You are on page 1of 240

‫حرية التعبري دون قيد أو رشط‬

‫مجلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة واإلبداع‬


‫تصدرها رابطة الكتاب السوريني‬

‫رئيس التحرير‪ :‬د‪.‬صادق جالل العظم‬


‫مديرا التحرير‪ :‬حسام الدين محمد وخطيب بدلة‪.‬‬
‫هيئــة التحريــر‪ :‬عــادل بشــتاوي‪ ،‬فــرج بريقــدار‪ ،‬عبــد الرحمــن حــاق‪،‬‬
‫ابراهيــم اليوســف‪ ،‬حليــم يوســف‪ ،‬ابتســام تريــي‪ ،‬احمــد عمــر‪.‬‬
‫اإلخراج الصحفي‪ :‬خالد سليمان النارصي‬

‫املراسالت‪ :‬باسم مجلة أوراق عىل العنوان التايل‪:‬‬


‫‪AWRAQ‬‬
‫‪Lionel Road North 11‬‬
‫‪BrentfordMiddlesex TW8 9QZ/UK‬‬
‫هاتف‪00442087589223 :‬‬
‫‪Email: awraq@syrianswa.com‬‬
‫‪Website: www.syrianswa.com‬‬

‫االشــراك الســنوي‪ :‬األفــراد يف البلــدان العربيــة(‪ )100‬دوالر أمريكي‪ ،‬ويف‬


‫البلــدان األوروبيــة (‪ )130‬دوالرا أمريكيــا‪ ،‬ويف أمريــكا وباقــي بلــدان العالــم‬
‫األخــرى (‪ )180‬دوالرا أمريكيــا‪ .‬املؤسســات‪ :‬يف البلدان العربيــة (‪ )130‬دوالرا‬
‫أمريكيــا‪ ،‬وخــارج البلــدان العربيــة (‪ )200‬دوالر أمريكــي‪.‬‬

‫صدر هذا العدد برعاية من‬


‫مؤسسة “بناة املستقبل”‬

‫وبالتعاون مع‬
‫املتوسط لتنمية القراءة والتبادل الثقايف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬

‫حسام الدين محمد‬


‫السلطة حريم الطاغية‪ /‬اإلبادة فعل اغتصاب مع ّمم ‪4........................‬‬

‫أوراق الفكر ‪9...........................................................‬‬


‫عزمي بشارة ‪ /‬نوعان من املراحل االنتقالية وما من نظرية ‪10..............‬‬
‫سمري سعيفان ‪ /‬هل إقامة «الدولة اإلسالمية» ممكنة؟ ‪16.................‬‬
‫جيل كيبيل وأوليفييه مونجان ‪ /‬ميشيل سورا‪ :‬الفرنيس ابن بريزيت‬
‫حني يغتال النظام السوري السوسيولوجيا ‪26................................‬‬

‫أوراق امللف ‪ /‬الجندر واالستبداد‪31..........................................‬‬


‫فادي عزام ‪ /‬تجريد الضح ّية ‪32.............................................‬‬
‫سارة أبو عسيل ‪ /‬النساء يف سوريا‪ :‬من «العورة» إىل «الثورة» ‪63.........‬‬
‫خولة دنيا ‪ /‬املرأة يف الثورة السورية‪ :‬آمال كبرية‪ ...‬تحديات أكرب ‪43.......‬‬
‫ليىل العودات ‪ /‬النزاع املسلح والعبء املجحف عىل النساء ‪49...........‬‬
‫خرض اآلغا ‪ /‬كتابة املرأة – تأنيث العامل ‪56................................‬‬
‫أيمن بكر ‪ /‬املرأة‪ ،‬الثورة‪ ،‬واملرونة الرشيرة‪60...............................‬‬
‫د‪ .‬خولة حسن الحديد ‪ /‬ملاذا يُعادي العرب مفهوم «الجندر»؟‪65........‬‬
‫أحمد عمر ‪ /‬سالطني الحريم ‪70............................................‬‬
‫عبود سعيد ‪ /‬أمي مثل أي امرأة سورية‪ :‬أليس يف بالد العجائب ‪74.......‬‬
‫لقمان ديركي ‪ /‬مرض نفيس اسمه املرأة ‪78...............................‬‬
‫عبد الرحمن حالق ‪ /‬املستبد السوري والجنس ‪81........................‬‬
‫إياد جميل محفوظ ‪ /‬شارع ‪86........................................ 142‬‬
‫مزنة دريد ‪ /‬الجئات ال سبايا ‪95............................................‬‬
‫كريم عبد ‪ /‬سلطة النسق الثقايف‪ :‬الدولة وتقاليد االغتصاب!‪98..........‬‬
‫أمال عبد الصمد ‪ /‬املرأة يف تراث جبل العرب ‪103........................‬‬
‫كريستوفر رويرت ‪ /‬ترجمة‪ :‬يارس الزيات‬
‫عن جهاد النكاح وخرافات أخرى‪ :‬حمالت تضليل متقنة‪108.................‬‬
‫عيل سفر ‪ /‬الخطاب النسوي يف الدراما السورية ‪121......................‬‬
‫راجي بطحيش ‪ /‬عودة «باب الحارة»‪ :‬تحيا املركزية القضيبية! ‪128........‬‬
‫امللف اإلبداعي‪131.....................................................‬‬
‫ماهر حميد ‪ /‬القناص والبغي ‪132..........................................‬‬
‫فاطمة ياسني ‪ /‬ساميا‪136..................................................‬‬
‫ايوتحملا‬

‫محمد غندور ‪ /‬معركة ‪140..................................................‬‬


‫عبد الله العتيبي ‪ /‬الختان ‪142..............................................‬‬
‫فادي عزام ‪ /‬الشلكّة ‪147...................................................‬‬
‫رامي سويد ‪ /‬قصتان ‪154...................................................‬‬
‫مصطفى تاج الدين املوىس‬
‫ما جرى مع الرفيق شاكر ليلة البارحة ‪158.....................................‬‬
‫جوان سواز ‪ /‬معجزة‪161...............................................‬‬

‫أوراق الشعر ‪165......................................................‬‬


‫خالد سليمان النارصي ‪ُ /‬رقُم ‪166..........................................‬‬
‫سميح شقري ‪ /‬وردة الشُ بَّاك‪171............................................‬‬
‫فاضل السلطاني ‪ /‬يف الريف االنجليزي ‪173...............................‬‬
‫مريم مشتاوي ‪ /‬ثالث قصائد‪176..........................................‬‬
‫ميسون شقري ‪ /‬قصائد‪179.................................................‬‬
‫أنور عمران ‪ /‬قريباً تنتهي الحرب ‪183......................................‬‬

‫أوراق النقد والفن‪187................................................‬‬


‫هشام الواوي ‪ /‬رواية «رمش إيل» لفخر الدين فياض‪188...................‬‬
‫خالد محمود‬
‫«التكوين التاريخي للجزيرة السورية» ملحمد جامل باروت‪192..............:‬‬
‫محمد شاويش ‪ /‬ملاذا كان أحمد فؤاد نجم «شاعرا ً شعبياً»؟‪201..........‬‬
‫محمد املطرود ‪ /‬رواية «كان الرئيس صديقي» ‪612.........................‬‬
‫ماري عيىس ‪« /‬بدر الزمان» للروايئ السوري فاضل السباعي‪220..........‬‬
‫إبراهيم اليوسف ‪ /‬رسقة الكنوز األثرية السورية عمل منظم‪225.............‬‬

‫أوراق التحقيق ‪231...................................................‬‬


‫ماركوس سفينسون ‪ /‬ترجمتها عن السويدية‪ :‬ناديا دريعي‬
‫طالبة الطب السويدية التي اختارت سوريا مكاناً لتدريباتها ‪232..............‬‬

‫أوراق التوثيق‪235.....................................................‬‬
‫كلامت الفائزين بجائزة «املزرعة للرواية»‬
‫فخر الدين فياض‪/‬غسان الجباعي‪/‬سوسن جميل حسن ‪236............‬‬
‫حسام الدين محمد‬

‫الســلطة حريــم الطاغيــة‪ /‬اإلبــادة فعــل‬


‫اغتصــاب معمّ ــم‬

‫تتجل فيه إشكاليات الفكر‬


‫ّ‬ ‫ملف شائك‬
‫يتص ّدر هذا العدد من «أوراق» ٌّ‬
‫العريب عرب قراءات متعددة لالستبداد وطرق اشتغاله عىل موضوع الجندر‪.‬‬
‫يعكس االستبداد يف مسائل الجندر والجنسانية معاين الطغيان األعمق‬
‫يف النفــس البرشيــة‪ ،‬عــر ظواهــر ال تتط ـ ّرق إليهــا أبــواب التحليــل الســيايس‬
‫عادة‪ ،‬وتكتفي‪ ،‬يف حاالت‪ ،‬بالرطانة التقليدية حول اضطهاد املرأة وانتقاص‬
‫حقوقها‪ ،‬متجاهلة العالقة املعقدة املتبادلة بني الحالة البيولوجية لإلنسان‪،‬‬
‫ذكــرا ً كان أم أنثــى‪ ،‬مــع القضايــا الفيزيولوجيــة والثقافيــة والسياســية املرتبطــة‬
‫بهــذه الحالة‪.‬‬
‫وتكشــف محــاوالت االقــراب مــن الكهــف املظلــم لالســتبداد يف ســوريا‬
‫أنــه يتعاطــى مــع الرصاعــات السياســية والعســكرية بارتكاســات ســايكولوجية‬
‫وتاريخيــة فظيعــة يتفتــح البــاب ألشــكال مــن األمــراض النفســية‪ ،‬مــن ُعصــاب‬
‫وهسترييا واستيهامات‪ ،‬ولعلّها تتب ّدى أيضاً يف أعراض النيكروفيليا (الهوس‬
‫ـي باملــوت‪ ،‬كــا لــو كانــت اإلبــادة فعـ َـل‬
‫ـي بالجثــث) أو الهــوس الجنـ ّ‬ ‫الجنـ ّ‬
‫اغتصــاب مع ّمـاً يســتأدي انتعــاظ الطاغيــة بقتــل شــعبه‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫ّمعم باصتغا لعف ةدابإلا ‪/‬ةيغاطلا ميرح ةطلسل ا‬

‫ال يقــوم اســتخدام النظــام الســوري لقضايــا الجنــدر عــى حــرف الــراع‬
‫دمحم نيدلا ماسح‬

‫الســيايس إىل مهــاوي الغريــزة الوحشــية القدميــة‪ ،‬حــن كان اإلنســان ينتــر‬
‫بقتــل أخيــه اإلنســان ونهــب أرضــه وســبي نســائه وأطفالــه وانتهــاك حرماتــه‪ ،‬بــل‬
‫ـي العنيــف‪،‬‬
‫يتعـ ّدى ذلــك بدرجــات‪ ،‬حــن يســتخدم مخيــال االنتهــاك الجنـ ّ‬
‫رفقــة آليــات الكــذب املمنهجــة لتدمــر كل مــا هــو مقـ ّدس وبريء ولطيف يف‬
‫ـكل مــا يعتقــد الخصــم بــه‪.‬‬
‫ـي متصاعــد لـ ّ‬
‫اإلنســان ويف تدنيــس طقـ ّ‬
‫ترتاكــب اذن يف عــامل االســتبداد والجنــدر عــوامل تجمــع بــن التاريخـ ّـي‬
‫ومــا قبــل التاريخــي‪ ،‬وتقــرن التابوهــات السياســية باملخيــال الغرائــزي يف‬
‫ـي‪.‬‬
‫اشــتطاطه الوحـ ّ‬
‫تعمــل آليــات االســتبداد الســوري عــى اســتخدام للعالقــات بــن الطغمــة‬
‫والرعيــة باعتبارهــا شــكالً مــن أشــكال الطبقيــة املغلقــة التــي يعتــر كرسهــا‬
‫تجديفـاً‪ ،‬مــن جهــة‪ ،‬وانتهــاكاً جنســياً‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪ ،‬بحيــث تصــر الدعــوة‬
‫للحريــة‪ ،‬خرق ـاً طقســياً لتابوهــات دينيــة وطبقيــة وجنســية‪ ،‬يجــب الــر ّد عليهــا‬
‫بأفعــال مــن جنــس مــا اســتبطنه الطاغيــة مــن معــاين هــذه األفعــال‪ ،‬بحيــث‬
‫يقــوم بانتهــاك املح ّرمــات الدينيــة والجنســية واالنســانية لخصومــه للحـ ّ‬
‫ط مــن‬
‫دينهــم وجنســهم ومرتبتهــم اإلنســانية‪.‬‬
‫هكذا نستطيع أن نفهم مغزى التعذيب الجنيس لحمزة الخطيب‪ ،‬حيث‬
‫ألبســه املســتب ّد‪ ،‬وهــو الطفــل‪ ،‬رسديّــة الراغــب يف اغتصــاب نســاء الضبــاط‬
‫«العلويــات»‪ ،‬يف معادلــة اســتيهام جنــي – طائفــي فظيعــة بالعقالنيتهــا‬
‫التــي تســاوي بــن بــراءة الطفولــة وهمجيــة االغتصــاب مؤطــرة إياهــا يف إطــار‬
‫يئ‪ ،‬حــن كانــت‬
‫طائفــي طبقــي‪ ،‬بحيــث تبــدو آتيــة مــن عنــارص الشــعور بــدا ّ‬
‫اآللهــة وامللــوك مــن ســالة اآللهــة تعاقــب البــر املتطاولــن عــى ألوهيتهــا‬
‫باســتئصال عضــو الذكــورة‪ ،‬ال باعتبــاره رمــزا ً للحيــاة فحســب بــل أيض ـاً كرمــز‬
‫لكــر قــدرة الفئــة البرشيــة املتجرئــة عــى التم ـ ّرد‪ ،‬منظــورا ً إليهــا مــن منظــور‬
‫الجنــس والطبقــة – الطائفــة الســفىل‪.‬‬
‫ـب بــذرة الثــورة‪،‬‬
‫هكــذا يصبــح قتــل الطفــل وخصيــه فعــان اســتباق ّيان لجـ ّ‬
‫فالطفل وعضوه الجنيس رمزان للخصوبة والحياة‪ ،‬أما اتهامه برغبة اغتصاب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪6‬‬

‫نساء الضباط‪ ،‬فاستيهام فاضح يف مغزاه‪ .‬السلطة بهذا املعنى هي حريم‬


‫الضابــط (وهــو املص ّغــر النموذجــي للطاغيــة) وأي محاولــة لالســتيالء عليهــا‬
‫هــي انتهــاك جنــي عقوبتــه اإلبــادة وقطــع النســل واإلخصــاء‪.‬‬
‫يف غضبــه الوحــي عــى الراغبــن يف االســتيالء عــى حرميــه املقـ ّدس‬
‫السوري ينتهك كل مق ّدس خصم ومثال ذلك‬ ‫ّ‬ ‫(السلطة) ال ينفك املستبد‬
‫اختطافه ابنة أحد أفراد املعارضة واتهامه باغتصابها وبإرشاك «املجاهدين»‬
‫يف ذلك‪ ،‬مدنّساً‪ ،‬دون رحمة‪ ،‬معاين األبوة والبن ّوة‪ ،‬ومدمرا ً املعنى اإليجا ّ‬
‫يب‬
‫ديني مق ّدس (الجهاد)‪ ،‬بتحويله إىل فعل جنيس شائن‬ ‫املعتاد يف مفهوم ّ‬
‫وعمومي‪ ،‬مستفيدا ً من مواهب اإلعالم املم ّول إيرانياً الذي اخرتع مصطلح‬ ‫ّ‬
‫أيــا‬
‫يب ّ‬‫(جهــاد النــكاح)‪ ،‬والــذي احتفــل بــه اإلعــام االســترشاقي الغــريب والعــر ّ‬
‫احتفــال وح ّولــه إىل آلــة للتالعــب والتضليــل يســهل العــزف عليهــا عــى أوتــار‬
‫الطائفية واأليديولوجيا واالسترشاق دفعة واحدة‪.‬‬
‫ومــن ذلــك أن أحــد الــوزراء الذيــن دفعــت بهــم أمــواج الثــورة ليســتلموا‬
‫منصبـاً أمنيـاً يف بلــد عــر ّ‬
‫يب مل يجــد أفضــل مــن هــذا الفضيحــة‪ ،‬إلنقــاذه مــن‬
‫ورطــة سياســية تتعلّــق بــدور وزارتــه يف إخفــاء معلومــات عــن اغتيــال معــارض‬
‫يساري‪ ،‬وذلك بخلقه «جرسة» وطنية عا ّمة‪ ،‬باتهام مئة فتاة تونسية بالعودة‬
‫اىل بالدهن حوامل بعد جولة من «جهاد النكاح» املزعوم يف سوريا‪ ،‬وكان‬
‫أن ذهــب عــرات الصحافيــن اىل تونــس للقــاء أولئــك الفتيــات‪ ،‬ومل يجدوا‬
‫أي أثــر لهــن‪.‬‬
‫***‬
‫ويف تحليــل قضايــا االســتبداد والجنســانية والجنــدر ال ميكــن إغفــال أن‬
‫ح ّيــز االســتبداد أوســع مــن ح ّيــز النظــام الســوري‪ ،‬وهــو يســتوعب مجــاالً فكريّـاً‬
‫عربي ـاً كبــرا ً تنتمــي إليــه تنظيــات وأيديولوجيــات انخرطــت يف القتــال ضــد‬
‫تفصل‬ ‫النظام‪ ،‬فالبنى الفكرية العميقة لالستبداد أكرث عمقاً واتساعاً من أن ّ‬
‫عــى ق ـ ّد النظــام وحــده‪ ،‬وباألحــرى فهــي متت ـ ّد عــى مروحــة فكريّــة يتشــارك‬
‫فيهــا اســتبداديون قوميــون ويســاريون وإســاميون بطبعــات طائفيــة وســلفية‬
‫متعــددة‪.‬‬
‫***‬
‫‪7‬‬ ‫ّمعم باصتغا لعف ةدابإلا ‪/‬ةيغاطلا ميرح ةطلسل ا‬

‫الجذري للعالقة بني االستبداد والجنسانية سيستأدي بالرضورة‬ ‫ّ‬ ‫التحليل‬


‫دمحم نيدلا ماسح‬

‫جه النقد والتحليل اىل أسس‬ ‫الخروج من السيايس إىل الثقايف بحيث يتو ّ‬
‫الثقافــة االســتبدادية للمجتمــع بكلّيتــه حيــث يعتــر الجنــس فعـاً اعتدائيـاً ال‬
‫عالقــة إنســانية‪ ،‬ويف هــذا يســتوي الطرفــان‪ ،‬املســتبد وضحايــاه‪ ،‬فمقابــل‬
‫الســلوكيات الجنســية الفاحشــة واملعممــة للكثــر مــن الطغــاة العــرب‪ ،‬فإننــا‬
‫نســتذكر كيــف كان االنتقــام الشــعبي مــن القــذايف فع ـاً جنســياً عدواني ـاً‪،‬‬
‫ـي العمومـ ّـي الــذي تعتــاش عليــه تنظيــات مثــل‬ ‫ونســتذكر العصــاب الجنـ ّ‬
‫«الدولــة اإلســامية يف العــراق والشــام»‪ ،‬وكل هــذا يحيــل اىل ثقافــة شــعبية‬
‫عامــة تســاوي بــن الجنــس والعنــف وترتبــط أشــد االرتبــاط باالســتبداد‪.‬‬
‫وقــول ذلــك‪ ،‬ال يعنــي بالــرورة‪ ،‬يف املجــال الثقــايف الواســع لقضايــا‬
‫الجندر‪ ،‬اعتبار رسديّات املستبدين السياسية مساوية يف جوهرها ومآالتها‬
‫لرسديّات الضحايا‪ ،‬عىل ما ميكن تأ ّوله يف الفلسفة التفكيكية عند الكاتب‬
‫الفرنــي جــاك دريــدا‪ ،‬ولكنــه يشــر إىل أن ال فــكاك للضحايــا مــن دائــرة‬
‫االســتبداد الهلكوتيــة دون نقــد أبنيتــه الجذريــة األكــر حلكــة وعمق ـاً‪ ،‬وقضايــا‬
‫الجنــدر والجنســانية يف بؤرتهــا‪.‬‬
‫***‬
‫ال يقتــر ملــف «أوراق» لهــذا العــدد عــى املقــاالت الفكريــة والتحليليــة‬
‫بــل يتجــاوز ذلــك اىل تناولــه عــر قصــص تتل ّمــس املعضــات التــي يعانيهــا‬
‫أفراد يف رصاع مع العامل ومع أفكارهم وأوهامهم عن الجنس والدين واآلخر‬
‫املختلــف عنهــم‪ ،‬كــا يضــم العــدد الرابــع مــن «أوراق»‪ ،‬األبــواب االعتياديــة‬
‫األخــرى‪ ،‬مــن املقــاالت الفكريــة والسياســية والشــعر والــرد والنقــد‪ ،‬كــا‬
‫يقــدم عرضـاً لكلــات الفائزيــن الثالثــة بجائــزة «املزرعــة للروايــة» لعــام ‪.2014‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪9‬‬

‫أوراق الفكر‬
‫عزمي بشارة‬

‫نوعان من املراحل االنتقالية وما من نظرية‬

‫تقديم‬
‫خاص ـ ٍة باملراحــلِ االنتقال ّيــة عمو ًمــا‪ ،‬بــل‬
‫ّ‬ ‫ـب الحديــثُ عــن نظريّ ـ ٍة تاريخ ّيــة‬
‫يَصعـ ُ‬
‫مراحل «غري‬ ‫َ‬ ‫يستحيل برأيي؛ فام يُقال َعن املراحلِ االنتقالي ِة عمو ًما ُيك ُن ق ْولُه َعن‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بتحديدهــا كمرحل ـ ٍة انتقالي ـ ٍة‬ ‫انتقاليــة»‪ ،‬إذَا صـ َّـح التعبــر‪ .‬املســأل ُة فق ـ ْ‬
‫ط أنَّنــا قُ ْمنــا‬
‫كل مدرسـ ٍة فكريّــة‪.‬‬ ‫ـب التاريخــي الــذي يتّ ِفـ ُـق عليــه املؤ ِّرخــون يف ِّ‬ ‫مــن منظــو ِر التحقيـ ِ‬
‫يئ ِمــن ُ‬
‫ص ْن ِعهــم‪ ،‬وال‬ ‫ـب هــو عمـ ٌـل ان ِتقــا ٌّ‬
‫وهــذا يش ٌء يَعرفُــه املؤ ِّرخــون جيّـدًا؛ فالتحقيـ ُ‬
‫يطا ِبـ ُـق بالــرورة مرحلـ ًة تاريخيـ ًة « ُمكتملـةً» لهــا « بدايـ ٌة ونهايــة»)*(‪.‬‬
‫ر الو ْعـ ِـي باالنتقاليــة يف الحــارض؛ كأَ ْن أَفتتـ َـح كالمــي اليــو َم مثـ ًـا‬
‫وهــذا غ ـ ُ‬
‫ـش مرحلـ ًة انتقاليـ ًة بعــد فــر ِة جمــو ٍد بـدَتْ فيهــا‬
‫بالقــول‪ :‬إنَّنــا يف الوطــن العــريب نعيـ ُ‬

‫*) لعـ ّـل كــال الصليبــي مــن أبــرز مــن لفــت االنتبــاه إىل ذلــك؛ إذ يشــر يف كتابــه “منطلــق‬
‫تاريخ لبنان” الذي ينتهي زمن الرسد أو الوقائع فيه بالفتح العثامين لبالد الشام‪ ،‬إىل أنّه “ليس‬
‫هنــاك مــا يحتّــم اعتبــار الفتــح العثــاين لبــاد الشــام ح ـدّا فاصـ ًـا أكــر مــن غــره يف تاريخهــا”‬
‫قصــة ذات موضــوع واضــح‬ ‫أي جــزء مــن العــامل ال تشـكّل بحـ ّد ذاتهــا ّ‬‫“فاألحــداث التاريخيــة يف ّ‬
‫ثابــت‪ ،‬لهــا بدايــة ونهايــة”‪ .‬وميــي الصليبــي لتحديــد األه ـ ّم يف فكرتــه عــى مســتوى اإلطــار‬
‫كل حــال مــن األحــوال‪،‬‬
‫النظــري بالقــول “املــؤرخ هــو الــذي يح ـدّد لنفســه موضــوع القصــة يف ّ‬
‫فينتقــي مــن األحــداث مــا يــرز معــامل هــذه القصــة‪ ،‬ويقســمها إىل فصــول زمنيــة بالشــكل الــذي‬
‫يــراه مناس ـبًا لتســهيل فهمهــا”‪ .‬انظــر‪ :‬كــال الصليبــي‪ ،‬منطلــق تاريــخ لبنــان‪ ،‬ط‪( 3‬بــروت‪ :‬دار‬
‫نوفــل‪ ،)2012 ،‬ص‪.181‬‬
‫‪11‬‬ ‫رظن نم امو ةيلاقتنالا لحارملا نم ناعون‬

‫ات وبداي ـ ِة الســبعين ّي ِ‬


‫ات‪ ،‬وإ َّن الثــور َة‬ ‫األنظم ـ ُة العربي ـ ُة عــى مــا اســتق َّرتْ عليــه من ـ ُذ نهاي ـ ِة الســتين ّي ِ‬
‫ةراشب يمزع‬

‫ِ‬
‫واالقتحامات‪،‬‬ ‫تقص َد ذلك‪ ،‬وإ َّن هذه التوت ِ‬
‫ُّرات‪،‬‬ ‫تحت هذه املرحل َة االنتقال ّي َة دون أ ْن ِ‬ ‫التونسي َة افتَ ْ‬
‫ســاتِها‪ .‬يف هــذه الحال ـ ِة تشـ ُ‬
‫ـتغل بُــؤر ُة املتكلِّــمِ ‪،‬‬ ‫ـدادات‪ ،‬والثــور َة والثــور َة املضــا ّد َة هــي ِم ـ ْن ِ‬
‫ِ‬ ‫واالرتـ‬
‫ويُضْ ِفــي املتكلِّـ ُم مع ًنــى عــى عــدمِ االســتقرار‪ ،‬وانعــدامِ اليقـ ِ‬
‫ن وكأنَّهــا ظواهـ ُر عابــر ٌة يف الطريــقِ إىل‬
‫ـتغال منظو ِر املتكلّــم‪ .‬وامل َعنى هذا‬ ‫ـي بنــو ٍع مــن تاريخانيـ ٍة غائ ّيـ ٍة عا ّمـ ٍة تُحـ ِّد ُد اشـ َ‬
‫تحقيــقِ غايـ ٍة مبــا يَـ ِ‬
‫مشتَ ٌّق ِم ْن تص ُّو ٍر ُمفادُه أ َّن املرحل َة الحارض َة ليست قامئ ًة بذاتِها؛ فاملتكلِّ ُم يتَص ّو ُرها ويتص ّو ُر زمانَه‬
‫ر معلَّــقٍ يقــو ُد إىل ض ّفـ ٍة أخــرى َمعلومـ ٍة لــه ولِ َمـ ْن يف ِّكـ ُر مثلَــه‪ ،‬ومجهولـ ٍة آلخَريــن‪ .‬ففــي لحظـ ٍة مــا‬
‫كجـ ٍ‬
‫بي متكلِّمٍ‬ ‫ُ‬
‫الفرق ْ‬ ‫ح مالم ِح املرحل ِة الحا ِفل ِة باالح ِتامالت‪ .‬وهنا يكو ُن‬ ‫مالمح مرحل ٍة ق ْبل ات ِّضا ِ‬
‫ُ‬ ‫َغيب‬
‫ت ُ‬
‫ســب‪ ،‬بــل هــو فـ ْر ٌق يف اإلميــانِ بالغايــة أيضً ــا؛ فث َّم َة َم ْن‬ ‫وآخـ َر ليــس فرقًــا يف التحليــلِ والتشـ ِ‬
‫ـخيص ف َح ْ‬
‫صا ٍع‬ ‫ـتنطقون التاريـ َخ بال ُوعــود‪ .‬واملرحلـ ُة أَشــب ُه مــا تكــو ُن ب َحلْبَـ ِة ِ‬
‫يف ِقــدون الثِّقـةَ‪ ،‬وآخــرون فاعلــون يسـ ِ‬
‫بــن قـ َوى املــايض وقـ َوى التغيـرِ والتجديــد‪.‬‬

‫االنتقال بوصفه نتاجا ً للتحقيب‬


‫االنتقاليـ ُة بوص ِفهــا ســم ًة للظواهــر تبــدو «موضوعيـةً»‪ ،‬ومت ّيزهــا عـ ّـا هــو ليــس انتقال ًّيــا‪ ،‬هــي تلــك‬
‫ـول إ َّن املراهقـ َة مرحلـ ٌة‬
‫املرتتِّبـ ُة عــى تصـ ّو ٍر عضــوي بيولوجــي للظواهـ ِر االجتامعيــة؛ فنحـ ُن مثـ ًـا نقـ ُ‬
‫ط بــن مرحلـ ٍة أُوىل ومرحلـ ٍة أخــرة ِمـ ْن حيــا ِة اإلنســان‪ ،‬وفيهــا بعـ ٌ‬
‫ـض ِمــن الطفولـ ِة‬ ‫تتوسـ ُ‬
‫ّ‬ ‫انتقاليـ ٌة ألنَّهــا‬
‫وبعض ِم ْن نَف ِْي‬
‫ٌ‬ ‫وبعض ِمن القلقِ وعدمِ اليقنيِ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بعض ِمن الرصا ِع بي َنهام‪،‬‬ ‫وبعض من ال ُبلوغ‪ ،‬وفيها ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رات ال ُّنشــو ِء واالزْدهــا ِر واألُفــو ِل يف الكائنـ ِ‬
‫ـات‬ ‫ـب عــى تصـ ّو ِ‬ ‫ـت ذاتِــه‪ .‬ويرتتَّـ ُ‬ ‫ِ‬
‫وتأكيدهــا يف الوقـ ِ‬ ‫الـ ِ‬
‫ـذات‬
‫العضوي ِم ْن مرحل ٍة إىل أخرى‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مراحل انتقالي ٌة تَ ْنق ُُل الكائ َن‬
‫ُ‬ ‫قب التاريخي ِة بها‪،‬‬ ‫العضوي ِة‪ ،‬وتشبي ِه ِ‬
‫الح ِ‬
‫ـؤال عــن االنتقــا ِل مــن مرحلـ ٍة إىل أُخــرى ِمـ ْن دونِ‬
‫ويف حالـ ِة الكائــنِ العضــوي الواعــي يُصبـ ُـح السـ ُ‬
‫ـر التغيـرِ‬ ‫أ ْن يفقـ َد الكائـ ُن ُهويّتَــه‪ ،‬والتــي تَبــدو كالثابـ ِ‬
‫ـت يف املتحـ ِّولِ‪ ،‬ليبقــى هـ َو هــو‪ ،‬أو هـ َو ذاتــه عـ ْ َ‬
‫َات‪ .‬وهــذا مــا يَ ْن ُقلُــه العقـ ُـل الجمعـ ُّـي القائ ُم‬ ‫ـردات هويّـ ٍة وذ ٍ‬
‫ـتق منــه دالالتُ مفـ ِ‬ ‫والتبديــل‪ .‬وهــذا مــا تُشـ ُّ‬
‫ـر التاريـ ِخ‪،‬‬‫عــى ُهويّـ ٍة راهنـ ٍة إىل عمليـ ِة ف ْهــمِ التاريـ ِخ كتاريـ ِخ هــذه ال ُهويّـ ِة التــي تتخيَّـ ُـل وكأنَّهــا ثابتـ ٌة عـ ْ َ‬
‫وكأنَّهــا ال ـ «أنــا» الواعيـ ُة لذاتِهــا يف التحـ ُّو ِ‬
‫الت مـ ْن مرحلـ ٍة إىل أخــرى‪.‬‬
‫ـات العضوي ـةَ‪ ،‬أو البيولوجي ـةَ‪ ،‬نبْ َقــى مــع التاري ـ ِخ كصــرور ِة تب ـ ُّد ٍل‬ ‫وإذَا ن َّحيْنــا جانبًــا هــذه املقاربـ ِ‬
‫أي مرحل ـ ٍة فيــه عــى االنتقــا ِل فقــط‪ .‬ف ِبــا أنَّــه ال توج ـ ُد بداي ـ ٌة ونهاي ـ ٌة كـ َـا أَرشنــا يف‬
‫وتغـ ُّـرٍ‪ ،‬ال ت ُخت ـ َز ُل ُّ‬
‫كل انتقا ٍل‬‫انتقال إىل ما بعدَها أيضً ا‪ .‬ويبقَى ُّ‬ ‫ً‬ ‫كل مرحل ٍة‬
‫ُصبح ُّ‬
‫فول‪ ،‬ت ُ‬ ‫الحديث‪ ،‬وبُزو ٌغ وأُ ٌ‬
‫ِ‬ ‫فاتح ِة هذا‬
‫رب ُر‬ ‫ٍ‬
‫بصفات متيِّ ُزها وت ِّ‬ ‫كل مرحل ٍة مح َّد َد ٍة‬
‫ي بوضْ عِ الحدو ِد بني املراحلِ ‪ ،‬و َو ْسمِ ِّ‬ ‫َم ُنوطًا بالتَّحقيب‪ ،‬أَ ْ‬
‫ـال ِمـ ْن مــاذا إىل مــاذا؟‬
‫ـؤال‪ :‬انتقـ ٌ‬
‫هــذه الحــدودَ؛ ليصبـ َـح السـ ُ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪12‬‬

‫ن ظواهـ َر‬ ‫تعســفي ًة فاصلـةً‪ ،‬بـ ْـل يَضـ ُع حــدودًا بـ َ‬ ‫ـب بهــذا املعنــى ال يَضـ ُع حــدودًا زمن ّيـ ًة ُّ‬
‫والتحقيـ ُ‬
‫ـوذج يف تفسـرِ التاريــخ‪،‬‬ ‫ـرض أ َّن لهــا سـ ٍ‬
‫ـات أساســي ًة مشـرَك ًة تُ ِّي ُزهــا َعـ ْن غريِهــا‪ .‬وبهــذا فهــو منـ ٌ‬ ‫يُفـ ُ‬
‫ـات التــي متيِّ ـ ُز ِح ْقب ـ ًة بتواري ـ َخ‬ ‫قــد يســت ِق ُّر عــى منــوذج (براديغــم)‪ .‬ويُســتعا ُن يف تحديـ ِـد هــذه ِّ‬
‫السـ ِ‬
‫رص الوسيط‪ ،‬وعامِ «فت ِح القسطنطينية»‪،‬‬ ‫ِ‬
‫سقوط روما كبداي ٍة للع ِ‬ ‫مع َّين ٍة‪ ،‬يُشا ُر عاد ًة إىل رمزيّ ِتها مث َْل‬
‫ـاف أمــركا»‪ ،‬أو معاهــد ِة وســتفاليا‪ ،‬أو مرحلـ ِة غاليليــو ‪ -‬نيوتــن‪ ،‬أو عــامِ الثــور ِة الفرنســية‪ ،‬أو‬ ‫و»اكتشـ ِ‬
‫ـرب األهليــة‬
‫ـات العثامنيــة‪ ،‬أو الحـ ِ‬ ‫صعــو ِد عائل ـ ِة امليجــي لحكــمِ ج ـ ُز ِر اليابــان‪ ،‬أو بَــد ِء مرحل ـ ِة التنظيـ ِ‬
‫ـرب العاملي ـ ِة األُوىل كبداي ـ ٍة لِـ َـا يُس ـ َّمى باملرحل ـ ِة املعــارص ِة يف‬
‫ـرب القــرم‪ ،‬أو الحـ ِ‬
‫يف أمــركا‪ ،‬أو حـ ِ‬
‫متيي ِزهــا َعــن الحداثـ ِة عمو ًمــا‪ ...‬وغريِهــا‪.‬‬
‫ـات العا ّم ـ ِة املميّــزة مثـ َـل الرأســالية‪ ،‬واملجتم ـعِ‬ ‫السـ ِ‬
‫ـب التاريخي ـ َة ذاتَ ِّ‬ ‫ض أ َّن ِ‬
‫الح َقـ َ‬ ‫ويُف ـرَ ُ‬
‫ج اآلســيوي‪ ،‬واملرحل ـ ِة الليربالي ـ ِة‪ ،‬والحضــار ِة الهيليني ـ ِة‪ ،‬وع ـ ِ‬
‫ر‬ ‫الصناعــي‪ ،‬واإلقطــاعِ‪ ،‬ومنـ ِـط اإلنتــا ِ‬
‫ر امللَكي ـ ِة املطْلَقــة‪ ...‬وغريِهــا‪ ،‬ليسـ ْ‬
‫ـت مراحـ َـل انتقالي ـ ًة مــا ع ـدَا‬ ‫ر الوســيط‪ ،‬وع ـ ِ‬
‫النهضــة‪ ،‬والع ـ ِ‬
‫ســاتٌ مخصوصـ ٌة (سياســية‪،‬‬ ‫ض أنَّهــا تشـك ُِّل ظواهـ َر قامئـ ًة بذاتِهــا لهــا ِ‬ ‫يف بداياتِهــا ونهاياتِهــا‪ .‬ويُفـ َ‬
‫ر ُ‬
‫السـ ِ‬
‫ـات‬ ‫نفســها بقواني ِنهــا الداخلي ـ ِة‪ ،‬وتعي ـ ُد إنتـ َ‬
‫ـاج ِّ‬ ‫ـاج ِ‬ ‫أو اجتامعيــة‪ ،‬أو ثقافيــة)؛ بحيــث تعي ـ ُد إنتـ َ‬
‫الســاتُ املرحلـ َة بطاب ِعهــا‪ ،‬وهــذا مــا مييِّ ُزهــا عــن املراحــلِ االنتقاليــة‪.‬‬
‫التــي متيِّ ُزهــا حتّــى ت َطبـ َع هــذه ّ‬
‫ـت أ َّن هــذه‬ ‫ـاش حـ ْو َل دقّـ ِة التحقيـ ِ‬
‫ـب؛ فيــر ُز مــؤ ِّر ٌخ لديــه معطيــاتٌ جديــد ٌة يُثْبـ ُ‬ ‫وغال ًبــا مــا يــدو ٌر نقـ ٌ‬
‫ٍ‬
‫سامت متيِّ ُز املرحل َة‬ ‫أساس حقيقي‪ ،‬وأنَّها تست ِن ُد إىل رسديَّة‪ ،‬أو أنَّها ليست‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫التعميامت ليس لها‬
‫خ الجديـ ِـد هــذا عــى رضور ِة تحديـ ِـد حدو ِدهــا املكانيَّ ـ ِة أو املجالِيَّــة‪.‬‬ ‫كلَّهــا‪ ،‬فضْ ـ ًـا َع ـ ْن تأكيـ ِـد املــؤ ِّر ِ‬
‫رص النهضة‬ ‫املتوسط؟ وما م ْع َنى مصطلَ ِح ع ِ‬ ‫ِّ‬ ‫خارج َح ِ‬
‫وض‬ ‫َ‬ ‫خارج أوروبا‪ ،‬أَ ْو‬
‫َ‬ ‫املراحل‬
‫ُ‬ ‫فامذا ت ْع ِني هذه‬
‫ـارج ثــور ِة الفنونِ التشــكيلية ونُشــو ِء الفكـ ِر املتعلِّقِ مبنطقِ‬
‫ـر النهضــة خـ َ‬ ‫ـارج إيطاليــا؟ ومــا مع َنــى َعـ ْ‬
‫خـ َ‬
‫ـول قائـ ٌـل إ َّن النهضـ َة األوروبيّـ َة ليســت مرحلـ ًة قامئـ ًة بذاتِهــا‪ ،‬بــل هــي مرحلـ ُة‬‫الدولــة؟ وال يلبَــثُ أ ْن يقـ َ‬
‫انتقــا ٍل نَ ْحـ َو الحداثـ ِة يف أوروبــا‪ ،‬وهكــذا‪.‬‬
‫ج الـ ِ‬
‫ـذات‪ ،‬بــل‬ ‫ن إعــاد ِة إنتــا ِ‬
‫يف هــذه الحالـ ِة تُحـ َّد ُد املراحـ ُـل االنتقاليـ ُة كمراحـ َـل ال تض ِبطُهــا قوانـ ُ‬
‫ـت منــه‪ ،‬وبُــزو ِغ مــا‬ ‫ج اآلخــر؛ إ ْذ ليــس لهــا منطـ ٌـق داخــي‪ ،‬ومنط ُقهــا مســت َم ٌّد ِم ـ ْن أُفــو ِل مــا انطل َقـ ْ‬
‫إنتــا ِ‬
‫بالســيول ِة وعــدمِ االســتقرار‪ ،‬وانعــدامِ‬ ‫يَلِيهــا وتَقــو ُد إليــه‪ .‬وهــي لذلــك غالبًــا مــا تكــو ُن عاصفـةً‪ ،‬تتَّ ِ‬
‫سـ ُم ُّ‬
‫اليقـنِ‪ ،‬ومعــه الشــعو ُر باألمــنِ والثقـ ِة مبــا هــو قائـ ٌم؛ أل َّن مــا كان يَتــاىش‪ ،‬ومــا سـ َ‬
‫ـوف يكــو ُن مل يتَّ ِ‬
‫ضـ ْـح‬
‫َغيِ‬ ‫ّامت واألعـ ِ‬
‫ـراف‪ ،‬وت ُّ‬ ‫ـات واملسـل ِ‬
‫املؤسسـ ِ‬
‫ّ‬ ‫بَ ْعـدُ‪ .‬وغال ًبــا مــا ت َبحــثُ العلــو ُم االجتامعيـ ُة يف أثـ ِر انْهيــا ِر‬
‫ـك أخــرى يف السـ ِ‬
‫ـلوك اإلنســاين‪.‬‬ ‫ـك وقيــامِ ماملـ َ‬ ‫ـاط الوعــي‪ ...‬والقالقــلِ األهليــة‪ ،‬وانهيــا ِر ماملـ َ‬ ‫أمنـ ِ‬
‫ِ‬
‫االنتقاالت أزَماتٌ ‪ .‬وهي مرحل ٌة تَتَّسـ ُم يف التواري ِخ كافّ ًة بِربو ِز‬ ‫ِ‬
‫األزمات الكربى‪ .‬فك ُُّل‬ ‫إنَّها مرحل ُة‬
‫حركـ ِة أفــكا ٍر جديد ٍة وانْطال ِقها‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫رظن نم امو ةيلاقتنالا لحارملا نم ناعون‬

‫ـاج تحديـ ِـد الحقـ ِ‬


‫ـب ذاتِهــا‪ .‬وهــذا‬ ‫ـب التاريخ ّيـ ِة‪ ،‬هــو نتـ ُ‬ ‫إ َّن تحديـ َد مــا يُ َعـ ُّد مرحلـ َة انتقــا ٍل بــن ِ‬
‫الحقـ ِ‬
‫ةراشب يمزع‬

‫ـب فيهــا التاريـ ُخ غالبًــا ما تَ ُع ُّد ما ســبقَها مرحل ًة‬


‫ـاش؛ أل َّن املرحلـ َة التــي يُكتَـ ُ‬ ‫بحـ ِّد ذاتِــه أمـ ٌر مطـ ٌ‬
‫ـروح لل ِّنقـ ِ‬
‫الخاصـ ِة‬
‫ّ‬ ‫ـض املميِّـ ِ‬
‫ـزات‬ ‫را وســيطًا لــه بعـ ُ‬ ‫انتقاليّـ ًة إليهــا‪ُ .‬خـ ْذ مثـ ًـا اعتبــا َر ألـ ِ‬
‫ـف عــامٍ مــن تاريـ ِخ أوروبــا عـ ً‬
‫تي‪ :‬املرحل ـ ُة‬
‫ط مــا بــن كالســيك ّي ْ‬ ‫توس ـ ُ‬ ‫ـر ظُلـ ٍ‬
‫ـات يَ ّ‬ ‫بــه‪ .‬و ِم ـ ْن وجه ـ ِة نظ ـ ِر َم ـ ْن َع ـدَّهُ وســيطًا كان عـ ْ َ‬
‫الهيلينيــة مــن جهـ ٍة وال ّنهضـ ُة التــي تشـك ُِّل كالســيكي ًة متجـدِّد ًة مــن جهـ ٍة أخــرى؛ فهــو مرحلـ ٌة انتقال ّيـ ٌة‬
‫ُوصـ ُـف بِ ــا‬ ‫ر ظلـ ٍ‬
‫ـات‪ ،‬ألنَّهــا ال ت َ‬ ‫فارغـ ٌة ِمـ ْن صفـ ِ‬
‫ـات مــا سـ ِبقَها ومــا ت َالهــا‪ .‬وهــذا الفــرا ُغ مــا يجعلُــه عـ َ‬
‫فيهــا‪ ،‬بــل بِ ــا ليْــس فيهــا مقارنـ ًة مــع مــا كان قبْلَهــا‪ ،‬ومــا جــا َء ب ْع َدهــا‪ .‬لَـ ْو صـ َّـح ذلــك‪ ،‬تكــو ُن املرحلـ ُة‬
‫نفســها حقبـ ًة قامئـ ًة بذاتِهــا‪ .‬وكـ َـا ت َعلمــون‪ ،‬غال ًبــا‬‫ـاف مــن املرحلـ ِة التــي تَ ُعـ ُّد َ‬
‫ـول بأضعـ ٍ‬ ‫االنتقال ّيـ ُة أطـ َ‬
‫ر وسـ ٍ‬
‫ـيط متأ ِّخـرٍ‪.‬‬ ‫ر وسـ ٍ‬
‫ـيط أوسـطَ‪ ،‬وعـ ٍ‬ ‫ر وسـ ٍ‬
‫ـيط مب ّكـ ٍر وعـ ٍ‬ ‫ط أيضً ــا إىل عـ ٍ‬ ‫ر الوســي ُ‬
‫قسـ ُم العـ ُ‬
‫مــا يُ َّ‬
‫واأل ّو ُل والثّالــثُ هــا مرحلتــان انتقاليّتــان بحـ ِّد ذاتِهــا‪.‬‬
‫وت َ ُعـ ُّد نُسـ ٌخ خالصيـ ٌة مــن األيديولوجيـ ِة املاركســية املجتمعـ ِ‬
‫ـات الطبق ّيـ َة بر ّم ِتهــا مرحلـ ًة انتقال ّيـ ًة‬
‫ر مــن الــوالد ِة حتــى‬ ‫مــن املشــاعيّ ِة البدائيّ ـ ِة إىل الشــيوعيّ ِة املتط ـ ِّور ِة‪ ،‬مثلَــا أ َّن الحيــا َة الدنيــا ج ـ ٌ‬
‫ـاص يف املســيحي ِة األوىل‪ ،‬أو نحـ َو التحـ ّر َر مــن الدنيــا يف‬
‫درب مــن اآلالمِ نحـ َو الخـ ِ‬
‫العالَــمِ اآلخــر‪ ،‬أو ٌ‬
‫الحركات الخالص َّي ِة يف العصو ِر ْ‬
‫الوسطى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األرض يف‬ ‫ات عمو ًما‪ ،‬ونح َو مملك ِة املسي ِح عىل‬
‫الصوف ّي ِ‬
‫صفـ ٌة ُم َق ْولَ َبـ ٌة يف مذهبيـ ٍة تاريخانيـ ٍة ت َّد ِعــي عــى املســتوى‬
‫املتأ ِّخــرة‪ .‬وهــذه تاريخان ّيـ ٌة ميتافيزيقيـ ٌة ِ ْ‬
‫تحقيب تاري ِخ الفك ِر مع امليتافيزيقا والتفكري‬
‫ِ‬ ‫َعامل أوغست كومت يف‬
‫املعريف أنَّها ماديةٌ‪ .‬وقد ت َ‬
‫الفلســفي كمرحلـ ٍة انتقاليّـ ٍة مــن الثيولوجيــا والالهــوت إىل التفكـرِ الوضعــي العلمـ ّـي‪.‬‬
‫النظريات الخالصي ِة التي ت َدف ُع التاري َخ نح َو غاي ٍة‪ ،‬مث َّ َة الهوتٌ للتاري ِخ يُ ِّ‬
‫قس ُمه‬ ‫ِ‬ ‫ظ هنا أ َّن يف‬ ‫ِ‬
‫الح ْ‬
‫َّس‪ :‬الوسطى هي مرحل ُة االنتقا ِل إىل الخَالص‪ ،‬مثلَام‬ ‫مراحل ٍ‬
‫ثالث دامئًا ت ُحايك التاري َخ املقد َ‬ ‫َ‬ ‫إىل‬
‫األب منـ ُذ عهـ ِـد آد َم‬
‫ـيط التاريـ َخ كلَّــه كمرحلـ ِة ِ‬
‫ر الوسـ ِ‬ ‫َســمت األخويّـ ُة ال ـ «يواكيميــة» يف نهايـ ِة العـ ِ‬ ‫ق َّ‬
‫ح ال ُقــدس‪ ،‬وهــي‬ ‫ـول إىل مرحلـ ِة الــرو ِ‬ ‫ح وإبراهيـ َم‪ ،‬ومرحلـ ِة االبــنِ التــي تلَـ ْ‬
‫ـت قــدو َم املســي ِح‪ُ ،‬وصـ ً‬ ‫ونــو ٍ‬
‫َص يف مملكـ ِة الـ ُّروح‪.‬‬
‫مرحلـ ُة الخـا ِ‬
‫ـول التط ـ ُّورِ‪ ،‬وال س ـ َّيام تلــك النقاشــاتُ ذاتُ العالق ـ ِة بالتغـ ُّـرِ‬ ‫ـرف تاري ـ ُخ الفلســف ِة نقاشـ ٍ‬
‫ـات حـ َ‬ ‫َعـ َ‬
‫ـفات خطـأً برأْ ِينــا َّ‬
‫بالتاكــمِ الك ِّمــي‪ ،‬وعالقتهــا بالطفــر ِة أو القفــز ِة‬ ‫ـض الفلسـ ِ‬
‫التدريجــي الــذي تُسـ ِّميه بعـ ُ‬
‫ـب رقميًّــا‪ ،‬هــو ِمــن‬
‫حسـ ُ‬ ‫ـرا ك ّميًّــا يُ َ‬
‫ـن تغـ ّ ً‬ ‫التــي تُسـ َّمى خطـأً تغـ ّ ً‬
‫ـرا نوعيًّــا‪ .‬فــا يبــدو ِمـ ْن منظــو ِر علــمٍ معـ َّ ٍ‬
‫ـات التط ـ ّورِ‪ ،‬هــل التط ـ ّو ُر هــو‬‫ـاش يف نظريـ ِ‬ ‫ـات والصفـ ِ‬
‫ـات‪ .‬ومث َّـ َة نقـ ٌ‬ ‫السـ ِ‬‫ـر يف ِّ‬ ‫منظــو ِر علــمٍ آخ ـ َر تَغـ ّ ٌ‬
‫ـاب فكــر ِة التقـدُّم؟ ولكــن‬
‫ر لألفضــلِ كـ َـا يُ ْؤمـ ُن أصحـ ُ‬
‫ـب؟ وهـ ْـل هــو تغيـ ٌ‬ ‫ر مــن البسـ ِ‬
‫ـيط إىل املركَّـ ِ‬ ‫تغيـ ٌ‬
‫ـاش آخـ ُر متا ًمـاـ وال عالقـ َة لــه مبوضو ِعنــا؛ فنحـ ُن ال نَبحــثُ يف مفهــومِ التطـ ُّور‪.‬‬
‫هــذا نقـ ٌ‬
‫استحال ٌة يف وضْ عِ نظريّ ٍة يف املراحلِ االنتقال ّي ِة التاريخ ّي ِة تتجاو ُز «القوان َ‬
‫ني»‬ ‫مث ّ َة صعوب ٌة وحتّى ْ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪14‬‬

‫ج ـ ُه عمل ّي ـ َة التح ـ ّو ِل‬ ‫التــي تض ُعهــا الفلســفاتُ التاريخيان ّي ـ ُة صاحب ـ ُة االجتهــا ِد يف َوضْ ـعِ قوان ـ َ‬
‫ن ت ُو ِّ‬
‫التاريخــي‪ ،‬بحيــثُ تَقــو ُد إىل مرحلـ ٍة أخــر ٍة‪ ،‬أو غايــة‪ ،‬هــي مرحلـ ُة ســياد ِة العــد ِل واملســاوا ِة‪ ،‬أَ ْو مرحلـ ُة‬
‫ح‪ ،‬مرحل ـ ُة لقــا ِء اإلنســانِ م ـ َع جوه ـرِه املتمثِّــلِ بالح ِّريــة‪ .‬وحتّــى هــذه‬ ‫ســياد ِة العقــلِ ‪ ،‬أو مرحل ـ ُة ال ـ ُّرو ِ‬
‫را لالنتقــا ِل مــن حقب ـ ٍة‬ ‫جه ـ ِة إىل غايــة‪ ،‬إنَّ ــا تَقـ ُ‬
‫ـرح عل ْينــا تفس ـ ً‬ ‫النظريــاتُ يف فَ ْهــمِ حرك ـ ِة التاري ـ ِخ املو ّ‬
‫ص ْنـعِ‬ ‫الت اقتصاديّـ ٍة‪ ،‬أو سياسـيّ ٍة‪ ،‬أو دينيّـ ٍة تَراهــا هــي جوهريّـ ًة يف ُ‬ ‫إىل أخــرى كانتقــا ٍل ناجــمٍ عــن تحـ ّو ٍ‬
‫ـض النظـ ِر‬‫االنتقــال‪ .‬ولك ّنهــا ال تســتطي ُع أ ْن تضـ َع نظريّـ ًة عــن طبيعـ ِة املراحــلِ االنتقال ّيـ ِة بحـ ِّد ذاتِهــا ِب َغـ ِّ‬
‫ـات املِلكي ـ ِة‬
‫ي عالقـ ِ‬ ‫ـات اإلنتــاج‪ ،‬أَ ْ‬ ‫ج وعالقـ ِ‬ ‫عـ ّـا ســبقَها ومــا يَلِيهــا‪ .‬فنظري ـ ُة الــرا ِع بــن قــوى اإلنتــا ِ‬
‫ج إىل منـ ِـط‬ ‫ي يَنقـ ُـل التاريـ َخ ِمــن منـ ِـط إنتــا ٍ‬
‫ك داخـ ٍّ‬‫ـرح علينــا منوذ ًجــا تفســريًّا عــن محـ ِّر ٍ‬
‫الســائدة‪ ،‬تَقـ ُ‬
‫ج وبدايـ ِة‬
‫ج آخـ َر‪ ،‬ولك ّنــه ال يحـ ِّد ُد طبيعـ َة املراحــلِ االنتقاليـ ِة ســوى يف أنَّهــا تَقـ ُع يف نهايـ ِة منـ ِـط إنتــا ٍ‬
‫إنتــا ٍ‬
‫ـر الح ًقــا‬ ‫ظ بدايـ ًة ب ـ «البنــى الفوقيــة» السياســي ِة والحقوقيـ ِة وأمنـ ِ‬
‫ـاط الوعـ ِـي‪ ،‬وأ َّن هــذه تتغـ ّ ُ‬ ‫آخـ َر‪ ،‬وتحت ِفـ ُ‬
‫ج‪ ،‬ويُنتـ ُـج «بنــاه الفوقي ـةَ» املالمئ ـ َة لــه‪ .‬وتُخالِ ُفهــا نظريــاتٌ أخــرى يف ذلــك‬ ‫حــن يَكتمـ ُـل من ـ ُ‬
‫ط اإلنتــا ِ‬
‫ـيايس ســابقًا عــى االقتصــادي‪ ،‬أَ ْو تـ َرى يف تغـ ُّ ِ‬
‫ـر أمنـ ِ‬
‫ـاط الوعـ ِـي محـ ِّركًا أهـ َّم لالنتقــا ِل‬ ‫َّ‬ ‫ر السـ‬‫تَــرى التغيـ َ‬
‫مــن مرحلـ ٍة إىل أخــرى‪.‬‬
‫ـات التط ـ ّو ِر هــذه كلَّهــا مأخــوذ ٌة مــن دراس ـ ِة نشــو ِء الرأســالي ِة أو املجتم ـعِ‬
‫ـن لنــا أ َّن نظريـ ِ‬
‫وقــد تَبـ ّ َ‬
‫َت عــى التاري ـ ِخ بأكملِــه‪.‬‬‫ـث مـ َّـا س ـ ِبقَه‪ ،‬وأنَّهــا أُس ـ ِقط ْ‬
‫الحديـ ِ‬
‫ج الرأســالي ِة‪ ،‬أو مــن املجتم ـعِ التقليــدي إىل‬
‫ـال إىل مرحل ـ ِة اإلنتــا ِ‬
‫ِس فعـ ًـا هــو االنتقـ ُ‬
‫مــا ُدر َ‬
‫املجتمعِ الحديث‪ ،‬أو ِمن املجتمعِ الـ «فيودايل» إىل املجتمعِ الربجوازي‪ ،‬ومن االقتصا ِد الزراعي‬
‫ـول مراحلِ االنتقال‪.‬‬ ‫ـات التاريخيـ ِة حـ َ‬‫ـت بــه غالبيـ ُة الدراسـ ِ‬ ‫َصصـ ْ‬ ‫إىل االقتصــا ِد الصناعــي‪ .‬وهــذا مــا تَخ ّ‬
‫ْرس مــا يَ ُعـدُّه مــؤ ِّر ٌخ مــا مرحلـ ًة انتقال ّيـ ًة بــن اإلقطــا ِع‬ ‫تخصصـ ٍ‬
‫ـات أض َيـ َـق؛ مثـ َـل أ ْن نَـد َ‬ ‫ُّ‬ ‫ـاج هنــا إىل‬
‫ونحتـ ُ‬
‫ـب كهــذا للتاريــخ؛ فيقــو ُم بدراسـ ِة مناطــقِ التخــومِ الزمان ّيـ ِة بــن مرحلـ ٍة‬
‫والرأســال ّي ِة ألنَّــه يقــو ُم بتحقيـ ٍ‬
‫الت‪ ،‬دار ًِســا طبيعتَهــا كـ َـا فعـ َـل ماركــس يف مرحلـ ِة االنتقــا ِل ِمــن‬
‫وأخــرى يف بلــدانٍ مـ َّرتْ بهــذه التحـ ّو ِ‬
‫ر تقســيمِ العمــلِ‬ ‫ـات الزراعي ـ ِة يف بريطانيــا‪ ،‬وتأث ـ َ‬
‫ـراب العالقـ ِ‬
‫س خـ َ‬
‫ن د َر َ‬
‫اإلقطــا ِع إىل الرأســال ّية‪ ،‬ح ـ َ‬
‫والثور ِة الصناعية يف نشو ِء العملِ املأجور‪ .‬وكذلك ﭭيرب ودوركهايم يف ِدراس ِتهام ملراحلِ االنتقا ِل‬
‫صــا‬‫تخص ً‬
‫ُّ‬ ‫ر‬ ‫ـات التقليدي ـ ِة إىل املجتمعـ ِ‬
‫ـات الحديثــة‪ .‬هنــا بحثَــت املوضــو َع علــو ٌم أك ـ ُ‬ ‫مــن املجتمعـ ِ‬
‫ـوب ملحاولـ ِة‬
‫ـات الثقاف ّيـ ِة بتدا ُخلِهــا املطلـ ِ‬
‫مثـ َـل السوســيولوجيا واالقتصــا ِد واألنرثوبولوجيــا والدراسـ ِ‬
‫اإلملــامِ بطبيعـ ِة مرحلـ ٍة مــا‪.‬‬
‫ـب هــذه العلــومِ نشـأَ عــى ِّ‬
‫كل حــا ٍل مـ ْن خــا ِل التصـدِّي لدراسـ ِة آثــا ِر التحـ ُّو ِل إىل املجتمـعِ‬ ‫وأغلـ ُ‬
‫َ‬
‫االنتقال من‬ ‫االغرتاب الذي مييِّ ُز‬
‫ِ‬ ‫الربجوازي‪ ،‬أَو الرأساملي ِة‪ ،‬أو الحداثة‪ .‬و ِم ْن هنا نَشأَتْ نظرياتٌ َ‬
‫مثل‬
‫الحريف املهني إىل العملِ املَأْجور‪ ،‬وما يُس ِّميه دوركهايم أيضً ا يف كتابِه عن ظاهر ِة االنتحا ِر‬ ‫العملِ ِ‬
‫ـن وتقاليـ ِـده‪َ ،‬‬
‫قبل‬ ‫بال ـ «أنومــي»‪ anomie normlessness‬الناجمـ ِة َعــن انهيــا ِر أعـ ِ‬
‫ـراف مجتمـعٍ معـ َّ ٍ‬
‫‪15‬‬ ‫رظن نم امو ةيلاقتنالا لحارملا نم ناعون‬

‫هات االجتامع ّي ِة‬


‫املرجعيات‪ ،‬والتش ّو ِ‬
‫ِ‬ ‫وتقاليده؛ أَي انْهيا ِر‬
‫ِ‬ ‫أعراف مجتمعٍ آخ َر‬‫ِ‬ ‫نُشو ِء‬
‫ةراشب يمزع‬

‫والنفس ـيّ ِة الناجم ـ ِة َع ـ ْن ِفقــدانِ الوِجه ـ ِة و ِفقــدانِ املعنــى‪ ،‬والظواه ـ ِر الناجم ـ ِة عــن‬
‫ِ‬
‫املجتمعات‬ ‫الس ْح ِر عن العالَمِ والفَردن ِة ونشو ِء البريوقراط ّي ِة وتأثريِها يف‬ ‫عمل ّي ِة ن ْز ِع ِّ‬
‫التقليديّـ ِة عنــد ماكــس ﭭيــر‪ .‬ثَ ّـ َة ِخــر ٌة كبــر ٌة يف تفسـرِ ظواهـ َر اجتامع ّيـ ٍة محـدَّد ٍة‬
‫ـاج عمليّ ـ ِة انتقــا ٍل مــن حال ـ ٍة إىل أخــرى‪ .‬وقــد تكــو ُن الحــاالتُ التــي تصـ ُـل‬
‫بكونِهــا نتـ َ‬
‫ـر (عــى حـ ِّد تعبـرِ إميانويــل كانــت يف نقـ ِـد ملكــة‬
‫املرحلـ ُة االنتقاليـ ُة بي َنهــا مثـ َـل ِجـ ْ ٍ‬
‫الحكــم)‪ ،‬نظا ًمــا اقتصاديًّــا مع َّي ًنــا أو بنيـ ًة اجتامع ّيـةً‪ ،‬أو ثقافـ ًة مع َّينـ ًة ِبغـ ِّ‬
‫ـض النظـ ِر عــن‬
‫ْرس العالقـ َة بــن هــذه العنــارصِ‪.‬‬ ‫النظريـ ِ‬
‫ـات التــي ت َـد ُ‬
‫ات االجتامعي ِة يف مرحل ِة التصنيعِ والتحديث‪.‬‬ ‫لق ْد نشأَ عل ُم االجتام ِع مع اله ّز ِ‬
‫ـص البريوقراطيـ ِة الحديـ ِّ‬
‫ـدي‪ ،‬بي َنــا شـدَّد‬ ‫ففسهــا ﭭيــر كعمليـ ِة َعقْلنـ ٍة تَقــو ُد إىل قَ َفـ ِ‬
‫َّ َ‬
‫ُّك الجامعـ ِة األهل ّيـ ِة يف الحيــا ِة‬ ‫جــورج زميــل عــى مجهول ّيـ ِة اإلنســانِ وغُرب ِتــه مــع تَفـك ِ‬
‫ـات االجتامعيـ ِة و ُعزلـ َة األفــرا ِد‪ ،‬وظواهـ َر‬
‫ـآكل العالقـ ِ‬ ‫ـدرس تـ َ‬
‫املدنيّــة‪ .‬أ َّمــا دوركهايــم‪ ،‬فـ َ‬
‫ـف عــى ِفقــدانِ ال ُعـ ْرف‪.‬‬
‫ِف ْقــدانِ التــوازنِ مــع عــدمِ القــدر ِة عــى التك ُّيـ ِ‬
‫ـث عــن ُهويّ ـ ٍة‬
‫ـات فَ ْه ـ ُم األصولي ـ ِة والقومي ـ ِة كبحـ ٍ‬
‫كل هــذه النظريـ ِ‬ ‫واشْ ـتُ َّق ِمــن ِّ‬
‫ـدل الجامعـ ِ‬
‫ـات التــي ت َف َّككــت‪.‬‬ ‫جديــد ٍة وجامع ـ ٍة ُمتخ َّيل ـ ٍة بـ َ‬
‫ري من العلومِ االجتامعية التي نَشأتْ لدراس ِة هذه املرحل ِة‬ ‫وقد استُ ِ‬
‫نس َخ الكث ُ‬
‫إىل عملية دراسـ ِة االنتقال ِم ْن مجتمعٍ تقليدي إىل مجتمعٍ مســتع َم ٍر يف الرشق‪،‬‬
‫س مــن‬ ‫ومــن بلــدانٍ مســتع َمر ٍة إىل دو ٍل مســت ِقلَّة‪ .‬وجمي ُعهــا حــاالتٌ انتقال ّي ـ ٌة تُــد َّر ُ‬
‫زاوي ـ ِة نظ ـ ِر تحديـ ِـد النظريّـ ِة االجتامعيّ ـ ِة أو السياس ـيّ ِة أو االقتصاديّـ ِة أو التاريخيّ ـ ِة ل ـِ‬
‫ـات َعــن نظريـ ِة التحديــث‪.‬‬
‫«مــا قبــل» و»مــا بعــد»‪ ،‬وغال ًبــا مــا تكــو ُن تف ّرعـ ٍ‬

‫محــارضة ألقاهــا الكاتــب يف املؤتمــر الســنوي الثالــث للعلــوم االجتماعية‬


‫واالنســانية بتونس ‪ 22/20‬آذار مــارس ‪2014‬‬
‫سمري سعيفان‬

‫هل إقامة «الدولة اإلسالمية» ممكنة؟‬

‫ريها‬
‫ترفــع بعــض مجموعــات املعارضــة الســورية التــي تقاتــل النظــام‪ ،‬كــا يرفع غ ُ‬
‫حــول العــامل شــعار اســرجاع دولــة الخالفــة‪ ،‬أو إعــادة إقامــة الدولــة اإلســامية‪ ،‬كــا‬
‫يرفــع اإلخــوان املســلمون شــعار «اإلســام هــو الحــل»‪.‬‬
‫لــن نناقــش داللــة أن مجــرد الدعــوة إلقامــة «الدولــة اإلســامية» يعنــي أن هــذه‬
‫املجتمعــات والــدول التــي يديــن غالبيــة أو معظــم ســكانها باإلســام ليــس لهــا صفــة‬
‫أو صبغة إسالمية‪ ،‬وتذهب بعض هذه الدعوات إىل أنهم ليسوا مسلمني وتصل‬
‫إىل حــد تكفــر هــذه املجتمعــات وأنظمتهــا بالجملــة‪.‬‬
‫مثــة اتفــاق عــى أن مجموعــات اإلســام الســيايس هــذه‪ ،‬عــى تبايــن درجاتهــا‪،‬‬
‫تســعى الســتخدام اإلســام ألغــراض سياســية‪ ،‬مســتغل ًة إميــان النــاس وميلهــم للثقــة‬
‫بــكل مــا يتخــذ لبوس ـاً ديني ـاً‪ .‬وإن كانــت هــذه الفكــرة قــد نوقشــت مــرارا ً مــن قبــل‬
‫كثريين‪ ،‬فنحن هنا نود أن نناقش جانباً آخر من املسألة‪ ،‬جانب اإلمكانية الواقعية‬
‫السرتجاع املايض‪ ،‬واستعادة دولة الخلفاء الراشدين‪ ،‬أو إقامة دولة عيل أي غرار‬
‫إســامي ســابق مثــل الدولــة األمويــة أو العباســية أو الفاطميــة أو غريهــا‪.‬‬
‫املفــرق األول هــو أن مفهــوم الدولــة أوســع بكثــر مــن بعــض القضا يــا التــي‬
‫يركــز عليهــا أصحــاب هــذه الد عــوات الذ يــن يركــزون عــى التزمــت يف الفكــر‬
‫والتزمــت يف تطبيــق الشــعائر‪ ،‬وتحر يــم الخمــر‪ ،‬و فــرض الحجــاب‪ ،‬وتعــدد‬
‫‪17‬‬ ‫نكمم »ةيمالسإلا ةلودلا« ةماقإ له‬

‫الزوجــات)*( وتحريــم لحــم الخنزيــر‪ ،‬والجهــاد‪ ،‬رغــم أن اإلســام ديــن يــر يقــوم عــى الوســطية ورغــم‬
‫افيعس ريمس‬

‫وجــود اجتهــادات كثــرة حــول الحجــاب‪ ،‬ورغــم أن تعــدد الزوجــات قــد جــاء مرشوط ـاً‪ ،‬وكان لــه دور‬
‫ورضورة حينهــا‪ ،‬ولكــن رضورتــه انتفــت اليــوم‪.‬‬
‫تذهــب بعــض هــذه الفصائــل إىل تكفــر جميــع مجتمعــات املســلمني‪ ،‬وتدعــو إلعــادة تطبيــق‬
‫عقوبــة الجلــد وقطــع يــد الســارق و»مــا ملكــت أميانكــم»‪ ،‬وفــرض الجزيــة‪ ،‬وجــواز الغــزو‪ ،‬والســبي‪،‬‬
‫واســتعباد مــن يســمونهم بالكفــار واســرقاقهم‪ ...‬الــخ‪.‬‬
‫إن بنــاء الدولــة يشــمل مــا هــو أوســع بكثــر وأكــر أهميــة مــن وجهــة نظــر إدارة الحيــاة عــى األرض‪،‬‬
‫وإدارة شؤون الناس اليومية يف العرص الحديث‪ .‬فإقامة البنيان األسايس للدولة‪ ،‬يعني إقامة بنى‬
‫اقتصاديــة محليــة‪ ،‬ووطنيــة‪ ،‬ودوليــة وبنــى سياســية‪ ،‬وترشيعيــة‪ ،‬وتنفيذيــة‪ ،‬وقضائيــة‪ ،‬وبنــى اجتامعية‬
‫وثقافيــة وفكريــة وعلميــة وعالقــات سياســية دوليــة وغريهــا وهــي واســعة ومتعــددة ومتشــعبة ومركبــة‬
‫ومعقــدة أكــر بــآالف املــرات مــا كانــت عليــه الحيــاة قبــل قــرن واحــد فــا بالــك قبــل ‪ 14‬قــرن‪.‬‬
‫ليفصلــوا‬
‫ّ‬ ‫يســعى بعــض دعــاة إقامــة الدولــة اإلســامية لالحتــاء مبقولــة أن اإلســام (ديــن ودنيــا)‬
‫مؤسسات دنيوية أرضية عىل هواهم وبحدود مفاهيميهم الضيقة‪ ،‬زاعمني أنها مؤسسات إسالمية‪،‬‬
‫ومينحوهــا صفــة القدســية تحــت مســمى «إســامية» وكأن وظائفهــا وهيكلهــا ونظامهــا الداخــي قــد‬
‫نزلــت مــن عنــد رب العاملــن‪ .‬أمــا البعــض اآلخــر فهــو أكــر مرونــة وذكاء فيأخــذ املؤسســات الحديثــة‬
‫التــي ال عالقــة لهــا بأيــة ديانــات ويعــدل فيهــا بعــض التســميات ويســميها إســامية‪ .‬وســنأيت عــى‬
‫بعــض األمثلــة‪.‬‬
‫ولكــن كل هــذا ال يعنــي أن دولــة الخالفــة قــد اســتعيدت أو أن «الدولــة اإلســامية» قــد قامــت‬
‫مــكان «دولــة الكفــر»‪ ،‬وذلــك لســبب بســيط هــو اســتحالة اســتعادة املــايض وســنينه‪.‬‬
‫الظروف تغريت تغريا ً هائالً خالل أكرث من ‪ 14‬قرن‪ ،‬واألفكار واألنظمة تولد وتنمو وتشيخ ومتوت‪،‬‬
‫وال نقصــد هنــا الجانــب اإلميــاين والروحــي والشــعائر‪ ،‬فهــي باقيــة‪ ،‬بــل نقصــد البنــى واملؤسســات‬
‫الدنيويــة‪ ،‬بحيــث أن تلــك البنــى التــي أقيمــت يف العهــود الســابقة غــر صالحــة أبــدا ً إلقامــة دولــة‬
‫حديثة اليوم‪ .‬فالبنى واألنظمة واملؤسسات تفرضها رضورات الواقع املعاش وال تفرضها تصورات‬
‫ال متــت للواقــع‪ .‬وبالتــايل نعتقــد أن تلــك األنظمــة واألســس واملؤسســات التــي كانــت مطبقــة لبنــاء‬
‫الدولــة يف عهــد الرســول الكريــم أو عهــد الخلفــاء الراشــدين أو حتــى العهــد األمــوي أو العبــايس‬
‫األول كانــت طليعيــة يف حينهــا‪ ،‬وأتاحــت قيــام امرباطوريــة عربيــة عظيمــة‪ ،‬ولكنهــا مل تعــد صالحــة‬

‫*) تعــدد الزوجــات أمــر غــر ممكــن إن أردنــا العــدل‪ ،‬فنســبة النســاء يف جميــع مجتمعــات األرض نحــو ‪%48.5‬‬
‫بينــا عــدد الذكــور ‪ ،%51.5‬أي أن كل ذكــر لــه أقــل مــن أنثــى واحــدة‪ .‬وبالتــايل فــإن أي ذكــر يتــزوج أكــر مــن امــرأة‬
‫واحــدة يكــون قــد ســطا عــى نصيــب ذكــر آخــر وهــذا قمــة الالمســاواة‪ .‬ويف التطبيــق العمــي فــإن عــدد مــن لديــه‬
‫أكــر مــن زوجــة ال يــكاد يذكــر‪ ،‬خاصــة يف مجتمعــات اليــوم التــي تدعــو لصيانــة كرامــة املــرأة ومســاواتها بالرجــل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪18‬‬

‫اليــوم لتنظيــم املجتمعــات الحديثــة يف القــرن ‪ .21‬فتنظيــم الدولــة البســيط الســابق ال يصلــح لدولــة‬
‫املؤسســات الحديثــة‪.‬‬
‫نبدأ من مسألة اختيار الحاكم‪ ،‬فأسس التوريث أو حتى املشورة التي كانت محصورة ببضعة‬
‫أفــراد مــن عليــة القــوم‪ ،‬باتــت غــر مقبولــة اليــوم الختيــار الحاكــم يف الوقــت الــذي تحــول فيــه الرعايــا‬
‫إىل مواطنــن يطالبــون باملشــاركة الفعالــة يف اختيــار الحاكــم واختيــار رئيــس البلديــة واختيــار رئيــس‬
‫النــادي أو الجمعيــة عــن طريــق صناديــق االقــراع والرقابــة عــى الحاكــم والقــدرة عــى محاســبته وحتــى‬
‫إقالتــه‪ ،‬بينــا حاكــم األمــس يف الدولــة اإلســامية وعــى مــدى ‪ 14‬قــرن كان ال يــرد لــه أمــر‪ ،‬فالخليفــة‬
‫عبد امللك بن مروان قال يف خطبة توليه الخالفة‪« :‬من قال يل اتق الله رضبت عنقه»‪ ،‬والخليفة‬
‫أبو جعفر املنصور يف خطبته يف مكة قال «يا أيها الناس إمنا أنا سلطان الله عىل األرض»‪ .‬وهذا‬
‫كان يف قمــة انتصــارات الخالفــة العربيــة‪ .‬وأظــن أن ال أحــد يقبــل هــذا اليــوم‪.‬‬
‫تنظيــم مؤسســات الدولــة البــدايئ والبســيط يف عهــود الدولــة اإلســامية ال ميكــن أن يحــل محــل‬
‫تنظيــم الدولــة وفــق أســس حديثــة تقيــم الســلطات الترشيعيــة والتنفيذيــة والقضائيــة وتفصــل بينهــا‬
‫مبهامهــا العديــدة والواســعة‪ .‬أمــا الســلطة الرابعــة «اإلعــام» بأهميتهــا القصــوى اليــوم فلــم يكــن‬
‫لهــا أي وجــود‪ .‬ونظــام القضــاء البســيط جــدا ً باألمــس ال يصلــح لتنظيــم القضــاء املعقــد جــدا ً اليــوم‪،‬‬
‫مبحاكمه املختصة والتأهيل الكبري الذي يحتاجه القضاة واملحامون‪ ،‬وقد أصبح القانون الدويل‬
‫واالتفاقيــات الدوليــة والتحكيــم الــدويل واملحاكــم الدوليــة جــزءا ً أساســياً مــن أنظمــة الــدول‪ ،‬بينــا‬
‫مل يكــن لهــا وجــود مــن قبــل‪ .‬كــا أن تنظيــم الرشطــة القديــم ال يصلــح لتنظيــم رشطــة اليــوم‪ .‬وال ميكــن‬
‫تنظيــم جيــوش اليــوم بأســلحتها املعقــدة وتنظيمهــا املعقــد عــى أســس كراديــس الجيــوش الســابقة‬
‫املنظمة بحسب القبائل واملسلحة بالسيوف والرماح والنبال واملنجنيق وتركب الخيول والجامل‬
‫والفيلة‪ .‬وال ميكن خوض حروب اليوم وفق قواعد حروب زمن السيوف والرماح والجامل واألحصنة‪.‬‬
‫يف الســابق مل يكــن مثــة أحــزاب وجمعيــات مدنيــة تؤطــر نشــاط املواطنــن كــا هــو اليــوم‪ ،‬بــل إن‬
‫مفهــوم املواطــن بكليتــه هــو مفهــوم حديــث حــل محــل الرعيــة‪ ،‬ومل يكــن مفهــوم الشــعب قــد ُعــرف‪،‬‬
‫بــل كان يشــار لعمــوم النــاس بالعامــة أو ســواد النــاس أو الدهــاء أو الســوقة ومــا إليهــا مــن تســميات‬
‫تحــط مــن شــأنهم‪ ،‬وكانــت املعارضــة السياســية تتخــذ لبوسـاً مذهبيـاً كــا فعلــت جامعــة عــي بــن‬
‫أيب طالــب مــن بَعـ ِـد ِه‪ ،‬وهــم معارضــو الحكــم األمــوي‪ ،‬فقامــوا بتنظيــم مــا يســمى «شــيعة آل البيــت»‬
‫زاعمني أحقيتهم بالسلطة‪ ،‬أي ألبسوا غايتهم الدنيوية لبوساً دينياً‪ ،‬أو كام فعلت انشقاقات كثرية‬
‫نشــأ عنهــا عــرات الفــرق اإلســامية‪ .‬فاملســألة يف األســاس رصاع عــى الســلطة وليســت خالف ـاً‬
‫عىل العقيدة‪ ،‬بل العكس هو الصحيح‪ ،‬فالرصاع عىل الســلطة يدفع الطامعني بها الجرتاح مزاعم‬
‫عقيديــة لتكويــن مذهــب مختلــف يســاعدهم يف تحشــيد «العامــة» مــن حولهــم‪ .‬وقــد نشــأت عــر‬
‫التاريــخ اإلســامي عــرات املذاهــب والفــرق اإلســامية نذكــر منهــا عــى ســبيل املثــال أهــل الســنة‬
‫‪19‬‬ ‫نكمم »ةيمالسإلا ةلودلا« ةماقإ له‬

‫والجامعة ‪ -‬الشيعة اإلمامية – الخوارج – املعتزلة – اإلسامعيلية – الفاطمية – الدرزية – النصريية‬


‫افيعس ريمس‬

‫– القرامطــة – البابكيــة – اإلباضيــة – الربيلويــة – الزيديــة ‪ -‬البابيــة والبهائيــة – الرفاعيــة ‪ -‬الصوفيــة‬


‫بطرقهــا – الســلفية باتجاهاتهــا‪ ...‬وغريهــا‪.‬‬
‫ثم لسنا بحاجة للتذكري بأنه عرب جميع العصور كان لدى الحاكم فقهاء يرشعون كل ما يفعله‪،‬‬
‫ويقدمــون أســانيد مــن القــرآن والســنة والســلف الصالــح إلظهــار أنــه الوحيــد الــذي ميــي عــى ســكة‬
‫الحق‪ ،‬ويف الوقت نفسه كان معارضو هذا الحاكم ذاته يقدمون الربهان عىل مروقه وكفره بأسانيد‬
‫من القرآن والسنة والسلف الصالح‪.‬‬
‫إذا أخذنــا ركنـاً رئيســياً‪ ،‬رمبــا هــو األهــم‪ ،‬مــن أركان أيــة دولــة اليــوم وهــو «امللكيــة» ملكيــة األرض‬
‫والعقــارات والــركات واألســهم وملكيــة الحســابات املرصفيــة إضافــة إىل املمتلــكات الشــخصية‬
‫وغريهــا؛ فكلهــا ال ميكــن تنظيمهــا وتوثيقهــا وإدارتهــا عــى أســس املــايض البســيطة‪ ،‬كــا أن امللكيــة‬
‫الفكريــة اليــوم بأنواعهــا الكثــرة مثــل امللكيــة األدبيــة‪ ،‬امللكيــة الفنيــة‪ ،‬امللكيــة الصناعيــة‪ ،‬ملكيــة‬
‫للعالمــات التجاريــة‪ ،‬وملكيــة العالمــات الجغرافيــة وغريهــا مــن أشــكال جديــدة للملكيــة تنشــأ كل‬
‫يــوم‪ -‬وكلهــا مل تكــن معروفــة مــن قبــل‪ -‬فوفــق أي منــوذج ووفــق أيــة قواعــد ســابقة ننظمهــا؟!‬
‫ولنأخــذ أمــرا ً قــد يبــدو بســيطاً وثانوي ـاً مثــل «التصويــر»‪ ،‬فقــد كان محرم ـاً طيلــة نحــو ‪ 13.5‬قــرن‪.‬‬
‫أمــا اليــوم فــا ميكــن أن نتخيــل الحيــاة بــدون «صــورة»‪ ،‬بــدءا ً مــن الصــور والفيديوهــات الكثــرة التــي‬
‫نلتقطهــا يف كل مناســبة‪ ،‬وغــدت جــزءا ً مــن حياتنــا يصعــب التخــي عنــه‪ ،‬وانتهــا ًء بصناعــات كثــرة‬
‫مثــل التلفزيــون والســينام والجرائــد املصــورة وغريهــا‪ ،‬بــل تعــد الصــورة اليــوم ركنـاً يف تنظيــم الحيــاة‬
‫المتالك هوية شخصية أو جواز سفر أو بطاقة اشرتاك أو سواها تحدد من أنت وتحدد انتامءك أو‬
‫عضويتــك يف مؤسســة أو نــاد وغريهــا‪ .‬وتحــدد أنــك أنــت املالــك للعقــار والبناء واملالك لحســابك‬
‫يف املــرف وأنــت مــن ميلــك الســهم وأنــت أبــو هــذا الفتــى أو الفتــاة وغريهــا‪ .‬ولنضــف لهــذا تنظيــم‬
‫ســجالت النفــوس وقيــود األحــوال املدنيــة املعــارصة عــى أســس مــا كانــت عليــه يف دولــة الخالفــة‬
‫ألنــه مل يكــن يف املــايض أيــة ســجالت للنفــوس‪.‬‬
‫إن نُظُــم مؤسســات التعليــم التــي قامــت عــى الكتاتيــب وبعــض املــدارس التــي كانــت باألمــس‬
‫ال تصلح إلنشاء مؤسسات التعليم الهائلة والشاملة اليوم‪ ،‬ومؤسسات التدريب والتأهيل الكثرية‬
‫واملنوعــة واملعقــدة‪ .‬وال ميكــن تأســيس معاهــد ومراكــز البحــث العلمــي ألن البحــث العلمــي مل‬
‫يكــن موجــودا ً أصـاً‪.‬‬
‫أمــا ســوق العمــل وقــوة العمــل والعالقــة بــن رب العمــل والعامــل والتــي تنظمهــا قوانــن وأنظمــة‬
‫وعقــود ومنظــات دوليــة فــا ميكــن تنظيمهــا وفــق أســس األمــس البســيطة‪ .‬وال ميكــن تأســيس نظــام‬
‫صحي وصناعة استشفاء وصناعة دواء ونظام تأمني وضامن اجتامعي وغريها عىل أسس املايض‬
‫ألنهــا مل تكــن معروفــة‪ ،‬بــل كان فتــح جســم اإلنســان محرمـاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪20‬‬

‫نظــام الحــرف البســيط ال يصلــح لتنظيــم قطــاع الصناعــة املعقــدة الــذي يتضمــن اليــوم آالف أنــواع‬
‫الصناعــات التــي مل تكــن معروفــة مــن قبــل‪ .‬ونظــام شــيخ الــكار ال يصلــح لتنظيــم النقابــات‪ .‬ومل يكــن‬
‫قدمي ـاً مثــة نظــم للنقــل الــري والبحــري والجــوي وســكك الحديــد‪ ،‬ومل يكــن مثــة اتصــاالت هاتفيــة‬
‫وموبايــل وانرتنــت والســليك وطــران وتنظيــم فضــاء يك ننظــم هــذه القطاعــات وفــق ما كان‪ ،‬وال ميكن‬
‫تنظيــم النقــل واالتصــاالت اليــوم وفــق أســس النقــل بالجــال والبغــال والحمــر والحــام الزاجل الذي‬
‫كان ســائدا ً مــن قبــل‪.‬‬
‫إن تنظيم األثري وترددات املوجات الصوتية القصرية واملتوسطة والطويلة اليوم مسألة يف غاية‬
‫األهمية‪ ،‬ألنها أساسية التصاالت الالسليك واملوبايل وبث التلفزيون وعمل الطريان وعمل األقامر‬
‫الصناعية وغزو الفضاء‪ ،‬وبدونها تتوقف كافة هذه الخدمات‪ .‬ويف السابق مل يوجد أي يشء منها‪.‬‬
‫ال يجــادل أحــد بــأن أنظمــة وتنظيــم أســواق األمــس تكفــي لتنظيــم أســواق اليــوم الهائلــة‪ ،‬والتجــارة‬
‫العامليــة الهائلــة والــركات العابــرة للقــارات مبــا فيهــا التجــارة اإلليكرتونيــة‪ .‬كــا مل يكــن يف املايض‬
‫مثــة أســواق مــال ومصــارف وتحويــات وبطاقــات دفــع ونظــام تأمــن‪ ،‬ومبــادئ تنظيــم بيــت مــال‬
‫املســلمني ال تصلــح لتنظيــم ماليــة الدولــة اليــوم‪ ،‬وال ميكــن تنظيــم الرضائــب والجــارك وفــق األســس‬
‫البســيطة للــزكاة واملكــوث‪ ،‬ومل توجــد أيــة قواعــد لالســتثامرات العابــرة للقــارات اليــوم واتفاقيــات‬
‫تنظيــم االســتثامر‪ .‬ومل يكــن العــامل القديــم يعــرف شــيئاً عــن أنظمــة النقــد الورقــي وقواعــد إصدارهــا‬
‫الحديثــة وعــن النقــد اإلليكــروين وعــن مؤسســات النقــد العامليــة واســواق املــال الدوليــة وغريهــا‪.‬‬
‫العالقات الدولية البسيطة السابقة ال تصلح اليوم إلقامة عالقات دولية معارصة‪ ،‬فالعالقات‬
‫الدبلوماســية مركبــة ومعقــدة أكــر بألــف مــرة مــا كانــت مــن قبــل‪ ،‬ومفهــوم البعثــة الدبلوماســية‬
‫والعالقات الدبلوماسية مفهوم جديد بكليته‪ .‬واليوم مثة آالف االتفاقيات الدولية الثنائية والجامعية‬
‫وآالف املؤسســات الدوليــة يف كل قطــاع مل يكــن لهــا مثيــل ســابق‪ .‬ومثــة تغيــر جوهــري يف أن‬
‫الترشيعــات املحليــة مل تكــن تخضــع لالتفاقيــات الدوليــة ومل تكــن الــدول ملزمــة بتعديــل قوانينهــا‬
‫املحليــة وفــق االتفاقيــات الدوليــة التــي تدخــل فيهــا‪ ،‬وال ميكــن أليــة دولــة أن تبقــى خــارج عــامل اليــوم‬
‫واتفاقياتــه‪.‬‬
‫ال ميكــن تخطيــط مــدن اليــوم املعقــدة جــدا ً بنظــام عمرانهــا وســرها وتزويدهــا بامليــاه والكهربــاء‬
‫والغــاز والــرف الصحــي وغــره عــى األســس البســيطة لتخطيــط املــدن والعمــران البــدايئ مــن قبل‪.‬‬
‫وتنظيــم املــدن والعمــران الســابق ال يصلــح ملــدن الحــارض واملســتقبل‪.‬‬
‫باملجمــل‪ :‬كيــف ميكــن تنظيــم حيــاة شــخص يقيــم يف بيتــه الحديــث املــزود بــكل يشء مــن‬
‫تجهيــزات البيــت الحديــث ولديــه كومبيوتــر وشــبكة إنرتنــت ووســائل تواصــل اجتامعــي وموبايــل‬
‫وبطاقــات دفــع اليكــروين ويســتطيع وهــو يف مكانــه أن يتكلــم مــع مــن يريــد حــول العــامل بالصــوت‬
‫والصورة‪ ،‬وأن يقرأ أية جريدة عرب العامل‪ ،‬ويرى أحداث العامل بالصوت والصورة والفيديو‪ ،‬ويشاهد‬
‫‪21‬‬ ‫نكمم »ةيمالسإلا ةلودلا« ةماقإ له‬

‫أي منطقــة يف العــامل ويشــري أي يشء‪ ،‬ويدفــع قيمــة مــا يشــريه‪ ،‬ويســتطيع أن يعمــل ويرســل نتــاج‬
‫افيعس ريمس‬

‫عملــه وأن يقبــض راتبــه أو أتعابــه وأن يســتثمر وأن‪ ...‬وأن‪ ...‬كل هــذا وهــو يف مكانــه ودون أن يخــرج‬
‫مــن بيتــه‪ ،‬كيــف ميكــن إدارة حيــاة هــذا الشــخص بأمنــاط وقواعــد وقيــم شــخص كان يقيــم يف بيــت‬
‫يفتقــد لــكل يشء يف قريــة أو مدينــة صغــرة بدائيــة تفتقــد لــكل يشء أو وفــق أســس حيــاة بــدوي‬
‫يقيــم يف خيمــة يف الصحــراء هــو وإبلــه وأغنامــه‪ ،‬وجميــع أولئــك مل يعرفــوا مــا كان يــدور حولهــم أبعــد‬
‫مــن قدرتهــم عــى الرؤيــة والســمع ومــا يصلهــم مــن أخبــار أقــل مــن شــحيحة مقارنــة باليــوم؟‬
‫يف الواقــع ال يجــد دعــا ُة اســتعادة الدولــة اإلســامية أيــة منــاذج يف الحــد املقبــول مــن التشــابه‬
‫بحيــث يُصــاغ عــى مثالهــا أو يقــاس عليهــا وال توجــد نصــوص مقدســة أو أحاديــث تتعلــق بجوانــب‬
‫الدولة الحديثة التي أتينا عىل ذكرها للتو‪ .‬فمن أين سيأيت أولئك بأسانيد لتنظيم األثري – مثالً ‪ -‬أو‬
‫امللكيــة الفكريــة أو النقــل بالطائــرات‪ ...‬إلــخ‪ .‬يف الواقــع هــم ســيقومون بتقديــم تصورهــم الشــخيص‬
‫لتنظيم أي قطاع أو جانب معارص عريض كبري هائل مستشهدين ببعض اآليات واألحاديث وغريها‪.‬‬
‫ثــم مينحــون مــا قامــوا بــه مــن فعــل دنيــوي صفــة إســامية أي ال يجــوز مساســها‪ .‬ويف هــذا خــداع كبري‪.‬‬
‫ال تقــوم الدولــة الحديثــة إالّ عــى بنــى حديثــة متطــورة‪ .‬وهــذه البنــى تــم تطويرهــا مــن قبــل البلــدان‬
‫األكــر تقدمـاً يف أوروبــا وأمريــكا واليابــان وغريهــا وأصبحــت أنظمــة عامليــة ليــس لهــا ديــن أو مذهــب‬
‫أي كان هــذا الديــن أو املذهــب وقــد أخذنــا عنهــم أســس بنــاء دولنــا كــا أخــذت أوروبــا والعــامل عنــا‬
‫نظمنــا يــوم كان العــرب هــم مــن يقــود العــامل‪ .‬فهــي دول تــدول وتتــداول‪.‬‬
‫إن بُنــى أيــة دولــة ومؤسســاتها اليــوم لــن تكــون يف بنيتهــا وأنظمتهــا تقليــدا ً أليــة دولــة قدميــة عربيــة‬
‫أو رومانيــة أو إغريقيــة أو صينيــة أو هنديــة أو فارســية‪ ،‬وبالتــايل إذا كانــت املؤسســات السياســية‬
‫واالقتصادية واالجتامعية والعلمية مقامة وفق أسس معارصة حديثة وليس وفق أسس الدولة يف‬
‫عهــد الخلفــاء الراشــدين أو عهــد أي مــن الــدول التــي تلــت ذلــك‪ ،‬فــاذا يبقــى يك نســمي أيــة دولــة‬
‫حديثــة دولــة إســامية؟ ثــم ملــاذا التســمية الدينيــة‪ ،‬فالغــرب مل يســم دولتــه باملســيحية‪ ،‬والهنــود مل‬
‫يســموها بالهندوســية‪ ،‬والصينيــون مل يســموها بالبوذيــة وغريهــا‪ ،‬فلــاذا اإلرصار عــى إعطــاء طابــع‬
‫دينــي للدولــة مبــا يضــع حواجــز يف عــامل يهــدم الحواجــز والحــدود ويتحــول إىل قريــة صغــرة؟‬
‫الزمــن ال يعــود إىل الــوراء‪ ،‬والتاريــخ ال ميكــن إرجاعــه إىل الخلــف‪ ،‬وقــد مــى نحــو عــرة قــرون‪،‬‬
‫وعــر كل هــذه القــرون كان هنــاك مــن يتاجــر مبثــل هــذا الشــعار ومل يفلــح‪ ،‬كــا لــن يفلــح مــن يدعــو‬
‫الســرجاع دولــة األغريــق أو دولــة الرومــان‪ .‬واألوروبيــون يف عــر نهضتهــم املســتمرة مل يرفعــوا شــعار‪:‬‬
‫اســتعادة الدولــة املســيحية أو اســتعادة الدولــة الرومانيــة أو اليونانيــة‪ ،‬واليابــان ســارت منــذ القــرن‬
‫‪19‬عىل خطى أوروبا فنجحت وأصبحت تنافسها اليوم‪ .‬والصينيون اليوم ال يسعون إلقامة دولتهم‬
‫عــى أســس عــر بــوذا أو كونفوشــيوس بــل ينظــرون لحارضهــم ويتعلمــون مــن أمــم أخــرى ويحققــون‬
‫تقدمـاً علميـاً واقتصاديـاً مذهـاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪22‬‬

‫مــن يرفــع هــذا الشــعار اليــوم يعلــم أنــه لــن يفلــح بــأن يقيــم الدولــة اإلســامية القدميــة أو دولــة‬
‫الخالفــة القدميــة‪ ،‬بــل ســيقيم دولــة يخرتعهــا بحســب هــواه وفهمــه وعقلــه الــذي هــو خــارج التاريــخ‬
‫لغايــة يف نفــس عثــان ويعقــوب‪ .‬لذلــك هــي تجــارة بالديــن الســتغالل إميــان النــاس ورغبتهــم بتمثــل‬
‫األخالق الحميدة التي تدعو إليها األديان‪ ،‬وميلهم لتصديق َم ْن يلبس لبوساً دينياً بدون محاكمة‪.‬‬
‫لكن املشــكلة أن هذه التجارة بالدين ســتخرج بلداننا خارج العرص‪ ،‬إن متكن أصحابها من الحكم‪.‬‬
‫ينقسم املتاجرون بالدين اإلسالمي‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬إىل أربعة مناذج‪:‬‬
‫النمــوذج األول‪ :‬هــو منــوذج واليــة الفقيــه يف إيــران وهــو منــوذج لتغليــف النزعــة القوميــة الفارســية‬
‫بغــاف دينــي ميكنهــا مــن مــد جســور نفوذهــا إىل البلــدان التــي توجــد فيهــا شــيعة‪ ،‬وهــو منــوذج‬
‫اســتبدادي تحــت مســمى واليــة الفقيــه‪.‬‬
‫إنــه منــوذج جهــادي يســتخدم ســلطة الدولــة ويعتمــد عــى القــوة الصلبــة والدعــوة ذات الطابــع‬
‫اآليديولوجــي املعلــن‪.‬‬
‫النموذج الثاين‪ :‬منوذج اإلسالم السيايس الرتيك‪ ،‬وهو إسالم بنزعة قومية طورانية تحلم بإحياء‬
‫الفضــاء العثــاين الســابق وتســمى بالطورانيــة الجديــدة‪ ،‬وميثــل هــذا النمــوذج أكــر أشــكال اإلســام‬
‫السيايس مرونة وقدرة عىل التكيف مع العرص‪ ،‬ويلقبه البعض بـ»إسالم الناتو»‪ ،‬والسبب أنه نشأ‬
‫تحــت ضغــط العلامنيــة األتاتوركيــة فاضطــر ألن يؤيــد الحريــات العامــة وصناديــق االنتخــاب والنظــام‬
‫الدميقراطــي بقــوة ألنهــا الســبيل إلفســاح املجــال لنشــاطه وألن هــذه الحريــات والنظــام الدميقراطــي‬
‫هــو مــا أوصلــه إىل الحكــم‪.‬‬
‫النمــوذج الثالــث‪ :‬هــو النمــوذج العــريب وميثلــه التنظيــم العاملي لإلخوان املســلمني ومنوذجهم‬
‫األبرز هم إخوان مرص‪ ،‬وقد نشأ هذا التنظيم يف ظل االستعامر الربيطاين وواجه حكومات عسكرية‬
‫منــذ ‪ 1952‬وحتــى اآلن‪ ،‬ويتميــز بالفكــر االنقــايب ويؤمــن باســتخدام العنــف لتحقيــق مآربــه‪ ،‬ويتســم‬
‫باالنغــاق والفكــر اإلقصــايئ ويســعى للتكيــف مــع األنظمــة السياســية الحديثــة واســتخدامها لتحقيــق‬
‫مآربــه‪ ،‬فيعلــن احرتامــه للحريــات العامــة وصناديــق االقــراع والنظــام الدميقراطــي‪ ،‬ولكــن تجربتهم يف‬
‫حكــم مــر بعــد ثــورة ‪ 2011‬أثبتــت ضيــق أفقهــم وتخلــف منظومتهــم الفكريــة ورغبتهــم القاتلــة يف‬
‫االســتحواذ عىل الســلطة‪.‬‬
‫إن النموذجني الثاين والثالث من املنادين بالدولة اإلسالمية أقل تطرفاً وهم ساسة متحالفون‬
‫مــع رجــال ديــن يســتعملون الديــن لخدمــة أغراضهــم السياســية‪ ،‬مســتفيدين مــن متســك النــاس‬
‫بدينهــم‪ ،‬حتــى تكــون لهــم عصبــة ويكــون لهــم دور متام ـاً كــا تفعــل األحــزاب السياســية‪ ،‬ويحاجــج‬
‫هــذان النموذجــان بأنهــا يســتمدان املبــادئ مــن الديــن الحنيــف يك يقيــا نظامـاً عرصيـاً‪ ،‬ولكــن يف‬
‫الواقــع إنهــا يقيــان مؤسســات وأنظمــة وبنــى حديثــة‪ ،‬وليســت تقليــدا ً ألي منــوذج إســامي ســابق‬
‫حتــى لــو أطلــق عليهــا اســم «إســامية»‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫نكمم »ةيمالسإلا ةلودلا« ةماقإ له‬

‫مثـاً املصــارف اإلســامية تعطــي مــن يــودع لديهــا املــال فائــدة تحــت مســمى «مرابحــة» تعــادل‬
‫افيعس ريمس‬

‫فائدة السوق وترتبط بها متاماً‪ ،‬فإن ارتفعت الفائدة يف السوق رفعوا العائد وإن انخفضت الفائدة‬
‫خفضوا العائد الذي يحصل عليه املودع يف البنك اإلسالمي‪ .‬أما إن طلب أحدهم قرضاً من بنك‬
‫إســامي فيقــوم البنــك بعقــد رشاء املــادة أو الخدمــة مــع الجهــة املــوردة بعــد أن يكــون املقــرض قــد‬
‫قــام بكافــة العمليــات ووصــل إىل مرحلــة الدفــع فيقــوم البنــك بإبــرام عقد رشاء مع املصدر ثم يبيعه‬
‫للمشــري بعــد إضافــة مبلــغ يعــادل متامـاً مســتوى الفوائــد الرائــج يف الســوق‪ ،‬وهــذه فائــدة تحــت‬
‫اســم تجــارة‪ ،‬بينــا هــذه العمليــات تفتقــد ألركان التجــارة وأساســها أن التاجــر يقــوم بالعمليــة لحســابه‬
‫ويبحــث ويفــاوض ويقــرر ويتحمــل مخاطــر الربــح والخســارة‪ ،‬أمــا هنــا فهــذه األســس مفقــودة وبالتــايل‬
‫هــي فائــدة رصيحــة تحــت مســمى آخــر وليــس تجــارة‪ .‬وهــذا يذكــرين بصكوك الديون التي كانت تربم‬
‫يف العهــد العثــاين فقــد اطلعــت عــى بعــض العقــود املربمــة يف دمشــق يف ذلــك العهــد فقــد‬
‫كانــوا يســمون الفائــدة «صابــون»‪ ،‬فــكان إذا اقــرض شــخص مبلــغ عــرة آالف لــرة مــن شــخص آخــر‬
‫يكتب املقرتض أن املقرتض قد اقرتض منه مبلغ عرشة آالف لرية‪ ،‬وهو املبلغ الفعيل املقرتض‪،‬‬
‫ويضيــف عليــه أنــه ســلمه «صابــون» بقيمــة ‪ 2000‬لــرة‪ ،‬وأن عــى املقــرض أن يعيــد إجــايل املبلــغ‬
‫البالــغ ‪ 12000‬لــرة خــال فــرة يحددهــا العقــد‪ ،‬وكانــت الفائــدة تعــادل نحــو ‪ %20‬مــن قيمــة املبلــغ‬
‫املقــرض‪ ،‬وبالطبــع مل يكــن للصابــون أي وجــود أو أصــل‪ .‬واملصــارف اإلســامية اليــوم تفعــل الــيء‬
‫ذاتــه اليــوم فهــي تأخــذ فائــدة وتعطــي فائــدة متامـاً مثــل البنــوك االعتياديــة ألنــه بــدون فائــدة ال أحــد‬
‫يــودع أموالــه اليــوم وال تســتطيع البنــوك أن تعمــل بــدون فائــدة‪ .‬وكان األجــدر العمــل بالفتــاوى الكثــرة‬
‫التــي صــدرت منــذ نحــو مائــة عــام بــأن الفائــدة غــر الربــا وهــي حــال‪.‬‬
‫عموماً اعتقد أن ما يسمى باقتصاد إسالمي اليوم ال يختلف عمن يشرتي سيارة أملانية سوداء‬
‫جاهزة‪ ،‬ثم يقوم بطالئها بلون أخرض مستورد من إيطاليا ويستخدم لطالئها فرشاة او آلة بخ مصنوعة‬
‫يف الصــن ثــم يكتــب عليهــا «اللــه أكــر» ويروجهــا عــى أنهــا ســيارة إســامية يك تــدر عليــه أرباح ـاً‬
‫كبريةً‪ ،‬بينام السيارة «سيارة» ال هي إسالمية وال مسيحية وال بوذية ولسنا بحاجة لهذه التسميات‪.‬‬
‫الســمة العامــة لهــذا النمــط مــن اإلســام الســيايس أنــه يأخــذ املحتــوى الحديــث ملؤسســات‬
‫الدولــة ويطلــق عليهــا تســمية «إســامي» وهــذا نــوع مــن التجــارة السياســية بالديــن‪ .‬مثـاً مــا يســمى‬
‫اليوم باقتصاد إســامي وتكافل «تأمني» إســامي وصريفة إســامية وصكوك إســامية ليســت أكرث‬
‫من أخذ أســس اقتصاد الســوق الرأســايل الحديث والصريفة الحديثة والتأمني الحديث وأســواق‬
‫املــال الحديثــة وتعديــل تســمية بعــض العمليــات مــع الحفــاظ عــى جوهرهــا بينــا تنظــم املصــارف‬
‫اإلســامية ومؤسســات التأمــن التكافــي اإلســامي وفــق نفــس األســس الحديثــة التــي طورتهــا الدول‬
‫املتقدمــة‪ .‬وهــذا يشــبه مــن يشــري ســيارة أملانيــة ســوداء جاهــزة‪ ،‬ثــم يقــوم بطالئهــا بلــون أخــر‬
‫مســتورد مــن إيطاليــا ويســتخدم لطالئهــا فرشــاة أو آلــة بــخ مصنوعــة يف الصــن ثــم يكتــب عليهــا «اللــه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪24‬‬

‫أكــر» ويروجهــا عــى أنهــا ســيارة إســامية يك تــدر عليــه أرباحـاً كبــرةً‪ ،‬بينــا الســيارة «ســيارة» ال هــي‬
‫إســامية وال مســيحية وال بوذيــة ولســنا بحاجــة لهــذه التســميات‪.‬‬
‫النمــوذج الرابــع‪ :‬وهــو األشــد تطرف ـاً وفتــكاً‪ ،‬هــو منــوذج القاعــدة وطالبــان وداعــش وبوكوحــرام‬
‫وأشباهها من املنظامت التكفريية الجهادية التي تقرص فكرها املتزمت عىل التشدد يف العبادات‬
‫والتزمت يف املظهر الغريب عن العرص ويف قَرص الدين عىل قضايا العداء الفظيع للمرأة وحبسها‬
‫يف البيــوت وإباحــة زواج القــارصات‪ ،‬وتحريــم وقضايــا رشب الخمــر وامليــر والتدخــن رغــم أنــه ال‬
‫يوجد نص بتحريم التدخني‪ ،‬بينام يتساهلون مع الحشيش‪ ،‬واألهم العداء للحريات العامة تحت‬
‫شعار «الحاكمية لله» حيث ينصب زعيم العصابة نفسه أمريا ً لجامعته ويترصف كوكيل الله عىل‬
‫األرض فيطلق األحكام‪ ،‬فيقتل بل يوغل يف القتل‪ ،‬ويخطف‪ ،‬ويسجن‪ ،‬ويسطو‪ ،‬ويرسق‪ ،‬وينهب‪،‬‬
‫ويغتصــب‪ ،‬ويقتنــي جــواري‪ ،‬تطبيقـاً «ملــا ملكــت أميانكــم» ويطبق الجزية‪.‬‬
‫مثـاً إن مامرســات داعــش يف ســوريا يشء ال ميكــن تصديقــه‪ .‬ومثــة مجموعــات مــن املعارضــة‬
‫املســلحة يف ســوريا تتطابــق تقريبـاً مــع داعــش يف منهجهــا الفكــري والســيايس مثــل جبهــة النــرة‬
‫وأحــرار الشــام‪ ،‬رغــم اختــاف مامرســتهام‪ .‬وإن فكّرنــا يف مســتقبل ســلوك مثــل هــذه املجموعــات‬
‫ســتعطينا ليبيــا مثــاالً هام ـاً اذ ترفــض هــذه املجموعــات إلقــاء الســاح بــل تســعى لالســتيالء عــى‬
‫الســلطة وفــرض إرادتهــا بالقــوة املســلحة ومتنــع اســتقرار ليبيــا بعــد قرابــة ثــاث ســنوات مــن إســقاط‬
‫القــذايف‪.‬‬
‫روى يل أحــد الضبــاط أنــه التقــى رئيــس الهيئــة الرشعيــة بحلــب وكان شــاباً لــه مــن العمــر نحــو‬
‫‪ 28‬عامـاً‪ ،‬شــاب فيــه الكثــر مــن الصلــف‪ ،‬وقــد ســأله الضابــط عــن دراســته وتخصصــه وخربتــه بقضايــا‬
‫الــرع وتبــن مــن إجابتــه أنــه جاهــل متامـاً‪ ،‬ويك يغطــي جهلــه قــال إنــه يســتعني بأهــل الخــرة‪ ،‬وملــا‬
‫قــال لــه الضابــط وملــاذا ال يكــون أحــد أصحــاب الخــرة يف مكانــه‪ ،‬غضــب مــن الجــواب ولــوال أنهــم‬
‫كانــوا يف مــكان ال يســتطيع قتلــه لقتلــه‪ .‬ثــم ركــب ســيارته األودي مثانيــة )‪ (Audi 8‬وتعربــش أربعــة‬
‫أوغــاد مــن مرافقيــه عــى الســيارة لحاميتــه‪.‬‬
‫مثــة حكايــة ذات داللــة‪ ،‬ففــي عــام ‪ 1967‬أراد امللــك الســعودي فيصــل إدخــال التلفزيــون إىل‬
‫اململكــة فاحتــج كثــر مــن رجــال الديــن والوجهــاء‪ ،‬فدعــا فيصــل املحتجــن إىل مــكان إقامتــه ليســمع‬
‫منهــم‪ ،‬وتقصــد أن يكــون يف مــكانٍ بعيـ ٍـد عــن الريــاض‪ ،‬وبعــد أن حــروا إليــه واســتمعإليهم قــال‬
‫لهــم‪ :‬مــن ال يريــد إدخــال التلفزيــون لكونــه بدعــة فيجــب أن يــرك ســيارته‪ ،‬ألنهــا أيضـاً بدعــة‪ ،‬ويعــود‬
‫ـرت لكــم جــاالً لتعــودوا بهــا وتســتخدموها منــذ اليــوم‪ ،‬وأمــا مــن يوافــق‬
‫الســتخدام الجمــل‪ ،‬وقــد حـ ّ‬
‫عــى إدخــال التلفزيــون للمملكــة فيمكنــه أن يركــب ســيارته ويعــود»‪ .‬فــا كان مــن الجميــع إال أن ركبــوا‬
‫ســياراتهم عائديــن إىل الريــاض‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫نكمم »ةيمالسإلا ةلودلا« ةماقإ له‬

‫حكايــة أخــرى ســمعتها عــن رجــل أعــال يف االمــارات‪ ،‬فقــد جــاءه أحــد أصدقائــه اإلســاميني‬
‫افيعس ريمس‬

‫مــن رجــال األعــال يتذمــر مــن أن مديــر مصنعــه الكبــر قــد اســتقال وال يجــد مــن هــو بكفاءتــه إلدارة‬
‫املصنــع‪ ،‬فقــال لــه املضيــف‪ :‬بــل لديــك أبــو صالــح شــيخ املســجد فهــو رجــل أمــن وصالــح فتعاقــد‬
‫معــه إلدارة املصنــع‪ ،‬فقــال لــه رجــل األعــال «اإلســامي»‪ :‬صحيــح هــو رجــل طيــب ولكــن مــن أيــن‬
‫لــه الفهــم يف إدارة املصنــع وإدارة انتاجــه وقــوة العمــل فيــه وقضايــا التســويق ورشاء املســتلزمات‬
‫وتســويق اإلنتــاج يف األســواق الدوليــة والتعامــل مــع البنــوك وغريهــا؟ إنــه يصلــح ألن نصــي ونتعبــد‬
‫عنــده‪ ،‬وأمــا املصنــع فســوف يفلــس تحــت إدارتــه فــورا ً‪.‬‬
‫فقــال لــه املضيــف‪ :‬طاملــا أنــك ال تــراه صالحـاً إلدارة مصنــع واحــد‪ ،‬فــايل أراك تدعــو يك تحكم‬
‫األحزاب اإلســامية البلد وتديرها؟‬
‫البعــض يريــد أن يشــغلنا نحــن «بالجهــاد والتكفــر والتفجــر»‪ ،‬بينــا اآلخــرون منشــغلون بالعلــم‬
‫واالخرتاعــات واالكتشــافات وتنظيــم حياتهــم عــى أســس عرصيــة فيتقدمــون‪ .‬لقــد كان فصــل الديــن‬
‫عن السياسة يف أوروبا يف مطلع عرص النهضة رشطاً رئيسياً إلطالق عرص النهضة وإطالق طاقات‬
‫أوروبــا وحريتهــا وتحريــر العقــل وانطالقهــا يف مضــار التقــدم‪ ،‬فوصلــت إىل مــا وصلــت اليــه‪ .‬لقــد‬
‫حــددت أوروبــا دور الكنيســة يف مجــال العبــادات وتركــت للمؤمنــن الحريــة الكاملــة يف مامرســة‬
‫العبــادات والشــعائر‪ ،‬ولكنهــم انطلقــوا ينظمــون حياتهــم وفــق مــا تتطلبــه مقتضيــات التطــور الــذي ال‬
‫يتوقــف‪ .‬ولهــذا الفصــل أهميــة حاســمة يف حياتنــا أيضـاً ألنهــا أوالً‪ :‬تحــدد منــط ونوعيــة الحيــاة التــي‬
‫ســنحياها‪ ،‬وثانياً‪ :‬ألنه بدون الفصل ســتدخل مجتمعاتنا يف رصاع عبثي يبدد طاقاتها‪ ،‬وثالثاً‪ :‬ألن‬
‫عــدم الفصــل ينــر عقـاً اتباعيـاً يســر ببلداننــا إىل لــوراء بــدالً مــن العقــل االبداعــي الــذي نحتاجــه‬
‫اليوم لنتقدم ونسهم يف صنع الحضارة ويف إنتاج املنتجات بدالً من أن نكون مستهلكني‪ ،‬كام هو‬
‫حــال معظــم الــدول التــي تديــن غالبيتهــا باإلســام اليــوم‪ ،‬نحتــاج ألن ننافــس لنتقــدم ونصنــع لنــا مكانـاً‬
‫يف حضــارة اليــوم واملســتقبل‪ ،‬بــدالً مــن ســيطرة جهاديــن تكفرييــن يعيدوننــا إىل عــر الكهــوف‪.‬‬
‫لكن استحالة اسرتجاع الدولة اإلسالمية القدمية ال يعني أن دور اإلسالم انتهى‪ ،‬فاإلسالم باق‪،‬‬
‫وسيبقى أح َد مصادر الترشيع وتنظيم املجتمع والدولة يف بعض الجوانب‪ ،‬وسيبقى يُلهم الناس‬
‫إقامة دولة الحق والعدل واإلنصاف وفق أسس عرصية حديثة يف الدولة الحديثة‪ ،‬وسيبقى الناس‬
‫يتعبــدون وميارســون شــعائرهم‪ .‬وغالبيــة املســلمني كغالبيــة النــاس يف كل مــكان‪ ،‬يشــبهون غالبيــة‬
‫املســيحيني والهنــدوس والبوذيــن وحتــى غــر املتدينــن‪ ،‬ويطمحــون إلقامــة دولــة العــدل واإلنصاف‬
‫والتضامــن االجتامعــي‪ ،‬ولكــن عــى أســس حديثــة‪ ،‬ويريــدون دولــة تحقــق التقــدم واالزدهــار وتؤمــن‬
‫فــرص العمــل والتعليــم والســكن والدخــل الجيــد والخدمــات الجيــدة وتؤمــن األمــن واألمــان وغريهــا‬
‫وكل هــذا يحتــاج لبنــى حديثــة قوامهــا ثالثــة‪ )1 :‬العقــل ‪ )2‬العلــم ‪ )3‬العمــل‪.‬‬
‫جيل كيبيل وأوليفييه مونجان‬

‫ميشيل سورا‪ :‬الفرنيس ابن بريزيت‬


‫حني يغتال النظام السوري السوسيولوجيا‬

‫بتاريخ ‪ 5‬آذار ‪ ،1986‬أعلنت منظمة الجهاد اإلسالمي عن «تصفيتها للجاسوس‬


‫الباحث ميشيل سورا»‪.‬‬
‫والحق أنه كان قد سلّم الروح قبل ذلك بشهور عدة‪ ،‬تحت وطأة معاناة طويلة‬
‫مــع املــرض‪ ،‬رهــن أحــد أقبيــة االحتجــاز اللبنانيــة‪ ،‬نتيجــة ســوء املعاملــة والنقــص‬
‫واإلهــال يف العــاج‪.‬‬
‫لكــن حــرب الكــذب ‪ -‬أداة اإلرهــاب يف الــرق األوســط ‪ -‬كانــت تتطلــب أن يتــم‬
‫ـرح» ملــوت ســورا‪.‬‬
‫«إخــراج ُم َمـ ْ‬
‫هكــذا تــم تقديــم موتــه‪ ،‬تحــت عنــوان «إعــدام جاســوس» بغيــة تغطيتــه بذرائــع‬
‫معنويــة وأخالقيــة‪.‬‬
‫ملَ هــذا التكالــب عــى تشــويه ذاكــرة ســورا؟ وهــو الوحيــد‪ ،‬مــن بــن الرهائــن‬
‫املختطفــن الفرنســيني‪ ،‬الــذي لحقــه املــوت الــزؤام؟‬
‫نجــد الجــواب لــدى قراءتنــا لنصــوص هــذه املجموعــة‪ ،‬ضمــن املؤلَّــف الــذي‬
‫ننرشه هنا*‪ ،‬والذي يشكل تحليالً دقيقاً‪ ،‬ال مثيل له‪ ،‬للمشهد السيايس للرشق‬
‫أعــوام الثامنينــات‪ .‬مؤلَّــف مل يكــن لقاتليــه‪ ،‬ومــن هــم بأمرهــم يأمتــرون‪ ،‬تح ّملــه‪ .‬هــم‬
‫الذين ما فتئوا يحرصون عىل منع كل بحث علمي يف العلوم االجتامعية‪ .‬ويسعون‬
‫‪27‬‬ ‫يجولويسوسلا يروسلا ماظنلا لاتغي نيح‬

‫لرتك اللوحة املجتمعية ترسمها عنارص “بروباغاندا» متجد الحزب الواحد‪ ،‬واإلله الواحد‪ ،‬والقائد‬
‫زريب نبا يسنرفلا ‪:‬اروس ليشيم‬

‫الواحد‪.‬‬
‫يعلم املثقفون العرب هذا األمر جيدا ً‪ ،‬وهم من دفعوا غالباً مثناً غالياً‪ ،‬خالل عرشات السنني‬
‫املنرصمة‪ ،‬كلام جنحوا للتعبري املستقل الح ّر‪.‬‬
‫نصوص سورا التي خطها يف األعوام التي سبقت اختطافه‪ ،‬هي حصيلة مسرية طويلة وبطيئة‬
‫نضجــت ببــطء‪ ،‬جاعلـ ًة مــن «السوســيولوج»(العامل يف حقــل علــم االجتــاع)‪ ،‬الشــاب امللتــزم إىل‬
‫جانــب «التقدميــة العربيــة»‪ -‬التــي التصقــت‪ ،‬أعــوام ‪ ،1970‬بالقضيــة الفلســطينية ‪ -‬مالحظـاً دقيقـاً‬
‫وصارماً للمشــهد االجتامعي‪.‬‬
‫ولــد ســورا يف بريزيــت عــام ‪ ،1947‬وأمــى فيهــا طفولتــه حتــى أحــداث ‪ :1961‬عــاش القصــف‬
‫ريض* صادم‪ ،‬منهياً بعنف الج ّو املتجانس «الهارموين» الذي كان فيه يعيش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفرنيس كحدث‬
‫وشـكّل رحيــل أبويــه مــن تونــس‪ ،‬كــا عــر يف أحاديــث لــه عــن ذلــك فيــا بعــد‪ ،‬مــرآ ًة انكــرت فجــأة‪،‬‬
‫ســيحاول فيــا بعــد جمــع شــظاياها عــر ذهابــه إىل الــرق‪ .‬أكمــل دراســته يف ليــون‪ ،‬مثــة مل يســتطع‬
‫ني إىل مكان تذوب فيه الثقافتان‪ ،‬الفرنسية‬
‫قط أن يرتبط بفرنسا ‪ -‬البلد‪ ،‬هو الذي أودع داخلَه الحن َ‬
‫والعربيــة‪ ،‬واحــدة يف أحضــان األخرى‪.‬‬
‫عام ‪ 1971‬قرر الذهاب إيل بريوت كيام يصبح «مستعرباً» فيها‪ ،‬وبريوت كانت آنئذ‪ ،‬عاصمة‬
‫العــامل العــريب الثقافيــة‪ ،‬إىل كونهــا مدينــة كوســموبوليتية «عامليــة» يســتطيع املــرء أن يتنشــق فيهــا‬
‫حري ًة مل تكن سائدة يف بقية العواصم العربية‪ .‬خالل صيف هذا العام‪ ،‬زار املخيامت الفلسطينية‬
‫املنتــرة يف املنطقــة‪ ،‬وقــد رافقــه يف هــذه الزيــارات عــدد مــن املثقفــن األوربيــن الــذي رأوا يف‬
‫القضيــة الفلســطينية إذ ذاك تجســيدا ً مل ُث ِلهــم مــن املفكريــن الثوريــن الذيــن‪ ،‬مل يســتطيعوا قــط‪،‬‬
‫تجــاوز مرحلــة النظريــة‪ ،‬مــا أقامــوا يف الحــي الالتينــي‪.‬‬
‫كان هــذا أول احتــكاك لــه عــى «أرض» الــرق األوســط‪ ،‬وهــو احتــكاك ســوف يدمغــه بصــورة‬
‫دامئــة‪.‬‬
‫بني عامي ‪ 1972‬و‪ ،1974‬تابع دراساته يف دمشق‪ ،‬التي فيها أنجز‪ ،‬كأطروحة لشهادته‪ ،‬ترجمة‬
‫أعامل لغسان كنفاين‪.‬‬
‫عام ‪ّ 1974‬ع َي أستاذا ً للتاريخ املعارص يف معهد اللغات ببريوت (املدرسة العليا لآلداب)‬
‫وكان يف اآلن ذاته يد ّرس الفرنسية يف املخيامت‪ ،‬مدفوعاً من قناعته والتزامه‪.‬‬
‫وإمنــا بــدأت مســرته املهنيــة العلميــة التخصصيــة عــام ‪ ،1975‬حيــث ّعــن زائــرا ً يف املعهــد‬
‫الفرنــي للدراســات العربيــة يف دمشــق‪ ،‬وهنــا ســوف ينهــي رســالته عــن ســاطع الحــري‪ ،‬واحـ ٍـد‬
‫مــن مؤســي فكــر القوميــة العربيــة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪28‬‬

‫بقي يف دمشق حتى عام ‪ .1978‬ورغم عمله يف الظل نتيجة طبيعته الخجولة ورصامته‪ ،‬فقد‬
‫كان يش ّع منه حضور قوي قوة املثقف ذي القناعات الراسخة‪.‬‬
‫والحق يقال إن ميشيل سورا كان يف أوساط السبعينات‪ ،‬الوحيد من بني العاملني بحقل علم‬
‫االجتــاع الذيــن يقيمــون عــى األرض‪ ،‬يف امليــدان‪ ،‬كاســباً قــوت يومــه مــن أبحاثــه‪ .‬آنــذاك هجــر كثــر‬
‫مــن أســاتذة الجامعــات االختصاصيــن باملغــرب والــرق األوســط دراســة اللغــة (العربيــة)‪ ،‬ومل تعــد‬
‫التحقيقــات امليدانيــة والتعايــش مــع املجتمعــات موضــوع أبحاثهــم‪ ،‬تجذب كثريا ً من املســترشقني‬
‫الغارقني بتفسريات النصوص وأسباب نشوئها كتابتها‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬وبهذا املعنى‪ ،‬تُعترب دراساته وتطبيقاته العلمية مثاالً يحتذى‪ ،‬ما لبثت أن ساهمت‬
‫وس َم املستعربني من جيل الشباب لـ (من بعده)‪.‬‬
‫بصورة أساسية يف التجديد الثقايف الذي َ‬
‫وإ ّما انقىض عهد إقامته يف دمشق‪ ،‬حتى التحق بني عامي ‪ 1978‬و‪ 1980‬يف بريوت‪ ،‬بفريق‬
‫مركز األبحاث والدراسات الرشقية املعارصة «سريموك» الذي سيصبح‪ ،‬األعوام الالحقة‪ ،‬سكرتريه‬
‫العلمي‪ ،‬اعتبارا ً من عام ‪.1983‬‬
‫وبالنسبة له‪ ،‬شكلت هذه العودة إىل لبنان‪ ،‬حيث بنى أرسته الصغرية‪ ،‬التحقق الكامل لرغبته‬
‫الحميميــة والغاليــة عــى قلبــه‪ ،‬التــي ستســمح لــه أن يعمــل مــع هــذا الَمثْنــى‪ ،‬العــريب ‪ -‬الفرنــي‪،‬‬
‫املندغــم والــذي ال تنفصــم عــراه داخــل داخلِــه‪ .‬ومــن أجــل هــذا‪ ،‬كان يرفــض باســتمرار العيــش يف‬
‫فرنســا بصــورة دامئــة‪ ،‬حيــث ال يلقــى ســوى جــزاء مــن ذاتــه هنــا‪ .‬حتــى الحــرب األهليــة اللبنانيــة مل تثنــه‬
‫عــن إرصاره وتعلقــه بهــذا البلــد‪.‬‬
‫تعاقــد مــع املعهــد العــايل للبحــوث الوطنيــة الفرنســية‪ ،‬حيــث رصف جهــودا ً وطاقــات مضنيــة‬
‫يف إقنــاع إدارة املعهــد وزمــاء عملــه أن عليــه البقــاء يف بــروت‪ .‬وال بــد مــن القــول‪ ،‬مثــة‪ ،‬إن هــذا‬
‫التعلق باملكان والعناد يف موقفه منعاه من أخذ مسافة وزمن رضوريني لصياغة أعامله ودراساته‬
‫كتابـةً‪ .‬فــكان عليــه االضطــاع مبهــات الحيــاة اليوميــة يف مدينــة تتفــكك وتتحلــل‪ ،‬ومواجهــة مالحقــة‬
‫الصحفيــن العابريــن‪ ،‬بشــكل دائــم‪ ،‬يطلبــون منــه رأيــه ورشحــه ألوضــاع لبنــان‪ ،‬لقــد اختــار أن يبقــى‬
‫عــى احتــكاك مــع األرض مقاسـاً املدينــة‪ ،‬التــي اســتقبلته أيــام الفرحــة‪ ،‬مصريهــا الحالــك التعــس‪.‬‬
‫وخــال الغــزو اإلرسائيــي عــام ‪ ،1982‬وحــده بقــي مــن بــن الغربيــن يقيــم يف بــروت الغربيــة‪،‬‬
‫مكرسـاً كل جهــده إلنقــاذ مكتبــة املعهــد الــذي كان يعمــل بــه‪ ،‬يـ ّ‬
‫رح باحتجاجاتــه يف الصحافــة ضــد‬
‫اســتيالء إرسائيــل عــى مركــز الدراســات الفلســطينية ونقلهــا وثائقــه إلرسائيــل‪.‬‬
‫لكن هذا اإلخالص ملُثُله ومبادئه‪ ،‬عىل جلبه العداء القوي له من الجهات القريبة إلرسائيل‪،‬‬
‫مل مينعــه مــن أن يقــوم بتحليــل «موضوعــي» واضــح النهيــار وأفــول «التقدميــة العربيــة» بأشــكالها‬
‫املختلفــة‪ ،‬وكذلــك لظهــور الحــركات اإلســامية‪ ،‬بالتــوازي مــع ترســخ ســلطات «الطغــاة» كــا كان‬
‫‪29‬‬ ‫يجولويسوسلا يروسلا ماظنلا لاتغي نيح‬

‫يقول‪ .‬ســلطات كان يزيد من شــناعتها ما تتنكر به من بهرج التمســك باملثل واملبادىء التقدمية‪،‬‬
‫زريب نبا يسنرفلا ‪:‬اروس ليشيم‬

‫وهــي الســلطات التــي يــرى فيهــا‪ ،‬الخيانــة الفاقعــة لهــذه املثــل‪.‬‬


‫ولن يلبث عمله وبحثه عن ســوريا الدولة واملجتمع‪ ،‬الذي اســتقى بدايات مراجعه األوىل من‬
‫منظومات تفكري ماركســية كانت ت ُد ّرس مثة يف الجامعات الفرنســية‪ ،‬لن يلبث طويالً ًقبل انتهائه‬
‫إىل إعــادة إحيــاء مفهــوم كبــر أســايس وضعــه‪ ،‬يف القــرن الرابــع عــر‪ ،‬العالمــة ابــن خلــدون‪ ،‬وأعنــي‬
‫مفهــوم «العصبيــة» الــذي يجعــل مــن «الــوالء للجامعــة» (الحــي‪ ،‬القبيلــة‪ ،‬املنطقــة) العامــل األول‬
‫والحاسم يف تطور املجتمعات العربية‪ .‬وكان إدخال مفاهيم أنتجتها الثقافة العربية‪ ،‬داخل تركيبة‬
‫العلــوم االجتامعيــة‪ ،‬ميثــل بنظــره رضورة معرفيــة بغيــة الوصــول لتحليــل الوضــع يف الــرق األوســط‪.‬‬
‫وهــذا مــا هيــأ لــه بــأن يبــدأ بصياغــة الخطــوط األوىل لبحــث وتفكــر مبتكريــن أصيلــن حول الدولة‬
‫واملجتمــع املــدين يف ســوريا‪ ،‬بحــث وتفكــر ابتعــدا عــن املاركســية التــي منهــا جــاء‪ .‬بيــد أنــه‪ ،‬عــى‬
‫بقائــه مقتنعـاً بــأن مفهــوم العصبيــة يســمح بتجديــد أســس البحــث‪ ،‬اعتقــد أن هــذا املفهــوم بحاجــة‬
‫إىل اإلغنــاء مبــا يســمح بــه اإلملــام باألوضــاع التاريخيــة املاديــة‪ .‬ومــن هــذا املنظــور‪ ،‬وجريـاً عىل خطى‬
‫ســابقه ابــن خلــدون‪ ،‬انصــب اهتاممــه عــى الفضــاء املدينــي‪ ،‬مــا أوحــى لــه بدراســة عــن حــي بــاب‬
‫التبانــة يف طرابلــس ‪ -‬وهــو البحــث األكمــل صياغـ َة نـ ٍّ‬
‫ـص مــن بحوثــه ‪ -‬وســمح لــه األخــذ بعــن االعتبــار‬
‫الخصوصيــة اللبنانيــة بعــد عــرة أعــوام مــن الحــرب وتفــكك وانحــال الدولــة‪.‬‬
‫كان الســؤال‪ :‬أال يجــب إعــادة دراســة وتكملــة هــذا النمــوذج النظــري للعصبيــة‪ ،‬غنــي الخصوبــة‬
‫يف تفسري الوضع الطرابليس‪ ،‬وصوالً لرشح النسق االجتامعي السوري‪ ،‬حيث يطغى وزن الدولة‬
‫بشــكل كاســح؟‬
‫فبعد أن أظهر للعيان بجالء البعد «الرببري» لهذه الدولة املوسومة بقمعها الضاري ولجوئها‬
‫«املــدروس» لإلرهــاب‪ ،‬راح يوجــه اهتاممــه إىل الطبقــات واألطــر املجتمعيــة التــي‪ ،‬رغــم هــذه‬
‫«الرببريــة»‪ ،‬رأت يف الدولــة ضامنـاً لنــوع مــن االســتقرار يفيــد أمورهــا ومصالحهــا‪ .‬ويف هــذا الســياق‪،‬‬
‫ـئ لــه إكـ َ‬
‫ـال منظــور تحليلــه‪،‬‬ ‫قــرر أن يقــوم بتحقيــق ميــداين حــول الطبقــات الوســطى الســورية‪ ،‬يه ِّيـ ُ‬
‫ووضْ ـ َع منــوذج طرابلــس‪ ،‬داخــل إطــار جامــع يشــمل تناقضــات املنطقــة‪.‬‬
‫وقــد تجــى تأثــر التغــرات الرسيعــة جــدا ً يف الوضــع عــى األرض عــى أعاملــه‪ ،‬عــر اإلرصار‬
‫عــى املســاءلة والشــك الدامئــن‪ ،‬وكذلــك عــى التواصــل اليومــي مــع الواقــع االجتامعــي‪ .‬وخــال‬
‫تواجده سواء بسواء يف صفوف الشيعة والعلويني واملارونيني والسنة‪ ،‬كان يجرب نفسه عىل تجاوز‬
‫التحليــات «الطائفويــة» املتداولــة تقليديـاً يف التحليــات املتعلقــة بالرشق‪ ،‬عرب املنهج املقارن‪.‬‬
‫وتحــت واجهــة تأجــج العنــف مــن طائفــة توجهــه ألخــرى‪ ،‬كان يــدرس تشــكيالت وتنظيــات نخــب‬
‫السياســة الجــدد‪ ،‬املتصارعــن عــى الســلطة ضــد أعيــان هــذا الطــرف أو ذلــك‪ .‬وهنــا تبــدو املقارنــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪30‬‬

‫التــي عقدهــا بــن عــكاوي‪ ،‬قائــد طرابلــس اإلســامي‪ ،‬وبــن جعجــع‪ ،‬قائــد القــوات‬
‫اللبنانيــة املارونيــة‪ ،‬حاملـ ًة يف طياتهــا عنــارص فكــر مجـدِّد‪.‬‬
‫قطــع اغتيــال ميشــيل ســورا عملــه‪ ،‬يف غمــرة انكبابــه عــى البحــث الــذي كان‬
‫قــد رســم برنامجــه‪.‬‬
‫ونحن‪ ،‬إذ نقدّم هنا مجموعة من األعامل التي كان قد أنهاها‪ ،‬إمنا نطمح إىل‬
‫تحفيــز باحثــن آخريــن عــى الرغبــة يف البحــث والشــغل عــى هــدي هــذا املنهــج‬
‫الــذي تؤكــد األيــام غنــاه وفائدتــه‪.‬‬
‫فأعــال ســورا‪ ،‬التــي نُــرت عــى شــكل مقــاالت يف صحــف‪ ،‬وأوراق ملجــات‬
‫وجرائــد متخصصــة‪ ،‬ومســاهامت يف مؤلفــات جامعيــة‪ ،‬مل تُكتــب بهــدف النــر‬
‫كــادة متصلــة لكتــاب واحــد‪ .‬بــل هــي عــى العكــس‪ ،‬تــي بــرددات الشــك يف‬
‫ســرورة بحثيــة‪ ،‬تــكاد أن تكــون ناجــزةً‪ .‬وقــد فضلنــا يف تقدمينــا «التيــات» القضايــا‬
‫التــي اشــتغل عليهــا بشــكل أقــرب للكــال‪ ،‬عــى حســاب الرتتيــب الزمنــي‪.‬‬
‫ومــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬مل نض ِّمــن هــذا املؤلــف مســاهامت ميشــيل يف مؤلفــات‬
‫جامعيــة‪ ،‬يســهل الحصــول عليهــا مــن املكتبــات‪ ،‬وكذلــك نصوص ـاً صغــرة كتبــت‬
‫ملناسبات معينة‪ .‬وسنجد املراجع والبيبلوغرافيا الكاملة مليشيل سورا‪ ،‬معروض ًة‬
‫حســب زمــن كتابتهــا‪ ،‬يف ملحــق منشــور آخــر الكتــاب‪.‬‬
‫نيسان ‪2012‬‬

‫مقدمة لكتاب يضم أعمال السوسيولوجي الفرنيس ميشيل سورا‬


‫‪31‬‬

‫أوراق الملف‬
‫إعداد‪ :‬فادي عزام وحسام الدين محمد وعديّ الزعبي‬

‫الجندر واالستبداد‬
‫فادي عزام‬

‫تجريد الضحيّة‬

‫ســينعم االســتبداد بالبقــاء لزمــن أطــول مــا يتخيــل معارضــوه‪ ،‬فــا انحفــر عميقـاً‬
‫يف الوجــدان الجمعــي الســوري مــن آثــاره االجتامعيــة والنفســية الخفيــة أكــر بكثــر‬
‫مــن عالماتــه الرصيحــة‪.‬‬
‫سيكتشــف الســوريون املهتمــون بالتنويــر عمــق االســتبداد يف مجتمعهــم الــذي‬
‫يتشابك مع خصوصيات كثرية يف املجتمعات العربية والرشقية عامة‪ ،‬وسيصابون‬
‫بالدهشــة حــول تكلــس وتجــذر هــذه اآلفــة يف حياتهــم‪ .‬وهنــا بــكل هــدوء بعيــدا ً عــن‬
‫وضــع الثــورة الســورية يف مقامــة التحليــل الســيايس أو حتــى الوقــوف يف صفهــا أو‬
‫التحذيــر منهــا‪ ...‬ســتبقى هــي الســبب األكــر مبــارشة الــذي كشــف أن الحريــة التــي‬
‫طالــب بهــا الســوريون بشــكلها الخــام وهــم يتلمســون مناطقهــا يف أماكــن ســياط‬
‫القرس والعنف املغروزة بأروحهم ويتناقلونها من جيلني‪ ...‬كشــف أن الحرية شــو؟‬
‫أول مــا ميكــن مالحظتــه يف هــذا امللــف‪ ،‬هــو تشــابك الواقــع االجتامعــي‬
‫بالسلطة‪ .‬فبدهاء وخبث أمسك النظام بكل صاممات األمان االجتامعي والديني‬
‫واالقتصــادي‪ ،‬ابتــداء مــن رغيــف الخبــز وليــس انتهــاء برغيــف الحــب‪.‬‬
‫فالنظــام ليــس معــزوالً عــن النــاس‪ ،‬بــل يتغلغــل يف تركيبــة حياتهــم اليوميــة عــر‬
‫ممثليــه مدفوعــي األجــر‪ ،‬كأمنــاء الفــرق الحزبيــة واملخاتــر واملوظفــن لــدى الدولــة‬
‫التي احتل كل مؤسساتها متاما‪ .‬وليس انتهاء بدعمه لرجعية الفكر عرب كسب ود‬
‫القانون العشائري والطائفي يف بعض األماكن عىل حساب حتى شعارات حزبه‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫ةّيحضلا ديرجت‬

‫وأيضاً عرب ذراعه االقتصادية‪ ،‬التي ال ُّ‬


‫تقل خطورة‪ ،‬والتي باتت تطلب الرشاكة مع كل املشاريع‬
‫مازع يداف‬

‫الناجحــة‪ ،‬أو املحــاوالت الفرديــة للتخلــص مــن ســلطة الدولــة الفاســدة‪ ،‬فأنشــأت عــى هامشــها‬
‫مجموعــة مــن الــركات الناجحــة نســبياً لتنظيــف وتلميــع الصــور املســبقة عــن الســلطة‪ .‬ومــن أهمهــا‬
‫رشكات تعنــى باملنتــج الثقــايف كالدرامــا التلفزيوينــة أو املشــاريع الفنيــة وغريهــا‪.‬‬
‫صــار مــن الصعــب وضــع املســؤولية الكارثيــة التــي أحدقــت بالبلــد عــى ظهــر العائلــة الحاكمــة‬
‫التــي بــدت قبــل الثــورة وكأنهــا جــزء منــر مــن املجتمــع الســوري‪ .‬ولعبــت رشكات العالقــات العامــة‬
‫دورا ً كبــرا ً بتبييــض صــورة الرئيــس وزوجتــه وبعــض أقاربــه وتحويلهــم إىل كائنــات عامــة لطيفة مع إبقاء‬
‫دائــرة الخــراب محصــورة يف مؤسســات أمنيــة أو فاســدة يتــم ك ّفهــا قلي ـاً أو كثــرا ً وفــق املطلــوب‬
‫لتلميــع أو إظهــار بعــض اإلنجــازات‪.‬‬
‫ـب أو عائــات متصارعــة يف‬
‫قبــض النظــام الســوري عــى كل مفاصــل الحيــاة بالتشــارك مــع نخـ ٍ‬
‫املجتمــع‪.‬‬
‫وأحد أهم ما فعله هو استخدامه املذهل وفهمه لطبيعة الجندر السوري والرتويج له‪ .‬وتحويل‬
‫هذه االنشقاق اإلنساين إىل شقاق ميكن استخدامه برباع ٍة حني الطلب‪.‬‬
‫قوة صورة املوت والتعذيب مل تكن كافية لثني السوريني املطالبني بالحرية عن االستمرار‪.‬‬
‫والعنــف املســبوك بعنايــة واملــرب مبنهجيــة اســتطاع حتـاً أن يلعــب دورا ً يف تحييــد البعــض‬
‫وخلق لغة التشــويش التي تخســف صالبة أرض الثورة‪ ،‬قبل بدء الهجوم املعاكس واعتامد املبدأ‬
‫األكرث نجاعة آنياً لدى كل ســلطة‪ :‬سياســة األرض املحروقة‪.‬‬
‫لتربيــر املجــزرة يجــب تجريــد الضحيــة مــن إنســانيتها وتحويلهــا إىل وبــاء‪ ،‬تحميلهــا أعــى صــور‬
‫الــر‪ ،‬نــزع قيمهــا وقيمتهــا‪ ،‬ونفــي صفــة الشــبه أو القرابــة أوالتشــابه معهــا‪ ،‬هــذه السياســة يعرفهــا‬
‫مديــرو األزمــات يف العــامل‪ .‬ففــي روانــدا كان الهوتــو يحتاجــون فقــط إىل تكــرار مســمى الرصاصــر عــن‬
‫التوتــي‪ ،‬وجعــل الخطــاب املوجــه لألخــوة يف الوطــن ينــزع التســمية اإلنســانية عنهــم‪ ،‬لتتــم اإلبــادة‬
‫املنهجيــة التــي ســاهمت فيهــا بشــكل جامعــي كل الطبقــات واملشــارب االجتامعيــة بــدون اســتثناء‪.‬‬
‫فاألخــر مل يعــد إنســاناً‪ ،‬وهــو مبــاح بالكامــل للســحق‪.‬‬
‫ال تبــدأ املجــزرة‪ ،‬قبــل تحقيــق كامــل رشوطهــا‪ .‬أي حــن يبــدأ فعــل االغتصــاب‪ ،‬وهكــذا تعرضــت‬
‫أكــر مــن مئتــي ألــف امــراة مــن التوتــي إىل اغتصــاب جامعــي‪ .‬ويف أقــل مــن مئة يوم كانت املجزرة‬
‫قــد حصــدت أكــر مــن مثامنئــة ألــف مــن التوتــي‪ .‬قليــات مــن املغتصبــات نجــون الحقـاً فقــد كان‬
‫ســاح االغتصــاب مبثابــة الحــل الناجــع لإلرضــاخ ومــا كان هــذا الســاح ليكــون لــوال الــراع الجنــدري‬
‫يف املجتمــع القبــي‪ .‬ال ميكــن النيــل مــن أي عــدو يف العــامل الثالــث أو تقزميــه مــن دون الرجــوع‬
‫لجــذور الجنــدر‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪34‬‬

‫اســتطاع النظــام الســوري أن يشــهر ســاح الجنــدر كأحــد األســلحة الفعالــة‪ ،‬لالنتقــام والتهديــد‬
‫بتفجري تناقضاته التي يعرف خطرها يف وجه املجتمع عامة والثورة خاصة‪ ،‬مع حملة دعائية لتربير‬
‫كل أنــواع البطــش وتفريــغ الحــراك مــن قيمــه تــارة بالتضليــل وأخــرى بالرتهيــب‪.‬‬
‫االغتصــاب وال ِعــرض‪ ،‬اللغــة العنفيــة القامئــة عــى منبــت جنــدري شــديد الحساســية‪ .‬ســيبقى‬
‫مشــهد الرجــل املســحول عــى األرض الــذي يتعــرض ملســاومة مذلــة‪ ،‬مــن قبــل رجــلٍ مسـ ٍ‬
‫ـتعبد‬
‫مقمــوع آخــر أطلــق الســيد لــه يــده يف االنتقــام لنفســه‪ ،‬مــع إضفــاء رشعيــة أخالقيــة عليــه كجنــدي يف‬
‫ميليشــيات األســد‪ ،‬يقــوم بالواجــب املقــدس يف الدفــاع عــن البلــد‪.‬‬
‫ـتغل عنفــات‬ ‫ـرج الصــورة القلقـ ُة الثابـ َ‬
‫ـت الراســخ‪ .‬صــور ٌة إثــر إشــاعة إثــر عبــارة إثــر فكــرة‪ ،‬تشـ ُ‬ ‫حــن تـ ُّ‬
‫كل مــكانٍ ‪ .‬تنحفــر ســيول‬
‫نهــر املــوت‪ ،‬تــوزع مضخــات العنــف‪ ،‬الصــور واألخبــار واألفــكار‪ ،‬تطرشــها يف ِّ‬
‫اللغــة والســلوك يف مجــا ٍر جديــدة بعدمــا كانــت تنــرب لعقــو ٍد تحــت الســطح‪ ،‬تحمــل معهــا كل مــا‬
‫اختزنــه القــاع مــن رواكــد وأشــاء عنـ ٍ‬
‫ـف مهــوس باإلفصــاح عــن نفســه‪.‬‬
‫تنحفر يف البنية املؤسسة للفعل‪ ،‬نواة حاضنة للعنف‪ ،‬تتالعب السلطات املختلفة بالجندر‪،‬‬
‫لترشعن العنف‪.‬‬
‫مشــهد آخــر للرجــل املســحول يســاومه الجــاد‪ :‬إن كنــت تريــد رؤيــة أوال ِدك قبــل موتــك‪ ،‬يجــب‬
‫أن تســمح يل مبضاجعــة زوجتــك‪.‬‬
‫الرجــل الضحيــة برسوالــه الداخــي الذكــر الحامــي وريــث العــرش الذكــوري يف أرستــه‪ ،‬يُطلــق‬
‫رصختــه‪ :‬ال أســتطيع أن أســمح لــك بذلــك إنهــا (ابنــة عمــي تــاج رأيس)‪ .‬يعكــس املســحول‪ ،‬املحكــوم‬
‫باإلعــدام عــى يــد شــقيقه يف الوطــن‪ ،‬صــورة املــرأة مرفوعــة عــى رأس الذكــورة املهشــمة‪ .‬يتناقــض‬
‫املشــهد الصــارخ ليظهــر للعلــن‪.‬‬
‫يرســل الرســائل التالية للجمهور املســتفز املشــدود عىل قوس الغضب الناشــب مرتفع النرب‪،‬‬
‫الحائــر والخائر‪.‬‬
‫تصبــح املــرأة قرابــة الــدم والعائلــة‪ ،‬بنــت العــم فتختفــي الزوجــة الضــد؛ تصبــح تاجـاً للــرأس الــذي‬
‫ســيقطع بعــد قليــل أو ســيفجر برصاصــة‪.‬‬
‫تصبــح اللحظــة ملحميــة‪ ،‬حتــى يف عــدم جديتهــا كحــدث‪ ،‬يريــد الوحــش املطلــق العنــان خــرق‬
‫الضحيــة مــن بوابــة الجنــدر‪ ،‬قبــل إراحتــه وقتلــه‪.‬‬
‫وليس من العبث أن تعرض مؤسسة إعالمية تحتوي خرية إعالميي املقاومة (الهجينة) سمعتهم‬
‫املهنيــة واألخالقيــة للخطــر الشــديد يف ســبيل ترويــج فكــرة جهــاد النــكاح غــر القابلــة للتصديــق مــن‬
‫قبــل عقــل فتــى ال يعــرف أبجديــات العمــل التحريــي‪ .‬فرسعــان مــا يتناول الفكرة املجتمع املصاب‬
‫بالهتــك الجنــدري وحساســيته‪ ،‬ليتلقفهــا ويعيــد إنتاجهــا‪ .‬فــإن دافــع عــن الفكــرة يك ّرســها وإن صمــت‬
‫‪35‬‬ ‫ةّيحضلا ديرجت‬

‫يكرســها‪ .‬فــا يجــد بــدا ً مــن إبــداء الــرأي بهــا‪ ،‬وكل محاولــة للنفــي أواإلثبــات تعطــي‬
‫مازع يداف‬

‫الفكــرة الســقيمة مزيــدا ً مــن األجنحــة وتجعلهــا قابلــة للطــران واالنتقــال يف الــدروب‬
‫الرسيــة للخــوف اإلنســاين‪.‬‬
‫فتصدر فتوى من شــيخ محســوب عىل أكرثية الثورة‪ ،‬يبيح فيها الســوريات من‬
‫نساء الطوائف املوالية للنظام‪ ،‬ويصنفهن بقرار إلهي بأنهن سبايا‪ .‬تتلقف الفتوى‬
‫املواقع املرشعة عىل الجنون‪ ،‬وتعيد إنتاج ما فعله (بن جدو) معكوساً‪ ،‬فيتحقق‬
‫املطلوب‪ ،‬بلبلة جامعي ٌة باستخدام الجندر‪.‬‬
‫هل كان هذا امللف موفقاً يف طرح ما يحدث يف سوريا حقاً؟‬
‫بالطبع ال إن كان الهدف الحقيقي هو فتح باب التفكر والبحث والتوثيق بدور‬
‫االســتبداد يف اســتعامل الجنــدر‪ ،‬والعالقــة العضويــة بــن االســتبداد االجتامعــي‬
‫وتحولــه إىل عســف ســيايس مدمــر‪ ،‬واتخــاذ الحالــة الســورية أمنوذج ـاً‪ .‬لكنــه يف‬
‫املجمــل نحــا باتجــاه تفنيــد العنــف عامـ ًة والعمــل عــى تســليط إضــاءات عــن واقــع‬
‫حــال املــرأة الســورية عامــة‪.‬‬
‫ســيجد املتابــع لهــذا العــدد بعــض اإلضافــات املهمــة الجديــدة وغريهــا مــن‬
‫التــي تشــتغل باملشــغول ســابقاً‪ .‬وســيجد قــراءات مواكبــة تبــر بتشــخيص الواقــع‬
‫امللغــم بشــتى أنــواع العنــف والظلــم والحيــف‪ .‬والكثــر مــن املقاربــات التــي تعكــس‬
‫فهــم بعــض النخــب الســورية ألصــول العنــف يف مجتمعهــا‪.‬‬
‫سارة أبو عسيل‬

‫النساء يف سوريا‪ :‬من «العورة» إىل «الثورة»‬

‫قيــل مــع مطلــع ثــورات الربيــع العــريب إن للنســاء يف هــذه البلــدان ثــورة مزدوجــة‪:‬‬
‫األوىل ضــد ســلطة األنظمــة املســتبدة واألخــرى ضــد ســلطة الرجــال وقوامتهــم‪ .‬كــا‬
‫قيــل يف البدايــة إن صوتهــا «عــورة» ليصبــح فيــا بعــد «ثــورة»‪ .‬وللحديــث عــن املــرأة‬
‫والثــورات العربيــة‪ ،‬وهــي يف جوهرهــا حــركات مجتمعيــة سياســية عارمــة‪ ،‬تداعيــات‬
‫مختلفــة تبــدأ بالحريــات العامــة ومســاحات التعبــر التــي ولدتهــا هــذه الثــورات بعــد‬
‫عقــود طويلــة مــن األنظمــة التســلطية وتنتهــي بوضــع نســاء هــذه البلــدان مــن حيــث‬
‫حاميتهــن مــن االنتهــاكات ومشــاركتهن السياســية وحقوقهــن كــا تكفلهــا ترشيعــات‬
‫ودســاتري البــاد الجديــدة‪ .‬لكــن يبقــى الــرأي األكــر شــموالً أن لــدى نســاء الربيــع‬
‫العريب وغريه درب جلجلة طويل يتطلب سنني من العمل والنضال‪ .‬أما الحديث‬
‫عــن فاعليــة التغيــرات االجتامعيــة هــذه التــي مل تبــدأ إال منــذ ســنوات قليلــة فيعــد‬
‫قصــورا ً يف النظــر وخصوصـاً إذا نظرنــا إىل هــذه الظواهــر االجتامعيــة عــى اعتبارهــا‬
‫أحداث ـاً ظرفيــة محــددة دون صهرهــا بســياق التحــوالت البنيويــة التــي تجــري عــى‬
‫األمــد الطويــل‪.‬‬
‫ومــن هــذا املنطلــق فــإن النظــر يف الحــراك النســايئ الوليــد يف ســوريا ال ميكــن‬
‫النظــر إليــه يف ظرفيتــه الحاليــة دون العــودة إىل الرتاكــات املجتمعيــة والثقافيــة‬
‫عــى مــدى العقــود األربعــة املاضيــة‪ .‬كــا أن أي محاولــة لتقييــم ما ســندعوه الحركة‬
‫النسائية يف سوريا ما بعد الثورة ال يزال مبكرا ً نظرا ً لحداثة التجربة وأيضاً الستمرار‬
‫‪37‬‬ ‫روثلا« ىلإ »ةروعلا« نم ‪:‬ايروس يف ءاسنلا‬

‫آلــة الحــرب والقمــع واالعتقــال والتهديــد وغريهــا مــن العوامــل والتحديــات التــي يواجههــا العمــل‬
‫لسع وبأ ةراس‬

‫املدين بشكل عام‪ .‬سنقف يف هذه الورقة بشكل مخترص عند مايض الحركة النسائية يف سوريا‬
‫والتشــكيالت التــي خرجــت مــن رحــم الثــورة والتحديــات الراهنــة التــي تواجــه ســرها‪.‬‬

‫تاريخ قمعي طويل‬


‫اختزلــت قضيــة املــرأة يف ســوريا قبــل ثورتهــا يف آذار عــام ‪ 2011‬يف اتحــاد نســايئ عــام يصــح‬
‫وصفــه بأنــه «قضيبــي وذكــوري» شــأنه كشــأن أي مؤسســة أخــرى قوامهــا ذكــوري رصف‪ ،‬أمــا صــورة‬
‫املــرأة يف الشــأن العــام فقــد اختزلــت هــي األخــرى لــدى جيــل بأكملــه بحفنــة مــن نســاء أعلــن والئهــن‬
‫وطاعتهــن لديكتاتوريــة حــزب البعــث العــريب االشــرايك أمثــال وزيــرة الثقافــة نجــاح العطار التي تشــبه‬
‫بتخشــبها وجمودهــا الجثثــي مؤسســات بعثيــة أقيمــت لتبيــد بدورهــا أي مظاهــر للعمــل املــدين‬
‫املســتقل يف ســوريا‪.‬‬
‫وقــد تختــر محــاوالت «الــوأد» التــي مارســها حــزب البعــث ضــد أي حــراك نســايئ بحملــة‬
‫اعتقــاالت طالــت النســاء منــذ مطلــع الثامنينــات‪ ،‬ليصــل يف عــام ‪1987‬عــدد النســوة املتهــات‬
‫باالنتــاء إىل حــزب العمــل الشــيوعي يف فــرع فلســطني ‪ 80‬امــرأة تراوحــت فــرة احتجازهــن بــن‬
‫األشــهر والســنوات‪ .‬هــؤالء النســوة أمثــال أمــرة حويجــة وناهــد بدويــة وغريهــن كــن امتــدادا ً لعمــل‬
‫نســوي ســيايس شــهدته ســوريا منــذ الثالثينينــات‪ ،‬وتــم مــن خــال اعتقالهــن إيصــال رســالة مفادهــا‬
‫بــأن أيــام االنخــراط الســيايس قــد أصبحــت مــن املــايض‪.‬‬
‫أمــا عــى صعيــد العمــل املــدين ومــع غيــاب قانــون ناظــم للجمعيــات األهليــة يف «ســورية‬
‫الحديثة»‪ ،‬فقد اقترص الحراك النسايئ حتى عام ‪ 2011‬عىل مجموعات قليلة كانت قد تشكلت‬
‫قبــل اســتالم حــزب البعــث الســلطة مثــل رابطــة النســاء الســوريات‪ ،‬غــر أن عمــل هــذه الحفنــة مــن‬
‫التشــكيالت قــد اقتــر عــى تأمــن الحاميــة للنســاء يف حــاالت العنــف املنــزيل وحمــات تهتــم‬
‫بالجانــب الحقوقــي والعمــل عــى تغيــر القوانــن والترشيعــات كمســودة قانــون األحــوال الشــخصية‬
‫الــذي طــرح عــام ‪ 2009‬واثــار الســخط العــام ملــا فيــه مــن تكريــس لثقافــة العنــف والتمييــز ضــد املــرأة‬
‫وقانــون الجنســية الــذي ال يتيــح للمــرأة يف ســوريا منــح جنســيتها ألبنائهــا‪.‬‬
‫عــدا عــن ذلــك فقــد اقتــر الحــراك النســايئ يف ســوريا عــى جمعيــات خرييــة تتميــز بنخبويتهــا‬
‫واستقطابها لسيدات املجتمع املخميل‪ ،‬وابتعادها عن النساء الريفيات أو الغري متعلامت‪ ،‬األمر‬
‫الذي انعكس عىل نظرة املجتمع الســلبية للناشــطات النســائيات وتنميطهن واتهامهن باســتخدام‬
‫لغــة غــر قريبــة مــن لغــة الشــارع وبالتــايل عــدم اســتقطاب جيــل مــن الشــابات الســوريات وجذبهــن‬
‫إىل العمــل عــى قضايــا املــرأة‪ ،‬ناهيــك عــن غيــاب الفكــر النســوي (‪ )feminism‬الــذي تطــور يف‬
‫الســبعينات والثامنينــات مــن قبــل نســاء كــن يحققــن ثورتهــن الخاصــة يف الغــرب‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪38‬‬

‫أمــا الثــورة الوحيــدة التــي متكنــت بعــض النســاء يف ســوريا مــن القيــام بهــا ‪ -‬وللمفارقــة‪ ،‬بدعــم‬
‫مــن النظــام الحاكــم‪ ،‬فقــد كانــت مــا يعــرف باســم تنظيــم القبيســيات الــذي بقــي رسيـاً إىل أن ســمح‬
‫للقبيسيات عام ‪ 2006‬مبامرسة عملهن بالعلن‪ .‬وعىل عكس باقي التشكيالت الضئيلة‪ ،‬مل تنجح‬
‫الحركة القبيسية بجذب جيل كامل من الشابات السوريات وحسب‪ ،‬وإمنا امتدت رقعة نشاطها‬
‫مــن ســوريا إىل بلــدان الجــوار كحركــة نســائية إســامية دعويــة رافقهــا افتتــاح الكثــر مــن املــدارس‬
‫واملعاهــد الدينيــة وتحفيــظ القــرآن‪ .‬وهنــا لســنا مبعــرض الحديــث عــن القبيســيات اللــوايت شــكلن‬
‫لغــزا ً مــن ألغــاز ســوريا مــا قبــل الثــورة ومــا بعدهــا بحكــم اصطفافهــن ودعمهــن للنظــام الحاكــم يف وجه‬
‫حــراك لطاملــا وصــف بأنــه ذو طابــع إســامي‪.‬‬

‫الحلم بالتغيري‬
‫مع وجود محبطني لها أكرث من داعميها‪ ،‬يبقى للحركة النسائية يف سوريا ما بعد الثورة تقدماً‬
‫يُحســب لصالحهــا‪ .‬ففــي اجتــاع ضــم مــا يقــارب خمســة وعرشيــن امــرأة ســورية عقــد يف العاصمــة‬
‫البوســنية رساييفــو يف شــهر شــباط ‪ 2014‬مــع عــرات مــن الناشــطات البوســنيات بهــدف تبــادل‬
‫الخــرات وتعلــم الــدروس مــن بــاد خرجــت مــن حــرب أهليــة منــذ أقــل مــن عقديــن‪ ،‬شــكلت النســاء‬
‫الســوريات محط مفاجأة لدى نظرياتهن البوســنيات ملدى تقدم الحراك النســايئ القاملدر تقدم‬
‫حراكهــن يف ســوريا وخارجهــا مقارنـ ًة بالبوســنيات اللــوايت مل يبــدأن بتنظيــم أنفســهن إال بعــد توقيــع‬
‫معاهــدة دايتــون عــام ‪ 1995‬والتــي تــم مبوجبهــا وقــف االقتتــال‪ ،‬أي بعــد انتهــاء الحــرب‪.‬‬
‫وإن كان الغرب ومؤسســاته ينظرون للحركات واملشــاريع واملبادرات النســائية يف ســوريا بعني‬
‫«الغنــج» والتشــجيع‪ ،‬إال أن عمــل هــذه املجموعــات عــى اختــاف تركيــزه يلقــى مقاومــة مــن قبــل‬
‫الرجــال والنســاء عــى حــد ســواء‪ ،‬وخصوص ـاً ضمــن األوســاط املحافظــة ومؤخــرا ً يف األماكــن التــي‬
‫تسيطر عليها الحركات اإلسالمية املتشددة‪ ،‬ناهيك عن محاوالت التهميش واإلقصاء التي ميارسها‬
‫سياســيو املعارضــة مــن خــال تنميــط صــورة املــرأة الناشــطة والتقليــل مــن أولويــة العمــل عــى قضايــا‬
‫النســاء وتوقيتــه فيــا تشــهد البــاد حربـاً وعمليــات عســكرية طاحنــة‪.‬‬
‫وقبــل الحديــث عــن املعوقــات والتحديــات التــي تقــف يف وجــه التشــكيالت النســائية حديثــة‬
‫النشــأة‪ ،‬ال بــد أوالً مــن رســم خارطــة موجــزة لهــذا الحــراك يتــم فيهــا رصــد أبــرز مــا شــهدته الحركــة‬
‫النســائية الثوريــة‪.‬‬
‫ميكــن القــول أن البدايــات كانــت مــع مجموعــة «نســاء ســوريات لدعــم االنتفاضــة الســورية» يف‬
‫حزيران عام ‪ ،2011‬حيث قامت مجموعة من النساء السوريات بإصدار بيان عمل تأسييس باسم‬
‫«ســند» فيــه تأكيــد عــى دعــم النســاء الســوريات لالنتفاضــة الســلمية ومشــاركتهن فيهــا مــن خــال‬
‫‪39‬‬ ‫روثلا« ىلإ »ةروعلا« نم ‪:‬ايروس يف ءاسنلا‬

‫العمــل اإلغــايث واإلعالمــي والتوعــوي‪ .‬ورغــم أن عمــل هــذه املجموعــة قــد متيــز مبســتوى ال بــأس بــه‬
‫لسع وبأ ةراس‬

‫من حيث التنظيم والتنسيق يف وقت سيطرت الفوىض وقلة الخربة عىل معظم تشكيالت العمل‬
‫املــدين الناشــئة حينهــا‪ ،‬غــر أن العمــل عــى قضايــا املــرأة ككل مل يكــن وقتهــا أمــرا ً ملحـاً العتقــاد أن‬
‫األولويــة كانــت إلســقاط النظــام‪.‬‬
‫بعدهــا اســتمرت مشــاركة النســاء يف املظاهــرات والحــراك املــدين وأعــال اإلغاثــة وغريهــا‬
‫يف مختلــف املناطــق واملحافظــات الســورية خــال عامــي ‪ 2011‬و‪ 2012‬إىل أن بــدأت العســكرة‬
‫واملخاطــر األمنيــة واالعتقــاالت والعنــف بالحــد مــن مشــاركتهن هــذه وبالتــايل انتقــال النســاء مــن‬
‫الشــارع إىل العمــل املنظــم‪.‬‬
‫ويف آب‪/‬أغســطس ‪ 2012‬مببــادرة مــن رابطــة النســاء الســوريات وهــي أقــدم التشــكيالت‬
‫النســائية الســورية التــي أسســت ‪ 1948‬تــم تأســيس تجمــع مــدين ســمي بتجمــع «ســوريات مــن أجــل‬
‫الدميقراطية» يهدف اىل الدفاع عن حقوق النســاء‪ ،‬ويف كانون األول ‪ ،2012‬أطلق التجمع وثيقة‬
‫املبادئ املؤسســة للدســتور ضمن مؤمتر ســمي «املســاواة أوالً‪ :‬ضم ما يقارب مئة ســيدة ســورية‪.‬‬
‫الهــدف مــن الوثيقــة كان إظهــار االســتعداد مــن قبــل جيــل النســويات الســوريات القدميــات ليكــن‬
‫حــارضات ومشــاركات يف أي تغيــر مرتقــب للنظــام والقوانــن يف ســوريا‪.‬‬
‫ويف ترشيــن األول‪/‬أكتوبــر ‪ 2012‬انطلــق مؤمتــر تحــت عنــوان «ســوريات يصنعــن الســام» ضــم‬
‫أكرث من أربعني ســيدة ســورية نص بيانه الختامي عىل إرادة الســوريات يف العمل عىل بناء ســورية‬
‫الدميقراطيــة دولــة املواطنــة والعدالــة بآليــات ووســائل ســلمية‪ ،‬ورغبــة الســوريات بالقيــام بدورهــن‬
‫الكامــل الحقيقــي يف حاميــة البــاد وإيقــاف نزيــف الــدم الســوري‪ .‬أمــا أهــم مخرجــات املؤمتــر فقــد‬
‫كانــت تشــكيل ملتقــى يحمــل نفــس االســم يعمــل مــن دمشــق وبرتخيــص حكومــي يســتهدف من مقره‬
‫نســاء ســوريات بجلســات توعية حول حقوق املرأة واملســاواة بني الجنســن‪ ،‬إضافة إىل نشــاطات‬
‫فنيــة ومتكينيــة للنســاء النازحــات املوجــودات ضمــن العاصمــة‪ ،‬مــع حمــات منــارصة وضغــط عــى‬
‫الــراي العاملــي إلرشاك النســاء الســوريات يف عمليــات صنــع الســام‪.‬‬
‫الحق ـاً يف أيار‪/‬مايــو ‪ ،2013‬عقــد مؤمتــر تأســييس آخــر يف القاهــرة متخــض عنــه أكــر جســم‬
‫نســايئ دعــي فيــا بعــد بشــبكة املــرأة الســورية‪ ،‬أو نســاء شــمس‪ ،‬التــي انطلقــت بشــكل كبــر وواعــد‬
‫وبدعــم دويل الفــت‪ .‬لكــن مــا لبــث أن خابــت آمــال املشــاركات فيــه جــراء غيــاب التنظيــم والتنســيق‬
‫بــن األعضــاء وعــدم التوافــق عــى رؤيــة محــددة للشــبكة وخصوصـاً مــع أجنــدة العمــل الطموحــة التي‬
‫وضعتهــا الشــبكة نفســها حــال تأسيســها‪ .‬ورغــم «السياســة اإلقصائيــة للشــبكة» كــا وصفتهــا بعــض‬
‫أعضائها املنســحبات يف نهاية ‪ ،2013‬تبقى نســاء شــمس مســتمرة بالعمل محاول ًة االســتفادة من‬
‫أخطــاء ســنها التأسيســية األوىل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪40‬‬

‫وحاملا بدأ الحديث عن احتامل عقد مؤمتر جنيف التفاويض الثايت حتى بادرت التشكيالت‬
‫النســائية وأهمهــا املذكــورة أعــاه مباراثونــات سياســية دوليــة راميــة إىل إرشاك النســاء يف عمليــة‬
‫التفــاوض وإدارج قضاياهــن عــى أجنــدات املؤمتريــن‪ .‬فاجتمعــت يف كانــون الثاين‪/‬ينايــر مــن عــام‬
‫‪ 2014‬مــا يقــارب ‪ 50‬امــرأة مــن مختلــف التشــكيالت النســائية برعايــة هيئــة األمــم املتحــدة للمــرأة يف‬
‫جنيــف مشــكالت مــا ســمي مببــادرة «نســاء مــن أجــل الدميقراطيــة والســام» ينــص عــى مطالــب‬
‫واضحــة فيــا يخــص مســار التفــاوض‪ ،‬أملــت فيهــا املوقّعــات أن يكــون «هــذا املؤمتــر خطــوة جــادة‬
‫عىل طريق إيقاف العنف ونزيف الدم الســوري»‪ .‬كام دخلت املراة الســورية ألول مرة بتاريخ االمم‬
‫املتحــدة مجلــس األمــن وخاطبــت أعضائــه يف جلســة مغلقــة يف ‪ 16‬كانــون الثــاين ‪ 2014‬مــن خــال‬
‫ثــاث مندوبــات عــن أهميــة إرشاك النســاء يف مختلــف مســارات العمليــة التفاوضيــة‪.‬‬
‫وبعيــدا ً عــن أروقــة قاعــات املؤمتــرات واألمــم املتحــدة‪ ،‬بــدأت يف ‪ 2013‬أيضـاً تشــكيالت مدنية‬
‫جديــدة متخصصــة تطفــو عــى الســطح كل منهــا يلتفــت إىل عمــل مــدين نســايئ‪ ،‬فــكان منهــا شــبكة‬
‫الصحفيــات الســوريات‪ ،‬ومبــادرة شــابات ســوريات مــن أجــل الضغــط عــى الحكومــة االنتقاليــة‬
‫املنبثقــة عــن الهيئــات املعارضــة‪ ،‬ومبــادرة الجئــات ال ســبايا ملنــارصة قضايــا النســاء الالجئــات‬
‫وكشــف عــن االنتهــاكات املامرســة ضدهــن‪ .‬إضافــة إىل العمــل النســايئ التنمــوي الــذي أخــذ شــكل‬
‫مراكز تستهدف النساء الالجئات يف بلدان الجوار والعمل عىل متكينهن اقتصادياً ومعرفياً ومهنياً‬
‫وتوعوياً ومنها عىل سبيل املثال ال الحرص تجمع سوريات من أجل التنمية وأحد أهم مراكزه «مركز‬
‫النســاء اآلن» املوجــود يف البقــاع اللبنــاين‪ ،‬إضافــة إىل مراكــز مشــابهة أقيمــت مببــادرات فرديــة مــن‬
‫قبــل نســاء محليــات يف املناطــق املحــررة أبرزهــا يف حلــب وإدلــب والغوطــة الرشقيــة‪.‬‬

‫تحديات ومصاعب‬
‫ال زالت الحركة النسائية يف سوريا يف طور اكتشاف للذات‪ ،‬فهي تجربة مبجملها غضة ويافعة‬
‫وتحتــاج إىل املزيــد مــن الوقــت قبــل تصبــح العبـاً أساســياً يف الفضــاء الســوري العــام وخصوصـاً يف‬
‫مراحل التحول إىل الدميقراطية والفرتة االنتقالية‪ .‬ومن أجل تخطي مرحلة التخ ّبط من حيث غياب‬
‫األهــداف والــرؤى املشــركة‪ ،‬ال بــد مــن الرتويــج لثقافــة التخصــص يف العمــل‪ ،‬إذ أصبــح مــن الواجــب‬
‫امللقــى عــى عاتــق هــذه املجموعــات اليــوم أن تعلــن عــن توجهاتهــا واختصاصاتهــا كل حســب‬
‫الكفــاءات واملــوارد والحاجــات‪ .‬كــا أن وجــود النســاء بشــكل فاعــل وتخصــي ابتــداء مــن قاعــدة‬
‫الهرم الشعبية وصوالً إىل رأسه أي يف مواقع صنع القرار هو أمر هام للغاية وخصوصاً أن مكونات‬
‫املجتمــع الســوري عــى اختــاف مســتوياتها التعليميــة والقافيــة مل تتــن بعــد قضايــا النســاء وال هــي‬
‫عــى درايــة بهــا أساس ـاً‪ .‬إذا ً فــإن توزيــع األدوار واالختصاصــات والتواجــد بكافــة مراحــل ومســتويات‬
‫‪41‬‬ ‫روثلا« ىلإ »ةروعلا« نم ‪:‬ايروس يف ءاسنلا‬

‫العمــل املــدين مــن جهــة‪ ،‬وتوحيــد أهــداف ورؤى الحركــة النســائية يف ســوريا مــن‬
‫لسع وبأ ةراس‬

‫جهــة أخــرى هــي التحــدي األول الــذي تواجهــه هــذه املجموعــات ويتطلــب الكثــر‬
‫مــن التنســيق والتشــبيك وتضافــر الجهــود‪ ،‬وهــو أمــر قــد بــدأت هــذه املجموعــات‬
‫االنتباه إىل أهميته مؤخرا ً والعمل عىل تجازوه رغم الصعوبات األمنية والجغرافية‪.‬‬
‫أمــا التحــدي اآلخــر فهــو غيــاب النســاء الســوريات عــن العمــل الســيايس وعــدم‬
‫اجرتائهــن عــى خــوض غــاره وذلــك لتذرعهــن بعــدم توافــر الخــرات السياســية‬
‫والهيمنــة الذكوريــة واحتكارهــا لهــذا املجــال‪ ،‬متناســيات ســهولة منافســة الرجــال‬
‫فيام يدّعون أنه مجالهم‪ ،‬وخصوصاً بعد إثبات املعارضة السورية فشلها الذريع‪،‬‬
‫باعرتاف شعبي سوري‪ .‬وهنا يجدر التذكري بالتجربة النسائية يف إيرلندا الشاملية‬
‫حيــث شــكلت النســاء يف التســعينات ائتالف ـاً سياســياً دخــل كطــرف ثالــث يف‬
‫بــاد كانــت منقســمة عــى نفســها سياســياً واجتامعي ـاً‪ ،‬حيــث متكنــت مجموعــة‬
‫مــن النســاء مــن مختلــف املنظــات الغــر حكوميــة مــن الجمهوريــة واالتحاديــة مــن‬
‫تشــكيل تجمــع ســيايس حمــل صــوت املجتمــع املــدين عــى اختالفــه إىل طاولــة‬
‫املفاوضــات‪ ،‬وبهــذا األمــر مل تجعــل النســوة صــوت املــرأة وقضاياهــا وحســب‪ ،‬بــل‬
‫بره ـ ّن أن للمجتمــع املــدين إمكانيــة يف املشــاركة يف املفاوضــات وأيض ـاَ بالتأثــر‬
‫عــى مجراهــا‪.‬‬
‫أمــا مــن ناحيــة أخــرى وبالعــودة إىل فحــوى العمــل النســايئ وخطابــه‪ ،‬فــإن غيــاب‬
‫الفكر النسوي (‪ )feminism‬الذي وصل اليوم يف موجته الثالثة إىل حد الدفاع‬
‫عــن زواج املثليــن وحقوقهــم بالتبنــي وكذلــك حقــوق عامــات الجنــس املأجــور‬
‫مثـاً والحديــث أمــور الجنســانية والحقــوق الجنســية هــو أمــر ينبغــي تالفيــه ولــو كان‬
‫عذرنا أن أبســط مفاهيم الجندر والجنســانية مل تدخل يوماً يف مناهجنا الدراســية‬
‫حتــى‪ .‬لكــن قــدرة الحركــة عــى مواءمتهــا قضايــا العــر ومتطلباتــه‪ ،‬هــو أمــر أســايس‬
‫يف نجاحهــا ولــو اســتغرق إدراج مثــل هــذه الثقافــة ســنيناً طويلــة مــن العمــل‪ ،‬إال أن‬
‫ملح‬
‫البدء بنرشها بني أوساط االكوادر العاملة يف شؤون املرأة عىل األقل هو أمر ّ‬
‫للغايــة‪ .‬ويف الســياق نفســه‪ ،‬فــإن الخطــاب املمــل لحقــوق النســاء وقضاياهــن هــو‬
‫تحــد آخــر وعامــل مهــم أيضـاً يف وجــود الفجــوة بــن جيــل الشــابات مــن املندفعــات‬
‫إىل العمــل مــع النســاء وتبنــي قضاياهــن وجيــل النســاء العريقــات اللــوايت ميتعــن‬
‫بســنني مــن الخــرة والنضــال لكنهــن يفتقــدن أدوات عرصيــة التعامــل مــع متطلبــات‬
‫العمــل الراهــن‪ .‬ومــن هنــا تــأيت أهميــة الرتويــج ملفاهيــم الجنــدرة كبديــل لخطــاب‬
‫«املســاواة وحقــوق املــرأة» الــذي أصبــح قدميـاً ومســتهلكاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪42‬‬

‫وبنهايــة املطــاف فــإن لــدى النســاء الســوريات فرصــة اليــوم ليك ـ ّن حــارضات‬
‫باملحافل الدولية وفرص لقيادة حمالت منارصة عىل مختلف املستوى اإلقليمي‬
‫والعاملــي وكذلــك فــرص متويــل أيضـاً ملشــاريع نســائية قــد تــزول مــع زوال االهتــام‬
‫العاملــي والــدويل بالشــأن الســوري‪ ،‬لــذا عــى النســاء اغتنــام هــذه املنفعــة قــدر‬
‫اإلمــكان لتقويــة مهاراتهــن وبنــاء قدراتهــن وتهيئــة أنفســهن ليكــن قــادة يف العمــل‬
‫املدين ويف مجاالت صنع القرار واملشاركة بالحياة العامة والسياسية يف سوريا‬
‫املســتقبل‪.‬‬
‫خولة دنيا‬

‫املرأة يف الثورة السورية‬


‫آمال كبرية‪ ...‬تحديات أكرب‬

‫ســنة رابعة للثورة تطرح علينا تســاؤالت كبرية حول وضع النســاء‪ ،‬أين أصبح َن؟‬
‫مــاذا حقق ـ َن؟ كيــف تنظــر لهــن املعارضــة؟ كيــف ينظــر لهــن النظــام‪ ،‬وكيــف ينظــرن‬
‫إىل أنفســهن؟‬
‫يبدو من الرضوري جدا ً القيام مبراجعة لوضع النساء السوريات‪ ،‬موقعهن االجتامعي‬
‫والسيايس‪ ،‬الدور الذي يقمن به ومدى تناسبه مع طموحاتهن‪ ،‬ومشاركتهن بالثورة‪.‬‬
‫تــراوح اإلحصائيــات حــول واقــع النســاء‪ ،‬ولكــن ال يوجــد إحصائيــات دقيقــة متام ـاً‬
‫حولهن‪ ،‬كام حول مجمل الوضع السوري‪ ،‬وذلك لغياب اإلمكانيات لتوثيق دقيق‬
‫ملا يجري والغموض وتعدد طرق االنتهاكات ومناطقها‪ ،‬والجهات التي تقوم بها‪.‬‬
‫فإن كان خالل سنتني ونصف من عمر الثورة‪ ،‬الدور والجهة واضحني (النظام)‬
‫والجهــات التــي تقــوم باملتابعــة والتوثيــق كثــرة‪ ،‬غــر أن هــذا أصبــح مــع الوقــت أكــر‬
‫صعوبــة‪ ،‬وأكــر تشــتتاً وتبعــرا ً‪ ،‬ويفتقــد للدقــة يف كثــر مــن الحــاالت‪ ،‬أو ال ميكــن‬
‫رصــده يف حــاالت كثــرة جــدا ً‪.‬‬
‫املــرأة الســورية اليــوم‪ ،‬بــن شــهيدة ومعتقلــة ونازحــة والجئــة‪ ،‬أرملــة أو أم ثــكىل‪،‬‬
‫هي الصور التي تطغى عند الحديث عنها‪ .‬وهي تختلف عن الصورة التي رأيناها‬
‫يف بدايــة الثــورة‪ ،‬املــرأة املتظاهــرة‪ ،‬املــرأة الثائــرة‪ ،‬املــرأة التــي تعــود إىل السياســة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪44‬‬

‫بقوة‪ .‬وتختلف كذلك حتى عن الصورة التي اكتسبتها بعد مدة ومع تزايد العنف من قبل النظام‪:‬‬
‫املرأة العاملة باإلغاثة‪ ،‬املرأة العاملة يف املجال الطبي‪ ،‬املرأة الناشطة عىل اإلنرتنت واملسؤولة‬
‫عــن التواصــل‪ ،‬وكذلــك املــرأة املوثقــة للجرائم واالنتهاكات‪.‬‬

‫نصف الكأس الفارغ‬


‫عند الحديث عن دور النســاء يف الثورة الســورية‪ ،‬يتم الحديث عن النســاء املحســوبات عىل‬
‫املعارضــة والثــورة‪ ،‬كنســاء ثائــرات‪ ،‬مشــاركات يف الثــورة‪ ،‬معتقــات‪ ،‬كاتبــات‪ ....،‬الــخ‪ .‬فأيــن هــو‬
‫النصــف اآلخــر لنســاء ســوريا؟‬
‫يصــح هنــا مــا بتنــا مقتنعــن بــه‪ ،‬أن الثــورة ورغــم كل ظالميــة املشــهد الحــايل‪ ،‬ومــا يبــدو مــن‬
‫انســداد آفــاق مســتقبل قريــب ومــرق ُحلـ َم بــه الســوريون املنتفضــون عــى الديكتاتوريــة‪ ،‬رغــم كل‬
‫هــذا الواقــع األليــم واملأســاوي‪ ،‬إال أنهــم امتلكــوا كثــرا ً مــن األدوات إلبــراز جوانــب مل تكــن موجــودة‬
‫قبــل الثــورة‪ ،‬وهــذا مــا يبــدو غائبـاً يف الجانــب اآلخــر الــذي مــازال خاضعـاً للنظــام‪.‬‬
‫هنــاك حيــث يتــم التعامــل مــع كتــل برشيــة يتــم تصنيفهــا بــن مــواالة ونازحــن‪ ،‬وحيث يبدو أن يد‬
‫القمــع مــا تــزال تطــال الجميــع دون اســتثناء‪ ،‬ومتنــع بــروز أي تغــر يف املجتمــع ولــو مــن ناحيــة القيــام‬
‫بدراســات عــن الواقــع الجديــد‪ ،‬أو إحصــاءات لألوضــاع الجديــدة‪.‬‬
‫هنــاك كل يشء بيــد النظــام وجامعاتــه‪ ،‬أو خاضع ـاً للرقابــة الشــديدة‪ ،‬وحيــث كل مــن يعمــل‬
‫ولــو بجانــب إنســاين بســيط‪ ،‬يشــعر أنــه ليــس آمنـاً مــن االعتقــال أو التهديــد أو التفكــر بالفــرار الرسيــع‬
‫خوفـاً مــن البطــش‪.‬‬
‫والنســاء النازحــات هــن األكــر هلع ـاً وخوف ـاً مــن إظهــار أي نَفــس مــن أي نــوع بســبب وجودهــن‬
‫االضطــراري يف بيئــة ليســت بيئتهــن‪ ،‬وغالب ـاً وحيــدات مــع أوالدهــن‪ ،‬إمــا أرامــل أو تــاركات للذكــور‬
‫البالغني وراءهن‪ ،‬فيعشن عىل الحد األدىن وكأنهن أقرب إال الالمرئيات أو يحلمن بأن يك َّن كذلك‪،‬‬
‫حتــى ال يضطــررن للنــزوح أو اللجــوء مــن جديــد‪.‬‬
‫ح ـ ّول النظــام النســاء املواليــات لــه إىل شــبيحات موافقــات عــى مــا يقــوم بــه‪ ،‬أو إىل‬
‫صامتــات عــى مــا يجــري مــع قبــول ضمنــي بــه‪ ،‬باعتبــاره حام يــة لهــن مــن العــدو املفــرض‪.‬‬
‫والقليــات جــدا ً مــن تجــرأن عــى القيــام بعمــل يفــرض أنــه عمــل إنســاين بعيــدا ً عــن كونــه معــارض‪،‬‬
‫مثــل العمــل باإلغاثــة ومســاعدة األعــداد الكبــرة مــن الفقــراء الجــدد الذيــن فرضهــن النــزوح أو رضب‬
‫املناطــق التــي ظهــرت فيهــا املعارضــة‪.‬‬
‫تتحــدث الكثــرات منهــن عــن رضورة وجــود غطــاء مــا للعمــل‪ ،‬مثــل العمــل تحــت مظلــة منظــات‬
‫تابعــة للنظــام كالهــال األحمــر‪ ،‬أو مظــات ذات طابــع دينــي كالكنائــس‪ ،‬أو جميعات خريية مرخصة‪.‬‬
‫وكل هــذه األشــكال تحــت الرقابــة األمنيــة املبارشة‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫كأ تايدحت ‪...‬ةريبك لامآ‬

‫االغتصاب كأداة سياسية إلخضاع املناطق الثائرة‬


‫ايند ةلوخ‬

‫كثــرا ً مــا نســمع عــن االغتصــاب بأعــداد كبــرة‪ ،‬وبطــرق وحشــية عنــد اقتحــام املناطــق املحــارصة‪،‬‬
‫أو عنــد االعتقــال‪ .‬عــى الحواجــز أو بعــد الخطــف‪.‬‬
‫وكان تقرير أعدته اللجنة السورية لحقوق اإلنسان قد وثق ماال يقل عن ‪ 1500‬حالة اغتصاب‪،‬‬
‫يف سياسة اعتمدها النظام السوري ملعاقبة املنخرطني يف الثورة وعائالتهم‪.‬‬
‫وقال تقرير للجنة تحت عنوان‪“ :‬جرائم خطف النساء واغتصابهن واالعتداء عليهن يف سورية”‬
‫ويغطــي الفــرة بــن آذار‪ /‬مــارس ‪ 2011‬ومتــوز‪ /‬يوليــو ‪« :2012‬عمــد النظــام الحاكــم يف ســورية عــى‬
‫اتبــاع سياســة العقوبــة الجامعيــة يف عمليــات الخطــف واالغتصــاب لنســاء املــدن والقــرى والحــارات‬
‫الثائــرة وجنــد لذلــك الكثــر من الشــبيحة»‪.‬‬
‫عــى الرغــم مــن اســتخدام االغتصــاب والعنــف تجــاه النســاء‪ ،‬لزيــادة وتعزيــز الجانــب الطائفــي‬
‫للقمــع‪ ،‬وقــد نجــح ذلــك لحــد بعيــد مــن قبــل النظــام‪ ،‬كــا مــن قبــل جانــب مــن املعارضــة‪ ،‬إال أن‬
‫هــذا ال ينفــي أن االغتصــاب اســتخدم كأداة سياســية أساسـاً‪ ،‬ولغــرض ســيايس بحــت‪ .‬فمــن خاللــه‬
‫اضطرت أعداد كبرية من الناس لرتك مدنها وقراها والنزوح منها واللجوء إىل دول أخرى كام حصل‬
‫يف جــر الشــغور يف بدايــة الثــورة‪ ،‬أو اضطــروا للنــزوح ملــدن أخــرى كــا حصــل يف حمــص وريفهــا‪.‬‬
‫العنف ضد النساء أداة يعزز من خاللها النظام سيطرته وشعور املنترص عند جامعاته‪ ،‬ويؤدي‬
‫غرضه يف إفراغ املدن من أهلها وبالتايل تسهيل اقتحامها تالياً‪.‬‬
‫العنف ضد النســاء والتعامل معهن كأداة إجبار وإخضاع للمجتمع‪ ،‬اســتخدمته قوى مرفوضة‬
‫أخــرى‪ ،‬كداعــش يف مدينــة الرقــة مــن خــال تشــكيل كتيبــة نســائية ُســميت بكتيبــة الخنســاء‪ ،‬الغــرض‬
‫منها مالحقة النساء وإجبارهن عىل التقيد بالرشوط التي وضعتها الدولة كطريقة معيشة جديدة‪،‬‬
‫وقــد قامــت هــذه الكتيبــة مبعاقبــة النســاء املخالفــات مــن خــال جلدهــن‪ ،‬وإجبارهــن عــى التقيــد‬
‫بالتعليامت‪ .‬وكان موقع «العربية» قد نرش تقريرا ً عن التعامل مع النساء يف مدينة الرقة ذكر فيه‪:‬‬
‫علمــت «العربيــة نــت» أن تنظيــم «داعــش» ممث ـاً بكتيبــة الخنســاء «الكتيبــة الداعشــية النســائية»‬
‫داهــم مدرســتني للبنــات «مدرســة حميــدة الطاهــر ومدرســة عبــد الهــادي كاظــم»‪ ،‬األســبوع املــايض‬
‫يف مدينــة الرقــة‪ ،‬واعتقلــت الكتيبــة ‪ 10‬فتيــات تــراوح أعامرهــن بــن ال ـ ‪ 15‬و‪ 17‬ســنة «املرحلــة‬
‫الثانويــة» واقتادتهــن خــارج املدرســة ملخالفتهــن (بحســب تعبــر عنــارص داعــش النســائية) القوانــن‬
‫التــي يضعهــا التنظيــم بالنســبة للبــاس املــرأة‪.‬‬

‫نساء الثورة وتحدي السياسة والعمل النسوي‬


‫حاولت التشكيالت السياسية التي أظهرتها الثورة‪ ،‬إضفاء طابع مدين وحضاري عىل عملها‪،‬‬
‫ويف رســالة موجهة للخارج قبل أن تكون للداخل‪ ،‬وبســبب ما فرضته النســاء من خالل مشــاركتهن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪46‬‬

‫الكبــرة بالثــورة بكافــة مجاالتهــا وخاصــة يف الجوانــب الســلمية منهــا‪ ،‬فــكان البــد مــن إرشاك النســاء‬
‫يف صنــع القــرار وبالتــايل إدخالهــن للتشــكيالت املوجــودة‪ ،‬فيــا يبــدو أنــه إرشاك أُجــرت هــذه‬
‫التشــكيالت عــى القيــام بــه لألســباب الســابقة‪.‬‬
‫رأينــا نســاء هيئــة التنســيق الوطنيــة‪ ،‬املجلــس الوطنــي‪ ،‬االئتــاف املعــارض‪ .‬ولكــن رأيناهــن كــا‬
‫اعتــاد معارضينــا مــن الذكــور عــى رؤيتهــن‪ ،‬مجموعــة قليلــة مــن النســاء بأطيــاف وطوائــف متعــددة‪،‬‬
‫يتــم إدخالهــن يف لحظــات الحســم األخــرة‪ ،‬كتشــكيلة البــد منهــا الكتــال الصــورة اإلجامليــة‪ ،‬ولكــن‬
‫بنســب واختيــارات ال تتوافــق مــع املشــاركة الحقيقيــة للنســاء‪ ،‬وبالتــايل ال متثــل الوجــه الحقيقــي‬
‫ملشــاركة النســاء بالثــورة‪.‬‬
‫تـ َّم التعامــل معهــن كــا اعتــاد النظــام عــى التعامــل معهــن‪ ،‬أي باعطائهــن منصاب غري ســيادية‪،‬‬
‫أو تحت إرشاف رجال آخرين‪.‬‬
‫كان متثيــل النســاء بنســب قليلــة بالعمــوم‪ ،‬وبجوانــب غــر سياســية بحتــة وإمنــا بأمــور تتعلــق‬
‫باملــرأة يف أكــر الحــاالت‪ .‬مــع إهــال لنســبة متثيــل النســاء‪.‬‬
‫وهو ما أشعر كثري من املعارضات القدميات والجديدات باإلجحاف وعدم اإلنصاف وبالتايل‬
‫تفضيل عدم املشاركة‪ ،‬واالكتفاء باملراقبة‪.‬‬
‫كان هــذا عــى الرغــم مــن املشــاركة الشــاملة للنســاء يف الثــورة‪ ،‬وهــو مابــرز يف الســنة والنصــف‬
‫األوىل للثورة بشكل كبري وواضح‪ ،‬من خالل املظاهرات – التنسيقيات – العمل اإلغايث – العمل‬
‫الطبــي ‪ -‬دفــع رضيبــة االعتقــال والتعذيــب واالغتصــاب‪ ،‬واملــوت بــكل أشــكاله إن باملعتقــات أو‬
‫نتيجــة القصــف ودك املــدن‪.‬‬
‫وعــى الرغــم مــن صعوبــة التوثيــق وصعوبــة تأكيــد الحــاالت إال أن مركــز توثيــق االنتهــاكات اســتطاع‬
‫أن يوثــق األرقــام التاليــة‪ :‬عــدد عــدد الشــهيدات ‪ -7096‬عــدد الشــهيدات الطفــات ‪ ،3517‬عــدد‬
‫املعتقــات ‪ - 186‬معتقــات طفــات ‪.74‬‬
‫بــرزت خــال الثــورة كثــر مــن التشــكيالت النســائية‪ ،‬وأكــر منهــا تجمعــات نســائية الهــدف منهــا‬
‫تقوية ومتكني النساء بسبب الظروف والتحديات الجديدة التي فرضها عليهن واقع أنهن وحديات‬
‫بــدون معيــل‪ ،‬أو مــع معيــل غــر قــادر عــى العمــل ألســباب متعــددة‪.‬‬
‫خرجت النساء بقوة من منازلهن‪ ،‬كام سبق لهن وخرجن أثناء التظاهرات والعمل الثوري‪ ،‬وما‬
‫زلــن عــى ذلــك‪ ،‬فهــن لســن مقاتــات‪ ،‬ولكنهــن قــادرات عــى العمــل وعــى تأمــن قــوت عائالتهــن‪،‬‬
‫وتأمــن دخــل ولــو بســيط يســاعدهن يف محنتهــن الجديــدة‪.‬‬
‫التنظيــات النســائية التــي ظهــرت قلــة منهــا مــن كان قــادرا ً عــى رصــد الواقــع الجديــد مــن حيــث‬
‫البحــث والدراســة‪ ،‬واقــراح الحلــول‪ ،‬ويبــدو ذلــك بســبب إمــا عقليــة التعامــل القدميــة مــع النســاء‪،‬‬
‫‪47‬‬ ‫كأ تايدحت ‪...‬ةريبك لامآ‬

‫أو بسبب صعوبات الحصول عىل دراسات شاملة يف األوضاع الجديدة للنساء‪ .‬فيبدو التشتت‬
‫ايند ةلوخ‬

‫مــن خــال عــدم التخصــص ومحاولــة تغطيــة كل جوانــب املشــاكل‪ ،‬وعــدم وضــوح رؤيــة للحــارض أو‬
‫املســتقبل ميكــن االســتناد إليهــا‪.‬‬
‫كــا حاولــت النســاء يف أكــر مــن فرصــة تشــكيل كتــل سياســية للضغــط عــى املعارضــة لفــرض‬
‫متثيــل مالئــم للنســاء يف هــذه التشــكيالت‪ ،‬لكنهــا مل تفلــح لحــد اآلن يف تحقيــق ذلــك‪ ،‬وكانــت‬
‫الصدمــة األكــر عنــد انتخابــات املجلــس الوطنــي الــذي كان خاليـاً مــن النســاء‪ ،‬ولكــن تــم إجبارهــن‬
‫تحــت تأثــر الضغــط النســوي واإلعالمــي عــى إرشاك خمســة نســاء يف املجلــس‪.‬‬

‫تحديات مضاعفة تواجهها املرأة السورية‬


‫كل هــذا الواقــع يفــرض علينــا كنســاء ســوريات يف ظــل الظــروف القاســية الحاليــة‪ ،‬واملســتقبل‬
‫الغامــض أن نعمــل بكثافــة وبتجميــع جهــود لنكــون عــى قــدر هــذه التحديــات‪ ،‬مــن خــال‪:‬‬
‫‪ -‬عــدم االكتفــاء بــدور العمــل اليومــي والفعــل املبــارش الــذي تتطلبــه منــه الثــورة‪ ،‬وإمنــا علينــا‬
‫املبــادرة إىل التخطيــط منــذ اآلن لتحصيــل نتائــج عــى قــدر التضحيــات‪.‬‬
‫‪ -‬التوعية بأهمية املشاركة السياسية واملشاركة يف صنع القرار يف مختلف التشكيالت التي‬
‫انبثقــت عــن الثــورة‪ ،‬إلبــراز دور املــرأة املعارضــة والقــادرة عــى اتخــاذ القــرارات السياســية املصرييــة‪،‬‬
‫وعــدم االكتفــاء بــدور املــرأة املهتمــة بقضايــا املــرأة فقــط‪ .‬فكثــرا ً مــا يتــم النظــر إىل حقــوق املــرأة‬
‫باعتبارهــا أمــرا ً ثانويـاً يتــم إغفالــه لصالــح قضايــا أكــر‪ ،‬وبالتــايل علينــا كنســاء املشــاركة بصنــع القــرار‬
‫إن أردنــا تحصيــل نتائــج شــاملة تتعلــق باملجتمــع واملــرأة ســوية‪.‬‬
‫‪ -‬إن حقوق املرأة جزء أسايس من حقوق اإلنسان‪ ،‬وإن كانت الثورة من أجل حقوق املهمشني‬
‫والضعفاء يف املجتمع‪ ،‬فيجب عدم إهامل حقوق املرأة‪ ،‬فال ميكن الثورة ضد ديكتاتوري للوقوع‬
‫يف أحضان ديكتاتورية من نوع آخر‪.‬‬
‫إن الثــورة تلقــي عبئـاً مضاعفـاً عــى النســاء يتعلــق مبوقعهــن كســوريات أوالً وكنســاء ثانيـاً‪ ،‬وهــو‬
‫مــا يفــرض علينــا التفكــر بــ‪:‬‬
‫‪ -‬تغيــر آليــات العمــل املتبعــة عنــد كثــر مــن الجمعيــات واملنظــات النســائية‪ ،‬ليكــون العمــل‬
‫أكرث شعبية ووصوالً للنساء من خالل التوعية والتواصل والتشارك‪ ،‬والثورة وما أنتجته فرصة كبرية‬
‫لخلــق مثــل هــذه الجســور وتقويتهــا‪.‬‬
‫‪ -‬التخلص من عقلية االحتكار والفوقية التي شابت الحركات النسائية لعقود طويلة‪ ،‬ونالحظه‬
‫اليوم يف ضعف متثيل النساء يف كل ما يتعلق بقضايا املرأة‪ ،‬وهذا ميكن الي متتبع مالحظته يف‬
‫املؤمترات والندوات والورش املقامة لصالح النساء‪ .‬وحقيقة استغرب كثريا ً عندما يقال ال يوجد‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪48‬‬

‫نساء لتمثيل ما يجري يف سوريا! كام استغرب تكرار نفس الوجوه لتمثيل الحراك‬
‫النسوي وكأننا نعيد إنتاج بنية بديلة ملا كان يجري سابقاً وباآلليات نفسها‪.‬‬
‫‪ -‬قضايا املجتمع واملرأة قضايا واحدة وتهم الجميع‪ ،‬لذلك علينا أن نتواصل‬
‫ونتشــارك مــع الجميــع‪ ،‬ومــع املختلفــن عنــا فكري ـاً وثقافي ـاً بشــكل أســايس‪ ،‬وإال‬
‫فســتبقى الحركــة النســوية حركــة نخبويــة غــر فاعلــة وغــر قــادرة عــى إحــداث التغيري‬
‫املرجــو‪.‬‬
‫تحد يــات كبــرة‪ ،‬وآمــال كبــرة تحكــم ا ملــرأة الســورية‪ ،‬وهــي تصــارع للبقــاء‪،‬‬
‫وللحقــوق‪ ،‬وللمســتقبل‪.‬‬
‫ليىل العودات‬

‫النزاع املسلح والعبء املجحف عىل النساء‬

‫تتعــرض النســاء ملـ ٍ‬


‫ـآس أليمــة وظلــم منهجــي يف حــاالت النــزاع املســلح ويتأثــرن‬
‫بنتائجــه طويلــة األمــد بشــكل مجحــف‪ .‬ويــؤدي قــر تحليــل النزاعــات املســلحة‬
‫عــى الجانــب الســيايس العســكري إىل تجاهــل األثــر الكبــر واملمتــد والحتمــي‬
‫الــذي يعــاين منــه املدنيــون ككل والنســاء بشــكل خــاص حيــث تــزداد املجتمعــات‬
‫بدائيـ ًة مــع امتــداد رقعــة النــزاع ومدتــه فتخــر النســاء عــى املــدى الطويــل معظــم‬
‫مكاســبهن االجتامعيــة بســبب ثقافــة العنــف التــي يولدهــا انتشــار الســاح وانهيــار‬
‫النظــام القانــوين وغيــاب ســيادة القانــون‪.‬‬
‫وتختلــف تجــارب النســاء عــن الرجــال يف حالــة الحــرب ســواء كانــوا مــن املدنيــن‬
‫الذيــن خــروا حقوقهــم وأمنهــم أمــام القــوات املســلحة‪ ،‬أم مــن النازحــن والالجئني‬
‫الذيــن خــروا إضافــة لذلــك حقهــم يف املواطنــة واالندمــاج الــذي مينحــه لهــم‬
‫املجتمــع املحــي مــا يزيــد مــن معاناتهــم االقتصاديــة واالجتامعيــة والنفســية‪ ،‬أم‬
‫من السياسيني وممثيل املجتمع املدين وعاميل اإلغاثة والناشطني واملدافعني‬
‫عن حقوق اإلنســان الذين يعانون من محدودية األثر أمام انتشــار الســاح ويجربون‬
‫عــى تحديــد أولويــات غالب ـاً مــا تســقط منهــا قضايــا النســاء‪ .‬مــن املهــم أن نالحــظ‬
‫أن الفــوارق الفيزيولوجيــة بــن الرجــل واملــرأة ذات أثــر هامــي يف اختــاف تجــارب‬
‫الجنسني يف الحروب‪ ،‬وباملقابل‪ ،‬نجد أن املفهوم االجتامعي للجنس والتقسيم‬
‫االجتامعــي للعمــل هــا العامــان األكــر تأثــرا ً يف العــبء اإلضــايف طويــل األمــد‬
‫الــذي يقــع عــى املــرأة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪50‬‬

‫يتناسب مناء املرأة وحريتها ومتكينها االجتامعي عكساً مع انتشار العنف سوا ًء داخل املنزل‬
‫أو خارجــه‪ .‬ويؤثــر انهيــار النظــام القضــايئ وغيــاب املؤسســات القانونيــة والقــوى الوطنيــة املســؤولة‬
‫عــن تطبيــق القانــون عــى أمــن النســاء بشــكل مجحــف لعــدة أســباب‪.‬‬
‫الســبب األول هــو أن الســاح متــاح بشــكل عــام للذكــور وليــس لإلنــاث‪ ،‬ومل تنشــأ يف ســوريا‬
‫حتى اآلن ظاهرة عامة يف تســليح النســاء باســتثناء بعض األمثلة التي ال ميكن تعميمها‪ ،‬أما معظم‬
‫الســاح ســواء اململــوك مــن قبــل النظــام وامليليشــيات التابعــة لــه أو القادمــة لدعمــه‪ ،‬أم مــن قبــل‬
‫الفصائــل املســلحة املعارضــة أو الفصائــل اإلســامية املتشــددة عــى الضفــة األخــرى‪ ،‬فيقــع يف‬
‫أيدي الذكور حرصا ‪.‬ومع الوقت يتحول هذا الســاح من أداة عنف جامعي إىل اداة عنف فردي‪،‬‬
‫حيــث تشــكل قطــع الســاح الفرديــة الصغــرة خطــرا ً مبــارشا ً عــى النســاء داخــل املنــزل مــن قبــل أفراد‬
‫األرسة الغاضبني أو اعدائهم الذين يرون ان االنتقام يؤيت أكله سوا ًء وقع عىل من يرغبون باالنتقام‬
‫منه أو عىل زوجته آو احدى أقاربه االناث“ الحامالت للرشف ‪”.‬وقد ذكر رئيس قوات حفظ السالم‬
‫يف الكونغــو ‪ -‬التــي تدعــى بعاصمــة االغتصــاب يف العــامل ‪ -‬أن الخطــر الــذي يقــع عــى النســاء يف‬
‫النــزاع املســلح يفــوق الخطــر الــذي يتعــرض لــه املقاتــل‪.‬‬
‫والســبب الثــاين هــو أن غيــاب القانــون واملؤسســات القانونيــة وتخــي الدولــة عــن دورهــا يف‬
‫حامية املدنيني وإدارة املجتمع وحفظ األمان وترسيخه يؤدي بالرضورة اىل تحول السالح الفردي‬
‫والجامعــي اىل املصــدر شــبه الوحيــد للقــوة واألمــن والعدالــة البديلــة‪ ،‬مــا ينتــج ردة فعــل متوقعــة‬
‫تتجــى يف نزعــة انتقاميــة تهــدف إىل تطبيــق العــدل مــن منظــور شــخيص وأخــذ مــا يعتقــد انــه حــق‬
‫باســتخدام القــوة ‪.‬وال تقتــر كارثيــة هــذه النزعــة عــى أنهــا حكــر عــى الذكــور فحســب‪ ،‬بل انها تعزز‪،‬‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬فكرة منطية تربط العدل والقوة بالسالح وترتك كل من ال ميلك القوة الفيزيائية‬
‫الكافيــة( النســاء وكبــار الســن واألطفــال وذوي االحتياجــات الخاصــة )أو ال ميلــك الرغبــة مبامرســة‬
‫العنف بشكل شخيص( النساء مرة أخرى والناشطون السلميون والسلميون األيديولوجيون والقضاة‬
‫واملعلمــون وغريهــم )خــارج معادلــة القــوة والتمكــن واتخــاذ القــرار‪.‬‬
‫أمــا الســبب الثالــث فهــو التكلفــة االقتصاديــة للنــزاع‪ .‬فالتســليح والعــدوان والهــدم عمليــات‬
‫مكلفــة جــدا‪ ،‬وغالبــا مــا يتــم متويلهــا عــى حســاب املشــاريع اإلمنائيــة والصحيــة والتعليميــة ‪.‬وهــذا‬
‫األثــر املضاعــف مــن الهــدم والقتــل والحصــار مــن جهــة‪ ،‬ونقــص او انعــدام متويــل املشــاريع التنمويــة‬
‫والصحية والتعليمية من جهة أخرى يتجىل مبارش ًة يف فقر شديد وطويل األمد يعاين منه املدنيون‬
‫أوال ‪.‬ويطــرأ ذلــك ايضــا عندمــا تخــر الدولــة ‪ -‬املتخلّيــة عــن دورهــا اصــا ‪ -‬ســيطرتها عــى األرض‬
‫وتقــع املــوارد تحــت ســيطرة الفصائــل املقاتلــة فغالبــا مــا تســتخدم هــذه املــوارد لغايــات التســليح‬
‫أو ألعــال اإلغاثــة الطارئــة وليــس لشــؤون التنميــة‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫نلا ىلع فحجملا ءبعلاو حلسملا عازنلا‬

‫ال يؤثــر الفقــر عــى الرجــال والنســاء بنفــس الطريقــة‪ ،‬فقــد بــدأت األمــم املتحــدة مؤخــرا ً بدراســة‬
‫ادوعلا ىليل‬

‫ظاهــرة تأنيــث الفقــر‪ ،‬وهــي ظاهــرة تتجــى يف ثالثــة معطيــات‪ ،‬أولهــا ان النســاء تشــكلن الغالبيــة‬
‫العظمــى مــن فقــراء العــامل‪ ،‬وأن هــذه النســبة يف ازديــاد‪ ،‬وأخــرا ً ان هــذا االزديــاد يتــم بالتــوازي مــع‬
‫ازديــاد عــدد األرس التــي تعيلهــا نســاء فقــرات ‪.‬وهــذه الظاهــرة ليســت ناتجــة عــن نقــص الدخــل فقــط‬
‫بــل عــن حرمــان املــرأة مــن تحقيــق مــا تتيحــه امكانياتهــا وعــن التحيــز القائم عىل الجنس الذي متارســه‬
‫الدولــة ويتبنــاه املجتمــع‪.‬‬
‫ويختلــف فقــر األنثــى او األرس التــي تعيلهــا اإلنــاث بشــكل جوهــري عــن فقــر الذكــر او األرس التــي‬
‫يعيلهــا الذكــور ‪.‬إذ يرتبــط فقــر الذكــر بشــكل مبــارش بالدخــل ويتوقــف أساســيا عــى توافــر العمــل‪ ،‬أمــا‬
‫يف حالــة األنثــى فــا يــدرأ وجــود املــال خطــر الفقــر عنهــا وعمــن تعيلهــم ألنهــا يف كثــر مــن األحيــان ال‬
‫تتمكــن مــن اتخــاذ القــرارات املفصليــة وتحتــاج اىل دعــم ذكــور األرسة( االنتقــال مــن مــكان غــر آمــن‪،‬‬
‫القــرارات املتعلقــة بتعليــم األطفــال‪ ،‬رشاء العقــارات او اســتثامرها )… فــا يحــد مــن قــدرة الرجــل‬
‫عــى العمــل إال توافــر الفرصــة وقدرتــه الفيزيائيــة عــى الضلــوع بهــا‪ ،‬بينــا تخضــع املــرأة ملجموعــة‬
‫إضافيــة مــن الضغــوط‪ ،‬منهــا الرفــض االجتامعــي لقيامهــا ببعــض األعــال أو املهــن‪ ،‬وعــدم وجــود‬
‫مــن يرعــى االطفــال يف غيابهــا‪ ،‬ورضورة الحصــول عــى موافقــة ذكــور األرسة عــى عملهــا يف بعــض‬
‫األحوال والخطر الفيزيايئ الذي يحد من قدرتها عىل االنتقال يف املناطق الخارجة عن السيطرة أو‬
‫املفتقدة لسيادة القانون ‪.‬وتتحول هذه األعباء من ضغوط اىل موانع عندما يستعمل االغتصاب‬
‫واالنتهــاك الجنــي كأحــد اســلحة الحــرب كــا حــدث يف الكثــر مــن النزاعــات الداخليــة كالبوســنة‬
‫والكونغو وكشمري‪ ،‬حيث يتحول املنزل أو امللجأ أو مكان السكن الذي تقطنه النساء اىل مايشبه‬
‫مركــز االعتقــال الهمجــي بكامــل مواصفاتــه‪.‬‬
‫وتحتــل ســوريا يف هــذا الشــأن مكانــة متدنيــة جــدا‪ ،‬حيــث يبــن مــؤرش عــدم املســاواة بــن‬
‫الجنســن‪ ،‬وهــو مقيــاس مركــب يحــدده برنامــج األمــم املتحــدة اإلمنــايئ ليعكــس التفــاوت يف‬
‫اإلنجــازات بــن املــرأة والرجــل مــن حيــث الصحــة اإلنجابيــة والتمكــن وســوق العمــل‪ ،‬أن ســورية تقــع‬
‫يف املرتبة ‪ 118‬من أصل ‪ 148‬دولة تم تقييمها بدون اي تقدم منذ عام ‪ 2000‬وقد دعم القانون‬
‫السوري وقرارات املحاكم املفرسة ظاهرة تأنيث الفقر فحولوها من نتيجة غري مرغوبة إىل قاعدة‬
‫متفــق عليهــا ومهــدوا لقبولهــا اجتامعيــا‪ ،‬حيــث نــص قانــون األحــوال الشــخصية عــى انتقــال الواليــة‬
‫عــى نفــس اليتيــم ومالــه إىل األقربــاء مــن الذكــور حتــى إن وجــدت األم‪ ،‬فجــردوا بذلــك األمهــات‬
‫األرامــل وهــن مــن اكــر الفئــات اســتضعافا يف املجتمعــات الفقــرة مــن حقهــن يف التــرف مبصــر‬
‫األرسة كــا حولــوا املــرأة بذاتهــا ‪ -‬وإن كانــت ال تخضــع للقوامــة نظريــا ‪ -‬اىل أحــد رعايــا نظــام الواليــة‬
‫التعســفي وذلــك لحرمانهــا مــن الحضانــة يف حــال االنتقــال مــن مــكان انعقــاد عقــد الــزواج بــدون‬
‫الحصــول عــى موافقــة الــويل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪52‬‬

‫وقــد أخطــأ القضــاة الرشعيــون حــن بــرروا هــذا التقييــد غــر الدســتوري لحريــة فــرد كامــل الحقــوق‬
‫بتامشــيه مــع مفهــوم القوامــة االســامي الــذي تبنــاه القانــون الســوري عندمــا رهــن عمــل املــرأة عــى‬
‫موافقة زوجها ورهن التزامها برأيه باإلنفاق ‪.‬والسبب يف ذلك ان الخلل القانوين الذي عانت منه‬
‫النساء يف سورية أدى اىل انتفاء املربر الديني لقوامة الذكر‪ ،‬ففي حني ربطت القاعدة الرشعية‬
‫القوامــة باالنفــاق وتبعهــا قانــون االحــوال الشــخصية والقانــون املــدين الســوري فأوجــب عــى الذكــور‬
‫االنفاق عىل النساء مبقابل قوامة مادية ومعنوية عليهن وعىل اوالدهن‪ ،‬فإن التطبيق القارص لهذا‬
‫املفهــوم أدى باملحاكــم الســورية اىل الحكــم مببالــغ متناهيــة يف الصغــر كنفقــة ملزمــة‪ ،‬ويف معظــم‬
‫األحــوال ال تصــل مبالــغ نفقــة األخــت واألم والزوجــة التــي تقرهــا املحاكــم اىل الحــد الــذي يصعد بهن‬
‫فــوق خــط الفقــر الــذي حــدده برنامــج األمــم املتحــدة اإلمنــايئ ( ‪١،٢٥‬دوالرا يف اليــوم) مــا يجعــل‬
‫املــرأة التــي اجــرت عــى خســارة حقهــا يف العمــل مقابــل انفــاق غــر كاف تحتمــل ســلبيات نظامــن‬
‫فكريني مختلفني يتمثالن بالقوامة من جهة والتمييز والحد من الحرية من جهة أخرى‪ ،‬دون التمكن‬
‫مــن الحصــول عــى الشــق االيجــايب الــذي كان يفــرض ان يتجســد باألمــن االقتصــادي والفيزيايئ‪.‬‬
‫كــا أن الــدور الجديــد الناشــئ للنســاء كمعيــات لــأرس التــي غــاب عنهــا الذكــور يف القتــال‬
‫او يف االعتقــال ال يتصاحــب مــع مســاحة أكــر للعمــل والكســب والتنقــل‪ ،‬بــل عــى العكــس‪ ،‬تــزداد‬
‫املســؤوليات وتــزداد معهــا األعبــاء لتبقــى النســاء ومــن يعلــن مــن األطفــال ويتامــى االرس التــي فقــدت‬
‫األبويــن وكبــار الســن يف ضيــق مــن العيــش ويتحولــن اىل عرضــة مســتمرة ملضايقــات الذكــور مــن‬
‫املســلحني أو الخارجــن عــن القانــون‪.‬‬
‫والعامــل األخــر الــذي يعــد يف الوقــت نفســه ســبباً ونتيج ـ ًة لــردي أوضــاع النســاء يف حــاالت‬
‫التحول السيايس املرتبط بالعنف هو النقص الشديد يف مشاركة النساء يف النشاط السيايس‬
‫واالداري واالجتامعــي عــى كافــة األصعــدة ويف مختلــف املســتويات‪ .‬وإن كان الجــدل القانــوين‬
‫الطويــل حــول عــدم وجــود نســاء كفــؤات قــد دحــض يف معظــم املجتمعــات‪ ،‬فهــو جــدل ضئيــل يف‬
‫الوضــع الســوري بشــكل خــاص‪ ،‬حيــث تبــن مــؤرشات التنميــة البرشيــة الصــادرة عــن برنامــج األمــم‬
‫املتحــدة اإلمنــايئ إن نســبة اإلنــاث الســوريات الــايت حصلــن عــى تعليــم عــا ٍل تفــوق نســبة الذكــور‬
‫‪(1025‬أنثى لكل ‪ 1000‬ذكر )وبالتايل ال مجال لالعتداد بغياب الكفاءة‪ .‬مع ذلك أدى التهميش‬
‫االجتامعــي إىل انخفــاض شــديد يف نســبة التمثيــل الربملــاين )‪ 142‬أنثــى لــكل ‪ 1000‬ذكــر) بــدون‬
‫تغيــر منــذ عــام ‪ ،2005‬ويف نســبة النســاء العامــات يف الســلك القضــايئ )‪ ،(13.38%‬ويف‬
‫الــكادر التعليمــي الجامعــي )‪.(20%‬‬
‫ـن إعــان ومنهــج عمــل بكــن الــذي تبنــاه املؤمتــر العاملــي الرابــع للمــرأة يف عــام‪1995‬‬
‫وقــد بـ ّ‬
‫باســتفاضة كيــف ان املشــاركة السياســية للمــرأة وخاصــة يف مناصــب صنــع القــرار يف الحكومــات‬
‫‪53‬‬ ‫نلا ىلع فحجملا ءبعلاو حلسملا عازنلا‬

‫والهيئــات الترشيعيــة يســهم يف إعــادة تحديــد األولويــات السياســية‪ ،‬ويــؤدي إىل إدراج بنــود جديــدة‬
‫ادوعلا ىليل‬

‫يف جداول األعامل السياسية من شأنها أن تعكس وأن تعالج ما للمرأة من اهتاممات وقيم وتجارب‬
‫تتعلــق بجنســها‪ ،‬ويتيــح رؤيــة منظــورات جديــدة بشــأن قضايــا الــرأي العــام السياســية ‪.‬وكذلــك تــؤدي‬
‫مشــاركة املــرأة يف الحيــاة السياســية عــى قــدم املســاواة دورا ً بالــغ األهميــة يف عمليــة النهــوض‬
‫باملــرأة بشــكل عــام ‪.‬وأخــرا ً قــدم املنهــج بالرباهــن القانونيــة والعمليــة ان الســلم املحــي والوطنــي‬
‫واإلقليمــي والعاملــي ســيبقى عصيـاً عــى التحقيــق بــدون النهــوض باملــرأة التــي متثــل قــوة أساســية‬
‫يف مجــاالت القيــادة وحــل النزاعــات وتعزيــز الســلم الدائــم عــى جميــع املســتويات‪.‬‬
‫ومــن الجديــر بالذكــر ان مشــاركة النســاء يف الســلك القضــايئ الوطنــي والــدويل كان لهــا عميــق‬
‫األثــر يف إدراك االنتهــاكات الواقعــة عــى النســاء ووضعهــا يف إطارهــا القانــوين الصحيــح ومــن ثــم‬
‫تجرميهــا وعقابهــا‪ ،‬ومــن أهــم األمثلــة أن وجــود قاضيــة أنثــى (نــايف بــاي التــي تشــغل اليــوم منصــب‬
‫مفوضة األمم املتحدة السامية لحقوق االنسان) يف كادر قضاة املحكمة الدولية الخاصة برواندا‬
‫أدى للوصــول اىل تعريــف واســع وعــادل وفعــال لجرميــة االغتصــاب التــي بقيــت بــدون تعريــف لقرون‬
‫دون أن يأبــه لهــا أجيــال مــن خــرة القضــاة الذكــور‪.‬‬
‫النتيجة أنه ال ميكننا االنتظار حتى ينتهي النزاع لنبدأ بالعمل عىل احتواء آثاره السلبية الضخمة‬
‫عىل النســاء‪ ،‬ال بد ان نبدأ من اليوم بالعمل املوجه والفعال‪ ،‬ويبدأ ذلك بالتوقف عن املســاومة‬
‫حول املشاركة الفعالة للنساء عىل جميع األصعدة‪ ،‬ترشيعا يف املجالس الدستورية والترشيعية‬
‫املعارضــة‪ ،‬وتنفيــذا يف املجالــس املحليــة والحكومــات املؤقتــة والدامئــة‪ ،‬وقضــاء يف املجالــس‬
‫القضائيــة واملحاكــم املحليــة ويف قــوات الرشطــة والضوابــط العدلية ومأموريات الســجون‪ .‬وكذلك‬
‫ال بد من حث املبادرات واملنظامت الوطنية والدولية عىل اخذ تجارب النســاء ومشــاكلهن عىل‬
‫محمــل الجــد والعمــل الفعــال عــى دعمهــن وتأهيلهــن للمشــاركة التامــة‪ ،‬كــا يجــب دعــم وتأهيــل‬
‫املؤسســات النســوية املحليــة عــى العمــل والتقــدم واملشــاركة يف أيــة مفاوضــات مســتقبلية‬
‫أومبــادرات لحــل ســلمي للنــزاع‪.‬‬
‫إن متكــن النســاء يســتوجب تعامــا أكــر شــمولية مــع الجرائــم الواقعــة ضدهــن وضــد كافــة‬
‫املدنيــن‪ ،‬فعلينــا اوال محاربــة سياســة االفــات مــن العقــاب التــي انتهجهــا النظــام الســوري عــر‬
‫اعفــاء موظفيــه واملتعاونــن معــه مــن العقوبــات الجزائيــة عــى الجرائــم التــي ارتكبوهــا أثنــاء تنفيــذ‬
‫عملهــم‪ ،‬وعــزز ذلــك عــر القضــاء االســتثنايئ ومحاكــم امليــدان العســكرية ومحاكــم االرهــاب‪ ،‬ويكــون‬
‫ذلك مبحاربة هذا النهج من قبل النظام وضامن عدم تكراره من القوى املعارضة او اي حكومات‬
‫مســتقبلية‪ .‬وكذلــك يتوجــب علينــا عندمــا ننظــر يف الجرائــم الواقعــة عــى النســاء ان نتجــاوز ثقافــة‬
‫العقــاب نحــو ثقافــة االصــاح‪ ،‬فالعدالــة العقابيــة املتمحــورة حــول املجــرم ال الضحيــة تؤثــر ســلبا‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪54‬‬

‫عــى النســاء‪ ،‬وبالرغــم مــن أن ايجــاد املجــرم ومحاكمتــه وإخضاعــه للعقوبــة هــو أمــر‬
‫شــديد األهميــة لضــان عــدم تكــرار الجرائــم وتحقيــق الــردع الخــاص للمجــرم ذاتــه‬
‫والــردع العــام للمجتمــع‪ ،‬إال ان قــر مفهــوم العدالــة عــى هــذا املبــدأ يتغــاىض‬
‫عــن األذيــة الشــديدة التــي تتعــرض لهــا الضحيــة‪ ،‬وألن النســاء يعانــن مــن ضغــوط‬
‫إضافيــة خاصــة يف حــاالت النــزاع مــن الفقــر واملســؤولية اإلضافيــة يف إعالــة األرسة‬
‫والعنــف الــذي يحــد مــن قدرتهــن عــى التعليــم والعمــل والتنقــل واملشــاركة الفعالة‬
‫يف اتخــاذ القــرار فــإن غيــاب العدالــة املتمحــورة حــول الضحيــة قبــل الجــاين‪ ،‬يوثــر‬
‫عليهن بشكل غري متناسب ويحد من منائهن ودورهن وقدرتهن عىل تجاوز الرض‬
‫النفيس واالجتامعي الذي تعانينه بسبب اإليذاء وكذلك عىل متكنهن من القيام‬
‫بــدور فاعــل يف املجتمــع‪.‬‬
‫ال شك ان املرأة السورية دفعت الثمن غاليا يف السنوات املاضية وخرست‬
‫الكثــر مــن املكاســب التــي حققتهــا منــذ االســتقالل‪ ،‬ولكــن علينــا اال ننــى انهــا‬
‫حققت هذه املكاسب بالرغم من النظام السوري ال بفضله‪ ،‬وأن النظام املستبد‬
‫القمعــي ‪ -‬وإن دعــم بعــض املســاواة الشــكلية يف التعليــم والدخــل والعمــل ‪ -‬اال‬
‫انــه حــرم املــرأة مــن دورهــا الحقيقــي عندمــا هــدم املؤسســات الدميقراطيــة منهجيــا‬
‫وافسد القضاء واملؤسسات التعليمية والترشيعية والتنفيذية التي تكون مجتمعا‬
‫يحــرم أفــراده ‪.‬وعلينــا أال ننــى أيضــا أن كثــرا مــن االســتغالل الــذي عانتــه النســاء‬
‫يف ســورية ســيويل مــع ســقوط النظــام الــذي حــول ســوريا اىل غابــة بدائيــة االدوات‬
‫يفلــح فيهــا القســاة مــن الذكــور وتختبــئ النســاء‪.‬‬
‫سأحاول هنا ان اختم أيجابا‪ ،‬وسأذكر أنه بعكس األمم‪ ،‬فإن النساء ينهضن من‬
‫اكرث االماكن بؤسا وقسوة يف اوقات قياسية اذا اعطني املساحة والخيار‪ ،‬فبالرغم‬
‫من ان كل امرأة رواندية نجت من اإلبادة الجامعية التي حصلت عام ‪ 1994‬وهي‬
‫بعمر أكرب من ‪ 12‬ســنة كانت قد تعرضت لالغتصاب حســبام ذكر تقرير «سياســة‬
‫النجاة من االنتهاكات الجنسية يف رواندا» الصادر عام ‪ ،1998‬مع ذلك شكلت‬
‫النســاء الروانديــات ‪ ٪ 56.6‬مــن أعضــاء الربملــان يف عــام‪ ، 2008‬واســتطعن يف‬
‫ســنوات التحــول القليلــة ان يســاهمن يف بنــاء وطــن أكــر احرتامــا للنســاء فحاربــن‬
‫ونجحــن إىل أن حصلــت األرامــل عــى الحــق يف األرث واســتثامر األرايض وزادت‬
‫النساء علام ورفاهاً ومناء‪ .‬ولنذكر ان النساء الاليت اغتصنب يف رواندا‪ ،‬أو تعرضن‬
‫لالســتعباد الجنــي والحمــل القــري يف البوســنة‪ ،‬أو اســتهدفن وقتلــن وعانــن‬
‫‪55‬‬ ‫نلا ىلع فحجملا ءبعلاو حلسملا عازنلا‬

‫الشــتات يف فلســطني وســوريا هــن الــايت بــدأن البنــاء‪ ،‬وان نســاء تيمــور الرشقيــة‬
‫ادوعلا ىليل‬

‫هــن مــن أعــاد التعليــم وبــدأن مشــاريع العمــل يف القــرى‪ ،‬ونســاء الســودان وجنــوب‬
‫الســودان هــن مــن وجــدن طــرق التواصــل بعــد حــرب اهليــة طويلــة ثــم بــادرن للتجمــع‬
‫برغم الخالفات الدينية والعرقية‪ ،‬ونســاء ليربيا هن من حمى مخيامت اللجوء يف‬
‫غانــا‪ ،‬ونســاء افغانســتان قاومــن قمــع طالبــان وعلّمــن البنــات رسا‪ ،‬هــؤالء هــن مــن‬
‫يصنــع الســام ويبنــي األمــم عندمــا يتعــب املقاتلــون مــن الهــدم‪.‬‬
‫خرض اآلغا‬

‫كتابة املرأة – تأنيث العالم‬

‫عندمــا قــرر الفــرزدق أن املــرأة إذا قالــت شــعرا ً يجــب أن تُذبــح‪ ،‬فإنــه كان أحــد‬
‫الخاضعني واملؤسسني لنسق شعري عريب صارم يعترب الشعر من نصيب الذكور‬
‫فقط‪ ،‬وال مكان للمرأة فيه‪ .‬عندما قال جملته الشهرية يف امرأة قالت شعرا ً‪« :‬إذا‬
‫صاحــت الدجاجــة صيــاح الديــك فاذبحوهــا» فــإن النقــاد العــرب آنــذاك‪ ،‬وحتــى‬
‫العــر الحديــث‪ ،‬مل ينظــروا إىل تلــك املقولــة ‪ -‬النســق نظــرة نقديــة‪ ،‬بــل تــم تداولها‬
‫بــيء مــن االنتشــاء‪.‬‬
‫قســم النقــاد العــرب الشــعراء إىل طبقــات أعالهــا وأكرثهــا حاميــة هــي طبقــة‬
‫ّ‬
‫الفحــول‪ ،‬مــع مــا تحيــل إليــه مفــردة الفحــل مــن ذكوريــة قصــوى وســلطة متف ّجــرة‪ .‬يف‬
‫العربيــة يوصــف الرجــل شــديد البــأس بالفحــل‪ ،‬وكذلــك «زيــر النســاء»‪.‬‬
‫ارتــاح تاريــخ الشــعر العــريب لهــذه التقســيامت واعتنــى بهــا وطورهــا‪ ،‬فأضــاف‬
‫إليهــا ووضــع حراسـاً عــى بوابتهــا فــا يدخلهــا إال مــن حقــق رشوط النســق الذكــوري‬
‫‪ -‬رشوط الفحولــة‪ .‬ومــن هــذه الــروط ليــس الصياغــة أو الصناعــة الشــعرية واملهارة‬
‫يف األداء فقط‪ ،‬بل ظهور التسلط يف القول‪ ،‬فلم يدخل ذو الرمة‪ ،‬كمثال‪ ،‬مملكة‬
‫يهج كام ينبغي للفحول‪ ،‬كذلك تم استبعاد عمر بن أيب‬
‫الفحولة ألنه مل ميدح ومل ُ‬
‫ربيعــة لتغزلــه بالنســاء‪ ،‬وهــذا يعتــر نوعـاً مــن الضعــف اإلنســاين ال تدرجــه الغطرســة‬
‫الذكوريــة الشــعرية يف أبوابهــا‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫لاعلا ثينأت – ةأرملا ةباتك‬

‫وقــد أُعجــب شــعراء العــر الحديــث ونقــاده بهــذه الفكــرة وراقــت لهــم ألنهــا تد ّعــم ذكوريتهــم‬
‫آلا رضخ‬

‫وتعاليهم عن الناس وحركتهم يف اتجاه الحياة‪ ،‬فأعادوا صياغتها مرة تلو األخرى‪ ،‬وحدّثوها بحيث‬
‫تفتح أبوابها لبعض شعراء الحداثة‪ ،‬وتغلقه يف وجه آخرين! كأن الزمن البطريريك للشعر مل يتغري‪،‬‬
‫بــل عــى العكــس تــم تعميقــه وتعميــق البنيــة التــي تنتجــه وتعيــد إنتاجــه بــا نهايــة‪.‬‬
‫ومبــا أن الفحولــة تنطبــق عــى الذكــر دون األنثــى‪ ،‬ومبــا أن الشــعر مــن عمــل الذكــور جري ـاً عــى‬
‫مقولــة الفــرزدق وطبقــات الشــعراء‪ ،‬فإننــا نتذكــر اإلقصــاء غــر املســبوق الــذي قــام بــه شــعراء الحداثــة‬
‫بحــق الشــاعرة ســنية صالــح‪ ،‬إذ كيــف ألنثــى أن تدخــل مملكــة الذكــور املس ـ ّورة باألســاك الشــائكة‬
‫والكهربــاء؟ كيــف للدجاجــة أن تصيــح صيــاح الديــك إذا ً؟!‬
‫فلــو أحصينــا عــدد الشــاعرات اللــوايت ظهــرن خــال رحلــة الشــعر العــريب الحديــث مقارنــة بعــدد‬
‫الشــعراء الذكــور‪ ،‬فــإن النتيجــة ســتكون شــبه انعــدام لهــن‪.‬‬
‫لكــن األمــر أحيان ـاً يخــرج عــن الســيطرة‪ .‬ففــي العــام ‪ 1946‬قامــت نــازك املالئكــة بنــر قصيــدة‬
‫ليست عىل مقاس عمود الذكر املنتصب‪ ،‬بل عىل تفعيالت جديدة من شأنها أن تدمر األعمدة‬
‫الرخاميــة أو البازلتيــة للقصيــدة العربيــة منــذ نشــوئها‪ .‬تلــك القصيــدة هــي «الكولــرا»‪ ،‬وقــد كانــت‪،‬‬
‫حقـاً‪ ،‬كولــرا أصابــت الشــعر العــريب يف مقتــل‪ .‬فقــام حــراس الهيــكل بشــن حملــة كادت تكون دموية‬
‫عــى «املؤامــرة» التــي تحــاك ضــد املــوروث‪.‬‬
‫رت أعمدتــه فقــط‪ ،‬بــل كانــت‬
‫مل تكــن مجــرد قصيــدة تجــرأت عــى تاريــخ الشــعرية العربيــة فك ـ ّ‬
‫قصيــدة مــن امــرأة! وهنــا يتضاعــف حجــم الكارثــة‪ .‬لكــن باعتبــار أن الكولــرا معديــة‪ ،‬رسعــان مــا انتــر‬
‫(املرض) الجديد يف جسد الشعر العريب وصار هو األصل‪ ،‬معلناً نشوء الشعر العريب الحديث‪.‬‬
‫وال أجد حاجة لعرض املعارك التي نشبت جراء ذلك‪ ،‬فتاريخ الشعر يذكرها جيدا ً‪ .‬لكن املهم‬
‫يف األمــر أنهــا مل تكــن مجــرد حركــة تجديديــة فحســب‪ ،‬بــل أراهــا تنطــوي عــى فكــرة تأنيــث الشــعر‪ ،‬إذ‬
‫يف تحطيم عمود الفحولة الشعرية العربية تحطيم ملقوالته الذكورية أيضاً‪.‬‬
‫لكــن لــن ميــر األمــر دون عقــاب‪ ،‬فــأن تتجــرأ أنثــى عــى نســق موغــل يف القــدم والرســوخ‪ ،‬ومحمــي‬
‫بتاريــخ كامــل مــن التســلط والطغيــان‪ ،‬ذلــك خطــر‪ ،‬ويجــب إعــادة األمــور إىل نصابهــا‪ .‬فانــرى‬
‫املنخرطــون يف حركــة الشــعر الحديــث‪ ،‬ممثلــة هــذه املــرة بشــعراء حركــة الحداثــة التــي انبثقــت يف‬
‫خمســينات القــرن العرشيــن‪ ،‬ووضعــوا قوانــن للشــعر ذكوريــة بحتــة‪ ،‬وأرغمــوا املالئكــة عــى الرتاجــع‬
‫عــن الكثــر مــن مقوالتهــا‪ ،‬وعــاد الشــعر إىل عموديــة مــن نــوع آخــر‪ ،‬وإىل فحوليــة بشــكل آخــر‪.‬‬
‫وكان عــى الشــعر أن ينتظــر عقــودا ً طويلــة ليبــدأ مبحــاوالت تأنيثــه مــن جديــد‪ .‬خــال فــرة‬
‫التســعينيات مــن القــرن املــايض‪ ،‬بــزغ عــدد مــن الشــاعرات يضاهــي‪ ،‬بــل يفــوق مــا ظهــر منهــن عــى‬
‫امتــداد تاريــخ العــرب‪ ،‬أو مــا وصــل إلينــا منــه‪ .‬خــال هــذه الفــرة كانــت قصيــدة النــر تتســع وتتمــدد‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪58‬‬

‫وكان شــعراؤها يقفــون عــى الجهــة املقابلــة لشــعراء الحداثــة‪ .‬هــؤالء األخــرون كتبــوا القصيــدة‬
‫االســتعالئية‪ ،‬وحشــدوها بقضايــا كــرى‪ :‬كالتحريــر‪ ،‬والبعــث‪ ،‬والتقــدم‪ ،‬والتخلــف‪ ،‬والحضــارة‪...‬‬
‫إلخ‪ .‬كتبوا عن اإلنســان القوي‪ ،‬القادر‪ ،‬الســوبرمان‪ ،‬وأســبغوا عىل الشــاعر صفات األلوهة والنبوة‪،‬‬
‫فيــا كانــت الحيــاة اليوميــة للنــاس وتطلعاتهــم وحركتهــم نحــو الحيــاة غائبــة عنهــم‪ .‬فيــا اهتــم شــعراء‬
‫قصيــدة النــر‪ ،‬غالب ـاً‪ ،‬باإلنســان يف حركتــه اليوميــة‪ ،‬باألشــياء والتفاصيــل التــي تعنــي البــر يف‬
‫حياتهــم‪ ،‬رمبــا‪ ،‬أكــر مــا تعنيــه امليتافيزيقيــا ومصائــر البرشيــة والثقــوب الســوداء‪ ،‬مل ينظــروا إىل‬
‫اإلنســان الســوبر‪ ،‬بــل إىل اإلنســان العــادي‪ ،‬نظــروا إىل الهشاشــة ال الصالبــة والصالفــة‪ ،‬نظــروا إىل‬
‫األرض ال الســاء‪ ،‬إىل وحــل الشــارع واألرصفــة‪ ،‬نظــروا إىل االنكســارات الشــخصية والعامــة‪ ،‬ال إىل‬
‫وهم االنتصار عىل الاليشء‪ ...‬وهكذا‪ .‬اتخذ ذلك كله شــكل األداء اللغوي البســيط‪ ،‬اتخذ شــكالً‬
‫مضــادا ً لبالغــة الحداثــة وداالّتهــا ومدلوالتهــا الســابعة‪ ،‬اتخــذ شــكالً لغويـاً هــو أقــرب إىل لغــة النــاس‬
‫مــن لغــة التق ّعــر والتح ـدّب والخطابــة‪...‬‬
‫يف هــذا الســياق ظهــرت الشــاعرة األنثــى بتعــداد كبــر وبــروز الفــت‪ ،‬إذ وجــدت أن القصيــدة‬
‫النــت‪ ،‬واســتدارت زواياهــا‪ ،‬وراحــت تقــول مــا يشــبه قــول األنثــى أيضـاً‪ ،‬ال مــن حيــث التشــي والرثثــرة‬
‫وبــث الهمــوم والدمــوع كــا هــي الصــورة النمطيــة عــن كتابــة النســاء‪ ،‬بــل مــن حيــث التخ ّفــف مــن‪ /‬أو‬
‫انهيــار العجرفــة اللفظيــة وصالفــة القــول وقســوته‪ ،‬والكتابــة املضــادة للطغيــان والتس ـلّط واإلرغــام‪.‬‬
‫وهــذا يقــع يف الجوهــر مــن فكــرة جعــل العــامل أنثــى‪ ،‬أو فكــرة تأنيــث القصيــدة والعــامل‪.‬‬
‫وإذا بــدأت مرحلــة التســعينات الشــعرية التــي أرشت إليهــا بزخــم أنثــوي‪ ،‬فــإن هــذا مل يكــن عــى‬
‫نحــو مســتقل‪ ،‬أو منفصــل‪ ،‬أو متاميــز عــن القصيــدة التــي يكتبهــا الشــاعر الذكــر‪ ،‬مل يكــن ضمــن حركــة‬
‫أو توجــه نســويني‪ ،‬مل يكــن ألهــداف خاصــة تتعلــق باملــرأة وحقوقهــا ونضاالتهــا‪ ،‬مل يكــن شــعرا ً دعويـاً‬
‫إذا ً‪ .‬بل ظهر ضمن التوجه الشعري لتلك املرحلة‪ ،‬ضمن األداء اللغوي لها‪ ،‬ضمن ذات املقوالت‬
‫وذات الطروحــات‪ ...‬بعبــارة أخــرى‪ :‬مل يكــن شــعر األنثــى يف تلــك املرحلــة يتســم بســات خاصــة‪،‬‬
‫إن مــن حيــث اللغــة أو مــن حيــث املعنــى‪ ،‬تجعــل القــارئ يالحــظ‪ ،‬ببســاطة‪ ،‬أنهــا كتابــة أنثــى‪ ،‬رمبــا‬
‫باســتثناء كاف املخاطبــة! وهــذا األمــر ظهــر عــى نحــو أكــر جــاء خــال الثــورة الســورية مــن خــال‬
‫بعــض الكتابــات الشــعرية املتناثــرة هنــا وهنــاك والتــي تنطــوي عــى قيمــة فنيــة‪ ،‬إذ إن التطلعــات‬
‫املشــركة للســوريات والســوريني‪ ،‬وآالمهــم املشــركة‪ ،‬والواقــع املتغطــرس الــذي يهــرس الجميــع‬
‫بالتســاوي‪ ،‬جعــل التعبــر واألداء الشــعريني مشــركاً يف الكثــر مــن الخصائــص بــن شــعراء هــذا‬
‫التوجــه جميعـاً‪ :‬نســاء ورجــاالً‪.‬‬
‫قد يبدو األمر ليس جيدا ً وفق وجهة نظر بعض تيارات النسوية التي تبحث عن اختالفات بني‬
‫كتابة األنثى وكتابة الرجل ناجمة عن اختالف الظروف الثقافية واالجتامعية والسياسية التي تع ّرض‬
‫‪59‬‬ ‫لاعلا ثينأت – ةأرملا ةباتك‬

‫لهــا كال الجنســن‪ .‬لكــن‪ ،‬يف العمــق‪ ،‬قــد يكــون لهــذا آثــار إيجابيــة تتعلــق مبــا يســمى‬
‫آلا رضخ‬

‫«الجنــدر»‪ .‬إذ ضاعــت املســافة التــي خلقتهــا تلــك الظــروف بــن األنثــى والذكــر‪،‬‬
‫فلــم يعــد هــذا األخــر متحك ـاً مبصائــر الشــعرية‪ ،‬ومل تعــد هــي واقعــة ضمــن أرس‬
‫النمط الكتايب التي وضعتها الثقافة البطريركية فيه‪ ،‬فاملرأة والرجل كالهام يكتبان‬
‫ضمــن الــروط ذاتهــا واملعايــر ذاتهــا‪ ،‬ومــا مييــز بينهــا هــو مــا مييــز بــن شــاعر وآخــر‬
‫وشــاعرة وأخــرى‪ ،‬إنــه األداء واملهــارة وغــر ذلــك مــن تقوميــات النقــاد واملشــتغلني‬
‫يف حقــل الثقافــة النقديــة‪.‬‬
‫لو امتلكت الجرأة لسميت هذه الكتابة بالكتابة الجندرية‪ ،‬ولكنني ال أستسيغ‬
‫رع واحتــاالت الخطــأ‪ ،‬إذ‬
‫إطــاق اصطالحــات نهائيــة وتنطــوي عــى يشء مــن التـ ّ‬
‫مل يــزل مثــة مســافات علينــا اجتيازهــا لنــدرك مــا الجديــد الــذي ســيكون‪ ،‬ال ســيام‬
‫أننا نعيش ثورة كربى يف سورية‪ ،‬ومن عادة الثورات أن تغري املفاهيم والتوجهات‬
‫والبنى‪...‬‬
‫إن خصائــص الكتابــة الشــعرية الجديــدة التــي هــي‪ ،‬كــا ذكــرت‪ ،‬ضــد الطغيــان‪،‬‬
‫وتنتمي لألفق الداليل لحركة الناس وأشيائهم اليومية‪ ،‬واملهمالت‪ ،‬واملرتوكات‪...‬‬
‫هــي خصائــص ذات صلــة وثيقــة بفكــرة تأنيــث العــامل‪ ،‬وهــذه ليس لها عالقة بجنس‬
‫الشــاعر‪ :‬ذكــرا ً كان أم أنثــى‪ ،‬بــل لهــا عالقــة وطيــدة بهــذه الخصائــص إن كان الشــاعر‬
‫أنثــى أو ذكــرا ً‪ .‬مثــة الكثــر مــن كتابــات النســاء توطــد وتعمــق نســق الهمينــة وتعمــل‬
‫ضمنــه‪ ،‬وهــذا عمــل الذكــورة ذاتــه حتــى لــو قامــت بــه أنثــى‪ ،‬والعكــس يصــح متاماً‪ ،‬إذ‬
‫مثــة الكثــر مــن الشــعراء الذكــور يواجهــون بــا هــوادة ذلــك النســق‪ ،‬فهــم عــى هــذا‬
‫يعملــون بــا هــوادة عــى تأنيــث العــامل‪ ،‬إن هــذه املفارقــات العميقــة هــي ذاتهــا مــا‬
‫مل أجــرؤ عــى تســميتها‪ :‬كتابــة جندريــة‪.‬‬
‫أيمن بكر‬

‫املرأة‪ ،‬الثورة‪ ،‬واملرونة الرشيرة‬

‫املرونة الرشيرة‬
‫أود هنــا أن أختــر مصطلحـاً أقرت ُحــه بغــرض محــارصة آليــة ثقافية مضطردة تتصل‬
‫بعمليــة التأويــل وإعــادة التأويــل املســتمرة للنصــوص الدينيــة ولوقائــع التاريــخ‪.‬‬
‫املصطلــح الــذي أود اقرتاحــه هــو «املرونــة الرشيــرة» وميكــن ترجمتــه «‪sinister‬‬
‫‪.»flexibility‬‬
‫تظهــر آليــة املرونــة الرشيــرة يف أي رصاع ســيايس تكــو ُن فـ ُ‬
‫ـرق اإلســام الســيايس‬
‫وتياراته جزءا ً فيه‪ .‬وميكن تعريف املرونة الرشيرة بوصفها‪ :‬القدرة عىل تأويل وإعادة‬
‫تأويــل‪ ،‬أو اســتخدام التأويــات القامئــة‪ ،‬لــكل مــن النصــوص الدينيــة واألحــداث‬
‫التاريخيــة بطــرق تناقضيــة طبق ـاً ملصالــح الســلطة بأنواعهــا املختلفــة‪ :‬دينيــة أو‬
‫اجتامعيــة أو سياســية عــى يــد جامعــات أو تيــارات تســعى الحتــكار املقــدس‪ .‬هذه‬
‫العمليــة مــن التأويــل وإعــادة التأويــل واســتخدام التأويــات املوجــودة تقــدم نفســها‬
‫يف كل مــرة بوصفهــا الصــورة الوحيــدة للحقيقــة الدينيــة املطلقــة التــي تعــر عــن‬
‫القصــد اإللهــي‪.‬‬
‫املرونــة الرشيــرة هــي إذن آليــة تحــول مســتمر لذلــك ميكــن أن توصــف باملرونــة‪،‬‬
‫لكنهــا عمليــة تــكاد تخلــو مــن اإلبــداع إال قلي ـاً؛ وهــي رشيــرة ألنهــا تعتمــد باألســاس‬
‫عــى التالعــب بالتأويــات املتناقضــة املتوفــرة يف خزانــة الثقافــة العربيــة عــر آليــة‬
‫‪61‬‬ ‫رشلا ةنورملاو ‪،‬ةروثلا ‪،‬ةأرملا‬

‫أخــرى هــي اإلظهــار واإلخفــاء مــع االدعــاء يف كل مــرة بــأن التأويــل املختــار الــذي يتــم التحــول عــى‬
‫ركب نميأ‬

‫أســاس منــه هــو القصـ ُد اإللهــي والحقيقــة املطلقــة‪.‬‬


‫لكــن املرونــة الرشيــرة تختلــف بصــورة جذريــة عــن تحــوالت املواقــف السياســية التــي هــي ديــدن‬
‫األحــزاب السياســية املدنيــة‪ .‬املواقــف السياســية تعلــن نســبيتها مــن البدايــة وتحتكــم ملجموعــة‬
‫واضحــة مــن املصالــح‪ ،‬وهــي يف ذلــك تخضــع للقوانــن الوضعيــة التــي تنظــم العمليــة السياســية‬
‫يف كل دولــة‪ .‬كــا ترتبــط التحــوالت السياســية بعمليــات يشــرك فيهــا جمــوع النــاس بصــورة أساســية‬
‫بــدءا ً مــن عمليــات االقــراع وانتهــاء بقــرارات الهيئــات السياســية العليــا ألي حــزب أو منظمــة أو دولــة‪.‬‬
‫أمــا املرونــة الرشيــرة فهــي تحــوالت تنفــي عــن ذاتهــا صفــة التحــول‪ ،‬بــل ت َ َّدعــي يف كل مــرة أنهــا تقــدم‬
‫الحقيقــة الدينيــة التــي يحمــل مفاتيحهــا مجموعــة مــن القامئــن عــى النصــوص املقدســة وعــى‬
‫التاريــخ‪ ،‬أو الذيــن أقامــوا أنفســهم عليهــا‪ ،‬لذلــك متنــح املرونــة الرشيــرة أصحابهــا حصانــة دينيــة‬
‫يف كل مــرة يغــرون فيهــا وجهتهــم ويتالعبــون فيهــا مبخــزون التأويــات الواســع للنــص الدينــي‪ .‬وهــم‬
‫يف ذلــك ميارســون أقــى درجــات الديكتاتوريــة والتســلط ليــس عــى مخالفيهــم أو غــر املنتمــن‬
‫لجامعتهم فحسب‪ ،‬بل عىل أتباعهم ممن يشكلون القواعد أيضاً؛ إذ تبقى عملية التوجيه التأوييل‬
‫والتحــول التابــع لــه سياســياً يف يــد مجموعــة محــدودة مــن كهنــة الجامعــة الدينيــة املعينــة‪ ،‬التــي ال‬
‫تقبــل مــن قواعدهــا ســوى بالســمع والطاعــة املطلقــن‪ .‬التشــابه الوحيــد العميــق بــن التحــوالت‬
‫السياســية واملرونــة الرشيــرة هــو أن كل منهــا يقــوم مبــارشة عــى مجموعــة مــن املصالــح السياســية‬
‫واالقتصاديــة واالجتامعيــة ال عالقــة للقيــم األخالقيــة الروحيــة بهــا‪.‬‬
‫املرونة الرشيرة تعبري عن التحول املستمر الذي ميثل القانون الكوين واإلنساين األعظم‪ ،‬لكنها‬
‫تنفــي عــن نفســها النســبية يف كل مــرة تقــوم فيهــا بتحــول‪ .‬وهــي قامئــة عــى أمريــن‪ :‬األول هــو مســاحة‬
‫نصيــة قوامهــا التاريــخ القابــل للتأويــل وإعــادة التأويــل طبقــا لطريقــة روايتــه‪ ،‬والقــرآن الــذي يعــد النــص‬
‫األكــر انفتاحـاً يف الثقافــة العربيــة‪ ،‬والــذي تعــرض لعــدد كبــر مــن عمليــات التأويــل وإعــادة التأويــل‬
‫عــى مــدار قــرون‪ ،‬وهــي التأويــات املســتخدمة وقــودا ً للرصاعــات الداميــة التــي شــهدها‪ ،‬ومل يــزل‬
‫يشــهدها‪ ،‬التاريــخ اإلســامي‪ ،‬بطريقــة ميكــن آلليــة املرونــة الرشيــرة أن تكــون عنوانـاً لهــا‪.‬‬
‫األمــر الثــاين الــذي تقــوم عليــه املرونــة الرشيــرة هــو اعتامدهــا عــى واقــع حضــاري مــأزوم يتســم‬
‫بذاكرة ثقافية منهارة‪ ،‬ويعاين من آفات أساســية متنع من صنع تراكم معريف وإرســاء قواعد علمية‬
‫واضحــة ميكنهــا تعريــف عمليــات التحــول السياســية التــي تكســبها املرونــة الرشيــرة ثــوب إطــاق ال‬
‫وجــود لــه‪ .‬تقــدم التيــارات الدينيــة التــي تســتخدم املرونــة الرشيــرة تالعباتهــا الســاذجة بالنصــوص‬
‫الدينيــة وبتاريــخ املنطقــة اســتنادا ً إىل تلــك املســاحة الواســعة مــن التأويــات املتضاربــة للنصــوص‬
‫وللتاريــخ كليهــا‪ ،‬والتــي ال يعــرف عنهــا عــوام النــاس شــيئاً‪ ،‬مــا يكشــف عــن أن الوجــه اآلخــر للمرونــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪62‬‬

‫الرشيــرة هــو الذهــول الحضــاري عــن الــذات الثقافيــة والجهــل مبكوناتها‪ ،‬ذهول وجهل يأتيان كنتيجة‬
‫مبــارشة للفســاد الســيايس‪.‬‬
‫حــن نحــاول اســتخدام آليــة املرونــة الرشيــرة فيــا يتصــل بقضايــا املــرأة والنظــام الجنــويس‬
‫‪ gender system‬يف املنطقــة العربيــة‪ ،‬سنكتشــف أن قضايــا املــرأة االجتامعيــة والسياســية‬
‫واالقتصاديــة تخضــع يف ثقافتنــا ألقــى درجــات املرونــة الرشيــرة مــن قبل التيارات الدينية تحديدا‪.‬‬
‫إن املرونــة الرشيــرة تدعــم التفكــر املجنســن)*( ‪ ،gendered thinking‬الــذي يــريس أفــكار‬
‫التفرقــة والرتاتبيــة القيميــة بــن الجنســن كبداهــات‪ .‬تعــرف «إيــن أنــور» ‪ Etin Anwar‬التفكــر‬
‫املجنســن بأنــه‪:‬‬
‫«هــو عمليــة إنتــاج وإعــادة إنتــاج االســتقبال العــام للحقيقــة فيــا يتصــل بكيــف تكــون القواعــد‬
‫)**(‬
‫املنظمــة للرجــال والنســاء مالمئــة يف املجتمــع املســلم»‬
‫وميكــن أن نفــرض أن املرونــة الرشيــرة هــي جــزء رئيــس مــن عمليــة تعديــل القواعــد املتحكمــة يف‬
‫الرجــال والنســاء ويف الرتاتبيــات االجتامعيــة والسياســية واالقتصاديــة بينهــا ضمــن املجتمعــات‬
‫العربيــة‪.‬‬
‫ميكننا أن نرضب مثاالً من الثورات العربية التي اشــتعلت منذ نهاية العام ‪ 2010‬يف املنطقة‬
‫العربية‪.‬‬

‫املرونة الرشيرة‪ :‬مثال قريب‬


‫طبقــا ملفهــوم الحريــم الرشقــي الــرايث وطبق ـاً للتفكــر املجنســن الــذي يؤمــن بالرتاتبيــة بــن‬
‫الرجــل واملــرأة وواليــة الرجــل‪ ،‬ميكــن النظــر للمــرأة بوصفهــا هــي قلــب مفهــوم «الــرف» الذكــوري‪.‬‬
‫مــن هنــا ال يتصــور أحــد أن يقبــل رشقــي أن تهــان امــرأة أو ميــس جســدها الــذي يعــد تجســيدا ً ملفهــوم‬
‫الرشف كام يعد التجسيد اإلشكايل الزدواجية الرجال يف الرشق األوسط يف تعاملهم من الغريزة‬
‫الجنســية‪ ،‬فالرجــل الرشقــي يبــدو وقــد تعايــش مــع فكرتــن متناقضتــن تتصــان بجســد املــرأة‪ :‬يتــوق‬
‫إليــه ويفــزع منــه يف الوقــت نفســه‪ ،‬ناهيــك عــن أن يكــون هــذا الرشقــي ممــن ينتمون للتيارات الدينية‬
‫التي تفرض حصارات متنوعة األسلوب والشدة عىل جسد املرأة ووجودها االجتامعي تحت راية‬
‫املحــرم الدينــي الــذي يهــدف إىل حفــظ الــرف‪ ،‬والكرامــة‪.‬‬

‫*) التفكري املجنسن‪ ،‬أو التفكري املجندر هي اقرتاحات لرتجمة تعبري ‪ gendered thinking‬بصورة مخترصة‪.‬‬

‫**) ‪Etin Anwar, Gender and Self in Islam (Routledge, London and New York, 2006) p 16‬‬
‫والنص املرتجم هو‪:‬‬
‫‪Gender thinking refers to the process of producing and reproducing public reception‬‬
‫‪of the truth of how men and women’s roles are appropriated in the Muslim world.‬‬
‫‪63‬‬ ‫رشلا ةنورملاو ‪،‬ةروثلا ‪،‬ةأرملا‬

‫لكن شــيئاً غريباً حدث يف ميدان التحرير بوســط القاهرة يوم ‪ 18‬كانون األول‪/‬ديســمرب ‪،2011‬‬
‫ركب نميأ‬

‫حــن قامــت مجموعــة مــن عســاكر الجيــش بســحل فتــاة ترتــدي حجاب ـاً‪ ،‬ونتيجــة للشــد واملقاومــة‬
‫انفلتت العباءة من املنتصف ليظهر جســد البنت عارياً‪ ،‬ثم يقوم بعدها أحد الجنود تحت أعني‬
‫الكامــرات بدهــس جســد الفتــاة العــاري‪.‬‬
‫انتفــض الشــعب املــري كلــه بســبب هــذه الحادثــة‪ ،‬وتدفقــت الحشــود عــى ميــدان التحريــر‬
‫باســتثناء التيــارات الدينيــة وعــى رأســها اإلخــوان املســلمون والســلفيون‪.‬‬
‫يف هذا التوقيت كانت املفاوضات دائرة يف الخفاء بني اإلخوان تحديدا ً واملجلس العسكري‬
‫الحاكم‪ ،‬مل يكن مبقدور اإلخوان أن يقفوا أي موقف مضاد للمجلس؛ إذ بدا ساعتها أن التفاهامت‬
‫تــكاد تنتهــي لصالــح اإلخــوان‪ ،‬وهــو مــا اتضــح بعــد ذلــك حــن تركــت لهــم الفرصــة كاملــة للتالعــب‬
‫باملرصيــن مســتغلني عــوريت الفقــر والجهــل خاصــة يف املناطــق الجنوبيــة مــن مــر‪ ،‬لتنتهــي‬
‫تفاهامتهــم بفــوز أحــد أعضــاء جامعــة اإلخــوان برئاســة مــر‪ .‬لكــن كيــف اســتطاع اإلخــوان املســلمون‬
‫تربيــر تخاذلهــم عــن نــرة الفتــاة التــي متــت تعريتهــا ودهســها أمــام الجميــع؟‬
‫هنــا تتبــدى آليــة املرونــة الرشيــرة التــي تخــدم مصالــح الجامعــة املتحكمــة يف تأويــل النصــوص‬
‫الدينية والتاريخ كليهام‪ .‬لقد انطلق متحدثو الجامعة يف صوت واحد يلقون اللوم عىل الضحية؛‬
‫جميعهــم ردد الســؤال نفســها‪ :‬مــا الــذي أىت بهــا إىل هــذا املــكان مــن األســاس؟ وهنــا ظهــرت «وقــرن‬
‫يف بيوتكــن وال تربجــن تــرج الجاهليــة األوىل» (ســورة األحــزاب‪ ،)33/‬وتعالــت مجــازات مــن قبيــل‬
‫«املــرأة هــي الــدرة املكنونــة‪ ،‬والجوهــرة املصونــة‪ ،‬ولبــاب الــرف‪ ...‬الــخ»‪ .‬الجميــع مــن متحــديث‬
‫اإلخــوان والســلفيني‪-‬الذين كانــوا عــى وفــاق مــع اإلخــوان ســاعتها ‪ -‬تدثــروا مبفهــوم املــرأة املكنونــة‬
‫الرشيفــة التــي ال تــرح بيتهــا ألي ســبب‪ ،‬وامتــأت إذاعاتهــم بتأويــات قصــص تاريخــي وآيــات لتأييــد‬
‫هــذا املعنــى بوصفــه الحقيقــة الدينيــة عــن وضعيــة املــرأة يف املجتمــع‪ ،‬أي إن هــذا الفهــم الــذي‬
‫يحــارص املــرأة ويحظــر عليهــا التواجــد يف املجــال العــام هــو‪ ،‬بحســب إيتــن أنــور‪ ،‬الحقيقــة املالمئــة‬
‫لوضعيــة املــرأة يف املجتمــع املســلم والتــي تــؤدي مخالفتهــا إىل رشور عظيمــة يكــون خــروج املــرأة‬
‫من بيتها هو األصل فيها‪ .‬وصل األمر إىل حدود غري إنســانية‪ ،‬حني حاول بعض متحديث الجامعة‬
‫أن يســتخدم لــون حــاالت صــدر الفتــاة التــي ظهــرت أمــام الجميــع بعــد تعريتهــا‪ ،‬لإليحــاء بأنهــا فتــاة‬
‫لعــوب رمبــا يكــون مــن األجــدر واألكــر حكمــة أن يتــم إقصاؤهــا مــن جنــة مفهــوم الــرف الــذي متثــل‬
‫املــرأة قلبــه‪.‬‬
‫لن ُقــم اآلن بنقلــة حــادة ملــا بعــد خلــع الرئيــس اإلخــواين عــى يــد الجيــش بعــد موجــة ثوريــة خــرج‬
‫فيهــا عــدد مــن املرصيــات واملرصيــن وصفتــه وكاالت األنبــاء بأنــه أكــر حشــد بــري يف التاريــخ‬
‫اإلنســاين‪ ،‬وقــد ظهــرت فيــه املــرأة بشــكل بــارز يف الثالثــن مــن يونيــو ‪ .2013‬انقلــب الســحر عــى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪64‬‬

‫الســاحر وعــادت العالقــة بــن اإلخــوان واملؤسســة العســكرية املرصيــة إىل ســابق‬
‫عهدهــا منــذ العــام ‪ .1954‬انطلقــت مظاهــرات اإلخــوان يف كل مــكان‪ ،‬وفوجــئ‬
‫الجميع أن نســاء اإلخوان وبناتهم يتصدرون املظاهرات وأســبغت عليهن يف هذا‬
‫التوقيــت صفــة «الحرائــر» التــي انتزعــت بقســوة عــن فتــاة التحريــر‪ .‬ومــا يعنينــا هنــا‬
‫هــو كيــف تــم تكييــف هــذا الخــروج للمــرأة التــي مل يــزل كالمهــم عــن رضورة صيانتهــا‬
‫يف البيــت يــرن يف آذاننــا‪.‬‬
‫أحســب أن هــذه الفــرة قــد أعطــت مثــاالً فــذا ً للمرونــة الرشيــرة‪ ،‬حيــث انقلــب‬
‫خطــاب فقهــاء اإلخــوان عــى مواقــع التواصــل ويف الجرائــد حــول املــرأة ودورهــا يف‬
‫املجتمــع ليتالعــب دومنــا خجــل بالتاريــخ وبالنصــوص الدينيــة‪ .‬تــم اســتدعاء آيــات‬
‫املساواة بني الرجال والنساء مام يحتويه القرآن‪ ،‬وتم استدعاء القصص التاريخي‬
‫الذي يظهر املرأة املسلمة محاربة إىل جوار الرجال منذ عهد الرسول والصحابة‪،‬‬
‫والخطــر هــو أن املوقــف يف الحالتــن قــد تــم تقدميــه بوصفــه صحيــح الديــن؛ أي‬
‫الحقيقــة املطلقــة‪.‬‬
‫املرونة الرشيرة هي آلية أصيلة يف وعي التيارات الدينية العربية ومامرساتها‪،‬‬
‫مــا ميثــل جــزءا ً مــن أزمــة الوعــي العــريب بعامــة؛ األزمــة التــي نتجــت عــن التجهيــل‬
‫املنظــم والوصايــة السياســية التــي متنــع الشــعوب مــن مامرســة تجاربهــا يف الحيــاة‪.‬‬
‫الناتج هو وعي مرتبك‪ ،‬غري قادر عىل إدراك ذاته وتنظيمها‪ ،‬وعي مهموم باليومي‬
‫اآلين‪ ،‬مــا يصــل إىل حــدود فقــدان الذاكــرة‪ .‬وهــو مــا ســمح لهــذه التيــارات أن تبتــدع‬
‫آليــة املرونــة الرشيــرة وأن تســتخدمها باطمئنــان‪.‬‬
‫د‪ .‬خولة حسن الحديد‬

‫ملاذا يُعادي العرب مفهوم «الجندر»؟‬

‫ـت قــد أجريــت حــوارا ً مــع د‪ .‬نجــاح القابــي رئيــس جامعــة‬


‫يف عــام ‪ 2000‬كنـ ُ‬
‫الفاتــح الليبيــة والرئيــس الفخــري لجمعيــة التاريــخ الطبيعــي يف إســبانيا ودول شــال‬
‫إفريقــي‪ ،‬وكانــت د‪ .‬نجــاح قــد ترأســت الوفــد الليبــي الــذي حــر مؤمتــر بكــن الذي‬
‫ُعقد عام ‪1995‬م تحت عنوان‪« :‬املســاواة والتنمية والســلم»‪ ،‬وهو املؤمتر الذي‬
‫ختمت به األمم املتحدة القرن املايض‪ ،‬والذي اعتربه كثري من العرب مبن فيهم‬
‫النساء نتيجة لكل املؤمترات السابقة وما أنتجته من إرهاصات حقيقية ملا يصبو‬
‫إليــه الغــرب مــن رســم أيديولوجيــا مو ّحــدة للمــرأة يف جميــع أنحــاء العــامل وهــو مــا‬
‫أســمته د‪ .‬نجــاح بــ» عوملــة املــرأة»‪.‬‬
‫وحســب مــا ذكرتــه يل د‪ .‬القابــي أنــه كان للوفــود العربيــة الحــارضة يف بكــن‬
‫الكثري من التحفظات التي وصلت حد الرفض وانسحاب عدد من الوفود احتجاجاً‬
‫عــى وثيقــة املؤمتــر ورفــض التوقيــع عليهــا‪ ،‬وحســب مــا ورد يف كثــر مــا كُتــب عــن‬
‫املؤمتــر ومــا أشــارت إليــه د‪ .‬القابــي هــو مــا ورد مــن دعــوات مؤمتــر بكــن‪ ،‬فبعــد‬
‫العودة إىل نص الوثيقة الختامية للمؤمتر‪ ،‬والوثيقة املعدّة له والتي تقع يف (‪)177‬‬
‫صفحة و(‪ )362‬مادة نجد الوثيقة تدعو إىل نزعات متعددة وتتضمن هذه النزعة‬
‫فرض فكرة حق اإلنسان يف تغيري هويته الجنسية (من ذكر إىل أنثى ومن أنثى إىل‬
‫ذكــر أو أن يختــار أن يكــون بينهــا؛ ألن الوثيقــة تقـ ّر االعــراف بالشــواذ)‪ ،‬مــع مــا يتبــع‬
‫ذلــك مــن تغيــر يف األدوار املرتتبــة عــى الفــرد‪ ،‬ومــن ث َـ َّم االعــراف رســمياً بالشــواذ‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪66‬‬

‫واملخنثــن‪ ،‬واملطالبــة بــإدراج حقوقهــم ضمــن حقــوق اإلنســان‪ ،‬ومنهــا حقهــم يف الــزواج وتكويــن‬
‫أرس‪ ،‬والحصول عىل أطفال بالتبني أو تأجري البطون‪ ،‬وكان اعرتاض الوفود العربية املشــاركة عىل‬
‫كل هــذا كونــه يتعــارض مــع الهويــة اإلســامية للمجتمعــات العربيــة‪ ،‬فبالنســبة للحضــارة اإلســامية‬
‫ال يــزال الديــن اإلســامي ُيثــل مرجعيــة لغالبيــة النــاس ونظام ـاً لحياتهــم‪ ،‬خاصــة يف قضايــا األرسة‬
‫واألحــوال الشــخصية ويف قضايــا الفكــر والثقافــة واالعتقــاد‪ ،‬واعتــر عــدد مــن الذيــن حــروا املؤمتــر‬
‫مــن الغربيــن أن اإلســام عائــق يف تنفيــذ الوثيقــة‪ ،‬وهــو مــا يزعــج األمــم املتحــدة والغــرب؛ يف حــن‬
‫رأت الوفــود العربيــة أن خطــر هــذه االيديولوجيــا البديلــة يتمثــل يف اقتحــام مناطــق كان يُنظــر إليهــا‬
‫باعتبارهــا خاصــة أو شخصي ــة‪ ،‬ويُنظّــم أوضاعهــا بشــكل أســايس الديــن والتقاليــد واألعــراف املحليــة‬
‫والثقافات الخاصة‪ ،‬أي أن االقتحام والهدم لهذه االيديولوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة‬
‫والوجــود‪ ،‬وهــي محــور الكيــان اإلنســاين والوجــود البــري‪ ،‬وبذلــك تـ ّم اعتبــار ذلــك ســعياً للســيطرة‬
‫عــى الجوانــب االجتامعيــة والثقافيــة وللهويّــة‪.‬‬
‫إشــاريت إىل مؤمتــر بكــن ومــا أحدثــه مــن ردة فعــل يف األوســاط العربيــة‪ ،‬ومــن قبــل النخبــة مــن‬
‫النســاء العربيــات تحديــدا ً‪ ،‬فيــه إحالــة مبــارشة إىل مفهــوم «الجنــدر» و»الجندريــة» ومــا يلـ ّم بهــا مــن‬
‫ســوء ســمعة يف العــامل العــريب‪ ،‬وبشــكل خــاص يف البيئــات التقليديــة امل ُحافظــة مــن جهــة‪ ،‬ويف‬
‫رشعــن‪ ،‬ولعــل ردة الفعــل التــي مل تتوقــف حتــى اللحظــة مــن قبــل‬
‫أوســاط رجــال الديــن والقضــاء وامل ّ‬
‫هــؤالء عــى طروحــات «الجنــدر» تص ـ ّور حجــم املخــاوف والقلــق مــن تــداول هــذا املفهــوم‪ ،‬وحجــم‬
‫ســوء الفهــم أيض ـاً‪ ،‬لكــن ليــس هــذا كل يشء‪ ،‬ففــي طيــات هــذا الرفــض امل ُطلــق للمفهــوم وداللتــه‬
‫وطروحاته أثريت العديد من املخاوف املبالغ فيها أحياناً‪ ،‬ومنها ما يُشكل ذريعة للوقوف يف وجه‬
‫مطالب املرأة العربية وحقها يف املســاواة من جهة‪ ،‬ومنها ما تعود أســبابه إىل طبيعة الطرح ومن‬
‫طرحــه والطريقــة التــي تـ ّم مــن خاللهــا الرتويــج لــه مــا أثــار الكثــر مــن الشــكوك والريبــة مــن جهة أخرى‪.‬‬

‫مفهوم «الجندر»‪ :‬سوء الفهم والطرح‬


‫يعترب مفهوم النوع أو (الجندر) من املفاهيم الجديدة التي برزت بصورة واضحة يف الثامنينات‬
‫من القرن املايض‪ ،‬وقدم هذا املفهوم عرب العلوم االجتامعية من خالل دراسة الواقع االجتامعي‬
‫والســيايس‪ ،‬كمحاولــة لتحليــل األدوار واملســؤوليات واملعوقــات لــكل مــن الرجــل واملــرأة‪ ،‬ويقابــل‬
‫مفهــوم «النــوع» أو الجنــدر مفهــوم الجنــس‪ ،‬والفــرق بــن االثنــن أن مفهــوم الجنــس يرتبــط باملميــزات‬
‫البيولوجية املحددة التي متيز الرجل عن املرأة‪ ،‬والتي ال ميكن أن تتغري حتى إن تغريت الثقافات‬
‫أو تغــر الزمــان واملــكان‪ ،‬ورغــم أن مفهــوم النــوع هــو إشــارة للمــرأة والرجــل إال أنــه اســتخدم لدراســة‬
‫وضــع املــرأة بشــكل خــاص أو كمدخــل ملوضــوع (املــرأة يف التنميــة)‪ ،‬كــا تـ ّم تنــاول هــذا املفهــوم‬
‫لجهــة اســتغالل الرجــل للمــرأة والــذي أصبــح أحــد أبــرز أنــواع الــراع‪ ،‬ومــن هنــا جــاء الرتكيــز عــى‬
‫‪67‬‬ ‫»ردنجلا« موهفم برعلا يداعُي اذامل‬

‫قضايــا (املــرأة واملســاواة) و(املــرأة وحقــوق اإلنســان)‪ ،‬يف حــن أن الــدور الــذي يقــوم بــه أي مــن‬
‫ديدحلا نسح ةلوخ ‪.‬د‬

‫النوعــن هــو نتــاج ســلوك مكتســب‪ ،‬وال شــك أن دور كل نــوع يتأثــر بالبيئــة الجغرافيــة واالقتصاديــة‬
‫والسياســية‪ ،‬وهــذا الفهــم لطبيعــة «الــدور» ُيثــل جوهــر مفهــوم «الجنــدر» كــا ورد يف تعريفــات‬
‫األمــم املتحــدة واملنظــات الدوليــة املعنيــة‪ ،‬فــا هــي املخــاوف التــي أثارهــا هــذا الطرح يف العامل‬
‫العــريب واإلســامي عمومـاً؟ وملــاذا؟‬
‫اعترب الرافضون لدعوات «الجندرة» أنها تشكل خطرا ً كبريا ً عىل مجتمعنا‪ ،‬وأن دعاتها يروجون‬
‫ألفــكار خ ــطرية تعمــل عــى تفكيــك هويــة املجتمــع العــريب واإلســامي‪ ،‬وغالبيــة الرفــض امل ُطلــق جــاء‬
‫مــن أوســاط دينيــة ُمحافظــة اعتــرت أن رفــض اختــاف الذكــر واألنثــى‪ ،‬وهــو اختــاف مــن صنــع اللــه‪،‬‬
‫ُيثل رضباً لجوهر العقيدة اإلسالمية‪ ،‬إضافة إىل فرض فكرة حق اإلنسان يف تغيري هويته الجنسية‬
‫وأدواره املرتتبــة عليهــا‪ ،‬واالعــراف بالشــذوذ الجنــي وفتــح البــاب إلدراج حقــوق الشــواذ مــن زواج‬
‫املثليــن وتكويــن أرس غــر منطيــة‪ ،‬والحصــول عــى أبنــاء بالتبنــي ضمــن حقــوق اإلنســان‪ ،‬كل هــذه‬
‫األفــكار تـ ّم اعتبارهــا رشا ً مســتطريا ً يعمــل عــى إضعــاف األرسة الرشعيــة التــي هــي لبنــة بنــاء املجتمــع‬
‫السليم املرتابط‪ ،‬إضافة إىل أنها تقوم بإذكاء روح العداء بني الجنسني وكأنهام متناقضان متنافران‪،‬‬
‫والتقليــد األعمــى لالتجاهــات الجنســية الغربيــة املتطرفــة والتــي امتــدت حتــى شــملت املوقــف مــن‬
‫الــذات اإللهيــة يف بعــض األحيــان‪ ،‬ورفــع املســؤولية عــن الشــواذ جنســياً وإظهارهــم مبظهــر الضحيــة‪،‬‬
‫مبــا يتنــاىف مــع موقــف الــرع والديــن اإلســامي الــذي ُيثــل مرجعيــة أساســية للهويــة االجتامعيــة‬
‫ملجتمعاتنا‪ ،‬وكل ذلك يُشكل‪ -‬حسب رافيض «الجندرة» ‪ -‬خطرا ً ماحقاً يتهدد مرجعيتنا‪ ،‬ويعمل‬
‫عــى مســخ شــخصيتنا‪ ،‬ويخــدم أعــداء أمتنــا‪.‬‬
‫لعــل مــن أبــرز مــا أدّى إىل رفــض «الجنــدرة» هــو طرحهــا بشــكل فــج ال يأخــذ باالعتبــار الخصوصيــة‬
‫الثقافيــة ومســتوى الوعــي املجتمعــي يف مجتعاتنــا العربيــة‪ ،‬وكغريهــا مــن املفاهيــم الغربيــة التــي‬
‫تُصبح موضع انبهار وتبجح أحياناً من قبل ال ُنخب تثري حفيظة القوى االجتامعية امل ُحافظة‪ ،‬لرتكيزها‬
‫عــى الجوانــب املتناقضــة مــع قيــم املجتمــع وإهاملهــا مــا مــن شــأنه أن يــؤدي إىل تنميــة حقيقيــة‪،‬‬
‫وقد ساهمت أيضاً النساء الغربيات يف ردة الفعل تلك تجاه «الجندرة» من خالل تركيزهن عىل‬
‫قضايا ت ُعترب جوهرية بالنســبة للهوية اإلســامية والعربية عموماً‪ ،‬واعتربنَها هي األســاس يف اإلشــارة‬
‫إىل مظلوميــة املــرأة‪ ،‬دون التعمــق يف فهــم تلــك القضايــا ومــا متثلــه للثقافــة املحليــة وأنســاقها‬
‫االجتامعيــة والثقافيــة‪ ،‬ومــن األمنــاط الخاصــة بالخطــاب النســوي الغــريب كان االنــزالق مــن تأكيــد‬
‫أخــوة النســاء عامليـاً إىل قيــام عالقــة تراتبيــة تحتــل فيهــا املــرأة الغربيــة مكانــة أعــى باعتبارهــا منوذجـاً‬
‫متقدمــا لكيــان املــرأة التــي يجــب أن تصبــو إليــه النســاء مــن الثقافــات والديانــات األخــرى‪ ،‬والنســاء‬
‫املســلامت عىل وجه الخصوص‪ ،‬كام أن غالبية النســويات الغربية تقوم باالســتعانة بتعريف ضيق‬
‫جــدا ً ملــا يشــكل النســوية داخــل الســياق الغــريب‪ ،‬ثــم يُســتخدم هــذا التعريــف كمقيــاس ال ترقــى إليــه‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪68‬‬

‫ويــارس البحــث النســوي الغــريب اســتغالل نســاء العــامل الثالــث‬


‫النســاء مــن بلــدان العــامل الثالــث‪ُ ،‬‬
‫خطابياً وذلك عن طريق توحيد كيان وفئة «املرأة»‪ ،‬ومن األمثلة التي تقدمها «تشاندرا موهانتي»‬
‫هــي تصويــر ومتثيــل املــرأة املســلمة املحجبــة ضمــن فئــة واحــدة ثابتة‪ ،‬وباعتبارها مقهورة متاماً دون‬
‫إشــارة إىل الفروقــات بــن املجتمعــات املســلمة‪ ،‬كــا إن تــراث الحجــاب هــو األمــر الرئيــي الــذي‬
‫مييل البحث النسوي الغريب إىل الرتكيز عليه يف تحليل النساء املسلامت واإلسالم‪ ،‬ومبجرد أن‬
‫يتــم ترســيخ الحجــاب كرمــز جــي لقهــر النســاء املســلامت يف الخطابــات الغربيــة‪ ،‬تــم بالتــايل تحويلــه‬
‫مــن رمــز ثقــايف ودينــي إىل رمــز ســيايس‪ ،‬وكــا تؤكــد بعــض امل ّنظــرات مثــل «ليــى أحمــد ومارنيــا‬
‫الزرق»‪ ،‬أنــه تــم تســييس الحجــاب كرمــز ملقاومــة الحكــم االســتعامري والتأثــر اإلمربيــايل وذلــك مــن‬
‫خــال الخطــاب النســوي الغــريب‪ ،‬ســواء بواســطة الرجــال أو النســاء‪.‬‬
‫ال شـ ّ‬
‫ـك أن متثُــل املفهــوم كــا هــو عليــه يف البيئــة الغربيــة التــي أنتجتــه‪ ،‬ومحاولــة فرضــه عــى‬
‫مجتمعــات معينــة لهــا خصوصيتهــا وهويتهــا املتميــزة املوغلــة يف القــدم كان أهــم أســباب الرفــض‬
‫امل ُطلق للجندرة برمتها‪ ،‬وال شــك أنه منذ طروحات قضايا تحرر املرأة ومنذ طالب «قاســم أمني»‬
‫يف مطلــع القــرن العرشيــن بتحــرر املــرأة ومنحهــا فــرص التعليــم والعمــل واملســاواة ‪ ،‬مــا زالــت تلــك‬
‫الدعــوات تلقــى الرفــض بدرجــات متفاوتــة‪ ،‬وعليــه وبعــد تجربــة طويلــة للمــرأة العربيــة يف نضالهــا مــن‬
‫أجل نيل حقوقها ال ب ّد من توخي الحذر يف طرح املفاهيم وطريقة الرتويج لها‪ ،‬وتبني اسرتاتيجيات‬
‫مقبولــة اجتامعيــة ونابعــة مــن جوهــر الهويــة االجتامعيــة‪ ،‬واألنســاق الثقافيــة للبيئــة املحليــة ليتــم‬
‫اســتيعابها وقبولهــا تدريج ـاً‪ ،‬وال شــك أن الثقافــة العربيــة الراهنــة تتقبــل فكــرة أن األدوار االجتامعيّــة‬
‫لــكال الجنســن تتغـ ّـر فعـاً‪ ،‬فلــم يعــد التعليــم أو العمــل محصــوران بالرجــل‪ ،‬فالعلــم أو العمــل‪ ،‬مل‬
‫يحـ ّوال املــرأة إىل رجــل‪ ،‬ومل يفضيــا إىل الشــذوذ الجنــي‪ ،‬كــا يزعــم البعــض‪ ،‬معتــرا ً أن الدعــوات‬
‫إىل تحرير املرأة أو تب ّني مفهوم الجندر ليس إال دعوة إىل «مسخ شخصية املرأة‪ ،‬ومسخ شخصية‬
‫الرجل مسخاً كلّياً‪ ،‬من خالل الدعوة إىل إزالة الفوارق بني الرجال والنساء والدعوة إىل الشذوذ»‪.‬‬
‫كل صفــات ومم ّيــزات ووظائــف وأدوار الرجولــة االجتامعيــة‪ ،‬وتكــون‬
‫بحيــث ميكــن للمــرأة أن تكتســب ّ‬
‫بذلــك رجـاً‪ ،‬مــن دون أن تكــون ذكــرا ً قــط‪ ،‬والعكــس بالعكــس صحيــح متامـاً‪ ،‬ومــن دون ّ‬
‫أي انتقــاص‬
‫أي منهــا‪ ،‬إذا قــام بعمــل ووظيفــة اآلخــر اجتامعيـاً؛ ومبعنــى آخــر‪ :‬ميكــن للرجــل أن‬
‫لوجــود وإنســانية ّ‬
‫كل صفــات ومميــزات ووظائــف وأدوار املــرأة االجتامعيــة‪ ،‬ويكــون بذلــك امــرأة مــن دون أن‬
‫يكتســب ّ‬
‫يكــون أنثــى قـطّ‪ ،‬ومــن دون انتقــاص لوجــوده وإنســانيته‪.‬‬
‫وختامـاً تجــدر اإلشــارة إىل أنــه مــن الــروري الكــف عــن اعتبــار الوضــع الجنــدري يف الغــرب هــو‬
‫الوضــع النموذجــي؛ والكــف عــن اســتعارة املفاهيــم املنتَجــة يف الغــرب واســتخدامها دون محاولــة‬
‫تطويعهــا وفقـاً لخصوصيــة مجتمعاتنــا؛ ويجــب عــى الدراســات واألبحــاث العرب ّيــة التحـ ّرر مــن الرؤيــة‬
‫االســترشاقية‪ -‬الغربيّــة التــي تجعــل مــن الغــرب منوذجـاً ينبغــي اتّباعــه دامئـاً‪ ،‬كل ذلــك يجــب أن يتــم‬
‫‪69‬‬ ‫»ردنجلا« موهفم برعلا يداعُي اذامل‬

‫بعيــدا ً عــن التعصــب والرفــض األعمــى لـ ّ‬


‫ـكل مــا ينتجــه اآلخــر امل ُختلــف بحجــة الغــزو‬
‫ديدحلا نسح ةلوخ ‪.‬د‬

‫الثقــايف واملنطــق االســتعامري‪ ،‬وقــد آن األوان للفصــل بــن الغــرب االســتعامري‬


‫والغــرب الحضــاري‪ ،‬والــذي نســتورد منــه كل منتجاتــه الصناعيــة والتقنيــة ونخــى‬
‫القيــم التــي أنتجتهــا‪.‬‬

‫مراجع‬
‫‪ -‬الدراسات النسائية‪ /‬دراسات الجندر‪ ،‬دراسة وبحث‪ :‬نيام ناغيبي‪،‬‬
‫ترجمة‪ :‬هالة كامل‪ ،‬شبكة االنرتنت‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -‬بحــث مفهــوم «الجنــدر» ومتثّالتــه‪ ،‬رفيــف رضــا صيــداوي‪ ،‬شــبكة‬
‫االنرتنــت ‪ ،‬التحالــف التونــي للحــوار عــى الفيــس بوكــز‬
‫‪ -‬هالــة كــال وتقديــم هــدى الصــدة‪ ،‬أصــوات بديلــة للمــرأة والعــرق‬
‫والعاصمــة لهــا العــامل الثالــث‪ ،‬القاهــرة‪ :‬املجلــس األعــى للثقافــة‪،2002 ،‬‬
‫‪Jacquelyn B. James, The Meanings of Gender,‬‬
‫‪Journal of Social Issues, The Significance of Gender:‬‬
‫‪Theory and research about Difference, Blackwell‬‬
‫‪.125 - 122 pp ,1997 ,Publishers‬‬
‫أحمد عمر‬

‫سالطني الحريم‬

‫عقد الرئيس العلوي ‪ -‬نحن مكرهون إىل الهبوط االضطراري عىل هذا الوصف‬
‫الطائفــي ‪ -‬بشــار األســد نكاحــه عــى كرميــة مــن كرائــم أهــل الس ـ ّنة‪ ،‬عقــدا ً صحيح ـاً‬
‫بحضــور شــاهدين عدلــن‪ ،‬غــر العقــد الــذي عقــده والــده عــى األمــة الســورية‬
‫الكرمية‪ ،‬نكاحاً عسكرياً‪ ،‬سفاحاً باطالً‪ .‬الزواج الرشعي مصاهرة‪ ،‬وقد يفتح الباب‬
‫َسبية بني طائفتني‪ .‬اإلعالم السوري املحجب‬
‫أو الشباك لعقد صفقة سياسية ون َ‬
‫املنقب مل يتناول الحدث حتى اآلن‪ ،‬سوى عبارات وردت عىل ألسنة معارضني‬
‫أثنوا أو مدحوا أريحية الزعيم وعلامنيته أو أوحوا «بسنيته» أو تسننه‪ .‬الزعيم الذي‬
‫أكــرم الطائفــة الســنية بزواجــه مــن كرميتهــم‪ .‬لكنهــا ليســت ابنتهــم متام ـاً‪ ،‬إنهــا ابنــة‬
‫الغــرب األورويب‪ ،‬رمبــا لــو كانــت محجبــة مثــل زوجــة أردوغــان لحبلــت املصاهــرة‬
‫بإشــارات ومغــا ٍز سياســية أقــوى وأضمــد للجــرح‪ .‬املصاهــرة تذكــر مبســلك زعــاء‬
‫القبائل‪ ،‬قدمياً‪ ،‬لكننا يف دول كبرية‪ ،‬عدد سكانها يفوق األلف واأللفني والثالثة!‬
‫وايضا كان الزعيم‪ ،‬وقتها‪ ،‬يستطيع ان يتزوج عددا ال حرص له‪ ،‬بعدد افخاذ القبيلة‬
‫وســيقانها‪ ،‬وهــو غــر متــاح االن!‬
‫«كنــة» الطائفــة الحاكمــة حاصلــة عــى جنســية «بنــي األصفــر» ومولــودة يف‬
‫لنــدن‪ ،‬وقــد أمــى الــزواج مــن العربيــات املتفرنجــات املتلندنــات املطعــات‬
‫بالــدم والجنســية والثقافــة الغربيــة األوروبيــة س ـ ّنة مســتحبة لــدى الزعــاء العــرب؛‬
‫الذيــن يفضلــون نوعــن مــن الصهــر‪ ،‬صهــر الشــعوب بالنــار وصهــر أجمــل بناتهــم‬
‫‪71‬‬ ‫يرحلا نيطالس‬

‫بغــرض التقــارب العرقــي أو الطائفــي‪ .‬مبــارك «صهـ َر» ســوزان بنــت الدكتــور صالــح ثابــت واملمرضــة‬
‫رمع دمحأ‬

‫اإلنجليزية الويلزية لييل ماي باملز‪ .‬الســادات أرســل ورقة الطالق لزوجته القدمية مع النفقة وتزوج‬
‫مــن جيهــان ابنــة صفــوت رؤوف الــذي يحمــل الجنســية الربيطانيــة‪ ،‬واملتــزوج مــن جالديــس تشــارلز‬
‫كوتريــل‪ .‬طبعــا أســاء الكنائــن تغــرت وترجلــت عــن أســاء آبائهــا وباتــت عــى السـ ّنة الغربيــة تأكيــدا‬
‫للصهــر واالذابــة‪ :‬أســاء األســد وجيهــان الســادات‪ ،‬وســوزان مبارك‪...‬كســب آبــاء العرائــس والكنائــن‬
‫مصاهــرة مــع الزعــاء وخــروا لقــب البنــوة‪ ،‬والثــاث حــزن عــى لقــب الســيدة االوىل‪ ،‬لكــن الســيدة‬
‫األوىل األم يف ســوريا مل تــرض بخســارة اللقــب يف املاراتــون الســلطوي فتــم تعليقــه‪ ،‬فغــاب مــن‬
‫الصحافــة البعثيــة املحجبــة املنقبــة املغيبــة املــزورة‪ .‬والتــي مــن املفــروض أن يكــون الشــعب كلــه‬
‫رفاق ـاً ال فــرق بــن ســيد أول أو ســيدة أوىل‪.‬‬
‫الــزوج يصــر أبـاً ثانيـاً يف الغــرب‪ ،‬لكــن الــرق متهــم بالفحولــة وح ّمــى الجنــس والحريــم‪ .‬الغــرب‬
‫الــذي يســتميت ويحــارب يف ســبيل حقــوق املــرأة‪ .‬أمــا امللــك األردين فهــو مفرنــج‪ ،‬وأورويب ويرطــن‬
‫جاهدا ً بالعربية‪ ،‬فقد تزوج من أردنية من أصل فلسطيني‪ ،‬فالطائفة الفلسطينية تستحق املصاهرة‬
‫والصهــر ورمبــا الهــر والعــر لكرثتهــا فنســبتها تتجــاوز نصــف الشــعب االردين‪ .‬الزوجــة هــي رانيــا‬
‫فيصــل ياســن‪ ،‬التــي أنهــت دراســتها اإلعداديــة والثانويــة يف «املدرســة اإلنجليزيــة الحديثــة» يف‬
‫الكويــت‪ ،‬ثــم حــازت يف العــام ‪1991‬عــى شــهادة البكالوريــوس يف إدارة األعــال مــن الجامعــة‬
‫األمريكيــة يف القاهــرة‪ .‬مثــال األســد مــزدوج ويجمــع أنواعـاً عــدة مــن املصاهــرة؛ الغربيــة والطائفيــة‪...‬‬
‫النظــام الســوري داهيــة‪ ،‬وقــد ثــار لغــط يف الطائفــة العلويــة‪ ،‬ويقــال إنهــا ســكتت عــى مضــض مــن‬
‫زواج ابــن بــاين ســورية الحديثــة مــن ســنية‪ ،‬ثــم اعتــرت الــزواج «إصالحــا دميقراطيـاً» ملــداواة الجــرح‬
‫الســني العميــق‪« .‬أســاء» مرهــم إذا ً؟ اغتصــاب ســيايس ينتهــي بجائــزة ترضيــة هــي الــزواج الطائفــي‪،‬‬
‫أو «الــزواج الســيايس»‪ ...‬ال يكلــف هــذا اإلصــاح كثــرا ً‪ ،‬إن مل يكــن غنـاً فريــدا ً‪ ،‬رمبــا يكــون «ســبياً»‬
‫راقي ـاً‪ ،‬فطائفــة الزوجــة األوروبيــة محايــدة‪ ،‬هــي علامنيــة‪ ،‬وليرباليــة ورأســالية‪ ،‬مــا دامــت قــد تربــت‬
‫يف محاضن الغرب‪ .‬ميكن أن نســمي هذه املصاهرة بالطائفية األنغلوفونية أيضاً‪ ...‬عالقة النظام‬
‫الســوري باملصاهــرة غــر عالقــة الطاغيــة زيــن العابديــن بــن عــي‪ ،‬الــذي طلــق زوجتــه القدميــة نعيمــة‬
‫بنــت الجــرال عــي الــكايف‪ ،‬فالقانــون التونــي التقدمــي ال يســمح بالجمــع بــن زوجتــن‪ ،‬فال بد من‬
‫ترسيــح واحــدة بإحســان‪ ،‬حتــى يجمــع الثانيــة يف العصمــة نفســها وإن كان يســمح بالجمــع بــن عــر‬
‫عشيقات‪ .‬الذريعة كانت أنها ال تنجب سوى البنات‪ ،‬لكن ليس يف تونس طوائف‪ ،‬ونظام بن عيل‬
‫علامين أكرث من نظام فرنســا نفســها التي تســمح للمســلمني بالصالة من غري بطاقة ذكية‪ ،‬والحاجة‬
‫للتقــرب مــن االســتعامر القديــم بالــزواج مــن فرنســية‪ .‬عرفــات أيضـاً تــزوج مــن ســهى الطويــل التــي بــات‬
‫اســمها ســهى عرفــات‪ ،‬زواجـاً طائفيـاً ملصاهــرة طائفــة األقليــة الفلســطينية «األكرثيــة عدديـاً»‪ .‬ولدت‬
‫ســهى يف الضفــة الغربيــة ألرسة مســيحية فلســطينية بورجوازيــة ثريــة كانــت تعيــش يف نابلــس ورام‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪72‬‬

‫الله اللتني كانتا تخضعان للســلطة األردنية‪ ،‬كان والدها داود الطويل خريج جامعة أوكســفورد ‪.‬أما‬
‫القــذايف فليــس لــه ســنة ثابتــة ‪ ،‬فبنــات الشــعب كلهــن زوجاتــه أو بناتــه أو محظياتــه‪ ،‬وأمــوال نفطــه‬
‫تســر عيوبــه كلهــا‪ .‬ميــدح أحيانــا حافــظ األســد مــن قبــل عبيــده بأنــه كان زاهــدا ً يف النســاء وأخلــص‬
‫لزوجــة واحــدة‪ ،‬ويعمــل ‪ 24‬ســاعة يف اليــوم جامعـاً يف عصمتــه بــن األمــة والعــدو يف فــراش واحــد‪.‬‬
‫العــرب ليــس لهــم أمثلــة كثــرة عــى واليــة املــرأة مثــل امللكــة أروى مــن القــرن الحــادي عــر وبلقيــس‬
‫قدمي ـاً‪ ،‬أمــا مثــال الســلطانات املســلامت املنســيات‪ ،‬مثــل الســلطانة رضيــة بنــت شــمس الديــن‬
‫ايلتومتــش التــي حكمــت دلهــي عــام ‪1236‬م و شــجر الــدر ‪1250‬م ‪ ،2‬وهــي مــن أصــل منغــويل‪،‬‬
‫وكوتلــوغ خاتــون حكمــت مقاطعــة كرمــان الفارســية ‪1257‬م واســتمر حكمهــا ملــدة ‪26‬عــام ‪ ،3‬و مــن‬
‫أندونيسيا‪ :‬السلطانة تاج العامل صفية الدين شاه (‪1675 - 1641‬م) ‪ -‬و من املالديف‪ :‬السلطانة‬
‫خديجــة بنــت الســلطان صــاح الديــن صالــح النجــي (‪1379 -1347‬م)‪.‬‬
‫تانســو شــيللر‪ ،‬وبناظري بوتو أمثلة إســامية معارصة وليســت عربية‪ ،‬ال امثلة معارصة عىل والية‬
‫املــرأة العربيــة‪ ،‬ولذلــك كان النظــام املاكــر كرميـاً مــع نســاء الطائفــة الســنية الدمشــقية‪ ،‬ســلوكه يذكــر‬
‫ف َذلِ ُكــم‬
‫ســاءكُ ْم َو ِ‬ ‫َاب يُ َذبِّ ُحــو َن أَبْ َناءكُ ـ ْم َويَ ْ‬
‫س ـتَ ْح ُيو َن نِ َ‬ ‫ســو ُمونَ ُك ْم ُس ـ َو َء الْ َع ـذ ِ‬
‫باآليــة القرآنيــة الكرميــة‪ :‬يَ ُ‬
‫بَــاء ِّمــن َّربِّ ُكـ ْم َع ِظيـ ٌم»‪.‬‬
‫واليــة الرفيقــة نجــاح العطــار واليــة اســمية وكانــت صحيفــة «الحيــاة»‪ ،‬يــوم توليتهــا نائبــا للرئيــس‪،‬‬
‫قد وصلت إىل سبع إشارات من وراء التولية ونسيت الثامنة أو تناستها‪ ،‬وهي أن الذكور واإلناث‬
‫والغلــان والكهــول الســوريني قــر وقــارصات‪ ،‬فالواليــة هــي لفحــول املخابــرات الجوبــة والربيــة‬
‫والبعليــة‪ ...‬العطــار نائــب فخــري مــن غــر حقيبــة‪ ،‬ولعلهــا ‪ ،‬وهــي مــن أرسة كرميــة وعريقــة‪ -‬تطمــح‬
‫أو تتــوق إىل أن تســر كربتهــا‪ ،‬فهــي يف الســبعني– بغطــاء شــيب شــعرها بــدالً مــن هــذه الباروكــة‬
‫التــي ال تناســب عمرهــا‪ ،‬أو أن تحــج إىل بيــت اللــه الحــرام‪ ،‬أو أن تعانــق أخاهــا املنفــي بعــد كل هــذا‬
‫الشــتات‪ ...‬لكــن ال عــزاء للســيدات‪ .‬بثينــة شــعبان املستشــارة هــي أقــوى منهــا مبــا ال يقــاس‪ ،‬تصــول‬
‫وتجــول بــن طهــران وموســكو وجنيــف‪ .‬إنهــا امــرأة بقــوة عــرة حصــان أو عــرة ذكــور وزراء غــر فحــول‪.‬‬
‫األم يف هــذه البــاد املذكــورة كلهــا التــي تشــتهر بعفــاف زعامئهــا «الســندريال» وحبهــم ملصاهــرة‬
‫الشعب الفقري‪ ،‬وال يحق لها منح جنسيتها ألوالدها‪ ...‬أما أم هاين فقد أجارت يف صدر اإلسالم‬
‫ـت‪َ :‬ذ َهبْـ ُ‬
‫ـت‬ ‫ـب بنــت ارطئــة قالـ ْ‬ ‫ـت أَ ِ‬
‫ب طَالِـ ٍ‬ ‫مــركا ومنحتــه حــق اللجــوء الســيايس «عــن أُ ِّم َهانِــئ ِب ْنـ ِ‬
‫ت َعلَ ْي ـ ِه فَ َقـ َ‬
‫ـال‬ ‫َس ـلَّ ْم ُ‬
‫ـت ف َ‬ ‫سـ ُـل‪َ ،‬وف ِ‬
‫َاط َم ـ ُة ابْ َنتُ ـ ُه ت َْسـ ُ ُ‬
‫ـرهُ قَالَـ ْ‬ ‫ل َر ُســو ِل اللَّ ـ ِه ‪َ -‬عــا َم الْ َفتْ ـ ِح‪ ،‬فَ َو َج ْدتُـ ُه يَ ْغتَ ِ‬
‫إِ َ‬
‫ـال « َم ْر َحبًــا ِبـأُ ِّم َهانِــئٍ »‪ .‬فَلَـ َّـا فَـ َر َغ ِمـ ْن غ ْ‬
‫ُسـ ِل ِه‪،‬‬ ‫ب طَالِـ ٍ‬
‫ـب‪ .‬فَ َقـ َ‬ ‫ـت أَ ِ‬ ‫ـت أَنَــا أُ ُّم َهانِــئٍ ِب ْنـ ُ‬
‫« َمـ ْن َهـ ِـذ ِه»‪ .‬فَ ُقلْـ ُ‬
‫ـول اللَّ ـ ِه‪َ ،‬ز َع ـ َم ابْ ـ ُن‬
‫ـت يَــا َر ُسـ َ‬ ‫ـر َف قُلْـ ُ‬ ‫ب َو ِ‬
‫احـ ٍـد‪ ،‬فَلَـ َّـا انْـ َ َ‬ ‫ف ث َـ ْو ٍ‬ ‫ـات‪ُ ،‬ملْتَ ِح ًفــا ِ‬ ‫ـان َركَ َعـ ٍ‬ ‫ـى ثَ َـ ِ َ‬ ‫قَــا َم ف َ‬
‫َصـ َّ‬
‫ت يَــا أُ َّم َهانِــئٍ »‪.‬‬ ‫ـول اللَّـ ِه ‪« -‬قَـ ْد أَ َج ْرنَــا َمـ ْن أَ َجـ ْر ِ‬
‫ـال َر ُسـ ُ‬ ‫أُ ِّم‪ d‬أَنَّـ ُه قَاتِـ ٌـل َر ُجـاً قَـ ْد أَ َج ْرت ُـ ُه فُـاَ َن بْـ َن ُه َبـ ْ َ‬
‫ـرةَ‪ .‬فَ َقـ َ‬
‫‪73‬‬ ‫يرحلا نيطالس‬

‫يف بــاد فيهــا للمخــر مثــل حــظ الذكريــن أو املائــة منهــم‪ .‬مل يعــرف عــن زعامئنــا‬
‫رمع دمحأ‬

‫األفاضــل‪ ،‬ســاطني الحــرام الســيايس‪ ،‬أو ســاطني الحريــم وللــه الحمــد واملنــة‪،‬‬
‫شــبقاً جنســياً‪ ،‬لكــن زواجهــم مــن بنــت الطائفــة «الكرميــة»‪ ،‬أخــر الطائفــة بنتـاً‪ ،‬ومل‬
‫تكســبهم عنبـاً أو بلحـاً‪ .‬ملخــص القــول‪ :‬الوطنيــة الحقوقيــة هــي املصاهــرة الواجبــة‪،‬‬
‫وال تصلــح امــرأة مــا أفســد الطاغيــة‪.‬‬
‫عبود سعيد‬

‫أمــي مثــل أي امــرأة ســورية‪ :‬أليــس يف بــاد‬


‫العجائــب‬

‫الحقيقة عاد ًة ال تظهر عىل الواجهة وهذا يعني أنها مفرتضة دوماً وموجودة‪.‬‬
‫ســأجرب أن أضعهــا هنــا عــى الواجهــة بأقــى مــا اســتطعت إليــه ســبيالً‪ ،‬عــى‬
‫الرغــم مــن أنهــا ســتبدو زيف ـاً فقــط ألنهــا أصبحــت واضحــة‪ ،‬الحقيقــة قيمتهــا بعــدم‬
‫وضوحهــا‪ ...‬برسيتهــا‪ ...‬بافرتاضهــا‬
‫غري مهم‪...‬‬

‫الجندر السوري (للذكورة واألنوثة)‬


‫وضعت كلمة جندر عىل الغوغل‪ ،‬تقريباً اعتربت أنني فهمت ما هو املقصود‬
‫بهذه الكلمة‪ ،‬لكنني لن أقول مل أفهم‪ ،‬لعدم ثقتي بأن ما فهمته هو املطلوب‪.‬‬
‫حني تذكر كلمة أنوثة أمامي أتذكر مخلوقاً واحدا ً عىل هذا الكون وهو أمي‪.‬‬
‫تســاءلت قبــل أن أكتــب هــذا املقــال إذا كانــت أمــي تعتــر مــن الجنــدر أم ال‪،‬‬
‫وإىل اآلن مل أصل إىل نتيجة‪ ،‬لكنني قررت أن أدحشها وإن كانت غري موجودة فيه‪.‬‬
‫ترعرعــت أمــي يف قريــة عــى نهــر الفــرات مــن أب يشــتغل يف تجــارة (اللبابيــد)‬
‫وهــو عبــارة عــن ســجاد يشــبه شــكالً تلــك الســجادات الرفيعــة الطويلــة الحمــراء التــي‬
‫ميــي عليهــا املشــاهري والشــخصيات املهمــة‪ ،‬لكنــه هنــا مصنــوع مــن الصــوف‬
‫ويوضــع يف أوض شــيوخ العشــائر‪ ،‬طبع ـاً للعلــم‪ ،‬إن أمــي امــرأة‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫اجعلا دالب يف سيلأ ‪:‬ةيروس ةأرما يأ لثم يمأ‬

‫امــرأة مميــزة‪ ،‬كانــوا يقولــون عنهــا أنهــا تطبــخ وتســهر مــع زوجــات عنــارص املخفــر‪ .‬وجـدّي كان غنيـاً‬
‫ديعس دوبع‬

‫لدرجــة أنــه كان يدخــن (كينــت)‪ .‬مــرة قالــت يل أمــي «آين مــن ملــن كنــت صغــرة كل نســوان الجريــة‬
‫يغــارن منــي ألين أقعــد مــع نســوان الرشطــة وأض ّيفهــن دخــان (كينــت) مــن باكيــت أبــوي»‪.‬‬
‫وفجــأة يظهــر رجــل عمــره أربعــون ســنة أال وهــو أيب الــذي ســمع عــن جــدي (الغنــي) فتقــرب منــه‬
‫وطلــب القــرب‪ ،‬وألن أيب مل يكــن ميلــك ســوى عمتــي فعرضهــا عــى جــدي كمهــر مثــن بحســب رأيــه‬
‫يقــدم إىل خــايل مقابــل أن يتــزوج أيب أمــي!‬
‫الطيــور تقــع عــى أشــكالها وهنــا أقصــد عمتــي وخــايل‪ ،‬فاضطــر جــدي إىل املوافقــة ومــن دون‬
‫عرس ومن دون زفة وعىل أرض حيادية أال وهي مضافة الشيخ حيث التقى العريسان بالعروسني‪،‬‬
‫وأخــذ كل منهــا عروســه إىل داره‪ ،‬هكــذا تزوجــت أمــي مــن هــذا الرجــل الــذي هــو أيب التــي رأتــه للمرة‬
‫األوىل بعــد أن تزوجــا‪.‬‬
‫علامً أن أمي كانت امرأة مميزة يف تلك الفرتة‪.‬‬
‫ال ذكريــات بينهــا وبــن أيب إال ســيجارة يف أول ليلــة قضياهــا مع ـاً‪ ،‬ومــن بعدهــا قســوة بقســوة‬
‫مــع أنهــا تحبــه‪ ،‬تحبــه إىل درجــة أنهــا عندمــا تريــد أن متدحــه يف غيابــه تقــول عنــه «زملــة مثــل صــدام‬
‫حســن»‪ .‬تــرى فيــه الحكيــم القــوي الجبــار الــذي ال يشــق لــه غبــار‪ .‬الرجــل الصعــب يف املرحلــة‬
‫الصعبــة‪ ،‬تقصــد مرحلتهــا‪ .‬تــرى فيــه ســتالني وبروســي وغــودو واملهــدي والربابــرة‪ .‬هــي أيضـاً كانــت‬
‫تنتظــر‪ ،‬كانــت تنتظــر غــودو واملهــدي والربابــرة مــن أجــل ابتســامة واحــدة‪.‬‬
‫بعــد عــرة أشــهر مــن الــزواج أنجبــت منــه الطفــل األول فالثــاين والثالــث والرابــع فالخامــس عــر‬
‫بعــد إنــاث وذكــور الــذي هــو أنــا‪.‬‬
‫خمســة عــر طف ـاً كــروا وصــاروا صبايــا وشــباباً‪ ،‬نســا ًء ورجــاالً‪ ،‬ومــا بــن العاقــل واملجنــون‪،‬‬
‫الخجــول والوقــح‪ ،‬الفتــاة الشــاطرة والكســولة‪ ،‬الشــب الــررسي وامللتــزم‪ ،‬املثقــف واألزعــر‪ ،‬الحـدّاد‬
‫والكاتــب‪ ،‬تع ّقــدت ســاها‪ ،‬بينــا أيب كان يتباهــى بهــذا الجيــش القــادر عــى إفســاد أكــر مخطــط‬
‫وأكــر مؤامــرة‪.‬‬
‫خمســة عــر طفـاً بــا هــوادة علـاً أن أمــي كانــت امــرأة مميــزة وتعتــر مــن النســاء الراقيــات يف‬
‫تلــك الفــرة‪.‬‬
‫وفصلتــه مبــا‬
‫مــات أيب واحتلــت أمــي العــرش بــا انتخابــات رشعيــة‪ ،‬بلحظــات ع ّدلــت الدســتور ّ‬
‫يتناســب مــع شــخصيتها وعمرهــا وتاريخهــا‪ ،‬وطبعـاً األبنــاء يهتفــون عظمــة عــى عظمــة يــا ســت‪.‬‬
‫كانــت أمــي القائــد األعــى لجيــش العائلــة فهــي التــي تحــدد العالقــات مــع الجــران والبيــوت‬
‫املجاورة وتحدد ساعات الصفر وترسل اإلنذارات والتحذيرات إىل جارتنا التي أخذت منا الصحن‬
‫الــذي كان مطبوع ـاً بــوردة حمــراء واســتبدلته بصحــن آخــر‪ .‬وكانــت أمــي األمــن العــام لحــزب العائلــة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪76‬‬

‫فهي التي وضعت النظام الداخيل من بعد أيب واملبادئ العامة واألهداف والسياسات الداخلية‬
‫والخارجية وموقف العائلة من القضية الفلسطينية وحقوق املرأة‪ ،‬علامً أن أمي كانت امرأة مميزة‬
‫يف تلــك الفــرة لكــن مبجــرد جلوســها عــى العــرش ظهــر لهــا أنيــاب إال أنهــا غــر مدببــة‪ ،‬ال تغــرس يف‬
‫الجلــد إمنــا تــرك عليــه أثــرا ً ال يــزول‪ ،‬فتوعــدت مبحاســبة الفاســدين والرسرسيــة والزعــران والكتــاب‬
‫ول» فاهتمت بالتعليم وأرسلت أختي الكبرية إىل الشيخ يف الجامع لتتعلم‬
‫وقالت «زمن العسكر ّ‬
‫القــراءة والكتابــة واشــرت روزنامــة وعلقتهــا يف منتصــف البيــت‪ ،‬فاكتشــفت مــن خــال الروزنامــة أن‬
‫هنــاك عيــدا ً لــأم وعيــدا ً للمــرأة‪ ،‬قرأتــه يف الروزنامــة صدفـ ًة فتبنتــه واعتربتــه عطلــة رســمية‪ ،‬تركــت كل‬
‫أيــام الســنة وصبــت اهتاممهــا يف هــذا اليــوم‪.‬‬
‫واستتب األمن واألمان لدرجة أن أختي كانت تخرج من غرفة النوم إىل غرفة الضيوف الساعة‬
‫الثالثة ليالً وحدها من دون أن تتعرض ألي مساءلة‪ .‬أماااان‪ ..‬الذيب يرعى مع الغنم‪.‬‬
‫إىل أن قامــت الثــورة الســورية فبــدأت أمــي تجلــس أمــام شاشــة التلفــاز وتراقــب املشــهد بعجــز‬
‫وذهــول وفــزع‪ ،‬أهملــت أمــي عيــد املــرأة‪ ،‬صــار ميــر عيــد املــرأة مثلــا متــر املجــزرة‪ ،‬مــرور الكــرام‪.‬‬
‫صارت تكرث من االستامع إىل األغاين العراقية وتبيك‪ ،‬تراقب الكارثة واملشهد وتبيك‪ ،‬علامً أن‬
‫األغنيــة أحيانـاً تكــون عــن العشــق والغــرام لكنهــا كانــت تبــي‪ ،‬صــارت تخلــط بــن الشــهيد والحبيــب‪،‬‬
‫أهملــت العائلــة‪ ،‬عــى الرغــم مــن أنهــا كانــت حزينــة عــى مــرور موســمني للبنــدورة ومل تخزنهــا ومل‬
‫تصنــع منهــا الدبــس‪.‬‬
‫أصبح عمر أمي ســبعني ســنة ودخلت الثورة عامها الثالث‪ ،‬اكتشــفت أمي أن الحبس مو بس‬
‫للرجــال‪ ،‬أمــي ال تعــرف خولــة بنــت األزور لكنهــا تعــرف رزان زيتونة‪.‬‬
‫علمتهــا التدخــن‪ ،‬فصــارت تتحــر عــى عمرهــا الــذي ضــاع مــع أيب مــن دون دخــان‪ .‬تعلمــت‬
‫كيــف تنفــض الســيجارة بنقــرة مــن إصبعهــا‪ ،‬وكل ثالثــاء تســتهلك أمــي علبــة كاملــة‪ ،‬فهــي تحــب‬
‫فيصــل القاســم‪ .‬تغــر أصدقاؤهــا‪ ،‬مل يعــودوا يقتــرون عــى النســاء فقــط‪ ،‬صــارت تجالــس الرجــال‬
‫أيضـاً لدرجــة أنهــا تتســاوى معهــم يف الذكــورة عندمــا يكــون هنالــك شــتيمة مثــل «أنيــج أمــو عــى أم‬
‫البــاص الــي جابــو»‪.‬‬
‫ازداد قلقهــا عــى أبنائهــا وكــرت الجنــازات يف املدينــة‪ ،‬وكانــت كلــا مــرت جنــازة وصاحــوا أم‬
‫الشــهيد نحنــا والدك‪ ،‬تبــي علـاً أنهــا مل تكــن قــد فقــدت أحــدا ً مــن أبنائهــا أو أقاربهــا بعــد‪ ،‬إىل أن‬
‫استشــهد أخــي‪ ،‬فهتفــوا لهــا أم الشــهيد نحنــا والدك‪ ،‬مل تفــرق معهــا فهــي كانــت أم الشــهيد قبــل‬
‫أن تفقــده‪.‬‬
‫ترفــض أمــي النــزوح ليــس ألنهــا قويــة‪ ،‬بــل ألنهــا تحــب بيتهــا‪ ،‬وهنــا هــي ال تقصــد املطبــخ أوغرفــة‬
‫الضيوف أوالرسير أو الحامم‪ .‬بالنسبة ألمي البيت هو غرفة الفرش واللحف املرفوعة فوق املنضد‬
‫‪77‬‬ ‫اجعلا دالب يف سيلأ ‪:‬ةيروس ةأرما يأ لثم يمأ‬

‫منــذ أن خلقنــا‪ ،‬هــذه الفــرش واللحــف ليســت لالســتخدام مهــا كانــت املناســبة‬
‫ديعس دوبع‬

‫كبــرة ســوا َء كانــت عــزا ًء أم فرح ـاً‪ ،‬هــذه الغرفــة بالنســبة لهــا وطــن‪ ،‬ليــس ألنــه كبــر‬
‫وليــس ألنــه يتســع للجميــع بــل ألنهــا بنتــه لحاف ـاً لحاف ـاً وفراش ـاً فراش ـاً‪ ،‬وبالرغــم مــن‬
‫أنهــا دامئ ـاً تقــول‪ :‬روحــي فــدا الثــورة‪ ،‬إال أنهــا رفضــت أن تعطــي النازحــن فراش ـاً أو‬
‫لحافـاً واحــدا ً مــن هــذه النضيــدة‪.‬‬
‫أمــي امــرأة مميــزة‪ ،‬شــاوية‪ ،‬اســتطعت أن أفــر لهــا كل يشء يف الدنيــا‪ .‬ع ّرفتهــا‬
‫عــى هردبشــت‪ ،‬حكيــت لهــا عــن الجيــش األحمــر اليابــاين‪ ،‬ف ّكيــت لهــا الرمــوز‬
‫«داعش» و»حالش»‪ ،‬أفهمتها أن زنوبيا ليست مجرد سرياميك‪ ،‬وأن الدروز ليسوا‬
‫نوع ـاً مــن الســكاكر‪ ،‬ويف اليــوم العاملــي ملناهضــة العنــف ضــد املــرأة أقنعتهــا أن‬
‫تشتم مهرها‪ ،‬عمتي‪ .‬اشرتيت لها حذا ًء إيطالياً جديدا ً‪ ،‬رشحت لها ما هو جنيف‬
‫‪ 1‬وجنيــف ‪ ،2‬علمتهــا أن هنالــك ثــاث حــاالت اجتامعيــة متزوجــة وعازبــة وناشــطة‪،‬‬
‫رشحــت لهــا كل يشء‪ ،‬وفــرت كل مــا ميكــن تفســره إال شــيئاً واحــدا ً عجــزت عــن‬
‫تفســره‪ ،‬مل أســتطع أن أرشح لهــا مــاذا يعنــي ‪.lol‬‬
‫قلــت مــرة لصديقتــي التــي كانــت تحــدث أمهــا عــر التشــات يف الفيســبوك‬
‫وكانتــا تتحدثــان باللغــة االنكليزيــة (‪ ) hi .. how r u‬وتجيــب األم (‪thnx.. am‬‬
‫‪) fine.. n u‬‬
‫قلــت لهــا هــل هنالــك أم تجيــد االنكليزيــة؟ وتســتخدم الفيســبوك؟ األم عندنــا‬
‫نحــن الشــوايا امــرأة قويــة لهــا وشــم وهــذا يختلــف عــن التاتــو‪ ،‬ال تقــرأ‪ ،‬ال تكتــب‪ ،‬ال‬
‫ترتــدي حاملــة أثــداء عــى الرغــم مــن أنهــا تؤنــث كل قــاش الدنيــا‪ .‬املــرأة الشــاوية‬
‫تفهــم الحريــة هكــذا‪ :‬أن تذهــب إىل املدينــة تجلــس عــى الرصيــف ترضــع ابنهــا‬
‫عندمــا يجــوع ولــو عــى مــرأى املــارة بــكل بــراءة‪ ،‬عل ـاً أنهــا ترتــدي ال ُزبــون والكالبيــة‬
‫والهبــاري‪ ،‬يظهــر ثديهــا بعفويــة غــر مكرتثــة‪ .‬بينــا فتــاة «متحــررة» ترتــدي الشــورت‬
‫والربوتيــل تخجــل مــن حلمتهــا وتعتربهــا التفاحــة عــى رأس الرجــل الــذي يقــف عــى‬
‫الشــجرة‪ ،‬تفاحــة كل الســهام‪ ،‬تنتظــر روبــن هــود‪ ،‬بينــا تســدل املــرأة الشــاوية ثديهــا‬
‫كصــوت جــرس الســاعة الكبــرة يف وســط املدينــة غــر منتظــرة أحــدا ً‪.‬‬
‫ال غودو وال املهدي وال الربابرة‪.‬‬
‫هكــذا فهمــت الجنــدر الســوري األنثــوي‪ ،‬إذا فهمــي غلــط‪ ...‬فأمــي مــا جابتنــي‬
‫عالدنيــا منشــان أفهــم كل يش صــح‪.‬‬
‫لقمان ديركي‬

‫مرض نفيس اسمه املرأة‬

‫رجــال الــرق هــم الذيــن يحــددون مــا عــى املــرأة أن تكــون عليــه‪ .‬وملَ ال‪ ،‬طاملــا‬
‫أن مجتمعاتنــا تعيــش يف عــز مــا يســمى باملجتمعــات األبويــة أو الذكوريــة املطلقــة‪.‬‬
‫فالحــل واملفتــاح والبــاب والطريــق والنافــذة والتنفــس والتحــرك والســكون كلــه بيــد‬
‫يل املــرأة ســواء كــزوج أو كأب أو كأخ أو كعــم أو كخــال‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫الرجــل‪ .‬فهــو و ّ‬
‫وعــى الرغــم مــن كل هــذه القــوة‪ ،‬وعــى الرغــم مــن كل مــا منــح املجتمــع مــن حقــوق‬
‫للرجل بالسيطرة عىل املرأة‪ ،‬فإن الرجل الرشقي مهزوز بامتياز أمام املرأة‪ ،‬ومريض‬
‫نفســياً بســببها‪ ،‬بــل ويعــاين مــن اإلنفصــام التــام يف أي شــأن يخــص املــرأة‪.‬‬
‫الرجــل الــذي يســهر يف الكباريــه وهــو يــرب الخمــر مــن حــذاء عاهــرة محرتفــة‬
‫يف لحظــات صفــاء رجــويل‪ ،‬هــو ذاتــه الــذي يرمــي أختــه بحذائــه يف الصبــاح ألي‬
‫ســبب مــن األســباب‪ .‬وال تعتقــد أن هــذا الرجــل الــذي ميــي مــن بــاب ســيارته‬
‫إىل «املــول» وهــو يجــر خلفــه امرأتــه املنقبــة وخادمتهــا الرسيالنكيــة املنقبــة أيضـاً‪،‬‬
‫لتوفــر االنســجام يف املظهــر العــام أمــام العــوام برجــل ديــن متطــرف‪ ،‬ال‪ ،‬إنــه فقــط‬
‫هكــذا هنــا‪ ،‬ويف الليــل ســبع الليــل‪ .‬فهــو الــذي يرقــص قــرب طاولتــه حــال اقــراب‬
‫املطربــة ذات الصــوت األجــش والصــدر البــارز والســيقان البضــة منــه والغنــاء عــى‬
‫أطــال طاولتــه‪ ،‬وهــو الــذي يرمــي بالنقــود عليهــا يف قمــة إعجابــه‪ ،‬وهــو الــذي يرمــي‬
‫بالتحيــات الصوتيــة املبجلــة للفنانــة مــع النقــود‪ ،‬وهــو الــذي يجــره زمــاؤه إىل البيت‬
‫جــرا ً وهــو ميــارس هوايتــه بالرتنــح العلنــي يف الشــوارع املعتمــة‪ ،‬ويف الصبــاح يــؤدب‬
‫‪79‬‬ ‫رملا همسا يسفن ضرم‬

‫ابنته التي تطالب بأن تكمل تعليمها بالرضب‪ ،‬إذا لزم األمر‪ .‬يرمي تحيات اإلعجاب‬
‫يكريد نامقل‬

‫هنــاك‪ ،‬والشــتائم والســباب هنــا‪ .‬يرمــي النقــود هنــاك‪ ،‬وهنــا يرمــي كفــه كاملخبــاط‬
‫عــى الوجــه األنثــوي البنتــه‪ .‬يصبــح ممســحة هنــاك‪ ،‬ويتحــول إىل علــم خفــاق هنــا‪.‬‬
‫ولكن املرأة ليست من هذا النوع دامئاً‪ ،‬فاملرأة إذا ما سمح لها باالنخراط يف‬
‫الحياة العامة والعمل فإنها ستعيش كل التناقضات‪ ،‬خاصة إذا ما كانت متتلك‬
‫مســحة مــن جــال‪ .‬العمــل متوفــر دامئ ـاً‪ ،‬وال حاجــة للكفــاءة‪ ،‬وال حتــى إىل شــهادة‬
‫الكفــاءة أو الربوفيــه‪ .‬وليــس غريب ـاً أن تجــد شــباناً يحملــون شــهادات االختصــاص‬
‫املطلــوب إضافــة إىل لغتــن أو أكــر يخــرون فــرص العمــل أمام مجرد فتاة جميلة‪.‬‬
‫والفتــاة الجميلــة ســتعاين األم ّريــن يف مــكان العمــل‪ ،‬فالــكل ســيحاولون معهــا‪،‬‬
‫بدءا ً من اآلذن وانتهاء باملدير العام‪ .‬جميعهم سيتخذون وضعية العاشق الولهان‬
‫الجاهــز لــكل طلباتهــا‪ .‬فــإذا مــا فشــل الجميــع يف الظفــر بحبهــا والنيــل مــن عواطفهــا‬
‫فإنها ســتجد نفســها خارج العمل بالتأكيد بعد اســتنفادها فرص البقاء عىل رأس‬
‫وظيفتها‪.‬‬
‫وما من شك بأن هناك من ستقبل بعواطف املدير‪ ،‬وستبادله إياها بعواطف‬
‫أقوى‪ ،‬وستتحول بني ليلة وضحاها من موظفة عادية إىل املديرة الفعلية ممتطي ًة‬
‫صهــوة املديــر العــام وهــي تســتخدم ربطــة عنقــه كلجــام‪ ،‬نعــم يــا صــاح‪ ،‬فاملــرأة يف‬
‫بالدنــا قاتلــة وقتيلــة بــآن‪ ،‬فهــي الحبيســة يف غــرف مظلمــة ال تــرى النــور كل حياتهــا‪،‬‬
‫وهي الالعبة تحت األضواء مل تر العتمة كل حياتها‪ ،‬والقاسم املشرتك بني هاتني‬
‫املرأتــن هــو رجــل واحــد‪ ،‬هــو املريــض النفيس املكبوت‪ ،‬وهذا القاســم املشــرك‬
‫هــو الــذي مينــع املــرأة مــن التقــدم والتحــرر‪ ،‬ألن فكــرة حريــة املــرأة تصيبــه برعــب‬
‫ال مثيــل لــه‪ ،‬فاملــرأة نوعــان‪ ،‬نــوع يســتخدم لحيــاة الــورع والتقــوى واألرسة واألوالد‪،‬‬
‫وهــي املــرأة الســجينة املمنوعــة مــن العمــل أو أي يشء يحقــق لهــا وجودهــا‪ .‬ونــوع‬
‫يســتخدم الســتهالك جســدها واالســتمتاع مبا يشــرى منه لعدة أيام أو ســنوات أو‬
‫ســاعات‪ .‬والنوعــان يعمــان عنــد رجــل مكلــل مــن رأســه حتــى أخمــص قدميــه بالعار‪.‬‬
‫عار الجهل‪ ،‬عار التسلط‪ ،‬عار األنانية‪ ،‬عار الكذب‪ ،‬عار انعدام األخالق الحميدة‪،‬‬
‫عــار الكبــت‪ ،‬عــار لصــق العــار باملــرأة كيــا تهتــز صورتــه يف املــرآة أمــام عينيــه وهــو‬
‫يــرى مرضــه النفــي املثــر للشــفقة‪ ...‬وبالتأكيــد لالشــمئزاز‪.‬‬
‫نعم املرأة نصف املجتمع‪ ،‬لذلك فإن املجتمع الرشق أوسطي يعيش متأخرا ً‪،‬‬
‫ألن نصف املجتمع إما حبيس البيوت‪ ،‬وإما أسري الرغبات املريضة واألستهالك‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪80‬‬

‫أمــا مــا نــدر مــن صنــف النســاء الحــرات‪ ،‬فقــد حصلــن عــى الحريــة بعــد أن رأي ـ َن‬
‫بأعينهــن‪ ،‬وملسـ َن بــكل حواســهن‪ ،‬أشــد مــا يثــر القــرف والغثيــان ســواء يف الشــارع‬
‫أو يف أماكن العمل أو يف أماكن الرتفيه واالستجامم‪ .‬ملس َن ما هو أشد وطأة من‬
‫املخاطــر واألهــوال‪ .‬ملسـ َن ال رجولــة معظــم مــن ي َّدعــون بأنهــم رجــال‪.‬‬
‫)*(‬
‫عبد الرحمن حالق‬

‫املستبد السوري والجنس‬

‫يشــكل الــرف أعــى قيمــة أخالقيــة عرفهــا اإلنســان وتوافــق عليهــا منــذ األزل ‪،‬‬
‫ولذلك كان من الطبيعي جدا ً أن يلجأ طرفا رصاع ما يف أي بقعة عىل وجه األرض‬
‫إىل محاولة اإلقالل أو الرضب يف رشف اآلخر ‪ ،‬وذلك بغض النظر عن االختالفات‬
‫الجزئية يف مفهوم الرشف بني بيئة وأخرى‪ ،‬ويف عاملنا اإلســامي عموماً والعريب‬
‫عىل وجه الخصوص تشكل عفة املرأة واحدا ً من أهم املرتكزات التي يقوم عليها‬
‫مفهــوم الــرف وذلــك بســبب التعاليــم الدينيــة واألعــراف االجتامعيــة الســائدة‪،‬‬
‫باإلضافة إىل هذا املرتكز يســتند الرشف أيضاً إىل ما يطلق عليه مفهوم الرجولة‪،‬‬
‫بغــض النظــر عــن بعــض االختالفــات الجزئيــة فيــه أيضـاً‪ ،‬لكنــه يف عمومــه ينطلــق مــن‬
‫األســس العامــة التــي رســخها عــر القبيلــة (الفرســان) والــذي يــرى يف املــرأة كيانـاً‬
‫ضعيف ـاً يجــب الحفــاظ عليهــا وصــون عفتهــا‪ ،‬لذلــك تأسســت تلــك النظــرة التــي‬
‫تقلــل مــن شــأن الرجــل وتنقلــه إىل رتبــة أدىن (رتبــة املــرأة) وعــى ذلــك يعــد الرجــل‬
‫الــذي يُســتعمل مــن الخلــف مــن أحــط البــر وبــا رشف أيضـاً ‪ -‬وتجــدر اإلشــارة هنــا‬
‫أن هــذه النظــرة هــي النظــرة االجتامعيــة الســائدة بعيــدا ً عــن التوصيفــات العلميــة ‪.-‬‬
‫بنــاء عليــه صــار االغتصــاب ليــس حالــة مــن حــاالت التعــدي عــى الحريــة الشــخصية‬
‫فحســب‪ ،‬وإمنــا أيضـاً حالــة إذالل مــا بعــده إذالل‪ ،‬لقــد أصبــح يف العــر الحديــث‬

‫*) عبــد الرحمــن حــاق‪ :‬كاتــب وروايئ ســوري صــدر لــه ‪ :‬صباحــات مهشــمة ـ قصــص ‪ .‬وقــاع‬
‫ضامــرة ـ روايــة‬
‫أحــد أهــم األســلحة القــذرة التــي تُســتخدم يف بعــض أنــواع الــراع الداخــي‪ ،‬إذ مل يصــل إلينــا ـ عــى‬
‫حد علمي املحدود ـ أن استعمل هذا السالح يف الحروب العسكرية التقليدية‪ .‬وقد كان اإلنسان‬
‫إىل عــر قريــب جــدا ً يربــأ بنفســه عــن هــذا الفعــل الشــنيع مســتعيضاً عــن ذلــك بــأداة (الخــازوق)‬
‫وحســب ويكيبيديــا فــإن أول مــن اســتعمل الخــازوق هــم الفــرس ـ حســبام يذكــر هــرودوت ـ فامللــك‬
‫داريــوس أعــدم ثالثــة آالف بابــي بهــذه الوســيلة عندمــا احتــل بابــل ثــم كــر اســتعامله يف العصــور‬
‫الوســطى (خاصــة يف الســويد وروســيا) بعــد ذلــك نقلــه األتــراك مــن العــراق إىل مــر‪ ،‬أمــا أول مــرة‬
‫اســتخدم فيهــا عــى يــد الجيــش الفرنــي فقــد كانــت يــوم إعــدام ســليامن الحلبــي‪.‬‬
‫مــع التطــور املــدين والتقنــي للبرشيــة نســتطيع القــول أن هــذه األداة فقــدت صالحيتهــا ومل تعــد‬
‫قــادرة عــى الصمــود يف وجــه التاريــخ فــكان أن تحولــت مــن ماهيتهــا الخشــبية إىل ماهيتهــا البرشيــة‬
‫(العضــو الذكــري) مبعنــى آخــر تــم التحــول الوظيفــي لهــا مــن أداة إلعــدام الجســد إىل أداة إلعــدام‬
‫الــروح أو النفــس التواقــة إىل الحريــة‪.‬‬
‫لقــد احتــاج هــذا التحــول تاريخـاً مــن االنحطــاط األخالقــي لفئــة مســتبدة تدافــع عــن وجودهــا بكل‬
‫أنواع األســلحة املتعارف عليها أو املحرمة دولياً وإنســانياً‪.‬‬
‫يف الحالــة الســورية نبلــغ قــاع هــذا االنحطــاط األخالقــي لــدى املســتبد الســوري‪ ،‬حيــث الكــذب‬
‫والتلفيق بوقاحة‪ ،‬والعنف بوقاحة أيضاً‪ ،‬فقد ج ّيش وسائل إعالمه وإعالم الدول واألفراد املؤيدين‬
‫لــه إلقنــاع العــامل وإقنــاع مؤيــدي سياســته‪ ،‬كل ذلــك يك يــدوم لــه الحكــم وتــدوم ملؤيديــه املنافــع‬
‫املرجــوة ‪ ،‬يف غيــاب واضــح ألي وازع أخالقــي دينيـاً كان أم غــر دينــي‪.‬‬
‫لقــد تعمــد املســتبد الســوري منــذ تأسســه ترســيخ مجموعــة مــن التابوهــات الجديــدة تتمركــز‬
‫جميعهــا حــول حرمانيــة املســاس بهيبــة الحاكــم حتــى وصــل بــه األمــر أن أوحــى للمنتفعــن منــه أن‬
‫يعلنــوه رب ـاً بالقــوة‪ ،‬مســتعيناً عــى تحقيــق ذلــك مبــا ميتلــك مــن قــوة‪ ،‬متوه ـاً بقناعــة راســخة أن‬
‫اســتمرارية القتــل واإلذالل بشــتى أنواعــه كفيــان بعــودة هــذا الشــعب إىل حظريتــه‪ .‬وللقتــل واإلذالل‬
‫وســائل عديــدة جــدا ً وجميعهــا مباحــة يف عــرف هــذا املســتبد‪.‬‬
‫وألجــل إيجــاد منفذيــن أمنــاء لتلــك الوســائل كان البــد لــه مــن خلــق جيــل مــن املنتفعــن ميلكــون‬
‫االســتعداد للتديــن بــأي ديــن جديــد يضمــن لهــم مكاســبهم الشــخصية‪ ،‬وهــذا مارأينــاه جلي ـاً يف‬
‫العنــارص التــي كانــت تدعــس عــى املتظاهريــن مــع تكــرار الســؤالني التقليديــن (بدكــن حريــة؟)‬
‫(ومــن ربــك؟) والويــل ملــن يجيــب عــن األول باإلثبــات أو مــن يجيــب عــن الثــاين بغــر كلمــة (بشــار)‬
‫مــع الســاح لهــؤالء املنتفعــن مبامرســة كل أنــواع القتــل والتعذيــب باملطلــق‪ ،‬ولذلــك رأينــا تقطيــع‬
‫أجساد األطفال والنساء‪ ،‬ورأينا القتل باسم عيل والحسني ورأينا حاالت التلذذ بالتعذيب وإهانة‬
‫األرسى واملعتقلــن‪ ،‬وقــد كان النصيــب األكــر حتــى إعالمي ـاً لقتــل النفــوس التواقــة واألرواح التــي‬
‫تــروم حريتهــا‪ ،‬فــا عجــب إذا ً اتهــام الطفــل حمــزة الخطيــب بأنــه كان يريــد اغتصــاب نســاء الضبــاط‬
‫لذلــك قُطــع عضــوه الذكــري أثنــاء تعذيبــه‪ ،‬وحمــزة الخطيــب ال يشــكل حالــة فرديــة عــى اإلطــاق بــل‬
‫ظاهــرة عامــة تجدهــا يف صــور اآلالف ممــن قضــوا تحــت التعذيــب يف ســجون املســتبد الســوري‪،‬‬
‫رمبــا اشــتهرت حالــة الطفــل حمــزة الخطيــب كونهــا كانــت الصدمــة األوىل التــي بــدأت تكشــف الوجــه‬
‫الحقيقــي للمســتبد‪ .‬وتجــدر اإلشــارة هنــا أن لقطــع العضــو الذكــري داللتــان يجــب التوقــف عندهــا‬
‫بعــض الــيء‪ .‬األوىل وتتمثــل برغبــة املســتبد العارمــة بإخصــاء أبنــاء الثــورة‪ ،‬وال تتوقــف الداللــة‬
‫هنــا عنــد اإلخصــاء الجســدي ومــا يالقيــه املخــي مــن حــرج وأمل ألنــه فقــد كفــاءة الرجولــة ـ حســب‬
‫املنظــور االجتامعــي ـ وإمنــا تتعــدى هــذا املعنــى لتشــر إىل حالــة مــن اإلخصــاء الفكــري والثقــايف‬
‫تجعــل املخــي برتبــة قريبــة مــن مرتكــب الفعــل يك ال يبــدو هــذا الفاعــل املســتبد مبنظــر الجاهــل‬
‫واملتخلــف بــن طــريف الــراع‪ ،‬لذلــك يعمــد بهــذه الطريقــة إىل تشــتيت وعــي الخصــم وإجبــاره عىل‬
‫القبــول والــرىض‪.‬‬
‫لقــد عــرف النظــام الســوري منــذ عهــد األســد األب كيــف يــريب هــذا الجيــل مــن منتفعيــه فأبعــد‬
‫عن الساحة كل صاحب مبدأ أصيل رغم أن معركته كانت يف الثامنينات فقط مع حركة “األخوان‬
‫املســلمني”‪ .‬وزج يف الســجون كل األطيــاف األخــرى‪ ،‬ثــم رســخ فكــرة العاملــة للخــارج وكذلــك كـ ّرس‬
‫فكــرة الخيانــة لــكل معــارض خــارج ســوريا وكأن الحيــاة الدميقراطيــة يف أبهــى صورهــا‪.‬‬
‫ولعل أهم ما مييز هذا الجيل كان‪:‬‬
‫‪1.1‬خلــوه مــن أي وازع أخالقــي فاالقــراب مــن الديــن يعنــي اقرتاب ـاً مــن تنظيــم األخــوان صاحــب‬
‫(النشــأة املشــبوهة والتاريــخ األســود – عــى حــد تعبــر أدبيــات النظــام) ‪ ،‬وانتقــاد الفســاد‬
‫يعنــي انتقــاد للــذات الحاكمــة‪ ،‬والحديــث عــن العدالــة يعنــي أن القضــاء الســوري متمث ـاً‬
‫برئيســه األعــى (رئيــس الدولــة) قضــاء فاســد ‪.‬‬
‫‪ 2.‬اســتعداده التــام لتنفيــذ أوامــر (املعلــم) واملعلــم يف هــذه الحالــة يتمثــل بالرئيــس املبــارش‪،‬‬
‫إذ فــوق كل معلــم معلــم أعــى‪.‬‬
‫‪ 3.‬التفاخــر بإنجــازات املهــام املوكلــة وباألعــال التــي يقــوم فيهــا الفــرد مهــا كان فيهــا مــن أذيــة‬
‫لآلخريــن‪.‬‬
‫ومــن خــال هــذا الجيــل الفاســد تــم تشــكيل مــا يســمى باللجــان الشــعبية ومــن ثــم جيــش الدفــاع‬
‫الوطنــي‪ ،‬مهمتهــم فــض املظاهــرات والتصــدي لهــا واعتقــال املتظاهريــن‪ .‬لقــد تــم إطــاق يــد حثالــة‬
‫املجتمــع عــى املجتمــع وهــذا مــا أنتــج صــور القتــل غــر املســبوق يف هــذه الثــورة وكذلــك أنتج صور‬
‫اإلذالل غــر املســبوق أيضـاً ألحــرار املجتمــع‪ ،‬لقــد أطلقــت الغرائــز مــن أعنتهــا بعــد تســفيل الجانــب‬
‫اإلنســاين ألصحابهــا‪ ،‬مــا دعــى الكثــر مــن الســوريني يتســاءلون باســتغراب‪ ،‬هــل هــؤالء الطغــاة بــر‬
‫حقـاً؟ وكيــف كانــوا يعيشــون بيننــا كل هــذه املــدة؟ وهــو تســاؤل مــروع أمــام الفظاعــات اإلنســانية‬
‫التــي ارتكبهــا مجنــدو املســتبد مــن قتــل وتقطيــع أوصــال ألطفــال ولنســاء ولشــباب ولــكل مــن وقــف‬
‫وتظاهــر مطالب ـاً بحريتــه‪ ،‬وكذلــك الفظاعــات الجنســية املرتكبــة منــذ البدايــات األوىل كــا حــدث‬
‫يف معمــل الســكر يف جــر الشــغور وكــا حــدث يف كل املناطــق الثائــرة‪ .‬وقــد أعطــى لهــذا النــوع‬
‫مــن القتــل واالغتصــاب صبغــة دينيــة يف بعــض الحــاالت وذلــك عندمــا بــدأ يســتعني بأتبــاع مــايل‬
‫إيران الذين وفدوا إىل ســوريا إن كمرتزقة أو بتكليف رســمي من أحزابهم يف العراق ولبنان‪ ،‬وهناك‬
‫الكثري من الصور واألفالم املوثقة عن القتل باســم الحســن‪ ،‬وهذا ما فتح الباب واســعاً أمام رصاع‬
‫مــن نــوع جديــد إنــه الــراع مــا بــن نــكاح املتعــة وجهــاد النــكاح‪ ،‬وإن اتخــذ هــذا النــوع مــن الــراع‬
‫حالــة إعالميــة فقــط إذ مل توثــق أي حالــة بشــكل حقيقــي علـاً أن اإلعــام املحايــد حــاول تقــي هــذا‬
‫املوضوع بشكل دقيق لكنه خرج بقناعة تامة أن هذا مفربك كام رأينا يف الريبورتاج الذي قامت به‬
‫القنــاة الفرنســية (فرانــس‪ (*)) 24‬وخلصــت إىل أنــه مجــرد خدعــة‪ .‬لكــن ظهــور هــذه الحالــة من الرصاع‬
‫اإلعالمي ـ وإن كانت خدعة أو مفربكة ـ كان له هدف واحد هو رضب أحد جوانب مقومات الثورة‪،‬‬
‫واســتجرار الثائريــن لالنشــغال مبعركــة هامشــية تشــغلهم عــن أهــداف الثــورة التــي انطلقــوا مــن أجلها‪.‬‬
‫لقد اســتطاع املســتبد الســوري أن ينهي حياة الكثري من الثوار ممن طالتهم يده أو رصاصته أو‬
‫براميلــه املتفجــرة أو صواريخــه الباليســتية أو ســاحه الكيــاوي‪ ،‬أمــا مــن مل يســتطع أن يطالهــم بهــذه‬
‫األدوات فقــد عمــل جاهــدا ً ليطــال رشفهــم بهــذه الصــورة القميئــة‪ ،‬وكان كلــا ارتكــب جرميــة اتهــم بهــا‬
‫من سامهم العصابات املسلحة‪ ،‬والعصابات املسلحة هم كل من قال له ال‪ .‬لقد سعى يف واقع‬
‫األمــر إىل أن يســبغ عــى الثــوار صفاتــه هــو‪ ،‬صفــات عنــارصه الذيــن رباهــم عــى متجيــد الغريــزة دون‬
‫أن يحدهــا أي وازع‪ .‬إنهــا الحــرب ويف الحــرب كل يشء مبــاح‪ ،‬فقــد اســتطاع املســتبد الســوري عــزل‬
‫نفســه أوالً عــن الشــعب‪ ،‬ثــم اصطنــع لنفســه شــعباً يؤيــده يتمثــل يف مجمــوع املنتفعــن منــه الذيــن‬
‫يقفــون مــع املســتبد يف معركتــه ضــد الحريــة والكرامــة‪ ،‬وبذلــك تشــعبت فــروع املعركــة ومل تتوقــف‬
‫عند السالح التقليدي وقمع املتظاهرين‪ ،‬فبات الرصاع عسكرياً وثقافياً واجتامعياً‪ ،‬لقد تم تنفيذ‬
‫تعاليم الرب بتطييف الثورة‪ ،‬واالنسياق خلف تلفيقات النظام االعالمية‪ ،‬حتى بلغ األمر بهم تظاهر‬
‫مؤيدي األسد ضد إدخال الطعام للمحارصين يف حمص القدمية بحجة أنهم الحاضنة االجتامعية‬
‫لإلرهــاب‪ ،‬هــذا عــدا عــن إقامــة األســواق للمرسوقــات مــن بيــوت األكرثيــة الســنية يف مــا بــات يُعــرف‬
‫(بأســواق السـ ّنة) وال عجــب إذا ً أن نــرى طيــار النظــام يلقــي برباميلــه العشــوائية فــوق املــدن ‪ ،‬ونــرى‬
‫الســجان يف املعتقــات الســورية يقــوم باغتصــاب معتقــل أو بقطــع عضــوه الذكــري ‪ ،‬يف حــن يقــوم‬
‫الطبيــب الــذي أقســم قســم أبقــراط بتصفيــة الجرحــى أو رسقــة أعضائهــم الداخليــة يف املشــايف‪.‬‬

‫‪observers.france24.com/ar/content‬‬ ‫*) موقع أوبرسفر‪:‬‬


‫إنــه الشــعب الــذي اصطفــاه الــرب‪ ،‬الشــعب املؤمــن جــدا ً بــأن الخيــار الوحيــد يف‬
‫ســوريا هــو خيــار (األســد أو نحــرق البلــد)‪ ،‬فــا الــذي ســيمنعه إذا ً مــن محــاوالت‬
‫رضب مفهــوم الــرف عنــد األكرثيــة الثائــرة وإلصــاق األكاذيــب الجنســية عنهــا‪ ،‬أو‬
‫اتهامهــا بالعاملــة لقــوى خارجيــة ‪ ،‬فقــد التقــط هــذا الشــعب املصطفــى ‪ -‬مــن قبــل‬
‫املســتبد ‪ -‬اإلشــارة مــن حادثــة اعتقــال املدونــة طــل امللوحــي‪ ،‬عندمــا ألصقــت بهــا‬
‫تهمــة التخابــر مــع تهمــة إقامــة عالقــة جنســية مــع ضابــط منســاوي مرتبــط باملخابــرات‬
‫املركزيــة األمريكيــة‪ ،‬لذلــك مل يــردد مطلقـاً بفعــل مــا يريــد حفاظـاً عــى كــريس الــرب‬
‫الــذي يحقــق لــه مكاســبه الخاصــة‪.‬‬
‫إياد جميل محفوظ‬

‫شارع ‪142‬‬

‫حدثنــي الصديــق (أبــو رائــد) عــن إحــدى ذكرياتــه عندمــا كان فتــى‪ ...‬فكثــرا ً‬
‫مــا تدغــدغ عواطفنــا تلــك الحكايــات املختبئــة يف ثنايــا الذاكــرة حــن تومــض بغتــة‬
‫يف صدورنــا بــن الفينــة واألخــرى‪ ...‬وال ريــب يف أن أبهجهــا عــى اإلطــاق تلــك‬
‫املتعلقــة بأيــام العيــد‪ ...‬وال ســيام حينــا تكــون مقرتنــة بــيء مــن شــغب املراهقــة‬
‫وطيشــها اللذيــذ‪ ...‬فمــن م ّنــا مل يقبــل أيــدي والديْــه يف صبــاح ذاك اليــوم منتظــرا ً‬
‫العيدية التي تغدو سخية مع إفراطنا يف منحهم الحنان واإلجالل يف أثناء تقبيلهم‬
‫ومعانقتهــم‪ ...‬ومــا إن نحظــى بهــا حتــى ننطلــق مــع أترابنــا للبحــث عــن املــرح واللهــو‬
‫والبهجــة يف دور الســينام واملقاهــي ويف أماكــن أخــرى‪.‬‬
‫فقــد حدثنــي (أبــو رائــد) عــن إحــدى غزواتــه التــي قــام بهــا برفقــة أصدقائــه إىل‬
‫(شــارع رقــم ‪ (1) )142‬يف أحــد أيــام العيــد‪.‬‬
‫عــى أن (أبــا رائــد) وأصحابــه مل يكــن هدفهــم األســايس مــن زيــارة هــذا املــكان‬
‫قطف املتعة فقط‪ ...‬بل متضية الوقت باللهو واملرح هو الغاية املرجوة األوىل‪...‬‬
‫إذ كانــوا ميكثــون حين ـاً مــن الزمــن يف كل دارة يدلفــون إليهــا‪ ...‬ويعمــدون فيــه إىل‬
‫مشاكسة املومسات ومداعبتهن‪ ...‬وتبادل النكات الساخنة معهن‪ ...‬وقد أخربين‬
‫أن التســكع بــن الغانيــات ومالطفتهــن كان يبعــث وافــر املــرة يف صدورهــم‪...‬‬
‫وهــو خــر ألــف مــرة مــن بلــوغ املتعــة القصــوى يف مخادعهــن‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫ عراشراش‬

‫ويف يــوم مــن أيــام العيــد‪ ،‬ضاقــت إحــدى (البرتونــات) )‪ (2‬ذرعـاً بهــم بعــد أن أمضــوا نصــف ســاعة‬
‫ظوفحم ليمج دايإ‬

‫أو مــا يزيــد عــى مالغــاة ومداعبــة فتياتهــا دون اإلقــدام عــى أي فعــلٍ ذي فائــدة‪ ...‬فأقبلــت عليهــم‬
‫بوجــه ال يخلــو مــن اســتنكار وتجهــم قائلــة‪:‬‬
‫«يا شباب‪ ...‬الله يرىض عليكم‪ ...‬ال تضيعوا أوقاتنا وأوقاتكم‪ ...‬فالدنيا أعياد‪ ...‬وأيام َج ْب‪...‬‬
‫مــا بدنــا حييكــة‪ ...‬بدنا نييكة»‪.‬‬
‫وقــد ُســمح بإنشــاء هــذا املــكان يف أيــام الدولــة العثامنيــة‪ ...‬حــن قــرر وايل حلــب (رائــف باشــا)‬
‫)‪ (3‬يف العــام (‪ )1900‬افتتــاح دار للدعــارة‪ ...‬أســوة مبــدن الســلطنة العثامنيــة األخــرى‪ ...‬كــا ذكــر‬
‫(الشيخ محمد راغب الطباخ) )‪ (4‬يف كتابه إعالم النبالء يف تاريخ حلب الشهباء‪ ...‬وكان الهدف‬
‫الرئيس من إنشائه حرص عمل املومسات يف مكان واحد‪ ،‬وتنظيمه‪ ،‬وفرض رقابة صحية عليهن‪...‬‬
‫وأعتقد أن هذه الدور كان لها مهمة أخرى وهي توفري الخدمة ألفراد الحاميات العسكرية املوجودة‬
‫يف مدن السلطنة كافة‪.‬‬
‫وقبــل فتــح هــذا املــكان بصفــة رســمية كانــت الفحشــاء والخــارات منتــرة بصــورة كبــرة يف‬
‫منطقــة (كــرم الكســمة) )‪ (5‬املجــاورة (لقشــلة الــرك )‪ - (6‬ثكنــة هنانــو حالي ـاً)‪.‬‬
‫وقــد أطلــق أهــايل حلــب عــى املــكان الرســمي الجديــد عــدة أســاء منهــا‪) :‬دار البغــاء‪ ،‬بيــوت‬
‫الدعــارة‪ ،‬املحــل العمومــي‪ ،‬املنــزول )‪ ، (7‬الكرخانــة )‪ ، (8‬بحســيتا )‪ ، (9‬وشــارع ‪.(142‬‬
‫وقد وقفت السلطات املحلية يف حلب آنذاك عدة دور لهذا الغرض يف قلب حي (بحسيتا)‬
‫املجــاور لســاعة بــاب الفــرج مــن جهــة الــرق‪ ...‬وكانــت تنتــر عــى جانبــي الشــارع الرئيــس يف هــذا‬
‫الحي املحالت التجارية املتنوعة‪ ...‬ويف منتصفه مثة بوابة قدمية ال يتجاوز عرضها املرت الواحد‬
‫علق عىل ناصيتها لوحة صغرية كتب عليها الرقم (‪ ...(142‬تنفذ منها إىل زقاق ضيق‪ ...‬تقبع عىل‬
‫ضفتيــه دورعربيــة قدميــة‪ ...‬يتوســط كالً منهــا أرض ديــار‪ ...‬وتتــوزع عــى أطرافــه غــرف املومســات‪...‬‬
‫ولبعــض الــدور غــرف علويــة تســمى (مربــع) )‪ ...(10‬ويتفــرع مــن هــذا الزقــاق عــدة أزقــة صغــرة تضــم‬
‫دورا ً عربيــة مشــابهة‪ ...‬عمــدت الســلطات املحليــة إىل إغــاق نهاياتهــا عــى نحــو بــات فيــه املحــل‬
‫العمومــي منطقــة معزولــة عــن محيطه‪.‬‬
‫وبعد البوابة مبارشة تستقبلك غرفة مستقلة خصصت لرجال الرشطة الذين تقع عىل عواتقهم‬
‫عــدة مســؤوليات‪ :‬منهــا املحافظــة عــى األمــن مــن خــال التفتيــش عــن األســلحة ومصادرتهــا خشــية‬
‫أن يســتخدمها أقارب املومســات يف قتلهن ثأرا ً لرشفهم وغسـاً للعار الذي لحق بهم‪ ...‬واملهمة‬
‫الثانيــة منــع األحــداث دون الثامنــة عــرة مــن الدخــول‪ ...‬ولكــن جــرت العــادة أن تحــل هــذه املســألة‬
‫بدس مبلغ بســيط داخل الهوية الشــخصية التي كانت تطوى عىل بعضها البعض آنذاك‪ ...‬فيمر‬
‫الضيــف بســام‪ ...‬وأصبــح رســم املــرور لألحــداث يف الســنوات األخــرة لــرة ســورية كاملــة‪ ...‬ومــن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪88‬‬

‫مهامهــم أيضـاً عــدم الســاح بتعاطــي املرشوبــات الروحيــة يف املنــزول‪ ...‬تجنبـاً لســلوك الســكارى‬
‫غــر املنضبــط‪ ...‬إال أن تهريبهــا مل يكــن أمــرا ً عســرا ً‪ ...‬فقــد كانــت زجاجــات الخمــر تتســلل إليــه مــن‬
‫دكان متخصــص ببيعهــا‪ ...‬يقــع بالقــرب مــن املحــل العمومــي‪.‬‬
‫وأســوق لكــم هنــا قصــة طريفــة عــن أحــد الرياضيــن املرموقــن يف ذاك الزمــان‪ -‬وباملناســبة كان‬
‫الرياضيــون بشــكل عــام متيمــن باملنــزول‪ -‬وكانــوا يشــدون الرحــال إليــه جامعــات وأفــرادا‪ ...‬وأقــول‬
‫إنــه مــن شــدة تعلــق صديقنــا‪ ،‬وإدمانــه ارتيــاد (شــارع ‪ )142‬لجــأ إىل أرفــع الوســاطات لتكــون خدمتــه‬
‫اإللزامية يف الرشطة العسكرية‪ ...‬ومن ثم استطاع إقناع مسؤوليه بأنه خري من يتوىل مهمة اإلرشاف‬
‫عــى الفــرة املخصصــة للعســاكر‪ ...‬فــكان لــه مــا أراد‪ ...‬فقــد أمــى معظــم خدمتــه اإلجباريــة رئيسـاً‬
‫ملفــرزة أمــن املحــل العمومــي‪ ...‬وحــن غــادره إثــر عودتــه إىل الحيــاة املدنيــة‪ ،‬خلــف وراءه أثــرا ً طيبـاً‬
‫وذكــرى خالــدة‪ ،‬إذ كان رحيـاً ولينـاً مــع نزيالتــه‪ ،‬وشــديدا ً وصلبـاً مــع رواده‪.‬‬
‫ومع األيام أصبح مثة قوانني وأعراف تتحكم يف إدارة هذه املنشأة االجتامعية الحيوية‪ ...‬منها‬
‫أن الفتيــات ال يعملــن يف هــذا املنــزول قــرا ً‪ ...‬بــل عــن رغبــة شــخصية منهــن لإلقامــة فيــه‪ ،‬ليتســنى‬
‫لهن مامرسة املهنة بحرية‪ ...‬أو يف حال ضبطهن ميارسن الدعارة للمرة الثالثة‪ ...‬أي بعد منحهن‬
‫فرصتني للتوبة‪ ...‬وال يعني إرصارهن عىل بيع أجسادهن مرة بعد مرة‪ ،‬إال أنهن راغبات يف احرتاف‬
‫البغاء والفجور‪ ...‬حينئذ ينبغي لهن القيام بها يف املكان املخصص لها‪.‬‬
‫ويضــم املنــزول عــرات الداعــرات مــن مختلــف األعــار والجنســيات‪ ،‬وأغلبهــن قدمــن من خارج‬
‫املدينــة‪ ...‬وحــن متــي البغـ ُـي نزيل ـ ًة يف املحــل العمومــي متنــح رخصــة رســمية ملزاولــة املهنــة‬
‫وتخصــص لهــا غرفــة مســتقلة يف أحــد الــدور‪ ...‬متــارس عملهــا بــن جدرانهــا بأريحيــة ومهــارة تامتــن‪،‬‬
‫وتحــت نظــر ونصائــح املرشفــة عــى هــذه الــدارة وهــي األ ّمايــة (البرتونــة) ‪ ...‬ومــن مواصفــات القـ ّوادة‬
‫الشــدة والحكمــة يف آن مع ـاً‪ ...‬وعــادة مــا تكــون بغي ـاً ســابقاً‪ ،‬انفــض عنهــا املريــدون بعــد أن بــارت‬
‫بضاعتهــا وذبلــت‪ ...‬فتغــدو مرشفــة عــى مجموعــة مــن بائعات الهوى‪ ...‬تقودهن وتأكل من عرقهن‬
‫وخــرات أجســادهن‪.‬‬
‫وحــن يتقــدم بهــن العمــر ينقلــن إىل منــزل قريــب يدعــى املنــزول العتيــق‪ ...‬إذ ميضــن فيــه مــا‬
‫تبقــى مــن حياتهــن يف عــوز وفاقــة شــديدين‪ ...‬إال مبــا يجــود بــه املحســنون مــن أهــل الســوق‪.‬‬
‫ويوجــد حــام ســوق بجــوار املنــزول‪ ،‬اســمه (حــام الهنــا)‪ ،‬خصــص صاحبــه أوقــات محــددة‬
‫الســتقبال نزيــات املحــل العمومــي‪.‬‬
‫ويف الجهة املقابلة ملدخل الكرخانة يوجد مرسح كبري‪ ...‬نقش عىل لوحة حجرية يف واجهته‬
‫عبــارة (مقهــى الســام)‪ ...‬درجــت العــادة أن يســمح ملــن متتلــك موهبــة فنيــة مــن املومســات أن‬
‫تقــدم منــرة عــى خشــبته الشــهرية‪ ...‬ويطلــق عليهــا آنئــذ لقــب (خوجــة)‪ ...‬إال أنــه ليــس بالــرورة أن‬
‫تكــون الخوجــات كلهــن ميارســن الدعــارة‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫ عراشراش‬

‫ومــن األمــور الالفتــة أن صحــة البلديــة أنشــأت منــذ زمــن بعيــد عيــادة خاصــة باملحــل العمومــي‪...‬‬
‫ظوفحم ليمج دايإ‬

‫وهــي متصلــة بنهايــة أحــد األزقــة مــن طــرف (قســطل الحجاريــن) )‪ ...(11‬إذ تــردد إليهــا املومســات‬
‫يــوم األربعــاء مــن كل أســبوع إلجــراء الفحــوص الدوريــة عــى أيــادي أهــم ثالثــة أطبــاء جلديــة وأعضــاء‬
‫تناسلســية يف املدينة‪ ...‬وتحتوي هذه العيادة عىل غرف أشــبه بالزنزانات تحجر فيه الفتيات يف‬
‫حالــن‪ ...‬األوىل إذا تبــن أنهــا مصابــة مبــرض مــا‪ ...‬أو يف أثنــاء الــدورة الشــهرية‪.‬‬
‫وتلجــأ املومســات إىل يك أرحامهــن لتجنــب حــدوث الحمــل‪ ...‬وإىل اإلجهــاض يف حــال‬
‫حدوثــه‪ ...‬فقــد كان تربيــة األطفــال ممنوعــة يف املنــزول‪.‬‬
‫وتلتزم نزيالت املحل العمومي جميعهن بقوانينه الصارمة‪ ...‬إذ متنح املومس يوم إجازة واحدا ً‬
‫يف األســبوع‪ ...‬والطريــف أنهــن كــن يرتديــن حــن يخرجــن مــن املحــل العمومــي لباس ـاً محتش ـاً‪...‬‬
‫وميتنعن عن التزين باألحمر واألخرض بصورة فاضحة‪ ...‬فرتاهن يتوارين يف األســواق بني العامة‪...‬‬
‫ويبــدون كــا لــو أنهــن ســيدات محرتمــات‪.‬‬
‫وفيام عدا ذلك مل يكن يسمح لهن بالخروج منه إال يف حاالت خاصة جدا ً‪ ...‬عىل أن أغلبهن‬
‫تحررن منه بصورة نهائية يف مناسبتني فقط‪ ،‬ال ثالثة لهام‪ :‬األوىل حني تنتقل إحداهن إىل العامل‬
‫اآلخــر‪ ...‬والثانيــة عندمــا تنتقــل إىل بيــت زوجهــا‪ ...‬وال عجــب يف ذلــك فهنــاك كثــر مــن الروايــات‬
‫تتحــدث عــن أشــخاص وقعــوا يف غــرام إحداهــن‪ ...‬فتــزوج منهــا بعــد إعــان توبتهــا‪ ...‬وتــزف مــن‬
‫املنــزول عــى زغاريــد زميالتهــا الســابقات‪ ...‬وكثــرات منهــن تابعــن حياتهــن بــرف وأنجــن أوالدا ً‪،‬‬
‫وتوفــن مزنــرات بأكفــان طاهــرة‪ ...‬عــى أنــه ينبغــي عــى زوج املومــس التائبــة أن يوقــع إقــرارا ً‪ ،‬يتعهــد‬
‫فيــه بعــدم ردهــا إىل املنــزول تحــت أي ظــرف مــن الظــروف‪.‬‬
‫ومنهــن مــن تقــع يف هــوى أحــد الــرواد فتصاحبــه‪ ...‬فيــردد عليهــا مجانـاً‪ ...‬وغالبـاً بعــد منتصــف‬
‫الليــل‪ ...‬وتنفــق عليــه إذا شــاء‪ ...‬فيتحــول هــذا الرجــل إىل شــخص منبــوذ مــن أهلــه ومحتقــر مــن قبــل‬
‫مجتمعــه‪ ...‬وتبــادر املومــس إىل تعويــض القـ ّوادة مــن مالهــا الخــاص‪ ...‬وحينئذ يحرم عىل أصدقائه‬
‫االقرتاب منها‪ ...‬ويف الوقت نفسه يحرم عليه الدخول عىل زميالتها‪ ...‬ويطلق عليه آنذاك لقب‬
‫(السيفونجي)‪.‬‬
‫ومــن األقــوال املأثــورة عنــد أهــايل حلــب عبــارة (قحبــة برخصــة) وهــي صفــة عــى شــكل شــتيمة‪،‬‬
‫يريــدون بهــا تشــبيه الشــخص الــذي يــأيت بناقصــة‪ ،‬أو ســوء‪ ،‬دون أن تبــدو عليــه مظاهــر الحــرج‪ ،‬أو‬
‫الخجــل‪ ،‬بداعــرات املنــزول الــايئ يجاهــرن بفحشــهن دون حيــاء‪.‬‬
‫ومــن األمثــال الحلبيــة الطريفــة أيض ـاً‪ ،‬حــن يقولــون عــن شــخص مــا (حظــه حــظ رشاميــط)‪...‬‬
‫ويريــدون بــه نعــت الــذي يظفــر باملــال أو الجــاه فجــأة دون عنــاء أو ذكاء بــذاك النــوع مــن الفتيــات‪...‬‬
‫غــر أننــي مل أجــد يف األثــر تفســرا ً مقنعـاً لهــذا القــول‪ ...‬وأعتقــد أن تشــبيه املحظــوظ باملومســات‪،‬‬
‫ناجــم عــن أنهــن يكســن املــال الوافــر بســهولة‪ ،‬دون بــذل أدىن جهــد أو تعــب‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪90‬‬

‫ويفتــح املنــزول أبوابــه للزائريــن يف الســاعة الثامنــة صباح ـاً ويغلقهــا يف الســاعة الثانيــة عــرة‬
‫لي ـاً‪ ...‬ويســمح لــرواده ‪ -‬وهــم مــن الذكــور غــر املتزوجــن ‪ -‬بالدخــول إليــه والفرجــة مجان ـاً‪ ...‬وإذا‬
‫اكتشف رجال الرشطة أن أحد الرواد ليس عزباً‪ ،‬يسارعون إىل حجز هويته‪ ،‬وسجنه يوماً أو يومني‪،‬‬
‫ثــم إعادتــه إىل أرستــه مخفــورا ً‪ ،‬إمعانـاً يف إذاللــه وفضحـاً لفعلتــه الدنيئــة‪.‬‬
‫بينــا هنــاك أســعار محــددة لتقديــم الخدمــة للزبائــن‪ ...‬إذ تــراوح األجــور يف أواخــر عهــده بــن‬
‫ثــاث لــرات ونصــف وإحــدى عــرة لــرة ونصــف‪ ...‬فالبضاعــة الطازجــة التــي تــودع حــن وصولها يف‬
‫أول دار عىل اليمني بعد مفرزة األمن مبارشة تكون معروضة بإحدى عرشة لرية ونصف‪ ...‬وينخفض‬
‫هذا السعر كلام أوغلنا يف السري باألزقة املتشعبة الداخلية إىل تسع لريات ونصف ثم إىل سبع‬
‫لريات ونصف إىل أن يصبح ثالث لريات ونصف فقط‪ ...‬إذ يرتاجع األجر طردا ً مع تقدم عمر البغي‪.‬‬
‫وقد يصاب املتابع بالحرية‪ ...‬فلِ َم أسعار الخدمة دامئاً تكون مبلغاً صحيحاً مضافاً إليه نصف‬
‫لرية‪ ...‬عىل أن الدهش يتبدد فورا ً حني تتوضح الرؤية‪ ...‬إذ تذهب نصف اللرية إىل (العرصة)‪...‬‬
‫وهو الشخص املسؤول عن خدمة البغايا وحاميتهن‪ ...‬ويوجد واحد أو أكرث يف كل دار‪.‬‬
‫وال يخلــو هــذا املــكان مــن الشــخصيات الطريفــة‪ ...‬فثمــة داعــرة عتيقــة تســتقبلك يف نهايــة‬
‫أحــد الــدروب‪ ...‬وتباغتــك بالســعر البخــس الــذي تطلبــه مقابــل بضاعتهــا ‪ -‬وهــو نصــف لــرة ســورية‬
‫فقــط ‪ -‬وأشــيع عنهــا‪ ،‬أنــه يحــق للمقبــل عليهــا اســتخدامها مــن الوجهــن‪ ...‬وتعــد مــن أقــدم وأشــهر‬
‫نزيــات املحــل العمومــي وتدعــى (طرزانــة)‪ ...‬وهــي تعمــل عــى حســابها إذ مل تعــد بحاجــة إىل‬
‫خدمــات (العرصــة)‪.‬‬
‫وحــن يــذاع يف املدينــة خــر مفــاده أن واحــدة جديــدة قــد جــاءت إىل املنــزول يتقاطــر طالبــو‬
‫املتعــة عــى الــدارة األوىل بعــد مفــرزة األمــن‪ ...‬التــي باتــت مقصــدا ً ألصحــاب الجيــوب العامــرة فهي‬
‫تحتضــن أجمــل وأصغــر الفتيــات‪ ...‬إذ تراهــم يصطفــون عــى الــدرج املــؤدي إىل غرفــة الجديــدة‬
‫مســلحني بأوهــام املتعــة‪ ...‬وال يعــدم األمــر مــن فائــدة‪ ...‬فهــذا االنتظــار الهــادئ واملنظــم ال شــك‬
‫يف أنــه يــزرع يف صدورهــم قــدرا ً مــن الصــر واألنــاة‪ ...‬ففــي بعــض األحيــان يســتغرق انتظارهــم عــدة‬
‫ســاعات‪ ...‬دون أن تلمــح يف وجوههــم أيــة إشــارات تذمــر أو متلمــل‪.‬‬
‫وال يخلــو تاريــخ املنــزول مــن القصــص التــي تدعــو إىل التأمــل‪ ...‬ومنهــا قصــة الفتــاة (كاترينــا)‬
‫اليونانيــة التــي عاشــت وعملــت فيــه ردحـاً مــن الزمــن‪ ...‬فقــد بــادر أحــد األرشار يف يــوم مــن األيــام إىل‬
‫قطــع يدهــا لرسقــة ســوارها الذهبــي إثــر عــدم متكنــه مــن نزعــه مــن معصمهــا‪ ...‬ففقــدت وعيهــا بعــد‬
‫أن نزفــت دم ـاً كثــرا ً‪ ...‬ونقلــت إىل املشــفى إلســعافها‪ ...‬فســارعت الفتيــات جميعهــن يف بــادرة‬
‫إنســانية فريــدة‪ ،‬إىل التوقــف عــن العمــل‪ ،‬وإغــاق املحــل العمومــي‪ ،‬والتوجــه نحــو املشــفى للتــرع‬
‫بالــدم‪ ،‬واالطمئنــان عــى (كاترينــا)‪ ...‬وفيــا بعــد اقرتحــت إحداهــن وتدعــى (حميــدة) إقامــة مولــد‬
‫‪91‬‬ ‫ عراشراش‬

‫عــى نيــة شــفائها‪ ...‬وبالفعــل أحــر عــدة قــراء عميــان مــن ســاحة (املســجد األمــوي الكبــر) )‪... (12‬‬
‫ظوفحم ليمج دايإ‬

‫ووضعــت الفتيــات‪ ،‬املســلامت منهــن‪ ،‬واملســيحيات‪ ،‬الحجــاب عــى رؤوســهن يف أثنــاء قــراءة‬
‫املولــد‪ ...‬ولكــن املــوت كان أقــرب إىل (كاترينــا)‪.‬‬
‫ومن األمور الطريفة التي تروى عن املومسات أن بعضهن كن يصمن ويصلني يف شهر رمضان‪،‬‬
‫وميتنعن عن مزاولة املهنة حتى يثبت أول أيام العيد ‪ ...‬فيفطرن حينئذ عىل األشياء كلها‪.‬‬
‫وأخريا ً‪ ،‬وبعد مسرية عامرة وتاريخ حافل‪ ،‬أدخل املنزول يف شيخوخة مبكرة حني أصدر الرئيس‬
‫الراحل (جامل عبد النارص) )‪ (13‬إبان الوحدة بني مرص وسورية القانون رقم (‪ )10‬يف العام (‪)1958‬‬
‫الــذي قــى بإلغــاء دور الدعــارة‪ ،‬إال أن املحــل العمومــي يف حلــب مل يتوقــف عــن تقديــم خدماتــه‬
‫مبــارشة‪ ...‬بــل خفــت بريقــه تدريجيـاً إىل أن أغلــق بشــكل نهــايئ يف العــام (‪ ...)1974‬وهــدم ضمــن‬
‫مرشوع تحسني منطقة باب الفرج‪ .(14) .‬وما زال مكانه خراباً داثرا ً إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫وبالعــودة إىل صديقــي (أيب رائــد)‪ ،‬فــإن أغلــب الظــن أن قدميــه مل تطــأا أرض املنــزول أبــدا ً‪،‬‬
‫رضب مــن الدعابــة‪ ،‬ولكنهــا جــاءت يف محلهــا‬
‫ٍ‬ ‫ومــا يرويــه عنــه مــن حكايــات ال يعــدو أن يكــون ســوى‬
‫عــى نحــو محكــم‪.‬‬
‫***‬

‫خالصة القول‪:‬‬
‫ال أدري إن كان قرار إغالق املحل العمومي بحلب يف منتصف سبعينات القرن املنرصم قرارا ً‬
‫صائب ـاً‪ ...‬أم أنــه كان خطئ ـاً كبــرا ً‪ ...‬إذ غــاب مشــهد الرذيلــة العلنــي الوحيــد يف املدينــة‪ ...‬ونبــت‬
‫بــدالً عنــه عــرات‪ ،‬بــل قــل املئــات مــن مشــاهد العهــر الخفيــة‪ ...‬التي باتت رائحتها تفوح من الحي‬
‫الــذي أقطــن فيــه‪ ،‬وبجــوار منزلــك‪ ،‬وفــوق أرصفــة الطرقــات‪ ،‬ويف املقاهــي التــي يلتقــي فيهــا أبناؤنــا‪.‬‬

‫ومن نافلة القول‪:‬‬


‫رمبــا يجــد القــارئ قليـاً مــن الحــرج والغرابــة عندمــا يطّلــع عــى هــذه اللوحــة‪ ...‬ومهــا نجــم عنهــا‬
‫مــن اختــاف يف الــرؤى واملفاهيــم‪ ...‬فــا يســعنا إال أن نصفهــا دون أدىن خجــل بأنهــا لوحــة حلبيــة‬
‫مــن املــايض القريــب‪ ...‬أي أنهــا أمســت مــن الــراث والتاريــخ‪ ...‬وللتاريــخ حــق علينــا‪.‬‬
‫وال بــد مــن اإلشــارة هنــا إىل أنــه إثــر توقــف العمــل يف املحــل العمومــي أصيبــت هــذه الرشيحــة‬
‫مــن املجتمــع بوعكــة عابــرة‪ ...‬إذ رسعــان مــا تعافــت منهــا واســتبدلت جلدهــا‪ ...‬وتعــد املرحلــة‬
‫التــي تلــت إغــاق املنــزول فــرة مثــرة وغنيــة‪ ...‬فقــد تغــرت قوانــن اللعبــة عــى نحــو كبــر‪ ...‬وباتــت‬
‫مليئــة بالحكايــات واألرسار الجذابــة‪ ...‬وهــي دون أدىن شــك تغوينــا وتدفعنــا إىل الخــوض يف كتابــة‬
‫أحــداث لوحــة حلبيــة جديــدة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪92‬‬

‫تنويه‪:‬‬
‫تم اقتباس بعض املعلومات من مقالة املحامي (عالء نديم السيد) )‪ (15‬التي‬
‫كتبهــا عــن املحــل العمومــي‪ ،‬ونرشهــا يف جزأيــن‪ ،‬األول بتاريــخ (‪،)10/02/2011‬‬
‫والثــاين بتاريــخ (‪ ،)17/02/2011‬يف موقــع (عكــس الســر) اإللكــروين‪ ،‬وقــد‬
‫ابتدأها بعبارة (ما ذكرت بحسيتا أمام حلبي‪ ،‬إال وابتسم)‪ ،‬وهذا ما دفعه وحرضه‬
‫عــى البحــث وكتابــة مقــا ٍل قيــمٍ عــن املنــزول‪.‬‬

‫هوامش‬
‫شــارع ‪ :142‬هــذا الرقــم مكتــوب عــى لوحــة صغــرة معلقــة عــى مدخــل املحــل‬
‫العمومــي‪ ،‬فارتبــط هــذا الرقــم بــن الحلبــن كرمــز للمنــزول‪.‬‬
‫البرتونــة‪ :‬وهــي القــوادة‪ ،‬أخــذت مــن اإليطاليــة (‪ ،)padrona‬وتعنــي صاحــب‬
‫بيــت أو دكان‪ ،‬وتســتخدم مؤنثــة ويــراد بهــا صاحبــة ماخــور‪ ،‬انظــر موســوعة حلــب‬
‫(املقارنــة)‪ ،‬تأليــف خــر الديــن األســدي‪ ،‬الجــزء الثــاين‪ ،‬الصفحــة (‪.)53‬‬
‫رائــف باشــا‪ :‬جــاء واليـاً عــى حلــب ســنة (‪ 1313‬هجريــة)‪ ،‬وظــل فيهــا حتــى عــام‬
‫(‪ 1318‬هجريــة)‪ ،‬ويف أثنــاء واليتــه تــم افتتــاح جــادة الخنــدق ســنة(‪ 1315‬هجريــة)‪،‬‬
‫وبنــاء ســاعة بــاب الفــرج عــام (‪ 1316‬هجريــة)‪ ،‬كــا تــم أيضـاً فتــح جــادات وســاحات‬
‫عامــة عديــدة يف حلــب‪ ،‬وإنشــاء متنزهــات ومرافــق عامــة ومــدارس‪ ،‬انظــر كتــاب‬
‫إعالم النبالء يف تاريخ حلب الشــهباء‪ ،‬تأليف الشــيخ محمد راغب الطباخ‪ ،‬الجزء‬
‫الثالــث‪ ،‬الصفحــة (‪.)392‬‬
‫الشــيخ محمــد راغــب الطبــاخ‪ :‬هــو مــن أعــام حلــب الشــهباء‪ ،‬ومحــدث الديــار‬
‫الحلبيــة‪ ،‬وخــادم الســنة املحمديــة‪ ،‬ومــؤرخ حلــب ومرتجمهــا وفقيههــا الحنفــي‪،‬‬
‫انظــر كتــاب نخبــة مــن أعــام حلــب الشــهباء مــن أنبيــاء وعلــاء وأوليــاء‪ ،‬جمــع وترتيب‬
‫الشــيخ عبــد الرحمــن بــن الشــيخ حســن األويــي الشــافعي الحلبــي الحســيني‪،‬‬
‫الصفحــة (‪.)769‬‬
‫كــرم الكســمة‪ :‬كــرم قــرب حــي الرمضانيــة‪ ،‬كانــن تتعاطــى فيــه الفحشــاء‪ ،‬انظــر‬
‫كتــاب أحيــاء حلــب وأســواقها‪ ،‬تأليــف خــر الديــن األســدي‪ ،‬وتحقيــق عبــد الفتــاح‬
‫رواس قلعةجــي‪ ،‬الصفحــة (‪.)328‬‬
‫قشــلة الــرك‪ :‬تدعــى ســابقاً الربــاط العســكري‪ ،‬وحالي ـاً ثكنــة هنانــو‪ ،‬وتقــع يف‬
‫منطقــة الشــيخ يــرق‪ ،‬وهــي هضبــة يف ظاهــر حلــب مــن الجهــة الشــالية الرشقيــة‪،‬‬
‫وقــد ابتــدأ يف عامرتهــا إبراهيــم باشــا ابــن محمــد عــي باشــا وايل مــر‪ ،‬حــن ملــك‬
‫‪93‬‬ ‫ عراشراش‬

‫حلــب (مــن ‪ 1248‬هجريــة إىل ‪ 1257‬هجريــة)‪ ،‬وقــد أمــر بإكــال بنائهــا وايل حلــب‬
‫ظوفحم ليمج دايإ‬

‫جميــل نامــق باشــا يف العــام (‪ 1297‬هجريــة)‪ ،‬وقــد اقتلــع لهــذه الغايــة كثــر مــن‬
‫األحجــار املبلــط بهــا جبــل قلعــة حلــب‪ ،‬انظــر كتــاب نهــر الذهــب يف تاريــخ حلــب‪،‬‬
‫تأليــف الشــيخ كامــل الغــزي‪ ،‬الجــزء الثــاين‪ ،‬الصفحــة (‪.)316‬‬
‫املنزول‪ :‬كان يوجد يف الزقاق الذي أقيم فيه املحل العمومي مضافة للعموم‪،‬‬
‫وكان يطلق عليه األهايل اسم املنزول‪ ،‬وبعد أن تحول هذا الزقاق إىل دار للبغاء‪،‬‬
‫ارتبط اسم املنزول عند الحلبيني ببيوت الدعارة‪ ،‬انظر موسوعة حلب (املقارنة)‪،‬‬
‫تأليف خري الدين األسدي‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬الصفحة (‪.)212‬‬
‫الكرخانــة‪ :‬بالرتكيــة بيــت العمــل‪ ،‬وقــد درجــت هــذه التســمية عــى دور الفحــش‬
‫العموميــة يف حلــب‪ ،‬انظــر موســوعة حلــب (املقارنــة) تأليــف خــر الديــن األســدي‪،‬‬
‫املجلــد الســادس‪ ،‬الصفحة (‪.)336‬‬
‫بحســيتا‪ :‬حــي داخــل األســوار‪ ،‬يحــده جنوبـاً الدباغــة العتيقــة واملصابــن‪ ،‬وغربـاً‬
‫منطقــة بــاب الفــرج‪ ،‬ورشقـاً البنــدرة‪ ،‬وشــاالً جــادة الخنــدق‪ ،‬وذكر مؤرخو حلب يف‬
‫معنى تسمية هذا الحي ستة مذاهب‪ ،‬وقد أقر أغلبهم املذهب السادس‪ ،‬وهو‬
‫أن اســم بحســيتا محــرف مــن (بــاح ســيتا) أي بــاح بالــر‪ ،‬وهــو رجــل صالــح مدفــون‬
‫مبســجد ســيتا‪ ،‬وكان معظــم ســكان هــذا الحــي مــن اليهــود‪ ،‬انظــر موســوعة حلــب‬
‫(املقارنــة) تأليــف خــر الديــن األســدي‪ ،‬املجلــد الثــاين‪ ،‬الصفحــة (‪ .)59‬غــر أن‬
‫صديقــي الدكتــور عبــد الرحمــن دركزلــي (وهــو أســتاذ جامعــي وباحــث وأديــب)‪،‬‬
‫مييــل إىل رأي األب (جرجــس شــلحت‪ ،)1991-1920 ،‬الــذي ورد يف كتابــه «لغــة‬
‫حلب الرسيانية»‪ ،‬إذ يرى أن كلمة (بحسيتا)‪ ،‬مركبة من كلمتني‪ ،‬أوالهام‪( :‬بيت)‪،‬‬
‫والثانيــة‪( :‬حســدا)‪ ،‬ومعناهــا‪ :‬رحمــة‪ ،‬أو (حســيوتا) ومعناهــا الغفــران أو الطهــارة‪.‬‬
‫وبنــاء عــى هــذا فــإن (بحســيتا) مــكان مقــدس قديــم‪ ،‬كان النــاس يقصدونــه للتطهــر‬
‫والغفــران (لالعــراف بخطاياهــم)‪.‬‬
‫ومن نوادر أهل حلب عن سوق بحسيتا‪:‬‬
‫سأل مسلم يهودياً‪:‬‬
‫‪ -‬دلني عىل دوا يكرب الشوارب‪.‬‬
‫‪ -‬مالك غري دهن اآلحور‪.‬‬
‫‪ -‬وين بينباع؟‬
‫‪ -‬ما ببيعوه إال عطارين بحسيتا‪.‬‬
‫وراح املسكني يفتش وكل عطار يرسله لعند غريه‪.‬‬
‫واآلحور‪ :‬من العربية‪ ،‬يستعملها اليهود فقط‪ ،‬مبعنى االست واملؤخرة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪94‬‬

‫املربــع‪ :‬وهــي الغرفــة العاليــة الكبــرة‪ ،‬أخــذت مــن الربعــة عنــد البــدو‪ ،‬ومــن‬
‫تهكامت أهل حلب «أم القنباز املرقع صار ال قاعة ومربع»‪ ،‬انظر موســوعة حلب‬
‫(املقارنــة) تأليــف خــر الــن األســدي‪ ،‬املجلــد الســابع‪ ،‬الصفحــة (‪.)75‬‬
‫قســطل الحجاريــن‪ :‬هــو الطريــق الواصــل بــن ســاحة بــاب الفــرج وطلعــة الســبع‬
‫بحــرات‪ ،‬كان ســوقاً مه ـاً‪ ،‬انظــر كتــاب أحيــاء حلــب وأســواقها‪ ،‬تأليــف خــر الديــن‬
‫األســدي‪ ،‬وتحقيــق عبــد الفتــاح رواس قلعةجــي‪ ،‬الصفحــة (‪.)309‬‬
‫املســجد األمــوي الكبــر‪ :‬يف اليــوم نفســه الــذي كتبــت فيــه هــذه املادة‪ ،‬انترش‬
‫خرب تهدم مئذنة جامع حلب األموي عىل شاشات التلفزيون‪ ،‬والتي يعود بناؤها‬
‫إىل أكرث من مثامنائة عام‪ ،‬ال يسعني إال أن أقول «حسبنا الله ونعم الوكيل»‪.‬‬
‫جــال عبــد النــارص‪ :‬قائــد ثــورة (‪ 23‬يوليــو) يف مــر‪ ،‬اســتمر يف حكمهــا حتــى‬
‫وفاته يف العام (‪ ،)1970‬شارك رئيس سورية شكري القوتيل يف إقامة الوحدة بني‬
‫مــر وســورية‪ ،‬وهــي أول وحــدة اندماجيــة كاملــة حدثــت يف تاريــخ الوطــن العــريب‪،‬‬
‫ودامت من تاريخ (‪ )1958/02/01‬إىل تاريخ (‪.)1961/09/28‬‬
‫بــاب الفــرج‪ :‬أحــد أهــم أبــواب حلــب‪ ،‬انظــر كتــاب أحياء حلب وأســواقها‪ ،‬تأليف‬
‫خري الدين األسدي‪ ،‬وتحقيق عبد الفتاح رواس قلعةجي‪ ،‬الصفحة (‪.)101‬‬
‫عالء نديم السيد‪ :‬محامٍ وباحث يف تاريخ حلب‪ ،‬صاحب كتاب تاريخ حلب‬
‫املصــور (أيــام العهــد العثــاين‪ ،)1918- 1880،‬إصــدار دار شــعاع بحلــب عــام‬
‫(‪.)2011‬‬
‫مزنة دريد‬

‫الجئات ال سبايا‬

‫« الجئــات ال ســبايا» حملــة أهليــة مســتقلة ســورية متخصصــة يف قضايــا املــرأة‬


‫الســورية ومحاولــة حاميتهــا مــن التمييــز الواقــع عليهــا‪ ،‬تحديــدا ً يف قضايــا الــزواج‬
‫القــري والعــريف والغــر رشعــي والتحــرش الجنــي‪ .‬تعمــل الحملــة عــى كشــف‬
‫هذه الحاالت والقيام بإحصاءات دقيقة يف قضايا التمييز الواقع عىل النساء من‬
‫حهــة‪ ،‬وعــى مشــاريع تشــغيل النســاء وتأمــن دخــل ثابــت لهــن يف بلــدان اللجــوء‪،‬‬
‫مــن جهــة أخــرى‪ .‬هنــا بيــان مــن منظمــي الحملــة مللــف الجنــدر‪.‬‬
‫تعــاين النســاء الســوريات‪ ،‬قبــل مرحلــة النــزاع املســلح وبعدهــا‪ ،‬مــن مختلــف‬
‫أشــكال التمييــز والعنــف ضدهــن يف القانــون واملامرســة‪ ،‬يف الفضــاء العــام ويف‬
‫األرسة‪ .‬ويشمل التمييز مختلف جوانب الحياة االِقتصادية واالجتامعية والسياسية‪،‬‬
‫ويشمل كذلك ميدان الحقوق املدنية وميداين الصحة والتعليم‪ .‬ويستند التمييز‬
‫ضــد النســاء إىل مجموعــة مــن القوانــن التمييزيــة وإىل فــراغ قانــوين يف مجــال‬
‫الحاميــة القانونيــة للنســاء‪.‬‬
‫أصبحــت النســاء خــال الثــورة عرضــة للعديــد مــن جرائــم القتــل واالغتصــاب‬
‫واالختفــاء القــري‪ ،‬وألقيــت عــى كواهلهــن أعبــاء تأمــن ســبل العيــش ألرسهــن‬
‫يف مناطــق النــزوح وبلــدان اللجــوء‪ ،‬وارتفعــت نســبة تزويــج الطفــات الصغــرات‪،‬‬
‫وتفاقمــت مشــكلة اســتغالل النســاء يف الدعــارة‪ ،‬وباتــت أجســاد النســاء ميدان ـاً‬
‫ميارس عليه طرفا النزاع إذالل أحدهام اآلخر‪ ،‬فازداد بشكل واضح اغتصاب النساء‬
‫واعتقالهن وخطفهن للضغط عىل الرجال ودفعهم إىل التسليم أو االعرتاف‪ ،‬أو للمقايضة عليهن‬
‫باملــال أو بــاألرسى‪ .‬فقــد ازدادت معانــاة املــرأة الســورية بشــكل مضطــرد بازديــاد وتــرة القتــال واتســاع‬
‫رقعته ليشمل مختلف املحافظات السورية‪ ،‬وتنوعت أشكال تلك املعاناة بتنوع الرشوط الصعبة‬
‫التــي تفرضهــا ظــروف النــزاع‪ ،‬قتـاً واعتقــاالً واغتصابـاً ونزوحـاً‪ .‬وباعتبار املرأة حاملة لرشف مجتمعها‬
‫بحســب العــرف والتقاليــد والثقافــة والديــن جعلهــا عرضــة أكــر لهــذا األذى املبــارش ابتــدا ًء بالتحرش‬
‫واالغتصــاب إىل اإلكــراه عــى الدعــارة‪ .‬وكــا يف جميــع النزاعــات املســلحة تحملــت املــرأة تبعــات‬
‫غيــاب الرجــل إمــا قتيـاً أو أســرا ً أو مقاتـاً يف الجبهــات‪ ،‬تبعــات اقتصاديــة إلعالــة نفســها وعائلتهــا‪،‬‬
‫إضافــة لتحملهــا ظــروف النــزوح واللجــوء التــي يغلــب أن تكــون غــر مناســبة يف مختلــف جوانبهــا‪،‬‬
‫وحني يقرص أطراف النزاع املسلح واملجتمع الدويل يف تاليف األرضار املرتتبة عىل تدمري املرافق‬
‫الخدميــة وتعطيــل اإلمــدادات الغذائيــة‪ ،‬يــزداد العــبء امللقــى عــى عاتــق املــرأة فتضطــر لتطبيــب‬
‫الجرحى وتأمني الغذاء والدواء لهم‪ ،‬ويزداد األمر سو ًءا‪ ،‬حني تتعرض للعنف الجنيس واستغاللها‬
‫حتــى يف الــدول التــي لجــأن إليهــا تحــت مســميات تربيريــة كالســرة وخالفهــا‪.‬‬
‫وتتعمــق مشــكالت التمييــز ضــد النســاء يف املناطــق التــي تســيطر عليهــا القــوى اإلســامية‬
‫املتشــددة التــي تديــر شــؤون املناطــق وفــق االجتهــادات الســلفية‪ ،‬والتــي تســيطر عليهــا الفتــاوى‬
‫األكــر تخلف ـاً‪ .‬فقــد ظهــرت مامرســات غريبــة عــن ثقافــة املجتمــع الســوري‪ ،‬مثــل عقوبــات الجلــد‬
‫وقطــع الــرؤوس‪ .‬كــا تزايــدت ظاهــرة زواج مقاتلــن أجانــب جــاءوا إىل ســوريا لالنضــام إىل تنظيــم‬
‫«الدولــة اإلســامية يف العــراق والشــام» (داعــش) بفتيــات ســوريات‪ ،‬خصوص ـاً يف مدينتــي الرقــة‬
‫وحلــب شــال ورشق ســوريا‪ ،‬حيــث ترضــخ بعــض العائــات إىل طلــب أمــراء «داعــش» وعنارصهــا‬
‫بالــزواج مــن بناتهــا خوف ـاً مــن االنتقــام والثــأر يف حــال رفضــوا ذلــك‪ .‬عــى ســبيا املثــال‪ ،‬أقدمــت‬
‫الطالبــة الجامعيــة فاطمــة العبــد اللــه العبــو (‪ 22‬عامــا) عــى االنتحــار يف ريــف الرقــة بتناولهــا الســم‬
‫عندما حاول والدها إجبارها عىل الزواج من «مهاجر تونيس» ينتمي إىل تنظيم «الدولة اإلسالمية‬
‫يف العــراق والشــام»‪ .‬الطالبــة فاطمــة كانــت تــدرس يف كليــة اآلداب قســم اللغــة اإلنجليزيــة وتنتمــي‬
‫لعشــرة العجيــل وهــي مــن ســكان قريــة الســحلبية‪ ،‬التــي تقــع غــرب مدينــة الرقــة‪ .‬وتثــر هــذه الزيجــات‬
‫حساســية اجتامعيــة‪ ،‬خصوص ـاً يف املناطــق العشــائرية التــي تحــرص العائــات فيهــا عــى معرفــة‬
‫أصــول األشــخاص الذيــن يــودون االرتبــاط ببناتهــا‬
‫كانــت بدايــة الجئــات ال ســبايا بعــد تســجيل حــاالت زواج قــري وزواج قــارصات لالجئــات‬
‫سوريات يف األردن وكان علينا الحشد ومنارصة قضية الدفاع عن حقوق الالجئات وعن اختياراتهن‬
‫كان القــرار باختيــار قضيــة املــرأة الســورية النازحــة والالجئــة أو مــن ُهجــرت مــن بيتهــا قــرا ً ألنهــا مــن‬
‫الفئــات األكــر تــررا ً وضعفـاً والحاملــة لهمــوم عائلتهــا والعابــرة عــى آالمهــا بتضحياتهــا خاصــة ً وأنــه‬
‫عندمــا تتــم مســاعدات املترضريــن مــن الحــرب واللجــوء يتــم تجاهــل املــرأة كفئــة خاصــة‪ ،‬يتــم تنــايس‬
‫احتياجاتها الخاصة ووضعها املتأزم‪ ،‬ونؤمن أن دعم املرأة هو أمر يف غاية الرضورة‬
‫ألن املــرأة هــي مــن تتبنــى املصالحــة وإعــادة البنيــة املجتمعيــة يف فــرة مــا بعــد‬
‫الحــرب‪ ،‬وإذا تــم تجاهلهــا اآلن ســنخرس دورهــا يف املراحــل القادمــة‪ .‬نحــن شــباب‬
‫سوريون متواجدون يف األردن وتركيا ومرص ولبنان وريف دمشق‪ ،‬عملنا يرتكز عىل‬
‫التوعيــة والتثقيــف لألهــل والفتيــات وعــى توثيــق الحــاالت وتقديــم املســاعدة لهــم‬
‫وحــل مشــاكلهن‪ ،‬باإلضافــة ملشــاريع متكــن النســاء اقتصاديـاً وتفعيــل دورة املــرأة‬
‫بالســلم األهــي والعدالــة‪ .‬املعوقــات الرئيســية يف عملنــا هــو حاميــة أفــراد الحملــة‬
‫وازديــاد عــدد الالجئــن حيــث أن ملــف الالجئــن يحتــاج لدعــم دويل كبــر خوفـاً مــن‬
‫أن يصبــح خــارج الســيطرة‪ .‬تتــوارد أكــر الحــاالت لفتيــات يتزوجــن يف بلــدان اللجــوء‬
‫تحــت وعــود بدعــم أرسهــن‪ ،‬وأحيانـاً أيضـاً تحــت وعــود الهجــرة للفتيــات وأرسهــن‪.‬‬
‫معظــم الحــاالت تحتــاج لدعــم مــادي ويكــون الــزواج برمتــه مقبــوالً لتحســن الظــروف‬
‫املاديــة لألهــل أو خوفـاً مــن املســتقبل الضبــايب غــر الواضــح األفــق‪ .‬تعتمــد قدرتنــا‬
‫عــى التوثيــق واملســاعدة بشــكل كبــر عــى الالجئــة إن كانــت تتحــى بالشــجاعة‬
‫بطلــب املســاعدة والجهــر بقضيتهــا ومشــكلتها ليتســنى لنــا مســاعدتها ونعمــل‬
‫عــى إعطــاء الثقــة واألمــان لجميــع الناجيــات ولــكل مــن لجــأ إلينــا لتقديــم املســاعدة‬
‫بشــكل رسي ورسيــع‪.‬‬
‫نحــن يف «الجئــات ال ســبايا» نؤمــن أنــه يف الوقــت الــذي يتوقــف فيــه صــوت‬
‫الرصــاص ســوف يبــدأ العمــل عــى نطــاق واســع وشــامل بــدون خــوف‪ ،‬وهــذا مــا مييز‬
‫املبــادرات الســورية التــي تعمــل عــى هــذا امللــف منــذ اآلن وال تتــواىن عــن تقديــم‬
‫املســاعدة للناجيات يف داخل وخارج ســوريا وتوثيق الحاالت لضامن املســتقبل‬
‫وتحقيــق العدالــة‪.‬‬
‫للتواصل‪lajiaat.lasabaya@gmail.com :‬‬
‫كريم عبد‬

‫سلطة النسق الثقايف‪ :‬الدولة وتقاليد االغتصاب!‬

‫كل إنســانٍ هــو ظاهــر ٌة ثقافيــة تحمــل يف (جيناتهــا) الفكريــة والشــعورية تركيب ـاً‬
‫ُّ‬
‫تاريخياً من معتقدات وعادات ومفاهيم سواء أكانت متقدمة أم بدائية أم هجينة‪،‬‬
‫ســلبية وإيجابيــة‪ ،‬وهــذا يشــمل اإلنســان كإنســان َســوا ٌء أكان راعــي أغنــام أم أرملــة‬
‫بائســة أم أســتاذا ً يف جامعــة هارفــرد‪.‬‬
‫كل إنســان هــو ظاهــرة ثقافيــة تتأثــر وتؤثــر مبحيطهــا االجتامعــي‪ ،‬قابلــة للتطــور‬
‫واالنتشــار أو رمبــا تبقــى معزولــة وهامشــية‪ ،‬لك َّنهــا تظـ ّـل تدافــع عــن وجودهــا ومعناهــا‬
‫كل إنســانٍ‬
‫وليــس مــن الســهولة إتالفهــا أو تفكيكهــا بقصــد التالعــب يف جوهرهــا‪ُّ .‬‬
‫(كل إنسان هو ظاهرة ثقافية بح ّد ذاته)‬
‫هو ظاهر ٌة ثقافية‪ ،‬ولكن ال يصح القول إن ّ‬
‫فالحديث عن الثقافة هنا يتعلق بالذات الجامعية والذاكرة الجامعية والالشعور‬
‫الجمعــي‪ ،‬فاإلنســان هــو جــز ٌء مــن كل‪ ،‬هــو ظاهــرة اجتامعيــة‪.‬‬
‫ال ميكــن تغيــر املكونــات األساســية للثقافــة املحليــة ‪Local Culture‬‬
‫كالعــادات واملفاهيــم والتقاليــد فهــي تنتقــل مــن جيــل إىل جيــل فتصبــح قاس ـاً‬
‫مشــركاً بــن مليــارات البــر الذيــن يتعاقبــون عــر آالف الســنني يف بيئــة ثقافيــة‬
‫معينــة‪ .‬ولكــن‪ ،‬تُ كـ ُن مالحظــة تغـ ُّـر يف وتــرة بعــض الصفــات الثقافيــة يف ظــروف‬
‫معينــة كارتفــاع وتــرة العنــف الســيايس أو طغيانهــا عــى ســلوك املجتمــع ككل‪،‬‬
‫كــا يحــدث يف ســوريا اآلن‪ ،‬ولك َّنـ ُه عنـ ٌـف هدفُــه إعــادة الســام والطأمنينــة بــروط‬
‫عادلــة ليعــود بعــد ذلــك الســام أكــر رســوخاً وصدقيــة‪ .‬وهــذا مــا حــدث لشــعوب‬
‫‪99‬‬ ‫اصتغالا ديلاقتو ةلودلا ‪:‬يفاقثلا قسنلا ةطلس‬

‫عديــدة رغــم مرارتــه‪ ،‬لذلــك يجــب الحــد مــن وتــرة العدوانيــة والطائفيــة التــي تطغــي عــى مشــاعرنا‬
‫دبع ميرك‬

‫يف لحظــات تصاعــد األزمــة يك ال تتحــول إىل ثقافــة عامــة فيتغلــب الطــارئُ عــى األصيــل يف وعينــا‬
‫وسلوكنا الهش أساساً بسبب الثقافة املضطربة التي عممتها األحزاب االنقالبية عىل مجتمعاتنا‪.‬‬
‫وضمــن ســياق املعنــى األنرتبولوجــي للثقافــة‪ ،‬أي انتقــال العــادات واملفاهيــم مــن جيــل إىل‬
‫جيــل‪ ،‬نســتطيع تأمــل طريقــة حياتنــا نحــن العــرب مبــا تنطــوي عليــه مــن مفارقــات‪ ،‬فنحــن مــا زلنــا‬
‫نحتفــظ بالكثــر مــن عــادات وقيــم املجتمــع القبــي مــا قبــل اإلســام رغــم مــرور آالف الســنني عليهــا!‬
‫وكأن الثقافــة العظيمــة التــي جــاء بهــا النبــي محمــد متمثل ـ ًة بالثقافــة اإلســامية بأسســها املعروفــة‪،‬‬
‫والتــي ســاهمت بتغيــر الوجــه الحضــاري لإلنســانية إيجابيـاً‪ ،‬مل تتمكــن مــن تغيــر تركيبــة العديــد مــن‬
‫(جيناتنا) الثقافية السلبية تحديدا ً‪ ،‬كالتفاخر باألحساب واألنساب‪ ،‬أو اقرتان فكرة الرشف بالحياة‬
‫الجنســية وليــس بالضمــر واألمانــة وترفُّــع اإلنســان عــن الرسقــة والغــش‪ .‬كيــف ميكــن أن يكــون املــرء‬
‫رشيفـاً وهــو مســؤول كبــر بينــا شــهادته ُمــز َّورة‪ ،‬أو وهــو تاجــر يتالعــب بقــوت النــاس ويســتغلهم؟!‬
‫والرشف ما يزال عندنا يقرتن بتسلط الرجل وإخضاع النساء‪ ،‬وليس باملروءة واألريحية واحرتام‬
‫حــق املــرأة باختيــار رشيكهــا بحريــة! وإذا كانــت غــزوات العــرب قبــل اإلســام تنتهــي بســبي النســاء‬
‫ضمنـاً‪ ،‬فــا أشــبه الفتــاة التــي تُجــر عــى تــرك حبيبهــا والــزواج مــن رجــل ال تعرفــه‪ ،‬باملــرأة املســب ّية؟‬
‫إن ثقافــة الهيمنــة تجعــل الرجــل أشــبه بالبهيمــة أحيانـاً‪ .‬فهــو عندمــا يســتغل التقاليــد املتوارثــة ويتزوج‬
‫مــن فتــاة ال تعرفــه مــن قبــل‪ ،‬ورمبــا تعشــق رجـاً آخـ َر‪ ،‬فــإن مــا يفعلــه يف الواقــع هــو عمليــة اغتصــاب‬
‫(رشعيــة) إلنســانة ال متلــك حــق الرفــض! وهــو ال يشــعر بــأي ذنــب أو تــردد طبعـاً! وأيضـاً فهــو يدفــع‬
‫أختــه لنفــس املصــر! إن عواقــب ثقافــة االغتصــاب هــذه هــي التــي تُفــر ضمن ـاً النســبة العاليــة‬
‫لحاالت الطالق يف مجتمعاتنا‪ .‬كام ميكن رؤية ثقافة االغتصاب وقد انتقلت من املجال العائيل‬
‫إىل السياســية حيــث مبــوازاة اغتصــاب النســاء يتــم اغتصــاب الدولــة عــر االنقالبــات‪ .‬هكــذا تُعيــد‬
‫املنظومــات الثقافيــة إنتــاج نفســها بســلبياتها وإيجابياتهــا منتقلــة مــن جيــل إىل جيــل إذ يتــم تلقينهــا‬
‫لإلنســان وهــو طفــل‪.‬‬
‫وإذا كان (اإلنسان هو األسلوب) كام يرى الفرنسيون‪ ،‬فإن األسلوب هنا يعني الثقافة باملعنى‬
‫األنرتبولوجــي ضمنـاً‪ ،‬أي أن كل إنســان أو مجتمــع يعــر عــن ثقافتــه مــن خــال أســلوب حياتــه وطريقــة‬
‫تفكــره‪ .‬ويتضــح ذلــك ضمن ـاً يف كيفيــة اســتقباله للظواهــر واألفــكار‪ ،‬وطبيعــة تعاملــه مــع اآلخريــن‪.‬‬
‫ولكــن علينــا االنتبــاه لحقيقــة كــون اإلنســان ال يســتطيع اختيــار أســلوب حياتــه مبحــض رغبتــه‪ .‬فليــس‬
‫ألحــد القــرار أن تكــون والدتــه يف ســويرسا أو الصــن أو تونــس‪ ،‬يف عائلــة مرتفــة أو فقــرة‪ ،‬متعلمــة أو‬
‫جاهلــة حيــث يكتســب عاداتــه وأســلوب حياتــه‪ .‬ومــن هنــا تــأيت مجانيــة التفاخــر بالحســب والنســب‬
‫أو الغنــى‪ ،‬إذ أن التفاخــر بأمــور مل نشــارك بإنجازهــا هــو إحــدى عاهــات املجتمــع املتخلــف طبعـاً‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪100‬‬

‫وأيضاً‪ ،‬فاإلنسان ال يستطيع تغيري أسلوب حياته بسهولة حتى لو أدرك خطأ ذلك األسلوب‪،‬‬
‫ألن املســألة هنــا تتعلــق بتكويــن نفــي وشــعوري ُمتــوارث ال ميكــن االنفــكاك منــه بســهولة‪ ،‬إذ‬
‫تتحكــم بــه عوامــل تربويــة وأخــرى هــي معطــى ثقــايف تاريخــي‪ ،‬أي نســق حضــاري موجــود قبــل وجــود‬
‫األفــراد وهــو يتحكــم بتكوينهــم ســلفاً! أي مبعــزل عــن إرادتهــم‪ ،‬بــل هــو يُحــدد توجهاتهــم ويســاهم‬
‫برســم مســتقبلهم قبــل أن يولــدوا! فهــم ســيخضعون ملنظومــة مــن العــادات والتقاليــد املتوارثــة‬
‫منــذ الطفولــة وســرافقهم طــوال حياتهــم ل ُيعيــدوا إنتاجهــا بتوريثهــا ألبنائهــم‪ ،‬لذلــك ال ميكــن تغيــر‬
‫هــذه الصــرورة الثقافيــة بســهولة خصوصـاً مــا يتعلــق بالطقــوس واملعتقــدات أو مفهــوم الســلطة‬
‫الــذي يقســمنا أســيادا ً وعبيــدا ً‪ ،‬حيــث تتأثــر بذلــك نظرتنــا لظواهــر الحيــاة وطريقــة اســتقبالنا لهــا‪.‬‬
‫ال ب ـ َّد للمجتمعــات املخذولــة مــن التطــور عــى مختلــف الصعــد‪ ،‬ولكــن كيــف؟ إن التطــور ال‬
‫يحــدث صدفـةً‪ ،‬بــل يحتــاج لربامــج حكوميــة وأهليــة‪ ،‬ثقافيــة واقتصاديــة‪ ،‬طويلــة األمــد‪ ،‬تأخــذ طابعـاً‬
‫تربوي ـاً وترتبــط بحاجــات املواطنــن وطموحاتهــم املرشوعــة‪ ،‬أي بعملهــم ومــردودات هــذا العمــل‬
‫وفعاليــة القوانــن التــي تحمــي حقوقهــم‪ .‬إن التطــور ال ب ـ َّد أن يحــدث‪ ،‬ولكــن اســتنادا ً إىل درجــة‬
‫اســتعداد ذلــك املجتمــع الســتقبال مظاهــر التطــور‪.‬‬
‫ولكــن مــا معنــى التطــور‪ ،‬وكيــف يقــاس؟ هنــاك قياســات متعــددة للتطــور ولكــن مــا يهمنــا هنــا‬
‫هــو اقــران التطــور باملصالــح املرشوعــة للمجتمــع والدولــة‪ .‬وهــذا يعنــي أن للتطــور معنيــن‪ ،‬األول‬
‫وإل‬
‫حقوقــي‪ ،‬واآلخــر تقنــي‪ ،‬أي أن التطــور الحضــاري ال بـ َّد أن يقــرن بتحقيــق العدالــة االجتامعيــة ّ‬
‫فــإن البلــدوزرات ومعامــل اإلســمنت وتحديــث الزراعــة التــي قــد تجعــل مجتمعاتنــا تبــدو وكأنهــا‬
‫متقدمة لكنها لن تنقذنا من الخذالن الحضاري‪ .‬وبوسعنا اإلشارة هنا إىل الحالة السورية‪ ،‬فقبل‬
‫ثــورة ‪ 2011‬كانــت هنــاك صناعــة وزراعــة متطــورة نســبياً يف ســوريا ولكــن مل يَ ُحــل ذلــك بــن النــاس‬
‫وبــن الثــورة بســبب غيــاب العدالــة‪ .‬إن التقــدم اإلداري والتكنولوجــي مــن دون تحقيــق العدالــة هــو‬
‫تقدم يف استغالل الشعوب وجعلها تعيش من دون مستقبل‪ ،‬وهذا ما حدث يف عراق صدام‬
‫حســن ومــر حســني مبــارك أيضـاً‪.‬‬
‫إننــا نعيــش حالــة مــن االضطــراب الثقــايف عــى مختلــف الصعــد وخصوص ـاً عــى الصعيــد‬
‫الســيايس الــذي ينعكــس عــى عمــل الدولــة ويوميــات املجتمــع‪ ،‬ولذلــك تجدنــا نلــف ونــدور يف‬
‫حلقــات مفرغــة‪ ،‬يف قضايــا نعقــد لهــا النــدوات واملؤمتــرات ثــم نخــرج بــا يشء! وعندمــا تطحننــا‬
‫األزمــة مــرة سادســة وســابعة نعــود مــرة تاســعة لنقــاش نفــس األزمــة بنفــس املفــردات التــي ال توصــل‬
‫إىل الحقيقــة‪ ،‬بــل مت ـ ّوه الطريــق الــذي ميكــن أن يوصلنــا إىل الحقيقــة!!‬
‫قبل أيام انعقدت ندوة جديدة يف إحدى الدول العربية إلعادة مناقشة العالقة أو األزمة بني‬
‫اإلســاميني وال َعلامنيــن أو دعــاة الدولــة املدنيــة (الالدينيــة والالعســكرية)‪ ،‬ومــع احرتامنــا لجميــع‬
‫‪101‬‬ ‫اصتغالا ديلاقتو ةلودلا ‪:‬يفاقثلا قسنلا ةطلس‬

‫الحارضيــن ونواياهــم الطيبــة‪ ،‬خاصــة وقــد وصلــوا إىل نفــس النقــاط الخالفيــة‪،‬‬
‫دبع ميرك‬

‫فالجميع ال يريدون رؤية الحقيقة‪ ،‬ورمبا يتهربون منها‪ ،‬فاألزمة عندنا ليست أزمة‬
‫أيديولوجيا ليك نبحث عن حلول أيديولوجية‪ ،‬مرة بني القوميني وبني اليساريني‪،‬‬
‫ومرة بني اإلسالميني والعلامنيني! بينام املشكلة الحقيقة تكمن يف الخطأ الذي‬
‫هو قاسم مشرتك بني جميع هذه األطراف‪ ،‬والخطأ الذي ال يشري إليه أحد عادةً‪،‬‬
‫هو إن هذه األطراف تتصارع عىل السلطة وليس من أجل تحقيق العدالة‪ ،‬ولذلك‬
‫فهــي لــن تلتقــي يف مــروع واحــد أبــدا ً‪ ،‬ولذلــك فهــي تعيــد إنتــاج نفــس األزمــة إذا‬
‫وصلت للسطة‪ ،‬أو تعيد إنتاج االضطراب السيايس إذا بقيت يف املعارضة‪.‬‬
‫فهــذه األطــراف جميعـاً تنظــر إىل الدولــة بصفتهــا غنيمــة والوصول للســلطة هو‬
‫الذي ميكنها من هذه الغنيمة‪ ،‬أي إخضاع املجتمع والهيمنة عىل الدولة حيث‬
‫تحل سلطة الحزب ثم سلطة القائد محل سلطة القانون‪ ،‬وبالتايل فام الفرق إذا‬
‫حكمنــا إســامي أو قومــي أو يســاري؟! إن تعليــق ســلطة القانــون ملصلحــة الحاكــم‬
‫يعنــي مصــادرة العدالــة‪ ،‬والعدالــة ال تتحقــق إال يف الدولــة املحايــدة‪ ،‬وحياديــة‬
‫الدولــة تعنــي أن ســلطة القانــون فــوق الجميــع‪ ،‬فــوق الحاكــم واملحكــوم‪ ،‬حيــث‬
‫يتطــور هــذا املفهــوم بالتزامــن مــع تكريــس مبــدأ تكافــؤ الفــرص وحقــوق املواطنــن‬
‫املدنية والسياسية‪ .‬فبدون دولة محايدة ال ميكن تطوير ثقافة املساواة أو تجديد‬
‫مفردات الثقافة املحلية املتوارثة واملثقلة بالرطانات التي تربر القسوة والتخلف‪.‬‬
‫إن األحزاب واالتجاهات القامئة اآلن‪ ،‬واملستمرة رغم تآكلها السيايس‪ ،‬تعلم‬
‫متاماً إن الرشوع بتحقيق رشوط العدالة يعني بداية اختفائها وحلول أحزاب أخرى‬
‫محلها‪ ،‬ألن أحزابنا التقليدية محكومة تنظيمياً بثقافة االستبداد‪ ،‬فاألمني العام ال‬
‫تزحزحه الرياح العاتية عن كرسيه سواء كان يف السلطة أم يف املعارضة! فكيف‬
‫يؤمن بالتبادل السلمي للسلطة يا ترى؟‬
‫إن مــروع تحقيــق العدالــة الــذي ال ب ـ َّد منــه‪ ،‬هــو املدخــل الواقعــي للتغيــر‬
‫سياســياً وثقافي ـاً‪ ،‬إذ ال ب ـ ّد ونحــن نؤســس لنظــام دميقراطــي مــن أحــزاب تؤمــن‬
‫باملعرفة وليس باستغالل جهل الجمهور وأميته‪ ،‬بل ورجمه بالشتائم واتهامه بأنه‬
‫متخلــف وغــر مســتعد لتقبــل التطــور! إن ثقافــة األحــزاب االنقالبيــة املقلوبــة عــى‬
‫رأســها هــي ســبب كل هــذا الخــراب‪ ،‬فهــي وطــوال الســتني ســنة املاضيــة مل تُنتــج‬
‫ســوى لصــوص دولــة أو أبطــال مزيفــن! ولــو دقّقنــا يف مفــردات ثقافتنــا االجتامعية‬
‫املتوارثــة لوجدنــا إن قطــاع الطــرق الذيــن هيمنــوا عــى املشــهد االجتامعــي خــال‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪102‬‬

‫القــرون القليلــة املاضيــة‪ ،‬مــا زالــوا يتوالــدون يف واقعنــا العجيــب‪ ،‬وقــد انقلبوا يف‬
‫هذا العرص إىل ضباط انقالبيني وأفندية حزبيني وقد تغريت أساليبهم من قطع‬
‫الطريــق عــى القوافــل إىل قطــع الطريــق عــى الشــعوب واختطــاف دول بأكملهــا!!‬
‫أليــس هــذا مــا جــرى ويجــري يف بلداننــا املظلومــة؟!‬

‫التمرد بصمت لشريين نشأت‬


‫أمال عبد الصمد‬

‫املرأة يف تراث جبل العرب‬

‫هــذه قــراءة راصــدة عــى حضــور املــرأة يف الخيــال الشــعبي‪ ،‬واللغــة اليوميــة‪،‬‬
‫ملنطقة جبل العرب ‪ -‬جنوب ســورية كإحدى صور املرأة العربية عموماً مع فوارق‬
‫جزئية ال تغري بالعمق من الشكل النمطي الذي تبلور عرب تراكم كمي ونوعي لحضور‬
‫املرأة يف الثقافة الشــعبية املتمثلة هنا باألمثال واألهازيج واملقوالت العامة‪.‬‬

‫مدخل‬
‫ســاد الهــرج واملــرج إثــر أصــوات رصاخ تعالــت مــن الــدار القريبــة فتجمهــر الرجــال‬
‫كعادتهــم حــن يش ـ ّمون رائحــة أي حــدث ملفــت‪ ،‬وبعــد أن أخــذ الخــر حصتــه مــن‬
‫األخذ والرد بادر أحد املتندرين باستخفاف وسخرية‪« :‬كل القصة زملة عم يرضب‬
‫مرته‪ ،‬شــو مش عم تقتلوا نســوانكن يعني؟» (رجل يؤدب زوجته رضباً‪ ،‬أال ترضبون‬
‫زوجاتكم أيضاً؟) وعليه انفض الحشــد وعادوا إىل أعاملهم‪ ،‬كأن شــيئاً مل يحدث‪.‬‬
‫حادثــة تعطــي الصــورة املجملــة‪ ،‬أمــا التفاصيــل فتنــدرج تحــت صفات ألصقت‬
‫باملرأة أيا كان شــخصها أو مكانتها‪:‬‬

‫املرأة ناقصة بالرتبة‬


‫يحــر املخــزون الذكــوري بقــوة ليصنــف املــرأة ككائــن ذي درجــة متدنيــة مهــا‬
‫بلغــت‪ ،‬فهــي ال تعــرف باســمها بــل باســم الرجــل الــذي تنســب إليــه ولــو كان طفـاً‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪104‬‬

‫صغــرا ً‪( ،‬ابنــة فــان حتــى تتــزوج فتصبــح زوجــة فــان ثــم أم فــان) وليــس لهــا قيمــة ذاتيــة خاصــة ســوى‬
‫مــا تســتمده مــن أبيهــا أو زوجهــا‪:‬‬
‫(يسعد مساك يليل اليوم جيتينا دب الفرح بقلوبنا وهنيتين ـ ــا‬
‫وع عــن بيّــك يــا ميــة مرحبــا فيــي وع عــن أحمــد بنحطــك عروســينا)‪ :‬لقــد قــدم الفــرح بقدومــك‬
‫مئــة أهـاً كرمــى لعيــون أبيــك وكرمــى لعريســك ســرفعك فــوق رؤوســنا‬
‫و(الفرس من الفارس)‪ :‬املرأة كالفرس يروضها الرجل حسب إرادته‪.‬‬
‫ويف حني متتدح املرأة عند تشبيهها بالرجال بالقول إنها (أخت الرجال) يشبّه الرجل بالنساء‬
‫بغــرض التحقــر واإلهانــة‪( :‬هــذا زملــة شــو بــدك ايــاه متــل النســوان)‪ :‬إنــه رجــل هــل تريــده أن يكون مثل‬
‫النساء‪ ،‬أو ينسب لهن عند الرغبة بشتمه او تحقريه‪( :‬أخو القحبة)‪.‬‬
‫(يــا أخــي اشــتهيتك حاكــم بالقلعــة‪ ،‬يــا إختــي اشــتهيتك مجنونــة وبالقرعــة)‪ :‬أمتنــى لــك يــا أخــي‬
‫أن تصبــح حاكـاً‪ ،‬أمتنــى لــك يــا أختــي أن تصبحــي مجنونــة ســافرة!‬

‫املرأة ‪ -‬والدة مشؤومة‬


‫تتناقل النساء األغاين من جيلٍ لجيل‪ ،‬لتمنح الطفل أفكاره األوىل عن الحياة ليعرف كل جنس‬
‫الخــاص‪ ،‬فــكل حمــل جديــد يرجــى منــه أن يــأيت بصبــي (اللــه ال يع ّقــب حــدا ببنــت)‪ ،‬وعنــد قدومــه‬
‫‪.‬‬
‫يرحــب بــه بالتهليــل‪( :‬اللــه يخليــه‪ .‬يــرىب يف عــزك‪ .‬تشــوفه زينــة الرجــال)‬
‫بينــا تــأيت املباركــة بالبنــت مثــل تعزيــة ألنهــا مــروع فضيحــة محتملــة تســتوجب الســر‪( ...‬الله‬
‫يســر عليها)‪ ،‬وإن وجد الصبيان مســبقاً يف العائلة يقال‪( :‬الحمد لله العني مليانة)‪ :‬أي مكتفية‪.‬‬
‫وتــدس يف األغنيــات املعــاين املبطنــة املتاميــزة بــن الذكــور واإلنــاث‪ ،‬إذ أن هـ ّم وجــود األنثــى‬
‫ال ينتهــي (هـ ّم البنــات للمــات)‪:‬‬
‫والــي مــا تحبــك قـدّي يغضــب عليهــا ريب والــي مــا تحبــك ريتهــا ســبع بنــات ببيتهــا (ليغضــب‬
‫الرب عىل من ال تحبك بقدر ما أحبك وليجعل يف بيتها سبع بنات) يف حني تقدم فروض الطاعة‬
‫للصبــي‪ :‬أربــع صبــاح مص ّبحــة ‪ -‬وأربــع خرفــان مذبّحــة ‪ -‬وأربــع جــواري يــا ملــك تخــدم جنابك للضحى‬
‫(لك أربع صباحات‪ ،‬وأربع خراف‪ ،‬وأربع جوار لتخدم مقامك طوال النهار) أما األغنية األكرث تداوالً‬
‫وخل الصبي‪ :‬أيتها الدبة كيل البنت واتريك الصبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للمالعبة‪ :‬دبّة كيل دبة ارشيب كيل البنت‬

‫املرأة كائن أقرب للملكية‬


‫يشــار للمــرأة عــى أنهــا ملكيــة مــا‪ ،‬فهــي تعيــش متنقلــة بــن أمكنــة الرجــال‪« :‬اتنــن مــا بينعــاروا‬
‫املــرة والســيارة»‪ :‬شــيئان ال ميكــن إعارتهــا هــا الزوجــة والســيارة‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫رعلا لبج ثارت يف ةأرملا‬

‫فالفتاة تشرتى باملهر من أهلها لتنتقل إىل عائلة زوجها‪ ،‬فتتحدد قيمتها حسب هذا املهر‪:‬‬
‫دمصلا دبع لامأ‬

‫(يــا مــا أغالهــا يــا مــا احالهــا يــا مــا أرخصهــا يــا مــا اوكســها)‪ :‬مــا أحالهــا إذا غــا مهرهــا وإذا رخــص مــا‬
‫أســوأها‪ ،‬ووالعــرس يعنــي خــروج املــرأة مــن بيــت أهلهــا ليصبــح نصيبهــا النســيان‪:‬‬
‫يا زقاق وبخاطرك يا زقاق‬
‫شوف األهل صار منوات‬
‫يا بيي بالله اذكروا املعروف‬
‫ال تقطعون السالمات‬
‫والعني بعدك ما عاد تشوف تبيك ع الربيع اليل فات‬
‫(وداعـاً يــا درب أصبحــت رؤيــة أهــي أمنيــة‪ ،‬اذكــروين يــا أيب وال تحرمــوين مــن تحياتكــم فعينــي مل‬
‫ول)‪.‬‬
‫تعــد تــرى لكــرة بكائهــا عــى ربيــع أيامكــم الــذي ّ‬
‫وبعبارة كهذه يس َّوغ انتامؤها الجديد‪:‬‬
‫(أهيل اليل اشرتوين مش اهيل اليل باعوين)‪( .‬اهيل هم من اشرتوين وليسوا من باعوين)‬
‫لتحل يف عائلة زوجها مع لقب مالزم لها هو (الغريبة)‪:‬‬
‫حني يزورك بالسنة مرة‪ :‬ك ّحيل عينيك إن كنت غريبة‬ ‫ِ‬
‫ميلك ج ّرة خ ّيك ّ‬ ‫ان ك ّنك غريبة ج ّري‬
‫فأخوك حنون يزورك مرة كل سنة‪.‬‬
‫وعند انتهاء الزواج وعدم وجود أوالد ال يسمح لها بالبقاء يف مسكنها بل تعود إىل اهلها ثانية‪:‬‬
‫(ح ّجة التسعني ترجع ألهال)‪ :‬حتى لو بلغت التسعني ستعود إىل اهلها‪.‬‬

‫املرأة أداة لخدمة األرسة ووعاء لإلنجاب‬


‫تلقــى عــى عاتــق املــرأة كل مســؤوليات األرسة مــن طعــام وكســاء لــذا عليهــا تعلــم هــذه الفنــون‬
‫والتميــز بهــا‪:‬‬
‫مية اسم الله عىل قدك وتكوينك ومية اسم الله عىل طية مناديلك‬
‫فمهــا تعلمــت الفتــاة فســينتهي الحــال يف بيــت الزوجيــة (البنــت آخرتهــا لبيــت جــوزا) (زملــة‬
‫بالبيت وال شــهادة عالحيط) أو قد يقال (علقي شــهادتك باملطبخ)‪ .‬وتالم إن مل تنجب األطفال‬
‫(الشــجرة الــي مــا بتثمــر حــال قطعهــا)‪.‬‬
‫وإذا أنجبت اعتربت مجرد وعاء الحتواء األطفال‪:‬‬
‫(كوارة وف ّرغتي)‪ :‬أنت كخزانة القمح أفرغت محتواك وكفى‪.‬‬
‫وهي غري كف ٍؤ للرتبية‪( :‬شو ربت األرملة ثور ما فلح وكلب ما نبح)‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪106‬‬

‫املرأة مصدر الفتن واملتاعب‬


‫تعترب املرأة مصدر الفتنة بني الرجال وقد ترتكب جرائم القتل بسببها‪:‬‬
‫(شغلة نسوان) أي قصة متعلقة بامرأة‪.‬‬
‫أما األمثال فتقول إنهن السخيفات املرثثرات بصغائر األمور (قلقلة نسوان) مجرد ثرثرة نسائية‪:‬‬
‫«عقل مية مرة بعقل جاجة خوثا» عقل مئة امرأة يعادل عقل دجاجة‬
‫وهن مصدر البؤس ونكد العيش‪( :‬كل النسوان نكدين)‬
‫ويف حــن يشــار للرجــل بأنــه أهــم ركــن لــأرسة‪( :‬عمــود البيــت) (الزملــة بالبيــت رحمــة ولــو كان‬
‫فحمــة)‪ .‬تظهــر الصــورة النمطيــة للزوجــة‪ :‬أنهــا ثقيلــة الظــل التــي تالحــق زوجهــا أىن اتجــه (كامتــة عــى‬
‫نَفســه)‪.‬‬
‫ـي)‪ :‬اظهــري‬
‫ـي شــوي مــن البــاب وفـ ِّ‬
‫ـي ياســمرية طـ ّ‬
‫فالــزواج عــبء عــى الرجــال ال يطــاق‪( :‬طـ ُ‬
‫أيتهــا الســمراء قليــا مــن البــاب وعــودي‪.‬‬
‫ب الجازة الجازة بتو ّرث علّة‪ :‬اللعنة عىل الزواج الذي أورثني علّة‪.‬‬
‫ب َّ‬
‫يلعن َ ّ‬
‫أمــا الطــاق فــا يتعــدى اهتــام الرجــل أكــر مــن خلــع حذائــه‪( :‬كنــت البــس جزمــة وشــلحتا)‪:‬‬
‫كنــت ألبــس حــذاء وخلعتــه‪.‬‬

‫املرأة موضوع العنف‬


‫يحــر العنــف الجســدي والنفــي املــارس عــى املــرأة كمكــون أســايس يــرر باســم الديــن أو‬
‫العــرف‪ .‬فعــى الرجــل أن يفــرض هيبتــه عــى زوجتــه‪:‬‬
‫(الزملــة الزم يقطــع رأس البــس مــن ليلــة العــرس)‪ :‬عــى الرجــل أن يقطــع رأس القطــة مــن ليلــة‬
‫العــرس (إلرهــاب زوجتــه وتطويعهــا)‪.‬‬
‫ومن يقدّر زوجته يوصم بضعف الشخصية (فالن راكبته مرته)‪ :‬أي فالن تركبه زوجته كالبهيمة‪.‬‬
‫وتنسج حول العنف العبارات ساخرة أو معزية‪:‬‬
‫(يــا ســعد مــن رضبهــا جــوزا ويــا تعــس مــن رضبهــا خ َيــا)‪ :‬لتســعدي يــا امــرأة فمــن رضبــك هــو‬
‫زوجــك وليــس أخــاك‪.‬‬
‫(املرة مثل الزيتون ما بيحال إال بالرص)‪ :‬املرأة كالزيتون ال يصبح حلوا ً إال بالضغط عليه‪.‬‬
‫رشع قانونا باسم جرمية الرشف‪ ،‬يف حالة العالقات دون زواج‬
‫وإذا وصل التأديب حد القتل ي ّ‬
‫أو الــزواج إىل خــارج الطائفــة الدرزيــة‪ ،‬وتذكــر هــذه الحــوادث بكامــل االســتخفاف‪( :‬إصبعــي عابــت‬
‫وقطعتــا)‪ :‬لقــد فعلــت إصبعــي العيــب فاضطرتنــي لقطعهــا‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫رعلا لبج ثارت يف ةأرملا‬

‫لكل عتمة جانبها املرشق‪.‬عرشون سنة مرت عىل تلك الحادثة تغريت معامل‬
‫دمصلا دبع لامأ‬

‫كثــرة يف الصــورة‪ ،‬فالزمــن ميــي يح ـ ّور ويجــرف‪ ،‬لــذا ظهــر جيــل مميــز مــن النســاء‬
‫ينتــزع حقوقــه وميــي بخطــى ثابتــة وإن كانــت وئيــدة‪ .‬فقــد فوجئــت مــرة برجــل‬
‫صغري‪ ،‬كان يستمع إلحدى السجاالت املكررة عن املرأة والرجل حني أدىل بدلوه‬
‫الصغــر قائـاً‪:‬‬
‫(يعني الزملة كامن إله مميزات صح؟) أال يوجد للرجل مميزات؟‬

‫حياة منزلية لشادي غادريان‬


‫كريستوفر رويرت ‪ /‬ترجمة‪ :‬يارس الزيات‬

‫عــن جهــاد النــكاح وخرافــات أخــرى‪ :‬حمالت‬


‫تضليــل متقنة‬

‫نظــام الرئيــس الســوري بشــار األســد يش ـ ّن حملــة عالقــات عامــة بهــدف إشــاعة‬
‫حكايــات تنــال مــن ســمعة خصومــه وتُلهــي النــاس عــن جرامئــه‪ ،‬كتلــك التــي عــن ثــوار‬
‫منهمكــن يف «جهــاد النــكاح» وتقتيــل املســيحيني‪ ،‬وتســاعده يف ذلــك شــبكات‬
‫مــن السـذّج واإلعالميــن األجانــب‪.‬‬
‫الجنــس بضاعــة رائجــة‪ ،‬وتنظيــم القاعــدة يحــب لفــت األنظــار‪ ،‬غــر أن الدمــج‬
‫بــن االثنــن‪ :‬الجهــاد ‪ -‬النــكاح! ‪ -‬مثــر جــدا ً‪ .‬تقاريــر ال تحــى عــن شــابات يقدمــن‬
‫أنفسهن للجهاديني‪ ،‬حسب آخر أخبار الرعب يف سوريا‪ ،‬وشيخ سعودي قيل إنه‬
‫أصدر فتوى تســمح للمراهقات بتقديم النجدة الجنســية للمقاتلني املحبطني…‬
‫أواخــر أيلــول‪ ،‬ظهــرت روان قــداح (‪ 16‬عام ـاً) عــى شاشــة التلفزيــون الســوري‬
‫مفصلــة عــن كيفيــة إجبارهــا عــى إمتــاع الثــوار املتطرفــن‪ .‬ثــم جــاء‬
‫ّ‬ ‫وقدمــت روايــة‬
‫ترصيــح وزيــر الداخليــة التونــي بــأن بعــض فتيــات بــاده يســافرن إىل ســوريا مــن‬
‫أجل جهاد النكاح ‪ -‬ومضاجعة ‪ 20‬أو ‪ 30‬وصوالً إىل ‪ 100‬من الثوار ‪ -‬لتتحول بعد‬
‫ذلــك القضيــة إىل عناويــن يف الصحافــة األملانيــة‪ ،‬فــا لبــث أن صــارت املواقــع‬
‫الشهرية (كصحيفة بيلد أو مجلة فوكس) تدغدغ قراءها بهذه «املامرسة العجيبة»‬
‫املزعومــة‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫نقتم ليلضت تالمح ‪:‬ىرخأ تافارخو حاكنلا داهج نع‬

‫يف صبيحــة مجــزرة الغــاز املســموم‪ 12 ،‬آب‪ ،‬أطلــق النظــام يف دمشــق حملــة عالقــات عامــة‬
‫يزلا رساي ‪:‬ةمجرت ‪ /‬رتيور رفوتسيرك‬

‫ضاريــة‪ ،‬فــوراء الخــط الرســمي للدعايــة النظاميــة هنــاك حملــة أخــرى‪ :‬جهــد رسي ومقــدم بعنايــة لــزرع‬
‫الشــك والتشــويش‪ ،‬ثــم لحــرف األنظــار بعيــدا ً عــن الجرائــم الجاريــة لل ُحكــم الســوري‪ .‬حكايــات جهــاد‬
‫النــكاح مثلهــا مثــل العديــد مــن األخبــار الزائفــة‪ ،‬تهــدف إلقنــاع املؤيديــن يف الداخــل والنقــاد يف‬
‫الخــارج مبــدى الفســاد والتشــوه يف هــذه الثــورة‪.‬‬
‫مل يعتمد أي زعيم من زعامء املنطقة– وال صدام العراق وال قذايف ليبيا– الدعاي َة السياسية‪،‬‬
‫بهــذه الكثافــة‪ ،‬كــا اعتمدهــا األســد‪ .‬فريــق العالقــات العامــة واإلعــام لديــه يبــث باســتمرار قصصـاً‬
‫مفربكــة قليـاً أو كثــرا ً عــن أعــال اإلرهــاب ضــد املســيحيني‪ ،‬أو عــن صعــود «القاعــدة» والفــوىض‬
‫العارمة الوشيكة يف املنطقة‪ .‬يتم تدوير هذه القصص عن طريق مذيعني روس وإيرانيني‪ ،‬وكذلك‬
‫شــبكات مســيحية‪ ،‬ليلتقطها يف آخر املطاف اإلعالم يف الغرب‪.‬‬
‫أحد األمثلة الكربى أساطري العربدة مع اإلرهابيني‪ .‬الصبية التي ظهرت عىل التلفزيون السوري‬
‫ابنة لعائلة معارضة معروفة يف درعا‪ ،‬فشل النظام يف القبض عىل أبيها فخطفها عن طريق قوى‬
‫األمن أثناء عودتها من املدرسة يف ترشين الثاين ‪ .2012‬خالل الربنامج التلفزيوين نفسه اعرتفت‬
‫صبية أخرى أنها استســلمت لعملية جنس جامعي لدى متطريف جبهة النرصة‪ ،‬بيد أنها‪ ،‬حســب‬
‫إفــادة عائلتهــا‪ ،‬خُطفــت يف جامعــة دمشــق أثنــاء تظاهرهــا ضــد األســد‪ .‬مــا تــزال الفتاتــان غائبتــن‪،‬‬
‫وتقول العائلتان إن ابنتيهام أجربتا عىل الترصيح املتلفز‪ ،‬وإن معلومة جهاد النكاح كذبة‪.‬‬
‫مجاهــدة نــكاح تونســية مزعومــة كذلــك أنكــرت تلــك القصــص بعــد التواصــل اإلعالمــي معهــا‪:‬‬
‫«كلــه كــذب!»‪ .‬اعرتفــت أنهــا كانــت يف ســوريا‪ ،‬لكــن كمم ّرضــة‪ .‬قالــت إنهــا متزوجــة وقــد غــادرت‬
‫إىل األردن مــن وقتهــا‪.‬‬
‫حاولــت منظمتــا حقــوق إنســان التث ّبــت مــن قصــص جهــاد النــكاح‪ ،‬لكــن ال يشء يف أيديهــا‬
‫حتــى اآلن‪ .‬يبــدو أن وزيــر الداخليــة التونــي لديــه دوافــع أخــرى للمــي يف تلــك اإلشــاعة‪ :‬مئــات‬
‫اإلســاميني غــادروا تونــس وســافروا إىل ســوريا‪ ،‬وهــو بالطبــع يســعى لعرقلــة ذلــك عــر وصــم هــؤالء‬
‫املقاتلــن بــأي يشء‪ .‬هــذا عــدا عــن أن الشــيخ محمــد العريفــي‪ ،‬الــذي زعمــوا أنــه صاحــب فتــوى‬
‫جهــاد النــكاح‪ ،‬نفــى ذلــك متام ـاً بقولــه‪« :‬هــذا افــراء ال يصــدر عــن عاقــل»‪.‬‬

‫بذور الكذب‬
‫من الصعب – ولعله مستحيل حالياً – التحقق من كل القصص املرعبة التي ترد عن الحرب‬
‫األهليــة يف ســوريا‪ ،‬تحديــدا ً القصــص املنتــرة بشــكل مشــبوه وملتــو‪ ،‬كتلــك التقاريــر الشــائعة عــن‬
‫اضطهاد املسيحيني‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪110‬‬

‫مث ـاً‪ ،‬يف ‪ 26‬أيلــول نــرت وكالــة األخبــار الكاثوليكيــة األملانيــة –مستشــهد ًة بوكالــة أنبــاء‬
‫الڤاتيــكان– تقريــرا ً عــن علــاء مســلمني يف دومــا (معقــل املعارضــة يف ريــف دمشــق) د َعــوا إىل‬
‫«مصــادرة أمــاك غــر املســلمني»‪ .‬وكالــة أنبــاء الڤاتيــكان قالــت‪ :‬إن لديهــا نســخة عــن وثيقــة تحــوي‬
‫توقيــع ‪ 36‬شــخصية دينيــة مســلمة‪ .‬يبــدو الخــر جــادا ً‪ ،‬لكــن تبــن أنــه مبنــي عــى خــر مــز ّور‪ :‬نــص زائف‬
‫وأسامء حقيقية‪ ،‬وهي تعود إىل بيان عمره سنة يدعو لحامية املدنيني من املعارك الدائرة‪ .‬هذه‬
‫ليســت أول مــرة تقبــل فيهــا الوكالــة فــركات دعائيــة يصدرهــا رشكاء النظــام أمثــال موقــع الحقيقــة‪.‬‬
‫هــذا ينســحب أيضـاً عــى أســطورة رضب عنــق مطــران‪ ،‬وهــي قصــة نرشهــا األســد يف مقابلــة لــه‬
‫مــع شــبيغل‪ .‬حقيقــة األمــر أن جهادي ـاً مــن داغســتان قتــل ثالثــة رجــال يف طريقــه‪ ،‬لكنهــم مل يكونــوا‬
‫مســيحيني‪ .‬هــذه الشــائعات التــي ولدتهــا املاكينــة الدعائيــة األســدية‪ ،‬مبجــرد حصولهــا عــى طابــع‬
‫املواقفــة مــن الوكالــة الرســمية للڤاتيــكان‪ ،‬رسعــان مــا تُتــداول حــول العــامل‪ ،‬وأحيانـاً بطيــب نيــة‪.‬‬
‫ل الحقائــق بطريقــة مشــابهة حــن نــر موقــع «اليــف ليــك» منتصــف أيلــول املــايض فيديــو‬
‫تــم َ ّ‬
‫فيه امرأة مربوطة بعمود يف حلب‪ .‬ادعى املوقع أن املرأة كانت مسيحية حلبية خطفها متمردون‬
‫مــن القاعــدة‪ .‬لكــن الصــورة حقيق ـةً‪ ،‬رغــم أنهــا يف حلــب‪ ،‬تعــود إىل فــرة كانــت قــوات األســد هــي‬
‫املسيطرة عىل كامل أرجاء املدينة‪ ،‬وهناك فيديو منشور منذ ‪ 12‬حزيران ‪ 2012‬يُظهر ميليشيات‬
‫النظــام تــرخ عــى املــرأة نفســها‪.‬‬
‫النظــام كذلــك لفــق أســطورة تدمــر قريــة معلــوال املســيحية‪ .‬يف أوائــل أيلــول‪ ،‬هاجــم ثــوار ينتمون‬
‫إىل ثــاث مجموعــات‪ ،‬منهــن النــرة‪ ،‬موق َعــن عســكريني عــى ضواحــي بلدة يســيطر عليها شــبيحة‬
‫محليون‪ .‬ثم انسحبوا‪ .‬لكن رواية النظام‪ ،‬التي نجحت يف أن تكون تقريرا ً لدى وكالة األنباء األمريكية‬
‫أسوشــييتد بــرس‪ ،‬كانــت التــايل‪ :‬إرهابيــون أجانــب نهبــوا وأحرقــوا الكنائــس بــل وهــددوا بقطــع رؤوس‬
‫املسيحيني إذا رفضوا اعتناق اإلسالم‪.‬‬
‫هــذا ال يتفــق مــع مــا قالتــه راهبــات ديــر تقــا يف معلــوال وبطريــرك أنطاكيــة للــروم األورثوذوكــس‪،‬‬
‫فقــد قالــوا إنــه مل تحــدث أرضار وال تهديــدات عــى مســتوى العقائــد‪ .‬أحــد الصحفيــن مــن شــبكة‬
‫روسيا اليوم وضح اللغط دون قصد‪ ،‬فص ّور أثناء مصاحبته للجيش السوري هجوم الدبابات عىل‬
‫معلــوال‪ ،‬التــي تــم قصــف الديــر املحــي بهــا‪.‬‬
‫ل أعنــاق الحقائــق أســهل‬
‫إعــادة تفســر األحــداث الجاريــة تــدل عــى سياســة واعيــة‪ ،‬كــا أن َ ّ‬
‫بكثــر اليــوم يف ســوريا‪ ،‬مــرح الحــرب املش ـ ِّوش واملش ـ َّوش‪ .‬معظــم النــرات اإلخباريــة تخــى‬
‫مــن املخاطــرة وبــذل بعــض الجهــد للتثبــت مــن القصــص عــى األرض‪ .‬الحــوادث الحقيقيــة‪ ،‬كحــرق‬
‫الجهاديــن كنيســة يف مدينــة الرقــة شــال البــاد‪ ،‬يتــم خلطهــا بفظاعــات ملفقــة مع ـدّة للتالعــب‬
‫بالــرأي العــام العاملــي‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫نقتم ليلضت تالمح ‪:‬ىرخأ تافارخو حاكنلا داهج نع‬

‫حتى التناقضات الصارخة يقبلها البعض دون تساؤل‪ .‬عموماً قلام تجد دليالً ملموساً يناقض‬
‫يزلا رساي ‪:‬ةمجرت ‪ /‬رتيور رفوتسيرك‬

‫الشــائعة‪ .‬حــن قــرر اإلعــام النظامــي أن الشــيخ البوطــي‪ ،‬الداعــم لألســد‪ ،‬قُتــل يف تفجــر انتحــاري‬
‫يف مســجد يف قلــب دمشــق يــوم ‪ 21‬آذار‪ ،‬أنكــرت كل مجموعــات الثــوار صلتهــا بالحادثــة‪ .‬ذلــك‬
‫ال يعنــي شــيئاً بالــرورة‪ .‬لكــن ميكــن ألي عــن أن تالحــظ كيــف ال تُظهــر الصــور أي عالمــة عــى أي‬
‫انفجــار‪ :‬الرثيــات واملــراوح والســجاد مل ميســهم ســوء‪ .‬كان هنــاك ثقــب ســببته رصاصــة بوضــوح‬
‫عــى الجــدار الرخامــي‪ ،‬وبُـ َرك الــدم تظهــر بوضــوح أيــن تــم تزجيــة الجثــث‪ .‬العديــد مــن الضحايــا كانــوا‬
‫يلبســون األحذيــة‪ ،‬وهــو أمــر غريــب جــدا ً يف مســاجد املســلمني‪ .‬كذلــك مل يكــن هنــاك أي شــهود‬
‫عيــان‪ .‬كل ذلــك يغــذي الشــبهة القائلــة إن الضحايــا أُجــروا عــى دخــول املســجد واملــوت فيــه‪ ،‬أي‬
‫للتمويــه بهجــوم مل يحصــل أصـاً‪.‬‬

‫إلقاء اللوم‬
‫لكــن بعــد الهجــوم بالغــاز املســموم يف آب‪ ،‬أفلســت الدعايــة األســدية‪ .‬غمــرت النظــام موجــة‬
‫نقمــة عامليــة‪ ،‬جعلتــه يتخبــط أثنــاء محاولتــه رشح الوضــع‪ .‬يف البدايــة قــال األســد‪ :‬مل يحــدث يشء‪.‬‬
‫ثم عرض التلفزيون السوري صورا ً ملخبأ مزعوم للثوار فيه براميل كتب عليها بشكل فاضح ُ‬
‫«صنع‬
‫يف الســعودية»‪ ،‬وراح يؤكــد أن هــذه الرباميــل كانــت غــاز ســارين أرســله الســعوديون ل ـ «اإلرهابيــن»‬
‫الذيــن‪ ،‬بالخطــأ‪ ،‬سـ ّمموا أنفســهم حتــى املــوت‪.‬‬
‫مصدر الخرب كان موقع أخبار قليل الشهرة اسمه «مينت برس»‪ ،‬مقره مينيسوتا شامل الواليات‬
‫املتحــدة‪ .‬أحــد الكتــاب أنكــر بعــد ذلــك أي صلــة لــه مــع البحــث‪ ،‬واآلخــر‪ ،‬وهــو شــاب أردين يكتــب‬
‫تحــت أســاء مســتعارة شــتى‪ ،‬بالــكاد رد عــى األســئلة بالقــول إنــه يــدرس حاليـاً يف إيــران‪ ،‬لكنــه يف‬
‫تعليــق أوناليــن عــى املقــال يف دايــي ميــل الربيطانيــة قــدم التفاصيــل التاليــة التــي كانــت غائبــة يف‬
‫تقريــر مينــت بــرس‪« :‬بعــض الرجــال الكبــار يف الســن وصلــوا إىل دمشــق مــن روســيا وأحدهــم أصبــح‬
‫صديقـاً يل‪ ،‬وقــد أخــرين أن لديهــم دليـاً عــى أن الثــوار هــم مــن اســتخدموا الكيــاوي»‪ .‬بعــد أيــام‪،‬‬
‫اســتعار وزيــر الخارجيــة الــرويس تقريــر مينــت بــرس دليـاً عــى بــراءة األســد‪.‬‬
‫تفسري مختلف كلياً عن الهجوم الكياموي املزعوم الذي قام به الثوار قدمته مستشارة األسد‬
‫بثينــة شــعبان لشــبكة ســكاي نيــوز الربيطانيــة‪ :‬قالــت إن اإلرهابيــن خطفــوا ‪ 300‬طف ـاً علوي ـاً مــن‬
‫الالذقيــة‪ ،‬أخذوهــم إىل دمشــق ثــم قتلوهــم وقدموهــم إىل العــامل كضحايــا قتلهــم النظــام‪.‬‬
‫لدينا كذلك خط دفاع ال يعتمد عىل الكياموي وال يجادل بأن الثوار قتلوا أنفسهم‪ :‬يف مقابلة‬
‫لــه مــع شــبيغل قــال األســد إن الســارين «غــاز مطبــخ» ألنــه «ميكــن تحضــره يف أي مــكان»‪ .‬هــذا يقــال‬
‫يف وجــه تقريــر األمــم املتحــدة الــذي أكــد أنــه ال احتــال النطــاق صواريــخ محملــة بغــاز الســارين إال‬
‫مــن قاعــدة عســكرية تابعــة لحكومــة النظــام‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪112‬‬

‫رغــم أن األســد يحــب تغطيــة جرامئــه بغــارات إعالميــة تحركهــا األزمــة‪ ،‬هــو‪ ،‬يف‬
‫الحقيقــة‪ ،‬يفضــل مقابلــة الصحافــة وإخبارهــا بشــكل مبــارش القصــص التــي لديــه‪،‬‬
‫مــن ذلــك تقديــم نظامــه كالحصــن األخــر يف وجــه اإلرهــاب العاملــي‪ ،‬رغــم أن لديــه‬
‫عمــاء ينفــذون كل أنــواع الهجــوم الــذي يحــذر العــامل منــه وينســبه إىل خصومــه‪.‬‬
‫لقــد اتهمــت الرشطــة يف تركيــا ولبنــان املخابــرات الســورية بالضلــوع يف معظــم‬
‫الهجومات املدمرة التي حدثت خالل سنوات‪ .‬بعدما أوقع تفجريان يف طرابلس‬
‫‪ 47‬قتي ـاً يف ‪ 23‬آب‪ ،‬أصــدرت محكمــة لبنانيــة تفويض ـاً باعتقــال ســوريني اثنــن‪،‬‬
‫تهمتهــا التخطيــط ألعــال إرهابيــة‪.‬‬

‫ثالثية پرستو فوروهار (سكني وقنبلة ومسدس تم تشكيلها بأجساد إنسانية)‬


‫النظــام الســوري يســتخدم الجنــس ملحاربــة‬
‫معارضيه‬

‫منذ بدء الثورة السورية يف آذار ‪ /‬مارس ‪ ،2013‬قامت أجهزة اإلعالم السورية‬
‫الرسمية‪ ،‬وأجهزة اإلعالم الحليفة لها‪ ،‬بتوجيه اتهامات واسعة للمعارضني للنظام‪،‬‬
‫بهــدف زعزعــة صــورة الحــراك املعــارض بــكل أطيافــه‪ .‬لكــن املالحــظ أن االتهامــات‬
‫بالعالقــات الجنســية غــر املرشوعــة أخــذت حيّــزا ً كبــرا ً يف ذهنيــة القامئــن عــى‬
‫الحمــات اإلعالميــة لــدى النظــام‪ ،‬وهــو مــا ســيحاول هــذا التقريــر دراســته بشــكل‬
‫مفصــل‪.‬‬
‫ولغايــات الوضــوح البحثــي‪ ،‬فــإ ّن التقريــر قــام برصــد األجهــزة اإلعالميــة الســورية‬
‫اململوكــة للدولــة‪ ،‬واململوكــة ألفــراد مقربــن مــن النظــام‪ ،‬كقنــاة الدنيــا اململوكــة‬
‫لرامــي مخلــوف ابــن خــال الرئيــس‪ ،‬كــا رصــدت القنــوات اإليرانيــة واللبنانيــة املواليــة‬
‫للنظــام‪ ،‬وهــي جميع ـاً قنــوات تشــرك يف مشــاركتها يف االســراتيجية اإلعالميــة‬
‫املناهضــة للحــراك الشــعبي يف ســورية‪.‬‬

‫الحمالت اإلعالمية لتشويه الحراك املعارض‬


‫اســتخدم النظام الســوري الحمالت املنظمة لتشــويه املعارضة السياســية يف‬
‫سورية حتى قبل انطالق الثورة‪ ،‬حيث تستهدف هذه الحمالت رسم صور سلبية‬
‫للمعارضني يف الذهنية العامة‪.‬‬
‫ومن أهم االسرتاتيجيات التي اتبعها إعالم النظام‪:‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪114‬‬

‫ترديــد املعلومــات غــر الصحيحــة بشــكل مســتمر عــن الوقائــع يف األرض‪ :‬مــن نفــي لوجــود‬
‫مظاهــرات مــن حيــث املبــدأ‪ ،‬أو نفــي الدوافــع املعلنــة لهــذه املظاهــرات‪.‬‬
‫استخدام الخطاب الديني لتعزيز مرشوعية الرئيس‪ ،‬وتجريم األطراف املعارضة له‪.‬‬
‫اســتخدام املعلومــات غــر الصحيحــة واملغلوطــة عــن الــدول األخــرى التــي تقــف موقفاً مناهضاً‬
‫للحكومة السورية‪.‬‬
‫مهاجمــة السياســيني يف الــدول التــي ال تدعــم النظــام (كل الحكومــات تقريب ـاً‪ ،‬مــا عــدا روســيا‬
‫والصــن وإيــران‪ ،‬وبعــض السياســيني اللبنانيــن)‪ ،‬واتهامهــم بالعاملــة والخيانــة‪ ،‬واتهامهــم بإقامــة‬
‫عالقــات غــر مرشوعــة أو شــاذة‪.‬‬
‫ترديــد املعلومــات املشــككة بأخالقيــات شــخصيات املعارضــة‪ ،‬واتهامهــم أو اتهــام أفــراد مــن‬
‫عائالتهــم بإقامــة عالقــة غــر رشعيــة أو اتهامهــم بالشــذوذ‪.‬‬
‫وقــد اســتخدمت االتهامــات املتعلقــة باملامرســات الجنســية غــر الرشعيــة بشــكل متعــدد قبــل‬
‫الثورة‪ ،‬إال أ ّن هذه االتهامات تح ّولت إىل سياســة إعالمية متواترة‪ ،‬واســتخدمت بشــكل فردي ضد‬
‫أشــخاص محدديــن باالســم يف املعارضــة الســورية‪ ،‬واســتخدمت بشــكل جامعــي التهــام الحــراك‬
‫املعــارض بالجملــة‪ .‬كــا اســتخدمت الســتهداف زعــاء لــدول أخــرى‪.‬‬
‫وســوف نركّــز يف هــذا التقريــر عــى اســتعراض أبــرز هــذه االدعــاءات‪ ،‬ونســتعرضها مــن الناحيــة‬
‫الحقوقيــة والنفســية‪.‬‬

‫أبرز االتهامات بالعالقات غري الرشعية‬


‫‪ .1‬طل امللوحي‬
‫طــل امللوحــي مد ّونــة ســورية‪ ،‬مــن مواليــد ‪ ،1991‬اعتقلهــا األمــن الســيايس يف عــام ‪ 2009‬عــى‬
‫خلفيــة نرشهــا ملــواد ذات طابــع ســيايس عــى مد ّونتهــا‪ ،‬ومــا زالــت معتقلــة إىل اآلن‪.‬‬
‫ووفقـاً للروايــة الرســمية التــي قدّمتهــا بــرى كنفــاين مديــرة اإلعــام الخارجــي يف وزارة الخارجيــة‬
‫الســورية بتاريــخ ‪ ،2011 / 2 / 23‬إىل مجموعــة مــن مراســي وســائل اإلعــام الخارجيــة؛ فــإ ّن طــل‬
‫ُج ِّندت ع ــن طريق ضابط منســاوي التقت به ف ـ ــي القنيطرة ممن يعملون يف قوات حفظ الســام‪،‬‬
‫وتعــرف إليهــا وهــي يف عمــر ‪ 15‬ســنة‪ ،‬وقــدم األخــر لهــا الهدايــا ومبالــغ ماليــة وطلــب منهــا بعــد ذلك‬
‫بفــرة أن تســافر إىل القاهــرة وأرستهــا‪ ،‬حيــث أ ّمــن لهــا بعــد انتقالهــا إىل هنالــك يف ‪2006/9/29‬‬
‫ســكناً يف حــي شــعبي منطقــة حلــوان‪.‬‬
‫ويف شــهر آب العــام ‪ 2008‬جــاء الضابــط النمســاوي ملــر‪ ،‬والتقــى بهــا وأقــام معهــا عالقــة‬
‫وصورهــا‪ ،‬ومــن ثــم قــدم القــرص الليــزري؛ الــذي يتضمــن بحســب الروايــة الرســمية صــورا ً فاضحــة لهــا؛‬
‫‪115‬‬ ‫هيضراعم‬

‫للسفارة األمريكية يف القاهرة‪ ،‬والتي تواصلت معها وقدّمتها إىل ضابط مخابرات أمرييك‪ ،‬طلب‬
‫يزلا رساي ‪:‬ةمجرت ‪ /‬رتيور رفوتسيرك‬

‫منها بدوره معرفة أدق التفاصيل عن عمل السفارة السورية يف القاهرة‪ ،‬والرتكيز عىل موظف فيها‬
‫دبلومايس يعمل ســكرتريا ً ثالثاً هو «ســامر ربوع»‪ ،‬ومن ثم‪ :‬قام الضابط بعدها بربطها بدبلوماســية‬
‫أمريكية قدمها لها عىل أن اسمها جيسيكا‪ ،‬ليتبني الحقاً أن اسمها الحقيقي هو إميي سيا كاثرين‬
‫ديســتيفانو‪ ،‬والتــي قامــت بدورهــا بتصويرهــا وهــي يف عالقــة غــر مرشوعــة مــع ســائقها الخــاص‪،‬‬
‫وإثــر ذلــك طلبــت جيســيكا مــن طــل أن ت ُقيــم عالقــات خاصــة مــع الســكرتري الثالــث ربــوع الــذي مل‬
‫يستجب لطلبها‪ ،‬من أجل تجنيده‪ ،‬ولكن األخري اكتشف محاوالت طل إلغوائه‪ ،‬فتواصل مع إدارته‬
‫يف دمشــق‪ ،‬وتــم إلقــاء القبــض عــى طــل بعــد ذلــك‪.‬‬

‫‪ .2‬اتهامــات بالعالقــات غــر الرشعيــة والشــذوذ لزعمــاء وسياســيني‬


‫عــرب‬
‫يف شــهر مايــو ‪ /‬أيــار مــن عــام ‪ ،2011‬أي بعــد حــوايل شــهرين مــن انطــاق الثــورة الســورية‪ ،‬بــدأ‬
‫إعالم النظام‪ ،‬بأجنحته السورية وغري السورية‪ ،‬ش ّن حملة واسعة ملهاجمة املعارضني له‪ ،‬والدول‬
‫التــي أيّــدت الحــراك املعــارض للنظــام أو أبــدت تعاطفـاً معــه‪.‬‬
‫وقد نال أمري قطر السابق‪ ،‬الشيخ حمد‪ ،‬نصيباً كبريا ً من هذه االتهامات‪ ،‬وخصصت حلقات‬
‫كاملة عىل القنوات السورية الرسمية وشبه الرسمية للتعريض به‪ ،‬وبزوجته الشيخة موزة‪.‬‬
‫ويف إحــدى الحلقــات التلفزيــة التــي بثّتهــا قنــاة الدنيــا يف شــهر يونيــو‪ /‬حزيــران ‪ ،2011‬قــال‬
‫متح ـدّث (تطلــق عليــه القنــاة ألقاب ـاً مــن قبيــل‪ :‬الشــيخ والدكتــور والعالمــة) عــي الشــعيبي‪ ،‬اتهــم‬
‫فيهــا الشــيخ حمــد بأنــه ميــارس الشــذوذ الجنــي‪ ،‬وأقســم عــى ذلــك مــرارا ً‪ .‬ويف حلقــة أخــرى قــال‬
‫نفــس املتحــدث بــأ ّن الشــيخة مــوزة زوجــة الشــيخ حمــد متــارس عالقــات غــر مرشوعــة مــع ضابــط يف‬
‫االســتخبارات األمريكيــة‪ ،‬وأن لديــه أفالم ـاً وصــورا ً لهــا‪ ،‬لكنــه بطبيعــة الحــال مل يعــرض أي ـاً مــن هــذه‬
‫األدلــة التــي ادعــى امتالكهــا‪.‬‬

‫‪ .3‬اتهامات الشخصيات املعارضة‬


‫يف ذات الفــرة مــن منتصــف عــام ‪ ،2011‬ظهــرت العديــد مــن الربامــج التلفزيــة عــى القنــوات‬
‫الرســمية وشــبه الرســمية يف ســورية‪ ،‬ا ّدعــى فيهــا متح ّدثــون أنّهــم ميلكــون أدلــه عــى املامرســات غــر‬
‫الرشعيــة لشــخصيات معارضــة‪ ،‬محــددة باالســم أحيانـاً وغــر محــددة‪.‬‬
‫ويف حلقــة شــهرية‪ ،‬ظهــر املدعــو عــي الشــعيبي وهــو يحمــل مفتــاح ذاكــرة (أو مــا يســمى يف‬
‫ســورية بالفالشــة)‪ ،‬وقــال أن فيــه مقطعـاً مــن ‪ 3‬دقائــق وعرشيــن ثانيــة لزوجــة أحــد املعارضــن وهــي‬
‫متارس عالقة غري مرشوعة مع ضابط من االستخبارات األمريكية املركزية‪ ،‬دون أن يُس ّميه‪ ،‬وطلب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪116‬‬

‫من الكامريا أن تركّز التصوير عىل الفالشة دون أن يوضّ ح سبب هذا الطلب‪ ،‬ث ّم قال بأنّه يستحيل‬
‫عليــه ملــا ميليــه عليــه إســا ُمه أن يعرضهــا‪ ،‬ولكنــه ســيفعل إذا مــا اشــتد الخنــاق عــى النظــام‪.‬‬
‫ويف بداية شهر يونيو‪ /‬حزيران ‪ 2011‬عرضت قناة الدنيا حلقة خاصة عن الشيخ محمد عدنان‬
‫تحصل عىل شهرة خاصة بسبب خطابه الديني املعارض للنظام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العرعور‪ ،‬والذي كان وقتها قد‬
‫وقــد خصصــت الحلقــة بالكامــل للحديــث عــن الشــذوذ األخالقــي للعرعــور‪ ،‬وعرضــت الحلقــة ملــا‬
‫أسمته وثائق عن القضية‪ ،‬واستضافت عرب الهاتف من قال بأن اسمه هو العميد املتقاعد فارس‬
‫الزعــوري‪ ،‬والــذي قـدّم عــا وصفــه بالشــذوذ األخالقــي للعرعــور إبــان خدمتــه اإللزاميــة يف الجيــش‪.‬‬
‫وكان عــي الشــعيبي هــو الضيــف الرئيــي مــن االســتوديو يف تلــك الحلقــة أيضاً‪.‬‬
‫وقــد عرضــت القنــوات الســورية عــى مــدار العامــن املاضيــن عــرات مــن هــذه الحلقــات‬
‫املتلفــزة التــي تح ّدثــت عــن امتــاك هــذه القنــوات‪ ،‬أو ضيوفهــا الدامئــن‪ ،‬ملــواد تديــن املعارضــن‬
‫للنظــام بعالقــات غــر رشعيــة أو بشــذوذ جنــي‪.‬‬
‫كــا عرضــت شــهادات عديــدة لفتيــات قلــن بأنّهــن تع ّرضــن لالغتصــاب مــن قبــل املســلحني‪،‬‬
‫لكن أحد مص ّوري قناة الدنيا شــبه الرســمية قام بترسيب كواليس تصوير أحد األفالم‪ ،‬حيث يظهر‬
‫يف الفلــم املــرب الــذي عرضتــه قنــاة العربيــة يف بدايــة عــام ‪ 2013‬أن الفتــاة تقــوم بالتمثيــل‪ ،‬ويتــم‬
‫تلقينهــا مــا ينبغــي أن تقولــه يف الفلــم!‬

‫جهاد النكاح‬
‫بــدأت فكــرة «جهــاد النــكاح» يف بدايــة عــام ‪ 2013‬مــن خــال ترسيــب عــى مواقــع اإلنرتنــت‬
‫اللبنانية واإليرانية والتونسية يتحدّث عن فتوى للشيخ محمد العريفي قيل إنها وردت عىل حسابه‬
‫عــى التويــر‪ ،‬حيــث تناقلــت هــذه املواقــع صــورة للتغريــدة التــي تدعــو الفتيــات إىل مامرســة زواج‬
‫مؤقــت مــع املقاتلــن يف ســورية مــن أجــل اكتســاب األجــر‪.‬‬
‫ورغــم أن التغريــدة يزيــد عــدد حروفهــا عــن ‪ 140‬حــرف‪ ،‬وهــي الحــروف التــي يســمح بهــا تويــر‪ ،‬فإ ّن‬
‫عــددا ً كبــرا ً مــن املواقــع والشــخصيات املتعاطفــة مــع النظــام الســوري قامــت بنرشهــا والحديــث‬
‫عنهــا (انظــر عــى ســبيل املثــال قنــاة الجديــد اللبنانيــة)‪ ،‬لكــن هــذه الجهــات تراجعــت عــن نســبة‬
‫هــذه الفتــوى إىل الشــيخ العريفــي‪ ،‬وأصبحــت تتحــدث عــن شــيخ مجهــول أو شــيخ نــي املتحــدثُ‬
‫اســمه‪ ،‬أو تتحـدّث عــن فتــاوى جهــاد النــكاح دون الدخــول يف تفاصيلهــا (انظــر عــى ســبيل املثــال‬
‫قنــاة املياديــن اللبنانيــة‪ 2013/4/21 ،‬وقنــاة العــامل اإليرانيــة بتاريــخ ‪)2013/3/31‬‬
‫ومل تكتــف وســائل اإلعــام املتعاطفــة مــع النظــام الســوري بنقــل روايــة غســان بــن جــدو‪ ،‬بــل‬
‫قامت بنرش قصص وتحقيقات ملن قالت بأنهن «مجاهدات» ذهنب إىل سورية ملامرسة «جهاد‬
‫النــكاح»‪ ،‬ويف فــرة الحقــة‪ ،‬قامــت بعــض وســائل اإلعــام املرصيــة بعــد اإلطاحــة بالرئيــس الســابق‬
‫‪117‬‬ ‫هيضراعم‬

‫محمــد مــريس باتهــام الســوريات املوجــودات يف مــر مبامرســة جهــاد النــكاح يف ميــدان رابعــة‬
‫يزلا رساي ‪:‬ةمجرت ‪ /‬رتيور رفوتسيرك‬

‫العدويــة حيــث كان يحتشــد أنصــار مــريس‪.‬‬


‫ففي قناة التحرير املرصية قال املذيع محمد الغيطي إن الالجئات السوريات يعرضن أنفسهن‬
‫للزواج مجاناً عىل املعتصمني يف ميدان رابعة العدوية يف القاهرة تطبيقاً ملا أسامه فتوى «جهاد‬
‫املناكحــة» (قــال بأنــه نــي مــن صاحبهــا)‪ ،‬وأن الســوريات يقمــن بذلــك لتحفيــز الرجال املعتصمني‬
‫هناك عىل مواصلة التأييد للرئيس املعزول محمد مريس‪.‬‬
‫ويذكــر أنــه مل تس ـ ّجل أي حالــة إدانــة مــن أي منظمــة حقوقيــة مرصيــة للحملــة اإلعالميــة التــي‬
‫اســتهدفت الســوريات املقيــات يف مــر يف تلــك الفــرة‪.‬‬
‫ويف برنامــج ق ّدمــه مديــر قنــاة «املياديــن» غســان بــن ج ـدّو يف ‪ ،2013/3/29‬واســتضاف فيــه‬
‫هيثــم منــاع رئيــس هيئــة التنســيق الوطنيــة يف املهجــر‪ ،‬ا ّدعــى بــن جــدو أن هنــاك مــن يطلّــق زوجتــه‬
‫لريسلها إىل املقاتلني يف سورية من أجل تقديم املتعة للمقاتلني‪ ،‬وتحدّث بإسهاب عن الفتاوى‬
‫أي مــن أصحابهــا‪ ،‬وقــال بــأن لديــه شــاهد إثبــات حقيقــي‬
‫الخاصــة بجهــاد النــكاح دون أن يشــر إىل ٍ‬
‫ح ّدثــه عــن أن املقاتلــن مــن دولــة عربيــة يف املغــرب العــريب يكــون يف جيوبهــم عندمــا يُقتلــون كيــس‬
‫فيــه أربعــن منديـاً معطــرا ً‪ ،‬وحبتــن فياغــرا‪ ،‬وحبتــن مــن يشء آخــر مل يسـ ّمه!!‬
‫ر مــن الصــور واألفــام املل ّفقــة‪ ،‬حيــث تــم اســتخدام‬
‫وقــد اس ـتُخدم يف هــذه الحملــة ك ـ ٌم كب ـ ٌ‬
‫أفــام صـ ّورت يف الشيشــان لفتيــات مســلحات عــى أنهــا صــور مــن ســورية يف الوقــت الراهــن‪ ،‬كــا‬
‫اســتخدمت صــور مــن أفــام إباحيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل عــدد كبــر مــن األخبــار الكتابيــة التــي ال تحتــاج إال‬
‫للخيــال عنــد كتابتهــا (انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬قنــاة املياديــن بتاريــخ ‪.)2013/4/21‬‬
‫وقــد دفــع هــذا األمــر بعــض الســوريني إىل إعــداد جــدول أســموه «جــدول املناكحــة»‪ ،‬ووضعــوا‬
‫فيــه «أســاء» زوجــة الرئيــس الســوري ووالدتــه وشــقيقته‪ ،‬وتــم إرســالها إىل هــذه القنــوات باعتبارهــا‬
‫ترسيبـاً مــن داخــل أوســاط املقاتلــن‪ ،‬وبالفعــل تــم نــر هــذه الصــورة عــى قنــوات مرصيــة ولبنانيــة‬
‫وســورية وتونســية‪ ،‬مبــا يؤكّــد حالــة غيــاب أخالقيــات املهنــة يف أوســاط اإلعالميــن املؤيديــن للنظام‬
‫(انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬قنــاة التحريــر املرصيــة‪.)2013/9/25 ،‬‬
‫ويف ‪ 2013/8/11‬عرضــت القنــاة اإلخباريــة الســورية الرســمية فيل ـاً أســمته «رشيعــة ضــد‬
‫الــرع»‪ ،‬وعرضــت فيــه فتيــات قلــن إنه ـ ّن مارســن جهــاد النــكاح‪ ،‬حيــث أســهب الفلــم يف عــرض‬
‫تفاصيــل العالقــات الجنســية التــي كانــت متارســها الفتيــات اللــوايت تــم عرضهــن‪ ،‬والذيــن يظهــر يف‬
‫الفلــم عــى أنّهــن قــد وقعــن يف قبضــة الســلطات األمنيــة الســورية‪.‬‬
‫وقــد عــرض الفلــم لقــاء مــع فتــاة تبلــغ حســب الفيلــم مــن العمــر ‪ 15‬عام ـاً تقريب ـاً‪ ،‬ذكــر الفلــم أن‬
‫اســمها هــو ســارة خالــد العلــو‪ ،‬وأنهــا أمــرة جبهــة النــرة يف البوكــال!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪118‬‬

‫وبتاريــخ ‪ 2013/9/22‬عرضــت قنــاة اإلخباريــة الســورية مقابلــة مــع الطفلــة روان ميــاد قــداح‬
‫ـر املقاتلــن مــن أجــل مامرســة عالقات‬ ‫(مواليــد ‪ ،)1997‬حيــث قالــت الطفلــة بــأن والدهــا كان يُحـ ِ‬
‫غري مرشوعة معها‪ ،‬وأنه أخربها بأن هذه املامرســات تع ّد من الجهاد‪ ،‬وأنها تكســبها الحســنات‪...‬‬
‫الخ‪.‬‬
‫ويذكــر أن الطفلــة روان قــداح قــد ت ـ ّم خطفهــا مــن قبــل دوريــة تابعــة لألمــن الســوري يف شــهر‬
‫نوفمــر‪ /‬ترشيــن الثــاين ‪ ،2012‬وهــي خارجــة مــن مدرســة ميســلون يف درعــا‪ ،‬ومل يعــرف عــن الفتــاة‬
‫أي يشء حتــى ظهورهــا عــى شاشــة قنــاة اإلخباريــة الســورية بتاريــخ ‪.2013/9/22‬‬

‫استخدام االتهامات بالعالقات غري املرشوعة لدى القوى املعارضة‬


‫بالتوازي مع االستخدام املفرط لالتهامات الجنسية للمعارضني‪ ،‬والتي مارسها النظام السوري‬
‫والقــوى اإلعالميــة املرتبطــة بــه تنظيميـاً أو سياســياً‪ ،‬قامــت بعــض الشــخصيات ووســائل املعارضــة‬
‫مبامرســة نفــس األســلوب‪ ،‬مــن خــال اتهــام أتبــاع النظــام مبامرســة اإلباحيــة والعالقــات غري الرشعية‪،‬‬
‫وقيــام الفتيــات املؤيــدات للنظــام مبامرســة هــذه العالقــات مــع الجنــود لدعــم الحملــة العســكرية‬
‫التــي يقــوم بهــا النظــام ضــد معارضيــه‪.‬‬
‫حيــث قامــت عــدد مــن املواقــع املعارضــة بالحديــث عــن اتهامــات بعالقــات غــر رشعيــة تتعلــق‬
‫بسياســيني وضباط ســوريني‪.‬‬
‫وبتاريــخ ‪ 2013/10/2‬قـدّم ثائــر الناشــف برنامجـاً عــى قنــاة صفــا الســعودية تحـدّث فيــه توريــد‬
‫إيــران لفتيــات شــيعيات للرتفيــه عــن جنــود األســد والقــوات املواليــة لــه‪ ،‬رابط ـاً ذلــك باملعتقــدات‬
‫الدينيــة عــن الشــيعة والعلويــة‪.‬‬

‫البعد القانوني واألخالقي لالتهامات األخالقية‬


‫يش ـكّل اســتخدام االتهامــات بإقامــة عالقــات غــر مرشوعــة مــؤرشا ً عــى معضلــة نفســية لــدى‬
‫الجهات التي تعتمدها‪ ،‬وهو بُ ْع ٌد ميكن أن يكون موضع تقارير مطولة للمختصني يف علم النفس‪،‬‬
‫لدراســة الشــخصيات التــي قامــت بالتفكــر وبإنتــاج هــذه الفــركات والقصــص‪.‬‬
‫ومــن الناحيــة القانونيــة تش ـكّل هــذه االتهامــات لألشــخاص السياســيني واملعارضــن جرميــة‬
‫ـس‬
‫أمــام القانــون املــدين‪ ،‬مــا مل يقــم الطــرف اآلخــر بتقديــم أدلــة قاطعــة‪ ،‬ومــا مل يكــن هــذا الفعــل ميـ ّ‬
‫باألمــن الوطنــي للبــاد‪.‬‬
‫كــا أن عــرض شــهادات املعتقلــن عــى شاشــات التلفــزة تع ـ ّد جرميــة بح ـ ّد ذاتهــا‪ ،‬خاصــة إذا‬
‫تعلّــق األمــر بالنســاء‪ ،‬ملــا لهــذا األمــر مــن حساســية خاصــة يف ســورية ويف املنطقــة‪ ،‬ومــا سيعكســه‬
‫ذلــك عــى حيــاة الشــخص وحيــاة أرستــه‪.‬‬
‫‪119‬‬ ‫هيضراعم‬

‫وال تع ـ ّد شــهادة املتهــم دلي ـاً كافي ـاً يف القانــون الجنــايئ‪ ،‬وال ميكــن حتــى للقــايض االعتــاد‬
‫يزلا رساي ‪:‬ةمجرت ‪ /‬رتيور رفوتسيرك‬

‫عليها إلصدار الحكم‪ .‬كام ينبغي األخذ باالعتبار أوضاع السجون يف سورية‪ ،‬واستخدام التعذيب‬
‫املفرط وأساليب املعاملة الالإنسانية‪ ،‬حيث تع ّد السجون السورية واحدة من أسوأ املعتقالت‬
‫يف العــامل‪ ،‬وبالتــايل فــإ ّن كل الشــهادات التــي تؤخــذ مــن املعتقلــن هــي شــهادات ال يعتــد بهــا‬
‫قانونـاً‪ ،‬بــل ويشـكّل عــرض مثــل هــذه الشــهادات دليـاً آخــر عــى املعاملــة الالإنســانية التــي يتعـ ّرض‬
‫ر األجهــزة األمنيــة الســورية عــى مامرســة التعذيب واملعاملة الالإنســانية‬ ‫لهــا املعتقلــون‪ ،‬حيــث تـ ّ‬
‫والحاطــة بالكرامــة لهــم ولذويهــم عــى املــدى الطويــل عــى شاشــات التلفــزة‪.‬‬
‫ويش ـكّل اســتخدام األطفــال يف مثــل هــذه الحمــات اإلعالميــة خرق ـاً فاضح ـاً التفاقيــة حقــوق‬
‫الطفــل وللعهــد الــدويل الخــاص بالحقــوق املدنيــة والسياســية‪ ،‬فاألطفــال الذيــن عرضهــم التلفزيــون‬
‫الســوري (روان قــداح‪ ،‬ســارة العلــو) تــم اختطافهــم منــذ شــهور طويلــة مــن قبــل أجهــزة األمــن الســورية‪،‬‬
‫حتى دون أي مذكرة اعتقال أو إسناد تهمة‪ ،‬ومل يعرف ذووهم عنهم شيئاً إال بعد عرض شهاداتهم‬
‫عــى شاشــات التلفــزة‪.‬‬
‫ومن الناحية اإلعالمية تشكّل هذه الحمالت خرقاً لكل مواثيق الرشف وقواعد املهنة املتعارف‬
‫عليها بني اإلعالميني‪ ،‬فقد قامت وسائل إعالمية سورية وإيرانية ولبنانية ومرصية وتونسية بالحديث‬
‫املكثّف عن فتاوى مل تحدد مصدرها‪ ،‬أو حددته وتراجعت عنه‪ ،‬وقامت بنرش أفالم مزورة وصور‬
‫مزورة‪ ،‬ومل تتو ّرع عن إعادة نرش األفالم التي أنتجتها وسائل اإلعالم الرسمية السورية للمعتقالت‪.‬‬

‫التوصيات‬
‫إن اللجنة السورية لحقوق اإلنسان‪ ،‬وإذ تؤكّد عىل الوضع الالإنساين الذي يعيشه املعتقلون‬
‫يف ســورية‪ ،‬واملعتقــات بشــكل خــاص‪ ،‬والــذي ال يُطبــق ‪ -‬ولــو بــأي شــكل ‪ -‬القواعــد الدنيــا ملعاملــة‬
‫النــزالء واملوقوفــن‪ ،‬وإذ تشــر إىل التزامــات ســورية تجــاه القانــون الــدويل‪ ،‬وتؤكّــد عــى االلتــزام‬
‫الــدويل تجــاه حقــوق اإلنســان يف ســورية‪ ،‬انطالق ـاً مــن قواعــد التضامــن الــدويل‪ ،‬وعامليــة حقــوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬فإنّهــا‪:‬‬
‫‪ -‬تدعو إىل رضورة مامرسة كافة املنظامت الدولية ملسؤولياتها يف متابعة تطبيق االتفاقيات‬
‫التــي وقّعــت عليهــا الحكومــة الســورية‪ ،‬وبشــكل خــاص العهــد الــدويل الخــاص بالحقــوق املدنيــة‬
‫والسياســية واتفاقيــة حقــوق الطفــل واتفاقيــة مناهضــة كافــة أشــكال التمييــز ضــد املــرأة‪.‬‬
‫‪ -‬تدعــو إىل الرتكيــز بصــورة أكــر عــى قضيــة املعتقلــن يف الســجون الســورية‪ ،‬والــذي ال يُعــرف‬
‫عددُهم وال أماكن اعتقالهم وال ظروفها‪ ،‬ورضورة إيالء وضع األطفال والنساء يف السجون السورية‬
‫أهميــة خاصة‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪ -‬تناشــد األحــزاب واملنظــات السياســية يف الــدول الغربيــة بشــكل خــاص‬


‫للضغط عىل السياسيني من أجل إيالء قضية حقوق اإلنسان أهمية يف الحسابات‬
‫السياســية‪ ،‬وعدم الســاح باســتمرار سياســة تجاهل انتهاكات حقوق اإلنســان يف‬
‫سورية‪ ،‬ملا لذلك من تداعيات خطرية عىل التوجهات العامة للمجتمع السوري‪،‬‬
‫وعــى املنطقــة بأرسها‪.‬‬
‫‪ -‬تدعــو منظــات املجتمــع املــدين واملنظــات الدوليــة املعنيــة بالعمــل‬
‫الصحفــي ملراقبــة االنتهــاكات التــي تقــوم بهــا وســائل اإلعــام التابعــة للنظــام‪ ،‬والتــي‬
‫تشـكّل جرائــم جنائيــة‪ ،‬مبــا تتض ّمنــه مــن تحريــض عــى العنــف‪ ،‬واعتــداء عــى كرامــة‬
‫اإلنســان‪ ،‬وخاصــة األطفــال والنســاء‪ ،‬ونــر لغــة الكراهيــة‪.‬‬

‫موقع اللجنة السورية لحقوق اإلنسان‬


‫نرشت بتاريخ ‪2013 / 10 / 9‬‬
‫عيل سفر‬

‫الخطاب النسوي يف الدراما السورية‬

‫تتشــابه ســرورة تحــوالت الدرامــا الســورية‪ ،‬بتحــوالت املجتمــع الســوري ذاتــه‪،‬‬


‫وقــد ينــدر أن نجــد متثيـاً الرتبــاط الفــن مبجتمعــه بشــكل ميكانيــي‪ ،‬كــا نجــده يف‬
‫تاريــخ الدرامــا الســورية‪ ،‬وهنــا قــد ال يكــون هــذا االرتبــاط الوشــيج بــن املــادة الفنيــة‬
‫وبــن الحــراك املجتمعــي‪ ،‬أمــرا ً إيجابي ـاً دامئ ـاً‪ ،‬فهــو قــد يعنــي مــن ضمــن معانيــه‬
‫املتعــددة‪ ،‬أن املــادة الفنيــة الحاملــة للخطــاب ال تتقــدم عــى البيئــة التــي تتوجــه‬
‫إليها‪ ،‬مام يضعنا يف حالة استثامر نفعي يستفيد منها الطرفان‪ ،‬أي صناع الدراما‬
‫واملجتمــع ذاتــه‪ .‬فالدرامــا هــي وعــر هــذا الشــكل مــن العالقــة ليســت ســوى منتــج‬
‫ترفيهــي‪ ،‬إمتاعــي‪ ،‬مصنــوع لغايــات تجاريــة‪ ،‬أو لغايــات نقــل خطابــات مربمجــة لــدى‬
‫السياســيني وأصحــاب القــرار‪.‬‬
‫تــؤرش جدليــة العالقــة بــن الفــن وبــن املجتمــع إىل رضورة أن تحمــل الدرامــا‬
‫خطابـاً متقدمـاً عــى الواقــع‪ ،‬مبــا يفيــد أذهــان املتلقــن‪ ،‬ومبــا يحرضهــم إىل تلمــس‬
‫الســبل األفضــل للتطــور‪ ،‬لكــن الدرامــا الســورية بقيــت وال ســيام يف فــرة نهوضهــا‬
‫اإلنتاجــي الكبــر (نهايــة الثامنينيــات وصــوالً إىل الوقــت الراهــن)‪ ،‬متقاربــة مع حركية‬
‫القــوى السياســية واملجتمعيــة‪ ،‬وقــد انعكــس هــذا االرتبــاط عــى طريقــة معالجــة‬
‫الدرامــا للكثــر مــن القضايــا امللحــة‪ .‬وإذا كنــا نعتــر بــأن حريــة املــرأة الســورية‪ ،‬هــي‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪122‬‬

‫واحــدة مــن هــذه القضايــا‪ ،‬فــإن التمحيــص يف الخطــاب الــذي قدمتــه الدرامــا الســورية تجــاه هــذه‬
‫القضيــة‪ ،‬ســيضعنا أمــام متثيــل دقيــق يوضــح قصــورأ متعمــدا ً لــدى صناعــة الدرامــا واكتفــاء الفاعلني‬
‫فيهــا مــن مخرجــن ومنتجــن وكتــاب‪ ،‬بالوصــول إىل حــدود تبــدو أقــل مــا تطمــح لــه حركيــة املــرأة‬
‫الســورية‪.‬‬

‫التأسيس يف التاريخ‬
‫كانــت ســوريا أول بلــد عــريب منــح حــق التصويــت للمــرأة وذلــك يف العــام ‪ ،1949‬وقــد جــاء هــذا‬
‫القرار ليشــكل مفصالً من مفاصل نضاالت املرأة الســورية يف ســبيل نيل حقوقها‪ ،‬بعد أن ظهرت‬
‫مالمــح الــدور الســيايس الــذي لعبتــه النســاء الســوريات يف مرحلــة االنتــداب الفرنــي‪ ،‬يف نضــال‬
‫الشــعب الســوري لنيــل اســتقالله‪ ،‬غــر أن الواقــع الســيايس الــذي عاشــته ســوريا‪ ،‬والــذي اتجــه نحــو‬
‫تكميــم الحريــات يف مرحلــة االنقالبــات‪ ،‬أدى بالــرورة إىل انتكاســة يف فعاليــة الحركــة النســائية‪،‬‬
‫والتــي كانــت تتبــع القــوى السياســية‪ ،‬دون أن يكــون لهــا صوتهــا الخــاص بهــا‪ ،‬وعليــه فــإن مــا كان يؤمل‬
‫مــن خلــق مســاحات لحركــة نســائية تنهــض بواقــع املــرأة الســورية‪ ،‬تبــدد عــى إيقــاع الواقــع الســيايس‬
‫ذاتــه‪ .‬ورغــم أن تفعيــل دور النســاء يف بنــاء املجتمــع الســوري كان يتــم عــر عمــل النســاء يف الكثــر‬
‫مــن القطاعــات آنــذاك‪ ،‬إال أن هــذا االســتثامر للقــوى العاملــة النســائية مل يــؤد بالــرورة إىل نشــوء‬
‫إطــا ٍر مــا ميثلهــا‪ ،‬يف ظــل حالــة الطــوارئ التــي همشــت الرجــال والنســاء عــى حــد ســواء‪ ،‬مــع تهميش‬
‫مضاعــف للنســاء بســبب التفرقــة الجنســية‪.‬‬
‫التحــوالت السياســية الالحقــة أوصلــت النســاء الســوريات إىل عتبــات مهمــة جــدا ً مــن حيــث‬
‫دورهــن يف تنميــة املجتمــع‪ ،‬وكذلــك مــن حيــث املشــاركة السياســية‪ ،‬وقــد أفســحت األيديولوجيــة‬
‫ـب‬
‫البعثية‪ ،‬وكذلك األيديولوجيات الســورية القومية االجتامعية‪ ،‬واليســارية وحتى اإلســامية‪ ،‬بنسـ ٍ‬
‫متدرجــة‪ ،‬عــن نوافــذ مهمــة لتنميــة دور النســاء يف املجتمــع‪ ،‬وقــد تكــون مامرســة فعــل الرتشــح‬
‫والتصويــت للربملــان الســوري‪ ،‬كنايــة عــن تعاظــم هــذا الــدور‪ ،‬غــر أن كل هــذه النوافــذ مل تكــن تطــل‬
‫عــى دو ٍر «جنــدري» يســعي إىل «متاثــل كامــل بــن الذكــر واألنثــى يف كل يشء»‪ ،‬بــل كانــت تقــوم‬
‫عــى «النســوية»‪ ،‬والتــي تدعــو إىل كفــاح املــرأة مــن أجــل تغيــر األوضــاع غــر املتســاوية بينهــا وبــن‬
‫(‪)1‬‬
‫الرجــل‪.‬‬
‫وبالنظر إىل واقع املجتمع السوري بوصفه مجتمع مسلم يقوم عىل طبيعة اجتامعية محافظة‪،‬‬
‫فإننــا نجــد أن األنظمــة السياســية التــي توالــت عــى الحكــم مل تســتطع أن تغــر يف بنــاه‪ ،‬وذلــك‬
‫العتامدهــا عــى خطــط سياســية واقتصاديــة وثقافيــة مل تكــن ذات دميومــة‪ ،‬بســبب الرصاعــات‬
‫السياســية يف مرحلــة مــا قبــل البعــث‪ ،‬وبســبب غيــاب الدميوقراطيــة يف مرحلــة حكمــه‪ .‬وبالتــايل‬
‫فــإن الرتكيــز عــى حــق املــرأة الســورية يف أن يكــون لهــا دورهــا يف عمليــة بنــاء املجتمــع‪ ،‬كان يعــزز مــن‬
‫‪123‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف يوسنلا باطخلا‬

‫حضور «النسوية» يف خطابات القوى السياسية‪ ،‬ما يؤدي إىل استجابة السلطات الحاكمة ظاهرياً‬
‫فس يلع‬

‫وبشــكلٍ مــا لهــذه الخطابــات‪ ،‬وضمــن هــذا الســياق تصبــح اإلنجــازات قامئــة عــى مقــدر االســتجابة‬
‫يف هــذا املفصــل أو ذاك‪ ،‬ولكــن هــذه اإلنجــازات التــي تبــدت عــى املســتوى الســيايس بحضــور‬
‫واســع يف الربملــان‪ ،‬وفعاليــة مــن نــوع مــا لالتحــاد النســايئ املســيطر عليــه مــن قبــل حــزب البعــث‪،‬‬
‫كانت مجرد متظهرات فوقية‪ ،‬ال متلك أي فعالية حقيقية يف عملية التغيري االجتامعي‪ .‬فالنســاء‬
‫الســوريات وبحســب قانون األحوال الشــخصية الســوري‪ ،‬ال ميلكن ســلطة القرار يف األرسة الســورية‬
‫وبشكل متسا ٍو مع الرجال‪ ،‬كام أنهن ويف الكثري من بنود وتفاصيل القانون بقني ملحقات بسلطة‬
‫املجتمــع الذكــوري‪ ،‬ال حــول لهــن وال قــوة‪ .‬وضمــن هــذا الفضــاء املبتــر‪ ،‬كان الخطــاب الــذي تبثــه‬
‫(‪)2‬‬
‫الدرامــا الســورية‪ ،‬يســتند إىل هــذه التفاصيــل‪ ،‬فــا يســتطيع أن يتجاوزهــا‪ ،‬أو يخــرج عنهــا‪.‬‬

‫دراما «األحوال الشخصية»‬


‫«النســوية» كفعــل نضــايل يؤطــر مطالــب النســاء‪ ،‬بقيــت هــي الفضــاء األكــر للحركيــة النســوية‬
‫التــي حاولــت خلخلــة بنيــة الخطــاب الســائد يف الدرامــا الســورية‪ .‬فمنــذ بدايــة ســتينيات القــرن‬
‫العرشيــن‪ ،‬كان خطــاب الدرامــا يتأســس عــى مقاربــة وضــع املــرأة بوصفهــا العنــر األضعــف يف‬
‫املعادلــة االجتامعيــة‪ .‬رغــم وجــود أعــال خرجــت عــن الســياق‪ ،‬حيــث قامــت مــن حيــث املوضــوع‬
‫الدرامــي عــى أدوار مهمــة لعبتهــا املــرأة يف التاريــخ العــريب والســوري‪ ،‬كدرامــا «رابعــة العدويــة»‪،‬‬
‫التــي انتجــت يف مرحلــة مبكــرة يف العــام ‪ ،1961‬بتأليــف وإخــراج نــزار رشايب‪ ،‬ومسلســل «انتقــام‬
‫الزبــاء» يف العــام ‪ ،1974‬وهــو مــن تأليــف محمــود ديــاب‪ ،‬وإخــراج غســان جــري‪.‬‬
‫وإذا مــا تأملنــا ببعــض األمثلــة البــارزة التــي توضــح هــذا الوضــع‪ ،‬فــإن مسلســل «أســعد الــوراق»‬
‫الذي أنتج يف العام ‪ 1975‬من تأليف عبد العزيز هالل‪ ،‬وإخراج عالء الدين كوكش‪ ،‬والذي متت‬
‫إعادة تصنيعه يف العام ‪ ،2010‬أظهر املرأة ضمن واقع اجتامعي مزرٍ‪ ،‬يضطهد الرجال والنساء يف‬
‫آنٍ معاً‪ ،‬مع تغليب األدوار الفعالة باتجاه الرجال‪ ،‬وحتى يف تلك اللحظات التي ميكن للشخصيات‬
‫النســائية أن تكــون فاعلــة فيهــا ضمــن الســياق الــردي‪ ،‬فــإن البطولــة النســائية تبــدو ملحقـ ًة بالبطولــة‬
‫الرجالية‪ ،‬فاملرأة هنا تابعة الرجل‪ ،‬وال ميكن لها ســوى أن تكون مجال حيوياً لفعاليته‪.‬‬
‫املثــال اآلخــر الــذي ميكــن النظــر فيــه وذلــك لكونــه قــد اشــتغل عــى ثيمــة خاصــة بحريــة املــرأة هــو‬
‫مسلســل «األجنحــة» الــذي تــم انتاجــه يف العــام ‪ ،1986‬وكتبــه عبــد العزيــز هــال‪ ،‬وأخرجــه املخــرج‬
‫ٍ‬
‫ـاحات مل يتم مقاربتها ســابقاً‪،‬‬ ‫الراحل شــكيب غنام‪ ،‬ذهب إىل إظهار واقع املرأة الســورية يف مسـ‬
‫فاملــرأة هنــا وبحســب قانــون األحــوال الشــخصية الســوري‪ ،‬ال متلــك نفســها‪ ،‬بــل هــي مــادة مقايضــة‪،‬‬
‫وهــي تخضــع بوضعهــا هــذا إىل مجريــات الــراع بــن املالكــن‪ ،‬وهــم األخ والــزوج‪ ،‬الذيــن ميلــكان‬
‫وبحسب سلطة املجتمع املدعمة بالقانون‪ ،‬حق الترصف باملرأة‪ ،‬دون منحها أي مساح ٍة لالختيار‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪124‬‬

‫وقــد مثّــل مسلســل «الطبيبــة» الــذي كتبــه كل د‪ .‬زهــر بــراق ود‪ .‬ريــاض نعســان آغــا‪ ،‬وأخرجــه‬
‫يف العــام ‪ 1988‬محمــد فــردوس أتــايس‪ ،‬أمنوذجـاً مهـاً لتلــك الدرامــا التــي حاولــت وبشــكل متفــرد‬
‫الذهــاب إىل أقــى مــا ميكــن أن يتــم الذهــاب إليــه يف طــرح األفــكار الخاصة بتحرر املرأة‪ ،‬وخروجها‬
‫عــن الســلطة االجتامعيــة التقليديــة‪.‬‬
‫األعــال الســابقة‪ ،‬التــي أنتجــت ضمــن مرحلــة كان الخطــاب الســيايس فيهــا يطبــخ يف مقــرات‬
‫القيــادة القطريــة لحــزب البعــث‪ ،‬وعــى أيــدي منظامتــه الشــعبية‪ ،‬والتــي كان االتحــاد النســايئ مــن‬
‫بينهــا‪ ،‬تــؤرش إىل نقلــة قــد حدثــت ضمــن عقــد ونيــف مــن الزمــن تقريبـاً‪ ،‬قوامهــا الســعي الحثيــث إىل‬
‫االشــتغال عــى «النســوية» التــي تطالــب بــرورة نيــل املــرأة حقوقهــا‪ ،‬لكــن وبالنظــر إىل أن الواقــع‬
‫الفعــي مل يجــر فيــه أي تغيــر يف بنيــة القوانــن التــي كرســت ســلطة الرجــل عــى املــرأة‪ ،‬فــإن كل مــا‬
‫تــم صنعــه مــن درامــا ضمــن هــذا الســياق‪ ،‬بــدا فعليـاً وكأنــه اســتثامر يف قضيـ ٍة ملحــة‪ ،‬دون أن يكــون‬
‫الهــدف مــن العمــل الدرامــي‪ ،‬تحريــض املجتمــع‪ ،‬أو أصحــاب الســلطة نحــو القيــام مبراجعــة أو تغيــر‬
‫يف واقــع املــرأة الســورية‪.‬‬
‫ومــع نهــوض الدرامــا الســورية‪ ،‬منــذ نهايــة الثامنينــات وبدايــة التســعينيات مــن القــرن املــايض‪،‬‬
‫والتــي كرســت القطــاع الخــاص‪ ،‬كصانــع أكــر يف املشــهد الدرامــي‪ ،‬ظهــر أن املنحــى «النســوي»‬
‫يف معالجــة قضايــا املــرأة قــد أخــذ يف الهبــوط‪ ،‬بعــد أن كانــت الدرامــا املنتجــة يف القطــاع العــام‬
‫اململــوك مــن قبــل الدولــة‪ ،‬قــد حملــت لــواءه طيلــة الفــرة الســابقة‪ .‬ورغم أن بعض األدوار األساســية‬
‫يف صناعة الدراما نفسها قد قامت عىل أكتاف نساء ساهمن فيها‪ ،‬إال أن هذه الصناعة ذهبت‬
‫نحــو تــرك «النســوية» بعيــدا ً عــن مجــال املــادة الدراميــة‪ .‬فهــذه املفاهيــم ال تصلــح ألن تكــون محــركاً‬
‫يف الحكايــة لــدى املنتجــن‪ ،‬ألن الفضــاء التســويقي للمنتــج الدرامــي‪ ،‬هــو فضــاء يرفــض إشــاعة‬
‫األفــكار املخلخلــة للواقــع املجتمعــي‪ ،‬وهــو بالتــايل ميــارس نوعـاً مــن الرقابــة عــى املنتــج الدرامــي‬
‫منــذ مراحــل تصنيعــه األوىل‪ ،‬وقــد جــرى فــرض آليــة ســبقية تجعــل مــن املن ِتــج املتمــول مــن القنــوات‬
‫العارضــة‪ ،‬حريصـاً عــى أن يكــون ُمنتَجــه مطابقـاً لــروط املســتهلكني‪ .‬وقــد أثــر هــذا التوجــه الــذي‬
‫اســتمر قرابــة عقديــن مــن الزمــن عــى طبيعــة التلقــي الدرامــي‪ ،‬الــذي بــدا مرتاح ـاً ومطمئن ـاً إىل أن‬
‫الدرامــا كانــت وفيــا يخــص قضايــا املــرأة بــا أظافــر أو أنيــاب‪ .‬كــا توضــح إحــدى الدراســات التــي‬
‫أنجــزت يف كليــة اإلعــام يف جامعــة دمشــق يف العــام ‪ 2002‬بنــا ًء عــى اســتطالع رأي أجــري يف‬
‫الشــارع الســوري‪ ،‬حيــث تفصــح هــذه الدراســة عــن أن الدرامــا الســورية يف املرحلــة الســابقة قــد‬
‫أجرت تفضيالت خاصة بها مبا يتعلق بصورة املرأة بشكل عام‪ ،‬ومن هذه التفضيالت؛ أن الدراما‬
‫تقــدم املــرأة بصــورة جيــدة ومناســبة للواقــع‪ ،‬وأنهــا تهتــم باملتعلــات أكــر مــن األميــات‪ ،‬وأنهــا تركــز‬
‫عــى ربــات املنــازل أكــر مــن املــرأة املوظفــة أو العاطلــة عــن العمــل‪ ،‬وأنهــا تهتــم باملــرأة الشــابة أكــر‬
‫من اهتاممها باملرأة املتوســطة العمر أو العجوز‪ ،‬وكذلك تهتم باملرأة املتزوجة أكرث من اهتاممها‬
‫‪125‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف يوسنلا باطخلا‬

‫بالعازبــة أو املطلقــة‪ ،‬وأن صــورة املــرأة يف هــذه الدرامــا هــي صــورة منســجمة مــع الديــن والعــادات‬
‫فس يلع‬

‫والتقاليــد‪ ،‬وأنهــا تهتــم بجــال املــرأة وفكرهــا‪ ،‬وأن أســلوب معالجــة املسلســات لقضايــا املــرأة هــو‬
‫أســلوب غــر منطقــي‪ ،‬وأنهــا تحتــاج للمزيــد مــن االهتــام‪ ،‬وأن نســبة عــدد الرجــال يف املسلســات‬
‫هــي أكــر مــن نســبة عــدد النســاء‪ ،‬وأيضـاً الحظــت الدراســة قلــة األدوار القياديــة يف املسلســات‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وأن صــورة املــرأة تتبايــن بحســب رأي مخرجــي املسلســات‪.‬‬
‫طأمنينة املنتجني‪ ،‬وكذلك املتلقني‪ ،‬مل تتأثر كثريا ً ببعض التجارب التي كانت تومض هنا أو‬
‫هنــاك‪ ،‬بالتامعــات «نســوية»‪ ،‬متضمنــة يف ســياق األعــال الدراميــة ذاتهــا‪ ،‬أو بأعــال قليلــة قاربت‬
‫قضايــا املــرأة الســورية يف الحــارض أو يف املــايض‪ ،‬مثــل درامــا «العــروس» التــي كتبهــا فرحــان بلبــل‬
‫وأخرجهــا محمــد فــردوس أتــايس يف العــام ‪ .1992‬ومثــل «بس ــمة الحــزن» التــي كتبتهــا ألفــة األدلبــي‬
‫وأخرجهــا لطفــي لطفــي يف العــام ‪ .1993‬وأيض ـاً مسلســل «العبابي ـ ــد» الــذي كتبــه ريــاض ســفلو‪،‬‬
‫وأخرجــه بســام املــا عــام ‪.1996‬‬

‫فوىض الدراما «الخالقة»‬


‫تحولــت الدرامــا ومنــذ التســعينات إىل مــادة حــارضة يف الســياق الثقــايف واملجتمعــي بشــكل‬
‫عــام‪ ،‬ومــع تنامــي هــذا الحضــور يف ســنوات األلفيــة األوىل‪ ،‬ظهــر للمتابعــن أن األعــال الدراميــة‪،‬‬
‫التــي يتــم متويلهــا مــن قبــل القنــوات العارضــة‪ ،‬تتأســس مــن حيــث الخطــاب عــى مفاهيــم ووقائــع‬
‫إشــكالية يف املــايض والحــارض الســوريني‪ ،‬ولكنهــا متــي إىل مســايرة الواقــع االجتامعــي‪ ،‬وعــدم‬
‫االشتباك معه‪ ،‬ويف أحيانٍ كثرية االشتغال عىل صورة غري واقعية من أجل إرضاء الذهنية السائدة‪.‬‬
‫وقــد شــكلت هــذه العقليــة يف التعاطــي مــع شــأنٍ مل ـ ٍح جــدا ً كقضايــا حريــة املــرأة انتكاســة فعليــة‬
‫للتيــار النســوي‪ ،‬الــذي كان يؤســس مطالبــه بنــا ًء عــى وقائــع نضــاالت املــرأة الســورية يف املراحــل‬
‫التاريخيــة الســابقة‪.‬‬
‫ففــي عرشينيــات القــرن املــايض وهــي الفــرة الزمنيــة التــي قدمهــا مسلســل «بــاب الحــارة»‪،‬‬
‫مقدم ـاً فيهــا النســاء الدمشــقيات عــى أنهــن حبيســات «الحرملــك»‪ ،‬كانــت الوقائــع التاريخيــة‬
‫تذكــر تفاصيــل مختلفــة‪ ،‬ومنهــا عــى ســبيل املثــال نشــاط األنديــة النســائية مثــل «نــادي الســيدات‬
‫األديب»‪ ،‬الــذي تأســس عــام ‪ ،1920‬والــذي شــاركت يف تأسيســه األديبــة الصحافيــة مــاري عجمــي‬
‫صاحبــة أول مجلــة نســائية صــدرت يف ســورية عــام ‪ 1910‬وهــي مجلــة العــروس‪ .‬و»جمعيــة النــدوة‬
‫الثقافيــة النســائية»‪ ،‬التــي تأسســت عــام ‪ ،1936‬وصالــون «حلقــة الزهــراء األدبيــة « ‪ 1946‬الــذي‬
‫أسســته الســيدة زهــراء زوجــة محمــد عــي العابــد أول رئيــس للدولــة الســورية‪ ،‬وأيضـاً كتابــات األنســة‬
‫نظرية زين الدين‪ ،‬التي وجهت رسائل إىل املفوض السامي للجمهورية الفرنسية يف سوريا ولبنان‬
‫وجبــل الــدروز وبــاد العلويــن‪ ،‬حــول قضايــا الســفور والحجــاب‪ ،‬وتهــدف إىل تحريــر املــرأة والتجــدد‬
‫(‪)4‬‬
‫االجتامعــي يف العــامل اإلســامي‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪126‬‬

‫حالــة مسلســل بــاب الحــارة‪ ،‬أعتربهــا كثــرون مثــاالً إىل الــردي األخالقــي الــذي باتــت تتضمنــه‬
‫األعــال الدراميــة الســورية‪ ،‬فيــا يخــص التعاطــي مــع قضايــا النســاء الســوريات (‪.)5‬‬
‫ورغــم أن الفــرة الزمنيــة ذاتهــا‪ ،‬أي العقــد األول مــن األلفيــة الجديــدة قــد تضمــن ظهــور أعــال‬
‫دراميــة حاولــت أن تحيــي «النســوية» التــي تطالــب بحقــوق املــرأة عــر أعــال عرضــت فيهــا للواقــع‬
‫االجتامعــي الــرديء الــذي تعيشــه يف ســوريا‪ ،‬إال أننــا ال نعــر عــى توجــه خــاص ومحــدد نحــو تطويــر‬
‫الخطــاب املوجــه صــوب معالجــة قضايــا النســاء‪ ،‬والتحــول مــن األرضيــة «النســوية» إىل األرضيــة‬
‫«الجندريــة»‪ ،‬فالنســاء يحــرن يف مسلســات املواســم الدراميــة‪ ،‬بشــكل طبيعــي‪ ،‬فهــن نســاء‬
‫مــن قــاع املجتمــع يعملــن يف الدعــارة يف مسلســل «الخبــز الحــرام» (‪ ،)2009‬تأليــف مــروان قــاووق‬
‫وإخــراج تامــر اســحاق‪ ،‬ونســاء يعشــن ترفـاً خاصـاً يف مسلســل «صبايــا» (‪ ،)2009‬تأليــف مــازن طــه‬
‫ونــور شيشــكيل‪ ،‬وإخــراج فــراس دهنــي‪ ،‬وهــن أيض ـاً قائــدات تاريخيــات يف «كليوبــرا» (‪)2010‬‬
‫تأليف قمر الزمان علوش‪ ،‬وإخراج وائل رمضان‪ ،‬وهن يقاومن استالب الحقوق يف مسلسل «زمن‬
‫العــار» (‪ ،)2009‬تأليــف حســن ســامي يوســف ونجيــب نصــر وإخــراج رشــا رشبتجــي‪ ،‬وهــن فاعــات‬
‫يف بيئاتهــن‪ ،‬وغريقــات يف مشــاكل املجتمــع‪ ،‬يف مسلســل «تخــت رشقــي» (‪ ،)2010‬تأليــف يــم‬
‫مشــهدي وإخــراج رشــا رشبتجــي‪.‬‬
‫التفكــر بتطويــر صــورة املــرأة يف الدرامــا نحــو الفعاليــة التــي تتســاوى فيهــا املــرأة بالرجــل مــن‬
‫حيــث الــدور االجتامعــي ظــل بعيــدا ً عــن متنــاول صنــاع الدرامــا‪ ،‬ولعــل هــذا يعــود إىل غلبــة النظــرة‬
‫القــارصة عــى التفكــر بالقضايــا املجتمعيــة عــى العمــوم‪ ،‬فاملجتمــع املقمــوع‪ ،‬والــذي تخنــق فيــه‬
‫الفعاليــة املجتمعيــة املســتقلة‪ ،‬ال يســتطيع أن يبنــي الــرؤى املختلفــة‪ ،‬وبالتــايل فــإن الخطــاب‬
‫النســوي الــذي حــاول أن يضــع املــرأة عــى قــدم املســاواة مــع الرجــل‪ ،‬ظــل رهــن الهوامــش التــي‬
‫متنحــه إياهــا الســلطة الحاكمــة‪ ،‬التــي مل تســمح للمــرأة الســورية أن تذهــب يف مناقشــة دورهــا إىل‬
‫أبعــد مــن الحــدود املرســومة لــه‪.‬‬

‫هوامش‬
‫(‪ )1‬نقوم بالتمييز هنا بني مفهوم الجندر ومفهوم النســوية من حيث التمييز بني فلســفتيهام‪،‬‬
‫ففلســفة الجنــدر وبعــد العــودة إىل العديــد مــن املقاربــات اللغويــة «تســعي إىل متاثــل كامــل بــن‬
‫الذكــر واألنثــى‪ ،‬وترفــض االعــراف بوجــود الفــروق‪ ،‬وترفــض التقســيامت حتــى التــي ميكــن أن تســتند‬
‫إىل أصــل الخلــق والفطــرة‪ ،‬فهــذه الفلســفة ال تقبــل املســاواة التــي تراعــي الفــروق بــن الجنســن‪ ،‬بــل‬
‫تدعــو إىل التامثــل بينهــا يف كل يشء‪».‬‬
‫‪127‬‬ ‫يروسلا اماردلا يف يوسنلا باطخلا‬

‫أنظر‪ :‬مفهوم الجندر‪ ،‬هبة عبد املعز أحمد‪ ،‬عىل الرابط‪:‬‬


‫فس يلع‬

‫‪http://www.alnoor.se/article.asp?id=30468‬‬
‫(‪ )2‬بينــا تقــوم تتشــكل فلســفة النســوية مــن «مجموعــة مختلفــة مــن النظريــات‬
‫االجتامعيــة‪ ،‬والحــركات السياســية‪ ،‬والفلســفات األخالقيــة‪ ،‬التــي تحركهــا دوافــع‬
‫متعلقــة بقضايــا املــرأة‪ .‬يتفــق النســويون والنســويات عــى أن الهــدف النهــايئ هــو‬
‫القضــاء عــى أشــكال القهــر املتصــل بالنــوع الجنــي‪ ،‬ليســمح املجتمــع للجميــع‬
‫ورجال بالنمو واملشاركة يف املجتمع بأمان وحرية‪ .‬ومعظم النسويني مهتمون‬ ‫ً‬ ‫نسا ًء‬
‫بشكل خاص بقضايا عدم املساوة السياسية واالجتامعية واالقتصادية بني النساء‬
‫والرجــال‪ ،‬ويجــادل بعضهــم بــأن مفاهيــم النــوع االجتامعــي والهويــة بحســب الجنــس‬
‫تحددهــا البنيــة االجتامعيــة‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬مفهوم «نرصة املرأة» عىل موسوعة ويكيبيديا‪.‬‬
‫‪/http://ar.wikipedia.org‬‬
‫(‪ )3‬أنظــر‪« :‬املــرأة الســورية يف موقــع صنــع القــرار»‪ ،‬د‪ .‬ميــة الرحبــي‪ ،‬الحــوار‬
‫املتمــدن‪ ،‬العــدد‪ 8 / 3 / 2006 - 1483 :‬عــى الرابــط‪:‬‬
‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=59049‬‬
‫(‪ )4‬أنظر‪« :‬الصورة االجتامعية للمرأة يف الدراما السورية»‪ ،‬د‪ .‬محمد العمر‪،‬‬
‫مجلة جامعة دمشق‪ ،‬املجلد ‪ ،2003 )2+1(-19‬ص ‪.159- 158‬‬
‫(‪ )5‬راجع‪« :‬رسالتان إىل مقام االنتداب»‪ ،‬األنسة نظرية زين الدين‪ ،‬املطبعة‬
‫األمريكانية ‪ -‬بريوت ‪.1926‬‬
‫أثــار املسلســل ردود أفعــال عنيفــة يف األوســاط الثقافيــة‪ ،‬فقــد تطــرف البعــض‬
‫يف قراءتهــم للعالقــة بــن املنتجــن الدراميــن الســوريني‪ ،‬وبــن القنــوات الخليجيــة‬
‫العارضــة‪ ،‬إىل درجــة اعتبــار األمــر خضوعـاً للوهابيــة‪ .‬أنظــر مقــال الباحــث أيب حســن‬
‫«الدرامــا الســورية‪ :‬مــن صناعــة الرســالة إىل تكريــس الوهابيــة»‪ ،‬والــذي جــاء فيــه‪« :‬‬
‫يسء الذكر يبارك تعدد الزوجات يف إحدى حلقاته هذا العام‪ ،‬ومن‬ ‫كان العمل ّ‬
‫أسف مرة أخرى‪ ،‬فقد كانت النسوة سعيدات مبثل ذلك التعدد!‪ ،‬وال ندري يف‬
‫يب‪،‬‬
‫حال كان الحسم يف إنتاج الدراما السورية للخط الثاين أي أموال النفط الو ّها ّ‬
‫إن ك ّنا سنشهد جزءا ً رابعاً من «باب الحارة» يبارك لنا زواج املسيار وزواج املسافر‬
‫وحتى زواج الونّاســة‪ ،‬وهو نوع جديد من الزواج ظهر يف أرض الحجاز مؤخرا ً‪».‬‬
‫عىل الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.alawan.org/article2745.html‬‬
‫راجي بطحيش‬

‫عودة «باب الحارة»‪ :‬تحيا املركزية القضيبية!‬

‫أعتــر نفــي مــن عائلــة الباحثــن يف الثقافــة ممــن يعولــون كثــرا ً عــى الثقافــة‬
‫الشــعبوية وانعكاســاتها ودورهــا يف بنــاء الوعــي الجمعــي وليــس بالــرورة بنــاءه‬
‫إيجابي ـاً‪ ،‬بــل مــن املمكــن كارثي ـاَ أيض ـاً كــا هــو الحــال يف الحــدث املتمثــل بعــودة‬
‫“بــاب الحــارة ‪ ”6‬يف رمضــان ‪ ،2014‬ومــا يرتتــب عليــه مــن هــذا الحديــث‪ ،‬وذلــك‬
‫خالف ـاً للباحثــن الذيــن يعتــرون مكونــات الثقافــة الشــعبوية هــي تجهيليــة ضمن ـاً‪،‬‬
‫وبالتايل يجب عدم إيالئها أية أهمية بل تجاهلها ويف أسوأ األحوال مامرسة تهكم‬
‫نخبــوي عليهــا مــا يجعلهــا أكــر شــعبية وتــزداد نســبة مشــاهدتها كــرد فعــل انتقامــي‬
‫مــن “املثقفــن” عــى اســتعالئهم‪.‬‬
‫تحمــل مســألة عــودة “بــاب الحــارة ‪ ”6‬يف طياتهــا ترميــزات وتداعيــات تبــدأ وال‬
‫تنتهي حتى أنها أحياناً ال تصدق يف سياق الحدث السوري املأساوي واملتفاعل‬
‫أبــدا ً‪ ،‬وخاصــة إذا عرفنــا أن القريــة النموذجيــة الشــامية التــي كان املسلســل يصــور‬
‫فيهــا اقتحمــت مــن قبــل مســلحي املعارضــة يف محاولتهــم ملحــارصة مطــار دمشــق‬
‫الــدويل وأن النظــام (كالعــادة) قــام بقصــف القريــة وتدمريهــا‪ .‬فمــن املذهــل مبــكان‬
‫أن يســتطيع هــذا العمــل إعــادة إنتــاج نفســه انطالق ـاً مــن ســوريا املدمــرة وقلــب‬
‫دمشــق وهــو معقــل النظــام وذلــك بأمــوال ســعودية (مجموعــة ‪ MBC‬املعروفــة‬
‫بعدائهــا للنظــام) وإذا مل تكتفــوا بهــذه التقاطعــات الغرائبيــة فثمــة العــرات منهــا‬
‫يف ســياق هــذا العمــل والحــدث الســوري بشــكل عــام‪ ،‬كالعالقــة بــن مركــز دمشــق‬
‫‪129‬‬ ‫ةيبيضقلا ةيزكرملا ايحت ‪»:‬ةراحلا باب« ةدوع‬

‫والغوطــة يف املسلســل بصفتهــا الخــارصة الغذائيــة للمدينــة ومنبــع مقاومــة املحتــل بينــا يتجــى‬
‫شيحطب يجار‬

‫الــراع األكــر يف املأســاة يف العالقــة الدمويــة االنتقاميــة بــن مركــز العاصمــة والغوطــة أو أن هــذا‬
‫مــا يبــدو مــن بعيــد عــى األقــل‪.‬‬
‫تقــوم قنــاة ‪ MBC‬درامــا منــذ أشــهر بعــرض كافــة أجــزاء املسلســل وذلــك إلدخالنــا يف “الصــورة”‬
‫وتجهيزنــا نفســياً وروحاني ـاً وهورموني ـاً لعودتــه‪ ،‬وقــد القــت هــذه اإلعــادة نجاح ـاً كبــرا ً وفــق مــؤرشات‬
‫بســيطة جــدا ً يف الشــارع العــريب‪ ...‬أي شــارع ممكــن أن ميثــل عينــة‪ ،‬ليــرىب جيــل جديــد كان مقمطـاً‬
‫عنــد العــرض األول عــى مبــادئ الرجولــة عــى طريقــة “معتــز”‪ ...‬ووجــوب الطاعــة العميــاء للعقيــد أو‬
‫الزعيــم‪ ...‬ومــاذا تعنــي كلمــة “ابــن عمــي”‪ ...‬وكيــف ســتقوم شــنبات القبضايــات بتحريــر فلســطني‪،‬‬
‫وكيــف نتملــك كبنــن أدوات بالغيــة نتمكــن مــن خاللهــا إقصــاء البنــات عــن الحيــز العــام واللعــب‬
‫معنــا يف الحــارة؟‬
‫بعــد أن شــاهدت أجــزاء كبــرة مــن حلقــات اإلعــادة ألفهــم مــا هــو رس “بــاب الحــارة”‪ ،‬خلصــت‬
‫إىل اســتنتاج كبــر مفــاده أن العمــل مثــر ومشــوق ولكنــه خطــر وســام إىل حــد كبــر عــى الصعيــد‬
‫الجنــدري ‪ /‬الجنســاين ويتمثــل ذلــك يف بعــض النقــاط والتيــات الرئيســية‪:‬‬
‫•الخدعــة الكــرى – تعتمــد كتابــة وإخــراج “بــاب الحــارة” عــى خدعــة كبــرة‪ ،‬أصبحــت حقيقــة‬
‫صدقهــا املشــاهد‪ ،‬مفادهــا أن املسلســل يعــرض الحيــاة يف حــارات دمشــق الباطنيــة كــا‬
‫كانــت بالضبــط يف تلــك اللحظــات التاريخيــة ويتبــع صنــاع العمــل يف ذلــك مبــدأ املصداقيــة‬
‫يف التنــاول‪ ،‬ولكــن الحقيقــة أن الكتابــة والتنفيــذ لهــذا العمــل ينطلقــان مــن توجــه ايديولوجــي‬
‫واضــح وحــاد ال يتغــر ومل يتغــر عــر أجــزاء العمــل الخمســة وهــو يتمثــل بتبنــي وتأصيــل فكــرة أو‬
‫مبدأ ملكية الرجل الحرصية للحيز العام وما يقرتحه هذا الحيز‪ ،‬وكذلك مبدأ الطاعة العمياء‬
‫للرجــل ‪ /‬القائــد حتــى لــو كان غبيـاً ومخطئـاً‪.‬‬
‫•الرناتيف – خطورة باب الحارة تكمن برأيي بالخلط الواقع بني التوثيق والرسد النرياتيفي لصناع‬
‫العمــل‪ ،‬فالتاريــخ وتحديــدا ً يف حالتنــا هــذه تاريــخ مدينــة دمشــق يف بدايــات القــرن العرشيــن‬
‫الــذي ميكــن تناولــه مبليــون طريقــة وطريقــة‪ ،‬فاألهــم يف هــذا الســياق ليــس أن نــرد التاريــخ بــل‬
‫كيــف نــرده‪ .‬فالخطــر يف العمــل وإذا اتبعنــا النقــد املاركــي ل ـ “جامعــة فرانكفــورت” يف‬
‫البحــث الثقــايف هــو أنــه يبعــث برســالة دامئــة ال تتغــر وهــي أن األفضــل هــو مــا أنتــم عليــه وال‬
‫يوجــد أفضــل منــه‪ ،‬الدكتاتوريــة والطغيــان األبــوي هــو األمــان واملــرادف للثبــات والطأمنينــة‪ ،‬أمــا‬
‫الحيــز العــام فهــو ملــك حــري للرجــل إىل األبــد كــا أن “الرجولــة” هــي صفــة جوهريــة نولــد‬
‫معها وال يتم بنائها مجتمعياً‪ ،‬فإما أن تكون رجالً أي‪ :‬شهامً‪ ،‬كرمياً‪ ،‬تغار عىل عرضك‪ ،‬عنيفاً‪،‬‬
‫طاغيــة‪ ،‬حكيـاً‪ ،‬متفــردا ً برأيــك‪ ،‬لديــك الحــق لوحــدك بإنتــاج متعتــك‪ ...‬وإمــا أن تكــون “ال رجــل‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪130‬‬

‫•وكأنــه رشيــط بورنــو مثــي‪ -‬ميكــن بســهولة تحويــل املشــاهد بــن الرجــال يف‬
‫الحيــز العــام للحــارة والحكــر عليهــم أصـاً‪ ،‬عــر الدبلجــة إىل مشــاهد افتتاحيــة‬
‫ألفالم بورنو أو أفالم ايروتيكية مثلية‪ ،‬فإذا كان البيت هو الحيز الذي يتقمص‬
‫فيــه الرجــل دور اآلمــر الناهــي عــى مــا يقتضيــه األمــر مــن حــزم ورصامــة مزيفــة‪،‬‬
‫فــإن الحيــز العــام كالســوق واملقهــى والحــام (ومــا أدراك مــاذا يحــدث يف‬
‫الحاممــات) يتحــول لفضــاء يضــج بالهومــو‪ -‬ايروتيكيــة عــى مــا يحويــه ذلــك مــن‬
‫ايحــاءات جنســية ولعــب بالشــوارب وتدبيــل بالعيــون‪ ،‬وغــزل كالمــي وعشــق‬
‫متبــادل ومتأصــل ملاهيــة الرجولــة‪ ،‬وذلــك بــرط أن يكــون الرجــل رجـ ًـا حقيقيـاً‬
‫باملعنى الفحويل الحريف للكلمة‪ ،‬لذا يتم نبذ شخصية كشخصية “أبو بدر”‬
‫من الحيز الرجويل وتحميله مسؤولية ما حدث ويحدث يف الحارة من مكائد‬
‫ومؤامــرات وفــن ومنيمــة ليــس لكونــه رشيــرا ً بــل لكونــه “ليــس رجـاً” باملعنــى‬
‫الحريف وهو بذلك يتساوى تراتبياً مع نساء الحارة مثريات الفنت‪ ،‬كام تنتفي‬
‫صفــة الرجولــة عــن شــخصيات أخــرى مدبــرة للمكائــد كأبــو غالــب يف الحلقات‬
‫األوىل والنمــس يف الحلقــات التاليــة‪ ،‬وتشــكل هــذه الشــخصيات “املخنثــة”‬
‫انتهــاكاً غــر مرغــوب فيــه ملهرجــان التجانــس الرجــويل يف فضــاء املــكان‪.‬‬
‫•محور الوقت ال يغري شيئاً‪ -‬إذا كان هذا العمل يعكس الواقع التاريخي وتطور‬
‫الشــخصيات عــر مــرور الوقــت واملجريــات التاريخيــة ضمــن هــذا اإلطــار‪ ،‬فــا‬
‫يعقل إال يتغري شيئاً يف األدوار االجتامعية عىل مدار أكرث من مئة وخمسني‬
‫حلقة كام يحدث مثالً يف ثالثية نجيب محفوظ حيث تتداعى ذكورية السيد‬
‫أحمــد عبــد الجــواد مــع تقــدم األحــداث وتخرتق النســاء حيز الحارة مكشــوفات‬
‫الوجه نحو الحداثة ‪ ،‬كام ال يعقل أال تكون يف العمل شخصية نسائية واحدة‬
‫تحمــل براعــم متــرد تهــز ولــو قليـاً أســس املركزيــة القضيبيــة‪ ،‬باســتثناء شــخصية‬
‫“أم جوزيــف” التــي تــم ترميــز شــخصيتها مســبقاً وبشــكل محكــم بكافــة مالمــح‬
‫“األجنبي” و”اآلخ” بجعلها مسيحية ال تنتمي للثقافة املهيمنة‪ ،‬وهنا ال بد أن‬
‫نتذكر أننا تربينا عىل شخصية “فطوم حيص بيص” يف مسلسل “صح النوم”‬
‫الخالد وهو مسلســل بيئة شــامية قديم أيضاً‪ ،‬تعمل فيه الشــخصية النســائية‬
‫املحوريــة مديــرة فنــدق يف حــارة شــعبية تــدور يف فلكهــا كافــة الشــخصيات‬
‫الرجوليــة التــي متثــل أمناط ـاً مختلفــة ينحــر منــط رجــال “بــاب الحــارة” فيهــا‬
‫عــر شــخصية أبــو عنــر امليثولوجيــة‪.‬‬
‫‪131‬‬

‫الملف اإلبداعي‬
‫ماهر حميد‬

‫القناص والبغي‬

‫ألو‪...‬‬
‫أهالً أيها السومري‪ .‬ولك يا سيدي عىل رايس أنت وجلجامش وأنكيدو‬
‫ومعاكم البغي كامن‪.‬‬
‫هكذا ابتدأ صديقي عبد الله مكاملته من الرقة عندما اتصلت به‪.‬‬
‫‪-‬عىل شو هالتشكرات؟‬
‫قــال يل‪ :‬لقــد نصحتــي بقــراءة ملحمــة جلجامــش‪ ،‬ولــو مل تنصحنــي لكنــا‬
‫مــا زلنــا تحــت رحمــة قنــاص داعــش يف حــي الثكنــة‪.‬‬
‫وشو جاب داعش لجلجامش؟‬
‫حىك يل قصة استعيدت منذ فجر التاريخ لتعالج حالة يف الرقة ال تقل‬
‫إيغــاالً يف التاريــخ‪ .‬ملخــص القصــة أن قناص ـاً قــد متركــز عــى ســطح إحــدى‬
‫البنايــات العاليــة يف حــي الثكنــة مســيطرا ً عــى عــدة شــوارع ومفــارق‪ .‬وكان‬
‫مدرباً عىل نحو جيد‪ ،‬ومخلصاً يف جهاده‪ ،‬جاء من بلد بعيد‪ ،‬وأعلن الجهاد‬
‫عىل املارة والعابرين يف منطقة سيطرته‪ ،‬فكان يحكُم بالكفر والردة من خالل‬
‫منظــاره‪ ،‬وينفــذ القصــاص عــى كل عابــر ال يعجبــه ثــم يحمــد اللــه ويثني عليه‪.‬‬
‫كان صديقــي عبــد اللــه مــن املثقفــن الناشــطني األوائــل‪ ،‬ومل ينقطــع عــن‬
‫نشــاطه رغــم أن الخطــورة تضاعفــت بعــد ســيطرة اإلســاميني عــى املدينــة‪،‬‬
‫‪133‬‬ ‫ يغبلاو صانقلا‬

‫ولكــن حركتــه هــو وأصدقــاؤه أصبحــت محــدودة جــدا ً يف النهــار‪ ،‬بســبب وجوههــم ال َعلامنيــة‬
‫ ديمح رهام‬

‫الكريهــة‪ ،‬فقــرروا العمــل ليـاً‪.‬‬


‫ولكــن مشــكلتهم كانــت تكمــن يف ذلــك القنــاص الــذي يتمركــز يف موقعــه مــن صــاة‬
‫العشــاء وحتــى الفجــر‪.‬‬
‫مل يكن عبد الله يؤمن بالقتل وإال لكان وجد وسيلة للتخلص من القناص‪.‬‬
‫انكفــأ عبــد اللــه وأصدقــاؤه‪ ،‬واكتفــوا بالجلــوس أمــام كومبيوتراتهــم‪ .‬وأصبحنــا نتحــادث‪،‬‬
‫بحكــم أن وقتــه قــد أصبــح ملكــه‪ ،‬حين ـاً عــر الفيســبوك‪ ،‬وحين ـاً آخــر عــر الهاتــف‪.‬‬
‫نصحتُــه بالقــراءة‪ ،‬وأرســلت إليــه ترجمــة ألــواح ملحمــة جلجامــش األحــد عــر‪ ،‬فقــد كنــت‬
‫أعيــب عليــه قلــة ثقافتــه‪ ،‬ألنــه مل يقــرأ جلجامــش بعــد‪ ،‬وكنــت أداعبــه وأقــول مــن مل يقــرأ‬
‫جلجامــش فكأنــه مل يقــرأ أبــدا ً‪.‬‬
‫ومل يكن قد أنهى قراءة اللوح الثاين من امللحمه حتى قفر كأرخميدس يرصخ‪ :‬وجدتها‬
‫وجدتها‪.‬‬
‫وقــرر أنــه ســيفعل مــع القنــاص كــا فعــل جلجامــش مــع أنكيــدو‪ ،‬ســوف يروضه كام روض‬
‫جلجامــش الوحــش أنكيــدو بــأن أرســل له بغياً‪.‬‬
‫ولكن أين البغي؟‬
‫تشاو َر مع األصدقاء‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬صاحبنا فالن «رسرسي» وأكيد رح يدبرها‪.‬‬
‫وبعد أن رشحوا لـ «فالن» الفكرة دبّرها‪ .‬اتصل بـ «شــامة الدلوعة» التي ســميت كذلك‬
‫ألنها متتلك ‪ -‬كام أكد البعض ‪ -‬شامة يف مكان ما‪ ،‬ولقبت «دلوعة» ألنها دلوعة بالفعل‪.‬‬
‫كانــت شــامة هــي األشــد كرهـاً لداعــش‪ ،‬فقــد انقطــع رزقُهــا‪ ،‬ولبســت النقــاب رغــم أنفهــا‬
‫ومل تعــد تســتطيع التدلُّــع‪ ،‬ومل يعــد أحــد يتجــرأ ويــرى شــامتها‪.‬‬
‫وافقت بحامس‪ ،‬وقالت إنها ستنفد املهمة بسبب حبها للوطن! وضحكت الضحكة‬
‫إياها‪.‬‬
‫كانت الخطة تقتيض بأن تقوم شامة‪ ،‬مع أن بعض نوافذ بيتها ليست بعيدة عن منظار‬
‫القناص‬
‫َ‬ ‫القناص‪ ،‬بفتح الســتارة قليالً أثناء تبديلها ملالبســها‪ ،‬يف حني يراقب «عبد الله»‬
‫مبنظاره ليعرف إن كان سيُبدي اهتامماً مبا يرى‪ .‬وقد فعلها املجاهد وأبدى اهتامماً‪.‬‬
‫واكتشف عبد الله من القناص مقتالً‪ ،‬وترك الباقي لشامة‪.‬‬
‫وردد املقطع الذي حفظه من امللحمة‪:‬‬
‫الوحش القاد َم من أعامق الرباري‪.‬‬
‫َ‬ ‫أبرصي‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪134‬‬

‫بغي ‪ -‬فاكشفي نهديك‬


‫ها هو ‪ -‬يا ُّ‬
‫إكشفي عن مفاتنك‪ ،‬ليك يتمتع مبفاتن جسمك‬
‫ال تُحجمي ـ بل راوديه‪ ،‬وابعثي فيه الهيام‬
‫علمي الوحش الغ ّر فن املرأة‬
‫رسبــت للقنــاص إشــارة بأنهــا الحظــت‬
‫بــدأت شــامة تكــرر املشــهد‪ .‬وبخربتهــا غــر القليلــة ّ‬
‫اهتاممــه بهــا‪ ،‬وبــدأت تلقــي لــه التحيــات‪ ،‬وهــو يــرد التحيــة بأحســن منهــا‪.‬‬
‫وأصبح القناص مسؤوالً عن مراقبة نافذة الحورية‪ ،‬رغم أنه كان يطلق بني الحني واآلخر‬
‫طلقة ليذكِّ َر بأسباب جهاده‪ ،‬ولكنه‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬ترك الشوارع لعبد الله وصحبه ميرحون‬
‫فيهــا عىل هواهم‪.‬‬
‫وحــن يكــون يف مكمنــه مل يكــن يرفــع عينــه عــن تلــك النافــذة‪ ،‬وحينــا تتأخــر شــامة عــن‬
‫الظهــور كان يطلــق طلقــة خبــرة عــى نافذتهــا التــي أصبحــت هــي والخزانــة التــي خلفهــا‬
‫كالغربــال‪ ،‬فقــد كانــت الدلوعــة ‪ -‬اللــه يهديهــا ‪ -‬كثــرا ً مــا تتأخــر يف الظهــور‪.‬‬
‫وتطــور التواصــل‪ .‬فقــد اســتطاعت شــامة أن تجرجــر القنــاص إىل مخدعهــا‪ .‬وعــادت إىل‬
‫عهدهــا يف األيــام الخــوايل‪.‬‬
‫شــذب القنــاص لحيتــه بقــدر مــا يســمح الــرع‪ ،‬وقــال لإلخــوة إنهــا احرتقــت بســب طلقــة‬
‫فاســدة‪ .‬واســتبدل عطــره بعطــر َعلــاين كان يخبئــه يف حــوض النبــات عنــد بــاب بيــت شــامة‬
‫ويعطــر نفســه بــه قبيــل اللقــاء‪ .‬وأصبــح يخلــع الحــزام الناســف ويدســه يف املكمــن وينطلــق‬
‫إىل حوريتــه‪.‬‬
‫وبــدل أن تصبــح هــي ملــك ميينــه‪ ،‬كــا كان يعتقــد‪ ،‬فقــد وقــع يف رشكهــا‪ ،‬وأصبــح هــو‬
‫ملــك ميينهــا‪.‬‬
‫فهي كانت أول أنثى يخاطبها دون ُم ْح َرم ودون حجاب‪.‬‬
‫الحظ اإلخوة تغري مزاج القناص املجاهد‪.‬‬
‫‪ -‬مايل أراك مشغول الفكر يا أبا الدحداح؟‬
‫‪ -‬إنني أتفكر فقط يا أبا رسح‪.‬‬
‫‪ -‬لقــد الحــظ عليــك اإلخــو ُة تغــر حالــك‪ .‬بــل إن األمــر أطــال اللــه عمــره وســدد خطــاه قــد‬
‫أمــرين أن أحادثــك بعــد أن نقــل لــه أحــد اإلخــوة أنــك صليــت مــن العــر ثــاث ركعــات فقــط‪،‬‬
‫كــا أنــك أصبحــت ال تســنن كثــرا ً‪ ،‬ومســواكك مل يقــر طولُــه منــذ أســبوعني!‬
‫‪ -‬ال شــك أن ذاك الرويبضــة املنافــق الــذي جــاء مــن جبهــة املرتديــن ليتجســس علينــا‬
‫‪135‬‬ ‫ يغبلاو صانقلا‬

‫يكيــد يل عنــد األمــر‪ ،‬ويريــد تشــتيت شــملنا لتذهــب ريحنــا‪.‬‬


‫ ديمح رهام‬

‫‪ -‬تــف مــن فمــك يــا أبــا الدحــداح وال تــأكل لحــم أخيــك‪ ،‬فهــو‪ ،‬كــا تعلــم‪،‬‬
‫شــديد البــأس قطــاع لرقــاب النصرييــن واملرتديــن وال يخــى يف الحــق لومــة‬
‫الئــم‪.‬‬
‫‪ -‬حسبنا الله وهو نعم الوكيل‪.‬‬
‫ـب أيب الدحــداح ينكرونــه‪،‬‬
‫وكــا أنكــرت حيوانــات الغابــة أنكيــدو بــدأ صحـ ُ‬
‫فلــم يعــد لــه غــر صــدر البغــي ليجهــش بالبــكاء عليــه‪.‬‬
‫كُل الخب َز يا انكيدو‪ ،‬فإنه مادة الحياة‪.‬‬
‫وارشب من الرشاب القوي فهذه عادة البالد‪.‬‬
‫قادتــه البغــي إىل عبــد اللــه الــذي حدثــه عــن الظلــم والقهــر فاغرورقــت‬
‫عيناه بالدموع‪ ،‬ثم حدثه عن عائلته التي جمع أشالءها يف أكياس‪ ،‬فأجهش‬
‫بالبــكاء‪ .‬حدثــه عــن مســتقبله الــذي خــره رغــم شــهادته العاليــة بســبب كلمة‬
‫حــق قالهــا ليــس أمــام ســلطان جائــر بــل أمــام كلــب ســلطان جائــر‪ .‬حدثــه عــن‬
‫العائــات املعدمــة التــي كان عبــد اللــه يوصــل إليهــا الطعــام مغامــرا ً بحياتــه‬
‫باملرور أمام منظار قناصته‪ .‬وحدثه وحدثه وحدثه فأجهش وأجهش وأجهش‪.‬‬
‫ولكــن لحيتــه مل تبتــل فقــد كان قــد حلقهــا‪.‬‬
‫عبــد اللــه الــذي كان عندمــا يتحــدث تحســب روحــه هــي التــي تحدثــك‬
‫ومــا ينفــك ين ّقــل عيونــه بــن الجهــات األربــع وكأنــه يراقــب أســوار وطنــه وينقــل‬
‫عينيــه بــن األرض والســاء وكأنــه يريــد الصعــود بــه إىل األعــايل‪.‬‬
‫لقد تقمصت روحه روح جلجامش القوي الجميل‪.‬‬
‫عزمت عىل أن أذهب لو بالحزن واألمل‬
‫ويف القر والحر ويف الحرسات والبكاء‬
‫فافتح يل اآلن باب الجبال‪.‬‬
‫رد ّدت هــذا املقطــع مــن امللحمــة الخالــدة‪ .‬وقلــت لنفــي لقــد قــرأ عبــد‬
‫اللــه لوحــن فقــط مــن ملحمــة جلجامــش‪ ،‬وروض أشـ َّد الرجــال قســو ًة وفتــكاً‪،‬‬
‫فــاذا هــو فاعــل لــو قــرأ األلــواح األحــد عــر كلهــا؟‬
‫فاطمة ياسني‬

‫ساميا‬

‫توقـ َـف القصـ ُـف عــى املدينــة الصغــرة ثالثــة أيــام متواصلــة‪ ...‬اســتغربت‬
‫«ســاميا» ذلــك‪ ...‬تشــجعت‪ .‬ونزلــت إىل الشــارع‪ .‬ســألت املــارة بنظراتهــا‪:‬‬
‫شو القصة؟‬
‫أجابوها بقلب شفاههم‪( .‬علمنا علمك)‪.‬‬
‫مثة سيارات أجرة قليلة تعرب الشارع‪ .‬تشجعت أكرث‪ ،‬أشارت لواحدة‪...‬‬
‫توقفت‪ .‬الســائق قال لها مبرح‪:‬‬
‫ال تخايف‪ ...‬خلص‪ .‬ما عاد حدا يقصفنا‪ ...‬لوين مشوارك؟‬
‫اســتغربت‪ .‬تســاءلت‪ :‬مــاذا جــرى؟ هــل صــارت املنطقــة تحــت حاميــة‬
‫األمــم املتحــدة ومــا عــاد فيهــا قصــف وال صواريــخ وال جيــش حــر وال جيــش‬
‫نظامــي؟‪ ...‬أم أن يــدا ً ســحرية امتــدت وأوقفــت كل يشء؟‬
‫انتظــر الســائق دقيقــة‪ ،‬متوقع ـاً أنهــا ســتطلب منــه أن يوصلهــا إىل مــكان‬
‫مــا‪ ...‬وحينــا الحــظ رشودهــا‪ ،‬غضــب وانطلــق‪.‬‬
‫ساميا كانت تعتمد يف معيشتها عىل الغرباء‪ ،‬ألن معظم رجال املدينة‬
‫‪137‬‬ ‫ايماس‬

‫الصغــرة التــي تســكن فيهــا كانــوا يتحاشــون االقــراب منهــا‪ ،‬بســبب شــائعة رست بينهــم عــن‬
‫يساي ةمطاف‬

‫ـرض معـ ٍـد‪ ،‬مــع أنهــا‪ ،‬حقيقــة‪ ،‬ليســت مصابــة بــأي مرض‪.‬‬
‫إصابتهــا مبـ ٍ‬
‫مل تكــن ســاميا ميالــة ملتابعــة الدراســة‪ ،‬ومــا وصلــت إىل الصــف الثامــن إال بطلــوع الروح‪،‬‬
‫ر عــى تعلــم الخياطــة‪ ،‬أو حياكــة الصــوف‪ ،‬أو أي‬ ‫ومل يكــن لديهــا‪ ،‬يف الوقــت نفســه‪ ،‬ص ـ ٌ‬
‫مهنــة يدويــة أخــرى‪ ...‬كانــت متــي النهــار مقفلــة البــاب عــى نفســها‪ ،‬وتتفتــل أمــام املــرآة‪،‬‬
‫وتتفــرج عــى جاملهــا األخــاذ‪.‬‬
‫مل تكن ساميا تنوي مغادرة مدينتها الصغرية مهام كلف األمر‪ .‬ولكن الظروف التي مرت‬
‫بها قلبت كل املعادالت‪ ،‬وال سيام بعد وفاة زوجها تاركاً لها ابنهام الوحيد‪.‬‬
‫مل تكــن تحبــه‪ ...‬بــل تزوجتــه مثلــا تتــزوج البنــات يف هــذه املدينــة‪ ...‬عــن طريــق والدتــه‬
‫ووالدتها‪ ،‬ثم عقد أبوه الصفقة مع خالها‪ ...‬وهي قبلت به بسهولة ألن الشاب الذي كانت‬
‫تحبــه غــادر املدينــة يف ظــروف غامضــة‪ ،‬دون أن يكلــف نفســه عنــاء تــرك خــر‪.‬‬
‫زوجهــا إنســان طيــب ومحــب‪ ،‬وال يرفــض لهــا طلبـاً‪ ...‬وحينــا كان يطلبهــا للفــراش كانــت‬
‫غالب ـاً ترفــض‪ ،‬ألنــه ال يطيــب لــه األمــر إال بتلــك الوضعيــة الشــاذة‪ .‬وكان يتعامــل مــع رفضهــا‬
‫بكياســة‪ ...‬ويســكت‪ ،‬مــع أن عالئــم القهــر كانــت تظهــر عليــه‪ ...‬ومــع األيــام أصبحت تتعاطف‬
‫معــه‪ ،‬ثــم‪ ،‬بالتدريــج‪ ،‬أصبحــت تحبــه‪ ،‬ومتنحــه الوضعيــة التــي يريدهــا‪ ...‬ووقتهــا‪ ،‬وكــا لــو أن‬
‫ال َقـ َد َر متآمــر عليهــا‪ ،‬أصيــب بالتهــاب الكبــد الفــرويس‪ ،‬وخــال ثالثــة أســابيع فقــط مــات‪.‬‬
‫مل ميــض عــى وفاتــه ســوى شــهر واحــد حتــى بــدأت طلبــات العشــق الحــرام تنهمر عليها‪.‬‬
‫تلقــت‪ ،‬يف البدايــة‪ ،‬مســاعدات غــر مرشوطــة‪ .‬رجــال معروفــون يف املدينــة‪ ،‬ولهــم مراكــز‬
‫أظهــروا لهــا شــهامة منقطعــة النظــر‪ ...‬وحينــا مل يحصلــوا لقــاءه عــى يشء‪ ،‬خرجــوا مــن‬
‫طريقهــا‪.‬‬
‫بعــد توقــف مســاعداتهم عنهــا أصبحــت ســامية يف وضــع يسء‪ ،‬وتأكــدت لهــا فكــرة أن‬
‫الدنيــا تقــف ضدهــا بــكل مــا للكلمــة مــن معنــى‪ ،‬فــأرادت االنتصار لنفســها واســرداد حقوقها‬
‫بيدهــا مــن هــذه الحيــاة اللعينــة‪.‬‬
‫ســمعت عــن تاجــر كبــر ميلــك مزرعــة يف البلــدة‪ ،‬بعــد تفكــر مل يطــل‪ ،‬قــررت أن تذهــب‬
‫إليــه وتشــكو لــه حالهــا‪ ،‬وبالفعــل اســتقبلها بــكل حفــاوة ووعدهــا خــرا ً‪ .‬أيــام قليلــة مضــت‬
‫لتكتشــف أن هــذا الرجــل ال يعتمــد عــى التجــارة فقــط‪ ،‬وإمنــا عملــه األســايس كان متعهــدا ً‬
‫للمالهــي الليليــة يف املنطقــة‪ .‬وبأســلوب ذيك منــه ال يخلــو مــن اللــف والــدوران اســتطاع‬
‫اقناعهــا بالعمــل يف أحدهــا عــى أســاس أن العمــل يف املالهــي الليليــة‪ ،‬ويف هــذا امللهــى‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪138‬‬

‫بالــذات‪ ،‬ليــس كــا يتكلــم النــاس عنــه بــل عــى العكــس هــو مــكان جيــد‪ ،‬ويحــرم جميــع‬
‫العاملــن فيــه والعامــات‪.‬‬
‫بعــد أن عملــت يف هــذا امللهــى فــرة قصــرة‪ ،‬ووجــدت مــا عليــه مــن ســوء‪ ،‬انتقلــت إىل‬
‫ملهــى آخــر مبســاعدة أحــد الرجــال الذيــن تعرفــت عليهــم هنــا‪ ،‬ثــم تنقلــت بــن عــدة مــاه كل‬
‫واحــد كان أســوأ مــن ســابقه‪ ،‬أمــا عــن أمورهــا املاديــة فقــد أصبحــت مقبولــة‪ ،‬بــل جيــدة جــدا ً‬
‫قياسـاً مبــا كان عليــه حالهــا مــن قبــل‪.‬‬
‫أشــه ٌر كثــرة مضــت وجــدت ســاميا نفســها بعدهــا بــدون عمــل‪ ،‬بســبب الشــائعة التــي‬
‫طالــت صحتهــا‪ ،‬وعــى إثرهــا أدارت معظــم هــذه األماكــن لســاميا وجههــا‪ ،‬فعادت من جديد‬
‫إىل حيــاة البــؤس‪ ...‬واســتمرت كذلــك حتــى بــدأت الثــورة‪ ،‬وبــدأت تتواجــد قــوات النظــام‬
‫وعســاكره بكثافــة يف املنطقــة‪.‬‬
‫هؤالء الجنود غرباء عن البلدة‪ .‬استغلت ساميا جهلهم بشائعة مرضها‪ ،‬وذلك المتناع‬
‫ســكان املنطقــة عــن التحــدث معهــم‪ ،‬فبــدأت بالتحــرش بهــم‪ ،‬مل ميــض عــى هــذه الحــال إال‬
‫أســابيع قليلــة حتــى أصبــح منــزل ســامية يف الضيعــة فندقـاً‪ ،‬وأصبحــت ســامية تــودع جنديـاً‬
‫لتستقبل آخر‪ .‬مل يختلف عليها األمر كثريا ً فاملالهي الليلية الرديئة التي كانت تعمل فيها‬
‫مل تكــن أفضــل مــن منزلهــا عــى أي حــال‪ ،‬بــل عــى العكــس هنــا ال تحتــاج لدفــع عمولــة كبــرة‬
‫لصاحــب امللهــى الجشــع‪ ،‬وبالنســبة لســمعتها فســنوات العمــل يف املالهــي قــد أودت‬
‫بهــا إىل أوديــة ســحيقة‪.‬‬
‫بني ليلة وضحاها دخلت كتائب معارضة للنظام إىل القرى املجاورة للمدينة ومتركزت‬
‫فيهــا‪ ،‬وصــارت مدينــة ســامية منطقــة متنازع ـاً عليهــا‪ ...‬أســبوع يســيطر عليهــا الثــوار‪ ،‬ويف‬
‫األســبوع املقبــل تســقط يف يــد النظــام‪ .‬ولكــن ســامية مل يتغــر عليهــا يشء‪ ،‬فهــي التــي ال‬
‫تعــرف تهجئــة نشــيد بالدهــا أصبحــت تتعامــل مــع قــوات الجهتــن باملحبــة ذاتهــا والحفــاوة‬
‫ذاتهــا‪ ،‬تــودع بدلــة مموهــة وعل ـاً أحمــر لتســتقبل بدلــة باكســتانية وردا َء رأس أســو َد و َعلَ ـاً‬
‫أخــر‪ ،‬أو رمبــا أســود أو أبيــض‪ ...‬وكانــت تشــعر بقلــق دائــم تجــاه إمكانيــة اجتــاع جنديــن‬
‫يتبــع كل منهــا لطــرف يف منزلهــا يف وقــت واحــد! مــع أن حــدوث هــذا األمــر مســتبعد لكــن‬
‫هاجســها هــذا كان يجعلهــا متوتــرة عــى الــدوام‪ ،‬فتجدهــا تحــاول يف كل مــرة إنهــاء مهمتهــا‬
‫رسع يف حركات جسدها وتختار أكرث الوضعيات إثارة مع زيادة يف متثيل‬ ‫بأقرص وقت‪ ،‬فت ِّ‬
‫أصــوات التنهيــدات التــي تجعــل امل ُهمــة تنتهــي برسعــة‪ ...‬وتبقــى حالــة التوتــر مســيطرة عليهــا‬
‫حتى تودع هذا الجندي وتغلق الباب وتطلق زفرة اسرتاحة ترفع خاللها رأسها قليالً وترخي‬
‫أكتافهــا‪ ،‬لتســتعد مــن جديــد للضيــف القــادم‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫ايماس‬

‫ســاميا مل تغــادر مدينتهــا كــا فعــل القســم األكــر مــن الســكان بســبب‬
‫يساي ةمطاف‬

‫عمليــات املداهمــة أو القصــف‪ ،‬بــل عــى العكــس وضعــت ابنهــا الوحيــد‬


‫ذا الثالثــة عــر عامـاً عنــد معــارف لهــا يف بلــدة مجــاورة وبقيــت تل ِّقــط رزقهــا‬
‫مــن الــزوار‪ ،‬واســتطاعت أن تجعــل عيشــة ابنهــا يف ذلــك البلــد عيشــة ملــوك‬
‫خصوصاً بعد أن بدأت تعمل‪ ،‬إضافة إىل عملها األسايس‪ ،‬بنقل معلومات‬
‫(معظمها مغلوطة) بني الجهتني‪ ،‬فام تســمعه من هنا عن خطط وعمليات‬
‫مزمــع تنفيذهــا كان يعلــم بــه يف األســبوع املقبــل الطــرف اآلخــر‪ ،‬وكانــت‬
‫تتقــاىض هــي عمولــة مــن الطرفــن مقابــل ذلــك‪.‬‬
‫لكن اختيار األمم املتحدة ملدينة سامية من بني املناطق التي سيطبق‬
‫عليهــا الحظــر الجــوي لحاميــة الســكان هنــاك ومــا تبعــه مــن انســحاب جميــع‬
‫املظاهــر املســلحة مــن املنطقــة وعــودة معظــم ســكان الضيعــة إىل بيوتهــم‬
‫قد أرغم سامية عىل تغيري قناعتها بالبقاء يف مدينتها حتى املوت‪ ،‬فابنها‬
‫الــذي يعيــش يف الخــارج يحتــاج إىل نفقــات كبــرة تغطــي مــا اعتــاد عليــه يف‬
‫شــهو ٍر خلــت‪ ،‬قــد أجربهــا هــذا عــى مغــادرة املدينــة بحث ـاً عــن أرض أخــرى‬
‫تســتطيع أن تعمــل فيهــا‪.‬‬
‫ولكن‪ ...‬إىل أين تتجه؟‬
‫فجأة‪ ،‬وقبل أن تعرث عىل جواب‪ ...‬زعق زمور سيارة يف الشارع‪.‬‬
‫ذعــرت ســاميا واضطربــت‪ ...‬وقفــزت إىل الــوراء حتــى أصبحــت عــى‬
‫الرصيــف‪ ...‬بينــا الســائق املضطــرب يقــول لهــا‪:‬‬
‫«يخــرب بيتــك شــو حــارة!‪ ...‬واقفــة بنــص الطريــق؟‪ ...‬يــا تحــريك مــن‬
‫هــون‪ ،‬القصــف بلــش‪ ...‬مــو ســمعانة؟!»‬
‫محمد غندور‬

‫معركة‬

‫دخلوا بيتي بال استئذان‪ .‬كان الليل يلثمهم‪ .‬رش يفح مع رائحة عرقهم‪ .‬أجساد‬
‫ال تعرف املوت‪ .‬أسلحتهم الفتة‪ .‬قطع صغرية فتاكة ال تعرف الرحمة‪ ،‬تواقة للدم‪.‬‬
‫جلسوا عىل املقاعد التي كنا قد رتبناها قبل نومنا‪ .‬الطَ ْرق املتواصل عىل الباب‬
‫ـت أحلــم بنــا عــى رصيــف يف عاصمــة أوروبيــة‬ ‫أيقظنــا مــن حلــم كنــا قــد بدأنــاه‪ .‬كنـ ُ‬
‫ـت تغنــن بصــوت عــذب‪ .‬غريــب هــذا املنــام‪ ،‬ال أجــد عــادة‬ ‫منــارس التســول‪ ،‬وكنـ ِ‬
‫صوتــك عذبـاً! بيــد أن األحــام ت ُج ّمــل الحقائــق‪.‬‬
‫فتحت الباب فدخلوا مرسعني تسبقهم أصواتهم الغليظة‪ .‬طلبوا مني الجمود‪.‬‬
‫أحدهــم دخــل غرفتنــا لتفتيشــها فوجــدك تغطــن يف نــوم عميــق كعادتــك‪ .‬رصخ‬
‫بــك «انهــي أيتهــا املتســولة»‪.‬‬
‫غريــب‪ .‬هــل كان معنــا يف املنــام‪ ،‬أم أن املســلحني يعرفــون مســبقاً كل يشء‬
‫ـت اىل جانبي خائفة‪ ،‬افرتشــنا األرض الباردة‪ ،‬وجلســوا عىل‬ ‫عن ضحاياهم؟ جلسـ ِ‬
‫مقاعدنــا املريحة‪.‬‬
‫ســألنا مق ّنــع‪« :‬مــن منكــا يريــد املــوت قبــل الثــاين؟ ال تخافــا ســيكون موتكــا‬
‫رسيعــا جــدا ً‪ ،‬لــن ننــكل بجثتيكــا‪ ،‬ولــن نتعامــل معكــا بوحشــية‪ ،‬كــا أننــا لــن‬
‫نغتصبهــا‪ ،‬ط ّمــن بالــك يــا أســتاذ‪ ،‬أتينــا يف مهمــة محــددة‪ ...‬القتــل فقــط ال غــر»‪.‬‬
‫بعــد هــذا العــرض املميــز‪ ،‬اطأمنينــا ورحنــا نتقاتــل مــن يريــد املــوت أوالً‪ .‬أحــب‬
‫دامئــا أن أكــون األول يف كل يشء‪ ،‬وأنــت أيضـاً‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫ةكرعم‬

‫«كنـ ِ‬
‫ـت دامئ ـاً تطلبــن منــي جلــب أغــراض ومأكــوالت ومرشوبــات وحاجــات‬
‫رودنغ دمحم‬

‫املنــزل‪ ،‬لــذا دعينــي أمــوت أوال ألشــعر أننــي اتخــذت قــرارا ً مه ـاً»‪.‬‬
‫«كنت دامئاً تطلب مني تنظيف املنزل‪ ،‬واالهتامم بجاميل‪ ،‬والتحدث بطريقة‬
‫َ‬
‫لبقــة‪ ،‬والســر بخطــى ثابتــة‪ ،‬وتحضــر الطعــام يف آخــر الليــل‪ ،‬لــذا دعنــي أمــت أوالً‬
‫ألشــعر أننــي اتخــذت قــرارا ً مهـاً أيضـاً»‪.‬‬
‫«لــن أقبــل‪ ،‬ملــاذا تريديــن دامئ ـاً أن تكــوين ســباقة يف كل يشء‪ ،‬ســأدعهم‬
‫يقتلوننــي أوالً»‪.‬‬
‫«وملــاذا أنــت أنــاين اىل هــذه الدرجــة؟ عليــك أن تتعلــم أال متتلــك كل يشء‪،‬‬
‫أنــا ســأموت أوالً»‪.‬‬
‫«أنا الرجل وما أقوله سينفذ‪ ،‬املوت يل أوالً»‪.‬‬
‫«لن أسكت بعد اليوم‪ ،‬وسأطالب بحقي يف املوت أوالً»‪.‬‬
‫حملــت يــدي وبرسعــة قياســية ارتطمــت بوجههــا‪ ،‬فطــارت عــن األرض لتصطــدم‬
‫بحــذاء املســلح‪ .‬رفعــت نظرهــا صوبــه ودم يســيل مــن شــفتها العليــا‪ ،‬فشــعرت‬
‫بابتســامة خفيــة مــن تحــت القنــاع‪ ،‬فقــال‪« :‬لــن أتدخــل بــن رجــل وزوجتــه»‪.‬‬
‫ـت انتــزاع الســاح منــه لرتمينــي بالرصــاص‪ ،‬بيــد أنــه نبههــا يف حــال فعلــت‬
‫حاولـ ْ‬
‫ذلــك ســأكون قــد ســبقتها اىل املــوت‪ ،‬ففطنــت أن ذلــك ســيكون يف صالحــي‪،‬‬
‫ورصفــت النظــر عــن الفكــرة‪.‬‬
‫هاجمتني بكل قوتها‪ ،‬وراحت ترضبني بيسارها وميينها‪ ،‬واملسلحون يضحكون‪.‬‬
‫شــعرت بإحــراج ومهانــة‪ ،‬وقلــت‪« :‬لــن أرضبــك مهــا فعلــت‪ ،‬فــا بيننــا أكــر مــن‬
‫الــرب والقتــل والذبــح»‪.‬‬
‫نزلــت كلــايت كســياط عــى جســدها املســتنفر‪ ،‬اقرتبــت منــي واعتــذرت عــا‬
‫فَ َعلَتْــه‪ .‬ســالت دمعــة عــى خدهــا وســقطت لتالمــس األرض فانفجــرت محدثــة‬
‫دويـاً قويـاً ودخانـاً مســيالً للدمــوع‪ .‬تحولــت غرفــة الجلــوس اىل ســاحة معركــة‪ ،‬وراح‬
‫الرصــاص يزغــرد فيهــا‪.‬‬
‫ـت مــن جســدها واحتضنتــه‪ .‬قبَّلــت عنقهــا عــى مهــل ورحــت أتنقــل مــن‬
‫اقرتبـ ُ‬
‫ميلليٍمرت اىل آخر كسلحفاة‪ .‬صعدتني عىل مهل أيضاً‪ ،‬هيجانها امتد إىل عروقي‪،‬‬
‫فيــا إطــاق النــار والقذائــف مســتمر‪.‬‬
‫ركبتنــي وراحــت تتــأوه‪ .‬توقــف إطــاق النــار فجــأة‪ ،‬تجمــد الرصــاص يف الهــواء‪.‬‬
‫وســال لعــاب املقنعــن‪ .‬مــا يشــاهدونه يحــدث فقــط يف أفــام هوليووديــة‪ .‬جلســوا‬
‫مجددا ً عىل املقاعد‪ .‬ذاب جليد الرصاص فسقط عىل األرض من دون ضحايا‪،‬‬
‫ورحنــا نكمــل مــا بدأنــاه‪.‬‬
‫عبد الله العتيبي‬

‫الختان‬

‫كان منصــور يتحــر مبــرارة كلــا تطلــع إىل عضــو ابنــه الذكــري‪ ،‬وعندمــا‬
‫يلمســه أحياناً وهو يغســله‪ ،‬يحاول ما أمكنه حبس دموعه‪ ،‬يشــعر بخيبة األمل‬
‫والقهر‪« ،‬قهر الرجال»‪ ...‬كام يسميه‪ ،‬إمعاناً يف جلد الذات‪ ،‬لتحريض نفسه‬
‫عــى البحــث عــن حــل لهــذه املعضلــة‪ ،‬فــا ميكــن أن يســتمر الوضــع عــى هذا‬
‫النحــو طويـاً‪ ،‬وإال ســيفقد ولــده‪.‬‬
‫مل يكــن حامــد‪ ،‬ابنــه البالــغ مــن العمــر أربعــة أعــوام يفهــم مــا يجــري‪ ،‬يلهــو‬
‫باملــاء ويضحــك وهــو قابــع يف قعــر حــوض االســتحامم‪ ،‬يــرك رغــوة الصابــون‬
‫تنســاب عــى جلــده الغــض‪ ،‬ينرشهــا عــى جســده بيديــه الصغريتــن‪ ،‬وســط‬
‫جــو ملبــد بالبخــار املنبعــث مــن صنبــور املــاء الســاخن‪ ،‬حتــى بــدا الحــام كأنــه‬
‫عــامل غيبــي ال ينتمــي إىل الواقــع‪.‬‬
‫كان يشــعر بالهزميــة‪ ،‬حــن يتأمــل «القلفــة» يف عضــو ابنــه‪ ،‬وهــي قطعــة‬
‫جلــد رقيقــة فضفاضــة‪ ،‬خاليــة مــن الشــعر‪ ،‬تغطــي جــزءا ً مــن رأس القضيــب‬
‫(الحشــفة)‪ ،‬ويتــم إزالتهــا يف عمليــة الختــان أو الطهــور كــا يطلــق عليه شــعبياً‪،‬‬
‫وهي عادة منترشة بني كثري من األجناس والشعوب‪ ،‬ومنهم الفراعنة واليهود‬
‫والعــرب قبــل اإلســام‪ ،‬ويف العهــد القديــم أُمــر إبراهيــم بالختــان وخــن أبنــاءه‬
‫وأوصاهــم بــه‪ ،‬وعليــه ســار املســلمون كــا أوصاهــم اإلســام‪ ،‬وال يعتــر الختــان‬
‫‪143‬‬ ‫ناتخلا‬

‫ركناً أساسياً يف اإلسالم‪ ،‬ولنئ كان يُعترب من «سنن الفطرة» لكن ال يتوقف إسالم املرء عليه‪.‬‬
‫يبيتعلا هللا دبع‬

‫حاول إقناع مطلقته بختان ابنهام‪ ،‬لكنها رفضت بشــدة‪ ،‬وظلت تقول له «هذه املســألة‬
‫ْس َها مطلقاً»‪ .‬وتحدث إىل القاضية يف محكمة وسط لندن‪ ،‬التي قالت له «ال ميكن ختان‬ ‫ان َ‬
‫الطفــل مــن دون توافــق بــن الوالديــن»‪ ،‬وظلــت األم معارضــة‪ ،‬منــذ ارتدادهــا إىل املســيحية‬
‫بعــد الطــاق‪ ،‬وهــي تــرى أنهــا «عــادة إســامية»‪ ،‬ولهــذا ترفضهــا نكايــة بطليقها‪.‬‬
‫فكر مرارا ً أن يرسله إىل حالق باكستاين معروف ليختنه‪ ،‬ويضع طليقته أمام األمر الواقع‪،‬‬
‫لكــن محاميــه حــذره بأنــه يف بريطانيــا وليــس يف دولــة مســلمة‪ ،‬وســتعترب العمليــة جرميــة‪،‬‬
‫وأنــه ســيخرس يف املحكمــة‪ ،‬ولــن يتمكــن مــن رؤيــة ولــده مجــددا ً‪ ،‬إذ يســمح لــه القــايض حاليـاً‬
‫باصطحاب ابنه يومني يف األسبوع‪ ،‬عىل أن يظل مع والدته خمسة أيام‪ ،‬فكان منصور يرتدد‪،‬‬
‫بعد أن اعتاد عىل رؤيته‪ ،‬ويقول لنفسه «ال َع َوض وال القطيعة»‪ ،‬وليكن قراره بيده عندما يكرب‪.‬‬
‫كان يعزي نفسه بأن ابنه سيتمكن يوماً ما من الختان‪ ،‬عىل أبعد تقدير قبل الزواج‪ ،‬وظل‬
‫حريصـاً عــى تذكــر ابنــه بأنــه مســلم‪ ،‬فهــو يصــي أمامــه عــى الســجادة املكيــة التــي أحرضتهــا‬
‫لــه والدتــه‪ ،‬كــا يصطحبــه معــه إىل مســجد «ريجنتــس بــارك» أحيانـاً‪ ،‬ويعلمــه بعــض الكلــات‬
‫العربيــة‪ ،‬وكان الطفــل املســكني يعــاين بــن ناريــن‪ ،‬وبطبيعــة الحــال كطفــل مل يكــن يفهــم مــا‬
‫يحصــل‪ ،‬ويســعى إلرضــاء والديــه‪ ،‬فوالدتــه تريــده مســيحياً‪ ،‬تأخــذه إىل الكنيســة‪ ،‬وعمدتــه‬
‫هنــاك‪ ،‬بينــا والــده يــر عــى أســلمته يك ال يــرىب «كافــرا ً»!‬
‫حني جاء منصور الجئاً من الكويت يف ‪ 1991‬قبل ‪ 14‬عاماً‪ ،‬وهو يف العرشين من العمر‪،‬‬
‫توقــع أن تكــون لنــدن الحــل املثــايل لــكل مشــكالته‪ ،‬وكانــت ذروة ســعادته عندمــا حصــل عــى‬
‫الجنســية الربيطانيــة قبــل عــر ســنوات‪ ،‬بــدت نهايــة إنســانية للظلــم الــذي وقــع عليــه‪ ،‬وحق ـاً‬
‫مرشوعـاً‪ ،‬ورد اعتبــار لــه‪ ،‬هــو الــذي عــاش بــا جنســية «بــدون» كــا يطلــق عليــه يف الكويــت‪،‬‬
‫لكنــه مل يستســلم وهاجــر بحثـاً عــن مــكان لتحقيــق أحالمــه‪ ،‬كأي شــاب طمــوح يف عمــره‪.‬‬
‫تحمــل آالم الغربــة وعذاباتهــا وحــده‪ ،‬بعيــدا ً عــن أهلــه الذيــن يعيشــون يف الكويــت‪ ،‬يف‬
‫منطقــة الجهــراء‪ ،‬والدتــه ووالــده وســبعة مــن أشــقائه وشــقيقاته‪ ،‬اختــاروا البقــاء هنــاك رغــم كل‬
‫الظلــم الــذي يتعرضــون لــه‪ ،‬مــن تفرقــة عنرصيــة وسياســية واجتامعية «للكشــف عن جنســياتهم‬
‫األصليــة»‪ ...‬كــا تقــول الحكومــة‪ ،‬وهــي تضيّــق عليهــم‪ ،‬باعتبارهــم «غــر محــددي الجنســية»‬
‫أو «املقيمــن بصفــة غــر قانونيــة» حــن تتعســف يف تســميتهم‪ ،‬رغــم أن عائلتــه تعيــش يف‬
‫الكويت منذ نحو ‪ 50‬عاماً‪ ،‬ومتنعهم من مامرسة أبسط حقوقهم‪ ،‬كالزواج والتعليم والرعاية‬
‫الصحيــة والســفر واســتخراج األوراق الرســمية كشــهادة امليــاد ورخــص القيــادة‪ ،‬ناهيــك عــن‬
‫العمــل‪ ،‬وحتــى الوفــاة‪ ،‬إذ مينــع عليهــم تصديــر شــهادة وفــاة‪ ،‬عــى اعتبــار أنهــم غــر كويتيــن!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪144‬‬

‫اســتطاع منصــور التغلــب عــى كل املواقــف التــي واجهتــه‪ ،‬ويف ظــروف بالغــة الصعوبــة‪،‬‬
‫كان يعمــل يف غســل األطبــاق باملطاعــم يف النهــار‪ ،‬ويف الليــل يعــزف العــود يف املطاعــم‬
‫العربيــة حتــى الصبــاح‪ ،‬وحــن يتعــذر العمــل‪ ،‬كان يعيــش أحيان ـاً عــى ‪ 30‬جنيه ـاً إســرلينياً‬
‫فقــط‪ ،‬هــي قيمــة املنحــة األســبوعية التــي تقدمهــا لــه الحكومــة الربيطانيــة كالجــئ إنســاين‪،‬‬
‫ورغــم كل يشء‪ ،‬كان يرفــض أن يتحــدث أحدهــم بإســاءة عــن الكويــت‪ ،‬ويطلــع مرافقيــه عــى‬
‫صــورة باألبيــض واألســود لوالــده‪ ،‬وهــو ينظــم حركــة املــرور بالــروال القصــر‪ ،‬الــذي كان يرتديــه‬
‫رشطــة املــرور يف خمســينات القــرن املــايض‪.‬‬
‫ظــل مخلص ـاً للكويــت مســقط رأســه وموطــن صبــاه التــي مل يعــرف غريهــا‪ ،‬رغــم أنــه يف‬
‫قــرارة نفســه الثــكىل‪ ،‬كان يكرههــا بقــدر مــا يحبهــا‪ ،‬خصوصـاً وهــو يتعامــل مــع الكويتيــن يوميـاً‪،‬‬
‫فيذكرونــه ببــاده التــي تنكــره‪ ،‬إذ يعمــل حالي ـاً مرتج ـاً يف املكتــب الصحــي الكويتــي‪.‬‬
‫مل يهزمــه ســوى رؤيــة نفســه عاجــزا ً أمــام طفلــه‪ ،‬وهــو يرغــب بشــدة لــو يتمكــن مــن «طهــوره»‬
‫واالحتفــال بهــذه املناســبة‪ ،‬بعشــاء مشــهود يحــره األقــارب واألصدقــاء والجــران‪ ،‬كــا كانــوا‬
‫يفعلون يف الكويت‪ ،‬وتكريساً لولده مسلامً كامالً؛ وألول مرة يتخىل عن إجالله لهذه البالد‬
‫«املسيحية»‪ ،‬التي احتضنته واحرتمته وقدرته‪ ،‬وجعلته مواطناً بريطانياً‪ ،‬بعد أن حصل عىل‬
‫الجنســية‪ ،‬التــي ظلــت ممنوعــة عليــه يف بــاده العربيــة «املســلمة»!‬
‫متنــى لــو مل يحــر إىل لنــدن‪ ،‬وإال ملــا كانــت زوجــة مــن «أصلــه وفصلــه» ال تطيعــه وترتكــه‬
‫بهــذه الســهولة‪ ،‬ومل يفعــل ســوى الطلــب مــن زوجتــه الربيطانيــة أن تتحجــب كمســلمة ملتزمــة‪،‬‬
‫والتخيل عن بعض العادات والتقاليد اإلنجليزية‪ ،‬واصطحبها يوماً إىل «حسينية» يف منطقة‬
‫«هــارو» حيــث تعيــش جاليــة كبــرة مــن «ال ِبـ ُدون» القادمــن مــن الكويــت‪ ،‬وبــدا أن االنســجام‬
‫بينهــا اختفــى متام ـاً بعــد الــزواج واإلنجــاب‪ ،‬إذ انفصلــت عنــه إثــر والدة الطفــل وطلبــت منــه‬
‫الطــاق‪ ،‬ومل يعــودا يلتقيــان ســوى يف املحاكــم‪ ،‬لتســوية أي خــاف صغــر بينهــا‪ ،‬خصوصـاً‬
‫حــول حضانــة «حامــد» وتربيتــه‪ ،‬وختانــه بالطبــع‪.‬‬
‫أحس باالغرتاب مجددا ً‪ .‬بدا منكرسا ً‪ ،‬لكنه يتحاىش إظهار مشاعره‪ .‬املهم لديه أن يحيط‬
‫حامدا ً بالرعاية‪ ،‬يوفر له كل ما يطلب‪ ،‬ويجعله أسعد شخص يف العامل‪ ،‬حينام يحرضه إىل‬
‫شــقته كل مســاء أربعاء‪ ،‬ليبقى معه الخميس والجمعة‪ ،‬يك يربيه عىل الطريقة اإلســامية‪...‬‬
‫ويعلمــه بعــض الكلــات العربيــة‪ ،‬ويطلعــه عــى صــور العائلــة يف الكويــت؛ ويف ذكــرى ميــاده‬
‫الرابــع‪ ،‬أحــر لــه «دشداشــة» كويتيــة وغــرة وعقــاالً‪ ،‬وفــرح الطفــل كثريا ً بهــذه املالبس الغريبة‬
‫بالنســبة له‪ ،‬وظل يرتديها طوال الوقت‪ ،‬بل ورفض أن ينزعها حتى أثناء النوم!‬
‫كان يتأملــه وهــو نائــم‪ ،‬بعــد يــوم طويــل‪ ،‬أخــذه فيــه إىل شــارع «إيدجــوار» حيــث املحــات‬
‫‪145‬‬ ‫ناتخلا‬

‫واملخــازن واملالهــي العربيــة‪ ،‬أكال «الشــاورما» وتريضــا يف حديقــة «هايــد بــارك»‪ ،‬واســتأجرا‬
‫يبيتعلا هللا دبع‬

‫دراجــة هوائيــة‪ ،‬وأطعــا البــط عــى ضفــاف البحــرة‪ ،‬قبــل أن يعــودا إىل املنــزل‪ ،‬ويحمــا‬
‫مالبســهام لغســلها يف املغســلة العموميــة يف منطقــة «ماريلبــورن»‪ ،‬إذ ال ميتلــك منصــور‬
‫غســالة يف شــقته املتواضعة‪ ،‬ثم أعد طبق «باســتا» تناوالها يف الســابعة مســاء‪ ،‬وذهبا يف‬
‫غفــوة طويلــة‪.‬‬
‫عندمــا اســتيقظ منصــور اكتشــف أن الوقــت تأخــر‪ ،‬وأنــه تجــاوز موعــد إعــادة حامــد إىل‬
‫منــزل والدتــه‪ ،‬اتصــل معتــذرا ً‪ ،‬لكــن طليقتــه ظلــت تتذمــر ألنهــا انتظــرت عودتــه‪ ،‬وذكّرته باالتفاق‬
‫املوقــع بينهــا عنــد القــايض حــول مواعيــد االحتفــاظ بالطفــل‪ ،‬فأوضــح لهــا أنــه نائــم ومل يشــأ‬
‫إيقاظه‪ ،‬ورجاها لو تركته يقيض الليل معه‪ ،‬استثناء لهذه الليلة وحسب‪ ،‬ووعدها بإحضاره‬
‫يف الصبــاح الباكــر‪.‬‬
‫حمــل ابنــه مــن فــوق األريكــة وتوجــه بــه إىل حجــرة النــوم‪ ،‬وضعــه عــى الفــراش ومل يغــادر‪،‬‬
‫تســمر أمامــه‪ ،‬ومل ينــم تلــك الليلــة‪ ،‬عــاش عذاب ـاً روحي ـاً‪ ،‬وقلق ـاً وجودي ـاً‪ .‬فكــر طوي ـاً‪ ،‬وشــعر‬
‫باملــرارة والخــذالن‪ ،‬فــكان يــرى يف عضــو ابنــه الذكــري غــر املختــون‪ ،‬رمــزا ً لكرامتــه املهــدورة‪،‬‬
‫وامتهاناً لدينه‪ ،‬وقرر‪ ،‬أخريا ً‪ ،‬أن يكون حامد معه إىل األبد‪ ،‬وأن يقيم له حفل «طهور» كبريا ً‪...‬‬
‫يف الكويت‪ .‬نعم يف الكويت‪ ،‬بني عائلته وأهله واألصدقاء والجريان‪ ،‬ولن يكون تحت رحمة‬
‫القــايض اإلنكليــزي يك يتمكــن مــن رؤيــة طفلــه‪.‬‬
‫كانت الخطة التي اختمرت يف رأســه أن يعيده إىل والدته صباحاً‪ ،‬يك تطمنئ له متاماً‪،‬‬
‫لكنه سيبدأ بإجراءات السفر فورا ً‪ ،‬وسيحجز عىل طائرة الخطوط الجوية الكويتية يوم الخميس‬
‫املقبــل ‪ ،2005-7-7‬التــي تقلــع نحــو الثانيــة عــرة والنصــف صباح ـاً‪ ،‬فهــو يعــرف مواعيــد‬
‫الطائــرات الكويتيــة بحكــم عملــه مرتج ـاً يف املكتــب الصحــي الكويتــي‪ ،‬ويتعامــل يومي ـاً مــع‬
‫املــرىض‪ ،‬ويظــل معهــم لحــن عودتهــم إىل بالدهــم‪ ،‬وســيهرب مبعيــة ابنــه إىل الكويــت‪ ،‬ولــن‬
‫يعــود مجــددا ً‪ ،‬خصوص ـاً أنــه يحمــل جــواز ســفر بريطانيــا‪ ،‬وال يحتــاج إىل تأشــرة دخــول إىل‬
‫معظــم دول الخليــج!‬
‫جرت األمور كام رتب لها‪ ،‬وعشية يوم السفر قىض ليلته األخرية يف لندن عند صديق له‬
‫يقيم يف شقة فوق مطعم «ماكدونالد» يف شارع «إيدجوار»‪ ،‬القريب من الحي الذي كان‬
‫يعيــش فيــه يف منطقــة «ماريلبــورن»‪ ،‬بعــد إنهائــه جميــع التزاماتــه‪ ،‬ووداعه أصدقاءه املقربني‪،‬‬
‫وبالطبــع مل يكــن ابنــه يــدرك مــا يحــدث‪ ،‬كان مبتهجـاً مــا دام مبعيــة والــده‪ ،‬وال يعلــم أنــه رمبــا‬
‫لــن يشــاهد والدتــه مجددا ً‪.‬‬
‫مل تكــن محطــة «إيدجــوار» يف «شــارع العــرب» كــا يســميه الربيطانيــون‪ ،‬تبعــد كثــرا ً عــن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪146‬‬

‫البنايــة التــي قضيــا فيهــا ليلتهــا األخــرة‪ ،‬توجهــا إليها ســرا ً عىل األقدام‪ ،‬بينام‬
‫يســحب منصــور حقيبتــن برفقــة الصديــق صاحــب الشــقة‪ ،‬اشــرى تذكرتــن‬
‫لقطــار األنفــاق الــذي ســيقله إىل القاعــة الرابعــة يف مطــار هيــرو‪ ،‬حيــث تقلــع‬
‫طائــرة الخطــوط الجويــة الكويتيــة‪ ،‬ل ـ ّوح لصاحبــه وهــو يجلــس عــى مقعــده‪،‬‬
‫وأجلــس إىل جانبــه حامــد‪ ،‬الــذي كان ســعيدا ً يلهــو بالحقائــب‪.‬‬
‫بانتظــار أن يتحــرك القطــار‪ ،‬كان منصــور يتأمــل املوجوديــن‪ ،‬كأنــه يــودع‬
‫لنــدن وأهلهــا‪ ،‬يتأمــل الــركاب بحــب‪ ،‬وتبــادل االبتســام مــع عجــوز تجلس أمامه‪،‬‬
‫أفسحت املكان بوداعة لشاب ذي سحنة أسيوية‪ ،‬بدا ساهامً ومرتبكاً‪ ،‬رمبا‬
‫ألنــه بصعوبــة لحــق بالقطــار‪ ،‬جلــس إىل جانبهــا بعــد أن أنــزل حقيبــة صغــرة مــن‬
‫ظهــره ووضعهــا عــى حجــره‪ ،‬كانــت الســاعة تشــر إىل الثامنــة وتســع وأربعــن‬
‫دقيقــة صباحـاً‪.‬‬
‫يف مســاء اليــوم ذاتــه‪ ،‬كانــت فضائيــة «الجزيــرة» القطريــة تبــث رشيط ـاً‬
‫مصــورا ً ألحــد منفــذي الهجــات االنتحاريــة التــي شــهدتها لنــدن صبــاح اليــوم‪،‬‬
‫ويدعى محمد صديق خان ‪ 30‬سنة‪ ،‬وصف نفسه بالجندي‪ ،‬ظهر يف الرشيط‬
‫يرتدي عاممة ويتحدث مبارشة إىل الكامريا‪ ،‬وقال يف كلمة سجلها بالصوت‬
‫والصورة باللغة اإلنجليزية «إن الحكومات املنتخبة دميقراطياً تقتل املسلمني‬
‫يف جميــع أنحــاء العــامل» وإن «مــن حقنــا أن نثــأر إلخواننــا املســلمني وأخواتنــا‬
‫املسلامت»‪.‬‬
‫كــا احتــوى الرشيــط كلمــة ألميــن الظواهــري‪ ،‬الرجــل الثــاين يف تنظيــم‬
‫القاعــدة‪ ،‬أشــاد فيهــا بتفجــرات العاصمــة الربيطانيــة ووصفهــا ب ـ «غــزوة لنــدن‬
‫املباركــة»‪ ،‬وهــدد بشــن هجــات جديــدة‪.‬‬
‫وتعتقد الرشطة الربيطانية أن خان‪ ،‬أكرب املفجرين سناً‪ ،‬هو املسؤول عن‬
‫تفجــر محطــة قطــار أنفــاق «إيدجــوار رود»‪ ،‬التــي أودت بحيــاة ســتة أشــخاص‬
‫وجرحــت ‪ 120‬آخريــن‪ ،‬وأضــاف خــان بلهجــة أهــل منطقــة يوركشــر بانجلرتا «إن‬
‫كلامتنا ميتة‪ ،‬حتى نبعث فيها الحياة بدمائنا‪ ،‬وقد وهبت وأمثايل كل يشء‬
‫يف سبيل معتقداتنا»‪.‬‬
‫فادي عزام‬

‫الشل ّكة‬

‫‪-1-‬‬
‫ما إن انقىض منتصف الليل‪ ،‬حتى حزم أمر قتلها‪.‬‬
‫نزل الدرجات العرشين‪ ،‬من غرفته إىل فناء الدار املضاءة بضوء قمر حزيراين‬
‫كامل االستدارة‪.‬‬
‫هرس الرصصار الذي ميأل املكان توترا ً‪ ،‬فأعاد الهدوء الحذر إىل الدار الغارقة‬
‫بالرتقب‪ ،‬وأعصابه العاوية معاً‪.‬‬
‫م َّزق أشالء الحرشة بقوة مبالغ فيها‪ ،‬فدخلت من ثقب حذائه لزوجة المست‬
‫باطــن قدمــه؛ نضــح منــه عــرق بــارد‪ ،‬واحتــاج لثــوان معــدودة ‪ -‬بــدت وكأنهــا عمــر كامــل‬
‫‪ -‬كيــا يرفــع رجلــه عـ ّـا علــق بها‪.‬‬
‫تنعكس عليه ظالل أغصان‬
‫ُ‬ ‫تابع الحركة املواظبة بإيقاع موتور إىل باب غرفتها‪،‬‬
‫شــجرة الزيتــون الهرمــة‪ ،‬وهــي تتحــرك بفعــل نســمة صيفيــة‪ُ ،‬م ْع ِتمــة وجهـ ُه املخطوف‬
‫مالمح شبحية تارة‪.‬‬
‫َ‬ ‫اللون تارة‪ ،‬ويتخللها ضوء فيض يضفي عليه‬
‫‪-2-‬‬
‫ف ـ ّرت طيــور الطأمنينــة‪ ،‬فأيقظهــا خفقــان الصمــت بعيــد هــدوء خلَّفــه انهــراس‬
‫الرصصــار‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪148‬‬

‫كانت راقدة باستعداد مبهم للموت‪ ،‬قبل أن تفيق من بقايا حلم مشوش‪.‬‬
‫شعرت بوقع خطواته مرشف ًة عىل باب غرفتها‪.‬‬
‫تذكــرت أنــه مل يدخلهــا منــذ شــهور‪ ،‬فرمقــت البــاب وســط الظــام‪ ،‬وارتاحــت ملــا تأكــدت مــن‬
‫تركهــا املزاليــج دون رتــاج أو إقفــال يزيــد مــن تعقيــدات دخولــه‪.‬‬
‫أخــذت نفس ـاً عميق ـاً وحبســته‪ ،‬ولكنهــا اضطربــت ملــا قــدرت أنــه ســرتطم بصنــدوق الحــى‪.‬‬
‫كيــف نســيت أن تزيحــه وتضعــه تحــت املطــوى؟‬
‫فأي حركة قد تبعرث‬
‫اعرتاها لوم حاد‪ ،‬لذعت به نفسها‪ ،‬لكنها آثرت الصمت املزنر باالرتباك‪ّ ،‬‬
‫تصميمه‪ ،‬أو ترخي عزميته الواهنة أصال‪.‬‬
‫متــددت رويــدا ً رويــدا متخلّي ـ ًة عــن تكورهــا بجــوار (مرتبــة املطــوى) املتعــايل باللحــف والفــرش‬
‫الصوفيــة الثقيلــة‪ ،‬وســط ظلمــة دامســة تطــر فيهــا بضــع ناموســات بطنــن يشــوش الصمــت‪ ،‬ولكنــه‬
‫ال مينعهــا مــن التمنــي أن يضــع حــدا ً آلالمــه وعذاباتهــا هــذه الليلــة‪ ،‬بتنفيــذ مــا عــزم عليــه فيقتلهــا بأيــة‬
‫طريقــة يراهــا مناســبة‪ ،‬يك ال يعــود خائبـاً كعادتــه يف الليــايل الســابقة‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫وصــل البــاب‪ ،‬حــدق بــه‪ ،‬كان ظلــه ينعكــس أمامــه‪ ،‬وتســاوت ‪ -‬كالعــادة ‪ -‬حوافــز املــي إىل‬
‫خنقهــا‪ ،‬مــع جــواذب االرتــداد إىل مســاحات أمانــه‪ .‬سـ ّمرته املســاواة أمــام البــاب الخشــبي املجـ ّرح‬
‫املشــطوب بســكاكني قامتــه التــي زادت ذراع ـاً عــن آخــر قيــاس‪ .‬حــدق يف أثــر الخــدوش الواضحــة‬
‫لالبتــكارات القدميــة لجدتــه‪.‬‬
‫كانــت تســنده إىل البــاب‪ .‬تحتـ ُ‬
‫ـال عليــه ليقــف ثابتــا‪ ،‬ويوقــف (زغولتــه) املشــحونة بالضحــك‪،‬‬
‫وتــأيت بســكينها‪ ،‬فتقيــس طولــه ُم ْحدثــة عالمــة عــى البــاب الخشــبي‪.‬‬
‫برهة خربطت وقوفه املتيبس‪ ...‬سمعها من أعامق ذاكرته وهي تضحك عىل شقاوته وتقول‪:‬‬
‫أنت تكرب برسعة‪ :‬بقي القليل وتسد الباب‪.‬‬
‫تلحقه من مكان إىل آخر وهي تحمل بيدها كأساً وصحناً وتحاول إغراءه‪:‬‬
‫كأس الحليب والبيضتان‪ ،‬الوجبة الالزمة يك يسد املرء الباب‪.‬‬
‫فيــزدرد البيضــة لقمــة واحــدة‪ ،‬ويكــرع كــوب الحليــب الشــهي‪ ،‬بعــد أن يزيــح «القوشــة» الدســم‬
‫املتخــر عــى ســطح الحليــب الســاخن‪.‬‬
‫وبعدهــا‪ ،‬تعيــد تثبيتــه عــى البــاب‪ ،‬وتقيــس طولــه‪ .‬بــدت ســنوات عمــره مشــطوبة بآثــار قدميــة‬
‫تعيــد لــه ذاكــرة هشــة‪ ،‬تنــز أمل ـاً ال بــد مــن الخــاص منــه‪.‬‬
‫هـ َّز رأســه بعنــف مخرجـاً أصواتهــا القدميــة‪ ،‬دافــرا ً (شــخابيط) ســنيه املوشــومة عــى البــاب‪ ،‬غــر‬
‫‪149‬‬ ‫ ةّكلشلا‬

‫عابــئ بأزيــزه‪ ،‬داخـاً بــكل عزمــه‪ ،‬دافعـاً نفســه يف العتمــة التــي تبــدد جــز ٌء منهــا مــع دخولــه املباغــت‬
‫مازع يداف‬

‫برفقــة شــعاع مــن ضــوء القمــر الحزيــراين الكامــل االســتدارة‪ ،‬واختفــى طنــن النامــوس‪...‬‬
‫‪-4-‬‬
‫قبل سنوات عديدة‪ ،‬أخربته بحكاية الصندوق‪:‬‬
‫كنت يف العارشة يا «ستي»‪ ،‬يوم أعطوين صندوقاً فيه تسع حصوات وحجر واحد‪.‬‬
‫ُ‬
‫انظر‪ ،‬هذه واحدة من»تل شيحان»‪ ،‬سوداء هشة‪ ،‬وضعوها يوم أزاروين مقام الويل املبارك‪.‬‬
‫وهاتان صوانيتان من الوعر الغريب‪ ،‬فيهام عرق من العقيق‪.‬‬
‫وهذا حجر بازلتي معجون بلحم وعظم جلبوه من «وعر الهبًّارية»‪ ،‬أما هذا الحجر املشحوف‪،‬‬
‫سقط فوقه أىب ودخل نخاعه يوم والديت‪ ،‬واحتفظوا به دليالً عىل شؤم حضوري املستطري‪.‬‬
‫يف ذكــرى املــوت تلــك‪ ،‬يضعــون حجــرا ً‪ ،‬حتــى أصبحــت عــرة بالتــام والكــال‪ .‬كل واحــد يعــد‬
‫ســني عمــره بطريقتــه‪ .‬لكــن أعاممــي‪ ،‬قــرروا عـ ّد ســنوات عمــري بالحــى‪.‬‬
‫وأنــا أعجبتنــي الفكــرة‪ ،‬فتابعــت مــا قامــوا بــه‪ .‬كنــت أنتقيــه من بني مجموعة أجمعها طوال العام‪،‬‬
‫ويف ذكرى مولدي‪ ،‬أو وفاة أيب‪ ،‬أدخله إىل الصندوق الصغري‪.‬‬
‫هذا الصندوق الرابض يف العتمة‪ ،‬يحوي يف داخله واحدا ً وسبعني حصاة‪ ،‬هي عدد سنوات‬
‫عمــري‪ ،‬وذكــرى ســنوات مــرع أيب عــن ظهــر بغلتــه‪ .‬وأنــا اآلن يف متــام الرعــب مــن أن يتعــر بها‪ ،‬وهو‬
‫القادم لقتيل هذه الليلة!‬
‫‪-5-‬‬
‫روائــح غرفتهــا املباغتــة اخرتقتــه‪ ،‬والعتمــة ظللــت وجهتــه‪ ،‬والضــوء «املــررش» يف أرجــاء الغرفــة‬
‫يزيــد إرباكــه‪ .‬استنشــق عمــرا ً كام ـاً أفنــاه بــن هــذه الروائــح‪ ،‬فانفتــح رتــاج ذاكرتــه‪ ،‬وترسبــل بزخــات‬
‫إضافيــة مــن العــرق‪ ،‬رطبــت مفاصلــه‪ ،‬وفكــت تخشــبه‪ ،‬فأخــذ يتقــدم قليــا ويرتاجــع أكــر‪ ،‬دون أن‬
‫يجــرؤ عــى املــي املحتــوم‪.‬‬
‫كان يعــرف مكانهــا‪ ،‬واثقـاً مــن أنهــا مســتيقظة تنتظــره! كان يريــد إمتــام قتلهــا وإنهــاء هــذه املهزلــة؛‬
‫ويف غمــرة هيجانــه املحمــوم‪ ،‬اصطــدم متعــرا بصندوقهــا مبعــرا ســنوات عمرهــا يف األرجــاء‪.‬‬
‫خــرج راكض ـاً مســتهديا بضــوء القمــر‪ ،‬وانــداح مــا بداخــل معدتــه مفرغــا إيــاه تحــت جــذع شــجرة‬
‫الزيتــون الهرمــة‪ ،‬ليهتــدي بعــد خروجــه املهــزوم إىل املرحــاض‪ ،‬فاســرد بــه هشاشــته وأعــاد لألنفــاس‬
‫ورضبــات القلــب وارتعــاد األوصــال‪ ،‬انتظامهــا‪ .‬ثــم لتقــوده قدمــاه مرتنحـاً إىل «علّيتــه»‪.‬‬
‫ـض عليــه البــؤس مــن كل االتجاهــات‪ ،‬فبــدأ بتكســر مــا تطالــه يــداه بح ّمــى مجنونـ ٍة انتهــت ‪-‬‬
‫انقـ ّ‬
‫كالعادة ‪ -‬بالنشيج الشحيح‪ ،‬للبدء من جديد باستحضار األسباب األشد إقناعاً‪ ،‬والبحث الدؤوب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪150‬‬

‫عــن وســيلة أكــر رأفــة‪ ،‬لقتــل الجــدة املحتفظــة بخمســن لــرة ذهبيــة‪ ،‬وأربــع «مجيديّــات»‪ ،‬وقرصــن‬
‫مــن الفضــة‪ ،‬يف مــكان ال يعرفــه‪ .‬الجـدّة املتمســكة بــه داخــل أســوار حنانهــا املزعــوم‪ ،‬ودغــل أيامهــا‬
‫البائــدة‪ ،‬محولــة أيامــه أملـاً ال منــاص مــن التخلــص منــه‪.‬‬
‫‪-6-‬‬
‫‪...‬ق‪ ،‬ط ِّرق‪ ،‬ط ِّرق‪ ...‬ط ِّر ْق ‪ ...‬ط ِّر‪ْ ...‬ق‬
‫ط ِّر ْق ‪ ...‬ط ِّر ْ‬
‫صوت الحجارة الصغرية‪ ،‬تجمعها من انتثارها يف الصباح الباكر‪.‬‬
‫‪ -‬سأعطيه إياها‪ ،‬هي له أصالً‪ ...‬لو أنه يطلبها اآلن! يا ليته يطلبها‪ .‬سأعطيه إياها؛‬
‫لكنــه ســيبذرها ميينــا وشــاال‪ ،‬وأنــا أتركهــا ليــوم عــازة‪ .‬ســيحتاجها قريبـاً‪( ...‬عمــرو ســبعة وعرشيــن‬
‫أو مثانيــة وعرشيــن‪ .‬بــس عقلــه عقــل ولــد)‪.‬‬
‫أنا التي تحملته طوال تلك السنوات وربيته بيدي‪ .‬هكذا يكافئني!‬
‫كل‪ ،‬الله يسامحه‪.‬‬
‫عىل ٍّ‬
‫‪ ..‬ط ِّر ْق ‪ ...‬ط ِّر ْ‬
‫‪...‬ق‬
‫مثل الحيط «ال من تم وال من كم»‪ .‬ال يكلمني‪ .‬ال يسلم عيل‪.‬‬
‫مــا عــاد يرتكنــي أخــرج‪ ،‬واللــه زهقــت روحــي مــن هــذا الحبــس‪ .‬ولكــن قلبــي يتقطــع كلــا رأيــت‬
‫ـر‪.‬‬
‫عافيتــه تنســل أمامــي‪( ...‬يرتبــس) بــاب البيــت إذا خــرج‪ ،‬وإذا عــاد يخبــط ويلبــط ويــرخ ويكـ ّ‬
‫ما دخيل أنا‪ ...‬قلت له يا‪« :‬نينتي يا تقربين»‪ ،‬خذ لك واحدة من ثوبنا‪ ...‬زمجر ودفعني‪:‬‬
‫خصك أنت‪ .‬جعر مثل الثور‪.‬‬
‫‪ -‬ما ّ‬
‫عرشون يوماً‪ ،‬ويدي مرضوضة مل أحركها‪.‬‬
‫‪ -‬صفي نيتك يا حبيبي‪ ،‬ال تيسء لجدتك التي وهبتك حياتها‪.‬‬
‫لفظت كلمة حياتها وهي ترقب تداعي أفكارها املرشعة عىل احتامالت األمل واملوت وتتذكر‬
‫كيف سبب لها هذا الطائش العابث كل هذه األكوام املقنطرة من األمل‪ .‬والله يسامحك‪.‬‬
‫قدحت عيناه مثلام يقدح الرشر‪ ،‬ورصخ‪:‬‬
‫‪ -‬الله ال يسامحني‪ ،‬وال يسامحك‪...‬‬
‫وراح إىل عليتــه يخبــط ويكــر‪ ،‬أنــا التــي ربتيــه‪ ،‬أعرفــه أكــر مــن نفســه؛ ربيتــه يــوم مــات أبــوه أبــو‬
‫نــص لســان وكانــت ابنتــي حام ـاً بــه‪( ...‬وماتــت وهــي عــا تولــدوا)‪.‬‬
‫ماتــت بســببه‪ .‬ماتــت وظلــت توصينــي بــه‪ .‬هــدرتُ حيــايت وأنــا أعمــل وأشــقى وأتحمــل مــا ال‬
‫يحتمــل‪ ...‬أعطيتــه كل يشء اآلن يــأيت ليحاســبني‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫ ةّكلشلا‬

‫فقــط أخفــي عنــه القليــل مــن امل ّدخــرات‪ ،‬أصــا هــي لــه‪ .‬ســأعطيه إياهــا عندمــا ينضــج ويكــر‬
‫مازع يداف‬

‫ويشــتغل‪ .‬مــا ظــل يل غــر هــذا الصنــدوق‪ ،‬حتــى يســرد صاحــب الوديعــة وديعتــه‪.‬‬
‫‪ ..‬ط ِّر ْق ‪ ...‬ط ِّر ْ‬
‫‪...‬ق‬
‫يــا اللــه‪ ،‬أنــت أودعــت وأنــت تأخــذ‪ ،‬خ ـ ْذ وديعتــك وال تجعلنــي أزيــد حجــرا ً آخــر عــى هــذه‪....‬‬
‫يــا‪ ...‬رب‪.‬‬
‫قالــت دعوتهــا بصــوت مســموع قاصــدة أن تصلــه‪ ،‬بــا أي لبــس‪ ،‬ومضــت إىل مشــكاة اللــن‬
‫تخضّ هــا خضــا‪ ،‬وأخــذت تنشــد نوحهــا املرتجــل‪ ،‬واألغــاين الحزينــة التــي ترتــل يف املآتــم عــادة!‬
‫‪-7-‬‬
‫رصه وتخبئُه‪ .‬رك َن يف عليًّته شاعرا ً بأنانية العجائز‪.‬‬
‫كان قد اكتشف الذهب فجأة؛ رآها تعده وت ّ‬
‫وبــدأت حياتــه تغــر ســياقها عندمــا اكتشــف أنهــا تحتكــم عــى ثــروة‪ ،‬يحتــاج لربعهــا ليغــر كل‬
‫بؤسه‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬ح َّملها أسباب تقاطر النكسات الواحدة بعنق األخرى‪ :‬فقدانه لخطيبته التي‬
‫مل ِ‬
‫تطقهــا يومــا‪ .‬ســوء معاملتهــا لرفاقــه حــن يــزوره‪ .‬ضيــق نفســها باآلخريــن‪ ،‬والســخرية املبطنــة التــي‬
‫يوجههــا إليهــا؟ كلمــن‪ :‬يلقاهــا النــاس‪.‬‬
‫ونهــض بؤســه يســتحثه‪ ،‬وقــد أضحــت ســبباً لــكل بــاء يدخــل أتونهــا‪ ،‬فانقلــب الــود الشــفيف‪،‬‬
‫يل للحفيــد اليتيــم البــار بجدتــه‪ ،‬إىل حقــد مضمــر‪.‬‬
‫والتعلــق املثــا ّ‬
‫أمــا كيــف تســلل إيعــاز قتلهــا إىل حياتــه‪ ،‬وأصبــح هاجســا محمومــا! فلــم يعــد يتذكــر؛ وكأنــه عــاش‬
‫أيامــه كلهــا لتنفيــذ هــذا األمــر‪ .‬وكأنــه خلــق لقتلهــا! كان عليــه أن يفعــل ذلــك منــذ زمــن طويــل‪ ،‬فقــد‬
‫بــات يخــى أن متــوت يومــا ميتــة طبيعــة‪ .‬كان يريــد خنقهــا‪ ،‬واالنتقــام لــكل يشء!‬
‫أحقا يريد االنتقام منها أم إنها من تريد االنتقام منه؟‬
‫من انانيته وسخفه‪ ،‬من فشله الدائم بكل يشء بعد أن أمدته بكل يشء أهذا جزاء املعروف‪،‬‬
‫أهــذا مــا تســتحقه الجــدة مــن نكــران الحفيــد؟! أهــذا مــا يريــده قتلهــا قبــل آوان حضــور عزرائيــل كانــت‬
‫مرتفة باملشــاريع النهائية للحياة‪.‬‬

‫حافل أيام شبابها‪ ،‬فشهرتها معروفة يف كل املنطقة‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫يف الحقيقة كانت الجدة شلّكة لها تاري ٌخ‬
‫قبــل أن تتقاعــد ويحيلهــا الزمــن مــن قــوادة متمرســة تديــر ماخــورا ً رسيـاً ‪ -‬هــو نفســه هــذا البيــت الــذي‬
‫يعيشان فيه معا‪ -‬إىل جدة لطيفة مكللة بالذكريات املنتقاة الخالية من (الرشمطة)‪.‬‬
‫مالمــح الرجــال الذيــن مــروا عــى البيــت‪ ،‬ال تــزال تــرق يف ذاكرتــه‪ .‬كان يراهــم يدخلــون خلســة‬
‫ويخرجــون همســا‪ ،‬وأحيانــا يصادفونــه وهــو يتبــول تحــت شــجرة الزيتــون‪ ،‬أو يجلــس لينهــي أعــاال غبية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪152‬‬

‫تكلفــه بهــا‪ ،‬فيلحمســون عــى رأســه‪ ،‬وينقدونــه بضــع فرنــكات تفــرح طفولتــه‪ .‬وحــن صار يدرك معنى‬
‫أن يقيض الغرباء ليلتهم يف الدار؛ بدأ يعجب بأعامل الجدة ويشعر بسطوتها‪ ،‬ويرى كيف تحرض‬
‫ن أيامــا يف املنــزل‪ ،‬ثــم يغــادرن‪.‬‬
‫نســاء مــن قــرى بعيــدة‪ ،‬ميكـ َ‬
‫غل قديم‪ ،‬نظرات إدانة دامغة‪ ،‬سخرية مبطنة تقابله أينام حل‪ ،‬خطيبة أحبها‬
‫يف داخله عصارة ّ‬
‫بكل ما أويت من قوة‪ ،‬تركته دون سبب واضح عازية ذلك لوضعه املادي السيئ‪.‬‬
‫تفاصيــل مضمــرة يف محيــط ال يرحــم وال ينــى‪ ،‬لكــن كل يشء انقلــب رأسـاً عــى عقــب‪ ،‬حتــى‬
‫صفعتــه تلــك الجملــة القارصــة حــن تشــاجر مــع «الدكنجــي» وشــتمه قائــا‪« :‬الرشمطــة بدمك يا ابن‬
‫املنيوكــة لــوال مــا أنــا خايــف تكــون أبنــي كنــت أريتــك مــا ال تحــب»‪.‬‬
‫طعنته الشتيمة‪.‬‬
‫اخرسته متاما‪ ،‬وجعلته ينسحب من مواجهة خارسة‪.‬‬
‫ـش مل تع ِنــه يومـاً‪ ،‬لكــن حياتــه صــارت تتمحــور حولهــا‪ ،‬فأضحــى أي ســبب‬
‫كانــت حقيقــة مــن غبـ ٍ‬
‫ســبباً وجيه ـاً لقتــل الجــدة الفاحشــة الــراء‪ ،‬وذات التاريــخ الحامــض‪ ،‬فعزلهــا ثــم قاطعهــا؛ ومل تــدم‬
‫األحجية طويال فحلًّت رموزها رسيعا‪ ،‬ووارت كنزها أبعد من تخميناته‪ ،‬واستكانت لقدرها‪ .‬تتأمله‬
‫كلــا دخــل أو خــرج‪ ،‬وهــي تــرى الطفــل الوديــع يغــدو رجــا يف الثامنــة والعرشيــن مــن العمــر‪ ،‬وقــد نــاء‬
‫يئ خطــف مــن وجهــه كل مالمــح الحيــاة‪.‬‬
‫تحــت وطــأة ثقــل غــر مــر ٍّ‬
‫‪-8-‬‬
‫لن أفعلها ليال‪ .‬كان استنتاجا يقرب ح َّد االكتشاف؛ خرج من فمه مسموعا‪ ،‬فهجعت مخاوفه‪،‬‬
‫ووقف يذرع املمر الهادئ الفارغ منصتا إىل‪:‬‬
‫ط ِّر ْق ‪ ...‬ط ِّر‪ْ ...‬ق‪ ،‬ط ِّرق‬
‫ملــاذا مل أفكــر بذلــك مــن قبــل؟ ملــاذا القتــل مســتحب يف الليــل؟ أصــا ال أســتطيع البقــاء مــع‬
‫جثتهــا حتــى الصبــاح‪.‬‬
‫‪ -‬ســتكون متمــددة مبحــاذاة (املطــوى) يف موعــد قيلولتهــا‪ ،‬وكل مــا يلــزم هــو أن أهيــل الفــرش‬
‫واللحــف‪ ،‬وضغطــة خفيفــة مــن فــوق‪ ،‬وينتهــي األمــر‪.‬‬
‫أحس بارتياح غامر‪ ،‬وهدوء مؤقت ألعصابه املعطوبة‪ .‬وانتظر بفراغ مبهم اقرتاب الظهر‪ ،‬حامال‬
‫وجهه بني كفيه‪ ،‬متأمال حذاءه املخزوق‪ ،‬متصببا عرقا من القيظ‪.‬‬
‫أي نســمة‪ ،‬كانــت الظهــرة‪ ،‬حــن عــاود نزولــه املحــزوم بــاإلرصار‪ ،‬وبخطــوات قلقــة صــارت أكــر‬
‫بــا ّ‬
‫ثباتــا مــع اقرتابــه مــن بــاب الغرفــة املفتوحــة‪.‬‬
‫شاهدها متكومة تحت (املطوى) والغطاء الخفيف إىل فوق رأسها‪ .‬تقدم متجنبا ً صندوقها‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫ ةّكلشلا‬

‫أمسك باالل ُحف والف ُرش الثق ّيلة بيدين كليلتني‪ ،‬وجسد مقوس‪ .‬أ َه َ‬
‫ال الكومة‬
‫مازع يداف‬

‫الثقيلــة عليهــا وقفــز فوقهــا‪ ،‬ينــط ويضغــط بــكل قــوة؛ يكـ ُّز عــى أســنانه مدميــا شــفته‬
‫وخف وزنه‪.‬‬
‫الســفىل حتــى ارتخــى الهثــا‪ّ ،‬‬
‫ســالت مــن فمــه (ريلــة) حمــراء دبقــة‪ .‬فتــح عينيــه عــى (املطــوى) الفــارغ‪ ،‬فــرأى‬
‫كيــس الذهــب محشــورا يف الزاويــة‪.‬‬
‫شعر أنه مل يعد يريده‪ .‬وكأنه مل يكن يريده‪ .‬أشاح وجه ُه جهة الباب‪.‬‬
‫رآهــا ‪ -‬أو خ َّيــل إليــه ‪ -‬أنهــا هــي الواقفــة عــى العتبــة‪ ،‬مســتندة عــى عكازهــا‪،‬‬
‫وبيدهــا يتــدىل حــذاء أســود جديــد‪ ،‬وكأنهــا اشــرته للتــو‪.‬‬
‫قفــز ســؤال طفــويل ســاذج إىل عقلــه املشــغول باســتحضار رشيــط الذّكريــات‪:‬‬
‫هــل ســيكون عــى مقــاس قدمــه؟ حــاول مســح الريلــة املالحــة عــن فمــه‪ ،‬فلــم يجــد‬
‫وجهــه‪ .‬مل تتحــرك يــده‪ ،‬أو يتشــهل ظهــره‪ .‬أنصــت إىل شــهيقه‪ ،‬فوجــده دون زفــر!‬
‫كان بال تعب‪ .‬جثا عليه ثقل غامض؛ تثبت حينها من حقيقة مل تدهشه كثريا‪،‬‬
‫ولكنها أثارت فضوله‪ :‬إنه هو املمدد تحت اللحف الصوفية الثقيلة‪ ،‬وليست هي!‬
‫تذكــر كيــف كان يتســلل لفراشــها وينعــم برائحتهــا متضمخــة باألمــان‪ ...‬تحــرر‬
‫جسده من أوزان املطوى وبدأ يختفي شعوره بوجود البطانيات واللحف‪ .‬تقدمت‬
‫نحــوه‪ ،‬وملــح تلــك االبتســامة املعجونــة باملكــر‪...‬‬
‫حينها‪ ،‬امتدت يدها القاســية لتتثبت من خروج آخر النبض من جســده البارد‬
‫مثــل الثلج‪.‬‬
‫رامي سويد‬

‫قصتان‬

‫ياسمني‬
‫أنهــت ياســمني ذات الخمســة والعرشيــن عامـاً رحلتهــا الطويلــة مــن «حــي‬
‫مساكن هنانو» يف أقىص شامل رشق حلب حيث تقيم إىل «حي الكالسة»‬
‫وسط املدينة‪.‬‬
‫نزلــت مــن ذلــك الســرفيس املمتلــئ بالــركاب‪ ،‬لتدخــل يف غــار الســيل‬
‫البرشي الجارف الذي ينساق يومياً باتجاه «معرب املوت»‪ .‬تجاوزت الطريق‬
‫املوصــل مــن ســاحة الكالســة إىل بســتان القــر وصــوالً إىل كــراج الحجــز‬
‫املركــزي حيــث يقــع املعــر‪ .‬آالف «بســطات» الخضــار واملعلبــات واملــواد‬
‫التموينيــة والخبــز‪ ،‬الكثــر مــن املســلحني‪ ،‬وآالف الخارجــن والداخلــن إىل‬
‫مناطــق ســيطرة النظــام حيــث يقضــون حوائجهــم يف املؤسســات الحكوميــة‪.‬‬
‫تجــاوزت ياســمني حاجــز الثــوار األخــر‪ ،‬تقدمــت مــع جمــوع املتقدمــن‬
‫نحــو املنطقــة املحايــدة التــي يطــل عليهــا قناصــو النظــام! بــدأت الخطــوات‬
‫بالتســارع‪ ،‬والقلــوب بالخفقــان الرسيــع‪« ،‬كالعــادة»!‬
‫طلقــات قليلــة‪ُ ،‬ســمع أزي ُزهــا مــن الجهــة الغربيــة‪ ،‬كانــت كفيل ـ ًة بتحويــل‬
‫املــي املتســارع لجمــوع العابريــن إىل هرولــة‪ ،‬ورمبــا إىل ركــض‪ ،‬وأحيان ـاً‬
‫‪155‬‬ ‫ناتصق‬

‫إىل انبطــاح‪.‬‬
‫ديوس يمار‬

‫وصلــت ياســمني‪ ،‬أخــرا ً‪ ،‬إىل حاجــز جيــش النظــام الــذي يســتقبل الداخلــن إىل حــي‬
‫“املشــارقة»‪ ،‬أوقفتهــا تلــك الفتــاة النحيلــة‪ ،‬القصــرة‪ ،‬التــي أوكلــت إليهــا ‪ -‬اليــوم ‪ -‬مهمــة‬
‫تفتيــش النســاء الداخــات عــر املعــر‪.‬‬
‫اقرتبت منها‪ ،‬وطلبت حقيبتها الشخصية‪.‬‬
‫ياســمني قدمــت لهــا الحقيبــة‪ ،‬فبــدأت بالعبــث بهــا‪ .‬أخرجــت الهاتــف النقــال‪ ،‬تفحصتــه‬
‫عــى عجــل‪ ،‬ثــم رمتــه داخــل الحقيبــة‪ .‬ثــم قالــت لياســمني املنكمشــة عــى نفســها‪:‬‬
‫ليش خايفة يا حلوة! قريب خليني فتشك!‬
‫اقربــت ياســمني مــن تلــك الفتــاة‪ ،‬انتبهــت إىل املســدس الحــريب الــذي تضعــه يف‬
‫خرصهــا‪ .‬زكمــت أنفهــا رائحــة عطرهــا القويــة‪ .‬وأثــار اســتغرابها ذلــك «املكيــاج» الفاقــع الــذي‬
‫تضعــه عــى وجههــا‪.‬‬
‫ـس جســد ياســمني النحيــل‪ ،‬فتشــت محيــط خرصهــا‪ ،‬ثــم بــدأت بنقــل‬ ‫بــدأت الفتــاة بجـ ّ‬
‫يديها إىل صدرها! أعادت املداعبة أكرث من مرة‪ ،‬ثم مدت يديها إىل مؤخرتها‪ ،‬تحسست‬
‫أردافهــا‪ ،‬ثــم همســت يف أذنهــا ســائلةً‪:‬‬
‫إش رأيك أعزمك ع العشا اليوم؟‬
‫ذعرت ياسمني‪ ،‬ودفعتها بكلتا يديها‪ ،‬بدأت دموعها بالسيالن‪.‬‬
‫قالت بيأس‪ :‬حيل عني‪ ،‬أنا مو شغل هالقصص‪.‬‬
‫تراجعــت الفتــاة‪ .‬أخرجــت علبــة ســجائر مــن جيــب بنطالهــا الخلفــي‪ .‬أشــعلت واحــدة‬
‫واقرتبــت منهــا وهمســت لهــا برجــاء‪:‬‬
‫الله يخلييك وطي صوتك‪ .‬إذا ما بدك‪ ،‬خلص‪ ،‬بال فضايح!‬

‫سمر‬
‫حلب ‪ -‬امللعب البلدي‪ ...‬وهي منطقة يسيطر عليها النظام‪.‬‬
‫األهل ابنتَهم ذات الثالثني عاماً‪ ،‬التي قُتلت بقذيف ٍة سقطت عىل الحي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بعد أن ودع‬
‫سحب الوال ُد «أبو قيص» اب َن ُه قيص إىل الغرفة األخرى وانفرد به‪.‬‬
‫َ‬
‫طلــب منــه أن يثبــت‪ ،‬ويتامســك‪ ،‬ويتــرف برجولــة‪ ،‬ألن الضعــف يف موقــف كهــذا مييــع‬
‫األمــور‪ ،‬ويزيــد املأســاة أملـاً وأىس‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪156‬‬

‫قال له‪ ،‬والدموع تسيل عىل وجنتيه‪:‬‬


‫يــا ابنــي‪ ،‬نحــن عايشــن يف قلــب املعركــة‪ ،‬وكل واحــد يطلــع مــن بيتــه مرشــح ألن ما يرجع‪.‬‬
‫بقــى شــد حيّلــك‪ ،‬وخلينــا نفكــر شــلون بدنــا ناخــد أختــك عــى املقــرة! وال تنــس أن إكــرام‬
‫امليــت دف ُنــه يــا ابنــي‪.‬‬
‫قيص‪ ،‬وكأنه فوجىء بهذا الكالم‪ ،‬سأل أباه بخوف‪:‬‬
‫صحيح حجي‪ ،‬وين بدنا ندفنها لسمر؟‬
‫األب وضع يده عىل كتف قيص وقال له‪:‬‬
‫بدنــا ندفنهــا مبقــرة العائلــة‪ ،‬يف «قــايض عســكر»! ألن‪ ،‬هــون‪ ،‬مبناطــق النظــام مــا يف‬
‫مقابــر‪ .‬ملــا يطلــع الصبــاح مناخدهــا إىل املعــر‪ ،‬ومــن هونيــك‪ ،‬عــى مقربتنــا!‬
‫وأضاف‪ :‬ط ّول بالك يا ابني‪ ،‬هيك الله كاتب علينا‪ .‬أيش بدنا نعمل؟!‬
‫صباح ـاً‪ ،‬لفــت األم ابنتهــا القتيلــة بكفــنٍ أبيــض‪ ،‬بعــد أن تعاونــت مــع خاالتهــا عــى‬
‫ـتوي ســميك لتســرن‬ ‫ـاف شـ ٍ‬ ‫ـراش إســفنجي‪ ،‬وغطينهــا بلحـ ٍ‬‫تغســيلها‪ ...‬ثــم وضعنهــا عــى فـ ٍ‬
‫جســدها وتخفــن معاملــه‪ ،‬فهــن يعلمــن أن جثــان ســمر ســوف يوضــع عــى عربـ ٍة مــن عربــات‬
‫بيع الخضار‪ ،‬وسوف تسري العربة بها عرب معرب «كراج الحجز ‪ -‬بستان القرص»‪ ،‬وهو املعرب‬
‫الوحيــد الــذي يســتطيع الســكان ســلوكه ليعــروا مــن مناطــق ســيطرة النظــام باتجــاه املناطــق‬
‫التــي يســيطر عليهــا الثــوار‪ ،‬وبالعكــس‪.‬‬
‫بعــد دقائــق‪ ،‬وصــل أبــو قــي ومعــه العربــة‪ .‬بــدأ الشــباب مــن أخــوة القتيلــة وأبنــاء أختهــا‪،‬‬
‫بحمــل الفــراش مــع أبنــاء عمومتهــم‪ .‬نســاء “مــن الجــارات والقريبات» أطلقن الزغاريد مهنئني‬
‫العائلــة بابنتهم الشــهيدة‪.‬‬
‫وضــع الفــراش اإلســفنجي الــذي يحمــل جثــان ســمر‪ ،‬عــى العربــة بشــكل قُطــري لتتســع‬
‫له‪ .‬رشع مالك العربة بدفعها‪ ،‬بينام مىش أبو قيص وابنه بقربها‪ ،‬وصل الجميع إىل حاجز‬
‫قــوات النظــام األخــر قبــل دخــول املنطقــة املحايــدة التــي تفصــل بــن الطرفــن املتحاربــن‬
‫التــي يطــل عليهــا قناصــو جيــش النظــام‪ ،‬الجنــود أوقفــوا العربــة‪ ،‬ســأل أح ُدهــم صاحبهــا‪:‬‬
‫شو مح ّمل واله؟!‬
‫جثة شهيدة استشهدت مبارحة بالقصف ع امللعب!‬
‫الجندي‪ :‬شهيدة؟! هم هم‪ .‬عىل كل حال طيب‪ ،‬بدنا نفتشها‪.‬‬
‫انفعل قيص‪ ،‬صاح باملجند قائالً‪ :‬شو عم تاكل هوا والك! بدك تفتش جثة أختي!‬
‫‪157‬‬ ‫ناتصق‬

‫قاطعه والده ممسكاً بيده‪ :‬طول بالك يا ابني!‬


‫ديوس يمار‬

‫ثم وجه كالمه للجندي‪:‬‬


‫يا ابني هي ميتة وإلها حرمة‪ ،‬ما بيجوز أنتوا الشباب تكشفوا عليها!‬
‫هز الجندي رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ليــك عمــي أنــت مبــن عليــك ابــن حــال‪ ،‬هــاد ابنــك جــاي يزعــر ع ســانا‬
‫مــن عنــد الصبــح‪ ،‬نحنــا واقفــن هــون مشــان نفتــش النــاس‪ ،‬هيــك شــغلتنا‪،‬‬
‫بلــي مثــا انتــوا قلتــوا إنــو هــاي جثــة‪ ،‬وهيــة بالحقيقــة عبــوة ناســفة!‬
‫طيب‪ ،‬قال أبو قيص‪ ،‬القي لنا حل الله يرىض عليك!‬
‫التفت الجندي إىل زميله‪ ،‬وسأله‪:‬‬
‫أم رائد إميت بتجي؟!‬
‫ع التسعة‪ ،‬تسعة ونص‪ ،‬هيك يش‪.‬‬
‫التفت الجندي إىل أبو قيص‪:‬‬
‫من األخري‪ ،‬إذا ما بدكم تخلونا نفتشها استنوا أم رائد‪ ،‬يش ساعة بتجي‪،‬‬
‫ويلال بعدوا من الطريق‪ ،‬شوي تانية بيصري زحمة وبتعرقلوا حركة الناس!!‬
‫انفجــر أبــو قــي بالبــكاء‪ ،‬رصخ عاليـاً‪ :‬حســبي اللــه ونعــم الوكيــل‪ ،‬حســبي‬
‫اللــه ونعــم الوكيــل!‬
‫مصطفى تاج الدين املوىس‬

‫ما جرى مع الرفيق شاكر ليلة البارحة‬

‫رغــم أنهــا قــد غطــا يف نــومٍ عميــق منــذ حــوايل الســاعة‪ ،‬إال أن الرفيــق شــاكر‬
‫عضــو القيــادة العليــا للحــزب الحاكــم يف البــاد ظـ ّـل مســتلقياً جنبهــا عــى الرسيــر‬
‫ال ينــام‪ ،‬وإمنــا يزفــر بحنــق وهــو يرمقهــا بغيــظ كل برهــة‪.‬‬
‫فمنــذ مــا يقــارب الســاعة‪ ،‬عندمــا اســتلقى عــى رسيــره جانــب زوجتــه رشع‬
‫مبداعبتهــا‪ ،‬زوجتــه التــي بــدت لــه وكأنهــا بــا روح‪ ،‬مجــرد جثــة هامــدة‪ ...‬بينــا جــوع‬
‫جســده لجســدها ال يحتمــل‪.‬‬
‫لكــن‪ ...‬وكأن مثــة اتفاقـاً رسيـاً بينهــا تفــوح منــه رائحــة مؤامــرة خطــرة تســتهدف‬
‫حقوقــه الغرائزيــة‪ :‬ابنــه الصغــر فــراس اقتحــم عليهــا غرفــة النــوم لريمــي بجســده‬
‫الضئيــل يف حضــن أمــه وهــو يتوســل لهــا أن تدعــه ينــام معهــا ألنــه خائــف جــدا ً‪.‬‬
‫ظن الرفيق شاكر أن زوجته ‪ -‬وبروح رفاقية عالية ‪ -‬سوف تعيد ابنهام إىل غرفته‪،‬‬
‫ثم ترجع إليه ليعقدا معاً عىل رسيرهام اجتامعاً حزبياً رسياً للغاية‪.‬‬
‫وهــذا مــا مل يحــدث‪ ،‬فزوجتــه وبــا مبــاالة‪ ،‬أدارت لــه ظهرهــا‪ ،‬حضنــت صغريهــا‬
‫وهــي متســد بحنــان شــعره الناعــم وتدنــدن لــه بلحــن أغنيـ ٍة يحبهــا‪ ،‬وبعــد دقائــق غطــا‬
‫يف نــومٍ عميــق‪.‬‬
‫وهكذا‪ ...‬فراغه الداخيل ردد طويالً صدى شتامئه املتخيلة‪ ،‬ثم نوى يف رسه‬
‫أن يفصــل زوجتــه مــن حياتــه نهائيـاً إن تغيبــت ليلــة الغــد عــن هــذا االجتــاع الحــزيب‬
‫مــع شــهواته يف الرسيــر‪ ،‬كــا حــدث اآلن‪.‬‬
‫‪159‬‬ ‫ةحرابلا ةليل ركاش قيفرلا عم ىرج ام‬

‫تثاءب وشتمهام للمرة األخرية‪ ...‬ثم تثاءب ثانيةً‪.‬‬


‫وملا نيدلا جات ىفطصم‬

‫بعــد برهــة – وفجــأة ‪ -‬ابنــه الثــاين معــاذ اقتحــم هــو اآلخــر غرفــة النــوم مــع صــوت‬
‫عــال لبكائــه‪ ...‬هنــا فقــط شــعر الرفيــق شــاكر بــأن طفليــه هــا مــن اللجــان الشــعبية‪.‬‬
‫معاذ قفز إليه وتشبث كقر ٍد بقميصه وهو يرصخ عليه من بني دموعه‪:‬‬
‫‪ -‬عليــك أن تخــرين اآلن كيــف جئــت إىل هــذه الحيــاة‪ ...‬اآلن اآلن‪ ،‬وليــس غــدا ً‪.‬‬
‫ارتبــك الرفيــق شــاكر (أال يكفينــي فــراس؟ أنــت أيضـاً هنــا! اللعنــة عــى هــذه الليلــة) قــال يف رسه ثــم‬
‫ابتســم البنــه ابتســامة مصطنعــة ورشح لــه‪:‬‬
‫ـ ذهبنا أنا وأمك إىل الحانوت وقلنا لبائع السكاكر‪ :‬نريد‪...‬‬
‫وكأنه شيطان ليس إال‪ ،‬نهض فراس من جانب أمه ومتتم مندهشاً لوالده‪:‬‬
‫‪ -‬آ ٍه منك‪ ...‬أتريد أن تكذب عليه نفس الكذبة التي كذبتها ع ّ‬
‫يل منذ شهرين؟‬
‫لثانيــة أحــس بــأن هــذا ال ـ فــراس ليــس ابنــه‪ ،‬وإمنــا شــيطان متنكــر بثيــاب طفــلٍ صغــر‪ ،‬فبلــع ريقــه‬
‫وقــد أحرجتــه جــدا ً كلــات ابنــه األول أمــام ابنــه الثــاين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ أردف فراس بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬يــا أحمــق‪ ...‬إنــه صغــر وقــد يصدقــك‪ ...‬هــو ال يفهــم كيــف جــاء إىل هــذه الدنيــا‪ ...‬عليــك أن‬
‫تفهمــه وتــرح لــه‪ ،‬ويفضــل اســتخدام الصــور امللونــة ليســتوعب الــرح‪ ...‬يجــب أن تخــره بأنــه كان‬
‫نتيجــة حتميــة للعمليــة الجنســية‪.‬‬
‫ملــاذا تشــهق هكــذا مثــل األبلــه؟‪ ...‬العمليــة الجنســية‪ ...‬نعــم الجنــس!‪ ...‬حتــى يفهــم‪ ...‬قــل لــه‬
‫وببســاطة إن الرجــل يخلــع ثيابــه ثــم يســاعد املــرأة يف خلــع ثيابهــا‪ ،‬مــع أنهــا هــي ال تســاعده يف خلــع‬
‫ثيابــه‪ ،‬وهكــذا يصبحــان عاريــن‪ ...‬طبعـاً عليــك أن تنــوه لــه بــأن املــرأة يجــب أن تكــون عاريــة عىل ســنة‬
‫اللــه ورســوله‪ ،‬حتــى ال يــأيت الطفــل مشــوهاً‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬تستلقي املرأة ثم يستلقي الرجل فوقها و‪...‬‬
‫‪ .... -‬ربك‪.‬‬
‫يل هكذا؟‪ .‬أمعقول‬ ‫‪ -‬شكرا ً لك عىل هذه املداخلة القيمة يا رفيق شاهر‪ ...‬لكن ملاذا تنظر إ ّ‬
‫أنــك ال تعــرف شــيئاً عــن الجنــس؟!‪ ...‬ســوف تجننــي‪ ...‬واللــه بــدأت أشــك بأمــي بســببك‪ ،‬يبــدو‬
‫وكأنــك مل تســمع بــه أبــدا ً‪.‬‬
‫إنــه نفــس الــيء املوجــود يف األفــام التــي يعطيــك إياهــا رسا ً الرفيــق نهــاد بعــد كل اجتــاع‬
‫للقيــادة‪ ،‬آ ٍه منــك‪ ،‬طيــب‪ ...‬أتتذكــر يــوم دخلــت صدفـ ًة إىل الحاممــات يف مبنــى القيــادة للحــزب‬
‫وشــاهدت الرفيقــة شــيامء مــع الرفيــق جابــر‪ ،‬قبــل ذلــك االجتــاع التاريخــي لتجديــد البيعــة؟‪...‬‬
‫نعــم‪ ...‬هــذا هــو الجنــس بــأم عينــه‪ .‬مــا قصتــك؟‪ ...‬كل النــاس تعــرف مــا هــو الجنــس إال حرضتــك‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪160‬‬

‫نحن منارسه كل يوم يف املدرسة‪ ،‬لدينا حصة دراسية خاصة مبامرسة الجنس‪...‬‬
‫منارسه مبتعة جانب الصورة الكبرية للسيد القائد‪ ،‬إنه يلهمنا جنسياً كثريا ً و‪...‬‬
‫كل جســده كان يرتجــف وكأنــه يف منتصــف عاصفــة قويــة بســبب كالم ابنــه‪،‬‬
‫الــذي كان يتحــدث بالمبــاالة وكأنــه يتحــدث عــن التهــام الشــوكوال‪ ...‬بينــا زوجتــه ال‬
‫تــزال مســتلقية بينهــا‪ ،‬نامئــة‪ ...‬غــر منتبهــة لــكل هــذا‪.‬‬
‫قاطعه متسائالً برعب‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت‪ ...‬مع من متارس هذا اليشء يف املدرسة‪.‬‬
‫‪ -‬وحياتــك مــع املديــرة‪ ،‬أعــى ســلطة ترشيعيــة وتنفيذيــة وأمنيــة يف املدرســة‪،‬‬
‫ليســت أجمــل مــن بعــض املعلــات لكنهــا تدفــع يل أكــر منهــن‪ ...‬أمــا التلميــذات‬
‫فــا أقــرب منهــن أبــدا ً‪ ،‬لألســف‪ ...‬ليــس لديهــن أي يشء هنــا‪ ...‬يــا حــرام (قــال وهو‬
‫يشــر بســبابته إىل صــدره ثــم أردف فــراس) مــا بــك ترتجــف وتتلــون؟‬
‫أمل تصدقنــي؟ إذا مل تصــدق اذهــب إىل مدرســتي يف الصبــاح‪ ،‬وتوقــف أمــام‬
‫الصورة الكبرية للسيد القائد واسأله‪ ...‬أمعقول أن يكذب القائد؟! اسأله لتتأكد‪.‬‬
‫القائــد ينظــر إلينــا دامئ ـاً مــن صورتــه ونحــن منــارس الجنــس أمامهــا‪ ،‬ويصفــق لنــا‬
‫بحــاس‪ ...‬وأحيانـاً‪ ،‬ومــن داخــل صورتــه يعطنــا بعــض التوجيهــات الكرميــة بنصائــح‬
‫جنســية مهمــة جــدا ً و‪...‬‬
‫قفز عن رسيره كمن لسعته الكهرباء‪ ،‬ليسقط عىل األرض وهو يلهث وجسده‬
‫يتصبب عرقاً‪.‬‬
‫حبــا عــى أطرافــه كتائــه إىل الطاولــة ليلتقــط كأس املــاء ثــم رشبــه بعطــش‪.‬‬
‫التفــت شــاهر حولــه بذعــر‪ ...‬بينــا هــذا الكابــوس يتضــاءل رويــدا ً رويــدا ً ليختفــي‬
‫مــن رأســه‪.‬‬
‫انتبــه لزوجتــه وابنــه الصفــر فــراس‪ ،‬ال يــزاالن نامئــن بهــدوء عــى الرسيــر‪.‬‬
‫أما معاذ‪ ...‬مل يكن موجودا ً‪ ،‬فهو يحتاج لشهرين آخرين حتى تلده زوجته‪.‬‬
‫***‬
‫رغــم رحيــل الكابــوس‪ ،‬إال أن شــاهر ظـ ّـل يرمقهــا بوجــوم‪ ...‬متجمــدا ً مكانــه‪ ،‬ال‬
‫ينبــس بحــرف أو حركــة‪.‬‬
‫وكأنــه مجــرد رجــلٍ متجمـ ٍـد يف صــورة باهتــة باألبيــض واألســود‪ ،‬التقطــت يف زمن‬
‫قديــم‪ ...‬يتأمــل منهــا الناس‪ ...‬برعب‪.‬‬
‫جوان سوز‬

‫ُعج َّزة‬
‫م ِ‬

‫أتعرفني ســيديت‪ ،‬أتعرفني شــارع أبو َع ّمر يف العاصمة صنعاء‪ ،‬أتعرفني‬


‫مــن هــو يــارس عرفــات‪ ،‬أنــا لســت هنــا ألقــوم بإدخــال جثامنــه إىل رام اللــه‪،‬‬
‫أتعرفــن مــن هــو مشــعل التمــو‪ ،‬مــن هــو حمــزة الخطيــب‪ ،‬مــن هو القاشــوش‪،‬‬
‫أنــا لســت هنــا ألعــرف مــن قتــل هــؤالء وليســت يل أي عالقــة بحادثــة اغتيــال‬
‫رفيــق الحريــري‪ ،‬أتعرفــن ســيديت أتعرفــن األطفــال الذيــن كتبــوا عــى جــدران‬
‫املدرسة (جاييك الدور يا دكتور)‪ ،‬أنا لست هنا ألعرف ماذا كان مصريهم‪،‬‬
‫ـدك ولــن أطلــب منـ ِ‬
‫ـك‬ ‫أتعرفــن ســيديت أتعرفــن ‪ ...‬أنــا لســت هنــا ألطلــب يـ ِ‬
‫أن تخرتعــي يل ذرة‪ ،‬أو أن تهدمــي جــدار الفصــل العنــري الــذي بنــاه العــدو‬
‫الغاشم أو أن تحرري ما تبقى من سوريا‪ ،‬أو أن تقصفي ناغازايك وهوروشيام‬
‫ـك غوطــة جديــدة وال حلبجــة‬ ‫عــن ســابق إرادة وتصميــم‪ ،‬كــا لــن أطلــب منـ ِ‬
‫أخــرى‪ ،‬أنــا هنــا للحصــول عــى معجــزة تســمى «جــواز ســفر» ‪ ...‬أتســمعني مــا‬
‫قلتــه ســيديت ‪ ..‬أتســمعني ؟‬
‫ـت؟‬‫ـت نقــودي ‪ ..‬أرأيـ ِ‬
‫لقــد دفعــت يف املاليــة ‪ 20‬ألــف لــرة ســورية‪ ،‬أرأيـ ِ‬
‫وهــذا هــو اإليصــال وهــذ ِه هــي االســتامرة وهــذا هــو طلــب االســتعجال ورقمــي‬
‫يف سجالت التجنيد ‪ ،144‬وحصلت وبفعل فاعل عىل ال مانع من السفر‪،‬‬
‫أترين أوراقي؟ أترين ‪ ...‬أترين لقد بقي من تأجييل الدرايس ما يقارب الستة‬
‫أشــهر وأنــا طالــب يف كليــة االقتصــاد ومل أنـ ِه الدراســة يف املعهــد التجــاري‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪162‬‬

‫وال الصيدلــة‪ ،‬ومعــي أيضـاً بطاقــة جامعيــة ُمنتهيــة و (واســطة) يتقـ ُن األملانيــة وميلــك بطاقــة‬
‫أمنيــة‪ ،‬أتعرفــن ســيديت أتعرفــن مــن هــو الدكتــور‪...‬؟؟‬
‫أتعرفني النقيب فجر سلوم أتعرفينه؟‪ ..‬أخربيه‪ ،‬أرسلني العميد فراس‪ ،‬أتعرفني؟ أنظري‬
‫ـي َحــدا مــن البــاب الخَلفــي)‪ ،‬الدكتــور غائــب اليــوم وأنــا يَتيــم‪،‬‬ ‫إيل ســيديت أنظــري و (ال تْ َـ ّ‬
‫ال أملــك مثــل اآلخريــن ورقــة تَح ِمـ ُـل توقيــع العميــد‪ ،‬فهــو مل يســجل يل اســمه عــى البيــاض‬
‫ـت صــورة األســد فــوق رأســه‪ ،‬الفريــق الــذي ال ميلــك العبــن‬ ‫ـي أختا َّمـهُ‪ ،‬لكنــي رأيـ ُ‬
‫الناصــع ونـ َّ‬
‫وال كــرة‪ ،‬لكنــه يقــف يف الهجــوم ويلعــب دور البطولــة بغيــة تحريــر فلســطني‪.‬‬
‫أتعرفني سيديت‪ ،‬أنا من كوباين‪ ،‬أتذكرين اسمها القديم «عني ال َع َرب» أتذكرين سيديت‬
‫‪ ...‬أنا قاد ٌم من هناك ومررت من املعرب وقامت جبهة النرصة بحرق علبة سجائري‪ ،‬أتدرين‬
‫أسمعت ‪ ..‬بقيت حلب املحررة خلف‬ ‫ِ‬ ‫أنتم من تقومون بتحريض الشعب عىل التدخني‪،‬‬
‫ظهري ودخلت املحتلة بأمان جزيئ‪ ،‬أال تخشني عيل من القناص الذي يقف فوق رأيس أال‬
‫تخشني‪ ،‬سيديت يف جمجمتي َرشاوى ويف يدي أوراق ال تعد وال تحىص ومصنف صغري‬
‫أحــرص مــن وقوعــه يف يــدو العــدو‪ ،‬ســيديت‪ ..‬أنــا مواطــن وهويتــي مكســورة ولــن أطلــب منـ ِ‬
‫ـك‬
‫تجديدهــا تحــت اســم «الجمهوريــة العربيــة الســورية» وأتحجــج بــأين فقــدت الضبــط األمنــي‬
‫يف رسقــة بيتنــا أيــام بــركان حلــب أتذكريــن‪ ،‬أتذكريــن مبنــى الجــوازات القديــم عنــد مشــفى‬
‫املارتينــي كيــف صــار بالقــر البلــدي؟ أتذكريــن كيــف دخلــت التكنولوجيــا إىل حياتنــا يف‬
‫بدايــة األلفينــات تحــت رايــة التطويــر والتحديــث‪ ،‬أتذكريــن حينــا كان الــدوالر ب ـ ‪ 47‬وكانــت‬
‫ـك‪ ،‬أتذكريــن املثــل الــذي يقــول (ذل قرشــك وال تــذل نفســك ) ولكــن‬ ‫الرشــاوى مفضلــة عليـ ِ‬
‫زمــن الخمســائة قــد وىل وبقيــت األلــف لــرة كتــذكار مثــن مــن القائــد األمني حافظ األســد ‪.‬‬
‫أتعرفــن ســيديت‪ ،‬أتعرفــن ملَ أنــا هنــا ومــاذا أريــد؟ جــوازي يحتــاج لتمديــد وقــد كلَّ َفنــي‬
‫أكــر مــن الجديــد‪ ،‬ســيديت ‪ ..‬يف جيبــي صورتــان شــخصيتان وموافقــات أمنيــة مــزورة‪ ،‬أشــعر‬
‫بــأين بــان يك مــون يف مجلــس األمــن أو بيــل كلينتــون يف أواخــر التســعينيات‪ ،‬أنــا لســت هنــا‬
‫ألحــرر القــدس مثــل جــدي صــاح الديــن ولســت يوســف العظمــة يف حــرب ترشيــن ولســت‬
‫جــورج بــوش الــذي غــزا العــراق ولســت البطــل بــو عزيــزي‪ ،‬أنــا مواطــن ســيديت ‪« ..‬مواطــن يف‬
‫دائــرة الهجــرة والجــوازات»‪ ،‬لســت مبــري يعمــل يف األردن وال بصومــايل يعيــش يف اليمــن‬
‫ولســت بخليجــي يــزور لبنــان وال بإســامي متشــدد قــادم مــن باكســتان وال مــن مؤيــدي ابــن‬
‫الدن‪ ،‬أتعرفــن ســيديت أتعرفــن ‪ ..‬أنــا مواطــن وأنتــم تســموين ُمراجــع ‪ ...‬رجــا ًء ال تقــويل يل‬
‫َرفيــق‪ ،‬فأنــا درويــش‪!...‬‬
‫أتعرفــن مــن هــو درويــش أتعرفــن؟ هــو شــخص (متــي متلِــك) لكنــه مل ينتســب لحــزب‬
‫‪163‬‬ ‫َّزِ ُعم‬
‫ج‬

‫البعث يوماً ومل ميسح الجوخ لألمن ومل يضع قناة الدنيا يف مفضلة قنواته‬
‫زوس ناوج‬

‫ومل يصنــع مــن علــم البعــث وحــزب اللــه ســجادة لصالتــه‪ ،‬فهمـ ِ‬
‫ـت ســيديت‪،‬‬
‫ِ‬
‫فهمت؟‬
‫إل أنظــري‪ ،‬أتعرفــن مــا هــو ُمخــدر نومــي‪ ،‬أتعرفــن متــى ســيقام‬‫أنظــري ّ‬
‫جنيف (‪)2‬أتعرفني متى سيكون يوم القيامة‪ ،‬تعرفني كيف ستقومني بالبحث‬
‫عــن جــوازي القديــم لديكــم منــذ شــهرين‪ ،‬أتعرفــن متــى ســتحصل املعجــزة‬
‫الكــرى وأحصــل عليــه‪ ،‬أتعرفــن متــى ســأميش يف الشــارع وأحــدث نفــي‪،‬‬
‫أتعرفني ســيديت بأين قد راجعت املحفوظات والتحقيقات وســلمت عىل‬
‫املوظــف املوقــر ورأيــت األر َمــن يتباهــون بتأييدهــم لألســد ورأيــت املوظــف‬
‫الكــردي الــذي تــرأت منــه لتقليــده للعلويــن يف اللهجــة أتعرفــن‪ ..‬أنظــري‬
‫إيل ســيديت ‪..‬أنظــري‪ .‬ملــاذا متنعــون الحديــث بغــر العربيــة يف دوائركــم‬
‫املســتديرة؟ وملَ تضيعوننــا يف مربعاتكــم املكعبــة؟‬
‫ال أريــد هــذا الجــواز ســيديت‪ ،‬ال أريــده‪ ،‬فــا تبحثــي عنــه رجــا ًء‪ .‬ال أريــد ُه‬
‫بعــد هــذا االزدحــام‪ ،‬ألين مــا عــدتُ أعــرف أيــن ســأقف بــن طابــور املراجعــن‬
‫صوتك املرتفع وما عدت أحتمل النافذة الواحدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أرغب سامع‬‫ُ‬ ‫وما عدت‬
‫أنــا مواطــن ســيديت مواطــن مــن املرتبــة العــارشة تحــت الصفــر‪ ،‬كدرجــات‬
‫الحــرارة يف موســكو وأعلــم جيــدا ً بــأن جــواز الســفر ليــس مــن حقــي وال أدري‬
‫متى ســأحصل عىل موافقة من األمن الســيايس وتكون املعجزة بأن ال أكون‬
‫خطــرا ً عــى أمــن دولتكــم‪ ،‬أتعرفــن ســيديت ‪ ...‬أتعرفــن (بــا هاملعجــزة)‪.‬‬
‫َك كل النوافذ‪ ،‬أتعرفني ملاذا‪ ،‬أتعرفني؟ ألن الركض عىل‬ ‫ـأترك ل ِ‬
‫ألين سـ ُ‬
‫الحــدود الرتكيــة أرحــم بكثــر مــن معامل ِت ُكــم يل‪ ،‬أتعرفــن ملَ ســأترك لـ ِ‬
‫ـك كل‬
‫النوافذ؟ أتعرفني؟ ألين عىل يقني بأن بيوت الدعارة أطه ُر بكثري‪ ،‬أطه ُر بكثري‬
‫ـك ســيديت‪ ،‬أطهـ ُر ِبكَثري‪.‬‬‫مــن مكتبـ ِ‬

‫جوان سوز ‪ :‬شاعر‪ ،‬كاتّب وصحَّ في سوري ‪.‬‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪164‬‬
‫‪165‬‬

‫أوراق الشعر‬
‫خالد سليمان النارصي‬

‫ُر ُقم‬

‫هناك من يصيح اآلن‬


‫يحدث هذا فقط عندما نيزك يسقط عىل أخ‬
‫متنى أمنية فوق طاقة القدر‬

‫يف الشارع اآلخر‬


‫امرأة عاقر ترصخ‪:‬‬
‫قتلوا ابني‬
‫ذاك الذي متنيت دامئاً أن أنجبه‬

‫من عىل جرس صغري‬


‫سقطت رأس مثقوبة‬
‫‪167‬‬ ‫مُقُر‬

‫الهواء الذي صفَر فيها‬


‫رصانلا ناميلس دلاخ‬

‫أوقف رصاخ األم‬

‫يف بيت عىل كتف النهر‬


‫جلست عائلة عند املساء‬
‫يف النهر م َّر دم مل يصبح ماء بعد‬
‫العائلة عرفت أن الدم البنها‬
‫من صوت املوسيقى املنبعث منه‬

‫يف شارع آخر‬


‫أرسل ابن الجريان من نافذة غرفته‬
‫قبل ًة لبنت الجريان الواقفة عىل نافذتها املقابلة‬
‫أصابها القناص‬

‫يف شارع آخر‬


‫مل يحدث يشء‬

‫يف شارع آخر‬


‫ذراع كاملة‬
‫انفصلت عن جسمها وطارت‬
‫ظنها الصغار‬
‫طائرة ورقية‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪168‬‬

‫يف شارع آخر‬


‫عجوز خرجت إىل الشارع‬
‫هشَّ ت بعكازها‬
‫عىل فراغات من ماتوا‬

‫يف شارع آخر‬


‫شاب يف مقتبل العمر‬
‫أراد أن يذهب للحرب‬
‫لكنه اختلف عىل ذلك مع خياله‬
‫خياله عاد وحيدا إىل البيت‬

‫يف شارع آخر‬


‫مل ينزل املطر ذلك اليوم‬
‫لكن دما كثريا سال‬
‫عىل الذين انتظروا الخبز‬

‫صبية خرجوا يلعبون‬


‫عادوا وعىل ثيابهم عالمات اللعب‬
‫ثقوب يف الثياب‬
‫‪169‬‬ ‫مُقُر‬
‫رصانلا ناميلس دلاخ‬

‫ما حسبناه صفري هواء‬


‫يف رأس مثقوبة‬
‫كان شيئاً آخر مل نعرفه‬
‫لكنه كان يرتك دماً يف الهواء‬

‫كابوس ميضء‬
‫كان يبدو مثل فانوس‬
‫فوق رأس القتيل‬

‫عادت قبورهم وحدها‬


‫تجوب املدن تائهة‬
‫ال تُرى لكنها استجدت العابرين‬
‫اكتبوا عىل الشواهد أسامءنا‬

‫أنزلوه‬
‫عن األكف‬
‫عن األكتف‬
‫عن الصدور‬
‫عن البطون‬
‫عن القضبان الذكرية‬
‫عن األفخاذ‬
‫عن السيقان‬
‫عن األقدام‬
‫أنزلوه‬
‫عن األرض‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪170‬‬

‫يف شارع آخر‬


‫بعد انتهاء القصف‬
‫جثة وقفت تتأمل املشهد باندهاش‬
‫ما كل هذه األحياء‬

‫مل تكن ساحرة‬


‫تلك التي نرثت غبار النوم عىل األطفال يك يناموا‬
‫رمبا أيضا مل يكن غبار نوم‬
‫رمبا أيضا مل يكن األطفال نياما‬
‫رمبا كانوا فقط يخدعون األحالم يك تأتيهم‬
‫سميح شقري‬
‫وردة ُ‬
‫الشبَّاك‬

‫تعب‬
‫ٍ‬ ‫أغفو عىل‬
‫فتصحو الريح من قلقي‬
‫وتكرس وردة الشبَّ ْ‬
‫اك‬

‫ال الذاهبات ت َرك َن يل عنوانه َّن‬


‫وال املرايا خبأت ُغ َّراتِه َّن‬
‫ٌ‬
‫سالك‬ ‫الطريق إىل الحكاية‬
‫ُ‬ ‫وال‬
‫ْ‬
‫األشواك‪.‬‬ ‫أميش عىل‬

‫الطقوس‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ألرسف يف‬ ‫ال حز َن يل وحدي‬
‫شعبي غدا‬
‫ٌّ‬ ‫فالحزن‬
‫السفح‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫وخرافُه مسفوح ٌة يف‬
‫ني‪.‬‬
‫مل تشفع األجراس أن تعطي آلالمي الرن ْ‬

‫بيت يل‬
‫ال َ‬
‫وبيوتُ أحبايب ركا ٌم حيث مرت بربروس‬
‫َّعت تحت الجنازير التي مل تلقِ با ًال‬
‫والذكريات تقط ْ‬
‫للخضري‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪172‬‬

‫وال النظري‬
‫وال الجنني‬
‫ني‪.‬‬
‫وال الحن ْ‬
‫وجهي يشابه خيم ًة غرقت بدمع الغي ْم‬
‫اص‬‫تقصف ركبتني وطلقة الق َّن ْ‬‫وبه ُّ‬

‫وجهي به قسامت ثائ ْر‬


‫وهتافُه تحت الرصاص‬
‫ْ‬
‫كاملطارق‬ ‫ونبض حلمٍ‬
‫َ‬
‫األنصال يف دمه‬ ‫يبق َم ْن مل يُغ ِمد‬ ‫مل َ‬
‫ْ‬
‫واملشارق‬ ‫املغارب‬
‫ُ‬
‫والبائعون‬
‫املشرتون‬
‫الحاكمون‬
‫القاتلون‬
‫الصامتون‬
‫الشامتون‬
‫الحالقون‬
‫امللتحون‬
‫وقاطعو طرقٍ‬
‫إذاعيِّو ْن‬
‫ْ‬
‫سارق‬ ‫محض‬
‫ُ‬ ‫كل سارقِ ثور ٍة أو‬ ‫بل ُّ‬
‫كل موتو ٍر ومارق‬ ‫أو ُّ‬
‫والتقى املتخاصمون‬
‫ني‬
‫وبني سفسطة اليسار أم اليم ْ‬
‫يبق ْ‬
‫فارق‪.‬‬ ‫مل َ‬

‫أصحو عىل تعب‬


‫فتصحو الريح من قلقي‬
‫وتكرس وردة الش َّب ْ‬
‫اك‪.‬‬
‫فاضل السلطاني‬

‫يف الريف االنجليزي‬

‫الضو ُء ميت ّد‪...‬‬


‫ح‬
‫تركض طول الصبا ِ‬ ‫ُ‬ ‫وراشيل‬
‫ُ‬
‫الظل‬
‫َّ‬ ‫ال أرى سوى‬
‫الخيول هناك؟‬ ‫َ‬ ‫هل ترى‬
‫كنت فارس ًة‬ ‫ُ‬
‫وانتهيت‬
‫ُ‬ ‫سقطت مرةً‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ث ّم‬
‫رصتُ شاعر ًة‬
‫ري؟‬ ‫هل قرأتَ هوم َ‬
‫سوف أهديك الكتاب‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫يستطيل‬
‫ُ‬ ‫النخيل‬
‫ُ‬ ‫وكان‬
‫الخيول‬‫ُ‬ ‫وتأيت‬
‫لنستظل بها‬
‫ّ‬
‫تركض‬
‫ُ‬ ‫وراشيل‬
‫ُ‬
‫تعبت‬
‫ُ‬ ‫راشيل مهالً!‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫لبيتك‪...‬‬ ‫دعيني أعود‬
‫الكتاب القديمِ‬
‫ِ‬ ‫أقرأُ بني سطور‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪174‬‬

‫بابل؟‬
‫هل تذكرتَ َ‬
‫‪...‬‬
‫الضو ُء ميت ّد‪...‬‬
‫الظل‬
‫ِّ‬ ‫ال أرى سوى‬
‫الظل؟‬
‫ُّ‬ ‫راشيل‪ ...‬من أين يأيت‬ ‫َ‬
‫البستا ُن هو البستا ُن‬
‫كالب‪ ،‬بقراتٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫خيول‪،‬‬
‫تحلبها أمي بعد قليلِ‬
‫وأيب يحفر يف البستان‬
‫ُ‬
‫تطول‬ ‫ُ‬
‫والحقول‬
‫تركض طول الصباح‬ ‫ُ‬ ‫وراشيل‬
‫ُ‬
‫أنت جميلة!‬ ‫راشيل‪ِ ...‬‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫الصباح هناك‬
‫ُ‬ ‫مثل طريٍ مات هذا‬ ‫ُ‬
‫)*(‬
‫‪ -‬املوتُ سي ٌد من العراق‬
‫رأيت الكفن؟‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬هل‬
‫‪ -‬إين أراه طويال‬
‫كشعرك فوق الرسي ِر‬ ‫ِ‬
‫‪...‬‬
‫الطويل؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شعرك‬ ‫راشيل‪ ...‬أين‬ ‫َ‬
‫النخيل؟‬
‫ُ‬ ‫ماءك ذاك‬ ‫ِ‬ ‫مص‬‫وكيف ّ‬
‫ماؤك يكفي لغسلِ املقابرِ‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫كان‬
‫أنت حزينة‬ ‫راشيل‪ِ ...‬‬ ‫َ‬
‫الكتاب القديمِ‬
‫ِ‬ ‫أكرث حزنا من ورق‬
‫‪...‬‬
‫الضو ُء ميت ّد‪...‬‬
‫والبستا ُن هو البستان‪،‬‬
‫كالب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أفق‪ ،‬غزالنٌ‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وغاب من الخنازي ِر بري ًة‬ ‫ٌ‬

‫*) بول سيالن‪ :‬املوت سيد من أملانيا‬


‫‪175‬‬ ‫يلجنالا فيرلا يف‬

‫الغاب؟‬‫َ‬ ‫‪ -‬هل ندخل‬


‫يناطلسلا لضاف‬

‫كلكامش؟‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫قرأت‬ ‫‪ -‬هل‬
‫أهديك الكتاب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫سوف‬
‫‪...‬‬
‫الضو ُء ال ينتهي‬
‫الظل‬
‫ُّ‬ ‫فمن أي َن يجى ُء‬
‫الظل؟‬
‫ُّ‬ ‫راشيل‪ ...‬من أين يجى ُء‬
‫‪...‬‬
‫« بقرات سودا ُء‪،‬‬
‫)*(‬
‫حليب أسو ُد»‬ ‫ٌ‬
‫تركض‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وراشيل‬
‫تركض‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫طول الليلِ‬
‫الغاب‪...‬‬
‫َ‬ ‫راشيل ال تدخيل‬ ‫َ‬
‫الغاب‪...‬‬
‫َ‬ ‫راشيل ال تدخيل‬

‫‪2014/1/1‬‬

‫*) سيالن‪.‬‬
‫مريم مشتاوي‬

‫ثالث قصائد‬

‫صالة امرأة سورية‬


‫أنا امرأة‪...‬‬
‫ويف أحشايئ توأمان‬
‫حامل بهام يف سنتي الثالثة‬
‫سميتهام‪ :‬الوجع والجوع‪...‬‬
‫إن أسقطت أحدهام‬
‫يقتلني اآلخر‪...‬‬
‫كُتب عيل أن أسري بهام أبدا ً‬
‫متعرثة بالزمن‬
‫أسند ظهري عىل حائط جامع حلب الكبري‬
‫وأصيل‪ ...‬وال أسرتيح‬
‫وأشهق حرقة أمام كنيسة السيدة العذراء‬
‫يف الالذقية‪ ...‬وأصيل‪...‬‬
‫وأيضاً ال أسرتيح‪.‬‬
‫‪177‬‬ ‫ئاصق ثالث‬

‫حب يف املعتقل‬
‫يواتشم ميرم‬

‫يف املعتقل‬
‫أحببته‬
‫من لحظة عذابنا األوىل‬
‫من الجلدة األوىل‬
‫من العجيبة األوىل‬
‫عجيبة تح ّول دمنا‬
‫عىل السوط إىل‬
‫ورد جوري‪...‬‬

‫ُربطنا من لساننا معاً‬


‫برجل كريس معمر‬
‫كريس من لعنات الدنيا السبع‪...‬‬
‫ُربطنا من لساننا‬
‫وال أدري كيف نطقنا‬
‫بعجيبة القيامة الثانية‬
‫ورددنا فوق مذبح العذاب‬
‫كالم الثورة الجوهري‬
‫«نحن أحرار»‬
‫وال يشء يقرفنا‬
‫سوى نتانتك أيها الكريس‬
‫وغدر الرصاصري‪.‬‬

‫رجل من الالذقية‬
‫يا رجالً من الالذقية‬
‫نزح إىل دمي‪...‬‬
‫شوارع بالدك الحزينة‬
‫ج َم َعت حقائبك‪...‬‬
‫ما تبقى من أغصانها املحروقة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪178‬‬

‫لوحت لك بالوداع‪...‬‬
‫أمهاتها مل يلفتها رحيلك‪...‬‬
‫وكيف‪...‬‬
‫قل يل كيف تنظر إليك‬
‫وهي تتع ّرف عىل أشالء أطفالها‬
‫وتجمعها بأكياس صغرية‪...‬‬

‫يا رجالً من الالذقية‬


‫نزح إىل دمي‪...‬‬
‫هاجر إىل أعامقي‪...‬‬
‫ونصب خيمه بني أنفايس‪...‬‬
‫لك وحدك تثور أوراقي‬
‫لك وحدك تتظاهر ساميئ‬
‫تتم ّرد وتسفر عن وجهها اآلخر‬
‫فتمطر شهباً‬
‫لتحرق قهرك‪...‬‬

‫وأنت يا حبيبي‬
‫أنت وحدك ستلبسني يوماً‬
‫عقد الياسمني‪...‬‬
‫وتعلن انبعايث من جديد‬
‫إىل الحياة‪...‬‬
‫ميسون شقري‬

‫قصائد‬

‫دفء‬
‫قط ْعتَها‬
‫يك تجم َع من أغصانِها‬
‫ك الطويل…!‬‫وقودا ً لشتائِ َ‬
‫لن تدفأَ يا سيدي‬
‫فدمو ُع عصافريِها‬
‫َت‬
‫بلل ْ‬
‫ت‬
‫كل ما جم ْع َ‬
‫َّ‬
‫م ْن حطب‪.‬‬

‫اعرتاف‬
‫أنا‬
‫ال أموتُ‬
‫يت‬
‫إذا تع َّر ُ‬
‫يف الخريف‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪180‬‬

‫ولك ّنني‬
‫أُذ ُ‬
‫ْبح‬
‫آلخ ِر الجذو ِر‬
‫إذا م َّر‬
‫الربي ُع‬
‫ومل أورق‪...‬‬
‫فأس‬
‫ب عمر َِك‬
‫َج ْد ُ‬
‫زر َعها يف ِ‬
‫روح َ‬
‫ك‬
‫جو ُع َ‬
‫ك‬
‫عق َد فيها الثمر‬
‫عطشُ َ‬
‫ك‬
‫سقاها‬
‫وارتوى‪...‬‬
‫ملاذا‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫يا س ّي َد‬
‫طالت‬
‫ْ‬ ‫حني‬
‫أغصانُها‬
‫َ‬
‫قامتك‬ ‫حتى حدو ِد‬
‫صنعت من جذ ِعها‬
‫َ‬
‫فأساً‬
‫وهويت ب ِه‬
‫َ‬
‫عليك؟!‬
‫جو ٌع هرم‬
‫ال ته َّزين‬
‫بكل هذا الجو ِع‬
‫ِّ‬
‫ين‬
‫رس أغصا َ‬ ‫ستنك ُ‬
‫بكل ما تَ ِع ُد من مواس َم‬
‫ِّ‬
‫‪181‬‬ ‫دئاصق‬

‫قبل‬
‫َ‬
‫يقش نوسيم‬

‫أن‬
‫َ‬
‫يداك‬ ‫تل َّم‬
‫ما يسق ُ‬
‫ط م ّني‬
‫من مثر‪.‬‬
‫حطب‬
‫هذا الشتا ُء‬
‫ك َّنا مواق َد ِ‬
‫بعضنا‬
‫ربا‬
‫و ّ‬
‫كالنا‬
‫كا َن الحطب‪...‬‬
‫خريف‬
‫أنا م ْذ ولدْتُ‬
‫أرجوح ٌة‬
‫ِ‬
‫لهاث املطر‬ ‫ني‬
‫ب َ‬
‫شجر ٌة‬
‫تطلق أوراقَها للري ِح‬
‫ُ‬
‫س بها زوايا األرصف ِة‬ ‫يك تك ُن َ‬
‫وأقدا َم املار ِة‬
‫وقلوبَهم‪...‬‬
‫تقايض السام َء‬
‫ُ‬
‫ألف ورق ٍة‬
‫َ‬
‫لحب ِة برد…‬
‫أنا م ْذ ولدتُ‬
‫الخريف‬
‫ُ‬ ‫يبا ِغتُني‬
‫ين ال أعرفُ ُه‬
‫كأ َ‬
‫كأسام ِء م ْن رحلوا‬
‫بال أسامء‪...‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪182‬‬

‫بصمتي هذا العوا ُء‬


‫َ‬ ‫شهي‬
‫ٌّ‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫ذئاب‬
‫ِ‬ ‫كل‬
‫ٌ‬
‫تسك ُن حنج َريت‬
‫لك َّن أصابعي‬
‫مل ْ‬
‫تزل‬ ‫ْ‬
‫بال مخالب‪...‬‬
‫سامء‬
‫كسجادة يف آخر الصيف‬
‫سألف السامء عىل طولها‬
‫ُّ‬
‫وأركنها يف الزاوية‬
‫علَّنا‬
‫ال نجد اتجاهاً‬
‫نرفع أيدينا إليه‬
‫ونركع‪.‬‬
‫أنور عمران‬

‫قريبا ً تنتهي الحرب‬

‫قريباً‬
‫ْ‬
‫اسطنبول‪.....‬‬ ‫أبواب‬
‫َ‬ ‫ينق ُر الشتا ُء‬
‫ألسائحاتُ األوربياتُ اللوايت ك َّن يرشب َن « البرية» يف ساح ِة الربج‬
‫ْ‬
‫األتراك‪..‬‬ ‫بتوضيب الهدايا التي وهبها العازبو َن‬ ‫ِ‬ ‫‪ ..‬ينهمكن اآلن‬
‫والثوا ُر السوريون‬
‫‪ ...‬أخذهم كفايتَهم من وعو ِد الذين يدخنون الغاليني‪،‬‬
‫وعادوا ‪ ..‬يك ميوتوا وحيدين يف الجبهاتْ ‪... ..‬‬ ‫ ‬
‫مثل كل الذين غادروا أوطانهم هرباً من الطائرات _‬ ‫وأعرف أنني _ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫كنزات الصوف‬ ‫املعاطف الجلدي ِة و‬
‫ِ‬ ‫أملك ما يلز ُم من‬ ‫ُ‬ ‫‪..‬ال‬
‫ني الرب ِد امل ُوجعِ هنا‬ ‫يك أر َّد سكاك َ‬
‫ْ‬
‫اسطنبول ‪..‬‬ ‫لكنني أنتظ ُر مبرارة ‪ ..‬مط َر‬
‫ني السياسيني‪ ،‬أو تتبل ُّل لحاهم‪..‬‬ ‫تنطفئ غالي ُ‬ ‫ُ‬ ‫فلرمبا‬
‫ورمباااااا‬
‫أجد نافذ ًة ما ‪ ...‬مفتوحةً‪..‬‬
‫بنت تغني بالرتكي ِة‬ ‫وراء ستارتها ٌ‬
‫ْ‬
‫اسطنبول‪..... ..‬‬ ‫عن أمطا ِر‬
‫‪.........................‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪184‬‬

‫الحرب التي كان ينتظرها الحكام ُء و قُطَّا ُع الطرق‪..‬‬ ‫ُ‬


‫فوانيس الحكايات‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫والحرب التي كانت تُزيِّ ُ‬
‫ُ‬
‫أتت‪...‬‬
‫ْ‬
‫بشعرها الفاحمِ ‪ ،‬و قفطانها الرمادي‪،‬‬
‫اك‪ ،‬وال منيم ُة الديكة‪.....‬‬ ‫س ِ‬ ‫مل تؤخ ْرها صلواتُ ال ُّن ّ‬
‫ُ‬
‫واألطفال املشلولون‪....‬‬
‫مل يل ّوحوا بأناشيدهم للطائرات‪..‬‬
‫الجنو ُد من الطرفنيِ‪ ..‬أ ّدوا التحي َة للراي ِة ذاتها‪،‬‬
‫و جهزوا بنادقهم ‪..‬‬
‫ِ‬
‫البنات ‪.. ،‬‬ ‫قلوب‬
‫ُ‬ ‫احرتقت‬
‫متاماَ كام ك َّن يرسمنها يف نهايات الرسائل‪..‬‬
‫ات العسكرية‪..‬‬ ‫جيوب الب ّز ِ‬
‫ِ‬ ‫و ُد َّست خوات ُم الخطب ِة يف‬
‫أتت الحرب إذنْ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫كل ي ُده عىل الزناد‪...‬‬
‫ٌّ‬
‫والقصيد ُة فقط‬
‫مقع ُدها شاغ ٌر هذا املوسم‪..‬‬
‫‪......................‬‬

‫الحرب جيدا ً‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نعرف‬ ‫‪ ..‬مل نك ْن‬
‫بخالفات األنبيا ِء‪ -‬أن َ‬
‫نقتل بعضنا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فمن الناد ِر – نح ُن املشغول َ‬
‫ني‬
‫واآل َن‬
‫قات املتاريس‬ ‫نتلصص من ط ّّل ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪ ....‬بينام‬
‫نكتب املرايث ‪،‬‬‫َ‬ ‫صار بوسعنا أن‬
‫وأن نحف َر قربا ً الئقاً لألغاين العاطفي ِة‪...‬‬
‫الحرب‪..‬‬
‫ِ‬ ‫تغي يف‬
‫ال يشء ّ َ‬
‫ِ‬
‫تعلمت الحزن‬ ‫األغنا ُم فقط ‪..‬‬
‫ريهم‪ ،‬وذهبوا إىل الجبهةْ‪.....‬‬ ‫فالرعيا ُن تركوا مزام َ‬
‫‪...................‬‬
‫‪185‬‬ ‫برحلايهتنت ًابيرق‬

‫صديقي عىل الجبه ِة األخرى‬


‫ نارمع رونأ‬

‫ال تطلقِ النا َر قبل أن تتذكّر ‪:‬‬


‫الحب ك ّنا ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نبيك من لسع ِة‬
‫و كنا نغني معاً‪....‬‬
‫استعرتَ بُ َّح َة روحي‪،‬‬
‫قميصك ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫واستعرتُ‬
‫ومننا معاً‪..‬‬
‫عىل رصيف الجدائلِ ‪.....‬‬
‫تعي‪..‬؟؟ !!‬
‫تغي يا صاحبي ‪ ...‬مالذي َّ ْ‬ ‫مالذي ّ َ‬
‫‪............................‬‬
‫يف املقهى‬
‫الشاي مع قاتيل‬ ‫َ‬ ‫أرشب‬
‫ُ‬
‫و يزعجنا ارتفا ُع سع ِر الرصاصة‪..،‬‬
‫ُصاب بسو ٍء‬ ‫َ‬ ‫فنسأل الله أن ال ن‬ ‫ُ‬
‫وأوصي ِه عند الوداع‪:‬‬
‫ال تطلقوا النا َر يف املهرجان‬
‫فقط ص ّوبوا جيدا ً عىل لغتي‬
‫ليك تستحقوا هذا الغناء‪..‬‬
‫‪........................‬‬
‫السوري أن ميوتَ كام ميوتُ اآلخرونَ‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫يحل ُم‬
‫فإما نحل ٌة تلس ُع الرشيا َن‬
‫يئ يف «طوقِ الحاممة» ‪.. ..‬‬ ‫أو خطأٌ غنا ٌ‬
‫ميرض ‪ -‬مثلام يحدثُ عاد ًة َ‬
‫قبل الغروب ‪-‬‬ ‫َ‬ ‫و يشتهي أن‬
‫ني ‪ ..‬و ِ‬
‫بعض املرايث‪:‬‬ ‫ني مهدودت ِ‬ ‫الحوذي بذراع ِ‬ ‫َّ‬ ‫يستقبل‬
‫َ‬ ‫ليك‬
‫أري ُد نصيبي من الرتاتيلِ و وخ ِز البخو ِر‬
‫فقولوا للقذيف ِة أن تتل َّكـأَ‬
‫ـب نايـاً ستبيك ع ْ‬
‫يل‬ ‫‪ .....‬ريثام أُثَـ ِّق ُ‬
‫‪.................................‬‬
‫‪ ..‬غدا ً‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪186‬‬

‫الحرب أوزا َرها‪..،‬‬


‫ُ‬ ‫عندما تض ُع‬
‫ني يف الرحيل‪.. ..‬‬‫املهلهل ساملاً من دمِ اإلخو ِة الضالع َ‬ ‫ُ‬ ‫ويعود‬
‫غدا ً‪..‬‬
‫حمل َة الصد ِر عىل حبلِ قلبي‪.....‬‬ ‫جديد – ّ‬‫ٍ‬ ‫رش جاريت ‪ -‬من‬ ‫عندما تن ُ‬
‫القنوات اإلباحي ِة ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫و ترتف ُع نسب ُة مشاهد ِة‬
‫قبل هذا البكاء ‪...‬‬ ‫‪ ..‬كام كانت َ‬
‫الحروب والخل ‪...‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قنوات‬ ‫عندما تنقط ُع اإلعالناتُ التجاري ُة عن‬
‫ني كسيحة‪:‬‬ ‫سأدف ُن أقربايئ بع ٍ‬
‫أمت معكم ‪..‬‬ ‫سامحوين ألين مل ْ‬
‫‪......‬‬
‫‪..............................................................‬‬
‫‪187‬‬

‫أوراق النقد والفن‬


‫هشام الواوي‬
‫حازت عىل الجائزة األوىل يف الدورة «‪ »14‬لجائزة املزرعة‬

‫روايــة «رمــش إيــل» لفخــر الديــن فيــاض‪:‬‬


‫الواقــع الــذي غلــب األســطورة‬

‫فازت رواية رمش إيل للكاتب فخر الدين فياض بالجائزة األوىل ملسابقة‬
‫املزرعــة‪ ،‬يف دورتهــا الرابعــة عــر (وهــي الــدورة األوىل للجائــزة بالتعــاون مــع‬
‫رابطة الكتاب السوريني)‪.‬‬
‫إن الجوائــز األدبيــة تثــر‪ -‬عــاد ًة ‪ -‬شــهية القــراءة االســتقصائية‪ ،‬بالغــوص أو‬
‫التنقيــب بــن ســطور األعــال الفائــزة‪.‬‬
‫فخر الدين فياض يظهر روائياً للمرة األوىل‪ ،‬وقد شكَّل‪ ،‬من خالل رسدية‬
‫طويلة‪ ،‬شخصي َة «نجيب» ذات الطبيعة امللحمية بشكلها النمطي‪ .‬تفصح‬
‫الشخصية عن نفسها بقوة امللكات “اإليجابية» املزروعة فيها‪ ،‬وت ُغايل يف‬
‫اســتعراض ذاتهــا املنتقــاة بدقــة تصــل إىل حــد الغربلــة حيــث تــكاد الشــوائب‬
‫التــي تعكــر صفــاء الشــخصية تنعــدم متامـاً‪ .‬يلتصــق فيــاض ببطلــه بقــوة حتــى‬
‫لتوشــك بؤرة كامريا الروايئ أن تســكن محياه‪ ،‬لتصور كل خلجة من خلجاته‪،‬‬
‫أو تسري بركابه متابعة وقع سنابك حصانه كام يليق ببطل أسطوري أن يُتَابَع‪.‬‬
‫ـب أيـ َة حركــة يقــوم بهــا‪ ،‬فيــا تبــدو الشــخصيات األخــرى‬
‫يجــب أال ت ُغفــل الكتـ ُ‬
‫‪189‬‬ ‫روطسألا بلغ يذلا عقاولا ‪:‬ضايف نيدلا رخفل »ليإ شمر« ةياور‬

‫واألحــداث الصغــرة والكبــرة التــي ميــر بهــا نجيــب عوامــل مســاعدة لتعميــق ســاته وإبرازهــا‪،‬‬
‫يواولا ماشه‬

‫وكأن الكاتب قد كرس «رمش إيل» ليلتقط رشيطاً تفصيلياً لنجيب‪ ،‬وليقدم منوذجا إنسانياً‬
‫منحوتـاً ببالغــة أدبيــة براقــة‪ ،‬فالــرد مبعظمــه مكــرس للتعبــر عــن غاية فنية هي‪ :‬نجيب‪.‬‬
‫ال يبــدأ الكاتــب ســرة نجيــب منــذ الــوالدة ‪ -‬جريـاً عــى عــادة املالحــم ‪ -‬بــل يختــار لحظــة‬
‫هزميــة شــاملة تصيــب الجســد العــريب والــذي اصطلــح عــى تســميتها بالنكســة‪ ،‬فيضعــه‬
‫مبواجهــة مخــاض كبــر‪ ،‬وكأن مواجهــة املخــاض هــو قــدر نجيــب مــن خروجــه األول‪ .‬يعتــر‬
‫نجيــب أن والدة زوجتــه مريــم يف ســاعات الهــروب هــو املعــادل املوضوعــي للنكســة‪ ،‬لذلــك‬
‫كان يســر يف درب هجرتــه بــرود وكأنــه ذاهــب إىل املــكان الــذي خــرج منــه‪ .‬يســتل نجيــب‬
‫الوليـ َد املفـ َ‬
‫ـارق للحيــاة مــن رحــم مريــم‪ ،‬ويتابــع طريقــه دون أن ينظــر إىل الخلــف حيــث يحــط‬
‫كطائــر ضخــم يف رمــش إيــل أقــرب مــكان إىل الجغرافيــا التــي خــرج منهــا‪.‬‬
‫ال ميــل الكاتــب مــن تكــرار مشــهد الــوالدة املثــر بحيــث يصبــح املشــهد خلفيــة كبــرة‬
‫تجلــل وجــود نجيــب وشــعار حملتــه ملتابعــة الحيــاة‪ ،‬فيرتســخ نجيــب ذو الشــخصية الصلبــة‬
‫املتفانيــة القابلــة لالســتمرار بطفلــه الــذي خــرج مــن جســد ميــت إىل الحيــاة وكأنهــا املعجــزة‬
‫التــي تصاحــب والدة االســتثناء‪.‬‬
‫يف روايــة «رمــش إيــل» تظهــر شــخصية نجيــب ذلــك الرجــل املجبــول مــن طــن خــاص‬
‫يتحــرك يف فضــاء رمــش إيــل الضيــق ولكنــه يفــرد جناح ـاً عريض ـاً يوشــك أن يظلــل الكــون‪.‬‬
‫حضــوره امللحمــي الطاغــي يحــرك ركــود املــكان تنشــط الحركــة ويــدب نشــاط يف مجتمعهــا‬
‫الصغري وكأنها كانت تنتظر نبياً من هذا الطراز‪ .‬نشــاط البطل ال يتوقف عىل قطاع محدد‪،‬‬
‫ـادق فيبــدو نبي ـاً وفي ـاً يف صداقتــه‪ ،‬ويحــب كــا يليــق مبــن ميلــك شــفافية العاشــق‬ ‫يصـ ُ‬
‫مبشــاعره الصادقــة‪ ،‬ويظهــر فحولــة نــادرة يــر عليهــا الكاتــب كثــرا ً حتــى تبــدو وكأنهــا صنــو‬
‫الرجولــة‪ ،‬ويذهــب الكاتــب بعيــدا ً يف توكيــد «رجولــة» نجيــب املبكــرة‪ ،‬فيصــوره يافعـاً يهبــط‬
‫مــن الجليــل إىل حيفــا ليلتقــي مباريــا عــر مغامــرة جنســية بفضــل عضــوه الضخــم‪ .‬تلقفتــه‬
‫الســيدة التــي خــرت زوجهــا الفحــل حيــث وجــدت يف الفتــى اليافــع ســلوى تبثهــا غرائزهــا‬
‫الجامحــة‪ .‬ال توجــد حواجــز لــدى نجيــب وال يبــدو أن هنــاك حــدودا ً لشــخصه‪ ،‬هـذّب نفســه‬
‫باملطالعــة لدرجــة أنــه قــرأ روايــة «الغريــب» وتشــبع بــروح ثقافيــة ذات طيــف واســع‪ ،‬فعــرف أن‬
‫الشــيوعية ورموزهــا مجــرد شــعارات فارغــة‪ ،‬وأظهــر براعــة باإليروتيــكا‪ ،‬وأتقــن إىل حــد اإلشــباع‬
‫فــن التمتــع بالجســد األنثــوي‪.‬‬
‫يخــرج نجيــب مــن رمــش إيــل تــاركاً وراءه كنــزا ً مبعــرا ً يف طرقاتهــا وحب ـاً ومجموعــة أمــاين‬
‫لنســاء رغــن بــه وكأنــه الرجــل الوحيــد‪ ،‬كانــت فاطمــة جــزءا ً أساســياً مــن حياتــه‪ ،‬ولكنهــا ذلــك‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪190‬‬

‫الجــزء الــذي يطفــئ فيــه بــرودة املرجــل الــذي يضطــرم بالرغبــة‪ ،‬ومل ترغــب هــي باملقابــل أن‬
‫تكون أكرث من ذلك‪ ،‬أما بقية النسوة (نعيمة ‪ -‬بلقيس) فكانتا شاهدتني عىل رجولة نجيب‬
‫(أو عفافــه)‪ .‬تبقــى رمــش إيــل خلفــه ليبــدأ مرحلــة ثانيــة ذات شــكل مختلــف وطعــم مختلــف‪،‬‬
‫تبــدأ مــن الالذقيــة يف حــي الصليبــة مــرورا ً بركــن الديــن الحــي الدمشــقي املميــز ثــم الســويداء‬
‫وجبــل العــرب وصــوالً إىل األردن ومخيــم الزعــري‪ ،‬رحلــة أرادهــا الكاتــب أن تتضمــن شــيئاً مــن‬
‫يوميــات الثــورة الســورية‪ ،‬ين ّقــل نجيــب عينيــه يف حيثيــات القهــر الســوري ويتحــول إىل كتلــة‬
‫برشيــة غاضبــة تنحــر عنهــا مالمــح بطــل األســطورة وتظهــر عوض ـاً عنهــا تقاطيــع نزقــة ولهجــة‬
‫مغلفــة بالهجــاء املــر‪.‬‬
‫مل تكن رحالت نجيب مربرة بشكل كاف إال بالقدر الذي يسمح لها بتمرير التوصيفات‬
‫التــي اختارهــا الكاتــب للثــورة فالرجــل األســطوري الــذي ربــض يف رمــش إيــل زمن ـاً طوي ـاً مل‬
‫تعــد األرض تحتملــه فــذرع الجغرافيــا التــي تعيــش الثــورة مســتعرضاً أقــى لحظاتهــا‪.‬‬
‫يتوغل الكاتب يف التفصيالت الصغرية فيخلق وهامً كالواقع‪ ،‬يرسد بعمق من مخزونه‬
‫الغني نرثيات حياتية صغرية ترتاكم وتتكاثف لتشكل حقائق فنية معتقة بطعم واقعي نابض‪،‬‬
‫فال ينىس أن يذكر نوع املياه الغازية التي رشبتها شخصية الراوي ومن أين تم إحضارها وال‬
‫لــون الحبــوب املقويــة للجنــس التــي يبيعهــا “الدكتــور» حســن‪ .‬يتوســع يف الــرد الوصفــي‬
‫الــذي يخلــق صــورة آنيــة دقيقــة كثيفــة الرتكيــز وبدقــة عاليــة‪ ،‬دون أن يكــون عام ـاً مفيــدا ً يف‬
‫إغناء الشــخصية التي يســبغ عليها صفاتها بطريقة مبارشة‪.‬‬
‫يضفر الرسد الشهي املتخم باملنمنامت والبنى الدقيقة النص كجدائل سلسلة تساعد‬
‫عــى اإلمســاك بالقــارئ أطــول فــرة ممكنــة فــا يتيــح الــرد املفصــل أي فاصــل‪ ،‬ثــم يدقــق‬
‫يف األحــداث واألمكنــة فيصفهــا وصــف املعايــن الخبــر‪ :‬املغــرب‪ ...‬فلســطني‪ ...‬لبنــان‪...‬‬
‫وســوريا‪ ...‬وبشــكل مغــا ٍل‪ ،‬ورمبــا اســتعرايض‪ ،‬يحــرص عــى ترصيــع الــرد بثقافــة غنيــة ترتكــز‬
‫عــى ذاكــرة قريبــة قويــة تعمــل كاملغناطيــس وتنفــذ إىل قلــب األشــياء‪.‬‬
‫التقليــب يف التاريــخ القريــب واســتحضار شــخصيات وأحــداث حقيقيــة أضــاف إىل‬
‫الشــكل الجــايل الــذي تأخــذه الروايــة شــكالً وثائقي ـاً رغــم أن التاريــخ املــرود كان يخــدم‬
‫البطــل نجيــب املقــداد ويكــرس تفوقــه ويف بعــض األحيــان كان شــاهدا ً عــى اســتبصاره‪.‬‬
‫تغــرت لهجــة الكاتــب يف الفصــل الثــاين مــع بــدء معالجتــه ليوميــات الثــورة الســورية‪،‬‬
‫فحــول بطلــه نجيــب إىل مجــرد شــاهد يراقــب ويرصــد ويكيــل الشــتائم‪ ،‬وغلبــت عــى الروايــة‬
‫يف قســمها الثــاين صيغــة إعالميــة مســتقاة مــن نــرات األخبــار العاطفيــة التــي تصــف ظاهــر‬
‫الحــدث وتقدمــه بوصفــه مناســبة إلظهــار الحنــق‪ ،‬ورغــم الشــكل التاريخــي للروايــة فلــم تب ـ ُد‬
‫‪191‬‬ ‫روطسألا بلغ يذلا عقاولا ‪:‬ضايف نيدلا رخفل »ليإ شمر« ةياور‬

‫غالف رواية رمش إيل‬


‫يواولا ماشه‬

‫عميقــة مبعالجتهــا ملقدمــات الثــورة وال تكفــي اإلشــارة إىل شــخصية الطالــب‬
‫حيــدر امللتبســة كســبب ثــوري‪.‬‬
‫اكتفــت الروايــة بتوصيــف النظــام بعبــارات عامــة طاملــا اســتخدمها‬
‫معارضــون تقليديــون ذوو لهجــة تلفزيونيــة مســلحني بعبــارات قاســية تهــدف‬
‫لكســب مشــاهد محطــم الفــؤاد‪ ،‬ورغــم «تــورط» نجيــب بالحــدث الســوري‬
‫ط دور الشــاهد‪،‬‬‫بتوســطه يف عمليــة إطــاق رساح رهينــة إال أن دوره مل يتخ ـ َّ‬
‫رغــم شــخصيته األســطورية ومؤهالتــه التــي تجعــل منــه إبزميــا يعطــي الحــدث‬
‫الطاقــة ليتفاعــل ويشــتعل الــرد الــروايئ بالحركــة‪.‬‬
‫خــاف الكاتــب عــى بطلــه وأبقــاه بعيــدا ً عــن نــواة الحــدث فرتكه طافياً رغم‬
‫أنــه أورد عــى لســانه موقفـاً متشــددا ً ولكنــه مل يتعــد النــزق الــذي تنتجــه جملــة‬
‫عصبية أصابها الخمول‪ ،‬ولكنها قادرة عىل إفراز االنفعاالت القوية ومل تنفع‬
‫نجيب املقداد رواية «الغريب» التي قرأها يف صباه وال استبصاره امللفت‬
‫للنظر مبآالت اليسار كحركة مبكرة‪ ،‬مل ينفعها تراثها النضايل عندما تحولت‬
‫إىل مجرد أداة أخرى يف يد الطاغية‪ ،‬ورمبا كرمز عىل االنكفاء‪ ،‬انكفاء البطل‬
‫األسطوري وفقدانه القدرة عىل التغيري يف وسط عنيف تختلط فيه األلوان‪،‬‬
‫فيعود االبن إىل رمش إيل منتظرا ً والدة النبي الجديد‪.‬‬
‫خالد محمود‬

‫«التكويــن التاريخــي للجزيــرة الســورية»‬


‫ملحمــد جمــال بــاروت‪:‬‬
‫كتاب موسوعي يستخدم املدرسة املنهجية يف تدوين التاريخ‬

‫مُقدّمة‬
‫يحــاول هــذا الكتــاب أن يــدرس تاريــخ التكـ ّون االجتامعــي والســيايس الحديــث‬
‫للجزيــرة الســورية عــى مــدى تاريــخ طويــل ميتــد مــن منتصــف العرشينيــات التــي‬
‫اســتؤنف فيهــا إعــار الجزيــرة‪ ،‬وتشــكل فيهــا‪ ،‬بعــد مــا ال يقــل عــن خمســة قــرون ونيف‬
‫من الخراب‪ ،‬مجتمع دينامييك متحرض مركب الهوية‪ ،‬وحتى منتصف السبعينيات‬
‫ـت واحـ ٍـد‪.‬‬
‫التــي شــهدت خامتــة برامــج اإلحــال القوميــة ونهايتهــا يف وقـ ٍ‬
‫وطرحــت يف عمليــة التكــون الطويلــة املــدى تلــك أســئلة ومشــكالت وقضايــا‬
‫العالقــة بــن التنميــة واالندمــاج االجتامعــي‪ ،‬والوحــدة واالنفصــال يف إطــار تك ـ ّون‬
‫الدولة السورية الحديثة‪ ،‬يف حدود سورية «االنتدابية»‪ ،‬وبروز إشكاليات التشكل‬
‫املعقــد واملتعــر للهويــة الوطنيــة الســورية‪.‬‬
‫تطـ ّور تعريــف الجزيــرة خــال هــذه الفــرة الطويلــة املــدى مــرات عــدة‪ ،‬إذ عرفتهــا‬
‫ســلطات االنتــداب الفرنــي بواســطة مفهــوم الحزامــات اإلثنيــة الجبليــة والطرفيــة‬
‫الضاغطــة عــى املــدن الداخليــة الســورية‪ ،‬وعملــت يف ســياق هــذا التعريــف عــى‬
‫‪193‬‬ ‫توراب لامج دمحمل »ةيروسلا ةريزجلل يخيراتلا نيوكتلا«‬

‫تشكيل كيان إثني أحبطه الفيتو الرتيك‪ ،‬ودخلت خالل فرتة الحرب العاملية الثانية يف احتكاكات‬
‫اتلا نيودت يف ةيجهنملا ةسردملا مدختسي يعوسوم باتك‬

‫جيــو‪ -‬سياســية كبــرة مــع الربيطانيــن واألتــراك حــول الســيطرة عليهــا‪ ،‬كــا أُعيــد هــذا التعريــف بعــد‬
‫اكتشــاف طاقاتهــا الكــرى الكامنــة يف مرحلــة انطــاق الثــورة الزراعيــة يف الجزيــرة‪ ،‬وتحولهــا إىل مــكان‬
‫«شــهي» لسياســات ومشــاريع الواليــات املتحــدة األمريكيــة بتوطــن الالجئــن الفلســطينيني فيهــا‪،‬‬
‫ثــم عرفــت أهميتهــا منــذ النصــف الثــاين مــن الخمســينيات باعتبارهــا إقليـ ًـا نفط ًيــا «واعـدًا»‪ .‬ومتثــل‬
‫املشــرك يف هــذه التعاريــف كافّـ ًة بتحــول الجزيــرة طيلــة الفــرة املمتــدة بــن الخمســينيات وحتــى‬
‫اليوم إىل أحد أكرب ال ُنظم الزراعية السورية املختصة بإنتاج «املحاصيل االسرتاتيجية» مثل الحبوب‬
‫والقطــن‪ ،‬وباســتثامر مكامــن النفــط‪.‬‬
‫لفهم كيفية نشوء الجزيرة السورية الحديثة‪ ،‬وعالقتها بإقليم بالد الجزيرة التاريخي كان ال بد من‬
‫تحديــد مفهــوم الجزيــرة‪ ،‬والعــودة إىل جــذور تبلــوره وتطـ ّوره‪ .‬ويف هــذا اإلطــار يقصــد البحــث بالجزيرة‬
‫الســورية يف هــذا الكتــاب‪ ،‬مــا كان يشـكّل مــن الناحيــة املجاليــة البرشيــة جــز ًءا مــن «ديــار ربيعــة» يف‬
‫إقليــم بــاد الجزيــرة التاريخــي‪ ،‬أو مــا أطلــق عليــه الخــراء واإلداريــون الفرنســيون يف مرحلــة االنتــداب‬
‫الفرنيس عىل سورية اسم» الجزيرة العليا» )‪ ،La (Haute dejzireh‬أو ما يعنيه اليوم املفهوم‬
‫اإلداري ملحافظة «الحسكة» يف التقسيامت اإلدارية السورية‪ .‬والجزيرة‪ ،‬أو بالد الجزيرة‪ ،‬أو الجزيرة‬
‫الفراتيــة‪ ،‬وأكــره تواتـ ًرا هــو بــاد الجزيــرة‪ .‬وهــو االســم الــذي أطلقــه الجغرافيــون واملؤرخــون املســلمون‬
‫عــى مــا كان يعنيــه اإلغريــق بــ)‪ ،(Mesopotamia‬أو مــا بــن النهريــن (= دجلــة والفــرات)‪ ،‬أو مــا‬
‫كان يعنيــه الرسيــان بـ»ســوريا بريثــا» (ســورية الخارجيــة)‪ ،‬أو الرومــان بـ»ســورية األوىل»‪ .‬وهــو إقليــم‬
‫نهري راســخ العمران منذ فجر الثورة الحرضية يف العامل‪ ،‬وتك ّون رؤى اإلنســان األوىل‪ ،‬لكنه تع ّرض‬
‫للدمــار منــذ أواخــر القــرن الرابــع عــر امليــادي بفعــل الغــزوات التتاريــة‪ ،‬وكان الجــزء األوســط منــه‬
‫الــذي يشــمل اليــوم يف ســورية املجــال اإلداري ملحافظــات الرقــة وديــر الــزور والحســكة األكــر خرابًــا‪،‬‬
‫الســفىل‪ ،‬فــإن الخــراب اســتمر يف‬ ‫ويف حــن اســتؤنف العمــران يف كل مــن الجزيــرة ال ُعليــا والجزيــرة ُ‬
‫الجزيــرة الوســطى ملــدة خمســة قــرون ونيّــف– يف مــا عــدا بعــض البــؤر الحرضيــة املحــدودة‪ -‬منــذ‬
‫أواخر القرن الرابع عرش وحتى مرحلة «التنظيامت» العثامنية «الثانية» يف ستينيات القرن التاسع‬
‫عرش‪ .‬وإثر تكريس الحدود «االستعامرية» الدولتية بني كل من سورية «االنتدابية» وتركيا وبريطانيا‬
‫مبوجب معاهدة لوزان (‪ )1923‬التي صفّت الدولة العثامنية قانونيًا‪ ،‬ونقلت املنطقة من النظام‬
‫اإلمرباطوري السابق إىل نظام «الدول» املستقلة الخاضعة لالنتداب‪ ،‬آل القسم األكرب من الجزيرة‬
‫الســفىل إىل العــراق‪ ،‬يف حــن آلــت الجزيــرة الوســطى‬
‫ال ُعليــا إىل تركيــا‪ ،‬والقســم األكــر مــن الجزيــرة ُ‬
‫إىل ســورية‪ .‬وتؤلفهــا اليــوم يف التقســيامت اإلداريــة الســورية للمجــال الوطنــي كل مــن محافظــات‬
‫الرقــة وديــر الــزور والحســكة‪ .‬وتشــكل مســاحتها ‪ 7602‬ألــف هكتــار‪ ،‬أو ‪ 41‬يف املئــة مــن املســاحة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪194‬‬

‫العامة للجمهورية العربية السورية‪ ،‬ومتثل عىل مستوى مصادر الناتج املحيل اإلجاميل (الدخل‬
‫القومي) مخزن الغالل والطاقة يف االقتصاد السوري‪ .‬وأطلق الفرنسيون عىل املجال الذي يشكل‬
‫اليــوم محافظــة الحســكة اســم «الجزيــرة العليــا»‪.‬‬
‫يتألــف هــذا الكتــاب‪ ،‬عــن التك ـ ّون االجتامعــي والســيايس التاريخــي الحديــث للجزيــرة الســورية‬
‫الحديثــة‪ ،‬مــن فصــل متهيــدي مط ـ ّول‪ ،‬وثالثــة أقســام تؤلــف يف مجملهــا أربعــة عــر فص ـاً‪ .‬يُعالــج‬
‫الفصــل األول «تاريــخ‪ :‬الجزيــرة الســورية‪ :‬جدليــة العمــران الحــري والتبــدي»‪ ،‬واض ًعــا إطــا ًرا تاريخ ًّيــا‬
‫خصوصــا‪ُ ،‬مح ـ ّددًا مفهــوم الجزيــرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫لإلقليــم عمو ًمــا‪ ،‬وللجزيــرة الفراتيــة الوســطى (الســورية الح ًقــا)‬
‫ومجالهــا الجغــرايف البــري‪ ،‬وصــولً إىل التشــكل الحديــث ملفهــوم «الجزيــرة العليــا» الفرنــي‬
‫االنتــدايب‪ ،‬أو «الجزيــرة» باملصطلــح اإلداري الســوري‪ ،‬مركّ ـ ًزا عــى جدليــة العمــران والبــداوة فيــه‬
‫متمثل ـةً‪ ،‬بخــراب الزراعــة إثــر الغــزوات التتاريــة التــي ســجلت خامتتهــا يف أواخــر القــرن الرابــع عــر‬
‫وخــروج اإلقليــم مــن مرحلــة العمــران إىل التبــدي‪ ،‬وانتشــار موجــة جديــدة فيــه مــن هجــرة العشــائر‬
‫البدويــة عــى مشــارف القــرن الســابع عــر‪ ،‬ومتوق ًفــا عنــد برنامجــن عثامنيــن أساســيني إلحيــاء هــذا‬
‫القســم مــن الجزيــرة وعمرانــه‪ ،‬األول يف أواخــر القــرن الســادس عــر‪ ،‬والثــاين يف مرحلــة التنظيــات‬
‫العثامنية الثانية بد ًءا من ستينيات القرن التاسع عرش‪ ،‬وال سيام يف مرحلة السلطان عبد الحميد‬
‫الثاين (‪ ،)1909 - 1876‬وحتى نهاية الدولة العثامنية‪ ،‬ويف حني أخفق الربنامج األول فإن الربنامج‬
‫الثــاين حقــق نجاحـ ٍ‬
‫ـات نســبية ملموســة يف وادي الفــرات‪ ،‬لكــن نصيبــه يف منطقــة الخابــور أو منطقــة‬
‫الجزيــرة الســورية الحديثــة (= الحســكة) كان محــدودًا بتكــون بعــض القــرى‪ ،‬والبــؤر نصــف الحرضيــة‬
‫التــي تعتمــد عــى منــط اإلنتــاج الزراعــي ‪ -‬الرعــوي‪.‬‬
‫يتألــف القســم األول «االحتــال‪ ،‬تســاقُط املشــكالت اإلثنيــة‪ ،‬الهجــرات‪ ،‬اإلعــار» مــن خمســة‬
‫فصــول مرتابطــة‪ .‬ويف الفصــل األول مــن هــذا القســم الــذي هــو الفصــل الثــاين مــن الكتــاب «احتــال‬
‫الجزيــرة»‪ ،‬يتــم التوقــف عنــد عمليــة االحتــال الفرنــي للجزيــرة الســورية‪ .‬فخالفًــا للمناطــق الســورية‬
‫األخرى التي احتلها الفرنســيون‪ ،‬وســيطروا عليها يف عام ‪ ،1920‬اســتغرقت عملية احتالل الجزيرة‬
‫ست سنوات تقريبًا (‪ ،)1926 - 1920‬وارتبط طول عملية االحتالل وتعقّدها بالخالفات الفرنسية‪-‬‬
‫الرتكية حول ترسيم الحدود التي ع ّينتها معاهدة لوزان‪ ،‬والتي مل تنته إال يف سنوات ‪1933 - 1929‬‬
‫برتسيم الحدود السورية ‪ -‬الرتكية التي ُخيّل فيها أن هذه الحدود غدت «نهائية» إىل أن اندلعت‬
‫مشكلة لواء اإلسكندرون يف منتصف الثالثينيات‪ ،‬وانتهت عىل الشاكلة املعروفة بضمه إىل تركيا‬
‫ـرف واحـ ٍـد يف عــام ‪ .1939‬أمــا الفصــل الثالــث «املــرق العريب الحديث‪ :‬نشــوء املشــكالت‬
‫مــن طـ ٍ‬
‫الكرديّــة والكلــدو‪ -‬أشــورية واألرمنيّــة‪ ،‬وتســاقط آثارهــا عــى ســورية‪ :‬األصــول التكوينيــة والتاريخيّــة»‪،‬‬
‫فيتوقــف بشــكلٍ مفصــلٍ عنــد ديناميــات العالقــة بــن تشــكل الجزيــرة الســورية الحديثــة وعمليــة‬
‫تشــكيل املــرق العــريب الحديــث‪ ،‬وتكريســها دول ًّيــا مبوجــب معاهــدة لــوزان (‪ ،)1923‬عــر تســاقط‬
‫‪195‬‬ ‫توراب لامج دمحمل »ةيروسلا ةريزجلل يخيراتلا نيوكتلا«‬

‫املشــكالت الكرديّــة والكلــدو‪ -‬أشــورية واألرمن ّيــة الناشــبة بشــكل خــاص يف ســنوات الحــرب العامليــة‬
‫اتلا نيودت يف ةيجهنملا ةسردملا مدختسي يعوسوم باتك‬

‫األوىل ‪ ،1918-1914‬يف فضائهــا طــردًا مــع سياســات الهويــة الرتكيــة التــي قامــت الح ًقــا عــى قومنة‬
‫املجــال البــري الــريك للجمهوريــة الرتكيــة وفــق منــط الدولــة‪ -‬األمــة التجانيس والدمجي الفرنيس‪،‬‬
‫وطــرد أو تهجــر أو دفــع األرمــن واألشــوريني والرسيــان وغريهــم مــع موجــات برشيــة كبــرة مــن األكــراد‬
‫للهجــرة خــارج تركيــا‪ ،‬وبشــكل خــاص إىل الجزيــرة الســورية الحديثــة يف جنــوب خــط ســكة الحديــد‪،‬‬
‫الذي بات ُيثل الحدود السورية‪ -‬الرتكية الشاملية‪ ،‬ويحاول هذا الفصل أن يتعرف بشكل تاريخي‬
‫إىل نشوء هذه املشكالت عىل املستويني املجهري والكيل الشامل من ناحية أصولها التكوينية‬
‫خصوصا‪ ،‬يف شكل هجرتني‬
‫ً‬ ‫والتاريخية وتساقطها يف املجال السوري عمو ًما‪ ،‬ويف مجال الجزيرة‬
‫متتابعتــن ومتداخلتــن هــا املوجــة األوىل واملوجــة الثانيــة‪ ،‬يف إطــار رحــى «اللعبــة الكــرى» يف‬
‫إعــادة التشــكيل االســتعامري للمــرق العــريب‪ ،‬ووالدة ســورية «االنتدابيــة» يف الجــزء الحــايل مــن‬
‫إقليــم بــاد الشــام التاريخــي‪.‬‬
‫يبحــث الفصــل الرابــع «التاريــخ االجتامعــي والســيايس للهجــرات الكــرى‪ :‬موجــة الهجــرة الثالثــة‪:‬‬
‫‪ »1939 - 1925‬التي شكلت الجزيرة السورية الحديثة أبرز مقاصدها‪ ،‬يف إطار التالقي املوضوعي‬
‫بــن سياســات الهويــة الرتكيــة الطــاردة وسياســات الهويــة الفرنســية الجاذبــة واملســتوعبة‪ .‬ويتوقــف‬
‫هــذا الفصــل بأكــر قــدر مــن التفصيــل املجهــري املمكــن عنــد هــذه الهجــرات «القرسيــة»‪ ،‬أو التــي‬
‫رشوط «قرسيّ ٍة» من منظور دورها التكويني يف إنشاء املجال البرشي للجزيرة السورية‬ ‫ٍ‬ ‫حدثت يف‬
‫الحديثــة‪ ،‬ونشــوء مجتمــع مركــب ومع ّقــد الهويــة فيهــا‪ ،‬ميكــن فيــه التمييــز عــى مســتوى املجتمــع‬
‫الكــردي الســوري الحديــث التمييــز بــن «أكــراد الدواخــل» و»أكــراد األطــراف»‪ ،‬األمــر الــذي ســتكون‬
‫له آثار الحقة يف مرحلة «تقومن» املجتمع الكردي الســوري حول التعريف الكردي الســوري ألكراد‬
‫سورية‪ ،‬أو التعريف الكردستاين له‪ .‬بينام بحث الفصل الخامس يف ردة الفعل عىل هذه الهجرات‬
‫عرب تعيينها يف مقاربة «قلق الحركة الوطن ّية من موجات الهجرة»‪ ،‬والعوامل التي تحكّمت بها‪ ،‬مع‬
‫أن أثرهــا الصــايف يف إعــار الجزيــرة كان إيجاب ًيــا‪ .‬وهــذا األثــر هــو مــا يبحثــه الفصــل الســادس «إعــار‬
‫الجزيرة» عىل مستوى تط ّوره وسريورته‪ ،‬وقوامه البرشي‪ ،‬وسياساته يف املرحلة االنتدابية الفرنسية‬
‫ليح ّقــق يف منظــور العمليــات التنمويــة الكــرى نجا ًحــا تاريخ ًّيــا ُمبهـ ًرا بالقيــاس إىل برنامجــي اإلعــار‬
‫العثامنيــن الســابقني يف أواخــر القــرن الســادس عــر‪ ،‬ويف مرحلــة التنظيــات بــد ًءا مــن ســتينيات‬
‫القــرن التاســع عــر‪ ،‬وليدشــن بالتــايل تحــول هــذا القســم مــن إقليــم بــاد الجزيــرة التاريخــي أول مــرة‬
‫مــن البــداوة والخــراب إىل التحــر والعمــران‪ .‬وال يــردد بالبحــث يف التقويــم التاريخــي لعملية إعامر‬
‫الجزيــرة يف ضــوء مقاربــة التحليــل بالنتائــج بوصفهــا القصــة التنمويــة «االنتدابيــة» األكــر نجا ًحــا يف‬
‫صفحات مرحلة االنتداب الفرنيس املحدودة اإلنجاز واأللق عىل املستوى الكيل‪ ،‬التي وضعت‬
‫مداميك الثورة الزراعية فيها‪ ،‬مح ّولة إيّاها إىل نو ٍع من «كاليفورنيا سورية»‪ .‬ودفعت قصة النجاح‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪196‬‬

‫هــذه‪ ،‬وإعــار الجزيــرة بالبــر والزراعــة والقــرى‪ ،‬وجعلهــا جــز ًءا ال يتجــزأ مــن تاريــخ الحنطــة يف ســورية‪،‬‬
‫السياسات االنتدابية الفرنسية يف مرحلة «حرجها» التاريخي بني عامي ‪ 1936‬و‪ 1939‬بني تحويل‬
‫االنتداب إىل معاهدة‪ ،‬ومقاومة شبكة ما يُعرف فرنس ًّيا بشبكة «الحزب االستعامري» لهذا النهج‪،‬‬
‫أي نهــج املعاهــدات‪ ،‬إىل محاولــة تشــكيل كيــان إثنــي كلــدو أشــوري ‪ -‬كــردي ‪ -‬بــدوي عــريب تحــت‬
‫السلطة الفرنسية املبارشة‪ ،‬وسط احتدام الرصاع بني «املف ّوضية» وضباط االستخبارات والجيش‪،‬‬
‫الذي كان يعكس الرصاع يف املركز البارييس‪ .‬وهذه املرحلة هي مرحلة إثارة ضباط االستخبارات‬
‫والجيــش وشــبكة «الحــزب االســتعامري» الفرنســية لحركــة االســتقالليات الذاتيــة والجهويــة يف كل‬
‫مــن محافظــة الالذقيــة‪ ،‬ومحافظــة جبــل الــدروز‪ ،‬ومحافظــة الجزيــرة‪ ،‬التــي متثلــت أقــوى شــحناتها‬
‫«االنفصاليــة» يف الجزيــرة الســورية‪ .‬وهــذا مــا يدرســه البحــث بالتفصيــل عــى املســتويني املجهــري‬
‫ـردي ‪ -‬الكلــدو ‪ -‬أشــوري ‪-‬‬
‫والــكيل عــى مــدى ثالثــة فصــول‪ ،‬الفصــل الســابع «مــروع الكيــان الكـ ّ‬
‫ـدوي يف الجزيــرة‪ ،»1939 - 1937:‬ويف الفصــل الثامــن «عصيــان الجزيــرة ‪ :1939 -1937‬إعــادة‬
‫البـ ّ‬
‫تشــكيل األحــداث»‪ ،‬ويف الفصــل التاســع «مــن النظــام الخــاص للجزيــرة إىل الجــاء ‪:1946-1939‬‬
‫املشــاحنات الفرنسـيّة – الربيطانيّة ‪ -‬الرتكيّة»‪.‬‬
‫يتألف القسم الثالث من فصلني‪ :‬الفصل العارش «الثورة الزراع ّية‪ :‬كاليفورنيا سورية االنطالق‪،‬‬
‫الثورة‪ ،‬األزمة» محل ًّل تاريخها االقتصادي– االجتامعي‪ -‬السيايس والسياسايت السكاين والبرشي‬
‫التقاين املركب‪ ،‬وقواها املحركة عىل مستوى السياسات واملستحدثني وتأثريات طلب السوق‬
‫العامليــة واالندمــاج فيهــا‪ ،‬والتغــرات الطبقيــة‪ -‬االجتامعيــة والحرضيــة الحــادة التــي نتجــت منهــا‪،‬‬
‫بتشــكل أول رأســالية زراعيــة حديثــة ومتطــورة باملعنــى العــري‪ ،‬وتحويــل الفالحــن إىل عــال‬
‫زراعيــن‪ ،‬وبدايــة االنحــال الرسيــع للروابــط التنظيميــة واالجتامعيــة العشــائرية مــع ترســمل رؤســاء‬
‫وقيادات العشائر العربية والكردية‪ ،‬وحصيلتها التنموية من مرحلة الذروة إىل مرحلة األزمة الهيكلية‬
‫يف أواســط الخمســينيات‪.‬‬
‫يف الفصــل الحــادي عــر «مــروع توطــن الالجئــن الفلســطينيني يف ســوريّة وموقــع الجزيــرة‬
‫فيه‪ :‬يف تاريخ مرشوعي جونستون وتحويل نهر األردن»‪ ،‬يتوقف البحث بشكل مط ّول متّب ًعا الرسد ‪-‬‬
‫التحلييل والتحقيبي والتطوري املركب عند هذا املرشوع وجذوره التاريخية يف التفكري الصهيوين‬
‫بالجزيرة الســورية ومنطقة بني النهرين عمو ًما لالســتيطان‪ ،‬ثم إىل مشــاريع تهجري الفلســطينيني يف‬
‫مرحلة مرشوع تقسيم لجنة «بيل» لتقسيم فلسطني يف أواسط الثالثينيات‪ ،‬ثم إىل مكان منوذجي‬
‫لتوطــن الالجئــن الفلســطينيني بعــد النكبــة يف عــام ‪ .1948‬ويــرد هــذا الفصــل بشــكل تاريخــي‬
‫تحليــي ُمســهب هــذه القصــة‪ ،‬مســتنت ًجا أن مشــاريع التفكــر الصهيــوين بالجزيــرة باعتبارهــا مكانًــا‬
‫«شــه ًيا» لالســتيطان‪ ،‬أو إلســكان الفالحــن العــرب املهجريــن مــن األرايض التــي تتملكهــا «الوكالــة‬
‫اليهوديــة»‪ ،‬شــهدت نهاياتهــا يف أواخــر عــام ‪ 1948‬لتغــدو مرشو ًعــا أمريكيًــا منظوميًــا عارضتــه دولــة‬
‫‪197‬‬ ‫توراب لامج دمحمل »ةيروسلا ةريزجلل يخيراتلا نيوكتلا«‬

‫إرسائيل‪ ،‬وعرقلته بشكل حقيقي كونها استهدفت السيطرة عىل املوارد املائية‪ ،‬ورفضت توطني‬
‫اتلا نيودت يف ةيجهنملا ةسردملا مدختسي يعوسوم باتك‬

‫الالجئني الفلسطينيني يف البلدان العربية املحيطة بها‪ ،‬باحث ًة لهم عن مهاجر بعيدة مثل الربازيل‬
‫وغريها‪ .‬ويف قضية مرشوع إسكان أو توطني الالجئني الفلسطينيني يف الجزيرة تربز آثار تعقيدات‬
‫السياســة الدوليــة واإلقليميــة يف مصــر منطقــة الجزيــرة‪ ،‬ثــم يف مرحلــة أساســية مــن مراحــل الــراع‬
‫العــريب ‪ -‬اإلرسائيــي‪ ،‬وتحدي ـدًا الــراع الســوري‪ -‬اإلرسائيــي قبــل نكســة الخامــس مــن حزيــران‪/‬‬
‫يونيــو ‪ ،1967‬مــع مالحظــة العالقــة بــن مــروع إرسائيــل يف تحويــل نهــر األردن واملقاومــة الســورية‬
‫يف حــدوث هــذا العــدوان الــذي قلــب يف املحصلــة قواعــد الــراع وتوازناتــه وســط تخلخــل العــرب‬
‫وعجزهــم عــن متلــك الحــد األدىن عــى مصريهــم‪ .‬ويُلقــي هــذا الفصــل عــر مســألة التوطــن نظــرات‬
‫تفصيليــة أوســع‪ ،‬ومعالجــات جديــدة لقضايــا الالجئــن‪ ،‬كــا يســمح ببنــاء قاعــدة معلومات أساســية‬
‫تأشريية مستقبلية حول تفكري إرسائيل باملوارد املائية وما يدعى قضايا السالم‪ .‬وشكّلت الجزيرة‬
‫الســورية إحــدى فصــول هــذه القصــة «الدراميــة»‪.‬‬
‫يتوقف القسم الرابع «نشوء املشكلة الكردية يف الجزيرة‪ :‬من الهجرة الكردية الثانية إىل نهاية‬
‫مشاريع اإلحالل»‪ ،‬عىل مدى ثالثة فصول كبرية‪ ،‬من الفصل الثاين عرش حتى الفصل الرابع عرش‪،‬‬
‫وت ُغطــي عمليــة تطــور تكويــن الجزيــرة مــن مرحلــة نهايــة «النظــام الخــاص» الفرنــي والجــاء الفرنــي‬
‫عن سورية (‪ ،)1946‬وحتى منتصف السبعينيات‪ ،‬مع توغل يف بعض القضايا ذات الصلة بقضايا‬
‫التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية حتى أواخر مرحلة التسعينيات‪.‬‬
‫ويــدرس الفصــل الثــاين عــر التطــور االجتامعــي ‪ -‬البــري للجزيــرة «مــن موجــة الهجــرة الكرديّــة‬
‫الثانيــة إىل نشــوء مشــكلة «أجانــب ترك ّيــا» ‪ .»1962 - 1939‬ويف تاريــخ الهجــرات إىل ســورية كانــت‬
‫الهجــرة الكرديــة هــي الثالثــة بعــد الهجرتــن األرمنيــة– الرسيانيــة األوىل والثانيــة‪ ،‬مــا قبــل اســتكامل‬
‫الفرنســيني احتــال الجزيــرة الســورية الحديثــة‪ ،‬لكــن يف تاريــخ الهجــرات الكرديــة مثّلــت هــذه الهجــرة‬
‫املوجــة الثانيــة‪ ،‬وكانــت تتبــع بطريقــة مــا منهــج هجــرة «أكــراد أطــراف» املنطقــة التاريخيــة الســابقة من‬
‫شــال بــاد الشــام‪ .‬وستشــكل املوجــة الكثيفــة لهــذه الهجــرة يف إطــار سياســات التنميــة الزراعيــة‬
‫ـاس نشــوء السياســات الحكومية الســورية التي خلقت‬
‫ورســملتها ومكننتها يف ســورية وديار بكر أسـ َ‬
‫مشــكلة «أجانــب تركيــا»‪ ،‬أو «أجانــب الحســكة»‪ .‬بينــا يواصــل الفصــل الثالــث عــر متابعــة هــذه‬
‫املشــكلة تحــت عنــوان «برامــج التعريــب‪ :‬مــن برنامــج «إصــاح منطقــة الجزيــرة» إىل برنامــج «الحــزام‬
‫يب»‪ ،‬مح ّددًا حدود العالقة بني تلك الهجرة من جهة أوىل‪ ،‬واإلحصاء االستثنايئ الذي نفّذته‬ ‫العر ّ‬
‫حكومــة خالــد العظــم مــن جهـ ٍة ثانيـ ٍة‪ ،‬وبــن برنامــج «إصــاح الجزيــرة» الــذي تب ّنتــه حكومــة العظــم مــن‬
‫دون أن تتمكــن مــن تنفيــذه بســبب ســقوطها مــن جه ـ ٍة ثالث ـ ٍة‪ ،‬ومحاولــة إعــادة إنتــاج هــذا املــروع‬
‫الشــوفيني يف الســنة األوىل مــن حركــة الثامــن مــن آذار‪ /‬مــارس ‪ 1963‬مــن جه ـ ٍة رابع ـ ٍة‪ .‬وعــر هــذه‬
‫الحلقات املعقدة من مشاريع التعريب واإلحالل التي ظلت «لفظيةً» وغري منجزة‪ ،‬مسنود ًة إىل‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪198‬‬

‫أفكارها األوىل يف مرحلة حكم أديب الشيشكيل مبرحلتيه الفعلية والرسمية ‪ .1954 - 1950‬ويف‬
‫هــذا الفصــل يســتنتج الباحــث أن مــا ُدعــي بـ»الحــزام العــريب»‪ ،‬أو بنــاء القــرى النموذجية فوق أرايض‬
‫الدولة إلســكان املغمورين نتيجة «بحرية األســد» عند قيام ســد الفرات‪ ،‬شــكل من الناحية الفعلية‬
‫خامتــة ونهايــة مشــاريع اإلحــال القومــي‪ ،‬وإن كانــت بعــض مظاهــر السياســات التعصبيــة الجزئيــة‬
‫اســتمرت من خالل القرارات اإلدارية‪ ،‬التي كان حصادها اإلجاميل بالفعل محدودًا‪ .‬ويف الفصل‬
‫الرابع عرش «من خويبون إىل الباريت وتفرعاته‪ :‬يف أصول تشكل الخارطة السياس ّية الكرديّة السوريّة‬
‫املعارصة وتطورها»‪ ،‬يكشــف البحث التغريات السياســية الجوهرية يف مجتمع الجزيرة‪ ،‬وال ســيام‬
‫عــى مســتوى املجتمــع الكــردي األنشــط سياسـ ًيا فيــه عــى املســتوى الســيايس‪ -‬الحــريك‪ ،‬متوق ًفــا‬
‫عند تشكل الحركة الكردية املعارصة وتطورها من جمعية «خويبون»‪ ،‬إىل نشوء الحزب الدميقراطي‬
‫الكــردي «البــاريت»‪ ،‬وانحــال جمعيــة «خويبــون» خــال فــرة النصــف األول مــن األربعينيــات ليحـدُث‬
‫نو ٌع من فراغ سيايس يف املجتمع الكردي السوري تم ملؤه أول مرة بعد انحالل «خويبون» بنشوء‬
‫ـول إىل تشــكل نحــو إثنــي عــر‬
‫«البــاريت» الــذي اتســم تط ـ ّوره بديناميــات االنقســام والتشــظي‪ ،‬وصـ ً‬
‫حزبًــا كرديًّــا يف خارطــة العمــل الحــزيب الكــردي الســوري املعــارص‪ ،‬ينحــدر معظمهــا مــن انشــقاقات‬
‫«البــاريت»‪ ،‬وانشــقاقات املجموعــات التنظيميــة املنشـقّة عنــه عــى نفســها‪.‬‬
‫ويحلــل هــذا الفصــل األثريــن الكردســتانيني العراقــي والــريك يف تطـ ّور الحركــة الكرديــة الحديثــة‬
‫يف ســورية‪ ،‬ووقــوع قســم كبــر مــن انقســاماتها تحــت تأثــر انقســامات القيــادة الكدريــة يف شــال‬
‫العــراق‪ .‬ويتوقــف هــذا الفصــل عنــد والدة بعــض االتجاهــات التــي تعـ ّرف املجتمــع الكــردي الســوري‬
‫كردســتانيًا وليس كرديًّا ســوريّا‪ ،‬وتضم املناطق الكردية البرشية يف ســورية خالفًا لحقائق الجغرافيا‬
‫أو التاريخ أو حتى ملفهوم الحركة القومية الكردية عن نفســها إىل كردســتان الكربى‪ ،‬ثم إىل مرحلة‬
‫تشــظيه‪ ،‬وصــولً إىل صدمــة «األبوج ّيــة» يف املجتمــع الكــردي الســوري‪ ،‬املتمثلــة باحتــال حــزب‬
‫العــال الكردســتاين (ب‪ .‬ك‪ .‬ك) الــريك مواقــع نفــوذ وهيمنــة يف املجتمــع الكــردي الســوري يف‬
‫ســياق توتــر العالقــات الســورية‪ -‬الرتكيــة حــول مشــكلة تقاســم ميــاه نهــر الفــرات‪.‬‬
‫أمــا الفصــل الخامــس عــر فجــاء فص ـاً تركيب ًّيــا‪ ،‬مقاربًــا اإلشــكالية املعاكســة لنشــأة الجزيــرة‬
‫الســورية الحديثــة وتطورهــا‪ ،‬بالصيغــة التاليــة‪ :‬مــن الهجــرة إىل الجزيــرة إىل الهجــرة منهــا‪ :‬مــن مج ـ ّرة‬
‫األســئلة إىل العمــران الرابــع‪ ،‬بعــد مراحــل عمرانهــا األربعــة الســابقة‪ ،‬يف الحقبــة العثامنيــة‪ ،‬والحقبــة‬
‫االنتدابيــة‪ ،‬والحقبــة الوطنيــة‪.‬‬
‫كنت محظوظًا يف أن أجد يف األرشيف الوطني السوري املحفوظ يف مركز الوثائق التاريخية‬
‫ُ‬
‫بدمشــق مــادة غنيــة ومتنوعــة‪ ،‬مل تســتخدم حتــى اليــوم يف الكتابــات التاريخيــة الســورية إال عــى‬
‫نحــو جــزيئ‪ ،‬وإضاف ـ ًة إليــه شــكلت الجريــدة الرســمية وباألحــرى الجرائــد الرســمية لدولتــي ســورية‬
‫‪199‬‬ ‫توراب لامج دمحمل »ةيروسلا ةريزجلل يخيراتلا نيوكتلا«‬

‫يل منب ًعــا ال ينضــب للتفاعــل البحثــي‬


‫وحلــب‪ ،‬ثــم الجريــدة الرســمية للجمهوريــة الســورية‪ ،‬بالنســبة إ ّ‬
‫اتلا نيودت يف ةيجهنملا ةسردملا مدختسي يعوسوم باتك‬

‫مع املواد الهائلة واملتنوعة التي تقدمها هذه املجموعات‪ .‬وباملعنى التقليدي ملفهوم املدرسة‬
‫«املنهجيــة» الفرنســية للوثيقــة‪ ،‬فــإن الجريــدة الرســمية متثــل أكــر خــزان وطنــي للوثائــق يف مصــادر‬
‫كتابــة التاريــخ الســوري الحديــث‪ ،‬فهــي تحــي بشــكل «ســاكن» بــكل بســاطة حيــاة الدولــة‪ .‬وينفــرد‬
‫املؤرخ مبعنى مفهوم اتجاهات التاريخ الجديد له يف كونه الوحيد الذي يستطيع أن يرسد ويحلل‬
‫هــذه الصيغــة «الســاكنة» بشــكل متحــرك‪ .‬وشــكلت املجموعــات االقتصاديــة لغرفــة تجــارة حلــب‪،‬‬
‫وكذلــك التقاريــر الزراعيــة ملــا كان يُســمى يف بدايــة العرشينيــات بدولــة حلــب مصــد ًرا مهـ ًـا يف‬
‫توفــر الكثــر مــن املــؤرشات الدالــة املتعلقــة بحجــم التجــارة واملنــاخ والســكان والطــرق وأنــواع الســلع‬
‫واســتصالح األرايض واآلالت‪ ...‬إلــخ‪.‬‬
‫حــرص الباحــث مــا بوســعه عــى اســتيعاب أســس املدرســة «املنهجيــة» يف بنــاء تدويــن التاريــخ‬
‫باســتخدام العديــد مــن الوثائــق‪ ،‬ومبــا يغطــي املحطــات األساســية يف التاريــخ الحــديث للجزيــرة‬
‫السورية‪ ،‬لكن مع التحرر من منظورها الوضعي للتاريخ‪ ،‬الذي كان ابن نتاج تطور العلوم االجتامعية‬
‫اإلنســانية يف عرصهــا‪ ،‬ومقاربــة فهــم أرحــب للوثيقــة التــي ميكــن بناؤهــا دون انتظارهــا‪ ،‬يف مــا ميكــن‬
‫وصفــه بالوثيقــة املوســعة التــي يبنيهــا الباحــث مــن خــال حشــد مــن املعطيــات واملــؤرشات‪ ،‬وعىل‬
‫اســتثامر مقاربــات مدرســة الحوليــات والتاريــخ الجديــد يف مجــال التاريــخ االجتامعــي والحــري‬
‫واملحيل واألنرثوبولوجي واملجايل والتقني والدميغرايف والسكاين والثقايف والسيايس واإلداري‬
‫املركــب للجزيــرة‪.‬‬
‫حــاول الباحــث يف هــذه الفصــول كافــة أن يســتند إىل أكمــل مكتبــة مرجعيــة أساســية ومســاعدة‬
‫ممكنــة عــى مختلــف أنواعهــا يف قواعــد بياناتــه‪ ،‬وهــو يديــن لهــا بالكثــر‪ ،‬كام قام ببناء قاعدة بيانات‬
‫ومعلومات جديدة بهدف استخدامها‪ ،‬وقام باستخدامها بالفعل‪ .‬وهناك مكتبة فرعية غنية نسبيًا‬
‫تتعلــق بدراســة الجزيــرة‪ ،‬وتشــكل جــز ًءا مــن املكتبــة البلدانيــة الســورية الحديثــة التــي يصــل حجمهــا‬
‫إىل ما يقارب ستني كتابًا يف حدود رصده‪ .‬لكن املكتبة املتعلقة بالدراسات الشاملة محدودة‪،‬‬
‫وهي مؤلفة بدرجة رئيسة وفق الرتتيب من دراسات بوغوصيان‪ ،‬واسكندر داود‪ ،‬وكريستيان فيلو‪،‬‬
‫را بالنظــر إىل مــا تكتنــزه مــن معلومــات وبيانــات ورهافــة تحليــل تغطــي‬
‫التــي اعتمــد البحــث عليهــا كثـ ً‬
‫مبســتويات متفاوتــة فــرة النصــف األول مــن القــرن العرشيــن بشــكل خــاص‪ ،‬وأشــار البحــث إليهــا يف‬
‫كل موضــع‪ ،‬مســتثم ًرا الدراســات القطاعيــة‪ ،‬وأرشــيف مركــز الدراســات التاريخيــة بدمشــق‪ ،‬والجرائــد‬
‫الرســمية لــ» دولــة حلــب « و»الجمهوريــة الســورية» التــي متثــل معطياتهــا كنـ ًزا غــر محــدود أمــام عمل‬
‫املــؤرخ عــى أســاس اســتخدام الوثيقــة‪ ،‬واملجموعــات الوثائقيــة املختلفــة‪ ،‬وعائ ـدًا إىل مــا ميكــن‬
‫وصفــه بكتابــات التاريــخ البلــداين حــول الجزيــرة التــي أنجزهــا كتّــاب شــبه محرتفــن‪ ،‬و أنجــز معظمهــا‬
‫هــواة يحبــون مســقط رأســهم ويتعلقــون بــه‪ ،‬لكنهــم ليســوا مبؤ ّرخــن محرتفــن‪ ،‬وإىل كتــب املذكــرات‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪200‬‬

‫غالف كتاب التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية‬

‫الشــخصية كافــة التــي أمكــن الوصــول إليهــا عــن الجزيــرة بوصفهــا توفــر بعــد فحصهــا‬
‫مادة أنرثوبولوجية وتاريخية وجغرافية وبرشيّة مثينة يف بناء «استوريوغرافيا» الجزيرة‬
‫الســورية الحديثــة‪ .‬وتقــع هــذه املكتبــة البلدانيــة الصغــرة يف مــا ُيكــن وصفــه بلغــة‬
‫أخــرى بتواريــخ املجتمعــات املحلية‪.‬‬
‫أخضــع الباحــث مــا اســتطاع بطريقــة منظمــة علميًّــا البيانــات واملعلومــات كافــة‬
‫يف هــذه املراجــع املســاعدة‪ ،‬مبــا يف ذلــك معلومــات الصحــف‪ ،‬إىل القواعــد‬
‫التقليدية التي أرستها املدرسة «املنهجية» يف النقد الداخيل والخارجي للوثيقة‪،‬‬
‫رص أرحــب للمعلومــة‪ .‬ولجــأ دو ًمــا حيثــا أمكــن للمعلومــات املقارنــة‪.‬‬ ‫أو بتعبـرٍ معــا ٍ‬
‫ومل يعتمــد أي معلومــة مفــردة إال يف ســياق احتامليتهــا ونقدهــا‪ .‬ويف كل ذلــك‬
‫يرغــب الباحــث يف التأكيــد أن حجــم معلومــات كتابــة تاريــخ الجزيــرة وســورية عمو ًمــا‬
‫« ُملقاة عىل الرصيف»‪ ،‬وتحتاج فقط إىل من يستخدمها بشكلها «الخام»‪ ،‬أو من‬
‫خالل بناء بيانات وسالسل ومعلومات جديدة يف ضوء املقاربة املنهجية املركّبة‬
‫والتكامليــة للعلــوم االجتامعيــة اإلنســانية‪ .‬ويف األخــر يضــع هــذا الكتــاب نفســه يف‬
‫حقــل املكتبــة التاريخيــة الســورية‪ ،‬أو إســتو ريــو غرافيــا التاريــخ الســوري الحديــث‪،‬‬
‫لكــن يف ضــوء أن املقاربــة التاريخيــة يف املناهــج الحديثــة مركبــة‪ ،‬وتتســم بهضــم‬
‫معطيــات العلــوم االجتامعيــة اإلنســانية كافــة يف حقــل مامرســة التاريــخ‪ ،‬أو إنتــاج‬
‫املعرفــة التاريخيــة‪ ،‬يف موضــوع مميــز لتاريــخ العمــران هــو عمــران الجزيــرة الســورية‪.‬‬
‫إذ ليــس موضــوع علــم التاريــخ ســوى موضــوع علــم العمــران باملعنــى الخلــدوين‬
‫للكلمــة‪ ،‬الــذي شــكل تاريــخ العمــران الحــري يف الجزيــرة الســورية أحــد أبــرز فصوله‬
‫يف التاريــخ الســوري الحديــث‪ ،‬التــي تعــود جذورهــا إىل نحــو خمســة قــرون ون ّيــف‪.‬‬
‫وينتهــي الكتــاب يف ضــوء هــذه الرؤيــة بفصــل أســئلة عــن اســتئناف املرحلــة‬
‫الخامســة مــن هــذا العمــران مــن جديــد‪ ،‬التــي تحـ ّول الجزيــرة مــن منطقــة طرفيــة إىل‬
‫قلب ســورية التنموي‪ ،‬وتضع الجزيرة يف صلب مدركات املســتقبل الذي ليس‪،‬‬
‫كــا يقــول إدغــار مــوران‪ ،‬مكانًــا نذهــب بــه بــل مــا نصنعــه باســتمرار‪.‬‬
‫محمد شاويش‬
‫محاولة منهجية يف مفهوم «الشعر الشعبي»‬

‫ملاذا كان أحمد فؤاد نجم «شاعرا ً شعبياً»؟‬

‫مقدمة‪ :‬يف سؤال املقال‬


‫يف هذا املقال أريد أن أقدم محاولة أولية لوضع خطاطة عامة لدراسة تتناول‬
‫الســؤال التــايل العــام‪« :‬متــى نقــول عــن شــاعر مــا إنــه «شــاعر شــعبي»؟»‪ ،‬والبحــث‬
‫يف شــعر أحمــد فــؤاد نجــم يف عالقتــه «بثقافــة الشــعب» هــو النمــوذج الــذي نأمــل‬
‫أن يخدمنــا يف محاولــة الوصــول إىل تحديــد الخــواص التــي تلــزم وتكفــي لــي نصف‬
‫شــاعرا ً بهــذا الوصف‪.‬‬

‫‪ -1‬يف مفهوم «الشعر الشعبي»‪:‬‬


‫بأحمــد فــؤاد نجــم تكتمــل ثالثيــة مــن شــعراء العاميــة العظــام شــهدتهم مــر يف‬
‫القرنني األخريين‪ :‬عبد الله النديم (‪ )1896 - 1842‬وبريم التونيس (‪)1961 - 1893‬‬
‫وأحمد فؤاد نجم (‪.)2013 - 1929‬‬
‫هناك شــعراء عامية مرصيون كبار آخرون‪ ،‬لكن هؤالء كانت لهم أهمية خاصة‬
‫تتمثل يف مشــاركتهم الفاعلة يف األحداث السياســية الكربى مام عرضهم جميعاً‬
‫للسجن والنفي‪.‬‬
‫التوصيف «شــعر شــعبي» كثريا ً ما يُســتعمل لوصف أي شــعر يكتب بالعامية‪،‬‬
‫وهذا خطأ‪ ،‬فكثري من الشعر الذي يكتب بالعاميات العربية ال ينتمي إىل «الثقافة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪202‬‬

‫الشــعبية» مبــا هــي مقابلــة لثقافــة النخبــة‪ ،‬فمعيــار اســتعامل العاميــة والفصحــى ليــس وحــده هــو‬
‫الذي يحدد إن كان الشعر منتمياً فعالً إىل «الشعب» أم إىل «النخبة»‪ .‬ال شك أن ما كتبه شعراء‬
‫عاميــة مــن أمثــال ســعيد عقــل أو ميشــال طــراد أو األخــوان الرحبــاين أو نجيــب رسور أو حتــى صــاح‬
‫جاهــن ال ميكــن ببســاطة وصفــه بأنــه «شــعر شــعبي»‪ ،‬ملجــرد أنــه كتــب بالعاميــة‪.‬‬
‫ال تنقســم الثقافــة العربيــة املعــارصة عــى أســاس «عاميــة» و «فصحــى» فقــط‪ ،‬بــل تنقســم إىل‬
‫ثالثــة مكونــات‪« :‬ثقافــة العامــة» و»ثقافــة الخاصــة» و»ثقافــة النخبــة»‪ ،‬واألوالن قدميــان بينــا الثــاين‬
‫مــن نتــاج العــر الحديــث‪ .‬وهــو انقســام يخــص كل قطاعــات الثقافــة العربيــة‪ ،‬غــر أننــا إن بقينــا يف‬
‫الشــعر نقــول إن الشــاعر الفلســطيني أبــو عــرب مث ـاً ينتمــي إىل قطــاع «ثقافــة العامــة» أو هــو مــن‬
‫«الشــغيلة الثقافيني يف هذا القطاع»‪ ،‬والشــاعر محمد مهدي الجواهري ينتمي إىل قطاع «ثقافة‬
‫الخاصة» أو هو «شغيل ثقايف» فيه‪ ،‬والشاعر أدونيس ينتمي إىل «ثقافة النخبة»‪ ،‬وهذا ميتد إىل‬
‫كل قطاعــات اإلنتــاج الثقــايف‪ ،‬ففــي الغنــاء واملوســيقى ســتجد «موســيقى العامــة» (وهــي األغــاين‬
‫املوروثــة أو الحديثــة التــي تحاكيهــا مــن حيــث اللغــة والرتكيــب املوســيقي)‪ ،‬و»موســيقى الخاصــة»‬
‫وهــي ذلــك النــوع املعقــد الصعــب مــن املوســيقى الــذي أنتجتــه يف القــرون األخــرة املركــز املدنيــة‬
‫الكربى يف الشام والعراق والخليج ومرص واليمن واملغرب العريب‪ ،‬ومثة أخريا ً «موسيقى النخبة»‬
‫وهي تتضمن عالوة عىل موســيقى مغ ّربة بالكامل قليلة االنتشــار نوعاً من املوســيقى يتناســب مع‬
‫شــعر النخبــة (قــارن بــن غنــاء وموســيقى مارســيل خليفــة وغنــاء وموســيقى الشــيخ إمــام)‪.‬‬
‫«ثقافــة النخبــة» ميكــن تعريفهــا بأنهــا «ذلــك القطــاع مــن الثقافــة العربيــة املتبنــي للثقافــة الغربية‬
‫كام تنعكس يف وعيه» (ألن املثقف العريب ال يتبنى الثقافة الغربية بل يتبنى ما يتصوره «الثقافة‬
‫الغربيــة»‪ ،‬وبالتحديــد هــو يتبنــى «ترجمــة الثقافــة الغربية إىل اللغة العربية»)‪.‬‬
‫هــذا االنقســام هــو أوالً ليــس انقســاماً بــن ثالثــة قطاعــات معزولــة عــن بعضهــا كليـاً وليــس بينهــا‬
‫تفاعــل‪ ،‬وهــو ثانيـاً ليــس انقســاماً بــن قطاعــات ثابتــة ال تتغــر‪ .‬والحــال أننــا لــو درســنا مكونات الثقافة‬
‫املرصية الحديثة مثالً لوجدنا تغريا ً معقدا ً يف املكونات الثالثة‪ ،‬فقد شاهدنا تغري «ثقافة العامة»‬
‫أو «الثقافة الشعبية» (التي هي بدورها منقسمة بني قطاعات شعبية مختلفة) مع املستجدات‬
‫املهمة مثل انتشار التعليم الحديث وانتشار وسائل اإلعالم من صحف وإذاعة وتلفزيون‪ .‬وباملثل‬
‫تغــرت «ثقافــة الخاصــة» وتغــر تأثريهــا االجتامعــي (يف اتجــاه نــازل غالب ـاً)‪ ،‬ويف املقابــل ال تــزال‬
‫«ثقافــة النخبــة» هــي ثقافــة أقليــة يتــوازى تأثريهــا وال يــكاد يتقاطــع مــع أثــر أصــداء الثقافــة الغربية التي‬
‫ترتدد يف أوســاط الشــعب منقولة عرب وســائل اإلعالم والرتفيه‪.‬‬
‫النديــم وبــرم ونجــم‪ ،‬ثالثتهــم نشــؤوا يف «بيئــة شــعبية»‪ ،‬كــا نقــول بلغــة املثقفــن الشــائعة‪،‬‬
‫كان مصبــاح أبــو عبــد اللــه النديــم عامـاً يف الرتســانة البحريــة التــي أنشــأها محمــد عــي ثــم أغلقــت‬
‫بأمــر مــن الــدول الكــرى فتحــول إىل صاحــب فــرن‪ ،‬وأرســل الولــد املوهــوب إىل دراســة عــى النمــط‬
‫‪203‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫األزهري يف «الجامع األنور» فتعلم قسطاً مهامً من العلوم املوروثة نرى أثره يف كتاباته‪ ،‬لكنه غرق‬
‫شيواش دمحم‬

‫يف جــو «األدباتيــة» (وكان األمهــر فيهــم والظافــر يف مبارياتهــم الزجليــة)‪ ،‬ومل يثبــت النديــم يف مهنــة‬
‫بــل تجــول يف أرجــاء مــر متعرفـاً عــى رشائحهــا املختلفــة ومتمثـاً ألنظمــة اإلشــارة التــي تســتعملها‬
‫كلهــا مــن ألفــاظ وأزيــاء وقواعــد للســلوك‪ ،‬ومثــة شــهادات متواتــرة عــن معــارصي النديــم (عــاوة عــى‬
‫شــهادة كتاباتــه نفســها) تؤكــد صحــة مــا قالــه عــن نفســه‪ « :‬أخــذت عــن العلــاء‪ ،‬وجالســت األدبــاء‪،‬‬
‫وخالطــت األمــراء‪ ،‬وداخلــت الحــكام‪ ،‬وعــارشت أعيــان البــاد‪ ،‬وامتزجــت برجــال الصناعــة والفالحــة‬
‫واملهــن الصغــرة‪ ،‬وأدركــت مــا هــم فيــه مــن جهالــة‪ ،‬ومــم يتأملــون‪ ،‬ومــاذا يرجــون‪ ،‬وخالطــت كثــرا ً مــن‬
‫متفرنجة الرشقيني‪ ،‬وأملمت مبا انطبع يف صدورهم من أشــعة الغربي ــن»(‪ ،)1‬وحني تخفى النديم‬
‫ملــدة تســع ســنوات تخفيــه األســطوري بعــد هزميــة الجيــش املــري‪ ،‬جيــش عــرايب‪ ،‬عــام ‪ 1882‬كان‬
‫يســتطيع تــارة أن يظهــر بثــوب أحــد أتبــاع الطــرق الصوفيــة وينطــق بلغــة هــذه الجامعــة ويتــرف كــا‬
‫تتــرف‪ ،‬وتــارة يظهــر بثــوب تاجــر أو فــاح مــن الصعيــد أوأدبــايت‪ .‬النديــم كان «ذاكــرة ديناميكيــة»‬
‫للمجتمــع املــري وأعنــي بهــذا التعبــر ذلــك الفــرد الــذي اســتوعب املالمــح التفصيليــة ملجتمعــه‬
‫ســواء يف تاريخهــا القريــب أم يف ســلوكها الحــارض‪ ،‬إنــه قريــب مــن ممثــل موهــوب يســتطيع تقمــص‬
‫أدوار الرشائــح االجتامعيــة (وهــذا يعنــي‪ :‬يســتطيع أن ينطــق «بلغاتهــا» كلهــا‪ :‬اللفظيــة وغريهــا)‪.‬‬
‫ســرى هــذه «الذاكــرة الديناميكيــة» حــن يتقمــص بــرم يف «املقامــات» شــخصية املشــايخ‬
‫العميــان مثـاً ويحــايك ســلوكياتهم وينطــق بلغتهــم بــل قــد يتقمــص صاحــب هــذه الذاكــرة شــخصية‬
‫مــن شــخصيات املالحــم البطوليــة للجامعــة كــا فعــل أحمــد فــؤاد نجــم يف حياتــه الواقعيــة حــن‬
‫تقمــص مــرة شــخصية عنــر بــن شــداد(‪.)2‬‬
‫ال ميتلك «الذاكرة الديناميكية» َمن عاش يف حلقة ضيقة من مجتمعه‪ ،‬و َمن جهل تاريخ هذا‬
‫املجتمــع (القريــب‪ ،‬الديناميــي‪ ،‬الــذي ال زال أثــره فاع ـاً‪ ،‬ال أعنــي كل التاريــخ مــن العهــود الغابــرة‬
‫طبع ـاً‪ ،‬بــل هــذه التاريــخ ال يعنينــي يف التحليــل الــذي أنــا بصــدده)‪ ،‬ومــن جهــل نتاجاتــه الثقافيــة‬
‫املؤثرة ومل يســتطع أن يســتعمل «لغاته» (وال أعني باملقدرة عىل اســتعامل هذه اللغات القابلية‬
‫الســالبة للفهــم فحســب بــل أعنــي أيضـاً امتــاك القابليــة املوجبــة للــكالم الطلــق «الفصيــح» بهــذه‬
‫اللغــات) فإننــا لــن نصفــه بأنــه «ذاكــرة ديناميكيــة» ملجتمعــه‪.‬‬
‫جــاء بعــد النديــم بــرم التونــي‪ ،‬كان لــأول عالقــة مبــارشة مــع الحركــة الفكريــة الكــرى يف مــر‬
‫يف سبعينيات القرن التاسع عرش‪ :‬حركة األفغاين ومع الحركة السياسية الحديثة األوىل يف مرص‬
‫(الحــزب الوطنــي) كــا ســميت آنــذاك حلقــة جــال الديــن األفغــاين‪ ،‬وقــد انعكســت هــذه الحركــة‬
‫سياســياً يف الثــورة الحديثــة الشــعبية األوىل واســعة النطــاق التــي قادهــا الضبــاط الوطنيــون يف‬
‫الجيــش وعــى رأســهم أحمــد عــرايب‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪204‬‬

‫بــرم عــاش يف عــر ثــورة ‪ .1919‬مل تكــن لــه تلــك العالقــات القويــة مــع الصفــوة الثوريــة كــا كان‬
‫الحــال مــع النديــم‪ ،‬ومل تكــن لــه تلــك الفاعليــة االجتامعيــة التــي كانــت للنديــم الــذي مل يكــن شــاعرا ً‬
‫وخطيباً شعبياً وصحفياً واسع التأثري فقط‪ ،‬بل كان أيضاً قائدا ً اجتامعياً نهضوياً أسس «جمعيات‬
‫خرييــة» ومــدارس كانــت تجمــع وظيفــة الرتبيــة والتعليــم مــع وظيفــة تغيــر الســلوك االجتامعــي‪ ،‬لكنــه‬
‫ماثلــه يف قــوة العالقــة مــع الشــعب ومــع ثقافتيــه‪« :‬ثقافــة الخاصــة» (ألنــه مثــل النديــم بــدأ حياتــه‬
‫بدراسة يف معهد ديني‪ ،‬وانظر وصفه لبيئة املشايخ وللغتهم يف «املقامات») و»ثقافة العامة»‪،‬‬
‫وقــد تجــى ذلــك أيضـاً يف مقــدرة الرجلــن عــى الكتابــة بالفصحــى والعاميــة وإحساســهام العميــق‬
‫بــآالم وأشــواق الشــعب وتعبريهــا عــن ذلــك باللغتــن‪ :‬الفصحــى والعاميــة‪.‬‬
‫لكــن بــرم ظهــرت عنــده إمــارات انفصــام روحــي مل تظهــر عنــد النديــم بــن مــا ســميته يف أماكــن‬
‫أخــرى «الثقافــة الســائدة» (وهــي ثقافــة الشــعب بقســميه‪« :‬الخاصــة» و»العامــة»)‪ ،‬وكانــت ثقافتــه‬
‫الحقيقيــة ولغتــه هــي اللغــة الوحيــدة التــي يتقنهــا‪ ،‬و»الثقافة املســيطرة» وهي ثقافة النخب التابعة‬
‫سياسياً أو روحياً لالستعامر الغريب‪ ،‬وكان رمبا حاول أن يتمثلها دون نجاح‪ ،‬فهو يف نصه الهجايئ‬
‫«الســيد ومراتــه يف باريــس» الــذي كتبــه متأثــرا ً مبشــاهداته يف باريــس يجلــد بلســانه الحــاد «الثقافــة‬
‫الســائدة‪ »،‬ويــردد عنهــا مــا تقولــه دعايــة «لثقافــة املســيطرة» مفلتـاً لهــا العنــان لتســخر منهــا وتحكــم‬
‫عليهــا أقــى حكــم‪.‬‬
‫هجا بريم «الرباقع واللبدة والجالبية» ومل تستعد اعتبارها عنده حتى مرت الباخرة التي كانت‬
‫تنقله من منفى آلخر يف بورسعيد فغافل بوليس املدينة وتسلل إىل مرص‪ .‬هنا تظهر تلك الذات‬
‫العميقــة األصيلــة التــي أســميتها يف فرضيــايت النظريــة عــن االســتالب «الــذات الحقيقيــة» مــرة أخــرى‬
‫مبطلة بقوتها الخارقة كل الجاذبية املغنطيسية «للذات املثالية» للمرجع االستاليب‪ .‬تولت هذه‬
‫الذات الحقيقية جذب الشاعر ليتسلل من الباخرة‪:‬‬
‫«هتف يل هاتف وقال يل‬
‫إنزل ومن غري عزومة‬
‫إنزل دي ساعة تجيل‬
‫فيها الشياطني يف نومه‬
‫إنزل ده ربك متيل‬
‫فوقك وفوق الحكومة‬
‫نطيت يف سرت املهيمن‬
‫للشط يا حكمدارية‬
‫وأقول لكم بالرصاحه‬
‫اليل الزمن ده قليله‬
‫‪205‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫عرشين سنة يف السياحه‬


‫شيواش دمحم‬

‫بشوف مناظر جميله‬


‫ما شفت يا قلبي راحه‬
‫يف دي السنني الطويله‬
‫إال اما شفت الرباقع‬
‫واللبدة والجالبيه»‬
‫كان بــرم والنديــم كالهــا ذوي عالقــة قويــة ومعرفــة بقطاعــي الثقافــة الشــعبية كليهام‪ :‬املشــايخ‬
‫ولغتهم وعلومهم املنقولة والشــعب ولغته وأشــكاله الفنية املفضلة‪ ،‬بحيث كانا يســتطيعان حني‬
‫يريــدان أن ينطقــا بلغــة هــؤالء أو أولئــك بــدون أي تكلــف وبطالقــة تامــة‪.‬‬
‫وكان أحمــد فــؤاد نجــم معجبـاً بهذيــن الرائديــن وكانــا ممــن أهــدى إليهام «آثاره الشــعرية الكاملة»‬
‫وكان يعــد بــرم مؤسسـاً لالتجــاه الــذي تابعه جيله‪:‬‬
‫«ماشيني يف طريقك دامياً‬
‫وح نفضل كده ماشيني‬
‫ع الدرب اليل انت سلكته‬
‫بالليل والناس ناميني‬
‫وان كنا نقول ونزود‬
‫ونج ّود يف املضامني‬
‫بيكون الفضل لبريم‬
‫أسس واحنا الطالعني»‬
‫ّ‬
‫يف ســرته الذاتيــة يخربنــا أنــه بــدأ حياتــه معجب ـاً بشــوقي وعبــد الوهــاب وغــر معجــب ببــرم وال‬
‫بصفــة «شــاعر الشــعب» التــي أطلقــت عليــه‪ ،‬ألنــه مل يكــن يــرى يف الشــعب (وقــد أقــول‪ :‬مــن منظور‬
‫املرجع االستاليب الذي هو «الثقافة املسيطرة») شيئاً يستحق االحرتام! (‪ ،)3‬وسيتغري هذا املوقف‬
‫مــع دخولــه للســجن عــام ‪( 1959‬ألســباب غــر سياســية!) وهنــاك التقــى بالشــيوعيني للمــرة الثانيــة‬
‫يف حياتــه وتعــرف عــى شــعر فــؤاد حــداد (‪.)4‬‬
‫تجمـ ُع الشــعراء الثالثــة صفــة «الصعلكــة»‪ .‬مل يكونــوا متمتعــن «بالوقــار»‪ ،‬وقــد أخــذ أنــاس عــى‬
‫النديــم هــذه الصفــة ووصفــوه باملهــرج‪ ،‬ودافــع أحمــد أمــن عنــه دفاع ـاً جمي ـاً حــن كتــب عنــه يف‬
‫كتابــه «زعــاء اإلصــاح يف العــر الحديــث» (‪ ،)5‬و»الصعلــوك» صفــة قــد تطلــق عــى َمـ ْن ال يتمتــع‬
‫بوضــع اجتامعــي ثابــت فهــو يتنقــل بــن املهــن وبــن األماكــن ويكتســب رزقــه بطــرق ال يعــرف بهــا‬
‫املجتمــع عــى أنهــا «طــرق محرتمــة»‪ ،‬وميكــن وصفهــم جميع ـاً أنهــم انتمــوا إىل الرشائــح األدىن يف‬
‫املجتمــع‪ ،‬ولكنهــم جميع ـاً كانــوا عــى معرفــة واحتــكاك برشائــح مختلفــة‪ ،‬وأحيان ـاً كان االحتــكاك‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪206‬‬

‫وديـاً ويف كثــر مــن األحيــان كان عدائيـاً‪ .‬واالنتــاء إىل الرشائــح االجتامعيــة األدىن ال يعنــي بالــرورة‬
‫االنحيــاز لهــا‪ ،‬ولكــن هــؤالء الثالثــة انحــازوا بالفعــل لهــذه الرشائــح واألمثلــة مــن أدبهــم عــى ذلــك أكــر‬
‫مــن أن تذكــر‪ ،‬ولكــن نجــم مــن بينهــم هــو مــن ســمى هــذه الرشائــح يف شــعره مقسـاً إياهــا بــن «عــال‬
‫وفالحــن وطلبــة»‪ ،‬ولــك أن تــرى أن هــذه التســمية لوحدهــا واالنحيــاز اللفظــي ال تدلنــا عــى املوقــع‬
‫االجتامعي ‪ -‬الثقايف الحقيقي للشاعر‪ ،‬فانحيازات كثري من أدباء «الواقعية االشرتاكية» للكادحني‬
‫مثـاً مل تكــن تعــر عــن انتــاء عضــوي لهــؤالء الكادحــن‪ ،‬بــل رمبــا تكلــم عــن الفالحــن َمـ ْن ال يعرفهــم‬
‫وال يتقــن لغتهــم‪ ،‬وكذلــك كان األمــر يف العالقــة مــع العــال‪ ،‬ورمبــا أكــر‪ ،‬ألن املاركســية كانــت تعــر‬
‫العــال أهميــة كــرى وتنســب إليهــم أدوارا ً تاريخيــة اســتوردها األديــب االشــرايك العــريب وحــاول أن‬
‫يصفهــا يف بــاد ال يــكاد يكــون فيهــا عــال أصـاً‪ ،‬ناهيــك أن يكــون ســلوكهم متطابقـاً مــع الفرضيــات‬
‫أو اآلمــال املاركســية‪.‬‬
‫إذا غضضــت النظــر عــن هــذه «االقتباســات» مــن املعجــم املاركــي التــي كان نجــم يقتبســها‬
‫ســتجد أن نجــم بالفعــل وبالــدم واألعصــاب كان ابــن الرشائــح املســحوقة مــن الشــعب املــري (أي‬
‫األكرثيــة)‪ ،‬وقــد عــر عــن هــذه الرشائــح باللغــة واملفاهيــم حتــى حــن كان ال يســميهم‪ ،‬أو لرمبــا كان‬
‫مــن املمكــن أن نقــول‪ :‬بــل بالتحديــد عندمــا كان ال يســميهم وال يكونــون هــم موضــوع الــكالم أصـاً!‬
‫عالمتان متيزان االنتامء العضوي لقطاع ثقايف من القطاعني الكبريين الذين ذكرتهام (الثقافة‬
‫السائدة والثقافة املسيطرة) وهام‪ :‬اللغة املستعملة واألشواق التي يعرب عنها األديب‪:‬‬
‫واقرأ لنجم‪:‬‬
‫لو القى ِخل يبات ويف‪ ،‬يصبح مراعي‬
‫الطوي املداين ع القدم واميش له ساعي‬
‫وافرد قلوعي يا وله واركب رشاعي‬
‫أنا وحبيبى يف الهوى عىل هوايا‬
‫شوف الحكايه!»‬
‫لدينــا مجموعــة مــن الصفــات والرتاكيــب واألفعــال‪« :‬الخــل»‪« ،‬الــويف»‪« ،‬املراعــي»‪« ،‬أطــوي‬
‫املدايــن»‪« ،‬عالقــدم»‪« ،‬أمــي لــه ســاعي» ‪« ،‬أفــرد قلوعــي»‪« ،‬أركــب رشاعــي»‪« ،‬عــى هوايــا»‪،‬‬
‫«شــوف الحكايــة»‪ ،‬وقــد أتــت مــن «تناصــات» ال شــعورية وغــر مقصــودة مــع اللغــة التــي يســتعملها‬
‫الشــعب ومــع تراثــه األديب أيض ـاً‪ ،‬والفكــرة املركزيــة يف هــذا النــص هــي التشــوق إىل «خــل ويف»‪،‬‬
‫ولعلــك ســرى يف الــراث الصــويف مئــات القصــص عــن أوليــاء «يطــوون األرض» والذيــن هــم مــن‬
‫«أهل الخطوة»‪ ،‬وهذه التعابري «غري املثقفة» (غري املنتمية إىل لغة النخبة التي هي لغة مرتجمة‬
‫أساساً) وأمثالها تعرب عن االنتامء العضوي «للثقافة السائدة» ال «الثقافة املسيطرة» وليس املعيار‬
‫‪207‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫هنــا هــو اســتعامل الكلــات فقــط (فشــاعر النخبــة قــد يســتعريها)‪ ،‬بــل اقرتانهــا «باألشــواق» التــي‬
‫شيواش دمحم‬

‫يعــر عنهــا هــذا الشــعر والتــي هــي أشــواق ابــن هــذه الثقافــة (مثـاً هــو يريــد «الخــل» ال «الحبيــب»)‬
‫والتــي ال يســتطيع ابــن الثقافــة املســيطرة أن يعــر عنهــا‪.‬‬
‫هــذا مــا أنشــده الشــيخ إمــام رفيــق نجــم واملتقــن للغــة املوســيقية للشــعب كــا أتقــن الشــاعر‬
‫اللغــة اللفظيــة للشــعب وعــر عــن أشــواقه‪.‬‬
‫خــذ – كنمــوذج ‪ -‬مقابـاً مــن الثقافــة املســيطرة‪ ،‬ثقافــة النخبــة‪ ،‬منوذجـاً ثوريـاً غنائيـاً هــو اآلخــر‪:‬‬
‫املغنــي امللتــزم «فهــد يكــن» الــذي غنــى يف الثامنينــات‪:‬‬
‫«أنا ال أريد خنجرا ً‬
‫أنا ال أريد قنبلة‬
‫أنا أريد أن آكل وأحب‬
‫وأستمع إىل املوسيقى!»‬
‫اللغــة هنــا هــي لغــة النخبــة‪ :‬انظــر إىل اســتعامل الفعــل «أحــب» وكأنــه فعــل الزم (بــدون مفعــول‬
‫به)‪ ،‬وهذا االستعامل «الالزم» لهذا الفعل هو من صفات لغة النخبة ألن الشعب ال يقول «أحب»‬
‫إال أضــاف فــورا ً مفعــوالً لهــذا الفعــل‪ .‬ولــو كان يريــد أن يتكلــم عــن عاطفــة تذكّــر بعاطفــة الحــب التــي‬
‫تتكلــم عنهــا النخبــة لتحــدث عــن «مودة» أو «معزة»‪.‬‬
‫واألشواق باملثل هي أشواق النخبة‪ :‬يريد أن يأكل ويحب ويستمع إىل املوسيقى!‬
‫طبيعــة العالقــة مــع «الشــعب» (مبعنــى هــذه الرشائــح املســحوقة) ميكــن أن تأخــذ شــكلني‬
‫مختلفني‪ :‬الشــكل األول شــكل التزام تلقايئ «داخيل» مبعنى أنه معطى من خالل التجربة نفســها‬
‫التــي عاشــها الشــاعر وبــدون دور «خارجــي» تــأيت بــه أيديولوجيــا مع ّينــة يحملهــا «مثقــف»‪ ،‬والشــكل‬
‫الثــاين شــكل التــزام لفظــي خارجــي مل يــأت مــن معايشــة داخليــة‪ ،‬وهــذه املعايشــة هــي مجمــوع‬
‫منصهــر مــن تجربــة واقعيــة ومنظــور اكتســبه الفــرد مــن الرتبيــة التلقائيــة غــر املقصــودة التــي تقــوم بهــا‬
‫البيئــة ناقلــة لغتهــا ومفاهيمهــا عــن الحيــاة وقيمهــا‪ ،‬وهــي تعــر عــن نفســها عــى شــكل لغــة خاصــة‪.‬‬
‫تأثــر نجــم بــا شــك مبنظــور الشــيوعيني الطبقــي‪ ،‬وأنــا ال أعــده «شــاعرا ً شــعبياً» ألنــه تكلــم عــن‬
‫يف «األشواق‬
‫الطبقات الشعبية ودافع عن مصالحها عىل الطريقة الشيوعية‪ ،‬بل ألنه ظل يف لغته و َّ‬
‫العميقــة» للشــعب التــي عكســها شــعره‪ ،‬ابــن الشــعب بالفعــل (ال ابــن النخبــة)‪.‬‬

‫‪ -2‬سؤال «الداخيل» و»الخارجي» يف الوعي االجتماعي والفني‪:‬‬


‫مثــة ســؤال عــن املفاهيــم عــن «الفــاح›› و نقيضــه «املــرايب» أو «الخواجــة›› يف شــعر النديــم‬
‫ونــره‪ ،‬هــل جــاءت مــن مصــدر خارجــي مــا (مثـاً عــر جــال الديــن األفغــاين وتالميــذه) وكذلــك عــن‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪208‬‬

‫مفاهيــم بــرم عــن الفالحــن والكادحــن (ولــه آثــار يف فــن رفيقــه يف الحيــاة والفــن ســيد درويــش‬
‫الــذي كان غــر بعيــد عــن وســط يعــرف أفــكار «الحــزب الوطنــي» الــذي اهتــم بالفالحــن وبالعــال‬
‫أيضـاً‪ ،‬وكان ممــن يكتبــون أناشــيده شــاعر هــو الشــيخ يونــس القــايض كانــت لــه عالقــة مبــارشة بهــذا‬
‫الحــزب الــذي أسســه مصطفــى كامــل ثــم قــاده محمــد فريــد)‪ ،‬واملصــدر «الخارجــي» ملوقــف أحمــد‬
‫فــؤاد نجــم مــن «العــال» و»الفالحــن» معــروف بدرجــة أكــر مــن املوثوقيــة‪ ،‬فنحــن نعلــم أنــه قبــل‬
‫الســجن ويف الســجن التقــى مبعتقلــن يســاريني علمــوه كيــف ينظــر إىل املجتمــع «نظــرة طبقيــة»‬
‫ويحــدد الخصــوم واألصدقــاء‪ ،‬وقــد اســتمرت هــذه العالقــات مــع املناضلــن الشــيوعيني الحقـاً (وال‬
‫ســيام مناضيل الحركة الطالبية القوية يف النصف األول من الســبعينات)‪ ،‬وهذا التأثري واضح يف‬
‫التقســيم الطبقــي لقــوى الثــورة يف نشــيده الشــهري‪:‬‬
‫« شيد قصورك عاملزارع‬
‫من كدنا وعرق إيدينا‬
‫(‪ )...‬وعرفنا مني سبب جراحنا‬
‫وعرفنا روحنا واكتفينا‬
‫عامل وفالحني وطلبة‬
‫دقت ساعتنا وابتدينا‬
‫نفرش طريق مالوهش راجع‬
‫والنرص قرب من عينينا»‬
‫موضوع «الداخيل» و»الخارجي» يف «الوعي» الذي ينطلق منه أحمد فؤاد نجم هو املوضوع‬
‫الــذي يهتــم بــه هــذا املقــال‪ .‬مثــة ذكــر لكتــب قدميــة وحديثــة يف «الفاجومــي»‪ ،‬لكنــه ال يذكــر شــيئاً‬
‫عــن كتــب محــددة قرأهــا مــا عــدا الروايــات البوليســية! (‪ )6‬وال دليــل (عنــدي) عــى أي قــراءة منظمــة‬
‫قــام بهــا نجــم لكتــب ومطبوعــات تقــدم رؤيــة نظريــة متامســكة للمجتمــع‪ ،‬أي تلــك القــراءة املنظمــة‬
‫التــي تكســب املناضــل صفــة «الواعــي» باملعنــى املســتعمل للكلمــة عنــد يســار الســبعينيات‬
‫والثامنينيــات‪ ،‬و»الواعــي» عندهــم هــو ذلــك الــذي «تضلّــع مــن العلــم املاركــي اللينينــي» بحيــث‬
‫«يفهــم الواقــع بشــكل صحيــح»‪.‬‬
‫مثــة أســباب كثــرة تجعــل املــرء يشــك يف أن أحمــد فــؤاد نجــم متلــك هــذه «الثقافــة» بالفعــل‬
‫وبالتايل أنه تبناها تبنياً كامالً‪ ،‬رغم أنه بالتأكيد كان عىل احتكاك بها عرب املناضلني املاركسيني‪،‬‬
‫ومــن هــذه األســباب أســباب «خارجيــة» تســتند إىل املعلومــات عــن ســرته التــي قدمهــا هــو يف‬
‫«الفاجومــي» جزئيـاً‪ ،‬وقدمهــا مــن عرفــه عــن كثــب‪ ،‬لكنــي هنــا أهتــم بالرؤيــة الداخليــة املســتقاة مــن‬
‫شــعره‪ .‬ولنحــاول اقتصــاص أثــر املكونــات الثقافيــة يف شــعره‪:‬‬
‫‪209‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫الشاعر أحمد فؤاد نجم‬


‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪210‬‬

‫أ‪ -‬أثر النخبة املاركسية‪:‬‬


‫قســم أحمــد فــؤاد نجــم املجتمــع املــري إىل طبقــات‪ ،‬ولــه قصيــدة خاصــة عــن تركيبــة هــذا‬
‫املجتمــع‪:‬‬
‫«يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش‬
‫تعارف يخيل التحالف يعيش‬
‫تعيش كل طايفة‬
‫من التانية خايفة (‪)...‬‬
‫يعيش التنابلة بحي الزمالك‬
‫وحي الزمالك مسالك مسالك‬
‫تحاول تفكر تهور هنالك‬
‫تودر حياتك‪ ..‬بالش املهالك‬
‫لزالك‪....‬‬
‫إذا ردت توصف حياتهم‬
‫تقول الحياة عندنا مش كذلك! (‪)...‬‬
‫يعيش الغالبة يف طي النجوع‬
‫نهارهم سحابة وليلهم دموع‬
‫سواعد هزيله‬
‫لكن فيها حيله»‬
‫ميكــن الظــن أن الرؤيــة هنــا هــي الرؤيــة املاركســية‪ ،‬ونجــم يأتينــا يف القصيــدة نفســها برشيحــة‬
‫ثالثــة‪ :‬إنهــا رشيحــة «املثقــف»‪:‬‬
‫«يعيش املثقف عىل مقهى ريش‬
‫محفلط ‪ ....‬مزفلط كتري الكالم‬
‫عديم املامرسة عدو الزحام‬
‫بكم كلمة فاضية‬
‫وكم اصطالح‬
‫يفربك حلول للمشاكل قوام»‬
‫ومــن املمكــن أن يكــون هــذا التوصيــف لهــذا املثقــف املــرف املتكــر عــى «الزحــام» أيضـاً مــا‬
‫ســمعه نجــم أو اتفــق فيــه مــع مجموعــة يســارية محـدّدة يف زمــن القصيــدة‪ ،‬وهــذا النــوع من املثقفني‬
‫هــو الــذي شــمت بــه يف أغنيتــه عــن انتفاضــة ينايــر‪:‬‬
‫‪211‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫«مرص قامت تنتفض عز ما كان السكات‬


‫شيواش دمحم‬

‫بعدما قاموا الفالسفة يشخصوا عقم الحارات»‬


‫لكــن حــن ينتقــل نجــم مــن املســألة الطبقيــة إىل املســألة الوطنيــة‪ ،‬أي مســألة الــراع مــع‬
‫االســتعامر ســراه ال يتكلــم اللغــة الشــيوعية املعروفــة بــل ســرى أنــه يعــود للغــة الشــعب‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أثر «ثقافة العامة» و»ثقافة الخاصة» يف شعره‪:‬‬
‫إن جئنــا إىل توصيفــه لالســتعامر األجنبــي ســنجده يســتعمل وصــف «الخواجــات» لتســميته‪،‬‬
‫وهــذا متناثــر يف قصائــد كثــرة‪ :‬مث ـاً «حاحــا»‬
‫«دخلوا الخواجات‬
‫شفطوا اللبنات‬
‫والبقرة تنادي‬
‫وتقول‪ :‬يا أوالدي!‬
‫واوالد الشوم‬
‫رايحني يف النوم»‬
‫ويف رثائه لهويش منه يقول‪:‬‬
‫«يادي العجب يا رجب يا مرتب الحكايات‬
‫اسمع وشوف واندهش واكتبها يف الكتبات (‪)...‬‬
‫الحزن طول عمرنا له من حياتنا ساعات‬
‫نقضيها يف النهنهة ونضيع األوقات‬
‫نحزن عىل اليل مىض ونعيش مع اليل فات‬
‫أول ما طار الخرب وتأكد اإلثبات‬
‫صاح السالح يف الحرس قال هو يش م ّنه مات‬
‫الحاكم اليل زهد يف امللك واللذات‬
‫والزاهد اليل حكم ضد الهوى والذات‬
‫أول ما طار الخرب بني الجنود إشاعات‬
‫دمع البارود انهمر دفعات ورا دفعات‬
‫واحدة تصيب العدا تردي العدا عرشات‬
‫والثانية من عزمها زعق الفضا زعقات‬
‫والتالتة تحمي الفضا من فانتوم الخواجات‬
‫والرابعة من بعدها واملية واأللوفات‬
‫تغسل طريق البرش ومت ّوت الحرشات»‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪212‬‬

‫مــع أن الحــدث هنــا هــو «بامتيــاز» حــدث «يهــم اليســار»‪ ،‬لك ـ ّن الرثــاء مل يكــن «ماركســياً» بــل‬
‫اســتعمل مقــوالت «تراثيــة» متام ـاً‪« :‬الحاكــم الزاهــد يف امللــك واللــذات» «ضــد الهــوى» ويــأيت‬
‫وصف املســتعمرين بأنهم «خواجات» (الوصف األخري قد يســتعمل للطبقة العميلة املحلية كام‬
‫يف قولــه «يــا خواجــه يــا ويــكا يــا بتــاع أمريــكا»)‪.‬‬
‫احتفــل نجــم كــا هــو معلــوم بالثــورة اإليرانيــة‪ ،‬ولــه جملــة قصائــد جمعــت يف رشيــط خاص صدر‬
‫عنــد انتصــار الثــورة‪ ،‬ويف هــذه القصائــد ســنجد منظــورا ً للثــورة بعيــدا ً عــن التعصــب األيديولوجــي‬
‫اليســاري أو التعصــب الدينــي الضيــق‪:‬‬
‫«ده شيعة واحنا سنة ده فني ومرص فني‬
‫عايزين يدخلونا نظام ودنك فني‬
‫وناس تقول شيوعي‬
‫وعامل نفسه شيعي‬
‫عشان خايفني طبيعي‬
‫ال يبقوا ثورتني‬
‫يا أسيادنا اللصوص‬
‫قرينا يف النصوص‬
‫لو اإلنسان يلوص يغوروا الفرقتني»‬
‫يف آخر القصيدة يسأل نجم‪« :‬يزيد والّ الحسني؟»‪.‬‬
‫ال جــدال يف أن أحمــد فــؤاد نجــم مل يكــن باملتديّــن‪ ،‬ومــا مــن مركــز دينــي مــن مراكــز عرصنــا (مبــا‬
‫فيهــا األزهــر) ســرىض عــن كتاباتــه مــن منظــور دينــي مــن املنظــورات الشــائعة يف عرصنــا‪ ،‬ولكن اللغة‬
‫الدينية حارضة حضورا ً الفتاً يف قصائد نجم وعرب السنني فمثالً‪ :‬يف بداية السبعينات يقول ضد‬
‫الســلطة األردنيــة‪ ،‬وســرا ً عــى منــوذج شــاعر الربابــة‪( :‬أول الســبعينات)‬
‫أصل عالنبي قبل البداية‬
‫ّ‬ ‫«‬
‫نبي عريب مشفع يف الربايا‬
‫واسلّم بالوتر والقوس عليكم‬
‫يا كل السايرين عالشوك معايا‬
‫يقول الشاعر املجروح فؤاده‬
‫من األنذال ومن عشق الصبايا‬
‫رضانا بالقليل والخوف رمانا‬
‫بحكام املواكب والهفايا‬
‫‪213‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫وإيه بعد املسرية الهاشمية‬


‫شيواش دمحم‬

‫عىل عينك يا تاجر يف املرايه»‬


‫بعد ذلك يف رثاء خالد استنبويل (‪:)1981‬‬
‫«أصل الحكاية ولد‬
‫فارس وال زيه‬
‫خد من بالل ندهته‬
‫ومن النبي ضيه‬
‫ومن الحسني وقفة‬
‫يف محنته وزيه‬
‫قدم شبابه فدا‬
‫والحق له عارفني»‬
‫وهــذه اللغــة املوجــودة يف مراحــل شــعره املختلفــة متتــح مــن معــن اللغــة الدينية الشــعبية‪ ،‬مرة‬
‫عــر نقــل عــن لغــة شــعراء الربابــة ومــرة عــر نقــل عــن لغــة الحــرات الصوفية‪:‬‬
‫«يا سيدي يا بدوي‬
‫يا سيدنا الحسني‬
‫مدد يا ام هاشم‬
‫يا كحل العني»‬

‫‪ -3‬ملاذا كان نجم «شاعرا ً شعبياً»؟‬


‫مثة هم ثابت يف هذه اللغة هو هم الثورة‪ ،‬ولكن لغة الدين عند نجم ليست «تكتيكاً» لتوصيل‬
‫الشــعار الثــوري إىل الجامهــر بلغــة تفهمهــا! فهــي جــزء مــن لغتــه الخاصــة غــر املســتعارة‪ ،‬ألن نجــم‪،‬‬
‫كام أحب أن أقول‪ ،‬مل يكن «مثقفاً» مبعنى «املتمثل للثقافة املرتجمة واملشتغل فيها»‪ ،‬بل ظل‬
‫«شــغيالً ثقافيـاً» مــن الشــعب‪ ،‬ومل يحقــق يف حياتــه عــى طولهــا أي «اخــراق» للمنظومــة الثقافيــة‬
‫الشــعبية»‪ ،‬كــا أســميها مؤقتـاً يف انتظــار اســم أفضــل‪ ،‬وهــذا االخــراق إمنــا يظهــر أساسـاً يف اللغــة‬
‫واألشكال األدبية‪ .‬كان أحمد فؤاد نجم شاعرا ً شعبياً ال ألنه كتب بالعامية‪ ،‬بل ألن لغته ظلت هي‬
‫لغــة «الثقافــة الســائدة»‪ ،‬وبالتحديــد بالســمة الغالبــة‪« :‬ثقافــة العامــة» منهــا (خالفـاً للنديــم وبريم مل‬
‫يكتــب نجــم بالفصحــى‪ ،‬وإن كانــت قصائــده مل تخـ ُـل مــن آثــار لثقافــة الخاصــة) ومل يتمثــل قــط لغــة‬
‫«الثقافة املسيطرة» ومل يستعملها بالتايل‪.‬‬
‫وفق ـاً لتعبــر أضعــه مــكان تعبــر «املثقــف الشــعبي» ســأقول إن «الشــغيل الثقــايف الشــعبي»‬
‫(لنقل مبناسبة نجم‪« :‬الشاعر الشعبي») ميتاز بأنه ال يخرج عن نطاق مجموعة البدائل املحتملة‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪214‬‬

‫للغــة التــي يســتعملها الشــعب‪ ،‬وهــذه املجموعــة هــي التــي تســمى اختصــارا ً «لغــة الشــعب»‪ ،‬وال‬
‫يعرب عن «أشواق» ال يتشوقها الشعب‪ .‬وأريد هنا أن أعيد صياغة هذين الرشطني عىل نحو آخر‪:‬‬
‫أقصــد «بلغــة مكــون اجتامعــي مــا» مجمــوع البدائــل اللغويــة (باملعنــى الواســع لكلمــة «لغــة»‬
‫الذي يتضمن كل أنظمة اإلشارة اللفظية وغري اللفظية) املمكنة التي يستعملها أفراد هذا املكون‬
‫وتتمثــل يف أشــكال عمليــة (لغــة املحادثــة اليوميــة) وأنــواع أدبيــة وفنيــة (أنــواع األدب والفــن املختلفة‬
‫التــي تنتجهــا الجامعــة املعنيــة)‪ .‬ومن ّيــز عــى هــذا األســاس يف مجتمعنــا «لغــة الخاصــة» و»لغــة‬
‫العامــة» و»لغــة النخبــة»‪ ،‬وقــد قلــت إن نجــم تكلــم لغــة «العامــة»‪ ،‬وهــي مــا أســميها تجــاوزا ً «لغــة‬
‫الشــعب»‪ ،‬وإن مل يخــل مــن اســتعارات مــن «لغــة الخاصــة»‪ .‬ووظيفــة الشــاعر (كــا يقــول االشــتقاق‬
‫العــريب العبقــري) أن «يشــعر» باألحاســيس التــي تتجــاوز حيــز مــا هــو فــردي مطلــق ال يشــاركه بــه‬
‫أحــد‪ ،‬إذ هــذه املشــاعر الفرديــة عــى فــرض وجودهــا ال ميكــن التعبــر عنهــا يف اللغــة التــي ال تعــرف‬
‫إال مبــا هــو «أســاء» و»تجــارب واقعيــة مشــركة»‪ .‬يعــر الشــاعر عــن مشــاعر تهــم أفــراد الجامعــة‬
‫املســتقبلة لنصوصــه‪ ،‬وهــي التــي أســميتها «أشــواق الجامعــة»‪ ،‬ويقــوم الشــاعر بوظائــف يف هــذا‬
‫«العــامل الشــعوري» ميكــن أن نعــدد منهــا‪:‬‬
‫‪ -1‬الدفاع عن حق الجامعة يف الوجود وتبيان أهميتها يف الحياة‪:‬‬
‫سواعد هزيلة‬
‫لكن فيها حيلة‬
‫مبقابــل تصويــر خصــوم الجامعــة عــى أنهــم ال ميتلكــون هــذا الحــق وهــذه األهميــة‪« :‬يعيــش‬
‫التنابلــة بحــي الزمالــك»‪.‬‬
‫‪ -2‬توكيد القيم املقدسة و«صيانة قوتها» (كام يتكلم التقنيون عن «صيانة اآلالت واألدوات»)‪:‬‬
‫«أصل عالنبي قبل البداية»‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -3‬أقلمة املشاعر الفردية مع القيم الناظمة لحياة الجامعة‪:‬‬
‫«من هنا سكة ندامة‬
‫ومن هنا سكة ندامة‬
‫سكتني يا الله السالمة‬
‫أميش فني يا ناس قولويل»‬
‫‪-4‬التعبري عن مشاعر فردية تعرتي أفراد الجامعة والتنفيس عنها‪:‬‬
‫يا حبايبنا‬
‫فني وحشتونا‬
‫لسه فاكرينا‬
‫‪215‬‬ ‫»ًايبعش ًارعاش« مجن داؤف دمحأناك اذامل‬

‫وال نسيتونا‬
‫شيواش دمحم‬

‫دا احنا يف الغربة‬


‫م الهوى دبنا‬
‫وانتوا يف الغربة‬
‫جوا يف قلوبنا‬
‫أوعوا تفتكروا‬
‫إننا تبنا‬
‫مهام بعدونا‬
‫أو فرقونا»‪.‬‬
‫عـ ّـر نجــم عــن مشــاعر «الجامعــة الشــعبية» مســتعمالً لغتهــا ومتقن ـاً أشــكالها‬
‫األدبيــة ومل يخــرج عنهــا‪ ،‬مــن هنــا نقــول إنــه كان شــاعرا ً شــعبياً!‬

‫هوامش‪:‬‬
‫(‪ )1‬يف‪ :‬نجيــب توفيــق‪« ،‬عبــد اللــه النديــم خطيــب الثــورة العرابيــة»‪ ،‬مكتبــة‬
‫الكليــات األزهريــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،1970 ،‬ص ‪.101‬‬
‫(‪ )2‬انظــر وصــف نجــم للحادثــة الطريفــة التــي تقمــص فيهــا شــخصية عنــر بــن‬
‫شداد يف‪ :‬أحمد فؤاد نجم‪« ،‬الفاجومي‪ ،‬تاريخ حياة مواطن شايل يف قلبه وطن»‪،‬‬
‫دار ســفنكس للطباعــة والنــر‪ ،‬القاهــرة ‪ ،1993‬صفحــة ‪.155‬‬
‫(‪ )3‬يقــول نجــم‪« :‬كنــت مبهــور بشــوقي وعبــد الوهــاب وبــأي يشء فيــه ريحــة‬
‫أوروبا املكرمة (‪ )...‬طول النهار أتعامل وأتفلســف وأسـفّه عشــاق شــعر بريم وألحان‬
‫سيد درويش وزكريا أحمد‪ ...‬باعتبارها حاجات بلدي‪ ...‬وأنا راجل أفرنجي أباً عن‬
‫جــد!»‪« .‬الفاجومــي»‪ ،‬ص ‪.205‬‬
‫(‪ )4‬انظــر يف موضوعــة عالقــة نجــم بالشــيوعيني‪« :‬الفاجومــي»‪ ،‬صفحــة ‪175‬‬
‫ومــا يليهــا وصفحــة ‪ 229‬ومــا يليهــا‪.‬‬
‫(‪ )5‬انظــر‪ :‬أحمــد أمــن‪« ،‬زعــاء اإلصــاح يف العــر الحديــث»‪ ،‬دار الكتــاب‬
‫العــريب‪ ،‬بــروت‪ ،‬بــا تاريــخ نــر‪ ،‬ص ‪.211-210‬‬
‫(‪ )6‬انظر وصف نجم لقراءات صديقه املثقف سعد املوجي يف «الفاجومي»‬
‫ص ‪ ،243‬وتباهيــه بقــراءة عــدد كبــر مــن الروايــات البوليســية يف املصــدر نفســه‬
‫صفحــة ‪.176‬‬
‫محمد املطرود‬

‫روايــة «كان الرئيــس صديقــي» الثــورة ضــد‬


‫(الرئيــس الصديــق)‬

‫يشــتغل الــروايئ الســوري عدنــان فــرزات عــى الحــدث الســوري‪ ،‬الحــدث‬


‫الجديــد بامتيــاز‪ ،‬تأريخيـاً‪ ،‬ومــن ثــم الجديــد املفاجــئ النفــي عــى األقل‪ ،‬إذ‬
‫مل يكــن قبــل ‪َ ، 2011 /3 /15‬مــن يتصــور أن مواطنـاً ســورياً يســتطيع أن يجهــر‬
‫مع نفسه بلفظ ِة‪( :‬ال) الصادمة لنظام أمني‪( ،‬مامنع) ط ّوق منظومته األمنية‬
‫بدائــرة مــن الشــعارات (القوميــة) و(الوطنيــة)‪ ،‬وعليــه فــإن الحاضنــة ملجمــل‬
‫الروي هي أرض سورية تنتمي إليها أي (األرض) لغ ًة وتقان ًة وأشخاصاً يقرتبون‬
‫من الواقع كلية‪ ،‬هذا االقرتاب الحميم يجعل املكان‪ ،‬بتعاضد الشخصيات‬
‫معــه‪ ،‬ناطقـاً آخــر‪ ،‬وشــاهدا ً حتــى يف غيــاب التســميات املؤنســنة للمــكان أو‬
‫بغيــاب املــكان كاســم حقيقــي‪ .‬إن هــذا الرهــان يكســبه املنتُــج بوصفــه روائيــا‬
‫ينطِّق الرسد وبوصفه إنســاناً ســورياً ومنطوقه اإلنســاين مشــاهدات واســتامع‬
‫حثيث يربطه بالبطل املرسوم كتابة ليتحرك ويفعل وينجز منتجه رأياً وإضافة‬
‫للحــدث الــذي ال يــزال مســتمرا ً بانتهــاء الروايــة عــى الــورق واســتمرارها إىل‬
‫حــن كتابــة ورقــة نقديــة عنهــا‪.‬‬
‫يف عمله الجديد(كان الرئيس صديقي) تتعالق األحداث وتتصارع برصاع‬
‫الشخصيات متاماً كام عىل األرض إال أن املكشوف أو الذي يفتحه الروايئ‬
‫‪217‬‬ ‫)قيدصلا سيئرلا( دض ةروثلا »يقيدص سيئرلا ناك« ةياور‬

‫املمسك بخيوط مسانديه يف عمله هو عىل األقل هنا يعطي املخيال فرصة للتنحي عن‬
‫ورطملا دمحم‬

‫الحقيقي أو رمبا الذي ميكن أن يدخل يف حيز األحالم والتمنيات والطموحات فيام ستؤول‬
‫إليه األمور‪ ،‬وبذلك يتم الدخول عىل النفس‪ ،‬تلك الحوارية التي تتم يف مطبخ الشخصية‬
‫نفســها قبــل أن تكــون شــخصية تتكــون بالتزاماتهــا تجــاه اآلخــر زمانـاً ومكانـاً‪ ،‬مايعطــي املتلقــي‬
‫انطباعـاً أكيداًبــأن املــادة الخــام للحــدث تختلــف عــن مــادة الروايــة‪ .‬ومــن املعلــوم أن الخــام‬
‫الــروايئ يختلــف مــع الخــام االفــرايض أو الواقعــي زمانيـاً يف أحــد أوجهـ ِه‪ ،‬فالتصــدي لحالــة‬
‫تحد من السارد وتحد يف الوقت ذاته للشخصيات(الواقعية)‪ ،‬وبالتايل‬ ‫الجريان الزمني هو ٍ‬
‫للروائية أيضاً‪ ،‬تلك التي مل تس َّم حقيقياً وإمنا حملت أسامءها املستعارة‪ ،‬رمبا املستعارة‬
‫جــاءت مــن ذلــك الشــعور الضمنــي املبنــي عــى الخــوف أو مــن ســطوة حضــور الرقيب الذي‬
‫تثــور عليــه شــخصيات الروايــة وتثــور عليــه الروايــة كليــة مخاتلــة للعنــوان الضــدي‪(،‬كان الرئيــس‬
‫صديقي) عنوان ينامز عن التقريري لصالح املجاز يف حني ميكن القول‪(:‬الثورة ضد الرئيس‬
‫الصديق) أو الرئيس الذي كان صديقاً (تقريرياً)‪ .‬األسامء املح ّملة بوجودها (الثقايف) كل‬
‫ذلك جعلها يف صف املعلوم وليس املبني للمجهول‪،‬وهؤالء أشخاص فاعلون بوجوههم‬
‫السافرة ومبا يقدمونه من منجز هو يف أحد إشاراته مساندة للرسد يف رسدية ثقافية تجعل‬
‫مــن العمــل برمتــه عم ـاً ينحــا ُز لتوصيــف املراكمــة الحياتيــة ومنهــا الثقافيــة يف تفتيــح وجــه‬
‫من وجوه(الثورة السورية) كموضوع أساس وكموضوع استناد يشكل الرواية مبنى ومتناً‪.‬‬
‫ساده الناطقــن باســمه وهــو هنــا ينطلــق مــن أنــاس‬ ‫يرتفــع مســتوى الــروي مــن مســتوى ُ‬
‫مثقفني وليســوا (صغار الكســبة والفالحني) تلك الشــعارات التي حملها النظام الســوري‪،‬‬
‫مايعنــي أن الثــورة الحــدث كليــة تحمــل طابع ـاً مغايــرا ً للكليــة الجامهرييــة مبعنــى الشــارع‬
‫وانتفاضتــه‪ ،‬فالثــورة التــي حققــت أكــر قــدر مــن املشاركة(الشــعبية) هــي يف أســها ترتـ ُّد إىل‬
‫الثقــايف وليســت مقصوصــة مــن شــجرة يف العــراء‪ ،‬وهــي الثيمــة الرئيســة التــي تتفاصــح أو‬
‫ـص شــارعاً مبعنــاه الجامهــري‪ /‬الثــوري‪.‬‬ ‫ترفــع مــن مســتوى املنطــوق إذ عرفنــا أن العمــل يخـ ُّ‬
‫الشخصية البطل‬
‫البطــل الظاهــر يف الروايــة ابــن لبيئــة عســكرية وظيفي ـاً والرتكيــز عــى شــخصية يــأيت مــن‬
‫محوريــة الشــخصية وقيمتهــا بذاتهــا وارتداداتهــا املعرفيــة واملوضوعيــة «عميــد متقاعــد»‬
‫ومفــردة متقاعــد تحيــل إىل انتهــاء الصالحيــة بحيــث تتحــول البيئــة العســكرية مرتــدة إىل‬
‫املــكان الــذي انطلقــت منــه كبيئــة مشــكلة للوعــي وللــذات الجريحــة التــي تتبــن فيــا بعــد‪،‬‬
‫فاملدينــة (حــاة) املــكان الســوري األكــر فجائعيــة وإحالــة إىل املــوت‪ ،‬حيــث الذاكــرة تعــود‬
‫إىل الثامنينيــات مــن القــرن العرشيــن‪ ،‬وحيــث أن الصــور املغيبــة إعالميـاً واملطموســة تحفــر‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪218‬‬

‫بعيدا ً يف الذاكرة يف حفر هو يف جوهره ميس التفكري الجمعي ملجموع البرش السوريني‪،‬‬
‫من املؤكد أن الشــخصية الرئيســة تتناه ُبها شــخصيتان نفســيتان راكان الحســيني العســكري‬
‫وراكان الحســيني املثقــف بعالقتــه بوســط ثقــايف ومــن ثــم الــروايئ فيــا بعــد موتــه والصديــق‬
‫لشــخصية عامــة البــد وتوســمه بطابعهــا أو تهـذِّب العســكري الجلــف فيــه‪ ،‬هــذا النوســان بــن‬
‫العســكري كتكويــن (شــخصيايت) وبــن العســكري كفعــل مجــازي إذ تبــن الروايــة أن الــرىض‬
‫بــراكان العســكري قليــل أرسي ـاً يتبــن مــن روح املعارضــة يف شــخصية األم‪ ،‬وهــذا عملي ـاً‬
‫ســيقود إىل حفر الرواية يف شــخصية املســتلب والذي وقع عليه الحيف باعتبار أن األصل‬
‫(حمــوي) والعــودة البــد وتكــون بالعــودة إىل نبــش قبــور الضحايــا والنظــر ملي ـاً إىل عظامهــم‬
‫التي أصبحت رميامً لكن أرواحهم مازالت تعيش يف أجيال أخرى تتحسس الجرح وتتعالق‬
‫معــه يف اشــتباك قصــدي يصــل مرحلــة قتــل الــذات الكائنــة لصالــح الــذات التــي كانــت‪.‬‬

‫الرهان الثقايف‬
‫الرهــان الثقــايف عــى البعــد الثقــايف للثــورة والعمــل عــى تظهــر هــذا البعــد وكأنــه‬
‫فيزيــايئ ماثــل ومحــرك‪ ،‬يبــن بــدوره ســلمية الثــورة ومدنيتهــا والطمــوح الكبــر بوطــن مغايــر‬
‫لوطــن الشــعارات‪ ،‬هــذا التظهــر مــن الســارد ‪/‬الــروايئ للعينــة التــي يســتثمرها توضــح الجزئيــة‬
‫التــي قصدتهــا فيــا تقــدم‪ ،‬أن هــذا االســتثامر هــو مســاهمة يف قــول يرفــع عــن كاهلــه وأقصد‬
‫الــراوي‪ /‬الــروايئ روح الثائــر الجامثــة التــي صــارت تتملمــل فوجــود نــورس النبهــان الشــخصية‬
‫التــي ســأجي عــى ذكرهــا إىل جانــب نــوار البــواريش وهــا صديقــان للبطــل ســيتناوبان عــى‬
‫البطولة يف أجزاء كثرية من حياة القص‪ ،‬نوار البواريش املهندس املعامري بداللة (العامرة)‬
‫املحملــة بالبنــاء والعطــاء والتشــييد والفنــان عــازف الكــان املتســمك بآلتــه يف أصعــب‬
‫لحظــات حياتــه حــن املالحقــة والفــرار وإىل وقــت تصويــب الرصاصــة إليــه وإلقائــه يف نهــر‬
‫العــايص لتغــرق جثتــه ويبقــى كامنــه يطفــو كداللــة أخــرى عــى انتصــار الجــزء املثقــف يف‬
‫العمــل والحيــاة وانتصــار الرمــوز واملثــل حتــى بانطفــاء الــذوات والشــخوص‪.‬‬
‫أن رواية عدنان فرزات السوري (كان الرئيس صديقي) هي رواية ضد الصديق الرئيس‪،‬‬
‫وهــذه الحيثيــة مــن صداقــة مل تــدم طويـاً تقــارب الحقيقــة إذا أخذنــا أو تلمســنا مــن املــرود‬
‫أن نــورس النبهــان هــو نفســه فنــان الكاريكاتــر العاملــي عــي فــرزات والــذي تع ـ ّرض العتــداء‬
‫مــن قبــل شــبيحة (الرئيــس) الــذي كان صديقــا لفــرة خلــت‪.‬‬

‫متعة القص وجريان الثيمات‬


‫تــأيت روايــة (كان الرئيــس صديقــي) بحــدث جديــد وبذلــك يتوافــر التشــويق ليــس لطرافــة‬
‫‪219‬‬ ‫)قيدصلا سيئرلا( دض ةروثلا »يقيدص سيئرلا ناك« ةياور‬

‫غالف الرواية‬
‫ورطملا دمحم‬

‫األحــداث وإمنــا الشــتغال الروايــة كليــة عــى حــدث كبــر حتــى اللحظــة المنجــز‬
‫تصدى لها أو تداولها‪ ،‬اللغة غري مفرطة يف استعراض سواء أكان مجانياً أو‬
‫مضبوطـاً لخدمــة الفكــرة نفســها‪ ،‬أيضـاً التنشــغل الروايــة بتقانــات الروايــة بقدر‬
‫ماتســعى إىل قــول الحكايــة وتحميلهــا بأبطالها‪.‬‬
‫الروايــة تقــرأ كوثيقــة وكاســتباق يبتعــد عــن الصحفيــة لصالــح ماهــو مســتمر‬
‫وذلــك بغيــاب التكهنــات أو بوجــود الــدرس الوعظــي‪ ،‬حيــث تــأيت الجملــة‬
‫األخــرة وكأنهــا فاتحــة لعهــد جديــد وأمــل آخــر بســوريا أخــرى‪ ،‬فالبــاب أغلــق‬
‫عــى حقبــة مضــت وصــار التفكــر بالقــادم‪ ،‬تــأيت املقولــة هكــذا عــى لســان‬
‫نــورس النبهــان أو لنقــل عــي فــرزات وهــو يغــادر مشــغله ‪»:‬إذا ســألك الزائرون‬
‫عنــي يف غيــايب‪ ،‬فقــل لهــم أننــي ســأعود»‪.‬‬
‫ماري عيىس‬

‫«بــدر الزمــان» للروائــي الســوري فاضــل‬


‫الســباعي‪ :‬تجهيــز الثــورة‬

‫بعد أكرث من عرشين عاماً عىل صدور روايته «بدر الزمان» (دار إشبيلية‬
‫بدمشــق ‪ - )1992‬التــي تُرجمــت إىل اإلســبانية‪ -‬يــأيت الحديــث عنهــا اليــوم‬
‫ليحمل قدرا ً من التقدير الذي يستحقه األديب فاضل السباعي عىل رواية‬
‫ســبقت زمانهــا واســتقرأت املســتقبل وكأنهــا تُكتــب اليــوم يف زمــن الثــورات‪،‬‬
‫زمــن الربيــع العــريب‪.‬‬
‫ولعــل قــول الســباعي نفســه يؤكــد أنــه كان ومــا زال يحلــم بوطــن عــادل‬
‫يحــرم مواطنيــه «وســوف أظــل أحلــم بــأن يف وســعي ‪ -‬بصفتــي كاتب ـاً أدبي ـاً‬
‫مبدعـاً‪ -‬أن أغـ ّـر العــامل» (حــوار معــه‪ ،‬مجلــة «الرافــد» العــام ‪ ،)2003‬فأتــت‬
‫الروايــة‪ ،‬بأســلوبها الرمــزي الــذي حــرص الكاتــب عــى اتباعــه الــذي جــاء يف‬
‫ســياق ال َح ـذَر وتج ّنــب املجابهــة‪ ،‬تحــايك واقعنــا العــريب اليــوم يف محاولتــه‬
‫التغيــر نحــو مجتمعــات تحكمهــا دولــة عادلــة‪.‬‬
‫تبــدأ القصــة ‪ -‬الروايــة بحلــم بســيط لشــاب قــروي طيــب القلــب هــو «بــدر‬
‫الزمان» بأن يزيد عدد دجاجاته ومنتجاته من البيض وبالتايل ربحه‪ ،‬ليتمكن‬
‫مــن أن يجمــع مــاالً مي ّكنــه مــن أن يتــزوج وينشــئ عائلــة ويصبــح أبـاً حنونـاً‪ .‬لكــن‬
‫جشع االمرباطور الذي يحكمهم وطمعه مبا يربحه بدر الزمان وأمثاله‪ ،‬يجعله‬
‫‪221‬‬ ‫ةروثلا زيهجت ‪:‬يعابسلا لضاف يروسلا يئاورلل »نامزلا ردب«‬

‫يصــدر قانــون التأميــم الــذي ينســف ذلــك الحلــم‪ ،‬فالحاكــم أراد تقاســم الربــح معهــم‪ ،‬وأن‬
‫سيع يرام‬

‫يــرق القــوت ويــأكل لحــم «اليــام» ويــرك الفقــراء لجوعهــم وقهرهــم‪ ،‬فآخــر ه ـ ّم للحاكــم‬
‫«يــان ‪ -‬تســون» كان مســتقبل الشــباب مبــن فيهــم مســتقبل بــدر الزمــان‪ ،‬فــا يعنيــه مصلحتــه‬
‫الشــخصية‪ ،‬بطنــه وخزينتــه‪« .‬ظلــم‪ ،‬وقهــر‪ ،‬واســتعباد‪ .‬حتــى قــوت الشــعب اليومــي‪ ،‬بيــض‬
‫الدجاج‪ ،‬مل ينج من استغالله‪ :‬يشرتيه من منتجيه بالسعر الزهيد‪ ،‬ويبيعه للشعب بالسعر‬
‫الفاحش‪ ،‬وال يرتدد يف االدعاء بأ ّن ذلك هو التعميم النافع للشعب!»‪ .‬ومبحاكمة بسيطة‬
‫يضــع الــروايئ الســباعي قارئــه أمــام قصــة واقعيــة يعيشــها يومي ـاً كل مواطــن يف مجتمعاتنــا‬
‫العربيــة التــي تتنفــس الفســاد‪ ،‬فببســاطة ســادت عمليــات االحتيــال واالســتغالل للقرويــن‬
‫والعامل البسطاء‪ ...‬وهذا ما أراد األديب املبدع‪ ،‬واملحامي عن الفقراء‪ ،‬فاضل السباعي‪،‬‬
‫أن يلقي الضوء عليه ويعالجه‪ .‬هذه التفاصيل البسيطة واملشوقة يف الرواية كانت أسباب‬
‫رشارة أشــعلت ثــورة عــى االمرباطــور‪ ،‬ومثلهــا الثــورات عــى نظــام االســتبداد واالســتعباد يف‬
‫الواقــع‪ .‬وقــد كان الحــس الواعــي بالظلــم عنــد الشــاب القــروي املظلــوم «بــدر الزمــان» يف‬
‫حس الشباب والشعب عامة بالظلم‪ ،‬والذي دفعهم للنزول إىل الشوارع‬ ‫القصة هو نفسه ّ‬
‫يصدحــون بحناجرهــم مندديــن بالظلــم والقهــر ومطالبــن بالحريــة يف ثــورات الربيــع العــريب‪.‬‬
‫ليتبــع تلــك الرصخــات املزيــد مــن الظلــم ومحاولــة كــم األفــواه وقتلهــا مــن قبــل االمرباطــور‬
‫الحاكــم‪ ،‬وليمــي مطلبهــم هــو الخــاص مــن الظلــم يعنــي الخــاص مــن الظــامل نفســه‪ .‬يقــول‬
‫بــدر الزمــان‪« :‬ليــت االمرباطــور يكــف عــن قهرنــا ومــص دمائنــا»‪ ،‬وجملتــه هــذه‪ ،‬التــي وصلــت‬
‫إىل سمع الحاكم عرب تناقلها كان لها عواقبها‪« :‬شكاة جريحة‪ ،‬زفرتها لهاة معدم مسحوق‪،‬‬
‫س لهــا الســامعون‪ ،‬ثــم‪ ...‬راح كل منهــم يلقيهــا يف أذن‬ ‫يف ســاعة ســمر‪ ،‬تحــت ضــوء قمــر‪ّ ُ ،‬‬
‫ابنــه‪ ،‬وأبيــه‪ ،‬وزوجتــه‪ ،‬وأخيــه»‪ .‬هــذه الجملــة والتــي شــابهتْها اليــوم زمـ َن الربيــع العــريب الجملـ ُة‬
‫التــي نــادت بالحريــة والكرامــة والعدالــة‪ ،‬أثــارت غضــب الحاكــم وجعلت أزالمه يعتقلون «بدر‬
‫الزمان» ويزجونه يف السجن لينال العذاب والعقاب متاماً كحال معتقيل الثورات العربية‪.‬‬
‫والــذي يحــدث أن الســجن يزيــد «بــدر الزمــان» صالبــة يف حنقــه عــى الظلــم والظــامل ويصبــح‬
‫مــرا ً أكــر عــى الخــاص منهــا‪ ،‬وأمنيتــه تكــر بــأن يســود قانــون عــادل يعيد لــه حقه وينرصه‪.‬‬
‫ويف الوصــول إىل الحــل تتبــدى االختالفــات بــن الواقــع وبــن القصــة‪ -‬الروايــة (التــي وصفهــا‬
‫الســباعي بأنهــا «حكايــة أســطورية للصغــار والكبــار»)‪ ،‬فــا يصــح يف األدب ال يصــح بالــرورة‬
‫يف الواقــع‪ ،‬ومــا ذهــب الــروايئ إليــه مــن حلــول أســطورية وخياليــة ال ميكــن أن يتحقــق يف‬
‫الواقــع‪ ،‬رغــم أن حلولــه الخياليــة حافظــت عــى رســالة تضمنتهــا‪ ،‬وهــي أنــه ال يشء يصعــب‬
‫عــى اإلنســان حــن يصمــم ويســعى للحــق‪ ،‬وأنــه ميكــن للظــامل أن يصــادر حريــة الفــرد لكنــه‬
‫ال ميكــن أن يصــادر أحالمــه‪ .‬والحــل الــذي أتــت بــه الروايــة‪ ،‬مــن خــال تداخــل الواقعــي مــع‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪222‬‬

‫األســطوري مــع الخيــايل وذلــك بتحـ ّول اإلنســان– وهــو هنــا بــدر الزمــان ‪ -‬إىل ميامــة ثــم هروبــه‬
‫مــن الســجن‪ ،‬هــو حـ ّـل يــأيت يف إطــار فنــي ممتــع وفيــه دغدغــة لخيال القارئ‪ ،‬وهنا مرة يُشــابه‬
‫أســلوب «ألف ليلة وليلة» ومرة حكايات «كليلة ودمنة» تلك التي اســتنطقت الحيوان‪ .‬إ ّن‬
‫القطّة يف هذه «الحكاية األسطورية»‪ ،‬هي من الج ّن وليست من اإلنس كام تقول القصة‪،‬‬
‫ـت‪ ،‬أو «أُ َخ ّيــة» لبــدر الزمــان‪ ،‬تســدي لــه النصــح أو املشــورة عندمــا‬ ‫اســمها «بشــرة» وهــي أخـ ٌ‬
‫تــزوره وهــو يف الســجن‪ ،‬بــأن ميتنــع عــن الطعــام إىل أن يهــزل جســمه فيتح ـ ّول إىل «ميامــة»‬
‫تتمكن من التسلل بني قضبان النافذة الصغرية يف أعىل الزنزانة‪ ،‬وتكون هي بشرية بانتظاره‬
‫هنــاك لتدلّــه عــى الطريــق‪ ،‬وترســم لــه الخطــة للنيــل مــن االمرباطــور يــان‪ -‬تســون‪ ،‬والقضــاء‬
‫عليــه‪ ،‬وهــي التــي كانــت تــردد عــى مســمعه منــذ البدايــة بــأن خــاص أهــل قريتــه وشــعبه مــن‬
‫اإلمرباطــور ســيكون عــى يديــه‪« :‬لتكــن عــى يقــن‪ ،‬يــا بــدر الزمــان‪ ،‬مــن أن نهايــة االمرباطــور‬
‫ســتكون‪ ،‬يف يوم من األيام‪ ،‬عىل يديك!»‪ .‬ويهرب بعد فرتة قضاها يف الســجن‪ ،‬ويذهب‬
‫برفقــة األخيّــة بشــرة إىل «غابــة الصنوبــر»‪ ،‬التــي كان قــد هاجــر إليهــا اليــام كل اليــام مــن‬
‫املــدن ملتجئـاً‪ ،‬هربـاً مــن رجــال اإلمرباطــور الذيــن يتعقبــون الياممــات صيــدا ً ل ُيقـ َّدم لحمهــا‬
‫عىل مائدته مشويّاً‪ ،‬فهو مغرم بلحم اليامم الذي ال يستسيغ الناس صيده وأكله‪ ،‬وهناك‬
‫ـن أنهــا أرحــم عــى اليــام مــن االمرباطــور!‬ ‫يعيــش اليــام آمن ـاً مــع حيوانــات الغابــة التــي تبـ ّ‬
‫وتتتابع األحداث بأسلوب الفانتازيا الغرائبي الذي ميتزج فيه القديم بالعرصي‪ ،‬واألسطوري‬
‫بالواقعي‪ .‬إن بدر الزمان الذي أصبح اآلن َذكَ َر ميام‪ ،‬يتبادل الحب مع ميامة اسمها «بُ ُدور»‬
‫ويقــام لهــا حفــل زفــاف يف الغابــة حرضتــه الطيــور الجارحــة والوحــوش الــكارسة! ثــم إن اليامم‬
‫الهــارب إىل الغابــة بــدأ يــزور العاصمــة ويضــع بيوضــه عــى نوافــذ البيــوت‪ ،‬فيجدهــا النــاس‬
‫عنــد الصبــاح «قنابــل» يدويــة! وهكــذا أتيــح للشــعب مهاجمــة اإلمرباطــور يف موكبــه‪ ،‬وقــد‬
‫ـخص اإلمرباطــور‪ ...‬تقــول القصــة‪ :‬فمــن جهــة‬ ‫اســتهدف بــد ُر الزمــان بصــاروخ مــن جوفــه‪ ،‬شـ َ‬
‫تهاجــم مجموعــات البــر موكــب اإلمرباطــور‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى يهاجــم بــدر الزمــان اإلمرباطور‪.‬‬
‫كان بــدر الزمــان‪ ،‬القــادم مــن بعيــد‪ ،‬يعــرف كــم هــي صعبــة مهمتــه‪ ،‬ودقيقــة‪ ،‬وانتحاريــة‪ .‬ويف‬
‫أرسع مــن ملــح البــر اســتدار‪ ،‬متخــذا ً بعنايــة الوضــع امل ُح َكــم‪ ،‬ومسـ ّددا ً إىل حيــث الطاغيــة‬
‫يــان ‪ -‬تســون‪ .‬ولحظــة انطلــق الصــاروخ يف اتجــاه «العــرش املحمــول»‪ ،‬وانفجــر‪ ،‬محدثـاً دويّـاً‬
‫هائ ـاً‪ ،‬ومم ّزقًــا اإلمرباطــور‪ ،‬وكثــرا ً مــن أفــراد حاشــيته‪ ،‬يف هــذه اللحظــة عينهــا كانــت ســبع‬
‫رصاصــات‪ ،‬ســبيون‪ ،‬قــد اســتق ّرت يف صــدر طــر اليــام»‪ .‬وال ننــى أهميــة أن نهايــة الروايــة‬
‫مل تكــن نهايــة تقليديــة كأن ينتــر البطــل ويعيــش ويندحــر الظــامل ويفنــى‪ ،‬بــل إن الــروايئ‬
‫كان يحمــل‪ ،‬حتــى يف صياغــة نهايــة الروايــة‪ ،‬رســالتني‪ :‬األوىل أن للحريــة مثنـاً غاليـاً‪ ،‬فأمنيــة‬
‫«بــدر الزمــان» تحققــت‪ ،‬وكانــت حياتــه وحيــاة زوجتــه الثمــن حــن اخــرق الرصــاص جســدها‬
‫‪223‬‬ ‫ةروثلا زيهجت ‪:‬يعابسلا لضاف يروسلا يئاورلل »نامزلا ردب«‬

‫الجميــل‪ ،‬وكذلــك حالــه‪« :‬الجســد الصغــر «بــدر الزمــان» تثقــب تطايــر مزقـاً‪،‬‬
‫سيع يرام‬

‫انشــوت املــزق‪ ،‬احرتقــت كلهــا‪ ...‬واحــرق الريــش كلــه‪ ،‬حتــى مل تبـ َـق ريشــة‬
‫واحدة تذروها الرياح»‪ .‬وأما الرسالة الثانية فهي أن نرص «بدر الزمان» وأهل‬
‫قريته تحقق ألنهم وقفوا معا متضافرين‪« :‬حقيقة ما وقع أن الشعب‪ ،‬الذي‬
‫وحــده طغيــان االمرباطــور‪ ،‬قــام قومــة الرجــل الواحــد»‪ .‬وتبــدأ بعــد ذلــك حيــاة‬
‫جديــدة للقريــة‪ ،‬وينتخــب الشــعب مــن أبنائــه الــررة حاكـاً كفــؤا ً عــادالً رحيـاً‬
‫متنــورا ً‪ ،‬ويحاكــم محاكمــة عادلــة كل مــن كان مــع الظــامل وارتكــب الظلــم وخــرج‬
‫عن القانون‪ .‬وال ينىس أهل القرية تكريم روح «بدر الزمان» وزوجته «بدور»‪،‬‬
‫بأن أقاموا لهام متثالني‪ ،‬واحدا ً يف القرية وآخر يف العاصمة‪ .‬الرواية ممتعة‬
‫وعميقة رغم سهولتها وبساطتها‪ ،‬فهي من السهل املمتنع وتحمل الكثري من‬
‫املعــاين والعــر‪ .‬وال غــرو فــإن كاتبهــا أديــب مبــدع‪ ،‬لــه أســلوبه املتميّــز وأفــكاره‬
‫اإلنســانية وإحساســه النبيــل‪ ،‬وقــد عاهــد نفســه عــى منــارصة املظلومــن‬
‫واملقهوريــن والبحــث عــن الحقيقــة‪ ،‬وهــذا مــا غلــب عــى أدبــه القصــي‪،‬‬
‫كــا الحظــت يف مجموعتيــه القصصيتــن «األمل عــى نــار هادئــة» و»حــزن‬
‫حتــى املــوت» اللتــن أتيــح يل قراءتهــا وأنــا يف منفــاي االختيــاري‪ ،‬حيــث‬
‫يرصــد فيهــا حــاالت ظلــم اإلنســان‪ ،‬ليــس يف وطنــه الصغــر ســوريا فقــط‬
‫بــل يف املجتمعــات العربيــة‪ .‬دافــع ومــا يــزال عــن املقهوريــن واملضطهديــن‬
‫واملعذبــن‪ ،‬مــا ع ّرضــه لالعتقــال يف الثامنينــات‪ ،‬يقــول‪« :‬كتبــت‪ ،‬وأنــا غــر‬
‫املؤيّــد أو املحمــي مــن أي تنظيــم‪ ،‬مدافع ـاً عــن املعذبــن واملضطهديــن‪.‬‬
‫اقتــادوين مــرة مــن جامعــة حلــب إثــر محــارضة يل إىل املعتقــل‪ ،‬ألخــرج وأنــا‬
‫أصلب عودا ً‪ ،‬فأتح ّدث‪ ،‬يف املؤمتر السنوي التحاد الكتاب العرب (كانون‬
‫الثــاين ‪ )1982‬عــن ظــروف اعتقــايل‪ ،‬وعــن األســئلة غــر الذكيــة التــي ُوجهــت‬
‫يل يف أثناء التحقيق‪( .‬ويتساءل) أهو الطبع املشاكس أم أنه الحرص عىل‬ ‫إ ّ‬
‫قول الحق؟»‪ ،‬ليأيت الجواب عىل لســان الســباعي نفســه قوال وفعال‪« :‬لقد‬
‫اعتقــدت دامئــا أن األديــب‪ ،‬املفكــر‪ ،‬الفنــان‪ ،‬هــو ضمــر أمتــه‪ ،‬فــإن ســكت‬
‫الضمــر ُعـ ّد الضمــر وصاحبــه ميتــن»‪.‬‬

‫فاضل السباعي – بطاقة ذاتية‪:‬‬


‫مــن مواليــد حلــب ‪ .1929‬درس الحقــوق بجامعــة القاهــرة‪ .‬عمل محامياً‪،‬‬
‫فموظفـاً يف وزارات الدولــة‪ ،‬قبــل أن يطلــب إحالتــه عــى التقاعــد عــام ‪1982‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪224‬‬

‫وهو مدير يف وزارة التعليم العايل ليتفرغ للكتابة‪ .‬أسس بدمشق ‪ 1987‬دار‬
‫اشبيلية للدراسات والنرش والتوزيع‪ .‬عضو مؤسس يف اتحاد الكتاب العرب‬
‫ـت دورات‪ .‬له‬ ‫(‪ ،)1969-1968‬ومقرر جمعية القصة والرواية يف االتحاد سـ ّ‬
‫بضعة وثالثون كتاباً طُبع بعضها أكرث من مرة‪ .‬أصدر سلسلة «شهرزاد الـ‪»21‬‬
‫وهــي قصــص للصغــار والكبــار‪ ،‬وسلســلة «الكتــاب األندلــي»‪ ...‬وهــو مــن‬
‫الناشــطني يف مجــال حقــوق اإلنســان‪ ،‬ولــه يف شــبكة التواصــل االجتامعــي‬
‫صفحــة باســمه‪ .‬غــادر يف أواخــر العــام ‪ 2013‬وطنــه إىل حيــث يقيــم بعــض‬
‫أبنائــه يف الواليــات املتحــدة األمريكيــة‪.‬‬
‫مــن مجموعاتــه القصصيــة‪ :‬رحلــة حنــان (يف سلســلة «إقــرأ»)‪ ،‬حــزن حتــى‬
‫املــوت (صــدرت طبعــة منهــا بالفرنســية يف باريــس)‪ ،‬االبتســام يف األيــام‬
‫الصعبــة‪ ،‬األمل عــى نــار هادئــة‪ ،‬اعرتافــات نــاس طيبــن‪ ،‬آه يــا وطنــي‪ ،‬تقــول‬
‫الحكايــة‪ .....‬ومــن رواياتــه‪« :‬بــدر الزمــان» (طبعــة باإلســبانية)‪« ،‬الظــأ‬
‫والينبــوع»‪« ،‬ثــم أزهــر الحــزن» (تحولــت إىل مسلســل تلفزيــوين تــم تصويــره‬
‫يف شــتاء ‪ 2002 - 2001‬تحــت عنــوان «البيــوت أرسار»)‪« ،‬ريــاح كانــون»‪.‬‬
‫عنــده يف اإلعــداد نحــو عــر مخطوطــات‪ ،‬ومنهــا مــا كان قيــد الطباعــة (لــوال‬
‫األحداث)‪« :‬قمر ال يغيب» عرش فصول يف أدب الرحالت‪ .‬ترجمت بعض‬
‫قصصه إىل عدد من اللغات‪ ،‬منها الفرنسية واإلسبانية واالنكليزية واالملانية‬
‫والروســية واالرمنيــة والفارســية وغريهــا‪.‬‬
‫إبراهيم اليوسف‬

‫رسقة الكنوز األثرية السورية عمل منظم‬

‫بات يقرتن باســم الحرب‪ ،‬التي صعدت ســاملها ثورات الربيع العريب‪،‬‬
‫يف أكرثمن عنوان‪ ،‬االعتداء عىل اآلثار التي تزخر بها متاحف هذه البلدان‪،‬‬
‫وهو ما وجدناه عىل نحو واضح من خالل ماتم يف العراق‪ ،‬أمام أعني العامل‬
‫كلــه‪ ،‬حيــث أن اآلثارواملتاحــف‪ ،‬هــي مــن األهــداف األوىل التــي يرتبــص بهــا‬
‫بعض لصوص الحروب‪ ،‬باإلضافة إىل أن اشتعال الحرب يف بلد ما يجعل‬
‫آثارها تحت رحمة آلة الحرب‪ ،‬بعد أن صمدت يف مواجهة عوامل الطبيعة‪،‬‬
‫بل وناهبي الرتاث ممن مألوا متاحف أوربا‪ ،‬خالل القرون املاضية‪ ،‬والسيام‬
‫يف ظل االحتالالت التي متت للمنطقة‪ ،‬ناهبني الكثري من الكنوز التاريخية‬
‫والحضاريــة التــي هــي يف األصــل‪ :‬ذاكــرة الشــعوب‪ ،‬والتــزال هنــاك قضايــا‬
‫كثــرة عالقــة‪ ،‬ومــن ذلــك‪ ،‬فــإن تكــن يف ســاحة عاصمــة مــا‪ ،‬مثــل باريــس‪ ،‬فقــد‬
‫تصادف بعض هذه اآلثار‪ ،‬أقواسـاً‪ ،‬وتيجاناً‪ ،‬أومســات‪ ،‬أو أعمدة‪ ،‬وغريها‪،‬‬
‫يشــر الدليــل الســياحي إىل إنهــا جلبــت مــن مــر‪ ،‬ومــا هــذا إال غيــض مــن‬
‫فيــض متاحــف العــامل التــي تعـ ُّـج مبثــل املنهوبــات‪ ،‬وهومــا يتكــرر يف إيطاليــا‬
‫وبريطانيــا‪ ،‬وغريهــا أيض ـاً‪ ،‬وإن كنــا نجــد دعــاوى قامئــة يف هــذا املجــال‪،‬‬
‫اســتنادا ً إىل قوانــن ناظمــة‪ ،‬مل تطبــق بالشــكل املطلــوب‪ ،‬وهــي آثــار نفيســة‪،‬‬
‫نــادرة‪ ،‬الســيام عندمــا يكــون مــن بينهــا مثــل‪ :‬رأس امللكــة نفرتيتــي ومتثــال حــم‬
‫أيونوباين أكرب أهرامات مرص‪ ،‬وحجر رشيد‪ ،‬بل إن يف متحف اللوفر وحده‪،‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪226‬‬

‫حــواىل ‪ 5000‬قطعــة أثريــة مرصيــة معروضــة‪ ،‬ناهيــك عــن ‪ 100‬ألــف قطعــة أثريــة يف مخازنــه‬
‫حيــث حصــل ذلــك كلــه‪ ،‬أثنــاء االنتــداب الفرنــي‪.‬‬
‫ومــن شــأن الحــرب‪ ،‬أن تــرك جرحهــا عميق ـاً يف تاريــخ الشــعوب‪ ،‬بــل ويف ســايكولوجيا‬
‫املجتمعــات التــي تكــون مواطنهــا مرسح ـاً لهــا‪ ،‬حيــث القتــل‪ ،‬والدمــار‪ ،‬وأنهــار الــدم‪ ،‬بــل‬
‫وابتــاع معــامل الحضــارات‪ ،‬وهــي أعظــم تحــد لالســتقرار واألمــان‪ ،‬حيــث تجــري بســببها أنهــار‬
‫الدماء‪ ،‬ويروح ضحيتها األبرياء‪ ،‬وإنه رغم مرور الكثري من العقود عىل أقرب حربني كونيتني‪،‬‬
‫هــا‪ :‬األوىل ‪ 1918-1914‬والثانيــة ‪ ،1945-1939‬فــإن الحديــث ‪ -‬ال ســيام يف أوروبــا ‪ -‬ال‬
‫يــزال يــدور عــن آثارهــا الســلبية‪ ،‬عــى الصعــد كافــة‪ ،‬مادامــت أرس كاملــة تبــاد عــن بكــرة‬
‫أبيهــا‪ ،‬بــل ومازالــت آثارهــا تتــوارث جي ـاً عــن جيــل‪ ،‬ويعنــى العلــاء واملفكــرون والباحثــون‪،‬‬
‫يف البلدان األكرث ترضرا ً منها‪ ،‬بوضع الخطط‪ ،‬والبحوث‪ ،‬والدراسات‪ ،‬للتخلص من آثارها‬
‫الكارثيــة‪ ،‬وهــو مــا يجعلهــا جروحـاً يف الذاكــرة البرشيــة‪ ،‬بــل وجروحـاً يف النفــس البرشيــة‪ ،‬قــد‬
‫تنعكــس يف األدب‪ ،‬والفــن‪ ،‬كــا يف علــم النفــس‪ ،‬والفلســفة‪ ،‬وعلــم االجتــاع‪ ،‬لتبــن درجــة‬
‫بشــاعتها‪ ،‬ووحشــيتها‪ ،‬فــا أســوأ مــن مقتــل اإلنســان عــى يــد أخيــه اإلنســان‪ ،‬مهــا كانــت‬
‫أســباب االختــاف عميقــة‪.‬‬
‫وإذا كان األثــر عــى النحــو‪ ،‬يف مــا يتعلــق بالرضيبــة التــي يدفعهــا اآلدمــي‪ ،‬يف لجــة‬
‫الحــرب‪ ،‬مــن دمــه‪ ،‬وروحــه‪ ،‬وحياتــه‪ ،‬فــإن الرضيبــة املوازيــة التي يدفعها‪ ،‬عىل حســاب منجزه‬
‫الحضــاري‪ ،‬وقبــل ذلــك الــرايث الــذي ال ميكــن أن يعــود‪ ،‬ألنــه يكتنــز التاريــخ واإلبــداع والفــن‪،‬‬
‫فــا أصعــب أن تصلنــا أوابــد‪ ،‬تعــود إىل غابــر األزمــان‪ ،‬تــم الحفــاظ عليهــا‪ ،‬جيالً بعد جيل‪ ،‬إال‬
‫أنهــا تغــدو خــال مجــرد إمياضــة‪ ،‬أثــرا ً بعــد عــن‪ ،‬إذ نكــون هنــاك ليــس أمــام حــاالت انتهــاك‬
‫حيــوات البرشيــة‪ ،‬بــل وأمــام حــاالت انتهــاك الذاكــرة التاريخيــة‪ ،‬التــي مــن شــأنها أن تعيــش‬
‫طويـاً‪ ،‬حتــى بعــد زوال صانعهــا!‬
‫مثة نوعان من الجرمية – هنا ‪ -‬يف الحرب‪ ،‬إذا ً‪ ،‬أوالها تطال روح الكائن البرشي‪ ،‬وثانيها‬
‫تطــال إبداعــه‪ ،‬وحضارتــه‪ ،‬وهنــا‪ :‬فــإن مــن يســتهدف اإلنســان‪ ،‬لــن يتــورع عــن اســتهداف أثــره‪،‬‬
‫ومــن يســتهدف أثــره اإلبداعــي‪ ،‬يقــدم أوراق اعتــاده كمجــرم‪ ،‬مكتمــل املواصفــات‪ ،‬اليتــورع‬
‫عــن ارتــكاب أيــة موبقــات‪ ،‬مــادام أنــه يفتفــد الحــس اإلنســاين‪ ،‬ويتعامــل مبنتهــى الوحشــية مع‬
‫ـت إىل مــن حولــه بأيــة صلــة ‪ -‬وهــو يجهــز عــى ذاتــه يف بعدهــا االجتامعــي الضيــق‬‫كل مــا ميـ ُّ‬
‫أو الواســع ‪ -‬و قد يكون ذلك نتاج فصام ســيكولوجي‪ ،‬أو نزعات ســادية‪ ،‬رسعان ماتتفاقم‪،‬‬
‫وتصــل إىل الحــد األعظمــي الــذي يجــرد صاحبــه مــن كل القيــم والضوابــط واملشــاعر‪ ،‬الســيام‬
‫‪227‬‬ ‫نم لمع ةيروسلا ةيرثألا زونكلا ةقرس‬

‫أن مــن يحافــظ عــى حيــاة غــره يف العــامل‪ ،‬إمنــا ينطلــق مــن منظومــة فكريــة‪ ،‬أخالقيــة‪ ،‬راقيــة‪،‬‬
‫فسويلا ميهاربإ‬

‫وهــي تدفعــه ‪ -‬بــكل تأكيــد ‪ -‬للحــرص عــى الخــزان الــرايث لآلخريــن‪ ،‬عــى اعتبــار أن الــراث‬
‫اإلنســاين‪ ،‬هــو يف املحصلــة‪ ،‬ملــك عــام‪ ،‬وإن الحفــاظ عليــه‪ ،‬شــأن عــام‪.‬‬
‫وبدهــي‪ ،‬أن مــن يخــل بأحــد طــريف معادلــة‪ :‬اإلنســان‪ /‬األثــر الحضــاري‪ ،‬فإنــه لــن يتــورع‬
‫عــن اإلخــال باآلخــر‪ ،‬وعــى ســبيل املثــال‪ ،‬فــإن مــن يقتــل امــرءا ً‪ ،‬فإنــه لــن يتــورع عــن تدمريآبــدة‬
‫تاريخيــة‪ ،‬أوتحطيــم أثــر‪ ،‬أورسقتــه‪ ،‬أو بيعــه‪ ،‬مقابــل إغــراء مــايل‪ ،‬بــل إن مــن يفعــل مثــل كل هــذا‬
‫مــع األثــر الحضــاري التاريخــي‪ ،‬فإنــه يعيــد الكــرة‪ ،‬مــع اإلنســان‪ ،‬حيــث ال فــرق البتــة بــن هذيــن‬
‫الطرفــن‪ ،‬يف هــذه املعادلــة‪ ،‬وإن كان اإلنســان‪ ،‬هــو يف حقيقتــه‪ ،‬ســيد الكــون عامــة‪ ،‬وإن‬
‫نقطــة مــن دمــه‪ ،‬هــي أغــى مــن كل كنــوز العــامل‪ ،‬بيــد أن فاقــد املنظومــة األخالقيــة التــي يقــوم‬
‫بارتــكاب اإلثــم املــادي‪ ،‬أو املعنــوي‪ ،‬فإنــه يقــوم مبثلــه – متام ـاً ‪ -‬إن كانــت ســكينه‪ ،‬أو أداة‬
‫قتلــه بيــده‪ ،‬وهنــاك ضحيــة تتوافــر فيهــا رشوط االنتقــام‪ ،‬حســب ســلوكه العــدواين‪.‬‬
‫ولــو قلصنــا دائــرة التطبيــق – هنــا ‪ -‬وتحدثنــا عــن املــكان الســوري‪ ،‬حيــث هــو فضــاء‬
‫حضارات تاريخية متعددة‪ ،‬تعاقبت عليه‪ ،‬سواء اعرتف بها املدون الرسمي‪ ،‬يف مناهجه‬
‫التعليمية‪ ،‬وإعالمه‪ ،‬وقنواته الثقافية أوال‪ ،‬فإن هذا الفضاء هو فسيفساء حضاري جميل‪،‬‬
‫يعكســه‪ ،‬أبنــاؤه‪ ،‬الذيــن عاشــوا منــذ تأســيس الدولــة الســورية‪ ،‬وحتــى لحظــة انطالقــة ثورتهــم‪،‬‬
‫يف ود‪ ،‬ووئــام‪ ،‬وإن كان هنــاك مــن يريــد العــزف عــى أوتــار التناقضــات القامئــة‪ ،‬مــن ضمــن‬
‫مــا يقــوم بــه‪ ،‬حرصـاً عــى إشــباع أنــاه‪ ،‬عــر خلــق ظــروف دميومــة شــوكته وســلطته‪ ،‬وقــد لوحــظ‬
‫أن النظــام حــاول التعامــل مــع اآلثاربطريقــة انتقائيــة‪ ،‬يف إطارمحاولــة كتابتــه التاريــخ‪ ،‬وإخفــاء‬
‫بعــض اآلثــار‪ ،‬وهومــا أشــارت إليــه خولــة حســن الحديــد يف مقالهــا «آثــار ســوريا بــن النهــب‬
‫املنظــم والقصــف املدفعــي»‪.‬‬
‫مثــة مــن قــال عــن تــال منطقــة الجزيرة»يجســد كل تــل مــن هــذه التــال حضــارة مــا»‪ ،‬وهــو‬
‫مــا ينطبــق عــى أماكــن أخــرى‪ ،‬يف أريــاف ومــدن أخــرى يف ســوريا‪ ،‬وقــد تعرضــت مكامــن‬
‫هــذه اآلثــار للرسقــة املنظمــة منــذ عقــود‪ ،‬الســيام يف ظــل اســترشاء الفســاد‪ ،‬حيــث كان يتــم‬
‫الحديــث عــن تهريــب اآلثــار» وعــى نحــو خــاص غــر املــدون منهــا» إىل دول الجــوار‪ ،‬قبــل‬
‫أ ترحــل إىل عواصــم أوربيــة معنيــة مبثــل هــذا النهــب‪ ،‬وقــد وجــدت بؤرالرسقــة هــذه‪ ،‬مــع‬
‫اســتمرارالحرب ‪ ،‬فرصتهــا التاريخيــة‪ ،‬يك متــارس اإلجهــاز عــى اآلثــار الســورية‪ ،‬وترتفــع الرسقــة‬
‫عرشة أضعاف عام قبل فرتة الحرب‪ ،‬وفق املراقبني‪ ،‬حيث هناك حوايل خمسة وعرشين‬
‫متحف ـاً وعــرة أالف موقــع أثــري ســوريا‪ ،‬يضــم اآلثــار ومــن بينهــا املوميــاءات والذهبيــات‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪228‬‬

‫والربونزيــات والزجاجيــات والطينيــات أوالفخاريــات‪ ،‬ناهيــك عــن اآلثــار األخــرى املودعــة يف‬
‫املعابد‪ ،‬من مساجد وكنائس وغريها‪ ،‬وهي التي مل تنج من أثر الحرب‪ ،‬حيث تم قصفها‪،‬‬
‫كــا تــم ذلــك مــع رضيــح ومســجد خالــد بــن الوليــد يف حمــص‪ ،‬واألمثلــة تكــر‪.‬‬
‫ومدينــة تدمــر التــي حكمتهــا زنوبيــا‪ ،‬وتقــع ضمــن محافظــة حمــص‪ ،‬هــي أحــد الشــواهد‬
‫األثرية العظيمة‪ ،‬وهي تحتوي آالف القطع األثرية‪ ،‬وفيها متحفها الخاص‪ ،‬وهي كلها تحت‬
‫رقابــة صارمــة مــن قبــل أجهــزة الســلطة‪ ،‬وتعــد حاميتهــا مــن مســؤولياتها‪ ،‬وإن كان وضعهــا غــر‬
‫معــروف مــن قبــل املراقبــن‪ ،‬يف ظــل منــع دخــول تلــك املنطقــة التــي طاملــا كانــت قبلــة‬
‫للســياح الذيــن بلغــت أعدادهــم يف العــام ‪ 2010‬تســعة ماليــن شــخص‪.‬‬
‫ويجــد متابــع الثــورة الســورية‪ ،‬أن القصــف عــر املدافــع والطائــرات الــذي بــدأ بعــد تدمــر‬
‫املســجد العمــري يف درعــا‪ ،‬أحــد أقــدم الجوامــع اإلســامية‪ ،‬طــال آثــار بــرى‪ ،‬وبوابــة ديــر‬
‫الراهــب‪ ،‬واألســواق األثريــة يف حمــص‪ ،‬وحلــب‪ ،‬كــا طــال آثــار تدمــر‪ ،‬ومعلــوال التــي يعــود‬
‫تاريخهــا اىل ‪ 400-200‬ألــف ســنة ق‪ .‬م‪ ،‬والســوق املقبــب يف حلــب الــذي كان ملتقــى‬
‫للتجــار عــى مــدى أربعــة آالف عــام‪ ،‬وهكــذا بالنســبة إىل وقلعــة الكــرك التــي عدهــا لورنــس‬
‫العــرب أجمــل قــاع العــامل القلعــة األيوبيــة يف حلــب‪.‬‬
‫وقــد ت ـ ّم الحديــث ‪ -‬يف مطلــع تــأزم وضــع الثــورة الســورية ألســباب يعرفهــا املتابعــون ‪-‬‬
‫عــن قــدوم لجــان مدربــة عــى الرسقــة‪ ،‬وهــي ال ميكــن أن تتحقــق بعيــدا ً عــن عيــون املعنيــن‬
‫بحاميتهــا‪ ،‬الســيام قــد تــم الحديــث عــن نقــل مــا ميكــن الخــوف عــى نقلــه مــن اآلثــار إىل مقــر‬
‫البنك املركزي الذي أودعت فيه حوايل ‪ 77‬ألف قطعة أثرية ‪ ،‬حيث الحراسة املشددة‪،‬إذ‬
‫ال يعــرف أحــد أي يشء عــن مصائــر التحــف واملتاحــف ‪ -‬وهــي برمتهــا يف أيــدي الســلطات‬
‫الرســمية وهنــاك مــن يتحــدث عــن نقــل بعضهــا إىل إيــران أو روســيا ‪ -‬وإن كان هــذا النــوع مــن‬
‫اآلثــار مســجالً عامليـاً‪ ،‬وهــو يف حــرز ‪ -‬كــا يفــرض عــن الضيــاع نتيجــة ترقيمــه الــدويل ‪ -‬وتتــم‬
‫مراقبتــه عــر أجهــزة الرصــد مــن قبــل كبــار مراكــز رقابــة اآلثــار يف العــامل‪ ،‬حيــث نغــدو هنــا أمــام‬
‫مســؤولية دوليــة عامــة‪ ،‬الميكــن أن يــرىء العــامل نفســه منهــا‪ ،‬مــن خــال مجــرد بيــان مــدون‪،‬‬
‫أو شــفاهي‪ ،‬مــن منظمــة معنيــة كاليونســكو‪ ،‬التــي أصــدرت يف العــام ‪ 1954‬اتفاقيــة تنــص‬
‫عىل الحفاظ عىل الرتاث الثقايف‪ ،‬وكانت ســوريا من عداد الدول املوقعة عليها‪ ،‬الســيام‬
‫إذا علمنــا أن هنــاك أحيــاء قدميــة‪ ،‬تعـ ُّـج باملبــاين األثريــة‪ ،‬يف بعــض املــدن‪ -‬كــا يف حــاه‬
‫وحلــب وحمــص و ديرالــزور‪ ،‬قــد امحــت متامـاً‪ ،‬رغــم أن هنــاك ســت مــدن ســورية‪ ،‬مســجلة‬
‫رســمياً عــى الئحــة الــراث الثقــايف العاملــي‪ ،‬حســب تصنيــف اليونســكو‪.‬‬
‫‪229‬‬ ‫نم لمع ةيروسلا ةيرثألا زونكلا ةقرس‬

‫لقــد أماطــت الثــورة الســورية النقــاب عــن عــامل لصــوص اآلثاراملنظــم‪،‬‬


‫فسويلا ميهاربإ‬

‫وقدبدأ ذلك من النداء «االستباقي» الرسمي الذي تم توجيهه إىل اآلثاريني‬


‫من قبل الدائرة املختصة يف سوريا‪ ،‬كتمهيد لنهب اآلثار كام رأى املراقبون‪،‬‬
‫وكان أن عرضت عىل اليوتيوب يف ‪ 17‬آب‪ 2013‬لقطة فيها جنود رسميون‪،‬‬
‫وبضعة قطع متاثيل موضوعة يف سيارات بيك آب‪ ،‬وقد توصلت تحقيقات‬
‫فريــق اآلثاريــن الســوريني واألجانــب‪ ،‬إىل نتيجــة عــر عنهــا اآلثــاري اإلســباين‬
‫رودريغــو مارثــن بقولــه «لقــد تبــن أن ‪ -‬اللصــوص ‪ -‬جنــود‪ ،‬مــا يدفعنــا إىل‬
‫االعتقــاد بــأن الجيــش ميــارس الرسقــة‪ ،‬ويســمح برسقــة آثــار تدمــر وغريهــا مــن‬
‫املناطق األثرية»‪ ،‬لتغطية نفقاته‪ ،‬وذلك عربالتعامل مع فرق خاصة أوصلت‬
‫آالف القطــع إىل دول الجــوار‪ ،‬الســيام تركيــا واألردن‪ ،‬ولبنــان‪ ،‬وتبــاع القطعــة‬
‫الواحــدة ‪ -‬إذا كانــت متثــاالً ‪ -‬بســعر يــراوح مــا بــن ‪ 300-30‬ألــف دوالر‪ ،‬وإن‬
‫كان يتــم ابتــزاز اللــص األول يف أكــر األحيــان‪ ،‬حيــث يتــم الحديــث عــن وصــول‬
‫حجــم اآلثاراملهربــة إىل مليــاري دوالر‪ ،‬مادفعــت اليونســكو إىل قــرع أجــراس‬
‫الخطــر‪ ،‬وقــد جــاء يف بيانهــا «إن يونســكو تشــعر بالقلــق البالــغ حــول املخاطــر‬
‫لتــي تواجــه اآلثــار والــراث اإلنســاين يف ســوريا»‪ ،‬وهومــا فعلــه اتحــاد اآلثاريــن‬
‫العرب‪ ،‬والدرع األزرق‪ ،‬واإليكروم‪ ،‬واملتاحف والجامعات واملعاهد العربية‬
‫والعامليــة‪ ،‬وقــد قــدم مديــر اآلثــار الســوري قامئــة بأبــرز املنهوبــات‪ ،‬وإن كان‬
‫يقلــل مــن حجــم الخطــر‪ ،‬نظــرا ً لعــدم متكنــه مــن الحديــث خــارج مــا هــو مرســوم‬
‫لــه‪ ،‬مــا دام أن أيــدي حفــاري اآلثــار‪ ،‬ممــن مل يتورعــوا حتــى نبــش القبــور‪ ،‬يف‬
‫مامرســة الرسقــة‪ ،‬وذلــك تحــت دافــع إســكاتهم عــا يجــري‪ ،‬أو مشــاركتهم يف‬
‫التدمــر العــام الــذي يتــم لهــذا البلــد‪ ،‬تاريخـاً‪ ،‬وحــارضا ً‪ ،‬يك يكــون بلــدا ً بتاريــخ‬
‫هوتاريــخ لصوصــه‪ ،‬ولئــا يكــون فيــه إال مــن يدمــر كل يشء!‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪230‬‬
‫‪231‬‬

‫أوراق التحقيق‬
‫ماركوس سفينسون ‪ /‬ترجمتها عن السويدية‪ :‬ناديا دريعي‬

‫طالبــة الطــب الســويدية التــي اختــارت‬


‫)*(‬
‫ســوريا مكانــا ً لتدريباتهــا‬

‫عندما اختار طالب الطب البرشي إيرلندا وماليزيا كمكانني ملامرسة تدريباتهم‬
‫العملية‪ ،‬فضَّ لت زميلتهم «لينا مريتز» إجراء تدريباتها يف سوريا‪.‬‬
‫يوم األحد املايض عادت «لينا» إىل مدينتها السويدية «ماملو»‪ ،‬وهي تحمل‬
‫عىل شاشة عينيها صورة طفل مقطّع األوصال‪.‬‬
‫‪ -‬لقــد عــدت مــن ســوريا مح َّملــة بالغضــب والحــزن ‪ -‬تقــول لينــا‪ -‬ويجــب أن أعــر‬
‫عــن هــذا الغضــب بشــكل إيجــايب‪.‬‬
‫صحيــح أن مشــفى رساقــب يف محافظــة إدلــب‪ ،‬الواقعــة شــال غــرب ســوريا‪،‬‬
‫بحالة جيدة‪ ،‬ولكن الجميع هناك يعتقدون أن صاروخاً أو قذيفة سوف تستهدفه‬
‫يف أيــة لحظــة واملســألة مســألة وقــت فقــط‪ .‬عــرات البيــوت‪ ،‬وكذلــك واحــدة مــن‬
‫املــدارس القريبــة جــدا ً مــن املشــفى قــد دمرهــا القصــف متامـاً‪ .‬وقبــل وصــول لينــا‬
‫اىل املشــفى بأســبوع واحــد ســقط صــاروخ يف مــرآب املشــفى‪ ،‬وتســبب مبقتــل‬
‫أحــد األطبــاء‪.‬‬
‫‪ -‬الجميــع يعلــم أن املشــايف مســتهدفة عــى الــدوام‪ ،‬ولذلــك يشــعر أقــارب‬
‫املــرىض املتواجديــن يف املشــفى بالتوتــر الدائــم‪ ،‬ويطالبــون بإخــراج مرضاهــم منــه‬

‫*) نُرش هذا املقال يف صحيفة «سيتي» السويدية بتاريخ ‪ 11‬نيسان ‪2014‬‬
‫‪233‬‬ ‫اهتابيردتل ًاناكم ايروس تراتخا يتلا ةيديوسلا بطلا ةبلاط‬

‫يرســلون اىل بيوتهــم بعــد ســاعتني فقــط مــن إجــراء العمليــة‪ ،‬والكثــر‬
‫بــأرسع وقــت ممكــن‪ ،‬فاملــرىض َ‬
‫يعيرد ايدان ‪:‬ةيديوسلا نع اهتمجرت ‪ /‬نوسنيفس سوكرام‬

‫منهــم يصــل إىل بيتــه‪ ،‬وأكيــاس الســروم مــا تــزال معلقــة يف ســاعده‪.‬‬

‫عىل بعد ميل واحد من منطقة يسيطر عليها النظام‬


‫متكنت لينا «‪ 33‬عاماً» من الدخول إىل سوريا بعد التواصل مع جهات عديدة يف املنطقة‪،‬‬
‫وأقامــت يف بيــت أحــد األطبــاء يف رساقــب‪ .‬املدينــة تحــت ســيطرة قــوى املعارضــة‪ ،‬ولكــن عــى‬
‫بعــد ميــل واحــد تقريبـاً تقــع املنطقــة التــي تســيطر عليهــا قــوات النظــام الســوري‪.‬‬
‫‪ -‬طائــرات النظــام تحلــق بشــكل دائــم فــوق رساقــب‪ ،‬والرباميــل املتفجــرة هــي أكــر مــا يخشــاه‬
‫النــاس هنــاك‪ .‬براميــل مليئــة بالبنزيــن أو باملــواد املتفجــرة‪ .‬صديقتــي‪ ،‬وبشــكل ال إرادي‪ ،‬كانــت‬
‫تتقيّــأ عندمــا تســمع صــوت الطائــرة‪ ،‬وابنــة صديقــة ثانيــة كانــت تحبــس أنفاســها عنــد مــرور الطائــرة‬
‫إىل درجــة ازرقــاق لــون شــفتيها‪.‬‬

‫مصابون يف طريقهم إىل الطوارئ‬


‫عندما فتحت «لينا» كومبيوترها وعرضت الفيلم الذي صورته يف املشفى‪ ،‬شاهدنا املصابني‬
‫الذيــن يُ ْح َملــون إىل الطــوارئ يف الصناديــق الخلفيــة لبعــض ســيارات البيــكاب‪ .‬أحــد املصابــن مل‬
‫يتبــق مــن ســاقه إال بعــض القطــع مــن اللحــم‪ ،‬وهنــاك طفـ ٌـل صغري تغطي وجهه الدماء‪.‬‬
‫يف فيلــم آخــر مــن األفــام التــي قامــت «لينــا» بتصويرهــا هنــاك‪ ،‬شــاهدنا طفلــة يف عامهــا‬
‫السادس‪ ،‬كانت تستلقي عىل طاولة العمليات بينام تتدىل أمعاؤها خارج جسدها‪ .‬تلك الطفلة‬
‫أصيبــت بقذيفــة يف ظهرهــا‪ ،‬فمزقــت كبدهــا ثــم خرجــت مــن بطنهــا‪.‬‬
‫‪ -‬عندما دخلت «لينا» إىل غرفة الطوارئ رصخ أحد الجراحني‪ :‬لينا‪ ..‬انظري إىل هذه الطفلة‪،‬‬
‫إنها أحد اإلرهابيني الذين يدّعي بشار األسد أنه يحاربهم!‬

‫رغبة واحدة فقط‬


‫تقــول لينــا‪ :‬هنــاك يشء وا حــد يتمنــاه أ هــل رسا قــب أ كــر مــن ا لــدواء والطعــام‬
‫والخيــام‪ ،‬إنهــم يأملــون بــأن يســاعدهم العــامل يف منــع طــران النظــام مــن قصفهــم‪.‬‬
‫ورغم رعد الطائرات فوق رساقب‪ ،‬يقول أهل املدينة‪ :‬إن القيَم الجوهرية للثورة ‪ -‬الحرية والعدالة‬
‫والكرامة ‪ -‬ال تزال تنمو وتتفتّح‪.‬‬
‫الناشــطون املحليــون يبنــون ويديــرون مــدارس غــر ربحيــة‪ .‬والكبــار الذيــن عاشــوا عقــودا ً طويلــة‬
‫مــن االضطهــاد الســيايس‪ ،‬اآلن فقــط صــاروا يعــرون بجــرأة عــا يفكــرون بــه حق ـاً‪.‬‬
‫الناس هنا بدأوا يكتشفون أنفسهم وأصدقاءهم وبلدهم‪ ،‬ويريدون أن ميتلك أطفالهم القدرة‬
‫والجرأة عىل رسم مستقبلهم‪.‬‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪234‬‬
‫‪235‬‬

‫أوراق التوثيق‬
‫كلمات الفائزين بجائزة «املزرعة للرواية»‬

‫برعايــة مــن املهنــدس يحيــى قضــاين‪ ،‬نظمــت رابطــة الكتــاب الســوريني‬


‫فعاليــات «جائــزة املزرعــة للروايــة» للعــام ‪ 2014‬والتــي فــاز فيهــا كل مــن فخــر‬
‫الدين فياض عن روايته «رمش إيل»‪ ،‬وغسان الجباعي عن «قهوة الجرنال»‪،‬‬
‫وسوســن جميــل حســن عــن «قميــص الليــل»‪.‬‬
‫قــام عــى تحكيــم الجائــزة لهــذا العــام ثالثــة كتّــاب أعلنــت الرابطــة عــن‬
‫اســمي الــروايئ الكويتــي اســاعيل فهــد اســاعيل والــروايئ والكاتــب الليبــي‬
‫أحمــد ابراهيــم الفقيــه ومل تعلــن عــن اســم املحكــم الثالــث ألســباب تتعلّــق‬
‫بأمنــه الشــخيص‪.‬‬
‫الروائيــون الثالثــة كتبــوا كلــات ألقيــت يف فعاليــة خاصــة للرابطة أقيمت‬
‫يف انطاكيــا‪ ،‬تركيــا‪ ،‬ومل يتمكنــوا مــن حضورهــا‪ ،‬هــا هنــا نصوصها‪:‬‬

‫فخر الدين فياض‬


‫ال يشء غريبا ً‬
‫ال يش َء غريباً‪...‬‬
‫إن تاهت خطانا‪ ...‬وضاع دليلنا‬
‫وأصبنا بشتى األمراض النفسية والجسدية‪...‬‬
‫ال يشء غريباً‪...‬‬
‫‪237‬‬ ‫ةياورلل ةعرزملا« ةزئاجب نيزئافلا تاملك‬

‫ني الشامِ حزين‪ ...‬ونواف ُذ الشامِ امتألت برائحة الدم والخراب‪...‬‬


‫فياسم ُ‬
‫ضايف نيدلا رخف‬

‫ال يشء غريباً‪...‬‬


‫إن قطعنا أوردتنا‪ ...‬وانتحرت أحال ُمنا عىل ضفاف بردى‬
‫فالشام ت ُذبح من الوريد إىل الوريد‪...‬‬
‫ال يشء غريباً‪...‬‬
‫لكننا نقاوم املوت مبزيد من الحياة والحب‪...‬‬
‫***‬
‫تسألني ابنتي‪ :‬هل بقي يف الشام وطن؟!‬
‫الوطــن يف عيــون أهــل الشــام يــا ابنتــي‪ ...‬يف الحــارات التــي مــا زالــت‬
‫محتفظــة بعينــي معاويــة وقصائــد نــزار وأعشــاش طيــور الحــب‪...‬‬
‫والثــورة أيض ـاً يــا ابنتــي‪ ...‬ســتحتفظ بهــا الشــوارع التــي شــهدت عــرات‬
‫اآلالف مــن الحناجــر التــي تهتــف للحريــة والكرامــة‪...‬‬
‫عــدا ذلــك هــم عابــرون‪ ...‬ســرحلون وســتهملهم ذاكــرة الياســمني مــع فجــر‬
‫حــب شــامي‪ ...‬ال بــد أنــه ٍ‬
‫آت!!‬
‫***‬
‫مــن الشــام العظيمــة أقــدم ياســمين ًة مــا زالــت بيضــاء تعلــن للعــامل أجمــع‬
‫أن بياض الشام ونقاءها ال تلوثه لعن ُة االستبداد ولعن ُة الطائفية ولعن ُة مرض‬
‫الســلطة والتســلط والدم املســفوح‪...‬‬
‫يف الشــام حيــث متتلــئ األرصفــة برائحــة دمــاء األهــل واألحبــة‪ ،‬مــا زلنــا‬
‫نكتــب ونقــول الشــعر ونؤلــف حكايـ ًة ونعيــش قصــة حــب جديــدة‪ ...‬ومــا زلنــا‬
‫نقــاوم قبــح الطغــاة والغــزاة باملدنيــة والحــب‪...‬‬
‫جائــزة املزرعــة األدبيــة إحــدى عالئــم توقنــا األديب وإرصارنــا عــى الحيــاة‬
‫واإلبــداع‪ ...‬وأن طريقنــا الــذي اخرتنــاه منــذ بــدء الثــورة كان طريق ـاً مدني ـاً ومــا‬
‫زال مدني ـاً‪ ...‬يتحايــد مفاهيــم العنــف واالنتقــام واالجتثــاث واإلقصــاء‪ ...‬وإن‬
‫ج ّرنــا هــذا النظــام إىل جحيــم دمــوي تظــل الشــام أكــر وأجمــل‪ ...‬فأقــدم‬
‫عواصــم العــامل حرصــت عــى الياســمني والحــب ضــد الطغــاة والغــزاة عــى‬
‫م ـ ّر التاريــخ‪ ....‬ومــا زالــت‪.‬‬
‫تحي ـ ًة إىل جائــزة املزرعــة وإىل كل مــن ســاهم يف هــذا اإلنجــاز األديب‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪238‬‬

‫الكبــر‪ ...‬تحي ـ ًة إىل األســتاذ يحيــى القضــاين راعــي هــذه الجائــزة يف زمــن‬
‫الســلم والحــرب مع ـاً‪...‬‬

‫غسان الجباعي‬
‫وردة يف زمن القذائف‬
‫أصدقايئ األعزاء أحييكم من دمشق‪.‬‬
‫اكتسبت جائزة املزرعة منذ تأسيسها‪ ،‬عىل يد األستاذ املهندس يحيى‬ ‫ْ‬
‫القضامين‪ ،‬سمعة طيبة ومكانة مرموقة يف تاريخ محافظة السويداء وعموم‬
‫ســورية‪ .‬وكانــت النافــذ َة املضيئــة‪ ،‬ورمبــا الوحيــدة يف عتمــة حكــم العســكر‪،‬‬
‫و ُمتَ َن َّفسـاً لجميع الكتاب والفنانني الســوريني‪ ،‬الذين يشــهدون عىل ذلك‪.‬‬
‫وها هي اليوم تعود إلينا مجددا ً‪ ،‬بالتعاون مع رابطة الكتاب الســوريني‪،‬‬
‫لتقدم ورد ًة يف زمن القذائف‪ ،‬وترس َم بسم ًة مرشقة عىل محيا وطننا الذبيح‪،‬‬
‫ـر ًة ببــزوغ الفجــر ووالدة الفــن‬
‫وتحمــل أمـاً يــيء الهزيــع األخــر مــن ليلنــا‪ُ ،‬م َبـ ِّ َ‬
‫السوري الجديد‪.‬‬
‫إنــه لــرف كبــر يل أن تفــوز روايتــي «قهــوة الجــرال» بهــذه الجائــزة‪ ،‬التــي‬
‫ال ت ُ َقـ َّد ُر بثمــن‪.‬‬
‫كنــت أمتنــى لــو كنــت معكــم‪ ،‬يك أصافحكــم فــردا ً فــردا ً‪ ،‬وأشــد عــى‬
‫أياديكــم‪ .‬شــكرا ً لكــم‪ .‬شــكرا ً ملــن مـ ّول وســاهم وســاعد يف إنجــاز هــذا العمــل‬
‫الكبــر املثمــر‪ ،‬وأثبــت للعــامل أن ســورية ال متــوت‪ ،‬وأنهــا قــادرة بحضارتهــا‬
‫العريقــة وأهلهــا األوفيــاء‪ ،‬عــى كَنــس االســتبداد‪ ،‬والنهــوض مــن الرمــاد‪ ،‬وبنــاء‬
‫وطن حديث‪ .‬وطن الحرية والكرامة والعدالة االجتامعية‪ ،‬لجميع السوريني‪.‬‬
‫مربوك للفائزين‪.‬‬

‫سوسن جميل حسن‬


‫بني الداخل والخارج السوري حدود قاتلة فهل تعذروني؟‬
‫أحييكم‪.‬‬
‫وأرجــو أن تعــذروا ارتبــايك‪ ،‬فالكلــات تخوننــي وأنــا أتــوه بــن الواقعــي‬
‫واالفــرايض‪ .‬نحــن نجتمــع يف «احتفاليــة» تحتفــي باإلبــداع‪ ،‬فأســأل نفــي‪:‬‬
‫‪239‬‬ ‫ةياورلل ةعرزملا« ةزئاجب نيزئافلا تاملك‬

‫هــل نحــن موجــودون؟ هــل أنــا أنــا‪ ،‬وأنتــم أنتــم؟ هــل أنتــم وأنــا ســوريون؟ فلــاذا إذن تحتفــل‬
‫غسان الجباعي ‪ /‬نسح ليمج نسوس‬

‫أطيافنا عنا؟ ملاذا ندفع بالكلامت طالبني منها أن تكتيس اللحم وتصنع الحياة نيابة عنا؟‬
‫مل أكــن أفكــر يف يــوم مــن األيــام أن تســتحيل املســافة بينــي وبــن أي ســوري أشــعر أن دمــه‬
‫يــري يف عروقــي‪ ،‬وال أن تصــر الحــدود مبثــل الرشاســة التــي هــي عليهــا اليــوم‪ ،‬أن تكتــي‬
‫أشكاالً شبحية ومتارس جربوتها يف وجداين أكرث من كل أوراق العبور‪ .‬لكنها الحالة السورية‬
‫التــي تقلــب الطاولــة وتبعــر حكايــات التاريــخ لتقــف أمــام العــامل كلــه تذهلــه وتعريــه‪.‬‬
‫عندمــا كنــت أكتــب روايتــي هــذه «قميــص الليــل»‪ ،‬كانــت تعرتينــي الرجفــة ذاتهــا كلــا‬
‫يل الصــورة األوىل بــكل بهائهــا وإثارتهــا‪ ،‬وأتذكــر النشــوة‬
‫فتحــت النــص عــى الالبتــوب‪ ،‬تعــود إ ّ‬
‫التــي مل أعرفهــا مــن قبــل‪ ،‬هــل هــذه ســورية وهــل هــؤالء ســوريون؟ ملــاذا كنــا عــى وشــك‬
‫فقــدان ثقتنــا بأنفســنا وبحالتنــا الســورية؟ هــا هــو الشــعب الســوري بعــد أكــر مــن ثالثــة أعــوام‬
‫ر عــى اســتعادة إرادتــه واســتقالله‪ ،‬وميــي وســط دمائــه وأشــائه يف‬ ‫مــن القتــل والدمــار يـ ّ‬
‫طريــق صناعــة وطــن طاملــا دغــدغ أحالمــه يف زمــن االســتبداد‪.‬‬
‫كانت املشاهد واألصوات واملواقف ترتاكم يف بايل وتؤرشف ذاتها يف ذاكريت‪ ،‬وكان‬
‫الســؤال الدائــم يــرخ يب‪ :‬مــا هــو اســتحقاق الثــورة عــي؟ أي مســؤولية أخالقيــة تتحــداين‪،‬‬
‫أنــا الطبيبــة واألديبــة؟ فــإذا كان األدب خزانـاً للتاريــخ بنبضــه الحيــايت بعيــدا ً عــن ســجالته التــي‬
‫يكتبهــا األقويــاء‪ ،‬هــل املطلــوب منــي جداريــة شــاملة واملنافســون أمهــر منــي وأقــوى؟ هــل‬
‫ميكــن أن تصمــد املشــاهد التــي أرســمها بالكلــات أمــام صــور الشاشــات الذكيــة والخبيثــة‪،‬‬
‫تلك التي تصور كل واحدة منها جزءا ً من الواقع‪ ،‬لكنها تغيب الحقيقة مجتمعة؟ مل أقتنع‬
‫أن هــذا هــو دور األدب بــل علمتنــي تجربتــي املهنيــة يف الطــب أن الحالــة التــي يعــاين منهــا‬
‫وحس الرسيري واستداليل‬ ‫ّ‬ ‫يل استخدام علمي‬ ‫املريض هي متالزمة أعراض وأسباب‪ ،‬ع ّ‬
‫املنطقــي يف مقاربتهــا والوقــوف عــى التشــخيص األصــح مــن أجــل وضــع الخطــة العالجيــة‪،‬‬
‫فالغايــة هــي اإلنســان وكيــف أســتطيع إرجاعــه إىل الحالــة الســليمة بأقــل تأثــرات جانبيــة أو‬
‫مخلفــات مرضيــة‪ ،‬مــع قناعتــي بــأن كل حالــة تعــري الجســد البــري تــرك وراءهــا فــردا ً آخــر‬
‫غــر الــذي كان‪ .‬وهــذا هــو وضــع ســورية‪ ،‬ســورية املجروحــة املســتباحة مــن قبــل نظــام تغـ ّول‬
‫حتــى مل يعــد يف أفقــه فضــاء البتــكارات أكــر وحشــية‪ ،‬وغيــان أخــرى اخرتقــت أحالمنــا‬
‫واســتغلت بعــض أماكــن ضعفنــا التــي تراكمــت عــر عقــود تاركــة مغــارات معتمــة ورطبــة يف‬
‫وجــدان بعــض مــن شــعبنا املغلوبــن عــى أمرهــم‪ ،‬أولئــك املقهوريــن املقموعــن الواقفــن‬
‫عــى تخــوم الحيــاة ســوارا ً مــن البــؤس حــول مــدن مصابــة بالتخمــة تســتعرض رفاهيتهــا بفجــور‬
‫أمام أعينهم‪ .‬غيالن تنبش التاريخ من كهوفه املعتمة وتريد أن تحرشنا بني جدرانه مقيدين‬
‫مجلة أوراق ‪ -‬العدد الرابع ‪2014‬‬ ‫‪240‬‬

‫بالنــص الــذي مل يكــن قيــدا ً يف حينــه‪ ،‬بــل كان حــرا ً مفتوحـاً عــى االجتهــاد؟‬
‫اســتبعدت فكــرة الرســم البانورامــي ملشــهدية الحالــة الســورية‪ ،‬ووقفــت‬
‫أبحــث عــن موقعــي يف هــذا اإلعصــار الرهيــب الــذي يجتاحنــا‪ ،‬كان العنــف‬
‫املــارس ضــد شــعبنا يجرحنــي ويؤجــج النقمــة يف صــدري‪ ،‬وكان التخريــب‬
‫املوجــه لبنيــان املجتمــع الســوري وكيــان الفــرد الســوري يصيبنــي بالهلــع‪.‬‬
‫لكنني وجدت نفيس أكرث جرأة ملواجهة نفيس واالعرتاف بأن هناك أمراضاً‬
‫كانــت مختبئــة يف بواطــن نفوســنا علينــا اإلقــرار بهــا أوالً‪ ،‬ثــم الســعي الحثيــث‬
‫والهــادف والواعــي والصــادق إىل معالجتهــا‪ ،‬بالرغــم مــن أن الحالــة اإلشــكالية‬
‫لثورتنــا ومــا طــرأ عليهــا مــن انحرافــات أججتهــا‪.‬‬
‫اقتنعت أن دوري هنا‪ ،‬فأنا ال أعرف السالح وال أحبه‪ ،‬ومل أكن أمتنى أن‬
‫تحــر الثــورة يف نفــق خيــار وحيــد‪ :‬العســكرة‪ ،‬مــع أن الســؤال أعجــزين‪ ،‬ســؤال‬
‫مــا هــو البديــل الــذي كان ممكنـاً أمــام آلــة القتــل؟‪ .‬دوري يف اســتغالل اللغــة‬
‫وتطويع مفرداتها لتكون معربا ً حياً إىل الوجدان الجمعي‪ ،‬علها تيضء الوعي‬
‫وتخمــد مــا اســتعر يف النفــوس مــن غــل وثأريــة وعصبيــة قبــل أن تســتعر الفتنــة‬
‫الطائفية واملذهبية‪ ،‬مدفوعة بنوايا عديدة‪.‬‬
‫رصــدت الواقــع‪ ،‬التقطــت األعــراض‪ ،‬ورســمت واقع ـاً بدي ـاً بالكلــات‬
‫يف محاولــة للتشــخيص الســليم علنــي أســاهم يف العــاج‪ .‬وكان هــذا النــص‬
‫«قميــص الليــل» الــذي ح ّملــت صفحتــه األوىل مبــا قــال جيــل دولــوز ألننــي‬
‫أؤمــن بــأن الثــورة فعــل دائــم ينتهــي بجمــوده‪ ،‬وبنــص لنــوري الجــراح يعكــس‬
‫صــوريت أمامــي كمــرآة‪ :‬أنــا ال أكتــب روايــة‪ ،‬لكننــي أشــم قميــص الليــل ألبــر‪.‬‬
‫وأنــا يف الكتابــة أحــاول أن أبــر أيض ـاً مــا خفــي عــن ســاحة نظــري يف زحمــة‬
‫النهــار وصخبــه‪.‬‬
‫أشكركم عىل أن تجربتي القت استحسانكم‪ ،‬كنت أرغب أن أكون بينكم‪،‬‬
‫لكني مل أستطع تحقيق هذه األمنية البسيطة عىل الرغم من قيمتها الكبرية‪.‬‬
‫أرجو أن تصل كلاميت بحرارتها ونبضها إليكم‪.‬‬

You might also like