــرأة العربيــة؟‬

‫وليــد‪ :‬ال اعتقــد بوجــود خــاف جوهــري‪ .‬املــرأة هــي املــرأة يف كل زمــان ومــكان‪ .‬هنــاك بعــض‬
‫االختالفــات الثقافيــة لكــن الحديــث يف العمــوم عــن الكائــن نفســه‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬منــذ فــرة مل أعــد اســأل مــن أحاورهــم ملــاذا مل يتزوجــوا وملــاذا مل ينجبــوا‪ ،‬فــإذا أردت‬
‫التعليــق هيــا وإال ســأنتقل إىل الســؤال التــايل‪.‬‬

‫وليد‪ :‬ال يوجد سبب «آخر» سوى انشغايل بالكتابة وخشيتي من سكرات التجمد واإلحرتاق‪.‬‬
‫‪201‬‬ ‫إلا ةياور يف ًاعم امهتجزمو ةطلامل نيطسلف تيور ‪:‬ناهبن ديلو‬

‫أنــا نســيت يف الكتابــة نفــي‪ ،‬ولعــي نســيت املــرأة زوجــة للســبب نفســه‪ .‬لكنهــا حــارضة دومــا فهي‬
‫يواتشب ديعس لداع ‪:‬راوحلا ىرجأ‬

‫نصــف الوجــود الكتايب لدي‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬أليس للمرأة مكان يف حياتك اآلن؟‬

‫وليد‪( :‬صمت)‪.‬‬

‫أوراق‪( :‬صمت)‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬العزم عىل دخول بوابة الرواية‪ ،‬كيف تبلور؟‬

‫وليــد‪ :‬هنــاك فكــرة تطــارد الكاتــب دامئـاً‪ .‬وهــي فكــرة انجــاز عمل أديب ســواء كان قصيدة أو قصة‬
‫قصــرة أو روايــة‪ .‬هــذه الفكــرة موجــودة حتــى قبــل أن يتعــرف االنســان عــى الكتابــة‪ ،‬لكــن االنتقــال مــن‬
‫الفكــرة والتجريــد إىل البلــورة والتأثيــث يتطلــب الكثــر مــن العــزم واالرصار والوقــت وقبــل ذلــك كلــه‪،‬‬
‫املوهبــة‪ .‬اللغــة تتطلــب الطَـ ْرق التعبــري املتواصــل أو املطـ ّول‪ ،‬وأقصــد بالطــرق البحــث املضنــي‬
‫عــن الكلمــة املناســبة‪ ،‬فــإذا جمــع الكاتــب كلمتــن أصدرتــا معـاً الصــوت التعبــري املُشــبع أو الحالــة‬
‫البيانيــة االحساســية التــي ينشــدها الكاتــب‪ .‬أحيانـاً يــؤدي قلــب ترتيــب كلمتــن ال غــر إىل اختــاف‬
‫امليلودي الرسدي وطريقة إيصال الفكرة‪ .‬القصيدة تريد أن تنقل شيئاً ما لكن هذا ليس كل يشء‪،‬‬
‫فاملهــم أن تُســتنطق الكلمتــان ال يف عمــل االيصــال نفســه بــل يف طريقــة االيصــال ألن الشــاعر يف‬
‫النهايــة لــن يــأيت بفكــرة مــن خــارج الكــون بــل مــن مالحظاتــه وحساســيته واستشــعاره لرتجمــة املواقــف‬
‫التــي تواجهــه حياتيـاً‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬كم استغرقت كتابة الرواية؟‬

‫وليد‪ :‬نحو أربع سنوات متقطعة كتابياً‪.‬‬

‫أوراق‪ :‬لــك وظيفــة دامئــة يف مختــر أكــر رشكــة ألبــان يف مالطــا‪ ،‬واختصــاص يف علــم البكرتيــا‪،‬‬
‫فكيــف تجــد الوقــت للكتابــة؟‬

‫وليــد‪ :‬الكتابــة عنــدي ليســت مجــرد هوايــة‪ .‬رمبــا قلــت إنهــا حاجــة‪ .‬مشــكلة الوقــت مشــكلة‬
‫الكتّــاب جميع ـاً‪ .‬لكــن‪ ،‬إذا اختــار الكاتــب االشــتغال يف الخلــق بالكلمــة فعليــه االشــتغال بخلــق‬
‫الوقــت الــروري للكتابــة‪ .‬ال يوجــد بديــل‪ ،‬الكاتــب عليــه أن يجلــس يف النهايــة ويكتــب فــا مــن‬
‫ـت كاتب ـاً فعليــك أن تكتــب‪ .‬ال يوجــد خيــار ثالــث‪ .‬إن‬
‫أحــد ســيؤدي هــذه املهمــة نيابــة عنــه‪ .‬إذا كنـ َ‬
‫مل تكتــب فأنــت لســت كاتب ـاً‪..‬‬

‫أوراق‪ :‬كيف استقبلت مالطا الرواية األخرية «هجرة اللقلق»؟ (‪)L-Eżodu taċ-Ċ� ikonji‬‬

‫وليــد‪ :‬بعــض النقــاد رأوا أن روايتــي األخــرة أخرجــت الروايــة املالطيــة مــن حيزهــا الجزيــري الضيــق‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪202‬‬

‫إىل رحابة محيط العاملية‪ .‬أحد األسباب أن حدود الرواية مكانياً متتد إىل فلسطني والعراق ودول‬
‫الجــوار‪ .‬هــذا توســيع ألفــق الروايــة املالطيــة لكــن املكانــة قامئــة يف الروايــة ألن مــاء بحــر مالطــا هــو مــاء‬
‫بحــر فلســطني‪ ،‬ومعظــم املالطيــن يف األصــل األلفــي مــن منطقتنا‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬إذا ً‪ ،‬فرضت روايتك نوعاً من رضورات توسيع األفق الروايئ املالطي؟‬
‫وليد‪ :‬رمبا «لفتت» انتباه الروائيني املالطيني إىل أهمية مد حدود مالطا األدبية خارج الجزيرة‬
‫ألن لهــا مــكان يف املنطقــة‪ .‬ال ينطبــق عــى مالطــا اليــوم وصــف «التقوقــع» ألن العــامل اآلن مفتــوح‬
‫بعضــه عــى بعــض‪ .‬هــو‪ ،‬إذا ً‪ ،‬الضيــق الســيكولوجي ال الضيــق الجغــرايف ألن نفســانية أهــل الجــزر‬
‫ملوثة بنمطيّة ُمسبقة عن اآلخر يف املكان واالنسان‪ ،‬ورمبا قيل «ريبة»‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬وما هي الحالة اآلن؟‬
‫وليــد‪ :‬مالطــا تغــرت يف الســنوات العرشيــن املاضيــة بشــكل مذهــل‪ .‬االنضــام إىل أوروبــا فتــح‬
‫بوابــة كبــرة‪ ،‬لكــن معــروف أن مالطــا أرادت دامئـاً أن يكــون لهــا دور فاعــل يف قضايــا الــرق األوســط‪،‬‬
‫واعتــرت نفســها يف حــاالت بعينهــا جــرا ً طبيعيـاً بــن أوروبــا والعــامل العــريب‪ .‬الســبب اآلخــر تراجــع‬
‫ســيطرة الكنيســة بشــكل كبري‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬هذا طريق الرواية خارج مالطا‪ ،‬فام هو طريق الرواية إىل جائزة الرواية املالطية؟‬
‫وليــد‪ :‬طريــق روايتــي كان طوي ـاً وشــاقاً‪ .‬عمــر هــذا الطريــق نحــو ‪ 12‬ســنة كتبــت خاللهــا باللغــة‬
‫املالطيــة ألننــي أعيــش يف مالطــا‪ .‬هــو أول عمــل يل بالحجــم الكبــر تقــدم بــه النــارش للجائــزة عــى‬
‫مســتوى الجمهوريــة‪ ،‬وتــم اختيــار هــذه الروايــة كأفضــل عمــل روايئ للعــام ‪ .2013‬منافــي اآلخــر كان‬
‫ألفريد سانت وهو مؤلف كبري ورئيس وزراء سابق ورئيس سابق لحزب العامل الحاكم اليوم وعضو‬
‫يف الربملــان األورويب‪ ،‬وميكــن اعتبــاره مــن املفكريــن الكبــار يف مالطــا‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬ليس سهالً إزاحة كاتب كبري مثل سانت‪ ،‬فهل كان االختيار مفاجأة لك؟‬
‫وليــد‪ :‬املفاجــأة رمبــا كانــت ألننــي قــادم مــن خــارج اللغــة والجغرافيــا‪ ،‬ولســت ناطق ـاً للاملطيــة‬
‫بالوالدة‪ ،‬ومل اتعلم درسا واحدا عرب مدارسها‪ .‬أنا تعلمت من الشارع والصحيفة والتلفاز والكتب‪...‬‬
‫بــل تعلمــت كثــرا ً مــن ألفــرد ســانت نفســه وشــاركت يف قــراءة بعــض أعاملــه للجمهــور‪ ،‬لكــن التغيــر‬
‫س لفــوزي فنحــن رفــاق يف درب الكتابــة‪.‬‬
‫ســنة الحيــاة‪ ،‬واعتقــد أنــه ُ َ‬
‫أوراق‪ :‬املحطة الكتابية التالية؟‬
‫وليــد‪ :‬روايــة جديــدة أريــد فيهــا معالجــة العالقــة الشــائكة لكــن بشــكل مــا حميمــة بــن الشــعبني‬
‫املالطــي والليبــي‪ .‬الليبيــون جــران تاريخيــون للاملطيــن‪ ،‬لكــن العالقــة تغــرت يف القــرون الخمســة‬
‫املاضية بحكم رصاع األديان والحضارات فاستُبقيت يف أذهان القلة صورة منطية قبيحة عن الليبيني‬
‫‪203‬‬ ‫إلا ةياور يف ًاعم امهتجزمو ةطلامل نيطسلف تيور ‪:‬ناهبن ديلو‬

‫وصورة منطية مقابلة عند الليبيني للاملطيني وتحفظات اخرى كثرية بعضها كوميدي‪ .‬املعالجة لن‬
‫يواتشب ديعس لداع ‪:‬راوحلا ىرجأ‬

‫تكــون بحثيــة أو تاريخيــة وإمنــا إنســانية دراميــة تتضمــن قصــة حــب وجرميــة قتــل‪ ،‬وغــر ذلــك‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬قل للقارىء العريب ما هي مالطا؟‬
‫وليــد‪ :‬مالطــا تكويــن جغــرايف مــن ثــاث جــزر عــاىن أهلهــا األمريــن مــن االســتعامر‪ .‬لــن أقــول إن‬
‫جراحهــا االســتعامرية بــرأت لكنهــا تخلصــت مــن معظــم فســادها الــذي اختلــف حــدة وعمق ـاً بــن‬
‫املراحــل االســتعامرية ســواء كانــت مرحلــة فرســان الهيــكل أو قشــتالة أو أراغــون أو فرنســا أو بريطانيــا‪.‬‬
‫مالطا الحديثة تاريخيا وسياسياً كانت إىل جوار العرب يف املواقف الدولية يف الجمعية العمومية‬
‫لألمم املتحدة ومجلس األمن‪ .‬املوقف اليوم مساير للموقف األورويب‪ ،‬وكان من املمكن أن يكون‬
‫أفضــل مــن ذلــك بكثــر لكــن اللــوم ال تنفــرد بــه مالطــا‪ ،‬الــدول العربيــة أيض ـاً مســؤولة رمبــا ألســباب‬
‫منطيــة يجــب التخلــص منهــا ألن مالطــا دولــة اوســطية جــارة‪ .‬هــي أقــرب الــدول إىل حضــارة العــرب‬
‫وكالمهــم‪ ،‬ولهــم تداخــل اجتامعــي واقتصــادي وحضــور يف مــر والجزائــر وغريهــا‪ ،‬وحــاالت زواج‬
‫املالطيــات مــن العــرب باأللــوف‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬هذا سؤال طرح نفسه بنفسه‪ :‬صف لنا املرأة املالطية‪.‬‬
‫وليــد‪ :‬رقيقــة هــي املــرأة املالطيــة لكنهــا يف الوقــت نفســه نافــذة‪ .‬العربيــات نافــذات أيضـاً لكــن‬
‫القانــون يف مالطــا إىل جانــب املــرأة‪ ،‬وهــذا موقــف يُحــرم‪ .‬يجــب أن يحمــي القانــون املــرأة‪ .‬املــرأة‬
‫غالب ـاً هــي الطــرف امل ُعتــدى عليــه منــذ أزاحهــا الرجــل عــن موقعهــا التاريخــي قبــل أكــر مــن خمســة‬
‫آالف ســنة‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬أين املقارنة؟‬
‫وليــد‪( :‬ضحــك)‪ .‬إنســانياً ال يوجــد فــرق‪ ،‬هــي عذبــة ورقيقــة كاملــرأة العربيــة متامــا‪ .‬نحــن نتكلــم‬
‫عن الكائن الحي نفســه‪ ،‬وهو ال يتغري كثريا من وعاء ثقايف آلخر‪ .‬ال اســتطيع القول إن املرأة كانت‬
‫نصفــي اآلخــر لكــن حضورهــا كان عضويــا‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬هل هناك فروق حقيقية مهمة بني االنسان واالنسان يف إبداع وليد نبهان الكتايب؟‬
‫وليد‪ :‬االنسان واحد‪ ،‬الصفات نفسها‪ ،‬البكاء نفس البكاء والفرح نفسه‪ ،‬والضحك واالشارات‬
‫كلها لغات عاملية مقروءة لدى الجميع‪.‬‬
‫أوراق‪ :‬البعض يقول إن الهدف من تخليد الكتابة تخليد الكاتب؟‬

‫وليد‪ :‬مل ال؟ كل ما عليه فعله هو ان ينجز عمال يستحق التخليد‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪204‬‬

‫بطاقة تعريفية‪:‬‬
‫االسم‪ :‬وليد خليل نبهان‬
‫عمن ‪1966‬‬ ‫املولد‪ّ :‬‬
‫الدراسة واالختصاص‪ :‬بكالوريوس علوم بيولوجية‪ /‬جامعة بريستول (بريطانيا)‪.‬‬
‫ماجستري علوم حقوقية يف اخالقيات التدخل يف الجينات الوراثية‬
‫العمل‪ :‬مدير قسم علم االحياء املجهري يف رشكة األلبان املحلية‬
‫األعامل املنشورة‪:‬‬
‫«عائــد اىل البيــت» وحكايــات اخــرى مل تحــدث‪ .‬مجموعــة قصصيــة‪ ،‬إصــدار‬
‫نــادي الكتــاب املالطــي‪2009 ،‬‬
‫«صوت من الفخار»‪ .‬مجموعة قصصية‪ ،‬نادي الكتاب املالطي‪2011 ،‬‬
‫«هجرة اللقلق»‪ .‬رواية‪ .‬نادي الكتاب املالطي‪2013 ،‬‬
‫«يف طريقي اليها»‪ .‬ديوان شعر‪ .‬نادي الكتاب املالطي‪2014 ،‬‬
‫‪205‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق القضايا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪206‬‬

‫نرسين طرابليس‬

‫سلطة مزدوجة واملثليون يف كل مكان‪:‬‬


‫الجنس الثالث‬

‫مل يكــن أمنــار يف حيــايت شــخصا عابــرا ً‪ ...‬كان صديقــا مميــزا ً إىل أبعــد الحــدود‪.‬‬
‫كان مثــل األم واألخــت والصديــق‪ ،‬بإمكانــه لعــب كل األدوار‪ ،‬فنــان وحســاس خفيــل‬
‫الظــل ويســعى لتثقيــف نفســه باللغــات واملوســيقى‪ .‬عندمــا عرفــت أنــه مث ـ ّ‬
‫ي مل‬
‫أســمح لألمــر أن يزعجنــي عــى الرغــم مــن الصدمــة‪ .‬كيــف أفعــل ذلــك وأنــى كل‬
‫اللطــف واألمــان الــذي أحاطنــي بــه والــذي مل اشــعر بــه مــع أي صديــق ذكــر آخــر؟!‬
‫تعرفــت بحكــم عمــي اإلعالمــي القريــب عــى أشــخاص كــر مثليــن ومــن الجنــس‬
‫الثالــث‪ ،‬معظمهــم يصنفــون يف علــم البيولوجيــا كذكــور كانــوا يشــقون طريقهــم‬
‫يف الحيــاة مثــل كل النــاس‪ .‬لكــن بصعوبــة أكــر‪ .‬فــأن تضمــر شــيئا خفي ـاً طيلــة‬
‫الوقــت وتعيــش حيــاة مزدوجــة واحــدة يف العلــن وأخــرى يف الخفــاء فهــذا مــن‬
‫أصعــب مــا ميكــن أن ميــر بــه إنســان‪ ،‬االنشــطار أمــام ســاطور االســتبداد الدينــي‬
‫واالجتامعــي والقوانــن السياســية التــي تجــرم هــذه الهويــة امللتبســة دون هــوادة‪.‬‬
‫يعرف هذا جيدا من اضطر لتخبئة رس لفرتة طويلة‪ ،‬لكن حني تضع ثقتك بشخص‬
‫مــا لتعلــن عنــه لتتخفــف وترتــاح‪ ،‬ســتكون أمــام احتاملــن إمــا أن يتــم قبــول بوحــك‬
‫وكتــان رسك أو ســتتعرض ملحاكمــة طويلــة ال تنتهــي تتمنــى بعدهــا لــو أن لســانك‬
‫انقطــع قبــل أن تقــول‪.‬‬
‫‪207‬‬ ‫ثلاثلا سنجلا‬

‫أتذكــر نائــل وروي‪ ،‬تعرفــت عليهــا مــرة عنــد أصدقــاء‪ .‬ال أعــرف التصنيــف الجنــدري الســليم‬
‫لبارط نيرسن‬

‫لحالتهــا‪ ،‬لكــن نائــل بشــعره القصــر ومالمحــه الصبيانيــة كان يتقصــع بوركيــه مثــل كتلــة غوايــة‬
‫بدشداشــة حريريــة‪ .‬أمــا روي فــكان رجــا بشــعر أشــقر وعــى وجهــه اخــرار طفيــف‪ ،‬مــن أثــر‬
‫لحيــة خشــنة مزالــة بعنايــة‪ ،‬تحــت طبقــة ســميكة مــن كريــم األســاس‪ .‬كان االثنــان شــخصان‬
‫طريفــان‪ ،‬أحدهــا ميتلــك دلــع أنثــى‪ ،‬لــو أجريــت لــه بعــض التعديــات ال ميكــن أن تتذكــر‬
‫حتــى أنــه ذكــر‪ ،‬فصوتــه يتســلل بغنــج وضحكتــه لهــا رنــن الخالخيــل‪ .‬أمــا اآلخــر فــكان يحــاول‬
‫بصعوبــة أن يخفــض نــره األجــش مــن بــن شــفتيه املحقونتــن بالســليكون واملطليتــن بالشــفاف‬
‫الــوردي‪ ،‬ويزيــد مــن زم فخذيــه يف جلســته ويــرك يديــه متصالبتــن باســرخاء اثنــاء الحديــث‪.‬‬
‫وفجأة وضع أحدهام موسيقى أم كلثوم وقاما يرقصان‪ .‬وكأنك ترى نجوى فؤاد وسامية جامل أيام‬
‫العــز تتباريــان بالتلــوي والخطــو الرشــيق عــى رؤوس األصابــع‪ .‬ســقطت أفــكار الرجــال الحارضيــن يف‬
‫الســهرة وامتزجــت الغــرة بحقــد ســاخر يف أعــن النســاء‪ .‬تحــرك حــي الصحفــي وبــدأت أســتقيص‬
‫عــن األســباب والدوافــع لحالتيهــا‪ ،‬كانــا يف منتهــى املرونــة يف اســتالم الــرد وجــذب الــرؤوس إىل‬
‫الحديــث غــر املألــوف‪ ،‬عــى األقــل علنـاً‪.‬‬

‫ولــد نائــل وحيــدا بعــد خمــس أخــوات بنــات وكــن يعاملنــه مثــل اللعبــة يطلــن شــعره ويضعــن لــه‬
‫األرشطة والبكالت امللونة‪ ،‬ويجربن عليه الفســاتني‪ .‬جهل األم جعلها تجد هذا طريفا وتسـ ّوق يف‬
‫دلــع ولدهــا الوحيــد‪ .‬عندمــا كــر مل يتحــرج مــن االعــراف للعائلــة بــأن لــه روح فتاة ومشــاعرها ومزاجها‬
‫وهواهــا فهــو مييــل الختيــار األقمشــة الطريــة امللونــة‪ ،‬وتســتهويه تصفيفــات الشــعر ووضــع املاكيــاج‪،‬‬
‫وحــده العضــو بــن فخذيــه كان ينغــص عليــه حياتــه‪ .‬كان يشــعر مبســؤوليتهم عــن ذلــك مــا قــوى لــه‬
‫قلبه ووضعهم أمام األمر الواقع‪ .‬جن جنون األم وحاولت أن تعيد األمور إىل صوابها فالعائلة التي‬
‫فقــدت األب ســتفقد آخــر ســلطة ذكوريــة لهــا يف املجتمــع بخســارة ذكــورة االبــن الوحيــد‪ ،‬دارت بــن‬
‫البيوت تبحث له عن خطيبة‪ ،‬امرأة تعيد ترميم ذكورته التي أفسدها كرث االحتفاء‪ .‬وحاول نائل جادا ً‬
‫أن يستعيد هويته األصلية مبجاراتها‪ ،‬لكن األوان كان قد فات‪ ،‬قال ألمه‪“ :‬إيديي أنعم من إيديها”‪.‬‬
‫أما روي فكان ظرفه أصعب‪ .‬أخربنا أنه يتناول حبوب منع الحمل ألن تركيبتها الهرمونية يف الجسد‬
‫الذكوري تخفف ظهور الشعر يف الوجه‪ .‬لكن يف الحقيقة كان كل ما فيه يدل عىل ذكورة مشوهة‪.‬‬
‫اللحيــة‪ ،‬الصــوت‪ ،‬العضــات املفصلــة‪ ،‬الرقبــة العريضــة‪ ،‬الجــذع املتخشــب‪ .‬واالســم الحقيقــي‪،‬‬
‫فبينــا أمكــن بســهولة عــى الجميــع اســتبدال نائــل بنائلــة‪ ،‬كان مــن املســتحيل تأنيــث عبــد القــادر‬
‫القــدوري‪ ،‬فأطلــق عــى نفســه إســم روي!‬

‫املجتمــع مل يعــرف بعــد بالجنــس الثالــث وال يتقبــل أبــدا بحكــم العــرف والعــادات والتقاليــد‬
‫والدين هذا التصنيف للهوية الجندرية أوالعالقات املثلية‪ .‬ستدهشون لو سنح لكم االطالع عىل‬
‫كرثتهــا‪ .‬إنهــم ميلــؤون كل حيــز ال تتنبهــون لــه‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪208‬‬

‫يف مجــال العمــل تعرفــت عــى ف ّهــودة‪ .‬لديــه تقريبــا الحكايــة نفســها التــي يرويهــا بعــض أفــراد‬
‫الجنــس الثالــث حــول كــرة األخــوات والدلــع املفــرط‪ .‬لكــن فهــودة كان جريئـاً ولديــه مــن الثقــة لريفــع‬
‫القبعــة التــي يرتديهــا طيلــة الوقــت لريينــي طــول شــعره الــذي يصــل حتــى منتصــف ظهــره‪ .‬فهــودة ال‬
‫ميلــك مــن األنوثــة ســوى الــروح‪ ،‬يــر عــى أن تناديــه اآلنســات والســيدات يف العمــل (خالتــي)‪.‬‬
‫كان يوقفنــا يف املمــر ليشــيد مباكياجنــا وجاملنــا وشــعرنا مثــل أنثــى متتلــك الكثــر مــن املحبــة‬
‫والــود والثقــة بالنفــس‪ ،‬ويقــدم املالحظــات حــول شــكلنا والنصائــح التــي ميكــن أن تحمــي برشتنــا‬
‫املعرضــة لإلضــاءة أو تحمــي شــعورنا مــن االســتعامل املتكــرر ملجفــف الهــواء‪ .‬مــع الوقــت مل‬
‫نعــد نتحــرج مــن خالتــي إذا امتــدت يدهــا لتتلمــس شــعرنا أو وجوهنــا‪ ،‬مل يعــد لدينــا أي إحســاس‬
‫بخشــونة يــده ذات األظافــر الطويلــة‪ .‬رمبــا ألن ميــزة فهــودة األبــرز والتــي جعلتــه مقربــا منــا أكــر مــن‬
‫باقــي طاقــم العمــل التلفزيــوين هــو أنــه “زكــريت” ولــه ترصفــات الرجــل الشــهم حــن يتطلــب األمــر‪ .‬فــا‬
‫ميكــن أن يســكت عــن نظــرة غــر نظيفــة ألحــد الذكــور يف العمــل لواحــدة منــا‪ .‬وكنــا نشــعر حقيقــة‬
‫حســه) أي يغــض بــره ويخفــض‬
‫ـر ّ‬
‫بالحاميــة حــن يطلــب مــن أحدهــم أن (يكــر عينــه) أو (يقـ ّ‬
‫صوتــه أثنــاء الحديــث مــع الســيدات‪ .‬ومل يكــن أحــد منهــم يجــرؤ عــى مواجهــة لســانه الســليط‪ .‬كان‬
‫يتمتــع بســلطتني معــا‪ ،‬ســلطة روح األنثــى التــي يقــدم نفســه بهــا‪ ،‬وســلطة الذكــورة التــي ولــدت معــه‪.‬‬
‫ي مســؤول يشــغل منصبــا كبــرا ً‪ ،‬وينحــدر مــن أرسة مالكــة‪ ،‬مل تؤثــر‬
‫ومبناســبة الســلطة‪ ،‬فقــد مــر ع ـ ّ‬
‫ضبابيــة هويتــه الجندريــة عــى ســلطاته‪ ،‬فاملــال والعائلــة واملنصــب‪ ،‬جعلــت الجميــع يتعامــل معــه‬
‫عىل أساسها ويرضخون يف كثري من األحيان لطلباته التعجيزية يف العمل ولغرابة أطواره خوفا من‬
‫ســلطته‪ ،‬بــل وأكــر‪ ،‬كانــت التعليقــات كلهــا تحــوم حولــه همسـاً و ّ‬
‫رسا ومل يتجــرأ أحــد عــى أن يطالــه‬
‫علنـاً بتعليــق جــارح كــا كانــوا يفعلــون مــع غــره‪.‬‬

‫تعرضــت مــرات قليلــة للتعاطــي مــع مثليــات (ســحاقيات) أو بويــات (غيــاب الهويــة الجنســية‬
‫األنثويــة)‪ .‬لكــن يف الســنوات العــر املاضيــة الحظــت أنهــن بــدأن يصبحــن أكــر جــرأة‪ ،‬ويظهــرن‬
‫للعلــن‪ .‬فالعضــات والوشــم وقصــات الشــعر الغريبــة وأحيانــا إطــاق الشــارب‪ .‬ومــن الغريــب والــذي‬
‫مل أســتطع تفســره حتــى اآلن أننــي مــع مــرور الوقــت اســتطعت تقبــل الجنــس الثالــث واملثليــن مــن‬
‫الذيــن ولــدوا يف األصــل ذكــورا بينــا مل أســتطع أبــدا وال يف أي حــال التعاطــي مــع البويــات‪ .‬عــى‬
‫اعتبــار أن الســحاقيات أقــدر عــى إخفــاء ميولهــن‪.‬‬

‫“مســتحيل أيب يعرف كيف عايش أنا بالغربة وشــو هيي الحقيقة بينجلط”‪ ،‬هكذا تحدث روي‬
‫يغي تعامله معي ويقرر استعدايئ مثل أنثى غيورة‪ .‬فقد كان خبريا ً يف املاكياج واستعنت‬
‫قبل أن ّ‬
‫بــه لعمــي التلفزيــوين والحقيقــة أنــه كان فنان ـاً يف مجالــه‪ ،‬وحولــت لــه الكثــر مــن الزبونــات‪ ،‬كلــا‬
‫ســألتني إحداهــن عــن شــعري وماكياجــي‪ .‬لكنــه مل يتفهــم أبــدا ً أننــي ال أســتطيع الســعي لتوظيفــه‬
‫كامكيــر يف التلفزيــون‪ ،‬فالقانــون مينــع الرجــال مــن العمــل يف هــذه املهنــة يف البلــد التــي كنــت‬
‫‪209‬‬ ‫ثلاثلا سنجلا‬

‫أعمــل بهــا‪ .‬ورشحــت لــه هــذا مــرارا ً‪ ،‬أنــا أعــرف أنــك لســت رجـاً يــا روي لكــن األوراق الثبوتية هي التي‬
‫لبارط نيرسن‬

‫ستتســبب برفضــك حــن يطلبونهــا لتوظيفــك‪.‬‬

‫بني اإلعجــاب والســاح‪ ،‬االســتنكار واإلدانــة‪ ،‬تعيــش هــذه الفئــة بــن النــاس‪ .‬قــد ال أكــون أنــا ابنــة‬
‫املجتمــع الرشقــي وحــدي مــن أخــذت وقتــا طويــا لتخــف حدة دهشــتها وصدمتها وتتقبل وجودهم‬
‫اإلنساين وتتفهم حقهم يف حرية حياتهم‪ ،‬فكل عنزة معلقة من عرقوبها‪ ،‬كام يقول املثل‪ .‬لكن أوبرا‬
‫وينفــري شــخصيا يف إحــدى الحلقــات عــن املثليــن مل تكــن دهشــتها أقــل‪ ،‬خصوصــا بعــد أن وقــف‬
‫أحد الحضور ليخربها أن بينهم لغة خاصة وأن بإمكانه أن يدل عليهم واحدا واحدا وأنها ستندهش‬
‫مــن كــرة العــدد بــن الحضــور‪ ،‬فرجتــه أوبــرا أال يفعــل حرصــا عــى مــن يريــد االحتفــاظ برسيــة األمــر‪.‬‬
‫رؤســاء وزراء‪ ،‬فنانــون‪ ،‬مطربــون‪ ،‬شــخصيات شــهرية يف العــامل أجمــع‪ ،‬بعضهــا اســتطاع إجــراء عمليــة‬
‫التحــول وتغيــر بطاقــة الهويــة‪ ،‬والبعــض كانــت لديــه الشــجاعة ليعــرف مبيولــه متكئ ـاً عــى الحريــة‬
‫التــي يكفلهــا لــه مجتمعــه‪ .‬إلتــون جــون‪ ،‬جــورج مايــكل‪ ،‬إيلــن دي جينرييــس‪ ،‬رئيســة وزراء نيوزيلنــدا‬
‫هيلــن كيــار‪ ،‬ريــي مارتــن‪ ...‬وغريهــم كــر‪.‬‬

‫لكن آخر رصعة هي املتحولة النمساوية املغنية كونشيتا فورست والتي فازت مؤخرا ً بجائزة يورو‬
‫فيجن‪ ،‬ومبجرد فوزها حصلت عىل خمسة ماليني واربعمئة ألف تغريدة عىل تويرت بينام أدى هذا‬
‫الفوز إىل موجة من االنتقادات الحادة واإلســاءات‪ ،‬وجهها سياســيون وفنانون روس تجاه املثليني‬
‫جنسيا‪ ،‬لدرجة خروج احتجاجات يف الشوارع‪ ،‬اعرتاضا وبدأ الرجال يحلقون شواربهم أثناء االحتجاج!‬
‫كونشيتا ال تهتم فهي سعيدة بالشهرة التي سببتها صدمة الجمهور بشكلها األنثوي ذي اللحية الكثيفة‪،‬‬
‫فبمظهرها الذكوري قبل التحول مل يكن يعرفها هذا الجمهور العريض عىل الرغم من جامل صوتها‪.‬‬
‫اآلن هــي تتمتــع بســلطة منحهــا لهــا عــامل الفــن املــادي الــذي يجنــي املاليــن مــن الضجيــج والغرابــة‪.‬‬
‫بريطانيــا‪ ،‬الربازيــل‪ ،‬نيوزيلنــدا‪ ،‬األوروغــواي‪ ،‬الدانيــارك‪ ،‬ايســلندا‪ ،‬الربتغــال‪ ،‬األرجنتــن‪ ،‬الســويد‪،‬‬
‫الــروج‪ ،‬املكســيك‪ ،‬الواليــات املتحــدة األمريكيــة‪ ،‬واســكتلندا‪ .‬ســبعة عــر دولــة رشعــت بالقانــون‬
‫وبالتصويــت الربملــاين زواج املثليــن‪ .‬ودول أخــرى كثــرة تبيــح تحويــل الجنــس جراحي ـاً‪.‬‬

‫عمومــا ال يشــغل بالكــم هــذا التفصيــل غــر املهــم فليــس لدينــا أي إحصائيــة يف عاملنــا‬
‫العــريب حــول أعــداد املثليــن أو الجنــس الثالــث‪ ،‬وملــاذا نشــغل بالنــا بهــؤالء ومــا زلنــا نعــاين مــن‬
‫افتقارنــا لقوانــن ناظمــة لحيــاة األرسة والطفــل والتمييــز بــن الجنســن ولحقــوق املــرأة واملواطــن‪.‬‬
‫ومــا زلنــا ال نعــرف كيــف نضبــط عالقــات الــزواج الطبيعيــة ومشــاكلها الجمــة‪ .‬نحــن اآلن مشــغولون‬
‫بدمائنــا املراقــة وخاضعــون آللــة الحــرب التــي تحصــد الجميــع بالجملــة‪ ،‬ولسياســة عامليــة ال ترانــا‪.‬‬
‫فليبق كل يشء يحدث يف الخفاء‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪210‬‬
‫‪211‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫أوراق الكتب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪212‬‬

‫«فالحــو ســوريا‪ :‬أبنــا ُء وجهائهــم الريفيــن‬


‫أســايس‬
‫ّ‬ ‫األقــل شــأنًا وسياســاتهم»‪ :‬مدخــل‬
‫لفهــم الســلطة السياســية يف نظــام األســد‬

‫صــدر عــن املركــز العــريب لألبحــاث ودراســة السياســات كتــاب “فالحــو ســوريا‪:‬‬
‫أبنــا ُء وجهائهــم الريفيــن األقــل شــأنًا وسياســاتهم” (‪ 704‬صفحــة مــن القطــع الكبري)‪،‬‬
‫للمــؤرخ والباحــث الراحــل حنــا بطاطــو (‪ ،)2000-1926‬ويعتــر الكتــاب مســاهمة‬
‫تحليليــة مركزيــة لطبيعــة الســلطة السياســية القامئــة يف ســورية‪ ،‬عــن طريــق العــودة‬
‫إىل الجــذور التاريخيــة واالجتامعيــة واالقتصاديــة والسياســية للفئــات املشـكّلة لها‪.‬‬
‫مبــا يشــمل تســليط الضــوء عــى الجوانــب العقائديــة واملذهبيــة لتلــك الفئــات‪.‬‬

‫يف هذا الكتاب نجح حنا بطاطو يف رسم لوحة شاملة لطبيعة النظام السوري‬
‫وتركيبته وسياساته‪ ،‬وتناول ذلك كله من جوانب وزوايا غري مسبوقة يف الدراسات‬
‫التي تناولت تاريخ سورية الحديث أو نظام األسد عىل وجه الخصوص‪.‬‬

‫يــأيت الكتــاب يف خمســة وعرشيــن فصــا‪ ،‬موزعــة عــى أربعــة أقســام‪ ،‬إضافــة‬
‫إىل ملحــق وقامئــة باملصــادر‪ .‬ق ـدّم بطاطــو يف القســم األول (‪ 4‬فصــول) “ظــروف‬
‫الفالحــن االجتامعيــة واالقتصاديــة”‪ ،‬عرضــا للــروط االجتامعيــة واالقتصاديــة‬
‫للفالحني مبا يف ذلك التاميزات يف ما بينهم من حيث العقيدة الدينية وامللكية‬
‫والخلفية التاريخية واالرتباط باألرض واالستعداد للقتال‪ ،‬وغري ذلك من التاميزات‬
‫التــي كان لهــا شــأن يف تشــكيل وعــي الفالحــن وسياســتهم‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫فيرلا مهئاهجو ُءانبأ ‪:‬ايروس وحالف«‬
‫ماظن يف ةيسايسلا ةطلسلا مهفل ّيساسأ لخدم ‪»:‬مهتاسايسو اًنأش لقألا نيي‬

‫ويطــرح املؤلــف يف القســم الثــاين (‪ 6‬فصــول) “أمنــاط الوعــي والتنظيــم والســلوك الســيايس‬
‫الفالحــي قبــل البعــث» عرضــا ألمنــاط وعــي الفالحــن وتنظيمهــم وســلوكهم الســيايس قبــل تســلم‬
‫حــزب البعــث الســلطة يف عــام ‪ ،1963‬فيعــرض األشــكال املبكــرة مــن التنظيــم الحــريف للفالحــن‪،‬‬
‫واألفــكار الصوفيــة واملذهبيــة التــي ســادت بينهــم‪ ،‬وثوراتهــم ومترداتهــم عــى الحكــم العثــاين ويف‬
‫فــرة االنتــداب الفرنــي‪ ،‬ومــن ثــم أشــكال الوعــي والتنظيــم الحديثــة‪ ،‬ويعــرض تجربــة الحــزب العــريب‬
‫االشــرايك بزعامــة أكــرم الحــوراين بوصفــه أول حــزب فالحــي حديــث منظــم‪ ،‬وتجربــة الشــيوعيني‬
‫والبعثيــن‪.‬‬
‫ـب االهتــام‬
‫ويف القســم الثالــث (‪ 3‬فصــول) “البعث ّيــة يف جوانبهــا الريفيــة والفالحيــة»‪ ،‬ينصـ ّ‬
‫عىل الجوانب الريفية والفالحية يف عقيدة حزب البعث وسياساته‪ ،‬مبا يف ذلك األصول الريفية‬
‫لكثرييــن ممــن انضمــوا إليــه‪ ،‬وأصبحــوا قادتــه يف مــا بعــد‪ ،‬ويبــن انقســام التجربــة التاريخيــة لحــزب‬
‫البعــث إىل ثــاث مراحــل‪ :‬املرحلــة األوىل مــن البدايــات حتــى تســلم البعــث الســلطة يف عــام‬
‫‪ ،1963‬ومتتــد بعــض خصائصهــا حتــى عــام ‪ .1966‬واملرحلــة الثانيــة‪ ،‬وهــي مرحلــة انتقالية متتد بني‬
‫حركــة ‪ 23‬شــباط‪/‬فرباير ‪ 1966‬واســتيالء حافــظ األســد عــى الســلطة يف ‪ 16‬ترشيــن الثاين‪/‬نوفمــر‬
‫‪ ،1970‬وتعــود بعــض خصائــص هــذه املرحلــة إىل عــام ‪ .1963‬أمــا املرحلــة الثالثــة فتبــدأ باســتيالء‬
‫ـن بطاطــو االختالفــات العميقــة بــن هــذه املراحــل‪ ،‬ليســتنتج أن‬
‫حافــظ األســد عــى الســلطة‪ .‬ويبـ ّ‬
‫بعــث حافــظ األســد يختلــف متامــا عــن بعــث املرحلتــن األوىل والثانيــة‪ ،‬وهــو اختــاف يصــل إىل‬
‫حــد التناقــض أحيانــا‪.‬‬
‫أمــا الجــزء األكــر مــن الكتــاب‪ ،‬القســم الرابــع (‪ 12‬فصــا) “حافــظ األســد أول حاكــم لســورية مــن‬
‫أصــول فالحيــة»‪ ،‬فيتنــاول مرحلــة حافــظ األســد‪ ،‬الــذي يعتــره املؤلــف أول حاكــم لســورية مــن أصــل‬
‫فالحــي‪ .‬وفيــه يعــرض للنظــام الــذي بنــاه األســد ومراحلــه وأزماتــه والشــخصيات واألجهــزة السياســية‬
‫والعســكرية التــي شــكلت ركائــزه وسياســته الداخليــة واإلقليميــة والدوليــة‪ .‬ويحلــل بنيتــه الطائفيــة‬
‫والعشــائرية واملناطقيــة‪ ،‬ومســتويات الســلطة‪ ،‬يف السياســة العامــة للنظــام‪.‬‬
‫يعتــر هــذا الكتــاب ذا فائــدة ج ّمــة للمعنيــن بدراســة النظــام الــذي بنــاه حافــظ األســد‪ ،‬وتعتــر‬
‫العــودة إليــه مشــتملة املراجــع واملصــادر التــي أوردهــا‪ ،‬رضوريــة وال بــد منهــا ملــن يبغــي فهــم هــذا‬
‫النظــام املتميــز بطبيعتــه وبنيتــه عــن غــره مــن األنظمــة‪ ،‬مهــا حمــل مــن عنــارص التشــابه معهــا‪.‬‬
‫يف هــذا الكتــاب واصــل حنــا بطاطــو العمــل عــى نهجــه البحثــي الــذي امتــاز بــه يف أبحاثــه عــن‬
‫العــراق‪ ،‬تلــك التــي حققــت لــه حضــورا وشــهرة واســعة يف األوســاط األكادمييــة‪ ،‬ويتابــع يف هــذا‬
‫الكتــاب املنهجيــة نفســها التــي اتبعهــا يف كتابــه الشــهري «الطبقــات االجتامعيــة القدميــة والحــركات‬
‫الثورية يف العراق»‪ ،‬وذلك من خالل العودة إىل الجذور التاريخية واالجتامعية والسياسية للفئات‬
‫املشــكلة للســلطة السياســية‪ ،‬مــع االنشــغال بالجوانــب العقديــة واملذهبيــة لهــا‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪214‬‬

‫يضــاف إىل ذلــك عــدم اكتفــاء بطاطــو باملصــادر املكتوبــة واملوثقــة مــن كتــب‬
‫وصحــف وتقاريــر وغريهــا‪ ،‬بــل يذهــب أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬ليلتقــي األشــخاص الفعليني‬
‫الذيــن كان لهــم شــأن يف الحــوادث التــي يتناولهــا‪ ،‬أو الذيــن كانــوا شــهودا عليهــا‪ ،‬أو‬
‫متأثرين بها‪ ،‬كلقائه فالحني عاديني ليجمع شهاداتهم يف املسائل التي يتناولها‪،‬‬
‫التاريخيــة منهــا أو الحديثــة التــي تؤثــر فيهــم تأثــرا مبــارشا‪ .‬ثــم يعمــد إىل مقاطعــة‬
‫املعلومــات والروايــات املختلفــة عــن الحــوادث لتكويــن صــورة متكاملــة معقــدة عــن‬
‫واقــع هــو ذاتــه معقــد‪ .‬ويذهــب أحيانــا إىل مقابلــة األشــخاص الذيــن يــرد ذكرهــم يف‬
‫مصــادر معينــة ليطــرح عليهــم اآلراء املختلفــة ويقــف عــى رأيهــم فيهــا‪ ،‬مــا اقتــى‬
‫منــه كثــرا مــن الســفر يف ســورية ويف خارجهــا‪.‬‬

‫وح ّنا بطاطو باحث وأكادميي بارز‪ ،‬فلسطيني األصل أمرييك الجنسية‪ ،‬شُ غل‬
‫بالتأريخ والبحث االجتامعي السيايس لعدد من بلدان الرشق األوسط‪ ،‬خصوصا‬
‫بالرتكيبة االجتامعية والحركات الثورية يف تلك البلدان‪ .‬ولد يف القدس يف عام‬
‫‪ ،1926‬وعــاش فيهــا حتــى عــام ‪ 1948‬حــن هاجــر إىل الواليــات املتحــدة‪ ،‬وهنــاك‬
‫درس يف مدرســة إدمونــد ويلــش يف جامعــة جــورج تــاون‪ .‬ويف عــام ‪ 1960‬حصــل‬
‫عــى الدكتــوراه يف العلــوم السياســية مــن جامعــة هارفــرد‪ ،‬وكانــت أطروحتــه بعنــوان‬
‫«الشــيخ والفــاح يف العــراق ‪ .»1958 - 1917‬بعــد ذلــك انتقــل إىل بــروت وعمــل‬
‫أســتاذا يف الجامعــة األمريكيــة بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ .1982‬ثــم عــاد إىل الواليــات‬
‫املتحــدة‪ ،‬ود ّرس يف جامعــة جــورج تــاون حتــى عــام ‪ .1994‬وتــويف يف الواليــات‬
‫املتحــدة ســنة ‪.2000‬‬

‫يف عــام ‪ ،1992‬حصــل بطاطــو عــى إ جــازة تفــرغ علمــي مــن جامعــة جــورج‬
‫تــاون للقيــام بدراســة عــن الفالحــن يف ســورية ودورهــم يف السياســة‪ .‬وقــد نــرت‬
‫الدراسة يف عام ‪ 1999‬باللغة اإلنجليزية تحت عنوان “فالحو سورية‪ :‬أبناء وجهائهم‬
‫الريفيــن األقــل شــأنا وسياســاتهم”‪ .‬وهــذه النســخة العربيــة مــن الكتــاب هــي إصــدار‬
‫جديــد للمركــز العــريب ضمــن سلســلة ترجــان‪ ،‬التــي تعنــى بتعريــف قــادة الــرأي‬
‫والنخــب الرتبويــة والسياســية واالقتصاديــة العربيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل القــارئ املختــص‬
‫وغــر املختــص‪ ،‬باإلنتــاج الفكــري الجديــد واملهــم خــارج العــامل العــريب‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬

‫الكتاب املساهمون يف العدد‬

‫زينة أرحيم‪ ،‬إعالمية وناشطة سورية‬


‫خطيب بدلة‪ ،‬كاتب سوري‬
‫عزمي بشارة‪ ،‬مفكر عريب‬
‫عادل سعيد بشتاوي‪ ،‬كاتب فلسطيني‬
‫بشري البكر‪ ،‬كاتب وشاعر سوري‬
‫فرج بريقدار‪ ،‬شاعر وكاتب سوري‬
‫سليم البيك‪ ،‬كاتب فلسطيني‬
‫غسان جباعي‪ ،‬مرسحي وكاتب سوري‬
‫نادي حافظ‪ ،‬شاعر مرصي‬
‫سوسن جميل حسن‪ ،‬روائية وكاتبة سورية‬
‫عبد السالم حلوم‪ ،‬كاتب سوري‬
‫عبد الرحمن حالق‪ ،‬كاتب سوري‬
‫ماهر حميد‪ ،‬كاتب سوري‬
‫عبري درويش‪ ،‬كاتبة من سوريا‬
‫محمد عناد سليامن‪ ،‬كاتب سوري‬
‫رامي سويد‪ ،‬كاتب سوري‬
‫راتب شعبو‪ ،‬كاتب سوري‬
‫هاشم شفيق‪ ،‬شاعر وكاتب عراقي‬
‫نرسين طرابليس‪ ،‬كاتبة سورية‬
‫عبد الله صخي‪ ،‬كاتب عراقي‬
‫عيل العبد الله‪ ،‬كاتب سوري‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الخامس ‪2015‬‬ ‫‪216‬‬

‫كريم عبد‪ ،‬شاعر وكاتب عراقي‬


‫عبد الله العتيبي‪ ،‬كاتب كويتي‬
‫هبة عز الدين‪ ،‬كاتبة سورية‬
‫فادي عزام‪ ،‬شاعر وكاتب سوري‬
‫أحمد عمر‪ ،‬كاتب سوري‬
‫نارص فرغيل‪ ،‬شاعر مرصي‬
‫محمد فطومي‪ ،‬كاتب تونيس‬
‫الربتينه لوكيليان‪ ،‬كاتبة أملانية‬
‫حسام الدين محمد‪ ،‬شاعر وكاتب سوري‬
‫عبده وازن‪ ،‬شاعر وكاتب لبناين‬
‫هشام الواوي‪ ،‬كاتب سوري‬
‫حليم يوسف‪ ،‬كاتب سوري‬
‫إبراهيم اليوسف‪ ،‬شاعر وكاتب سوري‬

You might also like